بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على قائد البشرية الصالحة محمد « ص » وعلى آله الميامين.

وبعد فهذا هو الجزء الثاني من بحوث علم الاُصول التي ألقاها سيدنا ومولانا الأعظم شهيد الاسلام الغالي آية الله العظمى السيد الصدر قدّس سرّة وهو يشتمل على بحوث الأوامر من مباحث الدليل اللفظي.

وحيث انّ الله سبحانه وتعالى قدّر أن تخرج هذه البحوث الى النشر بعد استشهاد أستاذنا الكبير وافتقادنا لذلك الطود الشامخ للعلم والهدى والذي ثلم بفقده الدين والعلم ثلمة ما أعظمها وأشدّها على قلب إمام العصر أرواحنا فداه وكنت عند كتابتي لهذه البحوث أسجّل خواطر كانت تخطر ببالي القاصر حول بعض نقاط البحث لكي تسنح فرصة استفسار السيد الأستاذ عنها لتهذيبها واضافتها الى الأصل كما فعلت ذلك في بحوث الجزء الأول وبحوث تعارض الأدلة ولكن شاءت ارادة الله سبحانه أن نحرم من وجوده الشريف ونمنى بالصيبة العظمى التي نسأل الله أن يلهمنا وجميع المؤمنين القوة على تحمّلها والصبر عليها فرأيت ان أهذّب بنفسي تلك الخواطر وأثبتها على الهوامش عسى أن ينتفع بها الباحثون ؛ وما توفيقي إلّا بالله عليه توكّلت وإليه أنيب.

محمود الهاشمي

١٥ ظ ذي القعده ١٤٠٥ هجرية

قم المقدمة



بحوث الأوامر

ـ دلالات مادة الأمر

ـ دلالات صيغة الأمر ـ مبحث الاجزاء

ـ مقدمة الواجب

ـ مبحث الضد

ـ حالات خاصة للأمر

ـ كيفيات تعلق الأمر



بحوث الأوامر

دلالات مادة الأمر

ـ معاني مادة الأمر

ـ توحيد معاني المادة

ـ دلالتها على العلو والاستعلاء

ـ دلالتها على الوجوب

ـ ملاك دلالتها على الوجوب

ـ دلالتها على الطلب والإرادة

ـ الجبر والاختيار



مادة الأمر

ويراد بها كلمة « الأمر » ويقع البحث عنها في جهات.

« الجهة الأولى ـ في معنى الأمر » وقد ذكر لها معان عديدة منها الطلب والشيء والفعل والحادثة والغرض والشيء العجيب.

ولا شك في ان الطلب من معانيها (١) وأما سائر المعاني فكثير مما ذكر منها ليس معنى له ، وانما يستفاد في موارد استعماله من دوال وخصوصيات أخرى خارجة عن كلمة الأمر من قبيل استفادة الغرض من اللام في قولنا : جئتك لأمر كذا ، فيكون من اشتباه المفهوم بالمصداق. ومن هنا جاءت في كلمات المحققين محاولتان : إحداهما تحاول إرجاع معاني الأمر غير الطلب إلى معنى واحد فيكون مشتركا لفظيا بين معنيين ، والأخرى تحاول إرجاعها جميعا إلى معنى واحد.

أمّا المحاولة الأولى ـ فهي التي جاءت في كلمات المحقق الخراسانيّ ( قده ) من إرجاع سائر معاني الأمر إلى مفهوم واحد هو الشيء (٢).

__________________

(١) ولكنه ليس مساوقاً مع مفهوم الطلب تماماً فان الطلب بمعنى السعي نحو تحصيل شيء سواء من قبل الطالب نفسه أو بدفع غيره إليه بينما الأمر موضوع بإزاء المفهوم الاسمي المنتزع من تحريك الغير ودفعه بصيغة الأمر أو غيرها نحو تحقيق شيء.

(٢) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٩٠.


ولاحظ عليه المحققون المتأخرون كالنائيني والأصفهاني ( قدهما ) بأن مفهوم الشيء بعرضه العريض لا يناسب ان يكون هو مدلول الأمر ، لأن الشيء يطلق على الجوامد أيضا فيقال : زيد شيء ، ولا يقال أمر ومن هنا استقرب أن يكون المعنى الثاني الجامع بين المعاني الأخرى للأمر هو الواقعة والحادثة أو الواقعة والحادثة الخطيرة المهمة (١) والمحقق الأصفهاني أيضا يرى ان المناسب أن يكون المعنى الآخر للأمر هو الفعل والحدث (٢).

والصحيح ان مدلول كلمة الأمر حسب المستفاد من استعمالاتها في غير الطلب وان لم يكن يساوق مفهوم الشيء بعرضه العريض ، الا انه ليس مخصوصا بالحادثة أو الواقعة المهمة أو الحدث بدليل عدم التناقض في قولك كلام فلان أمر غير مهم ، وعدم العناية والمجاز في قولك اجتماع النقيضين أمر محال ، أو شريك الباري أمر محال. وعدم مجيء زيد أمر عجيب مع ان المحال وكذلك العدم ليس واقعة أو فعلا ، بل نحن نرى ان كلمة الأمر تستعمل في الجوامد أيضا حينما تكون من قبيل أسماء الأجناس فيقال النار أمر ضروري في الشتاء. نعم العلم بالذات أو بالإشارة لا يطلق عليه أمر فمفهوم الأمر مساوق مع شيء من الخصوصية بمعنى انه مطعم بجانب وصنعي فلا يطلق على ما يتمحض في العلمية والذاتيّة.

وأمّا المحاولة الثانية ـ وهي توحيد معاني الأمر في معنى واحد جامع فقد وقعت هذه المحاولة بأحد أنحاء ثلاثة :

الأول ـ إرجاع غير المعنى الطلبي إلى الطلب كما استقر به المحقق الأصفهاني ( قده ) فانه بعد ان ارجع معنى الأمر إلى الفعل قال ويمكن القول بان استعماله في الفعل يرجع إلى استعماله في الطلب بنحو من العناية لأن الفعل في معرض ان يطلب فكما يعبر عنه بمطلب ولو لم يتعلق به الطلب بالفعل كذلك يعبر عنه بأمر بنكتة الشأنية والمعرضية لأن يتعلق به (٣).

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٨٦.

(٢) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ١٠٣ ـ ١٠٤.

(٣) نفس المصدر السابق.


ويرد عليه : ما عرفت من ان استعمال الأمر بغير المعنى الطلبي ليس مخصوصا بما يكون فعلا بل قد يطلق على ما لا يمكن أن يطلب كما في شريك الباري أمر مستحيل (١).

الثاني ـ إرجاع المعنى الطلبي إلى غير الطلب وهو ما استقر به المحقق النائيني ( قده ) على ما جاء في تقرير بحثه حيث قال يمكن القول بأن الطلب ليس معنى برأسه في قبال مفهوم الواقعة أو الحادثة بل مصداق من مصاديقها (٢).

وفيه : أولا ـ انه لو كان يطلق على الطلب الأمر باعتباره مصداقا للواقعة لم يكن فرق بين الطلب التشريعي والتكويني لأن كليهما واقعة مع انه لا يصح ان يطلق على الطلب التكويني أمر فإذا طلب زيد المال لا يقال انه أمر به.

وثانيا ـ ان الأمر يتعدى إلى متعلق الطلب كالطلب نفسه فيقال أمر بالصلاة مما يعني أنه يساوق مفهوم الطلب لا انه منتزع منه كواقعة وحادثة والا لم يكن صالحا للتعدي والإضافة إلى متعلقه.

الثالث ـ ان الأمر موضوع للجامع بين الطلب والواقعة.

ويرد عليه مضافا على ما تقدم في إبطال النحو السابق ان هذا الجامع ان أريد به جامع أوسع انطباقا من مجموع مفهومي الطلب والواقعة كمفهوم الشيء مثلا فمن الواضح ان كلمة الأمر ليست أوسع انطباقا من كلا الأمرين ولو أريد به جامع مساو لمجموعهما فهو عبارة أخرى عن نفس الواقعة فانها تصدق على نفسها وعلى الطلب فرجع إلى النحو الثاني.

ثم ان محاولة إرجاع معاني الأمر إلى معنى واحد جامع في نفسه بعيد جدا. وذلك لأمرين :

أولهما ـ اختلاف صيغة جمع الأمر بمعنى الطلب عن صيغة جمعه بمعنى الواقعة. فان الأول يجمع على أوامر والثاني على أمور ومن البعيد جدا تعدد الجمع بلحاظ اختلاف

__________________

(١) على ان صدق المصدر في الأفعال ذات الإضافة على متعلقاتها فيقال هذا مطلبي أو طلبي انما يصح مع ملاحظة حيثية تعلق المبدأ ، وهو الطلب ، به ونحن بحسب وجداننا نرى اننا لا نحتاج في إطلاق كلمة الأمر على شيء إلى ملاحظة هذه الحيثية أصلا.

(٢) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٨٦.


المصاديق مع وحدة المفهوم فان هذا غير معهود في اللغة (١).

ثانيهما ـ ان الأمر بمعنى الطلب يشتق منه فيقال آمر مأمور بينما الأمر بمعنى الواقعة جامد لا يشتق منه ، وكون ذلك بملاك الاختلاف في المصاديق غير معهود في اللغة أيضا.

__________________

(١) هامش المصدر السابق.


« الجهة الثانية ـ في اعتبار العلو أو الاستعلاء في الأمر »

قد اختلف العلماء في اعتبار العلو أو الاستعلاء أو الجامع بينهما في صدق الأمر.

والتحقيق ان هذا البحث تارة يساق بلحاظ ما هو موضوع حكم العقل بوجوب الطاعة ، وحينئذ لا ينبغي الإشكال في اعتبار العلو الحقيقي لكي يحكم العقل بلزوم طاعة الأمر سواء كان بلسان الاستعلاء أو بلسان « من يقرض الله قرضا حسنا ».

وأخرى يساق بلحاظ تحديد ما هو المعنى اللغوي للأمر وحينئذ تكون ثمرة البحث فقهية لا أصولية تظهر في مثل ما إذا ورد مثلا تجب إطاعة أمر الوالد فهل يشترط فيه الاستعلاء من قبل الأب مثلا أم لا على إشكال في هذه الثمرة من ناحية وضوح ان ما هو ملاك مثل هذا الحكم بحسب المناسبات العرفية ليس هو استعلاء الوالدين بل علوهما الحقيقي.

وأيا ما كان فالظاهر اشتراط العلو في صدق الأمر دون الاستعلاء فليس بشرط كما ان طلب المستعلي لا يسمى امرا حقيقة وان كان بحسب نظره وادعائه أمرا.



« الجهة الثالثة ـ في دلالة الأمر على الوجوب »

والبحث عن دلالته على الوجوب تارة في أصل الدلالة وأخرى في ملاكها ومنشئها.

اما أصل الدلالة. فربما يستدل عليه بجملة من الآيات والروايات من قبيل قوله تعالى ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره ) الدال على أن الأمر ظاهر في الطلب الوجوبيّ والا لم يترتب على مخالفته عقوبة لكي يكون موضوعا للتحذر ولكان اللازم التقييد بالأمر الوجوبيّ بالخصوص.

وفيه : ان هذا من التمسك بأصالة العموم والإطلاق في مورد الدوران بين التخصيص والتخصص حيث يعلم بعدم الموضوع للتحذر إذا كان الطلب استحبابيا فيتمسك بإطلاق الأمر لإثبات خروج الطلب الاستحبابي عن الأمر بعد العلم بخروجه عن الحكم على كل حال ولا يصح التمسك بأصالة عدم التخصيص لإثبات التخصص حتى إذا قيل بهما كبرويا لأنه فرع ما إذا لم يكن في المورد على تقدير التخصيص قرينة متصلة تدل عليه والا لما كان التخصيص خلاف الأصل وكان التخصيص والتخصص على حد سواء وما نحن فيه من هذا القبيل لأن بداهة عدم


التحذر في الطلب الاستحبابي قرينة متصلة على الاختصاص بالطلب الوجوبيّ (١).

هذا ونحن في غنى عن مثل هذه الاستدلالات فانه مما اتفق عليه المحققون دلالة مادة الأمر على الوجوب بحكم التبادر وبناء العرف والعقلاء على كون الطلب الصادر من المولى بمادة الأمر وجوبا ولم يستشكل فقيه في استفادة الوجوب من لفظ أمر ورد في لسان الشارع عند عدم القرينة على الاستحباب.

وانما الّذي وقع فيه البحث هو كيفية تفسير هذه الدلالة وتحديد منشئها.

وقد اختلفوا في ذلك على أقوال ثلاثة :

١ ـ أن تكون الدلالة على أساس الوضع للوجوب.

٢ ـ أن تكون بحكم العقل.

٣ ـ أن تكون بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

وقد ذهب المشهور إلى القول الأول وذهبت مدرسة المحقق النائيني ( قده ) إلى القول الثاني وذهب المحقق العراقي إلى القول الثالث. وهذه الأقوال والاحتمالات الثلاثة واردة في صيغة الأمر أيضا على حد واحد ، لأن دلالتها على الوجوب كدلالة مادته مفروغ عنها بحكم التبادر والوجدان العقلائي وانما البحث في تفسيرها وملاكها ونحن هنا نبحث عن تفسير دلالة الأمر على الوجوب بلحاظ المادة والهيئة معا. فنقول : أما القول الأول فدليله التبادر مع إبطال سائر المناشئ الأخرى المدعاة لتفسير هذا التبادر.

وأما القول الثاني فقد ذكر المحقق النائيني في إثباته ان الوجوب ليس مدلولا للدليل اللفظي وانما مدلوله الطلب فحسب وكل طلب يصدر من العالي إلى الداني ولا يقترن بالترخيص في المخالفة يحكم العقل بلزوم امتثاله وإطاعته وبهذا اللحاظ ينتزع عنوان الوجوب منه بينهما إذا اقترن بالترخيص المذكور لم يلزم العقل بموافقته وبهذا اللحاظ يتصف بالاستحباب فكل من الوجوب والاستحباب شأن من شئون حكم

__________________

(١) لعل الأوفق ان يقال بأن الأمر في هذه الآية وأمثالها يعلم باستعماله في خصوص الطلب الوجوبيّ ولو بقرينة التحذر الا أن الاستعمال أعم من الحقيقة.


العقل المترتب على طلب المولى (١).

ويرد عليه : أولا ـ ان موضوع حكم العقل بلزوم الامتثال لا يكفي فيه مجرد صدور الطلب مع عدم اقترانه بالترخيص لوضوح ان المكلف إذا اطلع بدون ترخيص من قبل المولى على ان طلبه نشأ من ملاك غير لزومي ولا يؤذي المولى فواته لم يحكم العقل بلزوم الامتثال وهذا يعني ان الوجوب العقلي فرع مرتبة معينة في ملاك الطلب وهذه المرتبة لا كاشف عنها الا الدليل اللفظي فلا بد من أخذها في مدلول اللفظ لكي ينقح بذلك موضوع الوجوب العقلي وهو معنى كون الدلالة لفظية.

وثانيا ـ ان الالتزام بهذا المبنى تترتب عليه آثار لا يمكن الالتزام بها فقهيا ، وتكون منهجا جديدا في الفقه وفيما يلي نذكر بعض ما يمكن ان ينقض به على هذا المسلك مما لا يلتزم به حتى أصحاب هذا المسلك أنفسهم :

منها ـ لزوم رفع اليد عن دلالة الأمر على الوجوب فيما إذا اقترن بأمر عام يدل على الإباحة والترخيص كما إذا ورد أكرم الفقيه ولا بأس بترك إكرام العالم. وتوضيحه : ان بناء الفقهاء والارتكاز العرفي على تخصيص العام في مثل ذلك والالتزام بوجوب إكرام الفقيه واعتباره من التعارض غير المستقر بينما على هذا المسلك لا تعارض أصلا ولو بنحو غير مستقر بين الأمر والعام ليقدم الأمر بالأخصية لأن الأمر لا يتكفل الا أصل الطلب وهو لا ينافي الترخيص في الترك ، بل المتعين على هذا المسلك ان يكون العام رافعا لموضوع حكم العقل بالوجوب لأن حكم العقل معلق على عدم ورود الترخيص من المولى كما ذكر في شرح هذا المسلك. ودعوى ان موضوع حكم العقل بوجوب الامتثال هو الطلب الّذي لو كان دالا لفظا على الوجوب لما قدم عليه الترخيص ، تحكم واضح.

ومنها ـ انه لو صدر امر ولم يقترن بترخيص متصل ولكن احتملنا وجود ترخيص منفصل فالبناء الفقهي والعقلائي على استفادة الوجوب من الأمر حتى يثبت خلافه مع ان هذا مما لا يمكن إثباته على هذا المسلك لأنه قد فرض فيه ان العقل انما يحكم

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٩٥ ـ ٩٦.


بالوجوب معلقا على عدم ورود الترخيص من الشارع وحينئذ نتساءل هل يراد بذلك كونه معلقا على عدم اتصال الترخيص بالأمر أو على عدم صدور الترخيص من المولى واقعا ولو بصورة منفصلة أو على عدم إحراز الترخيص والعلم به؟ والكل باطل.

أما الأول ـ فلأنه يستلزم كون الترخيص المنفصل منافيا لحكم العقل بالوجوب فيمتنع وهو واضح البطلان وما أكثر القرائن المنفصلة على عدم الوجوب.

وأما الثاني ـ فلأنه يستلزم عدم إمكان إحراز الوجوب عند الشك في الترخيص المنفصل مع القطع بعدم وروده متصلا لأنه معلق بحسب الفرض على عدم ورود الترخيص ولو منفصلاً فمع الشك فيه يشك في الوجوب لا محالة.

وأما الثالث ـ فهو خروج عن محل الكلام لأن البحث في الوجوب الواقعي الّذي يشترك فيه الجاهل والعالم لا في المنجزية (١).

وأما القول الثالث ـ وهو ان تكون الدلالة على الوجوب بالإطلاق فيمكن تقريبه بوجوه :

الأول ـ ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) من ان الأمر مادة وصيغة يدل على إرادة المولى وطلبه وهي تارة شديدة كما في الواجبات وأخرى ضعيفة كما في المستحبات.

وحيث ان شدة الإرادة من سنخها بخلاف ضعفها التي تعني عدم المرتبة الشديدة من الإرادة فتتعين بالإطلاق الإرادة الشديدة لأنها بحدها لا تزيد على الإرادة بشيء

__________________

(١) على انه في أكثر الفروض يمكن إحراز الترخيص بأمثال أدلة رفع ما لا يعلمون لو اكتفي بالترخيص الظاهري أو استصحاب الإباحة والترخيص الثابت في أول الشرع لو اكتفي بمطلق الإباحة لا خصوص ما يكون بعنوان الترخيص في مخالفة الأمر ثم انه يمكن ان ينقض على هذا المسلك أيضا بأمور أخرى لا يلتزم بها في الفقه عادة.

منها ـ ما سوف يأتي من عدم انثلام ظهور الأمر في الوجوب لو ورد في سياق أوامر استحبابية بل بأمر واحد كما إذا ورد صلّ للجمعة والجماعة والعيدين لأن العلم بالترخيص في الترك بلحاظ بعض الفقرات ليس تصرفا في مدلول لفظي لها أصلاً لكي يؤثر ذلك على الظهور.

ومنها ـ إذا نسخ الوجوب وقع بينهم البحث في انه هل يثبت الجواز أو الاستحباب؟ والمشهور عند المحققين عدم ثبوت الاستحباب مع انه على هذا المسلك يتعين ذلك لأن الناسخ انما يرفع حكم العقل بالوجوب ولا ينفي مدلول الأمر وهو الطلب فيثبت الاستحباب.

ومنها ـ النقض بالأمر في موارد توهم الحظر حيث لا إشكال في عدم استفادة الوجوب منها مع انه على هذا المسلك لا بد من استفادته لوجود الطلب مع عدم الترخيص من المولى في الترك. اللهم الا ان يفترض بأن مقام الحظر بنفسه يكون قرينة على ان الأمر لم يستعمل في الطلب بل في مجرد رفع الحظر والاذن في الفعل.


فلا يحتاج حدها إلى بيان زائد على بيان المحدود بينما تزيد الإرادة الضعيفة بحدها على حقيقة الإرادة فلو كانت هي المعبر عنها بالأمر لكان اللازم ان ينصب القرينة على حدّها الزائد لأن الأمر لا يدل الا على ذات الإرادة (١).

وهذا البيان وإن كان صناعيا في الجملة الا انه يرد عليه بان الإطلاق ومقدمات الحكمة ظهور حالي عرفي يقتضي في ما دار امر المتكلم فيه بين أن يكون مرامه سنخ مرام يفي به كلامه وليس فيه مئونة زائدة بنظر العرف أو كونه سنخ مرام بحاجة إلى مئونة زائدة في نظر العرف لم يف بها الكلام تعين الأول واما لو فرض ان هذا التمييز والاختلاف بين المرامين والحدين امر عقلي بالغ الدقة لا عرفي فلا تكون مقدمات الحكمة مؤثرة في إثبات إطلاق عرفي لتعيين أحدهما في قبال الآخر وما ذكر من الفرق بين الوجوب والاستحباب كذلك فان العرف لا يلتفت إليه حتى ارتكازا (٢).

الثاني ـ وهو يتركب من مقدمتين :

أولاهما ـ ان الوجوب ليس عبارة عن مجرد الطلب لأن ذلك ثابت في المستحبات أيضا بل لا بد من عناية زائدة وليست هذه العناية عبارة عن انضمام النهي أو المنع عن الترك إلى الطلب لأن النهي بدوره ثابت أيضا في باب المكروهات وانما العناية الزائدة هي عدم الترخيص في الترك خلافا للاستحباب الّذي تكون العناية فيه الترخيص في الترك والنتيجة ان الوجوب طلب متميز بقيد عدمي والاستحباب طلب متميز بقيد وجودي وهو الترخيص في الترك.

ثانيهما ـ انه كلما كان الكلام وافيا بحيثية مشتركة وتردد أمرها بين حقيقتين المميز لإحداهما أمر عدمي وللأخرى أمر وجودي تعين بالإطلاق الحمل على الأول لأن الأمر العدمي لا مئونة فيه بحسب النّظر العرفي فإذا كان المقصود ما يتميز بالأمر الوجوديّ

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ٦٥ ـ ٦٦.

(٢) على ان هذا البيان انما ينفع في إثبات الوجوب بالأمر في مقام الإنشاء ولا ينفع في دلالة مادة الأمر على الطلب الوجوبيّ إذا لم تستعمل في مقام إنشاء الطلب والإرادة التشريعية بها أي إذا لم يكن المرام الجدي للكلام الطلب بل الاخبار عن الطلب ومن الواضح ان الوجدان العرفي قاض بان مادة الأمر المستعملة في مقام الاخبار أيضا ظاهر في إرادة الطلب الوجوبيّ منها فيكون دليلاً على القول الأول لا محالة وان منشأ الدلالة على الوجوب لا بد وان يكون هو الوضع. وهذا إشكال وارد على جميع التقريبات التي سوف تذكر لاستفادة الوجوب بالإطلاق ومقدمات الحكمة الّذي هو ظهور حالي.


الزائد مع انه لم يذكر ذلك الأمر الوجوديّ الزائد في الكلام فهذا خرق عرفي لظهور حال المتكلم في بيان تمام مرامه بكلامه ، واما إذا كان المقصود ما يتميز بالأمر العدمي فليس هناك خرق عرفا لأن المميز عند ما يكون أمرا عدميا فكأنه لا يزيد على الحيثية المشتركة التي يفي بها الكلام.

ويرد عليه المنع من المقدمة الثانية فانه ليس كل أمر عدمي لا يلحظ عرفا أمرا زائدا ، ولهذا لا يرى في المقام ان النسبة بين الوجوب والاستحباب نسبة الأقل والأكثر بل النسبة بين مفهومين متباينين نعم هذه النكتة تقبل في باب الإطلاق اللحاظي الّذي هو مبني المشهور في أسماء الأجناس القائلين باستحالة ان يكون موضوع الحكم ذات الطبيعة المحفوظة ضمن المطلق والمقيد فانه بناءً عليه لا يشك في أخذ خصوصية زائدة في المرام غير موجودة في الكلام الدال على ذات الطبيعة فيقال بأن العرف يرى بالمسامحة انه لو كان مرامه المطلق فقد بين تمام مرامه فلا خرق لذلك الظهور الحالي بخلاف ما إذا كان مرامه المقيد.

الثالث ـ نفس التقريب الثاني مع فرق في المقدمة الثانية حيث يقال هنا بأن المميز للوجوب وان كان بحسب النّظر العرفي مئونة زائدة على ذات الطلب وبحاجة إلى بيان الا أنه حيث يعلم على كل حال بوجود مئونة زائدة على ذات الطلب وهذه الزيادة مرددة بين زيادة أخف هي الأمر العدمي أو زيادة أشد هي الأمر الوجوديّ فسكوت المتكلم عرفا عن بيان الزيادة الأشد يكون قرينة على إرادة الزيادة الأخف فيتعين الوجوب لا محالة.

ويرد عليه : ان هذه النكتة لو سلمت كبرى وصغرى فليست في تمام الموارد بل في خصوص ما إذا أحرز ان المولى بالرغم من سكوته عن بيان الزيادة يكون بصدد بيانها وهذه عناية لا تحصل دائما بينما البناء الفقهي والعرفي على فهم الوجوب في سائر الموارد.

الرابع ـ ان صيغة الأمر تدل على الإرسال والدفع بنحو المعنى الحرفي ولما كان الإرسال والدفع مساوقا لسدّ تمام أبواب العدم للاندفاع والتحرك فمقتضى أصالة التطابق بين المدلول التصوري والمدلول التصديقي ان الطلب والحكم المبرز أيضا سنخ


حكم يشتمل على سدّ تمام أبواب العدم وهذا يعني عدم الترخيص في المخالفة.

وهذا التقريب لا بأس به وهو جار في تمام موارد استعمالات صيغة الأمر (١).

ثم انه ربّما يرد هذا المسلك بعض ما أوردناه على مسلك المحقق النائيني ( قده ) من ان الوجوب إذا كان بالإطلاق ومقدمات الحكمة فإذا ورد الأمر بإكرام الفقيه وورد ترخيص عام يدل على نفي البأس عن ترك إكرام العلماء لم يكن وجه للالتزام بالتخصيص وتقديم ظهور الدليل الخاصّ في الوجوب على عموم الدليل الدال على الترخيص لأن التعارض بحسب هذا المسلك سوف يكون بين عموم العام الترخيصي وإطلاق الخاصّ الإلزامي المقتضي للوجوب فيكون من قبيل التعارض بنحو العموم من وجه الّذي يمكن حله برفع اليد عن الإطلاق في الخاصّ. فإذا لم يقدم عموم العام على إطلاق الخاصّ فلا أقل من التعارض والتساقط بينهما مع أن البناء العرفي والفقهي على التخصيص وهذا لا يتم الا على مسلك الوضع.

هذا ويمكن لأصحاب هذا المسلك ان يدفعوا أمثال هذا النقض بأحد وجهين :

الأول ـ ان الميزان في القرينية عرفاً بالأخصية من حيث الموضوع لا من حيث النتيجة ومجموع الجهات في الدليلين وهذه النكتة لها تطبيقات أخرى أيضاً فلو ورد مثلاً في المتنجس بالبول انه يصب عليه الماء مرتين وورد في بول الصبي بالخصوص انه إذا أصاب الجسد يصب عليه الماء الدال بإطلاقه على كفاية الغسل فيه مرة واحدة قدم هذا الإطلاق على عموم البول في دليل التعدد بنفس النكتة.

الثاني ـ اننا لو سلمنا بان الأخصية لا بد ان تكون بلحاظ النتيجة ومجموع الجهات لا بحسب الموضوع في الدليلين فقط مع ذلك يمكننا ان نلتزم بالتخصيص في المقام بنكتة

__________________

(١) لا يقال هذا التقريب كما يجري في صيغة الأمر يجري في مادته أيضاً لأنه أيضا يستفاد منها الدفع والإرسال.

فانه يقال ـ مادة الأمر لم توضع للإرسال الخارجي بل هي موضوعة أما للطلب والإرادة التشريعية أو كما قلنا للحالة المنتزعة عن الإرسال والدفع بالصيغة وما شابهها بنحو المعنى الاسمي فلا يمكن دلالتها على الوجوب الا بأن يؤخذ فيها الاختصاص بالإرادة والإرسال الوجوبيّ وهو معنى الوضع للوجوب.

ثم انه قد يناقش في هذا التقريب أيضاً بأن أصالة التطابق بين المدلول التصوري والتصديقي غاية ما تثبت هو وجود قصد جدي للنسبة الطلبية والإرسال واما أن مبدأ هذا القصد هو الشوق والإرادة الشديدة أو الضعيفة فهو خارج عن مدلولها لأن الآمر في موارد الاستحباب أيضاً له قصد جدي حقيقي نحو الإرسال والنسبة الطلبية كما في موارد الوجوب وانما تختلف الحالتان بلحاظ المبادئ والملاك.


أخرى وهي ان الإطلاق إذا كان مفاده التعيين لا السعة من قبيل تعيين الوجوب بالإطلاق أو تعيين سيد البلد مثلاً من إطلاق كلمة السيد فهو مقدم على الإطلاق الّذي يكون مفاده التوسعة لأن نتيجة الإطلاق الأول يكون أخص من نتيجة الإطلاق الثانية في الصدق وهذا كاف في التقديم فلو ورد مثلاً أكرم العلماء وورد لا تكرم زيدا وعندنا زيدان أحدهما جاهل مجهول والآخر عالم كبير ينصرف إليه الإطلاق فالعرف سوف يتعامل معهما تعامل التخصيص وما نحن فيه من هذا القبيل.

هذا وهناك فوارق وثمرات فقهية عديدة بين هذه المسالك الثلاثة اتضح بعضها من خلال المناقشات المتقدمة ونشير إلى جملة منها.

فمن جملتها ـ تطرق قواعد الجمع الدلالي والعرفي على مسلك الوضع والإطلاق بخلاف مسلك حكم العقل فانه بناء عليه لا يكون الوجوب مدلولاً للفظ الأمر لكي يجمع بينه وبين دليل الترخيص على ضوء إحدى قواعد الجمع العرفي وانما يكون دليل الترخيص حينئذ وارداً على حكم العقل بالوجوب ورافعاً لموضوعه.

ومنها ـ انه على مسلك الوضع والإطلاق تثبت لوازم الوجوب أي لوازم الملاك والشوق الأكيد والشديد فلو علمنا من الخارج بان الدعاء عند رؤية الهلال والدعاء في آخر الشهر متساويان في درجة الملاك والمحبوبية وورد امر بأحدهما أثبتنا به وجوبه بالمطابقة ووجوب الآخر بالملازمة بينما لا يمكن ذلك بناء على مسلك حكم العقل لأن الوجوب حينئذ ليس مرتبة ثبوتية ولا ربط له بالمبادئ والملاكات لكي يكشف عنها وعن ملازماتها وانما هو حكم عقلي ينتزع من طلب شيء وعدم الترخيص في تركه.

ومنها ـ ثبوت دلالة السياق على مسلك الوضع وسقوطه على مسلك الإطلاق وحكم العقل ، وتوضيح ذلك : ان مبنى الفقهاء عادة في الفقه على انه إذا وردت أوامر عديدة في سياق واحد وعرفنا من الخارج استحباب بعضها اختل ظهور الباقي في الوجوب على القول بوضع الأمر للوجوب إذ يلزم من إرادة الوجوب منه حينئذ تغاير مدلولات تلك الأوامر مع ظهور وحدة السياق في إرادة المعنى الواحد من الجميع ، واما بناء على مسلك حكم العقل فجميع الأوامر مستعملة في معنى واحد وهو الطلب والوجوب حكم


عقلي خارج عن مدلول اللفظ مبني على تمامية مقدمة أخرى هي عدم الترخيص والتي تمت بالنسبة لبعضها دون بعض من دون ان يخل ذلك بالسياق وكذلك الحال على مسلك الإطلاق لأن المعنى المستعمل فيه واحد على كل حال لكنه أريد في بعضها المقيد بدال آخر كما هو محقق في بحوث المطلق والمقيد (١).

ومنها ـ انه لو فرض ورود أمر واحد بشيئين كما لو ورد اغتسل للجمعة والجنابة وعلم من الخارج بان غسل الجمعة ليس بواجب فعلى مسلك الوضع لا يمكن إثبات الوجوب لغسل الجنابة بهذا الأمر أيضاً لأنه يلزم منه ما يشبه استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو غير صحيح عرفاً على كل حال.

واما على مسلك حكم العقل فالأمر مستعمل في معنى واحد هو الطلب والوجوب ينشأ منه ومن عدم ورود الترخيص في الترك وهو ثابت في غسل الجنابة فقط دون الآخر وكذلك الحال بناء على الإطلاق فان الأمر ينحل إلى حصتين تقيد إطلاق إحداهما بدليل خاص وهو لا يستوجب تقييد الحصة الثانية فان التقييد ضرورة والضرورات تقدر بقدرها كما إذا ورد أكرم العالم وعرفنا ان الفقيه لا يكرم الا إذا كان عادلا ولكن في غير الفقيه لم نعلم بذلك فنبني على الإطلاق.

ومنها ـ انه لو ورد أمر بطبيعي فعل كما إذا ورد أكرم العالم وعلمنا من الخارج بان إكرام غير الفقيه لا يجب فهل يمكن إثبات استحباب إكرام غير الفقيه من العلماء أم لا؟ فعلى مسلك الوضع لا يمكن ذلك إذ بعد حمله على الوجوب بمقتضى الوضع له لا بد من تخصيص غير الفقيه وإخراجه من الدليل ولا يوجد أمر آخر فيه لكي يحمل على الاستحباب وهذا بخلافه على مسلك حكم العقل بالوجوب لأن الأمر مستعمل في الطلب على كل حال غاية الأمر ثبت ترخيص في حصة ولم يثبت في أخرى فيثبت الاستحباب لا محالة في الأولى والوجوب في الثانية. وكذلك الحال على مسلك الإطلاق

__________________

(١) اللهم إلاّ ان يدعي ان وحدة السياق يشكل ظهوراً في وحدة الأوامر الواردة في سياق واحد من حيث الملاك والمدلول الجدي أيضاً فيصلح لأن يكون ذلك قرينة على عدم تمامية الإطلاق في باقي الأوامر أيضا. وهذا جار في الثمرة القادمة أيضاً.


إذ لا وجه لرفع اليد عن أصل الطلب في غير الفقهاء (١).

ومنها ـ انه إذا كان لدينا امران وورد ترخيص لأحدهما فقط وشك في انه ترخيص لهذا أو ذاك فانه بناء على ان الوجوب بحكم العقل يجب الاحتياط إذ لا تعارض بين الأمرين بلحاظ مدلوليهما وانما العقل يحكم بالوجوب فيما لم يرد فيه ترخيص والمفروض ان أحد الأمرين لم يرد فيه الترخيص فيتشكل علم إجمالي منجز وهذا بخلافه على المسلكين الآخرين ؛ حيث يفضي إلى التعارض بين مدلوليهما فالإجمال والتساقط على تفصيل نتعرض له في بحث العام المخصص بالمردد بين متباينين.

ومنها ـ انه بناء على مسلك الإطلاق بالتقريب الّذي ذكره المحقق العراقي ( قده ) من ان الأمر يكون ظاهراً بإطلاقه في الطلب الشديد يمكن ان نثبت بنفس النكتة أعلى مراتب الوجوب فلو وقع تزاحم بين واجبين أحدهما قد ثبت بالأمر والآخر بدال آخر غير الأمر قدم دائما ما يثبت بالأمر اللفظي لأن دليله يدل بالإطلاق على كونه في أعلى مراتب الملاك والوجوب.

__________________

(١) الوجه هو ظهور الأمر الواحد في وحدة الطلب الثبوتي لا تعدده فانه بناء على وجود طلب استحبابي ( أي غير شديد ) لإكرام العالم غير الفقيه يلزم ان يكون الأمر الواحد في مرحلة الإثبات كاشفاً عن طلبين أحدهما شديد متعلق بإكرام الفقيه والآخر ضعيف متعلق بإكرام العالم غير الفقيه وهذا خلاف ظاهر الحال في وحدة الحكم ثبوتاً كوحدته إثباتاً وهذا من أوضح الظّهورات وأقواها ولا يقاس بما إذا كان التقييد في طرف الموضع كما في مثال اشتراط العدالة في إكرام الفقيه بالخصوص فانه يرجع إلى وجود جعل واحد لوجوب إكرام العالم الّذي ليس بفقيه فاسق.


« الجهة الرابعة ـ في الطلب والإرادة »

وقد وقع البحث عند المحققين في ان الطلب المفاد بالأمر هل هو عين الإرادة أو غيرها وهل هو أمر نفساني كالقدرة أو فعل نفساني أو فعل خارجي؟ وقد ادعت الأشاعرة المغايرة بين الطلب والإرادة وادعت المعتزلة العينية بينهما واستدل الأشاعرة على المغايرة بوجوه أحدها مبتن على مسألة الجبر وهو ان الإرادة التشريعية لا تتعلق بشيء غير مقدور والأفعال مخلوقة لله سبحانه وتعالى وخارجه عن قدرة العبد مع اننا نرى انه في الشريعة قد تعلق الطلب بها فنعرف ان الطلب غير الإرادة وبهذه المناسبة وقع البحث في الجبر والتفويض والاختيار فهنا مسألتان :

١ ـ هل الطلب والإرادة شيء واحد أم شيئان؟.

٢ ـ ما انجر إليه البحث بالمناسبة من الجبر والتفويض والاختيار.

ونحن هنا نقتصر على بحث المسألة الثانية وعلى سبيل الاختصار تاركين البحث عن وحدة الطلب والإرادة مفهوما أو واقعا لعدم ترتب جدوى على ذلك.

فنقول :

ان مسألة الجبر والاختيار تنحل إلى مسألتين.

الأولى ـ المسألة الكلامية التي وقع فيها البحث بين المعتزلة القائلين بالتفويض


وبين الأشاعرة القائلين بالجبر والشيعة القائلين بالأمر بين الأمرين وروح البحث في هذه المسألة يرجع إلى النزاع في تشخيص فاعل الأفعال الصادرة من الإنسان فمذهب التفويض يقول بان الفاعل محضا هو الإنسان ، ومذهب الجبر يقول بان الفاعل محضا هو الله سبحانه وتعالى ، والشيعة يقولون بان لكل منهما نصيبا في الفاعلية بالنحو المناسب له.

الثانية ـ المسألة الفلسفية وروح البحث فيها يرجع إلى ان فاعل هذه الأفعال سواء فرضناه في المسألة الأولى الإنسان أو الله أو هما معا هل تصدر منه اختياراً أو بلا اختيار ومن هنا يعرف ان المسألة الكلامية لا تكفي وحدها لحسم النزاع في بحث الجبر والاختيار فلنفرض اننا قلنا هناك بان الفاعل هو الإنسان وحده ، لكن يبقى احتمال كونه فاعلاً بلا اختيار كفاعلية النار للإحراق التي قد يقال فيها بأن الإحراق فعل للنار محضا ..

أما البحث في المسألة الأولى ـ فيوجد فيها بدوا خمسة احتمالات كالتالي :

١ ـ ان يكون الفاعل محضا هو الإنسان ولا نصيب لرب العباد في الفاعلية وهذا مذهب التفويض وهو مذهب المعتزلة وهذا يرجع بحسب الحقيقة إلى دعوى استغناء المعلول عن العلة بقاء إذ لو فرض حاجة الإنسان في وجوده البقائي إلى الله تعالى ووجوده البقائي هو علة أفعاله ، اذن لم يعقل إنكار ثبوت نصيب لله في الفعل عرضياً وطولياً وحيث ان هذا المبنى ساقط كما حقق في موضعه من الكلام والفلسفة إذ برهن على ان المعلول بحاجة إلى العلة بقاء أيضاً يثبت بطلان التفويض وليس هنا موضع البحث عن تلك البراهين.

٢ ـ ان يكون الفاعل محضاً هو الله تعالى وانما الإنسان محل قابل لذلك الفعل من قبيل ما يفعله النجار في الخشب حيث ان الخشب ليس فاعلاً للفعل وانما هو قابل له وليس لمبادئ الإرادة في نفس الإنسان أي دخل في الفعل واقتران الفعل بالإرادة دائما انما هو صدفة متكررة فصدور الفعل من الله يقترن صدفة دائما مع إرادة الإنسان وهذا مذهب الأشعري وهذا الاحتمال هو الّذي ينبغي ان يكون مقابلا بالوجدان المدعى في كلماتهم حيث قالوا ان هناك فرقاً بالضرورة بين حركة المرتعش وحركة


غير المرتعش وهذا البحث بحسب الحقيقة لا يختص بالافعال الاختيارية بل يأتي في كل عالم الأسباب والمسببات فقد يقال الإحراق شغل الله مباشرة يقترن بنحو الصدفة الدائمية بالنار والوجدان المبطل لذلك أيضاً عام يشمل كل عالم الأسباب والمسببات وهو وجدان سليم بالقدر المبين في الأسس المنطقية.

٣ ـ ان يكون لكل من الإنسان والله تعالى نصيب في الفاعلية بمعنى كونهما فاعلين طوليين أي ان الإنسان هو الفاعل المباشر للفعل بما أوتي من قدرة وسلطان وعضلات وتمام القوى التي استطاع بها ان يحرّك لسانه ويديه ورجليه والله هو الفاعل غير المباشر من باب ان هذه القوى مخلوقة حدوثاً وبقاء له تعالى ومفاضة آناً فآنا ومعطاة .. من قبل الله وهذا أحد الوجوه التي فسّر بها الأمر بين الأمرين.

٤ ـ ان يكون الفاعل المباشر هو الله لكن الإرادة ومبادئها مقدمات إعدادية لصدورها من الله تعالى ففرقه عن الثاني ان اقتران الفعل بالإرادة عن الثاني كان مجرد صدفة وعلى هذا الوجه يكون من باب كون الإرادة مقدمة إعدادية للفعل وفرقه عن الثالث أيضاً واضح إذ على الثالث يكون الفعل فعل الإنسان مباشرة والله فاعل الفاعل واما على هذا الوجه فالله هو الفاعل المباشر والإرادة مقدمة إعدادية لقابلية المحل لإفاضة الفعل وهذا أحد وجوه الأمر بين الأمرين.

٥ ـ ما ذهب إليه عرفاء الفلاسفة ومتصوفوهم وهو ان الفعل له فاعلان الله والعبد لكن لا طوليان كما على الثالث ولا عرضيان كما على الرابع بل هي بحسب الحقيقة فاعلية واحدة بنظر تنسب إلى العبد وبنظر آخر تنسب إلى الله تعالى مبنياً منهم على تصور عرفاني يقول ان نسبة العبد إلى الله نسبة الربط والفناء والمعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي فبالنظر الاندكاكي هذه الفاعلية فعل الله وبالنظر غير الاندكاكي فعل العبد هذه هي الاحتمالات الخمسة في المقام والاحتمال الأول ساقط بالبرهان والثاني ساقط بالوجدان والخامس مبني على تصور صوفي لا نفهمه فيبقى الثالث والرابع ، وعلى كل منهما يمكن تطبيق « أمر بين الأمرين » الموروث عن الأئمة : ، نعم الرابع يوجب الجبر الا ان هذا راجع إلى المسألة الثانية فمن زاوية المسألة الأولى وهي التي تعرض لها الأئمة : في روايات الجبر والتفويض يكون كلا الوجهين


الثالث والرابع معقولين. وبعد هذا ننتقل إلى المسألة الفلسفية وهي التي تنحسم بها مسألة الجبر والاختيار حيث ان مجرد اختيار المذهب الشيعي في المسألة الأولى القائل بان للإنسان دخلاً في الفاعلية كما ان لله تعالى دخلاً فيها أو اختيار المذهب المعتزلي القائل بأن الإنسان هو الفاعل محضاً لا يحتمّ كون الإنسان مختاراً غير مجبور في فعله فلعل صدور الفعل من الإنسان كصدور الإحراق من النار بناء على فاعلية النار للإحراق نعم لو اختير في المسألة الأولى المذهب الأشعري القائل بكون الفاعل هو الله محضاً ثبت كون الإنسان غير مختار فهذا المسلك وان كان يكفي لإثبات الجبر لكن المسلكين الآخرين لا يكفيان لإثبات الاختيار فلا بد من المسألة الثانية لحسم مسألة الجبر والاختيار فنقول :

وأما المسألة الثانية ـ فهي في الحقيقة نشأت لدفع شبهة فلسفية تنفي الاختيار حتى بعد الاعتراف بان الفعل فعل الإنسان وهذه الشبهة مركبة من مقدمتين :

الأولى ـ ان الاختيار ينافي الضرورة فان الضرورة تساوق الاضطرار المقابل للاختيار من قبيل حركة يد المرتعش التي هي ضرورية.

الثانية ـ ان صدور الفعل من الإنسان يكون بالضرورة لأن الفعل الصادر منه ممكن من الممكنات فتسوده القوانين السائدة في كل عالم الإمكان القائلة بان الممكن ما لم يجب بالغير لم يوجد فبالجمع بين هاتين المقدمتين يثبت ان الإنسان غير مختار في أفعاله إذ لا يصدر منه فعل الا بالضرورة والضرورة تنافي الاختيار.

وهذه الشبهة اختلفت المسالك والمباني في كيفية التخلص منها فبعضها يرجع إلى المناقشة في المقدمة الأولى وبعضها يرجع إلى المناقشة في المقدمة الثانية فنقول :

المسلك الأول ـ ما ذهب إليه المشهور من الفلاسفة فاعترفوا بالمقدمة الثانية وهي ان فعل الإنسان مسبوق بالضرورة ، لكنهم ناقشوا المقدمة الأولى وهي ان الضرورة تنافي الاختيار ، وذلك انهم فسّروا الاختيار بان مرجعه إلى القضية الشرطية القائلة ان شاء وأراد فعل وإلاّ لم يفعل والقضية الشرطية لا تتكفل حال شرطها وانه هل هو موجود بالضرورة أو معدوم بالضرورة أو لا فمتى ما صدقت هذه القضية الشرطية فقد صدق الاختيار حتى إذا فرض ان الشرط وهو الإرادة مثلا كان ضرورياً فكان


الجزاء ضرورياً بالغير أو كان ممتنعاً فكان الجزاء ممتنعاً بالغير من دون فرق بين ان يكون وجوب الشرط وامتناعه بالغير كما في الإنسان أو بالذات كما يفترضونه في حق الباري تعالى لأن صفاته واجبة بالذات لأنها عين ذاته وضرورة الفعل الناشئة من الإرادة لا تنافي الاختيار بل تؤكده لأن الاختيارية تكون بصدق القضية الشرطية القائلة لو أراد لصلّى مثلاً فإذا ثبت ان الصلاة تصبح ضرورية عند الإرادة فهذا تأكيد للملازمة وتحقيق بتّي لصدق القضية الشرطية وبدون هذه الضرورة تكذب القضية الشرطية وليست مضمونة الصدق وبالجملة الاختيار صادق متى ما صدقت هذه القضية الشرطية كما في حركة يد السليم وغير صادق متى ما لم تصدق القضية الشرطية كما في حركة يد المرتعش وهذا لا ينافي ضرورة الفعل بالإرادة ولا ضرورة الإرادة نفسها وهذا مرجع ما قاله صاحب الكفاية من ان الفعل الاختياري ما يكون صادراً عن الإرادة بمبادئها لا ما يكون صادراً عن إرادة صادرة عن الاختيار وهكذا.

وهذا الكلام الّذي قاله هؤلاء الفلاسفة والحكماء بحسب الحقيقة مبني على ما ذكرناه من التفسير للاختيار وهو انه عبارة عن صدق تلك القضية الشرطية وبعد فرض التسليم بهذا التفسير يتم استدلالهم في المقام وهو ان هذه القضية الشرطية صادقة في جميع موارد الاختيار ولا يضر به الوجوب بالذات أو بالغير.

إلاّ ان الشأن في صحة هذا التفسير لأنه ان كان مجرد اصطلاح للفلاسفة لأجل تغطية المسألة فلا مشاحة معهم في الاصطلاح وان كان مرجعه إلى تشخيص معنى الاختيار لغة وان واضع اللغة هكذا وضع لفظة الاختيار فائضاً لا كلام لنا معهم إذ ليس بحثنا لغوياً لنرى ان الواضع لأي معنى وضع لفظ الاختيار واما ان كان المنظور الاستطراق إلى التكليف والحساب وتوضيح الفارق بين حركة أمعاء الإنسان وحركة أصابعه الّذي جعل الإنسان يحاسب على الثانية دون الأولى ( سواء فرضنا ان لكلمة الاختيار معنى في اللغة أولا ) ، فحينئذ نقول تارة نتكلم على ما هو الحق من التسليم بالحسن والقبح العقليين وأخرى نتكلم بناء على إنكار ذلك كما أنكره الأشاعرة صريحاً وأنكره الفلاسفة بشكل مستور حيث أرجعوا الحسن والقبح العقليين إلى الأمور العقلائية والقضايا المشهورة :


أما بناء على ما هو الحق من التسليم بالحسن والقبح العقليين فلا محصل لكل هذه الكلمات في تخلصهم عن المشكلة فان حركة الأصابع إذا كانت ناشئة بالضرورة من الإرادة والإرادة ناشئة بالضرورة من مبادئها وهي ناشئة بالضرورة من عللها وهكذا إلى ان ينتهي الأمر إلى الواجب بالذات فحالها تماماً حال حركة الأمعاء عند الخوف مثلاً الناشئة بالضرورة من عامل الخوف الناشئ بالضرورة من عوامل مؤثرة في النّفس الناشئة من عللها وهكذا إلى ان ينتهي إلى الواجب بالذات وكما يقبح المحاسبة والعقاب على الثاني كذلك يقبح على الأول بلا أي فرق بينهما سوى ان واضع اللغة سمّى الأول اختيارياً دون الثاني واما بناء على إنكار الحسن والقبح العقليين فلا تبقى مشكلة من ناحية قبح المحاسبة والعقاب حتى نحتاج إلى حلها. نعم تبقى فقط مشكلة لغوية التكليف وأنه لا فائدة فيه بناء على عدم الاختيار فما الّذي يدعو المولى إلى التكليف والخطاب؟ وحينئذ يكفي ما ذكروه لحل هذه المشكلة فان الحركة الناشئة من الإرادة وان كانت ضرورية كحركة الأمعاء لكنها سنخ فعل يمكن التدخل التشريعي فيه ( على خلاف سائر الأمور الضرورية ) ، بالتكليف والتخويف بالعقاب فمن يشتهي الأكل من الطعام الحرام لو علم بأنه يضرب ضرباً أشد من لذّة الطعام أحجم على ذلك ولو بلا اختيار بخلاف حركة الأمعاء مثلاً فانه حتى لو عرف الضرب على تقدير الحركة تبقى الأمعاء تتحرك. هذا صفوة ما يمكن ان يقال في التعليق على هذا المسلك.

المسلك الثاني ـ يعاكس المسلك الأول فيسلم بالمقدمة الأولى وأن الضرورة تساوق الاضطرار المنافي للاختيار ويناقش في المقدمة الثانية فينكر قوانين العلية ويفترض ان الشيء يوجد رأساً من عالم الإمكان إلى عالم الوجود بلا حاجة إلى توسيط الضرورة ومال إلى هذا المسلك بعض الفلاسفة المتأخرين من غير المسلمين وتخيلوا ان هذا يساوق الاختيار والحرّية إذ يبقى الفعل ممكناً حتى حين صدوره وهذا المسلك حاله حال أصل الشبهة يرتكبان خطأ فان أصل الشبهة جعلت الضرورة بقول مطلق منافية للاختيار وهذا المسلك جعل الإمكان ونفي الضرورة ونفي مبادئ العلية مساوقاً مع الاختيار وكلاهما غير صحيح ( اما الأول ) فلأن الضرورة إذا كانت في طول الاختيار


فهي لا تنافي الاختيار وإلاّ فهي تنافيه وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك ، ( واما الثاني ) فلان مجرد كون الفعل ليس ضرورياً لا يكفي في كونه اختيارياً للفاعل فان إنكار مبادئ العلية معناه بحسب الحقيقة التسليم بالصدفة ومن الواضح ان الصدفة غير الاختيار فلو فرض ـ محالاً ـ ان الماء على بلا علّة وبلا نار فهذا معناه تحقق الغليان صدفة وليس معناه ان الغليان كان اختيارياً للماء لأنه وجد بلا علة فان هذا غير ما يراه العقل اختياراً.

المسلك الثالث ـ ما قد يتمسّك به أيضاً بعض المحدثين وحاصله : نرى الكائنات التي تعيش في ظل هذه الطبيعة مختلفة في مقدار تحديد الطبيعة لها في مجال سيرها فمثلاً الحجر الّذي قذف به إلى أعلى يكون مجال سيره محددا مائة بالمائة ومن جميع الجهات فقد فرض عليه ان يسير إلى أعلى بنحو مخصوص وإلى حد معين إلى ان تنتهي قوة الدفع فيرجع إلى أسفل محددا أيضاً سيره من جميع الجهات بحيث يمكن التنبؤ بالدقة عن حال صعوده ونزوله وتعيين وضعه في السير صعودا ونزولاً بالضبط هذا حال الحجر واما الحيوان الّذي يضرب بحجر فيفر فالطبيعة لم تحدد له سيره تحديدا كاملاً بل له عدة فرص ولذا لا يتاح لنا بالدقة التنبؤ بأنه من أي جهة يهرب؟ وأكثر منه فرصة الإنسان وذلك لأمرين : ( الأول ) ان ميوله وغرائزه أكثر تعقيدا وأشد من الحيوان فمثلا يفر الحيوان حينما يرى الحجر متوجها إليه في حين قد يميل الإنسان إلى ان يقف ويتلقف الحجر ، ( والثاني ) انه أوتي عقلاً يحكمه في أفعاله ويلحظ المصالح والمفاسد وهذه الفرص كلّها تصعّب التنبؤ بما سوف يفعل والاختيار ينتزع من هذه الفرصة التي تعطيه الطبيعة.

وهذا الكلام وان صدر من جملة من الفلاسفة المحدثين الا انه لا يرجع إلى محصل إذ مرجعه إلى ان الاختيار أمر وهمي إذ كون الفرصة في الإنسان أكثر منها في الحيوان وفيه أكثر منه في الحجر فتمنع الفرصة عن التنبؤ مرجعه إلى الاطلاع للمتنبئ على كل الخصوصيات الداخلية في تصرف الإنسان أو الحيوان لشدة تعقيدها وهذه الفرصة انتزعت وهما من هذه الخصوصيات المجهولة عند المتنبئ ، ولو انه اطلع على كل الخصوصيات لتنبأ كما يتنبأ حال الحجر وهذا هو عين القول بالجبر.


المسلك الرابع ـ ما ذهب إليه المحقق النائيني ( قده ) حيث انه سلم بالمقدمة الأولى والثانية معا الا انه لم يقبل إطلاق المقدمة الثانية وقال بان قوانين العلية لا تشمل الأفعال الاختيارية للإنسان فالإنسان حينما يلتفت إلى عمل ما كالصلاة وتنقدح في نفسه الإرادة الجدية الكاملة لا يحصل وجوب وضرورة للصلاة بمعنى يخرجها عن قدرة الإنسان فالنفس حتى بعد الإرادة يبقى بإمكانها ان تتحرك نحو الصلاة أو لا تتحرك وحينما يصدر منها فعل الصلاة فقد صدر في الحقيقة من النّفس بعد ما تمت عندها الإرادة عملان طوليان :

( أحدهما ) فعل خارجي وهو الصلاة ( والآخر ) فعل نفساني قائم بصقع النّفس وهو أسبق رتبة من الفعل الخارجي وهو تأثير النّفس وحملتها وإعمالها للقدرة فالفعل يوجد بإعمال القدرة والاختيار وهذا الفعل النفسانيّ وهو إعمال القدرة والتحرك والتأثير نسبته إلى النّفس نسبة الفعل إلى الفاعل لا نسبة العرض إلى محله كالإرادة وهذه الحملة والتحرك التي هي فعل نفساني ليست معلولة للإرادة وفقا لقوانين العلية بل النّفس بعد الإرادة يبقي بإمكانها ان تتحرك نحو الفعل وان لا تتحرك وإذا لاحظنا هذين الفعلين نرى انهما اختياريان اما فعلها الأول وهو توجه النّفس وتأثيرها فهو أمر اختياري إذ لم يتحتم ولم يصبح وجوده ضروريا بالإرادة حتى يلزم خروجه من الاختيار وأما فعلها الثاني وهو الفعل الخارجي كالصلاة فهو وان أصبح ضروريا بعد الاختيار لكن هذه الضرورة لا تنافي الاختيار لأنها ضرورة نشأت من الاختيار إذ نشأت من الفعل الأول الّذي هو عين اختيار النّفس وإعمالها لقدرتها والضرورة في طول الاختيار لا تنافي الاختيار (١).

أقول : اننا نقبل من المحقق النائيني ( قده ) بنحو الإجمال ما ذكره من أنه لا بد من رفع اليد في الأفعال الاختيارية عن إطلاق قوانين العلية وقاعدة ان الشيء ما لم يجب لم يوجد كما سيأتي توضيحه ولكن ما ذكره في مقام تفصيل ذلك من افتراض فعلين للنفس وشرحه بالنحو الّذي عرفت يوجد لنا حوله عدة تعليقات.

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ص ٩٠ ـ ٩٢.


الأولى ـ ان ما جعله فعلا نفسيا وراء الفعل الخارجي وهو تأثير النّفس واختيارها وإعمالها لإمكانيتها في إيجاد الصلاة ليس بحسب الحقيقة أمرا وراء الفعل الخارجي فان الأعمال عين العلم والتأثير عين الأثر وهذه عناوين انتزاعية منتزعة من نفس العمل والأثر فالإعمال والعمل والإيجاد والوجود والتأثير والأثر مفهومان مختلفان بالاعتبار متحدان خارجا فمثلا الإحراق تارة يلحظ منسوبا إلى الفاعل فيسمى إحراقا وإيجادا للاحتراق وأخرى يلحظ منسوبا إلى المحل فيسمى وجودا واحتراقا.

الثانية ـ ان إدخال فرضية وجود عمل نفساني وراء العمل الخارجي وتوسيطه بين الإرادة والفعل لا دخل له في حل الشبهة فيمكننا ان نلتزم رأسا في الفعل الخارجي بما التزم به المحقق النائيني ( قده ) في الفعل النفسيّ من خروجه عن قانون ان الشيء ما لم يجب لم يوجد فان كان هذا التخصيص لذاك القانون كافيا لرفع الشبهة فيمكن ان يطبق ابتداء على الفعل الخارجي وان لم يكن كافيا لذلك فافتراض فعل آخر متوسط بين الإرادة والفعل لا يؤثر في رفع الشبهة.

الثالثة ـ اننا إذا لاحظنا الفعل الخارجي ونسبته إلى الفعل النفسانيّ رأينا ان حاله حال سائر الحوادث في عالم الطبيعة أي ينطبق عليه قانون ان الشيء ما لم يجب لم يوجد إذ هو وليد الفعل النفسانيّ واما إذا لاحظنا الفعل النفسانيّ فقد افترض ( قده ) انه خارج عن قانون ان الشيء ما لم يجب لم يوجد وسواء فرضنا ان هذا الفعل النفسانيّ هو الخارج عن هذا القانون أو فرضنا ان الفعل الخارجي ابتداء هو الخارج عن هذا القانون نقول : انه من الواضح ان هذا القانون لم يكن قانونا تعبديا يقبل التخصيص تعبدا وانما هو قانون عقلي فيأتي السؤال عن انه ما هو المصحح لوجود هذا الفعل بعد فرض عدم وجوبه الذاتي وكيف وجد؟ فنقول : ان الأمر في ذلك لا يخلو من أحد فروض :

١ ـ ان يكون المصحح لوجوده هو الوجوب بالغير والضرورة المكتسبة من العلة وهذا خلف الخروج من قاعدة ان الشيء ما لم يجب لم يوجد.

٢ ـ ان يكون المصحح له مجرد الإمكان الذاتي أي ان مجرد إمكان صدوره عن الفاعل يكفي في صدوره وهذا أيضا غير صحيح إذ من الواضح بالفطرة ان الإمكان


الذاتي الّذي معناه كون نسبة الشيء إلى الوجود والعدم على حد سواء لا يكفي مرجحا لجانب الوجود ويأتي السؤال عن انه ما هو الفرق بين الإمكان هنا والإمكان في سائر المجالات حيث لم يكف الإمكان في سائر المجالات للوجود وكفى له هنا. هذا مضافا إلى ان ذلك لا يصحح الاختيار إذ هذا معناه الصدفة لا الاختيار والصدفة غير الاختيار.

٣ ـ ان يفترض ان الفعل الخارجي صادر بهجوم النّفس على حد تعبير المحقق النائيني ( قده ) وذاك الهجوم صادر بهجوم آخر وهكذا وهذا أيضا باطل للزوم التسلسل.

فلم يبق الا الفرض الرابع الّذي هو الفرض المعقول في المقام والّذي قصر عنه المنقول من كلمات المحقق النائيني ( قده ) فلعل هذا هو المقصود ولكن قصرت العبارة عن أدائه.

٤ ـ ان نطرح مفهوما ثالثا في مقابل مفهومي الوجوب والإمكان وهو مفهوم السلطنة وهذا الوجه هو الّذي يبطل به البرهان على الجبر كما نوضح ذلك من خلال عدة نقاط :

الأولى ـ ان قاعدة ان الشيء ما لم يجب لم يوجد لو كان قاعدة قام عليها البرهان فلا معنى للالتزام بالتخصيص إذ ما يقوم عليه البرهان العقلي لا يقبل التخصيص والتقييد ولكن الصحيح انها ليست قاعدة مبرهنة بل هي قاعدة وجدانية من المدركات الأولية للعقل وان كان قد يبرهن على ذلك بان الحادثة لو وجدت بلا علة ووجوب لزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر بلا مرجح وهو محال لكنك ترى ان استحالة الترجيح أو الترجح بلا مرجح هي عبارة أخرى عن ان المعلول لا يوجد بلا علة اذن فلا بدّ من الرجوع في هذه القاعدة إلى الفطرة السليمة مع التخلص من تشويش الاصطلاحات والألفاظ لنرى ما هو مدى حكم الفطرة والوجدان بهذه القاعدة فننتقل إلى النقطة الثانية.

الثانية ـ ان الفطرة السليمة تحكم بان مجرد الإمكان الذاتي لا يكفي للوجود وهنا أمران إذا وجد أحدهما رأى العقل انه يكفي لتصحيح الوجود ( أحدهما ) الوجوب بالغير فانه يكفي لخروجه عن تساوي الطرفين ويصحح الوجود ( والثاني ) السلطنة فلو وجدت


ذات في العالم تملك السلطنة رأى العقل بفطرته السليمة ان هذه السلطنة تكفي للوجود وتوضيح ذلك ان السلطنة تشترك مع الإمكان في شيء ومع الوجوب في شيء وتمتاز عن كل منهما في شيء :

فهي تشترك مع الإمكان في ان نسبتها إلى الوجود والعدم متساوية لكن تختلف عن الإمكان في ان الإمكان لا يكفي لتحقق أحد الطرفين بل يحتاج تحققه إلى مئونة زائدة وأما السلطنة فيستحيل فرض الحاجة معها إلى ضم شيء آخر إليها لأجل تحقق أحد الطرفين إذ بذلك تخرج السلطنة عن كونها سلطنة وهو خلف بينما في الإمكان لا يلزم من الحاجة إلى ضم ضميمة خلف مفهوم الإمكان اذن فالسلطنة لو وجدت فلا بد من الالتزام بكفايتها.

وهي تشترك مع الوجوب في الكفاية لوجود شيء بلا حاجة إلى ضم ضميمة وتمتاز عنه بان صدور الفعل من الوجوب ضروري ولكن صدوره من السلطنة ليس ضروريا إذ لو كان ضروريا لكان خلف السلطنة وفرق بين حالة ( له أن يفعل ) وحالة ( عليه أن يفعل ) وقد فرضنا اننا وجدنا مصداقا للسلطنة وأن له ان يفعل ومن السلطنة ينتزع العقل ـ باعتبار وجدانها لهذه النكات ـ مفهوم الاختيار لا من الوجوب ولا من الصدفة. وقد تحصل ان المطلوب في هذه النقطة الثانية انه لو كانت هناك سلطنة في العالم لكانت مساوقة للاختيار وكفت في صدور الفعل.

الثالثة ـ ان هذه السلطنة هل هي موجودة أم لا؟ يمكن البرهان على إثباتها في الجملة وتعيينها في الله وهذا خارج عما نحن بصدده ويرجع إلى بحث قدرة الله واما في الإنسان الّذي هو الداخل في محل البحث فلا برهان عليه بل ينحصر الأمر في إثبات ذلك بالشرع أو بالوجدان بان يقال مثلا اننا ندرك مباشرة بالوجدان ثبوت السلطنة فينا واننا حينما يتم الشوق الأكيد في أنفسنا نحو عمل لا نقدم عليه قهرا ولا يدفعنا إليه أحد بل نقدم عليه بالسلطنة بناء على دعوى ان حالة السلطنة من الأمور الموجودة لدى النّفس بالعلم الحضوري من قبيل حالة الجوع أو العطش أو حالة الحب أو البغض أو بان يقال اننا كثيرا ما نرى اننا نرجح بلا مرجح كما يقال في رغيفي الجائع وطريقي الهارب فلو كان الفعل لا يصدر الا بقانون الوجوب بالعلة اذن لبقي جائعا إلى ان يموت


لعدم المرجح لأحدهما بينما بناء على قاعدة السلطنة يرجح أحدهما بلا مرجح وان عرض هذا الكلام على الحكماء لقالوا ان المرجح موجود في علم المولى أو بعض الملائكة المدبرين للأمور الا ان يقال في مقابل ذلك ان الوجدان يحكم بعدم المرجح دائما حتى في علم المولى أو الملائكة فائضا رجع إلى الوجدان.

( بقي في المقام التنبيه على أمرين ) الأول ـ انه مضى في المسألة الأولى أي في تشخيص فاعل الأفعال وانه الله أو الإنسان وجوه خمسة وقلنا هناك انه في حدود تلك المسألة يكون الوجه الثالث والرابع كلاهما معقولا الا انه إذا ثبتت السلطنة بالشرع أو بالوجدان بطل على ضوئه الوجه الرابع هناك إذ هو مستلزم للجبر حيث انه يجعل مبادئ الإرادة مجرد مقدمات إعدادية موجبة لقابلية المحل لكي يقوم الفاعل وهو الله بفعله فان فرضنا ان الإرادة حالة نفسانية نسبتها إلى النّفس نسبة العرض من المحل لم يبق اختيار للإنسان إذ الإرادة تحصل قهرا وما يأتي بعدها من فعل يوجده الله وان فرضنا ان الإرادة فعل من افعال النّفس يأتي بعدها الفعل الخارجي فالوجه الرابع يقول ان هذا الفعل أيضا فعل الله فان الوجه الرابع لا يختص بفعل دون فعل فائضا لا يبقى اختيار للإنسان فكلما يثبت السلطنة يبطل هذا الوجه لا محالة.

الثاني ـ ان الاختيار المدعى ثبوته للإنسان ليس مطلقا إذ لا شك في ان كثيرا من الأمور قد تقع رغم أنف الإنسان وخارج حدوداختياره فهو اختيار محدود لا محالة وضابطه ان كل فعل أو ترك يكون لاعتقاد الإنسان « بالمصلحة أو المفسدة فيه » دخل في تحققه هو امر اختياري ، فيدخل تحت هذا الضابط أمران :

١ ـ الأفعال الصادرة من جوارح الإنسان في الخارج كالصلاة والصوم أو افعال الجوانح المنشآت من قبل النّفس كعقد القلب والإنشاء ، ونحو ذلك. وانطباق الضابط على هذا النوع واضح.

٢ ـ الحب والشوق أو البغض والكراهة التي هي من مبادئ الأفعال الاختيارية فانها أيضا قد تكون اختيارية وينطبق عليها الضابط المذكور بأحد وجهين :

الأول ـ ان الحب والبغض يتولدان عادة من الاعتقاد بالمصلحة والاعتقاد


بالمفسدة في المحبوب والمكروه فمن يعتقد المصلحة في أكل شيء ، يشتاق إلى الأكل.

ومن يعتقد المفسدة فيه ، يكرهه ، وهكذا. وبهذا الاعتبار كانت هذه الصفات داخلة تحت اختيار الإنسان في كثير من الحالات وصح التكليف بها كالأمر بحب النبي 6 والأئمة : وبغض أعدائهم.

الثاني ـ ان يفرض المصلحة في نفس الشوق المؤكد فلو فرض انه لا يرى مثلا أي مصلحة في نفس القيام لكن قال له شخص لو أردت القيام واشتقت إليه أعطيتك دينارا سواء قمت بالفعل أم لا فيقال انه سوف ينقدح في نفسه الإرادة والشوق نحو القيام وقد طبق ذلك على بعض الفروع الفقهية وهذا ما ينبغي بحثه تحت عنوان نشوء الإرادة عن مصلحة في نفسها لا متعلقها.

نشوء الإرادة عن مصلحة في نفسها

ذكر بعض المحققين إمكان نشوء الإرادة والشوق عن مصلحة في نفسها وجعلوا من تطبيقاته من يقصد عشرة أيام من أجل ان يصلي تماما أو يصوم ومن دون غرض له في البقاء عشرة أيام سوى ذلك وهو متقوم بنفس القصد والإرادة.

واعترض على ذلك المحقق العراقي ( قده ) بان الفعل والترك إذا كانا في نظر الإنسان سيان فكيف تتعلق إرادته بأحدهما ، وهل هذا الا ترجيح بلا مرجح؟ وفيما يلي نتحدث : أولا عن إمكان نشوء الإرادة عن مصلحة في نفسها ثم نبحث عن الفرع المذكور وكيفية تخريجه من الناحية الفقهية.

فنقول : الصحيح ان الحب والبغض والإرادة والكراهة التي هي من الصفات الحقيقية ذات الإضافة لا تحصل الا على أساس ما في متعلقاتها من المصالح والملاكات لا من أجل ما ساقه المحقق العراقي ( قده ) كبرهان على الاستحالة وهو لزوم الترجيح بلا مرجح ليقال ان المرجح ليكن هو المصلحة في نفس الإرادة بل لحكم الوجدان الّذي هو المرجع في تشخيص صغرى العلية والسببية في سائر الموارد بأن الشوق والإرادة وكذلك البغض والكراهة لا تتحقق الا على أساس تشخيص الملاك من


المصلحة أو المفسدة في المتعلقات لأنها من الصفات ذات الإضافة والتعلق بغيرها فتنشأ عن ملاك فيه.

وأما علاج الفرع الفقهي المذكور والّذي قد يبرز كنقض على دعوى استحالة نشوء الإرادة عن مصلحة في نفسها فقد حاول المحقق العراقي ( قده ) أن يتخلص عنه بدعوى ان الإرادة والقصد أيضا ناشئة من مصلحة في المتعلق الا أن المتعلق لبس هو الإقامة مطلقا بل الحصة الخاصة منها وهو الإقامة القصدية فالإقامة القصدية أو هذا الباب من أبواب وجود الإقامة هي التي تكون مصبا للنكتة الداعية للمكلف إلى ان يقصد الإقامة.

وهذا الكلام بحاجة إلى تمحيص فانه يحتمل فيه أحد وجهين.

الأول ـ ان المصلحة التي يتوخاها المسافر في الإقامة المقيدة بالقصد أي ما هو موضوع الحكم بصحة الصوم والإتمام هو المقيد والتقيد بنحو التركيب الضمني وهذا واضح الجواب لأنه من الثابت فقهيا ان نفس الإقامة ليس لها دخل في صحة الصوم والتمام ولو ضمنا فلو نوى الإقامة وصلى رباعية ثم عدل كان عليه التمام والصيام بلا إشكال.

الثاني ـ ان المصلحة في سد باب عدم الإقامة من ناحية عدم القصد والإرادة للإقامة ولو فرض انفتاح باب آخر لعدمها كإجبار شخص إياه على الخروج أو غير ذلك فكأن هذا حفظ لمرتبة من مراتب وجود الإقامة وتقريب نحو وجودها وإيجاد ناقص لها. وهذا الوجه عبارة أخرى عن قيام المصلحة بنفس القصد لا المقصود لأن سد باب عدم الإقامة من ناحية عدم القصد عبارة أخرى عن القصد وليس جزءا من الإقامة الا بنحو من المسامحة في التعبير فيقال الإقامة القصدية إذ ليس سد باب عدم شيء بعدم إحدى مقدماته الا عبارة أخرى عن إيجاد تلك المقدمة فرجع الإشكال جذعا.

والتحقيق : ان يقال ان ما هو شرط في صحة الصوم والتمام وهو قصد الإقامة بعد وضوح ان نفس الإقامة خارجا ليس شرطا فيها يتصور بأحد تصورات ثلاثة :

الأول ـ ان يختار بأن الشرط نفس إرادة الإقامة لا غير كما هو ظاهر من نقض بهذا


الفرع في مسألتنا هذه فحينئذ لا محيص عن الإشكال في أكثر الفروض.

وتوضيحه ـ انه تارة يتعلق غرض المسافر بصوم أقل من عشرة أيام فسوف تكون صحة صومه غير متوقفة على وقوع الإقامة منه بوجه من الوجوه أصلا ، إذ هو يعلم انه لو عدل بعد الصوم عن الإقامة حصل غرضه أيضا وصح صومه بلا إشكال فلو حصل له قصد الإقامة وإرادتها لهذا الغرض فحسب أي لتصحيح الصوم أقل من عشرة أيام لزم نشوء الإرادة عن مصلحة في نفسها وهو محال.

وأخرى يتعلق غرضه بالصوم عشرة أيام فصاعدا وهذا من الناحية الفقهية متوقف على الجامع بين ان يصلي صلاة رباعية أو يبقى عشرة أيام حقيقة مع قصد الإقامة ولكن حيث انه عادة يتحقق الفرد الأول من هذا الجامع قبل الفرد الثاني فلا يبقى أثر للفرد الثاني منه فقصد الإقامة لا بد أن ينشأ من القصد نفسه مع صلاة رباعية لا الإقامة عشرة أيام لعدم تعلق غرض له فيها وهو محال أيضا.

نعم إذا فرض انه كان سنخ إنسان يصوم ولا يصلي وقلنا بأن ما يترتب عليه حكم الإقامة خصوص الصلاة الرباعية لا مطلق ترتيب أثر من آثار الإقامة سواء كان صلاة رباعية أو صوما فهنا يصبح بقاء قصده للإقامة إلى آخر العشرة دخيلا في إمكان الصوم إلى آخر العشرة وهذا يلازم نفس الإقامة خارجا فيتحقق منه قصد الإقامة لكونها مما يتوقف عليه محبوبه لا محالة ولا إشكال في كفاية ذلك في ترتب أحكام الإقامة ولا يشترط ان تكون الإقامة المحبوب النفسيّ للمقيم الا أن هذا فرض نادر جدا.

الثاني ـ ان يراد بقصد الإقامة الّذي يفترض شرطا لصحة الصوم البناء النفسيّ والالتزام بالإقامة ولو لم يكن له شوق نحوها بل لعله يكرهها والالتزام والبناء من افعال النّفس فقد يقال انه حينئذ يرتفع الإشكال السابق لأنه مسلط على نفسه وأفعالها كتسلطه على افعال جوارحه وليس هذا من قبيل الحب والبغض اللذين هما من الصفات.

ولكن يرد على هذا ان داعيه إلى هذا البناء انما هو تصحيح الصوم وهو يعلم ان هذا الداعي سوف ينتفي ويزول في ظرف العمل وبعد أن يتحقق منه البناء حدوثا فلا يتمشى منه بناء جدي حقيقي على البقاء عشرة أيام الا من باب لقلقة اللسان فان


البناء على شيء استقبالي انما يتأتى من الإنسان إذا كان داعية إلى البناء على ذلك موجودا ـ في أفق تصوره الآن ـ في ظرف العمل ولو حصل له البداء بعد ذلك واما إذا كان يعلم ان داعيه سوف يزول وينتهي في ظرف العمل فلا يتأتى منه بناء حقيقي.

الثالث ـ ان يراد بقصد الإقامة العلم أو الاطمئنان بالمكث عشرة أيام ـ وهذا هو الصحيح من الناحية الفقهية على ما قررناه في محله.

وهنا أيضا لا يرد إشكال نشوء الإرادة عن مصلحة في نفسها ولكن يرد نظير الإشكال على التقدير المتقدم من ان هذا العلم والاطمئنان بالبقاء عشرة أيام لا يحصل الا إذا كان هناك بناء نفسي جدي على ذلك.

وهكذا يتلخص أنه في غالب الفروض عند عدم وجود رغبة ومصلحة مستقلة في الإقامة بقطع النّظر عن تصحيح العبادة لا يتأتى منه قصد الإقامة اما لأنه لا يتولد له القصد بمعنى الشوق إلى شيء لمصلحة في نفس القصد والإرادة كما هو الحال على التفسير الأول أو لأنه يعلم بأنه سوف يعدل عن الإقامة فلا بناء جدي ولا علم منه بالبقاء كما هو على التفسيرين الثاني والثالث فلا بد من ان يجعل الإقامة ذاتها ذات مصلحة لكي يتمشى منه القصد ولو بالنذر وشبهه. وهناك فروع مشابهة لهذا الفرع.

منها ـ من يريد الوضوء قبل الوقت من أجل الصلاة بعد ذلك في الوقت بناء على عدم استحباب الوضوء في نفسه واشتراط صحته بوقوعه لغاية من الغايات المكلف بها فعلا فيقال بأنه ينوي قراءة القرآن مثلا فيصح بذلك وضوؤه فانه في مثل ذلك أيضا يرد الإشكال بأن ما تتوقف عليه صحة وضوئه نفس قصد القراءة فلا داعي له حقيقة إلى قراءة القرآن بعد ذلك فيكون الغرض والملاك في نفس القصد فيأتي الإشكال.

ولكن الصحيح عدم صحة المبنى فانه لا يلزم في تصحيح الوضوء كعبادة الا توفر امرين أحدهما ان يكون مطلوبا للمولى والثاني ان يؤتى به بداع من الدواعي الحسنة والقربية وكلا الأمرين حاصل في المقام أما الأول فلما هو المحقق والصحيح في محله من ثبوت الاستحباب النفسيّ للكون على الوضوء (١). ولا نحتاج إلى وجوبه المقدمي أو

__________________

(١) بل الصحيح انه لا نحتاج حتى إلى استحبابه إذ لا وجه لاشتراط الأمر والطلب التكليفي بالوضوء أو الغسل ـ الطهور ـ في تصحيحها بل يكفي الأمر الشرطي الشامل بإطلاقه للحصة الواقعة قبل الوقت أيضا إذا كان الإتيان به بداع قربي والّذي يكفي


ملاكه الّذي لا يتحقق ـ على المشهور ـ قبل الوقت واما الثاني فلان قصد الصلاة التي سوف يأتي وقتها داع قربي وحسن لأنه مظهر من مظاهر الإخلاص في العبودية ولا يشترط ان يقصد امرا فعليا لكي يكون قصده قربيا.

ومنها ـ ما إذا أراد الوضوء بماء في حوض المسجد مثلا وكان الوقف لمن ينوي الصلاة في ذلك المسجد ، فانه إذا لم يكن له غرض في الصلاة في ذلك المسجد ولكن كان يريد الوضوء بذلك الماء وضوء صحيحا فسوف يكون غرضه في نفس قصد الصلاة في المسجد بهذا الوضوء ولو حصل له بعد ذلك البداء ولم يصل في المسجد. فانه سوف يعلم مسبقا بأن غرضه في نفس قصد الصلاة في المسجد وان قصده هذا سوف يزول بمجرد تمامية الوضوء.

__________________

فيه قصد التهيؤ. وهذا يعني اننا انما نحتاج إلى الأمر في تصحيح العبادة إذا كانت نفسية لا غيرية فتأمل جيدا.



بحوث الأوامر

دلالات صيغة الأمر

دلالتها على الطلب

كيفية دلالتها على الوجوب

الجمل الخبرية في مقام الإنشاء

دلالتها على التوصلية ( التعبدي والتوصلي )

دلالتها على النفسيّة والتعيينية والعينية

دلالتها في مورد الحظر

دلالتها على المرة أو التكرار



صيغة الأمر

والبحث عنها من جهات أيضا

الجهة الأولى ـ في دلالتها على الطلب

لا إشكال في أصل الدلالة انما البحث في كيفية استفادة الطلب منها لأنها من الهيئات فلا يمكن ان تكون موضوعة لمفهوم الطلب الاسمي كلفظ الطلب بل لا بد ان تكون موضوعة بإزاء معنى نسبي يساوق مفهوم الطلب الاسمي.

ولا بد من ان نستبعد منذ البدء ما اختاره السيد الأستاذ من انها موضوعة بإزاء إبراز اعتبار نفساني هو اعتبار الفعل في ذمة المكلف (١) فان هذا مبني على مسلكه في باب الوضع وهو مسلك التعهد والّذي كان يقتضي كون الدلالة الوضعيّة تصديقية لا تصورية. اما على المسلك الصحيح من ان الدلالات الوضعيّة تصورية فلا بد من تشخيص ما هو المعنى التصوري الموضوع له صيغة الأمر قبل الانتهاء إلى المعنى التصديقي في نفس المتكلم الّذي يكشف عنه الظهور الحالي (٢) إذا عرفت ذلك فنقول :

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٢ ، ص ١٣٠.

(٢) بل على مسلك التعهد أيضا لا بد من البحث عن كيفية دلالة صيغة الأمر على الطلب تصورا ولو لم يكن هذا المدلول التصوري وحده الوضع لأن مسلك التعهد أيضا يميز بين المعاني الاسمية والحرفية على مستوى التصور وان لم يكن هذا التصور وحده هو المعنى الموضوع له بل الموضوع له قصد افهام ذلك التصور وإرادته اخبارا أو إنشاء واعتبارا. وبعبارة أخرى القائل بمسلك التعهد أيضا لا بد ان يميز بين قصد إبراز معنى اسمي أو قصد إبراز معنى حرفي أي يميز بين ما إذا أخبر عن اعتباره للفعل على ذمة العبد بجملة اسمية أو بصيغة الأمر.


قد تقدم في بحث معاني الحروف والهيئات ان الجمل الفعلية كجملة ( ضرب زيد ) تشتمل على نسبتين إحداهما نسبة ناقصة بين الحدث ـ كالضرب في المثال ـ وبين ذات مبهمة وهي نسبة صدورية في الفعل الماضي والمضارع ونسبة أخرى تامة بين الفاعل وهو زيد في المثال وبين تلك الذات المبهمة الواقعة ضمن النسبة الناقصة وقد سميناها بالنسبة التصادقية فكأنا قلنا ان الذات التي صدر منها الضرب هو زيد وقلنا هناك ان هذا ما يسوق إليه البرهان في مقام تحصيل مفاد الجملة الفعلية وبينا ان النسبة التصادقية لا تكون بين المفهومين بما هما مفهومان في عالم اللحاظ لأنهما في عالم اللحاظ متغايران وانما هي نسبة التصادق بين المفهومين بما هما فانيان في الخارج ومن هنا لا بد في كل نسبة تامة من طرف ثالث وهو وعاء الفناء فانه تارة يكون وعاء الفناء هو عالم الحقيقة والخارج فتكون الجملة اخبارا وأخرى يكون الوعاء عالم الاستفهام أو الترجي أو التمني فيكون استفهاما وترجيا وتمنيا وبهذا يعرف وجه الفرق بين ضرب زيد وهل يضرب زيد ولعل زيدا يضرب.

وعلى ضوء هذا الّذي تقدم نقول في المقام بأن جملة ( اضرب أنت ) التي هي جملة فعلية أمرية لا بد ان يكون بينها وبين جملة ( ضرب زيد ) أو ( ضربت أنت ) فرق اما في النسبة التامة أو في النسبة الناقصة إذ لو كانت النسبتان معا فيها واحدة لما بقي فرق في المعنى بين الاخبار عن صدور الضرب والأمر به مع بداهة الفرق. وحينئذ يطرح في المقام منذ البدء احتمالان.

الاحتمال الأول ـ ان يقال بان الفرق بين الجملتين كالفرق بين الجملة الفعلية الخبرية والفعلية الإنشائية أي الاستفهام والترجي والتمني بمعنى انهما يختلفان في وعاء النسبة التامة التصادقية فانه في الجملة الخبرية عالم التحقق وفي جملة الأمر عالم الطلب.

الا ان هذا الاحتمال لا بد من رفضه إذ لو كان الفرق بينهما بلحاظ النسبة التامة لم يكن فرق بينهما في نفس الفعلين مع اننا نحس بالوجدان بالفرق بين الفعلين الأمر والماضي أو المضارع مع قطع النّظر عن وقوعهما في جملة تامة وليس حالهما حال الفعل الواقع في حيز الاستفهام والتمني وغيرها من أنحاء الإنشاء.


الاحتمال الثاني ـ ان يكون الفرق بينهما بلحاظ النسبة الناقصة فالماضي أو المضارع موضوعان بحسب الهيئة للنسبة الصدورية بينما صيغة الأمر موضوعة للنسبة الإرسالية والدفعيّة والإلقائية ونحو ذلك من التعابير. فان الإلقاء والدفع له فرد حقيقي تكويني وهو ما إذا دفع شخص شخصا في الخارج نحو شيء في الخارج وله فرد عنائي تكويني كما لو دفعه بيده نحو عمل من الأعمال كما إذا ألقاه على الكتاب لكي يطالع فهو إلقاء تكويني حقيقي على الكتاب ودفع تكويني عنائي له نحو المطالعة وهذا الدفع يولد نسبة مخصوصة بين المدفوع وهو زيد والمدفوع نحوه وهو المطالعة وهذه النسبة نسميها بالنسبة الإرسالية والدفعيّة والتحريكية وندعي انها مفاد صيغة الأمر (١) وهذا يعني ان هيئة الأمر تدل دلالة تصورية مطابقية على النسبة الإرسالية وتدل دلالة تصورية بالملازمة وفي طول الدلالة الأولى على الإرادة ولذلك حتى إذا سمعنا الأمر من الجدار انتقش في الذهن الإرسال والإرادة تصورا ويوجد وراء هذين المدلولين التصوريين مدلول تصديقي إذا كان صادرا من عاقل وهو الكشف عن وجود إرادة في نفس المتكلم. واما الطلب فان قلنا انه عين الإرادة فقد عرفت حاله وان قلنا بأنه غير

__________________

(١) أولا ـ ان النسبة الإرسالية والدفعيّة ليست نسبة بين شيئين وانما هي عبارة عن نسبة الدفع والإرسال كحدث إلى فاعله أو مفعوله.

وثانيا ـ لا ينبغي الإشكال وجدانا في دلالة فعل الأمر على نسبة صدور الحدث أي المبدأ من الفاعل أيضا كدلالة فعل المضارع والماضي فإذا افترض وجود نسبة أخرى في مفاده لزم دلالته على نسبتين في عرض واحد وهو غريب في بابه.

وثالثا ـ ان هذه النسبة الناقصة حالها حال سائر النسب الناقصة من حيث انها مجرد مدلول تصوري لنسبة خارجية فمن أين تنشأ خصوصية الإنشائية في فعل الأمر بحيث لا يصح استعماله في مقام الاخبار عن وقوع هذه النسبة خارجا فان كان ذلك على أساس تعلق الإرادة والطلب بها فالإرادة مدلول تصديقي والكلام في مرحلة المدلول التصوري والّذي لا إشكال في انحفاظ الإنشائية فيها. وان كان من جهة ان هذه النسبة لوحظت في وعاء الطلب والاستدعاء فهو مضافا إلى رجوعه للاحتمال السابق. فيه : ان الوعاء انما يكون مقوما للنسب الذهنية التامة لا الخارجية الناقصة على ما تقدم في محله. وان كان من جهة ان صيغة الأمر تخطر في ذهن المخاطب ان المتكلم يرسله بالفعل نحو العمل فكأنه قال له أرسلك إنشاء فهذا يعني ان الإنشائية تحصل في طول الاستعمال وليست محفوظة في مرحلة المعنى المستعمل فيه نظير بعت إنشاء فيرد الإشكال بأنه لما ذا لا يصح اذن استعمال فعل الأمر في مقام الاخبار عن النسبة الإرسالية طالما ان المعنى المستعمل فيه واحد فلا يبقى وجه للفرق الا ما ذهب إليه المشهور من ان هذه الأدوات موضوعه لإيجاد معانيها في الخارج بمعنى انها لا تخطر صدور النسبة من الفاعل إلى ذهن المخاطب بل توجد إحساسا واستجابة خاصة عنده نحو المعنى نظير الإحساس بالاندفاع في باب الأمر باليد والإشارة أو التنبيه في النداء فهي أدوات إيجادية وليست إخطارية على تفصيل ليس هنا مجال بيانه.


الإرادة فالشوق النفسانيّ بمجرده لا يصدق عليه انه طلب وانما الطلب ـ على ما هو الظاهر لغة ـ هو السعي نحو المقصود فيكون « افعل » بنفسه مصداقا للطلب حقيقة لأنه باعتبار كشفه عن الإرادة سعي نحو المقصود.

بقي أمران.

الأول ـ انهم ذكروا لصيغة الأمر معاني عديدة من الطلب والتعجيز والاستهزاء ونحوها والمعروف بين المحققين المتأخرين أن الاختلاف في مورد هذه المعاني بحسب الحقيقة في دواعي الاستعمال لا المعنى المستعمل فيه الأمر فانه واحد وهو النسبة الإرسالية غاية الأمر تارة يكون الداعي من وراء إخطار هذه النسبة في ذهن السامع إظهار عجزه وأخرى الاستهزاء به أو اختباره أو الطلب منه.

الا ان السيد الأستاذ جريا على مبناه في حقيقة الوضع التزم في المقام بتعدد معاني صيغة الأمر لأنها موضوعة عنده كما أشرنا سابقا لإبراز المدلول التصديقي وهو متباين في هذه الموارد كما أشرنا فلا محالة يكون للأمر معان عديدة بعددها.

وهذا المطلب مضافا إلى خطأ مبناه كما تقدم في محله يؤدي إلى نتيجة غريبة في بابها هي عدم وجود ارتباط بين مفاد الهيئة والمادة فانه على مبنى المشهور من دلالة الصيغة في تمام الموارد على النسبة الإرسالية يكون الارتباط واضحا حيث يدل الأمر بالطيران مثلاً في موارد التعجيز أو الاستهزاء على إرساله نحو مفاد المادة وهو الطيران بقصد إظهار عجزه أو الاستهزاء به حيث انه لا يستطيع الطيران فيظهر بذلك عجزه وهو المدلول التصديقي. واما على مسلك الأستاذ فان التعجيز والاستهزاء الإنشائيين لا الأخباريين لا يتعلقان بمفاد المادة وهو الطيران كيف ولو كان هناك طيران لما كان عجز ولا استهزاء فلا يبقى أي ارتباط بين مفاد الهيئة الإنشائي والمادة.

الثاني ـ ان المعاني المذكورة وان كانت جميعا خارجة عن المعنى المستعمل فيه الأمر ويكون الأمر مستعملاً في هذه الموارد أيضا في معناه الحقيقي وهو الإرسال نحو المادة الا أنه لا ينبغي الإشكال أيضا في ظهور صيغة الأمر لو لا القرينة على ان الداعي في نفس المتكلم انما هو الطلب لا الاستهزاء أو التعجيز أو غيرهما من الدواعي فلا بد من إبراز نكتة وتخريج لهذا الظهور.


وقد ذكر في الكفاية في وجهه : أن داعي الطلب قد أخذ قيدا في الوضع لا في المعنى الموضوع (١) له على ما تقدم منه في معاني الحروف والأسماء بالنسبة إلى قيد الآلية والاستقلالية في اللحاظ. وقد برهنا هناك على بطلان هذا التفسير وان الوضع ليس من الأمور الجعلية التي تكون قابلة للتقييد والإطلاق بهذا المعنى.

والصحيح انه يمكن تفسير هذا الظهور على أساس إحدى نكتتين :

الأولى ـ ما تقدم من ان المدلول التصوري لصيغة الأمر أولا هو النسبة الإرسالية وفي طولها الإرادة فلو كان المدلول التصديقي هو الإرادة أيضا لتطابق المدلول التصديقي مع المدلولين التصوريين والا فلا. وأصالة التطابق بين المدلول التصوري والمدلول التصديقي أصل عقلائي في باب الظهورات (٢).

الثانية ـ ان سائر الدواعي غير الطلب بحسب النّظر العرفي فيها مئونة زائدة على أصل الطلب والإرادة لأن من يستهزئ أو يريد التعجيز أيضا يريد الفعل فهو يتقمص قميص من يريد ويطلب الفعل حتى يظهر عجزه أو السخرية به فالطبع الأولي هو الكشف عن الإرادة والباقي مشتمل على مئونة زائدة منفية بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٠٢.

(٢) أصالة التطابق تجري بلحاظ ما هو المدلول التصوري للفظ لا المداليل التصورية الالتزامية الخارجة عنه والمقتنصة في طول المداليل التصديقية التي هي ظهورات حالية كما في المقام ولعل الأولى ان يقال بان النسبة الإرسالية والدفعيّة تتناسب سنخا ومفهوما مع الإرادة والطلب فتجري أصالة التطابق بلحاظ المدلول التصوري للفظ ابتداء.



الجهة الثانية ـ في كيفية دلالة الصيغة على الوجوب

يقع الحديث بعد الفراغ عن دلالة الصيغة على الوجوب في كيفية الدلالة ومنشئها.

وقد تقدم لدى البحث عن دلالة مادة الأمر على الوجوب مسالك ثلاثة لاستفادة الوجوب من الأمر.

الأول ـ مسلك حكم العقل وانتزاعه للوجوب من مجرد طلب المولى عند عدم ترخيصه في الترك.

الثاني ـ مسلك الإطلاق وان مقتضى مقدمات الحكمة تعيين الطلب الشديد الّذي هو الوجوب.

الثالث ـ مسلك الوضع لخصوص الطلب الشديد الّذي لا يرضى بتركه.

والمسلك الأول لو تم وصح هناك جرى في المقام أيضا حرفا بحرف وانما الكلام في جريان المسلكين الآخرين.

أما مسلك الإطلاق فقد يناقش في تماميته هنا بأن مفاد الصيغة النسبة الإرسالية والإرسال أو الدفع ليس كالطلب ينقسم إلى شديد وضعيف لكي نعين مرتبته الشديدة بالإطلاق ومقدمات الحكمة.


وفيه ـ ان الإطلاق لم يكن يجري بلحاظ المدلول التصوري بل لتشخيص المدلول التصديقي ابتداء وهو الإرادة وصيغة الأمر في مرحلة المدلول التصديقي تدل على الإرادة على كل حال فيصح جريان الإطلاق فيها لإثبات المرتبة الشديدة منها. على انه قد مضى ان صيغة الأمر أيضا تدل بالملازمة على الإرادة والطلب تصورا فيمكن إجراء مقدمات الحكمة بلحاظها.

وأما مسلك الوضع فائضا قد يناقش في جريانه هنا بأن النسبة الإرسالية لا تتحصص إلى حصتين وجوبية واستحبابية ليقال بأن الصيغة موضوعة بإزاء إحداهما فقط.

وفيه : ان الإرسال والإلقاء وان لم يكن منقسما بلحاظ ذاته إلى حصتين الا انه ينقسم إلى حصتين بلحاظ منشئه فانه قد ينشأ الإلقاء والإرسال من إرادة شديدة وقد ينشأ من إرادة ضعيفة وحينئذ يكون من المعقول وضع الصيغة لخصوص النسبة الإرسالية المتولدة عن الإرادة الشديدة ويكون مقتضى التطابق بين المدلولين التصوري والتصديقي الكشف عن وجود إرادة شديدة لدى المولى (١).

هذا وقد تقدم في بحث المادة انه يوجد تقريب لاستفادة الوجوب من صيغة الأمر بالإطلاق ومقدمات الحكمة جار في تمام موارد استعمالاتها بحيث يمكن الاستغناء على أساسه عن دعوى الوضع للوجوب بخلاف مادة الأمر فراجع.

__________________

(١) إذا لم تكن الإرادة مدلولا تصوريا لنفس اللفظ ولو عرفا لم يصح إجراء الإطلاق اللفظي لإثبات المرتبة الشديدة. كما أن النسبة الإرسالية لو فرض عدم تحصصها مفهوما إلى نسبة دفعية رخوة ضعيفة ونسبة دفعية قوية فأخذ منشئها فيها ان كان بنحو التقييد كان غريبا في باب الهيئات والمعاني الحرفية وان كان بنحو الحيثية التعليلية فالمفروض عدم تحصصها بعلتها مفهوما.


الجهة الثالثة ـ في الجمل الخبرية المستعملة في الطلب

لا ينبغي الإشكال في صحة استعمال الجمل الخبرية في مقام إنشاء الطلب حيثما قامت قرينة على ذلك ولو حالية أو مقامية ، وانما البحث في كيفية تفسير وتخريج هذه الدلالة أولا. وفي انها تقتضي الوجوب أو جامع الطلب ثانيا. فالبحث عنها يقع في مقامين :

المقام الأول ـ في تفسير دلالتها على الطلب. وهنا مسلكان :

المسلك الأول ـ ما ذهب إليه مشهور المتأخرين كصاحب الكفاية ( قده ) ومن تابعه من ان الجملة الخبرية مستعملة في هذه الموارد في نفس المعنى الموضوع له أي النسبة الصدورية (١) مثلا فقوله « إذا قهقه المصلي أعاد الصلاة » مستعمل في نسبة الإعادة إلى المصلي في الخارج الا انه يستفاد منها الطلب على أساس إحدى نكات بنحو مانعة الخلو.

الأولى ـ ان تكون الجملة الخبرية اخبارا بالمطابقة عن وقوع الإعادة من المصلي حقيقة في الخارج ، لكن لا مطلقا ليكون كذبا بل في حق الإنسان الّذي يكون في مقام

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ص ١٠٤.


الامتثال وتطبيق عمله مع الشريعة فيكون ملازما لا محالة مع كون الإعادة مطلوبة للشارع فالجملة الخبرية مستعملة في النسبة الخبرية تصورا أو تصديقا ولكنه بنحو يدل بالالتزام على الطلب وذلك بتضييق دائرة الاخبار وتكون القرينة بحسب الحقيقة قرينة على هذا التضييق والتقييد في الاخبار.

الثانية ـ ان يكون ذلك على أساس الكناية بأن يخبر عن اللازم ويريد الملزوم كقولهم زيد كثير الرماد بقصد الاخبار عن جوده لا كثرة رماده ففي المقام يكون قوله يعيد صلاته كناية عن الاخبار عن ملزوم الإعادة خارجا وهو طلب الإعادة لا الاخبار عن نفس الإعادة خارجا فيكون المدلولان التصوري والتصديقي للجملة محفوظين هنا أيضا كما هو الحال في النكتة المتقدمة وتكون القرينة قرينة على الكناية واعتبار المدلول المطابقي قنطرة للاخبار عن مدلول التزامي.

الثالثة ـ ان ندعي حصول دلالة التزامية بين النسبة الصدورية الخبرية والنسبة الإرسالية الإنشائية لأن النسبة الصدورية كثيرا ما تنشأ في طول النسبة الإرسالية كما يقال ـ دفعته فاندفع ـ فينعقد بعد إقامة قرينة على هذه النكتة دلالة تصورية تخطر في ذهن السامع النسبة الإرسالية بالملازمة من النسبة الصدورية ويكون المدلول الجدي على طبق المدلول التصوري الالتزامي وهو النسبة الإرسالية لا المدلول التصوري المطابقي وهو النسبة الصدورية وهذا يعني انحفاظ المدلول التصوري للجملة الخبرية دون التصديقي إذ ليس المراد قصد الحكاية بل الإرادة رأسا.

الرابعة ـ ان يدعى بان النسبة الصدورية كما يمكن تعلق الاخبار بها يعقل تعلق الإرادة والطلب بها أيضا وانما نستفيد الاخبار في سائر الموارد وبحسب الطبع الأولي للجملة من باب ان التصديق والاخبار بالنسبة دائما طريق محض إلى النسبة فكأنه لا يزيد عليها عرفا بينما الإرادة والطلب شيء زائد على نفس النسبة الصدورية بحاجة إلى نصب قرينة ومئونة زائدة كما في المقام (١).

__________________

(١) الا ان هذا يعني ان الاخبارية والإنشائية خصوصيتان منتزعتان بلحاظ مرحلة المدلول التصديقي للكلام وهو خلاف الوجدان القاضي بانحفاظهما على مستوى المدلول التصوري حتى إذا سمع اللفظ من جدار ، بل لو كان الأمر كذلك فلما ذا لم يصح استعمال الجمل المتمحضة في الإنشاء كالأمر في مقام الأخبار على ما أشرنا إلى ذلك في تعليق سابق.


وعلى هذا الأساس يكون المدلول التصوري للجملة الخبرية محفوظا أيضا دون المدلول التصديقي.

وأقرب هذه النكات ما لم تكن قرينة معينة لإحداها ـ النكتة الأولى لأنها تتحفظ على أصل ظهور الجملة الخبرية في الاخبار وتقيد إطلاق المخبر عنه وكلما دار الأمر بين رفع اليد عن أصل ظهور الجملة أو تقييد موضوعها قدم الثاني على الأول ما لم تكن القرينة بنفسها مشخصة لنكتة العناية.

المسلك الثاني ـ ما ذهب إليه الأستاذ من ان الجملة الخبرية في مقام الطلب والإنشاء يختلف معناها المستعمل فيه وذلك بناء على مختاره في باب الوضع من ربط الألفاظ في علاقاتها الوضعيّة بالمداليل التصديقية ابتداء. وقد استشهد على تعدد المعنى المستعمل فيه للجملة الخبرية وعدم انحفاظ معناها الخبري في موارد الإنشاء بأنه لو كان يمكن ذلك لصح استعمال اية جملة خبرية في مقام الإنشاء حتى الاسمية فلا يقال « انه معيد صلاته » بل ولا الفعل الماضي الا إذا كان جزاء لجملة شرطية كما في مثال ( إذا قهقه أعاد صلاته ) بينما الفعل المضارع يستعمل غالبا في مقام الإنشاء فيقال يعيد أو يسجد سجدتي السهو ونحو ذلك (١).

أقول : أصل المبنى. قد تقدم البحث فيه مفصلا فلا نعيد.

وأما الشاهد الّذي استند إليه فلا ينبغي الإشكال في استعمال فعل الماضي في الطلب من دون سياق الشرط أيضا كما في قولك ( غفر الله لك أو رحمك الله أو عافاك الله ) نعم لا إشكال في عدم اطراده في مقام الطلب فلا يقال صليت أو صمت بل يقال تصلي وتصوم والسر في ذلك ان الطلب الحقيقي لا يناسب فعل الماضي الّذي يدل على الفراغ عن تحقق الفعل ومضيه بخلاف الدعاء نعم إذا ما قلب الماضي إلى المضارع بإيقاعه في سياق الشرط أصبح مناسبا مع مقام الطلب الحقيقي. وكالماضي الجملة الاسمية من حيث النكتة التي أشرنا إليها (٢).

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١٣٦ ـ ١٣٧.

(٢) وبهذا يظهر أن هذا الشاهد أدل على عكس مدعي الأستاذ فانه إذا كان المعنى غير محفوظ في موارد الإنشاء بل هناك معنى جديد رأسا فلما ذا لا تستعمل الجمل الخبرية الأخرى غير المضارع في موارد الإنشاء طالما ان المستعمل فيه معنى جديد لا ربط له بالمعنى الأول فهذا بنفسه شاهد على انحفاظ المعنى الموضوع له للجملة الخبرية في مقام الإنشاء أيضا ولهذا إذا كان ذلك المعنى مشتملا على شيء لا يناسب مقام الإنشاء والطلب لم يصح استعمال تلك الجملة وهذا واضح.


المقام الثاني ـ في دلالتها على الوجوب أو الجامع بين الوجوب والاستحباب.

والواقع ان تشخيص هذه الدلالة يرتبط بالنكتة التي على أساسها نستظهر دلالتها على الطلب فإذا كانت الدلالة على أساس إحدى النكات الثلاث الأولى كانت تلك العناية مناسبة مع الطلب الوجوبيّ لأن ما يكون ملازما مع صدور الفعل من الفاعل الّذي يطبق عمله مع الشريعة ـ لا انه يطبقه على أفضل موازين الشريعة والمستحبات فيها الّذي هو تقييد زائد ـ وكذلك ما يكون معنى كنائيا على أساس الملازمة انما هو الطلب الوجوبيّ لا الاستحبابي. كما ان العناية إذا كانت على أساس الانتقال الذهني إلى النسبة الإرسالية كان مقتضى أصالة التطابق في هذا المدلول مع المدلول الجدي هو الوجوب أيضا بنفس التقريبات المتقدمة في صيغة الأمر وأما إذا كانت العناية هي النكتة الرابعة وهو تعلق الطلب والإرادة ابتداء بمدلول الجملة الخبرية فهذا كما يناسب ان يكون الإرادة والطلب المتعلق شديدا ووجوبيا كذلك يناسب مع كونه استحبابيا هذا كله على المسلك الأول.

وأما على المسلك الثاني في دلالة الجملة الخبرية على الطلب من ان الجملة الخبرية مستعملة رأسا في معنى جديد فان كان هو إبراز الاعتبار النفسانيّ بوضع الفعل على عهدة المكلف فيدل ذلك لا محالة على الوجوب اما بحكم العقل بناء على ان الوجوب يستفاد من العقل أو من باب ان هذا الاعتبار عرفا وعقلائيا هو وعاء الضمان واللزوم المناسب مع الوجوب وان كان هذا المعنى هو الطلب والإرادة أمكن استفادة الوجوب منها بنفس البيانات المتقدمة في استفادته مما يدل على الطلب والإرادة.

بقي التنبيه على أمرين.

الأول ـ لا إشكال في ان فعل المضارع إذا دخل عليه لام الأمر من قبيل ( ليصل ) انقلبت النسبة الصدورية الخبرية فيه إلى نسبة إرسالية فيدل على الوجوب بأحد البيانات المتقدمة في صيغة افعل.

الثاني ـ ان الجملة التي تستعمل في مقام إبراز إرادة المولى وطلبه يمكن ان تصنف من ناحية دلالتها على الوجوب إلى ثلاثة أقسام :

الأول ـ ما يكون دالا على الدفع والإرسال اما بنحو المعنى الحرفي كما في صيغة


الأمر أو فعل المضارع المدخول للام الأمر أو بنحو المعنى الاسمي كما في قولك ( أحركك أو آمرك نحو هذا الفعل ) وفي هذا القسم يمكن استفادة الوجوب بالإطلاق الّذي أشرنا إليه في بحث مادة الأمر لخصوص صيغة الأمر من ان مقتضى أصالة التطابق بين النسبة الإرسالية المدلول عليها تصورا والمدلول التصديقي هو سد تمام أبواب عدم الفعل المرسل نحوه وهو عبارة أخرى عن الوجوب.

الثاني ـ ما يستفاد منه وضع الفعل في عهدة المكلفين من قبيل قوله تعالى ( ولله على الناس حج البيت ) و ( كتب عليكم الصيام ) وهذا يدل على الوجوب بملاك ما أشرنا إليه أخيرا من ان العهدة والذّمّة انما هي وعاء الضمانات وما يلزم تنفيذه عقلائيا وعرفا فيكون مناسبا مع الوجوب وعلى أساس هذه النكتة ينعقد ظهور في مثل هذه الألسنة على إرادة الوجوب.

الثالث ـ ما لا يوجد فيه شيء من النكتتين غاية الأمر يستفاد منه رغبة المولى إلى الفعل كقوله ( أحب ان تصنع كذا أو ينبغي ذلك ) ومثل هذا لا دليل على افادته للوجوب بالخصوص ما لم تكن قرينة خاصة تقتضيه.



دلالات صيغة الأمر

التعبدي والتوصلي

معاني التعبدي والتوصلي

التوصلي بمعنى سقوط الواجب بفعل الغير

التوصلي بمعنى سقوط الواجب بالحصة غير الاختيارية

التوصل بمعنى سقوط الواجب بالفرد المحظور

التوصلي بمعنى سقوط الواجب بفعله من دون قصد التقرب

إمكان التعبدية بالمعنى الرابع

دلالة الأمر على التوصلية بالمعنى الرابع

مقتضى الأصل العملي عند الشك في التعبدية بالمعنى الرابع



التعبدي والتوصلي

الجهة الرابعة ـ في تحقيق ان مفاد الأمر في الواجبات « التوصلية » أو « التعبدية » وبهذه المناسبة يبحث أولا عن معنى التعبدية والتوصلية.

ومصطلح ( التوصلية ) يمكن ان يطلق على معان عديدة يقابل كل واحد منها معنى للتعبدية وفيما يلي توضيح المعاني التي قد يراد من التوصلية والتعبدية.

١ ـ التوصلي بمعنى ما يسقط ولو بفعل الغير ويقابله التعبدي بمعنى ما لا يسقط الا بفعل الإنسان نفسه مباشرة.

٢ ـ التوصلي بمعنى ما يسقط ولو بالحصة الصادرة عن المكلف اضطرارا وإلجاء ويقابله التعبدي بمعنى ما لا يسقط الا بإتيان المكلف له طوعا واختيارا.

٣ ـ التوصلي بمعنى ما يسقط ولو بإتيانه ضمن فرد محرم وفي قباله التعبدي بمعنى ما لا يسقط الا بإتيانه ضمن فرد لا ينطبق عليه عنوان محرم.

٤ ـ التوصلي بمعنى عدم احتياجه إلى قصد القربة وسقوطه بالإتيان به ولو لا بداع القربة. اما التعبدي فهو ما يحتاج إلى قصد القربة وهذا هو المعنى الذائع للتوصلي والتعبدي.

فيقع الكلام في أصالة التعبدية والتوصلية بكل واحد من هذه المعاني الأربعة


ضمن مسائل أربع :

المسألة الأولى ـ ما إذا شك في سقوط الواجب بفعل الغير : فهل مقتضى الأصل هو سقوطه فلا يحتاج إلى إتيان المكلف به بنفسه أو عدم سقوطه فلا بد من إتيانه بنفسه؟.

والبحث وان كان عن مقتضى الإطلاق في الأوامر وهو أصل لفظي الا انه بالمناسبة يبحث أيضا عن مقتضى الأصل العملي فيقع البحث في مقامين :

المقام الأول ـ في ما هو مقتضى إطلاق الأمر والأصل اللفظي. وقد ذكر السيد الأستاذ في المقام ان مقتضى القاعدة عدم السقوط أي التعبدية بالمعنى الأول لأن هذا الشك يرجع إلى الشك في سعة دائرة الوجوب وضيقه ـ إطلاق الهيئة ـ لا سعة دائرة الواجب وضيقه ـ إطلاق المادة ـ لأن فعل الغير باعتباره خارجا عن اختيار المكلف وقدرته لا يكون مشمولا لإطلاق المادة فالشك في سقوط الواجب لا منشأ له الا احتمال تقييد الوجوب أي الهيئة بما إذا لم يفعله الغير فمع الشك يكون مقتضى إطلاق الهيئة عدم السقوط (١).

وفيه : أولا ـ ان فعل الغير أيضا قد يكون مقدورا للمكلف فيما إذا كان يمكنه ان يتسبب إلى صدوره من الغير كما إذا امر ابنه أو استأجره لتنظيف المسجد ففي الموارد التي يمكن للمكلف إلجاء الغير أو إيجاد الداعي في نفسه للفعل يمكن امره بذلك أو إطلاق الأمر له.

وثانيا ـ اننا لو فرضنا ان فعل الغير لم يكن مقدورا له كما في غير موارد التسبيب فهذا لا يوجب عدم الإطلاق في مادة الأمر ومتعلقه ، كيف وقد ذكر السيد الأستاذ بنفسه في المسألة الثانية انه يعقل تعلق الأمر والتكليف بالجامع بين الحصة الاختيارية وغير الاختيارية لأن الجامع بين الحصة الاختيارية وغير الاختيارية اختياري.

فتحصل انه يمكن ان يكون سقوط الواجب بفعل الغير في المقام من باب سعة دائرة الواجب وشموله لفعل الغير مطلقا أو التسبيبي على الأقل فمن ناحية المقدورية لا يمكن المنع عن إطلاق متعلق الأوامر.

__________________

(١) المحاضرات ، ج ٢ ، ص ١٤٢ ـ ١٤٤.


وانما الصحيح في المنع عن هذا الإطلاق مطلقا أو في الجملة التوجه إلى نكتة أخرى وحاصلها : انه لا إشكال في أخذ نسبة المبدأ إلى الفاعل ( النسبة الصدورية ) تحت الأمر أيضا لأن الأمر أعني النسبة الإرسالية الإنشائية انما تطرأ على النسبة الفعلية الصدورية ومن الواضح انه مع تحقق الفعل من الغير من دون أي استناد وتسبيب للمكلف لا تصدق النسبة الفعلية المأخوذة في متعلق الأمر فيكون مقتضى الأصل حيث لا قرينة على الخلاف عدم السقوط. وهكذا يتضح انه بالنسبة إلى أصل استناد الفعل إلى المكلف مقتضى الأصل التعبدية بالمعنى الأول.

واما خصوصية المباشرة وعدم الاكتفاء بفعل الغير المستند والمتسبب إليه من قبل المكلف ففيه تفصيل بين ما إذا كانت النسبة الفعلية صدورية فقط كما في مثل ( أزل النجاسة أو ابن مسجدا ) فالأصل هو التوصلية وبين ما إذا أخذ فيها إضافة إلى ذلك نسبة الحلول فيه ـ نسبة العرض إلى محله ـ كما في مثل ( صل أو اشرب الماء ) فالأصل التعبدية لأن خصوصية المباشرة لا تصدق حتى مع التسبيب إلى صدور الفعل من الغير.

المقام الثاني ـ في تشخيص مقتضى الأصل العملي في هذه المسألة. والمعروف من قبل المحققين انه الاحتياط اما بتقريب : أنه من الشك في السقوط بعد اليقين باشتغال الذّمّة المستدعي لليقين بالفراغ أو باعتبار التمسك باستصحاب بقاء الوجوب وعدم سقوطه بفعل الغير.

والتحقيق : ان الشك تارة يكون شكا في السقوط بفعل الغير بمعنى احتمال كونه مصداقا للواجب بناء على ما تقدم من معقولية تعلق التكليف بالجامع بين فعله وفعل غيره خصوصا التسببي منه فيكون مرجع الشك في المقام إلى الشك في سعة وضيق دائرة الواجب ومتعلق الوجوب وانه الحصة المباشرة أو الأعم منها ومن فعل الغير. وأخرى يكون الشك في تقييد الوجوب ـ الّذي هو مفاد الهيئة ـ بما إذا لم يأت به الغير مع العلم بان الواجب ـ الّذي هو مفاد المادة ـ خصوص الفعل المباشري.

اما في الفرض الأول من الشك الّذي يكون الشك فيه في الواجب لا في الوجوب


فمقتضى الأصل العملي هو البراءة على ما هو المقرر في بحث الدوران بين الأقل والأكثر ، لأن أصل الفعل الجامع بين المباشري وفعل الغير معلوم الوجوب وخصوصية المباشرة مشكوكة فتجري أصالة البراءة عن وجوبها ولا مجال لأصالة الاشتغال ولا الاستصحاب.

واما في الفرض الثاني الّذي يكون الشك في سقوط الوجوب بفعل الغير فلا بد من ملاحظة منشأ احتمال سقوط الوجوب بفعل الغير. ذلك ان الشك في السقوط تارة يكون من جهة احتمال اشتراط الوجوب بعدم فعل الغير بحيث يكون فعله رافعا للوجوب من أول الأمر بنحو الشرط المتأخر. وأخرى يكون مسقطا ورافعا للوجوب بقاء بنحو الشرط المقارن.

اما في الحالة الأولى ، فمقتضى الأصل العملي هو البراءة لا الاشتغال ولا الاستصحاب لكون الشك في ارتفاع الوجوب من أول الأمر.

واما الحالة الثانية ، فينبغي ان يعلم بان سقوط الوجوب بقاء بفعل الغير لا يمكن ان يكون من جهة تحقق الغرض والملاك به لأن هذا يؤدي اما إلى جعل الوجوب على الجامع ، أو تقييده بعدم فعل الغير بنحو الشرط المتأخر. بل لا بد ان يكون اما من جهة احتمال زوال المحبوبية وارتفاعها بفعل الغير أو من جهة ان فعل الغير سبب فوات الملاك بنحو لا يمكن تحصيله بعد ذلك ، فاحتمال السقوط بفعل الغير في هذه الحالة لا بد ان يكون لاحتمال أحد هذين المنشأين. ومقتضى الأصل فيهما معا جريان الاستصحاب دون أصالة الاشتغال. اما الأول ، فلتمامية أركانه وجريانه في الشبهات الحكمية عندنا. واما الثاني ، فلان الشك في الفرض الأول ـ والّذي هو غير وارد في الشرعيات عادة ـ في أصل الملاك والمحبوبية وهو من الشك في أصل التكليف. وفي الفرض الثاني وان كان الشك في العجز عن استيفاء الغرض وهو من الشك في القدرة الّذي يكون مجرى لأصالة الاشتغال ، الا أنه في الفروض الفقهية المتعارفة والتي لا يجب فيها البدار قبل فعل الغير ، أو منع الغير عن إتيان الفعل ، يكون هذا الوجوب بحسب الفرض مما يعذر المكلف في تفويته بدليل ان المولى لم يوجب البدار والإسراع عليه قبل ان يفعله الغير فهذا التفويت على تقدير وجوده تفويت مأذون فيه من قبل المولى ، اذن


فحينما صدر الفعل من الغير يشك المكلف في انه لو ترك الفعل هل يكون عمله تفويتا للملاك غير مأذون فيه وذلك لعدم فوت الملاك بفعل الغير ، أو لم يصدر منه الا تفويت مأذون فيه لأنه قد فات الملاك بتأخيره إلى أن فعل الغير وكان تأخيره مأذونا فيه ، وهذا شك في أصل الاذن ومورد للبراءة. نعم لو فرضنا الالتزام فقهيا بأنه على تقدير مفوتية فعل الغير يجب عليه البدار جرت أصالة الاشتغال إذ يعلم المكلف حينئذ بعدم رضا المولى بتفويت الغرض ويشك في قدرته الآن على تحصيله ، وهو من الشك في القدرة على الامتثال الّذي يكون مجرى لأصالة الاشتغال. وقد تحصل بهذا البيان انه في الموارد المتعارفة في الفقه تجري البراءة دائما ، ولا مجال لما ذكروه من أصالة الاشتغال.

المسألة الثانية ـ إذا شك في سقوط الواجب بالحصة غير الاختيارية من فعل المكلف نفسه والبحث فيه أيضا تارة يكون على مستوى الإطلاق والأصل اللفظي وأخرى على مستوى الأصل العملي.

اما الأصل اللفظي ، فلو فرض انه ثبت بقرينة خاصة ان المادة ( متعلق الأمر ) مقيدة بالحصة الاختيارية من الفعل أمكن الرجوع إلى إطلاق الهيئة لإثبات ان وجوب هذه الحصة ثابت حتى إذا وقعت الحصة غير الاختيارية كما انه إذا ثبت إطلاق في المادة ثبت الإجزاء وسقوط الواجب لأن ما وقع يكون مصداقا له لا محالة فلا يبقى أثر للتمسك بإطلاق الهيئة حينئذ. وهذا يعني انه لا بد من ان ينصب البحث على تشخيص إمكان التمسك بإطلاق المادة وعدمه فان أمكن ثبت السقوط والا أمكن التمسك بإطلاق الهيئة لإثبات عدم السقوط على ما سوف يأتي الحديث عنه.

ولا ينبغي الإشكال ان مقتضى الإطلاق اللفظي للمادة هو الاجتزاء بالحصة غير الاختيارية من الفعل أيضا فلا بد لمن يمنع هذا الإطلاق من إبراز مقيد له ، ويمكن ان يقرر بأحد وجوه :

الأول ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من ان ظاهر الأمر انه بداعي الباعثية والمحركية أي من أجل إيجاد الداعي في نفس المكلف ، وحيث يستحيل التحريك نحو غير المقدور يكون هذا الظهور الحالي مقيدا لبيا متصلا بالخطاب يقيد متعلقه بالحصة


المقدورة بالخصوص (١). وليس نظر المحقق النائيني ( قده ) إلى المدلول التصوري للأوامر حتى يتوهم ابتناء هذا الوجه على مسلك دلالة الأمر وضعا على النسبة الإرسالية بل نظره إلى المدلول التصديقي للأمر ابتداء الّذي هو الاعتبار أو الطلب أو أي شيء آخر فان هذا المدلول لا محالة يكون بداعي التحريك وليس مجرد لقلقة اعتبار أو إنشاء. وداعي التحريك لا يكون الا نحو الفعل المقدور.

والصحيح في الجواب ان يقال : ان الجامع بين الحصة غير الاختيارية والحصة الاختيارية مقدور واختياري فتعلق الأمر بالجامع لا ينافي داعي التحريك والباعثية كما هو واضح ، نعم لو ادعي الإرجاع للتخيير العقلي إلى التخيير الشرعي وانحلاله إلى الأمر بكل فرد مشروطا بترك ساير الافراد لزم الإشكال في المقام إلاّ ان الصحيح المحقق في محله عدم رجوع التخيير العقلي إلى ذلك وانه ليس هناك الا امر واحد بالطبيعة على نحو صرف الوجود.

الثاني ـ ما ذكره السيد الأستاذ في المقام من انه على مبنى كون التقابل بين الإطلاق والتقييد من العدم والملكة وانه إذا استحال التقييد استحال الإطلاق لا يتم إطلاق المادة للحصة غير الاختيارية لأنه يستحيل تقييدها بذلك فيستحيل إطلاقها لها أيضا (٢).

وفيه : ان هذا الكلام لم يكن مناسبا للسيد الأستاذ فان الإطلاق المطلوب في المقام انما هو الإطلاق في مقابل التقييد بالحصة الاختيارية لأن إطلاق الطبيعة لحصة عبارة عن عدم تقييدها بما يقابل تلك الحصة لا عدم تقييدها بتلك الحصة وفي المقام تقييد المادة بالحصة الاختيارية ممكن كما هو واضح ، فلا بد وان يكون إطلاقها المستلزم لانطباقها على الحصة غير الاختيارية ممكنا أيضا.

الثالث ـ المنع عن إطلاق المادة للحصة غير الاختيارية باعتبار اللغوية بعد عدم إمكان الانبعاث نحوها.

وفيه : انه يكفي في الإجابة على مثل هذا الإشكال ان فائدة الإطلاق انه لو وقع

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١٠٢.

(٢) المحاضرات ، ج ٢ ، ص ١٥٠.


اتفاقا الحصة غير الاختيارية خارجا أمكن للمكلف ان يجتزئ بها.

وهكذا يتضح : انه لا مانع من التمسك بإطلاق المادة للحصة غير الاختيارية من الواجب فيكون مقتضى الأصل اللفظي التوصلية بهذا المعنى.

