بسم الله الرحمن الرحيم

( سورة آل عمران مدنية وهي مائتا آية )

بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيِم آلم ـ ١. أللهُ لا إله إلَّا هوَ الحيُّ القيُّومُ ـ ٢. نزَّلَ عليكَ الكتابَ بالحقِّ مصدقاً لما بينَ يديهِ وأنزَلَ التَّوراةَ والإنجيلَ من قبلُ هدًى للنّاسِ وأنزلَ الفرقانَ ـ ٣. إنّ الذينَ كفرُوا بآياتِ الله لهم عذابٌ شديدٌ واللهُ عزيزٌ ذو انتقامٍ ـ ٤. إن اللهَ لا يخفى عليه شيءٌ في الأرضِ ولا في السماءِ ـ ٥. هو الَّذي يصوِّركم في الارحامِ كيفَ يشاءُ لا إلهَ إلَّا هوَ العزيزُ الحكيمُ ـ ٦.

بيان

غرض السورة دعوة المؤمنين إلى توحيد الكلمة في الدين ، والصبر والثبات في حماية حماه بتنبيههم بما هم عليه من دقة الموقف لمواجهتهم أعداءاً كاليهود والنصارى والمشركين وقد جمعوا جمعهم وعزموا عزمهم على إطفاء نور الله تعالى بأيديهم وبأفواههم.

ويشبه أن تكون هذه السورة نازلة دفعة واحدة فإن آياتها ـ وهي مئتا آية ـ ظاهرة الاتساق والانتظام من أولها إلى آخرها متناسبة آياتها مرتبطة أغراضها.

ولذلك كان مما يترجح في النظر أن تكون السورة إنما نزلت على رسول الله 6 وقد استقر له الأمر بعض الاستقرار ولما يتم استقراره فإن فيها ذكر غزوة أُحد ، وفيها ذكر المباهلة مع نصارى نجران ، وذكراً من أمر اليهود ، وحثاً على


المشركين ، ودعوة إلى الصبر والمصابرة والمرابطة ، وجميع ذلك يؤيد أن السورة نزلت أيام كان المسلمون مبتلين بالدفاع عن حمى الدين بعامة قواهم وجميع أركانهم ، فمن جانب كانوا يقاومون الفشل والفتور الذين يدبان في داخل جماعتهم بفتنه اليهود والنصارى ، ويحاجونهم ويجاوبونهم ، ومن جانب كانوا يقاتلون المشركين ، ويعيشون في حال الحرب وانسلاب الأمن ، فقد كان الاسلام في هذه الايام قد انتشر صيته فثارت الدنيا عليه من اليهود والنصارى ومشركي العرب ووراء ذلك الروم والعجم وغيرهم.

والله سبحانه يذكر المؤمنين في هذه السورة من حقائق دينه الذي هداهم به ما يطيب به نفوسهم ، ويزول به رين الشبهات والوساوس الشيطانية وتسويلات أهل الكتاب عن قلوبهم ، ويبين لهم أن الله سبحانه لم يغفل عن تدبير ملكه ولم يعجزه خلقه ، وإنما اختار دينه وهدى جمعا من عباده إليه على طريقه العادة الجارية ، والسنة الدائمة ، وهي سنة العلل والأسباب ، فالمؤمن والكافر جاريان على سنة الأسباب ، فيوم للكافر ويوم للمؤمن ، فالدار دار الامتحان واليوم يوم العمل ، والجزاء غداً.

قوله تعالى : (اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ، قد مرّ الكلام فيه في تفسير آية الكرسي ، وتحصل من هناك أن المراد به بيان قيامه تعالى أتم القيام على أمر الايجاد والتدبير ، فنظام الموجودات بأعيانها وآثارها تحت قيمومة الله لا مجرد قيمومة التأثير كالقيمومة في الأسباب الطبيعية الفاقدة للشعور بل قيمومة حياة تستلزم العلم والقدرة ، فالعلم الإلهي نافذ فيها لا يخفى عليه شيء منها ، والقدرة مهيمنة عليها لا يقع منها إلا ما شاء وقوعه وأذن فيه ، ولذلك عقبه بقوله بعد آيتين : (إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء).

ولما كانت هذه الآيات الست في أول السورة على طريق براعة الاستهلال مشتملة على إجمال ما تحتويه السورة من التفصيل ـ وقد مر ذكر غرض السورة ـ كانت هذه الآية بمنزلة تصدير الكلام بالبيان الكلي الذي يستنتج به الغرض كما أن الآيتين الأخيرتين أعنى قوله : (إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ) « الخ » بمنزلة التعليل بعد البيان ، وعليهذا فالكلام التى يتم به أمر براعة الاستهلال هما الآيتان المتوسطتان أعني قوله نزل عليك الكتاب إلى قوله عزيز ذو انتقام وعليهذا فيعود المعنى إلى أنه يجب على المؤمنين أن يتذكروا أن الله الذي آمنوا به واحد في الوهيته قائم على الخلق والتدبير قيام حياة لا


يغلب في ملكه ولا يكون إلا ما شاء وأذن فيه. فإنهم إذا تذكروا ذلك علموا أنه هو المنزل للكتاب الهادي إلى الحق ، والفرقان المميز بين الحق والباطل ، وأنه إنما جرى في ذلك على ما أجرى عليه عالم الأسباب وظرف الاختيار ، فمن آمن فله أجره ، ومن كفر فإن الله سيجزيه لأنه عزيز ذو انتقام ، وذلك أنه الله الذي لا إله غيره حتى يحكم في هذه الجهات ، ولا يخفى عليه أمرهم ، ولا يخرج عن إرادته ومشيئه فعالهم وكفرهم.

قوله تعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) قد مر أن التنزيل يدل على التدريج كما أن الإنزال يدل على الدفعة.

وربما ينقض ذلك بقوله : (لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً) الفرقان ـ ٣٢ ، وبقوله تعالى : (أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً) المائدة ـ ١١٢ وقوله تعالى : (لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ ) الأنعام ـ ٣٧ وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً) الأنعام ـ ٣٧ ولذلك ذكر بعض المفسرين أن الأولى أن يقال : إن معنى نزل عليك الكتاب أنزله إنزالاً بعد إنزال دفعاً للنقض.

والجواب : أن المراد بالتدريج في النزول ليس هو تخلل زمان معتد به بين نزول كل جزء من اجزاء الشيء وبين جزئه الآخر بل الأشياء المركبة التي توجد بوجود أجزائها لوجودها نسبة إلى مجموع الاجزاء وبذلك يصير الشيء أمراً واحداً غير منقسم ، والتعبير عنه من هذه الجهة بالنزول كقوله تعالى : (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَائاَ) الرعد ـ ١٧ وهو الغيث ونسبتة من حيث وجوده بوجود أجزائه واحداً بعد واحد سواء تخلل بينهما زمان معتد به أو لم يتخلل وهو التدريج ، والتعبير عنه بالتنزيل كقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ ) الشورى ـ ٢٨.

ومن هنا يظهر أن الآيات المذكورة للنقض غير ناقضة فإن المراد بقوله لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة الآية أن ينزل عليه القرآن آية بعد آية في زمان متصل واحد من غير تخلل زمان معتد به كما كان عليه الأمر في نزول القرآن في الشؤون والحوادث والأوقات المختلفة وبذلك يظهر الجواب عن بقية الآيات المذكورة.

وأما ما ذكره البعض المزبور فهو على أنه استحسان غير جائز في اللغة البتة


لا يدفع شيئاًً من النقض بالآيات المذكورة بل هي بحالها وهو ظاهر.

قد جرى كلامه تعالى ان يعبر عن إفاضة الكتاب على النبي 6 بالتنزيل والنزول ، والنزول يستلزم مقاماً أو مكاناً عالياً رفيعاً يخرج منه الشيء نوعاً من الخروج ويقصد مقاماً أو مكاناً آخر أسفل فيستقر فيه ، وقد وصف نفسه تعالت ذاته بالعلو ورفعة الدرجات وقد وصف كتابه أنه من عنده ، قال تعالى : (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) الشورى ـ ٥١ وقال تعالى : (وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ) البقرة ـ ٨٩ فصح بذلك استعمال لفظ النزول في مورد استقرار الوحي في قلب رسول الله 6 وقد ذكروا أن الحق هو الخبر من حيث إن بحذائه خارجاً ثابتاً كما ان الصدق هو الخبر من حيث إنه مطابق للخارج ، وعلى هذا فإطلاق الحق على الأعيان الخارجية والامور الواقعية كما يطلق على الله سبحانه : أنه حق ، وعلى الحقائق الخارجية أنها حقه إنما هو من جهة أن كلاً منها حق من جهة الخبر عنها ، وكيف كان فالمراد بالحق في الآية : الأمر الثابت الذي لا يقبل البطلان.

والظاهر أن الباء في قوله : بالحق للمصاحبة والمعنى نزل عليك الكتاب تنزيلاً يصاحب الحق ولا يفارقه ، فيوجب مصاحبة الحق ان لا يطرء عليه ولا يخالطه باطل فهو في أمن من جهة ظهور الباطل عليه ، ففى قوله : نزل عليك الكتاب بالحق استعارة بالكناية وقد قيل في معنى الباء وجوه اخر لا يخلو عن سقم.

والتصديق من الصدق يقال صدقت مقالا كذا أي قررته على الصدق واعترفت بكونه صدقاً وصدقت فلاناً أي اعترفت بصدقه فيما يخبر به.

والمراد مما بين يديه التوراة والانجيل كما قال تعالى : (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا). هدى إلى ان قال وآتيناه الانجيل فيه هدى إلى ان قال : (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ الآية ) المائدة ـ ٤٨ ، والكلام لا يخلو عن دلالة على أن ما بأيدى اليهود والنصارى من التوراة والانجيل لا يخلو عن بعض ما أنزله الله على موسى وعيسى 8 وإن كانا لا يخلوان عن السقط والتحريف ، فان الدائر بينهم في عصر رسول الله 6 هو التوراة الموجودة اليوم والاناجيل الأربعة المشهورة فالقرآن يصدق التوراة والانجيل الموجودين ، لكن في الجملة لا بالجملة لمكان الآيات


الناطقة بالتحريف والسقط فيهما قال تعالى : ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل إلى ان قال : وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به إلى ان قال : (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ الآية ) المائدة ـ ١٤.

قوله تعالى : وأنزل التوراة والانجيل من قبل هدى للناس ، التوراة كلمة عبرانية بمعنى الشريعة ، والانجيل لفظ يونانى ، وقيل فارسي الاصل معناه البشارة ، وسيجيء استيفاء البحث عن الكتابين في قوله تعالى : (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ الآيات ) المائدة ـ ٤٤.

ومما أصر عليه القرآن تسميه كتاب عيسى 7 بالإنجيل بصيغة الافراد والقول بأنه نازل من عند الله سبحانه ، مع أن الاناجيل كثيرة ، والمعروفة منها أعني الأناجيل الأربعة كانت موجوده قبل نزول القرآن وفي عهده وهى التى ينسب تأليفها إلى لوقا ومرقس ومتى ويوحنا ، ولا يخلو ما ذكرناه من إفراد الاسم والتوصيف بالنزول عن دلالة على التحريف والاسقاط ، وكيف كان لا يخلو ذكر التوراة والانجيل في هذه الآية وفي أول السورة من التعريض لليهود والنصارى على ما سيذكره من أمرهم وقصص تولد عيسى ونبوته ورفعه.

قوله تعالى : وأنزل الفرقان ، الفرقان ما يفرق به بين الحق والباطل على ما في الصحاح ، واللفظ بمادته يدل على الأعم من ذلك ، وهو كل ما يفرق به بين شيء وشيء. قال تعالى : (يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ) الأنفال ـ ٤١ ، وقال تعالى : (يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً) الانفال ـ ٢٩. وإذا كان الفرق المطلوب عند الله فيما يرجع إلى معنى الهداية هو الفرق بين الحق والباطل في العقائد والمعارف وبين وظيفة العبد وما ليس بوظيفة له بالنسبة إلى الأعمال الصادرة عنه في الحياة الدنيا انطبق معناه على مطلق المعارف الأصلية والفرعية التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه بالوحي ، أعم من الكتاب وغيره. قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ) الأنبياء ـ ٤٨ وقال تعالى : (وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ) البقرة ـ ٥٣ ، وقال تعالى : (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) الفرقان ـ ١.

وقد عبر تعالى عن هذا المعنى بالميزان في قوله : (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ


وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) الحديد ـ ٢٥. وهو في وزان قوله : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ) البقره ـ ٢١٣ فالميزان كالفرقان هو الدين الذى يحكم بين الناس بالعدل مع ما ينضم إليه من المعارف ووظائف العبودية ، والله أعلم.

وقيل المراد بالفرقان القرآن. وقيل : الدلالة الفاصلة بين الحق والباطل. وقيل : الحجة القاطعة لرسول الله 6 على من حاجه في أمر عيسى وقيل النصر وقيل العقل والوجه ما قدمناه.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ) إلى قوله ذو انتقام ، الانتقام ، ما قيل مجازاة المسيء على إساءته ، وليس من لازم المعنى أن يكون للتشفى ، فإن ذلك من لوازم الانتقامات التى بيننا حيث إن إساءة المسيء يوجب منقصة وضرراً في جانبنا فنتدارك ذلك بالمجازاة الشديدة التي توجب تشفى قلوبنا ، وأما هو تعالى فأعز ساحة من أن ينتفع أو يتضرر بشيء من أعمال عباده ، لكنه وعد ـ وله الوعد الحق ـ أن سيقضى بين عباده بالحق إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً. قال تعالى : (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ) المؤمن ـ ٢٠ ، وقال تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) النجم ـ ٣١. كيف وهو عزيز على الإطلاق منيع الجانب من أن ينتهك محارمه وقد قيل إن الأصل في معنى العزة الامتناع.

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ) ، من حيث إطلاق العذاب وعدم تقييده بالآخرة أو يوم القيمة ربما تضمن الوعيد بالعذاب في الدنيا كما في الآخرة وهذا من الحقائق القرآنية التي ربما قصر الباحثون في استيفاء البحث عنه وليس ذلك إلا لكوننا لا نعد شيئاًً عذاباً إلا إذا اشتمل على شيء من الآلام الجسمانية ، أو نقص أو فساد في النعم المادية كذهاب الأموال وموت الأعزة ونقاهة الأبدان مع أن الذي يعطيه القرآن بتعليمه أمر وراء ذلك.

كلام في معنى العذاب في القرآن

القرآن يعد معيشة الناسي لربه ضنكاً وإن اتسعت في أعيننا كل الاتساع


قال تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ) طه ـ ١٢٤ ، ويعد الأموال والأولاد عذاباً وإن كنا نعدها نعمة هنيئة. قال تعالى : (وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) التوبة ـ ٨٥.

وحقيقة الأمر كما مر إجمال بيانه في تفسير قوله تعالى : (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ) البقرة ـ ٣٥ ، أن سرور الإنسان وغمه وفرحه وحزنه ورغبته ورهبته وتعذبه وتنعمه كل ذلك يدور مدار ما يراه سعادة أو شقاوة ، هذا أولاً. وأن النعمة والعذاب وما يقاربهما من الامور تختلف باختلاف ما تنسب إليه فللروح سعادة وشقاوة وللجسم سعادة وشقاوة ، وكذا للحيوان منهما شيء وللإنسان منهما شيء وهكذا ، وهذا ثانياً. والإنسان المادى الدنيوي الذي لم يتخلق بأخلاق الله تعالى ، ولم يتأدب بأدبه يرى السعادة المادية هي السعادة ولا يعبأ بسعادة الروح وهي السعادة المعنوية ، فيتولع في اقتناء المال والبنين والجاه وبسط السلطة والقدرة. وهو وإن كان يريد من قبل نفس هذا الذي ناله لكنه ما كان يريد إلا الخالص من التنعم واللذه على ما صورته له خياله وإذا ناله رأى الواحد من اللذة محفوفا بالالوف من الألم ، فما دام لم ينل ما يريده كان امنية وحسرة وإذا ناله وجده غير ما كان يريده لما يرى فيه من النواقص ويجد معه من الآلام وخذلان الأسباب التي ركن إليها ولم يتعلق قلبه بأمر فوقها فيه طمأنينة القلب والسلوة عن كل فائتة ، فكان أيضاًً حسرة فلا يزال فيما وجده متألماً به معرضا عنه طالباً لما هو خير منه لعله يشفى غليل صدره وفيما لم يجده متقلباً بين الآلام والحسرات. فهذا حاله فيما وجده ، وذاك حاله فيما فقده.

وأما القرآن فإنه يرى أن الإنسان أمر مؤلف من روح خالد وبدن مادى متحول متغير ، وهو على هذا الحال حتى يرجع إلى ربه فيتم له الخلود من غير زوال ، فما كان فيه سعادة الروح محضاً كالعلم ونحو ذلك فهو من سعادته وما كان فيه سعادة ، جسمه وروحه معاً كالمال والبنين إذا لم تكن شاغلة عن ذكر الله ، وموجبة للاخلاد إلى الأرض فهو أيضاًً من سعادته ونعمت السعادة وكذا ما كان فيه شقاء الجسم ونقص لما يتعلق بالبدن وسعادة الروح الخالد كالقتل في سبيل الله وذهاب المال واليسار لله تعالى فهو أيضاًً من سعادته بمنزلة التحمل لمر الدواء ساعة لحيازة الصحة دهراً.

وأما ما فيه سعادة الجسم وشقاء الروح فهو شقاء للإنسان وعذاب له والقرآن


يسمى سعادة الجسم فقط متاعاً قليلاً لا ينبغي أن يعبأ به ، قال تعالى : (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ) آل عمران ـ ١٩٦ ، ١٩٧.

وكذا ما فيه شقاء الجسم والروح معاً يعده القرآن عذاباً كما يعدونه عذابا لكن وجه النظر مختلف ، فإنه عذاب عنده لما فيه من شقاء الروح وعذاب عندهم لما فيه من شقاء الجسم ، وذلك كأنواع العذاب النازلة على الامم السالفة ، قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) الفجر ـ ٦ ، ١٤.

والسعادة والشقاوة لذوي الشعور يتقومان بالشعور والادراك فإنا لا نعد الأمر اللذيذ الذي نلناه ولم نحس به سعادة لأنفسنا كما لا نعد الأمر المؤلم غير المشعور به شقاء ، ومن هنا يظهر أن هذا التعليم القرآني الذي يسلك في السعادة والشقاوة غير مسلك المادة ، والإنسان المولع بالمادة لا بد من أن يستتبع نوع تربية يرى بها الإنسان السعادة الحقيقية التي يشخصها القرآن سعادة والشقاوة الحقيقية شقاوة ، وهو كذلك ، فإنه يلقن على أهله : أن لا يتعلق قلوبهم بغير الله ، ويروا أن ربهم هو المالك الذي يملك كل شيء فلا يستقل شيء إلا به ، ولا يقصد شيء إلا له.

وهذا الإنسان لا يرى لنفسه في الدنيا إلا السعادة : بين ما كان فيه سعادة روحه وجسمه ، وما كان فيه سعادة روحه محضاً ، وأما ما دون ذلك فإنه يراه عذاباً ونكالا ، وأما الإنسان المتعلق بهوى النفس ومادة الدنيا فإنه وإن كان ربما يرى ما اقتناه من زينة الدنيا سعادة لنفسه وخيراً ولذة فإنه سوف يطلع على خبطه في مشيه ، وانقلبت سعادته المظنونة بعينها شقاوة عليه ، قال تعالى : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ) المعارج ـ ٤٢ ، وقال تعالى : (لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق ـ ٢٢ ، وقال تعالى : (فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ ) النجم ـ ٣٠ ، على أنهم لا يصفو لهم عيش إلا وهو منغص بما يربو عليه من الغم والهم.

ومن هنا يظهر : أن الإدراك والفكر الموجود في أهل الله وخاصة القرآن


غيرهما في غيرهم مع كونهم جميعاً من نوع واحد هو الإنسان ، وبين الفريقين وسائط من أهل الإيمان ممن لم يستكمل التعليم والتربية الإلهيين.

فهذا ما يتحصل من كلامه تعالى في معنى العذاب وكلامه تعالى مع ذلك لا يستنكف عن تسمية الشقاء الجسماني عذاباً لكن نهايته أنه عذاب في مرحلة الجسم دون الروح ، قال تعالى حكاية عن أيوب 7 : (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) ص ـ ٤١ ، وقال تعالى : (وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ) الأعراف ـ ١٤١ ، فسمى ما يصنعون بهم بلاء وامتحاناً من الله وعذاباً في نفسه لا منه سبحانه.

قوله تعالى : إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء إلخ قد علل تعالى عذاب الذين كفروا بآياته بأنه عزيز ذو انتقام لكن لما كان هذا التعليل لا يخلو عن حاجة إلى ضميمة تنضم إليه ليتم المطلوب فإن العزيز ذا الانتقام يمكن أن يخفي عليه كفر بعض من كفر بنعمته فلا يبادر بالعذاب والانتقام ، فعقب لذلك الكلام بقوله : إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ فبين أنه عزيز لا يخفى عليه شيء ظاهر على الحواس ولا غائب عنها ، ومن الممكن أن يكون المراد مما في الأرض وما في السماء الأعمال الظاهره القائمة بالجوارح والخفية الكامنة في القلوب على حد ما نبهنا عليه في قوله تعالى : لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ الآية البقرة ـ ٢٨٤.

قوله تعالى : هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء التصوير إلقاء الصورة على الشيء و الصورة تعم ما له ظل كالتمثال وما لا ظل له. والأرحام جمع رحم وهو مستقر الجنين من الإناث.

وهذه الآية في معنى الترقي بالنسبة إلى ما سبقها من الآيتين ، فإن محصل الآيتين : أن الله تعالى : ( يعذب الذين كفروا بآياته ) لانه العزيز المنتقم العالم بالسر والعلانية فلا يغلب في أمره بل هو الغالب ومحصل هذه الآية أن الأمر أعظم من ذلك ومن يكفر بآياته ويخالف عن أمره أذل وأوضع من أن يكفر باستقلال من نفسه واعتماد على قدرته من غير أن يأذن الله في ذلك ، فيغلب هو على أمره تعالى ، ويبطل النظام الأحسن الذي نظم الله سبحانه عليه الخلقة ، فتظهر إرادته على إرادة ربه ، بل الله سبحانه هو أذن


له في ذلك ، بمعنى أنه نظم الامور نوع نظم يؤدي إلى وجود الاختيار في الإنسان ، وهو الوصف الذى يمكنه به ركوب صراط الإيمان والطاعة أو التزام طريق الكفر والمعصية ، ليتم بذلك أمر الفتنة والإمتحان ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، وما يشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين.

فما من كفر ولا إيمان ولا غيرهما إلا عن تقدير ، وهو نظم الأشياء على نحو يتيسر لكل شيء ما يتوجه إليه من مقاصده التي سوف يستوفيها بعمله بتصويره بصورته الخاصة التي تمهد له السلوك إلى ما يسلك إليه. فالله سبحانه هو الغالب على أمره القاهر في إرادته المهيمن على خلقه ، يظن الإنسان أنه يفعل ما يشاء ويتصرف فيما يريد ، ويقطعْ بذلك النظم المتصل الذى نظمه الله في الكون فيسبق التقدير ، وهذا بعينه من القدر.

وهذا هو المراد بقوله : (يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء) ، أي ينظم أجزاء وجودكم في بدء الأمر على نحو يؤدي إلى ما يشاءه في ختمه مشية اذن لا مشية حتم.

وإنما خص الكلام بالتقدير الجاري في الإنسان ولم يذكر التقدير العام الجاري في العالم كله لينطبق على المورد ، ولما مر أن في الآيات تعريضاً للنصارى في قولهم في المسيح 7 والآيات منتهية إلى ما هو الحق من أمره ، فإن النصارى لا ينكرون كينونته 7 في الرحم وأنه لم يكون نفسه.

والتعميم بعد التخصيص في الخطاب أعني قوله : يصوركم بعد قوله نزَّل عليك ، للدلاله على أن إيمان المؤمنين أيضاًً ككفر الكافرين غير خارج عن حكم القدر ، فتطيب نفوسهم بالرحمة والموهبة الإلهية في حق أنفسهم ، ويتسلوا بما سمعوه من أمر القدر ومن أمر الانتقام فيما يعظم عليهم من كفر الكافرين.

قوله تعالى : (لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، فيه عود الى ما بدء به الكلام في الآيات من التوحيد ، وهو بمنزلة تلخيص الدليل للتأكيد.

فإن هذه الامور المذكورة أعني : هداية الخلق بعد ايجادهم ، وإنزال الكتاب والفرقان ، وإتقان التدبير بتعذيب الكافرين امور لا بد أن تستند الى إله يدبرها واذ لا إله إلا الله تعالى شأنه فهو الذي يهدي الناس وهو الذي ينزل الكتاب والفرقان ،


وهو يعذب الكافرين بآياته وإنما يفعل ما يفعل من الهداية والإنزال والانتقام والتقدير بعزته وحكمته.

( بحث روائي )

في المجمع عن الكلبي ومحمد بن إسحق والربيع بن أنس : نزلت أوائل السورة إلى نيف وثمانين آية في وفد نجران ، وكانوا ستين راكباً قدموا على رسول الله 6 وفيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم ، وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر يؤول إليهم أمرهم : العاقب أمير القوم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه ، واسمه عبد المسيح والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم ، واسمه الأيهم ، وأبو حارثة بن علقمة اسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم ، وكان قد شرف فيهم ودرس كتبهم ، وكانت ملوك الروم قد شرَّفوه ومولوه وبنوا له الكنائس لعلمه واجتهاده ، فقدموا على رسول الله 6 المدينة ودخلوا مسجده حين صلّى العصر ، عليهم ثياب الحبرات : جبب وأردية في جمال رجال بلحرث بن كعب ، يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله 6 : ما رأينا وفداً مثلهم ، وقد حانت صلاتهم ، فأقبلوا يضربون بالناقوس ، وقاموا فصلوا في مسجد رسول الله 6 ، فقالت الصحابة : يا رسول الله هذا في مسجدك ؟ فقال رسول الله 6 : دعوهم ، فصلوا إلى المشرق ، فكلم السيد والعاقب رسول الله 6 فقال لهما رسول الله 6 أسلما ، قالا قد أسلمنا قبلك. قال : كذبتما يمنعكما من الاسلام دعائكما لله ولداً وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير ، قالا إن لم يكن ولداً لله فمن أبوه ؟ وخاصموه جميعاً في عيسى ، فقال لهما النبي 6 : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه ؟ قالوا بلى ، قال ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتيه الفناء ، قالوا بلى ، قال ألستم تعلمون ان ربنا قيم على كل شيء ويحفظه ويرزقه ؟ قالوا بلى ، قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئاًً ؟ قالوا لا ، قال : ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ؟ قالوا : بلى ، قال : فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علم ؟ قالوا لا ، قال فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء ، وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث ، قالوا بلى ، قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته امه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ، ثم غذي كما


يغذي الصبي ثم كان يطعم ويشرب ويحدث ؟ قالوا : بلى ، قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم ؟ فسكتوا فأنزل الله فيهم صدر سورة آل عمران إلى بصع وثمانين آية.

أقول : وروى هذا المعنى السيوطي في الدر المنثور عن أبي إسحق وابن جرير وابن المنذر عن محمد بن جعفر بن الزبير وعن ابن إسحق عن محمد بن سهل بن أبي أمامة ، أما القصة فسيجيء نقلها ، وأما نزول أول السورة في ذلك فكأنه اجتهاد منهم وقد تقدم : أن ظاهر سياقها نزولها دفعة.

عن النبي 6 : الشقي من شقى في بطن أُمه ، والسعيد من سعد في بطن أُمه.

وفي الكافي عن الباقر 7 قال : إن الله إذا أراد أن يخلق النطفة التي هي مما أخذ عليه الميثاق من صلب آدم أو ما يبدو له فيه ويجعلها في الرحم حرّك الرجل للجماع وأوحى إلى الرحم أن افتحي بابك حتى يلج فيك خلقي وقضائي النافذ وقدري فتفتح بابها ، فتصل النطفة إلى الرحم ، فتردد فيه أربعين يوماً ، ثم تصير علقة أربعين يوماً ، ثم تصير مضغة أربعين يوماً ، ثم تصير لحماً تجري فيه عروق مشتبكة ، ثم يبعث الله ملكين خلاقين يخلقان في الأرحام ما يشاء الله ، يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة ، فيصلان إلى الرحم وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، فينفخان فيها روح الحياة والبقاء ، ويشقان له السمع والبصر والجوارح وجميع ما في البطن بإذن الله تعالى ، ثم يوحي الله إلى الملكين : اكتبا عليه قضائي وقدري ونافذ أمري واشترطا لي البداء فيما تكتبان فيقولان : يا رب ما نكتب ؟ فيوحي الله عز وجل إليهما : أن ارفعا رؤوسكما إلى رأس امه ، فيرفعان رؤسهما فإذا اللوح يقرع جبهه امه ، فينظر ان فيه ، فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه سعيداً أو شقياً وجميع شأنه ، فيملي أحدهما على صاحبه ، فيكتبان جميع ما في اللوح ويشترطان البداء فيما يكتبان ، ثم يختمان الكتاب ويجعلانه بين عينيه ، ثم يقيمانه قائماً في بطن أُمه ، قال : فربما عتا فانقلب ، ولا يكون ذلك إلا في كل عات أو مارد ، وإذا بلغ أوان خروج الولد تاماً أو غير تام أوحى الله إلى الرحم : أن افتحي بابك حتى يخرج خلقي إلى أرضي وينفذ فيه أمري فقد بلغ أوان خروجه ، قال : فتفتح الرحم باب الولد فينقلب فتصير رجلاه فوق رأسه ورأسه في أسفل البطن ليسهل الله على المرأة وعلى الولد الخروج ، فبعث الله عز وجل إليه ملكاً يقال له : زاجر فيزجره زجرة


فيفزع منها الولد فإذا احتبس زجره الملك زجرة اخرى فيفزع منها ، فيسقط الولد إلى الأرض باكياً فزعاً من الزجرة.

أقول : قوله : إذا أراد أن يخلق النطفة ، أي يجعلها بشراً تاماً سوياً ، وتقييدها بقوله : التي هي مما اخذ عليها الميثاق إشارة إلى ما سيجيء بيانه : ان الإنسان الذي في هذه النشأة الدنيوية وأحواله مسبوقة الوجود بنشأة اخرى سابقة عليه تجري هذه على صراط تلك ، وهي المسماة في لسان الأخبار بعالم الذر والميثاق ، فما اخذ عليه الميثاق لا بد من أن يخلق في هذه النشأة الدنيوية ، وما يخلق في هذه النشأة هو مما اخذ عليه الميثاق من غير أن يقبل التغيير والتبديل فذلك من القضاء المحتوم ولذلك ردّد الكلام بينه وبين قوله : أو ما يبدو له فيه أي يبدو له البداء في تمام خلقه ، فلا يتمّ ويعود سقطاً ، فالقسم المقابل له لا بداء فيه كما ذكرنا وقوله ويجعلها في الرحم ، عطف على قوله : يخلق النطفة.

قوله 7 : يقتحمان في بطن المرأة ، من فم المرأة يمكن أن يكون قوله من فم المرأة من كلام الراوي كما يؤيّده وضع الظاهر موضع المضمر وعلى ظاهر الحال من كونه من كلام الإمام 7 هو من الشواهد على كون دخولهما واقتحامهما في بطن المرأة من غير سنخ دخول الجسم في الجسم ، إذ لا طريق إلى الرحم من غير الفرج إلا العروق ، ومنها العرق الذي يدرّ منه دم الحيض فينصبّ في الرحم ، وليس هذا المنفذ بأسهل للدخول من جدران الرحم ، فللدخول من الفم سبب غير سهولة الطريق وهو ظاهر.

قوله 7 : وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، كأنها الروح النباتية التي هي المبدء للتغذي والتنمي.

قوله 7 : فينفخان فيها روح الحيوة والبقاء ، ظاهره رجوع الضمير إلى الروح القديمة ، فروح الحيوة والبقاء منفوخة في الروح النباتية ، ولو فرض رجوعه إلى المضغة مثلاًً كانت منفوخة في المضغة الحية بالروح النباتية فتصير المضغة النباتية منفوخة فيها ، وعلى أي حال يفيد الكلام أن نفخ الروح الإنساني إنما هو نوع ترق للروح النباتية بالاشتداد ( على ما يقتضيه القول بالحركة الجوهرية )

( ٣ ـ الميزان ـ ٢ )


وبذلك يظهر معنى انتقال الروح القديمة في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، فالروح متحد الوجود مع البدن بوجه وهو النطفة وما يمدها من دم الحيض وهي المتحدة مع بدنى الأبوين وهما مع النطفة وهلم جراً ، فما يجري على الإنسان متعين في الجملة في وجود آبائه وامهاته ، مشهود في صور أشخاصهم ، وهو بوجه كالفهرس المأخوذ من الكتاب الموضوع قبله.

وبه يظهر معنى قوله 7 : فيوحي الله عز وجل إليهما أي إلى الملكين أن ارفعا رؤوسكما إلى رأس امه ، وذلك أن الذي لأبيه من شرح قضائه وقدره قد انقطع عنه بانفصال النطفة ، فما بقي متصلاً به إلا امه ، وهو قوله 7 : فإذا اللوح يقرع جبهة امه والجبهة مجتمع حواس الإنسان وطليعة وجهه فينتظران فيه فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه سعيداً أو شقياً وجميع شأنه ، فيملي أحدهما على صاحبه فنسبتهما شبيهة نسبة الفاعل والقابل فيكتبان جميع ما في اللوح.

قوله 7 : ويشترطان البداء فيما يكتبان ، وذلك لعدم اشتمال صورته على تمام علل حوادثه المستقبلة ، فإن الصورة وإن كانت مبدئاً لجميع ما يجري على الإنسان من أحواله والحوادث المختصة به لكن ليست بالمبدء كله بل للامور والحوادث الخارجة عنه دخالة في ذلك ، ولذلك كان الذي يتراءى منها من الحوادث غير حتمي الوقوع ، فكانت مظنة للبداء.

وأعلم : أن نسبة تفاصيل الولادة إلى تحريك الله سبحانه الرجل ، ووحيه إلى الرحم ، وإرسال الملكين الخلاقين والملك الزاجر إلى غير ذلك لا ينافي استناد هذه الحوادث ومنها الولادة إلى أسبابها الطبيعية ، فإن هذين القبيلين من الأسباب أعني الأسباب المعنوية والأسباب المادية واقعان أحدهما في طول الآخر لا في عرضه حتى يبطل أحدهما الآخر ، أو يتدافعا فيبطلا معاً ، أو يعود الأمر إلى تركب العلة التامة من مجموع السببين ، بل كل منهما علة تامة لكن في مرتبته.

فمن أقامه الله سبحانه لهداية الناس إلى سعادتهم المعنوية وسلوكهم إلى مرضاته وهم الأنبياء : ـ والطريق طريق الباطن ـ فإنما وظيفته أن يكلم الناس بلسان يسلك بهم مسلك الباطن ويذكرهم مقام ربهم في جميع بياناته ، وهو توسيط الملائكة واستناد الحوادث إلى أعمالهم ، ونسبة السعادة إِلى تأييدهم ، ونسبة الشقاء


بخصوصياته إلى الشياطين وتسويلهم ، ونسبة الجميع إلى الله سبحانه على ما يليق بساحة قدسه وحضرة ربوبيته ، ليستنتج من ذلك صور الهداية والضلال والربح والخسران ، وبالجملة جميع شؤون الحيوة الآخرة ، وهم مع ذلك لم يهملوا أمر الأسباب الطبيعية ولم يضيعوا حقها ، فإنها أحد ركني حيوة الإنسان والأساس الذي تستند إليه الحيوة الدنيا ، ولا بد للإنسان أن يعرف جملة أمرها كما لا بد له أن يعرف جملة الأمر في الأسباب المعنوية حتى يتم له معرفة نفسه فيعرف ربه.

***

هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ ـ ٧ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ـ ٨ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ـ ٩.

( البيان )

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ) ، عبر تعالى بالإنزال دون التنزيل لأن المقصود بيان بعض أوصاف مجموع الكتاب النازل وخواصه ، وهو أنه مشتمل على آيات محكمة واخر متشابهة ترجع إِلى المحكمات وتبين بها ، فالكتاب مأخوذ بهذا النظر أمراً واحداً من غير نظر إلى تعدد وتكثر ، فناسب استعمال الإنزال دون التنزيل.

قوله تعالى : (مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) ، مادة حكم


تفيد معنى كون الشيء بحيث يمنع ورود ما يفسده أو يبعضه أو يخل أمره عليه ، ومنه الإحكام والتحكيم ، والحكم بمعنى القضاء ، والحكمة بمعنى المعرفة التامة والعلم الجازم النافع ، والحكمة بفتح الحاء لزمام الفرس ، ففى الجميع شيء من معنى المنع والإتقان ، وربما قيل : إن المادة تدل على معنى المنع مع إصلاح.

والمراد ههنا من إحكام المحكمات إتقان هذه الآيات من حيث عدم وجود التشابه فيها كالمتشابهات ، فإنه تعالى وإن وصف كتابه بإحكام الآيت في قوله : (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) هود ـ ١ ، لكن اشتمال الآية على ذكر التفصيل بعد الإحكام دليل على أن المراد بالإحكام حال من حالات الكتاب كان عليها قبل النزول وهي كونه واحداً لم يطرأ عليه التجزي والتبعض بعد بتكثر الآيات ، فهو إتقانه قبل وجود التبعض ، فهذا الإحكام وصف لتمام الكتاب بخلاف وصف الإحكام والإتقان الذي لبعض آياته بالنسبة إلى بعض آخر من جهة امتناعها عن التشابه في المراد.

وبعبارة اخرى لما كان قوله : (مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) مشتملاً على تقسيم آيات الكتاب إلى قسمي المحكم والمتشابه علمنا به أن المراد بالاحكام غير الإحكام الذي وصف به جميع الكتاب في قوله : كتاب احكمت آياتهْ الآية ، وكذا المراد بالتشابه فيه غير التشابه الذي وصف به جميع الكتاب في قوله : (كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ ) الزمر ـ ٢٣.

وقد وصف المحكمات بأنها ام الكتاب والام بحسب أصل معناه ما يرجع إليه الشيء وليس إلا أن الآيات المتشابهة ترجع إليها فالبعض من الكتاب وهي المتشابهات ترجع إلى بعض آخر وهي المحكمات ، ومن هنا يظهر : أن الاضافة في قوله : ام الكتاب ليست لاميه كقولنا ام الاطفال بل هي بمعنى من كقولنا نساء القوم وقدماء الفقهاء ونحو ذلك فالكتاب يشتمل على آيات هي ام آيات اخر وفي إفراد كلمة الام من غير جمع دلالة على كون المحكمات غير مختلفة في أنفسها بل هي متفقة مؤتلفة.

وقد قوبلت المحكمات في الآية بقوله : وأخر متشابهات والتشابه توافق أشياء مختلفة واتحادها في بعض الاوصاف والكيفيات وقد وصف الله سبحانه جميع القرآن


بهذا الوصف حيث قال : (كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ الآية ) الزمر ـ ٢٣ والمراد به لا محالة كون آيات الكتاب ذات نسق واحد من حيث جزالة النظم ، وإتقان الاسلوب ، وبيان الحقائق والحكم ، والهداية إلى صريح الحق كما تدل عليه القيود المأخوذة في الآية ، فهذا التشابه وصف لجميع الكتاب ، وأما التشابه المذكور في هذه الآية ، أعني قوله وأُخر متشابهات ، فمقابلته لقوله : منه آيات محكمات هن ام الكتاب ، وذكر اتباع : الذين في قلوبهم زيغ لها ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل ، كل ذلك يدل على أن المراد بالتشابه كون الآية بحيث لا يتعين مرادها لفهم السامع بمجرد استماعها بل يتردد بين معنى ومعنى حتى يرجع إلى محكمات الكتاب فتعين هي معناها وتبينها بياناً ، فتصير الآية المتشابهة عند ذلك محكمة بواسطة الآية المحكمة ، والآية : المحكمة محكمة بنفسها كما أن قوله : (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) طه ـ ٥ ، يشتبه المراد منه على السامع أول ما يسمعه ، فإذا رجع إلى مثل قوله تعالى : ( ليس كمثله شيء ) الشورى ـ ١١ ، استقر الذهن على أن المراد به التسلط على الملك والإحاطة على الخلق دون التمكن والاعتماد على المكان المستلزم للتجسم المستحيل على الله سبحانه ، وكذا قوله تعالى : (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) القيامة ـ ٢٣ ، إذا ارجع إلى مثل قوله : (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ) الأنعام ـ ١٠٣ ، علم به أن المراد بالنظر غير النظر بالبصر الحسي ، وكذا إذا عرضت الآية المنسوخة على الآية الناسخة تبين أن المراد بها حكم محدود بحد الحكم الناسخ وهكذا.

فهذا ما يتحصل من معنى المحكم والمتشابه ، ويتلقاه الفهم الساذج من مجموع قوله تعالى : (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) فإن الآية محكمة بلا شك ولو فرض جميع القرآن غيرها متشابهاً.

ولو كانت هذه الآية متشابهة عادت جميع آيات القرآن متشابهة وفسد التقسيم الذي يدل عليه قوله : منه آيات إلخ ، وبطل العلاج الذي يدل عليه قوله : هن ام الكتاب ، ولم يصدق قوله : (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) حم السجدة ـ ٤ ، ولم يتم الاحتجاج الذي يشتمل عليه قوله : ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ) النساء ـ ٨٢ ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن القرآن نور وهدى وتبيان وبيان ومبين وذكر ونحو ذلك.


على أن كل من يرعى نظره في آيات القرآن من أوله إلى آخره لا يشك في أن ليس بينها آية لها مدلول وهي لا تنطق بمعناها وتضل في مرادها ، بل ما من آية إلا وفيها دلالة على المدلول : إما مدلول واحد لا يرتاب فيه العارف بالكلام ، أو مداليل يلتبس بعضها ببعض ، وهذه المعاني الملتبسة لا تخلو عن حق المراد بالضرورة وإلا بطلت الدلالة كما عرفت ، وهذا المعنى الواحد الذي هو حق المراد لا محالة لا يكون أجنبياً عن الاصول المسلمة في القرآن كوجود الصانع وتوحيده وبعثة الأنبياء وتشريع الأحكام والمعاد ونحو ذلك ، بل هو موافق لها وهي تستلزمه وتنتجه وتعين المراد الحق من بين المداليل المتعددة المحتملة ، فالقرآن بعضه يبين بعضاً ، وبعضه أصل يرجع إليه البعض الآخر.

ثم إن هذا الناظر إذا عثر بعد هذه النظرة على قوله تعالى : (مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) لم يشك في أن المراد بالمحكمات هي الآيات المتضمنة للاصول المسلمة من القرآن وبالمتشابهات الآيات التي تتعين وتتضح معانيها بتلك الاصول.

فان قلت : رجوع الفروع إلى الاصول مما لا ريب فيه فيما كان هناك اصول متعرقة وفروع متفرقة سواء فيه المعارف القرآنية وغيرها ، لكن ذلك لا يستوجب حصول التشابه ، فما وجه ذلك؟.

قلت : وجهه أحد أمرين ، فإن المعارف التي يلقيها القرآن على قسمين : فمنها معارف عالية خارجة عن حكم الحس والمادة ، والافهام العادية لا تلبث دون أن تتردد فيها بين الحكم الجسماني الحسي وبين غيره كقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) الفجر ـ ١٤ وقوله تعالى : (وَجَاء رَبُّكَ ) الفجر ـ ٢٢ فيتبادر منها إلى الذهن المستأنس بالمحسوس من الاحكام معان هي من اوصاف الاجسام وخواصها ، وتزول بالرجوع إلى الاصول التي تشتمل على نفي حكم المادة والجسم عن المورد ، وهذا مما يطرد في جميع المعارف والابحاث غير المادية والغائبة عن الحواس ، ولا يختص بالقرآن الكريم بل يوجد في غيره من الكتب السماوية بما تشتمل عليه من المعارف العاليه من غير تحريف ، ويوجد أيضاًً في المباحث الإلهية من الفلسفة ، وهو الذي يشير إليه القرآن بلسان آخر في قوله تعالى : (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا الآية ) الرعد ـ ١٧ وقوله : (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف ـ ٤


ومنها ما يتعلق بالنواميس الاجتماعية والاحكام الفرعية ، واشتمال هذا القسم من المعارف على الناسخ والمنسوخ بالنظر إلى تغير المصالح المقتضية للتشريعات ونحوها من جهة ، ونزول القرآن نجوماً من جهة اخرى يوجب ظهور التشابه في آياتها ، ويرتفع التشابه بإرجاع المتشابه إلى المحكم ، والمنسوخ إلى الناسخ.

قوله تعالى : ( فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ) ، الزيغ هو الميل عن الاستقامة ، ويلزمه اضطراب القلب وقلقه بقرينة ما يقابله في ذيل الآية من قوله : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ) ، فإن الآية تصف حال الناس بالنسبذ إلى تلقي القرآن بمحكمه ومتشابهه ، وأن منهم من هو زائغ القلب ومائله ومضطربه فهو يتبع المتشابه ابتغاءً للفتنه والتأويل ، ومنهم من هو راسخ العلم مستقر القلب يأخذ بالمحكم ويؤمن بالمتشابه ولا يتبعه ، ويسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلبه بعد الهداية.

ومن هنا يظهر : أن المراد باتباع المتشابه اتباعه عملاً لا إيماناً ، وان هذا الاتباع المذموم اتباع للمتشابه من غير ارجاعه إلى المحكم ، إذ على هذا التقدير يصير الاتباع اتباعاً للمحكم ولا ذم فيه.

والمراد بابتغاء الفتنه طلب إضلال الناس ، فإن الفتنة تقارب الاضلال في المعنى ، يقول تعالى : يريدون باتباع المتشابه إضلال الناس في آيات الله سبحانه ، وأمراً آخر هو أعظم من ذلك ، وهو الحصول والوقوف على تأويل القرآن ومآخذ أحكام الحلال والحرام حتى يستغنوا عن اتباع محكمات الدين فينتسخ بذلك دين الله من أصله.

والتأويل من الاول وهو الرجوع ، فتأويل المتشابه هو المرجع الذي يرجعِ إليه ، وتأويل القرآن هو المأخذ الذي يأخذ منه معارفه.

وقد ذكر الله سبحانه لفظ التأويل في موارد من كلامه فقال سبحانه : (وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ) الاعراف ـ ٥٣ ، أي بالحق فيما أخبروا به وأنبأوا أن الله هو موليهم الحق ، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل ، وان النبوة حق ، وأن الدين حق وأن الله يبعث من في القبور ، وبالجملة


كل ما يظهر حقيقته يوم القيامة من أنباء النبوة وأخبارها.

ومن هنا ما قيل : إن التأويل في الآية هو الخارج الذي يطابقه الخبر الصادق كالامور المشهودة يوم القيامة التي هي مطابقات ( اسم مفعول ) أخبار الأنبياء والرسل والكتب.

ويرده : ان التأويل على هذا يختص بالايات المخبرة عن الصفات وبعض الافعال وعن ما سيقع يوم القيامة ، وأما الايات المتضمنة لتشريع الاحكام فإنها لاشتمالها على الانشاء لا مطابق لها في الخارج عنها ، وكذا ما دل منها على ما يحكم به صريح العقل كعدة من أحكام الاخلاق فإن تأويلها معها ، وكذا ما دل على قصص الأنبياء والامم الماضية فإن تأويلها على هذا المعنى يتقدمها من غير أن يتأخر إلى يوم القيامة ، مع ان ظاهر الآية يضيف التأويل إلى الكتاب كله لا إلى قسم خاص من آياته.

ومثلها قوله تعالى : ( وما كان هذا القرآن أن يفتري إلى أن قال أم يقولون افتريه إلى ان قال : (بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) يونس ـ ٣٩ ، والايات كما ترى تضيف التأويل إلى مجموع الكتاب.

ولذلك ذكر بعضهم : أن التأويل هو الأمر العيني الخارجي الذي يعتمد عليه الكلام ، وهو في مورد الاخبار المخبر به الواقع في الخارج ، إما سابقاً كقصص الأنبياء والامم الماضية ، وإما لاحقاً كما في الايات المخبرة عن صفات الله وأسمائه ومواعيده وكل ما سيظهر يوم القيامة ، وفي مورد الانشاء كآيات الاحكام المصالح المتحققة في الخارج كما في قوله تعالى : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) أسرى ـ ٣٥ ، فإن تأويل إيفاء الكيل وإقامه الوزن هو المصلحة المترتبة عليهما في المجتمع وهو استقامة أمر الاجتماع الإنساني.

وفيه اولا : أن ظاهر هذه الآية : أن التأويل أمر خارجي وأثر عيني مترتب على فعلهم الخارجي الذي هو إيفاء الكيل وإقامة الوزن لا الأمر التشريعي الذي يتضمنه قوله : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ ) الآية ، فالتأويل أمر خارجي هو مرجع ومآل لامر خارجي آخر فتوصيف آيات الكتاب بكونها ذات تأويل من جهة حكايتها


عن معان خارجية ( كما في الاخبار ) أو تعلقها بأفعال أو امور خارجية ( كما في الانشاء ) لها تأويل ، فالوصف وصف بحال متعلق الشيء لا بحال نفس الشيء.

وثانياً : أن التأويل وإن كان هو المرجع الذي يرجع ويؤول إليه الشيء لكنه رجوع خاص لا كل رجوع ، فإن المرئوس يرجع إلى رئيسه وليس بتأويل له ، والعدد يرجع إلى الواحد وليس بتأويل له ، فلا محالة هو مرجع بنحو خاص لا مطلقاً.

يدل على ذلك قوله تعالى في قصة موسى والخضر 8 : (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا ) الكهف ـ ٧٨ ، وقوله تعالى : (ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ) الكهف ـ ٨٢ ، والذي نبأه لموسى صور وعناوين لما فعله 7 في موارد ثلث كان موسى 7 قد غفل عن تلك الصور والعناوين ، وتلقى بدلها صوراً وعناوين اخرى أوجبت اعتراضه بها عليه ، فالموارد الثلث : هي قوله تعالى : (حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ) الكهف ـ ٧١ ، وقوله تعالى : (حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ) الكهف ـ ٧٤ وقوله تعالى : (حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ) الكهف ـ ٧٧.

والذي تلقاه موسى 7 من صور هذه القضايا وعناوينها قوله : (أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً ) الكهف ـ ٧١ ، وقوله : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً ) الكهف ـ ٧٤ وقوله : ( لو شئت لتخذت عليه أجراً ) الكهف ـ ٧٧.

والذي نبأ به الخضر من التأويل قوله : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً ، وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ) الكهف ـ ٨٢ ثم أجاب عن جميع ما اعترض عليه موسى 7 جملة بقوله : (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) الكهف ـ ٨٢ ، فالذي اريد من التأويل في هذه الآيات كما ترى هو رجوع الشيء إلى صورته وعنوانه نظير رجوع الضرب إلى التأديب ورجوع الفصد إلى العلاج ، لا نظير رجوع قولنا : جاء زيد إلى مجيء زيد في الخارج.


ويقرب من ذلك ما ورد من لفظ التأويل في عدة مواضع من قصه يوسف 7 كقوله تعالى : (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) يوسف ـ ٤ ، وقوله تعالى : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً ) يوسف ـ ١٠٠ ، فرجوع ما رآه من الرؤيا إلى سجود أبويه وإخوته له وإن كان رجوعاً لكنه من قبيل رجوع المثال إلى الممثل وكذا قوله تعالى : (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) ، قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين وقال الذي نجا منهما وادكر بعد امة أنا انبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا إلى أن قال : (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ) يوسف ـ ٤٨.

وكذا قوله تعالى : (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً) ، وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نريك من المحسنين إلى ان قال : (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) يوسف ـ ٤١.

وكذا قوله تعالى : (وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ) يوسف ـ ٦١ وقوله تعالى : (وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ) يوسف ـ ٢١ ، وقوله تعالى : (وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ) يوسف ـ ١٠١ ، فقد استعمل التأويل في جميع هذه الموارد من قصة يوسف 7 فيما يرجع إليه الرؤيا من الحوادث ، وهو الذي كان يراه النائم فيما يناسبه من الصورة والمثال ، فنسبة التأويل إلى ذي التأويل نسبة المعنى إلى صورته التي يظهر بها ، والحقيقة المتمثلة إلى مثالها الذي تتمثل به ، كما كان الأمر يجري هذا المجرى فيما أوردناه من الآيات في قصة موسى والخضر 8 ، وكذا في قوله تعالى : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ ) إلى قوله : (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) الآية اسرى ـ ٣٥.

والتدبر في آيات القيامة يعطي أن المراد هو ذلك أيضاًً في لفظة التأويل في قوله تعالى : (بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) الآية ، وقوله تعالى : (هَلْ يَنظُرُونَ


إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ الآية ) فإن أمثال قوله تعالى : (لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق ـ ٢٢ ، تدل على أن مشاهدة وقوع ما أخبر به الكتاب وأنبأ به الأنبياء يوم القيامة من غير سنخ المشاهدة الحسية التي نعهدها في الدنيا كما أن نفس وقوعها والنظام الحاكم فيها غير ما نألفه في نشأتن ، ا هذه وسيجيء مزيد بيان له فرجوع أخبار الكتاب والنبوة إلى مضامينها الظاهرة يوم القيامة ليس من قبيل رجوع الإخبار عن الأمور المستقبلة إلى تحقق مضامينها في المستقبل.

فقد تبين بما مر أولا : أن كون الآية ذات تأويل ترجع إليه غير كونها متشابهة ترجع إلى آية محكمة.

وثانياً : أن التأويل لا يختص بالآيات المتشابهة بل لجميع القرآن تأويل فللآية المحكمة تأويل كما أن للمتشابهة تأويلا.

وثالثاً : أن التأويل ليس من المفاهيم التي هي مداليل للألفاظ بل هو من الامور الخارجية العينية ، واتصاف الآيات بكونها ذات تأويل من قبيل الوصف بحال المتعلق ، وأما إطلاق التأويل وإرادة المعنى المخالف لظاهر اللفظ ، فاستعمال مولد نشأ بعد نزول القرآن لا دليل أصلاً على كونه هو المراد من قوله تعالى : وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله الآية ، كما لا دليل على أكثر المعاني المذكورة للتأويل مما سننقله عن قريب.

قوله تعالى : (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ ) ظاهر الكلام رجوع الضمير إلى ما تشابه ، لقربه كما هو الظاهر أيضاًً في قوله : وابتغاء تأويله وقد عرفت أن ذلك لا يستلزم كون التأويل مقصوراً على الآيات المتشابهة ، ومن الممكن أيضاًً رجوع الضمير إلى الكتاب كالضمير في قوله : ما تشابه منه.

وظاهر الحصر كون العلم بالتأويل مقصوراً عليه سبحانه ، وأما قوله : والراسخون في العلم ، فظاهر الكلام أن الواو للاستيناف بمعنى كونه طرفاً للترديد الذي يدل عليه قوله في صدر الآية : فأما الذين في قلوبهم زيغ ، والمعنى : أن الناس في الأخذ بالكتاب قسمان : فمنهم من يتبع ما تشابه منه ومنهم من يقول إذا تشابه عليه شيء منه : آمنا به كل من عند ربنا ، وإنما اختلفا لاختلافهم من جهه زيغ القلب ورسوخ العلم.


على أنه لو كان الواو للعطف ، وكان المراد بالعطف تشريك الراسخين في العلم بالتأويل كان منهم رسول الله 6 وهو أفضلهم وكيف يتصور أن ينزل القرآن على قلبه وهو لا يدري ما اريد به ، ومن دأب القرآن إذا ذكر الامة أو وصف أمر جماعة وفيهم رسول الله 6 أن يفرده بالذكر أولاً ويميزه بالشخص تشريفاً له وتعظيماً لأمره ثم يذكرهم جميعاً كقوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ) البقره ـ ٢٨٥ ، وقوله تعالى : (ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) التوبه ـ ٢٦ وقوله تعالى : (لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ) التوبه ـ ٨٨ ، وقوله تعالى : (وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ) آل عمران ـ ٦٨ ، وقوله تعالى : (لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) التحريم ـ ٨ ، إلى غير ذلك ، فلو كان المراد بقوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) ، إنهم عالمون بالتأويل ـ ورسول الله 6 منهم قطعاً ـ كان حق الكلام كما عرفت أن يقال : وما يعلم تأويله إلا الله ورسوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) ، هذا وإن أمكن أن يقال : إن قوله في صدر الآية ، هو الذي أنزل عليك الكتاب « الخ » يدل على كون النبي عالماً بالكتاب فلا حاجة إلى ذكره ثانياً.

فالظاهر أن العلم بالتأويل مقصور في الآية عليه تعالى ، ولا ينافي ذلك ورود الاستثناء عليه كما أن الآيات دالة على انحصار علم الغيب عليه تعالى مع ورود الاستثناء عليه كما في قوله تعالى : (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ) الجن ـ ٢٧ ، ولا ينافيه أيضاًً : كون المستثنى الراسخين في العلم بعينهم ، إذ لا منافاة بين أن تدل هذه الآية على شأن من شئون الراسخين في العلم ، وهو الوقوف عند الشبهة والإيمان والتسليم في مقابل الزائغين قلباً وبين أن تدل آيات اخر على أنهم أو بعضاً منهم عالمون بحقيقة القرآن وتأويل آياته على ما سيجيء بيانه.

قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ) ، الرسوخ هو أشد الثبات ، ووقوع الراسخين في العلم في مقابلة الذين في قلوبهم زيغ ثم توصيفهم بأنهم يقولون آمنا به كل من عند ربنا يدل على تمام تعريفهم ، وهو أن لهم علماً بالله وبآياته لا يدخله ريب وشك ، فما حصل لهم من العلم بالمحكمات ثابت لا يتزلزل ، وهم يؤمنون به ويتبعونه أي يعلمون به وإذا وردت عليهم آية متشابهة لم يوجب تشابهها اضطراب قلوبهم فيما عندهم من العلم الراسخ بل آمنوا بها وتوقفوا عن اتباعها عملاً.


وفي قولهم : آمنا به كل من عند ربنا ذكر الدليل والنتيجة معاً فإن كون المحكم والمتشابه جميعاً من عند الله تعالى يوجب الإيمان بالكل : محكمه ومتشابهه ، ووضوح المراد في المحكم يوجب اتباعه عملاً ، والتوقف في المتشابه من غير رده لأنه من عند الله ولا يجوز اتباع ما ينافي المحكم من معانيه المتشابهة لسطوع البيان في المحكم فيجب أن يتبع من معانيه المحتملة ما يوافق معنى المحكم ، وهذا بعينه إرجاع المتشابه إلى المحكم فقوله : كل من عند ربنا بمنزلة الدليل على الأمرين جميعاً ، أعني : الإيمان والعمل في المحكم ، والإيمان فقط في المتشابه والرجوع في العمل إلى المحكم.

قوله تعالى : (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ ) ، التذكر هو الانتقال إلى دليل الشيء لاستنتاجه ، ولما كان قولهم : كل من عند ربنا كما مر استدلالاً منهم وانتقالاً لما يدل على فعلهم سماه الله تعالى تذكراً ومدحهم به.

والألباب جمع لب وهو العقل الزكي الخالص من الشوائب ، وقد مدحهم الله تعالى مدحاً جميلاً في موارد من كلامه ، وعرَّفهم بأنهم أهل الإيمان بالله والإنابه إليه واتباع أحسن القول ، ثم وصفهم بأنهم على ذكر من ربهم دائماً فأعقب ذلك أنهم أهل التذكر أي الانتقال إلى المعارف الحقة بالدليل وأهل الحكمة والمعرفة ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) الزمر ـ ١٨ ، وقال تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ) آل عمران ـ ١٩١ وهذا الذكر الدائم وما يتبعه من التذلل والخضوع هو الانابة الموجبة لتذكرهم بآيات الله وانتقالهم إلى المعارف الحقة كما قال تعالى : (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ ) الغافر ـ ١٣، وقد قال : (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ) البقره ـ ٢٦٩ ، آل عمران ـ ٧.

قوله تعالى : (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) ، وهذا من آثار رسوخهم في العلم فإنهم لما علموا بمقام ربهم ، وعقلوا عن الله سبحانه أيقنوا أن الملك لله وحده ، وأنهم لا يملكون لأنفسهم شيئاًً فمن الجائز أن يزيغ قلوبهم بعد رسوخ العلم فالتجأوا إلى ربهم ، وسألوه أن لا يزيغ قلوبهم بعد إذ هداهم ، وأن يهب لهم من لدنه رحمة تبقى لهم هذه النعمة ، ويعينهم على السير في


صراط الهداية ، والسلوك في مراتب القرب.

وأما سؤال أن يهبهم رحمة بعد سؤال أن لا يزيغ قلوبهم فلأن عدم إزاغه القلب لا يستلزم بقاء الرسوخ في العلم فمن الجائز أن لا يزاغ قلوبهم وينتزع عنها العلم فتبقى سدى مهملة لا سعداء بالعلم ولا أشقياء بالازاغة بل في حال الجهل والاستضعاف ، وهم في حاجة مبرمة إلى ما هم عليه من العلم ، ومع ذلك لا تقف حاجتهم في ما هم عليه من الموقف بل هم سائروا طريق يحتاجون فيه إلى أنواع من الرحمة لا يعلمها ولا يحصيها إلا الله سبحانه ، وهم مستشعرون بحاجتهم هذه ، والدليل عليه قولهم بعد : ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه.

فقولهم : (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ) ، استعاذه من نزول الزيغ إلى قلوبهم وإزاحته العلم الراسخ الذي فيها ، وقولهم : (وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) استمطار لسحاب الرحمة حتى تدوم بها حياة قلوبهم ، وتنكير الرحمة ، وتوصيفها بكونها من لدنه إظهار منهم الجهل بشأن هذه الرحمة ، وأنها كيف ينبغي أن تكون غير أنهم يعلمون أنه لولا رحمة من ربهم ولولا كونها من لدنه لم يتم لهم أمر.

وفي الاستعاذة من الزيغ إلى الله محضاً واستيهاب الرحمة من لدنه محضاً دلالة على أنهم يرون تمام الملك لله محضاً من غير توجه إلى أمر الأسباب.

قوله تعالى : (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) ، هذا منهم بمنزلة التعليل لسؤال الرحمة ، وذلك لعلمهم بان إقامة نظام الخلقة ودعوة الدين وكدح الإنسان في مسير وجوده كل ذلك مقدمة لجمعهم إلى يوم القيامة الذي لا يغني فيه ولا ينصر أحد إلا بالرحمة كما قال تعالى : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ، إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ ) الدخان ـ ٤٢ ولذلك سألوا رحمة من ربهم وفوضوا تعيينها وتشخيصها إليه لينفعهم في أمرهم.

وقد وصفوا هذا اليوم بأنه لا ريب فيه ليتجه بذلك كمال اهتمامهم بالسؤال والدعاء ، وعللوا هذا التوصيف أيضاًً بقولهم : (إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) لأن شأنهم الرسوخ في العلم ، ولا يرسخ العلم بشيء ولا يستقر تصديق إلا مع العلم بعلته المنتجة ، وعلة عدم ارتيابهم في تحقق هذا اليوم هو ميعاد الله سبحانه به فذكروه.


ونظير هذا الوجه جار في تعليلهم قولهم وهب لنا من لدنك رحمة ، بقولهم : ( إنك أنت الوهاب ) ، فكونه تعالى وهاباً يعلل به سؤالهم الرحمة ، وإتيانهم بلفظة أنت وتعريف الخبر باللام المفيد للحصر يعلل به قولهم : من لدنك ، الدال على الاختصاص ، وكذا يجري مثل الوجه في قولهم : (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا ) ، حيث عقبوه بما يجري مجرى العله بالنسبة إليه ، وهو قولهم بعد إذ هديتنا ، وقد مر آنفاً أن قولهم : آمنا به ، من حيث تعقيبه بقولهم ، كل من عند ربنا ، من هذا القبيل أيضاًًً.

فهؤلاء رجال آمنوا بربهم وثبتوا عليه فهداهم الله سبحانه ، وكمل عقولهم فلا يقولون الا عن علم ، ولا يفعلون الا عن علم فسماهم الله تعالى راسخين في العلم ، وكنى عنهم باولي الألباب ، وأنت إذا تدبرت ما عرف الله به اولى الألباب وجدته منطبقاً على ما ذكره من شأنهم في هذه الآيات ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ) الزمر ـ ١٨ فوصفهم بالإيمان ، واتباع أحسن القول ، والإنابة إلى الله سبحانه ، وقد وصف بهذه الأوصاف الراسخين في العلم في هذه الآيات.

وأما الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله ان الله لا يخلف الميعاد فلأن هذا الميعاد لا يختص بهم بل يعمهم وغيرهم فكان الأولى تبديل قولهم : ربنا ، إلى لفظة الجلالة لأن حكم الالوهية عام شامل لكل شيء.

كلام تفصيلي في المحكم والمتشابه والتأويل

هذا الذي أوردناه من الكلام في معنى المحكم والمتشابه والتأويل فيما مر هو الذي يتحصل من تدبر كلامه سبحانه ، ويستفاد من المأثور عن أئمة أهل البيت : سيجيء في البحث الروائي.

لكن القوم اختلفوا في المقام ، وقد شاع الخلاف واشتد الانحراف بينهم ، وينسحب ذيل النزاع والمشاجرة إلى الصدر الأول من مفسري الصحابة والتابعين ، وقلما يوجد في ما نقل الينا من كلامهم ما يقرب مما مر من البيان فضلاً عن أن ينطبق


عليه تمام الانطباق.

والسبب العمدة في ذلك الخلط بين البحث عن المحكم والمتشابه وبين البحث عن معنى التأويل ، فأوجب ذلك اختلالاً عجيباً في عقد المسألة وكيفية البحث والنتيجة المأخوذة منه ، ونحن نورد تفصيل القول في كل واحد من أطراف هذه الأبحاث وما قيل فيها وما هو المختار من الحق مع تمييز مورد البحث بما تيسر في ضمن فصول :

١ ـ المحكم والمتشابه

الإحكام والتشابه من الألفاظ المبينة المفاهيم في اللغة ، وقد وصف بهما الكتاب كما في قوله تعالى : (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ) هود ـ ١ ، وقوله تعالى : (كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ ) الزمر ـ ٢٣ ، ولم يتصف بهما الا جملة الكتاب من جهة إتقانه في نظمه وبيانه ومن جهة تشابه نظمه وبيانه في البلوغ إلى غاية الإتقان والإحكام.

لكن قوله تعالى : (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) الآية ، لما اشتمل على تقسيم نفس آيات الكتاب إلى المحكمات والمتشابهات علمنا أن المراد بالإحكام والتشابه هاهنا غير ما يتصف به تمام الكتاب ، وكان من الحري البحث عن معناهما وتشخيص مصداقهما من الآيات ، وفيه أقوال ربما تجاوزت العشرة :

أحدها : أن المحكمات هو قوله تعالى في سورة الأنعام : (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً إلى آخر الآيات الثلاث ) الأنعام ـ ١٥٢ و المتشابهات هي التي تشابهت على اليهود ، وهي الحروف المقطعة النازلة في أوائل عدة من السور القرآنية مثل ألم وألر وحم وذلك أن اليهود أولوها على حساب الجمل ، فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الامة وعمرها فاشتبه عليهم الأمر. نسب إلى ابن عباس من الصحابة.

وفيه أنه قول من غير دليل ولو سلم فلا دليل على انحصارهما فيهما ، على أن لازمه وجود قسم ثالث ليس بمحكم ولا متشابه مع أن ظاهر الآية يدفعه.

لكن الحق أن النسبة في غير محلها ، والذي نقل عن ابن عباس : أنه قال : إن


الآيات الثلاث من المحكمات لا أن المحكمات هي الآيات الثلاث ، ففي الدر المنثور أخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن عبد الله بن قيس سمعت ابن عباس يقول في قوله منه آيات محكمات ، قال : الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام محكمات : قل تعالوا ، والآيتان بعدها.

ويؤيد ذلك ما رواه عنه أيضاًًً في قوله : آيات محكمات ، قال من هاهنا : قل تعالوا إلى آخر ثلاث آيات ، ومن هاهنا : وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه إلى آخر ثلاث آيات فالروايتان تشهدان أنه إنما ذكر هذه الآيات مثالا لسائر المحكمات لا أنه قصرها فيها.

وثانيها : عكس الأول وهو أن المحكمات هي الحروف المقطعة في فواتح السور والمتشابهات غيرها. نقل ذلك عن أبي فاختة حيث ذكر في قوله تعالى : هن ام الكتاب أنهن فواتح السور منها يستخرج القرآن : ألم ذلك الكتاب ، منها استخرجت البقره : ( وألم اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) ، منها استخرجت آل عمران. وعن سعيد بن جبير مثله في معنى قوله : هن ام الكتاب ، قال : أصل الكتاب لأنهن مكتوبات في جميع الكتب ، انتهى. ويدل ذلك على أنهما يذهبان في معنى فواتح السور إلى أن المراد بها ألفاظ الحروف بعناية أن الكتاب الذي نزل عليكم هو هذه الحروف المقطعة التي تتألف منها الكلمات والجمل ، كما هو أحد المذاهب في معنى فواتح السور.

وفيه : مضافاً إلى أنه مبني على ما لا دليل عليه أصلاً أعني تفسير الحروف المقطعة في فواتح السور بما عرفت أنه لا ينطبق على نفس الآية فإن جميع القرآن غير فواتح السور يصير حينئذ من المتشابه ، وقد ذم الله سبحانه اتباع المتشابه ، وعده من زيغ القلب مع أنه تعالى مدح اتباع القرآن بل عده من أوجب الواجبات كقوله تعالى : (وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ ) الأعراف ـ ١٥٧ ، وغيره من الآيات.

وثالثها : أن المتشابه هو ما يسمى مجملاً والمحكم هو المبين.

وفيه : أن ما بين من أوصاف المحكم والمتشابه في الآية لا ينطبق على المجمل والمبين. بيان ذلك : أن اجمال اللفظ هو كونه بحيث يختلط ويندمج بعض جهات

٣ ـ الميزان ـ ٣


معناه ببعض فلا ينفصل الجهة المرادة عن غيرها ، ويوجب ذلك تحير المخاطب أو السامع في تشخيص المراد وقد جرى دأب أهل اللسان في ظرف التفاهم أن لا يتبعوا ما هذا شأنه من الألفاظ بل يستريحون إلى لفظ آخر مبين يبين هذا المجمل فيصير بذلك مبيناً فيتبع فهذا حال المجمل مع مبينه ، فلو كان المحكم والمتشابه هما المجمل والمبين بعينهما كان المتبع هو المتشابه إذا رد إلى المحكم دون نفس المحكم ، وكان هذا الاتباع مما لا يجوزه قريحة التكلم والتفاهم فلم يقدم على مثله أهل اللسان سواء في ذلك أهل الزيغ منهم والراسخون في العلم ولم يكن اتباع المتشابه أمراً يلحقه الذم ويوجب زيغ القلب.

رابعها : أن المتشابهات هي الآيات المنسوخة لأنها يؤمن بها ولا يعمل بها ، والمحكمات هي الآيات الناسخة لأنها يؤمن بها ويعمل بها ، ونسب إلى ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة ، ولذلك كان ابن عباس يحسب أنه يعلم تأويل القرآن.

وفيه : أنه على تقدير صحته لا دليل فيه على انحصار المتشابهات في الآيات المنسوخة فإن الذي ذكره تعالى من خواص اتباع المتشابه من ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل جار في كثير من الآيات غير المنسوخة كآيات الصفات والأفعال ، على أن لازم هذا القول وجود الواسطة بين المحكم والمتشابه.

وفيما نقل عن ابن عباس ما يدل على أن مذهبه في المحكم والمتشابه أعم مما ينطبق على الناسخ والمنسوخ ، وأنه إنما ذكرهما من باب المثال ففي الدر المنثور : أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عليّ عن ابن عباس قال : المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به ، والمتشابهات منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به انتهى.

خامسها : أن المحكمات ما كان دليله واضحاً لائحاً كدلائل الوحدانية والقدرة والحكمة ، والمتشابهات ما يحتاج في معرفته إلى تأمل وتدبر.

وفيه : أنه إن كان المراد من كون الدليل واضحاً لائحاً أو محتاجاً إلى التأمل والتدبر كون مضمون الآية ذا دليل عقلي قريب من البداهة أو بديهى وعدم كونه كذلك كان لازمه كون آيات الأحكام والفرائض ونحوها من المتشابه لفقدانها الدليل العقلي اللائح الواضح ، وحينئذ يكون اتباعها مذموماً مع انها واجبه الاتباع ، وإن


كان المراد به كونه ذا دليل واضح لائح من نفس الكتاب وعدم كونه كذلك فجميع الآيات من هذه الجهة على وتيرة واحدة ، وكيف لا ؟ وهو كتاب متشابه مثاني ، ونور ، ومبين ولازمه كون الجميع محكماً وارتفاع المتشابه المقابل له من الكتاب وهو خلف الفرض وخلاف النص.

سادسها : أن المحكم كل ما أمكن تحصيل العلم به بدليل جلي أو خفي ، والمتشابه ما لا سبيل إلى العلم به كوقت قيام الساعة ونحوه.

وفيه : أن الأحكام والتشابه وصفان لآية الكتاب من حيث أنها آية أي دالة على معرفة من المعارف الإلهية ، والذي تدل عليه آية من آيات الكتاب ليس بعادم للسبيل ، ولا ممتنع الفهم إما بنفسه أو بضميمة غيره ، وكيف يمكن أن يكون هناك أمر مراد من لفظ الآية ولا يمكن نيله من جهدة اللفظ ؟ مع أنه وصف كتابه بأنه هدى ، وأنه نور ، وأنه مبين ، وأنه في معرض فهم الكافرين فضلاً عن المؤمنين حيث قال : ( تنزيل تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) حم السجدة ـ ٤ وقال تعالى : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) النساء ـ ٨٢ ، فما تعرضت له آية من آيات الكتاب ليس بممتنع الفهم ، ولا الوقوف عليه مستحيل ، وما لا سبيل إلى الوقوف عليه كوقت قيام الساعة وسائر ما في الغيب المكنون لم يتعرض لبيانه آية من الآيات بلفظها حتى تسمى متشابهاً.

على أن في هذا القول خلطاً بين معنى المتشابه وتأويل الآية كما مر.

سابعها : أن المحكمات آيات الأحكام والمتشابهات غيرها مما يصرف بعضها بعضاً ، نسب هذا القول إلى مجاهد وغيره.

وفيه : أن المراد بالصرف الذي ذكره إن كان مطلق ما يعين على تشخيص المراد باللفظ حتى يشمل مثل التخصيص بالمخصص ، والتقييد بالمقيد وسائر القرائن المقامية كانت آيات الأحكام أيضاًًً كغيرها متشابهات ، وإن كان خصوص ما لا إبهام في دلالته على المراد ولا كثرة في محتملاته حتى يتعين المراد به بنفسه ، ويتعين المراد بغيره بواسطته كان لازم كون ما سوى آيات الأحكام متشابهة أن لا يحصل العلم بشيء


من معارف القرآن غير الأحكام لأن المفروض عدم وجود آية محكمة فيها ترجع إليها المتشابهات منها ، ويتبين بذلك معانيها.

ثامنها : أن المحكم من الآيات ما لا يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهاً كثيرة ونسب إلى الشافعي ، وكأن المراد به أن المحكم ما لا ظهور له إلا في معنى واحد كالنص والظاهر القوي في ظهوره والمتشابه خلافه.

وفيه : أنه لا يزيد على تبديل اللفظ باللفظ شيئاًً ، فقد بّدل لفظ المحكم بما ليس له إلا معنى واحد ، والمتشابه بما يحتمل معاني كثيرة ، على أنه أخذ التأويل بمعنى التفسير أي المعنى المراد باللفظ وقد عرفت أنه خطأ ، ولو كان التأويل هو التفسير بعينه لم يكن لاختصاص علمه بالله ، أو بالله وبالراسخين في العلم وجه فإن القرآن يفسر بعضه بعضاً ، والمؤمن والكافر والراسخون في العلم وأهل الزيغ في ذلك سواء.

تاسعها : أن المحكم ما احكم وفصل فيه خبر الأنبياء مع اممهم ، والمتشابه ما اشتبهت ألفاظه من قصصهم بالتكرير في سور متعددة ، ولازم هذا القوم اختصاص التقسيم بآيات القصص.

وفيه : أنه لا دليل على هذا التخصيص أصلاً ، على أن الذي ذكره تعالى من خواص المحكم والمتشابه وهو ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل في اتباع المتشابه دون المحكم لا ينطبق عليه ، فإن هذه الخاصة توجد في غير آيات القصص كما توجد فيها ، وتوجد في القصة الواحدة كقصة جعل الخلافة في الأرض كما توجد في القصص المتكررة.

عاشرها : أن المتشابه ما يحتاج إلى بيان والمحكم خلافه وهذا الوجه منسوب إلى الامام أحمد.

وفيه أن آيات الأحكام محتاجة إلى بيان النبي 6 مع أنها من المحكمات قطعاً لما تقدم بيانه مراراً ، وكذا الآيات المنسوخة من المتشابه كما تقدم مع عدم احتياجها إلى بيان لكونها نظائر لسائر آيات الأحكام.

الحادي عشر : أن المحكم ما يؤمن به ويعمل به والمتشابه ما يؤمن به ولا يعمل به ، ونسب إلى ابن تيمية ، ولعل المراد به : أن الأخبار متشابهات والإنشاءات


محكمات كما استظهره بعضهم وإلا لم يكن قولاً برأسه لصحة انطباقه على عدة من الأقوال المتقدمة.

وفيه : أن لازمه كون غير آيات الأحكام متشابهات ، ولازمه أن لا يمكن حصول العلم بشيء من المعارف الإلهية في غير الأحكام إذ لا يتحقق فيها عمل مع عدم وجود محكم فيها يرجع إليه ما تشابه منها ، ومن جهة اخرى : الآيات المنسوخة إنشائات وليست بمحكمات قطعاً.

والظاهر أن مراده من الإيمان والعمل بالمحكم والإيمان من غير عمل بالمتشابه ما يدل عليه لفظ الآية : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ، إلا أن الأمرين أعني الإيمان والعمل معاً في المحكم والإيمان فقط في المتشابه لما كانا وظيفتين لكل من آمن بالكتاب كان عليه أن يشخص المحكم والمتشابه قبلاً حتى يؤدي وظيفته وعليهذا فلا يكفي معرفة المحكم والمتشابه بهما في تشخيص مصداقهما وهو ظاهر.

الثاني عشر : أن المتشابهات هي آيات الصفات خاصة أعم من صفات الله سبحانه كالعليم والقدير والحكيم والخبير ، وصفات أنبيائه كقوله تعالى في عيسى بن مريم 8 : ( وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ) النساء ـ ١٧١ ، وما يشبه ذلك ، نسب إلى ابن تيمية.

وفيه : أنه مع تسليم كون آيات الصفات من المتشابهات لا دليل على انحصارها فيها.

والذي يظهر من بعض كلامه المنقول على طوله : أنه يأخذ المحكم والمتشابه بمعناهما اللغوي وهو ما احكمت دلالته وما تشابهت احتمالاته والمعنيان نسبيان فربما اشتبهت دلالة آية على قوم كالعامة وعلمها آخرون بالبحث وهم العلماء ، وهذا المعنى في آيات الصفات أظهر فإنها بحيث تشتبه مراداتها لغالب الناس لكون أفهامهم قاصرة عن الارتقاء إلى ما وراء الحس ، فيحسبون ما أثبته الله تعالى لنفسه من العلم والقدرة والسمع والبصر والرضا والغضب واليد والعين وغير ذلك اموراً جسمانية أو معاني ليست بالحق ، وتقوم بذلك الفتن ، وتظهر البدع ، وتنشأ المذاهب ، فهذا معنى المحكم


والمتشابه ، وكلاهما مما يمكن أن يحصل به العلم ، والذي لا يمكن نيله والعلم به هو تأويل المتشابهات بمعنى حقيقة المعاني التي تدل عليها أمثال آيات الصفات ، فهب أنّا علمنا معنى قوله : إن الله على كل شيء قدير ، وإن الله بكل شيء عليم ونحو ذلك لكنا لا ندري حقيقة علمه وقدرته وسائر صفاته وكيفية أفعاله الخاصة به ؛ فهذا هو تأويل المتشابهات الذي لا يعلمها إلا الله تعالى ، انتهى ملخصاً ، وسيأتي ما يتعلق بكلامه من البحث عند ما نتكلم في التأويل إنشاء الله.

الثالث عشر : أن المحكم ما للعقل إليه سبيل والمتشابه بخلافه.

وفيه : أنه قول من غير دليل ، والآيات القرآنية وإن انقسمت إلى ما للعقل إليه سبيل وما ليس للعقل إليه سبيل ، لكن ذلك لا يوجب كون المراد بالمحكم والمتشابه فيهذه الآية استيفاء هذا التقسيم ، وشيء مما ذكر فيها من نعوت المحكم والمتشابه لا ينطبق عليه انطباقاً صحيحاً على أنه منقوض بآيات الأحكام فإنها محكمة ولا سبيل للعقل إليها.

الرابع عشر : أن المحكم ما اريد به ظاهره والمتشابه ما اريد به خلاف ظاهره ، وهذا قول شائع عند المتأخرين من أرباب البحث ، وعليه يبتني اصطلاحهم في التأويل : أنه المعنى المخالف لظاهر الكلام ، وكأنه ايضا مراد من قال : إن المحكم ما تأويله تنزيله : والمتشابه ما لا يدرك إلا بالتأويل.

وفيه : أنه اصطلاح محض لا ينطبق عليه ما في الآية من وصف المحكم والمتشابه فإن المتشابه إنما هو متشابه من حيث تشابه مراده ومدلوله ، وليس المراد بالتأويل المعنى المراد من المتشابه حتى يكون المتشابه متميزاً عن المحكم بأن له تأويلاً ، بل المراد بالتأويل في الآية أمر يعم جميع الآيات القرآنية من محكمها ومتشابهها كما مر بيانه على أنه ليس في القرآن آية اريد فيها ما يخالف ظاهرها ، وما يوهم ذلك من الآيات إنما اريد بها معان يعطيها لها آيات اخر محكمة والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، ومن المعلوم أن المعنى الذي تعطيه القرائن ـ متصلة أو منفصلة ـ للفظ ليس بخارج عن ظهوره وبالخصوص في كلام نص متكلمه على أن ديدنه أن يتكلم بما يتصل بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ويرتفع كل اختلاف وتناف مترائي بالتدبر ، فيه قال تعالى : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) النساء ـ ٨٢


الخامس عشر : ما عن الأصم : أن المحكم ما اجمع على تأويله والمتشابه ما اختلف فيه وكأن المراد بالإجماع والاختلاف كون مدلول الآية بحيث يختلف فيه الأنظار أو لا يختلف.

وفيه : أن ذلك مستلزم لكون جميع الكتاب متشابهاً وينافيه التقسيم الذي في الآية إذ ما من آيه من آي الكتاب إلا وفيه اختلاف ما إما لفظاً أو معنى أو في كونها ذات ظهور أو غيرها ، حتى ذهب بعضهم إلى أن القرآن كله متشابه مستدلاً بقوله تعالى : (كِتَاباً مُّتَشَابِهاً) الزمر ـ ٢٣ ، غفلة عن أن هذا الاستدلال منه يبتني على كون ما استدل به آية محكمة وهو يناقض قوله ، وذهب آخرون إلى أن ظاهر الكتاب ليس بحجة أي أنه لا ظاهر له.

السادس عشر : أن المتشابه ما أشكل تفسيره لمشابهته غيره سواء كان الاشكال من جهة اللفظ أو من جهة المعنى ، ذكره الراغب.

قال في مفردات القرآن والمتشابه من القرآن ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره إما من حيث اللفظ ، أو من حيث المعنى ، فقال الفقهاء المتشابه ما لا ينبئ ظاهره عن مراده ، وحقيقة ذلك أن الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب محكم على الاطلاق ومتشابه على الاطلاق ومحكم من وجه متشابه من وجه.

فالمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب متشابه من جهة اللفظ فقط ومتشابه من جهة المعنى فقط ، ومتشابه من جهتهما. والمتشابه من جهة اللفظ ضربان : أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة ، وذلك إما من جهة غرابته نحو الأبّ ويزفّون وإما من جهة مشاركة في اللفظ كاليد والعين ، والثاني يرجع إلى جملة الكلام المركب ، وذلك ثلاثة أضرب : ضرب لاختصار الكلام نحو ( وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) وضرب لبسط الكلام نحو ليس كمثله شيء لأنه لو قيل ليس مثله شيء كان أظهر للسامع ، وضرب لنظم الكلام ( نحو أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً قيماً تقديره الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً ، وقوله : ولو لا رجال مؤمنون إلى قوله لو تزيلوا.

والمتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى وأوصاف يوم القيامة ، فإن تلك


الصفات لا تتصور لنا ، إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه ، أو لم يكن من جنس ما لم نحسه.

والمتشابه من جهة المعنى واللفظ جميعاً خمسة أضرب : الأول : من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو اقتلوا المشركين ، والثاني : من جهة الكيفية كالوجوب والندب نحو فانكحوا ما طاب لكم ، والثالث : من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو اتقوا الله حق تقاته ، والرابع : من جهة المكان أو الامور التي نزلت فيها نحو وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ، وقوله : انما النسيء زيادة في الكفر ، فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه معرفة تفسير هذه الآية ، والخامس : من جهة الشروط التي بها يصح الفعل أو يفسد كشروط الصلوة والنكاح.

وهذه الجملة إذا تصورت علم : أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم نحو قول من قال المتشابه ألم ، وقول قتادة : المحكم الناسخ والمتشابه المنسوخ ، وقول الأصم : المحكم ما اجمع على تأويله والمتشابه ما اختلف فيه.

ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب : ضرب لا سبيل للوقوف عليه كوقت الساعة وخروج دابة الأرض وكيفية الدابة ونحو ذلك. وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة والأحكام الغلقة وضرب متردد بين الأمرين ، يجوز أن يختص بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم ويخفى على من دونهم ، وهو الضرب المشار إليه بقوله 7 في علي رضي الله عنه : اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ، وقوله لابن عباس مثل ذلك ، انتهى كلامه وهو أعم الأقوال في معنى المتشابه جمع فيها بين عدة من الأقوال المتقدمة.

وفيه : أولا : أن تعميمه المتشابه لموارد الشبهات اللفظية كغرابة اللفظ وإغلاق التركيب والعموم والخصوص ونحوها لا يساعد عليه ظاهر الآية ، فإن الآية جعلت المحكمات مرجعاً يرجع إليه المتشابهات ، ومن المعلوم أن غرابة اللفظ وأمثالها لا تنحل عقدتها من جهة دلالة المحكمات ، بل لها مرجع آخر ترجع إليه وتتضح به.

وأيضاًًً : الآية تصف المتشابهات بأنها من شأنها أن تتبع لابتغاء الفتنة ، ومن المعلوم : أن اتباع العام من غير رجوع إلى مخصصه ، والمطلق من غير رجوع إلى مقيده


وأخذ اللفظ الغريب مع الإعراض عما يفسره في اللغة مخالف لطريقة أهل اللسان لا تجوزه قريحتهم فلا يكون بالطبع موجباً لإثارة الفتنة لعدم مساعدة اللسان عليه.

وثانياً : أن تقسيمه المتشابه بما يمكن فهمه لعامة الناس وما لا يمكن فهمه لأحد وما يمكن فهمه لبعض دون بعض ظاهر في أنه يرى اختصاص التأويل بالمتشابه ، وقد عرفت خلافه.

هذا هو المعروف من أقوالهم في معنى المحكم والمتشابه وتمييز مواردهما ، وقد عرفت ما فيها ، وعرفت أيضاًًً أن الذي يظهر من الآية على ظهورها وسطوع نورها خلاف ذلك كله ، وأن الذي تعطيه الآية في معنى المتشابه : أن تكون الآية مع حفظ كونها آية دالة على معنى مريب مردد لا من جهة اللفظ بحيث يعالجه الطرق المألوفة عند أهل اللسان كإرجاع العام والمطلق إلى المخصص والمقيد ونحو ذلك بل من جهة كون معناها غير ملائم لمعنى آية اخرى محكمة لا ريب فيه تبين حال المتشابهة.

ومن المعلوم أن معنى آية من الآيات لا يكون على هذا الوصف إلا مع كون ما يتبع من المعنى مألوفاً مأنوساً عند الأفهام العامية تسرع الأذهان الساذجة إلى تصديقه أو يكون ما يرام من تأويل الآية أقرب إلى قبول هذه الافهام الضعيفة الادراك والتعقل.

وأنت إذا تتبعت البدع والأهواء والمذاهب الفاسدة التي انحرف فيها الفرق الإسلاميه عن الحق القويم بعد زمن النبي 6 سواء كان في المعارف أو في الأحكام وجدت أكثر مواردها من اتباع المتشابه ، والتأويل في الآيات بما لا يرتضيه الله سبحانه.

ففرقة تتمسك من القرآن بآيات للتجسيم ، واخرى للجبر ، واخرى للتفويض واخرى لعثرة الأنبياء ، واخرى للتنزيه المحض بنفي الصفات ، واخرى للتشبيه الخالص وزيادة الصفات ، إلى غير ذلك ، كل ذلك للأخذ بالمتشابه من غير إرجاعه إلى المحكم الحاكم فيه.

وطائفة ذكرت : أن الأحكام الدينية إنما شرّعت لتكون طريقاً إلى الوصول فلو كان هناك طريق أقرب منها كان سلوكه متعيناً لمن ركبه فإنما المطلوب هو الوصول بأي طريق اتفق وتيسر ، واخرى قالت : إن التكليف إنما هو لبلوغ الكمال ، ولا معنى لبقائه بعد الكمال بتحقق الوصول فلا تكليف لكامل.


وقد كانت الأحكام والفرائض والحدود وسائر السياسات الإسلامية قائمة ومقامة في عهد رسول الله 6 لا يشذ منها شاذ ثم لم تزل بعد ارتحاله 6 تنقص وتسقط حكماً فحكماً ، يوماً فيوماً بيد الحكومات الإسلامية ، ولم يبطل حكم أو حد إلا واعتذر المبطلون : أن الدين إنما شرع لصلاح الدنيا وإصلاح الناس ، وما أحدثوه أصلح لحال الناس اليوم ، حتى آل الأمر إلى ما يقال : إن الغرض الوحيد من شرائع الدين إصلاح الدنيا باجرائها ، والدنيا اليوم لا تقبل السياسة الدينية ولا تهضمها بل تستدعى وضع قوانين ترتضيها مدنية اليوم وأجرائها ، وإلى ما يقال : إن التلبس بالأعمال الدينية لتطهير القلوب وهدايتها إلى الفكرة والارادة الصالحتين ، والقلوب المتدربة بالتربية الاجتماعية ، والنفوس الموقوفة على خدمة الخلق في غنى عن التطهر بامثال الوضوء والغسل والصلوه والصوم.

إذا تأملت في هذه وأمثالها ـ وهي لا تحصى كثرة ـ وتدبرت في قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ) الآية ، لم تشك في صحة ما ذكرناه ، وقضيت بأن هذه الفتن والمحن التي غادرت الإسلام والمسلمين لم تستقر قرارها إلا من طريق اتباع المتشابه ، وابتغاء تأويل القرآن.

و هذا ـ والله أعلم ـ هو السبب في تشديد القرآن الكريم في هذا الباب ، وإصراره البالغ على النهي عن اتباع المتشابه وابتغاء الفتنة والتأويل والالحاد في آيات الله والقول فيها بغير علم واتباع خطوات الشيطان فإن من دأب القرآن أنه يبالغ في التشديد في موارد سينثلم من جهتها ركن من أركان الدين فتنهدم به بنيته كالتشديد الواقع في تولي الكفار ، ومودة ذوي القربى ، وقرار أزواج النبي ، ومعاملة الربا ، واتحاد الكلمة في الدين وغير ذلك.

ولا يغسل رين الزيغ من القلوب ولا يسد طريق ابتغاء الفتنة الذين منشأهما الركون إلى الدنيا والاخلاد إلى الأرض واتباع الهوى إلا ذكر يوم الحساب كما قال تعالى : (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) ص ـ ٢٦ ولذلك ترى الراسخين في العلم المتأبين تأويل القرآن بما لا يرتضيه ربهم يشيرون إلى ذلك في خاتمة مقالهم حيث يقولون : (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ).


٢ ـ ما معنى كون المحكمات ام الكتاب؟

ذكر جماعة : أن كون الآيات المحكمة ام الكتاب كونها أصلاً في الكتاب عليه تبتني قواعد الدين واركانها فيؤمن بها ويعمل بها ، وليس الدين إلا مجموعاً ، من الاعتقاد والعمل ، وأما الآيات المتشابهة فهي لتزلزل مرادها وتشابه مدلولها لا يعمل بها بل إنما يؤمن بها إيماناً.

وأنت بالتأمل فيما تقدم من الأقوال تعلم أن هذا لازم بعض الأقوال المتقدمة ، وهي التي ترى أن المتشابه إنما صار متشابهاً لاشتماله على تأويل يتعذر الوصول إليه وفهمه ، أو أن المتشابه يمكن حصول العلم به ورفع تشابهه في الجملة أو بالجملة بالرجوع إلى عقل أو لغة أو طريقة عقلائية يستراح إليها في رفع الشبهات اللفظية.

وقال آخرون : أن معنى امومة المحكمات رجوع المتشابهات إليها وكلامهم مختلف في تفسير هذا الرجوع ، فظاهر بعضهم : أن المراد بالرجوع هو قصر المتشابهات على الإيمان والاتباع العملي في مواردها للمحكم كالآية المنسوخة يؤمن بها ويرجع في موردها إلى العمل بالناسخة ، وهذا القول لا يغاير القول الأول كثير مغائرة ، وظاهر بعض آخر أن معناها كون المحكمات مبينة للمتشابهات ، رافعة لتشابهها.

والحق هو المعنى الثالث ، فإن معنى الامومة الذي تدل عليه قوله هن ام الكتاب ـ الآية ـ يتضمن عناية زائدة وهو أخص من معنى الأصل الذي فسرت به الام في القول الأول ، فإن في هذه اللفظة أعني لفظة الام عناية بالرجوع الذي فيه انتشاء واشتقاق وتبعض ، فلا تخلو اللفظة عن الدلالة على كون المتشابهات ذات مداليل ترجع وتتفرع على المحكمات ، ولازمه كون المحكمات مبينة للمتشابهات.

على أن المتشابه إنما كان متشابهاً لتشابه مراده لا لكونه ذا تأويل ، فإن التأويل كما مر يوجد للمحكم كما يوجد للمتشابه ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، فللمتشابه مفسر وليس الا المحكم ، مثال ذلك قوله تعالى : (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) القيامة ـ ٢٣ ، فإنه آية متشابهة ، وبإرجاعها إلى قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الشورى ـ ١١ ، وقوله تعالى : (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) الأنعام ـ ١٠٣ ، يتبين : أن المراد بها نظرة ورؤية من غير سنخ رؤية البصر الحسي ، وقد قال تعالى : (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى


أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى إلى أن قال لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) النجم ـ ١٨ ، فأثبت للقلب رؤية تخصه ، وليس هو الفكر فإن الفكر إنما يتعلق بالتصديق والمركب الذهني والرؤية إنما تتعلق بالمفرد العيني ، فيتبين بذلك أنه توجه من القلب ليست بالحسية المادية ولا بالعقلية الذهنية ، والأمر على هذه الوتيرة في سائر المتشابهات.

٣ ـ ما معنى التأويل ؟

فسر قوم من المفسرين التأويل بالتفسير وهو المراد من الكلام ، وإذ كان المراد من بعض الآيات معلوماً بالضرورة كان المراد بالتأويل عليهذا من قوله تعالى : (وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ ) الآية ، هو المعنى المراد بالآية المتشابهة ، فلا طريق إلى العلم بالآيات المتشابهة على هذا القول لغير الله سبحانه أو لغيره وغير الراسخين في العلم.

وقالت طائفة اخرى : أن المراد بالتأويل : هو المعنى المخالف لظاهر اللفظ ، وقد شاع هذا المعنى بحيث عاد اللفظ حقيقه ثانية فيه بعد ما كان بحسب اللفظ لمعنى مطلق الإرجاع أو المرجع.

وكيف كان فهذا المعنى هو الشائع عند المتأخرين كما أن المعنى الأول هو الذي كان شائعاً بين قدماء المفسرين ، سواء فيه من كان يقول : إن التأويل لا يعلمه إلا الله ، ومن كان يقول إن الراسخين في العلم أيضاًًً يعلمونه كما نقل عن ابن عباس : أنه كان يقول : أنا من الراسخين في العلم وأنا أعلم تأويله.

وذهب طائفة اخرى : إلى أن التأويل معنى من معاني الآية لا يعلمه إلا الله تعالى ، أو لا يعلمه إلا الله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) مع عدم كونه خلاف ظاهر ، اللفظ فيرجع الأمر إلى أن للآية المتشابهة معاني متعددة بعضها تحت بعض ، منها ما هو تحت اللفظ يناله جميع الأفهام ، ومنها ما هو أبعد منه لا يناله إلا الله سبحانه أو هو تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ).

وقد اختلفت أنظارهم في كيفية ارتباط هذه المعاني باللفظ فإن من المتيقن أنها من حيث كونها مرادة من اللفظ ليست في عرض واحد وإلا لزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد وهو غير جائز على ما بين في محله ، فهي لا محالة معان مترتبة في


الطول : فقيل إنها لوازم معنى اللفظ إلا أنها لوازم مترتبة بحيث يكون للفظ معني مطابقي وله لازم وللازمه لازم وهكذا ، وقيل : إنها معان مترتبة بعضها على بعض ترتب الباطن على ظاهره ، فإرادة المعنى المعهود المألوف إرادة لمعنى اللفظ وإرادة لباطنه بعين إرادته نفسه كما أنك إذا قلت : اسقني فلا تطلب بذلك إلا السقي وهو بعينه طلب للإرواء وطلب لرفع الحاجة الوجودية ، وطلب للكمال الوجودي وليس هناك أربعة أوامر ومطالب ، بل الطلب الواحد المتعلق بالسقي متعلق بعينه بهذه الامور التي بعضها في باطن بعض والسقي مرتبط بها ومعتمد عليها.

وهيهنا قول رابع : وهو أن التأويل ليس من قبيل المعاني المرادة باللفظ بل هو الأمر العيني الذي يعتمد عليه الكلام فإن كان الكلام ؛ حكماً إنشائياً كالأمر والنهي فتأويله المصلحة التي توجب إنشاء الحكم وجعله وتشريعه ، فتأويل قوله : أقيموا الصلاة مثلاًً هو الحالة النورانية الخارجية التي تقوم بنفس المصلي في الخارج فتنهاه عن الفحشاء والمنكر ، وإن كان الكلام خبريا فإن كان إخباراً عن الحوادث الماضية كان تأويله نفس الحادثة الواقعة في ظرف الماضي ، كالآيات المشتملة على أخبار الأنبياء والامم الماضية فتأويلها نفس القضايا الواقعة في الماضي ، وإن كان إخباراً عن الحوادث والامور الحالية والمستقبلة فهو على قسمين : فإما أن يكون المخبر به من الامور التي تناله الحواس أو تدركه العقول كان أيضاًً تأويله ما هو في الخارج من القضية الواقعة كقوله تعالى : (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ) التوبة ـ ٤٧ وقوله تعالى : (غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) الروم ـ ٤ وإن كان من الامور المستقبلة الغيبية التي لا تناله حواسنا الدنيوية ولا يدرك حقيقتها عقولنا كالامور المربوطة بيوم القيامة ووقت الساعة وحشر الأموات والجمع والسؤال والحساب وتطائر الكتب ، أو كان مما هو خارج من سنخ الزمان وإدراك العقول كحقيقة صفاته وأفعاله تعالى فتأويلها أيضاًً نفس حقائقها الخارجية.

والفرق بين هذا القسم أعني الآيات المبينة لحال صفات الله تعالى وأفعاله وما يلحق بها من أحوال يوم القيامة ونحوها وبين الأقسام الاخر أن الأقسام الاخر يمكن حصول العلم بتأويلها بخلاف هذا القسم ، فإنه لا يعلم حقيقة تأويله إلا الله تعالى نعم يمكن ان يناله : (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) بتعليم الله تعالى بعض النيل على قدر ما تسعه عقولهم ،


وأما حقيقة الأمر الذي هو حق التأويل فهو مما استأثر الله سبحانه بعلمه.

فهذا هو الذي يتحصل من مذاهبهم في معنى التأويل ، وهي أربعة.

وهيهنا أقوال أُخر ذكروها هي في الحقيقة من شعب القول الأول وإن تحاشى القائلون بها عن قبوله.

فمن جملتها أن التفسير أعم من التأويل ، وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجمل ، وأكثر ما يستعمل التأويل في الكتب الإلهية ، ويستعمل التفسير فيها وفي غيرها.

ومن جملتها : أن التفسير بيان معنى اللفظ الذي لا يحتمل إلا وجهاً واحداً والتأويل تشخيص أحد محتملات اللفظ بالدليل استنباطاً.

ومن جملتها : أن التفسير بيان المعنى المقطوع من اللفظ والتأويل ترجيح أحد المحتملات من المعاني غير المقطوع بها ، وهو قريب من سابقه.

ومن جملتها : أن التفسير بيان دليل المراد والتأويل بيان حقيقه المراد ، مثاله : قوله تعالى : إن ربك لبالمرصاد فتفسيره : أن المرصاد مفعال من قولهم : رصد يرصد إذا راقب ، وتاويله التحذير عن التهاون بامر الله والغفلة عنه.

ومن جملتها : أن التفسير بيان المعنى الظاهر من اللفظ والتأويل بيان المعنى المشكل.

ومن جملتها : أن التفسير يتعلق بالرواية والتأويل يتعلق بالدراية.

ومن جملتها : أن التفسير يتعلق بالاتباع والسماع والتأويل يتعلق بالاستنباط والنظر فهذه سبعة أقوال هي في الحقيقة من شعب القول الأول الذي نقلناه ، يرد عليها ما يرد عليه وكيف كان فلا يصح الركون إلى شيء من هذه الأقوال الأربعة وما ينشعب منها.

أما إجمالاً : فلأنك قد عرفت : أن المراد بتأويل الآية ليس مفهوماً من المفاهيم تدل عليه الآية سواء كان مخالفاً لظاهرها أو موافقاً ، بل هو من قبيل الامور الخارجية ، ولا كل أمر خارجي حتى يكون المصداق الخارجي للخبر تاويلا له ، بل أمر خارجي


مخصوص نسبته إلى الكلام نسبة الممثل إلى المثل ( بفتحتين ) والباطن إلى الظاهر.

وأما تفصيلاً فيرد على القول الأول : أن أقل ما يلزمه أن يكون بعض الآيات القرآنية لا ينال تأويلها أي تفسيرها أي المراد من مداليلها اللفظية عامة الأفهام ، وليس في القرآن آيات كذلك بل القرآن ناطق بانه أنما أنزل قرآناً ليناله الأفهام ، ولا مناص لصاحب هذا القول إلا أن يختار أن الآيات المتشابهة إنما هي فواتح السور من الحروف المقطعة حيث لا ينال معانيها عامة الأفهام ، ويرد عليه : أنه لا دليل عليه ، ومجرد كون التاويل مشتملاً على معنى الرجوع وكون التفسير أيضاً غير خال عن معنى الرجوع لا يوجب كون التاويل هو التفسير كما أن الام مرجع لأولادها وليست بتأويل لهم ، والرئيس مرجع للمرؤوس وليس بتأويل له.

على أن ابتغاء الفتنة عد في الآية خاصة مستقلة للتشابه وهو يوجد في غير فواتح السور فإن أكثر الفتن المحدثة في الإسلام إنما حدثت باتباع علل الأحكام وآيات الصفات وغيرها.

وأما القول الثاني فيرد عليه : أن لازمه وجود آيات في القرآن اريد بها معان يخالفها ظاهرها الذي يوجب الفتنة في الدين بتنافيه مع المحكمات ، ومرجعه إلى أن في القرآن اختلافاً بين الآيات لا يرتفع إلا بصرف بعضها عن ظواهرها إلى معان لا يفهمها عامة الأفهام ، وهذا يبطل الاحتجاج الذي في قوله تعالى : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) النساء ـ ٨٢ ، إذ لو كان ارتفاع اختلاف آية مع آية بان يقال : إنه اريد بإحديهما أو بهما معاً غير ما يدل عليه الظاهر بل معنى تاويلي باصطلاحهم لا يعلمه إلا الله سبحانه مثلاًً لم تنجح حجة الآية ، فان انتفاء الاختلاف بالتاويل باصطلاحهم في كل مجموع من الكلام ولو كان لغير الله أمر ممكن ولا دلالة فيه على كونه غير كلام البشر إذ من الواضح أن كل كلام حتى القطعي الكذب واللغو يمكن إِرجاعه إلى الصدق والحق بالتأويل والصرف عن ظاهره ، فلا يدل ارتفاع الاختلاف بهذا المعنى عن مجموع كلام على كونه كلام من يتعالى عن اختلاف الأحوال وتناقض الآراء ، والسهو والنسيان والخطاء والتكامل بمرور الزمان كما هو المعني بالاحتجاج في الآية ، فالآية بلسان احتجاجها صريح في أن القرآن معرض لعامة الأفهام ، ومسرح للبحث والتامل والتدبر ، وليس فيه آية اريد


بها معنى يخالف ظاهر الكلام العربي ولا أن فيه احجية وتعمية.

