

المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدك اللهم ونستعين بك ، ونصلي على
جميع أنبيائك ورسلك لا سيما حبيبك وصفيك المبعوث بالهدى رحمةً للعالمين ، محمد وآله الطيبين الطاهرين ، وصحبه الميامين .
وبعد ، قارئي الكريم . كنت ـ وأنا في
صباي ـ قد قرأت عماراً أكثر من مرة ، ثم قرأته في مطلع شبابي كذلك . . . وها أنا اليوم أكتبه إليك :
قرأت فيه الوعد الحق
الذي وعد الله سبحانه أولياءه وما كان الله مخلف وعده حيث يقول : « وَنُرِيدُ
أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ
. . . »
.
فلقد نشأ عمار رضي الله عنه حليفاً
مستضعفاً مع والديه ياسر وسميّة ، حتى إذا بزغ فجر الإِسلام الزاهر بادروا إلى اعتناقه فواجهوا في سبيل ذلك أقسى وأعتى ما يتصور من صنوف العذاب والإِمتهان من طاغوت مكة آنذاك أبو جهل بن هشام ، ولم يكونوا وحدهم في تلك المواجهة الصعبة ، بل كان
__________________
لهم رفقاؤٌ كثر من
المؤمنين ، أمثال بلال بن رباح ، وأبي فكيهة ، وخبّاب بن الأرت كلٌّ يواجه المحنة من سيده ، حتى استشهد من إستشهد ، ومنّ الله على من بقي منهم بالنصر والظفر ، فرفعهم من مصاف الدهماء والضعفاء ، إلى سدّة القادة والأمراء ، حيث أصبح عمارٌ بعد ذلك أميراً على الكوفة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب .
وقرأت فيه بعد ذلك « حليف مخزوم »
مرسوماً بالألوان من نوع آخر ، أبدعته ريشة فنان ماهر ، ومفكر مبدع ، حرص كل الحرص على تحويل فكرته إلى لوحةٍ ناطقةٍ معبّرة ، تلتقي فيها براعة الفن وجماله بجلال الفكر وهيبته ، فكنت أراه وكأنه ماثل نصب عيني بقامته الفارعة ، وساعديه المفتولين بطلاً من أبطال بدر والخندق وصفين ، كما كنت أرى فيه المهابة والوقار والصبر وطول الآناة وهو يحاور ويخاصم بالحكمة وبالموعظة الحسنة ، داعياً إلى سبيل ربه من شذّ ونأى عنه .
أجل ، قرأته أكثر من مرة ، لذلك حين
قررت أن أكتبه وقفت طويلاً وتأملت ملياً ، متسائلاً مع نفسي ، ماذا سأقول ، وماذا سأكتب ؟؟ بعد كلّ ما قيل وما كُتب عن هذه الشخصية الفذّة .
ولئن فات غيري الإِلمام والإِحاطة بظروف
« حياة عمار » وملابساتها ، فلن يفوتني ذلك ، فحياة عمار ارتبطت بتأريخ حقبةٍ طويلةٍ من عمر الإِسلام ، وإن شئت فقل غير مبالغ : إن حياة عمّار شكلت تأريخاً لجزءٍ من تلك الحقبة كان لا مناص لنا من تتبعها والخوض فيها لنصل إلى نتيجةٍ واضحةٍ مرضية .
ففي حياة عمار تساؤلات عدة تطرح نفسها
وتتطلب منا الإِجابة !
لماذا اختار علياً بعد الرسول ( ص ) . .
. ؟ ولماذا نقض على عثمان وعارضه . . ؟ ولماذا كانت حروب الردة . . . والجمل . . . وصفين . . . والتي كانت مواقفه فيها معلنة مشهودة .
__________________
هذه التساؤلات المطروحة كلها ترتبط
إرتباطاً وثيقاً بحياة عمار ومبادئه ، لذلك كان لا بد من عرضها والمجاولة فيها ، ومن ثم سنقرأ استطراداً مواقف عمار بشكل سهل مبسط لا يدع القارىء في حيرة ، وبذلك نفهم وندرك مدى عمق أهداف هذه الشخصية الفذة في تأريخ الإِسلام ، ومن الله نستمد العون والتوفيق ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
|
محمد جواد الفقيه
المجادل ـ ٨ / ١١ /
١٩٨٨
|
شهادات
عن
عائشة :
ما من أحدٍ من أصحاب رسول الله ( ص )
أشاءُ أن أقولَ فيه إلا قلتُ ، إلا عمارَ بن ياسر ، فإني سمعتُ رسولَ الله ( ص ) يقول : مُلىء عمّار إيماناً إلى أخمصِ قدميه !
عن
خالد بن الوليد ، قال :
كان بيني وبين عمار كلامٌ فأغلظتُ له ،
فشكاني إلى النبي ( ص ) . . فرفع رسول الله رأسه فقال : من عادى عماراً عاداه اللهُ ، ومن أبغض عماراً أبغضه اللهُ .
عن
رسول الله :
ما لهم ولعمّار ، يدعوهم إلى الجنة
ويدعونه إلى النار ، إن عماراً جلدةٌ ما بين عيني وأنفي .
شاهد الحق !
أعجب ما يدور في خلد إنسانٍ أن يدلي
شاهد بشهادته أمام التأريخ على أمرٍ سوف يقع ، يختصر الأعوام بلحظة والحوادث بكلمة !
وأعجب من ذلك أنه بشهادته تلك يلْمِح
إلى أن هناك حرباً سوف تقع بين طائفتين من المسلمين ، ثم يعطي الحُكمَ الفاصل بينهما قبل أن يكون هناك خصامٌ وقبل أن يكون هناك قتال .
لكن العجب سرعان ما يزول حين يدرك
السامع أن ذلك المتكلم الشاهد إنما كان يغرف من بحر الغيب ، وأنه رسول الله .
لقد قال رسول الله ( ص ) : تقتل عماراً
الفئة الباغية .
إن هذه الشهادة من الرسول في حق عمار
تكررت غير مرة في أكثر من مناسبة وبصيغ مختلفة .
فمثلاً : حين أخذ النبي ( ص ) في تشييد
مسجده المبارك في المدينة المنورة جعل المسلمون يحملون لبنةً لبنة ، وجعل عمار يحمل لبنتين لبنتين ، فجعل النبي ( ص ) ينفض التراب عن رأسه ، ويقول : ويحك يا بن سمية ، تقتلك الفئة الباغية .
__________________
وتمضي فترة من الزمن تأتي بعدها غزوة
الخندق وبينما المسلمون منشغلون بحفر الخندق ورسول الله ( ص ) يعاطيهم حتى اغبرّ صدرهُ وهو يقول :
اللهم إن العيشَ عيشَ الآخرة
|
|
فاغفر للأنصار وللمهاجرة
|
إذ يجيىء عمار فيلتفت إليه النبي ( ص )
ويقول : « ويحكَ يا بنَ سمية ، تقتلك الفئة الباغية » وفي مناسبة أخرى يقول ( ص ) : عمار على الحق حتى يقتل بين فئتين إحدىٰ الفئتين على سبيلي وسنتي والأخرىٰ
مارقةً عن الدّين خارجة عنه .
إن هذه الشهادة لم تصدر من النبي ( ص )
على نحو المداعبة لابن ياسر ، ولا على نحو الإِخبار المجرد ، وإنما صدرت منه على سبيل الإِعلام ، وكأنه يرمز من خلالها إلى أمرين مهمين .
الأول
: هو التنويه بشخصية عمّارٍ حيثُ استأثر
باهتمامه صلواتُ اللهِ عليه دون غالبيّة الصحابة من إخوانه .
الثاني
: أنه بكلماته تلك اختصر الزمان والأحداث
ملْمِحاً للمسلمين بأن حرباً سوف تقع بين طائفتين منهم إحداهما باغيةً على الأخرى وظالمةً لها ، وبالتحديد : الفئة التي تقتل عمار بن ياسر . ورُبّ تلميحٍ أبلغُ من تصريح !
ثم إن المألوف لدى المؤرخ حينما يتناول
حياة علمٍ من أعلام الإِنسانية أو بطل من أبطالها العظماء هو التركيزُ على الجوانب الهامة التي تمتد عبر حياته وما يتصل فيها من النواحي الإِجتماعية والثقافية وغيرها مما يؤمّن للإِنسانية بشكلٍ عام مزيداً من المعطيات الخيرة والمفيدة في مسيرتها الطويلة .
والمألوف أيضاً أن سيرة أي واحد من
هؤلاء العظماء تنتهي بالمؤرخ إلى
__________________
نقطةٍ أخيرة من
حياتهم تكون فيها الخاتمة . . خاتمة الموضوع بخاتمة الحياة .
أما أن تكون النهاية هي البداية ، فهذا
أمر نادر قلما يحصل ، إلا أن يكون مثل عمار بن ياسر ! إننا حينما نتناول سيرة هذا الصحابي الجليل والجوانب الهامة في حياته ، تطالعنا ـ ولا شك ـ صورٌ ندية مفعمة بكل معاني الخير ، فهو بالإِضافة إلى إيمانه القوي وعقيدته الراسخة وفنائه في ذات الله ، إنسانٌ يتمتع بأنبل صفات الإِنسانية من الشجاعة والكرم ، والخلق الرفيع والتسامح وكل السجايا الحميدة ، ونقرأ ذلك كله في سيرته وسلوكه منذ نعومة أظفاره ومصاحبته للنبي ( ص ) قبل البعثة وبعدها . . حتىٰ إسلامه ومعاناته وهجرته . . إلى استشهاده .
ولكن لا ينتهي الأمر بنا عند استشهاده
إلا ويُفتح لنا بابٌ جديد نرى أنفسنا ملزمين باقتحامه وأن نقف متأملين نجيلُ الفكر فيما يفضي إليه ذلك الباب . فالوقوف عند موت عمار واستشهاده ليس أقل أهمية من سيرة حياته . لما يترتب على ذلك من آثارٍ هامة في تأريخ أمةٍ بأكملها على صعيد ما تدين به . إذ أن دين الإِسلام لم ولن ينتهي بانتهاء حياة الرسول . كما وأن المسلمين لم ولن يتركوا بدون قائد ! ومن هنا كانت الفتن التي مزقت جسم الأمة .
غير أن ذلك لا يعني ضياع الحق وفقدان
القائد ، فالقائد موجود والحق قائم وأن تعامت عنه عيونٌ وصُمّت عن ندائه آذان .
وإن من دواعي التأمل أن يقرن التأريخ
إسم محمد ( ص ) بأبي سفيان ! وعلي بمعاوية بل ويزيد بالحسين !!
فأبو سفيان قائد أول حرب عسكرية ضد
الرسول ( ص ) ورسالته ، وليست آخر حرب .
ومعاوية قاد الحرب الظالمة في صفين ضد
ثاني قديس في الدولة الإِسلامية بعد الرسول . ثم تلاه ولده يزيد فقتل الحسين ( سيد شباب أهل
الجنة ) ومعه رهط من
آل محمد في كربلاء .
وما أروع ما قاله الشاعر :
آل حربٍ أوقدتم نار حربٍ
|
|
ليس يخبو لها الزمان وقودُ
|
فابن حربٍ للمصطفى وابن هندٍ
|
|
لعليٍّ وللحسين يزيدُ
|
إن معاوية بدهائه ومكره إستطاع أن يجنّد
بلاد الشام ونواحيها لحرب علي بن أبي طالب ولم يكن ذلك بالأمر السهل بتاتاً لولا أن ولايته التي دامت ثمانية عشر سنة تقريباً هي التي ساعدته على ذلك .
ففي سنة ١٥ هجرية ولّاه عمر بن الخطاب
الأردن ، وفي سنة ١٧ هجرية مات أخوه يزيد بن أبي سفيان الذي كان والياً على الشام من قبل عمر فولّاه إياها ، وحين تولى عثمان الخلافة في سنة ٢٣ هجرية أقره على عمله وضم إليه ولاية حمص وفلسطين والجزيرة ، وبذلك مدّ له في أسباب السلطان إلى أبعد مدىً مستطاع .
إن هذه السنين الثمانية عشر كافيةٌ في
إنشاء قاعدة قوية ينطلق منها أمير كان يطمح للملك وأن يبسط سلطانه على الدولة الإِسلامية سيما إذا إصطبغ بلون شرعي ينطلي على البسطاء من العامة ، ككاتب الوحي ، وقرابة الرسول ، وخال المؤمنين والمولّى من قبل الخلفاء الراشدين ، بل بإمكاننا التصور أن هناك جيلاً كاملاً لم يعرف والياً ولا مرشداً له غير معاوية ، أما الزعماء والقادة فكانوا يعيشون في بحبوحةٍ من الترف والبذخ حياة فارهةً بما أعطى الله المسلمين من الفيىء ، وبذلك وطد أركان ملكه حتى أنه قال عن نفسه : « أنا أول الملوك ! » .
على ضوء هذا يمكننا الجزم بأن غالبية
جنده كانوا مضللين مخدوعين ، وأوضح دليل على ذلك أن عمرو بن العاص كان إذا غضب منه يهدده بما يفسد عليه أهل الشام ، فكان معاوية يبادر إلى استرضائه ، كما سيأتي .
__________________
إن معاوية إتهم علياً بالهوادة في أمر
عثمان وإيوائه قتلته في جيشه وعدم القصاص منهم كل ذلك حتى لا يفلس من الشام لأنه يعلم مسبقاً أن علياً لن يقرّه عليها وأنه ـ إذا استتب له الأمر ـ سيكون في عداد الولاة والأمراء المعزولين وسيخضع لحسابٍ عسير من علي الذي لا يهادن ولا يماري في أمر الله ، وبالفعل فقد جرت وساطات لإِقناع علي ( ع ) في أن يقر معاوية على عمله ، لكنه رفض ، فقد أشار عليه المغيرة بن شعبة بذلك ، فكان ردّه ( ع ) : « لم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضداً »
.
لقد كان علي ( ع ) واضحاً في حجته حين
كتب إلى معاوية : « إن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بويعوا عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار . . الخ »
.
لكن معاوية كان في أثناء مراسلاته لعلي
يهيىء للحرب ، فقد استطاع أن يشرب أهل الشام بغض علي مقنعاً إياهم أنه هو المسؤول عن دم عثمان وأنه يريد الثأر له فاستجابوا له على ذلك ، بل وصل الجهل بهم أن هددوه بالعزل إن لم يفعل ذلك . هذا إن لم يكن هو الذي أوحى لهم بأن يقولوا ذلك . فكانت صفين .
واحتدمت الحرب بين الفريقين واستعرت
نارها ، وهنا كان لا بد من شاهد حق يدحض حجة الباغي ويجدع أنف الباطل ، كان لا بد من شاهد حق يصدم تلك الأدمغة التي أمعنت في غيها وظلالها كي تعود إلى الصواب . . إلى جادة الحق .
لقد كان هذا الشاهد الحق هو عمار بن
ياسر ، وبالضبط : شهادة عمار بن ياسر ! كلا الفريقين كانا يرويان حديث النبي ( ص ) في عمار . . في صفين نفسها والحرب على قدم وساق كانت سيرة عمار بن ياسر تدور على
__________________
ألسنة المتحاربين ،
حتى على ألسنة القادة الكبار منهم فعمرو بن العاص الذي يعتبر الدعامة الكبرى لمعاوية كان يروي حديث النبي في عمار ويلتفت إلى معاوية بعد أن لامه هذا الأخير في ذلك ويقول له :
قلتها ولست أعلم الغيب . . . وقد رويتَ
أنت فيه مثلما رويتُ !
حين استشهد عمار بن ياسر دب الرعب
والخوف في عسكر معاوية وكثر اللغط فيما بينهم وكادوا ينقسمون على أنفسهم لولا أن معاوية قال لهم : إنما قتله الذي جاء به وألقاه بين رماحنا ! محاولاً بذلك إقناعهم .
وكان جواب الإِمام علي حين بلغه ذلك :
إذن إنما قتل رسولُ الله حمزةَ لأنه ألقاه بين رماح المشركين !
لقد كان نبأ استشهاد عمّار يوازي في
أهميته حقبةً من الجهاد الطويل المثمر لأنه كان الفاضح لفئةٍ تحارب وتقاتل باسم الحق وباسم الدين ، بينما الحق والدين كانا مع عمّار ! لقد كان شاهد حق مع علي وأصحاب علي .
وكان في نفس الوقت حرباً على معاوية ومن
معه من البغاة .
رحم الله أبا اليقظان ، فلقد أعطانا بشهادته
عدل ما أعطانا من حياته .
__________________
من اليمن إلى مكة . .
.
قال زياد بن عبد الله الحارثي
يصف بلاد اليمن : أما جبالها ، فكروم وورس وسهولها برٌّ وشعير
وذرة .
وقال الأصمعي : أربعة أشياء قد ملأت
الدنيا ولا تكون إلا باليمن : الوِرسُ ، والكُندرُ والخِطْر ، والعصب .
وقد يحنُّ بعض الأعراب إلى بلاد اليمن ،
فيقول :
وإني ليحييني الصَبا ويميتُني
|
|
إذا ما جرَتْ بعد العشي جَنُوبُ
|
وأرتاحُ للبرق اليماني كأنني
|
|
له حينَ يبدو في السماء نسيبُ
|
وأرتاحُ أن ألقى غريباً صبابةً
|
|
إليه كأني للغريبِ قريبُ
|
ونستمع إلى آخر وقد إستبد به الشوق
إليها حتى صار يحنُّ إلى برقها ، فهو يقول :
__________________
خليليّ إني قد أرقتُ ونِمتما
|
|
لبرقٍ يمانٍ فاقعدا علّلانيا
|
خليلي لو كنتُ الصحيحَ وكنتما
|
|
سقيمينِ لم أفعل كفعلكما بيَا
|
خليلي مُدا لي فراشي وارفعا
|
|
وِسادي لعلّ النومَ يُذهب ما بيا
|
خليليّ طال الليلُ والتبس القذىٰ
|
|
بعيني واستأنستُ برقاً يمانيا
|
وسُميت بلاد اليمن باليمن الخضراء ،
وذلك لكثرة أشجارها وثمارها وزروعها ، وكانت لها قبل الإِسلام مكانة ميّزتها عن الكثير من بلاد العالم ، مكانة حضارية وإقتصادية وثقافية ، فهي بالإِضافة إلى كونها متاخمةً للمحيط الهندي كانت ذات مدائن عامرة ومعابد ، وكان سكانها من بني حِمْيَرْ ذوي فطنة وذكاء وعلم ، كشف عن ذلك إقامتهم للسد المسمى بسدِّ ( مأرِبْ ) حيث تم لهم بواسطته الإِستفادة من مياه الأمطار التي كانت تذهب في البحر ، وإن ما كشف وما لا يزال يُكشف عنه حتى اليوم من آثار هذه الحضارة الحِمْيَريّة في اليمن ، ليدل على أنها بلغت في بعض العصور مكاناً محموداً ، وأنها ثبتت لقسوة الزمان ، في عصور قسا على اليمن فيها الزمان .
غير أن الحياة الدنيا لا تستقيم على حال
، فلقد تغير وجه اليمن الحضاري المشرق ، وبدأت الكآبة تترك بصماتِها واضحة فيه ، أخاديد مهزوزة غمرها الجفاف بعد أن غمرتها الحياة ، فلقد قوّض ذلك السد الهائل الذي كان يمنح الخضرة والنظرة والبهاء لأرض اليمن ، وبذلك إنتهى أول مصدر حيويٍّ لها . ومعه بدأت الحضارة بالتقلّص والإِنكماش ، وبدأ البؤس والشقاء بالتمدد ، بؤساً وشقاءً يوغلان في العباد والبلاد ، وبذلك عادت اليمن إلى مصاف شقيقاتها من أصقاع شبه الجزيرة العربية ، لكنها مع ذلك إستطاعت أن تحتفظ بموقعها التجاري الذي يربط بين فارس والروم ، ولكن لفترة غير طويلة ، فقد رأى ملك الروم أن اليمن موطن نزاع بينه وبين فارس ، وأن تجارته مهددة من جراء هذا النزاع ، فأمر بتجهيز أسطول يشق البحر
__________________
الأحمر ما بين مصر
والبلاد البعيدة في الشرق ليجلب التجارة التي تحتاجها بيزنطية ويستغني بذلك عن طريق القوافل ، وبذلك فقدت اليمن مصدرها الحيوي الثاني فكانت الهجرة .
ويذكر في هذا الصدد ، أن قبيلة أزد
هاجرت إلى الشمال ، ويختلف المؤرخون في سبب تلك الهجرة . فبعضهم يعزوها إلى إضمحلال التجارة في بلاد اليمن ، والبعض الآخر يعزوها إلى إنقطاع سد مأرب واضطرار كثير من القبائل إلى الهجرة مخافة الهلاك .
وبالطبع فإن هجرة القبائل عادة تكون إلى
أقرب منطقة يكثر فيها العشب والكلأ والماء ، يجدون فيها مرعىً خصباً لإِبلهم ومواشيهم .
أما الأفراد ، فإنهم غالباً ما كانوا
يقصدون الحواضر والمدن العامرة بألوان التجارة ، فكان أقرب تلك المدن إلى اليمن وأوفرها عيشاً البلد الأمين مكة ، موطن الرخاء ـ للسادة ـ والدعة والسلام .
لقد كانت مكة قبل البعثة النبوية مهوى
قلوب الناس ، وذلك نظراً لموقعها الديني العريق الذي يرتبط ببيت الله وموطن إبراهيم ( ع ) . هذا بالإِضافة إلى موقعها الجغرافي ، إذ أنها تمثل نقطة الإِرتكاز بالنسبة للقوافل القادمة من بلاد فارس والعراق والشام إلى بلاد الحجاز واليمن والحبشة ، ففيها يجد التجار منتجعاً للراحة من وعثاء السفر الطويل المضني ، وسوقاً تزدحم بأنواع البضائع والمشتريات ، كما يجد الحجاج فيها مستقراً روحياً يميط عنهم درن الذنوب .
وامتاز أهل مكة في الجاهلية بخصال نبيلة
تلتقي مع حنيفية إبراهيم ( ع ) ، فقد كانوا حلفاء متآلفين ومتمسكين بكثير من شريعة إبراهيم ( ع ) ، فكانوا يختنون أولادهم ، ويحجون البيت ، ويقيمون المناسك ، ويكفنون موتاهم ، ويغتسلون من الجنابة ، كما تباعدوا في المناكح من البنت ، وبنت البنت ، والأخت ، وبنت الأخت غيرةً وبعداً عن
المجوسية ، وكانوا
يتزوجون بالصداق والشهود ، ويطلقون ثلاثاً ، إلى غير ذلك .
ويمكن للقارىء أن يتصور سُموّ الرفعة
التي كانت لأهل مكة على سائر القبائل والأمم ، هذا السموّ الذي رشح عليهم من عظمة بيت الله ، فمنحهم إمتيازات كانت لهم دون سائر العرب ، وكانت العرب ، بل وملوكهم يدينون لهم بذلك .
فمن شرف مكة ، أنها كانت لَقَاحاً لا
تدين بدين الملوك ، ولم يؤد أهلها إتاوةً ولا ملكها مَلِكٌ قط من سائر البلدان ، تحج إليها ملوك حِمْيَر ، وكندة ، وغسان ، ولخم ، فيدينون للسادة من قريش ، ويرون تعظيمهم والإِقتداء بآثارهم مفروضاً وشرفاً عندهم عظيماً ، وكان أهلها آمنين يغزون الناس ولا يُغزون ، ويَسبُون ولا يُسبون ، ولم تُسْبَ قرشية قط فتوطأ قهراً ، ولا تجال عليها السهام ، وقد ذكر مجدهم وعزهم الشعراء فقال بعضهم :
أبوا دين الملوك فهم لَقَاحٌ
|
|
إذا هيجوا إلى حربٍ أجابوا
|
أما البيت ، بيت الله قلب مكة النابض ،
فقد كان جواره ملتقىً للسادة من قريش ، يتحلقون حوله حلقاتٍ حلقات ، ينظرون في مشاكلهم ومشاكل الناس من حولهم كما كان ـ ولا يزال ـ مزدحماً للطائفين والعاكفين والركع السجود .
وكان للكثير من الطائفين حول البيت طُرقٌ
وعادات يستعملونها في طوافهم ، فمنهم من كان يعتقد بأن حجه لا يتم إلا بالصفير ، فهم يقولون لا يتم حجنا حتى نأتي مكان البيت فنمُكّ فيه ! أي نصفر صفير المكّاء ( طائر صغير ) ، وقسم منهم كان يرى التصفيق من ضروريات الطواف
وقسم منهم كانوا يطوفون عراةً حول البيت ! إلى غير ذلك مما تمليه عليهم عقولهم القاصرة .
__________________
وهناك صنف كانوا يعقدون حلقاتٍ حول
البيت يتصدرها الشعراء ، أو من لهم خبرة بالأنساب ، وعلم عن أحوال العرب وتواريخها وأيامها وحروبها ، وبالطبع فإنه كان هناك من له الخبرة الكافية والمعرفة التامة بأحوال مكة وقريش وتأريخها ، فقد كان هذا يُحدّث المتحلّقين حوله عن تأريخ البيت العتيق ، وقصة إسماعيل الذي فداه الله بذبح عظيم بعد أن أمر الله إبراهيم بذبحه . . . وأنه عندما كان طفلاً تركه أبوه مع أمه هاجر وديعة بوادٍ غير ذي زرع . . ثم حدثهم كيف إشتد الظمأ بإسماعيل الصغير واستحكم الوله والخوف على قلب أمه خشية أن يموت ظمأً حتى صارت ترى السراب بين الصفا والمروة فتحسبه ماءً وتندفع نحوه ، وحين لا تجدُ شيئاً ، تعود إلى مكانها الذي إنطلقت منه ، ثم تعود وترمي ببصرها نحو المرْوَة فيبرق أمامها لمعان السراب ثانيةً فتحسبه ماءً وتندفع نحوه !! تفعل ذلك سبع مرات ، حتى إذا أعياها التعب وداخَلَها اليأسُ استغاثت بربها ورب إبراهيم وإسماعيل . وفي هذه اللحظات هفا قلبها نحو مكان ولده إسماعيل ورنت إليه بعينين ذاهلتين يائستين فلمحت طيوراً تهوي لترف بجانب ولدها ، فأسرعت نحوه وإذا بها ترى الماء وقد تفجر من تحت قدمي ولدها الظامىء إسماعيل ، فخشيت أن يجف قبل أن يرتوي وترتوي منه ، فجعلت تزمُّ التراب حوله وتقول : زِمْ . . زِمْ
.
ثم حدثهم كيف استجاب الله دعوة إبراهيم
فجعل هذا البلد آمناً ورزق أهله من كل الثمرات وغمره بالخيرات بعد أن كان مغيض جدب لا زرع فيه ولا كلأ ، وكيف صارت قلوب الناس تهوي إليه بعد أن كان مطوياً في زوايا الإهمال والنسيان ، حدثهم بهذا وأشباهه إلى أن إنتهى حديثه إلى أجياد وجرهم ، وكيف إنتصرت قطوراء على جرهم ، فقال :
جرهم وقطوراء قبيلتان من اليمن ، نزلا
في مكة ، فتزوج إسماعيل من جرهم ، فلما توفي ، ولي البيت بعده ولده نابت بن إسماعيل . ثم ولي بعده مضاض بن عمرو الجرهمي ـ خال أبناء إسماعيل ـ ثم تنافست جرهم وقطوراء
__________________
في الملك وتداعوا
للحرب فانتصرت جرهم وهزمت قطوراء ، وكثرت ذرية إسماعيل وانتشروا في البلاد لا يناوئون قوماً إلا ظهروا عليهم في دينهم ! ثم إن جرهماً بغت في مكة ، فظلموا من دخلها ، وأكلوا مال الكعبة ، وكانت مكة تسمى ( النساسة ) لا تقر ظلماً ولا بغياً ، ولا يبغي فيها أحد على أحد إلا أخرجته ، فكان بنو بكر بن عبد مناة ، وخزاعة حلولاً حول مكة ، فآذنوهم بالقتال ، فاقتتلوا ، وكان الحارث بن عمرو بن مضاض يرتجز ويقول :
اللهم إن جرهماً عبادك
|
|
الناس طرف وهم تلادك
|
فغلبتهم خزاعة على مكة ، ونفتهم عنها ،
ففي ذلك يقول عمرو بن الحارث بن عمرو بن مضاض الأصغر :
كأن لم يكن بين الحَجون إلى الصفا
|
|
أنيسٌ ولم يسمر بمكة سامر
|
ولم يتربع واسطاً فجنوبه
|
|
إلى السر من وادي الأراكة حاضر
|
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا
|
|
صروف الليالي والجدود العواثر
|
وأبدَلَنا ربيّ بها دار غربةٍ
|
|
بها الجوعُ بادٍ والعدو المحاصرُ
|
وكنّا وُلاةَ البيتِ من بعد نابتٍ
|
|
نطوف بباب البيت والخيرُ ظاهرُ
|
فأخرجنا منها المليكُ بقدرةٍ
|
|
كذلك ما بالناس تجري المقادرُ
|
فصرنا أحاديثاً وكنا بغبطةٍ
|
|
كذلك عضّتنا السنين الغوابر
|
وبدّلنا كعب بها دارَ غربةٍ
|
|
بها الذئب يعوي والعدو المكاثر
|
فسحّتْ دموع العين تجري لبلدةٍ
|
|
بها حرم أمن وفيها المشاعر
|
وظلت ولاية البيت لخزاعة ثلاثمائة سنة ،
حتى كان آخرهم حُليلُ بن حبشة .
أما قريش التي هي صريح ولد إسماعيل ،
فلم يكن لها من الأمر شيء ، وكانوا متفرقين حول الحرم بيوتات ومزقاً غير مجتمعين ولا متحدين إلى أن أدرك قصي بن كلاب بن مرة وتزوج حبىّ بنت حليل الخزاعية ، فولدت له بنين أربعة ، وكثر ولده وعظم شرفه .
ثم هلك حليل وأوصى إلى إبنه المحترش أن
يكون خازناً للبيت وأشرك
معه رجلاً يقال له :
غبشان الملكاني ، وكان إذا غاب أحجب هذا حتى هلك الملكاني .
وهنا تروى قصة طريفة ، وهي : أن قصياً
سقى المحترش الخمر وخدعه حتى إشترى البيت منه بدنّ خمر وأشهد عليه ، وأخرجه من البيت وتملك حجابته ، وصار رب الحكم فيه . فقصي هذا أول من أصاب الملك من قريش بعد ولد إسماعيل ، وذلك ، في أيام المنذر بن النعمان ملك الحيرة
.
__________________
ترجمة
زياد بن عبيد الله الحارثي
خال الخليفة العباسي عبد الله بن محمد
المعروف بـ ( أبي العباس السفاح ) .
إستعمله السفاح سنة ١٣٤ هـ والياً على
مكة ، والمدينة ، والطائف ، واليمامة . الكامل ٥ / ٤٤٨ وقيل : إنه عزله قبل موته .
ولما ولي أبو جعفر المنصور ، رده إلى
عمله . ثم في سنة ١٤١ هـ عزله المنصور وولى غيره . الطبري ٧ / ٥١١ ولعل السبب في ذلك هو إتهامه بالميل لأهل البيت عليهم السلام ، وكان همّ المنصور حين استخلف إلقاء القبض على محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن ، وكان أحد كتاب زياد بن عبيد الله يتشيع ، وكان يبعث إليهما سراً ليتواريا عن الأنظار .
وزياد نفسه كان يمني المنصور ويعده
بالقبض عليهما ، إرضاءً له . فلما حج المنصور سنة ١٣٦ سأل عنهما . فقال له زياد : ما يهمك من أمرهما ! أنا آتيك بهما .
لكن الظاهر أنه كان كارهاً لذلك ، كما
كان يدفع عن أبيهما عبد الله نقمة المنصور قدر المستطاع .
فحين حج المنصور سنة١٤٠ ، قسم أموالاً
عظيمةً في آل أبي طالب ،
فلم يظهر محمد
وإبراهيم ، فسأل أباهما عبد الله عنهما ، فقال : لا علم لي بهما ، فتغالظا ، فأمصّه ـ شتمه ـ أبو جعفر المنصور حتى قال له : أمصص كذا كذا من أمك ! فقال : يا أبا جعفر ؟ بأي أمهاتي تمصني ؟ أبفاطمة بنت رسول الله ( ص ) أم بفاطمة بنت الحسين بن علي ؟ أم بأم إسحاق بنت طلحة ؟ أم بخديجة بنت خويلد ؟ قال : لا بواحدة منهن ، ولكن بالحرباء بنت قسامة بن زهير ! وهي إمرأة من طيء . فقال المسيب بن زهير : يا أمير المؤمنين ، دعني أضرب عنق ابن الفاعلة ! فقام زياد بن عبيد الله ، فألقى عليه رداءه ، وقال : هبه لي يا أمير المؤمنين ، فأستخرج لك ابنيه . فخلصه منه ( الكامل ٥ / ١٨٥ ) وكان عبد الله هذا قد مات في محبسه في الهاشمية أيام المنصور .
وأراد أبو جعفر أن يزيد في المسجد
الحرام ـ بعد أن شكا الناس ضيقه ـ فكتب إلى زياد بن عبيد الله الحارثي أن يشتري المنازل التي تلي المسجد حتى يزيد فيه ضعفه ، فامتنع الناس من البيع ، فذكر ذلك لجعفر بن محمد الصادق ( ع ) ، فقال : سلهم ! أهم نزلوا على البيت ؟ أم البيت نزل عليهم ؟ فكتب بذلك إلى زياد ، فقال لهم زياد بن عبيد الله ذلك ، فقالوا : نزلنا على البيت . فقال جعفر بن محمد : فإن للبيت فناءه . فكتب أبو جعفر إلى زياد بهدم المنازل التي تليه . فهدمت المنازل وأدخلت عامة دار الندوة حتى زاد فيه ضعفه . راجع اليعقوبي ٢ / ٣٦٩ .
ويقال ، أن زياداً هذا ، كان فيه بخلٌ
وجفاء .
ومن طريف ما يروى في ذلك : أن بعض كتابه
أهدى له سلالاً فيها طعام ، وكانت مغطاة ، فوافقته وقد تغدى ، فغضب وقال : يبعث أحدهم الشيء في غير وقته ، ثم قال لصاحب شرطته ـ خيثم بن مالك ـ أدع لي أهل الصُفّة ـ أضياف مسجد الرسول من المساكين ـ يأكلون هذا .
فقال الرسول الذي جاء بالسلال : أصلح
الله الأمير ، لو أمرت بهذه السلال تفتح ، وينظر ما فيها ؟
قال : إكشفوها ، فكشفوها وإذا طعام حسن
من دجاج ، وجداء ، وسمك ، وأخبصة ـ تمر وسمن ـ وحلواء .
فقال : ارفعوا هذه السلال .
وجاء أهل الصُّفة ، فأخبر بهم ، فأمر
باحضارهم وقال : يا خيثم بن مالك ، إضربهم عشرة أسواط ، فإنه بلغني أنهم يجتمعون في المسجد فيفسون فيه ، ويؤذون الناس . وإلتفت إليهم وقال : لا أعلم أنه اجتمع فيه منكم اثنان ، بعد اليوم . قصص العرب ٤ / ٤٤٩ والعقد الفريد ٦ / ١٨٠ بتصرف .
ياسر في مكة
كان لياسر أخٍ ترك بلاد اليمن إلى مكة ،
إما لأداء المناسك ، وأما طلباً للُقمة العيش ـ على الأغلب ـ ليقيم بها أوده ، نظراً للمحنة الإِقتصادية التي لفّت بلاد اليمن آنذاك ، ويبدو أنه لم يوضح لإِخوته سبب رحيله ، فكان بحكم المفقود والضائع ، سيما بعد أن طال غيابه ، وانقطعت أخباره ، فرأى ياسر أن يذهب في طلبه ليرجعه إلى منزله في مضارب قومه بني عنس ، فخرج من اليمن هو وأخوان له ، أحدهما يقال له : الحرث . والثاني : مالك ، قاصدين مكة علّهم يجدونه فيها ويحملونه معهم .
لكن مكة أم الدنيا ، يغمر حنانها كل
قادم إليها ، فيجد نفسه مشدوداً نحوها ، غارقاً في حبها . يفارقها مكرهاً غير مختار إن فارق ، ويقيم بها مفعماً بألوان السعادة ، إن قدر له أن يقيم ، فكان ياسر واحداً ممن استهوتهم تلك البقعة المباركة وتملك حبها في قلبه ، فآثر البقاء فيها على الرجوع إلى اليمن ، وفي هذا الحال كان عليه أن يحكم أمره ليتمكن من العيش فيها بكرامة ، فحالف أحد ساداتها المبرزين ، وهو أبو حذيفة بن المغيرة المخزومي ، وكان هذا شيخاً كبيراً أكسبته الحياة كثيراً من الخبرة والحنكة والمرونة ، فاستطاع أن يتغلب على مرارتها وقسوتها بلين الشيوخ ، وعقلية المجربين ، لذلك كان سمحاً ، سهلاً ، لا يأبه كثيراً بمغريات الحياة وعلائقها
الإِجتماعية ، إذا
كان يغلب على تصرفاته طابع اللامبالاة مع إبداء القوة والقدرة حين يستدعي الأمر ذلك . فهو على جانب من السعة في الثراء ، والنفوذ ، فقَبل الحلف مع ياسر ، وأصبح ياسر في غبطةٍ من العيش في ظل هذا الشيخ .
وكان لأبي حذيفة أمَةٌ يقال لها سُميّة
، أدبها الغنى وأذلها الرق ، فكانت على جانب من العقل والوقار ، إلى شيء من الجمال الهادىء الوديع ، وهي لا زالت في مقتبل العمر ، فأحبها ياسر ، وعلق قلبه بها ، ولم يكن ذلك ليخفى على الشيخ ، فقد كان يقرأ في وجه حليفه الرغبة في التزويج منها ، فزوجه إياها .
ظل ياسر مع زوجه سمية يمنحها الحب
والحنان ، ويزرع في عينيها أزاهير الرجاء من جديد بعد أن أمحلت الدنيا فيهما ، فهي لم تكن سوى أمةٍ مملوكة تسير في متاهات العبودية ، ترى الحياة أمام عينيها قيوداً وحواجز وسدوداً ، فهي لا تملك حتى أبسط حقوق الإنسان ، بل لا تملك حتى إرادتها في تقرير المصير ، وها هي الآن تشم رائحة الحرية وتتنسم عبيرها مع زوجها ياسر ، وكأنها ترى فيه ملاكاً أرسلته السماء إليها لخلاصها وإنقاذها .
وحملت سمية بعمار ، فأقبلت إلى ياسر تسر
إليه بالبشرى ، وكم كان جذلاً فرحاً بذلك إلا أن الحمل ربما كان أنثى !! لم تطل الفرحة ، فالأنثى في منظور الجاهليين عار يضاف إلى تعاسة الفقراء ، وذلٌّ يضاف إلى عز الأغنياء ، رغم أنهم لولاها ما وجدوا ولا كانوا ولا عرفوا طعم الحياة .
وأطرق ياسرٌ إلى الأرض في دوامةٍ من
التفكير تركته يتأرجح بين اليأس والرجاء ما لبث بعدها أن رفع رأسه ، والتفت إلى سمية : من يدري ، ربما كان ذكراً . . . سأسميه عمّاراً !
ولا يُسرّ ياسر في نفسه أمله ورغبته في
أن يكون الحمل ذكراً . . . لا يُسّرُّ ذلك طويلاً . فكان كلما حملته قدماه إلى البيت ، بيت الله ، ومقام
إبراهيم ، يطوف حوله
، ثم يتضرع لإِله إبراهيم أن يمنحه القدرة على مواجهة الحياة ، وأن ييسر له موارد العيش ، ولا ينس بالتالي التضرع إليه بأن يرزقه ولداً يعينه على ذلك ، ويرحم به شيخوخته .
ومضت أشهر تسع أعقبها وفود عمار إلى
الدنيا ، وكاد ياسر أن يطير فرحاً بالبشرى لولا أن خيوطاً سوداء كانت تحجب أمله الزاهي ، وتكدر عليه فرحه ، فينقلب الحلم الأخضر إلى حقيقةٍ مرة . . الرق . . الرق المشؤوم . . فلقد كانت العادة تقضي بأن ابن الأمة رق مملوك لسيدها الأول ، يضاف إلى قائمة أملاكه حتى ولو كان أبوه حرّاً سيداً .
كان هذا الواقع يحول دون إكتمال الفرحة
في نفس ياسر وزوجه سميّة ، فها هي العبودية تنهد بحقدها وقسوتها نحو هذا الطفل لتحرمه وتحرم أبويه أعز شيء في الحياة . . وهل أحلى وأجمل وأعز من الحرية !
ويغرق ياسر في سحابة من التفكير ثم ما
يلبث أن ينظر في عيني الطفل البريئتين ، فيعود إليه أمله ، ولكن ضئيلاً هزيلاً سرعان ما ينطفىء . . ثم يتطلع إلى عيني سميّة ، فيقرأ فيهما الحنان المتعب ، والصورة المرهقة لمستقبل هذا الوليد ، فيطرق نحو الأرض تاركاً لعينيه الحرية في صوغ الدمع تعبيراً عن الأسى والحزن .
لكن أبا حذيفة ، ذلك الشيخ الوقور كان ـ
كما قدمنا ـ يتمتع بانسانية نبيلة وإحساس مرهف تركاه يتنازل عن حقه الذي تفرضه العادات والتقاليد الجاهلية ، فكان أن وهب لعمار حريته وأرجع لأبويه البسمة والفرح والسعادة . وتحركت شفتا ياسر وزوجه سميّة بالدعاء له والثناء عليه بأحلى آيات الثناء ، وكم تضرعا إلى الآلهة بأن ترحم شيخوخته ، وتوطد له مجده وعزه ! .
نشأته . . وصفاته وصحبته للنبي ( ص )
للحلف أو العهد آثارٌ طيبة ، تعود على
المتحالفين بالنفع ، إذ يضيف إلى قوتهم قوة وإلى منعتهم منعة ، كما يحول دون النيل من كرامة أحد الطرفين المتحالفين ، سيما إذا كان ضعيفاً أو لاجئاً اضطرته الظروف إلى حماية نفسه بالحلف ، إلا أن المردود السلبي للتحالف يعود بالضرر على الطرف الضعيف فقط ، لأنه لا يمكنه بحالٍ الإِستقلال عن حليفه القوي في تقرير مصيره ، أو إتخاذ موقف معين تمليه عليه إرادته أزاء قضية ما ، وقد ظهر ذلك جلياً في محنة الضعفاء والمحالفين المسلمين في مكة .
لقد حالف ياسر أبا حذيفة المخزومي ليحمي
نفسه في مكة ، وسرى هذا الحلف إلى ولديه عبد الله وعمّار ، أما سمية ، فهي مولاة مملوكة لأبي حذيفة تقضي التقاليد بملكية نسلها له أيضاً لولا أن وهبهم الحرية وأعتقهم ، وبذلك غلب على عمّار لقب « حليف بني مخزوم » تارةً ، ومولى بني مخزوم ، تارةً ثانية .
ومهما يكن ، فقد نشأ عمار وعاش هو
وأبواه وأخوه في ظل حليفهم أبي حذيفة المخزومي ، وبذلك أدرجوا جميعاً في قائمة الضعفاء والدهماء والصعاليك ، الذين لا وزن لهم ولا خطر في نظر المجتمع المكي ، محكومين غير حاكمين ، ومأمورين غير آمرين ، وحياة كهذه تبعث على التمرد في غالب الأحيان لما فيها من السأم والتبرم والشعور بالحيف . سيما إذا كانت
الطبائع حرةً كريمة
لا تألف الذل ، ومع هذا فإنه لم يؤثر عن هذه الأسرة ـ أسرة آل ياسر ـ إلا جميل الذكر وطيب الأثر في سيرتهم وسلوكهم مع حلفائهم بل ساداتهم بني مخزوم .
كانت ولادة عمار في عام الفيل ـ على نحو
التقريب ـ كما يستفاد ذلك من قوله : « كنت ترباً لرسول الله » ولم يكن أحد أقرب سناً إلى النبي ( ص ) منه
.
وكان أسمر اللون كأنما عجنت طينته بمسك
، مديد القامة ، ولد من عائلة الرماح بعيدٌ ما بين منكبيهُ ، صيغ تجسيداً للمهابة ، أشهل ، أصلع ، في مقدم رأسه شعرات ، وفي قفاه شعرات .
طويل الصمت كأنما تحدثه الملائكة ، سديد
الرأي ، لا يخدع عن الصواب ، راجح العقل ما خيّر بين أمرين إلا إختار أيسرهما ، زكي النفس ، سخي اليد ، هيّاب للحق ، جريىء به لا يلوى فيه ولا يصرف عنه
.
نهد نحو الرجولة وهو بعد لم يزل في سن
الشباب ، فتحلى بأرفع خصالها فكان فيه عقلٌ ونبلٌ ، ومروءة ، وبُعدُ نظر ، إلى جانب القوة والشجاعة .
هذه السجايا الكريمة ساعدته في تخطي
ظروفه الإِجتماعية الصعبة ليصادق سيد شباب مكة محمد بن عبد الله قبل نبوته ، صداقةً لا تخرجه عن حدود الأدب بين يديه ، وكأنه أدرك فيه سرَّ النبوة التي غيّرت مسار التأريخ . . . صاحَبَ محمداً رغم الفوارق الإِجتماعية الكبرى بينهما ، فمحمد بن عبد الله جده عبد المطلب سيد البطحاء بلا منازع ، وعمه أبو طالب شيخ الأبطح وزعيمها ، والهاشميون بالتالي هم سادة قريش والعرب لا يختلف في ذلك إثنان .
أما عمّار ، فلاجىء محالف لبني مخزوم ،
لا يملك دون رأيهم رأياً ، وليس له أن يفعل دون إرادتهم شيئاً ! الفارق بينهما إذن كبيرٌ جداً ، ومع ذلك
__________________
كان هناك قاسم مشترك
جمع بينهما ، عقل عمار ونبله وأمانته ، وسر النبوة الذي كان لا يزال بعد في مطاوي الغيب يشع من عيني محمد أملاً وصفاءً ورجاء يستقر في قلوب الضعفاء والمقهورين ويميط عن أعينهم طيوف اليأس ووحشة الحياة .
إستطاع عمّار أن يصاحب محمداً في شبابه
، وأن يكون أميناً على شؤونه الخاصة ، لا يفش له سراً ، كما لا يألُ جهداً في إرضائه ، فكان يتوخى ما يسره ويؤنسه ، شأن الصديق المخلص لصديقه ، حتى أنه كان الوسيط في زواجه من أم المؤمنين خديجة .
وكانت خديجة من أكثر أهل مكة ثراءً ،
وكانت قوافلها تعمل في التجارة بين الشام والحجاز ، وكانت من أهل الشرف والمكانة ، كما كانت على جانبٍ من الجمال ، رغب فيها أشراف مكة وكبراؤها ، فرغبت عنهم وردّتهم ، وألقى الله في قلبها حُبَّ محمدٍ ( ص ) فبادرت إلى عرض نفسها للزواج منه .
حدثنا عمار وهو يسرد كيفية زواج النبي (
ص ) من خديجة ، فقال : كنت صديقاً له ، فإنّا لنمشي يوماً بين الصفا والمروة إذا بخديجة بنت خويلد وأختها هالة ، فلما رأت رسول الله ( ص ) جاءتني هالة أختها فقالت : يا عمار ؛ أما لصاحبك حاجة في خديجة ؟
قلت : والله ما أدري ، فرجعت فذكرت ذلك
له ، فقال : إرجع فواضعها
وعدها يوماً نأتيها فيه . ففعلت . فلما كان ذلك اليوم أرسلت إلى عمها عمرو بن أسد وسقته ذلك اليوم ، ودهنت لحيته بدهن أصفر ، وطرحت عليه حبراً ، ثم جاء رسول الله ( ص ) في نفرٍ من أعمامه تقدمهم أبو طالب .
فخطب أبو طالب ، فقال الحمد لله الذي
جعلنا من زرع إبراهيم ، وذرية إسماعيل ، وجعل لنا بيتاً محجوجاً ، وحرماً آمناً ، وجعلنا الحكام على الناس ، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه . ثم إن ابن أخي محمد بن عبد الله لا يوزن برجل من قريش إلا رجح ، ولا يقاس بأحدٍ إلا عظم عنه ،
__________________
وإن كان في المال قل
فإن المال رزق حائل ، وظل زائل ، وله في خديجة رغبة ، وصداق ما سألتموه عاجله من مالي ، وله والله خطب عظيم ، ونبأ شائع . فتزوجها وانصرف .
قال عمار : فلما أصبح عمها عمرو بن أسد
، أنكر ما رأى ، فقيل له : هذا ختنك محمد بن عبد الله أهدى لك هذا . قال : ومتى زوجته ؟ قيل له : بالأمس ؛ قال : ما فعلتُ . قيل له : بلى نشهد أنك قد فعلت .
فلما رأى عمرو رسول الله ( ص ) قال :
إشهدوا أني إن لم أكن زوجته بالأمس ، فقد زوجته اليوم .
إلى جانب هذا ، كان عمار في تجواله مع
النبي ( ص ) في بطاح مكة وشعابها ، وبين الصفا والمروة ، وحول البيت ، يصغي مسامع قلبه إلى أحاديث النبي وكلماته ، فقد كان محمد قبل البعثة يمثل صحوة العقل الإِنساني ونقاء الضمير فيه ، كثير التأمل في ظواهر الكون والخلق ، شديد التنديد بآلهة قريش وعابديها والمروجين لها ، أولئك الذين استحكم الجهل والعمى في نفوسهم فانحرفوا عن المسار الفطري السليم ، وجنحوا بالإِنسانية النقية الطاهرة إلى مهاوي الغي والضلال ، فابتعدوا عن حنيفية إبراهيم وشرائع الأنبياء ، وباعوا ضمائرهم للشيطان يملي عليهم ما يشاء من نواضح كيده ، وبهارج زينته ، فيتركهم يتخبطون في ظلام الجاهلية ، لا يرون أبعد من آنافهم ، وهل أذلّ وأضعف وأحقر من إنسان يستعين على أموره بحجرٍ زاعماً أنه الآلهة التي تملك كل شيء وتفعل كل شيء ، أو أنها تقربه إلى الله الخالق !؟ جنون يا له من جنون !!
كانت أحاديث النبي وكلماته وتنديداته
توقض الجانب الإِيماني في نفس عمار ، كما تلهب فيه الشعور بالتقصير ، تقصير الإِنسان في حق نفسه وربه ،
__________________
وتلفته في نفس الوقت
إلى ضرورة العمل في سبيل إنقاذ ذلك المجتمع الغارق في بحر الظلام .
يصغي عمار إلى كلمات محمد ( ص ) وكأنه
يتلقى دورة تدريبيةً تؤهله للقيام بواجباته في المستقبل القريب الذي ينتظره .

بهذا المفتتح الرائع كانت بداية الرسالة
الإِسلامية لأهل هذا العالم كافة ، ففي غار حراء كان النبي محمد ( ص ) يخلو بنفسه هناك غارقاً في سبحات التأمل والتفكر ، متخشعاً لربه ، بعيداً عن حماقات الوثنية التي كانت تملأ مكة وتكتنف شبه الجزيرة العربية ، كان ( ص ) هو والحق على موعد ، ففي تلك اللحظات التأريخية فجأه الوحي بأول كلمات الرسالة :
كلمات على إختصارها تشتمل على معانٍ
غاية في الدقة ، فيها حثٌّ للإِنسان على فهم العوالم التي حوله ، ومن ثمَّ على فهم ذاته بواسطة العلم الذي هو موهبة من الله سبحانه الذي علم الإِنسان ما لم يعلم .
إن هذا المفتتح الكريم هو أول وثيقةٍ
دينية تسجل إنتصار العلم في هذا العالم مما يؤكد أن الإِسلام والعلم يرشحان من منهلٍ واحد ، وكل منهما يدعم صاحبه .
كان ذلك يوم الإِثنين ـ على الأشهر ـ
وله ( ص ) من العمر أربعون
__________________
سنة وكان قد ستر أمره
ودعوته ثلاث سنين ، ولم يطلع أحداً من الناس على ذلك نعم أسرَّ بدعوته إلى اثنين هما ألصق الناس به ، خديجة أول امرأة تؤمن به وعلي ـ رغم صغر سنه ـ أول ذكرٍ يؤمن به .
أما خديجة ، فتلك المرأة الصالحة التي
رغب بالقرب منها أشراف العرب ، فلفظتهم ورغبت عنهم وعن دنياهم واختارت محمداً .
وأما علي ، فذلك الصبي الذي كان لا يكاد
يفارق محمداً في حلٍّ ولا ترحال ، حتى قال هو عن نفسه واصفاً علاقته بالنبي : « كنت أتبعه إتباع الفصيل لأمه . . . » .
قال محمد بن إسحاق : لم يسبق علياً إلى
الإِيمان بالله ورسوله ورسالة محمد ( ص ) أحد من الناس ، اللهم إلا أن تكون خديجة زوجة الرسول ، وقد كان يخرج ومعه عليٌّ مستخفياً من الناس فيصليان الصلوات في بعض شعاب مكة ، فإذا أمسيا رجعا ، فمكثا بذلك ما شاء الله أن يمكثا ، لا ثالث لهما
.
وقد اطلع النبي ( ص ) بعض الخواص من
أصحابه الذين يركن لأمانتهم وإخلاصهم فكانوا إذا أرادوا الصلاة خرجوا إلى شعاب مكة خوفاً من قومهم ، وكانت دار الأرقم بمكة ملتقىً لهم حيث اتخذها النبي ( ص ) مقراً له لنشر دعوته بادىء الأمر ، ومنتدىً لمن أحب أن يسمع منه ما جاء به من عند الله تعالى ، ومن الطبيعي أن الأمر كان محاطاً بشيء من السرية والكتمان بالنسبة للراغبين في اعتناق الدين الجديد .
أما عمار بن ياسر ، الصديق الحميم
لمحمدٍ ( ص ) فلم تكن لتفوته الفرصة في المبادرة ، فخف إلى دار الأرقم ليرى محمداً ومن معه ، وليسمع منه ، إلا أنه فوجيء على الباب بصهيب بن سنان الرومي ، ويظهر أن كلاً منهما خاف ان يكون الآخر عيناً عليه !
__________________
يقول عمار : فقلت له : ما تريد ؟ قال لي
: ما تريد أنت ؟ فقلت : أردت أن أدخل على محمدٍ فاسمع كلامه . قال : وأنا أريد ذلك ، فدخلنا عليه فعرض علينا الإِسلام ، فأسلمنا . ثم مكثنا يومنا على ذلك حتى أمسينا ، ثم خرجنا ونحن مستخفون .
بعد ذلك أمر الله تعالى نبيه بإظهار
الأمر ، وأن يبدأ بالخاصة من أقاربه وعشيرته إذ خاطبه تعالى بقوله : ( وَأَنذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ )
فاستدعى علياً للقيام بمهمة جمع العشيرة ، وكان هذا أول ما استعان به الرسول ( ص ) بابن عمه علي ، فجمع بني هاشم في دار الحارث بن عبد المطلب ، وهم يومئذٍ أربعون رجلاً أو يزيدون ، الرجل منهم يأكل المسنّة ويشرب العس
. فأمر علياً برجل شاة فآدمها ، ثم قال : ادنو باسم الله . فدنا القوم عشرةً عشرة ، فأكلوا حتى صدروا ثم دعا بقعب لبن ، فجرع منه جرعة ، ثم قال : اشربوا باسم الله ، فشربوا حتى رووا . وكانت هذه الحادثة غريبة من نوعها بل معجزة خارقة للقوانين العادية مما حدا بأبي لهب عمّ النبي أن يقول للحاضرين : هذا ما سحركم به الرجل !!
سكت النبي ( ص ) ولم يتكلم ، ثم التفت
إليهم وقال : إن الله تعالى أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، وأنتم عشيرتي ورهطي ، وان الله لم يبعث نبياً إلا جعل له من أهله أخاً ووزيراً ووصياً وخليفةً في أهله ، فايكم يقوم فيبايعني على أنه أخي ووارثي ووزيري ووصي ويكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي ؟!
فسكت القوم . فقال النبي ( ص ) :
ليقومنَّ قائمكم ، أو ليكوننَّ في غيركم ، ثم لتندمنَّ ؟! ثم أعاد الكلام ثلاث مرات .
__________________
فقام علي ( ع ) ، فبايعه وأجابه ، فقال (
ص ) : ادن مني ، فدنا منه ففتح فاه ومجّ في فيه من ريقه ، وتفل بين كتفيه وثدييه . فقال أبو لهب : فبئس ما حبوت به ابن عمك أن أجابك ، فملأت فاه ووجهه بزاقاً !!
فقال النبي ( ص ) : ملأته حكمةً وعلماً
.
ثم يلتفت أبو لهب إلى الحاضرين من بني
هاشم ويقول : خذوا على يدي صاحبكم ـ أي إمنعوه ـ قبل أن يأخذ على يده غيركم ، فإن منعتموه قتلتم ، وان تركتموه ذللتم . فقال أبو طالب : يا عورة ، والله لننصرنه ، ثم لنعيننَّه . . ثم التفت إلى النبي وقال : يا بن أخي ، إذا أردت أن تدعو إلى ربك فاعلمنا حتى نخرج معك بالسلاح
ثم نزلت الآية الكريمة ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ )
. فوقف ( ص ) على الصفا ونادى : وا صباحاه . فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا : ما لك ؟ قال : أرأيتم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم ، أما كنتم تصدقونني ؟؟ قالوا : بلىٰ . قال : فاني نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديد . فقال أبو لهب : تباً لك ! ألهذا دعوتنا وجمعتنا ؟ فأنزل الله عزَّ وجلّ : ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي
لَهَبٍ وَتَبَّ . . . )
السورة . . .
وأقام رسول الله ( ص ) ذات يوم بالأبطح
فقال : إني رسول الله أدعوكم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر ولا تخلق ولا ترزق ولا تحيي ولا تميت . فاستهزأوا به وآذوه .
وذات يوم قام بسوق عكاظ ، وعليه جبة
حمراء ، فقال : يا أيها الناس ، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتنجحوا ! وإذا رجل يتبعه ، له غديرتان
__________________
كأن وجهه الذهب وهو
يقول : يا أيها الناس ، إن هذا ابن أخي ، وهو كذاب ، فاحذروه . !! وكان ذلك الرجل عمه أبو لهب .
المحنة . . وموقف إبي طالب
وكان أبو طالب ـ عم النبي ـ الداعم
الأول لمحمدٍ والمساند له ، والمدافع عنه ، مما حدا برهط من قريش أن يجتمعوا ويتفقوا فيما بينهم على أن يواجهوه في أمر ابن أخيه علّه أن يحد من نشاطه ، ويخفف من عناده في أمر دعوته ، فدخلوا عليه وفيهم أبو جهل فقال : إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ، ويسفه أحلامنا . . يقول . . ويقول . . ويفعل . . ويفعل . . فلو بعثت إليه فنهيته .