وربما يقال : بإمكان إثبات الوصلية بهذا المعنى حتى إذا منعنا عن إطلاق المادة بالوجوه المتقدمة وذلك لأحد امرين :

الأول ـ التمسك بإطلاق المادة للحصة غير الاختيارية بلحاظ الملاك وان منع عن التمسك بها بلحاظ الخطاب فان المادة لها محمولان أحدهما الخطاب والثاني الملاك فلو فرض سقوط الأول لم يكن مانع من التمسك بالثاني نظير ما قد يقال في باب التزاحم من إمكان إثبات الاجتزاء بالضد المهم المزاحم بالأهم بناء على استحالة الترتب عن طريق التمسك بإطلاق المادة بلحاظ الملاك ، وان سقط إطلاقها بلحاظ الخطاب بسبب المزاحمة بالأهم. وقد جعل السيد الأستاذ هذا البيان نقضا على الميرزا « قده » الّذي صحح التمسك بإطلاق المادة في بحث الترتب ومنعه في المقام.

والصحيح هو بطلان التمسك بإطلاق المادة بلحاظ الملاك في المقامين معا ومع ذلك لا يصح النقض المذكور من قبل السيد الأستاذ على المحقق النائيني.

اما عدم صحة التمسك بإطلاق المادة فمن جهة ان الدلالة على الملاك دلالة التزامية في طول الدلالة على أصل التكليف ذاتا وحجية فإذا سقطت الدلالة الأولى بمقيد متصل أو منفصل سقطت الثانية ذاتا في الأول وحجية في الثانية.

واما عدم ورود النقض على النائيني فلأنه بناء على مبناه القائل بعدم تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في الحجية يمكن هذا التفصيل على أساس أحد ملاكين.

الأول ـ ان المقيد لإطلاق المادة بلحاظ الخطاب في المقام وهو الظهور الحالي في ان الجعل بداعي المحركية والباعثية متصل بالمادة فيمنع عن أصل انعقاد الإطلاق في المادة بلحاظ الخطاب ومعه لا ينعقد إطلاقها بلحاظ الملاك أيضا وهذا بخلاف باب التزاحم بناء على استحالة الترتب وسقوط الإطلاق في مادة الأمر المهم فان هذا السقوط انما يكون باعتبار المعارضة مع الأمر الآخر المقدم عليه بالأهمية وهذا مخصص منفصل لا يسقط إطلاق المادة في الأمر الآخر ذاتا بل حجية والمفروض عند هذه


الطبقة من المحققين عدم التبعية بين الدلالتين في الحجية.

الثاني ـ لو سلم انعقاد إطلاق المادة في المقام للحصة غير الاختيارية بلحاظ الملاك بعد سقوط إطلاقها بلحاظ الخطاب فهذا الإطلاق معارض مع إطلاق الهيئة المقتضي لعدم تحقق الامتثال الا بالحصة الاختيارية التي هي متعلق الوجوب بحسب الفرض.

وهذا بخلاف موارد التزاحم الّذي يكون فيه الأمر المهم ساقطا على كل حال.

الملاك الثاني ـ انه وان لم يكن الأصل اللفظي مقتضيا للاجزاء والسقوط لكنه لا يقتضي أيضا عدم السقوط لأن منشأ ذلك هو التمسك بإطلاق الهيئة بعد عدم إطلاق في المادة الا ان هذا الإطلاق أعني إطلاق الهيئة كان متصلا بالمادة وكان إطلاق المادة لحصة مانعا من انعقاده ورافعا له. وحينئذ لو غضضنا النّظر عن برهان المحقق النائيني المقتضي لتقييد المادة بالحصة الاختيارية لكان إطلاق المادة للحصة غير الاختيارية هادما لظهور الهيئة في الإطلاق لما بعد حصول الحصة غير الاختيارية ولكن جاء البرهان المقيد للطبيعة بالحصة الاختيارية فان فرضنا هذا البرهان حكما عقليا بديهيا كالمتصل انهدم بذلك الظهور الإطلاق في المادة فلم يبق مانع عن انعقاد الظهور الإطلاقي في الهيئة واما إذا فرضناه برهانا نظريا ومقيدا منفصلا اذن فقد انعقد إطلاق للمادة وكان هادما لإطلاق الهيئة فلم ينعقد للهيئة إطلاق من أول الأمر ، غاية الأمر انه سقطت حجية إطلاق المادة بعد ذلك بمقيد منفصل وهذا لا يوجب انعقاد إطلاق الهيئة من جديد. وهذا إشكال يستفاد من بعض تحقيقات المحقق العراقي ( قده ).

ولكنه ليس بشيء وذلك :

أولا ـ لأن المدعى عند القائل بسقوط إطلاق المادة كالمحقق النائيني ( قده ) ان المقيد قرينة لبية متصلة وهي ظهور كل خطاب في ان المولى يريد به جعل الداعي والباعث نحو الفعل مع بداهة استحالة التحريك نحو غير المقدور.

ثانيا ـ النقض بسائر موارد التقييد كما إذا أمر بالغسل مثلا وورد في دليل منفصل اشتراط كون الماء مباحا أو غير ذلك من الشروط غير الدخيلة في المسمى وصدق عنوان

__________________

(١) لم سلم اطلاق المادة لا ثبات الملاك كان حاكماً على اطلاق الهيئة كاطلاق المادة نفسها فان مدلول الهيئة مقيد لباً بعدم تحقق الملاك وحصوله خارجاً.


الواجب فهل يوجب ذلك الاجتزاء بما إذ جاء المكلف بالواجب الفاقد للقيد وعدم إمكان التمسك بإطلاق الهيئة لإثبات الوجوب.

ثالثا ـ ان دعوى تقيد الهيئة بالمادة غير صحيحة من أساسها فان الشيء الواجب لا تسقط فعلية وجوبه بالإتيان به وانما تسقط فاعلية الوجوب وتأثيره وتفصيل ذلك موكول إلى محله.

رابعا ـ ان من يرى تقيد الهيئة له ان يجعل القيد عدم الامتثال لا مفاد المادة بخصوصه لأن نكتة هذا التقييد هو حكم العقل مثلا بذلك وهو لا يرى التقييد الا بهذا المقدار ويكون إطلاق المادة أو دليل التقييد محققا لموضوع الامتثال أو نافيا له. ويبقى التقييد بعدم الامتثال تقييدا واحدا لا يزيد ولا ينقص.

المقام الثاني ـ في الأصل العملي وهو في هذه المسألة نفس ما تقدم في المسألة الأولى فانه إذا لم يعلم بتعلق الوجوب بالحصة الاختيارية بالخصوص جرت البراءة عن الخصوصية ولو علم بذلك وشك في تقيد الوجوب فان احتمل التقييد بنحو الشرط المتأخر جرت البراءة أيضا وان كان احتمال ذلك بنحو الشرط المقارن جرى الاستصحاب ان قلنا به في الشبهات الحكمية والا فالبراءة في الفروض الفقهية المتعارفة كما تقدم.

المسألة الثالثة ـ إذا شك في سقوط الوجوب بالحصة المحرمة من مصاديق الواجب والبحث هنا في مقامين أيضا.

المقام الأول ـ في مقتضى الأصل اللفظي.

ولا شك في ان الحرمة لو كانت متعلقة بنفس العنوان الواجب كما إذا وجب الغسل بعنوانه وحرم الغسل بعنوانه المقيد بماء دجلة مثلا فإطلاق المادة لا يشمل الحصة المحرمة حتى بناء على جواز اجتماع الأمر والنهي إذ من يقول بالجواز انما يقول به فيما إذا كانا بعنوانين متباينين مفهوما كالغصب والصلاة.

ولو كانت الحرمة بعنوان آخر دخل في مسألة الاجتماع فان قيل بالامتناع لم يشمل إطلاق المادة للحصة المحرمة فيتمسك بإطلاق الهيئة لإثبات عدم الاجتزاء.

وان قيل بالجواز أمكن التمسك بإطلاق المادة لإثبات الاجتزاء.


الا ان المحقق النائيني والسيد الأستاذ بنيا هذه المسألة على : اشتراط الحسن الفاعلي في الواجب مضافا إلى حسنه الفعلي وعدمه؟ فعلى الأول لا يحصل الاجتزاء لأن الفعل وان كان مصداقا للواجب والحرام بناء على الجواز الا انهما موجودان بفاعلية واحدة وإيجاد واحد فليس له حسن فاعلي ، وعلى الثاني لا بأس بإطلاق المادة. ثم اختلفا فاعتبر المحقق النائيني ( قده ) الحسن الفاعلي في الواجب وأنكره السيد الأستاذ (١).

والصحيح انه حتى إذا اشترطنا الحسن الفاعلي صح التمسك بإطلاق المادة بناء على الجواز ، لأن القائل بالجواز إذا قال به على أساس دعوى تعدد الوجود فما يكون متعددا وجودا يكون متعددا إيجادا وفاعلية لا محالة فيكون الحسن الفاعلي محفوظا ، وإذا قال به على أساس ان الوجود الواحد اجتمع فيه حسن وقبح وحرمة ووجوب من جهتين اذن فلتكن الفاعلية الواحدة أيضا مجمعا للحسن والقبح في وقت واحد من جهتين.

المقام الثاني ـ في الأصل العملي. والشك هنا يرجع إلى الشك في الأقل والأكثر سواء قيل بامتناع الاجتماع أو بالجواز. اما على الجواز فواضح لأنه يعلم بتعلق الوجوب الجامع بين الحصتين ويشك في التقييد بخصوصية الحصة المحللة فتجري البراءة ، واما على الامتناع فقد يقال : ان الشك حينئذ شك في المسقط لأن تعلق الوجوب بالجامع مستحيل بحسب الفرض غاية الأمر يشك في تقييد الوجوب بعدم الإتيانبالحصة المحرمة وعدمه فيكون شكا في المسقط فيجري فيه ما مضى في المسألتين المتقدمتين في فرض الشك في المسقط.

ولكن التحقيق ان يقال ـ ان امتناع الاجتماع وإطلاق المادة تارة يكون لنكتة ثبوتية وهو اجتماع الضدين مثلا وأخرى لنكتة إثباتية ، اما على الأول فالشك في المسقط كما ذكر ، وأما على الثاني بان يكون تعلق الوجوب والحرمة بالعنوانين ممكنا غاية الأمر ان دليل الأمر البدلي حيث انه ظاهر في جواز تطبيق الواجب على كل حصة من الحصص حتى المحرمة ينافي دليل الحرمة ، فالشك ليس شكا في المسقط بل

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١٠٢.


يحتمل ان يكون الوجوب ثبوتا متعلقا بالجامع فيكون من الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

المسألة الرابعة ـ في التعبدي والتوصلي بالمعنى الرابع الّذي هو المعنى المشهور. بمعنى ما يعتبر في مقام الفراغ عن عهدته قصد القربة وما لا يعتبر فيه ذلك. وقبل الدخول في البحث عن مقتضى الأصل في ذلك ينبغي البحث مقدمة في حدود الفارق بين التعبدي والتوصلي بهذا المعنى. وبهذا الصدد تُذكر وجوه عديدة لتصوير الفرق بين التعبدي والتوصلي يجمعها ما ذكرناه من اعتبار قصد القربة في الخروج عن عهدة التكليف وعدمه ، فهذا المعنى الإجمالي محفوظ على كل حال ، ولكن نتكلم في تحديد ذلك وتفصيله ضمن نقاط :

النقطة الأولى ـ ان يراد من اعتبار قصد القربة أخذ قصد القربة في متعلق الأمر وقد ذهب مشهور المحققين المتأخرين إلى استحالة ذلك والكلام يقع أولا في إمكان أخذ قصد القربة بمعنى قصد امتثال الأمر في متعلقه. وثانيا ـ في أخذ سائر القصود القريبة كقصد الملاك أو المحبوبية في متعلق الأمر فالكلام في مقامين :

اما فيما يتعلق بأخذ قصد الأمر في متعلقه فقد ذكر عدة وجوه لاستحالته نستعرض فيما يلي أهمها :

الأول ـ ما هو ظاهر عبائر الكفاية من انه يستحيل ذلك لأن ما لا يكاد يتأتى الا من قبل الأمر لا يمكن أخذه في متعلقه (١) وكأن مقصوده لزوم الدور والتهافت ، لأن قصد الأمر بالطبع متأخر رتبة عن الأمر إذ لا يعقل وجوده الا بعد فرض امر ، فلو كان مأخوذا في متعلقه لزم كونه بلحاظ آخر أسبق رتبة من الأمر لأن متعلق الأمر أسبق منه اما رتبة إذا افترضنا ان الأمر ومتعلقه بالذات موجودان بوجودين يعرض أحدهما على الآخر أو طبعا إذا قيل بأنهما موجودان بوجود واحد كما هو الصحيح فيكون على حد تأخر الإنسان عن زيد أو الحيوان عن الناطق ، وعلى كل حال يلزم التهافت في الرتبة.

وكأن المحقق العراقي ( قده ) حاول ان يدفع هذا الوجه للاستحالة حينما قال بأن

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٠٩.


هذا الإشكال هو الإشكال الوارد في موارد عديدة من قبيل حجية الخبر مع الواسطة حيث يقال ان دليل جعل الحجية هو الّذي جعل خبر الواسطة حجة وهذه الحجية أثر شرعي للخبر المباشر يجعله بدوره موضوعا للحجية نفسها فكيف يمكن لدليل الحجية ان يشمل الأثر الّذي لا يكاد يتأتى الا من قبله فان هذا متهافت بحسب الرتبة. والجواب عن ذلك واحد في الموردين وحاصله : انه يثبت بالدليل حكمان طوليان أحدهما حجية الخبر الواسطة وهو الّذي يحقق موضوع الحكم الآخر وهو حجية الخبر المباشر فالحجية التي تحقق الموضوع غير الحجية التي تكون للخبر المباشر. ولا بأس ان يكون كل ذلك بجعل واحد أخذ في موضوعه طبيعي الأثر الشرعي. وكذلك في المقام بالجعل الواحد يثبت أولا امر ضمني بذات الصلاة وهذا لم يؤخذ في موضوعه امر آخر وهناك أمر ضمني آخر بقصد الأمر يكون الأمر الضمني الأول محققا لموضوعه ولا بأس ان يتحقق ذلك كله بجعل واحد (١).

ويرد عليه : أنه ان أريد تصوير أخذ قصد الأمر في موضوع شخصه بنحو لا يكون هناك أكثر من امر واحد فتطبيق ما ذكر في باب حجية الخبر مع الواسطة عليه غير معقول ، لأن الحكم بالحجية في باب الاخبار وان كان واحدا بلحاظ عالم الجعل وكذلك بلحاظ المجعول بالذات فانه أيضا واحد ، لكنه ينحل بلحاظ عالم الفعلية والمجعول إلى أحكام عديدة مستقلة فيعقل ان يحقق أحدها موضوع الآخر ، واما فيما نحن فيه فالامر الضمني بالصلاة مع الأمر الضمني بقصد الأمر كلاهما ضمنيان بلحاظ عالم الجعل والمجعول معا فلا يعقل ان يكون أحدهما مأخوذا في موضوع الآخر لأن هذا خلف الضمنية كما هو واضح وبعبارة أخرى ، الأوامر الضمنية يكون موضوعها جميعا واحدا فلا يعقل ان يكون موضوع أحدها غير موضوع الآخر أو في طوله.

وان أريد تصوير امرين طوليين استقلاليين غاية الأمر انهما مجعولان بجعل واحد وذلك عن طريق تصوير جامع كجامع الأثر الشرعي في باب ( صدق العادل ) فهذا لو فرض إمكانه في المقام بأن يشير المولى مثلا إلى مجموعة الاجزاء والشرائط بما فيها قصد

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ٧٧.


الأمر ويأمر ـ بنحو مطلق الوجود ـ بكل ما هو مقدور منها فتجب سائر الاجزاء والشرائط بالقدرة التكوينية ويجب قصد الأمر في طول وجوب تلك الاجزاء والشرائط فهذا مضافا إلى انه مجرد فرض وخلاف ما هو واقع في أدلة الأوامر العبادية إثباتا خلاف ما هو الغرض من التمسك بأصالة التوصلية أو التعبدية في مدلول الأوامر المتعلقة بفعل من الأفعال كما أن هذا إذا كان معقولا من خلال جعل واحد وإنشاء واحد للأمر على عنوان مشير من قبيل ما ذكر يؤدي إلى ان يكون هنا امران في مرحلة المجعول أو أوامر متعددة استقلالية لا امر واحد جعلا أو مجعولا أخذ في متعلقه قصد الأمر كما هو المطلوب في هذه النقطة.

والصحيح في الجواب على هذا الوجه بالمقدار المذكور أن المتأخر غير المتقدم فان قصد امتثال الأمر وجوده في الخارج يتوقف على الأمر والأمر يتوقف على الوجود الذهني والعنواني لقصد الأمر في أفق ذهن الحاكم فلا تهافت ..

الثاني ـ ان يقال ان قصد امتثال الأمر إذا أخذ في متعلق الأمر لزم الدور إذ كل امر مشروط بالقدرة على متعلقه فهو متأخر عن القدرة على متعلقه تأخر المشروط عن شرطه ، فلو فرض انه أخذ في متعلقه قصد الأمر كان الأمر متوقفا على نفسه لأن الأمر متوقف على القدرة والقدرة متوقفة على الأمر وهذا دور محال.

ويرد هذا الوجه بهذا المقدار بأن دليل شرطية القدرة في الأمر هو حكم العقل وهو لا يشترط أكثر من القدرة اللولائية أي القدرة لو تعلق الأمر لا القدرة الفعلية والقدرة اللولائية حاصلة في المقام لأنه لو تعلق الأمر كان قصد الأمر مقدورا وهذه قضية صادقة حتى قبل تعلق الأمر لأن صدق الشرطية لا تستلزم صدق طرفيها وهذا الّذي ذكرناه غير ما يقال من ان الأمر يشترط فيه القدرة وقت العمل لا حينه فان هذا المقدار غير كاف لدفع غائلة الدور لأن القدرة وقت العمل أيضا متوقفة على الأمر فالصحيح ما ذكرناه من كفاية القدرة اللولائية لأن العقل لا يأبى عن تكليف العاجز إذا كان نفس التكليف رافعا لعجزه وموجبا لقدرته.

الثالث ـ ان الأمر إذا تعلق بالفعل بقصد الأمر أصبح المكلف عاجزا عن الفعل بقصد امتثال الأمر لأن ذات الفعل غير متعلق للأمر فكيف يمكن ان يأتي به بقصد


الأمر ؛ إذ الأمر لا يدعو الا إلى ما تعلق به وهو المركب لا خصوص ذات الفعل ، وعليه فمثل هذا الأمر تكليف بغير المقدور.

وقد أجاب مشهور المحققين على هذا البرهان بأن ذات الفعل أيضا مأمور به بالأمر الضمني فلا بأس بالإتيان به بقصد امره الضمني لأنه بنفس هذا القصد يتحقق الجزء الآخر من الواجب فيتحقق الامتثال وليس حاله حال سائر الموارد التي لا يمكن فيها قصد الأمر الضمني وان شئت قلت : ان الأمر إذا تعلق بشيء مركب ، وكان للإنسان داع إلى أحد جزئيه فقد يدعوه ذلك الأمر إلى الجزء الآخر ولو فرض عدم داعويته إلى الكل. مثلا لو كان مطلوب المولى هو ان يسافر إلى الهند ويقوم بفعل معين هناك فقد لا يكون هذا محركا للعبد إلى السفر إلى الهند والقيام بذلك العمل لكن إذا صار له بأي وجه من الوجوه داع على الرواح إلى الهند قد يدعوه الأمر المتعلق بالمركب إلى ان يفعل ذلك الفعل المعين وليس معنى داعوية الأمر الضمني في الحقيقة الا داعوية الأمر الاستقلالي إلى جزء من اجزاء الواجب.

وبهذا يعرف انه لا وجه للاستشكال على هذا الجواب المشهور. بأن انحلال الأمر الواحد إلى أوامر ضمنية غير صحيح إذ لا يوجد لنا الا أمر واحد جعلا ومجعولا فافتراض الانحلال إلى أوامر خلف الوحدة في عالم الجعل والمجعول. فان المقصود من داعوية الأمر الضمني كما عرفت ليس الا داعوية الأمر الاستقلالي إلى جزء من اجزاء متعلقة على ان القائل بالانحلال لا يقول بتعدد حصص الأمر والوجوب بلحاظ أفق الاعتبار والجعل بل بلحاظ محكي الصورة الذهنية والتي بلحاظها يتعلق الشوق والأمر والاعتبار بالعناوين فانه بهذا اللحاظ يرى أن للأمر تبعا لمتعلقه حصصا ينبسط بها وينحل إليها.

وقد يستشكل أيضا بان هذا الأمر الضمني الّذي يقصد امتثاله والّذي فرض انه متعلق بذات الصلاة هل يتعلق بالصلاة المطلقة أو يتعلق بالصلاة المقيدة أو يتعلق بالصلاة المهملة؟ أما الأول فهو خلف قانون الارتباط واما الثاني فهو يستلزم التسلسل لأن المقيد أيضا منحل إلى ذات المقيد والتقيد فينقل الكلام إلى الأمر بذات المقيد الضمني ، واما الثالث فالإهمال في المقام وان كان معقولا وليس محالا لأن المركب المأمور به ليس مهملا ومجهولا على الجاعل ثبوتا الا انه يرد عليه ان المهملة في قوة


الجزئية فيعود الإشكال لأن قصد الأمر بذات الصلاة انما يمكن إذا أحرز انطباق المأمور به عليها والواجب المهمل لا يحرز انطباقه على ذات الصلاة. وفيه :

أولا ـ ان الصحيح على ما بيناه في بحث المطلق والمقيد ان الأمر بذات الطبيعة المهملة في قوة المطلقة لا الجزئية وقد سميناه بالإطلاق الذاتي فان المهملة انما تكون في قوة الجزئية في القضايا التصديقية واما الطبيعة المهملة فهي في قوة المطلقة دائما. وقلنا هناك ان مقدمات الحكمة دائما تثبت هذه الطبيعة المهملة الجامعة بين المطلق والمقيد المقسمي ، وهذا لا يلزم منه خرق قانون الضمنية والارتباط لأن هذا انما يلزم لو قلنا بالإطلاق اللحاظي بان نقول الواجب هو الركوع سواء سجدت أم لا فبهذا يرفض دخل القيد فينافي الضمنية.

وثانيا ـ بما تقدم في معنى قصد الأمر الضمني من انه يرجع إلى قصد الأمر الاستقلالي فانه يدعو إلى اجزاء المأمور به.

بل أصل دعوى أن الأمر لا يدعوا الا إلى متعلقه فلا يمكن الإتيان بغير متعلقه مع قصد الأمر ، غير صحيح فان الأمر يدعو إلى ما هو خارج عن متعلقه أيضا كالمقدمات فانه يمكن ان يأتي بها الإنسان بقصد امتثال أمر بذي المقدمة فان الأمر بشيء يدعو إلى كل ما لا يتم الواجب الا به فكل هذا الكلام لإثبات الاستحالة زوبعة في فنجان نشأ من تخيل انه لا بد من فرض تعلق الأمر بالدقة بما يؤتى به بقصد الامتثال.

الرابع ـ ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) لإثبات الاستحالة وهو أجود ما أفيد وحاصله لزوم الدور لكن لا بلحاظ متعلق الأمر كما في الوجه الأول بل بلحاظ متعلق المتعلق المصطلح عليه عند المحقق النائيني بالموضوع وتوضيح هذا الوجه يكون من خلال مقدمتين.

المقدمة الأولى ـ ان الأحكام الشرعية لها متعلقات وهي الأفعال التي يكون الحكم الشرعي مقتضيا لإيجادها أو الزجر عنها كالصلاة في صل وشرب الخمر في لا تشرب الخمر ، ومتعلق المتعلقات وهي الأشياء الخارجية التي يتعلق بها المتعلق الأول كالقبلة والوقت في الصلاة والخمر في لا تشرب الخمر والعقد في أوفوا بالعقود. وهذا ما يسمى بالموضوع ، والموضوع يؤخذ دائما قيدا للحكم ، وحيث ان الجعول تكون


على غرار القضايا الحقيقة فالموضوع للحكم المجعول يؤخذ دائما مفروض الوجود على نهج القضية الشرطية أي إذا وجد وقت فصل وإذا وجد عقد أوف به ، ونتيجة ذلك ان الحكم في فعليته تابع لفعلية موضوعه لأن المشروط عدم عند عدم شرطه ، وبهذا يكون وجود الموضوع جعلا ومجعولا متقدما على وجود الحكم ، اما في المجعول الّذي هو الحكم الفعلي فلما بيناه من ان فعلية الحكم المجعول فرع فعلية الموضوع واما في عالم الجعل فلان الجاعل يرى في أفق جعله إناطة مجعوله بتحقق الموضوع فهو يرى الحكم متأخرا عن موضوعه.

المقدمة الثانية ـ تطبيق ما أفيد على ما نحن فيه فانه إذا أمر بقصد الأمر كان الأمر نفسه متعلقا للمتعلق أي موضوعا للأمر ، فلا بدّ ان يؤخذ على حد سائر الموضوعات مفروض الوجود في مقام الجعل ، فيرجع قوله ( صل مع قصد الأمر ) إلى انه ( ان وجد امر فصل مع قصده ) وهذا يلزم منه التهافت والدور في عالمي الجعل والفعلية معا.

واما في عالم الفعلية فلان فعلية الأمر سوف تكون متوقفة على فعلية موضوعه الّذي هو الأمر نفسه.

واما في عالم الجعل فلان المولى سوف يرى في أفق جعله بالنظر التصوري بان حكمه كان بعد الفراغ عن موضوعه ومتقدما عليه فيرى امره متقدما على امره وهو تهافت في اللحاظ ومحال (١).

وقد أجاب عن هذا البرهان السيد الأستاذ ( دام ظله ) بما يرجع إلى إنكار المقدمة الأولى إذ لا برهان على لزوم أخذ متعلقات المتعلق موضوعا للحكم ومفروغا عنه في رتبة سابقة على الحكم الا أحد ملاكين أحدهما ثبوتي والآخر إثباتي ، اما الملاك الإثباتي فهو ان يكون لسان الدليل ظاهرا ولو عرفا في أخذ متعلق المتعلق بنحو مفروغ عنه كما في قوله تعالى « ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ». ومن قبيل « أوفوا بالعقود » المستظهر منه عرفا ان العقد مأخوذ بنحو مفروغ عنه وانه من مقدمات وجوب الوفاء وليس من مقدمات الواجب والا لوجب إيجاد عقد للوفاء به

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١٠٦ ـ ١٠٨.


واما الملاك الثبوتي فهو ان يكون متعلق المتعلق خارجا عن اختيار المكلف من قبيل الوقت والقبلة فانه إذا لم يؤخذ مثل ذلك مفروغا عنه وقيدا للحكم لزم من إطلاق الأمر لزوم تحصيله وهو تكليف بغير مقدور فقوله ( صل في الزوال ) ان لم يؤخذ الزوال قيدا لوجوب الصلاة كان معناه وجوب الصلاة في الزوال حتى قبل تحقق الزوال وهو غير مقدور للمكلف فلا بد من ان يؤخذ ذلك قيدا للحكم.

واما إذا لم يوجد شيء من الملاكين فلا موجب لأخذ متعلق المتعلق مفروض الوجود ، بل يكون التكليف مطلقا من ناحيته.

وفي المقام قيد الأمر الّذي يقع متعلقا للمتعلق من هذا القبيل أي لا يتم فيه شيء من الملاكين للتقييد. اما الملاك الإثباتي فواضح واما الثبوتي فلان الأمر وان كان غير اختياري للمكلف ولكنه حيث انه يوجد بنفس خطاب الأمر فلا موجب لتقييد الخطاب به ، وان شئت قلت : ان الملاك الثبوتي راجع بحسب الحقيقة إلى تقيد الخطاب بالقدرة والقدرة التي تشترط في التكليف كما تقدم في رد الوجه الثاني هي القدرة اللولائية الصادقة قبل تحقق الأمر وفعليته وعليه فلا يلزم ان يؤخذ الأمر قيدا وشرطا في المقام حتى يلزم التهافت أو الدور لا في عالم الجعل ولا في عالم المجعول (١).

والتحقيق هو استحالة أخذ قصد الأمر في متعلق نفسه لوجوه يمكن ان نجعل بعضها تتميما وتعميقا لبعض الوجوه المتقدمة.

الوجه الأول ـ ما يمكن ان يجعل تتميما أو تنقيحا لما أفاده المحقق النائيني ( قده ) بحيث يدفع إيراد السيد الأستاذ عليه وحاصله : ان وجود الأمر وحده لا يكفي في القدرة على قصد الأمر بل لا بد إضافة إلى ذلك من وصوله ولو بأدنى مراتب الوصول وهو الاحتمال إذ لولاه لما تأتى من المكلف قصد الأمر الا بنحو التشريع المحرم والقبيح ، ووصول الأمر أمر غير اختياري ـ ولو في بعض الحالات ـ ولا يكون مجرد ثبوت الأمر متكفلا لحصوله خصوصا وان الخطابات مجعولة على نهج القضايا الحقيقة فلا بد من أخذه قيدا في الأمر وشرطا مفروغا عنه ـ وهذا هو الملاك الثبوتي الّذي اعترف به السيد

__________________

(١) هامش المصدر السابق.


الأستاذ ـ وحينئذ نضم إلى ذلك ما تنقح في بحث القطع من استحالة أخذ وصول الحكم في موضوع شخصه ولا يكفي في المقام ان يؤخذ وصول الحكم بمعنى الجعل أو إبرازه في موضوع شخصه لأن قصد الأمر متوقف على وصول الحكم الفعلي إلى المكلف ولو بأدنى مراتب الوصول ولا يفيد فيه وصول الحكم بمعنى الجعل أو الإبراز.

وبهذا يتبرهن استحالة أخذ قصد الأمر في متعلق نفسه على أساس لزوم التهافت والدور الّذي أفاده المحقق النائيني ( قده ) غاية الفرق انه كان يقرر ذلك بلحاظ أخذ الأمر في موضوع نفسه ونحن نقرره بلحاظ أخذ وصول الأمر في موضوع نفسه (١).

الوجه الثاني ـ ما يمكن ان يجعل تتميما للوجه الأول من الوجوه المتقدمة الّذي كان يبرهن على الاستحالة بملاك التهافت وأن قصد الأمر لا يكاد يتأتى الا من قبل الأمر فكيف يمكن ان يؤخذ في متعلقه بحيث يتوقف عليه الأمر وقد أجبنا عليه فيما مضى بأن الأمر لا يتوقف على واقع قصد الأمر ولا يعرض عليه حقيقة بل يعرض على عنوان قصد الأمر ووجوده في أفق ذهن الآمر فلا تهافت.

__________________

(١) يمكن الإشكال في هذا البرهان أيضا نقضا وحلا وقبل بيانهما لا بد من تبيين مقدمة حاصلها : ان وجه شرطية القدرة في التكاليف والخطابات هو الاستظهار العرفي. الّذي أبرزه المحقق النائيني ( قده ) من ان ظاهر كل تكليف انه مجعول بغرض الباعثية والمحركية وهي غير معقولة في موارد العجز وعدم القدرة فتكون هذه قرينة لبية متصلة بأدلة التكاليف ومقيدة لإطلاقاتها في موارد العجز وعدم القدرة والا فالعقل لا يأبى ان يكون التكليف بمعنى الاعتبار كالملاك مطلقا شاملا لموارد العجز أيضا.

وعندئذ نقول يرد على هذا البرهان.

أولا ـ النقض بسائر موارد الجهل المركب وعدم وصول التكاليف ولو احتمالا سواء كان امتثالها متوقفا على العلم بها أم لا فانه لو فرض إطلاق التكليف فيها لزم نفس محذور إطلاق التكليف لحالة العجز وهو انه تكليف فعلي مع عدم إمكان الباعثية والمحركية من ناحيته وان قيد بغرض وصوله لزم أخذ الوصول في موضوع التكليف وهو محال وتصويب.

وثانيا ـ الحل وهو اننا نلتزم بإطلاق التكاليف في موارد الجهل المركب وكذلك في المقام وعدم تقيدها بوصولها ولا يلزم منه محذور فعلية التكليف في مورد لا يمكن ان يكون باعثا ومحركا لأن موارد عدم المحركية والباعثية التي يستظهر العرف عدم إطلاق التكليف وشموله لها انما هو عدم المحركية التي لا ترتبط بجعل التكليف نفسه كما في العجز التكويني كالمشلول. واما عدم المحركية الناجمة من عدم وصول التكليف والّذي يرتفع بنفس جعل التكليف ( سواء كان عدم المحركية الّذي يرتفع في طول جعل التكليف من جهة كون المكلف جاهلا وفي طول جعل التكليف يطلع عليه طبيعة أو من جهة عدم القدرة على تحقيق متعلقه الناشئ من الجهل بالتكليف فانه أيضا يرتفع في طول التكليف ) فلا وجه لدعوى قصور إطلاق الخطابات وتقييده بغيره لأن ملاك هذا القيد كما أشرنا إليه لا يقتضي أكثر من التقييد بموارد عدم المحركية التكوينية والتي لا ترتفع بالخطاب في طوله فانه الّذي يكون خلاف غرض المولى من جعل الخطابات كما ان العقل أيضا يرى منجزية احتمال تفويت تكليف يتعذر عليه نتيجة جهله وعدم تعلمه له. وبعبارة مختصرة كل عدم محركية وداعوية ينشأ من الجهل بالتكليف لا يكون مقيدا للخطاب ولا يكون إطلاق الخطاب بالنسبة إليه منافيا للغرض المولوي وليس المقصود من قصد الأمر الا داعويته ومحركيته.


الا أنه هنا يمكن ان نضيف نكتة نتمم على أساسها هذا الوجه للاستحالة وذلك بان نقول ان الأمر وان كان في أفق ذهن الآمر معروضا في الحقيقة على عنوان قصد الأمر لا واقعه ومعنونه الّذي يكون في طول الأمر الا ان الآمر انما يأمر بالعنوان بما هو فان في المعنون وحاك عن الخارج ، فهو يرى من خلال العنوان المعنون ويرى الخارج ، ولهذا يشتاق إليه ويأمر به وبهذا النّظر والرؤية سوف يقع التهافت في نظره لأنه من ناحية يرى الأمر في رتبة متقدمة على قصده لكونه عارضا عليه وكأن له تقررا وثبوتا قبل تعلق القصد به ومن ناحية أخرى يرى أنه عارض على قصد الأمر ومتأخر عنه وهذه وان كانت مجرد نظرة ورؤية لا واقعا وحقيقة الا ان الآمر على اية حال انما يأمر بهذا النّظر غير المطابق للواقع أي يأمر بالنظرة التي يرى بها واقع قصد الأمر شيئا مفروغا عنه ومتقدما على الأمر لكي يطرأ عليه الأمر ، مع انه لا يعقل ان يراه كذلك لأنه متقوم في هويته به فكيف يراه مفروغا عنه ومتقدما على الأمر (١).

الوجه الثالث ـ ويتوقف على مقدمتين :

الأولى ـ ان قصد امتثال الأمر عبارة أخرى عن كون الداعي للمكلف من الفعل امتثال الأمر أي محركية الأمر له بقدح الإرادة والداعي لإتيان الفعل في نفسه.

الثانية ـ ان حقيقة الأمر عبارة عن الخطاب والاعتبار الّذي يجعل بداعي المحركية والباعثية نحو متعلقه ، ولهذا لم يكن شاملا للعاجز إذ لا يعقل في حقه التحرك والانبعاث ، فلا بد في تعلق الأمر بأي متعلق لكي يكون أمرا حقيقة ان يكون صالحا للمحركية.

وبناء على هاتين المقدمتين نقول في المقام : بأن الأمر الضمني بقصد امتثال الأمر لا يعقل

__________________

(١) هذا البرهان أيضا قابل للمناقشة لأن النّظر إلى الأمر بنحو مفروغ عنه ان كان من جهة انه متعلق أو موضوع الأمر فلا بد وان ينظر إليه بنظرة فراغية فهذا رجوع إلى الوجه السابق الّذي ناقشنا فيه. وان كان من جهة أن تصور مفهوم الأمر في طرف المتعلق تصور حكائي فراغي بنحو المعنى الاسمي فإذا أريد به شخص الأمر الّذي يراد إنشاؤه وجعله بنحو المعنى الحرفي كان تهافتا فالجواب : ان الجاعل في طرف المتعلق يأخذ قصد طبيعي الأمر بنحو المعنى الاسمي لا شخص الأمر الّذي يجعله بهذا الجعل بنحو المعنى الحرفي وان كان هذا الطبيعي سوف يتحقق مصداقه في الخارج بنفس هذا الأمر الشخصي.

نعم هذا الّذي أفيد انما يتم إذا أريد أخذ قصد شخص هذا الأمر الجزئي كما هو المفروض في المقام لكون الجزئية في المفاهيم متقومة بالتشخص والإشارة إلى الخارج فيلزم التهافت في اللحاظ ، وسوف تأتي الإشارة في المتن إلى ان هذا الوجه يندفع بأخذ قصد طبيعي الأمر.


ان يكون محركا وباعثا نحو ما تعلق به لأن الأمر بذات الفعل ان كان وحده كافيا للتحريك نحو الفعل وموجبا لانقداح الإرادة في نفس المكلف فهذا عبارة أخرى عن قصد الامتثال كما بين في المقدمة الأولى ومعه لا يبقى لتعلق الأمر الضمني الثاني مزيد داعوية ومحركية لا تأسيسا كما هو واضح ولا تأكيدا لأنه امر ضمني ولا تأكيد في الأوامر الضمنية إذ الامتثال والعصيان انما يكون بلحاظ الأمر الاستقلالي دائما. وان لم يكن الأمر الضمني بذات الفعل كافيا لتحرك المكلف فلا فائدة في الأمر الضمني بقصد الأمر أيضا لأنه أخو الأمر الأول وكلاهما امر واحد بحسب الفرض ، فالحاصل محركية الأمر بالفعل مع قصد الأمر هي نفس محركية الأمر بذات الفعل فضم قصد الأمر إلى متعلق الأمر بذات فعل لا يوجب تحريكا نحو ما لم يكن يحرك إليه الأمر لو لا هذه الإضافة والزيادة في المتعلق ، كما هو الحال في سائر الاجزاء أو الشرائط التي تؤخذ في متعلق الأمر. نعم هناك فائدة واحدة لضم هذا القيد وهي انه لو لم يضم إليه فلو اتفق أن جاء المكلف بذات الفعل صدفة أو لداع نفساني سقط الأمر بذات الفعل عن المحركية لأنه قد تحقق متعلقه فلا يكون عليه إعادة ، بخلاف ما إذا ضم إليه هذا الأمر الضمني فان الأمر يبقى ولا بد عليه من الإعادة ، الا ان هذا ليس معناه ان الأمر الضمني الثاني له محركية وانما أصبح حافظا لمحركية الأمر بذات الفعل ومانعا عن انطباقه على ما أتى به فلم يسقط عن التأثير فهو يؤثر ويحرك مرة أخرى نحو الفعل والخلاصة ان الأمر بالفعل بقصد الأمر لا يمكن ان يكون مجعولا بداعي المحركية بجميع حصصه الضمنية وقد افترضنا في المقدمة الثانية حقيقة الأمر هو ما يجعل بداعي المحركية والباعثية (١).

الوجه الرابع ـ ما يمكن ان يفسر به عبارة المحقق الأصفهاني ( قده ) حيث يقول « يلزم

__________________

(١) يمكن ان نمنع لزوم ان تكون لكل حصة من حصص الأمر الضمنية محركية بلحاظ ما تعلق به لأن المحركية ليست أساسا للأوامر الضمنية بل للأمر الاستقلالي لأنه الّذي يمتثل أو يعصى وانما اللازم ان يكون لكل امر استقلالي محركية نحو ما تعلق به لم تكن ثابتة لو لم يكن قد تعلق بذلك المتعلق بالخصوص وفي المقام أخذ قصد القربة والأمر في متعلق الأمر هو الّذي يحرك المكلف نحو الإعادة في موارد وقوع الفعل أو لا صدفة أو بداع نفساني وهذه زيادة تحريكية كافية لتبرير أخذ هذا القيد تحت الأمر.

وبعبارة أخرى. ان الغرض من جعل الخطاب والأمر ليس هو المحركية وإيجاد الداعي في نفس المكلف كما قيل بل الغرض هو تحصيل ما فيه ملاك الأمر المحبوب ولهذا لو فرض ان المولى أحرز تحقق ملاكه من قبل العبد من دون ان يأمره لما أمره ولو كان أمره أيضا صالحا لقدح الداعي في نفسه ومن الواضح ان أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر يحفظ غرض المولى ومحبوبه في تمام الحالات أي حتى حالة صدور ذلك الفعل منه لا بداعي الأمر الإلهي الشيء الّذي لم يكن يحفظ لو كان الأمر متعلقا بذات الفعل فقط.


داعوية الشيء نحو داعويته ومحركيته نحو محركية نفسه » (١).

وتوضيحه : ان المحركية كما قلنا عبارة عن قدح الإرادة في نفس المكلف والأمر بالفعل مع قصد الأمر إذا أريد منه ان يكون محركا نحو ما تعلق به فهذا انما يتصور على أحد أنحاء ثلاثة كلها مستحيلة.

الأول ـ ان يفرض ان هذا الأمر المتعلق بالمجموع المركب من الفعل وقصد الامتثال يحرك العبد نحو هذا المجموع على حد تحريك سائر الأوامر بالمركبات نحو مجموع ما تعلقت بها في عرض واحد وهذا غير معقول لأن إرادة الصلاة التي نشأت من قبل الأمر هي بنفسها قصد الامتثال الّذي هو الجزء الثاني للمأمور به ، فلا يعقل انبساط تلك الإرادة على هذا الجزء لأن هذا معناه انبساط الإرادة على نفسها وتعلقها بنفسها وهو محال.

الثاني ـ ان يكون هذا الأمر محركا نحو إتيان ذات الفعل فقط وهذا معناه ان الأمر لم يحرك نحو الجزء الثاني لمتعلقه وهو يعني عدم تعلق الأمر بهذا الجزء بداعي المحركية نحوه.

الثالث ـ ان تكون محركية هذا الأمر عبارة عن انه يريد إرادة امتثال الأمر بذات الفعل فيريد ذات الفعل فيأتي به ، وهذا يعني ان محركية هذا الأمر تتمثل في محركيتين طوليتين بان يكون أولا محركا نحو إرادة امتثال الأمر بذات الفعل ، وفي طول ذلك تنشأ محركية ثانية نحو ذات الفعل تتمثل في إرادة نفس الفعل والإرادة الثانية هي متعلق الإرادة الأولى ، بحيث يصدق بينهما فاء الترتيب بان نقول أراد ان يقصد الامتثال بالفعل فقصد الامتثال وطبعا لا تعقل إرادة الفعل في عرض إرادة إرادة الفعل إذ في عرض حصول المراد لا معنى لإرادته ، والا لزم طلب الحاصل وانما المراد في طول الإرادة.

وهذا أيضا باطل إذ معنى ذلك ان اقتضاء أحد الأمرين الضمنيين للتحريك في طول اقتضاء الأمر الضمني الآخر للتحريك ، وهو غير معقول لأنهما امر واحد ، وان شئت قلت : انه في مرتبة الأمر الضمني بقصد الامتثال هل يوجد الأمر الضمني بذات الفعل أولا ، فان قيل لا يوجد كان معنى ذلك الطولية بين نفس الأمرين الضمنيين وهو محال ، وان قيل يوجد فما

__________________

(١) نهاية الدراية : الجزء الأول ـ ص ١٣٤ ، ج ١.


معنى ان لا يقتضي التحريك في عرض اقتضاء الأمر الآخر (١)؟.

وبهذا ينتهي البحث في المقام الأول وهو أخذ قصد القربة بمعنى قصد امتثال شخص الأمر العبادي في متعلقه.

المقام الثاني ـ في أخذ قصد القربة بغير معنى قصد امتثال شخص الأمر في متعلقه وهذا يمكن تصويره بأحد وجوه :

التصوير الأول ـ ان يؤخذ في متعلق الأمر قصد طبيعي الأمر لا شخص الأمر ، وطبيعي الأمر قابل للانطباق على شخص ذلك الأمر أيضا.

وهذا التصوير يندفع به الوجه الثاني من الوجوه الأربعة للاستحالة الا انه لا تندفع به الوجوه الثلاثة الأخرى. اما اندفاع الوجه الثاني فلان المحذور فيه كان ناشئا بلحاظ عالم اللحاظ والتصور حيث كان يقال أن قصد الأمر متقوم تصورا ومفهوما بالأمر فكيف يمكن ان يؤخذ في متعلقه الّذي يتقوم الأمر به؟ وواضح ان مثل هذا المحذور التصوري يرتفع بمجرد ان يؤخذ في متعلق الأمر طبيعي الأمر لا شخصه فانه لا يكون متقوما تصورا بشخص ذلك الأمر وليس الجامع والطبيعي عبارة عن لحاظ الافراد ـ فان الإطلاق كما قيل رفض للقيود لا جمع بينها ـ لكي يلزم تقومه بشخص الأمر من جديد ولا يقدح في ذلك عدم وجود امر آخر غير هذا الأمر في مرحلة الواقع والحمل الشائع لأن المحذور لم يكن بلحاظ هذا العالم ، بل بلحاظ عالم التصور واللحاظ فحسب.

واما جريان الوجوه الثلاثة الأخرى في المقام فباعتبار ان قصد امتثال طبيعي الأمر أيضا متوقف خارجا على وصول الأمر وحيث لا امر غير هذا الأمر فلا بد من تقييده بوصوله ـ وهذا هو محذور الوجه الأول ـ كما ان الأمر بقصد امتثال طبيعي الأمر كالأمر بقصد امتثال شخصه

__________________

(١) قد يقال : بأنا إذا تصورنا إمكان تعلق الإرادة بإرادة امتثال الواجب أمكن دفع هذا الإشكال بأن الأوامر الضمنية ليس لها اقتضاءات ومحركيات مستقلة بل هناك محركية واحدة للأمر الاستقلالي نحو مجموع ما تعلق به والطولية في المقام بين نفس المتعلقين حيث ان إرادة شيء متقدمة على ذات المراد. الا ان الصحيح عدم معقولية تعلق الإرادة بإرادة لأن الإرادة لا تتعلق الا بالخارج ولا يمكن ان تتعلق بالإرادة حتى بنحو الطولية فلا يصح ان يقال أراد ان يريد الفعل وقد تقدم في بحث الطلب والإرادة البرهان على ذلك فراجع.

هذا ولكن أصل هذا الوجه أيضا غير تام لأنه متوقف على ما بين في الوجه الثالث من لزوم محركية كل حصة من حصص الأمر الضمني نحو متعلقه وقد عرفت ان هذا مما لا موجب له.


محذور الوجه الثالث والرابع ـ.

التصور الثاني ـ ما نقله المحقق النائيني ( قده ) عن أستاذه السيد الشيرازي ( قده ) وحاصله انه إذا استحال أخذ قصد الامتثال فليؤخذ عنوان ملازم لقصد الامتثال (١).

واعترض عليه تارة بان فرض وجود عنوان ملازم لقصد الأمر دائما خلاف الواقع ، وأخرى بأنه لو سلم وجود مثل هذا العنوان الملازم فالمتلازمان وان استحال التفكيك بينهما في الخارج الا انه لا استحالة في فرض التفكيك بينهما ، فيلزم إطلاق الأمر العبادي المجعول على نهج القضايا الحقيقية لمثل هذا الفرض ، وهو خلف غرض المولى.

وكلا هذين الاعتراضين غير متجهين.

اما الأول فلأنه يوجد عنوان ملازم لقصد الامتثال وهو العنوان السلبي أي عدم صدور الفعل بداع دنيوي أو نفساني ، فانه يلازم خارجا في صورة تحقيق المكلف للفعل وجود داعي الامتثال له ، لأن الفعل لا يصدر من الإنسان بلا داع.

واما الثاني فلأنه لو أريد مجرد فرض المحال الّذي هو ليس بمحال كفرض اجتماع الضدين أو ارتفاع النقيضين ، فليس على المولى ان يجعل امره وافيا بغرضه في مثل هذه الفروض المستحيلة أيضا ، وانما عليه ان يجعله وافيا بغرضه على الفروض المعقولة ، والا فما هو موقفه من فرض ارتفاع النقيضين المحال؟ وكيف يجعل خطابه وافيا بغرضه في مثل ذلك؟ ولو أريد بذلك فرض امر معقول وان كان نادر التحقق كما إذا كان التلازم بين العنوانين غالبيا لا عقليا ، قلنا : ان التفكيك بين قصد الامتثال وعدم سائر الدواعي الّذي فرضناه غير معقول لأن ذلك معناه حصول الفعل الاختياري بلا داع.

والتحقيق ان هذا التصوير كالتصوير الأول لا يرد عليه الوجه الثاني من الوجوه الأربعة ، ولكن ترد عليه الوجوه الثلاثة الأخرى بنفس البيان المتقدم في رد التصوير الأول.

التصوير الثالث ـ ما يستفاد من كلمات المحقق العراقي ( قده ) في مقام الفرار عن محذور أخذ قصد الأمر في متعلقه من إمكان التوصل إلى نفس النتيجة بجعل الأمر متعلقا بالحصة التوأم مع قصد الأمر بحيث يكون القيد والتقيد معا خارجين عن متعلق الأمر ، وانما المتعلق هو

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١١١.


لا يمكن ان يكون محركا نحو ما تعلق به محركية زائدة على محركية الأمر بذات الفعل ـ وهذا هو ذات الحصة التوأم مع القيد ويكون التقييد مشيرا إلى ذات المقيد نظير ما يقال : ( اتبعوا خاصف النعل ) (١).

وهذا التصوير أيضا غير تام وذلك :

أولا ـ لأن الحصة تارة يكون لها ثبوت وتحصص مع قطع النّظر عن تقيدها بالقيد كما هو الحال في الأعيان الخارجية كالإمام 7 الّذي قد يشار إليه بعنوان خاصف النعل ، والّذي له تحصص وتشخص في الخارج ، بقطع النّظر عن اتصافه بخصف النعل ، وأخرى لا يكون للطبيعة تحصص وتشخص الا بنفس هذا التقييد ، كما هو الحال في الحصص المفهومية ، أي في تحصيص المفاهيم مثل الإنسان الأبيض ، ففي القسم الأول تكون الحصة التوأم أي خروج القيد والتقيد معا معقولا فيكون التقييد مشيرا إلى ذات الحصة ، واما في القسم الثاني فلا تعقل الحصة التوأم ، وخروج القيد والتقيد معا ، لأن هذا يؤدي إلى أن يكون متعلق الحكم ومعروضه ذات الطبيعة من دون قيد ولا تحصيص ، وعليه فالحصة التوأم في المقام غير معقولة.

ثانيا ـ ان هذا التصوير أيضا يرد عليه من الوجوه السابقة ، الوجه الأول والثاني لأن إتيان المكلف بالحصة التوأم مع قصد الامتثال يتوقف على قصد الأمر المتوقف على وصول الأمر فلا بد من أخذه في موضوعه كما ان محذور التهافت في اللحاظ ينشأ من مجرد لحاظ قصد الأمر في متعلق الأمر سواء كان بنحو الموضوعية أو المشيرية.

التصوير الرابع ـ ان يؤخذ في متعلق الأمر العبادي أحد القصود القريبة الأخرى غير قصد الأمر وقد ذكرت في المقام عدة قصود قريبة أخرى كما يلي :

١ ـ قصد المحبوبية والإرادة.

٢ ـ قصد المصلحة والملاك.

٣ ـ قصد كونه حسنا ذاتا.

٤ ـ قصد كونه سبحانه وتعالى أهلا للعبادة.

ولا يخفى ان الوجه الثالث والرابع لا بد من إرجاعهما إلى أحد القصود القريبة الأخرى

__________________

(١) مقالات الأصول ج ١ ص ٨٠.


لأنهما متوقفان على ان يكون الفعل عبادة وحسنا في المرتبة السابقة لكي يمكن ان يؤتى به بأحد هذين الداعيين ، فلا يمكن ان تنشأ عباديته منهما.

واما قصد المحبوبية وقصد المصلحة فقبل التعرض إلى إمكان أخذهما في متعلق الأمر ، لا بد أن نشير إلى انه من الناحية الفقهية لا يحتمل ان يكون المأخوذ في العبادات قصد المحبوبية أو الملاك بالخصوص بحيث يجب ان يكون تحرك المكلف من مجرد المصلحة أو المحبوبية لأن لازم ذلك ان من يكون تحركه من الأمر ولا تكفي مجرد المحبوبية أو الملاك لتحركه تكون عباداته غير مجزية وهذا يعني انه بحسب عالم الإثبات في الفقه ليس قصد المحبوبية أو الملاك بخصوصه مأخوذا في متعلق الأمر وانما المحتمل أخذ الجامع بينه وبين قصد الأمر ، ولكنه مع هذا لا بد من الناحية المنهجية ان نبحث أولا عن إمكان أخذ كل من قصد المحبوبية وقصد الملاك في متعلق الأمر ، ثم يبحث عن إمكان أخذ الجامع بينهما وبين قصد الأمر.

اما أخذ قصد المحبوبية في متعلق الأمر فلا يرد عليه شيء من المحاذير والوجوه الأربعة للاستحالة عدا الوجه الثاني وهذا أيضا يمكن دفعه هنا بأخذ قصد طبيعي المحبوبية توضيح ذلك : ان المحبوبية والإرادة التشريعية صفة تكوينية وليست كالخطاب والجعل فعلا اختياريا إنشائيا للمولى يجعله بداعي المحركية والباعثية ، وعلى هذا الأساس سوف لا ينشأ من أخذ قصده في متعلق الأمر محذور لا على مستوى الأمر والخطاب الّذي قيد به ولا على مستوى الحب والإرادة.

اما على مستوى الأمر والخطاب فلأنه لا يرد محذور أخذ وصول الحكم في موضوع شخصه ـ الوجه الأول ـ لأن القيد ليس هو قصد الأمر بل قصد الإرادة والمحبوبية أو الملاك والمصلحة فغاية ما يلزم أخذه هو وصول الإرادة أو الملاك ولا ضير فيه.

لا يقال ـ وصول الإرادة والملاك متوقف غالبا على وصول الأمر فعدنا مرة أخرى إلى لزوم أخذ وصول الأمر في موضوع الأمر.

فانه يقال ـ وصول الإرادة والمحبوبية أو الملاك والتي جميعها من الأمور التكوينية لا الإنشائية الجعلية يكفي فيه العلم بأصل الجعل والتشريع وتحقق موضوعه وشرائطه من سائر الجهات. ما عدا العلم بالمصلحة أو المحبوبية لأن المحبوبية أو الملاك في أي شيء كانت فهي تكون ثابتة حتى لو لم تصل إلى المكلف لاستحالة دخل وصول الشيء في الشيء ، فالمكلف


بمجرد ان يسمع المولى قد جعل على كل واجد للشرائط وعارف بالمصلحة أو الملاك في عمل ما وجوب الإتيان به فاطلاعه على هذا الجعل وعلى وجدانه لسائر الشرائط كاف في علمه بالمصلحة والمحبوبية في ذلك الفعل وهذا بخلاف ما لو أخذ وصول الأمر بمعنى المجعول والّذي هو امر إنشائي يتبع ما جعل عليه فتدبر جيدا.

ولا يرد أيضا محذور التهافت في اللحاظ لعدم تقوم قصد المحبوبية والملاك بالأمر لحاظا وتصورا.

وكذلك لا يرد محذور عدم محركية الأمر الضمني بقصد القربة زائدا على محركية الأمر بذات الفعل لأن متعلق الأمر الضمني ليس هو قصد الأمر ومحركيته بل قصد الملاك أو المحبوبية ومحركيتهما وهو لا يحصل بمجرد محركية الأمر.

واما على مستوى الإرادة والمحبوبية فما عدا المحذور المبين في الوجه الثاني من الوجوه الأربعة لا ترد في المقام لأنها مبنية على ان الأمر لا بد ان يكون باعثا ومحركا نحو امر مقدور وهذا انما هو شأن الأمر واما المحبوبية والإرادة فلا بأس بفرض تعلقها بأمر غير مقدور أو عدم قابليتها للتحريك. اما المحذور المبين في الوجه الثاني فهو يلزم في أخذ قصد المحبوبية لا قصد الملاك لو فرض أخذ قصد شخص الإرادة والمحبوبية في متعلقها لأن الإرادة والحب أيضا كالجعل من الأمور ذات الإضافة والتعلق بالخارج من خلال الصور الذهنية ، فكما لا يعقل عروض الأمر في أفق الجعل على ما يتقوم بشخصه كذلك لا يعقل عروض الحب والإرادة في أفق النّفس على ما يتقوم بشخص الإرادة ، الا اننا يمكن ان نتخلص من هذا المحذور بفرض أخذ قصد طبيعي الإرادة والمحبوبية.

وهكذا يتضح ان أخذ قصد القربة بمعنى قصد المحبوبية أو الملاك في متعلق الأمر لا يلزم منه محذور وما جاء في تقريرات الميرزا ( قده ) من استحالة أخذ قصد الملاك لأن لازمه ان تكون المصلحة قائمة بالفعل المأتي به بداعي المصلحة وهو دور لأن الإتيان بداعي المصلحة فرع قيام المصلحة به الّذي هو فرع ان يؤتى به بداعي المصلحة (١) مدفوع بما تقدم في الأبحاث السابقة من ان الإتيان بداعي المصلحة لا يتوقف على قيام

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١٠٨ ـ ١٠٩.


المصلحة بذات الفعل بان يكون ذات الفعل تمام ما يحصل المصلحة ، بل يتوقف على ان يكون للفعل دخل في إيجادها ، فهو يأتي بالفعل لكي يسد باب عدم المصلحة من ناحيته وإذا أتى به بهذا الداعي كان بنفسه عبارة عن قصد المصلحة الّذي به ينسد الباب الآخر للعدم.

نعم يمكن ان نناقش صغرويا في قربية قصد المصلحة في الأوامر الشرعية التي تكون ملاكاتها ومصالحها راجعة إلى العبد لا إلى المولى فان قصدها لا يكون مضافا إلى المولى ولا من أجله لكي يكون مقربا الا إذا جيء بها باعتبار اهتمام المولى وإرادته لها من العبد فيرجع إلى قصد الإرادة والمحبوبية.

هذا كله في أخذ قصد الملاك أو الإرادة بالخصوص في متعلق الأمر واما أخذ الجامع بين قصد ذلك وقصد الأمر ـ الّذي هو المتعين فقهيا على تقدير إمكانه أصوليا حيث لا إشكال في كفاية قصد الأمر وعدم لزوم قصد المحبوبية أو الملاك بالخصوص ـ فلا يرد عليه الوجه الأول والثاني من الوجوه الأربعة المتقدمة كما لا يخفى ، ولكنه يرد عليه الوجهان الثالث والرابع لأنه كلما كان الأمر بذات الفعل محركا للعبد كان الجامع بين القصود القريبة حاصلا وإذا لم يكن محركا لم يجد الأمر الضمني بأحد القصود القربية للتحريك أيضا فيلزم محذور عدم محركية زائدة في الأمر الضمني بقصد القربة أو كونه تحصيلا للحاصل.

وبهذا يتضح ان أخذ قصد القربة ـ بالمعنى المحتمل فقهيا ـ في متعلق الأوامر القربية العبادية مستحيل وفاقا لما اشتهر بين المحققين المتأخرين فلا يمكن ان تفسر العبادية بهذا الوجه أعني أخذ قصد القربة في متعلق الأمر العبادي.

النقطة الثانية _ أن تفسر عبادية الأمر بتعدد الأمر ففي الواجب التوصلي لا يوجد الا امر واحد متعلق بذات الفعل بينما في الواجب التعبدي يوجد امران أحدهما يتعلق بذات الفعل والآخر بالإتيان به بقصد الأمر الأول.

وقبل ان ندخل في تفاصيل هذا التفسير للواجب التعبدي لا بد ان نعلق هنا بأن هذا الوجه كأنه محاولة للتخلص عن المحذور في الوجهين الأول والثاني من الوجوه الأربعة المتقدمة للاستحالة حيث يندفع إشكال الدور والتهافت بتعدد الأمر. الا أن


الوجهين الثالث والرابع لا يندفعان بذلك لأن الواجب التعبدي وان انحل إلى امرين بمقتضى هذا التفسير وقد يكونان بجعلين أيضا الا ان هذين الجعلين والأمرين بحسب الروح واللب امران ضمنيان لأنهما نشئا من ملاك واحد وإرادة واحدة فهما كالأمرين الضمنيين ليست لهما محركيتان مستقلتان بل محركية واحدة ، فنقول حينئذ : ان الأمر الثاني لا يمكن ان تكون له محركية زائدة على محركية الأمر الأول بذات الفعل لا تأسيسا ولا تأكيدا ، فلا يمكن ان يكون الأمر الثاني امرا حقيقيا ، اللهم الا إذا أخرجناه عن حقيقة الأمر إلى شيء آخر سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

ثم ان هذا الوجه في تفسير الواجب التعبدي قد جاء في كلمات المحققين من علماء الأصول ضمن صياغات ثلاث متفاوتة فيما بينها برغم اشتراكها جميعا في أصل فكرة تعدد الأمر امر بذات الفعل وآخر بقصد الأمر حين امتثال الأمر الأول.

الصياغة الأولى ـ ما جاء في الكفاية من ان الأمر الأول يتعلق بذات الفعل مطلقا ويأتي التقييد بقصد الأمر بأمر ثان مستقل عن الأمر الأول جعلا ومجعولا (١).

الصياغة الثانية ـ ما ذهب إليه المحقق النائيني ( قده ) (٢) من ان الأمر الأول يتعلق بالطبيعة المهملة « لا بشرط المقسم » لأنه إذا استحال التقييد بقصد الأمر استحال الإطلاق بلحاظه أيضا لأن التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة فكلما استحال أحدهما استحال الآخر. وحينئذ لا بد من رفع إهمال الأمر الأول بالأمر الثاني الّذي هو مستقل عن الأمر الأول جعلا ومجعولا ولكنه متمم للجعل الأول حيث لا يعقل الإهمال الثبوتي واقعا فلا بد للمولى ان يرفع هذا الإهمال بأمر ثان يبين فيه الإطلاق أو التقييد في تمام موارد القيود الثانوية التي لا يمكن أخذها في متعلق الأمر الأول.

الصياغة الثالثة ـ ما ذهب إليه المحقق العراقي ( قده ) من ان الأمر الثاني وان كان مستقلا في مرحلة المجعول والفعلية ولكنه متحد مع الأمر جعلا وإنشاء نظير جعل

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١١١.

(٢) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١٠٣ ـ ١٠٤ ـ ١١٦.


الحجية للخبر المباشر وخبر الواسطة بجعل واحد برغم انحلاله إلى مجعولين استقلاليين (١). وفيما يلي تمحيص كل واحدة من هذا الصياغات الثلاث : اما صياغة الكفاية فقد أورد عليها بأنه إذا جاء المكلف بالفعل الّذي هو متعلق الأمر الأول بلا قصد الامتثال فهل يسقط الأمر الأول أم لا؟ فان قيل بالسقوط ، لزم منه سقوط الأمر الثاني أيضا ولو عصيانا ، وبالتالي عدم وجوب الإعادة وهو خلف.

وان قيل بعدم السقوط وبقاء الأمر الأول برغم تحقق متعلقه وهو ذات الفعل خارجا ، لزم ان يكون من طلب الحاصل إذ لا معنى لبقاء الأمر والطلب برغم تحقق ما تعلق به.

وهذا الإشكال يمكن الإجابة عليه بالالتزام بسقوط الأمر الأول بشخصه ولكن يتولد امر آخر مثله لبقاء غرضه على ما سوف يأتي تحقيقه وتوضيحه. فمن ناحية الأمر الأول لا إشكال ، وانما الإشكال من ناحية الأمر الثاني وانه أي فائدة في جعله وأي محركية زائدة له طالما يكون الأمر باقيا ومتجددا بنوعه ما لم يأت المكلف بقصد الأمر.

واما صياغة الميرزا ( قده ) فقد أورد عليها السيد الأستاذ إيرادين.

أولهما ـ بطلان المبنى وان التقابل بين الإطلاق والتقييد ليس من العدم والملكة بل من تقابل الضدين فإذا استحال التقييد فقد وجب الإطلاق. وهذا نقاش مبنائي ربما نتعرض إليه في بعض البحوث القادمة من هذا الفصل.

ثانيهما ـ ان الإهمال في الأمر الأول غير معقول حتى يرفع بالأمر الثاني ومتمم الجعل وقد بين هذا الإشكال بتعبيرين فتارة يقال باستحالة هذا الإهمال لأن الحكم له حظ من الوجود في أفق الذهن وعالم الاعتبار وكل شيء له حظ من الوجود لا بد ان يكون متعينا في صقع وجوده ويستحيل ان يبقى مرددا ، وأخرى يقال : أن الأمر من مجعولات الآمر الّذي ينشئها من خلال الصور الذهنية والعلمية فلا يعقل ان يكون الجاعل مترددا أو جاهلا بما جعله حين جعله (٢).

وكلا التعبيرين لهذا الإشكال مبني على تفسير الإهمال في كلام المحقق النائيني ( قده ) بالإهمال الوجوديّ أي المردد بين المطلق والمقيد. مع ان الصحيح ان

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ٧٧.

(٢) هامش أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١٠٣ ـ ١٠٤.


المراد له هو الإهمال المفهومي لا الوجوديّ ولا الفرد المردد توضيح ذلك : أن متعلق الأمر الأول مدلول اسم الجنس أي ذات الطبيعة المهملة الجامعة بين المطلقة والمقيدة باعتبار ما هو المقرر في محله من ان الإطلاق والتقييد كلاهما حيثيتان لحاظيتان زائدتان على ذات الطبيعة المهملة وحينئذ إذا استحال كل من اللحاظين الإطلاقي والتقييدي في متعلق الجعل الأول اضطر المولى ان يجعل امره على ذات الطبيعة المهملة ويتصدى لرفع الإهمال بأمر ثان يكون متمما للجعل ، وبه يرفع الإهمال إلى الإطلاق أو التقييد.

وبناء عليه لا يلزم لا الوجود المردد أو عدم تعين ما جعل عليه الأمر الأول ولا جهل الآمر بما جعله.

نعم هنا إشكالان آخران على هذه الصياغة :

أحدهما ـ ان تعلق الأمر بذات الطبيعة المهملة اما ان يقال بأنه في قوة تعلقه بالطبيعة المطلقة ـ كما هو الصحيح عندنا حيث يأتي في مباحث المطلق والمقيد ان هناك إطلاقا وسريانا ذاتيا للطبيعة فتكون في قوة المطلقة لا المقيدة خلافا للمشهور ـ أو يقال بأنها في قوة المقيدة كما هو المشهور.

فلو قيل بالإطلاق الذاتي رجعت هذه الصياغة إلى صياغة الكفاية من حيث كون متعلق الأمر الأول مطلقا غاية الأمر بالإطلاق الذاتي لا اللحاظي.

ولو أنكرنا الإطلاق الذاتي وان الطبيعة المهملة في قوة المقيدة لزم الاستغناء عن الأمر الثاني لأن المولى في موارد تعلق غرضه بالمقيد يستطيع تحقيق تمام غرضه بالأمر الأول المهمل بلا حاجة إلى ما يرفع إهماله إلى التقييد ، لأن المهمل بحسب الفرض في معنى المقيد. نعم لو كان غرضه المطلق احتاج إلى رفعه بالأمر الثاني المطلق.

ثانيهما ـ أن هذه الصياغة أعني تعلق الأمر الأول بالطبيعة المهملة إذا كانت المهملة في قوة الجزئية والمقيدة كما هو مبناهم اتجه عليها إشكال الدور ـ الوجه الأول من وجوه الاستحالة الأربعة ـ لأن امتثال هذا الأمر كامتثال الأمر بالمقيد سوف يتوقف على الأمر أو وصوله فيلزم أخذ الأمر أو وصوله في موضوع الجعل الأول وهو محال ، وان شئت قلت : ان نتيجة هذا التسلسل استحالة الإهمال كالتقييد


والإطلاق ، وهذا يعني استحالة الأمر بفعل من الأفعال لا مطلقا ولا مقيدا ولا مهملا من ناحية قصد القربة وهذا معناه ـ بعد فرض ثبوت أصل الأمر بالفعل ـ ارتفاع النقيضين وهو من أوضح المحالات مما يكشف عن خلل في إحدى المقدمات والمباني التي أدت إلى هذه النتيجة.

واما الصياغة الثالثة لتعدد الأمر بان يكون هناك جعل واحد ينحل إلى مجعولين أحدهما على ذات الاجزاء والشرائط والآخر على الإتيان بها مع قصد الأمر ويكون الأمر الثاني فعليته في طول الأمر الأول نظير حجية خبر الواسطة فهذا موقوف على ما تقدم فيما سبق من لزوم تعلق الأمر بعنوان من قبيل وجوب هذه الاجزاء والشرائط بما فيها قصد الأمر كلما أمكن شيء منهما ، وقد ذكرنا ان هذا خلاف واقع الأوامر العبادية الثابتة في الفقه ولا يفيد في إثبات أصالة التوصلية لما إذا تعلق أمر بفعل من الأفعال ، على أنه لا يسلم من الوجه الثالث والرابع من وجوه الاستحالة الأربعة ، وكأن المحقق العراقي انما عدل عن صياغة تعدد الجعل إلى وحدة الجعل لكون ذلك هو الأمر العرفي في الواجبات التعبدية.

النقطة الثالثة ـ ان تفسر العبادية بما يظهر من عبارة صاحب الكفاية ( قده ) من ان الأمر التوصلي والتعبدي كلاهما متعلقان بذات الفعل فمن حيث الأمر ومتعلق الوجوب لا فرق بينهما ، وانما الفرق بينهما في ان الأمر التوصلي يسقط بمجرد الإتيان بمتعلقه وهو ذات الفعل لتحقق الغرض منه بينما الأمر التعبدي لا يسقط الا بالإتيان بمتعلقه مع قصد القربة لأن الغرض منه لا يحصل الا بذلك ، وسقوط الأمر يتبع حصول الغرض لا مجرد الإتيان بمتعلقه (١).

وفيه : ان عدم سقوط الأمر بعد تحقيق متعلقه خارجا مستحيل فانه من طلب الحاصل فإذا تعلق الأمر بذات الطبيعة وقد حقق المكلف فردا منها كان بقاء شخص ذلك الطلب المتعلق بالجامع بين الفرد الواقع وغيره مستحيلا. لأن متعلقه حاصل فلا محالة لا بد من سقوطه ـ على الخلاف في معنى سقوط الأمر بالامتثال ـ واما بقاء طلب

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٠٧.


فرد آخر من الطبيعة غير ما وقع فهو وان كان معقولا الا انه أمر آخر لا محالة ، لأن كل أمر يتقوم بشخص متعلقه فإذا تغير تغير الأمر لا محالة.

النقطة الرابعة ـ الوجه المختار في تفسير الواجب التعبدي وحاصله :

ان الغرض من الواجب التعبدي حيث انه يتوقف على الإتيان بالواجب بقصد الامتثال والقربة وحيث ان قصد القربة لا يمكن أخذه تحت الأمر وحيث ان الغرض هو سبب الأمر وعلة جعله فلا محالة يكون الأمر التعبدي كالتوصلي متعلقا بذات الفعل الا أنه كلما جاء المكلف بالفعل من دون قصد الأمر سقط شخص ذلك الأمر ـ لاستحالة بقائه بعد حصول متعلقه ـ وتولد امر جديد متعلق بفرد آخر من ذات الفعل لأن الغرض الّذي دعى المولى إلى جعل الأمر الأول لا يزال باقيا. وهذا بخلاف الأمر التوصلي فالفرق بين التعبدي والتوصلي بالدقة ليس بالتقييد والإطلاق من ناحية قصد القربة بل بالتجدد وتولد امر آخر كلما لم يأت المكلف بقصد القربة الدخيل في تحقيق غرض المولى.

وهذا التفسير يشترك مع التفسير السابق في ان الأمر التعبدي والتوصلي لا يختلفان في المتعلق بل في ما يحقق الغرض من كل منهما ولكن يختلف عنه في ان ذلك التفسير كان يفترض فيه بقاء شخص الأمر المتعلق بذات الفعل بينما في هذا التفسير يفترض سقوطه بشخصه وبقاؤه بنوعه ضمن شخص آخر من الأمر متعلق بغير الفرد المأتي به. ويشترك مع التفسير الثاني في المصير إلى تعدد الأمر وتجدده كلما لم يأت المكلف بالفعل مع قصد الأمر وان كان يختلف عنه في ان الأمر الثاني يتجدد بعد سقوط الأول ويتعلق كالأول بذات الفعل لا بقصد الأمر.

فان قلت ـ لا يعقل الأمر بذات الفعل لأن المفروض عدم وفائه بتحقيق الغرض فليس ذات الفعل هو المحبوب ، والأمر لا بد وان يتعلق بما هو المحبوب.

قلنا ـ تعلق الأمر بما هو المحبوب لأجل ان يكون محركا نحوه وهذا غاية ما يقتضيه أنه لا بد ان يكون الأمر متعلقا بما هو المحبوب في فرض محركيته نحو ما تعلق به وهذا حاصل في المقام لأنه في فرض محركية هذا الأمر للمكلف نحو ما تعلق به يكون الجزء الآخر للغرض وللمحبوب متحققا أيضا ، إذ ليس المراد بقصد القربة الا محركية الأمر.


هذا على انه يكفي عقلا وعقلائيا في تعلق الأمر بشيء ان يكون المتعلق هو غاية ما يمكن سد باب عدم الغرض من ناحيته ولو كانت هناك أبواب أخرى للعدم أيضا لا بد ان تسد وانما لم يؤمر بسدها لعدم إمكان الأمر بها ، ولهذا صح الأمر بما يحتمل كونه مصادفا للمحبوب كما إذا امر عبده ان يأتي له بأحد الكتب في الرف برجاء ان يصيب الكتاب الّذي يريده منها لعدم إمكان تكليفه بإتيان الكتاب المطلوب لكونه أميا مثلا لا يمكنه ان يقرأ.

وهكذا يتضح ان حقيقة الأمر التعبدي هو الأمر المتعلق بذات الفعل والمتجدد كلما لم يأت المكلف بقصد القربة. وهذا في الأوامر المجعولة بنحو القضية الخارجية يكون عن طريق تجديد الأمر الموجه إلى الشخص ، واما في الأوامر الكلية المجعولة بنحو القضايا الحقيقية فيكون عن طريق نصب قرينة عامة على ان هذا الأمر له توجهات عديدة تتجدد متى ما أتى المكلف بالفعل لا بقصد القربة (١) وهذا يعطي نفس نتيجة ما لو كان الأمر متعلقا بالفعل المقيد ولهذا يصح عرفا ان تبين هذه القرينة العامة بلسان تقييد متعلق الأمر فيقال صل بقصد القربة فهو تقييد في مقام الإثبات كاشف عن تجدد الأمر بحسب مقام الثبوت وهذا يعني ان الأمر التعبدي بلحاظ عالم الثبوت والحقيقة عبارة عن الأمر المتجدد وبلحاظ عالم الإثبات عبارة عن الأمر المتقيد بقصد القربة هذا ويمكن ان يقال : ان التقييد الثبوتي بقصد القربة ليس محالا مطلقا ومن كل آمر بل محال جعله من قبل من يلتفت ويعلم بالبراهين المتقدمة للاستحالة ( باستثناء البرهان الثاني وهو التهافت في اللحاظ حيث انه استحالة مطلقة حتى في حق الجاهل نظير استحالة اجتماع النقيضين الا ان أصل هذا البرهان كان قابلا للدفع بافتراض أخذ طبيعي قصد الأمر في متعلق الأمر ) فالمولى العرفي الّذي لم يدرس الأصول ليتوجه إلى برهان لزوم التكليف بغير المقدور أو عدم محركية الأمر بقصد

__________________

(١) لا مجال لتوهم تجدد الأمر بمعنى الجعل والإنشاء وأما تجدد الأمر بمعنى المجعول فهو يتوقف على ان تكون القضية الحقيقية في الجعل بنحو بحيث يمكن ان ينحل إلى مجعولات متكررة ومتجددة كلما لم يأت المكلف بقصد الأمر بأن يوجب تكرار العمل ما لم يأت بقصد الأمر الا أن هذا لازمه عدم العصيان إذا كرر العمل في تمام الوقت وهو خلف. والحاصل هذه القرينة العامة لا تتعدى ان تكون بيانا لتوقف الغرض على قصد الأمر وعدم سقوطه بمجرد الفعل وهذا غير الأمر الفعلي المتجدد.


القربة نحو متعلقه سوف يجعل امره التعبدي جدا وواقعا بنحو التقيد حاله في ذلك حال التقييد بسائر القيود والخصوصيات. والشارع وان كان دقيقا الا انه في مقام المحاورة والتشريع يتبع نفس الطريقة العرفية التي يتعامل فيها مع قيد قصد القربة كما يتعامل مع سائر القيود في مقام المحاورة.

هذا تمام الكلام في معنى التعبدي والتوصلي وهو البحث الّذي ذكرناه تمهيدا للدخول في صلب الموضوع أعني بيان وتحرير ما هو مقتضى الأصل اللفظي والعملي في الأوامر وانه التوصلية أو التعبدية والكلام في ذلك تارة في الأصل اللفظي وأخرى في الأصل العملي فهنا مقامان :

المقام الأول ـ في مقتضى الأصل اللفظي للأوامر ولا يخفى ان المراد بالأصل اللفظي هنا هو الإطلاق وهو تارة يكون لفظيا وأخرى يكون مقاميا فلا بد من البحث في كل منهما.

اما الإطلاق اللفظي لدليل الأمر فلا إشكال في تماميته لنفي التعبدية وإثبات التوصلية على المبنى القائل بإمكان أخذ قصد القربة قيدا في متعلق الأمر على حد سائر القيود إذ حينئذ يكون حال هذا القيد حال سائر القيود والاجزاء التي تنفي بالإطلاق كما شك في أخذها في الواجب.

واما على تفسيرنا للتعبدي وانه امر بذات الفعل ولكنه يتجدد كلما لم يأت المكلف بقصد الأمر فائضا يمكن التمسك بالإطلاق اللفظي لنفي التعبدية بأحد بيانين :

أولهما ـ ما أشرنا إليه من ان قصد القربة وان لم يكن قيدا ثبوتا بالدقة الا انه قيد إثباتا بحسب النّظر العرفي بل ثبوتا أيضا في التشريعات العرفية فالعرف يتعامل مع أدلة الأمر معاملة التقييد فإذا لم يكن قرينة على التقييد إثباتا كشف من ذلك عدم أخذه ثبوتا.

ثانيهما ـ اننا لو فرضنا تمييز العرف أيضا للفرق بين التجدد والتقييد وان الأمر التعبدي يرجع إلى تجدد الأمر التوصلي لا تقييده ، مع ذلك كانت هذه الخصوصية أعني التجدد خصوصية ومئونة زائدة على أصل الأمر بالطبيعة الّذي هو امر واحد لا أوامر متعددة فيكون مقتضى الإطلاق اللفظي ـ أي مطابقة المرام مع ما بين إثباتا ـ نفي


التجدد ، وهذا نظير ما يقال من ان مقتضى الإطلاق في الأمر طلب صرف الوجود ، لا مطلق الوجود الّذي يرجع إلى أوامر متعددة بعدد افراد الطبيعة (١).

واما على مسلك التفصيل بين خصوص قصد الأمر وجامع قصد القربة ، وان تقييد الأمر بالأول محال وبالثاني ممكن ، فلا إشكال في ان مقتضى الإطلاق اللفظي حينئذ نفي التعبدية بمعنى أخذ جامع قصد القربة ، واما نفي قيدية قصد الأمر بالخصوص ففي حالة عدم تقييد الخطاب إثباتا بجامع قصد القربة أيضا يثبت بالإطلاق لأن الإطلاق ينفي أخذ الجامع الأعم فينتفي أخذ الأخص لا محالة واما في حالة تقيد الخطاب إثباتا بجامع القربة والشك في لزوم خصوص قصد الأمر فلا يمكن نفيه بالإطلاق اللفظي على ما سيأتي إن شاء الله.

واما على مسلك صاحب الكفاية والمشهور من المحققين من ان الفرق بين التوصلي والتعبدي انما هو بلحاظ الغرض فحسب فالتمسك بالإطلاق اللفظي في دليل الأمر لنفي التعبدية وقع محل الإشكال لدى المحققين بما يمكن إرجاعه إلى ثلاثة اعتراضات أساسية :

الاعتراض الأول ـ انه لا يمكن التمسك بالإطلاق إثباتا للكشف عن الإطلاق ثبوتا لأنه كلما استحال التقييد استحال الإطلاق.

وتمحيص هذا الاعتراض يتوقف على تنقيح هذه القاعدة فنقول : ان استحالة الإطلاق عند استحالة التقييد تارة يراد بها استحالة شمول الخطاب للمقيد الّذي يستحيل تقييد الحكم به وأخرى يراد بها استحالة نفي التقييد وبالتالي شمول الخطاب لصورة فقدان القيد كما هو ظاهر هذا العنوان وهو مقصود صاحب هذه المقالة الميرزا النائيني ( قده ).

فإذا أريد المعنى الأول ـ كما قد يظهر من بعض تعبيرات السيد الأستاذ في موارد

__________________

(١) هذا التنظير لا يخلو من إشكال لأن كون الأمر بلحاظ متعلقه بنحو صرف الوجود ليس مستفادا من الإطلاق ومقدمات الحكمة بل بنكتة عقلية على ما هو مقرر في محله. والأولى ان يقال : ان الأوامر المتجددة لو كانت متعلقة جميعا بذات الطبيعة الجامع بين ما وقع وما لم يقع كان محالا على ما تقدم من لزوم طلب الحاصل بل ولاستحالة تعلق أوامر متعددة بشيء واحد وان كان كل واحد منهما متعلقا بغير ما أوقع لزم التقييد في الطبيعة لا محالة وهذه نفس مئونة التقييد التي تنفي بالإطلاق ومقدمات الحكمة.


متفرقة ـ فلا بد ان يلحظ ملاك استحالة تقييد حكم بقيد من القيود فان كان قائما في نفس ثبوت الحكم على المقيد أي عدم صلاحية ذات المقيد لثبوت الحكم فيه نظير استحالة تقييد الحكم بالعاجزين فهذا يوجب استحالة الإطلاق بمعنى شمول الحكم له بالإطلاق أيضا ، وان كان ملاك الاستحالة قائما في عملية التقييد نفسه اما باعتبار ان نتيجة التقييد لزوم المحال أو الاستهجان كما في تقييد الخطابات بالكفار فحسب أو كما في المحذور المبرز في الوجه الأول من وجوه استحالة أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر أو باعتبار استحالة نفس عملية التقييد كما في الوجه الثاني من وجوه استحالة أخذ قصد الأمر في متعلقه أعني محذور التهافت فمن الواضح ان استحالته لا يلزم منها استحالة الإطلاق بمعنى شمول الحكم للمقيد بالإطلاق ، لأن المحذور كان في نتيجة التقييد وحبسه على المقيد وهو غير موجود في الإطلاق أو في نفس عملية التقييد وهو أيضا يرتفع بالإطلاق. نعم لو قلنا بان الإطلاق عبارة عن الجمع بين القيود وكان ملاك الاستحالة في نفس لحاظ القيد جعلا ، كما في الوجه الثاني من الوجوه الأربعة كانت استحالة التقييد موجبة لاستحالة الإطلاق أيضا ، لكنك عرفت ان الإطلاق ليس عبارة عن الجمع بين القيود. وبهذا يتضح أيضا ان تطبيق هذه الكبرى بهذا التفسير في المقام لا فائدة فيه لأنه يثبت استحالة الإطلاق بمعنى شمول الحكم للحصة التعبدية وهذا ليس هو المقصود ، بل المقصود نفي التعبدية وشموله للحصة المأتي بها بلا قصد الأمر. نعم كان بالإمكان الاستفادة من هذه الكبرى لإثبات المدعى عن غير طريق استحالة تقييد الأمر بقصد القربة وذلك بان يقال : ان تقييد الأمر بعدم صدور الفعل بداع قربي مستحيل إذ يلزم منه لغوية الأمر اذن فلا يمكن إثبات التوصلية وشمول الحكم للحصة المأتي بها بغير داع قربي وبهذا يتوصل إلى النتيجة من دون حاجة إلى تجشم إثبات استحالة أخذ قصد القربة في متعلق الأمر ، الا انك عرفت ان ملاك هذه الاستحالة أيضا من النوع الثاني ، الّذي لا يكون موجبا لاستحالة الإطلاق كما هو واضح.

واما المعنى الثاني والّذي هو مقصود صاحب هذه المقالة وهو المفيد في المقام حيث انه يراد من استحالة التقييد بقصد القربة إثبات استحالة الإطلاق أي التوصلية فتارة


يستدل عليه بان التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة لأن الإطلاق عبارة عن عدم التقييد في موضع قابل للتقييد فإذا استحال التقييد في مورد لم يكن موردا للإطلاق أيضا. وأخرى بان التقييد والإطلاق كلاهما فرع مقسمية الطبيعة لواجد القيد وفاقده ، فان لم تكن الطبيعة مقسما استحال أخذ القيد واستحال رفضه ، والطبيعة لا تقبل الانقسام إلى ما يؤتى بها بقصد الأمر وما يؤتى بها لا بقصد الأمر الا في طول الأمر ، ففي المرتبة السابقة على الأمر التي هي مرتبة تعلق الأمر بالطبيعة لا تكون مقسما لهما ، وهذا كلام عام في جميع التقسيمات الثانوية المتأخرة عن الأمر.

وثالثة بتقريب مبني على ان يكون الإطلاق عبارة عن الجمع بين القيود في عالم التصور واللحاظ لأنه عبارة عن إسراء الحكم إلى تمام الحالات بما هي منظورة في عالم اللحاظ ، فإذا فرض ان المحذور في أخذ قصد القربة في متعلق الأمر هو محذور التهافت في اللحاظ لزم استحالة الإطلاق بنفس ملاك استحالة التقييد.

وهذه التقريبات كلها باطلة.

اما الأخير فلان الإطلاق ليس جمعا بين القيود بل رفضها ، ويقتصر على النّظر لذات الطبيعة بخلاف العموم (١).

واما التقريب الثاني فلان ما يكون في طول الأمر إمكان وقوع القسمين لا المقسمية المفهومية فالطبيعة في المرتبة السابقة على الأمر وبقطع النّظر عن الأمر لا يمكن وجود حصتين منها خارجا واما انقسام الطبيعة مفهوما بمعنى مصداقية كل من الحصتين للطبيعة لا بمعنى وجودهما خارجا فهذا ثابت قبل الأمر لأن هذه المصداقية ذاتية وليست في طول الأمر ومناط المقسمية هو مصداقية الحصتين للطبيعة مفهوما لا إمكان الوجود خارجا.

واما التقريب الأول فيمكن ان يورد عليه حلا ونقضا :

اما الحل ـ فلأننا ننكر ان يكون التقابل بين الإطلاق والتقييد من العدم والملكة

__________________

(١) لا يقال ـ ان المحذور في أخذ قصد الأمر ليس هو محذور التهافت في اللحاظ أيضا لإمكان دفعه بافتراق أخذ الجامع بين القصود القربية لأنه يقال ـ بناء على ان الإطلاق جمع بين القيود. يرجع أخذ الجامع بين القصود القربية إلى لحاظ قصد الأمر أيضا فيرجع المحذور.


لأن المسألة ليست لغوية كما في شرح مدلول كلمة الأعمي لغة ليرجع إلى اللغة أو العرف ، وانما المسألة واقعية ترتبط بنكتة سريان الطبيعة إلى تمام الافراد ، وقد أشرنا إلى ان هناك مسلكين في ذلك مسلك الإطلاق الذاتي ومسلك الإطلاق اللحاظي ، فعلى الأول يكون مقتضى السريان ذاتيا لا يمكن سلخه عن الطبيعة فيكفي في حصول الإطلاق عدم المانع أي عدم لحاظ القيد الّذي هو نقيض لحاظ القيد فيكون التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب ، وعلى الثاني يكون التقابل بينهما تقابل التضاد لأن كلا من السريان والإطلاق أو التقييد بحاجة إلى لحاظ زائد على الطبيعة فيكونان معا امرين وجوديين ويكون التقابل بينهما تقابل الضدين ولا نتصور فرضا ثالثا لنكتة السريان وإطلاق الطبيعة ليكون التقابل بينه وبين التقييد من تقابل العدم والملكة.

وأما النقض ـ فان هذا المبنى تلزم منه نتيجة غريبة ؛ لأنه كما يكون تقييد الواجب بقصد القربة مستحيلا بحسب الفرض يكون تقييده بالحصة غير القربية أيضا مستحيلا ، إذ يلزم لغوية الأمر كما أشرنا آنفا. فإذا كانت استحالة التقييد مستوجبة لاستحالة الإطلاق لزم بقاء الأمر بشيء مهملا من حيث القربية وعدم القربية ولا ينطبق لا على الحصة القربية ولا غير القربية ، ولا يمكن رفع إهماله إلى الإطلاق بأمر ثان إذا كان مقصود المولى ذلك لأن التقييد بغير داعي الأمر بمتمم الجعل أيضا مستحيل ، إذ يوجب لغوية الأمر فيصبح الإطلاق بمتمم الجعل مستحيلا أيضا لأن الإطلاق يستحيل كلما استحال التقييد بحسب الفرض ولا فرق في ذلك بين الأمر الأول أو متمم الجعل فسوف يبقى مثل هذا الجعل مهملا حتى يرث الله الأرض ومن عليها (١).

__________________

(١) يمكن لصاحب هذه المقالة ان يدفع هذا النقض بوجهين : الأول ان المراد انه كلما استحال التقييد استحال الإطلاق واستحالة تخصيص الأمر بالحصة غير القربية ليست من باب استحالة التقييد بل من باب استحالة أو لغوية جعل الأمر على المقيد وهذه خصوصية في الأمر لا في التقييد فالحاصل : المدعى ان التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة فكلما استحال التقييد من حيث هو تقييد من قبيل لزوم الدور أو التهافت من نفس عمل التقييد استحال الإطلاق وفي المقام ليست لغوية الأمر بالحصة غير القربية من جهة استحالة التقييد لكي يلزم استحالة الإطلاق. والثاني ـ أن متمم الجعل يمكن ان يكون مطلقا للحصة غير القربية لأن تقييده بالحصة القربية ممكن بحسب الفرض فيرتفع به إهمال الأمر الأول بلحاظ الحصة غير القربية واما إهماله بلحاظ الحصة القربية فيرتفع من باب كونه القدر المتيقن أو المدلول الالتزامي لنفس تعلق الأمر بالفعل بلا حاجة في ذلك إلى الإطلاق.


الاعتراض الثاني ـ وهو مبني على ما قرر في الاعتراض السابق وحاصله : انه إذا استحال التقييد والمفروض ان الإهمال ثبوتا غير معقولا أيضا فلا محالة يثبت ضرورة الإطلاق الا ان هذا الإطلاق الضروري لا ينفع لنفي التعبدية وإثبات توصلية الواجب لأنه بحسب الفرض الفرق بين التعبدي والتوصلي ليس في الواجب بل في الغرض وإطلاق الواجب لا يمكن ان يكشف عن الإطلاق في الغرض إذا كان الإطلاق ضروريا لأنه لا يمكنه التقييد حتى إذا كان الغرض مقيدا.

وهذا الاعتراض يتجه بناء على ما هو الصحيح من ثبوت الإطلاق الذاتي في الطبيعة المهملة أو يقال باستحالة الإهمال الثبوتي واما إذا قلنا بإمكان إهمال الطبيعة إهمالا لحاظيا وانها في قوة الجزئية لا المطلقة فبعد استحالة التقييد يبقى عندنا فرضان الإهمال والإطلاق وحينئذ إذا كان برهان استحالة التقييد مسألة لزوم أخذ الأمر أو وصوله في موضوع الأمر المستلزم للدور ـ الوجه الأول ـ فهذا البرهان كما يثبت استحالة التقييد يثبت استحالة الإهمال أيضا لأن المهملة حيث انها في قوة المقيدة فلا بد من تقيد الأمر بها بالأمر أو بوصوله. فيكون على هذا المسلك الإطلاق ضروريا ويتم هذا الاعتراض واما إذا كان برهان استحالة التقييد مخصوصا بفرض التقييد كما في سائر الوجوه المتقدمة للاستحالة فلا يكون الإطلاق ضروريا إذ لا يتعين في قبال الإهمال الّذي هو في قوة الجزئية فإذا كان غرض المولى في المقيد أمكنه جعل الأمر على الطبيعة المهملة التي هي في قوة الجزئية فمع إطلاق الجعل نستكشف إطلاق الغرض وهو معنى التوصلية.

الاعتراض الثالث ـ وتصل النوبة إليه بعد التنزل عن الاعتراضين السابقين وان الإطلاق ثبوتا لا هو مستحيل ولا هو ضروري فيقال : ان هذا الإطلاق الثبوتي لا يمكن إحرازه بمقدمات الحكمة إثباتا إذا كان التقييد مستحيلا لأن مرجع مقدمات الحكمة إلى دلالة عرفية على الإطلاق الثبوتي من عدم إبراز التقييد إثباتا ، فإذا لم يمكن إبراز التقييد لا يكون عدم ذكر القيد إثباتا كاشفا عن الإطلاق ثبوتا. وهذا معناه : ان الإطلاق الحكمي الإثباتي أخذ فيه قابلية التقييد فما قاله المحقق النائيني ( قده ) من انه إذا استحال التقييد استحال الإطلاق تام إذا كان النّظر إلى مرحلة الإثبات والدلالة


العرفية لأن الكاشف عن الإطلاق الثبوتي انما هو عدم التقييد حينما يمكنه التقييد والا فلعله لم يقيد من باب انه لم يتمكن منه نظير ما إذا احتمل أن هناك من بمنع المولى ويمسك على فمه إذا أراد ان يذكر القيد.

وهذا الاعتراض انما يتم فيما إذا فرض ان الدال على الإطلاق إثباتا مجرد عدم بيان التقييد ، واما إذا قلنا ان الدال عليه عدم بيان ما يخالف الإطلاق ولو كان هو الإهمال الّذي هو في قوة التقييد بناء على مبنى هذا الاعتراض فالكاشف عن الإطلاق موجود لأنه وان لم يكن يمكنه التقييد إلا انه كان يمكنه نصب قرينة على الإهمال الّذي هو في قوة التقييد.

وهكذا اتضح انه على مسلك صاحب الكفاية لا يتم الإطلاق اللفظي في الواجب لتمامية الاعتراض الثاني.

واما على مسلك تعدد الأمر في الواجب التعبدي فبناء على مسلك تعدد الجعل الّذي اختاره المحقق النائيني ( قده ) لا يتم الإطلاق اللفظي المثبت للتوصلية لأن إطلاق الجعل الأول لا يعنى عدم التقييد بقصد القربة بالجعل الثاني. نعم إذا أبرزنا نكتة عرفية أشرنا إليها على مسلكنا وهي دعوى ان لسان التقييد بيان عرفا للتعبدية ومتمم الجعل أمكن التمسك بالإطلاق اللفظي في طول قبول هذه النكتة العرفية. واما بناء على تصوير تعدد الأمر بالنحو الّذي ذكره المحقق العراقي ( قده ) من فرض وحدة الجعل وتعدد المجعول فهذا انما يعقل لو تصورنا الجامع بين الواجبين والموضوعين وحينئذ ان كان العنوان المأخوذ في لسان الدليل هو الجامع بين الفعل وقصد القربة اذن تثبت التعبدية لا التوصلية وان كان العنوان المأخوذ في الدليل هو الفعل فقط أي ذات الصلاة مثلا فهنا تثبت التوصلية لا بالإطلاق بل بأصالة التطابق بين العنوان المأخوذ في عالم الإثبات والعنوان المأخوذ في عالم الثبوت ، الا ان هذا المقدار انما يكفي لنفي التعبدية لو كان شكل العبادية منحصرا فيما ذكره المحقق العراقي من فرض وحدة الجعل وتعدد المجعول لكنه ليس منحصرا في ذلك ولا هو يدعي الانحصار فيه وانما يدعي إمكان هذه الصورة.

هذا تمام الكلام في الإطلاق اللفظي المثبت للتوصلية وقد اتضح تماميته.


وأما الإطلاق المقامي ـ فهناك تقريبان لإثبات التوصلية بالإطلاق المقامي.

التقريب الأول ـ ان نحصل برهانا على عدم دخل قصد القربة في الغرض وهو انه لو كان دخيلا في غرض المولى كان عليه بيانه ولو بجملة خبرية ، والا لزم نقض الغرض.

وقد ذكر المحقق العراقي ( قده ) ان لزوم نقض الغرض هذا يتوقف على تمامية أحد امرين اما ان يقال : أن الأصل العملي عند الشك في دخل قصد القربة في الغرض هو البراءة لا الاحتياط ، أو يقال أن قصد القربة من القيود التي يغفل عنها العرف ولا يلتفت إلى أصله أو إلى احتمال وجوبه ، والا فلو كان العرف يلتفت إلى احتمال دخل قصد القربة ويكون هذا الاحتمال مجرى لأصالة الاشتغال فلا يلزم من عدم بيان دخل قصد القربة في الغرض نقض الغرض كما لا يخفى (١).

والتحقيق : ان الإطلاق المقامي هذا لا يتم حتى إذا تممنا الأمرين المذكورين وذلك لأمرين :

الأول ـ ان برهان نقض الغرض هذا لا يثبت الإطلاق المقامي في شخص خطاب معين لم يذكر معه دخالة قصد القربة في الغرض لأن مجرد عدم ذكر ذلك في شخص الخطاب مع احتمال ذكره في خطابات وبيانات أخرى لا يلزم منه نقض الغرض ، وانما يمكن ان يحرز عدم دخالة قصد القربة في الغرض إذا ما أحرز عدم بيان المولى لهذه الدخالة إطلاقا ، ومثل هذا لا يمكن إحرازه من مجرد سكوت المولى في شخص خطاب الأمر كما هو واضح.

الثاني ـ وهذا الاعتراض يختص بما إذا أريد كشف الإطلاق بنكتة ان قيد القربة مما يغفل عنه عادة ـ ان هذا التقريب على فرض تماميته يبرهن على ان قصد القربة ليس شرطا واقعيا أي ليس دخيلا في الغرض على الإطلاق ، واما احتمال كونه شرطا ذكريا ، الّذي يكون شرطا عند التذكر والالتفات إلى قصد القربة أو احتمال دخله في الغرض ، فلا يمكن نفيه بالإطلاق المقامي ؛ لأن من لا يلتفت إليه لا غرض في قصده

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ٧٨.


للقربة ومن يلتفت إليه من دون بيان المولى لا حاجة إلى البيان بالنسبة إليه لأصالة الاشتغال فلا يلزم نقض الغرض.

التقريب الثاني ـ ان ظاهر حال المولى عند ما يأمر بشيء انه بصدد بيان تمام ما يأمر به باعتباره طريقا إلى بيان تمام غرضه فلو كان الأمر قاصرا عن بيان تمام غرضه لعدم إمكان أداء تمامه به ولكن كان بالإمكان تكميل ذلك ولو بجملة خبرية ، فظاهر حاله انه لو كان غرضه كذلك لبينه ولو بجملة خبرية فان لم يصنع ذلك انعقد في كلامه إطلاق مقامي لنفي دخل قصد القربة في الغرض بلحاظ هذا الظهور الحالي الّذي أشرنا إليه.

وهذا التقريب صحيح.

المقام الثاني ـ في مقتضى الأصل العملي. الّذي يتبادر إلى الذهن بدوا ان المقام من صغريات الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين. فيرجع كل إلى مبناه في تلك المسألة من البراءة أو الاحتياط.

والتحقيق : انه ان قلنا بإمكان تقييد الواجب بقصد الأمر فحال المقام حال سائر موارد الشك في اعتبار قيد في واجب ارتباطي ، وان قلنا بما اخترناه من ان الأمر التعبدي امر متجدد بذات الفعل ما لم يأت المكلف به مع قصد القربة فجريان البراءة في المقام أولى من سائر موارد الدوران بين الأقل والأكثر لأنه شك في تكليف زائد.

وتوضيح ذلك : هناك تقريبات أربعة للقول بالاحتياط في مورد الدوران ، لو تم شيء منها هناك لا يتم منها هنا الا تقريب واحد. وهذه التقريبات كما يلي :

التقريب الأول ـ وجود علم إجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر وهذا غير جار هنا بناء على التجدد ، إذ لا يكون الا من الشك في تكليف جديد.

التقريب الثاني ـ لو فرض انحلال هذا العلم الإجمالي مع ذلك يجب الاحتياط باعتبار ان الإتيان بالأقل لا تحرز مصداقيته للواجب المعلوم اشتغال الذّمّة به ، فيجب الفراغ اليقيني وهذا التقريب أيضا لا يجري في المقام للقطع بمصداقية ذات الفعل للأمر الأول.

الثالث ـ انه لا يحرز سقوط التكليف المعلوم ثبوته وفعليته وهذا أيضا لا يجري في


المقام للقطع بسقوط الأمر الأول والشك في تجدد امر آخر.

الرابع ـ انه لا بد من الجزم بتحصيل غرض المولى ، وهو لا يحصل الا بالأكثر. وهذا الوجه ـ لو تم ـ يجري في المقام أيضا ، ولكنه سوف يأتي عدم تماميته.

واما ان بنينا على مسلك متمم الجعل ووجود امرين أحدهما بذات الفعل مهملا والآخر بقصد الأمر فان كان الأمر الأول في قوة الجزئية فحال المقام حال سائر موارد الدوران بين الأقل والأكثر لأنه كفرض إمكان تقييد الأمر الأول بقصد القربة الا انه نتيجة التقييد وبأمر ثان يتمم الأمر الأول الّذي يكون في قوة الأمر بالمقيد بحسب الفرض ، وان كان الأمر الأول بالطبيعة المهملة في قوة المطلقة فتجري البراءة على تقدير البراءة في سائر الموارد. كما تجري البراءة هنا على تقدير جريان الاحتياط في سائر الموارد بأحد التقريبين الأول والثاني لعدم العلم الإجمالي وإحراز مصداقية الفعل للأمر الأول على كل حال. نعم بناء على تمامية أحد التقريبين الثالث والرابع يجري الاحتياط هنا أيضا لأن الشك في سقوط شخص ذلك الأمر كما لا يحرز تحصيل الغرض الا بالإتيان بقصد القربة.

واما بناء على مسلك صاحب الكفاية ( قده ) في التعبدية فظاهر كلامه ( قده ) جريان أصالة الاحتياط هنا حتى لو قلنا بالبراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين (١).

والكلام هنا تارة : في جريان شيء من التقريبات الأربعة في موارد الدوران بين الأقل والأكثر هنا ، وأخرى في انه هل يوجد وجه للقول بأصالة الاحتياط في المقام حتى على تقدير القول بالبراءة في الأقل والأكثر؟.

اما الكلام الأول فالصحيح هو التفصيل بين التقريبين الأولين للاحتياط فلا يجريان في المقام لعدم وجود علم إجمالي هنا ، وبين التقريبين الأخيرين فيجريان هنا أيضا لعدم إحراز السقوط بدون الإتيان بقصد القربة وعدم إحراز تحصيل الغرض.

واما الكلام الثاني فيمكن ذكر عدة تقريبات للاشتغال يدعى تماميتها في المقام

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١١٣.


رغم عدم تماميتها في موارد الأقل والأكثر.

الأول ـ عدم الجزم بالسقوط من دون الإتيان بقصد القربة مع أن الشغل يقيني يستدعي الفراغ اليقيني. وهذا الوجه لا يتم في الأقل والأكثر إذ بإجراء البراءة عن التكليف الضمني المشكوك نؤمن من ناحية احتمال عدم سقوط الأمر لكونه مسببا عن الشك في وجود ذلك الأمر الضمني وهذا بخلاف المقام إذ يعلم بأن الأمر لم يتعلق بقصد القربة وانما الشك في السقوط مسبب عن الشك في دخالته في الغرض.

والتحقيق : عدم صحة هذا الوجه لأن مناط التأمين عن الشك في السقوط أوسع وأعم مما ذكر فان كل شك في السقوط ناشئ من احتمال امر يرجع إلى المولى وعليه بيانه سواء بصيغة الأمر أو بصيغة الاخبار عن المدخلية في الغرض يكون مجرى للبراءة وكل شك في السقوط يكون من ناحية امر يرجع إلى العبد ومن وظيفته إحرازه كاحتمال عدم الإتيان بالواجب كان مجرى للاشتغال.

الثاني ـ لزوم الاحتياط في المقام من جهة اشتغال الذّمّة بالغرض المولوي المعلوم على كل حال فلا بد من الجزم بتحصيله ، بخلاف موارد الأقل والأكثر لأن الغرض المولوي إذا كان يمكن للمولى ان يتصدى إلى حفظه بالأمر به فلا تشتغل به الذّمّة الا بمقدار تصدي المولى وتسبيبه إلى تحصيله عن طريق الأمر به ، فإذا شك ودار الأمر بين الأقل والأكثر كان المقدار المتيقن اشتغال الذّمّة به هو الأقل لأنه مقدار التصدي المولوي المعلوم دون الأكثر فتجري البراءة عن الزائد بالرغم من الشك في حصول الغرض. ولكن لا تجري البراءة إذا كان عدم تسبيب المولى التشريعي للوصول إلى غرضه على تقدير دخل القيد في الغرض ناشئا من عجز المولى عن ذلك كما لو كان مكمما ، وما نحن فيه من هذا القبيل.

والجواب ـ انه هنا أيضا لو جعل إمكان تسبب المولى إلى تحصيل غرضه مبررا لجريان البراءة لا ينبغي تخصيص ذلك بالتسبب بصيغة الأمر ، بل يكفي إمكانية تسبب المولى إلى تحصيل غرضه ولو بصيغة الاخبار عن الدخل في الغرض.

الثالث ـ وهو يختص بالبراءة الشرعية. فإذا أنكرنا البراءة العقلية اما مطلقا ـ كما


هو الصحيح ـ أو في خصوص الأقل والأكثر أو في خصوص المقام بأحد التقريبين الأخيرين للاحتياط بدعوى انهما يمنعان عن البراءة العقلية فقط دون الشرعية وبقيت البراءة الشرعية غير مبرهنة على بطلانها أمكن ان يبرهن على بطلانها في المقام مع فرض جريانها في سائر موارد الأقل والأكثر بدعوى : ان أدلة البراءة الشرعية ناظرة إلى التكاليف والتحميلات الشرعية ، ومن الواضح انه في المقام لا يحتمل دخل قصد القربة في التكليف الشرعي ليطبق عليه دليل البراءة الشرعية وانما يحتمل دخله في الغرض فحسب وهو امر تكويني وليس تكليفا شرعيا ليمكن تطبيق البراءة الشرعية وحديث الرفع عليه ، لأنه يرفع ما يكون قابلا للجعل والوضع وهو الحكم لا الغرض.

والجواب : أولا ـ ان دليل البراءة والرفع لا يختص بالاحكام الإنشائية والتكاليف المجعولة بل يشمل كل جهة راجعة إلى المولى ويكون فيه تحميل مسئولية على المكلف ، ولو كان هو الغرض لأن الرفع فيه ليس رفعا للواقع ، بل رفع للتبعية والمسئولية ، وهو مجرد تعبير ولسان لا أكثر.

وثانيا ـ ان عناوين الإلزام والتكليف والتحميل ، التي بلحاظها تطبق أدلة الرفع والبراءة تنتزع لا محالة من الجملة الخبرية أيضا كما تنتزع من الأمر والجملة الإنشائية فلو أخبر بدخل قصد القربة في الغرض انتزع من ذلك الإلزام والكلفة عرفا.

وهكذا يتلخص ان الصحيح بناء على جريان البراءة في الأقل والأكثر ـ كما هو الصحيح ـ جريان البراءة فيما نحن فيه أيضا.

ومما تقدم في قصد القربة يظهر الكلام في قصد الوجه والتمييز من القيود الثانوية فلا حاجة إلى تخصيص كلام إضافي لبحثها.



دلالات صيغة الأمر

دلالة الأمر على

النفسيّة والتعيينية والعينية



« مفاد الأمر الوجوب النفسيّ التعييني العيني »

الجهة الخامسة ـ فيما يقتضيه إطلاق الأمر من حيث نفسية الوجوب أو غيريته وتعيينيته أو تخييريته وعينيته أو كفائيته.

وفيما يلي نتعرض لما يقتضيه الأمر في كل واحدة من هذه الجهات في عدة مقامات ،

المقام الأول ـ في ان إطلاق الأمر هل يقتضي النفسيّة أو الغيرية؟.

والمعروف انه يقتضي النفسيّة وهذا ما يمكن تقريبه بوجوه :

الأول ـ التمسك بالإطلاق الأحوالي لصيغة الأمر لحال عدم وجوب واجب آخر أو عدم تحقق شرط وجوبه كالزوال بالنسبة إلى الصلاة فيثبت بالالتزام ان وجوب هذا الواجب نفسي وليس غيريا مشروطا بإيجاب الصلاة.

وهذا التقريب انما يتم إذا لم يكن الواجب المشكوك كونه غيريا أو نفسيا مشروطا بما يكون ملازما دائما مع ثبوت وجوب الواجب الآخر ، كما إذا كان دليل الأمر بالغسل مثلا مشروطا أيضا بالزوال فانه حينئذ لا يمكن إثبات كونه واجبا نفسيا كالصلاة مع ان تشخيص ذلك أيضا مهم ويترتب عليه ثبوت وجوبين نفسيين يعاقب على كل منهما مستقلا.


الثاني ـ التمسك بإطلاق المادة في دليل الواجب الّذي يحتمل ان يكون هذا الواجب مقدمة له كالصلاة لإثبات عدم تقيدها بالوضوء مثلا فيثبت بالالتزام ان وجوب الوضوء نفسي لا غيري.

وهذا التقريب يتوقف على :

١ ـ ان يكون ذلك الواجب النفسيّ الآخر معلوم الوجوب لا ان يكون وجوبه امرا محتملا بنفس دليل الأمر بالوضوء كما إذا جاء : إذا زرت إماما فتوضأ ولم يرد امر بالصلاة عند زيارة الإمام وانما احتمل ذلك من نفس دليل الأمر بالوضوء.

٢ ـ ان يكون الوجوب الغيري المحتمل والمراد نفيه هو الوجوب الغيري بملاك التقييد الشرعي لا بملاك التوقف التكويني.

٣ ـ ان لا يكون دليل الأمر بالواجب المردد بين النفسيّ والغيري متصلا بدليل الواجب النفسيّ والا فسوف يسري إجماله ، وتردده إلى ذلك الدليل أيضا (١).

٤ ـ ان يكون دليل ذلك الواجب النفسيّ لفظيا مطلقا قد تمت مقدمات الحكمة والإطلاق في مادته.

الثالث ـ التمسك بإطلاق المادة في الأمر بشيء كالوضوء مثلا بالنسبة للحصة غير الموصلة منه وإثبات انه مصداق للواجب أيضا فيثبت بالالتزام ـ بناء على ما سوف يأتي تحقيقه من ان الوجوب الغيري مخصوص بالحصة الموصلة فقط ـ أن هذا الواجب نفسي لا غيري.

الرابع ـ التمسك بإطلاق الأمر بنحو يثبت النفسيّة ابتداء وبالمدلول المطابقي لا بالالتزام ، بدعوى انه كلما دار الأمر بين قيدين أحدهما وجودي والآخر عدمي كان مقتضى الإطلاق والسكوت في مقام الإثبات إرادة الخصوصية العدمية ثبوتا لأن هذا هو مقتضى الإطلاق. وفي المقام خصوصية الغيرية وجودية لأنها عبارة عن الوجوب الناشئ من وجوب آخر بخلاف النفسيّة التي خصوصيتها هي الوجوب الّذي لم ينشأ

__________________

(١) هذا إذا كان مجرد اقتران الأمرين صالحا لتقييد المادة والظاهر انه ليس كذلك فلا يلزم الإجمال بل الأمر بالعكس أي ان إطلاق المادة لو تم كان قرينة على استقلالية الأمرين.


من وجوب آخر فتكون متعينة بالإطلاق (١).

وفيه : ١ ـ ان الإطلاق انما يدل على عدم لحاظ القيد لا على رفضه ولحاظ عدم القيد وهو المسمى عندهم بالإطلاق اللحاظي.

٢ ـ الإطلاق اللحاظي أيضا يعنى لحاظ رفض القيود لا لحاظ القيد العدمي كما في المقام ولهذا لو دار الأمر بين أخذ قيد العدالة أو عدم الفسق لم يمكن تعيين الثاني قبال الأول بالإطلاق.

٣ ـ قيد النفسيّة في المقام أيضا وجودي ، وهو خصوصية كون الوجوب ناشئا عن ملاك في نفسه.

الخامس ـ دعوى انه كلما دار الأمر في مقام الثبوت بين خصوصيتين وكانت كل واحدة منهما تناسب خصوصية في مقام الإثبات فأصالة التطابق بين مقامي الثبوت والإثبات تعين الخصوصية المناسبة مع عالم الإثبات. ومن هذا الباب يقال : ان السكوت إثباتا يناسب خصوصية الإطلاق اللحاظي أي لحاظ عدم القيود ثبوتا فيما إذا أنكرنا الإطلاق الذاتي. وهذه الكبرى يدعى تطبيقها في المقام بتقريب : ان الوجوب الغيري تبعي ومن أجل واجب آخر بخلاف الوجوب النفسيّ ، والأمر بشيء إثباتا يناسب ان ذلك الشيء مأمور به أصالة ولنفسه ولا يناسب أن يكون إيجابه لأجل شيء آخر ، فمقتضى أصالة التطابق بين عالمي الثبوت والإثبات إرادة الوجوب النفسيّ ، ولهذا يستفاد عرفا ذلك من الأمر بشيء ابتداء ومطابقة (٢). بلا حاجة إلى ملاحظة حيثية أخرى.

__________________

(١) ويرد عليه أيضا : ان الأمر لا يدل الا على أصل الوجوب واما منا شيء الوجوب فهي خارجة عن مدلوله مادة وهيئة وخارجة عن قيود الماهية المدلول لاسم الجنس فلا وجه لكشف خصوصية المنشأ من الأمر وليس هذا هو معنى الإطلاق.

(٢) هذا راجع بحسب الحقيقة إلى التقريب الثالث وان الواجب غير مقيد بأنه موصل إلى امر آخر ومن دون ملاحظة هذا الفرق لا يبقى فرق بينهما في مقام الإثبات بلحاظ ما يرجع إلى ما هو مدلول الأمر مادة وهيئة واما حيثيات الأمر والغرض منه فهو خارج عن المدلول اللفظي لدليل الأمر. نعم يمكن تطوير هذا الوجه بشكل يكون به فنيا وحاصله : ان الوجوب الغيري اما ان يكون على أساس المقدمية والتوقف التكويني أو على أساس التقييد الشرعي وكل منهما خلاف الظاهر الأولي للأمر بشيء اما الأول فلأن ظاهر امر المولى بشيء ان محركيته تأسيسية لا تأكيدية أي ظاهر في ان المولى يتصدى بامره هذا إلى تحصيله بحيث لولاء لما كان يحصل والأمر الغيري على تقدير إنشاء المولى له لا يكون تأسيسا لأنه لا تكون فيه داعوية ومحركية واما الثاني فلأنه لو أريد من


المقام الثاني ـ في ان إطلاق الأمر يقتضي التعينية أو التخييرية فلو قال أطعم ستين مسكينا وشك في انه واجب بالتعيين أو يمكن للمكلف تركه إلى عتق الرقبة مثلا ما هو مقتضى إطلاق دليل الأمر. ولا إشكال في ان مقتضاه التعيينية الا ان تقريب ذلك يختلف حسب اختلاف المسالك في تصوير حقيقة الواجب التخييري.

فلو قلنا بان الواجب التخييري يعني إيجاب كل منهما مشروطا بترك الآخر فمن الواضح ان مقتضى إطلاق مفاد صيغة الأمر حينئذ عدم الاشتراط فيكون الواجب تعيينيا.

ولو قلنا بان الواجب التخييري يعني إيجاب الجامع بين الفعلين ، أمكن إثبات التعيينية بالتمسك بظهور المادة تارة وبإطلاق الهيئة أخرى ، اما مادة الأمر فلان أخذ أي عنوان في متعلق امر ظاهر في تعلق الأمر به بعنوانه لا بعنوان آخر جامع بينه وبين أمور أخرى. واما الهيئة فلان مقتضى إطلاقها الأحوالي لما إذا تحقق ذلك الأمر الآخر عدم سقوط الوجوب ولازمه التعيينية إذ لو كان الواجب هو الجامع كان الوجوب ساقطا لا محالة.

ولو قلنا بان الواجب التخييري كالتعيني من حيث المتعلق ومن حيث إطلاق الوجوب الا انه يختلف عنه في انه وجوب ضعيف مشوب بجواز الترك إلى البدل لا مطلقا ، فهو مرتبة بين الوجوب التعييني الّذي لا يرخص في تركه مطلقا والاستحباب الّذي يرخص في تركه مطلقا.

فعلى هذا المسلك يمكن إثبات التعيينية في مقابل التخييرية بنفس الوجوه التي تقدمت في إثبات ان مقتضى صيغة الأمر الوجوب لا الاستحباب الّذي يجوز فيه الترك ، فكل تلك الوجوه ترد هنا أيضا باستثناء دعوى الوضع للوجوب.

المقام الثالث ـ في ان إطلاق الأمر هل يقتضي العينية أو الكفائية والصحيح ان مقتضاه العينية بنفس النكات والمسالك المتقدمة في المقام الثاني فلا نعيد.

__________________

الأمر بالقيد الإرشاد إلى القيدية فهذا من الواضح انه خلاف الظاهر ولو أريد انه إنشاء لإيجابه الغيري الكاشف عن القيدية في الرتبة السابقة حيث انه في طول التقييد يكون المقيد متوقفا تكوينا على إيجاد قيده فإرادة مثل هذا الأمر الغيري إضافة إلى ما ذكرناه يرد عليه : انه في طول ملاحظة ذلك التقييد في الرتبة السابقة فنفس سكوت الخطاب عن التقييد قرينة عرفية على عدم إرادته ولهذا تحمل الأوامر بالقيود والشرائط الشرعية على الإرشاد لا الإنشاء.


دلالات صيغة الأمر

الأمر في مورد الحظر



« مفاد الأمر في مورد الحظر »

الجهة السادسة ـ إذا ورد الأمر عقيب الحظر أو في مورد توهمه فقد اتفقوا على انه لا يدل على الوجوب ، ووقع بحث فيما بينهم حول ظهوره حينئذ في الإباحة أو الحكم السابق أو عدم ظهوره في شيء منهما.

وقد ذكر الأستاذ ان انسلاخ الدلالة على الوجوب ثابت على كل حال سواء قلنا انها بحكم العقل أو بالإطلاق ومقدمات الحكمة أو بالوضع ، وذلك لاكتناف الخطاب بما يحتمل قرينيته وهو مورد توهم الحظر وهو كاف في رفع الظهور في الوجوب وضعيا كان أو غيره. وهذا من قبيل ما إذا استعمل لفظة ( أسد ) في الحيوان المفترس ولكنه اتصل بها ما يحتمل قرينيته على إرادة الرّجل الشجاع (١).

وهذا الكلام بهذا المقدار يمكن النقاش فيه بأن هذا معناه مجرد احتمال عدم إرادة الوجوب وهذا وحده لا يكفي لإسقاط ظهور الأمر في نفسه في الوجوب ما لم يبرز نكتة لمنع ما هو مدلول الأمر.

والتحقيق : ان الأمر له مدلول تصوري وهو النسبة الإرسالية الإلقائية ونحو ذلك من التعبيرات ، ومدلول تصديقي وهو وجود إرادة طلبية في نفس المولى. والأمر في مورد

__________________

(١) المحاضرات ، ج ٢ ، ص ٢٠٥.


توهم الحظر مستعمل أيضا في نفس مدلوله التصوري وليس كاستعمال الأسد في الرّجل الشجاع (١) ولهذا لا يشعر بعناية المجاز ، فقوله تعالى ـ فإذا حللتم فاصطادوا ـ أيضا استعمل الأمر فيه في النسبة الإرسالية غاية الأمر المدلول التصديقي كما يناسب الطلب والإرادة في هذا المورد ، كذلك يناسب كسر التحرج ورفع الحظر ، فان المتحرج يناسب عرفا ان يكسر تحرجه بإلقائه على المتحرج منه ، وبهذا يثبت أنه لا يدل الأمر على الوجوب لأن وروده مورد توهم الحظر يوجب الإجمال على الأقل في مرتبة المدلول التصديقي. كما اتضح انه لا مورد للبحث في ظهوره في الإباحة لأن المدلول التصوري لم يتغير ولم يختلف عن سائر الموارد (٢).

وهناك نكتة نوعية أخرى موجبة لإجمال الأوامر الواردة في كثير من الأبواب الفقهية وعدم انعقاد ظهور لها في الوجوب وهي احتمال وجود ارتكاز نوعي متشرعي على عدم الوجوب في ذهن الراوي ، فانه من احتمال وجود القرينة المتصلة الموجب للإجمال عندنا ـ خلافا للمشهور بعد صاحب الكفاية ـ ولا ينفيه شهادة الراوي السكوتية كما في احتمال القرائن اللفظية المتصلة لأن الأمور الارتكازية لا يتحمل الراوي الشهادة بها إثباتا أو نفيا لكونها ارتكازية ومعاشة وغير ملتفت إليها مستقلا.

وبهذا نستطيع ان نفهم وجه عدم استفادة الوجوب من الأوامر الكثيرة الواردة في الفقه في موارد متفرقة من أبواب العبادات. فالامر بصلاة الجمعة أو الليل أو غير ذلك ، مما لم يذهب الفقهاء إلى وجوبه رغم ورود الأمر به يكون من هذا الباب فان عدم حمله على الوجوب ليس بملاك تحصيل إجماع محصل على عدم الوجوب ليقال بان شرائط تحصيل الإجماع ليست باليسيرة بل على أساس هذا التخريج.

__________________

(١) هذا على غير مبنى وضع الصيغة للنسبة الإرسالية الناشئة عن الطلب الوجوبيّ والإرادة الشديدة والا لزم المجاز وتغير المدلول.

(٢) لايتم هذا الكلام بناءً على مبنى دلالة الامر على الوجوب بحكم العقل الا اذا جعل مورد الحظر قرينة صالحة لمنع دلالة الامر على اصل الطلب وهو لا وجه له.


دلالات صيغة الأمر

المرة والتكرار



« دلالة الأمر على المرة أو التكرار »

الجهة السابعة ـ في دلالة الأمر على المرة أو التكرار وعدمها ونبحث في هذه الجهة تارة على مستوى المدلول الوضعي للأمر وأخرى فيما يقتضيه الإطلاق.