وأما القول الثالث فيرد عليه : أن اشتمال الآيات القرآنية على معان مترتبة بعضها فوق بعض وبعضها تحت بعض مما لا ينكره إلا من حرم نعمة التدبر ، إلا أنها جميعاً ـ وخاصة لو قلنا أنها لوازم المعنى مداليل لفظية مختلفة من حيث الانفهام وذكاء السامع المتدبر وبلادته ، وهذا لا يلائم قوله تعالى في وصف التاويل : وما يعلم تاويله إلا الله ، فان المعارف العالية والمسائل الدقيقة لا يختلف فيها الأذهان من حيث التقوى وطهارة النفس بل من حيث الحدة وعدمها ، وإن كانت التقوى وطهارة النفس معينين في فهم المعارف الطاهرة الإلهية لكن ذلك ليس على نحو الدوران والعلية كما هو ظاهر قوله : وما يعلم تاويله إلا الله.

وأما القول الرابع فيرد عليه : أنه وإِن أصاب في بعض كلامه لكنه أخطأ في بعضه الآخر فإنه وإن أصاب في القول بأن التأويل لا يختص بالمتشابه بل يوجد لجميع القرآن ، وأن التأويل ليس من سنخ المدلول اللفظي بل هو أمر خارجي يبتني عليه الكلام لكنه أخطأ في عد كل أمر خارجي مرتبط بمضمون الكلام حتى مصاديق الأخبار الحاكية عن الحوادث الماضية والمستقبلة تاويلاً للكلام ، وفي حصر المتشابه الذي لا يعلم تاويله في آيات الصفات وآيات القيامة.

توضيحه أن المراد حينئذ من التأويل في قوله تعالى : (وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ) « إلخ » إما أن يكون تأويل القرآن برجوع ضميره إلى الكتاب فلا يستقيم قوله : ولا يعلم تاويله إلا الله « إلخ » فإن كثيراً من تأويل القرآن وهو تاويلات القصص بل الأحكام أيضاًً وآيات الأخلاق مما يمكن أن يعلمه غيره تعالى وغير الراسخين في العلم من الناس حتى الزائغون قلباً على قوله فإن الحوادث التي تدل عليها آيات القصص يتساوى في إدراكها جميع الناس من غير أن يحرم عنه بعضهم ، وكذا الحقائق الخلقية والمصالح التي يوجدها العمل بالأحكام من العبادات والمعاملات وسائر الامور المشرعة.

وإن كان المراد بالتأويل فيه تأويل المتشابه فقط استقام الحصر في قوله : (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ ) إلخ ، وأفاد أن غيره تعالى وغير الراسخين في العلم مثلاًً لا ينبغي لهم ابتغاء تاويل المتشابه ، وهو يؤدي الى الفتنة وإِضلال الناس لكن لا وجه لحصر المتشابه الذي لا يعلم تاويله في آيات الصفات والقيامة فإن الفتنة والضلال كما يوجد في تاويلها


يوجد في تأويل غيرها من آيات الأحكام والقصص وغيرهما كأن يقول القائل ( وقد قيل ) إن المراد من تشريع الأحكام إحياء الاجتماع الإنسانيّ بإصلاح شأنه بما ينطبق على الصلاح ، فلو فرض أنَّ صلاح المجتمع في غير الحكم المشرع ، أو أنه لا ينطبق على صلاح الوقت وجب اتباعه وإلغاء الحكم الديني المشرع. وكأن يقول القائل ( وقد قيل ) إن المراد من كرامات الأنبياء المنقولة في القرآن امور عادية ، وإنما نقل بألفاظ ظاهرها خلاف العادة لصلاح استمالة قلوب العامة لانجذاب نفوسهم وخضوع قلوبهم لما يتخيلونه خارقاً للعادة قاهراً لقوانين الطبيعة. ويوجد في المذاهب المنشعبة المحدثة في الإسلام شيء كثير من هذه الأقاويل وجميعها من التأويل في القرآن ابتغاءاً للفتنة بلا شك ، فلا وجه لقصر المتشابه على آيات الصفات وآيات القيامة.

إذا عرفت ما مر علمت : أن الحق في تفسير التأويل أنه الحقيقة الواقعية التي تستند اليها البيانات القرآنية من حكم أو موعظة أو حكمة ، وأنه موجود لجميع الآيات القرآنية محكمها ومتشابهها ، وأنه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ بل هي من الامور العينية المتعالية من أن يحيط بها شبكات الألفاظ ، وإنما قيدها الله سبحانه بقيد الألفاظ لتقريبها من أذهاننا بعض التقريب فهى كالأمثال تضرب ليقرب بها المقاصد وتوضح بحسب ما يناسب فهم السامع كما قال تعالى : (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) الزخرف ـ ٤ وفي القرآن تصريحات وتلويحات بهذا المعنى.

على أنك قد عرفت فيما مر من البيان : أن القرآن لم يستعمل لفظ التأويل في الموارد التي استعملها ـ وهي ستة عشر مورداً على ما عدت ـ إلا في المعنى الذي ذكرناه.

٤ ـ هل يعلم تأويل القرآن غير الله سبحانه ؟

هذه المسألة أيضاً من موارد الخلاف الشديد بين المفسرين ، ومنشأه الخلاف الواقع بينهم في تفسير قوله تعالى : والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا الآية ، وأن الواو هل هو للعطف أو للاستيناف ، فذهب بعض القدماء والشافعية ومعظم المفسرين من الشيعة إلى أن الواو للعطف وأن الراسخين في العلم يعلمون

( ٣ ـ الميزان ـ ٤)


تاويل المتشابه من القرآن ، وذهب معظم القدماء والحنفية من أهل السنة إلى أنه للاستيناف وأنه لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله وهو مما استأثر الله سبحانه بعلمه ، وقد استدلت الطائفة الأولى على مذهبها بوجوه كثيرة ، وببعض الروايات. والطائفة الثانية بوجوه اخر وعدة من الروايات الواردة في أن تأويل المتشابهات مما استأثر الله سبحانه بعلمه وتمادت كل طائفة في مناقضة صاحبتها والمعارضة مع حججها.

والذي ينبغي أن يتنبه له الباحث في المقام أن المسألة لم تخل عن الخلط والاشتباه من أول ما دارت بينهم ووقعت مورداً للبحث والتنقير ، فاختلط رجوع المتشابه الى المحكم. وبعبارة اخرى المعنى المراد من المتشابه بتأويل الآية كما ينبئ به ما عنونا به المسألة وقررنا عليه الخلاف وقول كل من الطرفين آنفاً.

ولذلك تركنا التعرض لنقل حجج الطرفين لعدم الجدوى في إثباتها أو نفيها بعد ابتنائها على الخلط. وأما الروايات فإنها مخالفة لظاهر الكتاب فإن الروايات المثبتة ، أعنى الدالة على أن الراسخين في العلم يعلمون التأويل فإنها أخذت التأويل مرادفاً للمعنى المراد من لفظ المتشابه ولا تأويل في القرآن بهذا المعنى. كما روي من طرق أهل السنة : أن النبي 6 دعا لابن عباس فقال اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ، وما روي من قول ابن عباس : أنا من الراسخين في العلم وأنا أعلم تاويله ، ومن قوله : إن المحكمات هي الآيات الناسخة والمتشابهات هي المنسوخة فإن لازم هذه الروايات على ما فهموه أن يكون معنى الآية المحكمة تاويلاً للآية المتشابهة وهو الذي أشرنا إليه أن التأويل بهذا المعنى ليس مورداً لنظر الآية.

وأما الروايات النافية أعني الدالة على أن غيره لا يعلم تأويل المتشابهات مثل ما روى أن ابن عباس كان يقرأ : (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ) ويقول الراسخون في العلم آمنا به وكذلك كان يقرأ أُبي بن كعب. وما روي أن ابن مسعود كان يقرأ : وإن تاويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ، فهذه لا تصلح لاثبات شيء أما أولاً : فلأن هذه القراءاتْ لا حجية فيها وأما ثانياً : فلأن غاية دلالتها أن الآية لا تدل على علم الراسخين في العلم بالتأويل وعدم دلالة الآية عليه غير دلالتها على عدمه كما هو المدعى فمن الممكن أن يدل عليه دليل آخر.

ومثل ما في الدر المنثور عن الطبراني عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول


الله 6 يقول : لا أخاف على امتي إلا ثلاث خصال : أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتلوا ، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغى تاويله وما يعلم تاويله إلا الله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) كل من عند ربنا وما يذكر إلا اولوا الألباب ، وأن يكثر علمهم فيضيعونه ولا يبالون به. وهذا الحديث على تقدير دلالته على النفي لا يدل إلا على نفيه عن مطلق المؤمن لا عن خصوص الراسخين في العلم. ولا ينفع المستدل إلا الثاني.

ومثل الروايات الدالة على وجوب اتباع المحكم والإيمان بالمتشابه. وعدم دلالتها على النفي مما لا يرتاب فيه.

ومثل ما في تفسير الآلوسي عن ابن جرير عن ابن عباس مرفوعاً : أنزل القرآن على أربعة أحرف : حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير تفسره العلماء ، ومتشابه لا يعلمه إلا الله ، ومن ادعى علمه سوى الله تعالى فهو كاذب. والحديث مع كونه مرفوعاً ومعارضاً بما نقل عنه من دعوة الرسول له وادعائه العلم به لنفسه مخالف لظاهر القرآن : أن التأويل غير المعنى المراد بالمتشابه على ما عرفت فيما مر.

والذي ينبغي أن يقال : أن القرآن يدل على جواز العلم بتاويله لغيره تعالى ، وأما هذه الآية فلا دلالة لها على ذلك.

أما الجهة الثانية فلما مر في البيان السابق : أن الآية بقرينة صدرها وذيلها وما تتلوها من الآيات إنما هي في مقام بيان انقسام الكتاب إلى المحكم والمتشابه وتفرق الناس في الأخذ بها فهم بين مائل الى اتباع المتشابه لريغ في قلبه وثابت على اتباع المحكم والإيمان بالمتشابه لرسوخ في علمه ، فإنما القصد الأول في ذكر الراسخين في العلم بيان حالهم وطريقتهم في الأخذ بالقرآن ومدحهم فيه قبال ما ذكر من حال الزائغين وطريقتهم وذمهم ، والزائد على هذا القدر خارج عن القصد الأول ولا دليل على تشريكهم في العلم بالتاويل مع ذلك إلا وجوه غير تامة تقدمت الإشارة اِليها ، فيبقى الحصر المدلول عليه بقوله تعالى : (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ) من غير ناقض ينقضه من عطف واستثناء وغير ذلك فالذي تدل عليه الآية هو انحصار العلم بالتأويل فيه تعالى واختصاصه به.

لكنه لا ينافي دلالة دليل منفصل يدل على علم غيره تعالى به بإذنه كما في نظائره


مثل العلم بالغيب قال تعالى : (قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) النمل ـ ٦٥ ، وقال تعالى : (إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ) يونس ـ ٢٠ ، وقال تعالى : (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ) الأنعام ـ ٥٩ ، فدل جميع ذلك على الحصر ثم قال تعالى : (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ) الجن ـ ٢٧. فأثبت ذلك لبعض من هو غيره وهو من ارتضى من رسول ، ولذلك نظائر في القرآن.

وأما الجهة الأولى ـ وهي أن القرآن يدل على جواز العلم بتاويله لغيره تعالى في الجملة ـ فبيانه : أن الآيات كما عرفت تدل على أن تأويل الآية أمر خارجي نسبته الى مدلول الآية نسبة الممثل الى المثل ، فهو وإن لم يكن مدلولاً للآية بما لها من الدلالة لكنه محكي لها محفوظ فيها نوعاً من الحكاية والحفظ ، نظير قولك : ( في الصيف ضيعت اللبن ) لمن أراد أمراً قد فوت أسبابه من قبل ، فإن المفهوم المدلول عليه بلفظ المثل وهو تضييع المرئة اللبن في الصيف لا ينطبق شيء منه على المورد ، وهو مع ذلك ممثل لحال المخاطب حافظ له يصوره في الذهن بصورة مضمنة في الصورة التي يعطيها الكلام بمدلوله.

كذلك أمر التأويل فالحقيقة الخارجية التي توجب تشريع حكم من الأحكام أو بيان معرفة من المعارف الإلهية أو وقوع حادثة هي مضمون قصة من القصص القرآنية وإن لم تكن أمراً يدل عليه بالمطابقة نفس الأمر والنهي أو البيان أو الواقعة الكذائية إلا أن الحكم أو البيان أو الحادثة لما كان كل منها ينتشي منها ويظهر بها فهو أثرها الحاكي لها بنحو من الحكاية والإشارة كما أن قول السيد لخادمه ، اسقني ينتشي عن اقتضاء الطبيعة الإنسانية لكمالها ، فإن هذه الحقيقة الخارجية هي التي تقتضي حفظ الوجود والبقاء ، وهو يقتضي بدل ما يتحلل من البدن ، وهو يقتضي الغذاء اللازم ، وهو يقتضي الري ، وهو يقتضي الأمر بالسقي مثلاًً ؛ فتاويل قوله : اسقني هو ما عليه الطبيعة الخارجية الإنسانية من اقتضاء الكمال في وجوده وبقائه ، ولو تبدلت هذه الحقيقة الخارجية إلى شيء آخر يباين الأول مثلاً لتبدل الحكم الذي هو الأمر بالسقي الى حكم آخر وكذا الفعل الذي يعرف فيفعل أو ينكر فيجتنب في واحد من المجتمعات الإنسانية على اختلافها الفاحش في الآداب والرسوم إنما يرتضع من ثدي الحسن والقبح الذي عندهم وهو يستند الى مجموعة متحدة متفقة من علل زمانية ومكانية وسوابق عادات ورسوم مرتكزة في ذهن الفاعل بالوراثة ممن سبقه ، وتكرر المشاهدة ممن شاهده


من أهل منطقته ، فهذه العلة المؤتلفة الأجزاء هي تأويل فعله أو تركه من غير أن تكون عين فعله أو تركه لكنها محكيّة مضمنة محفوظة بالفعل أو الترك ؛ ولو فرض تبدل المحيط الاجتماعي لتبدل ما أتى به من الفعل أو الترك.

فالأمر الذي له التأويل سواء كان حكماً أو قصة أو حادثة يتغير بتغير التأويل لا محالة ، ولذلك ترى أنه تعالى في قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ) الآية ، لما ذكر اتباع أهل الزيغ ما ليس بمراد من المتشابه ابتغاءاً للفتنة ذكر أنهم بذلك يبتغون تاويله الذي ليس بتأويل له وليس إلا لأن التأويل الذي يأخذون به لو كان هو التأويل الحقيقي لكان اتباعهم للمتشابه اتباعاً حقاً غير مذموم وتبدل الأمر الذي يدل عليه المحكم وهو المراد من المتشابه الى المعنى غير المراد الذي فهموه من المتشابه واتبعوه.

فقد تبين : أن تأويل القرآن حقائق خارجية تستند اليه آيات القرآن في معارفها وشرائعها وسائر ما بينته بحيث لو فرض تغير شيء من تلك الحقائق انقلب ما في الآيات من المضامين.

وإذا أجدت التدبر وجدت أن هذا ينطبق تمام الانطباق على قوله تعالى : (وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف ـ ٤ ، فإنه يدل على أن القرآن النازل كان عند الله أمراً أعلى وأحكم من أن يناله العقول أو يعرضه التقطع والتفصل لكنه تعالى عناية بعباده جعله كتاباً مقرراً وألبسه لباس العربية لعلهم يعقلون ما لا سبيل لهم إلى عقله ومعرفته ما دام في ام الكتاب ، وام الكتاب هذا هو المدلول عليه بقوله : (يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) الرعد ـ ٣٩ ، وبقوله : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) البروج ـ ٢٢.

ويدل على إجمال مضمون الآية أيضاًً قوله تعالى : (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) هود ـ ١ ، فالإحكام كونه عند الله بحيث لا ثلمة فيه ولا فصل ، والتفصيل هو جعله فصلاً فصلاً وآية آية وتنزيله على النبي 6.

ويدل على هذه المرتبة الثانية التي تستند إلى الأولى قوله تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ


لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً) أسرى ـ ١٠٦ ، فقد كان القرآن غير مفروق الآيات ثم فرق ونزل تنزيلاً واوحي نجوماً.

وليس المراد بذلك أنه كان مجموع الآيات مرتب السور على الحال الذي هو عليه الآن عندنا كتاباً مؤلفاً مجموعاً بين الدفتين مثلاًً ثم فرق وانزل على النبي نجوماً ليقرأه على الناس على مكث كما يفرقه المعلم المقري منا قطعات ثم يعلمه ويقريه متعلمه كل يوم قطعة على حسب استعداد ذهنه.

وذلك أن بين إنزال القرآن نجوماً على النبي وبين إلقائه قطعة قطعة على المتعلم فرقاً بيناً وهو دخالة أسباب النزول في نزول الآية على النبي 6 ولا شيء من ذلك ولا ما يشبهه في تعلم المتعلم ، فالقطعات المختلفة الملقاة الى المتعلم في أزمنة مختلفة يمكن أن تجمع وينضم بعضها الى بعض في زمان واحد ، ولا يمكن أن تجمع أمثال قوله تعالى : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ) المائدة ـ ١٣ ، وقوله تعالى : (قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ ) التوبة ـ ١٢٣ ، وقوله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ) المجادلة ـ ١ ، وقوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ) التوبة ـ ١٠٣ ، ونحو ذلك فيلغى سبب النزول وزمانها ثم يفرض نزولها في أول البعثة أو في آخر زمان حيوة النبي 6 ؛ فالمراد بالقرآن في قوله : وقرآناً فرقناه غير القرآن بمعنى الآيات المؤلفة.

وبالجملة فالمحصل من الآيات الشريفة أن وراء ما نقرأه ونعقله من القرآن أمراً هو من القرآن بمنزلة الروح. من الجسد والمتمثل من المثال ـ وهو الذي يسميه تعالى بالكتاب الحكيم ـ وهو الذي تعتمد وتتكي عليه معارف القرآن المنزل ومضامينه ، وليس من سنخ الألفاظ المفرقة المقطعة ولا المعاني المدلول عليها بها ، وهذا بعينه هو التأويل المذكور في الآيات المشتملة عليه لانطباق أوصافه ونعوته عليه. وبذلك يظهر حقيقة معنى التأويل ، ويظهر سبب امتناع التأويل عن أن تمسه الأفهام العادية والنفوس غير المطهرة.

ثم إنه تعالى قال : ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الواقعة ـ ٧٩ ، ولا شبهة في ظهور الآيات في أن المطهرين من عباد الله هم يمسون القرآن الكريم الذي في الكتاب المكنون والمحفوظ من التغير ، ومن التغير تصرف الاذهان


بالورود عليه والصدور منه وليس هذا المس إلا نيل الفهم والعلم ومن المعلوم أيضاًً : أن الكتاب المكنون هذا هو ام الكتاب المدلول عليه بقوله يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب ، وهو المذكور في قوله : وإنه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم.

وهؤلاء قوم نزلت الطهارة في قلوبهم ، وليس ينزلها إلا الله سبحانه ، فإنه تعالى لم يذكرها إلا كذلك أي منسوبة الى نفسه كقوله تعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) الاحزاب ـ ٣٣ ، وقوله تعالى : (وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ ) المائدة ـ ٦ ، وما في القرآن شيء من الطهارة المعنوية إلا منسوبة الى الله أو بإذنه ، وليست الطهارة إلا زوال الرجس من القلب ، وليس القلب من الإنسان إلا ما يدرك به ويريد به ، فطهارة القلب طهارة نفس الإنسان في اعتقادها وإرادتها وزوال الرجس عن هاتين الجهتين ، ويرجع الى ثبات القلب فيما اعتقده من المعارف الحقة من غير ميلان الى الشك ونوسان بين الحق والباطل ، وثباته على لوازم ما علمه من الحق من غير تمائل الى اتباع الهوى ونقض ميثاق العلم ، وهذا هو الرسوخ في العلم فإن الله سبحانه ما وصف الراسخين في العلم إلا بأنهم مهديون ثابتون على ما علموا غير زائغة قلوبهم الى ابتغاء الفتنة ، فقد ظهر أن هؤلاء المطهرين راسخون في العلم هذا.

ولكن ينبغي أن لا تشتبه النتيجة التي ينتجها هذا البيان ، فإن المقدار الثابت بذلك أن المطهرين يعلمون التأويل ، ولازم تطهيرهم أن يكونوا راسخين في علومهم ، لما أن تطهير قلوبهم منسوب الى الله وهو تعالى سبب غير مغلوب ، لا أن الراسخين في العلم يعلمونه بما أنهم راسخون في العلم أي إن الرسوخ في العلم سبب للعلم بالتأويل ، فإن الآية لا تثبت ذلك ، بل ربما لاح من سياقها جهلهم بالتأويل حيث قال تعالى : يقولون آمنا به كل من عند ربنا الآية وقد وصف الله تعالى رجالاً من أهل الكتاب برسوخ العلم ومدحهم بذلك ، وشكرهم على الإيمان والعمل الصالح في قوله : (لَّـكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ الآية ) النساء ـ ١٦٢ ، ولم يثبت مع ذلك كونهم عالمين بتأويل الكتاب.

وكذلك إن الآية أعني قوله تعالى : لا يمسه إلا المطهرون لم تثبت للمطهرين إلا مس الكتاب في الجملة ، وأما أنهم يعلمون كل التأويل ولا يجهلون شيئاًً منه ولا في وقت فهي ساكتة عن ذلك ، ولو ثبت لثبت بدليل منفصل.


٥ ـ ما هو السبب في اشتمال الكتاب على المتشابه ؟

ومن الاعتراضات التي اوردت على القرآن الكريم الاعتراض باشتماله على المتشابهات وهو أنكم تدعون أن تكاليف الخلق إلى يوم القيامة ، فيه وأنه قول فصل يميز بين الحق والباطل ، ثم إنا نراه يتمسك به كل صاحب مذهب من المذاهب المختلفة بين المسلمين لإثبات مذهبه ، وليس ذلك إلا لوقوع التشابه في آياته ؛ أفليس أنه لو جعله جلياً نقياً عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى الغرض المطلوب ، وأقطع لمادة الخلاف والزيغ.

وأُجيب عنه بوجوه من الجواب بعضها ظاهر السخافة كالجواب بأن وجود المتشابهات يوجب صعوبة تحصيل الحق ومشقة البحث وذلك موجب لمزيد الأجر والثواب ! وكالجواب بأنه لو لم يشتمل إلا على صريح القول في مذهب لنفر ذلك سائر أرباب المذاهب فلم ينظروا فيه ، لكنه لوجود التشابه فيه أطمعهم في النظر فيه وكان في ذلك رجاء أن يظفروا بالحق فيؤمنوا به ! وكالجواب بأن اشتماله على المتشابه أوجب الاستعانة بدلالة العقل ، وفي ذلك خروج عن ظلمة التقليد ودخول في ضوء النظر والاجتهاد ! وكالجواب بأن اشتماله على المتشابه أوجب البحث عن طرق التأويلات المختلفة ، وفي ذلك فائدة التضلع بالفنون المختلفة كعلم اللغة والصرف والنحو واصول الفقه !

فهذه أجوبة سخيفة ظاهرة السخافة بأدنى نظر ؛ والذي يستحق الايراد والبحث من الأجوبة وجوه ثلثة :

الأول : أن اشتمال القرآن الكريم على المتشابهات لتمحيص القلوب في التصديق ، به فإنه لو كان كل ما ورد في الكتاب معقولاًً واضحاً لا شبهة فيه عند أحد لما كان في الإيمان شيء من معنى الخضوع لأمر الله تعالى والتسليم لرسله.

وفيه أن الخضوع هو نوع انفعال وتأثر من الضعيف في مقابل القوي ، والإنسان إنما يخضع لما يدرك عظمته أو لما لا يدركه لعظمته وبهوره الادراك كقدرة الله غير المتناهية وعظمته غير المتناهية وسائر صفاته التي إذا واجهها العقل رجع القهقرى لعجزه عن الإحاطة بها ، وأما الامور التي لا ينالها العقل لكنه يغتر ويغادر باعتقاد


أنه يدركها فما معنى خضوعه لها ؟ كالآيات المتشابهة التي يتشابه أمرها على العقل فيحسب أنه يعقلها وهو لا يعقل.

الثاني : أن اشتماله على المتشابه إنما هو لبعث العقل على البحث والتنقير ، لئلا يموت بإهماله بإلقاء الواضحات التي لا يعمل فيها عامل الفكر ، فإن العقل أعز القوى الإنسانية التي يجب تربيتها بتربية الإنسان.

وفيه : أن الله تعالى أمر الناس بإعمال العقل والفكر في الآيات الآفاقية والأنفسية إجمالاً في موارد من كلامه ، وتفصيلاً في موارد اخرى كخلق السموات والأرض والجبال والشجر والدواب والإنسان واختلاف ألسنته وألوانه ، وندب إلى التعقل والتفكر والسير في الأرض والنظر في أحوال الماضين ، وحرض على العقل والفكر ، ومدح العلم بأبلغ المدح وفي ذلك غنى عن البحث في امور ليس إلا مزالق للأقدام ومصارع للأفهام.

الثالث : أن الأنبياء بعثوا إلى الناس وفيهم العامة والخاصة ، والذكي والبليد والعالم والجاهل ؛ وكان من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته وتشرح كنهه بحيث يفهمه الجميع على السواء ، فالحري في أمثال هذه المعاني أن تلقى بحيث يفهمه الخاصة ولو بطريق الكناية والتعريض ويؤمر العامة فيها بالتسليم وتفويض الأمر إلى الله تعالى.

وفيه : أن الكتاب كما يشتمل على المتشابهات كذلك يشتمل على المحكمات التي تبين المتشابهات بالرجوع إليها ، ولازم ذلك أن لا تتضمن المتشابهات أزيد مما يكشف عنها المحكمات ، وعند ذلك يبقى السؤال ( وهو أنه ما فائدة وجود المتشابهات في الكتاب ولا حاجة إليها مع وجود المحكمات ؟ ) على حاله ، ومنشأ الاشتباه أن المجيب أخذ المعاني نوعين متبائنين معان يفهمها جميع المخاطبين من العامة والخاصة وهي مداليل المحكمات ، ومعان سنخها بحيث لا يتلقاها الا الخاصة من المعارف العالية والحكم الدقيقة ، فصار بذلك المتشابهات لا ترجع معانيها إلى المحكمات ، وقد مر أن ذلك مخالف لمنطوق الآيات الدالة على أن القرآن يفسر بعضه بعضاً وغير ذلك.

والذي ينبغي أن يقال : أن وجود المتشابه في القرآن ضروري ناش عن وجود


التأويل الموجب لتفسير بعضه بعضاً بالمعنى الذي أوضحناه للتاويل فيما مر.

ويتضح ذلك بعض الاتضاح بإجادة التدبر في جهات البيان القرآني والتعليم الإلهي والامور التي بنيت عليها معارفه والغرض الأقصى من ذلك وهي امور :

منها : أن الله سبحانه ذكر أن لكتابه تاويلا هو الذي تدور مداره المعارف القرآنية والأحكام والقوانين وسائر ما يتضمنه التعليم الإلهي ، وأن هذا التأويل الذي تستقبله وتتوجه إليه جميع هذه البيانات أمر يقصر عن نيله الأفهام وتسقط دون الارتقاء إليه العقول إلا نفوس طهرهم الله وأزال عنهم الرجس ، فإن لهم خاصة أن يمسوه. وهذا غاية ما يريده تعالى من الإنسان المجيب لدعوته في ناحية العلم أن يهتدي إلى علم كتابه الذي هو تبيان كل شيء ، ومفتاحه التطهير الإلهي ، وقد قال تعالى : (مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ) المائدة ـ ٧ ، فجعل الغاية لتشريع الدين هي التطهير الإلهي.

وهذا الكمال الإنساني كسائر الكمالات المندوب إليها لا يظفر بكمالها إلا أفراد خاصة ، وإن كانت الدعوة متعلقة بالجميع متوجهة إلى الكل ، فتربية الناس بالتربية الدينية إنما تثمر كمال التطهير في أفراد خاصة وبعض التطهير في آخرين ، ويختلف ذلك باختلاف درجات الناس ، كما أن الاسلام يدعو إلى حق التقوى في العمل. قال تعالى : (اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ) آل عمران ـ ١٠٢ ، ولكن لا يحصل كماله إلا في أفراد وفيمن دونهم دون ذلك على طريق الأمثل فالأمثل ، كل ذلك لاختلاف الناس في طبائعهم وأفهامهم ، وهكذا جميع الكمالات الاجتماعية من حيث التربية والدعوة ، يدعو داعي الاجتماع إلى الدرجة القصوى من كل كمال كالعلم والصنعة والثروة والراحة وغيرها لكن لا ينالها إلا البعض ، ومن دونه ما دونها على اختلاف مراتب الاستعدادات.

وبالحقيقه امثال هذه الغابات ينالها المجتمع من غير تخلف دون كل فرد منه.

ومنها : أن القرآن قطع بأن الطريق الوحيد إلى إيصال الإنسان إلى هذه الغاية الشريفة تعريف نفس الإنسان لنفسه بتربيته في ناحيتي العلم والعمل : أما في ناحية العلم فبتعليمه الحقائق المربوطة به من المبدء والمعاد وما بينهما من حقائق العالم حتى يعرف نفسه بما ترتبط به من الواقعيات معرفة حقيقية. وأما في ناحية العمل فبتحميل قوانين


اجتماعية عليه بحيث تصلح شأن حيوته الاجتماعية ، ولا تشغله عن التخلص إلى عالم العلم والعرفان ، ثم بتحميل تكاليف عبادية يوجب العمل بها والمزاولة عليها توجه نفسه ، وخلوص قلبه إلى المبدء والمعاد ، وإشرافه على عالم المعنى والطهارة ، والتجنب عن قذارة الماديات وثقلها.

وأنت إذا أحسنت التدبر في قوله تعالى : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) الفاطر ـ ١٠ ، وضممته إلى ما سمعت إجماله في قوله تعالى : ( وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ ) الآية ، وإلى قوله تعالى : (عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) المائدة ـ ١٠٥ ، وقوله تعالى : (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) المجادلة ـ ١١ ، وما يشابهه من الآيات اتضح لك الغرض الإلهي في تشريع الدين وهداية الإنسان إليه ، والسبيل الذي سلكه لذلك فافهم.

و يتفرع على هذا البيان نتيجة مهمة : هي أن القوانين الاجتماعية في الإسلام مقدمة للتكاليف العبادية مقصودة لأجلها ، والتكاليف العبادية مقدمة للمعرفة بالله وبآياته ، فأدنى الإخلال أو التحريف أو التغيير في الأحكام الاجتماعية من الإسلام يوجب فساد العبودية وفساد العبودية يؤدي إلى اختلال أمر المعرفة.

وهذه النتيجة ـ على أنها واضحة التفرع على البيان ـ تؤيدها التجربة أيضاًً : فإنك إذا تأملت جريان الأمر في طروق الفساد في شئون الدين الإسلامي بين هذه الامة وأمعنت النظر فيه : من أين شرع وفي أين ختم وجدت أن الفتنة ابتدأت من الاجتماعيات ثم توسطت في العباديات ثم انتهت إلى رفض المعارف ، وقد ذكرناك فيما مر : أن الفتنة شرعت باتباع المتشابهات وابتغاء تأويلها ، ولم يزل الأمر على ذلك حتى اليوم.

ومنها : أن الهداية الدينية إنما بنيت على نفي التقليد عن الناس وركوز العلم بينهم ما أستطيع ، فإن ذلك هو الموافق لغايتها التي هي المعرفة وكيف لا ؟ ولا يوجد بين كتب الوحي كتاب ، ولا بين الأديان دين يعظمان من أمر العلم ويحرضان عليه بمثل ما جاء به القرآن والاسلام !

وهذا المعنى هو الموجب لان يبين الكتاب للإنسان حقائق المعارف أولاً ، وارتباط ما شرعه له من الأحكام العملية بتلك الحقائق ثانياً ، وبعبارة اخرى أن يفهمه :


أنه موجود مخلوق لله تعالى خلقه بيده ووسط في خلقه وبقائه ملائكته وسائر خلقه من سماء وأرض ونبات وحيوان ومكان وزمان وما عداها وأنه سائر إلى معاده وميعاده سيراً اضطرارياً ، وكادح إلى ربه كدحاً فملاقيه ثم يجزى جزاء ما عمله ، أيما إلى جنة ، أيما إلى نار فهذه طائفة من المعارف.

ثم يفهمه أن الأعمال التي تؤديه إلى سعادة الجنة ما هي ، وما تؤديه إلى شقوة النار ما هي ؟ أي يبين له الأحكام العبادية والقوانين الاجتماعية ، وهذه طائفة اخرى.

ثم يبين له : أن هذه الأحكام والقوانين مؤدية إلى السعادة أي يفهمه : أن هذه الطائفة الثانية مرتبطة بالطائفة الأولى ، وأن تشريعها وجعلها للإنسان إنما هو لمراعاة سعادته لاشتمالها على خير الإنسان في الدنيا والآخرة ، وهذه طائفة ثالثة.

وظاهر عندك أن الطائفة الثانية بمنزلة المقدمة والطائفة الأولى بمنزلة النتيجة ، والطائفة الثالثة بمنزلة الرابط الذي يربط الثانية بالأولى ، ودلالة الآيات على كل واحدة من هذه الطوائف المذكورة واضحة ولا حاجة إلى إيرادها.

ومنها : أنه لما كانت عامه الناس لا يتجاوز فهمهم المحسوس ولا يرقى عقلهم إلى ما فوق عالم المادة والطبيعة ، وكان من ارتقى فهمه منهم بالارتياضات العلمية إلى الورود في إدراك المعاني وكليات القواعد والقوانين يختلف أمره باختلاف الوسائل التي يسرت له الورود في عالم المعاني والكليات كان ذلك موجباً لاختلاف الناس في فهم المعاني الخارجة عن الحس والمحسوس اختلافاً شديداً ذا عرض عريض على مراتب مختلفة ، وهذا أمر لا ينكره أحد.

ولا يمكن إلقاء معنى من المعاني إلى إنسان إلا من طريق معلوماته الذهنية التي تهيأت عنده في خلال حيوته وعيشته ، فإن كان مأنوساً بالحس فمن طريق المحسوسات على قدر ما رقى إليه من مدارج الحس كما يمثل لذة النكاح للصبي بحلاوة الحلواء ، وإِن كان نائلاً للمعاني الكلية فبما نال وعلى قدر ما نال ، وهذا ينال المعاني من البيان الحسي والعقلي معاً بخلاف المأنوس بالحس.

ثم إن الهداية الدينية لا تختص بطائفة دون طائفة من الناس بل تعم جميع الطوائف وتشمل عامة الطبقات ، وهو ظاهر.


وهذا المعنى أعني اختلاف الأفهام وعموم أمر الهداية مع ما عرفت من وجود التأويل للقرآن هو الموجب أن يساق البيانات مساق الأمثال ، وهو أن يتخذ ما يعرفه الإنسان ويعهده ذهنه من المعاني فيبين به ما لا يعرفه لمناسبة ما بينهما نظير توزين المتاع بالمثاقيل ولا مسانخة بينهما في شكل أو صورة أو حجم أو نوع إلا ما بينهما من المناسبة وزناً.

والآيات القرآنية المذكورة سابقاً كقوله تعالى : ( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف ـ ٤ ، وما يشابهه من الآيات وإن بينت هذا الأمر بطريق الإشارة والكناية ، لكن القرآن لم يكتف بذلك دون أن بينه بما ضربه مثلاًً في أمر الحق والباطل فقال تعالى : (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ) الرعد ـ ١٧ ، فبين أن حكم المثل جار في أفعاله تعالى كما هو جار في أقواله ، ففعله تعالى كقوله الحق إنما قصد منهما الحق الذي يحويانه ويصاحب كلا منهما امور غير مقصودة ولا نافعة يعلوهما ويربوهما لكنها ستزول وتبطل ، ويبقى الحق الذي ينفع الناس ، وإنما يزول ويزهق بحق آخر هو مثله ، وهذا كالآية المتشابهة تتضمن من المعنى حقاً مقصوداً ، ويصاحبه ويعلو عليه بالاستباق إلى الذهن معنى آخر باطل غير مقصود ، لكنه سيزول بحق آخر يظهر الحق الأول على الباطل الذي كان يعلوه ، ليحق الحق بكلماته ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ، والكلام في انطباق هذا المثل على أفعاله الخارجية المتقررة في عالم الكون كالكلام في أقواله عز من قائل.

وبالجملة : المتحصل من الآية الشريفة : أن المعارف الحقة الإلهية كالماء الذي أنزله الله تعالى من السماء هي في نفسها ماء فحسب ، من غير تقييد بكمية ولا كيفية ، ثم إنها كالسيل السائل في الأودية تتقدر بأقدار مختلفة من حيث السعة والضيق ، وهذه الأقدار امور ثابتة كل في محله كالحال في اصول المعارف والأحكام التشريعية ، ومصالح الأحكام التي ذكرنا فيما مر أنها روابط تربط الأحكام بالمعارف الحقة. وهذا حكمها في نفسها مع قطع النظر عن البيان اللفظي. وهي في مسيرها ربما صحبت ما هو


كالزبد يظهر ظهوراً ثم يسرع في الزوال وذلك كالأحكام المنسوخة التي تنسخه النواسخ من الآيات ، فإن المنسوخ مقتضى ظاهر طباعه أن يدوم لكن الحكم الناسخ يبطل دوامه ويضع مكانه حكماً آخر. هذا بالنظر إلى نفس هذه المعارف مع قطع النظر عن ورودها في وادي البيان اللفظي.

وأما المعارف الحقة من حيث كونها واردة في ظرف اللفظ والدلالة فإنها بورودها أودية الدلالات اللفظية تتقدر بأقدارها ، تتشكل بأشكال المرادات الكلامية بعد إطلاقها ، وهذه أقوال ثابتة من حيث مراد المتكلم بكلامه إلا أنها مع ذلك أمثال يمثل بها أصل المعنى المطلق غير المتقدر ، ثم إنها بمرورها في الأذهان المختلفة تحمل معاني غير مقصودة كالزبد في السيل ، لان الأذهان من جهة ما تخزنه من المرتكزات والمألوفات تتصرف في المعاني الملقاة إليها ، وجل هذا التصرف إنما هو في المعاني غير المألوفة كالمعارف الاصلية ، ومصالح الأحكام وملاكاتها كما مر ، وأما الأحكام والقوانين فلا تصرف فيها مع قطع النظر عن ملاكاتها فإنها مألوفة ، ومن هنا يظهر أن المتشابهات إنما هي الآيات من حيث اشتمالها على الملاكات والمعارف ، دون متن الأحكام والقوانين الدينية.

ومنها : أنه تحصل من البيان السابق : أن البيانات اللفظية القرآنية أمثال للمعارف الحقة الإلهية لأن البيان نزل في هذه الآيات إلى سطح الأفهام العامة التي لا تدرك إلا الحسيات ولا تنال المعاني الكلية إلا في قالب الجسمانيات ، ولما استلزم ذلك في إلقاء المعاني الكلية المجردة عن عوارض الأجسام والجسمانيات أحد محذورين : فإن الأفهام في تلقيها المعارف المرادة منها إن جمدت في مرتبة الحس والمحسوس انقلبت الأمثال بالنسبة إليها حقائق ممثلة ، وفيه بطلان الحقائق وفوت المرادات والمقاصد وإن لم تجمد وانتقلت إلى المعاني المجردة بتجريد الأمثال عن الخصوصيات غير الدخيلة لم يؤمن من الزيادة والنقيصة.

نظير ذلك أنا لو القي الينا المثل السائر : عند الصباح يحمد القوم السرى ، أو تمثل لنا بقول صخر :

أهم بأمر الحزم لا أستطيعه

وقد حيل بين العير والنزوان


فإنا من جهة سبق عهد الذهن بالقصة أو الأمر الممثل له نجرد المثل عن الخصوصيات المكتنفة بالكلام كالصباح والقوم والسرى ، ونفهم من ذلك أن المراد : أن حسن تأثير عمل وتحسين فعله إنما يظهر إذا فرغ منه وبدا أثره ، وأما هو ما دام الإنسان مشتغلاً به محساً تعب فعله فلا يقدر قدره ، ويظهر ذلك تجريد ما تمثل به من الشعر ، وأما إذا لم نعهد الممثل وجمدنا على الشعر أو المثل خفي عنا الممثل وعاد المثل خبراً من الأخبار ، ولو لم نجمد وانتقلنا إجمالاً إلى أنه مثل لم يمكنا تشخيص المقدار الذي يجب طرحه بالتجريد وما يجب حفظه للفهم وهو ظاهر.

ولا مخلص عن هذين المحذورين إلا بتفريق المعاني الممثل لها إلى أمثال مختلفة ، وتقليبها في قوالب متنوعة حتى يفسر بعضها بعضاً ، ويوضح بعضها أمر بعض ، فيعلم بالتدافع الذي بينها أولاً : أن البيانات أمثال ولها في ما ورائها حقائق ممثلة ، وليست مقاصدها ومرادتها مقصورة على اللفظ المأخوذ من مرتبة الحس والمحسوس وثانياً : بعد العلم بأنها أمثال : يعلم بذلك المقدار الذي يجب طرحه من الخصوصيات المكتنفة بالكلام ، وما يجب حفظه منها للحصول على المرام ، وإنما يحصل ذلك بأن هذا يتضمن نفي بعض الخصوصيات الموجودة في ذلك وذاك نفي بعض ما في هذا.

وإيضاح المقاصد المبهمة والمطالب الدقيقة بإيراد القصص المتعددة والأمثال والأمثلة الكثيرة المتنوعة أمر دائر في جميع الألسنة واللغات من غير اختصاص بقوم دون قوم ، ولغة دون لغة ، وليس ذلك إلا لأن الإنسان يشعر بقريحة البيان مساس حاجته إلى نفي الخصوصيات الموهمة لخلاف المراد في القصة الواحدة أو المثل الواحد بالخصوصيات النافية الموجودة في قصة اخرى مناسبة أو مثل آخر مناسب.

فقد تبين أن من الواجب أن يشتمل القرآن الكريم على الآيات المتشابهة ، وأن يرفع التشابه الواقع في آية بالإحكام الواقع في آية اخرى ، واندفع بذلك الإشكال باشتمال القرآن على المتشابهات لكونها مخلة لغرض الهداية والبيان.

وقد ظهر من جميع ما تقدم من الأبحاث على طولها امور :

الأول : أن الآيات القرآنية تنقسم إلى قسمين : محكم ومتشابه ، وذلك من جهة اشتمال الآية وحدها على مدلول متشابه وعدم اشتمالها.

الثاني : أن لجميع القرآن محكمه ومتشابهه تأويلاً. وأن التأويل ليس من قبيل


المفاهيم اللفظية بل من الامور الخارجية ، نسبته إلى المعارف والمقاصد المبينة نسبة الممثل إلى المثال ، وأن جميع المعارف القرآنية أمثال مضروبة للتأويل الذي عند الله.

الثالث : أن التأويل يمكن أن يعلمه المطهرون : ( وهم راسخون في العلم ).

الرابع : أن البيانات القرآنية أمثال مضروبة لمعارفها ومقاصدها ، وهذا المعنى غير ما ذكرناه في الأمر الثاني من كون معارفه أمثالاً وقد أوضحناه فيما مر.

الخامس : أن من الواجب أن يشتمل القرآن على المتشابهات ، كما أن من الواجب أن يشتمل على المحكمات.

السادس : أن المحكمات ام الكتاب إليها ترجع المتشابهات رجوع بيان.

السابع : أن الإحكام والتشابه وصفان يقبلان الإضافة والاختلاف بالجهات بمعنى أن آية ما يمكن أن تكون محكمه من جهة ، متشابهة من جهة اخرى فتكون محكمة بالإضافة إلى آية ومتشابهة بالاضافة إلى اخرى. ولا مصداق للمتشابه على الإطلاق في القرآن ، ولا مانع من وجود محكم على الاطلاق.

الثامن : أن من الواجب أن يفسر بعض القرآن بعضاً.

التاسع : أن للقرآن مراتب مختلفة من المعنى ، مترتبة طولاً من غير أن تكون الجميع في عرض واحد فيلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، أو مثل عموم المجاز ، ولا هي من قبيل اللوازم المتعددة لملزوم واحد ، بل هي معان مطابقية يدل على كل واحد منها اللفظ بالمطابقة بحسب مراتب الأفهام.

ولتوضيح ذلك نقول : قال الله تبارك وتعالى : (اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ) آل عمران ـ ١٠٢ ، فأنبأ أن للتقوى الذي هو الانتهاء عما نهى الله عنه والايتمار بما أمر الله به مرتبة هي حق التقوى ، ويعلم بذلك أن هناك من التقوى ما هو دون هذه المرتبة الحقة ، فللتقوى الذي هو بوجه العمل الصالح مراتب ودرجات بعضها فوق بعض.

وقال أيضاًً : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) آل عمران ـ ١٦٣ ، فبين أن العمل مطلقاً ، سواء كان صالحاً أو طالحاً درجات ومراتب ، والدليل على أن المراد بها


درجات العمل قوله : (واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ). ونظير الآية قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) الاحقاف ـ ١٩ ، وقوله تعالى : (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) الأنعام ـ ١٣٢ ، والآيات في هذا المعنى كثيرة ؛ وفيها ما يدل على أن درجات الجنة ودركات النار بحسب مراتب الأعمال ودرجاتها.

ومن المعلوم أن العمل من أي نوع كان هو من رشحات العلم يترشح من اعتقاد قلبي يناسبه ، وقد استدل تعالى على كفر اليهود وعلى فساد ضمير المشركين وعلى نفاق المنافقين من المسلمين وعلى إيمان عدة من الأنبياء والمؤمنين بأعمالهم وأفعالهم في آيات كثيرة جداً يطول ذكرها فالعمل كيف كان يلازم ما يناسبه من العلم ويدل عليه.

وبالعكس يستلزم كل نوع من العمل ما يناسبه من العلم ويحصله ويركزه في النفس كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) العنكبوت ـ ٦٩ ، وقال تعالى : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) الحجر ـ ٩٩ وقال أيضاًً : (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون ) الروم ـ ١٠ ، وقال : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ) البراءة ـ ٧٧ ، والآيات في هذا المعنى أيضاًً كثيرة تدل الجميع على أن العمل صالحاً كان أو طالحاً يولد من أقسام المعارف والجهالات ( وهي العلوم المخالفة للحق ) ما يناسبه.

وقال تعالى ـ وهو كالكلمة الجامعة في العمل الصالح والعلم النافع إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ـ الفاطر ـ ١٠ ، فبين أن شأن الكلم الطيب وهو الاعتقاد الحق أن يصعد إلى الله تعالى ويقرب صاحبه منه ، وشأن العمل الصالح أن يرفع هذا العلم والاعتقاد ومن المعلوم أن ارتفاع العلم في صعوده إنما هو بخلوصه من الشك والريب وكمال توجه النفس إليه وعدم تقسم القلب فيه وفي غيره ( وهو مطلق الشرك ) فكلما كمل خلوصه من الشك والخطوات اشتد صعوده وارتفاعه.

ولفظ الآية لا يخلو عن دلالة على ذلك ، فإنها عبرت في الكلم الطيب بالصعود

( ٣ ـ الميزان ـ ٥)


ووصف العمل بالرفع ، والصعود يقابل النزول كما أن الرفع يقابل الوضع ، وهما أعني الصعود والارتفاع وصفان يتصف بهما المتحرك من السفل إلى العلو بنسبته إلى الجانبين فهو صاعد بالنظر إلى قصده العلو واقترابه منه ، ومرتفع من جهة انفصاله من السفل وابتعاده منه ، فالعمل يبعد الإنسان ويفصله من الدنيا والإخلاد إلى الأرض بصرف نفسه عن التعلق بزخارفها الشاغلة والتشتت والتفرق بهذه المعلومات الفانية غير الباقية وكلما زاد الرفع والارتفاع زاد صعود الكلم الطيب ، وخلصت المعرفة عن شوائب الأوهام وقذارات الشكوك ، ومن المعلوم أيضاًً كما مر : أن العمل الصالح ذو مراتب ودرجات ، فلكل درجة من العمل الصالح رفع الكلم الطيب وتوليد العلوم والمعارف الحقة الإلهية على ما يناسب حالها. والكلام في العمل الطالح ووضعه الإنسان نظير الكلام في العمل الصالح ورفعه وقد مر بعض الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى : ( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ) الحمد ـ ٦.

فظهر أن للناس بحسب مراتب قربهم وبعدهم منه تعالى مراتب مختلفة من العمل والعلم ، ولازمه أن يكون ما يتلقاه أهل واحدة من المراتب والدرجات غير ما يتلقيه أهل المرتبة والدرجة الاخرى التي فوق هذه أو تحتها فقد ، تبين أن للقرآن معاني مختلفة مترتبة.

وقد ذكر الله سبحانه أصنافاً من عباده ، وخص كل صنف بنوع من العلم والمعرفة لا يوجد في الصنف الآخر كالمخلصين وخص بهم العلم ، بأوصاف ربهم حق العلم قال تعالى : (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافات ـ ١٦٠ ، وخص بهم أشياء أُخر من المعرفة والعلم سيجيء بيانها أنشاء الله تعالى ، وكالموقنين وخص بهم مشاهدة ملكوت السموات والأرض قال تعالى : (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الأنعام ـ ٧٥ ، وكالمنيبين وخص بهم التذكر قال تعالى : (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ) المؤمن ـ ١٣ ، وكالعالمين وخص بهم عقل أمثال القرآن ، قال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) العنكبوت ـ ٤٣ ، وكأنهم اولوا الألباب والمتدبرون لقوله تعالى : (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) محمد 6 ـ ٢٤ ولقوله تعالى : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) النساء ـ ٨٢ ، فإن مؤدى الآيات


الثلاث يرجع إلى معنى واحد وهو العلم بمتشابه القرآن ورده إلى محكمه ، وكالمطهرين خصهم الله بعلم تأويل الكتاب ، قال تعالى : ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الواقعة ـ ٧٩ ، وكالاولياء وهم أهل الوله والمحبة لله وخص بهم أنهم لا يلتفتون إلى شيء إلا الله سبحانه ولذلك لا يخافون شيئاًً ولا يحزنون لشيء ، قال تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) يونس ـ ٦٢ ، وكالمقربين والمجتبين والصديقين والصالحين والمؤمنين ولكل منهم خواص من العلم والإدراك يختصون بها ، سنبحث عنها في المحال المناسبة لها.

ونظير هذه المقامات الحسنة مقامات سوء في مقابلها ، ولها خواص رديئة في باب العلم والمعرفة ، ولها أصحاب كالكافرين والمنافقين والفاسقين والظالمين وغيرهم ، ولهم انصباء من سوء الفهم وردائة الإدراك لآيات الله ومعارفه الحقة ، طوينا ذكرها إيثاراً للاختصار ، وسنتعرض لها في خلال أبحاث هذا الكتاب إنشاء الله.

العاشر : أن للقرآن اتساعاً من حيث انطباقه على المصاديق وبيان حالها فالآيه منه لا يختص بمورد نزولها بل يجري في كل مورد يتحد مع مورد النزول ملاكاً كالأمثال التي لا تختص بمواردها الاول ، بل تتعداها إلى ما يناسبها ، وهذا المعنى هو المسمى بجرى القرآن ، وقد مر بعض الكلام فيه في أوائل الكتاب.

( بحث روائي )

في تفسير العياشي : سئل أبو عبد الله 7 عن المحكم والمتشابه قال : المحكم ما يعمل به والمتشابه ما اشتبه على جاهله.

اقول : وفيه تلويح إلى أن المتشابه مما يمكن العلم به.

وفيه أيضاًً عنه 7 : أن القرآن محكم ومتشابه : فأما المحكم فتؤمن به وتعمل به وتدين ، وأما المتشابه فتؤمن به ولا تعمل به ، وهو قول الله عز وجل : (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ) وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا. والراسخون في العلم هم آل محمد.


اقول : وسيجيء كلام في معنى قوله 7 : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) هم آل محمد.

وفيه أيضاًً عن مسعدة بن صدقة قال : سألت أبا عبد الله 7 عن الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه قال : الناسخ الثابت المعمول به ، والمنسوخ ما قد كان يعمل به ثم جاء ما نسخه ، والمتشابه ما اشتبه على جاهله. قال : وفي رواية : الناسخ الثابت ، والمنسوخ ما مضى ، والمحكم ما يعمل به ، والمتشابه ما يشبه بعضه بعضاً.

وفي الكافي عن الباقر 7 في حديث قال : فالمنسوخات من المتشابهات.

وفي العيون عن الرضا 7 : من رد متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم. ثم قال إن في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن ، فردوا متشابهها إلى محكمها ، ولا تتبعوا متشابهها فتضلوا.

أقول : الأخبار كما ترى متقاربة في تفسير المتشابه ، وهي تؤيد ما ذكرناه في البيان السابق : أن التشابه يقبل الارتفاع ، وأنه إنما يرتفع بتفسير المحكم له. وأما كون المنسوخات من المتشابهات فهو كذلك كما تقدم ووجه تشابهها ما يظهر منها من استمرار الحكم وبقائه ، ويفسره الناسخ ببيان أن استمراره مقطوع. وأما ما ذكره 7 في خبر العيون أن في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن ومحكماً كمحكم القرآن ، فقد وردت في هذا المعنى عنهم : روايات مستفيضة ، والاعتبار يساعده فإن الأخبار لا تشتمل إلا على ما اشتمل عليه القرآن الشريف ، ولا تبين إلا ما تعرض له وقد عرفت فيما مر : أن التشابه من أوصاف المعنى الذي يدل عليه اللفظ وهو كونه بحيث يقبل الانطباق على المقصود وعلى غيره لا من أوصاف اللفظ من حيث دلالته على المعنى نظير الغرابة والاجمال ، ولا من أوصاف الأعم من اللفظ والمعنى.

وبعبارة اخرى : إنما عرض التشابه لما عرض عليه من الآيات لكون بياناتها جارية مجرى الأمثال بالنسبة إلى المعارف الحقة الإلهية ، وهذا المعنى بعينه موجود في الأخبار ففيها متشابه ومحكم كما في القرآن ، وقد ورد عن النبي 6 أنه قال : إنا معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم.

وفي تفسير العياشي عن جعفر بن محمد عن أبيه 8 : أن رجلاً قال لأمير المؤمنين 7 : هل تصف لنا ربنا نزداد له حباً ومعرفة ؟ فغضب وخطب


الناس فقال فيما قال ـ عليك يا عبد الله بما دلك عليه القرآن من صفته ، وتقدمك فيه الرسول من معرفته ، واستضئ من نور هدايته فإنما هي نعمة وحكمة أوتيتها ، فخذ ما اوتيت وكن من الشاكرين ، وما كلفك الشيطان عليه مما ليس عليك في الكتاب فرضه ، ولا في سنة الرسول وأئمة الهدى أمره فكل علمه إلى الله ، ولا تقدر عظمة الله واعلم يا عبد الله : أن الراسخين في العلم الذين اختارهم الله عن الاقتحام في السدد المضروبة دون الغيوب فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فقالوا آمنا به كل من عند ربنا ، وقد مدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً ، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عنه منهم رسوخاً فاقتصر على ذلك ولا تقدر عظمة الله على قدر عقلك فتكون من الهالكين.

أقول : قوله 7 : واعلم يا عبدالله أن الراسخين في العلم إلخ ظاهر في أنه 7 أخذ الواو في قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) يقولون ، للاستيناف دون العطف كما استظهرناه من الآية ومقتضى ذلك أن ظهور الآية لا يساعد على كون الراسخين في العلم عالمين بتأويله ، لا أنه يساعد على عدم إمكان علمهم به ، فلا ينافي وجود بيان آخر يدل عليه كما تقدم بيانه وهو ظاهر بعض الأخبار عن أئمه أهل البيت كما سيأتي. وقوله 7 : الذين أغناهم الله عن الاقتحام في السدد المضروبة دون الغيوب ، خبر إن ، والكلام ظاهر في تحضيض المخاطب وترغيبه أن يلزم طريقة الراسخين في العلم بالاعتراف بالجهل فيما جهله فيكون منهم ، وهذا دليل على تفسيره 7 الراسخين في العلم بمطلق من لزم ما علمه ولم يتعد إلى ما جهله. والمراد بالغيوب المحجوبة بالسدد : المعاني المرادة بالمتشابهات المخفية عن الأفهام العامة ولذا أردفه بقوله ثانياً : فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره ، ولم يقل بجملة ما جهلوا تأويله فافهم.

وفي الكافي عن الصادق 7 : نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله.

أقول : والرواية لا تخلو عن ظهور في كون قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) ، معطوفاً على المستثنى في قوله : وما يعلم تأويله إلا الله لكن هذا الظهور يرتفع بما مر من البيان وما تقدم من الرواية ، ولا يبعد كل البعد أن يكون المراد بالتأويل هو المعنى المراد بالمتشابه فإن هذا المعنى من التأويل المساوق لتفسير المتشابه كان شائعاً في الصدر الأول بين الناس.


وأما قوله 7 : نحن الراسخون في العلم ، وقد تقدم في رواية للعياشي عن الصادق 7 قوله : والراسخون في العلم هم آل محمد ؛ وهذه الجملة مروية في روايات اخر أيضاًً فجميع ذلك من باب الجرى والانطباق كما يشهد بذلك ما تقدم ويأتى من الروايات.

وفي الكافي أيضاًً عن هشام بن الحكم قال : قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر 7 إلى أن قال : يا هشام إن الله حكى عن قوم صالحين : انهم قالوا : (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) ، علموا أن القلوب تزيغ وتعود إلى عماها ورداها ، إنه لم يخف الله من لم يعقل عن الله ومن لم يعقل عن الله ، لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة ينظرها ، ويجد حقيقتها في قلبه ، ولا يكون أحد كذلك إلا من كان قوله لفعله مصدقاً ، وسره لعلانيته موافقاً ، لان الله عز اسمه لم يدل على الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه وناطق عنه.

أقول : قوله 7 : لم يخف الله من لم يعقل عن الله ، في معنى قوله تعالى : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) ، وقوله 7 : ومن لم يعقل عن الله « إلخ » أحسن بيان لمعنى الرسوخ في العلم لأن الأمر ما لم يعقل حق التعقل لم ينسد طرق الاحتمالات فيه ، ولم يزل القلب مضطرباً في الإذعان به وإذا تم التعقل وعقد القلب عليه لم يخالفه باتباع ما يخالفه من الهوى فكان ما في قلبه هو الظاهر في جوارحه وكان ما يقوله هو الذي يفعله ، وقوله : ولا يكون أحد كذلك « الخ » بيان لعلامة الرسوخ في العلم.

وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن أنس وأبي أمامة ووائلة بن اسقف وأبي الدرداء أن رسول الله 6 سئل عن الراسخين في العلم فقال : من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه ، ومن عف بطنه وفرجه فذلك من الراسخين في العلم.

أقول : ويمكن توجيه الرواية بما يرجع إلى معنى الحديث السابق.

وفي الكافي عن الباقر 7 : أن الراسخين في العلم من لا يختلف في علمه.

أقول : وهو منطبق على الآية ، فإن الراسخين في العلم قوبل به فيها قوله : (الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) ، فيكون رسوخ العلم عدم اختلاف العالم وارتيابه.


وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن ام سلمة : أن رسول الله كان يكثر في دعائه أن يقول اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. قلت يا رسول الله وإن القلوب لتتقلب ؟ قال نعم ما خلق الله من بشر من بني آدم إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فإن شاء أقامه ، وإن شاء أزاغه ، الحديث.

أقول : وروي هذا المعنى بطرق عديدة عن عدة من الصحابة كجابر ونواس ابن شمعان وعبد الله بن عمر وأبي هريرة ، والمشهور في هذا الباب ما في حديث نواس : قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن. وقد روى اللفظة ( فيما أظن ) الشريف الرضي في المجازات النبوية.

وروي عن علي 7 : أنه قيل له. هل عندكم شيء من الوحي ؟ قال : لا والذي فلق الحبة وبرء النسمة إلا أن يعطي الله عبداً فهماً في كتابه.

أقول : وهو من غرر الأحاديث ، وأقل ما يدل عليه : أن ما نقل من أعاجيب المعارف الصادرة عن مقامه العلمي الذي يدهش العقول مأخوذ من القرآن الكريم.

وفي الكافي عن الصادق عن أبيه عن آبائه : قال : قال رسول الله 7 : يا أيها الناس إنكم في دار هدنة ، وأنتم على ظهر سفر ، والسير بكم سريع ، وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كل جديد ، ويقربان كل بعيد ، ويأتيان بكل موعود ، فأعدوا الجهاز لبعد المجاز ، قال : فقام المقداد بن الأسود فقال : يا رسول الله وما دار الهدنة ؟ فقال : دار بلاغ وانقطاع ، فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع ، وماحل مصدق ، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدل على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن ، فظاهره حكم وباطنه علم ، ظاهره أنيق وباطنه عميق ، له تخوم وعلى تخومه تخوم ، لا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ، ومنار الحكمة ، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة ، فليجل جال بصره ، وليبلغ الصفة نظره ، ينج من عطب ، ويخلص من نشب ، فإن التفكر حيوة قلب البصير ، كما يمشي المستنير في الظلمات ، فعليكم بحسن التخلص ، وقلة التربص.


أقول : ورواه العياشي في تفسيره إلى قوله : فليجل جال.

وفي الكافي وتفسير العياشي أيضاًً عن الصادق 7 قال : قال رسول الله 6 : القرآن هدى من الضلالة ، وتبيان من العمى ، واستقالة من العثرة ، ونور من الظلمة ، وضياء من الاحداث ، وعصمة من الهلكة ، ورشد من الغواية ، وبيان من الفتن ، وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة ، وفيه كمال دينكم ، وما عدل أحد من القرآن إلا إلى النار.

أقول : والروايات في هذا المساق كثيرة عن النبي 6 والأئمة من أهل بيته :.

وفي تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار قال : سألت أبا جعفر 7 عن هذه الرواية : ما في القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن ، وما فيه حرف إلا وله حد ولكل حد مطلع ، ما يعني بقوله ظهر وبطن ؟ قال : ظهره تنزيله وبطنه تأويله ، منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد ، يجري كما يجري الشمس والقمر ، كلما جاء منه شيء وقع ، قال الله : (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) ، نحن نعلمه.

أقول : الرواية المنقولة في ضمن الرواية هي ما روته الجماعة عن النبي 6 بألفاظ مختلفة وإن كان المعنى واحداً كما في تفسير الصافي عن النبي 6 : إن للقرآن ظهراً وبطناً وحداً ومطلعاً. وفيه عنه 6 أيضاًً : إن للقرآن ظهراً وبطناً ولبطنه بطناً إلى سبعة أبطن.

وقوله 7 منه ما مضى ومنه ما يأتي ، ظاهره رجوع الضمير إلى القرآن باعتبار اشتماله على التنزيل والتأويل فقوله : يجري كما يجري الشمس والقمر يجري فيهما معاً ، فينطبق في التنزيل على الجري الذي اصطلح عليه الأخبار في انطباق الكلام بمعناه على المصداق كانطباق قوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ) التوبة ـ ١٢٠ ، على كل طائفة من المؤمنين الموجودين في الأعصار المتأخرة عن زمان نزول الآية ، وهذا نوع من الانطباق ، وكانطباق آيات الجهاد على جهاد النفس ، وانطباق آيات المنافقين على الفاسقين من المؤمنين ، وهذا نوع آخر من الانطباق أدق من الأول ، وكانطباقها وانطباق آيات المذنبين على أهل المراقبة والذكر والحضور في تقصيرهم ومساهلتهم في ذكر الله تعالى ، وهذا نوع آخر أدق من ما تقدمه ، وكانطباقها عليهم


في قصورهم الذاتي عن أداء حق الربوبية ، وهذا نوع آخر أدق من الجميع.

ومن هنا يظهر أولاً : أن للقرآن مراتب من المعاني المرادة بحسب مراتب أهله ومقاماتهم ، وقد صور الباحثون عن مقامات الإيمان والولاية من معانيه ما هو أدق مما ذكرناه.

وثانياً : أن الظهر والبطن أمران نسبيان ، فكل ظهر بطن بالنسبة إلى ظهره وبالعكس كما يظهر من الرواية التالية.

وفي تفسير العياشي عن جابر قال : سألت أبا جعفر 7 عن شيء من تفسير القرآن فأجابني ثم سألته ثانية فأجابني بجواب آخر ، فقلت : جعلت فداك كنت أجبت في المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم ! فقال : يا جابر إن للقرآن بطناً وللبطن بطن ، وظهراً وللظهر ظهر ، يا جابر وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القران ، إن الآية تكون أولها في شيء وأوسطها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل ينصرف على وجوه.

وفيه أيضاًً عنه 7 في حديث قال : ولو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات اولئك القوم ماتت الآية لما بقى من القرآن شيء ، ولكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السموات والأرض ولكل قوم آية يتلونها هم منها من خير أو شر.

وفي المعاني عن حمران بن أعين قال : سألت أبا جعفر 7 عن ظهر القرآن وبطنه فقال : ظهره الذين نزل فيهم القرآن ، وبطنه الذين عملوا بأعمالهم ، يجري فيهم ما نزل في اولئك.

وفي تفسير الصافي عن عليّ 7 : ما من آية إلا ولها أربعة معان : ظاهر وباطن وحد ومطلع ، فالظاهر التلاوة ، والباطن الفهم ، والحد هو أحكام الحلال والحرام ، والمطلع هو مراد الله من العبد بها.

أقول : المراد بالتلاوة ظاهر مدلول اللفظ بدليل أنه 7 عده من المعاني ، فالمراد بالفهم في تفسيره الباطن ما هو في باطن الظاهر من المعنى ، والمراد بقوله : هو أحكام الحلال والحرام ظاهر المعارف المتلقاة من القرآن في أوائل المراتب أو أواسطها في مقابل المطلع الذي هو المرتبة العليا ، او الحد والمطلع نسبيان كما أن الظاهر والباطن


نسبيان كما عرفت فيما تقدم ، فكل مرتبة عليا هي مطلع بالنسبة إلى السفلى.

والمطلع إما بضم الميم وتشديد الطاء وفتح اللام اسم مكان من الإطلاع ، أو بفتح الميم واللام وسكون الطاء اسم مكان من الطلوع ، وهو مراد الله من العبد بها كما ذكره 7.

وقد ورد هذه الامور الأربعة في النبوي المعروف هكذا : إن القرآن انزل على سبعة أحرف ؛ لكل آية منها ظهر وبطن ولكل حد مطلع. وفي رواية : ولكل حد ومطلع.

ومعنى قوله 6 : ولكل حد مطلع على ما في إحدى الروايتين : أن لكل واحد من الظهر والبطن الذي هو حد مطلع يشرف عليه ، هذا هو الظاهر ، ويمكن أن يرجع إليه ما في الرواية الاخرى ، ولكل حد ومطلع بأن يكون المعنى : ولكل منهما حد هو نفسه ومطلع وهو ما ينتهي إليه الحد فيشرف على التأويل ، لكن هذا لا يلائم ظاهراً ما في رواية علي 7 : ما من آية إلا ولها أربعة معان « الخ » إلا أن يراد أن لها أربعة اعتبارات من المعنى وإن كان ربما انطبق بعضها على بعض.

وعليهذا فالمتحصل من معاني الامور الأربعة أن الظهر هو المعنى الظاهر البادئ من الآية ؛ والباطن هو الذي تحت الظاهر سواء كان واحداً أو كثيراً ، قريباً منه أو بعيداً بينهما واسطة ؛ والحد هو نفس المعنى سواء كان ظهراً أو بطناً والمطلع هو المعنى الذي طلع منه الحد وهو بطنه متصلاً به فافهم.

وفي الحديث المروي من طرق الفريقين عن النبي 6 : انزل القرآن على سبعة أحرف.

اقول : والحديث وإن كان مروياً باختلاف ما في لفظه ، لكن معناها مروي مستفيضاً والروايات متقاربة معنى ، روتها العامة والخاصة. وقد اختلف في معنى الحديث اختلافاً شديداً ربما انهي إلى أربعين قولا ، والذي يهون الخطب أن في نفس الأخبار تفسيراً لهذه السبعة الأحرف وعليه التعويل.

ففي بعض الأخبار : نزل القرآن على سبعة أحرف أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل وقصص ومثل ، وفي بعضها : زجر وأمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال.


وعن علي 7 : أن الله أنزل القرآن على سبعة أقسام ، كل منها كاف شاف ، وهي أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل ومثل وقصص.

فالمتعين حمل السبعة الاحرف على أقسام الخطاب وأنواع البيان وهي سبعة على وحدتها في الدعوة إلى الله وإلى صراطه المستقيم ، ويمكن ان يستفاد من هذه الرواية حصر اصول المعارف الإلهية في الأمثال فإن بقية السبعة لا تلائمها إلا بنوع من العناية على ما لا يخفى.

( بحث آخر روائي )

في الصافي عن النبي 6 : من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار.

أقول : وهذا المعنى رواه الفريقان ، وفي معناه أحاديث اخر رووه عن النبي 6 وأئمة أهل البيت :.

وفي منية المريد عن النبي 6 قال : من قال في القرآن بغير علم فليتبوء مقعده من النار.

أقول : ورواه أبو داود في سننه.

وفيه عنه 6 قال : من قال في القرآن بغير علم جاء يوم القيامة ملجماً بلجام من نار.

وفيه عنه 6 قال : من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ.

أقول : ورواه أبو داود و الترمذي والنسائي.

وفيه عنه 6 قال : أكثر ما أخاف على امتي من بعدي رجل يناول القرآن يضعه على غير مواضعه.

وفي تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله 7 قال : من فسر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر وإن أخطأ فهو أبعد من السماء.

وفيه عن يعقوب بن يزيد عن ياسر عن الرضا 7 قال : الرأي في كتاب الله كفر.


اقول : وفي معناها روايات اخر مروية في العيون والخصال وتفسير العياشي وغيرها.

قوله 6 من فسر القرآن برأيه ، الرأي هو الاعتقاد عن اجتهاد وربما اطلق على القول عن الهوى والاستحسان وكيف كان لما ورد قوله : برأيه مع الإضافة إلى الضمير علم منه أن ليس المراد به النهي عن الاجتهاد المطلق في تفسير القرآن حتى يكون بالملازمة أمراً بالاتباع والاقتصار بما ورد من الروايات في تفسير الآيات عن النبي وأهل بيته صلّى الله عليه وعليهم على ما يراه أهل الحديث ، على أنه ينافي الآيات الكثيرة الدالة على كون القرآن عربياً مبيناً ، والآمرة بالتدبر فيه ، وكذا ينافي الروايات الكثيرة الآمرة بالرجوع إلى القرآن وعرض الأخبار عليه.

بل الإضافة في قوله : برأيه تفيد معنى الاختصاص والانفراد والاستقلال بأن يستقل المفسر في تفسير القرآن بما عنده من الأسباب في فهم الكلام العربي ، فيقيس كلامه تعالى بكلام الناس فإن قطعة من الكلام من أي متكلم إذا ورد علينا لم نلبث دون أن نعمل فيه القواعد المعمولة في كشف المراد الكلامي ونحكم بذلك : أنه أراد كذا كما نجري عليه في الأقارير والشهادات وغيرهما ، كل ذلك لكون بياننا مبنياً على ما نعلمه من اللغة ونعهده من مصاديق الكلمات حقيقة ومجازاً.

والبيان القرآني غير جار هذا المجرى على ما تقدم بيانه في الأبحاث السابقة بل هو كلام موصول بعضها ببعض في عين أنه مفصول ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض كما قاله علي 7 فلا يكفي ما يتحصل من آية واحدة بإعمال القواعد المقررة في العلوم المربوطة في انكشاف المعنى المراد منها دون أن يتعاهد جميع الآيات المناسبة لها ويجتهد في التدبر فيها كما يظهر من قوله تعالى : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) النساء ـ ٨٢ ، وقد مر بيانه في الكلام على الايجاز وغيره.

فالتفسير بالرأي المنهي عنه أمر راجع إلى طريق الكشف دون المكشوف وبعبارة اخرى إنما نهى 7 عن تفهم كلامه على نحو ما يتفهم به كلام غيره وإن كان هذا النحو من التفهم ربما صادف الواقع ، والدليل على ذلك قوله 6 في الرواية الاخرى : من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ فإن الحكم بالخطأ مع فرض الإصابة ليس إلا


لكون الخطأ في الطريق وكذا قوله 7 في حديث العياشي : إن أصاب لم يوجر.

ويؤيده ما كان عليه الأمر في زمن النبي 6 فإن القرآن لم يكن مؤلفاً بعد ولم يكن منه إلا سور أو آيات متفرقة في أيدي الناس فكان في تفسير كل قطعة قطعة منه خطر الوقوع في خلاف المراد.

والمحصل : أن المنهي عنه إنما هو الاستقلال في تفسير القرآن واعتماد المفسر على نفسه من غير رجوع إلى غيره ، ولازمه وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع إليه ، وهذا الغير لا محالة إما هو الكتاب أو السنة ، وكونه هي السنة ينافي القرآن ونفس السنة الآمرة بالرجوع إليه وعرض الأخبار عليه ، فلا يبقى للرجوع إليه والاستعداد منه في تفسير القرآن إلا نفس القرآن.

ومن هنا يظهر حال ما فسروا به حديث التفسير بالرأي فقد تشتتوا في معناه على أقوال.

احدها : أن المراد به التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير ، وهي خمسة عشر علماً على ما أنهاه السيوطي في الإتقان : اللغة ، والنحو ، والتصريف ، و الاشتقاق ، والمعاني ، والبيان ، والبديع ، والقراءة ، واصول الدين ، واصول الفقه ، وأسباب النزول وكذا القصص ، والناسخ والمنسوخ ، والفقه والاحاديث المبينة لتفسير المجملات والمبهمات ، وعلم الموهبة ، ويعني بالأخير ما أشار إليه الحديث النبوي : من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم.

الثاني : أن المراد به تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.

الثالث : التفسير المقرر للمذهب الفاسد بأن يجعل المذهب أصلاً والتفسير تبعاً فيرد إليه بأِي طريق أمكن وإن كان ضعيفاً.

الرابع : التفسير بأن مراد الله تعالى كذا على القطع من غير دليل.

الخامس : التفسير بالاستحسان والهوى : وهذه الوجوه الخمسة نقلها ابن النقيب على ما ذكره السيوطي في الإتقان ، وهنا وجوه اخر نتبعها بها.

السادس : أن المراد به هو القول في مشكل القرآن بما لا يعرف من مذاهب


الأوائل من الصحابة والتابعين ، ففيه تعرض لسخط الله تعالى.

السابع : القول في القرآن بما يعلم أن الحق غيره ، نقلهما ابن الأنباري.

الثامن : أن المراد به القول في القرآن بغير علم وتثبت ، سواء علم أن الحق خلافه أم لا.

التاسع : هو الأخذ بظاهر القرآن بناءاً على أنه لا ظهور له بل يتبع في مورد الآية النص الوارد عن المعصوم ، وليس ذلك تفسيراً للآية بل اتباعاً للنص ، ويكون التفسير على هذا من الشئون الموقوفة على المعصوم.

العاشر : أنه لأخذ بظاهر القرآن بنائاً على أن له ظهوراً لا نفهمه بل المتبع في تفسير الآية هو النص عن المعصوم.

فهذه وجوه عشرة ، وربما أمكن إرجاع بعضها إلى بعض ، وكيف كان فهي وجوه خالية عن الدليل ، على أن بعضها ظاهر البطلان أو يظهر بطلانه بما تقدم في المباحث السابقة ، فلا نطيل بالتكرار.

وبالجملة فالمتحصل من الروايات والآيات التي تؤيدها كقوله تعالى : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ) الآية ، وقوله تعالى : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) الحجر ـ ٩١ ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الآية ) حم السجدة ـ ٤٠ ، وقوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) النساء ـ ٤٦ ، وقوله تعالى : (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) أسرى ـ ٣٦ ، إلى غير ذلك أن النهي في الروايات إنما هو متوجه إلى الطريق وهو أن يسلك في تفسير كلامه تعالى الطريق المسلوك في تفسير كلام غيره من المخلوقين.

وليس اختلاف كلامه تعالى مع كلام غيره في نحو استعمال الألفاظ وسرد الجمل وإعمال الصناعات اللفظية فإنما هو كلام عربي روعي فيه جميع ما يراعى في كلام عربي وقد قال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) إبراهيم ـ ٤ ، وقال تعالى : (وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) النحل ـ ١٠٣ ، وقال تعالى : (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) الزخرف ـ ٣.

وإنما الاختلاف من جهة المراد والمصداق الذي ينطبق عليه مفهوم الكلام.


توضيح ذلك : أنا من جهة تعلق وجودنا بالطبيعة الجسمانية وقطوننا المعجل في الدنيا المادية ألفنا من كل معنى مصداقه المادي ، واعتدنا بالأجسام والجسمانيات فإذا سمعنا كلام واحد من الناس الذين هم أمثالنا يحكي عن حال أمر من الامور وفهمنا منه معناه حملناه على ما هو المعهود عندنا من المصداق والنظام الحاكم فيه لعلمنا بأنه لا يعني إلا ذلك لكونه مثلنا لا يشعر إلا بذلك ، وعند ذلك يعود النظام الحاكم في المصداق يحكم في المفهوم فربما خصص به العام أو عمم به الخاص أو تصرف في المفهوم بأي تصرف آخر وهو الذي نسميه بتصرف القرائن العقلية غير اللفظية.

مثال ذلك أنا إذا سمعنا عزيزاً من أعزتنا ذا سؤدد وثروة يقول : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ، وتعقلنا مفهوم الكلام ومعاني مفرداته حكمنا في مرحلة التطبيق على المصداق ، أن له أبنية محصورة حصينة تسع شيئاًً كثيراً من المظروفات فان الخزانة هكذا تتخذ إذا اتخذت ، وأن له فيها مقداراً وفراً من الذهب والفضة والورق والأثاث والزينه والسلاح ، فإن هذه الامور هي التي يمكن أن تخزن عندنا وتحفظ حفظاً ، وأما الأرض والسماء والبر والبحر والكوكب والإنسان فهي وإن كانت أشياء لكنها لا تخزن ولا تتراكم ، ولذلك نحكم بأن المراد من الشيء بعض من أفراده غير المحصورة ، وكذا من الخزائن قليل من كثير فقد عاد النظام الموجود في المصداق وهو أن كثيراً من الأشياء لا يخزن ، وأن ما يختزن منها إنما يختزن في بناء حصين مأمون عن الغيلة والغارة أوجب تقييداً عجيباً في إطلاق مفهوم الشيء والخزائن.

ثم إذا سمعنا الله تعالى ينزل على رسوله قوله : (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ ) الحجر ـ ٢١ ، فإن لم يرق أذهاننا عن مستواها الساذج الأولي فسرنا كلامه بعين ما فسرنا به كلام الواحد من الناس مع أنه لا دليل لنا على ذلك البتة فهو تفسير بما نراه من غير علم.

وإن رقت أذهاننا عن ذلك قليلاً ، وأذعنا بأنه تعالى لا يخزن المال وخاصة إذا سمعناه تعالى يقول في ذيل الآية : (وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) ، ويقول أيضاً : (وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) الجاثية ـ ٥ ، حكمنا بأن المراد بالشيء الرزق من الخبز والماء وأن المراد بنزوله نزول المطر لأنا لا نشعر بشيء ينزل من السماء غير المطر فاختزان كل شيء عند الله ثم نزوله بالقدر كناية عن اختزان المطر


ونزوله لتهيئة المواد الغذائية. وهذا أيضاً تفسير بما نراه من غير علم إذ لا مستند له إلا أنّا لا نعلم شيئاًً ينزل من السماء غير المطر ، والذي بأيدينا هيهنا عدم العلم دون العلم بالعدم.

وإن تعالينا عن هذا المستوى أيضاً واجتنبنا ما فيه من القول في القرآن بغير علم وأبقينا الكلام على إطلاقه التام ، وحكمنا أن قوله : ( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ) يبين أمر الخلقة غير أنا لما كنا لا نشك في أن ما نجده من الأشياء المتجددة بالخلقة كالإنسان والحيوان والنبات وغيرها لا تنزل من السماء ، وإنما تحدث حدوثاً في الأرض حكمنا بأن قوله : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ، كناية عن مطاوعة الأشياء في وجودها لإرادة الله تعالى ، وأن الإرادة بمنزلة مخزن يختزن فيه جميع الأشياء المخلوقة وإنما يخرج منه وينزل من عنده تعالى ، ما يتعلق به مشيته تعالى ، وهذا أيضاً كما ترى تفسير للآية بما نراه من غير علم ، إذ لا مستند لنا فيه سوى أنا نجد الأشياء غير نازلة من عند الله بالمعنى الذي نعهده من النزول ، ولا علم لنا بغيره.

وإذا تأملت ما وصفه الله تعالى في كتابه من أسماء ذاته وصفاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله والقيامة وما يتعلق بها ، وحكم أحكامه وملاكاتها ، وتأملت ما نرومه في تفسيرها من إعمال القرائن العقلية وجدت أن ذلك كله من قبيل التفسير بالرأي من غير علم ، وتحريف لكلمه عن مواضعها.

وقد تقدم في الفصل الخامس من البحث في المحكم والمتشابه أن البيانات القرآنية بالنسبة الى المعارف الإلهية كالأمثال أو هي أمثال بالنسبة الى ممثلاًتها. وقد فرقت في الآيات المتفرقة ، وبينت ببيانات مختلفة ليتبين ببعض الآيات ما يمكن أن يختفي معناه في بعض ، ولذلك كان بعضها شاهداً على البعض ، والآية مفسرة للآية ، ولولا ذلك لاختل أمر المعارف الإلهية في حقالقها ، ولم يمكن التخلص في تفسير الآية من القول بغير علم على ما تقدم بيانه.

ومن هنا يظهر أن التفسير بالرأي كما بيناه لا يخلو عن القول بغير علم كما يشير الحديث النبوي السابق : من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار.

ومن هنا يظهر أيضاً : أن ذلك يؤدي الى ظهور التنافي بين الآيات القرآنية من حيث إبطاله الترتيب المعنوي الموجود في مضامينها فيؤدي الى وقوع الآية في غير


موقعها ، ووضع الكلمة في غير موضعها. ويلزمها تأويل بعض القرآن أو أكثر آياتها بصرفها عن ظاهرها كما يتأول المجبرة آيات الاختيار ، والمفوضة آيات القدر ، وغالب المذاهب في الإسلام لا يخلو عن التأول في الآيات القرآنية وهي الآيات التي لا يوافق ظاهرها مذهبهم ، فيتشبثون في ذلك بذيل التأويل استناداً إلى القرينة العقلية ، وهو قولهم : إن الظاهر الفلاني قد ثبت خلافه عند العقل فيجب صرف الكلام عنه.

وبالجملة يؤدي ذلك إلى اختلاط الآيات بعضها ببعض ببطلان ترتيبها ، ودفع مقاصد بعضها ببعض ، ويبطل بذلك المراد ان جميعاً إذ لا اختلاف في القرآن فظهور الاختلاف بين الآيات ـ بعضها مع بعض ـ ليس إلا لاختلال الأمر واختلاط المراد فيهما معاً.

وهذا هو الذي ورد التعبير عنه في الروايات بضرب بعض القرآن ببعض كما في الروايات التالية :

في الكافي وتفسير العياشي عن الصادق عن أبيه 8 قال : ما ضرب رجل من القرآن بعضه ببعض إلا كفر.

وفي المعاني والمحاسن مسنداً وفي تفسير العياشي عن الصادق 7 ما ضرب رجل من القرآن بعضه ببعض إلا كفر.

قال الصدوق سألت ابن الوليد عن معنى هذا الحديث فقال : هو أن تجيب الرجل في تفسير آية بتفسير آية اخرى.

أقول : ما أجاب به لا يخلو عن إبهام ، فإن أراد به الخلط المذكور وما هو المعمول عند الباحثين في مناظراتهم من معارضة الآية بالآية وتأويل البعض بالتمسك بالبعض فحق ، وإن أراد به تفسير الآية بالآية والاستشهاد بالبعض للبعض فخطأ ، والروايتان التاليتان تدفعانه.

وفي تفسير النعماني بإسناده إلى إسمعيل بن جابر قال : سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق 8 يقول : إِن الله تبارك وتعالى بعث محمداً فختم به الأنبياء فلا نبي بعده ، وأنزل عليه كتاباً فختم به الكتب فلا كتاب بعده ، أحل فيه حلالاً وحرم

( ٣ ـ الميزان ـ ٦ )


حراماً ، فحلاله حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، فيه شرعكم وخبر من قبلكم وبعدكم ، وجعله النبي 9 علماً باقياً في أوصيائه ، فتركهم الناس وهم الشهداء على أهل كل زمان ، وعدلوا عنهم ثم قتلوهم ، واتبعوا غيرهم ثم أخلصوا لهم الطاعة حتى عاندوا من أظهر ولاية ولاة الأمر وطلب علومهم ، قال الله سبحانه : ( فنسوا حظاً مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم ) وذلك أنهم ضربوا بعض القرآن ببعض ، واحتجوا بالمنسوخ وهم يظنون أنه الناسخ ، واحتجوا بالمتشابه وهم يرون أنه المحكم ، واحتجوا بالخاص وهم يقدرون أنه العام ، واحتجوا بأول الآية وتركوا السبب في تأويلها ، ولم ينظروا إلى ما يفتح الكلام وإلى ما يختمه ، ولم يعرفوا موارده ومصادره إذ لم يأخذوه عن أهله فضلوا وأضلوا.

واعلموا رحمكم الله : أنه من لم يعرف من كتاب الله عز وجل الناسخ من المنسوخ والخاص من العام ، والمحكم من المتشابه ، والرخص من العزائم ، والمكي والمدني وأسباب التنزيل ، والمبهم من القرآن في ألفاظه المنقطعة والمؤلفة ، وما فيه من علم القضاء والقدر ، والتقديم والتأخير ، والمبين والعميق ، والظاهر والباطن ، والابتداء والانتهاء ، والسؤال والجواب ، والقطع والوصل ، والمستثنى منه والجار فيه ، والصفة لما قبل مما يدل على ما بعد ، والمؤكد منه والمفصل ، وعزائمه ورخصه ، ومواضع فرائضه وأحكامه ، ومعنى حلاله وحرامه الذي هلك فيه الملحدون ، والموصول من الألفاظ ، والمحمول على ما قبله وعلى ما بعده فليس بعالم بالقرآن ولا هو من أهله.

ومتى ما ادعى معرفة هذه الأقسام مدع بغير دليل فهو كاذب مرتاب مفتر على الله الكذب ورسوله : (وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ).

وفي نهج البلاغة والاحتجاج قال 7 : ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ثم تجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آرائهم جميعاً وإلههم واحد ونبيهم واحد ، وكتابهم واحد ، فأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فاطاعوه ؟ أم نهاهم عنه فعصوه ؟ أم أنزل الله ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه ؟ أم كانوا شركاء فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى ؟ أم أنزل الله ديناً تاماً فقصر الرسول 6 عن تبليغه وأدائه ؟ والله سبحانه يقول : ما فرطنا في الكتاب من شيء وفيه تبيان كل شيء ،


وذكر أن الكتّاب يصدق بعضه بعضاً ، وأنه لا اختلاف فيه فقال سبحانه : ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ، وإن القرآن ظاهره أنيق ، وباطنه عميق لا تحصى عجائبه ، ولا تنقضي غرائبه ، ولا تكشف الظلمات إلا به.

أقول : والرواية كما ترى ناصة على أن كل نظر ديني يجب أن ينتهي إلى القرآن ، وقوله : فيه تبيان ، نقل للآية بالمعنى.

وفي الدر المنثور وأخرج ابن سعد وابن الضريس في فضائله وابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن رسول الله 6 خرج على قوم يتراجعون في القرآن وهو مغضب فقال : بهذا ضلت الامم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم ، وضرب الكتاب بعضه ببعض. قال : وإن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً ولكن نزل يصدق بعضه بعضاً ، فما عرفتم فاعملوا به ، وما تشابه عليكم فآمنوا به.

وفيه أيضاً وأخرج أحمد من وجه آخر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده سمع رسول الله 6 قوماً يتدارئون فقال : إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، وانما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً فلا تكذبوا بعضه ببعض فما علمتم منه فقولوا ، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه.

أقول : والروايات كما ترى يعد ضرب القرآن بعضه ببعض مقابلاً لتصديق بعض القرآن بعضاً وهو الخلط بين الآيات من حيث مقامات معانيها ، والإخلال بترتيب مقاصدها كأخذ المحكم متشابهاً والمتشابه محكماً ونحو ذلك.

فالتكلم في القرآن بالرأي ، والقول في القرآن بغير علم كما هو موضوع الروايات المنقولة سابقاً وضرب القرآن بعضه ببعضه كما هو مضمون الروايات المنقولة آنفاً يحوم الجميع حول معنى واحد وهو الاستمداد في تفسير القرآن بغيره.

فان قلت : لا ريب أن القرآن إنما نزل ليعقله الناس ويفهموه كما قال تعالى : (إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ) الزمر ـ ٤١ ، وقال تعالى : (هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ) آل عمران ـ ١٣٨ ، إلى غير ذلك من الآيات ؛ ولا ريب أن مبينه هو الرسول 6 كما قال تعالى : (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) النحل ـ ٤٤ ، وقد بينه للصحابة ، ثم أخذ عنهم التابعون فما نقلوه عنه 6 الينا فهو بيان نبوي لا يجوز


التجافي والإغماض عنه بنص القرآن ، وما تكلموا فيه من غير إسناده إلى النبي 6 فهو وإن لم يجر مجرى النبويات في حجيتها لكن القلب إليه أسكن فإن ما ذكروه في تفسير الآيات إما مسموع من النبي 6 أو شيء هداهم إليه الذوق المكتسب من بيانه وتعليمه 6 وكذا ما ذكره تلامذتهم من التابعين ومن يتلوهم ، وكيف يخفى عليهم معاني القرآن مع تعرقهم في العربية ، وسعيهم في تلقيها من مصدر الرسالة ، واجتهادهم البالغ في فقه الدين على ما يقصه التاريخ من مساعي رجال الدين في صدر الاسلام.

ومن هنا يظهر أن العدول عن طريقتهم وسنتهم ، والخروج من جماعتهم ، وتفسير آية من الآيات بما لا يوجد بين أقوالهم وآرائهم بدعة ، والسكوت عما سكتوا عنه واجب.

وفي ما نقل عنهم كفاية لمن أراد فهم كتاب الله تعالى ، فانه يبلغ زهاء الوف من الروايات ، وقد ذكر السيوطي أنه أنهاه إلى سبعة عشر ألف رواية عن النبي وعن الصحابة والتابعين.

قلت : قد مر فيما تقدم أن الآيات التي تدعو الناس عامة من كافر أو مؤمن ممن شاهد عصر النزول أو غاب عنه إلى تعقل القرآن وتامله والتدبر فيه وخاصة قوله تعالى : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) النساء ـ ٨٢ تدل دلالة واضحة على أن المعارف القرآنية يمكن أن ينالها الباحث بالتدبر والبحث ، ويرتفع به ما يترائى من الاختلاف بين الآيات ، والآية في مقام التحدي ، ولا معنى لارجاع فهم معاني الآيات ـ والمقام هذا المقام ـ إلى فهم الصحابة وتلامذتهم من التابعين حتى إلى بيان النبي 6 فإن ما بينه إما أن يكون معنى يوافق ظاهر الكلام فهو مما يؤدى إليه اللفظ ولو بعد التدبر والتأمل والبحث ، وإما أن يكون معنى لا يوافق الظاهر ولا أن الكلام يؤدي إليه فهو مما لا يلائم التحدي ولا تتم به الحجة وهو ظاهر.

نعم تفاصيل الأحكام مما لا سبيل إلى تلقيه من غير بيان النبي 6 كما أرجعها القرآن إليه في قوله تعالى : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) الحشر ـ ٧ وما في معناه من الآيات ، وكذا تفاصيل القصص والمعاد مثلاًً.


ومن هنا يظهر أن شأن النبي 6 في هذا المقام هو التعليم فحسب والتعليم إنما هو هداية المعلم الخبير ذهن المتعلم وإرشاده إلى ما يصعب عليه العلم به والحصول عليه لا ما يمتنع فهمه من غير تعليم ، فإنما التعليم تسهيل للطريق وتقريب للمقصد ، لا ايجاد للطريق وخلق للمقصد والمعلم في تعليمه إنما يروم ترتيب المطالب العلمية ونضدها على نحو يستسهله ذهن المتعلم ويأنس به فلا يقع في جهد الترتيب وكدّ التنظيم فيتلف العمر وموهبة القوة أو يشرف على الغلط في المعرفة.

وهذا هو الذي يدل عليه أمثال قوله تعالى : (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ الآية ) النحل ـ ٤٤ ، وقوله تعالى : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) الجمعه ـ ٢ فالنبي 6 إنما يعلم الناس ويبين لهم ما يدل عليه القرآن بنفسه ، ويبينه الله سبحانه بكلامه ، ويمكن للناس الحصول عليه بالآخرة لأنه 6 يبين لهم معاني لا طريق إلى فهمها من كلام الله تعالى فإن ذلك لا ينطبق البتة على مثل قوله تعالى : (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) حم السجدة ـ ٣ ، وقوله تعالى : (وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) النحل ـ ١٠٣.

على أن الأخبار المتواترة عنه 6 المتضمنة لوصيته بالتمسك بالقرآن والأخذ به وعرض الروايات المنقولة عنه 6 على كتاب الله لا يستقيم معناها إلا مع كون جميع ما نقل عن النبي 6 مما يمكن استفادته من الكتاب ولو توقف ذلك على بيان النبي 6 كان من الدور الباطل وهو ظاهر.

على أن ما ورد به النقل من كلام الصحابة مع قطع النظر عن طرقه لا يخلو عن الاختلاف فيما بين الصحابة أنفسهم بل عن الاختلاف فيما نقل عن الواحد منهم على ما لا يخفى على المتتبع المتأمل في أخبارهم ، والقول بأن الواجب حينئذ أن يختاروا أحد الأقوال المختلفة المنقولة عنهم في الآية ، ويجتنب عن خرق إجماعهم ، والخروج عن جماعتهم مردود بأنهم أنفسهم لم يسلكوا هذا الطريق ، ولم يستلزموا هذا المنهج ولم يبالوا بالخلاف فيما بينهم فكيف يجب على غيرهم ، أن يقفوا على ما قالوا به ولم يختصوا بحجية قولهم على غيرهم ولا بتحريم الخلاف على غيرهم دونهم.

على أن هذا الطريق وهو الاقتصار على ما نقل من مفسري صدر الاسلام من


الصحابة والتابعين في معاني الآيات القرآنية يوجب توقف العلم في سيره ، وبطلان البحث في أثره كما هو مشهود في ما بأيدينا من كلمات الأوايل والكتب المؤلفة في التفسير في القرون الاولى من الإسلام ولم ينقل منهم في التفسير إلا معان ساذجة بسيطة خالية عن تعمق البحث وتدقيق النظر فأين ما يشير إليه قوله تعالى : (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ) النحل ـ ٨٩ من دقائق المعارف في القرآن ؟

وأما استبعاد أن يختفى عليهم معاني القرآن مع ما هم عليه من الفهم والجد والاجتهاد فيبطله نفس الخلاف الواقع بينهم في معاني كثير من الآيات والتناقض الواقع في الكلمات المنقولة عنهم إذ لا يتصور اختلاف ولا تناقض إلا مع فرض خفاء الحق واختلاط طريقه بغيره.

فالحق أن الطريق إلى فهم القرآن الكريم غير مسدود ، وإن البيان الإلهي والذكر الحكيم بنفسه هو الطريق الهادي إلى نفسه ، أي انه لا يحتاج في تبيين مقاصده إلى طريق ، فكيف يتصور أن يكون الكتاب الذي عرفه الله تعالى بأنه هدى وأنه نور وأنه تبيان لكل شيء مفتقراً إلى هاد غيره ومستنيراً بنور غيره ومبيناً بأمر غيره ؟

فإن قلت : قد صح عن النبي 6 أنه قال في آخر خطبة خطبها : إني تارك فيكم الثقلين : الثقل الاكبر والثقل الاصغر ، فأما الأكبر فكتاب ربي ، وأما الأصغر فعترتي أهل بيتي فاحفظوني فيهما فلن تضلوا ما تمسكتم بهما رواه الفريقان بطرق متواترة عن جم غفير من أصحاب رسول الله 6 عنه أنهى علماء الحديث عدتهم إلى خمس وثلاثين صحابياً ؛ وفي بعض الطرق : لن يفترقا حتى يردا على الحوض ، والحديث دال على حجية قول أهل البيت : في القرآن ووجوب اتباع ما ورد عنهم في تفسيره والاقتصار على ذلك وإلا لزم التفرقة بينهم وبينه.

قلت : ما ذكرناه في معنى اتباع بيان النبي 6 آنفاً جار هيهنا بعينه ، والحديث غير مسوق لإبطال حجية ظاهر القرآن وقصر الحجية على ظاهر بيان أهل البيت : كيف وهو 6 يقول : لن يفترقا ، فيجعل الحجية لهما معاً فللقرآن الدلالة على معانيه والكشف عن المعارف الإلهية ولأهل البيت الدلالة على الطريق وهداية الناس إلى أغراضه ومقاصده.


على أن نظير ما ورد عن النبي 6 في دعوة الناس إلى الأخذ بالقرآن والتدبر فيه وعرض ما نقل عنه عليه وارد عن أهل البيت :.

على أن جماً غفيراً من الروايات التفسيرية الواردة عنهم : مشتملة على الاستدلال بآية على آية ، والاستشهاد بمعنى على معنى ، ولا يستقيم ذلك إلا بكون المعنى مما يمكن أن يناله المخاطب ويستقل به ذهنه لوروده من طريقه المتعين له.

على أن هيهنا روايات عنهم : تدل على ذلك بالمطابقة كما رواه في المحاسن بإسناده عن أبى لبيد البحراني عن أبي جعفر 7 في حديث قال : فمن زعم أن كتاب الله مبهم فقد هلك وأهلك. ويقرب منه ما فيه وفي الاحتجاج عنه 7 قال : إذا حدثتكم بشيء ـ فاسألوني عنه من كتاب الله الحديث.

وبما مر من البيان يجمع بين أمثال هذه الأحاديث الدالة على إمكان نيل المعارف القرآنية منه وعدم احتجابها من العقول وبين ما ظاهره خلافه كما في تفسير العياشي عن جابر قال : قال أبو عبد الله 6 : إن للقرآن بطناً وللبطن ظهراً ، ثم قال : يا جابر وليس شيء أبعد من عقول الرجال منه إن الآية لتنزل أولها في شيء وأوسطها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل ينصرف على وجوه ، وهذا المعنى وارد في عدة روايات ، وقد رويت الجملة أعني قوله ، وليس شيء أبعد « الخ » في بعضها عن النبي 6 وقد روي عن علي 7 : أن القرآن حمال ذو وجوه الحديث ، فالذي ندب إليه تفسيره من طريقه والذي نهى عنه تفسيره من غير طريقه وقد تبين أن المتعين في التفسير الاستمداد بالقرآن على فهمه وتفسير الآية بالآية وذلك بالتدرب بالآثار المنقولة عن النبي وأهل بيته صلّى الله عليه وعليهم وتهيئة ذوق مكتسب منها ثم الورود ، والله الهادي.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُولَـئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ـ ١٠. كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ


كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ـ ١١. قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ـ ١٢. قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ ـ ١٣. زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ـ ١٤. قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ـ ١٥. الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ـ ١٦. الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ـ ١٧. شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ـ ١٨.

( بيان )

قد تقدم أن المسلمين عند نزول السورة كانوا مبتلين في داخل جماعتهم بالمنافقين وآخرين سماعين لهم ولما يلقيه إليهم أعداء الاسلام من النزعات والوساوس لتقليب


الامور عليهم وإفساد دعوتهم ومبتلين في خارج جمعهم بثوران الدنيا عليهم وانتهاض المشركين واليهود والنصارى لإبطال دعوتهم وإخماد نارهم وإطفاء نورهم بأى وسيلة أمكنت من لسان أو يد وأن غرض السورة دعوتهم إلى توحيد الكلمة وإلى الصبر والثبات ليصلح بذلك أمرهم وينقطع ما نشأ من الفساد في داخل جوهم ، وما يطرأ ويهجم عليهم منه من خارجه.

وقد كانت الآيات السابقة أعني قوله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب إلى قوله تعالى : (إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) تعريضاً للمنافقين والزائغين قلباً ودعوة للمسلمين إلى التثبت فيما فهموه من معارف الدين ، والتسليم والإيمان فيما اشتبه لهم ولم يفتهموه من كنهه وحقيقته بالتنبيه على أن شر ما يفسد أمر الدين ويجر المسلمين إلى الفتنة واختلال نظام السعادة هو اتباع المتشابهات وابتغاء التأويل فيتحول بذلك الهداية الدينية إلى الغي والضلال ويتبدل به الاجتماع افتراقاً ، والشمل شتاتاً.

ثم وقع التعرض في هذه الآيات لحال الكفار والمشركين وأنهم سيغلبون وليسوا بمعجزين لله سبحانه ولا ناجحين في عتوهم بالتنبيه على أن الذي أوجب ضلالهم والالتباس عليهم هو ما زين لهم من مشتهيات الدنيا فزعموا بما رزقوا من مالها وولدها أن ذلك مغن لهم من الله سبحانه شيئاً وقد أخطأوا في زعمهم فالله سبحانه هو الغالب في أمره ؛ ولو كان المال والأولاد وما أشبهها مغنية من الله شيئاًً لأغنت آل فرعون ومن قبلهم من الامم الظالمة اولي الشوكة والقدرة لكنها لم تغن عنهم شيئاًً وأخذهم الله بذنوبهم فكذلك هؤلاء سيغلبون ويؤخذون فمن الواجب على المؤمنين أن يتقوا الله في هذه المشتهيات حتى ينالوا بذلك سعادة الدنيا وثواب الآخرة ورضوان ربهم سبحانه.

فالآيات كما تعطيه مضامينها متعرضة لحال الكفار كما أن الآيات التالية لهذه الآيات متعرضة لحال أهل الكتاب من اليهود والنصارى على ما سيأتي.

قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً ) أغنى عنه ماله من فلان أي أعطاه الغنى ورفع حاجته فلا حاجة به إليه ، والإنسان في بادي تكونه وشعوره يرى نفسه محتاجة الى الخارج منه ، وهذا أول علمه الفطري الى احتياجه الى الصانع المدبر ثم إنه لما توسط في الأسباب وأحس بحوائجه بدء بإحساس الحاجة الى كماله البدني النباتي وهو الغذاء والولد ، ثم عرفت له نفسه سائر الكمالات


الحيوانية ، وهي التي يزينها له الخيال من زخارف الدنيا من زينة الملبس والمسكن والمنكح وغير ذلك ، وعندئذ يتبدل طلب الغذاء الى طلب المال الذي يظنه مفتاحاً لحل جميع مشكلات الحيوة لأن العادة الغالبة تجري على ذلك فيظن أن سعادة حيوته في المال والولد بعد ما كان يظن أن ضامن سعادته هو الغذاء والولد ، ثم انكباب نفسه على مشتهياته ، وقصر همه على الأسباب يوجب أن يقف قلبه عند الأسباب ، ويعطي لها الاستقلال ، وحينئذ ينسى ربه ، ويتشبث بذيل المال والولد ، وفي هذا الجهل هلاكه فإنه يستر به آيات ربه ويكفر بها ، وقد التبس عليه الأمر فإن ربه هو : ( اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) لا يستغني عنه شيء بحال ولا يغني عنه شيء بحال.

وبهذا البيان يظهر وجه تقديم الاموال على الأولاد في الآية فإن الركون الى المال ـ وقد عرفت أن الأصل فيه الغذاء ـ أقدم عند الإنسان من الركون إلى الأولاد وأعرف منه وإن كان حب الولد ربما غلب عند الإنسان على حب المال.

وفي الآية إيجاز شبيه دفع الدخل ، والتقدير : إن الذين كفروا كذبوا بآياتنا وزعموا أن أموالهم وأولادهم تغنيهم من الله ، وقد أخطأوا فلا غنى من الله سبحانه في وقت ولا في شيء ، على ما تدل عليه الآية التالية.

قوله تعالى : واولئك هم وقود النار ، الوقود بفتح الواو ما توقد به النار وتشتعل ، والآية جارية مجرى قوله تعالى : (فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) البقرة ـ ٢٤ ، قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) الأنبياء ـ ٩٨ ، وقد مر بعض الكلام في معنى ذلك في سورة البقرة.

والاتيان بالجملة الاسمية ، والابتداء باسم الإشارة ، وكونه دالاً على البعد وتوسيط ضمير الفصل ، وإضافه الوقود إلى النار دون أن يقال وقود ، كل ذلك يؤكد ظهور الكلام في الحصر ، ولازمه كون المكذبين من الكفار هم الأصل في عذاب النار وإيقاد جهنم ، وأِن غيرهم إنما يحترقون بنارهم ، ويتأيد بذلك ما سيأتي بيانه في قوله تعالى : (لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ الآية ) الانفال ـ ٣٧.