فبعث أبو طالب إلى النبي ، فجاء ( ص )
فدخل البيت ـ وكان بين أبي طالب وبين القوم قدر مجلس رجل ـ فخشي أبو جهل إن جلس محمد إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق له عليه ، فوثب فجلس في ذلك المجلس ، ولم يجد رسول الله مجلساً قرب عمه ، فجلس عند الباب .
فقال أبو طالب : أي ابن أخي ، ما بال
قومك يشكونك ، يزعمون أنك تشتم آلهتهم ، وتقول . . وتقول . . فابق عليّ وعلى نفسك ، ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق !؟ فظن رسول الله ( ص ) أنه قد بدا لعمه فيه بداء ، وأنه خاذله ومسلمه وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه ، فقال ( ص ) : يا عمّاه ، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته . !! ثم استعبر رسول الله فبكىٰ . ثم قام .
فلما ولىّ ، ناداه أبو طالب فقال : أقبل
يا بن أخي ، فأقبل عليه ، فقال : إذهب يا بن أخي ، فقل ما أحببت ، فوالله لا أسلمك لشيءٍ أبداً
وفي ذلك يقول أبو طالب :
__________________
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
|
|
حتى أوسّد في التراب دفينا
|
فانفذْ لأمرك ما عليك مخافة
|
|
وابشر وقرَّ بذاك منه عيونا
|
وعرضت ديناً قد علمتُ بأنه
|
|
من خير أديان البرية دينا
|
فعرفت قريش أن أبا طالب أبىٰ
خذلان ابن أخيه ، فلجأوا إلى حيلة ثانية ظنوا أنهم يستدرجون بها أبا طالب ، فاختاروا أجمل فتىً في قريش يقال له عمارة على أن يقايضوه بمحمد !! فمشوا إلى أبي طالب وقالوا له : يا أبا طالب ؛ هذا عمارة بن الوليد أنهد فتىً في قريش وأشعره وأجمله ، فخذه ، فلك عقله ونصرته ، واتخذه ولداً ، فهو لك ، وسلم لنا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك ، وفرّق جماعة قومك ، وسفَهَ أحلامهم ، فنقتله ، فإنما رجل كرجل !!
فقال : والله لبئسما تسومونني ،
أتعطونني إبنكم أغذوه لكم ! وأعطيكم ابني تقتلونه ؟! هذا والله ما لا يكون أبداً .
فقال المطعم بن عدي بن نوفل : والله يا
أبا طالب لقد أنصفك قومك ، وجهدوا على التخلص مما تكرهه ، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً . فقال أبو طالب : والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ، ومظاهرة القوم علي ، فاصنع ما بدا لك !
فحقب الأمر عند ذلك ، وحميت المواجهة
بين قريش وأصحاب الرسول ومؤيديه ، وعمدت قريش إلى إستعمال القوة والعنف منزلةً أبشع ألوان التعذيب النفسي والجسدي بأتباع محمد ( ص ) سيما الضعفاء منهم والدهماء الذين لا حول لهم ولا عشيرة .
« فوثبت كل قبيلةٍ على من فيها من
المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم ، وكان نصيب عمار وأبويه ياسر وسمية من ذلك التعذيب وتلك الفتنة ما يفوق حد الوصف ، ومنع الله رسوله منهم بعمه أبي طالب .
حين رأى أبو طالب قريشاً وهي تصنع ما
تصنع ببني هاشم وبني
المطلب ، جمعهم
ودعاهم إلى تأييد موقفه في الدفاع عن رسول الله ( ص ) ومنع قريش عنه ، فاجتمعوا إليه وقاموا معه وأجابوا إلى ما دعاهم ، ما عدا أبو لهب الذي أصرّ على عدائه لمحمد . فكان أبو طالب بعد هذا يمدح قومه على موقفهم ومساندتهم للرسول ، ويذكر فضله ( ص ) فيهم ، ومكانه منهم وفي ذلك يقول :
يقولون لو أنا قتلنا محمداً
|
|
أقرت نواصي هاشمٍ بالتذللِ
|
كذبتم ورب البيت تدمىٰ نحوره
|
|
بمكة والبيت العتيقِ المقبلِ
|
تنالونه أو تصطلوا دون نيله
|
|
صوارمَ تفري كل عضوٍ ومفصل
|
فهلّا ولما تنتج الحرب بكرها
|
|
بخيل ثمام أو بآخر معجل
|
وتلقوا ربيع الأبطحين محمداً
|
|
على ربوةٍ في رأس عنقاء عيطلِ
|
وتأوي إليه هاشم إن هاشماً
|
|
عرانينُ كعب آخرِ بعد أولِ
|
فإن كنتم ترجون قتل محمدٍ
|
|
فروموا بما أجمعتم نَقْل يذبلِ
|
فإنا سنحميه بكل طِمرةٍ
|
|
وذي ميعةٍ نهد المراكل عسكل
|
وكل رديني ظماءِ كعوبه
|
|
وعضبٍ كإيماضِ الغمامة معصل
|
وقوله :
وأبيض يُستسقىٰ الغمام بكفه
|
|
ثمالُ اليتامى عِصمة للآرامل
|
يُطيفُ به الُهلّاك من آل هاشم
|
|
فهم عنده في نعمةٍ وفواضلِ
|
ونحن نقرأ أبا طالب في شعره ناصراً للنبي
( ص ) ، ومؤيداً له في دعوته ، فهو يدلي برأيه جهاراً أمام الناس أن ما جاء به محمد ( ص ) هو دين منزل من السماء ، على نبي إختارته السماء ، فها هو ذلك يقول :
أمينٌ حبيبٌ في العباد مسوّمٌ
|
|
بخاتم رب قاهر في الخواتمِ
|
يرى الناس برهاناً عليه وهيبةً
|
|
وما جاهلٌ في قومه مثل عالمِ
|
نبيٌّ أتاه الوحيُ من عند ربه
|
|
ومن قال : لا ، يَقرعْ بها سنَّ نادمِ
|
ويقول أيضاً حين عذبت قريش عثمان بن
مضعون :
ألا ترون أذلّ الله جمعكم
|
|
أنا غضبنا لعثمان بن مضعونِ
|
ونمنع الضيم من يبغي مضيمنا
|
|
بكل مطّردٍ في الكف مسنون
|
ومرهفاتٍ كأن الملح خالطها
|
|
يشفي بها الداء من هام المجانين
|
حتى تقرَّ رجالٌ لا حلوم لها
|
|
بعد الصعوبة بالإِسماح واللين
|
أو تؤمنوا بكتابٍ منزل عجبِ
|
|
على نبي كموسى أو كذي النون
|
وأكثر ما نسب من الشعر لأبي طالب يمكن
إعتباره من وحي المناسبة ، وتخال وأنت تقرأ ما ورد من الشعر المنسوب إليه أنه كان يصب في مصبٍّ واحد ، وهو الدفاع عن محمد وعن دعوته ورسالته ، والتشهير بمناوئيه وتحديهم وتوعدهم ، سيما حين يرى استفزاز قريش لمحمد واستهزائهم به ، فمن ذلك قوله مشيراً إلى إصرار الهاشميين على افتدائه ببذل النفس والنفيس :
يرجون أن نسخى بقتل محمدَ
|
|
ولم تختضب سمر العوالي من الدم
|
كذبتم وبيت الله حتى تفلقوا
|
|
جماجم تلقى بالحطيم وزمزم
|
وتقطع أرحام وتنسى حليلةٌ
|
|
حليلاً ويغشى محرمٌ بعد محرم
|
على ما مضىٰ من مقتكم وعقوقكم
|
|
وغشيانكم في أمركم كل مأثَم
|
وظلم نبي جاء يدعو إلى الهدى
|
|
وأمرٌ أتىٰ من عند ذي العرش
قيّم
|
ومن مواقف أبي طالب التي تنم عن مدى
شجاعته وهيبته وسطوته ، ومدى حبه واخلاصه لمحمد ، ما حدث له مع طواغيت مكة ، وهم : العاص بن وائل ، والحارث بن قيس ، والأسود بن المطلب ، والوليد بن المغيرة ، والأسود بن عبد يغوث الزهري
وكان هؤلاء من أشد الناس على
__________________
=
محمدٍ ، وأكثرهم
سخريةً واستهزاءً به ، وكانوا يوكلون به صبيانهم وعبيدهم فيلقونه بما لا يحب .
ففي ذات يوم نحروا جزوراً بالحزورة
ورسول الله ( ص ) قائم يصلي ، فأمروا غلاماً لهم فحمل السلى والفرث حتى وضعه بين كتفيه وهو ساجد !
فانصرف ( ص ) وأتى عمه أبا طالب ، فقال
: كيف موضعي فيكم ؟ قال : وما ذاك يا بن أخي ؟ فأخبره ما صُنع به .
فأقبل أبو طالب آنذاك مشتملاً على السيف
، يتبعه غلام له ، فاخترط سيفه وقال مخاطباً إياهم : والله لا تكلم رجل منكم إلا ضربته ، ثم أمر غلامه ، فأمرَّ ذلك السلى والفرث على وجوههم واحداً واحداً . . فقالوا : حسبك هذا فينا يا بن أخينا . . ؟!
وفي الليلة التي أسري به ( ص ) إلى
السماء ، افتقده أبو طالب ، فخاف أن تكون قريش قد إغتالته أو قتلته ، فجمع سبعين رجلاً من بني عبد المطلب معهم الشفار ، وأمرهم أن يجلس كل منهم إلى جانب رجل من قريش ، وقال لهم : إن رأيتموني ومحمداً معي فأمسكوا حتى آتيكم . وإلا فليقتل كل رجلٍ منكم جليسه ولا تنتظروني ، ثم مضى ، فما لبث أن وجدوه واقفاً على باب أم هانىء ، فأتى به بين يديه حتى وقف على قريش فعرفهم ما كان منه ، فأعظموا ذلك ، وجلَّ في صدورهم ، وعاهدوه وعاقدوه أن لا
__________________
يؤذونه
إن هذه المواقف من شيخ مكة وعميدها كانت
تمهد للرسول المصطفى ( ص ) طريق دعوته وتشد من عزائم المؤمنين ، وتزيد من صبرهم على المكاره ، كما كانت في المقابل تؤجج نار الحقد في قلوب مشركي مكة من القرشيين وغيرهم ، فهم لا يستطيعون النيل من محمدٍ بشخصه في تلك الفترة تحامياً لسطوات بني هاشم ، وهيبةً لهم ولعميدهم أبي طالب ، لذلك عمدوا إلى الإِنتقام من أتباع محمد ممن كانوا تحت قبضتهم وسلطتهم ، فوثب كل واحدٍ منهم إلى أحلافه وعبيده من المسلمين منزلين بهم أشد العقوبات ، وأقسى ألوان التعذيب ، طمعاً في ردهم عن دينهم الجديد ، وانتقاماً من محمد ( ص ) في آنٍ واحد .
وعلى
سبيل المثال لا الحصر ، وثب لبلال بن رباح أمية بن خلف الجمحي
فكان يخرجه إذا حميت الظهيرة ، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة توضع على صدره ، ويقول أمية : لا يزال بلالٌ على ذلك حتى يموت ، أو يكفر بمحمد !
فيقول بلال : أحدٌ أحد
. .
وخباب بن الأرت ، كان يُعرّىٰ
ويُلْصَقُ ظهره بالرمضاء ، ثم الرضف ـ الحجارة المحماة بالنار ـ ويلوون رأسه ، وهو لا يجيبهم إلى شيء مما أرادوه منه ، وقد قال يوماً لعمر بن الخطاب انظر إلى ظهري ! فنظر ، فقال : ما رأيت كاليوم ! قال خباب : لقد أوقدت لي نارٌ وسحبت عليها ، فما أطفأها إلا ودك ظهري
.
__________________
وأبو فكيهة ، كان عبداً لصفوان بن أمية
الجمحي ، أسلم مع بلال ، فأخذه أمية بن خلف وربط في رجله حبلاً ، وأمر به فجُرَّ ، ثم ألقاه في الرمضاء ، ومرَّ به جُعَلْ ـ خنفساء ـ فقال له أمية : أليس هذا ربك ؟! فقال : الله ربي وربك ورب هذا . فخنقه خنقاً شديداً ، ومعه أخوه أبيّ بن خلف يقول : زده عذاباً حتى يأتي محمدٌ فيخلصه بسحره !
وكانوا يضعون الصخرة على صدره حتى يدلع
لسانه ، ولم يرجع عن دينه ، ولم يزل على تلك الحال حتى ظنوا أنه قد مات
.
ولم يقتصر الأمر على الرجال فقط ، بل
شمل النساء حتى العواجز منهن ، فكانت سميّة ـ أم عمار ـ وزنَّيرة ، ولبيبة ، وغيرهن ممن عذبن في الله .
أما زنيرة : فكانت امرأةً وقوراً أدبها
الفقر ، وأعزها الإِسلام ، وكانت أمةً لبني عدي ، وكان يشترك في تعذيبها كل من أبي جهل وعمر حتى عميت ، فقال لها : إن اللات والعزى فعلا بك ذلك ! قالت : وما يدري اللات والعزى من يعبدهما ؟! ولكن هذا أمر من السماء ، وربي قادرٌ على رد بصري . فأصبحت من الغد وقد ردَّ الله بصرها . فقالت قريش : هذا من سحر محمد
!!
ومثلها لبيبة ، جارية بني مؤمل ، أسلمت
قبل إسلام عمر ، وكان عمر يعذبها حتى تفتن ، ثم يدعها ويقول : إني لم أدعك إلا سآمة . فتقول : كذلك يفعل الله بك إن لم تسلم
!! وكذلك أم عبيس جارية بني زهرة ، والنهدية مولاة بني نهد واضرابهن ممن واجهن المحنة في سبيل الإِسلام .
غير أن سمية ـ أول شهيدة في الإِسلام ـ
كان لتعذيبها حتى شهادتها وجه
__________________
آخر يختلف تماماً عن
رفيقاتها ورفقائها ، حيث كانت تُعذَّبُ في نفسها وفي زوجها ياسر ، وفي ولدها عمار ، بل كان كل واحدٍ من هذه العائلة يلاقي نفس الدور من طاغوت مكة أبي جهل . . لقد كان نصيب آل ياسر من تلك المعاناة الحصة الكبرى والحظ الأوفر .
كانت سمية سابعة سبعةٍ في الإِسلام ،
عجوزاً ضعيفةً وقعت في براثن وحش كاسر ، إلا أن نفسها كانت أصلب من الحديد ، وأقوى من السياط ، تواجه الحقد الأعمى لهباً يتمدد على جسدها الطاهر بإيمان قوي وعقيدة راسخة مما جعل طاغوت مكة أبا جهل يفقد صوابه . . لقد أراد أن يسمع منها ما يكرهه قلبها . . أن تنال من محمدٍ ودينه . . ولكنها أسمعته ما يكره ، فعمد إلى حربةٍ كانت بين يديه ، فوجأها في قلبها ، فكانت أول شهيدة في الإِسلام .
وواجه زوجها ياسر ـ الشيخ الهرم ـ عين
المصير فأمسى نجماً متألقاً في سماء الشهادة .
وبين الوالد والأم كانت محنة عمّار ـ الابن
ـ تتفاقم وتزداد حتى كأنه يتلقى صورة تعذيبهما نصب عينيه ونبأ استشهادهما عذاباً متجدداً عليه يضاعف آلامه ومحنه .
بالإِضافة إلى هذا فانهم لم يتركوا
وسيلةً من وسائل القهر والتعذيب إلا استعملوها معه ، فتارةً يسحبونه على الرمضاء المحرقة مجرداً من ثيابه ، ثم يضعون صخرةً كبيرةً على صدره ، فان يئسوا منه لجأوا إلى تغريقه بالماء بغمس وجهه ورأسه حتى يختنق أو يشرف على الموت ، فكان لا يدري بما يقول !
قال بعضهم وقد رأى عماراً متجرداً في
سراويل : نظرت إلى ظهره فيه حبط كثير ، فقلت : ما هذا ؟! قال : هذا مما كانت تعذبني به قريش في رمضاء مكة
.
__________________
ويمر رسول الله ( ص ) بتلك الكوكبة من
طلائع المسلمين وهم يواجهون المحنة ويصوغون بها الفجر الجديد في تأريخ الإِنسانية ، فيمسح جراحهم ويلملم أحزانهم معزياً ومسلياً وينظر الكل إليه بعيونٍ أتعبها ظلام العابثين والحاقدين ، فيرون في عينيه بريق أملٍ ووميض رجاء ، وينظر إليهم ( ص ) ثم يصافحهم مقوياً من عزائمهم شاداً على أيديهم . . وفي تلك اللحظات يقول له خباب بن الأرت : يا رسول الله ، أدعُ لنا ، فيدعو لهم . ثم يلتفت إليهم ويقول : إنكم لتعجلون ! لقد كان الرجل ممن كان قبلكم يمشط بأمشاط الحديد ويشق بالمنشار فلا يرده ذلك عن دينه ! والله ليتممن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله ، والذئب على عنزه
.
إلا أنه صلوات الله عليه حينما يمر على
عائلة ياسر ينظر إليهم برحمةٍ وشفقة . . ثم ما يلبث أن يقول : صبراً يا آل ياسر ، فان موعدكم الجنة
ثم يقبل على عمّار فيعزيه ويسليه ، ويجهش عمّار باكياً وهو يبث إلى رسول الله همومه وأحزانه فيقول : يا رسول الله ، بلغ منا العذاب كل مبلغ فيقول ( ص ) : صبراً يا أبا اليقظان ، اللهم لا تعذب أحداً من آل ياسر بالنار
.
وكاد عمّار أن يلتحق بأبويه لفرط ما
واجه من ضغوط نفسية وجسدية تترك أقوى النفوس مضعضعةً مهزوزة ، وأقوى الأجساد مكلومةً ومعاقة لولا إن المشيئة الإِلهية إختارت البقاء لهذا الإِنسان كي يؤدي دوره التأريخي كاملاً أزاء الرسول محمد ( ص ) ورسالته الخالدة ، وأن يتوج حياته المباركة بأعظم المواقف التي يسجلها تأريخ أمةٍ لعظيم من عظمائها وقائدٍ من قادتها . بطلٌ من أبطال « بدر » وأمير على الكوفة ، وقائد من قوّاد علي . .
__________________
لقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه فقط ،
وربما كان ذلك من فرط التعذيب الذي وصفه المؤرخون بقولهم : « كان يعذب حتى لا يدري ما يقول . . »
.
ربما قال ما قال وهو في حالة غيبوبة أو
شبه غيبوبة ، فحينما سأله النبي ( ص ) ما وراءك ؟ قال : شرٌّ يا رسول الله ، والله ما تركت حتى نلت منك يا رسول الله ، وذكرت آلهتهم بخير . قال : فكيف تجد قلبك ؟ قال : مطمئنٌ بالإِيمان . قال : فان عادوا عُدْ . وفي ذلك نزلت الآية الكريمة : ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ )
.
أجل ، أعطاهم بلسانه ما أرادوا ، وأما
قلبه فظل كما هو مطمئناً بالإِيمان مفعماً بحب محمدٍ وآل محمد ، مشرقاً بنور الهداية وآلاء الله سبحانه .
__________________
الهجرة إلى بلاد
الحبشة
إزداد المسلمون عدداً فازدادت قريش
حنقاً واستمرت في محاربتها لهم آملةً من وراء تنكيلها بهم القضاء عليهم أو إنهاء قدرتهم على التحرك ، فافتتن من افتتن وثبت من ثبت وعصمه الله . ورأى رسول الله ( ص ) ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانه من الله وعمه أبي طالب ، وأنه لا يقدر أن يمنع أصحابه مما هم فيه من القهر والمطاردة ، فأشار عليهم أن يتفرقوا في الأرض .
قالوا : إلى أين نذهب ؟
قال ( ص ) : لو خرجتم إلى أرض الحبشة ،
فإن بها ملكاً لا يُظلم أحدٌ عنده ، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه
.
والحبشة بلاد تقع في شمال افريقيا ، وهي
هضبةٌ مرتفعة ، تعلوها جبالٌ شامخة كثيرة الوعورة ، صعبة المسالك ، بها أنهار كثيرة أشهرها النيل الأزرق بالإِضافة إلى أن الطقس فيها جيد صحي في الجبال لكنه حار مضر في المنخفضات أما أهلها فيعتنقون الديانة المسيحية والمذهب القبطي بالذات
__________________
وكان هذا الدين قد
دخل تلك البلاد في القرن الرابع الميلادي
.
وهكذا خرج المسلمون قاصدين تلك الأرض
مخافة الفتنة وفراراً إلى الله بدينهم فلحقهم الطلب لولا أن يسّر الله لهم سفينةً تنقلهم وتنقذهم ، وكانوا إثني عشر رجلاً من بينهم عمّار بن ياسر
.
لقد كانت أرض الحبشة متجراً لقريش يجدون
فيها سعةً من الرزق وأمناً ، وكان بينهم وبين زعمائها علاقات ودّ وصداقة لذلك طمعوا في إرجاع أولئك النفر المسلمين بأن أوعزوا إلى عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد المخزومي أن يحملا معهما الهدايا للملك وحاشيته وأن يسألاه تسليمهم إياهم والرجوع بهم إلى مكة .
سار عمرو وعمارة حتى وصلا إلى الحبشة ،
فلما استقرت بهم الدار طلبا من بعض المقربين للملك أن يكونوا عوناً لهم على ما جاؤوا لأجله فوعدوهم بذلك ، ثم لما اجتمعا بالملك قالا له :
أيها الملك ؛ إن ناساً من سفهائنا
فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دين الملك وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم ولقد أرسلنا أشراف قومهم لتردهم إليهم .
ووفقاً للخطة أشار أصحاب النجاشي عليه
بتسليم المسلمين إليهم ، فغضب من ذلك وقال : لا والله ، لا أسلم قوماً جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم وأسألهم عمّا يقول هذان ، فان كانا صادقين سلمتهم إليهما ، وإن كانوا على غير ما يذكر هذان منعتهم واحسنت جوارهم . ثم أرسل النجاشي إلى أصحاب النبي ( ص ) فدعاهم ، فحضروا وقد أجمعوا على صدقه فيما ساءه وسرّه ، وكان المتكلم عنهم جعفر بن أبي طالب .
__________________
فقال لهم النجاشي : ما هذا الدين الذي
فارقتم فيه قومكم ؟ ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحدٍ من الملل !؟
فقال جعفر : أيها الملك ، كنا أهل
جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا لتوحيد الله وأن لا نشرك به شيئاً ونخلع ما كنا نعبد من الأصنام ، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم ، وأمرنا بالصلاة والصيام ، فأمنا به وصدقناه ، وحرمنا ما حرم علينا ، وحللنا ما أحلَّ لنا ، فتعدى قومنا علينا ، فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ، ورجونا أن لا نُظلم عندك أيها الملك .
فقال النجاشي : هل معك مما جاء به عن
الله شيء ؟ قال : نعم ، فقرأ عليه سطراً من سورة مريم ، فبكى النجاشي وأساقفته وقال : إن هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاةٍ واحدة . إنطلقا ، والله لا أسلمهم إليكما أبداً !
فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص :
والله لآتينه غداً بما يبيد خضراءهم .
فلما كان الغد قال للنجاشي : أيها الملك
، إن هؤلاء يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً ! فأرسل النجاشي فسألهم عن قولهم في المسيح . فقال جعفر : نقول فيه الذي جاءنا به نبينا : هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول .
فأخذ النجاشي عوداً من الأرض وقال : ما
عدا عيسى ما قلت هذا العود ، فاستاءت بطارقته ، فقال : وإن أنكرتم . ثم قال للمسلمين إذهبوا فأنتم أمنون ، ما أحب أن لي جبلاً من ذهب وانني أذيت رجلاً منكم . ورد
هدية قريش وقال : ما
أخذ الله الرشوة مني حتى أخذها منكم ، ولا اطاع الناس فيّ حتى أطيعهم فيه .
__________________
الحصار في الشعب
حيث يئس المشركون من الوصول إلى محمد (
ص ) لقيام أبي طالب دونه ، أجمعوا على أن يكتبوا بينهم وبين بني هاشم صحيفة مقاطعة يتعاقدون فيها على أن لا يناكحوهم ولا يبايعونهم ولا يجالسوهم ! فكتبوها وعلقوها في جوف الكعبة تأكيداً على أنفسهم فلما فعلوا ذلك إنحاز بنو هاشم وبنوا المطلب فانضموا كلهم إلى أبي طالب ودخلوا معه الشعب فاجتمعوا إليه ما عدا أبي لهب فانه خرج إلى قريش وظاهرها على قومه .
إستمر الحصار مضروباً زهاء ثلاث سنوات
مما أضر ببني هاشم فضاق عليهم الأمر حتى أنهم عدموا القوت إلا ما كان يحمل إليهم سراً وخفيةً ، وأخافتهم قريش حتى لم يكن يظهر منهم أحد ولا يدخل إليهم أحد وكان ذلك أشد ما لاقاه رسول الله ( ص ) في دعوته في مكة . حتى أن حكيم بن حزام حمل قمحاً لعمته خديجة فلقيه أبو جهل وأراد منعه من ذلك وقال له : أتحمل الطعام إلى بني هاشم ، والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك في مكة : فأقبل العاص بن هشام فقال : ما لك وإياه ؟ قال : إنه يحمل الطعام إلى بني هاشم ! فقال العاص : يا هذا إن طعاماً كان لعمته عنده بعثته إليه فيه ، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها ؟ خلّ سبيل الرجل ! فأبى أبو جهل حتى نال كلٌّ منهما من صاحبه ، فأخذ العاص لحى بعير فضربه به فشجه ووطأه وطأً شديداً
فانصرف وهو يكره أن
يعلم رسول الله وبنو هاشم بذلك فيشمتوا .
وهيأ الله سبحانه الأسباب لإِبطال
الصحيفة وفك الحصار ، وذلك : أن هشام بن عمرو بن الحارث كان ذا شرف في قومه ، فكان يأتي بالبعير ليلاً وقد أوقره طعاماً وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب فيدخل به إليهم ثم يعود ويأتي مرةً أخرى وقد أوقره تمراً ، وفي ذات يوم أقبل إلى زهير بن أمية المخزومي فقال : يا زهير ، أرضيت أن تأكل الطعام وتشرب الشراب وتلبس الثياب . . وأخوالك حيث قد علمت ! يبتاعون ولا يبتاع منهم ولا يواصلون ولا يزارون ، أما اني أحلف لو كان أخوال أبي الحكم ودعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك أبداً !
فقال : ويحك يا هشام ، فماذا أصنع ؟ إنما
أنا رجل واحد ، والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقض هذه الصحيفة القاطعة . قال : قد وجدتَ رجلاً . قال : من هو ؟ قال : أنا . قال زهير : ابغنا ثالثاً . فذهب زهير إلى المطعم بن عدي فقال : يا مطعم ، أرأيت أن يهلك بطنان من عبد مناف جوعاً وجهداً وأنت شاهد على ذلك . موافق لقريش فيه !؟ أما والله لئن أمكنتموهم من هذا لتجدّن قريش إلى مساءتكم في غيره سريعة . قال : ويحك ، ماذا أصنع ، إنما أنا رجل واحد ! قال : وجدت ثانياً ، قال : من هو ؟ قال : زهير بن أمية . فصاروا ثلاثة . فقال له المطعم : ابغنا رابعاً . فذهب إلى أبي البختري بن هشام وقال له مثلما قال للمطعم ، قال : هل من أحد يعين ؟ قال نعم ثم عدد له الأسماء ، فقال له : فابغنا خامساً . فمضى إلى زمعة بن الأسود بن المطلب فكلمه فقال : وهل يعين على ذلك أحد ؟ قال : نعم ، ثم عدد له القوم وسماهم ، فاتفقوا أن يلتقوا في مكان يقال له حطم الحجون ليلاً بأعلى مكة فأجمعوا أمرهم وتعاهدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها .
قال زهير : أنا أبدأكم وأكون أولكم
يتكلم ، فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم وغدا زهير بن أبي أمية وعليه حلّة له ، فطاف بالبيت سبعاً ، ثم أقبل
على الناس فقال : يا
أهل مكة ، أنأكل الطعام ونشرب الشراب ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكىٰ !! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة ، وكان أبو جهل في ناحية المسجد ، فقال : كذبت والله لا تُشق . فقال زمعة بن الأسود لأبي جهل : والله أنت أكذب ، ما رضينا بها والله حين كُتبت ، فقال أبو البختري معه : صدق والله وكذب من قال غير ذلك ، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها ، وقال هشام بن عمرو مثل قولهم . فقال أبو جهل : هذا أمر قُضي بليل .
وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة وشقها
فوجد الأرضة قد أكلتها إلا ما كان من « باسمك اللهم » .
أما كاتبها منصور بن عكرمة فشلت يده
. وبذلك فرّج الله سبحانه عن رسوله وعن الهاشميين فعادوا إلى ديارهم ومنازلهم لولا أن الأمور لم تقف عند هذا الحد كما سيأتي .
لقد كان هدف قريش من الحصار هو إخضاع
محمدٍ ومن معه لمشيئتهم وإرادتهم ، والحد من نشاطهم وبالتالي تحجيمهم والقضاء عليهم ، وانتهى الحصار وانتهت معه تلك الأحلام اليائسة ، غير أن ذلك لم يمنعهم من مواصلة التفكير في إيجاد خطة تسمح لهم بالقضاء على محمدٍ دون ضجة ، وبالفعل فقد وجدوا الوسيلة لتحقيق ذلك لولا أن الله سبحانه أراد غير ما أرادوا .
فقد اجتمعوا فيما بينهم واستقر رأيهم
على أن يختاروا من كل قبيلة فتىً من فتيانها الأشداء مزوداً بسلاحه الكامل يجتمعون ثم يقتحمون على النبي داره فيضربونه وهو على فراشه ضربة رجلٍ واحد ، وبذلك يضيع دمه بين القبائل وينتهي كل شيء وعندها يكون بنو هاشم أمام خيارين إما مقاتلة كل
__________________
العرب ، أو
الإِستسلام للأمر الواقع والسكوت على ما يحصل ، ولا شك أنهم سيختارون الثاني .
واستعد
القوم لتنفيذ الخطة ، وأحاطوا بالدار ، وأعلم الله نبيه بذلك فأمر علياً أن ينام في فراشه ويتشح ببرده الأخضر وأمره أن يؤدي ما عنده من وديعة وأمانة وغير ذلك ، ثم خرج ( ص ) من أمامهم وهم لا يرونه وهو يتلو قوله تعالى : ( وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ )
.
واندفع الفتية نحو البيت سالّين سيوفهم
وإقتحموا المكان الذي ينام فيه النبي ( ص ) إلا أنهم فوجئوا بعليٍّ يتمدد على الفراش وقد اشتمل ببرد النبي . . وأسقط ما في أيديهم وتراجعوا ببرودٍ وتخاذل ، وأنزل الله سبحانه في تلك المناسبة ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ )
.
تابع النبي ( ص ) سيره ، وتابعت قريش
كيدها فجعلت لمن يأتي به مائة ناقة . وكان معه أبو بكر ، فاستأجرا عبد الله بن أرقد من بني الديل يدلهما على الطريق فتبعهم سراقة بن مالك بن جشعم المدلجي فلحقهم وهم في أرضٍ صلبة ، فقال أبو بكر : يا رسول الله أدركنا الطلب ! فقال : لا تحزن إن الله معنا ، ودعا عليه رسول الله ( ص ) فارتطمت فرسه إلى بطنها وثار من تحتها مثل الدخان ، فقال : ادعُ لي يا محمد ليخلصني الله ولك علي أن أرد عنك الطلب ! فدعا له ، فتخلص . فعاد يتبعهم ، فدعا عليه الثانية ، فساخت قوائم فرسه في الأرض أشد من الأولى ، فقال : يا محمد قد علمت أن هذا من دعائك علي ، فادعُ لي ولك عهد الله أن أرد عنك الطلب .
فدعا له فخلص ، وقرب من النبي ( ص )
وقال له : يا رسول الله ، خذ
__________________
سهماً من كنانتي وان
إبلي بمكان كذا فخذ منها ما أحببت ، فقال : لا حاجة لي في إبلك . فلما أراد سراقة أن يعود قال له رسول الله ( ص ) : كيف بك يا سراقة إذا سوّرت بسواري كسرى ؟! قال : كسرى بن هرمز ؟ قال : نعم ، فعاد سراقة فكان لا يلقى أحداً يريد الطلب إلا قال : كفيتم . ما ههنا ! ولا يلقى أحداً إلا ردّه .
فلما رجع إلى مكة أخبرهم بما جرى فكذبوه
، وكان أشدهم له تكذيباً أبو جهل فقال سراقة :
أبا حكمٍ والله لو كنت شاهداً
|
|
لأمر جوادي حيث ساخت قوائمه
|
علمتَ ولم تشكك بأن محمداً
|
|
رسول وبرهان فمن ذا يكاتمه
|
وهكذا تابع النبي ( ص ) سيره نحو
المدينة حتى وصل إلى قباء لاثنتي عشرة ليلةً خلت من شهر ربيع الأول
حيث ولد في هذا العالم تأريخ جديد إسمه الهجرة .
مسجد المدينة
في المدينة كانت بداية الإِنتقال من
الدعوة إلى الدولة ، فكان لا بد من وضع الأسس لبناء تلك الدولة الحديثة التي قدر الله لها أن تكون المنارة الروحية والفكرية للإِنسان عبر العصور ، ومصدر إشعاع وخير لكل الأجيال في كل الأزمان ، وأول مؤسسة إجتماعية أقيمت في جسم تلك الدولة هي « المسجد » ففيه تقام العبادة ، وفيه تنشر الرسالة ، يجتمع فيه المؤمنون لآداء واجباتهم الدينية بين يدي ربهم متعبدين له سبحانه وتعالى وحده ، ومن ثم يستمعون إلى ما أوحي للنبي الكريم ( ص ) ولما يأمرهم وينهاهم ، ولا ننس أن كل لقاءٍ بين النبي وأصحابه في أي مكانٍ لا يخلو من تلك التوجيهات
__________________
والإِرشادات ، إلا أن
للمسجد ميزة خاصة هي كونه « جامعة » لا تستثني أحداً من طلابها صغاراً كانوا أم كباراً ، فالثقافة للمجتمع والعبادة لله .
لذلك أمر رسول الله ( ص ) ببناء مسجده
في المكان الذي بركت فيه ناقته ويقال له « المربد » وكان لغلامين يتيمين من الأنصار ، فدعا رسول الله ( ص ) بالغلامين فساومهما عليه ، فقالا : بل نهبه لك يا رسول الله ، فأبى رسول الله إلا أن يدفع لهما الثمن ، ثم أمر المسلمين بأن يقطعوا جذوع النخل من مكانٍ يقال له الحديقة وأمر باللبن فضُرب ، وكان في المربد قبور جاهلية ، فأمر بها فنبشت ، وأمر بالعظام أن تغيّبْ ، وجعل طوله مائة ذراع وعرضه كذلك . وقيل أقل من ذلك
.
وحينما بدأ العمل في بناء المسجد المطهر
، جعل القوم يحملون وجعل النبي ( ص ) يحمل هو وعمّار ، فجعل عمّار يرتجز ويقول :
نحن المسلمون نبتني المساجدا . .
والرسول يردد : المساجدا ! . .
وفي رواية : كان كل واحدٍ من المسلمين
يحمل لبنة لبنة وحجراً حجراً وعمار يحمل حجرين ولبنتين ، فرآه النبي ( ص ) فقال : ألا تحمل كما يحمل أصحابك ؟ فقال : يا رسول الله ، أريد الأجر والثواب . فجعل رسول الله ( ص ) ينفض التراب عن رأس عمّار ويقول :
« ويحك يا عمّار تقتلك الفئة الباغية ،
تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار » وكان يرتجز وهو يعمل في بناء المسجد فيقول :
لا يستوي من يعمر المساجدا
|
|
يظل فيها راكعاً وساجدا
|
ومن تراه عانداً معاندا
|
|
عن الغبار لا يزال حايدا
|
__________________
وهو يعرض ببعض الصحابة .
وفي ذات يوم اشتكى عمار من علةٍ ألمت به
فقال بعض القوم : ليموتن عمّار اليوم . فسمعهم رسول الله ( ص ) وكان بيده لبنة فنفضها من يده وقال : « ويحك يا بن سمية تقتلك الفئة الباغية » .
مع النبي ( ص ) في
غزواته
يخطىء من يظن أن الإِسلام انتشر بين
الناس بعامل القوة ، بل على العكس من ذلك تماماً فهو دين رائده الرحمة وهدفه انقاذ الإِنسان من ظلم أخيه الإِنسان وبالتالي إيجاد مجتمع إنساني مرتبط بخالقه ، مؤمن بكل الرسالات السماوية من لدن نوح وإبراهيم . . حتى محمداً صلوات الله عليه وعلى آله .
ولعل في العرض المتقدم لما واجهه ( ص )
مع أصحابه من ضغوطات وعداوة معلنة فيها دليل كافٍ على أنه كان الطرف المعتدى عليه منذ البداية .
بيد أن أي فئةٍ من الناس أو جماعة حينما
تواجه في حياتها مثل تلك المواقف العدائية من أطراف أخرى تهدد كيانها ومصيرها فانها لا تملك في هذا الحال دون أن تبادر إلى صدّ ذلك الإِعتداء بكل الوسائل المتاحة لديها صدّاً يتناسب مع جنسه ، إعلامياً كان أو إقتصادياً أو عسكرياً ، سيما لو تكررت تلك الإِعتداءات على أكثر من صعيد ، ولا شك أن سكوت الطرف المعتدى عليه لا يحتمل سوى أحد تفسيرين ، إما الجبن والخور ، وإما القلة في العدة والعدد التي لا تسمح بالمواجهة مما يضطره إلى الصبر وانتظار الفرصة للطلب بالثأر طلباً مشروعاً تقره كل النظم الإِنسانية والشرائع السماوية .
والمتتبع المنصف لتأريخ المسلمين يلمس
مدى الصبر والأناة والعض على الجرح لديهم وهم يواجهون أقسى وأعتى عدوان يواجهه إنسان من خصمه وبالطبع فان ذلك لم يكن عن جبنٍ وإلا لاستسلموا وأراحوا واستراحوا ، وإنما كان عن قلة في العدد والعدة من جهة ، وانتظاراً لأمر الله تعالى من جهة أخرى فما كان لرسول الله أن يبرم أمراً دون أمر الله .
لذلك ، رأينا رسول الله ( ص ) ينتدب
أصحابه موقظاً في عيونهم الثأر الذي نام طويلاً ، ليعترضوا عير قريش قائلاً لهم : عسى أن ينفلكموها الله ! وذلك في أول غزوة في الإِسلام ألا وهي غزوة « بدر الكبرى » .
وربما يستشف القارىء أو السامع
العدوانية في هذا الموقف من المسلمين ، ولكنه حين يلم بما سبق هذه الواقعة من أحداث فانه لا يلبث إلا أن يقر ويذعن بأن ما جرى حق مشروع ، فقريش ومن معها لم تترك للمسلمين شيئاً في مكة ولم تكتف بإخراجهم من ديارهم حتى صادرت كل ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة بالإِضافة إلى مصادرتها أعز ما يملكه إنسان في هذه الدنيا وهو الوطن ( أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن
يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ . . )
.
لقد كانت أول واقعةٍ عسكرية بين
المسلمين وخصومهم تسجل النصر للمسلمين نصراً ساحقاً ماحقاً إختزل حماقات قريش واعتداءاتها وبغيها على مدى سنين في ساعة ، إختزلها جثثاً لساداتها مطروحةً في قليب بدر وفوق الرمال .
ويمكننا الجزم بأن مواقف الرسول ( ص )
ومن معه في حروبه وغزواته كانت مواقف دفاعية ولم تكن عدوانية هجومية كما يتصور البعض ، ونلمس ذلك جليّاً في واقعة « أحد » و « الخندق » و « خيبر » إلى فتح مكة ، حتى ما
__________________
يوهم بدواً بأن
المسلمين هم البادؤون فانه بعد التدقيق نجد أن الأمر على العكس بل إن تحركهم إنما يكون نتيجةً لما يبلغهم من نكثٍ للعهود ، أو تجميع للقوى المعادية للمسلمين مما يدفعهم للأخذ بزمام المبادرة لا أكثر .
وكان عمار بن ياسر ممن شهد مع رسول الله
( ص ) بدراً وأبلى فيها بلاءً حسناً كما ساهم في حرب « الخندق » ، وبينما المسلمون منشغلون بحفره ورسول الله يعاطيهم حتى أغبر صدره وهو يقول :
اللهم ان العيش عيش الآخرة
|
|
فاغفر للأنصار والمهاجرة
|
إذ يجيء عمار فيلتفت إليه النبي ( ص )
ويقول : تقتلك الفئة الباغية !!
وابلى في ذلك اليوم بلاء حسناً ، بل « وشهد المشاهد كلها مع رسول الله ( ص ) » شأنه في ذلك شأن
النخبة من الصحابة رضوان الله عليهم الذين بذلوا وضحوا من أجل أن ينتشر هذا الدين وتتركز دعائمه وبالتالي تصبح الشريعة الإِسلامية هي القانون الذي باركته السماء لأهل الأرض (
إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ . . وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ
دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )
.
__________________
شجاعته وسخاؤه
أُثر عن أمير المؤمنين علي ( ع ) أنه
قال : السخي شجاع القلب . وينسب إلى بعض العظماء قوله : جنونان لا أخلاني الله منهما ، الشجاعة والكرم ! ولعل وصفه لهما بهذه الصفة يرجع إلى خروج كل منهما بصاحبه عن حدود المألوف لدى الطبع الإِنساني العام .
وهاتان الخصلتان لا تقبلان التكلف ولا
المحاكاة وقد اتصف بهما معظم قادة البشر وعظمائهم وامتاز بهما الأنبياء وأوصياؤهم . . فنبي الله إبراهيم ( ع ) حين وافته الملائكة ـ بصورة الآدميين ـ لتبشره بإسحاق ، عمد إلى عجلٍ فذبحه وشواه على الصخر وقدمه إليهم ليأكلوه . . وحين غضب عليه نمرود وألقاه في النار لم يخف ولم يرتعد وواجه الأمر بشجاعة
، وهكذا ما وصلنا من سير الأنبياء من بعده لم يؤثر عنهم أنهم جبنوا ولا بخلوا . . والرسول ( ص ) ضرب أكبر مثل في الشجاعة والكرم ، ويكفي في شجاعته قول علي ( ع ) « كنا إذا حمي الوطيس لذنا برسول الله !! » ويكفي في كرمه أنه أنفق كل ما تحت يده في سبيل نشر الدين ، وفي غزوه هوازن أعطى
__________________
للمؤلفة قلوبهم ما لم
يعطي أحد مثله ، أعطى كل واحد منهم مائة بعير وكان يقول : والله لو كان لي عدد شجر تهامة نِعم لقسمتها عليكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً . .
.
وبعد ، فإن عمار بن ياسر هو واحد من
أصحاب محمد الذين نشأوا على يديه ونهلوا من معين تعاليمه فغرس في نفوسهم بذور الفضائل ووهبهم من قدسية العطاء ما يجعلهم أهلاً لكل صفات النبل والخصال الحميدة لذلك كانت الشجاعة سجية من سجاياه ، والكرم تابع لها فحيث تكون الشجاعة يكون الكرم .
ويكفي في شجاعته أنه اشترك في حروب رسول
الله ( ص ) وعرض نفسه للمهالك ولم يعرف عنه أنه أدبر في حرب من تلك الحروب ، بل العكس هو الصحيح . ففي حروب الردة كان يشجع الناس ويحرضهم على القتال ، قال عبد الله بن عمر : رأيت عمار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح : يا معشر المسلمين ، أمن الجنة تفرون !؟ أنا عمار بن ياسر هلموا إليّ . . وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت فهي تذبذب وهو يقاتل أشد القتال
.
وفي صفين ـ كما ستقرأ ـ كان عمار يمثل
قطباً من أقطاب تلك الحرب الرهيبة ، فكان بالإضافة إلى حملاته يشجع الأبطال ويحثهم على الجد في الحرب وعلى التقدم باللواء محاولاً كسب المعركة في أقرب وقت .
قال نصر بن مزاحم واصفاً وجهاً من وجوه
تلك المعركة وموقفاً من مواقف عمار فيها : « وخرجت الخيول إلى القتال واصطفت بعضها لبعض ، وتزاحف الناس وعلى عمار درع بيضاء وهو يقول : أيها الناس ، الرواح إلى الجنة ، فقاتل القوم قتالاً شديداً لم يسمع السامعون بمثله وكثرت القتلى حتى إن كان الرجل ليشد طنب فسطاطه بيد الرجل أو برجله .
__________________
ونظر عمار إلى راية عمرو بن العاص فقال
: والله إنها لراية قد قاتلتها ثلاث مرات ، وما هذه بأرشدهن . ثم قال :
نحن ضربناكم على تأويله
|
|
كما ضربناكم على تنزيله
|
ضرباً يزيل الهام عن مقيله
|
|
ويذهل الخليل عن خليله
|
قال الأحنف بن قيس : والله إني إلى جانب
عمار بن ياسر بيني وبينه رجل فتقدمنا حتى دنونا من هاشم بن عتبة ( المرقال ) فقال له عمار : احمل فداك أبي وأمي ! فقال له هاشم : يرحمك الله يا أبا اليقظان إنك رجل تأخذك خفة في الحرب . . » ولعل في هذا قدر
كافٍ في إطلاعنا على مدى شجاعته وصبره على القتال سيما إذا عرفنا أن عمره في ذلك الوقت كان يناهز التسعين عاماً .
أما الحديث عن سخائه فلا يقل أهمية عن
الحديث عن شجاعته ، فسخاؤه كان مشفوعاً بأريحية متناهية وذكاءٍ نادر كما يلوح ذلك من خلال ما حدثنا به جابر بن عبد الله الأنصاري .
قال : صلى بنا رسول الله ( ص ) صلاة
العصر ، فلما تنفل جلس في قبلته والناس حوله فبينما هم كذلك إذ أقبل شيخ من مهاجرة العرب إليه وعليه سمل قد تهلل وأخلق وهو لا يكاد يتمالك ضعفاً وكبراً ، فأقبل عليه رسول الله يستحثه الخبر . فقال الشيخ :
يا رسول الله ، أنا جائع الكبد فأطعمني
، وعاري الجسد فاكسني ، وفقير فأرثني .
فقال رسول الله ( ص ) : ما أجد لك شيئاً
، ولكن الدال على الخير كفاعله ، إنطلق إلى إبنتي فاطمة . . ثم قال : يا بلال قم فقف به على منزل فاطمة . فانطلق الأعرابي مع بلال فلما وقف على باب فاطمة ، نادى بأعلى صوته : السلام عليكم يا أهل بيت النبوة ومختلف الملائكة ، ومهبط جبرئيل
__________________
الروح الأمين
بالتنزيل من عند رب العالمين .
قالت : وعليك السلام ، ممن أنت يا هذا ؟
ـ : من العرب أقبلت إلى أبيك سيد البشر
مهاجراً من شقة ، وأنا يا بنت محمد عاري الجسد ، جائع الكبد ، فارحميني يرحمك الله !
وكان لعلي وفاطمة ثلاثاً ما طعموا منها
طعاماً ، فعمدت فاطمة إلى جلد كبش مدبوغ بالقرض كان ينام عليه الحسن والحسين فقالت : خذ هذا أيها الطارق عسى الله أن يتيح لك ما هو خير منه .
فقال : يا بنت محمد ، أنا شكوت إليك
الجوع فناولتني جلد كبش ، فما أنا صانع به مع ما أجد من السغب ؟! فعمدت فاطمة ( ع ) إلى عقد في عنقها أهدتها إياه فاطمة بنت عمها الحمزة ، فقطعته من عنقها ونبذته إلى الأعرابي وقالت : خذه وبعه فعسى الله أن يعوضك بما هو خير لك منه .
أخذ الأعرابي العقد وانطلق إلى مسجد
النبي ( ص ) والنبي جالس ومعه أصحابه فقال :
يا رسول الله ، أعطتني فاطمة هذا العقد
وقالت : بعه .
فقال النبي ( ص ) : بعه ، وكيف لا يصنع
الله لك به خيراً وقد أعطتكه فاطمة بنت محمد ؟ سيدة بنات آدم .
فقام عمار بن ياسر وقال : يا رسول الله
، أتأذن لي بشراء هذا العقد ؟
فقال ( ص ) : إشتره يا عمار ، فلو إشترك
فيه الثقلان ما عذبهم الله بالنار !!
قال عمار : بكم تبيع هذا العقد يا
أعرابي ؟
الأعرابي : بشبعةٍ من الخبز واللحم ،
وبردةٍ يمانية أستر بها عورتي وأصلي لربي ، ودينار يبلغني أهلي .
عمار : لك عشرون ديناراً ، ومائتا درهم
هجرية ، وبردة يمانية ، وراحلة تبلغك أهلك ، وشبعك من الخبز واللحم . وكان عمار قد باع سهمه
الذي نفلّه إياه رسول
الله ( ص ) من خيبر .
الأعرابي : ما أسخاك أيها الرجل بالمال
!
وانطلق عمار بالأعرابي فوفاه ما ضمن له
، وعاد الأعرابي إلى النبي ( ص ) فقال له :
أشبعت ، واكتسيت ؟
الأعرابي : نعم ، واستغنيتُ بأبي أنت
وأمي .
فقال ( ص ) : فأجز فاطمة بصنعها معك
خيراً .
الأعرابي ، رافعاً يديه نحو السماء
متوجهاً بالدعاء يقول : اللهم أنت إلهٌ ما استحدثناك ولا إله لنا نعبده سواك ، وأنت رازقنا ، فاعط فاطمة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت . فأمن رسول الله ( ص ) على دعائه .
وأقبل النبي ( ص ) على أصحابه وقال : «
إن الله قد أعطى فاطمة ذلك وأنا أبوها وما في العالمين مثلي ، وعليٌّ بعلها ولولا عليٌّ ما كان لها كفؤٌّ أبداً ، وأعطاها الحسن والحسين وما للعالمين مثلهما سيدا شباب أسباط الأنبياء ، وسيدا شباب أهل الجنة . وقال : أزيدكم ؟
فقال سلمان وعمار والمقداد ـ وكانوا إلى
جنبه ـ نعم .
قال : أتاني الروح الأمين وقال : إنها
إذا قبضت ودفنت يسألها الملكان في قبرها من ربك ؟ فتقول : الله ربي . من نبيّك ؟ فتقول : أبي ، من وليك ؟ فتقول : هذا القائم على قبري ، علي بن أبي طالب .
ثم قال ( ص ) : ألا أزيدكم من فضلها ؟
قالوا : نعم زدنا يا رسول الله .
قال : إن الله وكل بها رعيلاً من
الملائكة يحفظونها من بين يديها ومن خلفها وعن يمينها وعن شمالها وهم معها في حفرتها يكثرون من الصلاة عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها .
يقول جابر بن عبد الله :
ثم إن عماراً عمد إلى العقد فطيبه
بالمسك ولفه في بردة يمانية ، وكان له عبد اسمه « أسهم » إبتاعه من سهمه في خيبر ، فدفع العقد إلى العبد وقال :
إنطلق إلى رسول الله بهذا العقد وأنت له
مع العقد !
جاء العبد وبيده العقد إلى رسول الله (
ص ) وأخبره بذلك ، فقال له .
إذهب إلى إبنتي فاطمة وأنت والعقد لها !
جاء العبد إلى فاطمة ( ع ) فأعطاها
العقد وأخبرها بقول النبي ( ص ) فأخذت العقد وقالت :
إذهب ، فأنت حرٌّ لوجه الله تعالى .
ضحك العبد .
قالت : مم تضحك ؟
قال : أضحكتني بركة هذا العقد ، أشبع
جائعاً ، وكسا عرياناً ، وأغنى فقيراً ، وأعتق مملوكاً ، ورجع إلى أهله
.
__________________
عمّار . . والخلفاء
لا بد لنا ـ ونحن في سيرة عمّار ـ من
جولةٍ قصيرة نلمح من خلالها طبيعة تعامله مع الخلفاء منذ اليوم الأول بشكل يسمح لنا أن نكوّن الصورة الملائمة عن مجمل تطلعاته وسلوكه على الصعيدين الديني والسياسي ، وهذا يتطلب منا بالضرورة عرضاً لبعض النصوص التاريخية التي تتصل بحياته في هذا المضمار .
ولكننا قبل أن نجول في هذا الميدان ، لا
بد لنا من إدراك طبيعة تعامل المسلمين مع الرسول الأعظم ( ص ) لأنها تشكل الحدّ الفاصل بين عهدين ، عهد النبوة وعهد ما بعد النبوة ، ومن خلال ذلك يمكننا أن نأخذ موقفاً معيناً من مجريات الأمور ومن ثم نسجل ملاحظاتنا آزاء مواقف الصحابة رضوان الله عليهم وفي طليعتهم عمار بن ياسر الذي نحن الآن في سيرته .
إن طبيعة تعامل المسلمين مع النبي ( ص )
تنطلق من مفهوم « تعامل الإنسان مع خالقه بواسطة الرسول » وهذا يعني الإذعان المطلق والخضوع الكامل لكل ما يأتي به ذلك الرسول ، والتسليم لأوامره ونواهيه دون نقاش أو جدال
كما أن للنبي مكانة خاصة في نفوس المسلمين وله عليهم سلطة
__________________
مجعولة من قبل المشرع
الحكيم ترتقي به لأعلى درجات السلطة في العالم حيث أنه أولى بهم من أنفسهم وهذان الأمران من
الثوابت التي لا يختلف فيها أحد من المسلمين إلا أن يحيد عن منطوق القرآن الكريم وعن مفاهيمه لذلك صنف المشككون بهذا الأمر في خانة المنافقين ، ومن ثَمَّ في صف الملحدين والمشركين .
أما تعامل المسلمين مع خلفائهم فإنه
يختلف عن ذلك غاية الإختلاف من حيث حرية إبداء الرأي ، بل رفع الصوت عالياً حينما تقتضي الظروف ذلك ، فالخليفة يخضع للنقد من قبل الصحابة فهم بين راضٍ ورافض وأدل دليل على ذلك قول عبد الرحمن بن عوف لأبي بكر : « وإنما الناس رجلان رجل رضي بما صنعت فرأيه كرأيك ورجل كره ما صنعت فأشار عليك برأيه »
.
بل هو نفسه يدعو إلى ذلك وينتقد ذاته
بذاته ، وقد يعترف بالنقص أحياناً ، وذلك كقول أبي بكر في مستهل خطبته التي خطبها بعد استخلافه : أما بعدُ أيها الناس ، فإني قد وُلّيت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني وقوله : واعلموا أن
لي شيطاناً يعتريني أحيانا . فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني
.
وعلى هذا الأساس فلا نفاجأ بعد بما صدر
من بعض الصحابة في سقيفة بني ساعدة من الإعتراض سواء على الكيفية التي تم بها اختيار الخليفة ، أو على الخليفة نفسه ، وإليك الصورة كما يرسمها لنا المؤرخون :
__________________
النبي ( ص ) مسجّىً على فراشه في بيته
وعلي ( ع ) منهمك في تجهيزه إذ سُمِع صوتٌ دون أن يُرى شخص ، يقول : السلام ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً . كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زُحزِح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور لتُبلونّ في أموالكم وأنفسكم ولتسمعنّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً ، وأن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور . إن في الله خلفاً من كل هالك ، وعزاءً من كل مصيبة ، عظم الله أجوركم والسلام ورحمة الله
وكان المتكلم جبرائيل ( ع ) . وصار المسلمون يدخلون عليه أرسالاً يودعونه ، حتى إذا فرغ الرجال أدخل النساء ، حتى إذا فرغ النساء أدخل الصبيان ، ثم أدخل العبيد
يودعون المنقذ العظيم وهم بين ذاكرٍ لله ، وبين متمتمٍ بأسمى آيات الإجلال والإعظام ، وبين مرسلٍ دموعه الحرى بهدوءٍ وهم يصلون عليه ويسلمون تسليماً كما أوصاهم ( ص ) .
في هذه اللحظات الرهيبة كان الأنصار
يجتمعون في سقيفة بني ساعدة وقد أجلسوا سعد بن عبادة الخزرجي وعصبوه بعصابة وثنوا له وسادة وهم يريدون أن يبايعوه .
مما أثار حفيظة الأوس وأيقض الفتنة
بينهم وبين الخزرج ، تلك الفتنة التي أطفأ الإسلام نائرتها ، كما أثار حفيظة المهاجرين فحين علم أبو بكر وعمر باجتماعهم أتوا مسرعين فنحوا الناس عن سعد ، وقالوا : « يا معاشر الأنصار ! منا رسول الله ، فنحن أحق بمقامه »
.
وقال سعد بن عبادة مخاطباً قومه : فشدوا
يديكم بهذا الأمر فإنكم أحق
__________________
الناس وأولاهم به .
وقال الحباب بن المنذر : فمنا أمير
ومنكم أمير !
فقال عمر بن الخطاب : هيهات لا يجتمع
سيفان في غمد واحد ، إن العرب لا ترضى أن تؤمركم ونبيها من غيركم .
فقام الحباب وقال : لا تسمعوا مقالة هذا
وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من الأمر !
فقال أبو بكر : منا الأمراء . وأنتم
الوزراء .
ونادى أبو عبيدة : يا معشر الأنصار ،
إنكم كنتم أول من نصر ، فلا تكونوا أول من غيّر وبدّل .
وقال عبد الرحمن بن عوف : يا معشر
الأنصار ، إنكم وإن كنتم على فضل ، فليس فيكم مثل أبي بكر وعمر وعلي !
فقال المنذر بن أرقم : ما ندفع فضل من
ذكرت ، وإن فيهم لرجلاً لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد ! يعني علي بن أبي طالب .
فلما رأى بشير بن سعد الخزرجي ما اجتمعت
عليه الأنصار من تأمير سعد ـ وكان حاسداً له ـ قال : إن محمداً ( ص ) رجل من قريش وقومه أحق بميراث أمره . . !
فقام أبو بكر وقال : هذا عمر وأبو عبيدة
، بايعوا أيهما شئتم .
فقالا : والله لا نتولى هذا الأمر عليك
، أبسط يدك حتى نبايعك ، فلما بسط يده وذهبا يبايعانه سبقهما بشير بن سعد فبايعه ، فناداه الحباب بن المنذر : يا بشير ، عقَّك عقّاق والله ما اضطرك إلى هذا الأمر إلا الحسد لابن عمك !
قال البراء بن عازب ـ وكان خارج السقيفة
ـ : فلم ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة وهم محتجزون بالأزر الصنعانية لا يمرون بأحد إلا خبطوه وقدموه فمدوا يده
فمسحوها على يد أبي
بكر يبايعه ، شاء ذلك أو أبىٰ ، فأنكرت عقلي !
.