اما على مستوى المدلول الوضعي فلا ينبغي الإشكال في عدم دلالة الأمر على المرة ولا على التكرار وضعا لوضوح انه لا يستفاد من صيغة الأمر وضعا عدا النسبة الإرسالية ومن مادته عدا ذات الطبيعة فمن أين تستفاد المرة أو التكرار؟ ومما يؤيد ذلك عدم استشعار مئونة المجاز في موارد التقييد بالمرة أو التكرار على انه ان أخذت المرة أو التكرار في مدلول هيئة الأمر كان لازمه أخذ طرف النسبة وهو الحدث مرة أو مكررا معها في مدلول الهيئة ، وهو أمر غريب غير مألوف في الحروف والهيئات ، وان أخذ ذلك في المادة المشتركة في كافة الاشتقاقات لزم استفادة المرة أو التكرار منها أيضا مع انه غريب ولا يلتزم به أحد ، وما ذكرنا بلحاظ المرة والتكرار في الأفراد الطولية ـ يأتي أيضا بلحاظ الدفعة والدفعات في الافراد العرضية ، هذا كله على مستوى المدلول الوضعي.

واما على مستوى الإطلاق فقد ذكروا انه ليس له ضابط نوعي ، وانه يختلف استفادة انحلال الحكم إلى أحكام عديدة بعدد افراد الطبيعة ، أو عدم انحلاله حسب اختلاف الموارد ، والصحيح ان له ضابطا نوعيا وهو ان مقتضى الإطلاق الأولي هو


الاكتفاء بالمرة والدفعة ـ أي عدم الانحلال بلحاظ المتعلق والانحلال والتكثر بلحاظ متعلق المتعلق ـ الموضوع ـ ما لم ترد نكتة حاكمة على ذلك فلو قال ( أكرم العالم ) فالوجوب بلحاظ العالم متكثر بعدد العلماء خارجا ، ولكن بالنسبة لكل عالم لا يجب أكثر من إكرام واحد ، وهذا امر بين عرفا ولغة الا ان الكلام في نكتته الفنية. فنقول : ان النكتة ليست ما قد يرد على الألسنة من ان الإطلاق بلحاظ المتعلق بدلي وبلحاظ الموضوع شمولي حتى يقال أي فرق بينهما بعد ان كانت مقدمات الحكمة في كافة الموارد بمعنى واحد وذات وظيفة واحدة هي إثبات ان تمام ما أخذ في الجعل ثبوتا ذات الطبيعة من دون أخذ قيد زائد معها.

وانما النكتة في بدلية المتعلق وشمولية الموضوع ناتجة من مركز كل منهما في القضية المعقولة ( الذهنية ) فان الموضوع يلحظ مفروض الوجود في المرتبة السابقة على الحكم وحيث ان له تطبيقات متكثرة فلا محالة يتعدد ويتكرر وينحل الحكم والمحمول بعدد تلك التطبيقات بينما المتعلق ليس كذلك بل يطلب إيجاده أو إعدامه فلا يلحظ مفروض الوجود والثبوت في المرتبة السابقة على الحكم والأمر فلا معنى للانحلال بلحاظه.

وان شئت بيانا أوضح لنكتة الانحلال في الموضوع وعدمه في المتعلق والمحمول قلت : ان الموضوع ـ سواء في القضية الإنشائية أو الخبرية ـ يفرض مقدر الوجود فحينما يقول ( أكرم العالم ) لا يطلب بهذا إيجاد العالم ثم إكرامه بل يفترض وجود العالم فيحكم بإكرامه وحينما يقال ( العالم نافع ) لا يتكفل الاخبار بوجود العالم بل يفترض وجوده ويخبر عن نافعيته على تقدير وجوده وهذا معناه رجوع القضية إلى قضية شرطية فكأنما يقول إذا كان العالم موجودا فأكرمه أو إذا كان العالم موجودا فهو نافع وإذا رجعت القضية إلى قضية شرطية تصبح فعلية الجزاء تابعة لفعلية الشرط وليس المتكلم ، في مقام ان يملي علينا فعليه الجزاء بغض النّظر عن الشرط لأن هذا خلف الشرطية فإذا أصبحت فعلية الجزاء مرتبطة بفعلية الشرط وتابعة لها فلا محالة تتعدد فعليته بتعدد فعلية الشرط لأن نسبة فعلية الجزاء إلى تمام فعليات الشرط على حد سواء واما المتعلق فليس مفروض الوجود وراجعا إلى الشرط فليس معنى إكرامه انه إذا وجد الإكرام فقد وجب فان هذا طلب الحاصل وليس معنى ( العالم نافع ) انه إذا وجد نفع للعالم


فالعالم نافع فان هذه قضية بشرط المحمول ولا تكشف عن وجود النّفع للعالم بينما المقصود هو الكشف عن وجود النّفع له فإذا لم ترجع القضية بلحاظ المتعلق والمحمول إلى قضية شرطية اذن ففعليتها لا تتبع فعلية المتعلق بل المتكلم هو يملي علينا فعلية الطلب أو الاخبار عن النّفع الآن من دون ربط لفعلية ذلك بفعلية المتعلق ولا دليل من قبل هذا الطلب أو الاخبار على تعدد الفعلية فلا محالة لا توجد الا فعلية واحدة (١).

ويترتب على هذا البيان عدة أمور :

١ ـ ان الإطلاق بحسب طبعه الأولي في كل من المتعلق في الجملة الإنشائية والمحمول في الجملة الخبرية لا يكون شموليا بل يكون بنحو صرف الوجود.

٢ ـ ان هذه النكتة لا فرق فيها بين الأوامر والنواهي ، فمقتضى الطبع الأولي في النهي أيضا هو الانحلال في الموضوع وعدم الانحلال في المتعلق. وهذا يعني : انه لا يكون

__________________

(١) يمكن توضيح هذا المطلب ببيان آخر حاصله : ان كل قضية سواء كانت إخبارية أو إنشائية ناظرة إلى عالم الحقيقة والواقع خارج الذهن وهذا يعني ان الذهن من خلال القضية ينظر إلى عالم الواقع اما اخبارا لإثبات مفهوم فيه أو نفيه أو إنشاء لإيقاعه أو الانتهاء عنه ومن الواضح ان المحمول والمتعلق لا بد وان يكون بمقتضى هذا اللحاظ مفهوما صرفا لا وجودا وواقعا لأن هذا خلف ان المراد إثباته أو إنشائه وهذا بخلاف الموضوع فقد يكون واقعا كما في قولك العالم مفيد أو العلم نافع وقد يكون مفهوما كما في قولك العالم موجود فان هذه القضية انما لم ينحل إلى وجود كل عالم لأن الموضوع فيها لوحظ كمفهوم أريد الاخبار عن وجوده كالمحمول والمتعلق تماما ولم يلحظ كمصداق وواقع وهذه هي نكتة عدم الانحلال في طرف المحمول ومتعلق الأمر والنهي ، نعم يبقى الفرق بين متعلق الأمر ومتعلق النهي وكذلك بين الإيجاب والسلب من حيث الانحلال العقلي الّذي يشير إليه صاحب الكفاية ( قده ) حيث ان نفي الطبيعة والمفهوم في الخارج لا يكون الا بانتفاء تمام حصصها بخلاف وجودها فانه يكفي فيه وجود فرد واحد منها تماما كقولك العالم موجود والعالم معدوم.

وعلى هذا الأساس يكون الضابط النوعيّ للانحلال وعدمه ان كل طبيعة تلحظ كمفهوم صرف يراد الحكاية عن ثبوته أو نفيه في الخارج اخبارا أو يراد إيقاعه أو إعدامه إنشاء لا محالة لا تكون منحلة سواء وقعت بحسب النسق الأدبي وتركيب الجملة موضوعا أو محمولا وكل طبيعة تلحظ في القضية كواقع في الخارج مفروغ عنه يراد إثبات شيء له أو نفيه عنه تكون صالحة للانحلال فتارة : يؤخذ معها قيد الوحدة والتنوين فلا انحلال وأخرى : تلحظ بما هي سارية في تمام افرادها أي تلحظ افرادها وهذا هو الانحلال العمومي المستفاد من أدوات العموم ككل وجميع. وثالثة : لا يلحظ الا ذاتها بما هي في الخارج وهذا هو الانحلال الإطلاقي الذاتي حيث ان ثبوت شيء للطبيعة يقتضي بالذات ثبوتها في تمام فعليات تلك الطبيعة في الخارج وبناء على هذا الضابط لا بد من ملاحظة قيود الواجب هل هي قيود للطبيعة المتعلق بها الأمر في مرتبة سابقة على الأمر فلا تلحظ الا كمفهوم محصص يطلب إيجاده فلا انحلال نظير قولنا تيمموا صعيدا أو اغتسلوا بالماء فان قيد الصعيد والماء تحصيص لمتعلق الأمر وليس بحسب هذه الجملة قيدا لأصل الإيجاب واما إذا كانت القيود راجعة إلى أصل الأمر والإيجاب فلا محالة يمكن ان يكون الأمر منحلا بلحاظها من قبيل صل عند الفجر أو دلوك الشمس.

والظاهر ان هذا هو روح مقصود سيدنا الأستاذ الشهيد 1 الشريف.


في النهي بلحاظ المتعلق أيضا الا حكم واحد كالأمر متعلق بالطبيعة الملحوظة بنحو صرف الوجود غاية الأمر الفرق بينهما في مرحلة الامتثال ، لأن المطلوب في الأمر إيجاد تلك الطبيعة وفي النهي إعدامها ، وكما قال صاحب الكفاية ( قده ) إيجاد الطبيعة يتحقق بفرد ولكن لا تنعدم الطبيعة الا بانعدام تمام افرادها فلا يتحقق امتثال النهي الا باجتناب تمام الافراد ، فالفرق بين الأمر والنهي ليس راجعا إلى كون الحكم واحدا في الأمر ومتعددا في النهي بل فيهما معا يكون واحدا ومتعلقا بالطبيعة بنحو صرف الوجود ، وانما الفرق في مقام الامتثال وإيجاد الطبيعة أو إعدامها. فلو قال ( أكرم العالم ) كان كل عالم يجب إكرامه بوجوب واحد غير منحل إلى وجوبات عديدة بعدد أنحاء الإكرام المتصورة له وإذا قال ( لا تكرم فاسقا ) كان مقتضى الطبع الأولي ان يحرم إكرام كل فاسق حرمة واحدة غير منحلة بحيث لو أكرم فاسقا مرة سقط الحكم بالنسبة إلى ذلك الفاسق بالعصيان وجاز إكرامه مرة أخرى الا ان هذا الوجوب الواحد يتحقق امتثاله بإكرام واحد وتلك الحرمة الواحدة لا يتحقق امتثالها الا بترك كل إكرام وهذا الفرق ثابت بين الجملة الخبرية الموجبة والنافية أيضا ، فقولك ( العالم موجود ) لا يدل على أكثر من وجود عالم واحد بينما قولك ( العالم ليس بموجود ) لا يصدق الا بانعدام تمام العلماء وقولك ( الجاهل ليس بنافع ) يستغرق النفي كل افراد الجاهل بنكتة الانحلال لأنه موضوع مقدر الوجود ويستغرق كل افراد النّفع لا بنكتة الانحلال بل بنكتة ان النّفع لا ينتفي الا بانتفاء كل افراده ولهذا لو فرض وجود نفع واحد للجاهل تبين كذب هذا النفي نهائيا بينما لو وجد جاهل واحد نافع لم يتبين كذب هذا الخبر نهائيا بحيث يكون فرض وجود جاهل آخر نافع وعدمه نسبة إلى هذا الاخبار على حد سواء ، بل يكون مزيدا من كذب هذا الاخبار. وقد أورد بعض المتأخرين على هذه المقالة بأنها مبنية على فكرة الكلي الهمداني القائل بان الطبيعة في الخارج نسبتها إلى الافراد نسبة الأب إلى الأبناء حيث يقال : أن وجودها بوجود فرد وعدمها لا يكون الا بانعدام كل الافراد ، واما بناء على ما هو الصحيح من ان نسبة الطبيعة في الخارج إلى الافراد نسبة الآباء إلى الأبناء فالطبيعة في كل فرد لها وجود مستقل. والتحقيق : ان هذا الكلام وقع فيه خلط بين عالمي الخارج والمفهوم ، فانه لو كان الحكم ينصب


على الخارج ابتداء صح هذا الكلام الا انه ينصب على الخارج بتوسط المفهوم لأنه من موجودات عالم النّفس وبلحاظ عالم المفاهيم التي هي مرآة للخارج لا يكون الا مفهوم واحد نسبته إلى الخارج نسبة الأب إلى الأبناء وسوف يأتي مزيد توضيح لذلك في بحث تعلق الأمر بالطبيعة أو الافراد.

٣ ـ ان هذا الانحلال في طرف الموضوع وعدمه في طرف المحمول والمتعلق انما هو من شئون عالم التطبيق والفعلية ولا ربط له بعالم الجعل ولهذا فهو ليس من المداليل الوضعيّة أو الإطلاقية لأن اللفظ بكل دلالاته انما يكشف عن عالم الجعل دون عالم التطبيق والفعلية والجعل هنا واحد على كل حال ، بخلاف الشمولية والبدلية في باب العمومات الوضعيّة فانه قد يفرض فيها ان أداة العموم من قبيل كلمة ( كل ) في ( أكرم كل عالم ) قد وضعت للعموم الشمولي وأن كلمة ( أي ) وضعت للعموم البدلي لأن المولى في باب العموم ينظر إلى الافراد بنحو إجمالي ولا يقتصر نظره على ذات الطبيعة ، وحينئذ فتارة يلحظها شموليا وأخرى يلحظها بدليا ، واما في باب المطلقات فلا يرجع الفرق بين المتعلق والموضوع إلى باب دلالة اللفظ ولا إلى لحاظ المولى ، فان كلا من الموضوع والمتعلق في ( أكرم العالم ) قد دل على ذات الطبيعة من دون ان يكون أحدهما دالا على البدلية والآخر على الشمولية والمولى أيضا لم يلحظ الا ذات الطبيعة وانما الشمولية والبدلية هنا من شئون عالم التطبيق والفعلية ، حيث ان الموضوع يكون مفروض الوجود في المرتبة السابقة على الحكم فيكون له تطبيقات متعددة فتتعدد لا محالة تطبيقات الحكم بينما المتعلق لا يكون مفروض الوجود ، بل الأمر نفسه يدعو إلى إيجاده فلا معنى للانحلال فيه.

٤ ـ ان ما قلناه من الانحلال في طرف الموضوع وعدمه في طرف المتعلق انما هو بحسب الطبع الأولي للقضية. وقد يوجد ما يحكم على الطبع الأولي فيوجب في طرف الموضوع عدم الانحلال أو يوجب في طرف المتعلق الانحلال.

اما ما يوجب في الموضوع عدم الانحلال فيمكن ان نمثل له بالتنوين ، كما إذا قال أكرم عالما فان التنوين يدل على تقييد الطبيعة بقيد الوحدة وهذا القيد ينافي الانحلال والانطباق على الفعليات المتكثرة فلا محالة يثبت الحكم على فرد واحد من الماهية دون الافراد.


واما ما يوجب في المتعلق الانحلال فيمكن ان نمثل له بالنكتة النوعية الموجودة في باب النواهي وتوضيح ذلك : ان مقتضى الطبيعة الأولية للنهي وان كان كالأمر عدم الانحلال فحينما يقول ( لا تقم ) يحرم القيام حرمة واحدة بلا انحلال بحيث إذا قام مرة سقطت الحرمة بالعصيان الا انه حيث ان الغالب في مبادئ النهي والحرمة قيامها بكل فرد فرد بنحو التعدد لا بالمجموع أو الجامع ، فالنهي اما ان ينشأ من مفسدة في الفعل فالغالب انها في كل فرد مستقلا أو ينشأ عن مصلحة في الترك والغالب انها توجد في ترك كل فرد مستقلا ، من هنا أصبح للنهي ظهور في إرادة تحريم الطبيعة بتمام افرادها ولا فرق في ذلك بين الافراد العرضية أو الطولية بحسب عمود الزمان ، بخلاف الأمر فان المصلحة في الفعل أو المفسدة في الترك ليس الغالب فيها قيامها بفعل تمام الافراد فلا ينعقد للأمر ظهور يحكم على مقتضى الطبع الأولي.

٥ ـ ان مقصودنا من الموضوع الّذي نقول عنه ان مقتضى طبع الحكم انحلاله بلحاظه ليس ما يكون مقدر الوجود ثبوتا أو يكون متعلق المتعلق بل ما يكون الكلام بحسب مقام الإثبات والفهم العرفي دالا على كونه مقدر الوجود كالعالم في ( أكرم العالم ) واما ما لم يكن للكلام دلالة عرفا على كونه مقدر الوجود من قبيل التراب والماء في ( تيمم بالتراب أو توضأ بالماء ) فلا ينحل الحكم بلحاظه ، وان كان متعلق المتعلق عرفنا من الخارج انه مقدر الوجود وشرط للحكم كما هو الحال في المثالين لأن الأمر بالتيمم بالتراب أو الوضوء بالماء بحسب المتفاهم العرفي في ( تيمم بالتراب وتوضأ بالماء ) لم يؤخذ فيه التراب والماء مقدر الوجود ، ولهذا لو لا الدليل الخارجي كنا نفهم لزوم إيجاد الماء والوضوء به.


« تعدد الامتثال أو تبديله »

تذنيب ـ قد اتضح مما تقدم انه لا فرق بين الافراد العرضية والافراد الطولية فيما ذكر من الانحلال بلحاظ الموضوع وعدمه بلحاظ المتعلق ، الا أنه لا بد من الالتفات إلى انه لا يمكن الامتثال بفردين طوليين ولكنه يمكن الامتثال بفردين أو أكثر عرضيين لأن المأمور به إذا كان هو الطبيعة من غير تقييد بقيد الوحدة أو الكثرة فيتم لا محالة بلحاظ الافراد العرضية في عمود الزمان التخيير العقلي بين الفرد والفردين والثلاث ، ويكون الجميع امتثالا واحدا ، واما الافراد الطولية في عمود الزمان فلا يمكن تحقق الامتثال بها جميعا لأن نسبة الطبيعة إليها وان كانت واحدة أيضا كالأفراد العرضية ، الا انه بعد تحقق الفرد الأول في عمود الزمان سوف يسقط الوجوب قهرا فلا يبقى مجال لافتراض الامتثال ثانية. فهناك ضيق في الوجوب أو قل في الواجب بما هو واجب فلا معنى للتخيير العقلي ، نعم التخيير الشرعي يمكن بالنحو الّذي تصوره صاحب الكفاية من إمكان التخيير بين الأقل والأكثر إذا رجعا إلى متباينين كالتسبيحة الواحدة بشرط لا عن الزائد والثلاث تسبيحات الا ان هذا يحتاج استفادته إلى مزيد مئونة وبيان ولا يثبت بمجرد الإطلاق.

وهل يمكن تبديل الامتثال من فرد بفرد آخر أولا؟ ذهب صاحب الكفاية إلى


إمكانه إذا لم تكن نسبة المتعلق إلى الغرض من الأمر نسبة العلة إلى المعلول بل نسبة المقتضي إلى المقتضى ، كما في مثال الأمر بإتيان الماء لرفع عطشه فأحضره العبد ثم قبل ان يشرب المولى بدله بفرد آخر مساو أو أفضل ، فهنا يمكن تبديل الامتثال قبل حصول الغرض لأن الأمر باق ببقاء الغرض الّذي دعا إليه (١).

وقد نوقش فيه من قبل المحقق الأصفهاني ( قده ) (٢) ، والسيد الأستاذ وغيرهما : بأن الغرض من الأمر دائما يتحقق بنفس الإتيان بمتعلقه واما ما يتراءى في مثال الماء من بقاء عطش المولى فهو ليس غرض الأمر بل هو خلط بين الغرض الأدنى الّذي يترتب على فعل المأمور به والغرض الأقصى وهو الارتواء الّذي هو من فعل الماء ومتوقف عليه.

والصحيح ان كلا من كلام صاحب الكفاية ( قده ) وربط المقام بمسألة الغرض من الأمر وكلام المناقشين غير تام. فلنا في المقام تعليقان :

التعليق الأول ـ على كلام صاحب الكفاية ( قده ) حيث ربط مسألة إمكان تبديل الامتثال بغرض الآمر مع أنك عرفت فيما سبق أن سقوط الأمر غير مرتبط بحصول غرض المولى ، بل يرتبط بإمكانية التحريك وعدمه وهو يكون بالامتثال وعدمه وليس تابعا لبقاء الغرض وعدمه أصلا. بل يستحيل ذلك ، لأن الأمر لو بقي بشخصه ومتعلقا بالجامع بين الفرد الواقع وبين سائر الافراد كان طلبا للحاصل ، ولو بقي متعلقا بغير الفرد الواقع استحال ان يكون شخص ذلك الأمر الأول.

التعليق الثاني ـ على كلام المستشكل الّذي قبل أصل منهجة بحث صاحب الكفاية من ربط المسألة بالغرض من الأمر ولكنه ادعى ان الغرض الأدنى هو الباعث على الأمر وهو حاصل دائما بالامتثال. فان هذا غير تام لأن الغرض الأدنى قد يكون غرضا مقدميا غيريا أو غرضا نفسيا ضمنيا ، ومن الواضح ان الأغراض المقدمية أو الضمنية لا تتحقق الا بعد الوصول إلى تمام النتيجة وتحقق تمام الاجزاء والشرائط ، لأن الغرض والحب الغيري لا يكون الا في المقدمة الموصلة كما ان الغرض

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٢١ ـ ١٢٢.

(٢) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ١٤٤.


الضمني لا يحصل الا ضمن حصول تمام الغرض ، والّذي قد يكون الجزء الآخر منه خارجا عن اختيار المكلف وقدرته وانما كلف العبد بتحقيق ما هو تحت قدرته ومن قبله برجاء تحقق الجزء الآخر ولا محذور في ذلك كما لا يخفى. ثم انه لا بد وان نشير إلى ان هناك فرضية خارجية عن مسألة تبديل الامتثال بالامتثال قد تشتبه معها ، وهي ما لو كان للواجب شرط متأخر فترك الشرط وأتى بفرد آخر مع الشرط المتأخر كما إذا امره بإحضار الماء وحفظه إلى ان يأتيه فجاء به أولا ثم سكبه ولم يحفظه ثم جاء بماء آخر فان هذا من هدم الامتثال لا تبديله.

يبقى الكلام في فرع فقهي قد يجعل من مصاديق تبديل الامتثال وهو ما ورد من جواز أو استحباب إعادة الصلاة جماعة لمن صلاها فرادى.

والتحقيق ان الروايات الواردة في هذا الفرع يمكن تقسيمها إلى ثلاث طوائف :

الأولى ـ ما ورد بعنوان الأمر بالإعادة لا أكثر من ذلك وفيها ما يكون تام السند الا ان هذا من الواضح انه لا يدل على كون ذلك من باب تبديل الأمثال ، إذ لعل ذلك امر جديد استحبابي له امتثال جديد ومجرد كون هذه الصلاة الثانية أيضا معنونة بصلاة الظهر أو إعادتها مثلا لا يلزم كونها تبديلا لامتثال الأمر الأول.

الثانية ـ ما جاء فيها جملة ( ويجعلها الفريضة ) كما ورد ذلك في معتبرة هشام بن سالم عن أبي عبد الله 7 ( انه قال في الرّجل يصلي الصلاة وحده ثم يجد جماعة ، قال يصلي معهم ويجعلها الفريضة ان شاء ) (١).

وهذه الطائفة قد يقال انها ظاهرة في تبديل الامتثال حين تقول يجعلها الفريضة ان شاء ، وهو معنى تبديل الامتثال.

وما يمكن ان يناقش به هذا الاستدلال أحد وجوه :

الأول ـ ان يقال بان المقصود انه يصلي فرضا في مقابل التطوع والنافلة حيث ان الجماعة في صلاة التطوع باطلة.

وفيه : ان هذا خلاف ظاهر اللام في كلمة ( الفريضة ) الظاهرة في الإشارة إلى

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ب ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة ـ ج ١ ـ ص ٤٥٥.


نفس الفرض السابق الّذي جاء به ، وخلاف كلمة إن شاء فانه لو كان المقصود ذلك لم يكن باختياره لأن عدم الجماعة في التطوع عزيمة لا رخصة ، الا ان يفرض رجوع المشيئة إلى أصل الصلاة معهم وهو خلاف الظاهر أيضا ، لأن ظاهر السياق المفروغية عن إرادته للإعادة معهم وليس هناك توهم لوجوب الصلاة معهم عليه ليراد رفع هذا التوهم بقوله ان شاء.

الثاني ـ لعل عنوان الفريضة أخذ معرفا ومشيرا إلى ذات صلاة الظهر مثلا بقطع النّظر عن كونها واجبة أو مستحبة كما ان صلاة الليل ليست فريضة وان كانت قد تجب أحيانا فترجع هذه الطائفة إلى الطائفة السابقة من انها امر بإعادة ذات صلاة الفريضة استحبابا.

وفيه : ١ ـ ان الحمل على المعرفية الصرفة خلاف الظاهر ويحتاج إلى قرينة.

٢ ـ ان هناك فرقا بين الأمر بإعادة الصلاة الفريضة وبين قوله ويجعلها الفريضة الظاهر في العهد مع وضوح ان هناك صلاة ظهر واحدة فريضة.

٣ ـ ان هذا خلاف ظاهر كلمة إن شاء بعد ان استظهرنا رجوعها إلى جعلها هي الظهر لا إلى أصل الصلاة معهم.

الثالث ـ ان يقال بأنها واردة فيمن هو مشغول بالصلاة ويجد الجماعة قبل فراغه عن صلاته ويستشهد لذلك بقرينة التعبير بصيغة المضارع ( في الرّجل يصلي ) ويكون المعنى إن شاء في أثناء الصلاة يقطع صلاته بعد قلبها نافلة مثلا ويصلي الفريضة مع الجماعة وإن شاء يكمل صلاته ويصلي صلاة أخرى قضاء مثلا مع الجماعة.

وهذا الوجه أردأ الوجوه فانه ١ ـ التعبير بفعل المضارع لا يشفع لهذا الحمل بعد ان عبر بكلمة ( ثم يجد جماعة ) الظاهر في الفراغ عن الصلاة.

٢ ـ يلزم منه ان الإمام لم يبين بالمطابقة الحكم العملي الفعلي لهذا الشخص بالنسبة لما بيده من الصلاة ، وانما بين حكما آخر وهو الإتيان بالفريضة مع الجماعة ان شاء بحيث ينبغي ان يفهم منه بالملازمة جواز قطع صلاته مع انه لو كان السؤال عما فرض في هذا الوجه كان المناسب بحسب المحاورة ان يبين أولا الجهة المسئول عنها بالمطابقة


وهذا بخلاف ما إذا فرضنا ان السؤال عما بعد الفراغ عن صلاته.

والصحيح : ان غاية ما تدل عليه هذه الرواية إمكان جعل الصلاة المعادة جماعة هي الفريضة وهذا لا يساوق تبديل الامتثال بل ينسجم مع فرضية هدم الامتثال وذلك بان يقال ان الواجب كان مشروطا من أول الأمر بشرط متأخر من قبيل ان لا يأتي بعد ذلك بفرد آخر أفضل منه بنية جعلها هي الفريضة كالصلاة جماعة وبناء عليه يكون إتيان ذلك هدما للامتثال الأول.

ان قلت ـ ان فرض مشروطية الواجب بشرط متأخر من هذا القبيل ينفيه إطلاق المادة.

قلت ـ أولا ليس الكلام في تنجيز حكم أو التعذير عنه حتى يتمسك بهذا الصدد بالإطلاق ، وانما الكلام في اننا أقمنا برهانا عقليا على استحالة تبديل الامتثال فلو فرض ورود نصّ من الإمام 7 ظاهر فيما فرضناه محالا ، كان هذا نقطة ضعف في كلامنا وقد يشكل قرينة ناقصة على احتمال الاشتباه والخطأ وكان المقصود دفع هذه القرينة الناقصة وهو يحصل بما ذكرناه واما مجرد كونه خلاف إطلاق المادة في الأمر بالصلاة فلا يشكل قرينة نقلية ناقصة في قبال البرهان العقلي.

وثانيا ـ انا لا نقبل إطلاقا للواجب في مثل ( أقيموا الصلاة ) ونحوه ، وانما نستفيد الإطلاق من الاخبار البيانية ومن الواضح ان الاخبار البيانية لم تكن بصدد البيان من ناحية ما لو جاء بعد ذلك بفرد أفضل حتى ينعقد لها إطلاق ناف لهذا الشرط المتأخر.

الطائفة الثالثة ـ ما ورد بلسان ان الله يختار أحبهما إليه وهذا يدل على إمكان تبديل الامتثال لأن ظاهره انه يختار أحبهما في مقام الامتثال وأداء الوظيفة.

والجواب ـ مع غض النّظر عن ضعف سند هذه الطائفة ـ سنخ ما ذكرناه في الإجابة على الطائفة السابقة من احتمال ان يكون الواجب مشروطا بعدم الإتيان بفرد أفضل أو أحب إلى الله سبحانه وتعالى وهذا الجواب أفضل مما قيل بأنه لعل المقصود اختيار الله أفضل الفردين في مقام الثواب لا في الجانب الوظيفي. لأن هذا خلاف ظاهر السياق في ان الاختيار بلحاظ الجانب الوظيفي لا الثواب. على ان النّظر لو كان إلى الثواب فلما ذا يفترض الاختيار والانتخاب لأحد الفردين ، بل كلاهما انقياد بحكم


العقل وله ثواب بل النص يشير إلى محبوبية كل منهما في نفسه. اللهم الا ان يراد الاختيار بلحاظ ثواب مخصوص وهو ثواب الفريضة الا ان هذا تمحل في تمحل لأن فرض كون النّظر إلى الثواب ثم إلى ثواب مخصوص كله خلاف الظاهر.


بحوث الأوامر

الإجزاء

ـ تعريف الاجزاء

ـ اجزاء الأمر الاضطراري

ـ إجراء الأمر الظاهري



الفصل الثالث ـ في الإجزاء

والمراد بالاجزاء هو الاكتفاء بما أتي به وعدم لزوم الإعادة أو القضاء كل بحسب مورده ، وهناك ملاكان وصيغتان كبرويتان للاجزاء.

إحداهما ـ ان الإتيان بغرض المولى كاف في الخروج عن عهدة التكليف ، لأن العقل الّذي هو الحاكم المستقل في باب الإطاعة والعصيان يحكم بكفاية ذلك في مقام الامتثال والخروج عن حق طاعة المولى.

الثانية ـ ان الإتيان بمتعلق امر كاف في الخروج عن عهدة شخص ذلك الأمر ، لما مضى من ان التحريك بعد العمل نحو الجامع القابل للانطباق على ما وقع تحصيل للحاصل ، والتحريك نحو فرد آخر منه يكون امرا جديدا.

والبحث عن اجزاء الأمر الاضطراري والظاهري يرجع بحسب الحقيقة إلى البحث عن ان العمل بالأمر الاضطراري أو الظاهري هل تنطبق عليه إحدى الكبريين ، بمعنى ان المستظهر من دليل الأمر الظاهري أو الاضطراري مع قطع النّظر عن القرائن الخاصة اندراج العمل الاضطراري أو الظاهري تحت إحدى الكبريين أولا؟

والكلام يقع تارة في اجزاء الأمر الاضطراري ، وأخرى في اجزاء الأمر الظاهري.



المقام الأول ـ في إجزاء الأمر الاضطراري.

ولا بد أولا من ذكر المحتملات الثبوتية بشأن الواجب الاضطراري من حيث دوره في تحصيل الغرض الواقعي والنتائج المترتبة على تلك المحتملات ، ثم نتكلم فيما هو المستظهر من دليل الأمر الاضطراري فنقول : ان محتملات الواجب الاضطراري محصورة عقلا في أربعة فروض :

١ ـ كونه وافيا بتمام غرض الواقع.

٢ ـ كونه وافيا ببعض الغرض منه ، بحيث يكون المتبقي نسبة غير إلزامية.

٣ ـ كونه وافيا ببعض الغرض منه ، ويكون المقدار المتبقي نسبة إلزامية الا انه لا يمكن تحصيله بعد حصول المقدار الاضطراري نظير العطشان إذا روى بماء غير بارد أولا فلا يمكن إرواؤه بعد ذلك بالماء البارد.

٤ ـ نفس الصورة السابقة مع فرض إمكان تحصيل المقدار المتبقي ثانيا.

ولنتكلم حول نتائج هذه الفروض الأربعة بلحاظ آثار أربعة هي : الاجزاء عن الواقع. وجواز البدار وضعا ، وجوازه تكليفا ، وجواز إيقاع المكلف نفسه في الاضطرار.

الأثر الأول ـ في الاجزاء عن الواقع ـ ولا إشكال ان الفروض الثلاثة الأولى


تكون مجزية بملاك الوفاء بالغرض ـ الكبرى الأولى ـ وعدم بقاء ملاك ملزم قابل للتدارك. كما ان الفرض الأخير لا يجزي لبقاء مقدار من الملاك ملزم قابل للتدارك بالإعادة أو القضاء.

الأثر الثاني ـ في جواز البدار وضعا ، بمعنى اجزاء العمل الاضطراري حتى في صورة البدار. وهذا انما نحتاج إليه في الفروض الثلاثة الأولى. والتحقيق ان النتيجة لا تختلف باختلاف الأقسام الثلاثة ، فان الوفاء بالغرض بأحد الأنحاء الثلاثة ، إن كان مشروطا بعدم البدار لم يجز البدار وضعا والا جاز البدار.

الأثر الثالث ـ جواز البدار تكليفا ، ولا إشكال في جوازه في الأول والثاني ، لأنه لو فرض جواز البدار وضعا فيهما فيجوز ذلك تكليفا أيضا ، وإن فرض عدم جواز البدار وضعا بمعنى عدم صحة العمل ، فغاية ما يفترض لغوية العمل لا حرمته تكليفا. كما لا ينبغي الإشكال في جوازه على الفرض الرابع إذ لا يلزم منه فوت شيء من الغرض لا يمكن تداركه لكي يتوهم عدم الجواز. واما على الفرض الثالث فالجواز التكليفي مع الجواز الوضعي متعاكسان ، بمعنى انه لو كان العمل الاضطراري في أول الوقت جائزا وضعا ، أي صحيحا ووافيا بمقدار من الغرض فحيث انه يؤدي إلى فوات مقدار ملزم من الغرض فلا يجوز البدار تكليفا مع احتمال ارتفاع العذر لأنه يسد باب تدارك الباقي اللازم تحصيله وان كان غير جائز وضعا أي غير واف بشيء من الغرض على تقدير ارتفاع العذر في آخر الوقت فيجوز البدار تكليفا إذ لا يترتب عليه تفويت شيء من الغرض.

وقد يقال : انه متى ما لم يجز البدار تكليفا لم يجز البدار وضعا أيضا ، لأن النهي في العبادات يوجب الفساد فليس الجواز الوضعي والتكليفي متعاكسين في باب العبادات بالخصوص.

وفيه : إن كان عدم إمكان التدارك على أساس التضاد بين الملاك المستوفى بالعمل الاضطراري والملاك المتبقي فلا مجال لهذا الإشكال لأن الأمر بشيء لا يقتضي النهي عن ضده وانما يكون عدم جواز البدار على أساس إرشاد العقل إلى عدم البدار حفاظا على المصلحة الأوفى كما في موارد ترك الواجب الأهم وامتثال


الواجب المهم ، لا ان هناك نهيا مولويا ، وان كان عدم إمكان التدارك على أساس مانعية الملاك الأصغر عن الملاك الأكبر فان بنينا على إنكار المبغوضية والمحبوبية المقدمية أو على قبولهما ولكن قلنا بان المبغوضية المقدمية غيرية والمبغوضية الغيرية لا توجب البطلان ـ كما هو الصحيح ـ فائضا لا أساس لهذا الإشكال فانما يتجه هذا الإشكال على تقدير المانعية والقول بالمبغوضية المقدمية وكونها تبطل العبادة.

وقد يجاب على هذا الإشكال بأحد جوابين آخرين.

الأول ـ ان هذه المبغوضية في المقام لا يمكن ان تكون موجبة لبطلان العمل لأنها في طول صحة العمل وجوازه وضعا إذ لو كان العمل المأتي به في أول الوقت فاسدا لم يستوف شيء من الملاك والغرض به كي يكون مانعا عن المصلحة الأكبر وهذا يعني ان ثبوت هذه المبغوضية والحرمة يلزم منه عدم ثبوتها ، وكل شيء يلزم من وجوده عدمه محال. ولا يقاس بمثل حرمة الصلاة في الدار المغصوبة الثابتة على تقديري الصحة والبطلان معا.

ويرده : ان المبغوضية انما تعرض في ذهن المولى على العمل الصحيح لكونه يوجب فوات قسم مهم من الغرض المولوي ، وهي إلى الا بد مبغوضية للعمل الصحيح ولا يخرج معروض المبغوضية الحقيقي عن كونه هو العمل الصحيح. نعم هذه المبغوضية أوجبت ان لا يتمكن العبد الملتفت إليها على إيجاد مصداق المبغوض وهو العمل الصحيح في الخارج لاحتياجه إلى قصد القربة الّذي لا يتمشى مع الالتفات إلى المبغوضية وهذا لا يعني ان مبغوضية العمل الصحيح أوجبت عدم نفسها ونفت صحة معروضها وانما يعني انها أوجبت عدم إمكان إيجاد ذلك المبغوض في الخارج وهذا لا محذور فيه.

الثاني ـ ان هذه المبغوضية لو اقتضت البطلان في المقام لزم تعلقها بغير المقدور لأنها انما تتعلق بالعمل الصحيح وهو غير مقدور بعد النهي والنهي كالأمر لا بد وان يتعلق بالفعل المقدور.

وهذا الوجه يكفي في دفعه انا لو سلمنا ان النهي يجب تعلقه بالمقدور أي الممكن إيجاده حتى في طول النهي فهذا انما يكون شرطا في النهي الّذي هو فعل اختياري


للمولى لا في المبغوضية التي قد تتعلق بما لا يكون مقدورا للمكلف.

الأثر الرابع ـ في جواز إيقاع المكلف نفسه في الاضطرار اختيارا ، أما في الفرضين الأول والثاني فيجوز للمكلف إيقاع نفسه في الاضطرار اختيارا لو فرض ان وفاء العمل بما يفي به من مصلحة ـ بحسب الفرض ـ غير مشروط بأن لا يكون الاضطرار بسوء الاختيار أما لو كان مشروطا بذلك فلا يجوز لأنه يستوجب فوات كل الغرض لعجزه عن العمل الاختياري عدم وفاء عمله الاضطراري لاشتراط ان لا يكون الاضطرار بسوء الاختيار.

واما في الفرض الثالث فلا يجوز إيقاع نفسه في الاضطرار اختيارا سواء فرض ان وفاء العمل بمقدار من المصلحة وصحته كان مشروطا بكون الاضطرار لا بسوء الاختيار أم لا ، لأنه على كلا التقديرين يكون قد حرم نفسه عن الغرض المولوي الملزم اما جميعا أو لجزء مهم ملزم منه وهو غير جائز تكليفا.

وكذلك الحال في الفرض الرابع أي انه لا يجوز إيقاع نفسه في الاضطرار اختيارا سواء كان الجواز الوضعي مشروطا بكون الاضطرار لا بسوء الاختيار أم لا ، لأنه على الأول يكون قد فوت على نفسه تمام الملاك لعجزه بحسب الفرض إلى آخر الوقت ، وعلى الثاني يكون قد عجز نفسه عن جزء مهم إلزاميّ من الملاك لأنه مع بقاء عجزه إلى آخر الوقت لا يمكنه التدارك.

هذه هي الفروض المحتملة ثبوتا بحق الواجب الاضطراري ونتائج كل منهما بلحاظ الآثار الأربعة ، وقد ظهر انه بلحاظ الاجزاء يتعين الاجزاء في الفروض الثلاثة الأولى وعدم الاجزاء في الصورة الرابعة.

يبقى الكلام في مرحلة الإثبات وبحسب ظاهر دليل الأمر الاضطراري والبحث عن ذلك يقع ضمن مسألتين :

الأولى ـ ما إذا ارتفع العذر في أثناء وقت الواجب فهل تجب الإعادة أم لا؟

الثانية ـ ما إذا ارتفع بعد الوقت فهل يجب القضاء أم لا؟

اما المسألة الأولى ـ فتارة : يفترض ان دليل الأمر الاضطراري قد أخذ في موضوعه استمرار العذر إلى آخر الوقت وهذا خارج عن موضوع البحث لأنه بعد تبين ارتفاع


العذر وعدم استمراره ينكشف انه لا امر اضطراري واقعا ليبحث عن اجزائه وعدمه ، نعم قد يفترض ثبوت الأمر الاضطراري له ظاهرا بحكم دليل أو أصل كان يقتضي بقاء العذر واستمراره إلى آخر الوقت فيدخل في بحث اجزاء الأمر الظاهري حينئذ والّذي سوف نثبت فيه عدم الاجزاء.

وأخرى يفترض ان دليل الأمر الاضطراري لم يشترط فيه استمرار العذر إلى آخر الوقت. وحينئذ تارة : يفرض ان دليل الحكم الاختياري يشمل ولو بإطلاقه من صدر منه الفعل الاضطراري ثم زال عذره ، وأخرى : يفرض عدم إطلاقه له ، فان فرض الأول كان من الواضح ان مقتضى هذا الإطلاق عدم الاجزاء ، فالكلام لا بد وان يكون في ان دليل الأمر الاضطراري هل يكون مقيدا لهذا الإطلاق لدليل الأمر الاختياري أم لا؟ وفي المقام منهجان لإثبات هذا التقييد. المنهج العقلي وهو الّذي انتهجته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) والمنهج الاستظهاري.

اما المنهج العقلي فحاصله : دعوى الدلالة الالتزامية العقلية لدليل الأمر الاضطراري على الاجزاء بتقريب انه قد مضى انحصار المحتملات الثبوتية للواجب الاضطراري في أربعة فروض كلها كانت مقتضية للاجزاء وعدم الإعادة الا الفرض الرابع ، فلو أقيم البرهان العقلي على إبطال الفرض الرابع تعين الاجزاء فنقول : ان دليل الأمر الاضطراري لا ينسجم مع الفرض الرابع وهو ما إذا كان يبقى مقدار مهم من الملاك الواقعي قابل للتدارك ، إذ على هذا الفرض لا يمكن تعقل الأمر الاضطراري بمجرد العذر في وقت العمل لأن الأمر الاضطراري يتصور بأحد إشكال ثلاثة كلها غير صحيحة وغير معقولة في المقام.

الأول ـ أن يجب عليه الفعل الاضطراري تعيينا وهذا واضع البطلان إذ لا شك في انه يجوز له ان يصبر إلى ان يزول العذر في الوقت ويأتي بالفرد الاختياري.

الثاني ـ ان يكون مخيرا بين الفعل الاضطراري حين العذر والفعل الاختياري بعد زوال العذر بنحو التخيير بين المتباينين ، وهذا غير معقول أيضا لأنه خلاف المفترض في الفرض الرابع من بقاء مقدار من الملاك ملزم قابل للتدارك وانما هو منسجم مع الفرضين الأول والثاني.


الثالث ـ ان يكون مخيرا بين الأقل والأكثر أي الإتيان بالعمل الاختياري بعد زوال العذر فقط أو الإتيان بالفعل الاضطراري عند العذر مع الفعل الاختياري بعد زواله حفاظا على المصلحة المتبقية ، وهذا أيضا غير معقول لأن التخيير بين الأقل والأكثر غير معقول. فيكون الفعل الاضطراري في المقام بلا أمر فإذا ثبت الأمر الاضطراري في مورد كان ذلك منافيا مع الفرض الرابع لأن الأمر الاضطراري بنحو الصورة الرابعة غير معقول وبنفي الصورة الرابعة يثبت الاجزاء لأن الفروض والصور الأخرى المحتملة ثبوتا للواجب الاضطراري كلها تقتضي الاجزاء (١).

ولنا حول المنهج تعليقات :

الأول ـ ان هنا شقا رابعا ثبوتا لتصوير الأمر بالفعل الاضطراري وهو افتراض وجود امرين أحدهما تعلق بالجامع بين الفعل الاختياري والاضطراري وهو الّذي نسميه بالأمر الاضطراري بحسب الحقيقة ، والآخر تعلق بخصوص الحصة الاختيارية.

فأن لم يتمثل المكلف الأمر الأول إلى ان زال عذره في الوقت فجاء بالاختياري كان امتثالا لكلا الأمرين ، وان جاء في أثناء العذر بالاضطراري ـ أي الجامع ـ بقي عليه الإتيان بالاختياري ـ الحصة ـ بعد زوال العذر.

لا يقال ـ الأمر بالجامع لغو صرف لأنه يكفي الأمر الاختياري وحده بتحقيق الجامع والحصة دون العكس.

فانه يقال ـ أولا ـ لا بد من امرين على كل حال لأن هناك من يكون عذره مستوعبا لتمام الوقت ، وحينئذ فكما يمكن جعل أمرين أحدهما يتعلق بخصوص الاضطراري فيمن يستوعب عذره تمام الوقت والآخر بالاختياري بالخصوص لمن لا عذر له أو لم يكن عذره مستوعبا ، كذلك يمكن جعل هذين الأمرين بالنحو الّذي ذكرناه ويكون وافيا بنفس الغرض ، لأن من يستوعب عذره سوف يكون الأمر بالجامع ـ الاضطراري ـ هو الفعلي في حقه دون الأمر بالحصة. فإذا كان لا بد من جعل أمرين فلا لغوية في البين وليكن إطلاق دليل الأمر الاضطراري لمن يرتفع عذره في

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٢ ، ص ٢٣٢ ـ ٢٣٣.


آخر الوقت معينا لوقوع الأمرين على النحو الّذي ذكرناه.

وثانيا ـ انه من الجائز ثبوتا ان يكون للمولى غرضان أي مرتبتان من الغرض أحدهما في الجامع والاخر في الحصة بحيث لو أتى بالجامع وترك الحصة كان عقابه أخف مما إذا ترك العمل رأسا (١).

الثاني ـ ان غاية ما يلزم مما ذكر في هذا المنهج لو تم وقوع التعارض بين إطلاق دليل الأمر الاضطراري لمن يزول عذره في آخر الوقت وإطلاق دليل الأمر الاختياري لمن صدر منه الفعل الاضطراري في أول الوقت لأن كلا من الإطلاقين بعد تسليم البرهان المذكور يدفع الاخر وبعد التعارض لا بد من ملاحظات المرجحات فان لم يكن في البين مرجح رجعنا إلى الأصل العملي الّذي سوف يأتي الحديث عنه.

الثالث ـ ان السيد الأستاذ ذكر في بحث المطلق والمقيد انه إذا ورد مثلا ( عتق رقبة ) وورد ( أعتق رقبة مؤمنة ) فالجمع بينهما يمكن ثبوتا بنحوين ، أحدهما : حمل المطلق على المقيد بان يراد عتق الرقبة المؤمنة. والثاني : الحمل على التخيير بان يكون المكلف مخيرا بين ان يعتق رقبة مؤمنة بشرط لا عن الكافرة أو يعتق رقبة كافرة ثم رقبة مؤمنة أي بشرط شيء لأنه بذلك يصبحان من المتباينين ، فيمكن التخيير بينهما. الا انه قال ان هذا خلاف ظاهر الدليل (٢).

فنقول إذا كان التخيير بين الأقل والأكثر بعد تقييد الأقل بشرط لا وبشرط شيء معقولا فلما ذا لا يعقل فيما نحن فيه التخيير بين العمل الاختياري بشرط لا عن العمل الاضطراري قبله وبين العمل الاختياري بشرط سبق الاضطراري وأي فرق بين هذا وبين عتق الرقبة المؤمنة أو عتق الرقبة الكافرة وعتق الرقبة المؤمنة.

__________________

(١) الكلام في الواجب الواحد ذي الغرض الارتباطي الواحد وما ذكر انما يعني وجود غرضين مستقلين يتحقق أحدهما بالجامع ولو لم يأت بالحصة ويتحقق الاخر بالحصة وهذا خروج عن الفرض ، الا إذا فرض ان تحقيق الجامع لجزء من ذلك الغرض الواحد أيضا يكون مشروطا بتحقيق الحصة بعد ذلك بحيث لو حقق الجامع ولكن لم يحقق الحصة بعد ذلك كان ما أتى به باطلا فيكون من التخيير بين الأقل والأكثر لا محاله. والحاصل في ما هو مفروض البحث من وجود فريضة واحدة لا تتحقق الا بالاختياري ـ بمقتضى إطلاق دليله ـ لا يعقل الأمر الاضطراري بعنوان انه الفريضة لا بعنوان انه واجب مستقل عن الفريضة الواحدة الواجبة في كل وقت الأعلى نحو التخيير بين الأقل والأكثر.

(٢) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٥ ، ص ٣٨٠.


ونحن لم نقبل إمكان مثل هذا التخيير في المقامين حتى إذا أرجعنا الشقين إلى متباينين عن طريق أخذ بشرط لا وبشرط شيء. لأن هذا انما يعقل فيما إذا كان هناك شق ثالث على تقدير وجود ذات الأقل ، أي أمكن تحقيق ذات الأقل من دون القيدين معا ، كما في التخيير بين التسبيحة الواحدة بشرط لا عن أي تسبيحة أخرى وبين ثلاث تسبيحات فانه يمكن انتفائهما معا مع وجود ذات الأقل وذلك بإتيان تسبيحتين ، واما لو خير بين التسبيحة الواحدة بشرط لا عن الثالثة وبين التسبيحة بشرط الثلاث فلا يمكن التخيير أيضا ، وذلك لأن الأمر الضمني بالقيدين اللذين أحدهما ضروري الوجود والتحقيق على تقدير تحقق ذات الأقل ، لغو صرف ، فلما ذا يؤمر به؟ وما نحن فيه وكذلك باب المطلق والمقيد من هذا القبيل (١).

واما المنهج الاستظهاري فيمكن ان يبين بعدة تقريبات.

التقريب الأول ـ ان دليل الأمر الاضطراري ظاهر في التصدي لبيان تمام ما هو وظيفة المكلف فلو لم يكن الفعل الاضطراري وحده كافيا في هذا المقام وكان لا بد عليه ان يعيد العمل إذا ارتفع عذره بعد ذلك لكان ينبغي ان يبينه ، وهذا يشكل بحسب الحقيقة إطلاقا مقاميا في دليل الأمر الاضطراري يقتضي الاجزاء.

الا ان هذا الإطلاق انما ينعقد فيما إذا كانت هناك قرينة خاصة في دليل الأمر الاضطراري على كون المولى بصدد بيان كل ما هو وظيفة المكلف والا فمقتضى الطبع الأول لدليل الأمر الاضطراري انه في مقام بيان الوظيفة حين الاضطرار لا كل الوظائف الفعلية عليه.

على أن هذا الإطلاق المقامي معارض مع إطلاق دليل الحكم الاختياري ،

__________________

(١) كما يعقل في التخيير العقلي أن يكون الجامع منتزعا عن الأقل بحده والأكثر بحده كما في مثل الكلمة والكلام الّذي هو اسم للجامع بين الحرف الواحد والحرفين أو الكلمتين والأكثر بنحو يكون في مورد تحقق الأكثر ذلك الجامع منطبقا على الأكثر بحده ولا ينطبق على الأقل الموجود في ضمنه ، كذلك يمكن في التخيير الشرعي افتراض ان الغرض والملاك المولوي متقوم بالأقل بحده والأكثر بحده فيخير المولى بينهما ولا يقال ، ان الأمر الضمني بالحدين اللذين لا ثالث لهما لغو ، لأن هذا هو الّذي فيه الملاك لا ذات الأقل ، ولا يشترط في الأوامر الضمنية تحركا مستقلا عن التحرك نحو المتعلق الاستقلالي كما انه لا يتعدد بها الأمر ليكون جعلا زائدا فيكون لغوا. على أنه يكفي في دفع مثل هذه اللغوية انه من بركات هذا الأمر الضمني إمكان الامتثال بالفعلين معا ( الأكثر ) وبهذا يثبت بطلان البرهان الثبوتي الّذي ذكرته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) في المقام أيضا.


والإطلاقات المقامية وان كانت في الغالب أقوى من الإطلاقات الحكمية بحيث تصلح للقرينية عليها الا ان هذا انما يكون فيما إذا كان الإطلاق المقامي في طول التصريح في دليل الأمر الاضطراري كما إذا كان واردا فيمن اضطر في أول الوقت وارتفع عذره بعد ذلك واما إذا كان الإطلاق المقامي بنفسه في طول حكمي لدليل فسوف تكون المعارضة بحسب الحقيقة بين الإطلاقين الحكمين لأن النتيجة تتبع أخس المقدمتين.

التقريب الثاني ـ ان دليل الأمر الاضطراري إذا استفيد من لسانه اللفظي ـ كما في مثل ( التراب أحد الطهورين ) أو من مجموعة القرائن المقامية واللفظية المتنوعة ـ البدلية وتنزيل الوظيفة الاضطرارية منزلة الوظيفة الاختيارية كان مقتضى إطلاق البدلية حينئذ البدلية على الإطلاق ، أي في كل الجهات والمراتب وهو يقتضي الأجزاء لا محالة ، ولا يقدح في ذلك أن يكون شمول دليل الأمر الاضطراري بالإطلاق ، لأن معنى هذا التقريب ان دليل الأمر الاضطراري ناظر إلى الوظيفة الواقعية الاختيارية وإطلاق الدليل الناظر حاكم ومقدم على إطلاق الدليل المحكوم.

وهذا التقريب تام لكنه موقوف على الاستظهار الّذي ذكر.

وقد ذكر المحقق العراقي ( قده ) بيانا لدلالة إطلاق الأمر الاضطراري على الاجزاء لا يبعد رجوعه إلى ما ذكرناه ولكنه أعقبه بإشكالين :

الإشكال الأول ـ ان إطلاق البدلية لتمام مراتب الوظيفة الاختيارية معارض لظهور دليل الحكم الاختياري في دخل ذلك القيد أو الجزء المضطر إلى تركه في المصلحة ولو ببعض مراتبها.

وهذا الإشكال هو إشكال أصل المعارضة وقد عرفت حكومة دليل الأمر الاضطراري بملاك النّظر على دليل الأمر الاختياري.

الإشكال الثاني ـ تقديم ظهور دليل الأمر الاختياري على إطلاق البدلية في دليل الأمر الاضطراري بالأظهرية أو الحكومة ، اما نكتة الأظهرية فقد قربها بدعوى : ان هذا الظهور أعني ظهور دليل الأمر الاختياري في دخل القيد في المصلحة الواقعية وضعي ،


لأنه ناشئ من أخذه قيدا تحت الأمر والظهور الوضعي مقدم على الظهور الإطلاقي (١).

وفيه : ان المعارض مع إطلاق البدلية ليس أصل الظهور في دخل القيد بل إطلاقه لحال ما إذا جاء المكلف المضطر في أول الوقت بالوظيفة الاضطرارية ثم ارتفع عذره في الأثناء.

واما نكتة الحكومة فقد ذكر في بيانها : ان دليل الوظيفة الاختيارية بظهوره في دخل القيود والاجزاء في المصلحة الواقعية يقتضي لزوم حفظ القدرة عليها والمنع عن تفويتها بإيقاع النّفس في الاضطرار الّذي هو موضوع الوظيفة الاضطرارية ، وهذا يعني ان دليل الحكم الاختياري حاكم على دليل الحكم الاضطراري لأنه ناظر إلى موضوعه.

وهذا البيان غريب جدا ولو كنا رأيناه في كلام شخص آخر ينسبه إلى هذا المحقق لكنا نطمئن بخطائه ولكنه قد جرى على قلمه الشريف في مقالاته ، وكيف ما كان فمن الواضح ان الحكومة بملاك رفع الموضوع انما تعني رفع الموضوع شرعا بلحاظ عالم الجعل والاعتبار استطراقا إلى نفي حكمه ، كما إذا نفي الرّبا بين الوالد والولد فيحكم على دليل حرمة الرّبا لا محالة ، ولا تعني ان مجرد النهي والمنع عن الموضوع خارجا ـ كما إذا نهى ومنع عن الرّبا بين الوالد والولد ـ يكون حاكما على دليل حكم رتب على ذلك الموضوع ، إذ لو عصى وأوجد ذلك الموضوع فهذا الدليل لا يدل على انتفاء تحققه في الخارج لكي ينتفي حكمه المرتب عليه ، وما نحن فيه لو سلمت هذه الدلالات فغايته النهي عن إيقاع النّفس في الاضطرار واما لو أوقع نفسه فيه أو وقع فيه قهرا فدليل الحكم الواقعي لا ينفي تحقق الاضطرار ليكون حاكما على دليل الوظيفة الاضطرارية ، وكأنه وقع خلط بين النّظر في دليل إلى موضوع دليل آخر لنفيه أو إثباته تعبدا استطراقا إلى نفي حكمه أو إثباته ، وبين نظر دليل إلى موضوع دليل آخر للنهي عنه وتحريمه في نفسه فالأوّل هو ملاك الحكومة وليس مجرد نظر دليل إلى موضوع دليل آخر هو الحكومة أو الورود.

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ٩٠.


التقريب الثالث ـ ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) في مقالاته وهو يتألف من مجموع مقدمتين.

الأولى ـ ان ظاهر دليل الأمر الاضطراري كالاختياري تعلقه بخصوص الفعل الاضطراري وتعيينه وهذا ظهور ناشئ من تعلق الأمر بعنوان وأخذه فيه.

الثانية ـ ان هناك محتملات ثلاثة في حق الفعل الاضطراري في المقام : عدم الاجزاء ، والاجزاء بملاك الوفاء بتمام الغرض ، والاجزاء بملاك التفويت. وعلى الاحتمالين الأول والثاني لا بد وان يكون الأمر الاضطراري متعلقا بالجامع بينه وبين الاختياري لا بخصوص الوظيفة الاضطرارية ، بل على الاحتمال الثاني لا بد وان يكون الأمر الاختياري أيضا بالجامع لأن الملاك ـ الناقص على احتمال الأول والتام على الاحتمال الثاني ـ انما يكون في الجامع ولا مبرر ولا فائدة أصلا لتعلق الأمر بالحصة الخاصة حتى مع الترخيص في فعله لأن هذا الترخيص أيضا ثابت بحكم العقل في موارد تعلق الأمر بالجامع كما هو مقرر في محله.

واما على الاحتمال الثالث فلا بد من تعلق الأمر الاضطراري بالوظيفة الاضطرارية بالخصوص ، لأنه بناء على هذا الاحتمال وان كان الغرض الناقص في الجامع أيضا ولكن حيث ان تحقيقه ضمن الوظيفة الاضطرارية يوجب فوات الغرض الكامل فالعقل لو لا الأمر أو الترخيص الشرعي في الإتيان به بخصوصه لا يرخص في الإتيان به ، وان كان المكلف لو أتى به كان صحيحا بمناط المضادة ـ كما بينا فيما سبق ـ فعلى هذا الاحتمال نحتاج إلى امر من الشارع متعلق ـ ولو ببعض مباديه ـ بالخصوصية ، وهذا يعني ان مقتضى الحفاظ على ظهور الأمر الاضطراري في التعلق بالخصوصية الاجزاء بملاك التفويت لا الوفاء بتمام الغرض ولا عدم الاجزاء ، وهذا الظهور أقوى من إطلاق الأمر الاضطراري في البدلية والتنزيل أو إطلاق الأمر الاختياري المقتضي لعدم الاجزاء (١).

وفيه : ـ

أولا ـ انه لا معنى للأمر التعييني بالحصة الاضطرارية حتى على الاحتمال الثالث

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ٨٧.


أيضا ، لأن الأمر بالوظيفة الاختيارية اما ان يفرض كونه امرا بخصوص الاختياري الّذي لم يسبقه الاضطراري ، أو يفرض كونه مطلقا ؛ فعلى الأول لا يجوز الإتيان بالوظيفة الاضطرارية مسبقا ، لأن الإلزام بالمقيد إلزام بالقيد ، وهذا لا يمكن ان يجتمع مع الأمر بالحصة الاضطرارية. وان فرض الثاني فلا قبح عقلا في تفويت باقي غرض المولى بالإتيان بالحصة الاضطرارية لنكون بحاجة إلى ترخيص مولوي بالحصة الاضطرارية ، لأن هذا القيد ـ وهو عدم سبق الاضطراري ـ وان كان فيه الملاك ـ حيث يترتب عليه عدم فوات الغرض الكامل ـ الا انه حيث ان المولى لم يتصد لتحصيله بأخذه تحت أمره فلا يدخل في عهدة المكلف ، لأن الّذي يدخل في عهدة المكلفين انما هو الغرض المولوي المأمور به لا الغرض الواقعي ولو لم يتصد المولى لتحصيله بالأمر ـ على ما حقق ذلك في بحث الأقل والأكثر الارتباطيين ـ فعلى هذا التقدير أيضا لا بد من الأمر بالجامع لا خصوص ، الحصة الاضطرارية.

والحاصل : ان الّذي يدخل في العهدة ولا يرخص العقل في تفويته هو أوامر المولى بعد فعليتها لا الأغراض الواقعية ، والأمر الاختياري في المقام إن كان متعلقا بالصلاة الاختيارية المقيدة بعدم سبق الاضطرارية كان هذا بنفسه منعا عن سبق الاضطرارية ، فلا يعقل الترخيص فيها. وان كان متعلقا بذات الصلاة الاختيارية فلا يكون فعل الاضطراري قبلها تفويتا لما دخل في عهدة المكلف وان فرض انه مفوت لملاكه الواقعي ، فلا حكم عقلي بعدم الترخيص ليحتاج إلى ترخيص مولوي. فعلى هذا الاحتمال أيضا يكفي للشارع إذا أراد ان يأمر بالملاك الناقص ان يأمر بالجامع بين الاضطراري والاختياري ، لأن الملاك فيه ولا مبرر ولا فائدة لتعلقه بخصوص الاضطراري. وكان هذا البيان انما صدر من المحقق العراقي ( قده ) بتخيل ان مجرد الملاكات تكون منجزة وداخلة في عهدة المكلفين وان المولى طالما يرى ان ملاك الاضطراري الناقص يفوت الملاك التام في الاختياري لا بد له أن يأمر بالاضطراري لكي يجوز للمكلفين فعله.

وثانيا ـ ان الأمر التعييني بالاضطراري اما ان يفرض امرا حقيقيا وبداعي البعث والتحريك نحو متعلقه ، فهذا لا يعقل نشوؤه الا من ملاك تعييني في المتعلق وهو الحصة


لا الجامع ، ولازمه العصيان لو ترك الفعل الاضطراري وجاء بالاختياري ، كما انه لو لم يجئ بهما فهناك عقابان عليه. وكلاهما مما لا يلتزم به المحقق العراقي ( قده ) وان فرض انه مجرد امر صوري من أجل الترخيص في الفعل فهذا أيضا مخالفة لظاهر الدليل ليس بأقل من حمل الأمر على التخيير.

التقريب الرابع ـ ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) بما لفظه : ( فلا تكاد تكون بقية المصلحة ملاكا للبعث إلى المبدل بتمامه إذ المفروض حصول طبيعة المصلحة القائمة بالجامع الموجود بوجود البدل فتسقط عن الاقتضاء والشدة بما هي لا يعقل ان تكون ملاكا للأمر بالمبدل بكماله ، حيث ان المفروض ان تمام الملاك للأمر بتمام المبدل هي المصلحة الكاملة القوية وطبيعتها وجدت في الخارج وسقطت عن الاقتضاء ، فلو كان مع هذا حد الطبيعة القوية مقتضيا للأمر بتمام المبدل لزم الخلف ، نعم اقتضائه لتحصيل الخصوصية القائمة بالمبدل معقول نظرا إلى ان اشتراك المبدل والبدل في جامع الملاك يكشف عن جامع بينهما ، لكنه لا يجدى الا مع الالتزام بالأمر بالجامع أيضا في ضمن المبدل تحصيلا للخصوصية التي لها ملاك ملزم فيكون الأمر بالمبدل مقدميا وهو مما لا ينبغي الالتزام به. ومنه تعرف ان الالتزام بمصلحتين في المبدل أيضا لا يجدى إذا كانت إحداهما قائمة بالجامع والأخرى بالخصوصية بل لا بد من الالتزام بقيام مصلحتين إحداهما بالجامع فقط وأخرى بالجامع المتخصص بالخصوصية ) (١).

وحاصله : ان إطلاق دليل الأمر بالصلاة الاختيارية انما يدل بظاهره على الأمر بذي الخصوصية وهي الصلاة القيامية لا الأمر بالخصوصية وهي القيام في الصلاة ، وهذا يعني ان ما هو ظاهر الدليل غير محتمل وما هو يحتمل في صالح عدم الاجزاء ـ وهو فرض الأمر بالخصوصية ـ لا يستفاد من دليل الأمر ، ومنه يعرف ان هذا التقريب انما يبرهن على عدم دلالة دليل الأمر الاختياري على عدم الاجزاء ولا يبرهن على الاجزاء فإذا تم وجب الرجوع في مقام الإثبات إلى إطلاق أو أصل أولي وهو يثبت الاجزاء.

والتحقيق ان هذا التقريب غير تام وذلك.

__________________

(١) ص ١٥٠ ، ج ١ نهاية الدراية.


أولا ـ لما تفطن إليه المحقق نفسه من احتمال ان يكون للواجب ملاكان مستقلان أحدهما في الجامع والآخر في الجامع المتخصص فيكون منسجما مع الأمر بذي الخصوصية.

وثانيا ـ إمكان افتراض دخل الجامع في أصل الملاك الواحد بنحو العلية وفي مرتبتها أيضا بنحو الاقتضاء مشروطا باقتران الخصوصية معها ، وما أكثر المقتضيات التي تحتاج في مقام التأثير إلى شروط وهذا ينسجم مع الأمر بذي الخصوصية.

وثالثا ـ ان ما ذكر على تقدير التنزل عما ذكرنا انما هو بحسب المداقة العقلية والا فبحسب الصياغة العرفية للأمر يمكن ان يكون الأمر بذي الخصوصية من جهة قيام مرتبة من الملاك في خصوصيته.

هذا تمام الكلام فيما إذا كان لدليل الأمر الاختياري إطلاق يقتضي عدم الاجزاء. وقد تلخص وجوه خمسة للاجزاء لم يقم منها عدا الوجه الثالث الّذي كان متوقفا على خصوصية إثباتية في دليل الأمر الاضطراري.

واما إذا فرض عدم إطلاق دليل الأمر الاختياري في نفسه ، فتارة : يفرض ان له إطلاقا يقتضي الاجزاء ، بان كان منحلا إلى دليل يدل على أصل الواجب ـ كالصلاة ـ بالإطلاق ودليل آخر يقيد ذلك الإطلاق بقيد زائد في الواجب كالقيام مثلا ، الا ان هذا الدليل الثاني منفصل عن الأول ولم يكن له إطلاق لحال الاضطرار ـ كما هو الحال في الأدلة اللبية ـ فانه في مثل هذه الحالة يتمسك بإطلاق دليل الواجب لإثبات عدم تقيده بالقيد المتعذر في حق هذا المكلف.

وأخرى يفرض ان دليل الأمر الاختياري أيضا كان مجملا لا يقتضي الاجزاء ولا عدمه فتصل النوبة إلى مقتضى الأصل العملي.

مقتضى الأصل العملي

وقد ذكر صاحب الكفاية ( قده ) ان مقتضى الأصل العملي هو الاجزاء لأصالة البراءة عن وجوب الإعادة (١).

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٣٠.


وقد اعترض عليه باعتراضين :

الاعتراض الأول ـ ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) ـ من ان احتمال الاجزاء اما ينشأ من احتمال وفاء الفعل الاضطراري بتمام الملاك أو ينشأ من احتمال عدم إمكان التدارك لما يتبقى من الملاك وعلى كلا التقديرين لا تجري البراءة بل يجب الاحتياط اما على الفرض الأول فلأنه يكون من الدوران بين التعيين والتخيير ، إذ لو كان الفعل الاضطراري وافيا بالملاك فالحكم هو التخيير والا فالحكم هو تعيين الفعل الاختياري ، والأصل في موارد الدوران بين التعيين والتخيير هو الاحتياط كما اختاره المحقق الخراسانيّ نفسه.

واما على الفرض الثاني فيرجع الشك في التكليف إلى الشك في القدرة على تحصيل الملاك التام وعدمه وهو مجرى الاحتياط أيضا (١) ولنا على كل من الفرضيتين كلام : اما على الفرضية الأولى والتي يكون الشك في الاجزاء وعدمه فيها لاحتمال الوفاء بالملاك فلا بد من الرجوع إلى المسلك الّذي اخترناه لتصوير الأمرين الاضطراري والاختياري بناء على عدم الاجزاء ، فان اخترنا هناك تعدد الأمر بنحو يكون أحدهما امرا بالجامع والآخر بالحصة الاختيارية فالشك في الاجزاء وعدمه سوف يرجع إلى القطع بوجود امر بالجامع بين الاضطراري والاختياري على كل حال والشك في وجود امر ثان بالاختياري ، وهو من الشك في تكليف زائد ولا ربط له ببحث الدوران بين التعيين والتخيير.

وان اختير معقولية الأمر بكل من الاضطراري والاختياري على نحو التخيير بين الأقل والأكثر كان الأمر في المقام دائرا بين شقين ؛ الاجزاء وهو يعنى الأمر التخييري بهما بنحو التخيير بين المتباينين ، وعدم الاجزاء الّذي يعني الأمر التخييري بهما بنحو التخيير بين الأقل والأكثر ، وهذا معناه اننا نقطع بوجود امر تخييري في المقام كما نقطع ان الفعل الاختياري في آخر الوقت طرف لهذا الأمر التخييري وانما نشك في طرفه

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ٩٤.


وعدله الآخر هل هو الفعل الاضطراري وحده على تقدير الاجزاء أو هو مع الاختياري على تقدير عدم الاجزاء؟ وهذا من الدوران بين الأقل والأكثر في عدل الواجب التخييري ، وهو كالدوران بين الأقل والأكثر في أصل الواجب من حيث جريان البراءة.

وان اختير مبنى مدرسة المحقق النائيني ( قده ) من استحالة التخيير بين الفعل الاضطراري والاختياري على نحو التخيير بين الأقل والأكثر فالشك في الاجزاء وعدمه سوف يرجع إلى الشك في التعيين والتخيير ، لأنه على تقدير الوفاء والاجزاء فالامر تخييري ، وعلى تقدير عدم الاجزاء فالامر متعلق بالاختياري تعيينا (١).

واما على الفرضية الثانية فتارة : يفترض مع احتمال بقاء مقدار من الملاك غير قابل للتدارك وجود مصلحة أخرى في الترخيص في التفويت يتدارك بها المصلحة الفائتة ، بحيث يعقل ان يجعل الأمر على الجامع بين الفعلين ، فيكون حال هذا الفرض حال الفرضية الأولى ، لأن الاضطراري سوف يستوفي ما به يتدارك مفسدة التفويت فيأتي هنا كل ما ذكر هناك.

وأخرى يفترض اختيار مبنى المحقق العراقي ( قده ) من إمكان الأمر التعييني بالاضطراري لرفع حكم العقل بقبح التفويت ، وهذا معناه أن المولى لا يريد التحفظ حقيقة على الملاك التام الموجود في الاختياري إذا جاء المكلف بالاضطراري ، إذ لا يعقل ان يأمر بالاضطراري تعيينا إذا كان يريد ذلك ، فيكون عدم الإتيان بالاضطراري قيدا في وجوب الاختياري لا محالة. وهذا يعني رجوع الشك إلى القطع بوجوب الاختياري على تقدير عدم الإتيان بالاضطراري والشك في وجوبه على تقدير الإتيان به ، وهذا من الشك في أصل التكليف ، ولا مجال هنا لحديث الشك في القدرة الّذي هو مجرى الاحتياط عقلا ، لأن مورده ما إذا شك في القدرة على ما تنجز ودخل في عهدة المكلف ، وفي المقام الغرض الّذي يحتمل ان المولى لم يتصد إلى تحصيله أصله وان

__________________

(١) تارة يقرض إحراز ثبوت الأمر بالفعل الاضطراري وأخرى يفرض الشك في ذلك فعلى الأول لا مجال على المبني الأخير للشك بل يتعين القول بالاجزاء للتلازم الثبوتي بينهما وعلى الثاني لا يتم ما ذكر على المبنيين الأولين إذ لا يحرز الأمر التخييري أو الأمر بالجامع بل يكون على المباني الثلاثة من الدوران بين التعيين والتخيير كما أفاد المحقق العراقي ( قده ).


كان معلوما الا انه لا يدخل في العهدة وانما المقدار الّذي يدخل في العهدة ويتنجز على المكلف هو ما أحرز تصدي المولى لتحصيله ، وهو الاختياري على تقدير ترك الاضطراري. وان شئت قلت : ان هذا الملاك تفويته القطعي جائز فكيف بالتفويت الاحتمالي.

لا يقال : يتشكل على هذا المبنى للمكلف علم إجمالي بوجوب الصلاة الاضطرارية عليه الآن ، أو إطلاق وجوب الصلاة الاختيارية لحالة ما إذا جاء بالصلاة الاضطرارية أيضا فيجب الاحتياط.

فانه يقال : ـ هذا العلم الإجمالي ليس بمنجز حتى إذا فرضنا ان الإلزام بالصلاة الاضطرارية على تقدير إمكان تدارك الملاك الباقي إلزام حقيقي لا شكلي لأجل رفع قبح التفويت ، وذلك لأن الطرف الثاني لهذا العلم الإجمالي تقديري لا فعلي ، لأنه معلق على الإتيان بالصلاة الاضطرارية ، فقبل الإتيان بها لا علم إجمالي فعلي ، وبعد الإتيان يكون الطرف الأول خارجا عن الابتلاء ومنتهيا.

وثالثة : يفترض ان المولى لا يرضى بتفويت الملاك المتبقي على تقدير الاجزاء وهذا يعني انه يعلم بفعلية الاختياري عليه على كل حال ولكن يشك في ان الواجب هو مطلق الاختياري ـ على تقدير عدم التفويت ـ أو الاختياري المقيد بعدم سبق الاضطراري ـ على تقدير التفويت ـ وهذا من الدوران بين الأقل والأكثر.

الاعتراض الثاني : ان هناك أصلا عمليا حاكما على أصالة البراءة ، وهو الاستصحاب التعليقي لوجوب الفعل الاختياري لو كان زوال العذر قبل الإتيان بالفعل الاضطراري ، وقد اختار جملة من المحققين ومنهم صاحب الكفاية ( قده ) جريان الاستصحاب في القضايا التعليقية.

والجواب : ـ ان وجوب الفعل الاختياري تعيينا لا يقين سابق به بالخصوص ، إذ على فرض الاجزاء خصوصا بملاك الاستيفاء يكون الواجب من أول الأمر هو الجامع بين الفعلين مقيدا كل منهما بحاله ، فان أريد من الاستصحاب التعليقي استصحاب وجوب الفعل الاختياري تعليقا فلا علم بوجوب تعليقي من هذا القبيل ، وان أريد


استصحاب الانحصار في تطبيق الجامع على الفعل الاختياري على تقدير ارتفاع العذر ، فليس هذا الانحصار حكما شرعيا ليجري الاستصحاب بلحاظه ، بل هو لازم عقلي من باب تعذر أحد فردي الجامع.

المسألة الثانية : ـ ما إذا ارتفع العذر بعد انقضاء الوقت فهل يجب القضاء في خارج الوقت أم لا؟

والبحث حول هذه المسألة يقع في ثلاث نقاط.

١ ـ إطلاق دليل القضاء ، لمن جاء بالفعل الاضطراري داخل الوقت.

٢ ـ إمكان تقييد إطلاق القضاء بدليل الأمر الاضطراري لو كان لدليل القضاء إطلاق.

٣ ـ مقتضى الأصل العملي.

اما البحث في النقطة الأولى فهو بحث إثباتي محله علم الفقه ، الا اننا هنا نقول بشكل كلي ان الحال يختلف باختلاف استظهار وتشخيص ما هو الموضوع في دليل وجوب القضاء فلو كان الموضوع فوت الفريضة الفعلية فلا فوت في حق من جاء بالفعل الاضطراري داخل الوقت ، لأنه قد جاء بوظيفته الفعلية ولو كان الموضوع فوت الفريضة الشأنية الأولية أي لو لا الطوارئ والاعذار ، فلا إشكال في وجوب القضاء عليه.

ولو كان الموضوع خسارة الملاك وفوته ، فيكون المقام شبهة مصداقية لدليل وجوب القضاء ، لاحتمال الاستيفاء وعدم الفوت ، ولا يجوز التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية. نعم قد يحرز الموضوع بالاستصحاب إذا كان المقصود من الفوت عدم حصول الملاك كمفهوم عدمي لا وجودي بمعنى الخسارة المنتزع من عدم الإتيان وعدم إمكان التدارك. واما تشخيص إحدى هذه الصيغ في مقام الاستظهار من دليل القضاء فهو في ذمة علم الفقه.

واما البحث في النقطة الثانية ـ فلو كان لسان دليل الحكم الاضطراري لسان جواز البدار ، وقلنا في صورة ارتفاع العذر في داخل الوقت بالاجزاء وعدم وجوب الإعادة ، فعدم وجوب القضاء أوضح بلا حاجة إلى استئناف بحث وكلام. اما لو فرض انه لم يكن بلسان جواز البدار بل كان مختصا بصورة ما إذا استمر العذر إلى آخر الوقت ،


فلا بد من الرجوع إلى الوجوه الخمسة المتقدمة للاجزاء في صورة ارتفاع العذر داخل الوقت لنرى ما يجري منها في المقام.

اما الوجه الأول وهو دعوى الملازمة العقلية بين الأمر بالاضطراري والاجزاء ، فقد يقرب جريانه هنا : بأن القيد المتعذر اما ان يكون دخيلا في الملاك مطلقا أو في خصوص حال عدم الاضطرار والتعذر فلو كان دخيلا مطلقا فلا معنى للأمر بالاضطراري داخل الوقت ، لفقدانه للملاك بحسب الفرض. ولو لم يكن دخيلا في حال التعذر فقد حصل الملاك ولا معنى للقضاء. هذا ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) (١).

والجواب : ان هناك احتمالا ثالثا وهو ان يكون القيد المتعذر كالقيام مثلا دخيلا في جزء من ملاك الصلاة الأدائية وغير دخيل في الجزء الآخر ، فيكون المولى قد امر بالصلاة الأدائية من جلوس حفاظا على ملاك الصلاة الأدائية بلحاظ ذلك الجزء الّذي لا يكون القيام دخيلا فيه ، وامر بالقضاء تداركا لذلك الجزء الّذي كان القيام دخيلا فيه وقد فات بفوت القيام في الصلاة.

واما الوجه الثاني ـ وهو الإطلاق المقامي لدليل الأمر بالفعل الاضطراري بنكتة انه في مقام بيان تمام الوظيفة ، فهذا ان تم هناك لا يتم هنا ، الا بمئونة زائدة ، هي انه يكون بصدد بيان تمام الوظيفة حتى بلحاظ امر آخر خارج الوقت.

واما الوجه الثالث ـ وهو التمسك بإطلاق البدلية والتنزيل بلحاظ تمام المراتب ، فهذا ان تم جرى في المقام أيضا.

واما الوجه الرابع ـ وهو ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) من استفادة الاجزاء من ظهور الأمر في التعيين الّذي لا يناسب عنده الا مع الاجزاء ، فهذا لا يتم هنا ولو فرض تماميته هناك ، لأن الأمر بالاضطراري لا بد وان يكون تعيينا في المقام على كل حال ، لأن العذر مستوعب لتمام الوقت.

واما الوجه الخامس ـ الّذي حصلناه من كلمات المحقق الأصفهاني ( قده ) من ان عدم الاجزاء انما يكون لو كان دليل الأمر الاختياري امرا بالخصوصية وليس لنا امر

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١٩٥ ـ ١٩٦.


كذلك ، فهذا لا يتم في المقام إذا كان دليل القضاء مثل لسان ( اقض ما فات كما فات ) فان هذا اللسان لا ينحصر مفاده بالأمر بذي الخصوصية ، فانه إذا استمر العذر إلى آخر الوقت صدق الفوت على الخصوصية فيشملها ( اقض ما فات كما فات ).

واما البحث في النقطة الثالثة ـ فقد ذكر صاحب الكفاية ( قده ) ان مقتضى الأصل العملي هو البراءة عن وجوب القضاء ، وأفاد ان جريان البراءة هنا أولى من جريانها في المسألة السابقة ، أي من جريانها بلحاظ الإعادة (١).

والتحقيق : ان أولوية جريان البراءة عن وجوب القضاء انما يكون بناء على ان يكون القضاء بأمر جديد ، حيث يكون الشك في أصل تكليف جديد ، ولا يتوهم فيه مورد للاحتياط أو الاستصحاب التعليقي لأن عنوان الفوت لا يمكن إثباته حتى بالاستصحاب التعليقي ـ واما إذا كان القضاء بالأمر الأول ، بان كان هناك امران.

أحدهما ـ بالجامع ، والآخر ـ بإيجاد الجامع في الوقت. فمع الشك في الأجزاء يكون المقام من الدوران بين التعيين والتخيير الّذي يرى فيه صاحب الكفاية جريان الاحتياط لا البراءة ، لأنه سوف يعلم بوجوب الصلاة من جلوس مثلا عليه داخل الوقت على كل حال ـ وهذا هو الأمر الثاني المختص بالوقت ـ ويعلم بوجود امر آخر عليه مردد بين ان يكون امرا بالصلاة من قيام على تقدير عدم الاجزاء أو بالجامع بينها والصلاة الجلوسية في الوقت ـ على تقدير الاجزاء ـ وهذا من الدوران بين التعيين والتخيير.

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٣٠.


المقام الثاني ـ في اجزاء الأمر الظاهري عن الواقع.

والكلام تارة ؛ في فرض انكشاف مخالفة الحكم الظاهري للواقع بالجزم واليقين ، وأخرى ، في فرض تبدل الحكم الظاهري.

اما إذا فرض انكشاف الخلاف باليقين : فمقتضى الأصل والقاعدة هو عدم الاجزاء ، لأن الحكم الظاهري لا يرفع الحكم الواقعي ، فمع انكشاف عدم امتثاله مع فعليته بحسب الفرض يجب لا محالة الإعادة والقضاء. ولكن قد يصار إلى الاجزاء بأحد بيانات أهمها اثنان :

البيان الأول : ـ ما ذهب إليه صاحب الكفاية (ره) من التفصيل بين حكم ظاهري ثبت بلسان جعل الحكم المماثل للواقع كأصالة الحل والطهارة ـ في رأيه ـ وحكم ظاهري ثبت بلسان إحراز الواقع وان كان لبا حكما ظاهريا وراء الواقع. ففي الأول مقتضى القاعدة الاجزاء ، بخلاف الثاني ـ فلو صلى مع أصالة الطهارة ثم انكشف الخلاف ، كان مقتضى القاعدة الاجزاء ، وذلك لأن دليل أصالة الطهارة أو الحل يوسع من موضوع دليل اشتراط الطهارة أو الحل في الصلاة وينقح لنا صغرى الشرط بجعل الطهارة أو الحلية على المشكوك (١).

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٣٣ ـ ١٣٤.


وقد أوردت مدرسة المحقق النائيني ( قده ) على هذا البيان مناقشات عديدة نقضا وحلا نشير فيما يلي إلى جملة منها.

منها ـ ما اتفق عليه المحقق النائيني ( قده ) والسيد الأستاذ : من ان حكومة أدلة الأحكام الظاهرية على الواقع حكومة ظاهرية وليست واقعية لأن الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي ومتأخر عنه رتبة ، فلا يعقل توسعته للحكم الواقعي الا ظاهرا وفي مقام الوظيفة العملية والتي ترتفع بانكشاف الخلاف (١).

وهذا النقاش قابل للدفع : بان أصالة الطهارة في طول النجاسة الواقعية المشكوكة ولكنها ليست في طول شرطية الطهور في الصلاة ، فلا مانع من ان تكون حكومته على دليل شرطية الطهارة واقعية.

ومنها ـ ما ذكره المحقق النائيني والسيد الأستاذ معا : من ان الحكومة في نظر صاحب الكفاية على ما يذكره في بحوث التعارض منحصرة في التفسير اللفظي بمثل ( أي وأعني ) ولسان دليل أصالة الطهارة والحل ليس كذلك (٢).

والجواب : من الجائز ان يكون نظر صاحب الكفاية ( قده ) إلى الورود لا الحكومة والتنزيل ، فكأنه يريد أن يقول انه يتحقق موضوع جديد للطهارة أو الحل بأصالة الطهارة والحل ، وليكن تفسيره للحكومة بذلك بنفسه قرينة على ان مراده هنا الورود لا الحكومة نظير ما يقوله في ورود الأمارات على الأصول.

ومنها ـ ما اتفق عليه المحقق النائيني ( قده ) والسيد الأستاذ معا : من النقض بسائر أحكام الطهارة كاشتراط طهارة ماء الوضوء وطهارة الملاقي ونحو ذلك حيث لا يظن بأحد أن يلتزم بصحة الصلاة أو بطهارة الملاقى بعد انكشاف الخلاف فيهما (٣).

وفيه : انه يمكن لصاحب الكفاية ان يجيب على هذه النقوض بفرضية أصولية عهدة إثباتها صغرويا أو نفيها في ذمة الفقه ، وذلك بان يقول : ان أصالة الطهارة انما توسع موضوع حكم أخذ فيه الطهارة ولا تضيق موضوع حكم أخذ فيه النجاسة ، لأن

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١٩٩. محاضرات في أصول الفقه ، ج ٢ ، ص ٢٥٧.

(٢) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١٩٨.

(٣) أجود التقريرات ١ ، وهامشه ، ج ١ ، ص ١٩٩ ـ ٢٠٠. محاضرات في أصول الفقه ، ج ٢ ، ص ٢٥٤ ـ ٢٥٥.


أصالة الطهارة توجد طهارة أخرى ظاهرية في مقابل الطهارة الواقعية ولا تنفي النجاسة الواقعية ، فإذا ثبت في الفقه ان الطهارة هي الشرط في الصلاة ولكن النجاسة هي المانعة عن صحة الوضوء أو الموجبة لتنجس الملاقي كان التفصيل بين الأثرين معقولا لا محالة.

لا يقال ـ ان أصالة الطهارة ان لم تدل بالملازمة ولو العرفية على نفي النجاسة ظاهرا فكيف نصحح الوضوء حينئذ بماء ثبتت طهارته بأصالة الطهارة ؛ وان دلت على ذلك بدعوى الملازمة حتى في مرحلة الظاهر بين الطهارة وعدم النجاسة فأصالة الطهارة كما تحكم وتوسع دليل شرطية الطهارة كذلك تحكم على دليل مانعية النجاسة ، فان كانت الحكومة واقعية ثبت الاجزاء في المقامين ، وان فرضت ظاهرية فقط فلا اجزاء كذلك.

فانه يقال ـ انما يتم هذا الإشكال إذا كان المراد من الحكومة التنزيل لا ما ذكرناه من إيجاد فرد حقيقي للموضوع بالورود ، فانه حينئذ يكون الفرق بين فرض شرطية الطهارة ومانعية النجاسة واضحا ، لأن الشرط يتحقق مصداقه الآخر بأصالة الطهارة فيجزي ، بينما المانع لا بد من انتفاء تمام مصاديقه لينتفي ، وبأصالة الطهارة لا يمكن نفي النجاسة الواقعية المشكوكة حقيقة بالورود ، لأن هذا خلف الطولية بين الحكمين وانحفاظ الحكم الواقعي ، فليس هذا الا تعبدا ظاهرا بانتفاء النجاسة المانعة وقد انكشف بعد ذلك وجودها.

نعم يوجد لهذا الكلام لازم لا يدرى هل يلتزم به صاحب الكفاية أم لا ، وهو انه لو توضأ بماء نجس ظاهرا بالاستصحاب مثلا ـ ولو رجاء ـ ثم انكشف الخلاف كان وضوؤه باطلا إذ كما يفرض توسيع الشرطية الواقعية للطهارة كذلك ينبغي ان يفرض توسيع المانعية الواقعية للنجاسة ، الا ان هذا مبني على التزامه بالاجزاء في الاستصحاب أيضا كما قواه في الكفاية.

ومنها ـ ما اختص به المحقق النائيني ( قده ) نفسه وحاصله : ان تصحيح الصلاة الواقعة مع الطهارة الظاهرية بحيث لا تحتاج إلى الإعادة بعد انكشاف الخلاف يحتاج إلى مجموع امرين.

أحدهما ـ الحكم بالطهارة ظاهرا.


الثاني ـ توسعة دائرة الشرطية بحيث تشمل الطهارة الظاهرية أيضا.

وهذان مطلبان طوليان يفترض في ثانيهما الفراغ عن الأول ، حيث انه لا بد من فرض الطهارة الظاهرية أولا ثم يقال ان هذا فرد من افراد الشرط أيضا. ودليل أصالة الطهارة لا يمكنه ان يفي بكلا المطلبين في إنشاء واحد لما عرف من الطولية بينهما (١).

وان شئت قلت : ان قوله ( كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر ) اما أن يراد به إنشاء الطهارة للمشكوك فيكون المجعول فيه الطهارة الظاهرية لا التوسعة ، واما ان يكون قد فرغ فيه عن الطهارة ويراد توسعة آثارها الواقعية ، فلا يمكن ان يستفاد منها الطهارة الظاهرية حينئذ.

وفيه : أولا ـ ان هذا مبني على تفسير كلام صاحب الكفاية ( قده ) بالحكومة والتنزيل لا الورود ، والا ففي الورود لا نحتاج إلى نظر الدليل الوارد إلى المورود بل التمسك في إثبات الحكم المورود بنفس دليل المورود ولا يتكفل الوارد الا جعل الطهارة.

وثانيا : بناء على التنزيل والحكومة بإمكان صاحب الكفاية أن يجيب على هذا الإشكال : بان موضوع هذا التنزيل ليس هو الطهارة الظاهرية ليقال بأنه كيف يمكن لجعل واحد ان يتكفل التوسعة وموضوع هذه التوسعة في وقت واحد ، وانما موضوع التنزيل والتوسعة نفس مشكوك الطهارة فكأنه قال ( ان مشكوك الطهارة محكوم باحكام الطاهر الواقعي بما هو طاهر ) وما يسمى بالطهارة الظاهرية منتزع عن مثل هذا التنزيل لا أنه حكم آخر وقع موضوعا لهذا التنزيل (٢).

والتحقيق في الجواب على كلام صاحب الكفاية ( قده ) أن يقال :

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١٩٨.

(٢) انما تكون الطهارة ظاهرية إذا كان الأثر التكليفي المترتب عليها مرتبا ظاهرا لا واقعا لأن حقيقة الحكم الظاهري هي التزاحم الحفظي بين الأحكام القابلة للنتيجة والتعذير أي الإلزامات والترخيصات الشرعية ولا يعقل ذلك في الحكم الوضعي بما هو وضعي وعلى هذا إذا أريد تنزيل مشكوك الطهارة منزلة الطاهر الواقعي ظاهرا فهو يقتضي فرض انحفاظ أثرها التكليفي الواقعي على حاله ووقوع التزاحم الحفظي فيه وهو مناقض مع فرض التوسعة الواقعية وان أريد تنزيله منزلة الطاهر الواقعي واقعا فلازمه كون مفاد دليل القاعدة حكما واقعيا حرفا وهو تنزيل المشكوك منزلة الطاهر الواقعي في الشرطية ومعه لا مجال لاستفادة حكم ظاهري منه بلحاظ انتفاء النجاسة لا بالمطابقة ـ وهو واضح ـ ولا بالملازمة بينهما في مرحلة الظاهر لأنها فرع كون التوسعة لآثار الطهارة ظاهرية لا واقعية فترد النقوض المتقدمة في إيراد سابق فالحاصل : إذا كان الملحوظ في جعل الطهارة في مورد والمشكوك حكما واقعيا حقيقة بترتيب آثار الطهارة وتوسعتهما واقعا فلا يستفاد من دليل القاعدة إلا توسعة الشرطية لا الطهارة الظاهرية كحكم ظاهري حقيقي فلا مجال لاستفادة انتفاء النجاسة ظاهرا منه بالملازمة وإذا كان الملحوظ ترتيب الآثار المرتبة عليها ظاهرا أمكن استفادة انتفاء آثار النجاسة بالملازمة في موردها أيضا ولكن هذا اللحاظ يناقض فرض التوسعة الواقعية فالجمع بين الأمرين غير ممكن كما هو واضح.


ان قاعدة الطهارة تقابل دليلين واقعيين ، أحدهما : دليل نجاسة الشيء وطهارته ، والآخر : دليل اشتراط الصلاة بالطهارة فإذا قايسنا قاعدة الطهارة إلى الدليل الأول فمن الواضح عدم حكومتها عليه إذ ليست موسعة لموضوعه أو مضيقة له ، فيدور الأمر بين ان تكون مخصصة له كما يظهر من كلام لصاحب الحدائق ( قده ) أو تكون حكما ظاهريا مؤمنا عنه. وقد وضحنا في الفقه انها لا تكون مخصصة لدليل النجاسة ، وانما هي حكم ظاهري موضوعه الشك في النجاسة والطهارة. وعلى أي حال ان بنينا على ان القاعدة مخصصة لدليل النجاسة فلا إشكال في الاجزاء وصحة الصلاة واقعا وكان خروجا عن محل الكلام والبحث وعن اجزاء الحكم الظاهري عن الواقعي ، فلا بد من افتراض ان القاعدة بلحاظ الحكم الأول ليست الا حكما ظاهريا ، ويبقى مقايستها مع الحكم الثاني وهو الشرطية وبلحاظ هذا الحكم يوجد احتمالان.

الأول ـ ان يكون تنزيلا لمشكوك الطهارة منزلة الطاهر الواقعي بلحاظ عالم الأحكام المجعولة من قبل الشارع والتي منها الشرطية ، فتفيد الحكومة الواقعية والتوسعة الحقيقية للشرطية.

الثاني ـ ان يكون تنزيلا للمشكوك منزلة الطاهر بلحاظ الجري العملي والوظيفة في حالات الشك والالتباس والتحير ، وبناء عليه لا يثبت الاجزاء ، لأنها لا تفيد أكثر من تحديد الوظيفة العملية أي التأمين في حالة الشك ولا تقتضي سقوط الواقع.

والظاهر الأولي لألسنة التنزيل كقوله 7 ( الصلاة بالبيت طواف ) وان كان هو الاحتمال الأول أي الحكومة والتوسعة الواقعية للأحكام ، بل لا يعقل في أكثر الموارد الا المعنى الأول ، الا انه في موارد أخذ الشك في موضوع التنزيل كما يحتمل المعنى الأول يعقل المعنى الثاني أيضا ، وحينئذ ان لم نستظهر من نفس أخذ الشك والتحير في لسان التنزيل إرادة المعنى الثاني ولو بحسب مناسبات الحكم والموضوع العرفية الارتكازية ، فلا أقل من الإجمال المنافي لإمكان إثبات الاجزاء بملاك التوسعة الواقعية.

ويؤيد إرادة الاحتمال الثاني في القاعدة ذيل موثقة عمار حيث تقول : ( فإذا علمت فقد قذر ) الّذي يعنى ان مجرد العلم بالقذارة يوجب نفوذ آثار القذارة ، ومقتضى إطلاقها إنفاذ جميع آثار القذارة حتى الثابتة قبل العلم بها والتي منها بطلان العمل


السابق ولزوم الإعادة ، واحتمال هذا الإطلاق كاف أيضا ، لسريان الإجمال إلى صدر الحديث (١).

البيان الثاني ـ لإثبات اجزاء الحكم الظاهري مبني على القول بالسببية في حجية الأمارات أو الأصول ، بحيث تكون مصلحة الواقع متداركة بالأمارة فلا تجب الإعادة ولا القضاء.

وتفصيل الكلام في هذا البيان : ان الاحتمالات بدوا في حجية الأمارات أو الأصول عديدة.

الأول ـ ما يسمى عند أصحابنا بالسببية الأشعرية : والمقصود منه سواء صحت النسبة إلى الأشعرية أم لا ـ انه لا حكم في المرتبة السابقة على أداء الأمارة أو الأصل لمؤداه ، فالحكم يتولد بنفس أداء الأمارة أو الأصل إلى شيء وفق مؤداه ، وهذا لا محالة يستلزم التصويب والاجزاء معا ، إذ لا امر الا الأمر الّذي قد امتثله ولا معنى لانكشاف الخلاف وعدم الاجزاء.

الثاني ـ ما يسمى عندنا بالسببية المعتزلية ، والمقصود منه ـ سواء صحت النسبة أم لا انه توجد أحكام في المرتبة السابقة على قيام الأمارة أو الأصل الا انها أحكام مغياة بأداء الأمارة أو الأصل إلى خلافها فترتفع ويكون الحكم ما ادى إليه الأصل أو الأمارة ، وهو أيضا يستلزم التصويب والاجزاء ، إذ بعد قيام الأمارة والأصل لا يكون هناك واقع لكي ينكشف خلافه.

الثالث ـ الطريقية الصرفة ، وهو ما حققناه واخترناه في مبحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي من ان الحكم الظاهري لم ينشأ الا لأجل الحفاظ على الملاكات

__________________

(١) قد يقال : ان هذا الإشكال انما يرد على صاحب الكفاية بناء على إرادة الحكومة بمعنى التنزيل واما إذا أراد الحكومة بمعنى الورود وإيجاد المصداق حقيقة فالحكم بالطهارة على المشكوك مهما كان معناه وملاكه يكون محققا لهذا المصداق لأن المشكوك سوف يكون محكوما عليه بأنه طاهر على كل حال فيكون واردا على دليل الشرطية وموسعا لها بالورود.

فالأولى أن يقال : في جواب صاحب الكفاية انه إذا أراد بالحكومة الورود فظاهر دليل شرطية الطهور أو الحلية في الصلاة شرطية الطهارة والحلية الواقعيتين أي الناشئتين عن ملاكاتهما الواقعية لا مجرد اعتبار الطهارة والحل وإنشائهما بأي ملاك كان كما في موارد اعتبار الأحكام الظاهرية التي تكون بملاك التزاحم الحفظي ، وان أراد الحكومة بمعنى التنزيل ورد عليه : إضافة على ما ذكر ما أشرنا إليه في الهامش المتقدم من انه لا يمكن الجمع بين الحكم الظاهري والتنزيل بمعنى التوسعة الواقعية في الآثار واستفادة ذلك من دليل واحد.


الواقعية المتزاحمة في مرحلة الحفظ بقدر الإمكان ، وهذا يساوق عدم التصويب وعدم الاجزاء ، لأن مقتضاه بقاء الحكم الواقعي في موارد الأحكام الظاهرية على إطلاقها وفعليتها فتجب الإعادة والقضاء.

الرابع ـ افتراض مصلحة في مؤدى الأمارة أو الأصل تحفظا على ظهور الأمر بسلوك الأمارة أو الأصل في نشوئه من مصلحة حقيقية لمؤداهما ، وهذا نحو من السببية في قبال الطريقية ولكنه لا يقتضي التصويب ولا الاجزاء ، إذ لم يفترض بهذا المقدار ان المصلحة الظاهرية هذه لا بد وان تكون من سنخ المصلحة الواقعية بحيث تستوفي بها ، فيكون مقتضى إطلاق الحكم الواقعي عدم التصويب وعدم الاجزاء.

الخامس ـ القول بالسببية بمعنى وجود مصلحة في جعل الحكم الظاهري لأجل دفع شبهة ابن قبة من قبح تفويت مصلحة الواقع ، بدعوى ان هذا التفويت انما يكون قبيحا إذا لم يكن مصلحة في نفس هذا التفويت ، كما تصوره بعضهم في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ، وبناء عليه لا تصويب ولا اجزاء أيضا ، إذ لم يفرض تدارك المصلحة الواقعية المحفوظة بأي وجه.

السادس ـ السببية بمعنى المصلحة السلوكية التي جاءت في كلمات المحقق النائيني ( قده ) في مقام دفع شبهة ابن قبة وفرقها عن سابقتها ان المصلحة هناك فرضت في نفس جعل الحكم الظاهري ، وهنا تفرض في عمل المكلف بعنوانه الثانوي الّذي هو سلوك الأمارة ، وعلى مقدار هذا السلوك وما يستلزمه من التفويت لمصلحة الواقع لا أكثر ، فإذا ارتفع الجهل في الأثناء وجبت الإعادة فلا اجزاء ، لأن سلوك الأمارة لم يفوت عليه أكثر من فضيلة أول الوقت لا أصل الفريضة ، لأن التدارك الثابت ببرهان قبح التفويت لا يقتضي أكثر من ذلك ، ومقتضى إطلاق دليل الواقع وجوب الإعادة. وإذا ارتفع الجهل خارج الوقت فان قلنا ان القضاء بالأمر الأول فيجب القضاء بلا إشكال ، لأن التدارك انما هو بمقدار ما فات ، وهو مصلحة الوقت لا أصل الفعل الواجب (١). ، وإذا كان بأمر جديد فقد ذكر السيد الأستاذ بأنه لا يجب القضاء ،

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٢٠٢ ـ ٢٠٣.


لأنه فرع الفوت وخسارة مصلحة الفريضة ، والمفروض انها متداركة جميعا بسلوك الأمارة في داخل الوقت ، فيثبت الاجزاء بهذا المقدار (١).

وفيه : ان المصلحة السلوكية انما تثبت ببرهان قبح التفويت بمقدار لولاها لزم فوات المصلحة بلا تدارك أصلا ، وهذا البرهان لا يقتضي أكثر من وجود مصلحة سلوكية بمقدار مصلحة الوقت التي لا يمكن تداركها أصلا ، واما مصلحة أصل الفعل الّذي يمكن تداركه بالقضاء ـ كما هو ظاهر دليل القضاء ـ فلا وجه لأن نستفيد من دليل الحكم الظاهري تداركها ، فان مدرك هذا التقييد هو الضرورة والبرهان ، والضرورات تقدر بقدرها لا أكثر ، فيجب القضاء كما هو مقتضى ظاهر دليله.

هذا إذا فرضنا ان مصلحة القضاء مصلحة مستقلة عن مصلحة الأداء ، واما إذا فرضنا استظهار انها نفس مصلحة الفعل الباقية بعد الوقت أيضا فلا فوت لها أصلا بسلوك الأمارة أو الأصل ، الا ان هذا رجوع بحسب الروح إلى فرض ان القضاء بالأمر الأول.

وهكذا تكون النتيجة على هذا الوجه أيضا عدم التصويب وعدم الاجزاء لا في الوقت ولا خارجه ، نعم يلزم التصويب بمقدار انه لو استمر الجهل إلى ان مات المكلف ولم ينكشف له الخلاف لا في داخل الوقت ولا خارجه لم يكن قد فاته شيء ، حيث انه لا بد من فرض تدارك المصلحة الواقعية لأصل الفعل أيضا في حقه بسلوكه للأمارة أو الأصل ، وهذا المقدار ربما يقال انه لا دليل على محذوريته.

وقد تحصل : انه بناء على هذه الاحتمالات الستة يكون الاجزاء والتصويب متلازمين ثبوتا وارتفاعا ، فعلى الأولين يثبت الاجزاء ولكنه يثبت التصويب أيضا ، وعلى الاحتمالات الأخرى التي لا تصويب فيها ينتفي الاجزاء أيضا.

السابع ـ ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) بهدف تحصيل وجه يصور فيه الاجزاء دون الوقوع في محذور التصويب ، وذلك بافتراض مصلحة في مؤدى الأمارة المخالفة للواقع بما هو مؤدى إمارة مخالفة للواقع ، وهي مصلحة في عرض مصلحة الواقع ، أي ان

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٢ ، ص ٢٧٧ ـ ٢٧٨.


المؤدى مشتمل على الملاك المطلوب الا انه في هذا العنوان الثانوي لا في المؤدى بعنوانه الأولي ، وهذا يوجب الاجزاء لحصول الغرض (١). ولا يوجب التصويب وتبدل الأمر الواقعي التعييني بالواقع إلى الأمر بالجامع بينه وبين مؤدى الأمارة المخالفة بما هو مؤدى أمارة مخالفة ، لاستحالة ذلك (٢). ، ويمكن بيان هذه الاستحالة بأحد وجوه ثلاثة.

الأول ـ ان الأمر بالجامع يستحيل جعله لأنه يستحيل وصوله إلى المكلف ، إذ لو لم يعلم المكلف بان الأمارة مخالفة للواقع لم يعلم بتوجه الأمر بالجامع إليه ، لأنه معلق على أداء الأمارة إلى خلاف الواقع ، ولو علم بأنها مخالفة للواقع سقطت عن الحجية.

وفيه : بالإمكان فرض الأمر التخييري بالجامع مع أخذ قيد الأمارة المخالفة في أحد شقي الواجب التخييري لا الوجوب ، فالوجوب من أول الأمر مطلق ثابت في حق كل أحد وليس مقيدا بقيام أمارة مخالفة للواقع ، ومن قامت عنده الأمارة يعلم بأنه يمتثل هذا الجامع ضمن أحد شقيه على كل حال.

الثاني ـ ان الجامع بين الواقع ومؤدى أمارة مخالفة للواقع ليس له تقرر لو لا الأمر التعييني بالواقع ، إذ لو كان الأمر الواقعي تخييريا لم تكن الأمارة متعلقة بما يخالف الواقع ، فيكون الجامع غير معقول وفيه : ان الجامع له تقرر وثبوت بقطع النّظر عن الأمر التعييني بالواقع ، إذ من الواضح اننا يمكننا ان نتصور مفهوم الجامع بين الواقع ومؤدى أمارة تعلقت بخلاف الواقع ، سواء تعلق امر تعييني بالواقع أم لا ، نعم تحقق أحد فردي هذا الجامع خارجا ـ وهو الإتيان بمؤدى أمارة مخالفة للواقع ـ موقوف على تعلق امر تعيني بالواقع ، إذ لو لا ذلك لما أمكن تحقيق عمل يكون مؤدى أمارة مخالفة للواقع ، وهذا يعني ان الأمر والإرادة التعينية بالواقع انما يجعله المولى ليتمكن العبد من الفرد الثاني للجامع الّذي فيه الملاك ، وقد حققنا في محله ان الإرادة يستحيل ان تنبثق من مصلحة مترتبة على نفسها لا في متعلقها ، فهذا التصوير للسببية بنفسه مستحيل من هذه الجهة.

الثالث ـ ان تحقق الملاك في الجامع منوط بتعلق الأمر بالواقع تعيينا ، إذ لو لا ذلك

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ١٥٧ ـ ١٥٨.

(٢) نفس المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٥٥.


لم تكن الأمارة متعلقة بما يخالف الواقع ، فلا يمكن ان يوجب ذلك انقلاب الأمر التعييني إلى الأمر التخييري بالجامع ، فان الشيء يستحيل ان ينفي علته ويلزم من وجوده عدمه.

ويرد عليه : أولا ـ النقض : بان الوصول إلى هذه النتيجة المستحيلة وهي لزوم نفي الشيء لعلته وبالتالي لنفسه كان لمجموع أمرين : أحدهما ـ افتراض تولد ملاك في الجامع من الأمر التعييني ـ بالواقع ، والآخر ـ افتراض انه إذا صار الملاك في الجامع لا محالة ينتفي الأمر التعييني بالواقع ويتبدل إلى الأمر التخييري بالجامع ، فلما ذا يكون فساد النتيجة برهانا على بطلان الثاني فليكن برهانا على بطلان الأمر الأول.

وثانيا ـ الحل : بأن كون الملاك في الجامع ليس منوطا بتعلق الأمر التعييني بالواقع ، وانما إمكانية الإتيان بالفرد الثاني من هذا الجامع خارجا وهو العمل بمؤدى أمارة مخالفة للواقع هو المتوقف على تعلق الأمر التعييني بالواقع.

وهكذا يتلخص من كل ما ذكرناه : ان الاجزاء والتصويب في الحكم الظاهري متلازمان ، ففي الاحتمالين الأولين يثبت الاجزاء والتصويب معا وفي ما بعدهما من الاحتمالات الأربعة لا تصويب ولا اجزاء ، والاحتمال السابع في نفسه لم يكن معقولا.

الا ان هذه الملازمة بين الاجزاء والتصويب بناء على السببية انما هو في الاجزاء على أساس الاستيفاء ، واما الاجزاء بملاك التعذر وعدم إمكان التدارك فبالإمكان ثبوتا تحققه من دون تصويب ، وذلك كما إذا فرضنا ان الحكم الظاهري يتضمن مصلحة مضادة مع مصلحة الواقع بحيث لا يمكن تحصيلهما معا ، فمع تحصيل إحداهما تتعذر الأخرى من دون ان يلزم التصويب والأمر بالجامع بينهما ، لأن المصلحة الواقعية تعينية.

لا يقال ـ إذا فرض ان مصلحة الحكم الظاهري مساوية مع مصلحة الحكم الواقعي في الأهمية انقلب الأمر التعيني بالواقع إلى التخيير بينهما بعد عدم إمكان الجمع ، إذ لا ترجيح لإحداهما على الأخرى وهو التصويب ، وإذا فرض انها أقل من مصلحة الواقع بمرتبة لزومية فلا معنى للأمر الظاهري ، لأنه مفوت للواقع الأهم.


فانه يقال : يمكن اختيار كلا من الشقين ودفع الإشكال. أما على الأول ، فلأننا نفترض تعيينية المصلحتين معا ، بحيث لو لا المضادة بينهما لأمر بهما معا ، الا ان القصور في قدرة المكلف خارجا على الجمع ، لمكان المضادة بينهما ، فيقع التزاحم بينهما ، والتزاحم انما يوجب رفع اليد عن الأمر التعييني بكل منهما عند وصول الأمر الاخر ، اما إذا وصل أحدهما دون الآخر فلا محذور في بقاء الآخر على إطلاقه ، وفيما نحن فيه لا يصل الحكم الواقعي والظاهري معا بل دائما يصل أحدهما ، فالمقتضي للأمر التعييني بالواقع وهو المصلحة التعيينية موجود والمانع وهو المزاحم مفقود ، لأن التزاحم بين الأمرين فرع وصولهما خلافا لباب التعارض فلا تصويب (١).

واما على الثاني وهو فرض عدم اشتمال الحكم الظاهري الا على مصلحة أقل من مصلحة الواقع ، فإشكال لزوم التفويت هو إشكال ابن قبة المعروف في باب الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية ، والمفروض الإجابة عليه اما بان الفوت شيء لا بد منه على كل حال ، وهو الجواب بناء على الطريقية ، أو بجواب من قبيل دعوى وجود مصلحة في التفويت أو غير ذلك.

هذا كله فيما إذا انكشف الخلاف باليقين.

واما إذا انكشف خلاف الحكم الظاهري بالتعبد :

فتارة : يكون هذا الانكشاف بأمارة مثبتة لجميع اللوازم ، وأخرى : يكون بأصل عملي.

فإذا كان انكشاف الخلاف بالأمارة ، كما إذا أفتى بوجوب الجمعة بالاستصحاب

__________________

(١) لا يقال : في باب التزاحم يكون الوصول شرطا في القيد لا المقيد ، أي كل واجب يكون مقيدا لبا بعدم الاشتغال بضد واجب وأصل سواء كان الواجب المقيد وأصلا أيضا أم لا ، لأن هذا التقييد اللبي الّذي به أخرجنا باب التزاحم عن التعارض تقييد واقعي في كل خطاب وليس من شئون حكم العقل بوجوب امتثال الخطاب ليكون قيدا له في مرحلة الوصول فقط ، وعليه فالامر الواقعي لا محالة لا بد وان يكون مشروطا بعدم امتثال الأمر الظاهري المزاحم لأنه واصل بحسب الفرض فيكون وجوبه تخييرا لا تعيينا.

فانه يقال : في خصوص المقام حيث ان الواجب المزاحم ظاهري يرتفع موضوعه بوصول الواجب الواقعي فلا موجب لتقييد الواجب الواقعي بعدم وصول الظاهري ، بل يبقى على إطلاقه وتعينيته. نظير ما يقال في المشروط بالقدرة العقلية بالنسبة إلى المشروط بالقدرة الشرعية ، إذ لا يلزم من هذا الإطلاق محذور التنافي لا ذاتا ولا بلحاظ مرحلة الامتثال والداعوية ، اما الأول فواضح ، واما الثاني فلأنه في فرض الداعوية والامتثال الّذي هو فرض التنجز والوصول يكون الخطاب الظاهري مرفوعا فتأمل جيدا.


ثم عثر على رواية معتبرة تدل على وجوب الظهر تعيينا ، فالصحيح عدم الاجزاء ولزوم الإعادة والقضاء ، لأن ذلك مدلول التزامي للأمارة نفسها على كل تقدير.

وإذا انكشف الخلاف بالأصل فهناك صور عديدة نذكر فيما يلي أهمها :

الأولى ـ ان ينكشف الخلاف بالاستصحاب في شبهة موضوعية ، كمن توضأ فشك في أثناء وضوئه وبنى على قاعدة التجاوز فيه ثم ظهر له بحجة أخرى اجتهادا أو تقليدا عدم جريانها في اجزاء الوضوء ، فجرى في حقه استصحاب عدم الإتيان بالجزء المشكوك من وضوئه.

وفي هذه الصورة لا إشكال في وجوب الإعادة في داخل الوقت بحكم هذا الاستصحاب ، بل وبأصالة الاشتغال أيضا لأن الشك في الفراغ من الامتثال.

واما إذا كان الانكشاف خارج الوقت ، فائضا لا إشكال في وجوب القضاء لو قيل بأنه بالأمر الأول ، أو قيل ان موضوعه عدم الإتيان الثابت بالاستصحاب ، واما إذا كان موضوعه الفوت فقد ذكر صاحب الكفاية انه لا يمكن إثباته باستصحاب عدم الإتيان لأنه مثبت (١) ، فيكون المرجع أصالة البراءة عن وجوب القضاء. وهذا الكلام رغم فنيته يرد عليه نقض يصعب الجواب عليه ، وهو انه يلزم منه عدم وجوب القضاء حتى إذا انكشف الخلاف في الوقت ولكنه قصر ولم يعد إلى ان خرج الوقت ، إذ سوف يشك أيضا في توجه امر جديد إليه ، ولا يمكن إثبات موضوعه بالاستصحاب فتجري البراءة.

وقد يقال : بأن المكلف في هذا الفرض يصدق عليه انه قد فاته الفريضة الواجبة عليه ظاهرا بالاستصحاب فيجب عليه قضاؤها ، نعم إذا لم يكن الاستصحاب واصلا إليه لا يصدق عليه الفوت والخسارة لأن حقيقة الحكم الظاهري متقومة بالوصول والتنجز.

وقد يجاب : بان ظاهر دليل وجوب القضاء بعد فرض انه امر جديد الوجوب الواقعي كما هو الحال في سائر الأوامر ، وحينئذ موضوع هذا الوجوب الواقعي ان كان

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٣٥.


هو فوت الواقع فلا يمكن إحرازه ، وان كان الأعم من فوت الفريضة الواقعية أو الفريضة الظاهرية لزم ان من جرى في حقه الاستصحاب داخل الوقت ولم يعد حتى خرج الوقت يجب عليه القضاء في خارج الوقت كوجوب واقعي أي حتى إذا انكشف بعد الوقت ان صلاته في الوقت كانت صحيحة مطابقة للمأمور به وهذا أيضا لا يظن بفقيه ان يلتزم به.

ويمكن حل الإشكال : بان دليل القضاء حيث انه بمناسبة التدارك لما فات على المكلفين داخل الوقت فلا ينبغي قياسه على الأوامر الابتدائية الصرفة ، بل لا يبعد استظهار كونه تبعا للشيء المتدارك ، كقاعدة الميسور ، فان كان المتدارك واجبا فهذا واجب وان كان ظاهريا فهذا ظاهري أيضا يرتفع بانكشاف صحة الفريضة الواقعية ، وبهذا يتم التفصيل بين من انكشف له الخلاف في داخل الوقت وقصر ولم يعد حتى خرج الوقت فيجب عليه القضاء لما فاته من الفريضة المتنجزة عليه في الوقت طالما لم ينكشف له صحة عمله الواقعي ، وبين من انكشف له الخلاف في خارج الوقت.

الثانية ـ نفس الصورة الأولى ولكن مع فرض الشبهة حكمية لا موضوعية ، كما لو فرض ثبوت وجوب الظهر عليه بدليل اجتهادي ثم عدل عن ذلك ووجد خللا في مدركه فاستصحب بقاء وجوب الجمعة الثابت في عصر الحضور مثلا ، ففي الوقت يجب الإتيان بها وفي خارج الوقت يجب القضاء ـ وقضاء الجمعة بالظهر لا محالة ـ بناء على انه بالأمر الأول أو ان موضوعه عدم الإتيان لا الفوت.

وقد يقال بوجوب القضاء حتى لو قيل بان موضوعه الفوت ، وذلك لأن الموضوع مركب من جزءين فوت شيء وان يكون واجبا ، وفي المقام قد فاتت الجمعة بالوجدان ، وهو واجب بالاستصحاب فيثبت وجوب القضاء خلافا للصورة الأولى.

وفيه : ان استظهار التركيب بين القيود وان كان صحيحا في موضوعات التكاليف الا ان عنوان الفوت ليس منتزعا من مجرد عدم الإتيان بشيء بل منتزع من خصوص عدم إتيان ما فيه مزية ونفع ، فمن ترك في النهار صلاة ثلاث ركعات وهي غير مشروعة لا يقال عنه انه فاتته ، وهذا يعني ان عنوان الفوت منتزع من ترك الواجب بما هو واجب فلا يمكن إثباته باستصحاب وجوب الشيء.


الثالثة ـ ما إذا كان الأصل العملي الجاري في حقه أصالة الاشتغال بملاك منجزية العلم الإجمالي ، كما إذا عدل عن رأيه بوجوب الظهر مثلا تعيينا فحصل له علم إجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة ، أو حصل له العلم الإجمالي بوجوب القصر أو التمام فيمن عمله يتوقف على السفر بعد ان كان يرى وجوب التمام عليه.

وهنا لا إشكال في وجوب الاحتياط قبل العمل وانما الكلام في فرضين :

الأول ـ ان لا يصلي داخل الوقت الا إحداهما حتى خرج الوقت فهل يجب عليه القضاء أم لا؟

الثاني ـ ان يحصل له هذا الانكشاف بعد أَن صلى الجمعة مثلا ، فهل يَجب عليه الظهر احتياطا أداء في داخل الوقت وقضاء خارجه أم لا؟

اما في الفرض الأول ـ فإثبات وجوب القضاء عليه يمكن ان يقرب بوجوه :

الأول ـ الاستناد إلى ما ذكرناه فيما سبق من تبعية الأمر القضائي للأداء ، فكلما ثبت امر أدائي ولو ظاهرا وتنجز على المكلف فلم يأت به وجب قضاؤه كذلك ، وهذا الوجه تطبيقه هنا لا يخلو من إشكال ، لأنه متوقف على افتراض ان دليل القضاء يشمل الوظائف المقررة بحكم العقل ، ولا ينظر إلى فوت الأحكام الشرعية بالخصوص.

الثاني ـ التمسك باستصحاب عدم الإتيان بالواجب الواقعي بناء على ان الموضوع عدم الإتيان. وفيه : انه لا شك هنا فيما أتى به وما لم يؤت به ، وعنوان الواجب بما هو واجب ليس موضوعا للقضاء وانما الموضوع واقع الواجب ، ولا شك فيه.

الثالث ـ العلم الإجمالي من أول الأمر بوجوب الجمعة عليه أداء أو الظهر خارج الوقت قضاء لو لم يأت بها داخل الوقت ، وهو من العلم الإجمالي في التدريجيات.

وفيه : انه ليس علما إجماليا بالتكليف على كل تقدير ، الا إذا كان عازما وجازما من أول الأمر انه لا يأتي بالظهر داخل الوقت على كل حال.

الرابع ـ ان القضاء بالأمر الأول وقد تنجز على المكلف بالعلم الإجمالي فيجب الاحتياط وتفريغ الذّمّة عنه من غير فرق في داخل الوقت أو خارجه.

وهذا الوجه لو تم مبناه تم هنا أيضا ، الا ان المبنى كما عرفت غير تام.

الخامس ـ ان المكلف يعلم إجمالا بوجوب صلاة الظهر عليه خارج الوقت أو


وجوب الجمعة عليه في الجمعة القادمة ، وهو علم إجمالي في التدريجيات وعلم بتكليف فعلي في ظرفه على كل تقدير.

وهذا الوجه يتم في الواجبات التكرارية ، كالظهر والجمعة ، لا في مثل القصر والتمام الّذي لا يعلم فيه بان الحالة سوف تتكرر على كل حال ، ولذلك كان الحكم بوجوب القضاء في غير الواجبات التكرارية مبنيا على الاحتياط.

واما في الفرض الثاني ـ أي ما إذا حصل له هذا العلم الإجمالي بعد ان ادى أحد طرفيه ، كما إذا صلى الجمعة ثم حصل له العلم الإجمالي في داخل الوقت أو خارجه ، فهنا لا يجري الوجه الأول والثالث والرابع حتى لو تم شيء منها في الفرض السابق ، إذ العلم الإجمالي منذ ان يتشكل يكون أحد طرفيه خارجا عن محل الابتلاء ، فلا يكون منجزا ليجب على المكلف طرفه الآخر إعادة داخل الوقت أو قضاء خارجه ، كما ان الوجه الثاني والخامس يجريان هنا ان كانا جاريين في الفرض السابق حرفا بحرف.

الرابعة ـ إذا كان الأصل العملي أصالة الاشتغال على أساس الدوران بين الأقل والأكثر ، بناء على أصالة الاشتغال فيه لا من باب منجزية العلم الإجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر ـ فانه يكون رجوعا إلى الصورة السابقة ـ بل من باب الشك في حصول الغرض وسقوط الوجوب ، وتجري الوجوه المتقدمة لإثبات الإعادة أو القضاء في الصورة السابقة هنا باستثناء الوجه الخامس منها ، إذ لا يمكن ان يقال انه يعلم إجمالا بوجوب الأكثر عليه الآن أو الأقل في الزمان القادم ، لأن الأقل معلوم الوجوب في الزمن القادم على كل حال.

وقد تحصل من مجموع ما تقدم في هذا البحث : انه متى ما كان لدليل الأمر الواقعي إطلاق فمقتضى القاعدة عدم اجزاء الحكم الظاهري ولزوم الإعادة داخل الوقت والقضاء خارجه في غالب الفروض ، وبنحو الاحتياط في بعضها ما لم يرد مخصص لمقتضى القاعدة أي لإطلاق دليل الحكم الواقعي ، كما ورد في الصلاة حديث لا تعاد ، أو لم يكن دليل الحكم الواقعي مطلقا كما في الأدلة اللبية على بعض الاجزاء والشرائط والتي قد لا تشمل حالة تبدل الحكم والوظيفة اجتهادا أو تقليدا. وتحقيق موارد هذا القصور في المقتضي أو ثبوت المخصص المانع في ذمة علم الفقه.