قوله تعالى : كدأب آل فرعون والذين من قبلهم إلى آخر الآية ، الدأب على ما ذكروه هو السير المستمر ، قال تعالى : (وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ) إبراهيم ـ ٣٣


ومنه تسمية العادة دأباً لأنه سير مستمر ، وهذا المعنى هو المراد في الآية.

وقوله : كدأب ، متعلق بمقدر يدل عليه قوله في الآية السابقة : لن تغني عنهم ، ويفسر الدأب قوله : كذبوا بآياتنا وهو في موضع الحال ؛ وتقدير الكلام كما مرت اليه الإشارة : إن الذين كفروا و كذبوا بآياتنا واستمروا عليها دائبين فزعموا أن في أموالهم وأولادهم غنى لهم من الله كدأب آل فرعون ومن قبلهم وقد كذبوا بآياتنا.

وقوله : فأخذهم الله بذنوبهم ، ظاهر الباء أنها تفيد السببية ، يقال : أخذته بذنبه أي بسبب ذنبه لكن مقتضى المحاذاة التي بين الآيتين ؛ وقياسه حال هؤلاء الذين كفروا في دأبهم على آل فرعون والذين من قبلهم في دأبهم أن يكون البناء للآلة ، فإنه ذكر في الذين كفروا أنهم وقود النار تشتعل عليهم أنفسهم ويعذبون بها فكذلك آل فرعون ومن قبلهم إنما أخذوا بذنوبهم وكان العذاب الذي حل بساحتهم هو عين الذنوب التي اذنبوها ، وكان مكرهم هو الحائق بهم ، وظلمهم عائداً إليهم ، قال تعالى : (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ) الفاطر ـ ٤٣ ، وقال تعالى : (ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) البقرة ـ ٥٧.

ومن هنا يتبين معنى كونه شديد العقاب ، فإن عقابه تعالى لا يقصد الإنسان ولا يتوجه إليه من جهة دون جهة ، وفي محل دون محل ، وعلى شرط دون شرط كما أن عقاب غيره كذلك فإن الشر الذي يوجهه إلى الإنسان مثله مثلاًً إنما يتوجه إليه من بعض الجهات دون بعض كفوق وتحت ، وفي بعض الأماكن دون بعض فيدفع بالفرار والتوقي والإلتجاء مثلاًً ، وهذا بخلاف عقاب تعالى فإنه يأخذ الإنسان بعمله وذنبه وهو مع الإنسان في باطنه وظاهره من غير أن ينفك عنه ، ويجعل الإنسان وقوداً لنار أحاط به سرداقها ، ولا ينفعه فرار ولا قرار ولا ، يوجد منه مناص ولا خلاص ، فهو شديد العقاب.

وفي قوله تعالى : (كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ ) ، التفات من الغيبة إلى الحضور أولاً ثم من الحضور إلى الغيبة ثانياً أما قوله : كذبوا بآياتنا ففيه تنشيط لذهن السامع وتقريب للخبر إلى الصدق فإنه بمنزلة أن يقول القائل : إن فلاناً بذي فحاش سيىء المحاضرة وقد ابتليت به فيجب الاجتناب عن معاشرته ؛ فجملة : وقد ابتليت به


تصحيح للخبر وإثبات لصدقه بإرجاعه إلى الدراية ونحو من الشهادة.

فالمعنى ـ والله أعلم ـ أن آل فرعون كانوا دائبين على دأب هؤلاء الذين كفروا في الكفر وتكذيب الآيات ـ ولا ريب في هذا الخبر فإنا كنا حاضرين شاهدين وقد : (كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا) نحن فأخذناهم.

وأما قوله : فأخذهم الله ، فهو رجوع بعد استيفاء المقصود إلى الأصل في الكلام وهو اسلوب الغيبة ، وفيه مع ذلك إِرجاع الحكم إلى مقام الالوهية القائمة بجميع شئون العالم والمهيمنة على كل ما دق وجل ، ولذلك كرر لفظ الجلالة ثانياً في قوله : (وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ولم يقل : وهو شديد العقاب للدلالة على أن كفرهم وتكذيبهم هذا منازعة ومحاربة مع من له جلال الالوهية ويهون عليه أخذ المذنب بذنبه ، وهو شديد العقاب لانه الله جل اسمه.

قوله تعالى : (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ ) إلى آخر الآية ، الحشر هو اخراج الجماعة عن مقرهم بالازعاج ، ولا يستعمل في الواحد ، قال تعالى : (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) الكهف ـ ٤٧ ، والمهاد هو الفراش ، وظاهر السياق أن المراد بالذين كفروا هم المشركون كما انه ظاهر الآية السابقة : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ ) « الخ » دون اليهود ، وهذا هو الأنسب لاتصال الآيتين حيث تذكر هذه الآية الغلبظة عليهم وحشرهم إلى جهنم وقد أشارت الآية السابقة إلى تقويم وتعززهم بالاموال والأولاد.

قوله تعالى قد كان لكم آية في فئتين التقتا ؛ ظاهر السياق أن يكون الخطاب للذين كفروا ، والكلام من تتمة قول النبي 6 ستغلبون وتحشرون « الخ » ومن الممكن أن يكون خطاباً للمؤمنين بدعوتهم إلى الاعتبار والتفكر بما من الله عليهم يوم بدر حيث أيدهم بنصره تأييداً عجيباً بالتصرف في إبصار العيون وعليهذا يكون الكلام مشتملاً على نوع من الالتفات بتوسعة خطاب رسول الله 6 في قوله : ( قل للذين ) بتوجيهه إليه وإلى من معه من المؤمنين ؛ لكن السياق ـ كما عرفت ـ للأول أنسب.

والآية ـ بما تشتمل عليه من قصة التقاء الفئتين ونصره تعالى للفئة المقاتلة في سبيل الله ـ وان لم تتعرض بتشخيص القصة وتسمية الوقعة غير أنها قابلة الانطباق على وقعة بدر ، والسورة نازلة بعدها بل وبعد احد.


على أن الآية ظاهرة في أن هذه القصة كانت معهودة عند المخاطبين بهذه الخصوصية وهم على ذكر منها حيث يقول : قد كان لكم آية « الخ » ولم يقص تعالى قصة يذكر فيها التصرف في أبصار المقاتلين غير قصة بدر ، والذي ذكره في قصة بدر في سورة الانفال من قوله تعالى : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ ) الأنفال ـ ٤٤ ، وإن كان هو التقليل دون التكثير لكن لا يبعد أن يكون قد قلل فيها المؤمنين في أعين المشركين ليجترئوا عليهم ولا يتولوا عن المقارعة ، ثم كثرهم في أعينهم بعد التلاقي والاختلاط لينهزموا بذلك.

وكيف كان فالمعتمد ما كان في ذكرهم من التكثير في العيون فعلى تقدير أن يكون الخطاب في الآية متوجهاً إلى المشركين لا تنطبق الآية على غير وقعة بدر ، على أن قرائة ترونهم بالتاء أيضاً تؤيد ما ذكرناه.

فمحصل معنى الآية : أنكم أيها المشركون لو كنتم من اولى الأبصار والبصائر لكفاكم في الاعتبار والدلالة على أن الغلبة للحق وأن الله يؤيد بنصره من يشاء ولا يغلب بمال ولا ولد ما رأيتموه يوم بدر فقد كان المؤمنون مقاتلين في سبيل الله سبحانه ، وقد كانوا فئة قليلة مستذلين لا يبلغون ثلث الفئة الكافرة ، ولا يقاسون بهم قوة ، كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ليس لهم إلا ستة أدرع وثمانية سيوف وفرسان ، وكان جيش المشركين قريباً من ألف مقاتل لهم من العدة والقوة والخيل والجمال والهيئة ما لا يقدر بقدر ، فنصر الله المؤمنين على قلتهم وذلتهم على أعدائه وكثّرهم في أعينهم فكانوا يرونهم مثليهم رأى العين ، وأيدهم الملائكة فلم ينفع المشركين ما كانوا يتعززون به من أموال وأولاد ولم يغنهم جمعهم ولا كثرتهم وقوتهم من الله شيئاًً.

وقد ذكر الله سبحانه دأب آل فرعون : والذين من قبلهم في تكذيب آيات الله وأخذهم بذنوبهم في سورة الأنفال عند ذكر القصة مرتين كما ذكره هيهنا بعينه.

وفي موعظتهم بتذكير وقعة بدر إيماء إلى أن المراد بالغلبة في الآيات السابقة الغلبة بالقتل والإبادة ، ففى آياته تهديد بالقتال.

قوله تعالى : (فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ ) ، لم يقل وأُخرى في سبيل


الشيطان أو في سبيل الطاغوت ونحو ذلك لأن الكلام غير مسوق للمقايسة بين السبيلين بل لبيان أن لا غنى من الله تعالى ، وأن الغلبة له فالمقابلة بالحقيقة بين الإيمان بالله والجهاد في سبيله وبين الكفر به تعالى.

والظاهر من السياق أن الضميرين في قوله يرونهم مثليهم راجعان إلى قوله : فئة تقاتل ، أي الفئة الكافرة يرون المؤمنين مثلي المؤمنين فهم يرونهم ستمائة وستة وعشرين ولقد كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، وأما احتمال اختلاف الضميرين مرجعاً بأن يكون المعنى : يرون المؤمنين مثلي عدد الكافرين فبعيد عن اللفظ ، وهو ظاهر.

وربما احتمل أن يكون الضميران راجعين إلى الفئة الكافرة ، ويكون المعنى يرى الكافرون أنفسهم مضاعفة مثلي عددهم ( يرون الالف ألفين ) ولازمه تقليلهم المؤمنين في النسبة فكانوا يرونهم سدس أنفسهم عددا مع كونهم ثلثاً لهم في النسبة وذلك ليطابق ما ذكره في هذه الآية قوله تعالى في قصة بدر : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ) الأنفال ـ ٤٤ ، فإن الآية تنافي الآية.

وأُجيب بأن ذلك يؤدي إلى اللبس غير اللائق بأبلغ الكلام بل كان من اللازم عليهذا أن يقال : يرون أنفسهم مثليهم أو ما يؤدي ذلك وأما التنافي بين الآيتين فإنما يتحقق مع اتحاد الموقف والمقام ، ولا دليل على ذلك لإمكان أن يقلل الله سبحانه كلا من الطائفتين في عين صاحبتها في بدء التلاقي لتشد بذلك قلوبهم وتزيد جرأتهم حتى إذا نشبت المقارعة وحمي الوطيس رأى الكافرون المؤمنين مثلي عددهم فانهزموا بذلك وولوا الأدبار ، وهذا نظير قوله تعالى في وصف يوم القيامة : (لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ ) الرحمن ـ ٣٩ ، مع قوله : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ) الصافات ـ ٢٤ ، وليس إلا أن الموقف غير الموقف.

وفي شأن الضميرين أعني في قوله يرونهم مثليهم ، احتمالات أُخر ذكروها غير أن الجميع تشترك في كونها خلاف ظاهر اللفظ ، ولذلك تركنا ذكرها ، والله العالم.

قوله تعالى : (وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء ) ، إن في ذلك لعبرة لاولي الأبصار ، التأييد من الأيد وهو القوة ، والمراد بالأبصار قيل : هو العيون الظاهرية لكون الآية مشتملة على التصرف في رؤية العيون ، وقيل : هو البصائر لأن العبرة إنما تكون


بالبصيرة القلبية دون البصر الظاهري ، والأمر هين ، فإن الله سبحانه في كلامه يعدّ من لا يعتبر بالعبر والمثلات أعمى ، ويذكر أن العين يجب أن تبصر وتميز الحق من الباطل وفي ذلك دعوى أن الحق الذي يدعو إليه ظاهر متجسد محسوس يجب أن يبصره البصر الظاهر ، وأن البصيرة والبصر في مورد المعارف الإلهية واحد ( بنوع من الاستعارة ) لنهاية ظهورها ووضوحها ، والآيات في ذلك كثيرة جداً ، ومن أحسنها دلالة على ما ذكرنا قوله تعالى : (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) الحج ـ ٤٦ ، أي أن الأبصار إنما هي في القلوب دون الرؤوس ، وقوله تعالى : (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا ) الأعراف ـ ١٧٩ ، والآية في مقام التعجيب ، وقوله تعالى : (وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً ) الجاثية ـ ٢٣ ، إلى غير ذلك من الآيات ، فالمراد بالأبصار فيما نحن فيه هو العيون الظاهرية بدعوى أنها هي التي تعتبر وتفهم فهو من الاستعارة بالكناية ، والنكتة فيه ظهور المعنى كأنه بالغ حد الحس ، ويزيد في لطفه أن المورد يتضمن التصرف في رؤية العين الظاهرة.

وظاهر قوله : إن في ذلك « الخ » أنه تتمة لكلامه تعالى الذي يخاطب به النبي 6 وليس تتمة لقول النبي المدلول عليه بقوله : (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ) « الخ » والدليل عليه الكاف في قوله : ذلك ، فإنه خطاب للنبي 6 وفيهذا العدول إلى الخطاب الخاص بالنبي 6 إيماء إلى قلة فهمهم وعمى قلوبهم أن يعتبروا بأمثال هذه العبر.

قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء ) « الخ » ؛ الآية وما يتلوها بمنزلة البيان وشرح حقيقة الحال لما تقدم من قوله تعالى آنفاً : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً ) « الخ » إذ يظهر منه أنهم يعتقدون الاستغناء بالأموال والأولاد من الله سبحانه فالآية تبين أن سبب ذلك أنهم انكبوا على حب هذه المشتهيات وانقطعوا إليها عن ما يهمهم من أمر الآخرة ، وقد اشتبه عليهم الأمر فإن ذلك متاع الحيوة الدنيا ، ليس لها الا انها مقدمة لنيل ما عند الله من حسن المآب مع أنهم غير مبدعين في هذا الحب والاشتهاء ولا مبتكرون بل مسخرون بالتسخير الإلهي بتغريز أصل هذا الحب فيهم ليتم لهم الحيوة الأرضية فلو لا ذلك لم يستقم أمر النوع الإنساني في حيوته وبقائه بحسب ما قدره الله سبحانه من أمرهم حيث قال : (وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) البقرة ـ ٣٦.


وإنما قدر لهم ذلك ليتخذوها وسيلة إلى الدار الآخرة ويأخذوا من متاع هذه ما يتمتعون به في تلك لا لينظروا إلى ما في الدنيا من زخرفها وزينتها بعين الاستقلال وينسوا بها ما ورائها ، ويأخذوا الطريق مكان المقصد في عين أنهم سائرون إلى ربهم ، قال تعالى : (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً ) الكهف ـ ٨.

إلا أن هؤلاء المغفلين أخذوا هذه الوسائل الظاهرة الإلهية التي هي مقدمات وذرائع إلى رضوان الله سبحانه اموراً مستقلة في نفسها محبوبة لذاتها وزعموا أنها تغني عنهم من الله شيئاًً فصارت نقمة عليهم بعد ما كانت نعمة ووبالاً بعد ما كانت مثوبة مقربة قال تعالى : (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء ) فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس إلى أن قال : ويوم يحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركائكم فزيلنا بينهم إلى أن قال : (وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ) يونس ـ ٣٠ ، تشير الآيات إلى أن أمر الحيوة وزينتها بيده تعالى لاولي لها دونه لكن الإنسان باغتراره بظاهرها يظن أن أمرها إليه ، وأنه قادر على تدبيرها وتنظيمها فيتخذ لنفسه فيها شركاء ـ كالأصنام وما بمعناها من المال والولد وغيرهما ، إن الله سيوقفه على زلته فيذهب هذه الزينة ، ويزيل الروابط التي بينه وبين شركائه ، وعند ذلك يضل عن الإنسان ما افتراه على الله من شريك في التأثير ويظهر له معنى ما علمه في الدنيا وحقيقته ، ورد إلى الله موليه الحق.

وهذا التزين أعني ظهور الدنيا للإنسان بزينة الاستقلال وجمال الغاية والمقصد لا يستند إلى الله سبحانه : فإن الرب العليم الحكيم أمنع ساحة من أن يدبر خلقه بتدبير لا يبلغ به غايته الصالحة ، وقد قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ) الطلاق ـ ٣ ، وقال تعالى : (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) يوسف ـ ٢١ ، بل إن استند فإنما يستند إلى الشيطان قال تعالى : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) الأنعام ـ ٤٣ ، وقال تعالى : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) الأنفال ـ ٤٨.

نعم لله سبحانه الإذن في ذلك ليتم أمر الفتنة ، وتستقيم التربية كما قال تعالى :


(أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ) العنكبوت ـ ٤ ، وعليهذا الاذن يمكن أن يحمل قوله تعالى : (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ) الأنعام ـ ١٠٨ ، وإن أمكن أيضاً أن يحمل على ما مر من معنى التزيين المنسوب إليه تعالى في قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) الكهف ـ ٧.

وبالجملة التزيين تزيينان : تزيين للتوسل بالدنيا إلى الآخرة وابتغاء مرضاته في مواقف الحياة المتنوعة بالأعمال المختلفة المتعلقة بالمال والجاه والأولاد والنفوس ، وهو سلوك إلهي حسن ، نسبه الله تعالى إلى نفسه كما مر من قوله : (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا ) الآيات ، وكقوله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) الأعراف ـ ٣٢.

وتزيين لجلب القلوب وإيقافها على الزينة وإلهائها عن ذكر الله وهو تصرف شيطاني مذموم ، نسبه الله سبحانه إلى الشيطان ، وحذر عباده عنه كما مر من قوله تعالى : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) الآية ، وقوله تعالى فيما يحكيه من قول الشيطان : (قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) الحجر ـ ٣٩ ، وقوله تعالى : (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ) التوبة ـ ٣٧ ، إلى غير ذلك من الآيات.

وهذا القسم ربما نسب إليه تعالى من حيث أن الشيطان وكل سبب من أسباب الخير أو الشر إنما يعمل ما يعمل ويتصرف في ملكه ما يتصرف بإذنه لينفذ ما أراده وشاءه ، وينتظم بذلك أمر الصنع والإيجاد ، ويفوز الفائزون بحسن إرادتهم واختيارهم ، ويمتاز المجرمون.

وبما مر من البيان يظهر أن المراد من فاعل التزيين المبهم في قوله : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ ) « الخ » ليس هو الله سبحانه فإن التزيين المذكور وإن كان له نسبة إليه تعالى سواء كان تزييناً صالحاً لأن يدعو إلى عبادته تعالى وهو المنسوب إليه بالاستقامة أو تزييناً ملهياً عن ذكره تعالى وهو المنسوب إليه بالإذن لكن لاشتمال الآية على ما

( ٣ ـ الميزان ـ ٧)


لا ينسب إليه مستقيماً كما يجيء بيانه كان الأليق بأدب القرآن أن ينسب إلى غيره تعالى كالشيطان أو النفس.

ومن هنا يظهر صحة ما ذكره بعض المفسرين : أن فاعل زين هو الشيطان لأن حب الشهوات أمر مذموم ، وكذا حب كثرة المال مذموم ، وقد خص تعالى بنفسه ما ذكره في آخر الآية وفي ما يتلوها.

ويظهر به فساد ما ذكره بعضهم : أن الكلام في طبيعة البشر والحب الناشي فيها ومثله لا يسند إلى الشيطان بحال وإنما يسند إليه ما هو قبيل الوسوسة التي تزين للإنسان عملاً قبيحاً.

قال : ولذلك لم يسند إليه القرآن إلا تزيين الأعمال ، قال تعالى : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ) وقال : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) وأما الحقائق وطبائع الأشياء فلا تسند إلا إلى الخالق الحكيم الذي لا شريك له ، قال عز وجل : (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) وقال : (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ) فالكلام في الامم كلام في طبائع الاجتماع ، انتهى.

وجه الفساد : أنه وإن أصاب في قوله : إن الحقائق وطبائع الأشياء لا تسند إلا إلى الخالق الحكيم الذي لا شريك له لكنه أخطأ في قوله : إن الكلام في طبيعة البشر وما ينشأ منها بحسب الطبع ، وذلك أن السورة كما علمت في مقام بيان أن الله سبحانه هو القيوم على خلقه في جميع ما هم عليه من الخلق والتدبير والإيمان والكفر والإطاعة والعصيان ، خلق الخلق وهداهم إلى سعادتهم ، وأن الذين نافقوا في دينه من المنافقين أو كفروا بأياته من الكافرين أو بغوا بالاختلاف في كتابه من أهل الكتاب ، وبالجملة الذين أطاعوا الشيطان واتبعوا الهوى ليسوا بمعجزين لله غالبين عليه مفسدين لقيمومته بل الجميع راجع إلى قدره وتدبيره أمر خلقه في تحكيم ناموس الأسباب لتقوم بذلك سنّه الامتحان فهو الخالق للطبائع وقواها وميولها وأفعالها لتسلك بها إلى جوار ربها جوار القرب والكرامة وهو الذي أذن لإبليس ولم يمنعه من الوسوسة والنزعة ولم يمنع الإنسان من اتباعه باتباع الهوى ليتم أمر الامتحان وليعلم الله : (الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء ) وإنما بين ذلك في هذه السورة ليتسلى بذلك نفوس المؤمنين ، ويطيب بذلك قلوبهم بما هم عليه عند نزول السورة من العسرة والشدة والابتلاء من الداخل بنفاق المنافقين وجهالة


الذين في قلوبهم مرض بإفساد الامور وتقليبها عليهم ، والتقصير في طاعة الله ورسوله ، ومن الخارج بالدعوة الشاقة الدينية ، ووثوب الكفار من العرب عليهم من جانب ، وأهل الكتاب واليهود منهم خاصه من جانب آخر ، وتهديد الكفار كالروم والعجم بالقوة والعدة من جانب آخر ، وهؤلاء الكافرون ومن يحذو حذوهم اشتبه عليهم الأمر في الركون إلى الدنيا وزخارفها حيث أخذوها غاية وهي مقدمة والغاية أمامها.

فالسورة كما ترى تبحث عن طبائع الامم لكن بنحو وسيع يشمل جهات خلقهم وتكوينهم وجميع ما يتعقب ذلك في مسير حيوتهم من الخصائل وأعمال السعادة والشقاوة والطاعة والمعصية فتبين أن ذلك كله تحت قيمومته تعالى لا يقهر في قدرته ، ولا يغلب في أمره لا في الدنيا ولا في الآخرة ، أما في الدنيا فإنما هو إذن وامتحان ، وأما في الآخرة فإنما هو الجزاء إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

وكذلك الآيات أعني قوله : إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم إلى تمام تسع آيات في مقام بيان أن الكفار وإن كذبوا آيات ربهم وبدلوا نعم الله التي أنعمها عليهم ليتوسلوا بها إلى رضوانه وجنته فركنوا واعتمدوا عليها واستغنوا بها عن ربهم ، ونسوا مقامه ليسوا بمعجزين ولا غالبين فسيأخذهم الله بنفس أعمالهم ، ويؤيد عباده المؤمنين عليهم وسيحشرهم إلى جهنم وبئس المهاد ، وهم مع ذلك غالطون في الركون إلى ما ليس إلا متاعاً في الحياة الدنيا وعند الله حسن المآب ، فالآيات أيضاً تبحث عن طبيعة الكفار لكن بنحو وسيع يشمل الصالح والطالح من أعمالهم.

على أن الآية التي ذكرها هذا القائل مستشهداً بها على أن الحقائق لا تسند إلا إلى الله وإنما يسند إلى الشيطان الأعمال أعني قوله تعالى : (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) يدل بما حف عليه من القرائن على خلاف ذلك ويؤيد ما ذكرناه وهو قوله تعالى : (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) الأنعام ـ ١٠٨ ، وهو ظاهر.

وكذا يظهر فساد ما ذكره بعضهم : أن التزيين على قسمين محمود ومذموم والأعمال نوعان حسنة وسيئة ، وإنما يسند إلى الله سبحانه ما هو منها محمود ممدوح حسن ، والباقي للشيطان!


وهو وإن كان حقاً من وجه ولكنه إنما يصح في النسبة المستقيمة التي يعبر عنه بالفعل ونحوه فالله سبحانه لا يفعل إلا الجميل ، ولا يأمر بالسوء والفحشاء ، وأما النسبة غير المستقيمة وبالواسطة التي يعبر عنه بالإذن ونحوه فلا مانع عنها ، ولولا ذلك لم يستقم ربوبيته لكل شيء وخلقه لكل شيء وملكه لكل شيء وانتفاء الشريك عنه على الاطلاق ، والقرآن مشحون من هذه النسبة كقوله تعالى : (يُضِلُّ مَن يَشَاء) الرعد ـ ٢٧ وقوله : (أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) الصف ـ ٥ ، وقوله الله : (يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ) البقرة ـ ١٥ ، وقوله : (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ ) الاسراء ـ ١٦ ، إلى غير ذلك من الآيات ، ولم ينشأ خطأهم هذا إلا من جهة ما قصروا في البحث عن روابط الأشياء وآثارها وأفعالها فحسبوا كل واحد من هذه الامور الموجودة أمراً مستقل الوجود منقطع الذات عما يحتف به من مجموعة الأشياء وقبيل المصنوعات وما يتقدم عليها وما يتأخر عنها.

ولزم ذلك أن يضعوا الحوادث التي هي نتائج تفاعل الأسباب والعلل على ما فطرها الله عليه في مسير السببية متقطعة متفرقة غير متصلة ولا مرتبطة فكانت كل حادثة حدثت عن أسبابها وكل فعل فعله فاعله منقطع الوجود عن غيره مملوكاً لصاحبه ليس لغير سببه المتصل به فيه نصيب ولا في حدوثه حظ ، فأجرام تدور ، وبحر تسري وفلك تجري ، وأرض تقل ، ونبات ينبت ، وحيوان يدبّ ، وإنسان يعيش ويكدح لا التيام روحي معنوي يجمعها ولا وحدة جسمية من المادة وقوتها توحدها.

ثم تعقب ذلك أن يظنوا نظير هذا الانفصال والتلاشي بين عناوين الأعمال وصور الأفعال من خير وشر ، وسعادة وشقاء ، وهدى وضلال ، وطاعة ومعصية وإحسان وإساءه ، وعدل وظلم ، وغير ذلك فكانت غير مرتبطة الوجود ولا متشابكة التحقق.

وقد ذهلوا عن أن هذا العالم بما يشتمل عليه من أعيان الموجودات وأنواع المخلوقات مرتبط الأجزاء متلائم الأبعاض ، يتبدل جزء منه إلى جزء ، ويتحول بعضه إلى بعض ، فيوماً إنسان ، ويوماً نبات ، ويوماً جماد ، ويوماً جمع ، ويوماً فرق ، وحيوة البعض بعينها ممات الآخر ، وكون الجديد منه فساد للقديم بعينه.

وكذلك الحوادث الجارية مرتبطة ارتباط حلقات السلسلة أي وضع فرض لواحدة منها مؤثر في أوضاع ما يقارنها وما يتقدمها إلى أقدم العهود المفروضة للعالم


الطبيعي كالسلسلة التي تنجر بجر الحلقة منها جميع الحلقات وهو السلسلة فأدنى تغير مفروض في ذرة من ذرات هذا العالم يوجب تغير الحال في الجميع وإن عزب عن علمنا وإدراكنا أو خفي عن إحساسنا فعدم العلم لا يستلزم عدم الوجود ، فهذا مما بينت في الأبحاث العلمية منذ القديم ، وأوضحته الأبحاث الطبيعية والرياضية اليوم أتم ايضاح ، ولقد كان القرآن ينبئنا بذلك أحسن الإنباء قبل أن نأخذ في هذه الأبحاث من فلسفيها وطبيعيها ورياضيها بالنقل عن كتب الآخرين ثم بالاستقلال في البحث ، وذلك بما يذكر من اتصال التدبير في الآيات السماوية والأرضية ، وارتباط ما بينها ، ونفع بعضها في بعض ، واشتراك الجميع في إقامة غرض الخلقة ، ونفوذ القدر في جميعها والسلوك إلى المعاد ، وأن إلى ربك المنتهى.

وكذلك أوصاف الافعال وعناوين الأعمال مرتبطة الأطراف كارتباط الامور المتقابلة المتعاندة فلولا أحد المتعاندين لم يستقم أمر الآخر كما نشاهده من أمر الصنع والايجاد أن تكون شيء ما يحتاج إلى فساد ، آخر وسبق أمر يتوقف على لحوق آخر.

ولو لم يتحقق أحد الطرفين من أوصاف الأعمال لم يستقم أمر الآخر في آثاره المطلوبة منه في الاجتماع الإنساني الطبيعي ، ولا في الاجتماع الإلهي الذي هو الدين الحق ، فإن الإطاعة مثلاًً حسنة لأن المعصية سيئة ، والحسنة موجبة للثواب ، لأن السيئة موجبة للعقاب ، والثواب لذيذ للعامل لأن العقاب مولم له ، واللذة سعادة مرغوب فيها لأن الألم شقاوة مهروب عنها ، والسعادة هي التي يتوجه وجوده بحسب الخلقة إليها والشقاوة هي التي يتوجه عنها ، ولولا هذه الحركة الوجودية لبطل الوجود.

فالاطاعة ثم الحسنة ثم الثواب ثم اللذة ثم السعادة هي بحيال المعصية فالعقاب فالألم فالشقاء وإنما يظهر كل منها بخفاء ما يقابله ويحيى بموته ، وكيف يمكن أن تقع دعوة إلى شيء من غير تحذير عما يخالفه ؟ وكيف يمكن أن يكون خلافه ممكناً دون أن يكون واقعاً بما يدعو إليه من الأغراض والميول ؟

فقد تبين من ما ذكرناه : أن الواجب في الحكمة أن يشتمل هذا العالم على الفساد كما يشتمل على الصلاح وعلى المعصية كما يشتمل على الطاعة على ما قدره الله في نظام صنعه وخلقه غير أن الكون والفساد في غير الأعمال وأوصافها ينسبان إلى الله سبحانه لأن الخلق


والأمر له لا شريك له. وقبيل السعادة من الأعمال تنسب إليه بالهداية نسبة مستقيمة وقبيل الشقاوة منها كوسوسة الشيطان وتسليط الهوى على الإنسان وتأمير الظالمين على الناس ونحو ذلك ينسب إليه تعالى بالإضلال والإخزاء والخذلان ونحوها نسبة غير مستقيمة ، وهي التي يعبر عنها بالاذن فيقال إنه تعالى اذن للشيطان أن ينزع بالوسوسة والتسويل ، ولم يمنع الإنسان أن يتبع الهوى ، ولم يضرب بين الظالم وما يريده من الظلم بحجاب لان السعادة والشقاوة مبنيتان على الاختيار ؛ فمن سعد فباختياره ، ومن شقي فباختياره ، ولو لا ذلك لم تتم الحجة ؛ ولم تجر سنة الاختيار والامتحان.

ولم يمنع هؤلاء الباحثين عن الاسترسال في هذه المباحث إلا استيحاشهم من وخيم نتائجها بزعمهم ؛ فأما المجبرة منهم فزعموا أن لو قالوا بارتباط الأشياء وضرورة تأثير الأسباب واعترفوا بذلك لزمهم الايجاب في جانب الصانع تعالى وسلب قدرته المطلقة على التصرف في مصنوعاته.

وأما غيرهم فزعموا أن لو أذعنوا بذلك في مرحلة الأعمال وأسندوها إلى إرادته وقدره تعالى لزمهم القول بالإيجاب والإجبار في جانب المصنوع وهو الإنسان ، وببطلان الاختيار يبطل الثواب والعقاب ، والتكليف والتشريع.

مع أنهم كان يسعهم أن يستأنسوا من غير استيحاش بكلامه تعالى حيث يقول : (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) يوسف ـ ٢١ ويقول : (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) الاعراف ـ ٥٤ ويقول : (لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) يونس ـ ٥٥ ، على أنها وما يماثلها آيات تعطي البرهان في ذلك ؛ وقد تقدمت نبذة من هذا البحث في الكلام على قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً ) البقرة ـ ٢٦.

ولنرجع إلى ما كنا فيه من الكلام في قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ ) فنقول : الظاهر أن فاعل زين غيره تعالى وهو الشيطان أو النفس : أما أولاً فلأن المقام مقام ذم الكفار بركونهم إلى هذه المشتهيات من المال والأولاد واستغنائهم بتزينها لهم عن الله سبحانه ؛ والأليق بمثل هذه الزينة الصارفة عن الله الشاغلة عن ذكره أن لا ينسب إليه تعالى.

وأما ثانياً : فلأنه لو كان هذا هو التزيين المنسوب إليه تعالى لكان المراد به الميل


الغريزي الذي للإنسان إلى هذه الامور فكان الأنسب في التعبير أن يقال : زين للإنسان أو لبني آدم ونحوها كقوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) التين ـ ٥ ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ الآية ) الأسرى ـ ٧٠ ، وأما لفظ الناس فالأعرف منه أن يستعمل في الموارد التي فيها شيء من إلغاء الميز أو حقاره الشخص ودناءة الفكر نحو قوله : (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً) الأسرى ـ ٨٩ ، وقوله : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى ) الحجرات ـ ١٣ وغير ذلك.

وأما ثالثاً : فلأن الامور التي عدها تعالى بياناً لهذه الشهوات لا تناسب التزيين الفطري إذ كان الأنسب عليه أن يبدل لفظ النساء بما يؤدي معنى مطلق الزوجية ، ولفظ البنين بالأولاد ، ولفظ القناطير المقنطرة ، بالأموال فإن الحب الطبيعي موجود في النساء بالنسبة إلى الرجال كما هو موجود في الرجال بالنسبة إلى النساء ، وكذا هو مغروز في الإنسان بالنسبة إلى مطلق الأولاد ومطلق الأموال دون خصوص البنين وخصوص القناطير المقنطرة ؛ ولذلك اضطر القائل بكون فاعل زين هو الله سبحانه أن يقول : إن المراد حب مطلق الزوجية ومطلق الأولاد ومطلق الأموال وإنما ذكرت النساء والبنين والقناطير لكونها أقوى الأفراد وأعرفها ثم تكلف في بيان ذلك بما لا موجب له.

واما رابعاً : فلان كون التزيين هو المنسوب إلى الله سبحانه لا يلائم قوله تعالى في آخر الآية : ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ ، فإن ظاهره أنه كلام موضوع لصرفهم عن هذه الشهوات الدنيوية وتوجيه نفوسهم إلى ما عند الله من الجنان والأزواج والرضوان ؛ ولا معنى للصرف عن المقدمة إلى ذي المقدمة فإن في ذلك مناقضة ظاهرة وإبطالاً للأمرين معاً كالذي يريد الشبع ويمتنع عن الأكل.

فان قلت : الآية أعني قوله : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ) « الخ » بحسب الملخص من معناها مساوقة لقوله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) الأعراف ـ ٣٢ ، ولازم انطباق المعنى أن يكون فاعل التزيين في هذه الآية أيضاً هو الله سبحانه.


قلت : بين الآيتين فرق من حيث المقام : فإن المقام فيما نحن فيه : مقام ذم هذه الشهوات المحبوبة للناس لصرفها وإلهائها الناس عما لهم عند الله ، وحثهم على الاعراض عنها والتوجه إلى ما عند الله سبحانه بخلاف تلك الآية فإنها مسوقة لبيان أن هذه النعم زينت للإنسان وأنها للمؤمنين في هذه الدنيا بالاشتراك في الدنيا وبالاختصاص في الآخرة ، ولذلك بدل لفظ الناس هناك بلفظ العباد. وعدت هذه الزينة رزقاً طيباً.

وان قلت : إن التزيين علق في الآية على حب الشهوات دون نفس الشهوات ، ومن المعلوم أن تزيين الحب للإنسان وجذبه لنفسه وجلبه لقلبه أمر طبيعي وخاصة ذاتية له فيؤول معنى تزيين الحب للناس إلى جعل الحب مؤثراً في قلوبهم أي خلق الحب في قلوبهم ، ولا ينسب الخلق إلا إلى الله سبحانه فهو الفاعل في قوله : زين.

قلت : لازم ما ذكرناه من القرائن أن يكون المراد بتزيين الحب جعل الحب بحيث يجذب الناس إلى نفسه ويصدهم عن غيره فإن الزينة هي الأمر المطلوب الجالب الذي ينضم إلى غيره ليجلب الإنسان إلى ذلك الغير بتبع جلبه إلى نفسه كما أن المرأة تتزين بضم امور تستصحب الحسن والجمال إلى نفسها ليقصدها الرجل بها فالمقصود هو بالحقيقة تلك الامور والمنتفع من هذا القصد هي المرأة ، وبالجملة فيؤول معنى تزيين الحب للناس إلى جعله في أعينهم بحيث يؤدي إلى التوله فيه والولوع في الاشتغال به لا أصل تأثير الحب كما هو الظاهر من معنى قوله تعالى : (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ) مريم ـ ٥٩ ، ويؤيد هذا المعنى ما سيأتي من الكلام في العد الواقع في قوله : من النساء والبنين والقناطير ، على أن لفظ الشهوات ربما لم يخل عن الدلالة بالشغف والولوع وإن كان بمعنى المشتهيات.

قوله تعالى : (مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ) « الخ » النساء جمع لا واحد له من لفظه والبنين جمع ابن وهو ذكور الأولاد بواسطة أو بلا واسطة ، والقناطير جمع قنطار وهو ملاُ مسك ذهباً أو هو المسك المملوء ، والمقنطرة اسم مفعول مشتق من القنطار وهو جامد ، وهذا من دأبهم يعتبرون في الجوامد شيئاًً من النسب يكسب بها معنى مصدرياً ثم يشتقون منه المشتقات كالباقل والتامر والعطار لبائع البقل والتمر والعطر وفائدة توصيف الشيء بالوصف المأخوذ من لفظه تثبيت معناه له ، والتلميح إلى أنه واجد لمعنى لفظه غير فاقده كما يقال : دنانير مدنرة ودواوين


مدونة ، ويقال : حجاب محجوب وستر مستور ، والخيل هو الأفراس ، والمسوّمة مأخوذة من سامت الإبل سوماً بمعى ذهبت لترعى فهي سائمة ، أو من سمت الإبل في المرعى وأسمتها وسومتها بمعنى أعلمتها فالخيل المسومة إما المرسلة للرعي أو المعلمة والأنعام جمع نعم بفتحتين وهو الإبل والبقر والغنم ، والبهائم أعم منه ويطلق على غير الوحش والطير والحشرات ، والحرث هو الزرع وفيه معنى الكسب وهو تربية النبات أو النبات المربى للانتفاع به في المعاش.

وبناء التعداد في الآية ليس على تكثر حب الشهوات بحسب تكثر المشتهيات أعني متعلقات الشهوة بمعنى أن الإنسان بحسب طبعه يميل إلى الأزواج والأولاد والمال حتى يتكلف في توجيه التعبيرات الواقعة في الآية كالتعبير عن الإنسان بالناس والتعبير عن الأولاد بخصوص البنين ، والتعبير عن المال بالقناطير المقنطرة « الخ » بما تكلف به جمع من المفسرين.

بل على كون الناس أصنافاً في الشغف والولوع بمشتهيات الدنيا فمن شهواني لا هم له إلا التعشق بالنساء وغرامهن والتقرب اليهن والانس بصحبتهن ، ويستصحب ذلك أذناباً من وجوه الفساد ومعاصي الله سبحانه كاتخاذ المعازف والأغاني وشرب المسكرات وامور أُخر غيرهما وهذا مما يختص بالرجال عادة ، ولا يوجد في النساء إلا في غاية الشذوذ ، ومن محب للبنين والتكاثر والتقوى بهم كما يوجد غالباً في أهل البدو ، ويختص أيضاً بالبنين دون البنات ، ومن مغرم بالمال أكبر همه أن يقنطر القناطير ، ويملأ المخازن من وجوه النقد ، وظهور هذا الجنون أيضاً في جمع المال إنما هو في وجوه النقد من الذهب والفضة أو ما يتقوّم بهما دون أمثال الأثاث إلا أن يراد لأجلهما بوجه ، ويوجد غالباً في الحاضر دون البادي ، أو أن المختار عنده اتخاذ الخيل المسومة كالمغرمين بالفروسة وأمثالهم أو اتخاذ الماشية من الأنعام ، أو يستحب الحرث ، وربما يجتمع البعض من هذه الثلاثة الأخيرة مع البعض وربما تفترق.

وهذه أقسام الشهوات التي ينسل الناس إليها صنفاً صنفاً بالتعلق بواحد منها وجعله أصلاً في اقتناء مزايا الحيوة ، وجعل غيره فرعاً مقصوداً بالقصد الثاني ، وقلماً يوجد ( أو لا يوجد أصلاً ) في الناس من ساوى بين جميعها ، وقصد الجميع قصداً أولاً معتدلاً.

وأما مثل الجاه والمقام والصدارة ونحوها فهي جميعاً امور وهمية بالحقيقة إنما


تتعلق الرغبة إليها بالقصد الثاني لا يعد الالتذاذ بها التذاذاً شهوياً ، على أن الآية ليست في مقام حصر الشهوات.

ومن هنا يتأيد ما تقدمت الإشارة إليه من أن المراد بحب الشهوات التوغل والانغمار في حبها وهو ( المنسوب إلى الشيطان ) دون أصل الحب المودع في الفطرة ( وهو المنسوب إلى الله سبحانه ).

قوله تعالى : (ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي هذه الشهوات امور يتمتع بها لإقامة هذه الحيوة التي هي أقرب الحيوتين منكم ( وهما الحيوة الدنيا والحيوة الاخرى ) ، والحيوة الدنيا وكذا المتاع الذي يتمتع به لها أمر فان داثر ليس لها عاقبة باقية صالحة ، وصلاح العقبى وحسن المآب إنما هو عند الله سبحانه وهو قوله تعالى : وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ.

قوله تعالى : (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ) إلى آخر الآية الآية مسوقة لبيان قوله والله عنده حسن المآب وقد وضع فيها محل هذه الشهوات الفانية الباطلة امور هي خير للإنسان لكونها باقية وحسنة حقيقة من غير بطلان وهي امور مجانسة لهذه الشهوات في ما يريده الإنسان من خواصها وآثارها غير أنها خالية عن القبح والفساد غير صارفة للإنسان عن ما هو خير منها وهي الجنة ومطهرات الازواج ورضوان الله تعالى.

وقد اختصت الازواج بالذكر مع كون ذكر الجنة كالمشتمل عليها لكون الوقاع أعظم اللذائذ الجسمية عند الإنسان ولذلك أيضاً قدم ذكر النساء في قوله من النساء والبنين والقناطير المقنطرة الخ.

وأما الرضوان بكسر الراء وضمها فهو الرضا وهو أن يلائم الأمر الواقع نفس صاحبه من غير أن يمتنع منه ويدافعه ويقابله السخط.

وقد تكرر في القرآن ذكر رضى الله سبحانه وهو منه تعالى كما يتصور بالنسبة إلى فعل عباده في باب الطاعة كذلك يتصور بالنسبة إلى غير باب الطاعة كالاوصاف والاحوال وغير ذلك إلا أن جل الموارد التي ذكر فيها أو كلها من قبيل الرضا بالطاعة ولذلك ربما قوبل بينه وبين رضا العبد فرضاه عن عبده لطاعته ورضى العبد عنه


لجزائه الحسن أو لحكمه كقوله تعالى : (رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ) البينة ـ ٨ ، وقوله تعالى : (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ) الفجر ـ ٢٨ ، وقوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ الآية ) البرائة ـ ١٠٠.

وذكر الرضوان هيهنا أعني في عداد ما هو خير للناس من مشتهيات الحيوة الدنيا يدل على أنه نفسه من مشتهيات الإنسان أو يستلزم أمراً هو كذلك ؛ ولذلك عنى بذكره في مقابل الجنات والأزواج فيهذه الآية ، وكذا في مقابل الفضل والمغفرة والرحمة في قوله : (فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً ) المائدة ـ ٢ ، وقوله : (وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ) الحديد ـ ٢٩ ، وقوله : (بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ ) البرائة ـ ٢١.

ولعل الذي يكشف عن هذا الذي أبهمته هذه الآية هو التدبر في المعنى الذي ذكرناه وفي قوله تعالى : (رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ) الآية وقوله : راضية مرضية الآية حيث علق رضاه بأنفسهم ، والرضا عن أنفسهم غير الرضا عن أفعالهم فيعود المعنى إلى أنه لا يمنعهم عن نفسه فيما يسألونه فيؤول إلى معنى قوله : (لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا) ق ـ ٣٥ ؛ ففي رضوان الله عن الإنسان المشية المطلقة للإنسان.

ومن هنا يظهر : أن الرضوان في هذه الآية قوبل به من الشهوات المذكورة في الآية السابقة أن الإنسان يحسب أنه لو اقتناها وخاصة القناطير المقنطرة من بينها افادته إطلاق المشية وأعطته سعة القدرة فله ما يشاء ، وعنده ما يريد وقد اشتبه عليه الأمر فإنما يتم ذلك برضا الله الذي إليه أمر كل شيء.

قوله تعالى : (وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ). لما تحصل من هذه الآية والتي قبلها : أن الله أعد للإنسان في كلتا الدارين ( الدنيا والآخرة ) نعماً يتنعم بها ومآرب اخرى مما تلتذ به نفسه كالأزواج ، وما يؤكل ويشرب ، والملك ونحوها ، وهي متشابهة في الدارين غير أن ما في الدنيا مشترك بين الكافر والمؤمن مبذول لهما معاً وما في الآخرة مختص بالمؤمن لا يشاركه فيها الكفار كان المقام مظنة سؤال الفرق في ذلك ، وبلفظ آخر سؤال وجه المصلحة في اختصاص المؤمن بنعم الآخرة أجاب عنه بقوله : (وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) ، ومعناه : أن هذا الفرق الذي فرق الله به بين المؤمن والكافر ليس مبنياً على العبث والجزاف


تعالى عن ذلك بل إن في الفريقين أمراً هو المستدعي لهذا الفرق والله بصير بهم يرى ما فيهم من الفرق وهو التقوى في المؤمن دون الكافر ، وقد وصف هذا التقوى وعرفه بما يلحق بهذه الآية من قوله : (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا) إلى آخر الآيتين وملخصه : أنهم يظهرون فاقتهم إلى ربهم وعدم استغنائهم عنه ، ويصدقون ذلك بالعمل الصالح ولكن الكافر يستغني عن ربه بشهوات الدنيا وينسى آخرته وعاقبة أمره.

ومن ألطف ما يستفاد من الآيتين أعني قوله تعالى : ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ إلى آخر الآية وما في معناهما من الآيات كقوله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الأعراف ـ ٣٢ ، الجواب عن إشكال استوجهه كثير من الباحثين على ظواهر الآيات الواصفة لنعم الجنة.

أما الاشكال فهو أن المتأمل في أطوار وجود هذه الموجودات المشهودة في هذا العالم لا يشك في أن الأفعال الصادرة منها وأعمالها التي يعملها إنما هي متفرعة على القوى والأدوات التي جهز بها كل واحد منها ليدفع بها عن وجوده ويحفظ بها بقائه كما يحققه البحث عن الغايات الوجودية وأن الوجود لا يستند إلى اتفاق أو جزاف أو عبث.

فهو ذا الإنسان مجهز في جميع بدنه بجهاز دقيق في غاية الدقة يتمشى به أمر تغذيه ، وإنما يتغذى لتهيئة بدل ما يتحلل من أجزائه وإنما يفعل ذلك ليمد وجوده للبقاء ، وأيضاً هو مجهز بجهاز التناسل على ما فيه من الأدوات والقوى الفعالة والمترتبة ليحفظ بقاء نوعه والأمر في وجود النبات والحيوان نظير الأمر في تجهيز الإنسان.

ثم إن الخلقة احتالت في تسخيرها وخاصة في تسخير ذوات الشعور منها وهي الحيوان والإنسان بإبداع لذائذ في أفعالها وإيداعها في القوى لتتسابق إلى الأفعال لأجل هذه اللذائذ وهى لا تشعر أن الخلقة تريد منها غايتها وهي بقاء الوجود وتغرها بتطميعها باللذة التي تزينها لها فيحصل بذلك ما يريده الخلقة ، ويلتذ الفاعل بهذه الزينة التي تغرها ويلعب بها ، فلولا ما في الغذاء والنكاح مثلاًً من اللذة لما قصدهما الإنسان مثلاًً لمجرد كونهما مقدمة للبقاء ، وبطل بذلك غرض الخلقة لكن الله سبحانه أودع


فيه لذة الغذاء ولذة النكاح لا يستريح الإنسان في طريق النيل إليهما دون أن يتحمل كل تعب وعناء ويقاسي كل مصيبة وبلاء ، وهو في اقتناء هذه الشهوات مختال فخور بما ليس فيه إلا الغرور ، وأما الصنع والخلقة فينال بغيته ويبلغ امنيته فإنه ما كان يريد بهذا التدبير إلا بقاء وجود الفرد وقد حصل بالتغذي ، وإلا بقاء وجود النوع وقد حصل بالنكاح والسفاد ولم يبق للإنسان مثلاً فيما كان يريده إلا الخيال.

وإذا كان هذه اللذائذ الدنيوية مقصودة في الخلقة لأجل غرض محدود معجل فلا معنى لتحققها في ما لا تحقق هناك لذلك الغرض ، فلذة الأكل والشرب وجميع اللذائذ الراجعة إلى التغذي مقصودة في الطبيعة لأجل حفظ البدن عن آفة التحلل وفساد التركيب وهو الموت ، ولذة النكاح وجميع اللذائذ المرتبطة به وهي امور جمة إنما تقصدها الخلقة لأجل حفظ النوع من الفناء والاضمحلال ، فلو فرض للإنسان وجود لا يلحقه موت ولا فناء وحيوة مأمونة من كل شر ومكروه فأي فائدة تترتب على وجود القوى البدنية التي تعمل لأجل تحصيل بقاء الشخص أو النوع ؟ وأي ثمرة يثمرها تجهيزات البدن وأعضائه كالكلي والمثانة والطحال والكبد وغيرها وجميعها إنما أوجدت لأعمال تنفع في البقاء المعجل المحدود دون البقاء المخلد المؤبد.

وأما الجواب فهو أن الله سبحانه إنما خلق ما خلق من لذائذ الدنيا والنعم التي تتعلق بها هذه اللذائذ زينة في الأرض ليقصدها الإنسان فينجذب إلى الحيوة ويتعلق بها كما قال : (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا) الكهف ـ ٧ ، وقال : (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) الكهف ـ ٤٦ ، وقال : (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) النساء ـ ٩٤ ، وقال ـ وهو أجمع للغرض ـ : (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) طه ـ ١٣١ ، وقال أيضاً : (وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ) القصص ـ ٦٠ ، إلى غير ذلك من الآيات ، وجميعها تبين أن هذه النعم الموجودة في الدنيا ، واللذائذ المتعلقة بها امور مقصودة لأجل الحيوة وأمتعة يتمتع بها لأجل الحيوة هذه الحيوة المحدودة التي لا تتعدى أياماً قلائل ، فلو لا الحيوة لما كانت هي مقصودة ولا مخلوقة ، وهذا هو حق الأمر.

لكن يجب أن يعلم أن وجود الإنسان الباقي ليس إلا هذا الوجود الذي يمكث


هيهنا برهة من الزمان بتحوله من طور إلى طور ، وليس ذلك إلا روحاً كائناً من بدن وعلى بدن هو مجموع هذه الأجزاء المأخوذة من هذه العناصر والقوى الفعالة فيها ، ولو فرض ارتفاع هذه الامور التي نعدها مقدمات مقصودة للبقاء لم يبق وجود ولا بقاء أعني أن فرض عدمها هو فرض عدم الإنسان رأساً لا فرض عدم استمرار وجود الإنسان فافهم ذلك.

فالإنسان في الحقيقة هو الذي ينشعب أفراداً ويأكل ويشرب وينكح ويتصرف في كل شيء بالأخذ والإعطاء ويحس ويتخيل ويعقل ويسر ويفرح ويبتهج وهكذا ، كل ذلك ملائم لذاته الذي هو كالمجموع منها وبعضها مقدمة لبعضها ، وهو السائر الدائر في مثل مسافة دورية.

فإذا نقله الله من دار الفناء إلى دار البقاء وكتب عليه الخلود والدوام إما بثواب دائم أو بعقاب دائم لم يكن ذلك بابطال وجوده وإيجاد وجود باق بل بإثبات وجوده بعد ما كان متغيراً في معرض الزوال فهو لا محالة إما متنعم بنعم من سنخ نعم الدنيا لكنها باقية أو نقم ومصائب من سنخ نقم الدنيا ومصائبها وكل ذلك منكوح أو مأكول أو مشروب أو ملبوس أو مسكون أو قرين أو سرور أو نحو ذلك.

فالإنسان هو الإنسان وما يحتاج إليه ويستكمل به هو الذي كان يحتاج إليه ويستكمل به من مطالبه ومقاصده وإنما الفرق هو اختلاف الدارين بالبقاء وما يلحق به.

هذا هو الذي يظهر من كلامه سبحانه حيث يبين حقيقة البنية الإنسانية فيقول : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ) المؤمنون ـ ١٦ ، انظر إلى موضع قوله : ولقد خلقنا ، والخلق هو الجمع والتركيب ، وإلى موضع قوله ثم أنشأناه ، الدال على تبديل نحو الخلق والإيجاد ، وإلى موضع قوله : ثم إنكم يوم القيامة ، والمخاطب به هو الذي أُنشئ خلقاً آخر.

ويقول أيضاً : (قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) الأعراف ـ ٢٥ فيفيد أن حيوة الإنسان حيوة أرضية مؤلفة من نعمها ومن نقمها. وتقدم بعض الكلام


في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً الآية ) البقرة ـ ٢١٣.

وقد قال تعالى في هذه النعم الأرضية : (ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ثم قال : وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ الرعد ـ ٢٦ ، فجعل نفس الحيوة الدنيا متاعاً في الآخرة يتمتع به ، وهذا من أبدع البيان ، وباب ينفتح به للمتدبر الف باب ، وفيه تصديق قول رسول الله 6 : كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون.

وبالجملة الحيوة الدنيا هي الوجود الدنيوي بما كسب من حسنة أو سيئة وهو الذي يتمتع به في الآخرة من حيث سعادته وشقائه أي ما يراه فوزاً وفلاحاً لنفسه وما يراه خيبة وخسراناً فيعطي سعادته بإعطاء لذائذه أو يحرم من نيلها وهما نعيم الجنة وعذاب النار.

وبعبارة اخرى واضحة ، للإنسان مثلاً سعادة بحسب الطبيعة وشقاء بحسبها في بقائه شخصاً ونوعاً وهما منوطتان بفعله الطبيعي من الأكل والشرب والنكاح وقد زينت له بلذائذ مقدمية وهذا بحسب الطبيعة ثم إذا أخذ الإنسان في الاستكمال وأخذ في الفعالية بالشعور والإرادة صار نوعاً كماله هو الذي يختاره شعوره وإرادته فما لا يشعر به ولا يشائه ليس كمالاً لهذا الموجود الشاعر المريد وإن كان كمالاً طبيعياً وكذا العكس كما نرى أنا لا نلتذ بما لا نشعر به وإن كان من سعادة الطبيعة كصحة البدن والمال والولد ، ونلتذ بما نشعر به من اللذائذ وإن لم يطابق الخارج كالمريض المعتقد للصحه ونظائر ذلك فهذه اللذائذ المقدمية تصير كمالاً حقيقياً لهذا الإنسان وان كانت كمالات مقدمية للطبيعة فإذا أبقى الله سبحانه هذا الإنسان بقائاً مخلداً كانت سعادته هي التي يشائها من اللذائذ ، وشقائها هو الذي لا يشائه سواء كانت بحسب الطبيعة مقدمة أو لم يكن ؛ إذ من البديهي أن خير الشخص أو القوة الشاعرة المريدة هو فيما يعلم به ويشائه ، وشره فيما يعلم به ولا يريده.

فقد تحصل أن سعادة الإنسان أن ينال في الآخرة ما كان يريده من لذائذ الحيوة في الدنيا من الأكل والشرب والنكاح وما فوق ذلك وهو الجنة ، وشقائه أن لا ينال ذلك وهو النار. قال تعالى : (لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ) النحل ـ ٣١.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) وصف


للمتقين المدلول عليهم بقوله في الآية السابقة : للذين اتقوا ، فوصفهم أنهم يقولون ربنا وفيه إظهار للعبودية بذكره تعالى بالربوبية واسترحام منه تعالى فيما يسألونه بقولهم ، إننا آمنا ، والجملة ليست في مقام الامتنان عليه تعالى فان المن منه تعالى بالإيمان كما قال تعالى : (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ ) الحجرات ـ ١٧ بل استنجاز لما وعد الله تعالى عباده أنه يغفر لمن آمن منهم ، قال تعالى : (وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم ) الاحقاف ـ ٣١ ، ولذلك فرعوا عليه قولهم : فاغفر لنا ذنوبنا ، بفاء التفريع. وفي تأكيد قولهم بان دلالة على صدقهم وثباتهم في إيمانهم.

والمغفرة للذنوب لا يستلزم التخلص من العذاب بمعنى أن الوقاية من عذاب النار فضل من الله سبحانه بالنسبة إلى من آمن به وعبده من غير استحقاق من العبد يثبت له حقاً على الله سبحانه أن يجيره من عذاب النار ، أو ينعمه بالجنة فإن الإيمان والاطاعة أيضاً من نعمه ولا يملك غيره تعالى منه شيئاًً الا ما جعله على نفسه من حق ، ومن الحق الذي جعل على نفسه لعباده أن يغفر لهم ويقيهم عذاب النار ان آمنوا به ، قال تعالى : ( وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) الاحقاف ـ ٣١.

وربما استفيد من بعض الآيات أن الوقاية من عذاب النار هو المغفرة والجنة كقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) الصف ـ ١٢ ، فإن في الآيتين الاخيرتين تفصيل لما اجمل في الآية الاولى من قوله : هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ، وهذا معنى دقيق سنشرحه في مورد يناسبه ان وفقنا له.

قوله تعالى : (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ ) إلى آخر الآية وصفهم بخمس خصال لا يشذ منها تقوى من متق ، فالصبر لسبقه على بقية الخصال وإطلاقه يشمل أقسام الصبر ، وهي ثلاث : صبر على الطاعة ، وصبر عن المعصية ، وصبر عند المصيبة.

والصدق وإن كان بحسب تحليل حقيقته هو مطابقة ظاهر الإنسان من قول وفعل لباطنه لكنه بهذا المعنى يشتمل جميع الفضائل الباقية كالصبر والقنوت وغيرهما وليس بمراد فالمراد به ( والله أعلم ) الصدق في القول فحسب.

والقنوت هو الخضوع لله سبحانه ويشمل العبادات وأقسام النسك ، والانفاق هو


بذل المال لمن يستحق البذل ، والاستغفار بالأسحار يستلزم قيام آخر الليل والاستغفار فيه ، والسنة تفسره بصلوة الليل والاستغفار في قنوت الوتر ، وقد ذكر الله أنه سبيل الإنسان إلى ربه كما في سورتي المزمل والدهر من قوله تعالى بعد ذكر قيام الليل والتهجد به : (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً) المزمل ـ ١٩ ، الدهر ـ ٢٩.

قوله تعالى : (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ ) ، أصل الشهادة هو المعاينة أعني : تحمل العلم عن حضور وحس ثم استعمل في أدائها وإظهار الشاهد ما تحمله من العلم ثم صار كالمشترك بين التحمل والتأدية بعناية وحدة الغرض فإن التحمل يكون غالباً لحفظ الحق والواقع من أن يبطل بنزاع أو تغلب أو نسيان أو خفاء فكانت الشهادة تحفظاً على الحق والواقع ، فبهذه العناية كان التحمل والتأدية كلاهما شهادة أي حفظاً وإقامة للحق ، والقسط هو العدل.

ولما كانت الآيات السابقة أعني قوله : إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاًًً إلى قوله : (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ) ، تبين : أن الله سبحانه لا إله غيره ولا يغني عنه شيء وأن ما يحسبه الإنسان مغنياً عنه ويركن إليه في حيوته ليس إلا زينة وإلا متاعاً خلقه الله ليتمتع به في سبيل ما هو خير منه ولا ينال الا بتقوى الله تعالى ، وبعبارة أخرى : هذه النعم التي يحن إليها الإنسان مشتركة في الدنيا بين الكافر والمؤمن مختصة في الآخرة بالمؤمن أقام الشهادة في هذه الآية على أن هذا الذي بينته الآيات حق لا ينبغي أن يرتاب فيه.

فشهد ( وهو الله عز اسمه ) على أنه لا إله إلا هو واذ ليس هناك إله غيره فليس هناك أحد يغني منه شيئاًًً من مال أو ولد أو غير ذلك من زينة الحيوة أو أي سبب من الأسباب إذ لو أغني شيء من هذه منه شيئاًً لكان الهاً دونه أو معتمداً إلى إله دونه منتهياً إليه ولا إله غيره.

شهد بهذه الشهادة وهو قائم بالقسط في فعله ، حاكم بالعدل في خلقه إذ دبر أمر العالم بخلق الأسباب والمسببات والقاء الروابط بينها ، وجعل الكل راجعاً إليه بالسير والكدح والتكامل وركوب طبق عن طبق ، ووضع في مسير هذا المقصد نعماً لينتفع

( ٣ ـ الميزان ـ ٨ )


منها الإنسان في عاجله لآجله وفي طريقه لمقصده لا ليركن إليه ويستقر عنده فالله يشهد بذلك وهو شاهد عدل.

ومن لطيف الأمر أن عدله يشهد على نفسه وعلى وحدته في الوهيته أي إن عدله ثابت بنفسه ومثبت لوحدانيته ، بيان ذلك : أنا إنما نعتبر في الشاهد العدالة ليكون جارياً على مستوى طريق الحيوة ملازماً لصراط الفطرة من غير أن يميل إلى إفراط أو تفريط فيضع الفعل في غير موضعه فتكون شهادته مأمونة عن الكذب والزور فملازمة الصدق والمجاراة مع صراط التكوين يوجب عدالة الإنسان فنفس النظام الحاكم في العالم والجاري بين أجزائه الذي هو فعله سبحانه هو العدل محضاً.

ونحن في جميع الوقائع التي لا ترضى بها نفوسنا من الحوادث الكونية أو نجدها على خلاف ما نميل إليه ونطمع فيه ثم نعترض عليها ونناقش فيها إنما نذكر في الاعتراض عليه ما يظهر لنا من حكم عقولنا أو تميل إليه غرائزنا ، وجميع ذلك مأخوذة من نظام الكون ثم نبحث عنها فيظهر سبب الحادثة فتسقط الشبهة أو نعجز عن الحصول على السبب فلا يقع في أيدينا إلا الجهل بالسبب أي عدم العلم دون العلم بالعدم ، فنظام الكون وهو فعل الله سبحانه هو العدل فافهم ذلك.

ولو كان هناك إله يغني منه في شيء من الامور لم يكن نظام التكوين عدلاً مطلقاً بل كان فعل كل إله عدلاً بالنسبه إليه وفي دائرة قضائه وعمله !

وبالجملة فالله سبحانه يشهد ، وهو شاهد عدل ، على أنه لا إله إلا هو يشهد لذلك بكلامه وهو قوله : شهد الله أنه لا إله إلا هو على ما هو ، ظاهر الآية الشريفة ، فالآية في اشتمالها على شهادته تعالى للتوحيد نظيرة قوله تعالى : (لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً ) النساء ـ ١٦٦.

والملائكة يشهدون بأنه لا إله إلا هو ، فإن الله يخبر في آيات مكية نازلة قبل هذه الآيات بأنهم عباد مكرمون لا يعصون ربهم ويعملون بأمره ويسبحونه وفي تسبيحهم شهادة أن لا إله غيره ، قال تعالى : (بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء ـ ٢٧ ، وقال تعالى : (وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ ) ربهم الشورى ـ ٥.


وأولوا العلم يشهدون أنه لا إله إلا هو يشاهدون من آياته الآفاقية والأنفسية وقد ملات مشاعرهم ورسخت في عقولهم.

وقد ظهر مما تقدم أولاً : أن المراد بالشهادة شهادة القول على ما هو ظاهر الآية الشريفة دون شهادة الفعل وإن كانت صحيحة حقة في نفسها فإن عالم الوجود يشهد على وحدانيته في الالوهية بالنظام الواحد المتصل الجاري فيه ، وبكل جزء من أجزائه التي هي أعيان الموجودات.

وثانياً : أن قوله تعالى : قائماًً بالقسط حال من فاعل قوله : شهد الله ، والعامل فيه شهد ، وبعبارة اخرى قيامه بالقسط ليس بمشهود له لا له تعالى ولا للملائكة واولي العلم بل الله سبحانه حال كونه قائماًً بالقسط يشهد أن لا إله إلاّ هو والملائكة واولوا العلم يشهدون بالوحدانية كما هو ظاهر الآية حيث فرّقت بين قوله : لا إله إلا هو ، وقوله : قائماً بالقسط بتوسيط قوله : والملائكة واولوا العلم ، ولو كان القيام بالقسط من أجزاء الشهادة لكان حق الكلام أن يقال : إنه لا إله إلا هو قائماً بالقسط والملائكة ، ومن ذلك يظهر ما فيما ذكره عدة من المفسرين في تفسير الآية من الجهتين جميعاً كما لا يخفى على من راجع ما ذكروه في المقام.

ومن أردء الاشكال ما ذكره بعضهم : أن حمل الشهادة على الشهادة الكلامية كما مر يوجب الاستناد في أمر التوحيد إلى النقل دون العقل مع كونه حينئذ متوقفاً على صحة الوحي فإن صدق هذه الشهادة يتوقف على كون القرآن وحياً حقاً وهو متوقف عليه فيكون بياناً دورياً ، ومن هنا ذكر بعضهم : أن المراد بالشهادة هنا معنى استعاري بدعوى أن دلالة جميع ما خلقه الله من خلق على ما فيها من وحدة الحاجة واتصال النظام على وحدة صانعها بمنزلة نطقه وإخباره تعالى بأنه واحد لا إله غيره وكذا عبادة ملائكته له وإطاعتهم لأمره ، وكذا ما يشاهده اولوا العلم من أفراد الإنسان من آيات وحدانيته بمنزلة شهادتهم على وحدانيته تعالى.

والجواب : أن فيه خلطاً ومغالطة فإن النقل إنما لا يعتمد عليه فيما للعقل أو الحس إليه سبيل لكونه لا يفيد العلم فيما يجب فيه تحصيل العلم ، أما لو غرض إفادته من العلم ما يفيد العقل مثلاً أو أقوى منه كان في الاعتبار مثل العقل أو أقوى منه كما أن المتواتر من الخبر أقوى أثراً وأجلى صدقاً من القضية التي أُقيم عليها برهان مؤلف من


مقدمات عقلية نظرية وإن كانت يقينية وأنتجت اليقين.

فإذا كان الشاهد المفروض يمتنع عليه الكذب والزور بصريح البرهان كانت شهادته تفيد ما يفيده البرهان من اليقين ، والله سبحانه ( وهو الله الذي لا سبيل للنقص والباطل إليه ) لا يتصور في حقه الكذب فشهادته على وحدانية نفسه شهادة حق كما أن إخباره عن شهادة الملائكة واولي العلم يثبت شهادتهم.

على أن من أثبت له شركاء كالأصنام وأربابها فإنما يثبتها بعنوان أنها شفعاء عند الله ووسائط بينه وبين خلقه كما حكى الله تعالى عنهم بقوله : (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) الزمر ـ ٣ ، وكذا من اتخذ له شريكاً بالشرك الخفي من هوى أو رئيس مطاع أو مال أو ولد إنما يتخذه سبباً من الله غير أنه مستقل بالتأثير بعد حصوله له وبالجملة ما اتخذ له من شريك فإِنما يشاركه فيما يشاركه بتشريكه لا بنفسه ، وإذا شهد الله على أنه لم يتخذ لنفسه شريكاً أبطل ذلك دعوى من يدعي له شريكاً ، وجرى الكلام مجرى قوله : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ ) يونس ـ ١٨ ، فإنه إبطال لدعوى وجود الشريك بأن الله لا يعلم به في السموات والأرض ولا يخفى عليه شيء وبالحقيقة هو خبر مثل سائر الأخبار الصادرة عن مصدر الربوبية والعظمة كقوله : (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) يونس ـ ١٨ ، ونحو ذلك ، غير أنه لوحظ فيه انطباق معنى الشهادة عليه لكونه خبراً في مورد دعوى ، والمخبر به قائم بالقسط فكان شهادة فعبر بلفظ الشهادة تفنناً في الكلام ، فيؤول المعنى إلى انه لو كان في الوجود أرباب من دون الله مؤثرون في الخلق والتدبير شركاء أو شفعاء في ذلك لعلمه الله وشهد به لكنه يخبر أنه ليس يعلم لنفسه شريكاً فلا شريك له ، ولعلم واعترف به الملائكة الكرام الذين هم الوسائط المجرون للأمر في الخلق والتدبير لكنهم يشهدون أن لا شريك له ، ولعلم به وشهد أثره اولوا العلم لكنهم يشهدون بما شاهدوا من الآيات أن لا شريك له.

فالكلام نظير قولنا : لو كان في المملكة الفلانية ملك مؤثر في شئون المملكة وإداره امورها غير الملك الذي نعرفه لعلم به الملك وعرفه لأنه من المحال أن لا يحس بوجوده وهو يشاركه ، ولعلم به القوى المجريه والعمال المتوسطون بين العرش والرعية وكيف يمكن أن لا يشعروا بوجوده وهم يحملون أوامره ويجرون أحكامه بين ما في


أيديهم من الأحكام والاوامر ؟ ولعلم به العقلاء من عامة أهل المملكة ، وكيف لا وهم يطيعون أوامره وعهوده ، ويعيشون في ملكه لكن الملك ينكر وجوده ، وعمال الدولة لا يعرفونه ، وعقلاء الرعية لا يشاهدون ما يدل على وجوده ؟ فليس.

قوله تعالى : (لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ، الجملة كالمعترضة الدخيلة في الكلام لاستيفاء حق معترض يفوت لولا ذكره مع عدم كونه مقصوداً في الكلام أصالة ، ومن أدب القرآن أن يظهر تعظيم الله جل شأنه في موارد يذكر أمره ذكراً يخطر منه بالبال ما لا يليق بساحة كبريائه كقوله تعالى : (قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ ) يونس ـ ٦٨ ، فقوله سبحانه قصد به التعظيم في مقام يحكى فيه قول لا يلائم حقه تعالى ، ونظيره بوجه قوله تعالى : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ الآية ) المائدة ـ ٦٤.

وبالجملة لما اشتمل أول الآية على شهادة الله والملائكة واولي العلم ـ بنفي الشريك كان من حق الله سبحانه على من يحكي ويخبر عن هذه الشهادة أعني المتكلم ( وهو في الآية هو الله سبحانه ) وعلى من يسمع ذلك أن يوحد الله بنفي الشريك عنه فيقول لا إله إلا هو نظير ذلك قوله تعالى في قصة الافك : (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ) النور ـ ١٦ ، فإن من حقه تعالى عليهم أن إذا سمعوا بهتاناً وأرادوا تنزيه من بهت عليه أن ينزهوا الله قبله فإنه تعالى أحق من يجب تنزيهه.

فموضع قوله : (لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) موضع الثناء عليه تعالى لاستيفاء حق تعظيمه ولذا تمم بالاسمين العزيز الحكيم ، ولو كان في محل النتيجة من الشهادة لكان حق الكلام أن يتمم بوصفي الوحدة والقيام بالقسط ، فهو تعالى حقيق بالتوحيد إذا ذكرت الشهادة المذكورة على وحدانيته لأنه المتفرد بالعزة التي يمنع جانبه أن يستذل بوجود شريك له في مقام الالوهية ، والمتوحد بالحكمة التي تمنع غيره أن ينقض أمره في خلقه أو ينفذ في خلال تدبيره وما نظمه من أمر العالم فيفسد عليه ما أراده.

وقد تبين بما مر من البيان وجه تكرار كلمة التوحيد في الآية ، وكذا وجه تتميمها بالاسمين : العزيز الحكيم ، والله العالم.


( بحث روائي )

في المجمع : في قوله تعالى : (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ) الآية روى محمد بن إسحاق عن رجاله قال : لما أصاب رسول الله 6 قريشاً ببدر وقدم المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع فقال : يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر ، وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم وقد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم فقالوا : يا محمد لا يغرنك أنك لقيت قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة إنا والله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس فأنزل الله هذه الآية.

أقول : ورواه في الدر المنثور عن ابن إسحاق وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس ، وروى ما يقرب منه القمي في تفسيره ، وقد عرفت مما تقدم : أن سياق الآيات لا يلائم نزولها في حق اليهود كل الملائمة ، وأن الأنسب بسياقها أن تكون نازلة بعد غزوة احد ، والله أعلم.

وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق 7 : ما تلذذ الناس في الدنيا والآخرة بلذة أكبر لهم من لذة النساء ، وهو قوله : زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ الآية ثم قال : وإن أهل الجنة ما يتلذذون بشيء من الجنة أشهى عندهم من النكاح ، لا طعام ولا شراب.

أقول : وقد استفيد ذلك من الترتيب المجعول في الآية للشهوات ثم تقديم النساء على باقي المشتهيات ثم جعل هذه الشهوات متاع الدنيا وشهوات الجنة خيرا منها.

ومراده 7 من الحصر في كون النكاح أكبر لذائذ الناس إنما هو الحصر الإضافي أي أن النكاح أكبر لذة بالنسبة إلى هذه الشهوات المتعلقة بجسم الإنسان ؛ وأما غيرها كالتذاذ الإنسان بوجود نفسه أو التذاذ ولي من أولياء الله تعالى بقرب ربه ومشاهدة آياته الكبرى ولطائف رضوانه وإكرامه وغيرهما فذلك خارج عن مورد كلامه 7 وقد قامت البراهين العلمية على أن أعظم اللذائذ التذاذ الشيء بنعمة وجوده ، واخرى على أن التذاذ الأشياء بوجود ربها أعظم من التذاذها بنفسها. وهناك روايات كثيرة دالة على أن التذاذ العبد بلذة الحضور والقرب منه تعالى أكبر عنده من كل لذة ، وقد


روي في الكافي عن الباقر 7 : كان علي بن الحسين 8 يقول : إنه يسخي نفسي في سرعة الموت والقتل فينا قول الله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ) وهو ذهاب العلماء ، وسيجيء عدة من هذه الروايات في المواضع المناسبة لها من هذا الكتاب.

وفي المجمع في قوله تعالى : القناطير المقنطرة عن الباقر والصادق 8 القنطار ملؤ مسك ثور ذهباً.

وفي تفسير القمي قال 7 : الخيل المسومة المرعية.

وفي الفقيه والخصال عن الصادق 7 : من قال في وتره إذا أوتر : أستغفر الله وأتوب إليه سبعين مرة وهو قائم فواظب على ذلك حتى تمضي سنة كتبه الله عنده من المستغفرين بالأسحار ووجبت له المغفرة من الله تعالى.

أقول : وهذا المعنى مروي في روايات أُخر عن أئمة أهل البيت ، وهو من سنن النبي 6 وروي ما يقرب منه في الدر المنثور أيضاً عن ابن جرير عن جعفر بن محمد قال من صلّى من الليل ثم استغفر في آخر الليل سبعين مرة كتب من المستغفرين ، وقوله 7 ووجبت له المغفرة من الله ، مستفاد من قوله تعالى حكاية عنهم : فاغفر لنا ذنوبنا ، فإن في الحكاية لدعائهم من غير رد إمضائاً للاستجابة.

* * *

إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ ـ ١٩. فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ـ ٢٠.


إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ـ ٢١. أُولَـئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ـ ٢٢. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ ـ ٢٣. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ـ ٢٤. فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ـ ٢٥.

( بيان )

الآيات متعرضة لحال أهل الكتاب وهم آخر الفرق الثلاث التي تقدم أنها عرضة للكلام في هذه السورة ، وأهمهم بحسب قصد الكلام أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ففيهم وفي أمرهم نزل معظم السورة واليهم يعود.

قوله تعالى : إن الدين عند الله الإسلام ، قد مر معنى الإسلام بحسب اللغة وكأن هذا المعنى هو المراد هيهنا بقرينة ما يذكره من اختلاف أهل الكتاب بعد العلم بغياً بينهم فيكون المعنى : إن الدين عند الله سبحانه واحد لا اختلاف فيه لم يأمر عباده إلا به ، ولم يبين لهم فيما أنزله من الكتاب على أنبيائه إلا إياه ، ولم ينصب الآيات الدالة إلا له وهو الإسلام الذي هو التسليم للحق الذي هو حق الاعتقاد وحق العمل ، وبعبارة اخرى هو التسليم للبيان الصادر عن مقام الربوبية في المعارف والأحكام ، وهو وإن اختلف كما وكيفاً في شرائع أنبيائه ورسله على ما يحكيه الله سبحانه في كتابه غير أنه ليس في الحقيقة إلا أمراً واحداً ، وإنما اختلاف الشرائع بالكمال والنقص دون


التضاد والتنافي ، والتفاضل بينها بالدرجات ، ويجمع الجميع أنها تسليم وإطاعة لله سبحانه فيما يريده من عباده على لسان رسله.

فهذا هو الدين الذي أراده الله من عباده وبينه لهم ، ولازمه أن يأخذ الإنسان بما تبين له من معارفه حق التبين ، ويقف عند الشبهات وقوف التسليم من غير تصرف فيها من عند نفسه وأما اختلاف أهل الكتاب من اليهود والنصارى في الدين مع نزول الكتاب الإلهي عليهم ، وبيانه تعالى لما هو عنده دين وهو الإسلام له فلم يكن عن جهل منهم بحقيقة الأمر وكون الدين واحداً بل كانوا عالمين بذلك ، وانما حملهم على ذلك بغيهم وظلمهم من غير عذر وذلك كفر منهم بآيات الله المبينة لهم حق الأمر وحقيقته لا بالله فإنهم يعترفون به ، ومن يكفر بآيات الله : (فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ) ، يحاسبه سريعاً في دنياه وآخرته : أما في الدنيا فبالخزي وسلب سعادة الحيوة عنه ، وأما في الآخرة فبأليم عذاب النار.

والدليل على عموم سرعة الحساب للدنيا والآخرة قوله تعالى بعد آيتين : ( أُولَـئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ).

ومما تقدم يظهر أولاً : أن المراد بكون الدين عند الله وحضوره لديه سبحانه هو الحضور التشريعي بمعنى كونه شرعاً واحداً لا يختلف إلا بالدرجات وبحسب استعدادات الامم المختلفة دون كونه واحداً بحسب التكوين بمعنى كونه واحداً مودعاً في الفطرة الإنسانية على وتيرة واحدة.

وثانياً : أن المراد بالآيات هو آيات الوحي ، والبيانات الإلهية التي ألقاها إلى أنبيائه دون الآيات التكوينية الدالة على الوحدانية وما يزاملها من المعارف الإلهية.

والآية تشتمل على تهديد أهل الكتاب بما يستدل عليه بالبغي وهو الانتقام ، كما يشتمل قوله تعالى في الآيات السابقة : (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ) الآية على تهديد المشركين والكفار ، ولعل هذا هو السبب في أنه جمع أهل الكتاب والمشركين معاً في الآية التالية في الخطاب بقوله : قُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ « الخ » وفيه إشعار بالتهديد أيضاً.

قوله تعالى : (فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ) ؛ الضمير في حاجوك


راجع إلى أهل الكتاب وهو ظاهر والمراد به محاجتهم في أمر الاختلاف بأن يقولوا أن اختلافنا ليس لبغى منا بعد البيان بل إنما هو شيء ساقنا إليه عقولنا وأفهامنا واجتهادنا في تحصيل العلم بحقائق الدين من غير أن ندع التسليم لجانب الحق سبحانه وأن ما تراه وتدعو إليه يا محمد من هذا القبيل ، أو يقولوا ما يشابه ذلك ، والدليل على ذلك قوله : فقل : أسلمت وجهي لله ، وقوله : (وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ) أأسلمتم ، فإن الجملتين حجة سيقت لقطع خصامهم وحجاجهم لا إعراض عن المحاجة معهم.

ومعناها مع حفظ ارتباطها بما قبلها : أن الدين عند الله الإسلام لا يختلف فيه كتب الله ولا يرتاب فيه سليم العقل ، ويتفرع عليه أن لا حجة عليك في إسلامك وأنت مسلم ، فإن حاجوك في أمر الدين فقل : أسلمت وجهي لله ومن اتبعن فهذا هو الدين ولا حجة بعد الدين في أمر الدين ثم سلهم ، أأسلموا فإن أسلموا فقد اهتدوا وليقبلوا ما أنزل الله عليك وعلى من قبلك ولا حجة عليهم ولا مخاصمة بعد ذلك بينكم ، وإن تولوا فلا تخاصمهم ولا تحاجهم فلا ينبغي الخصام في أمر ضروري ، وهو أن الدين هو التسليم لله سبحانه ، وما عليك إلا البلاغ.

وقد أشرك سبحانه في الآية بين أهل الكتاب والاميين بقوله : (وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ) ، لكون الدين مشتركاً بينهم وإن اختلفوا في التوحيد و التشريك.

وقد علق الإسلام على الوجه ـ وهو ما يستقبلك من الشيء أو الوجه بالمعنى الأخص لكون إسلام الوجه لاشتماله على معظم الحواس والمشاعر إسلاماً لجميع البدن ـ ليدل على معنى الإقبال والخضوع لأمر الرب تعالى وعطف قوله : ومن اتبعن حفظاً لمقام التبعية وتشريفاً للنبي 6.

قوله تعالى : (وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ) إلى آخر الآية ، المراد بالاميين المشركين سموا بذلك لتسمية من وضع في مقابلهم بأهل الكتاب ، وكذا كان أهل الكتاب يسمونهم كما حكاه تعالى من قوله : ( ليس علينا في الاميين سبيل ) آل عمران ـ ٧٥ ، والامي هو الذي لا يكتب ولا يقرء.

وفي قوله تعالى : (وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) دلالة.

اولا : على النهي عن المراء والإلحاح في المحاجة فإن المحاجة مع من ينكر الضروري


لا تكون إلا مرائاً ولجاجاً في البحث.

وثانياً : على أن الحكم في حق الناس والأمر مطلقا إلى الله سبحانه ، وليس للنبي 6 إلا أنه رسول مبلغ لا حاكم مسيطر كما قال تعالى : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) آل عمران ـ ١٢٨ ، وقال تعالى : (لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ) الغاشية ـ ٢٣.

وثالثاً : على تهديد أهل الكتاب والمشركين فإن ختم الكلام بقوله : (وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) ، بعد قوله : فإنما عليك البلاغ لا يخلو من ذلك ، ويدل على ذلك ما وقع من التهديد في نظير الآية وهو قوله تعالى : (قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ إلى أن قال : وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) البقرة ـ ١٣٧ ، تذكر الآية أن أهل الكتاب إن تولوا عن الإسلام فهم مصرون على الخلاف ثم يهددهم بما يسلي به النبي ويطيب نفسه ، فالآية أعني قوله : (وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ) ، كناية عن الأمر بتخلية ما بينهم وبين ربهم ، وإرجاع أمرهم إليه ، وهو بصير بعباده يحكم فيهم بما تقتضيه حالهم ويسأله لسان استعدادهم.

ومن هنا يظهر أن ما ذكره بعض المفسرين ، أن في الآية دليلاً على حرية الاعتقاد في أمر الدين وأن لا إكراه فيه ليس بوجيه فإن الآية كما عرفت مسوقه لغير ذلك.

وفي قوله : بصير بالعباد حيث أخذ عنوان العبودية ولم يقل : بصير بهم أو بصير بالناس ونحو ذلك إشعار بأن حكمه نافذ فيهم ماض عليهم فإنهم عباده ومربوبون له أسلموا أو تولوا.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ) إلى آخر الآية ، الكلام في الآية وإن كان مسوقاً سوق الاستيناف لكنه مع ذلك لا يخلو عن إشعار وبيان للتهديد الذي يشعر به آخر الآية السابقة فإن مضمونها منطبق على أهل الكتاب وخاصة اليهود.

وقوله : يكفرون ، ويقتلون ، في موضعين للاستمرار ويدلان على كون الكفر بآيات الله وهو الكفر بعد البيان بغياً وقتل الأنبياء وهو قتل من غير حق ، وقتل الذين يدعون إلى القسط والعدل وينهون عن الظلم والبغي دأباً وعادة جارية فيما بينهم كما يشتمل عليه تاريخ اليهود فقد قتلوا جمعاً كثيراً وجماً غفيراً من أنبيائهم وعبادهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وكذا النصارى جروا مجريهم.


وقوله : (فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) تصريح بشمول الغضب ونزول السخط وليس هو العذاب الاخروي فحسب بدليل قوله تعالى عقيب الآية : (أُولَـئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) « الخ » فهم مبشرون بالعذاب الدنيوي والاخروي معاً ، أما الاخروي فأليم عذاب النار ، وأما الدنيوي فهو ما لقوه من التقتيل والإجلاء وذهاب الأموال والأنفس ، وما سخط الله عليهم بإلقاء العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة على ما تصرح به آيات الكتاب العزيز.

وفي قوله تعالى : (أُولَـئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ) ، دلالة اولا : على حبط عمل من قتل رجلاً من جهة أمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر وثانيا : على عدم شمول الشفاعة له يوم القيامة لقوله : وما لهم من ناصرين.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ) إلى آخر الآية يومي إلى تسجيل البغي على أهل الكتاب حسب ما نسبه الله تعالى إليهم وأنهم يبغون باتخاذ الخلاف وإيجاد اختلاف الكلمة في الدين فإنهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب كتاب الله بينهم لم يسلموا له وتولوا وأعرضوا عنه وليس ذلك إلا باغترارهم بقولهم لن تمسنا « الخ » وبما افتروه على الله في دينهم.

والمراد بالذين اوتوا نصيباً من الكتاب أهل الكتاب وإنما لم يقل : اوتوا الكتاب ، وقيل : اوتوا نصيباً من الكتاب ليدل على أن الذي في أيديهم من الكتاب ليس إلا نصيباً منه دون جميعه لأن تحريفهم له وتغييرهم وتصرفهم في كتاب الله أذهب كثيراً من أجزائه كما يومي إليه قوله في آخر الآية التالية : وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ، وكيف كان فالمراد ـ والله أعلم ـ أنهم يتولون عن حكم كتاب الله اعتزازاً بما قالوا واغتراراً بما وضعوه من عند أنفسهم واستغنائاً به عن الكتاب.

قوله تعالى : (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ) « الخ » معناه واضح ، واغترارهم بفريتهم التي افترتها أنفسهم مع أن الإنسان لا ينخدع عن نفسه مع العلم بأنها خدعة باطلة إنما هو لكون المغرورين غير المفترين ؛ وعلى هذا فنسبة الافتراء الذي توسل إليها سابقوهم إلى هؤلاء المغرورين من اللاحقين لكونهم امه واحدة يرضى بعضهم بفعال بعض.

وإما لأن الاغترار بغرور النفس والغرور بالفرية الباطلة مع العلم بكونها فرية


باطلة وذكر المغرور أنه هو الذي افترى ما يغتر به من الفرية ليس من أهل الكتاب ومن اليهود خاصة ببعيد ، وقد حكى الله عنهم مثله بل ما هو أعجب من ذلك حيث قال تعالى : (وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) البقرة ـ ٧٧.

على أن الإنسان يجري في أعماله وأفعاله على ما تحصل عنده من الأحوال أو الملكات النفسانية ، والصور التي زينتها ونمقتها له نفسه دون الذي حصل له العلم به كما أن المعتاد باستعمال المضرات كالبنج والدخان وأكل التراب ونحوها يستعملها وهو يعلم أنها مضرة ، وأن استعمال المضر مما لا ينبغي إلا أن الهيئة الحاصلة في نفسه ملذة له جاذبة إياه إلى الاستعمال لا تدع له مجالاً للتفكر والاجتناب ، ونظائر ذلك كثيرة.

فهم لاستحكام الكبر والبغي وحب الشهوات في أنفسهم يجرون على طبق ما تدعوهم إليه فريتهم فكانت فريتهم هي الغارة لهم في دينهم ، وهم مع ذلك كرروا ذكر ما افتروه على الله سبحانه ولم يزالوا يكررونه ويلقنونه أنفسهم حتى أذعنوا به أي اطمأنوا وركنوا إليه بالتلقين الذي يؤثر أثر العلم كما بينه علماء النفس فصارت الفرية الباطلة بالتكرار والتلقين تغرهم في دينهم ، وتمنعهم عن التسليم لله والخضوع للحق الذي أنزله في كتابه.

قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ) إلى آخر الآية ؛ مدخول كيف مقدر يدل عليه الكلام مثل يصنعون ونحوه ، وفي الآية إيعاد لهؤلاء الذين تولوا إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم وهم معرضون غير أنه لما اريد بيان أنهم غير معجزين لله سبحانه اخذ في الكلام من حالهم يوم القيامة وهم مستسلمون يومئذ ما يضاهي حالهم في الدنيا عند الدعوة إلى حكم كتاب الله وهم غير مسلمين له مستكبرون عنه ، ولهذا اخذ بالمحاذاة بين الكلامين ، وعبر عن ما يجري عليهم يوم القيامة بمثل قوله : (إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ) « الخ » دون أن يقال : إذا أحييناهم أو بعثناهم أو ما يماثل ذلك.

والمعنى ـ والله أعلم ـ أنهم يتولون ويعرضون إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم اغتراراً بما افتروه في دينهم واستكباراً عن الحق فكيف يصنعون إذا جمعناهم


ليوم لا ريب فيه وهو يوم القضاء الفصل ، والحكم الحق ووفيت كل نفس ما كسبت والحكم حكم عدل وهم لا يظلمون ، وإذا كان كذلك كان الواجب عليهم أن لا يتولوا ويعرضوا مظهرين بذلك أنهم معجزون لله غالبون على أمره فإن القدرة كله لله وما هي إلا أيام مهلة وفتنة.

( بحث روائي )

في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم قال : سألته عن قوله إن الدين عند الله الإسلام فقال : الذي فيه الإيمان.

وعن ابن شهر آشوب عن الباقر 7 في قوله تعالى : إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ الآية قال : التسليم لعلي بن أبيطالب بالولاية.

أقول : وهو من الجري ؛ ولعل ذلك هو المراد أيضاً من الرواية السابقة.

وعنه أيضاً عن علي 7 قال : لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي ، ولا ينسبها أحد بعدي : الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، والتصديق هو الإقرار ، والإقرار هو الأداء ، والأداء هو العمل ، المؤمن أخذ دينه عن ربه ، إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله ، وإن الكافر يعرف كفره بانكاره.

أيها الناس ! دينكم دينكم فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره إن السيئة فيه تغفر وإن الحسنة في غيره لا تقبل.

أقول : قوله 7 لأنسبن الإسلام نسبة ، المراد بالنسبة التعريف كما سميت سورة التوحيد في الأخبار بنسبة الرب والذي عرف به تعريف باللازم في غير الأول أعني قوله : الإسلام هو التسليم فإنه تعريف لفظي عرف فيه اللفظ بلفظ آخر أوضح منه ، ويمكن أن يراد بالإسلام المعنى الاصطلاحي له وهو هذا الدين الذي أتى به محمد 6 إشارة إلى قوله تعالى : إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ، وبالتسليم الخضوع والانقياد ذاتاً وفعلاً فيعود الجميع إلى التعريف باللازم.

والمعنى ان هذا الدين المسمى بالإسلام يستتبع خضوع الإنسان لله سبحانه


ذاتاً وفعلاً ، ووضعه نفسه وأعماله تحت أمره وإرادته وهو التسليم ، والتسليم لله يستتبع أو يلزم اليقين بالله و ارتفاع الريب فيه ، واليقين يستتبع التصديق وإظهار صدق الدين ، والتصديق يستتبع الإقرار وهو الاذعان بقراره وكونه ثابتاً لا يتزلزل في مقره ولا يزول عن مكانه ، وإقراره يستتبع أدائه ، وأدائه يستتبع العمل.

وقوله 7 وإن الحسنة في غيره لا تقبل المراد بعدم القبول عدم الثواب بإزائه في الآخرة ، أو عدم الأثر الجميل المحمود عند الله في الدنيا بسعادة الحيوة وفي الآخرة بنعيم الجنة فلا ينافي ما ورد أن الكفار يوجرون في مقابل حسناتهم بشيء من حسنات الدنيا ، قال تعالى : (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) الزلزال ـ ٧.

وفي المجمع عن أبي عبيدة الجراح قال : قلت : يا رسول الله أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة ؟ قال رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بمعروف أو نهى عن منكر ثم قرء : (الَّذِينَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) ثم قال : يا أبا عبيدة قتلت بنوا إسرائيل ثلثة وأربعين نبياً في ساعة ـ فقام مأة رجل واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فامروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً آخر النهار من ذلك اليوم وهو الذي ذكره الله.

اقول : وروي هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي عبيدة.

وفي الدر المنثور : أخرج ابن إسحق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : دخل رسول الله 6 بيت المدراس على جماعه من يهود فدعاهم إلى الله فقال له النعمان بن عمرو وحرث بن زيد على أي دين أنت يا محمد ؟ قال : على ملة إبراهيم ودينه قالا : فإن ابراهيم كان يهودياً ، فقال لهما رسول الله 6 : فهلما إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا عليه فأنزل الله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ) إلى قوله : وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون.

أقول : وروى بعضهم : أن قوله تعالى : ألم تر نزل في قصة الرجم وسيجيء ذكرها في ذيل الكلام على قوله تعالى : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ


كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ الآية ) المائدة ـ ١٥ ، والروايتان من الآحاد وليستا بتلك القوة.

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ـ ٢٦. تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ـ ٢٧.

( بيان )

الآيتان لا تخلوان عن ارتباط ما ، بما تقدمهما من الكلام في شأن أهل الكتاب وخاصة اليهود لاشتماله على وعيدهم وتهديدهم بعذاب الدنيا والآخرة ، ومن العذاب ما سلب الله عنهم الملك وضرب عليهم الذل والمسكنة إلى يوم القيامة ، وأخذ أنفاسهم ، وذهب باستقلالهم في السؤدد.

على أن غرض السورة كما مر بيان أن الله سبحانه هو القائم على خلق العالم وتدبيره فهو مالك الملك يملك من يشاء ، ويعز من يشاء ، وبالجملة هو المعطي للخير لمن يشاء ، وهو الآخذ النازع للملك والعزة ولكل خير عمن يشاء ، فمضمون الآيتين غير خارج عن غرض السورة.

قوله تعالى : (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ) ، أمر بالالتجاء إلى الله تعالى الذي بيده الخير على الإطلاق وله القدرة المطلقة ليتخلص من هذه الدعاوي الوهمية التي نشبت في قلوب المنافقين والمتمردين من الحق من المشركين وأهل الكتاب فضلوا وهلكوا بما قدروه لانفسهم من الملك والعزة والغنى من الله سبحانه ، ويعرض الملتجي نفسه على إفاضة مفيض الخير والرازق لمن يشاء بغير حساب.

والملك ( بكسر الميم ) مما نعرفه فيما بيننا ونعهده من غير ارتياب في أصله فمن


الملك ( بكسر الميم ) ما هو حقيقي وهو كون شيء كالإنسان مثلاً بحيث يصح له أن يتصرف في شيء أي تصرف أمكن بحسب التكوين والوجود كما يمكن للإنسان أن يتصرف في باصرته بإعمالها وإهمالها بأي نحو شاء وأراد ، وكذا في يده بالقبض والبسط ، والأخذ بها والترك ونحو ذلك ؛ ولا محالة بين المالك وملكه بهذا المعنى رابطة حقيقية غير قابلة التغير يوجب قيام المملوك بالمالك نحو قيام لا يستغنى عنه ولا يفارقه إلا بالبطلان كالبصر واليد إذا فارقا الإنسان. ومن هذا القبيل ملكه تعالى ( بكسر الميم ) للعالم ولجميع أجزائه وشئونه على الإطلاق ؛ فله أن يتصرف فيما شاء كيفما شاء.

ومن الملك ( بكسر الميم ) ما هو وضعي اعتباري وهو كون الشيء كالإنسان بحيث يصح له أن يتصرف في شيء كيف شاء بحسب الرابطة التي اعتبرها العقلاء من أهل الاجتماع لغرض نيل الغايات والأغراض الاجتماعية ، وإنما هو محاذاة منهم لما عرفوه في الوجود من الملك الحقيقي وآثاره فاعتبروا مثله في ظرف اجتماعهم بالوضع والدعوى لينالوا بذلك من هذه الأعيان والأمتعة فوائد نظير ما يناله المالك الحقيقي من ملكه الحقيقي التكويني.

ولكون الرابطة بين المالك والمملوك في هذا النوع من الملك بالوضع والاعتبار نرى ما نرى فيه من جواز التغير والتحول ، فمن الجائز أن ينتقل هذا النوع من الملك من إنسان إلى آخر بالبيع والهبة وسائر أسباب النقل.

وأما الملك ( بالضم ) فهو وإن كان من سنخ الملك ( بالكسر ) إلا أنه ملك لما يملكه جماعة الناس فإن المليك مالك لما يملكه رعياه ، له أن يتصرف فيما يملكونه من غير أن يعارض تصرفهم تصرفه ، ولا أن يزاحم مشيئتهم مشيئته فهو في الحقيقة ملك على ملك ، وهو ما نصطلح عليه بالملك الطولي كملك المولى للعبد وما في يده ، ولهذا كان للملك ( بالضم ) من الأقسام ما ذكرناه للملك ( بالكسر ).

والله سبحانه مالك كل شيء ملكاً مطلقاً أما أنه مالك لكل شيء على الإطلاق فلان له الربوبية المطلقة والقيمومة المطلقة على كل شيء فإنه خالق كل شيء وإله كل شيء ، قال تعالى : (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) المؤمن ـ ٦٢ ،


وقال تعالى : (لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ) البقرة ـ ٢٥٥ ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن كل ما يسمى شيئاًًً فهو قائم الذات به مفتقر الذات إليه لا يستقل دونه فلا يمنعه فيما أراده منها وفيها شيء ، وهذا هو الملك ( بالكسر ) كما مر.

وأما أنه مليك على الإطلاق فهو لازم إطلاق كونه مالكاً للموجودات فإن الموجودات أنفسها يملك بعضها بعضاً كالأسباب حيث تملك مسبباتها ، والأشياء تملك قواها الفعالة ، والقوى الفعالة تملك أفعالها كالإنسان يملك أعضائه وقواه الفعالة من سمع وبصر وغير ذلك ، وهي تملك أفعالها ، وإذ كان الله سبحانه يملك كل شيء فهو يملك كل من يملك منها شيئاًًً ، ويملك ما يملكه و ، هذا هو الملك ( بالضم ) فهو مليك على الإطلاق ، قال تعالى : (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ) التغابن ـ ١ ، وقال تعالى : (عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ) القمر ـ ٥٥ ، إلى غير ذلك من الآيات ، هذا هو الحقيقي من المِلك والمُلك.

وأما الاعتباري منها فإنه تعالى مالك لأنه هو المعطي لكل من يملك شيئاًًً من المال ، ولو لم يملك لم يصح منه ذلك ولكان معطياً لما لا يملك ، لمن لا يملك قال تعالى : (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) النور ـ ٣٣.

وهو تعالى مليك يملك ما في أيدي الناس لأنه شارع حاكم يتصرف بحكمه فيما يملكه الناس كما يتصرف الملوك فيما عند رعاياهم من المال ، قال تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ) الناس ـ ٢ ، وقال تعالى : (وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ) إبراهيم ـ ٣٤ ، وقال تعالى : (وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) الحديد ـ ٧ ، وقال تعالى : (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) الحديد ـ ١٠ ، وقال تعالى : (لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) المؤمن ـ ١٦ ، فهو تعالى يملك ما في أيدينا قبلنا ويملكه معنا وسيراه بعدنا عز ملكه.

ومن التأمل فيما تقدم يظهر أن قوله تعالى اللهم مالك الملك ، مسوق.

اولاً : لبيان ملكه تعالى ( بالكسر ) لكل ملك ( بالضم ) ومالكية الملك ( بالضم ) هو الملك على الملك ( بالضم فيهما ) فهو ملك الملوك الذي هو المعطي لكل ملك ملكه كما قال تعالى : (أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ) البقرة ـ ٢٥٨ ، وقال تعالى : (وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً ) النساء ـ ٥٤.


وثانياً : يدل بتقديم لفظ الجلالة على بيان السبب فهو تعالى مالك الملك لأنه الله جلت كبريائه ، وهو ظاهر.

وثالثاً : أن المراد بالملك في الآية الشريفة (وَاللّهُ أَعْلَمُ ) ما هو أعم من الحقيقي والاعتباري فإن ما ذكر من أمره تعالى في الآية الأولى أعني قوله : تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء : (وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء ) على ما سنوضحه من شؤون الملك الاعتباري وما ذكره في الآية الثانية من شؤون الملك الحقيقي فهو مالك الملك مطلقاً.

قوله تعالى : تؤتي الملك من تشاء ؛ وتنزع الملك ممن تشاء الملك باطلاقه شامل لكل ملك حقاً أو باطلاً عدلا أو جوراً فان الملك ( كما تقدم بيانه في قوله : (أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ الآية ) البقرة ـ ٢٥٨ ) في نفسه موهبة من مواهب الله ونعمة يصلح لان يترتب عليه آثار حسنة في المجتمع الإنساني وقد جبل الله النفوس على حبه والرغبة فيه ، والملك الذي تقلده غير أهله ليس بمذموم من حيث إنه ملك ، وإنما المذموم إما تقلد من لا يليق بتقلده كمن تقلده جوراً وغصباً ، وإما سيرته الخبيثة مع قدرته على حسن السيرة ، ويرجع هذا الثاني أيضاً بوجه إلى الأول.

وبوجه آخر يكون الملك بالنسبة إلى من هو أهله نعمة من الله سبحانه إليه ، وبالنسبة إلى غير أهله نقمة ؛ وهو على كل حال منسوب إلى الله سبحانه وفتنة يمتحن به عباده.

وقد تقدم أن التعليق على المشية في أفعاله تعالى كما في هذه الآية ليس معناه وقوع الفعل جزافاً تعالى عن ذلك بل المراد عدم كونه تعالى مجبراً في فعله ملزماً عليه فهو تعالى يفعل ما يفعل بمشيته المطلقة من غير أن يجبره أحد أو يكرهه وأنّ جرى فعله على المصلحة دائماً.

قوله تعالى : (وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء) ؛ العز كون الشيء بحيث يصعب مناله ؛ ولذا يقال للشيء النادر الوجود أنه عزيز الوجود أي صعب المنال ، ويقال عزيز القوم لمن يصعب قهره والغلبة عليه من بينهم فهو صعب المنال بالقهر والغلبة ، وصعب المنال من حيث مقامه فيهم ووجد انه كل ما لهم من غير عكس ثم استعمل في كل


صعوبة كما يقال : يعز على كذا. قال تعالى : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) التوبة ـ ١٢٨ ، أي صعب عليه واستعمل في كل غلبة كما يقال. من عزّ بزّ أي من غلب سلب ، قال تعالى : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) ص ـ ٢٣ ، أي غلبني ، والأصل في معناه ما مر.

ويقابله الذل وهو سهولة المنال بقهر محقق أو مفروض قال تعالى : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ) البقرة ـ ٦١ ، وقال تعالى : (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ ) الاسراء ـ ٢٤ ، وقال تعالى : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) المائدة ـ ٥٤.

والعزة من لوازم الملك على الإطلاق ، وكل من سواه إذا تملك شيئاًً فهو تعالى خوله ذلك وملكه ، وإن ملك على قوم فهو تعالى آتاه ذلك فكانت العزة له تعالى محضاً وما عند غيره منها فانما هو بايتائه وإفضاله قال تعالى : (أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً ) النساء ـ ١٣٩ وقال تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) المنافقون ـ ٨ وهذه هي العزة الحقيقية وأما غيرها فانما هي ذل في صورة عز قال تعالى : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ) ص ـ ٢. ولذا أردفه بقوله : (كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) ص ـ ٣.

وللذل بالمقابلة ما يقابل العز من الحكم فكل شيء غيره تعالى ذليل في نفسه إلا من أعزه الله تعالى (تُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء).

قوله تعالى : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ؛ الاصل في معنى الخير هو الانتخاب وإنما نسمي الشيء خيراً لإنا نقيسه إلى شيء آخر نريد أن نختار أحدهما فننتخبه فهو خير ولا نختاره إلا لكونه متضمناً لما نريده ونقصده فما نريده هو الخير بالحقيقة ، وإن كنا أردناه أيضاً لشيء آخر فذلك الآخر هو الخير بالحقيقة ، وغيره خير من جهته ، فالخير بالحقيقة هو المطلوب لنفسه يسمى خيراً لكونه هو المطلوب إذا قيس إلى غيره وهو المنتخب من بين الأشياء إذا أردنا واحداً منها وترددنا في اختياره من بينها.

فالشيء كما عرفت إنما يسمى خيراً لكونه منتخباً إذا قيس إلى شيء آخر مؤثراً بالنسبة إلى ذلك الآخر ففي معناه نسبة إلى الغير ولذا قيل : إنه صيغة التفضيل وأصله أخير. وليس بأفعل التفضيل ، وإنما يقبل انطباق معنى التفضيل على مورده فيتعلق


بغيره كما يتعلق أفعل التفضيل ؛ يقال : زيد أفضل من عمرو ، وزيد أفضلهما ، ويقال : زيد خير من عمرو ، وزيد خيرهما.