وجاء البراء بن عازب فضرب الباب على بني
هاشم وقال : يا معشر بني هاشم ، بويع أبو بكر ! فقال بعضهم : ما كان المسلمون يحدثون حدثاً نغيب عنه ، ونحن أولى بمحمد .
فقال العباس : فعلوها ، ورب الكعبة !
وكان خالد بن سعيد غائباً ، فقدم فأتى
علياً فقال : هَلُمَّ أبايعك ، فوالله ما في الناس أحد أولى بمقام محمد منك .
وكان المهاجرون والأنصار لا يشكّون في
علي ، فلما خرجوا من الدار قام الفضل بن العباس ـ وكان لسان قريش ـ فقال : يا معشر قريش ، إنه ما حقت لكم الخلافة بالتمويه ونحن أهلها دونكم ، وصاحبنا أولى بها منكم .
وقام عتبة بن أبي لهب فقال :
ما كنت أحسب أن الأمر منصرف
|
|
عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن
|
عن أول الناس إيماناً وسابقة
|
|
وأعلم الناس بالقرآن والسنن
|
وآخر الناس عهداً بالنبي ومن
|
|
جبريل عون له في الغسل والكفن
|
من فيه ما فيهم لا يمترون به
|
|
وليس في القوم ما فيه في الحسن
|
وتخلف عن البيعة قوم من المهاجرين
والأنصار ومالوا مع علي بن أبي طالب ، منهم : العباس بن عبد المطلب وولده الفضل ، والزبير بن العوام ، وخالد بن سعيد ، والمقداد بن عمرو ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، وعمّار بن ياسر . . إلى غير ذلك مما
رقمه المؤرخون في كتبهم والذي لا حاجة بنا إلى ذكره .
والذي يهمنا من هذا كله أن نعرف ماذا كان
موقف عمّار . وكيف كانت نظرته ؟؟
__________________
موقف عمّار . . !
كانت نظرته للخلافة نظرةً مستقلةً في
ذاتها لأول وهلة ، حتى يخيل للقارىء أنه انطوى على سرٍّ دون أخوانه من الصحابة والسابقين ، ولكن حين نمعن النظر في كلماته وفي التطورات التي انتهت إليها الخلافة ندرك السر الذي ترك عماراً ينفرد مع فئةٍ قليلة من إخوانه في الصف المتخلف عن البيعة .
لقد كان موقف عمّار في هذا المجال
متأثراً بخطوات علي ( ع ) حتى يكاد أن لا يبرم أمراً دون مشورته وأخذ النصيحة منه ، ومرد ذلك يرجع لأمرين أساسيين .
الأول
: أنه يعلم مسبقاً بأن الوصي بعد رسول
الله هو علي بن أبي طالب سماعاً من النبي ( ص ) صراحة في غدير خم حين حج آخر حجة حيث قال ( ص ) : « من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاده وانصر من نصره واخذل من خذله »
. حيث أعطاه الولاية على المؤمنين وهي أوسع من الوصاية . كما سمع منه ( ص ) حديث المنزلة حيث قال مخاطباً إياه : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي
إلى غير ذلك من الأحاديث التي تصرّح أو تلمح إلى أحقيته بالخلافة .
الثاني
: أن النبي ( ص ) خاطب عمّاراً ذات يوم
بقوله :
يا عمّار ، إن علياً لا يردك عن هدى ،
ولا يدلك على ردى !
يا عمّار ، طاعة علي طاعتي ، وطاعتي
طاعة الله عزَّ وجلّ !
بعد أن يسمع هذا من النبي في حق علي ( ع
) فهل يعقل أن يبادر إلى أمر غاية في الخطورة والأهمية دون مشاورة علي فيه !؟ بالطبع لا ، وألف
__________________
لا ، لأن علياً لا
يرده عن هدى ولا يدله على ردى !! سيما إذا كان الأمر يتعلق بمصيره الديني الذي ضحى حياته من أجله .
أما علي ( ع ) فكان موقفه غايةً في
الوضوح ، وقد أجمله للذين طالبوه بالبيعة ، حيث قال لهم :
أنا عبد الله وأخو رسوله .
فقيل له : بايع أبا بكر .
فقال : أنا أولى بهذا الأمر منكم لا
أبايعكم ، وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي ( ص ) وتأخذونه منا أهل البيت غصباً ! ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لمكان محمد منكم ، فاعطوكم المقادة وسلموا إليكم الإمارة ، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار .
نحن أولى برسول الله حياً وميتاً ،
فانصفونا إن كنتم تؤمنون ، وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون . . إلخ . .
.
ولم يفت عماراً أن يدلي برأيه صراحةً
بعدما لمس موقف علي وشاهده عن كثب ، فقام في المسجد وقال :
يا معشر قريش ويا معشر المسلمين ، إن
كنتم علمتم ، وإلا فاعلموا أن أهل بيت نبيكم أولى به وأحق بإرثه وأقوم بأمور الدين ، وأأمن على المؤمنين ، وأحفظ لملته وأنصح لأمته ، فمروا صاحبكم فليرد الحق إلى أهله قبل أن يضطرب حبلكم . ويضعف أمركم ، ويظهر شتاتكم ، وتعظم الفتنة بكم ، وتختلفون فيما بينكم ، ويطمع فيكم عدوكم ، فقد علمتم أن بني
__________________
هاشم أولى بهذا الأمر
منكم ، وعلي ( ع ) أقرب إلى نبيكم وهو من بينهم وليكم بعهد الله ورسوله وفرق ظاهر قد عرفتموه في حال بعد حال عند سدّ النبي ( ص ) أبوابكم التي كانت في المسجد كلها غير بابه ، وإيثاره إياه بكريمته فاطمة دون سائر من خطبها إليه منكم وقوله : أنا مدينة العلم وعلي بابها ، ومن أراد الحكمة فليأتها من بابها ، وأنه مرجعكم جميعاً فيما أشكل عليكم من أمور دينكم إليه ، وهو مستغن عن كل أحدٍ منكم إلى ماله من السوابق التي ليست لأفضلكم ، فما لكم تحيدون عنه ، وتبتزون علياً حقه ، وتؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة . . . أعطوه ما جعله له الله ولا تولوا عنه مدبرين ولا ترتدوا على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين !
.
وقد جهد عمّار بعد ذلك في ثلة من
الصحابة أن يرجعوا الأمر شورى بين المسلمين ولكنهم لم يفلحوا في ذلك .
قال البراء بن عازب : ورأيت في الليل
المقداد وسلمان وأبا ذر وعبادة بن الصامت وأبا الهيثم بن التيهان ، وحذيفة ، وعمّاراً ، وهم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين
.
بيد أن هذا الإختلاف الذي أوجد عاصفة
سياسية هوجاء سرعان ما زال حين أدرك المخلصون من أصحاب محمد ( ص ) خطورة الموقف وأبعاده فرجعوا متوادين متعاضدين تجمعهم وحدة الهدف ووحدة المصير فواصلوا سيرهم في إكمال مسيرتهم الجهادية ، وكان عماراً في الطليعة حين استصرخهم الواجب في الدفاع عن المسلمين فاشترك في حروب الردة ، لا سيما في حرب اليمامة التي انتهت بنصر المسلمين والقضاء على المرتدين .
لقد سجل المسلمون أعلى الإنتصارات
العسكرية في ميادين الجهاد بشكل سريع ومدهش ، وذلك في برهةٍ وجيزة أعقبت الحصار والمطاردة
__________________
والهجرة ، مما جعلهم
سادة الموقف بعد أن كانوا ضعفاء مقهورين ، وأرباب السلطان والنفوذ بعد أن كانوا محكومين ، وهكذا فقد أخذ الإسلام ـ بعد ذلك ـ يشق طريقه نحو النفوس بهدوء ومن دون أيّة وسائل قمعية ، بل بروحيته السمحاء المستمدة من السماء ، فرأيناه في زمان قصير يطبق أرجاء المعمورة أو يكاد ، فيدخل بلاداً لم يطأها فاتح ولم تغزها قوة ، بل أخذ أهلها ـ أو بعضهم ـ هذا الدين الجديد من أولئك المسلمين الذين كانوا يرتادون بلادهم للسياحة أو التجارة ، فيشاهدون الإسلام عقيدة ونظاماً تجسدا في سلوك أولئك الزوار ، في أخلاقهم وعباداتهم ومعاملاتهم .
لقد أرسى النبي الأعظم ( ص ) قواعد
الرسالة الشريفة وأحكم دعائمها ووطد أركانها ، وأعاد للإنسانية شرفها وكيانها بعد أن كانت ضحية أهواء الجبابرة وأرباب السلطان من شذاذ الآفاق الذين لا همَّ لهم إلا إشباع رغباتهم وشهواتهم على حساب الضعفاء من عامة الناس .
وحينما لحق النبي ( ص ) بالرفيق الأعلى
خيّل للمنافقين والملحدين أن الإسلام سينتهي بانتهاء حياة محمد ، لذلك قاموا بحملات معادية مركزة استهدفت ضرب المسلمين وتشتيت وحدتهم ومن ثم القضاء على الرسالة الإسلامية المباركة ، غير أن إرادة الله سبحانه حالت دون ذلك ، فلقد تنبه أقطاب المسلمين من الصحابة لما يجري من حولهم من ممارسات فازدادوا تماسكاً وتوحداً ، وبذلك استطاعوا تفويت الفرصة على أعدائهم .
ويمكن حصر تلك الحملات في جبهات ثلاثة ،
وهي :
١ ـ إثارة العصبيات .
٢ ـ تحرك دعاة الردة .
٣ ـ تحرك بقايا فلول الشرك .
«
إثارة العصبيات »
لقد شن الإسلام حرباً شاملةً ضد
العصبيات بشكل عام ، وكافح دعاتها وطاردهم باعتبارها تشكل مصدراً واسعاً للفتنة ، فالعصبية ـ قبليةً كانت أو
عنصرية ـ لا ترتبط
بأي مبدأٍ أخلاقي ولا تخضع لأي منطق عقلي ، بل الحكم فيها يرجع للعاطفة وحدها ، لأنها بمفهومها الضيق : ثورة عاطفية تنتاب الفرد أزاء قرابته أو بني قومه ولو على الباطل ، وربما يكون دافعها الأول : الشعور بوحدة المصير .
ولقد دعا الإسلام إلى قلب هذه العقلية
التي يتسم بها المجمتمع الإِنساني بشكل عام ، وتوجيهها بطريقةٍ معاكسة نحو الإيمان ، فالإيمان هو أداة الربط بين المؤمنين ، وهو القضية الكبرى التي يدافعون عنها لأنهم يرون فيه سعادتهم ، الإيمان بالله وبرسله وكتبه واليوم الآخر .
قال الله تعالى : (
لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ
حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ
إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ )
.
وقال سبحانه : (
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
)
.
إن الإيمان بالله وباليوم الآخر يولد في
نفس المؤمن الخوف من عقاب الله والطمع في ثوابه ، وهاتان الخصلتان يشكلان حاجزاً رادعاً يكمن في صميم النفس الإنسانية ، وسدّاً منيعاً أمام نزواتها ونزعاتها الشريرة ، كما يوجدان دافعاً لها على فعل الخير ، والتحلي بالخلق الفاضل الكريم ومعاشرة الناس بالحسنى !
فالمؤمن لا يقتل بغياً ، ولا يسرق ، ولا
يزني ، ولا يخيف السُبُل ، ولا يذكر أخاه بسوء فضلاً عن أن يؤذيه ، ويكف يده ولسانه عن الناس ويساعد من يطلب المساعدة ، ويحترم الكبير ويحنو على الصغير ، ويبادر إلى فعل الخيرات ، وكفىٰ بالإِيمان شرفاً يزين المؤمنين .
ولقد كان المسلمون كما أرادهم الله ،
يداً واحدة وقلباً واحداً ،
__________________
تجمعهم وحدة الهدف
ووحدة المصير في ظل الإسلام والإيمان .
وحين ولي الخلافة أبو بكر حانت الفرصة
لكثيرٍ ممن أسلموا رغبةً أو رهبة أن يستخدموا أسلوب « أثارة العصبيات » لإلقاح الفتنة بين المسلمين وإيقاع السيف فيما بينهم وتفكيكهم وتشتيت كلمتهم لتتسنى لهم العودة إلى أمجاد الماضي .
ولقد كان لإثارة العصبيات دور كبير في
حركات الردّة ، ونذكر هنا على سبيل المثال ما قاله طلحة النمري لمسيلمة الكذاب ـ وهو من أنصاره ـ قال :
« أشهد أنك الكاذب ، وأن محمداً صادق !
ولكن كذّاب ربيعه أحب إلينا من صادق مضر !! » .
ولم يفت أبا سفيان أن يستعمل هذا
الأسلوب إبان خلافة أبي بكر ، فقد أقبل إلى علي ، وهو يقول : « إني لأرى عجاجة » لا يطفئها إلا الدم ! يا آل عبد مناف ؛ فيم يلي أبو بكرٍ من أموركم ؟ أين المستضعفان ؟ أين الأذلان علي والعباس ؟ ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ؟!
ثم قال لعلي : أبسط يدك لأبايعك ،
فوالله لئن شئت لأملأنها عليه خيلاً ورجلاً ، فأبى علي ( ع ) . فتمثل أبو سفيان بشعر المتلمس :
ولن يقيم على خسفٍ يراد به
|
|
إلا الأذلان عير الحي والوتد
|
هذا على الخسف معكوس برمته
|
|
وذا يشج فلا يبكي له أحد
|
فزجره علي ( ع ) وقال : والله إنك ما
أردت بهذا إلا الفتنة ، وإنك والله طلما بغيت للإسلام شرّاً ، لا حاجة لنا في نصيحتك
.
ولقد كان هذا الرد طبيعياً من أخي النبي
( ص ) ووصيه ووزيره رغم
__________________
أنه يرى نفسه صاحب
الحق الشرعي وكان يرمي من وراء
ذلك إلى الحفاظ على وحدة المسلمين ووحدة كلمتهم ليبقى الإسلام ويستمر في مسيرته ، كما أن الطرف الآخر كان يرمي من وراء نخوته الجاهلية إلى عكس ذلك ، محاولاً إيقاع الفتنة بين المسلمين ، ولكنه فشل ، وقد كشف عما يدور في نفسه في أكثر من موقف . وقد حدث عبد الله بن الزبير فقال :
« كنت مع أبي باليرموك وأنا صبي لا
أقاتل ، فلما اقتتل الناس نظرت إلى ناسٍ على تلّ لا يقاتلون ، فركبت وذهبت إليهم ، فإذا أبو سفيان بن حرب ومشيخة من قريش من مهاجرة الفتح ، فرأوني حدثاً فلم يتقوني ، قال . فجعلوا ـ والله ـ إذا مال المسلمون وركبتهم الروم يقولون : إيهٍ بني الأصفر ! فإذا مالت الروم وركبهم المسلمون ، قالوا : ويح بني الأصفر ! وكان يقول : وبنو الأصفر الملوك ملوك الروم لم يبق منهم مذكورُ
.
فلما هزم الله الروم أخبرت أبي ، فضحك
وقال : قاتلهم الله أبوا إلا ضغناً لنحن خير لهم من الروم .
وأعيت الحيلة من هم على هذه الشاكلة في
ضرب المسلمين وتشتيتهم ، ولكن إرادة الله سبحانه كانت هي الأقوى في حماية هذا الدين ، فكانوا أقصر من أن ينالوا منه ، وكان هو أبعد شأواً وأشد منعة .
«
تحرك دعاة الردة »
قال ابن الأثير : وارتدت كل قبيلة ،
عامة أو خاصة ، إلا قريشاً وثقيفاً واستغلظ أمر مسيلمة الكذاب وطليحة ، واجتمع على طليحة عوام طيءٍ وأسد . وارتدت غطفان تبعاً لعيينة بن حصن ، فإنه قال : نبي من الحليفين ـ
__________________
يعني أسداً وغطفان ـ
أحب إلينا من نبي من قريشٍ .
وهنا لا بد لنا من الإشارة إلى أن الردة
كانت على نوعين .
١
ـ ردة صورية ، أو مفتعلة :
سميت ردّة لتبرير الخطأ الكبير الذي
ارتكبه خالد بن الوليد في قتل مالك بن نويرة !
وحكاية ذلك : أنه بعد وفاة النبي ( ص )
إلتبس الأمر على بعض القبائل العربية المسلمة بالنسبة لتشخيص الخليفة الشرعي بعد النبي ، فامتنعوا عن أداء الزكاة ، غير منكرين لوجوبها ، وإنما أرادوا إيصالها للخليفة الشرعي ، ومن تلك القبائل « بنو يربوع » بزعامة مالك بن نويرة .
ويعتبر قتل مالك بن نويرة مع بعض أصحابه
وبناء خالد بزوجته ليلى ، من أعظم التجاوزات التي ارتكبت بعد وفاة النبي ( ص ) .
ولقد أنكر عمر بن الخطاب على خالد فعلته
الشنيعة « وألحَّ على أبي بكر في عزله » وقال : « عدوُّ الله ، عدا على امريءٍ مسلمٍ فقتله ، ثم نزا على امرأته ! » .
وحين دخل خالد المسجد وكان قد غرز في
عمامته أسهماً « قام عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطمها ، ثم قال : أرئاءً ! قتلت امرأً مسلماً ، ثم نزوت على امرأته ! والله لأرجمنك بأحجارك . . . »
.
٢
ـ الردة الحقيقة :
وهي التي دعا إليها مسيلمة الكذاب ،
وسجاح بنت الحارث التميمية ، والفجاءة السلمي وطلحة بن خويلد الأسدي ، وعيينة بن حصن .
ومما جاء به مسيلمة وزعم أنه وحي ، هو
قوله : يا ضفدع بنت
__________________
ضفدع ، نقي ما تنقين
أعلاك في الماء وأسفلك في الطين ، لا الشارب تمنعين ولا الماء تكدرين ! والطريف في الأمر ، أن هذا القول إنطبق عليه تماماً .
وكان اسم مؤذنه عبد الله بن النواجة . والذي
يقيم له حجير بن عمر ، فكان حجير يقول في الإقامة ، « أشهد أن مسيلمة يزعم أنه رسول الله !! » ويرفع بها صوته ، فقال له مسيلمة : أفصح يا حجير فليس في المجمجة خير !!
ومن طريف ما يذكره المؤرخون عن سجاح
ومسيلمة : أن سجاح خرجت بالجنود قاصدةً مسيلمة فتحصن منها بادىء الأمر ، ثم اجتمع بها بعد ذلك ، فقالت له ما أوحى إليك ربك ؟! فقال : ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى ، اخرج منها نسمةً تسعى بين صفاقٍ وحشى ! » .
قالت : ثم ماذا ! قال : إن الله خلق
النساء أفراجاً ، وجعل الرجال لهن أزواجاً قالت : أشهد أنك نبي .
قال : هل لك أن أتزوجك وآكل بقومي وقومك
العرب ؟! قالت نعم . ففعل ، وكان مهرها من مسيلمة أن أمر مؤذنه بأن ينادي في أصحابها : إن مسيلمة قد وضع عنكم صلاتين ، صلاة الفجر وصلاة العشاء الآخرة ، وفي سجاح يقول عطارد بن حاجب ، وكان من أصحابها :
أمست نبيتنا أنثى نطوف بها
|
|
وأصبحت أنبياءُ الناس ذكرانا
|
ولقد شكلت هذه الردة خطراً كبيراً على
المسلمين رغم التفكير السخيف لدعاتها ، وقلة عقولهم ، فقد اجتمع مع مسيلمة من بني حنيفة « أربعون ألف مقاتل » !
.
ونذكر على سبيل المثال : أنه في وقعة
اليمامة ـ بينهم وبين المسلمين ـ
__________________
أستشهد من المهاجرين
والأنصار ـ من أهل المدينة ـ ثلاثمائة وستون رجلاً ، ومن غير المدينة ثلاثمائة رجل
عدا غيرهم من عامة المسلمين .
وكان عمّار بن ياسر رضي الله عنه قد
أبلي بلاءً حسناً في ذلك اليوم . قال عبد الله بن عمر : « رأيت عمار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح : يا معشر المسلمين ، أمن الجنة تفرون ؟؟ أنا عمار بن ياسر ، هلموا إلي ـ وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت فهي تذبذب ـ وهو يقاتل أشد القتال
.
تحرك
بقايا فلول الشرك
وكان مركز هذه الحركة في البحرين ، فقد
اجتمعت قبيلة ربيعة على الردة ، وارتأى آخرون أن يُردّ الملك إلى المنذر بن النعمان بن التميمي الملقب « بالغرور » وخرج الحُطَم بن ضبعة فاجتمع إليه من غير المرتدين ممن لم يزل مشركاً حتى نزل القطيف وهجر ، وقد حوصر المسلمون في « جواثا » من قبل المشركين والمرتدين حصاراً شديداً حتى أضرّ بهم الجوع ، لكن الله تعالى أمدهم بالنصر وثبتهم بالصبر ، فغلبوا على عدوهم ، وقتل الحطم ، وهرب من نجا من أتباعه .
__________________
ترجمة
مالك بن نويرة
كان مالك بن نويرة ، رجلاً سرياً نبيلاً
، يردف الملوك ، وهو الذي يضرب به المثل فيقال : فتىً ولا كمالك !
وكان فارساً شاعراً مطاعاً في قومه ،
وكان فيه خيلاء وتقدم ، وكان ذا لمّة كبيرة ـ شعر كثيف ـ وكان يقال له الجفول .
قدم على النبي ( ص ) فيمن قدم من العرب
، فأسلم ، فولّاه النبي ( ص ) صدقات قومه .
قال المرزباني : . . فلما بلغته وفاة
النبي ( ص ) أمسك الصدقة وفرقها في قومه وقال في ذلك :
فقلت خذوا أموالكم غير خائف
|
|
ولا ناظر فيما يجيء من الغد
|
فإن قام بالدين المخوّف قائم
|
|
أطعنا وقلنا الدين دين محمد
|
وقد ذكر هذه الأبيات السيد المرتضى رحمه
الله في كتابه « الشافي » مع أبيات أُخر لمالك استدل بها على أنه حين بلغه وفاة النبي ( ص ) أمسك عن أخذ الصدقة من قومه قائلاً لهم : تربصوا حتى يقوم قائم بعده وننظر ما يكون من أمره .
«
مقتله »
حين فرغ خالد من « أسد وغطفان » توجه
نحو البطاح حيث مالك بن نويرة وقومه هناك فلما عرف الأنصار الذين كانوا مع خالد عزمه على ذلك ، توقفوا عن المسير معه وقالوا : ما هذا بعهد الخليفة إلينا ، إنما عهده إن نحن فرغنا من « البزاخة » واستبرأنا بلاد القوم ، أن نقيم حتى يكتب إلينا .
فأجابهم خالد : إنه ـ أي الخليفة ـ لم
يكن عهد إليكم بهذا ، فقد عهد إلي أن أمضي وأنا الأمير ، وإليَّ تنتهي الأخبار ، ولو أنه لم يأتني كتابٌ ولا أمر ثم رأيت فرصةً إن أعلمته بها فاتتني ، لم أعلمه حتى انتهزها ، وكذلك إذا ابتلينا بأمرٍ لم يعهد لنا فيه لم ندع أن نرى أفضل ما يحضرنا ثم نعمل به ، وهذا مالك بن نويرة بحيالنا ، وأنا قاصدٌ له بمن معي .
وكان مالك قد فرق قومه ونهاهم عن الإِجتماع
، وقال : يا بني يربوع ، إنا دعينا إلى هذا الأمر فأبطأنا عنه فلم نفلح ، وقد نظرت فيه فرأيت الأمر يتأتى لهم بغير سياسة ، وإذا الأمر لا يسوسه الناس ، فإياكم ومناوآة قوم صنع لهم ، فتفرقوا وادخلوا في هذا الأمر .
فتفرقوا على ذلك وسار خالد ومن معه
قاصدين البطاح ، فلم يجدوا فيها أحداً ، فأرسل خالد سراياه في أثرهم فجائته بمالك بن نويرة في نفرٍ من بني يربوع ، فحبسهم !
وقد روى الطبري بسنده إلى أبي قتادة
الأنصاري ـ وكان من رؤساء تلك السرايا ـ قال : إنهم لما غشوا القوم راعوهم تحت الليل ، فأخذ القوم السلاح ! قال أبو قتادة ، فقلنا : إنا المسلمون ؛ فقالوا : ونحن المسلمون ! قلنا ، فما بال السلاح معكم ؟ فقالوا لنا : فما بال السلاح معكم ؟؟ فقلنا : فإن كنتم كما تقولون ، فضعوا السلاح ، فوضعوا السلاح ، ثم صلينا وصلّوا .
قال العقاد : وبعد الصلاة خفوا إلى
الإستيلاء على أسلحتهم وشدّ وثاقهم ، وسوقهم أسرى إلى خالد ـ وفيهم زوجة مالك ليلى بنت المنهال أم
تميم ـ وكانت من أشهر
نساء العرب بالجمال ولا سيما جمال العينين والساقين ـ .
وقد تجادل خالد في الكلام مع مالك ـ وهي
إلى جنبه ـ فكان مما قاله خالد : إني قاتلك ! قال له مالك : أو بذلك أمرك صاحبك ؟ ـ يعني أبا بكر ـ قال : والله لأقتلنّك .
وكان عبد الله بن عمر . وأبو قتادة
الأنصاري إذ ذاك حاضرين ، فكلّما خالداً في أمره ، فكره كلامهما .
فقال مالك : يا خالد ، ابعثنا إلى أبي
بكر فيكون هو الذي يحكم فينا ، فقد بعثت إليه غيرنا ممن جرمه أكبر من جرمنا ! وألح عبد الله بن عمر وأبو قتادة على خالد بأن يبعثهم إلى الخليفة ، فأبى عليهما ذلك ! وقال خالد : لا أقالني الله إن لم أقتله ، وتقدم إلى ضرار بن الأزور بضرب عنقه .
فالتفت مالك إلى زوجته وقال لخالد : هذه
التي قتلتني .
فقال له خالد : بل الله قتلك برجوعك عن الإِسلام
.
فقال له مالك : إني على الإسلام .
فقال خالد : يا ضرار ، اضرب عنقه ، فضرب
عنقه ، وجعل رأسه أثفيةً لقدرٍ من القدور المنصوبة .
ثم قبض خالد على زوجته ليلى ، فبنى بها
في تلك الليلة ، وفي ذلك يقول أبو زهير السعدي :
ألا قل لحيٍّ أوطئوا بالسنابك
|
|
تطاول هذا الليل من بعد مالكِ
|
قضى خالدٌ بغياً عليه لعرسه
|
|
وكان له فيها هوىً قبل ذلك
|
فأمضى هواه خالدٌ غير عاطفٍ
|
|
عنان الهوى عنها ولا متمالك
|
وأصبح ذا أهلٍ وأصبح مالك
|
|
على غير شيءٍ هالكاً في الهوالك
|
فمن لليتامى والأرامل بعده
|
|
ومن للرجال المعدمين الصعالك
|
أصيبت تميم غثها وسمينها
|
|
بفارسها المرجو سحب الحوالك
|
وكان خالد قد أمر بحبس الأسرى من قوم
مالك ، فحبسوا والبرد شديد ، فنادى مناديه في ليلةٍ مظلمة : أن أدفئوا أسراكم !! وهي في لغة كنانة كناية عن القتل ! فقتلهم بأجمعهم .
وكان قد عهد إلى الجلادين من جنده أن
يقتلوهم عند سماع هذا النداء ، وتلك حيلة منه توصّل بها إلى أن لا يكون مسؤولاً عن هذه الجناية ، لكنها لم تخف على أبي قتادة وأمثاله من أهل البصائر ، وإنما خفيت على رعاع الناس وسوادهم .
والتفت أبو قتادة الأنصاري إلى خالد
وقال : هذا عملك ؟!!
فنهره خالد ، فغضب ومضى .
وكان أبو قتادة ممن شهد لمالك بالإِسلام
ـ كما قدمنا ـ وقد كان عاهد الله أن لا يشهد مع خالد بن الوليد حرباً بعدها أبداً .
حين وصلت أنباء البطاح ومقتل مالك إلى
المدينة ، أثارت موجة سخط في أوساط كبار المسلمين . . . فحين بلغ ذلك عمر بن الخطاب تكلم فيه عند أبي بكر وقال : « عدو الله . عدا على امرىءٍ مسلم فقتله ، ثم نزا على امرأته . . » .
وأقبل خالد بن الوليد قافلاً ، حتى دخل
المسجد وعليه قباءٌ له عليه صدأ الحديد ، معتجراً بعمامةٍ له قد غرز فيها أسهماً ، فلما دخل قام إليه عمر ، فانتزع الأسهم من رأسه فحطمها ـ ثم قال : أرئاءً . قتلت امرىء مسلماً . . الخ . . كما تقدم .
وقد كان بين خالد وبين عبد الرحمان بن
عوف كلام في ذلك ، فقال له عبد الرحمن : عملت بأمر الجاهلية في الإسلام ؟ وأنكر عليه عبد الله بن عمر وسالم مولى أبي حذيفة .
وقدم متمم بن نويرة أخو مالك إلى
المدينة ينشد أبا بكر دمه ، ويطلب إليه رد السبي ، فكتب إليه برد السبي . وأنشده .
أدعوته بالله ثم غدرته
|
|
لو هو دعاك بذمةٍ لم يغدرِ
|
فضائل عمار بن ياسر رضي الله عنه
إن فضائلَ عمّار بن ياسر كثيرةٌ جداً
يطول ذكرُها . فمن ذلك : ما وردَ في تحديد هويته الدينية وسابِقتهِ وهجرته ومعاناتِهِ في الله ما ذكره أبو عُمر في الإِستيعاب حيث قال :
« هاجرَ إلى أرض الحبشة ، وصلىٰ
إلى القبلتين وهو من المهاجرين الأولين ، ثم شهد بدراً والمشاهدَ كلها ، وأبلىٰ بلاءً حسناً ، ثم شهد
اليمَامَة ـ حرب الردّة ـ فأبلىٰ فيها أيضاً يومئذٍ ، وقُطعت أذنُهُ » .
وأمّا ما رُوي عن رسولِ الله ( ص ) في
فضله ، فقد بلغَ حدَّ التواتر ، فمن ذلك :
حديثُ خالد بن الوليد أن رسول الله ( ص
) قال : من أبغضَ عماراً أبغضه اللهُ . فما زِلتُ أحبه من يومئذٍ .
وعن ابنِ عباس في تفسير قوله تعالى : (
أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) إنه عمّارُ بن ياسر (
كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا )
إنه أبو جهل بن هشام » .
ومن حديث علي بن أبي طالب ( ع ) : إنّ عماراً
جاءَ يستأذنُ على
رسول الله ( ص )
يوماً ، فعرف صوتُه ، فقال : « مرحباً بالطيّب المطيّب ! إإذنوا له » .
وهو أحدُ الذين تشتاق إليهم الجنةُ كما
روي عن النبي ( ص ) في حديث أنَسْ : « إن الجنّة تشتاق إلى أربعةٍ ، عليّ بن أبي طالب ، وعمار بن ياسر ، وسلمانِ الفارسي ، والمقداد » .
وعنه ( ص ) : مُلىءَ عمار إيماناً إلى
أخمص قدميه .
وعنه ( ص ) : عليكم بابن سميّة فإنه لن
يفارق الحق حتى يموت . وفي حديث آخر : إن عماراً مع الحقِ والحقَ معه ! يدور عمارٌ مع الحق أينما دار ، وقاتلُ عمارٍ في النار .
وعنه ( ص ) : ما لهم ولعمَّار ، يدعوهم
إلى الجنةِ ، ويدعونهُ إلى النارِ ! إن عماراً جلدةٌ ما بين عيني وأنفي .
وجاء رجلٌ إلى عبد اللهِ بن مسعود فقال
له : « أرأيتَ إذا نزلت فتنةٌ كيف أصنع ؟
قال : عليك بكتاب الله .
قال : أرأيتَ إن جاء قومٌ كلّهم يدعون
إلى كتابِ الله ؟
فقال : سمعتُ رسول الله ( ص ) يقول :
إذا اختلفَ الناسُ ، كان ابن سمية مع الحق .
وكتب عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة :
أما بعد ، فإني بعثت إليكم عماراً أميراً ، وعبدَ الله بن مسعود معلماً ووزيراً ، وهما من النجباء من أصحابِ محمد ، فاسمعوا لهما واقتدوا بهما .
__________________
بين عمّار وعثمان
جاء في كتاب الأنساب ، ما يلي :
« كان في بيتِ المال بالمدينة سفطٌ فيه
حليّ وجوهرٌ ، فأخذ منه عثمان ما حَلّىٰ به بعض أهله ، فأظهرَ الناسُ الطعنَ عليه في ذلك وكلّموه فيه
بكلام شديدٍ حتىٰ أغضبوه ، فخطب فقال :
لنأخذنَّ حاجتنا من هذا الفيىء وإن
رغِمتْ أنوف أقوام . فقال له علي : إذن تُمنع من ذلكَ ويُحال بينكَ وبينَه .
وقال عمار بن ياسر : أُشهدُ اللهَ أن
أنفي أولَ راغمٍ من ذلك .
فقال عثمان : أعَليّ يا بن المتكاءْ
تجترئ ؟! خذوه ، فأُخذ ودخل عثمان ودعا به فضربه حتى غُشي عليه ، ثم أُخرج فحُمل حتى أُتي به منزل أم سَلَمة زوج رسول الله ( ص ) فلم يصل الظهر والعصر والمغرب ، فلما أفاق توضأ وصلى وقال : الحمد للهِ ، ليس هذا أولُ يومٍ أُذينا فيه في الله .
وقام هشام بن الوليد بن المغيرة
المخزومي ـ وكان عمار حليفاً لبني مخزوم ـ فقال : يا عثمان أما عليٌّ فاتقيته وبني أبيه ، وأما نحنُ فاجترأتَ علينا
__________________
وضربت أخانا حتى
أشفيتَ به على التَلف ، أما والله لئن ماتَ لأقتلن به رجلاً من بني أميّة عظيم السرّة .
فقال عثمان : وإنك لههنا يا بن القسريّة
؟ قال : فإنهما قسريتان . وكانت أمّهُ وجدّته قسريّتين من بَجيلة .
فشتمه عثمان وأمرَ به فأُخرج . فأتىٰ
أم سلمة فإذا هي قد غضبت لعمّار .
وبلغ عائشةَ ما صُنع بعمّار فغضبت
وأخرجت شعراً من شعر رسول الله ( ص ) وثوباً من ثيابه ونعلاً من نعاله ، ثم قالت : ما أسرَعَ ما تركتم سنّة نبيكمْ ، وهذا شعره وثوبه ونعله لم يُبلَ بعد .
فغضب عثمان غضباً شديداً حتى ما درىٰ
ما يقول ، فالتجَّ المسجد ، وقال الناس : سبحان الله ، سبحان الله !!
وكان عمرو بن العاص واجداً على عثمان
لعزله إياه عن مِصر وتوليته إياها عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، فجعل يكثر التعجب والتسبيح .
وبلغ عثمان مصير هشام بن الوليد ومن مشى
معه من بني مخزوم إلى أم سلمة وغضبها لعمار ، فأرسل إليها : ما هذا الجمع ؟ فأرسلتْ إليه : دع ذا عنك يا عثمان ولا تحملِ الناس في أمرك على ما يكرهون . واستقبحَ الناسُ فعله بعمّار ، وشاع فيهم فاشتد إنكارهم له
.
وأظن أن هذه الحادثة أنموذج كافٍ في
الدلالة على خروج السلطة من إطارها الذي أراده الله سبحانه ، وألِفه المسلمون بعد وفاة الرسول الأعظم ( ص ) إلى إطارٍ آخر ترسمه ثلة من المستفيدين الطامحين للملك ، سيما إذا أخذنا بعين الإِعتبار ما ورد في نصوص المؤرخين : من أن الغالبَ على عثمان آنذاك ، مروانُ بن الحكم وأبو سفيان بن حرب .
__________________
كما أن في هذه الحادثة دليل واضح على
مدى البُعد بين عثمان وعمار في التفكير الديني وسياسة الأمور .
وزاد في الهُوّة بين الطرفين تتابعُ
الأحداث التي يشبه بعضها بعضاً من حيث المبدأ السلطوي الذي انتهج ازاء كبراء الصحابة وعظمائهم ، أمثال أبي ذر الغفاري وعبد الله بن مسعود ، وملاحقتهم بالنفي تارة ، وبالضرب والإِذلال تارةً أخرى حتى مات الأول منفياً في الربذة ، ومات الثاني مقهوراً بعد أن كُسِر ضلعهُ وحُرم عطاءه . وكان لابن ياسر نصيبٌ من سخط الخليفة وغضبه بسبب هذين الصحابيين الجليلين .
فحين نُفي أبو ذر ، كان عمّار أحدَ
المشيعين والمودعين له ، وحين توفي أبدى حزنه وأسفه العميقين عليه أمام عثمان مما زاد في غضبه ، ثم بعد ذلك توفي ابن مسعود فصلى عليه عمار بوصيةٍ منه ، ثم توفي المقداد فصلىٰ عليه عمار أيضاً دون أن يؤذن عثمان بذلك ، فاشتد سخطهُ وغضبهُ عليه .
قال البلاذري : لما بلغ عثمانَ موت أبي
ذرٍ بالربذة قال : رحمه الله . فقال عمار بن ياسر : نعم ، فرحمه الله من كل أنفسنا ! فقال عثمان : يا عاض . . أبيه ، أتراني ندمت على تسييره ؟! وأمر به فدُفع في قفاه وقال : إلحقْ بمكانه . فلما تهيأ للخروج جاءت بنو مخزوم إلى عليّ فسألوه أن يكلم عثمان فيه ، فقال له علي : يا عثمان ، إتق الله ! فإنك سيّرت رجلاً صالحاً من المسلمين فهلك في تسييرك ، ثم أنت الآن تريد أن تنفي نظيره !؟ وجرى بينهما كلام حتى قال عثمان ـ مخاطباً علياً ـ : أنت أحق بالنفي منه ! فقال عليٌّ : رُمْ ذلك إن شئت !!
واجتمع المهاجرون فقالوا : إن كنتَ
كُلما كلّمكَ رجل سيّرته ونفيته ، فإن هذا شيء لا يسوغ فكَفَّ عن عمار
.
وتوفي ابن مسعود وكان قد أوصى عماراً أن
لا يصلي عليه عثمان ،
__________________
فقبل وصيته ، وكان
عثمان غائباً ، فلما عاد « رأى القبر فقال : قبرُ من هذا ؟ فقيل : قبرُ عبد الله بن مسعود . قال : فكيف دُفن قبل أن أعلم ؟ فقالوا : وَليَ أمرَه عمار بن ياسر . . ولم يلبث إلا يسيراً حتى مات المقداد فصلى عليه عمار ، وكان أوصى إليه ولم يؤذن عثمان به ، فاشتد غضب عثمان على عمار وقال : ويلي على ابن السوداء ، أمَا لقد كنتُ به عليماً »
.
ومن هنا يتضح بأن ما حصل بين عثمان وعمار
من عداءٍ لم يكن عداءً شخصياً نمىٰ وتطور حتى تحول إلى حرب مواقف ـ إذا صح التعبير ـ بين صحابيين كان بالإِمكان تلافيه ، أو على الأقل السكوتُ عنه حفظاً لمقام الخلافة وهيبتها . بل إن الأمر كان على العكس من ذلك . فالمتتبع للأحداث يلمس بوضوح أن الصراع بينهما كان صراعاً بين مبدئين . مبدأ يعتمدُ اللامحدودية في سلطته والنزوع وراء المُلْك ، ومبدأ يعتمد السنَّةَ النبوية الشريفة وسيرة الخلفاء الراشدين . فعثمانُ لم يكن وحده في آرائه ، وكذلك عمار لم يكن وحده في معارضته .
وعلى هذا يمكن القول أن خلافة عثمان
أوجدت الفرصةَ لسيطرةِ الأمويين على مقدرات الأمة وأرزاقها عن طريق نفوذهم لسُدّة الحكم ، ولولا يقظة بعض الصحابة وحذرهم لتم لهم ذلك بشكل سريع ، لكن معارضتهم هي التي كانت تحول دون ذلك .
وقد حدد العقاد في كتابه عثمان ، نظرة
عثمان للخلافة بقوله :
« فكانت له نظرةٌ للإِمامة قاربتْ أن
تكون نظرةً إلى المُلك ، وكان يقول لابن مسعود كلما ألح عليه في المحاسبة : ما لَكَ ولبيتِ مالِنا ؟! وقال في خطبته الكبرىٰ يرد على من آخذوه بهباته الجزيلة : فضلٌ من مالٍ ، فلم لا أصنعُ في الفضل ما أريد ؟ فلِم كنتُ إماماً !! »
.
وكان جديراً به أن يتقبل نصائح المخلصين
من الصحابة ويناقش
__________________
ملاحظاتهم وآرائهم
بقلبٍ مفتوح كما كان يفعل صاحباه من قبل ، لكي تبقى للخلافة هيبتُها وللمسلمين وحدتهُم ، لكنه تهاون أزاء ذلك فأدى تهاونه إلى ما انتهت إليه الأمور من خسارةٍ وتمزيق .
لقد كان تسامحه مع أهل بيته وأقربائه
وحبه لهم وتقريبه إياهم هو السببُ الأول في تحويل مركز الخلافة إلى سلطةٍ زمنية أهملت الكثير من توجيهات القرآن وتعاليم الإِسلام . ويصف المؤرخون عثمان بأنه « كن جواداً وصولاً بالأموال ، وقدم أقاربه وذوي رحمه على سائر الناس ، وسوى بين الناس في الأعطية ، وكان الغالب عليه مروان بن الحكم وأبو سفيان بن حرب
.
كما كان إلى جانب ذلك يستخفُّ بصيحات
الصحابة من المهاجرين والأنصار ، ويضع من قدرهم ما استطاع ، ويرد على من ينتقدُ وُلاتَهُ وعمّاله من زعماء الأمصار وقادتهم بالتجريح تارةً ، وبالنفي والإِذلال إذا رأى في ذلك رادعاً .
ولنلقي الآن نظرةً سريعةً تجاه سياسة
عثمان المالية ، والإِدارية ، والتأديبية .
__________________
سياسته المالية
ونذكر منها ما يلي على سبيل المثال :
١ ـ افتُتِحت أرمينية في أيامه ، فأخذ
الخمسَ كله فوهبه لمروان بن الحكم
.
٢ ـ زوّجَ ابنته عائشة من الحرث بن
الحكم بن العاص ، « فأعطاه مائَةَ ألف دِرهم » .
٣ ـ زوّجَ ابنته من عبد الله بن خالد بن
أُسَيْد وأمر له « بستمائة ألف درهم ، وكتب إلى عبد الله بن عامر أن يدفعها إليه من بيت مال البصرة » .
٤ ـ حمىٰ المراعي حول المدينة كلّها
، من مواشي المسلمين كلّهم ، إلا عن بني أمية .
٥ ـ أقطع مروان بن الحكم فَدَك ، وكانت
فاطمة عليها السلام طلبتها بعد وفاة أبيها ( ص ) ، تارةً بالميراث ، وتارة بالنِحْلة ، فدُفِعت عنها .
٦ ـ أعطى عبد الله بن أبي سَرْح جميع ما
أفاء اللهُ عليه من فتح إفريقية . . من غير أن يشركه فيه أحد من المسلمين .
__________________
٧ ـ إن رسول الله ( ص ) تصدّق على
المسلمين بموضع « سُوق » بالمدينة ، فأقطعه عثمان للحرث بن الحكم أخي مروان ، وهو أغرب ما ذكرنا .
٨ ـ أتاه أبو موسى بأموال من العراق
جليلة ، فقسمها كلها في بني أمية
.
٩ ـ بُنيان مروان القصور بذي خشب ، وعمارة
الأموال بها من الخمس الواجب لله ولرسوله .
١٠ ـ ما كان من إدراره القطائع والأرزاق
والأعطيات على أقوام بالمدينة ليست لهم صحبة من النبي ( ص ) ثم لا يغزون ولا يذبّون
.
١١ ـ أعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف
من بيت المال ، في اليوم الذي أمر به لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال
.
١٢ ـ قَدِمت إبل الصدقة عليه ، فوهبها
للحرث بن الحكم .
إن مقدرات الدولة الإِسلامية وثرواتها
ليست حكراً على أحد ، ولا ملكاً لجماعة أو فئةٍ معينةٍ من الناس ، وليس لأحد الحق في أن يتطاول عليها أو يدعيها لقرابته فضلاً عن أن يؤثرهم بها إلا ما يأمر الله سبحانه به مما جاء في الكتاب العزيز والسنّة النبوية الشريفة ، وعلى هذا الأساس بدأت النقمة تتزايد على عثمان من جراء سياسته تلك .
قال اليعقوبي في تأريخه : « ونقم الناس
على عثمان بعد ولايته بست سنين ، وتكلم فيه من تكلم ، وقالوا آثر الأقرباء ، وحمى الحمىٰ وبنىٰ
الدور واتخذ الضياع والأموال بمال الله والمسلمين . . الخ »
وكان عثمان يقول في
__________________
ذلك : « هذا مالُ
الله أُعطيه من شئت وأمنعه من شئت ، فأرغَمَ الله أنف من رغِم »
.
« سياسته في اختيار الولاة »
وقد اقتصر في سياسته الإِدارية على
أقاربه وذوي رحمه مخالفاً بذلك القاعدة المتعارفة لدىٰ المسلمين ولدىٰ من سبقه من الخلفاء في إختيار
ذوي السابقة في الدين من كبار الصحابة وعظمائهم . ولو أن في أقاربه من كان له سابقةٌ أو صحبةٌ أو جهادٌ لهان الأمر ، لكنهم كانوا على عكس ذلك متهمين في دينهم ، بل فيهم من أمره بالفسق معروفٌ مشهور .
ومن هؤلاء :
١
ـ عبد الله بن سعدِ بن أبي سرح :
ولّاه عثمان على مصر
« وكان عبد الله هذا قد أسلم وكتبَ الوحي
لرسول الله ( ص ) فكان إذا أملىٰ عليه : عزيزٌ حكيم يكتب : عليمٌ حكيمٌ ، وأشباه ذلك . ثم إرتدَّ ،
وقال لقريشٍ . إني أكتب أحرفَ محمدٍ في قرآنه حيث شئت : ودينكم خير من دينه .
فلما كان يوم الفتح ، فرَّ إلى عثمان بن
عفان ـ وكان أخاه من الرضاعة ـ فغيّبهُ عثمان حتى إطمأن الناس ، ثم أحضره إلى رسول الله ( ص ) وطلب له الأمان ، فصمَتَ رسولُ الله ( ص ) طويلاً ، ثم أمّنه ، فأسلم وعاد . فلما انصرف ، قال رسول الله ( ص ) لأصحابه : لقد صمَتُّ ليقتلَهُ أحدكم . . » .
٢
ـ الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيْط :
ولّاه عثمان الكوفة سنة ٢٥ للهجرة ،
والوليدُ هذا هو الذي وصفه القرآن بالفسق ، ففيه نزلت الآية الكريمة : ( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ
__________________
فَاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا . . . )
وكان النبي ( ص ) قد بعثه في صدقات بني المصطلق ، فخرجوا لإِستقباله فظن أنهم أرادوا قتله ، فرجع إلى النبي وأخبره أنهم منعوا صدقاتهم . . » الخ
. وقد ولاه عثمان الكوفة بعد عزل سعد بن أبي وقاص ، فالتفت الوليد إلى سعد مسلِّياً إياه قائلاً له : « لا تجزع أبا إسحاق ، كل ذلك لم يكن ، وإنما هو المُلك يتغداه قومٌ ويتعشاه آخرون » . ثم شاع فِسقه وشربه للخمر وأقام عليٌّ ( ع ) عليه الحد ثم عُزل .
٣
ـ معاوية بن أبي سفيان :
وكان عاملاً لعُمَر على دمشق والأردن ،
فضمَّ إليه عثمان ولاية حِمص وفلسطين والجزيرة ، وبذلك مدَّ له في أسباب السلطان إلى أبعد مدىً مستطاع
وأمرُ معاوية واضح غير خفي . فهو أحد الطلقاء المستسلمين يوم الفتح .
٤
ـ سعيد بن العاص :
عينه عثمان والياً على الكوفة بعد أن
عزَل الوليد عنها . ولم يكن سعيد ليخفي ما في نفسه من الرغبة في التسلط على فيىء المسلمين إن أمكنت الفرصة من ذلك ، بل أكد على ذلك بقوله لبعض جلسائه : « إنما هذا السواد بُستانُ قريش » .
٥
ـ عبد الله بن عامر بن كريز :
وكان عبد الله هذا من أبرز الدعاة إلى
سياسة التضييق والإِفقار والإِشغال ، التضييق على المسلمين الذين نادوا مطالبين بالعدالة ورفع الجور عنهم ، وعزل العمال غير ذوي الكفاءة فقد أشار على عثمان بذلك ، فقال له حين استشاره :
« أرى لك يا أمير المؤمنين أن تشغلهم
بالجهاد عنك حتى يذلوا لك ،
__________________
ولا يكون هِمّةُ
أحدهم إلا في نفسه ، وما هو فيه من دُبُرِ دابته وقُمَّلِ فروته . . » .
«
سياسته التأديبية »
كانت في الواقع سياسةً انتقاميةً وليست
تأديبيةً ، اعتمدها الخليفة في سيرته مع معارضيه الذين كانوا يرفعون أصواتهم في وجهه أزاء ما يرونه خارجاً عن حدود الشريعة الإِسلامية والسُنَّة النبوية الشريفة ، بل وسيرةِ الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما .
وقد مرَّ معنا ما لقيهُ عمار بن ياسر
وما عاناه ابن مسعود من كسر ضلعه ومن بعدهما نفي أبي ذر إلى الربذة وموته هناك . ولا ننسى أن هذا النمط من الصحابة يُعدُّ من زعمائهم وعظمائهم الذين يتسنىٰ لهم أن يقولوا ويعترضوا ومع ذلك عُوقبوا بهذه الطريقة الموجعة والمزرية من العقاب .
وتخطىٰ الأمر المدينة ـ دار
الخلافة ـ ليشمل الكوفة ، فقد حصلت مشادةٌ كلامية بين سعيد بن العاص والي الكوفة وبين بعض زعمائها كمالك الأشتر وصعصعة بن صوحان ، حين قال سعيد كلمته المعروفة « إنما هذا السواد بستان قريش » . انتهت بتسيير هؤلاء « نفيهم » إلى الشام ، ثم إلى حمص واضطهادهم وترويعهم ، وإليك القصة مفصلةً :
حين ولي سعيد الكوفة استخلص من أهلها
قوماً يسمرون عنده ، فقال سعيد يوماً : إن السواد ـ أي الأرض الخضراء بما فيها ـ بستان لقريش وبني أمية .
فقال الأشتر النخعي : وتزعم أن السواد
الذي أفاءه الله على المسلمين بأسيافنا بستان لك ولقومك ؟
فقال صاحب شرطته : أترد على الأمير
مقالته !؟ واغلظ له : فقال
__________________
الأشتر لمن حوله من
النُخَع وغيرهم من أشراف الكوفة : ألا تسمعون ؟ فوثبوا عليه بحضرة سعيد فوطؤه وطأً عنيفاً وجرّوا برجله .
فغلظ ذلك على سعيد وأبعد سُمّاره فلم
يأذن بَعدُ لهم ، فجعلوا يشتمون سعيداً في مجالسهم ثم تعدوا ذلك إلى شتم عثمان .
واجتمع إليهم ناس كثير حتى غلظ أمرهم ،
فكتب سعيد إلى عثمان في أمرهم ، فكتب إليه أن يُسيّرهم إلى الشام لئلا يُفسدوا أهل الكوفة ، وكتب إلى معاوية وهو والي الشام :
« إن نفراً من أهل الكوفة قد همّوا
بإثارة الفتنة وقد سيرتهم إليك ، فإنهَهُم فإن آنست منهم رشداً فأحسِن إليهم وارددهم إلى بلادهم »
.
وحين قدموا الشام دارت محاورات بينهم
وبين معاوية وكان لهم معه مجالس ، وقد قال لهم معاوية في جملة ما قال : « إن قريشاً قد عرفت أن أبا سفيان أكرمها وابن أكرمها ، إلا ما جعل الله لنبيه ( ص ) فإنه انتجبه وأكرمه ، ولو أن أبا سفيان ولَدَ الناس كلهم لكانوا حكماء !
فقال له صعصعة بن صوحان : كذِبتْ ، قد
ولَدَهُم خيرٌ من أبي سفيان ، من خلقه الله بيده ونفخَ فيه من روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا له ، فكان فيهم البَرُّ والفاجر والكيّس والأحمق .
وفي بعض المحاورات قال لهم معاوية : «
أيها القوم ، ردوا خيراً واسكنوا وتفكروا وانظروا فيما ينفعكم والمسلمين فاطلبوه وأطيعوني .
فقال له صَعْصَعة : لستَ بأهلِ لذلك ،
ولا كرامة لك أن تُطاع في معصية الله .
فقال : إن أول كلام ابتدأتكم به أن
أمرتكم بتقوى الله وطاعة رسوله ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا .
__________________
فقال صعصعة : بل أمرتَ بالفرقة وخلاف ما
جاء به النبي ( ص ) .
فقال : إن كنتُ فعلت فإني الآن أتوبُ
وآمركم بتقوى الله وطاعته ولزوم الجماعة وأن توقروا أئمتكم وتطيعوهم .
فقال صعصعة : إذا كنت تبت فإنّا نأمرك
أن تعتزل أمرك ، فإن في المسلمين من هو أحق به منك ممن كان أبوه أحسن أثراً في الإِسلام من أبيك ، وهو أحسن قدَماً في الإِسلام منك .
فقال معاوية : إن لي في الإِسلام
لقدَماً وإن كان غيري لأحسنُ قدماً مني لكنه ليس في زماني أحدٌ أقوى على ما أنا فيه مني ، ولقد رأى ذلك عمرُ بن الخطاب ، فلو كان غيري أقوى مني لم يكن عند عمر هوادةٌ لي ولغيري ، ولاحدث ما ينبغي له أن اعتزل عملي ، ولو رأىٰ ذلك أمير المؤمنين لكتب إليَّ فاعتزلت عمله ، ولو قضى الله أن يفعل ذلك لرجوت أن لا يعزم له على ذلك إلا وهو خير ، فمهلاً فإن فيّ دون ما أنتم فيه ، ما يأمر في الشيطان وينهى ، ولعمري لو كانت الأمور تُقضى على رأيكم وأهوائكم ما استقامت الأمور لأهل الإِسلام يوماً وليلة ، فعودوا إلى الخير وقولوه .
فقالوا : لست لذلك أهلاً .
فقال : أما والله ، إن للهِ لسطوات
ونقمات وإني لخائفٌ عليكم أن تتبايعوا إلى مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمان فيحلّكم ذلك دار الهوان في العاجل والآجل .
فوثبوا عليه فأخذوا برأسه ولحيته ، فقال
: مَهْ ، إن هٰذه ليست بأرض الكوفة ، والله لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي وأنا إمامهم ما ملكتُ أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم ، فلعمري إن صنيعكم ليُشبه بعضه بعضاً . ثم قام من عندهم فقال : والله لا أدخل عليكم مدخلاً ما بقيت ، وكتب إلى عثمان :
« أما بعد ، يا أمير المؤمنين فإنك بعثت
إلي أقواماً يتكلمون بألسنة الشياطين وما يُملون عليهم ، ويأتون الناس ـ زعموا ـ من قِبل القرآن فيشبّهون
على الناس ، وليس كل
الناس يعلم ما يريدون وإنما يريدون فرقة ، ويقربون فتنة ، قد أثقلهم الإِسلام وأضجرهم ، وتمكنت رُقىٰ الشيطان من قلوبهم ، فقد أفسدوا كثيراً من الناس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة ، ولستُ آمن إن أقاموا وسط أهل الشام أن يغرّوهم بسحرهم وفجورهم ، فارددهم إلى مصرهم ، فلتكن دارهم في مصرهم الذي نجم فيه نفاقهم . والسلام .
فكتب إليه عثمان يأمره أن يردَّهم إلى
سعيد بن العاص بالكوفة ، فردهم إليه ، فلم يكونوا إلا أطلق ألسنةً منهم حين رجعوا . وكتب سعيد إلى عثمان يضج منهم . فكتب عثمان إلى سعيد أن سيّرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ـ وكان أميراً على حمص .
وهؤلاء النفر هم : مالك الأشتر
وثابت بن قيس الهمداني وكميل بن زياد النخعي ، وزيد بن صوحان وأخوه صعصعة ، وجندب بن زهير الغامدي ، وحبيب بن كعب الأزدي ، وعروة بن الجعد ، وعمرو بن الحمق الخزاعي .
وكتب عثمان إلى الأشتر وأصحابه : أما
بعد ، فإني قد سيّرتكم إلى حمص ، فإذا أتاكم كتابي هذا فاخرجوا إليها ، فإنكم لستم تألون الإِسلام وأهله شراً . والسلام .
فلما قرأ الأشتر الكتاب قال : اللهم
أسوأنا نظراً للرعيّة ، وأعملنا فيهم بالمعصية ، فعجّل له النقمة .
فكتب بذلك سعيد إلى عثمان ، وسار الأشتر
وأصحابه إلى حمص فأنزلهم عبد الرحمان بن خالد الساحل وأجرى عليهم رزقاً .
وروى الواقدي : أن عبد الرحمان بن خالد
جمعهم بعد أن أنزلهم أياماً وفرض لهم طعاماً ثم قال لهم : يا بني الشيطان ! لا مرحباً بكم ولا أهلاً ، قد
__________________
رجع الشيطان محسوراً
وأنتم بعدُ في بساط ضلالكم وغيكم ، جزى الله عبد الرحمان إن لم يؤذكم ، يا معشر من لا أدري أعربٌ هم أم عجم ، أتراكم تقولون لي ما قلتم لمعاوية ؟ أنا ابن خالد بن الوليد ، أنا ابن من عجمته العاجمات أنا ابن فاقىء عين الردة ، والله يا بن صوحان : لأطيّرن بك طيرة بعيدة المهوى إن بلغني أن أحداً ممن معي دق أنفك فاقتنعت رأسك .
قال : فأقاموا عنده شهراً كلما ركب
أمشاهم معه ، ويقول لصعصعة : يا بن الخطيّة : إن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر ، مالك لا تقول كما كنت تقول لسعيد ومعاوية ؟ فيقولون : نتوب إلى الله ، أقِلْنا أقالك الله ، فما زال ذاك دأبُهُ ودأبهم حتى قال : تاب الله عليكم . فكتب إلى عثمان يسترضيه عنهم ويسأله فيهم ، فردّهم إلى الكوفة
.
هذه صورة مختصرة عن سياسة عثمان
التأديبية التي انتهجها أزاء كبار الصحابة وبعض زعماء المسلمين .