وبما تقدم من عدم اجزاء الأمر الظاهري يظهر الوجه في عدم اجزاء أمر تخيلي وهمي ، كما إذا تصور حكما ظاهريا أو واقعيا ثم انكشف له عدمه ، فانه في هذه الحالة لا اجزاء بطريق أولى ، إذ لا يتم هنا شيء من البيانين المتقدمين لاجزاء الحكم الظاهري عن الواقعي من حكومة هذا الأمر على الحكم الواقعي وتوسعته لدائرة موضوعه ، أو سببيته لمصلحة أخرى ، كما هو أوضح من ان يخفى.


بحوث الأوامر

مقدمة الواجب

تعريف مقدمة الواجب تقسيمات الواجب

١ ـ الواجب المشروط

٢ ـ الواجب المعلق

ـ المقدمات المفوتة للواجب

ـ وجوب التعلم

٣ ـ الواجب الغيري

ـ حكم الشك في الواجب الغيري

ـ قربية الواجب الغيري

ـ إطلاق الوجوب الغيري أو اختصاصه ببعض الحصص

ـ ثمرة القول بالواجب الغيري

ـ دليل الوجوب الغيري

ـ مقدمة المستحب والمكروه والحرام



مقدمة الواجب

والمراد بها مقدمات وجود الواجب أي ما يتوقف إيجاد الواجب على إيجاده ، لا مقدمات الوجوب ، والفرق بينهما ان الوجوب مشروط ومقيد بالمقدمات الوجوبية بخلاف المقدمات الوجودية ، وهذا الفرق ناجم من فرق آخر بينهما بلحاظ عالم الملاك ، فان مقدمات وجود الواجب لا تكون دخيلة في اتصاف الفعل بكونه ذا ملاك ومصلحة ، بخلاف مقدمة الوجوب فانها إذا كانت اختيارية ومقدورة للمكلف لا محالة يكون وجودها دخيلا في الاتصاف ولهذا أخذ قيدا وشرطا للوجوب ومن هنا لا يتوهم ترشح الوجوب عليها.

كما ان المراد بوجوب مقدمة الواجب ليس اللا بدية التكوينية فانها عين المقدمية ، ولا اللا بدية العقلية بمعنى عدم صحة الاعتذار عن ترك ذي المقدمة بتركها ، لوضوح ذلك وعدم نقاش فيها ، ولا الوجوب المولوي المجعول بالجعل المستقل على عنوان المقدمة الإجمالي أو التفصيليّ لوضوح ان هذا موقوف على التفات المولى إلى المقدمة مع انه قد لا يطلع أو لا يلتفت إلى ما يتوقف عليه الواجب أصلا. وانما المقصود الوجوب المولوي المجعول على المقدمة ارتكازا وشأنا بحيث لو التفت إليها لطلبها.

كما ان البحث ليس عن الدلالة الالتزامية اللفظية للأمر بشيء على وجوب


مقدماته ، بل البحث في مطلق الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدماته سواء كانت هذه الملازمة بينة بحيث تشكل دلالة لفظية التزامية أم لا ، إذ لا مبرر لقصر البحث على ذلك بالخصوص بعد ان كانت النتائج المطلوبة من هذا البحث غير مقصورة على ذلك كما هو واضح.

ثم ان البحث عن المقدمات وقيود الواجب يقع ضمن فصلين رئيسيين.


الفصل الأول

« في تقسيمات المقدمة »

قسمت المقدمة إلى وجوبية ووجودية كما تقدم ، وإلى عقلية وشرعية وعادية ، وإلى مقدمات الوجود ومقدمات الحصة ، وإلى داخلية وخارجية ، وإلى الشرط المقارن والمتقدم والمتأخر. ولا أثر للحديث عن هذه التقسيمات التي ذكروها من حيث ما هو المهم وهو انه متى ما تحققت المقدمية جاء النزاع في وجوبها سواء كانت ذاتية ، وهي المسماة بالعقلية ، أو شرعية عرضية نشأت من تقييد الواجب بفعل ، كالوضوء ، فيصبح الواجب المقيد بما هو مقيد متوقفا عليه. نعم التقسيم الأخير يستحق البحث من ناحية الإشكال الواقع في معقولية الشرط المتأخر بل المتقدم أيضا ، فلا بد من التعرض له فنقول :



« الشرط المتأخر »

أمتن صيغة للإشكال في معقولية الشرط المتأخر ان يقال : ان الشرط المتأخر اما ان يؤثر في مشروطه أو لا الثاني خلف معنى الشرطية والأول يؤدي اما إلى تأثير المعدوم في الموجود إذا أريد ان يكون الشرط مؤثرا في المشروط حين تحقق المشروط في الزمان المتقدم ، أو إلى تغيير وقلب الواقع عما وقع عليه إذا أريد ان يكون مؤثرا فيه حين تحقق الشرط في الزمان المتأخر ، وكلاهما محال عقلا.

ولحل هذا الإشكال ينبغي البحث في مقامات ثلاثة ١ ـ في الشرط المتأخر للوجوب.

٢ ـ في الشرط المتأخر للواجب.

٣ ـ فيما ألحقه صاحب الكفاية بالشرط المتأخر وهو الشرط المتقدم.

اما المقام الأول ـ وهو الشرط المتأخر للوجوب ، كما إذا أوجب المولى الصيام في النهار على المستحاضة مثلا مشروطا بان تغتسل في الليلة القادمة.

وقد ذكر صاحب الكفاية ( قده ) في هذا المجال ان ما هو الشرط للوجوب انما هو الوجود اللحاظي الذهني للشرط المتأخر لا الخارجي ، لأن الحكم والوجوب أمر قائم في نفس المولى لا في الخارج ، فهو بحاجة إلى لحاظ الشرط لا أكثر ولحاظ الشرط المتأخر


مقارن مع الحكم وليس متأخرا عنه ليرد المحذور (١).

واعترضت على هذا الكلام مدرسة المحقق النائيني ( قده ) بان هذا خلط بين الوجوب بمعنى الجعل والوجوب بمعنى المجعول ، فان الجعل كقضية حقيقية شرطية لا يتوقف على وجود الشرط والموضوع خارجا وانما يكفي لحاظه وتقديره من قبل الجاعل ، واما المجعول وهو الحكم الفعلي فلا محالة متوقف على فعلية الشرط وتحققه خارجا فإذا كان متأخرا عنه لزم محذور تأثير المتأخر في المتقدم (٢).

وتحقيق الكلام في هذا المقام ان إشكال استحالة الشرط المتأخر للوجوب له ثلاثة مواقع ، فانه تارة : يثار بلحاظ عالم الجعل ، وأخرى : بلحاظ عالم المجعول ، وثالثة : بلحاظ عالم الملاك.

اما بلحاظ عالم الجعل فتارة : يقرب المحذور فيه بصيغة استحالة تأثير المتأخر في المتقدم. وجوابه : ما ذكره المحقق الخراسانيّ ( قده ). وأخرى : يقرب بما يستفاد من كلمات المحقق النائيني ( قده ). كمحذور آخر يرد حتى إذا افترض ان الشرط هو اللحاظ للشرط ، وحاصله لزوم التهافت في عالم اللحاظ لدى الجاعل (٣) ، لأن المولى إذا أراد ان يوجب على العبد مثلا صوم يوم السبت على تقدير ان يغتسل في ليلة الأحد فلا بد له من تقدير ولحاظ صدور الغسل منه في ليلة الأحد ، وهذا التقدير تقدير انتهاء يوم السبت ومضيه والفراغ عنه فكيف يمكنه ان يوجب على هذا التقدير صوم يوم السبت؟.

والجواب : ان تقدير الغسل في ليلة الأحد لا ينحصر في تقديرها ماضية وفي الزمان السابق بل امر التقدير والفرض واللحاظ بيد الملاحظ ، فله ان يقدر ذلك مستقبليا أي يقدر ان العبد سوف يصلي في الليلة القادمة ، لأن تحديد ظرف المقدر من حيث فرضه مستقبلا أو ماضيا يكون بيد المقدر نفسه فلا يلزم أي تهافت في اللحاظ.

واما بلحاظ عالم المجعول ، فقد تقدم تقريب الإشكال فيه عن مدرسة المحقق

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٤٥ ـ ١٤٦.

(٢) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٢ ، ص ٣١١ ـ ٣١٢.

(٣) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٢٢٥ ـ ٢٢٦.


النائيني ( قده ) والجواب : ما سنذكره في بحث الواجب المشروط من إنكار وجود عالم حقيقي باسم عالم المجعول ، لأنه لو أريد بالمجعول الّذي يفرض تحققه بعد تحقق الجعل حين فعلية موضوعه وجود شيء نسبته إلى الجعل انه مجعول ذلك الجعل ، فهذا غير معقول ، لأن الجعل والمجعول كالإيجاد والوجود شيء واحد مختلفان بالاعتبار والإضافة. ولو أريد وجود شيء نسبته إلى الجعل نسبة المسبب والمقتضى إلى المقتضي والسبب والّذي قد يتأخر عنه في الوجود ، فان أريد بذلك حصول مسبب في الخارج فهو واضح البطلان ، وان أريد حصول مسبب وحالة في نفس المولى حين تحقق الموضوع نسميه بالوجوب الفعلي فهو أيضا واضح الفساد ، إذ يكفي في فعلية الحكم تحقق الموضوع في الخارج ولو لم يطلع المولى عليه ولم يلتفت إليه أصلا أو اعتقد خطأ عدمه ، فليس الوجوب الفعلي ـ المجعول ـ الا امرا تصوريا بمعنى ان الجاعل عند ما يجعل الوجوب على المستطيع يرى بنظره التصوري وبالحمل الأولى كأنه قذف بهذا الوجوب على المستطيع عند ما يصبح مستطيعا. وبهذا أنكرنا ما اصطلحوا عليه بالوجوب الفعلي أو فعلية الوجوب ، فان كل وجوب فعلي منذ فعلية جعله. نعم تحصل هناك فاعلية ومحركية عقلا لهذا الجعل عند ما يتحقق موضوعه في الخارج وينطبق على المكلف ، فباب المجعول ليس أكثر من باب الانطباق والانتزاع ولا ربط له بباب التأثير والتأثر ، وباب الانطباق والانتزاع ثابت بقطع النّظر عن الحكم والوجوب من قبل المولى ، فيقال مثلا فلان سيغتسل في الليلة القادمة ، ولا يعني ذلك تأثير شيء متأخر في زمان متقدم.

واما بلحاظ عالم الملاك ، فقد يتصور صعوبة دفع الإشكال فيه ، باعتبار ان شرط الوجوب ـ على ما تقدم ـ يكون مؤثرا في اتصاف الفعل بأنه ذو ملاك ومصلحة ، وهو امر تكويني خارجي يكون المؤثر فيه الشرط بوجوده الخارجي لا اللحاظي ، فيلزم محذور تأثير المتأخر في المتقدم.

والجواب ـ أن الشرط المتأخر يمكن ان يفترض دخله في الملاك والحاجة إلى الواجب المتقدم بأحد نحوين :


١ ـ ان يكون دخيلا في احتياجه إلى الواجب المتقدم لا في الزمن المتقدم بل في زمن الشرط الا أن المحتاج إليه هو اما جامع الفعل ـ كالصوم في المثال الأعم من الواقع في اليوم المتقدم ، والمتأخر ، فلا محالة يكون الوجوب بلحاظ أول أزمنته ، متقدما على الشرط ، أو خصوص الفعل المتقدم لخصوصية فيه تفوت على المكلف إذا لم يفعله في اليوم المتقدم ، كما إذا رأى المولى ان عبده سيحتاج في الشتاء إلى شراء الفحم مثلا الا انه لا يمكنه شراؤه إذا جاء الشتاء فيوجب عليه شراء الفحم في الصيف شريطة بقائه حيا في الشتاء.

٢ ـ ان يكون الاحتياج حاصلا في زمان الواجب المتقدم وليس الشرط المتأخر هو الّذي يولد الاحتياج ، الا أنه يكون عدم تحققه فيما بعد موجبا لمفسدة أشد ، فمثلا لو كان لشرب دواء فائدة ولكنها مشروطة بعدم عروض الإنسان للبرد بعد ذلك والا كان مضرا فيشترط في شرب ذلك الدواء في الزمان المتقدم عدم تعرضه للبرد في الليلة القادمة ، ولهذا أمثلة عرفية كثيرة.

اما المقام الثاني ـ وهو الشرط المتأخر للواجب كما إذا افترضنا غسل المستحاضة في ليلة الأحد شرطا لصحة صومها يوم السبت لا لوجوبه.

والإشكال هنا بلحاظ عالم الواجب بما هو واجب واضح الاندفاع ، لأنه يرجع بحسب الحقيقة إلى تحصيص الواجب بخصوص الحصة التي يعقبها الشرط ، وهذا ليس بابه باب الشرط والتأثير حقيقة ليقال كيف أثر المتأخر في الشيء المتقدم ، وانما بابه باب تحصيص المفهوم المأخوذ في متعلق الأمر ، والمفهوم كما يمكن تحصيصه بقيد متقدم أو مقارن كذلك يمكن تحصيصه بقيد متأخر.

واما الإشكال على مستوى الملاك والمصلحة فالشرط بلحاظ الملاك يكون شرطا بالمعنى الحقيقي ، أي مؤثرا في تحصيل الملاك كما تقدم في شرح مقدمة الواجب والفرق بينها وبين مقدمة الوجوب ، وحينئذ يجري ما ذكر في وجه استحالة الشرط المتأخر.

وقد أجاب صاحب الكفاية ( قده ) على الإشكال في المقام : بأن الملاك لو كان عبارة عن المصلحة استحكم الإشكال ، لأن المصلحة أمر واقعي ووجود تكويني في الخارج يستحيل ان يؤثر فيه امر متأخر عنه ، واما إذا كان الملاك عبارة عن الحسن


والقبح اللذان هما من المقولات الاعتبارية الواقعية بحسب تعبيراتهم ، ومن موجودات لوح الواقع بحسب تعبيراتنا ، فبالإمكان استناده إلى شرط من سنخه كعنوان تعقب الغسل مثلا فعنوان تعقب الشرط أو مسبوقية الفعل به وتقدمه عليه يمكن ان ينتزع منه العقل الحسن أو من خلافه القبح والقبلية تنشأ من مقايسة العقل بين الصوم والغسل وهي حاضرة دائما لدى العقل فيصبح الشرط مقارنا في الحقيقة (١).

والواقع ان الشرط المتأخر في باب المصالح والمفاسد ثابت أيضا ومعقول ولا يختص باحكام المولى تعالى التي قد تكون بملاك الحسن والقبح العقليين ، فالطبيب قد يأمر المريض بشرب دواء مشروطا بشيء متأخر ، فلا بد من استئناف جواب آخر عام في سائر موارد الشرط المتأخر.

والتحقيق : ان الإشكال نشأ من افتراض ان المأمور به هو المقتضي للمصلحة المطلوبة كصحة المزاج مثلا في مثال المريض ، وان الأمر المتأخر هو الشرط في تحقق تلك المصلحة ، فيقال لو فرض تحقق المصلحة حين المقتضي لزم تأثير المتأخر في المتقدم ولو فرض تحققها حين الشرط لزم تأثير المقتضي بعد انقضائه وكلاهما محال ، الا أن هناك فرضا آخر ينحل به الإشكال ، وهو ان ما فرض مقتضيا للمصلحة المطلوبة ليس مقتضيا لذلك بالمباشرة بل ذلك يوجد أثرا معينا يكون الحلقة المفقودة بين هذا المأمور به والمصلحة المطلوبة ، وذلك الأثر يبقى إلى زمان الشرط المتأخر ، فبمجموعهما يكتمل اجزاء علة المصلحة المتوخاة فتحصل المصلحة ، فشرب الدواء مثلا يولد حرارة معينة في الجسم وتلك الحرارة تبقى إلى زمان المشي أو الامتناع عن الطعام مثلا فتؤثر في الصحة المزاجية المطلوبة ، وهذا شيء مطرد في كل المقتضيات التي يظهر أثرها بعد انضمام شرط متأخر يحصل بعد فقدان ذلك المقتضي ، فنعرف عن هذا الطريق وجود حلقة مفقودة هي المقتضي للأثر المطلوب لا هذا الّذي سمي بالمقتضي ، بل هذا مجرد موجد لذلك المقتضي والمفروض الفراغ عن إمكانية بقاء الأثر بعد زوال المؤثر بواسطة حافظات أخرى لذلك الأثر ، فانه لا إشكال عند أحد في بقاء البناء على وضعه الّذي

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٤٧ ـ ١٤٨.


بني عليه بعد فناء البناء ، ولو بحافظية الجاذبية وتماسك اجزاء البناء وانما الإشكال في المقام من ناحية الشرط المتأخر. فيظهر بهذا البيان ان ما هو الشرط بحسب الحقيقة ليس متأخرا ، وهذا إذا صح في الأمور التكوينية فليكن الأمر التعبدي المولوي بالصوم مع اشتراط الغسل في الليل من هذا الباب.

واما المقام الثالث ـ أي الشرط المتقدم الّذي استشكل فيه صاحب الكفاية ، فقد ذكر ان حاله حال الشرط المتأخر ، فان العلة بتمام اجزائها يجب ان تكون مقارنة مع المعلول لا متأخرة ولا متقدمة عليه فلو تقدم بعض اجزاء العلة ثم أثر بعد انقضائه كان معنى ذلك تأثير المعدوم في الموجود (١).

أقول : ان حل المطلب ما عرفته من انه إذا تكلمنا بلحاظ ذات الواجب فالشرط يكون بمعنى التحصيص ، وإذا تكلمنا بلحاظ الملاك فهناك حلقة مفقودة توجد بالشرط وتبقى لكي تكمل عند اقترانه بالواجب.

ثم ان الأصحاب لم يستشكل منهم أحد في الشرط المتقدم حتى من استشكل في الشرط المتأخر ، فكأنهم وجدانا يجدون فرقا بينهما مع ان إشكال المحقق الخراسانيّ ( قده ) برهان متين ، فان العلة بتمام اجزائها كما لا يمكن تأخرها عن المعلول كذلك لا يمكن تقدمها عليه ، ولهذا تصدى المحقق الأصفهاني (ره) والسيد الأستاذ للجمع بين هذا الوجدان وذلك البرهان بدعوى : أن الشرط قد يكون مقدمة إعدادية وهي لا يستحيل تقدمها على المعلول زمانا (٢). وقد أوضح ذلك المحقق الأصفهاني : بان الشرط إذا كان متمما لفاعلية الفاعل أو قابلية القابل فلا بد وان يكون مقارنا مع المعلول ، واما إذا كان معدا بمعنى مقربا للشيء من الامتناع نحو الإمكان حتى إذا تحققت علته صار موجودا ، كمن يريد الجلوس على الكرسي فيتقدم بخطوات نحوه لكي يتمكن من الجلوس عليه ، فان هذه الخطوات يمكن أن تكون متقدمة على المعول وهو الجلوس على الكرسي ، لأنها غير دخيلة لا في قابلية القابل ولا في فاعلية الفاعل (٣).

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٤٥.

(٢) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٢ ، ص ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

(٣) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ١٧٠.


وهذا الكلام رغم اشتهاره لا يرجع إلى محصل عندنا ، لأنه إذا أريد بتقريب الشيء من الامتناع إلى الإمكان تقريب الشيء الممتنع بالذات كاجتماع النقيضين إلى الإمكان فهذا خلف كونه ممتنعا بالذات ، وان أريد تقريبه من الامتناع بالغير أي الامتناع بعدم علته فهذا لا يعقل الا بتقريبه إلى علته بان يكون شرطا دخيلا في وجوده ، فبوجوده يقترب الشيء إلى الإمكان الّذي هو في مقابل الامتناع بعدم العلة ، وحينئذ يقال بأنه كيف يكون دخيلا في وجوده وهو متقدم أو متأخر عنه في الوجود؟ وان أريد به ما يسمونه بالإمكان الاستعدادي فيقال مثلا ان البيضة يمكن ان تصبح فرخ دجاجة لكن ذلك بحاجة إلى استعداد خاص في البيضة ، وهذا الإمكان والاستعداد والتهيؤ يوفر في البيضة من خلال إعطائها درجة من الحرارة والدفئ مثلا ، ففيما نحن فيه يفترض ان الشرط المتقدم يعطي للشيء الإمكان الاستعدادي لإيجاد المصلحة خارجا إن أريد هذا المعنى ـ قلنا : ان هذا الاستعداد والتهيؤ ان فرض امرا اعتباريا فمن الواضح ان الأمر الاعتباري لا يمكن ان يكون دخيلا حقيقة في إيجاد شيء في الخارج وهو المصلحة ، وان فرض امرا حقيقيا وحالة خارجية تنشأ في البيضة مثلا وتبقى إلى ان تأتي سائر اجزاء العلة فهذا في الحقيقة شرط مقارن ويرجع إلى الشيء الّذي ذكرناه في تفسير هذا النوع من الشرائط التي سميت عندهم بالإمكان الاستعدادي ولا مشاحة في التسمية.



الفصل الثاني ـ في تقسيمات الواجب

الواجب المشروط

منها ـ تقسيمه إلى الواجب المشروط والواجب المطلق :

فالحج مثلا واجب مشروط بما هو واجب أي مشروط وجوبه بالاستطاعة ومطلق من حيث الزوال ، بينما صلاة الظهر واجب مشروط بالزوال ومطلق من حيث الاستطاعة.

وقد وقع البحث في إمكان الواجب المشروط عقلا تارة : بلحاظ عالم الثبوت أي في معقوليته في نفسه ، وأخرى ، بلحاظ عالم الإثبات وإبراز الإيجاب بصيغة الأمر وإمكان إرجاع الشرط إلى مدلولها. فالبحث في مقامين.

المقام الأول ـ في الواجب المشروط في عالم نفس الأمر وبقطع النّظر عن الإبراز ، وفي هذا المقام توجد بحسب الحقيقة ثلاث مراحل.

١ ـ مرحلة الملاك.

٢ ـ مرحلة الإرادة والشوق.

٣ ـ مرحلة الجعل والاعتبار.

فلنتتبع الواجب المشروط في كل واحدة من هذه المراحل فنقول :

اما بلحاظ مرحلة الملاك فلا إشكال في معقولية ان يكون الملاك والحاجة إلى شيء


مشروطا بتحقق شيء آخر ، كالحاجة إلى شرب الماء المشروط بالعطش ، والنار بالبرد.

واما بلحاظ المرحلة الثانية ، وهي مرحلة الشوق والإرادة ، فبعد الفراغ عن أصل وجود إرادة وشوق مشروط بشيء كإرادة الدواء مشروطا بالمرض ، يقع البحث في كيفية تخريج وتفسير هذه الإرادة. وهنا نظريات عديدة.

النظرية الأولى ـ وهي المنسوبة إلى تقريرات الشيخ الأعظم ( قده ) ويظهر من المحقق الخراسانيّ والسيد الأستاذ متابعته عليها (١). من ان الإرادة المشروطة كالإرادة غير المشروطة كلتاهما إرادة فعلية موجودة في أفق نفس المريد بالفعل ، فلا فرق بينهما من حيث نفس الإرادة وانما الفرق من حيث المتعلق فالإرادة المطلقة لا قيد في متعلقها بينما المشروطة يكون متعلقها مقيدا ، فالقيد راجع إلى المراد لا الإرادة ، والإنسان يريد شرب الدواء المقيد بحالة المرض الا أن هذا القيد قد أخذ على نحو لا تسري الإرادة من المقيد إليه ، كما إذا أخذ وجوده الاتفاقي وفي نفسه قيدا ومعه لا يعقل سريان الإلزام إليه من قبل الإرادة ، وهكذا ترجع هذه النظرية الشرط في الإرادة المشروطة إلى المراد.

ورغم ان هذا خلاف الوجدان القاضي بعدم رجوع القيد إلى المراد ، وان الفرق بين الإرادتين المشروطة والمطلقة في نفسيهما ، الا ان ما دعى جملة من المحققين إلى اختيار هذه النظرية على ما يظهر من كلماتهم في المقام أحد دليلين.

أحدهما ـ الدليل الوجداني من ان المولى إذا التفت إلى نفسه بالنسبة لشيء ما فاما ان يريده أو لا يريده ، فان لم يرده خرج عن محل البحث ، فانا نتكلم في ما يريده المولى ، وان اراده فقد افترضنا منذ البدء ان الإرادة قد وجدت فكيف يفترض فيها انها معلقة على وجود شيء آخر؟.

وهذا المقدار من البيان واضح الاندفاع ، لأنه ان أريد من الإرادة الإرادة المطلقة وغير المنوطة فافتراض كون صورة عدم الإرادة خارجة عن محل البحث أول الكلام ، بل البحث يكون في هذه الصورة لنرى انه عند عدم الإرادة المطلقة هل يتعلق إرادة منوطة ومقيدة أم لا ، وان أريد من الإرادة ما يشمل الإرادة المنوطة والمقيدة فصورة

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٢ ، ص ٣٢٥.


عدمها وان كان خارجا عن محل البحث الا ان صورة وجودها لا تعني فعلية الإرادة كما أفيد.

وربما يطور هذا البيان الوجداني إلى دعوى : ان فرض عدم الإرادة نهائيا خارج عن محل البحث ، فلا بد من فرض وجود إرادة في الجملة. وحينئذ يقال : هل ان هذه الإرادة في باب الإرادات المشروطة فعلية قبل تحقق الشرط أم ليست فعلية؟ فان فرض انها فعلية فلا بد من رجوع القيد فيها إلى المراد لا محالة وهو المطلوب ، وان فرض انها ليست فعلية فهذا خلاف الوجدان القاضي بوجود فرق قبل تحقق الشرط ـ كالإنسان قبل مرضه ـ بين من يريد شرب الدواء على تقدير المرض ومن لا يريده ، فهذا يدل على فعلية الإرادة قبل الشرط أيضا.

والجواب : ان إشباع هذا الوجدان لا ينحصر وجهه برجوع القيد إلى المراد لا نفس الإرادة على ما سوف يأتي توضيحه.

ثانيهما ـ الدليل البرهاني ـ ان نفس تصدي المولى وتحركه نحو طلب الفعل من العبد بنحو الواجب المشروط قبل تحقق الشرط برهان على فعلية الإرادة في نفس المولى ، لأن تشريع الإيجاب مقدمة بحسب الحقيقة وتصد من المولى لإيجاد المراد خارجا ، ولا يمكن ان تترشح الإرادة نحو المقدمات الا بعد فرض فعلية الإرادة.

والجواب : ما ذكرنا من ان وجه هذا لا ينحصر فيما ذكر من رجوع الشرط إلى المراد بل يمكن تفسيره على أسس أخرى أيضا ، من قبيل كونه من المقدمات المفوتة.

وهكذا يتضح : ان هذه النظرية لا تمتلك دليلا يبررها لا وجدانا ولا برهانا ، بل هناك برهان على خلافها.

وحاصله : ان فعلية الإرادة نحو المقيد تقتضي فعلية الشوق والإرادة نحو قيده لا محالة ، وما ذكر من ان القيد مما يحصل من نفسه واتفاقا لا من ناحية إلزام المولى وإرادته انما يصحح عدم إلزام المولى لعبده لا عدم شوقه وإرادته لذلك القيد ، اللهم الا ان يؤخذ القيد خصوص ما لا يشتاق إليه المولى بالشوق الغيري التبعي وهذه شرطية مستحيلة في نفسها ، لأنها تعني التفكيك بين الاشتياق إلى شيء والاشتياق إلى مقدمته.

النظرية الثانية ـ ما يظهر من كلمات المحقق العراقي ( قده ) من ان الإرادة المشروطة


كالمطلقة فعلية من أول الأمر ، كما هو الحال على النظرية الأولى ، ولكنها تختلف عنها في ان النظرية الأولى كانت تفترض فعلية الإرادة ورجوع القيد إلى المراد الا ان هذه النظرية تقبل ان الشرط راجع إلى الإرادة ولكنها تفترض ان الإرادة تكون فعلية لفعلية شرطها ، لأن شرطها ليس وجود القيد خارجا بل لحاظه ووجوده الذهني في أفق نفس المولى وهو فعلي حين فعلية الإرادة ، نعم فاعلية هذه الإرادة الفعلية عقلا مشروطة بتحقق الشرط خارجا ، وكأن منشأ هذه النظرية ان الإرادة من موجودات عالم النّفس فلا بد وان يكون شرطه المؤثر فيه من سنخه وعالمه لا من عالم آخر وهو العالم الخارجي (١).

وفيه : ان ما ذكر من ان الإرادة من موجودات عالم النّفس لا الخارج فلا بد وان يكون شرطه كذلك أيضا وان كان صحيحا الا انه لا يعني ان يكون مجرد لحاظ وتصور الشرط الخارجي شرطا للإرادة ، بل التصديق بوجوده والإحساس به هو الّذي يكون شرطا في انقداح الإرادة في النّفس. والوجدان قاضي بأن مجرد تصور العطش لا يكفي لحصول الإرادة نحو شرب الماء ولا يحدث شوقا ، كيف والشوق بحسب تركيب الإنسان انما ينشأ من ملائمة قوة من قوى النّفس وحاجة من حاجاته مع شيء يكمله ويجبر النقص الّذي يحس به ، والمرتوي بالفعل لا يناسب الماء مع قواه بل قد يكون مضرا بحاله ، والشوق فرع الملائمة حقيقة لا تصور الملائم.

النظرية الثالثة ـ ما ذهب إليه المحقق النائيني ( قده ) من ان الإرادة المشروطة كالمطلقة فعلي من أول الأمر ـ كما هو الحال على النظريتين السابقتين ـ الا ان وجود الإرادة المشروطة تعني وجود إرادة معلقة بينما وجود الإرادة المطلقة تعني وجود إرادة فعلية وغير معلقة ، فالوجود للإرادة في كليهما فعلي الا أن الموجود في المشروطة معلق وفي المطلقة فعلي ، وهذا نظير وجود حرمة فعلية لشرب الخمر ووجود حرمة معلقة على الغليان لشرب العصير العنبي في الأحكام الاعتبارية.

وفيه : ان التفكيك بين الوجود والموجود غير معقول ، لأن الوجود عين الموجود بذلك الوجود فيستحيل ان يكون أحدهما معلقا والآخر فعليا ، نعم يصح هذا التفكيك في

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ١٠٥ ـ ١٠٨.


الوجودات الاعتبارية العنوانية التي لا يكون الموجود فيها حقيقيا بل مسامحيا واعتباريا ، كباب الجعل والمجعول ، الا ان الكلام في المقام ليس في الجعل بل في الإرادة والشوق الّذي هو من مبادئ الجعل وهو وجود حقيقي في عالم النّفس فيستحيل ان يكون وجوده فعليا والموجود استقباليا.

والتحقيق ، في تفسير حقيقة الإرادة المشروطة ان يقال : توجد في موارد الإرادة المشروطة بحسب الحقيقة إرادتان.

إحداهما ـ إرادة الفعل المفروض وجود شرط له كشرب الماء المشروط بالعطش ، وهذه الإرادة ليست فعلية قبل تحقق الشرط بحسب الوجدان ، بل تتحقق عند تحقق الشرط في ذهن الإنسان ان كان من الموجودات الحضورية لدى نفس المريد ، أو عند تحقق التصديق بحصوله في الخارج ، ومن دون ذلك لا توجد هذه الإرادة ، لما ذكرناه من ان الشوق الحقيقي إلى شيء انما يحصل عند ملائمة قوة من قوى النّفس مع ذلك الشيء والإحساس بالحاجة إليه.

الثانية ـ إرادة مطلقة وفعلية قبل وجود الشرط أو التصديق به خارجا ، وهذه غير متعلقة بنفس الفعل ـ وهو شرب الماء في مثال العطش ـ بل بالجامع بين شرب الماء وعدم العطش ـ الارتواء ـ أي انها متعلقة بعدم تحقق المجموع من شرط الوجوب وعدم الواجب ، فهذا الاجتماع مبغوض لديه بالفعل لمنافرته مع قواه فتنقدح في نفسه شوق فعلي نحو ان لا يقع هذا المجموع المركب ، وهذه الإرادة غير إرادة الجزاء على تقدير الشرط ولا تبعث نحوه وانما تبعث نحو الجامع ، ولذا لو علم انه إذا صعد على السطح عطش عطشا لا يمكنه شرب الماء كان ذلك داعيا لعدم صعوده ، بينما إرادة شرب الماء لا دور لها في عدم الصعود على السطح وانما تدعو نحو شرب الماء ، وكأن إحساس القوم وجدانا بان هناك شيئا من الشوق قبل تحقق الشرط وعدم التفاتهم إلى هذه الإرادة المتعلقة بالجامع جعلهم يتخيلون ان تلك الإرادة المشروطة فعلية من أول الأمر.

ومن خلال هذا التحليل يظهر : ان الإرادة المشروطة في الحقيقة تطور للإرادة المطلقة فإرادة شرب الماء على تقدير العطش تطور لإرادة الارتواء الّذي يتحقق بالجامع بين عدم العطش وشرب الماء على تقدير العطش ، فان إرادة هذا الجامع ذات اقتضاء


تخييري لإعدام الشرط ـ كما في مثال عدم الذهاب على السطح ـ أو الجزاء على تقدير الشرط ـ كما إذا عطش وكان يمكنه شرب الماء ـ وبهذا يظهر الجواب الفني التفصيليّ على ما جعل برهانا عندهم على فعلية الإرادة قبل تحقق الشرط من انه لو لم تكن الإرادة فعلية وثابتة قبل الشرط فكيف يتصدى المريد لجعل الخطاب والأمر من أول الأمر مع ان الخطاب والجعل من مقدمات المراد ولا يعقل التحرك نحوها من دون فعلية الإرادة ، فانه قد اتضح ان الباعث على الخطاب والجعل هو الإرادة الثانية المتعلقة بالجامع ، والتي هي فعلية قبل تحقق الشرط وبعده وتتطور وتتحول إلى إرادة متعلقة بالجزاء كلما تحقق الشرط في الخارج ، وسوف يأتي مزيد شرح لهذا الموضوع. ثم انه ان قلنا بان الحكم في عالم الثبوت ليس له عدا مرحلتين ـ مرحلة الملاك ومرحلة الإرادة والشوق ـ فهما روح الحكم وبعد تماميتها يبرز المولى هذه الإرادة إبرازا للمكلفين ، اما بصياغة إخبارية بان يقول ( أريد كذا ) أو بصياغة إنشائية كقوله ( افعل كذا ) لم يبق مجال لبحث آخر بلحاظ عالم الثبوت في الواجب المشروط ، وكان الحكم عبارة عما يستكشف من إبراز المولى الاخباري أو الإنشائي من الإرادتين. وان قلنا بان هناك مرحلة ثالثة ثبوتا اسمها الجعل والاعتبار وقع البحث في حقيقة الواجب المشروط بلحاظها أيضا.

وقد يستشكل : بان الواجب المشروط إذا رجع بحسب روحه إلى إرادة متعلقة بالجامع بين عدم الشرط ووجود الجزاء اذن سوف لن يمكن إجراء البراءة عن الواجب المشروط عند الشك في تحقق شرطه خارجا ، للقطع بالتكليف بالجامع والشك في حصوله من جهة الشك في حصول أحد فرديه ، بل لا بد من الرجوع إلى أصل آخر مؤمن كاستصحاب عدم تحقق الشرط مثلا.

والجواب ـ اما إذا قلنا بوجود المرحلة الثالثة للحكم ، أعني عالم الجعل والاعتبار ، فحينئذ سوف تكون أدلة البراءة ـ الشرعية طبعا ـ ناظرة إلى الحكم بحسب هذا العالم ومحمولة عليه ، واما إذا لم نقل بذلك فأيضا تجري البراءة عند الشك في الشرط لأن أشواق المولى وإرادته لا تدخل كلها في عهدة المكلفين الا بمقدار ما يتصدى المولى نفسه لتسجيله والمطالبة به وجعله في عهدة عبيده ، وفي الواجب المشروط المقدار الّذي


يستفاد من دليله تسجيله على ذمة المكلفين ومطالبتهم به انما هو فعل الجزاء على تقدير الشرط ، أي الإرادة المشروطة ، فلا تشتغل ذمة المكلفين الا بهذا المقدار ، فإذا شك في تحقق شرط هذه الإرادة جرت البراءة. اما لما ذا لا يدخل المولى أكثر من هذا المقدار في عهدة المكلفين ؛ فيتصور لذلك ملاكات عديدة من كون الشرط غير مقدور للمكلفين ، أو ان الملاك في الوجود الاتفاقي الحاصل من غير ناحية إلزام المولى ، أو وجود مصلحة في إطلاق العنان وعدم كون العبد ملزما من ناحية الشرط بل من ناحية الجزاء على تقدير تحقق الشرط فقط.

واما المرحلة الثالثة ـ وهي عالم الجعل والاعتبار على القول به ـ كما هو المتعارف عقلائيا في الأحكام المجعولة على نهج القضايا الحقيقية والقانونية ـ فالواجب المشروط بلحاظ هذه المرحلة أيضا يقع البحث في إمكانه أو لزوم رجوع الشرط فيه إلى الواجب.

والصحيح : إمكان رجوع الشرط إلى الوجوب في هذه المرحلة أيضا بل لزومه في ما يسمى بقيود الاتصاف ـ أي قيود اتصاف الفعل بكونه ذا مصلحة ـ وفي قيود الترتب إذا كانت غير اختيارية ، ومعني أخذها في الوجوب إناطة الوجوب بمعنى المجعول بها رغم فعلية الجعل والإيجاب ، ولا محذور فيه بعد ان كان المجعول من الأمور الاعتبارية العنوانية ، فيكون إيجاده فعليا والموجود بهذا الإيجاد والجعل تعليقيا مشروطا بتحقق شيء في الخارج.

وقد ذكر المحقق النائيني ( قده ) ان حال الواجب المشروط حال القضايا الحقيقية من قبيل ( النار حارة ) فكما ان لهذه القضايا مرحلتين مرحلة القضية الشرطية الصادقة حتى مع كذب طرفيها ومرحلة القضية الحملية في طرف الجزاء التي تكون فعلية عند فعلية الشرط فكذلك الحال في الواجب المشروط تكون للحكم الشرعي مرحلتان مرحلة الجعل التي ترجع إلى قضية حقيقية شرطية ومرحلة المجعول التي ترجع إلى قضية فعلية للوجوب عند تحقق الشرط في الخارج (١).

وهذه المقايسة بين القضية الحكمية الشرعية والقضية الحقيقية التكوينية بلحاظ

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٢٢٤.


المرحلة الأولى صحيحة ، الا انه بلحاظ المرحلة الثانية غير صحيحة ، لأن القضية الحقيقية تكون لجزائها مرحلة فعلية حقيقية بخلاف القضية المجعولة فانها لا تكون لجزائها مرحلة فعلية حقيقية بالدقة ، بل وهمية تصورية. والبرهان على ذلك : ان ما يفترض تحققه في القضايا المجعولة عند تحقق شرطها من الحكم الفعلي ان كانت نسبته إلى القضية المجعولة نسبة المجعول إلى جعله حقيقة فمن الواضح ان المجعولة الحقيقي ـ أي المجعول بالذات ـ انما هو نفس القضية الحقيقية ـ أي نفس الجعل ـ لأن الجعل والاعتبار من الصفات النفسانيّة ذات الإضافة ـ كالحب والعلم ـ والإضافة في هذه الصفات داخلة في حاق ذاتها وليست عارضة عليها ، ولهذا لا يمكن تصورها من دون الإضافة ، فالمجعول بالذات حقيقة عين الجعل كما ان المعلوم والمحبوب بالذات عين العلم وعين الحب ، فلو فرض شيء اسمه المجعول يتحقق عند تحقق الشرط في الخارج استحال ان تكون نسبته إلى الجعل نسبة المجعول الحقيقي فلا بد أن يكون مجعولا بالعرض والمجاز ، فإذا كانت له نسبة وعلاقة بالجعل وكان له وجود حقيقي فلا بد وان تكون علاقة أخرى. وان كانت نسبته إلى الجعل نسبة المسبب إلى سببه ومقتضية ويكون الأمر الخارجي شرطا لفعليته ، فان أريد به امر خارجي مسبب عن جعل الشارع فمن الواضح ان الأحكام الشرعية ليست أمورا خارجية تكوينية ، وان أريد به امر نفساني يحصل لدى الجاعل عند تحقق الشرط في الخارج فمن الواضح أيضا انه لا يحصل في نفس المولى الجاعل للحكم شيء عند تحقق الشرط في الخارج سواء علم بتحققه في الخارج أم لا.

وعليه فلا يوجد لدينا في الأحكام والقضايا المجعولة شيء حقيقي خارجا أو في نفس المولى وراء نفس الجعل لنصطلح عليه بالمجعول الفعلي ، نعم عند تحقق الشرط خارجا تصبح للقضية المجعولة فاعلية ومحركية للعبد نحو الفعل. كما انه لا بأس ان يعبر مسامحة عند تحقق الشرط خارجا بفعلية المجعول وتحقق الوجوب تصورا وعنوانا ، وهذه نظرة ورؤية تصورية ، حيث ان الجاعل يتصور من خلال جعله كأنه يقذف بالوجوب على فرض تحقق الشرط ومع هذه الرؤية التصورية انساق المحقق النائيني ( قده ) حينما ادعى وجود مرحلتين للحكم مرحلة الجعل والمجعول ، ويترتب على إنكار المجعول


بالنظرة التصديقية الحقيقية حل إشكال الشرط المتأخر ـ كما تقدم ـ وعلى قبول المجعول بالنظرة التصورية صحة استصحاب بقاء المجعول في الشبهات الحكمية على ما سوف يأتي في محله إن شاء الله. وقد اتضح مما ذكرنا إمكان الواجب المشروط ثبوتا على مستوى المراحل الثلاث للحكم ، واتضح أيضا بما ذكرناه أخيرا الجواب على ما أثاره صاحب الكفاية ( قده ) من الإشكال في الواجب المشروط من استلزامه للتفكيك بين الاعتبار والمعتبر أو الإنشاء والمنشأ وكلاهما محال. فانه قد ظهر عدم لزوم الانفكاك بين الاعتبار والمعتبر بالذات والإنشاء والمنشأ بالذات واما المعتبر والمنشأ بالعرض فليس بالمنشإ والمعتبر حقيقة.

المقام الثاني ـ في إشكال استحالة رجوع الشرط إلى الوجوب في مرحلة الإثبات والدلالة.

وقد أورد هذا الإشكال فيما إذا كان الوجوب مستفادا من صيغة الأمر التي تدل على مفهوم حرفي نسبي لا ما إذا أفيد ذلك بمفهوم اسمي ، كما إذا قال وجوب الحج مشروط بالاستطاعة.

وقد ذكر في تقرير الإشكال تقريبان.

الأول ـ ان المعنى الحرفي جزئي والجزئي لا يقبل التقييد والتحصيص ، فانهما من شئون المعاني الكلية.

وتحقيق حال هذا التقريب يرتبط في الحقيقة بمعرفة ما يتبنى من الجزئية للمعنى الحرفي ويختلف أسلوب البحث فيه باختلاف المعاني والمباني في جزئيته. وقد اخترنا في محله ان جزئية المعنى الحرفي تعني نسبيته وتقومه بشخص طرفيه أي ان النسبة تختلف وتتباين باختلاف أطرافها ولا يعقل انتزاع جامع حقيقي بين النسب الحقيقية ، وهذا لا يقتضي جزئية المعنى الحرفي المحفوظ ضمن طرفيه من حيث صدقه خارجا ومن حيث سائر الجهات كي لا يعقل تحصيصه وتقييده بطرف آخر.

الثاني ـ ان الإطلاق والتقييد حكم من قبل المتكلم فلا بد من التوجه إلى موضوعه وما ينصب عليه التقييد أو الإطلاق توجها استقلاليا تفصيليا ، والمعنى الحرفي آلي لا يمكن التوجه إليه كذلك.

وفيه : ان أريد بالآلية المرآتية والاستطراقية فهذا غير صحيح ، كيف والمعاني


الحرفية ربما يكون النّظر إليها بما هي هي ، كما إذا سئل ( أين زيد؟ ) فقيل ( في المسجد ) حيث يكون النّظر إلى النسبة الظرفية بين زيد وبين المسجد.

وان أريد بالآلية الاندكاك والحالية والطرفية لمعنى اسمي ، فلئن سلمنا ان الإطلاق والتقييد لشيء يحتاج إلى توجه استقلالي بهذا المعنى ، وسلمنا ان الطرفية والآلية بهذا المعنى يمنع عن إمكان توجه النّفس استقالا إلى المعنى ، كان بالإمكان حل الإشكال عن طريق تقييد المعنى الحرفي من خلال مفهوم اسمي مشير إليه ، كما في عملية وضع الحروف لمعانيها من خلال الوضع العام والموضوع له الخاصّ الّذي هو أيضا نوع حكم على المعاني الحرفية ، فلا استحالة في تقييد مدلول الهيئة الحرفي.


الواجب المعلق والواجب المنجز

ومنها : تقسيمه إلى الواجب المعلق والواجب المنجز. والأصل في هذا التقسيم هو صاحب الفصول حيث ذكر : ان القيد تارة ، يكون قيدا للوجوب فيكون الواجب مشروطا ، وقد يكون قيدا للواجب بنحو يجب تحصيله ويترشح عليه الوجوب فيكون واجبا منجزا ، وقد يكون راجعا للواجب بنحو لا يجب تحصيله بل ينتظر المكلف حصوله اما لكونه غير اختياري أو لأخذ وجوده الاتفاقي قيدا في الواجب فيكون واجبا معلقا ، فبحسب الحقيقة الواجب المعلق عند صاحب الفصول هو الواجب المشروط عند الشيخ الأعظم ( قده ) الا ان الشيخ الأعظم افترض ان قيد اتصاف الفعل بالمصلحة أيضا قيد للواجب ـ على ما نسب إليه ـ ولهذا يرد عليه بان ذلك يستلزم ترشح الشوق إلى القيد مع ان قيود الاتصاف يستحيل ترشح الشوق إليها بل قد يكون مبغوضا ، ولكن صاحب الفصول يعترف بان قيود الاتصاف كلها ترجع إلى الوجوب وانما يقصد ان قيود ترتب الملاك على الفعل هي التي تؤخذ في الواجب تارة بنحو يترشح إليها التحريك وأخرى بنحو لا يترشح إليها التحريك لعدم اختياريتها أو لأخذ وجودها الاتفاقي قيدا ، وهذا التقسيم الثلاثي لا إشكال في تعقله ثبوتا على مستوى الملاك وعالم الشوق والمحبوبية وينتج منه انقسام الواجب إلى منجز ومشروط ومعلق وهو القسم الأخير ، ولا يرد عليه


إشكال ترشح الشوق إلى القيد إذا كان قيدا للمراد وكان امرا غير اختياري ، إذ لا بأس بالاشتياق إلى امر غير اختياري ، وانما الكلام في معقولية الواجب المعلق بالنسبة إلى مرحلة ما بعد الإرادة والملاك من مراتب الحكم أي مرتبة الوجوب والتحريك ، ومهم الإشكال في ذلك يرجع إلى أحد اعتراضين :

الاعتراض الأول ـ ان القيد غير الاختياري أو الاتفاقي ـ كالزمان الاستقبالي ـ المأخوذ في الواجب المعلق ان كان راجعا إلى الوجوب أيضا ولو بنحو الشرط المتأخر فالوجوب وان كان فعليا قبل تحقق القيد إذا كان متحققا في لوح الواقع الا ان هذا من الواجب المشروط وليس قسما آخر في قبال الواجب المشروط ، وان لم يرجع إلى الوجوب يلزم ترشح التحريك نحوه لا محالة ، لفعلية الوجوب قبل تحققه وعدم إناطته به فان التحريك نحو المقيد بقيد تحريك نحو قيده لا محالة وهو امر غير اختياري لا يعقل التحريك نحوه بحسب الفرض ، فلا بد من أخذه قيدا في الوجوب بنحو الشرط المتأخر.

والجواب : انه يوجد بحسب الحقيقة قيدان قيد طلوع الفجر مثلا وقيد قدرة المكلف على الصوم على تقدير طلوع الفجر ، والقيد الثاني الّذي مرجعه إلى قضية شرطية لا بد من أخذه قيدا في الوجوب ولو بنحو الشرط المتأخر ، لأن المولى بما هو مولى لا يمكنه ان يضمن للمكلفين تحقق هذا القيد خارجا ، واما القيد الأول فحيث انه بإمكان المولى ان يضمن تحققه للمكلف لدوران الفلك ما لم تقم القيامة وطلوع الفجر في كل يوم لا محالة فمن الجائز ان يوجب المقيد من دون ان يأخذه قيدا للوجوب ، ولا يرد محذور التحريك نحو غير المقدور فان الأمر بالمقيد ليس امرا بحسب الحقيقة بالقيد بل امر بالتقيد وذات المقيد وذات المقيد مقدور والتقيد بالقيد أيضا يكون مقدورا إذا كان تحقق القيد مضمون التحقق خارجا ، فلا يلزم في مثل هذه الفرضية من الأمر بالمقيد أي محذور ، فلا محذور في الأمر بالصوم المقيد بطلوع الفجر منذ الليل بنحو الواجب المعلق. نعم إذا فرض ان الأمر كان على نحو الفورية لم يعقل الأمر بالصوم المقيد بالفجر منذ الليل الا أن هذا غير لازم فان الأمر لا يدل إلا على مطلوبية متعلقه في عمود الزمان. نعم القدرة على الفعل الاستقبالي


ـ الواجب المعلق ـ في ظرفه لا بد وان يؤخذ شرطا في الوجوب بنحو الشرط المتأخر ، لأن القدرة أو الحياة غير مضمون التحقق فلا بد من تقييد الوجوب بها لكيلا يشمل الوجوب بإطلاقه صورة عدم القدرة أو الحياة فيكون تكليفا بغير المقدور.

الاعتراض الثاني ـ ان القول بالواجب المعلق يستلزم التفكيك بين الإرادة التشريعية والمراد التشريعي وهو محال ، اما باعتبار ان الإرادة التشريعية لا بد وان يكون على وزان الإرادة التكوينية فكما يستحيل انفكاك الإرادة التكوينية عن المراد التكويني لا بمعنى ان الإرادة تساوق وجود المراد بل بمعنى انه في موارد عدم إمكان تحقق المراد التكويني لا تتأتى الإرادة أيضا ، كذلك يستحيل فعلية الإرادة التشريعية واستقبالية المراد التشريعي. واما باعتبار ان الإيجاب حقيقته إيجاد الباعث والداعي للعبد نحو الفعل والباعثية مع الانبعاث متضايفان ، فإذا كان انبعاث المكلف مستحيلا بالفعل نحو امر استقبالي كانت الباعثية مستحيلة أيضا فيكون الواجب المعلق محالا.

وكلا التقريبين لهذا الاعتراض غير تام.

اما الأول : فلأن الإرادة التشريعية وان كانت كالتكوينية الا من حيث تعلقها بفعل الغير ، أي بفعل العبد الّذي إذا كان منقادا للمولى كانت كالإرادة التكوينية تماما في تحصيل المراد ، الا أنا نمنع ان الإرادة التكوينية يستحيل انفكاكها عن المراد التكويني ، إذ المراد بالإرادة التكوينية هي تلك المرتبة المؤكدة من الشوق المستتبع لتحريك العضلات نحو الفعل والمقتضي لتحققه خارجا إذا كانت سائر الشرائط أي قابلية القابل متحققة ، فإذا كان الفعل المشتاق إليه غير مقيد بزمان استقبالي تحقق خارجا ، والا لم يتحقق حتى يأتي الزمن الاستقبالي ، فالتخلف والانفكاك ليس من جهة عدم اكتمال الإرادة وبلوغها المرتبة العالية ، بل لعدم قابلية القابل وتوقفه على طلوع الفجر مثلا لا من أجل ان الأمر الخارجي يكون علة في تحريك العضلات الّذي هو امر نفساني بل لأن الإرادة متعلقة بالحصة الخاصة من التحرك وهو التحريك عند طلوع الفجر ، وقابلية العضلات لهذه الحصة من التحرك لا تتم الا عند طلوع الفجر ، وليست الإرادة متعلقة بمطلق تحرك العضلات ، فهذا البرهان في طول افتراض الشوق


متعلقا بالتحرك العضلي على الإطلاق لا بتحرك مقيد بقيد غير مقدور وغير حاصل الآن فيستحيل ان يكون برهانا على عدم هذا التقييد.

وبعبارة أخرى ان المستحيل انما هو تخلف الشوق الكامل النفسانيّ عن متعلق له يكون أيضا فعلا نفسانيا محضا ، اما إذا كان متعلقه فعلا خارجيا مسببا عن حركة العضلات أو كان مزيجا من فعل نفساني وآخر خارجي ، بان قيد تحريك العضلات بطلوع الفجر فلا استحالة في تخلف الشوق الكامل عن متعلقه ، لأن مثل هذا المتعلق يخضع لقوانين طبيعية خارجة عن اختيار النّفس ، فلو تعلقت الإرادة التشريعية بالاحتراق الّذي يتأخر بالطبع عن إلقاء الورقة في النار الّذي هو فعل النّفس ، أو تعلقت بالصوم بعد طلوع الفجر وطلوع الفجر والاحتراق أمور خارجية خاضعة لقوانين خارجية خاصة فأي استحالة في تخلف الشوق عن المشتاق إليه؟ (١) واما الثاني ، فجوابه : ان البحث ليس عن المدلول اللفظي أو العرفي للإرادة التشريعية بل عن ما هو موضوع حكم العقل بلزوم الإطاعة ، ومن الواضح ان موضوع حكم العقل بلزوم الإطاعة كل شوق مؤكد قد حمل المولى على التصدي لتحصيله من خلال تحريك العبد وجعل ما يكون باعثا له نحو الفعل في ظرفه وبحسب مقدماته ، فان

__________________

(١) هذا مبني على ان تكون الإرادة نفس الشوق لا شيئا آخر من قبيل ما يقوله الميرزا ( قده ) من هجمة النّفس والوجدان يحكم بأن الإرادة من مقولة فعل النّفس لا الشوق الّذي هو من مقولة الصفة ، وهذا في التشريعية أوضح فان مجرد الشوق المؤكد في نفس المولى من دون صدور التحريك منه للمكلف ولو من جهة جهله وتخيله بأن المكلف غير قادر على الفعل لا يكفي لتحقق الإرادة التشريعية التي تقع موضوعا لحكم العقل بلزوم الإطاعة ، وعلى كل حال فإذا فرضنا أن الإرادة غير الشوق وأنها من مقولة الفعل النفسانيّ لا الصفة وانها لا تتعلق بفعل الا إذا كان الفعل الخارجي ممكنا فحينئذ لا بد في الإجابة على هذا التقريب من منع المقدمة الأخرى ، وهي قياس الإرادة التشريعية على التكوينية بهذا المعنى ؛ فان الإرادة التشريعية ليست الا عبارة عن دفع الغير وتحريكه نحو الفعل الّذي يتمكن منه ولو في ظرفه فانه كما يمكن دفع شخص نحو فعل حالي كذلك يمكن دفعه نحو فعل استقبالي ويكون معناه الحفاظ عليه في وقته الاستقبالي من خلال الحفاظ على مقدماته المفوتة قبل الوقت ، وليست الإرادة التشريعية الا بمعنى حمل الغير على العمل في ظرفه وبحسب مقدماته إذا كان منقادا لا أكثر من ذلك.

وان شئت قلت : في الإرادة التكوينية حيث ان الفعل مباشري للفاعل فلا تصدر منه الإرادة بهذا المعنى الا متزامنا مع ما هو فعله المباشر الّذي هو حركة العضلات ولا معنى لصدورها من دون إمكان تحرك العضلات بالفعل لأنها تتعلق بها بحسب الحقيقة ، واما الإرادة التشريعية فلا تعني التسبب التكويني بالغير إلى الفعل نظير توسط الأسباب والوسائط الخارجية بين حركة العضلات وبين النتيجة المطلوبة خارجا لتكون الإرادة التشريعية كالتكوينية الا أنها بتوسط الغير بل الإرادة التشريعية تعني التسبب المولوي الإرادي الواعي الّذي يعني ضمان صدور الفعل من الغير بحسب قوانين العبودية والمولوية ومن الواضح ان هذا المعنى كما يعقل بشأن الأمر الحالي يعقل بشأن الأمر الاستقبالي كما أشرنا.


هذا المقدار كاف لحكم العقل على العبد بلزوم الانبعاث في وقت الواجب. والا فما ذا يقال بشأن الواجبات المنجزة المقيدة بقيود لا بد وان تقع قبلها زمانا ، فالصلاة مقيدة بالوضوء قبلها وهو يستلزم مرور زمان حتى ينتهي المكلف منه ويبدأ بالصلاة مع ان الواجب لم يقيد بالزمان المتأخر عن فعل الوضوء بل فعلي من أول الأمر ، فلو كان يشترط في الوجوب ، فعلية الانبعاث نحو الواجب لزم المحذور في المقام أيضا ، إذ الانبعاث فعلا نحو الصلاة المقيدة بالوضوء غير معقول وانما المعقول الانبعاث أولا نحو الوضوء ثم نحو الصلاة.

وقد تفطن صاحب الإشكال (١) إلى هذا النقض وحاول التخلص عنه تارة : بان الشرط هو إمكان الانبعاث نحو متعلق الأمر إمكانا وقوعيا ـ أي لا يلزم من وقوعه المحال ـ فقال : بان وقوع الواجب المعلق بالفعل غير ممكن وقوعا لأنه يلزم منه التهافت في الزمان ، وهذا بخلاف وقوع الصلاة في كل آن من آنات الوقت لإمكان إيقاعها فيه بوضوء قبله. وأخرى : بان الشرط هو الإمكان الاستعدادي بمعنى وجود الاستعداد في الفاعل للقيام بالفعل وتهيؤ عضلاته فعلا لذلك وان كان صدوره خارجا بحاجة إلى التدرج في عمود الزمان.

وواضح ان هذا الجواب لا يسمن ولا يغني من جوع ، فان الواجب المقيد بقيد زماني وان كان ممكنا في عمود الزمان وقوعا ولكن وقوعه الآن دفعة واحدة لكونه تدريجيا مستحيل استحالة وقوعية ، إذ يوجب الخلف أو التناقض ، إذ لا يعقل وجود التدريجي دفعة واحدة كاستحالة وقوع الفجر في الليل. واما الإمكان الاستعدادي فان أراد به اشتراط استعداد وقابلية الفاعل ـ أي كون عضلاته غير مشلولة ـ فمن الواضح ان هذا ليس شرطا في فعلية الوجوب ولهذا يصح تكليف المشلول الّذي يمكنه علاج نفسه دون ان يصبح علاج نفسه مقدمة وجوبية ، ولو فرض شرطيته فهو محفوظ في الواجب المعلق أيضا إذ ليس القصور في استعداد الفاعل ، وإن أراد به اشتراط استعداد وقابلية في القابل بمعنى إمكان وقوعه رجع إلى المعنى السابق.

__________________

(١) المحقق الأصفهاني في نهاية الدراية.


وهكذا يتضح إمكان الواجب المعلق وعدم لزوم محذور منه.

بقي التنبيه على أمور :

الأمر الأول ـ في المقدمات المفوتة : والتي من أجلها دخلوا في البحث عن الواجب المعلق ، وهي مقدمات الواجب قبل تحقق زمانه ، حيث قالوا كيف يترشح الوجوب إلى المقدمة قبل زمان وجوب ذي المقدمة ، فمثلا كيف يجب الغسل قبل فجر شهر رمضان مع ان الصوم يجب منذ الفجر. وقد بحثوا في المقام بحثا ثبوتيا عن كيفية تخريج هذه الموارد بعد فرض ثبوت الدليل عليها إثباتا من الناحية الفقهية.

وقد استعرض المحققون في حل هذا الإشكال الثبوتي أجوبة عديدة نوردها فيما يلي مع تمحيص كل منها.

الجواب الأول ـ الالتزام بكون الواجب معلقا على الوقت لا مشروطا به فيكون الوجوب فعليا من أول الأمر فلا محذور في ترشح الوجوب على مقدماته قبل الوقت.

وهذا الجواب يصح إذا ما توفرت ثلاثة شروط :

١ ـ ان يكون الوقت من قيود الترتب لا الاتصاف والا لم يكن مقتضى لإطلاق الوجوب لفرض عدمه بل كان الوجوب مشروطا به ولو بنحو الشرط المتأخر.

٢ ـ ان يكون القيد الاستقبالي للواجب مما يضمن حصوله كالوقت ، لما مضى من عدم إمكان الواجب المعلق في غير هذه الصورة.

٣ ـ إمكان الشرط المتأخر لما مضى من ان كل واجب معلق يكون مشروطا بنحو الشرط المتأخر بحياة وقدرة المكلف على الواجب في وقته ، لأن قيد الحياة والقدرة ليس مما يحرز حصوله دائما.

الجواب الثاني ـ الالتزام بكون الواجب مشروطا بالوقت المتأخر على نحو الشرط المتأخر ـ وهذا ما ذكره صاحب الكفاية ـ وهو لا يتوقف على الشرطين الأول والثاني مما كان يتوقف عليها الجواب السابق وانما يتوقف على الشرط الثالث فقط وهو إمكان الشرط المتأخر.

وقد علق المحقق الأصفهاني ( قده ) في المقام : أن كلا هذين الوجهين متلازمان في الصحة والبطلان ، لأننا ان قلنا باستحالة انفكاك الواجب عن الوجوب بطل الواجب


المعلق وبطل الشرط المتأخر أيضا لأن المفروض تقدم الوجوب على زمن الواجب على كل حال ، وان قلنا بعدم استحالة ذلك صح الواجب المعلق أيضا.

وهذا الكلام كأنه ينظر إلى بعض براهين استحالة الواجب المعلق ، واما لو برهن على ذلك بالبرهان الأول من البرهانين المتقدمين في الواجب المعلق أي لزوم الأمر بغير المقدور وهو قيد الوقت فهذا لا يرد على الشرط المتأخر كما لا يخفى.

ثم انه قد يقال : أن الشرط المتأخر في المقام مستحيل حتى إذا قلنا بإمكانه في غير المقام فيبطل الجوابان معا. توضيح ذلك ان المقام يكون المتقدم فيه هو الوجوب فقط لا الواجب ، فان زمانه مقارن مع زمان الشرط ، بينما في الفروض المتعارفة للشرط المتأخر يفرض ان زمان الوجوب المتقدم نفس زمان الواجب ، فكان يمكن فيها حل إشكال استحالة تأثير الشرط المتأخر في إيجاد الوجوب المتقدم عليه بأن الشرط المتأخر يؤثر في توليد الاحتياج في وقته لا في وقت سابق عليه الا أن المحتاج إليه شيء لا يمكن تحصيله في وقت الحاجة فيأمر المولى بتحصيله من قبل ، أو ان المحتاج إليه يتحقق بالجامع بين الحصة التي تقع قبل الشرط أو التي تقع بعد الشرط وحين الحاجة فالمولى يقدم الوجوب لكني يكون المكلف مطلق العنان في إيجاد أي الحصتين قضاء لحق إطلاق اتصاف الفعل بالملاك من ناحية الحصص ، واما فيما نحن فيه فالمفروض ان زمان الواجب مقارن لزمان الشرط وانما المتقدم زمان الوجوب فقط فالمولى يوجب من الغروب مثلا صوم النهار مشروطا بطلوع الفجر ، فلو كان لطلوع الفجر دخل في تحقق الاحتياج إلى الصوم فباعتبار انه قيد في الواجب أيضا كان الاحتياج إلى الحصة المقارنة لطلوع الفجر من الصوم لا المتقدمة عليه ولا الجامع ، ومعه فأي مبرر لتقديم الوجوب عليه الا افتراض انه يولد ويحدث احتياجا من قبل ، وهذا هو معنى تأثير المتأخر في المتقدم.

والجواب : أولا ـ في المقام أيضا نقول بان طلوع الفجر يحدث حاجة في وقته للصوم النهاري الا ان المكلف لا يمكنه تحصيل هذه الحصة المقارنة حين الاحتياج الا بإتيان بعض المقدمات وقيود الواجب من قبل ـ كالصوم المقيد بالطهور من أول آنات الفجر ـ فيقدم المولى إيجابه على المكلف لكي يسعى في تحصيلها قبل ذلك بتحصيل مقدماتها ، فروح تقديم الإيجاب وملاكه في المقام نفس الروح والملاك في سائر موارد الشرط


المتأخر دون ان يرد إشكال تأثير الأمر المتأخر في المتقدم.

وثانيا ـ كان لنا افتراض آخر في موارد الشرط المتأخر هو ان يكون الاتصاف والحاجة إلى الواجب الاستقبالي فعليا من أول الأمر ، وانما أنيط الوجوب بالشرط المتأخر من جهة ان إشباع تلك الحاجة من دون تحقق ذلك الشرط المتأخر فيه مفسدة أهم من مصلحة الإشباع ، فأنيط الوجوب به بنحو الشرط المتأخر بهذا الاعتبار.

الجواب الثالث ـ وهو يتم حتى عند من يرى استحالة الواجب المعلق والمشروط بالشرط المتأخر معا كالمحقق النائيني ( قده ) ان الواجب منذ الغروب ليس هو الصوم الاستقبالي في النهار والّذي هو امر واحد لا يتجزأ وانما هو سد باب عدم الصوم في النهار من غير ناحية طلوع الفجر ، فان هناك حصصا لعدم الصوم بعدد أسباب العدم ، فيلتزم بوجوب فعلي لسد باب عدمه من ناحية سائر القيود والمقدمات وتحقيق هذا الواجب الفعلي قبل الوقت يتوقف على فعل المقدمة كالغسل مثلا فيترشح منه وجوب مقدمي عليه ، وهذا الوجوب النفسيّ لسد أبواب العدم يكون فعليا ومطلقا لا يحتاج إلى شرط متأخر وهو طلوع الفجر ولا القدرة حين طلوع الفجر ، كما لا يتوجه عليه إشكال لزوم انفكاك الإرادة عن المراد لأن المراد نفي بعض الاعدام المعاصر زمانا مع الوجوب (٢) نعم هذا الوجه يتوقف على ان لا يكون طلوع الفجر من قيود الاتصاف.

__________________

(١) لا يقال : ان هذا الجواب يؤدي إلى ان يكون إيجاب المقدمات المفوتة نفسيا لا غيريا بحيث تجب حتى في حق من يعلم بأنه عند الفجر لا يكون قادرا على الصوم. فانه يقال : ان الثابت وجوب واحد لسد أبواب العدم من غير ناحية طلوع الفجر وهو ثابت من أول الأمر وإلى ما بعد طلوع الفجر فتكون القدرة على متعلقه بتمامه شرطا في فعليته من أول الأمر كوجوب الصوم في أول النهار المشروط بالقدرة عليه في آخر النهار أيضا ، وهذا المقدار من التعليق يقبله حتى القائل باستحالة الشرط المتأخر. نعم يرد على هذا الجواب انه سوف يكون إيجاب سد باب عدم الصوم من ناحية عدم الغسل في عرض إيجاب سد باب عدمه من ناحية ترك نفس الصوم بعد طلوع الفجر ، فسد كل أبواب العدم غير طلوع الفجر واجب بوجوب واحد فيكون فعل الغسل وفعل الصوم على نسق واحد كل منهما يسد بابا من أبواب العدم فيكون كلاهما غيريا.


الجواب الرابع ـ الاستناد إلى ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) في الواجب المشروط من ان وجود الوجوب فعلي قبل الشرط الا ان الموجود بهذا الوجود تقديري ، والشرط في نظره هو الوجود اللحاظي والتقديري الثابت فعلا بنفس لحاظ المولى وتقديره ، وعليه فلا بأس بترشح الوجوب منه إلى المقدمات المفوتة.

ويرد عليه : ان الوجوب الغيري أيضا لا بد وان يكون مشروطا بطلوع الفجر ، لأن الوجوب النفسيّ الموجود ليس فعليا. وبعبارة أخرى : قبل تحقق الشرط الوجوب كوجود وان كان فعليا الا ان فاعليته وتأثيره منوطة بتحقق شرطه المقدر عليه الوجوب بمعنى الموجود ، وإيجاب المقدمة يكون من شئون فاعلية الوجوب لا فعليته بهذا المعنى. فهذا الجواب لا ينفع في المقام.

الجواب الخامس ـ لو سلم عدم إمكانية فعلية وجوب ذي المقدمة قبل تحقق الشرط المتأخر بأي شكل من الإشكال المذكورة في الوجوه السابقة. مع ذلك يقال : ان الشرط المتأخر ـ وهو طلوع الفجر ـ إذا كان من قيود الترتب لا الاتصاف فالملاك والإرادة فعليان من أول الأمر وقبل تحقق الشرط ، غاية الأمر لا يمكن للمولى الخطاب فعلا لاستحالة الواجب المعلق والمشروط بالشرط المتأخر ، الا انه يمكنه الاخبار عن فعلية الملاك والإرادة لديه ـ ولو باستفادة ذلك من الأمر بالمقدمات المفوتة ـ فيحكم العقل بوجوب المقدمات المفوتة لكفاية إبراز المولى فعلية إرادته لشيء في وجوب سد أبواب عدمه من ناحية مقدماته الاختيارية ، بل يقال بالوجوب الشرعي للمقدمات أيضا لأن الوجوب المقدمي ليس معلولا للوجوب النفسيّ بل كلاهما معلولان لفعلية الملاك والإرادة النفسيين والمفروض فعليتهما في المقام ، وانما لم يؤثر ذلك في فعلية وجوب ذي المقدمة لمحذور الشرط المتأخر أو الواجب المعلق وهو غير وارد بلحاظ وجوب المقدمة.

الجواب السادس ـ لو فرض ان الشرط كان من قيود الاتصاف فقبل الفجر لا خطاب ولا ملاك ولا إرادة الا أنه لو ترك المقدمة ـ وهي الغسل ـ قبل الفجر فسوف يفوت على المولى ملاكا وإرادة فعليين بعد الفجر حيث يكون عاجزا عن الإتيان بذي المقدمة عندئذ ، وليس من الضروري اشتراط الملاك والإرادة بالقدرة على الواجب في


وقته كما في الخطاب ، وهذا التفويت غير جائز وذلك لمجموع امرين.

١ ـ انه تفويت اختياري للملاك فانه وان كان حين طلوع الفجر عاجزا الا انه عجز نشأ باختياره والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

٢ ـ ان التفويت الاختياري للملاك اللزومي الّذي تصدى المولى لإبرازه بالقدر الممكن كالتفويت الاختياري للخطاب. وهذا الجواب صحيح بعد فرض عدم تمكن المولى من حفظ ملاكه بخطاب آخر معلق أو مشروط أو غيره لكي يكون ملاكا قد أبرزه المولى بالقدر الممكن. وهذا هو الّذي ذهب إليه كل من المحقق النائيني (ره) والسيد الأستاذ وان اختلفا في انه هل يمكن ان يستكشف بذلك الوجوب الشرعي للمقدمات المفوتة أيضا أم لا يثبت به الا الوجوب العقلي. حيث ذهب الأول إلى انه يستكشف به الوجوب الشرعي الغيري للمقدمات المفوتة ، وذكر الثاني بان استكشاف ذلك انما يكون بالنظر إلى قاعدة التلازم بين ما حكم بوجوبه العقل حكم به الشرع ، وهذه القاعدة لا تنطبق على الأحكام العقلية التي تكون في طول حكم مولوي شرعي كوجوب الإطاعة وحرمة المعصية إذ يكون حكم الشرع المستكشف لغوا صرفا. وما نحن فيه من هذا الباب.

والظاهر ان مقصود المحقق النائيني ( قده ) لم يكن إثبات الوجوب الشرعي للمقدمات على أساس قاعدة الملازمة ، وانما هو استكشاف الحكم الشرعي بنفس الملاك المولوي ، فانه بعد ان كان للمولى ملاك في صوم النهار سيصبح فعليا عند طلوع الفجر فلا بد من حفظه تشريعا ، وحيث ان الأمر بالصوم عند طلوع الفجر لا يكفي لحفظه التشريعي على كل تقدير ، لعجزه عنه لو لم يغتسل قبل الفجر ، فلا بد من تتميم الحفظ التشريعي بالأمر بالمقدمة المفوتة ، ومنه يظهر انه لا يرد إشكال اللغوية لأن حال هذا الخطاب حال خطاب ( صم ) كلاهما ينشأ ان من منشأ واحد هو الملاك النفسيّ وكل منهما يحفظ حيثية من حيثيات الملاك ، ولو لا الحفظ التشريعي لم يجب على العبد التحرك ، لأن العبد لا يجب عليه التحرك الا بمقدار تحرك المولى للحفظ التشريعي.

هذه وجوه ستة للجواب على مشكلة المقدمات المفوتة وهي ما عدا الرابع منها الّذي عرفت النقاش فيه كلها صحيحة على وفق المنهج الّذي سار عليه المحققون


في بحث مشكلة المقدمات المفوتة. فانهم قد بحثوا المقدمات المفوتة بلحاظ الأوامر والأغراض التشريعية وكأنها تختص بها ، مع ان الصحيح ان البحث عن هذه المشكلة لا تختص بذلك بل تجري في الأغراض التكوينية أيضا ، إذ كثيرا ما يكون للإنسان مطلوب تكويني مشروط بزمان استقبالي وهو يهيئ مقدماته قبل وقته ، كمن يعرف انه سوف يعطش في سفره ولا يجد الماء فانه سوف يأخذ معه الماء قبل السفر وقبل العطش. فلا بد من حل هذا الإشكال على صعيد المطلوب التكويني أولا ، وانه كيف أصبحت المقدمة مطلوبة قبل تحقق شرط الطلب النفسيّ؟ إذ لو لم تحل المشكلة على هذا الصعيد والتزمنا بان المطلوب النفسيّ التكويني إذا كان استقباليا فلا يهتم بتحقيق مقدماته المفوتة من قبل اذن لا معنى للزوم الإتيان بها في الغرض التشريعي أيضا ، إذ لا معنى لأن يجب على المكلف الاهتمام بغرض للمولى في مورد لا يهتم به المولى نفسه إذا كان يريده بالإرادة التكوينية ، إذ ليس التشريع الا من أجل جعل المكلف كالمولى في التصدي لأغراضه لا أكثر من ذلك ، فلا بد من بحث مشكلة المقدمات المفوتة على صعيد المطلوب التكويني أولا وما ذكر من الوجوه الخمسة الصحيحة على منهج الأصحاب في البحث لا يجدي شيء منها على هذا الصعيد. فان التمسك بالواجب المعلق ، أو بوجوب سد بعض أبواب العدم أو بان الملاك والإرادة فعليان من أول الأمر هذه الوجوه الثلاثة كلها ترتكز على أساس افتراض ان الظرف الاستقبالي قيد للترتب لا الاتصاف ، بحيث لو كان يمكنه إيجاد ذلك الظرف الآن وكان اختياريا لكان يحققه ، ومن الواضح ان هذه الأجوبة لا تفي بحل الإشكال على المنهج الّذي طرحناه ، لوضوح ان فعل المقدمات المفوتة في الأغراض التكوينية لا تختص بما إذا كان ظرف المطلوب التكويني الاستقبالي قيدا في الترتب بل يجري في فرض كونه قيدا للاتصاف كما في مثال العطش في السفر الّذي ذكرناه ، حيث لا إشكال ولا ريب في كون العطش قيدا للاتصاف لا الترتب ولهذا لو كان يمكنه ان يعطش نفسه الآن لما عطش ـ والجواب بالشرط المتأخر وأن المولى يعلم ان المكلف سوف لن يقدر على إشباع الحاجة التي تحصل في الزمن المتأخر إذا ما لم يوفر المقدمات من قبل


فيقدم الإيجاب أيضا لا يحل المشكلة في صميمها ، لأنا نقلنا البحث إلى الغرض التكويني لنرى ان المولى بنفسه كيف يتصدى ويهتم بالمقدمات المفوتة لغرضه التكويني ، وهذا الإيجاب المتقدم بنفسه تحفظ تكويني من قبل المولى على مقدمات غرض تشريعي لم يتحقق شرط الاتصاف به بعد ، فهذا الجواب لا يمس روح الإشكال. وكذلك الجواب بان العقل يحكم بوجوب التحفظ على الملاك الفعلي للمولى ولو كان مستقبليا ، فان إيجاب العقل لذلك فرع ان يعقل اهتمام المولى نفسه بالمقدمات المفوتة لغرضه التكويني قبل فعليته كي يجب اهتمام المكلف بها إذا أحرز ذلك ، واما إذا لم يكن ذلك معقولا فلا يحكم العقل بالوجوب كما هو واضح.

نعم لو التزمنا بأحد المسلكين التاليين أمكن على أساسه حل الإشكال على هذا الصعيد.

الأول ـ مسلك الشيخ الأعظم حيث نسب إليه ان الواجب المشروط يكون القيد فيه راجعا للمراد لا لنفس الإرادة ، لأن الإرادة فعلية دائما ومن أول الأمر إذ من الطبيعي ان يتحرك المولى نفسه على المقدمات المفوتة وإيجابها على المكلف حينئذ لفعلية الاتصاف دائما ، الا ان هذا المسلك قد تقدم بطلانه في بحث الواجب المشروط.

الثاني ـ ما سلكه المحقق العراقي ( قده ) من ان الظرف الاستقبالي الّذي هو قيد للاتصاف قيد للإرادة بوجوده اللحاظي لا الواقعي ، والوجود اللحاظي فعلي من أول الأمر ، فان هذا المسلك تارة : نقربه في الوجوب والإرادة التشريعية وان وجود الوجوب فعلي الا أن الموجود به مشروط ومعلق على تقدير تحقق الشرط ـ نتيجة التمييز بين عالمي الجعل والمجعول ـ وحينئذ لو تم لا يجدي في حل إشكال وجوب المقدمات المفوتة كما بينا لأن إيجاب المقدمات أيضا من شئون مرحلة المجعول وفاعلية الوجوب. وأخرى : نقرب هذا المسلك على صعيد الإرادة التكوينية التي هي امر تكويني لا يعقل فيها جعل ومجعول بان يكون وجود الإرادة التكوينية فعليا لفعلية شرطها اللحاظي ولكن الإرادة الموجودة بها تقديري ، فان هذا تفكيك


بين الإيجاد والوجود في امر تكويني وهو محال ، فإذا كانت الإرادة فعلية لفعلية شرطها وهو الوجود اللحاظي للشرط ـ كالعطش ـ فلا محالة تكون محركة نحو المقدمات المفوتة. لأن فاعليتها تامة من سائر الجهات الا من الجهة التي فرضت الإرادة منوطة بلحاظها ، فهذا المسلك لو تم يمس روح المشكلة الا انه غير تام كما بينا سابقا ، لأن مجرد لحاظ العطش وتصوره لا يوجب الشوق والإرادة لشرب الماء بل لا بد من العطش حقيقة أو إحرازا.

والحل الصحيح للمشكلة والّذي يمس روح الإشكال انما يكون بالرجوع إلى ما بيناه في الواجب المشروط وحقيقة الإرادة التشريعية في مورده وانها تنحل إلى إرادتين. بيان ذلك : انه تارة ؛ يفترض ان القدرة على المطلوب الاستقبالي في وقته أيضا من قيود الاتصاف بحيث لا حاجة مع العجز ، فلا إشكال عندئذ في عدم الاهتمام بالمقدمات المفوتة لا في الأغراض التكوينية ولا التشريعية ، وانما البحث فيما إذا لم تكن القدرة على الواجب من قيود الاتصاف ـ كما في مثال العطش ـ وهنا انما يهتم الإنسان بالمقدمات المفوتة قبل وقت الاتصاف والحاجة باعتبار ما ذكرناه فيما سبق من ان للإنسان في موارد الإرادة المشروطة بحسب الحقيقة إرادتين. إحداهما ـ إرادة الجزاء ، وهو شرب الماء وهذه مشروطة بتحقق العطش أو إحرازه ، اما قبله فلا شوق ولا إرادة لشرب الماء ، بل قد يبغضه لمنافرته مع طبعه. والأخرى ـ إرادة الجامع بين عدم الشرط أو وجود الجزاء ، أي الجامع بين ان لا يعطش أو يشرب الماء على تقدير العطش أي إرادة الارتواء الّذي هو الجامع الملائم مع طبعه ، وهذه إرادة فعلية غير مشروطة بشيء ، وهذه الإرادة الفعلية للجامع هي في الحقيقة ما يعبر عنه بحب الذات وحب بقاء الذات وحب ما يلائمها الّذي هو امر غريزي ذاتي في كل فرد. ومن هذه الإرادة الفعلية تنقدح إرادة غيرية تجاه المقدمات المفوتة للجزاء وهو شرب الماء في المثال قبل تحقق شرط الاتصاف وهو العطش ، لأنه يعلم بأنه لو لم يحققها من قبل فسوف يفقد ذلك الجامع ويبتلي بما ينافر ذاته ، وهذا ما يتجنبه ويبتعد عنه في كل آن ، لأنه يحب ذاته وما يلائمها وينطلق منها دائما بحكم الفطرة.


وإذا اتضح بهذا حال الإرادة التكوينية يتضح الحال في الإرادة التشريعية أيضا ، فان المكلف في الإرادة التشريعية يصبح كأنه نفس المولى في الإرادة التكوينية فيتحرك نحو المقدمات المفوتة ، فالإشكال كان ناشئا من الغفلة عن الإرادة نحو الجامع الفعلية المحركة للمولى نحو حفظ المقدمات المفوتة في كل غرض بالنحو المناسب له ، أي حفظها تكوينيا في الأغراض التكوينية وتشريعيا في الواجبات والأغراض التشريعية ، وهناك صياغات مختلفة لإبراز هذا الاهتمام والحفظ التشريعي في التشريعات ، فتارة : يجعل وجوب الصوم من أول الأمر لا من الفجر. وأخرى : يوجب المقدمات المفوتة. وثالثة : يخبر عن الاهتمام بها. وكل هذه صياغات للحفظ التشريعي وروح النكتة واحدة في الجميع.

وحيث انتهى الكلام إلى انحلال الإرادة في موارد الواجب المشروط إلى إرادتين إحداهما متعلقة بالجزاء على تقدير الشرط والأخرى متعلقة بالجامع بين الجزاء أو عدم الشرط من الجدير ان نبحث نكات تتعلق بهاتين الإرادتين وخصيصتهما فنقول : السؤال الّذي يتبادر إلى الذهن بشأن هاتين الإرادتين هو ان إرادة الجزاء عند حصول الشرط التي هي إرادة تعيينية هل تكون عبارة عن تطور نفس إرادة الجامع التي هي إرادة تخييرية وكانت ثابتة من أول الأمر أو انهما إرادتان مستقلتان بنكتتين إحداهما مستقلة عن الأخرى؟

قد يقال بالثاني ، لوجدانية الفرق بين الشوق الّذي يتحقق بعد تحقق الشرط كالعطش نحو الجزاء وهو شرب الماء وبين الشوق نحو الجامع من أول الأمر ، كيف وان الأول شوق نفساني قد يوجد حتى في الحيوان بينما الثاني شوق عقلاني مبني على التبصر والعقل وإدراك المستقبل.

الا ان الصحيح أنهما بنكتة واحدة وإرادة واحدة روحا ولبا ، فان كلا من الجزاء على تقدير الشرط وعدم الشرط في الحقيقة مقدمة لمحبوب نفسي واحد هو الارتواء ، كما أشرنا ، غاية الأمر ان ما يتوصل به فعلا إلى هذا المحبوب النفسيّ هو أحد فردي الجامع ، فإذا فقد الفرد الأول بتحقق الشرط كان ما يتوصل به عملا إلى


المحبوب النفسيّ هو الجزاء فينقدح الشوق والإرادة نحوه ، وبهذا يفسر الوجدان المشار إليه.

ان قلت : إذا كانت الإرادة الفعلية الأصلية متعلقة بالجامع فهي لا تتحول من الجامع إلى الفرد بمجرد فقدان أحد الفردين وخروجه عن قدرة المكلف ، بل يبقى شوقا نحو الجامع وتخييريا غاية الأمر انه بحسب العمل الخارجي سوف يختار الفرد المقدور في إتيانه بالجامع وهذا غير تعلق الإرادة بالفرد.

قلنا : هذا صحيح في الإرادة والشوق النفسيّ لا الغيري ، وإرادة الجامع العقلانية هذه غيرية من أجل تحقيق المحبوب النفسيّ وهو حفظ الذات وملائماته ، والشوق الغيري باعتباره توصليا يتعلق بما هو فعلا يوصل الإنسان إلى مطلوبه النفسيّ ومن هنا صح هذا التحول.

وان شئت قلت : ـ ان هناك إرادة نفسية واحدة خلف كل الإرادات المشروطة والتي هي كلها غيرية للوصول إلى الغرض النهائيّ الأصلي النفسيّ ، وهو حفظ الحياة وحب الذات وملائماتها ، وتنقدح من تلك الإرادة الواحدة النفسيّة الكلية إرادات وأشواق مقدمية تتعلق بواقع ما يحقق ويوصل إلى ذلك المطلوب النفسيّ في كل مرحلة ، وتتولد منها أيضا الإرادة الغيرية نحو المقدمات المفوتة التي يعلم أو يحتمل الإنسان انه إذا لم يحققها قبل تحقق الشروط المستقبلية فسوف لن يتمكن من إشباع حاجته وتحقيق ما يلائم ذاته أو يدفع عنها الألم والنقص في المستقبل.

وهذا هو الحل الفني الدّقيق الصحيح بناء ومبنى لمشكلة المقدمات المفوتة على الصعيدين التكويني والتشريعي.

الأمر الثاني ـ في وجوب التعلم الّذي قد يصبح مقدمة مفوتة : ـ وهنا عدة فروض.

الفرض الأول ـ ان يكون عالما بتكليف فعلي ثابت عليه الآن ، كوجوب الصلاة أو الحج أو غير ذلك ، ولكنه لا يعرف أحكام ذلك الواجب من اجزاء أو شرائط ، فهل يجب عليه التعلم أم لا؟ الصحيح ان هنا ثلاث صور.

الأولى ـ ان لا يتمكن من أداء ذلك الواجب من دون تعلم أحكامه ، كما في تعلم


القراءة والركوع والسجود في مثل الصلاة ، وفي مثل ذلك لا شبهة في وجوب التعلم لصيرورته مقدمة وجودية للواجب.

الثانية ـ ان يتوقف إحراز الامتثال القطعي على التعلم ، كما لو دار الأمر بين محتملات عديدة لا يمكن الجمع بينها الا انه قد يطابق ما يأتي به صدفة للواقع ، وهنا أيضا لا إشكال في وجوب التعلم عقلا لوجوب الامتثال اليقيني.

الثالثة ـ ان يتمكن من الامتثال القطعي من دون تعلم عن طريق الاحتياط والإتيان بكل المحتملات ، وهنا لا يجب التعلم لكفاية الامتثال الإجمالي على ما حقق في محله.

الفرض الثاني ـ ان يعلم بتكليف سوف يبتلى به في المستقبل ولكنه لو لم يتعلم أحكامه الآن فسوف تفوته فرصة تعلمها في وقت فعلية ذلك التكليف عليه. وهنا ترد الصور الثلاث المتقدمة أيضا ، غاية الأمر يكون وجوب التعليم في الصورتين الأولى والثانية من باب وجوب المقدمات المفوتة للواجب الشرعي ـ في الصورة الأولى ـ أو الواجب العقلي أعني إحراز الامتثال اليقيني ـ في الصورة الثانية ـ وبهذا ظهر اندفاع ما ذكره المحقق النائيني (ره) في المقام من ان الحكم بوجوب التعلم في الصورة الثانية هنا لا يرتبط بوجوب المقدمات المفوتة.

الفرض الثالث ـ ان يشك في كبرى التكليف بعد إحراز صغراه ، كمن رأي الهلال ليلة خروجه ولكنه شك في وجوب قراءة الدعاء الّذي لم يتعلمه بعد عند رؤيته وعدمه ، وحيث ان الشبهة حكمية فيجب عليه اما تعلم الدعاء وقراءته احتياطا أو الفحص وتحصيل الحجة على عدم وجوب الدعاء عليه أو وجوبه ، فيدخل في الفرض الأول.

الفرض الرابع ـ عكس ما تقدم بأن يتنجز كبرى التكليف عليه بالفعل ولكنه يشك في صغراه ، وهنا تجري الأصول المؤمنة عن فعلية ذلك التكليف ، كاستصحاب عدم تحقق الصغرى وبذلك ينفي وجوب التعلم.

الفرض الخامس ـ ان يحتمل ابتلاؤه في المستقبل بصغرى تكليف كبراه منجز عليه ، كما إذا احتمل انه سوف يستطيع وهو يعلم بوجوب الحج على المستطيع أو


يحتمله احتمالا منجزا ، فهل يجب عليه تعلم أحكام الحج إذا كان تركه للتعلم الآن سببا في عجزه عن الامتثال في حينه؟ قد يقال : بجريان الأصول المؤمنة هنا أيضا كاستصحاب عدم ابتلائه في المستقبل بصغرى ذلك التكليف ، وليس حال احتمال ابتلائه بصغرى تكليف في المستقبل بأشد حالا من احتمال ابتلائه بصغرى تكليف في الحال الّذي تحدثنا عنه في الصورة السابقة وقلنا بجريان الأصول المؤمنة النافية لوجوب التعلم عليه.

الا انه وقع الإشكال في ذلك تارة : بما عن السيد الأستاذ من وجود علم إجمالي بابتلائه في المستقبل ببعض صغريات التكاليف فلو عول على الأصل المؤمن لزم عنه المخالفة القطعية.

ويرد عليه : أولا ـ انحلال هذا العلم الإجمالي في كثير من الأحيان بعلم تفصيلي أو علم إجمالي في دائرة أصغر هي دائرة الوقائع القريبة من حياته وشئونه يساوي معلومه معلوم العلم الإجمالي في دائرة مطلق الوقائع.

وثانيا ـ ليست كل تلك الأطراف مما يكون ترك التعلم فيها من قبل موجبا للتفويت بل كثير منها يمكن التعلم فيها بعد العلم بالتكليف أو كان قد تعلمه سابقا ، فلا تتعارض الأصول المؤمنة بلحاظ هذا الأثر وهو نفي وجوب التعلم الآن.

وأخرى : بما عنه أيضا من ان أدلة وجوب التعلم وارد في مورد الاستصحاب أو الأصول المؤمنة فلو تقدمت عليه لزم إلغائها. ويرد عليه : ان وجوب التعلم يشمل موارد العلم بأصل الوجوب والجهل بخصوصيات الواجب وفي مثله لا معنى للاستصحاب ، وكذلك يشمل موارد العلم الإجمالي الصغير المنجز والتي لا تجري فيها الأصول المؤمنة ذاتا ، للتعارض والإجمال الداخليّ بلحاظ هذه الدائرة.

وثالثة : بما عن المحقق النائيني من ان وجوب التعلم لا يمكن نفيه بمثل استصحاب العدم ، لأنه من آثار نفس الشك والاحتمال لا ثبوت المشكوك واقعا كي ينتفي بانتفائه تعبدا.

ويرد على ظاهر هذا الكلام لو سلم ان دليل وجوب التعلم أخذ في موضوعه نفس الشك والاحتمال ، فبناء على مباني القوم من جعل الطريقية للاستصحاب وقيامه


مقام القطع الموضوعي يكون استصحاب عدم الاستطاعة التي هي موضوع الحكم الشرعي بوجوب الحج الّذي يجب تعلم أحكامه قائما مقام العلم بعدمها فيحكم على وجوب التعلم.

ورابعة : بما يمكن ان يكون هو مقصود المحقق النائيني ( قده ) من ان دليل وجوب التعلم يدل على ان كل مخالفة نشأت من ترك التعلم يعاقب عليها ، وان الأصول المؤمنة لم تجعل لتكون ذريعة إلى ترك التعلم ، والأصل النافي لا ينفي وقوع هذه المخالفة الا بالملازمة العقلية ، بل حتى لو استصحب عدم الوقوع في المخالفة لم يفد ذلك لأنه يحتمل على كل حال الوقوع في المخالفة نتيجة ذلك ولو وقع فيها لعوقب لا محالة فيجب دفع الضرر المحتمل بالتعلم. ولا يقاس ذلك بالفرض الرابع فانه هناك حتى إذا كان قد تعلم يقع في المخالفة استنادا إلى عدم إحراز صغرى التكليف ، فلا يكون مشمولا لدليل التعلم.

الأمر الثالث ـ في دوران القيد بين الرجوع إلى المادة أو الهيئة : ـ لا إشكال في وجوب تحصيل القيد إذا كان راجعا إلى المادة أي من قيود الواجب ، كما لا إشكال في عدم لزوم تحصيله إذا كان راجعا إلى الهيئة أي من قيود الوجوب ، فإذا شك في حال قيد هل يرجع إلى الهيئة أو المادة؟ فتارة : يكون دليل التقييد منفصلا ، وأخرى : يكون متصلا بدليل الأمر. فالبحث في مقامين.

المقام الأول ـ إذا كان دليل التقييد منفصلا عن دليل الأمر وشك في رجوعه إلى مدلول هيئة الأمر أو مادته. وهنا مقتضى القاعدة الأولية التعارض بين إطلاق المادة وإطلاق الهيئة والتساقط ثم الرجوع إلى الأصول العملية ، الا انه قد ذكرت عنايات لترجيح إطلاق الهيئة وحفظه عن السقوط ، أهمها ثلاثة تقريبات.

التقريب الأول ـ تقديم إطلاق الهيئة لكونه شموليا يقتضي توسيع الوجوب لحالة فقدان القيد بخلاف إطلاق المادة الّذي مدلوله صرف الوجود فيكون بدليا ، والإطلاق الشمولي أقوى من البدلي.

واعترض عليه المحقق الخراسانيّ ( قده ) بأنه لا موجب للأقوائية فان كليهما بمقدمات الحكمة. وهذا الاعتراض متجه على هذا التقريب ، وقد بسطنا بعض الكلام


فيه في بحث المرة والتكرار وقلنا ان البدلية والشمولية ليستا مدلولين للإطلاق ومقدمات الحكمة ، والمعارضة ليست بين البدلية والشمولية المفادين بدليل عقلي بل بين الإطلاقين اللذين في كل منهما بمعنى واحد.

التقريب الثاني ـ دوران الأمر بين مخالفة واحدة أو مخالفتين ، لأن تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادة إذ لا معنى لإطلاق المادة صدق الواجب من دون الوجوب دون العكس ، وبما ان التقييد مخالفة وضرورة فالعرف في موارد الدوران يرتكب مخالفة واحدة لا مخالفتين.

ويرد عليه : مضافا إلى بطلان الكبرى ، ان تقييد المادة بعد تقييد الهيئة ليس مخالفة ، لأنه تقيد وليس بتقييد بحسب الحقيقة ، إذ مادة كل امر مقيدة لبا بكل قيود الوجوب فإذا قيد الوجوب في مورد فقد تحقق صغرى ذلك المقيد اللبي الكلي وليس تقييدا جديدا في المادة.

التقريب الثالث ـ ان التعارض بين الإطلاقين فرع العلم الإجمالي برجوع القيد إلى أحدهما ، مع ان هذا العلم الإجمالي منحل إلى العلم التفصيليّ بتقييد المادة وعدم شمولها للحصة الفاقدة ـ أي الصدقة قبل القيام مثلا ـ على كل تقديرا ما تخصيصا أو تخصصا ، أي اما لعدم الوجوب أو لعدم كونه الواجب ، مع الشك في تقييد الهيئة ، فيتمسك فيها بالإطلاق بلا معارض.

وهذا التقريب انما يتم في بعض الموارد لا جميعها ، توضيحه : ان التقييد بقيد يكون بأحد نحوين.

الأول ـ ان يكون بحدوثه قيدا للواجب أو الوجوب كالاستطاعة للحج.

الثاني ـ ان يكون التقييد بنحو الظرفية أي يشترط حدوثه وبقائه في الوجوب أو الواجب ، وهذا يعني بحسب الحقيقة مزيدا من التقييد.

وحينئذ يقال : تارة يعلم إجمالا بتقييد المادة أو الهيئة على وزان واحد ، بان يعلم إجمالا ان حدوث القيام شرط إما في وجوب الصدقة أو في الصدقة الواجبة ، أو يعلم ان القيام ظرف للوجوب أو الواجب وفي مثل ذلك يتم التقريب المتقدم للانحلال والتمسك بإطلاق الهيئة.


وأخرى : يعلم إجمالا بتقييد القيام لمدلول الهيئة بنحو الظرفية أو لمدلول المادة بحدوثه ، وهنا أيضا يتم تقريب الانحلال للعلم تفصيلا بتقييد المادة بأصل حدوث القيام فلا واجب قبله ويشك في تقييد كل من الهيئة أو المادة بالقيام بنحو الظرفية ، فيتمسك بالإطلاق لنفي أصل تقييد الهيئة وتقييد المادة بنحو الظرفية بلا معارض.

وثالثة : يعلم إجمالا بتقييد مدلول الهيئة بالقيام حدوثا أو مدلول المادة به حدوثا وبقاء ، وهنا لا انحلال إذ لا يلزم من تقييد الهيئة بالقيام حدوثا تقيد المادة به الا حدوثا لا بقاء ، فيمكن التمسك بالإطلاق لنفي تقييد المادة به بقاء فيعارض الإطلاق في مدلول الهيئة ، حيث يعلم إجمالا بأحد التقييدين بحسب الغرض.

وقد يستشكل في هذا التقريب في مورده أيضا بأحد إيرادين.

الأول ـ ان ما يتولد من التقييد في المادة من خلال تقييد الهيئة انما هو بمعنى عدم وقوع الصدقة قبل القيام مصداقا للواجب من دون ان يلزم من ذلك وجوب إيجاد القيام قبل الصدقة بمعنى تقيدها به ، بينما اللازم من تقييد المادة ابتداء قيدية القيام ولزوم إيجاده وهذا غير معلوم على كل حال ، فيتمسك بالإطلاق في المادة لنفي هذا المعني للتقييد.

وفيه : ان تقييد المادة ليس الا بمعنى واحد دائما وهو تحصيصها بالقيد وصيرورة التقيد به تحت الأمر وهذا معلوم على كل حال ، اما كل من عدم صحة الاجتزاء بما وقع قبل القيد أو الإلزام بتحصيل القيد قبلها فهما من آثار التقييد وليس نفس التقييد.

والأثر الأول من آثار تقييد المادة مباشرة ، والأثر الثاني من آثار تقييد المادة بضميمة إطلاق الوجوب من ناحية القيد فيثبت باعتبار معلومية تقييد المادة وإطلاق الهيئة المثبت لإطلاق الوجوب.

الثاني ـ إنكار لزوم تقيد المادة على كل حال بل لو كان القيد راجعا إلى الهيئة كانت المادة مهملة من ناحية ذلك القيد لا مطلقة ولا مقيدة لاستحالتهما معا ، اما الإطلاق فواضح ، واما التقييد فلكونه لغوا صرفا ، إذ الغاية من التقييد الأمر بالتقيد والتحريك نحوه ، مع إن الأمر بالتقيد بقيد الوجوب تحصيل للحاصل ، لأنه يكفي في حصوله خارجا حصول القيد وذات المقيد والأول مفروض الحصول والثاني يكفي فيه


الأمر بذات المقيد فأي فائدة للأمر مع ذلك بالتقيد ، فإذا ثبت استحالة الإطلاق والتقييد في المادة ثبت الإهمال فيها ، ولا بأس به في المقام لأنه ليس إهمالا بلحاظ أصل الحكم ليقال لا يعقل ذلك ثبوتا لدى الحاكم وانما هو إهمال في طرف من أطراف الجعل للاستغناء بتقييد الوجوب عن تقييده ، فأصالة الإطلاق في المادة بمعنى عدم التقييد بالقيد المشكوك جارية لأنه مئونة زائدة محتملة في قبال الإهمال ، فينفى بالأصل وتكون طرفا للمعارضة مع أصالة الإطلاق في الهيئة (١).

وفيه : انه مبني على ان يكون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل الضدين اللذين لهما ثالث ، وقد نقحنا في بحث المطلق والمقيد ان التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب فلا تتصور واسطة بينهما باسم الإهمال.

وهكذا يتضح صحة التقريب الثالث في المورد الّذي يكون وزان التقييد المردد لكل منهما على نسق واحد.

المقام الثاني ـ فيما إذا كان دليل التقييد متصلا. والتحقيق : انه تارة : يكون القيد المتصل بحسب لسان دليله مطلبا مستقلا ولازما أعم للجامع بين تقييد المادة أو الهيئة من دون ان يكون متجها إلى إحداهما بالخصوص ، كما إذا قال ( تصدق ولا تجزى الصدقة قبل القيام ).

وأخرى يفرض ان لسان القيد متجه إلى أحد الأمرين من الهيئة أو المادة بالخصوص أو يصلح لذلك ونحن لا نعرف انه قيد لأيهما ، كما إذا قال ( تصدق قائما ). ففي الفرض الأول يكون مقتضى الإطلاق في كل منهما تاما ذاتا ، فإذا كان أحد المقتضيين أقوى قدم وجعل قرينة متصلة على تقييد الاخر والا تعارضا وتساقطا ، هذا إذا لم نبن علي ما ذكرناه في التقريب الثالث من رجوع التقييد إلى المادة على كل حال والا كانت مقدمات الحكمة منخرمة فيها ويتم إطلاق الهيئة.

__________________

(١) إذا كان الإهمال الثبوتي في قوة الإطلاق هنا بحيث تصدق المادة على الصدقة الواقعة صدفة قبل القيام كان ما أفيد من أن التقييد لغو فاسدا ، إذ من دونه لا يحفظ تقيد الصدقة بكونها بعد القيام وإذا كان الإهمال في قوة التقييد لم تجر أصالة عدم التقييد في قبال الإهمال إذ ليس فيه مئونة زائدة بحسب النتيجة وان كان فيه مئونة زائدة على صعيد اللحاظ إذ المعيار في المئونة بالاعتبار الأول.


وأما الفرض الثاني فالحكم فيه هو الإجمال على كل حال ، لأنه من الإجمال والشك في أصل انعقاد الظهور الإطلاقي ذاتا على جميع المسالك والتقريبات فلا يمكن التمسك بإطلاق الهيئة لإثبات سعة الوجوب.

( تذنيب ) ذكر المحقق النائيني ( قده ) في المقام أمرا هو مطلب كلي في باب التعارض ولكنه طبقه هنا بالمناسبة وحاصله : ان قانون الجمع بين الدليلين بتقديم الأقوى منهما انما يكون بين دليلين متعارضين ذاتا لا عرضا من جهة العلم الإجمالي من الخارج بكذب أحدهما ، كما إذا علمنا من الخارج بكذب أحد خطابين أما خطاب ( لا يضر الصائم إذا اجتنب عن ثلاث : الطعام والشراب والنساء ) أو خطاب ( لا تقضي الحائض ما فاتها من الصلاة ) فعلمنا بخروج الارتماس من الأول أو صلاة الآيات من الثاني مثلا ، فانه لا يقدم إطلاق أحدهما على الآخر ولو كان أقوى. ومقامنا من هذا القبيل فانه لا تعارض بالذات بين إطلاق المادة والهيئة في دليل واحد.

وما يمكن ان يجعل بيانا فنيا لهذه الدعوى أحد وجوه.

الأول ـ قياس ذلك بباب العلم الإجمالي بكذب أحد الخبرين ، حيث ان ذلك لا يوجب تقديم الخبر الّذي يكون لسان الخطاب فيه أقوى على الاخر ، لأن نسبة العلم الإجمالي إلى كل منهما على حد واحد ، فكذلك الحال في الظهورين اللذين يعلم إجمالا بكذب أحدهما.

وفيه : انه خلط بين مرحلة الصدور ومرحلة الدلالة والكشف عن المراد الواقعي للمتكلم ، فان قواعد الجمع العرفي ترتبط بمرحلة الدلالة والكشف عن المراد وتضع ملاكا لتشخيص مرام المتكلم على ضوء ما هو أقوى كشفا وأصرح دلالة ، فلو علم إجمالا بكذب إحدى الدلالتين والكشفين وكانت إحداهما أقوى من الأخرى كان احتمال الكذب وعدم التطابق في الأقوى أضعف منه في الأضعف فيقدم عليه ويجعل قرينة على تشخيص المراد.

الثاني ـ انه من اشتباه الحجة باللاحجة فتكون من الشبهة المصداقية لدليل الحجية ، لأن حجية الظهور مشروطة بعدم العلم بالكذب ويعلم إجمالا بكذب أحدهما فيسقطان معا عن الحجية ، ولا تجري قواعد الجمع العرفي لأنها تجري في تقديم أقوى


الحجتين لا تعيين الحجة عن اللاحجة.

وفيه : ان حجية الظهور ليست مشروطة بعدم واقع المقيد أو المخصص أو القرينة ليكون من الشبهة المصداقية للحجة وانما لا حجية في مورد العلم بالخلاف ، وفي المقام لا يوجد علم بمخالفة شيء منهما بالخصوص لأن العلم الإجمالي علم بالجامع لا أكثر.

الثالث ـ ان تقديم الأقوى انما يكون من باب القرينية ، والقرينية انما تثبت فيما إذا كان الأقوى إذا جمع مع الأضعف في سياق متصل هدم ظهور الأضعف ورفعه ، ولا يتم ذلك الا في باب المتعارضين بالذات لا موارد العلم الإجمالي بكذب أحدهما فانهما إذا جمعا مع العلم الإجمالي أصبحا مجملين.

وفيه : ان الإجمال في هذه الحالة ناشئ من وجود دليل ثالث صالح للقرينية على كل منهما وهو الدال على القيد الإجمالي ، هذا إذا كان دليله صالحا للتوجه إلى كل منهما بالخصوص والا لم يكن إجمال كما أشرنا.

الرابع ـ ان القرينية انما تكون إذا كان أحد الدليلين بمدلوله متعرضا لنفي مدلول الاخر وقرينة عليه ، كالخاص بالنسبة إلى العام ، وفي باب التعارض العرضي مدلول أحد الدليلين أجنبي بالمرة عن مدلول الاخر.

وفيه : ان التعرض لنفي مدلول الاخر لا يشترط فيه ان يكون بدلالة مطابقية بل يكفي فيه ان يكون بالدلالة الالتزامية ، فإذا كان ما يتعرض له بهذه الدلالة واجدا لملاك القرينية قدم على الاخر لا محالة ، وفي موارد التعارض العرضي كل من الدليلين بالالتزام يتعرضان لنفي الاخر ، لأن كلا منهما يدل بالالتزام على قضية شرطية هي انه لو كان أحدهما غير مراد فانما هو ذاك الاخر ، فيرجع كل تعارض عرضي بالدقة إلى تعارض ذاتي بين الدليلين ، لأن هذه القضية الشرطية ثابتة في كل منهما من أول الأمر والعلم الإجمالي يحرز لنا تحقق الشرط ليس إلا.



الواجب النفسيّ والواجب الغيري

ومنها ـ تقسيمه إلى الواجب النفسيّ والغيري. والبحث عنه يقع في جهات.

الجهة الأولى ـ في تعريف الواجب النفسيّ والغيري. وقد عرف النفسيّ بأنه ما وجب لنفسه لا لواجب آخر والغيري ما وجب لأجل واجب آخر. وأورد عليه : بان أكثر الواجبات انما وجبت لأجل مصالح وملاكات لزومية أخرى تترتب عليها فتكون بمقتضى هذا التعريف واجبات غيرية.

والجواب : ليست النفسيّة والغيرية في التعريف بلحاظ عالم الملاك والمبادئ بل بلحاظ عالم الإلزام وتحميل المسئولية من قبل المولى على العبد. وان شئت قلت : ان الواجب النفسيّ ما يعاقب على تركه بما هو هو والواجب الغيري ما لا يعاقب على تركه بما هو هو بل بما هو يؤدي إلى ترك شيء آخر ، وعلى هذا الأساس فإذا جعلت المصلحة بنفسها في عهدة المكلف ابتداء فاشتغلت الذّمّة بها كانت هي الواجب النفسيّ والفعل المحصل لها واجبا غيريا ، لأن اشتغال الذّمّة واستحقاق العقوبة يكونان بلحاظها ، اما إذا جعل نفس العمل كالصلاة والصوم في العهدة واشتغلت الذّمّة به كان الفعل واجبا نفسيا ، لأن استحقاق العقوبة يكون بلحاظه لا بلحاظ المصالح التي قد تترتب عليه. اما لما ذا يعدل المولى في تسجيل مطلبه على عهدة المكلف عن إدخال


نفس تلك المصالح إلى إدخال أسبابها أو مقدماتها كالصلاة والصوم في العهدة مع ان مقتضى القاعدة لزوم التطابق بين ما يسجله المولى في العهدة وبين غرضه؟ فالجواب عليه يمكن ان يكون بأحد وجوه :

الأول : ـ ما يستفاد من بعض كلمات المحقق النائيني ( قده ) من أن تلك المصالح ربما تتوقف على مقدمات وأمور أخرى خارجة عن قدرة المكلفين واختيارهم وما هو داخل تحت اختيارهم هو الفعل فيأمر به فحسب ، (١) ولا يرد عليه : ما أورده السيد الأستاذ من ان الغرض الأقصى وان كان خارجا عن القدرة الا ان الغرض الأدنى وهو الاعداد والتهيؤ يكون تحت قدرة المكلف فلا بد وان يدخله في العهدة (٢). فان التهيؤ والاعداد الموصل إلى الغرض الأقصى أيضا ليس تحت القدرة ، والاعداد والتهيؤ الأعم حاله حال الفعل من حيث انه ليس المطلوب الحقيقي لا النفسيّ ولا الغيري ، بناء على ما هو الصحيح من اختصاص الوجوب والشوق الغيريين بالمقدمة الموصلة ، وانما هو المطلوب بالمسامحة فأي فرق في إعمال المسامحة بين ان يطلب الاعداد أو ذات الفعل؟ (٣) الثاني ـ غموض المصلحة المطلوبة للمولى لدى المكلف وعدم إمكان تشخيصها الا من قبل المولى نفسه من خلال ما يأمر به من الأفعال والعناوين التي قد تكون مشيرة إليها فلا محيص عن الأمر بها.

الثالث ـ التباس الطرق الموصلة إلى تلك المصلحة المطلوبة بحيث لا يثق المولى بأنه لو امر بالمصلحة ابتداء لسلك المكلف طريقا صحيحا موصلا إليها ، كما إذا كان الغرض مثلا حفظ النظام الاجتماعي الّذي تختلف فيه الأذواق والأنظار لو ترك ذلك إلى المكلفين أنفسهم ، فالمولى يشخص الطريق الّذي يراه موصلا إليه ـ ولو نوعا وغالبا ـ فيأمر به تعيينا حفاظا على غرضه في دائرة أوسع وتجنبا عن وقوع المكلفين في الخطأ إذا ترك الأمر إليهم.

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١٦٧.

(٢) هامش المصدر السابق ، ج ١ ، ٢ ١٦٧.

(٣) إذا كان غرض المولى وما يهتم به حصول الغرض الأقصى فإذا كان بعض مقدماته غير اختيارية لزم تقييد الأمر بالفعل ـ وهو مقدمة الاختيارية ـ بفرض تحقق تلك المقدمات الخارجة عن قدرة المكلف ، وان كان المولى يكتفي بمجرد حصول التهيؤ والاستعداد لبلوغ الهدف الأقصى لكونه بنفسه درجة من الكمال فيكون هو المطلوب النفسيّ فلا بد من الأمر به ولعل هذا هو مقصود المستشكل.


الرابع ـ ربما يكون إدخال الفعل في العهدة بنفسه مما يتوقف عليه حصول المصلحة النهائيّة ، وهذا انما يكون في الأغراض المتعلقة بنفس عنوان الإطاعة والامتثال والتقرب إلى المولى فلا بد من الأمر بالفعل ليتمكن المكلف من تحصيل الغرض.

الخامس ـ قد لا يهتم المولى الا بسد باب عدم غرضه النهائيّ من سائر الجهات وانما يهتم بسده من ناحية الفعل فيأمر به فقط جاعلا حصول سائر المقدمات على عهدة الصدفة والاتفاق ، وانما لم يقيد الأمر بفرض تحقق تلك المقدمات لإحراز حصولها دائما أو غالبا.

ثم ان المراد من تسجيل الفعل في العهدة ليس هو الجعل والاعتبار الّذي قلنا مرارا أنه مجرد صياغة وأسلوب وليس له دخل في حقيقة الحكم ثبوتا ، بل المراد به تعيين المولى نفسه لمصب ما يريده من العبد ويلزمه به ، فان حكم العقل بوجوب الامتثال موضوعه ما عينه المولى وألزم به وأبرزه ، سواء كان مصب غرضه أيضا أو كان مقدمة له ، والجعل والاعتبار ليس الا صياغة عرفية تكشف عن ذلك.



( دوران الوجوب بين النفسيّ والغيري )

الجهة الثانية ـ إذا شك في واجب انه نفسي أو غيري. والبحث على مستوى الأصل اللفظي تارة ، والعملي أخرى.

اما الأصل اللفظي فيقتضي ان يكون الواجب نفسيا ، وذلك تمسكا بالإطلاق في مدلول الهيئة أو المادة ، أو بأصالة التطابق بين عالمي الإثبات والثبوت على تفصيل تقدم مبسوطا في بحث دلالة الأمر على النفسيّة.

واما الأصل العملي فيختلف حاله باختلاف الصور التالية :

الأولى ـ ان يعلم بكون الوضوء مثلا اما واجبا نفسيا أو غيريا لواجب آخر غير فعلي في حق المكلف ، كالصلاة على الحائض والحج على غير المستطيع ، وهنا تجري البراءة عن الوجوب النفسيّ للوضوء.

الثانية ـ ان يعلم بوجوبه نفسيا أو وجوب الزيارة المقيدة به بحيث إذا كان واجبا نفسيا فلا وجوب للزيارة ، فيتشكل علم إجمالي بوجود الوضوء أو الزيارة المقيدة به ، وهو وان كان غير منحل حقيقة لأن وجوب الوضوء المعلوم على كل حال انما هو الجامع بين الوجوب الغيري والنفسيّ فلا يتطابق معلومه ومتعلقه مع المعلوم بالإجمال في أحد الطرفين ولكنه منحل حكما ، لأن أصالة البراءة عن وجوب الزيارة لا تعارضه أصالة البراءة


عن وجوب الوضوء ، إذ يعلم على كل حال بترتب العقوبة على مخالفته اما بنفسه أو باعتباره يؤدي إلى ترك الواجب النفسيّ فلا تجري البراءة عنه. وان شئت قلت : بلحاظ عالم الأمر وان لم يكن انحلال الا انه بلحاظ عالم العهدة والتحميل يتم الانحلال. إذ يعلم باشتغال الذّمّة بالوضوء على كل حال فيكون حاله حال الانحلال في سائر موارد الدوران بين التعيين والتخيير ، والنتيجة جواز ترك الزيارة دون الوضوء.

الثالثة ـ نفس الصورة مع فرض انه على تقدير الغيرية يكون مقدمة لواجب نفسي مردد بين أمور غير محصورة ، فيتشكل علم إجمالي بوجوب نفسي مردد بين أمور غير محصورة. وقد حققنا في محله جريان البراءة في تمام أطرافها وان العلم الإجمالي فيها لا ينجز حتى حرمة المخالفة القطعية ، فتجري البراءة عن وجوب الوضوء النفسيّ ويجوز تركه.

الرابعة ـ نفس الصورة الثانية مع اختلاف من حيث ان الواجب الاخر ثابت على كل حال ، أي سواء كان الواجب الأول نفسيا أو غيريا وقيدا للواجب الاخر ، كالصلاة لغير الحائض أو الحج للمستطيع.

وقد ذكر المحقق النائيني ( قده ) هنا ان أصل وجوب كل من الواجبين ثابت معلوم هنا وانما الشك في تقيد أحدهما بالاخر فتجري البراءة عنه ، ونتيجة ذلك نفسيتهما معا فبإمكان المكلف إيقاع أي منهما قبل الاخر (١).

وناقش في ذلك السيد الأستاذ : بأنا نعلم علما إجماليا بوجوب الوضوء نفسيا أو وجوب تقيد الصلاة بالوضوء نفسيا وهذا علم إجمالي منجز غير منحل لا حقيقة كما هو واضح ولا حكما ، لأن الأصل المؤمن عن وجوب التقيد يعارض الأصل المؤمن عن الوجوب النفسيّ للوضوء الّذي يجري بلحاظ العقوبة الزائدة في تركه ، إذ الوضوء لو كان واجبا في المقام بوجوب نفسي كان في تركه عقوبة زائدة على عقوبة ترك الواجب الاخر على تقدير تقيده به (٢).

والصحيح ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) فيما إذا فرض وحدة الواقعة وعدم تكررها. توضيح ذلك : ان أصالة البراءة عن التقيد مع أصالة البراءة عن وجوب الوضوء

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١٧٠.

(٢) هامش المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٧٠. محاضرات في أصول الفقه ، ج ٢ ، ص ٣٩٢.


النفسيّ لا يمكن للمكلف الاستناد إليهما معا ، لأن البراءة عن التقيد تجري للتأمين عن العقوبة في فرض فعل ذات الصلاة لا في فرض تركها ، والا كانت هذه العقوبة معلومة على كل حال ، وفي فرض فعل الصلاة لا تكون البراءة عن وجوب الوضوء جارية ، لأنه في هذا الحال يعلم بأن في ترك الوضوء عقوبة واحدة على كل حال ، اما من جهة وجوبه نفسيا أو من جهة وجوب التقيد به ، كما يعلم بأنه ليس في تركه عقوبة أخرى زائدة ، إذ لا يحتمل بحسب الفرض ان الوضوء واجب نفسي وغيري في آن واحد. وهذا هو ملاك للانحلال الحكمي في أطراف الشبهة المحصورة التي لا يمكن فيها للمكلف الاستناد إلى الأصول المؤمنة جميعا في عرض واحد ، وعليه فتجري البراءة عن وجوب التقيد بلا معارض ، هذا إذا كانت الواقعة مرة واحدة واما إذا كانت متكررة فسوف يتشكل علم إجمالي تدريجي منجز كما هو واضح.

وقد تلخص من استعراض الصور الأربع المتقدمة ان ملاك الانحلال الحكمي ثابت في الصور الثلاث ونكتة الانحلال وضابطه الكلي : انه كلما تشكل علم إجمالي بأحد تكليفين كانت مخالفة أحدهما مستلزمة لمخالفة الاخر دون العكس لم تجر البراءة عن ذلك التكليف ، لأن مخالفته تساوق المخالفة القطعية على كل حال فتجري البراءة عن التكليف الاخر بلا معارض ، وهذا له تطبيقات عديدة.

منها ـ ما نحن فيه أي لو علم إجمالا بوجوب شيء أو تقيد واجب آخر محتمل الوجوب أو مقطوع الوجوب به فانه تجري البراءة عن التقيد بلا معارض.

ومنها ـ إذا علم إجمالا بوجوب أحد ضدين لهما ثالث أو حرمة الاخر ، كما إذا علم بوجوب استقبال القبلة أو حرمة استدبارها في الصلاة ، فتجري البراءة عن وجوب الاستقبال بلا معارض لأن الاستدبار يستلزم عدم الاستقبال فهو مخالفة قطعية.

ومنها ـ العلم بوجوب أحد امرين وجوديين متغايرين أحدهما أخص موردا من الاخر ، فان ترك الأعم يكون تركا للأخص دون العكس فتجري البراءة عن ترك الأخص ، كما إذا علمنا بوجوب استقبال الكعبة داخل الحجر أو وجوب استدبار حائط الحجر ، فترك استدبار الحائط مخالفة قطعية على كل حال وتجري البراءة عن الاستقبال.


ومنها ـ موارد الدوران بين الأقل والأكثر بالمعنى الأعم الشامل للدوران بين التعيين والتخيير ، فان ترك الجامع مخالفة قطعية البراءة عن التعيين ، نعم في خصوص الأقل والأكثر الارتباطيين يوجد بيان آخر للانحلال هو ان وجوب ذات الأقل ـ المطلق ـ معلوم وان كان إطلاقه غير معلوم الا ان إطلاقه ليس ثقيلا ومئونة كي تجري عنه البراءة.

وهذا الضابط الكلي للانحلال يختل في إحدى حالتين :

الأولى ـ ان يفرض تباين زمان الوضوء الواجب فيما إذا كان نفسيا عن زمانه فيما إذا كان غيريا كما إذا كان الوضوء على تقدير كونه واجبا نفسيا قبل الظهر وعلى تقدير كونه واجبا غيريا للصلاة بعد الظهر ، فانه في هذه الحالة يمكن المخالفة القطعية لكل منهما في زمانه مستقلا عن الآخر.

الثانية ـ أن تكون دائرة الشرطية وزمان الوجوب الغيري أوسع من زمان الوجوب النفسيّ بأن كان زمان الأول أعم وزمان الثاني قبل الظهر في المثال ، فانه حينئذ لا يجري الانحلال في الصورة الثانية أي ما إذا كان أصل وجوب الصلاة مشكوكا ، إذ يمكن حينئذ المخالفة القطعية للتكليف النفسيّ المعلوم بالإجمال على كل تقدير مستقلا عن الآخر ، بأن يترك الوضوء النفسيّ قبل الظهر ويترك الصلاة بعد الظهر. ويجري الانحلال عكسيا في الصورة الرابعة لأن مخالفة الوجوب النفسيّ للوضوء لا تستلزم مخالفة الوجوب النفسيّ للتقيد ، إذ يمكنه الإتيان بالوضوء بعد الظهر بخلاف العكس ، فان مخالفة وجوب التقيد بفرض الإتيان بأصل الصلاة دون وضوء مخالفة قطعية للتكليف فتجري البراءة عن الوجوب النفسيّ للوضوء قبل الظهر.


« الثواب والعقاب على الواجب الغيري »

الجهة الثالثة ـ في استحقاق العقاب والثواب على الأوامر الغيرية والبحث تارة : في ترتب الثواب على الواجب الغيري والعقاب على تركه. وأخرى : في إمكان التقرب بقصد الأمر الغيري فالحديث في مقامين.

المقام الأول : ـ في العقاب والثواب على الواجب الغيري ، ذهب المشهور إلى عدم ترتب ثواب ولا عقاب مستقل بلحاظ المقدمة والأمر الغيري ، وخالف في ذلك السيد الأستاذ حيث فصل بين العقاب فلا يترتب إلا على ترك ذي المقدمة والثواب فيترتب على فعل المقدمة أيضا مع قصد الامتثال بحيث يستحق فاعلها لثواب آخر زائدا على ثواب ذي المقدمة (١).

وينبغي ان نشير منذ البداية ان هناك نوعين من الثواب والعقاب أو قل ملاكين للثواب والعقاب.

أحدهما ـ العقاب والثواب الانفعاليان ويكونان بملاك حصول المطلوب النفسيّ للمولى وتحقق حافز انفعالي في نفسه ملائم أو معاكس فيثيب أو يعاقب.

والاخر ـ العقاب والثواب المولويان الناشئان من حكم العقل بالاستحقاق ولا بد

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٢ ، ص ٣٩٥ ـ ٣٩٧.


من تشخيص موضوع حكم العقل الحاكم في هذا الباب ، ولا شك عندنا في ان موضوع حكمه هو إتيان ما هو موضوع للثواب أو العقاب الانفعاليين بحسب اعتقاده ، أي امتثال ذلك أو تركه بحسب اعتقاده.