ولو كان خير صيغة التفضيل لجرى فيه ما يجري عليه ، ويقال أفضل وأفاضل وفضلي وفضليات ، ولا يجري ذلك في خير بل يقال : خير وخيرة وأخيار وخيرات كما يقال : شيخ وشيخة وأشياخ وشيخات فهو صفة مشبهة.

ومما يؤيده استعماله في موارد لا يستقيم فيه معنى أفعل التفضيل كقوله تعالى : (قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ) الجمعة ـ ١١ ، فلا خير في اللهو حتى يستقيم معنى أفعل ، وقد اعتذروا عنه وعن أمثاله بأنه منسلخ فيها عن معنى التفضيل ، وهو كما ترى. فالحق أن الخير إنما يفيد معنى الانتخاب ، واشتمال ما يقابله من المقيس عليه على شيء من الخير من الخصوصيات الغالبة في الموارد.

ويظهر مما تقدم أن الله سبحانه هو الخير على الإطلاق لأنه الذي ينتهي إليه كل شيء ويرجع إليه كل شيء ، ويطلبه ويقصده كل شيء لكن القرآن الكريم لا يطلق عليه سبحانه الخير إطلاق الاسم كسائر أسمائه الحسنى جلت أسمائه ، وإنما يطلقه عليه إطلاق التوصيف كقوله تعالى : (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) طه ـ ٧٣ ، وكقوله تعالى : (أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) يوسف ـ ٣٩.

نعم وقع الإطلاق على نحو التسمية بالاضافة كقوله تعالى : (وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) الجمعة ـ ١١ وقوله : (وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) الأعراف ـ ٨٧ ، وقوله : (وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) الأنعام ـ ٥٧ ، وقوله : (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) آل عمران ـ ١٥٠ : وقوله : (وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) آل عمران ـ ٥٤ ، وقوله : (وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) الاعراف ـ ٨٩ ، وقوله : (وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ) الأعراف ـ ١٥٥ ، وقوله : (وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) الأنبياء ـ ٨٩ ، وقوله : (وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ) المؤمنون ـ ٢٩ ، وقوله : (وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) المؤمنون ـ ١٠٩.

ولعل الوجه في جميع ذلك اعتبار ما في مادة الخير من معنى الانتخاب فلم يطلق اطلاق الاسم عليه تعالى صوناً لساحته تعالى أن يقاس إلى غيره بنحو الإطلاق وقد عنت الوجوه لجنابه ؛ وأما التسمية عند الإضافة والنسبة ، وكذا التوصيف في الموارد


المقتضية لذلك فلا محذور فيه.

والجملة أعني قوله تعالى : بيدك الخير تدل على حصر الخير فيه تعالى لمكان اللام وتقديم الظرف الذي هو الخبر ؛ والمعنى أن أمر كل خير مطلوب إليك ، وأنت المعطي المفيض إياه.

فالجملة في موضع التعليل لما تقدمت عليها من الجمل أعني قوله : تؤتي الملك من تشاء « الخ » من قبيل تعليل الخاص بما يعمه وغيره أعني أن الخير الذي يؤتيه تعالى أعم من الملك والعزة وهو ظاهر.

وكما يصح تعليل إيتاء الملك والإعزاز بالخير الذي بيده تعالى كذلك يصح تعليل نزع الملك والإذلال فانهما وإن كانا شرين لكن ليس الشر إلا عدم الخير فنزع الملك ليس إلا عدم الإعزاز فانتهاء كل خير إليه تعالى هو الموجب لانتهاء كل حرمان من الخير بنحو إليه تعالى نعم الذي يجب انتفائه عنه تعالى هو الاتصاف بما لا يليق بساحة قدسه من نواقص أفعال العباد وقبائح المعاصي إلا بنحو الخذلان وعدم التوفيق كما مر البحث عن ذلك.

وبالجملة هناك خير وشر تكوينيان كالملك والعزة ونزع الملك والذلة ، والخير التكويني أمر وجودي من إيتاء الله تعالى ، والشر التكويني إنما هو عدم إيتاء الخير ولا ضير في انتسابه إلى الله سبحانه فإنه هو المالك للخير لا يملكه غيره ، فإذا أعطى غيره شيئاًً من الخير فله الأمر وله الحمد ، وإن لم يعط أو منع فلا حق لغيره عليه حتى يلزمه عليه فيكون امتناعه من الاعطاء ظلماً ، على أن إعطائه ومنعه كليهما مقارنان للمصالح العامة الدخيلة في صلاح النظام الدائر بين أجزاء العالم.

وهناك خير وشر تشريعيان ، وهما أقسام الطاعات والمعاصي ، وهما الأفعال الصادرة عن الإنسان من حيث انتسابها إلى اختياره ، ولا تستند من هذه الجهة إلى غير الإنسان قطعاً ، وهذه النسبة هي الملاك لحسنها وقبحها ولو لا فرض اختيار في صدورها لم تتصف بحسن ولا قبح ، وهي من هذه الجهة لا تنتسب إليه تعالى إلا من حيث توفيقه تعالى وعدم توفيقه لمصالح تقتضي ذلك.

فقد تبين : إن الخير كله بيد الله وبذلك ينتظم أمر العالم في اشتماله على كل


وجدان وحرمان وخير وشر.

وقد ذكر بعض المفسرين : أن في قوله : بيدك الخير ايجازاً بالحذف ، والتقدير : بيدك الخير والشر كما قيل نظير ذلك في قوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) النحل ـ ٨١ ، أي والبرد.

وكأن السبب في ذلك الفرار عن الاعتزال لقول المعتزلة بعدم استناد الشرور إليه تعالى : وهو من عجيب الاجتراء على كلامه تعالى ، والمعتزلة وان أخطاوا في نفي الانتساب نفياً مطلقاً حتى بالواسطة لكنه لا يجوز هذا التقدير الغريب ، وقد تقدم البحث عن ذلك وبيان حقيقة الأمر.

قوله تعالى : (إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) في مقام التعليل لكون الخير بيده تعالى فإن القدرة المطلقة على كل شيء توجب أن لا يقدر أحد على شيء إلا بإقداره تعالى اياه على ذلك ولو قدر أحد على شيء من غير أن تستند قدرته إلى إقداره تعالى كان مقدوره من هذه الجهة خارجاً عن سعة قدرته تعالى فلم يكن قديراً على كل شيء ؛ وإذا كانت لقدرته هذه السعة كان كل خير مفروض مقدوراً عليه له تعالى ؛ وكان أيضاً كل خير أفاضه غيره منسوباً إليه مفاضاً عن يديه فهو له أيضاً فجنس الخير الذي لا يشذ منه شاذ بيده ، وهذا هو الحصر الذي يدل عليه قوله تعالى : بيدك الخير.

قوله تعالى : (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ) ؛ الولوج هو الدخول ، والظاهر كما ذكروه أن المراد من إيلاج الليل في النهار ، وإيلاج النهار في الليل ما هو المشاهد من اختلاف الليل والنهار في عرض السنة بحسب اختلاف عروض البقاع والأمكنة على بسيط الأرض ، واختلاف ميول الشمس فتأخذ الأيام في الطول والليالي في القصر وهو ولوج النهار في الليل بعد انتهاء الليالى في الطول من أول الشتاء إلى أول الصيف ، ثم يأخذ الليالي في الطول والأيام في القصر وهو ولوج الليل في النهار بعد انتهاء النهار في الطول من أول الصيف إلى أول الشتاء. كل ذلك في البقاع الشمالية ، والأمر في البقاع الجنوبية على عكس الشمالية منها ، فالطول في جانب قصر في الجانب الآخر فهو تعالى يولج الليل في النهار والنهار في الليل دائماً ، أما الاستواء في خط الاستواء والقطبين فإنما هو بحسب الحس وأما في الحقيقة فحكم التغيير دائم وشامل.


قوله تعالى : (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ) وذلك إخراج المؤمن من صلب الكافر ، وإخراج الكافر من صلب المؤمن فإنه تعالى سمى الإيمان حيوة ونوراً ، والكفر موتاً وظلمة كما قال تعالى : (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا) الأنعام ـ ١٢٢ ، ويمكن أن يراد الأعم من ذلك ومن خلق الأحياء كالنبات والحيوان من الأرض العديمة الشعور وإعادة الأحياء إلى الأرض بإماتتها فإن كلامه تعالى كالصريح في أنه يبدل الميت إلى الحي والحي إلى الميت ، قال تعالى : (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ) المؤمنون ـ ١٥ ، إلى غيرها من الآيات.

وأما ما ذهب إليه بعض علماء الطبيعة : أن الحيوة التي تنتهي إلى جراثيمها تسلك فيها سلوكاً من جرثومة حية إلى اخرى مثلها من غير أن تنتهي إلى المادة الفاقدة للشعور ، وذلك لإنكاره الكون الحادث ، فيبطله الموت المحسوس الذي تثبته التجربة في جراثيم الحيوة فتبدل الحيوة إلى الموت يكشف عن الربط بينهما ، ولبقية الكلام مقام آخر.

والآية أعني قوله تعالى : تولج الليل في النهار « الخ » تصف تصرفه تعالى في الملك الحقيقي التكويني كما أن الآية السابقة أعني قوله : تؤتي الملك من تشاء « الخ » تصف تصرفه في الملك الاعتباري الوضعي وتوابعه.

وقد وضع في كل من الآيتين أربعة أنحاء من التصرف بنحو التقابل فوضع في الاولى إيتاء الملك ونزعه وبحذائهما في الثانية إيلاج الليل في النهار وعكسه ، ووضع الإعزاز والإذلال وبحذائهما إخراج الحي من الميت وعكسه ، وفي ذلك من عجيب اللطف ولطيف المناسبة ما لا يخفى فإن إيتاء الملك نوع تسليط لبعض أفراد الناس على الباقين بإعفاء قدر من حريتهم وإطلاقهم الغريزي وإذهابها كتسليط الليل على النهار بإذهاب الليل بعض ما كان يظهره النهار ، ونزع الملك بالعكس من ذلك ؛ وكذا إعطاء العزة نوع إحياء لمن كان خامد الذكر خفي الأثر لولاها ، نظير إخراج الحي من الميت ، والإذلال بالعكس من ذلك ، وفي العزة حيوة وفي الذلة ممات.

وهنا وجه آخر : وهو أن الله عد النهار في كلامه آية مبصرة والليل آية ممحوة قال تعالى : (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ) الاسراء ـ ١٢ ، ومظهر


هذا الإثبات والإمحاء في المجتمع الإنساني ظهور الملك والسلطنة وزواله ، وعد الحيوة والموت مصدرين للآثار من العلم والقدرة كما قال تعالى : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) النحل ـ ٢١ ، وخص العزة لنفسه ولرسوله وللمؤمنين حيث قال : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) المنافقون ـ ٨ ، وهم الذين يذكرهم بالحيوة فصارت العزة والذلة مظهرين في المجتمع الإنساني للحيوة والموت ، ولهذا قابل ما ذكره في الآية الاولى من إيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال بما في الآية الثانية من إيلاج الليل في النهار وعكسه وإخراج الحي من الميت وعكسه.

ثم وقعت المقابلة بين ما ذكره في الآية الثانية : وترزق من تشاء بغير حساب ، وما ذكره في الآية الاولى : بيدك الخير ، كما سيجيء بيانه.

قوله تعالى : وترزق من تشاء بغير حساب ، المقابلة المذكورة آنفاً تعطي أن يكون قوله : وترزق « الخ » بياناً لما سبقه من إيتاء الملك والعز والإيلاج وغيره ، فالعطف عطف تفسير فيكون من قبيل بيان الخاص من الحكم بما هو أعم منه كما أن قوله : بيدك الخير ، بالنسبة إلى ما سبقه من هذا القبيل ؛ والمعنى : إنك متصرف في خلقك بهذه التصرفات لأنك ترزق من تشاء بغير حساب.

معنى الرزق في القرآن

الرزق معروف والذي يتحصل من موارد استعماله أن فيه شوباً من معنى العطاء كرزق الملك الجندي ويقال لما قرره الملك لجنديه مما يؤتاه جملة : رزقة ، وكان يختص بما يتغذى به لا غير كما قال تعالى : (وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) البقرة ـ ٢٣٣ ، فلم يعد الكسوة رزقاًً.

ثم توسع في معناه فعد كل ما يصل الإنسان من الغذاء رزقاًً كأنه عطية بحسب الحظ والجد وإن لم يعلم معطيه ، ثم عمم فسمى كل ما يصل إلى الشيء مما ينتفع به رزقاًً وإن لم يكن غذائاً كسائر مزايا الحيوة من مال وجاه وعشيرة وأعضاد وجمال وعلم وغير ذلك قال تعالى : (تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) المؤمنون ـ ٧٢ ، وقال فيما يحكي عن شعيب : (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى


بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) هود ـ ٨٨ ، والمراد به النبوة والعلم ، إلى غير ذلك من الآيات.

والمتحصل من قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) الذاريات ـ ٥٨ ، والمقام مقام الحصر : اولا : أن الرزق بحسب الحقيقة لا ينتسب إلا إليه فما ينسب إلى غيره تعالى من الرزق كما يصدقه أمثال قوله تعالى : (وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) الجمعة ـ ١١ حيث أثبت رازقين وعده تعالى خيرهم ، وقوله : (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ) النساء ـ ٥ ، كل ذلك من قبيل النسبة بالغير كما أن الملك والعزة لله تعالى لذاته ولغيره بإعطائه وإذنه فهو الرزاق لا غير.

وثانياً : أن ما ينتفع به الخلق في وجودهم مما ينالونه من خير فهو رزقهم والله رازقه ، ويدلّ على ذلك ـ مضافاً إلى آيات الرزق على كثرتها ـ آيات كثيرة أُخر كالآيات الدالّة على أنَّ الخلق والأمر والحكم والملك ( بكسر الميم ) والمشيّة والتدبير والخير لله محضاً عزّ سلطانه.

وثالثاً : أن ما ينتفع به الإنسان انتفاعاً محرماً لكونه سبباً للمعصية لا ينسب إليه تعالى لأنه تعالى نفي نسبة المعصية إلى نفسه من جهة التشريع. قال تعالى : (قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) الأعراف ـ ٢٨ ، وقال تعالى : (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ إلى أن قال : وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) النحل ـ ٩٠ وحاشاه سبحانه أن ينهي عن شيء ثم يأمر به أو ينهي عنه ثم يحصر رزقه فيه.

ولا منافاة بين عدم كون نفع محرم رزقاًً بحسب التشريع وكونه رزقاًً بحسب التكوين إذ لا تكليف في التكوين حتى يستتبع ذلك قبحاً ، وما بينه القرآن من عموم الرزق إنما هو بحسب حال التكوين ، وليس البيان الإلهي بموقوف على الأفهام الساذجة العامية حتى يضرب صفحاً عن التعرض للمعارف الحقيقية ، وفي القرآن شفاء لجميع القلوب لا يستضر به إلا الخاسرون. قال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً ) الاسراء ـ ٨٢.

على ان الآيات تنسب الملك الذي لامثال نمرود وفرعون ، والأموال والزخارف التي بيد أمثال قارون إلى إيتاء الله سبحانه فليس إلا أن ذلك كله بإذن الله آتاهم


ذلك امتحاناً وإتماماً للحجة وخذلاناً واستدراجاً ونحو ذلك ، وهذا كله نسب تشريعية ، وإذا صحت النسبة التشريعية من غير محذور لزوم القبح فصحة النسبة التكوينية التي لا مجال للحسن والقبح العقلائيين فيها أوضح.

ثم إنه تعالى ذكر أن كل شيء فهو مخلوق له منزل من عنده من خزائن رحمته كما قال : (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) الحجر ـ ٢١ ، وذكر أيضاً أن ما عنده فهو خير. قال تعالى : (وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ) القصص ـ ٦٠ ، وانضمام الآيتين وما في معناهما من الآيات يعطي أن كل ما يناله شيء في العالم ويتلبس به مدى وجوده فهو من الله سبحانه وهو خير له ينتفع به ويتنعم بسببه كما يفيده أيضاً قوله تعالى : ( الذي أحسن كل شيء خلقه ) الم السجدة ـ ٧ ، مع قوله تعالى : (ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ ) المؤمن ـ ٦٤.

وأما كون بعض ما ينال الأشياء من المواهب الإلهية شراً يستضر به فإنما شريته وإضراره نسبي متحقق بالنسبة إلى ما يصيبه خاصة مع كونه خيراً نافعاً بالنسبة إلى آخرين وبالنسبة إلى علله وأسبابه في نظام الكون كما مر يشير إليه قوله تعالى : (وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ) النساء ـ ٧٩ ، وقد مر البحث عن هذا المعنى فيما مر.

وبالجملة جميع ما يفيضه الله على خلقه من الخير وكله خير ينتفع به يكون رزقاً بحسب انطباق المعنى إذ ليس الرزق إلا العطية التي ينتفع بها الشيء المرزوق وربما أشار إليه قوله تعالى : (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ ) طه ـ ١٣١.

ومن هنا يظهر أن الرزق والخير والخلق بحسب المصداق على ما يبينه القرآن امور متساوية فكل رزق خير ومخلوق ، وكل خلق رزق وخير ، وإنما الفرق : أن الرزق يحتاج إلى فرض مرزوق يرتزق به فالغذاء رزق للقوة الغاذية لاحتياجها إليه والغاذية رزق للواحد من الإنسان لاحتياجه إليها ، والواحد من الإنسان رزق لوالديه لانتفاعهما به ، وكذا وجود الإنسان خير للإنسان بفرضه عارياً عن هذه النعمة الإلهية قال تعالى : (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ) طه ـ ٥٠.

والخير يحتاج إلى فرض محتاج طالب يختار من بين ما يواجهه ما هو مطلوبه فالغذاء خير للقوة الغاذية بفرضها محتاجة إليه طالبة له تنتخبه وتختاره إذا أصابته ، والقوه الغاذية خير للإنسان ، ووجود الإنسان خير له بفرضه محتاجاً طالباً.


وأما الخلق والإيجاد فلا يحتاج من حيث تحقق معناه إلى شيء ثابت أو مفروض فالغذاء مثلاً مخلوق موجد في نفسه ، وكذا القوة الغاذية مخلوقة ، والإنسان مخلوق.

ولما كان كل رزق لله ، وكل خير لله محضاً فما يعطيه تعالى من عطية ، وما أفاضه من خير وما يرزقه من رزق فهو واقع من غير عوض ، وبلا شيء مأخوذ في مقابله إذ كل ما فرضنا من شيء فهو له تعالى حقاً ، ولا استحقاق هناك إذ لا حق لاحد عليه تعالى إلا ما جعل هو على نفسه من الحق كما جعله في مورد الرزق ، قال تعالى : (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا ) هود ـ ٦ ، وقال تعالى : (فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ) الذاريات ـ ٢٣.

فالرزق مع كونه حقاً على الله لكونه حقاً مجعولاً من قبله عطية منه من غير استحقاق للمرزوق من جهة نفسه بل من جهة ما جعله على نفسه من الحق.

ومن هنا يظهر أن للإنسان المرتزق بالمحرمات رزقاً مقدراً من الحلال بنظر التشريع فإن ساحته تعالى منزهة من أن يجعل رزق إنسان حقاً ثابتاً على نفسه ثم يرزقه من وجه الحرام ثم ينهاه عن التصرف فيه ويعاقبه عليه.

وتوضيحه ببيان آخر : أن الرزق لما كان هو العطية الإلهية بالخير كان هو الرحمة التي له على خلقه ، وكما أن الرحمة رحمتان : رحمة عامة تشمل جميع الخلق من مؤمن وكافر ، ومتق وفاجر ، وإنسان وغير إنسان ، ورحمة خاصة وهي الرحمة الواقعة في طريق السعادة كالإيمان والتقوى والجنة ، كذلك الرزق منه ما هو رزق عام ، وهو العطية الإلهية العامة الممدة لكل موجود في بقاء وجوده ، ومنه ما هو رزق خاص ، وهو الواقع في مجرى الحل.

وكما أن الرحمة العامة والرزق العام مكتوبان مقدران ، قال تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) الفرقان ـ ٢ ، كذلك الرحمة الخاصة والرزق الخاص مكتوبان مقدران ، وكما أن الهدى ـ وهو رحمة خاصة ـ مكتوب مقدر تقديراً تشريعياً لكل إنسان مؤمناً كان أو كافراً ، ولذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب ، قال تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) الذاريات ـ ٥٨ ، وقال تعالى : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ) الاسراء ـ ٢٣ ، فالعبادة وهي تستلزم الهدى وتتوقف عليه مقضية مقدرة


تشريعاً ، كذلك الرزق الخاص ـ هو الذي عن مجرى الحل ـ مقضى مقدر ، قال تعالى : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ) الأنعام ـ ١٤٠ ، وقال تعالى : (وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء) النحل ـ ٧١ ، والآيتان كما ترى ذواتا إطلاق قطعي يشمل الكافر والمؤمن ومن يرتزق بالحلال ومن يرتزق بالحرام.

ومن الواجب أن يعلم : أن الرزق كما مر من معناه هو الذي ينتفع به من العطية على قدر ما ينتفع فمن اوتي الكثير من المال وهو لا يأكل إلا القليل منه فإنما رزقه هو الذي أكله والزائد الباقي ليس من الرزق إلا من جهة الإيتاء دون الأكل فسعة الرزق وضيقه غير كثرة المال مثلاً وقلته ، وللكلام في الرزق تتمة ستمر بك في قوله تعالى : (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) هود ـ ٦.

ولنرجع إلى ما كنا فيه من الكلام في قوله تعالى : ( وترزق من تشاء بغير حساب ) فنقول توصيف الرزق بكونه بغير حساب إنما هو لكون الرزق منه تعالى بالنظر إلى حال المرزوقين بلا عوض ولا استحقاق لكون ما عندهم من استدعاء أو طلب أو غير ذلك مملوكاً له تعالى محضاً فلا يقابل عطيته منهم شيء فلا حساب لرزقه تعالى.

وأما كون نفي الحساب راجعاً إلى التقدير بمعنى كونه غير محدود ولا مقدر فيدفعه آيات القدر كقوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) القمر ـ ٤٩ ، وقوله : (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ) الطلاق ـ ٣ ، فالرزق منه تعالى عطية بلا عوض لكنه مقدر على ما يريده تعالى.

وقد تحصل من الآيتين اولا : أن الملك ( بضم الميم ) كله لله كما أن الملك ( بكسر الميم ) كله لله.

وثانياً : أن الخير كله بيده ومنه تعالى.

وثالثاً : أن الرزق عطية منه تعالى بلا عوض واستحقاق.


ورابعاً : أن الملك والعزة وكل خير اعتباري من خيرات الاجتماع كالمال والجاه والقوة وغير ذلك كل ذلك من الرزق المرزوق.

( بحث روائي )

في الكافي عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله 7 قال : قلت له : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء أليس قد آتى الله بني أُمية الملك ؟ قال : ليس حيث تذهب ، إن الله عز وجل آتانا الملك ، وأخذته بني أُمية بمنزلة الرجل يكون له الثوب فيأخذه الآخر فليس هو للذي أخذه.

اقول : وروى مثله العياشي عن داود بن فرقد عنه 7 : وإيتاء الملك على ما تقدم بيانه يكون على وجهين : إيتاء تكويني ، وهو انبساط السلطنة على الناس ، ونفوذ القدرة فيهم ، سواء كان ذلك بالعدل أو بالظلم كما قال تعالى في نمرود : ( أن آتاه الله الملك وأثره نفوذ الكلمة ومضى الأمر والإرادة ، وسنبحث عن معنى كونه تكوينياً وإيتاء تشريعي ، وهو القضاء بكونه ملكاً مفترض الطاعة كما قال تعالى : (إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً ) البقرة ـ ٢٤٧ ، وأثره افتراض الطاعة ، وثبوت الولاية ، ولا يكون إلا العدل ، وهو مقام محمود عند الله سبحانه ، والذي كان لبني أُمية من الملك هو المعنى الأول وأثره وقد اشتبه الأمر على راوي الحديث فأخذ ملكهم بالمعنى الاول وأخذ معه أثر المعنى الثاني وهو المقام الشرعي ، والحمد الديني فنبهه 7 أن الملك بهذا المعنى ليس لبني أُمية بل هو لهم ولهم أثره ، وبعبارة اخرى : الملك الذي لبني أُمية إنما يكون محموداً إذا كان في أيديهم : وأما في أيدي بني أُمية فليس إلا مذموماً لأنه مغصوب وعلى هذا فلا ينسب إلى إيتاء الله إلا بنحو المكر والاستدراج كما في ملك نمرود وفرعون.

وقد اشتبه الأمر على هؤلاء أنفسهم أعني بني أُمية في هذه الآية ففي الإرشاد في قصة إشخاص يزيد بن معاوية رؤوس شهداء الطفّ ، قال المفيد : ولما وضعت الرؤوس وفيها رأس الحسين 7 قال يزيد :

نفلّق هاماً من رجال أعزّة

علينا وهم كانوا أعقّ وأظلماً


قال : ثم أقبل على أهل مجلسه فقال إن هذا كان يفخر عليَّ ويقول أبي خير من أب يزيد ، وامي خير من امه ، وجدي خير من جده ، وأنا خير منه فهذا الذي قتله فأما قوله بأن أبي خير من أب يزيد فلقد حاج أبي أباه فقضى الله لأبي على أبيه ، وأما قوله بأن امي خير من ام يزيد فلعمري لقد صدق إن فاطمة بنت رسول الله خير من امي ، وأما قوله : جدي خير من جده فليس لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول بأنه خير من محمد ، وأما قوله بأنه خير مني فلعله لم يقرء هذه الآية : قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ الآية.

وردت زينب بنت علي ( عليه وعليها السلام ) عليه قوله بمثل ما ذكره الصادق 7 في الرواية السابقة على ما رواه السيد بن طاووس وغيره فقالت فيما خاطبته : أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الاسارى ان بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة ، وأن ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بأنفك ، ونظرت في عطفك جذلان مسروراً حين رأيت الدنيا لك مستوسقة ، والامور متسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا ، مهلاً مهلاً ، أنسيت قول الله : (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ ) إنما نملي لهم خير لأنفسهم إِنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين الخطبة.

وفي المجمع في قوله تعالى وتخرج الحي من الميت الآية ، قيل معناه وتخرج المؤمن من الكافر وتخرج الكافر من المؤمن ، قال : وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله 8.

أقول : وروى قريباً منه الصدوق عن العسكري 7.

وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه من طريق أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود أو عن سلمان عن النبي 6 : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ) قال : المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.

وفيه أيضاً بالطريق السابق عن سلمان الفارسي قال : قال رسول الله 6 : لما خلق الله آدم 7 أخرج ذريته فقبض قبضه بيمينه فقال : هؤلاء أهل الجنة ولا ابالي ، وقبض بالاخرى قبضة فجاء فيها كل رديء فقال : هؤلاء أهل النار ولا ابالي


فخلط بعضهم ببعض فيخرج الكافر من المؤمن ويخرج المؤمن من الكافر فذلك قوله : تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ.

أقول : وروي هذا المعنى عن عدة من أصحاب التفسير عن سلمان أيضاً مقطوعاً ، والرواية من أخبار الذر والميثاق ، وسيجيء بيانها في موضع يليق بها إنشاء الله.

وفي الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد وعدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن ابن محبوب عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر 7 قال : قال رسول الله 9 في حجة الوداع : ألا إن الروح الأمين نفث في روعي : أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بشيء من معصية الله فإن الله تعالى قسم الأرزاق بين خلقه حلالاً ، ولم يقسمها حراماً فمن اتقى الله وصبر اُتاه رزقه من حله ، ومن هتك حجاب ستر الله عز وجل وأخذه من غير حله قص به من رزقه الحلال ، وحوسب عليه.

وفي النهج قال 7 : الرزق رزقاًن : رزق تطلبه ، ورزق يطلبك فإن لم تأته أتاك فلا تحمل هم سنتك يومك ، كفاك كل يوم ما فيه فإن تكن السنة من عمرك فإن الله تعالى جده سيؤتيك في كل غد جديد ما قسم لك ، وإن لم تكن السنة من عمرك فما تصنع بالهم لما ليس لك ، ولن يسبقك إلى رزقك طالب ، ولن يغلبك عليه غالب ، ولن يبطئ عنك ما قد قدر لك.

وفي قرب الأسناد : ابن طريف عن ابن علوان عن جعفر عن أبيه 8 قال : قال رسول الله 9 : إن الرزق لينزل من السماء إلى الأرض على عدد قطر المطر إلى كل نفس بما قدر لها ، ولكن لله فضول فاسألوا الله من فضله.

أقول : والروايات في هذه المعاني كثيرة وسيجيء استيفاء البحث عن أخبار الرزق في سورة هود إنشاء الله تعالى.

( بحث علمي )

قد تقدم في بعض ما مر من الأبحاث السابقة : أن اعتبار أصل الملك ( بالكسر ) من الاعتبارات الضرورية التي لا غنى للبشر عنها في حال سواء كان منفرداً أو مجتمعا ،


وأن أصله ينتهي إلى اعتبار الاختصاص فهذا حال الملك ( بالكسر ).

وأما الملك ( بالضم ) وهو السلطنة على الأفراد فهو أيضاً من الاعتبارات الضرورية التي لا غنى للإنسان عنها لكن الذي يحتاج إليه ابتدائاً هو الاجتماع من حيث تألفه من أجزاء كثيرة مختلفة المقاصد متبائنة الإرادات دون الفرد من حيث إنه فرد فإن الأفراد المجتمعين لتبائن إراداتهم واختلاف مقاصدهم لا يلبثون دون أن يقع الاختلاف بينهم فيتغلب كل على الآخرين في أخذ ما بأيديهم ، والتعدي على حومة حدودهم وهضم حقوقهم فيقع الهرج والمرج ، ويصير الاجتماع الذي اتخذوه وسيلة إلى سعادة الحيوة ذريعة إلى الشقاء والهلاك ، ويعود الدواء دائاً ، ولا سبيل إلى رفع هذه الغائلة الطارية إلا بجعل قوة قاهرة على سائر القوى مسيطرة على جميع الأفراد المجتمعين حتى تعيد القوى الطاغية المستعلية إلى حاق الوسط وترفع الدانية المستهلكة إليه أيضاً فتتحد جميع القوى من حيث المستوى ثم تضع كل واحدة منها في محلها الخاص وتعطي كل ذي حق حقه.

ولما لم تكن الإنسانية في حين من الاحيان خالية الذهن عن فكر الاستخدام كما مر بيانه سالفا لم يكن الاجتماعات في الاعصار السالفة خالية عن رجال متغلبين على الملك مستعلين على سائر الأفراد المجتمعين ببسط الرقية والتملك على النفوس والأموال وكانت بعض فوائد الملك الذي ذكرناه ـ وهو وجود من يمنع عن طغيان بعض الأفراد على بعض ـ يترتب على وجود هذا الصنف من المتغلبين المستعلين المتظاهرين باسم الملك في الجملة وإن كانوا هم أنفسهم وأعضادهم وجلاوزتهم قوى طاغية من غير حق مرضي ، وذلك لكونهم مضطرين إلى حفظ الأفراد في حال الذلة والاضطهاد حتى لا يتقوى من يثب على حقوق بعض الأفراد فيثب يوماً عليهم أنفسهم كما أنهم أنفسهم وثبوا على ما في أيدي غيرهم.

وبالجملة بقاء جل الأفراد على حال التسالم خوفاً من الملوك المسيطرين عليهم كان يصرف الناس عن الفكر في اعتبار الملك الاجتماعي وإنما يشتغلون بحمد سيرة هؤلاء المتغلبين إِذا لم يبلغ تعديهم مبلغ جهدهم ، ويتظلمون ويشتكون إذا بلغ بهم الجهد ، وحمل عليهم من التعدي ما يفوق طاقتهم.

( ٣ ـ الميزان ـ ١٠)


نعم ربما فقدوا بعض هؤلاء المتسمين بالملوك والرؤساء بهلاك أو قتل أو نحو ذلك ، وأحسوا بالفتنة والفساد ، وهددهم اختلال النظم ووقوع الهرج فبادروا إلى تقديم بعض اولي الطول والقوة منهم ، وألقوا إليه زمام الملك فصار ملكاً يملك أزمة الأمور ثم يعود الأمر على ما كان عليه من التعدي والتحميل.

ولم تزل الاجتماعات على هذه الحال برهة بعد برهة حتى تضجرت من سوء سير هؤلاء المتسمين بالملوك في مظالمهم باستبدادهم في الرأي وإطلاقهم فيما يشائون فوضعت قوانين تعين وظائف الحكومة الجارية بين الامم وأجبرت الملوك باتباعها وصار الملك ملكاً مشروطاً بعد ما كان مطلقاً ، واتحد الناس على التحفظ على ذلك ، وكان الملك موروثاً.

ثم أحست اجتماعات ببغي ملوكهم وسوء سيرهم ولا سبيل إليهم بعد ركوب أريكة الملك و ، تثبيتهم كون الملك موهبة غير متغيرة موروثة فبدلوا الملك برئاسة الجمهور فانقلب الملك المؤبد المشروط إلى ملك مؤجل مشروط ، وربما وجد في الأقوام والامم المختلفة أنواع من الملك دعاهم إلى وضعه الفرار عن المظالم التي شاهدوها ممن بيده زمام أمرهم ، وربما حدث في مستقبل الأيام ما لم ينتقل أفهامنا إليه إلى هذا الآن.

لكن الذي يتحصل من جميع هذه المساعى التي بذلتها الاجتماعات في سبيل إصلاح هذا الأمر أعني إلقاء زمام الامة الى من يدبر أمرها ، ويجمع شتات إراداتها المتضادة وقواها المتنافية : أن لا غنى للمجتمع الإنساني عن هذا المقام وهو مقام الملك وإن تغيرت أسمائه ، وتبدلت شرائطه بحسب اختلاف الامم ، ومرور الأيام فإن طروق الهرج والمرج ، واختلال امر الحياة الاجتماعية على جميع التقادير من لوازم عدم اجتماع أزمة الإرادات والمقاصد في إرادة واحدة لإنسان واحد أو مقام واحد.

وهذا هو الذي تقدم في أول الكلام : أن الملك من الاعتبارات الضرورية في الاجتماع الإنساني.

وهو مثل سائر الموضوعات الاعتبارية التي لم يزل الاجتماع بصدد تكميلها وإصلاحها ورفع نواقصها وآثارها المضادة لسعادة الإنسانية.

وللنبوة في هذا الإصلاح السهم الأوفي فإن من المسلم في علم الاجتماع : أن انتشار


قول ما من الأقوال بين العامة وخاصة إذا كان مما يرتبط بالغريزة ، ويستحسنه القريحة ، ويطمأن اليه النفوس المتوقعة أقوى سبب لتوحيد الميول المتفرقة وجعل الجماعات المتشتتة يداً واحداً تقبض وتبسط بإرادة واحدة لا يقوم لها شيء.

ومن الضروري : أن النبوة منذ أقدم عهود ظهورها تدعو الناس الى العدل ، وتمنعهم عن الظلم ، وتندبهم الى عبادة الله والتسليم له ، وتنهاهم عن اتباع الفراعنة الطاغين ، والنماردة المستكبرين المتغلبين ، ولم تزل هذه الدعوة بين الامم منذ قرون متراكمة جيلاً بعد جيل ، وامة بعد امة وإن اختلفت بحسب السعة والضيق باختلاف الامم والازمنة ، ومن المحال أن يلبث مثل هذا العامل القوى بين الاجتماعات الإنسانية قروناً متمادية وهو منعزل عن الأثر خال عن الفعل.

وقد حكى القرآن الكريم في ذلك شيئاًً كثيراً من الوحي المنزل على الأنبياء : كما حكى عن نوح فيما يشكوه لربه : (رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ) نوح ـ ٢٣ ، وكذا ما وقع بينه وبين عظماء قومه من الجدال على ما يحكيه القرآن ، قال تعالى : (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ) الشعراء ـ ١١٣ ، وقول هود 7 لقومه : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ) الشعراء ـ ١٣٠ ، وقول صالح 7 لقومه : (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) الشعراء ـ ١٥٢.

ولقد قام موسى 7 للدفاع عن بني إسرائيل ومعارضة فرعون في سيرته الجائرة الظالمة ، وانتهض قبله إبراهيم 7 لمعارضة نمرود ومن بعده عيسى بن مريم 7 وسائر أنبياء بني إسرائيل في معارضة مترفي أعصارهم من الملوك والعظماء ، وتقبيح سيرهم الظالمة ، ودعوة الناس الى رفض طاعة المفسدين واتباع الطاغين.

وأما القرآن فاستنهاضه الناس على الامتناع عن طاعة الإفساد والإباء عن الضيم وإنبائه عن عواقب الظلم والفساد والعدوان والطغيان مما لا يخفى ، قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ


سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) الفجر ـ ١٤ ، الى غير ذلك من الآيات.

وأما أن الملك ( بالضم ) من ضروريات المجتمع الإنساني فيكفي في بيانه أتم بيان قوله تعالى بعد سرد قصة طالوت : (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) البقرة ـ ٢٥١ ، وقد مر بيان كيفية دلالة الآية بوجه عام.

وفي القرآن آيات كثيرة تتعرض للملك والولاية وافتراض الطاعة ونحو ذلك ، واخرى تعده نعمة وموهبة كقوله تعالى : (وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً) النساء ـ ٥٤ ، وقوله تعالى : (وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ) المائدة ـ ٢٠ ، وقوله تعالى : (وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء) البقرة ـ ٢٤٧ ، الى غير ذلك من الآيات.

غير أن القرآن إنما يعده كرامة إذا اجتمع مع التقوى لحصره الكرامة على التقوى من بين جميع ما ربما يتخيل فيه شيء من الكرامة من مزايا الحيوة ، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) الحجرات ـ ١٣ ، والتقوى حسابه على الله ليس لأحد أن يستعلي به على أحد فلا فخر لأحد على أحد بشيء لأنه إن كان أمراً دنيوياً فلا مزية لأمر دنيوي ، ولا قدر إلا للدين ، وإن كان أمراً اخروياً فأمره إلى الله سبحانه ، وعلى الجملة لا يبقى للإنسان المتلبس بهذه النعمة أعني الملك في نظر رجل مسلم إلا تحمل الجهد ومشقة التقلد والاعباء نعم له عند ربه عظيم الأجر ومزيد الثواب إن لازم صراط العدل والتقوى.

وهذا هو روح السيرة الصالحة التي لازمها أولياء الدين ، وسنشبع إن شاء الله العزيز هذا المعنى في بحث مستقل في سيرة رسول الله 9 والطاهرين من آله الثابتة بالآثار الصحيحة ، وأنهم لم ينالوا من ملكهم إلا أن يثوروا على الجبابرة في فسادهم في الأرض ويعارضوهم في طغيانهم واستكبارهم.

ولذلك لم يدع القرآن الناس الى الاجتماع على تأسيس الملك ، وتشييد بنيان القيصرية والكسروية ، وإنما تلقى الملك شأناً من الشئون اللازمة المراعاة في المجتمع الإنساني نظير التعليم أو إعداد القوة لإرهاب الكفار.

بل إنما دعا الناس الى الاجتماع والاتحاد والاتفاق على الدين ونهاهم عن


التفرق والشقاق فيه وجعله هو الأصل ، فقال تعالى : (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) الأنعام ـ ١٥٣ ، وقال تعالى : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) آل عمران ـ ٦٤ ، فالقرآن ـ كما ترى ـ لا يدعو الناس إلا إلى التسليم لله وحده ويعتبر من ، المجتمع المجتمع الدينى ، ويدحض ما دون ذلك من عبادة الأنداد ، والخضوع لكل قصر مشيد ، ومنتدي رفيع ، وملك قيصري وكسروي ، والتفرق بافراز الحدود وتفريق الأوطان وغير ذلك.

( بحث فلسفي )

لا ريب أن الواجب تعالى هو الذي تنتهي إليه سلسلة العلية في العالم ، وأن الرابطة بينه وبين العالم جزءاً وكلاً هي رابطة العلية ، وقد تبين في أبحاث العلة والمعلول أن العلية إنما هي في الوجود بمعنى أن الوجود الحقيقي في المعلول هو المترشح من وجود علته ، وأما غيره كالماهية فهو بمعزل عن الترشح والصدور والافتقار إلى العلة ؛ وينعكس بعكس النقيض إلى أن ما لا وجود حقيقي له فليس بمعلول ولا منته إلى الواجب تعالى.

ويشكل الأمر في استناد الامور الاعتبارية المحضة إليه تعالى إذ لا وجود حقيقي لها أصلاً وإنما وجودها وثبوتها ثبوت اعتباري لا يتعدى ظرف الاعتبار والوضع وحيطة الفرض ، وما يشتمل عليه الشريعة من الأمر والنهى والأحكام والأوضاع كلها امور اعتبارية فيشكل نسبتها إليه تعالى ، وكذا أمثال الملك والعز والرزق وغير ذلك.

والذي تحل به العقدة أنها وإن كانت عارية عن الوجود الحقيقي إلا أن لها آثاراً هي الحافظة لأسمائها كما مر مراراً ، وهذه الآثار امور حقيقية مقصودة بالاعتبار ولها نسبة إليه تعالى فهذه النسبة هي المصححة لنسبتها فالملك الذي بيننا أهل الاجتماع وإن كان أمراً اعتبارياً وضعياً لا نصيب لمعناه من الوجود الحقيقي ، وإنما هو


معنى متوهم لنا جعلناه وسيلة إلى البلوغ إلى آثار خارجية لم يكن يمكننا البلوغ إليها لولا فرض هذا المعنى الموهوم وتقديره ، وهي قهر المتغلبين واولي السطوة والقوة من أفراد الاجتماع الواثبين على حقوق الضعفاء والخاملين ، ووضع كل من الأفراد في مقامه الذي له ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، وغير ذلك.

لكن لما كان حقيقة معنى الملك واسمه باقياً ما دامت هذه الآثار الخارجية باقية مترتبة عليه فاستناد هذه الآثار الخارجية إلى عللها الخارجية هو عين استناد الملك إليه ، وكذلك القول في العزة الاعتبارية ، وآثارها الخارجية واستنادها إلى عللها الحقيقة ، وكذلك الأمر في غيرها كالأمر والنهي والحكم والوضع ونحو ذلك.

ومن هنا يتبين : أن لها جميعاً استناداً إلى الواجب تعالى باستناد آثارها إليه على حسب ما يليق بساحة قدسه وعزه.

* * *

لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُـ ٢٨. قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ـ ٢٩. يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ ـ ٣٠. قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ـ ٣١. قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ـ ٣٢.


( بيان )

الآيات غير خالية عن الارتباط بما تقدمها بناء على ما ذكرناه في الآيات السابقة : أن المقام مقام التعرض لحال أهل الكتاب والمشركين ، والتعريض لهم ، فالمراد بالكافرين إن كان يعم أهل الكتاب فهذه الآيات تنهى عن توليهم والامتزاج الروحي بالمشركين وبهم جميعاً ، وإن كان المراد بهم المشركين فحسب فالآيات متعرضة لهم ودعوة إلى تركهم والاتصال بحزب الله ، وحب الله وطاعة رسوله.

قوله تعالى : (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ) الاولياء جمع الولي من الولاية وهي في الأصل ملك تدبير أمر الشيء فولي الصغير أو المجنون أو المعتوه هو الذي يملك تدبير امورهم وامور أموالهم فالمال لهم وتدبير أمره لوليهم ، ثم استعمل وكثر استعماله في مورد الحب لكونه يستلزم غالباً تصرف كل من المتحابين في امور الآخر لافضائه الى التقرب والتأثر عن ارادة المحبوب وسائر شؤونه الروحية فلا يخلو الحب عن تصرف المحبوب في امور المحب في حيوته.

فاتخاذ الكافرين أولياء هو الامتزاج الروحي بهم بحيث يؤدي الى مطاوعتهم والتأثر منهم في الأخلاق وسائر شؤون الحيوة وتصرفهم في ذلك ويدل على ذلك تقييد هذا النهي بقوله : من دون المؤمنين ، فان فيه دلالة على ايثار حبهم على حب المؤمنين ، والقاء أزمة الحيوة اليهم دون المؤمنين ، وفيه الركون اليهم والاتصال بهم والانفصال عن المؤمنين.

وقد تكرر ورود النهي في الآيات الكريمة عن تولي الكافرين واليهود والنصارى واتخاذهم أولياء لكن موارد النهي مشتملة على ما يفسر معنى التولي المنهي عنه ، ويعرف كيفية الولاية المنهي عنها كاشتمال هذه الآية على قوله : من دون المؤمنين بعد قوله : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء ، واشتمال قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء الآية ) المائدة ـ ٥١ ، على قوله : بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ، وتعقب قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء الآية ) الممتحنة ـ ١ ، بقوله : لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ الى آخر الآيات.

وعلى هذا فأخذ هذه الأوصاف في قوله : لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن


دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ للدلالة على سبب الحكم وعلته ، وهو أن صفتي الكفر والإيمان مع ما فيهما من البعد والبينونة ولا محالة يسري ذلك إلى من اتصف بهما فيفرق بينهما في المعارف والأخلاق وطريق السلوك إلى الله تعالى وسائر شؤون الحيوة لا يلائم حالهما مع الولاية فان الولاية يوجب الاتحاد والامتزاج ، وهاتان الصفتان توجبان التفرق والبينونة ، وإذا قويت الولاية كما إذا كان من دون المؤمنين أوجب ذلك فساد خواص الإيمان وآثاره ثم فساد أصله ، ولذلك عقبه بقوله : ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء ثم عقبه أيضاً بقوله : الا أن تتقوا منهم تقية ، فاستثنى التقية فان التقية إنما توجب صورة الولاية في الظاهر دون حقيقتها.

ودون في قوله : من دون المؤمنين كأنه ظرف يفيد معنى عند مع شوب من معنى السفالة والقصور ، والمعنى : مبتدئاً من مكان دون مكان المؤمنين فإنهم أعلى مكاناًَ.

والظاهر أن ذلك هو الأصل في معنى دون فكان في الأصل يفيد معنى الدنو مع خصوصية الانخفاض فقولهم دونك زيد أي هو في مكان يدنو من مكانك واخفض منه كالدرجة دون الدرجة ثم استعمل بمعنى غير كقوله : (إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ ) المائدة ـ ١١٦ ، وقوله : (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء) النساء ـ ٤٨ ؛ أي ما سوى ذلك أو ما هو أدون من ذلك وأهون ، كذا استعمل اسم فعل كقولهم : دونك زيداً أي الزمه ، كل ذلك من جهة الانطباق على المورد دون الاشتراك اللفظى.

قوله تعالى : (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ) ؛ أي ومن يتخذهم أولياء من دون المؤمنين وإنما بدل من لفظ عام للإشعار بنهاية نفرة المتكلم منه حتى أنه لا يتلفظ به الا بلفظ عام كالتكنية عن القبائح ، وهو شائع في اللسان ؛ ولذلك أيضاً لم يقل : ومن يفعل ذلك من المؤمنين كأن فيه صوتاً للمؤمنين من أن ينسب اليهم مثل هذا الفعل.

ومن في قوله : من الله ، للابتداء ويفيد في أمثال هذا المقام معنى التحزب أي ليس من حزب الله في شيء كما قال تعالى : (وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) المائدة ـ ٥٦ ، وكما فيما حكاه عن ابراهيم 7 من قوله : (فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ) ابراهيم ـ ٣٦ ، أي من حزبي ، وكيف كان فالمعنى والله أعلم : ليس من حزب الله مستقراً في شيء من الأحوال والآثار.


قوله تعالى : إلا أن تتقوا منهم تقية الاتقاء في الأصل أخذ الوقاية للخوف ثم ربما استعمل بمعنى الخوف استعمالاً للمسبب في مورد السبب ولعل التقية في المورد من هذا القبيل.

والاستثناء منقطع فإن التقرب من الغير خوفاً بإظهار آثار التولي ظاهراً من غير عقد القلب على الحب والولاية ليس من التولي في شيء لان الخوف والحب أمران قلبيان متبائنان ومتنافيان أثراً في القلب فكيف يمكن اتحادهما ؟ فاستثناء الاتقاء استثناء منقطع.

وفي الآية دلالة ظاهرة على الرخصة في التقية على ما روي عن أئمة أهل البيت : كما تدل عليه الآية النازلة في قصة عمار وأبويه ياسر وسمية وهي قوله تعالى : (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) النحل ـ ١٠٦.

وبالجملة الكتاب والسنة متطابقان في جوازها في الجملة ، والاعتبار العقلي يؤكده إذ لا بغية للدين ، ولا هم لشارعه إلا ظهور الحق وحياته ، وربما يترتب على التقية والمجاراة مع أعداء الدين ومخالفي الحق من حفظ مصلحة الدين وحيوة الحق ما لا يترتب على تركها ، وإنكار ذلك مكابرة وتعسف ، وسنستوفي الكلام فيها في البحث الروائي التالي ، وفي الكلام على قوله تعالى : (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) النحل ـ ١٠٦.

قوله تعالى : ويحذركم الله نفسه والى الله المصير ، التحذير تفعيل من الحذر وهو الاحتراز من أمر مخيف وقد حذر الله عباده من عذابه كما قال تعالى : (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً ) أسرى ـ ٥٧ ، وحذر من المنافقين وفتنة الكفار فقال : (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ) المنافقين ـ ٤ ، وقال : (وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ ) المائدة ـ ٤٩ ، وحذرهم من نفسه كما في هذه الآية وما يأتي بعد آيتين ، وليس ذلك إلا للدلالة على أن الله سبحانه نفسه هو المخوف الواجب الاحتراز فيهذه المعصية ، أي ليس بين هذا المجرم وبينه تعالى شيء مخوف آخر حتى يتقى عنه بشيء أو يتحصن منه بحصن ، وإنما هو الله الذي لا عاصم منه ، ولا أن بينه وبين الله سبحانه أمر مرجو في دفع الشر عنه من ولي


ولا شفيع ، ففي الكلام أشد التهديد ، ويزيد في اشتداده تكراره مرتين في مقام واحد ويؤكده تذييله أولاً بقوله : (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) وثانياً بقوله : وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ على ما سيجيء من بيانه.

ومن جهة اخرى : يظهر من مطاوي هذه الآية وسائر الآيات الناهية عن اتخاذ غير المؤمنين أولياء أنه خروج عن زي العبودية ، ورفض لولاية الله سبحانه ، ودخول في حزب أعدائه لإفساد أمر الدين ؛ وبالجملة هو طغيان وإفساد لنظام الدين الذي هو أشد وأضر بحال الدين من كفر الكافرين وشرك المشركين فإن العدو الظاهر عدواته المبائن طريقته مدفوع عن الحومة سهل الاتقاء والحذر ؛ وأما الصديق والحميم إذا استأنس مع الأعداء ودب فيه أخلاقهم وسننهم فلا يلبث فعاله إلا أن يذهب بالحومة وأهلها من حيث لا يشعرون ، وهو الهلاك الذي لا رجاء للحياة والبقاء معه.

وبالجملة هو طغيان ، وأمر الطاغي في طغيانه الى الله سبحانه نفسه ؛ قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) الفجر ـ ١٤ ، فالطغيان يسلك بالطاغي مسلكاً يورده المرصاد الذي ليس به إلا الله جلت عظمته فيصب عليه سوط عذاب ولا مانع.

ومن هنا يظهر : أن التهديد بالتحذير من الله نفسه في قوله : ويحذركم الله نفسه ، لكون المورد من مصاديق الطغيان على الله بإبطال دينه وإفساده.

ويدل على ما ذكرناه قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ) هود ـ ١١٣ ؛ وهذه آية ذكر رسول الله 9 : أنها شيبته ـ على ما في الرواية ـ فإن الآيتين ـ كما هو ظاهر للمتدبر ـ ظاهرتان في أن الركون إلى الظالمين من الكافرين طغيان يستتبع مس النار استتباعاً لا ناصر معه ؛ وهو الانتقام الإلهي لا عاصم منه ولا دافع له كما تقدم بيانه.

ومن هنا يظهر أيضاً : أن في قوله : ويحذركم الله نفسه ، دلالة على أن التهديد إنما هو بعذاب مقضي قضائاً حتماً من حيث تعليق التحذير بالله نفسه الدال على عدم


حائل يحول في البين ولا عاصم من الله سبحانه وقد أوعد بالعذاب فينتج قطعية الوقوع كما يدل على مثله قوله في آيتي سورة هود فتمسكم النار وما لكم من ناصرين.

وفي قوله : (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) دلالة على أن لا مفر لكم منه ولا صارف له ؛ ففيه تأكيد التهديد السابق عليه.

و الآيات أعني قوله تعالى : لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء الآية وما يتبعها من الآيات من ملاحم القرآن ، وسيجيء بيانه إنشاء الله في سورة المائدة.

قوله تعالى : (قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ ) الآية نظيرة قوله تعالى : (وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ ) البقرة ـ ٢٨٤ ، غير أنه لما كان الانسب بحال العلم أن يتعلق بالمخفي بخلاف الحساب فإن الانسب له أن يتعلق بالبادي الظاهر قدم ذكر الإخفاء في هذه الآية على ذكر الإبداء ، وجرى بالعكس منه في آية البقرة كما قيل.

وقد أمر في الآية رسوله بإبلاغ هذه الحقيقة ـ وهو علمه بما تخفيه أنفسهم أو تبديه ـ من دون أن يباشره بنفسه كسابق الكلام ، وليس ذلك إلا ترفعاً عن مخاطبة من يستشعر من حاله أنه سيخالف ما وصاه كما مر ما يشبه ذلك في قوله : ومن يفعل ذلك.

وفي قوله تعالى : (وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) مضاهاة لما مر من آية البقرة وقد مر الكلام فيه.

قوله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ) ، الظاهر من اتصال السياق أنه من تتمة القول في الآية السابقة الذي أمر به النبي 6 والظرف متعلق بمقدر أي واذكر يوم تجد أو متعلق بقوله : يعلمه الله ويعلم ، ولا ضير في تعليق علمه تعالى بما سنشاهده من أحوال يوم القيامة فإن هذا اليوم ظرف لعلمه تعالى بالنسبة الى ظهور الأمر لنا لا بالنسبة الى تحققه منه تعالى ، وذلك كظهور ملكه وقدرته وقوته في اليوم ، قال تعالى : (يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) المؤمن ـ ١٦ ، وقال : (لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ) هود ـ ٤٣ ، وقال : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً) البقرة ـ ١٦٥ ،


وقال : (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) الانفطار ـ ١٩ ، إذ من المعلوم أن الله سبحانه له كل الملك والقدرة والقوة والأمر دائما ـ قبل القيامة وفيها وبعدها ـ وإنما اختص يوم القيامة بظهور هذه الامور لنا معاشر الخلائق ظهوراً لا ريب فيه.

ومن ذلك يظهر أن تعلق الظرف بقوله : يعلمه الله ، لا يفيد تأخر علمه تعالى بسرائر عباده من خير أو شر الى يوم القيامة.

على أن في قوله تعالى : محضراً ، دون أن يقول : حاضراً دلالة على ذلك فإن الإحضار إنما يتم فيما هو موجود غائب فالأعمال موجودة محفوظة عن البطلان يحضرها الله تعالى لخلقه يوم القيامة ، ولا حافظ لها إلا الله سبحانه ، قال تعالى : (وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) سبأ ـ ٢١ ، وقال : (وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ) ق ـ ٤.

وقوله : تجد ، من الوجدان خلاف الفقدان ، ومن في قوله : من خير ومن سوء للبيان ، والتنكير للتعميم ، أي تجد كل ما عملت من الخير وإن قل وكذا من السوء وقوله : وما عملت من سوء ، معطوف على قوله ما عملت من خير على ما هو ظاهر السياق والآية من الآيات الدالة على تجسم الأعمال ، وقد مر البحث عنها في سورة البقرة.

قوله تعالى : (تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ) ، الظاهر أنه خبر لمبتدأ محذوف وهو الضمير الراجع الى النفس ، ولو للتمني ، وقد كثر دخوله في القرآن على أن المفتوحة المشددة ، فلا يعبأ بما قيل من عدم جوازه و تأويل ما ورد فيه ذلك من الموارد.

والأمد يفيد معنى الفاصلة الزمانية ؛ قال الراغب في مفردات القرآن : الأمد والأبد يتقاربان ، لكن الابد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد محدود ، ولا يتقيد ، لا يقال : أبد كذا ، والأمد مدة لها حد مجهول إذا اطلق وقد ينحصر نحو أن يقال أمد كذا كما يقال زمان كذا والفرق بين الزمان والامد أن الامد يقال باعتبار الغاية والزمان عام في المبدء والغاية ولذا قال بعضهم الامد والمدى يتقاربان انتهى.

وفي قوله تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا دلالة على أن حضور سيء العمل يسوء النفس كما يشعر بالمقابلة بأن حضور خير العمل يسرها وإنما تود الفاصلة الزمانية بينها وبينه دون أن تود أنه لم يكن من أصله لما يشاهد من بقائه بحفظ الله فلا يسعها


إلا أن تحب بعده وعدم حضوره في أشق الأحوال ، وعند أعظم الأهوال كما يقول لقرين السوء نظير ذلك ، قال تعالى : (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ الى أن قال : حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) الزخرف ـ ٣٨.

قوله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ) ذكر التحذير ثانياً يعطي من أهمية المطلب والبلوغ في التهديد ما لا يخفى ، ويمكن أن يكون هذا التحذير الثاني ناظراً الى عواقب المعصية في الآخرة كما هو مورد نظر هذه الآية ، والتحذير الأول ناظراً الى وبالها في الدنيا أو في الأعم من الدنيا والآخرة.

وأما قوله : (وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ) فهو ـ على كونه حاكياً عن رأفته وحنانه تعالى المتعلق بعباده كما يحكي عن ذلك الإتيان بوصف العبودية والرقية ـ دليل آخر على تشديد التهديد إذ أمثال هذا التعبير في موارد التخويف والتحذير إنما يؤتى بها لتثبيت التخويف وايجاد الإذعان بأن المتكلم ناصح لا يريد الا الخير والصلاح ، تقول : إياك أن تتعرض لي في أمر كذا فإني آليت أن لا اسامح مع من تعرض لي فيه ، انما اخبرك بهذا رأفة بك وشفقة.

فيؤول المعنى ـ والله أعلم ـ الى مثل أن يقال : ان الله لرأفته بعباده ينهاهم قبلاً أن يتعرضوا لمثل هذه المعصية التي وبال أمرها واقع لا محالة من غير أن يؤثر فيه شفاعة شافع ولا دفع دافع.

قوله تعالى : (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) قد تقدم كلام في معنى الحب ، وأنه يتعلق بحقيقة معناه بالله سبحانه كما يتعلق بغيره في تفسير قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً الآية ) البقرة ـ ١٦٥.

ونزيد عليه هيهنا : أنه لا ريب أن الله سبحانه ـ على ما ينادي به كلامه ـ إنما يدعو عبده الى الإيمان به وعبادته بالإخلاص له والاجتناب عن الشرك كما قال تعالى : ( أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) الزمر ـ ٣ ، وقال تعالى : (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) البينة ـ ٥ ، وقال تعالى : (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) المؤمن ـ ١٤ ، الى غير ذلك من الآيات.

ولا شك أن الإخلاص في الدين إنما يتم على الحقيقة إذا لم يتعلق قلب الإنسان


ـ الذي لا يريد شيئاًً ولا يقصد أمراً إلا عن حب نفسي وتعلق قلبي ـ بغيره تعالى من معبود أو مطلوب كصنم أو ند أو غاية دنيوية بل ولا مطلوب اخروي كفوز بالجنة أو خلاص من النار وإنما يكون متعلق قلبه هو الله تعالى في معبوديته ، فالإخلاص لله في دينه إنما يكون بحبه تعالى.

ثم الحب الذي هو بحسب الحقيقة الوسيلة الوحيدة لارتباط كل طالب بمطلوبه وكل مريد بمراده إنما يجذب المحب الى محبوبه ليجده ويتم بالمحبوب ما للمحب من النقص ولا بشرى للمحب أعظم من أن يبشر أن محبوبه يحبه ، وعند ذلك يتلاقى حبان ، ويتعاكس دلالان.

فالإنسان إنما يحب الغذاء وينجذب ليجده ويتم به ما يجده في نفسه من النقص الذي آتيه الجوع ، وكذا يحب النكاح ليجد ما تطلبه منه نفسه الذي علامته الشبق وكذا يريد لقاء الصديق ليجده ويملك لنفسه الانس وله يضيق صدره ، وكذا العبد يحب مولاه والخادم ربما يتوله لمخدومه ليكون مولى له حق المولوية ، ومخدوماً له حق المخدومية ، ولو تأملت موارد التعلق والحب أو قرأت قصص العشاق والمتولهين على اختلافهم لم تشك في صدق ما ذكرناه.

فالعبد المخلص لله بالحب لا بغية له إلا أن يحبه الله سبحانه كما أنه يحب الله ويكون الله له كما يكون هو لله عز اسمه فهذا هو حقيقة الأمر غير أن الله سبحانه لا يعد في كلامه كل حب له حباً ( والحب في الحقيقة هو العلقة الرابطة التي تربط أحد الشيئين بالآخر ) على ما يقضي به ناموس الحب الحاكم في الوجود فإن حب الشيء يقتضي حب جميع ما يتعلق به ، ويوجب الخضوع والتسليم لكل ما هو في جانبه ، والله سبحانه هو الله الواحد الأحد الذي يعتمد عليه كل شيء في جميع شئون وجوده ويبتغي اليه الوسيلة ويصير اليه كل ما دق وجل ؛ فمن الواجب أن يكون حبه والإخلاص له بالتدين له بدين التوحيد وطريق الإسلام على قدر ما يطيقه إدراك الإنسان وشعوره ، وإن الدين عند الله الإسلام وهذا هو الدين الذي يندب اليه سفرائه ، ويدعو اليه أنبيائه ورسله ، وخاصة دين الإسلام الذي فيه من الإخلاص ما لا إخلاص فوقه ، وهو الدين الفطري الذي يختم به الشرائع وطرق النبوة كما يختم بصادعه الانبياء : وهذا الذي ذكرناه مما لا يرتاب فيه المتدبر في كلامه تعالى.


وقد عرف النبي 6 سبيله الذي سلكه بسبيل التوحيد ، وطريقة الإخلاص على ما أمره الله سبحانه حيث قال : (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) يوسف ـ ١٠٨ ، فذكر أن سبيله الدعوة الى الله على بصيرة والإخلاص لله من غير شرك فسبيله دعوة وإخلاص ، واتباعه واقتفاء أثره إنما هو في ذلك فهو صفة من اتبعه.

ثم ذكر الله سبحانه أن الشريعة التي شرعها له 6 هي الممثلة لهذا السبيل سبيل الدعوة والإخلاص فقال : (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا) الجاثية ـ ١٨ ، وذكر أيضاً أنه إسلام لله حيث قال : (فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) آل عمران ـ ٢٠ ، ثم نسبه إلى نفسه وبين أنه صراطه المستقيم فقال : (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ) الانعام ـ ١٥٣ ، فتبين بذلك كله أن الإسلام ( وهو الشريعة المشرعة للنبي 6 الذي هو مجموع المعارف الأصلية والخلقية والعملية وسيرته في الحيوة ) هو سبيل الإخلاص عند الله سبحانه الذي يعتمد ويبتني على الحب ، فهو دين الإخلاص ، وهو دين الحب.

ومن جميع ما تقدم على طوله يظهر معنى الآية التي نحن بصدد تفسيرها ، أعني قوله : (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ) فالمراد ـ والله أعلم ـ إن كنتم تريدون أن تخلصوا لله في عبوديتكم بالبناء على الحب حقيقة فاتبعوا هذه الشريعة التي هي مبنية على الحب الذي ممثله الإخلاص والإسلام وهو صراط الله المستقيم الذي يسلك بسالكه إليه تعالى ، فإن اتبعتموني في سبيلي وشأنه هذا الشأن أحبكم الله وهو أعظم البشارة للمحب ، وعند ذلك تجدون ما تريدون ، وهذا هو الذي يبتغيه محب بحبه ، هذا هو الذي تقتضيه الآية الكريمة بإطلاقها.

وأما بالنظر إلى وقوعها بعد الآيات الناهية عن اتخاذ الكفار أولياء وارتباطها بما قبلها فهذه الولاية لكونها تستدعي في تحققها تحقق الحب بين الإنسان وبين من يتولى كما تقدم كانت الآية ناظرة إلى دعوتهم إلى اتباع النبي 6 إن كانوا صادقين في دعويهم ولاية الله وأنهم من حزبه فان ولاية الله لا يتم باتباع الكافرين في أهوائهم ( ولا ولاية إلا باتباع ) وابتغاء ما عندهم من مطامع الدنيا من عز ومال بل تحتاج إلى اتباع نبيه في دينه كما قال تعالى : (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ


لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) الجاثية ـ ١٩ ، انظر إلى الانتقال من معنى الاتباع إلى معنى الولاية في الآية الثانية.

فمن الواجب على من يدعي ولاية الله بحبه أن يتبع الرسول حتى ينتهى ذلك إلى ولاية الله له بحبه.

وإنما ذكر حب الله دون ولايته لأنه الأساس الذي تبتنى عليه الولاية ، وإنما اقتصر على ذكر حب الله تعالى فحسب لأن ولاية النبي والمؤمنين تؤول بالحقيقة إلى ولاية الله.

قوله تعالى : (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) الرحمة الواسعة الإلهية وما عنده من الفيوضات المعنوية والصورية غير المتناهية غير موقوفة على شخص أو صنف من أشخاص عباده وأصنافهم ، ولا استثناء هناك يحكم على إطلاق إفاضته ، ولا سبيل يلزمه على الإمساك إلا حرمان من جهة عدم استعداد المستفيض المحروم أو مانع أبداه بسوء اختياره ، قال تعالى : (وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً) أسرى ـ ٢٠.

والذنوب هي المانعة من نيل ما عنده من كرامة القرب والزلفى وجميع الامور التي هي من توابعها كالجنة وما فيها ، وإزالة رينها عن قلب الإنسان ومغفرتها وسترها عليه هي المفتاح الوحيد لانفتاح باب السعادة والدخول في دار الكرامة ، ولذلك عقب قوله : يحببكم الله بقوله : (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) ، فإن الحب كما تقدم يجذب المحب إلى المحبوب ، وكما كان حب العبد لربه يستدعي منه التقرب بالإخلاص له وقصر العبودية فيه كذلك حبه تعالى لعبده يستدعي قربه من العبد ، وكشفه حجب البعد وسبحات الغيبة ، ولا حجاب إلا الذنب فيستدعى ذلك مغفرة الذنوب ، وأما ما بعده من الكرامة والإفاضة فالجود كاف فيه كما تقدم آنفاً.

والتأمل في قوله تعالى : (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ) المطففين ـ ١٥ ، مع قوله تعالى فيهذه الآية : (يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) كاف في تأييد ما ذكرناه.

قوله تعالى : (قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ اه ) ، لما كانت الآية السابقة تدعو إلى


اتباع الرسول ، والاتباع وهو اقتفاء الأثر لا يتم إلا مع كون المتبع ( اسم مفعول ) سالك سبيل ، والسبيل الذي يسلكه النبي 6 إنما هو الصراط المستقيم الذي هو لله سبحانه ، وهو الشريعة التي شرعها لنبيه وافترض طاعته فيه كرر ثانياً في هذه الآية معنى اتباع النبي 6 في قالب الإطاعة إشعاراً بأن سبيل الإخلاص الذي هو سبيل النبي هو بعينه مجموع أوامر ونواه ودعوة وإرشاد فيكون اتباع الرسول في سلوك سبيله هو إطاعة الله ورسوله في الشريعة المشرعة. ولعل ذكره تعالى مع الرسول للإشعار بأن الأمر واحد ، وذكر الرسول معه سبحانه لان الكلام في اتباعه.

ومن هنا يظهر عدم استقامة ما ذكره بعضهم في الآية : أن المعنى : أطيعوا الله في كتابه والرسول في سنته.

وذلك أنه مناف لما يلوح من المقام من أن قوله : (قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ) « الخ » كالمبين لقوله : (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي ) على أن الآية مشعرة بكون إطاعة الله و إطاعة الرسول واحدة ، ولذا لم يكرر الأمر ، ولو كان مورد الإطاعة مختلفاً في الله ورسوله لكان الأنسب أن يقال : (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ) كما في قوله تعالى : ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) النساء ـ ٥٩ ، كما لا يخفى.

واعلم أن الكلام فيهذه الآية من حيث إطلاقها ومن حيث انطباقها على المورد نظير الكلام في الآية السابقة.

قوله تعالى : (فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ) ، فيه دلالة على كفر المتولي عن هذا الأمر كما يدل على ذلك سائر آيات النهي عن تولي الكفار وفيه أيضاً إشعار بكون هذه الآية كالمبينة لسابقتها حيث ختمت بنفي الحب عن الكافرين بأمر الإطاعة ، وقد كانت الآية الاولى متضمنة لإثبات الحب للمؤمنين المنقادين لأمر الاتباع فافهم ذلك.

وقد تبين من الكلام في هذه الآيات الكريمة أُمور :

أحدها : الرخصة في التقيه في الجملة.

وثانيها : أن مؤاخذة تولي الكفار والتمرد عن النهي فيه لا يتخلف البتة

( ٣ ـ الميزان ـ ١١ )


وهي من القضاء الحتم.

وثالثها : أن الشريعة الإلهية ممثلة للإخلاص لله والإخلاص له ممثل لحب الله سبحانه ، وبعبارة أُخرى الدين الذي هو مجموع المعارف الإلهية والامور الخلقية والأحكام العملية على ما فيها من العرض العريض لا ينتهي بحسب التحليل إلا إلى الإخلاص فقط ، وهو وضع الإنسان ذاته وصفات ذاته ( وهي الأخلاق ) وأعمال ذاته وأفعاله على أساس أنها لله الواحد القهار ، والإخلاص المذكور لا يحلل إلا إلى الحب هذا من جهة التحليل ومن جهة التركيب ينتهي الحب إلى الإخلاص والإخلاص إلى مجموع الشريعة ، كما أن الدين بنظر آخر ينحل إلى التسليم والتسليم إلى التوحيد.

ورابعها : أن تولي الكافرين كفر والمراد به الكفر في الفروع دون الاصول ككفر مانع الزكوة وتارك الصلوة ، ويمكن أن يكون كفر المتولي بعناية ما ينجر إليه أمر التولى على ما مر بيانه ، وسيأتي في سورة المائدة.

( بحث روائي )

في الدر المنثور في قوله تعالى : لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء الآية ، أخرج ابن إسحق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان الحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد وقد بطنوا بنفر من الانصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خثيمة لاولئك النفر اجتنبوا هؤلاء النفر من يهود ، واحذروا مباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم فأبى اولئك النفر فأنزل الله : (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ إلى قوله وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

أقول : الرواية لا تلائم ظاهر الآية لما تقدم أن الكافرين في القرآن غير معلوم الإطلاق على أهل الكتاب ، فأولى بالقصة أن تكون سبباً لنزول الآيات الناهية عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء دون هذه الآيات.

وفي الصافى في قوله تعالى : إلا أن تتقوا منهم تقية الآية ، عن كتاب الاحتجاج عن أمير المؤمنين 7 في حديث : وأمرك أن تستعمل التقية في دينك فإن الله يقول.


وإياك ثم إياك أن تتعرض للهلاك ، وأن تترك التقية التي أمرتك بها فإنك شائط بدمك ودماء إخوانك ، معرض لزوال نعمك ونعمهم ، مذلهم في أيدى أعداء دين الله وقد أمرك الله بإعزازهم.

وفي تفسير العياشي عن الصادق 7 قال كان رسول الله يقول : لا دين لمن لا تقية له ، ويقول : قال الله : إلا أن تتقوا منهم تقية.

وفي الكافي عن الباقر 7 : التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم وقد أحل الله له.

اقول : والأخبار في مشروعية التقية من طرق أئمة أهل البيت كثيرة جداً ربما بلغت حد التواتر ، وقد عرفت دلالة الآية عليها دلالة غير قابلة للدفع.

وفي معاني الأخبار عن سعيد بن يسار قال : قال لي أبو عبد الله : هل الدين إلا الحب ؟ إن الله عز وجل يقول : (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ).

اقول : ورواه في الكافي عن الباقر 7 وكذا القمى والعياشي في تفسيريهما عن الحذاء عنه 7 ، وكذا العياشي في تفسيره عن بريد عنه 7 ، وعن ربعي عن الصادق 7 ، والرواية تؤيد ما أوضحناه في البيان المتقدم.

وفي المعاني عن الصادق 7 قال : ما أحب الله من عصاه ثم تمثل بقوله :

تعصي الإله وأنت تظهر حبه

هذا لعمري في الفعال بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعته

إن المحب لمن يحب مطيع

وفي الكافي عن الصادق 7 في حديث قال : ومن سره أن يعلم أن الله يحبه فليعمل بطاعة الله وليتبعنا : ألم يسمع قول الله عز وجل لنبيه : قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ : ويغفر لكم ذنوبكم ؟ الحديث.

اقول : وسيأتي بيان كون اتباعهم اتباع النبي 6 في الكلام على قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ الآية ) النساء ـ ٥٩.

وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد عن الحسن قال قال رسول الله 6 :


من رغب عن سنتي فليس مني ثم تلا هذه الآية : (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) إلى آخر الآية.

وفيه أيضاً أخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والحاكم عن عائشة قالت : قال رسول الله 6 : الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء وأدناه أن يحب على شيء من الجور ، ويبغض على شيء من العدل ، وهل الدين إلا الحب والبغض في الله ؟ قال الله تعالى : (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ).

وفيه أيضاً أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم عن أبى رافع عن النبي ٦ قال : لا ألقين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمرى مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه.

* * *

إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ـ ٣٣. ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ـ ٣٤.

( بيان )

افتتاح لقصص عيسى بن مريم وما يلحق بها وذكر حق القول فيها ، والاحتجاج على أهل الكتاب فيها وبالآيتين يرتبط ما بعدهما بما قبلهما من الآيات المتعرضة لحال أهل الكتاب.

قوله تعالى : (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً) إلى آخر الآية ، الاصطفاء كما مر بيانه في قوله تعالى : (لَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ) البقرة ـ ١٣٠ ، أخذ صفوة الشيء وتخليصه مما يكدره فهو قريب من معنى الاختيار ، وينطبق من مقامات الولاية على مقام الإسلام ، وهو جرى العبد في مجرى التسليم المحض لأمر ربه فيما يرتضيه له.

لكن ذلك غير الاصطفاء على العالمين ، ولو كان المراد بالاصطفاء هنا ذاك الاصطفاء لكان الأنسب أن يقال : من العالمين ، وأفاد اختصاص الإسلام بهم واختل


معنى الكلام ، فالاصطفاء على العالمين ، نوع اختيار وتقديم لهم عليهم في أمر أو أمور لا يشاركهم فيه أو فيها غيرهم.

ومن الدليل على ما ذكرناه من اختلاف الاصطفاء قوله تعالى : (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ) آل عمران ـ ٤٢ ، حيث فرّق بين الاصطفائين فالاصطفاء غير الاصطفاء.

وقد ذكر سبحانه في هؤلاء المصطفين آدم ونوحاً ، فأما آدم فقد اصطفى على العالمين بأنه أول خليفة من هذا النوع الإنساني جعله الله في الأرض ، قال تعالى : (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) البقرة ـ ٣٠ ، وأول من فتح به باب التوبة. قال تعالى : (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) طه ـ ١٢٢ ، وأول من شرّع له الدين ، قال تعالى : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى الآيات ) طه ـ ١٢٣ ، فهذه أمور لا يشاركه فيها غيره ، ويا لها من منقبة له 7.

وأما نوح فهو أول الخمسة اولى العزم صاحب الكتاب والشريعه كما مر بيانه في تفسير قوله تعالى : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ) البقرة ـ ٢١٣ ، وهو الأب الثاني لهذا النوع ، وقد سلم الله تعالى عليه في العالمين ، قال تعالى : (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ) الصافات ـ ٧٩.

ثم ذكر سبحانه آل إبراهيم وآل عمران من هؤلاء المصطفين ، والآل خاصة الشيء ، قال الراغب في المفردات : الآل قيل مقلوب عن الأهل ، ويصغر على أُهيل إلا أنه خص بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة ، يقال آل فلان ولا يقال : آل رجل وآل زمان كذا أو موضع كذا ، ولا يقال آل الخياط بل يضاف إلى الأشرف الأفضل ، يقال آل الله وآل السلطان ، والأهل يضاف إلى الكل ، يقال : أهل الله وأهل الخياط كما يقال أهل زمن كذا ، وبلد كذا وقيل هو في الأصل اسم الشخص ويصغر أُويلاً ، ويستعمل فيمن يختص بالإنسان اختصاصاً ذاتياً إما بقرابة قريبة أو بموالاة انتهى موضع الحاجة ، فالمراد بآل إبراهيم وآل عمران خاصتهما من أهلهما والملحقين بهما على ما عرفت.

فأما آل إبراهيم فظاهر لفظه أنهم الطيبون من ذريته كإسحاق وإسرائيل


والأنبياء من بني إسرائيل وإسماعيل والطاهرون من ذريته وسيدهم محمد 6 والملحقون بهم في مقامات الولاية إلا أن ذكر آل عمران مع آل إبراهيم يدل على أنه لم يستعمل على تلك السعة فإن عمران هذا إما هو أبو مريم أو أبو موسى 7 ، وعلى أي تقدير هو من ذرية إبراهيم وكذا آله وقد أُخرجوا من آل إبراهيم فالمراد بآل إبراهيم بعض ذريته الطاهرين لا جميعهم.

وقد قال الله تعالى فيما قال : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً) النساء ـ ٥٤ ؛ والآية في مقام الإنكار على بني إسرائيل وذمهم كما يتضح بالرجوع إلى سياقها وما يحتف بها من الآيات ، ومن ذلك يظهر أن المراد من آل ابراهيم فيها غير بني إسرائيل أعني غير إسحق ويعقوب وذرية يعقوب وهم ( أي ذرية يعقوب ) بنو إسرائيل فلم يبق لآل ابراهيم إلا الطاهرون من ذريته من طريق إسماعيل ، وفيهم النبي وآله.

على أنا سنبين إنشاء الله أن المراد بالناس في الآية هو رسول الله 6 ، وأنه داخل في آل ابراهيم بدلالة الآية.

على أنه يشعر به قوله تعالى في ذيل هذه الآيات : إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الآية ) آل عمران ـ ٦٨ ، وقوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ـ إلى أن قال ـ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ الآيات ) البقرة ـ ١٢٩.

فالمراد بآل إبراهيم الطاهرون من ذريته من طريق إسمعيل ؛ والآية ليست في مقام الحصر فلا تنافى بين عدم تعرضها لاصطفاء نفس إبراهيم واصطفاء موسى وسائر الأنبياء الطاهرين من ذريته من طريق إسحق وبين ما تثبتها آيات كثيرة من مناقبهم وسمو شأنهم وعلو مقامهم ، وهي آيات متكثرة جداً لا حاجة إلى إيرادها ، فإن إثبات الشيء لا يستلزم نفى ما عداه.

وكذا لا ينافي مثل ما ورد في بني إسرائيل من قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي


إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) الجاثية ـ ١٦ ، كل ذلك ظاهر.

ولا أن تفضيلهم على العالمين ينافي تفضيل غيرهم على العالمين ولا تفضيل غيرهم عليهم فإن تفضيل قوم واحد أو أقوام مختلفين على غيرهم إنما يستلزم تقدمهم في فضيلة دنيوية أو اخروية على من دونهم من الناس ، ولو نافى تفضيلهم على الناس تفضيل غيرهم أو نافى تفضيل هؤلاء المذكورين في الآية أعني آدم ونوح وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين تفضيل غيرهم على العالمين لاستلزم ذلك التنافى بين هؤلاء المذكورين في الآية أنفسهم ، وهو ظاهر.

ولا أن تفضيل هؤلاء على غيرهم ينافي وقوع التفاضل فيما بينهم أنفسهم فقد فضل الله النبيين على سائر العالمين وفضل بعضهم على بعض ؛ قال تعالى : ( وكلاً فضلنا على العالمين ) الأنعام ـ ٨٦ ، وقال أيضاً : (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ) أسرى ـ ٥٥.

وأما آل عمران فالظاهر أن المراد بعمران أبو مريم كما يشعر به تعقيب هاتين الآيتين بالآيات التي تذكر قصة امرأة عمران ومريم ابنة عمران ، وقد تكرر ذكر عمران أبي مريم باسمه في القرآن الكريم ، ولم يرد ذكر عمران أبي موسى حتى في موضع واحد يتعين فيه كونه هو المراد بعينه ، وهذا يؤيد كون المراد بعمران في الآية أبا مريم 3 وعلى هذا فالمراد بآل عمران هو مريم وعيسى 8 أو هما وزوجة عمران.

وأما ما يذكر أن النصارى غير معترفين بكون اسم أبي مريم عمران فالقرآن غير تابع لهواهم.

قوله تعالى : (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ) ؛ الذرية في الأصل صغار الأولاد على ما ذكروا ثم استعملت في مطلق الأولاد ، وهو المعنى المراد في الآية ؛ وهي منصوبة عطف بيان.

وفي قوله : بعضها من بعض دلالة على أن كل بعض فرض منها يبتديء وينتهي من البعض الآخر واليه. ولازمه كون المجموع متشابه الأجزاء لا يفترق البعض من البعض في أوصافه وحالاته ، وإذا كان الكلام في اصطفائهم أفاد ذلك أنهم ذرية لا يفترقون في صفات الفضيلة التي اصطفاهم الله لأجلها على العالمين إذ لا جزاف ولا لعب


في الأفعال الإلهية ، ومنها الاصطفاء الذي هو منشأ خيرات هامة في العالم.

قوله تعالى : (وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، أي سميع بأقوالهم الدالة على باطن ضمائرهم عليم بباطن ضمائرهم ، وما في قلوبهم فالجملة بمنزلة التعليل لاصطفائهم ، كما أن قوله : ذرية بعضها من بعض ، بمنزلة التعليل لشمول موهبة الاصطفاء لهؤلاء الجماعة فالمحصل من الكلام ان الله اصطفى هؤلاء على العالمين ، وإنما سرى الاصطفاء إلى جميعهم لأنهم ذرية متشابهة الأفراد ، بعضهم يرجع إلى البعض في تسليم القلوب وثبات القول بالحق وإنما أنعم عليهم بالاصطفاء على العالمين لأنه سميع عليم يسمع أقوالهم ويعلم ما في قلوبهم.

( بحث روائي )

في العيون في حديث الرضا مع المأمون : فقال المأمون : هل فضل الله العترة على سائر الناس ؟ فقال أبو الحسن : إن الله أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه فقال المأمون أين ذلك في كتاب الله فقال له الرضا 7 في قوله إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض الحديث.

وفي تفسير العياشي عن أحمد بن محمد عن الرضا عن أبي جعفر 8 : من زعم أنه فرغ من الأمر فقد كذب لأن المشية لله في خلقه ، يريد ما يشاء ويفعل ما يريد ، قال الله : (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، آخرها من أولها وأولها من آخرها فإذا أُخبرتم بشيء منها بعينه أنه كائن وكان في غيره منه فقد وقع الخبر على ما أُخبرتم عنه.

أقول : وفيه دلالة على ما تقدم في البيان السابق من معنى قوله : ذرية بعضها من بعض الآية.

وفيه أيضاً عن الباقر 7 : أنه تلا هذه الآية فقال : نحن منهم ونحن بقية تلك العترة.

أقول : قوله 7 ونحن بقية تلك العترة ، العترة بحسب الأصل في معناها الأصل الذي يعتمد عليه الشيء ، ومنه العترة للأولاد و الأقارب الأدنين ممن مضى ، وبعبارة اخرى العمود المحفوظ في العشيرة ، ومنه يظهر أنه 7 استفاد من قوله


تعالى ذرية بعضها من بعض ، أنها عترة محفوظة آخذة من آدم الى نوح الى آل إبراهيم وآل عمران ، ومن هنا يظهر النكتة في ذكر آدم ونوح مع آل إبراهيم وعمران فهي إشارة إلى اتصال السلسلة في الاصطفاء.

* * *

إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ـ ٣٥. فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ـ ٣٦. فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ـ ٣٧. هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء ـ ٣٨. فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ ـ ٣٩. قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ـ ٤٠. قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ـ ٤١.


( بيان )

قوله تعالى : (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ؛ النذر إيجاب الإنسان على نفسه ما ليس بواجب و التحرير هو الاطلاق عن وثاق ، ومنه تحرير العبد عن الرقية ، وتحرير الكتاب كأنه إطلاق للمعاني عن محفظة الذهن والفكر. والتقبل هو القبول عن رغبة ورضى كتقبل الهدية وتقبل الدعاء ونحو ذلك.

وفي قوله : (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي) ، دلالة على أنها إنما قالت هذا القول حينما كانت حاملاً ، وأن حملها كان من عمران ، ولا يخلو الكلام من إشعار بأن زوجها عمران لم يكن حياً عندئذ وإلا لم يكن لها أن تستقل بتحرير ما في بطنها هذا الاستقلال كما يدل عليه أيضاً ما سيأتي من قوله تعالى : (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ الآية ) آل عمران ـ ٤٤ ؛ على ما سيجيء من البيان.

ومن المعلوم أن تحرير الأب أو الام للولد ليس تحريراً عن الرقية وإنما هو تحرير عن قيد الولاية التي للوالدين على الولد من حيث تربيته واستعماله في مقاصدهما وافتراض طاعتهما فبالتحرير يخرج من تسلط أبويه عليه في استخدامه ، وإذا كان التحرير منذوراً لله سبحانه يدخل في ولاية الله يعبده ويخدمه ؛ أي يخدم في البيع والكنائس والأماكن المختصة بعبادته تعالى في زمان كان فيه تحت ولاية الأبوين لولا التحرير ؛ وقد قيل : إنهم كانوا يحررون الولد لله فكان الأبوان لا يستعملأنه في منافعهما : ولا يصرفانه في حوائجهما بل كان يجعل في الكنيسة يكنسها ويخدمها لا يبرح حتى يبلغ الحلم ثم يخير بين الإقامة والرواح فإن أحب أن يقيم أقام ، وإن أحب الرواح ذهب لشأنه.

وفي الكلام دلالة على أنها كانت تعتقد أن ما في بطنها ذكر لا اناث حيث إنها تناجى ربها عن جزم وقطع من غير اشتراط وتعليق حيث : تقول نذرت لك ما في بطني محرراًًً من غير أن تقول مثلاً إن كان ذكراً ونحو ذلك.

وليس تذكير قوله ، محرراًً ، من جهة كونه حالا عن ما الموصولة التي يستوي فيه المذكر والمؤنث إذ لو كانت نذرت تحرير ما في بطنها سواء كان ذكراً أو انثى لم


يكن وجه لما قالتها تحزناً وتحسراً لما وضعتها : رب إني وضعتها انثى ؛ ولا وجه ظاهر لقوله تعالى : والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالانثى ؛ على ما سيجيء بيانه.

وفي حكايته تعالى لما قالتها عن جزم دلالة على أن اعتقادها ذلك لم يكن عن جزاف أو اعتماداً على بعض القرائن الحدسية التي تسبق إلى أذهان النسوان بتجارب ونحوه فكل ذلك ظن ، والظن لا يغني من الحق شيئاًً ، وكلامه تعالى لا يشتمل على باطل إلا مع إبطاله ، وقد قال تعالى : (اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ) الرعد ـ ٨ ، وقال تعالى : (عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ) لقمان ـ ٣٤ ، فجعل العلم بما في الأرحام من الغيب المختص به تعالى ، وقال تعالى : (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى ) الجن ـ ٢٧ ، فجعل علم غيره بالغيب منتهياً إلى الوحي فحكايته عنها الجزم في القول فيما يختص علمه بالله سبحانه يدل على أن علمها بذكورة ما في بطنها كان ينتهى بوجه إلى الوحي ، ولذلك لما تبينت أن الولد انثى لم تيأس عن ولد ذكر فقالت ثانياً عن جزم وقطع : وإنى اعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم الآية فأثبتت لها ذرية ولا سبيل إلى العلم به ظاهراً.

ومفعول قولها : فتقبل مني ، وإن كان محذوفاً محتملا لأن يكون هو.

نذرها من حيث إنه عمل صالح أو يكون هو ولدها المحرر لكن قوله تعالى : فتقبلها ربها بقبول حسن ، لا يخلو عن إشعار أو دلالة على كون مرادها هو قبول الولد المحرر.

قوله تعالى : فلما وضعتها قالت : (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى) ؛ في وضع الضمير المؤنث موضع ما في بطنها إيجاز لطيف ، والمعنى فلما وضعت ما في بطنها وتبينت أنه انثى قالت : رب إنى وضعتها انثى ، وهو خبر اريد به التحسر والتحزن دون الإخبار وهو ظاهر.

قوله تعالى : (وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى ) ، جملتان معترضتان وهما جميعاً مقولتان له تعالى لا لامرأة عمران ، ولا أن الثانية مقولة لها والاولى مقولة لله.

أما الاولى فهي ظاهرة لكن لما كانت قولها : رب إني وضعتها انثى ، مسوقاً لإظهار التحسر كان ظاهر قوله : والله أعلم بما وضعت ، أنه مسوق لبيان أنا نعلم أنها


انثى لكنا أردنا بذلك إنجاز ما كانت تتمناه بأحسن وجه وأرضى طريق ، ولو كانت تعلم ما أردناه من جعل ما في بطنها انثى لم تتحسر ولم تحزن ذاك التحسر والتحزن والحال أن الذكر الذي كانت ترجوه لم يكن ممكناً أن يصير مثل هذا الانثى التي وهبناها لها ، ويترتب عليه ما يترتب على خلق هذه الانثى فإن غاية أمره أن يصير مثل عيسى نبياً مبرئاً للأكمه والأبرص ومحيياً للموتى لكن هذه الانثى ستتم به كلمة الله وتلد ولداً بغير أب ، وتجعل هي وابنها آية للعالمين ، ويكلم الناس في المهد ، ويكون روحاً وكلمة من الله ، مثله عند الله كمثل آدم إلى غير ذلك من الآيات الباهرات في خلق هذه الانثى الطاهرة المباركة وخلق ابنها عيسى 8.

ومن هنا يظهر : أن قوله : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى) ، مقول له تعالى لا لامرأة عمران ، ولو كان مقولاً لها لكان حق الكلام ان يقال : وليس الانثى كالذكر لا بالعكس وهو ظاهر فإن من كان يرجو شيئاًً شريفاً أو مقاماً عالياً ثم رزق ما هو أخس منه واردأ إنما يقول عند التحسر ، ليس هذا الذي وجدته هو الذي كنت أطلبه وأبتغيه ، أو ليس ما رزقته كالذي كنت أرجوه ، ولا يقول : ليس ما كنت أرجوه كهذا الذي رزقته البتة ؛ وظهر من ذلك أن اللام في الذكر والانثى معا أو في الانثى فقط للعهد.

وقد أخذ أكثر المفسرين قوله : وليس الذكر كالانثى ، تتمة قول امرأة عمران ، وتكلفوا في توجيه تقديم الذكر على الانثى بما لا يرجع إلى محصل ، من أراده فليرجع إلى كتبهم.

قوله تعالى : (وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) ؛ معنى مريم في لغتهم العابدة والخادمة على ما قيل ، ومنه يعلم وجه مبادرتها إلى تسمية المولودة عند الوضع ، ووجه ذكره تعالى لتسميتها بذلك فإنها لما أيست من كون الولد ذكراً محرراًً للعبادة وخدمة الكنيسة بادرت إلى هذه التسمية وأعدتها بالتسمية للعبادة والخدمة. فقولها : وإنى سميتها مريم بمنزلة أن تقول : إني جعلت ما وضعتها محررة لك ، والدليل على كون هذا القول منها في معنى النذر قوله تعالى : (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً ) الآية.

ثم أعاذتها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم ليستقيم لها العبادة والخدمة ويطابق اسمها المسمى.


والكلام في قولها : وذريتها ، من حيث أنه قول مطلق من شرط وقيد لا يصح انتفوه به في حضرة التخاطب ممن لا علم له به مع أن مستقبل حال الإنسان من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه ؛ نظير الكلام في قولها : رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً ، على ما تقدم بيانه فليس إلا أنها كانت تعلم أن سترزق من عمران ولداً ذكراً صالحاً ثم لما حملت وتوفي عمران لم تشك أن ما في بطنها هو ذلك الولد الموعود ، ثم لما وضعتها وبان لها خطأ حدسها أيقنت أنها سترزق ذلك الولد من نسل هذه البنت المولودة فحولت نذرها من الابن إلى البنت ، وسمتها مريم ( العابدة ، الخادمة ) وأعاذتها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم هذا ما يعطيه التدبر في كلامه تعالى.

قوله تعالى : (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً) ؛ القبول إذا قيد بالحسن كان بحسب المعنى هو التقبل الذي معناه القبول عن الرضا ، فالكلام في معنى قولنا : فتقبلها ربها تقبلاً فإنما حلل التقبل إلى القبول الحسن ليدل على أن حسن القبول مقصود في الكلام ، ولما في التصريح بحسن القبول من التشريف البارز.

وحيث قوبل بهاتين الجملتين أعني قوله : فتقبلها إلى قوله : حسناً الجملتان في قولها : وإنى سميتها إلى قولها : الرجيم كان مقتضى الانطباق أن يكون قوله : فتقبلها ربها بقبول حسن ، قبولاً لقولها وإنى سميتها مريم ، وقوله : (وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً) ، قبولاً وإجابة لقولها : وإنى اعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ، فالمراد بتقبلها بقبول حسن ليس هو القبول بمعنى قبول تقرب امرأة عمران بالنذر ، وإعطاء الثواب الاخروي لعملها فإن القبول إنما نسب إلى مريم لا إلى النذر وهو ظاهر بل قبول البنت بما أنها مسماة بمريم ومحررة فيعود معناه إلى اصطفائها ( وقد مر أن معنى الاصطفاء هو التسليم التام لله سبحانه ) فافهم ذلك.

والمراد بإنباتها نباتاً حسناً إِعطاء الرشد والزكاة لها ولذريتها ، وإفاضة الحيوة لها ولمن ينمو منها من الذرية حيوة لا يمسها نفث الشيطان ورجس تسويله ووسوسته ، وهو الطهارة.

وهذان أعني القبول الحسن الراجع إلى الاصطفاء ، والنبات الحسن الراجع إلى التطهير هما اللذان يشير اليهما قوله تعالى في ذيل هذه الآيات : (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ ) الآية وسنوضحه بياناً إنشاء الله العزيز.


فقد تبين أن اصطفاء مريم وتطهيرها إنما هما استجابة لدعوة امها كما أن اصطفائها على نساء العالمين في ولادة عيسى ، وكونها وابنها آية للعالمين تصديق لقوله تعالى : وليس الذكر كالانثى.

قوله تعالى : (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) ، وانما كفلها بإصابة القرعة حيث اختصموا في تكفلها ثم تراضوا بينهم بالقرعة فأصابت القرعة زكريا كما يدل عليه قوله تعالى : (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) ، الآية.

قوله تعالى : (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً ) « الخ » ، المحراب المكان المخصوص بالعبادة من المسجد والبيت ، قال الراغب : ومحراب المسجد ، قيل : سمي بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان والهوى ، وقيل : سمي بذلك لكون حق الإنسان فيه أن يكون حريباً ( أي سليباً ) من أشغال الدنيا ومن توزع الخاطر ، وقيل الأصل فيه أن محراب البيت صدر المجلس ثم اتخذت المساجد فسمي صدره به وقيل : بل المحراب أصله في المسجد وهو اسم خص به صدر المجلس فسمى صدر البيت محراباً تشبيهاً بمحراب المسجد ، وكأن هذا أصح ، قال عز وجل : يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل ، انتهى.

وذكر بعضهم أن المحراب هنا هو ما يعبر عنه أهل الكتاب بالمذبح ، وهو مقصورة في مقدم المعبد ، لها باب يصعد إليه بسلم ذى درجات قليلة ، ويكون من فيه محجوباً عمن في المعبد.

أقول : واليه ينتهي اتخاذ المقصورة في الاسلام.

وفي تنكير قوله : رزقاً إشعار بكونه رزقاً غير معهود كما قيل : إنه كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ، ويؤيده أنه لو كان من الرزق المعهود ، وكان تنكيره يفيد أنه ما كان يجد محرابها خالياً من الرزق بل كان عندها رزق ما دائماً لم يقنع زكريا بقولها : هو من عند الله : (إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ) « الخ » في جواب قوله : يا مريم أنى لك هذا ، لإمكان أن يكون يأتيها بعض الناس ممن كان يختلف الى المسجد لغرض حسن أو سيئ.


على أن قوله تعالى : (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) « الخ » ، يدل على أن زكريا تلقى وجود هذا الرزق عندها كرامة إلهية خارقة فأوجب ذلك أن يسأل الله أن يهب له من لدنه ذرية طيبة ، فقد كان الرزق رزقاً يدل بوجوده على كونه كرامة من الله سبحانه لمريم الطاهرة ، ومما يشعر بذلك قوله تعالى : قال يا مريم « الخ » على ما سيجيء من البيان.

وقوله : ( قال يا مريم أنى لك ) « الخ » فصل الكلام من غير أن يعطف على قوله : وجد عندها رزقاً ، يدل على أنه 7 إنما قال لها ذلك مرة واحدة فأجابت بما قنع به واستيقن أن ذلك كرامة لها وهنالك دعا وسأل ربه ذرية طيبة.

قوله تعالى : (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) « الخ » طيب الشيء ملائمته لصاحبه فيما يريده لأجله ، فالبلد الطيب ما يلائم حيوة أهله من حيث الماء والهواء والرزق ونحو ذلك ، قال تعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) الأعراف ـ ٥٨ ، والعيشة الطيبة والحيوة الطيبة ما يلائم بعض أجزائها بعضاً ويسكن إليها قلب صاحبها ومنه الطيب للعطر الزكي فالذرية الطيبة هو الولد الصالح لأبيه مثلاً الذي يلائم من حيث صفاته وأفعاله ما عند أبيه من الرجاء والامنية فقول زكريا 7 : رب هب لي من لدنك ذرية طيبة ، لما كان الباعث له عليه ما شاهد من أمر مريم وخصوص كرامتها على الله وامتلاء قلبه من شأنها لم يملك من نفسه دون أن يسأل الله أن يهب له مثلها خطراً وكرامة ، فكون ذريته طيبة أن يكون لها ما لمريم من الكرامة عند الله والشخصية في نفسها ، ولذلك استجيب في عين ما سأله من الله ، ووهب له يحيى وهو أشبه الأنبياء بعيسى 8 ، وأجمع الناس لما عند عيسى وامه مريم الصديقة من صفات الكمال والكرامة ، ومن هنا ما سماه تعالى بيحيى وجعله مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين وهذه أقرب ما يمكن أن يشابه بها إنسان مريم وابنه عيسى 8 على ما سنبينه ان شاء الله تعالى.

قوله تعالى : فنادته الملائكة وهو قائم يصلّى في المحراب أن الله يبشرك بيحيى إلى آخر الآية ، ضمائر الغيبة والخطاب لزكريا ، والبشرى والإبشار والتبشير الإخبار بما يفرح الإنسان بوجوده.

وقوله : (أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى) ، دليل على أن تسميته بيحيى إنما هو من جانب


الله سبحانه كما تدل عليه نظائر هذه الآيات في سورة مريم ، قال تعالى : (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً) مريم ـ ٧.

وتسميته بيحيى وكون التسمية من عند الله سبحانه في بدء ما بشر به زكريا قبل تولد يحيى وخلقه يؤيد ما ذكرناه آنفاً : أن الذي طلبه زكريا من ربه أن يرزقه ولداً يكون شأنه شأن مريم ، وقد كانت مريم هي وابنها عيسى 8 آية واحدة كما قال تعالى : (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ) الأنبياء ـ ٩١.

فروعي في يحيى ما روعي فيهما من عند الله سبحانه ، وقد روعي في عيسى كمال ما روعي في مريم ، فالمرعي في يحيى هو الشبه التام والمحاذاة الكاملة مع عيسى 8 فيما يمكن ذلك ، ولعيسى في ذلك كله التقدم التام لأن وجوده كان مقدراً قبل استجابة دعوة زكريا في حق يحيى ، ولذلك سبقه عيسى في كونه من اولي العزم صاحب شريعة وكتاب وغير ذلك لكنهما تشابها وتشابه أمرهما فيما يمكن.

وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبر فيما ذكر الله تعالى من قصتهما في سورة مريم فقال في يحيى : (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً ـ إلى أن قال ـ : يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً) مريم ـ ١٥ ، وقال في عيسى 7 : (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا إلى أن قال : إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً إلى أن قال ـ : قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ـ إلى أن قال ـ : فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ) مريم ـ ٣٣ ، ويقرب منها من حيث الدلالة على تقارب أمرهما آيات هذه السورة التي نحن فيها عند التطبيق.

وبالجملة فقد سماه الله سبحانه يحيى وسمى ابن مريم عيسى وهو بمعنى ( يعيش ) على ما قيل وجعله مصدقاً بكلمة منه وهو عيسى كما قال تعالى : ( بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ) وآتاه الحكم وعلمه الكتاب صبياً كما فعل بعيسى ، وعده حناناً من لدنه وزكاة وبراً بوالديه غير جبار كما كان عيسى كذلك ، وسلم عليه في المواطن الثلاث


كعيسى ، وعده سيداً كما جعل عيسى وجيها عنده ، وجعله حصوراً ونبياً ومن الصالحين مثل عيسى ، كل ذلك استجابة لمسئلة زكريا ودعوته حيث سأل ذرية طيبة وولياً رضياً عند ما امتلأ قلبه بما شاهد من أمر مريم وعجيب شأنها وكرامتها على الله كما مر بيانه.

وفي قوله : مصدقاً بكلمة من الله دلالة على كونه من دعاة عيسى فالكلمة هو عيسى المسيح كما ذكره تعالى في ذيل هذه الآيات في بشارة الروح لمريم.

والسيد هو الذي يتولى أمر سواد الناس وجماعتهم في أمر حيوتهم ومعاشهم أو في فضيلة من الفضائل المحمودة عندهم ثم غلب استعماله في شريف القوم لما أن التولي المذكور يستلزم شرفاً بالحكم أو المال أو فضيلة اخرى.

والحصور هو الذي لا يأتي النساء ، والمراد بذلك في الآية بقرينة السياق الممتنع عن ذلك للإعراض عن مشتهيات النفس زهداً.

قوله تعالى : (قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ) ـ استفهام تعجيب واستعلام لحقيقة الحال لا استبعاد واستعظام مع تصريح البشارة بذلك وأن الله سبحانه سيرزقه ما سأله من الولد مع أنه ذكر هذين الوصفين اللذين جعلهما منشأ للتعجب والاستعلام في ضمن مسألته على ما في سورة مريم حيث قال : (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً ) مريم ـ ٥.

لكن المقام يمثل معنى آخر فكأنه 7 لما انقلب حالاً من مشاهدة أمر مريم وتذكر انقطاع عقبه لم يشعر إلا وقد سأل ربه ما سأل وقد ذكر في دعائه ما له سهم وافر في تأثره وتحزنه وهو بلوغ الكبر ، وكون امرأته عاقراً ، فلما استجيبت دعوته وبشر بالولد كأنه صحا وأفاق مما كان عليه من الحال ، وأخذ يتعجب من ذلك وهو بالغ الكبر وامرأته عاقر ، فصار ما كان يثير على وجهه غبار اليأس وسيماء الحزن يغيره إلى نظرة التعجب المشوب بالسرور.

على أن ذكر نواقص الأمر بعد البشارة بقضاء أصل الحاجة واستعلام كيفية رفع واحد واحد منها إنما هو طلب تفهم خصوصيات الإفاضة والإنعام التذاذاً بالنعمة الفائضة بعد

(٣ ـ الميزان ـ ١٢)


النعمة نظير ما وقع في بشرى إبراهيم بالذرية ، قال تعالى : (وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ ) الحجر ـ ٥٦ ، فذكر في جواب نهي الملائكة إياه عن القنوط أن استفهامه لم يكن عن قنوط كيف وهو غير ضال والقنوط ضلالة ، بل السيد إذا أقبل على عبده إقبالاً يؤذن بالقرب والانس والكرامة أوجب ذلك انبساطاً من العبد وابتهاجاً يستدعي تلذذه من كل حديث ، وتمتعه في كل باب.

وفي قوله : وقد بلغني الكبر من مراعاة الأدب ما لا يخفى فإنه كناية عن أنه لا يجد من نفسه شهوة النكاح لبلوغ الشيخوخة والهرم. وقد اجتمعت في امرأته الكبر والعقر معاً فإن ذلك ظاهر قوله : وكانت امرأتي عاقراً ، ولم يقل : وامرأتي عاقر.

قوله تعالى : قال : (كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ) ، فاعل قال وإن كان هو الله سبحانه سواء كان من غير وساطة الملائكة وحياً أو بواسطة الملائكة الذين كانوا ينادونه فالقول على اي حال قوله تعالى لكن الظاهر أنه منسوب إليه تعالى بواسطة الملك فالقائل هو الملك وقد نسب إليه تعالى لأنه بأمره ، والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة مريم في القصة : (قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً ) مريم ـ ٩.