__________________
بذور الثورة
وعلى ضوء ما ذكرنا بدأ القلق يساور
المسلمين من جراء تلك السياسة ، فهم يرون الخلافة وقد أخذت تجنح نحو المنحدر الخطير ، نحو الملك حيث الحكم بالمال أو السيف . فها هي بدأت تفقد هيبتها وفاعليتها وسيطرتها ، فكان لا بد لهم ـ والحال هذه ـ أن يهيئوا أنفسهم لمواجهة الأمر الواقع تفادياً لما هو أعظم وأخطر ، فأخذ كل فردٍ منهم يشعر بالمسؤولية وبضرورة معالجة الموقف قدر المستطاع .
وهذا العبىء الثقيل يلقى بالدرجة الأولى
على كاهل أصحاب الأمانة ، وهم الصحابة من المهاجرين والأنصار ، فهم الذين عايشوا مسيرة الإِسلام وسيرة نبيه ومن خلَفَهُ من بعده ، فقد إختاروا لأنفسهم كلمة الفصل في الظروف الصعبة واختارها لهم عامة المسلمين ، فكانت المسؤولية وكان عليهم تقرير المصير .
وبالفعل ، فإنهم لم يدخروا النصيحة فلقد
بادروا إلى مصارحة الخليفة وتوجيه النقد له ولسياسته وجهاً لوجه أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة ، وكان في الطليعة عمار بن ياسر الذي كان يتمتع بنصيب وافر من الجرأة والإِقدام ، والثقة من أصحاب رسول الله ( ص ) فاجتمع هو وبعض الصحابة ، منهم
المقداد بن عمرو
وطلحة والزبير ، وكتبوا كتاباً إلى عثمان عددوا في ما أحدث وغيّر وخوفوه ربه ، وأعلموه أنهم مواثبوه إن لم يُقلع .
وقد ذكر ابن قتيبة في الإِمامة والسياسة
ما جاء في ذلك الكتاب . فقال :
١ ـ كتبوا كتاباً ذكروا فيه ما خالف فيه
عثمان من سنة رسول الله ( ص ) وسنة صاحبيه .
٢ ـ وما كان من هبة خُمسِ إفريقية
لمروان ، وفيه حق الله ورسوله ، ومنهم ذوو القربىٰ واليتامى والمساكين .
٣ ـ وما كان من تطاوله في البنيان ، حتى
عدوا سبع دورٍ بناها بالمدينة ، داراً لنائلة وداراً لعائشة وغيرهما من أهله وبناته .
٤ ـ وبنيان مروان القصور بذي خُشب ، وعمارة
الأموال بها من الخمس الواجب لله ولرسوله .
٥ ـ وما كان من افشائه العمل والولايات
في أهله وبني عمه من بني أمية من أحداثٍ وغلمةٍ لا صحبة لهم مع الرسول ، ولا تجربة لهم بالأمور .
٦ ـ وما كان من الوليد بن عقبة بالكوفة
إذ صلىٰ بهم الصبح سكراناً أربعة ركعات ثم قال لهم : إن شئتم أزيدكم ركعةً زدتكم .
٧ ـ وتعطيله إقامة الحد وتأخيره ذلك عنه
.
٨ ـ وتركه المهاجرين والأنصار لا
يستعملهم على شيءٍ ولا يستشيرهم ، واستغنى برأيه عن رأيهم .
٩ ـ وما كان من الحمىٰ الذي حمى
حول المدينة .
١٠ ـ وما كان من إدارة القطائع والأرزاق
والأعطيات على أقوام بالمدينة ليس لهم صحبة من النبي ( ص ) ، ثم لا يغزون ولا يذبُّون .
١١ ـ وما كان من مجاوزته الخيزران إلى
السوط ، وأنه أول من ضرب بالسياط ظهور الناس ، وإنما كان ضرب الخليفتين قبله بالدِرّة والخيزران .
ثم تعاهد القوم ليدفعنَّ الكتاب في يد
عثمان ، وكان ممن حضر الكتاب عمّار بن ياسر ، والمقداد بن الأسود ، وكانوا عشرة .
فلما خرجوا بالكتاب ليدفعوه إلى عثمان ـ
والكتاب في يد عمار ـ جعلوا يتسللون عن عمار حتى بقي وحدَه ، فمضىٰ حتى جاء دار عثمان فاستأذن عليه ، فأذن له في يومٍ شاتٍ ، فدخل عليه وعنده مروان بن الحكم وأهله من بني أمية ، فدفع إليه الكتاب فقرأه فقال : أنت كتبت هذا الكتاب ؟ قال : نعم ، قال : ومن كان معك ؟ قال : معي نفر تفرقوا فَرَقاً منك ! قال : ومن هم ؟ قال : أخبرك بهم . قال : فلم اجترأت عليَّ من بينهم ؟!
فقال مروان : يا أمير المؤمنين ، هذا
العبد الأسود ـ يعني عماراً ـ قد جرأ عليك الناس وأنك إن قتلته نكلتَ به من وراءه . قال عثمان : إضربوه .
فضربوه وضربه عثمان معهم حتى فتقوا بطنه
، فغُشي عليه ، فجرّوه حتى طرحوه على باب الدار ، فأمرت به أم سلمة زوج النبي ( ص ) فأدخل منزلها . . الخ .
لقد كان المسلمون يرون في الخليفة
المرشد الروحي لهم والمسؤول الأول عنهم الذي يمكن أن يضمن لهم السلامة في دينهم والسعادة في دنياهم ، وعلى هذا الأساس كانوا يتركون له كلمة الفصل في تقرير المصير فيما إذا ساءت الأيام وقست الظروف ، ويضحون بكل ما يستطيعون في سبيل إنجاح مهماته وقرارته .
أما ، وقد أمسىٰ الخليفة وأراؤه
حكرا على حفنةٍ من الأقرباء ، فهذا أمر لا يكاد يرضي أحداً من الناس سيما المخلصين منهم ، بل هو نذير شؤم يهدد سلامة الأمة .
__________________
لذلك عمدوا إلى أسلوب جديد استهدفوا من
ورائه الضغط على الخليفة حيث قاموا بتأجيج الثورة الإِعلامية التي انتشرت في الأمصار انتشار النار في الهشيم ، فبعد أخذٍ وردٍّ استغرق وقتاً كان الخليفة يماطل من خلاله في وعوده ، اجتمعوا ووجهوا كتاباً لأهل مصر ، هذا نصه :
بسم الله الرحمن الرحيم : من المهاجرين
الأولين وبقية الشورى ، إلى من بمصر من الصحابة .
أما بعد : أن تعالوا إلينا وتداركوا
خلافة رسول الله ( ص ) قبل أن يُسلَبَها أهلُها ، فإن كتاب الله قد بُدّل ، وسنّة رسول الله ( ص ) قد غيّرت ، وأحكام الخليفتين قد بدلت . فننشِدُ الله من قرأ كتابنا هذا من بقية أصحاب رسول الله ( ص ) والتابعين بإحسان إلا أقبل إلينا ، وأخذ الحق لنا وأعطاناه ، فأقبلوا إلينا إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، وأقيموا الحق على المنهاج الواضح الذي فارقتم عليه نبيكم وفارقكم عليه الخلفاء ، غُلِبنا على حقنا ، واستُولي على فيئنا ، وحِيلَ بيننا وبين أمرنا ، وكانت الخلافة بعد نبينا خلافة نبوّةٍ ورحمة ، وهي اليوم مُلكٌ عضوض ، من غلب على شيء أكله
.
لقد كان هذا الكتاب وثيقةً حسيةً عبرت
عما يعتمل في نفوس المسلمين من السخط والغضب لما آلت إليه الأمور من تغيير وتبديل في سير الخلافة ونهجها .
وهكذا بدأت رياح التغيير تعصف لتنتقل
بالمسلمين من موقع المعارضة الهادئة إلى موقع الثورة ، بعد أن وجهوا انذاراتهم المتعددة من أقاليم متعددة ، وبعد أن صرخوا باحتجاجاتهم وصرّحوا بالطلب من الخليفة أن يصلح ما أفسده عهده ، غير أن تلك الصرخات وتلك الإِحتجاجات ذهبت أدراج الرياح ، حيث لم تلق أذناً صاغية بل لحقها إصرار شديد على الإِلتواء والإِنحراف ، سيما من تلك البطانة التي كانت تُحدُق بعثمان وتتحكم فيه ،
__________________
مما دفع بأم المؤمنين
عائشة أن تحرّض الناس عليه بكلمتها المشهورة : إقتلوا نعثلاً قتله الله فقد كفر .
وقبل
مقتل عثمان بعام التقى أهل الأمصار الثلاثة ـ الكوفة والبصرة ومصر ـ بالمسجد الحرام ، فتذاكروا سيرة عثمان وتبديله ، وقالوا : لا يسعنا الرضى بهذا ، وكانوا قد اختاروا زعماء لهم يتكلمون باسمهم فاتفقوا أن يرجع كلٌّ إلى وطنه ثم يأتون في العام المقبل إلى عثمان في داره فيستمعوه ، فإن اعتذر إليهم ، وإلا رأوا رأيهم فيه .
ولما
حضر الوقت خرج الأشتر مع أهل الكوفة في ألف رجل ،
وحَكيم بن جبلة العبدي في مائة وخمسين من أهل البصرة ، وجاء أهل مصر في أربعمائة ، وقال ابن أبي الحديد : في ألفين ، وكان فيهم محمد بن أبي بكر ، حتى دخلوا المدينة ، فحصروا عثمان الحصار الأول ، وكتبوا إليه كتاباً ، قيل : كتبه المصريون ، جاء فيه :
« أما بعد : فاعلم أن الله لا يُغيّرُ
ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسِهِم ، فالله الله ، ثم الله الله . . إلى قولهم : فاعلم أنا واللهِ للهِ نغضب ، وفي اللهِ نرضىٰ ، وإنّا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا حتى تأتينا منك توبةٌ مصرّحة ، أو ضلالة مجلَّحة مبلّجة . فهذه مقالتنا لك وقضيتنا إليك ، والله عذيرنا منك . والسلام » .
ثم أرسلوا بالكتاب إليه وأحاطوا هم
وغيرهم بدار عثمان . فقال المغيرة بن شعبة لعثمان : دعني آتي القوم فانظر ما يريدون ! فمضى نحوهم فلما دنا منهم صاحوا به : يا أعور ! وراءك ، يا فاجر ! وراءك ، يا فاسق ! وراءك ، فرجع .
ودعا عثمان عمرو بن العاص فقال له : إئت
القوم فادعُهم إلى كتاب الله والعتبىٰ مما ساءهم .
__________________
فلما دنا منهم سلّم ، فقالوا : لا سلّم الله
عليك ! إرجع يا عدو الله ؛ إرجع يا بن النابغة ! فلست عندنا بأمين ولا مأمون !
فقال له ابن عمر وغيره ليس لهم إلا عليّ
بن أبي طالب . فلما أتاه قال : يا أبا الحسن ؛ إئت هؤلاء القوم فادعهم إلى كتاب الله وسنة نبيه .
قال : نعم ، إن أعطيتني عهد الله
وميثاقه على أنك تفي لهم بكل ما أضمنه عنك . قال : نعم ، فأخذ عليٌّ عليه عهد الله وميثاقه على أوكد ما يكون وأغلظ ، وخرج إلى القوم . فقالوا : وراءك . قال : لا ، بل أمامي ، تُعطون كتاب الله ، وتُعتبون من كل ما سخطتم . فعرض عليهم ما بذل عثمان ، فقالوا : أتضمنُ ذلك عنه ؟ قال : نعم . قالوا رضينا .
وأقبل وجوهُهُم وأشرافهم مع عليّ حتى
دخلوا على عثمان وعاتبوه ، فأعتبهم من كل شيء . فقالوا : أكتب بهذا كتاباً ، فكتب :
بسم الله الرحمٰن الرحيم : هذا
كتاب من عبد الله عثمان أمير المؤمنين لمن نقم عليه من المؤمنين والمسلمين إن لكم أن أعمل فيكم بكتاب الله وسنة نبيه ، يُعطى المحرومُ ، ويؤمَنُ الخائف ، ويردُّ المنفيُّ ، ولا تجمَّر
البعوث ، ويوفّرُ الفيىء ، وعليٌّ بن أبي طالب ضمين المؤمنين والمسلمين على عثمان بالوفاء في هذا الكتاب . ثم أشهدَ على الكتاب .
وأخذ كل قوم نسخةً منه وانصرفوا . وقال
علي بن أبي طالب : أخرج فتكلم كلاماً يسمعه الناس ، ويحملونه عنك ، وأشهد اللهَ على ما في قلبك ، فإن البلاد قد تمخَّضت عليك ، ولا تأمن أن يأتيَ ركبٌ آخر من الكوفة أو منَ البصرة ، أو من مصر فتقول : يا علي اركب إليهم ، فإنْ لم أفعل قلتَ قطع رحمي واستخفَّ بحقي .
فخرج عثمان فخطب الناس وأقرَّ بما فعل
واستغفر الله منه . . فسُرّ
__________________
الناس بخطبته مبتهجين
. ثم دخل بيته .
لكن مروان بن الحكم لم يعجبه ما حدث ،
فخرج إلى الناس وقال لهم ، شاهت الوجوه إلا من أريد ، إرجعوا إلى منازلكم ، فإن يكن لأمير المؤمنين حاجة بأحدٍ منكم يرسل إليه وإلا قرّ في بيته !
وبلغ علياً ذلك ، فأتى عثمان وهو مغضب
وقال له في مروان : لا رضي منك إلا بإفساد دينك ، وخديعتك عن عقلك ، وإني لأراه سيوردُك ثم لا يُصدِرُك ، وما أنا بعائدٍ بعد مقامي هذا لمعاتبتك .
الحصار
الثاني :
لما شخص المصريون ، بعد الكتاب الذي
كتبه عثمان فصاروا بأيلة ، رأوا راكباً خلفهم يريد مصر ، فقالوا له من أنت ؟ فقال : رسول أمير المؤمنين إلى عبد الله بن سعد ، وأنا غلامُ أمير المؤمنين . فقال بعضهم لبعض : لو أنزلناه وفتّشناه ألّا يكون صاحبه قد كتب فينا بشيء : ففعلوا فلم يجدوا معه شيئاً . فقال بعضهم لبعض : خلّوا سبيله . فقال كنانةُ بن بشر : أما والله دونَ أن أنظر في إداوته فلا . فقالوا : سبحان الله ، أيكون كتابٌ في ماء ؟ فقال : إن للناس حيلاً . ثم حلَّ الإِداوة فإذا فيها قارورة مختومة أو قال : مضمومة في جوفِ القارورة ، كتاب في أنبوب من رصاص ، فأخرجه فقرىء فإذا فيه :
أما بعد : فإذا قدِم عليك عمرو بن بُديل
فاضرب عنقه ، واقطع يديْ ابن عُديس ، وكنانة وعروة ، ثم دعهم يتشحطون في دمائهم حتى يموتوا ، ثم أوثقهم على جذوع النخل .
وفي رواية ثانية : إذا أتاك محمد بن أبي
بكر وفلان وفلان فاحتلْ لقتلهم وأبطل كتاب محمد وقر على عملك حتى يأتيك رأيي واحبس من يجيء إلي
__________________
متظلماً منك إن شاء
الله .
فلما قرأوا الكتاب فزعوا وغضبوا ورجعوا
إلى المدينة ، فجمعوا علياً وطلحة والزبير وسعداً ومن كان من أصحاب النبي ( ص ) ثم فكّوا الكتاب بمحضرٍ منهم وأخبروهم بقصة الغلام وأقرأوهم الكتاب ، فلم يبق أحد من أهل المدينة إلا حنق على عثمان ، وزاد ذلك من كان غضِبَ لابن مسعود وعمار بن ياسر وأبي ذر حنقاً وغيظاً ، وقام أصحاب النبي ( ص ) بمنازلهم ما منهم أحدٌ إلا وهو مغتم لما في الكتاب .
وحاصر الناسُ عثمان ، وأجلب عليه محمد بن
أبي بكر ببني تيم وغيرهم ، وأعانه على ذلك طلحة بن عبيد الله ، وكانت عائشة تقرصه كثيراً ، ودخل علي وطلحة والزبير وسعد وعمار في نفرٍ من أصحاب محمد ( ص ) كلهم بدريٌّ على عثمان ، ومع علي الكتاب والغلام والبعير ، فقال له علي : هذا الغلام غلامك ؟ قال : نعم . قال : والبعير بعيرك ؟ قال : نعم . قال : وأنت كتبت هذا الكتاب ؟ قال : لا ، وحلف بالله : ما كتبتُ هذا الكتاب ولا أمرتُ به ، ولا وجهتُ هذا الغلام إلى مصر قط
! .
وجاء في تأريخ الطبري : قالوا : ما أنت
إلا صادق أو كاذب ، فإن كنت كاذباً فقد استحققت الخلع لما أمرت به من سفك دمائنا بغير حقها ، وإن كنت صادقاً فقد استحققت أن تُخلع لضعفك وغفلتك وخُبث بطانتك ، لأنه لا ينبغي أن نترك على رقابنا من يُقتطع مثل هذا الأمر دونه لضعفه وغفلته ، وقالوا له : إنك ضربت رجالاً من أصحاب النبي ( ص ) وغيرهم حين يَعِظونك ويأمرونك بمراجعة الحقّ عندما يستنكرون من أعمالك ، فأقِدْ من نفسك من ضربته وأنت له ظالم ، فقال : الإِمامُ يخطىءُ ويصيب ، فلا أقيدُ من نفسي لأني لو اقدتُ كلّ من أصبته بخطأٍ آتي على نفسي . قالوا : انك قد أحدثت أحداثاً عظاماً فاستحققتَ بها الخلع . . الخ
. ورجع عليٌّ وبعض من كان
__________________
معه إلى منازلهم
.
قال حويطب بن عبد العزى : أرسل إلي
عثمان حين اشتد حصاره ، فقال : قد بدا لي أن أتهم نفسي لهؤلاء ؛ فإتِ علياً وطلحة والزبير فقل لهم : هذا أمركم تولوه واصنعوا فيه ما شئتم .
قال : فخرجت حتى جئت علياً فوجدت على
بابه مثل الجبال من الناس ، والبابُ مغلق لا يدخل عليه أحد
.
وما عسى أن يفعل علي آنذاك أكثر من أن
ينهى الناس بلسانه تفادياً للفتنة وصوناً لوحدة المسلمين ، لكن الأمر كان خارجاً عن يده ، ومع ذلك فقد أمر ولديه الحسن والحسين بالدفاع عن عثمان . بيد أن ذلك لم يجدي نفعاً ، فلقد قتل عثمان وكان ذلك بداية الفتنة التي يميز بها الله الخبيثَ من الطيّب .
__________________
ترجمة
سعيد بن العاص
ولي الكوفة بعد الوليد ، فلما دخلها أبى
أن يصعد المنبر وأمر بغسله ، وقال : إن الوليد كان نجساً رجساً .
فلما اتصلت أيام سعيد بالكوفة ظهرت منه
أمور منكرة ، فاستبد بالأموال حتى قال في بعض الأيام : إنما هذا السواد قطين لقريش . فقال له الأشتر : أتجعل ما أفاء الله علينا بضلال سيوفنا ومراكز رماحنا بستاناً لك ولقومك ؟!
ثم خرج الأشتر إلى عثمان في سبعين
راكباً من أهل الكوفة ، فذكروا سوء سيرة سعيد بن العاص وسألوا عزله عنهم ، فمكث الأشتر وأصحابه أياماً لا يخرج لهم من عثمان في سعيد شيء ، وامتدت أيامهم بالمدينة .
وقدم على عثمان أمراؤه من الأمصار ،
منهم : عبد الله بن سعد بن أبي سرح من مصر ، ومعاوية من الشام ، وعبد الله بن عامر من البصرة ، وسعيد بن العاص من الكوفة فأقاموا بالمدينة أياماً لا يردهم إلى أمصارهم كراهة أن يرد سعيداً إلى الكوفة ، وكره أن يعز له حتى كتب إليه من بأمصارهم يشكون إليه كثرة الخراج وتعطيل الثغور ، فجمعهم عثمان وقال : ما ترون ؟ فقال معاوية : أما أنا فراضٍ بي جندي . وقال عبد الله بن عامر : ليكفك امرؤ ما قِبلك اكفك ما قبلي . وقال عبد الله بن سعد ، ليس بكثير عزل عامل للعامة
وتولية غيره . وقال
سعيد بن العاص : إنك إن فعلت هذا كان أهل الكوفة هم الذين يولون ويعزلون ، وقد صاروا حلقاً في المسجد ليس لهم غير الأحاديث والخوض ، فجهزهم في البعوث حتى يكون همُّ أحدهم أن يموت على دابته .
قال : فسمع مقالته عمرو بن العاص ، فخرج
إلى المسجد فإذا طلحة والزبير جالسان فيه ، فقالا له : تعال إلينا ، فصار إليهما ، فقالا : ما وراءك ؟ قال : الشر ! ما ترك شيئاً من المنكر إلا أتى به وأمر به . وجاء الأشتر فقالا له : إن عاملكم الذي قمتم فيه خطباء قد رُدّ عليكم وأمر بتجهيزكم في البعوث وبكذا وكذا . . فقال الأشتر : والله لقد كنا نشكو سوء سيرته وما قمنا فيه خطباء ، فكيف وقد قمنا ؟! وأيم الله على ذلك لولا أني أنفذت النفقة وأنضيت الظهر لسبقته إلى الكوفة حتى أمنعه دخولها ! فقالا له : فعندنا حاجتك التي تقوم بك في سفرك ! قال فاسلفاني إذن مائة ألف درهم ، قال : فأسلفه كل واحد منهما خمسين ألف درهم ، فقسمها بين أصحابه .
وخرج إلى الكوفة ، فسبق سعيداً ، وصعد
المنبر وسيفه في عنقه ما وضعه بعد ، ثم قال : أما بعد ، فإن عاملكم الذي أنكرتم تعديه وسوء سيرته ، قد رد عليكم وأمر بتجهيزكم في البعوث ، فبايعوني على أن لا يدخلها . فبايعه عشرة آلاف من أهل الكوفة ، وخرج راكباً متخفياً يريد المدينة أو مكة ، فلقي سعيداً بواقعة ( اسم مكان ) فأخبره بالخبر ، فانصرف إلى المدينة .
وكتب الأشتر إلى عثمان : إنا والله ما
منعنا عاملك الدخول لنفسد عليك عملك ، ولكن لسوء سيرته فينا وشدة عذابه ، فابعث إلى عملك من أحببت .
فكتب إليهم : انظروا من كان عاملكم أيام
عمر بن الخطاب فولوه .
فنظروا ، فإذا هو أبو موسى الأشعري . فولوه
عليهم .
ترجمة
عبد الله بن مسعود
كان ابن مسعود أول من جهَرَ بالقرآن
بمكة ، وذلك : « أنه اجتمع يوماً أصحابُ رسول الله فقالوا : والله ما سمعتْ قريش هذا القرآن يُجهَرُ لهَابهِ قطْ ، فمن رجلٌ يسمعهموه ؟
فقال عبد الله بن مسعود : أنا . قالوا :
إنا نخشاهم عليك ، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه . قال : دعوني ، فإن الله سيمنعني .
وغدا ابن مسعود حتى أتى المقامَ في
الضحى وقريشٌ في أنديتها ، حتى قام عند المقام ، ثم قرأ بسم الله الرحمٰن الرحيم : الرحمان علم القرآن . .
. ثم استقبلها يقرأها ، وتأملوه فجعلوا يقولون : ماذا قال ابن أم عبد ؟ ثم قالوا : إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد ، فقاموا إليه فجعلوا يضربون في وجهه ، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه ، فقالوا له : هذا الذي خشينا عليك . فقال : ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن ، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غداً : قالوا : لا ، حسبُك ، قد أسمعتَهُمْ ما يكرهون .
وكان الخليفة عمر بن الخطاب قد أرسله
إلى الكوفة ليعلّم أهلها أمورَ
دينهم ، وبعث عماراً
أميراً ، وكتب إليهم : « إنهما من النجباء من أصحاب محمد من أهل بدر فاقتدوا بهما ، واسمعوا من قولهما وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي » .
وكان على عهد عثمان يقيم في الكوفة
والأميرُ عليها الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وكان قد ألقى إليه مفاتيح بيت المال وقال له : « من غيّر غيّر الله ما به ، ومن بدّل أسخط اللهَ عليه ، وما أرى صاحبكم إلا وقد بدّل وغيّر ، أيعزَلُ مثلُ سعد بن أبي وقاص ويُولىَّ الوليد ؟!
وكان ابن مسعود يتكلم بكلام لا يدعه ،
وهو : « إن أصدَقَ القولِ كتابُ الله ، وأحسنُ الهدي هدىٰ محمد ( ص ) ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وكل محدَثٍ بدعة ، وكل بدعةٍ ضلالة ، وكلّ ضلالة في النار » .
فكتب الوليد إلى عثمان بذلك وقال : إنه
يعيبُك ويطعن عليك .
فكتب إليه عثمان يأمره باشخاصه . فاجتمع
الناس فقالوا : أقم ، ونحن نمنعك أن يصلَ إليك شيء تكرهه .
فقال : إن له علي حقَّ الطاعة ، ولا أحب
أن أكون أول من فتح باب الفتن .
فردَّ الناس وخرج إلى المدينة .
قال البلاذري : وشيّعه أهل الكوفة ،
فأوصاهم بتقوى الله ولزوم القرآن . فقالوا له : جُزيت خيراً ، فلقد علّمتَ جاهلنا ، وثبتّ عالمنا ، وأقرأتنا القرآن ، وفقهتنا في الدين ، فنِعم أخو الإِسلام أنت ونعم الخليل . ثم ودّعوه وانصرفوا .
ودخل المدينة يوم الجمعة وعثمان يخطب
على المنبر . وقال البلاذري : « دخلها ليلة الجمعة ، فلما علم عثمان بدخوله قال : يا أيها الناس ، إنه قد طرقكم الليلة دُوْيَبة ! من يمشي على طعامهِ يقيىء ويسلح !!
فقال ابن مسعود : لستُ كذلك ، ولكنني
صاحب رسول الله ( ص ) يوم
بدرٍ ، وصاحبهُ يوم
بيعة الرضوان ، وصاحبه يوم الخندق ، وصاحبه يوم حُنَين .
قال : وصاحت عائشة ، يا عثمان ، أتقول
هذا لصاحب رسول الله !؟ فقال عثمان : اسكتي .
ثم قال لعبد الله بن زمعة : أخرجه
اخراجاً عنيفاً .
فأخذه ابن زمعة فاحتمله حتى جاء به باب
المسجد فضرب به الأرض ، فكسر ضلعاً من أضلاعه . فقال ابن مسعود : قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان .
وقام علي بأمره حتى أتى به منزله . فأقام
ابن مسعود بالمدينة لا يأذن له عثمان في الخروج منها إلى ناحية من النواحي ، وأراد حين برىء الغزوَ ، فمنعه من ذلك ، وقال له مروان : إن ابن مسعود أفسد عليك العراق ، أفتريدُ أن يفسد عليك الشام ؟ فلم يبرح المدينة حتى توفي قبل مقتل عثمان بسنتين .
وكان عثمان قد منعه عطاءه سنتين ، ولما
مرض مرضه الذي مات فيه أتاه عثمان عائداً ، فقال له : ما تشتكي ؟ قال : ذنوبي ! قال : فما تشتهي ؟ قال : رحمة ربي . قال : ألا أدعو لك طبيباً ؟ قال : الطبيب أمرضني ! قال : أفلا أمر لك بعطائك ؟ قال : منعتنيه وأنا محتاج إليه وتعطينيه وأنا مستغنٍ عنه ! قال : يكون لولدك . قال : رزقهم على الله . قال : استغفر لي يا أبا عبد الرحمان . قال : أسأل الله أن يأخذ لي منك بحقي .
وأوصى أن لا يصلي عليه عثمان ، فدُفن
بالبقيع وعثمان لا يعلم . . الخ .
وقد وردت في فضله أحاديث كثيرة ، نذكر
بعضها :
عن رسول الله ( ص ) إنه قال : تمسكوا
بعهد عمار ، وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه .
وعنه ( ص ) : عبد الله يوم القيامة في
الميزان أثقل من أحُد .
وعنه ( ص ) : رضيتُ لأمتي ما رضيَ الله
لها وابنُ أم عبد ، وسخطتَ لأمتي ما سخط الله لها وابن أم عبد .
وقال فيه علي ( ع ) حين أتاه ناس يثنون
عليه : أقول فيه مثل ما قالوا وأفضل ، من قرأ القرآن وأحلّ حلاله ، وحرّم حرامه ، فقيهٌ في الدين ، عالمٌ بالسنة .
وكان يلقب بصاحب سِواد رسول الله . أي
صاحب سره .
ترجمة
الوليدِ بن عُقبَة
هو أخو عثمان لأمه ، ولا خلاف بين أهل
العلم بتأويل القرآن ـ كما يقول في الإِستيعاب ـ فيما علمت ، أن قوله عزَّ وجلّ : (
إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ . . . )
الآية نزلت في الوليد بن عقبة .
وجاء : أن امرأة الوليد جاءتْ إلى النبي
( ص ) تشتكيه بأنه يضربها ، فقاله لها : إرجعي وقولي إن رسولَ الله قد أجارني . فانطلقتْ ، فمكثت ساعةً ، ثم جاءت فقالت : ما أقلعَ عني . فقطع ( ص ) هدبةً من ثوبه ثم قال لها : اذهبي بهذا وقولي إن رسول الله قد أجارني . فمكثت ساعةً ثم رجعت فقالت : يا رسول الله ما زادني إلا ضرباً .
فرفع يديه وقال : اللهم عليكَ بالوليد .
مرتين أو ثلاثاً .
وأقام بالكوفة أميراً من طرف عثمان ،
وكان يدني الشعراء ويشرب الخمر ، ويجالس أبا زَبيد الطائي النصراني . وصلىٰ الصبح بالناس في المسجد الجامع أربعاً وهو سكران ، وقرأ في صلاته :
علِقَ القلبُ الربابا
|
|
بعد أن شابَتْ وشابا
|
فلما سلّم ، التفت إلى الناس وقال :
أأزيدكم ؟ فإني أجد اليوم نشاطاً .
فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ـ
وكان على بيت المال ـ ما زلنا معك في زيادة منذُ اليوم ! . ثم تقيأ في المحراب . وفيه يقول الحطيئة :
شهدَ الحطيئةُ يوم يلقى ربَّه
|
|
أن الوليدَ أحق بالعذر ـ
|
نادىٰ وقد تمت صلاتُهم
|
|
أأزيدكم ؟ سكراً وما يدري
|
فأبوا أبا وهب ولو أذنوا
|
|
لقرنتَ بين الشَفعِ والوِترِ
|
كفوا عنانك إذ جريت ولوُ
|
|
تركوا عنانك لم تزل تجري ـ
|
وخطب ذات يومٍ ، فحصبه الناس بحصباء
المسجد ، فدخل قصره يترنح ويتمثل بأبيات لتأبط شراً :
ولستُ بعيداً عن مدام وقينةٍ
|
|
ولا بصفا صلدٍ عن الخير معزلِ
|
ولكنني أروي من الخمر هامتي
|
|
وأمشي الملا بالساحبِ المتسللِ
|
وأشاعوا بالكوفة فعله ، وظهر فسقُه
ومداومتهُ شربَ الخمر ، فهجم عليه جماعة من المسجد فوجدوه سكراناً مضطجعاً على سريره لا يعقل ، فأيقظوه من رقدته فلم يستيقظ ، ثم تقايأ عليهم ما شرب من الخمر ، فانتزعوا خاتمه من يده ، وخرجوا من فورهم إلى المدينة ، فأتوا عثمان بن عفان فشهدوا عنده على الوليد أنه شرب الخمر . فقال عثمان : وما يدريكما أنه شرب الخمر ؟ فقالا : هي الخمر التي كنا نشربها في الجاهلية ، وأخرجا خاتمه فدفعاه إليه ، فزجرهما ودفع في صدورهما .
فخرجا من عنده وأتيا علي بن أبي طالب
رضي الله عنه وأخبراه بالقصة ، فأتى عثمان وهو يقول : « دفعتَ الشهودَ وأبطلتَ الحدودَ ! فقال له عثمان فما ترى ؟ قال : أرىٰ أن تبعث إلى صاحبك فتحضرهُ ، فإن أقاما الشهادة عليه في وجهه ولم يدرأ عن نفسه بحجّةٍ أقمت عليه الحَدَّ .
فلما حضر الوليد ، دعاهما عثمان ،
فأقاما الشهادة عليه ولم يدل بحُجَة ، فألقى عثمان السوطَ إلى علي . فقال علي لابنه الحسن : قم يا بني
__________________
فأقم عليه ما أوجب
الله عليه . فقال : يكفينيه بعض من ترىٰ ، فلما رأى إمتناع الجماعة عن إقامة الحد توقياً لغضب عثمان لقرابته منه ، أخذ عليٌّ السوطَ ودنا منه ، فلما أقبل نحوه سبّه الوليد وقال : يا صاحب مكْس . فقال عقيل بنُ أبي طالب وكان ممن حضر : إنك تتكلم يا بن أبي مُعَيْط كأنك لا تدري من أنت ؟! وأنت عِلجٌ من أهل صفّورية . . فأقبل الوليد يروغ من عليّ ، فاجتذبه عليٌّ فضرب به الأرض ، وعلاه بالسوط . فقال عثمان : ليس لك أن تفعل به هذا . قال : بل وشراً من هذا إذا فسق ومنع حق الله تعالى أن يُؤخذ منه
.
وحدّث عمر بن شبة ، قال : لما قدِم
الوليد الكوفة ، وفد عليه أبو زبيد الطائي النصراني ، فأنزله الوليد دار عقيل بن أبي طالب على باب المسجد ، فاستوهبها منه ، فوهبها له ، وكان أول الطعن عليه لأن أبا زبيد كان يخرج من منزله يخترق المسجد إلى الوليد وهو سكران ، فيتخذه طريقاً ويسمر عنده ويشرب معه .
وعن ابن الأعرابي قال : أعطىٰ
الوليد أبا زُبيد الطائي ما بين القصور الحمر من الشام إلى القصور الحمر من الحيرة وجعله له حمىً ، فلما عُزل الوليد وولي سعيد انتزعها منه وأخرجها عنه .
قال : ولما قدم سعيد بن العاص الكوفة
موضع الوليد قال : إغسلوا هذا المنبر ، فإن الوليد كان رجساً نجساً . فلم يصعده حتى غسل .
ومات الوليد فوق الرقة . وبها مات أبو
زبيد ، ودفنا في موضع واحد ، فقال في ذلك أشجع السلمي وقد مر بقبرهما :
مررتُ على عظام أبي زبيدٍ
|
|
وقد لاحت ببلقعة صلودِ
|
وكان له الوليد نديمَ صدقٍ
|
|
فنادم قبرُه قبرَ الوليد
|
__________________
ترجمة
مالك الأشتر
هو مالك ابن الحارث الأشتر النخعي ،
أدرك النبي الأعظم ( ص ) وقد أثنى عليه كل من ذكره ، ولم أجد أحداً يغمز فيه
.
وكان فارساً شجاعاً رئيساً من أكابر
الشيعة وعظمائها ، شديد التحقق بولاء أمير المؤمنين ( ع ) ونصره ، وقال فيه بعد موته : رحم الله مالكاً ، فلقد كان لي كما كنت لرسول الله ( ص ) .
وقد روى المحدثون حديثاً يدل على فضيلةٍ
عظيمة للأشتر رحمه الله ، وهي شهادة قاطعة من النبي ( ص ) بأنه مؤمن ـ وذكر قصة وفاة أبي ذر وقول رسول الله ( ص ) « ليموتنّ أحدكم بفلاةٍ من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين » . إلى أن قال : وكان النفر الذين حضروا موت أبي ذر بالربذة مصادفة جماعة ، منهم حِجرُ بن الأدْبرَ ، ومالكُ بن الحارث الأشتر
.
وقد شهد أمير المؤمنين علي ( ع ) في حقه
شهادات عالية تدل على عظمة هذا الرجل . من ذلك كتابه إلى أهل مصر :
« أما بعد ، فقد بعثت إليكم عبداً من
عباد الله ، لا ينام أيام الخوف ،
__________________
ولا ينكِلُ عن
الأعداء ساعاتِ الروع ، أشدُّ على الفجّار من حريقِ النار ، وهو مالِكُ بن الحارث أخو مذحج ، فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحق ، فإنه سيف من سيوف الله ، لا كليلُ الضُبّة ، ولا نابِي الضربة فإن أمركم أن تَنفِروا فأنفروا ، وإن أمركم أن تُقيموا فأقِيموا ، فإنه لا يقدِمُ ولا يُحجم ،
ولا يؤخر ولا يقدِمُ إلا عن أمري ، وقد آثرتكم به على نفسي لنصيحته لكم ، وشدة شكيمته على عدوكم . . . » الخ .
وكتب ( ع ) إلى أميرين من أمراء جيشه :
« وقد أمرت عليكما وعلى من في حيّزكما
مالك بن الحارث الأشتر ، فاسمعا له وأطيعا ، وأجعلاه درعاً ومجنّاً ، فإنه ممن لا يُخاف وَهنُه ولا سَقطَتُه ، ولا بطؤه عما الإِسراع إليه أحزم ولا إسراعه إلى ما البطىء عنه أمثل . . »
.
قال ابن أبي الحديد : فأما ثناء أمير
المؤمنين ( ع ) عليه في هذا الفصل ، فقد بلغ مع اختصاره ما لا يبلغ بالكلام الطويل ، ولعمري لقد كان الأشتر أهلاً لذلك ، كان شديد البأس ، جواداً رئيساً حليماً فصيحاً شاعراً ، وكان يجمع بين اللين والعنف ، فيسطو في موضع السطوة ، ويرفق في موضع الرفق .
وقد ذكرنا بعض مواقفه في حرب الجمل
وصفين فيما سيأتي من هذا الكتاب .
ومات الأشتر في سنة تسع وثلاثين متوجهاً
إلى مصر والياً عليها لعلي ( ع ) ، قيل : سُقي سُمّاً . وقيل : إنه لم يصح ذلك ، وإنما مات حتف أنفه
.
وفي الكامل لابن الأثير : دسَّ معاوية
بن أبي سفيان للأشتر مولى عمر ، فسقاه شربة سويقٍ فيها سُمٌّ فمات . فلما بلغ معاوية موته ، قام خطيباً في
__________________
الناس فحمد الله
وأثنى عليه ، وقال : أما بعد ، فإنه كانت لعليّ بن أبي طالب يدان يمينان ، قُطعت إحداهما يوم صفين ، وهو عمار بن ياسر ، وقُطِعت الأخرى اليوم وهو مالك الأشتر .
وحين بلغ أمير المؤمنين استشهاده ، كتب
إلى محمد بن أبي بكر : « إن الرجل الذي كنتُ وليته مصر كان لنا نصيحاً ، وعلى عدونا شديداً ، وقد استكمَل أيامَه ، ولاقىٰ حِمامه ، ونحن عنه راضون فرضي الله عنه ، وضاعف له الثواب وأحسن له المآب » .
وقد جزع على فقده أمير المؤمنين جزعاً
شديداً ، فقد قال حين بلغه موته : « إنا لله وإنا إليه راجعون ، والحمد لله رب العالمين ، اللهم إني احتسبه عندك ، فإن موته من مصائب الدهر ، ثم قال : رحم الله مالكاً فقد كان وفىٰ بعهده ، وقضى نحبه ، ولقيَ ربَّه ، مع أنّا قد وطنّا أنفسنا أن
نصبر على كل مصيبة بعد مُصابنا برسول الله ( ص ) فإنها من أعظم المصائب » .
قال المغيرة الضُبّي : لم يزل أمر علي
شديداً حتى مات الأشتر .
وعن جماعة من أشياخ النخع قالوا : دخلنا
على علي أمير المؤمنين حين بلغه موت الأشتر ، فوجدناه يتلهف ويتأسف عليه ، ثم قال : للهِ درُّ مالِك ، وما مالِك ؟ لو كان من جبلٍ لكان فِنْداً . ولو كان من حجر لكان صلداً ، أما والله ليهدّن موتُك عالماً ، وليُفرحن عالماً ، على مثل مالِك فليبكِ البواكي ، وهل موجودٌ كمالِك ؟ !
وقال علقمة بن قيس النخعي : فما زال
عليٌّ يتلهفُ ويتأسف حتى ظننا أنه المصابُ دوننا وعُرف ذلك في وجهه أياماً
. رحمة الله وسلامه عليه .
__________________
خلافة الإِمام علي ( ع
)
لقد آمن علي بحقه في الخلافة ، ولكن
أراده حقاً يطلبه الناس ، ولا يسبقهم إلى طلبه . فخبر حقيقة أمرهم بأن رفض البيعة لنفسه معلناً لهم أنه لا حاجة له في هذا الأمر ، وأنه سيكون في جانب من يختاره المسلمون ، وبذلك أعطاهم الحرية الكاملة والكافية في الإِختيار وتقرير المصير .
لكن المسلمين كانوا يتوافدون نحوه ،
فيجتمعون على باب داره مثل الجبال ، كتلاً بشريةً هائلةً يدفعها التفاؤل ويقودها الوثوق ، كل الوثوق بالرجل الذي سيتولى قيادة الأمة في أخطر وأدق مرحلةٍ من مراحل الدولة الإِسلامية .
يجتمعون على باب داره يريدون مبايعته ،
وهو مع ذلك معتصم لا يجيبهم إلى شيء لأنه يريدها بيعةً حرةً صادقة تتجسد فيها آمال المسلمين ، غير أنهم ألحّوا عليه بإصرارٍ معلنين رفضهم لكل من يتقدم إلى هذا المنصب سواه ، وقد وضعوه بين اثنتين لا مناص لمسؤول عنهما ولا مهرب له منهما .
الأولى
: أن المسلمين أمسوا لا إمام لهم !
الثانية
: أنهم لا يرون أحداً أحق بالخلافة منه ،
وكلا الأمرين يفرضان على الإِمام أن يتحمل مسؤولياته .
ويسرد لنا ابن الأثير القصة مختصرةً ،
فيقول : « اجتمع أصحابُ رسول الله من المهاجرين والأنصار ، وفيهم طلحة والزبير وأتوا علياً فقالوا له : إنه لا بد للناس من إمام !
قال : لا حاجةَ لي في أمركم ، فمن
اخترتم رضيتُ به . فقالوا : ما نختارُ غيرك ! وترددوا إليه مراراً وقالوا له في آخر ذلك : إنا لا نعلمُ أحداً
أحقّ بها منك ، ولا أقدم سابقةً ، ولا أقرب قرابةً من رسول الله ( ص ) .
قال : أكون وزيراً خيراً من أن أكون
أميراً . قالوا : واللهِ ما نحن بفاعلين حتى نبايعك » .
وكانت مبايعته نمطاً جديداً في الخلافة
لم يسبق لأحد ممن كان قبله ، فإن بعضهم يصف البيعة فيقول : « خرجتُ في أثره والناسُ حوله يبايعونه ، فدخل حائطاً ـ بستاناً ـ من حيطان بني مازن فألجأوه إلى نخلة ، وحالوا بيني وبينه ، فنظرت إليهم وقد أخذت أيدي الناس ذراعه تختلف أيديهم على يده !
.
والإِمام يصف ذلك المشهد بنفسه فيقول :
فما راعني إلا والناسُ كعُرفِ الضبع إليَّ ، ينثالون علي من كل جانب ، حتى لقد وُطىءَ الحسنان ، وشُقَّ عِطفاي مجتمعين حولي كربيضةِ الغَنَمَ . . »
.
وكان أول من بايعه وصفق على يده طلحةُ
بن عبيد الله .
فقام الأشتر وقال : أبايعك يا أمير
المؤمنين على أن عليَّ بيعة أهل الكوفة .
ثم قام طلحة والزبير فقالا : نبايعك يا
أمير المؤمنين على أن علينا بيعة المهاجرين .
__________________
ثم قام أبو الهيثم بن التيهان ، وعقبة
بن عمرو ، وأبو أيوب فقالوا : نبايعك على أن علينا بيعة الأنصار .
وقام قومٌ من الأنصار فتكلموا ، وكان
أول من تكلم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري ، وكان خطيب الأنصار ، فقال : والله يا أمير المؤمنين ، لئن كانوا تقدموك في الولاية ، فما تقدموك في الدِّين ! ولئن كانوا سبقوك أمسِ فقد لحقتهم اليوم ، ولقد كانوا وكنتَ ، ولا يخفى موضعُكَ ، ولا يُجهل مكانك ، يحتاجون إليك فيما لا يعلمون ، وما احتجتَ إلى أحدٍ مع علمك .
ثم قام خزيمة بن ثابت الأنصاري ، وهو ذو
الشهادتين ، فقال : يا أمير المؤمنين ؛ ما أصبنا لأمرنا هذا غيركَ ، ولا كان المنقلبَ إلا إليك ، ولئن صدقنا أنفسنا منك فلأنتَ أقدم الناس إيماناً ، وأعلم الناس بالله ، وأولى المؤمنين برسول الله ، لكَ ما لهم ، وليس لهم ما لكَ .
وقام صعْصَعَة بن صوحان فقال : والله يا
أمير المؤمنين ، لقد زيّنت الخلافة وما زانتكَ ، ورفعتها وما رفعتكَ ، ولهي إليك أحوجُ منك إليها .
ثم قام مالك الأشتر فقال : أيها الناس ،
هذا وصيُّ الأوصياء ، ووارثُ علم الأنبياء ، العظيمُ البلاء ، الحسنُ الغناء ، الذي شهد له كتاب الله بالإِيمان ، ورسوله بجنة الرضوان ، من كملت فيه الفضائل ، ولم يشكَّ في سابقته وعلمه وفضله الأواخرُ ولا الأوائل .
ثم قام عقبة بن عمرو فقال : من له يومٌ
كيوم العقَبةَ ، وبيعةٌ كبيعة الرضوان ، والإِمام الأهدى الذي لا يخاف جوره ، والعالم الذي لا يخاف جهله
.
قال اليعقوبي : وبايع الناس إلا ثلاثة
نفر من قريش ، هم : مروان بن الحكم وسعيدُ بن العاص ، والوليد به عقبة ، وكان لسانَ القوم ، فقال : يا
__________________
هذا ، إنك قد وترتنا
جميعاً ، أما أنا ، فقتلتَ أبي صبراً يوم بدر ، وأما سعيد فقتلتَ أباه يوم بدر ، وكان أبوه من نور قريش ، وأما مروان فشتمتَ أباه وعبت على عثمان حين ضمّه إليه . . . فتبايعنا على أن تضع عنا ما أصبنا ، وتعفي لنا عما في أيدينا ، وتقتل قتلةَ صاحبنا !
فغضب عليٌّ وقال : أما ما ذكرتَ من وتري
أياكم ، فالحقُّ وَتَركم . وأما وضعي عنكم ما أصبتُمْ فليس لي أن أضعَ حقَّ الله تعالى . وأما إعفائي عمّا في أيديكم ، فما كان للهِ وللمسلمين فالعدلُ يَسعُكم ، وأما قتلي قتلة عثمان ، فلو لزمني قتلهم اليوم لزمني قتالهم غداً . ولكن لكم أن أحملكم على كتاب الله وسنّة نبيه ، فمن ضاق عليه الحقُّ ، فالباطلُ عليه أضيق ، وان شئتم فالحقوا بملاحقكم .
فقال مروان : بل نبايعك ، ونقيمُ معكَ
فترىٰ ونرى .
موقف عمار بن ياسر
لقد كان عمّارٌ من أبرز الوجوه التي
ناصرت علياً في جميع الأدوار ، فهو تلميذُ علي والابنُ الروحي البار ، والجنديُّ المخلص ، فهو ينظر إلى عليّ والخلافة نظرته إلى الرجل المناسب في المكان المناسب لا يخامره في ذلك أدنى شك ، ولم يؤثر عنه آنذاك أنه أبدىٰ مشاعر الفرحِ والسرور لاستخلاف علي شأن من يريد التزلّفَ للخليفة طمعاً في ولايةٍ أو إمرة ، لأنه تعامل منذ اليوم الأول مع الخلفاء بنظرة الجد والمسؤولية للهم الكبير الذي يشترك في تحمله المسلمون جميعاً ، وهو نشر الرسالة المباركة وإكمال الدعوة إليها ، نعم كان لا يكتم استغرابه من المتخلّفين عن بيعة علي ( ع ) ولا يألوا جهداً في حثهم على مبايعته والإِلتزام بخطه .
فقد نُمي إليه أنَّ المغيرة بن شعبة لم
يبايع علياً وأنه إعتزل الأمر ، فأقبل نحوه وقال : معاذ الله يا مغيرة تقعدُ أعمى بعد أن كنتَ بصيرا ، يغلبك من
غلبته ، ويسبقك من
سبقته ، انظر ما ترى وما تفعل ، فأما أنا فلا أكون إلا في الرعيل الأول .
فقال له المغيرة ، يا أبا اليقظان ،
إياك أن تكون كقاطع السلسلة فرَّ من الضحل فوقع في الرمضاء .
فقال عليٌّ ( ع ) لعمّار : دعه ، فانه
لن يأخذ من الآخرة إلا ما خالطته الدنيا ، أما والله يا مغيرة إنها المثوبة المؤدية تؤدي من قام فيها إلى الجنة
.
موقف
عائشة من علي
وكانت عائشة بمكة خرجت قبل أن يُقتل
عثمان ، فلما قضت حِجّها انصرفت راجعةً ، فلما صارت في بعض الطريق لقِيهَا ابنُ أمّ كلاب ، فقالت له : ما فعل عثمان ؟ قال : قُتل . قالت : بُعداً وسحقا ! قالت : فمن بايع الناسُ ؟ قال : طلحة . قالت : إيهاً ذو الإِصبع .
وحين بلغها مبايعة الناس لعلي قالت : ما
كنتُ أبالي أن تقع السماء على الأرض ، قُتِل ـ يعني عثمان ـ والله مظلوماً وأنا طالبة بدمه
.
فقال لها عبيد : إن أول من طعن عليه
واطمع الناس فيه لأنت ، ولقد قلت : اقتلوا نعثلاً فقد فجر ! فقالت عائشة : قد والله قلتُ وقال الناسُ ، وآخر قولي خير منه .
فقال عبيد : عذرٌ والله ضعيفٌ يا أم
المؤمنين ، ثم قال :
مِنكِ البداءُ ومنكِ الغِيَرْ
|
|
ومِنكِ الرياح ومنكِ المَطَر
|
وأنتِ أمرتِ بقتلِ الإِمام
|
|
وقلتِ لنا إنه قد فجَر
|
فهبنا أطعناك في قتله
|
|
وقاتلُهُ عندنا من أَمر
|
وخرجت باكية تقول : قتل عثمان رحمه الله
. فقال لها عمار : بالأمس
__________________
تحرّضين الناسَ عليه
واليوم تبكينه ! .
« نكث البيعة »
وأقام علي أياماً ، ثم أتاه طلحة
والزبير فقالا : إنا نريد العمرَة ! فروي أنه قال لبعض أصحابه : والله ما أرادا العُمرَة ، ولكنهما أرادا الغدرة
.
فخرج الزبير وطلحة إلى مكة ، وخرج معهما
عبد الله بن عامر ـ ابن خال عثمان ـ فجعل يقول لهما : أبشرا فقد نلتما حاجتكما ، والله لأمدّنّكما بمائة ألف سيف .
وقدموا مكة وبها يومئذٍ عائشة ،
وحرّضوها على الطلب بدم عثمان ، وكان معها جماعةٌ من بني أمية ، فلما علمت بقدوم طلحة والزبير فرحت بذلك واستبشرت وعزَمت على ما أرادت من أمرها
وأمرت فعُمِلَ لها هودجٌ من حديد وجُعل فيه موضع عينيها ، ثم خرجت ومعها الزبير وطلحة وعبد الله بن الزبير ، ومحمد بن طلحة .
وقدم يعلى بن منبه من اليمن ـ وقد كان
عاملاً عليها من قِبَل عثمان ـ وأعطى عائشة وطلحة والزبير أربعمائة ألف درهم وكراعاً وسلاحاً ، وبعث إلى عائشة بالجمل المسمى عسكراً .
وأرادوا الشام ، فصدّهم ابنُ عامر وقال
: إن به معاوية ولا يَنقَادُ إليكم ولا يُطيعكم ، ولكن هذه البصرة لي بها صنائعُ وعُدد ، فجهّزهم بألف ألف درهم ومائة من الإِبل وغير ذلك
.
__________________
«
بين عائشة وأم سلمة »
وأقبلت عائشة حتى دخلت على أم سَلَمة
زوج النبي ( ص ) وهي يومئذٍ بمكة وطلبت منها الذهاب معها إلى البصرة .
فقالت أم سلمة : يا بنت أبي بكر ، بدم
عثمان تطلبين ؟! والله لقد كنتِ من أشد الناس عليه ، وما كنتِ تسميه إلا نعثلاً ، فما لَكِ ودم عثمان ؛ وعثمانُ رجل من عبد مناف وأنت امرأة من بني تميم بن مرة !؟ ويحك يا عائشة ، أعلىٰ عليّ ، وابن عم رسول الله ( ص ) تخرجين وقد بايعه المهاجرون والأنصار ؟؟!
ثم جعلت تذكرها فضائل علي . وعبد الله
بن الزبير على الباب يسمع ذلك كله فصاح بأم سلمة وقال : يا بنت أبي أمية ، إنا قد عرفنا عداوتك لآلِ الزبير . فقالت أم سلمة : والله لتوردنّها ثم لا تصدرنّها أنتَ ولا أبوك ، أتطمع أن يرضىٰ المهاجرون والأنصار بأبيك الزبير وصاحبه طلحة ، وعليُّ بن أبي طالب حيٌّ ، وهو وليّ كل مؤمنٍ ومؤمنة !؟
فقال عبد الله : ما سمعنا هذا من رسول
الله ( ص ) ساعةً قط .
فقالت أم سلمة رحمة الله عليها : إن لم
تكن أنت سمعتهُ ، فقد سمعتْهُ خالتُكَ عائشة . وها هي فاسألها . فقد سمعته ( ص ) يقول : عليٌّ خليفتي عليكم في حياتي ومماتي فمن عصاه فقد عصاني ، أتشهدين يا عائشة بهذا أم لا ؟ فقالت عائشة : اللهم نعم . فقالت أم سلمة : فاتق الله يا عائشة في نفسك واحذري ما حذرك الله ورسوله ( ص ) ولا تكوني صاحبة كلاب الحوأب ، ولا يغرّنّكِ الزبيرُ وطلحة ، فانهما لا يُغنيانِ عنكِ من الله شيئاً . فخرجتْ من عندها وهي حنقةٌ عليها .
وأذّن مؤذن طلحة والزبير بالمسير إلى
البصرة ، فسار الناسُ وسارت معهم عائشة وهي تقول : اللهم إني لا أريد إلا الإِصلاح بين المسلمين فأصلح بيننا إنك على كل شيء قدير .
كتاب أم سَلَمة إلى عليٍّ ( ع )
لعبد الله علي أمير المؤمنين من أم سلمة
بنت أبي أميّة ، سلام عليك ورحمة الله وبركاته أما بعد : فان طلحة والزبير وعائشة وبنيها بني السوء وشيعة الضلال ، خرجوا مع ابن الجزار عبد الله بن عامر إلى البصرة يزعمون أن عثمان بن عفان قُتل مظلوماً ، وأنهم يطلبون بدمه ، واللهُ كافيكم ، وجعلَ دائرة السوءِ عليهم إن شاء الله تعالى ، وتالله لولا ما نهى الله عزَّ وجلّ عنه من
خروج النساء من بيوتهن وما أوصى به رسول الله ( ص ) عند وفاته لشخصتُ معك ، لكن قد بعثتُ إليك بأحب الناس إلى النبي ( ص ) ابني عمرُ بن أبي سلمة ، والسلام .
فجاء عمر بن أبي سلمة إلى علي رضي الله
عنه ، فصار معه وكان له فضل وعبادة وعقل . فانشأ رجل من أصحاب علي رضي الله عنه يمدح أم سلمة وهو يقول أبياتاً جاء فيها :
ثم قالت إذ رأتْ من أختها
|
|
ما رأتْ والخيرُ قدماً بقدرْ
|
لابنها إإت علياً إنه
|
|
أفضل الناس جميعاً يا عمر
|
وقالت امرأة من نساء بني عبد المطلب
تمدحها بأبيات جاء فيها :
أطعتِ علياً ولم تنقُضي
|
|
كما نقضت أمنا عائشة
|
أتاها الزبير بأمنيةٍ
|
|
وطلحة بالفتنة الناهشة
|
حين علم عليُّ ( ع ) بذلك دعا محمد ابن
أبي بكر ( رضي الله عنه ) وقال له : ألا ترى إلى أختك عائشة كيف خرجت من بيتها الذي أمرها الله عزَّ وجلّ أن تقرّ فيه وأخرجت معها طلحة والزبير يريدان البصرة لشقاق وفراق ؟ .
فقال له محمد : يا أمير المؤمنين ، لا
عليك فان الله معك ولن نخذلك
__________________
والناس بعد ذلك
ناصروك والله تبارك وتعالى كافيك أمرهم إن شاء الله تعالى . فعندها نادى عليٌّ رضي الله عنه في أصحابه وجمعهم ثم قال : أيها الناس ، إن الله تبارك وتعالى بعث كتاباً ناطقاً لا يهلك عنه إلا هالك ، وان المبتدعاتِ المشتبهات هنَّ المهلكات المرديات إلا من حفظ الله ، وان في سلطان الله عصمة أمركم ، فأعطوه طاعتكم ، ألا وتهيأوا لقتال الفرقة الذين يريدون تفريق جماعتكم ، فلعل الله تعالى يصلح بكم ما أفسد أهل الشقاق . . .
«
ماء الحوأب »
وتقدمت عائشة فيمن معها من الناس ، حتى
إذا بلغت إلى ماء الحوأب ـ وذلك وقت السحر ـ نبحت الكلاب ، فسمعت رجلاً من أهل عسكرها يسأل ويقول : أي ماءٍ هذا ؟ فقيل له هذا ماءُ الحوأب . فقالت عائشة : رُدّوني فقيل لها ولمَ ذلك ؟ فقالت لأني سمعت رسول الله ( ص ) وهو يقول : كأني بامرأةٍ من نسائي تنبح عليها كلابُ الحوأب ، فاتق الله أن تكوني أنت يا حُميراء . لكن عبد الله بن الزبير أتى بخمسين رجلاً يشهدون عندها أن هذا الماء ليس بماء الحوأب ، وانهم قد جاوزوا ماء الحوأب بليل . فكانت هذه الشهادة أول شهادة زورٍ في الإِسلام
.
وحين وصلوا إلى البصرة ، خرج إليهم
عثمان بن حنيف فمانعهم وجرى بينهم قتال ، ثم إنهم اصطلحوا بعد ذلك على كفِّ الحرب إلى حين قدوم علي ، فلما كان في بعض الليالي بيّتوا عثمان بن حُنيف فأسروه وضربوه ونتفوا لحيته وكان أخوه سهل بن حنيف والياً على المدينة من قِبلِ علي فخافوا منه على أقربائهم إن هم قتلوه فخلوا عنه وتركوه .