إذا عرفت ذلك قلنا : ان القائل بترتب الثواب على فعل المقدمة بقصد الامتثال كسبب مستقل للثواب يمكن ان يستند إلى أحد وجوه ثلاثة كلها غير تامة.

الوجه الأول ـ دعوى وجدانية الفرق بين من يأتي بالواجب مع مقدمات طويلة تجب عليه وبين من يأتي به بلا مقدمة بينه وبين الواجب ولا مشقة ، فان العقل يحكم بأن الأول يستحق ثوابا زائدا.

وفيه : انه أعم من المدعى ، إذ القائل بوحدة السبب يعترف بزيادة الثواب في هذه الحالة بقاعدة أفضل الأعمال أحمزها ، ولكنه ثواب على الواجب النفسيّ الّذي أصبح شاقا ، فالسبب للثواب الزائد واحد كمن يأتي بواجب أصعب فليس حال هذين كحال من يأتي بواجب نفسي واحد ومن يأتي بواجبين ، ولعل الوجدان يقضي بهذا الفرق أيضا.

الوجه الثاني ـ ان موضوع الثواب المولوي هو التعظيم واحترام المولى لا الإحسان إليه ، ولا إشكال في ان فعل المقدمة بقصد الامتثال والتوصل إلى ذي المقدمة انقياد وتعظيم للمولى سواء جاء بذي المقدمة بعد ذلك أم لا ، فالتعظيم متعدد فلا بد وان يكون الثواب متعددا أيضا.

وفيه : ان التعظيم والانقياد وان كان هو موضوع الثواب المولوي الا ان الكلام في ان العقل الحاكم في هذا المجال يرى الانقياد والتعظيم في أي شيء؟ في إتيان الواجب الغيري للمولى أو إتيان الواجب النفسيّ أي امتثال ما هو موضوع الثواب الانفعالي لو كان المولى ممن ينفعل ، ولا شك ان العقل انما يحكم بالثاني وان التعظيم انما يتحقق بمقدار ما يسير المكلف ويتحرك نحو تحقيق المطلوب النفسيّ للمولى في ضوء ما وصل إلى المكلف وانكشف لديه ـ بحسب اعتقاده ـ وعليه فلا يتكثر الثواب موضوعا بل يكون كل حركة العبد من المقدمات وإلى النتيجة تعظيما وانقيادا واحدا طويلا ولعله شاقا ، نظير الواجب النفسيّ الطويل ونظير الواجب الارتباطي ذي الاجزاء الكثيرة


التدريجية ، مع انه لا إشكال عند أحد في وحدة سبب الثواب هناك رغم تعدد ما به التعظيم وتكثره خارجا ، بل اجزاء الواجب الارتباطي أولى بان يكون التعظيم الحاصل بكل منها سببا مستقلا للثواب. وهل يمكن ان يقال بان المقدمة لو صارت جزءا خرجت عن كونها سببا مستقلا للثواب؟

الوجه الثالث ـ لو لم يكن يترتب ثواب مستقل على فعل الواجب الغيري بقصد الامتثال فكيف يمكننا ان نفسر ترتب الثواب على الإتيان بالمقدمة بقصد التوصل والامتثال ، حتى إذا لم يتمكن بعد ذلك من إتيان ذي المقدمة لمانع ما؟ مع انه لا إشكال في ترتب الثواب واستحقاقه هنا من دون ان يكون قد تحقق المطلوب النفسيّ وموضوع الثواب الانفعالي للمولى.

وفيه : أولا ـ النقض بالاجزاء لمن شرع بها ثم لم يتمكن من إتمام الواجب الارتباطي.

وثانيا ـ ما أشرنا إليه من ان موضوع الثواب المولوي هو الانقياد والتعظيم بلحاظ المطلوب النفسيّ للمولى بحسب اعتقاد المكلف ومقدار الانكشاف لديه لا بحسب الواقع ، وهذا حاصل في المقام كما هو حاصل في سائر موارد الانقياد الا انه في موارد اصابته للواقع وحصول المطلوب النفسيّ لا يتعدد السبب بل هو سبب واحد على كل حال أصاب أو أخطأ ، وهذا التعظيم والانقياد يشرع فيه المكلف ويتحقق بمجرد شروعه بالمقدمات أو الأجزاء بقصد الامتثال وتحصيل المطلوب النفسيّ للمولى الّذي هو ميزان الثواب وان لم يستمر حتى النهاية بقاء ، فبقدر ما كان يستحق الثواب. وان شئت قلت : ان التحرك نحو المقدمة أو الجزء بنفسه شروع في امتثال المطلوب النفسيّ الواصل للمكلف وهذا هو موضوع التعظيم والانقياد وهو امر وحداني حدوثا وبقاء لا انه يتعدد بتعدد الاجزاء أو المقدمات كما هو واضح.

نعم إذا ما ترك المكلف الاستمرار في تحصيل المطلوب النفسيّ للمولى باختياره ومن دون عجز حقيقي أو علمي لم يستحق ثوابا على ما فعل ، لا الثواب الانفعالي لوضوح انه انما يكون بملاك حصول الإحسان والانفعال في نفس المولى ، ولا المولوي لأن موضوعه وهو التعظيم والانقياد انما يتحقق من أول الأمر مشروطا بان لا يتراجع بعد ذلك


بنحو الشرط المتأخر عن الاستمرار في تحقيق المطلوب النفسيّ للمولى ، فان من يتراجع باختياره عن فعل المطلوب النفسيّ لم يكن قد عظم المولى من أول الأمر سواء في فعله للمقدمات أو للاجزاء. وهذا بنفسه نقض آخر على مبنى القائل بترتب الثواب مستقلا على فعل المقدمة بلحاظ امرها الغيري ، إذ لو لم يكن الميزان ملاحظة المطلوب النفسيّ وكان الأمر الغيري وحده كافيا لم يكن وجه لعدم الثواب هنا ، ولكان حال ذلك حال من يأتي بواجب نفسي ويترك واجبا آخر حتى على القول بالمقدمة الموصلة لأنه عند ما جاء بالمقدمة كان ناويا التوصل وكان يعتقد ان المقدمة التي جاء بها موصلة فالانقياد والتعظيم تام بالنسبة إليه ، فكيف يفسر وجدانية عدم استحقاقه للثواب؟

وهكذا يتلخص ان لا ثواب مستقلا على امتثال الواجب الغيري كما لا عقاب على تركه وانما يكون للمقدمة دخل في تكثير حجم الثواب على الواجب النفسيّ وبالقياس إليه بقانون أفضل الأعمال أحمزها إذا جيء بها بقصد التقرب والامتثال.

المقام الثاني ـ في إمكان التقرب بالأمر الغيري من دون قصد التوصل لامتثال الأمر النفسيّ ، والمشهور عدم إمكان ذلك وقد قرب ذلك بوجوه.

الوجه الأول ـ مبني على القول باختصاص الوجوب الغيري بالمقدمة الموصلة حيث يقال : بأن متعلق الوجوب الغيري انما هو الحصة الموصلة فلا يمكن قصد امتثال هذا الوجوب الا بإرادة التوصل لأنه قيد أو جزء في متعلق الأمر الغيري.

وفيه : ان هذا خلط بين قصد التوصل بمعنى محركية الأمر النفسيّ بذي المقدمة نحو فعل المقدمة من أجل التوصل إلى امتثاله وبين قصد التوصل بمعنى الإقدام على فعل المقدمة الموصلة بمحركية الأمر الغيري بها ، فان المدعى لزوم قصد التوصل بالمعنى الأول بينما هذا الوجه لا يثبت الا لزوم قصد التوصل بالمعنى الثاني الّذي لا ينفي إمكان الانبعاث والتحرك عن الأمر الغيري بل يثبته.

الوجه الثاني ـ مبني على القول بالمقدمة الموصلة أيضا وحاصله : انه لا يوجد بناء على تعلق الأمر الغيري بالحصة الموصلة اية مزية في الآثار والمئونة بين الأمر الغيري والنفسيّ ليعدل عن التحرك من الأخير إليه فان كلاهما يحرك نحو الوضوء الموصل إلى الصلاة ، اما الغيري فواضح ، واما النفسيّ فلأنه يقتضي سد أبواب عدم تحقق ذي


المقدمة من ناحية مقدماته أيضا فلا يعقل اختصاص التحريك والانبعاث نحو فعل المقدمة بالأمر الغيري بناء على القول بالمقدمة الموصلة (١).

الوجه الثالث ـ ان محركية الأمر انما يكون بلحاظ ما يترتب عليه من أثر الثواب والتجنب عن العقاب ، ومن الواضح ان الثواب والعقاب انما يكونان بلحاظ المطلوب النفسيّ للمولى لما عرفت من ان موضوع الثواب ذاتا وحجما في الثواب الانفعالي والمولوي معا انما هو بلحاظ المطلوب النفسيّ للمولى لا الغيري وكذلك العقاب فلا محالة لا تكون المحركية الا بقصد الأمر النفسيّ.

وان شئت قلت : العقل يحكم بان العبد لا بد وان يجعل نفسه امتدادا للمولى ، وهذا يستدعى التطابق بين إرادة العبد وإرادة المولى لو كان هو المباشر ، ولا إشكال ان المولى لو باشر تحقيق مطلوبه كانت إرادته للمقدمة غيرية ، أي كان تحركه بداعي المطلوب النفسيّ ، فالعبد أيضا انما يستحق الجزاء بحكم العقل إذا تعلقت إرادته بذلك ، أي كان مراده النفسيّ الصلاة لا الوضوء.

وهذا وجه صحيح أيضا ولا يعترض عليه : بما ذكره العراقي ( قده ) من ان إرادة المولى للصلاة غيرية أيضا لأنه انما يريدها باعتبار المصالح فيها فلا بد للمكلف من إرادة تلك المصالح (٢) فان جواب هذا الاعتراض يتضح مما تقدم من ان مولوية المولى تبدأ من حيث يسجل فعلا في عهدة المكلف ، وهو فعل الصلاة لا ملاكاتها ، واللازم هو التطابق بين إرادة المكلف والمولى بما هو مولى لا بما هو كائن ، وإرادة المولى بما هو مولى للصلاة نفسية وليست غيرية.

الوجه الرابع ـ ما عن المحقق الأصفهاني ( قده ) من ان الأمر الغيري لكونه تابعا في الوجود للأمر النفسيّ فتكون محركيته أيضا تبعية ولا يمكن ان تكون مستقلة (٣).

وكأن هذا البيان انسياق مع كلمات الحكماء من ان الممكن كما هو غير مستقل

__________________

(١) هذا الوجه لا يثبت عدم إمكان الانبعاث من الأمر الغيري وانما يثبت عدم اختصاص الانبعاث بذلك في مورد الانبعاث.

(٢) مقالات الأصول ، ج ١ ص ١١٤.

(٣) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ١٩٧ ـ ١٩٨.


في الوجود بل تابع لواجب الوجود لا يكون مستقلا في الإيجاد والفاعلية أيضا وانما الفاعل الحقيقي هو الله الواجب الوجود ، فلا فاعل بالحقيقة غيره.

الا ان هذا التطبيق في المقام غير صحيح ، لأن فاعلية الأمر الغيري التابع في وجوده وفعليته للأمر النفسيّ لا يراد بها الفاعلية الحقيقية ، إذ فاعل المقدمة انما هو المكلف نفسه ، وانما المراد أن الأمر بالوضوء تترتب عليه فوائد من استحقاق الثواب والتجنب عن العقاب وتكون تلك الفوائد علة غائية في نفس المكلف للإقدام على الفعل ، فلا بد من النّظر في ان تلك الآثار هل تترتب على الأمر الغيري أيضا ليكون محركا أم لا؟


« وجه القربية في الطهارات »

الجهة الرابعة ـ في معالجة إشكال يرد على ضوء ما تقدم من عدم قربية الأمر الغيري في بعض المصاديق الفقهية ، كالطهارات الثلاث التي لا إشكال في مقدميتها مع انها لا تكون بصفات الواجبات الغيرية من هذه الناحية.

والإشكال حول الطهارات الثلاث تارة : في كيفية قربيتها ، وأخرى : في كيفية ترتب الثواب عليها.

اما الإشكال في القربية فيمكن ان يقرب بوجوه الأول ـ ان قربية واجب تتوقف على تعلق امر قربي به ، والأمر الغيري لا يمكن ان يكون قربيا كما تقدم فكيف تكون الطهارات قربية؟

والجواب : ان قربية واجب تتوقف على ان يكون قد أخذ فيه قيد قصد القربة ويمكن ان يؤتى به كذلك ، سوء من ناحية قصد نفس الأمر المتعلق به أو امر آخر كقصد التوصل في المقام.

الثاني ـ ان الأمر الغيري لا يمكن ان يكون سقوطه متوقفا على قصد القربة ، لأنه أمر توصلي الغرض منه يحصل بمجرد تحقيق متعلقه وهو التمكن أو الوصول إلى ذي المقدمة.


وفيه : ان التوصل أو المقدمية إذا كانت متوقفة على العبادية كان لا بد من قصد التقريب بالمقدمة ليتحقق الغرض الغيري المقدمي ، وكأنه وقع خلط بين توصلية الواجب الغيري بمعنى ان الغرض هو التوصل به إلى ذي المقدمة وليس الغرض نفسه وبين التوصلية بمعنى ما يقابل التعبدية وقصد التقرب.

وقد حاول في الكفاية نقلا عن تقريرات الشيخ الأعظم ( قده ) ان يجيب على هذا الإشكال بافتراض ان للطهارات الثلاث حقيقة لاهوتية لا نعرفها نحن يعرفها الشارع ، وهو امر قصدي كالتعظيم فلا بد من قصده ولو إجمالا من خلال قصد الأمر الغيري استطراقا إلى قصد ذلك العنوان اللاهوتي.

وهذا البيان رغم انه تبعيد للمسافة يرد عليه : ما أورده في الكفاية من لزوم كفاية قصد ذلك العنوان وصفا لا غاية (١) ـ بل لزم كفاية قصد عنوان المأمور به ولو فرض خطأه في التطبيق وتخيل ان ذلك العنوان هو الوضوء إذا لم يكن على وجه التقييد ـ فلا يثبت لزوم التحرك عن الأمر الغيري.

الثالث ـ ان قربية المقدمة ان كانت من ناحية أخذ قصد امتثال نفس الأمر الغيري المتعلق به فهذا دور بل غير معقول ، لما تقدم من عدم قربية الأمر الغيري ، وان كانت من ناحية الأمر النفسيّ بذي المقدمة أي قصد التوصل فهو دور أيضا لأن قصد التوصل فرع المقدمية والمقدمية لكونها قربية فرع قصد التوصل.

وفيه : ان قصد التوصل فرع أصل المقدمية لا تماميتها ، وذات الفعل أيضا مقدمة إذ به يتحقق جزء من المقدمة وجزؤها الاخر نفس القصد ، فبقصد التوصل بالجزء الأول يحصل الجزء الثاني أيضا فلا يتوقف قصد التوصل على قصد التوصل.

ثم ان صاحب الكفاية حاول دفع إشكال القربية على أساس الاستحباب النفسيّ للطهارات فيؤتى بها بقصد امتثال هذا الأمر النفسيّ من دون محذور (٢).

ويرد على هذا العلاج اعتراضات عديدة بعضها متجه وبعضها قابل للدفع.

اما المتجه منها فاثنان :

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٧٨ ـ ١٧٩.

(٢) نفس المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٧٧.


أحدهما ـ ما ذكره بنفسه من ان لازمه عدم إمكان التقرب لمن لا يعتقد باستحباب الطهارات أو غافل عنه ولا يأتي بها الا من جهة المقدمية مع ان الضرورة الفقهية قاضية بصحة الطهارة في حقه أيضا ، أي عدم اختصاص الصحة بما إذا جيء بها بقصد الاستحباب النفسيّ بل تثبت في موارد الإتيان بها بقصد التوصل أيضا.

وحاول ان يجيب عليه : بتصوير الداعي على الداعي وان من يأتي بالوضوء بداعي التوصل قاصد للإتيان بمتعلق الأمر الغيري الّذي هو الفعل العبادي من ناحية الاستحباب النفسيّ ، فداعوية التوصل تبعث نحو داعوية الاستحباب النفسيّ.

وفيه : ان تعدد الداعي أو الداعي على الداعي انما يعقل مع الالتفات إلى الداعي الطولي والانتهاء إليه لا ما إذا لم يكن المكلف عالما به ولا ملتفتا إليه.

ثانيهما ـ انه قد يرتفع الاستحباب النفسيّ في بعض الموارد ، كمورد مزاحمته مع استحباب آخر أهم منه ، كما إذا لزم من استعمال الماء للوضوء تأثر المؤمن ، بل قد يفرض وجوب الترك لو لا المقدمية ، كما لو امر الوالد بترك استعمال ذلك الماء الرافع للاستحباب النفسيّ دون الوجوب الغيري ، وفي مثل ذلك كيف تفسر القربية ولا امر نفسي؟

لا يقال ـ بعد ثبوت الوجوب الغيري يرتفع الاستحباب الأهم أو الوجوب خطابا ، ومع سقوطهما لا يمكن إثبات ملاكهما فيرجع الاستحباب النفسيّ لا محالة.

فانه يقال ـ أولا : يمكن افتراض إمكان إحراز ثبوت الملاك في بعض الموارد إذا كان ملاكا عرفيا بالملازمة.

وثانيا ـ يمكن افتراض عدم انحصار الماء فيه بل يوجد فرد آخر منه يمكن التوضؤ به ، فانه في مثل ذلك لا يرتفع الاستحباب الأهم في ترك التوضؤ بذلك الماء فكيف يصحح الوضوء به؟

ـ واما الاعتراضات التي يمكن دفعها فمن قبيل دعوى لزوم اندكاك الاستحباب في الوجوب الغيري.

والجواب : انه يكفي للقربية بقاء الاستحباب النفسيّ ذاتا وان ارتفع مرتبة وحدا ، بل لا اندكاك أيضا بناء على القول بالمقدمة الموصلة لتعدد الموضوع.


ـ ومن قبيل ان ذات الوضوء أيضا تصبح مقدمة للطهور الّذي هو المستحب النفسيّ فكيف يؤتي به بقصد القربة؟

والجواب : أولا ـ بطلان المبنى فقهيا فان الطهور منطبق على نفس الوضوء.

وثانيا ـ لو فرض ان الطهور عنوان آخر يتولد من الوضوء فلا دليل على عبادية ذات الوضوء زائدا على الطهور لو فرض التغاير بينهما. ومن قبيل ان التيمم ليس مستحبا نفسيا.

والجواب : بالإمكان استفادة استحبابه مما دل على أن التراب أحد الطهورين بضمه إلى مثل ( ان الله يحب المتطهرين ). وهكذا اتضح عدم وجود مشكلة في قربية الطهارات الثلاث ، واما الإشكال في الثواب على الطهارات فقد أجاب عليه السيد الأستاذ على مبناه المتقدم في الجهة السابقة وصاحب الكفاية على أساس ثبوت الاستحباب النفسيّ.

والتحقيق ان يقال : ان تم دليل على الاستحباب النفسيّ فهذا بنفسه دليل على ترتب الثواب عليها كلما جيء بها بقصد قربي ، سواء قصد الأمر النفسيّ الاستحبابي أو قصد التوصل ، لأن دليل الاستحباب لا يدل على اشتراط قصد الأمر النفسيّ بالخصوص في ترتب الثواب. وبهذا يظهر ان ثبوت الاستحباب النفسيّ يكفي في دفع إشكال ترتب الثواب في تمام الحالات.

وان لم يتم دليل على الاستحباب النفسيّ فلا محالة يكون المدرك على الثواب في الطهارات الإجماع ونحوه من الأدلة اللبية ، ولا إطلاق فيها لأكثر من موارد الإتيان بها بقصد التوصل إلى غاية من الغايات الشرعية القربية ، ولا إشكال في ترتب الثواب فيها ولو من جهة كثرة الثواب على الغاية بسببها. ولو فرض انعقاد إطلاق في معقد الإجماع على ترتب الثواب على الطهارات بعنوانها ومستقلا عن غاية من غاياتها كان هذا بنفسه دليلا بالملازمة على استحبابها ومطلوبيتها نفسيا.


« صياغة الوجوب الغيري »

الجهة الخامسة : اختلف في صياغة الوجوب الغيري إطلاقا وتقييدا من حيث الوجوب أو الواجب على أقوال :

القول الأول : ما عن المشهور من القول بالإطلاق في الوجوب والواجب وعدم تقيدهما بقيد زائد على شرائط الوجوب النفسيّ السارية إلى الوجوب الغيري أيضا.

القول الثاني : ما عن صاحب المعالم ( قده ) ، من اشتراط وجوب المقدمة بالعزم والإرادة على إتيان ذي المقدمة.

وقد اعترض عليه من قبل المحققين باستحالة مثل هذا التقييد ، وقد قرر ذلك في كلماتهم بأحد نحوين.

النحو الأول : ما ذكره المحقق العراقي في وجه الاستحالة بان هذا يشبه طلب الحاصل وهو محال ، لأن إرادة ذي المقدمة مستلزمة لإرادة المقدمة لا محالة ، فتقيد وجوبها بها شبيه بطلب الحاصل.

وفيه : ان اشتراط وجوب المقدمة بإرادة ذيها يتصور بأحد أنحاء.

الأول : ان يكون الشرط إرادة ذي المقدمة من غير ناحية هذه المقدمة ، أي سد باب عدمه من ناحية غيرها ، وهذا من الواضح انه ليس من طلب الحاصل.


الثاني : ان يكون الشرط صدق قضية شرطية هي انه لو أتى بالمقدمة لأتى بذي المقدمة ، وصدق الشرطية لا يستلزم صدق طرفيها ، وهذه صياغة ثانية لشرطية إرادة ذي المقدمة في الوجوب الغيري ، ولا محذور فيه أيضا.

الثالث : ان يكون الشرط إرادة ذي المقدمة بالفعل ومن جميع الجهات ، وهذه الصيغة للشرط هي التي لاحظ عليها المحقق العراقي الاستحالة غير ان الصحيح عدم المحذور في هذه الصيغة أيضا ، لأن محذور تحصيل الحاصل اما ان تكون من جهة لزوم التهافت في عالم الجعل ، لأن طلب شيء يستلزم لحاظ المطلوب مفقودا في الخارج حين الطلب ، فيكون فرض حصوله مستلزما للتهافت ، أو من جهة لزوم اللغوية لأن الأمر من أجل قدح الداعي نحو المطلوب لتحصيله ، فلو أخذ فيه حصوله كان طلبه حينئذ لغوا.

وكلتا النكتتين لا تتمان في المقام.

اما الأولى فلان الشرط هنا ليس هو حصول المقدمة بل إرادة ذيها ، وهي ولو فرض بشكل بحيث كان ملازما تصديقا مع حصول المقدمة أو إرادتها لكنه ليس مساوقا مع حصولها تصورا ليلزم التهافت.

واما الثانية ، فلان وجوب المقدمة وجوب غيري تبعي ليس له جعل مستقل ولا داعوية مستقلة ليعترض عليه بلزوم محذور اللغوية كما هو واضح.

النحو الثاني : ما ذكرته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) ، من ان الوجوب الغيري لو كان مشروطا بإرادة الواجب النفسيّ والعزم عليه فمع عدم ذلك لا يكون الوجوب ثابتا ، وحينئذ لو فرض ان الوجوب النفسيّ باق ، لزم التفكيك بين الوجوب النفسيّ والغيري ، وهو خلف الملازمة والتبعية بينهما والتي لا تختلف من حال إلى حال. وان فرض ارتفاع الوجوب النفسيّ أيضا. كان معنى ذلك اشتراطه بإرادته والعزم عليه ، وهذا ان كان بالصيغة الثالثة للاشتراط لزم محذور طلب الحاصل المستحيل في الواجبات النفسيّة ، وان كان بالصيغة الثانية أو الأولى. فهو وان لم يكن فيه محذور ثبوتي ، لكنه خلاف الواقع إثباتا ، إذ ليست الواجبات النفسيّة مشروطة بسد باب


عدمها من غير ناحية المقدمة بل الوجوب ثابت لها من أول الأمر ويتطلب سد كل أبواب عدمها (١).

وهذا الوجه في إبطال هذا القول صحيح لا غبار عليه (٢).

القول الثالث : ما نسب إلى الشيخ الأعظم على ما في تقريرات بحثه من ان الواجب الغيري هو المقدمة مع قصد التوصل بها إلى الواجب النفسيّ على نحو يكون قصد التوصل من قيود الواجب الغيري.

وذكر السيد الأستاذ (٣) : ان هذا القيد هو نفس القيد الّذي أفاده صاحب المعالم ( قده ) ، غاية الأمر انه جعله قيدا للوجوب الغيري والشيخ ( قده ) يجعله قيدا للواجب ، إلا انه بالدقة يوجد فرق بين قصد التوصل بالمقدمة وبين قصد ذي المقدمة وإرادته ، إذ قد يريد المكلف فعل ذي المقدمة ولكنه مع ذلك يأتي بالمقدمة فعلا بقصد آخر.

وعلى أي حال عبائر التقريرات مشوشة في شرح مرام الشيخ ( قده ) ، في المقام فهناك احتمالات عديدة في تفسير مرامه.

الأول : ما ذكر من أخذ قصد التوصل قيدا في الواجب الغيري.

الثاني : ان وقوع المقدمة امتثالا وعبادة يتوقف على قصد التوصل بها ، وهذا المعنى لو كان هو المتصور فهو معنى صحيح لما تقدم من أن الوجوب الغيري ليس بنفسه قربيا وعباديا.

الثالث : ان قصد التوصل قيد في الواجب قيد في الواجب الغيري كالأول ولكنه في خصوص الواجبات المتوقفة على مقدمة محرمة ، فانها تقع محرمة الا إذا جيء بها بقصد التوصل ، فتكون واجبة ، وهذا بخلاف المقدمة المباحة فانها واجبة على الإطلاق ، وهذا المعنى

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ٢ ، ص ٤٠٤.

(٢) يمكن لصاحب المعالم ان يختار الشق الأول. وهو ثبوت الوجوب النفسيّ عند عدم إرادة فعل الواجب النفسيّ رغم ارتفاع الوجوب الغيري. ودعوى استحالة ذلك من جهة لزوم التفكيك بين المتلازمين مصادرة ، إذ تتوقف على افتراض ان الملازمة بين الوجوب المطلق للمقدمة مع وجوب ذيها لا بين الوجوب المشروط لها ووجوب ذيها. وهو أول الكلام ، فانه يدعي ان إيجاب شيء لا يستلزم الا إيجاب مقدماته مشروطا بالعزم على إتيان ذلك الشيء ، واما لو لم يكن يريد الإتيان به فلا تكليف آخر للمولى عليه بإتيان مقدماته. فالأولى في الإشكال الرجوع إلى مدرك الملازمة وانه اما التوقف أو الوصول إلى ذي المقدمة ، وكلاهما لا يقتضيان تقييد الوجوب ، وانما الثاني منهما يقتضي تقييد الواجب الغيري بالحصة الموصلة على بيان يأتي في محله.

(٣) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٢٣٣.


سوف يقع الحديث عنه لدى التعرض لثمرة البحث عن وجوب المقدمة بصيغة المتعددة. فموضوع البحث في هذا القول المنسوب إلى الشيخ ( قده ) ، هو الاحتمال الأول. وقد يعترض على هذا القول : بأنه لا وجه لأخذ قيد قصد التوصل في الواجب الغيري ، إذ لو كان ملاك الوجوب الغيري هو التوقف ، فهو يقتضي الوجوب لمطلق المقدمة وان كان الملاك هو التوصل وحصول الواجب النفسيّ بها ، فهو يقتضي وجوب المقدمة الموصلة ، فاعتبار قصد التوصل بلا مأخذ.

وقد حاول المحقق الأصفهاني ( قده ) ، تخريج هذا القول على أساس ان الحيثيات التعليلية في الأحكام العقلية دائما تكون تقييدية. فيكون الموصول من المقدمة هو الواجب بحكم العقل بالملازمة ، وبما ان الوجوب يتعلق ككل تكليف بالحصة الاختيارية ، أي الصادرة عن قصد واختيار ، فلا تقع المقدمة مصداقا للواجب الغيري الا إذا جيء بها بقصد التوصل (١).

وقد وافق سيدنا الأستاذ على كبرى رجوع الحيثيات التعليلية إلى تقييدية في أحكام العقل مطلقا ، ولكنه ناقش في كلام هذا المحقق بان الوجوب المبحوث عنه في المقدمة هو الوجوب الشرعي لا العقلي ، وانما العقل مجرد كاشف عنه (٢).

مع ان هذا تهافت ، فانه إذا وافقنا على ان الحيثيات التعليلية في الأحكام العقلية مطلقا العملية والنظرية ، تكون تقييدية ، فلا وجه لخروج المقام عن تلك القاعدة ، إذ ليس دور العقل في الأحكام خصوصا النظرية سوى الكشف والإحراز ، فالتسليم بتلك المقدمة مناقض مع الاعتراض عليه ، وانما الصحيح في الجواب ان يقال :

أولا ـ ان هذه القاعدة كلام موروث يقصد منه الأحكام العقلية العملية ، لا النظرية ، فعند ما يقال ( الضرب للتأديب حسن ) ، يكون التأديب هو الحسن لا ان التأديب يجعل الضرب بعنوانه حسنا ، وذلك لأن هذه الأحكام العملية أمور نفس أمرية يدركها العقل لموضوعاتها بالذات ، وهذا بخلاف المجعولات الشرعية ، فانها ربما تؤخذ في لسان جعلها حيثيات هي وسائط لثبوت الحكم على موضوع ، وكذلك

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

(٢) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٢ ص ٤٠٧.


مدركات العقل النظريّ حيث قد تكون حيثية ما ، سببا لإدراك العقل حكما على موضوع ليست تلك الحيثية مأخوذة فيه.

وثانيا ـ لو سلمنا ذلك فما أفيد من ان الوجوب لا بد وان يتعلق بالحصة الاختيارية بالخصوص من المقدمة غير صحيح ، وذلك تارة : لعدم صحة الكبرى على ما تقدم في محله ، فان اشتراط القدرة والاختيار في التكاليف ليس بمعنى لزوم اختصاص متعلقاتها بالحصة الاختيارية بل يمكن تعلقها بالجامع بين الحصة الاختيارية وغير الاختيارية ، نعم لا يمكن تخصيصها بالحصة غير الاختيارية ، وأخرى : لعدم انطباق ذلك في المقام حتى لو سلمت الكبرى لأن الوجوب الغيري وجوب تبعي قهري ، وليس بملاك جعل الداعي لكي يشترط فيه تعلقه بالحصة الاختيارية بالخصوص.

وثالثا ـ شرطية الاختيار في التكليف ليست بمعنى لزوم القصد والعزم والإرادة لمتعلق التكليف ، بل يكفي فيها عدم الغفلة والجهل وعدم العجز والاضطرار ، فمن يضرب شخصا بقصد إظهار قوته امام الآخرين وهو ملتفت إلى ان ضربه له سوف يؤدي إلى هلاكه يكون القتل الصادر منه اختياريا رغم انه ربما لم يكن يقصد قتله ولا يريده وعليه : فمن يأتي بالمقدمة لغرض فيها ولكنه يعلم أيضا بأنها سوف تكون موصلة إلى ذي المقدمة تكون المقدمة الصادرة منه اختيارية رغم انه لم يقصد التوصل بها.

ورابعا ـ ان هذا التخريج لا يثبت مقالة الشيخ الأعظم ، بل ينتج الجمع بين قيدين ، قصد التوصل والموصلية ، وهذا جمع بين مقالة الشيخ ومقالة صاحب الفصول ، التي سوف يأتي شرحها ، هذا لو أراد المحقق الأصفهاني من حيثية التوصل الموصلية بالفعل ، واما إذا أراد الموصلية الشأنية الثابتة في كل مقدمة ، فقصدها لا يتوقف على قصد التوصل كما هو واضح.

وهكذا يتضح عدم تمامية هذا القول.

القول الرابع : ما ذهب إليه صاحب الفصول ( قده ) ، من ان الواجب الغيري خصوص الحصة الموصلة من المقدمة.

والبحث عن هذه المقالة يقع في مقامين يتكلم في أحدهما عن البراهين التي


أقيمت لإبطال هذا القول ، وفي الأخرى ، عن الوجوه والبيانات التي يمكن على أساسها تشييد هذه المقالة الذكية التي انتبه إليها هذا المحقق.

اما المقام الأول : فبراهين بطلان القول بالمقدمة الموصلة يرجع بعضها إلى بيان عدم المقتضي للتقييد بالموصلة وبعضها إلى استحالة التقييد بها ، وفيما يلي نستعرض هذه الوجوه :

الوجه الأول : دعوى لزوم التسلسل من تخصيص الوجوب الغيري بالمقدمة الموصلة ، وذلك لأن المقدمة الموصلة مركب من ذات المقدمة وتقيدها بالإيصال إلى ذي المقدمة ، وبما ان الوجوب الغيري يثبت لمقدمة المقدمة أيضا ولا تختص بالمقدمة المتصلة ، فحينئذ يلزم التسلسل ، اما بتقريب يظهر من عبائر المحقق النائيني وحاصله : ان ذات المقدمة التي أصبحت مقدمة ثانوية ان كانت مقيدة بالإيصال إلى المقدمة الأولية أصبحت مركبة أيضا من ذات المقدمة الثانوية وإيصالها إلى المقدمة الأولية فلا بد من وجوب غيري ثالث. وهكذا حتى يتسلسل ، وان كانت غير مقيدة بالإيصال فلنقل بذلك من أول الأمر بلحاظ المقدمة الأولية (١).

ويكفي في جواب هذا التقريب ان ذات المقدمة تكون جزءا ومقدمة داخلية للمقدمة الموصلة ، والوجوب الغيري على القول به يترشح على المقدمة الخارجية. لأن نكتته التوقف في الوجود ، وهذا مفقود بالنسبة إلى الاجزاء.

واما بتقريب آخر حاصله : ان الواجب إذا كان الحصة الموصلة إلى ذي المقدمة أصبح ذو المقدمة قيدا في الواجب الغيري ، فلا بد وان يكون واجبا غيريا أيضا. وحيث انه متوقف على المقدمة فلا بد وان يترشح وجوب غيري آخر من إيجاب ذي المقدمة على المقدمة وهي أيضا مقيدة بالإيصال إليه ، وهكذا تتسلسل الوجوبات الغيرية.

والجواب :

أولا ـ بما سوف يأتي في محله من ان القول بالمقدمة لا ينحصر معناه في أخذ التوصل قيدا بل له معنى آخر هو ان الواجب الغيري عبارة عن العلة التامة أو ما يكون بمثابتها

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ، ص ٢٣٨.


للواجب ، وهذا امر واحد لا يتعدد على ما سوف يأتي توضيحه. وهذا الجواب يرد التقريب الأول للتسلسل أيضا.

وثانيا ـ لو سلمنا ان الوجوب الغيري يترشح على كل ما هو مقدمة ، فلا إشكال في ان مبدأ هذا الترشح انما هو الإيصال إلى الواجب النفسيّ لا الغيري ، مهما تعدد وتكثر ، لأن الوجوب الغيري تبعي غيري ولا يمكن ان يدعو لنفسه ، وحينئذ يقال : إذا كانت المقدمة الثانوية مغايرة مع الواجب النفسيّ أو الواجب الغيري الأول كإخراج الماء للوضوء. أمكن ان يكون هناك وجوب غيري خاص به ، واما إذا كانت نفس الواجب النفسيّ كما في قيدية ذي المقدمة لإيصال المقدمة ـ التقريب الثاني ـ أو نفس الواجب الغيري الأول ـ كما في التقريب الأول ـ فان ذات المقدمة تقيد بإيصالها إلى ذي المقدمة لا إلى المقدمة الموصلة ، فلا معنى لترشح وجوب غيري جديد ليلزم التسلسل.

وثالثا ـ أساسا مثل هذا التسلسل ليس محالا لأنه ينقطع بانقطاع الاعتبار واللحاظ ، لأنه ليس تسلسلا وجوديا ، وانما هو من التسلسل في الاعتبار وملاحظة حيثية الإيصال إلى المقدمة وهو ينقطع بانقطاع الاعتبار والملاحظة ، فلا محذور في ان تكون هناك أشواق نفسية غيرية متسلسلة وممتدة كلما امتدت الملاحظة والاعتبار في عالم نفس الآمر.

الوجه الثاني : لزوم اجتماع المثلين ، أي الوجوبين على ذي المقدمة ، لما تقدم من أنه على القول بالمقدمة الموصلة يكون ذو المقدمة قيدا فيها ، فيترشح وجوب غيري عليه فيجتمع فيه الوجوبان النفسيّ والغيري.

وقد ظهر جواب هذا الوجه مما ذكرناه في رد الوجه السابق ، فان القول بالمقدمة الموصلة لا يعني أخذ الإيصال قيدا في الواجب الغيري زائدا على ذات المقدمة ، وان مبدأ الوجوب الغيري هو الإيصال إلى الواجب النفسيّ فلا بد وان يكون ما يترشح عليه الوجوب الغيري من الواجب النفسيّ امرا آخر غير الواجب النفسيّ ليعقل ان يترشح عليه وجوب غيري ، لا ما إذا كان نفسه.

الا ان السيد الأستاذ ذكر في المقام جوابا ثالثا هو الالتزام بالتعدد ثم التأكد


والاشتداد في الوجوب والشوق ، نظير تعلق النذر بالواجب.

وفيه : ان ازدياد الشوق وتأكد الوجوب ، انما يكون على أساس وجود ملاكين يقتضيان الشوق ولكن يستحيل تأثير كل منهما على حدة لاستحالة اجتماع شوقين في آن واحد على موضوع واحد ، فيؤثر ان تأثيرا واحدا في إيجاد شوق شديد ووجوب أكيد ، وهذا في المقام غير معقول لأن مقتضى الشوقين وملاكهما واحد وهو الملاك النفسيّ ، فلا يعقل تأكد الوجوب ولا يصح قياسه على تعلق النذر بالواجب.

الوجه الثالث : لزوم الدور ، وهذا المحذور تارة : يقرب بلحاظ عالم الوجود بدعوى ان المقدمة الموصلة متوقفة على الإيصال إلى ذي المقدمة فتكون متوقفة عليه والمفروض انه متوقف عليها وهذا دور. والجواب على هذا التقريب واضح ، فان المدعى ان الوجوب الغيري متعلق بالحصة الموصلة لا ان الواجب النفسيّ متوقف على الحصة الموصلة بل هو متوقف على ذات المقدمة ، فلا دور.

وأخرى : يقرب بلحاظ عالم الوجوب إذ يلزم من وجوب الحصة الموصلة وجوب ذي المقدمة لكونه قيدا لها مع ان وجوب المقدمة ناشئ من وجوب ذي المقدمة وهو دور وقد أجاب عليه الأستاذ : بأن الوجوب الّذي يتولد منه وجوب المقدمة هو الوجوب النفسيّ لذي المقدمة ، والوجوب الّذي يتولد من وجوب المقدمة هو الوجوب الغيري لذي المقدمة ، فلا دور (١).

وهذا الجواب واضح لو كان المستشكل يفترض عدم التأكد.

اما لو كان يرى لزوم التأكد بين الوجوبين اتجه المحذور حينئذ بتقريب : ان الوجوب النفسيّ للصلاة مثلا يترشح منه وجوب غيري للوضوء الموصل ، ويترشح منه وجوب غيري للصلاة فان بقي الأول والثالث على حديهما من دون تأكد لزم اجتماع المثلين ، وان اتحدا لزم تقديم المتأخر وتأخير المتقدم ، لأنهما في مرتبتين مترتبتين وهو روح الدور ولكنك عرفت ان الأصول الموضوعية لهذا التقريب من ترشح الوجوب الغيري

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٢ ، ص ٤١٤.


على ذي المقدمة ومن كون الوجوب الغيري في طول الوجوب النفسيّ ومن لزوم التأكد كلها باطلة.

الوجه الرابع : ما ذكره صاحب الكفاية ( قده ) ، من ان الوجوب الغيري إذا كان متعلقا بالحصة الموصلة من المقدمة بالخصوص فإذا جيء بالمقدمة وبعد لم يشرع في ذي المقدمة ، فهل يسقط الأمر الغيري أم لا؟. فإذا فرض عدم سقوطه لزم منه طلب الحاصل ، إذ لم يبق شيء الا ذو المقدمة وان فرض سقوطه ، فسقوط امر لا يكون الا بالامتثال أو العصيان أو ارتفاع الموضوع أو تحقق الغرض بحصة منه لا يمكن انبساط الأمر عليها ، والمتعين منها هنا هو الأول لا محالة ، وهو يعني تعلق الأمر الغيري بذات المقدمة (١).

والجواب : أولا ـ بالنقض بموارد الإتيان بالجزء قبل تحقق المركب فانه يرد فيها نفس البيان ، بل والنقض على صاحب الكفاية بالخصوص بما ذكره في بحث الاجزاء من إمكان تبديل الامتثال بالامتثال إذا كان الواجب مقدمة إعدادية لغرض أقصى لم يتحقق بعد ، لبقاء الأمر ، وبما ذكره في بحث التعبدي من بقاء الأمر وعدم سقوطه إذا لم يأت بقصد القربة رغم ان متعلق الأمر ذات الفعل ، فان محذور طلب الحاصل أوضح بل لا نملك جوابا صحيحا عليه فيهما بخلاف المقام على ما سوف يظهر.

وثانيا ـ الحل بان الأمر الغيري وكذلك الأمر الضمني لا يسقطان بمجرد فعل المقدمة أو الجزء لا من جهة ان متعلقهما مقيد بالإتيان بباقي الاجزاء أو بذي المقدمة فلا يتحقق الا بعد ذلك فان هذا غايته ان هناك امرين ضمنيين ، أحدهما بذات الجزء أو المقدمة والآخر بالتقيد فيرد الكلام في الأمر الضمني المتعلق بذات الفعل ، بل لأن تحصيل الأمر الضمني والغيري ، ليس تحصيلا مستقلا ، وانما يكون من خلال تحصيل الأمر الاستقلالي النفسيّ ، إذ ليس هنا لك بحسب الحقيقة الا امر واحد له محركية ومحصلية واحدة وبالنسبة إليه لا يكون الأمر تحصيلا للحاصل ، واما ما يسمى بالأمر الضمني فهو امر تحليلي وكما ان وجوده يكون ضمنيا محصليته وسقوطه أيضا يكون

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٨٦.


ضمنيا أي ضمن محصلية الأمر الاستقلالي وسقوطه ، وهذا البيان هو الفارق بين المقام وبين موردي النقض من مباني صاحب الكفاية عليه. وهو كما يجري في الأوامر الضمنية يجري أيضا بناء على القول بالمقدمة الموصلة في الأوامر الغيرية ، فان الأمر بالمقدمة امر بها مع انضمام سائر المقدمات الموصلة إلى ذي المقدمة ، فيكون سقوط الأمر بها بسقوط الأمر به (١).

الوجه الخامس : ما ذكره في الكفاية من عدم المقتضي لاختصاص الوجوب بالحصة الموصلة إذ ملاك إيجاب المقدمة لا يمكن ان يكون ترتب ذي المقدمة عليها ، لوضوح عدم الترتب المذكور في غير الأفعال التسبيبية فلا بد وان يكون الملاك امرا آخر من إمكان ذي المقدمة ، أو القدرة عليه ، أو حصول ما لولاه لما حصل ، أو التهيؤ والاقتراب من فعل ذي المقدمة ، على اختلاف في الصياغات المستفادة من كلمات صاحب الكفاية ، وكل هذه الحيثيات عامة لا تختص بالمقدمة الموصلة (١).

وفيه : أولا ـ ان شيئا مما ذكر لا يمكن ان يكون هو ملاك إيجاب المقدمة بل الملاك والمقتضي في إيجاب المقدمة انما هو أصل وجود ذي المقدمة بها الّذي لا يكون إلا في الحصة الموصلة منها أي الغرض هو التوصل على ما سوف نشرح.

وثانيا ـ بعض ما ذكر من العناوين لا تترتب على المقدمة ، فان إمكان ذي المقدمة ان أريد به الإمكان الذاتي المقابل للامتناع الذاتي فهذا ثابت بذاته ولا يعقل ان يكون

__________________

(١) هذا التزام بعدم المحذور في طلب الحاصل في الاوامر الضمينة وكأن المحذور مخصوص بالامر الاستقلالي مع ان روح استحاله ونكتتها لا تختص بذلك ، ولعل الاوفق في الجواب على هذه الشبهة ان يقال :

اولاً ـ بناءً على ما هو الصحيح من ان الذي يسقط دائما انما هو فاعلية الامر لافعلية ، نقول : ان فاعلية الامر الضمني تسقط كلما تحقق متعلقه خارجا الا اذا كان ترك سائر الاجزاء سببا لتعذر قيد من قيوده كالاقتران أو الموالات مع سائر الاجزاء لان الفاعلية تعني حكم العقل بلزوم الامتثال ، وهذا الحكم انا بحكم به العقل كلما لم بحقق المكلف ما هو متعلق الامر ، اما اذا تحقق المتعلق بنحو بنطبق عليه المأمور به اذا حقق المكلف قيده بعد ذلك ولا بنطبق عليه اذا ما لم يتحقق فانه في مثل ذلك يكون حكم العقل بالامتثال مراعى بانضمام سائر القيود ، ولا ضيرفى ذلك بعد ان نعرف بان السقوط للفاعلية وحكم العقل بالاشتغال لا للفعلية ووجود الامر.

وثانيا ـ ان قياس الاوامر الغيرية بالضمنية بلا موجب اساساً فان الشبهة فيها اوضح جوابا باعتبار انه لافاعلية ولا محركية للاوامر الغيرية وانما هى مجرد اشواق قهرية تبعية للمولى على ما تقدم في الجهة السابقة.

(٢) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٨٤ ـ ١٨٥.


متوقفا على المقدمة ، وان أريد به الإمكان الوقوعي المقابل للامتناع الوقوعي أي ما يكون وقوعه مستلزما للمحال فالإمكان الوقوعي يتوقف على إمكان المقدمة وقوعا لا على فعله ، ولو أريد به ما يقابل الامتناع بالغير أي بالعلة فهو يقابله الوجوب بالغير المساوق لوجود ذي المقدمة وهو خلف المقصود. ومثل الإمكان القدرة على ذي المقدمة فانها لا تتوقف على فعل المقدمة بل على القدرة على المقدمة.

وهكذا يتضح : عدم صحة شيء مما ذكر في إبطال القول بالمقدمة الموصلة.

المقام الثاني : في البرهنة على اختصاص الوجوب الغيري بالمقدمة الموصلة. حاصله : ان ملاك إيجاب المقدمة لا يمكن ان يكون الا التوصل إلى ذي المقدمة إذ أي ملاك غيره اما ان يفرض ملاكا نفسيا ، ولو كان هو التهيؤ والقدرة ، أو غيريا من أجل غرض آخر ، والأول خلف وحدة الغرض ووحدة المطلوب النفسيّ. فلا بد من الثاني أي ان يكون الملاك غيريا ومن أجل غرض آخر ، فان كان ذلك الغرض الآخر غير الواجب النفسيّ وكان نفسيا أيضا لزم الخلف الّذي أشرنا إليه ، وان كان غيريا لزم التسلسل ، وان كان نفس حصول الواجب النفسيّ كان معناه ان الملاك من أول الأمر انما هو حصول الواجب النفسيّ وان ملاكا من هذا القبيل لا يثبت أكثر من إيجاب الحصة الموصلة من المقدمة. وهذا البرهان يطابقه الوجدان أيضا لكل من راجع أشواقه الغيرية بدقة.

يبقى ان نعرف كيفية صياغة وجوب المقدمة الموصلة وما هو معروض الوجوب الغيري بالدقة ، فان هناك عدة تصويرات لذلك.

التصوير الأول : ان الواجب الغيري المقدمة بقيد ترتب ذي المقدمة عليها الّذي ينتزع في مرتبة متأخرة عن وجود الواجب النفسيّ ، وهذا التصوير هو الّذي وقع مبنى لإشكالات الدور والتسلسل المتقدمة ، وقد تقدم عدم صحتها. الا ان هذا التصوير أيضا غير صحيح في نفسه لأن أخذ حيثية ترتب الواجب النفسيّ في متعلق الواجب الغيري معناه انبساط الوجوب الغيري على حيثية لا ربط لها به فان ملاك تعلق الشوق والوجوب الغيري بشيء ليس الا وقوع ذلك الشيء في طريق تحقيق الواجب النفسيّ ، ومن الواضح عدم دخل الحيثية المذكورة في ذلك أصلا بل هي متأخرة في الانتزاع


والتحقق عن وجود ذي المقدمة ، ومعه كيف يعقل انبساط الوجوب الغيري عليها؟

التصوير الثاني : ان تؤخذ قيد الموصلية في الواجب الغيري ويدعى انها ليست متقومة بتحقق ذيها وانما هي معلولة لذات المقدمة ، فكل من الموصلية وذي المقدمة معلولان عرضيان للمقدمة. وهذا هو الّذي أفاده المحقق الأصفهاني لدفع غائلة المحاذير السابقة.

وفيه : انه لا يدفع المحذور الّذي أوردناه على التصوير السابق من انه لا يعقل تعلق الوجوب الغيري بالحيثية المذكورة بعد كونها غير دخيلة في إيجاد ذي المقدمة ولو فرض ملازمتها مع المقدمة الدخيلة في إيجاده ، فان الوجوب لا يسري إلى الملازمات والا لوجب ترشح الوجوب إلى كل ما يلازم الواجب النفسيّ.

التصوير الثالث : ما أفاده المحقق العراقي ( قده ) ، من تعلق الوجوب الغيري بالحصة التوأم مع سائر المقدمات وذي المقدمة (١).

وتوضيح ذلك ببيان امرين.

أحدهما : ان تعلق الأمر بشيء قد يكون بنحو الإطلاق وقد يكون بنحو التقيد بقيد مع خروج القيد ودخول التقيد في موضوع الحكم ، وثالثة يكون بنحو خروج القيد والتقيد وبقاء ذات الحصة التوأمة مع القيد في موضوع الحكم كقولك ( خاصف النعل امام ) الّذي لا دخل لخصوصية خصف النعل فيه في الذات المقدسة أصلا وانما موضوع الحكم المشار إليه بها وهي الذات الشريفة.

الثاني : ان تعلق الأمر بالمقدمة بنحو الإطلاق خلف برهان المقدمة الموصلة الّذي فرغنا عن صحته ، وتعلقه بها مقيدة بانضمام سائر المقدمات المستلزمة للوصول إلى ذي المقدمة معناه تقيد كل جزء من المقدمة بالاجزاء الأخرى وهو يعنى توقف كل جزء على الاخر وبالعكس وهذا دور مستحيل ولهذا يحكم باستحالة افتراض كون الجزء في الواجب النفسيّ المركب أيضا مقيدا بالاجزاء الأخرى ، فيتعين ان يكون الوجوب الغيري متعلقا بالحصة التوأم من المقدمة التي تنتج نتيجة التقييد.

وفيه بطلان كلتا المقدمتين.

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ١١٦.


اما الأولى ، فلما تقدم مرارا من عدم معقولية الحصة التوأم في باب تقييد المفاهيم والقضايا الحقيقية. وانما يتعقل أخذ القيد مشيرا إلى الحصة في المصاديق المتشخصة في الخارج بقطع النّظر عن التقييد المذكور واما في المفهوم الكلي الموضوع للأحكام بنحو القضايا الحقيقية لو افترض خروج القيد والتقيد معا لم يكن هناك تحصيص بل كان المطلق ، إذ لا تشخص ولا تحصص ، في المفهوم المطلق الا بلحاظ ذلك التقييد.

واما الثانية : فلوضوح عدم الدور فانه من الخلط بين المقدمة الشرعية والعقلية ، لأن لازم تقيد كل جزء بالجزء الآخر أو كل مقدمة بالأخرى. ان الجزء المقيد بما هو مقيد متوقف على تحقق ذات الجزء الاخر وكذلك العكس لا توقف ذات الجزء على الجزء الاخر فالموقوف غير الموقوف عليه ، وهذا ظاهر جدا.

التصوير الرابع : ان الوجوب الغيري متعلق بمجموع المقدمات المساوق مع العلة التامة وحصول ذي المقدمة ولكن لا بعنوان المقدمية والعلية التي هي كالموصلية عناوين انتزاعية لا دخل لها في وجود ذي المقدمة ، بل يتعلق الوجوب المذكور بواقعها وعنوانها الذاتي دون أخذ حيثية الإيصال تحت الوجوب والشوق الغيري وهذا التصوير هو الصحيح.

غير انه ربما استشكل فيه من وجوه.

الأول ـ توهم اختصاصه بالمقدمات التوليدية التي تساوق العلة التامة دون غيرها التي يبقى بينها وبين تحقيق ذي المقدمة اختيار وإرادة.

وفيه ان من جملة اجزاء المقدمات الإرادة نفسها فلو أخذناها في المجموع كانت مساوقة مع العلة التامة.

الثاني ـ ان أخذ الاختيار والإرادة معها غير معقول لأنها ليست باختيارية والا لتسلسل ، والتكليف لا بد وان يتعلق بالفعل الاختياري. وهذا الاعتراض انما يرد على مباني من يرى ان الاختيار والقدرة الّذي هو شرط في التكليف بمعنى الإرادة.

وفيه ـ أولا ـ عدم اشتراط الاختيارية في الواجبات الغيرية التي هي قهرية على القول بها على ما تقدم سابقا ، فان المحذور في التكليف بغير الاختياري اما هو عدم إمكان الباعثية والداعوية ومن الواضح اختصاصها بالواجب النفسيّ ، واما إحراج


المكلف وإيقاعه في العصيان وهذا أيضا غير حاصل في الوجوب الغيري ، اما لأنه لا عقاب فيه ـ على ما تقدم ـ واما باعتبار ان الإحراج بهذا المقدار واقع بلحاظ الواجب النفسيّ على كل حال.

وثانيا ـ يمكن افتراض اختيارية الاختيار سواء فسرناها بالإرادة كما عند المحقق الخراسانيّ ( قده ) أو باعمال القدرة وهجمة النّفس كما عند الميرزا ( قده ) ـ وذلك باختيار مقدماته من التأمل والبحث عن المصلحة ونحو ذلك ، فانه بذلك تصبح إرادة الفعل اختيارية اما بالإرادة والاختيار الموجود قبلها ـ كما هو مسلك صاحب الكفاية حيث يتعقل اختيارية الاختيار بوجود اختيار وإرادة قبله تتعلق بالمقدمات ـ أو بنفسها ـ كما هو مسلك الميرزا ( قده ) حيث يرى ان اختيارية كل شيء غير الاختيار تكون بالاختيار ولكن اختيارية الاختيار تكون بنفسها لرجوع كل ما بالعرض إلى ما بالذات ـ وعليه فيمكن الأمر الغيري بمجموع المقدمات التي منها اختيار الفعل المساوق مع العلة التامة.

وهذا الجواب هو الّذي اختاره المحقق الأصفهاني ( قده ) (١) أيضا في رد الاعتراض المذكور ، غير ان هذا الجواب غير صحيح وذلك باعتبار ما تقدم منا سابقا من ان تعلق الإرادة بالإرادة مستحيل ، لأن الإرادة في الصور الاعتيادية لا تكون الا عن مصلحة في المراد ، فإذا كان الفعل المراد كامل المصلحة فهو يقتضي تحقق إرادة الفعل ابتداء والا فكما لا تتحقق إرادة الفعل لا تتحقق إرادة أن يريد لعدم ملاك فيها غير الملاك الطريقي الثابت في الفعل نفسه (٢).

الاعتراض الثالث ـ ان أخذ الإرادة مع سائر المقدمات لا يجدي في صيرورة المقدمة موصلة لأن مجموعها مع الإرادة أيضا لا تكون علة تامة كي يساوق الإيصال ، وذلك لما تقدم منا من ان حصول الإرادة نحو الفعل لا يستلزم ان يكون الفعل واجبا بالغير بل لا يزال ممكن الوجود وللمكلف ان يتركه بمقتضى سلطنته التي قلنا انها غير مفهوم الوجوب بالغير.

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ٢٠٧.

(٢) كما ويرد على المحقق الأصفهاني ( قده ) أيضا : ان الإرادة الثانية لو فرض خروجها عن معروض الواجب الغيري لم يكن متعلق الوجوب الغيري مساوقا مع العلة التامة ، ولو كانت من أجزاء المقدمة الواجبة لزم تعلق الأمر بما لا يكون إراديا فيعود والمحذور.


وفيه : ان برهان اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة لم يكن يقتضي الاختصاص بالمقدمة التي يستحيل ان تنفك عن ذيها بمعناه المعقولي الفلسفي ، إذ لا موجب لأخذ ذلك قيدا فيه وانما تمام النكتة والملاك لإيجاب المقدمة ضمان حصول ذي المقدمة بحسب عالم الأفعال الاختيارية الّذي هو عالم التكاليف لا عالم الأفعال الطبيعة القسرية الّذي هو عالم الوجوب والامتناع ، ومن الواضح ان مجموع المقدمات بما فيها الإرادة الكاملة الواجدة لمقتضياتها الفاقدة لمزاحماتها في عالم الأفعال الاختيارية هو الّذي يضمن معه حصول ذي المقدمة ، لأن هذا هو الطريق الّذي لا ينفك عن ذي المقدمة بالمعنى المناسب مع باب السلطنة والاختيار فأن العاقل إذا تمت عنده كل ذلك حقق المراد لا محالة.

الاعتراض الرابع : ان الأمر بالإرادة غير معقول باعتبارها المقتضي المباشر لإيجاب ذي المقدمة ، لما هو ثابت في محله من ان الأمر بشيء يقتضي قدح الداعي والإرادة في نفس المكلف نحو الفعل فكيف يكون ذلك مأمورا به بالأمر الغيري فانه أشبه بتحصيل الحاصل أو بالطلب التشريعي لما هو المقتضى التكويني للأمر. وفيه : ما تقدم من ان الأمر الغيري ليس بداعي المحركية والتحصيل كي يشكل عليه بإشكال تحصيل الحاصل ونحوه ، وانما هو امر تبعي قهري ، ولو فرض انه من أجل المحركية فلا وجه لتخصيص الإشكال بالإرادة خاصة من اجزاء المقدمة بل سائر اجزائها أيضا تكون إرادتها مقتضى ولو غير مباشر للوجوب النفسيّ. والجواب عليها جميعا بأنه لا محذور في ان يكون فعل واحد مستدعى من قبل أكثر من طلب.

الاعتراض الخامس : ان الأمر بشيء انما هو لقدح الإرادة في نفس العبد نحوه فالامر بالمقدمة الموصلة لا بد وأن يكون لقدح إرادتها فإذا كان منها الإرادة لزم ان يكون الأمر الغيري لقدح إرادة الإرادة مع ان إرادة الإرادة لا تكون من مقدمات حصول الواجب خارجا بل يتحقق الواجب من دونها دائما أو غالبا فكيف يكون مطلوبا ولو غيريا.

وفيه : مضافا إلى ما تقدم من عدم كون الأمر الغيري لقدح الإرادة نحو الواجب الغيري ، ان هذا من الخلط بين المطلوب التشريعي للمولى والمطلوب التكويني له ،


فان الإرادة التي تنقدح بالأمر مراد تكويني للمولى يحصله بنفس امره فهو فعله بالتسبيب ـ في حق المطيع ـ ومن مقدمات التحصيل المولوي وليس هو من مقدمات حصول ذلك الواجب ، كي يكون مطلوبا تشريعيا له ، وحينئذ لو فرض ان تحصيل المطلوب التشريعي في مورد غير متوقف على إرادته ـ كما في الأمر الغيري بالإرادة ـ لم تكن إرادته مطلوبة للمولى لا تشريعا ولا تكوينا.

ثم ان صاحب الفصول الّذي ينسب إليه تاريخيا القول بالمقدمة الموصلة قد استدل على مدعاه بوجوه عديدة نذكر فيما يلي بعضها :

الأول : ان الوجودان قاض باختصاص الطلب الغيري بالمقدمة الموصلة وان الحصة غير الموصلة ليست محبوبة ولا شوق نحوها أصلا.

وهذا الوجدان وان كنا نوافق عليه الا انه لا يكون برهانا صالحا لإلزام الخصم ، ومن الطريف استدلال القائل بالإطلاق على قوله بالوجدان أيضا.

الثاني : ما ذكره من إمكان تصريح الآمر بعدم مطلوبية الحصة غير الموصلة مع مطلوبية ذي المقدمة مع انه لو كانت واجبة على الإطلاق لما صح ذلك كما لا يصح التصريح بعدم مطلوبية المقدمة مطلقا أو عدم مطلوبية الحصة الموصلة منها.

وهذا الوجه كالوجه الأول استدلال بالوجدان بل عينه غايته انه دعوى الوجدان بلحاظ عالم الإثبات وذاك دعوى الوجدان بلحاظ عالم الثبوت فلا يجدي في مقام إلزام المنكر خصوصا إذا كان يدعي الوجدان على الخلاف.

الثالث : ما نسب إلى صاحب العروة ( قده ) ، من صحة منع المولى عن الحصة غير الموصلة من المقدمة وتشريع حرمتها إذا كانت غير موصلة ، مع انه لو كانت واجبة مطلقا لامتنع ذلك.

وفيه : انه لا يكون برهانا على الاختصاص بالموصلة وانما هو دليل الاختصاص بغير المحرمة منها ولهذا لا تكون المحرمة واجبة مع وجود المباحة حتى لو كانت موصلة.

نعم يمكن ان يجعل ذلك نقضا على القائل باستحالة اختصاص الوجوب بالموصلة ، حيث يقال : ان التعميم خلاف التحريم والتخصيص يلزم منه المحاذير المذكورة.


ثم ان صاحب الكفاية ( قده ) (١) أنكر شهادة الوجدان على إمكان تحريم الحصة غير الموصلة بل أبطل هذا الدليل بدعوى : استحالة المنع وتحريم غير الموصلة لاستلزامه تحصيل الحاصل في طرف الأمر بذي المقدمة. بتقريب : ان الأمر به موقوف على مقدورية مقدماته عقلا وشرعا ، بان تكون مباحة ، فإذا كانت الحصة غير الموصلة محرمة توقفت إباحة المقدمة على ان تكون موصلة المساوقة مع تحقيق ذي المقدمة فينتج توقف إيجاب ذي المقدمة على إباحة مقدماته الموقوفة على الوصول المساوق لحصوله فيكون إيجابه موقوفا على حصوله وهو تحصيل الحاصل.

وهذا الوجه قد أوضح مغالطته الميرزا ( قده ) (٢) بتقريب ان الموصلية قيد في المباح لا في الإباحة فالمقدمة الموصلة مباحة قبل فعلها والتوصل بها فيصح إيجاب ذيها ، ونضيف على ذلك : بأنه لا محذور في ذلك حتى لو جعلنا الوصول شرطا في الإباحة لا في المباح ، وذلك باعتبار أن الأمر بذي المقدمة موقوف على مقدورية مقدماته شرعا بمعنى عدم حرمتها المطلقة وليس موقوفا على عدم حرمتها المشروطة بعدم الوصول ، وعدم الحرمة المطلقة فعلية قبل تحقق المقدمة. وبعبارة أخرى : الأمر بذي المقدمة موقوف على الإباحة اللولائية لمقدماته ، أي إباحتها لو توصل بها إلى ذيها ، وهذه الإباحة اللولائية فعلية وهي تحت اختيار المكلف قبل وجودها ، والشرط في الأمر بشيء مقدورية مقدماته وإمكان إيقاعها على وجه شرعي لا أكثر من ذلك.

الدليل الرابع : ما أفاده صاحب الفصول أيضا من دعوى : ان الغرض من الطلب الغيري للمقدمة ليس غير حصول ذي المقدمة ، وهذا لا يكون الا في الموصلة منها والوجوب لا يكون أوسع مما فيه الغرض.

وهذا الوجه روح ما تقدم منا في البرهنة على المقدمة الموصلة ، وهكذا اتضح ان الصحيح هو اختصاص الوجوب الغيري على القول به بالمقدمة الموصلة فقط.

بقي في المقام تنبيهان.

التنبيه الأول : ان المقدمة لو كانت محرمة في نفسها مع افتراض أهمية الواجب

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٩٠.

(٢) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٢٤٠.


ورجحان ملاكه من ملاكها فبأي مقدار ترتفع الحرمة عن المقدمة وبأي مقدار تثبت فيها ، فهل ترتفع عن مطلقها أو عن خصوص الحصة الموصلة؟ وعلى الثاني هل ترتفع الحرمة عن مطلق الحصة الموصلة أو التي قصد بها التوصل إلى ذيها ، فالكلام في مقامين :

المقام الأول : في ان الحرمة هل تثبت في الحصة غير الموصلة أم لا؟

والتحقيق في ذلك ان يقال : هنا جهتان للتنافي بين الحرمة والوجوب.

إحداهما : التنافي بينها وبين وجوب الواجب النفسيّ إذ كيف يعقل الأمر بشيء والنهي عن مقدمته ، وهذا تناف بملاك التزاحم في مقام الامتثال لا بملاك التعارض ، لعدم وحدة موضوع الحكمين.

الثانية : التنافي بينها وبين الوجوب الغيري للمقدمة ، وهذا تناف بملاك التعارض المستحيل في مرحلة الجعل وبقطع النّظر عن الامتثال لوحدة موضوع الحكمين.

اما الجهة الأولى للتنافي : فالمزاحم للواجب النفسيّ انما هو حرمة المقدمة الموصلة خاصة ، واما حرمة غير الموصلة فلا تزاحم الواجب النفسيّ إذ يمكن الجمع بينهما في مقام الامتثال ، ومعه لا وجه لارتفاع الحرمة بعد ثبوت مقتضيها وان شئت قلت : ان كل خطاب مقيد لبا بعدم الإتيان بضده المساوي أو الأهم لا أكثر على ما سوف يأتي في بحث التزاحم وهذا يقتضي اختصاص الحرمة بالحصة غير الموصلة في المقام.

واما الجهة الثانية للتنافي : التي تكون بملاك التعارض بين الحرمة والوجوب الغيري للمقدمة على القول به ، فتارة : يبنى على اختصاص الوجوب الغيري بالمقدمة الموصلة وأخرى يبنى على وجوب الجامع.

اما على الأول : فقد يقال بالتعارض بين حرمة الحصة الموصلة من المقدمة ووجوبها إذا كانت الحرمة أهم حيث تكون مطلق حصص المقدمة محرمة عندئذ والصحيح عدم المعارضة بين الجعلين وانما هو من التزاحم بين المجعولين ، لأن الوجوب الغيري كالوجوب النفسيّ مقيد بالقدرة على الواجب النفسيّ وهي ترتفع لو صرف المكلف قدرته في ترك الحرام ، وهذا يعني ان فعل المقدمة يكون شرطا للوجوب فلا يترشح عليها الوجوب الغيري فكما لا تعارض بين جعل الوجوب النفسيّ مع الحرمة كذلك لا تعارض بين الوجوب الغيري للحصة الموصلة مع الحرمة.


واما على الثاني ، فتارة : يقال بوجوب جامع المقدمة من جهة عدم المقتضي للتخصيص بالموصلة ، وأخرى : يقال باستحالة التخصيص بالموصلة فعلى الأول ، تكون النتيجة حرمة المقدمة غير الموصلة أيضا ، لأن وجوب الجامع انما كان لعدم المقتضي للتخصيص والحرمة مقتضية له فيختص الوجوب بالموصلة حفاظا على ملاك الحرمة كما هو الحال في تمام موارد حرمة بعض افراد الجامع الواجب حيث يتخصص وجوبه بالجامع بين الافراد غير المحرمة.

وعلى الثاني : يقع التنافي بين حرمة غير الموصلة ووجوب المقدمة إذ يستحيل الإطلاق للتناقض ، والتقييد بالموصلة للاستحالة ، ويسري التعارض والتنافي بالتبع إلى وجوب ذي المقدمة وحرمة المقدمة غير الموصلة لاستحالة اجتماعهما ، ومع افتراض أهمية الواجب لا بد من ارتفاع الحرمة عن مطلق المقدمة حتى غير الموصلة بحيث لو فعلها المكلف لم يكن عاصيا ومرتكبا للحرام بخلافه على ما سبق ، وهذا من النتائج الغريبة للقول باستحالة تخصيص الوجوب بالموصلة.

ولا يتوهم : إمكان تعقل حرمة غير الموصلة مشروطا بترك الواجب بناء على الترتب على هذا التقدير.

لأن الترتب انما يعقل في موارد التزاحم بين الامتثالين لا في موارد التنافي بين الجعلين كما في المقام. وبتعبير آخر : المقدمة غير الموصلة يستحيل حرمتها المشروطة بترك ذيها أيضا لأنها في هذا الفرض واجبة بالوجوب الغيري ـ بعد استحالة التقييد بالموصلة ـ فيلزم اجتماع الضدين بلحاظ حال ترك ذي المقدمة ، فلا محيص عن الالتزام بارتفاع حرمتها مطلقا.

المقام الثاني : في ثبوت الحرمة للمقدمة الموصلة التي لم يقصد بها التوصل إلى الواجب النفسيّ حين الإتيان بها ، أو عدم ثبوتها ، وهنا تتصور كلتا الجهتين المتقدمتين للتنافي ، أي التنافي بين الحرمة والوجوب النفسيّ بنحو التزاحم والتنافي بينها وبين الوجوب الغيري بنحو التعارض.

اما التنافي الأول : فربما يقال فيه نظير ما قيل في المقام السابق من ان حرمة المقدمة الموصلة التي قصد بها التوصل لا بد من ارتفاعها على كل حال باعتبارها تنافي وجوب


ذيها المقتضي لقصد التوصل والامتثال ، واما حرمة الحصة الموصلة التي لم يقصد بها التوصل فلا وجه لارتفاعها بعد تمامية المقتضي وعدم المانع ، إذ المزاحمة بين الواجب والحرام ترتفع بارتفاع الحرمة عن الحصة التي قصد بها التوصل.

وفيه : ان ثبوت الحرمة على الموصلة التي لم يقصد بها التوصل لغو محض إذ لا يترتب عليه لا الجمع بين الغرضين المولويين ـ مصلحة الواجب النفسيّ ومفسدة المقدمة ـ ولا المنع من خسارة كلا الغرضين ، إذ الأول مستحيل على كل حال بعد افتراض المزاحمة بين مصلحة ذي المقدمة ـ كالإنقاذ ـ ومفسدة المقدمة ـ كالغصب ـ ، والثاني حاصل على كل حال سواء حرمت المقدمة الموصلة التي لم يقصد بها التوصل أم لا لأن فرض كونها موصلة هو فرض حصول مصلحة الواجب وعدم خسارة المصلحتين.

وقد يقال : ان ثبوت الحرمة على ما لم يقصد بها التوصل يستلزم الجمع بين الغرضين ، وذلك باعتباره يضطر المكلف إلى قصد التوصل بالمقدمة وهو أمر راجح عقلا فيوجب انجبار مفسدة حرمة المقدمة وارتفاعها بعد الكسر والانكسار ، فيكون بذلك قد حفظ كلا الغرضين للمكلف من حصول مصلحة الواجب النفسيّ وعدم الوقوع في المفسدة ولكن هذا الكلام غير تام فانه فرع ان يكون للمولى غرض لزومي في قصد التوصل فيكون هذا النحو من التقييد مقربا للمولى نحو هذا الغرض وهو خلف ، إذ المفروض عدم لزوم قصد التوصل لو كانت المقدمة مباحة ، وبعبارة أخرى : ان من يأتي بالحصة الموصلة واقعا بلا قصد التوصل لا يختلف حاله عمن يأتي بها بقصد التوصل من حيث تحقيقه لما يمكن تحقيقه من غرضي المولى في باب التزاحم في مقام الامتثال والّذي يكون ارتفاع أحد التكليفين فيه على أساس تقييد كل تكليف لبا بقيد عدم الاشتغال بالأهم أو المساوي على ما سوف يأتي في محله.

وهكذا يتضح : ان ثبوت الحرمة على الحصة الموصلة التي لم يقصد بها التوصل لا وجه له فالصحيح ارتفاع الحرمة عن مطلق المقدمة الموصلة ، وبذلك يرتفع موضوع التنافي الثاني بين الحرمة والوجوب الغيري للمقدمة الموصلة.

التنبيه الثاني : ذكر صاحب الكفاية ( قده ) (١) ، ثمرة للقول بالمقدمة الموصلة حاصلها

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٩٢.


ان الضد العبادي كالصلاة لو وقعت مزاحمة ، مع واجب أهم كالإزالة فعلى القول بتوقف أحد الضدين على ترك الاخر ، وكون الأمر بشيء يقتضي النهي عن ضده العام ، وكون النهي ولو الغيري مقتضيا لفساد العبادة ، سوف تقع الصلاة فاسدة على القول بوجوب مطلق المقدمة لكونها الضد العام للواجب الغيري وهو ترك الصلاة الواقع مقدمة للإزالة الواجبة ، واما على القول بوجوب الحصة الموصلة من المقدمة خاصة فالواجب هو الترك الموصل للإزالة لا مطلق الترك ، والضد العام للترك الموصل ليس فعل الصلاة بل رفعه الّذي هو أعم من فعل الصلاة أو تركها تركا غير موصل ، وهذا عنوان نسبته إلى الصلاة نسبة الملازم إلى الملازم لا نسبة الجامع إلى الفرد ـ خلافا لتقريرات الشيخ الأعظم ( قده ) ، ـ فلا تسري الحرمة إلى فعل الصلاة كي تفسد. ثم دخل ( قده ) ، في بحث مع صاحب تقريرات الشيخ ( قده ) ، في إثبات ان نسبة هذا الأمر الأهم إلى الصلاة نسبة الملازم إلى ملازمه لا نسبة الجامع إلى مصداقه (١).

والتحقيق : انا حتى لو سلمنا كافة الأصول الموضوعية المفروضة في تصوير هذه الثمرة مع ذلك لم تترتب الثمرة للقول بالمقدمة الموصلة ذلك لعدة وجوه :

__________________

(١) وهذا أحسن توجيه لكلام صاحب الكفاية ( قده ) ، في تصوير الثمرة وهناك تفسيران آخران لكلامه.

أحدهما : ان الواجب على القول بوجوب المقدمة الموصلة انما هو ترك الصلاة المقيد بالإيصال ، فيكون نقيضه هو الصلاة المقيدة به أيضا ، لأن القيد المأخوذ في أحد النقيضين لا بد من أخذه في النقيض الاخر ، فيكون الحرام غيريا هو الصلاة المقيدة بالإيصال لا الصلاة غير الموصلة كما هو المفروض فانها نقيض الترك الغير الموصل وليس بواجب كي يحرم نقيضها فتقع صحيحة ، وهذا بخلاف ما لو قيل بوجوب مطلق المقدمة.

وفيه : أولا ان نقيض المقيد هو عدم المقيد لا العدم المقيد ، فان نقيض كل شيء رفعه فلا يعتبر تقيد السلب بما يتقيد به الإيجاب.

وثانيا ـ لا تناقض بين الصلاة المقيدة بالإيصال مع تركها الموصل كيف وهما يرتفعان بالترك غير الموصل ، بل الصلاة الموصلة مستحيلة فيقتضي ان يكون الترك الموصل واجبا في وجوده وهو واضح البطلان.

الثاني : ان الترك انما يكون واجبا لو فرض موصلا ، والمكلف المشتغل بالضد العبادي المفروض انه تارك للإزالة بحيث حتى لو فرض وقوع ترك العبادة منه لم يكن موصلا فلا يكون واجبا غيريا على القول باختصاص الوجوب الغيري بالمقدمة الموصلة. ومعه لا يكون فعل العبادة ضدا عاما للواجب الغيري.

وفيه ان أريد بذلك ان نقيض كل شيء ما يترتب لو لم يوجد وهو في المقام الترك غير الموصل فهذا رجوع إلى الوجه السابق فيرد عليه ما قلنا هناك ، وان أريد بذلك عدم الوجوب الغيري للترك في حال عدم الإيصال ففيه : أولا عدم كون الإيصال شرطا للوجوب ، وانما هو شرط للواجب فوجوب الترك الموصل فعلي على كل حال.

وثانيا ـ لا يجدي فيما إذا كان المكلف على تقدير عدم غرض له في العبادة وتركه لها كان يأتي بالإزالة.


الأول : انه لو سلمت الأصول الموضوعية في التقريب وان عدم الضد مقدمة للضد الآخر للتمانع ، فهذا كما يقتضي ان يكون عدم المانع مقدمة كذلك يقتضي ان يكون وجود الضد مانعا عن الضد الآخر وبالتالي علة تامة لترك الضد الآخر ، وتركه يكون حراما غيريا باعتباره الضد العام للواجب ، فيحرم علته التامة لا محالة بالحرمة الغيرية.

الثاني : ويتوقف على مقدمتين :

الأولى : ان معنى وجوب المقدمة الموصلة هو وجوب المركب من مجموع المقدمات المساوق مع العلة التامة على ما تقدم شرحه لدى إثبات وجوب المقدمة الموصلة.

الثاني : ان وجوب المركب ينحل إلى وجوب كل جزء منه وجوبا ضمنيا فتكون ذات المقدمة واجبة بوجوب ضمني ، ولا يجدي حديث تقييد كل جزء من المركب بانضمام الباقي في عدم كون الجزء ذا وجوب ضمني لأن المقيد ينحل أيضا إلى ذات المقيد والتقيد ، فلا بد وان تكون ذات الجزء واجبا بالوجوب الضمني ، وهذا يعني ان ترك الضد العبادة واجب بالوجوب الضمني الغيري وان كان الوجوب الاستقلالي على الترك الموصل ، وكما ان الوجوب الاستقلالي لشيء يقتضي النهي عن ضده العام تبعا كذلك الوجوب الضمني لعدم الفرق بينهما وجدانا ، غاية الأمر ان النهي التبعي عن الضد العام للواجب الضمني يكون نهيا استقلاليا لا ضمنيا ليكون ترك ذلك الجزء كافيا في انتفاء المركب وبالتالي انتفاء الغرض الاستقلالي للمولى.

والمستنتج من ضم هاتين المقدمتين إحداهما إلى الأخرى ان ترك الضد العبادي واجب بالوجوب الضمني الغيري فيكون مقتضيا للنهي الغيري الاستقلالي عن ضده العام الفعل العبادي فتقع العبادة فاسدة بناء على اقتضاء النهي الغيري للبطلان (٢).

__________________

(١) وجود الضد وان فرض علة لترك الضد الآخر الا ان ترك الواجب ليس حراماً نفسياً ليترشح منه الحرمة الى علته بقانون من ابغض شيئاً ابغض علّته ، نعم نوعلة للحرام التبعي والذي تكون حرمته بملاك عدم الايصال الى الواجب النفسي فلا توجد في فعل الضد مبغوضية او حرمة الا بملاك كونه نقيض الواجب الغيرى الموصل الى الواجب النفسي والمفروض ان الفعل على القول بالمقدمة الموصلة ليس هو النقيض.

(٢) الوجدان يقضي بان إيجاب الصلاة من دون قهقهة مثلا لا يستلزم منه تحريم القهقهة من دون صلاة نعم قد يبغض القهقهة في فرض الصلاة وذلك لأن وجوب المركب يستلزم حرمة تركه وعنوان ترك المركب لا يصدق على الفعل الّذي.


الثالث : ما نسبه في الكفاية إلى تقريرات الشيخ الأعظم ( قده ) وعبارة الكفاية في توضيحه لا تخلو من تشويش ولذلك فيحتمل في حق مقصود صاحب التقرير تقريبان.

الأول : ان نقيض كل شيء رفعه ، وهذا يعني ان نقيض الترك اللاترك الملازم مع الفعل ، وحينئذ لو قلنا بسراية الحرمة من اللازم إلى ملازمه فسوف يحرم الفعل فيفسد إذا كان عبادة ، سواء قيل بوجوب مطلق المقدمة أو المقدمة الموصلة خاصة ، اما على الأول فواضح ، واما على الثاني فلان نقيض الترك الموصل انما هو رفعه وهو عنوان له حصتان ومصداقان إحداهما ، عدم الترك الموصل الملازم مع الفعل ، والأخرى عدم الترك الموصل الملازم مع الترك غير الموصل ، وحرمة الجامع تنحل إلى حرمة كل حصة من حصصه لا محالة فتثبت حرمة الملازم مع الفعل أيضا فيحرم على القول بالسراية ، ولو قلنا بعدم السراية فكما لا يفسد الضد العبادي على القول بالمقدمة الموصلة ، كذلك لا يفسد على القول بوجوب مطلق المقدمة.

وهذا التقريب لا يرده ما في الكفاية من ان الترك الموصل ليس نقيضه الفعل وانما هو عدم الترك الموصل وهو ليس ملازما مع الفعل فضلا عن كونه عينه ، إذ ينفك عنه في الترك غير الموصل.

إذ ليس المدعى في هذا التقريب كون الفعل هو النقيض بل لازم النقيض ، والملزوم وهو عدم الترك الموصل إذا كان حراما حرمت كل حصصه فعلى القول بالسراية كان الفعل حراما أيضا وقد يقال في رد هذا التقريب : ان انحلال العنوان المحرم على حصصه لا يعني كون الحصة بما هي موضوع الحكم ، فان الإطلاق عبارة عن رفض القيود لا جمعها فلا يلزم حرمة ما يلازم الصلاة وفيه : ان ترك المقدمة الموصلة باعتبار كونه تركا للمركب من امرين ، فيكون تارة بترك الإيصال وأخرى بترك المقدمة ، فتكون الحصة الملازمة مع الصلاة متحصصة بقطع النّظر عن اقترانها بالصلاة

__________________

ترط عدمه في المركب إلا حين الإتيان بسائر الاجزاء بينما على ما ذكر من ان الأمر الضمني بالجزء يقتضي النهي الاستقلالي عن نقيضه لا بد من الالتزام بحرمة القهقهة ، والتحقيق : ما ذكرناه من ان الأمر بالمركب يقتضي النهي عن عدمه بعنوان عدم المركب أي يضاف الترك المبغوض إلى نفس العنوان المحبوب وعنوان المركب غير عنوان كل جزء جزء وعدم المركب ينطبق على عدم كل جزء من باب انطباق الكلي على مصداقه حين تحقق سائر الاجزاء فيسري إليه النهي بنكتة سريان الحكم من الجامع إلى الفرد عند انحصاره به ، وفي المقام حيث ان فعل الصلاة يستلزم عدم الجزء الآخر من الواجب الضمني وهو الإيصال فلا ينحصر الجامع المحرم في الانطباق عليه ليكون هو الحرام بخصوصه.


وهي محرمة فتسري الحرمة منها إلى الصلاة (١).

الثاني : ويسلم في هذا التقريب أيضا بالأصل الموضوعي المفترض في التقريب السابق من ان نقيض كل شيء رفعه ولكنه يقال : ان الفعل مصداق لعدم الترك وليس ملازما معه حيث ينطبق عليه ويتحد معه بالحمل الشائع كما يدعيه صاحب الكفاية ( قده ) ، ومع ذلك لا ثمرة بين القول بوجوب مطلق المقدمة أو الموصلة خاصة ، إذ كما يكون عدم الترك المطلق منطبقا على الفعل فيحرم بحرمته كذلك عدم الترك الموصل ينطبق على الفعل فيكون مصداقا له فتسري إليه الحرمة باعتبارها انحلالية ، ولا يضر بذلك انطباقه على الترك غير الموصل أيضا فانه مصداق آخر للنقيض وليس نقيضا آخر كي يكون مستحيلا.

والحاصل : ان نقيض الترك رفعه وهو عدم الترك ، ونسبة هذا العنوان إلى الفعل ان كان نسبة المفهوم إلى المصداق والجامع إلى الفرد فلا فرق فيه بين عدم الترك المطلق المتحد مع الفعل وعدم الترك الموصل المتحد مع الفعل أيضا فيكون الفعل حراما على كلا القولين.

وهكذا يتضح : انه لا يرد على هذا التقريب ما في الكفاية أيضا من ان الترك المطلق نقيضه رفعه والفعل مصداق له لأنه عينه ومتحد معه خارجا فتسري الحرمة إليه ، بخلاف الفعل بالنسبة إلى الترك الموصل فانه ليس نقيضه ولذلك يرتفعان معا.

إذ لا موجب للتفريق بينهما بعد افتراض ان نقيض كل شيء رفعه إذ لو كانت مصداقية الفعل لرفع الترك المطلق باعتبار انطباقه وحمله عليه بالحمل الشائع ، فهذا الملاك بنفسه موجود بالنسبة إلى الفعل ورفع الترك الموصل ، غاية الأمر ان هذا النقيض له مصداقان ومنشئان يحمل عليهما بالحمل الشائع ، فما في الكفاية لو أريد به هذا المقدار فهو مما لا نفهم له وجها (٢).

__________________

(١) هذا إذا كان الإشكال من ناحية عدم التحصص لا من ناحية ان الحصة لا تكون محرمة بما هي حصة كي تسري حرمتها إلى الصلاة والا فنحتاج إلى جواب آخر من قبيل ان عدم الترك الموصل ملازم مع الجامع بين الصلاة والترك غير الموصل ـ ولو كان انتزاعيا ـ فإذا حرم عدم الترك الموصل سرت حرمته إلى هذا الجامع المنطبق على الصلاة فتحرم.

(٢) بناء على ما أشرنا إليه إذا وجب المركب حرم تركه الّذي يكون بترك جزء من اجزائه والّذي ينطبق على ترك الجزء الّذي به يتحقق ترك المركب والا بقي الحكم على جامع ترك المركب. وحينئذ إذا كان المركب في مورد مؤلفا من


ولذلك ناقش المحقق الأصفهاني ( قده ) ، في الأصل الموضوعي المفترض في التقريبين معا حيث أفاد أن هذا الالتزام بملاحظة ما هو المشهور في الألسنة من ان نقيض كل شيء رفعه والفعل امر وجودي وليس رفعا للترك بل رفعه اللاترك وهو غفلة عن المراد بالرفع فان الرفع في هذه العبارة كما عليه أهله الأعم من الرفع الفاعلي والمفعولي فالإنسان انما يكون نقيضا للإنسان حيث انه مرفوع به واللاإنسان انما يكون نقيضا للإنسان حيث انه رافع له (١).

ولعله يريد بذلك إبطال التقريبين معا وبيان الوجه للتفكيك بين مركز الفعل على القول بمطلق المقدمة فانه نقيض للترك الواجب ، ومركزه على القول بالمقدمة الموصلة فلا يكون نقيض الواجب ، فان الفعل يرفع بالترك فيكون نقيضه لأنه رفعه بالمعنى المفعولي ـ أي مرفوعة ـ فلو كان الواجب الغيري هو الترك حرم الفعل تبعا ، واما الترك الموصل فليس الفعل رفعا له لا بالمعنى الفاعلي ولا بالمعنى المفعولي ، وانما الفعل مرفوع بذات الترك وليست هي الواجب.

والتحقيق : ان المسألة لا بد وان تربط بالملاكات الموضوعية للتناقض المستوجبة لاقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده العام لا باصطلاح الفلاسفة ، ونحن بمراجعتنا لوجداننا القاضي بان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام نرى ان ملاك ذلك يمكن التعبير عنه تعبيرا فلسفيا تارة فيقال : بأن الضد العام هو ذلك الأمر الّذي يعاند الواجب معاندة ابتدائية أولا وبالذات كمعاندة الترك للفعل والفعل للترك لا ما يكون معاندته له باعتبار وجود معاندة أخرى أسبق منها كمعاندة الأمرين الوجوديين فانه لو لا استحالة اجتماع النقيضين ـ وجود شيء وعدمه ـ لما كان التمانع بين الأمرين الوجوديين مستلزما للمنافرة والمعاندة بينهما كما هو واضح.

وأخرى نعبر عنه تعبيرا أصوليا فنقول : ان النّفس البشرية تضيق من ان تحب شيئا

__________________

جزءين طوليين ـ كما في المقام حيث ان إيصال وإرادة فعل الواجب يكون في طول ترك ضده ـ حرم تركه الّذي يكون بترك جزئه الأخير دائما سواء ترك الجزء الأول أم لا إذ لا يكون ترك المركب بتركه بالخصوص أصلا ، وهذا فرق فني بين القولين في المقام.

(١) نهاية الدراية : ص ٣٦٣ ، ج ١.


ولا تبغض عدمه ، فلو أحبت الفعل أبغضت الترك ، واستحال أن تحبه وكذلك العكس ، الا إذا رجعنا إلى عنوانين وجوديين ، وهذا بخلاف الأمرين الوجوديين ، فانه لا مانع من تعلق الحب بهما غايته عدم القدرة على تحقيقهما وامتثالهما في الخارج. وهذا التعبير الأصولي عن الضد العام هو الأوفق والأقرب إلى الذوق الأصولي لأنه يفسر لنا ابتداء نكتة التفصيل وجدانا بين الضد العام والضد الخاصّ ، وعلى كل حال فبأحد هذين التعبيرين يعرف ان نكتة الفرق بين الضد العام والضد الخاصّ ليس هو ان الضد العام لا يمكن ان يرتفع مع المأمور به والخاصّ يمكن ان يرتفع لكي يقال في المقام ان الفعل مع الترك الموصل يمكن ان يرتفعان إذ لو كانت هذه هي النكتة لزم حرمة الضد الخاصّ أيضا : بتقريب : ان الفعل مع جامع الأضداد الخاصة لا يمكن ارتفاعهما فإذا وجب الفعل حرم الجامع وبالتالي حرم كل واحد من مصاديقه بل الضدان اللذان لا ثالث لهما أيضا لا يمكن ارتفاعها معا وانما النكتة ما بيناه من ضيق أفق النّفس عن حبهما ذاتا وعدمه ، وهذه النكتة تقتضي جعل الفعل ضدا عاما للترك المطلق والموصل معا.

ثم انه ربما يناقش في هذه الثمرة بما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ) من ان الأمر الغيري متعلق بمجموع المقدمات المساوقة مع العلة التامة ، وعنوان المجموع عنوان اعتباري والوجود الحقيقي لواقع تلك الاجزاء. وعليه فيكون نقيضه هو عدم جميع تلك الاجزاء لا عدم عنوان المجموع الاعتباري ، فيتعلق النهي الغيري بهذا النقيض فيكون لعدم كل جزء منها نهيا ضمنيا غيريا فيكون الفعل أيضا منهيا عنه ضمنا لأنه نقيض الترك الّذي جزء من المقدمة الموصلة.

وفيه : أولا ـ ما تقدم من ان عدم الجزء والمطلوب الضمني يكون مبغوضا استقلاليا لا ضمنيا لكونه مفوتا للغرض الاستقلالي بتمامه كما بينا.

وثانيا ـ ان عنوان المجموع لو سلم كونه عنوانا اعتباريا محضا مجرد عنوان عقلي يلبسه على الوجودات الحقيقية للاجزاء ، مع ذلك قلنا : انه لا إشكال في ان هذا العنوان الاعتباري صالح لأن يتعلق به الحب والوجوب بما هو حاك عن الخارج متحد معه ، فيكون نقيضه الّذي يتعلق به النهي عدم هذا العنوان الاعتباري لا عدم الاجزاء فلا وجه لأن يكون المبغوض عدم كل جزء جزء.


« ثمرة وجوب المقدمة »

الجهة السادسة ـ وقبل بيانها لا بد من الالتفات إلى ان الثمرة للمسألة الأصولية لا بد وان تكون هي التوصل إلى إثبات جعل شرعي لا تطبيق جعل ثابت على صغرى من صغرياته : كما لو بحث عن وجوب فعل وعدمه لإثبات حرمة أخذ الأجرة عليه وعدمها مثلا ، كيف وأي بحث يمكن تصويره وقوعه في طريق مثل هذا التطبيق لا أقل من تطبيق كبرى حرمة الكذب وجواز الصدق.

وعلى هذا الأساس قد يقال بعدم الثمرة لبحث الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدماته شرعا ، إذ لو أريد من ورائه إثبات نفس الوجوب الغيري للمقدمة ، فهذا وان كان في طريق إثبات جعل شرعي ولكنه جعل لا يقبل التنجيز والتعذير كي يدخل في اهتمامات الفقيه ، لأن الواجب الغيري على ما تقدم لا يترتب على مخالفته العقاب ولا على موافقته الثواب بما هو واجب غيري.

ولو أريد من ورائه تنقيح صغرى من صغريات جعل آخر كحرمة أخذ الأجرة عليه مثلا بناء على ثبوتها وإطلاقها للواجب الغيري فمثل هذا لا يكون ثمرة أصولية كما تقدم.

ولكن الصحيح ثبوت الثمرة الأصولية على بعض الأقوال والتقادير في وجوب


المقدمة حيث يقع التنافي بناء عليه بين وجوب ذي المقدمة النفسيّ مع حرمة المقدمة وبالتالي وقوع التعارض بين دليليهما.

وتفصيل ذلك : انه تارة يفترض كون تمام افراد مقدمة الواجب النفسيّ مباحة بطبعها وبقطع النّظر عن وجوب ذيها ، وأخرى يفترض كونها تشتمل على المباح والمحرم ، وثالثة يفترض ان تمام افرادها محرمة بطبيعتها.

اما في القسم الأول ، فلا يترتب على القول بوجوب المقدمة فيه ثمرة أصولية كما هو واضح.

واما في القسم الثاني ؛ فتارة : يبنى على ان ملاك الوجوب الغيري لا يسع الفرد الحرام من المقدمة بمعنى ان الوجدان القاضي بإرادة المقدمة غيريا لا يحكم بأكثر من إرادة الجامع بين الافراد المباحة وأخرى : يقال بما تبناه السيد الأستاذ ، من حكم الوجدان بوجوب الجامع بين تمام افراد المقدمة حتى المحرمة منها ، لأن ملاك هذه الإرادة انما هو التوقف أو التوصل إلى ذي المقدمة وهما مشتركان بين المباح والحرام.

فعلى الأول : سوف يختص الوجوب الغيري بالمقدمة المباحة خاصة فلا يكون تزاحم ولا تعارض بين الحرام والواجب الغيري.

وعلى الثاني : لو قيل بتعلق الوجوب الغيري بعنوان المقدمة بنحو الحيثية التقييدية دخل المقام في باب اجتماع الأمر والنهي بالمعنى المصطلح ، وكذلك الحال لو قيل بتعلقه بواقع المقدمة وعنوانها حيثية تعليلية للوجوب ولكن كانت الحرمة متعلقة بعنوان آخر ، إذ في هاتين الصورتين يتعدد العنوان فعلى القول بإمكان الاجتماع لا تعارض أيضا ، وعلى القول بالاستحالة أو افتراض تعلق كل من الوجوب والحرمة بواقع الفعل يدخل المقام في موارد التعارض بين الخطابين ، هذا إذا كانت الدلالة على وجوب المقدمة التزامية لفظية واما إذا كانت على أساس الملازمة العقلية فسوف يختص الوجوب ـ كلما قيل بالامتناع ـ بالحصة المباحة لأن إطلاق الوجوب كان من جهة عدم المقتضي للتخصيص فكلما وجد مقتض له خصص لا محالة.

واما في القسم الثالث ؛ وهو ما إذا كانت المقدمة محرمة بقطع النّظر عن وجوب ذيها ، فإذا قيل بعدم وجوب المقدمة لم يكن هناك تعارض بين الخطابين الوجوب


النفسيّ وحرمة المقدمة ، إذ كل منهما جعل مقيد لبا بالقدرة على متعلقه ولا استحالة في ثبوت جعلين كذلك ـ بناء على إمكان الترتب ـ غايته التزاحم في مقام الامتثال ـ أي التنافي بين المجعولين الفعليين ـ حيث ان للمكلف قدرة واحدة لو صرفها على كل منهما ارتفعت القدرة عن الآخر وليس هذا من التعارض في شيء. واما إذا قيل بوجوب المقدمة فإذا افترضنا أهمية الحرام أو مساواته مع الواجب النفسيّ فائضا لا يحصل تعارض في البين حيث تكون المقدمة على ذلك مقدمة وجوب الواجب النفسيّ فلا تكون واجبة أصلا ، اما كونها مقدمة وجوب فباعتبار تقيد الوجوب النفسيّ بعدم صرف القدرة في المزاحم الأهم أو المساوي الّذي يعني في المقام عدم الإتيان بالحرام وهو المقدمة ، واما عدم وجوبها فلما تقدم من استحالة ترشح الوجوب الغيري ، على مقدمات الوجوب. واما إذا كان الوجوب النفسيّ هو الأعم فلا تكون المقدمة عندئذ مقدمة الوجوب لفعلية قيد الوجوب النفسيّ ولو لم يفعل المقدمة تجنبا للحرام ، لأنه لم يصرف قدرته في الأهم أو المساوي ، وحينئذ إذا قلنا بوجوب المقدمة الموصلة خاصة لم يكن تعارض في البين أيضا ، لأن الحرمة تكون مقيدة بعدم صرف القدرة في الواجب النفسيّ فيجتمع مع وجوب المقدمة الموصلة المساوقة مع تحقيق الواجب النفسيّ وصرف القدرة فيها.

لا يقال ـ على هذا لو فرض عدم اشتغال المكلف بذي المقدمة فسوف يلزم ان المولى يريد منه المقدمة الموصلة لكون شرط الوجوب النفسيّ الأهم ـ وهو عدم الاشتغال بالأهم والمساوي فعليا على كل تقدير ـ ويحرم عليه في نفس الوقت المقدمة ـ لكون شرط الحرمة فعليا أيضا ـ وهذا مستحيل ثبوتا باعتبار وحدة الموضوع وليس من قبيل التكليف بالمتزاحمين على تقدير ترك الأهم.

فانه يقال : لا وحدة موضوع في المقام أيضا فان عدم الاشتغال بالواجب المأخوذ قيدا في الحرمة يكون قيدا في الحرام لرجوع شرائط الحكم دائما إلى المتعلق أيضا فيكون الحرام بحسب الحقيقة الحصة غير الموصلة خاصة.

وإذا قلنا بوجوب مطلق المقدمة فان كان من جهة استحالة التقييد بالموصلة فالنتيجة التعارض بين دليلي وجوب ذي المقدمة وحرمة المقدمة ، ان قلنا باستحالة


اجتماع الأمر والنهي أو تعلقهما بالمعنون الواحد والا فيكون من باب الاجتماع. وان كان القول بوجوب مطلق المقدمة من جهة عدم المقتضي للتخصيص بالموصلة ، فان كان الوجوب على عنوان المقدمة دخل في باب الاجتماع لتعدد عنوان الواجب الغيري والحرام ، واما ان قلنا بتعلق الوجوب بواقع المقدمة أو قلنا بامتناع اجتماع الأمر والنهي اختص الوجوب بالموصلة لا محالة إذا كان الملحوظ عالم الثبوت والدلالة الالتزامية العقلية لدليل الوجوب ، وان كانت الدلالة التزامية لفظية كان من التعارض بين الخطابين كما تقدم في القسم الثاني.

ان قلت : ما الفرق بين هذا القسم والقسم الثاني فيما إذا كانت الحرمة متعلقة بعنوان آخر وكان الوجوب متعلقا بواقع المقدمة حيث كان من باب الاجتماع هناك ومن باب التعارض هنا.

قلنا : الفرق انه في هذا القسم يلزم اجتماع الأمر والنهي على معنون واحد بلحاظ مقدمة المقدمة أعني إرادة اجتياز الطريق المغصوب لإنقاذ النّفس المحترمة فانها باعتبارها مقدمة للواجب سوف تكون واجبة وباعتبار ان المجموع منها ومن عدم إرادة الإنقاذ يشكل العلة التامة للحرام ـ وهو وقوع الاجتياز غير الموصل ـ تكون محرمة بالحرمة الضمنية ، أي في حال ارتكاب هذا المجموع تكون محرمة ضمنا وهذا محال ، إذ لا يمكن ان يكون شيء واحد في أي حال واجبا وحراما ضمنا. وهذا بخلاف إرادة الاجتياز في القسم الثاني الّذي كان يفرض فيه تعدد المقدمة المحرمة والمباحة فان المحرم إرادة اجتياز الطريق المغصوب بالخصوص بينما الواجب بالوجوب الغيري إرادة جامع الاجتياز ، وليست إرادة جامع الاجتياز علة تامة ولا ضمن العلة التامة للحرام وانما يلازم الحرام وينطبق عليه كعنوان آخر واما علة الحرام فيه إرادة اجتياز الطريق المغصوب ، بخلاف إرادة الحصة غير الموصلة في هذا القسم فانها عبارة أخرى عن إرادة الاجتياز وعدم إرادة الإنقاذ لوحدة المقدمة هنا وعدم تعددها بالإيصال وعدمه وتعددها في القسم الثاني فتأمل جيدا. ومن مجموع ما ذكرنا ظهرت ثمرة القول بالمقدمة الموصلة أيضا.

__________________

(١) هذا مبنيّ على معقولية الحرمة والمبغوضية الضمنية وأنها كالحرمة الاستقلالية لا تجتمع مع الوجوب ولكن سوف يأتي في مبحث الاجتماع عدم معقوليتها في نفسها فلا يتمّ هذا الفرق بين القسمين.


__________________

ثمّ انّ هناك ثمرة اُخرى للقول بوجوب المقدمة صوّرها السيد الشهيد ( قدّس سرّة ) في الجزء الثالث من حلقات الاُصول وهي فيما اذا اتّفق ان أصبح واجب علّة تامة لحرام وكاان الواجب أهم ملاكاً فانَّه بناءً على القول بالملازمة يقع التزاحم بين خطاب الوجوب والحرمة بينما على القول بعدم الملازمة يقع التعارض بينهما لانّ الحرمة تسري من الحرام الى علته التامة التي هي نفس الواجب فيقع التنافي بين جعليهما لامحالة.

ولنا في المقام كلامان :

الأول ـ انّ هذه الثمرة وهي دخول المقام في باب التعارض بناءً على الملازمة وفي باب التزاحم بناءً على انكارها انّما يتمّ فيما اذا كان الحرام هو الأهم ملاكاً لاما إذا كان الواجب أهمّ أو متساويين لأنّ خطاب الحرمة ككل خطاب آخر مقيد بعدم الاشتغال بالأهم أو المساوي فاذا لم يكن الحرام هو الأهم كانت الحرمة مقيدة لا محالة بعدم الا تيان بالواجب وحيث انّ قيود الحرمة قيود للحرام فلا محالة يكون الحرام خصوص الحصّة المقرونة بعدم الا تيان بالواجب لا المسبّبة منه فلا تعارض بين خطابي الحرمة والوجوب حتى لوقيل بالملازمة. نعم اذا كانت الحرمة أهم ملاكاً فاحصّة المتولدة من الواجب تكون محرمة أيضاً وبناءً على الملازمة تسري الحرمة منها الى السبب وهو الواجب فيقع التنافي بين الجعلين والتعارض بين الدليلين بخلاف ما اذا قلنا بعدم الملازمة.

لا يقال ـ بناء على عدم الملازمة أيضاً يكون تعارض بين الخطابين لأنّ الأمر بالواجب مطلقاً خلف أهمية الحرام ومشروطاً بعصيان الحرام تحصيل للحاصل اذ على تقدير الا تيان بالمعلول تكون علته التامّة حاصلة لا محالة فلا يمكن الأمر به على كلّ تقدير وهو معنى التعارض فهذه الثمرة غير صحيحة ، فانه يقال ـ لو كان الأمر بالواجب مشروطاً باتيان تلك الحصّة من الحرام المتولدة منه كان كما ذكر إلّا أنّه بلا موجب بل القيد عدم الاشتغال بحفظ الملاك الأهم وهو الحرام في المقام ولوضمن الحصّة الاُخرى غير المسببة عن الواجب لأنّ الخارج عن كلّ خظاب بالمقيد اللبّي انّما هو خصوص الاشتغال بالأهم أو المساوي والاشتغال بامتثال الحرام لا يكون إلّا بترك كافة حصصه لأنّ النبي والحرمة لايمتثل إلّا بانتفاء كافة حصص الحرام فاذا عصى الحرمة ولو بالاقدام على حصّة منها كان الوجوب فعلياً على المكلّف في المقام وكان معاقباً بعقابين فعله للحرام وتركه للواجب وفائدة هذا الواجب المشروط بعصيان خطاب الحرمة دفع المكلّف الى عدم تفويت الغرضين معاً على المولى فاذا كان بانياً على ارتكاب الحرام على كلّ حال فليحقّقه عن طريق الواجب.

الثاني ـ انّ وضوح امكان الأمر بالواجب الواقع علّة للحرام الأهم بنحو الترتّب وكونه طريقة وجدانيّة الصحة في حفظ الأغراض المولوية وعدم تفويتها جميعاً من دون تأويله وارجاعه الى طلب الجامع بين فعل الواجب وترك الحرام والنهي عن الحرام بالخصوص خير دليل على عدم الملازمة.



« حكم الشك في وجوب المقدمة »

الجهة السابعة ـ وقد وقع البحث عندهم في تأسيس الأصل عند الشك في وجوب المقدمة ومصب هذا الأصل المؤسس ، تارة : يكون وجوب المقدمة ـ المسألة الفقهية ـ وأخرى يكون الملازمة ـ المسألة الأصولية ـ.

والصحيح انه لا يمكن الرجوع إلى ، أصل في المقام لا بلحاظ الشك في الملازمة ولا بلحاظ وجوب المقدمة ، الا في موارد نادرة.

وتفصيل ذلك : ان الأصول العملية من البراءة والاستصحاب انما تجري بلحاظ الأحكام التكليفية التي تقبل التنجيز والتعذير ويكون في مخالفتها عصيان وعقاب ، ووجوب المقدمة شرعا على القول به ليس بنفسه مما يقبل التنجيز كما تقدم شرحه ، فلا يمكن إجراء البراءة عنه أو الاستصحاب بلحاظ نفسه.

نعم ربما يجري الاستصحاب في إثباته أو نفيه بلحاظ حكم آخر يقبل التنجيز والتعذير فحينئذ يكون وجوب المقدمة شرعا موضوعا له ، فيكون إجراء الأصل بلحاظ ذلك الحكم الجزئي المشكوك بنحو الشبهة الموضوعية.

وهذا موقوف على ثبوت كبرى ذلك الحكم الآخر بنحو يصلح الوجوب الغيري للمقدمة لتنقيح صغراها. وقد يذكر لذلك أمثلة.


من قبيل ما قد يدعى من إجراء استصحاب عدم وجوب المقدمة لإثبات جواز أخذ الأجرة عليه وعدم حرمته تكليفا أو وضعا الثابتة في الواجبات.

غير ان هذا موقوف على ثبوت كبرى حرمة أخذ الأجرة على الواجبات بهذا العنوان مع انه لا مدرك لهذا الحكم الا أحد امرين.

اما دعوى الدلالة العرفية لخطاب إيجاب شيء على كونه مجانيا ، واما دعوى ان التكليف بعمل يخرجه عن كونه تحت سلطان فاعله فلا تصح أخذ الأجرة عليه.

والدعوى الأولى على تقدير تماميتها لا تجدي في تصحيح جريان استصحاب عدم وجوب المقدمة شرعا ، إذ سواء قيل بوجوبها أم لا يترتب ذلك الحكم الا في حدود الواجبات النفسيّة التي تتكفل بيانها الخطابات الشرعية واما الوجوب الغيري وفمدركه برهان الملازمة عقلا وهو قاصر عن إثبات المجانية كي لا تصح الأجرة عليه كما انه لو فرض استفادة مجانية الواجب النفسيّ بجميع مقدماته من الخطاب النفسيّ فائضا لا فرق في عدم جواز أخذ الأجرة بين القول بوجوب المقدمة شرعا وعدمه فلا مجرى للأصل أيضا.

والدعوى الثانية لو تمت لا يفرق فيها بين القول بوجوب المقدمة أو إنكاره ، لأن دليل الواجب النفسيّ كما يسلب سلطنة المكلف عن ذي المقدمة كذلك يسلبها عن مقدمته سواء قيل بوجوبها الغيري أم لا فلا يكون الوجوب موضوعا للحكم المذكور كي يصح الاستصحاب.

وقد تذكر كبرى ثانية في المقام هي كبرى ان الإصرار على الصغيرة الّذي يتحقق بتكرار الصغيرة كبيرة فيكون فاعله فاسقا ، وحينئذ لو قلنا بوجوب المقدمة كان تاركها مصرا على الصغيرة حيث يكون تاركا لواجبين الواجب النفسيّ ـ ونفرضه صغيرة ـ والواجب الغيري ، بخلاف ما لو قيل بعدم وجوبها ، فيكون استصحاب عدم الغيري مجديا في نفي تحقق الفسق.

غير ان هذا أيضا غير صحيح وذلك أولا ـ لعدم ثبوت الكبرى القائلة باشتراط الكبيرة في الخروج عن العدالة ، بل الصحيح ان الذنب ولو كان صغيرة يخرج عن


العدالة ما دام لم يتب.

وثانيا ـ لو سلمت الكبرى المذكورة فلا إشكال ان المراد من الإصرار على الصغيرة المتحقق بتكرر الصغيرة ما إذا تكرر العصيان لا ما إذا ترك واجبين ليس فيهما الا واحد ، إذ ليس ترك الواجب الغيري عصيانا.

وثالثا ـ لو سلم كون المراد بالصغيرة مطلق المخالفة وترك الواجب أو فعل الحرام مع ذلك لا يمكن إثبات عنوان الإصرار على الصغيرة أو نفيه باستصحاب وجوب المقدمة أو نفيه ، لأن عنوان وحداني وليس تركيبا فلا يمكن إثباته أو نفيه بنفي الوجوب الا على القول بالأصل المثبت.

وقد تذكر كبرى ثالثة هي ما لو نذر الإتيان بواجب ، فانه على القول بوجوب المقدمة يبر نذره بالإتيان ، بها فلو شك يكون استصحاب عدم الوجوب نافيا لوقوع الامتثال ومبقيا للوجوب ، وهذه الكبرى موقوفة على ان يكون وجوب الوفاء بالنذر موضوعه نفس ما نذره الناذر بان يكون عنوان الوفاء مشيرا به إلى واقع ما شرطه الناذر على نفسه ، اما إذا كان الوفاء عنوانا منتزعا عقلا من الإتيان بما نذره الناذر لم يجد الاستصحاب الجاري في وجوب المقدمة إثباتا أو نفيا لإحرازه الا على القول بالأصل المثبت ، على ان مثل هذه الثمرة تتصور في كل مسألة. هذا كله في إجراء الأصل عن وجوب المقدمة أي في المسألة الفقهية ، واما إجرائها عن الملازمة أي في المسألة الفقهية فالحال فيها أوضح ، إذ مضافا إلى ما تقدم من عدم انتهائه إلى الأثر العملي التنجيزي والتعذيري يرد عليه : ان ترتب الوجوب الغيري للمقدمة على الملازمة ليس شرعيا لأن الملازمة بين الجعلين النفسيّ والغيري ليس شرعيا ، إذ الشرعي ترتب المجعول على موضوعه لا ترتب الجعل على أسبابه.

ثم ان هنا إشكالات أخرى تعرض لها في الكفاية :

منها ـ ما يختص بإجراء الأصل في المسألة الأصولية ـ الملازمة ـ حيث يقال : بأنه لا حالة سابقة متيقنة للملازمة باعتبار انها لو كانت فهي أزلية وأبدية فكيف يعقل العلم بعدمها سابقا والشك في بقائها لاحقا؟.


وهذا الإشكال يمكن دفعه : بان الملازمة لو أريد منها القضية الحقيقية الشرطية الصادقة على تقدير ثبوتها قبل تحقق الشرط والجزاء فهي كما أفيد لا حالة سابقة لها ، واما لو أريد بها القضية الفعلية الخارجية أي العلية واللزوم الفعلي من قبل الوجوب النفسيّ الفعلي للوجوب الغيري الفعلي المنتزعة في طول وجود العلة خارجا فهي مسبوقة بالعدم ـ ولو العدم الأزلي قبل تحقق الملزوم ـ.

ومنها ، ما يورد على الأصل في كلتا المسألتين الأصولية والفقهية من دعوى استحالة إجراء التعبد والأصل العملي في الوجوب الغيري مع احتمال الملازمة لأنه من التعبد فيما يحتمل استحالته ، إذ الملازمة لو كانت فالتفكيك بين اللازم والملزوم مستحيل.

وحيث انها محتملة كان التعبد المذكور مما يحتمل كونه من المستحيل ، وثبوت ما يحتمل استحالته مستحيل. وبعبارة أخرى : لا بد من ان تنتهي الأصول العملية والحجج الشرعية إلى نتيجة مقطوعة لا محتملة ، واحتمال الاستحالة في ثبوت التعبد مساوق مع عدم ثبوته.

وقد أجاب على هذا الإشكال في الكفاية : بأنه مبني على ثبوت التلازم بين الحكمين حتى في مرحلة الفعلية من الأحكام لا ما إذا قيل بان التلازم على تقديره انما هو بين الأحكام في مرحلة الواقع ، وقد يستظهر من سياق الكفاية الميل إلى التقدير الثاني كي يندفع به الإشكال (١).

فهنا كلامان ، أحدهما جريان الأصل فيما لو كانت الملازمة بين الوجوبين في مرحلة الأحكام الواقعية فقط ، والثاني عدم جريانه فيما إذا كانت الملازمة بينهما في مرحلة الأحكام الفعلية أيضا ، ولا بد من تمحيص كل منهما ، على ضوء المراد من مرحلة الفعلية ومرحلة الواقع في الأحكام الشرعية فانه توجد مصطلحات مختلفة في تفسير الفعلية.

الأول : الفعلية في مصطلح الكفاية حيث يريد المحقق الخراسانيّ ( قده ) بالحكم

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٢٠٠.


الواقعي الحكم الإنشائي الّذي لا حقيقة له غير الاعتبار والإنشاء ، وبالحكم الفعلي الإرادة الحقيقية والطلب الجاد للفعل من العبد ، وقد جمع ( قده ) ، بين الأحكام الواقعية والظاهرية بافتراض ارتفاع فعلية الحكم الواقعي في موارد الأصول والأمارات وبقاءها إنشائية محضة ، ولا تناقض في اجتماع حكمين متضادين على مستوى الإنشاء والاعتبار المحض وانما المستحيل هو اجتماع إرادتين واقعيتين فعليتين.

وعلى هذا المصطلح يكون من الواضح عدم صحة دعوى اختصاص التلازم بين الوجوبين بمرحلة الأحكام الواقعية وعدم ثبوته في الأحكام الفعلية ، إذ كيف يمكن توهم التلازم بين الإنشاءين الذين هما مجرد لقلقة جعل واعتبار مع عدمه بين الإرادتين الحقيقتين؟

الثاني : الفعلية في مصطلح الميرزا ( قده ) ، ويراد بها المجعول أي الحكم بنحو القضية الخارجية عند فعلية موضوعه خارجا ، وبناء على هذا المعنى للفعلية لا إشكال في ثبوت الملازمة بين الحكمين الفعليين ، إذ لو فرض ثبوت التلازم بين الجعلين والقضيتين الحقيقيّتين كان ثبوته بين المجعولين أولى فحين فعلية الجعل النفسيّ بتحقق موضوعه خارجا يصبح الجعل الغيري المقيد بقيود الجعل النفسيّ فعليا أيضا.

الا ان هذا المعنى للفعلية لا يمكن افتراض ارتفاعها في موارد الأصول والأمارات ولذلك فلا يحتمل ان يكون هو مقصود صاحب الكفاية ( قده ).

الثالث : الفعلية بمصطلح المحقق الأصفهاني ( قده ) ، ويريد بها صيرورة الطلب بحيث يكون باعثا ومحركا بالفعل للمكلف المطيع الموقوف على الوصول ، وهذا معنى مساوق مع التنجز بحسب مصطلحاتنا ، وبناء عليه يصح الجواب المذكور ، إذ من الواضح انه لا تلازم بين الحكمين في مرحلة الفعلية المساوقة مع التنجز لوضوح عدم الملازمة بين وصول الوجوب النفسيّ وبين وصول الوجوب الغيري.

واما الكلام الثاني أي عدم جريان الأصل فيما إذا افترض ان الملازمة على


تقديرها ثابتة في مرحلة الأحكام الفعلية أيضا. فقد أشكل عليه المحقق الأصفهاني ( قده ) ، بأنه على التقدير أيضا لا يتم الإشكال بل يجري الأصل ، لأن مجرد احتمال الاستحالة في التعبد المذكور لا يمنع عن التمسك بدليله وانما يرفع اليد عن الدليل فيما إذا قطع بالاستحالة ، ولذلك يصح التمسك بإطلاق دليل التعبد بحجية البينة حتى لما إذا أخبرت بمضمون احتملنا استحالته ثبوتا كما لو أخبرت بتكلم الميت مثلا ، واحتملنا استحالته.

وكذلك يصح التمسك بظهور آية النبأ مثلا في حجية خبر الواحد لو فرض ظهورها في ذلك ولا يرفع اليد عنه لمجرد احتمال استحالته (١).

وهذا الاعتراض من المحقق الأصفهاني ( قده ) ، غير متجه في المقام ذلك ان الاستحالة المحتملة تارة : تكون في حق الحكم الواقعي فقط الّذي هو مؤدى الأصل أو الأمارة دون ان تكون بنكتة مشتركة بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري أي نفس التعبد ، وأخرى : تكون الاستحالة المحتملة في حق الحكم الواقعي بنكتة مشتركة بينه وبين نفس التعبد ، ففي النحو الأول لا يضر ذلك الاحتمال في التمسك بدليل التعبد لإثباته ، لوضوح ان المحتمل استحالته انما هو الحكم الواقعي وهو لا يثبت حقيقة بل تعبدا والثابت حقيقة ووجدانا انما هو التعبد بوجود ذلك الحكم وتنجز آثاره وهو مقطوع الإمكان فلا وجه لرفع اليد عن دليل ثبوته.

وفي النحو الثاني يستحيل التعبد بالمحتمل لأنه يستلزم الخلف ، إذ إثبات ذلك التعبد بدليله يقتضي ثبوته وجدانا وحقيقة وحينئذ ان فرض مع ذلك احتمال الاستحالة في ذلك التعبد كان تناقضا ، وان فرض ارتفاع احتمال الاستحالة فالمفروض ان نكتتها مشتركة بين مرحلة التعبد والواقع وهذا يعنى ان احتمال الاستحالة في الواقع أيضا يرتفع ومع ارتفاعه يرتفع الشك في الواقع إذا كان منشأه احتمال الاستحالة فقط كما في المقام ، فيلزم منه ارتفاع التعبد وهو خلف.

وبهذا اتضح ان المثالين الذين ساقهما من النحو الأول ومحل الكلام من النحو

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ١ ص ٢١٥.


الثاني فقياسه عليهما في غير محله ، فان احتمال استحالة تكلم الميت لا يستلزم احتمال استحالة التعبد به لترتيب آثاره شرعا وكذلك احتمال استحالة حجية خبر الثقة فانها لا تستلزم احتمال استحالة التعبد بها ـ إذا فرضنا ان الاستحالة المحتملة مخصوصة بحجية الخبر لا الظهور ـ واما احتمال استحالة نفي وجوب الغيري مع فعلية الوجوب النفسيّ فنكتته مشتركة بين الحكم الواقعي والحكم الفعلي ـ التعبد ـ فإذا فرض التمسك بدليل التعبد الاستصحابي المستلزم لثبوت نفس التعبد وجدانا مع بقاء احتمال استحالته كان تناقضا ؛ وان فرض ارتفاع احتمال الاستحالة ارتفع احتمال استحالة الحكم الواقعي أيضا فيقطع بعدم الملازمة لا محالة وبالتالي يقطع بعدم الوجوب الغيري الواقعي فيرتفع موضوع التعبد وهو خلف.

ومن جملة الإشكالات أيضا ما يتركب من مقدمتين.

الأولى : ان التعبد بالاستصحاب لا بد ان يكون فيما هو تحت تصرف المولى بما هو شارع وجاعل وهو الحكم الشرعي أو موضوع الحكم الشرعي فلا بد وان يكون المستصحب أحدهما.

الثانية : ان وجوب المقدمة ـ فضلا عن الملازمة ـ ليس داخلا تحت التصرف المولوي ، لأنه من لوازم ماهية الوجوب ـ النفسيّ وهي غير مجعولة لا بجعل بسيط ـ لأنه خلف كونه لازما ـ ولا بالجعل التأليفي ـ لأن لوازم الماهية ذاتية والذاتي لا يعلل ـ فلا يمكن إجراء الاستصحاب فيه.

وقد أجاب عن الإشكال صاحب الكفاية : بان الوجوب الغيري وان لم يكن مجعولا استقلالا الا انه مجعول بالتبع فيكون تحت سلطان الشارع بجعل منشأ انتزاعه (١) وتوضيح الحال بنحو يتضح به مدى صحة كل من الإشكال والجواب يستدعي التكلم في ثلاث نقاط على النحو التالي :

النقطة الأولى : في تحقيق حال الكبرى القائلة ان المستصحب لا بد وان يكون حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي ، فانه قد اشتهر ذلك في ألسنتهم مستدلين عليه :

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ص ١٩٩.


أن الاستصحاب حكم شرعي فلا بد وان يكون ما يجري فيه تحت سلطان الشارع بما هو شارع وليس هو الا الحكم الشرعي أو موضوع الحكم الشرعي بلحاظ حكمه.

غير ان الصحيح على ما بيناه مفصلا في مباحث الاستصحاب ، عدم اشتراط ذلك في إجراء الاستصحاب وانما المشترط ان يكون المستصحب منتهيا إلى أثر عملي.

اما وجه اشتراط ان يكون المستصحب ذا أثر عملي فلان الاستصحاب حكم ظاهري والحكم الظاهري يجعل من أجل تحديد الوظيفة العملية في موارد الشك ، فلا بد وان يكون المشكوك منتهيا إلى الأثر العملي لكي يجري فيه الأصل ، واما وجه عدم اشتراط كون المستصحب حكما شرعيا أو موضوع حكم فلان الاستصحاب ليس إثباتا حقيقيا للمستصحب بل إثبات تعبدي ظاهري الّذي يعني إثبات أثره العملي ، وهذا لا يقتضي أكثر من أن يكون المستصحب منتهيا إلى ذلك ولو لم يكن بوجوده الحقيقي تحت تصرف المولى بما هو مولى.

وبهذا عرف ان الإشكال المذكور غير تام لعدم تمامية مقدمته الأولى المتضمنة للكبرى المذكورة.

النقطة الثانية : في تحقيق معنى لوازم الماهية والوجود وتشخيص نسبة الوجوب الغيري إلى النفسيّ على ضوء ذلك فنقول : المعروف بينهم في الفرق بين لوازم الماهية ولوازم الوجود ان ما يكون لازما لشيء في نفسه وبقطع النّظر عن وجوده الخارجي والذهني فهو من لوازم الماهية ، وما يكون لازما لشيء في عالم وجوده فهو من لوازم الوجود. ويمثل للأول بزوجية الأربعة وإمكان الممكن وللثاني بحرارة النار.