ومنه يظهر اولا : أنه سمع الصوت من حيث كان يسمعه أولاً. وثانياً : أن قوله : كذلك ، خبر لمبتدء محذوف ، والتقدير ، الأمر كذلك أي الذي بشرت به من الموهبة هو كذلك كائن لا محالة ، وفيه إشارة إلى كونه من القضاء المحتوم الذي لا ريب في وقوعه نظير ما ذكره الروح في جواب مريم على ما حكاه الله تعالى : (قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ـ إلى أن قال : وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً) مريم ـ ٢١ ، وثالثا أن قوله الله يفعل ما يشاء كلام مفصول في مقام التعليل لمضمون قوله : كذلك اه.

قوله تعالى : قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا


رمزاً إلى آخر الآية ، قال في المجمع : الرمز الايماء بالشفتين ، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجب والعين واليد ، والأول أغلب ، انتهى ، والعشي الطرف المؤخر من النهار ، وكأنه مأخوذ من العشوة وهي الظلمة الطارئة في العين المانعة عن الإبصار فأخذوا ذلك وصفاً للوقت لرواحه إلى الظلمة ، والإبكار صدر النهار والطرف المقدم منه ، و الأصل في معناه الاستعجال.

ووقوع هذه الآية في ولادة يحيى من وجوه المضاهاة بينه وبين عيسى فإنها تضاهي قول عيسى لمريم بعد تولده : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً ) مريم ـ ٢٦.

وسؤاله 7 من ربه أن يجعل له آية ـ والآية هي العلامة الدالة على الشيء هل هو ليستدل به على أن البشارة إنما هي من قبل ربه ، وبعبارة أُخرى هو خطاب رحماني ملكي لا شيطاني ؟ أو لأنه أراد أن يستدل بها على حمل امرأته ، ويعلم وقت الحمل ، خلاف بين المفسرين.

والوجه الثاني لا يخلو عن بعد من سياق الآيات وجريان القصة لكن الذي أوجب تحاشي القوم عن الذهاب إلى أول الوجهين أعني كون سؤال الآية لتمييز أن الخطاب رحماني هو ما ذكروه : أن الأنبياء لعصمتهم لا بد أن يعرفوا الفرق بين كلام الملك ووسوسة الشيطان ، ولا يجوز أن يتلاعب الشيطان بهم حتى يختلط عليهم طريق الإفهام.

وهو كلام حق لكن يجب أن يعلم أن تعرفهم إنما هو بتعريف الله تعالى لهم لا من قبل أنفسهم واستقلال ذواتهم ، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يتعرف زكريا من ربه أن يجعل له آية يعرف به ذلك ؟ وأي محذور في ذلك ؟ نعم لو لم يستجب دعائه ولم يجعل الله له آية كان الإشكال في محله.

على أن خصوصية نفس الآية ـ وهي عدم التكليم ثلاثة أيام ـ تؤيد بل تدل على ذلك فإن الشيطان وإن أمكن أن يمس الأنبياء في أجسامهم أو بتخريب أو إفساد في ما يرجونه من نتائج أعمالهم في رواج الدين واستقبال الناس أو تضعيف أعداء الدين كما يدل عليه قوله تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ


بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) ص ـ ٤١ ، وقوله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ الآية ) الحج ـ ٥٢ ، وقوله تعالى : (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ) الكهف ـ ٦٣.

لكن هذه وأمثالها من مس الشيطان وتعرضه لا تنتج إلا إيذاء النبي وأما مسه الأنبياء في نفوسهم فالأنبياء معصومون من ذلك ، وقد مر في ما تقدم من المباحث إثبات عصمتهم :.

والذي جعله الله تعالى آيه لزكريا على ما يدل عليه قوله : آيتك أن لا تكلم الناس ثلثه أيام إلا رمزاً واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والإبكار هو أنه كان لا يقدر ثلثه أيام على تكليم أحد ويعتقل لسانه إلا بذكر الله وتسبيحه ، وهذه آية واقعة على نفس النبي ولسانه وتصرف خاص فيه لا يقدر عليه الشيطان لمكان العصمة فليس إلا رحمانياً وهذه الآية كما ترى متناسبة مع الوجه الأول دون الوجه الثاني.

فان قلت : لو كان الأمر كذلك فما معنى قوله : قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك : (يَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء) الآية ، فإن ظاهره أنه خاطب ربه وسأله ما سأل ثم أُجيب بما أُجيب فما معنى هذه المخاطبة لو كان شاكاً في أمر النداء ؟ ولو لم يكن شاكاً عندئذ فما معنى سؤال التمييز؟.

قلت : مراتب الركون والاعتقاد مختلفة فمن الممكن أن يكون قد اطمأنت نفسه على كون النداء رحمانياً من جانب الله ثم يسأل ربه من كيفية الولادة التي كانت تتعجب منه نفسه الشريفة كما مر فيجاب بنداء آخر ملكي تطمئن إليه نفسه ثم يسأل ربه آية توجب اليقين بأنه كان رحمانياً فيزيد بذلك وثوقاً وطمأنينة.

ومما يؤيد ذلك قوله تعالى : فنادته الملائكة ، فإن النداء إنما يكون من بعيد ولذلك كثر اطلاق النداء في مورد الجهر بالقول لكونه عندنا من لوازم البعد ، وليس بلازم بحسب أصل معنى الكلمة كما يشهد به قوله تعالى في ما حكى فيه دعاء زكريا : (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً ) مريم ـ ٣ ، فقد أطلق عليه النداء بعنايه تذلل زكريا وتواضعه قبال تعزز الله سبحانه وترفعه وتعاليه ، ثم وصف النداء بالخفاء ، فالكلام لا يخلو عن إشعار بكون زكريا لم ير الملك نفسه ، وإنما سمع صوتاً يهتف به هاتف.


وقد ذكر بعض المفسرين : أن المراد من جعله تعالى عدم التكليم آية نهيه عن تكليم الناس ثلثة أيام ، والانقطاع فيها إلى ذكر الله وتسبيحه دون اعتقال لسانه ، قال : الصواب أن زكريا أحب بمقتضى الطبيعة البشرية أن يتعين لديه الزمن الذي ينال به تلك المنحة الإلهية ليطمئن قلبه ويبشر أهله فسأل عن الكيفية ، ولما أُجيب بما اجيب به سأل ربه أن يخصه بعبادة يتعجل بها شكره ، ويكون اتمامه إياها آية وعلامة على حصول المقصود ، فأمره بأن لا يكلم الناس ثلثه أيام بل ينقطع إلى الذكر والتسبيح مسائاً صباحاً مده ثلثه أيام فإذا احتاج إلى خطاب الناس أومأ إليهم إيمائاً ، على هذا تكون بشارته لأهله بعد مضي الثلاث الليال ، انتهى.

وأنت خبير بأنه ليس لما ذكره ( من مسألته عبادة تكون شكراً للمنحة ، وانتهائها إلى حصول المقصود ، وكون انتهائها هو الآية وكون قوله : أن لا تكلم مسوقاً للنهي التشريعي وكذا إرادته بشارة أهله ) في الآية عين ولا أثر.

( كلام في الخواطر الملكية والشيطانية وما يلحق بها من التكليم )

قد مر كراراً أن الألفاظ موضوعة لمعانيها من حيث اشتمالها على الأغراض المقصودة منها وأن القول أو الكلام مثلاً إنما يسمى به الصوت لافادته معنى مقصودا يصح السكوت عليه ، فما يفاد به ذلك ، كلام وقول سواء كان مفيده صوتاً واحداً أو أصواتاً متعددة مؤلفة أو غير صوت كالايماء والرمز ، والناس لا يتوقفون في تسمية الصوت المفيد فائدة تامة كلاماً وإن لم يخرج عن شق فم ، وكذلك في تسمية الإيماء قولاً وكلاماً وإن لم يشتمل على صوت.

والقرآن أيضاً يسمي المعاني الملقاة في القلوب من الشيطان كلاماً له وقولاً منه ؛ قال تعالى حكاية عن الشيطان : (وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ ) النساء ـ ١١٩ ، وقال : (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ) الحشر ـ ١٦ ، وقال : (يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ) الناس ـ ٥ ، وقال : ( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ) الأنعام ـ ١١٢ ، وقال أيضاً حكاية عن إبليس : (إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ) إبراهيم ـ ٢٢ ، وقال : (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً


وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) البقرة ـ ٢٦٩ ، ومن الواضح أن هذه هي الخواطر الواردة على القلوب ، نسبت إلى الشيطان ، وسميت بالأمر والقول والوسوسة والوحي والوعد ، وجميعها قول وكلام ولم تخرج عن شق فم ولا تحريك لسان.

ومن هنا يعلم : أن ما تشتمل عليه الآية الأخيرة من وعده تعالى بالمغفرة والفضل قبال وعد الشيطان هو الكلام الملكي في قبال الوسوسة من الشيطان ، وقد سماه تعالى الحكمة ، ومثلها قوله تعالى : (وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) الحديد ـ ٢٨ ، وقوله : (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) الفتح ـ ٤ ، وقد مر بيانها في الكلام على السكينة في ذيل قوله تعالى : (فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ) البقرة ـ ٢٤٨ ؛ وكذا قوله : (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ) الأنعام ـ ١٢٥ ، وقد سمى الوسوسة رجزاً فقال : (رِجْزَ الشَّيْطَانِ ) الأنفال ـ ١١ ، فمن جميع ذلك يظهر أن الشياطين والملائكة يكلمون الإنسان بإلقاء المعاني في قلبه.

وهنا قسم آخر من التكليم يختص به تعالى كما ذكره بقوله : (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ الآية ) الشورى ـ ٥١ ، فسماه تكليماً وقسمه إلى الوحي ، وهو الذي لا حجاب فيه بينه وبين العبد المكلم ، وإلى التكليم من وراء حجاب هذه أقسام من الكلام لله سبحانه وللملائكة والشياطين.

أما كلام الله سبحانه المسمى بالوحي فهو متميز متعين بذاته فإن الله سبحانه ألقى التقابل بينه وبين التكليم من وراء حجاب فهو تكليم حيث لا حجاب بين الإنسان وبين ربه ، ومن المحال أن يقع هناك لبس ، وهو ظاهر ، وأما غيره فيحتاج إلى تسديد ينتهي إلى الوحي.

وأما الكلام الملكي والشيطاني فالآيات المذكورة آنفاً تكفي في التمييز بينها فإن الخاطر الملكي يصاحب انشراح الصدر ، ويدعو إلى المغفرة والفضل وينتهي بالاخرة إلى ما يطابق دين الله المبين في كتابه وسنة نبيه ، والخاطر الشيطاني يلازم


تضيق الصدر ، وشح النفس ويدعو إلى متابعة الهوى ، ويعد الفقر ، ويأمر بالفحشاء ؛ وبالاخرة ينتهي إلى ما لا يطابق الكتاب والسنة ، ويخالف الفطرة.

ثم إن الأنبياء ومن يتلوهم ربما تيسر لهم مشاهدة الملك والشيطان ومعرفتهما كما حكى الله تعالى عن آدم وإبراهيم ولوط فأغنى ذلك عن استعمال المميز وأما مع عدم المشاهدة فلا بد من استعماله كسائر المؤمنين وينتهي بالاخرة إلى تمييز الوحي ؛ وهو ظاهر.

( بحث روائي )

في تفسير القمي في قوله تعالى : (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ) الآية عن الصادق 7 قال إن الله أوحى إلى عمران أني واهب لك ذكراً سوياً مباركاً : (وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ ) وجاعله رسولا إلى بني إسرائيل فحدث عمران امرأته حنة بذلك وهي ام مريم فلما حملت كان حملها بها عند نفسها غلاماً فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها انثى ، وليس الذكر كالانثى لا تكون البنت رسولا ، يقول الله والله أعلم بما وضعت فلما وهب الله لمريم عيسى كان هو الذي بشر به عمران ووعده إياه فإذا قلنا في الرجل منا شيئاً وكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك.

أقول : وروى قريباً منه في الكافي عنه 7 وفي تفسير العياشي عن الباقر 7.

وفي تفسير العياشي في الآية عن الصادق 7 : أن المحرر يكون في الكنيسة لا يخرج منها فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها انثى وليس الذكر كالانثى إن الانثى تحيض فتخرج من المسجد ، والمحرر لا يخرج من المسجد.

وفيه عن أحدهما : نذرت ما في بطنها للكنيسة أن يخدم العباد ، وليس الذكر كالانثى في الخدمة قال فشبت وكانت تخدمهم وتناولهم حتى بلغت فأمر زكريا أن تتخذ لها حجابا دون العباد.

أقول : والروايات كما ترى تنطبق على ما قدمناه في البيان السابق إلا أن ظاهرها : أن قوله وليس الذكر كالانثى كلام لامرأة عمران لا له تعالى ، ويبقى عليه وجه


تقديم الذكر على الانثى في الجملة ، مع أن مقتضى القواعد العربية خلافه ، وكذا يبقى عليه وجه تسميتها بمريم ، وقد مر أنه في معنى التحرير إلا أن يفرق بين التحرير وجعلها خادمة فليتأمل.

وفي الرواية الاولى دلالة على كون عمران نبياً يوحي إليه ، ويدل عليه ما في البحار عن أبي بصير قال : سألت أبا جعفر 8 عن عمران أكان نبياً ؟ فقال نعم كان نبياً مرسلاً إلى قومه ، الحديث.

وتدل الرواية أيضاً على كون اسم امرأة عمران : حنة ، وهو المشهور ، وفي بعض الروايات : مرثار ، ولا يهمنا البحث عن ذلك.

وفي تفسير القمي في ذيل الرواية السابقة : فلما بلغت مريم صارت في المحراب ، وأرخت على نفسها ستراً ، وكان لا يراها أحد ، وكان يدخل عليها زكريا المحراب فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فكان يقول : أنى لك هذا فتقول هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.

وفي تفسير العياشي عن الصادق 7 قال : ان زكريا لما دعا ربه أن يهب له ولداً فنادته الملائكة بما نادته به أحب أن يعلم أن ذلك الصوت من الله فأوحى إليه أن آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثه أيام فلما أمسك لسانه ولم يتكلم علم أنه لا يقدر على ذلك إلا الله ، وذلك قول الله رب اجعل لي آية.

اقول : وروى قريباً منه القمي في تفسيره ، وقد عرفت فيما تقدم أن سياق الآيات لا يأبى عن ذلك.

وبعض المفسرين شدد النكير على ما تضمنته هذه الروايات كالوحي إلى عمران ووجود الفاكهة في محراب مريم في غير وقتها ، وكون سؤال زكريا للآية للتمييز فقال : إن هذه امور لا طريق إلى إثباتها فلا هو سبحانه ذكرها ، ولا رسوله قالها ، ولا هي مما يعرف بالرأي ولم يثبتها تاريخ يعتد به ، وليس هناك الا روايات إسرائيلية وغير إسرائيلية ، ولا موجب للتكلف في تحصيل معنى القرآن وحمله على أمثال هذه الوجوه البعيدة عن الأفهام.

وهو منه كلام من غير حجة ، والروايات وإن كانت آحاداً غير خالية عن ضعف


الطريق لا يجب على الباحث الأخذ بها ، والاحتجاج بما فيها لكن التدبر في الآيات يقرب الذهن منها ، والذي نقل منها عن أئمة أهل البيت : لا يشتمل على أمر غير جائز عند العقل.

نعم في بعض ما نقل عن قدماء المفسرين امور غير معقولة كما نقل عن قتادة وعكرمة : أن الشيطان جاء إلى زكريا وشككه في كون البشارة من الله تعالى ، وقال : لو كانت من الله لأخفى لك في ندائه كما أخفيت له في ندائك إلى غير ذلك فهي معان لا مجوز لتسليمها كما ورد في انجيل لوقا : أن جبرئيل قال لزكريا : ( وها أنت تكون صامتاً ولا تقدر أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته ) انجيل لوقا ١ ـ ٢٠

( بحث روائي آخر )

وفي الكافي عن الصادق 7 : ما من قلب إلا وله اذنان على إحديهما ملك مرشد ، وعلى الاخرى شيطان مفتن : هذا يأمره ، وهذا يزجره ؛ الشيطان يأمره بالمعاصى ، والملك يزجره عنها ، وذلك قول الله عز وجل : (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) عن اليمين وعن الشمال قعيد.

أقول : والروايات في هذا المعنى كثيرة سيأتي شطر منها ، وتطبيقه 7 الآية على الملك والشيطان في هذه الرواية لا ينافي تطبيقه إياها على الملكين الكاتبين للحسنات والسيئات في رواية اخرى فإن الآية لا تدل على أزيد من وجود رقيب عتيد عند الإنسان يرقبه في جميع ما يتكلم به ، وأنه متعدد عن يمين الإنسان وشماله ، وأما أنه من الملائكة محضاً أو ملك وشيطان فالآية غير صريحة في ذلك قابلة للانطباق على كل من المحتملين.

وفيه أيضاً عن زرارة قال : سألت أبا عبد الله 7 عن الرسول وعن النبي وعن المحدث ، قال : الرسول الذي يعاين الملك يأتيه بالرسالة من ربه يقول : يأمرك كذا وكذا ، والرسول يكون نبياً مع الرسالة ، والنبي لا يعاين الملك ينزل عليه الشيء إِلنبأ على قلبه فيكون كالمغمى عليه فيرى في منامه ، قلت فما علمه أن الذي في منامه حق ؟ قال : يبينه الله حتى يعلم أن ذلك حق ، ولا يعاين الملك ، الحديث.


اقول : قوله : والرسول يكون نبياً إشارة إلى إمكان اجتماع الوصفين وقد تقدم الكلام في معنى الرسالة والنبوة في تفسير قوله تعالى : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ الآية ) البقرة ـ ٢١٣.

وقوله : فيكون كالمغمى عليه تفسير معنى رؤيته في المنام ، وأن معناه الغيبة عن الحس دون المنام المعروف ، وقوله يبينه الله « الخ » إشارة إلى التمييز بين الإلقاء الملكى والشيطانى بما بينه الله من الحق.

وفي البصائر عن بريد عن الباقر والصادق 8 في حديث قال بريد : فما الرسول والنبى والمحدث ؟ قال الرسول الذي يظهر الملك فيكلمه ، والنبي يرى في المنام ، وربما اجتمعت النبوة والرسالة لواحد ، والمحدث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة ، قال : قلت : أصلحك الله كيف يعلم أن الذي رأى في المنام هو الحق وأنه من الملك ؟ قال : يوفق لذلك حتى يعرفه لقد ختم الله بكتابكم الكتب وبنبيكم الأنبياء ؛ الحديث.

اقول : وهو في مساق الحديث السابق ، وبيانه 7 واف بتمييز المحدث ما يسمعه من صوت الهاتف ؛ وفي قوله : لقد ختم الله « الخ » إشارة إلى ذلك ، وسيأتي الكلام في المحدث في ذيل الآيات التالية.

* * *

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ـ ٤٢. يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ـ ٤٣. ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ـ ٤٤. إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا


وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ـ ٤٥. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ـ ٤٦. قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ـ ٤٧. وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ـ ٤٨. وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ـ ٤٩. وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ ـ ٥٠. إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ـ ٥١. فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ـ ٥٢. رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ـ ٥٣. وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ـ ٥٤. إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ


فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ـ ٥٥. فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ـ ٥٦. وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ـ ٥٧. ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ـ ٥٨. إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ـ ٥٩. الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ـ ٦٠.

( بيان )

قوله تعالى : (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ) ؛ الجملة معطوفة على قوله : إذ قالت امرأة عمران ، فتكون شرحاً مثله لاصطفاء آل عمران المشتمل عليه قوله تعالى : (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى) ، الآية.

وفي الآية دليل على كون مريم محدثة تكلمها الملائكة وهي تسمع كلامهم كما يدل عليه أيضاً قوله في سورة مريم : فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً إلى آخر الآيات ؛ وسيأتي الكلام في المحدث.

وقد تقدم في قوله تعالى : فتقبلها ربها بقبول حسن ؛ الآية : أن ذلك بيان لاستجابة دعوة ام مريم : وإني سميتها مريم : وإني اعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ؛ الآية وأن قول الملائكة لمريم : (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ) إخبار لها بما لها عند الله سبحانه من الكرامة والمنزلة فارجع إلى هناك.

فاصطفائها تقبلها لعبادة الله ، وتطهيرها اعتصامها بعصمة الله فهي مصطفاة معصومة ؛ وربما قيل ؛ إن المراد من تطهيرها جعلها بتولاً لا تحيض فيتهيأ لها بذلك أن لا تضطر إلى الخروج من الكنيسة ، ولا بأس به غير أن الذي ذكرناه هو الأوفق بسياق الآيات.


قوله تعالى : (وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ) قد تقدم في قوله تعالى : إن الله اصطفى إلى قوله : على العالمين أن الاصطفاء المتعدي بعلى يفيد معنى التقدم ، وأنه غير الاصطفاء المطلق الذي يفيد معنى التسليم ؛ وعلى هذا فاصطفائها على نساء العالمين تقديم لها عليهن.

وهل هذا التقديم تقديم من جميع الجهات أو من بعضها ؟ ظاهر قوله تعالى فيما بعد الآية : (إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ ) ، الآية ، وقوله تعالى : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ) الأنبياء ـ ٩١ ، وقوله تعالى : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) التحريم ـ ١٢ ؛ حيث لم تشتمل مما تختص بها من بين النساء إلا على شأنها العجيب في ولادة المسيح 7 أن هذا هو وجه اصطفائها وتقديمها على النساء من العالمين.

وأما ما اشتملت عليه الآيات في قصتها من التطهير والتصديق بكلمات الله وكتبه ، والقنوت وكونها محدثة فهي امور لا تختص بها بل يوجد في غيرها ، وأما ما قيل : إنها مصطفاة على نساء عالمي عصرها فإطلاق الآية يدفعه.

قوله تعالى : (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ) ؛ القنوت هو لزوم الطاعة عن خضوع على ما قيل ، والسجدة معروفة والركوع هو الانحناء أو مطلق التذلل.

ولما كان النداء يوجب تلفيت نظر المنادى ( اسم مفعول ) وتوجيه فهمه نحو المنادي ( اسم فاعل ) كان تكرار النداء في المقام بمنزلة أن يقال لها : إن لك عندنا نبأ بعد نبأ فاستمعي لهما وأصغي اليهما : أحدهما ما أكرمك الله به من منزلة وهو مالك عند الله ، والثاني ما يلزمك من وظيفة العبودية بالمحاذاة ، وهو ما لله سبحانه عندك ، فيكون هذا إيفائاً للعبودية وشكراً للمنزلة فيؤول معنى الكلام إلى كون قوله : يا مريم اقنتي « الخ » بمنزلة التفريع لقوله : يا مريم إن الله اصطفيك « الخ » أي إذا كان كذلك فاقنتي واسجدي واركعي مع الراكعين ، ولا يبعد أن يكون كل واحدة من الخصال الثلاث المذكورة في هذه الآية فرعاً لواحدة من الخصال الثلاث المذكورة في الآية السابقة ، وإن لم يخل عن خفاء فليتأمل.


قوله تعالى : (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ ) ؛ عده من أنباء الغيب نظير ما عدت قصة يوسف 7 من أنباء الغيب التي توحي إلى رسول الله ؛ قال تعالى : (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) يوسف ـ ١٠٢ ، وأما ما يوجد من ذلك عند أهل الكتاب فلا عبرة به لعدم سلامته من تحريف المحرفين كما أن كثيراً من الخصوصيات المقتصة في قصص زكريا غير موجودة في كتب العهدين على ما وصفه الله في القرآن.

ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى في ذيل الآية : وما كنت لديهم إذ يلقون « الخ ».

على أن النبي 6 وقومه كانوا اميين غير عالمين بهذه القصص ولا أنهم قرئوها في الكتب كما ذكره تعالى بعد سرد قصة نوح : (تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا ) هود ـ ٤٩ ، والوجه الأول أوفق بسياق الآية.

قوله تعالى : (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ) « الخ » ؛ القلم بفتحتين القدح الذي يضرب به القرعة ، ويسمى سهماً أيضاً ، وجمعه أقلام ، فقوله : يلقون أقلامهم أي يضربون بسهامهم ليعينوا بالقرعة أيهم يكفل مريم.

وفي هذه الجملة دلالة على أن الاختصام الذي يدل عليه قوله : (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) إنما هو اختصامهم وتشاحهم في كفالة مريم ، وأنهم لم يتناهوا حتى تراضوا بالاقتراع بينهم فضربوا بالقرعة فخرج السهم لزكريا فكفلها بدليل قوله : وكفلها زكريا ، الآية.

وربما احتمل بعضهم أن هذا الاختصام والاقتراع بعد كبرها وعجز زكريا عن كفالتها ، وكأن منشائه ذكر هذا الاقتراع والاختصام بعد تمام قصة ولادتها واصطفائها وذكر كفالة زكريا في أثنائها ، فيكونان واقعتين اثنتين.

وفيه أنه لا ضير في إعادة بعض خصوصيات القصة أو ما هو بمنزلة الإعادة لتثبيت الدعوى كما وقع نظيره في قصة يوسف حيث قال تعالى بعد تمام القصة ـ : (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) يوسف ـ ١٠٢ ، يشير بذلك إلى معنى قوله تعالى في أوائل القصة : (إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى


أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ـ إلى أن قال ـ : لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ) ـ يوسف ـ ١٠.

قوله تعالى : (إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ) « الخ » ، الظاهر أن هذه البشارة هي التى يشتمل عليها قوله تعالى في موضع آخر : (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً الآيات ) مريم ـ ١٩ ، فتكون البشارة المنسوبة إلى الملائكة هيهنا هي المنسوبة إلى الروح فقط هناك.

وقد قيل في وجهه أن المراد بالملائكة هو جبرئيل ، عبر بالجمع عن الواحد تعظيماً لأمره كما يقال : سافر فلان فركب الدواب وركب السفن ، وإنما ركب دابة واحدة وسفينة واحدة ، ويقال : قال له الناس كذا ، وإنما قاله واحد وهكذا ، ونظير الآية قوله في قصة زكريا السابقة ، فنادته الملائكة ثم قوله : قال : (كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء) الآية.

وربما قيل : إن جبرئيل كان معه غيره فاشتركوا في ندائها.

والذي يعطيه التدبر في الآيات التي تذكر شأن الملائكة أن بين الملائكة تقدماً وتأخراً من حيث مقام القرب ، وأن للمتأخر التبعية المحضة لأوامر المتقدم بحيث يكون فعل المتأخر رتبة ، عين فعل المتقدم ، وقوله عين قوله نظير ما نشاهده ونذعن به من كون أفعال قوانا وأعضائنا عين أفعالنا من غير تعدد فيه تقول : رأته عيناي وسمعته اذناي ، ورأيته وسمعته ، ويقال فعلته جوارحي وكتبته يدي ورسمته أناملي وفعلته. أنا وكتبته ، أنا وكذلك فعل المتبوع من الملائكة فعل التابعين له المؤتمرين لامره بعينه ، وقوله قولهم من غير اختلاف ، وبالعكس كما أن فعل الجميع فعل الله سبحانه وقولهم قوله ، كما قال تعالى : (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) الزمر ـ ٤٢ ، فنسب التوفي إلى نفسه ، وقال : (قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) السجدة ـ ١١ ، فنسبه إلى ملك الموت وقال : (حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا) الأنعام ـ ٦١ ، فنسبه إلى جمع من الملائكة.

ونظيره قوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) النساء ـ ١٦٣ ، وقوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ) الشعراء ـ ١٩٤ ، وقوله : (مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى


قَلْبِكَ) البقرة ـ ٩٧ ، وقوله : (كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ) عبس ـ ١٦.

فظهر أن بشارة جبرئيل هي عين بشارة من هو تحت أمره من جماعة الملائكة وهو من سادات الملائكة ومقربيهم على ما يدل عليه قوله تعالى : ( إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين ) التكوير ـ ٢١ ، وسيأتي زيادة توضيح لهذا الكلام في سورة فاطر انشاء الله تعالى.

ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى في الآية التالية : قال كذلك الله يفعل ما يشاء ، فإن ظاهره أن القائل هو الله سبحانه مع أنه نسب هذا القول في سورة مريم في القصة إلى الروح ، قال تعالى : (قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ الآيات ) مريم ـ ٢١.

وفي تكلم الملائكة والروح مع مريم دلالة على كونها محدثة بل قوله تعالى في سورة مريم في القصة بعينها : (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً) مريم ـ ١٧ ، يدل على معاينتها الملك زيادة على سماعها صوته ، وسيجيء تمام الكلام في المعنى في البحث الروائي الآتي إنشاء الله.

قوله تعالى : (بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) ؛ قد مر البحث في معنى كلامه تعالى في تفسير قوله : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) البقرة ـ ٢٥٣.

والكلمة والكلم كالتمرة والتمر جنس وفرد وتطلق الكلمة على اللفظ الواحد الدال على المعنى ، وعلى الجملة سواء صح السكوت عليها مثل زيد قائم أو لم يصح مثل إن كان زيد قائماً ، هذا بحسب اللغة ، وأما بحسب ما يصطلح عليه القرآن أعني الكلمة المنسوبة إلى الله تعالى فهي الذي يظهر به ما أراده الله تعالى من أمر نحو كلمة الإيجاد وهو قوله تعالى لشيء أراده : كن ، أو كلمة الوحي والإلهام ونحو ذلك.

وأما المراد بالكلمة فقد قيل : إن المراد به المسيح 7 من جهة أن من سبقه من الأنبياء أو خصوص أنبياء بني إسرائيل ؛ بشروا به بعنوان أنه منجي بني إسرائيل يقال في نظير المورد هذه كلمتي التي كنت أقولها ونظيره قوله تعالى في ظهور موسى


7: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ) الأعراف ـ ١٣٧ ، وفيه أن ذلك وإن كان ربما ساعده كتب العهدين لكن القرآن الكريم خال عن ذلك بل القرآن يعد عيسى بن مريم مبشراً لا مبشراً به ، على أن سياق قوله : اسمه المسيح لا يناسبه فإن الكلمة على هذا ظهور عيسى المخبر به قبلاً لا نفس عيسى ، وظاهر قوله : اسمه المسيح ، أن المسيح اسم الكلمة لا اسم من تقدمت في حقه الكلمة.

وربما قيل إن المراد به عيسى 7 لايضاحه مراده تعالى بالتوراة ، وبيانه تحريفات اليهود وما اختلفوا فيه من امور الدين كما حكى الله تعالى عنه ذلك فيما يخاطب به بني إسرائيل : (وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) الزخرف ـ ٦٣ ، وفيه أنه نكتة تصحح هذا التعبير لكنها خالية عما يساعدها من القرائن.

وربما قيل : إن المراد بكلمة منه البشارة نفسها ، وهي الإخبار بحملها بعيسى وولادته فمعنى قوله : (يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ) يبشرك ببشارة هي أنك ستلدين عيسى من غير مس بشر ، وفيه أن سياق الذيل أعني قوله : اسمه المسيح ، لا يلائمه وهو ظاهر.

وربما قيل : إن المراد به عيسى 7 من جهة كونه كلمة الإيجاد أعني قوله : كن وإنما اختص عيسى 7 بذلك مع كون كل إنسان بل كل شيء موجوداً بكلمة كن التكوينية لأن سائر الأفراد من الإنسان يجري ولادتهم على مجرى الأسباب العادية المألوفة في العلوق من ورود ماء الرجل على نطفة الإناث ، وعمل العوامل المقارنة في ذلك ، ولذلك يسند العلوق إليه كما يسند سائر المسببات إلى أسبابها ، ولما لم يجر علوق عيسى هذا المجرى وفقد بعض الأسباب العادية التدريجية كان وجوده بمجرد كلمة التكوين من غير تخلل الأسباب العادية فكان نفس الكلمة كما يؤيده قوله تعالى : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ) النساء ـ ١٧١ ، وقوله تعالى في آخر هذه الآيات : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الآية ) ، وهذا أحسن الوجوه.

والمسيح هو الممسوح سمي به عيسى 7 لأنه كان مسيحاً باليمن والبركه أو لأنه مسح بالتطهير من الذنوب ، أو مسح بدهن زيت بورك فيه وكانت الأنبياء يمسحون


به أو لأن جبرائيل مسحه بجناحه حين ولادته ليكون عوذة من الشيطان ، أو لأنه كان يمسح رؤوس اليتامى ، أو لأنه كان يمسح عين الأعمى بيده فيبصر ، أو لأنه كان لا يمسح ذا عاهه بيده إلا برء ، فهذه وجوه ذكروها في تسميته بالمسيح.

لكن الذي يمكن أن يعول عليه أن هذا اللفظ كان واقعاً في ضمن البشارة التي بشر بها جبرائيل مريم 3 على ما يحكيه تعالى بقوله إن : (يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) ، وهذا اللفظ بعينه معرب ( مشيحا ) الواقع في كتب العهدين.

والذي يستفاد منها أن بني إسرائيل كان من دأبهم أن الملك منهم إذا قام بأمر الملك مسحته الكهنة بالدهن المقدّس ليبارك له في ملكه فكان يسمى مشيحاً فمعناه : إما الملك وإما المبارك.

وقد يظهر من كتبهم أنه : إنما سمي مشيحاً من جهة كون بشارته متضمناً لملكه ، وأنه سيظهر في بني إسرائيل ملكاً عليهم منجياً لهم كما يلوح ذلك من إنجيل لوقا في بشارة مريم ، قال : فلما دخل إليها الملك قال السلام لك يا ممتلية نعمة الرب معك مباركة أنت في النساء ، فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت ما هذا السلام ، فقال لها الملك لا تخافي يا مريم فقد ظفرت بنعمة من عند الله ، وأنت تحبلين وتلدين ابناً وتدعين اسمه يسوع ، هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى ويعطيه الرب له كرسي داود أبيه ، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه انقضاء لوقا ١ ـ ٣٤.

ولذلك تتعلل اليهود عن قبول نبوته بأن البشارة لاشتمالها على ملكه لا تنطبق على عيسى 7 لأنه لم ينل الملك أيام دعوته وفي حيوته ، ولذلك أيضاً ربما وجهته النصارى وتبعه بعض المفسرين من المسلمين بأن المراد بملكه الملك المعنوي دون الصوري.

أقول : وليس من البعيد أن يقال : إن تسميته بالمسيح في البشارة بمعنى كونه مباركاً فإن التدهين عندهم إنما كان للتبريك ، ويؤيده قوله تعالى : (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ) مريم ـ ٣١.

وعيسى أصله يشوع ، فسروه بالمخلص وهو المنجي ، وفي بعض الأخبار تفسيره بيعيش وهو أنسب من جهة تسمية ابن زكريا بيحيى على ما مر من المشابهة التامة بين


هذين النبيين.

وتقييد عيسى بابن مريم مع كون الخطاب في الآية لمريم للتنبيه على أنه مخلوق من غير أب ، ويكون معروفاً بهذا النعت ، وأن مريم شريكته في هذه الآية كما قال تعالى : (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ) الأنبياء ـ ٩١.

قوله تعالى : (وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) ، الوجاهة هي المقبولية ، وكونه 7 مقبولاً في الدنيا مما لاخفاء فيه ، وكذا في الآخرة بنص القرآن.

ومعنى المقربين ظاهر فهو مقرب عند الله داخل في صف الأولياء والمقربين من الملائكة من حيث التقريب كما ذكره تعالى بقوله : (لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) النساء ـ ١٧٢ ، وقد عرف تعالى معنى التقريب بقوله : ( إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ـ إلى أن قال ـ : وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً ـ إلى أن قال ـ : وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) الواقعة ـ ١١ ، والآية كما ترى تدل على أن هذا التقرب وهو تقرب إلى الله سبحانه حقيقته سبق الإنسان سائر أفراد نوعه في سلوك طريق العود إلى الله الذي سلوكه مكتوب على كل إنسان بل كل شيء قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ ) الانشقاق ـ ٦ ، وقال تعالى : (أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) الشورى ـ ٥٣.

وأنت إذا تأملت كون المقربين صفة الأفراد من الإنسان وصفة الأفراد من الملائكة علمت أنه لا يلزم أن يكون مقاماً اكتسابياً فإن الملائكة لا يحرزون ما أحرزوه من المقام عند الله سبحانه بالكسب فلعله مقام تناله المقربون من الملائكة بهبة إلهيه والمقربون من الإنسان بالعمل.

وقوله وجيهاً في الدنيا والآخرة ، حال وكذا ما عطف عليه من قوله : ومن المقربين ، ويكلم اه ، ومن الصالحين ، ويكلمه اه ، رسولاً اه.

قوله تعالى : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ) ، المهد ما يهياً للصبي من الفراش ، والكهل من الكهولة وهو ما بين الشباب والشيخوخة ، وهو ما يكون الإنسان فيه رجلاً تاماً قوياً ، ولذا قيل : الكهل من وخطه الشيب أي خالطه ، وربما قيل : إن الكهل من بلغ أربعاً وثلاثين.


وكيف كان ففيه دلالة على أنه سيعيش حتى يبلغ سن الكهولة ففيه بشارة اخرى لمريم.

وفي التصريح بذلك مع دلالة الأناجيل على أنه لم يعش في الأرض أكثر من ثلاث وثلاثين سنة نظر ينبغي أن يمعن فيه ، ولذا ربما قيل إن تكليمه للناس كهلاً إنما هو بعد نزوله من السماء فإنه لم يمكث في الأرض ما يبلغ به سن الكهولة ، وربما قيل : إن الذي يعطيه التاريخ بعد التثبت أن عيسى 7 عاش نحواً من أربع وستين سنه خلافاً لما يظهر من الأناجيل.

والذي يظهر من سياق قوله : في المهد وكهلاً ، أنه لا يبلغ سن الشيخوخة ، وإنما ينتهي إلى سن الكهولة ؛ وعلى هذا فقد أخذ في البيان كلامه في طرفي عمره ، الصبي والكهولة.

والمعهود من وضع الصبي في المهد أن يوضع فيه أوائل عمره ما دام في القماط قبل أن يدرج ويمشي وهو في السنة الثانية فما دونها غالباً ، وهو سن الكلام فكلام الصبي في المهد وإن لم يكن في نفسه من خوارق العادة لكن ظاهر الآية أنه يكلم الناس في المهد كلاماً تاماً يعتني به العقلاء من الناس كما يعتنون بكلام الكهل ، وبعبارة أُخرى يكلمهم في المهد كما يكلمهم كهلاً ، والكلام من الصبي بهذه الصفة آية خارقة.

على أن القصة في سورة مريم تبين أن تكليمه الناس إنما كان لأول ساعة أتت به مريم إلى الناس بعد وضعه وكلام الصبي لأول يوم ولادته آية خارقة لا محالة ، قال تعالى : (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ الآيات ) مريم ـ ٣١.

قوله تعالى : (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي) بشر ، خطابها لربها مع كون المكلم إياها الروح المتمثل بنائاً على ما تقدم أن خطاب الملائكة وخطاب الروح وكلامهم كلام الله سبحانه فقد كانت تعلم أن الذي يكلمها هو الله سبحانه وإن كان الخطاب متوجهاً إليها من جهة الروح المتمثل أو الملائكة ولذلك خاطبت ربها.


ويمكن أن يكون الكلام من قبيل قوله تعالى : (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) المؤمنون ـ ٩٩ ، فهو من الاستغاثة المعترضة في الكلام.

قوله سبحانه : قال كذلك الله يفعل ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون قد مرت الإشارة إلى أن تطبيق هذا الجواب بما في سورة مريم من قوله : (قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً ) مريم ـ ٢١ ، يفيد أن يكون قوله هيهنا : كذلك كلاماً تاماً تقديره : الأمر كذلك ومعناه أن الذي بشرت به أمر مقضي لا مرد له.

وأما التعجب من هذا الأمر فإنما يصح لو كان هذا الأمر مما لا يقدر عليه الله سبحانه أو يشق : أما القدرة فإن قدرته غير محدودة يفعل ما يشاء ، وأما صعوبته ومشقته فإن العسر والصعوبة إنما يتصور إذا كان الأمر مما يتوسل إليه بالأسباب فكلما كثرت المقدمات والأسباب وعزت وبعد منالها اشتد الأمر صعوبة ، والله سبحانه لا يخلق ما يخلق بالأسباب بل إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون.

فقد ظهر أن قوله : كذلك كلام تام أُريد به رفع اضطراب مريم وتردد نفسها ، وقوله : الله يخلق ما يشاء ، رفع العجز الذي يوهمه التعجب ، وقوله : إذا قضى ، رفع لتوهم العسر والصعوبة.

قوله تعالى : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ) ، اللام في الكتاب والحكمة للجنس ، وقد مر أن الكتاب هو الوحي الرافع لاختلافات الناس ؛ والحكمة هي المعرفة النافعة المتعلقة بالاعتقاد أو العمل ، وعلى هذا فعطف التوراة والإنجيل على الكتاب والحكمة مع كونهما كتابين مشتملين على الحكمة من قبيل ذكر الفرد بعد الجنس لاهمية في اختصاصه بالذكر ، وليست لام الكتاب للاستغراق لقوله تعالى : (وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) الزخرف ـ ٦٣ ، وقد مر بيانه.

وأما التوراة فالذي يريده القرآن منها هو الذي نزله الله على موسى 7 في الميقات في ألواح على ما يقصه الله سبحانه في سورة الأعراف ؛ وأما الذي عند اليهود من الأسفار فهم معترفون بانقطاع اتصال السند ما بين بختنصر من ملوك بابل وكورش


من ملوك الفرس ، غير أن القرآن يصدق أن التوراة الموجود بأيديهم في زمن النبي 6 غير مخالفة للتوراة الأصل بالكلية وإن لعبت بها يد التحريف ؛ ودلالة آيات القرآن على ذلك واضحة.

وأما الإنجيل ومعناه البشارة فالقرآن يدل على أنه كان كتاباً واحداً نازلاً على عيسى فهو الوحي المختص به ، قال تعالى : (وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ) آل عمران ـ ٤ ، وأما هذه الأناجيل المنسوبة إلى متى ومرقس ولوقا ويوحنا فهي كتب مؤلفة بعده 7.

ويدل أيضاً على أن الأحكام إنما هي في التوراة ، وأن الإنجيل لا تشتمل إلا على بعض النواسخ كقوله في هذه الآيات : (مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ) الآية ، وقوله : (وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ ) ، المائدة ـ ٤٧ ، ولا يبعد أن يستفاد من الآية أن فيه بعض الأحكام الاثباتية.

ويدل أيضاً على أن الإنجيل مشتمل على البشارة بالنبي 6 كالتوراة ، قال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ) الأعراف ـ ١٥٧.

قوله تعالى : (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) ؛ ظاهره أنه 7 كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل خاصة كما هو اللائح من الآيات في حق موسى 7 ، وقد مر في الكلام على النبوة في ذيل قوله تعالى : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ الآية ) البقرة ـ ٢١٣ ، أن عيسى 7 كموسى من أُولي العزم وهم مبعوثون إلى أهل الدنيا كافة.

لكن العقدة تنحل بما ذكرناه هناك في الفرق بين الرسول والنبي أن النبوة هي منصب البعث والتبليغ ، والرسالة هي السفارة الخاصة التي تستتبع الحكم والقضاء بالحق بين الناس ؛ إما بالبقاء والنعمة ، أو بالهلاك كما يفيده قوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ) يونس ـ ٤٧.

وبعبارة اخرى النبي هو الإنسان المبعوث لبيان الدين للناس ، والرسول هو المبعوث لاداء بيان خاص يستتبع رده الهلاك وقبوله البقاء والسعادة كما يؤيده بل


يدل عليه ما حكاه الله سبحانه من مخاطبات الرسل لأممهم كنوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم :.

وإذا كان كذلك لم يستلزم الرسالة إلى قوم خاص البعثة إليهم وكان من الممكن أن يكون الرسول إلى قوم خاص نبياً مبعوثاً إليهم وإلى غيرهم كموسى وعيسى 8.

وعلى ذلك شواهد من القرآن الكريم كرسالة موسى إلى فرعون ، قال تعالى : (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) طه ـ ٢٤ ، وإيمان السحرة لموسى وظهور قبول إيمانهم ولم يكونوا من بني إسرائيل ، قال تعالى : (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ) طه ـ ٧٠ ، ودعوة قوم فرعون ، قال تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ) الدخان ـ ١٧ ، ونظير ذلك ما كان من أمر إيمان الناس بعيسى فلقد آمن به 7 قبل بعثة النبي 6 الروم وأُمم عظيمة من الغربيين كالإفرنج والنمسا والبروس وإنجلترا وأمم من الشرقيين كنجران وهم جميعهم ليسوا من بني إسرائيل ؛ والقرآن لم يخص ـ فيما يذكر فيه النصارى ـ نصارى بني إسرائيل خاصة بالذكر بل يعمم مدحه أو ذمه الجميع.

قوله تعالى : (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ ) ـ إلى قوله ـ : واحيي الموتى بإذن الله ، الخلق جمع أجزاء الشيء وفيه نسبة الخلق إلى غيره تعالى كما يشعر به أيضاً قوله تعالى : (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) المؤمنون ـ ١٤.

والأكمه هو الذي يولد مطموس العين ؛ وقد يقال لمن تذهب عينه ، قال : كمهت عيناه حتى ابيضتا ؛ قاله الراغب ، والأبرص من كان به برص وهو مرض جلدى معروف.

وفي قوله : واحيي الموتى حيث علق الإحياء بالموتى وهو جمع دلالة ولا أقل من الإشعار بالكثرة والتعدد.

وكذا قوله بإذن الله ، سيق للدلالة على أن صدور هذه الآيات المعجزة منه 7 مستند إلى الله تعالى من غير أن يستقل عيسى 7 بشيء من ذلك ، وإنما كرر تكراراً يشعر بالإصرار لما كان من المترقب أن يضل فيه الناس فيعتقدوا بالوهيته


استدلالاً بالآيات المعجزة الصادرة عنه 7 ، ولذا كان يقيد كل آية يخبر بها عن نفسه مما يمكن أن يضلوا به كالخلق وإحياء الموتى بإذن الله ثم ختم الكلام بقوله : إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ.

وظاهر قوله : أني أخلق لكم « الخ » أن هذه الآيات كانت تصدر عنه صدوراً خارجياً لا أن الكلام مسوق لمجرد الاحتجاج والتحدي ، ولو كان مجرد قول لقطع العذر وإتمام الحجة لكان من حق الكلام أن يقيد بقيد يفيد ذلك كقولنا : إن سألتم أو أردتم أو نحو ذلك.

على أن ما يحكيه الله سبحانه من مشافهته لعيسى يوم القيامة يدل على وقوع هذه الآيات أتم الدلالة ؛ قال : إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك ـ إلى إن قال ـ : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى الآية ) المائدة ـ ١١٠.

ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم : أن قصارى ما تدل عليه الآية أن الله سبحانه جعل في عيسى بن مريم هذا السر ، وأنه احتج على الناس بذلك ، وأتم الحجة عليهم بحيث لو سألوه شيئاًً من ذلك لأتى به ؛ أما أن كلها أو بعضها وقع فلا دلالة فيها على ذلك.

قوله تعالى : (وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ) ، وهذا إخبار بالغيب المختص بالله تعالى ، ومن خصه من رسله بالوحي ؛ وهو آية اخرى وإخبار بغيب صريح التحقق لا يتطرق إليه الشك والريب فإن الإنسان لا يشك عادة فيما أكله ولا فيما ادخره في بيته.

وإنما لم يقيد هذه الآية بإذن الله مع أن الآية لا تتحقق إلا بإذن منه تعالى كما قال : (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ) المؤمن ـ ٧٨ ، لأن هذه الآية عبر عنها بالانباء وهو كلام قائم بعيسى 7 يعد فعلاً له فلا يليق أن يسند إلى ساحة القدس بخلاف الآيتين السابقتين أعني الخلق والاحياء فإنها فعل الله بالحقيقة ولا ينسبان إلى غيره إلا بإذنه.

على أن الآيتين المذكورتين ليستا كالإنباء فإن الضلال إلى الناس فيهما أسرع منه


في الإنباء فإن القلوب الساذجة تقبل الوهية خالق الطير ومحيي الموتى بأدنى وسوسة ومغلطة بخلاف الوهية من يخبر بالمغيبات فإنها لا تذعن باختصاص الغيب بالله سبحانه بل تعتقده أمراً مبتذلاً جايز النيل لكل مرتاض أو كاهن مشعبذ فكان من الواجب عند مخاطبتهم أن يقيد الآيتين المذكورتين بالإذن دون الأخيرة ، وكذا الإبراء فيكفي فيها مجرد ذكر أنها آية من الله ، وخاصة إذا القي الخطاب إلى قوم يدعون أنهم مؤمنون ، ولذلك ذيل الكلام بقوله : إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ أي إن كنتم صادقين في دعويكم الإيمان.

قوله تعالى : (وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ) ، عطف على قوله : ورسولاً إلى بني إسرائيل ، وكون المعطوف مبنياً على التكلم مع كون المعطوف عليه مبنياً على الغيبة أعني كون عيسى 7 في قوله : ومصدقاً لما بين يدي متكلماً وفي قوله : ورسولاً إلى بني إسرائيل ، غائباً ليس مما يضر بالعطف بعد تفسير قوله : ورسولاً إلى بني إسرائيل ، بقول عيسى : أني قد جئتكم ، فإن وجه الكلام يتبدل بذلك من الغيبة إلى الحضور فيستقيم به العطف.

وتصديقه للتوراة التي بين يديه إنما هو تصديق لما علمه الله من التوراة على ما تفيده الآية السابقة ، وهو التوراة الأصل النازلة على موسى 8 فلا دلالة لكونه مصدقاً للتوراة التي في زمانه على كونها غير محرفة كما لا دلالة لتصديق نبينا محمد 6 للتوراة التي بين يديه على كونها غير محرفة.

قوله تعالى : ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم ، فإن الله تعالى كان حرم عليهم بعض الطيبات ، قال تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ الآية ) النساء ـ ١٦٠.

والكلام لا يخلو عن دلالة على إمضائه 7 لأحكام التوراة إلا ما نسخه الله تعالى بيده من الأحكام الشاقة المكتوبة على اليهود ؛ ولذا قيل ان الإنجيل غير مشتمل على الشريعة ، وقوله : ولاحل ، معطوف على قوله : بآية من ربكم ، واللام للغاية ، والمعنى : قد جئتكم لأنسخ بعض الأحكام المحرمة المكتوبة عليكم.

قوله تعالى : (وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ) ؛ الظاهر أنه لبيان أن قوله : فَاتَّقُواْ اللّهَ


وَأَطِيعُونِ ، متفرع على إتيان الآية لا على إحلال المحرمات فهو لدفع الوهم ، ويمكن أن يكون هو مراد من قال : إن إعادة الجملة للتفرقة بين ما قبلها وما بعدها فإن مجرد التفرقة ليست من المزايا في الكلام.

قوله تعالى : (إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) ، فيه قطع لعذر من اعتقد الوهيته لتفرسه 7 ذلك منهم أو لعلمه بذلك بالوحي كما ذكرنا نظير ذلك في تقييد قوله : فيكون طيراً ، وقوله واحيي الموتى ، بقوله : بإذن الله لكن الظاهر من قوله تعالى فيما يحكى قول عيسى 7 : (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) المائدة ـ ١١٧ ، أن ذلك كان بأمر من ربه ووحي منه.

قوله تعالى : (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ) ؛ لما كانت البشارة التي بشر بها مريم مشتملة على جمل قصص عيسى 7 من حين حمله إلى حين رسالته ودعوته اقتصر عليها اقتصاصاً إيجازاً في الكلام وفرع عليها تتمة الجملة من قصته وهو انتخابه حوارييه ومكر قومه به ومكر الله بهم في تطهيره منهم وتوفيه ورفعه إليه ، وهو تمام القصة.

وقد اعتبر في القصة المقدار الذي يهم إلقائه إلى النصارى حين نزول الآيات ، وهم نصارى نجران : الوفد الذين أتوا المدينة للبحث الاحتجاج ، ولذلك اسقط منها بعض الخصوصيات التي تشتمل عليه قصصه المذكورة في سائر السور القرآنية كسورة النساء والمائدة والأنبياء والزخرف والصف.

وفي استعمال لفظ الإحساس في مورد الكفر مع كونه أمراً قلبياً إشعار بظهوره منهم حتى تعلق به الاحساس أو أنهم هموا بإيذائه وقتله بسبب كفرهم فاحس به فقوله ، فلما أحس عيسى أي استشعر واستظهر منهم أي من بني إسرائيل المذكور اسمهم في البشارة الكفر قال من أنصاري إلى الله ؟ وإنما أراد بهذا الاستفهام أن يتميز عدة من رجال قومه فيتمحضوا للحق ـ فتستقر فيهم عدة الدين ، وتتمركز فيهم قوته ثم تنتشر من عندهم دعوته ، وهذا شأن كل قوة من القوى الطبيعية والاجتماعية وغيرها ، إنها إذا شرعت في الفعل ونشر التأثير وبث العمل كان من اللازم أن تتخذ لنفسها كانوناً تجتمع فيه وتعتمد عليه وتستمد منه ولو لا ذلك لم تستقر على عمل ، وذهبت سدى لا تجدي نفعاً.


ونظير ذلك في دعوة الإسلام بيعة العقبة وبيعة الشجرة أراد بها رسول الله 9 ركوز القدرة وتجمع القوة ليستقيم به أمر الدعوة.

فلما أيقن عيسى 7 أن دعوته غير ناجحة في بني إسرائيل كلهم أوجلهم ، وأنهم كافرون به لا محالة ، وأنهم لو أخمدوا أنفاسه بطلت الدعوة واشتدت المحنة مهد لبقاء دعوته هذا التمهيد فاستنصر منهم للسلوك إلى الله سبحانه فأجابه الحواريون على ذلك فتميزوا من سائر القوم بالإيمان فكان ذلك أساساً لتميز الإيمان من الكفر وظهوره عليه بنشر الدعوة وإقامة الحجة كما قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) الصف ـ ١٤.

وقد قيد الأنصار في قوله : من أنصاري بقوله : إلى الله ليتم به معنى التشويق والتحريص الذي سيق لأجله هذا الاستفهام نظير قوله تعالى : (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً ) البقرة ـ ٢٤٥.

والظرف متعلق بقوله : أنصاري ، بتضمين النصرة معنى السلوك والذهاب أو ما يشابههما كما حكى عن إبراهيم 7 من قوله : (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) الصافات ـ ٩٩.

وأما ما احتمله بعض المفسرين من كون إلى بمعنى مع فلا دليل عليه ولا يساعد أدب القرآن أن يجعله تعالى في عداد غيره فيعد غير الله ناصراً كما يعده ناصراً ، ولا يساعد عليه أدب عيسى 7 اللائح مما يحكيه القرآن من قوله ، على أن قوله تعالى : قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ ، أيضاً لا يساعد عليه إذ كان من اللازم على ذلك أن يقولوا : نحن أنصارك مع الله فليتأمل.

قوله تعالى : (قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) ؛ حواري الإنسان من اختص به من الناس ، وقيل أصله من الحور وهو شدة البياض ؛ ولم يستعمل القرآن هذا اللفظ إلا في خواص عيسى 7 من أصحابه.

وقولهم : آمنا بالله ، بمنزل التفسير لقولهم : نحن أنصار الله وهذا مما يؤيد كون


قوله : أنصاري إلى الله جارياً مجرى التضمين كما مر فإنه يفيد معنى السلوك في الطريق إلى الله ، والإيمان طريق.

وهل هذا أول إيمانهم بعيسى 7 ربما استفيد من قوله تعالى : (كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ ) الصف ـ ١٤ ، أنه إيمان بعد إيمان ، ولا ضير فيه كما يظهر بالرجوع إلى ما أوضحناه من كون الإيمان والإسلام ذوي مراتب مختلفة بعضها فوق بعض.

بل ربما دل قوله تعالى : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ) المائدة ـ ١١١ ، أن إجابتهم إنما كانت بوحي من الله تعالى إليهم ، وأنهم كانوا أنبياء فيكون الإيمان الذي أجابوه به هو الإيمان بعد الإيمان.

على أن قولهم : وأشهد بأننا مسلمون : (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) ، وهذا الإسلام هو التسليم المطلق لجميع ما يريده الله تعالى منهم وفيهم ـ يدل أيضاً على ذلك فإن هذا الإسلام لا يتأتى إلا من خلص المؤمنين لا من كل من شهد بالتوحيد والنبوة مجرد شهادة ، بيان ذلك أنه قد مر في البحث عن مراتب الإيمان والإسلام : أن كل مرتبة من الإيمان تسبقها مرتبة من مراتب الإسلام كما يدل عليه قولهم : آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون ، حيث أتوا في الإيمان بالفعل وفي الإسلام بالصفة فأول مراتب الإسلام هو التسليم والشهادة على أصل الدين إجمالاً ، ويتلوه الاذعان القلبي بهذه الشهادة الصورية في الجملة ، ويتلوه ( وهو المرتبة الثانية من الإسلام ) التسليم القلبي لمعنى الإيمان وينقطع عنده السخط والاعتراض الباطني بالنسبة إلى جميع ما يأمر به الله ورسوله وهو الاتباع العملي في الدين ، ويتلوه ( وهو المرتبة الثانية من الإيمان ) خلوص العمل واستقرار وصف العبودية في جميع الأعمال والأفعال ويتلوه ( وهو المرتبة الثالثة من الإسلام ) التسليم لمحبة الله وإرادته تعالى فلا يحب ولا يريد شيئاًً إلا بالله ، ولا يقع هناك إلا ما أحبه الله وأراده ولا خبر عن محبة العبد وإرادته في نفسه ، ويتلوه ( وهو المرتبة الثالثة من الإيمان ) شيوع هذا التسليم العبودي في جميع الأعمال.

فإذا تذكرت هذا الذي ذكرناه ، وتأملت في قوله 7 فيما نقل من دعوته : (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) الآية ، وجدت أنه 7 أمر أولاً بتقوى الله وإطاعة نفسه ثم علل ذلك بقوله : إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ،


أي إن الله ربكم معشر الامة ورب رسوله الذي أرسله اليكم ، فيجب عليكم أن تتقوه بالإيمان ، وأن تطيعوني بالاتباع ، وبالجملة يجب عليكم أن تعبدوه بالتقوى وطاعة الرسول أي الإيمان والاتباع ، فهذا هو المستفاد من هذا الكلام ، ولذا بدّل التقوى والإطاعة في التعليل من قوله : فاعبدوه وإنما فعل ذلك ليتضح ارتباط الأمر بالله لظهور الارتباط به في العبودية ثم ذكر أن هذه العبادة صراط مستقيم فجعله سبيلاً ينتهي بسالكه إلى الله سبحانه.

ثم لما أحس منهم الكفر ولاحت أسباب اليأس من إيمان عامتهم قال من أنصاري إلى الله فطلب أنصاراً لسلوك هذا الصراط المستقيم الذي كان يندب إليه ، وهو العبودية أعني التقوى والإطاعة فأجابه الحواريون بعين ما طلبه فقالوا : نحن أنصار الله ، ثم ذكروا ما هو كالتفسير له فقالوا : آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون ، ومرادهم بالإسلام إطاعته وتبعيته ، ولذا لما خاطبوا ، ربهم خطاب تذلل والتجاء ، وذكروا له ما وعدوا به عيسى 7 قالوا : (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) ، فبدلوا الإسلام من الاتباع ، ووسعوا في الإيمان بتقييده بجميع ما أنزل الله.

فأفاد ذلك أنهم آمنوا بجميع ما أنزل الله مما علمه عيسى بن مريم من الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ، واتبعوا الرسول في ذلك ، وهذا كما ترى ليس أول درجة من الإيمان بل من أعلى درجاته وأسماها.

وإنما استشهدوا عيسى 7 في إسلامهم واتباعهم ولم يقولوا : آمنا بالله وإنا مسلمون أو ما يفيد معناه ليكونوا على حجة في عرضهم حالهم على ربهم إذ قالوا : ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول ، فكأنهم قالوا : ربنا حالنا هذا الحال ، ويشهد بذلك رسولك.

قوله تعالى : (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) ، مقول قول الحواريين حذف القول من اللفظ للدلالة على حكاية نفس الواقعة وهو من الأساليب اللطيفة في القرآن الكريم ، وقد مر بيانه ، وقد سألوا ربهم أن يكتبهم من الشاهدين ، وفرّعوا ذلك على إيمانهم وإسلامهم جميعاً لأن تبليغ الرسول رسالته إنما يتحقق ببيانه ما أنزله الله عليه قولاً وفعلاً ، أي بتعليمه معالم الدين وعمله بها ، فالشهادة على التبليغ


إنما يكون بتعلمها من الرسول واتباعه عملاً حتى يشاهد أنه عامل بما يدعو إليه لا يتخطاه ولا يتعداه.

والظاهر أن هذه الشهادة هي التي يومي إليها قوله تعالى : (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) الأعراف ـ ٦ ، وهي الشهادة على التبليغ ، وأما قوله تعالى : (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) المائدة ـ ٨٣ ، فهو شهادة على حقية رسالة الرسول دون التبليغ ، والله أعلم.

وربما أمكن أن يستفاد من قولهم ، فاكتبنا مع الشاهدين بعد استشهادهم الرسول على إسلامهم أن المسئول : أن يكتبهم الله من شهداء الأعمال كما يلوح ذلك مما حكاه الله تعالى في دعاء إبراهيم وإسمعيل 8 : (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ) البقرة ـ ١٢٨ ، وليرجع إلى ما ذكرناه في ذيل الآية.

قوله تعالى : (وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) ، الماكرون هم بنو إسرائيل ، بقرينة قوله : فلما أحس عيسى منهم الكفر ، وقد مر الكلام في معنى المكر المنسوب إليه تعالى في ذيل قوله : (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ) البقرة ـ ٢٦.

قوله تعالى : (إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ) ، التوفي أخذ الشيء أخذاً تاماً ولذا يستعمل في الموت لأن الله يأخذ عند الموت نفس الإنسان من بدنه قال تعالى : ( توفته رسلنا ) الأنعام ـ ٦١ ، أي أماتته ، وقال تعالى : (وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ـ إلى أن قال ـ : قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) السجدة ـ ١١ ، وقال تعالى : (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى ) الزمر ـ ٤٢ ، والتأمل في الآيتين الأخيرتين يعطي أن التوفي لم يستعمل في القرآن بمعنى الموت بل بعناية الأخذ والحفظ ، وبعبارة اخرى إنما استعمل التوفي بما في حين الموت من الأخذ للدلالة على أن نفس الإنسان لا يبطل ولا يفني بالموت الذي يظن الجاهل أنه فنآء وبطلان بل الله تعالى يحفظها حتى يبعثها للرجوع إليه ، وإلا فهو سبحانه يعبر في الموارد التي لا تجري فيه هذه العناية بلفظ الموت دون التوفي كما في قوله تعالى : (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ


مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) آل عمران ـ ١٤٤ ، وقوله تعالى : (لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ) الفاطر ـ ٣٦ ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جداً حتى ما ورد في عيسى 7 بنفسه كقوله : (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ) مريم ـ ٣٣ ، وقوله : (وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) النساء ـ ١٥٩ ، فمن هذه الجهة لا صراحة للتوفي في الموت.

على أن قوله تعالى في رد دعوى اليهود : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) النساء ـ ١٥٩ ، يؤيد ذلك فإن اليهود كانت تدعى أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم 7 وكذلك كانت تظن النصارى أن اليهود قتلت عيسى بن مريم 7 بالصلب غير أنهم كانوا يزعمون أن الله سبحانه رفعه بعد قتله من قبره إلى السماء على ما في الأناجيل والآيات كما ترى تكذب قصة القتل والصلب صريحاً.

والذي يعطيه ظاهر قوله : وإن من أهل الكتاب الآية أنه حي عند الله ولن يموت حتى يؤمن به أهل الكتاب ، عليهذا فيكون توفيه 7 أخذه من بين اليهود لكن الآية مع ذلك غير صريحة فيه وإنما هو الظهور ، وسيجيء تمام الكلام في ذلك في آخر سورة النساء.

قوله تعالى : (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ) ، الرفع خلاف الوضع ، والطهارة خلاف القذارة ، وقد مر الكلام في معنى الطهارة.

وحيث قيد الرفع بقوله : إلي ، أفاد ذلك أن المراد بالرفع الرفع المعنوي دون الرفع الصوري إذ لا مكان له تعالى من سنخ الأمكنة الجسمانية التي تتعاورها الأجسام والجسمانيات بالحلول فيها ، والقرب والبعد منها ، فهو من قبيل قوله تعالى في ذيل الآية : ثم إلى مرجعكم ، وخاصة لو كان المراد بالتوفي هو القبض لظهور أن المراد حينئذ هو رفع الدرجة والقرب من الله سبحانه ، نظير ما ذكره تعالى في حق المقتولين في سبيله : (أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ) آل عمران ـ ١٦٩ ، وما ذكره في حق إدريس 7 : (وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً ) مريم ـ ٥٧.


وربما يقال : إن المراد برفعه إليه رفعه بروحه وجسده حياً إلى السماء على ما يشعر به ظاهر القرآن الشريف أن السماء أي الجسمانية هي مقام القرب من الله سبحانه ، ومحل نزول البركات ، ومسكن الملائكة المكرمين ، ولعلنا نوفق للبحث عن معنى السماء فيما سيأتي إنشاء الله تعالى.

والتطهير من الكافرين حيث أُتبع به الرفع إلى الله سبحانه أفاد معنى التطهير المعنوي دون الظاهري الصوري ، فهو إبعاده من الكفار وصونه عن مخالطتهم والوقوع في مجتمعهم المتقذر بقذارة الكفر والجحود.

قوله تعالى : (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) ، وعد منه تعالى له 7 أنه سيفوّق متبعي عيسى 7 على مخالفيه الكافرين بنبوته ، وأن تفوقهم هذا سيدوم إلى يوم القيامة ، وإنما ذكر تعالى في تعريف هؤلاء الفائقين على غيرهم أن الفائقين هم الذين اتبعوه وأن غيرهم هم الذين كفروا من غير أن يقول هم بنو إسرائيل أو اليهود المنتحلون بشريعة موسى 7 أو غير ذلك.

غير أنه تعالى لما أخذ الكفر في تعريف مخالفيه ظهر منه أن المراد باتباعه هو الاتباع على الحق أعني الاتباع المرضي لله سبحانه فيكون الذين اتبعوه هم أتباعه المستقيمون من النصارى قبل ظهور الإسلام ونسخه دين عيسى ، والمسلمون بعد ظهور الإسلام فإنهم هم أتباعه على الحق ، وعلى هذا فالمراد بالتفوق هو التفوق بحسب الحجة دون السلطنة والسيطرة ، فمحصل معنى الجملة : أن متبعيك من النصارى والمسلمين ستفوق حجتهم على حجة الكافرين بك من اليهود إلى يوم القيامة ، هذا ما ذكره وارتضاه المفسرون في معنى الآية.

والذي أراه أن الآية لا تساعد عليه لا بلفظها ولا بمعناها فإن ظاهر قوله إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك : (مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) ، أنه إخبار عن المستقبل وأنه سيتحقق فيما يستقبل حال التكلم توف ورفع وتطهير وجعل على أن قوله ، وجاعل الذين اتبعوك ، وعد حسن وبشرى ، وما هذا شأنه لا يكون إلا في ما سيأتي ، ومن المعلوم أن ليست حجة متبعي عيسى 7 إلا حجة عيسى نفسه ، وهي التي ذكرها الله تعالى في ضمن آيات البشارة أعني بشارة مريم ، وهذه الحجج حجج فائقة حين حضور عيسى قبل الرفع ، وبعد رفع عيسى بل كانت قبل رفعه 7 أقطع لعذر


الكفار ومنبت خصومتهم ، وأوضح في رفع شبههم ، فما معنى وعده 7 أنه ستفوق حجة متبعيه على حجة مخالفيه ؟ ثم ما معنى تقييد هذه الغلبة والتفوق بقوله : إلى يوم القيامة ، مع أن الحجة في غلبتها لا تقبل التقييد بوقت ولا يوم على أن تفوق الحجة على الحجة باق على حاله يوم القيامة على ما يخبر به القرآن في ضمن أخبار القيامة.

فان قلت : لعل المراد من تفوق الحجة تفوقها من جهة المقبولية بأن يكون الناس أسمع لحجة المتبعين وأطوع لها فيكونوا بذلك أكثر جمعاً وأوثق ركنا وأشد قوة.

قلت : مرجع ذلك إما إلى تفوق متبعيه الحقيقيين من حيث السلطنة والقوة والواقع خلافه ، واحتمال أن يكون إخباراً عن ظهور للمتبعين وتفوق منهم سيتحقق في آخر الزمان لا يساعد عليه لفظ الآية ، واما إلى كثرة العدد بأن يراد أن متبعيه 7 سيفوقون الكافرين أي يكون ، أهل الحق بعد عيسى أكثر جمعا من أهل الباطل ، ففيه مضافاً إلى أن الواقع لا يساعد عليه فلم يزل أهل الباطل يربو ويزيد جمعهم على أهل الحق من زمن عيسى إلى يومنا هذا وقد بلغ الفصل عشرين قرناً أن لفظ الآية لا يساعد عليه فإن الفوقية في الآية وخاصة من جهة كون المقام مقام الإنباء عن نزول السخط الإلهي على اليهود وشمول الغضب عليهم انما يناسب القهر والاستعلاء : اما من حيث الحجة البالغة أو من حيث السلطة والقوة ، وأما من حيث كثرة العدد فلا يناسب المقام كما هو ظاهر.

والذي ينبغي أن يقال : أن الذي أخذ في الآية معرفاً للفرقتين هو قوله : الذين اتبعوك ، وقوله : الذين كفروا والفعل إنما يدل على التحقق والحدوث دون التلبس الذي يدل عليه الوصف كالمتبعين والكافرين ، ومجرد صدور فعل من بعض أفراد امة مع رضاء الباقين به وسلوك اللاحقين مسلك السابقين وجريهم على طريقتهم كاف في نسبة ذلك الفعل إليهم ، كما أن القرآن يؤنب اليهود ويوبخهم على كثير من أفعال سلفهم كقتل الأنبياء وإيذائهم والاستكبار عن امتثال أوامر الله سبحانه ورسله وتحريف آيات الكتاب وغير ذلك.

وعليهذا صح أن يراد بالذين كفروا اليهود ، وبالذين اتبعوا النصارى لما صدر من

( ٣ ـ الميزان ـ ١٤ )


صدرهم وسلفهم من الإيمان بعيسى 7 واتباعه ـ وقد كان إيماناً مرضياً واتباعاً حقاً ـ وإن كان الله سبحانه لم يرتض اتباعهم له 7 بعد ظهور الإسلام ، ولا اتباع أهل التثليث منهم قبل ظهور الدعوة الإسلامية.

فالمراد جعل النصارى ـ وهم الذين اتبع أسلافهم عيسى 7 ـ فوق اليهود وهم الذين كفروا بعيسى 7 ومكروا به ، والغرض في المقام بيان نزول السخط الإلهي على اليهود ، وحلول المكر بهم ، وتشديد العذاب على امتهم ، ولا ينافي ما ذكرناه كون المراد بالاتباع هو الاتباع على الحق كما استظهرناه في أول الكلام كما لا يخفى.

ويؤيد هذا المعنى تغيير الاسلوب في الآية الآتية أعني قوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ س ) ، إذ لو كان المراد بالذين اتبعوا هم أهل الحق والنجاة من النصارى والمسلمين فقط كان الأنسب أن يقال : وأما الذين اتبعوك فيوفيهم اجورهم من غير تغيير للسياق كما لا يخفى.

وهيهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالذين اتبعوا هم النصارى والمسلمون قاطبة وتكون الآية مخبرة عن كون اليهود تحت إذلال من يذعن لزوم اتباع عيسى إلى يوم القيامة ، والتقريب عين التقريب ، وهذا أحسن الوجوه في توجيه الآية عند التدبر.

قوله تعالى : ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ؛ وقد جمع سبحانه في هذا الخطاب بين عيسى وبين الذين اتبعوه والذين كفروا به ، وهذا مآل أمرهم يوم القيامة ، وبذلك يختتم أمر عيسى وخبره من حين البشارة به إلى آخر أمره ونبأه.

قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) ، ظاهره أنه متفرع على قوله : فأحكم بينكم ، تفرع التفصيل على الاجمال فيكون بيانا للحكم الإلهي في يوم القيامة بالعذاب لليهود الذين كفروا وتوفية الأجر للمؤمنين.

لكن اشتمال التفريع على قوله : في الدنيا ، يدل على كونه متفرعاً ، على مجموع قوله : (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ) « الخ » فيدل على أن نتيجة هذا الجعل والرجوع تشديد العذاب عليهم في الدنيا بيد الذين فوقهم الله تعالى ، عليهم وفي الآخرة بالنار ، وما لهم في ذلك من ناصرين.


وهذا أحد الشواهد على أن المراد بالتفويق في الآية السابقة هو التسليط بالسيطرة والقوة دون التأييد بالحجة.

وفي قوله : وما لهم من ناصرين دلالة على نفي الشفاعة المانعة عن حلول العذاب بساحتهم ، وهو حتم القضاء كما تقدم.

قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ) ؛ وهذا وعد حسن بالجزاء الخير للذين اتبعوا إلا أن مجرد صدق الاتباع لما لم يستلزم استحقاق جزيل الثواب لأن الاتباع كما عرفت وصف صادق على الامة بمجرد تحققه وصدوره عن عدة من أفرادها وحينئذ إنما يؤثر الأثر الجميل والثواب الجزيل بالنسبة إلى من تلبس به شخصاً دون من انتسب إليه اسماً فلذلك بدل الذين اتبعوك من مثل قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ) ، ليستقيم المعنى فإن السعادة والعاقبة الحسنى تدور مدار الحقيقة دون الاسم كما يدل عليه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) البقرة ـ ٦٢.

فهذا أجر الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الذين اتبعوا عيسى 7 أن الله يوفيهم اجورهم ، وأما غيرهم فليس لهم من ذلك شيء وقد اشير إلى ذلك في الآية بقوله : وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ.

ومن هنا يظهر السر في ختم الآية ـ وهي آية الرحمة والجنة ـ بمثل قوله : (وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) مع أن المعهود في آيات الرحمة والنعمة أن تختتم بأسماء الرحمة والمغفرة أو بمدح حال من نزلت في حقه الآية نظير قوله تعالى : (وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) الحديد ـ ١٠ ، وقوله تعالى : (إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) التغابن ـ ١٧ ، وقوله تعالى : (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التغابن ـ ٩ ، وقوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ) الجاثيه ـ ٣٠ ، إلى غير ذلك من الآيات.

فقوله : (وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) مسوق لبيان حال الطائفة الاخرى ممن انتسب


إلى عيسى 7 بالاتباع وهم غير : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ).

قوله تعالى : (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) إشارة إلى اختتام القصة. والمراد بالذكر الحكيم القرآن الذي هو ذكر لله محكم من حيث آياته وبياناته ، لا يدخله باطل ، ولا يلج فيه هزل.

قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) ، تلخيص لموضع الحاجة مما ذكره من قصة عيسى في تولده تفصيلاً ، والإيجاز بعد الإطناب ـ وخاصة في مورد الاحتجاج والاستدلال ـ من مزايا الكلام ؛ والآيات نازلة في الاحتجاج ومتعرضة لشأن وفد النصارى نصارى نجران فكان من الأنسب ان يوجز البيان في خلقته بعد الاطناب في قصته ليدل على أن كيفية ولادته لا تدل على أزيد من كونه بشراً مخلوقاً نظير آدم 8 فليس من الجائز أن يقال فيه أزيد وأعظم مما قيل في آدم ، وهو أنه بشر خلقه الله من غير أب.

فمعنى الآية : أن مثل عيسى عند الله أي وصفه الحاصل عنده تعالى أي ما يعلمه الله تعالى من كيفية خلق عيسى الجاري بيده أن كيفية خلقه يضاهي كيفية خلق آدم ، وكيفية خلقه أنه جمع أجزائه من تراب ثم قال له كن فتكون تكوناً بشرياً من غير أب.

فالبيان بحسب الحقيقة منحل إلى حجتين تفي كل واحدة منهما على وحدتها بنفي الالوهية عن المسيح (ع).

إحديهما أن عيسى مخلوق لله ـ على ما يعلمه الله ولا يضل في علمه ـ خلقة بشر وإن فقد الأب ومن كان كذلك كان عبداً لا رباً.

وثانيهما : أن خلقته لا تزيد على خلقة آدم فلو اقتضى سنخ خلقه أن يقال بالوهيته بوجه لاقتضى خلق آدم ذلك مع أنهم لا يقولون بها فيه فوجب أن لا يقولوا بها في عيسى (ع) أيضاً لمكان المماثلة.

ويظهر من الآية أن خلقة عيسى كخلقة آدم خلقة طبيعية كونية وإن كانت خارقة للسنة الجارية في النسل وهي حاجة الولد في تكونه إلى والد.

والظاهر أن قوله : فيكون ، أُريد به حكاية الحال الماضية ، ولا ينافي ذلك دلالة


قوله : ثم قال له كن على انتفاء التدريج فإن النسبة مختلفة فهذه الموجودات بأجمعها أعم من التدريجي الوجود وغيره مخلوقة لله سبحانه موجودة بأمره الذي هو كلمة كن كما قال تعالى : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يس ـ ٨٢ ، وكثير منها تدريجية الوجود إذا قيست حالها إلى أسبابها التدريجية. وأما إذا لوحظ بالقياس إليه تعالى فلا تدريج هناك ولا مهلة كما قال تعالى : (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) القمر ـ ٥٠ ، وسيجيء زيادة توضيح لهذا المعنى إنشاء الله تعالى في محله المناسب له.

على أن عمدة ما سيق لبيانه قوله : ثم قال له كن إنه تعالى لا يحتاج في خلق شيء إلى الأسباب حتى يختلف حال ما يريد خلقه من الأشياء بالنسبة إليه تعالى بالامكان والاستحالة ، والهوان والعسر ، والقرب والبعد ، باختلاف أحوال الأسباب الدخيلة في وجوده فما أراده وقال له كن كان ، من غير حاجة إلى الأسباب الدخيلة عادة.

قوله تعالى : (الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) تأكيد لمضمون الآية السابقة بعد تأكيده بأن ونحوه نظير تأكيد تفصيل القصة بقوله : ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم الآية ، وفيه تطييب لنفس رسول الله 6 بأنه على الحق ، وتشجيع له في المحاجة.

وهذا أعني قوله الحق من ربك من أبدع البيانات القرآنية حيث قيد الحق بمن الدالة على الابتداء دون غيره بأن يقال : الحق مع ربك لما فيه من شائبة الشرك ونسبة العجز إليه تعالى بحسب الحقيقة.

وذلك أن هذه الأقاويل الحقة والقضايا النفس الأمرية الثابتة كائنة ما كانت وان كانت ضرورية غير ممكنة التغير عما هي عليه كقولنا : الأربعة زوج ، والواحد نصف الاثنين ، ونحو ذلك إلا أن الإنسان إنما يقتنصها من الخارج الواقع في الوجود والوجود كله منه تعالى : فالحق كله منه تعالى كما أن الخير كله منه ، ولذلك كان تعالى لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون ، فإن فعل غيره إنما يصاحب الحق إذا كان حقاً ، وأما فعله تعالى فهو الوجود الذي ليس الحق إلا صورته العلمية.


( بحث روائي )

في تفسير القمي : في قوله تعالى يا مريم إن الله اصطفيك وطهرك واصطفيك على نساء العالمين قال : قال (ع) : اصطفاها مرتين : أما الاولى فاصطفاها أي اختارها ، وأما الثانية فإنها حملت من غير فحل فاصطفاها بذلك على نساء العالمين.

وفي المجمع قال أبو جعفر (ع) : معنى الآية : اصطفاك لذرية الأنبياء وطهرك من السفاح ، واصطفيك لولادة عيسى من غير فحل.

اقول : معنى قوله : اصطفاك لذرية الأنبياء اختارك لتكوني ذرية صالحة جديرة للانتساب إلى الأنبياء ، ومعنى قوله : وطهرك من السفاح أعطاك العصمة منه ، وهو العمدة في موردها لكونها ولدت عيسى من غير فحل ، فالكلام مسوق لبيان بعض لوازم اصطفائها وتطهيرها ، فالروايتان غير متعارضتين كما هو ظاهر ، وقد مر دلالة الآية على ذلك.

وفي الدر المنثور أخرج أحمد والترمذي وصححه وابن المنذر وابن حبان والحاكم عن أنس : أن رسول الله 6 قال : حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد 6 وآسية امرأة فرعون ، قال السيوطي وأخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن مرسلاً.

وفيه أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال : قال رسول الله 6 : أفضل نساء العالمين خديجة وفاطمة ومريم وآسية امرأة فرعون.

وفيه أخرج ابن مردويه عن الحسن قال : قال رسول الله 6 : إن الله اصطفى على نساء العالمين أربعة : آسية بنت مزاحم ، ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد 6.

وفيه أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن فاطمة رضى الله عنها قالت : قال لي رسول الله 6 : أنت سيدة نساء أهل الجنة لا مريم البتول.

وفيه أخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال : قال رسول الله 6 : سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون.


وفيه أخرج ابن عساكر من طريق مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي 6 قال : أربع نسوة سادات عالمهن : مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد 6 وأفضلهن عالماً فاطمة.

وفيه أخرج ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : قال رسول الله 6 فاطمة سيدة نساء العالمين بعد مريم ابنة عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة ابنة خويلد.

وفي الخصال بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال : خط رسول الله 6 أربع خطوط ثم قال : خير نساء الجنة مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون.

وفيه أيضاً بإسناده عن أبي الحسن الأول 7 قال : قال رسول الله 6 : إن الله عز وجل اختار من النساء أربعاً : مريم وآسية وخديجة وفاطمة ؛ الخبر.

أقول : والروايات فيما يقرب من هذا المضمون من طرق الفريقين كثيرة ، وكون هؤلاء سيدات النساء لا ينافي وجود التفاضل بينهن أنفسهن كما يظهر من الخبر السادس المنقول من الدر المنثور وأخبار اُخرى ؛ وقد مر نظير هذا البحث في تفسير قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً الآية ) آل عمران ـ ٣٣.

ومما ينبغي أن يتنبه له أن الواقع في الآية هو الاصطفاء ؛ وقد مر أنه الاختيار ، والذي وقع في الأخبار هو السيادة ؛ وبينهما فرق بحسب المعنى فالثاني من مراتب كمال الأول.

وفي تفسير العياشي في قوله تعالى : إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ، عن الباقر 7 يقرعون بها حين ايتمت من أبيها.

وفي تفسير القمي : (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ) ، قال : اصطفاها مرتين : أما الاولى فاصطفاها أي اختارها ، وأما الثانية فانها حملت من غير فحل فاصطفاها بذلك على نساء العالمين ـ إلى أن قال القمي ـ ثم قال الله لنبيه : ذلك من أنباء الغيب نوحيه اليك يا محمد وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم


أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ، قال لما ولدت اختصموا آل عمران فيها وكلهم قالوا : نحن نكفلها فخرجوا وضربوا بالسهام بينهم فخرج سهم زكريا ، الخبر.

أقول : وقد مر من البيان ما يؤيد هذا الخبر وما قبلها.

واعلم أن هناك روايات كثيرة في بشارة مريم وولادة عيسى 7 ودعوته ومعجزاته لكن ما وقع في الآيات الشريفة من جمل قصصه كاف فيما هو المهم من البحث التفسيري ، ولذلك تركنا ذكرها إلا ما يهم ذكره منها.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ) الآية ، عن الباقر 7 أن عيسى كان يقول لبني إسرائيل : (إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ ، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ ) ، والأكمه هو الأعمى : قالوا : ما نرى الذي تصنع إلا سحراً فأرنا آية نعلم أنك صادق قال : أرأيتكم إن أخبرتكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ـ يقول : ما أكلتم في بيوتكم قبل أن تخرجوا وما ادخرتم بالليل ـ تعلمون أني صادق ؟ قالوا : نعم فكان يقول : أنت أكلت كذا وكذا وشربت كذا وكذا ورفعت كذا وكذا ـ فمنهم من يقبل منه فيؤمن ، ومنهم من يكفر ، وكان لهم في ذلك آية إن كانوا مؤمنين.

اقول : وتغيير سياق الآية في حكاية ما ذكره 7 من الآيات أولاً وآخراً يؤيد هذه الرواية ، وقد مرت الإشارة إليه.

وفي تفسير العياشي في قوله تعالى : ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ولاحل لكم الآية عن الصادق 7 قال كان بين داود وعيسى أربعمأه سنة ، وكانت شريعة عيسى أنه بعث بالتوحيد والإخلاص وبما أوصى به نوح وإبراهيم وموسى ، وأنزل عليه الإنجيل ، وأخذ عليه الميثاق الذي أخذ على النبيين ، وشرع له في الكتاب : إقام الصلوة مع الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحريم الحرام وتحليل الحلال ، وأنزل عليه في الإنجيل مواعظ وأمثال وحدود ليس فيها قصاص ، ولا أحكام حدود ، ولا فرض مواريث ، وأنزل عليه تخفيف ما كان على موسى في التوراة ، وهو قول الله في الذي قال عيسى لبني إسرائيل ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم ، وأمر عيسى من معه ممن اتبعه من المؤمنين أن يؤمنوا بشريعة التوراة والإنجيل.


اقول : وروى الرواية في قصص الأنبياء مفصلة عن الصادق 7 وفيها : كان بين داود وعيسى أربعمائة سنة وثمانون سنة ، ولا يوافق شيئ منهما تاريخ أهل الكتاب.

وفي العيون عن الرضا 7 : أنه سئل لم سمي الحواريون الحواريين ؟ قال : أما عند الناس فإنهم سموا حواريين لأنهم كانوا قصارين يخلصون الثياب من الوسخ بالغسل ، وهو اسم مشتق من الخبز الحوار. وأما عندنا فسمي الحواريون الحواريين لأنهم كانوا مخلصين في أنفسهم ومخلصين غيرهم من أوساخ الذنوب بالوعظ والتذكير.

وفي التوحيد عنه 7 : إنهم كانوا اثنا عشر رجلاً ، وكان أفضلهم وأعلمهم لوقا.

وفي الإكمال عن الصادق 7 في حديث : بعث الله عيسى بن مريم ، واستودعه النور والعلم والحكم وجميع علوم الأنبياء قبله ، وزاده الإنجيل ، وبعثه إلى بيت المقدس إلى بني إسرائيل يدعوهم إلى كتابه وحكمته ، والى الإيمان بالله ورسوله فأبى أكثرهم إلا طغياناً وكفراً ، فلما لم يؤمنوا دعا ربه وعزم عليه فمسخ منهم شياطين ليريهم آية فيعتبروا فلم يزدهم ذلك إلا طغياناً وكفراً فأتى بيت المقدس فمكث يدعوهم ويرغبهم فيما عند الله ثلاثة وثلاثين سنة حتى طلبته اليهود ، وادعت أنها عذبته ودفنته في الأرض حياً ، وادعى بعضهم أنهم قتلوه وصلبوه ، وما كان الله ليجعل لهم سلطاناً عليه ، وإنما شبه لهم ، وما قدروا على عذابه وقتله ولا على قتله وصلبه لأنهم لو قدروا على ذلك لكان تكذيباً لقوله : ولكن رفعه الله بعد أن توفاه.

أقول : قوله 7 : فمسخ منهم شياطين أي مسخ جمعاً من شرارهم.

وقوله (ع) : فمكث يدعوهم « الخ » لعله إشارة إلى مدة عمره على ما هو المشهور فإنه (ع) كان يكلمهم من المهد إلى الكهولة وكان نبياً من صباه على ما يدل عليه قوله على ما حكاه الله عنه : (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً ) مريم ـ ٣٠.

وقوله (ع) لكان تكذيباً لقوله : ولكن رفعه الله بعد أن توفاه ، نقل بالمعنى لقوله تعالى : ولكن رفعه الله الآية ، وقوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ) الآية ، وقد استفاد من تقديم التوفي على الرفع في اللفظ الترتيب بينهما في الوجود.


وفي تفسير القمي عن الباقر (ع) قال : إن عيسى وعد أصحابه ليلة رفعه الله إليه فاجتمعوا إليه عند المساء وهم اثنا عشر رجلاً فأدخلهم بيتاً ثم خرج إليهم من عين في زاوية البيت وهو ينفض رأسه عن الماء فقال : إن الله أوحى إلي أنه رافعي إليه الساعة ، ومطهري من اليهود فأيكم يلقى عليه شبحي فيقتل ويصلب ويكون معي في درجتي فقال شاب منهم أنا يا روح الله ، قال فأنت هو ذا فقال لهم عيسى : أما إن منكم من يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة ، فقال رجل منهم : أنا هو يا نبي الله ! فقال له عيسى : أتحس بذلك في نفسك ؟ فلتكن هو ، ثم قال لهم عيسى. أما إنكم ستفترقون بعدي ثلاث فرق : فرقتين مفتريتين على الله في النار ، وفرقة تتبع شمعون صادقة على الله في الجنة ثم رفع الله عيسى إليه من زاوية البيت وهم ينظرون إليه.

ثم قال : إن اليهود جاءت في طلب عيسى من ليلتهم ، فأخذوا الرجل الذي قال له عيسى : إن منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة ، وأخذوا الشاب الذي القي عليه شبح عيسى فقتل وصلب ، وكفر الذي قال له عيسى : يكفر قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة.

اقول : وروي قريب منه عن ابن عباس وقتادة وغيرهما ، وقال بعضهم : إن الذي القي عليه شبح عيسى هو الذي دلهم ليقبضوا عليه ويقتلوه ، وقيل غير ذلك ، والقرآن ساكت عن ذلك ، وسيأتي استيفاء البحث عنه في الكلام على قوله تعالى : (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ الآية ) النساء ـ ١٥٧.

وفي العيون عن الرضا (ع) قال : إنه ما شبه أمر أحد من أنبياء الله وحججه على الناس إلا أمر عيسى وحده لأنه رفع من الأرض حياً وقبض روحه بين السماء والأرض ثم رفع إلى السماء ، ورد عليه روحه ، وذلك قوله عز وجل : إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ ، وقال الله حكاية لقول عيسى يوم القيامة وكنت شهيداً عليهم ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد.

وفي تفسير العياشي عن الصادق (ع) قال : رفع عيسى بن مريم بمدرعة صوف من غزل مريم ومن نسج مريم ومن خياطة مريم فلما انتهى إلى السماء نودي يا عيسى ألق عنك زينة الدنيا.


اقول : وسيأتي توضيح معنى الروايتين في أواخر سورة النساء إنشاء الله تعالى.

وفي الدر المنثور في قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ) الآية ، أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال : ذكر لنا : أن سيدي أهل نجران واسقفيهم السيد والعاقب لقيا نبي الله 6 فسئلاه عن عيسى فقال : كل آدمي له أب فما شأن عيسى لا أب له فأنزل الله فيه هذه الآية : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ) الآية.

اقول : وروي ما يقرب منه عن السدي وعكرمة وغيرهما ، وروي القمي في تفسيره أيضاً نزول الآية في المورد.

( بحث روائي آخر في معنى المحدث )

في البصائر عن زرارة قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن الرسول وعن النبي وعن المحدث قال : الرسول الذي يعاين الملك يأتيه بالرسالة من ربه يقول : يأمرك كذا وكذا ، والرسول يكون نبياً مع الرسالة.

والنبي لا يعاين الملك ينزل عليه الشيء النبأ على قلبه فيكون كالمغمى عليه فيرى في منامه قلت : فما علمه أن الذي رأى في منامه حق ؟ قال يبينه الله حتى يعلم أن ذلك حق ولا يعاين الملك. والمحدث الذي يسمع الصوت ولا يرى شاهداً.

اقول : ورواه في الكافي عن أبي عبد الله (ع) قوله شاهداً أي صائتاً حاضراً. ويمكن أن يكون حالاً من فاعل لا يرى.

وفيه أيضاً عن بريد عن الباقر والصادق 8 في حديث قال بريد : فما الرسول والنبي والمحدث ؟ قال : الرسول الذي يظهر الملك فيكلمه ، والنبي يرى في المنام ، وربما اجتمعت النبوة والرسالة لواحد ، والمحدث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة قال قلت أصلحك الله كيف يعلم أن الذي رأى في المنام هو الحق وأنه من الملك ؟ قال : يوفق لذلك حتى يعرفه ، لقد ختم الله بكتابكم الكتب وبنبيكم الأنبياء ، الحديث.

وفيه عن محمد بن مسلم قال : ذكرت المحدث عند أبي عبد الله (ع) قال : فقال : إنه يسمع الصوت ولا يرى الصورة فقلت : أصلحك الله كيف يعلم أنه كلام الملك ؟ قال


إنه يعطى السكينة والوقار حتى يعلم أنه ملك.

و فيه أيضاً عن أبي بصير عنه (ع) قال : كان علي محدثاً وكان سلمان محدثاً قال : قلت : فما آية المحدث ؟ قال : يأتيه الملك فينكت في قلبه كيت وكيت.

وفيه عن حمران بن أعين قال : أخبرني أبو جعفر 8 أن علياً كان محدثاً فقال أصحابنا : ما صنعت شيئاًً إلا سألته من يحدثه ؟ فقضي أني لقيت أبا جعفر فقلت : ألست أخبرتني : أن علياً كان محدثاً ؟ قال : بلى قلت : من كان يحدثه ؟ قال : ملك ، قلت : فأقول : إنه نبي أو رسول ؟ قال لا بل قل مثله مثل صاحب سليمان وصاحب موسى ، ومثله مثل ذي القرنين ، أما سمعت أن علياً سئل عن ذي القرنين أنبياً كان ؟ قال لا ولكن كان عبداً أحب الله فأحبه ، وناصح الله فنصحه فهذا مثله.

اقول : والروايات في معنى المحدث عن ائمة أهل البيت كثيرة جداً رواها في البصائر والكافي والكنز والاختصاص وغيرها ، ويوجد في روايات أهل السنة أيضاً.

وأما الفرق الوارد في الأخبار المذكورة بين النبي والرسول والمحدث فقد مر الكلام في الفرق بين الرسول والنبي ، وأن الوحي بمعنى تكليم الله سبحانه لعبده ، فهو يوجب العلم اليقيني بنفس ذاته من غير حاجة إلى حجة ، فمثله في الإلقاءات الإلهية مثل العلوم البديهية التي لا تحتاج في حصولها للإنسان إلى سبب تصديقي كالقياس ونحوه.

وأما المنام فالروايات كما ترى تفسره بمعنى غير المعنى المعهود منه أعني الرؤيا يراها الإنسان في النوم العادي العارض له في يومه وليلته بل هو حال يشبه الإغماء تسكن فيه حواس الإنسان النبي فيشاهد عند ذلك نظير ما نشاهده في اليقظة ثم يسدده الله سبحانه بإفاضته على نفسه اليقين بأنه من جانب الله سبحانه لا من تصرف الشيطان.

وأما التحديث فهو سماع صوت الملك غير أنه بسمع القلب دون سمع الحس ؛ وليس من قبيل الخطور الذهني الذي لا يسمى سمع صوت إلا بنحو من المجاز البعيد ، ولذلك ترى أن الروايات تجمع فيه بين سماع الصوت والنكت في القلب ، وتسميه مع ذلك تحديثاً وتكليماً فالمحدث يسمع صوت الملك في تحديثه ويعيه بسمعه نظير


ما نسمعه ويسمعه من الكلام المعتاد والأصوات المسموعة في عالم المادة غير أنه لا يشاركه في ما يسمعه من كلام الملك غيره ، ولذا كان أمراً قلبياً.

وأما علمه بأن ما حدث به من كلام الملك لا من نزغة الشيطان فذلك بتأييد من الله سبحانه وتسديد كما يشير إليه ما في رواية محمد بن مسلم المتقدمة : أنه يعطي السكينة والوقار حتى يعلم أنه ملك ، وذلك أن النزغة الشيطانية إما باطل في صورته الباطلة عند الإنسان المؤمن فظاهر أنه ليس من حديث الملائكة المكرمين الذين لا يعصون الله ، وأما باطل في صورة حق وسيستتبع باطلاً فالنور الإلهي الذي يلازم العبد المؤمن يبين حاله ، قال تعالى : (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) الأنعام ـ ١٢٢ ، والنزغة والوسوسة مع ذلك كله لا تخلو عن اضطراب في النفس وتزلزل في القلب كما أن ذكر الله وحديثه لا ينفك عن الوقار وطمأنينة الباطن ، قال تعالى : (ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ) آل عمران ـ ١٧٥ ، وقال : (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) الرعد ـ ٢٨ ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) الاعراف ـ ٢٠١ ، فالسكينة والطمأنينة عندما يلقى إلى الإنسان من حديث أو خاطر دليل كونه إلقائاً رحمانياً كما أن الاضطراب والقلق دليل على كونه إلقاءً شيطاناً ؛ ويلحق بذلك العجلة والجزع والخفة ونحوها.

وأما ما في الروايات من أن المحدث يسمع الصوت ولا يعاين الملك فمحمول على الجهة دون التمانع بين المعنيين بمعنى أن الملاك في كون الإنسان محدثاً أن يسمع الصوت من غير لزوم الرؤية فإن اتفق أن شاهد الملك حين ما يسمع الصوت فليس ذلك لأنه محدث وذلك لأن الآيات صريحا في رؤية بعض المحدثين للملائكة حين التحديث كقوله تعالى في مريم : (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً الآيات ) مريم ـ ١٩ ، وقوله تعالى ـ في زوجة إبراهيم في قصة البشارة ـ : (وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ ـ إلى إن قال ـ : وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) هود ـ ٧٣.


وهيهنا وجه آخر : وهو أن يكون المراد بالمعاينة المنفية معاينة حقيقة الملك في نفسه دون مثاله الذي يتمثل به فإن الآيات لا تثبت أزيد من معاينة المثال كما هو ظاهر.

وهيهنا وجه آخر ثالث احتمله بعضهم : وهو أن المنفي من المعاينة الوحي التشريعي بأن يظهر للمحدث فيلقي إليه حكماً شرعياً وذلك صون من الله لمقام المشرعين من أنبيائه ورسله ، ولا يخلو عن بعد.

* * *

فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ـ ٦١. إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ـ ٦٢. فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ـ ٦٣.

( بيان )

قوله تعالى : (فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ) ، الفاء للتفريع ، وهو تفريع المباهلة على التعليم الإلهي بالبيان البالغ في أمر عيسى بن مريم 8 مع ما أكده في ختمه بقوله : الحق من ربك فلا تكن من الممترين. والضمير في قوله فيه راجع إلى عيسى أو إلى الحق المذكور في الآية السابقة.

وقد كان البيان السابق منه تعالى مع كونه بياناً إلهياً لا يرتاب فيه مشتملاً على البرهان الساطع الذي يدل عليه قوله : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم الآية ، فالعلم الحاصل فيه علم من جهة البرهان أيضاً ، ولذلك كان يشمل أثره رسول الله 6 وغيره من كل سامع فلو فرض تردد من نفس السامع المحاج من جهة كون البيان وحياً إلهياً لم يجز الارتياب فيه من جهة كونه برهاناً يناله العقل السليم ، ولعله لذلك قيل من


بعد ما جائك من العلم ولم يقل من بعد ما بيناه لهم.

وهيهنا نكتة اخرى وهي أن في تذكيره 6 بالعلم تطييباً لنفسه الشريفة أنه غالب بإذن الله ، وأن ربه ناصره وغير خاذله البتة.

قوله تعالى : (فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ) ، المتكلم مع الغير في قوله : ندع ، غيره في قوله : أبنائنا ونسائنا وأنفسنا فإنه في الأول مجموع المتخاصمين من جانب الإسلام والنصرانية ، وفي الثاني وما يلحق به من جانب الإسلام ، ولذا كان الكلام في معنى : قولنا ندع الأبناء والنساء والأنفس فندعو نحن أبنائنا ونسائنا وأنفسنا وتدعون أنتم أبنائكم ونسائكم وأنفسكم ، ففي الكلام إيجاز لطيف.

والمباهلة والملاعنة وإن كانت بحسب الظاهر كالمحاجة بين رسول الله وبين رجال النصارى لكن عممت الدعوة للأبناء والنساء ليكون أدل على اطمينان الداعي بصدق دعواه وكونه على الحق لما أودعه الله سبحانه في قلب الإنسان من محبتهم والشفقة عليهم فتراه يقيهم بنفسه ، ويركب الأهوال والمخاطرات دونهم ، وفي سبيل حمايتهم والغيرة عليهم والذبّ عنهم ، ولذلك بعينه قدم الأبناء على النساء لأن محبة الإنسان بالنسبة إليهم أشد وأدوم.

ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين : أن المراد بقوله : (نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ ) « الخ » ندع نحن أبنائكم ونسائكم وأنفسكم ، وتدعوا أنتم أبنائنا ونسائنا وأنفسنا. وذلك لإبطاله ما ذكرناه من وجه تشريك الأبناء والنساء في المباهلة.

وفي تفصيل التعداد دلالة اخرى على اعتماد الداعي وركونه إلى الحق ، كأنه يقول : ليباهل الجمع الجمع فيجعل الجمعان لعنة الله على الكاذبين حتى يشمل اللعن والعذاب الأبناء والنساء والأنفس فينقطع بذلك دابر المعاندين ، وينبت أصل المبطلين.

وبذلك يظهر أن الكلام لا يتوقف في صدقه على كثرة الأبناء ولا على كثرة النساء ولا على كثرة الأنفس فإن المقصود الأخير أن يهلك أحد الطرفين بمن عنده من صغير وكبير ، وذكور وإناث ، وقد أطبق المفسرون واتفقت الرواية وأيده التاريخ : أن رسول الله 6 حضر للمباهلة ولم يحضر معه إلا على وفاطمة والحسنان : فلم يحضر لها إلا نفسان وابنان وامرأة واحدة وقد امتثل أمر الله سبحانه فيها.

على أن المراد من لفظ الآية أمر ، والمصداق الذي ينطبق عليه الحكم بحسب


الخارج أمر آخر ، وقد كثر في القرآن الحكم أو الوعد والوعيد للجماعة ؛ ومصداقه بحسب شأن النزول واحد كقوله تعالى : (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ الآية ) المجادلة ـ ٢ ، وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ) المجادلة ـ ٣ ، و قوله تعالى : (لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ) آل عمران ـ ١٨١ ، وقوله تعالى : (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) البقرة ـ ٢١٩ ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي وردت بلفظ الجمع ومصداقها بحسب شأن النزول مفرد.

قوله تعالى : (ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) ، الابتهال من البهلة بالفتح والضم وهي اللعنة ؛ هذا أصله ثم كثر استعماله في الدعاء والمسألة إذا كان مع إصرار وإلحاح.

وقوله : فنجعل لعنة الله ، كالبيان للابتهال ، وقد قيل : فنجعل ، ولم يقل ، فنسأل إشارة إلى كونها دعوة غير مردودة حيث يمتاز بها الحق من الباطل على طريق التوقف والابتناء.

وقوله : الكاذبين مسوق سوق العهد دون الاستغراق أو الجنس إذ ليس المراد جعل اللعنة على كل كاذب أو على جنس الكاذب بل على الكاذبين الواقعين في أحد طرفي المحاجة الواقعة بينه 6 وبين النصارى حيث قال 6 : إن الله لا إله غيره وإن عيسى عبده ورسوله ، وقالوا : إن عيسى هو الله أو إنه ابن الله أو إن الله ثالث ثلاثة.

وعلى هذا فمن الواضح أن لو كانت الدعوى والمباهلة عليها بين النبي 6 وبين النصارى أعني كون أحد الطرفين مفرداً والطرف الآخر جمعاً كان من الواجب التعبير عنه بلفظ يقبل الانطباق على المفرد والجمع معاً كقولنا : فنجعل لعنة الله على من كان كاذباً فالكلام يدل على تحقق كاذبين بوصف الجمع في أحد طرفي المحاجة والمباهلة على أي حال إما في جانب النبي 6 وإما في جانب النصارى ، وهذا يعطى أن يكون الحاضرون للمباهلة شركاء في الدعوى فإن الكذب لا يكون إلا في دعوى فلمن حضر مع رسول الله 6 وهم علي وفاطمة والحسنان : شركة في الدعوى والدعوة مع رسول الله 6 وهذا من أفضل المناقب التي خص الله به أهل


بيت نبيه : كما خصهم باسم الأنفس والنساء والأبناء لرسوله 6 من بين رجال الامة ونسائهم وأبنائهم.

فان قلت : قد مر أن القرآن يكثر إطلاق لفظ الجمع في مورد المفرد وأن إطلاق النساء في الآية مع كون من حضرت منهن للمباهلة منحصرة في فاطمة 3 فما المانع من تصحيح استعمال لفظ الكاذبين بهذا النحو ؟

قلت : إن بين المقامين فارقاً وهو أن إطلاق الآيات لفظ الجمع في مورد المفرد إنما هو لكون الحقيقة التي تبينها أمراً جائز التحقق من كثيرين يقضي ذلك بلحوقهم بمورد الآية في الحكم ، وأما فيما لا يجوز ذلك لكون مورد الآية مما لا يتعداه الحكم ، ولا يشمل غيره الوصف فلا ريب في عدم جوازه نظير قوله تعالى : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ ) الأحزاب ـ ٣٧ ، وقوله تعالى : (لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) النحل ـ ١٠٣ ، وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ـ إلى أن قال : وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) الأحزاب ـ ٥٠.

وأمر المباهلة في الآية مما لا يتعدى مورده وهو مباهلة النبي مع النصارى فلو لم يتحقق في المورد مدّعون بوصف الجمع في كلا الطرفين لم يستقم قوله الكاذبين بصيغة الجمع البتة.