بعد ذلك أرادوا بيت المال في البصرة
ليأخذوا ما فيه فمانعهم الخُزّان والموكلون به ـ وهم السبابجة ـ فقتل منهم سبعون
رجلاً ، خمسون منهم
__________________
قتلوا صبراً حيث
ضُربت أعناقهم بعد ما أُسروا ، وهؤلاء أولُ من قتل ظلماً وصبراً في الإِسلام ، عدا من جُرِح منهم . وقَتَلوا حَكم بن جَبَلة العبدي ـ وكان من سادات عبد القيس وزهّاد ربيعة ونسّاكها .
وتنازع طلحة والزبير في الصلاة بالناس ،
ثم اتفقوا أن يصلي بالناس عبد الله بن الزبير يوماً ومحمد بن طلحة يوماً .
« مسير علي ( ع ) إلى العراق »
أما علي ( ع ) فقد سار من المدينة في
سبعمائة راكب ، أربعمائة من المهاجرين والأنصار فيهم سبعون بدرياً ، والباقي من عامة الصحابة . وقد كان استخلف على المدينة سهل بن حنيف أخا عثمان ، وكان همة علي وأصحابه اللحاق بطلحة والزبير ففاتوه إلى العراق ، فتابع مسيره في طلبهم ، ولحق به من أهل المدينة جماعة من الأنصار فيهم خزيمة بن ثابت ( ذو الشهادتين ) وأتاه من قبيلة طي ستمائة راكب .
وكاتب علي من الربذة أبا موسى الأشعري ليستنفر
الناس ـ وكان على الكوفة ـ فثبطهم أبو موسى وقال : إنما هي فتنةٌ . ونُمي ذلك إلى علي ( ع ) فولى على الكوفة قرضة بن كعب الأنصاري وكتب إلى أبي موسى : إعتزل عملنا يا بن الحائك مذموماً مدحورا ، فما هذا أول يومنا منك ، وان لك فينا لهنات وهينات !
وسار علي ( ع ) بمن معه حتى نزل بذي قار
، وبعث بابنه الحسن وعمار بن ياسر إلى الكوفة يستنفران الناس .
«
بين عمّار وأبي موسى الأشعري »
وكان أبو موسى الأشعري والياً على
الكوفة من قِبل علي ( ع ) ، ولكنه على ما يبدو كان ميّالاً مع عائشة وطلحة والزبير في خروجهم على عليّ . فحينما دخل الحسنُ وعمارٌ الكوفة وجعلا يستنفران الناس لنصرة الإِمام قام أبو موسى ليعارضهم في ذلك ، فغضب عمّار بن ياسر منه وأسكته . فقام رجل
من بني تميم إلى عمّار
فقال : اسكت أيها الرجل الأجدع
بالأمس كنت مع غوغاء مصر على عثمان واليوم تسكت أميرنا ! .
فوثب زيد بن صوحان وأصحابه من شيعة علي
بالسيوف وقالوا : من لم يطع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فما له عندنا إلا السيف .
فقال أبو موسى : أيها الناس ! اسكتوا
واسمعوا كلامي ، هذا كتاب عائشة إلي تأمرني فيه أن أقرَّ الناس في منازلهم إلى أن يأتيهم ما يُحبّون من صلاح أمر المسلمين .
فقال له عمار بن ياسر : يا أبا موسى !
إن عائشة أُمِرَتْ بأمرٍ وأُمِرنا بغيره ، أُمِرتْ أن تقرَّ في بيتها ، وأمرنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة ، فأمرتنا هي بمَا أُمرتْ ، وركبتْ ما أُمِرنا به ، وكثُرَ الكلام يومئذٍ . وتكلم زيد بن صوحان العبدي فقال : أيها الناس ، سيروا إلى أمير المؤمنين وانفروا إليه أجمعين تصيبوا الحق راشدين .
ثم وثب عمار بن ياسر فقال : أيها الناس
، إنه لا بد لهذا الأمر ولهؤلاء الناس من والٍ يدفع المظالم ويعين المظلوم ، وهذا ابن عم رسول الله ( ص ) يستنفركم إلى زوجة رسول الله ( ص ) وإلى طلحة والزبير ، فاخرجوا وانظروا في الحق فمن كان الحق معه فاتبعوه .
وخرج الحسن ( ع ) وعمار من الكوفة
ومعهما سبعة آلاف .
واجتمع الناس بذي قار مع علي بن أبي
طالب . ستة آلاف من أهل المدينة ومصر والحجاز ، وتسعة آلاف من أهل الكوفة ، وجعل الناس يجتمعون حتى صاروا تسعة عشر ألف رجل ما بين فارس وراجل ، وسار علي رضي الله عنه عن ذي قار يريد البصرة في جميع أصحابه والناس يتلاحقون به من كل أوب .
__________________
في وصف جيش علي ( ع )
« ونزوله البصرة »
كان الطابع الغالب على جيش علي تميزه عن
غيره باشتماله على عدد كبير من المهاجرين والأنصار وأصحاب رسول الله ( ص ) ممن شهد بدراً واحداً والخندق وكثيراً من حروبه وغزواته ( ص ) .
فكان يُخَيّل للناظر آنذاك أنه في مشهد
من مشاهد الفتح إبان حياة الرسول الأعظم ، سيما وأن قادة الجيش وحملة الألوية هم جلّةُ الصحابة وعظماؤهم ، يقدِمُهم القائد المظفر خليفة رسول الله ووصيّه عليّ بن أبي طالب ( ع ) .
ويصف المنذر بن الجارود ذلك فيقول : لما
قدِم عليٌّ رضي الله عنه البصرة دخل مما يلي الطف ، فأتى الزاوية
فخرجت أنظر إليه . فورد موكبٌ في نحو ألف فارس يتقدمهم فارس على فرسٍ أشهب عليه قلنسوةٌ وثيابٌ بيض ، متقلد سيفاً ومعه راية ، وإذا تيجان القوم الأغلبُ عليها البياضُ والصفرة مدجّجين في الحديد والسلاح ، فقلت : من هذا ؟ فقيل : هذا أبو أيوب الأنصاري صاحبُ رسول الله ( ص ) ، وهؤلاء الأنصار وغيرهم .
ثم تلاهم فارسٌ آخر عليه عمامةٌ صفراء
وثياب بيض ، متقلد سيفاً
__________________
متنكب قوساً ، مع
راية ، على فرس أشقر ، فقلت : من هذا ؟ فقيل : هذا خزيمةُ بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين !
ثم مرّ بنا فارس آخر على فرسٍ كُمَيتٍ
معتم بعمامة صفراء من تحتها قلنسوة بيضاء ، وعليه قباء أبيض مصقولٌ ، متقلد سيفاً متنكِّبٌ قوساً في نحو ألف فارس من الناس ومعه راية ، فقلت : من هذا ؟ فقيل لي : أبو قتادة بن ربعي .
ثم مرّ بنا فارسٌ آخر على فرس أشهبٍ
عليه ثياب بيضٌ وعَمَامة سوداء قد سدَلَهَا من بين يديه ومن خلفه ، شديد الأدمة ، عليه سكينةٌ ووقار ، رافع صوته بقراءة القرآن ، متقلد سيفاً ، متنكّبٌ قوساً ، معه راية بيضاء في ألف من الناس مختلفي التيجان ، حوله مشيخةٌ وكهولٌ وشباب كأنما قد أوقفوا للحساب ، أثرُ السجود قد أثرَ في جباههم ، فقلت من هذا ؟ فقيل عمّار بن ياسر في عدة من الصحابة من المهاجرين والأنصار وأبنائهم .
ثم مرّ بنا فارس على فرس أشقر ، عليه
ثياب بيض وقلنسوة بيضاء وعمامة صفراء ، متنكب قوساً متقلد سيفاً ، تخط رجلاه في الأرض في ألفٍ من الناس ، الغالب على تيجانهم الصفرةُ والبياضُ ، معه رايةٌ صفراء . قلت : من هذا ؟ قيل : هذا قيسُ بن سعد بن عبادة في عدةٍ من الأنصار وأبنائهم وغيرهم من قحطان .
ثم مرّ بنا فارس على فرسٍ أشهل ما رأينا
أحسنَ منه ، عليه ثياب بيضٌ وعمامة سوداء قد سدَلَهَا من بين يديه بلواء ، قلت : من هذا ؟ قيل : هو عبد الله بن العباس في وفدِهِ وعدةٍ من أصحاب رسول الله ( ص ) .
ثم تلاه موكب آخر فيه فارس أشبه الناس
بالأولين . قلت : من هذا ؟ قيل قثمُ بن العباس أو معبد بن العباس .
ثم أقبلت المواكب والرايات يقدم بعضها
بعضاً ، واشتبكت الرماح .
ثم ورد موكب فيه خلق من الناس عليهم
السلاح والحديد ، مختلفوا
الرايات في أوله راية
كبيرةٌ ، يقدمهم رجل كأنما كُسِرَ وجُبِر
كأنما على رؤوسهم الطير ، وعن يمينه شاب حسن الوجه ، وعن يساره شاب حسن الوجه ، وبين يديه شاب مثلهما ، قلت : من هؤلاء ؟
قيل : هذا علي ابن أبي طالب ، وهذان
الحسنُ والحسينُ عن يمينه وشماله وهذا محمد بن الحنفِيّة بين يديه معه الرايةُ العظمى ، وهذا الذي خلفه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وهؤلاء وِلدُ عقيل وغيرهم من فتيان بني هاشم ، وهؤلاء المشائخ هم أهل بدر من المهاجرين والأنصار .
فساروا حتى نزلوا الموضع المعروف
بالزاوية ، فصلى ( ع ) أربع ركعات ، وعفّرَ خديه على التراب وقد خالط ذلك دموعه ، ثم رفع يديه يدعو : اللهم ربَّ السموات وما أظلّتْ ، والأرضينَ وما أقلّت ، وربَّ العرش العظيم ، هذه البصرةُ أسألك من خيرها ، وأعوذ بك من شرّها ، اللهم انزلنا فيها خير منزلٍ وأنت خير المنزلين ، اللهم ان هؤلاء القوم قد خلعوا طاعتي وبغوا علي ، ونكثوا بيعتي ، اللهم احقن دماء المسلمين
.
__________________
جيش أهل البصرة
وكان عدد الجيش الذي قاده طلحة والزبير
وعائشة ثلاثون ألف مقاتل ، فنزلوا في موقع يقال له « زابوقة » .
واستشار علي ( رضي الله عنه ) أصحابه
حين بلغه تعبئة أهل البصرة لقتاله قائلاً ماذا عندكم من الرأي ؟ فقال له رفاعة بن شداد البجلي : يا أمير المؤمنين ، تعبيَةٌ لتعبية ، وحق يدفع باطلاً ، هذا ما كنا نريد ، فأبشر وقرْ
عيناً فسترى منا ما تحب .
ودنا عليٍّ في أصحابه من البصرة ، فقال
طلحة بن عبيد الله لأصحابه : إعلموا أيها الناس ، إن علياً وأصحابه قد أضرَّ بهم السفر وتعب الطريق ، فهل لكم أن نأتيهم الليلة فنضع فيهم السيف ؟
فقال مروان بن الحكم : والله لقد
استبطأتُ هذه منك أبا محمدٍ ! وليس الرأي إلا ما رأيت . فضحك الزبير من ذلك ثم قال : أمن علي تُصاب الفرصة وهو من قد عرفتم ؟ أما علمتم أنه رجل ما لقيه أحد قط إلا ثكلته أمه ؟
وقام علي في الناس خطيباً فقال : إني قد
مُنيتُ بثلاث مرجعهن على العباد من كتاب الله ، أحدهما : البغي ، ثم النكث والمكر ، قال الله تعالى : يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم . ثم قال فمن نكث فإنما ينكث على
نفسه ثم قال ولا يحيق
المكر السيء إلا بأهله .
والله لقد مُنيت بأربع لن يمْنَ بمثلهن
أحد بعد النبي ( ص ) ، منيتُ بأشجع الناس الزبير بن العوام ، وبأخدعِ الناس طلحة بن عبيد الله ، وبأطوع الناس في الناس ، عائشة بنت أبي بكر ، وبمن أعان عليَّ بأنواع الدنانير يعلي بن مُنية ، والله لئن أمكنني الله منه لأجعلنَّ ماله وولده فيئاً للمسلمين .
وزحف علي رضي الله عنه حتى نزل قبالة
القوم ، وكان معه من أصحابه وأعوانه عشرون ألفاً .
«
ما قبل القتال »
ولم يكن في نية عليٍّ مواجهة القوم
وقتالهم على ما يبدو بل كان يتحيّن الفرص طمعاً في رجوعهم عما اجتمعوا عليه حقناً لدماء المسلمين ، لذلك راسل عائشة أكثر من مرة مستنكراً عليها خروجها وداعياً إياها إلى التوبة ، كما راسل طلحة والزبير في ذلك ، ولكن دون جدوى إذ كانت همتهم القضاء عليه أو نقض بيعته وتجريده من الخلافة .
« كتابه لعائشة »
جاء في كتاب علي لعائشة : « أما بعدُ ،
فإِنك قد خرجتِ من بيتك عاصيةً لله تعالى ولرسوله محمد ( ص ) تطلبينَ أمراً كان عنكِ موضوعاً ، ثم تزعمينَ أنك تريدين الإصلاح بين المسلمين ، فأخبريني ما للنساء وقودِ العساكر والإصلاح بين الناس ، فطلبتِ ! زعمتِ بدم عثمان ، وعثمانُ رجل من بني أمية ، وأنتِ امرأة من بني تميم بن مرّة ، ولعمري أن الذي عرضك للبلاء وحملَك على المعصية لأعظم إليك ذنباً من قتلة عثمان ! وما غضبت حتى أغضبت ، ولا هجتِ حتى هيّجتِ ، فاتق الله يا عائشة وارجعي إلى منزلك ، واسبلي عليك سترِكِ والسلام .
ومرةً ثانية أرسل علي يزيد بن صوحان
وعبد الله بن عباس إلى عائشة بأن يقولا لها : ألم يأمركِ اللهُ تبارك وتعالى أن تَقرّي في بيتك ؟ فخَدَعتِ
وانخدعتِ ، واستنفرتِ
فنفرتِ ، فاتقي الله الذي إليه مرجعك ومعادك وتوبي إليه فإنه يقبل التوبة عن عباده ، ولا يحملنّكِ قرابةُ طلحة وحبَّ عبد الله بن الزبير على الأعمال التي تسعى بك إلى النار .
وكان جواب عائشة لهما : ما أنا برادّةٍ
عليكم شيئاً ، فإني أعلم أني لا طاقة لي بحُجَج عليّ بن أبي طالب .
« كتابه إلى طلحة والزبير »
ثم كتب علي إلى طلحة والزبير : أما بعد
، فقد علمتم أني لم أردِ الناسَ حتى أرادوني ، ولم أبايعهم حتى أكرهوني ، وأنتم ممن أرادوا بيعتي ، ولم تبايعوا لسلطانٍ غالب ، ولا لغرضٍ حاضر ، فإن كنتم قد بايعتم مكرهين فقد جعلتم إليَّ السبيل عليكم بإظهاركم الطاعة وكتمانكم المعصية . وأنت يا زبير فارس قريش ، وأنت يا طلحة شيخ المهاجرين ، ودفعُكُم هذا الأمر قبل أن تدخلوا فيه كان أوسعَ لكم من خروجكم منه بعد إقراركم ، وأما قولكم أني قتلت عثمان ، فبيني وبينكم من يحلفُ عني وعنكم من أهل المدينة . إلى أن قال : وبعدُ . فما أنتم وعثمان ، قُتِل مظلوماً كما تقولان ؟ أنتما رجلان من المهاجرين وقد بايعتموني ونقضتم بيعتي وأخرجتم أمُكمْ من بيتها الذي أمرها الله تعالى أن تقرَّ فيه ، والله حسبُكم والسلام .
«
جوابُ طلحة والزبير »
كان جواب طلحة والزبير على كتاب عليّ :
أنْ يا أبا الحسن ، قد سرتَ مسيراً له ما بعده ولستَ براجعٍ وفي نفسك منه حاجة ، ولست راضيا دون أن ندخل في طاعتك ، ونحن لا ندخل في طاعتك أبداً ، وأقضي ما أنت قاضٍ والسلام .
«
كذِبٌ وبهتان »
ووثب عبد الله بن الزبير فقال : أيها
الناس ، إن علي بن أبي طالب هو الذي قتل الخليفة عثمان بن عفان ، ثم إنه الآن قد جاءكم ليبيّن لكم أمركم
فاغضبوا لخليفتكم وامنعوا
حريمكم وقاتلوا على أحسابكم .
فأمر علي ( ع ) ولده الحسن أن يرد عليه
، فقام وقال :
أيها الناس ، أنه قد بلغنا مقالة عبد
الله بن الزبير ، فأما زعمه أن علياً قتل عثمان ، فقد علم المهاجرون والأنصار بأن أباه الزبير بن العوام لم يزل يجتني عليه الذنوب ويرميه بفضيحات العيوب ، وطلحة بن عبيد الله راكد ، رأيته على باب بيت ماله ، وهو حي .
وأما شتيمته لعلي فهذا ما لا يضيق به
الحلقوم لمن أراده ، لو أردنا أن نقولَ لفعلنا . وأما قوله إن علياً أبتر الناس أمورهم ، فإن أعظم حجة أبيه الزبير أنه زعم أنه بايعه بيده دون قلبه ، فهذا إقرار بالبيعة ، وأما تورد أهل الكوفة على أهل البصرة ، فما يعجب من أهل حقٍ وردوا على أهل باطل .
ولعمري ما نقاتل أنصار عثمان ، ولعليٍّ
أنْ يقاتل أتباع الجمل والسلام .
«
خطبة عمّار بن ياسر »
وقام عمار بن ياسر بين الصفين فقال :
أيها الناس ، ما أنصفتم نبيّكم حين كففتم عقائلكم في الخدور ، وأبرزتم عقيلته للسيوف .
هذا وعائشة على جمل في هودج من دفوف
الخشب قد ألبسوه المسوح وجلود البقر وجعلوا دونه اللبود ، وقد غُشي على ذلك بالدروع .
فدنا عمار من موضعها ، فنادى : إلى ماذا
تدعين ؟ قالت : إلى الطلب بدم عثمان . فقال : قاتل الله في هذا اليوم الباغي والطالب بغير الحق . ثم قال : أيها الناس ، إنّكم لتعلمون أينا الممالىء في قتل عثمان . ثم أنشأ يقول وقد رشقوه بالنبل :
فمنكِ البكاء ومنك العويل
|
|
ومنكِ الرياحُ ومنكِ المطرْ
|
وأنتِ أمرتِ بقتل الإمام
|
|
وقاتله عندنا من أمَرْ
|
وتواتر عليه الرمي واتصل ، فحرك فرسه
وزال عن موضعه ، وأتىٰ علياً فقال : ماذا تنتظر يا أمير المؤمنين ، وليس لك عند القوم إلا الحرب ؟!
خطبة علي ( ع ) ودعاؤه على طلحة والزبير
ثم جمع علي رضي الله عنه الناس فخطبهم
خطبةً بليغة وقال : أيها الناس ! إني قد ناشدت هؤلاء القوم كيما يرجعوا ويرتدعوا ، فلم يفعلوا ولم يستجيبوا ، وقد بعثوا إلي أن أبرز إلى الطعان وأثبت للجلاد ، وقد كنت وما أهدد بالحروب ولا أدعى إليها ، وقد انصف القارة من راماها ، ولعمري لئن أبرقوا وأرعدوا فقد عرفوني ورأوني ، ألا وان الموت لا يفوته المقيم ولا يعجزه الهارب ، ومن لم يمت يقتل ، وإن أفضل الموت القتل ، والذي نفس علي بيده لألف ضربةٍ بالسيف أهون علي من موتةٍ على الفراش .
ثم رفع يده إلى السماء وهو يقول : اللهم
ان طلحة بن عبيد الله أعطاني صفقةً بيمينه طائعاً ، ثم نكث بيعته ، اللهم فعاجله ولا تميّطه .
اللهم إن الزبير بن العوام قطع قرابتي ،
ونكث عهدي ، وظاهر عدوي ونصب الحرب لي وهو يعلم أنه ظالم ، فاكفينيه كيف شئت وإنىٰ شئت .
« رجوع الزبير ، ومقتله »
وخرج علي رضي الله عنه ، فوقف بين
الصفين ، عليه قميص ورداء ، وعلى رأسه عمامة سوداء ، وهو يومئذٍ على بغلة رسول الله ( ص ) الشهباء التي يقال لها « دُلدُل » ثم نادى بأعلى صوته : أين الزبير بن العوام ، فليخرج إليّ ! فقال الناس : يا أمير المؤمنين ، أتخرج إلى الزبير وأنت حاسر ! وهو مدجج في الحديد ؟! فقال علي رضي الله عنه : ليس علي منه بأس ، فأمسكوا .
ثم نادى الثانية : أين الزبير بن العوام
؟ فليخرج إلي .
فخرج إليه الزبير ، ونظرت عائشة فقالت :
واثكل أسماء ! فقيل لها يا أم المؤمنين ! ليس على الزبير بأس ، فإن علياً بلا سلاح .
ودنا الزبير من علي حتى واقفه ، فقال له
علي رضي الله عنه : يا أبا عبد الله ما حملَكَ على ما صنعت ؟
فقال الزبير : حملني على ذلك الطلبُ بدم
عثمان فقال له علي : أنت وأصحابك قتلتموه ، فيجب عليك أن تُقيدَ من نفسك ! ولكن أنشدك بالله الذي لا إله إلا هو ، أما تذكر يوماً قال لك رسول الله ( ص ) : يا زبير أتحب علياً ! فقلت : يا رسول الله ، وما يمنعني من حبه وهو ابن خالي ؟ فقال لك : أما إنك ستخرج عليه يوماً وأنت ظالم ؟ فقال الزبير : اللهم بلىٰ ، قد كان ذلك .
قال علي : فأنشدك بالله الذي أنزل
الفرقان أما تذكر يوماً جاء رسول الله ( ص ) من عند بني عمرو بن عوف وأنت معه وهو آخذٌ بيدك فاستقبلته أنا فسلّم عليَّ وضحكَ في وجهي ، وضحكتُ أنا إليه ، فقلتَ أنتَ : لا يدعُ ابن أبي طالب زهوه أبداً ! فقال لك النبي ( ص ) : مهلاً يا زبير ! فليس به زهوٌ ، ولتخرُجَنَّ عليه يوماً وأنت ظالمٌ له ؟
فقال الزبير : اللهم بلى ! ولكن أُنْسِيت
، فأما إذ ذكّرتني ذلك فوالله لأنصرفن عنك ! ولو ذكرتُ هذا لما خرجتُ عليك .
ثم رجع الزبير إلى عائشة وهي واقفة في
هودجها ، فقالت : ما وراءك يا أبا عبد الله ؟ فقال الزبير : ورائي ؛ والله ما وقفتُ موقفاً قط ، ولا شهدت مشهداً من شِركٍ ولا إسلام إلا ولي فيه بصيرة ؛ وإني لعلىٰ شكٍ من أمرك ، وما أكاد أبصر موضع قدمي !
فقالت عائشة : لا والله ! ولكنك خفتَ
سيوف أبي طالب ، أما إنها طوال حِداد تحملها سواعد أنجاد ، ولئن خفتها ، لقد خافها الرجال من قبلك !
وأقبل عليه ابنه عبد الله فقال : لا
والله ! ولكنك رأيت الموت الأحمر تحت رايات ابن أبي طالب !
فقال له الزبير : والله يا بني إنك
لمشؤوم مذ عرفتك .
فقال عبد الله : ما أنا بمشؤوم ، ولكنك
فضحتنا في العرب فضيحةً لا
تغسل منها رؤوسنا
أبداً .
فغضب الزبير من ذلك ، ثم صاح بفرسه ،
وحمل على أصحاب علي حملةً منكرة . فقال علي رضي الله عنه : إفرجوا له فإنه محرَّج ، فأوسعوا له حتى شق الصفوف وخرج منها ، ثم رجع فشقها ثانية ولم يطعن أحداً ولم يضرب ، ثم رجع إلى ابنه فقال : يا بني ؛ هذه حملة جبان ؟! فقال له ابنه عبد الله : فلم تنصرف عنا وقد التقتْ حلقتا البطان ؟
فقال الزبير : يا بني أرجع ـ والله ـ
لأخبار قد كان النبي ( ص ) عهدها إليّ فنسيتُها حتى أذكرنيها علي بن أبي طالب ، فعرفتها .
ثم خرج الزبير من معسكرهم تائباً مما
كان منه وهو يقول ابياتاً مطلعها :
ترك الأمور التي تُخشىٰ
عواقُبها
|
|
لله أجمل في الدنيا وفي الدين
|
ثم مضى الزبير وتبعه خمسة فرسان فحمل
عليهم وفرّق جمعهم حتى صار إلى وادي السباع فنزل على قوم من بني تميم ، فقام إليه عمرو بن جرموز المجاشعي فقال : أبا عبد الله ، كيف تركت الناس ؟ فقال الزبير : تركتهم قد عزموا على القتال ، ولا شك قد التقوا .
فسكت عنه عمرو بن جرموز ، وأمر له بطعام
وشيءٍ من لبن ، فأكل الزبير وشرب ، ثم قام فصلى وأخذ مضجعه ، فلما علم ابن جرموز أن الزبير قد نام وثب إليه وضربه بسيفه ضربةً على أم رأسه فقتله
.
«
خطبة علي ووصيته لجيشه »
وجعل علي ( ع ) يعبىء أصحابه ويوصيهم
وهو يقول : أيها الناس ، غُضّوا أبصاركم ، وأكثروا من ذِكِر ربكم ، وإياكم وكثرة الكلام فإنه فشل .
ونظرت إليه عائشة وهو يجول بين الصفوف
فقالت : انظروا إليه كأن فعله فعل رسول الله ( ص ) يوم بدر ، أما واللهِ ما ينتظرُ بكم إلا زوالَ الشمس .
__________________
فقال علي رضي الله عنه : يا عائشة ! عما
قليل ليصبحنَّ نادمين .
وقام عليٌّ رضي الله عنه في الناس
خطيباً رافعاً صوته فقال : أيها الناس إذا هزمتموهم فلا تجهزوا على جريح ولا تقتلوا أسيراً ، ولا تتبعوا مولياً ، ولا تطلبوا مدبراً ، ولا تكشفوا عورة ، ولا تمثلوا بقتيل ، ولا تهتكوا ستراً ، ولا تقربوا شيئاً من أموالهم إلا ما تجدونه في عسكرهم من سلاح أو كراع أو عبدٍ أو أمَةٍ ، وما سِوىٰ ذلك فهو ميراثٌ لورثتهم على كتاب الله .
وجعل أهل البصرة يرمون أصحاب عليٍّ
بالنبل حتى عقروا منهم جماعة ، فقال الناس : يا أمير المؤمنين ، إنهم قد عقرتنا نبالهم فما انتظارك ؟
فقال علي رضي الله عنه : اللهم إني قد
أعذرت وأنذرت فكن لي عليهم من المساعدين .
التحاكم
إلى كتاب الله ومقتل حامله
ثم دعا علي ( ع ) بالدرع فأفرغه عليه ،
وتقلد بسيفه ، واعتجر بعمامته ، واستوى على بغلة رسول الله ( ص ) ثم دعا بالمصحف الشريف ، فأخذه بيده ثم قال : أيها الناس ، من يأخذ هذا المصحف فيدعوا هؤلاء القوم إلى ما فيه !؟ فوثب غلام من مجاشع يقال له : مسلم ، عليه قباءُ أبيض ، فقال : أنا آخذ يا أمير المؤمنين !
فقال له علي : يا فتى إن يدك اليمنىٰ
تُقطع ، فتأخذه باليسرى فتُقطع ، ثم تضرب عليه بالسيف حتى تقتل ؟
فقال الفتى لا صبر لي على ذلك .
ـ فنادى علي ثانيةً والمصحف في يده ،
فقام إليه ذلك الفتى وقال : أنا آخذه يا أمير المؤمنين ، فهذا قليل في ذات الله .
ثم أخذ الفتى المصحف وانطلق به إليهم ،
فقال : يا هؤلاء ! هذا كتاب الله عزَّ وجلّ بيننا وبينكم .
فضرب رجل من أصحاب الجمل يده اليمنى
فقطعها ، فأخذ المصحف
بشماله ، فقطعها ،
فاحتضن المصحف بصدره ، فضرب على صدره حتى قُتل . رحمه الله .
فنظرت إليه أمه وقد قتل ، فأنشأت تقول
أبياتاً مطلعها .
يا ربِّ إن مسلماً أتاهم
|
|
بمحكم التنزيل إذ دعاهمُ
|
فخضّبوا من دمه لِحاهم
|
|
وأمّه واقفة تراهمُ
|
« إلتحام الجيشين
»
عند ذلك رفع علي ( ع ) رايته إلى ابنه
محمّد بنِ الحنفية ، وقال تقدم يا بني فتقدم محمدٌّ ، ثم وقف بالراية لا يبرح . فصاح به علي ( ع ) اقتحم ، لا أم لك فحمل محمد الراية فطعن بها في أصحاب الجمل طعناً منكراً وعلي ينظر ، فأعجبه ما رأى من فعاله ، فجعل يقول :
إطعن بها طعنَ أبيك تُحمدِ
|
|
لا خير في الحرب إذا لم تُوقَدِ
|
فقاتل محمد بن الحنفية ساعة بالراية ثم
رجع ، وضرب علي ( ع ) بيده إلى سيفه فاستلّه ، ثم حمل على القوم فضرب فيهم يميناً وشمالاً ، ثم رجع وقد انحنىٰ سيفه ، فجعل يسويه بركبته ، فقال له أصحابه : نحن نكفيك ذلك يا أمير المؤمنين ! فلم يجب أحداً حتى سواه . ثم حمل ثانيةً حتى اختلط بهم ، فجعل يضرب فيهم قِدْماً حتى انحنىٰ سيفه ، ثم رجع إلى أصحابه ووقف يُسوّي السيف بركبته وهو يقول : واللهِ ما أريد بذلك إلا وجه الله والدار الآخرة ، ثم التفت إلى ابنه محمد بن الحنيفة وقال : هكذا إصنع يا بني !
ثم حملت ميمنةُ أهل البصرة على ميسرة
أهل الكوفة فكشفوهم إلا قليلاً منهم ، وحملت ميمنة أهل الكوفة على ميسرة أهل البصرة فأزالوهم عن مواقفهم ، وثبت الناس بعضهم لبعض فاقتتلوا ساعةً من النهار وتقدم مخنف الأزدي من أصحاب علي وقاتل حتى جُرح ، وتقدم أخوه الصعب بن سليم
فقاتل حتى قتل رحمه
الله ثم خرج أخوه الثالث عبيد الله بن سليم فقُتل ، ثم تقدم زيد بن صوحان العبدي من أصحاب علي فقاتل حتى قُتل فأخذ الراية أخوه صعصعة فقاتل فجُرح ، وأخذها أبو عبيدة العبدي وكان من خيار أصحاب علي فقاتل فقُتل ، فأخذ الراية عبد الله بن الرقية فقتل ، فأخذها رشيد بن سميّ فقتل .
ثم تقدم رجل من أصحاب الجمل يقال له عبد
الله بن سرّي ، فجعل يرتجز ويقول :
يا رب إني طالبٌ أبا الحَسنْ
|
|
ذاك الذي يُعرف حقّاً بالفِتَنْ
|
ذاك الذي نطلبه على الإحن
|
|
وبغضه شريعةٌ من السنن
|
فخرج إليه علي رضي الله عنه وهو يرتجز
ويقول :
قد كنتَ ترميه بإيثار الفِتَنْ
|
|
قِدماً وتطلبه بأوتار الأحن
|
واليومَ تلقاه ملياً فأعلمن
|
|
بالطعنِ والضرب عليها بالسنن
|
ثم شدّ عليه عليٌّ بالسيف ، فضربه ضربةً
هتك بها عاتقه ، فسقط قتيلاً ، فوقف علي رضي الله عنه ـ عليه ـ ثم قال : قد رأيت أبا الحسن ، فكيف وجدتَهُ ؟
ثم تقدمت بنو ضبّة فأحدقوا بالجمل
وجعلوا يرتجزون بالأشعار من كل ناحية ورجل منهم قد أخذ بخطام الجمل وفي يده سيف كأنه مخراق ، وهو يرتجز ويقول :
نحن بنو ضبّة أصحابُ الجمل
|
|
ننازل الموت إذا الموتُ نزل
|
ننعى ابن عفان بأطراف الأسل
|
|
أضرب بالسيف إذا الرمح فصَلْ
|
|
إن علياً يعد منْ خير البدل
|
|
فبدر إليه زيد بن لقيط الشيباني من
أصحاب عليّ وهو يقول :
يا قائل الزور من أصحاب الجمل
|
|
نحن قتلنا نعثلاً فيمن قتل
|
إلى آخرها . . . ثم حمل عليه الشيباني
فقتله ، وتقدم رجل من بني ضُبّة يقال له عاصم بن الدّلف وأخذ بخطام الجمل ، وجعل يرتجز ويقول أبياتاً مطلعها .
نحن بنو ضبّة أعداءُ علي
|
|
ذاك الذي يُعرفُ فيكم بالوصي
|
فخرج إليه المنذر بن حفصة التميمي من
أصحاب علي رضي الله عنه وهو يقول :
نحن مطيعون جميعاً لعلي
|
|
إذ أنت ساعٍ في الوغى سعي شقي
|
إن الغويّ تابع أمر الغوي
|
|
قد خالقت أمر النبي زوجُ النبي
|
ثم حمل على الضبي فقتله ، ثم جال في
ميدان الحرب وهو يرتجز ويقول أبياتاً مطلعها :
أسامعٌ أنت مطيع أم عصي
|
|
وتاركٌ ما أنت فيه أم غوي
|
فخرج إليه وكيع بن المؤمل الضبي من
أصحاب الجمل وهو يقول :
أسامعٌ أنت مطيع لعلي
|
|
وتارك في الحق أزواجَ النبي
|
إني ولما ذقت حد المشرفي
|
|
أعرف يوماً ليس فيه بغبي
|
فحمل عليه صاحب عليٍّ فقتله ، وتقدم على
وكيعٍ الأشترُ حتى وقف بين الجمعين وهو يزأر كالأسد عند فريسته ، ويقول هو في ذلك شعراً ، فخرج إليه من أصحاب الجمل رجل يقال له عامر بن شداد الأزدي ، وأجابه على شعره ، فحمل عليه الأشتر فقتله ، ثم نادى فلم يجبه أحد ، فرجع .
محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر
ثم خرج محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر ،
حتى وقفا قُدّام الجمل ، وتبعهما الأشتر ووقف معهما ، فقال رجل من أصحاب الجمل : من أنتم أيها الرهط ؟ قال : نحن ممن لا تنكرونه ، وأعلنوا بأسمائهم ، ودعوا إلى البراز ، فخرج عثمان الضبّي وهو ينشد شعراً ، فخرج إليه عمار بن ياسر فأجابه على شعره ، ثم حمل عليه عمار فقتله .
وذهب كعب بن سور الأزدي ليخرج إلى عمار
، فسبقه إلى ذلك غلام من الأزد أمرد ، فخرج وهو يرتجز ويقول شعراً ، فذهب عمار ليبرز إليه ، فسبقه إلى ذلك أبو زينب الأزدي فأجابه إلى شعره ، ثم حمل عليه أبو زينب فقتله ورجع حتى وقف بين يدي علي رضي الله عنه .
وخرج عمرو بن يثربي من أصحاب الجمل حتى
وقف بين الصَفَيّن قريباً من الجمل ، ثم دعا إلى البراز وسأل النزال ، فخرج إليه علياء بن الهيثم من أصحاب علي رضي الله عنه فشدّ عليه عمرو فقتله ، ثم طلب المبارزة فلم يخرج إليه أحد ، فجعل يجول في ميدان الحرب وهو يرتجز ويقول شعراً ، ثم جال وطلب البراز فتحاماه الناس واتقوا بأسه ، فبدر إليه عمار بن ياسر وهو يجاوبه على شعره والتقوا بضربتين ، فبدره عمار بضربة فأرداه عن فرسه ، ثم نزل إليه عمار سريعاً فأخذ برجله وجعل يجره حتى ألقاه بين يدي علي رضي الله عنه ، فقال علي : اضرب عنقه ! فقال عمرو : يا أمير المؤمنين أستبقني حتى أقتلَ لك منهم كما قتلتُ منكم ، فقال علي : يا عدو الله ! أبعد ثلاثةٍ من خيار أصحابي أستبقيك ! لا كان ذلك أبداً ! قال : فأدنني حتى أكلمك في أذنك بشيء ، فقال علي : أنت رجل متمرّد ، وقد أخبرني رسول الله ( ص ) بكل متمرّد عليّ : وأنت أحدهم ، فقال عمرو بن يثربي : أما والله لو وصلتُ إليك لقطعتُ أذنك ـ أو قال أنفك . فقدمه عليٌّ فضرب عنقه بيده صبراً .
وخرج أخوه عمير فجعل يرتجز ويقول شعراً
، فخرج علي رضي الله عنه وأجابه إلى شعره ، ثم حمل عليه علي فضربه ضربةً على وجهه فرمىٰ بنصف رأسه .
وانفرق علي يريد أصحابه ، فصاح به صائح
من ورائه ، فالتفت وإذا بعبد الله بن خلف الخزاعي ـ وهو صاحب منزل عائشة بالبصرة ـ فلما رآه علي عرفه فناداه : ما تشاء يا بْن خلف ؟ قال : هل لك في المبارزة ؟ قال علي ( ع ) : ما أكره ذلك ولكن ويحك يا ابن خلف ! ما راحتك في القتل ، وقد علمتَ من أنا ؟ فقال عبد الله بن خلف : دعني من مدحك يا ابن أبي
طالب وادن مني لترى
أينا يقتل صاحبه ! ثم أنشد شعراً ، فأجابه علي ( ع ) والتقوا للضرب فبادره عبد الله بن خلف بضربة دفعها علي بجحفته ، ثم انحرف عنه علي فضربه ضربةً رمى بيمينه ، ثم ضربه أخرى فأطار قحف رأسه .
ثم رجع علي إلى أصحابه ، وخرج مبارز بن
عوف الضبي من أصحاب الجمل وجعل يقول شعراً ، قال : فخرج إليه عبد الله بن نهشل من أصحاب علي مجيباً له على شعره ، ثم حمل على الضبي فقتله ، فخرج من بعد الضبي ابن عمه ثور بن عدي وهو ينشد شعراً فخرج إليه محمد بن أبي بكر مجيباً له وهو يقول شعراً . ثم شد عليه محمد بن أبي بكر فضربه ضربةً رمى بيمينه ، ثم ضربه ثانيةً فقتله .
قال : فغضبت عائشة وقالت : ناولوني كفاً
من حصباء ، فناولوها فحصبت بها أصحاب علي وقالت : شاهت الوجوه . فصاح بها رجل من أصحاب علي رضي الله عنه ، وقال : يا عائشة ! وما رميت أذ رميتِ ولكن الشيطان رمى ، ثم جعل يقول شعراً :
قد جئتِ يا عيش لتعلمينا
|
|
وتنشر البرد لتهزمينا
|
وتقذفي الحصباء جهلاً فينا
|
|
فعن قليل سوف تعلمينا
|
« مقتل طلحة بن عبيد الله »
وجعل طلحة ينادي بأعلى صوته : عباد الله
الصبر الصبر ! إن بعد الصبر النصر والأجر قال : فنظر إليه مروان بن الحكم فقال لغلام له : ويلك يا غلام ! والله إني لأعلم أنه ما حرّض على قتل عثمان يوم الدار أحد كتحريض طلحة ولا قتله سواه ! ولكن استرني فأنت حر ؛ قال : فستره الغلام ، ورمى مروان بسهم مسموم لطلحة بن عبيد الله فأصابه به ، فسقط طلحة لما به وقد أُغمي عليه ، ثم أفاق فنظر إلى الدم يسيل منه فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، أظن والله أننا عُنينا بهذه الآية ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً
لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنكُمْ
خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ثم أقبل على غلامه وقد بلغ منه الجهد ، قال : ويحك يا غلام ؛ اطلب لي مكاناً أدخله فأكون فيه ، فقال الغلام : لا والله لا أدري أين أنطلق بك ! فقال طلحة يا سبحان الله ! والله ما رأيت كاليوم قط ! دم قرشي أضيع من دمي ، وما أظن هذا السهم إلا سهماً أرسله الله ، وكان أمر الله قدراً مقدوراً ، ولم يزل طلحة يقول ذلك حتى مات ، ودفن ، ثم وضع في مكان يقال له السبخة ، ودخل من ذلك على أهل البصرة غم عظيم ، وكذلك على عائشة لأنه ابن عمها ، وجاء الليل فحجز بين الفريقين .
فلما كان من الغد دنا القوم من بعضهم
البعض ، وتقدمت عائشة على جملها عسكر حتى وقفت أمام الناس والناس من ورائها وعن يمينها وشمالها ، قال : وصف علي رضي الله عنه أصحابه وعبأهم كالتعبية الأولى ، وعزم القوم على المناجزة وتقدم كعب بن سور الأزدي حتى أخذ بخطام الجمل وجعل يرتجز ويقول :
يا معشر الناس عليكم أمكم
|
|
فإنها صلاتكم وصومكم
|
والرحمة العظمى التي تعمكم
|
|
الخ . . . . . . . . . . . . . . . .
|
فحمل عليه الأشتر ، فقتله ، وخرج من
بعده غلام من الأزد اسمه وائل بن كثير ، فجعل يقول شعراً ، فبرز إليه الأشتر مجيباً له ، ثم حمل عليه الأشتر فقتله ، وخرج من بعده عمرو بن خنفر من أصحاب الجمل وهو يقول شعراً ، ثم حمل عليه الأشتر فقتله وخرج من بعده عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ، فجعل يلعب بسيفه بين يدي عائشة وهو يقول شعراً قال : فبدر إليه الأشتر مجيباً ، ثم حمل عليه فضربه ضربة رمى بيمينه فسقط لما به ، وثناه الأشتر بضربةٍ أخرى فقتله ، ثم جال في ميدان الحرب وهو يقول شعراً ، ثم رجع الأشتر إلى موقفه .
وصاح رجل من أهل الكوفة : يا معشر
المؤمنين ! إذا خرج إليكم رجل
من أنصار صاحبة الجمل
وقال شيئاً من الشعر فلا تجيبوه بشيء ليستريح إلى إجابتكم له ، ولكن استعملوا فيمن خرج إليكم السيف فإنه أسرع للجواب ، قال : وإذا برجل من أصحاب الجمل يقال له الأسود البختري قد خرج وهو يقول شعراً ، فحمل عليه عمرو بن الحمق الخزاعي فقتله . وخرج من بعده جابر بن مزيد الأزدي ، فحمل عليه محمد بن أبي بكر فقتله ، وخرج من بعده مجاشع بن عمر التميمي وهو يقول شعراً ، فحمل عليه أصحاب علي حملة ، واستأمن إلى علي فكان من خيار أصحابه بعد ذلك . وخرج من بعده بشر بن عمرو الضبي وهو يقول شعراً ، فحمل عليه عمار بن ياسر فقتله ، وخرج من بعده حرسة بن ثعلبة الضبي في يده خطام الجمل وهو يقول شعراً ، ثم حمل فجعل يقاتل حتى قطعت يده على خطام الجمل وقتل ، وهكذا حتى قطع على الخطام يومئذٍ ثماني وتسعون يداً . ونادت عائشة بأعلى صوتها : أيها الناس عليكم بالصبر ، فإنما تصبر الأحرار .
واشتبكت الحرب بين الفريقين ، وصاح
الحجاج بن عمرو الأنصاري : يا معاشر الأنصار انه لم ينزل موت قط في جاهلية ولا إسلام إلا مضيتم عليه ، ولست أراكم اليوم كما أريد وأنا أنشدكم بالله أن تحدثوا ما لم يكن ، إن أخوانكم اليوم قد أبلوا وقاتلوا ، وأن الموت قد نزل فصبراً صبراً حتى يفتح الله عزَّ وجل عليكم .
ثم تقدم الحجاج فجعل يضرب بسيفه قدماً ،
وتقدم في أثره خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين وهو يقول شعراً . ثم تقدم في أثره شريح بن هاني الحارثي ثم تقدم في إثره هاني بن عروة ، ثم تقدم في أثره زياد بن كعب الهمداني ثم تقدم في أثره مالك بن الحارث الأشتر ، ثم تقدم في أثره عدي بن حاتم الطائي وهو يقول شعراً . ثم تقدم في أثره رفاعة بن شداد البجلي وهو يقول شعرا ثم تقدم في أثره هانىء بن هانىء المذحجي ، ثم تقدم في أثره عمرو بن الحمق الخزاعي وكانوا كلهم ينشدون الشعر حين تقدمهم ، واقتتل القوم قتالاً شديداً لم يسمع بمثله ، وصار الهودج الذي فيه عائشة كأنه
القنفذ مما فيه من
النبل والسهام ، قال : وجعلت بنو ضبة يأخذون بعر الجمل فيشمونه ويقول بعضهم لبعض : ألا ترون إلى بعر جمل أمنا كأنه المسك الأذفر .
وجعل الأشتر يجول في ميدان الحرب وينادي
بأعلى صوته : يا أنصار الجمل ! من يبارزني منكم ؟ قال : فبرز إليه عبد الله بن الزبير وهو يقول : إلى أين يا عدو الله ؟ فأنا أبارزك ! قال : فحمل عليه الأشتر فطعنه طعنة صرعه عن فرسه ، ثم بادر وقعد على صدره ، فجعل عبد الله بن الزبير ينادي من تحت الأشتر في يومه ذلك : إقتلوني ومالكاً واقتلوا مالكاً معي . وكان الأشتر في يومه صائماً وقد طوى من قبل ذلك بيومين فأدركه الضعف ، فأفلت عبد الله من يده وهو يظن أنه غير ناج منه ، وفي ذلك يقول :
أعائش لولا أنني كنت طاوياً
|
|
ثلاثاً لألفيت ابن أختك هالكاً
|
«
عقر الجمل »
قال : واحمرت الأرض بالدماء ، وعُقِر
الجمل من ورائه فعج ورغا ، فقال علي ( ع ) : عرقبوه فإنه شيطان . ثم التفت إلى محمد بن أبي بكر رضي الله عنه وقال له : انظر إذا عرقب الجمل فأدرك أختك فوارها ، قال : وبادر عبد الرحمن بن صرد التنوخي إلى سيفه ، فلم يزل يقاتل حتى وصل إلى الجمل فعرقبه من رجليه جميعاً فوقع الجمل لجنبه وضرب بجرانه الأرض ، ورغا رغاءً شديداً ، وبادر عمار بن ياسر فقطع أنساع الهودج بسيفه .
وأقبل علي ( ع ) على بغلة رسول الله ( ص
) فقرع الهودج برمحه ، ثم قال : يا عائشة ! أهكذا أمرك رسول الله ( ص ) أن تفعلي ؟ فقالت عائشة : قد ظفرتَ فأحسن . فقال علي رضي الله عنه لمحمد بن أبي بكر : شأنك بأختك فلا يدنو منها أحد سواك . فأدخل محمد يده إلى عائشة فاحتضنها ثم قال : أصابك شيء ؟ فقالت : لا ، ما أصابني شيء ، ولكن من أنت ويحك ! فقد مسست مني ما لا يحل لك ؟ فقال محمد : اسكتي فأنا أخوك محمد ، فعلتِ
بنفسك ما فعلتِ ،
وعصيتِ ربك وهتكت سترك وابحت حرمتكِ وتعرضت للقتل .
ثُم احتملها فأدخلها البصرة وأنزلها في
دار عبد الله بن خلف الخزاعي ، فقالت عائشة لأخيها : يا أخي ، أنشدك بالله إلا طلبت لي ابن أختك عبد الله بن الزبير ، فقال لها محمد : ولم تسألين عن عبد الله ؟ فوالله ما سامك أحد سواه ! فقالت عائشة : مهلاً يا أخي فإنه ابن أختك ، وقد كان ما ليس إلى رده سبيل ؛ فأقبل محمد إلى موضع المعركة فإذا هو بعبد الله بن الزبير جريحاً لما به ـ فقال له محمد : اجلس يا مشؤوم أهل بيته ، اجلس لا أجلسك الله ! قال : فجلس ابن الزبير وحمله محمد بين يديه وركب من خلفه ، وجعل يمسكه وهو يميل من الجراح التي به حتى أدخله على عائشة ، فلما نظرت إليه على تلك الحالة بكت ثم قالت لأخيها محمد ! يا أخي ! استأمن له علياً وتمم إحسانك ، فقال لها محمد : لا بارك الله لك فيه ! ثم سار إلى علي وسأله ذلك ، فقال علي : قد آمنته وأمنت جميع الناس .
«
بين ابن عباس وعائشة »
ودعا علي رضي الله عنه بعبد الله بن
عباس فقال له : اذهب إلى عائشة فقل لها أن ترتحل إلى المدينة كما جاءت ولا تقيم بالبصرة ، فأقبل إلى عائشة فاستأذن عليها ، فأبت أن تأذن له ، فدخل عبد الله بغير إذن ، ثم التفت فإذا راحلةٌ عليها وسائد فأخذ منها وسادةً وطرحها ثم جلس عليها ؛ فقالت عائشة ، يا بن عباس أخطأت السنة ، دخلت منزلي بغير إذني ! فقال ابن عباس : لو كنت في منزلك الذي خلفك فيه رسول الله ( ص ) لما دخلت عليك إلا بإذنك ، وذلك المنزل الذي أمرك الله عزَّ وجلّ أن تقري فيه فخرجت منه عاصيةً لله عزَّ وجلّ ولرسوله محمد ( ص ) وبعد ، فهذا أمير المؤمنين يأمرك بالإرتحال إلى المدينة فارتحلي ولا تعصي ، فقالت عائشة : رحم الله أمير المؤمنين ! ذاك عمر بن الخطاب ! فقال ابن عباس : وهذا والله أمير المؤمنين وإن رغمت له الأنوف وأربدت له الوجوه ! فقالت عائشة : أبيت ذلك عليكم يا
ابن عباس ! فقال ابن
عباس : لقد كانت أيامك قصيرة المدة ظاهرة الشؤم بيّنة النكد ، وما كنت في أيامك إلا كقدر حلب شاة حتى صرت ما تأخذين وما تعطين ولا تأمرين ولا تنهين ، وما كنت إلا كما قال أخو بني أسد :
ما زال إهداء القصائد بيننا
|
|
شتم الصديق وكثرة الألقاب
|
حتى تركت كأن قولك عندهم
|
|
في كل محتفل طنين ذباب
|
قال : فبكت عائشة بكاءً شديداً ، ثم
قالت : نعم والله أرحل عنكم فما خلق الله بلداً هو أبغض إلي من بلد أنتم به يا بني هاشم . فقال ابن عباس : ولمَ ذلك ؟ فوالله ما هذا بلاؤنا عندك يا بنت أبي بكر ! فقالت عائشة : وما بلاؤكم عندي يا بن عباس ؟ فقال : بلاؤنا عندك أننا جعلناك أم المؤمنين وأنت بنت أم رومان ، وجعلنا أباك صديقاً وهو ابن أبي قحافة ، وبنا سميت أم المؤمنين لا بتيم وعدي . فقالت عائشة : يا ابن عباس ! أتمنون علي برسول الله ( ص ) ؟ فقال : ولم لا نمن عليك برسول الله ( ص ) ولو كانت فيك شعرة منه أو ظفر لمننت علينا وعلى جميع العالمين بذلك ! بعد فإنما كنت تسع أحدى حشايا من حشاياه لست بأحسنهن وجهاً ولا بأكرمهن حسباً ، ولا بأرشحهن عرقاً ، وأنت الآن تريدين أن تقولي ولا تُعصين ، وتأمري ولا تخالفين ، ونحن لحم الرسول ( ص ) ودمه وفينا ميراثه وعلمه ، فقالت عائشة : يا ابن عباس ما باذل لك علي بن أبي طالب ؟ فقال ابن عباس : والله أقر له ، وهو أحق به مني وأولى ، لأنه أخوه وابن عمه ، وزوج الطاهرة إبنته وأبو سبطيه ، ومدينة علمه وكشاف الكرب عن وجهه ، وأما أنت ، فلا والله ما شكرت نعماءنا عليك وعلى أبيك من قبلك !
ثم خرج وسار إلى علي فأخبره بما جرى
بينه وبينها من الكلام .
« دخول علي ( ع ) على عائشة وما جرى بينهما من
الكلام »
فدعا علي ببغلة رسول الله ( ص ) ،
فاستوى عليها ، وأقبل إلى منزل عائشة ثم استأذن ودخل ، فإذا عائشة جالسة وحولها نسوة من نساء أهل البصرة
وهي تبكي وهن يبكين
معها ، قال : ونظرت صفية بنت الحارث الثقفية زوجة عبد الله بن خلف إلى علي ، فصاحت هي ومن كان معها هناك من النسوة وقلن بأجمعهن : يا قاتل الأحبة ، يا مفرق بين الجميع أيتم الله منك بنيك كما أيتمت ولد عبد الله بن خلف ! فنظر إليها علي فعرفها فقال : أما أني لا ألومك أن تبغضيني وقد قتلت جدك في يوم بدر ، وقتلت عمك يوم أحد ، وقتلت زوجك الآن ! ولو كنت قاتل الأحبة كما تقولين لقتلت من في هذا البيت ومن في هذه الدار ؟ وأقبل علي على عائشة فقال : ألا تنحين كلابك هؤلاء عني ، أما أنني قد هممت أن أفتح باب هذا البيت فأقتل من فيه ، وباب هذا البيت فأقتل من فيه ، ولولا حبي للعافية لأخرجتهم الساعة فضربت أعناقهم صبراً ، قال : فسكتت عائشة وسكتت النسوة فلم تنطق واحدة منهن .
ثم أقبل على عائشة فجعل يوبخها ويقول :
أمرك الله أن تقري في بيتك ، وتحتجبي بسترك ولا تبرحي ، فعصيته وخضت الدماء تقاتليني ظالمةً وتحرضين علي الناس ، وبنا شرفك الله وشرف أباءك من قبلك وسماك أم المؤمنين وضرب عليك الحجاب ، قومي الآن فارحلي واختفي في الموضع الذي خلفك فيه رسول الله ( ص ) إلى أن يأتيك فيه أجلك . ثم قام فخرج من عندها .
فلما كان من الغد بعث إليها ابنه الحسن
، فجاء فقال لها : يقول لك أمير المؤمنين ، أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ! لئن لم ترحلي الساعة لأبعثن عليك بما تعلمين ـ وكان عائشة قد ضفرت قرنها الأيمن وهي تريد أن تضفر الأيسر ـ فلما قال لها الحسن ذلك وثبت من ساعتها وقالت : رحلوني ! فقالت لها امرأة من المهالبة : يا أم المؤمنين ! جاءك عبد الله بن عباس فسمعناك وأنت تجاوبيه حتى علا صوتك ثم خرج من عندك وهو مغضب ، ثم جاءك الآن هذا الغلام برسالة أبيه فأقلقك ، وقد كان أبوه جاءك فلم نر منك هذا القلق والجزع !
فقالت عائشة ، إنما أقلقني لأنه ابن بنت
رسول الله ( ص ) فمن أحب
أن ينظر إلى رسول
الله ( ص ) فلينظر إلى هذا الغلام ، وبعد ، فقد بعث إلي أبوه بما قد علمت ، ولا بد من الرحيل . فقالت لها المرأة : سألتك بالله وبمحمد ( ص ) إلا أخبرتني بماذا بعث إليك علي رضي الله عنه . فقالت عائشة رضي الله عنها : ويحك ! إن رسول الله ( ص ) أصاب من مغازيه نفلاً فجعل يقسم ذلك في أصحابه ، فسألناه أن يعطينا منه شيئاً وألححنا عليه في ذلك ، فلامنا علي رضي الله عنه وقال : حسبكن فقد أضجرتن رسول الله ( ص ) فتجهمناه وأغلظنا له في القول ، فقال : « عَسَىٰ رَبُّهُ
إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ
» فأغلظنا له أيضاً في القول وتجهمناه . فغضب النبي ( ص ) من ذلك وما استقبلنا به علياً ، فأقبل عليه ثم قال :
يا علي إني قد جعلت طلاقهن إليك ، فمن
طلقتها منهن فهي بائنة ، ولم يوقت النبي ( ص ) في ذلك وقتاً في حياةٍ ولا موت ! فهي تلك الكلمة ، وأخاف أن أبين من رسول الله ( ص ) .
« إنصراف عائشة إلى المدينة »
ثم دعا علي رضي الله عنه بنسوةٍ من نساء
أهل البصرة فأمرهن أن يخرجن مع عائشة إلى المدينة ، فرحلت عائشة من البصرة في تلك النسوة ، وقد كان علي رضي الله عنه أوصاهن وأمرهن أن يتزيين بزي الرجال ، عليهن العمائم ، فجعلت عائشة تقول في طريقها : فعل بي علي وفعل ، ثم وجّه معي رجالاً يردوني إلى المدينة ! قال : فسمعتها امرأة منهن فحركت بعيرها حتى دنت منها ثم قالت : ويحك يا عائشة أما كفاك ما فعلتِ حتى أنك الآن تقولين في أبي الحسن ما تقولين ! ثم تقدمت النسوة وسفرن عن وجوههن ، فاسترجعت عائشة واستغفرت وقالت : هذا ما لقيت من ابن أبي طالب .
ثم دخلت عائشة المدينة وصارت إلى منزلها
نادمةً على ما كان منها ، وانصرفت النسوة إلى منازلهن بالبصرة .
وكانت عائشة إذا ذكرت يوم الجمل تبكي
لذلك بكاءً شديداً ثم تقول :
يا ليتني لم أشهد ذلك
المشهد ! يا ليتني مت قبل هذا بعشرين سنة . ثم قالت عائشة : ولو لم أشهد الجمل لكان أحب إليّ من أن أيكون لي من رسول الله ( ص ) مثل ولد عبد الرحمن بن الحارث ، فإنه كان له عشرة أولاد ذكور كل يركب .
ونظر رجل من بني تميم إلى عبد الرحمن بن
صرد التنوخي عاقر الجمل ، فقال له : أنت الذي عرقبت الجمل يوم البصرة ؟ فقال التنوخي : أنا والله ذلك الرجل ! ولو لم أعرقبه لما بقي من أصحاب عائشة ذلك اليوم مخبر ، فإن شئت فاغضب ، وإن شئت فارض ، ثم أنشأ يقول شعراً :
عقرت ولم أعقر بها لهوانها
|
|
علي ولكني رأيت المهالكا
|
وما زالت الحرب العوان يحثها
|
|
بنوها بها حتى هوى العود باركا
|
وأقام علي ( ع ) بالبصرة بعد حرب الجمل
أياماً قلائل ، فلما أراد الرحيل عنها نصب في عسكره منبراً ، ثم نادى في الناس فجمعهم ، وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ( ص ) وذكر من أمر القوم ما ذكر .