وقد أشكل عليه المحقق الأصفهاني ( قده ) : بأنه بناء على ما هو التحقيق من أصالة الوجود وان الماهية ليست الا امرا وهميا اعتباريا لا معنى لافتراض ان لازم الماهية هو الأمر الثابت لها بقطع النّظر عن الوجود العيني والذهني ، فان اللازم معلول ومستتبع للملزوم فلا بد ان يكون الملزوم امرا أصيلا صالحا للتأثير في إيجاد ذلك اللازم وليس هو غير الوجود ، وانما المقصود من لوازم الماهية على هذا التحقيق هو اللازم لمطلق


وجود الشيء العيني والذهني بينما لازم الوجود هو ما يكون لازما لوجوده العيني فقط (١).

وهذا الّذي أفاده ( قده ) غير تام وذلك ببرهان ان لوازم الماهية تثبت لملزومها وهو الماهية حتى لو قيد بعدم مطلق وجودها حيث تصدق القضية القائلة الإنسان غير الموجود في الخارج ولا في الذهن ممكن أو الأربعة غير الموجودة زوج وليس المحكوم عليه في هذه القضايا الوجود الذهني للملزوم المتصور في طرف موضوعها فانه خلف وتناقض ، لأن تصور الأربعة غير الموجودة ـ أي الأربعة غير الموجودة بالحمل الشائع ـ ليس بأربعة غير موجودة بل هي أربعة موجودة فلا يمكن ان يكون الحكم على هذا العنوان بلحاظ نفسه بالحمل الشائع وانما بلحاظه ، بالحمل الأولي كما هو واضح.

وصدق هذه القضايا برهان على ما كنا نقوله مرارا من ان عالم الواقع أوسع من عالم الوجود العيني أو الذهني ، فلوازم الماهية هي أمور واقعية وليست أمورا وجودية حقيقية ، ولذلك تكون صادقة وثابتة مع فرض عدم الوجود فهي أمور واجبة ضرورية ولكنها ليست واجبة بوجودها وانما واجبة بذاتها ، ولذلك لا يلزم تعدد واجب الوجود ، وما قيل من انها معلولات للملزوم فبناء على أصالة الوجود لا يعقل تأثير الماهية فيها واستلزامها لها ، مدفوع بان نسبة هذه اللوازم إلى ملزوماتها انما هي نسبة العرض إلى المعروض لا المعلول إلى العلة بمعنى انها ليست أمورا وجودية كي تحتاج إلى العلة في إيجادها وانما هي أمور واقعية واجبة بذاتها وواقعيتها لا بوجودها ، بل لا وجود لها وانما لها الواقعية والثبوت الذاتي سواء تحقق وجود للملزوم أم لا وبهذا يعرف ان لوازم الماهية ليست مجعولة حقيقة أصلا حتى الجعل بالتبع أي الجعل الحقيقي للشيء بتبع جعل منشأه وعلته ، وانما هي مجعولة بالعرض والمجاز باعتبار انتزاعها من الملزوم الموجود فالوجود للملزوم حقيقة وليس للازم الا مجازا.

وعلى هذا الأساس يعرف ان وجوب المقدمة على القول به ليس من لوازم الماهية ؛ باعتباره امرا وجوديا يمكن ان يكون ويمكن ان لا يكون في نفس المولى ولوازم الماهية كما قلنا أمور واجبة بذاتها وواقعيتها وصادقة بقطع النّظر عن الوجود. ومن كل ذلك

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ١ ص ١١٤.


تعرف ان ما في الكفاية من افتراض ان لوازم الماهية مجعولة بالتبع وان الوجوب الغيري من لوازم الماهية للوجوب النفسيّ كلاهما غير صحيح.

النقطة الثالثة : لو افترضنا ان الوجوب الغيري من لوازم الماهية التي هي ليست بمجعولة الا بالعرض والمجاز أو افترضنا ان الوجوب الغيري من لوازم الوجود فيكون مجعولا بالتبع فهل يمكن إجراء الاستصحاب فيه أم لا بناء على التسليم بالكبرى المبينة في النقطة الأولى من ان التعبد الاستصحابي لا بد وان يكون في شيء تحت تصرف المولى جعلا ورفعا؟

الصحيح : هو العدم ، لأنه لو أريد بالتعبد الاستصحابي نفس الموجود بالعرض أو بالتبع دون الموجود بالذات وبالأصالة فهذا ليس تحت تصرف المولى أيضا ، والمفروض الالتزام باشتراط كون المستصحب تحت تصرف المولى وقدرته بما هو مولى وجاعل ، وان أريد بالاستصحاب نفي الموجود بالعرض أو بالتبع ظاهرا وبلحاظ الأثر العلمي أي نفي الأثر العملي من وجوده ، فهذا خلف اشتراط كون المستصحب امرا تحت تصرف الشارع من حكم شرعي أو موضوع لحكم شرعي وانما هو التزام بالكبرى الأخرى التي بيناها في النقطة الأولى.

وبهذا ينتهي البحث عن الأصل العملي.


« الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته »

الجهة الثامنة ـ واما البحث عن ثبوت الملازمة بين الوجودين الشرعيين فتفصيل الكلام في ذلك أن يقال : قد تقدم في بعض الأبحاث السابقة ان للحكم مراحل ثلاث ، مرحلة الملاك ومرحلة الحب والإرادة ومرحلة الجعل والاعتبار.

اما بلحاظ المرحلة الأولى ، فلا ينبغي ان يتوهم الملازمة بين ذي المقدمة والمقدمة في الملاك ، إذ لو فرض ان وجود ملاك في شيء يستدعي وجوده في مقدماته أيضا لزم الخلف وانقلاب الواجب الغيري إلى نفسي.

واما بلحاظ مرحلة الاعتبار والجعل ، فالصحيح فيها عدم الملازمة بين اعتبار الوجوب النفسيّ واعتبار الوجوب الغيري ، إذ ان الملازمة بينهما اما ان يراد بها الملازمة بنحو الاستتباع القهري أو يراد بها ان اعتبار الوجوب النفسيّ يحقق داعيا في نفس المولى لجعل الوجوب على مقدماته وكلاهما غير موجود.

اما الملازمة بمعنى الاستتباع القهري فانها غير معقولة في باب الجعل والإنشاء ، لأن إنشاء الجعل والاعتبار فعل اختياري مباشري للجاعل فيكون مستتبعا لمبادئه من الاختيار والإرادة لا لفعل مباشري آخر إذ الفعل المباشري من الفاعل المختار لا يكون علة لفعل مباشري اخر منه ، فإنشاء الوجوب النفسيّ لا يعقل ان يستتبع قهرا إنشاء للوجوب الغيري.


واما الملازمة بمعنى كونه داعيا فهو وان كان معقولا كبرويا في الأفعال المباشرية ، غير ان الداعي لجعل الحكم واعتباره اما ان يكون هو إبراز الحب والإرادة واما ان يكون تحديد مركز المسئولية وتعيين ما يدخل في عهدة المكلف فيما لو فرض ان المحبوب المولوي لم يكن بجميع مقدماته تحت قدرة المكلف بحيث يترك تحقيقه إليه كيف ما أمكنه ، وكلا هذين الداعيين غير معقول في المقام.

اما الأول : فلان الحب الغيري للمقدمة لو فرض وجوده للملازمة في مرحلة الحب والشوق فسوف يكون نفس الجعل النفسيّ كافيا في إبرازه لأن المبرز والكاشف عن الملزوم كاشف عن لازمه أيضا ، وان فرض عدم وجوده فلا وجود للمبرز كي يحتاج إلى إبرازه بالجعل والاعتبار ، فالداعي الأول غير موجود. لا يقال : يكفي ان يكون الداعي إبراز الحب الغيري لمن لم يدرك الملازمة بين الإرادتين النفسيّ والغيري.

فانه يقال : هذا ليس داعيا فعليا ملازما مع داعي جعل الأمر النفسيّ وانما هو مجرد إمكان الداعي في بعض الحالات.

هذا مضافا إلى ان الداعي المصحح للجعل والاعتبار انما هو إبراز الحب والإرادة التي تتنجز تدخل في عهدة المكلف ليترتب عليه الامتثال والإرادة الغيرية لا منجزية لها على ما تقدم.

واما الداعي الثاني : فلان تحديد مركز المسئولية وما يدخل في عهدة المكلف انما هو في المحبوب المولوي الّذي يدخل في عهدة المكلف ويتنجز عليه لا الغيري الّذي لا يتنجز عليه ولا يدخل في عهدته.

وهكذا اتضح عدم الملازمة بين الوجوب النفسيّ والغيري بحسب مرحلة الجعل والاعتبار.

واما بلحاظ عالم الشوق والإرادة فالصحيح فيه هو التلازم بين الحب النفسيّ والحب الغيري ، لأن الشوق امر تكويني وليس كالجعل والاعتبار فعلا اختيارا فيعقل ان يكون مستتبعا لأمر تكويني اخر ـ وهو ملاك الحب النفسيّ أو نفسه ـ والواقع ان تشخيص الاستتباع والتلازم بين شيء واخر لا يمكن ان يكون بالبراهين أو المصادرات العقلية وانما يكون عن طريق الاستقراء والملاحظة ، فانه لو لا ملاحظة إحراق النار


بالتجربة خارجا لم يكن يعرف كونها علة له ، وفي المقام لتشخيص التلازم لا بد وان نرجع إلى الوجدان المدرك للتلازم بين إرادة الواجب النفسيّ وإرادة مقدماته ، فانه يقضي بأنه كلما أراد الإنسان فعلا أراد مقدماته تبعا أيضا ، وهذه الملازمة يقبلها حتى المنكر لوجوب المقدمة شرعا كالسيد الأستاذ غير انه أفاد خروج ذلك عن محل النزاع وان الالتزام به ليس قولا بالملازمة لأن موضوع البحث هو الملازمة بين الوجوبين.

والصحيح : انه قول بالملازمة بلحاظ ما هو المهم من البحث لا بلحاظ عالم الألفاظ ، فان البحث ليس لفظيا ولا لغاية لفظية كي يتوقف على معنى الوجوب وانه هل هو عبارة عن الاعتبار والجعل أو هو عبارة عن الشوق والإرادة ، وانما البحث والنزاع في ثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته بحيث يؤدي إلى وقوع التعارض بين دليله ودليل حرمة المقدمة في بعض الصور التي تقدمت الإشارة إليها في ثمرة المسألة ، ومن الواضح ان ثبوت الملازمة بين الوجوبين بمعنى الشوقين والإرادتين مستلزم لتلك الثمرة ، حيث يستحيل اجتماع الحب والإرادة الغيرية للمقدمة مع حرمتها ، بل التعارض بين الأحكام انما هو بهذا الاعتبار لا باعتبار مرحلة الإنشاء بما هو اعتبار محض ، فانه لا استحالة بين الأحكام في عالم الاعتبار الا بلحاظ ما يكشف عنه من المبادي ، واجتماع البغض والحب في امر واحد (١).

ثم انه قد استدل للملازمة بوجوه أخرى.

منها : ما يتألف من مقدمتين كبرى وصغرى : اما الكبرى فدعوى ان ما يصح في الإرادة التكوينية يصح في الإرادة التشريعية.

__________________

(١) توجد هنا ملاحظات.

الأولى ـ ان إرادة المقدمة ليست بمعنى تعلق الحب والشوق بها ، بل بمعنى تحرك الإنسان وإعمال قدرته باتجاه فعلها الّذي هو روح الاختيار وجوهره ـ خلافا لما قيل من انه عبارة عن الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات ـ وذلك لحكم الوجدان بأن لا شوق إلا اتجاه المطلوب النفسيّ فقط والّذي فيه المصلحة الملائمة مع الذات واما إرادة المقدمة فليست بأكثر من إعمال القدرة والتحرك عليها بداع عقلاني هو الوصول إلى المطلوب النفسيّ.

والمنبه الوجداني ؛ على هذا : انه لو توقف فعل واجب نفسي على مقدمة محرمة وكانا متساويين في الأهمية ولم تكن القدرة شرطا في فعلية الملاك فانه على القول بوجوب المقدمة لا بد من أن يكون فعل تلك المقدمة المحرمة حتى الموصلة منها إذا كان ملاكها مساويا مع ملاك الواجب المتوقف عليه وانما يتعامل معهما تعامل الملاكين المتزاحمين تماما كما هو في سائر موارد التزاحم بين واجب وحرام أي يحكم بمبغوضية المقدمة ومحبوبية ذي المقدمة.

والمنبه الآخر : ان الحب والبغض امران غير اختياريين للإنسان ينشئان على حد الأمور التكوينية الأخرى من ملائمة شيء مع


واما الصغرى : فدعوى ثبوت الملازمة في الإرادة التكوينية بمعنى ان من أراد شيئا واشتاق إليه أراد مقدماته والصغرى هذه يمكن ان تقرب بأحد بيانين :

__________________

الذات أو منافرته معها ، فان الإنسان يحب ذاته دائما ، وحيثية المقدمية وتوقف المطلوب النفسيّ على المقدمة حيثية عقلانية تستوجب إعمال القدرة والاختيار لها من قبل العاقل المختار للوصول إلى هدفه وليست موجبة لملاءمة أخرى زائدا على المصلحة النفسيّة.

وهكذا يحكم الوجدان بان حب ذي المقدمة لا يسري إلى المقدمة بل يجتمع مع بغضها ويكون بينهما التزاحم لا التعارض.

الثانية ـ وهي الأساس ليس مجرد الحب والبغض حكما وانما واقع الحكم الإرادة التشريعية الموازية للإرادة التكوينية والتي تعني ـ على ما تقدم في بحث الجبر والاختيار ـ إعمال القدرة والسلطنة بحسب تعبيراتنا ـ أو هجمة النّفس ـ بحسب تعبيرات المحقق النائيني ( قده ) فان ما هو قوام الحكم والتكليف ان يعمل المولى إرادته على العبد وهذا مرحلة بعد الحب أو الشوق ـ لو فرض وجوده ـ وقبل الصياغة والإبراز ، والدليل الوجداني عليه : ان المولى قد يحب شيئا حبا شديدا ولكنه مع ذلك لا يريده من العبد فلا يجب على العبد امتثاله حتى لو كان عالما بحب المولى له ولو كان ذلك بإبراز من قبله ولكن لا بصدد الطلب والإرادة من العبد. وأيضا لو كان روح الحكم هو الحب والبغض لكان الحكم من الأمور التكوينية والتي قد تتعلق بالأمور المستحيلة أيضا مع وجدانية ان الحكم من مقولة الأمور الاختيارية للمولى وليس هو مجرد الشوق النفسيّ بل ولا هو مع الإظهار والإبراز ـ أي الحب المبرز ـ لوضوح ان الإبراز ليس الا كاشفا عن الحكم الّذي لا بد وان يكون له تقوم بقطع النّظر عن الإبراز والكشف وليس هنا لك شيء آخر فيما بين الحب والإبراز أو الصياغة سوى الإرادة بالمعنى الّذي أشرنا إليه.

فإذا اتضح أن حقيقة الحكم وروحه هي الإرادة التشريعية بهذا المعنى المضاهي للإرادة والاختيار التكويني لا مجرد الحب والبغض فضلا عن المصلحة والمفسدة اتضح حينئذ وجه عدم الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته فان الإرادة التشريعية بهذا المعنى كالجعل من مقولة الفعل أو إعمال القدرة أو ما ينتزع منه فيجري فيها نفس البرهان المتقدم في عدم الملازمة بين الوجوبين بحسب عالم الجعل والاعتبار.

واما التلازم في عالم الحب والشوق ـ لو سلمنا به ـ فلا يضر في المقام بمعنى انه لا يوجب تعارضا بين دليل وجوب الشيء ودليل حرمة مقدمته بعد ان عرفنا ان روح الحكم الإرادة التشريعية فان المعيار عندئذ ملاحظة الإرادة وإرادة ذي المقدمة لا تنافي كراهة مقدمته ذاتا وانما بينهما التزاحم في مرحلة الامتثال فحسب.

لا يقال ـ يقع التنافي بين المدلولين الالتزاميين لدليل وجوب ذي المقدمة ودليل حرمة المقدمة بلحاظ عالم الحب والبغض حيث يكشف الأول بالملازمة عن محبوبية المقدمة ويكشف الثاني عن مبغوضيتها واجتماعهما مستحيل ذاتا.

فانه يقال ـ بناء على ما ذكرناه لا يشترط في إيجاب شيء أو تحريمه بمعنى إرادته أو كراهته بالمعنى الّذي شرحناه للإرادة التشريعية نشوءهما عن المحبوبية والمبغوضية بالخصوص بل قد ينشئان عن مجرد الملاك بمعنى المصلحة والمفسدة.

نعم قد يدعى دلالة عرفية على ان الأمر بشيء كاشف عن محبوبيته والنهي عن شيء يكشف عن مبغوضيته الا أن مثل هذه الدلالة على تقدير التسليم بها في الخطابات الشرعية فهي ليست بدرجة بحيث توجب رفع اليد عن المدلول المطابقي للخطاب في مورد يعقل ثبوته فيه بل يؤخذ بالمدلولين المطابقيين ، ويكشفان حينئذ عن أن الأمر أو النهي في ذلك المورد نشأ أحدهما عن مجرد الملاك من المصلحة أو المفسدة على ان هذا لو سلم فهي دلالة عرفية وليست ملازمة عقلية بين الوجوبين.

الثالثة ـ لو تنزلنا عن كل ذلك فلا إشكال ان أشواق المولى بما هي أمور تكوينية لا تشتغل بها الذّمّة وانما تشتغل الذّمّة بما يسجله المولى في عهدة العبد وهذا التسجيل فعل اختياري عقلاني يتبع مقدار حفظه لأغراض المولى ودرجة قدرة المكلف عليه ولا برهان على أنه لا بد وأن يكون متطابقا موردا مع أشواقه بل الدليل على خلافه لأن المولى إذا لاحظ في مورد أن الأفيد بحاله تسجيل عمل يبغضه بالفعل أو النهي عما يحبه بالفعل لكونه أقل خسارة وتفويتا لأغراضه أقدم عليه لا محالة فالميزان في حساب التنافي بين الأحكام ملاحظة هذا العنصر الاختياري للحكم وهذا يعني ان ثبوت الملازمة في الأشواق لا يكفي لإثبات الملازمة بالمعنى المطلوب.


الأول : ان من اشتاق إلى شيء اشتاق إلى مقدماته ببرهان إتيانه بها والفعل الصادر عن الفاعل المختار ما لم تتعلق به الإرادة لا يصدر منه.

الثاني : ان من أراد شيئا بالإرادة التكوينية سوف يتصدى إلى حفظه من ناحية مقدمته ، فمن أراد شرب الماء سوف يتصدى إلى حفظ مقدمته التي هي إعداده مثلا ـ ولو فرض عدم تعلق الشوق والإرادة بها ـ وهذا يقتضي انه لو إرادة تشريعيا يحفظه أيضا من ناحية مقدمته بإيجابه غيريا ، فان الحفظ في الإرادة التكوينية يكون بفعل المقدمة وفي الإرادة التشريعية يكون بإيجابه على العبد.

وهذا الدليل بكلا التقريبين للصغرى باطل.

اما التقريب الأول : فلانا لو فرضنا التشكيك في الملازمة بين الإرادتين في التشريعية فبالإمكان أن يشكك في الإرادة التكوينية أيضا ، وما أقيم كبرهان في هذا التقريب مدفوع : بان إتيان المقدمة قد يكون بنفس الإرادة التكوينية المتعلقة بذي المقدمة.

واما التقريب الثاني : فالجواب عليه ان حفظ المراد التشريعي من ناحية مقدمته كما يمكن ان يكون بإيجابها غيريا كذلك يمكن بنفس الإيجاب النفسيّ لذيها فانه يقتضي الإتيان بالمقدمة في مقام الامتثال ، سيما والإيجاب الغيري لا حافظية له لأنه لا منجزية له ولا محركية.

ومنها ـ أنه لو لم تجب المقدمة لجاز تركها ، وإذا جاز تركها فاما ان يفترض العقاب عليه أولا ، وكلاهما باطل. إذ لو فرض العقاب كان خلف الجواز ، ولو فرض عدم العقاب كان معناه انقلاب الواجب النفسيّ المطلق إلى الواجب المشروط وانقلاب مقدمة الوجود مقدمة للوجوب وهو خلف أيضا. اذن فكلا التاليين في الشرطية الثانية باطلان فلا بد وان يكون التالي من الشرطية الأولى باطلا أيضا ، فيبطل الشرط وهو عدم وجوب المقدمة ويثبت وجوبها وهذا هو الدليل المنقول في الكفاية عن أبي الحسن البصري بعد تعديله بحيث يصلح ان يكون بيانا فنيا.

وفيه : انه لو أريد من جواز الترك في الشرطية الأولى جواز ترك الوضوء مثلا بما هو وضوء فالشرطية الأولى صادقة ولكن الشرطية الثانية نسلم فيها بالعقاب ولا يكون


خلفا ، إذ يكون العقاب على الترك لا بحيثية كونه تركا للوضوء بل بحيثية ما يستتبعه من كونه تركا لذي المقدمة وهو الصلاة المقيدة بالوضوء وان أريد من جواز الترك جواز الترك المطلق ومن جميع الحيثيات فالشرطية الأولى ممنوعة ، إذ لا يلزم من عدم وجوب المقدمة جواز تركها من جميع الحيثيات المستتبعة للترك.

ومنها ـ التمسك بالأوامر الخاصة الواردة في بعض المقدمات حيث يستكشف منها بالبرهان الإني ثبوت الحب والإرادة الغيرية فيها ، إذ يعلم بعدم ملاك نفسي في موردها. وإذا ثبتت الملازمة في بعض الموارد ثبتت في الكل لعدم إمكان التبعيض.

وفيه : انه ان أريد استكشاف الملازمة من تلك الأوامر بالبرهان الإني بدعوى ، انه لا علة ولا داعي للأمر بتلك المقدمات لو لا ثبوت الملازمة فهو واضح الفساد. إذ هناك داع آخر أيضا يقتضي الأمر بها وهو الإرشاد إلى مقدمتها ودخلها في الغرض من الواجب النفسيّ ، وان أريد استكشاف ذلك من ظهور الأمر في المولوية والصدور عن إرادة حقيقية فهذا الظهور غير مسلم في جميع أوامر الاجزاء والشرائط فانها إرشاد إلى الجزئية والشرطية للمركبات الشرعية لا أكثر من ذلك.

على ان الظهور المذكور انما ينفع في حق غير من حكم وجدانه بثبوت الملازمة أو عدمها ، كما لو فرض تعقل الشك في الوجدانيات التي منها المقام ولا بد من ان يفترض في هذا الشاك أيضا عدم احتماله للتفصيل في الوجوب الغيري والا لم يكن دليلا على الملازمة كما هو واضح.

وهكذا يتضح : ان الصحيح في البرهنة على الملازمة ما قلناه لا هذه الوجوه وما يضاهيها.

ثم انه قد يفصل في القول بوجوب المقدمة شرعا بين المقدمة العقلية فلا تكون واجبة وبين المقدمة الشرعية فتكون واجبة باعتبار ان المقدمية فيها متوقفة على الإيجاب الشرعي.

وفيه : ان المقدمية يستحيل ان تكون متوقفة على الإيجاب الغيري لها كي يستكشف ثبوته بها لأن الإيجاب الغيري موقوف عليها فكيف يصح ان يكون منشأ لها (١).

__________________

(١) وما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ) في دفع إشكال الدور من ان الإيجاب الغيري موقوف على المقدمية بلحاظ الغرض والموقوف على الإيجاب الغيري هو المقدمية بلحاظ الواجب غير تام إذ لو كان المقتضي للأمر الغيري حينئذ هو المقدمية.


بل هي منتزعة من الأمر النفسيّ بالمقيد على ان المقدمة الشرعية هي مقدمة عقلية في واقعها ولا فرق بينها وبين المقدمات العقلية الأخرى من حيث المقدمية ، وانما الفارق بينهما بلحاظ ذي المقدمة ، فانه في المقدمة الشرعية يكون ذو المقدمة المقيد المأمور به لا ذات الفعل ، اما توقف المقيد على المقدمة الشرعية فعقلي لا محالة.

وقد يفصل أيضا بين المقدمة التي تكون سببا توليديا وبين غيرها ، فيقال بوجوب الأولى لاستحالة تعلقه بذي المقدمة بعد ان كان خارجا عن الاختيار وبعدم وجوب الثانية لعدم الملازمة.

وفيه ما أفيد من قبل المحققين من ان هذا ليس تفصيلا في وجوب المقدمة ، وانما هو اختيار تعلق الوجوب النفسيّ بالأسباب التوليدية لا المسببات على أساس توهم عدم القدرة عليها وهذا الأساس باطل ، لأن المقدرة المشروط بها التكليف لا يراد بها صدور الفعل عن القوة العضلية للإنسان مباشرة وانما يراد بها دخول الفعل تحت سلطنة المكلف بحيث إن شاء حققه وإن شاء لم يحققه وهذا صادق على السبب والمسبب معا.

« خاتمة »

في مقدمة المستحب والمكروه والحرام.

اما مقدمة المستحب فهي على وزان مقدمة الواجب دون كلام زائد فيها.

واما مقدمة الحرام فباعتبار ان المطلوب في الحرام هو الترك فسوف يكون الموصوف بالحرمة الغيرية مجموع مقدماته لا جميعها ـ كما في الواجب ـ أي ان يراد ترك أحدها.

وحينئذ إذا فرض ان المقدمات كانت كلها عرضية من حيث مركزها من ذيها كانت هناك حرمة واحدة على مجموعها ، أي طلب ترك أحدها تخييرا ويتعين لا محالة في ترك ما يقع في اخر السلسلة ، واما إذا كانت إحداها تقع من حيث المركز وفي التسلسل ، اخر السلسلة دائما فسوف يكون المطلوب تركها تعيينا ولا يكون طلب تخييري لترك

__________________

بلحاظ الفرض فهو مقدمية تكوينية موجودة في المقدمة العقلية أيضا وان كان المقتضي المقدمية للواجب فهو دور وإن كان المقتضي هو تحقق المقدمية للواجب ونشوؤها فان كان هذا منشأ لجعل الوجوب الغيري المتعلق بالمقدمة فهو مستحيل لأن الوجوب الغيري لا يكون الا بفرض تحقق المقدمة ووجودها خارجا والا كان واجبا نفسيا وهو خلف.


أحدها ، لأن ترك المقدمة الواقعة في المرتبة السابقة يستتبع ترك تلك المقدمة لا محالة فلا وجه لطلبه ولو تخييرا فانه من طلب مجموع التركين وامتثال الحرمة غير موقوف عليهما. بل يتوقف على أحدهما ، وحيث ان أحد التركين واقع لا محالة فسوف تكون حرمة مجموع المقدمات مؤدية إلى المنع عن الأخيرة وطلب تركها تعيينا. هذه هي الكبرى.

وبنحو البحث الصغروي لا بد وان يعلم بان المحرمات الاختيارية غير التوليدية تكون من القسم الثاني دائما ، حيث يكون أحد اجزاء مجموع مقدماته هو الإرادة التي تقع في اخر السلسلة فيكون تركها هو المطلوب تعيينا. واما المحرمات التوليدية كما لو حرم إحراق المصحف مثلا وكان الإلقاء في النار سببا له ، فانه في مثل ذلك لو كانت المقدمة مجموع أمور عرضية بمعنى ان كلا منها قد يقع قبل الباقي وقد يقع الباقي قبله.

يكون الواجب ترك أحدها تخييرا ويتعين هذا المطلوب التخييري تعينا عقليا فيما ينحصر فيه واما غير المنحصر فيه فلا يطلب تركه ولا يحرم فعله ، اللهم الا من ناحية حرمة التجري وهي غير الحرمة المبحوث عنها في المقام ، فلو قصد بفعله التوصل إلى الحرام بناء على حرمة التجري على هذا المستوى حرم ذلك وهو بحث اخر.

وبهذا اتضح : ان مقدمات الحرام الاختياري ليست بمحرمة ولو ارتكب جميعها باستثناء الإرادة ، لتعين المطلوب في مثل ذلك في ترك الإرادة. نعم قد يقال بحرمتها نفسيا ـ ولو كان بملاك غيري ـ باعتبار استفادة حرمة تعريض الإنسان نفسه لمظنة ارتكاب الحرام من مثل قوله تعالى ( قوا أنفسكم وأهليكم نارا ) بناء على ان الوقاية انما تعني ترك التعرض والابتعاد عن مقدمات الخطر لا عن الخطر نفسه وهذا أيضا بحث اخر خارج عن محل الكلام.

واما المقدمات المكروه فوزانه وزان مقدمات الحرام بلا مزيد كلام.


بحوث الأمر

مبحث الضد

ـ اقتضاء الأمر للنهي عن الضد الخاصّ

ـ اقتضاء الأمر للنهي عن الضد العام

ـ ثمرة بحث الضد

ـ مبحث الترتب

ـ بعض التطبيقات للترتب



« اقتضاء الأمر بشيء للنهي عن الضد »

وقد قسم صاحب الكفاية ( قده ) هذا البحث إلى ثلاثة فصول ، الأول في الضد الخاصّ والثاني في الضد العام والثالث في ثمرة البحث.

والضد الخاصّ للواجب هو ذلك الأمر الوجوديّ الّذي لا يجتمع معه ويكون التقابل بينهما تقابل التضاد ، بينما الضد العام هو ما يكون التقابل بينه وبين الواجب بالسلب والإيجاب أي النقيض.



الفصل الأول

« الضد الخاصّ »

في البحث عن اقتضاء الأمر للنهي عن الضد الخاصّ ، ولا ينبغي الإشكال في أن الأمر بشيء يقتضي سقوط الإيجاب المطلق لضده الخاصّ والا كان من طلب الضدين مطلقا وهو غير معقول. نعم هناك بحث في انه هل يمكن طلب ضده مقيدا بعدم الاشتغال بالواجب بنحو الترتب أم لا يمكن ذلك أيضا؟ وسوف يأتي توضيحه في محله.

وانما الكلام في انه إضافة إلى ذلك هل يقتضي حرمته أم لا؟ ولا بد وان نفترض في هذا البحث الفراغ عن اقتضاء الأمر بشيء لحرمة ضده العام لأن جملة من الاستدلالات والبراهين لإثبات الحرمة موقوفة على التسليم بذلك كما سوف يتضح.

وهنا لك مسلكان لإثبات حرمة الضد الخاصّ.

الأول : مسلك التلازم وهو موقوف على ثلاث دعاوى.

الأولى : ان كل ضد ملازم مع عدم ضده الاخر.

الثانية ـ ان المتلازمين وجودا متلازمان في الحكم أيضا.

الثالثة ـ ان الأمر بشيء يقتضي النهي عن نقيضه ـ ضده العام ـ.

فلو تمت هذه الدعاوي جميعا ثبت لا محالة حرمة الضد. فالصلاة مثلا المضادة مع


الإزالة الواجبة ، ملازمة مع عدمها بحكم المقدمة الأولى فيكون هذا العدم واجبا بحكم الثانية فيحرم النقيض وهو نفس الصلاة بحكم الثالثة.

والدعوى الأولى بديهية بحسب فرض التضاد فان امتناع اجتماعهما يجعل كل ضد ملازما مع عدم ضده وهذا تام حتى فيما إذا لم ينحصر الضد في الواجب بل كان هنالك ضد ثالث إذ الواجب ملازم لا محالة مع عدم كل تلك الأضداد ـ وان لم يكن عدم الضد ملازما مع الواجب لو كان هنا لك ضد ثالث ـ والدعوى الثالثة سوف يقع الحديث عن مدركها في البحث القادم ، وانما المهم هو الدعوى الثانية أي التلازم بين المتلازمين وجودا في الحكم أيضا فان هذه الدعوى لا وجدان عليها ولا برهان. نعم لو تم ما تقدم في مقدمة الواجب من انه لو لم تجب المقدمة لجاز تركها وحينئذ إن كان على تركها عقاب كان خلف الجواز والا انقلب الواجب المطلق مشروطا لاتجه ذلك في المقام أيضا حيث يقال : لو لم يجب ملازم الواجب لجاز تركه وحينئذ لو كان في تركه العقاب كان خلف الجواز والا انقلب الواجب المطلق الملازم مشروطا بفعل ملازمه المساوق مع حصول نفسه وهو محال ، لكنك عرفت عدم صحة مثل ذلك الدليل.

فهذا المسلك لإثبات حرمة الضد الخاصّ غير تام.

الثاني ـ مسلك المقدمية وهو أيضا موقوف على التسليم بدعاوي ثلاث.

الأولى ـ توقف كل ضد على عدم الضد الاخر.

الثانية ـ وجوب مقدمة الواجب.

الثالثة ـ حرمة الضد العام للواجب.

وبناء على تماميتها يتم حرمة الصلاة الضد الخاصّ للإزالة الواجبة إذ وجوبها يستلزم وجوب عدم الصلاة الدعويين الأوليتين ووجوبه يستلزم حرمتها بحكم الثالثة.

والدعوى الثانية قد تقدم البحث عنها فيما سبق ، كما ان الدعوى الثالثة يأتي تحقيقها فيما يأتي ، وانما الّذي ينبغي الحديث عنه هنا تحقيق حال الدعوى الأولى أعني مقدمية عدم الضد للضد الاخر.

والحديث عنها تارة : في تقريبات إثبات هذه المقدمية ، وأخرى : في البراهين التي


أقاموها لإبطال المقدمية ، فهنا مقامان. اما المقام الأول فيمكن ان يستدل على المقدمية بوجوه :

الأول ـ دعوى التوقف لكل ضد على عدم ضده باعتبار التمانع والتنافي بينهما في الوجود.

وهذه الدعوى بهذه الصيغة الساذجة يكفي في ردها ما في الكفاية من انه لو كان مجرد التنافي في الصدق مستلزما للتوقف لكان الأمر في النقيضين كذلك أيضا وللزم توقف كل نقيض على رفع النقيض الاخر وهو مستحيل لأن رفع النقيض الاخر هو عين الأول فيكون من توقف الشيء على نفسه.

اللهم الا ان يدعي صاحب هذا الوجه في مقام التخلص عن هذا النقض بان التمانع والتنافي الّذي يحفظ فيه التغاير بين رفع أحد المتنافيين مع المنافي الاخر هو الّذي يستوجب التوقف والمقدمية غير ان هذا سوف يكون مجرد دعوى ومصادرة.

الثاني ـ ان كل ضد لو لم يكن متوقفا على عدم ضده الاخر لزم إمكان تحقق علته التامة مع فرض وجود ذلك الضد وهذا يلزم منه المحال إذ لو فرض وجود العلة التامة للضد فان فرض تأثيره في إيجاد معلوله وهو الضد لزم اجتماع الضدين والا لزم تفكيك العلة التامة عن المعلول وكلاهما مستحيل فلا بد وان يتوقف وجود كل ضد على عدم الضد الاخر.

وفيه : ان غاية ما يثبت بهذا التقريب ان العلة التامة للضد لا تجتمع مع الضد الاخر لا توقف الضد على عدم الضد الآخر فلعله متوقف على عدم علة الضد الاخر.

الثالث ـ دعوى مقدمية عدم أحد الضدين لوجود الضد الاخر بالطبع لا في رتبة الوجود أو زمانه ، فان التقدم قد يكون بالزمان كتقدم الموجود في الزمان الأول على الموجود في الزمان الثاني ، وقد يكون بالوجود كتقدم العلة التامة على معلولها ، وقد يكون بالطبع ، وقد فسر المتقدم بالطبع في الحكمة بأنه عبارة عن الّذي يكون موجودا كلما فرض وجود المتأخر بالطبع دون العكس وقالوا ان هذا يكون بين الماهية واجزائها فالحيوانية ؛ متقدمة بالطبع على الإنسان إذ كلما فرض الإنسان كان الحيوان موجودا ، ويكون أيضا بين المقتضي ومقتضاه دون العكس إذ كلما فرض وجود المقتضى كان


المقتضى موجودا أيضا دون العكس ، وموجودا أيضا بين الشرط والمشروط إذ كلما وجد المشروط كان الشرط أيضا دون العكس وفي المقام كلما وجد الضد كان عدم الضد الاخر ثابتا لا محالة دون العكس إذ قد يوجد عدم الضد من دون وجود الضد الأول.

وفيه : ان المقدمية الطبعية لا تكون ملاكا للوجوب الغيري وانما الملاك له على ما أشرنا إليه في بحث مقدمة الواجب انما هو التوقف في الوجود ، والتقدم بالطبع لا يلزم ان يكون كذلك فان ملازمات المتقدم بالوجود تكون متقدمة على ذي المقدمة بالطبع ولكنها ليست مقدمات له كما هو واضح. وبهذا يعرف عدم صحة حصر المقدم بالطبع في الثلاثة التي ذكروها بل يجري في ملازمات اجزاء العلة أو اجزاء الماهية مع المعلول أيضا. وهكذا يتضح عدم تمامية شيء من تقريبات هذا المسلك.

ثم انه ربما يطبق هذان المسلكان في المقام بنحو آخر غير ما تقدم أي من طرف فعل الضد الخاصّ وملازمته مع عدم الواجب لا من طرف الواجب وملازمته مع عدم الضد الخاصّ.

وتوضيح ذلك اما بناء على مسلك الملازمة فبان يقال : ان الأمر بالإزالة يقتضي حرمة ضدها العام وهو تركها الملازم مع الصلاة ـ الضد الخاصّ ـ فبناء على القول بالسراية يحرم الضد الخاصّ لا محالة.

ونوقش في هذا التطبيق بأنه لا يتم في الضدين اللذين لهما ثالث إذ لا يكون عدم الإزالة حينئذ ملازما مع الصلاة كي تسري حرمته إليها.

وهذا النقاش يمكن الإجابة عليه بأحد وجوه :

الأول ـ ان عدم الإزالة له حصتان إحداهما ملازمة مع الصلاة والأخرى ملازمة مع الضد الثالث فإذا حرم عدم الإزالة سرت الحرمة إلى كلتا الحصتين باعتبار انحلالية الحرمة فتحرم الحصة الملازمة مع الصلاة فتحرم الصلاة.

وفيه : ان الإطلاق انما هو رفض القيود لا الجمع بينهما ومعه لا يكون انطباق الجامع على الحصة المقرونة بالصلاة موجبا لكون تلك الحصة بما هي تلك الحصة محرمة كي تسري إلى الصلاة بالملازمة فتبقى الحرمة على الجامع بين الحصتين. بل دعوى سريان الحرمة وانحلالها على الحصص غير معقولة في المقام لأنه لو أريد انحلالها على عدم


الإزالة المقيد بالصلاة فهو غير معقول لما قلناه من ان الإطلاق ليس جمعا للقيود وان أريد انحلالها على ذلك بغض النّظر عن تلك القيود فلا يعقل التحصيص حتى ينحل الحكم على الحصص.

الثاني ـ ان عدم الإزالة وان لم يكن ملازما مع الصلاة إذا كان في البين ضد ثالث ولكن الصلاة ملازمة مع عدم الإزالة لاستحالة اجتماع الضدين وحينئذ لو فرض عدم حكم للصلاة أصلا كان خلف قانون عدم خلو الواقعة عن حكم ، ولو فرض انها ذات حكم غير الحرمة لسرى بقانون الملازمة إلى عدم الإزالة المحرم بحسب الفرض فيكون من اجتماع الحكمين المتضادين فيتعين ان تكون محكومة بالحرمة وهو المطلوب.

وهذا الجواب موقوف على افتراض عدم خلو الواقعة عن حكم ولو فرض عدم لزوم تحير المكلف في وظيفته كما في المقام ، حيث ان المفروض وجوب الإزالة الّذي لا يتحقق خارجا إلا مع ترك الصلاة ، فسواء كان للصلاة حكم بالحرمة أم لا لا يؤثر ذلك في حال المكلف ووظيفته ، أو كان المدعى ان مصب الملازمة بين حكم شيء وحكم لازمه انما هو عالم الحب والبغض لا الجعل والإنشاء وفي مرحلة الحب والبغض يستحيل ان لا يكون للصلاة أحد المبادي الخمسة للأحكام فيسري إلى عدم الإزالة ، نعم إذا كان دليل سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى ملازمه من سنخ ما تقدم في بحث المقدمة من انه إذا لم تجب لجاز تركها ولو جاز تركها لزم التكليف بغير المقدور أو خروج الواجب المطلق إلى الواجب المشروط أمكن ان يستظهر ان المحذور انما يلزم من الجواز الّذي هو أحد الأحكام الخمسة لا مجرد كون الشيء بحسب المبادي غير واجب.

الثالث ـ ان عدم الإزالة ملازم للجامع بين الصلاة والضد الثالث ، سواء كان هذا الجامع انتزاعيا أو حقيقيا فانه على كل تقدير عنوان ملازم قابل لتعلق الحكم به فتسري الحرمة منه إلى ذلك الجامع وبالانحلال تكون الصلاة محرمة.

واما بناء على مسلك المقدمية فيقال : ان الأمر بالإزالة يستوجب حرمة عدمها ـ الضد العام ـ وفعل الصلاة ـ الضد الخاصّ علة له باعتبار ان عدم الضد إذا كان


مقدمة كان وجوده يعني انتفاء أحد اجزاء العلة وهو علة تامة لانتفاء المعلول فيحرم لا محالة.

ثم انه ربما يسلك طريق آخر لإثبات حرمة الضد لا يحتاج فيه إلى كبرى النهي عن الضد العام للواجب وذلك بان يقال ابتداء : ان الفعلين المتضادين في الوجود الخارجي يلزم ان يكون هناك تضاد بين حكميهما بنحو مناسب لسنخ التضاد الموجود بينهما ، فإذا كان وجود أحدهما موجبا لامتناع الاخر ينبغي ان يكون إيجاب أحدهما مستلزما للمنع عن الاخر أيضا الا ان هذه الدعوى لم يدعها أحد بخلاف المسلكين المتقدمين كما انه لا برهان ولا وجدان يقتضيها.

المقام الثاني ـ في البراهين التي أقيمت أو يمكن ان تقام لإبطال توقف أحد الضدين على عدم الاخر وهي عديدة :

البرهان الأول ـ ويتألف من مقدمتين :

الأولى ـ ان مقتضي الضد إذا كان مساويا أو أرجح من مقتضي الضد الاخر فهو مانع عنه وذلك ببرهان : انه لو اجتمع المقتضيان معا ـ وهو امر ممكن إذ لا تضاد بينهما بحسب الوجدان كما سوف يتضح أكثر بما يأتي في البراهين القادمة وكانا بدرجة واحدة من حيث الفاعلية والتأثير فأما ان يفترض تأثيرهما معا أو يفترض تأثير أحدهما دون الآخر أو يفترض عدم تأثيرهما وعدم وجود شيء من الضدين. لا مجال للأول لأنه يستلزم اجتماع الضدين ، ولا للثاني لأنه ترجيح أحد المتساويين على الاخر دون مرجح وهو محال ، فيتعين الثالث وهو يعني مانعية المقتضي المساوي لأحد الضدين عن الضد الاخر. إذا لا يوجد غيره ما يمكن ان يكون مانعا في هذا الفرض والمانع لا بد وان يكون موجودا لكي يمكن ان يستند المنع إليه.

وإذا صح هذا في المقتضي المساوي في درجة الفاعلية مع مقتضي الضد الاخر فهو صادق أيضا فيما لو كان أرجح منه وأشد فاعلية.

الثانية ـ ان نفس الضد لا يكون مانعا ولو في عرض مانعية مقتضية وذلك باعتبار ان منعه عن الضد الاخر إن كان قبل وجوده فهو مستحيل إذ المانعية فرع وجود المانع ، وإن كان بعد وجوده ، فوجوده موقوف على تمامية مقتضية الّذي يعني


وجود ذات مقتضية وان يكون راجحا على مقتضى الضد الاخر لو كان كي يكون مانعا عن تأثيره بحكم المقدمة السابقة ، وهكذا يعرف ان وجود الضد موقوف على تحقق المانع عن الاخر فيستحيل ان يكون مانعا عنه بمعنى ان يكون في طول ذات مقتضية وفي طول مانعية مقتضية بل راجحيته أيضا إذ لو لا مانعيته عن تأثير المقتضى للضد الاخر لوجد الضد الاخر فامتنع وجود الأول اما لوجود مانعه أو لوجود الضد ولو لا راجحيته بل مساواته لما وجد شيء من الضدين على ما تقدم في المقدمة الأولى فإذا كان وجود أحد الضدين في طول امتناع الآخر واستحال ان يكون مانعا عنه أو ان يكون مؤثرا في إعدامه فان العلة انما تتعقل في حق ما يكون ممكنا في مترتبة وجودها لا ما يكون واجبا أو ممتنعا في تلك المرتبة. وهكذا يتم هذا البرهان والّذي يتخلص في أن معقولية اجتماع مقتضي الضدين مع عدم تحقق شيء منها دليل على مانعية كل من المقتضيين المتساويين عن وجود الضد الآخر ومعه يمتنع ان يكون الضد مانعا عن ضده لأن وجود الأول فرع ممنوعية الثاني في الرتبة السابقة (١).

البرهان الثاني ـ ما نسبه في التقرير إلى السيد الأستاذ كتفسير لعبارة الكفاية وهو وإن خالف مع الوجه الّذي جعله المحقق الأصفهاني ( قده ) تفسيرا لعبارة الكفاية الا انا نذكر كل منهما كبرهان على الاستحالة قاطعين النّظر عن كيفية تفسير عبارة صاحب الكفاية ( قده ) وحاصل هذا الوجه : ان الضد لو كان متوقفا على عدم الضد الاخر لكان متأخرا عن ذلك رتبة والتالي باطل لوجود البرهان على ان عدم الضد في رتبة الضد وليس في رتبة متقدمة عليه فيثبت بطلان المقدم وعدم التوقف (٢).

والبرهان انه اما ان يفرض ان الضد الاخر ثبوته في رتبة الضد الأول أولا فان كان في رتبته لزم ثبوت الضدين واجتماعها في رتبة واحدة وهو مستحيل كاجتماعها

__________________

(١) الظاهر ان هذا البرهان موقوف على إمكان افتراض وجود المقتضيين المتساويين للضدين خارجا وهذا لا دليل عليه بل على عدم إمكانه دليل ، لأن ارتفاع الضدين أيضا محال فلا بد من وجود أحدهما وهذا يعني لا بدية أقوائية مقتضي أحد الضدين ورجحانه على الآخر هذا في الضدين اللذين لا ثالث لهما واما إذا كان لهما ثالث فيمكن ارتفاعهما ووجود الثالث الا ان الخصم يدعي هنا ان الثالث هو المانع عن الأول والثاني.

(٢) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٣ ، ص ٢٠ ـ ٢٢.


في زمان واحد ، وان فرض عدم ثبوته في رتبة ثبوت الضد الاخر كان عدمه ثابتا فيها لا محالة لاستحالة ارتفاع النقيضين فكان كل ضد متحدا رتبة مع عدم ضده الاخر فيستحيل توقفه عليه.

ثم أشكل على هذا الوجه بان التنافي بين الأضداد انما هو بلحاظ عالم الوجود الخارجي واجتماعها في زمان واحد لا بلحاظ عالم الرتب ، ولذلك نجد استحالة اجتماع الضدين خارجا في زمان واحد ولو فرض تغايرهما رتبة كما لو فرض أحدهما في طول الاخر وعلة له.

والواقع ان هذا الجواب وقع فيه الخلط بين مسألتين ومعنيين للقول باستحالة اجتماع الضدين في رتبة واحدة كاستحالة اجتماعهما في زمان واحد ، فانه تارة : يراد بذلك انه يشترط في استحالة اجتماع الضدين وحدة الرتبة كما يشترط وحدة الزمان والمكان مثلا ، وهذه الدعوى بحسب الحقيقة تضييق في دائرة الاستحالة حيث ترجع إلى دعوى ان استحالة اجتماع الضدين في زمان واحد مشروط بوحدة رتبتهما واما لو كان أحدهما في طول الاخر جاز الاجتماع ، وأخرى : يراد بذلك ان ثبوت الضدين في رتبة واحدة كثبوتهما في زمان واحد مستحيل وهذه الدعوى على عكس سابقتها توسعة لدائرة الاستحالة بين الضدين وإسرائها لعالم الرتبة أيضا الّذي هو عالم التحليل العقلي ، فكما يقال مثلا انه يستحيل ثبوت العلة والمعلول في رتبة واحدة كذلك يستحيل ثبوت الضدين ، وهذه الدعوى هي المقصودة في البرهان فلا يمكن ردها باستحالة اجتماع الضدين في زمان واحد ولو كان طوليين إذ هو يسلم بذلك ويدعي الزيادة عليه في الاستحالة ، كما لا يصح دعوى ان التنافي بين الأضداد انما هو بلحاظ عالم الوجود الخارجي والزمان دون الرتب فان العلة والمعلول لا يجتمعان في رتبة واحدة بمعنى انه يستحيل ثبوتهما معا في رتبة بلحاظ عالم التحليل العقلي فالتضاد في عالم الرتب أيضا معقول كعالم الوجود الخارجي.

والحري حينئذ ان نبين المغالطة التي احتواها الوجه المذكور فنقول : المراد باجتماع الضد مع ضده في رتبة واحدة يمكن ان يكون أحد معنيين.

الأول ـ كونهما توأمين ومعلولين لعلة واحدة.

الثاني ـ عدم كون أحدهما في طول الاخر بمعنى انه لا علية بينهما سواء كانا


معلولين لعلة ثالثة أو لعلتين.

فإذا أريد المعنى الأول فالجواب : وإن كان هو استحالة اتحاد الضدين في رتبة واحدة إذ يحكم العقل باستحالة كونهما معا في رتبة المعلولين لعلة ثالثة بحسب عالم التحليل العقلي غير ان هذا لا يقتضي ان يكون عدم أحدهما في رتبة الاخر بهذا المعنى ، ولا يستلزم منه ارتفاع النقيضين فان هذا رفع للمقيد وهو لا يستلزم الرفع المقيد. وبعبارة أخرى : نفي معلولية الضدين لعلة ثالثة لا يستلزم أن يكون كل منهما مع عدم الاخر معلولا لتلك العلة فان نفي عليه شيء لشيء لا يعني عليته لنقيضه كما هو واضح.

وإن أريد المعنى الثاني فالجواب : وحدة رتبة الضدين بمعنى انه لا طولية بينهما ، وليس هذا من اجتماع الضدين لا في الزمان ولا في الرتبة الواحدة بالمعنى المتقدم المستحيل بحكم العقل.

البرهان الثالث ـ وهو برهان صحيح أيضا كالبرهان الأول وحاصله : ان افتراض توقف الضد على عدم ضده الاخر يعني دخل عدم الضد في تحقق الضد ، وحينئذ نسأل بان هذا الدخل هل يراد به دخل العدم في الوجود بحيث يكون عدم الضد كجزء المقتضي أو يراد به دخل الوجود في الوجود بنحو التمانع بان يكون عدم الضد من باب عدم المانع؟ لا مجال للأول باعتبار استحالة تأثير العدم في الوجود بمعنى اقتضائه له كيف والا جاز وجود الممكن بلا علة.

وعلى الثاني نسأل بان تأثير الضد في وجود الضد الاخر بنحو الممانعة والمغالبة هل يكون قبل وجوده أو بعده؟ لا مجال للأول لاستحالة مانعية المعدوم. والثاني أعني مانعيته بعد وجوده يتوقف على أن يكون الضد الاخر معدوما باعتبار تسليم الخصم بتوقف الضد على عدم الاخر من كلا الطرفين وهذا يعنى ان الضد الأول ـ المانع ـ موقوف وجوده على عدم الضد الاخر ـ الممنوع ـ ومعه يستحيل ان يكون مانعا عنه فان ما يتوقف وجوده على عدم شيء اخر يستحيل ان يكون مانعا عن وجوده ، وهذا اما يدعى بداهته في نفسه أو يبرهن عليه : بان المانع انما يمنع عما يكون ممكنا لا ما يكون ممتنعا ولو بالغير ، وفي رتبة وجود المانع في المقام يكون الاخر ممتنعا بالغير في رتبة سابقة لأن التوقف من الطرفين فلا بد من عدم الضد المعدوم ولو بعدم علته حتى يتحقق الضد


الموجود ومعه كيف يعقل ان يكون مانعا عنه أو يبرهن عليه : بأنه يستلزم التهافت في الرتبة لأن المانع متقدم رتبة على عدم الممنوع فلو كان متوقفا على عدم الممنوع كان متأخرا عنه وهو تهافت. وهذا غير إشكال الدور الّذي سوف تأتي الإشارة إليه فانه موقوف على الالتزام بلازم مدعى الخصم من توقف الضد على عدم الاخر وهو توقف عدم الاخر على وجود الضد الأول ، بينما هذا البرهان ينطلق من المدلول المطابقي لمدعى الخصم نفسه وهو توقف وجود الضد على عدم الضد الاخر من كلا الطرفين.

البرهان الرابع ـ وهو موقوف على امرين.

الأول ـ إثبات مانعية مقتضي أحد الضدين عن الضد الاخر ، وهذا نفس الأمر الأول في البرهان الأول غير انه نثبته هنا بطريق اخر غير ما أثبتناه به في ذلك البرهان فان ذاك البرهان كان ينطلق من فرض تساوي المقتضيين وكان ينتج ان المقتضي المساوي أو الأرجح يكون مانعا ، اما هنا فنقول : ان مقتضى أحد الضدين كالسواد مثلا اما ان يفترض اقتضائه للسواد مطلقا أي سواء كان الجسم أبيض أم لا ، أو يفترض ان أصل اقتضائه للسواد موقوف على عدم البياض ، أو يفترض انه يقتضي السواد الّذي لا بياض معه ، أي كما يقتضي السواد يقتضي بنفس ذلك الاقتضاء إعدام البياض الّذي هو معنى المانعية ، والفرض الأول من هذه الفروض الثلاثة مستحيل لأن سواد الأبيض محال ذاتا فيكون اقتضاء مقتض له اقتضاء للمحال واقتضاء المحال محال في نفسه.

لا يقال : المحال انما هو فعلية المقتضى ـ بالفتح ـ مع البياض والمفروض عدمه ولو باعتبار مانعية الضد بحسب مدعى الخصم. وبعبارة أخرى المقتضي في نفسه يقتضي ذات السواد ويكون عدم البياض شرطا في فعلية المقتضى.

فانه يقال : افتراض ان مقتضي السواد يقتضي في نفسه ذات السواد ولو في الأبيض عبارة أخرى عن انه مقتض للمحال وهو محال في نفسه لا ان فعلية مقتضاه محال ، والوجه في استحالته ان العلة باجزائها انما تتعلق في حق ما يكون ممكنا ذاتا لا واجبا في وجوده أو عدمه ، نعم هذا مخصوص بالمحال الذاتي لا المحال بالغير فان وجود المقتضي له معقول بل واقع كما لو افترض المقتضي مع المانع وفي المقام ندعي ان


استحالة اجتماع الضدين ذاتي وليس من جهة استلزامه وجود المعلول بلا تمامية علته ، فيؤخذ كمصادرة بديهية في هذا البرهان وهناك شاهدان يرشدان إلى ذلك.

أحدهما : أوضحية هذه الاستحالة من تلك الاستحالة بحيث حتى القائل بإمكان وجود المعلول بلا علة يقبل استحالة اجتماع الضدين.

الثاني ـ ان العقل يدرك استحالة اجتماع الضدين مع قطع النّظر عن كونهما ممكنين أو واجبين مما يدل على انه امتناع ذاتي لا من أجل عدم العلة والا لاختص بالممكن كما هو واضح.

وأما الفرض الثاني ، أعني توقف اقتضاء مقتضي أحد الضدين في نفسه على عدم الضد الاخر فيبطل بطريقين :

الأول ـ انه خلاف الوجدان فان فرض التضاد لا يقتضي ذلك وإن كان قد يتقيد مقتضي أحد الضدين بعدم الاخر ، كما إذا فرض عدم احتواء مكان لأكثر من شخص فعلق أحد الصديقين دخوله في ذلك المكان على عدم رغبة الاخر في الدخول إليه.

لا يقال ـ هذا في قوة ان يقال للخصم بان توقف أحد الضدين على عدم الاخر خلاف الوجدان.

فانه يقال : ان دعوى وجدانية عدم توقف أحد الضدين على عدم الاخر وان كان صحيحا الا ان هناك ما يوهم وجدانية خلافه لدى الخصم وهو المنافاة بين الضدين وعدم وجود أحدهما الا والاخر معدوم ، وهذا ليس هو الوجدان المدعى في المقام كي يقال انه محل النزاع. وانما المدعى وجدانية عدم توقف مقتضي أحد الضدين في نفسه على عدم الضد الاخر وهو مما يعترف به الخصم أيضا لوضوح إمكان اجتماع المقتضى لأحد الضدين مع وجود الضد الاخر.

الثاني ـ انه لو فرض أقوائية مقتضي السواد من مقتضي البياض فلو فرض توقف اقتضائه على عدم الضد الاخر كان معناه عدم تأثيره في إيجاد المقتضى ـ بالفتح ـ مهما كان المقتضي له قويا ما دام مشروطا بعدم تأثير المقتضي الضعيف ، مع وضوح تأثيره في فرض قوته وان كان المقتضي الضعيف موجودا.


وهذا إن صح في المقتضي القوي صح في الضعيف أيضا لبداهة عدم الفرق بين فرض قوة المقتضي وضعفه في سنخ الاقتضاء وانما يختلفان في درجته.

وهكذا يتبرهن تعين الفرض الثالث وهو اقتضاء مقتضي أحد الضدين لإعدام الضد الاخر. بنحو المغالبة والممانعة وهو معنى توقف أحد الضدين على عدم المقتضي المساوي أو الأرجح للآخر (١).

وهذا الأمر تعويض عن الأمر الأول في البرهان الأول حيث يثبت نفس النتيجة المستدل عليها فيه وهو مانعية مقتضي أحد الضدين عن الضد الآخر فيضم إليه الأمر الثاني في ذلك البرهان لإثبات عدم مانعية نفس الضد.

البرهان الخامس ـ وفي هذا البرهان أيضا نفترض ما افترضناه ـ في البرهان السابق كمصادرة بديهية من ان اجتماع الضدين من الممتنع بالذات وليس من جهة استلزمه وجود المعلول بلا علته.

وحينئذ يقال : انه لو فرض تأثير أحد الضدين وهو السواد مثلا في المنع عن الضد الاخر وهو البياض فأن فرض تأثيره في المنع عن البياض الّذي يوجد في فرض عدم السواد كان مستحيلا لأن مانعية المانع انما يعقل في فرض وجوده لا في فرض عدمه ، وان فرض مانعيته عن البياض في فرض وجود السواد فهو ممتنع بالذات بحسب الفرض والممتنع بالذات يستحيل في حقه المانع فان العلة باجزائها انما يتعقل في الممكن لا الممتنع ولذلك قيل بان مقتضى المحال ذاتا محال.

وهذا البرهان موقوف على ان يكون مدعى الخصم تأثير عدم الضد في وجود الضد

__________________

(١) لا يقال : ان مقتضي كل من الضدين انما يمنع عن الضد الآخر في طول إيجاده للضد الأول أي انه يوجد الضد فيمتنع الاخر فالمانعية لعلها طولية لا عرضية وهذا لا ينافي توقف أحد الضدين على عدم الاخر.

فانه يقال : إذا كانت المانعية طولية لاستحال ان يتغلب المقتضي الأقوى للضد على المقتضى الأضعف للآخر إذا كان موجودا في الرتبة السابقة عليه فغلبة الأقوى حتى في مرحلة البقاء دليل على ان المقتضي الأرجح بنفس اقتضائه ينفي وجود الضد الاخر ويمنعه.

لا يقال : للخصم ان يقول كما يوجد تضاد بين كل من الضدين والضد الاخر كذلك هناك تضاد بين كل منهما مع مقتضي الضد الاخر الفعلي أي مع المقتضي بما هو مقتضي لا بذاته فلا دليل على المانعية وانما مجرد تناف وتضاد في الوجود.

فانه يقال : لا بد من فرض مانعيته في المقام ببرهان تقدم مقتضي الضد الأقوى بقاء على الضد الأضعف الموجود حدوثا فان هذه الغلبة في الوجود تكشف عن المانعية لا محالة والا لبقي الضد الأول مهما كان مقتضية ضعيفا.


الاخر من باب عدم المانع لا جزء المقتضي.

البرهان السادس : ما أفاده الميرزا ( قده ) وهو يتوقف على مقدمتين (١) :

الأولى ـ ان المانع لا يعقل ان يكون مانعا الا في طول تمامية المقتضي والشرط للممنوع لأن دور المانع انما هو المزاحمة والممانعة عن تأثير المقتضي فلا بد من ثبوته وثبوت شرطه أيضا الّذي هو بحسب الحقيقة تحصيص للمقتضي بالحصة الصالحة للتأثير.

الثانية ـ ان مقتضي المحال محال اما بداهة أو ببرهان ان المقتضي من اجزاء العلة وهو انما يتعقل في الممكن الّذي يتساوى فيه الوجود والعدم لا المحال الّذي هو واجب العدم كما هو واضح.

فإذا تمت المقدمتان فيقال : ان وجود أحد الضدين لو توقف على عدم الضد الاخر كان الاخر مانعا عنه وحينئذ إن فرض مانعيته قبل وجوده كان محالا للزوم وجود المانع في المانعية وإن فرض مانعيته حين وجوده فلو فرض عدم مقتضي الضد الاخر كان الاخر مانعا عنه وحينئذ إن فرض مانعيته قبل وجوده كان محالا لوضوح لزوم المقتضي ، ولو فرض وجود مقتضي الضد الممنوع لزم المحال لأن المفروض ثبوت مقتضي الضد المانع أيضا فيكونان مقتضيين لاجتماع الضدين ومقتضي المحال محال.

وقد أشكل عليه السيد الأستاذ بان مقتضي المحال وإن كان محالا الا ان المقام ليس منه لأن مقتضى الضد الممنوع لا يقتضي الا وجود ذات الضد وهو ليس بمحال وانما المحال اجتماع الضدين ولا يوجد مقتض له ، ففرق بين ان يكون شيء ما مقتضيا للمحال وبين أن يقتضي شيء شيئا ويقتضي شيء آخر شيئا آخر ويكون اجتماعهما محالا.

وهذا الإشكال يمكن دفعه على ضوء ما تقدم في البرهان الرابع المتقدم حيث قلنا بان مقتضى أحد الضدين اما ان يفرض ان يقتضي ذات ذلك الضد مطلقا ولو في ظرف تحقق الاخر أو يكون اقتضائه مشروطا بعدمه أو يكون مقتضيا للضد الّذي

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٣ ، ص ١٠.


لا يوجد الضد الاخر معه أي بقدر ما يثبت من الضد ينفي الضد الاخر ويمنع عنه.

والاحتمال الثالث لو قيل به ـ كما أثبتناه في ذلك البرهان ـ لا يلزم منه اقتضاء المحال إذ لا يعني اقتضاء أحد المقتضيين للضد في فرض ثبوت الضد الاخر كي يكون محالا ، الا ان هذا الاحتمال بحسب الحقيقة قد جعله الميرزا ( قده ) برهانا مستقلا كما نحن جعلناه كذلك مع الفرق من حيث كيفية البرهنة على تعيين هذا الاحتمال ومن حيث ضم الأمر الثاني الّذي يثبت استحالة مانعية الضد بعد مانعية المقتضي فإذا تنزلنا عن ذلك وافترضنا ان المدعى مانعية نفس الضد عن وجود الضد الآخر فحينئذ يقال : ان هذا يستلزم فعلية مقتضى الضد الممنوع والا لم يكن الضد الموجود مانعا وعندئذ لو فرض ان مقتضي الممنوع اقتضاؤه مطلق وغير مشروط بعدم اقتضاء مقتضي الضد الموجود لزم اقتضاء المحال فان هذا هو الاحتمال الأول من الاحتمالات الثلاثة والّذي قلنا انه محال لأن بياض الأسود مثلا محال فاقتضاؤه يكون اقتضاء للمحال.

فلا بد وأن يكون اقتضاء الضد الممنوع مشروطا بعدم اقتضاء الضد الموجود وهو معنى مانعية المقتضي لا نفس الضد ـ والصحيح في الجواب مضافا ، إلى انه لا يجدي في دفع احتمال التوقف على أساس كون عدم الضد دخيلا في المقتضي لا من باب عدم المانع ، ان المقتضي المحال تارة يكون محالا بالذات ، وأخرى : يكون محالا بالغير ومن باب عدم علته ، فلو فرض ان بياض الأسود محال بالذات فوجود مقتض له وإن كان محالا الا ان برهان استحالته بنفسه يقتضي استحالة المانع عنه إذ كما يكون المقتضي أحد اجزاء العلة والمرجح فلا يعقل في غير الممكن كذلك عدم المانع انما يتعقل في الممكن الّذي يترجح وجوده على عدمه واما الممتنع بالذات فلا يعقل المانع عنه فلا نحتاج إلى المقدمات الأخرى في هذا البرهان وبذلك يكون هذا هو البرهان الخامس الّذي تقدمت صياغته الفنية.

وان فرض ان بياض الأسود محال بالغير أي من باب عدم تمامية علته فمقتضاه ليس بمحال لوضوح إمكان وجود المقتضي لما هو محال بالغير كما لو اجتمع المقتضي مع المانع.

البرهان السابع ـ دعوى ان توقف أحد الضدين على عدم الاخر مستلزم للدور


وهذا يمكن تقريبه بعدة بيانات :

البيان الأول ـ الاستناد في تقريب الدور إلى المدلول المطابق لمدعى الخصم وهو توقف وجود الضد على عدم ضده الاخر ، حيث يقال : ان هذا يستلزم ان يكون وجود البياض موقوفا على عدم السواد لكون السواد مانعا عن البياض والمفروض ان السواد أيضا موقوف على عدم البياض ومعه تكون مانعية السواد عن البياض مستحيلة لأن وجوده في طول عدم البياض فكيف يعقل ان يفرض إعدامه له ، وهذا هو البرهان الثالث المتقدم منا مع تكميله بدفع احتمال دخل عدم الضد في وجود الضد الاخر لا على أساس المانعية.

البيان الثاني ـ وهو يستند إلى المدلول الالتزامي لمدعى الخصم ويفترض فيه ان التوقف باعتبار دخل عدم الضد في وجود الاخر حيث يقال : انه إذا كان عدم السواد دخيلا في قابلية المحل للبياض مثلا كان لازمه ان البياض دخيل في قابلية المحل لعدم السواد فيكون كل من عدم السواد والبياض موقوفا على الاخر في القابلية.

وهذا البيان غير تام لأن اللازم الّذي استخرج من مدعى الخصم غير تام إذ قد يتوقف قابلية المحل للبياض مثلا على عدم شيء اخر ولكن عدمه لا يشترط في قابلية المحل له وجود شيء اخر بل يكفي فيه عدم قابلية المحل لوجوده فان عدم عروض العارض يكفي فيه عدم قابلية المحل له ولا يشترط وجود ما يجعل المحل قابلا لعدمه.

البيان الثالث ـ ان أحد الضدين لو كان موقوفا على عدم الاخر كان وجوده لا محالة علة لعدم الاخر أيضا بقانون ان نقيض العلة علة لنقيض المعلول.

فيلزم توقف وجود البياض على عدم السواد وعدم السواد على البياض وهو من توقف الشيء على نفسه فيكون محالا.

وقد نوقش في هذا الاستدلال بمناقشتين :

الأولى ـ ما نقله المحقق النائيني ( قده ) عن المحقق الخوانساري ( قده ) (١) من ان مانعية الضد وعلية وجوده لعدم الاخر مستحيلة بمعنى ان وجود الضد الموجود مستند إلى عدم

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٢٥٤ ـ ٢٥٥.


الاخر الا ان عدم الاخر ليس من جهة مانعية الموجود لما تقدم من ان مانعية المانع فرع تمامية مقتضى الممنوع والضد المعدوم لا مقتضى له والا كان مقتضيا للمحال وهو محال.

وقد ذكر في الكفاية (١) أيضا هذه المناقشة مع فرق في مقدمتها الثانية حيث لم يعتمد المحقق الخراسانيّ على كبرى ان مقتضى المحال محال وانما سلك طريقا اخر هو انه لو وجد أحد الضدين كان ذلك كاشفا عن عدم تعلق الإرادة الأزلية بالضد الاخر والا لما تخلفت عن المراد فيستحيل وجود مقتضى الضد المعدوم كي يكون الضد الموجود مانعا عنه. الا ان هذا التقرير للمناقشة غير متين بخلاف تقرير الميرزا ( قده ) فان أوضح ما يرد عليه : ان غاية ما يثبت ببرهان عدم تخلف الإرادة الأزلية عن المراد هو عدم تعلق الإرادة الأزلية بالعلة التامة للضد المعدوم وهذا لا يعين انتفاء أي جزء من اجزائها ، فلعل الجزء المنتفي عدم المانع الّذي هو الضد الموجود كما هو واضح. وهذا النقاش واضح الجواب اما بصياغة الميرزا ( قده ) : فبأنه لو فرض استحالة مانعية الضد الموجود عن المعدوم اذن كان ذلك دليلا وبرهانا اخر على استحالة توقف أحد الضدين على عدم الاخر ، فان هذا التوقف انما هو باعتبار المانعية فلو فرض استحالتها استحال التوقف أيضا. وبعبارة أخرى : ان للضد المتوهم مانعيته حصتين الأولى : الحصة المقرونة مع مقتضي الضد الاخر. والثانية : الحصة المقرونة مع عدم مقتضي الضد الاخر ، والأولى من الحصتين هي التي يعقل ان تكون مانعة فيكون عدمها مقدمة للضد الآخر الا انها مستحيلة. والحصة الثانية التي يعقل وجودها لا تكون مانعة كي يكون عدمها مقدمة وواجبا وهذا واضح.

واما بصياغة المحقق الخراسانيّ ( قده ) فبان غاية ما يثبت بذلك ان الضد المعدوم لم يستند عدمه بالفعل إلى الضد الموجود وانما استند إلى عدم مقتضية وهذا لا يمنع من ثبوت التوقف من الطرفين في نفسه أي توقف الضد الموجود على عدم الاخر وكون هذا العدم متوقفا على وجود الأول وهذا هو الدور المستحيل. وبعبارة أخرى : ان هذا

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٢٠٧.


الجواب غاية ما صنعه انه جعل التوقف من الطرفين ممتنعا بالغير مع إمكانه ذاتا في حين ان الدور ممتنع ذاتا فامتناع المانعية بالغير لا يكون دفعا لإشكال الدور واستحالة توقف الضد على عدم ضده.

المناقشة الثانية ـ ما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ) من ان وجود الضد وإن كان موقوفا على عدم الضد الاخر الا ان عدم الاخر ليس متوقفا على وجود الأول وإنما متوقف على عدم عدمه فان نقيض العلة هو علة لنقيض المعلول ونقيض كل شيء رفعه فإذا كان وجود الضد المعدوم متوقفا على عدم الموجود كان عدمه موقوفا على عدم عدم الموجود لا نفس الموجود وعدم العدم ملازم مع الوجود لا عينه كيف ويستحيل أن يكون العدم وجودا (١).

وفيه ـ أولا ـ ان المقصود من ان نقيض كل شيء رفعه ليس الا مجرد التعبير عن ان الوجود نقيض للعدم والعدم نقيض للوجود ولذلك ذكر نفسه ( قده ) فيما سبق ان المراد بالرفع ما يعم الرفع الفاعلي والمفعولي ، وقانون ان نقيض العلة علة لنقيض المعلول أيضا لا يراد به غير الوجود والعدم.

ثانيا ـ ان عدم العدم أمر اعتباري أو انتزاعي معلول للوجود نفسه فرجع التوقف على الوجود ، وليس هذا من تأثير الوجود في العدم لأن مثل هذا العدم اعتباري.

لا يقال ـ ليست علة عدم العدم الوجود بل بقانون ان نقيض العلة علة لنقيض المعلول يكون وجود العلة علة للمعلول الوجوديّ ويكون عدمها علة لعدمه ويكون عدم عدمها علة لعدم عدمه فعدم عدم المعلول معلول لعدم عدم العلة فلا نرجع إلى الوجود في تسلسل العلل كي يلزم توقف الشيء على نفسه.

فانه يقال : هذا التسلسل يؤدي بنا إلى الانتهاء في المبدأ الأول إلى واجبين بالذات متلازمين أحدهما الوجود الواجب الّذي يكون علة لوجود المعلول والثاني عدم عدمه العلة لعدم عدم المعلول وكلاهما واجب إذ لو كان عدم الواجب معلولا لوجوده فليقل بذلك في كل وجود وإن فرض كونه معلولا لشيء اخر قبله كان خلفا إذ

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ٢٢٥.


المفروض كونه المبدأ الأول ولا مبدأ قبله ، وثبوت واجبين بالذات متلازمين اما ان يدعى : استحالته من جهة برهان وحدة الواجب واستحالة تعدده ـ ولو فرض ان أحدهما عدمي أو يقال : انه محال باعتبار ان التلازم بين شيئين يكون باعتبار علية أحدهما للآخر أو كونهما معلولين لعلة ثالثة وكلاهما غير معقول في الواجب لأنه خلف.

وبهذا يتحصل برهان ان عدم العدم معلول ومنتزع عن الوجود إذ نقول : هل ان عدم عدم الواجب ممكن أم واجب؟ فان قيل : بالأول كان معلولا للوجود الواجب لا محالة على حد معلولية الأمور الاعتبارية للأمور الواقعية وإن قيل : بالثاني فان أريد من عدم العدم مجرد اللفظ المساوق مع الوجود فهو خلف وإن أريد انه أمر آخر واجب فهو مستحيل إذ يلزم منه تعدد الواجب وتلازمهما وهو مستحيل.

ثالثا ـ ان هذا النقاش غاية ما يثبت دفع توقف وجود الضد على نفسه الا انه يستلزم توقفه على عدم عدم نفسه وهو مستحيل أيضا بنكتة أخرى هي : ان في رتبة عدم عدم الشيء يكون وجود ذلك الشيء واجبا بقانون استحالة ارتفاع النقيضين فان الوجود وإن لم يكن هو نقيض العدم بناء على هذا المسلك الا أنه لا إشكال عند صاحب هذا المسلك أيضا في بداهة استحالة ارتفاع الوجود والعدم ذاتا لا بالعرض ومن جهة كون الوجود لازما لعدم العدم فيستحيل ان يكون عدم العدم علة للوجود ، إذ العلة يتعقل في الأمر الممكن في رتبة وجود العلة لا الواجب بالذات. وبعبارة أخرى : ان علية عدم العدم للوجود تكون مقيدة بفرض ثبوت عدم العدم لأن علية العلة فرع ثبوت العلة ، فسوف تكون العلية الفعلية في المقام مقيدة بثبوت عدم العدم مع انه في هذه المرتبة يكون الوجود ضروريا بالذات فتكون العلية علية مقيدة بفرض يكون المعلول فيه واجبا وهو مستحيل.

رابعا ـ ان عدم العدم إن أريد به إضافة العدم إلى واقع العدم فهو مستحيل لأن الوجود والعدم عارضان على الماهية لا واقع الوجود أو العدم ، فان اتصاف واقع الوجود بالوجود أو بالعدم وكذلك واقع العدم مستحيل لأنه يستلزم التناقض أو إثبات الشيء لنفسه ، وإن أريد انتزاع مفهوم اعتباري للعدم وإضافة العدم إليه على حد إضافته إلى الماهيات فهذا المفهوم امر اعتباري ذهني محض ويستحيل ان يكون عدمه


علة للوجود الحقيقي كما هو لازم نقاش هذا المحقق ( قده ).

خامسا ـ ان هذا الإشكال خلاف المدعى المعترف به لدى القائلين بتوقف الضد على عدم الضد الاخر ، فان مشهور القائلين بذلك انما يدعونه من باب التمانع والتنافي بين نفس الضدين وان توقف أحدهما على عدم الاخر من باب المانعية التي تعني ان وجود الضد الموجود هو العلة في عدم الضد المعدوم فان التنافي والتضاد بين الوجودين لا بين وجود أحدهما وعدم عدم الاخر كما هو واضح.

وهكذا اتضح صحة إشكال الدور بالنحو الثالث أيضا كصحته بالتقريب الأول.

البرهان الثامن ـ ما نستنتجه من الجواب الثالث على مناقشة المحقق الأصفهاني ( قده ) على البرهان السابق وذلك بان يقال : ان توقف أحد الضدين على عدم الاخر مستحيل في الضدين اللذين لا ثالث لهما والّذي يستحيل ارتفاعهما ، فانه في مثل ذلك يكون فرض عدم أحد الضدين هو فرض الفراغ عن وجوب الضد الاخر لاستحالة ارتفاعهما بحسب الفرض ، ومعه تكون علية عدم الضد المعدوم في وجود الضد الموجود مستحيلة لأنها علية مقيدة بفرض يخرج فيه المعلول عن الإمكان إلى الوجوب كما قلنا بذلك في توقف الوجود على عدم عدمه.

وإذا ثبت ذلك في الضدين اللذين لا ثالث لهما ثبت في الأضداد المتعددة أيضا اما بدعوى : بداهة عدم الفرق. أو بدعوى : ان في الأضداد المتعددة يكون عدم ما عدا الضد الواحد علة لوجود ذلك الضد وفي ظرف عدم مجموع الأضداد الأخرى يكون الضد الأول واجبا فيستحيل العلية.

نعم هذا البرهان لا يفيد في الضدين أو الأضداد التي يمكن ارتفاعها أي يكون لها ضد أخرى عدمي ـ إن صح التعبير عنه بالضد ـ كما في الحب والبغض اللذين يمكن ارتفاعهما بمعنى عدمهما معا فانه في مثل ذلك لا يتم البرهان المذكور فيتعين التمسك بوجدانية عدم الفرق.

لا يقال ـ ان استحالة الارتفاع في المقام ليس ذاتيا كما في ارتفاع النقيضين وانما هو امتناع بالغير وباعتبار عدم خلو المحل عن علة أحد الضدين ومعه فلعل من اجزاء العلة عدم الضد.


فانه يقال ـ بعد افتراض ثبوت الضدين اللذين يستحيل ان يكون لهما ثالث كما هو المفروض عندهم ـ مثل حركة الجسم وسكونه فلو فرض ان استحالة ارتفاعهما تكون بالغير ومن جهة لا بدية وجود مقتضى أحدهما نقلنا الكلام إلى المقتضيين نفسيهما فلا بد وان يكون عدم ارتفاعهما معا ضروريا وهما ضدان لا محالة ، فليس هذا الا تطويلا للمسافة.

البرهان التاسع ـ ما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ) في تفسير عبارة الكفاية وهو يتألف من مقدمتين (١).

الأولى ـ ان النقيضين في رتبة واحدة فالسواد وعدمه وكذلك البياض وعدمه في رتبة واحدة لا في رتبتين لأنهما يختلفان على محل واحد ويكون كل منهما بديلا عنه في محله فلا يمكن ان يكونا مختلفين في الرتبة.

الثانية ـ ان ما في رتبة المتقدم يكون متقدما أيضا ، وكأن هذه قضايا قياساتها معها ، فإذا تمت المقدمتان ثبت ان أحد الضدين يستحيل ان يتوقف على عدم الاخر ، لأن عدم الاخر في رتبة وجوده بحكم المقدمة الأولى ، فإذا كان يتوقف عليه وجود الأول كان متقدما عليه رتبة فيكون وجود الاخر أيضا متقدما عليه بحكم المقدمة الثانية ، وباعتبار صدق ذلك في كل من الضدين لزم من ذلك التهافت في الرتبة بين الضدين وكون كل منهما متقدما على الاخر ومتأخرا عنه وهذا مستحيل.

وبهذا البيان لا نحتاج إلى إضافة دعوى وحدة رتبة الضدين كي نحتاج إلى الإثبات والبرهنة عليها في تقريب هذا البرهان كما فعله السيد الأستاذ ، لأن الضدين ولو فرض عدم وحدة رتبتهما يستحيل تقدم كل منهما على الاخر لأنه تهافت.

وهذا البرهان صحته موقوفة على تمامية كلتا المقدمتين المتقدمتين مع ان كلتيهما مخدوشة.

اما الأولى ـ فلان كون النقيضين في رتبة واحدة لو أريد به عدم علية أحدهما للآخر وتقدمه عليه فهذا صحيح الا انه لا يستلزم ما أفيد في المقدمة الثانية من انه لو

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ٢١٩ ـ ٢٢٠.


كان أحدهما علة لشيء ومتقدما عليه كان الاخر كذلك على ما سوف نشير إليه.

وإن أريد انهما ثابتان في مرتبة واحدة بمعنى ان المرتبة التي تكون قيدا لثبوت أحد النقيضين تكون قيدا لثبوت الاخر لأن أحدهما يخلف الاخر في موضعه مثلا. فهذا ممنوع ، فان كلا من النقيضين يخلف الاخر في لوح الواقع لا في ظرف ثبوت الأول زمانا أو رتبة فإذا ثبت وجود شيء في زمان لا يكون عدمه مقيدا بذلك الزمان كما ان الشيء الثابت في مرتبة كثبوت الصاهلية مثلا في مرتبة ذات الفرس لا يكون نقيضه عدم الصاهلية المقيدة بتلك المرتبة بل النقيض عدم المقيد بذلك الزمان أو المرتبة لا العدم المقيد ، والا لزم ارتفاع النقيضين في فرض ارتفاع القيد كما هو واضح.

واما المقدمة الثانية ، فلان ما مع المتقدم إن أريد به المتقدم بالزمان صح القول بان ما مع المتقدم متقدم الا انه لا باعتباره مع المتقدم بل باعتباره بنفسه متقدما بالزمان على حد ذلك المتقدم الاخر ، وإن أريد به المتقدم في الرتبة أي المقارن مع المتقدم رتبة فان أريد بالمقارنة معنى سلبيا وهو عدم كونه علة ولا معلولا للآخر فهذا لا يقتضي ان يكون تقدم أحد المتقارنين بهذا المعنى موجبا لتقدم الاخر ، إذ ملاك التقدم انما هو العلية ولا يلزم من علية المتقدم للمتأخر ان يكون المقارن مع المتقدم علة للمتأخر أيضا.

وإن أريد بالمقارنة المعنى الثبوتي وهو التوأمية وكونهما متلازمين ومعلولين لعلة ثالثة فيرد على تطبيق هذا القانون في المقام.

أولا ـ ان وجود كل ضد وعدمه ليسا في رتبة واحدة بهذا المعنى إذ لا يمكن ان يكون النقيضان معلولين لعلة ثالثة والا اجتمع النقيضان.

وثانيا ـ ان هذا المعنى للتقارن أيضا لا يقتضي تقدم ما مع المتقدم لأن ملاك التقدم كما قلنا هو العلية وعلية أحد المتلازمين لا يستلزم علية الاخر أيضا.

ثم انه قد يفصل في القول بتوقف الضد على عدم الاخر بين الضد الموجود والضد المعدوم بنحو آخر بان يقال : ان الضد الموجود غير موقوف على عدم الضد المعدوم وانما الضد المعدوم حدوثه موقوف على ارتفاع الضد الموجود بقاء ، فالجسم لو فرض عدم وجود السواد ولا البياض فيه لا يتوقف وجود أحد الضدين فيه على عدم الآخر وإنما لو


كان الجسم أسود وأريد إيجاد البياض فيه توقف ذلك على رفع السواد. فيكون حدوث البياض موقوفا على ارتفاع السواد الموجود.

وهذا التفصيل لو عرضناه على البراهين السابقة لوجدنا ان بعض تلك البراهين لا بنفيه وبعضها ينفيه وبعضها انما ينفيه معلقا على الالتزام بنكتة زائدة.

فالبرهان الثالث وبرهان الدور لا ينفيان هذه الدعوى للتوقف بين الضدين ، إذ لا يلزم من توقف الضد المعدوم على عدم الموجود الدور ولا مانعية المتأخر رتبة عن الممنوع ـ وهو روح البرهان الثالث ـ إذ لا يكون المانع وهو الضد الموجود بقاء موقوفا على عدم الضد المعدوم كي يلزم شيء من ذلك.

والبرهان الخامس ينفي هذا القول لأنه كان يفترض ان اجتماع الضدين ممتنع بالذات ويستحيل افتراض المانع للممتنع بالذات ، وهذا لا يفرق فيه بين مانعية الضد الموجود عن المعدوم أو مانعية مطلق الضد.

والبرهان الأول والرابع اللذان كانا يشتركان في إثبات امتناع مانعية الضد من جهة كون وجوده في طول مانعية مقتضية تتوقف تماميتهما في المقام على القول بان الوجود البقائي بحاجة إلى العلة كالوجود الحدوثي فانه لو قبل هذا القانون ـ كما ذكرناه في فلسفتنا ـ كان الضد الموجود بقاء أيضا في طول مانعية مقتضية فيستحيل مانعيته بمقتضى ذينك البرهانين.

واما لو قيل بنظرية الحدوث في الاحتياج إلى العلة فلا بأس بان يكون الضد الموجود هو المانع عن الضد المعدوم في مرحلة البقاء. واما مقتضي الضد الموجود فيمنع عن الضد المعدوم في مرحلة الحدوث فقط ثم يرتفع.


الفصل الثاني :

« الضد العام »

في اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده العام ـ أي النقيض والاقتضاء المذكور تارة يراد به العينية وأخرى التضمنية وثالثة الالتزامية.

كما ان الاقتضاء المذكور تارة يفترض بلحاظ مرحلة الإثبات والدلالة ، وأخرى بلحاظ مرحلة الثبوت. اما بلحاظ مرحلة الإثبات فلا ينبغي الإشكال في ان الأمر بشيء والنهي عن تركه يستعمل أحدهما مكان الآخر فقولك ( صل ) كقولك ( لا تترك الصلاة ) من حيث المعنى عرفا وإن اختلفا في المدلول التصوري كمفردات ، فأحدهما عين الآخر في هذه المرحلة.

واما بلحاظ مرحلة الثبوت فتارة يلحظ الحكم والاعتبار ويدعي ان اعتبار طلب الفعل يقتضي اعتبار النهي عن ضده العام ، وأخرى : يلحظ عالم الحب والبغض والإرادة والكراهة.

اما في عالم الحكم والاعتبار على القول به ، فإذا قلنا بأن النهي عن شيء عبارة عن طلب نقيضه وان نقيض الفعل الترك ونقيض الترك الفعل كان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام بنحو العينية إذ ليس النهي عن ترك ذلك الشيء غير طلب فعله حسب الفرض.


واما إذا قلنا ان النهي عبارة عن اعتبار الزجر مثلا والأمر عبارة عن اعتبار البعث والإرسال فلا محالة يكون أحدهما غير الآخر ، فلا يعقل اقتضاء أحدهما للآخر بنحو العينية.

واما الاقتضاء بنحو التضمن فهو موقوف على أن يكون الأمر عبارة عن طلب الفعل مع المنع من الترك بتقريب : ان مجرد طلب الفعل لا يقتضي الإلزام فانه يلائم مع الاستحباب أيضا فلا بد وأن يكون مركبا من الطلب للشيء والمنع عن نقيضه وهو معنى تضمن الأمر بالشيء للنهي عن نقيضه.

وهذا التقريب لا ينبغي أن يورد عليه بما أفاده السيد الأستاذ وغيره : من ان الحكم أمر اعتباري والأمور الاعتبارية بسائط وليست مركبات ولا يتعقل لها جنس وفصل. ذلك ان التركب المقصود في هذا البحث الأصولي لا يراد منه التركب الماهوي المبحوث عنه في الحكمة فليكن الاعتبار أمرا بسيطا لا يتعقل فيه الأجزاء الماهوية ، مع ذلك يقول الخصم في المقام ان الأمر ينحل إلى اعتبارين اعتبار طلب الفعل واعتبار المنع من الترك.

وإنما الصحيح أن يقال : بأن إضافة المنع من الترك لا يحل من العقدة شيئا فان المنع بنفسه كالطلب ينقسم إلى لزومي وغير لزومي كما في الكراهة فلا بد من تعديله بعدم الترخيص في الترك لا المنع والحرمة ، وبعد ذلك تكون دعوى كون الاعتبار بهذا النحو عهدتها على مدعيها والمسألة بعد ذلك اعتبارية وكيفية صياغة الاعتبار أمر سهل.

واما الاقتضاء بنحو الملازمة فيرد عليه : ما قلناه في بحث مقدمة الواجب على القائل بالملازمة بلحاظ عالم الجعل والاعتبار من ان الاعتبار فعل اختياري للمولى فيكون منوطا بمبادئه الاختيارية وحينئذ لو أريد دعوى حصول الاعتبار الثاني الغيري بالاعتبار الأول بنحو التوليد ومن دون حصول مبادئه فهو خلف كونه من الأفعال الاختيارية ، وإن أريد كون الاعتبار الأول بنفسه يصبح داعيا لجعل النهي الغيري وإنشائه فهذا أيضا واضح البطلان ، إذ لا فائدة عملية من الاعتبار الثاني الغيري بعد فرض الاعتبار الأول وكون الحكم الغيري ليس موضوعا مستقلا للطاعة والداعوية كما هو واضح.

هذا كله بلحاظ عالم الحكم والاعتبار.


واما بلحاظ عالم الحب والبغض والإرادة والكراهة فاقتضاء حب فعل للبغض عن ضده العام يبتني على الفروض المتصورة في تفسير الحب والبغض من النّفس البشرية وهي على ما يلي :

الفرضية الأولى ـ أن يدعى عدم وجود حب أصلا وان العاطفة الموجودة لدى النّفس هي عاطفة البغض ، وهو عند ما يتعلق بترك شيء يقال عنه حب الفعل.

وبناء على هذا التفسير سوف يكون الأمر بشيء بلحاظ عالم الملاك والإرادة عين البغض عن ضده العام.

غير ان هذه الفرضية يكفينا في ردها انها خلاف ما نجده في نفوسنا بالوجدان من وجود عاطفتي الحب والبغض.

الفرضية الثانية ـ أن يدعى وجود عاطفة واحدة في النّفس وهي عند ما تضاف وتنسب إلى فعل ما يلائم الطبع سميت حبا ، وعند ما تضاف وتنسب إلى نقيضه تسمى بغضا.

وبناء على هذا الفرض أيضا سوف يكون الأمر بشيء عين النهي عن ضده العام بلحاظ عالم النّفس.

غير انها أيضا فرضية لا يمكن المساعدة عليها فانه :

أولا ـ خلاف وجدانية تعدد الحب والبغض في النّفس وإن مركز الثقل في العاطفة تارة يكون الفعل وأخرى يكون الترك.

وثانيا ـ ان عاطفة الحب والبغض من الصفات الحقيقية ذات الإضافة والتي يكون متعلقها قوامها فإذا كان هناك متعلقان الفعل والترك كان هناك عاطفتان لا محالة وصفتان في النّفس إحداهما الحب المتعلق بالمحبوب وهو الفعل والآخر البغض المتعلق بالترك المبغوض.

الفرضية الثالثة ـ أن يفترض وجود عاطفتين مستقلتين ذاتا وماهية ولكنهما تنشئان من منشأ واحد هو المصلحة والملاك أحدهما يتعلق بفعل ما فيه المصلحة ويسمى بالحب والآخر يتعلق بتركه ويسمى بالبغض وهذه الفرضية تفيد القائل بان الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضده العام ، وليس فيه مخالفة للوجدان على نحو


الفرضية الأولى ، كما لا يوجد فيه محذور عقلي كما في الفرضية الثانية. إلا انه يبقى في ذمة التأمل الباطني للإنسان لكي يرى هل تكون هناك عاطفتان عرضيتان بالنحو المذكور في هذه الفرضية أم إنهما طوليتان كما يأتي؟

الفرضية الرابعة ـ نفس الفرضية الثالثة مع افتراض الطولية بين العاطفتين بأن يقال : ان بغض الترك يتولد من حب الفعل وفي طوله باعتبار ان الإنسان يبغض ويتألم لفوات محبوبه وما يلائم قواه.

وهذه الفرضية هي النافعة للقول بأن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده العام.

ولا يرد ما أفيد من قبل الأستاذ على القول بالاستلزام للنهي الغيري : بان الحرمة الغيرية ملاكها المقدمية ولا مقدمية بين الشيء وضده العام ، (١) فان هذا مصادرة إذ مدعى القائل بالاستلزام ان هناك ملاكا آخر للحرمة الغيرية وهو كون الشيء نقيض المحبوب والمطلوب ، فكما ان المقدمية للمحبوب ملاك للوجوب الغيري كذلك كون الشيء نقيضا له ملاك للحرمة الغيرية التبعية كما هو واضح (٢).

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٣ ، ص ٤٩.

(٢) لعل الأوفق ربط هذه المسألة بما يسلك في حقيقة الحكم وروحه فان كان الحكم عبارة عن المحبوبية والمبغوضية كصفتين تكوينيتين في عالم نفس المولى أمكن دعوى ان حب شيء يستلزم بغض نقيضه ولو في طوله وان كان الحكم عبارة عن الإرادة والكراهة كفعلين نفسانيين للمولى فلا يعقل الاقتضاء لعين ما ذكر من البرهان على عدم الاقتضاء بلحاظ مرحلة الجعل والاعتبار هنا وفي بحث مقدمة الواجب ، وان كان الحكم عبارة عما يتصوره المحقق الأصفهاني قده من ان حقيقة الحكم هو البعث والتحريك أو الزجر والمنع بالحمل الشائع أمكن دعوى الاقتضاء بنحو العينية لأن الدفع والإرسال إلى أحد النقيضين بالحمل الشائع بنفسه منع وصد عن الآخر ، وبما ان الأوفق من هذه المباني أوسطها فالصحيح عدم الاقتضاء هنا أيضا.

واما مأخذ صحة هذا المبنى فقد شرحناه في تعليق سابق ونوضحه هنا بأن الوجدان يحكم ان روح الحكم وحقيقته متقومة بتوجه المولى وإرادته النفسانيّة التي هي من مقولة أفعاله فلا بد من تعلق ذلك بفعل أو ترك حتى يتحقق ما هو حكم يدخل في عهدة المكلف بحكم العقل من دون ان يرتبط بذلك سائر العناصر الأجنبية عن حقيقة الحكم كالمصلحة والمفسدة أو الحب والبغض أو الاعتبار فان هذه الأمور ليست مطردة في تمام الموارد لوضوح عدم اختصاص الحكم بما إذا كان هناك صياغة قانونية اعتبارية ولا بموارد وجود مصلحة أو مفسدة إذ قد لا يدرك المولى العرفي الصياغة القانونية كما انه قد لا يشخص مصلحته أو تكون المصلحة غالبية لا دائمية في تمام موارد الأمر كما ان الحب والبغض لو أريد منهما الحب والبغض الطبعيان فقد لا يكون للمولى طبع كذلك اما لاستحالته فيه ونزاهته كما في المولى الحقيقي أو لصدور أمره من جهة الاضطرار أو دفع المضرة ، ولو أريد بهما ما قد يسمى بالحب والبغض العقليين فلا نفهم لهما معنى سوى المصلحة والمفسدة أو إعمال السلطة والإرادة الّذي ذكرنا انه من مقولة الفعل. وتحقيق حال حقيقة الحكم مطلب أساسي ومهم يترتب عليه جملة من الأنظار والمباني الأصولية خصوصا في بحوث الاستلزامات العقلية.


الفصل الثالث

« ثمرة مسألة الضد »

في ثمرة البحث عن اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده وقد ذكر لذلك ثمرتان :

أولاهما ـ فيما إذا تزاحم واجب مضيق مع واجب آخر عبادي موسع كما لو تزاحمت الإزالة الفورية مع الصلاة في جزء من الوقت فانه في مثل ذلك لا إشكال في فعلية الوجوب المضيق ، وحينئذ بناء على اقتضاء الأمر بالإزالة للنهي عن ضده الخاصّ تقع تلك العبادة الموسعة فاسدة إذا ما أوقعت في وقت الواجب المضيق لكونها منهيا عنها والنهي ولو كان غيريا يقتضي الفساد واما لو أنكرنا الاقتضاء فلا تقع فاسدة.

وثانيتهما ـ فيما إذا تزاحم واجبان مضيقان وكان أحدهما أهم من الآخر وكان المهم عباديا فانه في مثل ذلك أيضا تقع العبادة فاسدة بناء على الاقتضاء بينما تكون صحيحة بناء على عدم الاقتضاء.

وقد أورد على الثمرتين باعتراضين رئيسين :

الاعتراض الأول ـ انه على القول بإنكار الاقتضاء أيضا لا تقع العبادة صحيحة لأنها وإن لم تكن منهيا عنها غير انه لا امر بها إذ لا يعقل الأمر بها مع طلب ضدها ويشترط في صحة العبادة الأمر فالثمرة غير موجودة في الفرعين.

وقد نوقش في هذا الاعتراض بوجوه :


الوجه الأول ـ ما ذكره المحقق الثاني ( قده ) وأوضحه شراح كلامه ممن تأخر عنه وحاصله :

ان الثمرة في الفرع الأول موجودة إذ لا مانع بناء على عدم الاقتضاء من الأمر بالإزالة والأمر بجامع الصلاة الموسعة في ذلك الوقت أو غيره إذ لا تضاد بين الجامع المذكور وبين الإزالة وانما التضاد بينها وبين الفرد من الصلاة الواقع في خصوص ذلك الوقت وليس هو المأمور به في الفرع الأول وانما المأمور به هو الجامع الّذي ينبسط قهرا على الفرد المزاحم أيضا فيكون مجزيا عقلا.

واما بناء على الاقتضاء فسوف يكون ذلك الفرد منهيا عنه وهو لا يجتمع مع الأمر بالجامع المنطبق عليه لاستحالة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد (١).

والمحقق النائيني ( قده ) لم يرتض هذا التصحيح من المحقق الثاني ( قده ) للثمرة بناء على تقدير وارتضاه بناء على تقدير آخر ، حيث أفاد : بان اعتبار القدرة في التكليف إن كان من باب حكم العقل بقبح التكليف بغير المقدور لأنه إحراج للمكلف على المخالفة مثلا صح ما ذكر ، إذ على هذا الأصل يمكن أن يقال ان العقل لا يحكم بأزيد من اعتبار القدرة على الواجب بنحو لا يلزم من التكليف الإحراج المذكور ، وهذا يكفي فيه القدرة على بعض أفراد الواجب الموسع فيبقى تعلق التكليف بالجامع بين الفرد المزاحم وغيره من الواجب الموسع معقولا إذ لا يلزم منه المحذور العقلي فيكون الفرد المزاحم فردا من المأمور به أيضا.

واما إذا قلنا باعتبار القدرة في الخطاب من جهة اقتضاء نفس التكليف لذلك لأنه عبارة عن جعل الداعي للمكلف نحو الفعل وهو لا يكون إلا بلحاظ ما يعقل جعل الداعي إليه وهو الأمر المقدور فلا محالة يتضيق الخطاب بحدود ما يكون مقدورا من متعلقه فلا يكون هناك أمر بالجامع بين الفرد المزاحم وغيره من الواجب الموسع لأنه لا قدرة عليه شرعا بحسب الفرض فلا يقع فردا من المأمور به (٢).

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٣ ، ص ٥٢ ـ ٥٣.

(٢) نفس المصدر ، ص ٥٤.


وللسيد الأستاذ مؤاخذات على شيخه المحقق النائيني ( قده ) في المقام وهي تتلخص في ثلاث نقاط (١).

النقطة الأولى ـ ان ما أفاده من وجاهة تصحيح المحقق الثاني ( قده ) للثمرة بناء على كون اعتبار القدرة في التكليف بحكم العقل مناف لما يبني عليه الشيخ النائيني ( قده ) من استحالة الواجب المعلق ، إذ لازمه فعلية الوجوب للواجب الموسع حتى في زمان المضيق مع كون متعلقه غير مقدور شرعا في ذلك الزمان ، فانه وإن كان متعلقا بالجامع لا الفرد المزاحم إلا أن الجامع أيضا غير مقدور في ذلك الزمان ، لأن أفراده الطولية الاستقبالية أي الأفراد غير المزاحمة غير مقدورة عقلا فعلا وفرده المزاحم غير مقدور شرعا فيلزم التفكيك بين زمان فعلية الوجوب وزمان القدرة على متعلقه وهو مستحيل على مسالكه ( قده ).

وتعليقنا على هذه النقطة يتوقف على بيان أمرين :

الأول ـ ان القائلين باستحالة الواجب المعلق يقولون باستحالته بأحد منشأين :

أولهما ـ انه يستلزم انفكاك البعث عن الانبعاث وهو مستحيل لأن الحكم انما يجعل بداعي جعل الداعي والمحركية فلا بد وأن يكون التحرك والانبعاث معقولا حين فعلية الحكم ، والواجب المعلق لا يكون فيه الانبعاث فعليا قبل مجيء المعلق عليه الواجب.

ثانيهما ـ انه يستلزم إناطة الحكم بالشرط المتأخر لأن مجيء ما علق عليه الواجب يكون شرطا في التكليف ولكنه بنحو الشرط المتأخر فعلى القول باستحالة الشرط المتأخر يكون الواجب المعلق مستحيلا.

والميرزا ( قده ) انما قال بالاستحالة في بحث الواجب المعلق على أساس المنشأ الثاني.

الثاني ـ ان المحقق النائيني ( قده ) يقبل ما يدل عليه دليل في مرحلة الإثبات مما يكون بظاهره من الواجب المعلق سواء كان دليلا خاصا أو إطلاق خطاب ولكنه

__________________

(١) نفس المصدر ، ص ٥٩.


يؤوله بما يندفع به غائلة الشرط المتأخر وذلك بأخذ عنوان تعقب ذلك الشرط شرطا لا نفسه والتعقب شرط مقارن وليس بمتأخر.

وعلى ضوء هذين الأمرين يمكن أن يجاب على ما أخذه عليه السيد الأستاذ من مخالفته لمبناه في استحالة الواجب المعلق في المقام بأن مقتضى إطلاق الخطاب ثبوت التكليف بالصلاة لمن كان عجزه وعدم قدرته مستوعبا أو في خصوص زمان الواجب المضيق المزاحم ـ وهو الإزالة ـ وقد رفعنا اليد عن إطلاق الخطاب فيمن عذره مستوعب فيبقى الإطلاق بلحاظ من ليس كذلك وإن كانت قدرته شرعا غير ثابتة في ذلك الزمان بلحاظ الفرد المزاحم على حاله فان إطلاق الخطاب لا بد من التحفظ عليه مهما أمكن وفي المقام يمكن التحفظ عليه ولو بأخذ الشرط التعقب بالقدرة المقارن مع فعلية الحكم.

النقطة الثانية ـ مما أورده السيد الأستاذ على المحقق النائيني ( قده ) ان التزامه بالإطلاق خلاف ما سلكه في باب المطلق والمقيد والتعبدي والتوصلي من أنه إذا استحال التقييد استحال الإطلاق أيضا لكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، فانه في المقام لا يمكن تقييد الحكم بالفرد المزاحم لعدم القدرة عليه فيستحيل إطلاقه له حتى لو قيل بإمكان الإطلاق في التعبدي والتوصلي بمتمم الجعل لأن أي خطاب يفترض لا يمكن فيه التقييد بالفرد المزاحم.

وهذه النقطة أيضا غير متجهة على المحقق النائيني ( قده ) لأن المراد بالإطلاق المقابل للتقييد تقابل العدم والملكة هو عدم التقييد الّذي هو معنى سلبي والّذي يستلزم سريان الحكم إلى فاقد القيد ، وليس المراد بالإطلاق شمول الحكم الّذي هو معنى وجودي ولا يمكن أن يكون التقابل بينه وبين التقييد بالعدم والملكة. وعليه فإطلاق الحكم للفرد المزاحم يقابله التقييد بغير المزاحم وهو ممكن واما التقييد بالمزاحم فيقابله إطلاق الحكم للفرد غير المزاحم فينبغي أن يكون هو المستحيل وهذه من النتائج الغريبة على أصل هذا المسلك في الإطلاق والتقييد.

النقطة الثالثة ـ مما أورده السيد الأستاذ على المحقق النائيني ( قده ) ان مفاد الأمر ليس إلا عبارة عن اعتبار الشيء في ذمة المكلف لا البعث والإرسال والتحريك


كي يقال بأنه موقوف على إمكان الانبعاث ولا انبعاث لغير المقدور ، فالقدرة بحسب الحقيقة ليست قيدا للخطاب لا بحكم العقل ولا من باب اشتراط إمكان الانبعاث نحو المتعلق وانما هي شرط عقلي في مقام الامتثال ولزوم الطاعة أي قيد في مرحلة التنجيز واستحقاق العقاب.

وهذه النقطة أيضا غير واردة على المحقق النائيني ( قده ) إذ ليس البحث في المدلول التصوري للأمر كي تربط المسألة به وانما البحث على مستوى المدلول التصديقي والمراد الجدي الّذي هو روح الحكم وحقيقته ، سواء كان المدلول التصوري هو النسبة الإرسالية والتحريكية أو اعتبار الفعل في ذمة المكلف فان ذلك بأي لسان وصياغة كان لا بد وأن يكون بداعي البعث والتحريك جدا وحقيقة والتحريك نحو غير المقدور غير معقول.

والصحيح في دفع إيراد المحقق النائيني ( قده ) على المحقق الثاني أن يقال : بان اشتراط القدرة في الخطاب والحكم لكونه يجعل بداعي جعل الداعي لا يعني تخصيص متعلق الخطاب بالحصة المقدورة خاصة وانما يعني اشتراط كونه مقدورا ، ومن الواضح ان الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور ولو كانت الأفراد طولية لا عرضية ، فان القدرة على الجامع الّذي هو متعلق الخطاب والحكم موجود فيكون البعث نحوه معقولا كما هو واضح ، نعم لو فرض ان التخيير بين الأفراد شرعي لا عقلي كان تعلق الخطاب بالفرد المزاحم غير معقول إلا انه خلف المفروض.

وهكذا اتضح صحة ما أفاده المحقق الثاني من تمامية الثمرة في الفرع الأول وهو ما إذا كان الواجب العبادي موسعا ولكنه لا تصح الثمرة في الفرع الثاني.

وهذا هو الوجه الأول في دفع ما قيل من الاعتراض الأول على الثمرة.

الوجه الثاني ـ تصحيح الثمرة في الفرعين وذلك عن طريق الالتزام بوجود أمر على الفرد المزاحم بناء على عدم الاقتضاء بنحو الترتب أي مقيدا بعدم الإتيان بالمزاحم الآخر الأهم أو المساوي فتصحح العبادة بالأمر الترتبي بناء على عدم الاقتضاء وبناء على الاقتضاء تقع العبادة فاسدة من جهة النهي. وهذا الوجه صحيح بناء على عدم إمكان تعلق الخطاب بالجامع المنطبق على الفرد المزاحم في عرض الأمر بالواجب


الآخر كما هو في الفرع الثاني ، وبناء على إمكان الترتب كما هو الصحيح على ما يأتي توضيحه مفصلا.

الوجه الثالث ـ تصحيح الثمرة في الفرعين أيضا عن طريق قصد الملاك المحفوظ في الواجب العبادي بناء على عدم الاقتضاء ، ولا يشترط في صحة العبادة إلا وجود الملاك وتحقق القربة التي يكتفي فيها بقصد الملاك ، وفي المقام وإن كان الأمر مرتفعا عن العبادة المزاحمة بالأهم أو بواجب مضيق إلا أن ارتفاعه انما هو فرارا عن التكليف بغير المقدور وليس من أجل ارتفاع الملاك.

وهذا المقدار من البيان يكفي في رده : بأنه كما يحتمل أن يكون الفرد المزاحم قد ارتفع الخطاب عنه لمجرد عدم القدرة عليه مع انحفاظ الملاك فيه كذلك يحتمل أن يكون ارتفاع القدرة رافعا للملاك رأسا وليست مناطات الأحكام وملاكاتها معروفة لدينا كي ندعي ثبوت الملاك في الفرد المزاحم ، ولذلك يحاول إثبات الملاك في الفرد المزاحم بأحد طريقين :

الطريق الأول ـ هو التمسك بالدلالة الالتزامية للخطاب في الفرد المزاحم فانه كان يدل على إطلاق الحكم له بالمطابقة ويدل على ثبوت الملاك فيه بالالتزام ، فإذا فرض ارتفاع الأول دفعا لمحذور طلب غير المقدور أمكننا التمسك بالثاني إذ وجود الملاك في غير المقدور ليس فيه محذور.

وهذا الطريق قد أورد عليه السيد الأستاذ ـ بأن الدلالة الالتزامية تابعة للمطابقية في الحجية أيضا نعم لو كانت التبعية بين الدلالتين في تكونهما فقط لا في الحجية تم هذا الطريق وأمكن تصحيح العبادة المزاحمة عن طريق الملاك (١). ولنا على هذا الاعتراض الموجه من السيد الأستاذ ثلاث كلمات :

الأولى ـ ان ربط المقام بمسألة التبعية بين الدلالتين وإن كان صحيحا في نفسه ولكنه يناقض ما سلكه الأستاذ نفسه في هذه المسألة في دفع كلام المحقق النائيني ( قده ) حيث انه أنكر اشتراط القدرة في التكليف وانما اعتبرها قيدا في الإطاعة

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٣ ، ص ٧٤ ـ ٧٧.


والتنجز والتكليف الّذي هو عنده عبارة عن جعل الفعل في ذمة المكلف غير مقيد أصلا ، فانه على هذا المسلك لا يكون المدلول المطابقي للأمر ساقطا في الفرد المزاحم فضلا عن سقوط مدلوله الالتزامي كما هو واضح فمثله لا بد وأن يقبل هذا التصحيح.

الثانية ـ ان الصحيح هو تبعية الدلالتين في الحجية أيضا على ما حققناه في محله.

فبناء على ما هو الصحيح من كون القدرة قيدا في الخطاب يسقط المدلول الالتزامي في الفرد المزاحم بعد سقوط المدلول المطابقي للخطاب.

الثالثة ـ ان القائلين بعدم التبعية بين الدلالتين في الحجية أيضا لا يمكنهم التمسك بإطلاق الدليل لإثبات الملاك في الفرد المزاحم لأن شرطية القدرة في الخطاب قيد لبي بديهي بحيث يعد مخصصا متصلا بدليل التكليف ومعه لا ينعقد إطلاق في شيء من الأمرين للحكم والملاك بلحاظ الفرد المزاحم من أول الأمر.

الطريق الثاني ـ لإثبات الملاك هو التمسك بإطلاق المادة على ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) وتوضيحه : هو ان الخطاب يكون متكفلا للدلالة على مطلبين أحدهما طلب المادة والآخر وجود الملاك وتعلقه بها ، وكلا هذين المطلبين منصبان على المادة بحيث يستفاد من خطاب « صل » قضيتان ، إحداهما : ان الصلاة واجبة ، والثانية : ان الصلاة فيها ملاك مولوي ، غاية الأمر ان القضية الأولى مدلول لفظي لصيغة الأمر في حين ان القضية الثانية مدلول سياقي للخطاب.

وفرق هذا الطريق عن الطريق السابق ان الدلالة على الملاك في هذا التقريب في عرض الدلالة على الحكم وليس مدلولا التزاميا طوليا للخطاب كي يسقط بسقوطه بناء على التبعية ، فيكون مقتضى إطلاق القضية الثانية ثبوت الملاك حتى في الفرد المزاحم لأن التخصيص بالقدرة سواء كان بحكم العقل أو مأخوذا في نفس الخطاب لا يكون إلا بلحاظ الحكم والطلب أي بلحاظ القضية الأولى المدلول عليها باللفظ دون الثانية. نعم لو فرض أخذ القدرة في الخطاب صريحا كان ذلك رافعا لإطلاق المادة بلحاظ محموليها ، فقوله ( ان استطعت فحج ) في قوة أن يقول ( إن استطعت فالحج واجب ) وفيه ملاك فيدل على اختصاص الملاك بفرض القدرة وذلك باعتبار ارتباط المحمولين وحملهما معا على المادة فيكون القيد المأخوذ تقييدا للمادة بلحاظهما أيضا.


وهذا بخلاف ما إذا لم تكن القدرة مأخوذة لفظا في الخطاب الشرعي ، فان القرينة اللبية العقلية على شرطية القدرة لا تشترط ذلك إلا بلحاظ التكليف لا الملاك.

وهذا هو الّذي ينبغي أن يكون مقصود المحقق النائيني في المقام من دعوى عدم قرينية اشتراط القدرة لتقييد إطلاق المادة ، وليس المقصود ان التقييد بالقدرة تكون مرتبته مرتبة الحكم والطلب فلا يمكن أن تكون مقيدة لمرحلة الملاك المتقدمة على الطلب والباعثية كي يورد عليه بما يظهر من بعض كلمات السيد الأستاذ : من ان شرطية القدرة التي تكون قرينة ودالا على التقييد وإن كانت مرتبتها مرتبة الطلب والباعثية إذ من دونهما لا معنى لشرطيتها فتكون متأخرة عن مرحلة الملاك إلا انه لا مانع من تقييدها للملاك فان التقييد يكون بلحاظ المدلول ومقداره ولو كان التقييد متأخرا رتبة ولا أقل من الإجمال باعتبار صلاحيته للتقييد ، ليس هذا مدعى الميرزا بل مدعاه : ان مدلول هذه القرينة ليس إلا بمقدار مرحلة الحكم والباعثية أي القضية الأولى فهي لا تقيد القضية الثانية ولا تصلح لإجمالها أيضا كما اتضح مما سبق.

والصحيح في منع هذا الطريق : إنكار أصله الموضوعي ، فان الخطاب يدل على الحكم والطلب أولا وبالذات وتكون دلالته على الملاك في طول ذلك أي يكون ثبوت الحكم هو الدال على ثبوت الملاك. وهكذا اتضح انه لا يمكن تصحيح العبادة المزاحمة بالملاك بل يتوقف التصحيح على إثبات الأمر فيها بأحد الوجهين المتقدمين أي الأمر العرضي أو الأمر الترتبي واللذين تقدم ثبوت أولهما في الفرع الأول وثبوت الثاني في الفرع الثاني.

وهكذا ينهار الاعتراض الأول على الثمرة.

الاعتراض الثاني : على الثمرة عكس الأول وهو دعوى صحة العبادة حتى على القول بالاقتضاء ، لأن النهي المتعلق بالعبادة المزاحمة يكون غيريا وهو لا يقتضي الفساد.

وقد أوضح هذا المعنى المحقق النائيني ( قده ) والسيد الأستاذ بأن النهي الغيري ما كان من أجل الغير وليس لملاك في متعلقه بل متعلقه على ما هو عليه من الملاك


الفعلي فيكون إيقاعه صحيحا باعتبار الملاك الموجود فيه (١).

وفيه ـ أولا ـ انه إن أريد بالملاك المحبوبية فمستحيلة بناء على الاقتضاء ، لأن القائل به يدعي وجود مبغوضية في الضد وهي لا تجتمع مع المحبوبية ، وإن أريد بالملاك مجرد المصلحة فهي لا تصلح للمقربية لما تقدم منا في مباحث التعبدي والتوصلي ان قصد المصلحة بما هي هي ومن دون إضافته إلى المولى لا يكون مقربا وفي المقام تكون المصلحة مضافة إلى المولى بإضافة البغض لا الحب فلا يمكن الإتيان بها من أجله (٢).

وثانيا ـ هذا فرع إمكان إثبات وجود الملاك وإحرازه في الفرد المزاحم وقد تقدم انه بعد سقوط الأمر بالعبادة المزاحمة لا يمكن إثبات وجود الملاك فيها وبناء على الاقتضاء لا يمكن إحرازه حتى بنحو الترتب لمكان النهي (٣).

وهكذا يتضح عدم ورود شيء من الاعتراضين على ثمرة القول بالاقتضاء فانه في

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٣ ، ص ٤٩.

(٢) الا أن هذا البغض غيري ناشئ من فوات ملاك الأهم فلا ينافي التقرب بالمهم في قبال ان يتركه أيضا فيخسر المولى كلا الملاكين.

فالحاصل : إضافة فعل إلى المولى يعقل كلما كان حال المولى على تقدير الفعل أحسن من حاله على تقدير عدمه ولا إشكال في ان فعل المهم على تقدير ترك الأهم أحسن للمولى من تركهما معا والمفروض ان النهي عنه ليس نفسيا لتكون مخالفته عصيانا وقبيحا فيمنع عن التقرب.

(٣) الأمر الترتيبي بالمهم مشروطا بترك الأهم لا ينافي محبوبية أو وجوب ترك المهم الموصل إلى الأهم ـ بناء على اختصاص الوجوب الغيري بالمقدمة الموصلة ـ كما لا ينافي وجوب الأهم نفسه لأن الأمر بالمهم المشروط بترك الأهم انما يمنع بحسب الحقيقة عن تحقق الترك غير الموصل ولا يمنع عن تحقيق الترك الموصل. ومنه يعرف انه إذا توقف خارجا فعل واجب أهم على ترك واجب مهم لم يكن من باب التعارض بل التزاحم حتى على القول بوجوب مقدمة الواجب على مستوى عالم الحب والبغض.

لا يقال ـ إذا وجب الترك الموصل مطلقا حرم ضده العام مطلقا أي حرم الفعل حتى في فرض ترك الأهم فيلزم اجتماع الأمر والنهي والمحبوبية والمبغوضية.

فانه يقال ـ أولا ـ لا وجه لافتراض نشوء الأمر بفعل عن المحبوبية دائما بل قد ينشأ عن وجود ملاك ملزم فيه يمكن تحقيقه فيأمر به المولى من أجل عدم تفويته ولو فرض عدم محبوبيته أصلا بل مبغوضيته الغيرية كما في المقام بناء على الاقتضاء.

وثانيا ـ بناء على ان مدرك القول بالاقتضاء هو مقدمية عدم الضد وحكم الوجدان بوجوب المقدمة بمعنى محبوبيتها الغيرية فللقائل بالاقتضاء ان يمنع عن حكم الوجدان بالوجوب فيما إذا كان في الضد ملاك لزومي محبوب في نفسه للمولى وسوف يأتي التزام الأستاذ ١ الشريف وفاقا لصاحب الكفاية « قده » بمثل هذا الاستثناء عن وجوب المقدمة في بحوث اجتماع الأمر والنهي عند التعرض لحكم الخروج عن الدار المغصوبة التي دخلها المكلف بسوء اختياره.

وهكذا يظهر صحة الاعتراض الثاني الّذي وجهته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) في المقام على ثمرة بحث الضد ، نعم إذا قلنا باقتضاء الأمر بشيء للنهي عن ضده بلحاظ عالم الحكم والاعتبار أو بلحاظ عالم الإرادة أو الكراهة بوصفها فعلا نفسانيا لا مجرد المحبوبية والمبغوضية وقلنا بامتناع اجتماع الأمر والنهي ـ أي امتناع الأمر بصرف الوجود والنهي عن فرده ـ لم يمكن الأمر بالضد بناء على الاقتضاء ولعل نظر الأستاذ ـ ١ الشريف ـ إلى ذلك.


الفرع الأول وهو ما إذا كانت العبادة المزاحمة واجبا موسعا تكون العبادة على الاقتضاء فاسدة وعلى العدم صحيحة لوجود أمر بها في عرض الأمر بالضد الآخر ، وفي الفرع الثاني وهو ما إذا كانت العبادة المزاحمة واجبا مضيقا أيضا تكون العبادة فاسدة على الاقتضاء وصحيحة على العدم بناء على إمكان الترتب كما هو الصحيح على ما يقع الحديث فيه إن شاء الله.

بل يمكن صياغة ثمرة القول بالاقتضاء بنحو أوسع يكون بطلان العبادة المزاحمة أحد مظاهرها وذلك بأن يقال : انه على الاقتضاء يدخل الخطابان بالضدين في باب التعارض لأن الأمر بالأهم منهما يقتضي النهي عن الآخر فيعارض الأمر به وبناء على عدمه والقول بإمكان الترتب يدخلان في باب التزاحم بينهما في مقام الامتثال. ومن نتائج ذلك انه على القول بالتعارض يحكم بفساد العبادة باعتبار عدم وجود ما يحرز به الملاك عادة بخلافه على القول بعدم الاقتضاء.

__________________

(١) اتّضح ممّا سبق أن حصول التعارض بين الخطابين لايكفي فيه القول بمقدميّة ترك أحد الضدّين لفعل الآخر والقول بوجوب المقدمة ـ الملازمة ـ بل لابدّ من القول بالملازمة حتى فيما اذا كان في الضدّ ملاك لزومي في نفسه وقدعرفت الإشكال في الاُمور الثلاثة كلّها.


الفصل الرابع

« مبحث الترتب »

بعد هذا ننتقل إلى البحث عن إمكان الأمر بالضد المهم بنحو الترتب. والحديث عن ذلك يقع في عدة جهات :

الجهة الأولى ـ ان الغرض من هذا البحث إثبات الأمر بالمهم مترتبا على ترك الأهم ، والثمرة المقصودة من ذلك انه على القول بإمكان الترتب لا يدخل الخطابان المتعلقان بالمتزاحمين في باب التعارض لعدم التعارض بينهما بحسب الجعل الّذي هو مدلول الخطاب لأن كل خطاب مقيد بالقدرة على متعلقه وفي موارد التزاحم لا توجد للمكلف إلا قدرة واحدة لو صرفها في كل منهما ارتفع موضوع الآخر وهذا هو البيان الأولى الساذج لتقريب عدم التعارض وسوف يأتي تعميقه وشرح نكاته.

واما بناء على عدم إمكان الترتب فتقع المعارضة بين الخطابين ويدخل موارد التزاحم في التعارض بين الدليلين ، إذ يكون سقوط أحد الخطابين مما لا بد منه وإلا يلزم طلب الضدين المستحيل.

والسيد الأستاذ قد جعل الثمرة لبحث الترتب عبارة عن صحة العبادة المزاحمة مع الأهم مطلقا وكذلك صحة العبادة الموسعة المزاحمة مع الواجب المضيق بناء على مبنى المحقق النائيني ( قده ) من استحالة الأمر بالجامع الموسع للفرد ، المزاحم ، لاستحالة


التقييد به المستلزم لاستحالة الإطلاق له.

ولكن الأفضل على ضوء ما تقدم جعل الثمرة بالنحو الأوسع ويكون بطلان العبادة وصحتها أحد مظاهر وآثار تلك الثمرة.

كما انه بناء على مسلك السيد الأستاذ من إنكار شرطية القدرة في التكليف لا من باب حكم العقل بالقبح ولا من باب تقيد الخطاب بالقادر روحا ولبا وانما هي شرط في التنجز العقلي ولزوم الإطاعة. أقول : بناء على هذا المسلك الّذي سلكه الأستاذ لا تبقى ثمرة للبحث عن إمكان الترتب وعدمه ، إذ طلب الضدين في عرض واحد يكون ممكنا على هذا القول ، لأنه ليس بأكثر من طلب الفعل من العاجز بل نكتة استحالته انما هو العجز وعدم إمكان الجمع بينهما فلا موجب لسقوط الأمر بالضد بل يبقى الأمر على الضد المهم في عرض الأمر بالأهم ، فشرط تأثير الترتب في الثمرة المقصودة أن يكون الخطاب مقيدا بالقدرة بحيث لا يمكن التكليف بغير المقدور كما هو الصحيح. وقد تقدم منا في بعض الأبحاث السابقة ان الخطاب ولو كان مدلوله عبارة عن اعتبار الفعل في ذمة المكلف ، له ظهور في انه بداعي الجد وليس هزلا وذلك الداعي الجدي هو التحريك والباعثية ، ومن الواضح ان هذا الظهور العرفي لو سلم كان مدلول الخطاب مقيدا بالقدرة لا محالة إذ لا يعقل الباعثية والمحركية نحو غير المقدور.