فان قلت : كما أن النصارى الوافدين على رسول الله 6 أصحاب دعوى وهي أن المسيح هو الله أو ابن الله أو هو ثالث ثلاثة من غير فرق بينهم أصلاً ولا بين نسائهم وبين رجالهم في ذلك كذلك الدعوى التي كانت في جانب رسول الله 6 وهي أن الله لا إله إلا هو وأن عيسى بن مريم عبده ورسوله كان القائمون بها جميع المؤمنين من غير اختصاص فيه بأحد من بينهم حتى بالنبي 6 فلا يكون لمن أحضره فضل على غيره غير أن النبي 6 أحضر من أحضر منهم على سبيل الانموذج لما اشتملت عليه الآية من الأبناء والنساء والأنفس ، على أن الدعوى غير الدعوة وقد ذكرت أنهم شركاء في الدعوة.

( ٣ ـ الميزان ـ ١٥)


قلت : لو كان إتيانه بمن أتى به على سبيل الانموذج لكان من اللازم أن يحضر على الأقل رجلين ونسوة وأبناءاً ثلاثة فليس الإتيان بمن أتى به إلا للانحصار وهو المصحح لصدق الامتثال بمعنى أنه لم يجد من يمتثل في الإتيان به أمره تعالى إلا من أتى به وهو رجل وامرأة وابنان.

وإنك لو تأملت القصة وجدت أن وفد نجران من النصارى إنما وفدوا على المدينة ليعارضوا رسول الله 6 ويحاجوه في أمر عيسى بن مريم فإن دعوى أنه عبد الله ورسوله إنما كانت قائمة به مستندة إلى الوحي الذي كان يدعيه لنفسه : وأما الذين اتبعوه من المؤمنين فما كان للنصارى بهم شغل ، ولا لهم في لقائهم هوى كما يدل على ذلك قوله تعالى في صدر الآية : (فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ) ، فقل وكذا قوله تعالى ـ : قبل عدة آيات : (فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ).

ومن هنا يظهر : أن إتيان رسول الله 6 بمن أتى به للمباهلة لم يكن إتياناً بنحو الانموذج إذ لا نصيب للمؤمنين من حيث مجرد إيمانهم في هذه المحاجة والمباهلة حتى يعرضوا للَّعن والعذاب المتردد بينهم وبين خصمهم ، وإنما أتى 6 بمن أتى به من جهة أنه 6 كان طرف المحاجة والمداعاة فكان من حقه أن يعرض نفسه للبلاء المترقب على تقدير الكذب فلو لا أن الدعوى كانت قائمة بمن أتى به منهم كقيامها بنفسه الشريفة لم يكن لإتيانه بهم وجه فإتيانه بهم من جهة انحصار من هو قائم بدعواه من الأبناء والنساء والانفس بهم لا من جهة الإتيان بالانموذج فقد صح أن الدعوى كانت قائمة بهم كما كانت قائمة به.

ثم إن النصارى إنما قصدوه 9 لا لمجرد أنه كان يرى أن عيسى ابن مريم 7 عبد الله ورسوله ويعتقد ذلك بل لأنه كان يدعيه ويدعوهم إليه فالدعوة هي السبب العمدة التي بعثهم على الوفود والمحاجة فحضوره وحضور من حضر معه للمباهلة لمكان الدعوى والدعوة معاً فقد كانوا شركائه في الدعوة الدينية كما شاركوه في الدعوى كما ذكرناه.

فان قلت : هب إن إتيانه بهم لكونهم منه ، وانحصار هذا الوصف بهم لكن الظاهر ـ كما تعطيه العادة الجارية ـ أن إحضار الإنسان أحبائه وأفلاذ كبده من النساء والصبيان في المخاطر والمهاول دليل على وثوقه بالسلامة والعافية والوقاية فلا يدل إتيانه


9 بهم على أزيد من ذلك ، وأما كونهم شركاء في الدعوة فهو بمعزل عن أن يدل عليه فعله.

قلت : نعم صدر الآية لا يدل على أزيد مما ذكر لكنك قد عرفت أن ذيلها أعني قوله : على الكاذبين ، يدل على تحقق كاذبين في أحد طرفي المحاجة والمباهلة البتة ، ولا يتم ذلك إلا بأن يكون في كل واحد من الطرفين جماعة صاحبة دعوى إما صادقة أو كاذبة فالذين أتى بهم النبي 9 ، مشاركون معه في الدعوى وفي الدعوة كما تقدم فقد ثبت أن الحاضرين كانوا بأجمعهم صاحبي دعوى ودعوة معه 9 وشركاء في ذلك.

فان قلت : لازم ما ذكرته كونهم شركاء في النبوة.

قلت : كلا فقد تبين (١) فيما أسلفناه من مباحث النبوة أن الدعوة والتبليغ ليسا بعين النبوة والبعثة وإن كانا من شؤونها ولوازمها ، ومن المناصب والمقامات الإلهية التي يتقلدها ، وكذا تبين مما تقدم (٢) من مبحث الإمامة أيضاً أنهما ليسا بعين الإمامة وإن كانا من لوازمها بوجه.

قوله تعالى : (إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ ) ؛ هذا إشارة إلى ما تقدم من قصص عيسى 7 ؛ والكلام مشتمل على قصر القلب أي ما قصصناه هو الحق دون ما تدعيه النصارى من أمر عيسى.

وفي الإتيان بإن واللام وضمير الفصل تأكيد بالغ لتطييب نفس رسول الله 6 وتشجيعه في أمر المباهلة بإيقاظ صفة يقينه وبصيرته ووثوقه بالوحي الذي أنزله الله سبحانه إليه ، ويتعقبه التأكيد الثاني بإيراد الحقيقة بلازمها وهو قوله : وما من إله إلا الله فإن هذه الجملة لازمة كون القصص المذكور حقاً.

قوله تعالى : (وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) معطوف على أول الآية ؛ وهو بما فيه من التأكيد البالغ تطييب آخر وتشجيع لنفس النبي 6 أن الله لا يعجز عن نصرة

__________________

١ ـ في تفسير آية ٢١٣ من سورة البقرة من المجلد الثاني.

٢ ـ في تفسير آية ١٢٤ من سورة البقرة من المجلد الأول.


الحق وتاييده ، ولا أنه يغفل أو يلهو عن ذلك بإهمال أو جهل فإنه هو العزيز ( فلا يعجز عما أراده ) الحكيم ( فلا يجهل ولا يهمل ) لا ما عملته أوهام خصماء الحق من إله غير الله سبحانه.

ومن هنا يظهر وجه الإتيان بالاسمين : العزيز الحكيم ، وأن الكلام مسوق لنصر القلب أو الافراد.

قوله تعالى : (فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) ؛ لما كان الغرض من المحاجة وكذا المباهلة بحسب الحقيقة هو إظهار الحق لم يكن يعقل التولي عن الطريق لمريد الغرض والمقصد فلو كانوا أرادوا بذلك إظهار الحق وهم يعلمون أن الله سبحانه ولى الحق لا يرضى بزهوقه ودحوضه لم يتولوا عنها فإن تولوا فإنما هو لكونهم لا يريدون بالمحاجة ظهور الحق بل الغلبة الظاهرية والاحتفاظ على ما في أيديهم من حاضر الوضع ، والسنة التي استحكمت عليه عادتهم ، فهم إنما يريدون ما تزينه لهم أهوائهم وهوساتهم من شكل الحياة ، لا الحياة الصالحة التي تنطبق على الحق والسعادة فهم لا يريدون إصلاحاً بل إفساد الدنيا بإفساد الحياة السعيدة فإن تولوا فإنما هو لأنهم مفسدون.

ومن هنا يظهر أن الجزاء وضع فيه السبب مكان المسبب أعني الإفساد مكان عدم إرادة ظهور الحق.

وقد ضمن الجزاء وصف العلم حيث قيل : فإن الله عليم ، ثم اكد بإن ليدل على أن هذه الصفة متحققة في نفوسهم ناشبة في قلوبهم فيشعر بأنهم سيتولون عن المباهلة لا محالة ، وقد فعلوا وصدّقوا قول الله بفعلهم.

( بحث روائي )

في تفسير القمي عن الصادق 7 : أن نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله 6 ، وكان سيدهم الأهتم والعاقب والسيد ، وحضرت صلوتهم فأقبلوا يضربون الناقوس وصلوا ، فقال أصحاب رسول الله : يا رسول الله هذا في مسجدك ? فقال : دعوهم فلما فرغوا دنوا من رسول الله فقالوا إلى ما تدعو ؟ فقال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، وأن عيسى عبد مخلوق يأكل ويشرب ويحدث ، قالوا : فمن


أبوه ؟ فنزل الوحي على رسول الله 6 فقال : قل لهم : ما تقولون في آدم ، أكان عبداً مخلوقاً يأكل ويشرب ويحدث وينكح ؟ فسألهم النبي ، فقالوا نعم : قال فمن أبوه ؟ فبهتوا : فأنزل الله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ) الآية ، وقوله : (فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ) إلى قوله : (فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) فقال رسول الله : فباهلوني فإن كنت صادقاً أُنزلت اللعنة عليكم ، وان كنت كاذباً أُنزلت علي فقالوا أنصفت فتواعدوا للمباهلة فلما رجعوا إلى منازلهم قال رؤسائهم السيد والعاقب والأهتم ان باهلنا بقومه باهلناه فإنه ليس نبياً ، إن باهلنا باهل بيته خاصة لم نباهله فإنه لا يقدم إلى أهل بيته إلا وهو صادق فلما اصبحوا جاؤوا إلى رسول الله 6 ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين : فقال النصارى : من هؤلاء ؟ فقيل لهم هذا ابن عمه ووصيه وختنه علي بن أبي طالب ، وهذا ابنته ، فاطمة وهذا ابناه الحسن والحسين ففرقوا فقالوا لرسول الله 6 نعطيك الرضا فاعفنا من المباهلة فصالحهم رسول الله 6 على الجزية وانصرفوا.

وفي العيون بإسناده عن الريان بن الصلت عن الرضا 7 في حديثه مع المأمون والعلماء في الفرق بين العترة والامة ، وفضل العترة على الامة ، وفيه قالت العلماء : هل فسر الله الاصطفاء في كتابه ؟ فقال الرضا 7 : فسر الاصطفاء في الظاهر سوى الباطن في اثني عشر موضعاً وذكر المواضع من القرآن ، وقال فيها : وأما الثالثة حين ميز الله الطاهرين من خلقه ، وأمر نبيه بالمباهلة بهم في آية الابتهال فقال عز وجل : (فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ) فقل تعالوا : (نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ) قالت العلماء : عنى به نفسه ، قال أبو الحسن : غلطتم إنما عنى به علي بن أبي طالب ؛ ومما يدل على ذلك قول النبي : لينتهين بنوا وليعة أو لأبعثن إليهم رجلاً كنفسي يعني علي بن أبي طالب ، وعني بالأبناء الحسن والحسين ، وعني بالنساء فاطمة فهذه خصوصية لا يتقدمهم فيها أحد ، وفضل لا يلحقهم فيه بشر ، وشرف لا يسبقهم إليه خلق إذ جعل نفس علي كنفسه ؛ الحديث.

وعنه بإسناده إلى موسى بن جعفر 3 في حديث له مع الرشيد ، قال الرشيد له : كيف قلتم : إنا ذرية النبي ، والنبي لم يعقب ، وإنما العقب للذكر لا للانثى ، وأنتم ولد البنت ولا يكون له عقب. فقلت : أسأله بحق القرابة والقبر ومن فيه إلا


ما أعفاني عن هذه المسألة ، فقال تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي وأنت يا موسى يعسو بهم وإمام زمانهم ، كذا أُنهي إلي ، ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب الله ، وأنتم تدعون معشر ولد علي أنه لا يسقط عنكم منه شيء لا ألف ولا واو إلا تأويله عندكم ، واحتججتم بقوله عز وجل : ما فرطنا في الكتاب من شيء وقد استغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم.

فقلت : تأذن لي في الجواب ؟ فقال : هات ، قلت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم : (وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس ، من أبو عيسى يا أمير المؤمنين ؟ فقال : ليس له أب فقلت : إنما ألحقه بذراري الأنبياء من طريق مريم ، وكذلك ألحقنا الله تعالى بذراري النبي من امنا فاطمة ، أزيدك يا أمير المؤمنين ؟ قال : هات ، قلت : قول الله عز وجل : (فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) ، ولم يدّع أحد أنه أدخل النبي تحت الكساء عند المباهلة مع النصارى إلا علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين فكان تأويل قوله : أبنائنا الحسن والحسين ، ونسائنا فاطمة ، وأنفسنا علي بن أبي طالب.

وفي سؤالات المأمون عن الرضا 7 : قال المأمون : ما الدليل على خلافة جدك علي بن أبي طالب ؟ قال : آية أنفسنا قال : لولا نسائنا قال لولا أبنائنا.

أقول : قوله : آية أنفسنا يريد أن الله جعل نفس علي كنفس نبيه 6 وقوله : لولا نسائنا معناه ، أن كلمة نسائنا في الآية دليل على أن المراد بالأنفس الرجال فلا فضيلة فيه حينئذ ، وقوله : لولا أبنائنا معناه أن وجود أبنائنا فيها يدل على خلافه فإن المراد بالأنفس لو كان هو الرجال لم يكن مورد لذكر الأبناء.

وفي تفسير العياشي بإسناده عن حريز عن أبي عبد الله 7 ، قال : إن أمير المؤمنين 7 سئل عن فضائله فذكر بعضها ثم قالوا له زدنا فقال إن رسول الله 9 أتاه حبران من أحبار النصارى من أهل نجران فتكلما في أمر عيسي فأنزل الله هذه الآية : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) إلى آخر الآية فدخل رسول الله


فأخذ بيد علي والحسن والحسين وفاطمة ثم خرج ورفع كفه إلى السماء ، وفرج بين أصابعه ، ودعاهم إلى المباهلة ، قال : وقال أبو جعفر 8 وكذلك المباهلة يشبك يده في يده يرفعهما إلى السماء فلما رآه الحبران قال أحدهما لصاحبه : والله لئن كان نبياً لنهلكن وإن كان غير نبي كفانا قومه فكفا وانصرفا.

اقول : وهذا المعنى أو ما يقرب منه مروي في روايات أُخر من طرق الشيعة وفي جميعها أن الذين أتى بهم النبي 9 للمباهلة هم علي وفاطمة والحسنان فقد رواه الشيخ في أماليه بإسناده عن عامر بن سعد عن أبيه ؛ ورواه أيضاً فيه بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن الصادق 7 ورواه فيه أيضاً بإسناده عن سالم ابن أبي الجعد يرفعه إلى أبي ذر رضوان الله عليه ورواه أيضاً فيه بإسناده عن ربيعة ابن ناجد عن علي 7 ، ورواه المفيد في كتاب الاختصاص بإسناده عن محمد بن الزبرقان عن موسى بن جعفر 8 ، ورواه أيضاً فيه عن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جده ، ورواه العياشي في تفسيره عن محمد بن سعيد الاردني عن موسى بن محمد بن الرضا عن أخيه ، ورواه أيضاً عن أبي جعفر الأحول عن الصادق 7 ، ورواه أيضاً فيه في رواية اخرى عن الأحول عنه 7 ، وعن المنذر عن علي 7 ، ورواه أيضاً فيه بإسناده عن عامر بن سعد ، ورواه الفرات في تفسيره معنعناً عن أبي جعفر وعن أبي رافع والشعبي وعلي 7 وشهر بن حوشب ، ورواه في روضة الواعظين وفي إعلام الورى ، وفي الخرائج وغيرها.

وفي تفسير الثعلبي عن مجاهد والكلبي : أنه 9 لما دعاهم إلى المباهلة قالوا : حتى نرجع وننظر فلما تخالوا قالوا للعاقب ـ وكان ذا رأيهم ـ يا عبد المسيح ما ترى ؟ فقال : والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمداً نبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم ؛ والله ما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لنهلكن فإن أبيتم إلا إلف دينكم ، والاقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.

فأتوا رسول الله وقد غدا محتضناً بالحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه ، وعلي خلفها وهو يقول : إذا أنا دعوت فأمّنوا ، فقال اسقف نجران ، يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا ،


ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة ، فقالوا يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك ، وأن نقرك على دينك ونثبت على ديننا ، قال فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا ، يكن لكم ما للمسلمين ، وعليكم ما عليهم فأبوا ، قال : فإني اناجزكم ، فقالوا : ما لنا بحرب العرب طاقة ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ، ولا تخيفنا ، ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي اليك كل عام ألفي حلة : ألف في صفر ، وألف في رجب ، وثلاثين درعاً عادية من حديد فصالحهم على ذلك.

وقال : والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر ، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا.

اقول : وروى القصة : قريباً منه في كتاب المغازي عن ابن إسحق ، ورواه أيضاً المالكي في الفصول المهمة عن المفسرين قريباً منه ، ورواه الحموي عن ابن جريح قريباً منه.

وقوله : ألف في صفر المراد به المحرم وهو أول السنة عند العرب وقد كان يسمى صفراً في الجاهلية فيقال صفر الأول وصفر الثاني وقد كانت العرب تنسئ في الصفر الأول ثم أقر الإسلام الحرمة في الصفر الأول فسمي لذلك بشهر الله المحرم ثم اشتهر بالمحرم.

وفي صحيح مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال : ما يمنعك أن تسب أبا تراب ، قال أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلن أسبه ، لأن يكون لي واحدة منهن أحب إليّ من حمر النعم ، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول حين خلفه في بعض مغازيه فقال له علي : يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان ؟ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم : ترضى أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ؟ وسمعته يقول يوم خيبر : لاعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، قال : فتطاولنا لها ، فقال : أُدعوا لي علياً فاتي به أرمد العين فبصق في عينيه ودفع الراية إليه ففتح الله على يده ولما نزلت هذه الآية : (فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ ) ، دعا رسول الله علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً وقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي.


اقول : ورواه الترمذي في صحيحه ، ورواه أبو المؤيد الموفق بن أحمد في كتاب فضائل علي ، ورواه أيضاً أبو نعيم في الحلية عن عامر بن سعد عن أبيه ، ورواه الحمويني في كتاب فرائد السمطين.

وفي حلية الأولياء لأبي نعيم بإسناده عن عامر بن أبي وقاص عن أبيه قال : لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي.

وفيه بإسناده عن الشعبي عن جابر قال : قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم العاقب والطيب فدعاهما إلى الإسلام فقالا : أسلمنا يا محمد فقال : كذبتما إن شئتما أخبرتكما ما يمنعكما من الإسلام فقالا : فهات الينا ، قال : حب الصليب وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير ، قال جابر : فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه إلى أن يفداه بالغداة فغدا رسول الله 6 وأخذ بيد علي والحسن والحسين وفاطمة فأرسل اليهما فأبيا أن يجيباه وأقرّا له ، فقال رسول الله 6 والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر عليهم الوادي ناراً قال جابر : فيهم نزلت : (نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ) ، قال جابر : أنفسنا وأنفسكم رسول الله وعلي ، وأبنائنا الحسن والحسين ، ونسائنا فاطمة.

أقول : ورواه ابن المغازلي في مناقبه بإسناده عن الشعبي عن جابر ، ورواه أيضاً الحمويني في فرائد السمطين بإسناده عنه ، ورواه المالكي في الفصول المهمة مرسلاً ، عنه ورواه أيضاً عن أبي داود الطيالسي عن شعبة الشعبي مرسلا ورواه في الدر المنثور عن الحاكم وصححه وعن ابن مردويه وأبي نعيم في الدلائل عن جابر.

وفي الدر المنثور أخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : أن وفد نجران من النصارى قدموا على رسول الله 6 وهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم منهم السيد وهو الكبير ، والعاقب وهو الذي يكون بعده وصاحب رأيهم ثم ساق القصة نحواً مما مر.

وفيه أيضاً أخرج البيهقي في الدلائل من طريق سلمة بن عبد يشوع عن أبيه عن جده : أن رسول الله 6 كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان : بسم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب من محمد رسول الله إلى اسقف نجران وأهل


نجران إن أسلمتم فإني أحمد اليكم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب ، أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد ، وأدعوكم إلى ولاية من الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية ، وإن أبيتم فقد آذنتكم بالحرب والسلام ، فلما قرأ الاسقف الكتاب فظع به وذعر ذعراً شديداً ، فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له : شرحبيل بن وداعة فدفع إليه كتاب النبي 6 فقرأه ، فقال له الاسقف : ما رأيك ؟ فقال شرحبيل : قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسمعيل من النبوة فما يؤمن أن يكون هذا الرجل ؟ ليس لي في النبوة رأي ، لو كان رأى من أمر الدنيا أشرت عليك فيه ، وجهدت لك ، فبعث الاسقف إلى واحد بعد واحد من أهل نجران فكلهم قالوا مثل قول شرحبيل فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة ، وعبد الله بن شرحبيل وجبار بن فيض فيأتونهم بخبر رسول الله 6.

فانطلق الوفد حتى أتوا رسول الله 6 فسألهم وسألوه فلم نزل به وبهم المسألة حتى قالوا له : ما تقول في عيسى بن مريم ؟ فقال رسول الله 6 ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى اخبركم بما يقال في عيسى صبح الغد ، فأنزل الله هذه الآية : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ) إلى قوله : (فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) ، فأبوا أن يقروا بذلك ، فلما أصبح رسول الله 6 الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خميلة له وفاطمة تمشي خلف ظهره للملاعنة ، وله يومئذ عدة نسوة ، فقال شرحبيل لصاحبيه : إني أرى أمراً مقبلاً إن كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فلاعنّاه لا يبقى على وجه الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك فقالا له : ما رأيك ؟ فقال : رأيي أن احكمه فإني أرى رجلاً لا يحكم شططاً أبداً ، فقالا له : أنت وذلك ، فتلقى شرحبيل رسول الله 6 فقال : إني قد رأيت خيراً من ملاعنتك ، قال : وما هو ؟ قال حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح فمهما حكمت فينا فهو جائز ، فرجع رسول الله 6 ولم يلاعنهم ، وصالحهم على الجزية.

وفيه أخرج ابن جرير عن علباء بن أحمر اليشكري ، قال : لما نزلت هذه الآية : ( فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ) الآية ، أرسل رسول الله 6 إلى علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين ، ودعا اليهود ليلاعنهم ، فقال شاب من اليهود : ويحكم أليس عهدتم الأمس إخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير ؟ لا تلاعنوا فانتهوا.


أقول : والرواية تؤيد أن يكون الضمير في قوله تعالى : (فَمَنْ حَآجَّكَ) فيه ، راجعاً إلى الحق في قوله : الحق من ربك ، فيتم بذلك حكم المباهلة لغير خصوص عيسى بن مريم 7 ، وتكون حينئذ هذه قصة اخرى واقعة بعد قصة دعوة وفد نجران إلى المباهلة على ما تقصه الأخبار الكثيرة المتظافرة المنقولة أكثرها فيما تقدم.

وقال ابن طاوس في كتاب سعد السعود رأيت في كتاب تفسير ما نزل من القرآن في النبي وأهل بيته تأليف محمد بن العباس بن مروان : أنه روى خبر المباهلة من أحد وخمسين طريقاً عمن سماه من الصحابة وغيرهم ، وعد منهم الحسن بن علي 8 وعثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وبكر بن سمال وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عباس وأبا رافع مولى النبي وجابر بن عبد الله والبراء بن عازب وانس بن مالك.

وروى ذلك في المناقب عن عدة من الرواة والمفسرين وكذا السيوطي في الدر المنثور.

ومن عجيب الكلام ما ذكره بعض المفسرين حيث قال : إن الروايات متفقة على أن النبي 6 اختار للمباهلة علياً وفاطمة وولديهما ، ويحملون كلمة نسائنا على فاطمة ، وكلمة أنفسنا على علي فقط ، ومصادر هذه الروايات الشيعة ، ومقصدهم منها معروف ؛ وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة ، ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة نسائنا لا يقولها العربي ويريد بها بنته لا سيما إذا كان له أزواج ولا يفهم هذا من لغتهم. وأبعد من ذلك أن يراد بأنفسنا علي ، ثم إن وفد نجران الذين قالوا : إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نسائهم واولادهم ، وكل ما يفهم من الآية امر النبي 6 أن يدعوا المحاجين والمجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالاً ونسائاً وأطفالاً ويجمع هو المؤمنين رجالاً ونسائاً وأطفالاً ، ويبتهلون إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى.

وهذا الطلب يدل على قوة يقين صاحبه ، وثقته بما يقول كما يدل امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب سواء كانوا نصارى نجران أو غيرهم على امترائهم في حجاجهم ومما راتهم فيما يقولون ، وزلزالهم فيما يعتقدون ، وكونهم على غير بينة ولا يقين ، وأنى لمن يؤمن بالله أن يرضى بأن يجتمع هذا الجمع من الناس المحقين والمبطلين في


صعيد واحد متوجهين إلى الله في طلب لعنه وإبعاده من رحمته ؟ وأي جرأة على الله واستهزاء بقدرته وعظمته أقوى من هذا ؟

قال أما كون النبي 6 والمؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في عيسى 7 فحسبنا في بيانه قوله تعالى : (مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ) ، فالعلم في هذه المسائل الاعتقادية لا يراد به إلا اليقين وفي قوله : (نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ) « الخ » وجهان :

أحدهما : أن كل فريق يدعو الآخر فأنتم تدعون أبنائنا ونحن ندعو أبنائكم ؛ وهكذا الباقي.

وثانيهما أن كل فريق يدعو أهله فنحن المسلمون ندعو أبنائنا ونسائنا وأنفسنا ؛ وأنتم كذلك.

ولا إشكال في وجه من وجهي التوزيع في دعوة الأنفس ، وإنما الإشكال فيه على قول الشيعة ، ومن شايعهم على القول بالتخصيص ، انتهى.

اقول : وهذا الكلام ـ وأحسب أن الناظر فيه يكاد يتهمنا في نسبته إلى مثله ، واللبيب لا يرضى بإيداعه وأمثاله في الزبر العلمية ـ إنما أوردناه على وهنه وسقوطه ليعلم أن النزعة والعصبية إلى أين يورد صاحبه من سقوط الفهم وردائة النظر فيهدم كل ما بنى عليه ويبني كل ما هدمه ولا يبالي ، ولأن الشر يجب أن يعلم ليجتنب عنه.

والكلام في مقامين : أحدهما : دلالة الآية على أفضلية علي 7 وهو بحث كلامي خارج عن الغرض الموضوع له هذا الكتاب ؛ وهو النظر في معاني الآيات القرآنية.

وثانيهما : البحث عما ذكره هذا القائل من حيث تعلقه بمدلول آية المباهلة ، والروايات الواردة في ما جرى بين النبي 6 وبين وفد نجران ؛ وهذا بحث تفسيري داخل في غرضنا.

وقد عرفت ما تدل عليه الآية ، وأن الذي نقلناه من الأخبار المتكثرة المتظافرة هو الذي يطابق مدلول الآية ، وبالتأمل في ذلك يتضح وجوه الفساد في هذه الحجة المختلقة والنظر الواهي الذي لا يرجع إلى محصل ، وهاك تفصيلها :

منها : أن قوله : ومصادر هذه الروايات الشيعة ـ إلى قوله : وقد اجتهدوا في


ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة ، بعد قوله : إن الروايات متفقة ، ليت شعري أي روايات يعنى بهذا القول ؟ أمراده هذه الروايات المتظافرة التي أجمعت على نقلها وعدم طرحها المحدثون ، وليست بالواحدة والاثنتين والثلاث أطبق على نقلها وتلقيها بالقبول أهل الحديث ، وأثبتها أرباب الجوامع في جوامعهم ، ومنهم مسلم في صحيحه والترمذي في صحيحه وأيدها أهل التاريخ.

ثم أطبق المفسرون على إيرادها وإيداعها في تفاسيرهم من غير اعتراض أو ارتياب ، وفيهم جمع من أهل الحديث والتاريخ كالطبري وأبي الفداء بن كثير والسيوطي وغيرهم.

ثم من الذي يعنيه من الشيعة المصادر لهذه الروايات ؟ أيريد بهم الذين تنتهي إليهم سلاسل الأسناد في الروايات أعني سعد بن أبي وقاص وجابر بن عبدالله وعبدالله بن عباس وغيرهم من الصحابة ؟ أو التابعين الذين نقلوا عنهم بالأخذ والرواية كأبي صالح والكلبي والسدي والشعبي وغيرهم ، وأنهم تشيعوا لنقلهم ما لا يرتضيه بهواه فهؤلاء وأمثالهم ونظرائهم هم الوسائط في نقل السنة ، ومع رفضهم لا تبقى سنة مذكورة ولا سيرة مأثورة ، وكيف يسع لمسلم أو باحث حتى ممن لا ينتحل بالإسلام أن يبطل السنة ثم يروم أن يطلع على تفاصيل ما جاء به النبي 6 من تعليم وتشريع والقرآن ناطق بحجية قول النبي 6 وسيرته ، وناطق ببقاء الدين على حيوته ، ولو جاز بطلان السنه من رأس لم يبق للقرآن أثر ولا لإنزاله ثمر.

أو أنه يريد أن الشيعة دسوا هذه الأحاديث في جوامع الحديث وكتب التاريخ ، فيعود محذور سقوط السنة ، وبطلان الشريعة بل يكون البلوى أعم والفساد أتم.

ومنها : قوله : ويحملون كلمة نسائنا على فاطمة ، وكلمة أنفسنا على عليّ فقط ، مراده به أنهم يقولون بأن كلمة نسائنا أطلقت واريدت بها فاطمة وكذا المراد بكلمة أنفسنا عليّ فقط ، وكأنه فهمه مما يشتمل عليه بعض الروايات السابقة : قال جابر : نسائنا فاطمة وأنفسنا علي الخبر ، وقد أساء الفهم فليس المراد في الآية بلفظ نسائنا فاطمة ، وبلفظ أنفسنا علي بل المراد أنه 6 إذ لم يأت في مقام الامتثال إلا بها وبه كشف ذلك أنها هي المصداق الفرد لنسائنا ، وأنه هو المصداق الوحيد لأنفسنا وأنهما مصداق أبنائنا ، وكان المراد بالأبناء والنساء والأنفس في الآية هو الأهل فهم


أهل بيت رسول الله وخاصته كما ورد في بعض الروايات بعد ذكر إتيانه 6 بهم أنه قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي فإن معنى الجملة : أني لم أجد من أدعوه غير هؤلاء.

ويدل على ما ذكرناه من المراد ما وقع في بعض الروايات : أنفسنا وأنفسكم رسول الله وعلي ، فإن اللفظ صريح في أن المقصود بيان المصداق دون معنى اللفظ.

ومنها : قوله : ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة نسائنا لا يقولها العربي ويريد بها بنته لا سيما إذا كان له أزواج ولا يفهم هذا من لغتهم ، وأبعد من ذلك أن يراد بأنفسنا علي ، وهذا المعنى العجيب الذي توهمه هو الذي أوجب أن يطرح هذه الروايات على كثرتها ثم يطعن على رواتها وكل من تلقاها بالقبول ، ويرميهم بما ذكره وقد كان من الواجب عليه أن يتنبه لموقفه من تفسير الكتاب ، ويذكر هؤلاء الجم الغفير من أئمة البلاغة وأساتيذ البيان ، وقد أوردوها في تفسيرهم وسائر مؤلفاتهم من غير أي تردد أو اعتراض.

فهذا صاحب الكشاف ـ وهو الذي ربما خطأ أئمة القراءة في قراءتهم ـ يقول في ذيل تفسير الآية : وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء : وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي 6 لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف : أنهم أجابوا إلى ذلك ، انتهى.

فكيف خفي على هؤلاء العظماء أبطال البلاغة وفرسان الأدب أن هذه الأخبار على كثرتها وتكررها في جوامع الحديث تنسب إلى القرآن أنه يغلط في بيانه فيطلق النساء ( وهو جمع ) في مورد نفس واحدة ؟

لا وعمري ، وإنما التبس الأمر على هذا القائل واشتبه عنده المفهوم بالمصداق فتوهم أن الله عز اسمه لو قال لنبيه 6 : (فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ ) « الخ » وصح أن المحاجين عند نزول الآية وفد نجران وهم أربعة عشر رجلاً على ما في بعض الروايات ليس عندهم نساء ولا أبناء ؛ وصح أيضاً أن رسول الله 6 خرج إلى مباهلتهم وليس معه إلا علي وفاطمة والحسنان كان لازم ذلك أن معنى من حاج وفد نجران ، ومعنى نسائنا المرأة الواحدة ومعنى أنفسنا النفس الواحدة ، وبقي نسائكم وأبنائكم لا معنى لهما إذ لم يكن مع


الوفد نساء ولا أبناء !

وكان عليه أن يضيف إلى ذلك لزوم استعمال الأبناء وهو جمع في التثنية وهو أشنع من استعمال الجمع في المفرد فإن استعمال الجمع في المفرد ربما وجد في كلام المولدين وإن لم يوجد في العربية الأصيلة إلا في التكلم لغرض التعظيم لكن استعمال الجمع في المثنى مما لا مجوز له أصلاً.

فهذا هو الذي دعاه إلى طرح الروايات ورميها بالوضع ، وليس الأمر كما توهمه.

توضيح ذلك أن الكلام البليغ إنما يتبع فيه ما يقتضيه المقام من كشف ما يهم كشفه فربما كان المقام مقام التخاطب بين متخاطبين أو قبيلين ينكر أو يجهل كل منهما حال صاحبه فيوضع الكلام على ما يقتضيه الطبع والعادة فيؤتى في التعبير بما يناسب ذلك فأحد القبيلين المتخاصمين إذا أراد أن يخبر صاحبه أن الخصومة والدفاع قائمة بجميع أشخاص قبيله من ذكور واناث وصغير وكبير فإنما يقول : نخاصمكم أو نقاتلكم بالرجال والظعائن والأولاد فيضع الكلام على ما تقتضيه الطبع والعادة فإن العادة تقتضي أن يكون للقبيل من الناس نساء وأولاد والغرض متعلق بأن يبين للخصم أنهم يد واحدة على من يخاصمهم ويخاصمونه ، ولو قيل : نخاصمكم أو نقاتلكم بالرجال والنساء وابنين لنا كان إخباراً بأمر زائد على مقتضى المقام محتاجاً إلى عناية زائدة وتعرفاً إلى الخصم لنكتة زائدة.

وأما عند المتعارفين والأصدقاء والأخلة فربما يوضع الكلام على مقتضى الطبع والعادة فيقال في الدعوة للضيافة والاحتفال : سنقرئكم بأنفسنا ونسائنا وأطفالنا ، وربما يسترسل في التعرف فيقال : سنخدمكم بالرجال والبنت والسبطين الصبيين ؛ ونحو ذلك.

فللطبع والعادة وظاهر الحال حكم ، ولواقع الأمر وخارج العين حكم ، وربما يختلفان ، فمن بنى كلامه على حكاية ما يعلم من ظاهر حاله ، ويقضي به الطبع والعادة فيه ثم بدا حقيقة حاله وواقع أمره على خلاف ما حكاه من ظاهر حاله لم يكن غالطاً في كلامه ، ولا كاذباً في خبره ولا لاغياً هازلاً في قوله.

والآية جارية على هذا المجرى فقوله : (فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا


وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ) « الخ » اريد به على ما تقدم : أُدعهم إلى أن تحضر أنت وخاصتك من أهلك الذين يشاركونك في الدعوى والعلم ، ويحضروا بخاصتهم من أهليهم ، ثم وضع الكلام على ما يعطيه ظاهر الحال أن لرسول الله في أهله رجالاً ونساءاً وأبناءاً ولهم في أهليهم رجال ونساء وأبناء فهذا مقتضى ظاهر الحال ، وحكم الطبع والعادة فيه وفيهم ، أما واقع الأمر وحقيقته فهو أنه لم يكن له 6 من الرجال والنساء والبنين إلا نفس وبنت وابنان ، ولم يكن لهم إلا رجال من غير نساء ولا أبناء ، ولذلك لما أتاهم برجل وامرأة وولدين لم يجبهوه بالتلحين والتكذيب ، ولا أنهم اعتذروا عن الحضور بأنك أمرت بإحضار النساء والأبناء وليس عندنا نساء ولا أبناء ، ولا أن من قصت عليه القصة رماها بالوضع والتمويه.

ومن هنا يظهر فساد ما أورده بقوله : ثم وفد نجران الذين قالوا إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساء ولا أبناء.

ومنها : قوله : وكل ما يفهم من الآية أمر النبي 6 أن يدعو المحاجين والمجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالاً ونسائاً وأطفالاً ، ويجمع هو المؤمنين رجالا ونسائاً وأطفالاً ويبتهلون إلى الله بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى ـ إلى قوله ـ : وأنى لمن يؤمن بالله أن يرضى أن يجتمع مثل هذا الجمع من الناس المحقين والمبطلين في صعيد واحد متوجهين إلى الله تعالى في طلب لعنه وإبعاده من رحمته ؟ وأي جرأة على الله واستهزاء بقدرته وعظمته أقوى من هذا ؟

وملخصه أن الآية تدعو الفريقين إلى الاجتماع بأنفسهم ونسائهم وذراريهم في صعيد واحد ثم الابتهال بالملاعنة ، وينبغي أن يستبان ما هذا الاجتماع المدعو إليه ؟

أهو اجتماع الفريقين كافة أعني المؤمنين بأجمعهم وهم يومئذ (١) عرب ربيعة ومضر جلهم أو كلهم من اليمن والحجاز والعراق وغيرها ، والنصارى وهم أهل نجران من اليمن ونصارى الشام وسواحل البحر الابيض وأهل الروم والإفرنج والانجليز والنمسا وغيرهم.

__________________

١ ـ وهو سنة تسع على ما ذكره بعض المؤرخين أو عشر على ما ذكره آخرون وإن لم يخل جميعاً عن الاشكال على ما سيجيء في البحث الروائي عن الآيات التالية لهذه الآيات.


وهؤلاء الجماهير في مشارق الأرض ومغاربها تربو نفوسهم بالرجال والنساء والذراري يومئذ على الملائين بعد الملائين ، ولا يشك ذو لب أن من المتعذر اجتماعهم في صعيد واحد فالأسباب العادية تأبى ذلك بجميع أركانها ، ولازم ذلك أن يندب القرآن الناس إلى المحال ، وينيط ظهور حجته ، وتبين الحق الذي يدعيه على ما لا يكون البتة ، وكان ذلك عذراً ( ونعم العذر ) للنصارى في عدم إجابتهم دعوة النبي 6 إلى المباهلة ، وكان ذلك أضر لدعواه منه لدعويهم.

أم هو اجتماع الحاضرين من الفريقين ومن في حكمهم أعني المؤمنين من أهل المدينة وما والاها ، وأهل نجران ومن والاهم ، وهذا وإن كان أقل وأخف شناعة من الوجه السابق لكنه من حيث استحالة التحقق وامتناع الوقوع كسابقه فمن الذي كان يسعه يومئذ أن يجمع أهل المدينة ونجران قاطبة حتى النساء والذراري منهم في صعيد للملاعنة ، وهل هذه الدعوة إلا تعليقاً بالمحال ، واعترافاً بأن الحق متعذر الظهور.

أم هو اجتماع المتلبسين بالخصام والجدال من الفريقين أعني النبي 6 والحاضرين عنده من المؤمنين ، ووفد نجران من النصارى ، ويرد عليه حينئذ ما أورده بقوله : ( ثم إن وفد نجران الذين قالوا : إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساءهم وأولادهم ، وكان ذلك وقوعاً فيما ذكره من المحذور ).

ومنها : قوله : أما كون النبي 6 والمؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في عيسى 7 فحسبنا في بيانه قوله تعالى : (مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ) فالعلم في هذه المسائل الاعتقادية لا يراد به إلا اليقين.

أقول : أما كون العلم فيها بمعنى اليقين فهو حق وأما كون الآية دالة على كون المؤمنين على يقين من أمر عيسى 7 فليت شعري من أين له إثبات ؟ ذلك والآية غير متعرضة بلفظها (فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ) « الخ » إلا لشأن رسول الله 6 ومقام التخاطب أيضاً لا يشمل غيره 6 من المؤمنين فإن الوفد من النصارى ما كان لهم همّ إلا المحاجة والخصام مع النبي 6 ، ولم يكن لهم هوى في لقاء المؤمنين ، ولا كلموهم بكلمة ، ولا كلمهم المؤمنون بكلمة.

( ٣ ـ الميزان ـ ١٦)


نعم لو دلت الآية على حصول العلم لأحد غير النبي 6 لدل فيمن جيء به للمباهلة على ما استفدناه من قوله تعالى : (مِنَ الْكَاذِبِينَ) فيما تقدم.

بل القرآن يدل على عدم عموم العلم واليقين لجميع المؤمنين حيث يقول تعالى : (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ) يوسف ـ ١٠٦ ، فوصفهم بالشرك وكيف يجتمع الشرك مع اليقين ، ويقول تعالى : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ) الاحزاب ـ ١٢ ، ويقول تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ـ إلى أن قال ـ : أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ) محمد ـ ٢٣ ، فاليقين لا يتحقق به إلا بعض أولي البصيرة من متبعي النبي 6 ، قال تعالى : (فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) آل عمران ـ ٢٠ ، وقال تعالى : (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) يوسف ـ ١٠٨.

ومنها : قوله : وفي قوله : (نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ ) « الخ » وجهان : أحدهما أن كل فريق يدعو الآخر « الخ » قد عرفت فساد وجهه الأول وعدم انطباقه على لفظ الآية إذ قد عرفت أن الغرض كان مستوفي حأصلاً لو قيل : ( تعالوا نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) ، وإنما زيد عليه قوله : (نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ) ، ليدل على لزوم إحضار كل من الفريقين عند المباهلة أعز الأشياء عنده وأحبها إليه وهو الابناء والنساء والأنفس ( الأهل والخاصة ) ، وهذا إنما يتم لو كان معنى الآية : ندعو نحن أبناءنا ونساءنا وأنفسنا وتدعون أنتم أبناءكم ونساءكم وأنفسكم ، ثم نبتهل ، وأما لو كان المعنى ندعو نحن أبنائكم ونسائكم وأنفسكم وتدعون أنتم أبناءنا ونساءنا وأنفسنا ثم نبتهل بطل الغرض المذكور.

على أن هذا المعنى في نفسه مما لا يرتضيه الطبع السليم فما معنى تسليط رسول الله 6 النصارى على أبنائه ونسائه ، وسؤاله أن يسلطوه على ذراريهم ونسائهم ليتداعوا فيتم الحضور والمباهلة مع تأتي ذلك بدعوة كل فريق أهل نفسه لها ؟

على أن هذا المعنى يحتاج في فهمه من الآية إلى فهم معنى التسليط وما يشابهه ـ كما


تقدم ـ منها وأنما لنا فهمه ؟ فالحق أن هذا الوجه ساقط ، وأن الوجه الآخر وهو أن يكون المراد دعوة كل أهل نفسه هو المتعين.

ومنها : قوله : ولا إشكال في وجه من وجهي التوزيع في دعوة الأنفس وإنما الإشكال فيه على قول الشيعة ومن شايعهم على القول بالتخصيص ، يريد بالإشكال ما اورد على الآية من لزوم دعوة الإنسان نفسه ، يي وهذا الإشكال غير مرتبط بشيء من الوجهين أصلاً وإنما هو إشكال على القول بكون المراد بأنفسنا ، هو رسول الله 6 كما يحكى عن بعض المناظرات المذهبية حيث ادعى أحد الخصمين أن المراد بأنفسنا رسول الله 6 فاورد عليه بلزوم دعوة الإنسان نفسه وهو باطل تشير إليه الرواية الثانية المنقولة عن العيون فيما تقدم.

ومن هنا يظهر سقوط قوله : إنما الإشكال فيه على قول الشيعة فإن قولهم على ما قدمنا : أن المراد بأنفسنا هو الرجال من أهل بيت رسول الله 6 وهم بحسب المصداق رسول الله وعلي 8 ولا إشكال في دعوة بعضهم بعضاً.

فلا إشكال عليهم حتى على ما نسبه إليهم بزعمه أن معنى أنفسنا علي فإنه لا إشكال في دعوة النبي 6 علياً 7.

وقال تلميذه في المنار بعد الإشارة إلى الروايات وأخرج ابن عساكر عن جعفر ابن محمد عن أبيه : (فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ) الآية ؛ قال : فجاء بأبي بكرو ولده وعمر وولده وعثمان وولده. قال : والظاهر أن الكلام في جماعة المؤمنين.

ثم قال بعد نقل كلام أُستاذه المنقول سابقاً : وفي الآية ما ترى من الحكم بمشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمباراة القومية والمناضلة الدينية ، وهو مبني على اعتبار المرئة كالرجل حتى في الامور العامة إلا ما استثنى منها إلى آخر ما أطنب به من الكلام.

أقول : أما ما ذكره من الرواية فهي رواية شاذة تخالف جميع روايات الآية على كثرتها واشتهارها وقد أعرض عن هذه الرواية المفسرون ، وهي مع ذلك تشتمل على ما لا يطابق الواقع ، وهو جعله لكل من المذكورين فيه ولداً. ولا ولد يومئذ لجميعهم ألبتة.


وكأنه يريد بقوله : والظاهر أن الكلام في جماعة المؤمنين ، أن يستظهر من الرواية الدلالة على أن رسول الله 6 أحضر جميع المؤمنين وأولادهم فيكون قوله : فجاء بأبي بكر وولده « الخ » كناية عن إحضاره عامة المؤمنين ، وكأنه يريد به تأييد شيخه فيما ذكره من المعنى. وأنت ترى ما عليه الرواية من الشذوذ والإعراض والمتن ثم في الدلالة على ما ذكره من المعنى.

وأما ما ذكره من دلالة الآية على مشاركة النساء الرجال في الحقوق العامة فلو تم ما ذكره دل على مشاركة الأطفال أيضاً ، وفي هذا وحده كفاية في بطلان ما ذكره.

وقد قدمنا الكلام في اشتراكهن معهم عند الكلام على آيات الطلاق في الجزء الثاني من الكتاب وسيأتي شطر في ما يناسبه من المورد من غير حاجة إلى مثل ما استفاده من الآية.

* * *

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ـ ٦٤. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ـ ٦٥. هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ـ ٦٦. مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ـ ٦٧. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ـ ٦٨. وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ


وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ـ ٦٩. أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ـ ٧٠. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ـ ٧١. وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ـ ٧٢. وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ـ ٧٣. يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ـ ٧٤. وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ـ ٧٥. بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ـ ٧٦. إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ـ ٧٧. وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ـ ٧٨.


( بيان )

شروع في المرحلة الثانية من البيان المتعرض لحال أهل الكتاب عامة والنصارى خاصة وما يلحق بذلك. فقد كانت الآيات فيما مر تعرضت لحال أهل الكتاب عامة بقوله : (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ) آل عمران ـ ١٩ ، وبقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ ) آل عمران ـ ٢٣ ، ثم انعطف البيان إلى شأن النصارى خاصة بقوله : (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً) « الخ » آل عمران ـ ٣٣ ، وتعرضت في أثنائها لولاية المؤمنين للكافرين بقوله : (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء ) آل عمران ـ ٢٨ ، فهذا في المرحلة البادئة.

ثم عادت إلى بيان ما ذكرته ثانياً بلسان آخر ونظم دون النظم السابق فتعرضت لحال أهل الكتاب عامة فيهذه الآيات المنقولة آنفاً ، وما سيلحق بذلك من متفرقات بحسب مساس خصوصيات البيانات بذلك كقوله : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ) « الخ » آل عمران ـ ٩٨ ، وقوله : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ) « الخ » وتعرضت لحال النصارى وما تدعيه في أمر عيسى 7 بقوله : (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ ) « الخ » آل عمران ـ ٧٩ ، وتعرضت لامور ترجع إلى المؤمنين من دعوتهم إلى الإسلام والاتحاد والاتقاء من ولاية الكفار واتخاذ البطانة من دون المؤمنين في آيات كثيرة متفرقة.

قوله تعالى : قول : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ) ، الخطاب لعامة أهل الكتاب ، والدعوة في قوله : (تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ) « الخ » بالحقيقة إنما هي إلى الاجتماع على معنى الكلمة بالعمل به ، وإنما تنسب إلى الكلمة لتدل على كونها دائرة بألسنتهم كقولنا اتفقت كلمة القوم على كذا فيفيد معنى الإذعان والاعتراف والنشر والإشاعة. فالمعنى : تعالوا نأخذ بهذه الكلمة متعاونين متعاضدين في نشرها والعمل بما توجبه.

والسواء في الأصل مصدر ، ويستعمل وصفاً بمعنى مساوي الطرفين ، وسواء بيننا وبينكم أي مساو من حيث الأخذ والعمل بما توجبه ، وعليهذا فتوصيف الكلمة بالسواء توصيف بحال المتعلق وهو الأخذ والعمل ، وقد عرفت أن العمل إنما يتعلق


بمعنى الكلمة لا نفسها كما أن تعليق الاجتماع أيضاً على المعنى لا يخلو من عناية مجازية ففي الكلام وجوه من لطائف العنايات : نسبه الاجتماع إلى المعنى ثم وضع الكلمة مكان المعنى ثم توصيف الكلمه بالسواء !

وربما قيل : إن معنى كون الكلمة سواء أن القرآن والتوراة والإنجيل متفقة في الدعوة إليها ، وهي كلمة التوحيد ، ولو كان المراد به ذلك كان قوله تعالى : ( أن لا نعبد إلا الله ) « الخ » من قبيل وضع التفسير الحق موضع الكلمة المتفق عليها ؛ والإعراض عما لعبت به أيديهم من تفسيره غير المرضي الذي تنطبق الكلمة بذلك على أهوائهم من الحلول واتخاذ الابن والتثليث وعبادة الأحبار والقسيسين والأساقفة ويكون محصل المعنى : (تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) وهي التوحيد : ولازم التوحيد رفض الشركاء وعدم اتخاذ الأرباب من دون الله سبحانه.

والذي تختتم به الآية من قوله : فإن : (تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) يؤيد المعنى الأول فإن محصل المعنى بالنظر إليه أنه يدعو إلى هذه الكلمة وهي أن لا نعبد إلا الله « الخ » لأنها مقتضى الإسلام لله الذي هو الدين عند الله ، وإن كان الإسلام أيضاً لازماً من لوازم التوحيد لكن الدعوة في الآية إنما هي إلى التوحيد العملي وهو ترك عبادة غير الله سبحانه دون اعتقاد الوحدة ، فافهم ذلك.

قوله تعالى : (أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ ) ، تفسير للكلمه السواء ؛ وهي التي يوجبها الإسلام لله.

والمراد بقوله : (أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ) ، نفى عبادة غير الله لا إثبات عبادة الله تعالى على ما مرت الإشاره إليه في معنى كلمة الإخلاص ( لا إله إلا الله ) : أن لازم كون إلا الله ، بدلاً لا استثنائاً كون الكلام مسوقاً لبيان نفي الشريك دون إثبات الإله ، فإن القرآن يأخذ إثبات وجود الاله وحقيته مفروغاً عنه.

ولما كان الكلام مسوقاً لنفي الشريك في العبادة ولا ينحسم به مادة الشرك اللازم من اعتقاد البنوة والتثليث ونحو ذلك أردفه بقوله : ولا نشرك به شيئاًً ولا يتخذ « الخ » فإن تسمية العبادة بعبادة الله لا تصير العبادة عبادة لله سبحانه ما لم يخلص الاعتقاد ولم يتجرد الضمير من الاعتقادات والآراء المولودة من أصل الشرك لأن العبادة حينئذ إنما


تكون عبادة إله له شريك ، والعبادة التي يعبد بها أحد الشريكين وإن خص باسمه ووجه نحوه ليست إلا نابتة منبت التشريك لأنها لا تعدو أن تكون سهماً يسهم له وحظاً يقسم له من بين الشريكين أو الشركاء ففيها بعينها نحو عبادة للغير.

وهذا الذي يدعو إليه النبي بأمر الله سبحانه ، وهو الذي يدل عليه قوله : (أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ) ، هو الذي يجمع عرض النبوة في السيرة التي كانت الأنبياء تدعو إليها وتبسطها على المجتمع الإنساني.

فقد تقدم عند الكلام على قوله تعالى : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) البقرة ـ ٢١٣ ، أن النبوة انبعاث إلهي ونهضة حقيقية يراد بها بسط كلمة الدين وأن حقيقة الدين تعديل المجتمع الإنساني في سيره الحيوي ، ويتبعه تعديل حيوة الإنسان الفرد فينزل بذلك الكل منزلته التي نزله عليها الفطرة والخلقة فيعطي به المجتمع موهبة الحرية وسعادة التكامل الفطري على وجه العدل والقسط ، وكذلك الفرد فهو فيه حر مطلق في الانتفاع من جهات الحيوة فيما يهديه إليه فكره وإرادته إلا ما يضر بحيوة المجتمع وقد قيد جميع ذلك بالعبودية والإسلام لله سبحانه ، والخضوع لسيطرة الغيب وسلطنته.

وخلاصة ذلك أن الذي كانت تندب إليه جماعة الأنبياء : أن يسير النوع الإنساني فرادى ومجتمعين على ما تنطق به فطرتهم من كلمة التوحيد التي تقضي بوجوب تطبيق الأعمال الفردية والاجتماعية على الإسلام لله ، وبسط القسط والعدل ، أعني بسط التساوي في حقوق الحيوة ، والحرية في الإرادة الصالحة والعمل الصالح.

ولا يتأتى ذلك إلا بقطع منابت الاختلاف والبغي بغير الحق واستخدام القوى واستعباده للضعيف وتحكّمه عليه ، وتعبد الضعيف للقوي فلا إله إلا الله ، ولا رب إِلا الله ، ولا حكم إلا لله سبحانه.

وهذا هو الذي تدل عليه الآية : (أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ ) الآية ، وقال تعالى فيما يحكيه عن يوسف 7 : يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) يوسف ـ ٤٠ ، وقال تعالى : (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ


وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ) التوبة ـ ٣١ ، إلى غير ذلك من الآيات.

وفيما حكاه القرآن عن الأنبياء السالفين كنوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب وموسى وعيسى : مما كلموا به اممهم شيء كثير من هذا القبيل كقول نوح : (رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً ) نوح ـ ٢١ ، وقول هود لقومه : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ) الشعراء ـ ١٣٠ ، وقول صالح لقومه : (وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ) الشعراء ـ ١٥١ ، وقول إبراهيم لأبيه وقومه : (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) الأنبياء ـ ٥٤ ، وقوله تعالى لموسى وأخيه : (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ـ إلى أن قال ـ : فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ) طه ـ ٤٧ ، وقول عيسى لقومه : (وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) الزخرف ـ ٦٣ ، فالدين الفطري هو الذي ينفي البغي والفساد ، وهذه المظالم والسلطات بغير الحق الهادمة لأساس السعادة والمخربة لبنيان الحق والحقيقة ، وإلى ذلك يشير قول النبي 6 في حجة الوداع : ( وقد ذكره المسعودي في حوادث سنة عشر من الهجرة في مروج الذهب ) ( ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ) وكأنه 6 يريد به رجوع الناس إلى حكم الفطرة باستقرار سيرة الإسلام بينهم.

والكلام أعني قوله تعالى أن لا نعبد إلا الله « الخ » ، على كونه آخذاً بمجامع غرض النبوة مفصح عن سبب الحكم وملاكه.

أما قوله : (أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) فلأن الالوهية هي التي يأله إليه ويتوله فيه كل شيء من كل وجه ، وهو أن يكون منشئاً لكل كمال في الأشياء على كثرتها وارتباطها واتحادها في الحاجة ، وفيه كل كمال يفتاق إليه الأشياء ، وهذا المعنى لا يستقيم إلا إذا كان واحداً غير كثير ، ومالكاً إليه تدبير كل شيء ، فمن الواجب أن يعبد الله لأنه إله واحد لا شريك له ، ومن الواجب أن لا يتخذ له شريك في عبادته ، وبعبارة اخرى ، هذا العالم وجميع ما يحتوي عليه لا يصح ولا يجوز أن يخضع ويتصغر إلا لمقام واحد إذ هؤلاء المربوبون لوحدة نظامهم وارتباط وجودهم لا


رب لهم إلا واحد إذ لا خالق لهم إلا واحد.

وأما قوله تعالى : (وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ ) فمن حيث أفاد أن المجتمع الإنساني على كثرة أفراده وتفرق أشخاصه أبعاض من حقيقة واحدة هي حقيقة الإنسان ونوعه فما أودعته فيه يد الصنع والإيجاد من الاستحقاق والاستعداد الموزع بينهم على حد سواء يقضي بتساويهم في حقوق الحياة واستوائهم على مستوى واحد ، وما تفاوت فيه أحوال الأفراد واستعدادهم في اقتناء مزايا الحياة من مواهب الإنسانية العامة التي ظهرت في مظاهر خاصة من هيهنا وهناك وهنالك يجب أن تعطاه الإنسانية لكن من حيث تسأله ، كما أن الازدواج والولادة والمعالجة مثلاً من مسائل الإنسانية العامة لكن الذي يعطي الازدواج هو الإنسان البالغ الذكر أو الانثى ، والولادة يعطاها الإنسان الانثى ، والعلاج يعطاه الإنسان المريض.

وبالجملة أفراد الإنسان المجتمع أبعاض متشابهة من حقيقة واحدة متشابهة فلا ينبغي أن يحمل البعض إرادته وهواه على البعض إلا أن يتحمل ما يعادله ، وهو التعاون على اقتناء مزايا الحياة ، وأما خضوع المجتمع أو الفرد لفرد أعني الكل أو البعض لبعض بما يخرجه عن البعضية ، ويرفعه عن التساوي بالاستعلاء والتسيطر والتحكم بأن يؤخذ رباً متبع المشية ، يحكم مطلق العنان ، ويطاع فيما يأمر وينهى ففيه إبطال الفطرة وهدم بنيان الإنسانية.

وأيضاً من حيث إن الربوبية مما يختص بالله لا رب سواه فتمكين الإنسان مثله من نفسه يتصرف فيه بما يريد من غير انعكاس ، اتخاذ رب من دون الله لا يقدم عليه من يسلم لله الأمر.

فقد تبين أن قوله : (وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ ) يفصح عن حجتين فيما يفيده من المعنى : إحديهما كون الأفراد أبعاضاً ، والآخر كون الربوبية من خصائص الالوهية.

قوله تعالى : (فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ استشهاد ) ، بأنهم ( وهم النبي 6 ومن اتبعه ) على الدين المرضي عند الله تعالى وهو الإسلام ، قال : (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ) آل عمران ـ ١٩ ، فينقطع بذلك خصامهم وحجاجهم إذ لا حجة على الحق وأهله.


وفيه إشارة إلى أن التوحيد في العبادة من لوازم الإسلام.

قوله تعالى : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ) إلى آخر الآية ، الظاهر أنه مقول القول الواقع في الآية السابقة ، وكذا ما يأتي بعد أربع آيات فيكون مقولاً لرسول الله 6 وإن كان ظاهر سياق قوله : بعد آيتين : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ) الآية ، أن يكون الخطاب من الله لا من رسوله بإذنه.

ومحاجتهم في إبراهيم 7 بضم كل طائفة إياه إلى نفسها يشبه أن تكون أولاً بالمحاجة لإظهار المحقية كأن تقول اليهود إن إبراهيم 7 الذي أثنى الله عليه في كتابه منا فتقول النصارى : إن إبراهيم كان على الحق ، وقد ظهر الحق بظهور عيسى معه ، ثم تتبدل إلى اللجاج والعصبية فتدعي اليهود أنه كان يهودياً ، وتدعي النصارى أنه كان نصرانياً ، ومن المعلوم أن اليهودية والنصرانية إنما نشأتا جميعاً بعد نزول التوراة والإنجيل وقد نزلا جميعاً بعد إبراهيم 7 ، فكيف يمكن أن يكون 7 يهودياً بمعنى المنتحل بالدين الذي يختص بموسى 7 ، ولا نصرانياً بمعنى المتعبد بشريعة عيسى 7 ، فلو قيل في إبراهيم شيء لوجب أن يقال : إنه كان على الحق حنيفاً من الباطل إلى الحق مسلماً لله سبحانه ، وهذه الآيات في مساق قوله تعالى : (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَـقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) البقرة ـ ١٤٠.

قوله تعالى : ( هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ ) الآية ، الآية تثبت لهم علماً في المحاجة التي وقعت بينهم ، وتنفي علماً وتثبته لله تعالى ، ولذلك ذكر المفسرون : أن المعنى : أنكم حاججتم : في إبراهيم 7 ولكم به علم ما ، كالعلم بوجوده ونبوته ، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم وهو كونه يهودياً أو نصرانياً والله يعلم وأنتم لا تعلمون ، أو أن المراد بالعلم علم ما بعيسى وخبره ، والمعنى أنكم تحاجون في عيسى ولكم بخبره علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم وهو كون إبراهيم يهودياً أو نصرانياً ، هذا ما ذكروه.

وأنت تعلم أن شيئاًً من الوجهين لا ينطبق على ظاهر سياق الآية : أما الأول فلأنه لم تقع لهم محاجة في وجود إبراهيم ونبوته ، وأما الثاني فلأن المحاجة التي وقعت منهم في عيسى لم يكونوا فيها على الصواب بل كانوا مخطئين في خبره كاذبين في


دعويهم فيه فكيف يمكن أن يسمى محاجة فيما لهم به علم ؛ وكلامه تعالى على أي حال يثبت منهم محاجة فيما لهم به علم كما يثبت لهم محاجة فيما ليس لهم به علم ، فما هذه المحاجة التي هي فيما لهم به علم ؟ على أن ظاهر الآية أن هاتين إنما جرتا جميعاً فيما بين أهل الكتاب أنفسهم لا بينهم وبين المسلمين وإلا كان المسلمون على الباطل في الحجاج الذي أهل الكتاب فيه على علم ؛ وهو ظاهر.

والذي ينبغي ان يقال ـ والله العالم ـ أن من المعلوم أن المحاجة كانت جارية بين اليهود والنصارى في جميع موارد الاختلاف التي كانت بينهم ، وعمدة ذلك نبوة عيسى 7 وما كانت تقوله النصارى في حقه ( إنه الله ، أو ابنه ، أو التثليث ) فكانت النصارى تحاج اليهود في بعثته ونبوته وهم على علم منه ، وكانت اليهود تحاج النصارى ، وتبطل الوهيته ونبوته والتثليث وهم على علم منه فهذه محاجتهم فيما لهم به علم ، وأما محاجتهم فيما ليس لهم به علم فمحاجتهم في أمر إبراهيم أنه كان يهودياً أو نصرانياً.

وليس المراد بجهلهم به جهلهم بنزول التوراة والإنجيل بعده وهو ظاهر ، ولا ذهولهم عن أن السابق لا يكون تابعاً لللاحق فإنه خلاف ما يدل عليه قوله تعالى : أفلا تعقلون ، فإنه يدل على أن الأمر يكفي فيه أدنى تنبيه ، فهم عالمون بأنه كان سابقاً على التوراة والإنجيل لكنهم ذاهلون على مقتضى علمهم وهو أنه لا يكون حينئذ يهودياً ولا نصرانياً بل على دين الله الذي هو الإسلام لله.

لكن اليهود مع ذلك قالوا : إن الدين الحق لا يكون إلا واحدا وهو اليهودية فلا محالة كان إبراهيم يهودياً ، وقالت النصارى مثل ذلك فنصرت إبراهيم ، وقد جهلوا في ذلك أمراً وليس بذهول ، وهو أن دين الله واحد ، وهو الإسلام لله ، وهو واحد مستكمل بحسب مرور الزمان واستعداد الناس من حيث تدرجهم بالكمال ، واليهودية والنصرانية شعبتان من شعب كمال الإسلام الذي هو أصل الدين ، والأنبياء : بمنزلة بناة هذا البنيان ، لكل منهم موقعه فيما وضعه من الأساس ومما بنا عليه من هذا البنيان الرفيع.

وبالجملة فاليهود والنصارى جهلوا أنه لا يلزم من كون إبراهيم مؤسساً للإسلام وهو الدين الأصيل الحق ثم ظهور دين حق باسم اليهودية أو النصرانية ، وهو اسم شعبة من شعب كماله ومراتب تمامه أن يكون إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً بل يكون مسلماً


حنيفاً متلبساً باسم الإسلام الذي أسسه وهو أصل اليهودية والنصرانية دون نفسهما ، والأصل لا ينسب إلى فرعه بل ينبغي أن يعطف الفرع عليه.

وتسمية إبراهيم مسلماً لا يهودياً ولا نصرانياً غير عده تابعاً لدين النبي وشريعة القرآن ليرد الإشكال بأنه كما كان متقدماً على نزول التوراة والإنجيل فلا ينبغى أن يعد يهودياً أو نصرانياً كذلك كان متقدماً على نزول القرآن وظهور الإسلام فلا ينبغي أن يعد مسلماً ( حذو النعل بالنعل ).

وذلك أن الإسلام بمعنى شريعة القرآن من الاصطلاحات الحادثة بعد نزول القرآن وانتشار صيت الدين المحمدي ، والإسلام الذي وصف به إبراهيم هو أصل التسليم لله سبحانه والخضوع لمقام ربوبيته فالاشكال غير متوجه من أصله.

ولعل هذا الذي ذكرناه من وجه جهلهم بمعنى الدين الأصيل ، وكونه حقيقة ذات مراتب مختلفة ومتدرجة في الاستكمال هو المراد بقوله تعالى : (وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً ) « الخ » ويؤيده قوله : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ) الآية ، وقوله تعالى في ذيل الآيات : (قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ الآية ) آل عمران ـ ٨٥ ، على ما سيجيء من البيان.

قوله تعالى : (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً) إلى آخر الآية ، قد مر تفسيره فيما مر ، وقد قيل : إن اليهود والنصارى كما كانوا يدعون أن إبراهيم 7 منهم وعلى دينهم كذلك عرب الجاهلية من الوثنية كانت تدعي أنهم على الدين الحنيف دين إبراهيم 7 حتى كان أهل الكتاب يسمونهم الحنفاء ، ويدعون بالحنيفية الوثنية.

ولما وصف الله سبحانه إبراهيم 7 بقوله : ولكن كان حنيفاً ، وجب بيانه حتى لا يتوهم منه الوثنية فلذلك أردفه بقوله : مسلماً وما كان من المشركين ، أي كان على الدين المرضي عند الله تعالى وهو الإسلام وما كان من المشركين كعرب الجاهلية.

قوله تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ) الآية في موضع التعليل للكلام السابق وبيان للحق في المقام والمعنى ـ والله العالم ـ


أن هذا النبي المعظم إبراهيم لو أخذت النسبة بينه وبين من بعده من المنتحلين وغيرهم لكان الحق أن لا يعد تابعاً لمن بعده بل يعتبر الأولوية به والأقربية منه ، والأقرب من النبي الذي له شرع وكتاب هم الذين يشاركونه في إتباع الحق ، والتلبس بالدين الذي جاء به ، والأولى بهذا المعنى بإبراهيم 7 هذا النبي والذين آمنوا لأنهم على الإسلام الذي اصطفى الله به إبراهيم وكذا كل من اتبعه دون من يكفر بآيات الله ويلبس الحق بالباطل.

وفي قوله : للذين اتبعوه تعريض لأهل الكتاب من اليهود والنصارى بنحو الكنايه أي لستم أولى بإبراهيم لعدم اتباعكم إياه في إسلامه لله.

وفي قوله : وهذا النبي والذين آمنوا إفراد للنبي 7 ومن اتبعه من المؤمنين من الذين اتبعوا إبراهيم اجلالاً للنبي وصوناً لمقامه أن يطلق عليه الاتباع كما يستشعر ذلك ـ مثل قوله تعالى : (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) الأنعام ـ ٩٠ ، حيث لم يقل : فبهم اقتده.

وقد تمم التعليل والبيان بقوله : والله ولي المؤمنين ، فإن ولاية إبراهيم ( ولى الله ) من ولاية الله : والله ولي المؤمنين دون غيرهم الكافرين بآياته اللابسين الحق بالباطل.

قوله تعالى : (وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) ؛ الطائفة الجماعة من الناس ، وكأن الأصل فيه أن الناس وخاصة العرب كانوا أولا يعيشون شعوباً وقبائل بدويين يطوفون صيفاً وشتائاً بماشيتهم في طلب الماء والكلاء ، وكانوا يطوفون وهم جماعة تحذراً من الغيلة والغارة فكان يقال لهم جماعة طائفة ، ثم اقتصر على ذكر الوصف ( الطائفة ) للدلالة على الجماعه.

وأما كون أهل الكتاب لا يضلون إلا أنفسهم فإن أول الفضائل الإنسانية الميل إلى الحق واتباعه فحب صرف الناس عن الحق إلى الباطل من جهة أنه من أحوال النفس وأخلاقها رذيلة نفسانية ـ وبئست الرذيلة ـ وإثم من آثامها ومعاصيها وبغيها بغير حق ، وماذا بعد الحق إلا الضلال فحبهم لإضلال المؤمنين وهم على الحق إضلال بعينه لأنفسهم من حيث لا يشعرون.

وكذا لو تمكنوا من بعضهم بإلقاء الشبهات فأضلوه بذلك فإنما يضلون أولا أنفسهم


لأن الإنسان لا يفعل شيئاًً من خير أو شر إلا لنفسه كما قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ) حم السجدة ـ ٤٦ ، وأما ضلال من ضل بإضلالهم فليس بتأثير منهم بل هو بسوء فعال الضال الغاوي وشآمة إرادته بإذن من الله ، قال تعالى : (مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) الروم ـ ٤٤ ، وقال تعالى : (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) الشورى ـ ٣١ ، وقد مر شطر من الكلام في خواص الأعمال في الكلام على قوله تعالى : (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) البقرة ـ ٢١٧ ، في الجزء الثاني من الكتاب.

وهذا الذي ذكرناه من المعارف القرآنية التي يفيدها التوحيد الأفعالي الذي يتفرع على شمول حكم الربوبية والملك ، وبه يوجه ما يفيده قوله تعالى : (وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) ، من الحصر.

وأما ما ذكره المفسرون من التوجيه لمعنى الآية فلا يغني في الحصر المذكور طائلاً ولذلك أغمضنا عن نقله.

قوله تعالى : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ) ، قد مر أن الكفر بآيات الله غير الكفر بالله تعالى ، وأن الكفر بالله هو الالتزام بنفي التوحيد صريحاً كالوثنيه والدهرية ، والكفر بآيات الله إنكار شيء من المعارف الإلهية بعد ورود البيان ووضوح الحق ، وأهل الكتاب لا ينكرون أن للعالم إلهاً واحداً ، وإنما ينكرون اموراً من الحقائق بينتها لهم الكتب السماوية المنزلة عليهم وعلى غيرهم كنبوة النبي 6 وكون عيسى عبداً لله ورسولاً منه ، وأن إبراهيم ليس بيهودي ولا نصراني ، وأن يد الله مبسوطة ، وأن الله غني ، إلى غير ذلك ، فأهل الكتاب في لسان القرآن كافرون بآيات الله غير كافرين بالله ، ولا ينافيه قوله تعالى : (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ) التوبه ـ ٢٩ ، حيث نفى الإيمان عنهم صريحاً ، وليس إلا الكفر وذلك أن ذكر عدم تحريمهم للحرام وعدم تدينهم بدين الحق في الآية يشهد بأن المراد من توصيفهم بعدم الإيمان هو التوصيف بلازم الحال فلازم حالهم من الكفر بآيات الله عدم الإيمان بالله واليوم الآخر وإن لم يشعروا به ، وليس بالكفر الصريح.


وفي قوله تعالى : وأنتم تشهدون ـ والشهادة هو الحضور والعلم عن حس ـ دلالة على أن المراد بكفرهم بآيات الله إنكارهم كون النبي 6 هو النبي الموعود الذي بشر به التوراة والإنجيل مع مشاهدتهم انطباق الآيات والعلائم المذكورة فيهما عليه.

ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم : أن لفظ الآيات عام شامل لجميع الآيات ولا وجه لتخصيصه بآيات النبوة بل المراد كفرهم بجميع الآيات الحقة والوجه في فساده ظاهر.

قوله تعالى : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ) إلى آخر الآية ؛ اللبس بفتح اللام إلقاء الشبهة والتمويه أي تظهرون الحق في صورة الباطل.

وفي قوله : وأنتم تعلمون دلالة أو تلويح على أن المراد باللبس والكتمان ما هو في المعارف الدينية غير ما يشاهد من الآيات كالآيات التي حرفوها أو كتموها أو فسروها بغير ما يراد منها.

وهاتان الآيتان أعني قوله : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ) ـ إلى قوله : (وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ـ تتمه لقوله تعالى : ودت طائفة الآية ، وعليهذا فعتاب الجميع بفعال البعض بنسبته إليهم من جهة اتحادهم في العنصر والنسل والصفة ، ورضاء البعض بفعال البعض وهو كثير الورود في القرآن.

قوله تعالى : (وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ ) إلى آخر الآية ؛ المراد بوجه النهار بقرينة مقابلته بآخره هو أوله فإن وجه الشيء ما يبدو ويظهر به لغيره وهو في النهار أوله ، وسياق قولهم يكشف عن نزول وحي على النبي 6 في وجه النهار يوافق ما عليه أهل الكتاب وآخر في آخره يخالف ما هم عليه فإنما هو الذي دعاهم إلى أن يقولوا هذا القول.

وعليهذا فقوله : بالذي أُنزل على الذين آمنوا أريد به شيء خاص من وحي القرآن يوافق ما عند أهل الكتاب ، وقوله : وجه النهار منصوب على الظرفية ومتعلق بقوله : أُنزل ، لا بقوله : آمنوا ( صيغة الأمر ) لأنه أقرب ، وقوله : واكفروا آخره في معنى واكفروا بما أُنزل في آخره فيكون من وضع الظرف موضع المظروف بالمجاز العقلي نظير قوله تعالى : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) سبأ ـ ٣٣.


وبذلك يتأيد ما ورد في سبب النزول عن أئمة أهل البيت أن هذه كلمة قالتها اليهود حين تغيير القبلة حيث صلّى رسول الله صلوة الصبح إلى بيت المقدس وهو قبلة اليهود ، ثم حولت القبلة في صلوة الظهر نحو الكعبة فقالت طائفة من اليهود : آمنوا بما أُنزل على الذين آمنوا وجه النهار يريدون استقبال بيت المقدس ، واكفروا آخره يريدون استقبال الكعبة. ويؤيده قولهم بعده على ما حكاه الله : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، أي لا تثقوا بمن لا يتبع دينكم بالإيمان به فتفشوا عنده شيئاً من أسراركم والبشارات التي عندكم وكان من علائم النبي 6 أنه يحول القبلة إلى الكعبة.

وذكر بعضهم أن قوله : وجه النهار متعلق بقوله : آمنوا ( بصيغة الأمر ) والمراد به أول النهار ، وقوله : آخره ظرف بتقدير في ، ومتعلق بقوله واكفروا ، والمراد بقولهم : آمنوا بالذي أُنزل « الخ » أن يظهر عدة منهم الإيمان بالقرآن ويلحقوا بجماعة المؤمنين ثم يرتدوا في آخر النهار بإظهار أنهم انما آمنوا أول النهار لما كاد يلوح لهم من إمارات الصدق والحق من ظاهر الدعوة الإسلامية ، وإنما ارتدوا آخر النهار لما تبين لهم من شواهد البطلأن وعدم انطباق ما عندهم من بشارات النبوة وعلائم الحقانية على النبي 6 فيكون ذلك مكيدة تكاد بها المؤمنون فيرتابون في دينهم ، ويهنون في عزيمتهم فينكسر بذلك سورتهم وتبطل أُحدوثتهم.

وهذا المعنى في نفسه غير بعيد وخاصة من اليهود الذين لم يألوا جهداً في الكرة على الإسلام لإطفاء نوره من أي طريق ممكن غير أن لفظ الآية لا ينطبق عليه ، وسيأتي للكلام تتمة نتعرض لها في البحث الروائي التالي إنشاء الله العزيز.

وقال بعضهم : إن المراد آمنوا بصلاتكم إلى الكعبة أول النهار واكفروا به آخره لعلهم يرجعون ، وقال آخرون : المعنى أظهروا الإيمان في صدر النهار بما أقررتم به من صفة النبي 9 واكفروا آخره بإبداء أن ما وصف به النبي الموعود لا ينطبق عليه لعلهم يرتابون بذلك فيرجعوا عن دينهم ، وهذان الوجهان لا شاهد عليهما. وكيف كان المراد ، لا إجمال في الآية.

قوله تعالى : (وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ) « الخ » الذي يعطيه السياق هو أن تكون هذه الجملة من قول أهل الكتاب تتمة لقولهم : (آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ

( ٣ ـ الميزان ـ ١٧)


آمَنُواْ) ، وكذا قوله تعالى : (أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ) ، ويكون قوله : (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ) جملة معترضة هو جواب الله سبحانه عن مجموع ما تقدم من كلامهم أعني قولهم : (آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ) إلى قوله : دينكم ، على ما يفيده تغيير السياق ، وكذا قوله تعالى قل إن الفضل بيد الله جوابه تعالى عن قولهم : أن يؤتى أحد إلى آخره ، هذا هو الذي يقتضيه ارتباط أجزاء الكلام واتساق المعاني في الآيتين أولاً ، وما تناظر الآيتين من الآيات الحاكية لأقوال اليهود في الجدال والكيد ثانياً.

والمعنى ـ والله أعلم ـ أن طائفة من أهل الكتاب ـ وهم اليهود ـ قالت أي قال بعضهم لبعض : صدقوا النبي والمؤمنين في صلوتهم وجه النهار إلى بيت المقدس ولا تصدقوهم في صلوتهم إلى الكعبة آخر النهار ، ولا تثقوا في الحديث بغيركم فيخبروا المؤمنين أن من شواهد نبوة النبي الموعود تحويل القبلة إلى الكعبة فإن في تصديقكم أمر الكعبة وإفشائكم ما تعلمونه من كونها من امارات صدق الدعوة محذور أن يؤتى المؤمنون مثل ما اوتيتم من القبلة فيذهب به سوددكم ويبطل تقدمكم في أمر القبلة ، ومحذور أن يقيموا عليكم الحجة عند ربكم أنكم كنتم عالمين بأمر القبلة الجديدة شاهدين على حقيته ثم لم تؤمنوا.

فأجاب الله تعالى عن قولهم في الإيمان بما في وجه النهار والكفر في آخره وأمرهم بكتمان أمر القبلة لئلا يهتدي المؤمنون إلى الحق بأن الهدى الذي يحتاج إليه المؤمنون الذي هو حق الهدى إنما هو هدى لله دون هداكم ، فالمؤمنون في غنى عن ذلك فإن شئتم فاتبعوا وإن شئتم فاكفروا وإن شئتم فأفشوا وإن شئتم فاكتموا.

وأجاب تعالى عما ذكروه من مخافة أن يؤتى أحد مثل ما اوتوا أو يحاجوهم عند ربهم بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء لا بيدكم حتى تحبسوه لأنفسكم وتمنعوا منه غيركم ، وأما حديث الكتمان مخافة المحاجة فقد أعرض عن جوابه لظهور بطلأنه كما فعل كذلك في قوله تعالى في هذا المعنى بعينه : (وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) البقرة ـ ٧٧ ، فقوله : أو لا يعلمون ، إيذان بأن هذا القول بعد ما علموا أن الله لا يتفاوت فيه السر


والعلانية كلام منهم لا يستوي على تعقل صحيح ، وليس جواباً لمكان الواو في قوله : أو لا يعلمون.

وعلى ما مر من المعنى فقوله تعالى : ولا تؤمنوا معناه ، لا تثقوا ولا تصدقوا لهم الوثاقة وحفظ السر على حد قوله تعالى : (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) البرائة ـ ٦١ ، والمراد بقوله : لمن تبع ، اليهود.

والمراد بالجملة النهي عن إفشاء ما كان عندهم من حقية تحويل القبلة إلى الكعبة كما مر في قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ـ إلى أن قال : وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ـ إلى أن قال : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) البقرة ـ ١٤٦.

وفي معنى الآية أقوال شتى دائرة بين المفسرين كقول بعضهم : إن قوله تعالى : ( وَلاَ تُؤْمِنُواْ ) إلى آخر الآية كلام لله تعالى لا لليهود ، وخطاب الجمع في قوله : ولا تؤمنوا وقوله : (مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ ) جميعاً للمؤمنين ، وخطاب الإفراد في قوله : قل ، في الموضعين للنبي 6 وقول آخرين بمثله إلا أن خطاب الجمع في قوله : اوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم ، لليهود في الكلام عتاب وتقريع. وقول آخرين إن قوله : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم من كلام اليهود ، وقوله : قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد « الخ » كلام لله تعالى جواباً عما قالته اليهود ، وكذا الخلاف في معنى الفضل أن المراد به الدين أو النعمة الدنيوية أو الغلبة أو غير ذلك.

وهذه الأقوال على كثرتها بعيدة عما يعطيه السياق كما قدمنا الإشارة إليه ولذا لم نشتغل بها فضل اشتغال.

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ، الفضل هو الزائد عن الاقتصاد ، ويستعمل في المحمود كما أن الفضول يستعمل في المذموم ، قال الراغب : وكل عطية لا تلزم من يعطي يقال لها فضل نحو قوله : واسألوا الله من فضله ـ ذلك فضل الله ـ ذو الفضل العظيم ، وعلى هذا قوله : قل بفضل الله ـ ولو لا فضل الله انتهى.

وعلى هذا فقوله : إن الفضل بيد الله ، من قبيل الإيجاز بالقناعة بكبرى البيان


القياسي ؛ والتقدير قل إن هذا الإنزال والايتاء الإلهي الذي تحتالون في تخصيصه بأنفسكم بالتظاهر على الإيمان والكفر ، والإيصاء بالكتمان أمر لا نستوجبه معاشر الناس على الله تعالى بل هو من الفضل ، والفضل بيد الله الذي له الملك وله الحكم فله أن يؤتيه من يشاء والله واسع عليم.

ففي الكلام نفي ما يدل عليه قولهم وفعلهم من تخصيص النعمة الإلهية بأنفسهم بجميع جهاته المحتملة فإن تنعم بعض الناس بفضل الله تعالى دون البعض كتنعم اليهود بنعمة الدين والقبلة ، وحرمان غيرهم إما أن يكون لأن الفضل منه تعالى يمكن أن يقع تحت تأثير الغير فيزاحم المشية الإلهية ، ويحبس فضله عن جانب ، ويصرفه إلى آخر ، وليس كذلك فإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.

وأما أن يكون لأن الفضل قليل غير واف والمفضل عليهم كثيرون فيكون إيتائه على البعض دون البعض يحتاج إلى انضمام مرجح فيحتال إلى إقامة مرجح لتخصيص البعض الذي ينعم عليه ، وليس كذلك فإن الله سبحانه واسع الفضل والمقدرة.

وإما أن يكون لأن الفضل وإن كان واسعاً وبيد الله لكن يمكن أن يحتجب المفضل عليه عنه تعالى بجهل منه فلا ينال الفضل فيحتال في حجبه وستر حاله عنه تعالى حتى يحرم من فضله ، وليس كذلك فإن الله سبحانه عليم لا يطرأ عليه جهل.

قوله تعالى : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فلما كان الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وكان واسعاً عليماً أمكن أن يختص بعض عباده ببعض نعمه فإن له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء ، وليس إذا لم يكن ممنوع التصرف في فضله وإيتائه عباده أن يجب عليه أن يؤتي كل فضله كل أحد فإن هذا أيضاً نوع ممنوعية في التصرف بل له أن يختص بفضله من يشاء.

وقد ختم الكلام بقوله : والله ذو الفضل العظيم وهو بمنزلة التعليل لجميع المعاني السابقة فإن لازم عظمة الفضل على الإطلاق أن يكون بيده يؤتيه من يشاء ، وأن يكون واسعاً في فضله ؛ وأن يكون عليماً بحال عباده وما هو اللائق بحالهم من الفضل ، وأن يكون له أن يختص بفضله من يشاء.

وفي تبديل الفضل بالرحمة في قوله : يختص برحمته من يشاء ، دلالة على أن


الفضل وهو العطية غير الواجبة من شعب الرحمة قال تعالى : ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) الأعراف ـ ١٥٦ وقال : (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً ) النور ـ ٢١ ، وقال تعالى : (قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ ) أسرى ـ ١٠٠.

قوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ) ـ إلى قوله : من سبيل ـ إشارة إلى اختلافهم في حفظ الأمانات والعهود اختلافاً فاحشاً آخذاً بطرفي التضاد وأن هذا وإن كان في نفسه رذيلة قومية ضارة إلا أنه ناش بينهم فاش في جماعتهم من رذيلة اخرى اعتقادية وهي ما يشتمل عليه قولهم : ليس علينا في الاميين سبيل ، فانهم كانوا يسمون أنفسهم بأهل الكتاب ، وغيرهم بالاميين فقولهم ، ليس علينا في الاميين سبيل معناه نفي أن يكون لغير إسرائيلي على إسرائيلي سبيل ، وقد أسندوا الكلمة إلى الدين ، والدليل عليه قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) بلى « الخ ».

فقد كانوا يزعمون ـ كما أنهم اليوم على زعمهم ـ أنهم هم المخصوصون بالكرامة الإلهية لاتعدوهم إلى غيرهم بما أن الله سبحانه جعل فيهم نبوة وكتاباً وملكاً فلهم السيادة والتقدم على غيرهم ، واستنتجوا من ذلك أن الحقوق المشرعة عندهم اللازمة المراعاة عليهم كحرمة أخذ الربا وأكل مال الغير : وهضم حقوق الناس إنما هي بينهم معاشر أهل الكتاب فالمحرم هو أكل مال الإسرائيلي على مثله ، و المحظور هضم حقوق يهودي على أهل ملته ، وبالجملة إنما السبيل على أهل الكتاب لأهل الكتاب ، وأما غير أهل الكتاب فلا سبيل له على أهل الكتاب فلهم أن يحكموا في غيرهم ما شائوا ويفعلوا في من دونهم ما أرادوا ، وهذا يؤدي إلى معاملتهم مع غيرهم معاملة الحيوان العجم كائناً من كان.

وهذا وإن لم يوجد فيما عندهم من الكتب المنسوبة إلى الوحي كالتوراة وغيرها لكنه أمر أخذوه من أفواه أحبارهم فقلدوهم فيه ثم لما كان الدين الموسوي لا يعدو بني إسرائيل إلى غيرهم جعلوه جنسية بينهم ، وتولد من ذلك أن هذه الكرامة والسؤدد أمر جنسي خص بذلك بنو إسرائيل خاصة فالأنتساب الإسرائيلي هو مادة الشرف وعنصر السؤدد والمنتسب إلى إسرائيل له التقدم المطلق على غيره ؛ وهذه الروح الباغية إذا دبت في قالب قوم بعثتهم إلى إفساد الأرض وإماتة روح الإنسانية وآثارها


الحاكمة في الجامعة البشرية.

نعم أصل هذه الكلمة ـ وهو سلب الحقوق العامة عن بعض الأفراد والجوامع ـ مما لا مناص عنه في الجامعة الإنسانية لكن الذي يعتبره المجتمع الإنساني الصالح هو سلب الحقوق عمن يريد إبطال الحقوق وهدم المجتمع ، والذي يعتبره الإسلام في ثبوت الحق هو دين التوحيد من الإسلام أو الذمة فمن لا إسلام له ولا ذمة ، فلا حق له من الحيوة وهو الذي ينطبق على الناموس الفطري الذي سمعت أنه المعتبر إجمالاً عند المجتمع الإنساني.

ولنرجع إلى ما كنا فيه من الكلام في الآية فقوله تعالى : ( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) كان الظاهر أن يقال : ومنهم ، فهو من وضع الظاهر موضع الضمير والوجه فيه دفع أن يتوهم أن هؤلاء بعض من الطائفة المذكورة في الآيتين السابقتين التي قالت : (آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ) « الخ » ولذلك لما اندفع التوهم المذكور قيل في الآية الآتية : وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب الآية.

وهناك وجه آخر وهو أن ذكر الوصف ـ وهو كونهم من أهل الكتاب مشعر بنوع من التعليل ، وذلك أن صدور هذا القول والفعل منهم ـ أعني قولهم : ليس علينا في الاميين سبيل ، وأكلهم مال الناس بذلك لم يكن بذاك البعيد المستغرب لو كانوا اميين لا خبر عندهم من النبوة والوحي لكنهم أهل الكتاب وعندهم الكتاب فيه حكم الله ، وهم يعلمون أن الكتاب لا يحكم لهم بذلك ، ولا يبيح لهم مال غيرهم لأنه غيرهم فهذا الذي قالوه ثم فعلوه وهم أهل الكتاب منهم أغرب وأبعد ، والتوبيخ والتقبيح عليهم أوجه وألزم.

والقنطار والدينار معروفان ، والمقابلة بينهما ـ على ما فيها من المحسنات البديعية ـ والمقام مقام يذكر فيه الأمانة تفيد أنه كنى بهما عن الكثير والقليل ، والمراد أن منهم من لا يخون الأمانة وإن كثرت وثقلت قيمتها ، ومنهم من يخونها وإن قلت وخفت.

وكذا الخطاب الموضوع في الكلام بقوله : إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ، غير متوجه إلى مخاطب معين بل هو للتكنية عن أي مخاطب يمكن أن يخاطب بهذا الكلام للإشعار بأن الحكم عام غير مقصور على واحد دون واحد ، والكلام في معنى قولنا ؛


إن يأمنه مؤتمن أي مؤتمن كان بقنطار يؤده إليه.

وما في قوله : إلا ما دمت عليه قائماً ، مصدرية على ما قيل ، والتقدير إلا أن تدوم قائما عليه ، وذكر القيام عليه للدلالة على الإلحاح والاستعجال فإن قيام المطالب على ساقه عند المطالبة من غير قعود دليل على ذلك ، وربما قيل : إن ما ظرفية وليس بشيء.

وقوله : ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الاميين سبيل ، ظاهر السياق أن ذلك إشارة إلى مجموع المضمون المأخوذ من سابق القول أي كون بعضهم يؤدي الأمانة وإن كانت خطيرة مهمة ، وبعضهم لا يؤديها وإن كانت حقيرة لا يعبأ بها إنما هو لقولهم ، ليس علينا في الاميين سبيل فأوجب ذلك اختلافاً بينهم في الصفات الروحية كحفظ الأمانات والاتقاء عن تضييع حقوق الناس ، والاغترار بالكرامة مع أنهم يعلمون أن الله لم يسن لهم ذلك في الكتاب ولا رضي بمثل هذه الافعال منهم.

ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى حال الطائفة الثانية المذكورة بقوله : ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده اليك ، ويكون ذكر الطائفة الاولى الأمينة لاستيفاء تمام الأقسام ، والتحفظ على النصفة ، ويجوز حينئذ أن تكون ضمائر الجمع في قوله : ويقولون وفي قوله : وهم يعلمون راجعة إلى أهل الكتاب أو راجعة إلى قوله : من إن تأمنه بدينار ، بحسب المعنى وكذا يجوز على التقدير الثاني أن يكون المراد بضمير التكلم في قوله : علينا ، جميع أهل الكتاب أو خصوص البعض ؛ ويختلف المعنى باختلاف المحتملات إلا أن الجميع صحيحة مستقيمة ، وعليك بالتدبر فيها.

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) إبطال لدعويهم أنه ليس علينا في الاميين سبيل ، ودليل على أنهم كانوا ينسبون ذلك إلى الوحي السماوي والتشريع الديني كما مر.

قوله تعالى : (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) ، رد لكلامهم وإثبات لما نفوه بقولهم : ليس علينا في الاميين سبيل ؛ وإيفاء العهد تتميمه بالتحفظ من العذر والنقص والتوفية البذل والإعطاء وافياً ؛ والاستيفاء الأخذ والتناول وافياً.

والمراد بالعهد ما أخذ الله الميثاق عليه من عباده أن يؤمنوا به ويعبدوه على ما يشعر به قوله في الآية التالية : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) ، أو مطلق


العهد الذي منه عهد الله تعالى.

وقوله : (فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) من قبيل وضع الكبرى موضع الصغرى إيثاراً للإيجاز ، والتقدير فإن الله يحبه لأنه متق والله يحب المتقين ، والمراد أن كرامة الله لعباده المتقين حبه لهم لا ما زعمتموه من نفي السبيل.

فمفاد الكلام أن الكرامة الإلهية ليست بذاك المبتذل السهل التناول حتى ينالها كل من انتسب إليه انتساباً أو يحسبها كل محتال أو مختال كرامة جنسية أو قومية بل يشترط في نيلها الوفاء بعهد الله وميثاقه والتقوى في الدين فإذا تمت الشرائط حصلت الكرامة وهي المحبة والولاية الإلهية التي لا تعدو عباده المتقين ، وأثرها النصرة الإلهية والحيوة السعيدة التي تعمر الدنيا وتصلح بال أهلها ، وترفع درجات الآخرة.

فهذه هي الكرامة الإلهية لا أن يحمل قوماً على أكتاف عباده من صالح وطالح ويطلقهم ويخلي بينهم وبين ما يشائون وما يعملون فيقولوا يوماً : ليس علينا في الاميين سبيل ، ويوماً : ( نحن أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ) (١) ويوما نحن أبناء الله وأحبائه (٢) فيهديهم ذلك إلى إفساد الأرض ، وإهلاك الحرث والنسل.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) تعليل للحكم المذكور في الآية السابقة ، والمعنى أن الكرامة الإلهية خاصة بمن أوفى بعهده واتقى لأن غيرهم ـ وهم : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ) ـ لا كرامة لهم.

ولما كان نقض عهد الله وترك التقوى إنما هو للتمتع بزخارف الدنيا وإيثار شهوات الأولى على الاخرى كان فيه وضع متاع الدنيا موضع إيفاء العهد والتقوى ، وتبديل العهد به ، ولذلك شبه عملهم ذلك بالمعاملة فجعل عهد الله مبيعاً يشترى بالمتاع ، وسمى متاع الدنيا وهو قليل بالثمن القليل ، والاشتراء هو البيع فقيل : يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمناً قليلاً ، أي يبدلون العهد والإيمان من متاع الدنيا.

قوله تعالى : أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله إلى آخر الآية ،

__________________

١ ـ قال تعالى : (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ الآية ) الجمعة ـ ١.

٢ ـ قال تعالى : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ الآية ) المائدة ـ ١٨


الخلاق النصيب ، والتزكية هي الإنماء نمواً صالحاً ، ولما كان الوصف المأخوذ في بيان هذه الطائفة من الناس مقابلاً للوصف المأخوذ في الطائفة الاخرى المذكورة في قوله : من أوفى بعهده واتقى ، ثم كانت التبعات المذكورة لوصفهم اموراً سلبية أفاد ذلك :

أولاً : أن الإتيان في الإشارة بلفظ اولئك الدال على البعد لإفادة بعد هؤلاء من ساحة القرب كما أن الموفون بعهدهم المتقون مقربون لمكان حب الله تعالى لهم.

وثانياً : أن آثار محبة الله سبحانه هي الخلاق في الآخرة ، والتكليم والنظر يوم القيامة ، والتزكية والمغفرة ، وهي رفع أليم العذاب.

والخصال التي ذكرها الله تعالى لهؤلاء الناقضين لعهد الله وأيمانهم امور ثلاثة :

أحدها : أنهم لا نصيب لهم في الآخرة ، والمراد بالآخرة هي الدار الآخرة ( من قيام الوصف مقام الموصوف ) ويعني بها الحياة التي بعد الموت كما أن المراد بالدنيا هي الدار الدنيا وهي الحياة الدنيا قبل الموت.

ونفي النصيب عنهم في الآخرة لاختيارهم نصيب الدنيا عليه ، ومن هنا يظهر أن المراد بالثمن القليل هو الدنيا ، وإنما فسرناه فيما تقدم بمتاع الدنيا لمكان توصيفه تعالى إياه بالقليل ، وقد وصف به متاع الدنيا في قوله ـ عز من قائل ـ : (قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ) النساء ـ ٧٧ ، على أن متاع الدنيا هو الدنيا.

وثانيها : أن الله لا يكلمهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة ، وقد حوذي به المحبة ـ الإلهية للمتقين من حيث إن الحب يوجب تزود المحب من المحبوب بالاسترسال بالنظر والتكليم عند الحضور والوصال ، وإذ لا يحبهم الله فلا يكلمهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة وهو يوم الإحضار والحضور ، والتدرج من التكليم إلى النظر لوجود القوة والضعف بينهما فإن الاسترسال في التكليم أكثر منه في النظر فكأنه قيل : لا نشرفهم لا كثيراً ولا قليلاً.

وثالثها : أن الله لا يزكيهم ولهم عذاب أليم ، وإطلاق الكلام يفيد أن المراد بهما ما يعم التزكية والعذاب في الدنيا والآخرة.

قوله تعالى : وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب


وما هو من الكتاب ، الليّ هو فتل الحبل ، ولي الرأس واللسان إمالتهما. قال تعالى : ( لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ) المنافقون ـ ٥ ، وقال تعالى : (لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ) النساء ـ ٤٦ ، والظاهر أن المراد بذلك أنهم يقرأون ما افتروه من الحديث على الله سبحانه بألحان يقرأون بها الكتاب تلبيساً على الناس ليحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب.

وتكرار لفظ الكتاب ثلاث مرات في الكلام لدفع اللبس فإن المراد بالكتاب الأول هو الذي كتبوه بأيديهم ونسبوه إلى الله سبحانه ، وبالثاني الكتاب الذي أنزله الله تعالى بالوحي ، وبالثالث هو الثاني كرر لفظه لدفع اللبس وللإشارة إلى أن الكتاب بما أنه كتاب الله أرفع منزلة من أن يشتمل على مثل تلك المفتريات ، وذلك لما في لفظ الكتاب من معنى الوصف المشعر بالعلية.

ونظيره تكرار لفظ الجلالة في قوله : ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ، فالمعنى وما هو من عند الله الذي هو إله حقاً لا يقول إلا الحق ، قال تعالى : (وَالْحَقَّ أَقُولُ ) ص ـ ٨٤.

وأما قوله : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) تكذيب بعد تكذيب لنسبتهم ما اختلقوه من الوحي إلى الله سبحانه فإنهم كانوا يلبسون الأمر على الناس بلحن القول فأبطله الله بقوله : وما هو من الكتاب ثم كانوا يقولون بألسنتهم هو من عند الله فكذبهم الله : أولاً بقوله : وما هو من عند الله ، وثانياً بقوله : ويقولون على الله الكذب ، وزاد في الفائدة أولا أن الكذب من دأبهم وديدنهم ، وثانياً أن ذلك ليس كذباً صادراً عنهم بالتباس من الأمر عليهم بل هم عالمون به متعمدون فيه.

( بحث روائي )

في الدر المنثور في قوله تعالى : قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء الآية أخرج ـ يعني ابن جرير J عن السدي ، قال : ثم دعاهم رسول الله 6 ـ يعني الوفد من نصارى نجران ـ فقال : يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء الآية.

اقول : وروى فيه هذا المعنى أيضاً عن ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير وظاهر الرواية أن الآية نزلت فيهم ، وقد قدمنا الرواية في أول السورة الدالة على أن


صدر السورة إلى نيف وثمانين آية نزلت في نصارى نجران ، وهذه الآية منها لوقوعها قبل تمام العدد.

وورد في بعض الروايات أن رسول الله دعا يهود المدينة إلى الكلمة السواء حتى قبلوا الجزية ، وذلك لا ينافي نزول الآية في وفد نجران.

وفي صحيح البخاري بإسناده عن ابن عباس عن أبي سفيان في حديث طويل : يذكر فيه كتاب رسول الله 6 إلى هرقل عظيم الروم ، قال أبو سفيان ثم دعا يعني هرقل بكتاب رسول الله 6 فقرأه فإذا فيه ، بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ) ـ إلى قوله ـ : اشهدوا بأنا مسلمون الحديث.

اقول : ورواه أيضاً مسلم في صحيحه ، ورواه السيوطي في الدر المنثورعن النسائي وعبد الرزاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس وقد قيل إن كتاب رسول الله 6 إلى مقوقس عظيم القبط أيضاً كان مشتملاً على قوله تعالى : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ) ، وهناك نسخة منسوبة إليه 6 مخطوطة بالخط الكوفي تضاهي كتابه 6 إلى هرقل وقد استنسخ منها أخيراً بالتصوير الشمسي ما يوجد عند كثيرين.

وكيف كان فقد ذكر المؤرخون أن رسول الله 6 إنما كتب الكتب وأرسل الرسل إلى الملوك من قيصر وكسرى والنجاشي سنة ست من الهجرة ، ولازمه نزول الآية في سنة ست أو قبلها وقد ذكر المؤرخون كالطبري وابن الأثير والمقريزي أن نصارى نجران إنما وفدوا على رسول الله ـ 6 سنة عشر من الهجرة ، وذكر آخرون كأبي الفداء في البداية والنهاية ونظيره في السيرة الحلبية أن ذلك كان في سنة تسع من الهجرة ، ولازم ذلك نزول هذه الآية في سنة تسع أو عشر.

وربما قيل : إن الآية مما نزلت أول الهجرة على ما تشعر به الروايات الآتية ، وربما قيل : إن الآية نزلت مرتين نقله الحافظ ابن حجر.


والذي يؤيده اتصال آيات السورة سياقاً كما مرت الإشارة إليه في أول السورة : أن الآية نزلت قبل سنة تسع ، وأن قصة الوفد إنما وقعت في سنة ست من الهجرة أو قبلها ، ومن البعيد أن يكاتب 6 عظماء الروم والقبط وفارس ويغمض عن نجران مع قرب الدار.

وفي الرواية نكتة اخرى وهي تصدير الكتاب ببسم الله الرحمن الرحيم ، ومنه يظهر ما في بعض ما نقلناه من الروايات في قصة وفد نجران كما عن البيهقي في الدلائل : أن رسول الله 6 كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان : بسم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب ، من محمد رسول الله إلى اسقف نجران إن أسلمتم فإني أحمد اليكم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وإلى ولاية الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية ، وإن أبيتم فقد آذنتكم بالحرب والسلام ، الحديث.

وذلك أن سورة النمل من السور المكية ومضامين آياتها كالنص في أنها نزلت قبل هجرة النبي 6 وكيف يجتمع ذلك مع قصة نجران على أن الكتاب يشتمل على امور اخر لا يمكن توجيهها كحديث الجزية والايذان بالحرب وغير ذلك ، والله أعلم.

وفي الدر المنثور أخرج الطبراني عن ابن عباس : أن كتاب رسول الله إلى الكفار : (تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) الآية.

وفي الدر المنثور أيضاً في قوله تعالى : يا أهل الكتاب لم تحاجون الآية أخرج ابن إسحأق وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله 6 ـ فتنازعوا عنده ، فقالت الأحبار ـ ما كان إبراهيم إلا يهودياً ، وقالت النصارى ما كان إبراهيم إلا نصرانياً فأنزل الله فيهم : يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده إلى قوله : والله ولي المؤمنين ، فقال أبو رافع القرظي (١) ـ أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم ؟ فقال رجل من أهل نجران : أذلك تريد يا محمد ؟ فقال رسول الله 6 : معاذ الله أن أعبد غير الله ، أو آمر بعبادة غيره ، ما بذلك بعثني ولا

__________________

١ ـ من يهود بني قريظة.


أمرنى فأنزل الله في ذلك من قولهما : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله إلى قوله ـ : بعد إذ أنتم مسلمون ثم ذكر ما أخذ عليهم وعلى آبائهم من الميثاق بتصديقه إذا هو جائهم ، وإقرارهم به على أنفسهم ، فقال : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ـ إلى قوله ـ : من الشاهدين.

اقول : الآيات أعني قوله : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة إلى آخر الآيات أوفق سياقاً وأسهل انطباقاً على عيسى بن مريم 7 منه برسول الله 6 على ما سيجيء في الكلام على الآيات فلعل ما في الرواية من نزول الآيات في حق رسول الله 6 استنباط وتطبيق من ابن عباس ، على ان المعهود من دأب القرآن التعرض لهذا النوع من القول في صورة السؤال والجواب أو الحكاية والرد.

وفي تفسير الخازن روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ورواه محمد بن اسحاق عن ابن شهاب بإسناده حديث هجرة الحبشة ، قال : لما هاجر جعفر بن أبي طالب واناس من أصحاب النبي 6 إلى أرض الحبشة واستقرت بهم الدار ، وهاجر النبي 6 إلى المدينة ، وكان من أمر بدر ما كان اجتمعت قريش في دار الندوة ، وقالوا إن لنا في الذين عند النجاشي من أصحاب محمد ثأراً ممن قتل منكم ببدر فأجمعوا مالا وأهدوه إلى النجاشي لعله يدفع اليكم من عنده من قومكم ، ولينتدب إليه رجلأن من ذوي رأيكم.

فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن أبي معيط معهم الهدايا : الإدم وغيره فركبا البحر حتى أتيا الحبشة فلما دخلا على النجاشي سجدا له وسلما عليه ، وقالا له إن قومنا لك ناصحون شاكرون ، ولأصحابك محبون وأنهم بعثونا اليك لنحذر هؤلاء الذين قدموا عليك لأنهم قوم رجل كذاب ، خرج يزعم أنه رسول الله ، ولم يتابعه أحد منا إلا السفهاء ، وإنا كنا قد ضيقنا عليهم : الأمر وألجأناهم إلى شعب بأرضنا لا يدخل عليهم أحد فقتلهم الجوع والعطش فلما اشتد عليه الأمر بعث اليك ابن عمه ليفسد عليك دينك وملكك ورعيتك فاحذرهم وادفعهم الينا لنكفيكم ، قال : وآية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ، ولا يحيونك بالتحية التي يحييك بها الناس رغبة عن دينك وسنتك.