فوثب إليه المنذر بن الجاورد العبدي ،
فسأل عن أمر الفتن وغيرها فأخذ علي في ذلك يخبره من يومه ذلك إلى أن تقوم الساعة ، فذكر الفتن في مدينةٍ مدينة وكيف تخرب ومن يتولى خرابها إلخ . . . ثم قال في آخر كلامه : يا منذر إنه لن تقوم الساعة إلا على أشرار خلق ربك ، وذلك في أول يوم من المحرم يوم الجمعة فافهم عني يا منذر ما نبأتك به ولم أكتمه عن غيرك والله ولي الإحسان . اللهم صل على سيدنا محمدٍ الكريم في الحسب الرفيع في النسب سليل عبد المطلب وسيد العجم والعرب وسلم تسليماً كثيراً ، ثم نزل عن المنبر وأمر أصحابه بالرحيل وانصرف إلى الكوفة مؤيداً منصوراً .
حرب صفين . . المحنة
الكبرى
إن حرب الجمل بالرغم من شراستها وما تركت
من مآسٍ وآلام في نفوس المسلمين ، تبقى المحنة الأقل والأهون بالقياس لما حدث بعدها من حروب ، لا سيما حرب « صفين » التي استهدفت أكبر قوةٍ بشرية وعسكرية ومادية على الساحة الإِسلامية في ذلك الوقت ، وامعنت فيها نزفاً وتمزيقاً .
إنها في الحقيقة محنة المسلمين الكبرى
التي واجهها أمير المؤمنين عليّ ( ع ) بصبر وشجاعة عظيمين ، شأنه في ذلك شأن الأوصياء الذين يجهدون في إقامة العدل على الأرض وتثبيت شريعة السماء مهما كلف الأمر ، متوخياً من وراء ذلك رضا الله سبحانه وحده ، والبعد عن الذات ودوافعها الشخصية .
إن الإِنسان المتبصر لا يتردد في القول
أن علياً ( ع ) كان بإمكانه أن يعيش عيش الأمراء ـ على الأقل ـ منذ وفاة الرسول ( ص ) حتى استشهاده ، فلا أحد من المسلمين يستطيع إنكار فضله وسمو مكانه ، وما قدم في ميادين الجهاد ، والذين خلفوا الرسول حتى عهد عثمان لا يترددون في هذه المقولة لو شاء أو أراد ، ولم يؤثر عنده ( ع ) البتة أنه طالب يوماً من الأيام بشيءٍ من حطام هذه الدنيا الزائلة ، اللهم إلا ما كان من أمر « فدك » التي طالب بها
على أنها حق من حقوق « فاطمة الزهراء » نحلةً أو ميراثاً من أبيها ( ص ) وما ذلك منه إلا احدى دعواته لإقامة الحق ورفع الظلم أياً كان المظلوم .
نعم ، طالب منذ اليوم الأول بالخلافة
معتبراً إياها حقاً مشروعاً له ، واعتبرها معظم قدماء الصحابة من المهاجرين والأنصار حقاً مشروعاً كذلك
. ومهما يكن الأمر فلم تكن مطالبته بها هدفاً دنيوياً ـ كما يتوهم البعض ـ بل محض واسطةٍ لتثبيت دعائم شريعة الله ، يبدو ذلك واضحاً جلياً من خلال خطبه ومواعظه التي وردت في كتب المؤرخين وفي نهج البلاغة ، كما يتضح ذلك أكثر خلال فترة حكمه وما جرى له مع الولاة الذين سبقوا عصر خلافته .
لقد كان علي ( ع ) منذ اليوم الأول
لوفاة الرسول ( ص ) يراقب الأمور عن كثب مراقبة المسؤول الحريص على سلامة المسلمين ووحدتهم وكان الأهم عنده سلامة تطبيق مبادىء الإِسلام وشرائعه . . حتى جاء عهد عثمان ، فكان الإِنحراف وكان الإِلتواء ، كانا ماثلين أمام عينيه بشكل صارخ من جراء بعض الممارسات الشاذة التي قام بها بعض الولاة والأمراء ممن سبقوا عصر سلطته ـ كما قرأت .
لذلك وجدناه يصرّح في أكثر من مناسبة :
بأنه سيجهد في إقامة العدل وتثبيته على الأرض بكل ما أوتي من قوة ومهما كانت النتائج وكان الثمن ، ومن ذلك قوله ( ع ) : « وسأجهد في أن أطهر الأرض من هذا الشخص المعكوس والجسم المركوس ، حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد »
.
كما وجدناه أيضاً عمد إلى استبدال
الرموز المتسلطة في الدولة بآخرين ممن استقامت الروح الإِسلامية في عقولهم وسلوكهم ، ثم بعد ذلك أوعز
__________________
بإرجاع القطائع
والأموال التي اقطعها عثمان لبعض ولاته وأقربائه وجعلها في بيت مال المسلمين ، وكان يقول في ذلك : « والله لو وجدته قد تُزوّجَ به النساءُ ، ومُلِك به الإِماءُ لرددته فإن في العدل سعةٌ ، ومن ضاق عليه العدلُ فالجورُ عليه أضيق » .
وكان ( ع ) في سياسته أمور الناس أبعد
ما يكون عن الدهاء ، الذي يعتبره ضرباً من ضروب المكر الذي ينتهي بصاحبه إلى الغدر ، فكان صريحاً واضحاً في مواقفه ، كاشفاً لحقائق الأمور بدون خوف ولا وجل ، متوخياً بذلك رضا الله سبحانه ، غير عابىءٍ بما ينتج عن ذلك من مضاعفات على الأرض قد تؤدي إلى خسارته وانكماش سلطانه ، وهو ( ع ) هو الذي يرى الدنيا عنده أزهد وأحقر من نعلٍ بالٍ إلا أن يقيم حقاً أو يدفع باطلاً .
لذلك ، كان البعض يظن أن معاوية تغلب في
مواقفه بدهائه ومكره ، وأن علياً كان يفتقر إلى ذلك في سياسة الأمور ، ومنهم المغيرة بن شعبة الذي أشار على علي ( ع ) أن يقر معاوية على الشام حتى تستقيم له الأمور ، ثم بعد ذلك يرى رأيه فيه ، وكان جواب علي ( ع ) « ما كان الله ليراني متخذ المضلين عضدا » .
وفي هذا المضمار يقول علي ( ع ) : «
والله ما معاوية بأدهى مني ، ولكنه يغدر ويفجر ، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس ؛ ولكن كل غدرة فجرة ، وكل فجرةٍ كفرةٌ ، ولكل غادرٍ لواءٌ يعرف به يوم القيامة . والله ما أُستغفَلُ بالمكيدة ، ولا أستغمزُ بالشديدة »
.
ومن طبيعة أرباب السياسة الفاجرة ، أن
يجوروا في أحكامهم ضد الغير ، لا سيما حين يجدون أنفسهم في موقع صعب ينذر بإنهيارهم وسقوطهم ، ويجدون في ذلك الغير الذي هو خصم لهم القوةَ والكفاءة
__________________
للحكم ، فنراهم في
هذا الحال ينسبون له جريمةً هو أبعد الناس عنها طمعاً منهم في إضعافه ولوي رقاب الناس عنه ، وتبريراً منهم لشن الحرب ضده أمام أعين الناس كي تخلو الساحة لهم ، وبذلك يستطيعون تنفيذ أطماعهم ومآربهم .
إن هذا اللون من السياسة الظالمة استعمل
من الأمويين حيال علي ( ع ) إبان خلافته ، فانه بعد مقتل عثمان انصبت التهمة بقتله منهم على علي ، ومرجع ذلك في رأيي إلى أمرين :
الأول
: هو الخوف من سيطرة مبادىء علي والعودة
بهم إلى ما قبل الخلافة والإِمارة وبذلك يخسرون كل شيء ، بالإِضافة للخسارة الفعلية التي واجهوها في أمور دنياهم .
الثاني
: ضياع دم عثمان بين المسلمين ، وبذلك
يضيع ما بناه الأمويون خلال عشرين سنة ، وكفى به إذلالاً لهم .
والحق ، أن علياً كان أبعد ما يكون عن
قدر محجمةٍ من دم عثمان ، بل هو على العكس من ذلك ، فلقد جهد بكل ما أوتي من قوة في إبعاد المسلمين عن الفتنة ، وردء القتل عنه ، وهو القائل لابن عباس حين أتاه برسالةٍ من عثمان وهو محصور يسأله فيها الخروج إلى ينبع :
يا بن عباس ، ما يريد عثمان إلا أن
يجعلني جملاً ناضحاً بالغرب ، أقبل وأدبر ! بعث إليَّ أن أخرج . ثم بعث إلي أن أقدم ، ثم هو الآن يبعث إلي أن أخرج والله لقد دفعتُ عنه حتى خشيت أن أكون آثماً
! .
وهو في الوقت ذاته ليس جندياً من أجناد
السلطة الأموية حتى يكون ملزماً بالدفاع عن مصالحهم الشخصية التي تكرس لهم الحكم والسلطة لا أكثر ، بل إن المسلمين لا يرضون له ذلك مطلقاً ، فموقع علي ( ع ) في نفوسهم منذ عهد الرسول له ميزات لا يمكن تخطيها بسهولة .
__________________
ومع ذلك ، فقد أوعز إلى ولديه الحسن
والحسين عليهما السلام أن يكونا في جملة المدافعين عنه .
هذا كله ، بالإِضافة إلى أنه ( ع ) لم
يكن يملك القوة الضاربة ليمنع حصول ما وقع بل كان مكفوف اليد تماماً ، وحتى بعد مبايعته بالخلافة طولب من قبل بعض الصحابة بمعاقبة من أجلب على عثمان ، فقال :
« يا اخوتاه ، اني لست أجهل ما تعلمون ،
ولكن كيف لي بقوةٍ والقوم المجلبون على حدّ شوكتهم ، يملكوننا ولا نملكهم ! وها هم أولاء قد ثارت معهم عبدانكم ، والتفت إليهم أعرابكم ، وهم خلالكم يسومونكم ما شاؤوا ، وهل ترون موضعاً لقدرةٍ على شيء تريدونه ! »
.
ومن الممكن القول أن علياً ( ع ) حينما
يتخذ موقفاً من قضيةٍ ما ، فانه إنما يتعامل معها من موقع الإِمام المعصوم العادل ، وبذلك لا يكون بحاجةٍ إلى محامٍ أو مدافع يبرر له مواقفه وقراراته .
بعد هذا العرض المبسط يمكننا أن نستخلص
الأسباب التي دفعت بطلحة والزبير إلى إخراج عائشة أم المؤمنين والتمرد على خلافة علي ( ع ) وتجييش الناس عليه ، وانتهاء الأمر بحرب « الجمل » التي قدمنا ذكرها والتي انتهت بنصره ( ع ) ، فان الدوافع لهم على ذلك كانت محض شخصية تتحكم فيها الأنانية والرغبة في الحكم .
كما تتضح لنا أسباب حرب « صفين » التي
انتهت بالتحكيم . هذه الحرب المدمرة التي شنها معاوية ومن معه من الأمويين وأتباعهم ضد علي وضد خلافته وضد من كانوا معه من المهاجرين والأنصار .
فالمعلوم الواضح أن معاوية كان أحد
الرموز التي أصر الإِمام على
__________________
استبدالها إنطلاقاً
من نهجه الجديد الذي سار عليه بعد استخلافه ؛ والسبب في ذلك أنه ليس من ذوي السابقة في الدين والصحبة ، بل هو أحد الطلقاء يوم الفتح ومثله لا يكون حاكماً على المسلمين ، هذا بالإِضافة إلى السياسة التي انتهجها معاوية في حكمه بلاد الشام والتي تشبه إلى حدٍ بعيد سياسة الملوك والأباطرة من الاستئثار بالفيء والإِغداق على المقربين ، والإِساءة إلى بعض الصحابة ، كأبي ذر الغفاري رضي الله عنه ، والتلويح بالترهيب والترغيب بشكل دقيق ومركز .
لقد كان هذا الإِجراء من علي ( ع ) في
حق معاوية بمثابة صدمةٍ قويةٍ له ، فكان عليه أن يتأهب ويستعد للمواجهة .
وكان معاوية بسياسته تلك قد استطاع أن
يرسخ قدميه على بلاد الشام منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب ، حتى عهد عثمان الذي زاد في سلطانه بأن ضم إليه فلسطين وحمص والجزيرة ، واستطاع أيضاً أن يستغل سذاجة الناس وبساطتهم وعفويتهم ، فنجح في تجميع قبائل أُفرزت من أقاليم عدة كانت بعيدةً عن روح الإِسلام ، وعمد إلى ذوي النفوذ من القادة والزعماء ، وزاد في تقريبهم والإِغداق عليهم بعد أن شحذ أذهانهم وأنفسهم بضرورة الأخذ بثأر الخليفة المظلوم عثمان !
وراح هؤلاء بدورهم ينشرون ذلك في الآفاق
وفيمن هم تحت سلطانهم ، حتى تم له بذلك تجميع جيش كثيف لمواجهة علي ، وكأن علياً هو المسؤول عن قتل الخليفة ! .
لقد كانت هذه الخطة أفضل وسيلةٍ للإِنتقام
من علي ومبادئه في عرفِ الأمويين وأتباعهم ، وان كان طلحة والزبير قد فشلا في خطتهما ، فربما حالف الحظ معاوية ، من يدري ؟
هكذا أراد معاوية ، أراد القضاء على
بقية الله في أرضه ، أو الشام ! ملكاً طلقاً يتوهج بمفاتن الدنيا وبهارج الحياة عله يستطيع بذلك أن يستر دفائن
نفسه وأطماعها عن
كثير ممن عميت عيونهم عن الحقيقة . . تلك الدفائن التي أفرغتها فيه سيوف المسلمين في بدرٍ وأحد والخندق حتى الفتح . وتلك الأطماع التي ورثها عمن كان قبله فعاشت وأمرعت حتى أفرخت حرباً ظالمة ، قطف ثمارها فيما بعد ملكاً أوسع من ملك كسرى وقيصر !
إنها حرب صفين ! وسوف تقرأ فيما يلي
ظروفها وملابساتها ، ولا ننسى دور عمار بن ياسر فيها فلقد كان شاهد الحق مع علي ، كما كان شهيدُها .
عودة علي إلى الكوفة
بعد انتهاء وقعة الجمل قدم علي ( ع )
الكوفة في شهر رجب سنة ٣٦ هـ ، فدخلها ومعه أشراف الناس من أهل البصرة وغيرهم ، فاستقبله أهل الكوفة وفيهم قراؤهم وأشرافهم ، فدعوا له بالبركة وقالوا : يا أمير المؤمنين ، أين تنزل ؟ أتنزل القصر ؟ قال : لا ، ولكني أنزل الرْحَبة ، فنزلها وأقبل حتى دخل المسجد الأعظم فصلى فيه ركعتين ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ، ثم قال :
أما بعد يا أهل الكوفة ، فإنّ لكم في الإِسلام
فضلاً ما لم تبدّلوا وتغيّروا ، دعوتُكم إلى الحق فأجبتم ، وبدأتم بالمنكر فغيرتم ، إلا أن فضلكم فيما بينكم وبين الله ، فأما في الأحكام والقسم فأنتم أسوة غيركم ممن أجابكم ودخل فيما دخلتم فيه .
ألا إن أخوفَ ما أخافُ عليكم اتّبَاعَ
الهوىٰ وطولَ الأمل ، أما اتّباعُ
__________________
الهوى فيصدّ عن الحق
، وأما طولُ الأمل فينسي الآخرة ؛ ألا ان الدنيا قد تَرحّلَتْ مدبرة وان الآخرة قد ترحّلَتْ مقبلة ، ولكل واحدةٍ منهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة اليومَ عملٌ ولا حساب ! غداً حسابٌ ولا عمل ؛ الحمد لله الذي نصر وليه ، وخذل عدوه ، وأعزّ الصادق المحق ، وأذل الناكث المبطل .
عليكم بتقوى الله وطاعة من أطاع الله من
أهل بيت نبيكم الذين هم أولى بطاعتكم فيما أطاعوا الله فيه من المستحلّين المدّعين المقابلين إلينا ، يتفضلون بفضلنا ويجاحدوننا أمرنا ، وينازعوننا حقنا ، ويباعدوننا عنه ، فقد ذاقوا وبال ما اجترحوا فسوف يلقون غِيّاً ، ألا أنه قد قعد عن نصرتي رجال منكم ، وأنا عليهم عاتب زارٍ فاهجروهم وأسمعوهم ما يكرهون حتى يعتبوا ليُعرفَ بذلك حزب الله عند الفرقة .
فقام إليه مالك بن حبيب اليربوعي ـ وكان
صاحبَ شرطته ـ فقال : والله إني لأرى الهجر وسماع المكروه لهم قليلاً ، والله لو أمرتنا لنقتلنهم . فقال علي ( ع ) : سبحان الله يا مالكِ جُزت المدىٰ وعدوت الحدّ فأغرقت في النزع . فقال : يا أمير المؤمنين ، لبعضُ الغشم أبلغ في أمرٍ ينوبك من مهادنة الأعادي ؟ فقال ( ع ) : ليس هكذا قضى الله يا مالكِ ، قال سبحانه : ( النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) فما بال ذكر الغشم ؟ وقال تعالى : (
وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ) . والإِسراف في القتل أن تقتل غير قاتلك ، فقد نهى الله عنه ، وذاك هو الغشم .
فقام إليه أبو بردة بن عوف الأزدي ـ
وكان ممن تخلّف عنه ـ فقال : يا أمير المؤمنين ؛ أرأيت القتلىٰ حول عائشةَ وطلحةَ والزبير ، علامَ قُتلوا ؟
أو قال : بمَ قُتلوا ؟
فقال ( ع ) : قُتلوا بما قَتلوا شيعتي
وعمالي ، وقتلوا أخا ربيعة العبدي في عصابةٍ من المسلمين قالوا إنا لا ننكث كما نكثتم ولا نغدر كما غدرتم فوثبوا
عليهم فقتلوهم . فسألتهم
أن يدفعوا لي قَتَلةَ إخواني أقتلهم بهم ثم كتاب الله حكم بيني وبينهم فأبوا عليّ وقاتلوني وفي أعناقهم بيعتي ودماءُ قريبٍ من ألف رجل من شيعتي ، فقتلتهم أفي شك أنت من ذلك ؟ فقال : قد كنت في شك ، فأما الآن فقد عرفت ، واستبان لي خطأ القوم ، وانك المهتدي المصيب .
ثم إن علياً ( ع ) تهيأ لينزل ، وقام
رجال ليتكلموا ، فلما رأوه نزل جلسوا وسكتوا .
ونزل بالكوفة على جعدةَ بن هبيرة
المخزومي وهو ابن أخته أم هاني . ودخل المسجد فصلى ثم تحول فجلس إليه الناس . فسأل عن رجل من الصحابة كان نزل الكوفة فقال قائل : استأثر الله به . فقال علي ( ع ) : إن الله تبارك وتعالى لا يستأثر بأحدٍ من خلقه ، إنما أراد الله جل ذكره بالموت اعزاز نفسه واذلال خلقه ، وقرأ قوله تعالى : ( كُنتُمْ أَمْوَاتًا
فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ )
.
ولما لحق به ( ع ) ثقَلُه قالوا : أننزل
القصر ؟ فقال ( ع ) : قصر الخبال
لا تنزلوا فيه . ومكث ( ع ) في الكوفة ، فقال شن بن عبد القيس :
قل لهذا الإِمام قد خبتَ الحر
|
|
بُ وتمّت بذلك النعماءُ
|
وفرغنا من حرب من نقض العهدَ وبالشام
حيّة صمّاءً
|
تنفث السم ما لمن نهشته
|
|
فارمها قبل أن تعض شفاءُ
|
إنه والذي يحجُ له الناس
|
|
ومن دون بيته البيداء
|
لضعيف النخاع إن رمي اليوم
|
|
بخيلٍ كأنها أشلاء
|
تتبارى بكل أصيد كالفحل
|
|
بكفّيه صُعْدةٌ سمراء
|
إن تذره فما معاوية الدهر
|
|
بمعطيك ما أراك تشاءُ
|
ولنَيْلُ السماء أقرب من ذاك
|
|
ونجم العيّوق والعوّاءُ
|
__________________
فاعدُ بالحد والحديد إليهم
|
|
ليس والله غير ذاك دواء
|
وخطب علي ( ع ) الناس في يوم الجمعة ،
فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله :
أوصيكم بتقوى الله فان تقوى الله خيرَ
ما تواصىٰ به عبادُ الله وأقربَه إلى رضوان الله وخيرَه في عواقب الأمور عند الله ، وبتقوى الله أمرتم ، وللإِحسان والطاعة خلقتم ، فاحذروا من الله ما حذّركم من نفسه فانه حذّر بأساً شديداً ، واخشوا خشيةً ليست بتعذير ، واعملوا في غير رياءٍ ولا سُمْعة ، فانه من عمل لغير الله وكَلَهُ الله إلى ما عمل له ومن عمل لله مخلِصاً تولَّى الله أجره ، اشفقوا
من عذاب الله فانه لم يخلقكم عبثاً ولم يترك شيئاً من أمركم سدى ، قد سمى أثاركم وعلم أعمالكم وكتب أجالكم ، فلا تغتروا بالدنيا فانها غرّارةٌ لأهلها ، مغرورٌ من اغتر بها ، وإلى فناءٍ ما هي ، وان الآخرة هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون ، اسأل الله منازل الشهداء ومرافقة الأنبياء ، ومعيشة السعداء فإنما نحن به وله .
ثم استعمل علي ( ع ) العمّال وفرقهم في
البلاد واستعد لمواجهة معاوية وأهل الشام
.
عليٌّ يدعو معاوية إلى البيعة
أقبل جرير بن عبد الله البجلي إلى علي (
ع ) فقال له : ابعثني يا أمير المؤمنين إليه ـ يعني معاوية ـ فانه لم يزل لي مستخصاً ووُدّاً ، آتيه فأدعوه على أن يسلم لك هذا الأمر ويجتمع معك على الحق على أن يكون أميراً من أمرائك وعاملاً من عمّالك ما عمل بطاعة الله واتبع ما في كتاب الله ، وأدعو أهل الشام إلى طاعتك وولايتك ، فجلّهم قومي وأهل بلادي ، وقد رجوت ألّا يعصوني .
فبعثه علي ( ع ) وقال له : إن حولي من
أصحاب رسول الله ( ص ) من
__________________
أهل الرأي والدين من
قد رأيت ، وقد اخترتك عليهم لقول رسول الله ( ص ) فيك « إنك من خير ذي يمن » إئت معاوية بكتابي ، فان دخل فيما دخل فيه المسلمون ، وإلا فانبذ إليه ، وأعلمه أني لا أرضى به أميراً ، وان العامة لا ترضى به خليفة .
فانطلق جرير حتى أتى الشام ، ونزل
بمعاوية ، فلما دخل عليه حمد الله وأثنى عليه وقال : أما بعد يا معاوية فانه قد اجتمع لابن عمك أهل الحرمين وأهل المصرين ، وأهل الحجاز وأهل اليمن وأهل مصر ، وأهل العروض ـ عُمان ـ وأهل البحرين واليمامة ، فلم يبق إلا هذه الحصون التي أنت فيها ولو سال عليها سيل من أوديته لأغرقها ، وقد أتيتك أدعوك إلى ما يرشدك ويهديك إلى مبايعة هذا الرجل ، ثم دفع إليه كتاب علي ( ع ) وفيه :
كتاب
علي لمعاوية
أما بعد : فان بيعتي بالمدينة لزمتكَ
وأنتَ بالشام لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمرَ وعثمانَ على ما بُويعوا عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يرد ، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار إذا اجتمعوا على رجل فسمّوْهُ إماماً ، كان ذلك لله رضاً ، فان خرج من أمرهم خارج بطعنٍ أو رغبةٍ ، رَدّوه إلى ما خرج منه فان أبى ، قاتلوه على إتباع سبيل المؤمنين وولّاه الله ما تولّى ويصليه جهنم وساءت مصيرا ، وان طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي فكان نقضهما كرِدّتِهما ، فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ، فادخل فيما دخل فيه المسلمون فان أحب الأمور إلي فيك العافية إلا أن تتعرض للبلاء ، فان تعرضت له قاتلتك واستعنت بالله عليك .
وقد أكثرت الكلام في قتلة عثمان ، فأدخل
فيما دخل فيه الناس ، ثم حاكم القوم إليّ أحملك وإياهم على كتاب الله ، فأما تلك التي تريدها فخدعةُ الصبيّ عن اللبن ، ولعمري لئن نظرتَ بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان .
وأعلم أنك من الطلقاء الذين لا يحل لهم
الخلافة ، ولا تُعرض عليهم الشورى ، وقد أرسلت إليك وإلى من قبلك جرير بن عبد الله البجلي وهو من أهل الإِيمان والهجرة ، فبايع ولا قوة إلا بالله
.
أما جرير ، فانه بعد أن سلم معاوية
الكتاب وقرأه ، قام خطيباً فقال في جملة ما قال :
أيها الناس ، إن أمر عثمان قد أعيا من
شهده فكيف بمن غاب عنه ، وان الناس بايعوا علياً غير واتر ولا موتور ، وكان طلحة والزبير ممن بايعاه ثم نكثا بيعته على غير حدث .
ألا وان هذا الدين لا يحتمل الفتن ، وقد
كانت بالبصرة أمس روعة ملحمةٍ إن يشفع البلاء بمثلها فلا بقاء للناس ، وقد بايعت الأمة علياً ، ولو ملكنا والله الأمور لم نختر لها غيره ، ومن خالف هذا استعتب ، فادخل يا معاوية فيما دخل فيه الناس .
فان قلت استعملني عثمان ثم لم يعزلني ،
فان هذا قول لو جاز لم يقم لله دين وكان لكل امرىءٍ ما في يديه ، ولكن الله جعل للآخر من الولاة حق الأول ، وجعل الأمور موطأةً ينسخ بعضها بعضاً .
فقال معاوية : انظرُ وتنظر ، واستطلع
رأي أهل الشام .
معاوية يشاور أهل الشام
وبعد أيام أمر معاوية مناديه فنادى ،
الصلاة جامعة ، فلما اجتمع الناس صعد المنبر ثم خطب خطبة جاء في آخرها : أيها الناس ، قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وخليفة أمير المؤمنين عثمان بن عفان عليكم ، واني لم أقم رجلاً منكم على خزايةٍ قط ، واني وليُّ عثمان ، وقد قُتل مظلوماً ، والله تعالى يقول : ( وَمَن قُتِلَ
مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا
__________________
فَلَا
يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا ) . وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان ؟
فقام أهل الشام بأجمعهم فأجابوا إلى
الطلب بدم عثمان وبايعوه على ذلك ، واوثقوا له على أن يبذلوا بين يديه أموالهم وأنفسهم حتى يدركوا بثأره أو تلتحق أرواحهم بالله .
وغني عن التفسير ما يحمل هذا الأسلوب من
مغالطات لا تنطلي إلا على السذج والبسطاء من الناس ، فمتى كان معاوية هو ولي عثمان ، سيما مع وجود الولي الشرعي أعني الخليفة المفترض الطاعة ، وهو الإِمام علي ( ع ) ، فان علياً هو الولي ـ بعد خلافته ـ ومن حقه هو فقط الطلب بدم عثمان وله السلطة المطلقة في ذلك طبقاً للموازين والأعراف الدينية والشرعية .
ولو تنازلنا وسلمنا بأن معاوية هو ولي
عثمان ، فما علاقة علي بدم عثمان ، ولماذا يكون هو المستهدف بالثأر ؟ لكنها السياسة الفاجرة التي تلصق الجريمة بابعد الناس عنها !!
لكن معاوية حين أمسى واختلى بأهله ،
اغتم وذهبت به الفكر بعيداً ، فبالأمس كان طلحة والزبير قد دفعا ثمن نكثهما بيعة علي غالياً ، وها هي الحواضر الإِسلامية برمتها تفتح ذراعيها لعلي ، ما عدا الشام . ترى ماذا يفعل ؟ أيستسلم للأمر الواقع فيبايع وينتهي كل شيء وتنتهي أحلامه الكبار ؟ أم أنه يقاوم بقميص عثمان وأنامل نائلة ، يستثير بهما عواطف البسطاء من الناس ؟ . .
إختار الثانية . . اختارها متأرجحةً بين
خطر الموت والقتل بسيف علي ، وبين مجد السلطان وانبساط الدنيا وزهو الملك إذا قدر لعلي أن يخسر الحرب أو على الأقل أن لا يكون هنالك لا غالب ولا مغلوب .
أما أن علياً صاحب الحق وأن الخلافة
لازمه الطبيعي والأخلاقي والشرعي ، فهذا مما لا يحرك في ضمير معاوية شيئاً . وان شئت فقل :
استولت الدنيا على
شعوره وتفكيره وأخذت بمجامع قلبه فلم يكن للآخرة عنده نصيب ، لذلك جعل يردد هذه الأبيات :
تطاول ليلي واعترتني وساوسي
|
|
لآتٍ أتى بالترهات البسابس
|
أتاني جرير والحوادث جَمّة
|
|
بتلك التي فيها اجتداع المعاطسِ
|
أكايده والسيف بيني وبينه
|
|
ولست لأثواب الدنيء بلابس
|
إن الشامُ أعطت طاعة يمنيةً
|
|
تواصفها أشياخها في المجالس
|
فان يفعلوا أصدم علياً بجبهةٍ
|
|
تفت عليها كل رطب ويابس
|
واني لأرجو خير ما نال نائل
|
|
وما أنا من ملك العراق بآيس
|
ثم إن جريراً جعل يستحث معاوية بالبيعة
لعلي ( ع ) ، فقال له معاوية : يا جرير ، أنها ليست بخلسة وأنه أمر له ما بعده ، فابلعني ريقي حتى أنظر .
وكان بإمكان معاوية أن يرفض البيعة حين
جاءه جرير بكتاب علي وليكن ما يكون ولكنه في الفترة التي كان يكايد فيها جريراً ويوهمه أنه ينظر في الأمر ، كان قد بدأ بتجميع القوى الشامية وتكريسها لصالحه وتأهيلها للحرب وكأنه بذلك يرد على كتاب علي بأنه والشام على أهبة الاستعداد لمواجهته عسكرياً ، لذلك دعا قادة الجند وزعماء القبائل ممن يثق بهم للإِستشارة ، فأشار عليه أخوه عتبة بن أبي سفيان بعمرو بن العاص ، وقال له إنه من قد عرفت ، وقد اعتزل عثمان في حياته ، وهو لأمرك أشد إعتزالاً إلا أن يثمن له دينه .
معاوية
يستعين بعمرو بن العاص وشرحبيل
فاستدعى معاوية عمراً ، فاشترط عليه
ولاية مصر . ثم استقدم شُرَحْبيل بن السمط ، رئيس اليمنية وشيخها والمقدم عليها ، ودسَّ إليه الرجال يغرونه بعلي ( ع ) ، ويشهدون عنده أنه قتل عثمان حتى ملأوا صدره وقلبه
__________________
حقداً وتِرةً واحنةً
على علي ( ع ) وأصحابه .
قال له معاوية : يا شُرَحْبيل ، علي خير
الناس لولا أنه قتل عثمان بن عفان ، وقد حبست نفسي عليك وإنما أنا رجل من أهل الشام أرضى ما رضوا وأكره ما كرهوا .
فقال شرحبيل : أخرج فانظر .
فخرج شرحبيل ، فلقيه أولئك النفر
الموطئون له ، فكلهم يخبره بأن علياً قتل عثمان بن عفان ، فخرج مغضباً إلى معاوية فقال : يا معاوية ، أبى الناس إلا أن علياً قتل عثمان ، والله لئن بايعت لنخرجنّك من الشام أو لنقتلنك .
قال معاوية : ما كنت لاخالف عليكم ، وما
أنا إلا رجل من أهل الشام . قال : فرد هذا الرجل ـ يعني جريراً ـ إلى صاحبه ! فعرف معاوية أن شرحبيلاً قد نفذت بصيرته في حرب أهل العراق ، وأن الشام كله مع شرحبيل . فأتى حُصَيْنَ بن نمير فقال : ابعث إلى جرير فليأتنا ، فبعث حصين بن نمير إلى جرير أن زرنا فعندنا شرحبيل ، فاجتمعا عند حصين ، فتكلم شرحبيل فقال :
يا جرير ، أتيتنا بأمرٍ مُلفّفْ لتلقينا
في لهوات الأسد ، وأردت أن تخلط الشام بالعراق ، وأطريت علياً وهو قاتل عثمان والله سائلك عما قلت يوم القيامة .
فقال له جرير : أما قولك اني جئت بأمر
ملفف فكيف يكون كذلك وقد اجتمع عليه المهاجرون والأنصار ! وقوتل على رده طلحة والزبير !؟ وأما قولك إني القيك في لهوات الأسد ، ففي لهواتها ألقيت نفسك . وأما خلط أهل الشام بأهل العراق ، فخلطهما على حق خير من فرقتهما على باطل .
وأما قولك إن علياً قتل عثمان ، فوالله
ما في يديك من ذلك إلا القذف بالغيب من مكان بعيد ، ولكنك مِلْتَ إلى الدنيا وشيء كان في نفسك على
زمن سعد بن أبي وقاص
.
فبلغ ما قالاه إلى معاوية ، فبعث إلى
جرير فزجره .
قال نصر في كتابه : وكتب إلى شرحبيل
كتاب لا يعرف كاتبه ، فيه :
شرحبيل يا بن السَمطْ لا تتبع الهوىٰ
|
|
فما لك في الدنيا من الدين من بدلْ
|
وقل لابن حرب ما لك اليوم خلة
|
|
تروم بها ما رمت واقطع له الأملْ
|
شرحبيل ان الحق قد جدَّ جدُّه
|
|
فكن فيه مأمون الأديم من النعل
|
مقال ابن هندٍ في علي عضيهة
|
|
وللهُ في صدر ابن أبي طالب أجلْ
|
وما كان إلا لازماً قعرَ بيته
|
|
إلى أن أتى عثمان في داره الأجل
|
وصي رسول الله من دون أهله
|
|
ومن باسمه في فضله يُضربُ المثل
|
فلما قرأ شرحبيل الكتاب ، ذُعر وفكّر
وقال : هذه نصيحة لي في ديني ، ولا والله لا أعجل في هذا الأمر بشيء وفي نفسي منه حاجة ، وكاد يحول عن نصر معاوية ويتوقف ، فلفّق له معاوية الرجال يدخلون إليه ويخرجون ويعظمون عنده قتل عثمان ويرمون به علياً ، ويقيمون الشهادة الباطلة والكتب المختلفة حتى أعادوا رأيه وشحذوا عزمه
.
وسار شرحبيل فبدأ بأهل حمص ، فقام فيهم
خطيباً ، وكان أهل الشام يرونه مأموناً ناسكاً متألهاً ، فقال :
أيها الناس ، إن علياً قتل عثمان . فغضب
له قوم من أصحاب رسول الله ( ص ) فلقيهم فهزم الجمع وقتل صلحائهم وغلب على الأرض ، فلم يبق إلا الشام وهو واضع سيفه على عاتقه ، ثم خائض غمرات الموت حتى يأتيكم ، أو يحدث الله أمراً ، ولا نجد أحداً أقوى على قتاله من معاوية ، فجدّوا وانهضوا .
فأجابه الناس كلهم ! إلا نُسّاكاً من
أهل حمص ، فانهم قالوا له : بيوتنا قبورُنا ومساجدُنا ، وأنت أعلم بما ترىٰ .
__________________
وجعل شرحبيل يستنهض مدائن الشام حتى
استفرغها ، لا يأتي على قوم إلا قبلوا ما أتاهم به . فبعث له النجاشي بن الحارث ـ وكان له صديقاً ـ بأبياتٍ ، منها :
شرحبيل ما للدين فارقت ديننا
|
|
ولكن لبغض المالكي جريرِ
|
وشحناء دبّت بين سعدٍ وبينه
|
|
فأصبحت كالحادي بغير بعيرِ
|
أتفعل أمراً غبت عنه بشبهةٍ
|
|
وقد حار فيه عقل كلّ بصيرِ
|
بقول رجالٍ لم يكونوا أئمةً
|
|
ولا للتي لقّوْكَهَا بحضورِ
|
وتترك أن الناس أعطوا عهودهم
|
|
عليّاً على أنس به وسرورِ
|
إذا قيل هاتوا واحداً يُقتدىٰ به
|
|
نظيراً به لم يفصحوا بنظير
|
لعلك أن تشقى الغداة بحربه
|
|
فليس الذي قد جئته بصغير
|
ثم أقبل شرحبيل حتى دخل على معاوية فقال
له : أنت عامل أمير المؤمنين وابن عمه ، ونحن المؤمنون ، فان كنت رجلاً تجاهد علياً وقتلةَ عثمان حتى ندرك ثأرنا أو تذهب أرواحنا استعملناك علينا ، وإلا عزلناك واستعملنا غيرك ممن نريد ثم جاهدنا معه حتى ندرك ثأرنا بدم عثمان ، أو نهلِك .
فقال له جرير بن عبد الله : مهلاً يا
شرحبيل ، فان الله قد حقن الدماء ، ولمّ الشعث وجمع أمر الأمة ، ودنا من هذه الأمة سكون ، فإياك أن تفسد بين الناس وأمسك عن هذا القول أن يشيع ويظهر عنك قولٌ لا تستطيعُ ردَّه .
فقال : لا والله لا أستره أبداً ! ثم
قام فتكلم به ، فقال الناس : صدَقَ صدق ! القولُ ما قال ، والرأي ما رأى . فأيِسَ جريرٌ عند ذلك من معاوية ومن عوام أهل الشام .
قال نصر بن مزاحم في كتابه « صفين » :
كان معاوية قد أتى جريراً قبل ذلك في
منزله ، فقال له : يا جرير ، إني
__________________
قد رأيت رأياً ، قال
: هاته . قال : اكتب إلى صاحبك يجعل لي الشام ومصر جبايةٌ ، فإذا حضرته الوفاة لم يجعل لأحدٍ بعده في عنقه بيعةً ، وأسلم له هذا الأمر ، واكتب إليه بالخلافة .
فقال له جرير : اكتبْ ما أردت ، أكتُبُ
معَكَ .
فكتب معاوية بذلك إلى علي ( ع ) . فكتب عليٌّ
إلى جرير :
أما بعد ، فإنما أراد معاوية ألّا يكون
لي في عنقه بيعة ، وأن يختار من أمره ما أحب . وأراد أن يريثك ويبطئك حتى يذوق أهلَ الشام ؛ وأن المغيرة بن شعبة قد كان أشار عليَّ أن استعمل معاوية على الشام وأنا حينئذٍ بالمدينة فأبيت ذلك عليه ولم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضدا ، فان بايعك الرجل ، وإلا فأقبل ، والسلام .
فلما انتهى الكتاب إلى جرير أتى معاوية
فاقرأه الكتاب وقال له : يا معاوية ، إنه لا يُطبع على قلب إلا بذنب ، ولا يُشرح صدر إلا بتوبة ، ولا أظن قلبك إلا مطبوعاً عليه ، أراك وقد وقفت بين الحق والباطل كأنك تنتظر شيئاً في يد غيرك .
قال معاوية : ألقاك بالفصل في أول مجلس
إن شاء الله .
فلما بايع أهل الشام بعد أن جربهم
واختبرهم ، قال يا جرير الحق بصاحبك ! وكتب إليه بالحرب ، وكتب في أسفل الكتاب شعر كعب بن جعيل :
أرى الشام تكرهُ أهلَ العراقِ
|
|
وأهلَ العراقِ لهم كارِهونا
|
«
الإِمام علي يختبر الفريقين . . »
ولما عزم أمير المؤمنين ( ع ) على
المسير إلى الشام دعا رجلاً فأمره أن يتجهز ويسير إلى دمشق ، فإذا دخل أناخ راحلته بباب المسجد ولا يلقي من
__________________
ثياب سفره شيئاً ،
فان الناس إذا رأوه عليه آثار الغربة ، سألوه ، فليقل لهم : تركت علياً قد نهد إليكم بأهل العراق ، فانظر ما يكون من أمرهم .
ففعل الرجل ذلك ، فاجتمع الناس وسألوه ،
فقال لهم ، فكثروا عليه يسألونه فأرسل إليه معاوية الأعور السلمي يسأله ، فأتاه فسأله ، فقال له ، فأتى معاوية فأخبره ، فنادى : الصلاة جامعة ، ثم قام فخطب الناس وقال لهم : إن علياً قد نهد إليكم في أهل العراق ، فما ترون ؟
قال : فضرب الناس بأذقانهم على صدورهم
لا يتكلمون ، فقام ذو الكلاع الحميري فقال : عليك الرأي وعلينا الفعال .
فنزل ونادى في الناس بالخروج إلى
معسكرهم .
وعاد الرجل إلى علي ( ع ) فأخبره بذلك ،
فنادى : الصلاة جامعة ، ثم قام فخطب الناس ، فأخبرهم أنه قدم عليه رسول كان بعثه إلى الشام وأخبره أن معاوية قد نهد إلى العراق في أهل الشام ، فما الرأي ؟
فاضطرب أهل المسجد ، هذا يقول الرأي كذا
، وهذا يقول الرأي كذا ، وكثر اللغط واللجب ، فلم يفهم علي ( ع ) من كلامهم شيئاً ولم يدر المصيب من المخطىء ، فنزل عن المنبر وهو يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ذهبَ بها ابنُ آكلة الأكباد ـ يعني معاوية
.
اعتراض
بعض قراء الشام على معاوية
وقبل أن يتجهز أمير المؤمنين علي للمسير
نحو صفين ، جاء أبو مسلم الخولاني في ناسٍ من قراء أهل الشام إلى معاوية فقالوا له : يا معاوية ، علام تقاتل علياً وليس لك مثل صحبته ولا هجرته ولا قرابته ولا سابقته !
فقال : إني لا أدعي أن لي في الإِسلام
مثل صحبته ولا هجرته ولا سابقته ، ولكن خبّروني عنكم ، ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلوماً ! قالوا :
__________________
بلىٰ ، قال :
فليدفع إلينا قتلته لنقتلهم به ، ولا قتال بيننا وبينه .
قالوا : فاكتب إليه كتاباً يأته به
بعضنا . فكتب مع أبي مسلم الخولاني :
من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي
طالب ، سلام عليك ، فاني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فان الله اصطفى محمداً بعلمه ، وجعله الأمين على وحيه ، والرسول إلى خلقه ، واجتبىٰ له من المسلمين أعوانا أيده الله تعالى بهم ، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإِسلام ، فكان أفضلهم في الإِسلام وأنصحهم لله ورسوله الخليفة من بعده ، ثم خليفة خليفته من بعد خليفته ، ثم الثالث الخليفة المظلوم عثمان ! فكلهم حسَدْتَ ، وعلى كلّهم بغيتَ ، عرفنا ذلك في نظرك الشزرْ ، وقولك الهجر ، وتنفُسّكَ الصعداء ، وابطائك عن الخلفاء ، تُقاد إلى كلٍ منهم كما يُقادُ الفحل المخشوش ، حتى تبايع وأنت كاره ، ثم لم تكن لأحد منهم بأعظم حسداً منك لابن عمك عثمان ، وكان أحقهم أن لا تفعل ذلك في قرابته وصهره فقطعتَ رحمَهُ ، وقبّحتَ محاسنَهُ وألّبت الناس عليه ، وبطنت وظهرت حتى ضُرِبَت إليه آباط الإِبل ، وقيدت إليه الإِبل العِراب ، وحُمل عليه السلاح في حرم رسول الله ( ص ) فقتل معك في المحنة وأنت تسمع في داره الهائعة ، لا تردع الظن والتهمة عن نفسك بقولٍ ولا عمَل .
وأقسم قسماً صادقاً لو قمت فيما كان من
أمره مقاماً واحداً تنهنه الناس عنه ما عدل بك من قِبلنا من الناس أحداً ولمحا ذلك عندهم ما كانوا يعرفونك به من المجانبة لعثمان والبغي عليه ، وأخرى أنت بها عند أنصار عثمان ظنين ، إيواؤك قتلة عثمان ، فهم عضدك وأنصارك ، ويدك وبطانتك ، وقد ذكر لي أنك تتنصل من دمه ، فان كنت صادقاً فأمكنّا من قتلته نقتلهم به ، ونحن أسرع الناس إليك ، وإلا فانه ليس لك ولأصحابك إلا السيف ، والذي لا إله إلا هو لنطلبنَّ قتلة عثمان في الجبال والرمال ، والبر والبحر حتى يقتلهم الله ، أو لتلحقَنَّ أرواحنا بالله ، والسلام .
فلما قدم أبو مسلم على عليّ ( ع ) بهذا
الكتاب ، قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ، فانك قد قمت بأمرٍ وُلِّيته ، ووالله ما أحب أنه لغيرك إن أعطيت الحق من نفسك ، إن عثمان قتل مسلماً محرماً مظلوماً ، فادفع إلينا قتلته وأنت أميرنا ، فإن خالفك من الناس أحد كانت أيدينا لك ناصرة ، وألسنتنا لك شاهدة ، وكنت ذا عذرٍ وحجة .
فقال له علي ( ع ) : أغدُ عليّ غدا فخذ
جواب كتابك .
فانصرف أبو مسلم ، وفي اليوم التالي رجع
ليأخذ جواب كتابه ، فوجد الناس قد بلغهم الذي جاء فيه ، فلبست الشيعة أسلحتها ثم غدوا فملأوا المسجد فنادوا : كلنا قتلة عثمان ؛ وأكثروا من النداء بذلك . وأذِنَ لأبي مسلم ، فدخل ، فدفع علي ( ع ) جواب كتاب معاوية .
فقال أبو مسلم : لقد رأيت قوماً ما لَكَ
معهم أمر ! قال : وما ذاك ؟ قال : بلغ القوم أنك تريد أن تدفع إلينا قتلة عثمان ، فضجوا واجتمعوا ولبسوا السلاح ، وزعموا أنهم قتلة عثمان .
فقال علي ( ع ) : والله ما أردت أن
أدفعهم إليك طرفة عين قط ، لقد ضربت هذا الأمر أنفه وعينه ، فما رأيت ينبغي لي أن أدفعهم إليك ولا إلى غيرك ! .
فخرج أبو مسلم بالكتاب وهو يقول : الآن
طاب الضِرَابْ .
جواب
الإِمام لمعاوية
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى
معاوية بن أبي سفيان ، أما بعد : فإن أخا خولان قدم عليّ بكتاب منك تذكر فيه محمداً ( ص ) وما أنعم الله به عليه من الهدى والوحي ، فالحمد لله الذي صدقه الوعد ، وأيده بالنصر ، ومكن له في البلاد ، وأظهره على أهل العداوة والشنآن من قومه الذين وثبوا عليه ، وشنفوا له ، وأظهروا تكذيبه ، وبارزوه بالعدواة ، وظاهروا على إخراجه وعلى إخراج أصحابه وأهله ، وألبوا عليه العرب ، وجادلوهم على حربه ، وجهدوا
في أمره كل الجهد ،
وقلبوا له الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون .
وكان أشد الناس عليه تأليباً وتحريضاً
أسرته والأدنى فالأدنى من قومه إلا من عصم الله . وذكرت أن الله تعالى اجتبىٰ له من المسلمين أعواناً أيده الله
بهم فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإِسلام ، فكان أفضلهم ـ زعمت ـ في الإِسلام وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة وخليفة الخليفة ! لعمري إن مكانهما في الإِسلام لعظيم ، وان المصاب بهما لجرحٌ في الإِسلام شديد فرحمهما الله وجزاهما أحسن ما عملا ! وذكرت أن عثمان كان في الفضل تالياً ، فإن يك عثمان محسناً فسيجزيه الله بإحسانه وإن يك مسيئاً فسيلقى رباً غفورا ، لا يتعاظمه ذنب أن يغفره ، ولعمري إني لأرجو إذا أعطى الله الناس على قدر فضائلهم في الإِسلام ونصيحتهم لله ولرسوله أن يكون نصيبنا في ذلك الأوفر .
إن محمداً ( ص ) لما دعا إلى الإِيمان
بالله والتوحيد له كنا أهل البيت أول من آمن به وصدقه فيما جاء ، فبتنا أحوالاً كاملةً مجرّمة
تامة ، وما يعبد الله في ربع ساكنٍ من العرب غيرنا ، فأراد قومنا قتل نبينا ، واجتياح أصلنا ، وهمُّوا بنا الهموم ، وفعلوا بنا الأفاعيل ، ومنعونا الميرة
وأمسكوا عنا العذب وأحلسونا الخوف وجعلوا علينا
الأرصاد والعيون ، واضطرونا إلى جبل وعر ، وأوقدوا لنا نار الحرب ، وكتبوا بينهم كتاباً ، لا يؤاكلوننا ، ولا يشاربوننا ،
ولا يناكحوننا ، ولا يبايعوننا ولا نأمن منهم حتى ندفع إليهم محمداً فيقتلوه ويمثلوا به ، فلم نكن نأمن فيهم إلا من موسم إلى موسم . فعزم الله لنا على منعه ، والذب عن حوزته ، والرمي من وراء حرمته ، والقيام بأسيافنا دونه في ساعات الخوف بالليل والنهار ، فمؤمننا يرجو بذلك الثواب ، وكافرنا يحامي عن نفسه .
__________________
وأما من أسلم من قريش فإنهم مما نحن فيه
خلاء ، منهم الحليف الممنوع ، ومنهم ذو العشيرة التي تدافع عنه ، فلا يبغيه أحد مثل ما بغانا به قومنا من التلف ، فهم من القتل بمكان نجوة وأمن ، فكان ذلك ما شاء الله أن يكون .
ثم أمر الله تعالى رسوله بالهجرة ، وأذن
له بعد ذلك في قتال المشركين ، فكان إذا أحمر البأس ودعي للنزال ، أقام أهل بيته فاستقدموا ، فوقى أصحابه بهم حدّ الأسنة والسيوف . فقتل عبيدة يوم بدر ، وحمزة يوم أحد ، وجعفر وزيد يوم مؤتة ، وأراد من لو شئت ذكر اسمه
مثل الذي أرادوا من الشهادة مع النبي ( ص ) غير مرة ، إلا أن آجالهم عُجّلت ومنيتهم أُخّرت ، والله ولي الإِحسان إليهم ، والمنة عليهم بما أسلفوا من أمر الصالحات ، فما سمعت بأحد ولا رأيته هو أنصح في طاعة رسوله ولا لنبيه ، ولا أصبر على اللأواء والسراء والضراء وحين البأس ، ومواطن المكروه مع النبي ( ص ) من هؤلاء النفر الذين سميتُ لك وفي المهاجرين خير كثير يعرف ، جزاهم الله خيراً بأحسن أعمالهم .
وذكرت حسدي للخلفاء وابطائي عنهم ،
وبغيي عليهم ، فأما البغي فمعاذ الله أن يكون ، وأما الإِبطاء عنهم والكراهية لأمرهم فلست اعتذر للناس عن ذلك .
إن الله تعالى ذكره لما قبض نبيه ، قالت
قريش : منا أمير ؛ وقالت الأنصار : منا أمير ؛ فقالت قريش : منا محمد ( ص ) نحن أحق بالأمر ! فعرفت ذلك الأنصار فسلمت لهم الولاية والسلطان ، فإذا استحقوها بمحمد دون الأنصار ، فان أولى الناس بمحمد أحق به منهم ، وإلا فإن الأنصار أعظم العرب فيها نصيباً ، فلا أعلم ، أصحابي سلموا من أن يكونوا حقي أخذوا ، أو الأنصار ظلموا ، بل عرفت أن حقي هو المأخوذ ، وقد تركته لهم تجاوزاً لله عنهم .
__________________
وأما ما ذكرت من أمر عثمان وقطيعتي رحمه
، وتأليبي عليه ! عثمان عمل ما قد بلغك ، فصنع الناس به ما قد رأيت ، وأنك لتعلم أني قد كنت في عزلةٍ عنه ، إلا أن تتجنّىٰ ، فتجنّىٰ ما بدا لك !
وأما ما ذكرت من أمر قتلة عثمان ، فاني
نظرت في هذا الأمر وضربت أنفه وعينه ، فلم أر دفعهم إليك ولا إلى غيرك ، ولعمري لئن لم تنزع عن غيّك وشقاقك لتعرفنهم عن قليل يطلبونك لا يكلفوك أن تطلبهم في برٍ ولا بحر ، ولا سهل ولا جبل .
وقد أتاني أبوك حين ولّى الناس أبا بكر
فقال : أنت أحق بمقام محمد ، وأولى الناس بهذا الأمر ، وأنا زعيم لك بذلك على من خالف ، ابسط يدك أبايعك ، فلم أفعل . فأنت تعلم أن أباك قد قال ذلك وأراده حتى كنت أنا الذي أبيت لقرب عهد الناس بالكفر مخافة الفرقة بين أهل الإِسلام ، فأبوك كان أعرف بحقي منك ، فان تعرف من حقي ما كان أبوك يعرف تُصبْ رشدك وان لم تفعل ، فسيغني الله عنك ؛ والسلام
.
الإِمام
علي يستشير المهاجرين والأنصار في القتال
وعزم علي ( ع ) على مواجهة معاوية
عسكرياً ولكنه قبل أن يتجهز لذلك دعا إليه من كان معه من المهاجرين والأنصار فجمعهم وقام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وقال : « أما بعد ، فانكم ميامين الرأي ، مراجيح الحلم ، مقاويل بالحق ، مباركو الفعل والأمر ، وقد أردنا المسير إلى عدونا وعدوكم ، فاشيروا علينا برأيكم » .
فقام المهاجرون والأنصار كلٌّ يدلي
برأيه ، ونقتصر هنا على ذكر آراء بعضهم إختصاراً للمسافة ، فإن ذلك يعطينا فكرةً كافية عما كان يتمتع به أصحاب علي ( ع ) من قوة العقيدة ورباطة الجأش والجرأة والشجاعة .
__________________
خطبة
هاشم بن عتبة
فقام هاشم بن عبتة بن أبي وقاص الملقب «
بالمرقال » فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : « أما بعد يا أمير المؤمنين ، فأنا بالقوم جدُّ خبير ، هم لك ولأشياعك أعداء ، وهم لمن يطلب حرث الدنيا أولياء ، وهم مقاتلوك ومجاهدوك لا يبقون جهداً ؛ مشاحةً على الدنيا ، وظنّاً بما في أيديهم منها ، وليس لهم إربةً غيرها إلا ما يخدعون به الجهال من الطلب بدم عثمان بن عفان ، كذبوا ، ليس بدمه يثأرون ، ولكن الدنيا يطلبون ، فسر بنا إليهم ، فإن أجابوا إلى الحق فليس بعد الحق إلا الضلال ، وإن أبوا إلا الشقاق ، فذلك الظن بهم ، والله ما أراهم يبايعون وفيهم أحد ممن يطاع إذا نهى ، ولا يسمع إذا أمر »
.
رأي عمار بن ياسر
وقام عمار فذكر الله بما هو أهله وحمده
وقال : يا أمير المؤمنين ، إن إستطعت ألا تقيم يوماً واحداً فافعل ! إشخص بنا قبل استعار نار الفجرة ، واجتماع رأيهم على الصدود والفرقة وادعهم إلى حظهم ورشدهم ، فإن قبلوا سعدوا ؛ وإن أبوا إلا حربنا ، فوالله إن سفك دمائهم والجد في جهادهم لقربة عند الله وكرامة منه .
رأي
قيس بن سعد بن عبادة
ثم قام قيس بن سعد بن عبادة ، فحمد الله
وأثنى عليه ، ثم قال : يا أمير المؤمنين ، إنكمش بنا إلى عدونا ولا تعرج
فوالله لجهادهم أحب إلي من جهاد الترك والروم ؛ لإدهانهم
في دين الله ، وإستذلالهم أولياءَ الله من أصحاب محمد ( ص ) من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان ، إذا غضبوا على رجل حبسوه وضربوه وحرموه وسيروه ، وفيئنا لهم في أنفسهم حلال ،
__________________
ونحن لهم فيما يزعمون
قطين
.
الإِمام
يدعو إلى المسير
فقام علي خطيباً على منبره وجعل يحرض
الناس ويأمرهم بالمسير إلى صفين ، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه : « سيروا إلى أعداء الله ، سيروا إلى أعداء السنن والقرآن ، سيروا إلى بقية الأحزاب ، قتلة المهاجرين والأنصار .
هذا ، وقد تقاعس نفر عن الإِستجابة ،
منهم حنظلة بن الربيع ، وقد هرب فيما بعد إلى معاوية ، ولحقه أناس من قومه ، فأمر علي ( ع ) بداره فهدمت
.
بين
علي ( ع ) وأبي زبيب
ودخل أبو زبيب بن عوف على علي ، فقال :
يا أمير المؤمنين ، لئن كنا على الحق لأنت أهدنا سبيلاً ، وأعظمنا في الخير نصيباً ، ولئن كنا في ضلالةٍ إنك لأثقلنا ظهراً وأعظمنا وزراً ، أمرتنا بالمسير إلى هذا العدو وقد قطعنا ما بيننا وبينهم من الولاية ، وأظهرنا لهم العدواة نريد بذلك ما يعلم الله من طاعتك ، وفي أنفسنا من ذلك ما فيها ، أليس الذي نحن عليه الحق المبين والحوب الكبير ؟ » .
فقال علي : « بلى ، شهدت أنك إن مضيت
معنا ناصراً لدعوتنا ، صحيح النية في نصرتنا ، قد قطعت منهم الولاية ، وأظهرت لهم العدواة كما زعمت ، فانك ولي الله تسيح في رضوانه ، وتركض في طاعته ، فأبشر أبا زبيب » .
« عمّار يحرض »
فقال له عمار بن ياسر : أثبت أبا زبيب
ولا تشك في الأحزاب عدو الله ورسوله .
__________________
فقال : ما أحب أن لي شاهدين من هذه
الأمة فيشهدوا لي على ما سألت عنه من هذا الأمر الذي أهمني مكانكما .
وخرج عمار بن ياسر وهو يقول :
سيروا إلى الأحزاب أعداء النبي
|
|
سيروا فخيرُ الناس أتباعُ علي
|
هذا أوان طاب سلّ المشرفي
|
|
وقَوْدُنا الخيلَ وهزُّ السمهري
|
يزيد
بن قيس وزياد بن النضر
ودخل يزيد بن قيس الأرحبي على علي بن
أبي طالب فقال : يا أمير المؤمنين ، نحن على جهازٍ وعدة ، وأكثر الناس أهل قوة ، ومن ليس بمضعَّف وليس به علة ، فمرْ مناديك فليناد الناس يخرجوا إلى معسكرهم بالنخيلة ، فإن أخا الحرب ليس بالسؤوم ولا النؤوم ولا من إذا أمكنته الفرصُ أجّلها واستشار فيها ، ولا من يؤخر الحرب في اليوم إلى غدٍ وبعد غد !