واما ما أفاده من الثمرة في العبادة الموسعة بناء على استحالة إطلاق الأمر العرضي للفرد المزاحم منها مع الواجب المضيق فقد تقدم دفعه وانه ليس تطبيقا صحيحا لقاعدة استحالة الإطلاق حيث يستحيل التقييد.

وهكذا يتضح : ان ما ينبغي جعله ثمرة للبحث عن إمكان الترتب هو الصياغة العامة التي ذكرناها ، وهي دخول الأمر بالمتزاحمين في باب التعارض على القول بالاستحالة وعدم دخولهما في ذلك على القول بالإمكان ، لا الصياغة التي أفادها الأستاذ من تصحيح الضد العبادي. والصياغتان كلتاهما مبنيتان على أصلين موضوعيين.

أولهما : ـ أخذ القدرة قيدا في التكليف إذ من دونه لا مانع من الأمر بالضدين في عرض واحد ومعه لا موضوع للتعارض ، كما انه سوف يكون الضد العبادي ذا أمر


عرضي فتصحح به العبادة سواء كان الترتب ممكنا أم لا.

ثانيهما : ـ أن لا يكون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن ضده وإلا فلا محالة يكون هناك تعارض بين الأمر بالضد مع النهي عنه سواء قيل بإمكان الترتب أم لا ، كما انه لا يقع الضد عباديا سواء قيل بإمكان الترتب أم لا لمكان النهي وعدم إمكان التقرب بالملاك محضا على ما تقدم.

والصياغة الأولى تمتاز على الثانية من ناحيتين :

الأولى ـ ان الثانية من متفرعات الأولى وشئونها إذ لا تكون صحة الضد العبادي سواء فيما إذا زاحم الواجب الأهم أو الواجب المضيق ـ وقلنا بعدم إمكان الأمر بالجامع الموسع ـ على القول بإمكان الترتب إلا باعتبار عدم المعارضة بين الخطابين ، واما بناء على استحالة الترتب فيكون هناك تعارض بينهما وبالتالي لا يمكن تصحيح الضد العبادي.

الثانية ـ ان الصياغة الأولى للثمرة أعم من الثانية بحيث تثبت حتى على تقدير عدم ثبوت الثانية ، كما إذا افترضنا ان المدلول الالتزامي لا يسقط عن الحجية بعد سقوط المطابقي ، فانه على ذلك يكون الضد العبادي صحيحا حتى لو قيل باستحالة الترتب فلا تثبت الثمرة بصياغتها الثانية إلا انها تثبت بالصياغة الأولى إذ يكون هناك تعارض بين الخطابين على القول بالاستحالة فيحكم قوانين التعارض على الخطابين.

ثم ان التعبير الجاري على كلام السيد الأستاذ لتقريب الثمرة بحاجة إلى شيء من التعديل حيث جعل ثمرة القول بإمكان الترتب تصحيح الضد العبادي مع انه لا وجه لتخصيصها به سواء جعلنا الثمرة بالصيغة الأولى الشاملة أو بالصيغة الثانية. اما على الأول : فلوضوح ان دخول الخطابين في التعارض بناء على الاستحالة وعدمه بناء على الإمكان لا يختص بما إذا كان الخطابان تعبديين أو توصليين أو مختلفين. واما على الثاني : فلأن الضد حتى لو كان توصليا يمكن تصحيحه وإثبات الاجتزاء به بناء على إمكان الترتب ، نعم لو فرض القول بعدم سقوط الدلالة الالتزامية بعد سقوط الدلالة


المطابقية وقلنا بان الملاك لا يمكن التعبد به بل لا بد من الأمر في تصحيح العبادة ، لم يكن الاجتزاء بالضد التوصلي مبنيا على الترتب بل مع استحالته أيضا يجتزأ به باعتبار توفره على الغرض والملاك المنكشف بالدلالة الالتزامية للخطاب.

الجهة الثانية ـ ان كل خطابين سواء كانا متعارضين أم لا ـ قد لا يكون أحدهما رافعا لموضوع الآخر ، كخطاب صل وصم أو خطاب صل ولا تصل. وقد يكون أحدهما رافعا لموضوع الآخر ، وهذا الأخير يكون بأحد أنحاء خمسة ذكرناها تفصيلا في مباحث تعارض الأدلة ونجملها في المقام فنقول :

الأول ـ أن يكون أحد الحكمين بجعله رافعا للآخر ، ومثاله ما إذا سلمنا فقهيا بالكبرى القائلة بعدم دخول مال زكوية واحدة في نصابين ، وقلنا بأن النصاب المتقدم لا يمكن تجاوزه وإهماله ، وافترضنا ان الإبل بلغت عشرين وهو النصاب الرابع وفيه خمس شياة ولكن معلقا على مرور الحول ، وافترضنا انه على رأس ستة أشهر من الحول أصبحت خمسا وعشرين إبلا وهو النصاب الخامس ، فانه في مثل ذلك بناء على القاعدة المذكورة سوف يكون دخول الإبل في النصاب الأول رافعا لحكم النصاب الثاني رغم عدم فعلية حكم النصاب الأول بعد.

الثاني ـ أن يكون أحد الحكمين رافعا بفعلية مجعولة للحكم الآخر ، كما إذا افترضنا ان الفعل المنذور أصبح مرجوحا فانه يرتفع عندئذ وجوب الوفاء بالنذر لأنه قد أخذ فيه رجحان متعلقه أو عدم مرجوحيته على أقل تقدير ، وكذلك الحال في وجوب الوفاء بالشرط.

الثالث ـ أن يكون أحد الحكمين رافعا بوصوله وانكشافه للحكم الآخر ، كما إذا جعلت الغاية في الأصول العملية الانكشاف والعلم الوجداني فانها ترتفع بوصول الحكم الواقعي لا بوجوده واقعا. وكذلك حكم حرمة الإفتاء بغير علم يرتفع بالعلم لا بالوجود الواقعي للحكم.

الرابع ـ أن يكون أحد الحكمين رافعا للآخر بتنجزه ، كما إذا فسرنا الغاية في الأصول العملية بالمنجز فانه حينئذ يكون الحكم الواقعي المنجز ولو بغير العلم الوجداني رافعا لها وواردا عليها ، وكذلك من أمثلة ذلك ما إذا قلنا في باب الزكاة باشتراط كون


المال الزكوي جائز التصرف وغير ممنوع عن التصرف فيه شرعا خلال الحول فان المنع الشرعي انما يتحقق بتنجز حرمة التصرف بنذر أو غير ذلك عليه وبه يرتفع الحكم بالزكاة.

وكذلك من أمثلته ما إذا كان الحكم مقيدا بالقدرة الشرعية ، كما إذا قيد وجوب الوضوء بالماء على كون التصرف فيه مقدورا شرعا فان حرمة التصرف فيه أو وجوب بذله لحفظ النّفس المحترمة مثلا يكون رافعا لوجوب الوضوء بتنجزه لا محالة.

الخامس ـ أن يكون الحكم بامتثاله رافعا للآخر ، كما في التكليف بالكفارات فانه بامتثال الأمر بالصوم وعدم الإفطار يرتفع وجوب الكفارة.

وفي المقام إذا تزاحم واجبان كالإزالة والصلاة فإذا قلنا بإمكان الترتب كان امتثال الأهم هو الرافع للأمر بالمهم لا جعله ولا فعلية مجعوله ولا وصوله أو تنجزه. واما على القول باستحالة الترتب فالتقييد بعدم الامتثال لا يرفع محذور الاستحالة والامتناع بل لا بد من التقييد أكثر من ذلك. والصحيح حينئذ هو التقييد بعدم تنجز الأهم لا بعدم وصوله أو بعدم فعليته فانه بهذا المقدار من التقييد يرتفع محذور الامتناع من البين لأن جعل الأمر بالمهم مقيدا بعدم تنجز الأهم غير ممتنع بل معقول فيكون إطلاق خطاب المهم لحالة عدم تنجز الأهم غير ساقط فيكون المتزاحمان من القسم الرابع بناء على هذا المسلك.

لا يقال ـ هذا أنما يتم لو كان ملاك أخذ القدرة في التكليف هو قبح تكليف العاجز وكونه إحراجا له على العصيان مثلا ، واما لو قلنا بان ملاك التقييد هو استحالة البعث والتحريك نحو غير المقدور بعد استظهار ان التكليف مهما كانت صياغته التعبيرية انما هو بداع جدي هو الباعثية والمحركية.

أقول : بناء على هذا المسلك الّذي هو الصحيح في تخريج شرطية القدرة في الخطابات. لا يكفي تقييد الأمر بالمهم بعدم تنجز الأهم في رفع الامتناع بل يتعين تقييده بعدم فعلية الأهم كي لا يلزم التحريك والبعث نحو الضدين.

فانه يقال : الباعثية والمحركية التي قلنا انها هي الداعي وراء التكاليف والتي على أساسه لا تشمل التكاليف غير القادر يمكن أن يراد بها أحد معان.


الأول ـ أن يكون مصحح التكليف والداعي عليه ـ الّذي هو المراد التكويني من التكليف ـ الباعثية أعني انبعاث المكلف انبعاثا فعليا مطلقا ، وهذا المعنى وإن كان صالحا لتقييد الخطاب والتكليف بالقادر لو فرض استظهاره من الدليل غير انه واضح الفساد في نفسه ، إذ لو كان داعي المولى هو الانبعاث الفعلي فهذا لا يكون إلا في حق المكلف المنقاد دون العاصي فانه لا يتحرك من التكليف فلو كان الداعي هو الانبعاث الفعلي كان معناه عدم التفات المولى إلى وجود العاصي.

الثاني ـ أن يكون الداعي من التكليف الانبعاث على تقدير الانقياد ، بأن يكون التكليف بداعي أن ينقاد المكلف فينبعث. وهذا المعنى أيضا غير تام ، لأنه وإن كان صالحا لتخصيص الخطاب بالقادر الّذي يتعقل في شأنه الانقياد والانبعاث إلا أنه يستلزم تخصيص الخطاب بغير الجاهل بالحكم خصوصا إذا كان جهله مركبا ، فانه حتى لو كان منقادا لا ينبعث بالخطاب ولا ينقاد به إلا بالوصول ، فلو استظهر من الخطاب داعي أن ينقاد المكلف وينبعث كان مخصوصا بمن علم بالتكليف وهو تصويب باطل.

الثالث ـ أن يكون التكليف بداعي الانبعاث على تقدير الانقياد والوصول والتنجز ويكون الوصول والتنجز قيدا في المراد لا الإرادة ، أي يريد بالتكليف أن يصل إلى المكلف فينقاد فينبعث. وهذا المعنى لو استظهر من الدليل لا يوجب تخصيص الخطاب بالعالم بل يشمل الجاهل أيضا ، نعم لا يشمل العاجز لأنه حتى لو وصل إليه لما أمكنه الانقياد.

الرابع ـ أن يكون الداعي هو الانبعاث الاقتضائي أي أن يكون صالحا للمحركية لو لا المزاحم والمانع وهذا هو وجه اشتراط القدرة الشرعية في الخطاب.

فانه لو استظهر من التكليف انه بداعي جعل ما يقتضي التحريك والانبعاث لو لا المزاحم لا التحريك الفعلي كان الخطاب غير شامل لموارد عدم القدرة شرعا ولو كانت القدرة العقلية محفوظة.

الخامس ـ أن يكون الداعي انبعاث كل مكلف نحو المطلوب حسب درجة انقياده ، فيكون الغرض من التكليف بالنسبة إلى من لا ينقاد إلا بالوصول أن يصل


إليه فينقاد وبالنسبة إلى من ينقاد بمجرد الظن والاحتمال أن ينقاد حتى لو لم يصل إليه هذه هي الاحتمالات الخمسة في تصوير الداعي من وراء التكليف ، ومن الواضح أن تقييد الأمر بالضد المهم ـ بناء على استحالة الترتب ـ بعدم تنجز الأمر بالضد الآخر الأهم على الاحتمال الأول والثاني لا يجدي في رفع الامتناع ، إذ لو كان التكليف مقيدا بالقدرة من جهة كونه بداعي الانبعاث الفعلي أو على تقدير الانقياد فهو غير معقول بلحاظ الضدين إذ لا يمكن الانبعاث إليهما حتى إذا كان يريد الانقياد بل لا بد من تقييد كل منهما بعدم فعلية الآخر. واما بناء على الاحتمال الثالث والرابع فلا مانع من التكليف بالضد المهم على فرض عدم وصول الأهم ، لأن المولى وإن كان واقعا مريدا للأهم إلا أن إرادته لا تعني أكثر من داعي تحريك المكلف نحو الأهم على تقدير وصوله إليه وانقياده ، ومثل هذا الداعي لا يمنع عن داعي الانبعاث نحو المهم في فرض عدم وصول الأهم إلى المكلف ولا يلزم من وجودهما الانبعاث والتحريك نحو غير المقدور إذ لا يصل الأهم إلا ويرتفع المهم.

واما الاحتمال الخامس ـ فهو يقتضي إمكان الأمر بالمهم في فرض عدم وصول الأهم وكان بحيث لا ينقاد منه المكلف بحسب درجة اهتمامه بالانقياد للمولى ، واما إذا كان انقياده بدرجة بحيث ينقاد من التكليف المحتمل كان الأمر بالمهم مع احتمال الأهم غير ممكن ولو فرض تقييده بعدم تنجزه ، باعتباره مستلزما لوجود داعيين مولويين للانبعاث نحو الضدين وهو غير معقول. وبهذا يتضح الفارق بين المقام بناء على امتناع الترتب وبين موارد التعارض الأخرى ـ كموارد اجتماع الأمر والنهي بناء على الامتناع ـ فانه في تلك الموارد يقيد كل تكليف بعدم الآخر واقعا لا بعدم تنجزه فان الامتناع هنا لك في مركز أسبق من الحكم والتكاليف وهو مركز الملاك ومبادئ الحكم أي الحب والبغض حيث يستحيل ثبوتا اجتماع حب وبغض في موضوع واحد قبل النّظر إلى عالم التنجز وإطاعة العبد ، واما في المقام فباعتبار تعدد موضوع كل من الأمرين فلا امتناع ولا تعارض من ناحية مبادئ الحكم ـ فيما إذا لم يبن علي اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده ـ واما من جهة نفس الحكم والتكليف بالضدين فلو اقتصرنا على ما يقال من أن الحكم هو مجرد اعتبار لا أكثر


فلا امتناع في التكليف بالضدين حتى في عرض واحد فضلا عما إذا قيد أحدهما بعدم وصول وتنجز الآخر. نعم بلحاظ حكم العقل باستحقاق الامتثال لا بد من تقييد أحد الاستحقاقين بعدم الآخر. واما إذا لاحظنا ما يكشف عنه الحكم من الداعي واستظهرنا انه بداعي البعث والتحريك الّذي لا يعقل بالنسبة إلى غير المقدور ـ كالضدين معا ـ فالامتناع مبني على أحد التفسيرين الأول أو الثاني لداعي الانبعاث على ما تقدم ، واما على التفسيرين الثالث أو الرابع بل الخامس أيضا لو فرض عدم كون المكلف منقادا بدرجة يكفي احتمال التكليف لتحريكه فلا مانع من التكليف بالضدين معا مع تقييد المهم بعدم وصول الأهم ، فلا يكون الساقط من إطلاق الأمر بالمهم إلا بمقدار ما إذا فرض تنجز الأهم.

الجهة الثالثة ـ استدل للقول بإمكان الترتب بالنقض بما ثبت في الفقه من عدم سقوط الأمر بالصلاة الرباعية مثلا حتى إذا وجب على المكلف أن يسافر بنذر أو غيره وقد عصى ذلك ، فانه في مثل ذلك اما أن يقال بسقوط الصلاة رأسا أو بثبوت صلاة ثنائية في حقه أو بثبوت صلاة رباعية على تقدير أن لا يسافر؟ والأولان خلاف الضرورة الفقهية ، والثالث هو الترتب إذ معناه انه مكلف بالسفر وهو على حد التكليف بالإزالة الأهم ومكلف على تقدير عدم السفر بالصلاة الحضرية الرباعية على حد التكليف بالصلاة على تقدير عدم الإزالة.

ونظيره فرع آخر وهو ما إذا كان الواجب الإقامة ولكن المكلف سافر فانه لا إشكال فقهيا في وجوب الصلاة الثنائية عليه في السفر على تقدير عدم الإقامة وهو من الترتب.

ونظيره أيضا ما إذا وجب السفر في شهر رمضان فانه إذا لم يسافر لا إشكال فقهيا في عدم سقوط الصوم عنه على تقدير عدم السفر وهو من الترتب أيضا.

ولنا حول هذا النحو من الاستدلال ثلاث تعليقات :

التعليق الأول ـ ان الفروع الفقهية هذه كلها أجنبية عن الترتب ، لأن هناك علاقتين بين الخطابين في موارد الترتب :

الأولى : ان الأمر بالأهم يستدعي ـ بامتثاله ـ رفع موضوع الأمر بالمهم باعتبار ترتبه على عدم الإتيان بالأهم.


الثانية ـ ان كلا من الأمرين الأهم والمهم يقتضي من المكلف ـ عند فعلية شرط المهم ـ تحركا يعاكس ما يقتضيه الآخر باعتبار التضاد بين المتعلقين فيكون كل منهما مطاردا للآخر.

والعلاقة الأولى من العلاقتين هي المنشأ للقول بإمكان الترتب عند القائلين به حيث انه استوجب توهم عدم التنافر والتعاند بين الخطابين ، والعلاقة الثانية هي المنشأ لتوهم الاستحالة عند القائلين بها ، ومن البديهي ان الأمثلة المذكورة كلها لا تحتوي إلا على العلاقة الأولى من هاتين العلاقتين ، حيث يكون الأمر بالصلاة الرباعية مثلا مترتبا على عدم السفر فيكون الأمر بالسفر مستدعيا بامتثاله رفع الأمر بالصلاة ولكنه لا تضاد بين المتعلقين كي تكون بينهما العلاقة الثانية ، لأن الصلاة الرباعية وإن كانت مقيدة بالحضر وعدم السفر إلا أنه من شرائط الوجوب بحسب الفرض فلا يكون تحت الطلب كي يكون الأمر به مطاردا مع الأمر بالسفر ومقتضيا لتحرك المكلف باتجاه معاكس مع ما يقتضيه الأمر بالسفر كما كان في موارد الترتب ، فكأن سوق هذه النقوض كان نتيجة لملاحظة العلاقة الأولى التي هي مجرد ترتب أحد الأمرين على عصيان الآخر مع أنك عرفت أن هذه العلاقة منشأ القول بالإمكان لا الاستحالة.

التعليق الثاني : ان الضرورة الفقهية في الفروع المذكورة انما تقوم على النتيجة وهي عصيان المكلف بترك الصلاة الرباعية في الفرع الأول والثنائية في الفرع الثاني وترك الصوم في الفرع الثالث ، ولكنها لا تعين كيفية تخريجها وصياغتها ثبوتا وانها على أساس الأمر الترتبي ، وعليه فيكون برهان استحالة الترتب منضما إلى هذه الضرورة الفقهية معينة لصياغة ثبوتية أخرى وهي يمكن تصويرها بأحد وجهين :

الأول : أن يكون هناك أمران عرضيان أحدهما بالسفر والآخر بالجامع بين السفر والصلاة الرباعية في الحضر ـ أو الثنائية في السفر أو الصوم في الحضر ـ فاننا قد تعقلنا في الأبحاث السابقة إمكان وجود أمرين أحدهما بالجامع تخييريا والآخر بالفرد تعيينا فيكون تارك السفر والصلاة معا معاقبا بعقابين لا محالة لتركه مطلوبين


كانا مقدورين في حقه ، واما لزوم ثوابين أيضا لو جاء بالسفر باعتباره ممتثلا الأمرين معا فلو فرض عدم الالتزام به فقهيا أمكن توجيهه بأن الأمرين باعتبار نشئهما عن مصلحتين لا يمكن إلا تحصيل أحدهما دائما فلا يكون عليهما إلا ثواب واحد ، وإنما اقتضيا التكليف بالصياغة المذكورة التي يتعدد فيها الأمر لمجرد الفرار عن محذور طلب الضدين غير المقدور للمكلف.

الثاني ـ أن يقال بتحريم الجمع بين التركين ، ترك السفر وترك الصلاة الرباعية ، ويكفي في تصحيح قربية العمل قصد التخلص من الحرام إذا كان متوقفا عليه كالوضوء من أجل مس المصحف مثلا ، فيكون فعل الصلاة قربيا بهذا الاعتبار ويكون تارك السفر والصلاة معا معاقبا بعقابين لتركه واجبا وفعله حراما.

التعليق الثالث ـ ان النقضين الأولين من هذه النقوض مبنيان على القول بكون السفر والحضر من شرائط وجوب التمام والقصر ، واما لو قلنا بأنهما قيدان في الواجب والوجوب مطلق متعلق بالجامع بين الرباعية الحضرية والثنائية السفرية فلا ترتب أصلا ، بل هناك أمران من أول الأمر بالسفر وبالجامع المذكور ولا ترتب بينهما ولا تضاد بين متعلقيهما إذ السفر يمكن أن يجتمع مع الجامع المذكور كما هو واضح.

نعم هذا المسلك ليس هو المسلك المتعين بل هناك مسلك آخر يرى بان السفر والحضر من شرائط التكليف بالرباعية أو القصر ، وقد يشكل بناء عليه بمن كان حاضرا أول الوقت مسافرا آخره من انه لو كان شرط التكليف بالرباعية ان يكون المكلف حاضرا في تمام الوقت لزم عدم تكليفه في المثال المذكور بها مع وضوح انه لو صلى قبل سفره كان مصداقا للواجب ، ولو فرض ان الشرط هو الحضر ولو في أول الوقت لزم القول بوجوب الرباعية عليه قبل أن يسافر وكونه عاصيا فيما إذا سافر من دون الصلاة مع انه مما لا يلتزم به أحد.

والجواب : بافتراض تقييد زائد في دليل التكليف وشرطه بأن نقول مثلا أن الشرط هو الحاضر في أول الوقت إضافة إلى شرط آخر هو أن لا يسافر بعد ذلك سفرا غير مسبوق بالصلاة الرباعية ، فلو لم يسافر أصلا أو سافر سفرا مسبوقا بالصلاة الرباعية كان التكليف بالرباعية فعليا عليه من أول الأمر وكانت صلاته الرباعية مصداقا


للواجب ، لأنه في الصورتين لم يقع منه سفر غير مسبوق بالصلاة وأما لو سافر سفرا غير مسبوق فلا يكون عليه تكليف بالرباعية من أول الأمر.

الجهة الرابعة ـ استدل على إمكان الترتب بالطولية بين الأمر بالمهم مع الأمر بالأهم فلا مانع من اجتماعهما ، نظير ما يقال في الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية من عدم التمانع والتنافي بينهما لأن مرتبة الحكم الظاهري متأخرة عن الحكم الواقعي المضاد أو المماثل. وقد ذكر في تقريب ذلك وجوه :

الأول ـ ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) نقلا عن بعض القائلين بإمكان الترتب وحاصله : ان الأمر بالمهم في مرتبة متأخرة عن الأمر بالأهم فيكون اقتضائه الإتيان بالمهم في غير مرتبة اقتضاء الأمر بالأهم بل في رتبة متأخرة ، وذلك لأن الأمر بالمهم مترتب على ترك الأهم وهذا الأخير في رتبة فعل الأهم ـ بناء على أن النقيضين في رتبة واحدة ـ وفعل الأهم متأخر عن الأمر بالأهم واقتضائه لأنه معلول له فيكون الأمر بالمهم واقتضائه لفعل المهم متأخرا عن الأمر بالأهم واقتضائه فلا محذور (١).

وهذا التقريب يمكن أن يورد عليه بعدة وجوه :

الأول ـ النقض بما إذا قيدنا الأمر بالمهم بامتثال الأهم لا بعصيانه ، فانه سوف تكون رتبة الأمر بالمهم متأخرة عن رتبة الأمر بالأهم ، مع انه لا إشكال في استحالته حتى عند القائل بإمكان الترتب.

وهذا النقض غير وجيه بهذه الصياغة ، إذ يدفعه : انه على تقدير إتيان الأهم يكون فعل المهم غير مقدور في نفسه إذ الضد المقيد بوجود الضد الآخر ممتنع في نفسه فيكون الأمر به أمرا بالممتنع في نفسه وليس من قبيل الأمر بالضد المقدور في نفسه.

الثاني ـ النقض بما إذا قيد الأمر بالمهم باقتضاء الأمر بالأهم للامتثال أو قل بفعلية الأمر بالأهم فانه في مثل ذلك سوف تتعدد رتبة الأمرين واقتضائهما مع وضوح ان مشكلة تعلق الأمر بالضدين لا ترتفع بذلك.

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ٢٣٣.


الثالث ـ ان غائلة المنافاة والتضاد في اجتماع المتضادين تكمن في اجتماعهما في زمان واحد لا في رتبة واحدة ، لأنها من شئون وجود الضدين في الزمان ولذلك قلنا فيما تقدم من الأبحاث بأن استحالة اجتماع الضدين لا ترتفع حتى لو فرض الطولية بينهما كما لو كان أحدهما علة للآخر ، ففي المقام اجتماع اقتضاء الأمرين بالضدين في زمان واحد يكون مستحيلا ولو كان في رتبتين ، فان ملاك الاستحالة المعية في الزمان لا في الرتبة وغاية ما يثبت بهذا التقريب عدم المعية في الرتبة.

الرابع ـ ان الأمر بالمهم واقتضائه لفعل المهم وإن كان في طول ترك الأهم ولكن ترك الأهم ليس في رتبة فعله ليكون في طول الأمر به ، لأن قانون ان النقيضين في رتبة واحدة غير صحيح على ما مضى في مبحث مقدمية ترك أحد الضدين للآخر فلا تتعدد مرتبة الأمرين.

وهذا الجواب يمكن رده بتغيير الصياغة وذلك بأن يقال : ان المرتب عليه الأمر بالمهم ليس هو ترك الأهم بل عصيانه وهو عنوان انتزاعي يتقوم بالأمر بالأهم إذ من دونه لا يتعقل العصيان فيكون متقدما عليه بالطبع من باب انه كلما وجد العصيان كان الأمر بالأهم موجودا دون العكس.

الخامس ـ ان هذا التضاد بين الأمرين ليس ذاتيا وإنما باعتبار التضاد بين متعلقهما أي الصلاة والإزالة مثلا فتعدد الرتبة بين نفس الأمرين لا يدفع مشكلة الأمر بالضدين التي هي منشأ التنافي بين الأمرين بل يتعين في رفع التنافي والتضاد العرضي بين الأمرين من علاج التضاد الذاتي بين المتعلقين بأن لا يكون من اجتماع الضدين في مرتبة واحدة. وحينئذ إذا قبلنا قانون ان النقيضين في رتبة واحدة أمكن العلاج المذكور ، حيث يكون فعل المهم متأخرا عن الأمر به المتأخر عن ترك الأهم الّذي هو في رتبة فعل الأهم فيتأخر المهم عن الأهم رتبة ، واما إذا أنكرنا ذلك بقيت الممانعة والمضادة بين المتعلقين على حالها فيكون الأمر بهما ولو في رتبتين أمرا بالضدين.

نعم الأمر بالأهم يتطلب هدم موضوع الأمر بالمهم إلا ان هذه نكتة مستقلة للقول بإمكان الترتب سوف يأتي ذكرها في برهان مستقل.

التقريب الثاني ـ ان الأمر بالمهم معلول لعصيان الأهم وسقوط الأهم أيضا


معلول لعصيان الأهم ـ أو ما هو لازمه وهو انتفاء الموضوع وعدم الامتثال ولو بنحو الشرط المتأخر ـ لأن العصيان كالامتثال سبب للسقوط ، إذن فالأمر بالمهم مع سقوط الأهم في رتبة واحدة لأنهما معلولان لشيء واحد وهذا يعني أنه في رتبة الأمر بالمهم لا أمر بالأهم كي يقتضي الامتثال فلا يتنافى الأمران.

وهذا التقريب له بعض امتيازات على سابقه حيث انه لا يحتاج فيه إلى قانون ان النقيضين في رتبة واحدة ، لأنا لا ننطلق في هذا التقريب من ان الأمر بالمهم متأخر عن ترك الأهم فيكون متأخرا عن نفس الأهم والأمر به ، بل ننطلق من ان مرتبة الأمر بالمهم هي مرتبة سقوط الأمر بالأهم لكونهما معلولين لشيء واحد. كما انه لا يرد على هذا الوجه ما قد يورد على سابقه من ان الأمر بالمهم وإن لم يكن يصعد إلى مرتبة الأمر بالأهم ولكن الأمر بالأهم ينزل إلى مرتبة الأمر بالمهم ، فان العلة وإن كانت أقدم من المعلول رتبة لكن معنى التقيد في الرتبة انما هو ان العلة غير متقيد بالرتبة المتأخرة لا انه متقيد بالرتبة المتقدمة بل لها إطلاق ولذلك صح أن يقال وجدت العلة فانضم إليها المعلول فهذا الإيراد لو تم لأبطل الوجه السابق حيث يستلزم فعلية الاقتضاء في كل من الأمرين في الرتبة المتأخرة ، ولكنه لا يرد على هذا الوجه لأن هذا الوجه يثبت فيه سقوط الأمر بالأهم في رتبة الأمر بالمهم لأن علته وهو العصيان علة لسقوط الأمر بالأهم فلا يجتمع الأمر بالأهم حتى بإطلاقه مع الأمر بالمهم في مرتبة واحدة.

ولكن يرد على هذا التقريب أيضا :

أولا ـ ما تقدم من أن غائلة اجتماع الضدين أو الأمر بالضدين لا نرتفع بتعدد الرتبة ، لأن الاستحالة تكمن في المعية الزمانية فلا ينفع عدم المعية في الرتبة لدفع المحذور.

وثانيا ـ ما مضى أيضا من أن الاختلاف في الرتبة لو أفاد لوجب تصويره بين المتعلقين لا بين الأمرين.

التقريب الثالث ـ ان الأمر بالمهم باعتباره مترتبا على عصيان الأمر بالأهم المترتب على الأمر بالأهم فلا يعقل مانعيته عنه ومزاحمته له إذ ما يكون وجوده في طول شيء آخر يستحيل أن يكون مانعا عنه ورافعا له ، إذ لو كان مانعا عنه في ظرف عدمه


كان مستحيلا لأن مانعية المعدوم مستحيلة ، وإن كان مانعا في ظرف وجوده فظرف وجوده هو ظرف ثبوت الأول في الرتبة السابقة بحسب الفرض فمانعيته عنه خلف بل يستلزم أن يكون عادما لنفسه وهو مستحيل ، وعليه فلا يمكن أن يكون الأمر بالمهم طاردا ومزاحما للأمر بالأهم وهو معنى عدم المانعية والتضاد بينهما ومعه لا وجه لفرض المطاردة من قبل الأمر بالأهم أيضا ، لأن ملاك المطاردة هو التضاد وهو لو كان كانت المطاردة من الطرفين وإلا فلا مطاردة حتى من طرف الأهم للمهم.

ويرد عليه : ان هذا التقريب مبني على توهم ان المطاردة بين الضدين من جهة المقدمية وكون كل منهما مانعا عن الآخر وان استحالة اجتماعهما استحالة بالغير إذ يلزم منه وجود المعلول مع عدم علته فيدفع بإقامة البرهان على عدم المانعية في المقام باعتبار الطولية ، ولكن قد تقدم فيما سبق ان استحالة اجتماع الضدين ليست استحالة بالغير بل استحالة بالذات (١).

الجهة الخامسة ـ ان القول بالترتب عليه إشكال رئيس هو استلزام الأمرين بالضدين ولو بنحو الترتب لطلب الجمع بين الضدين وهو غير معقول ، غير ان هناك إشكالات أخرى جانبية قد تورد على القول بالترتب لا بد من تمحيصها :

الإشكال الأول ـ دعوى استحالة الترتب باعتبار ان المترتب عليه الأمر بالمهم وهو عصيان الأهم اما أن يؤخذ بنحو الشرط المتقدم أو المقارن أو المتأخر ، اما أخذه بنحو الشرط المتقدم فيلزم منه أن يكون الأمر بالمهم فعليا في الزمن الثاني بعد زمن العصيان وترك الأهم ، وهذا خارج عن محل الكلام إذ ليس هو الترتب المبحوث عن إمكانه واستحالته إذ يقصد به أن يجتمع الأمران في زمان واحد لا أن يكون فعلية أحدهما في زمن متأخر عن زمن فعلية الأول. هذا مضافا : إلى أن موضوع البحث وقوع التزاحم بين واجبين مضيقين متضادين في الزمان الواحد بحيث لو فرض مضي جزء من ذلك الزمان بنحو تحقق به عصيان الواجب الأهم كان ذلك موجبا لمضي جزء

__________________

(١) بل ويرد عليه أيضا بأن امتناع اجتماع الأمر بالضدين انما كان من جهة التضاد بين متعلقيهما ولزوم طلب الضدين لا التضاد بينهما بالذات ومن المعلوم ان هذا الامتناع لا يرتفع إذا كان المتعلق لكل منهما باقيا على مضادته لمتعلق الآخر فلا بد من بيان لرفع محذور الجمع بين الضدين.


من زمن امتثال المهم أيضا بحيث لا يمكن امتثاله بعد ذلك. واما أخذه بنحو الشرط المقارن فغير ممكن أيضا لاستلزامه أن يكون الأمر بالمهم مقارنا مع زمان عصيان الأهم الّذي هو زمان امتثال المهم فيكون الأمر بالمهم معاصرا زمانا مع امتثاله وهو غير ممكن بل لا بد من تقدم الأمر الباعث على الامتثال والانبعاث ، واما أخذه بنحو الشرط المتأخر فلأنه يستلزم القول بإمكان الشرط المتأخر والواجب المعلق إذ يستلزم أن يكون الأمر بالمهم متقدما زمانا على زمان عصيان الأهم الّذي هو زمان امتثال المهم أيضا فيكون كل من الشرط والواجب في الأمر بالمهم متأخرا عنه وهو مستحيل.

وهذا الإشكال بناء على ما هو الصحيح من إمكان الشرط المتأخر والواجب المعلق لا موضوع له ، واما بناء على إنكار ذلك فيلتزم بأخذ عصيان الأهم شرطا مقارنا وما قيل من استحالته ولزوم تقدم الأمر الباعث على الامتثال والانبعاث مردود.

أولا ـ بالنقض بسائر التكاليف ، فانها تثبت في أول أزمنة الامتثال فلو التزم فيها بتقدم الأمر على الامتثال زمانا وان زمان الواجب يكون متأخرا ولو آنا ما بنحو الواجب المعلق والمشروط بالشرط المتأخر ـ حيث ان القدرة على الواجب في ظرفه شرط للتكليف المتقدم في كل واجب معلق ـ قلنا به في المقام أيضا.

وإن شئت قلت : الجمع بين إبطال الاحتمال الثالث ـ الشرط المتأخر ـ والاحتمال الثاني ـ الشرط المقارن ـ تهافت فان القول بلزوم تقدم الأمر على الامتثال زمانا يستلزم القول بالشرط المتأخر والواجب المعلق في الواجبات.

وثانيا ـ انه لا موجب للالتزام بلزوم انفكاك الأمر عن الامتثال ، إذ لو كان ذلك من أجل ما ذكره صاحب الكفاية من ان الأمر يكون بداعي جعل الداعي في نفس المكلف نحو الامتثال وهو موقوف على حصول مباديه من التصور والتصديق بالفائدة والجزم والعزم وهي أمور زمانية لا بد من تحققها من سبق زمان فلا بد من تأخر الأمر عن تحقق الداعي لامتثاله.

ففيه ـ ان هذه المبادئ لا يتوقف تحققها على وجود الأمر وفعليته بل يمكن تماميتها قبل فعليته كما هو واضح.

وإن كان ذلك من أجل ما أفاده في تقريرات الميرزا ( قده ) من ان الأمر لا بد من


تقدمه زمانا على زمان حصول الامتثال وإلا لزم اما تحصيل الحاصل إذا كان الطلب في زمان وجود الامتثال المحقق أو طلب المستحيل إذا كان الامتثال في زمان الأمر معدوما.

ففيه ـ ان ثبوت الأمر في زمن وجود الامتثال ليس طلبا للحاصل بل طلب لشيء غير حاصل بقطع النّظر عن هذا التحصيل فطلب الحاصل أو الممتنع هو ذلك الطلب الّذي يكون المطلوب حاصلا أو ممتنعا بقطع النّظر عن ذاك التحصيل ، كيف ولو لا ذلك لورد النقض بالعلل التكوينية فان المعلول موجود في زمان وجود العلة ولا انفكاك بينهما في الزمان فيقال ان هذا يستلزم علية العلة لمعلول حاصل أي طلبه الحاصل تكوينا وهو مستحيل. بل لو تم هذا المحذور لورد حتى على تقدير القول بتقدم الأمر على الامتثال زمانا إذ لو بقي الطلب إلى الزمن الثاني الّذي هو زمن الامتثال كان بقاؤه تحصيلا للحاصل وإن ارتفع وانقطع لم يكن يلزم امتثال أصلا فيكون كما إذا بدا للمولى فرفع وجوبه.

وإن كان ذلك من أجل كون الطلب علة لوقوع الامتثال فلا بد وأن يكون متقدما عليه. ففيه : ان هذا غاية ما يلزم منه التقدم في الرتبة لا في الزمان.

وإن كان ذلك من أجل ما يقال : من ان الامتثال علة لسقوط الأمر والطلب فيستحيل أن يكون الأمر ثابتا في زمن الامتثال وإلا لاجتمع ثبوته مع سقوطه وهو تهافت فلا بد من تقدم الطلب على الامتثال زمانا.

ففيه : ما سوف يأتي في جواب بعض المناقشات الجانبية الآتية من عدم كون الامتثال موجبا لسقوط الأمر في آن الامتثال بل في طوله. وهكذا اتضح ان الإشكال الجانبي الأول في غير محله بل يعقل أن يكون العصيان شرطا للتكليف بنحو الشرط المقارن فضلا عن المتأخر.

إلا انه ربما يقال بعدم انحصار تخريج القول بالترتب في أخذ العصيان شرطا بل يمكن أخذ العزم على العصيان شرطا فتكون شرطيته بنحو الشرط المقارن معقولا لا محالة ، غير انه لا بد من البحث عن ان هذا هل يستلزم محذورا آخرا أم لا؟ وهذا حديث نؤجله فعلا إلى مجال آخر.


الإشكال الثاني من الإشكالات الجانبية : انه بناء على القاعدة الميرزائية القائلة باستحالة الإطلاق إذا استحال التقييد لكون التقابل بينهما بالعدم والملكة ربما يقال باستحالة الترتب وذلك بأحد تقريبين :

التقريب الأول ـ ان إطلاق الأمر بالمهم لحالتي عصيان الأمر بالأهم وامتثاله مستحيل إذ يلزم منه طلب الضدين في عرض واحد فيكون تقييده بعصيان الأهم أيضا مستحيلا للتقابل بينهما تقابل العدم والملكة.

وفيه : أولا ـ النقض بالتكاليف كلها فانها لا يمكن إطلاقها للعاجز باعتبارها بداعي جعل الداعي وهو غير معقول في حق العاجز فيلزم أن يكون تقييدها بالقادر مستحيلا أيضا لأن التقييد المقابل لذلك الإطلاق تقابل العدم والملكة.

وثانيا ـ ان استحالة التقييد هي الموجبة لاستحالة الإطلاق دون العكس لأن الوجه في هذا القانون هو انه يشترط في التقابل بنحو العدم والملكة أن يكون المورد قابلا للملكة التي هي الوجود كي يكون عدمها مقابلا لذلك الوجود فليس مطلق عدم ذلك الوجود مقابلا له بل عدمه الخاصّ أي في المورد الّذي من شأنه وقابليته الوجود كالعمى مثلا فانه عبارة عن عدم البصر في المورد القابل للبصر لا غير القابل له ، فإذا استحال الوجود وخرج المورد عن قابليته للاتصاف به لم يكن العدم صادقا فيه أيضا ، كالحائط فانه ليس بأعمى ولا بصير ، واما إذا كان المورد قابلا للوجود ولكنه استحال عليه العدم لضرورة الوجود في حقه فهنا لك تجب الملكة لا أنها تستحيل ، فالله سبحانه يستحيل فيه العمى ومع ذلك هو البصير بعباده ، وعليه ففي المقام استحالة الإطلاق لا تنفع في إثبات استحالة الأمر بالمهم مقيدا بعصيان الأهم.

التقريب الثاني ـ ان تقييد الأمر بالمهم بحالة امتثال الأهم مستحيل لأنه من التكليف بغير المقدور فيكون الإطلاق بمعنى رفض هذا القيد المستتبع لشمول الأمر بالمهم لحالة عدم امتثال الأهم أيضا مستحيلا ، لأنه إذا استحال التقييد استحال الإطلاق والقائل بالترتب يريد إثبات الأمر بالمهم في حال عدم امتثال الأهم وقد ثبت بهذه القاعدة استحالة ثبوته فيه.

وفيه :


أولا ـ النقض أيضا بسائر التكاليف فان تقييدها بحالة العجز مستحيل فلا بد أن يكون إطلاقها المستلزم لثبوتها في حق القادر مستحيلا وهذا يعني انه لا يمكن ثبوت التكليف أصلا لا في حق العاجز ولا القادر.

وثانيا ـ ان ثبوت الحكم في مورد تارة : يكون ثبوتا إطلاقيا الّذي يكون بالإطلاق وعدم التقييد بالخصوصية المقابلة المفقودة في ذلك المورد ، وأخرى : يكون ثبوتا تخصيصيا الّذي يكون بأخذ ذلك المورد وخصوصيته قيدا في الحكم.

والّذي يكون استحالة التقييد موجبا لاستحالته انما هو الثبوت بالنحو الأول أي الثبوت الإطلاقي الّذي يتقابل مع التقييد تقابل العدم والملكة ، واما الثبوت التخصيصي وبالنحو الثاني فلا يكون تقابله مع التقييد تقابل العدم والملكة بل تقابل الضدين والتقييدين فلا يلزم من استحالة أحدهما استحالة الآخر.

الإشكال الثالث ـ ان الأمر بالمهم المعلق على عصيان الأهم إن أخذ عصيان الأهم شرطا متقدما أو متأخرا بالنسبة إليه لزمت المحاذير المتقدمة في الإشكال الأول ، وإن أخذ بنحو الشرط المقارن فيلزم عدم اجتماع الأمرين الترتيبين في زمان واحد ، لأن ظرف عصيان الأهم هو ظرف سقوطه لأن العصيان علة لسقوط الخطاب والعلة مع المعلول متعاصران زمانا فيكون ثبوت الأمر بالمهم فعليا في ظرف لا يكون الأمر بالأهم فعليا فيه وهذا خارج عن كلام القائل بالترتب فانه يقول بإمكان تصوير الأمرين الفعلين بالضدين في زمان واحد بنحو الترتب.

وهذا الإشكال لو فرض التسليم ـ بما يفترض فيه من استحالة الشرط المتأخر الّذي تقدم ردها كان الجواب عليه مع ذلك : بأن العصيان ليس سببا لسقوط الأمر وانما المسقط هو العجز عن امتثال التكليف ، وظرف العصيان ليس ظرف العجز لأن العصيان ند للامتثال ويعني إعمال القدرة في الترك وظرف إعمال القدرة هو ظرف القدرة فيستحيل أن يكون ظرف العصيان هو ظرف العجز لاستحالة اجتماع الضدين في زمان واحد ولو في رتبتين ، وعليه ففي ظرف العصيان يكون الأمر باقيا بعد وغير ساقط وانما يسقط بعد العجز الحاصل في طول العصيان زمانا ، وهكذا الحال في الامتثال أيضا فانه يعني إعمال القدرة في ظرف الفعل فيكون الأمر في ظرفه موجودا


بعد لا ساقطا. وبهذا اتضح الجواب على ما تقدم في الإشكال الأول من دعوى لزوم تقدم الأمر على الامتثال زمانا بدعوى ان الامتثال علة لسقوط الأمر والعلة مع المعلول متعاصران زمانا فلا يمكن أن يكون زمان فعلية الأمر هو زمان الامتثال.

ثم انه قد يحاول التخلص عن هذا الإشكال والإشكال الأول من هذه الإشكالات الجانبية بأخذ العزم على العصيان أو عدم العزم على الامتثال شرطا في فعلية الأمر بالمهم فيكون من الشرط المتقدم أو المقارن.

وقد علق على ذلك كل من المحقق الأصفهانيّ والمحقق النائيني ( قده ). اما ما علقه المحقق الأصفهاني ( قده ) فحاصله : ان أخذ العزم على العصيان شرطا في فعلية الأمر بالمهم يؤدي إلى محذور الواجب المعلق أو هو مع محذور الشرط المتقدم ، وذلك لأن الأمر بالمهم إن كان في زمن العزم على العصيان المتقدم على زمان العصيان كان فيه محذور الواجب المعلق لأن زمان الواجب المهم انما هو زمان العصيان المتأخر بحسب الفرض ، عن زمان العزم على العصيان فإذا كان زمان العزم هو زمان الأمر بالمهم كان من الواجب المعلق لا محالة ، وإن فرض ان زمانه زمان العصيان المتأخر عن زمان العزم كان فيه محذور الشرط المتقدم لأن العزم متقدم زمانا على الوجوب المشروط ، وإن فرض ان زمان الوجوب متخلل بين زمان العزم وزمان العصيان لزم المحذوران معا (١).

وتعليقنا على هذا الكلام : ان العزم على العصيان لو أخذ شرطا فلا بد وأن يؤخذ العزم الثابت حين العصيان شرطا للأمر بالمهم لا مطلق العزم ، إذ لو لا ذلك لما أمكن الأمر بالمهم فان البداء أمر ممكن في حق المكلفين فلو كان مطلق العزم على عصيان الأهم شرطا كان التكليف بالمهم فعليا حتى مع البداء وتبدل العزم فيلزم المطاردة بين الأمرين بالضدين ، ومن الواضح ان العزم على العصيان حال العصيان كنفس العصيان اما أن يؤخذ شرطا مقارنا للأمر بالمهم من حينه أو شرطا متأخرا للأمر بالمهم من قبل ، وعلى أي حال لا يبقى مكسب في تغيير الشرط والانتقال من شرطية العصيان إلى شرطية العزم عليه.

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ٢٣٣.


واما ما علقه المحقق النائيني ( قده ) فدعوى رجوع محذور المصادمة والمطاردة بين الأمرين بالضدين على تقدير أخذ العزم على المعصية شرطا للأمر بالمهم ، حيث أفاد ان النكتة التي بها تعقلنا إمكان الترتب تقتضي أن يكون المترتب عليه الأمر بالمهم هو عصيان الأهم ولا تكفي شرطية العزم على العصيان في دفع المحذور ، فان تلك النكتة هي أن يكون ما يترتب عليه الأمر بالمهم مما يقتضي الأمر بالأهم هدمه أولا وبالذات ، فانه على هذا سوف ترتفع غائلة المطاردة بين الأمرين ـ على ما سوف يأتي شرحه مفصلا ـ ومن الواضح ان الأمر بالأهم يقتضي بذاته هدم عصيان الأهم وتركه لا العزم على عصيانه ، فلو عزم على العصيان ولكنه لم يعص وصدر منه الأهم لم يكن الأمر بالمهم فعليا (١).

وتعليقنا على هذا الكلام من وجوه :

أولا ـ ان ما يقتضي الأمر بالأهم هدمه أولا وبالذات ليس هو العصيان وترك الأهم وانما هو العزم عليه وعدم العزم على الامتثال ، لأن التكليف أنما يجعل من أجل أن يكون داعيا في نفس العبد فمقتضاه الأولي إيجاد الداعي والعزم في نفس العبد على الامتثال فهو يهدم عدم العزم على الامتثال والعزم ، على العصيان أولا وبالذات.

وثانيا ـ ما أفاده السيد الأستاذ (٢) من عدم تمامية ذلك لو تم في الواجبات العبادية التي يكون الداعي والعزم فيها مأخوذا في الواجب ، بل حتى الواجبات التوصلية أيضا فيما إذا قلنا بان التكليف يقتضي تخصيص متعلقه بالحصة الاختيارية كما هو مسلك المحقق النائيني ( قده ) (٣).

وثالثا ـ لا وجه لتخصيص نكتة إمكان الترتب بأن يكون شرطا الأمر بالمهم مما يقتضي الأمر بالأهم أولا وبالذات هدمه ورفعه ، بل الميزان في ذلك أن يكون مقتضى الأمر بالأهم مساوقا مع انهدام وارتفاع موضوع الأمر بالمهم سواء كان بنفسه مقتضى

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٣٠٦.

(٢) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٣ ، ص ١٥٠.

(٣) وهذا الإشكال غير صحيح في شطره الثاني أي بلحاظ التوصليات لأنه خلط بين الإرادة والقدرة فان متعلق التكليف يتقيد بالقدرة لا بالإرادة والقصد المتوقف على العزم فان القدرة والاختيار لدى هذا المحقق وعندنا غير الإرادة.


الأمر بالأهم أم ملازما له ومساوقا معه بحيث لو فرض محالا اجتماع الضدين ووجودهما معا في الخارج لم يكن موضوع الأمر بالمهم فعليا لعدم تحقق شرطه أي لا يكونان معا فعليين لو جمع بين الضدين.

وعلى هذا فإذا كان الفعل الأهم من الأمور القصدية التي لا يمكن تحققها بلا عزم كالتحية والاحترام مثلا ، كان هدم عصيانه ملازما مع هدم العزم على عصيانه أو عدم العزم على امتثاله لاستحالة صدوره بلا عزم على امتثاله بحسب الفرض.

وإذا كان الفعل الأهم مما يعقل صدوره بلا اختيار كان لا بد من أخذ قيد زائد على العزم على العصيان أو عدم العزم على الامتثال وهو قيد أن يكون ترك الأهم تحت اختياره فمن يصدر عنه الفعل الأهم بلا اختيار لا يكون تركه مقدورا له فلا يكون الأمر بالمهم فعليا في حقه.

نعم بناء على ان ملاك إمكان الترتب هو الطولية بين الأمرين لا يمكن الأمر بالمهم مترتبا على العزم على عصيان الأهم أو عدم العزم على امتثاله بل يتعين أن يؤخذ العصيان شرطا فيه ، وذلك لأن العزم على العصيان أو عدم العزم على امتثال الأهم ليس في طول الأمر اما عدم العزم على الامتثال فعدم طوليته للأمر واضح إذ قد يكون ذلك من جهة عدم الأمر أصلا. واما العزم على العصيان فلأنه موقوف على وجود الأمر في أفق العزم وعالم النّفس ، أي على الوجود العلمي للأمر لا الواقعي ولذلك يكون العزم على العصيان موجودا في موارد التجري مع عدم الأمر واقعا.

إلا ان وجدانية عدم الفرق في إمكان الترتب بين أخذ عصيان الأهم أو العزم على عصيانه بنفسه يكون دليلا وجدانيا على بطلان المسلك الّذي ينتج التفصيل بين الشرطين في الإمكان وان الفذلكة الحقيقية لإمكان الترتب غير ذلك.

الجهة السادسة : في البرهان الّذي أفاده المحقق النائيني ( قده ) لإثبات إمكان الأمر بالضدين بنحو الترتب ، وهو مؤلف من خمس مقدمات وهي وإن كانت لا تخلو عن مناقشات إلا ان وضوح فكرة الترتب وإبطال شبهات القائلين بالاستحالة انما كان بفضل تحقيقات هذا المحقق ( قده ). وهذه المقدمات تتكفل أولاها بيان ثمرة القول بالترتب وانه ما ذا تكون النتيجة في حالتي إمكان الترتب واستحالته ، وثانيتها


إثبات ان الأمر بالمهم مشروطا بعصيان الأهم لا ينافي الأمر بالأهم ولا يطارده ، وتتكفل ثالثتها دفع بعض الشبهات والإشكالات الجانبية ، ورابعتها في إثبات ان الأمر بالأهم لا يطارد الأمر بالمهم ، وخامستها في كيفية استنتاج النتيجة من محتوى تلك المقدمات.

والمقدمة الأولى من هذه المقدمات قد تقدم البحث عنها في إحدى الجهات السابقة ، حيث قلنا هناك ان ثمرة القول بالترتب عدم التعارض بين خطاب الأهم والمهم. وعبارة المحقق النائيني ( قده ) في هذه المقدمة وإن كانت مبهمة إلا ان مقصوده ما ذكرناه فيما سبق ، فقد جاء في العبارة التي يذكرها : « ان الأمر بالمهم لا يمكن انحفاظه مع فعلية الأمر بالأهم واشتغال المكلف بامتثاله ولكن على القول بإمكان الترتب يرفع اليد عن خطاب المهم بمقدار قليل وهو ما إذا امتثل الأهم واما على القول باستحالة الترتب فيرفع اليد عن الخطاب بالمهم بمقدار أكثر إذ لا بد من رفع اليد عن إطلاقه لحال فعلية الخطاب بالأهم وتنجزه ولو لم يشتغل به » فان هذه العبارة توهم ان التعارض ثابت بين الخطابين حتى على القول بالترتب في حين انه ليس كذلك لما تقدم من تقيد كل خطاب بمقيد لبي متصل بحال القدرة فلا يشمل حال العجز ، وامتثال الأهم هو حال العجز عن فعل المهم فيكون عدم ثبوت الأمر بالمهم فيه تخصصا لا تخصيصا على ما سوف يأتي تفصيله وتحقيقه ، فالتعبير الأصح ما تقدم في الجهة الأولى من انه على القول بالترتب لا يكون باب التزاحم من التعارض بخلافه على القول بامتناع الترتب.

والمقدمة الثالثة من المقدمات الخمس قد تقدم البحث عنها في الجهة السابقة التي عقدناها لملاحظة الإشكالات الجانبية.

واما المقدمة الثانية فهي في إثبات ان الأمر بالمهم لا ينافي ولا يطارد الأمر بالأهم ، وقد عنونها الميرزا ( قده ) بأن الواجب المشروط لا يخرج بتحقق شرطه عن كونه مشروطا.

وهذه المقدمة يقع البحث عنها في نقطتين :

أولاهما ـ في بيان معنى شرائط الحكم ذلك ان هناك تفسيرين لشرائط الحكم.


التفسير الأول ـ التفسير القائل بأن شرائط الحكم بمعنى المؤثرات في إيجاد الحكم على حد تأثير الأسباب في المسببات وهذا التفسير يحتوي على ثلاثة اتجاهات :

الأول ـ الاتجاه القائل بأن الشرط سبب للحكم حقيقة على حد سببية النار للاحتراق في الظواهر الطبيعية من دون دخل للجعل فيه.

الثاني ـ الاتجاه القائل بأن الشارع يجعل السببية بين الشرط والحكم فيكون الشرط في طول ذلك هو المسبب للحكم.

الثالث ـ الاتجاه القائل بأن الشرط بوجوده العلمي وبتشخيص المولى له شرط حقيقي في وجود الحكم.

التفسير الثاني : التفسير القائل بأن الشرائط ليست إلا عبارة عن الموضوع وظرف تحقق الحكم المأخوذ في القضايا الحقيقية مفروغ الوجود ، فالحكم يوجده ويعتبره المولى على ذلك الموضوع المقدر الوجود فلا يكون دور الشرط أكثر من دور الموضوع ووعاء ثبوت الحكم واما موجد الحكم وفاعله فهو الجاعل لا غير.

والمحقق النائيني ( قده ) يختار التفسير الثاني من هذين التفسيرين لحقيقة الحكم.

النقطة الثانية ـ في بيان انه على التفسير الثاني للشرط يتضح ان الأمر بالمهم لا ينافي الأمر بالأهم بخلاف التفسير الأول. وهذا يمكن تقريبه بعدة أنحاء كل منها يصلح أن يكون هو مراد المحقق النائيني ( قده ) من هذه المقدمة وإن كانت عبارته ظاهرة في بعضها.

التقريب الأول ـ أن يقال بأن الشرط لو كان سببا للحكم وعلة لثبوته على حد الأسباب الطبيعية لمسبباتها كان لا محالة حيثية تعليلية لثبوت الحكم على موضوعه الّذي هو ذات المكلف ، ومعه فلو أخذ العصيان شرطا لفعلية الأمر بالمهم كان حيثية تعليلية لثبوت الأمر بالمهم على ذات المكلف الّذي هو موضوع للتكليف بالأهم في نفس الوقت فيلزم اجتماع الضدين ـ وهما الأمران ـ على موضوع واحد وهو مستحيل وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأن الشرط موضوع للحكم يؤخذ مفروض الوجود فان حيثية العصيان سوف تكون تقييدية فيتعدد موضوع التكليف بالأهم والتكليف بالمهم.


وهذا التقريب أقل ما فيه : ان تعدد عنوان الموضوع للأمرين وكون أحدهما ذات المكلف والآخر المكلف العاصي لا يدفع المحذور طالما ينطبق العنوانان على مكلف واحد حيث يستلزم منه توجه التكليف بالضدين إليه وهو مستحيل.

وإن شئت قلت : ان مشكلة الأمر بالضدين لم تكن من ناحية اجتماع الأمرين الضدين في موضوع واحد كي يقال بأن هناك عنوانين يكون كل منهما معروضا لأحد الحكمين وانما كانت المشكلة المطاردة بين الأمرين والمزاحمة بينهما المستلزم للجمع بين الضدين والتكليف بغير المقدور ومن الواضح ان هذا المحذور لا يندفع سواء افترض الشرط علة للحكم أو موضوعا له.

التقريب الثاني ـ انه على القول بكون الشرائط أسباب ومؤثرات في إيجاد الحكم فالمؤثر يقتضي إيجاد أثره ما دام لم يوجد فإذا وجد الأثر وصار فعليا ينتهي دور المؤثر وإيجاده ، واما إذا كانت الشرائط مجرد موضوع يرتبط به الحكم فبوجود الموضوع لا يخرج المحمول على ذلك الموضوع والمرتبط به عن كونه منوطا ومشروطا به ، فالبياض الّذي موضوعه الجسم بوجود الجسم لا يخرج عن الارتباط به والترتب عليه بل هو منوط به ، وحينئذ نقول : إذا كان عصيان الأهم شرطا بمعنى المؤثر في إيجاد الأمر بالمهم فبوجود هذا الأخير يخرج الواجب المشروط عن كونه مشروطا إلى كونه فعليا وبالتالي مقتضيا مطلقا لفعل متعلقه المساوق مع ترك الأهم فيقع التطارد والتنافي بين الأمرين ، واما إذا كان العصيان شرطا بمعنى الموضوع فتحققه لا يخرج الأمر بالمهم عن كونه مشروطا به ومترتبا عليه فيستحيل أن يكون مقتضيا له وإلا كان دورا.

وهذا التقريب ظاهر من بعض عبائر تقريرات هذا المحقق ( قده ).

ويرد عليه :

ان الإناطة والارتباط كما لا ترتفع عن الحكم وموضوعه بوجود موضوعه كذلك لا ترتفع عن الأثر ومؤثره بوجودهما ، فكما أن العرض بحاجة إلى موضوعه حتى بعد وجوده المعلول بحاجة إلى علته حتى بعد وجوده ، وكما ان الحكم يستحيل أن يحقق موضوعه ويقتضيه كذلك المعلول يستحيل أن يحقق علته ويقتضيها ، فالتفرقة بين الشرط بمعنى المؤثر والشرط بمعنى الموضوع من هذه الناحية مما لا محصل له.


التقريب الثالث ـ أن يكون النّظر إلى خصوص الاتجاه الثالث من الاتجاهات الثلاثة التي احتواها التفسير الأول ، أي الاتجاه القائل بأن الشرط بوجوده العلمي وإحراز المولى له مؤثر في إيجاد الحكم ، فانه على أساس هذا المسلك سوف يكون الشرط مجرد داع للمولى ـ كالمصلحة والمفسدة ـ ويكون تشخيصه له هو السبب للإنشاء واعتبار الحكم على المكلف ولا يمكن للمكلف إعمال تشخيصه في ذلك ، وعلى ذلك فلو فرض ان عصيان الأمر بالأهم كان شرطا من هذا القبيل كما لو كان المكلف بين يدي المولى وأحرز المولى انه يعصي الأمر بالأهم فأمره بالمهم ، أو قيل بأن الخطابات المشروطة ليست إلا عبارة عن مجموعة من الخطابات المطلقة على خصوص المكلفين الذين قد أحرز الله تعالى تحقق الشرط في حقهم وان القضية الحقيقية المجعولة مجرد تعبير وتجميع لتلك الخطابات الخاصة كان الأمر بالمهم حينئذ منافيا ومطاردا مع الأمر بالأهم لأنه تكليف مطلق بالضدين وهو تكليف بغير المقدور. وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأن الشرط بمعنى الموضوع.

وهذا التقريب ظاهر جزء آخر من عبارة التقرير ، وهو وإن كان صحيحا إلا أنه لم يكن متوهما من قبل القائل بامتناع الترتب في المقام ، بل الدخول في البحث عن امتناع الترتب واستحالته انما هو بعد الفراغ عن كون التكاليف المشروطة مجعولة على نهج القضايا الحقيقية وليست عبارة عن الجمع بين تكاليف مطلقة لخصوص من يتحقق الشرط في حقهم.

ومن مجموع ما تقدم في هذه المقدمة اتضح ان مهم النكتة في عدم المنافاة بين الأمر بالمهم مع الأمر بالأهم والّذي لم يتصد في المقدمة لإثباته والتوجه إليه مستقلا لتوضيحه وتنقيحه وانما اشتغل ببيان معاني الشرطية التي هي أجنبية عن روح البحث وأصله.

أقول : قد اتضح ان النكتة كامنة في ان الأمر بالمهم بعد كونه مشروطا ومترتبا على عصيان الأهم لا يمكن أن يكون مقتضيا له وهذا ما سنوضحه وننقحه بشكل أكثر تفصيلا لدى التعرض إلى لباب برهان إمكان الترتب.

واما المقدمة الرابعة ففي بيان عدم المطاردة بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم وهذا ما يمكن توضيحه ضمن نقاط ثلاث :


النقطة الأولى ـ ان ثبوت الحكم في تقدير من التقديرات يكون بأحد أنحاء ثلاثة :

١ ـ أن يثبت الحكم بإطلاق الخطاب لذلك التقدير أو التقييد به في نفس الجعل الأول ، وهذا انما يكون في التقسيمات الأولية التي تثبت للموضوع في نفسه وبقطع النّظر عن طرو الحكم عليه ، كتقسيم العالم إلى العادل وغيره ، فيحفظ الحكم في فرض العدالة مثلا بالإطلاق في خطاب أكرم العالم أو بلحاظ تقييده بالعالم العادل ، وهذا صحيح في جميع التقسيمات الأولية ما عدا قسم واحد سوف يأتي الحديث عنه.

٢ ـ أن يثبت الحكم بنتيجة الإطلاق أو الإطلاق الذاتي والملاكي وذلك فيما إذا لم يكن يمكن حفظ الخطاب في تقدير من التقديرات لا بالإطلاق ولا بالتقييد في الجعل الأول بل كان لا بد من جعل آخر به يحفظ الحكم ويسمى ذلك بمتمم الجعل باعتبار كون ملاك الحكم وروحه مطلقا أو مقيدا بذلك التقدير.

وهذا النحو من حفظ الخطاب انما يكون في التقسيمات الثانوية كثبوت الحكم في صورة جهل المكلف بالحكم أو علمه به باعتبار استحالة إثبات الحكم فيها بالجعل الأول ابتداء.

٣ ـ أن يحفظ الحكم في تقدير من التقديرات بذاته لا بالإطلاق والتقييد ولا بنتيجة الإطلاق والتقييد لاستحالة ذلك وهذا انما يكون بالنسبة إلى ثبوت الحكم في حالتي العصيان والامتثال والوجود والعدم لمتعلقه ، فان إطلاق الخطاب أو تقييده بالجعل الأول أو الثاني بنتيجة الإطلاق والتقييد لهذين التقديرين مستحيل ، لأنه لو قيد الحكم بوجوب الإكرام بفرض وجود الإكرام فهو تحصيل للحاصل ـ سواء كان ذلك بالجعل الأول أو الثاني ـ ولو قيد بعدم الإكرام لزم تحصيل الممتنع ـ وهو من طلب الجمع بين النقيضين ـ وكذلك إطلاق الحكم لحالتي وجود المتعلق وعدمه مستحيل أيضا ، إما باعتبار استحالة التقييد إذا استحال الإطلاق على مسالك المحقق النائيني ( قده ) أو باعتبار ان الإطلاق للحالتين يستلزم الجمع بين المحذورين من تحصيل الحاصل وتحصيل الممتنع ، وعليه : فلا يمكن أن يكون الخطاب محفوظا بالإطلاق أو التقييد في هذا الانقسام أعني انقسام متعلقه إلى حالتي الوجود والعدم أو العصيان


والامتثال ، فلا بد وأن يكون الخطاب محفوظا في تلك الحالة بذاته أي أنه بنفسه متعرض إلى إيجاد المتعلق وامتثاله وليس من قبيل الموضوع وقيوده التي يحتاج حفظ الخطاب فيها إلى الإطلاق أو التقييد في الجعل الأول أو متممه.

النقطة الثانية ـ ان الفرق بين الحفظ الذاتي للخطاب في الحالة الثالثة مع حفظه بالإطلاق أو التقييد أو نتيجة الإطلاق أو التقييد في الحالتين الأخريين ان الحكم تكون نسبته إلى ذلك التقدير في النحوين الأولين نسبة المعلول إلى العلة وفي النحو الثالث نسبة العلة إلى المعلول ، فوجوب إكرام العالم الثابت في تقدير العدالة بالإطلاق أو التقييد أو بنتيجة الإطلاق والتقييد فرع ثبوت ذلك التقدير أي العدالة وفي طوله وهذا بخلاف ثبوت الحكم في الحالة الثالثة فليس في طول وجود المتعلق أو عدمه بل المتعلق في طوله وجودا وعدما. ويتفرع على ذلك ان الحكم في النحوين الأولين لا يمكنه أن يحفظ تقدير ثبوته وموضوعه لأن المعلول لا يمكنه أن يثبت علته أو ينفيها ، واما في النحو الثالث فباعتبار كون الحكم علة فيه فهو يقتضي إيجاد ذلك التقدير وحفظه وهدم عدمه.

النقطة الثالثة ـ ان نتيجة ذلك وإن كان فعلية كلا الخطابين الأهم والمهم في حال عصيان الأهم إلا أنه لا يستلزم ذلك التنافي بينهما لاختلاف سنخ ثبوتهما ، فان ثبوت خطاب الأهم انما هو بالنحو الثالث بينما ثبوت خطاب المهم بالنحو الأول وبذلك ترتفع المنافاة بين الأمرين لارتفاع المنافاة بين المقتضيين ـ بالفتح ـ إذ مقتضى الأمر بالأهم هدم عدم الأهم ـ لما قلناه في النقطة السابقة ـ وليس مقتضى الأمر بالمهم عدم الأهم ـ لما قلناه في النقطة السابقة أيضا من عدم تعرض الحكم المحفوظ في تقدير بالنحو الأول لإثبات ذلك التقدير أو نفيه ـ وهذا يعني أن الأمر بالأهم يقتضي هدم عدم الأهم والأمر بالمهم يقتضي هدم عدم المهم على تقدير عدم الأهم ، وبالتطبيق على المثال يقول ان الأمر بالإزالة ـ الأهم ـ يقتضي هدم عدم الإزالة والأمر بالصلاة ـ المهم ـ يقتضي هدم عدم الصلاة على تقدير عدم الإزالة والأمر بالأهم وهو الإزالة في المثال لا يقتضي هدم الصلاة على تقدير الإزالة لكي يكون خلاف مقتضى الأمر بالمهم بل يقتضي هدم الإزالة نفسها واما لو فرض عدم الإزالة فالأمر


بالأهم ـ الإزالة ـ لا يقتضي عدم الصلاة على ذلك التقدير. وهكذا يظهر ان مقتضى كل من الأمرين متعاكس مع مقتضى الآخر ، فما يقتضي الأمر بالأهم هدمه لا يقتضي الأمر بالمهم إثباته وما يقتضي الأمر بالمهم هدمه لا يقتضي الأمر بالأهم إثباته وبذلك ارتفعت المطاردة بين الأمرين.

وهذه المقدمة وإن كان فيها روح النكتة لإمكان الترتب إلا انه باعتبار كونها حشيت بكثير من الاصطلاحات والنكات الإضافية قد ضاعت النكتة من خلال تضاعيفها كما سوف يتضح.

وحاصل تعليقنا على هذه المقدمة : اما فيما يرجع إلى النقطة الأولى فثبوت الخطاب وحفظه في تقدير من التقديرات بالإطلاق والتقييد اللحاظيين أمر صحيح نتعقله ، وإن كنا نختلف مع المحقق المذكور في فهم الإطلاق وكونه لحاظيا دائما أو يمكن أن يكون ذاتيا ومن دون لحاظ للإطلاق.

واما ثبوته بمتمم الجعل ونتيجة الإطلاق فهذا قد تقدم البحث عنه فيما سبق من أبحاث التعبدي والتوصلي ، وقد قلنا هناك بأن التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل السلب والإيجاب لا العدم والملكة فحيث يستحيل التقييد بقيد يصبح الإطلاق ضروريا بنفس الجعل الأول.

واما النحو الثالث من حفظ الخطاب المسمى عند هذا المحقق ( قده ) بالحفظ الذاتي فهذا ينطوي على شقين شق سلبي هو عدم ثبوت الحكم في تقدير الامتثال والعصيان بالإطلاق والتقييد أو نتيجتهما ، وشق إيجابي هو ان الخطاب ينحفظ في تقديري الامتثال والعصيان بالذات.

اما الشق السلبي فاستحالة انحفاظ الحكم في تقديري الامتثال والعصيان بالتقييد صحيح ، واما إطلاق الحكم للتقديرين فليس بمستحيل بل ضروري وكلا الوجهين اللذين قيل في استحالته غير تام. إذ الوجه الأول مبني على أن يكون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة وقد عرفت أنه تقابل السلب والإيجاب. والوجه الثاني أعني اشتمال الإطلاق على محذوري التقييد بالامتثال والتقييد بالعصيان فيه ما تقدم في مباحث التعبدي والتوصلي من ان استحالة التقييد تارة يكون محذوره في


ثبوت الحكم على المقيد وأخرى في التقييد فالنحو الأول من المحذور يثبت في الإطلاق أيضا إذ المحذور قائم في ثبوت الحكم على الحصة المعينة سواء كان الثبوت بإطلاق أو بتخصيص ، واما النحو الثاني من المحذور فهو غير جار في المطلق إذ مركزه نفس التقيد والمفروض عدمه في المطلق ، ومقامنا من الثاني لا الأول إذ لا محذور في ثبوت الحكم في حالتي العصيان والامتثال وانما المحذور في نفس تقييد الحكم بحالة العصيان أو حالة الامتثال فيرتفع بالإطلاق.

واما الشق الإيجابي فلم يتحصل لنا منه معنى ، إذ لا معنى للحفظ الذاتي فان الحكم تابع لوجود موضوعه وثبوته كذلك فرع الإطلاق والتقييد ، نعم الحكم يقتضي التحريك نحو متعلقه وهدم تركه ذاتا إلا أن هذا التحريك فرع ثبوته والكلام في ما يحفظ ثبوته.

واما النقطة الثانية ، فقد أفيد فيها مطلبان. أحدهما ـ ان الحكم الثابت في تقدير ما بأحد النحوين الأوليين أي الإطلاق أو التقييد في الجعل الأول أو في الجعل الثاني يكون في طول ذلك التقدير. والثاني : ان النحو الثالث من أنحاء حفظ الحكم وهو الحفظ الذاتي لا يكون الحكم فيه في طول العصيان والامتثال بل العصيان والامتثال في طوله.

اما تعليقنا على المطلب الأول فهو ان الحكم الثابت بالتقييد كما أفيد يكون ثبوته فرع ثبوت القيد وفي طوله ، واما الحكم الثابت بالإطلاق الشامل لتقدير من التقادير فلا يكون ثبوته فرع ذلك التقدير ، فوجوب الإكرام الثابت للعالم الفاسق بإطلاق أكرم العالم لا يكون فرع فسق العالم أو عدالته ، نعم ثبوته فرع ثبوت الإطلاق في جعل المولى حين الإنشاء والجعل وهذه الطولية خارجة عن محل للكلام.

واما تعليقنا على المطلب الثاني فما أفيد فيه من طولية الامتثال للأمر وإن كان مفهوما إلا أن طولية عدم الامتثال للأمر غير صحيح إلا بناء على كون النقيضين في رتبة واحدة الّذي عرفت بطلانه.

واما النقطة الثالثة ، فحاصل تعليقنا عليها ان الأمر بالمهم وإن كان لا يقتضي ترك الأهم إلا أن الأمر بالأهم يقتضي ترك المهم فيكون التنافي بين المقتضيين ـ بالفتح ـ ثابتا.


وما قيل : من ان الأمر بالأهم يقتضي هدم عدم الأهم ولا يقتضي هدم المهم على تقدير عدم الأهم. مدفوع : بأنه إن أريد من ذلك ان الأمر بالأهم ليس له اقتضاء لهدم المهم مقيدا بتقدير عدم الأهم بأن يقتضي على تقدير عدم الأهم هدم المهم فهذا صحيح لأن الأمر بالأهم لا يمكن إثباته مقيدا بتقدير عدم الأهم كما تقدم في النقاط السابقة ، إلا أن الالتزام بهذا غير لازم بل المدعى الّذي اعترف به هذا المحقق أيضا ثبوت اقتضاء الأمر بالأهم في حال عدم الأهم لا مقيدا بذلك الحال ـ سواء كان ذلك من باب الإطلاق أو الحفظ الذاتي ـ ومع ثبوته في حال عدم الأهم يكون مقتضيا لهدم المهم في هذا الحال أيضا ، والمفروض ان الأمر بالمهم يقتضي فعل المهم فيه فتقع المطاردة والمنافاة بينهما لا محالة ، وهكذا يتبين انه لا يمكن دفع غائلة المطاردة بين الأمرين بلحاظ المقتضيين ـ بالفتح ـ للأمرين ، وانما النكتة الصحيحة لدفع الغائلة هو عدم المنافاة بين المقتضيين ـ بالكسر ـ للطولية بينهما على ما سوف نشرحه في الجهة القادمة إن شاء الله تعالى.

وأما المقدمة الخامسة ـ فقد مهدت لدفع بعض الإشكالات على الترتب التي تقدم شطر منها في الجهة الثانية ويأتي شطر منها في جهة لاحقة ، ومقتضى سياق هذه المقدمة أن تكون في مقام استخلاص النتيجة من الأبحاث المتقدمة في المقدمات السابقة إلا أنه مع هذا بين فيها مطلب جديد لتعزيز برهان إمكان الترتب وحاصله : ان وجه المنع عن الأمر بالضدين انما هو محذور طلب الجمع بين الضدين وهذا غير حاصل في الأمرين بالضدين بنحو الترتب ، إذ ليس من طلب الجمع بل من الجمع في الطلب ، لأن طلب الجمع انما يلزم لو كان الأمر بالضدين مطلقا أو مقيدا بامتثال الآخر واما إذا كان أحدهما مطلقا والآخر مقيدا بعدم امتثال الآخر فلا يلزم طلب الجمع ، إذ لو فرض محالا إمكان الجمع بين الضدين وإيقاع المكلف لهما معا لم يقعا معا على صفة الوجوب بل كان الأهم هو الواجب والمهم غير واجب لعدم تحقق شرطه وهو ترك الأهم ، وهذا برهان عدم استلزام الأمر بالضدين بنحو الترتب لطلب الجمع بينهما بل استحالة استلزامهما لذلك.

وهذه النكتة الإضافية إن لم ترجع إلى ما أشرنا إليه من الطولية بين الأمرين في


الاقتضاء لا تكون دليلا مستقلا ، وذلك لإمكان أن يجاب عليه : بأنه إن فرض اجتماع الضدين محالا دون اجتماع النقيضين فللخصم أن يقول أن عدم اتصاف الضد المهم بالمطلوبية ليس لأجل عدم الأمر به بل لأجل عدم كونه هو المطلوب إذ كان المطلوب هو المهم المقيد بعدم الأهم لأن قيود الهيئة والوجوب ترجع إلى المادة والواجب أيضا.

وإن فرض اجتماع النقيضين أيضا وان الأهم موجود ومعدوم في آن واحد ، إذن كان الفعلان واجبين ومطلوبين معا لتحقق شرط وجوبهما خارجا كما هو واضح.

فالصحيح أن يقال : أن المولى في الترتب لا يطلب الجمع بين الضدين بنكتة جعله الأمر بالمهم في طول عدم اقتضاء الأمر بالأهم ومعه يستحيل أن يكون الأمران مؤديين إلى طلب الجمع على ما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

الجهة السابعة ـ في بيان الفذلكة الرئيسية لوجه إمكان الترتب وعدم استحالته وذلك بأحد بيانين :

البيان الأول ـ ويتكون من نقطتين :

الأولى ـ انه لا ريب ولا إشكال في أن المحذور الموجود في الأمر بالضدين انما هو بلحاظ التمانع بينهما في مقام التأثير والامتثال بحيث لو قطع النّظر عن ذلك لم يكن هناك محذور آخر من تناقض أو اجتماع ضدين ، لعدم التضاد ذاتا بين الأمرين كما هو واضح.

الثانية ـ ان التمانع بين الأمرين في مقام التأثير يرتفع من البين فيما إذا رتب الأمر المهم على عدم فعل الأهم ، لاستحالة مانعية الأمر بالمهم حينئذ عن تأثير الأمر بالأهم واستحالة مانعية الأمر بالأهم عن تأثير الأمر بالمهم.

اما الاستحالة الأولى فوجهها لزوم الدور لأن الأمر بالمهم متفرع بحسب الفرض على عدم الأهم ومعه يستحيل أن يكون مانعا عن اقتضاء الأمر بالأهم وتأثيره لأن معنى ذلك أن يكون عدم الأهم مستندا إلى الأمر بالمهم وهو محال ، وهذا هو معنى ان اقتضاء الأمر بالمهم في طول عدم اقتضاء الأمر بالأهم فلا تنافي بين المقتضيين ـ


بالكسر ـ.

واما الاستحالة الثانية ـ فلأن الأمر بالأهم إذا كان مانعا عن تأثير الأمر بالمهم في فرض عدم وجود الأمر بالمهم فهو غير معقول إذ المانع عن تأثير مقتضى ما لا بد أن يفرض في ظرف وجود ذلك المقتضي ، وإن كان مانعا عن تأثيره في فرض وجوده ففرض وجوده هو فرض وجود موضوعه الّذي هو عدم الأهم وهو ظرف محرومية الأمر بالأهم عن التأثير في نفسه ، لأن الأمر بالمهم بحسب الفرض مرتب على فرض عدم الأهم الّذي يعني عدم تأثير الأمر بالأهم في إيجاد متعلقه في نفسه وعليه فمانعية الأمر بالأهم عن تأثير الأمر بالمهم في هذا الظرف مستحيلة أيضا لأنه خلف ، وهكذا يتبرهن عدم إمكان التمانع بين الأمرين.

البيان الثاني ـ وهو مبني على مسلكنا في تفسير الواجب المشروط الّذي أوضحناه مفصلا في بحث الواجب المشروط من ان الوجوب المشروط والإرادة المشروطة مرجعها لبا إلى إرادة مطلقة متعلقة بالجامع بين الجزاء على تقدير الشرط وعدم الشرط.

فإرادة الماء على تقدير العطش مرجعها إلى إرادة فعلية للجامع بين أن لا يعطش وأن يشرب الماء على تقدير العطش.

فانه بناء على هذا التخريج للواجب المشروط ترتفع شبهة استحالة الترتب في المقام رأسا ، لأن الأمر بالمهم المشروط بترك الأهم يرجع إلى إرادة الجامع بين إتيان المهم على تقدير عدم الأهم أو إتيان الأهم ومن الواضح ان الأمر الجامع بين المهم والأهم ليس مضادا أصلا مع الأمر الأهم وانما التضاد بين الأهم تعيينا والمهم تعيينا كما هو واضح (١).

ثم ان هنا إشكالات قد تورد على إمكان الترتب والمستحق منها للتعرض له اثنان نقتصر عليهما.

الإشكال الأول ـ دعوى ان القول بإمكان الترتب يستلزم تعدد العقاب فيما إذا

__________________

(١) ولكن قد تقدم ان إرادة الجامع تتولد منها إرادة تعيينية بالجزاء على تقدير عدم الشرط فيرجع التضاد بينها وبين إرادة الأهم فلا محيص عن البيان الأولى.


خالف المكلف وترك الضدين معا ، مع انه لم يكن للمكلف قدرة إلا على أحد الفعلين فيكون أحد العقابين على أمر غير اختياري والعقاب على ما ليس بالاختيار كالتكليف من غير اختيار قبيح عقلا.

وقد أجاب عن هذا الإشكال المحقق النائيني ( قده ) بجوابين نقض وحل.

اما النقض : فبالواجب الكفائي إذا ما كان لا يتحمل التكرار كقتل حيوان مفترس مثلا فانه في مثل ذلك أيضا لا يكون صدور الفعل من الكل مقدورا إلا مشروطا بترك الآخرين ـ في حين انه لا إشكال في معاقبة الجميع إذا عصي الواجب الكفائي. وهذا النقض يمكن دفعه بإبراز الفرق بين المورد المنقوض به ومحل الكلام فانه يمكن أن يبرهن على وجود قدرات متعددة بعدد المكلفين في الواجب الكفائي ، غاية الأمر : ان إعمال كل منهم لقدرته فرع عدم المزاحم الخارجي الّذي منه سبق غيره إلى امتثال الواجب الّذي لا يقبل التكرار ، لأن القدرة إذا كانت واحدة فهي من الأعراض التي بحاجة إلى محل تقوم به فما هو المحل الّذي تحل فيه؟ إن كان هو أحد المكلفين تعيينا كان ترجيحا بلا مرجح ، وإن كان الجامع بينهم فالجامع لا وجود له بحده الجامعي في الخارج ومثله الفرد المردد فلا محيص من أن يقال بقيام القدرة بكل واحد منهم الّذي هو معنى تعددها خارجا ، ومثل هذا البرهان نفتقده في محل الكلام إذا ادعى الخصم وجود قدرة واحدة قائمة بالمكلف الواحد على الجامع بين الضدين أي أحدهما.

وإن شئت قلت : ان الواجب الكفائي يوجد فيه عقاب واحد إلا أن نسبة هذا العقاب إلى المكلفين كلهم على حد سواء لعدم خصوصية في أحدهم من حيث القدرة فلا محالة يستحق العقاب كلهم جميعا فلا نقض. والأفضل تبديل هذا النقض بالنقض بالتكليف بالضدين في زمانين كما إذا فرض ان الزيارة صباحا مع الزيارة ليلا وقع بينهما تضاد لدى المكلف بحيث لم يكن يمكنه أن يأتي بهما معا وكان هناك تكليف بالزيارة صباحا أو الزيارة ليلا على تقدير عدم الزيارة صباحا وهو تكليف جائز حتى عند القائل باستحالة الترتب إذ لا يستلزم اجتماع التكليف بالضدين في زمان واحد


كي يلزم المطاردة بينهما وانما التكليف بكل منهما في زمان غير زمان الآخر. فلو فرض عصيان المكلف وتركه للفعلين معا كان هناك عقابان لا محالة حتى عند القائل بعدم إمكان الترتب مع انه يجري فيه الإشكال المزبور ، إذ لا قدرة على الفعلين معا فأحد العقابين على ما ليس بالاختيار لا محالة.

واما الحل الّذي أفاده المحقق النائيني ( قده ) فحاصله : ان الإشكال المذكور مبني على توهم كون العقاب الثاني على عدم الجمع بين الضدين وهو غير مقدور ، مع انه ليس كذلك وانما هو عقاب على الجمع بين المعصيتين وقد كان مقدورا للمكلف أن لا يجمع بين المعصيتين فيما لو جاء بالأهم. ثم عبر في ذيل كلامه بان العقاب على كل من المعصيتين لكون كل منهما كان مقدورا في نفسه وميزان العقاب أن تكون المعصية المعاقب عليها مقدورة في نفسها (١).

وهذا الجواب الحلي لا بد من تمحيصه ، فان الميزان في صحة العقاب أن يكون التخلص من المخالفة مقدورا للمكلف واما أن يكون الفعل والامتثال مقدورا فهو شرط في معقولية التكليف وعدم لغويته ، ومن الواضح انه في المقام يكون التخلص من مخالفة التكليفين بالأهم والمهم بنحو الترتب مقدورا للمكلف وإن لم يكن امتثالهما معا مقدورا له فيكون تعدد العقاب في محله ، نعم يشترط في تحقق المعصية عندنا أن يكون مخالفا للتكليف المولوي بنحو يؤدي إلى تفويت الملاك عليه لا مجرد مخالفة الخطاب المولوي وعليه فلو كان الخطابان الترتيبان فعليين من حيث الملاك أي لم يكن الاشتغال بأحدهما رافعا للآخر ملاكا فلا يستحق المكلف أكثر من عقاب واحد لأنه لم يفوت باختياره إلا ملاكا واحدا واما الملاك الآخر فقد كان فائتا عليه لا محالة فلا بد من التفصيل بين الحالتين.

والفرق بين الّذي قلناه وبين تعبيرات المحقق النائيني ( قده ) يظهر فيما إذا فرض الأمر بالضدين مطلقا كما إذا صدر من المولى أمر بهما بنحو القضية الخارجية اشتباها وغفلة عن التضاد بينهما ، فانه بناء على تعبيرات المحقق النائيني ( قده ) ينبغي أن يقال

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٣ ، ص ١٤٢ ، أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٣٠٨.


باستحقاق المكلف لعقابين لو عصى ولم يأت بشيء منهما لأن كلا منهما في نفسه كان مقدورا أو قل لأن كلا منهما معصية مقدورة في نفسها والجمع بينها وبين المعصية الأخرى مقدور أيضا ، مع حكم الوجدان بعدم استحقاقه ذلك مما يبرهن على ما قلناه من ان الميزان في صحة العقاب إمكان التخلص عن المعصية ، والمكلف في المثال لا يمكنه التخلص إلا عن إحدى المعصيتين لا كلتيهما فلا يستحق إلا عقابا واحدا لا عقابين.

الإشكال الثاني ـ إشكال إثباتي وحاصله : ان غاية ما ثبت مما تقدم إمكان الترتب ثبوتا ولكنه لا دليل عليه إثباتا ، إذ دليل الأمر بالضد غير الأهم كالصلاة المزاحمة مع الإزالة مثلا انما دل على الوجوب المطلق الّذي فرغ عن استحالته بعد ثبوت الأمر بالأهم والوجوب المشروط بعدم الأهم لم يرد دليل عليه لنثبته به.

وهذا الإشكال أيضا أجاب عنه المحقق النائيني ( قده ) بجوابين (١) :

الأول ـ ان إثبات الواجب المشروط الترتبي لا يحتاج إلى دليل خاص بل إطلاق الخطاب بالصلاة بنفسه يثبت ذلك ، وذلك تطبيقا لقانون انه كلما دار الأمر بين رفع اليد عن أصل إطلاق الخطاب لفرد أو عن بعض حالاته تعين الثاني لكون الإطلاق بلحاظ تلك الحالة متيقن السقوط على كل تقدير واما الإطلاق بلحاظ الزائد عن تلك الحالة المتيقنة فلا يعلم سقوطه والأصل حجية كل إطلاق ما لم يثبت سقوطه ، ففي المقام الإطلاق بلحاظ حالة الاشتغال بالأهم متيقن السقوط على كل حال واما بلحاظ ترك الأهم فهو ممكن الثبوت بناء على الترتب فيثبت بالإطلاق وهو معنى الوجوب الترتبي المشروط.

وهذا الجواب صحيح من حيث الكبرى غير ان تطبيقها على المقام فيه مسامحة بناء على ما تقدم في الجهة الأولى من البحث حيث قلنا هناك انه بناء على الترتب لا يدخل الخطابان في باب التعارض أصلا إذ لا يلزم تقييد زائد على ما هو مأخوذ في كل خطاب من القيود العامة لبا أعني قيد القدرة ، فان عدم الاشتغال بواجب أهم أو مساو سوف يأتي في بحث التزاحم انه مأخوذ في الخطابات عموما ، فالأمر دائر بين

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٣٠٩.


التقييد واللاتقييد لا التقييد الأقل والأكثر. ولعل مقصود الميرزا ذلك أيضا وانما أراد إبراز القيد العام المستتر في كل خطاب بهذا التعبير.

الثاني ـ إثبات الخطاب الآخر بطريق اللم بدعوى : انه في موارد التزاحم يكون الملاك ثابتا بمقتضى إطلاق دليله فبناء على إمكان الخطاب الترتبي يستكشف ذلك بالبرهان اللمي.

وهذا الجواب يرد عليه :

أولا ـ عدم تمامية مبناه حيث تقدم ان الملاك لا يمكن إثباته عادة إلا بالدلالة الالتزامية التي تسقط بسقوط الدلالة المطابقية على ما حقق في محله.

وثانيا ـ ان مثل هذه النتيجة ليست من ثمرات القول بالترتب الّذي هو محل النزاع وانما هو من ثمرات القول بثبوت الملاك مع سقوط الخطاب بحيث يستفيد منه القائل باستحالة الترتب أيضا في إثبات خطاب ثان بحفظ ملاك المهم ، غاية الأمر : أنه سوف يختلف مع القائلين بإمكان الترتب في صياغته ، فالقائل بالترتب يقول بأن الملاك الموجود في المهم يقتضي أمرا تعيينيا بالمهم مشروطا بترك الأهم ـ ولو باعتبار كون الملاك في المهم تعيينا مثلا والخطاب لا بد وأن يجعل على وزان الملاك ـ اما القائل بالاستحالة فيصور الخطاب الثاني على شكل الأمر بالجامع بين الضدين أو بتحريم الجمع بين التركين.

الجهة الثامنة ـ في معالجة الترتب من الجانبين فيما إذا كان الضدان بمستوى واحد من حيث الأهمية فانه ربما يقال باستحالته ولو فرض إمكان الترتب من جانب واحد ، وذلك لوجود محذور زائد فيه يمكن بيانه بأحد تقريبين :

التقريب الأول ـ ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) من أن الترتب من الجانبين وجعل كل من الخطابين مشروطا بعصيان الآخر يستلزم الدور ، إذ يكون الأمر بالصلاة مثلا متوقفا على عصيان الإزالة المتوقف على وجود الأمر بالإزالة فعلا وإلا لم يتحقق عصيان فيكون الأمر بالصلاة متوقفا على الأمر بالإزالة وكذلك العكس وهو دور.

وهذا المحذور يمكن دفعه بوجهين :


الأول ـ أن يكون المترتب عليه منشأ انتزاع العصيان وهو ترك الفعل وهو غير متوقف على الأمر بها كما لا يخفى.

الثاني ـ أن يكون الشرط هو العصيان التقديري لا المنجز بمعنى ان الأمر بالإزالة مثلا مشروط بأن تصدق القضية الشرطية القائلة بأنه لو كان هناك أمر بالصلاة كان المكلف عاصيا له ـ أي كان عمل المكلف الصادر منه خارجا عصيانا له ـ وكذلك العكس ، ومن الواضح ان القضية الشرطية لا تتوقف على فعلية الأمر إذ الشرطية لا تستلزم صدق طرفيها.

التقريب الثاني ـ ان الترتب من الجانبين يستلزم المحذور في مرحلة الامتثال ، فانه إذا فرضنا العبد منقادا وفرضنا انه لو لا الأمر لما كان له داع إلى أي واحد من الفعلين في نفسه فانه سوف يوجب الترتب من الطرفين بالنسبة إلى هذا العبد داعيين مشروطين كل منهما بعدم الآخر وهو مستحيل ، أي يصبح كل واحد من الفعلين تحققه خارجا مشروطا بعدم الآخر ، فان فعل الصلاة يتوقف على وجود الداعي نحوها الموقوف على فعلية الأمر بها الموقوف على ترك الإزالة وكذلك العكس ، وحينئذ يكون تحقيق كل من الفعلين في مقام الامتثال متوقفا على عدم الآخر ، وهذا مستحيل إذ يلزم من وجودهما معا عدم وجودهما ومن عدمهما وجودهما ومن وجود أحدهما دون الآخر الترجيح بلا مرجح فانه موقوف على فعلية الأمر به الموقوف على ترك الآخر ، مع ان نسبة الأمرين والداعيين إلى المكلف على حد سواء.

والتحقيق : ان هذا الإشكال لا أساس له لأن المكلف من أول الأمر يحدث في نفسه باعتبار الأمرين المترتبين اللذين يعلم المكلف بتحقق موضوع أحدهما على الأقل إجمالا داع نحو الجامع بين الفعلين فليس هناك داعيان مشروطان بل داع واحد نحو الجامع ويكون تطبيقه على كل من الفعلين اما بمرجح شخصي أو بأفضلية شرعية أو بلا مرجح الممكن في الأفعال الاختيارية كما يقال به في طريقي الهارب ورغيفي الجائع.

ثم انه قد يقرب الإشكال المزبور بنحو يكون دورا ببيان ان فعل الصلاة موقوف على الداعي إليها الموقوف على فعلية الأمر بها الموقوفة على ترك الإزالة الموقوف على عدم الداعي إلى الإزالة الموقوف على عدم فعلية الأمر بها الموقوف على فعل الصلاة وهو


دور. والجواب السابق وارد على هذا التقريب أيضا إلا انه لا بد من التفتيش عن جواب آخر باعتبار ورود التقريب المذكور بصياغته في مورد لا يتم فيه هذا الجواب وذلك ما إذا افترضنا شخصين كل منهما داعية على تحريك الحجر مثلا موقوف على إعطائه الجائزة والجائزة يفترض وضعها لمن يقدم على رفع الحجر بشرط عدم اقدام الآخر أي بشرط كونه الوحيد في الإقدام فانه في مثل ذلك سوف يتحقق الدور ، إذ اقدام كل منهما موقوف على فعلية الجائزة له الموقوف على عدم اقدام الأول. والجواب السابق لا يرد هنا إذ الفاعل هنا شخصان لا شخص واحد وليس لكل منهما إلا الداعي نحو الفعل ، والجامع بينهما ليس شخصا قابلا لأن يكون له داع. والتحقيق : ان هذا ليس دورا حقيقة بل يرجع بالتدقيق إلى محذور آخر شبه الدور في الاستحالة ومن أجل توضيحه نفترض أن إنسانا ما لا يريد أن يحتاج وانما يعمل بالأمر المعلوم المنجز فان صدور فعل الصلاة من قبل هذا الشخص موقوف على الداعي له نحو الصلاة والداعي له ليس متوقفا على واقع الأمر بها بل على العلم بالأمر وإحرازه الموقوف على إحراز موضوعه وهو ترك الإزالة الموقوف على عدم العلم بالأمر بها الموقوف على عدم العلم بفعل الصلاة فصار فعل الصلاة موقوفا على عدم العلم بفعل الصلاة لا على نفسه ، وهذا ليس دورا لكنه مستحيل بنكتة استحالة الدور لأن العلم وعدم العلم بالشيء يكون دائما في نظر صاحبه بنحو كأنه يرى المعلوم شيئا مفروغا عنه في مرتبة سابقة يعرض عليه العلم وعدم العلم فيستحيل أن يعلم أو يحتمل شيئا متقوما بذلك العلم أو الاحتمال ، وعلى هذا الأساس نقول باستحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع شخصه لا على أساس الدور ، وهذا المحذور غير موجود في المثال المنقوض به فإذا افترضنا الفاعل لا يحتاط فإقدامه على الفعل يصبح موقوفا على علمه بعدم علم الآخر بإقدامه وليس في ذلك محذور ، نعم لو فرضنا كلا الشخصين ذكيين ملتفتين إلى كل هذه الحسابات الأصولية وإلى ان صاحبه يقع فيها أيضا فسوف يقع كلاهما في حيرة تجعل صدور الفعل منهما ممتنعا.

هذا وقد يبين الإشكال بصيغة الدور ببيان ان فعل الصلاة موقوف على الداعي إليها الموقوف ـ فيمن لا يحتاط ـ على العلم بالأمر الموقوف على العلم بترك الإزالة المتولد


اما من نفس ترك الإزالة أو من العلم بعدم الداعي إلى الإزالة فعلى الأول يكون كل من الفعلين متوقفا على عدم الآخر ، وعلى الثاني يكون كل من الداعيين متوقفا على عدم الآخر ، وإذا توقف شيئان كل منهما على عدم الآخر لزم الدور. وجوابه : فيما نحن فيه ما تقدم من ان الداعي ينقدح نحو الجامع وفي مثال النقض لا يأتي هذا التقريب لأن غاية ما هنا لك أن يصبح اقدام أحدهما موقوفا على علمه بعدم علم الآخر بإقدامه لا على عدم اقدام الآخر.

بل قد يقال بأن الالتزام بالترتب من كلا الجانبين أسهل من الترتب من جانب واحد خلافا لما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من أنه إذا استحال الترتب من طرف واحد فهو من الطرفين كذلك ولذلك استغرب من الشيخ ( قده ) الّذي أنكر الترتب من طرف واحد ولكن ذهب في تعارض الخبرين بناء على السببية إلى ان الأمر بالعمل بكل واحد منهما مشروط بترك الآخر وهذا ليس إلا الترتب من الطرفين ، وهل يكون ضم محال إلى محال موجبا للإمكان؟

أقول : نحن لا ندري ما ذا كان يقصده الشيخ الأعظم ( قده ) إلا أنه بالإمكان لأحد أن يقبل برهاننا على إمكان الترتب في أحد جزئيه ، فان الترتب على ما تقدم يتوقف أولا على إثبات عدم مانعية الأمر بالمهم عن تأثير الأمر بالأهم لأن مانعيته عنه يستلزم الدور. ويتوقف ثانيا على إثبات عدم مانعية الأمر بالأهم عن الأمر بالمهم ، فمن أنكر البرهان الثاني ولكنه اعترف بالبرهان الأول أمكنه القول بإمكان الترتب من كلا الطرفين ، بخلاف الترتب من طرف واحد لأنه مستلزم لمحذور مانعية الأمر بالأهم ومطاردته للأمر بالمهم. وبعبارة أخرى : إثبات عدم مانعية الأمر بالمهم المشروط بعدم الإتيان بالأهم للأمر بالأهم كاف في إثبات الترتب من كلا الطرفين وغير كاف لإثبات الترتب من طرف واحد.

الجهة التاسعة ـ في تطبيق من تطبيقات الترتب. حيث انه ذكر في تخريج الحكم بصحة الصلاة جهرا في موضع الإخفات وبالعكس عن جهل أو نسيان وكذلك الصلاة تماما في موضع القصر وجوه ، من جملتها ما ذكره الشيخ كاشف الغطاء ( قده ) من الالتزام بالترتب وان هناك أمرا بالصلاة جهرا واقعا وعلى تقدير الترك


يوجد أمر بالصلاة إخفاتا ، فوقع البحث في المقام عن صحة هذا التطبيق للترتب وعدمه وقد نوقش فيه من قبل القائلين بالترتب بعده مناقشات نستعرض أهمها :

الإشكال الأول ـ ما أفاده الميرزا ( قده ) من ان الترتب انما يعقل من الضدين اللذين لهما ثالث واما الضدان اللذان لا ثالث لهما فلا يعقل الترتب فيهما ، لأن صدور الضد الآخر على تقدير ترك الأول ضروري حينئذ فلا يمكن الأمر به ولو بنحو الترتب ، وفي المقام يكون الجهر والإخفات في القراءة من الضدين اللذين لا ثالث لهما إذ القراءة اما أن تقع جهرية أو إخفاتية (١).

وقد أشكل على ذلك السيد الأستاذ : بأن الضدين في المقام هما القراءة الجهرية والقراءة الإخفاتية وهما من الضدين اللذين لهما ثالث ، وذلك بأن يترك القراءتين معا في الصلاة فالتطبيق المذكور تام من هذه الجهة (٢).

ولنا في المقام كلامان :

الكلام الأول ـ هو ان الترتب لا يعقل بين الأمرين الضمنيين سواء جعلا عبارة عن الأمر بالجهر والأمر بالإخفات أو الأمر بالقراءة الجهرية والقراءة الإخفاتية ، وانما الترتب بين الأمر بالصلاة الجهرية والأمر بالصلاة الإخفاتية. والوجه في ذلك : ان افتراض الترتب بين الأمرين الضمنيين في خطاب واحد يستلزم أخذ ترك الجزءين كالجهر مثلا شرطا للأمر الضمني بالإخفات ، فان أخذ شرطا في موضوع الأمر الضمني خاصة فهو غير معقول لأن مقتضى ضمنيته ان هناك أمرا واحدا بالمجموع فلا بد وأن يكون الشرط مأخوذا في ذلك الأمر الواحد الاستقلالي ، وان أخذ شرطا في موضوع الأمر الاستقلالي بالمركب ـ بنحو شرط الوجوب ـ لزم منه أخذ ترك الجهر مثلا في الخطاب الواحد الّذي من ضمنه الأمر بالجهر وهو مستحيل ، وان أخذ شرطا في متعلق الأمر بالإخفات ـ بنحو شرط الواجب ـ لزم فعلية كلا الأمرين الضمنيين أي الأمر بالجهر وبالإخفات المقيد بعدم الجهر وهو طلب الجمع بين الضدين المحال.

الكلام الثاني ـ ان الشرط لو كان هو عدم الجهر الأعم من السالبة بانتفاء

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٣١٠.

(٢) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٣ ، ص ١٦٣ ـ ١٦٥.


المحمول بأن يقرأ ولا يجهر أو السالبة بانتفاء الموضوع بأن لا يقرأ أصلا. فالأمر بالقراءة الإخفاتية يكون معقولا ، واما إذا كان الشرط هو عدم الجهر في القراءة أي بنحو السالبة بانتفاء المحمول خاصة فالأمر بالإخفات لا يكون معقولا حينئذ. وقد لاحظ كل من المحقق النائيني ( قده ) والسيد الأستاذ إحدى هاتين الفرضيتين دون الأخرى فتخالفا في إمكان الأمر بالقراءة الإخفاتية وعدمه.

الإشكال الثاني ـ ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) أيضا من ان الترتب انما يعقل في الأمرين المتزاحمين اتفاقا واما إذا كان التضاد بين الفعلين دائميا فلا يعقل فيه الترتب ، والجهر والإخفات في القراءة من هذا القبيل.

وقد أشكل عليه السيد الأستاذ : بعدم اختصاص إمكان الترتب بالتضاد الاتفاقي على ما يأتي بيانه وتفصيله في بحث التزاحم.

هذا ولكنك عرفت انه لا موضوع لهذا الإشكال حتى لو قيل باختصاص الترتب بالتضاد الاتفاقي حيث عرفت ان الأمرين في المقام هما الأمر بالصلاة الجهرية والأمر بالصلاة الإخفاتية وهما لا تضاد بينهما أصلا لإمكان إيقاعهما معا في الخارج فليس هذا التطبيق من باب الترتب.

الإشكال الثالث ـ ما أفاده الميرزا ( قده ) أيضا وحاصله : ان الأمر الترتبي بالتمام في المقام غير معقول لأنه غير قابل لأن يكون بعثا حقيقيا باعتباره غير قابل للوصول والتنجز على المكلف ، وكل أمر لا يكون صالحا للتنجيز لا يكون أمرا حقيقيا. والوجه في عدم إمكان وصول الأمر الترتبي المذكور هو ان موضوعه عبارة عن المسافر الّذي قد عصى الأمر بالقصر وهو جاهل بوجوبه ـ لم تقرأ عليه آية التقصير كما في لسان الرواية ـ ومن الواضح ان إحراز المسافر لهذا الشرط لا يكون إلا مع علمه بوجوب القصر عليه أو تنجزه في حقه ومعه يرتفع موضوع الأمر الترتبي.

وقد أشكل عليه الأستاذ : بأن الموضوع ليس هو عنوان عصيان الأمر بالقصر بل هو ترك الصلاة القصرية ، ومن الواضح ان المكلف يمكنه أن يحرز تركه لذلك مع افتراض كونه جاهلا لوجوب القصر ومعتقدا لوجوب التمام فموضوع الأمر الترتبي قابل للإحراز في المقام.


والتحقيق : ان هذا الإحراز لموضوع الأمر الترتبي وإن كان معقولا في حق المكلف كما أفاده الأستاذ إلا ان هذا لا يكفي لدفع المحذور ، بل نكتة الإشكال باقية على حالها لأن المكلف انما يمكنه أن يحرز ذوات أجزاء موضوع الأمر الترتبي دون أن يعلم بموضوعيته ، ووصول الحكم لا بد فيه من إحراز الموضوع بما هو موضوع. والوجه في عدم إمكان إحراز المكلف في المقام موضوعية تركه للقصر للأمر الترتبي هو ان المكلف بحسب الفرض معتقد وجوب التمام عليه بخطاب أولي ومعه لا يعقل أن يحرز كونه موضوعا لوجوب التمام بخطاب ثانوي ترتبي ، إذ إحرازه لذلك إن كان بأن يحرز كون اعتقاده بوجوب التمام موضوعا لنفس ذلك الوجوب كان فيه محذور أخذ العلم بالحكم في موضوع ذلك الحكم الّذي هو محذور شبه الدور ، وإن كان بأن يحرز كونه موضوعا لوجوب تمام آخر كان من اجتماع المثلين في نظره ، وعليه فالمكلف المسافر في المقام دائما يكون إتيانه بالتمام بتحريك أمر تخيلي بالتمام يعتقده كخطاب أولي على المكلفين جميعا في الحضر والسفر ، واما وجوب التمام الترتبي المخصوص بالمسافر الجاهل بوجوب القصر فلا يعقل وصوله إليه ومحركيته له نحو التمام (١).

الإشكال الرابع ـ ان الأمر بالتمام إن كان مترتبا على ترك القصر في تمام الوقت فالمكلف إذا علم بوجوب القصر عليه بعد إتيانه بالتمام كانت وظيفته القصر ولم يكن ما أتى به من التمام صحيحا ومطابقا للأمر ، وهذا خلف الفتوى الفقهية القاضية بصحة التمام وعدم لزوم القصر بعدها ، وان كان مترتبا على ترك القصر آنا ما فيلزم إيجاب الوظيفتين عليه لتحقق موضوعهما معا. وهذا إشكال في الصياغة بحسب الحقيقة ، والجواب عليه بافتراض تصرفين في الخطابين ، التصرف الأول : أن نقيد الأمر بالتمام بأن لا يكون مصليا القصر إلى حين إتيانه بالتمام وعدم خروج الوقت ـ أقرب الأجلين منهما ـ فلو لم يصل القصر إلى حين إتيانه بالتمام كان موضوعا لوجوب التمام ووقعت


صلاته صحيحة. والتصرف الثاني : أن نقيد الأمر بالقصر بعدم الإتيان بالتمام ولكن لا بنحو الشرط المتأخر كي يكون معناه الترتب من الطرفين الّذي يعني المساواة بين الواجبين في الأهمية وهو خلف الفتوى ، بل بنحو الشرط المقارن بأن يكون عدم إتيانه بالتمام بل عدم إتمامه للتمام ـ ولهذا لو التفت في أثناء العمل إلى وجوب القصر بطلت صلاته ـ في الآن الأول موجبا لوجوب القصر عليه فعلا فيكون الإتيان بالتمام بعد ذلك رافعا لموضوع الوجوب من باب انتهاء الموضوع وسقوط الأمر لا رافعا له من أول الأمر من باب عدم ثبوته.

الجهة العاشرة ـ في بيان لزوم المصير إلى الترتب في الواجبين المتزاحمين مع كون أحدهما واجبا موسعا أو عدمه بأن يمكن الأمر بهما عرضيا ، وهذا البحث وان كان قد تقدم المهم منه في مباحث الضد إلا ان في تكراره هنا بنحو الإيجاز مزيد فائدة مع كونه مناسبا مع بحث التزاحم فنقول : قد ذكر المحقق الثاني ( قده ) إمكان الأمر بالواجب الموسع المزاحم مع الواجب المضيق في عرض واحد لأن الواجب الموسع يرجع إلى إيجاب الجامع والإتيان به مع الواجب المضيق مقدور للمكلف فلا يلزم من الأمر بهما في عرض واحد طلب غير المقدور المستحيل ، وقد علق على هذا الكلام بملاحظات ترجع كلها إلى التفصيل في صحة هذا الكلام على المباني المختلفة.

التعليق الأول ـ ما أفاده الميرزا ( قده ) من ابتناء ذلك على كون القدرة شرطا في التكليف من باب حكم العقل واما لو كان الخطاب بنفسه يتطلب اختصاص متعلقه بالحصة المقدورة لأن مفاده البعث والتحريك وهو لا يعقل نحو غير المقدور فلا بد من تقييد الواجب الموسع بغير الفرد المزاحم بواجب آخر ، فلا يمكن الأمر به في زمان المزاحمة إلا بنحو الترتب لعدم القدرة عليهما شرعا (١).

وقد تقدم بيان هذا المطلب في مباحث الضد ، وتقدم أيضا انه لا يصح الجواب عنه بأن التكليف مجرد اعتبار الفعل في ذمة المكلف وهو سهل المئونة واشتراط القدرة انما

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٣١٤.


هو بحكم العقل في مرحلة التنجيز والطاعة. إذ ليس البحث في المدلول التصوري للأمر وصياغته العقلائية بل هناك أمر ثبوتي لا إشكال منه هو ظهور الخطابات كلها في انها تكون بداعي المحركية والباعثية مهما كان مدلول الأمر والوجوب صياغة ، وهذا الظهور التصديقي الكاشف عن داعي المحركية يمنع من ثبوت الخطاب لغير المقدور لأن التحريك نحوه غير معقول.

وانما الصحيح في الجواب ما تقدم : من ان داعي المحركية لا يتطلب أكثر من مقدورية متعلق الخطاب والجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور ولا يتطلب التقييد بالحصة المقدورة ، نعم هو يقتضي تقييد المكلف بالمكلف القادر بالخصوص كما تقدم.

لا يقال : على هذا يستحيل أن يكون الأمر بالجامع في زمان المزاحمة ـ ولنفترضه الآن الأول من دخول الوقت ـ باعثا ومحركا حقيقيا لعدم قدرة المكلف على ذلك شرعا والخطاب مختص بالمكلف القادر.

فانه يقال : ان الباعثية والمحركية انما استكشفناها بالظهور التصديقي المتقدم ذكره ومن الواضح ان الباعثية المستكشفة في الواجب الموسع انما هي الباعثية نحو تحقيق الفعل في مجموع الوقت لا في جميع آناته ومثل هذه المحركية محفوظة في المقام ومعقولة حتى بلحاظ آن المزاحمة فإطلاق الخطاب لا محذور فيه.

التعليق الثاني ـ دعوى ابتناء ذلك على القول بعدم استحالة الإطلاق إذا استحال التقييد واما لو قيل بمبنى الميرزا ( قده ) من استحالته كلما استحال التقييد فلا يمكن الأمر بالواجب الموسع في المقام بنحو مطلق يشمل الفرد المزاحم لأن التقييد بالفرد المزاحم مستحيل فالإطلاق له يصبح مستحيلا أيضا (١).

وهذا المطلب أيضا تقدم عدم صحته لأن الإطلاق الّذي يستحيل عند استحالة التقييد انما هو الإطلاق بالمعنى السلبي الّذي يقابل التقييد تقابل العدم والملكة عند صاحب هذا المسلك أي عدم أخذ القيد المستلزم لشمول الحكم للحصة الفاقدة للقيد لا الإطلاق الإيجابي أي الشمول للحصة المقيدة ، ومن الواضح ان التقييد بالفرد غير

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٣ ، ص ١٨٣.


المزاحم ممكن في المقام فيكون عدمه المستلزم لشمول الحكم للفرد المزاحم ممكنا أيضا.

التعليق الثالث ـ دعوى ابتناء إمكان ذلك على القول بإمكان الواجب المعلق حيث يستلزم فعلية الأمر بالجامع في الزمان الأول الّذي هو زمان المزاحمة مثلا مع كون الواجب غير مقدور شرعا في ذلك الزمان وانما يكون مقدورا بعد ذلك الزمان فيلزم تقدم زمان الوجوب على زمان الواجب وهو مشكلة الواجب المعلق ، فان قيل باستحالته كان الأمر بالجامع في المقام مستحيلا أيضا. وهذا التعليق انما يصح بناء على بعض المسالك في امتناع الواجب المعلق لا كلها ، ذلك ان القائلين باستحالة الواجب المعلق يستندون إلى أحد مأخذين في إثبات الامتناع.

المأخذ الأول ـ دعوى الاستحالة من جهة ان الحكم يستبطن الباعثية والمحركية وهي بحكم تضايفها مع الانبعاث والتحرك لا بد وأن يكون ملازما له في الإمكان والتحقق ، وليس المقصود من ذلك استلزام الخطاب للبعث خارجا بداهة أن الخطاب يشمل العاصين أيضا ولا انبعاث لهم ، وانما المقصود كشفه عن داعي البعث بمعنى إيجاد ما يمكن أن يكون باعثا ، وإمكانية البعث تلازم إمكانية الانبعاث وفي مورد الواجب المعلق لا توجد إمكانية الانبعاث فلا يكون البعث ممكنا.

أقول : هذا الوجه يثبت استحالة تعلق الوجوب بالجامع بين الأفراد الطولية من أول الأمر في عرض الوجوب المضيق ، فلا بد من اختصاص الأمر بالفرد غير المزاحم وتأخره إلى زمان انتهاء المزاحمة أو ثبوته من أول الأمر بنحو الترتب ، إلا ان هذا الوجه غير تام فان الخطاب وإن كان يدل على داعي البعث ولكن هذا لا يتطلب أزيد من إمكانية الانبعاث في عمود الزمان ، ولا يلزم إمكانية الانبعاث في تمام آنات ذلك الزمان المأخوذ في الخطاب ، والوجه في ذلك ان دلالة الخطاب على البعث مع أنه بطبعه الأولي وبلحاظ عالم اللغة لا يدل على أكثر من الجعل والاعتبار الّذي لا يتوقف ثبوته على إمكانية الانبعاث يكون لها أحد وجهين :

الأول ـ ما تقدم من الظهور السياقي بحسب فهم العرف الكاشف عن مدلول تصديقي هو داعي البعث والتحريك ، وهذا يتحدد وفقا لما يفهمه العرف من سياق الخطاب وهو لا يفهم من التكليف بواجب يطلب صرف وجوده في عمود الزمان أزيد


مما قلناه من داعي البعث والانبعاث في مجموع ذلك الزمان لا في كل آن آن.

الثاني ـ ما يظهر من كلام المحقق الأصفهاني ( قده ) من دعوى ان الخطاب والإنشاء كأي فعل آخر يكشف عن داع وهذا الداعي هو الّذي يحدد حقيقة ذلك الخطاب وماهيته من حيث كونه مصداقا للبعث أو للاستهزاء أو للتمني أو للترجي أو غير ذلك ، ومن الواضح أنه لا يصلح شيء أن يكون هو الحكم بحيث يكون الخطاب مصداقا له غير البعث ، فان كلا من الاستهزاء أو التعجيز أو التمني ليس حكما. وكأن هذا المحقق ( قده ) يريد أن يدعي برهانا ثبوتيا على المقصود غير ذلك الاستظهار المتقدم ، ولو تم هذا البرهان فهو أيضا لا يقتضي أكثر من إمكان الانبعاث بلحاظ مجموع عمود الزمان فان هذا كاف في كون الخطاب والحكم بعثا لا استهزاء أو تمنيا.

المأخذ الثاني ـ ما استند إليه المحقق النائيني ( قده ) في إثبات استحالة الواجب المعلق من أن الواجب المعلق باعتبار تأخر زمان الواجب فيه عن زمان الوجوب لا محالة يستبطن شرطية مجيء ذلك الزمان في التكليف ، وباعتبار تأخره عن التكليف فلا محالة يكون من الشرط المتأخر المستحيل عنده ، نعم لو كان الشرط هو التعقب به فهو ليس بمتأخر وانما المتعقب هو المتأخر ، إلا أن هذا يكون خلاف ظاهر الدليل إثباتا إذا كان ظاهرا في شرطية الزمان نفسه.

وبناء على هذا الموقف قد يقال في المقام بالاستحالة لاستلزام التكليف بالجامع في الزمان الأول ـ الّذي هو زمان المزاحمة ـ الشرط المتأخر ، إذ القدرة على الواجب شرط في كل تكليف والقدرة في المقام تحصل فيما بعد زمن المزاحمة فيكون شرطا في التكليف المتقدم في الآن الأول ، إلا أن هذا الكلام يمكن الجواب عليه : بأن شرطية القدرة من باب حكم العقل بقبح التكليف بغير المقدور والضرورات تقدر بقدرها دائما ، ومن الواضح انه يرتفع القبح بثبوت القدرة على الجامع ولو في الزمن المتأخر ، أي أخذ تعقب القدرة شرطا مقارنا للتكليف فلا محذور ثبوتي ، كما انه لا محذور إثباتي فان إطلاق الخطاب يثبت ذلك ولم يرد دليل على شرطية نفس الزمان المتأخر كي يكون تأويله وتحويله إلى شرطية التعقب خلاف الظاهر إثباتا.

التعليق الرابع ـ ان الأمر بالواجب الموسع في عرض الأمر بمزاحمه المضيق يبتني


على عدم رجوع التخيير العقلي إلى التخيير الشرعي الّذي يعني الأمر بكل فرد مشروطا بعدم الآخر وإلا كان التكليف بالفرد المزاحم ولو مشروطا بترك سائر الأفراد غير معقول.

وهذا التفصيل صحيح في نفسه غير انه لا يبطل كلام المحقق الثاني ( قده ) في المقام ، لأن الصحيح في محله عدم رجوع التخيير العقلي إلى التخيير الشرعي وانما هو تكليف بالجامع. بل قد يقال برجوع التخيير الشرعي إلى العقلي على ما يأتي تفصيله في محله.

وبهذا ينتهي بحث الترتب وبه يتم المدخل إلى بحث التزاحم حيث قلنا فيما سبق ان ثمرة القول بإمكان الترتب إثبات عدم التعارض بين الخطابين وصيرورة باب التزاحم بين الضدين في مرحلة الامتثال بابا مستقلا له أحكامه وقوانينه في قبال باب التعارض.

وهذا ما شرحناه وأوردناه مفصلا في مباحث تعارض الأدلة الشرعية فراجع.



بحوث الأوامر

حالات خاصة للأمر

ـ الأمر مع العلم بانتفاء شرطه

ـ الأمر بالأمر

ـ الأمر بعد الأمر

ـ الأمر بعد نسخ الوجوب



الأمر بشيء مع علم الآمر بانتفاء شرطه

قد وقع البحث عندهم في جواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه ولا بد وأن يكون المقصود من الأمر الّذي يبحث عن جوازه مرتبة من الأمر غير المرتبة المرادة من الأمر الّذي علم بانتفاء شرطه واما لو أريد بهما مرتبة واحدة من الأمر فعدم جوازه واستحالته ناشئ من انتفاء شرطه سواء علم به أم لا فان المعلول ينتفي بانتفاء علته واقعا لا علما كما هو واضح.

إذن فالمقصود في المقام انه هل يجوز جعل الأمر وتشريعه من الآمر مع علمه بانتفاء شرط مجعوله الّذي جعله على ذلك التقدير أم لا؟

حيث ان الجعل فعل اختياري للجاعل فيعقل أن يبحث عن جوازه مع علمه بأن التقدير الّذي يجعل الحكم معلقا عليه منتف خارجا.

وحينئذ نقول : ان انتفاء شرط المجعول تارة يكون ضروريا قهريا ، وأخرى يكون اختياريا.

وفي الفرض الأول ، تارة : يكون الانتفاء الضروري للشرط لامتناعه في نفسه ، كما إذا قال ان اجتمع الضدان وجبت الصدقة ، وأخرى يكون بسبب الجعل نفسه ، كما إذا قال لو لم يجعل عليك الصلاة فصل ، فانه سوف يستحيل فعلية هذا المجعول لأنه


بنفس هذا الجعل ينتفي موضوع المجعول ، وعلى كلا الفرضين يكون الجعل مستهجنا عقلائيا ولو فرض إمكانه عقلا لكونه بعثا على تقدير لا يتحقق ولو فرض إمكان أن يكون الغرض في نفس جعل هذه القضية فان هذا ليس غرضا عقلائيا من الجعل.

وعلى الثاني ، أي ما إذا كان الانتفاء اختياريا. فتارة : يكون الانتفاء الاختياري بسبب الجعل ومنشئيته له كما إذا كان جعل كفارة الجمع للإفطار العمدي بالحرام مستلزما لانتفائه خارجا ، وأخرى ، يكون الانتفاء الاختياري بدافع طبعي ثابت بقطع النّظر عن الجعل.

لا إشكال في صحة الجعل وجوازه في الأول ، إذ هذا مطابق مع ما هو المقصود والغرض من الجعل. واما الثاني ، كما إذا جعل الكفارة على تقدير تناول العذرة مثلا ، فان الشرط فيه بحسب طبعه منتف خارجا فالجعل وإن كان معقولا وجائزا في نفسه إلا أنه لا يمكن أن يكون كسائر الأوامر بملاك الإرادة الغيرية والمقدمية للمولى يقع في طريق امتثال المكلف خارجا ، لأن ذلك في المقام مضمون بحسب طبع القضية ، بل لا محالة يكون الجعل مرادا لغرض مترتب عليه ، من قبيل أن يتمكن المكلف من التعبد وقصد الامتثال الموجب لترتب الثواب مثلا ونحو ذلك من الأغراض والمصالح التي تترتب في طول الجعل.


« الأمر بالأمر »

وقع البحث في دلالة الأمر بالأمر على وجوب الفعل على المأمور الثاني وعدمه.

والصحيح : أن يقال : هناك عدة احتمالات معقولة ومتصورة :

الاحتمال الأول ـ أن يكون مطلوب المولى هو صدور الفعل عن المأمور الثاني وأمره للمأمور الأول ليس إلا لمجرد إيصال أمره إلى المأمور الثاني فالمجعول التشريعي بالأمر الأول انما هو طلب الفعل من المأمور الثاني ، فيكون المدلول التصديقي هو وجود أمرين أمر بالفعل على المأمور الثاني وأمر إيصال ذلك الأمر إليه على المأمور الأول.

الاحتمال الثاني ـ أن يكون المجعول في الأمر بالأمر هو إيجاب أن يأمر المأمور الأول المأمور الثاني لا إيجاب الفعل على المأمور الثاني ، إلا أن هذا الأمر ليس نفسيا بل أمر طريقي إلى حصول الفعل من المأمور الثاني ينعقد مدلول التزامي عرفي له على طلب الفعل من المأمور الثاني.