قال : فدعاهم النجاشي فلما حضروا صاح جعفر بالباب. يستأذن عليك حزب


الله تعالى ، فقال النجاشي : مروا هذا الصائح فليعد كلامه ، ففعل جعفر فقال النجاشي : نعم فليدخلوا بأمان الله وذمته فنظر عمرو إلى صاحبه فقال : ألا تسمع كيف يرطنون بحزب الله وما أجابهم به الملك ؟ فأسائهما ذلك.

ثم دخلوا عليه فلم يسجدوا له فقال عمرو بن العاص : ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك ؟ فقال لهم النجاشي : ما منعكم أن تسجدوا لي وتحيوني بالتحية التي يحييني بها من أتاني من الآفاق ؟ قالوا نسجد لله الذي خلقك وملكك ، وإنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان فبعث الله فينا نبياً صادقاً ، فأمرنا بالتحية التي رضيها الله وهي السلام تحيه أهل الجنة فعرف النجاشي أن ذلك حق وأنه في التوراة والإنجيل ، قال : أيكم الهاتف : يستأذن عليك حزب الله ؟ قال جعفر : أنا ، قال : أنك ملك من ملوك الأرض من أهل الكتاب ، ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم ، وإنما احب أن اجيب عن أصحابي فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما ولينصت الآخر فتسمع محاورتنا فقال عمرو لجعفر : تكلم.

فقال جعفر للنجاشي : سل هذين الرجلين ، أعبيد نحن أم أحرار ؟ فإن كنا عبيداً قد أبقنا من أربابنا فردنا عليهم. فقال النجاشي : أعبيد هم أم أحرار ؟ فقال بل أحرار كرام ، فقال النجاشي : نجوا من العبودية فقال جعفر : سلهما : هل أرقنا دماً بغير حق فيقتص منا ؟ فقال عمرو ؟ لا ولا قطرة ، قال جعفر : سلهما هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضائها ، قال النجاشي : إن كان قنطاراً فعلي قضائه ، فقال عمرو لا ولا قيراط ، فقال النجاشي : فما تطلبون منهم ؟ قال : كنا وإياهم على دين واحد ، على دين آبائنا فتركوا ذلك ، واتبعوا غيره فبعثنا قومنا لتدفعهم الينا فقال النجاشي : ما هذا الذي كنتم عليه والدين الذي اتبعوه ؟ فقال جعفر : أما الدين الذي كنا عليه فهو دين الشيطان كنا نكفر بالله ونعبد الحجارة وأما الذي تحولنا إليه فهو دين الله الإسلام جاءنا به من عند الله رسول بكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقاً له ، فقال النجاشي يا جعفر تكلمت بأمر عظيم.

ثم أمر النجاشي بضرب الناقوس فضرب واجتمع إليه كل قسيس وراهب فلما اجتمعوا عنده قال النجاشي : انشدكم بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبياً مرسلاً ؟ قالوا اللهم نعم قد بشرنا فقال : من آمن به فقد


آمن بي ومن كفر به فقد كفر بي فقال النجاشي لجعفر ما ذا يقول لكم هذا الرجل ؟ وما يأمركم به ؟ وما ينهاكم عنه ؟ فقال يقرأ علينا كتاب الله ، ويأمرنا بالمعروف وينهانا عن المنكر ويأمرنا بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم ، يأمرنا أن نعبد الله وحده لا شريك له ، فقال له : اقرأ علي مما يقرأ عليكم فقرأ عليه سورة العنكبوت والروم ففاضت عينا النجاشي وأصحابه من الدمع ، وقالوا : زدنا من هذا الحديث الطيب فقرأ عليهم سورة الكهف فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال إنهم يشتمون عيسى وامه فقال النجاشي : فما تقولون في عيسى وامه ؟ فقرأ عليهم سورة مريم فلما أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النجاشي من سواكه قدر ما يقذي العين ؟ وقال : والله ما زاد المسيح على ما تقولون هذا ، ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي يقول : آمنون من سبكم وأذاكم غرم. ثم قال : ابشروا ولا تخافوا فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم ؟ فقال : عمرو يا نجاشي ومن حزب إبراهيم قال هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ومن اتبعهم فأنكر ذلك المشركون وادعوا دين إبراهيم ثم رد النجاشي على عمرو وصاحبه المال الذي حملوه وقال : إنما هديتكم إلى رشوة فاقبضوها فإن الله ملكني ولم يأخذ مني رشوة ، قال جعفر : فانصرفنا فكنا في خير جوار ، وأنزل الله عز وجل في ذلك على رسول الله 6 في خصومتهم في إبراهيم وهو في المدينة : إن اولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي : (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ).

اقول : وهذه القصة مروية من طرق اخرى ومن طرق أهل البيت : وإنما نقلناها على طولها لاشتمالها على فوائد هامة في بلاء المسلمين من المهاجرين الأولين ، وليست من سبب النزول في شيء.

وفي تفسير العياشي عن الصادق 7 : في قوله تعالى : ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ، قال : قال أمير المؤمنين لا يهودياً يصلي إلى المغرب ، ولا نصرانياً يصلي إلى المشرق لكن كان حنيفاً مسلماً على دين محمد 6.

اقول : قد تقدم في البيان السابق معنى كونه على دين محمد صلّى الله عليهما وآلهما ، وقد اعتبر في الرواية استقبال الكعبة وقد حولت القبلة إليها في المدينة والكعبة في نقطة جنوبها تقريباً ، وتأبى اليهود والنصارى عن قبولها أوجب لهم الانحراف عنها إلى


جهتي المغرب التي بها بيت المقدس ، والمشرق التي يستقبلها النصارى فعد ذلك من الطائفتين انحرافاً عن حاق الوسط ، وقد أيد هذه العناية لفظ الآية وكذلك جعلناكم امة وسطاً الآية ، وبالجملة فإنما هي عناية لطيفة لا تزيد على ذلك.

وفي الكافي عن الصادق 7 : خالصاً مخلصاً ليس فيه شيء عن عبادة الأوثان.

وفي المجمع : في قوله تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ) الآية ، قال أمير المؤمنين 7 إن اولى الناس بالأنبياء أعملهم بما جاءوا به ثم تلا هذه الآية وقال ان ولي محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته ، وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت لحمته.

وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق 7 : هم الأئمة ومن اتبعهم.

وفي تفسيري القمي والعياشي عن عمر بن اذينة عنه 7 قال : أنتم والله من آل محمد ، فقلت : من أنفسهم جعلت فداك ؟ قال : نعم والله من أنفسهم ثلاثاً ، ثم نظر إلى ونظرت إليه ، فقال : يا عمر إن الله يقول في كتابه : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ) ، الآية.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا الآية ، عن الباقر 7 : أن رسول الله 6 لما قدم المدينة وهو يصلي نحو بيت المقدس أعجب ذلك القوم فلما صرفه الله عن بيت المقدس إلى بيت الله الحرام وجدت اليهود من ذلك ، وكان صرف القبلة صلوة الظهر ، فقالوا صلّى محمد الغداة واستقبل قبلتنا فآمنوا بالذي انزل على محمد وجه النهار وأكفروا آخره يعنون القبلة حين استقبل رسول الله 6 المسجد الحرام.

اقول : والرواية كما ترى تجعل قوله : وجه النهار ، ظرفاً لقوله : أنزل ، دون قوله : آمنوا ، وقد تقدم الكلام فيه في البيان السابق.

وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : وقالت طائفة الآية ، قال : إن طائفة من اليهود قالت : إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار فآمنوا ، وإذا كان آخره فصلوا صلوتكم لعلهم يقولون : هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم منا لعلهم ينقلبون عن دينهم.

أقول : ورواه فيه أيضاً عن السدي ومجاهد.


وفي الكافي ( في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ ) الآية ) عن الباقر 7 قال : انزل في العهد : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولهم عذاب إليم ، والخلاق النصيب فمن لم يكن له نصيب في الآخرة فبأي شيء يدخل الجنة.

وفي أمالي الشيخ بإسناده عن عدي بن عدي عن أبيه قال : اختصم امرؤ القيس ورجل من حضرموت إلى رسول الله 6 في أرض فقال : ألك بينة ؟ قال : لا ، قال فبيمينه ، قال : إذن والله يذهب بأرضي ، قال : إن ذهب بأرضك بيمينه كان ممن لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم ، قال : ففزع الرجل وردها إليه.

اقول : والرواية كما ترى لا تدل على نزول الآية في مورد القصة ، وقد روي من طرق أهل السنة في عدة روايات أن الآية نزلت في هذا الشأن ، وهي متعارضة من حيث مورد القصة : ففي بعضها أن النزاع كان بين امرء القيس ورجل من حضرموت كما مر في الرواية السابقة ، وفي بعضها أنه كان بين الاشعث بن القيس وبين رجل من اليهود في أرض له ، وفي بعضها أنها نزلت في رجل من الكفار وقد كان أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعطه ليوقع بها رجلاً من المسلمين فنزلت الآية.

وقد عرفت في البيان السابق أن ظاهر الآية أنها واقعة موقع التعليل لمضمون الآية السابقة عليها : فالوجه حمل الروايات إن أمكن على بيان انطباق الآية على مورد القصة دون النزول بالمعنى المعهود منه.

* * *

مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ـ ٧٩. وَلاَ يَأْمُرَكُمْ

( ٣ ـ الميزان ـ ١٨)


أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ـ ٨٠.

( بيان )

وقوع الآيات عقيب الآيات المرتبطة بأمر عيسى 7 يفيد أنها بمنزلة الفصل الثاني من الاحتجاج على برائة ساحة المسيح مما يعتقده في حقه أهل الكتاب من النصارى ، والكلام بمنزلة قولنا : إنه ليس كما تزعمون فلا هو رب ولا أنه ادعى لنفسه الربوبية ، أما الأول : فلأنه مخلوق بشري حملته امه ووضعته وربته في المهد غير أنه لا أب له كآدم 8 فمثله عند الله كمثل آدم ، وأما الثاني : فلأنه كان نبياً أوتي الكتاب والحكم والنبوة ؛ والنبي الذي هذا شأنه لا يعدو طور العبودية ولا يتعرى عن زي الرقية فكيف يتأتى أن يقول للناس اتخذوني رباً وكونوا عباداً لي من دون الله ، أو يجوز ذلك في حق غيره من عباد الله من ملك أو نبي فيعطي لعبد من عباد الله ما ليس له بحق ، أو ينفي عن نبي من الأنبياء ما أثبت الله في حقه من الرسالة فيأخذ منه ما هو له من الحق.

قوله تعالى : (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ) ، البشر مرادف للإنسان ، ويطلق على الواحد والكثير فالإنسان الواحد بشر كما أن الجماعة منه بشر.

وقوله : ما كان لبشر ، اللام للملك أي لا يملك ذلك أي ليس له بحق كقوله تعالى : ( ما يكون لنا أن نتكلم بهذا ) النور ـ ١٦ ، وقوله : ( وما كان لنبي أن يغل ) آل عمران ـ ١٦١.

وقوله تعالى : (أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) ، اسم كان إلا أنه توطئة لما يتبعه من قوله : ثم يقول للناس ، وذكر هذه التوطئة مع صحة المعنى بدونها ظاهراً يفيد وجهاً آخر لمعنى قوله : ما كان لبشر ، فإنه لو قيل : ما كان لبشر أن يقول للناس ، كان معناه أنه لم يشرع له هذا الحق وإن أمكن أن يقول ذلك فسقاً وعتواً ، ولكنه


إذا قيل : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ، ثم يقول : كان معناه أن إيتاء الله له العلم والفقه مما عنده وتربيته له بتربية ربانية لا يدعه أن يعدو طور العبودية ، ولا يوسع له أن يتصرف فيما لا يملكه ولا يحق له كما يحكيه تعالى عن عيسى 7 في قوله : (وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) المائدة ـ ١١٦.

ومن هنا تظهر النكتة في قوله : أن يؤتيه الله « الخ » دون أن يقال : ما كان لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يقول « الخ » فإن العبارة الثانية تفيد معنى أصل التشريع كما تقدم بخلاف قوله : أن يؤتيه الله « الخ » فإنه يفيد أن ذلك غير ممكن البتة أي أن التربية الربانية والهداية الإلهية لا تتخلف عن مقصدها كما قال تعالى : ( اولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء ( يعني قوم رسول الله 6 ) فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين ) الأنعام ـ ٨٩.

فمحصل المعنى أنه لا يسع لبشر أن يجمع بين هذه النعم الإلهية وبين دعوة الناس إلى عبادة نفسه بأن يؤتى الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ، فالآية بحسب السياق بوجه كقوله تعالى : (لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ـ إلى أن قال ـ : وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ) النساء ـ ١٧٣ ، فإن المستفاد من الآية : أن المسيح وكذا الملائكة المقربون أجل شأناً وأرفع قدراً أن يستنكفوا عن عبادة الله فإن الاستنكاف عن عبادته يستوجب أليم العذاب ، وحاشا أن يعذب الله كرام أنبيائه ومقربي ملائكته.

فان قلت : الإتيان بثم الدالة على التراخي في قوله : ثم يقول للناس ، ينافي الجمع الذي ذكرته.

قلت : ما ذكرناه من معنى الجمع محصل المعنى ، وكما يصح اعتبار الاجتماع والمعية بين المتحدين زماناً كذلك يصح اعتباره بين المترتبين والمتتاليين فهو نوع من الجمع.

وأما قوله : (كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ ) ، فالعباد كالعبيد جمع عبد ، والفرق بينهما أن العباد يغلب استعماله فيما إذا نسب إلى الله سبحانه ، يقال عباد الله ، ولا


يقال : غالباً عباد الناس بل عبيد الناس ، وتقييد قوله : عباداً لي بقوله : من دون الله تقييد قهري فإن الله سبحانه لا يقبل من العبادة إلا ما هو خالص لوجهه الكريم كما قال تعالى : ( أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ) الزمر ـ ٣ ، فرد عبادة من يعبد مع عبادته غيره حتى بعنوان التقرب والتوسل والاستشفاع.

على أن حقيقة العبادة لاتتحقق إلا مع إعطاء استقلال ما للمعبود حتى في صورة الإشراك فإن الشريك من حيث إنه شريك مساهم ذو استقلال ما ، والله سبحانه له الربوبية المطلقة فلا يتم ربوبيته ولا تستقيم عبادته إلا مع نفي الاستقلال عن كل شيء من كل جهة فعبادة غير الله عبادة له من دون الله وإن عبد الله معه.

قوله تعالى : ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون الرباني منسوب إلي الرب ، زيد عليه الألف والنون للدلالة على التفخيم كما يقال لحياني لكثير اللحية ونحو ذلك ، فمعنى الرباني شديد الاختصاص بالرب وكثير الاشتغال بعبوديته وعبادته ، والباء في قوله : بما كنتم ، للسببية ، وما مصدرية ، والكلام بتقدير القول والمعنى ، ولكن يقول : كونوا ربانيين بسبب تعليمكم الكتاب للناس ودراستكم إياه فيما بينكم.

الدراسة أخص من التعليم فإنه يستعمل غالباً فيما يتعلم عن الكتاب بقرائته قال الراغب : درس الدار بقي أثرها ، وبقاء الأثر يقتضي انمحائه في نفسه ، فلذلك فسر الدروس بالانمحاء ، وكذا درس الكتاب ، ودرست العلم تناولت أثره بالحفظ ، لما كان تناول ذلك بمداومة القرائة عبر عن إدامة القرائة بالحفظ قال تعالى : ودرسوا ما فيه ، وقال بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون وما آتيناهم من كتب يدرسونها انتهى.

ومحصل الكلام أن البشر الذي هذا شأنه إنما يدعوكم إلى التلبس بالإيمان واليقين بما في الكتاب الذي تعلمونه وتدرسونه من اصول المعارف الإلهية ، والاتصاف والتحقق بالملكات والأخلاق الفاضلة التي يشتمل عليها ، والعمل بالصالحات التي تدعون الناس إليها حتى تنقطعوا بذلك إلى ربكم ، وتكونوا به علماء ربانيين.


وقوله : بما كنتم ، حيث اشتمل على الماضي الدال على التحقق لا يخلو عن دلالة ما على أن الكلام في الآية مسوق للتعريض بالنصارى من أهل الكتاب في قولهم : إن عيسى أخبرهم بأنه ابنه وكلمته على الخلاف في تفسير البنوة ، وذلك أن بني إسرائيل هم الذين كان في أيديهم كتاب سماوي يعلمونه ويدرسونه وقد اختلفوا فيه اختلافاً يصاحب التغيير والتحريف ، وما بعث عيسى 7 إلا ليبين لهم بعض ما اختلفوا فيه ، وليحل بعض الذي حرم عليهم ، وبالجملة ليدعوهم إلى القيام بالواجب من وظائف التعليم والتدريس وهو أن يكونوا ربانيين في تعليمهم ودراستهم كتاب الله سبحانه.

والآية وإن لم تأب الانطباق على رسول الله 6 بوجه فقد كانت لدعوته أيضاً مساس بأهل الكتاب : الذين كانوا يعلمون ويدرسون كتاب الله لكن عيسى 7 أسبق انطباقاً عليه ، وكانت رسالته خاصة ببني إسرائيل بخلاف رسول الله 6.

وأما سائر الأنبياء العظام من اولي العزم والكتاب : كنوح وإبراهيم وموسى فمضمون الآية لا ينطبق عليهم وهو ظاهر.

قوله تعالى : (وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً ) عطف على قوله يقول : على القرائة المشهورة التي هي نصب يأمركم ، وهذا كما كان طائفة من أهل الكتاب كالصابئين يعبدون الملائكة ويسندون ذلك إلى الدعوة الدينية ، وكعرب الجاهلية حيث كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله ، وهم يدعون أنهم على دين إبراهيم 7 ، هذا في إتخاذ الملائكة أرباباً.

وأما إتخاذ النبيين أرباباً فكقول اليهود : عزير ابن الله على ما حكاه القرآن ولم يجوز لهم موسى 7 ذلك ، ولا وقع في التوراة إلا توحيد الرب ولو جوز لهم ذلك لكان أمراً به حاشاه من ذلك.

وقد اختلفت الآيتان : أعني قوله : ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله وقوله : (وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً ) من جهتين في سياقهما : الأولى : أن المأمور في الأولى ( ثم يقول للناس ) الناس ، وفي الثانية هم المخاطبون بالآية ، والثانية : أن المأمور به في الأولى العبودية له وفي الثانية الاتخاذ أرباباً.

أما الأولى فحيث كان الكلام مسوقاً للتعريض بالنصارى في عبادتهم لعيسى ،


وقولهم بألوهيته صريحاً مسندين ذلك إلى دعوته كان ذلك نسبة منهم إليه أنه قال : كونوا عباداً لي بخلاف اتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً بالمعنى الذي قيل في غير عيسى فإنه يضاد الألوهية بلازمه لا بصريحه فلذلك قيل : أرباباً ، ولم يقل : آلهة.

وأما الثانية : فالوجه فيه أن التعبيرين كليهما ( كونوا عباداً لي ـ يأمركم أن تتخذوا ) أمر لو تعلق بأحد تعلق بهؤلاء الذين يخاطبون بهذه الآيات من أهل الكتاب والعرب لكن التعبير لما وقع في الآية الأولى بالقول ، والقول يقضي بالمشافهة ولم يكن الحاضرون في زمن نزول الآية حاضرين إذ ذاك لا جرم قيل : ثم يقول للناس ، ولم يقل : ثم يقول لكم ؛ وهذا بخلاف لفظ الأمر المستعمل في الآية الثانية فإنه لا يستلزم شفاهاً بل يتم مع الغيبة فإن الأمر المتعلق بالأسلاف متعلق بالأخلاف مع حفظ الوحدة القومية ، وأما القول فهو لإفادته بحسب الانصراف إسماع الصوت يقضي بالمشافهة والحضور إلا أن يعني به مجرد معنى التفهيم.

وعلى هذا فالأصل في سياق هذه الآيات الحضور وخطاب الجمع ؛ كما جرى عليه قوله تعالى : ( أو يَأْمُرَكُمْ) إلى آخر الآية.

قوله تعالى : (أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) ، ظاهر الخطاب أنه متعلق بجميع المنتحلين بالنبوة من أهل الكتاب أو المدعين للانتساب إلى الأنبياء كما كانت عرب الجاهلية تزعم أنهم حنفاء والكلام موضوع على الفرض والتقدير فالمعنى أنكم على تقدير إجابتكم هذا البشر الذي اوتي الكتاب والحكم والنبوة تكونون مسلمين لله متحلين بحلية الإسلام مصبوغين بصبغته فكيف يمكنه أن يأمركم بالكفر ويضلكم عن السبيل الذي هداكم إليه بإذن الله سبحانه.

ومن هنا يظهر أن المراد بالإسلام هو دين التوحيد الذي هو دين الله عند جميع الأنبياء على ما يدل عليه أيضاً احتفاف الآيات بهذا المعنى من الإسلام أعني قوله تعالى من قبل : (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ) آل عمران ـ ١٩ ، وقوله تعالى من بعد : ( أفغير دين الله يبغون ـ إلى أن قال : (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) آل عمران ـ ٨٥.

وقد ذكر بعض المفسرين أن المراد بقوله تعالى : ما كان لبشر أن يؤتيه الله إلى آخر


الآيتين رسول الله 6 ـ بناءاً على ما روي في سبب النزول وحاصله : أن أبا رافع القرظي ورجلاً من نصارى نجران قالا لرسول الله 6 : أتريد أن نعبدك يا محمد ؟ فأنزل الله : ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ ) إلى آخر الآيتين الحديث ، ثم أيده بقوله في آخرهما بعد : (إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ) فإن الإسلام هو الدين الذي جاء به محمد 6.

وفيه أنه خلط بين الإسلام في عرف القرآن وهو دين التوحيد الذي بعث به جميع الأنبياء وبين الإسلام بالاصطلاح الحادث بين المسلمين بعد عصر النزول ؛ وقد تقدم الكلام فيه.

( خاتمة فيها فصول )

١ ـ ما هي قصة عيسى وامه في القرآن ؟

كانت أم المسيح مريم بنت عمران حملت بها امها فنذرت أن تجعل ما في بطنها إذا وضعته محرراً يخدم المسجد وهي تزعم أن ما في بطنها ذكور فلما وضعتها وبان لها أنها انثى حزنت وتحسرت ثم سمتها مريم أي الخادمة وقد كان توفي أبوها عمران قبل ولادتها فأتت بها المسجد تسلمها للكهنة وفيهم زكريا فتشاجروا في كفالتها ثم اصطلحوا على القرعة وساهموا فخرج لزكريا فكفلها حتى إذا أدركت ضرب لها من دونهم حجاباً فكانت تعبد الله سبحانه فيها لا يدخل عليها إلا زكريا وكلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً : (قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ) ، وقد كانت 3 صديقة ، وكانت معصومة بعصمة الله ، طاهرة مصطفاة محدثة : حدثها الملائكة : بأن الله اصطفاها وطهرها وكانت من القانتين ومن آيات الله للعالمين ( سورة آل عمران آية ٣٥ ـ ٤٤ ، سورة مريم آية ١٦ ، سورة الأنبياء آية ٩١ ، سورة التحريم آية ١٢ ).

ثم إن الله تعالى أرسل إليها الروح وهي محتجبة فتمثل لها بشراً سوياً ، وذكر لها أنه رسول من ربها ليهب لها بإذن الله ولداً من غير أب ، وبشرها بما سيظهر من ولدها من المعجزات الباهرة ، وأخبرها أن الله سيؤيده بروح القدس ، ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ، ورسولاً إلى بني إسرائيل ذا الآيات البينات ، وأنبأها :


بشأنه وقصته ثم نفخ الروح فيها فحملت بها حمل المرأة بولدها ( الآيات من آل عمران ٣٥ ـ ٤٤ ).

ثم انتبذت مريم به مكاناً قصياً فأجائها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً فناداها من تحتها أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً وهزي اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً فكلي واشربي وقري عيناً فإما ترين من البشر أحداً فقولي : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ) ( سورة مريم آية ٢٠ ـ ٢٧ ) ، وكان حمله ووضعه وكلامه وسائر شؤون وجوده من سنخ ما عند سائر الأفراد من الإنسان.

فلما رآها قومها ـ والحال هذه ـ ثاروا عليها بالطعنة واللوم بما يشهد به حال امرأة حملت ووضعت من غير بعل ، وقالوا يا مريم لقد جئت شيئاًً فرياً يا اخت هرون ما كان أبوك امرء سوء وما كانت امك بغياً فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً ؟ قال : إني عبد الله آتاني الكتاب : (وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً ، وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ) ( سورة مريم آية ٢٧ ـ ٣٣ ) فكان هذا الكلام منه 7 كبراعة الاستهلال بالنسبة إلى ما سينهض على البغي والظلم وإحياء شريعة موسى 7 وتقويمه ، وتجديد ما اندرس من معارفه ، وبيان ما اختلفوا فيه من آياته.

ثم نشأ عيسى 7 وشب وكان هو وامه على العادة الجارية في الحياة البشرية يأكلان ويشربان وفيهما ما في سائر الناس من عوارض الوجود إلى آخر ما عاشا.

ثم إن عيسى 7 اوتي الرسالة إلى بني إسرائيل فانبعث يدعوهم إلى دين التوحيد ، ويقول : اني قد جئتكم بآية من ربكم : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ ) في بيوتكم ، إن في ذلك لآية لكم ، إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه.

وكان يدعوهم إلى شريعته الجديدة وهو تصديق شريعة موسى 7 إلا أنه


نسخ بعض ما حرم في التوراة تشديداً على اليهود ، وكان يقول : إني قد جئتكم بالحكمة ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه ، وكان يقول : (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ).

وأنجز 7 ما ذكره لهم من المعجزات كخلق الطير وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار عن المغيبات بإذن الله.

ولم يزل يدعوهم إلى توحيد الله وشريعته الجديدة حتى أيس من إيمانهم لما شاهد من عتو القوم وعنادهم واستكبار الكهنة والأحبار عن ذلك فانتخب من الشرذمة التي آمنت به الحواريين أنصاراً له إلى الله.

ثم إن اليهود ثاروا عليه يريدون قتله فتوفاه الله ورفعه إليه ، وشبه لليهود : فمن زاعم أنهم قتلوه ، ومن زاعم أنهم صلبوه ، ولكن شبه لهم ( آل عمران آية ٤٥ ـ ٥٨ ، الزخرف آية ٦٣ ـ ٦٥ ، الصف آية ٦ و ١٤ ، المائدة آية ١١٠ و ١١١ ، النساء آية ١٥٧ و ١٥٨ ) فهذه جمل ما قصه القرآن في عيسى بن مريم وامه.

٢ ـ منزلة عيسى عند الله وموقفه في نفسه :

كان 7 عبداً لله وكان نبياً ( سورة مريم آية ٣٠ ) وكان: (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( آل عمران آية ٤٩ ) : وكان واحداً من الخمسة اولي العزم صاحب شرع وكتاب وهو الإنجيل ( الاحزاب آية ٧ ، الشورى آية ١٣ ، المائدة آية ٤٦ ) : وكان سماه الله بالمسيح عيسى آل عمران آية ٤٥ ) : وكان كلمة لله وروحاً منه ( النساء آية ١٧١ ) : وكان إماماً ( الاحزاب آية ٧ ) : وكان من شهداء الأعمال ( النساء آية ١٥٩ ، المائدة آية ١١٧ ) : وكان مبشراً برسول الله 6 ( الصف آية ٦ ) وكان: (وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) ( آل عمران آية ٤٥ ) : وكان من المصطفين ( آل عمران آية ٣٣ ) : وكان من المجتبين وكان من الصالحين ( الأنعام آية ٨٥ ـ ٨٧ ) : وكان مباركاً أينما كان ، وكان زكياً وكان آية للناس ورحمة من الله وبراً بوالدته وكان مسلماً عليه ( مريم آية ١٩ ـ ٣٣ ) : وكان ممن علمه الله الكتاب والحكمة ) آل عمران آية ٤٨ ) ، فهذه اثنتان وعشرون خصلة من مقامات الولاية هي جمل ما وصف الله به


هذا النبي المكرم ورفع بها قدره ، وهي على قسمين : اكتسابية كالعبودية والقرب والصلاح ، واختصاصية ، وقد شرحنا كلاً منها في الموضع المناسب له من هذا الكتاب بما نطيق فهمه فليرجع فيها إلى مظانها منه.

٣ ـ ما الذي قاله عيسى 7 ؟ وما الذي قيل فيه ؟

ذكر القرآن أن عيسى كان عبداً رسولاً ، وأنه لم يدع لنفسه ما نسبوه إليه ، ولا تكلم معهم إلا بالرسالة ؛ كما قال تعالى : (وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ؛ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ) المائدة ١١٦ ـ ١١٩..

وهذا الكلام العجيب الذي يشتمل من العبودية على عصارتها ، ويتضمن من بارع الأدب على مجامعه يفصح عما كان يراه عيسى المسيح 7 من موقفه نفسه تلقاء ربوبية ربه وتجاه الناس وأعمالهم فذكر أنه كان يرى نفسه بالنسبة إلى ربه عبداً لا شأن له إلا الامتثال لا يرد إلا عن أمر ، ولا يصدر إلا عن أمر ، ولم يؤمر إلا بالدعوة إلى عبادة الله وحده ولم يقل لهم إلا ما امر به : (أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ).

ولم يكن له من الناس إلا تحمل الشهادة على أعمالهم فحسب ، وأما ما يفعله الله فيهم وبهم يوم يرجعون إليه فلا شأن له في ذلك ؛ غفر أو عذب.

فان قلت : فما معنى ما تقدم في الكلام على الشفاعة أن عيسى 7 من الشفعاء يوم القيامة يشفع فيشفع ؟

قلت : القرآن صريح أو كالصريح في ذلك ، قال تعالى : (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف ـ ٨٦ ، وقد قال تعالى فيه : (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) النساء ـ ١٥٩ ، وقال تعالى : (وَإِذْ


عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ) المائدة ـ ١١٠ ، وقد تقدم إشباع الكلام في معنى الشفاعة ، وهذا غير التفدية التي يقول بها النصارى ، وهي إبطال الجزاء بالفدية والعوض فإنها تبطل السلطنة المطلقة الإلهية على ما سيجيء من بيانه ، والآية إنما تنفي ذلك ، وأما الشفاعة فالآية غير متعرضة لامرها لا إثباتاً ولا نفياً فإنها لو كانت بصدد إثباتها ـ على منافاته (١) للمقام ـ لكان حق الكلام أن يقال : (وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الغفور الرحيم ) ، ولو كانت بصدد نفيها لم يكن لذكر الشهادة على الناس وجه ، وهذا إجمال ما سيأتي في تفسير الآيات تفصيله إنشاء الله تعالى.

وأما ما قاله الناس في عيسى 7 فإنهم وإن تشتتوا في مذاهبهم بعده ، واختلفوا في مسالكهم بما ربما جاوز السبعين من حيث كليات ما اختلفوا فيه ، وجزئيات المذاهب والآراء كثيرة جداً.

لكن القرآن إنما يهتم بما قالوا به في أمر عيسى نفسه وامه لمساسه بأساس التوحيد الذي هو الغرض الوحيد فيما يدعو إليه القرآن الكريم والدين الفطري القويم ، وأما بعض الجزئيات كمسألة التحريف ومسألة التفدية فلم يهتم به ذاك الاهتمام.

والذي حكاه القرآن الكريم عنهم أو نسبة إليهم ما في قوله تعالى : (وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ) التوبة ـ ٣٠ ، وما في معناه ، كقوله تعالى : (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ ) الأنبياء ـ ٢٦ ، وما في قوله تعالى : (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) المائدة ـ ٧٢ ، وما في قوله تعالى : (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ) المائدة ـ ٧٣ ، وما في قوله تعالى : (وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ) النساء ـ ١٧١.

وهذه الآيات وإن اشتملت بظاهرها على كلمات مختلفة ذوات مضامين ومعان متفاوتة ، ولذلك ربما حملت (٢) على اختلاف المذاهب في ذلك كمذهب الملكانية القائلين بالبنوة الحقيقية ، والنسطورية القائلين بأن النزول والبنوة من قبيل إشراق النور على جسم شفاف كالبلور ، واليعقوبية القائلين بأنه من الانقلاب ، وقد انقلب الإله سبحانه لحماً ودماً.

__________________

١ ـ فان المقام مقام التذلل دون الاسترسال.

٢ ـ كما فعله الشهرستاني في الملل والنحل.


لكن الظاهر أن القرآن لا يهتم بخصوصيات مذاهبهم المختلفة ، وإنما يهتم بكلمة واحدة مشتركة بينهم جميعاً وهو البنوة ، وأن المسيح من سنخ الإله سبحانه ، وما يتفرع عليه من حديث التثليث وإن اختلفوا في تفسيرها اختلافاً كثيراً وتعرقوا في المشاجرة والنزاع ، والدليل على ذلك وحدة الاحتجاج الوارد عليهم في القرآن لساناً.

بيان ذلك : أن التوراة والأناجيل الحاضرة جميعاً تصرح بتوحيد الإله تعالى من جانب والإنجيل يصرح بالبنوة من جانب آخر ، وصرح بأن الابن هو الاب لا غير.

ولم يحملوا البنوة الموجودة فيه على التشريف والتبريك مع ما في موارد منه من التصريح بذلك كقوله : وأنا أقول لكم أحبوا أعداءكم ، وباركوا على لاعنيكم وأحسنوا إلى من أبغضكم ، وصلوا على من يطردكم ويعسفكم كيما تكونوا بني أبيكم الذي في السموات لأنه المشرق شمسه على الأخيار والأشرار والممطر على الصديقين والظالمين ، وإذا أحببتم من يحبكم فأي أجر لكم ؟ أليس العشارون يفعلون كذلك ؟ وإن سلمتم على إخوتكم فقط فأي فضل لكم ؟ أليس كذلك يفعل الوثنيون كونوا كاملين مثل أبيكم السماوي فهو كامل ) آخر الإصحاح الخامس من إنجيل متى. (١).

وقوله أيضاً : ( فليضيء نوركم قدام الناس ليروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات ) إنجيل متى ـ الإصحاح الخامس.

وقوله أيضاً : ( لا تصنعوا جميع مراحمكم قدام الناس كي يروكم فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السموات ).

وقوله أيضاً في الصلوة : ( وهكذا تصلون أنتم يا أبانا الذي في السموات يتقدس اسمك ) « الخ ».

وقوله أيضاً : ( فإن غفرتم للناس خطاياهم غفرلكم أبوكم السمايي خطاياكم ) كل ذلك في الإصحاح السادس من إنجيل متى.

وقوله : ( وكونوا رحماء مثل أبيكم الرحيم ) إنجيل لوقا ـ الإصحاح السادس.

__________________

١ ـ النسخة العربية المطبوعة سنة ١٨١١ ميلادية وعنها ننقل جميع ما ننقله في هذا البحث عن كتب العهد العربية.


وقوله لمريم المجدلية : ( إمضي إلى إخوتي وقولي لهم : إني صاعد إلى أبي الذي هو أبوكم وإلهي الذي هو إلهكم ) إنجيل يوحنا ـ الإصحاح العشرون.

فهذه وأمثالها من فقرات الأناجيل تطلق لفظ الأب على الله تعالى وتقدس بالنسبة إلى عيسى وغيره جميعاً كما ترى بعناية التشريف ونحوه.

وإن كان ما في بعض الموارد منها يعطي أن هذه البنوّة والأبوّة نوع من الاستكمال المؤدي إلى الاتحاد كقوله : ( تكلم اليسوع بهذا ورفع عينيه إلى السماء فقال : يا أِبة قد حضرت الساعة فمجد ابنك ليمجدك ابنك ) ثم ذكر دعائه لرسله من تلامذته ثم قال : ( ولست أسأل في هؤلاء فقط بل وفي الذين يؤمنون بي بقولهم ليكونوا بأجمعهم واحداً كما أنك يا أبت ثابت في وأنا أيضاً فيك ليكونوا أيضاً فينا واحداً ليؤمن العالم أنك أرسلتني وأنا أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحداً كما نحن واحد أنا فيهم وأنت فيّ ويكونوا كاملين لواحد لكي يعلم العالم أنك أرسلتني وأنني أحببتهم كما أحببتني ) إنجيل يوحنا ـ الإصحاح السابع عشر.

لكن وقع فيها أقاويل يتأبى ظواهرها عن تأويلها إلى التشريف ونحوه كقوله : ( قال له توما : يا سيد ما نعلم أين تذهب ؟ وكيف نقدر ان نعرف الطريق ؟ قال له يسوع : أنا هو الطريق والحق والحياة لا يأتي أحد إلى أبي إلا بي لو كنتم تعرفونني لعرفتم أبي أيضاً ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه أيضاً ، قال له فيلبس ، يا سيد أرنا الأب وحسبنا ، قال له يسوع : أنا معكم كل هذا الزمان ولم تعرفني يا فيلبس ؟ من رآني فقد رأى الاب فكيف تقول أنت : أرنا الأب أما تؤمن أني في أبي وأبي في وهذا الكلام الذي أقوله لكم ليس هو من ذاتي وحدي بل أبي الحال في هو يفعل هذه الأفعال آمنوا بي ، أنا في أبي وأبي في ) إنجيل يوحنا ـ الإصحاح الرابع عشر.

وقوله : ( لكني خرجت من الله وجئت ولم آت من عندي بل هو أرسلني ) إنجيل يوحنا ـ الإصحاح الثامن.

وقوله : ( أنا وأبي واحد نحن ) إنجيل يوحنا ـ الإصحاح العاشر.

وقوله لتلامذته : ( اذهبوا وتلمذوا كل الامم وعمدوهم (١) باسم الأب والابن

__________________

١ ـ التعميد نوع من التغسيل عند النصارى يتطهر به المغتسل من الذنوب وهو من فرائض الكنيسة.


وروح القدس ) إنجيل متى ـ الإصحاح الثامن والعشرون.

وقوله : ( في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله ، والله كان الكلمة منذ البدء كان هذا عند الله كل به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان به كانت الحياة ، والحياة كانت نور الناس ) إنجيل يوحنا ـ الإصحاح الأول.

فهذه الكلمات وما يماثلها مما وقع في الإنجيل هي التي دعت النصارى إلى القول بالتثليث في الوحدة.

والمراد به حفظ ( أن المسيح ابن ) الله مع التحفظ على التوحيد الذي نص عليه المسيح في تعليمه كما في قوله : ( إن أول كل الوصايا : اسمع يا إسرائيل الرب إلهك إله واحد هو ) إنجيل مرقس ـ الإصحاح الثاني عشر.

ومحصل ما قالوا به ( وإن كان لا يرجع إلى محصل معقول ) : أن الذات جوهر واحد له أقانيم ثلاث ، والمراد بالاقنوم هو الصفة التي هي ظهور الشيء وبروزه وتجليه لغيره وليست الصفة غير الموصوف ، والأقانيم الثلاث هي : اقنوم الوجود واقنوم العلم ، وهو الكلمة ، واقنوم الحياة وهو الروح.

وهذه الأقانيم الثلاث هي : الأب والابن والروح القدس : والأول اقنوم الوجود ، والثاني اقنوم العلم والكلمة ، والثالث اقنوم الحياة ، فالابن وهو الكلمة واُقنوم العلم نزل من عند أبيه وهو أُقنوم الوجود بمصاحبة روح القدس وهو أقنوم الحيوة التي بها يستنير الأشياء.

ثم اختلفوا في تفسير هذا الاجمال اختلافاً عظيماً أوجب تشتتهم وانشعابهم شعباً ومذاهب كثيرة تجاوز السبعين ، وسيأتيك نبأها على قدر ما يلائم حال هذا الكتاب.

إذا تأملت ما قدمناه عرفت ، أن ما يحكيه القرآن عنهم أو ينسبه إليهم بقوله : (وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ، الآية ) وقوله : (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ، الآية ) وقوله : (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ، الآية ) ، وقوله : (وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ ، الآية ) كل ذلك يرجع إلى معنى واحد ( وهو تثليث الوحدة ) هو المشترك بين جميع المذاهب المستحدثة في النصرانية ، وهو الذي قدمناه في معنى تثليث الوحدة.


وإنما اقتصر فيه على هذا المعنى المشترك لأن الذي يرد على أقوالهم في خصوص المسيح 7 على كثرتها وتشتتها مما يحتج به القرآن أمر واحد يرد على وتيرة واحدة كما سيتضح.

٤ ـ احتجاج القرآن على مذهب التثليث

يرد القرآن في الاحتجاج ، ويرد قول المثلثة من طريقين ، أحدهما الطريق العام ، وهو بيان استحالة الابن عليه تعالى في نفسه أي سواء كان عيسى هو الابن أو غيره ، الثاني : الطريق الخاص وهو بيان أن عيسى بن مريم ليس ابناً إلهاً بل عبد مخلوق.

أما الطريق الأول فتوضيحه أن حقيقة البنوة والتولد هو أن يجزء واحد من هذه الموجودات الحية المادية كالإنسان والحيوان بل النبات أيضاً شيئاً من مادة نفسه ثم يجعله بالتربية التدريجية فرداً آخر من نوعه مماثلاً لنفسه يترتب عليه من الخواص والآثار ما كان يترتب على المجزى منه كالحيوان يفصل من نفسه النطفة ، والنبات يفصل من نفسه اللقاح ثم يأخذ في تربيته تدريجاً حتى يصيره حيواناً أو نباتاً آخر مماثلاً لنفسه ، ومن المعلوم أن الله سبحانه يمتنع عليه ذلك : أما اولاً فلاستلزامه الجسمية المادية ، والله سبحانه منزه من المادة ولوازمها الافتقارية كالحركة والزمان والمكان وغير ذلك ، وأما ثانياً فلأن الله سبحانه لاطلاق أُلوهيته وربوبيته له القيومية المطلقة على ما سواه فكل شيء سواه مفتقر الوجود إليه قائم الوجود به فكيف يمكن فرض شيء غيره يماثله في النوعية يستقل عنه بنفسه ، ويكون له من الذات والأوصاف والأحكام ما له من غير افتقار إليه ، وأما ثالثاً فلأن جواز الإيلاد والاستيلاد عليه تعالى ، يستلزم جواز الفعل التدريجي عليه تعالى وهو يستلزم دخوله تحت ناموس المادة والحركة وهو خلف بل ما يقع بإرادته ومشيته تعالى إنما يقع من غير مهلة وتدريج.

وهذا البيان هو الذي يفيده قوله تعالى : (وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) البقرة ـ ١١٧ ، وعلى ما قربناه فقوله : سبحانه برهان ، وقوله : (لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) برهان آخر ، وقوله بديع


السموات والأرض إذا قضى « الخ » برهان ثالث.

ويمكن أن يجعل قوله : بديع السموات والأرض من قبيل إضافة الصفة إلى فاعلها ، ويستفاد منه أن خلقه تعالى على غير مثال سابق فلا يمكن منه الإيلاد لأنه خلق على مثال نفسه لأن مفروضهم العينية فيكون هذه الفقرة وحدها برهاناً آخر.

ولو فرض قولهم : اتخذ الله ولداً كلاماً ملقى لا على وجه الحقيقة بل على وجه التوسع في معنى الابن والولد بأن يراد به انفصال شيء عن شيء يماثله في الحقيقة من غير تجز مادي أو تدريج ( زماني وهذا هو الذي يرومه النصارى بقولهم : المسيح ابن الله بعد تنقيحه ) ليتخلص بذلك عن إشكال الجسمية والمادية والتدريج بقي إشكال المماثلة.

توضيحه أن إثبات الابن والأب إثبات للعدد بالضرورة ، وهو إثبات للكثرة الحقيقية وإن فرضت الوحدة النوعية بين الأب والابن كالأب والابن من الإنسان هما واحد في الحقيقة الإنسانيه ، وكثير من حيث إنهما فردان من الإنسان ، وعلى هذا فلو فرض وحدة الاله كان كل ما سواه ومن جملتها الابن غيراً له مملوكاً مفتقراً إليه فلا يكون الابن المفروض إلهاً مثله ، ولو فرض ابن مماثل له غير مفتقر إليه بل مستقل مثله بطل التوحيد في الاله عز اسمه.

وهذا البيان هو المدلول عليه بقوله تعالى : (وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً) النساء ـ ١٧١.

وأما الطريق الثاني وهو بيان أن شخص عيسى بن مريم 7 ليس ابناً لله مشاركاً له في الحقيقة الإلهية فلما كان فيه من البشرية ولوازمها.

وتوضيحه أن المسيح 7 حملت به مريم ، وربته جنيناً في رحمها ، ثم وضعته وضع المرأة ولدها ، ثم ربته كما يتربى الولد في حضانة امه ، ثم أخذ في النشوء وقطع مراحل الحيوة والارتقاء في مدارج العمر من الصبا والشباب والكهولة ، وفي جميع ذلك كان حاله حال إنسان طبيعي في حيوته ؛ يعرضه من العوارض والحالات ما يعرض الإنسان : من جوع وشبع ، وسرور ومسائة ، ولذة وألم ، وأكل وشرب ، ونوم ويقظة ، وتعب وراحة ، وغير ذلك.


فهذا ما شوهد من حال المسيح 7 حين مكثه بين الناس ، ولا يرتاب ذو عقل أن من كان هذا شأنه فهو إنسان كسائر الأناسي من نوعه وإذا كان كذلك فهو مخلوق مصنوع كسائر أفراد نوعه ، وأما صدور الخوارق وتحقق المعجزات بيده كإحياء الأموات وخلق الطير و إبراء : (الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ) ، وكذا تحقق الخوارق من الآيات في وجوده كتكونه من غير أب فإنما هي امور خارقة للعادة المألوفة والسنة الجارية في الطبيعة فإنها نادرة الوجود لا مستحيلته فهذا آدم تذكر الكتب السماوية أنه خلق من تراب ولا أب له ، وهؤلاء أنبياء الله كصالح وإبراهيم وموسى : جرت بأيديهم آيات معجزة كثيرة مذكورة في مسفورات الوحي من غير أن تقتضي فيهم الوهية ، ولا خروجاً عن طور الإنسانية.

وهذه الطريقة هي المسلوكة في قوله تعالى : (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ ـ إلى أن قال : ـ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) المائدة ـ ٧٥ ، وقد خص أكل الطعام من بين جميع الأفعال بالذكر لكونه من أحسنها دلالة على المادية واستلزاماً للحاجة والفاقة المنافية للالوهية فمن المعلوم أن من يجوع ويظمأ بطبعه ثم يشبع بأكله أو يرتوي بشربة ليس عنده غير الحاجة والفاقة التي لا يرفعها إلا غيره ، وما معنى الوهية من هذا شأنه ؟ فإن الذي قد أحاطت به الحاجة واحتاج في رفعها إلى الخارج من نفسه فهو ناقص في نفسه مدبر بغيره ، وليس بإله غني بذاته بل هو مخلوق مدبر بربوبية من ينتهي إليه تدبيره.

وإلى هذا يمكن أن يرجع قوله تعالى : ( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) المائدة ـ ١٧.

وكذا قوله تعالى في ذيل الآية المنقولة سابقاً ( آية ٧٥ ) خطاباً للنصارى : (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) المائدة ـ ٧٦.

فإن الملاك في هذا النوع من الاحتجاجات هو أن الذي شوهد من أمر المسيح

( ٣ ـ الميزان ـ ١٩ )


أنه كان يعيش على الناموس الجاري في حيوة الإنسان متصفاً بجميع صفاته وأفعاله وأحواله النوعية كالأكل والشرب وسائر الاحتياجات الإنسانية ، والخواص البشرية ولم يكن هذا التلبس والاتصاف بحسب ظاهر الحس أو تسويل الخيال فحسب بل كان على الحقيقة وكان المسيح 7 إنساناً ذا هذه الأوصاف والأحوال والأفعال ، والأناجيل مشحونة بتسميته نفسه إنساناً وابن الإنسان ، مملوئة بالقصص الناطقة بأكله وشربه ونومه ومشيه ومسافرته وتعبه وتكلمه ونحو ذلك بحيث لا يقبل شيء منها صرفاً ولا تأويلاً ، ومع تسليم هذه الامور يجري على المسيح ما يجري على غيره فهو لا يملك من غيره شيئاً كغيره ، ويمكن أن يهلك كغيره.

وكذا حديث عبادته ودعائه بحيث لا يرتاب في أن ما كان يأتيه من عبادة فإنما للتقرب من الله والخضوع لقدس ساحته لا لتعليم الناس أو لأغراض اخر تشابه ذلك.

وإلى حديث العبادة والاحتجاج به يؤمي قوله تعالى : (لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً) النساء ـ ١٧٢ ، فعبادة المسيح أول دليل على أنه ليس بإله ، وأن الالوهية لغيره لا نصيب له فيها ، فأي معنى لنصب الشيء نفسه في مقام العبودية والمملوكية لنفسه ، وكون الشيء قائماً بنفسه من عين الجهة التي بها يقوم نفسه والأمر ظاهر وكذا عبادة الملائكة كاشفة عن أنها ليست ببنات الله سبحانه ولا أن روح القدس إله بعد ما كانوا بأجمعهم عابدين لله طائعين له كما قال تعالى : (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) الأنبياء ـ ٢٨.

على أن الأناجيل مشحونة بأن الروح طائع لله ورسله مؤتمر للامر محكوم بالحكم ولا معنى لامر الشيء نفسه ولا لطاعته لذاته ، ولا لأنقياده وائتماره لمخلوق نفسه.

ونظير عبادة المسيح لله سبحانه في الدلالة على المغايرة دعوته الناس إلى عبادة الله كما يشير إليه قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) المائدة ـ ٧٢ ، وسبيل الآية واحتجاجها ظاهر.


والأناجيل أيضاً مشحونة في دعوته إلى الله سبحانه ، وهي وإن لم تشتمل على هذا اللفظ الجامع اعبدوا ( الله ربي وربكم ) لكنها مشتملة على الدعوة إلى عبادة الله ، وعلى اعترافه بأنه ربه الذي بيده زمام أمره ، وعلى اعترافه بأنه رب الناس ، ولا تتضمن دعوته إلى عبادة نفسه صريحاً ولا مرة مع ما فيها من قوله : ( أنا وأبي واحد نحن ) إنجيل يوحنا ـ الإصحاح العاشر ، فمن الواجب أن يحمل على تقدير صحته على أن المراد : أن إطاعتي إطاعة الله كما قال تعالى في كتابه الكريم : (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ) النساء ـ ٨٠.

٥ ـ المسيح من الشفعاء عند الله وليس بفاد :

زعمت النصارى : ان المسيح فداهم بدمه الكريم ، ولذلك لقبوه بالفادي ، قالوا : إن آدم لما عصي الله بالأكل من الشجرة المنهية في الجنة أخطأ بذلك ولزمته الخطيئة ، وكذلك لزمت ذريته من بعده ما توالدوا وتناسلوا ، وجزاء الخطيئة العقاب في الآخرة والهلاك الأبدي الذي لا مخلص منه ، وقد كان الله سبحانه رحيماً عادلاً.

فبدا إذ ذاك إشكال عويص لا انحلال له ، وهو أنه لو عاقب آدم وذريته بخطيئتهم كان ذلك منافياً لرحمته التي لها خلقهم ، ولو غفر لهم كان ذلك منافياً لعدله فإن مقتضى العدل أن يعاقب المجرم الخاطي بجرمه وخطيئته كما أن مقتضاه أن يثاب المحسن المطيع بإحسانه وإسائته (١).

ولم تزل هذه العويصة على حالها حتى حلها ببركة المسيح ، وذلك بأن حل المسيح ( وهو ابن الله ، وهو الله نفسه ) رحم واحدة من ذرية آدم وهو مريم البتول وتولد منها كما يتولد إنسان فكان بذلك إنساناً كاملاً لأنه ابن إنسان ، وإلهاً كاملاً لأنه ابن الله ، وابن الله هو الله ( تعالى ) معصوماً عن جميع الذنوب والخطايا.

وبعد أن عاش بين الناس برهة يسيرة من الزمان يعاشرهم ويخالطهم ، ويأكل ويشرب معهم ، ويكلمهم ويستأنس بهم ، ويمشي فيهم تسخر لأعدائه ليقتلوه شر

__________________

١ ـ هذا ما عليه معظمهم ويظهر من بعضهم كالقسيس مار اسحق ان التخلف في مجازاة الجريمة والخطيئة وبعبارة اخرى خلف الوعيد جائز دون خلف الوعد.


قتلة ، وهي قتلة الصلب التي لعن صاحبها في الكتاب الإلهي فاحتمل اللعن والصلب بما فيه من الزجر والأذى والعذاب ففدى الناس بنفسه ليخلصوا بذلك من عقاب الآخرة وهلاك السرمد وهو كفارة لخطايا المؤمنين به بل لخطايا كل العالم (١) هذا ما قالوه.

وقد جعلت النصارى هذه الكلمة أعني مسألة الصلب والفداء أساس دعوتهم فلا يبدئون إلا بها ، ولا يختمون إلا عليها كما أن القرآن يجعل أساس الدعوة الاسلامية هو التوحيد كما قال الله مخاطباً لرسوله 6 : (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) يوسف ـ ١٠٨ ، مع أن المسيح ( على ما يصرح به الأناجيل ، وقد تقدم نقله. كان يجعل أول الوصايا هو التوحيد ومحبة الله سبحانه.

وقد ناقشهم غيرهم من المسلمين وسائر الباحثين فيما يشتمل عليه قولهم هذا من وجوه الفساد والبطلان ، وألفت فيها كتب ورسائل وملئت بها صحف وطوامير ببيان منافاتها لضرورة العقل ، ومناقضتها لكتب العهدين. والذي يهمنا ويوافق الغرض الموضوع له هذا الكتاب بيان جهات منافاته لاصول تعليم القرآن وختمه ببيان الفرق بين ما يثبته القرآن من الشفاعة وما يثبتونه من الفداء.

على أن القرآن يذكر صراحة أنه إنما يخاطب الناس ويكلمهم ببيان ما يقرب من أُفق عقولهم ، ويمكن بياناته من فقههم وفهمهم ، وهو الأمر الذي به يميز الإنسان الحق من الباطل فينقاد لهذا ويأبى ذاك ، ويفرق بين الخير والشر والنافع والضار فيأخذ بهذا ويترك ذاك ، والذي ذكرناه من اعتبار القرآن في بياناته حكم العقل السليم مما لا غبار عليه عند من راجع الكتاب العزيز.

فأما ما ذكروه ففيه اولا : أنهم ذكروا معصية آدم 7 بالأكل من الشجرة المنهية ، والقرآن يدفع ذلك من جهتين :

الأولى : أن النهي هناك كان نهياً إرشادياً يقصد به صلاح المنهي ووجه الرشد

__________________

١ ـ في الرسالة الأولى ليوحنا ـ الفصل الأول ( يا اولادي هذه الالفاظ اكتبها إليكم لئلا تخطئوا وإن يخطئ أحدكم فلنا لدى الرب معزى عدل يسوع المسيح وذلك هو اغتفار من أجل خطايانا فقط بل ومن أجل العالم كله


في أمره لا إعمال المولوية ، والأمر الذي هو من هذا القبيل لا يترتب على امتثاله ولا تركه ثواب ولا عقاب مولوي كأوامر المشير ونواهيه لمن يستشيره ، وأوامر الطبيب ونواهيه للمريض بل إنما يترتب على امتثال التكليف الإرشادي الرشد المنظور لمصلحة المكلف ، وعلى مخالفته الوقوع في مفسدة المخالفة وضرر الفعل بما أنه فعل ، وبالجملة لم يلحق بآدم 7 إلا أنه أخرج من الجنة وفاته راحة القرب وسرور الرضا ، وأما العقاب الاخروي فلا لأنه لم يعص معصية مولوية حتى يستتبع عقاباً ، راجع تفسير الآيات ٣٥ ـ ٣٩ ، من سورة البقرة.

والثانية : أنه 7 كان نبياً والقرآن ينزه ساحة الأنبياء : ويبرء نفوسهم الشريفة عن اقتراف المعاصي ، والفسق عن أمر الله سبحانه ، والبرهان العقلي أيضاً يؤيد ذلك ، راجع ما ذكرناه في البحث عن عصمة الأنبياء في تفسير الآية ٢١٣ من سورة البقرة.

وثانياً : قولهم : إن الخطيئة لزمت آدم فإن القرآن يدفعه بقوله : ( ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ) طه ـ ١٢٢ ، وقوله : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) البقرة ـ ٣٧.

والاعتبار العقلي يؤيد ذلك بل يبينه فإن الخطيئة وتبعة الذنب إنما هو أمر محذور مخوف منه يعتبره العقل أو المولى لازما للمخالفة والتمرد ليستحكم بذلك أمر التكليف فلو لا العقاب والثواب لم يستقم أمر المولوية ولم يمتثل أمر ولا نهي وكما أن من شئون المولوية بسط العقاب على المجرمين في جرائمهم كالثواب على المطيعين في طاعاتهم كذلك من شئون المولوية إطلاق التصرف في دائرة مولويته فللمولى أن يغمض عن خطيئة المخطئين ومعصية العاصين بالعفو والمغفرة فإنه نوع تصرف وحكومة كما أن له أن يؤاخذ بها وهي نوع حكومة ، وحسن العفو والمغفرة عن الموالي واولي القوة والسطوة في الجملة مما لا ريب فيه ، والعقلاء من الإنسان يستعملونه إلى هذا الحين فكون كل خطيئة صادرة من الإنسان لازمة للإنسان مما لا وجه له البتة وإلا لم يكن لأصل العفو والمغفرة تحقق لأن المغفرة والعفو إنما يكون لامحاء الخطيئة وإبطال أثر الذنب ، ومع فرض أن الخطيئة لازمة غير منفكة لا يبقى موضوع للعفو والمغفرة ، مع أن الوحي الإلهي مملو بحديث العفو والمغفرة ، وكتب العهدين كذلك حتى أن هذا الكلام


المنقول منهم لا يخلو عنه ، وبالجملة دعوى كون ذنب من الذنوب أو خطيئة من الخطايا لازمة غير قابلة في نفسه للمغفرة والإمحاء حتى بالتوبة والإنابة والرجوع والندم مما لا يقبله عقل سليم ولا طبع مستقيم.

وثالثاً : أن قولهم : أن خطيئة آدم كما لزمته كذلك لزمت ذريته إلى يوم القيامة يستلزم أن يشمل تبعة الذنب الصادر من واحد غيره أيضاً ممن لم يذنب في المعاصي المولوية. وبعبارة اخرى أن يصدر فعل عن واحد ويعم عصيانه وتبعته غير فاعله كما يشمل فاعله ؛ وهذا غير أن يأتي قوم بالمعصية ويرضى به آخرون من أخلافهم فتحسب المعصية على الجميع وبالجملة هو تحمل الوزر من غير صدور الذنب والقرآن يرد ذلك كما في قوله : (لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ـ وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ) النجم ـ ٣٩ ، والعقل يساعده عليه لقبح مؤاخذة من لم يذنب بذنب لم يصدر عنه راجع أبحاث الأفعال في تفسير آية ٢١٦ و ٢١٨ من سورة البقرة.

ورابعاً : أن كلامهم مبني على كون تبعة جميع الخطايا والذنوب هو الهلاك الأبدي من غير فرق بينها ، ولازمه أن لا يختلف الخطايا والذنوب من حيث الصغر والكبر بل يكون جميعها كبائر موبقات ، والذي يراه القرآن الكريم في تعليمه أن الخطايا والمعاصي مختلفة : فمنها كبائر ، ومنها صغائر ، ومنها ما تناله المغفرة ، ومنها ما لا تناله إلا بالتوبة كالشرك ، قال تعالى : (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) النساء ـ ٣١ ، وقال تعالى : (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء) النساء ـ ٤٨ ، فجعل تعالى من المحرمات المنهي عنها وهي الخطايا والذنوب ما هي كبائر ، وما هي سيئات أي صغائر بقرينة المقابلة ؛ وجعل تعالى من الذنوب ما لا يقبل المغفرة ، ومنها ما يقبلها فالذنوب على أي حال مختلفة ، وليس كل ذنب بموجب للخلود في النار والهلاك الأبدي.

على أن العقل يأبى عن نضد جميع الذنوب ونظمها في سلك واحد فاللطم غير القتل والنظر المريب غير الزنا ، وهكذا ، والعقلاء من الإنسان في جميع الأدوار لم يضعوا كل ذنب وخطأ موضع غيره ، ويرون للمعاصي المختلفة تبعات ومؤاخذات مختلفة فكيف يصح إجراء الجميع مجرى واحداً مع هذا الاختلاف الفاحش بينها ، وإذا فرض اختلافها لم يصح إلا جعل العقاب الخالد والهلاك الأبدي لبعضها كالشرك بالله ؛


كما يقول القرآن الكريم ومن المعلوم أن مخالفة نهي ما في الأكل من الشجرة ليس يحل محل الكفر بالله العظيم وما يشابه ذلك فلا وجه لجعل عقابه وتبعته هو العذاب المؤبد ( راجع بحث الافعال السابق الذكر ).

وخامساً : ما ذكروه من وقوع الإشكال ، وحدوث التزاحم بين صفة الرحمة وصفة العدل ثم الاحتيال إلى رفعه بنزول المسيح وصعوده بالوجه الذي ذكروه. والمتأمل في هذا الكلام وما يستتبعه من اللوازم يجد أنهم يرون أن الله تعالى وتقدس موجود خالق ينسب وينتهي إليه هذا العالم المخلوق بجميع أجزائه غير أنه إنما يفعل بإرادة وعلم في نفسه ، وإرادته في تحققها تتوقف إلى ترجيح علمي كما أن الإنسان إنما يريد شيئاً إذا رجحه بعلمه ، فهناك مصالح ومفاسد يطبق الله أفعاله عليها فيفعلها ، وربما أخطأ في التطبيق فندم (١) على الفعل ، وربما فكر في أمر ولم يهتد إلى طريق صلاحه ، وربما جهل أمراً ، وبالجملة هو تعالى في أوصافه وأفعاله كالإنسان إنما يفعل ما يفعل بالتفكر والتروي ويروم فيه تطبيق فعله على المصلحة فهو محكوم بحكم المصالح ومقهور بعملها فيه من الخارج ، ويمكن له الاهتداء إلى الصلاح ويمكن له الضلال والاشتباه والغفلة فربما يعلم وربما يجهل ، وربما يغلب وربما يغلب عليه فقدرته محدودة كعلمه ، وإذا جاز عليه هذا الذي ذكر جاز عليه سائر ما يطرأ الفاعل المتفكر المريد في فعله من سرور وحزن وحمد وندم وابتهاج وانفعال وغير ذلك ، والذي هذا شأنه يكون موجوداً مادياً جسمانياً واقعاً تحت ناموس الحركة والتغير والاستكمال ، والذي هو كذلك ممكن مخلوق بل إنسان مصنوع ، وليس بالواجب تعالى ، الخالق لكل شيء.

وأنت بالرجوع إلى كتب العهدين تجد صدق جميع ما نسبناه إليهم في الواجب تعالى من جسميته واتصافه بجميع أوصاف الجسمانيات وخاصة الإنسان.

والقرآن في جميع هذه المعاني المذكورة ينزه الله تعالى عن هذه الأوهام الخرافية ، كما يقول تعالى : (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) الصافات ـ ١٥٩ ، والبراهين العقلية القاطعة قائمة على أنه تعالى ذات مستجمع لجميع صفات الكمال فله الوجود من غير شائبة عدم ،

__________________

١ ـ في الإصحاح السادس من صفر التكوين من التوراة : وكره الله خلقة ولد آدم على الأرض ( التوراة العربية مطبوعة سنة ١٨١١ الميلادية )


والقدرة المطلقة من غير عجز ، والعلم المطلق من غير طرو جهل ، والحيوة المطلقة من غير إمكان موت وفناء ، وإذا كان كذلك لم يجز عليه تغير حال في وجوده أو علمه أو قدرته أو حيوته.

وإذا كان كذلك لم يكن جسماً ولا جسمانياً لأن الأجسام والجسمانيات محاط التغيرات والتحولات ، ومحال الإمكانات والافتقارات والاحتياجات ، وإذا لم يكن جسماً ولا جسمانياً لم يطرء عليه الحالات المختلفة والطواري المتنوعة : من غفلة وسهو وغلط وندم وتحير وتأثر وانفعال وهوان وصغر ومغلوبية ونحوها ، وقد استوفينا البحث البرهاني المتعلق بهذه المعاني في هذا الكتاب في موارد يناسبها ؛ يجدها المراجع إذا راجع.

وعلى الناقد المتبصر والمتأمل المتدبر أن يقايس بين القولين : ما يقول به القرآن الكريم في إله العالم فيثبت له كل صفة كمال ، وينزهه عن كل صفة نقص ، وبالاخرة يعده أكبر وأعظم من أن يحكم فيه أفهامنا بما صحبته من عالم الحد والتقدير ؛ وبين ما يثبته العهدان في الباري تعالى بما لا يوجد إلا في أساطير يونان ، وخرافات هند القديم والصين ، وامور كان الإنسان الأولي يتوهمها فيتأثر مما قدمه إليه وهمه.

وسادساً : قولهم : إن الله أرسل ابنه المسيح وأمره أن يحل رحماً من الأرحام ليتولد إنساناً وهو إله ، وهذا هو القول غير المعقول الذي انتهض لبيان بطلأنه القرآن الكريم على ما أوضحناه في البيان السابق فلا نعيد.

ومن المعلوم أن العقل أيضاً لا يساعد عليه فإنك إذا تأملت فيما يجب من الصفات أن يقال باتصاف الواجب تعالى بها كالثبات السرمدي ، وعدم التغير ، وعدم تحدد الوجود ، والإحاطة بكل شيء ، والتنزه عن الزمان والمكان وما يتبعهما ، وتأملت في تكون إنسان من حين كونه نطفة فجنيناً في رحم سواء اعتبرت في معناه تفسير الملكانيين لهذه الكلمة أو تفسير النسطوريين ، أو تفسير اليعقوبيين أو غيرهم إذ لا نسبة بين ما له الجسمية وجميع أوصاف الجسمية وآثارها وبين ما ليس فيه جسمية ولا شيء مما يتصف به من زمان أو مكان أو حركة أو غير ذلك فكيف يمكن تعقل الاتحاد بينهما بوجه.


وعدم انطباق القول المذكور على القضايا الضرورية العقلية هو السر فيما يذكره بولس وغيره من رؤسائهم القديسيين من تقبيح الفلسفة والإزراء بالأحكام العقلية ، يقول بولس : ( قد كتب لأهلكن حكمة الحكماء ولأخالفن فهم الفقهاء أين الحكيم أين الكاتب أين مستفحص هذا الدهر بتعمق ؟ أو ليس قد حمق الله حكمة هذا العالم ـ إلى أن قال ـ : وإذ اليهود يسألون آية واليونانيون يطلبون حكمة نكرز (١) نحن بالمسيح مصلوب ) رسالة بولس ـ الإصحاح الأول ، ونظائر هذه الكلمات كثيرة في كلامه وكلام غيره وليست إلا لسياسة النشر والإذاعة والتبليغ والعظة ، يوقن بذلك من أرعى نظره في هذه الرسائل والكتب وتعمق في طريق تكليمها الناس وإلقاء بياناتها إليهم.

ومن ما مر يظهر ما في قولهم : إنه تعالى معصوم من الذنوب والخطايا فإن الاله الذي صوروه غير مصون عن الخطأ أصلا بمعنى الغلط في الإدراك والغلط في الفعل من غير أن ينتهي إلى مخالفة من يجب موافقته.

وأما الذنب والمعصية بمعنى التمرد فيما يجب فيه الطاعة والأنقياد فهو غير متصور في حقه تعالى فالعصمة أيضاً غير متصورة في حقه سبحانه.

وسابعاً : قولهم : إنه بعد أن صار إنساناً عاشر الناس معاشرة الإنسان للإنسان حق تسخر لأعدائه فيه تجويز اتصاف الواجب بحقيقة من حقائق الممكنات حتى يكون إلهاً وإنساناً في عرض واحد ، فكان من الجائز أن يصير الواجب شيئاً من مخلوقاته أي يتصف بحقيقه كل نوع من هذه الأنواع الخارجية ، فتارة يكون إنساناً من الأناسي ، وتارة فرساً ، وتارة طائراً ، وتارة حشرة ، وتارة غير ذلك ، وتارة يكون أزيد من نوع واحد من الأنواع كالإنسان والفرس والحشرة معاً.

وهكذا يجوز أن يصدر عنه أي فعل فرض من أفعال الموجودات لجواز أن يصير هو ذلك النوع فيفعل فعله المختص به ، وكذا يجوز أن يصدر عنه أفعال متقابلة معاً كالعدل والظلم ، وأن يتصف بصفات متقابلة كالعلم والجهل ، والقدرة والعجز ، والحياة والموت و الغنى والفقر ، تعالى الملك الحق ؛ وهذا غير المحذور المتقدم في الأمر السادس.

__________________

١ ـ كرز كرزاً ، وعظ ونادى


وثامناً : قولهم : إنه تحمل الصلب واللعن أيضاً لأن المصلوب ملعون ، ماذا يريدون بقولهم : إنه تحمل اللعن ؟ وما ذا يراد بهذا اللعن ؟ أهو هذا اللعن الذي يعرفه العرف واللغة وهو الإبعاد من الرحمة والكرامة أو غير ذلك ؟ فإن كان هو الذي نعرفه ، وتعرفه اللغة فما معنى إبعاده تعالى نفسه من الرحمة ؟ أو إبعاد غيره إياه من الرحمة فهل الرحمة إلا الفيض الوجودي وموهبة النعمة والاختصاص بمزايا الوجود فيرجع هذا الإبعاد واللعن بحسب المعنى إلى الفقر في المال أو الجاه أو نحو ذلك في الدنيا أو الآخرة أو كلتيهما ، وحينئذ فما معنى لحوق اللعن بالله تعالى وتقدس بأي وجه تصوروه ؟ مع أنه الغني بالذات الذي هو يسد باب الفقر عن كل شيء.

والتعليم القرآني على خلاف هذا التعليم العجيب بتمام معنى الكلمة ، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) الفاطر ـ ١٥ ، والقرآن يسميه تعالى بأسماء ويصفه بصفات يستحيل معها عروض أي فقر وفاقة وحاجة ونقيصة وفقد وعدم وسوء وقبح وذل وهوان إلى ساحة قدسه وكبريائه.

فان قيل : إن اتصافه بالهوان ، وحمله اللعن بواسطة اتحاده بالإنسان ، وإلا فهو تعالى في نفسه وحيال ذاته أجل من أن يعرضه ذلك.

قيل لهم : هل يوجب هذا الاتحاد حمله اللعن واتصافه بهذه الامور الشاقة حقيقة ومن غير مجاز أولا ؟ فإن كان الأول لزم المحذور الذي ذكرناه ، وإن كان الثاني عاد الإشكال ، أعني أن تولد المسيح لم يوجب انحلال إشكال تزاحم الرحمة والعدل ، فإن تحمل غيره تعالى للمصائب وأقسام العذاب واللعن لا يتم أمر الفدية أي صيرورة الله فدية عن أفراد الإنسان ، وهو ظاهر.

وتاسعاً : قولهم : إن ذلك كفارة لخطايا المؤمنين بعيسى بل لخطايا كل العالم ، يدل ذلك على أنهم لم يحصلوا حقيقة معنى الذنوب والخطايا وكيفية استتباعها للعقاب الاخروي وكيف يتحقق هذا العقاب ، ولم يعرفوا حقيقة الارتباط بين هذه الذنوب والخطايا وبين التشريع ، وما هو موقف التشريع من ذلك ؟ على ما يتكفله البيان القرآني وتعليمه.

فقد بينا في المباحث السابقة في هذا الكتاب ، ومن جملتها ما في تفسير قوله تعالى :


(إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا) البقرة ـ ٢٦ ، وفي ذيل قوله تعالى : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) البقرة ـ ٢١٣ ، أن الأحكام والقوانين التي يقع فيها المخالفة والتمرد ثم الذنب والخطيئة إنما هي امور وضعية اعتبارية اريد بوضعها واعتبارها أن يحفظ مصالح المجتمع الإنساني بالعمل بها والرقوب لها ، وأن العقاب المترتب على المعصية والمخالفة إنما هو تبعة سوء اعتبروه ووضعوه ليكون ذلك صارفاً للإنسان المكلف عن اقتراف المعصية والتمرد عن الطاعة ، هذا ما عند العقلاء البانين للمجتمع الإنساني.

لكن التعليم القرآني يعطي في هذا المعنى ما هو أرقى من ذلك وأرق ويؤيده البحث العقلي على ما مر ؛ وهو أن الإنسان بانقياده للشرع المنصوب له من جانب الله وعدم انقياده له تتهيأ في نفسه حقائق من الصفات الباطنة الحميدة الفاضلة أو الرذيلة الخسيسة الخبيثة ، وهذه هي التي تهيئ للإنسان نعمة أُخروية أو نقمة أُخروية اللتين ممثلهما الجنة والنار وحقيقتهما القرب والبعد من الله فالحسنات أو الخطايا تتكي وتنتهي إلى امور حقيقية لها نظام حقيقة غير اعتباري.

ومن البين أيضاً أن التشريع الإلهي إنما هو تتمة للتكميل الإلهي في الخلقة ، وانهاء الهداية التكوينية إلى غايتها وهدفها من الخلقة ، وبعبارة اخرى ، شأنه تعالى إيصال كل نوع إلى كمال وجوده وهدف ذاته ومن كمال وجود الإنسان النظام النوعي الصالح في الدنيا ، والحيوة الناعمة السعيدة في الآخرة ، والطريق إلى ذلك الدين الذي يتكفل قوانين صالحة لاصلاح الاجتماع وجهات من التقرب باسم العبادات يعمل بها الإنسان فينتظم بذلك معاشه ويتهيأ في نفسه ويصلح في ذاته وعمله للكرامة الإلهية في الدار الآخرة ، كل ذلك من جهة النور المجعول في قلبه و الطهارة الحاصلة في نفسه هذا حق الأمر.

فللإنسان قرب وبعد من الله سبحانه هما الملاكان في سعادته وشقاوته الدائمتين ولصلاح اجتماعه المدني في الدنيا ، والدين هو العامل الوحيد في إيجاد هذا القرب والبعد ، وجميع ذلك امور حقيقية غير مبتنية على اللغو والجزاف.

وإذا فرضنا أن اقتراف معصية واحدة كالأكل من الشجرة المنهية من آدم أوجب له الهلاك الدائم ولا له فحسب بل ولجميع ذريته ثم لم يكن هناك ما يعالج به الداء ويفرج به الهم إلا فداء المسيح فما فائدة تشريع الدين قبل المسيح ؟ وما فائدة تشريعه معه ؟ وما فائدة تشريعه بعده ؟!


وذلك أنه لما فرض أن الهلاك الدائم والعقاب الاخروي محتوم من جهة صدور المعصية لا ينفع في صرفه عن الإنسان لا عمل ولا توبة إلا بنحو الفداء لم يكن معنى لتشريع الشرائع وإنزال الكتب وإرسال الرسل من عند الله سبحانه ، ولم يزل الوعد والوعيد والأنذار والتبشير خالية عن وجه الصحة فما ذا كاد يصلحه هذا السعي بعد وجوب العذاب وحتم الفساد.

وإذا فرض هناك من تكمل بالعمل بالشرائع ( السابقة وكم من الأنبياء والربانيين من الامم السالفة كذلك كالنبي المكرم إبراهيم وموسى 8 وغيرهما ) وقد قضوا وماتوا قبل إدراك زمان الفداء فما ذا ترى ؟ أترى أنهم ختموا الحيوة على الشقاء أو السعادة ؟ وما الذي استقبلهم به الموت وعالم الآخرة ؟ استقبلهم بالعقاب والهلاك أم بالثواب والحيوة السعيدة ؟

مع أن المسيح يصرح بأنه إنما ارسل لتخليص المذنبين والمخطئين ، وأما الصلحاء والأخيار فلا حاجة لهم إلى ذلك (١).

وبالجملة فلا يبقى لتشريع الشرائع الإلهية وجعل النواميس الدينيه قبل فداء المسيح غرض صحيح يصونه عن العبث واللغوية ، ولا لهذا الفعل العجيب من الله ( تعالى وتقدس ) ـ محمل حق الا أن يقال ، إنه تعالى كان يعلم أن لو لم يرفع محذور خطيئة آدم لم ينفعه شيء من هذه التشريعات قط ، وإنما شرع هذه الشرائع على سبيل الاحتياط برجاء أن سيوفق يوماً لرفع المحذور ويجني ثمرة تشريعه بعد ذلك ، ويبلغ غايته ويظفر بامنيته إذ ذاك فشرع ما شرع بكتمان الأمر عن الأنبياء والناس ، وإخفاء أن هيهنا محذوراً لو لم يرتفع خابت مساعي الأنبياء والمؤمنين كافة ، وذهبت الشرائع سدى ، وإظهار أن التشريع والدعوة على الجد والحقيقة.

فغر الناس وغر نفسه : أما غرور الناس فبإظهار أن العمل بالشرائع يضمن مغفرتهم وسعادتهم ، وأما غرور نفسه فلأن التشريع بعد رفع المحذور بالفداء يعود

__________________

١ ـ فتقمقم الفريسيون والكتبة على تلاميذه قائلين لما تأكلون وتشربون مع العشارين والخطاة أجابهم يسوع قائلاً لا يحتاج الاصحاء إلى الطبيب لكن المرضى لم آت لادعو الصديقين لكن الخطاة إلى التوبة إنجيل لوقا ـ الإصحاح الخامس.


لغواً لا أثر له في سعادة الناس كما أنه من غير رفع المحذور كان لا أثر له ، فهذا حال تشريع الدين قبل وصول أو ان الفداء وتحققه !

وأما في زمان الفداء وبعده فالأمر في صيرورة التشريع والدعوة الدينية والهداية الإلهية لغواً أوضح وأبين ، فما هي الفائدة في الإيمان بالمعارف الحقة والإتيان بالأعمال الصالحة بعد ارتفاع محذور الخطيئة ، واستيجاب نزول المغفرة والرحمة على الناس مؤمنهم وكافرهم ، برهم وفاجرهم ، من غير فرق بين أتقى الأتقياء وأشقى الأشقياء في أنهما يشتركان في الهلاك المؤبد مع بقاء الخطيئة ، وفي الرحمة اللازمة مع ارتفاعها بالفداء والمفروض أنه لا ينفع أي عمل صالح في رفعها لولا الفداء.

فان قيل : إن الفداء إنما ينفع في حق من آمن بالمسيح فللدعوة ثمرة كما يصرح به المسيح في بشارته (١).

قيل : مضافاً إلى أنه مناقض لما تقدمت الاشارة إليه من كلام يوحنا في رسالته ، إنه هدم لجميع الاصول الماضية إذ لا يبقى من الناس ـ آدم فمن دونه ـ في حظيرة النجاة والخلاص إلا شرذمة منهم ، وهم المؤمنون بالمسيح والروح بل واحدة من طوائفهم المختلفة في الاصول وأما غيرهم فهم باقون على الهلاك الدائم ، فليت شعري إلى ما يؤول أمر الأنبياء المكرمين قبل المسيح وأمر المؤمنين من اممهم ؟ وبما ذا يتصف الدعوة التي جاؤوا بها من كتاب وحكم ، أبالصدق أم بالكذب ؟ والأناجيل تصدق التوراة ودعوتها ، وليس فيها دعوة إلى قصة الروح والفداء ! وهل هي تصدق ما هو صادق أو تصدق الكاذب ؟

فان قيل : إن الكتب السماوية السابقة فيما نعلم تبشر بالمسيح ، وهذه منهم دعوة إجمالية إلى المسيح وإن لم تفصل القول في كيفية نزوله وفدائه فلم يزل الله يبشر أنبيائه بظهور المسيح ليؤمنوا به ويطيبوا نفساً بما سيصنعه.

قيل : اولا : إن القول به قبل موسى تخرص على الغيب ، على أن البشارة لو

__________________

١ ـ ( أقول لكم إن كل من اعترف لي قدام الناس فابن الإنسان يعترف به أيضاً قدام ملائكة الله ، ومن أنكرني قدام الناس أنكره أيضاً قدام ملائكة الله ، وكل من يقول كلمة في ابن الإنسان يغفر له ومن يجدف روح القدس لا يغفر له ) إنجيل لوقا ـ الاصحاح الثاني عشر.


فإنما هي بشارة بالخلاص وليست بدعوة إلى الإيمان والتدين به. وثانياً : إن ذلك لا يدفع محذور لغوية الدعوة في فروع الدين من الأخلاق والأفعال حتى من المسيح نفسه ، والأناجيل مملوءة بذلك. وثالثاً : إن محذور الخطيئة وانتقاض الغرض الإلهي باق على حاله فإن الله تعالى إنما خلقهم ليرحم جميعهم ويبسط النعمة والسعادة على كافتهم وقد آل أمره إلى عقابهم والغضب عليهم وإهلاكهم للأبد إلا شرذمة منهم.

فهذه نبذة من وجوه فساده عند العقل ، ويؤيده ويجري عليه القرآن الكريم ، قال تعالى : (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) طه ـ ٥٠ ، فبين أن كل شيء مهدي إلى غايته وما يبتغيه بوجوده ، والهداية تعم التكوينية والتشريعية فالسنة الإلهية جارية على بسط الهداية ، ومنها هداية الإنسان هداية دينية.

ثم قال تعالى وهو أول هداية دينية ألقاها إلى آدم ومن معه حين إهباطهم من الجنة : (قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة ـ ٣٩ ، وما يشتمل عليه بمنزلة التلخيص لتفاصيل الشرائع إلى يوم القيامة ففيه تشريع ووعد ووعيد عليه من غير تردد وارتياب ، وقد قال تعالى : ( الحق أقول ) ص ـ ٨٤ ، وقال تعالى : (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ) ق ـ ٢٩ ، فبين أنه لا يتردد فيما جزم به من الأمر ولا ينقض ما أنفذه من الأمر فما يقضيه ، هو الذي يمضيه ، وإنما يفعل ما قاله ، فلا ينحرف فعله عن المجرى الذي أراد عليه لا من جهته نفسه بأن يريد شيئاً ثم يتردد في فعله ، أو يريده ثم يبدو له فلا يفعله ، ولا جهة غيره بأن يريد شيئاً ويقطع به ويعزم عليه ثم يمنعه مانع من العقل أو يبدو إشكال يعترض عليه في طريق الفعل فكل ذلك من قهر القاهر ، وغلبة المانع الخارجي ، قال تعالى : (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) يوسف ـ ٢١ ، وقال تعالى : (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) الطلاق ـ ٣ ، وقال تعالى : حكاية عن موسى (قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ) طه ـ ٥٢ ، وقال تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) المؤمن ـ ١٧.

تدل هذه الآيات وما يشابهها على أنه تعالى إنما خلق الخلق ولم يغفل عن أمره ، ولم يجهل شيئاً مما سيظهر منه ، ولم يندم على ما فعله ، ثم شرع لهم الشرائع تشريعاً


جدياً فاصلاً من غير هزل ولا خوف ولا رجاء ، ثم إنه يجزي كل ذي عمل بعمله ، إن خيراً فخير وإن شراً فشر من غير أن يغلبه تعالى غالب ، أو يحكم عليه حاكم من شريك أو فدية أو خلة أو شفاعة من دون إذنه فكل ذلك ينافي ملكه المطلق لما سواه من خلقه.

وعاشراً : ما ذكروه من حديث الفداء وحقيقة الفداء أن يلزم الإنسان أو ما يتعلق به من نفس أو مال أثر سيىء من قتل أو فناء فيعوض بغيره أي شيء كان ليصان بذلك من لحوق ذلك الاثر به كما يفدي الإنسان الأسير بنفس أو مال وكما تفدي الجرائم والجنايات بالاموال ، ويسمى البدل فدية وفداء ، فالتفدية نوع معاملة ينتزع بها حق صاحب الحق وسلطنته عن المفدي عنه إلى الفداء فيستنقذ به المفدي عنه من أن يلحق به الشر.

ومن هنا يظهر أن الفداء غير معقول في ما يتعلق بالله سبحانه فإن السلطنة الإلهية ـ على خلاف السلطنة الوضعية الإعتبارية الإنسانية ـ سلطنة حقيقية واقعية غير جائزة التبديل مستحيلة الصرف ، فالأشياء بأعيانها وآثارها موجودة قائمة بالله سبحانه وكيف يتصور تغيير الواقع عما هو عليه فليس إلا أمرا لا يمكن تعقله فضلا عن أن يمكن وقوعه وهذا بخلاف الملك والسلطنة والحق وأمثالها الدائرة بيننا معاشر أبناء الاجتماع فإنها وأمثالها امور وضعية اعتبارية زمامها بأيدينا ، نحن المجتمعين نبطلها مرة ، ونبدلها اخرى على حسب تغير مصالحنا في الحيوة والمعاش ( راجع ما تقدم من البحث في تفسير قوله تعالى : (مَـلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) الحمد ـ ٤ ، وقوله تعالى : (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ الآية ) آل عمران ـ ٢٦ ).

وقد نفى الله سبحانه الفدية بالخصوص في قوله : (فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ ) الحديد ـ ١٥ ، وقد تقدم فيما مر أن من هذا القبيل قول المسيح فيما يحكيه الله تعالى عنه : (وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ ) قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ـ إلى أن قال ـ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به : (أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) المائدة ـ ١١٨ ،


فإن قوله : ( وكنت عليهم ) « الخ » في معنى أنه لم يكن لي شأن فيهم إلا ما أنت وظفته علي وعينته وهو تبليغ الرسالة ، والشهادة على الأعمال ما دمت فيهم ، وأما هلاكهم ونجاتهم وعذابهم ومغفرتهم فإنما ذلك اليك من غير أن يرتبط بي شيء من ذلك أو يكون لي شأن فيه فأملك لهم شيئاً منك أخرجهم به من عذابك أو تسلطك ، عليهم وفي ذلك نفى الفداء إذ لو كان هناك فداء لم يصح تبريه من أعمالهم وإرجاع العذاب والمغفرة معاً إلى الله سبحانه بنفي ارتباطهما به أصلاً.

وفي معنى هذه الآيات قوله تعالى : (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ) البقرة ـ ٤٨ ، وكذا قوله تعالى : (يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ) البقرة ـ ٢٥٤ ، وقوله تعالى : (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ) المؤمن ـ ٣٣ ، فإن العدل في الآية الاولى والبيع في الآية الثانية والعصمة من الله في الآية الثالثة مما ينطبق عليه الفداء فنفيها نفي الفداء.

نعم أثبت القرآن الشريف في مورد المسيح الشفاعة بدل ما يثبتونه من الفداء والفرق بينهما أن الشفاعة ( كما تقدم البحث عنها في قوله تعالى : (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي ) البقرة ـ ٤٨ ) ، نوع من ظهور قرب الشفيع ومكانته لدى المشفوع عنده من غير أن يملك الشفيع منه شيئاً أو يسلب عنه ملك أو سلطنة ، أو يبطل حكمه الذي خالفه المجرم أو يبطل قانون المجازاة بل إنما هو نوع دعاء واستدعاء من الشفيع لتصرف المشفوع عنده وهو الرب ما يجوز له من التصرف في ملكه ، وهذا التصرف الجائز مع وجود الحق هو العفو الجائز للمولى مع كونه ذا حق أن يعذبه لمكان المعصية وقانون العقوبة.

فالشفيع يحضه ويستدعي منه أن يعمل بالعفو والمغفرة في مورد استحقاق العذاب للمعصية من غير أن يسلب من المولى ملك أو سلطان بخلاف الفداء فإنه كما مر معاملة يتبدل به سلطنة من شيء إلى شيء آخر هو الفداء ويخرج المفدي عنه عن سلطان القابل الآخذ للفداء.

ويدل على هذا الذي ذكرناه قوله تعالى : (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف ـ ٨٦ ، فإنه صريح في وقوع الشفاعة من المستثنى ، والمسيح 7 ممن كانوا يدعونهم من دون الله ، وقد نص القرآن بأن


الله علمه الكتاب والحكمة ، وبأنه من الشهداء يوم القيامة ، قال تعالى : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) آل عمران ـ ٤٨ ، وقال تعالى حكاية عنه : (وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ) المائدة ـ ١١٧ ، وقال تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) النساء ـ ١٥٩.

فالآيات كما ترى تدل على كون المسيح 7 من الشفعاء ، وقد تقدم تفصيل القول في هذا المعني في تفسير قوله تعالى : (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً الآية ) البقرة ـ ٤٨.

٦ ـ من أين نشأ هذه الآراء ؟

القرآن ينفي أن يكون المسيح 7 هو الملقي لهذه الآراء والعقائد إليهم والمروج لها فيما بينهم بل انهم تعبّدوا لرؤسائهم في الدين وسلموا الأمر إليهم وهم نقلوا إليهم عقائد الماضين من الوثنيين كما قال تعالى : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ الآيات ) التوبة ـ ٣١.

وهؤلاء الكافرون الذين يشير تعالى إليهم بقوله : (يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ) ، ليسوا هم عرب الجاهلية في وثنيتهم حيث قالوا : إن الملائكة بنات الله فإن قولهم بأن لله ابناً أقدم تاريخاً من تماسهم مع العرب واختلاطهم بهم وخاصة قول اليهود بذلك مع أن ظاهر قوله : من قبل ، أنهم سابقون فيه على اليهود والنصارى ، على أن اتخاذ الأصنام في الجاهلية مما نقل إليهم من غيرهم ولم يكونوا بمبتكرين في ذلك (١).

__________________

١ ـ ذكروا أن أول من وضع الاصنام على الكعبة ودعي الناس إليها عمرو بن لحى وكان في زمان سابور ذي الاكتاف ساد قومه بمكة واستولى على سدانة البيت ثم سافر إلى مدينة البلقاء بأرض الشام فرأى قوماً يعبدون الأصنام فسألهم عنها فقالوا هذه أرباب اتخذناها على شكل الهياكل العلوية والاشخاص البشرية نستنصر بها فننصر ، ونستمطر بها فنمطر بطلب منهم صنما من أصنامهم فدفعوا إليه هبل فرجع إلى مكة ووضعه على الكعبة ودعا الناس إلى عبادتها ، وكان معه إساف ونائلة على شكل زوجين فدعا الناس إليهما والتقرب إلى الله بهما ـ ذكره في الملل والنحل وغيره. ومن عجيب الأمر أن القرآن يذكر أسماء من أصنام العرب في قصة نوح وشكواه من قومه قال تعالى حكاية عنه : (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً ) نوح ـ ٢٣.

( ٣ ـ الميزان ـ ٢٠)


على أن الوثنية من الروم ويونان ومصر وسورية والهند كانوا أقرب إلى أهل الكتاب القاطنين بفلسطين وحواليه ، وانتقال العقائد والمزاعم الدينية إليهم منهم أسهل ، والأسباب بذلك أوفق.

فليس المراد بالذين كفروا الذين ضاهاهم أهل الكتاب في القول بالبنوة إلا قدماء وثنية الهند والصين ووثنية الغرب من الروم ويونان وشمال إفريقا كما أن التاريخ يحكي عنهم نظائر هذه المزاعم الموجودة في أهل الكتاب من اليهود والنصارى من البنوة والابوة والتثليث وحديث الصلب والفداء وغير ذلك ، وهذا من الحقائق التاريخية التي ينبه عليها القرآن الشريف.

ونظير الآيات السابقة في الدلالة على هذه الحقيقة قوله تعالى : (٥/٧٧/قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ ) المائدة ـ ٧٧ ، فإن الآية تبين أن غلوهم في الدين بغير الحق إنما طرء عليهم بالتقليد واتباع أهواء قوم ضالين من قبلهم.

وليس المراد بهؤلاء القوم أحبارهم ورهبانهم ، فإن الكلام مطلق غير مقيد ولم يقل : قوم منكم ، وأضلوا كثيراً منكم ، وليس المراد بهم عرب الجاهلية كما تقدم على أنه وصف هؤلاء القوم بأنهم أضلوا كثيراً أي كانوا أئمة ضلال مقلدين متبعين ( بصيغة المفعول فيهما ) ولم يكن العرب يومئذ إلا شرذمة مضطهدين اميين ليس عندهم من العلم والحضاره والتقدم ما يتبعهم به وفيه غيرهم من الامم كفارس والروم والهند وغيرهم.

فليس المراد بهؤلاء القوم المذكورين إلا وثنية الصين والهند والغرب كما تقدم.

٧ ـ ما هو الكتاب الذي ينتسب إليه أهل الكتاب وكيف هو ؟

الرواية وإن عدت المجوس من أهل الكتاب ، ولازم ذلك أن يكون لهم كتاب خاص أو ينتموا إلى واحد من الكتب التي يذكرها القرآن ككتاب نوح ، وصحف إبراهيم ، وتوراة موسى ، وإنجيل عيسى ، وزبور داود ، لكن القرآن لا يذكر شأنهم ، ولا يذكر كتاباً لهم ، والذي عندهم من ( أوستا ) لا ذكر منه فيه ، وليس عندهم من سائر الكتب اسم.


وإنما يطلق القرآن ( أهل الكتاب ) فيما يطلق ، ويريد بهم اليهود والنصارى لمكان الكتاب الذي أنزله الله عليهم.

والذي عند اليهود من الكتب المقدسة خمسة وثلثون كتاباً منها توراة موسى مشتملة على خمسة أسفار (١) ومنها كتب المؤرخين إثنا عشر كتاباً (٢) ، ومنها كتاب أيوب ، ومنها زبور داود ، ومنها ثلثة كتب لسليمان (٣) ، ومنها كتب النبوات سبعة عشر كتاباً (٤).

ولم يذكر القرآن من بينها إلا توراة موسى وزبور داود 8.

والذي عند النصارى من مقدسات الكتب ، الأناجيل الأربعة وهي أنجيل متى ، وإنجيل مرقس ، وإنجيل لوقا ، وإنجيل يوحنا ؛ ومنها كتاب أعمال الرسل ، ومنها عدة من الرسائل (٥) ، ومنها رؤيا يوحنا.

ولم يذكر القرآن شيئاً من هذه الكتب المقدسة المختصة بالنصارى إلا أنه ذكر أن هناك كتاباً سماوياً أنزله الله على عيسى بن مريم يسمى بالإنجيل ، وهو إنجيل واحد ليس بالأناجيل ، والنصارى وإن كانوا لا يعرفونه ولا يعترفون به إلا أن في كلمات

__________________

١ ـ وهي سفر الخليقة ، وسفر الخروج وسفر الأحبار ، وسفر العدد ، وسفر الاستثناء.

٢ ـ وهي كتاب يوشع ، وكتاب قضاة بني إسرائيل ، وكتاب راعوث ، والسفر الأول من أسفار صموئيل ، والثاني منها ، والسفر الاول من أسفار الملوك ، والثاني منها ، والسفر الاول من أخبار الأيام ، والسفر الثاني منها ، والسفر الأول لعزرا ، والثاني له ، وسفر إستير.

٣ ـ وهي كتاب الأمثال ، وكتاب الجامعة ، وكتاب تسبيح التسابيح.

٤ ـ وهي كتاب نبوة أشعيا ، وكتاب نبوة أرميا ، ومراثي أرميا ، وكتاب حزقيال ، وكتاب نبوة دانيال ، وكتاب نبوة هوشع ، وكتاب نبوة يوييل ، وكتاب نبوة عاموص ، وكتاب نبوة عويذيا ، وكتاب نبوة يونان ، وكتاب نبوة ميخا ، وكتاب نبوة ناحوم ، وكتاب نبوة حيقوق ، وكتاب نبوة صفونيا ، وكتاب نبوة حجى ، وكتاب نبوة زكريا ، وكتاب نبوه ملاخيا.

٥ ـ وهي أربع عشرة رسالة لبولس ، ورسالة ليعقوب ، ورسالتان لبطرس ، وثلاث رسائل ليوحنا ، ورسالة ليهوذا.


رؤسائهم لقيطات تتضمن الاعتراف بأنه كان للمسيح كتاب اسمه إنجيل (١).

والقرآن مع ذلك لا يخلو من إشعار بأن بعضاً من التوراة الحقة موجود فيما عند اليهود وكذا بعض من الإنجيل الحق موجود في أيدي النصارى ، قال تعالى : (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ) المائدة ـ ٤٣ ، وقال تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ) المائدة ـ ١٤ ، والدلالة ظاهرة.

( بحث تاريخي )

١ ـ قصة التوراة الحاضرة : بنو إسرائيل هم الأسباط من آل يعقوب كانوا يعيشون أولاً عيشة القبائل البدويين ثم أشخصهم الفراعنة إلى مصر وكانوا يعامل معهم معاملة الأسراء المملوكين حتى نجاهم الله بموسى من فرعون وعمله.

وكانوا في زمن موسى يسيرون مسير الحيوة بالإمام وهو موسى وبعده يوشع 8 ثم كانوا برهة من الزمان يدبر أمرهم القضاة مثل إيهود وجدعون وغيرهما. وبعد ذلك يشرع فيهم عصر الملك وأول الملوك فيهم شاؤل وهو الذي يسميه القرآن الشريف بطالوت ثم داود ثم سليمان.

ثم انقسمت المملكة وانشعبت القدرة ومع ذلك ملك فيهم ملوك كثيرون كرحبعام وإبيام ويربعام ويهوشافاط ويهورام وغيرهم بضعة وثلثون ملكاً.

ولم تزل تضعف القدرة بعد الانقسام حتى تغلبت عليهم ملوك بابل وتصرفوا في اورشليم وهو بيت المقدس ، وذلك في حدود سنة ستمأة قبل المسيح ، وملك بابل يومئذ بخت نصر ( بنو كد نصر ) ثم تمردت اليهود عن طاعته فأرسل إليهم عساكره

__________________

١ ـ في رسالة بولس إلى أهل غلاطية ـ الاصحاح الاول : ( إني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعاً عن الذي دعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر ليس هو آخر غير أنه يوجد قوم يزعجونكم ويريدون أن يحولوه أي يغيروه.

وقد استشهد النجار في قصص الأنبياء بما مر وبموارد اخر من كلمات بولس في رسائله على أنه كان هناك إنجيل غير الأربعة يسمى إنجيل المسيح.


فحاصروهم ثم فتحوا البلدة ونهبوا خزائن الملك ، وخزائن الهيكل ( المسجد الأقصى ) وجمعوا من أغنيائهم وأقويائهم وصناعهم ما يقرب من عشره آلاف نفساً وساروا بهم إلى بابل وما أبقوا في المحل إلا الضعفاء والصعاليك ، ونصب بخت نصر ( صدقيا ) وهو آخر ملوك بنى إسرائيل ملكاً عليهم ، وعليه الطاعة لبخت نصر.

وكان الأمر على ذلك قريباً من عشر سنين حتى وجد صدقيا بعض القوة والشدة ، واتصل بعض الاتصال بواحد من فراعنة مصر فاستكبر وتمرد عن طاعة بخت نصر.

فأغضب ذلك بخت نصر غضباً شديداً فساق إليهم الجيوش وحاصر بلادهم فتحصنوا عنه بالحصون ، وتمادى بهم التحصن قريباً من سنة ونصف حتى ظهر فيهم القحط والوباء.

وأصر بخت نصر على المحاصرة حتى فتح الحصون ، وذلك في سنة خمسمأة وست وثمانين قبل المسيح ، وقتل نفوسهم ، وخرب ديارهم وخربوا بيت الله ، وأفنوا كل آية وعلامة دينية ، وبدلوا هيكلهم تلاً من تراب ، وفقدت عند ذلك التوراة والتابوت الذي كانت تجعل فيه.

وبقي الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريباً وهم قاطنون ببابل وليس من كتابهم عين ولا أثر ، ولا من مسجدهم وديارهم إلا تلال ورياع.

ثم لما جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك ، وكان من أمره مع البابليين ما كان ، وفتح بابل ودخله أطلق اسراء بابل من بني اسرائيل ، وكان عزرا المعروف من المقربين عنده فأمّره عليهم ، وأجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة ، ويبني لهم الهيكل ، ويعيدهم إلي سيرتهم الاولى وكان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة أربعمأة وسبعة وخمسين قبل المسيح ، وبعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق وصححها ، وهي التوراة الدائرة اليوم (١).

وأنت ترى بعد التدبر في القصة أن سند التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير

__________________

١ ـ مأخوذ من قاموس الكتاب المقدس تأليف مستر هاكس الأمريكاني الهمداني ومآخذ اخرى من التواريخ.


متصلة بموسى 7 إلا بواحد ( وهو عزرا ) ، لا نعرفه أولاَ ، ولا نعرف كيفية اطلاعه وتعمقه ثانياَ ، ولا نعرف مقدار أمانته ثالثاَ ، ولا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التوراة رابعاَ ، ولا ندري بالاستناد إلى أي مستند صحح الأغلاط الواقعة أو الدائرة خامساَ.

وقد أعقبت هذه الحادثة المشيئومة أثراَ مشيئوماً آخر وهو إنكار عدة من باحثي المؤرخين من الغربيين وجود موسى وما يتبعه ، وقولهم : إنه شخص خيالي كما قيل نظيره في المسيح عيسى بن مريم 8 ، لكن ذلك لا يسع لمسلم فإن القرآن الشريف يصرح بوجوده 7 وينص عليه.

٢ ـ قصة المسيح والإنجيل :

اليهود مهتمون بتاريخ قوميتهم ، وضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار التي مرت بهم ، ومع ذلك فانك لو تتبعت كتبهم ومسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن مريم 7 : لا على كيفية ولادته ، ولا على ظهوره ودعوته ، ولا على سيرته والآيات التي أظهرها الله على يديه ، ولا على خاتمة حيوته من موت أو قتل أو صلب أو غير ذلك ، فما هو السبب في ذلك ؟ وما هو الذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفائهم أمره ؟

والقرآن يذكر عنهم أنهم قذفوا مريم ورموها بالبهتان في ولادة عيسى ، وأنهم ادعوا قتل عيسى ، قال تعالى : (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ) النساء ـ ١٥٧.

فهل كانت دعويهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم القومية من غير أن يكون مودعاً في كتاب ؟ وعند كل أُمة أحاديث دائرة من واقعيات وأساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة.

أو أنهم سمعوا من النصارى الذكر المكرر من المسيح وولادته وظهوره ودعوته فأخذوا ذلك من أفواههم وباهتوا مريم ، وادعوا قتل المسيح ؟ لا طريق إلى استبانة شيء


من ذلك غير أن القرآن ـ كما يظهر بالتدبر في الآية السابقة ـ لا ينسب إليهم صريحاً إلا دعوى القتل دون الصلب ، ويذكر أنهم على ريب من الأمر ، وأن هناك اختلافاً !

وأما حقيقة ما عند النصارى من قصة المسيح وأمر الإنجيل والبشارة فهي أن قصته 7 وما يتعلق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدسة عندهم وهي الأناجيل الأربعة التي هي أناجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا ، وكتاب أعمال الرسل للوقا ، وعدة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويوحنا ويهوذا ، واعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها :

أما إنجيل متى فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه وانتشاره ذكر بعضهم أنه صنف سنة ٣٨ الميلادية ؛ وذكر آخرون أنه كتب ما بين سنة ٥٠ إلى سنة ٦٠ (١) فهو مؤلف بعد المسيح.

والمحققون من قدمائهم ومتأخريهم على أنه كان أصله مكتوباً بالعبرانية ثم ترجم إلى اليونانية وغيرها ، أما النسخة الأصلية العبرانية فمفقودة ، وأما الترجمة فلا يدري حالها ، ولا يعرف مترجمها (٢).

وأما إنجيل مرقس : فمرقس هذا كان تلميذاً لبطرس ، ولم يكن من الحواريين وربما ذكروا إنه أنما كتب إنجيله باشارة بطرس وأمره ، وكان لا يرى إلهية المسيح (٣) ، ولذلك ذكر بعضهم أنه إنما كتب إنجيله للعشائر وأهل القرى فعرف المسيح تعريف رسول إلهي مبلغ لشرائع الله (٤) ، وكيف كان فقد كتب إنجيله سنة ٦١ ميلادية.

وأما إنجيل لوقا : فلوقا هذا لم يكن حوارياً ولا رأى المسيح وإنما تلقن النصرانية من بولس ؛ وبولس كان يهودياً متعصباً على النصرانية يؤذي المؤمنين بالمسيح ويقلب

__________________

١ ـ قاموس الكتاب المقدس للمستر هاكس مادة ـ متى.

٢ ـ كتاب ميزان الحق ، واعتراف به على تردد في قاموس الكتاب المقدس.

٣ ـ نقل ذلك عبد الوهاب النجار في قصص الأنبياء عن كتاب مروج الأخبار في تراجم الأخبار لبطرس قرماج.

٤ ـ ذكره في قاموس الكتاب المقدس ، يقول فيه : إن نص تواتر السلف على أن مرقس كتب إنجيله برومية ، وانتشر بعد وفاة بطرس وبولس لكنه ليس له كثير اعتبار لان ظاهر إنجيله أنه كتبه لاهل القبائل والقرويين لا لاهل البلاد وخاصة الرومية ، فتدبر في كلامه !