فقال زياد بن النضر : لقد نصح لك يا
أمير المؤمنين يزيد بن قيس وقال ما يعرف ، فتوكل على الله وثق به ، واشخص بنا إلى هذا العدو راشداً معاناً ، فإن يرد الله بهم خيراً لا يدعوك رغبةً عنك إلى من ليس مثلك في السابقة مع النبي ( ص ) والقدم في الإِسلام والقرابة من محمد ( ص ) . وإلا يُنيبوا ويقبلوا ويأبوا إلا حربنا ، نجد حربهم علينا هيّناً ، ورجونا أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم بالأمس .
رأي
عبد الله بن بديل
ثم قام عبد الله بن بديل بن ورقاء
الخزاعي فقال :
« يا أمير المؤمنين ، إن القوم لو كانوا
الله يريدون ، أو لله يعملون ، ما خالفونا ، ولكن القوم إنما يقاتلون فراراً من الأسوة
وحباً للأثرة ، وظناً بسلطانهم ، وكرهاً لفراق دنياهم التي في أيديهم ، وعلى إحنٍ في أنفسهم ، وعداوةٍ يجدونها في صدورهم ، لوقائع أوقعتها يا أمير المؤمنين بهم قديمةٍ ، قتلت فيها آباءهم وإخوانهم .
__________________
ثم التفت إلى الناس فقال : فكيف يبايع
معاوية علياً وقد قتل أخاه حنظلة وخاله الوليد ، وجده عتبة في موقف واحد ، والله ما أظن أن يفعلوا ، ولن يستقيموا لكم دون أن تقصد فيهم المرّان
، وتقطع على هامهم السيوف ، وتنثر حواجبهم بعمد الحديد ، وتكون أمور جمّة بين الفريقين .
ثم إن أمير المؤمنين ( ع ) كتب إلى
ولاته وعمّاله في الآفاق كتباً يوصيهم فيها بتقوى الله والعطف على الرعية ويأمرهم بالتوسعة في العطاء على من عندهم وإرسال ما يتبقى لصرفه في شؤون الجيش .
الإِنذار
الأخير
وكتب إلى معاوية كتاباً يعظه فيه أولاً
ويخوفه من الدنيا ، ثم يبكّته ويضعه في خانة العدو المغتصب للحق ، والمتسلط والباغي الذي ركبه الشيطان حتى جرى منه مجرى الدم في العروق ، وينصحه بالعودة إلى جادة الصواب ، ولعله آخر كتبه ( ع ) لمعاوية قبل الخروج للحرب ، وكأنه يعطيه الإِنذار الأخير ويقيم عليه الحجة ، وجاء فيه :
« إنك قد رأيت من الدنيا وتصرفها بأهلها
وإلى ما مضى منها ، وخير ما بقي من الدنيا ما أصاب العباد الصادقون فيما مضى ، ومن نسي الدنيا نسيان الآخرة يجد بينهما بوناً بعيداً ، وأعلم يا معاوية أنك قد أدعيت أمراً لست من أهله لا في القَدَم ولا في الولاية ، ولست تقول فيه بأمرٍ بيّن تعرف لك به أثرة ولا لك عليه شاهد من كتاب الله ولا عهد تدعيه من رسول الله ، فكيف أنت صانع إذا إنقشعت عنك جلابيب ما أنت فيه من دنياً أبهجت بزينتها ، وركنت إلى لذتها ، وخلي فيها بينك وبين عدوٍّ جاهد ملح ، مع ما عرض في نفسك من دنيا قد دعتك فأجبتها ، وقادتك فاتبعتها ، وأمرتك فأطعتها .
فاقعس
عن هذا الأمر وخذ أهبة الحساب ، فإنه يوشك أن يقفك واقف على ما لا يُجنُّك من مِجَنّ .
__________________
ومتى كنتم يا معاوية ساسةً للرعية ، أو
وُلاةً لأمر هذه الأمة بغير قدَمٍ حسن ، ولا شرفٍ سابقٍ على قومكم ، فشمّر لما قد نزل بك ، ولا تُمكّن الشيطان من بُغيته فيك ، مع أني أعرف أن الله ورسوله صادقان ، فنعوذ بالله من لزوم سابق الشقاء ، وإلا تفعل أعلمك ما أغفلك من نفسك ، فإنك مُترفٌ قد أخذ منك الشيطان مأخذه ، فجرى منك مجرى الدم في العروق ، وإعلم أن هذا الأمر لو كان إلى الناس أو بأيديهم لحسدونا وأمتنّوا به علينا ، ولكنه قضاءٌ ممن امتن به علينا على لسان نبيه الصادق المصدّق ، لا أفلح من شك بعد العرفان والبيّنة .
اللهم أحكم بيننا وبين عدونا بالحق وأنت
خير الحاكمين » .
وكتب ( ع ) إلى عمرو بن العاص كتاباً
يعظه فيه ويحذره أمر الدنيا ، ويقول فيه أخيراً « والسعيد من وعظ بغيره ، فلا تحبط أجرك أبا عبد الله ، ولا تجارين معاوية في باطله فإن معاوية غمص الناس ، وسفه الحق ، والسلام » .
وأرسل إلى قادة العرب وزعماءهم في الأمصار
يستنهضهم للقتال ، فأجابه منهم خلق كثير ، وقد اقتصرنا على هذا القدر تحاشياً عن الإِطالة .
كتاب محمد بن أبي بكر ( رض ) إلى معاوية
ولمحمد بن أبي بكر رضي الله عنه قدم سبق
في الإِسلام ولدى أمير المؤمنين علي مكانة خاصة ، وتشهد له على ذلك مواقفه في حرب الجمل كما قدمنا ، ومواقفه قبل وبعد صفين ، وقد كتب إلى معاوية كتاباً بمثابة إقرار واعتراف من الصادق الصدوق بفضل الإِمام علي ( ع ) على بقية أصحاب الرسول ( ص ) ، كما أن فيه تبكيت وتأنيب لمعاوية على موقفه من الإِمام علي وبغيه وطلبه ما ليس له ، ونحن نذكره كما جاء في رواية نصر :
بسم الله الرحمن الرحيم : من محمد بن
أبي بكر إلى الغاوي بن صخر ، سلام على أهل طاعة الله من هو مسلمٌ لأهل ولاية الله ، أما بعد :
فإن الله بجلاله
وعظمته وسلطانه وقدرته خلق خلقاً بلا عنَت ، ولا ضعف في قوته ، ولا حاجةٍ به إلى خلقهم ، ولكنه خلقهم عبيداً ، وجعل منهم شقياً وسعيداً ، وغوياً ورشيداً .
ثم اختارهم على علمه ، فاصطفى وانتخب
منهم محمداً ( ص ) ، فاختصه برسالته ، واختاره لوحيه ، وإتمنه على أمره ، وبعثه رسولاً مصدقاً لما بين يديه من الكتب ، ودليلاً على الشرائع ، فدعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، فكان أول من أجاب وأناب ، وصدّق ووافق وأسلم وسلّم ـ أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب ( ع ) فصدّقه بالغيب المكتوم وآثره على كل حميم ، فوقاه كلّ هول ، وواساه بنفسه في كل خوف ، فحارب حربه ، وسالم سَلْمَه ، فلم يبرح مبتذلاً لنفسه في ساعات الأزل
ومقامات الروع ، حتى برز سابقاً لا نظير له في جهاده ، ولا مقارب له في فعله .
وقد رأيتك تساميه وأنت أنت . وهو هو
المبرز السابق في كل خير ، أول الناس إسلاماً ، وأصدق الناس نية ، وأطيب الناس ذرية ، وأفضل الناس زوجة ، وخير الناس ابنَ عم ، وأنت اللعين بن اللعين . ثم لم تزل أنت وأبوك تبغيان الغوائل لدين الله ، وتجهدان على إطفاء نور الله ، وتجمعان على ذلك الجموع ، وتبذلان فيه المال ، وتخالفان فيه القبائل . على ذلك مات أبوك ، وعلى ذلك خلفته ، والشاهد عليك بذلك من يأوي ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ، ورؤوس النفاق والشقاق لرسول الله ( ص ) والشاهد لعليٍّ مع فضله المبين وسبقه القديم ، أنصاره الذين ذُكروا بفضلهم في القرآن فأثنى الله عليهم من المهاجرين والأنصار ، فهم معه عصائب وكتائب حوله ، يجالدون بأسيافهم ويهريقون دماءهم دونه ، يرون الفضل في إتباعه ، والشقاء في خلافه ، فكيف ـ يا لك الويل ـ تعدل نفسك بعلي ، وهو وارث رسول الله ( ص ) ووصيُّه وأبو ولده ، وأول الناس له إتباعاً ، وأخرهم به عهداً ، يخبره بسرّه ويُشركه في أمره ؛ وأنت عدوُّه وابن عدوه ؟! فتمتع ما
__________________
استطعت بباطلك ،
وليمدد لك ابن العاص في غوايتك ، فكأن أجلك قد إنقضى ، وكيدك قد وهىٰ . وسوف يستبين لمن تكون العاقبة العليا .
واعلم أنك إنما تكايد ربك الذي قد أمنت
كيده ، وأيست من روحه ، وهو لك بالمرصاد ، وأنت منه في غَرُور ، وبالله وأهل رسوله عنك الغَنَاء ، والسلام على من اتبع الهدى .
وقد أجابه معاوية على كتابه هذا ولا
داعي لذكره .
الإِمام
علي ( ع ) يأمر بالخروج
وأمر عليٌّ الحارث الأعور ينادي في
الناس : أن اخرجوا إلى معسكركم بالنخيلة ، فنادى : أيها الناس ، أخرجوا إلى معسكركم بالنخيلة .
وبعث عليٌّ إلى مالك بن حبيب اليربوعي ـ
صاحب شرطته ـ فأمره أن يحشر الناس إلى المعسكر .
ودعا عقبةَ بن عمروٍ الأنصاري فاستخلفه
على الكوفة ، وكان أصغر أصحاب بيعة العقبة السبعين ، وأوصاه بوصاياه .
ثم خرج عليٌّ وخرج الناس معه .
إلى الحرب يسيرون
وخرج أمامه الحر بن سهم بن طريف الربعي
وهو يقول :
يا فرسي سيري وأمي الشاما
|
|
وقطعي الحزون والأعلاما
|
ونابذي من خالف الإِماما
|
|
إني لأرجو أن لقينا العاما
|
جمع بني أمية الطغاما ـ
|
|
أن نقتل العاصيَ والهُماما
|
وسار عليٌّ ( ع ) حتى أتى مكاناً يقال
له دير أبي موسى ، فصلى بالناس
__________________
صلاة العصر ، فلما
انصرف من الصلاة ، رفع يديه بالدعاء وقال : « سبحانَ ذي الطَوْلِ والنِعَمْ ، سبحان ذي القدرة والإِفضال ، أسأل الله الرضا بقضائه ، والعمل بطاعته ، والإِنابة إلى أمره ؛ فإنه سميع الدعاء » .
ثم سار حتى نزل على شاطىء نرس ، وهو نهر
حفره نرس بن بهرام بنواحي الكوفة ، فصلى هناك صلاة المغرب ، فلما انصرف قال : الحمد لله الذي يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، والحمد لله كلما وقب ليل وغسق ، والحمد لله كلما لاح نجم وخفق » .
ثم أقام حتى صلى الغداة ، ثم شخص حتى
بلغ قُبّة قُبِّين ـ مكان ـ وفيها نخل طوال إلى جانب البِيعة من وراء النهر ، فلما رآها قال : « والنخلَ باسقاتٍ لها طلْعٌ نضيد » . ثم أقحم دابته النهر فعبر إلى تلك البيعة فنزلها فمكث بها قدر الغداة .
ثم تابع سيره فوصل إلى أرض بابل ، فجعل (
ع ) يخفُّ في سيره ويقول : إن ببابل أرضاً قد خسف بها فلعلنا نصلي العصر خارجاً منها ، فحرّك دابته وحرك الناس دوابهم في أثره ، حتى أتوا على مكان وقد كادت الشمس أن تغيب ، فنزل علي ( ع ) فدعا الله ، فرجعت الشمس كمقدارها من صلاة العصر ، فصلى بالناس العصر ثم غابت الشمس
.
قول
علي في كربلاء
عن هرثمة بن سليم قال : غزونا مع علي بن
طالب غزوة صفين ، فلما نزلنا بكربلاء صلى بنا صلاةً ، فلما سلّم رُفع إليه من تربتها فشمها ثم قال : واهاً لك أيتها التربة ليُحشَرُّنَّ منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب .
وعن سعيد بن وهب قال : بعثني مخنف بن
سُليْم إلى علي ، فأتيته بكربلاء ، فوجدته يشير بيده ويقول : ههنا ههنا ! فقال رجل : وما ذلك يا أمير المؤمنين ؟ قال : ثقل لآل محمدٍ ينزل ها هنا ، فويلٌ لهم منكم ، وويلٌ لكم
__________________
منهم . فقال له الرجل
: ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين ؟ قال : ويلٌ لهم منكم : تقتلونهم ، وويلٌ لكم منهم : يُدخلكم الله بقتلهم إلى النار .
وعن الحسن بن كثير عن أبيه : أن علياً
أتى كربلاء فوقف بها ، فقيل يا أمير المؤمنين هذه كربلاء . قال : ذات كربٍ وبلاء . ثم أومأ بيده إلى مكان فقال : ها هنا موضع رحالهم ، ومناخ ركابهم ، وأومأ بيده إلى موضع آخر فقال : ها هنا مهراق دمائهم .
قوله
حين مر بآثار كسرى
ثم مضى ( ع ) إلى مدينة بُهرُسِير ،
وإذا برجل من أصحابه يقال له حرّ بن سهم ، ينظر إلى آثار كسرى وهو يتمثل قول ابن يعفر التميمي :
جرتِ الرياحُ على مكانِ ديارِهمْ
|
|
فكأنما كانوا على ميعادِ
|
فقال علي ( ع ) : « كَمْ تَرَكُوا مِن
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ
. كَذَٰلِكَ
وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ
. فَمَا
بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ »
. إن هؤلاء كانوا وارثين فأصبحوا موروثين ، إن هؤلاء لم يشكروا النعمة فسُلِبوا دنياهم بالمعصية . إياكم وكُفرُ النِعَمْ لا تحلَّ بكم النقَمْ ، ثم قال : أنزلوا بهذه النجوة
.
وصوله
إلى المدائن ثم الأنبار
لما وصل ( ع ) المدائن ، أمر الحارث
الأعور فصاح في أهلها : من كان من المقاتلة فليواف أمير المؤمنين صلاة العصر ، فوافوه في تلك الساعة ، ولحق به فيما بعد ألف ومائتا مقاتل .
__________________
وجاء علي حتى مر بالأنبار ، فاستقبله
دهاقنتها بنو خُشْنُوشَكْ ثم جاؤوا يشتدون معه ، قال : ما هذه الدواب التي معكم ؟ وما أردتم بهذا الذي صنعتم ؟
قالوا : أما هذا الذي صنعنا هو خُلُقٌ
منا نعظّم به الأمراء ، وأما هذه البراذين فهدية لك ، وقد صنعنا لك وللمسلمين طعاماً ، وهيأنا لدوابكم علفاً كثيراً ، قال ( ع ) : أما هذا الذي زعمتم أنه منكم خلق تعظمون به الأمراء ، فوالله ما ينفع هذا الأمراء ، وأنكم لتشقّون به على أنفسكم وأبدانكم ، فلا تعودوا له . وأما دوابكم هذه ، فإن أحببتم أن نأخذها منكم فنحسبها من خراجكم ، أخذناها منكم ، وأما طعامكم الذي صنعتم لنا ، فإنا نكره أن نأكل من أموالكم شيئاً إلا بثمن .
قالوا : يا أمير المؤمنين ، نحن نقوّمه
ثم نقبل ثمنه ؛ قال : إذن لا تقوِّمُونَهُ قيمته ، نحن نكتفي بما دونه .
قالوا : يا أمير المؤمنين ، فإن لنا من
العرب موالي ومعارف ، فتمنُعنا أن نهدي لهم وتمنعهم أن يقبلوا منا ؟ قال : كل العرب لكم موالٍ ، وليس ينبغي لأحدٍ من المسلمين أن يقبل هديتكم ، وإن غصبكم أحد فأعلمونا .
قالوا : يا أمير المؤمنين ، إنا نحب أن
تقبل هديتنا وكرامتنا . قال لهم : ويحكم ، نحن أغنى منكم ! فتركهم وسار .
قصة الصخرة ، وصاحب الدير ، وإسلام الراهب
وعطش الناس وهم في طريقهم إلى صفين ،
فانطلق علي ( ع ) مع بعض أصحابه حتى أتى على صخرة ضرس
من الأرض كأنها ربضة عنز فأمرهم ، فاقتلعوها ، فخرج لهم ماء ، فشربوا وارتووا وشرب الناس منه ، ثم
__________________
أمرهم علي أن يرجعوا
الصخرة مكانها . ثم سار قليلاً ثم التفت إلى بعض أصحابه وقال : هل منكم أحد يعلم مكان هذا الماء الذي شربتم منه ؟ قالوا : نعم يا أمير المؤمنين . قال : فانطلقوا إليه . فانطلق منهم رجال مشاةً وركباناً حتى وصلوا إلى المكان الذي يعتقدون أنها فيه ، فطلبوها فلم يجدوها . فانطلقوا إلى ديرٍ قريب بعد أن يئسوا منها ، وسألوهم : أين الماء الذي هو عندكم ؟ قالوا : ما قربنا ماء ! فقال صاحب الدير : ما بني هذا الدير إلا بذلك الماء ، وما استخرجه إلا نبي أو وصي نبي !
.
ثم سار ( ع ) حتى وصل الرقة فنزل فيها
بمكان يقال له بليخ ، على جانب الفرات ، وكان هنالك صومعة فيها راهب ، فلما رأى أمير المؤمنين نزل من صومعته ، وسلم عليه وقال له : إن عندنا كتاباً توارثناه عن آبائنا ، كتبه أصحاب عيسى بن مريم ، أعرضه عليك .
قال علي ( ع ) : نعم ، فما هو ؟ قال
الراهب : بسم الله الرحمن الرحيم الذي قضىٰ فيما قضىٰ ، وسطّر فيما سطّر ، أنه باعث في الأميِّين
رسولاً منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ، ويدلهم على سبيل الله ، لا فظٌّ ولا غليظ ، ولا صخّاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ، أمته الحمادُّون الذين يحمدون الله على كل نشز ، وفي كل صعود وهبوط ، تذل ألسنتهم بالتهليل والتكبير والتسبيح ، وينصره الله على كل من ناواه ، فإذا توفاه الله اختلفت أمته ثم اجتمعت ، فلبثت بذلك ما شاء الله ثم اختلفت ، فيمر رجل من أمته بشاطىء هذا الفرات ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويقضي بالحق ، ولا يرتشي في الحكم ، الدنيا أهون عليه من الرماد في يوم عصفت به الريح ، والموت أهون عليه من شرب الماء على الظماء ، يخافُ اللهَ في السرّ ، وينصح له في العلانية ، ولا يخاف في الله لومةَ لائم ، من أدرك ذلك النبي ( ص ) من أهل هذه البلاد فآمن به ، كان
__________________
ثوابه رضواني والجنة
، ومن أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره ؛ فإن القتل معه شهادة .
ثم قال له : فأنا مصاحبك غير مفارقك حتى
يصيبني ما أصابك .
فبكى ( ع ) ثم قال : الحمد لله الذي لم
يجعلني عنده منسيّاً ، الحمد لله الذي ذكرني في كُتُبِ الأبرار . ومضىٰ الراهب معه ، وكان ـ فيما ذكروا ـ
يتغدى مع علي ويتعشى معه حتى أصيب يوم صفين ، فلما خرج الناس يدفنون قتلاهم ، قال علي : إطلبوه . فلما وجدوه ، صلى عليه ودفنه ، وقال : هذا منا أهل البيت ، واستغفر له مراراً
.
وعبر علي ( ع ) شاطىء الفرات بعد أن
أقاموا له جسراً إلى صفين . ودعا زياد بن النضر وشريح بن هاني ، فسرحهما أمامه نحو معاوية في اثني عشر ألفاً . . . فلما انتهوا إلى معاوية ، لقيهم أبو الأعور السلمي في جند من أهل الشام ، فدعوهم إلى طاعة علي فأبوا ، فأرسلوا إلى علي يخبرونه ، فبعث إليهم مالك الأشتر وجعله أميرا عليهم ، وحذره من أن يبدأهم بقتال .
فخرج الأشتر حتى قدم على القوم ، فاتبع
ما أمره به علي ( ع ) وكفَّ عن القتال حتى إذا جاء المساء حمل عليهم أبو الأعور السلمي ، فثبتوا له واضطربوا ساعة .
ثم خرج هاشم بن عتبة في خيل ورجال ،
وخرج إليهم أبو الأعور ، فاقتتلوا يومهم ذلك ، فصبر القوم بعضهم لبعض ، ثم انصرفوا .
غلبة
أصحاب معاوية على الماء
وكان أصحاب معاوية قد غلبوا على الماء ،
وكان في نيّتهم أن يمنعوه عن علي وأصحابه حتى يموتوا عطشاً ـ على زعمهم ـ وقد أشار ابن العاص على معاوية أن لا يفعل ذلك ، لأن ابن أبي طالب لن يظمأ وفي يده أعنة الخيل حتى يشرب أو يموت ـ في حديث طويل ـ فأبى معاوية ذلك .
__________________
غلبة علي على الماء
وفي صبيحة اليوم التالي نهض الأشعث بن
قيس في اثني عشر ألف ، وتبعه الأشتر بخيله ورجاله ثم كبّر الأشعث وكبّر الأشتر ، ثم حملا ، فما ثار الغبار حتى انهزم أهل الشام ، وكان قد قتل من أصحاب معاوية أبطال لا يستهان بهم ، وغلب أصحاب علي على الماء .
وقال عمرو بن العاص لمعاوية : ما ظنّك
بالقوم إن منعوك الماء اليوم كما منعتهم أمس ، أتُرَاكَ تضاربهم عليه كما ضاربوك عليه ، وما أغنى أن تكشف لهم السْوءَة ؟
فقال : دع عنك ما مضى منه . ما ظنك بعلي
؟ قال : ظني به أنه لا يستَحلُّ منك ما استحلَلْتَ منه ، وأن الذي جاء له غير الماء . فقال له معاوية قولاً أغضبه . فردّ عليه ابن العاص شعراً ، جاء فيه :
أمرتك أمراً فسخفته
|
|
وخالفني ابن أبي سَرَحَه
|
فكيف رأيت كباش العراق
|
|
ألم ينطحوا جمعنا نطَحَة
|
فإن ينطحونا غداً مثلها
|
|
نكن كالزبيري أو طلحَة
|
وقد شرب القوم ماء الفرات
|
|
وقلّدك الأشتر الفضحة
|
وحين غلب علي أهل الشام وطردهم عن الماء
بعث إلى معاوية : « إنا لا نكافيك بصنعك ، هلّم إلى الماء فنحن وأنتم فيه سواء » . فأخذ كل واحد من الفريقين بالشريعة التي تليه . وقال علي ( ع ) يومذاك لأصحابه : أيها الناس ، إن الخطب أعظم من منع الماء
.
عدد
الجيشين
واختلف في عدد الجيشين ، والمتفق عليه ـ
كما يقول المسعودي ـ أن عدة جيش علي ( ع ) تسعون ألفاً ، وأن عدة جيش معاوية خمسة وثمانون
__________________
ألفاً ، بينما يذهب
البعض إلى أن كلاً من الجيشين قارب المائة والخمسين ألفاً .
هذا وقد بقيت الحرب فاترةً بين الطرفين
مدة ثلاثة أشهر تقريباً ، أي من أواخر شهر شوال حتى انقضاء المحرم سنة ٣٧ للهجرة .
وكان علي ( ع ) في تلك الفترة قد أمهل
معاوية ، وأقام الحجة عليه ودعاه إلى الكف عن بغيه ، كما أن القُرّاءَ من الطرفين كانوا يحجزون بينهما ويحولون دون وقوع الحرب ويدعون إلى وحدة الكلمة دون جدوى ، ويظهر أن تلك المحاجزة استفاد منها معاوية في تقوية موقفه .
ولما كان آخر يوم من المحرّم قبل غروب
الشمس ، بعث علي إلى أهل الشام : إني قد احتججت عليكم بكتاب الله ، ودعوتكم إليه ، وإني قد نبذت إليكم على سواء ، إن الله لا يهدي كيد الخائنين .
فلم يردُّوا عليه جواباً إلا قولهم : «
السيف بيننا وبينك ، أو يهلك الأعجز منا » .
خطبة علي ( ع )
وخطب علي ( ع ) في ذلك اليوم خطبةً جاء
فيها : نحن أهلُ بيت الرحمة ، وقولنا الصدق ، وفعلنا القصد ، ومِنّا خاتَمُ النبيين ، وفينا قادة الإِسلام ، وفينا حَمَلةُ الكتاب آلا إنا ندعوكم إلى الله وإلى رسوله وإلى جهاد عدوه ، والشدّة في أمره ، وابتغاء مرضاته ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت . . إلى أن قال : ألا وأن أعجب العجائب أنّ معاوية بن أبي سفيان الأموي ، وعمرو بن العاص السهمي أصبحا يحرّضان الناس على طلب الدين بزعمهما ، ولقد علمتم أني لم أخالف رسول الله ( ص ) قط ، ولم أعصِه في أمر ، أقيه بنفسي في المواطن التي ينكِصُ فيها الأبطال وترعُدُ فيها الفرائص ، بنجدةٍ أكرمني الله بها وله الحمد ، ولقد قُبِض رسول الله ( ص )
__________________
وإن رأسه لفي حجري ،
ولقد وَليْتُ غسله بيدي وحدي ، تُقَلّبُه الملائكة المقربون معي ، وأيمُ الله ما اختلفت أمة قط بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها إلا ما شاء الله .
فنادى عمار بن ياسر بالناس : أما أمير
المؤمنين فقد أعلمكم أن الأمة لم تستقمْ عليه أوّلاً . وأنها لن تستقيمَ عليه آخرا ! .
فتفرّقَ الناسُ وقد نفذت أبصارهم في
قتال عدوهم ، فتأهبوا واستعدوا ، ووثبوا إلى رماحهم وسيوفهم ونبالهم يُصلحونها .
وخرج ( ع ) يُعبّىءُ الناس ليلته تلك
كلها حتى أصبحْ ، وعقد الألوية وأمرّ الأمراء وكتّبَ الكتائب ، وبعث إلى أهل الشام منادياً نادى فيهم : اغدوا إلى مَصَافّكم ! فضجّ أهلُ الشام واستعدوا .
خطبة
عبد الله بن بُدَيلْ
وقام عبد الله خطيباً في أصحاب علي فقال
: ألا إن معاوية إدّعىٰ ما ليس له ، ونازعَ الأمر أهلَهُ ومن ليس مثله ، وجادَلَ بالباطل لِيدحضَ به الحق ، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب ، وزيّنَ لهم الضلالة ، وزرع في قلوبهم حُبَّ الفتنة ، ولبَسَ عليهم الأمور ، وزادهم رجساً إلى رجسهم .
وأنتم والله على نور وبرهان مبين ،
قَاتِلوا الطُغاة الجُفَاة ، قاتِلُوهم ولا تخشوهم ، وكيف تخشونهم وفي أيديكم كتاب من ربكم ظاهر مبين . . إلى أن قال : لقد قاتَلْتُهُم مع النبي ( ص ) والله ما هم في هذه بأزكى ولا أتقى ولا أبرَّ ، إنهضوا إلى عدو الله وعدوكم .
خطبة
سعيد بن قيس
قام في الناس فقال : إن أصحاب محمد
المصطَفِينْ الأَخيار معنا وفي حيّزنا . . إلى أن قال : وإنما رئيسنا ابن عم نبينا ، بَدريٌّ صُدُقٌ ، صلىٰ
صغيراً وجاهد مع نبيكم كبيراً ، ومعاويةُ طليق من وثاق الإِسار بن طليق ، ألا
وإنه أغرى جفاةً
فأوردهم النار ، وأوردهم العار ، والله محلٌّ بهم الذل والصَغَارْ .
خطبةُ
ابن التيّهان
وأقبل أبو الهيثم بن التيهان ، وكان من
أصحاب رسول الله ( ص ) بدرياً ، نقيباً ، عَقْبيّاً ، يُسوّي صفوف أهل العراق ويقول : يا معشر أهل العراق ، انه ليس بينكم وبين الفتح في العاجل والجنة في الآجل إلا ساعة من النهار ، فأرسُوا أقدامكم وسوّوا صفوفكم ، وأعيروا ربكم جماجمكم ، واستعينوا بالله إلٰهِكم ، وجاهدوا عدو الله وعدوّكم ، واقتلوهم قَتَلهُمْ
الله وأبادهم ، واصبروا فإن الأرض لله يورثها من يشاءُ من عباده والعاقبةُ للمتقين .
مالك
الأشتر يشيد بالإِمام علي ( ع )
وقام مالك الأشتر رضي الله عنه يخطب
الناس وهو يومئذٍ على فرس أدهم مثل حلك الغراب ، فقال : الحمد لله الذي خلق السمواتِ العلىٰ ، والرحمان على العرش استوى . . إلى أن قال : معنا ابن عم نبينا ، وسيفٌ من سيوف الله عليُّ بن أبي طالب ، صلى مع رسول الله ، لم يسبقه إلى الصلاة ذَكَرٌ حتى كان شيخاً ، لم تكن له صَبْوَة ، ولا نَبْوَة ، ولا هَفْوَة ولا سَقْطَة
، فقيهٌ في دين الله تعالى ، عالم بحدوده ، ذو رأيٍ أصيل وصبرٍ جميل ، وعَفَافٍ قديم ، فاتقوا الله وعليكم بالعزم والجد ، واعلموا أنكم على الحق ، وأن القوم على الباطل ، وإنما تقاتلون معاوية وأنتم مع البدريين قريب من مائة بدري سوى من حولكم من أصحاب محمد ( ص ) أكثر ما معكم رايات قد كانت مع رسول الله . ومع معاوية رايات قد كانت مع المشركين على رسول الله ( ص ) فما يَشُكُّ في قتال هؤلاء إلا من كان ميّت القلب ، أنتم على إحدى الحُسْنَيينْ إما الفتحُ وإما الشهادة ، عصمنا الله وإياكم بما عصم .
«
مساومة عمرو لمعاوية »
وطلب معاوية إلى عمرو بن العاص أن يُسوّي
صفوف أهل الشام . فقال
له عمرو : على إن لي
حكمي إن قتلَ اللهُ ابنَ أبي طالب ؛ واستوثقتْ لك البلاد .
فقال : أليس حكمك في مصر ؟ فقال : وهل
مصرُ تكون لي عِوضاً عن الجنة ، وقتل ابن أبي طالب ثمناً لعذابِ النار ؟! « الذي لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ
وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ » . فقال معاوية : إن لك حكمك أبا عبد الله إن قُتِل ابنُ أبي طالب . رويداً لا يسمعُ أهلُ الشام كلامَك .
فقام عمرو فقال : معاشر أهل الشام ،
سووا صفوفكم قَصّ الشارِب ، وأعيرونا جماجمكم ساعة ، فقد بلغ الحق مقطعه ، فلم يبق إلا ظالم ، أو مظلوم . . !
يقاتلون
طمعاً في الحكم
وقام يزيد بن قيس الأرحبي خطيباً يحرّض
أهل العراق ، فقال : إن المسلم السليم من سلم دينه ورأيه ، وإن هؤلاء القوم ـ والله ـ ما إن يقاتلوننا على إقامة دين رأونا ضيعناه ، ولا على إحياء حق رأونا أمتْنَاه ، ولا يقاتلوننا إلا على هذه الدنيا ليكونوا فيها جبابرةً وملوكاً ، ولو ظهروا عليكم ـ لا أراهم الله ظهوراً ولا سروراً ـ إذن لولِيَكم مثل سعيد والوليد وعبد الله بن عامر السّفيه ، يُحدّث أحدهم في مجلسه بذَيْت وذَيْت ويأخذ مال الله ويقول : لا إثم عليَّ فيه ! فكأنما أعطي تراثه من أبيه ، كيف ؟ إنما هو مال الله أفاءه الله علينا بأسيافنا ورماحنا ، قاتِلوا عباد الله ـ القوم الظالمين الحاكمين بغير ما
أنزل الله ، ولا تأخذكم فيهم لومةُ لائم ، إنهم إن يَظْهروا عليكم يُفسدوا عليكم دِينكم ودُنياكم ، وهم من قد عرفتم وجرّبتُمْ ، والله ما أرادوا باجتماعهم عليكم إلا شرّاً ، وأستغفر الله العظيم لي ولكم .
عمرو
بن العاص يرتجز
وارتجز عمرو بن العاص موجّهاً كلامه
لعلي ( ع ) :
لا تأمَننّا بعدها أبا حَسن
|
|
إنا نُمِرُّ الأمر إمرارَ الرَسَنْ
|
|
خذها إليك واعْلمن أبا حسن
|
|
فأجابه شاعر من أهل
العراق :
ألا احذروا في حربكم أبا حسَن
|
|
ليثاً أبا شبلين محذوراً فَطِنْ
|
يدقكم دق المهاريس الطحن
|
|
لتُغْبَنَن يا جاهلاً أي غَبَنْ
|
|
حتى تعضَّ الكف أو تقرعَ سِنْ
|
|
ـ
بداية الحرب ـ
من عادة علي ( ع ) عند الحرب أن يدعوَ
ببغلةٍ يركبها ، فلما أوشكت الحرب أن تقع في صفين قال : إإتوني بفرس ، فأتي بفرس له ذَنُوبْ ، أدهم يُقَادُ بشِنْطَيَنْ ، يبحث الأرض بيديه جميعاً ، له حَمْحَمَةٌ وصهيل فركبه وقال
: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين . لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وكان ( ع ) إذا سار إلى قتال ذكر إسم
الله ثم يستقبل القبلة ويرفع يديه إلى السماء ويقول : « اللهم إليك نُقِلَتِ الأقدام ، وأتعبت الأبدانُ ، وأفْضِتِ القلوبُ ، ورُفِعَتِ الأيدي وشخَصَتِ الأبصار ، ربنا إفتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خيرُ الفاتحين » . ثم يقول : سيروا على بركة الله . ثم يقول : الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، الله أكبر ، يا الله يا أحد يا صمد ، يا
ربَّ محمد ، أكفُفْ عنّا بأس الظالمين .
ويُروى عنه ( ع ) : ما كان في قتال إلا
ونادى : « يا كهيعص » . وكان شعاره في الحرب ، الله أكبر ، ثم يحملُ فيُورِدُ ـ والله ـ من إتّبعه ومن حادّهُ حياض الموت
.
«
دعاؤه يوم صفين »
أما في صفين ، فكان له دعاء آخر يرويه
زيد بن وهب ، قال : لما
__________________
خرج علي ( ع ) إليهم
غداة ذلك اليوم فاستقبلوه ، رفع يديه إلى السماء وقال : « اللهم ربَّ هذا السقف المحفوظ المكفوف الذي جعلته محيطاً بالليل والنهار ، وجعلت فيه مجرى الشمس والقمر ، ومنازل الكواكب والنجوم ، وجعلت سكانه سبطاً من الملائكة لا يسأمون العبادة ، ورب هذه الأرض التي جعلتها قراراً للأنام والهوام والأنعام وما لا يُحصىٰ مما يُرىٰ ولا
يُرىٰ من خلقك العظيم ورب الفُلْكِ التي تجري في البحر المحيط بما ينفع الناس ، ورب السحاب المسخّر بين السماء والأرض ، ورب البحر المسْجُور المحيط بالعالمين ، ورب الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتاداً ، وللخلق متاعاً ، إن أظهرتنا على عدونا فجنّبْنا البغي وسدّدْنا للحق ، وأن أظهرتهم علينا فارزقنا الشهادة ، واعصم بقية أصحابي من الفتنة .
وصف علي ( ع )
وكان ( ع ) رجلاً ربعةً ، أدعجَ العينين
، كأن وجهه القمرُ ليلة البدر حسناً ، ضخم البطن ، عريض المسربة شثن الكفين ضخِم الكُسور ، كأن عنقه إبريق فضة ، أصلع ، من خلفه شعر صفيف ، لمنكبه مشاشٌ كمشاش الأسد الضاري ، إذا مشى تكفأ ومار به جسده ، ولظهره سنام كسنام الثور ، لا يبين عضده من ساعده ، قد أدْمِجَتْ إدماجاً ، لم يمسك بذراع رجلٍ قط إلا أمسك بنَفَسه فلم يستطع أن يتنفس ، ولونه إلى سمرة ما ، وهو أذلف الأنف ، إذا مشىٰ إلى الحرب هرول ، قد أيده الله في حروبه بالنصر والظفر .
على
يزحف بجيشه
وكان على ميمنته يومئذٍ عبد الله بن بُدَيل
الخزاعي ، وعلى ميسرته عبد الله بن العباس وقُرّاء العراق مع ثلاثة نفر هم ، عمّار بن ياسر ، وقيسُ بن سعد بن عبادة ، وعبد الله بن بُديل ، والناس على راياتهم ومراكزهم ، وعلي ( ع ) في القلب في أهل المدينة ، جمهورهم الأنصار ومعهم من خزاعة وكنانة عدد حسن .
فلما راوه قد أقبل ، تقدموا إليه يزحفون
بجموعهم
.
جيش
معاوية
أما معاوية فرفع قبةً عظيمة ، وألقى
عليها الكرابيس وجلس تحتها ، واجتمع إليه أهل الشام ، فعبأ خيله ، وعقد ألويته وأمر الأمراء وكتّب الكتائب ، وأحاط به أهل حمص في راياتهم وعليهم أبو الأعور السلمي ، وأهل الأردن في راياتهم ، وعليهم عمرو بن العاص ، وأهل قنسرين ، وعليهم زفر بن الحارث الكلابي ، وأهل دمشق ـ وهم القلب ـ وعليهم الضحاك بن قيس الفهري ، فأطافوا كلهم بمعاوية .
«
المبارزة للقتال »
كان يوم السابع من شهر صفر يوماً عظيماً
في صفين لما لقي فيه الطرفان من أهوال شديدة .
وأول فارسين التقيا في ذلك اليوم هما
حُجْر بن عدي الكندي ، الملقّبُ بحُجر الخير صاحب أمير المؤمنين ( ع ) ، وحجر الملقب بحجر الشر ، وهو ابن عمه ، وكلاهما من كندة وكان من أصحاب معاوية ، فاطّعَنا برمحيْهما . وخرج رجل من بني أسد يقال له خزيمة ، من عسكر معاوية ، فضرب حجر بن عدي برمحه ، فحمل أصحاب علي ( ع ) فقتلوا خزيمة الأسدي ، ونجا حجر الشر هارباً فالتحق بصف معاوية .
ثم برز حجر الشر ثانيةً ، فبرز إليه
الحكم بن أزهر ـ من أهل العراق ـ فقتله حجر الشر فخرج إليه رفاعة بن ظاهر الحميري من صف العراق فقتله ، وعاد إلى أصحابه يقول : الحمد لله الذي قتل حجر الشر بالحكم بن أزهر .
علي
( ع ) يدعو إلى كتاب الله ، ومعاوية يرفض
ثم أن علياً ( ع ) دعا أصحابه إلى أن
يذهب واحد منهم بمصحف كان
__________________
في يده إلى أهل الشام
، فقال : من يذهب إليهم فيدعوهم إلى ما في هذا المصحف ؟ فسكت الناس ، وأقبل فتىً إسمه سعيد فقال : أنا صاحبه : فأعاد عليّ القول ثانيةً فسكت الناس ؛ وتقدم الفتى فقال : أنا صاحبه . فسلّمه إليه فقبضه بيده ، ثم أتاهم فناشدهم الله ودعاهم إلى ما فيه ، فقتلوه !
الإِمام علي يأمر أصحابه بالهجوم
فقال علي ( ع ) لعبد الله بن بديل :
إحمل عليهم الآن ؟ فحمل عليهم بمن معه من أهل الميمنة وعليه يومئذٍ سيفان ودرعان ، فجعل يضرب بسيفه قدماً ويقول :
لم يبق غيرُ الصبرِ والتوكلْ
|
|
والترسِ والرمحِ وسيفٍ مصْقَلْ
|
ثم التمشي في الرعيل الأولْ
|
|
مشي الجمال في حياض المَنهلْ
|
فلم يزل يحمل حتى انتهى إلى معاوية ومن
معه ممن بايعه على الموت ، فأمرهم أن يصمدوا لعبد الله بن بديل ، وبعث إلى حبيب بن سلمة الفهري وهو في الميسرة أن يحمل عليه بجميع من معه ، واختلط الناس ، واصطدم الفيلقان ، ميمنةُ العراق وميسرةُ أهل الشام ، وأقبل عبد الله يضرب الناس بسيفه قِدْماً حتى أزال معاوية عن موقفه جعل ينادي : يا لثارات عثمان ـ وهو يعني أخاً له قد قُتِل ـ وظن معاوية وأصحابه أنه يعني عثمان بن عفان ، وتراجع معاوية عن مكانه القهقري ، وأشفق على نفسه ، وأرسل إلى حبيب بن مسلمة مرة ثانية وثالثة يستنجده ويستصرخه ، ويحمل حبيب حملةً شديدة بميسرة معاوية على ميمنة العراق فيكشفها حتى لم يبق مع ابن بُدَيل إلا نحو مائة إنسان من القُرّاء ، فاستند بعضهم إلى بعض يحمون أنفسهم ، ولجَجَ ابن بُدَيل في الناس وصمم على قتل معاوية ، وجعل يطلب موقفه ويصمد نحوه حتى انتهى اليه ومع معاوية عبد الله بن عامر واقف ، فنادى معاوية في الناس : ويلكم ، الصخر والحجارة إذا عجزتم عن السلاح ! فرضخه الناس بالصخر والحجارة حتى أثخنوه ، فسقط فأقبلوا عليه بسيوفهم فقلتوه .
وجاء معاوية وعبد الله بن عامر حتى وقفا
عليه ، فأما عبد الله بن عامر فألقى عمامَتهُ على وجهه وترحّمَ عليه وكان له أخاً صديقاً من قبل . فقال معاوية : إكشف عن وجهه ؟ فقال : لا والله لا يُمَثّلُ فيه وفيَّ رُوح . فقال معاوية : إكشف عن وجهه فإنا لا نُمثّل فيه ، قد وهبناه لك . فكشف ابن عامر عن وجهه ، فقال معاوية : هذا كبشُ القوم وربّ الكعبة . اللهم أظفرني بالأشتر النُخَعي والأشعث الكندي ، والله ما مَثلُ هذا إلا كما قال الشاعر :
أخو الحرب إن عضّتْ به الحربُ عضّها
|
|
وإن شمّرَتْ عن ساقِها الحرب شمّرا
|
ويحمي إذا ما الموت كان لقاؤه
|
|
قِدى الشِبر يحمي الأنف إن يتأخرا
|
كليث هزبر كان يحمي ذماره
|
|
رمته المنايا قصدَها فتفطّرا
|
الإمام
علي ( ع ) يردّ الكتائب
بعد مقتل ابن بديل ، إستعلى أهل الشام
على أهل العراق يومئذٍ ، وانكشف من قِبلَ الميمنة وأجفلوا إجفالاً شديداً ، فأمر علي ( ع ) سهل بن حُنَيْف ، فاستقدم من كان معه ليرْفِدَ الميمنة ويَعْضدَها ، فاستقبلتهم جموع أهل الشام في خيلٍ عظيمة ، فحملت عليهم ، فألحقتهم بالميمنة ، وكانت ميمنة أهل العراق متصلةً بموقف علي ( ع ) في القلب في أهل اليمن ، فلما انكشفوا انتهت الهزيمة إلى علي ( ع ) ، فانصرف يمشي نحو الميسرة ، فانكشفت مضر عن الميسرة أيضاً ، فلم يبق مع علي من أهل العراق إلا ربيعة وحدها في الميسرة .
قال زيد بن وهب : لقد مرّ علي ( ع )
يومئذٍ ومعه بنوه نحو الميسرة ومعه ربيعة وحدها ، وإني لأرى النبل يمر بين عاتقه ومنكبيه ، وما من بَنِيهِ إلا من يقيه بنفسه ، فيكره علي ( ع ) ذلك ، فيتقدم عليه ويحول بينه وبين أهل الشام ، ويأخذه بيده إذا فعل ذلك ، فيلقيه من ورائه ! ويُبْصرُ به أحمر مولى بني أمية ، وكان شجاعاً ، فقال عليٌّ ( ع ) : ورب الكعبة قتلني الله إن لم
__________________
أقتلك ! فأقبل نحوه ،
فخرج إليه كيسان مولى علي ( ع ) ، فاختلفا ضربتين ، فقتله أحمر ، وخالط علياً ليضربه بالسيف ، وينتهزه علي فتقع يده في جيب درعه ، فجذبه عن فرسه فحمله على عاتقه ، فوالله لكأني أنظر إلى رجلي أحمر تختلفان على عنق علي ، ثم ضرب به الأرض فكسر منكبيه وعضديه ، وشد إبنا علي محمدٌ وحسينٌ فضرباه بأسيافهما حتى برد فكأني أنظر إلى علي قائماً وشبلاه يضربان الرجل حتى إذا أتيا عليه ، أقبلا إلى أبيهما والحسن قائم معه ، فقال له علي : يا بني ، ما منعك أن تفعل كما فعل أخواك ؟ فقال كفياني يا أمير المؤمنين .
قال : ثم أن أهل الشام دنوا منه يريدونه
! والله ما يزيدهم قربهم منه ودنوهم إليه سرعةً في مشيته ، فقال له الحسن ( ع ) : ما ضرّك لو أسرعت حتى تنتهي إلى الذين صبروا لعدوك من أصحابك ؟ فقال علي ( ع ) : يا بُنَيّ ، إن لأبيك يوماً لن يعدوه ولا يبطىء به عن السعي ، ولا يقربه إليه الوقوف ، إن أباك لا يبالي إن وقع على الموت أو وقع الموت عليه .
لا
هروب من القدر !!
قال أبو إسحاق : وخرج علي ( ع ) يوماً
من أيام صفين وفي يده رُمحٌ صغير ، فمرَّ على سعيد بن قيس الهمداني ، فقال له سعيد : أما تخشى يا أمير المؤمنين أن يغتالك أحد وأنت قرب عدوك ؟! فقال علي ( ع ) إنه ليس من أحد إلا وعليه من الله حَفَظَةٌ يحفوظونه من أن يتردّىٰ في قَلِيب
، أو يخِرّ عليه حائط ، أو تصيبه آفةٌ ، فإذا جاء القدر ، خلّوا بينَه وبينَه .
شجاعة
الأشتر وتحريضه
وكان بيد الأشتر يومئذٍ صفيحةٌ يمانيةٌ
، إذا طأطأها خِلْتَ فيها ماءً ينصَبّ ، وإذا رفعها يكاد يغشي البصر شعاعُها ، ومرّ يضرب الناس بها قِدماً ويقول :
__________________
الغمراتُ ، ثم ينجلينا
فبصُرَ به الحارث بن جمهان الجعفي
والأشتر مقنعٌ في الحديد ، فلم يعرفه ، فدنا منه وقال له : جزاك الله منذ اليوم عن أمير المؤمنين وعن جماعة المسلمين خيراً ، فعرفه الأشتر ، فقال : يا بن جمهان ، أمثلك يتخلّفُ عن مثل موطني هذا ؟ فتأمله ابن جمهان فعرفه ـ وكان الأشتر أعظم الرجال وأطولهم إلا أن في لحمه خفة قليلة ـ فقال له : جُعِلتُ فداك والله ما علمت مكانك حتى الساعة ، ولا والله لا أفارقك حتى أموت .
وخطب الأشتر محرضاً أصحابه فقال :
عَضّوا على النواجذِ من الأضراس ، واستقبلوا القوم بهَامِكُمْ ، فإن الفِرارَ من الزحف فيه ذَهابُ العز والغلبة على الفيء وذلّ الحياة والممات ، وعار الدنيا والآخرة . ثم حمل على صفوف أهل الشام حتى كشفهم فألحقهم بمضارب معاوية ، وذلك بين العصر والمغرب .
قتال
بجيلة
وكانت راية بجيلة في صفين مع أهل العراق
، كانت في « أحمس » ، مع أبي شداد قيس بن المكشوح الأنماري ، قالت له بجيلة : خذ رايتنا ، فقال : غيري خير لكم مني ! قالوا : لا نريد غيرك ، قال : فوالله لئن أعطيتمونيها لا أنتهي بكم دون صاحب الترس المذهب ـ وهو عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ـ وكان على رأس معاوية في خيل عظيمة من أصحاب معاوية . فقالوا : إصنع ما شئت . فأخذها ثم زحف بها وهم حوله يضربون الناس حتى انتهى إلى صاحب الترس ، فاقتتل الناس هناك قتالاً شديداً ، وشد أبو شداد بسيفه نحو صاحب الترس ، فتعرض له رومي من دونه لمعاوية فضرب قدَمَ أبي شداد فقطعها وضرب أبو شداد ذلك الرومي فقتله ، وأسرعت إليه الأسِنّة ، فقُتل . فأخذ الراية بعده عبد الله بن قلع الأحمسي وارتجز وقال :
__________________
لا يُبعدُ الله أبا شداد
|
|
حيث أجابَ دعوة المنادي
|
وشدّ بالسيف على الأعادي
|
|
نِعْمَ الفتى كان لدىٰ الطِرادِ
|
|
وفي طِعَانِ الخيل والجلاد
|
|
ثم قاتل حتى قُتل : فأخذها بعده أخوه
عبد الرحمن بن قلع ، فقاتل حتى قُتل ، ثم أخذها عفيف بن إياس ، فلم تزل بيده حتى تحاجز الناس .
وخرج رجل من عسكر الشام من أزد شنوءة ،
يسأل المبارزة ، فخرج إليه الأشتر فما ألبثه أن قتله ، فقال قائل : كان هذا ريحاً فصار إعصاراً .
وقال رجل من أصحاب علي ( ع ) ، أما والله
لأحملن على معاوية حتى أقتله ، فركب فرساً ثم ضربه حتى قام على سَنَابِكه ، ثم دفعه فلم ينهْنِههُ شيء عن الوقوف على رأس معاوية ، فيهرب معاوية ، ودخل خباءه ، فنزل الرجل عن فرسه ودخل عليه ، فخرج معاوية من جانب الخباء الآخر ، فخرج الرجل في أثره ، فاستصرخ معاوية بالناس ، فأحاطوا به وحالوا بينهما . فقال معاوية : ويحكم ، أن السيوف لم يؤذن لها في هذا ، ولولا ذلك لم يصل إليكم ، فعليكم بالحجارة ، فرضخوه بالحجارة حتى همد . فعاد معاوية إلى محله .
« ضربة ما مثلها ضربة »
وحمل رجل من أصحاب علي ( ع ) يُدعىٰ
أبو أيوب على صف أهل الشام ، ثم رجع فوافق رجلاً من أهل الشام صادراً قد حمل على صف أهل العراق ، ثم رجع فاختلفا ضربتين ، فنفحه أبو أيوب بالسيف فأبان عنقه ، فثبت رأسه على جسده كما هو ، وكذب الناس أن يكون هو ضربه ، فأراهم ذلك حتى إذا أدخلته فرسه في صفّ أهل الشام ندر رأسه ووقع ميتاً فقال علي ( ع ) : والله لأنا من ثبات رأس الرجل أشدُّ تَعَجّباً من الضربة ، وإن كان إليها ينتهي وصف الواصفين .
وجاء أبو أيوب فوقف بين يدي علي ( ع ) ،
فقال له : أنت والله كما قال :
وعَلّمنَا الضربَ آباؤُنا
|
|
ونحن نعلّم أيضاً بنينا
|
« قتل حريث مولى
معاوية »
وكان فارس معاوية الذي يُعدّهُ لكل
مبارز ولكل عظيم ، وهو حُرَيثٌ مولاه ، وكان يلبس سلاح معاوية متشبهاً به ، فإذا قاتل قال الناس : ذاك معاوية . وإن معاوية دعاه ، فقال له : يا حريث اتق علياً ، وضع رمحك حيث شئت ، فأتاه عمرو بن العاص فقال : يا حريث ، إنك والله لو كنت قرشياً لأحب لك معاوية أن تقتل علياً ، ولكن كره أن يكون لك حظها ، فإن رأيت فرصةً فاقتحم .
وخرج علي ( ع ) في هذا اليوم أمام الخيل
، فحمل عليه حُرَيّث ، وكان حريث شديداً ، أيّداً ، ذا بأس لا يرام ، فصاح : يا علي ، هل لك في المبارزة ؟ فأقدم أبا حسن إن شئت !!
فأقبل علي ( ع ) وهو يقول :
أنا علي وابن عبد المطلب
|
|
نحن لعمر والله أولى بالكُتُب
|
منا النبي المصطفى غير كذب
|
|
أهل اللواء والمقام والحُجُبْ
|
ثم خالطه فما أمهله أن ضربه ضربةً واحدة
، فقطعه نصفين .
فجزع معاوية على حريث جزعاً شديداً ،
وعاتب عمراً في إغرائه بعلي ( ع ) ، وقال في ذلك شعراً :
حريث ألم تعلم وجَهْلُكَ ضائرٌ
|
|
بأن علياً للفوارس قاهرُ
|
وأن علياً لم يبارزه فارسٌ
|
|
من الناس إلا أقصدته الأظافرُ
|
أمرتك أمراً حازماً فعصيتني
|
|
فجدك إذا لم تقبل النصح عاثر
|
ودلّاك عمرو والحوادث جمة
|
|
غروراً وما جرت عليك المقادر
|
وظن حُرَيْث أن عمراً نصيحه
|
|
وقد يُهْلكُ الإنسان من لا يحاذر
|
قال نصر بن مزاحم : فلما قتل حريث ، برز
عمرو بن الحصين السكسكي ، فنادى : يا أبا الحسن هلم الى المبارزة ، فأومأ ( ع ) إلى سعيد بن قيس الهمداني ، فبارزه فضربه بالسيف فقتله .
وكان لهمدان بلاء عظيم في نصرة علي ( ع
) في صفين ، ومن الشعر الذي لا يُشَكُّ أن قائله علي ( ع ) لكثرة الرواة له :
دعوتُ فلباني من القوم عصبةٌ
|
|
فوارسُ من همدان غير لئامِ
|
فوارس من همدان ليسوا بعزّلٍ
|
|
غداة الوغىٰ من شاكرٍ وشبام
|
بكل رديني وعضبٍ تخاله
|
|
إذا اختلف الأقوام سعدَ جذام
|
لهمدان أخلاق كرامٌ تزينهم
|
|
وبأسٌ إذا لاقوا وحدّ خصام
|
وجدٌّ وصدق في الحروب ونجدة
|
|
وقول إذا لاقوا بغير أثام
|
متى تأتهم في دارهم تستضيفهم
|
|
تَبتْ ناعماً في خدمة وطعام
|
جزى الله همدان الجنانَ فإنها
|
|
سهام العدى في كل يوم زُحام
|
ولو كنت بواباً على باب جنةٍ
|
|
لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
|
علي يطلب معاوية للمبارزة
ثم قام علي ( ع ) بصفين ونادى : يا
معاوية ! يكررها . فقال معاوية : سلوه ما شأنه ؟ قال : أحب أن يظهر لي فأكلمه كلمة واحدة ، فبرز معاوية وعمرو بن العاص فلما قارباه ، لم يلتفت إلى عمرو ، وقال لمعاوية : ويحك ؛ علام يقتتل الناس بيني وبينك ؟ ويضرب بعضهم بعضاً ؟؟ أبرز إلي ، فأينا قتل صاحبه فالأمر له !
فالتفت معاوية إلى عمرو فقال : ما ترى
يا أبا عبد الله ؟ قال : قد أنصفك الرجل ، واعلم أنك إن نكلت عنه لم يزل سبَّةً عليك وعلى عقبك ما بقي على ظهر الأرض عربي .
فقال معاوية : يا بن العاص ، ليس مثلي
يُخْدَعُ عن نفسه . والله ما بارز
ابنَ أبي طالب شجاعٌ
إلا وسقى الأرض بدمه ! ثم انصرف معاوية راجعاً حتى انتهى إلى آخر الصفوف وعمرو معه ، فلما رأى علي ( ع ) ذلك ضحك وعاد إلى موقفه .
وفي حديث الجرجاني : إن معاوية قال
لعمرو ، ويحك ما أحمقك ، تدعوني إلى مبارزته ودوني عكٌّ وجذام ، والأشعريون ؟؟
قال نصر : وحقدها معاوية على عمرو
باطناً ، وقال له ظاهراً ما أظنك قلت ما قلته يا أبا عبد الله إلا مازحاً . فلما جلس معاوية مجلسه ، وأقبل عمرو يمشي حتى جلس إلى جانبه ، فقال معاوية :
يا عمرو إنك قد قشرتَ لي العصا
|
|
برضاكَ لي وسْطَ العجاج بِرازي
|
يا عمرو إنك قد أشرت بظنةٍ
|
|
حسبُ المبارزِ خطفةٌ من بازي
|
ولقد ظننتك قلت مزحة مازحٍ
|
|
والمزح يحمله مقال الهازي
|
فإذا الذي منّتْكَ نفسك حاكباً
|
|
قتلي زاك بما نَويْتَ الجازي
|
ولقد كشفت قناعها مذمومةً
|
|
ولقد لبست بها ثياب الخازي
|
فقال عمرو : أيها الرجل ، أتجيفُ عن
خصمك ، وتتهم نصيحك ، ثم قال مجيباً له :
معاوي إن نكلْتَ عن البِراز
|
|
وخِفْتَ فإنها أمّ المخازي
|
معاوي ما اجترمتُ إليك ذنباً
|
|
ولا أنا في الذي حدثتُ خازي
|
وما ذنبي بأن نادى عليٌّ
|
|
وكبشُ القوم يُدعى للبراز ـ
|
ولو بارزته بارزتَ ليثاً ـ
|
|
حديدَ النابِ يخطف كلَّ باز
|
وتزعم أنني أضمرت غِشاً
|
|
جزاني بالذي أضمرتُ جازي
|
قبّح
اللهُ اللجاج
قال أبو الأعز التميمي : بينا أنا واقف
بصفين ، مرَّ بي العباس ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب مكفراً بالسلاح وعيناه تبصّان من تحت المِغْفر كأنهما عينا أرقم ، وبيده صفيحة يمانية يقلبها وهو على فرس له صعب ، فبينا
هو يمغثه
ويلين من عريكته ، هتف به هاتف من أهل الشام يعرف بعرار بن أدهم : يا عباس ، هلم إلى البراز . قال العباس : فالنزول إذن ، فإنه أيأس من القفول ، فنزل الشامي وهو يقول :
إن تركبوا فركوبُ الخيل عادتنا
|
|
أو تنزلون فإنّا معشرٌ نُزُل
|
وثنى العباس رجله وهو يقول :
ويصدّ عنك مخيلة الرجل
|
|
العرَّيض موضحة عن العظمِ
|
بحسام سيفك أو لسانك
|
|
والكل الأصيل كأرغب الكلم
|
ثم عصب فضلات درعه في حجزته
، ودفع فرسه إلى غلام له أسود يقال له أسلم ، كأني والله أنظر إلى فلافل شعره ، ثم دلف كل واحد منهما إلى صاحبه ، فذكرت قول أبي ذؤيب :
فتنازلا وتواقفَتْ خيلاهما
|
|
وكلاهما بطل اللقاء مخدّع
|
وكفّت الناس أعنة خيولهم ينظرون ما يكون
من الرجلين ، فتكافحا ، بسيفيهما مليّاً من نهارهما لا يصل واحد منهما إلى صاحبه لكمال لأمته إلى أن لحظ العباس وهناً في درع الشامي فأهوى إليه بيده فهتكه إلى ثندوته ، ثم عاد لمجاولته وقد أصحر له ففتق الدرع ، فضربه العباس ضربةَ انتظم بها جوانح صدره ، فخرَّ الشامي لوجهه وكبّر الناس تكبيرةً ارتجت لها الأرض من تحتهم ، وسما العباس في الناس ، فإذا قائل يقول من ورائي : (
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ . . ) الآية . فالتفت فإذا أمير المؤمنين ( ع
) فقال لي : يا أبا الأعز ؛ من المنازل لعدونا ؟ قلت : هذا ابن أخيكم ، هذا العباس بن ربيعة . فقال ، وإنه لهو . يا عباس ، ألم أنهك وابن عباس أن تخلا بمراكز كما وأن تباشرا حرباً ؟! قال : إن ذلك كان . قال : فما عدا مما بدا ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، أفأدعى إلى البراز فلا أجيب ؟ قال : نعم ، طاعة امامك أولى من إجابة عدوك ، ثم تغيظ واستطار حتى قلت الساعة
__________________
الساعة !! ثم سكن
وتطامن ورفع يديه مبتهلاً فقال : اللهم اشكر للعباس مقامه واغفر ذنبه ، إني قد غفرت له فاغفر له .