وهذان الاحتمالان وإن كانا يختلفان من حيث كيفية استفادة طلب الفعل وإيجابه على المأمور الثاني في كل منهما حيث يكون مدلولا مطابقيا في الأول والتزاميا في الثاني ولكنهما يشتركان في كون الطلب من المأمور الثاني ثابتا من حين صدور الأمر بالأمر وغير متوقف على أن يأمر المأمور الأول المأمور الثاني فلو وصله بطريق


آخر لتنجز عليه لأنه وجوب ثابت من قبل المولى ابتداء.

الاحتمال الثالث ـ نفس الاحتمال الثاني مع افتراض ان أمر المأمور الأول للمأمور الثاني له موضوعية للمولى فيكون هو المطلوب المولوي واما صدور الفعل من المأمور الثاني فلا يطلبه المولى ولا يريده لو لا أمر المأمور الأول ، وبناء على هذا الاحتمال لا يثبت وجوب الفعل على المأمور الثاني إلا إذا استظهر من الأمر بالأمر إعطاء مقام الآمرية والولاية للمأمور الأول على المأمور الثاني فيجب على المأمور الثاني حينئذ الفعل لا باعتباره أمرا من المولى الحقيقي ابتداء بل باعتباره أمرا من المأمور الأول المجعول له الولاية ولذلك لا يتحقق هذا الوجوب إلا بعد صدور الأمر منه حقيقة.

الاحتمال الرابع ـ أن يكون غرض المولى في مجموع أمر المأمور الأول وفعل المأمور الثاني اما بأن يكون هناك غرض واحد متقوم بهما ويكون أمر المأمور الأول من شرائط وجود ذلك الغرض بفعل المأمور الثاني فيكون متوقفا على أمره ، أو بأن يكون أمره من شرائط اتصاف فعل المأمور الثاني بالغرضية فلا بد من تعدد الغرض حينئذ وافتراض وجود غرض مستقل في أمر المأمور الأول وإلا لم يكن وجه لأمره ، وعلى كلا التقديرين فلا يجب الفعل على المأمور الثاني قبل أمر المأمور الأول.

والمستظهر من هذه الاحتمالات عرفا انما هو أحد الأولين إن لم ندع ظهوره في الأول منهما ولو باعتبار كون الأمر فعلا طريقيا عادة وليس لمصلحة فيه بالخصوص مما يجعل ظهور الأمر بالأمر ابتداء في إيجاب الفعل على المأمور الثاني.


« الأمر بعد الأمر »

إذا كرر الأمر بشيء بلا شرط أو مع وحدة الشرط فهل يحمل على التأكيد فلا يثبت إلا وجوب واحد أو على التأسيس فهناك وجوبان؟

ذهب صاحب الكفاية ( قده ) إلى أنه يقع التعارض بين ظهور الصيغة في التأسيسية مع إطلاق المادة المقتضي لكون المتعلق للأمرين واحدا فان الطبيعة لا تتحمل إلا طلبا واحدا.

وقد حكم بالتأكيد نتيجة من جهة إجمال ظهور الهيئة باعتبار اقترانها بالتكرار الصالح للقرينية على التأكيد فتكون مجملة من هذه الناحية فلا يثبت وجود أمر آخر (١).

أقول : التحقيق ان هيئة الأمر لا تدل إلا على الوجوب ، واما التأسيسية أو التأكيدية فليس شيء منهما مدلولا لها إذ لم توضع الهيئة لطلب لم يكشف عنه بكاشف أسبق ولذلك لم يكن استعمالا مجازيا إذا أمر عبده بما كان قد أمره به سابقا لأجل التأكيد.

نعم هنا لك دلالة سياقية حالية قد تقتضي التأسيسية في الكلام لو جاء المتكلم

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٢٣١.


بجملة أخرى صالحة لإفادة معنى جديد كما تصلح لتأكيد المعنى السابق فقد يدعى حملها على إفادة المعنى الجديد ليكون تأسيسا.

إلا أن هذا البيان لا يمكن تطبيقه في المقام إذ الأمر الثاني أما أن يذكر متصلا بالأول أو منفصلا عنه فان ذكر متصلا به بحيث يمكن عطفه عليه بالواو فان عطفه عليه بالواو كان العطف بنفسه قرينة على التأسيسية لظهوره في ان المعطوف ليس عين المعطوف عليه وإلا فنفس عدم ذكر العطف من وسائل التأكيد عرفا فيكون ظاهرا فيه.

واما إن ذكر منفصلا فلا ظهور حالي فيه لا في التأسيس ولا في التأكيد إذ الحالة السياقية تقتضي التأسيسية بلحاظ شخص ذلك الخطاب واما تكرار الطلب بشخص خطاب آخر فليس ذلك منافيا مع التأسيسية بلحاظ شخص الخطاب الثاني.

فقد تحصل انه لا يوجد ظهور في مدلول الهيئة يقتضي التأسيسية فيكون مقتضى إطلاق المادة هو التأكيد لا محالة.


إذا نسخ الأمر بعد نسخ الوجوب

والبحث عن ذلك يقع في مقامين : الأول في إمكان إثبات الجواز بالدليل المنسوخ أو الناسخ ، والثاني في إثبات ذلك بالأصل العملي.

أما المقام الأول ـ فالمشهور بينهم عدم إمكان إثبات الجواز لا بالدليل المنسوخ ولا بالدليل الناسخ مع ان الصحيح التفصيل بلحاظ المسالك المختلفة. فانه بناء على بعضها لا بد من القول بإمكان إثبات الجواز وهذا ما يمكن بيانه بعدة تقريبات :

التقريب الأول ـ إثبات الجواز بالمدلول الالتزامي للدليل المنسوخ فانه كان يدل بالمطابقة على الوجوب وبالالتزام على نفي الحرمة ، وبعد ورود الناسخ يكون الساقط عن الحجية هو المدلول المطابقي ويبقى المدلول الالتزامي على حجيته في نفي الحرمة وبذلك يثبت الجواز بالمعنى الأخص.

وهذا التقريب عليه إشكال لا بد من التخلص منه وحاصله : ان الدليل المنسوخ له أربع دلالات التزامية لا دلالة واحدة ، وهي الدلالة على نفي الحرمة والدلالة على نفي الكراهة والدلالة على نفي الاستحباب والدلالة على نفي الإباحة ، فان ثبوت الوجوب يستلزم انتفاء الأحكام الأخرى طرا ، وبعد ورود الناسخ وانتفاء الوجوب أيضا بالدليل الناسخ يقع التعارض بين الدلالات الالتزامية الأربع إذ لا يمكن صدقها


جميعا فيسقط الجميع بالمعارضة.

والجواب على هذا الإشكال : ان الإباحة بالمعنى الأخص ليست منفية بدليل الوجوب المنسوخ بالالتزام بل منفية به بالمطابقة ، والوجه في ذلك ان الإباحة بالمعنى الأخص تثبت بانتفاء الأحكام الأربعة الأخرى وعدم مقتض لشيء منها ، ودليل الوجوب المنسوخ يدل على انتفاء الاستحباب والكراهة والحرمة بالالتزام ولا يدل على نفي الإباحة إلا بنفس إثبات الوجوب ومقتضي الإلزام حيث ان نفي النفي إثبات فارتفاع انتفاء الأحكام الأربعة أي غير الإباحة انما يكون بنفس ثبوت أحدها الّذي هو المدلول المطابقي للخطاب والّذي قد نفي بالدليل الناسخ فيكون نفيه هذا منضما إلى الدلالات الالتزامية الثلاث في الدليل المنسوخ على نفي الاستحباب والكراهة والحرمة منتجا للإباحة بالمعنى الأخص لا محالة.

التقريب الثاني : مبني على القول بحجية الدلالة التضمنية بعد سقوط المطابقية ، اما بتقريب : ان الوجوب مركب من طلب الفعل والمنع من الترك والدليل الناسخ انما ينفي مجموعهما لا جميعهما فيكون المتيقن منه انتفاء الثاني ، فلا بأس أن تبقى دلالة الدليل المنسوخ على أصل الطلب فيثبت الجواز بالمعنى الأعم.

وإما بتقريب ان الوجوب وإن لم يكن مركبا من أمرين وانما هو عبارة عن الإرادة الشديدة ، إلا ان الدليل الناسخ انما ينسخ المرتبة الشديدة أي يدل على انتفاء هذه المرتبة ، واما أصل الطلب ولو بمرتبة ضعيفة فلا بأس بالتمسك لإثباته بالدليل المنسوخ فيثبت الجواز بالمعنى الأعم.

التقريب الثالث ـ مبني على مسلك المحقق النائيني ( قده ) من ان الوجوب ليس مدلولا للفظ وانما هو بحكم العقل المنتزع من طلب الفعل وعدم الترخيص في الترك ، فانه على هذا المبنى يتعين إثبات الجواز بالمعنى الأعم بلا حاجة إلى إنكار شيء من التبعيتين في الحجية والوجه في ذلك واضح إذ الدليل الناسخ غاية ما يثبته هو الترخيص في الفعل ولا ينفي الطلب فيكون مدلول الأمر غير منسوخ أصلا ، اللهم إلا أن يفرض نظر الدليل الناسخ إلى ما هو مفاد المنسوخ ونفيه سواء كان هو الوجوب أو غيره إلا أن هذه عناية زائدة لم تفرض في عنوان البحث.


ولكن الصحيح عدم تمامية شيء من هذه التقريبات لعدم المساعدة على شيء من مبانيها فان الوجوب ليس مركبا من أمرين ، كما أن الدلالة الالتزامية وكذلك الدلالة التضمنية التحليلية تابعة للدلالة المطابقية في الحجية وسوف يأتي تفصيل البحث عن ذلك في أبحاث العام والخاصّ والتعارض.

ومسلك المحقق النائيني ( قده ) في مدلول الأمر قد تقدم بطلانه في أبحاث دلالة الأمر على الوجوب حيث أثبتنا ان الوجوب مدلول لفظي وليس عقليا.

وعليه فما لم تفرض عناية زائدة في دليل الناسخ لا يمكن إثبات الجواز لا بالمعنى الأعم ولا بالمعنى الأخص.

ثم انه اتضح مما تقدم وجه ما ذكره المشهور في المقام من ربط المسألة وتفريعها على المسألة الفلسفية المعروفة من ان النوع إذا ارتفع بارتفاع فصله فهل يمكن أن يبقى الجنس المتضمن فيه ولو في ضمن نوع آخر أو لا يمكن ذلك؟ فعلى القول بإمكانه قيل في المقام ببقاء الجواز الّذي كان بمثابة الجنس للوجوب ولو ارتفع ما كان بمثابة فصله وهو المنع من الترك ، فان المقصود من هذا البيان هو التقريب الثاني من التقريبات الثلاثة ، أي التمسك بالمدلول التضمني للدليل المنسوخ ، إلا أنه مبني على إمكان بقاء الجنس ولو في ضمن نوع آخر وإلا كان المدلول التضمني أيضا مرتفعا فلا يرد عليه ما أورده السيد الأستاذ : من وجوه عديدة حيث أفاد :

أولا ـ انه لا يتم بناء على كون الوجوب بحكم العقل لا مدلولا للفظ.

وثانيا ـ ان الأحكام من الأمور الاعتبارية وهي بسائط وليست مركبة من مادة وصورة فضلا عن الجنس والفصل.

وثالثا ـ ان البحث المذكور بحث ثبوتي عن إمكان بقاء الجنس بعد زوال فصله وعدمه بينما البحث في المقام إثباتي في أن الدليل المنسوخ هل يمكن أن يستفاد منه بقاء الجواز أم لا؟ فلا ربط بين البحثين أصلا (١).

أقول ـ هذه الاعتراضات لا يمكن المساعدة على شيء منها بعد توجيه كلام المشهور بما ذكرناه.

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٤ ، ص ٢٤.


إذ فيما يتعلق بالاعتراض الأول يرد عليه ـ ان الوجوب حتى لو فرض كونه بحكم العقل وليس مجعولا شرعيا فلا إشكال انه مجعول بالتبع بمعنى أنه ينتزعه العقل من مجموع أمرين بيد الشارع ومن تصرفاته ، أحدهما طلب الفعل ، والآخر عدم ورود الترخيص في الترك ، ولذلك لو قيل ان الشارع رفع وجوب صلاة الليل عن هذه الأمة مثلا لم يكن مستهجنا.

والدليل الناسخ قدره المتيقن انما هو نفي الجزء الثاني لمنشإ انتزاع الوجوب وهو عدم الترخيص في الترك فيمكن التمسك بالدليل المنسوخ لإثبات الجزء الأول الوجوديّ.

نعم على هذا التقدير يكون إثبات الجواز بالمدلول المطابقي للدليل المنسوخ ـ كما أشرنا في التقريب الثالث ـ وليس بالمدلول التضمني لأن عدم الترخيص في الترك ليس مدلولا للأمر فلا تكون المسألة متفرعة على المسألة الفلسفية بلحاظ مدلول الدليل وهو الأمر الاعتباري وإن كان بلحاظ مبادئه من الحب والإرادة تكون صغرى للمسألة الفلسفية ولكنه ليس هو مدلول الدليل فحتى لو فرض عدم بقاء الجنس وتبدله إلى وجود آخر له في ضمن النوع الآخر كشفنا عنه بمقتضى مدلول الدليل ، إلا أن هذا مزيد اقتراب من مدعى المشهور ، والمشهور انما احتاجوا إلى تفريع المسألة على المسألة الفلسفية للمفروغية عن كون الوجوب هو مدلول اللفظ وانه ينحل إلى جنس وفصل.

وفيما يتعلق بالاعتراض الثاني يرد : أن مدعى المشهور لم يكن هو تحليل الأمر الاعتباري المسمى بالوجوب بالحمل الشائع إلى جنس وفصل في أفق وجوده كي يقال بأن الاعتبار من البسائط ، وانما المدعى ان الوجوب عبارة عن مجموع اعتبارين طلب الفعل والمنع من الترك مندكين في اعتبار واحد فهما بمثابة الجنس والفصل له ، والدليل الناسخ غاية ما يدل عليه ارتفاع المجموع لا الجميع فيمكن إثبات أصل الجواز بالدليل المنسوخ.

نعم التعبير عن ذلك بالجنس والفصل اللذين هما من الأجزاء التحليلية العقلية وإرادة معناهما الحقيقي في المقام لا بد أن يكون مسامحة وكان الأولى أن يعبروا بالمدلول التضمني والمطابقي كما تقدم في التقريب الثاني.

وفيما يتعلق بالاعتراض الثالث نقول بأن التفريع المذكور كان بعد الفراغ عن


حجية المدلول التضمني بعد سقوط المطابقي ، حيث انه لو فرغ عن ذلك فلو كان للجنس بقاء إذن كان المدلول التضمني كمدلول تصديقي قابلا للبقاء بالدليل المنسوخ ، وإلا فكما يسقط المدلول المطابقي ويرتفع النوع يرتفع الجنس والمدلول التضمني الّذي كان يكشف عنه الدليل المنسوخ تصديقا. نعم الجامع والجنس كمدلول تصوري يمكن وجوده ولو في ضمن فرد آخر إلا انه ليس مدلولا تصديقيا للدليل.

هذا تمام الكلام في المقام الأول.

المقام الثاني : في مقتضى الأصل العملي وقد استندوا في إثبات الجواز بالأصل إلى استصحاب بقاء الجواز بعد العلم بارتفاع الوجوب. وقد ناقش في ذلك السيد الأستاذ بوجهين :

الأول ـ انه مبني على جريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلي وهو غير صحيح ، لأن الجواز بالمعنى الأعم المعلوم ثبوته سابقا كان في ضمن الوجوب والّذي يحتمل بقاءه بعد النسخ هو الجواز في ضمن فرد آخر هو الإباحة أو الاستحباب أو الكراهة (١).

وهذا الوجه غير وارد إذ الجواز بالمعنى الأعم الّذي يعني عدم الحرمة يجري فيه الاستصحاب الشخصي لأن عدم الحرمة كان معلوما سابقا ويحتمل ثباته فيستصحب وكونه سابقا مقترنا مع الوجوب لا يجعله متغيرا بل هو شخص ذلك العدم ، إذ الاعدام لا تتعدد باختلاف مقارناتها والأثر وهو التأمين انما يترتب على الجواز بمعنى عدم الحرمة واما الجواز بالمعنى الأعم بمعنى آخر يفترض جامعا بين الأحكام الأربعة ـ غير الحرمة ـ فهذا مضافا إلى انا لا نتعقله ليس موضوعا لأثر عملي.

لا يقال : ان استصحاب عدم الحرمة معارض باستصحاب عدم الاستحباب والكراهة والإباحة للعلم إجمالا بأن أحد هذه الاعدام قد تبدل بالوجود بعد نسخ الوجوب.

فانه يقال ـ ان أوضح جواب على هذا الكلام انه لو افترضنا الإباحة حكما

__________________

(١) نفس المصدر السابق ، ص ٢٥.


وجوديا قلنا ان استصحاب عدمها غير جار في نفسه كي يكون معارضا مع استصحاب عدم الحرمة ، إذ لا يترتب عليه تنجيز أو تعذير. لأنه لو أريد به إثبات الإلزام وتنجيزه فهو لا يثبت الإلزام إلا بالأصل المثبت لو أريد إثبات التنجيز به مباشرة فالتنجيز ليس مرتبا على عدم الإباحة كحكم وجودي بل مع عدم جعلها أيضا لا تنجيز لو لم تجعل الحرمة كما هو واضح.

هذا كله لو أريد استصحاب الجواز بالمعنى الأعم.

واما لو أريد إثبات الطلب بالأصل فإذا أريد به استصحاب الطلب كحكم إنشائي اعتباري فعلى المسلك المشهور والمختار من ان الطلب الوجوبيّ هو مفاد الأمر المنسوخ وان وجود أصل الطلب ضمن الوجوب وجود تضمني تحليلي كان جريان استصحابه موقوفا على جريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلي ، وعلى مسلك الميرزا ( قده ) من ان الوجوب بحكم العقل كان استصحاب الطلب جاريا كاستصحاب شخصي ، لأن شخص ذلك الطلب المجعول يمكن بقائه بعد ورود الناسخ للوجوب أيضا.

واما إذا أريد به استصحاب روح الطلب وهي الإرادة التشريعية والحب للمولى فجريانه في أصل الإرادة ولو بمرتبته الضعيفة التي لا يعلم بارتفاعها لا مانع فيه بناء على انه من الاستصحاب الشخصي وما أفيد في الكفاية من ان العرف يرى تغاير الوجوب والاستحباب وتباينهما في الوجود وإن كان بحسب الدقة العقلية لا فرق بينهما إلا في مرتبة الوجود الواحد غير تام في الإرادة والحب لأن العرف انما يرى التباين بين الوجوب والاستحباب لا بين الإرادة التشريعية اللزومية والإرادة التشريعية غير اللزومية التي هي من مبادئ الحكم.

الوجه الثاني من الإشكال الّذي أورده السيد الأستاذ : ان هذا من الاستصحاب في الشبهة الحكمية وهو غير جار.

وهذا الوجه أيضا مما لا يمكن المساعدة عليه لا مبنى ولا بناء أما مبنى فلما سوف يأتي في مباحث الاستصحاب من حجيته في الشبهات الحكمية والموضوعية معا.

واما بناء فلأنه حتى لو بنى على ذلك المبنى فتطبيقه في المقام خلاف ما اعترف


به الأستاذ نفسه من التفصيل بين استصحاب الحكم الإلزامي واستصحاب الحكم الترخيصي فالذي يراه غير جار للمعارضة مع استصحاب عدم الجعل انما هو استصحاب بقاء الحكم الإلزامي في الشبهات الحكمية لا استصحاب عدم الحكم والترخيص كما في المقام.



بحوث الأوامر

كيفيات تعلق الأمر

ـ تعلق الأمر بالطبيعة أو الأفراد

ـ حقيقة الواجب التخييري

ـ حقيقة الواجب الكفائي

ـ الواجب الموسع والمضيق



تعلق الأمر بالطبيعة أو الأفراد

ولا بد تمهيدا من توضيح مقدمة حاصلها : ان الأعراض على أقسام خمسة :

الأول ـ الأعراض الذهنية ، ونقصد بها العوارض التي يكون عروضها والاتصاف بها كلاهما في الذهن ، ويمثلون لها بالمعقولات الثانوية في المنطق كالنوعية والجنسية التي هي من عوارض المفهوم بما هو موجود في الذهن ، فان الإنسان الذهني يتصف بأنه نوع لا الإنسان الخارجي ، كما انه معروض النوعية بما هو في الذهن لا بما هو في الخارج.

الثاني ـ الأعراض الخارجية ، وهي ما يكون عروضها والاتصاف بها كلاهما في الخارج ، كالحرارة للنار فان الحرارة تعرض في العالم الخارجي على النار الخارجية ولا وجود لها في الذهن ، كما ان التوصيف بالحار انما يكون بلحاظ النار الخارجية فهي الحارة لا النار الذهنية.

الثالث ـ الأعراض التي قال المشهور عنها بأنها وسط بين القسمين السابقين كالإمكان والامتناع والضرورة والاستلزامات كاستلزام العلة للمعلول ونحو ذلك ، حيث أفادوا أن هذا النوع من الأعراض يكون الاتصاف بها خارجيا ، إذ الإنسان الخارجي ممكن والعلة الخارجية مستلزمة للمعلول ، ولكن عروضها يكون في الذهن


وبالاعتبار ، لاستحالة أن يكون عروضها في الخارج لأن ذلك يستلزم وجودها في الخارج وهو محال ولو ببرهان التسلسل ، إذ لو كان الإمكان موجودا خارجيا يعرض على الممكن الموجود الخارجي ، كان ذلك الوجود كوجود معروض له الإمكان أيضا ، فيلزم وجود ثالث في الخارج وهو أيضا يثبت له الإمكان فيكون هنا لك وجود رابع وهكذا يتسلسل ، فبهذا البرهان ذهبوا إلى أن مثل هذه الأعراض وجودها وعروضها في الذهن والاعتبار فتكون معقولات ثانوية عند الحكيم وإن لم تكن كذلك عند المنطقي (١).

وقد تقدم منا في الأبحاث السابقة :

إن هذا المدعى غير قابل للقبول لأنا لا نتعقل أن يكون العروض في عالم والاتصاف في عالم آخر ، لأنه لا يكون الاتصاف إلا باعتبار العروض وبسببه ، كما ان هذه الأمور من الواضح انها ثابتة وواقعية حتى لو افترضنا عدم وجود اعتبار أو معتبر ، ولذلك قلنا فيما سبق ان هذه الأعراض أمور واقعية وحقه بقطع النّظر عن أي عقل أو اعتبار ، فاستحالة اجتماع النقيضين حق واقعي ولو فرض انعدام كل العقول في الخارج. وقد قسمنا فيما سبق الأمور الخارجية إلى قسمين ما يكون خارجيا بوجوده كما في الموجودات الخارجية ، وما يكون خارجيا بذاته وهي الاستلزامات والإمكان والاستحالة والوجوب.

وهكذا يتلخص في المقام إيرادان :

الأول ـ ان التفكيك بين ظرف العروض وظرف الاتصاف غير معقول لأن الاتصاف انما يكون بلحاظ العروض فيستحيل أن يكون ظرفه غير ظرف العروض.

الثاني ـ أن هذه الأعراض لو أرادوا باعتباريتها انها اعتبارية محضة كاعتبار « جبل من ذهب » بحيث لا حقيقة لها وراء الاعتبار فهذا واضح الفساد ، لبداهة ان مثل قضية « الإنسان ممكن » تختلف عن قضية « جبل من ذهب » فان العقل يدرك صدق القضية الأولى وواقعيتها بقطع النّظر عن وجود عقل ومعتبر.

وإن اعترف بان الذهن يضطر وينساق إلى أن يعتبر هذه الأعراض عند ما يلاحظ

__________________

(١) منظومة السبزواري ص ٣٩ ـ ٤٠.


معروضاتها وليس كالأمر الاعتباري المحض ، فان أريد بذلك ان هناك حالة في الذهن تقتضي من الناحية الفسلجية أن ينساق إلى هذه المعاني من دون أن يكون ذلك مربوطا بالواقع الموضوعي في الخارج بل بنكتة ترتبط بذهن المفكر نفسه ـ كما ادعى ذلك بعض الفلاسفة المحدثين ـ فهذا أيضا خلاف الوجدان والضرورة القاضية بأن مثل قضية « الإنسان ممكن » أو « مساو المساوي مساو » قضية صادقة صدقا واقعيا مع قطع النّظر عن وجود أي ذهن وذات مفكرة ، بل ان هذه القضايا تكون بحسب هذا الإدراك فوق الذهن وثابتة قبله وفي عالم لم يخلق فيه مفكر ، فالعقل يدرك استحالة اجتماع النقيضين في كل العوالم حتى عالم لا وجود فيه للفكر والمفكر. وإن أريد بذلك أن الذهن ينساق إلى هذه المعاني لنكتة قائمة بالموضوع نفسه أي بالمفكر فيه لا بالفكر وفسلجته الذاتيّة ، فتلك النكتة لا بد وأن تكون هي النكتة الواقعية والثابتة في لوح الواقع بنفسها وذاتها وان خارجيتها وواقعيتها بالذات لا بالوجود كيف ومثل الامتناع في اجتماع النقيضين لا يمكن أن يكون خارجيا بالوجود.

وهذا أحد المسالك في إبطال من يدعي انحصار الواقع الخارجي بالمادة وظواهرها إذ من الضروري رياضيا ومنطقيا ان قضية مساو المساوي مساو ثابتة وحقة سواء وجدت مادة وظاهرة مادية أم لا.

كما انه بما ذكرناه ظهر بطلان ما اقترحه الخواجة نصير الدين الطوسي ( قده ) على ما نقله عنه صاحب الأسفار في دفع العويصة في هذا القسم من العوارض التي يكون الاتصاف بها خارجيا مع ان عروضها في الذهن والاعتبار ـ على حسب تفسير المشهور ـ من نقل القضية من الذهن بالمعنى المعهود إلى معنى آخر سماه العقل الأول أي الواجب وان هذه الأعراض ثبوتها وعروضها انما يكون في العقل الأول فهي ثابتة بثبوته وليس بوجود موضوعها في الخارج ، (١) إذ من الواضح ان هذه الأعراض حقة وثابتة وواقعية حتى لو فرض عدم وجود العقل الأول والواجب ، فحتى المنكر لوجود الواجب يمكنه أن يتقبل حقانية هذه القضايا ، وقضية امتناع اجتماع النقيضين صادقة

__________________

(١) الأسفار الأربعة ، ج ١ ، ص ١٤٥ ـ ١٤٦.


وثابتة حتى في عالم يفترض فيه عدم وجود الواجب ولو محالا ، ولا ينيط عقلنا المدرك لصدقها واقعيتها وثبوتها بوجود العقل الأول بوجه من الوجوه أصلا ، إذن فلا محيص من الالتزام بأن هذه الأعراض والمعاني أمور من لوح الواقع الّذي هو أوسع من لوح الوجود.

القسم الرابع ـ الأعراض الذهنية ذات الإضافة إلى شيء في الخارج ، كحب علي 7 وبغض معاوية ، وهي تشبه المعقولات الثانوية المنطقية ـ القسم الأول ـ في كونها من عوارض النّفس والصورة الذهنية ولكنها تختلف عنها في أن تلك العوارض تعرض على الصورة بما هي صورة ومفهوم ، فتصور الإنسان بما هو تصور ومفهوم يكون كليا أي بما هو هو بينما هذه العوارض تعرضها بما هي مرآة وفانية في الخارج ، ولذلك يكون الوجود الخارجي معروضا بالعرض لها ومعروضها الحقيقي والذاتي نفس الصورة الذهنية ، فالصورة الذهنية بالحمل الأولي هو المعروض بالعرض وبالحمل الشائع هو المعروض بالذات.

وهذا عليه وجدان وبرهان :

اما الوجدان ـ فهو وضوح انحفاظ هذه العوارض وثبوتها في الموارد التي لا يوجد فيها خارجا شيء أصلا ، كما في الصورة العلمية في موارد الخطأ وكما في حب شخص غير موجود وانما كان المحب يتوهم وجوده ، فانه لو كان المتعلق الحقيقي هو الخارج فلا خارج هنا.

واما البرهان : فهو ان هذه الصفات باعتبارها ذات إضافة فلا يتصور في تمام مراتب ثبوتها حتى مرتبة ذاتها ان ينفك عن طرف الإضافة وهو المضاف إليه ، فلا بد أن يكون المضاف إليه ثابتا حتى في مرتبة ذاته التي هي في الذهن والنّفس ـ وبهذا البرهان أيضا يثبت وحدة المتعلق والمتعلق وان الصورة الحبية نفس الحب على ما شرحناه في ما سبق ـ.

القسم الخامس ـ الأعراض الذهنية ذات الإضافة إلى صورة كلية وطبيعة لا إلى موجود خارجي ، وهذا كما في الطلب ـ لا بما هو إنشاء واعتبار بل بروحه التي هي الحب في الأمر والبغض في النهي ـ فانه يتعلق بالمفهوم كما في القسم الأول والرابع


ولكنه يختلف عن الأول في أنه يتعلق بالمفهوم بما هو مرآة لا بما هو هو ، ويختلف عن الرابع في انه ليس له معروض بالعرض وانما له معروض بالذات الّذي هو نفس المفهوم الكلي ، إذ لا يعقل له المعروض بالعرض لأن وجود المعروض بالعرض مساوق مع التشخص حيث أن الوجود مساوق مع التشخص وتعلق الأمر به تحصيل للحاصل كما هو واضح ، نعم ما يوجد في الخارج يصبح مصداقا لمعروض الطلب لا انه معروضه لا بالحقيقة وبالذات ولا بالعرض ، وهذا بخلاف مثل الشوق والحب المتعلق بالايمان كحبنا لعلي 7 وبغضنا لمعاوية فان له معروض بالعرض وهو الوجود الخارجي للمحبوب وبهذا تندفع العويصة المشهورة والتي هي شبهة في قبال البديهة من ان الطلب إذا كان متعلقا بالمفهوم بما هو هو فهذا غير مفيد للمولى بل هو حاصل في ذهنه أيضا ، وإذا كان متعلقا بالموجود الخارجي فهو طلب الحاصل. فان الطلب متعلق بالمفهوم والصورة الذهنية بما هو مرآة فان في الخارج أي بالحمل الأولي ولذلك لم يكن المطلوب هو نفس المفهوم بالحمل الشائع إذ ليس هو مصداقا للمفهوم بالحمل الأولى وفي نفس الوقت لا يلزم طلب الحاصل لأنه غير متعلق بالوجود الخارجي ولو بالعرض وانما الوجود الخارجي مصداق لما يتعلق به فلا يرد أن المتعلق بالعرض لو كان هو الوجود الخارجي لزم تأخر الطلب عنه وكانت مرتبته مرتبة متأخرة عن مرتبة المعروض بالعرض ومعه يستحيل طلبه لأنه طلب للحاصل.

وقد أجاب عن هذا الإشكال صاحب الكفاية ( قده ) بأن الّذي يتعلق به الطلب هو إيجاد الطبيعة لا وجودها فلا يلزم تعلق الطلب بالطبيعة الموجودة كي يلزم طلب الحاصل (١).

وفيه : انه لا فرق بين الإيجاد والوجود إلا بالاعتبار ، وإضافة الشيء إلى الفاعل تارة وإلى نفسه أخرى لا يغير الواقع شيئا فمحذور طلب الحاصل باق على حاله حتى لو كان الطلب متعلقا بإيجاد الطبيعة فانه سوف يكون متأخرا مرتبة عن مرتبة هذا الإيجاد ومعه يكون طلبه طلبا للحاصل.

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ص ٢٢٣.


ثم إن زج مفهوم الإيجاد أو الوجود في مدلول الأمر كما صنعه صاحب الكفاية ( قده ) في المقام يمكن أن يكون مبرره أحد وجوه :

الأول ـ ما أشير إليه في العويصة من ان الطلب المفاد بالهيئة لو كان متعلقا بالطبيعة فإذا أريد منها الطبيعة بما هي هي فلا يكون فيها غرض للمولى ولا يطلبها أيضا لأنها حاضرة في ذهنه ، وإذا أريد منها الطبيعة الموجودة كان طلب الحاصل ، فاتجه صاحب الكفاية ( قده ) إلى أخذ الإيجاد في مدلول الهيئة.

وقد عرفت ان الطلب لا يتعلق بالخارج بل بالصورة الذهنية ولكن بالحمل الأولي لا بالحمل الشائع. أي بما هي فان في الخارج والمفهوم بالحمل الأولي لا يصدق إلا على المصداق الخارجي لا على الصورة الذهنية ذاتها فانها ليست مصداقا لنفسها ولذلك كان امتثال الطلب وتنفيذه بإيجاد المصداق الخارجي.

الثاني ـ ان الماهية المدلول عليها بالمادة لو كانت متعلقة للطلب ابتداء كان معناه ان الماهية بما هي هي مطلوبة مع انها ليست إلا هي لا مطلوبة ولا غير مطلوبة كما ذكر في الحكمة.

وفيه : ان هذا خلط بين مصطلح في الحكمة وبين المقام ، فانه في المعقول قيل : لو لوحظت الماهية بذاتها ومرحلة ذاتياتها فليست إلا هي بجنسها وفصلها ونوعها واما سائر الأمور والعوارض التي هي خارجة عن الذات فلا تكون متصفة بها في هذه المرتبة ، أي انها ليست من ذاتياتها فالماهية بما هي هي ليست إلا هي. وهذا مطلب معقول مفهوم ولكنه عند ما استخدمه الأصولي طبقه بشكل خاطئ وبتصور أن الماهية بما هي هي لا يمكن أن يتعلق بها الطلب ويعرض عليها لأن الماهية بما هي هي ليست مطلوبة ولا غير مطلوبة ، غافلا عن ان قيد ( بما هي هي ) لتحديد المعروض وانه مرحلة الذات والذاتيات لا لبيان ظرف الحمل فلا يعني عروض الطلب أو أي عرض آخر عليها انها في مرحلة ذاتها وبالحمل الأولي أصبحت مطلوبة وأصبح الطلب جزءا من ذاتها وهذا واضح.

الثالث ـ ان الوجود لو لم يكن مأخوذا في مدلول هيئة الأمر لزم أن لا يكون الترك والعدم مأخوذا أيضا في مدلول النهي ومعه لا يبقى فارق بينهما إذ كلاهما يدلان على


طلب الطبيعة ، وهذا واضح الفساد لوضوح عدم وحدتهما في المدلول.

وفيه ـ انه مبني على ان النهي طلب الترك مع انه ليس كذلك بل هو الزجر والمنع المتعلق بالطبيعة أيضا التي هي مفاد المادة من دون أخذ العدم ولا الوجود في جانب المدلول.

وأيا ما كان فهذه أقسام خمسة للأعراض ، وهناك قسم سادس وهو الأعراض الذهنية التي تكون حالة لكيفية لحاظ الشيء الخارجي من قبيل عنوان أحدهما ومجموعهما وجميعهما ، فان هذه العناوين وإن كان يوصف بها الشيء الخارجي لا الذهني فليس من قبيل الأعراض الذهنية التي تكون معقولات ثانوية عند المناطقة أعني القسم الأول المتقدم ، ولكنه مع ذلك يختلف عن الأقسام الأخرى أيضا في انها لا تكون إضافة شيء إلى الموضوع الموصوف بها فان زيدا الّذي يتصف بأنه أحدهما لا ينضاف إليه شيء زائد على نفسه حتى في عالم الاعتبار والذهن فضلا عن الخارج ، وانما هذا العنوان تعبير عن كيفية لحاظ الذهن وتصوره للموضوع وانه ملحوظ بنحو غامض مجمل مثلا أو بنحو مجتمع أو غير ذلك فهي حدود للحاظ والتصور الّذي يتمكن منه الذهن البشري في مقام التعبير عن الخارج والإشارة إليه.

هذه هي المقدمة التي أردنا تمهيدها للدخول في بحث تعلق الأحكام بالطبائع أو بالأفراد.

والواقع ان بحث تعلق الحكم بالطبيعة أو بالفرد قد أغلق فهم ما كان يقصده منه الأقدمون من علماء الأصول عند ما أدرجوه في هذا العلم ولذلك اختلفت تفسيراتهم في اتجاه وصياغة هذا البحث ، ونحن نذكر فيما يلي الصياغات المتصورة لهذا البحث.

الصياغة الأولى : ان النزاع المذكور انما هو في تحديد ان الواجبات الشرعية التي يجب فرد منها على سبيل البدل وبنحو التخيير هل يكون التخيير فيها عقليا أو شرعيا فعلى القول بتعلق الأحكام بالطبائع يكون التخيير عقليا إذ لا يكون كل فرد من الأفراد مأمورا به بعنوانه بل هناك حكم واحد متعلق بالطبيعة التي تكون نسبتها إلى الأفراد على حد واحد والترديد فيما بينها عقلي.

وهذا هو المراد بالتخيير العقلي في المقام. وعلى القول بتعلقها بالأفراد تكون هنا لك


أحكام عديدة بعدد الأفراد ولكن على سبيل البدل وهذا هو التخيير الشرعي في المقام.

إذن فالقائل بتعلق الأحكام بالأفراد يقصد بذلك نفي التخيير العقلي في باب الأحكام.

وقد استبعد الميرزا ( قده ) أن يكون هذا غرض الأصوليين القدماء من عقد هذا البحث ، وذلك لوضوح عدم المحذور في التخيير العقلي وعدم الكلام فيه وانما الكلام بينهم في التخيير الشرعي (١).

ونحن نضيف على ذلك انه لا يمكن إنكار التخيير العقلي حتى لو قيل بتعلق الحكم بالأفراد والحصص على سبيل البدل ، وذلك باعتبار أن العنوان تارة : يؤخذ مشيرا إلى حصة معينة وفرد في الخارج مفروغ عنه ، وأخرى : لا يؤخذ كذلك. فعلى الأول لا يمكن تعلق الأمر به ، لما تقدم من انه تحصيل للحاصل وان متعلق الأمر لا بد وأن يكون المفهوم بما هو هو لا بما هو مشير إلى واقع خارجي مفروغ عنه. وعلى الثاني يكون متعلق الأمر مفهوما كليا مهما ضيق وحصص وقيد بقيود مختلفة إذ يبقى مع ذلك كليا ما لم يفرغ عن وجوده الّذي يكون به التشخص الحقيقي.

نعم لو فرض اختيار المسلك القائل بعروض الوجود على الماهية الشخصية الّذي يعني تعقل التشخص في الماهية بغير الوجود أمكن تعلق الحكم بالفرد بمعنى الماهية الشخصية دون أن يلزم تحصيل الحاصل ولا يكون تخييرا عقليا حينئذ إلا أن هذا المسلك غير مقبول في نفسه على ما حقق في محله.

الصياغة الثانية ـ ما أفاده الميرزا ( قده ) من ان البحث عن تعلق الأحكام بالطبائع أو الأفراد مربوط بالمسألة الفلسفية في تشخيص معروض الوجود والإيجاد الخارجي وانه هل يعرض على الماهية الشخصية أو على ذات الماهية والطبيعة ويكون التشخص بالوجود نفسه ، فعلى الأول يلزم أن يكون الحكم متعلقا بالفرد لا الطبيعة لأن الإرادة التكوينية دائما سوف تتعلق بإيجاد الماهية الشخصية فلا بد للإرادة التشريعية أن يتعلق بها أيضا ، لأنها انما تتعلق بما يتعلق به الإيجاد والإرادة

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٢١٠.


التكوينية وتكون على وزانها ، واما إذا قيل بعروض الوجود على ذات الماهية كانت الإرادة التكوينية متعلقة بها لا محالة ومعه لا مانع من تعلق الإرادة التشريعية والحكم بالطبيعة. وفرع على ذلك ثمرة حاصلها : انه بناء على تعلق الحكم بالماهية الشخصية لا يمكن اجتماع الأمر والنهي لأن العنوانين وإن فرض تغايرهما عنوانا ومفهوما غير انه لا إشكال في أن كل واحد منهما من مشخصات الآخر فيتحد متعلق الأمر مع النهي وهو مستحيل ، وهذا بخلاف ما إذا قيل بذات الماهية والطبيعة إذ يكون متعلق الأمر طبيعة ومتعلق النهي طبيعة أخرى وإن تصادقا في واحد (١).

أقول : في هذا الكلام مواقع للنظر نقتصر على ذكر واحد منها. وهو انه لا ترتب بين هذه المسألة والمسألة الفلسفية ، إذ ليس من الضروري على من يقول في المسألة الفلسفية بأن الوجود يعرض على الماهية المشخصة وان المشخصات مأخوذة في موضوع الوجود أن يقول بلزوم تعلق الإرادة التشريعية بالماهية الشخصية أيضا بل يمكن أن يلتزم مع ذلك بتعلقها بذات الماهية. ودعوى : لزوم كون متعلق الإرادة التشريعية هو متعلق الإرادة التكوينية أول الكلام ، إذ البرهان انما قام على أن الإرادة التشريعية للمولى لا بد وأن تكون متعلقة بشيء يعقل صدوره من المكلف خارجا لكيلا يلزم التكليف بغير المقدور ، ومن الواضح ان ذات الماهية في المقام يمكن صدورها وتحت قدرة المكلف وليس التكليف بها تكليفا بغير المقدور.

الصياغة الثالثة ـ ما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ) في المقام وحاصله : ان البحث المذكور مرتبط بالمسألة الفلسفية المعروفة لوجود الطبيعي في الخارج وعدم وجوده ، فعلى القول بوجوده يكون تعلق الحكم به أيضا معقولا ، وعلى القول بعدم وجوده في الخارج وان الموجود في الخارج الفرد دائما لا يمكن تعلق الحكم به لأنه تكليف بغير المقدور.

ولا يخفى أن هذا التوجيه لهذا البحث مشترك مع التوجيه السابق الّذي أفاده الميرزا ( قده ) من حيث ربط المسألة الأصولية بالمسألة الفلسفية وان الوجود متعلق

__________________

(١) نفس المصدر السابق.


بذات الطبيعة أو الطبيعة المشخصة ، إلا أنهما اختلفا في بيان كيفية تأثير تلك المسألة في المقام ووجه استلزام القولين هنا للقولين هناك.

وأيا ما كان يرد على هذا التفسير : ان النزاع حول وجود الطبيعي في الخارج وعدم وجوده انما هو في الوجود بالذات والحقيقة لا في مطلق الوجود ولو بالعرض ، إذ لا إشكال في ان الطبيعة يكون لها نحو وجود في الخارج ولو بالعرض ، ببرهان صحة حملها على الوجود الخارجي بالحمل الشائع فيقال « زيد إنسان » ولو لا الاتحاد لما صح الحمل فهذا يكشف عن وجود نحو اتحاد في الوجود بين الطبيعي والفرد الخارجي ، وهذا يكفي لتعلق الأمر والإرادة التشريعية بها ويطلب إيجادها بهذا النحو في الخارج ولا يلزم منه التكليف بغير المقدور كما هو واضح.

بل قد عرفت انه لا يعقل تعلق الأمر بالأفراد لأن التشخص والفردية انما يكون بالوجود فلو كان متعلق الأمر هو الطبيعة المشار بها إلى وجود حقيقي مفروغ عنه كان تحصيلا للحاصل وإلا كان متعلقه كليا لا محالة.

الصياغة الرابعة ـ ان التشخص الحقيقي وإن كان بالوجود إلا انه مع ذلك بحسب النّظر العرفي تكون المشخصات الخارجية التي هي في طول التشخص الحقيقي ، من قبيل اللون والطول والعرض والكون في مكان معين وزمان معين وغير ذلك هي المشخصة للفرد رغم كونها بالدقة ضمائم عرضية ومصاديق لماهيات أخرى كلية ، فحينما يسأل أحد من هو زيد؟ يستعان بهذه المشخصات لتعيينها وبضمها إلى الوجود المحور لهذه المشخصات يتحقق ما نطلق عليه اسم الفرد ونطلق على ذات الوجود اسم الحصة ، فالفرد عبارة عن ذاك الوجود المنضم إليه تلك المشخصات العرفية والحصة عبارة عن ذات ذاك الوجود المتشخص مع غض النّظر عن مشخصاته العرفية. إذا اتضح هذا فنقول : يمكن أن يكون المقصود من مبحث تعلق الأمر بالطبائع أو الأفراد ان الأمر هل يسري بحسب جعله أو بحسب التطبيق إلى الأفراد أي إلى الوجود بما له من ضمائم أو لا؟ فمعنى تعلق الأمر بالأفراد السريان والتوسع في دائرة التطبيق بلحاظ هذه الضمائم أو السريان والتوسع بلحاظها بحسب عالم الجعل أو على الأقل بحسب عالم


الحب فلا يبقى الحب على ذات الصلاة بل يسري إلى الضمائم من قبيل أن تكون في مكان ما أو زمان ما ونحو ذلك لاحتياج الصلاة إليها فلئن كان لا يعقل السريان بحسب التكليف فباعتبار لا بدية وقوع هذه المشخصات وحتميتها لا أقل من السريان بحسب روح التكليف وهو الحب.

وفي مقابل ذلك القول يتعلق الأمر بالطبيعة أي انه لا يسري إلى تلك الضمائم لا بحسب الجعل ولا بحسب روحه ولا بحسب التطبيق ، لأن الجعل تابع لملاكه والملاك انما هو في ذات الطبيعة ولو فرضت لا في زمان أو مكان ، ومجرد الملازمة لا يوجب سريان الحب إلا بناء على وحدة المتلازمين في الحكم. واما بحسب التطبيق فلأن مطبق الماهية انما هو الحصة والعوارض كل واحد منها مطبق لماهية أخرى فلا معنى للسريان إليها. والأثر العملي لذلك انه لو قلنا ان الحرام هو الكون في المكان المغصوب ، وقلنا ان هذا الكون من العوارض لماهية الصلاة فبناء على تعلق الأمر بالطبيعة لا بأس باجتماع الأمر والنهي ولا يلزم من ذلك اجتماع الضدين على مصب واحد ، اما بناء على تعلقه بالفرد فالكون في المكان صار مصداقا للواجب أو للمحبوب فيلزم الاجتماع وقد اتضح من خلال هذا البيان ان الحق هو تعلق الأمر بالطبائع.



الواجب التخييري

قد عرف الواجب التخييري : بالواجب الّذي يجوز تركه إلى بدل في قبال الواجب التعييني الّذي لا يجوز تركه إلى بدل.

وقد أثير حول هذا التفسير للواجب التخييري إشكال اشتماله على ما يبدو تناقضا ، حيث ان وجوب شيء يستبطن عدم جواز تركه مع انه افترض فيه جواز الترك وهذا تناقض.

وحلا لهذا الإشكال طرحت عدة نظريات :

النظرية الأولى ـ تفسير الواجب التخييري بأنه عبارة عن إيجاب الفرد الّذي يختاره المكلف من البدائل فما سوف يختاره المكلف خارجا واقعا يكون هو الواجب على المكلف تعيينا دون غيره ، وبذلك يرجع الواجب التخييري إلى الواجب التعييني.

وقد أخذ السيد الأستاذ على هذه النظرية بعدة مؤاخذات :

الأولى ـ انه خلاف قاعدة الاشتراك الدالة على وحدة الأحكام بالنسبة إلى المكلفين واشتراك المسلمين جميعا فيها إذ يستلزم أن يكون الواجب في حق من يختار العتق مثلا غير ما هو الواجب في حق من اختار إطعام ستين مسكينا أو ما هو الواجب


في حق من اختار صيام شهرين متتاليين (١).

الثانية ـ انه غير معقول ثبوتا لأنه يرجع إلى إيجاب الفعل الّذي يختاره المكلف والأمر بما يختاره المكلف مساوق مع تحصيل الحاصل فيكون محالا (٢).

وهاتان المؤاخذتان متهافتتان فيما يفترض لكل منهما فلا يمكن الجمع بينهما وتوضيح ذلك : ان عنوان ما يختاره المكلف تارة : يجعل بنحو الموضوعية : بأن يكون هو مركز التكليف ومصب الإيجاب. وأخرى : يجعل مشيرا إلى واقع ما يختاره المكلف فيكون الفعل بعنوانه الواقعي هو مركز التكليف ، فعلى الأول : لا مجال للمؤاخذة الأولى إذ سوف يكون التكليف متعلقا بعنوان ما يختاره المكلف وهو مشترك بين الجميع ويكون كل من البدائل مصداقا لما هو الواجب لا انه الواجب كما هو واضح.

واما المؤاخذة الثانية فسوف يأتي ما يمكن أن تدفع به على هذا التقدير أيضا.

وعلى الثاني : لا مجال للمؤاخذة الثانية إذ ليس الواجب إلا واقع الفعل الّذي اختاره المكلف غاية الأمر ان المولى استغنى عن جعل أحكام عديدة بعدد المكلفين بهذا العنوان المشير.

الثالثة ـ انه يلزم في فرض العصيان وعدم إتيان المكلف بشيء من البدائل اما ارتفاع الوجوب وبالتالي ارتفاع العصيان وهو غير معقول إذ الوجوب الّذي لا يكون له عصيان لا يكون معقولا واما بقائه بلا متعلق وهو محال أيضا (٣).

وهذه المؤاخذة يمكن دفعها بالالتزام بأن متعلق الوجوب ليس هو ما يختاره بالفعل بل ما يؤثره المكلف من البدائل إذا شاء أن يختار أحدها وهذا محفوظ حتى في فرض العصيان ، نعم لو افترضنا حالة لا يوجد أي امتياز وترجيح من قبل المكلف لأحد البدائل بناء على إمكان الترجيح بلا مرجح في الأفعال الاختيارية فلا يوجد تعين للمتعلق إلا أن هذا رغم معقوليته ثبوتا ليس واقعا إثباتا بمعنى انه لا يمنع عن عقلائية التكليف بالنحو المذكور.

__________________

(١) يمكن دفعها أيضا بأن دليل الاشتراك ليس فيه إطلاق أكثر من هذا المقدار لأنه دليل لبي.

(٢) نفس المصدر السابق ، ص ٢٦ ـ ٢٧.

(٣) ويمكن دفعها أيضا بأن ما يختاره المكلف مأخوذ بنحو قيد الواجب لا قيد الوجوب فالعصيان متحقق وبذلك يظهر اندفاع المؤاخذة الثانية أيضا ، نعم هذا موقوف على أخذ عنوان ما يختاره المكلف لا واقعه فالمولى يوجب مختار المكلف من البدائل.

.


وهذا الجواب بنفسه يدفع المؤاخذة الثانية فان إشكال تحصيل الحاصل انما يرد إذا كان المتعلق هو ما يختاره المكلف بنحو القضية الفعلية واما إذا كان المتعلق هو ما يختاره المكلف بنحو القضية التعليقية فلا يكون من تحصيل الحاصل كما لا يخفى.

الرابعة ـ ان هذا خلاف ظاهر دليل الواجب التخييري إثباتا فان ظاهرها ان نسبة التكليف إلى البدائل كلها على حد واحد لا ان الوجوب لخصوص ما يختاره المكلف فقط.

وهذه المؤاخذة أيضا غير منهجية فانه إذا افترضنا موافقة ما جعل تفسيرا للواجب التخييري مع الوجدان والارتكاز المعاش لدى العقلاء والموالي العرفية كان ظاهر الدليل محمولا عليه لا محالة ، كما هو شأن كل ارتكاز عقلائي يحكم على ظاهر الدليل ، وإلا كان الإشكال ثبوتيا حينئذ.

والصحيح في إبطال هذه النظرية ان وجوب ما يختاره المكلف لو أريد به جعل الوجوب على واقع ما يختاره بعنوانه الأولي الواقعي فهذا خلاف الوجدان الواضح لدى الموالي العقلانية في مقام جعل الوجوب التخييري الحاكم بأن نسبة الوجوب إلى كل من البدائل على حد واحد من حيث المكلف والمكلف به ، وإن أريد به جعل الوجوب على عنوان ما يختاره بنحو الموضوعية ويكون ما يختاره مصداقا لمتعلق الوجوب فعنوان ما يختار عنوان جامع بين البدائل نظير عنوان أحدها فإذا فرض ان الوجوب التخييري الشرعي كان عبارة عن إيجاب الجامع الّذي هو التخيير العقلي فلا موجب لتطويل المسافة وأخذ عنوان ما يختار بل يقال من أول الأمر ان متعلق الوجوب هو عنوان جامع بين البدائل كعنوان أحدها.

النظرية الثانية ـ ما ذكره صاحب الكفاية ( قده ) من أنه يمكن أن يفترض الواجب التخييري عبارة عن وجوبين تعيينيين على العدليين كل منهما مشروط بعدم الإتيان بالآخر وذلك باعتبار التضاد في الملاك التعيني في كل منهما وهو يقتضي الأمر بكل منهما مشروطا. بعدم الآخر (١).

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٢٢٥ ـ ٢٢٦.


وقد أورد جملة من المحققين ومنهم السيد الأستاذ على هذه الفرضية بعدة مؤاخذات : (١) الأولى ـ ان هذا خلاف ظاهر الأمر التخييري « بصم » أو أعتق مثلا ، فانه ظاهر بحسب عالم الإثبات في انه خطاب واحد وأمر واحد لا أمران مشروطان وهذه المؤاخذة غير متجهة على المحقق الخراسانيّ ( قده ) لأنه انما أراد تصوير فرضية من الواجب التخييري ولم يدع انه كذلك دائما حتى إذا أفيد إثباتا بمثل اللسان المذكور في الإشكال ، وواضح أن طريق استفادة الواجب التخييري في الفقه ليس منحصرا بذلك بل يمكن أن يفترض ان دليل وجوب كل من العدلين منفصل عن الآخر غاية الأمر يفترض عدم الإطلاق لهما لما إذا جاء المكلف بالآخر ، اما لكونه دليلا لبيا لا إطلاق له ، أو لأنه وإن كان لفظيا لكنه لم يكن في مقام البيان من هذه الجهة كي يتم فيه الإطلاق ، واما للعلم من الخارج بعدم وجوبهما معا المستوجب لاستفادة وجوب كل واحد منهما مشروطا بعدم الآخر اما كجمع عرفي بين الدليلين على ما اختاره السيد الأستاذ في مثل ذلك وناقشنا فيه في أبحاث التعادل والتراجيح ، أو لتساقط إطلاق كل منهما في حال الإتيان بالآخر ، فيبقى إطلاق كل منهما في حال ترك الآخر على حاله. إذن فالفرضية المذكورة من الناحية الإثباتية غير متوقفة على اللسان الّذي افترض في المؤاخذة.

والثانية ـ ان الملاكين المتضادين إن فرض حصولهما معا فيما إذا جاء بالعدلين معا بأن كان التضاد بين وجوديهما بنحو متعاقب لا ما إذا جاء بهما دفعة واحدة كان اللازم حينئذ إيجاب الجمع بينهما حفظا لكلا الملاكين التعيينيين ، وإن كانت المضادة موجودة بينهما في مطلق وجودهما في عمود الزمان حتى بنحو التقارن ، لزم منه أن لا يقع امتثال أصلا لو جاء بهما معا وهذا خلاف الضرورة في باب الواجبات التخييرية.

وهذه المؤاخذة واضحة الفساد إذ يمكن ردها على أساس فرضية صاحب الكفاية بأحد تقريبين على الأقل :

الأول ـ أن يقال بأن أحدهما ملاكه موقوف على عدم تقدم الآخر عليه وعدم

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٤ ، ص ٣٣ ـ ٣٩.


مقارنته أي مطلق وجود الآخر في عمود الزمان مانع عنه واما العدل الآخر فيكون الوجود المتقدم للأول بالخصوص مانعا عنه لا الوجود المقارن ، وهذا بحسب الحقيقة تلفيق بين الحالتين المفترضتين في المؤاخذة وبناء عليه ، لو وجدا معا كان الموجود أحد الملاكين لا محالة وهو ملاك ما افترض عدم مانعية وجود الآخر عنه في حال الاقتران.

وبذلك يكون الامتثال حاصلا به والتكليف بالجميع غير متجه أيضا لعدم انحفاظ أكثر من ملاك حتى لو جمع.

الثاني ـ أن نفترض ان الوجود السابق لكل منهما مؤثر في المنع المطلق لملاك الآخر واما الوجود المقارن فهو يمنع عن نصف الملاك في الآخر بحيث يكون مجموع النصفين الحاصلين على وزان الملاك الكامل في أحدهما من حيث اهتمام المولى به ، فانه على هذه الفرضية أيضا سوف لا يؤمر بالجمع ويكون الجميع امتثالا إذ يكون هناك بحسب الحقيقة ثلاثة بدائل كل منهما منفردا عن الآخر ومجموعهما معا.

فهذه المؤاخذة غير متجهة أيضا.

الثالثة : ان لازم هذه الفرضية أن يصدر من المكلف معصيتان فيما إذا ترك العدلين معا لأن شرط كل من الوجوبين المشروطين متحقق حينئذ فيعاقب بعقابين وهذا خلاف ما هو المفروض في الواجبات التخييرية من عدم حصول أكثر من معصية واحدة واستحقاق عقاب واحد فيما إذا ترك البدلين معا.

وهذه المؤاخذة أيضا غير واردة إذا التفتنا إلى أن شرائط الوجوب على قسمين شرائط الاتصاف بالملاك وشرائط وجود الملاك الفعلي على كل حال ، وانه في موارد التنافي والتضاد بين الواجبين ذاتا كما في باب التزاحم ، أو ملاكا كما في المقام بناء على فرضية المحقق الخراسانيّ ( قده ) إذا كان ترك كل منهما شرطا في اتصاف الآخر بالملاك كان تركهما معا مستلزما لحصول خسارتين للمولى لا محالة لفعلية كلا الملاكين حينئذ مع عدم تحصيل شيء منهما فيكون معاقبا بعقابين لأنه كان قادرا على دفع كلتا الخسارتين والألمين عنه ولم يدفع شيئا منهما ، واما إذا كان ترك كل منهما شرطا في وجود الملاك الآخر كان ترك أحد الملاكين وحصول إحدى الخسارتين ضروريا فما يحصل من ترك المكلف للفعلين باختياره إحدى الخسارتين دائما واما الأخرى فلم يكن دفعها


ممكنا على كل حال ، وحينئذ إن كان مناط الثواب والعقاب هو دفع ألم المولى وخسارته وعدم دفعه فلا محالة لا موجب لاستحقاق أكثر من عقاب واحد وإن كان المناط مخالفة الإنشاء بما هو إنشاء وبقطع النّظر عن مبادئه فهناك مخالفتان لإنشاءين كان يمكن للمكلف المنع من تحققهما فيستحق عقابين لا محالة. إلا أن الصحيح ان مناط العقاب والثواب انما هو بلحاظ مبادئ الحكم وملاكاته لا بلحاظ الإنشاء بما هو هو ولذلك لا فرق وجدانا في ترتب العقاب بين ما إذا كان الملاك قد أبرزه المولى بنحو الإنشاء أو بنحو الاخبار.

وعليه فالصحيح في موارد التضاد الذاتي أو الملاكي بين الواجبين هو التفصيل بين ما إذا كان عدم كل منهما شرطا في اتصاف الآخر بالملاك وبين ما إذا كان شرطا في وجود الملاك الآخر ، ففي الأول يلتزم بتعدد العقاب والمعصية فيما إذا تركهما معا ، وفي الثاني يلتزم بوحدة العقاب رغم انهما من حيث الإنشاء على حد سواء.

وبذلك يتضح اندفاع هذه المؤاخذة عن فرضية المحقق الخراسانيّ ( قده ) حيث انه قد افترض التضاد بين الملاكين في الوجود لا في أصل اتصاف الواجبين به ، كما يظهر ان فرضية المحقق الخراسانيّ ( قده ) لتصوير الواجب التخييري صحيحة في نفسها لو لا انها ليست مطردة بل موقوفة على أن يكون الواجبان متضادين في الملاك وجودا لا ذاتا ، واما إذا لم يكن بينهما التضاد بالنحو المذكور فالفرضية قاصرة عن تصوير الوجوب التخييري والمحقق المذكور ( قده ) أيضا لم يدع أكثر من ذلك.

النظرية الثالثة ـ ما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ) من ان الوجوب التخييري عبارة عن وجوب كل من العدلين والبدلين لوجود الملاك فيهما معا غير أن تحصيل ملاكهما معا يعارض مصلحة التسهيل وملاكه على المكلف ولذلك يرخص المولى في ترك أحدهما على سبيل البدل ، ولذلك فلو تركهما معا كان معاقبا بعقاب واحد لأنه لم يكن مرخصا في ترك الآخر ، وإن فعل أحدهما أو كلاهما كان ممتثلا للواجب لا محالة. وفرق هذه النظرية عن سابقتها انه يستغنى عن افتراض التضاد بين الملاكين في العدلين (١).

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ٢٥٤.


وقد أشكل على هذه النظرية السيد الأستاذ بعدة اعتراضات : (١)

الأول ـ إن هذا يستلزم وجود وجوبين مستقلين لكل من العدلين وهذا خلاف ظاهر الدليل.

وهذا الاعتراض يدفعه ما تقدم في النظرية السابقة حيث كان قد أورد عليها الأستاذ بنفس هذا الاعتراض وحاصله : انه لم يظهر من كلام صاحب النظرية أكثر من تصوير فرضية معقولة للوجوب التخييري ثبوتا ، واما استفادته إثباتا فيمكن ان يفترض ذلك في موارد تعدد الخطاب بالنحو المتقدم. نعم لو فرض عدم معقولية أي فرضية أخرى في تصوير الواجب التخييري لتعين حمل الخطاب الواحد أيضا عليه ولا يبقى مجال للإشكال الإثباتي بأنه خلاف ظاهر الدليل.

الثاني ـ انه موقوف على استفادة وجود ملاكين تعيينيين في كل من الواجبين ولا طريق لنا إلى إثبات الملاك غير الخطاب والمفروض ظهوره في وحدة الحكم لا تعدده.

وهذا الاعتراض أيضا راجع إلى الأول ، حيث يعتمد على ان الظاهر من الدليل بحسب عالم الإثبات وحدة الجعل لا تعدده ، واما إذا افترضنا استفادة تعدده بالصيغة المتقدمة فلا مجال له بل يتعين الكشف عن تعدد الملاك لتعدد الجعل.

الثالث ـ انه موقوف على استفادة وجود مصلحة التسهيل في حق المكلفين واستفادته من الدليل أيضا خلاف الظاهر إذ لا مثبت له ولا قرينة عليه.

وهذا الاعتراض أيضا راجع إلى الأول ومعتمد عليه ، إذ لو فرض استفادة تعدد الوجوب فلا محالة يدل الدليل على وجود ترخيص في ترك كل واحد منهما إلى البدل لأن أصل الدلالة على عدم لزوم الجمع بينهما مفروغ عنه وانما الكلام في كيفية تخريجه ثبوتا.

الرابع ـ ان الوجوب لا يسقط إلا بالامتثال أو العصيان أو ارتفاع الموضوع وفي المقام لا بد وأن يفترض على تقدير تعدد الوجوب ان فعل كل منهما رافع لموضوع الآخر

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٤ ، ص ٣٣.


وإلا لم يكن وجه لسقوطه بل وجب الجمع بينهما ، وهذا خلاف ظاهر الدليل.

وهذا الاعتراض أيضا يرجع إلى الأول وان استفادة تعدد الوجوب بنحو مشروط خلاف ظاهر الدليل.

فكان ينبغي أن يجعل هذه الاعتراضات كلها اعتراضا واحدا محصله مخالفة هذه الفرضية مع دليل الواجب التخييري الظاهر في وحدة الجعل لا تعدده ويكون جوابه حينئذ ما تقدم.

الخامس ـ ان لازم هذا التفسير تعدد العقاب لو ترك المكلف كلا العدلين لأن الترخيص انما كان على ترك كل منهما بدلا عن الآخر والترك الحاصل في فرض تركهما معا هو الترك الجمعي لكل منهما لا الترك البدلي وهذا لم يكن هو المرخص فيه فيعاقب على ترك كل من الواجبين ، وهذا خلاف المفروض في موارد الوجوب التخييري.

وهذا الاعتراض له صورة فنية لا بد من البحث حولها فنقول : ان الترخيص في المقام يتصور بأحد أنحاء :

١ ـ ان يرخص ترخيصا مطلقا في ترك كل منهما ولكنه يقيد متعلق الترخيص بترك كل منهما المقرون بفعل الآخر ، فيوجد ترخيصان مطلقان متعلقان بترك كل منهما مقرونا بفعل الآخر.

وعلى هذا التقدير قد يقال : انه يتحقق عصيانان إذا ما تركهما معا بناء على ان الميزان في المعصية بمخالفة الإنشاء لا الملاكات وإلا فلا إشكال في ان الفائت أحد الملاكين حيث لم يصدر منه الترك المرخص فيه وانما صدر منه الترك غير المرخص فيه.

٢ ـ أن يرخص في ترك كل منهما ولكن مشروطا بفعل الآخر فيكون فعل الآخر شرطا في الحكم بالترخيص لا في المرخص فيه.

وعلى هذا التقدير أيضا قد يقال : انه يتحقق عصيانان بتركهما معا إذ يتحقق شرط فعلية شيء من الترخيصين في الترك ، فالترك الواقع لكل منهما لم يكن مرخصا فيه فيعاقب بعقابين بناء على ان ميزانه مخالفة الإنشاء والجعل كما تقدم.

٣ ـ أن يرخص في ترك أحدهما الجامع الانتزاعي ، وعلى هذا التقدير لا يتحقق


أكثر من عصيان واحد بتركهما معا لأن أحد التركين كان مرخصا فيه بحسب الفرض ، نعم على هذا التقدير يقال بأنه لو فرض تعقل تعلق الحكم الترخيصي بعنوان انتزاعي جامع بينهما فليقل بتعلق الوجوب بأحدهما ابتداء بلا حاجة إلى تطويل المسافة.

٤ ـ أن يكون الترك المرخص فيه هو ترك المجموع نظير الأمر بالمجموع الّذي لا كلام فيه ، وبناء على هذا التقدير أيضا لا يلزم إلا معصية واحدة لأن ترك الجميع لا يزيد على ترك المجموع بأكثر من ترك واحد لا تركين.

والتحقيق في الجواب على هذه النظرية : انا إذا سلكنا مسلك مدرسة الميرزا ( قده ) من ان الوجوب ليس مفاد الأمر وانما هو بحكم العقل المنتزع من طلب الفعل وعدم الترخيص في الترك فالفرضية المذكورة معقولة جدا كتصوير للواجب التخييري ، فان المولى تارة : يطلب شيئين من دون أن يرخص في ترك شيء منهما وهذا معناه وجوبان تعينيان وأخرى يطلبهما مع الترخيص في ترك كل منهما وهذا معناه استحباب كل منهما ، وثالثة : يطلبهما مع الترخيص في ترك أحدهم ـ ولو لمصلحة التسهيل ـ وهذا هو الواجب التخييري.

واما إذا سلكنا المسلك القائل بأن الوجوب هو مدلول الأمر والمنشأ به ، أو افترضنا ان المولى بنفسه أنشأ الوجوب في مورد حتى على مسلك الميرزا ( قده ) فلا محالة يكون هناك تهافت عقلائي بين الوجوبين التعينيين المطلقين في كل من الطرفين مع الترخيص فانه نظير إيجاب شيء والترخيص في تركه فلا محالة لا بد وأن يكون الترخيص المذكور مقيدا لوجوب كل منهما بما إذا ترك الآخر فيقترب إلى نظرية المحقق الخراسانيّ ( قده ).

النظرية الرابعة ـ ان يقال بأن الواجب التخييري معناه إيجاب الفرد المردد بين العدلين أو البدائل بخلاف الواجب التعييني الّذي هو إيجاب الفرد المعين. وهذه النظرية قد اعترض عليها المحقق الأصفهاني ( قده ) بأنه إن أريد إيجاب الفرد المردد بالحمل الأولي أي مفهوم الفرد المردد فهو ليس بمردد بل معين ويكون جامعا بين الفردين ، وان أريد الفرد المردد بالحمل الشائع أي المردد المصداقي فهو مستحيل لأن


الفرد المردد يستحيل ثبوته وتحققه لا في الخارج ولا في الذهن إذ يستلزم التناقض ، إذ لو كان ثابتا بنحو يحمل عليه أحد العنوانين فقط فهذا معين لا مردد وإن كان بنحو يحمل عليه كل من العنوانين فمعناه انه يصح حمل كل من العنوانين عليه وسلبه عنه وهذا تناقض مستحيل (١).

وهذا بيان في غاية المتانة والجودة بل هو أولى مما قيل في دفع تصوير الفرد المردد المصداقي من ان الوجود مساوق مع التعين والتشخص فيستحيل وجود الفرد المردد مصداقا ، فان هذا البيان موقوف على ملاحظة فلسفة الوجود وفهم حقيقته ليرى هل يعقل فيه التردد أم لا؟

النظرية الخامسة ـ أن يكون الواجب التخييري بمعنى إيجاب الجامع بين العدلين أو البدائل ، إما الجامع الحقيقي بناء على قانون ان الواحد حتى النوعيّ لا يصدر إلا من واحد وتطبيقه على ملاك كل من العدلين والكشف عن ان المؤثر والمطلوب في كل منهما انما هو الجامع الذاتي بينهما ـ كما أفاده صاحب الكفاية ـ وبذلك ادعى ضرورة وجود الجامع الحقيقي بين العدلين.

وإما الجامع الانتزاعي أي عنوان أحدهما الّذي يصدق حتى على ما لا جامع ذاتي بينهما بل يكون من قبيل النقيضين كما في التخيير بين القصر والتمام الّذي يرجع روحا إلى التخيير بين الإتيان بالركعتين وعدمهما. وبناء على كلا هذين التقديرين يرجع التخيير الشرعي إلى العقلي أي إلى إيجاب الجامع.

وهكذا يتضح ان تصوير الواجب التخييري لا ينحصر في صيغة وفرضية واحدة بل يمكن أن تكون بنحو الوجوبين التعيينيين المشروطين كما إذا كان هناك ملاكان تعينيان متضادان ، أو بنحو وجوب واحد متعلق بالجامع الحقيقي أو الانتزاعي بين الفعلين فيما إذا كان هناك ملاك واحد يحصل بكل منهما.

وهناك أثر عملي لاختلاف صياغة الواجب التخييري يظهر في موارد الشك والدوران بين أن يكون الفعل الواجب تخييريا أو تعيينيا ، كما لو شك في ان صوم شهرين في

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ٢٥٥.


كفارة الإفطار عمدا تخييري أو تعييني ، فانه على فرض أن يكون الوجوب التخييري عبارة عن الوجوب المشروط بعدم العدل الآخر يكون الشك في أصل التكليف بنحو الشبهة البدوية ، حيث يشك في وجوب الصيام لو أعتق رقبة مثلا فيجري الأصل المؤمن عنه ، بينما على افتراض أن يكون الوجوب التخييري بمعنى وجوب الجامع الذاتي الحقيقي بين العدلين تكون الشبهة من موارد الدوران بين الأقل والأكثر ، إذ يعلم بتعلق الوجوب بالجامع ويشك في تعلقه زائدا على ذلك بخصوصية الصوم ؛ فيتوقف جريان الأصل المؤمن فيه على أن يقال به في موارد الدوران بين الأقل والأكثر التحليليين أي الدوران بين المطلق والمقيد.

وعلى افتراض أن يكون الوجوب التخييري بمعنى إيجاب الجامع الانتزاعي وهو عنوان أحدهما يدخل المقام في موارد الدوران بين التعيين والتخيير حيث يتشكل علم إجمالي بوجوب عنوان الصوم أو عنوان أحدهما وهما متباينان مفهوما فيكون إجراء البراءة عن التعيين أعني وجوب الصوم مبنيا على القول بعدم معارضته مع البراءة عن الطرف الآخر للعلم الإجمالي وهو وجوب أحدهما ـ كما هو الصحيح ـ باعتبار ان مئونته قطعية على كل تقدير وانما المئونة والكلفة الزائدة في طرف وجوب الصوم فقط.

بقي بعد هذا البحث عن إمكان التخيير بين الأقل والأكثر وعدمه حيث انه استشكل في إمكانه ، وذلك : اما إذا كان الأقل والأكثر تدريجيين في الوجود فلأنه بحصول الأقل يسقط التكليف بالامتثال ومعه يستحيل أن يقع الأكثر مصداقا للواجب ، واما إذا كان الأقل والأكثر دفعيين فلأن التكليف وإن كان محفوظا في آن حصول الأكثر إلا أن المقدار الزائد في هذا الحال باعتبار انه يجوز تركه لا إلى بدل فلا يعقل أن يكون واجبا لأن الواجب لا يجوز تركه لا إلى بدل.

وقد أجاب عن الإشكال المحقق الخراسانيّ ( قده ) بصياغتين مختلفتين لا بد من ذكرهما وملاحظة انهما هل يسلمان عن النقد على كلا التفسيرين الّذي تعقلناهما للواجب التخييري ، وهما إيجاب الجامع الّذي كان يجعل التخيير عقليا وإيجاب كل منهما مشروطا بعدم الآخر أولا؟.

الصياغة الأولى : ( انه إذا فرض أن المحصل للغرض فيما إذا وجد الأكثر هو الأكثر


لا الأقل الّذي في ضمنه بمعنى أن يكون لجميع أجزائه حينئذ دخل في حصوله وإن كان الأقل لو لم يكن في ضمنه كان وافيا به أيضا فلا محيص عن التخيير بينهما إذ تخصيص الأقل بالوجوب حينئذ كان بلا مخصص فان الأكثر بحده يكون مثله على الغرض ، مثل أن يكون الغرض الحاصل من رسم الخطّ مترتبا على الطويل إذا رسم بماله من الحد لا على القصير في ضمنه ومعه كيف يجوز تخصيصه بما لا يعمه ومن الواضح كون هذا الغرض بمكان من الإمكان ) (١).

وهذه الصياغة ذكرها فيما إذا كان الأقل والأكثر كل منهما وجودا مستقلا واحدا للطبيعة ، كالخط الطويل والخطّ القصير ، لا ما إذا كان الأكثر عبارة عن وجودات متعددة للطبيعة كدوران الأمر بين تسبيحة واحدة وتسبيحات ثلاثة.

وقد أوضح المحقق الأصفهاني هذا الجواب في كلام أستاذه بما محصله : ان المسألة مرتبطة بمسألة التشكيك الخاصي في الوجود من الفلسفة.

بيان ذلك : ان الأفراد المتفاوتة والمختلفة للطبيعة الواحدة قد تكون فوارقها بامتيازات خارجة عن الماهية عارضة عليها كالفرق بين الإنسان العالم والإنسان الجاهل ، وأخرى : يكون فوارقها بامتيازات داخلة في الماهية وإنما تختلف باختلاف المراتب والحركة من الضعف إلى الشدة ومن النقصان إلى الكمال ، كما في الماهيات المشككة كالخط الطويل والخطّ القصير وعدد الثلاثة وعدد الأربعة ونحو ذلك.

والفوارق التشكيكية لماهية واحدة يوجد في تفسيرها نظريات فلسفية مختلفة فهناك من جعلها على حد الفوارق من النوع الأول القائمة على أساس اختلاف خصوصيات عرضية خارجة عن ذات الماهية فيكون ما به الامتياز في كل وجود للماهية غير ما به الافتراق ، وهذا يصطلح عليه عندهم بالتشكيك العامي.

وهناك من جعل ما به الامتياز فيها عين ما به الاشتراك فيها بلحاظ الماهية بأن افترض الامتياز بينها في مرحلة الذات والماهية ، فماهية الأربعة كم عددي تختلف عن ماهية الثلاثة على حد اختلاف الأنواع لجنس واحد ، وإن كان ما به الامتياز فيهما من

__________________

(١) كفاية ج ١ ، ص ٢٢٧ ، ط ـ مشكيني.


سنخ ما به الاشتراك وهو العدد إذ تختلف الأربعة عن الثلاثة في العددية نفسها لا في شيء آخر ، وكذا الخطّ الطويل والخطّ القصير. واصطلح على هذا الاتجاه بالتشكيك الخاصي الماهوي ، وهناك من جعل ما به الامتياز في كل منها عين ما به الاشتراك ولكنه في الوجود لا في الماهية بمعنى ان الماهية المنتزعة عن الفردين المختلفين في المرتبة واحدة ذاتا وانما الاختلاف بين الفردين في الوجود الّذي هو الأصل في الخارج ـ بناء على أصالة الوجود ـ فما به امتياز الخطّ الطويل عن الخطّ القصير حقيقة الوجود الكامل للخط الطويل الّذي يختلف في كما له الوجوديّ لا الماهوي عن وجود الخطّ القصير رغم انه من سنخه مع كون كل منهما مصداقا مستقلا واحدا لماهية واحدة وهو الكم أو الجسم التعليمي. وهذا ما يسمى بالتشكيك الخاصي الوجوديّ.

في هذا الضوء يقال : بأنه إذا افترضنا أن كل واحد من الأقل والأكثر فرد واحد مستقل للماهية كما في الخطين لا ان الأكثر افراد عديدة كما في التسبيحات الثلاث ، فان افترض ان التفاوت بينهما كان عرضيا بأن كان الأكثر يشتمل على خصوصية زائدة على أصل الماهية المشتركة بينهما لما أمكن التخيير بينهما ـ مع قطع النّظر عن الجواب الآتي ـ إذ لا محالة يكون الملاك في ذات الماهية الجامعة بين الفردين فهو الواجب تعيينا والخصوصية الزائدة لا تكون دخيلة في ملاك الحكم لأن الواحد لا يصدر إلا من واحد في الأنواع.

وإن فرض ان الفارق بينهما كان ذاتيا وقيل بالتشكيك العامي فائضا الأمر كذلك وكذلك لو قيل بالتشكيك الخاصي الماهوي إذ سوف لا يكون هناك جامع ماهوي بين المرتبتين بل تكون المرتبة الشديدة تمتاز في نوعها وماهيتها عن المرتبة الضعيفة فلا يعقل أن يكون كل منهما بحده موجدا للملاك فان الواحد لا يصدر إلا من الواحد ، واما إذا قيل بالتشكيك الخاصي الوجوديّ ـ كما هو مختار من يتأثر بهم المحقق الخراسانيّ ( قده ) ـ فلا محالة يتعين التخيير بين الأقل والأكثر ، لأن الأكثر بحده المستقل في وجوده عن الأقل لا يختلف عن الأقل في الماهية بل كلاهما وجود لنوع واحد وطبيعة واحدة وانما الفرق بينهما في الوجود والفارق الوجوديّ أيضا من سنخ ما به الاشتراك لا من سنخ آخر فلا يلزم من تأثير كل منهما بحده في ذلك الملاك صدور الواحد من المتعدد بالنوع ،


بل وحدة النوع والماهية محفوظة فيهما وليس الأكثر عبارة عن وجودين وجود للأقل ووجود للزيادة كي يقال انه لو لم يؤخذ الأقل بشرط لا عن الزائد كان به الامتثال وكان الزائد يجوز تركه لا إلى بدل فلا يعقل أن يكون واجبا ، لأن المفروض ان الأكثر وجود واحد مستقل للماهية وليس وجودات عديدة لأن الشيء ـ كما قالوا ـ ما دام متحركا ولم يقف في حركته لا يكون له وجود مستقل وإلا للزم حصر اللامتناهي بالفعل بين حاصرين وهو مستحيل. وهذا الجواب كما قلنا مخصوص بما إذا كان الأكثر ضمن وجود واحد للطبيعة لا وجودات متكثرة.

كما انه ربما يورد عليه : بأن المكلف عند ما تبرع في الامتثال ورسم أصل الخطّ فان فرض حصول الغرض والملاك بذلك أي بأصل وجود الخطّ ولو غير مستقل في الوجود بعد فلا محالة لا بد وأن يسقط التكليف فلا يكون الأكثر بحده امتثالا وإلا بأن كان هناك غرض للمولى في استقلالية الوجود فائضا لا معنى لبقاء الأمر الّذي يعنى طلب الاستقلالية في الوجود ضمنا. لأن الاستقلالية حاصلة على أي حال في ضمن أحد الوجودين فيكون الأمر به تحصيلا للحاصل.

وهذا الإيراد ـ لو تم بأن افترضنا ان المقيد اللبي العرفي للخطاب بالمقدور يقتضي مقدورية متعلق كل وجوب ضمني مستقلا ـ فهو لا يرد فيما إذا كان الواجب موقتا مقيدا بزمان معين بأن يجب وجود مستقل للطبيعة في ذلك الزمان اما إذا استمرت حركته إلى أن مضى وانقضى ذلك الزمان فاستقل الوجود في الزمان الثاني فلا يكون مصداقا للواجب فانه في مثل ذلك لا تكون الاستقلالية في الوجود في ذلك الزمان أمرا حاصلا على كل تقدير.

وهكذا يتضح : ان هذه الصياغة لتصوير الأمر بالجامع بين الأقل والأكثر معقولة في الجملة سواء افترض أمر واحد بالجامع أو أمران مشروطان ، كما إذا كان هناك ملاكان لا ينافي ذلك صدور الكثير من واحد بالنوع فان هذا انما يستحيل في الواحد البسيط واما غيره فباعتباره مركبا دائما فلا مانع من صدور الكثير من فردين لنوع واحد.

الصياغة الثانية ـ وقد ذكرها فيما إذا كان الأكثر متحققا ضمن مصاديق متعددة


للطبيعة ، كما في التخيير بين التسبيحة الواحدة وتسبيحات ثلاث ، فانه في مثل ذلك يمكن تصوير الواجب التخييري بأنه أمر بالأقل بشرط لا والأقل بشرط شيء ، فيكون الواجب لا محالة متحققا اما بالأقل أو بالأكثر ، واما الأقل في ضمن الأكثر فليس بواجب أصلا كي يقال بسقوط التكليف به قبل الإتيان بالزيادة.

وهذه الصياغة منه ( قده ) لتصوير التخيير بين الأقل والأكثر فيما وقع في الفقه مما ظاهره ذلك وإن كان الأمر بحسب الدقة والتحليل تخييرا بين المتباينين لأن الأقل بشرط لا والأقل بشرط شيء متباينان ، فلا ينبغي الإشكال عليه ( قده ) بأن هذا ليس تخييرا بين الأقل والأكثر حقيقة فان هذا المقدار ملتفت إليه من قبل مثل صاحب الكفاية وأيا ما كان يوجد في المقام ثلاث ملاحظات على هذه الصياغة.

الأولى ـ ان هذا يتم فيما إذا كان الأقل والأكثر بنحو يمكن انتفائهما معا مع وجود ذات الفعل ، كما في التسبيحة الواحدة والثلاث تسبيحات حيث يمكن وجود ذات التسبيحة في ضمن الاثنين فلا يكون لا الأقل ولا الأكثر متحققا ، واما إذا كانا بنحو يكون فرض وجود ذات الفعل مستلزما لتحقق أحدهما على كل تقدير كما في التسبيحة الواحدة وأكثر منها ـ ولو ضمن اثنين ـ فمثل هذا الأقل والأكثر قد يقال انه لا يعقل التخيير بينهما وإن أخذ الأقل بشرط لا لأنه ينحل إلى الأمر الضمني بذات الأقل ـ المحفوظ حتى ضمن الأكثر ـ وأمر ضمني آخر بالجامع بين الشرط لا عن الزيادة وبشرط الزيادة وهذا الجامع قهري الحصول فالأمر الضمني به يكون تحصيلا للحاصل. نعم لو قلنا بأنه يكفي في عقلائية التكليف وإشباع حاجة المقيد اللبي العرفي للخطاب أن يكون متعلق التكليف الاستقلالي غير حاصل كان التخيير المذكور معقولا من هذه الناحية مطلقا.

الثانية ـ انه بناء على مسلك صاحب الكفاية ( قده ) من ان الواحد لا يصدر إلا من واحد يشكل هذا التصوير باعتبار أن الملاك لو كان حاصلا بكل من الأقل بشرط لا والأقل بشرط شيء فهما متباينان فيلزم صدور الواحد من كثير ، وإن كان حاصلا من الجامع بينهما فالجامع بينهما ذات الأقل الّذي لو كان هو محقق الملاك رجع الإشكال جذعا كما هو واضح.


وسوف يأتي التعليق على هذه الملاحظة.

الثالثة ـ ان هذه الفرضية تستلزم أن يكون كل من النقيضين مؤثرا في إيجاد أمر واحد وهذا أكثر إشكالا من صدور الواحد من الكثير ، فانه إذا كان الملاك حاصلا بالجامع بين الأقل والأكثر الّذي هو ذات الأقل رجع إشكال سقوط الواجب به قبل تحقق الأكثر ـ كما قلنا الآن ـ وإن كان موقوفا على حصول الجزء الضمني الآخر الّذي هو الجامع بين بشرط لا عن الزيادة وبشرط الزيادة فهذا معناه كون النقيضين مؤثرين أثرا واحدا. ودفع كلتا الملاحظتين يكون بإبراز فرضية أن يكون المؤثر هو ذات التسبيحة الجامع بين الأقل والأكثر غير ان كون العدد اثنين مثلا مانع عن حصول ذلك الملاك فلا محالة يؤمر بالواحدة أو الثلاثة.

كما انه إذا افترضنا فرضية الأمرين التعيينيين المشروطين في كل من الطرفين باعتبار ملاكين تعينين متضادين ، اندفعت هذه الملاحظات طرا إذ الأمر بالأقل مشروطا بترك الأكثر ولو كان هو اثنين لا ثلاثة ـ ليس تحصيلا للحاصل لأن من يترك الأكثر قد يأتي بالأقل وقد لا يأتي بشيء أصلا وكذلك الحال في طرف الأمر بالأكثر مشروطا بترك الأقل ، كما انه لا يلزم صدور الواحد من كثير ولا صدور الواحد من النقيضين كما هو واضح.

وهكذا يتضح تمامية هذه الصيغة لتصوير التخيير بين الأقل والأكثر وسوف يجيء تتمة تعليق يرجع إلى الواجب التخييري أيضا في بحث الوجوب الكفائي.


الواجب الكفائي

كما وقع البحث في تفسير الوجوب التخييري الّذي رغم كون متعلقه واجبا جاز تركه إلى بدل ، كذلك وقع البحث في تفسير حقيقة الوجوب الكفائي الّذي رغم كونه واجبا يجوز للمكلف أن يتركه لو فعله الآخر.

وهنا لك عدة نظريات طرحت في تفسير هذا الوجوب من ناحية كيفية تعلقه بالمكلف :

النظرية الأولى ـ أن يكون الوجوب متعلقا بجميع المكلفين فهناك وجوبات عديدة بعددهم.

النظرية الثانية ـ أن يكون متعلقا بمجموعهم فهناك وجوب واحد على المجموع.

النظرية الثالثة ـ أن يكون متعلقا بعنوان أحد المكلفين فهناك وجوب واحد على عنوان أحدهم بنحو العموم البدلي.

النظرية الرابعة ـ أن لا يكون للواجب الكفائي إلا طرف واحد وهو المكلف به المتعلق به الإيجاب واما بلحاظ المكلفين فلا طرف له أصلا فهو إيجاب للفعل من دون أن يلحظ في جعله مكلف أصلا.

وهذه النظريات لا بد من ملاحظتها وتمحيص ما هو الصحيح منها بعد الفراغ عن


ثبوت ثلاث خصائص في الواجبات الكفائية.

الخصيصة الأولى ـ انه لو تركه الجميع فالكل عاصون ويستحقون العقاب.

الخصيصة الثانية ـ انه لو فعله أحدهم سقط عن الآخرين.

الخصيصة الثالثة ـ انه لو فعله الجميع دفعة أو متدرجا إذا كان الواجب قابلا للتكرار فالكل يعتبر امتثالا.

واما تمحيص النظريات الأربع على ضوء هذه الخصائص.

فالنظرية الأولى التي تفترض وجود طرف للوجوب وهو كل مكلف من المكلفين بنحو الاستغراق تحته عدة اتجاهات :

الاتجاه الأول ـ ما حققناه نحن في تفسير هذا الوجوب وحاصله : ان هناك وجوبات عديدة بعدد المكلفين غير أن الواجب بهذا الوجوب ليس هو صدور الفعل من كل واحد منهم وانما هو جامع الفعل الصادر منه أو من غيره فالواجب هو حصول الفعل خارجا ، وبعبارة أخرى : الوجوب الكفائي معناه جعل الفعل وصدوره بالنتيجة خارجا في عهدة كل مكلف ، وقد تقدم في أبحاث التعبدي والتوصلي أن التكليف بالجامع بين فعل المكلف نفسه وفعل الغير معقول ولو فرض أن فعل الغير ليس تحت اختياره حتى بالتسبيب لأن الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور.

وبهذا الاتجاه يحافظ على الخصائص الثلاث في الوجوب الكفائي حيث يكون الجميع عاصين إذا ما ترك الكل لأن كل واحد منهم كان الفعل في عهدته أي كل واحد منهم كان له وجوب فعلي مطلق ولم يمتثله فيكون عاصيا لا محالة ، كما انه لو فعل أحدهم سقط الوجوب عن الآخرين بملاك الامتثال وتحقق الغرض لأن الواجب عليهم تحصيل جامع الفعل في الخارج سواء كان من هذا أو ذاك وقد حصل هذا الجامع فتنتفي العهدة لا محالة ، وكذلك لو فعل الجميع دفعة وحققوا الواجب في الخارج كان الكل امتثالا واحدا فانه يكون نظير فعل صدقتين دفعة واحدة من مكلف واحد في الواجب التعييني حيث ان الجامع الواجب متحقق بفعلهم جميعا.

الاتجاه الثاني ـ أن يقال بوجود وجوبات عينية بعدد المكلفين ولكنها مشروطة بعدم إتيان الآخر به.


وقد اعترض على ذلك باعتراضين :

الأول ـ انه إذا افترضنا وحدة الملاك في صدور الفعل من أحد المكلفين فهو يقتضي وحدة الخطاب أيضا فلا معنى لتعدده وإن فرض تعدده فهذا غير معقول في الواجبات الكفائية التي لا تقبل التعدد كالدفن مثلا.

وفيه : ان افتراض تعدد الملاك ممكن ثبوتا حتى في مثل الدفن فانه من حيث صدوره من هذا المكلف أو ذاك متعدد ، فقد يكون في صدوره من كل منهم ملاك مستقل غاية الأمر الدفن على نحو اسم المعنى المصدري لا يقبل التعدد ، فكأنه هناك تمانع في وجود هذه الملاكات المتعددة ولذلك كان الوجوب مشروطا.

الثاني ـ انه في فرض إتيان أكثر من مكلف بالواجب يلزم أن لا يكون هناك امتثال أصلا إذ الشرط هو عدم إتيان الآخر وقد أتى بحسب الفرض.

وهذا الاعتراض لا محيص عنه ولا يمكن دفعه لا بافتراض مجموع الفعلين طرفا ثالثا للواجب كما تصورناه في الواجب التخييري لأنه انما يعقل في مجموع فعلين يصدران من مكلف واحد لا ما إذا كان كل فعل صادرا من مكلف غير المكلف الّذي صدر منه الفعل الآخر ، ولا بافتراض ان الشرط هو عدم إتيان الآخر بالفعل قبله فإتيانه بالفعل مقارنا لا يكون مسقطا فان هذا معناه انه في آخر الوقت يجب عليهم جميعا إتيان الفعل وانه لو علم بأن الآخر يأتي به في هذا الوقت لا يكون ذلك مسقطا وهو خلف خصائص هذا الوجوب كما تقدم ، ولا بافتراض ان الشرط هو عدم إتيان الآخر بالفعل وحده ففي صورة إتيانهما معا شرط الوجوب فعلي ، فان هذا معناه إطلاق الوجوب لصورة ما إذا كان الآخر قد جاء بالواجب ولكن لا مطلقا بل على تقدير أن يأتي الأول أيضا كي لا يكون وحده وهذا الإطلاق تحصيل للحاصل.

الاتجاه الثالث ـ الاستعانة بنظرية المحقق الأصفهاني المتقدمة في الواجب التخييري وتطبيقها على المقام ، وذلك بافتراض أن الفعل واجب على كل المكلفين إلا أن هناك ترخيصا في الترك لكل منهم مشروطا بفعل الآخر حفاظا على مصلحة التسهيل.

وهذه الفرضية معقولة بناء على مسلك الميرزا ( قده ) في تفسير الوجوب فانها تفي


حينئذ بتفسير الوجوب الكفائي مع خصائصه ، إذ لو كان أحد المكلفين قد جاء بالواجب أمكن للآخرين الترك باعتبار فعلية الترخيص في حقهم وإلا كان الكل معاقبين لفعلية الطلب في حقهم جميعا من دون ترخيص في الترك ولو فعل الكل كان امتثالا للطلب أيضا وإن كان يصح أن يترك بعضهم (١).

ولا تحتاج إلى افتراض مصلحة ثالثة هي التسهيل في الترخيص لا هنا ولا في الواجب التخييري بل يمكن افتراض ان الملاك الموجود في كل من الأفعال التخييرية أو الكفائية غير لزومية ولا موجبة لتأثر المولى لو لوحظ كل منهما مستقلا إلا أن توافر تفويتاتها يوجب أذية المولى فلا يرخص إلا مشروطا.

واما بناء على المسلك الصحيح والمشهور من كون الوجوب هو المجعول الشرعي فلا محالة يكون هناك تناقض عقلائيا بين إطلاق الوجوبات المجعولة بعدد المكلفين وبين الترخيص المذكور فلا محيص عن تضييق دائرة الوجوبات الّذي يرجع إلى الاتجاه السابق.

الاتجاه الرابع ـ أن يكون الوجوب الكفائي مرجعه إلى تحريم ترك الفعل المنضم إلى ترك الآخرين لا مطلق الترك وبهذا التحويل نستطيع التحفظ على كل خصائص الوجوب الكفائي إذ يكون ترك الجميع عصيانا من الجميع لصدور الترك المذكور من كل واحد منهم وعلى تقدير مجيء واحد منهم أمكن للآخرين الترك وعلى تقدير مجيء أكثر من واحد كان كل منهم قد حقق الملاك وامتثل حيث تجنب الحرام.

وهذا التفسير صياغة تشريعية معقولة للإيجاب بناء على افتراض المسلك المشهور من كون الوجوب مجعولا شرعيا ولعل الإيجاب على الجميع بنحو الوجوب الكفائي يكون تعبيرا عرفيا عن هذه الصياغة التشريعية كما ان هذا التفسير معقول في الوجوب

__________________

(١) لا يقال : ان فرض أن الترخيص في الترك مشروط بفعل الآخر ولو مقارنا يلزم في هذه الحالة أن يكون كلا الفعلين المقترنين مما كان يمكن لهما أن يتركاه أي غير متصفين بالوجوب وهذا خلاف خصائص الواجب الكفائي وإن كان الترخيص مشروطا بأن يأتي الآخر وحده فإذا جاء به مع الغير لم يكن ترخيصا فهو في قوة تحصيل الحاصل إذ معناه الإذن في ترك الفعل على تقدير تركه.

فانه يقال : نختار الأول ولا يرد ما قيل فان كلا الترخيصين وإن أصبح فعليا حينئذ إلا أن فعليتهما بنحو بحيث لا يؤدي إلى الجمع بين التركين نظير فعلية الوجوبين الترتيبيين الفعلين في فرض ترك الأهم اللذين لا يؤديان إلى الجمع بين الضدين.


التخييري بلحاظ المتعلق. ولكنه لا يفي بتفسير روح الوجوب إذا أريد به الإرادة والحب كما لا يخفى.

وهكذا اتضح أن هناك أكثر من اتجاه واحد معقول في هذه النظرية.

واما النظرية الثانية التي تفسر الوجوب الكفائي بالوجوب المتعلق بالمكلفين بنحو العموم المجموعي فتارة : يراد منها تفسير الواجب الكفائي وتنظيره بما إذا كلف مجموع العشرة مثلا بتحريك هذا الحجر الّذي لا يمكن لكل فرد منهم مستقلا تحريكه فكما انه في المثال يوجد تكليف واحد على المجموع بتحريك الحجر فكذلك في الواجب الكفائي ان أريد هذا المعنى.

ورد عليه أولا : ان بعض الواجبات الكفائية لا يتعقل فيه فعل واحد يصدر من الجميع بنحو الاشتراك كالصلاة على الميت مثلا. فان صلاة كل مكلف عليه غير صلاة المكلف الآخر.

وثانيا : ان هذا المعنى راجع بحسب الحقيقة إلى وجوبات عديدة بالنسبة لكل مكلف ولكن متعلقه ليس هو رفع الحجر بل المشاركة فيه ولهذا يكون هناك امتثالات عديدة وعصيانات متعددة أيضا وتطبيق هذا على الواجب الكفائي لا ينسجم مع خصائصه المتقدمة حيث يسقط التكليف بامتثال فرد واحد.

وإن أريد جعل مجموع المكلفين مكلفا واحدا بالوحدة الاعتبارية يكون منه امتثال واحد وعصيان واحد فلو فعل أحدهم فكان هذا المجموع قد صدر منه الفعل ولو بجزء منه نظير المكلف الّذي قد يحرك الحجر بيده وقد يحركه برجله فكما انه لا ينافي ذلك صدور الامتثال الواحد منه كذلك في المقام.

ورد عليه : ان هذه الوحدة الاعتبارية انما تتعقل في طرف متعلق التكليف أي المكلف به كما في الأمر بمجموع أجزاء مركب اعتباري كالصلاة لأن المقصود منه إيجاده وإيجاد المركب كذلك معقول حيث يمكن انقداح الداعي نحوه واما في جانب المكلف فعنوان مجموع المكلفين الواحد بالاعتبار ليس مكلفا حقيقة صالحا لتشغيل ذمته بالتكليف وانما المكلف حقيقة انما هو كل فرد فرد فلا يعقل افتراض امتثال واحد وعصيان كذلك للمجموع.


واما النظرية الثالثة : التي تفسر الوجوب الكفائي بالوجوب المتعلق بالمكلفين بنحو العموم البدلي أي بأحدهم نظير الأمر المتعلق بإكرام عالم بنحو العموم البدلي فالعموم البدلي انما يكون بافتراض أحد قيدين في الطبيعة المتعلقة للأمر اما قيد الأولية بأن يكون الواجب مثلا هو العالم الأول أو قيد الوحدة فان قيل بالأول في المقام وان التكليف متعلق بأول المكلفين كان هذا واضح البطلان إذ لا ينسجم مع خصائص الوجوب الكفائي الّذي لا يفرق فيه بين المكلف الأول وغيره. وإن قيل بالثاني أي ان متعلق الوجوب هو المكلف بقيد الوحدة أي أحدهم كما في الواجب التخييري أيضا بناء على أحد التفاسير فيه ـ فهذا أيضا لا يتم في المقام وإن كان تاما في طرف متعلق الوجوب ، ووجه الفرق ان المطلوب في طرف متعلق الوجوب انما هو إيجاده بجعل التكليف به داعيا نحوه وقدح الداعي نحو أحد فعلين أو أفعال معقول ، واما في جانب المكلف فالغرض منه هو تشغيل ذمته بالتكليف وجعله في عهدته ومسئوليته ، وحينئذ إن أريد بتكليف أحد المكلفين تشغيل ذمة هذا العنوان الاعتباري فهو لغو إذ ليس له ذمة كي ينشغل به ، وإن أريد بذلك تشغيل ذمة كل فرد من المكلفين باعتباره مصداقا لهذا العنوان فهذا خلف وحدة التكليف ، وإن أريد تشغيل ذمة أحدهم تعيينا فهذا ترجيح بلا مرجح ، وإن أريد تشغيل ذمة أحدهم المردد فلا وجود للفرد المردد كي يعقل تشغيل ذمته.

نعم يمكن أن يدعى أن التكليف تشغيل تشريعي للذمة المضافة إلى عنوان أحدهم فيكون حكما واحدا غاية الأمر انه يستتبع عقلا لزوم تحرك كل من المكلفين نحو تحقيق الواجب بنحو ما في الجملة بحيث لا يجوز لهم الترك المطلق.

إلا أن هذا معناه اننا احتجنا الرجوع إلى أحد التفسيرات الأخرى للواجب الكفائي لتشخيص من تشتغل عهدته بالتكليف وكيفيته.

فاتضح أن هذه النظرية أيضا لا تتم لتفسير الوجوب الكفائي.

واما النظرية الرابعة والتي فسرت الوجوب الكفائي بإيجاب الفعل دون إضافة إلى مكلف أصلا فهذا انما يعقل بحسب عالم الحب والبغض أي مبادئ الحكم فانه من المعقول أن يتعلق الحب والشوق بأمر في نفسه من دون دخالة صدوره من مكلف بل


ولا من إنسان في ذلك ، فان الحب مضايف مع المحبوب. وأما بحسب عالم التكليف الّذي حقيقته البعث والتحريك وإشغال العهدة فالتحريك مضايف مع المتحرك وإشغال العهدة مضايف مع من تشتغل عهدته فلا يعقل افتراضهما من دون طرف هو المكلف ، وكما انه إذا تجاوزنا عن ذلك وافترضنا معقولية تعلق التكليف بالفعل بلا طرف آخر على وزان عالم الحب ومبادئ الحكم وقلنا ان هذا بنفسه كاف وحده لإشغال عهدة المكلفين بحكم العقل فلا بد من البحث عن صياغة لذلك الحكم العقلي وكيفية اشتغال عهدة المكلفين به فنحتاج الرجوع إلى إحدى الصياغات المتقدمة في تفسير كيفية اشتغال العهدة التي تتناسب مع الخصائص المتقدمة للوجوب الكفائي ..



الواجب الموقت والموسع والمضيق

قسم الواجب إلى موقت وهو الّذي يشترط فيه أدائه في وقت معين ، وغير موقت وهو الّذي لم يقيد بوقت دون وقت.

وقسم الموقت أيضا إلى مضيق وهو الّذي يكون الوقت المحدد له بمقداره ، وموسع وهو الّذي يكون وقته أوسع مما يستوعبه الواجب.

وقد وقع البحث في إمكان كل من الواجب المضيق تارة ، والموسع أخرى بما لا يستحق التعرض له فالصفح عنه أولى ، وانما المهم هو البحث بهذه المناسبة عن مسألة تبعية القضاء للأداء وان الواجب الموقت فيما إذا لم يمتثل في الوقت فهل يمكن إثبات وجوب الإتيان به خارج الوقت بنفس دليل الواجب مع فرض عدم وجود دليل خاص أم لا؟

وينبغي أن يقع الكلام عن ذلك في جهتين :

الجهة الأولى ـ في الصور المعقولة ثبوتا لتقييد الواجب بوقت معين وما يترتب على كل واحدة منها من التبعية وعدمها وهي عديدة.

الصورة الأولى ـ ما إذا افترضنا دلالة الدليل على وجوب فعل مطلقا وجاء دليل ثان يدل على وجوب آخر مستقل متعلق اما بتقييد نفس الواجب الأول بوقت خاص


أو متعلق بالحصة الخاصة من ذلك الجامع أي الواقع منه في ذلك الوقت المعين بناء على ما تقدم في مباحث الاجزاء من معقولية تعدد الأمر بنحو يتعلق أحدهما بالجامع والآخر بحصة منه.

وبناء على هذا لا إشكال في وجوب الإتيان بالفعل خارج الوقت بنفس الخطاب الأول ، لأن فوات الوقت غاية ما يقتضيه هو فوات التكليف الثاني واما التكليف الأول المتعلق بذات الفعل فهو باق على حاله.

الصورة الثانية ـ أن نفترض دليل التوقيت لم يجئ بلسان الأمر بالتقييد أو بالمقيد بل بلسان تقييد الأمر في الدليل الأول الدال على أصل الواجب إلا انه لا يقيد أصل الوجوب فيه وانما يقيد المرتبة المؤكدة من ذلك الوجوب مع بقاء أصله غير مقيد بالوقت وهذا يعني ان هناك وجوبين في داخل الوقت ولو بنحو التأكد ثابتين بنفس الدليل الأول ـ وبهذا تفترق هذه الصورة عن سابقتها ـ ويكون أحدهما مقيدا دون الآخر ولا إشكال في هذه الصورة أيضا من حيث بقاء الأمر بذات الفعل خارج الوقت بنفس دليل الواجب.

الصورة الثالثة ـ أن يكون دليل التوقيت مقيدا للأمر الأول بتمام مراتبه إلا انه لا يقيده مطلقا بل في فرض إمكان الإتيان بالقيد فكان الوقت فيه قيد غير ركني يتقيد به الواجب مع القدرة واما مع العجز فلا تقييد به وهذا يعني تعدد الأمر أيضا وان هناك أمرا بالمقيد في حق القادر عليه وأمرا آخر بذات الفعل في حق الّذي لم يأت بالمقيد لأنه مقتضى إطلاق الدليل الأول لحال عدم الإتيان بالمقيد مع عدم التمكن منه لأن دليل التقييد لم يقيد حالة عدم التمكن.

وبناء عليه أيضا يثبت القضاء بنفس الدليل الأول.

الصورة الرابعة ـ أن يكون دليل التوقيت مقيدا لدليل الواجب بتمام مراتبه وفي تمام الحالات فيكون الوقت قيدا ركنيا وهذا يعني ان هناك وجوبا واحدا بالمقيد أفيد بمجموع الدليلين وفي مثله لو فرض انتهاء الوقت فلا يمكن أن نثبت القضاء بالأمر الأول كما هو واضح.

واما البحث عما هو الممكن من هذه الصور إثباتا وبحسب ظاهر الدليل الّذي


افترض فيه انفصال دليل التقييد بالوقت عن دليل الواجب فهل يمكن إثبات الوجوب خارج الوقت بإطلاق دليل الواجب المحفوظ في نفسه أم لا؟ فنقول : اما الصورة الأولى فهي خارجة عما هو المفروض إذ المفروض ان دليل التوقيت دل على قيدية الوقت للواجب على حد سائر التقييدات التي يحمل المطلق عليها بينما ما افترض في هذه الصورة من دلالة دليل التوقيت على وجوب مستقل للموقت أو التقييد بالوقت من دون أن يمس الوجوب الثابت للواجب المطلق خلاف ذلك. وانما المهم ملاحظة الصورتين الثانية والثالثة ليرى هل يمكن إثبات شيء منهما أم لا؟

ومفروض البحث هو ما إذا توفر شرطان :

الأول ـ أن يكون دليل الواجب مطلقا وفي مقام البيان لا مجملا أو مهملا من هذه الناحية أو دليلا لبيا قدره المتيقن الفعل في الوقت.

الثاني ـ أن لا يكون دليل التوقيت مطلقا وظاهرا في تقييد الدليل الأول بتمام مراتبه وموارده.

وعلى هذا الأساس يمكن أن يذكر تقريب لتخريج كل واحدة من هاتين الصورتين كلاهما من سنخ واحد روحا ولبا.

اما التقريب الّذي قد يخرج عليه الصورة الثانية فهو ان القدر المتيقن من مدلول دليل التقييد هو تقييد المرتبة الشديدة الأكيدة من الوجوب الثابت بالدليل الأول لا أصل مفاده فليتمسك بإطلاقه لإثبات أصل الوجوب في خارج الوقت.

وفيه : ان دليل التوقيت تارة : يفرض فيه انه غير ناظر إلى مفاد دليل الواجب أصلا وانما يدل على اختصاص الوجوب الأكيد البالغ بالوقت بنحو يحتمل فيه أنه تقييد لوجوب آخر غير ما جعل في دليل ذلك الواجب المفترض ، ففي مثل ذلك لا بأس بأن يتمسك بإطلاق دليل الواجب لإثبات عدم التقييد فيه أصلا وان الواجب بهذا الوجوب انما هو المطلق ، وهذا خروج عن هذه الصورة ورجوع إلى الصورة الأولى لبا وروحا.

وأخرى : يفترض أن دليل التوقيت ناظر إلى مفاد دليل الواجب ويقيده ـ كما هو المفروض ـ وفي هذه الحالة لا يصح أن يتمسك بدليل الوجوب لإثبات أصل الوجوب


في خارج الوقت ـ ولو بمرتبة أخرى ـ بناء على تصوير المراتب في الوجوب بلحاظ المعتبر وإن لم يكن معقولا بلحاظ الاعتبار ، وذلك لأن مفاد الخطاب ليس إلا جعل وجوب واحد ولا يتكفل إطلاقا لإثبات تمام مراتب الوجوب على الواجب كي يبقى الإطلاق بلحاظ بعضها ، ولهذا لا يستظهر من دليل إيجاب شيء انه واجب بالمرتبة العالية الشديدة والمفروض تقييد دليل التوقيت لهذا المدلول الواحد فلا إطلاق كي يتمسك به في خارج الوقت.

واما التقريب الّذي يخرج على أساسه الاحتمال الثالث فبأن يقال : ان دليل التوقيت إذا افترضناه لا إطلاق له وان قدره المتيقن من التقييد انما هو تقييد الواجب بقيد الوقت في صورة الإمكان والقدرة لا مطلقا الّذي معناه عدم ركنية القيد فلا بأس بالتمسك بإطلاق أصل الواجب لما بعد الوقت الّذي هو حالة عدم التمكن من القيد ، فيكون من قبيل ما إذا كان دليل التقييد مقيدا للواجب بالنسبة إلى بعض أفراد المكلفين كما ورد الأمر بالجهر في غير صلاة الظهرين مثلا بالنسبة للرجال وفي حال التمكن خاصة دون النساء ولا في حال الغفلة أو العذر ، فيبقى إطلاق دليل أصل الواجب بالنسبة إلى سائر الحالات تاما يتمسك به لنفي القيود المحتملة ، فكما صح في مثل ذلك التمسك بالإطلاق كذلك يصح التمسك به في المقام إذا افترضنا ان دليل التقييد بالوقت كان منفصلا وكان القدر المتيقن من التقييد بالوقت المستفاد منه حالة التمكن خاصة أي حال كون المكلف في الوقت لا مطلقا. وقد ارتضى السيد الأستاذ هذا التقريب إذا توفرت الشرائط المذكورة له (١).

والصحيح عدم تماميته أيضا كسابقه والوجه فيه هو ما أشرنا إليه من ان الأمر لا يتضمن الإطلاق بلحاظ الوجوب الّذي يجعله وانما يتضمن إثبات وجوب واحد بلحاظ المتعلق يتعلق بصرف وجود الطبيعة ولا يثبت وجوبا للطبيعة في حال القدرة على القيد ووجوبا آخر للطبيعة في حال العجز عنه ، فالأمر بلحاظ متعلقه لا ينحل إلى وجوبات عديدة بل هناك وجوب واحد متعلق بالطبيعة بنحو صرف الوجود وقد فرض

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٤ ، ص ٦٤ ـ ٦٧.


ورود التقييد عليه وهذا بخلافه بلحاظ موضوعه وهو المكلف فانه ينحل إلى وجوبات عديدة بعدد أفراد المكلفين فيعقل تقييد بعضها دون البعض الآخر فلا يمكن قياس المقام بمثال الجهر والإخفات.

وان شئت قلت : انه إن أريد استفادة جعلين من دليل الوجوب أحدهما وجوب المقيد بالوقت والآخر وجوب المطلق فهذا خلاف ظاهر دليل الوجوب في انه جعل واحد لا جعلين وخلاف المفروض أيضا من تقييد نفس الجعل المستفاد من دليل الوجوب لا استفادة وجوب آخر مستقل على المقيد.

وإن أريد استفادة جعل واحد ولكنه متعلق في الوقت بالموقت وفي خارجه بذات الفعل فهذا مستحيل لأن الجعل الواحد أما أن يؤخذ في متعلقه التقيد بالوقت أو لا يؤخذ فإذا أخذ كان الواجب هو المقيد فقط وإلا كان هو المطلق فتضمنه للمطلق والمقيد معا مستحيل ، وفي مثال الجهر على الرّجال ليس التقييد في الجعل بل في المجعول المنحل إليه الجعل واما الجعل فواحد دائما وهو عبارة عن إيجاب الجامع بين الصلاة الجهرية أو الصلاة مع كون صدورها من غير الرّجل وإرجاع الجعل في مثل هذه الموارد إلى جعل واحد متعلق بالجامع انما يعقل فيما إذا كان التقييد بلحاظ الحالات التي ينحل إليها الحكم واما في مثل المقام فلا يمكن إرجاعه إلى الجامع لأن الجامع بين الواجب في الوقت والواجب في خارجه انما هو ذات الواجب وهو خلف التقييد ولزوم الإتيان بالقيد.

وهكذا يتبرهن ان الاحتمالات الثلاثة الأولى لا يمكن إثباتها بحسب ظاهر دليل الواجب مع دليل التوقيت إذا لم تكن قرينة على تعدد الجعل فيتعين لا محالة الاحتمال الرابع فهو الثابت بمقتضى القاعدة بحسب عالم الإثبات وهو يقتضي عدم تبعية القضاء للأداء واما حديث إثبات القضاء بالاستصحاب فهذا ما بحثناه مفصلا في بعض تنبيهات الاستصحاب فيوكل إلى محله.



فهرست الموضوعات



فهرست الموضوعات

مباحث الدليل اللفظي ـ ٢ ـ......................................................... ١ ـ ٤٣٥

خطبة الكتاب.................................................................................. ٥

بحوث الأوامر......................................................................... ٧ ـ ٤٣٥

دلالات مادة الأمر....................................................................... ٩ ـ ٤٣

« الجهة الأولى ـ في معنى الأمر »...................................................... ١١ ـ ١٤

« الجهة الثانية ـ في اعتبار العلو أو الاستعلاء في الأمر »......................................... ١٥

« الجهة الثالثة ـ في دلالة الأمر على الوجوب »......................................... ١٧ ـ ٢٦

« الجهة الرابعة ـ في الطلب والإرادة »................................................. ٢٧ ـ ٣٩

امكان نشوء الإرادة عن مصلحة في نفسها............................................... ٣٩ ـ ٤٣

دلالات صيغة الأمر.................................................................. ٤٥ ـ ١٣٢

الجهة الأولى ـ في دلالتها على الطلب.................................................. ٤٧ ـ ٥١

الجهة الثانية ـ في كيفية دلالة الصيغة على الوجوب...................................... ٥٣ ـ ٥٤

الجهة الثالثة ـ في الجمل الخبرية المستعملة في الطلب...................................... ٥٥ ـ ٥٩

الجهة الرابعة ـ التعبدي والتوصلي.................................................... ٦١ ـ ١٠٧

معاني التعبدي والتوصلي...................................................................... ٦٣

المسألة الأولى ـ سقوط الواجب بفعل الغير............................................. ٦٤ ـ ٦٧

المسألة الثانية ـ سقوط الواجب بالحصّة غير الاختياري................................... ٦٧ ـ ٧١

المسألة الثالثة ـ سقوط الواجب بالحصة المحرمة.......................................... ٧١ ـ ٧٣


المسألة الرابعة ـ سقوط الواجب بغير قصد القربة........................................ ٧٣ ـ ٩٤

المقام الأول ـ في امكان أخذ قصد الأمر في الأمر وامتناعه................................ ٧٣ ـ ٨٤

براهين الستحالة أخذ قصد الأمر في الأمر................................................ ٧٣ ـ ٨٤

المقام الثاني ـ أخذ قصد قربة بمعنى آخر غير قصد الأمر................................... ٨٤ ـ ٩٤

المختار في تفسير الجواب التعبدي....................................................... ٩٤ ـ ٩٦

مقتضى الأصل اللفظي عند الشك في التعبدية........................................... ٩٦ ـ ١٠٤

تقريبات الاطلاق اللفظي لا ثبات التوصلية............................................. ٩٦ ـ ١٠٢

تقريبات الاطلاق المقامي لا ثبات التوصلية............................................ ١٠٣ ـ ١٠٤

مقتضى الأصل العملي عند الشك في التعبدية......................................... ١٠٤ ـ ١٠٧

الجهة الخامسة ـ دلالة الأمر على الوجوب النفسي العيني التعييني........................ ١١١ ـ ١١٤

الجهة السادسة ـ دلالة الأمر في مورد الحظر......................................... ١١٧ ـ ١١٨

الجهة السابعة ـ دلالة الأمر على المرة أو التكرار...................................... ١٢١ ـ ١٢٦

تذنيب ـ تعدد الامتثال أو تبديله.................................................... ١٢٧ ـ ١٣٢

الإجزاء............................................................................ ١٣٣ ـ ١٧٢

تعريف الاجزاء............................................................................ ١٣٥

المقام الاول ـ اجزاء الأمر الاضطراري عن الاختياري................................ ١٣٧ ـ ١٥٦

المسألة الاولى ـ الاجزاء داخل الوقت ـ عن الاعادة ـ مقتضى الأصل اللفظي.................. ١٤٠

المنهج العقلي في اثبات الاجزاء...................................................... ١٤٠ ـ ١٤٤

المنهج الاستظهاري في اثبات الاجزاء................................................ ١٤٤ ـ ١٥٠

مقتضى الأصل العملي............................................................. ١٥٠ ـ ١٥٤

المسألة الثانية ـ اجزاء الامر الاضطراري خارج الوقت ـ عن القضاء ـ............... ١٥٤ ـ ١٥٦

المقام الثاني ـ في اجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي.................................... ١٥٧ ـ ١٧٢

مقدمة الواجب..................................................................... ١٧٣ ـ ٢٨٧

قيود الوجوب وقيود الواجب....................................................... ١٧٥ ـ ١٧٦

الفصل الاول : تقسيمات المقدمة................................................... ١٧٧ ـ ١٨٥

المقدمة الداخلية والخارجية.................................................................. ١٧٧

المقدمة المتقدمة والمقارنة والمتأخرة............................................................ ١٧٧

امكان الشرط المتأخر للوجوب والواجب............................................. ١٧٩ ـ ١٨٥

الفصل الثاني ـ تقسيمات الواجب................................................. ١٨٧ ـ ٢٨٧

١ ـ الواجب المشروط والمطلق..................................................... ١٨٧ ـ ١٩٦


٢ ـ الواجب المعلّق والمنجّز........................................................ ١٩٧ ـ ٢١٩

تعريف الواجب المعلّق...................................................................... ١٩٧

امكان واجب المعلق............................................................... ١٩٨ ـ ٢٠٢

وجوب المقدمات المفوتة........................................................... ٢٠٢ ـ ٢١١

وجوب التعلم قبل وقت الواجب.................................................... ٢١١ ـ ٢١٤

دوران أمر القيد بين الرجوع الى الهيئة أو المادة........................................ ٢١٤ ـ ٢١٩

٣ ـ الواجب النفسي والغيري..................................................... ٢٢١ ـ ٢٨٧

الجهة الاولى ـ تعريف الواجب النفسي والواجب الغيري.............................. ٢٢١ ـ ٢٢٣

الجهة الثانية ـ حكم دوران الوجوب بين النفسية والغيربة............................. ٢٢٥ ـ ٢٢٨

الجهة الثالثة ـ عدم مقربية الواجب الغيري وعدم استحقاق العقاب والثواب عليه......... ٢٢٩ ـ ٢٣٤

الجهة الرابعة : الطهارات الثلاث وكيفية ترتب الثواب عليها........................... ٢٣٥ ـ ٢٣٨

الجهة الخامسة ـ صياغة الوجوب الغيري اطلاقاً وتقييداً............................... ٢٣٩ ـ ٢٦٤

اشتراط قصد التوصل في الواجب الغيري............................................. ٢٤١ ـ ٢٤٣

اشتراط الايصال في الواجب الغيري ( المقدمة الموصلة )................................ ٢٤٣ ـ ٢٦٤

البراهين على استحاله تخصيص الوجوب بالمقدمة الموصلة............................... ٢٤٤ ـ ٢٤٩

البرهان على اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة...................................... ٢٤٩ ـ ٢٥٥

حكم ما اذا كانت المقدمة محرمة.................................................... ٢٥٥ ـ ٢٥٨

ثمرة القول باختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة....................................... ٢٥٨ ـ ٢٦٤

الجهة السادسة ـ ثمرة القول بوجوب المقدمة......................................... ٢٦٥ ـ ٢٦٩

الجهة السابعة : حكم الشك في وجوب المقدمة....................................... ٢٧١ ـ ٢٨٠

الجهة الثامنة ـ أدلة وجوب المقدمة ( الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدماته )...... ٢٨١ ـ ٢٨٧

خاتمة ـ مقدمة المستحب والمكروه والحرام........................................... ٢٨٧ ـ ٢٨٨

مبحث الضد....................................................................... ٢٨٩ ـ ٣٧٥

الفصل الاول ـ اقتضاء الامر للنهي عن الضد الخاص................................. ٢٩٣ ـ ٣١٤

مبنى الاقتضاء.............................................................................. ٢٩٣

مبنى التلازم....................................................................... ٢٩٣ ـ ٢٩٤

مقدمية ترك أحد الضدين لفعل الآخر................................................ ٢٩٥ ـ ٢٩٨

براهين استحاله المقدمية............................................................ ٢٩٨ ـ ٣١٤

الفصل الثاني ـ اقتضاء الأمر بشيء للنهي عن ضده العام............................... ٣١٥ ـ ٣١٨

الفصل الثالث ـ ثمرة القول بالاقتضاء............................................... ٣١٩ ـ ٣٢٨

الفصل الرابع ـ مبحث الترتب..................................................... ٣٢٩ ـ ٣٧٥


الجهة الاولى ـ معنى الترتيب والغرض منه............................................ ٣٢٩ ـ ٣٣٢

الجهة الثانية ـ أقسام العلاقة بين الخطابين المتنافين..................................... ٣٣٢ ـ ٣٣٦

الجهة الثالثة ـ بعض الاستدلالات الفقهية على وقوع الترتب........................... ٣٣٦ ـ ٣٣٩

الجهة الرابعة ـ الاستدلال على امكان الترتب بالطولية................................ ٣٣٩ ـ ٣٤٢

الجهة الخامسة ـ الاشكالات الجانبية على الترتب..................................... ٣٤٢ ـ ٣٤٩

الجهة السادسة ـ استعراض ونقد المقدمات التي اقامها الميرزا على الترتب................ ٣٤٩ ـ ٣٥٩

الجهة السابعة ـ البرهان المختار لا ثبات الترتب...................................... ٣٥٩ ـ ٣٦٤

الجهة الثامنة ـ في الترتب من الجانبين............................................... ٣٦٤ ـ ٣٦٧

الجهة التاسعة ـ تطبيق فكرة الترتب على الصلاة جهراً موضع الاخفاف وبالعكس........ ٣٦٧ ـ ٣٧١

الجهة العاشرة ـ مدى ضرورة الترتب بين الواجبين المتزاحمين اذا كان احدهما موسعا...... ٣٧١ ـ ٣٧٥

حالات خاصة للأمر................................................................ ٣٧٧ ـ ٣٩١

الأمر مع العلم بانتفاء شرطه........................................................ ٣٧٩ ـ ٣٨٠

الأمر بالأمر....................................................................... ٣٨١ ـ ٣٨٢

الأمر بعد الأمر.................................................................... ٣٨٣ ـ ٣٨٤

الأمر بعد نسخ الوجوب........................................................... ٣٨٥ ـ ٣٩١

كيفيات تعلق الأمر................................................................. ٣٩٣ ـ ٤٣٥

تعلق الأمر بالطبيعة أو الأفراد....................................................... ٣٩٥ ـ ٤٠٥

حقيقة الواجب التخييري........................................................... ٤٠٧ ـ ٤٢٢

حقيقة الواجب الكفائي............................................................ ٤٢٣ ـ ٤٢٩

الواجب الموسع والمضيق وتبعية القضاء للاداء......................................... ٤٣١ ـ ٤٣٥

بحوث في علم الأصول - ٢

المؤلف:
الصفحات: 442