قال : ولهف معاوية على عرارٍ وقال ، متى
ينتطح فحل لمثله ، أيطل دمه ؟ لا ها الله إذن ، ألا رجل يشري نفسه لله يطلب بدم عرار ؟ فانتدب له رجلان من لخم ، فقال لهما اذهبا ، فأيكما قتل العباس برازاً فله كذا . فأتياه فدعواه للبراز ، فقال : إن لي سيداً أريد أن أؤامره ، فأتى علياً ( ع ) فأخبره الخبر ، فقال علي ( ع ) : والله لود معاوية أنه ما بقي من بنى هاشم نافخُ ضُرمة إلا طعن في بطنه إطفاءً لنور الله ( وَيَأْبَى اللَّهُ
إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ )
أما والله ليملكنهم منا رجال ورجال يسومونهم الخسف حتى يحتفروا الآبار ويتكففوا الناس ، ويتوكلوا على المساحي !!
ثم قال : يا عباس ، ناقلني سلاحك بسلاحي
، فناقله ووثب على فرس العباس ، وقصد اللخميين ، فما شكَّا أنه هو . قالا : أذِنَ لك صاحبك ؟ فحرج أن يقول نعم . فقال : أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير . فبرز إليه أحدهما فكأنما اختطفه ، ثم برز له الآخر فألحقه بالأول ، ثم أقبل وهو يقول : « الشَّهْرُ
الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ
» ثم قال : يا عباس ، خذ سلاحك وهات سلاحي ، فإن عاد لك أحد فعد إليّ .
فنُمي الخبر إلى معاوية ، فقال : قبّح
الله اللجاج إنه لقعود ما ركبته قط إلا خُذلت فقال عمرو بن العاص : المخذول والله اللخميان لا أنت . فقال : أسكت أيها الرجل وليست هذه من ساعاتك ، قال : وإن لم يكن ، فرحم الله اللخميين وما أراه يفعل ، قال : فإن ذلك والله أخسر لصفقتك وأضيق لحجزتك ، قال : لقد علمت ذلك ، ولولا مصر لركبت المنجاة منها . قال : هي أعمتك ولولاها ألفيتُ بصيرا
.
__________________
أحتدام الحرب
قال نصر : ثم التقى الناس فاقتتلوا
قتالاً شديداً ، وحاربت طيء مع أمير المؤمنين ( ع ) حرباً عظيماً وتداعت وارتجزت ، فقتل منها أبطال كثيرون ، واشتد القتال بين ربيعة وحمير وعبيد الله بن عمر حتى كثرت القتلى ، وجعل عبيد الله بن عمر يحمل ويقول : أنا الطيب ابن الطيب : فتقول له ربيعة بل أنت الخبيث بن الطيب .
ثم خرج نحو خمسمائة فارس أو أكثر من
أصحاب علي ( ع ) على رؤوسهم البيض ، وهم غائصون في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق ، وخرج إليهم من أهل الشام نحوهم في العدّة فاقتتلوا بين الصفين والناس وقوف تحت راياتهم ، فلم يرجع من هؤلاء ولا من هؤلاء مخبر : لا عراقي ولا شامي ، قتلوا جميعاً بين الصفين .
قال نصر : وكان بصفين تلٌّ تلقى عليه
جماجم الرجال ، فكان يدعى « تل الجماجم » فقال عقبة بن مسلم الرقاشي من أهل الشام :
ولم أر فرساناً أشد حفيظةً
|
|
وأمنع منا يوم تل الجماجم ـ
|
غداة غدا أهل العراق كأنهم
|
|
نعام تلاقى في فجاج المخارم
|
إذا قلت قد ولوا تثوب كتيبة
|
|
ململةً في البيض شمط المقادم
|
وقالوا لنا هذا علي فبايعوا
|
|
فقلنا صهٍ بل بالسيوف الصوارم
|
وقال شبث بن ربعي التميمي :
وقفنا لديهم يوم صفين بالثنا
|
|
لدن غدوةٍ حتى هوت لغروب
|
وولى ابن حرب والرماح تنوشه
|
|
وقد أرضت الأسياف كل غضوب
|
نجالدهم طوراً وطوراً نشلهم
|
|
على كل محبوك السراة شبوب
|
فلم أر فرساناً أشد حفيظة
|
|
إذا غشي الآفاق رهج جنوب
|
مقتل
عبيد الله بن عمر
وحمل عبيد الله في قراء أهل الشام ومعه
ذو الكلاع في حمير ، حملوا
على ربيعة وهي في
ميسرة علي ( ع ) ، فقاتلوا قتالاً شديداً ، فأتى زياد بن خصفة إلى عبد القيس فقال لهم : لا بكر بن وائل بعد اليوم ! إن ذا الكلاع وعبيد الله أبادا ربيعة ، فانهضوا لهم وإلا هلكوا .
فركبت عبد القيس وجاءت كأنها غمامة
سوداء ، فشدت أزر الميسرة ، فعظم القتال فقتل ذو الكلاع الحميري ، قتله رجل من بكر بن وائل اسمه خندف ، وتضعضعت أركان حِمْيَر وثبتت بعد قتل ذي الكلاع تحارب مع عبيد الله بن عمر ، وأرسل عبيد الله إلى الحسن بن علي إن لي إليك حاجةً ، فالقني ، فلقيه الحسن ( ع ) ، فقال له عبيد الله : إن أباك قد وتر قريشاً أولاً وآخراً ، وقد شنئه الناس ، فهل لك في خلعه وأن تتولى أنت هذا الأمر ؟! فقال الحسن : كلا والله لا يكون ذلك . ثم قال : يا بن الخطاب ، والله لكأني أنظر إليك مقتولاً في يومك أو غدك . أما إن الشيطان قد زيّن لك وخدعك حتى أخرجك مخلّقاً بالخلوق ترى نساء أهل الشام موقفك ، وسيصرعك الله ويبطحك لوجهك قتيلاً .
قال نصر : فوالله ، ما كان إلا بياض ذلك
اليوم حتى قتل عبيد الله وهو في كتيبةٍ رقطاء ـ وكانت تدعى الخضرية ـ كانوا أربعة آلاف عليهم ثياب خضر . فمر الحسن ( ع ) فإذا رجل متوسد برجل قتيل قد ركز رمحه في عينه ، وربط فرسه برجله . فقال الحسن ( ع ) لمن معه : انظروا من هذا ؟ فإذا رجل من همدان ، وإذا القتيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب .
عمّار يحرض على الجهاد
وقام عمّار يوم صفين فقال : انهضوا معي
عباد الله إلى قوم يزعمون أنهم يطلبون بدم ظالم إنما قتله الصالحون المنكرون للعدوان ، الآمرون بالإحسان ، فقال هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت دنياهم ولو درس هذا الدين لم قتلتموه ؟ فقلنا : لإحداثه . فقالوا : أنه لم يحدث شيئاً ! وذلك لأنه مكنهم من الدنيا ، فهم يأكلونها ويرعونها . ولا يبالون لو انهدمت الجبال . والله ما أظنهم يطلبون بدم ، ولكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحلوها واستمرؤها ، وعلموا
أن صاحب الحق لو
وليهم لحال بينهم وبين ما يأكلون ويرعون منها .
إن القوم لم يكن لهم سابقة في الإسلام
يستحقون بها الطاعة والولاية ، فخدعوا أتباعهم بأن قالوا : قتل إمامنا مظلوماً ، ليكونوا بذلك جبابرة وملوكاً ، تلك مكيدة قد بلغوا بها ما ترون . ولولاها ما بايعهم من الناس رجل . اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت ، وإن تجعل لهم الأمر ، فادخر لهم بما أحدثوا لعبادك العذاب الأليم .
ثم مضى ، ومضى معه أصحابه ، فدنا من
عمرو بن العاص فقال : يا عمرو ، بعت دينك بمصر ، فتباً لك وطالما بغيت للإسلام عوجاً .
ثم حمل عمار وهو يقول :
صدق الله وهو للصدق أهلٌ
|
|
وتعالى ربي وكان جليلاً
|
ربّ عجل شهادةً لي بقتل
|
|
في الذي قد أحب قتلاً جميلاً
|
مقبلاً غير مدبرٍ إن للقتل
|
|
على كل ميتةٍ تفضيلاً
|
أنهم عند ربهم في جنانٍ
|
|
يشربون الرحيق والسلسبيلا
|
من شراب الأبرار خالطه المسـ
|
|
ـك وكأساً مزاجها زنجبيلاً
|
يطلب رضا الله سبحانه
ثم قال : اللهم أنت تعلم أني لو أعلم أن
رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر ، لفعلت ! اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك أن أضع ضبة سيفي في بطني ثم أنحني عليه حتى يخرج من ظهري ، لفعلت ، اللهم إني أعلم مما علمتني إني لا أعمل عملاً صالحاً هذا اليوم هو أرضىٰ من جهاد الفاسقين ، ولو أعلم عملاً هو أرضى لك منه لفعلته .
ونادى عمار بن ياسر عبد الله بن عمرو بن
العاص ، فقال له : بعت دينك بالدنيا من عدو الله وعدو الإِسلام معاوية ؟ وطلبت هوى أبيك الفاسق !؟
__________________
فقال : لا ، ولكن أطلب بدم عثمان الشهيد
المظلوم .
قال : كلا ، أشهد على علمي فيك أنك
أصبحت لا تطلب بشيء من فعلك وجه الله وأنك إن لم تقتل اليوم فستموت غداً ، فانظر إذا أعطى الله العباد على نياتهم ما نيّتك ؟
دماؤهم أحل من دم عصفور !
قال أسماء بن حكيم الغزاوي : كنا بصفين
مع علي تحت راية عمّار بن ياسر ارتفاع الضحى ، وقد استظللنا برداءٍ أحمر . إذ أقبل رجل يستقري الصف حتى انتهى إلينا فقال : أيكم عمار بن ياسر ؟ فقال عمار : أنا عمّار . قال : أبو اليقظان ؟ قال : نعم قال : إن لي إليك حاجة ، أفأنطق بها سرّاً أو علانيةً ؟ قال : إختر لنفسك أيهما شئت ، قال لا ، بل علانيةً ، قال : فانطق . قال :
إني خرجت من أهلي مستبصراً في الحق الذي
نحن فيه لا أشك في ضلالة هؤلاء القوم وأنهم على الباطل ، فلم أزل على ذلك مستبصراً حتى ليلتي هذه ، فإني رأيت في منامي منادياً تقدم فأذن وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ونادى بالصلاة ، ونادى مناديهم مثل ذلك ، ثم أقيمت الصلاة فصلينا صلاةً واحدة ، وتلونا كتاباً واحداً ، ودعونا دعوةً واحدة ، فأدركني الشك في ليلتي هذه فبت بليلةٍ لا يعلمها إلا الله تعالى ، حتى أصبحت فأتيت أمير المؤمنين فذكرت ذلك له ، فقال هل لقيت عمار بن ياسر ؟ قلت : لا . قال : فألقه فانظر ماذا يقول لك عمّار فاتبعه ، فجئتك لذلك ، فقال عمار : تعرف صاحب الراية السوداء المقابلة لي ؟ فإنها راية عمرو بن العاص . قاتلتها مع رسول الله ( ص ) ثلاث مرات وهذه الرابعة ، فما هي بخيرهن ولا أبرهن ، بل هي شرهن وأفجرهن !
ثم قال له عمار : أشهدت بدراً وأحداً
ويوم حنين ، أو شهدها أبٌ لك فيخبرك عنها ؟ قال : لا ، قال : فإن مراكزنا اليوم على مراكز رايات رسول الله ( ص ) يوم بدرٍ ويوم أحد ويوم حنين ، وأن مراكز رايات هؤلاء على
مراكز رايات المشركين
من الأحزاب ، فهل ترى هذا العسكر ومن فيه ؟ والله لوددت أن جميع من فيه ممن أقبل مع معاوية يريد قتالنا ـ مفارقاً للذي نحن عليه كانوا خلقاً واحداً فقطعته وذبحته ! والله لدماؤهم جميعاً أحلُّ من دم عصفور ؛ أفترى دم عصفور حراماً ؟ قال : لا ، بل حلالٌ . قال : فإنهم حلال كذلك ، أتراني بينت لك ؟ قال : قد بيّنت لي ، قال : فاختر أي ذلك أحببت !؟
فانصرف الرجل ، فدعاه عمار ثم قال : أما
إنهم سيضربونكم بأسيافهم حتى يرتاب المبطلون منكم فيقولوا ، لو لم يكونوا على حق ما أظهروا علينا ، والله ما هم من الحق على ما يقذي عين ذباب والله لو ضربونا بأسيافهم حتى يبلغونا سعفات هجر ، لعرفتُ أنا على حق
وهم على باطل ، وأيم الله لا يكون سلماً سالماً أبداً حتى يبوء أحد الفريقين على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين ، وحتى يشهدوا على الفريق الآخر بأنه على الحق وأن قتلاهم في الجنة وموتاهم ، ولا تنصرم أيام الدنيا حتى يشهدوا بأن موتاهم وقتلاهم في الجنة ، وأن موتى أعدائهم وقتلاهم في النار ، وكان أحياؤهم على الباطل .
بين عمّار وهاشم المرقال
ودفع علي ( ع ) الراية إلى هاشم بن عتبة
المعروف بالمرقال ، وقال له رجل من أصحابه من بكر بن وائل ، أقدم هاشم ، يكررها ثلاثاً . ثم قال : ما لك يا هاشم قد انتفخ سحرك ؟! أعوراً وجبناً !! قال : من هذا ؟ قالوا : فلان قال : أهلها وخير منها إذا رأيتني قد صرعت فخذها ، ثم قال لأصحابه : شدوا شسوع نعالكم وشدوا أزركم ، فإذا رأيتموني قد هززت الراية ثلاثاً فاعلموا أن أحداً منكم لا يسبقني إلى الحملة ، ثم نظر إلى معسكر معاوية فرأى جمعاً عظيماً . فقال : من أولئك ؟ قيل : أصحاب ذي الكلاع ؟ ثم نظر فرأى جنداً ، فقال : من أولئك ؟ قيل : قريش وقوم من أهل المدينة ؟ فقال : قَوْمِي لا حاجة لي في قتالهم ، من عند هذه القبة البيضاء ؟ قيل : معاوية وجنده . قال : فإني أرى دونهم أسودة ، قيل ذاك عمرو بن العاص
__________________
وإبناه ومواليه . فأخذ
الراية فهزها ، وجعل عمار بن ياسر يحرضه على الحرب ويقرعه بالرمح ويقول : أقدم يا أعور لا خير في أعور لا يأتي الفزع .
فقال هاشم :
قد أكثرا لومي وما أقلا
|
|
أني شريت النفس لن أعتلا
|
أعور يبغي أهله محلاً
|
|
قد عالج الحياة حتى ملّا
|
لا بد أن يفلَّ أو يُفلّا
|
|
أشلهم بذي الكعوب شلا
|
مع ابن عم أحمد المعلى
|
|
أول من صدقه وصلّى
|
ثم حمل يتقدم ويركز الراية ، فإذا ركزها
عاوده عمّار بالقول ، فيتقدم أيضاً ، فقال عمرو بن العاص : إني لأرى لصاحب الراية السوداء عملاً لئن دام على هذا لتفنين العرب اليوم .
فاقتتلوا قتالاً شديداً وعمار ينادي :
صبراً ، والله إن الجنة تحت ظلال البيض . وكان بأزاء هاشم وعمّار أبو الأعور السلمي ، ولم يزل عمّار بهاشم ينخسه وهو يزحف بالراية حتى اشتد القتال وعظم والتقى الزحفان ، واقتتلا قتالاً لم يسمع السامعون بمثله وكثرت القتلىٰ في الفريقين جميعاً .
ثم إن أهل العراق كشفوا ميمنة أهل الشام
، فطاروا في سواد الليل ، وكشف أهل الشام ميسرة أهل العراق فاختلطوا في سواد الليل ، وتبدلت الرايات بعضها ببعض ، فلما أصبح الناس وجد أهل الشام لواءهم وليس حوله إلا ألف رجل ، فاقتلعوه وركزوه من وراء موضعه الأول وأحاطوا به ، ووجد أهل العراق لواءهم مركوزاً وليس حوله إلا ربيعة وعلي ( ع ) بينها ، وهم محيطون به وهو لا يعلم من هم ويظنهم غيرهم ، فلما أذن مؤذن علي الفجر ، قال ( ع ) :
يا مرحباً بالقائلين عدلا
|
|
وبالصلاة مرحباً وأهلا
|
ثم وقف وصلى الفجر ، فلما انفتل أبصر
وجوهاً ليست بوجوه أصحابه بالأمس وإذا مكانه الذي هو فيه ما بين الميسرة إلى القلب ، فقال : من
القوم ؟ قالوا :
ربيعة . وانك يا أمير المؤمنين لعندنا منذ الليلة ، فقال : فخرٌ طويلٌ لك يا ربيعة .
فضيحة
عمرو بن العاص
كان الحارث بن النضر الخثعمي من أصحاب
علي ( ع ) على قدر كبير من الشجاعة والفروسية وكان بينه وبين عمرو بن العاص عدواة ، وكان علي ( ع ) قد تهيبته فرسان الشام وملأ قلوبهم رعباً بشجاعته ، وكان عمرو قلما يجلس مجلساً إلا ذكر فيه الحارث بن النضر وعابه ، فقال الحارث في ذلك :
|
ليس عمرو تبارك ذِكرهُ الحارث بالسوء
أو يلاقي عليّا
|
|
|
واضع السيف فوق منكبه الأيمن لا يحسب
الفوارس شيّا
|
|
|
ليت عمراً يلقاه في حومة النقع وقد
أمست السيوف عصيّا
|
|
|
حيث يدعو للحرب حامية القوم إذا كان
بالبراز مليّا
|
|
|
فالقه إن أردت مكرمة الدهر أو الموت
كل ذاك عليا
|
|
فشاعت هذه الأبيات حتى بلغت عمراً ،
فأقسم بالله ليلقيّن علياً ولو مات ألف موتةٍ ، فلما اختلطت الصفوف لقيه فحمل عليه برمحه ، فتقدم علي ( ع ) وهو مخترط سيفاً ومعتقل رمحاً ، فلما رهقه همز فرسه ليعلو عليه ، فألقى عمرو نفسه عن فرسه إلى الأرض شاغراً برجليه ، كاشفاً عورته ، فانصرف عنه علي ( ع ) لافتاً وجهه ، مستدبراً له ! فعد الناس ذلك من مكارم أخلاقه وسؤدده وضُرِب المثل به .
وفي ليلةٍ من ليالي صفين اجتمع عند
معاوية كل من عمرو بن العاص ، وعتبة بن أبي سفيان والوليد بن عقبة ، ومروان بن الحكم وعبد الله بن عامر ،
__________________
وابن طلحة الطلحات الخزاعي
.
فقال عتبة : إن أمرنا وأمر علي بن أبي
طالب لعجيب ! ما فينا إلا موتور مجتاح . أما أنا فقد قتل جدي عتبة بن ربيعة وأخي حنظلة ، وشرك في دم عمي شيبة يوم بدر .
وأما أنت يا وليد ، فقتل أباك صبراً . وأما
أنت يا بن عامر ، فصرع أباك وسلب عمك . وأما أنت يا بن طلحة ، فقتل أباك يوم الجمل ، وأيتم إخوتك . وأما أنت يا مروان فكما قال الشاعر :
وأفلتهن علباءٌ جريضا
|
|
ولو أدركنه صفر الوطاب
|
فقال معاوية : هذا الاقرار ، فأين الغير
؟ قال مروان : وأي غير تريد ؟ قال : أريد أن تشجروه بالرماح .
قال مروان : والله يا معاوية ما أراك
إلا هاذياً أو هازئاً وما أرانا إلا ثقلنا عليك !! فقال ابن عتبة :
يقول لنا معاوية بن حرب
|
|
أما فيكم لواترِكم طلوبُ
|
يشد على أبي حسن عليٍّ
|
|
بأسمر لا تهجّنهُ الكعوبُ
|
فيهتك مجمع اللبّاتِ منه
|
|
ونقع الحرب مطرد يؤوبُ
|
فقلت له أتلعبُ يا بن هندٍ
|
|
كأنك بيننا رجل غريبُ
|
أتغرينا بحيّة بطن وادٍ
|
|
أتيح له به أسد مهيبُ
|
بأضعفَ حيلةً منا إذا ما
|
|
لقيناه ولقياه عجيبُ
|
سوى عمرو وقته خصيتاه
|
|
وكان لقلبه منه وجيب
|
كأن القوم لما عاينوه
|
|
خلال النقع ليس لهم قلوبُ
|
لعمر أبي معاوية بن حرب
|
|
وما ظني ستلحقه العيوبُ
|
لقد ناداه في الهيجا عليٌّ
|
|
فاسمعه ولكن لا يجيبُ
|
فغضب عمرو ، وقال : إن كان الوليد
صادقاً فليلق علياً ، أو فليقف حيث يسمع صوته : ثم قال :
يذكرني الوليد دعا عليٍّ
|
|
ونطق المرء يملأه الوعيدُ
|
متى تذكر مشاهده قريش
|
|
يطر من خوفه القلب السديدُ
|
فأما في اللقاء فأين منه
|
|
معاوية بن حرب والوليدُ
|
وعيرني الوليد لقاء ليثٍ
|
|
إذا ما شدّ هابته الأسود
|
لقيت ولستُ أجهله علياً
|
|
وقد بلّت من العلق اللبود
|
فأطعنه ويطعنني خلاساً
|
|
وماذا بعد طعنته أريدُ
|
فرمها منه يا بن أبي مُعَيْط
|
|
وأنت الفارس البطل النجيد
|
وأقسم لو سمعتَ ندا علي
|
|
لطار القلب وانتفخ الوريدُ
|
ولو لاقيته شُقّت جيوبٌ
|
|
عليك ولطمت فيك الخدود
|
« بين عمّار وعمرو
بن العاص »
قال نصر بن مزاحم : بينا علي ( ع )
واقفاً بين جماعة من همدان وحمير وغيرهم ، إذ نادى رجل من أهل الشام : من يدل على أبي نوح الحميري ؟ فقيل له : قد وجدته . فماذا تريد . فحسر عن لثامه فإذا هو ذو الكلاع الحميري ومعه جماعة من أهله ورهطه . فقال لأبي نوح : سر معي حتى نخرج من الصف فإن لي إليك حاجة ، فخرج في كتيبة معه .
فقال ذو الكلاع : إنما أريد أن أسألك عن
أمرٍ فيكم تمارينا فيه . أحدثك حديثاً حدثناه عمرو بن العاص قديماً في خلافة عمر بن الخطاب ، ثم اذكرنا الآن فيه فأعاده . إنه يزعم أنه سمع رسول الله ( ص ) قال : « يلتقي أهل الشام وأهل العراق ، وفي احدى الكتيبتين الحق وامام الهدى ومعه عمار بن ياسر .
فقال أبو نوح : نعم والله إنه لفينا .
قال : نشدتك الله أجاد هو في قتالنا ؟
قال : نعم ورب الكعبة لهو أشد على قتالكم مني ، ولوددت أنكم خلق واحد فذبحته وبدأت بك قبلهم وأنت ابن عمي .
__________________
قال ذو الكلاع : ويحك ، علام تمنّىٰ
ذلك منا ، فوالله ما قطعتك فيما بيني وبينك قط ، وان رحمك لقريبة وما يسرني أن أقتلك .
قال أبو نوح : إن الله قطع بالإِسلام
أرحاماً قريبةً ، ووصل به أرحاماً متباعدةً ، واني أقاتلك وأصحابك لأنا على الحق وأنتم على الباطل .
قال ذو الكلاع : فهل تستطيع أن تأتي معي
صف أهل الشام . فأنا لك جارٌ منهم حتى تلقى عمرو بن العاص فتخبره بحال عمّار وجدَّه في قتالنا لعله أن يكون صلح بين هذين الجندين .
فقال أبو نوح : إنك رجل غادر وأنت في
قوم غدر ، وان لم ترد الغدر أغدروك واني أن أموت أحب إلي أن أدخل مع معاوية ! فألح عليه ذو الكلاع وكرّر عليه ما قاله أولاً ، وقال له : أنا لك بما قلت زعيم .
قال أبو نوح : اللهم انك ترى ما أعطاني
ذو الكلاع ، وأنت تعلم ما في نفسي فاعصمني واختر لي وانصرني وادفع عني . ثم سار مع ذي الكلاع حتى أتى عمرو بن العاص وهو عند معاوية وحوله الناس وعبد الله بن عمرو يحرض الناس على الحرب ، فلما وقفا على القوم ، قال ذو الكلاع لعمرو : يا أبا عبد الله ، هل لك في رجل ناصحٍ لبيب مشفق يخبرك عن عمار بن ياسر فلا يكذبك ؟ قال : ومن هو ؟ قال : هو ابن عمي هذا وهو من أهل الكوفة . فقال عمرو : أرى عليك سيماء أبي تراب . فقال أبو نوح : علي سيماء محمدٍ وأصحابه ، وعليك سيماء أبي جهل وفرعون !
فقام ابو الأعور ، فسلَّ سيفه وقال : لا
أرى هذا الكذاب اللئيم يسبّنا بين أظهرنا وعليه سيماء أبي تراب .
فقال ذو الكلاع : اقسم بالله ، لئن بسطت
يدك إليه لأحطمن أنفك بالسيف ! ابن عمي وجاري عقدت له ذمتي وجئت به إليكم ليخبركم عما تماريتم فيه .
فقال له عمرو : يا أبا نوح اذكرك الله
إلا ما صدقتنا ولم تكذبنا ، فيكم
عمار بن ياسر ؟
قال : ما أنا مخبرك حتى تخبرني ، لم
تسأل عنه ومعنا من أصحاب محمد ( ص ) عدة غيره ، وكلهم جاد على قتالكم .
فقال عمرو : سمعت رسول الله ( ص ) يقول
: إن عماراً تقتله الفئة الباغية ، وأنه ليس لعمّار أن يفارق الحق ، ولن تأكل النار من عمّار شيئاً .
فقال له أبو نوح : لا إله إلا الله
والله أكبر ، والله إنه لفينا ، جادٌّ على قتالكم ! ولقد حدثني يوم الجمل أنا سنظهر على أهل البصرة ، ولقد قال لي أمس أنكم لو ضربتمونا حتى تبلغوا بنا سعفات هجر ، لعلمنا أنا على الحق وأنكم على الباطل ، ولكانت قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار .
قال عمرو : فهل تستطيع أن تجمع بيني
وبينه ؟ قال : نعم .
فركب عمرو بن العاص في اثني عشر فارساً
، وركب عمار بن ياسر في اثني عشر فارساً ، فالتقوا حتى اختلفت أعناق الخيل ، خيل عمار وخيل عمرو ، ونزل القوم واحتبوا بحمائل سيوفهم ، وأراد عمرو بن العاص أن يتكلم وبدأ بالشهادتين ، فقاطعه عمار وقال له :
اسكت ، فلقد تركتها وأنا أحق بها منك ،
فإن شئت كان خصومةً فيدفع حقنا باطلك ، وإن شئت كانت خطبةً فنحن أعلم بفصل الخطاب منك ، وإن شئت أخبرتك بكلمةٍ تفصل بيننا وبينك ، وتكفرك قبل القيام ، وتشهد بها على نفسك ولا تستطيع أن تكذبني فيها .
فقال عمرو : يا أبا اليقظان ، ليس لهذا
جئت ، إنما جئت لأني رأيتك أطوع أهل هذا العسكر فيهم ، أذكرك الله إلا كففت سلاحهم وحقنت دماءهم ، وحرصت على ذلك ، فعلام تقاتلوننا ؟ أو لسنا نعبد إلهاً واحداً ونصلي إلى قبلتكم وندعو دعوتكم ، ونقرأ كتابكم ، ونؤمن بنبيكم ؟!
فقال عمار : الحمد لله الذي أخرجها من
فيك ، إنها لي ولأصحابي ، القبلة والدين وعبادة الرحمان ، والنبي والكتاب من دونك ودون أصحابك .
الحمد لله الذي قررك
لنا بذلك وجعلك ضالاً مضلاً أعمى ، وسأخبرك بمَ أقاتلك عليه وأصحابك ، إن رسول الله ( ص ) أمرني أن أقاتل الناكثين ، فقد فعلت . وأمرني أن أقاتل القاسطين وهم أنتم . وأما المارقون ، فلا أدري أدركهم أم لا ؟
أيها الأبتر ، ألست تعلم أن رسول الله (
ص ) قال : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، فأنا مولى الله ورسوله ، وعلي مولاي بعدهما .
قال عمرو : لِمَ تشتمني أبا اليقظان ،
ولستُ أشتمك ؟!
قال عمار : وبمَ تشتمني ، أتستطيع أن
تقول إني عصيت الله ورسوله يوماً قط ؟!
قال عمرو : إن فيك لمساوىءَ سوى ذلك .
قال عمار : إن الكريم من أكرمه الله ،
كنتُ وضيعاً فرفعني الله ، ومملوكاً فاعتقني الله ، وضعيفاً فقواني الله ، وفقيراً فأغناني الله .
قال عمرو : فما ترىٰ في قتل عثمان
؟
قال : فتح لكم بابَ كلّ سوء !
قال عمرو : فعليٌّ قتله ؟!
قال عمار : بل الله ربُّ علي قتله ،
وعليٌّ معه .
فقال عمرو : ألا تسمعون ، قد اعترف بقتل
إمامكم ! قال عمّار : قد قالها فرعون من قبلك لقومه : « ألا تستمعون » !
فقام أهل الشام ولهم زَجَل ، فركبوا
خيولهم ورجعوا . وقام عمار وأصحابه فركبوا خيولهم ورجعوا ، وبلغ معاوية ما كان بينهم فقال : هلكت العربُ إن حركتهم خِفّةُ العبد الأسود : يعني عماراً .
نداءُ
عمّار في الناس
وخرجت الخيول إلى القتال واصطفت بعضها
لبعض ، وتزاحف
الناس ، وعلى عمّار
درعٌ بيضاء وهو يقول : أيها الناس ، الرواح إلى الجنة .
فقاتل القوم قتالاً شديداً لم يسمع
السامعون بمثله وكثرت القتلى ، حتى إن كان الرجل ليشد طنب فسطاطه بيد الرجل أو برجله . وحكىٰ الأشعث بعد ذلك فقال : لقد رأيت أخبية صفين وأروقتها وما فيها خباء ولا رواق ولا فسطاط إلا مربوطاً بيد إنسان أو برجله .
بطولة عمار وثبات إيمانه
حين نظر عمار إلى راية ابن العاص قال :
والله انها لراية قد قاتلتها ثلاث مرات وما هذه بأرشدهن : ثم قال :
نحنُ ضربناكم على تأويله
|
|
كما ضربناكم على تنزيلهِ
|
ضرباً يزيل الهام عن مقيلهِ
|
|
ويذهلُ الخليل عن خليلهِ
|
« بين عمّار وهاشم »
قال الأحنف بن قيس : والله إني إلى جانب
عمّار بن ياسر بيني وبينه رجل ، فتقدمنا حتى دنونا من هاشم بن عتبة ، فقال له عمّار : إحمل ، فداك أبي وأمي !
فقال له هاشم : يرحمك الله يا أبا اليقظان
؟ انك رجل تأخذك خِفّةٌ في الحرب ، واني إنما أزحف باللواء زحفاً ، أرجو أن أنال بذلك حاجتي ، وان خفّفتُ لم آمن الهلكة ، وقد كان قال معاوية لعمرو : ويحك ، إن اللواء اليوم مع هاشم بنِ عُتبة ، وقد كان من قبلُ يرقِلُ به إرقالاً ، وان زحف به اليوم زحفاً انه لليوم الأطول على أهل الشام ، فإن زحف في عنق من أصحابه إني لأطمع أن تقتطع .
فلم يزل به عمّار حتى حمل ، فبصُر به
معاوية فوجه إليه حماة أصحابه .
وحمل عمار ذلك اليوم على صفّ أهل الشام
وهو يرتجز :
كلا ورب البيت لا أبرح اجي
|
|
حتى أموت أو أرى ما اشتهي
|
لا افتأ الدهر أحامي عن علي
|
|
صهر الرسول ذي الأمانات الوفي
|
ينصرنا رب السماوات العلي
|
|
ويقطع الهام بحدّ المشرفي
|
يمنحنا النصر على من يبتغي
|
|
ظلماً علينا جاهداً ما يأتلي
|
فضرب أهل الشام حتى اضطرهم إلى الفرار .
الصلاةُ هي الأهم
قال عبد خير الهمداني : نظرت إلى عمار
بن ياسر يوماً من أيام صفين قد رمي رميةً فأغمي عليه ، فلم يصل الظهر ولا العصر ولا المغرب ولا العشاء ولا الفجر ، ثم أفاق . فقضاهن جميعاً ، يبدأ بأول شيء فاته ، ثم بالتي تليها .
اخر الشراب والشهادة
صدق رسول الله ( ص ) حين قال لعمار :
تقتلك الفئة الباغية . . وآخر شرابك من الدنيا ضياح من لبن .
ففي يوم من أيام صفين استسقى عمّارٌ وقد
اشتد به العطش ، فأتته أمرأة طويلة البدن ومعها إداوة فيها ضياح من لبن ، فقال حين شرب : « الجنةُ تحتَ الأسِنّة ، اليوم ألقىٰ الأحبة محمداً وحزبه ، والله لو ضربونا حى
يبلغونا سعفات هجر ، لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل » .
ثم حمل ، وحمل عليه ابن حوّىٰ
السكسكي وأبو العادية ، فأما أبو العادية فطعنه ، وأما ابن حوّى فاحتز رأسه .
يتقربون بقتله
وكثر المتقربون بقتل عمار إلى معاوية
وعمرو ، فكان لا يزال الرجل يجيء إليهما فيقول : أنا قتلته ، فيقول له عمرو : فما سمعتَه يقول ؟ وكأن هناك كلمة سر ظلت مكتومةً في نفس هذا الشهيد العظيم لتدل على قاتله في
آخر لحظات حياته كما
تدل في نفس الوقت على عمق الهدف الذي استشهد من أجله . . فكان الرجل منهم يخلط ، فيعرف عمرو أنه ليس هو القاتل . حتى أقبل ابن حوّى فقال : أنا قتلته ! فقال عمرو : فما كان آخر منطقه ؟!
قال : سمعته يقول : اليوم ألقى الأحبة ،
محمداً وحزبه . .
فقال عمرو : صدقت ، أنت صاحبه ، أما
والله ما ظفِرَتْ يداك ، ولقد أسْخطْتَ ربك !
يختصمان في النار !
قال السدي : إن رجلين بصفين اختصما في
سلب عمّار وفي قتله ، فأتيا عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال : ويحكما أخرجا عني ، فان رسول الله ( ص ) قال : « ما لقريشٍ ولعمّار ، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ، وقاتلهُ وسالبُهُ في النار » .
فلما سمع معاوية ذلك قال : إنما قتله من
أخرجه ، يخدعُ بذلك طُغَام أهل الشام .
عتاب معاوية لعمرو بن العاص في شأن عمار
كان ذو الكلاع الحميري يسمع عمرو بن
العاص يقول : إن النبي ( ص ) يقول لعمّار تقتلك الفئة الباغية ، وآخر شربك ضياح من لبن . يسمع ذلك من عمرو قبل أن يُصابَ عمّار فقال ذو الكلاع لعمرو : ويحك ، ما هذا ! قال عمرو : انه سيرجع إلينا ويفارق أبا تراب .
وقد كان عبد الله بن سُويد الحميري قال
لذي الكلاع : ما حديثٌ سمعتَه من ابن العاص في عمّار ؟ فأخبره فلما قتل عمار ، خرج عبد الله ليلاً يمشي فأصبح في عسكر علي ( ع ) ـ وكان عبد الله من عُبّاد أهل زمانه ـ .
وكاد أهل الشام أن يضطربوا حين قُتل عمار
، لولا أن معاوية قال لهم : إن علياً قتل عماراً لأنه أخرجه إلى الفتنة .
وأرسل معاوية إلى عمرو ، لقد أفسدتَ
عليّ أهل الشام ، أكلَّ ما سمعت من رسول الله ( ص ) تقوله ؟!
فقال عمرو : قلتُها ولستُ أعلم الغيب
ولا أدري أن صفين تكون ، قلتُها وعمّار يومئذٍ لك وليٌّ ، وقد رويتَ أنت فيه مثل ما رويتُ .
فغضب معاوية وتنمّر لعمرو ، وعزم على
منعه خيرَه . فقال عمرو لابنه وأصحابه : لا خير في جوار معاوية ؛ إن تجلّت هذه الحرب عنه لأفارقنّه ! وكان عمرو حمي الأنف ، قال في ذلك :
تعاتبني أن قلتُ شيئاً سمعتُهُ
|
|
وقد قلتَ لو انصفتني مثله قبلي
|
أنعلُك فيما قلت نعل ثبيتةٌ
|
|
وتزلق بي في مثل ما قلتُه نعلي
|
وما كان لي علم بصفين أنها
|
|
تكون عمّار يحث على قتلي
|
ولو كان لي بالغيب عم كتمتها
|
|
وكايدت أقواماً مراجلهم تغلي
|
أبى الله إلا أن صدرَك واغرٌ
|
|
عليَّ بلا ذنب جنيت ولا ذحلِ
|
سوى أنني والراقصات عشية
|
|
بنصرك مدخول الهوى ذاهل العقل
|
فلا وضعت عني حَصَانٌ قناعها
|
|
ولو حملت وجناء ذِعْلبةً رحلي
|
ولا زلت أدعى في لؤي بن غالبٍ
|
|
قليلاً غَنَائي لا أمرُّ ولا أُحلي
|
إن الله أرخىٰ من خناقك مرةً
|
|
ونلت الذي رجيت ان لم أزر أهلي
|
واترك لك الشام التي ضاق رحبها
|
|
عليك ولم يهنك بها العيش من أجلي
|
فأجابه معاوية على شعره :
أالآن لما ألقت الحرب بركها
|
|
وقام بنا الأمر الجليل على رجل
|
غمزتَ قناتى بعد ستين حجةٍ
|
|
تباعاً كأني لا أمِرّ ولا أحلي
|
أتيتَ بأمر فيه للشام فتنةٌ
|
|
وفي دون ما أظهرته زلة النعل
|
فقلت لك القول الذي ليس ضائراً
|
|
ولو ضرّ لم يضررك حملك لي ثقلي
|
فعاتبتني في كل يوم وليلةٍ
|
|
كأن الذي ابليك ليس كما ابلي
|
فيا قبح الله العتاب وأهله
|
|
ألم تر ما أصبحتُ فيه من الشغل
|
فدع ذا ولكن هل لك اليوم حيلة
|
|
ترد بها قوماً مراجلهم تغلي
|
دعاهم عليٌّ فاستجابوا لدعوةٍ
|
|
أحب إليهم من ثرى المال والأهل
|
إذا قلت هابوا حومة الموت أرقلوا
|
|
إلى الموت إرقال الهَلُوكِ إلى الفحل
|
__________________
حملة عليّ ( ع )
ثم إن علياً أمر الناس أن يحملوا على
أهل الشام وذلك بعد استشهاد
__________________
عمار بن ياسر ،
فحملوا عليهم فنقضوا صفوفهم .
ومر على جماعةٍ من أهل الشام بصفين ،
منهم الوليد بن عقبة وهم يشتمونه ويقصبونه ( يسبونه ) فأخبر بذلك ، فوقف على ناس من أصحابه وقال : انهدوا إليهم وعليكم السكينة والوقار وسيماء الصالحين أقرِبْ بقوم من الجهل قائدهم ومؤدبهم معاوية وابن النابغة وأبو الأعور السلمي وابن أبي معيط شارب الحرام والمحدود في الإِسلام ، وهم أولاء يقصبونني ويشتمونني وقبل اليوم ما قاتلوني وشتموني وأنا إذ ذاك أدعوهم إلى الإِسلام ، وهم إذ ذاك يدعونني إلى عبادة الأصنام ، فالحمد لله ولا إله إلا الله لقديماً ما عاداني الفاسقون ، إن هذا لهو الخطب الجلل ، إن فساقاً كانوا عندنا غير مرضيين وعلى الإِسلام وأهله متخوفين ، أصبحوا وقد خدعوا شطر هذه الأمة واشربوا قلوبهم حب الفتنة ، واستمالوا أهوائهم بالافك والبهتان ونصبوا لنا الحرب وجدوا في إطفاء نور الله ، والله مُتمٌّ نوره ولو كره الكافرون ، اللهم فانهم قد ردّوا الحق ، فافضض جمعهم ، وشتت كلمتهم ، وأبلسهم بخطاياهم ، فانه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت .
قال نصر : وكان عليٌّ إذا أراد الحملة
هلّلّ وكبّرَ ثم قال :
من أيّ يوميَّ من الموت أفر
|
|
يوم لا يُقدر أم يوم قُدر
|
وكان معاوية قد جعل لواءه الأعظم مع عبد
الرحمن بن خالد بن الوليد ، فأمر علي ( ع ) جارية بن قدامة السعدي أن يلقاه بأصحابه وأقبل عمرو بن
__________________
العاص بعده في خيلٍ
ومعه لواءٌ ثانٍ ، فتقدم حتى خالط صفوف العراق ، فقال علي ( ع ) لابنه محمد : إمش نحو هذا اللواء رويداً ، حتى إذا أشرعت الرماح في صدورهم فأمسك يدك حتى يأتيك أمري ، ففعل ، وقد كان أعد علي ( ع ) مثلهم مع الأشتر ، فلما أشرع محمد الرماح في صدور القوم ، أمر علي ( ع ) الأشتر أن يحمل ، فحمل فأزالهم عن مواقفهم ، وأصاب منهم رجالاً ، واقتتل الناس قتالاً شديداً فما صلّىٰ من أراد الصلاة إلا إيماءً .
ثم إن علياً ( ع ) أرسل إلى جميع العسكر
أن إحملوا ، فحمل الناس كلهم على راياتهم كل منهم يحمل على من بأزائه ، فتجالدوا بالسيوف وعمد الحديد لا يسمع إلا صوت ضرب الهامات كوقع المطارق على السنادين ، ومرّت الصلاة كلها فلم يصل أحد إلا تكبيراً عند مواقيت الصلاة حتى تفانوا ورَقَّ الناس .
واختلط أمر الناس تلك الليلة ، وزال أهل
الرايات عن مراكزهم ، وتفرق أصحاب علي ( ع ) ، فأتى ربيعة ليلاً فكان فيهم ، وتعاظم الأمر جداً ، وأقبل عدي بن حاتم يطلب علياً في موضعه الذي تركه فيه فلم يجده ، فطاف يطلبه فأصابه بين رماح ربيعة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أما إذا كنتَ حيّاً فالأمر أمم ، ما مشيت إليك إلا على قتيل ، وما أبقت هذه الوقعة لهم عميدا ، فقاتل حتى يفتح اللهُ عليك ، فان في الناس بقيةٌ بعد .
وأقبل الأشعث يلهث جزعاً ، فلما رأى
علياً ( ع ) هلّل وكبّر وقال : يا أمير المؤمنين ، خيل كخيل ، ورجال كرجال ، ولنا الفضل عليهم إلى ساعتنا هذه ، فعُد إلى مكانك الذي كنت فيه فان الناس إنما يظنونك حيث تركوك .
وأرسل سعيد بن قيس الهمداني إلى علي ( ع
) ، إنا مشتغلون بأمرنا مع القوم وفينا فضل . فإن أردت أن نمدّ أحداً أمددناه ، فأقبل علي ( ع ) على ربيعة فقال : أنتم درعي ورمحي
. فقال عدي بن حاتم : يا أمير
__________________
المؤمنين ، إن قوماً
أنست بهم وكنت في هذه الجولة فيهم لعظيم حقهم ، والله إنهم لصُبرٌ عند الموت ، أشداء عند القتال .
فدعا علي ( ع ) بفرس رسول الله ـ
المرتجز ـ فركب ، ثم تقدم أمام الصفوف ، ثم قال : بل البَغلةَ ، بل البَغلة ، فقدمت له بغلة رسول الله ( ص ) وكانت شهباء فركبها ، ثم تعصب بعمامة رسول الله ( ص ) وكانت سوداء ، ثم نادى : أيها الناس ، من يشر نفسه لله يربح ، إن هذا اليوم له ما بعده ، إن عدوكم قد مسه القرح كما مسّكم ، فانتدبوا لنصرة دين الله .
فانتدب له ما بين عشرة آلاف إلى اثني
عشر ألفاً قد وضعوا سيوفهم على عواتقهم ، فشد بهم على أهل الشام وهو يقول :
دُبوا دبيبَ النمل لا تفوتوا
|
|
وأصبحوا في حربكم وبيتوا
|
حتى تنالوا الثأرَ أو تموتوا
|
|
أو لا فاني طالما عُصيتُ
|
قد قلتم لو جئتنا فجيتُ
|
|
ليس لكم ما شئتم وشيتُ
|
|
بل ما يريد المحيي المميتُ
|
|
وتبعه عديّ بن حاتم بلوائه وهو يقول :
أبعد عمّار وبعد هاشم
|
|
وابن بديل فارس الملاحم
|
نرجوا البقاء ظل حلم الحالم
|
|
لقد عضضنا أمس بالأباهم
|
فاليوم لا نقرع سِنَّ نادم
|
|
ليس امرؤ من حتفه بسالم
|
وحمل ، وحمل الأشتر بعدهما في أهل
العراق كافة ، فلم يبق لأهل الشام صفٌّ إلا إنتقض ، وأهمد أهل العراق ما أتوا عليه حتى أفضى الأمر إلى مضرب معاوية ، وعلي ( ع ) يضرب الناس بسيفه قدماً قدما ، ولا يمر بفارسٍ إلا قدَّه وهو يقول :
اضربهم ولا أرىٰ معاوية
|
|
الأخزر العين العظيم الحاوية
|
|
هوَتْ به في النار أمَّ هاوية
|
|
فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه ، فلما
وضع رجله في الركاب توقف وتلوّم قليلاً ثم أنشد قول عمرو بن الإِظنابة :
أبتْ لي عفتي وأبىٰ بلائي
|
|
واخذي الحمد بالثمن الربيحِ
|
وأقدامي على المكروه نفسي
|
|
وضربي هامة البطل المشيحِ
|
وقولي كلما جَشأتْ وجاشَتْ
|
|
مكانك تحمُدي أو تستريحي
|
لأدفع عن مآثر صالحاتٍ
|
|
وأحمي بعدُ من عرَضٍ صحيح
|
ثم قال : يا عمرو بن العاص ، اليوم صبرٌ
وغداً فخر ، قال : صدقت ، إنك وما أنت فيه كقول القائل :
ما علتي وأنا جلد نابل
|
|
والقوس فيها وَترٌ عَنابل
|
نزِلُّ عن صفحتها المعابل
|
|
الموت حق والحياة باطل
|
فثنى معاوية رجله من الركاب ، ونزل
فاستصرخ بعكٍّ والأشعريين ، فوقفوا دونه وجالدوا عنه حتى كره كل من الفريقين صاحبه وتحاجز الناس
.
الشني يمدح علياً
وقام الأعور الشني إلى علي ( ع ) فقال :
يا أمير المؤمنين ، زاد الله في سرورك وهداك ، نظرت بنور الله فقدمت رجالاً وأخرت رجالاً ؛ عليك أن
__________________
تقول وعلينا أن نفعل .
أنت الإِمام ، فان هلكت فهذان من بعدك ـ يعني حسناً وحسيناً عليهما السلام ـ وقد قلتُ شيئاً فاسمعه ، قال : هات . فأنشد :
أبا حسن أنت شمسُ النهار
|
|
وهذان في الحادثات القمرْ
|
وأنت وهذان حتى الممات
|
|
بمنزلةِ السمع بعد البَصَرْ
|
وأنتم أناس لكم سورةٌ
|
|
تقصر عنها أكف البشرْ
|
يخبرنا الناس عن فضلكم
|
|
وفضلكم اليوم فوق الخَبرْ
|
عقدت لقوم أولي نجدةٍ
|
|
من أهل الحياء وأهل الخَطرْ
|
مساميحُ بالموت عند اللقاءِ
|
|
منّا واخواننا من مُضرْ
|
ومن حيّ ذي يمنٍ جلّةً
|
|
يقيمون في النائبات الصعرْ
|
فكل يسرك في قومه
|
|
ومن قال لا فبفيه الحجرْ
|
ونحن الفوارس يوم الزبير
|
|
وطلحة إذ قيل أودى غدرْ
|
ضربناهم قبل نصف النهار
|
|
إلى الليل حتى قضينا الوطرْ
|
ولم يأخذ الضرب إلا الرؤوس
|
|
ولم يأخذ الطعن إلا الثغرْ
|
فنحن أولئك في أمسنا
|
|
ونحن كذلك فيما غبرْ
|
فلم يبق أحد من الرؤساء إلا وأهدى إلى
الشني واتحفه .
علي يدعو معاوية للمناجزة
وأرسل علي ( ع ) إلى معاوية ، أن أبرز
إلي واعف الفريقين من القتال ، فأينا قتل صاحبه كان الأمر له . فقال عمرو : لقد أنصفك الرجل ! فقال معاوية : أنا أبارز الشجاع الأخرق ؟! أظنك يا عمرو طمعتَ فيها ! فلما لم يجب ، قال علي ( ع ) :
« وا نفساه ، أيطاع معاوية وأعصى !؟ ما
قاتلت أمةٌ قط أهل بيت نبيها وهي مِقرّةٌ بنبيّها غير هذه الأمة ! »
.
__________________
وهدأت
المعركة ليستريح المحاربون ، غير أن أمير المؤمنين علياً أبى أن يستريح ، فأخذ يجول متفقداً من استشهد حوله ، حتى وقف على أبي اليقظان عمار بن ياسر ، فبكى بكاءً شديداً ، ثم قال مسمعاً من حوله :
« إن أمرؤ من المسلمين لم يعظُمْ عليه
قتلُ ابن ياسر وتدخل به عليه المصيبةُ الموجعةُ لغيرُ رشيد ! رحم الله عمّاراً يوم أسلم ، ورحم الله عمّاراً
يوم قُتل ، ورحم الله عماراً يوم يبعث حياً » . ثم قال :
لقد رأيت عماراً وما يُذكر من أصحاب
رسول الله ( ص ) أربعةٌ إلا كان رابعاً ، ولا خمسةٌ إلا كان خامساً ، وما كان أحد من قدماءِ أصحاب رسول الله ( ص ) يشكُّ أن عماراً قد وجبت له الجنة في غير موطن ولا إثنين ، فهنيئاً لعمار بالجنة ، ولقد قيل : إن عماراً مع الحق ، والحق معه ، يدور عمّارٌ مع الحق أينما دار ، وقاتل عمار في النار
.
وكان عمار أوصى بقوله : « لا تغسلوا عني
دماً ولا تحثو علي تراباً . . ادفنوني في ثيابي فإني مخاصِم ! » فصلَّىٰ عليه أمير المؤمنين ولم يُغسّله .
وكان خزيمةُ بن ثابت الملقب بذو
الشهادتين قد حضر صفين ولم يقاتل ، فلما قُتل عمار بن ياسر قال : قد بانت لي الضلالة . ثم دخل فسطاطه وطرح عليه سلاحه وشن عليه من الماء فاغتسل ثم قاتل حتى قتل . رحمه الله .
قال الحجاج بن عزية الأنصاري يرثي أبا
اليقظان عمار بن ياسر :
يا للرجال لعينٍ دمعها جاري
|
|
قد هاج حزني أبو اليقظان عمارُ
|
أهوى إليه أبو حوّى فوارسه
|
|
يدعو السكون وللجيشين إعصارُ
|
فاختل صدر أبي اليقظان معترضاً
|
|
للرمح قد وجبْتَ فينا له النارُ
|
قال النبي له تقتلك شرذمة
|
|
سيطت لحومهم بالبغي ، فجّار
|
فاليوم يعرفُ أهل الشام أنهم
|
|
أصحابُ تلك وفيها النارُ والعارُ
|
__________________
فهرس
التراجم
ترجمة زياد بن عبيد
الله الحارثي ............................................ ١٩
ترجمة مالك بن نويرة .................................................. ٨١
ترجمة سعيد بن العاص ............................................ ١١٠
ترجمة عبد الله بن مسعود .............................................. ١١٢
ترجمة الوليد بن عقبة ............................................... ١١٦
ترجمة مالك الأشتر ................................................. ١١٩
فهرست الكتاب
شاهد الحق ............................................................ ٧
من اليمن إلى مكة ...................................................... ١٣
ياسر في مكة ........................................................... ٢٣
نشأة عمار وصفاته .................................................. ٢٦
مفتتح الدعوة .......................................................... ٣١
موقف أبي طالب ..................................................... ٣٦
محنة المستضعفين ........................................................ ٤١
الهجرة إلى الحبشة ........................................................ ٤٦
الحصار في الشعب ...................................................... ٥٠
هجرة الرسول .......................................................... ٥٣
مسجد المدينة .......................................................... ٥٤
مع النبي في غزواته ....................................................... ٥٧
شجاعته وسخاؤه ........................................................ ٦٠
عمار والخلفاء ........................................................... ٦٦
موقف عمار............................................................. ٧١
الردة ودور عمار .......................................................... ٧٧
فضائل عمار ............................................................. ٨٥
بين عمار وعثمان ....................................................... ٨٧
سياسة عثمان المالية .................................................... ٩٢
سياسته في اختيار
الولاة ............................................... ٩٤
سياسته التأديبية ....................................................... ٩٦
بذور الثورة ........................................................... ١٠١
الثورة ومقتل عثمان .................................................... ١٠٥
خلافة الإِمام علي ..................................................... ١٢٢
موقف عمار بن ياسر .................................................. ١٢٥
نكث البيعة ........................................................... ١٢٧
كتاب أم سلمة لعلي ..................................................... ١٢٩
مسير علي إلى العراق ....................................................... ١٣١
وصف جيش علي ....................................................... ١٣٣
جيش أهل البصرة ........................................................ ١٣٦
كتاب علي لعائشة وطلحة
والزبير ...................................... ١٣٩
خطبة علي ودعاؤه ورجوع
الزبير ومقتله .................................... ١٤٠
بداية القتال ........................................................... ١٤٣
عمار ومحمد بن أبي بكر
................................................. ١٤٦
مقتل طلحة بن عبيد
الله ................................................. ١٤٨
عقر الجمل ............................................................. ١٥١
دخول علي على عائشة .................................................. ١٥٣
انصراف عائشة إلى
المدينة ................................................. ١٥٥
حرب صفين المحنة
الكبرى ............................................... ١٥٧
عودة علي إلى الكوفة ................................................. ١٦٤
علي يدعو معاوية إلى
البيعة ............................................. ١٦٧
معاوية يشاور أهل
الشام ................................................ ١٦٩
الإمام علي يختبر
الفريقين ............................................... ١٧٥
رأي عمار بن ياسر ...................................................... ١٨٢
عمار يحرض .......................................................... ١٨٣
كتاب محمد بن أبي بكر لمعاوية
........................................... ١٨٦
إلى الحرب يسيرون ........................................................ ١٨٨
قصة الصخرة وصاحب
الدير ............................................... ١٩١
غلبة أصحاب معاوية على
الماء ........................................... ١٩٣
غلبة علي على الماء .................................................... ١٩٤
خطبة الإِمام وأصحابه ................................................... ١٩٥
دعاؤه يوم صفين ....................................................... ١٩٩
وصف علي ( ع ) ..................................................... ٢٠٠
يأمر أصحابه بالهجوم
ويرد الكتائب ........................................ ٢٠٢
ضربة ما مثلها ضربة ..................................................... ٢٠٦
علي يطلب معاوية
للمبارزة ............................................... ٢٠٨
احتدام الحرب ........................................................... ٢١٢
عمار يحرض على الجهاد ................................................. ٢١٣
يطلب رضا الله سبحانه ................................................... ٢١٤
دماؤهم أحل من دم
عصفور ............................................. ٢١٥
بين عمار وهاشم
المرقال .................................................. ٢١٦
بين عمار وعمرو بن
العاص ............................................... ٢٢٠
بطولة عمار وثبات
إيمانه ................................................. ٢٢٤
الصلاة هي الأهم ...................................................... ٢٢٥
آخر الشراب والشهادة ................................................... ٢٢٥
يتقربون بقتله ........................................................... ٢٢٥
يختصمان في النار ...................................................... ٢٢٦
عتاب معاوية لعمرو في
شأن عمار ...................................... ٢٢٦
حملة علي ( ع ) بعد
مقتل عمار ........................................ ٢٢٩
الشني يمدح علياً ......................................................... ٢٣٣
علي يدعو معاوية
للمناجزة ................................................ ٢٣٤
وقوف علي على عمار .................................................... ٢٣٥
فهارس الكتاب ......................................................... ٢٣٧
|