الامور عليهم ، ثم اتفق مفاجأة أن ادعى أنه صرع وفي حال الصرع لمسه المسيح ولامه وزجره عن الإساءة إلى متبعيه وأنه آمن بالمسيح وأرسله المسيح ليبشر بإنجيله.

وبولس هذا هو الذي شيد أركان النصرانية الحاضرة على ما هي عليها (١) فبني التعليم على أن الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل ، وأباح لهم أكل الميتة ولحم الخنزير ونهى عن الختنة وكثير مما في التوراة (٢) مع أن الإنجيل لم يأت إلا مصدقاً لما بين يديه من التوراة ، ولم يحلل إلا أشياء معدودة ، وبالجملة إنما جاء عيسى ليقوم شريعة التوراة ويرد إليها المنحرفين والفاسقين لا ليبطل العمل ويقصر السعادة على الإيمان الخالي.

وقد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس. وذلك بعد موت بطرس وبولس ، وقد صرح جمع بأن إنجيله ليس كتاباً إلهاميا كسائر الأناجيل (٣) كما يدل عليه ما وقع في مبتدء إنجيله.

وأما إنجيل يوحنا فقد ذكر كثير من النصارى أن يوحنا هذا هو يوحنا بن زبدي الصياد أحد التلاميذ الاثنى عشر ( الحواريين ) الذي كان يحبه المسيح حباً شديداً (٤).

وذكروا أن ( شيرينطوس ) و ( أبيسون ) وجماعتهما لما كانوا يرون أن المسيح ليس إلا إنساناً مخلوقاً لا يسبق وجوده وجود أُمة اجتمعت أساقفة آسيا وغيرهم في

__________________

١ ـ راجع مادة بولس من قاموس الكتاب المقدس.

٢ ـ راجع كتاب أعمال الرسل ورسائل بولس.

٣ ـ قال في أول إنجيل لوقا : ( لاجل أن كثيرين راموا كتب قصص الامور التي نحن بها عارفون كما عهد الينا اولئك الأولون الذين كانوا من قبل معاينين وكانوا خداماً للكلمة رأيت أنا أيضاً إذ كنت تابعاً لكل شيء بتحقيق أن أكتب اليك أيها العزيز ثاوفيلا ) ، ودلالته على كون الكتاب نظرياً غير إلهامي ظاهرة وقد نقل ذلك أيضاً عن مستر كدل في رسالة الالهام ، وصرح جيروم أن بعض القدماء كانوا يشكون في البابين الأولين من إنجيل لوقا وأنهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني ، وجزم إكهارن في كتابه ص ٩٥ أن من ف ٤٣ إلى ٤٧ من الباب ٢٢ من إنجيل لوقا الحاقية ، وذكر إكهارن أيضاً في ص ٦١ من كتابه : قد اختلط الكذب الروائي ببيان المعجزات التي نقلها لوقا والكاتب ضمه على طريق المبالغة الشاعرية لكن تمييز الصدق عن الكذب في هذا الزمان عسير ، وقول ( كلي مي شيس أن متى ومرقس يتخالفان في التحرير وإذا اتفقا ترجح قولهما على قول لوقا ) نقل عن قصص الأنبياء للنجار ـ ص ٤٧٧.

٤ ـ راجع قاموس الكتاب المقدس مادة يوحنا.


سنة ٩٦ ميلادية عند يوحنا والتمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم ، ويبين بنوع خصوصي لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم (١).

وقد اختلفت كلماتهم في السنة التي الف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنها سنة ٦٥ ، وقائل أنها سنة ٩٦ ، وقائل أنها سند ٩٨.

وقال جمع منهم إنه ليس تأليف يوحنا التلميذ فبعضهم على أنه تأليف طالب من طلبة المدرسة الإسكندرية (٢) ، وبعضهم على أن هذا الإنجيل كله وكذا رسائل يوحنا ليست من تصنيفه بل إنما صنفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني ، ونسبه إلى يوحنا ليعتبره الناس (٣) ، وبعضهم على أن إنجيل يوحنا كان في الأصل عشرين باباً فألحقت كنيسة ( أفاس ) الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنا (٤) ، فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة ؛ وإذا أخذنا بالقدر المتيقن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم : متى ، مرقس ، لوقا ، يوحنا ، بطرس ، بولس ، يهوذا ؛ ينتهي ركونهم كله إلى هذه الأناجيل الأربعة وينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها وأسبقها وهو إنجيل متى ، وقد مر أنه ترجمة مفقود الأصل لا يدري من الذي ترجمه ؟ وكيف كان أصله وعلى ما ذا كان يبني تعليمه ، أبرسالة المسيح أم بالوهيته.

وهذا الإنجيل الموجود يترجم أنه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النجار وأقام الدعوة إلى الله ، وكان يدعي أنه ابن الله مولود من غير أب بشري وأن أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب والقتل وأنه أحيى الميت ، وابرء الأكمه والأبرص ، وشفى المجانين بإخراج الجن من أبدانهم ، وأنه كان له إثنا عشر تلميذاً : أحدهم متى صاحب الإنجيل بارك لهم وأرسلهم للدعوة وتبليغ الدين المسيحي « الخ ».

__________________

١ ـ نقله في قصص الأنبياء عند جرجس زوين الفتوحي اللبناني في كتابه.

٢ ـ نقل ذلك من كتاب ( كاتلك هرالد ) في المجلد السابع المطبوع سنة ١٨٤٤ ص ٢٠٥ ، نقله عن استادلن ( عن القصص ) ، وأشار إليه في القاموس في مادة يوحنا.

٣ ـ قال ذلك ( برطشنيدر ) على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلد الاول ( عن القصص ).

٤ ـ المدرك السابق.


فهذا ملخص ما تنتهي إليه الدعوة المسيحية على انبساطها على شرق الأرض وغربها ، وهو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم والرسم ، مبهم العين والوصف.

وهذا الوهن العجيب في مبدء القصة هو الذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من اروبا أن أدعى أن المسيح عيسى بن مريم شخص خيالي صوره بعض النزعات الدينية على حكومات الوقت أولها ، وتأيد ذلك بموضوع خرافي آخر يشبهه كل الشبه في جميع شئون القصة ، وهو موضوع ( كرشنا ) الذي تدعي وثنية الهند القديمة أنه ابن الله نزل عن لاهوته ، وفدى الناس بنفسه صلباً ليخلصهم من الأوزار والخطايا كما يدعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل ( كما سيجيء ذكره ).

وأوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أن هناك شخصين مسميين بالمسيح : المسيح غير المصلوب ، والمسيح المصلوب ، وبينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون.

وأن التاريخ الميلادي الذي سنتنا هذه سنة الف وتسعمأة وستة وخمسين منه لا ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأول غير المصلوب يتقدم عليه بما يزيد على مأتين وخمسين سنة وقد عاش نحواً من ستين سنة ، والمسيح الثاني المصلوب ، يتأخر عنه بما يزيد على مأتين وتسعين سنة ، وقد عاش نحواً من ثلث وثلثين سنة (١).

على أن عدم انطباق التاريخ الميلادي على ميلاد المسيح في الجملة مما لم يسع للنصارى إنكاره (٢) وهو سكتة تاريخية.

على أن هيهنا اموراً مريبة موهمة اخرى فقد ذكروا أنه كتب في القرنين الأولين من الميلاد أناجيل كثيرة اخرى ربما أنهوها إلى نيف ومأة من الأناجيل ، والأناجيل الأربعة منها ثم حرمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلا الأناجيل الأربعة التي عرفت

__________________

١ ـ وقد فصل القول في ذلك الزعيم الفاضل ( بهروز ) في كتاب ألفه جديداً في البشارات النبوية ، وأرجو أن أوفق لايداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النساء من هذا الكتاب ، والقدر المتيقن ( الذي يهمنا منه ) اختلال التاريخ المسيحي.

٢ ـ راجع مادة مسيح من قاموس الكتاب المقدس.


قانونية لموافقة متونها تعليم الكنيسة (١).

ومن جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الذي ظهرت نسخة منها منذ سنين فترجمت إلى العربية والفارسية ، وهو يوافق في عامة قصصه ما قصه القرآن في المسيح عيسى بن مريم (٢).

ومن العجيب أن المواد التاريخية المأثورة عن غير اليهود أيضاً ساكتة عن تفاصيل ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحية من حديث البنوة والفداء وغيرهما ، ذكر المؤرخ الإمريكي الشهير ( هندريك ويلم وان لون ) في تأليفه في تاريخ البشر كتاباً كتبه الطبيب ( إسكولابيوس كولتلوس ) الرومي سنة ٦٢ الميلادية إلى ابن أخيه ( جلاديوس أنسا ) وكان جندياً في عسكر الروم بفلسطين ، يذكر فيه أنه عاد مريضاً برومية يسمى بولس فأعجبه كلامه وقد كان بولس كلمه بالدعوة المسيحية ، وذكر له طرفاً من أخبار المسيح ودعوته.

ثم يذكر أنه ترك بولس ولم يره حتى سمع بعد حين أنه قتل في طريق ( أوستى ) ثم يسأل ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النبي الإسرائيلي الذي كان يذكره بولس ، وعن أخبار بولس نفسه ، ويكتب إليه ما بلغه من ذلك.

فكتب إليه ( جلاديوس أنسا ) بعد ستة أسابيع من معسكر الروم باورشليم :

____________

١ ـ ولقد لام ( شيلسوس ) الفيلسوف في القرن الثاني النصارى في كتابه ( الخطاب الحقيقي ) على تلاعبهم بالأناجيل ، ومحوهم بالغد ما أدرجوه بالأمس ، وفي سنة ٣٨٤ م ، أمر البابا داماسيوس أن تحرر ترجمة لاتينية جديدة من العهدين القديم والحديث تعتبر قانونية في الكنائس وكان تيودوسيس الملك قد ضجر من المخاصمات الجدلية بين الأساقفة ، وتمت تلك الترجمة التي تسمى ( فولكانا ) وكان ذلك خاصاً بالأناجيل الأربعة : متى ومرقس ولوقا ويوحنا ، وقد قال مرتب تلك الأناجيل : ( بعد أن قابلنا عدداً من النسخ اليونانية القديمة رتبناها بمعنى أننا نقحنا ماكان فيها مغايراً للمعنى ، وأبقينا الباقي على ماكان عليه ) ، ثم إن هذه الترجمة قد ثبتها المجمع ( التريدنتيني ) سنة ١٥٤٦ أي بعدها بأحد عشر قرناً ، ثم خطأها سيستوس الخامس سنة ١٥٩٠ وأمر بطبع نسخ جديدة ، ثم خطأ كليمنضوس الثامن هذه النسخة الثانية أيضاً ، وأمر بطبعة جديدة منقحة هي الدارجة اليوم عند الكاثوليكيين ( تفسير الجواهر ـ الجزء الثاني ـ ص ١٢١ الطبعة الثانية ).

٢ ـ وقد وجد هذا الإنجيل بالخط الايطالي منذ سنين وترجمه إلى العربية الدكتور خليل سعاده بمصر وترجمه إلى الفارسية الحبر الفاضل ( سردار كابلي ) بإيران.


« أني سألت عدة من شيوخ البلد ومعمريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم [ هذا والسنة سنة ٦٢ ميلادية وهم شيوخ ! ].

حتى لقيت بياع زيتون فسألته هل يعرفه ؟ فأنعم لي في الجواب ثم دلني على رجل اسمه يوسف ، و ذكر أنه كان من أتباعه ومحبيه ، وأنه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع أن يجيبك فيما تسأله عنه.

فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحصت أياماً فوجدته شيخاً هرماً وقد كان قديماً يصطاد السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية.

كان الرجل على كبر سنه صحيح المشاعر جيد الحافظة وقص لي جميع الأخبار والقضايا الحادثة في ذلك الأوان ، أوان الاغتشاش والفتنة.

ذكر أن فونتيوس فيلاطوس كان حاكماً على سامرا ويهوديه في عهد القيصر « تي بريوس ».

فاتفق أن وقع أيام حكومته فتنة في اورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد : ما فيه من نار الفتنة وكانت الفتنة هي ما شاع يومئذ أن ابن نجار من أهل الناصرة يدعو الناس ويستنهضهم على الحكومة.

فلما تحققوا أمره تبين أن ابن النجار المتهم شاب عاقل متين لم يرتكب ما يوجب عليه سياسة غير أن رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه ويباغضونه بأشد ما يكون ، وقد قالوا لفيلاطوس إن هذا الشاب الناصري يقول : لو أن يونانياً أو رومياً أو فلسطينياً عامل الناس وعاشرهم بالعدالة والشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في مطالعة كتاب الله وتلاوة آياته.

وكأن هذه التعرضات والاقتراحات لم تؤثر في فيلاطوس أثرها لكنه لما سمع ازدحام الناس قبال المعبد وهم يريدون أن يقبضوا على عيسى وأصحابه ويقطعوهم إرباً إرباً رأى أن الأصلح أن يقبض هو على هذا الشاب النجار ويسجنه حتى لا يقتل بأيدي الناس في غوغائهم.

وكان فيلاطوس لم يتضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كل الاتضاح ، وكلما


كلم الناس في أمره وسألهم واستوضحهم ، علت أصواتهم وتنادوا : « هو كافر » « هو ملحد » « هو خائن » فلم ينته الأمر إلى طائل.

حتى استقر رأي فيلاطوس أن يكلم عيسى بنفسه فأشخصه وكلمه وسأله عما يقصده : بما يبلغه من الدين ، فأجابه عيسى أنه لا يهتم بأمر الحكومة والسياسة ولا له في ذلك غرض ، وأنه يهتم بالحياة الروحانية أكثر مما يهتم بأمر الحياة الجسمانية ، وأنه يعتقد أن الإنسان يجب أن يحسن إلى الناس ويعبد الله الفرد الواحد وحده الذي هو في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.

وكان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيين وسائر فلاسفة يونان فكأنه لم ير في ما كلمه به عيسى موضع غمضة ، ولا محل مؤاخذة ، ولذلك عزم ثانياً أن يخلص هذا النبي السليم المتين من شر اليهود ، وسوف في حكم قتله وإنجازه.

لكن اليهود لم يرضوا بذلك ، ولم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنه فتن بأكاذيب عيسى وأقاويله وأن فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر ، وأخذوا يستشهدون عليه ويسجلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة ، وقد كان برز قبل ذلك فتن وانقلابات في فلسطين. والقوى المؤمنة القيصرية قليلة العدة لا تقوى على إسكات الناس فيها كل القوة.

وكان على الحكام وسائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب شكواهم وعدم رضايتهم.

فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بداً من أن يفدي هذا الشاب المسجون للامن العام ، ويجيب الناس فيما سألوه من قتله.

وأما عيسى فإنه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه ، وقد عفى قبل موته عمن تسبب إلى قتله من اليهود ثم قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه ويشتمونه ويسبونه.

قال ( جلاديوس أنسا ) هذا ما قص لي يوسف من قصة عيسى ودموعه تجري على خديه ، وحين ودعني للمفارقة قدمت إليه شيئاً من المسكوك الذهبي لكنه أبى أن يأخذه ، وقال لي يوجد هيهنا من هو أفقر مني فأعطه إياه.


وسألته عن بولس رفيقك المعهود ، فما كان يعرفه معرفة تامة ، والقدر الذي تبين من أمره أنه كان رجلاً خياماً ثم ترك شغله واشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد مذهب الرب الرؤوف الرحيم الإله الذي بينه وبين ( يهوه ) إله يهود الذي لا نزال نسمعه من علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد مما بين السماء والأرض.

والظاهر أن بولس سافر أولاً إلى آسيا الصغرى ثم إلى يونان وأنه كان يقول للعبيد والأرقاء إنهم جميعاً أبناء لأب يحبهم ويرأف بهم ، وأن السعادة ليست تخص بعض الناس دون بعض بل تعم جميع الناس من فقير وغني بشرط أن يعاشروا على المؤاخاة ، ويعيشوا على الطهارة والصداقة ، انتهى ملخصاً.

هذه عامة فقرات هذا الكتاب مما يرتبط بما نحن فيه من البحث.

وبالتأمل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصل للمتأمل أن ظهور الدعوة المسيحية كيف كان في بني إسرائيل بعيد عيسى 7 ، وأنه لم يكن إلا ظهور دعوة نبوية بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهية بظهور اللاهوت ونزولها إليهم وتخليصهم بالداء !

ثم إن عدة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس وتلامذة تلامذتهم سافروا بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند وإفريقية ورومية وغيرها ، وبسطوا الدعوة المسيحية لكنهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصلية من التعليم كلاهوت المسيح ، وكفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى وكون دين الإنجيل ديناً أصيلاً ناسخاً لدين موسى أو كونه تابعاً لشريعة التوراة مكملاً إياها (١) فافترقوا عند ذلك فرقاً.

والذي يجب الإمعان فيه أن الامم التي بسطت الدعوة المسيحية وظهرت فيها أول ظهورها كالروم والهند وغيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنية الصابئة أو البرهمنية أو البوذائية ، وفيها اصول من مذاق التصوف من جهة ، والفلسفة البرهمنية من جهة ، وفيها جميعاً شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت ، على أن القول بتثليث

__________________

١ ـ يشير إليه كتاب الرسل ووسائل بولس ، وقد اعترضت به النصارى


الوحدة ونزول اللاهوت في لباس الناسوت وتحملها الصلب (١) والعذاب فدائاً ، كان دائراً بين القدماء من وثنية الهند والصين ومصر وكلدان والآشور والفرس ، وكذا قدماء وثنية الغرب كالرومان والإسكندناويين وغيرهم على ما يوجد في الكتب المؤلفة في الأديان والمذاهب القديمة.

ذكر « دوان » في كتابه « خرافات التوراة وما يماثلها في الأديان الاخرى » إذا رجعنا البصر إلى الهند نرى أن أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتية هو التثليث ، ويسمون هذا التعليم بلغتهم ( ترى مورتى ) وهي عبارة مركبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتية ( ترى ) ومعناها الثلاثة و ( مورتى ) ومعناها هيآت أو أقانيم ، وهي ( برهما وفشنو ، وسيفا ) ثلثة أقانيم متحدة لا ينفك عن الوحدة فهي إله واحد بزعمهم.

ثم ذكر : أن برهما عندهم هو الأب وفشنو هو الأبن ، وسيفا هو روح القدس.

ثم ذكر أنهم يدعون سيفاً ( كرشنا (٢) ) الرب المخلص والروح العظيم الذي ولد منه ( فشنو ) الإله الذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلص الناس فهو أحد الأقانيم الثلاثة التي هي الإله الواحد.

وذكر أيضاً : أنهم يرمزون للاقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى.

وقال مستر « فابر » في كتابه « أصل الوثنية » كما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلفاً من « برهما » و « فشنو » و « سيفا » نجد عند البوذيين ثالوثاً فإنهم يقولون : إن « بوذ » إله له ثلاثة أقانيم ، وكذلك بوذيو « جينست » يقولون : إن « جيفا » مثلث الأقانيم.

__________________

١ ـ القتل بالصلب على الصليب من القواعد القديمة جداً فقد كانوا يقتلون من اشتد جرمه وفظع ذنبه بالصلب الذي هو من أشد أسباب القتل عداباً وأسوئها ذكراً ، وكانت الطريقة فيه أن يصنع من خشبتين تقاطع إحديهما الاخرى ما هو على شكل الصليب المعروف بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه ثم يوضع المجرم عليه مبسوط اليدين ويدق من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المعترضة بالمسامير ، وكذا تدق قدماه على الخشبة وربما شدتا من غير دق ثم تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى الأرض ما يقرب من ذراعين فيبقى الصليب على ذلك يوماً أو أياماً ثم تكسر قدماه من الساقين ويقتل على الصليب أو ينزل فيقتل بعد الانزال ، وكان المصلوب يعذب قبل الصلب بالجلد أو المثلة ، وكان من العار الشنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصلب.

٢ ـ وهو المعبر عنه بالانكليزية ( كرس ) وهو المسيح المخلص.


قال : والصينيون يعبدون بوذه ويسمونه ( فو ) ويقولون إنه ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.

وقال دوان في كتابه المتقدم ذكره : وكان قسيسوا هيكل منفيس بمصر يعبرون عن الثالوث المقدس للمبتدئين بتعلم الدين بقولهم : إن الأول خلق الثاني والثاني خلق الثالث ، وبذلك تم الثالوث المقدس.

وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره : هل كان قبله أحد أعظم منه؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه ؟ فأجابه الكاهن : نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كل شيء ثم الكلمة ومعهما روح القدس ، ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة ، وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوة الأبدية فاذهب يا فاني يا صاحب الحياه القصيرة.

وقال بونويك في كتابه ( عقائد قدماء المصريين ) أغرب كلمة عم انتشارها في ديانة المصريين هي قولهم بلاهوت الكلمة ، وأن كل شيء حصل بواسطتها ، وأنها منبثقة من الله ، وأنها هي الله ، انتهى ؛ وهذا عين العبارة التي يبتدي بها إنجيل يوحنا.

وقال ( هيجين ) في كتاب ( الإنكلوساكسون ) كان الفرس يدعون متروساً الكلمة والوسيط ومخلص الفرس.

ونقل عن كتاب سكان اوروبة الأولين : أنه كان الوثنيون القدماء يقولون : إن الإله مثلث الأقانيم.

ونقل عن اليونان والرومان والفنلنديين والإسكندناويين قضية الثالوث السابق الذكر ، وكذا القول بالكلمة عن الكلدانيين والآشوريين والفينيقيين.

وقال دوان في كتابه ( خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الاخرى ) ( ص ١٨١ ـ ١٨٢ ) ما ترجمته بالتلخيص :

( إن تصور الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدائاً عن الخطيئة قديم العهد جداً عند الهنود الوثنيين وغيرهم ) وذكر شواهد على ذلك :

منها قوله : يعتقد الهنود أن كرشنا المولود البكر ـ الذي هو نفس الآلهة فشنو الذي لا ابتداء له ولا انتهاء على رأيهم ـ تحرك حنواً كي يخلص الأرض من ثقل حملها


فأتاها وخلص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه.

وذكر أن « مسترمور » قد صور كرشنا مصلوباً كما هو مصور في كتب الهنود مثقوب اليدين والرجلين ، وعلى قميصه صورة قلب الإنسان معلقاً ، ووجدت له صورة مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب ، والنصارى تقول : إن يسوع صلب وعلى رأسه إكليل من الشوك.

وقال « هوك » في ص ٣٢٦ من المجلد الأول من رحلته : ويعتقد الهنود الوثنيون بتجسد بعض الآلهة ، وتقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.

وقال « موريفور ليمس » في ص ٢٦ من كتابه ( الهنود ) ويعتقد الهنود الوثنيون بالخطيئة الأصلية ، ومما يدل على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسلاتهم التي يتوسلون بها بعد « الكياتري » وهو ، إني مذنب ومرتكب الخطيئة ، وطبيعتي شريرة ، وحملتني امي بالإثم فخلصني يا ذا العين الحندقوقية يا مخلص الخاطئين من الآثام والذنوب.

وقال القس ( جورج كوكس ) في كتابه ( الديانات القديمة ) في سياق الكلام عن الهنود : ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً لأنه قدم شخصه ذبيحة.

ونقل ( هيجين ) عن ( اندارا دا الكروزوبوس ) وهو أول اوروبي دخل بلاد التيبال والتبت : أنه قال في الإله ( اندرا ) الذي يعبدونه : أنه سفك دمه بالصلب وثقب المسامير لكي يخلص البشر من ذنوبهم ، وأن صورة الصلب موجودة في كتبهم.

وفي كتاب ( جورجيوس ) الراهب صورة الإله ( اندرا ) هذا مصلوباً ، وهو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسي اقصرها ـ وفيه صورة وجهه ـ والسفلى اطولها ، ولولا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنها تمثل شخصاً ، هذا.

وأما ما يروى عن البوذيين في بوذا فهو أكثر انطباقاً على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه حتى أنهم يسمونه المسيح ، والمولود الوحيد ، ومخلّص العالم ، ويقولون إنه إنسان كامل وإله كامل تجسد بالناسوت ، وأنه قدم نفسه ذبيحة ليكفر ذنوب البشر ويخلصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها ، ويجعلهم وارثين لملكوت السموات ،

( ٣ ـ الميزان ـ ٢١)


بين ذلك كثير من علماء الغرب : منهم ( بيل ) في كتابه ، و ( هوك ) في رحلته ، و ( موالر ) في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتية ، وغيرهم. (١).

فهذه نبذة أو أُنموذجة من عقيدة تلبس اللاهوت بالناسوت ، وحديث الصلب والفداء في الديانات القديمة التي كانت الامم متمسكين بها منكبين عليها يوم شرعت الديانة النصرانية تنبسط على الأرض ، وأخذت الدعوة المسيحية تأخذ بمجامع القلوب في المناطق التي جال الدعاة المسيحيون فيها ، فهل هذا إلا أن الدعاة المسيحيين أخذوا أُصول المسيحية وأفرغوها في قالب الوثنية واستمالوا بذلك قلوب الناس في تقبل دعوتهم وهضم تعليمهم ؟

ويؤيد ذلك ما ترى في كلمات بولس وغيره من الطعن في حكمة الحكماء وفلسفتهم والازراء بطرق الاستدلالات العقلية ، وأن الإله الرب يرجح بلاهة الأبله على عقل العاقل.

وليس ذلك إلا لأنهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقل والاستدلال فرده أهله بأنه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على المكاشفة والامتلاء بالروح المقدس فشاكلوا بذلك ما يصر به جهلة المتصوفة أن طريقتهم طور وراء طور العقل.

ثم إن الدعاة منهم ترهبوا وجالوا في البلاد ( على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل والتواريخ ) وبسطوا الدعوة المسيحية واستقبلتهم في ذلك العامة في شتات البلاد ، كان من سر موفقيتهم وخاصة في إمبراطورية الروم هي الضغطة الروحية التي عمت البلاد من فشوّ الظلم والتعدي ، وشمول أحكام الاسترقاق والاستعباد ، والبون البعيد في حيوة الطبقة الحاكمة والمحكومة والآمرة والمأمورة ، والفصل الشاسع بين عيشة الأغنياء وأهل الاتراف والفقراء والمساكين والأرقاء.

وقد كانت الدعاة تدعو إلى المؤاخاة والمحابة و التساوي والمعاشرة الجميلة بين الناس ، ورفض الدنيا وعيشتها الكدرة الفانية ، والإقبال على الحيوة الصافية السعيدة التي في ملكوت السماء ، ولهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك

__________________

١ ـ يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار ـ الجزء السادس في تفسير النساء وفي دوائر المعارف ، وفي كتاب العقائد الوثنية في الديانة النصرانية وغيرها.


والقياصرة كل العناية ، ولا يقصدونهم بالأذى والسياسة والطرد.

فلم يزالوا يزيدون عدداً من غير تظاهر وتنافس وينمون قوة وشدة حتى حصل لهم جم غفير في إمبراطورية الروم وإفريقية والهند وغيرها من البلاد ، ولم يزالوا كلما بنوا كنيسة وفتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحداً من بيوت الأوثان وأغلقوا بابه.

وكانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنية في هدم أساسهم ، ولا بملوك الوقت وحكامه في التعالي عن خضوعهم وفي مخالفة أحكامهم ودساتيرهم ، وربما كان ذلك يؤديهم إلى الهلاك والقتل والحبس والعذاب فكان لا تزال تقتل طائفة وتسجن اخرى وتشرد ثالثة.

وكان الأمر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر ( كنستانتين ) فآمن بالملة المسيحية وأعلن بها فأخذ التنصر بالرسمية وبنيت الكنائس في الروم وما يتبع إمبراطوريته من الممالك ، وذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلادي.

تمركزت النصرانية يومئذ في كنيسة الروم وأخذت تبعث القسيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس والديرات ومدارس يدرسون بها التعليم الإنجيلي.

والذي يجب إلفات النظر إليه أنهم وضعوا البحث على اصول مسلمة إنجيلية فأخذوا التعاليم الإنجيلية كمسألة الأب والأبن والروح ، ومسألة الصلب والفداء وغير ذلك اصولاً مسلمة وبنوا البحث والتنقير عليها.

وهذا أول ما ورد على أبحاثهم الدينية من الوهن والوهاء فإن استحكام البناء المبني وإن بلغ ما بلغ واستقامته لا يغني عن وهن الأساس المبني عليه شيئاً ، وما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة والصلب والفداء أمر غير معقول.

وقد اعترف عدة من باحثيهم في التثليث بأنه أمر غير معقول لكنهم اعتذروا عنه بأنه من المسائل الدينية التي يجب أن تقبل تعبداً فكم في الأديان من مسألة تعبدية تحيلها العقول.

وهو من الظنون الفاسدة المتفرعة على أصلهم الفاسد ، وكيف يتصور وقوع مسألة مستحيلة في دين حق ؟ ونحن إنما نقبل الدين ونميز كونه دين حق بالعقل وكيف يمكن


عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقة على أمر يبطله العقل ويحيله ؟ وهل هذا إلا تناقض صريح ؟

نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية ، والسنة الطبيعية القائمة ، وأما المحال الذاتي فلا البتة.

وهذا الطريق المذكور من البحث هو الذي أوجب وقوع الخلاف والمشاجرة بين الباحثين المتفكرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانية وانكباب المحصلين على الأبحاث المذهبية في مدارس الروم والإسكندرية وغيرهما.

فكانت الكنيسة تزيد كل يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة وتهيئ مجمعاً مشكلاً عند ظهور كل قول حديث وبدعة جديدة من البطارقة والأساقفة لإقناعهم بالمذهب العام وتكفيرهم ونفيهم وطردهم وقتلهم إذا لم يقنعوا.

وأول مجمع عقدوه مجمع نيقيه لما قال أريوس : إن اقنوم الأبن غير مساو لاقنوم الأب ، وان القديم هو الله والمسيح مخلوق.

اجتمعت البطارقة والمطارفة والاساقفة في قسطنطنية بمحضر من القيصر كنستانتين وكانوا ثلاث مأة وثلاثة عشر رجلاً ، واتفقوا على هذه الكلمة نؤمن بالله الواحد الأب مالك كل شيء ، وصانع ما يرى وما لا يرى ، وبالأبن الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد ، بكر الخلائق كلها ، وليس بمصنوع ، إله حق من إله حق ، من جوهر أبيه الذي بيده أُتقنت العوالم وكل شيء ، الذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء ، وتجسد من روح القدس ، وولد من مريم البتول ، وصلب أيام فيلاطوس ، ودفن ثم قام في اليوم الثالث ، وصعد إلى السماء ، وجلس عن يمين أبيه ، وهو مستعد للمجيء تارة اخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ، ونؤمن بروح القدس الواحد ، روح الحق الذي يخرج من أبيه ، وبمعمودية (١) واحدة لغفران الخطايا ، وبجماعة واحدة قدسية

__________________

١ ـ المراد بالمعمودية طهارة الباطن وقداسته.


مسيحية ـ جاثليقية ، وبقيام أبداننا (١) ، والحيوة أبد الآبدين (٢) ).

هذا هو المجمع الأول وكم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبري عن المذاهب المستحدثة كمذهب النسطورية واليعقوبية والأليانية واليليارسية و المقدانوسية والسباليوسية والنوئتوسية والبولسية وغيرها.

ومع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها ، ولا تتوانى ولا تهن في دعوتها ، وتزيد كل يوم في قوتها وسيطرتها حتى وفقت لجلب سائر دول اوروبا إلى التنصر كفرنسا و الإنجليز والنمسا والبروس والإسبانيا والبرتغال والبلجيك وهولندا وغيرهم إلا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلادي سنة ٤٩٦.

ولم تزل تتقدم وترتقي الكنيسة من جانب ، ومن جانب آخر كانت تهاجم الامم الشمالية والعشائر البدوية على الروم والحروب والفتن تضعف سلطنة القياصرة ؛ وآل الأمر إلى أن أجمعت أهل الروم والامم المتغلبة على إلقاء زمام امور المملكة إلى الكنيسة كما كانت زمام امور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانية والجسمانية لرئيس الكنيسة اليوم وهو ( البابا جريجوار ) وكان ذلك سنة ٥٩٠ الميلادية.

وصارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحي غير أن الروم لما كانت انشعبت إمبراطوريته إلى الروم الغربي الذي عاصمتها روما ، والروم الشرقي الذي عاصمتها قسطنطينية كانت قياصرة الروم الشرقي يعدون أنفسهم رؤساء دينيين لمملكتهم من غير أن يتبعوا كنيسة روما وهذا مبدأ انشعاب المسيحية إلى الكاثوليك ، أتباع كنيسة روما والأورثوذكس وهم غيرهم.

وكان الأمر على ذلك حتى إذا فتحت قسطنطينية بيد آل عثمان ، وقتل القيصر ( بالي اولوكوس ) وهو آخر قياصرة الروم الشرقي وقسيس الكنيسة اليوم ( قتل في

__________________

١ ـ أورد عليه أنه يستلزم القول بالمعاد الجسماني والنصارى تقول بالمعاد الروحاني كما يدل عليه الإنجيل وأظن أن الإنجيل انما يدل على عدم وجود اللذائذ الجسمانية الدنيوية في القيامة ، وأما كون الإنسان روحاً مجرداً من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدل على أن الإنسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج بينهم وظاهر العهدين أن الله سبحانه وملائكته جميعاً أجسام فضلاً عن الإنسان يوم القيامة.

٢ ـ الملل والنحل للشهرستاني.


كنيسة « أياصوفيا » ).

وادعى وراثة هذا المنصب الديني أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة سببية كانت بينهم وبين قياصرة الروم ، وكانت الروس تنصرت في القرن العاشر الميلادي فصارت ملوك روسيا قسيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة روما ، وكان ذلك سنة ١٤٥٤ الميلادية.

وبقي الأمر على هذا الحال نحواً من خمسة قرون حتى قتل ( تزار نيكولا ) وهو آخر قياصرة الروسيا قتل هو وجميع أهل بيته سنة ١٩١٨ الميلادية بيد الشيوعيين فعادت كنيسة روما تقريباً إلى حالها قبل الانشعاب.

لكن الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤسائها السلطة على جميع جهات حيوة الناس في القرون الوسطى التي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها وإرتفاعها ثار عليها جماهير من المتدينين تخلصاً من القيود التي كانت تحملها عليهم الكنيسة.

فخرجت طائفة عن تبعية أحكام رؤساء الكنيسة والباباوات وطاعتهم مع البقاء على طاعة التعليم الإنجيلي على ما يفهمه مجامعهم ، ويقرره اتفاق علمائهم وقسيسهم وهؤلاء هم الأورثوذكس.

وطائفة خرجت عن متابعة كنيسة روما أصلاً فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيلي لكنيسة روما ولا معتنين للأوامر الصادرة منها وهؤلاء هم البروتستانت.

فأنشعب العالم المسيحي اليوم إلى ثلاث فرق : الكاثوليك وهي التابعة لكنيسة روما وتعليمها ؛ والاورثوذكس وهي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها ؛ وقد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة وخاصة بعد انتقال كنيسة قسطنطينية إلى مسكو بروسيا ( كما تقدم ) والبروتستانت ؛ وهي الخارجة عن تبعية الكنيسة وتعليمها جميعاً ، وقد استقلت طريقتهم وتظاهرت في القرن الخامس عشر الميلادي.

هذا إجمال ما جرى عليه امر الدعوة المسيحية في زمان يقرب من عشرين قرناً ، والبصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أن القصد من ذكر جمل تاريخهم :

أولاً : أن يكون الباحث على بصيرة من التحولات التاريخية في مذهبهم والمعاني التي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينية بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج


أو الإلف والعادة من عقائد الوثنية والأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم.

وثانياً : أن اقتدار الكنيسة وخاصة كنيسة روما بلغ بالتدريج في القرون الوسطى الميلادية إلى نهاية أوجه حتى كانت لهم سيطرة الدين والدنيا وانقادت لهم كراسي الملك بأوربا فكان لهم عزل من شاءوا ونصب من شاءوا (١).

يروى أن البابا مرة أمر إمبراطور ألمانيا أن يقف ثلاثة أيام حافياً على باب قصره في فصل الشتاء لزلة صدرت منه يريد ان يغفرها له (٢).

ورفس البابا مرة تاج الملك برجله حيث جائه جاثياً يطلب المغفرة (٣).

وقد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفاً لم يدعهم إلا أن يروا دين الإسلام دين الوثنية ؛ يستفاد ذلك من الشعارات والأشعار التي نظموها في استنهاض النصارى وتهييجهم على المسلمين في الحروب الصليبية التي نشبت بينهم وبين المسلمين سنين متطاولة.

فإنهم كانوا (٤) يرون أن المسلمين يعبدون الأصنام وأن لهم آلهة ثلاثة أسمائها على الترتيب ( ماهوم ) ويسمى بافوميد وماهومند وهو أول الآلهة ، وهو ( محمد ) وبعده ( ايلين ) وهو الثاني ، وبعده ( ترفاجان ) وهو الثالث ؛ وربما يظهر من بعض كلماتهم أن للمسلمين إلهين آخرين ، وهما ( مارتوان ) و ( جوبين ) ولكنهما بعد الثلاثة المتقدمة رتبة ، وكانوا يقولون : إن محمداً بنى دعوته على دعوى الالوهية ، وربما قالوا : إنه كان اتخذ لنفسه صنماً من ذهب.

وفي أشعار ريشار التي قالها لاستنهاض الافرنج على المسلمين : ( قوموا وقلبوا ماهومند وترفاجان وألقوهما في النار تقرباً من إلهكم ).

وفي أشعار رولان في وصف ( ماهوم ) إله المسلمين : ( إنه مصنوع تاماً من الذهب والفضة ، ولو رأيته أيقنت أنه لا يمكن لصانع أن يصور في خياله أجمل منه ثم

__________________

١ ـ الفتوحات الإسلامية.

٢ ـ المدرك السابق.

٣ ـ المدرك السابق.

٤ ـ هذا وما بعده إلى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب ( هنري دوكاستري ) في الديانة الإسلامية الفصل الأول منه.


يصنعه ، عظيمة جثته ، جيدة صنعته ، وفي سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ، ماهوم مصنوع من الذهب والفضة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر ، وقد أقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات وأجودها ، بطنه خال ، وربما أحس الناظر من بطنه ضوءاً هو مرصعة بالأحجار الثمينة المتلألئة ، يرى باطنه من ظاهره ، ولا يوجد له في جودة الصنعة نظير.

ولما كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدة ، وقد انهزم المسلمون في بعض حروبهم ، بعث قائد القوم واحداً في طلب إلههم الذي كان بمكة ( يعني محمداً 9 ) ، يروي بعض من شاهد الواقعة : أن الإله ( يعني محمداً ) جائهم وقد أحاط به جم غفير من أتباعه وهم يضربون الطبول والعيدان والمزامير والبوقات المعمولة من فضة ويتغنون ويرقصون حتى أتوا به إلى المعسكر بسرور وترح ومرح ، وقد كان خليفته منتظراً لقدومه ، فلما رآه قام على ساقه ، واشتغل بعبادته بخضوع وخشوع.

ويذكر ( ريشار ) أيضاًً في وصف وحي الإله ياهوم الذي سمعت وصفه فيقول : ( إن السحرة سخروا واحداً من الجن وجعلوه في بطن ذلك الصنم ، وكان ذلك الجني يرعد ويعربد أولاً ثم يأخذ في تكليم المسلمين وهم ينصتون له ).

وأمثال هذه الطرف توجد كثيراً في كتبهم المؤلفة في سني الحروب الصليبية أو المتعرضة لشؤونها وإن كان ربما أبهتت القاري وأدهشته تعجباً وحيرة ، وكاد أن لا يصدق صحة النقل حين يحدث له أمور لم يشاهدها مسلم في يقظة ولا رآها في نومة أو نعسة.

وثالثاً : أن يتحقق الباحث المتدبر كيفية طرق التطور على الدعوة المسيحية في مسيرها خلال القرون الماضية حتى اليوم ، فإن العقائد الوثنية وردت فيها بخفي دبيبها أولأ بالغلو في حق المسيح 7 ثم تمكنت فأفرغت الدعوة في قالب التثليث الأب والإبن والروح ، والقول بالصلب والفداء ، واستلزم ذلك القول برفض العمل والاكتفاء بالاعتقاد.

وكان ذلك أولا في صورة الدين وكان يعقد أزمتهم بالكنيسة بإتيان أشياء من صوم وصلوة وتعميد لكن لم يزل الإلحاد ينمو جسمه ويقوي روحه ويبرز الانشعابات حتى ظهرت البروتستانت ، وقامت القوانين الرسمية مقام الهرج والمرج في السياسات مدونة على أساس الحرية في ما وراء القانون ( الأحكام العملية المضمونة الإجراء ) فلم يزل


التعليم الديني يضعف أثراً ويخيب سعياً حتى انثلمت تدريجاً أركان الأخلاق والفضائل الإنسانية عقيب شيوع المادية التي استتبعتها الحرية التامة.

وظهرت الشيوعية والاشتراك بالبناء على فلسفة ماترياليسم ديالكتيك ورفض القول باللاهوت والأخلاق الفاضلة الثابتة والأعمال الدينية فانهدمت الإنسانية المعنوية ، وورثتها الحيوانية المادية مؤلفة من سبعية وبهيمية ، وانتهضت الدنيا تسير إليها سيراً حثيثاً.

وأما النهضات الدينية التي عمت الدنيا أخيراً فليست إلا ملاعب سياسية يلعب بها رجال السياسة للتوسل بها إلى غاياتهم وأمانيهم فالسياسة الفنية اليوم تدق كل باب وتدب كل جحر وثقب.

ذكر الدكتور ( جوزف شيتلر ) استاذ العلوم الدينية في كلية لوتران في شيكاغو : ( أن النهضة الدينية الجديدة في أمريكا ليست إلا تطبيق الدين على المجموعة من شؤون الحيوة في المدنية الحديثة ، وتثبيت أن المدنية الحاضرة لا تضاد الدين.

وإن فيه خطر أن يعتقد عامة الناس أنهم متدينون بالدين الحق بما في أيديهم من نتايج المدنية الحاضرة حتى يستغنوا عن الالتحاق إلى النهضة الحقيقية الدينية لو ظهرت يوماً بينهم فلا يلتفتوا إليها (١).

وذكر الدكتور جرج فلوروفسكي أكبر مدافع أرثوذكس روسيا بامريكا أن التعليمات الدينية بامريكا ليست إلا سلوة كاذبة للقلوب لأنها لو كانت نهضة حية حقيقية دينية لكان من الواجب أن تتكئ على تعليمات عميقة واقعية (٢).

فانظر من أين خرج وفد الدين وفي أين نزل بدأت الدعوة باسم إحياء الدين ( العقيدة ) والأخلاق ( الملكات الحسنة ) والشريعة ( الأعمال ) واختتمت بالغاء الجميع ووضع التمتع الحيواني موضعها.

وليس ذلك كله إلا تطور الانحراف الأولى الواقع من بولس المدعو بالقديس ،

__________________

١ ـ المجلة الأمريكية ( لايف ) الجزء المؤرخ ٦ فوريه ١٩٥٦.

٢ ـ كسابقه.


بولس الحواري وأعضاده فلو أنهم سموا هذه المدنية الحاضرة التي تعترف الدنيا بأنها تهدد الإنسانية بالفناء ( مدنية بولسية ) كان أحق بالتصديق من قولهم : إن المسيح هو قائد الحضارة والمدنية الحاضرة وحامل لوائها.

( بحث روائي )

في تفسير القمي : في قوله تعالى : (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ ) الآية : إن عيسى لم يقل للناس : ( إني خلقتكم فكونوا عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ ) ، ولكن قال لهم كونوا ربانيين أي علماء.

أقول : وقد مر في البيان السابق ما يؤيده من القرائن وقوله لم يقل للناس إني خلقتكم بمنزلة الاحتجاج على عدم قوله ذلك أي لو كان قال لهم ذلك لوجب أن يخبرهم بأنه خلقهم ولم يخبر ولم يفعل.

وفيه أيضاً : في قوله تعالى : (وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً ) الآية ، قال : كان قوم يعبدون الملائكة ، وقوم من النصارى زعموا أن عيسى رب ، واليهود قالوا : عزير ابن الله فقال الله : (وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً).

أقول : وقد تقدم بيانه.

وفي الدر المنثور أخرج ابن إسحق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود ، والنصارى من أهل نجران عند رسول الله 6 ، ودعاهم إلى الإسلام أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم ؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني ، يقال له الرئيس : أو ذاك تريد منا يا محمد ؟

فقال رسول الله 6 : معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني ، فأنزل الله من قولهما : (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ) ـ إلى قوله ـ : بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ.

وفيه أيضاً وأخرج عبد بن حميد عن الحسن ، قال : بلغني أن رجلاً قال : يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك ؟ قال : لا ولكن أكرموا


نبيكم ، واعرفوا الحق لأهله فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله فأنزل الله : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب ـ إلى قوله ـ : بعد إذ أنتم مسلمون.

أقول : وقد روى في سبب النزول غير هذين السببين ، والظاهر أن ذلك من الاستنباط النظري ؛ وقد تقدم تفصيل الكلام في ذلك ، ومن الممكن أن تجتمع عدة أسباب في نزول آية ، والله أعلم.

* * *

وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ـ ٨١. فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ـ ٨٢. أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ـ ٨٣. قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ـ ٨٤. وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ـ ٨٥.

( بيان )

الآيات غير خالية عن الارتباط بما قبلها ، والسياق سياق واحد مستمر جار على وحدته ؛ وكأنه تعالى لما بين أن أهل الكتاب لم يزالوا يبغون فيما حملوه من علم الكتاب


والدين يحرفون الكلم عن مواضعه ، ويستغشون بتلبيس الأمر على الناس والتفرقة بين النبيين وإنكار آيات نبوة رسول الله 6 ، ونفى أن يكون نبي من الأنبياء كموسى وعيسى 8 يأمرهم باتخاذ نفسه أو غيره من النبيين والملائكة أرباباً على ما هو صريح قول النصارى ؛ وظاهر قول اليهود.

شدد النكير عليهم في ذلك بأنه كيف يتأتى ذلك وقد أخذ الله الميثاق من النبيين أن يؤمنوا بكل نبي يأتيهم ممن تقدمهم أو تأخر عنهم وينصروه ؛ وذلك بتصديق كل منهم لمن تقدم عليه من الأنبياء ، وتبشيره بمن تأخر عنه كتصديق عيسى 7 لموسى وشريعته ، وتبشيره بمحمد 6 وكذا أخذه تعالى الميثاق منهم أن يأخذوا العهد على ذلك من أُممهم وأشهدهم عليهم ، وبين أن هذا هو الإسلام الذي شمل حكمه من في السموات والأرض.

ثم أمر نبيه أن يجري على هذا الميثاق جري قبول وطاعة فيؤمن بالله وبجميع ما أنزله على أنبيائه من غير تفرقة بينهم ، وأن يسلم لله سبحانه ، وأن يأتي بذلك عن نفسه وعن أمته ، وهو معنى أخذ الميثاق منه بلا واسطة ومن امته بواسطته كما سيجيء بيانه.

قوله تعالى : (أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ) ، الآية تنبئ عن ميثاق مأخوذ ، وقد أخذ الله هذا الميثاق للنبيين كما يدل عليه قوله تعالى : (ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ ) « الخ » كما أنه تعالى أخذه من النبيين على ما يدل عليه قوله : أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري « الخ » ، وقوله بعد : (قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ) إلى آخر الآية فالميثاق ميثاق مأخوذ للنبيين ومأخوذ منهم وإن كان مأخوذاً من غيرهم أيضاً بواسطتهم.

وعلى هذا فمن الجائز أن يراد بقوله تعالى : ميثاق النبيين الميثاق المأخوذ منهم أو المأخوذ لهم والميثاق واحد ، وبعبارة اخرى يجوز أن يراد بالنبيين ، المأخوذ لهم الميثاق والمأخوذ منهم الميثاق إلا أن سياق قوله تعالى : ( ما كان لبشر أن يؤتيه الله ) إلى آخر الآيتين في اتصاله بهذه الآية يؤيد كون المراد بالنبيين هم الذين أخذ منهم الميثاق فإن وحدة السياق تعطي أن المراد : أن النبيين بعدما آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة لا يتأتى لهم أن يدعوا إلى الشريك وكيف يتأتى لهم ذلك ؟ وقد أخذ منهم الميثاق


على الإيمان والنصرة لغيرهم من النبيين الذين يدعون إلى توحيد الله سبحانه ، فالأنسب أن يبدأ بذكر الميثاق من حيث أخذه من النبيين.

وقوله : لما آتيتكم من كتاب وحكمة ، القراءة المشهورة ، وهي قراءة غير حمزة بفتح اللام والتخفيف في ( لما ) وعليها فما موصولة وآتيتكم ـ ، وقرأ آتيناكم ـ صلته ، والضمير محذوف ، يدل عليه قوله : من كتاب وحكمة ، والموصول مبتدأ حبره قوله : لتؤمنن به « الخ » واللام في لما ابتدائية ، وفي لتؤمنن به لام القسم ، والمجموع بيان للميثاق المأخوذ ، والمعنى : للذي آتيتكموه من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم آمنتم به ونصرتموه البتة.

ويمكن أن يكون ما شرطية وجزاؤها قوله لتؤمنن به ، والمعنى مهما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ؛ وهذا أحسن لأن دخول اللام المحذوف قسمها في الجزاء أشهر ، والمعنى عليه أسلس وأوضح ، والشرط في موارد المواثيق أعرف ، وأما قراءة كسر اللام في ( لما ) فاللام فيها للتعليل وما موصولة ، والترجيح لقراءة الفتح.

والخطاب في قوله : آتيتكم ، وقوله جاءكم ، وإن كان بحسب النظر البدؤي للنبيين لكن قوله بعد : (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ) ، قرينة على أن الخطاب للنبيين واممهم جميعاً أي ان الخطاب مختص بهم وحكمه شامل لهم ولاممهم جميعاً فعلى الامم أن يؤمنوا وينصروا كما على النبيين أن يؤمنوا وينصروا.

وظاهر قوله : (ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ ) ، التراخي الزماني أي أن على النبي السابق أن يؤمن وينصر النبي اللاحق ، وأما ما يظهر من قوله : قل آمنا بالله « الخ » أن الميثاق مأخوذ من كل من السابق واللاحق للآخر ، وأن على اللاحق أن يؤمن وينصر السابق كالعكس فإنما هو أمر يشعر به فحوى الخطاب دون لفظ الآية كما سيجيء إن شاء الله العزيز.

وقوله : لتؤمن به ولتنصرنه ، الضمير الأول وإن كان من الجائز أن يرجع إلى الرسول كالضمير الثاني إذ لا ضير في إيمان نبي لنبي آخر ، قال تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ الآية ) البقرة ـ ٢٨٥ ،


لكن الظاهر من قوله : (قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) « الخ » رجوعه إلى ما أوتوا من كتاب وحكمة ، ورجوع الضمير الثاني إلى الرسول ، والمعنى : لتؤمنن بما آتيتكم من كتاب وحكمة ولتنصرن الرسول الذي جاءكم مصدقاً لما معكم.

قوله تعالى : (قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا) ، الاستفهام للتقرير ، والإقرار معروف ، والإصر هو العهد ، وهو مفعول أخذتم ، وأخذ العهد يستلزم مأخوذاً ، منه غير الآخذ وليس إلا أمم الأنبياء ، فالمعنى أأقررتم أنتم بالميثاق ، وأخذتم على ذلكم عهدي من اممكم قالوا : أقررنا.

وقيل : المراد بأخذ العهد قبول الأنبياء ذلك لانفسهم فيكون قوله وأخذتم على ذلكم إصري عطف بيان لقوله أقررتم ، ويؤيده قوله : قالوا أقررنا من غير أن يذكر الأخذ في الجواب ، وعلى هذا يكون الميثاق لا يتعدى الأنبياء إلى غيرهم من الامم ويبعده قوله : قال فاشهدوا ، لظهور الشهادة في أنها على الغير ، وكذا قوله بعد : (قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ) « الخ » من غير أن يقول : قل آمنت فإن ظاهره أنه إيمان من رسول الله 6 من قبل نفسه وامته إلا أن يقال : إن اشتراك الامم مع الأنبياء إنما يستفاد من هاتين الجملتين : أعني قوله : فاشهدوا ، وقوله : (قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ) ، من غير أن يفيد قوله : وأخذتم ، في ذلك شيئاً.

قوله تعالى : (قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ) ، ظاهر الشهادة كما مر أن يكون على الغير فهي شهادة من الأنبياء واممهم جميعاً ، ويشهد لذلك كما مر قوله : قل آمنا بالله ، ويشهد لذلك السياق أيضاً ، فإن الآيات مسوقة للاحتجاج على أهل الكتاب في تركهم إجابة دعوة رسول الله 6 كما أنها تحتج عليهم في ما نسبوه إلى عيسى وموسى 8 وغيرهما كما يدل عليه قوله تعالى : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ) ، وغيره.

وربما يقال : إن المراد بقوله : فأشهدوا ، شهادة بعض الأنبياء على بعض كما ربما يقال : إن المخاطبين بقوله : فاشهدوا ، هم الملائكة دون الأنبياء.

والمعنيان وإن كانا جائزين في نفسهما غير أن اللفظ غير ظاهر في شيء منهما بغير قرينة وقد عرفت أن القرينة على الخلاف.

ومن اللطائف الواقعة في الآية أن الميثاق مأخوذ من النبيين للرسل على ما يعطيه


قوله : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ ) ـ إلى قوله ـ : (ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ) ، وقد مر في ذيل قوله تعالى : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً الآية ) البقرة ـ ٢١٣ ، الفرق بين النبوة والرسالة وأن الرسول أخص مصداقاً من النبي.

فعلى ظاهر ما يفيده اللفظ يكون الميثاق مأخوذاً من مقام النبوة لمقام الرسالة من غير دلالة على العكس.

وبذلك يمكن المناقشة فيما ذكر بعضهم أن المحصل من معنى الآية أن الميثاق مأخوذ من عامة النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً ، ويأمر بعضهم بالإيمان ببعض ، أي إن الدين واحد يدعو إليه جميع الأنبياء ، وهو ظاهر.

فمحصل معنى الآية على ما مر : أن الله أخذ الميثاق من الأنبياء واممهم أن لو آتاهم الله الكتاب والحكمة وجاءهم رسول مصدق لما معهم ليؤمنن بما آتاهم وينصرن الرسول وذلك من الأنبياء تصديق من المتأخر للمتقدم والمعاصر وبشارة من المتقدم بالمتأخر وتوصية الامة ، ومن الامة الإيمان والتصديق والنصرة ، ولازم ذلك وحدة الدين الإلهي.

وما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالآية أن الله أخذ الميثاق من النبيين أن يصدقوا محمداً 6 ، ويبشروا أممهم بمبعثه ، فهو وإن كان صحيحاً إلا أنه أمر يدل عليه سياق الآيات كما مرت الإشارة إليه دون الآية في نفسها لعموم اللفظ بل من حيث وقوع الآية ضمن الاحتجاج على أهل الكتاب ولومهم وعتابهم على انكبابهم على تحريف كتبهم وكتمان آيات النبوة والعناد والعتو مع صريح الحق.

قوله تعالى : (فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ) « الخ » تأكيد للميثاق المأخوذ المذكور ، والمعنى واضح.

قوله تعالى : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ) ، تفريع على الآية السابقة المتضمنة لأخذ ميثاق النبيين ، والمعنى فإذا كان دين الله واحداً وهو الذي أُخذ عليه الميثاق من عامة النبيين واممهم وكان على المتقدم من الأنبياء والامم أن يبشروا بالرسول المتأخر ويؤمنوا بما عنده ويصدقوه فماذا يقصده هؤلاء معاشر أهل الكتاب وقد كفروا بك وظاهر حالهم أنهم يبغون الدين فهل يبغون غير الإسلام الذي هو دين الله الوحيد ؟


ولذلك لا يصدقونك ولا يتمسكون بدين الإسلام مع أنه كان يجب عليهم الاعتصام بالإسلام لانه الدين الذي يبتني على الفطرة ؛ وكذلك يجب أن يكون ، الدين والدليل عليه أن : (مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) من أولي العقل والشعور مسلمون لله في مقام التكوين فيجب أن يسلموا عليه في مقام التشريع.

قوله تعالى : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) ، هذا الإسلام الذي يعم من في السموات والأرض ومنهم أهل الكتاب الذين يذكر أنهم غير مسلمين ، ولفظ أسلم صيغة ماض ظاهره المضي والتحقق لا محالة وهو التسليم التكويني لامر الله دون الإسلام بمعنى الخضوع العبودي ، ويؤيده أو يدل عليه قوله طوعاً وكرهاً.

وعلى هذا فقوله : وله أسلم ، من قبيل الاكتفاء بذكر الدليل والسبب عن ذكر المدلول والمسبب ؛ وتقدير الكلام : أفغير الإسلام يبغون ؟ وهو دين الله لأن من في السموات والأرض مسلمون له منقادون لأمره ، فإن رضوا به كان انقيادهم طوعاً من أنفسهم ، وإن كرهوا ما شائه وأرادوا غيره كان الأمر أمره وجرى عليهم كرهاً من غير طوع.

ومن هنا يظهر أن الواو في قوله : طوعاً وكرهاً ، للتقسيم ، وأن المراد بالطوع والكره رضاهم بما أراد الله فيهم مما يحبونه ، وكراهتهم لما أراده فيهم مما لا يحبونه كالموت والفقر والمرض ونحوها.

قوله تعالى : وإليه يرجعون هذا سبب آخر لوجوب ابتغاء الإسلام ديناً فإن مرجعهم إلى الله موليهم الحق لا إلى ما يهديهم إليه كفرهم و شركهم.

قوله تعالى : (قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا) ، أمر النبي أن يجري على الميثاق الذي أخذ منه ومن غيره فيقول عن نفسه وعن المؤمنين من امته : آمنا بالله وما أنزل علينا الخ.

وهذا من الشواهد على أن الميثاق مأخوذ من الأنبياء واممهم جميعاً كما مرت الإشارة إليه آنفاً.

قوله تعالى : (وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ) إلى آخر الآية ، هؤلاء المذكورون بأسمائهم هم الأنبياء من آل إبراهيم ، ولا تخلو الآية من إشعار بأن المراد بالأسباط


هم الأنبياء من ذرية يعقوب أو من أسباط بني إسرائيل كداود وسليمان ويونس وأيوب وغيرهم.

وقوله : والنبيون من ربهم ، تعميم للكلام ليشمل آدم ونوحاً ومن دونهما ، ثم جمع الجميع بقوله : (لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

قوله تعالى : (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ) « الخ » نفي لغير مورد الإثبات من الميثاق المأخوذ ، وفيه تأكيد لوجوب الجرى على الميثاق.

( بحث روائي )

في المجمع عن أمير المؤمنين 7 : إن الله أخذ الميثاق على الأنبياء قبل نبينا أن يخبروا اممهم بمبعثه ونعته ، ويبشروهم به ويأمروهم بتصديقه.

وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : لم يبعث الله نبياً آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، ويأمره فيأخذ العهد على قومه ثم تلا : (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ) الآية.

اقول : والروايتان تفسران الآية بمجموع ما يدل عليه اللفظ والسياق كما مر.

وفي المجمع والجوامع عن الصادق 7 : في الآية معناه وإذ أخذ الله ميثاق امم النبيين كل أُمة بتصديق نبيها ، والعمل بما جائهم به فما وفوا به وتركوا كثيراً من شرائعهم وحرفوا كثيراً.

أقول : وما ذكر في الرواية من قبيل ذكر المصداق المنطبقة عليه الآية فلا ينافي شمول المراد بالآية الأنبياء وأممهم جميعاً.

وفي المجمع أيضاً عن أمير المؤمنين 7 : في قوله تعالى : (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ ) الآية ، قال أأقررتم وأخذتم العهد بذلك على اممكم ، قالوا أي قال الأنبياء واممهم : أقررنا بما أمرتنا

( ٣ ـ الميزان ـ ٢٢)


بالإقرار به ، قال الله : (فَاشْهَدُواْ بذلك على اممكم ، وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ) عليكم وعلى اممكم.

وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب في قوله : قال فاشهدوا يقول : (فَاشْهَدُواْ على أممكم بذلك ، وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) عليكم وعليهم فمن تولى عنك يا محمد بعد هذا العهد من جميع الأمم فأولئك هم الفاسقون ، هم العاصون في الكفر.

أقول : وقد مر توجيه معنى الرواية.

وفي تفسير القمي عن الصادق 7 : قال لهم في الذر : (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ) أي عهدي قالوا : أقررنا ، قال الله للملائكة فاشهدوا.

أقول : لفظ الآية لا يأباه وإن كان لا يستفاد من ظاهره كما تقدم.

وفي الدر المنثور في قوله تعالى : (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً الآية ) ، أخرج أحمد والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله 6 : تجيء الأعمال يوم القيامة فتجيء الصلوة فتقول : يا رب أنا الصلوة فيقول : إنك على خير ، وتجيء الصدقة فتقول يا رب أنا الصدقة فيقول : إنك على خير ، ثم يجيء الصيام فيقول : أنا الصيام فيقول ، إنك على خير ، ثم تجيء الأعمال كل ذلك يقول الله : إنك على خير بك اليوم آخذ وبك أعطي. قال الله في كتابه : (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ).

وفي التوحيد وتفسير العياشي في الآية عن الصادق 7 : هو توحيدهم لله عز وجل.

أقول : التوحيد المذكور يلازم التسليم في جميع ما يريده الله تعالى من عباده فيرجع إلى المعنى الذي قدمناه في البيان.

ولو اريد به مجرد نفي الشريك كان الطوع والكره هما الدلالة الاختيارية والاضطرارية.

واعلم : أن هيهنا عدة روايات أُخر رواها العياشي والقمي في تفسيريهما وغيرهما


في معنى قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ) الآية ، وفيها لتؤمنن برسول الله ، ولتنصرن أمير المؤمنين عليهما الصلوة والسلام ، وظاهرها تفسير الآية بإرجاع ضمير لتؤمنن به إلى رسول الله 6 ، وضمير ولتنصرنه إلى أمير المؤمنين 7 من غير دليل يدل عليه من اللفظ.

لكن في ما رواه العياشي ما رواه عن سلام بن المستنير عن أبي عبد الله 7 قال : لقد تسموا باسم ما سمي الله به أحداً إلا علي بن أبي طالب وما جاء تأويله. قلت : جعلت فداك متى يجيء تأويله ؟ قال : إذا جاء جمع الله أمامه النبيين والمؤمنين حتى ينصروه وهو قول الله : (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ) ـ إلى قوله : وأنا معكم من الشاهدين.

وبذلك يهون أمر الإشكال فإنه إنما يرد لو كانت الروايات واردة مورد التفسير وأما التأويل فقد عرفت أنه ليس من قبيل المعنى ، ولا مرتبطاً باللفظ في ما تقدم من تفسير قوله : (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ الآية ) آل عمران ـ ٧

* * *

كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ـ ٨٦. أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ـ ٨٧. خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ـ ٨٨. إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ـ ٨٩. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ ـ ٩٠. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ


أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ـ ٩١.

( بيان )

الآيات ممكنة الارتباط بما تقدمها من الكلام على أهل الكتاب وإن كان يمكن أن تستقل بنفسها وتنفصل عما تقدمها ؛ وهو ظاهر.

قوله تعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) ، الاستفهام يفيد الاستبعاد والإنكار والمراد به استحالة الهداية ، وقد ختم الآية بقوله : (وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، وقد مر في نظير هذه الجملة أن الوصف مشعر بالعلية أي لا يهديهم مع وجود هذا الوصف فيهم ، وذلك لا ينافي هدايته لهم على تقدير رجوعهم وتوبتهم منه.

وأما قوله : (وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ) ، فإن كان المراد بهم أهل الكتاب فشهادتهم هو مشاهدتهم أن آيات النبوة التي عندهم منطبقة على رسول الله 6 كما يفيده قوله وجائهم البينات وإن كان المراد بهم أهل الردة من المسلمين فشهادتهم هي إقرارهم بالرسالة لا إقراراً صورياً مبنياً على الجهالة والحمية ونحوهما بل إقراراً مستنداً إلى ظهور الأمر كما يفيده قوله وجائهم البينات.

وكيف كان الأمر فانضمام قوله : وشهدوا « الخ » إلى أول الكلام يفيد أن المراد بالكفر هو الكفر بعد ظهور الحق وتمام الحجة فيكون كفراً عن عناد مع الحق ولجاج مع أهله وهو البغي بغير الحق والظلم الذي لا يهتدي صاحبه إلى النجاة والفلاح.

وقد قيل في قوله : وشهدوا « الخ » إنه معطوف على قوله : إيمانهم لما فيه من معنى الفعل ، والتقدير : كفروا بعد أن آمنوا وشهدوا « الخ » أو أن الواو للحال ؛ والجملة حالية بتقدير ( قد ).

قوله تعالى : (أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ ) ـ إلى قوله ـ : ولا هم ينظرون ، قد مر الكلام في معنى عود جميع اللعنة عليهم في تفسير قوله تعالى : (أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) البقرة ـ ١٥٩.

قوله تعالى : (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ) « الخ » أي دخلوا في الصلاح ، والمراد به كون توبتهم نصوحاً تغسل عنهم درن الكفر وتطهر باطنهم بالإيمان ، وأما


الإتيان بالأعمال الصالحة فهو وإن كان مما يتفرع على ذلك ويلزمه غير أنه ليس بمقوم لهذه التوبة ولا ركناً منها ؛ ولا في الآية دلالة عليه.

وفي قوله : (فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) وضع العلة موضع المعلول والتقدير فيغفر الله له ويرحمه : (فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً) إلى آخر الآيتين تعليل لما يشتمل عليه قوله أولاً : (كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ ) « الخ » وهو من قبيل التعليل بتطبيق الكلي العام على الفرد الخاص ، والمعنى أن الذي يكفر بعد ظهور الحق وتمام الحجة عليه ، ولا يتوب بعده توبة مصلحة إنما هو أحد رجلين إما كافر يكفر ثم يزيد كفراً فيطغي ، ولا سبيل للصلاح إليه فهذا لا يهديه الله ولا يقبل توبته لانه لا يرجع بالحقيقة بل هو منغمر في الضلال ، ولا مطمع في اهتدائه.

وإما كافر يموت على كفره وعناده من غير توبة يتوبها فلا يهديه الله في الآخرة بأن يدخله الجنة إذ لم يرجع إلى ربه ولا بدل لذلك حتى يفتدي به ، ولا شفيع ولا ناصر حتى يشفع له أو ينصره.

ومن هنا يظهر أن قوله : وأولئك هم الضالون باشتماله على اسمية الجملة ، والإشارة البعيدة في أولئك ، وضمير الفصل ، والاسمية واللام في الخبر يدل على تأكد الضلال فيهم بحيث لا ترجى هدايتهم.

وكذا يظهر أن المراد بقوله : وما لهم من ناصرين نفي انتفاعهم بالشفعاء الذين هم الناصرون يوم القيامة فإن الإتيان بصيغة الجمع يدل على تحقق ناصرين يوم القيامة كما مر نظيره في الاستدلال على الشفاعة بقوله تعالى : (فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ) الآية في مبحث الشفاعة ( آية ٤٨ من سورة البقرة ) فارجع إليه.

وقد اشتملت الآية الثانية على ذكر نفي الفداء والناصرين لكونهما كالبدل ، والبدل إنما يكون من فائت يفوت الإنسان ، وقد فاتتهم التوبة في الدنيا ولا بدل لها يحل محلها في الآخرة.

ومن هنا يظهر أن قوله : وماتوا وهم كفار في معنى : وفاتتهم التوبة فلا ينتقض هذا البيان الظاهر في الحصر بما ذكره الله تعالى في قوله : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ


السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) النساء ـ ١٨ ، فإن المراد بحضور الموت ظهور آثار الآخرة وانقطاع الدنيا ؛ وتفوت عند ذلك التوبة.

والملء في قوله : ملء الأرض ذهباً مقدار ما يسعه الإناء من شيء ، فاعتبر الأرض إناء يملأه الذهب فالجملة من قبيل الاستعارة التخييلية والاستعارة بالكناية.

( بحث روائي )

في المجمع في قوله تعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً ) الآية : قيل نزلت الآيات في رجل من الأنصار يقال له حارث بن سويد بن الصامت ، وكان قتل المجدر بن زياد البلوي غدراً ، وهرب وارتد عن الإسلام ، ولحق بمكة ثم ندم فأرسل إلى قومه أن يسألوا رسول الله 2 هل لي من توبة ؟ فسألوا فنزلت الآية ـ إلى قوله ـ : (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ ) ، فحملها إليه رجل من قومه فقال : إني لأعلم أنك لصدوق ، ورسول الله أصدق منك ، وان الله أصدق الثلاثة ، ورجع إلى المدينة وتاب وحسن إسلامه ، عن مجاهد والسدي وهو المروي عن أبي عبد الله 7.

وفي الدر المنثور أخرج ابن إسحق وابن المنذر عن ابن عباس : أن الحارث بن سويد قتل المجدر بن زياد وقيس بن زيد أحد بني ضبيعة يوم أحد ثم لحق بقريش فكان بمكة ثم بعث إلى أخيه الجلاس يطلب التوبة ليرجع إلى قومه فأنزل الله فيه : (كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً) إلى آخر القصة.

اقول : وروى القصة بطرق اخرى وفيها اختلافات ، ومن جملتها ما رواه عن عكرمة : أنها نزلت في أبي عامر الراهب والحارث بن سويد بن الصامت ووحوح بن الأسلت في اثني عشر رجلاً رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ، ثم كتبوا إلى أهلهم هل لنا من توبة ؟ فنزلت إلا الذين تابوا من بعد ذلك الآيات.

ومنها ما في المجمع في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ الآية ) ، أنها نزلت في أحد عشر من أصحاب الحارث بن سويد لما رجع الحارث قالوا نقيم بمكة على الكفر ما بدا لنا فمتى ما أردنا الرجعة رجعنا فينزل فينا ما نزل في الحارث فلما


افتتح رسول الله 6 مكة دخل في الإسلام من دخل منهم فقبلت توبته فنزل فيمن مات منهم كافراً : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ الآية ) ، نسبها إلى بعضهم.

وقيل إنها نزلت في أهل الكتاب ، وقيل إن قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً ) الآية نزلت في اليهود خاصة حيث آمنوا ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفراً بمحمد 9 وعليهما ، وقيل غير ذلك.

والتأمل في هذه الأقوال والروايات يعطي أن جميعها من الأنظار الاجتهادية من سلف المفسرين كما تنبه له بعضهم.

وأما الرواية عن الصادق 7 فمرسلة ضعيفة ، على أن من الممكن أن يتعدد أسباب النزول في آية أو آيات ، والله أعلم.

لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ـ ٩٢. كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ـ ٩٣. فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ـ ٩٤. قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ـ ٩٥.

( بيان )

ارتباط الآية الأولى بما قبلها غير واضح ، ومن الممكن أن لا تكون نازلة في ضمن بقية الآيات التي لا غبار على ارتباط بعضها ببعض ، وقد عرفت نظير هذا الاشكال في قوله تعالى : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ الآية ) آل عمران ـ ٦٤ ، من حيث تاريخ النزول.


وربما يقال : إن الخطاب في الآية موجه إلى بني إسرائيل ، ولا يزال موجهاً إليهم ، ومحصل المعنى بعد ما مر من توبيخهم ولومهم على حب الدنيا وإيثار المال والمنال على دين الله : أنكم كاذبون في دعويكم أنكم منسوبون إلى الله سبحانه وأنبيائه وأنكم أهل البر والتقوى ، فإنكم تحبون كرائم أموالكم وتبخلون في بذلها ، ولا تنفقون منها إلا الردي الذي لا تتعلق به النفوس مما لا يعبأ بزواله وفقده مع أنه لا ينال البر إلا بإنفاق الإنسان ما يحبه من كرائم ماله ، ولا يفوت الله سبحانه حفظه هذا محصل ما قيل : وفيه تمحل ظاهر !

وأما بقية الآيات فارتباطها بالبيانات السابقة ظاهر لا غبار عليه.

قوله تعالى : (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ) ، النيل هو الوصول ، والبر هو التوسع في فعل الخير ، قال الراغب : البر خلاف البحر ، وتصور منه التوسع فاشتق منه البر أي التوسع في فعل الخير انتهى.

ومراده من فعل الخير أعم مما هو فعل القلب كالاعتقاد الحق والنية الطاهرة أو فعل الجوارح كالعبادة لله والإنفاق في سبيل الله تعالى ، وقد اشتمل على القسمين جميعاً قوله تعالى : (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِالآية ) البقرة ـ ١٧٧.

ومن انضمام الآية إلى قوله : (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ) الآية ، يتبين أن المراد بها أن إنفاق المال على حبه ، أحد أركان البر التي لا يتم إلا باجتماعها نعم جعل الإنفاق غاية لنيل البر لا يخلو عن العناية والاهتمام بأمر هذا الجزء بخصوصه لما في غريزة الإنسان من التعلق القلبي بما جمعه من المال ، وعده كأنه جزء من نفسه إذا فقده فكأنه فقد جزء من حيوة نفسه بخلاف سائر العبادات والأعمال التي لا يظهر معها فوت ولا زوال منه.

ومن هنا يظهر ما في قول بعضهم إن البر هو الإنفاق مما تحبون ، وكأن هذا القائل : جعلها من قبيل قول القائل لا تنجو من ألم الجوع حتى تأكل ، ونحو ذلك ، لكنه محجوج بما مر من الآية.


ويتبين من آية البقرة المذكورة أيضاً أن المراد بالبر هو ظاهر معناه اللغوي أعني التوسع في الخير فإنها بينته بمجامع الخيرات الاعتقادية والعملية ، ومنه يظهر ما في قول بعضهم : أن المراد بالبر هو إحسان الله وإنعامه وما في قول آخرين : أن المراد به الجنة.

قوله تعالى : (وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) ، تطبيب لنفوس المنفقين أن ما ينفقونه من المال المحبوب عندهم لا يذهب مهدوراً من غير أجر : فإن الله الذي يأمرهم به عليم بإنفاقهم وما ينفقونه.

قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ) ، الطعام كل ما يطعم ويتغذى به وكان يطلق عند أهل الحجاز على البر خاصة وينصرف إليه عندهم لدى الإطلاق ، والحل مقابل الحرمة ، وكأنه مأخوذ من الحل مقابل العقد والعقل فيفيد معنى الإطلاق وإسرائيل هو يعقوب النبي 7 سمي به لانه كان مجاهداً في الله مظفراً به ، ويقول أهل الكتاب : إن معناه المظفر الغالب على الله سبحانه لانه صارع الله في موضع يسمى فنيئيل ( فغلبه على ما في التوراة ) وهو مما يكذبه القرآن ويحيله العقل.

وقوله : إلا ما حرم إسرائيل على نفسه استثناء من الطعام المذكور آنفاً ، وقوله : من قبل أن تنزل التوراة متعلق بكان في الجملة الأولى ، والمعنى لم يحرم الله قبل نزول التوراة شيئاً من الطعام على بني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه.

وفي قوله تعالى : (قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) ، دلالة على أنهم كانوا ينكرون ذلك ، أعني حلية كل الطعام عليهم قبل التوراة ، ويدل عليه أنهم كانوا ينكرون النسخ في الشرائع ويحيلون ذلك كما مر ذكره في ذيل قوله تعالى : (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا الآية ) البقرة ـ ١٠٦ ، فهم كانوا ينكرون بالطبع قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ) النساء ـ ١٦٠.

وكذا يدل قوله تعالى بعد: (قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ) ، أنهم كانوا يجعلون ما ينكرونه ( من حلية كل الطعام عليهم قبل ، التوراة وكون التحريم إنما نزل عليهم لظلمهم بنسخ الحل بالحرمة ) وسيلة إلى إلقاء الشبهة على المسلمين ، والاعتراض على ما كان يخبر به رسول الله 6 عن ربه أن دينه هو ملة إبراهيم الحنيف ، وهي ملة فطرية لا إفراط فيها ولا تفريط ، كيف ؟ وهم كانوا يقولون : إن إبراهيم كان


يهودياً على شريعة التوراة ، فكيف يمكن أن تشتمل ملته على حلية ما حرمتها التوراة ، والنسخ غير جائز ؟

فقد تبين أن الآية إنما تتعرض لدفع شبهة أوردتها اليهود ، ويظهر من عدم تعرض الآية لنقل الشبهة عنهم كما يجري عليه القرآن في غالب الموارد كقوله تعالى : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ) المائدة ـ ٦٤ ، وقوله : (وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ) البقرة ـ ٨٠ ، وقوله : (وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ) البقرة ـ ٨٨ ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

وكذا قوله تعالى بعد عدة آيات : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ ـ إلى أن قال ـ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ الآيات ) آل عمران ـ ١٠٠.

وبالجملة يظهر من ذلك أنها كانت شبهة تلقيه اليهود لا على رسول الله 6 بل على المؤمنين في ضمن ما كانوا يتلاقون ويتحاورون.

وحاصلها أنه كيف يكون النبي صادقاً وهو يخبر بالنسخ ، وأن الله إنما حرم الطيبات على بني إسرائيل لظلمهم ، وهذا نسخ لحل سابق لا يجوز على الله سبحانه بل المحرمات محرمة دائماً من غير إمكان تغيير لحكم الله ، وحاصل الجواب من النبي 6 بتعليم من الله تعالى : أن التوراة ناطقة بكون كل الطعام حلا قبل نزولها فأتوا بالتوراة واتلوها إن كنتم صادقين في قولكم ، وهو قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ـ إلى قوله ـ : إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ).

فإن أبيتم الاتيان بالتوراة وتلاوتها فاعترفوا بأنكم المفترون على الله الكذب وأنكم الظالمون ، وذلك قوله تعالى : (فَمَنِ افْتَرَىَ ـ إلى قوله ـ ظَّالِمُونَ ).

وقد تبين بذلك أني صادق في دعوتي فاتبعوا ملتي وهي : (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ) ، وذلك قوله تعالى : (قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) إلى آخر الآية.

وللمفسرين في توضيح معنى الآية بيانات مختلفة لكنهم على أي حال ذكروا أن الآية متعرضة لبيان شبهة أوردتها اليهود مرتبطة بالنسخ كما مر.

وأعجب ما قيل في المقام ما ذكره بعضهم : أن الآية متعرضة لجواب شبهة


أوردتها اليهود في النسخ ، وتقريرها : أن اليهود كأنها قالت إذا كنت يا محمد على ملة إبراهيم والنبيين بعده ـ كما تدعي ـ فكيف تستحل ما كان محرماً عليه وعليهم كلحم الإبل ؟ أما وقد استبحت ما كان محرماً عليهم فلا ينبغي لك أن تدعي أنك مصدق لهم ، وموافق في الدين ، ولا أن تخص إبراهيم بالذكر فتقول : إني أولى به.

ومحصل الجواب : أن كل الطعام كان حلاً لعامة الناس ومنهم بنو إسرائيل لكن بني إسرائيل حرموا أشياء على أنفسهم بما ارتكبوا من المعاصي ، والسيئات كما قال تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ الآية ) النساء ـ ١٦٠ ، فالمراد بإسرائيل شعب إسرائيل كما هو مستعمل عندهم ، لا يعقوب وحده ، ومعنى تحريمهم ذلك على أنفسهم : أنهم ارتكبوا الظلم واجترحوا السيئات فكانت سبباً للتحريم ، وقوله : من قبل أن تنزل التوراة متعلق بقوله : حرم إسرائيل ، ولو كان المراد بقوله : إسرائيل هو يعقوب نفسه لكان قوله : من قبل أن تنزل التوراة لغواً زائداً من الكلام لبداهة أن يعقوب كان قبل التوراة زماناً فلا وجه لذكره.

هذا محصل ما ذكره وذكر بعض آخر نظير ما ذكره إلا أنه قال : إن المراد من تحريم بني إسرائيل على أنفسهم تحريمهم ذلك تشريعاً من عند أنفسهم من غير أن يستند إلى وحي من الله سبحانه إلى بعض أنبيائهم كما كانت عرب الجاهلية تفعل ذلك على ما قصه الله تعالى في كتابه.

وقد ارتكبا جميعاً من التكلف ما لا يرتضيه ذو خبرة فأخرجا الكلام من مجراه ، وعمدة ما حملهما على ذلك حملهما قوله تعالى : من قبل أن تنزل التوراة على أنه متعلق بقوله : حرم إسرائيل ، مع كونه متعلقاً بقوله : كان حلا ، في صدر الكلام وقوله إلا ما حرم ، استثناء معترض.

ومن ذلك يظهر أن لا حاجة إلى أخذ إسرائيل بمعنى بني إسرائيل كما توهما مستندين إلى عدم استقامة المعنى دونه.

على أن إطلاق إسرائيل وإرادة بني إسرائيل وإن كان جائزاً على حد قولهم : بكر وتغلب ونزار وعدنان يريدون بني بكر وبني تغلب و بني نزار وبني عدنان لكنه في بني إسرائيل من حيث الوقوع استعمال غير معهود عند العرب في عهد النزول ، ولا


أن القرآن سلك هذا المسلك في هذه الكلمة ( في غير هذا المورد الذي يدعيانه ) مع أن بني إسرائيل مذكور فيه فيما يقرب من أربعين موضعاً ؛ ومن جملتها نفس هذه الآية : ( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ) إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ، فما هو الفرق على قولهما بين الموضعين في الآية ؟ حيث عبر عنهم أولاً ببني إسرائيل ، ثم أردف ذلك بقوله إسرائيل مع أن المقام من أوضح مقامات الالتباس ، وناهيك في ذلك أن الجم الغفير من المفسرين فهموا منه أن المراد به يعقوب لا بنوه.

ومن أحسن الشواهد على أن المراد به يعقوب قوله تعالى : على نفسه بإرجاع ضمير المفرد المذكر إلى إسرائيل ولو كان المراد به بني إسرائيل لكان من اللازم أن يقال : على نفسها أو على أنفسهم.

قوله تعالى : (قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) أي حق يتبين أن أي الفريقين على الحق ، أنا أم أنتم ، وهذا إلقاء جواب منه تعالى على نبيه 6.

قوله تعالى : (فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، ظاهره أنه كلام لله سبحانه يخاطب به نبيه 6 وعلى هذا ففيه تطييب لنفس النبي 6 بأن أعدائه من اليهود هم الظالمون بعد هذا البيان لافترائهم الكذب على الله ، وتعريض لليهود ، والكلام يجري مجري الكناية.

وأما احتمال كون الكلام من تتمة كلام النبي 6 فلا يلائمه ظاهر إفراد خطاب الاشارة في قوله : من بعد ذلك ، وعلى هذا أيضاً يجري الكلام مجري الكناية والستر على الخصم المغلوب ليقع الكلام موقعه من القبول كما في قوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) سبأ ـ ٢٤ ، والمشار إليه بذلك هو البيان والحجة.

وإنما قال : من بعد ذلك مع أن المفتري ظالم على أي حال لأن الظلم لا يتحقق قبل التبين كما قيل ، والقصر في قوله : فاولئك هم الظالمون قصر قلب على أي حال.

قوله تعالى : (قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً) « الخ » أي فإذا كان الحق معي فيما أخبرتكم به ودعوتكم إليه فاتبعوا ديني واعترفوا بحليه لحم الإبل وغيره من الطيبات التي أحلها الله ، وإنما كان حرمها عليكم عقوبة لاعتدائكم وظلمكم كما أخبر تعالى به.


فقوله : فاتبعوا « الخ » كالكناية عن اتباع دينه ، وإنما لم يذكره بعينه لأنهم كانوا معترفين بملة إبراهيم ، ليكون إشارة إلى كون ما يدعو إليه من الدين حنيفاً فطرياً لأن الفطرة لا تمنع الإنسان من أكل الطيبات من اللحوم وسائر الرزق.

( بحث روائي )

في الكافي وتفسير العياشي عن الصادق 7 : أن إسرائيل كان إذا أكل لحم الإبل هيج عليه وجع الخاصرة فحرم على نفسه لحم الإبل وذلك قبل أن تنزل التوراة فلما نزلت التوراة لم يحرمه ولم يأكله.

أقول : وما يقرب منه مروي من طرق أهل السنة والجماعة.

وقوله في الرواية : لم يحرمه ولم يأكله ضميرا الفاعل راجعان إلى موسى لدلالة المقام عليه ، والمعنى لم يحرمه موسى ولم يأكله ، ويحتمل أن يكون لم يأكله من التأكيل بمعنى التمكين من الأكل ، ويظهر من التاج أن التفعيل والمفاعلة فيه بمعنى واحد.

* * *

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ـ ٩٦. فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ـ ٩٧.

( بيان )

الآيتان جواب عن شبهة اخرى كانت اليهود توردها على المؤمنين من جهة النسخ ، وهي ما حدث في أمر القبلة بتحويلها من بيت المقدس إلى الكعبة ، وقد مر في تفسير قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الآية ) البقرة ـ ١٤٤ ، أن تحويل


القبلة كان من الامور الهامة التي كانت له تأثيرات عميقة مادية ومعنوية في حيوة أهل الكتاب ـ وخاصة اليهود ـ مضافاً إلى كونه مخالفاً لمذهبهم من النسخ ، ولذلك طالت المشاجرات والمشاغبات بينهم وبين المسلمين بعد نزول حكم القبلة إلى أمد بعيد.

والمستفاد من الآية ـ إن أول بيت « الخ » ـ أنهم جمعوا في شبهتهم بين شبهة النسخ وبين انتساب الحكم إلى ملة إبراهيم فيكون محصل الشبهة : أن الكعبة كيف يمكن أن يكون قبلة في ملة إبراهيم مع أن الله جعل بيت المقدس قبلة وهل هذا إلا القول بحكم نسخي في ملة إبراهيم الحقة مع كون النسخ محالاً باطلاً ؟

والجواب : أن الكعبة موضوعة للعبادة قبل غيرها كبيت المقدس فلقد بناها إبراهيم من غير شك ووضعها للعبادة ، وفيها آيات بينات تدل على ذلك كمقام إبراهيم ، وأما بيت المقدس فبانيه سليمان وهو بعد إبراهيم بقرون.

قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ) إلى آخر الآية ، البيت معروف ؛ والمراد بوضع البيت للناس وضعه لعبادتهم وهو أن يجعلوه ذريعة يتوسل به إلى عبادة الله سبحانه ، ويستعان به فيها بأن يعبد الله فيه ، وبقصده والمسير إليه وغير ذلك ؛ والدليل على ذلك ما يشتمل عليه الكلام من كونه مباركاً وهدى للعالمين وغير ذلك ، ويشعر به التعبير عن الكعبة بالذي ببكة فإن فيه تلويحاً إلى ازدحام الناس عنده في الطواف والصلوة وغيرهما من العبادات والمناسك ، وأما كونه أول بيت بني على الأرض ووضع لينتفع به الناس فلا دلالة على ذلك من جهة اللفظ.

والمراد ببكة أرض البيت سميت بكة لازدحام الناس فيها ، وربما قيل إن بكة هي مكة ، وإنه من تبديل الميم باء كما في قولهم : لازم ولازب وراتم وراتب ونحو ذلك ، وقيل : هو اسم للحرم ، وقيل : المسجد ، وقيل : المطاف.

والمباركة مفاعلة من البركة وهي الخير الكثير ، فالمباركة إفاضة الخير الكثير عليه وجعله فيه ، وهي وإن كانت تشمل البركات الدنيوية والأخروية ، إلا أن ظاهر مقابلتها مع قوله : هدىً للعالمين أن المراد بها إفاضة البركات الدنيوية وعمدتها وفور الأرزاق وتوفر الهمم والدواعي إلى عمرانه بالحج إليه والحضور عنده والاحترام له وإكرامه فيؤول المعنى إلى ما يتضمنه قوله تعالى في دعوة إبراهيم : (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي


بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) إبراهيم ـ ٣٧.

وكونه هدىً هو إرائته للناس سعادة آخرتهم ، وإيصاله إياهم إلى الكرامة والقرب والزلفى بما وضعه الله للعبادة ، وبما شرّع عنده من أقسام الطاعات والنسك ، ولم يزل منذ بناه إبراهيم مقصداً للقاصدين ومعبداً للعابدين.

وقد دل القرآن على أن الحج شرع أول ما شرع في زمن إبراهيم 7 بعد الفراغ من بنائه ، قال تعالى : (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) البقرة ـ ١٢٥ ، وقال : خطاباً لإبراهيم : (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) الحج ـ ٢٧ ، والآية كما ترى تدل على أن هذا الأذان والدعوة سيقابل بتلبية عامة من الناس الأقربين والأبعدين من العشائر والقبائل.

ودل أيضاً على أن هذا الشعار الإلهي كان على استقراره ومعروفيته في زمن شعيب عند الناس كما حكاه الله عنه في قوله لموسى 8 : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ) القصص ـ ٢٧ ، فقد أراد بالحج السنة وليس إلا لكون السنين تعد بالحج لتكررها بتكرره.

وكذا في دعوة إبراهيم 7 شيء كثير يدل على كون البيت لم يزل معموراً بالعبادة آية في الهداية ( راجع سورة إبراهيم ).

وكان عرب الجاهلية يعظمونه ويأتون بالحج بعنوان أنه من شرع إبراهيم ، وقد ذكر التاريخ أن سائر الناس أيضاً كانوا يعظمونه ، وهذا في نفسه نوع من الهداية لما فيه من التوجه إلى الله سبحانه وذكره ، وأما بعد ظهور الإسلام فالأمر أوضح ، وقد ملأ ذكره مشارق الأرض ومغاربها ، وهو يعرض نفسه لأفهام الناس وقلوبهم بنفسه وبذكره ، وفي عبادات المسلمين وطاعاتهم وقيامهم وقعودهم ومذابحهم وسائر شؤونهم.

فهو هدى بجميع مراتب الهداية آخذة من الخطور الذهني إلى الانقطاع التام الذي : (لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) من عباد الله المخلصين


على أنه يهدي عالم المسلمين إلى سعادتهم الدنيوية التي هي وحدة الكلمة وائتلاف الامة وشهادة منافعهم ، ويهدي عالم غيرهم بإيقاظهم وتنبيههم إلى ثمرات هذه الوحدة وائتلاف القوى المختلفة المتشتتة.

ومن هنا يظهر أولاً : أنه هدى إلى سعادة الدنيا والآخرة كما أنه هدى بجميع مراتب الهداية ، فالهداية مطلقة.

وثانياً : أنه هدى للعالمين لا لعالم خاص وجماعة مخصوصة كآل إبراهيم أو العرب أو المسلمين وذلك لما فيه من سعة الهداية.

قوله تعالى : (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ) ، الآيات وإن وصفت بالبينات ، وأفاد ذلك تخصصاً ما في الموصوف إلا إنها مع ذلك لا تخرج عن الإبهام ، والمقام مقام بيان مزايا البيت ومفاخره التي بها يتقدم على غيره في الشرف ولا يناسب ذلك إلا الإتيان ببيان واضح ، والوصف بما لا غبار عليه بالإبهام والإجمال ، وهذا من الشواهد على كون قوله : (مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ) إلى آخر الآية بياناً لقوله : آيات بينات فالآيات هي : مقام إبراهيم ، وتقرير الأمن فيه ، وإيجاب حجه على الناس المستطيعين.

لكن لا كما يترائى من بعض التفاسير من كون الجمل الثلاث بدلاً أو عطف بيان من قوله : آيات لوضوح أن ذلك يحتاج إلى رجوع الكلام بحسب التقدير إلى مثل قولنا هي مقام إبراهيم ، والأمن لمن دخله ، وحجه لمن استطاع إليه سبيلاً ، وفي ذلك إرجاع قوله : ومن دخله ، سواء كان إنشاءاً أو إخباراً إلى المفرد بتقدير أن وإرجاع قوله : ولله على الناس ، وهي جملة إنشائية إلى الخبرية ثم عطفه على الجملة السابقة وتأويلها إلى المفرد بذلك أو بتقدير أن فيها أيضاً ، وكل ذلك مما لا يساعد عليه الكلام البتة.

وإنما سيقت هذه الجمل الثلاث أعني قوله : مقام إبراهيم « الخ » ، كل لغرض خاص من إخبار أو إنشاء حكم ثم تتبين بها الآيات فتعطي فائدة البيان كما يقال : فلان رجل شريف هو ابن فلان ويقري الضيف ويجب علينا أن نتبعه.

قوله تعالى : مقام إبراهيم مبتدأ لخبر محذوف والتقدير فيه مقام إبراهيم ، وهو الحجر الذي عليه أثر قدمي إبراهيم الخليل 7 ، وقد استفاض النقل بأن الحجر مدفون


في المكان الذي يدعى اليوم بمقام إبراهيم على حافة المطاف حيال الملتزم ، وقد أشار إليه أبو طالب عم النبي في قصيدته اللامية :

وموطئ ابراهيم في الصخر رطبة

على قدميه حافياً غير ناعل

وربما يفهم من قوله : مقام إبراهيم أن البيت أو في البيت موضع قيام إبراهيم بعبادة الله سبحانه.

ويمكن أن يكون تقدير الكلام هي مقام إبراهيم والأمن والحج ثم وضع قوله : ومن دخله ، وقوله : ولله على الناس ، وهما جملتان مشتملتان على حكم إنشائي موضع الخبرين ، وهذا من أعاجيب اسلوب القرآن حيث يستخدم الكلام المسوق لغرض في سبيل غرض آخر فيضعه موضعه لينتقل منه إليه فيفيد فائدتين ، ويحفظ الجهتين كحكايه الكلام في موضع الإخبار كقوله : (كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ) البقرة ـ ٢٨٥ ، وكما مر في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ الآية ) البقرة ـ ٢٥٨ ، وقوله : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ الآية ) البقرة ـ ٢٥٩ ، وقد بينا النكتة في ذلك في تفسير الثانية ، وكما في قوله تعالى : (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الشعراء ـ ٨٩ ، وكما في قوله تعالى : ( وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ الآية ) البقرة ـ ١٧٧ ، حيث وضع صاحب البر مكان البر ، وكما في قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ الآية ) البقرة ـ ١٧١ ؛ ومثله غالب الأمثال الواردة في القرآن الكريم.

وعلى هذا فوزان قوله فيه آيات بينات مقام إبراهيم ـ إلى قوله ـ عن العالمين في التردد بين الإنشاء والإخبار ، وزان قوله : (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) ص ـ ٤٤.

و هذا الذي ذكرناه غير ما ذكره بعضهم من حديث البدلية ، وإن كان بدلاً ولا بد فالأولى جعل قوله ، مقام إبراهيم بدلاً ، وجعل الجملتين التاليتين مستأنفتين

( ٣ ـ الميزان ـ ٢٣)


دالتين على بدلين محذوفين. والتقدير فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن الداخل وحج المستطيع للبيت.

ولا ريب في كون كل واحد من هذه الامور آية بينة دالة بوقوعها على الله سبحانه مذكرة لمقامه إذ ليست الآية إلا العلامة الدالة على الشيء بوجه ، وأي علامة دالة عليه تعالى مذكرة لمقامه أعظم وأجلى في نظر أهل الدنيا من موقف إبراهيم ومن حرم آمن يأمن من دخله ومن مناسك وعبادات يأتي بها الألوف بعد الألوف من الناس تتكرر بتكرر السنين ، ولا تنسخ بانتساخ الليالي والأيام ، وأما كون كل آية أمراً خارقاً للعادة ناقضاً للسنة الطبيعة فليس من الواجب ، ولا لفظ الآية بمفهومه يدل عليه ، ولا استعماله في القرآن ينحصر فيه. قال تعالى : (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا الآية ) البقرة ـ ١٠٦ ، وهي تشمل الأحكام المنسوخة في الشرع قطعاً ، وقال تعالى : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ) الشعراء ـ ١٢٨ ، إلى غير ذلك من الآيات.

ومن هنا يظهر ما في إصرار بعض المفسرين على توجيه كون المقام آية خارقة ، وكون الأمن والحج مذكورين لغير غرض بيان الآية.

وكذا إصرار آخرين على أن المراد بالآيات البينات امور اخر من خواص الكعبة ( وقد أغمضنا عن ذكرها ، ومن أرادها فليراجع بعض مطولات التفاسير ) فإن ذلك مبني على كون المراد من الآيات الآيات المعجزة وخوارق العادة ، ولا دليل على ذلك كما مر.

فالحق أن قوله ومن دخله كان آمناً : مسوق لبيان حكم تشريعي لا خاصة تكوينية غير أن الظاهر أن يكون الجملة إخبارية يخبر بها عن تشريع سابق للأمن كما ربما استفيد ذلك من دعوة إبراهيم المذكورة في سورتي إبراهيم والبقرة وقد كان هذا الحق محفوظاً للبيت قبل البعثة بين عرب الجاهلية ويتصل بزمن إبراهيم 7.

وأما كون المراد من حديث الأمن هو الإخبار بأن الفتن والحوادث العظام لا تقع ولا ينسحب ذيلها إلى الحرم فيدفعه وقوع ما وقع من الحروب والمقاتلات واختلال الأمن فيه ، وخاصة ما وقع منها قبل نزول هذه الآية ، وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ) العنكبوت ـ ٦٧ ، لا يدل على أزيد من استقرار الأمن واستمراره في الحرم ، وليس ذلك إلا لما يراه الناس من


حرمة هذا البيت ووجوب تعظيمه الثابت في شريعة إبراهيم 7 وينتهي بالآخرة إلى جعله سبحانه وتشريعه.

وكذا ما وقع في دعاء إبراهيم المحكي في قوله تعالى : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً) إبراهيم ـ ٣٥ ، وقوله : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً ) البقرة ـ ١٢٦ حيث سأل الأمن لبلد مكة فأجابه الله بتشريع الأمن وسوق الناس سوقاً قلبياً إلى تسليم ذلك وقبوله زماناً بعد زمان.

قوله تعالى : (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) الحج بالكسر ( وقرئ بالفتح ) هو القصد ثم اختص استعماله بقصد البيت على نهج مخصوص بيِّنه الشرع ، وقوله : سبيلاً تمييز من قوله : استطاع.

والآية تتضمن تشريع الحج إمضائاً لما شرع لإبراهيم 7 كما يدل عليه قوله تعالى حكاية لما خوطب به إبراهيم : (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ الآية ) ، الحج ـ ٢٧ ، ومن هنا يظهر أن وزان قوله : (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ) « الخ » وزان قوله تعالى : (وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ) في كونه إخباراً عن تشريع سابق وإن كان من الممكن أن يكون إنشاء على نحو الامضاء لكن الأظهر من السياق هو الأول كما لا يخفى.

قوله تعالى : (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) ، الكفر هيهنا من الكفر بالفروع نظير الكفر بترك الصلوة والزكوة فالمراد بالكفر الترك. والكلام من قبيل وضع المسبب أو الأثر مقام السبب أو المنشأ كما أن قوله : ( فإن الله غني ) « الخ » من قبيل وضع العلة موضع المعلول ، والتقدير : ومن ترك الحج فلا يضر الله شيئاً : ( فإن الله غني عن العالمين ).

( بحث روائي )

عن ابن شهرآشوب عن أمير المؤمنين 7 : في قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ الآية ) فقال : له رجل أهو أول بيت ؟ قال لا قد كان قبله بيوت ، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركاً ، فيه الهدى والرحمة والبركة. وأول من بناه إبراهيم ، ثم بناه قوم من العرب من جرهم ثم هدم فبنته العمالقة ثم هدم فبناه قريش.


وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن علي بن أبي طالب في قوله : ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة قال كانت البيوت قبله ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله.

أقول : ورواه أيضاً عن ابن جرير عن مطر مثله ، والروايات في هذه المعاني كثيرة.

وفي العلل عن الصادق 7 : موضع البيت بكة ، والقرية مكة.

وفيه أيضاً عنه 7 : إنما سميت بكة بكة لأن الناس يبكون فيها.

أقول : يعني يزدحمون.

وفيه عن الباقر 7 : إنما سميت مكة بكة لأنه يبك بها الرجال والنساء ، المرأة تصلي بين يديك ، وعن يمينك ، وعن شمالك ومعك ولا بأس بذلك إنما يكره ذلك في سائر البلدان.

وفيه عن الباقر 7 قال : لما أراد الله أن يخلق الأرض أمر الرياح فضربن متن الماء حتى صار موجاً ثم أزبد فصار زبداً واحداً فجمعه في موضع البيت ثم جعله جبلاً من زبد ثم دحى الأرض من تحته وهو قول الله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً ) ، فأول بقعه خلقت من الأرض الكعبة ثم مدت الأرض منها.

اقول : والأخبار في دحو الأرض من تحت الكعبة كثيرة ، وليست مخالفة الكتاب ، ولا أن هناك برهاناً يدفع ذلك غير ما كانت تزعمه القدماء من علماء الطبيعة أن الأرض عنصر بسيط قديم ، وقد بان بطلان هذا القول بما لا يحتاج إلى بيان.

وهذا تفسير ما ورد من الروايات في أن الكعبة أول بيت ( أي بقعة ) في الأرض وإن كان الظاهر من الآية ما تشتمل عليه الروايتان الاوليان.

وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق 7 في قوله تعالى : فيه آيات بينات : أنه سئل ما هذه الآيات البينات ؟ قال : مقام إبراهيم حيث قام على الحجر فأثرت فيه قدماه ، والحجر الأسود ، ومنزل إسماعيل.

أقول : وفي هذا المعنى روايات أُخر ، ولعل ذكره هذه الامور من باب العد وإن لم تشتمل على بعضها الآية.


وفي تفسير العياشي عن عبد الصمد ، قال : طلب أبو جعفر أن يشتري من أهل مكة بيوتهم أن يزيد في المسجد فأبوا فأرغبهم فامتنعوا فضاق بذلك فأتى أبا عبد الله 7 فقال له : أني سألت هؤلاء شيئاً من منازلهم وأفنيتهم لنزيد في المسجد وقد منعوا في ذلك فقد غمني غماً شديداً ، فقال أبو عبد الله 7 : لم يغمك ذلك وحجتك عليهم فيه ظاهرة ؟ فقال : وبما أحتج عليهم ؟ فقال : بكتاب الله ، فقال في أي موضع ؟ فقال : قول الله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) ، وقد أخبرك الله أن أول بيت وضع للناس هو الذي ببكة فإن كانوا هم تولوا قبل البيت فلهم أفنيتهم ، وإن كان البيت قديماً فيهم فله فنائه ، فدعاهم أبو جعفر فاحتج عليهم بهذا فقالوا له : اصنع ما أحببت.

وفيه عن الحسن بن علي بن النعمان ، قال : لما بنى المهدي في المسجد الحرام بقيت دار في تربيع المسجد فطلبها من أربابها فامتنعوا ، فسأل عن ذلك الفقهاء فكل قال له : إنه لا ينبغي أن تدخل شيئاً في المسجد الحرام غصباً ، فقال له علي بن يقطين ، يا أمير المؤمنين إني أكتب إلى موسى بن جعفر 8 لاخبرك بوجه الأمر في ذلك فكتب إلى والي المدينة أن يسأل موسى بن جعفر 8 عن دار أردنا أن ندخلها في المسجد الحرام فامتنع عليها صاحبها ، فكيف المخرج من ذلك ؟

فقال ذلك لأبي الحسن 7 ، فقال ابو الحسن 7 : فلا بد من الجواب في هذا؟ فقال له : الأمر لا بد منه ، فقال له : اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها : وإن كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها.

فلما أتي الكتاب إلى المهدي أخذ الكتاب فقبّله ثم أمر بهدم الدار فأتى أهل الدار أبا الحسن 7 فسألوه أن يكتب إلى المهدي كتاباً في ثمن دارهم فكتب إليه أن اوضح (١) لهم شيئاً فأرضاهم.

أقول : والروايتان مشتملتان على استدلال لطيف ، وكأن أبا جعفر المنصور كان هو البادئ بتوسعة المسجد الحرام ثم تم الأمر للمهدي.

__________________

١ ـ ارضخ ( خ ).


وفي الكافي عن الصادق 7 في قوله تعالى : (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) « الخ » ، يعني به الحج والعمرة جميعا لأنهما مفروضان.

أقول : ورواه العياشي في تفسيره ، وقد فسر الحج فيه بمعناه اللغوي وهو القصد.

وفي تفسير العياشي عن الصادق 7 : ومن كفر قال : ترك.

أقول : ورواه الشيخ في التهذيب ، وقد عرفت أن الكفر ذو مراتب كالإيمان ، وأن المراد منه الكفر بالفروع.

وفي الكافي عن علي بن جعفر عن أخيه موسى 7 في حديث قال : قلت فمن لم يحج منا فقد كفر ؟ قال : لا ، ولكن من قال : ليس هذا هكذا فقد كفر.

أقول : والروايات في هذه المعاني كثيرة ، والكفر في الرواية بمعنى الرد ، والآية تحتمله ، فالكفر فيها بمعناه اللغوي وهو الستر على الحق ، وعلى حسب الموارد تتعين له مصاديق.

( بحث تاريخي )

من المتواتر المقطوع به أن الذي بنى الكعبة إبراهيم الخليل 7 وكان القاطنون حولها يومئذ ابنه إسماعيل وجرهم من قبائل اليمن وهي بناء مربع تقريباً وزواياها الأربع إلى الجهات الأربع تتكسر عليها الرياح ولا تضرها مهما اشتدت.

ما زالت الكعبة على بناء إبراهيم حتى جددها العمالقة ثم بنو جرهم ( أو بالعكس ) كما مر في الرواية عن أمير المؤمنين 7.

ثم لما آل أمر الكعبة إلى قصى بن كلاب أحد أجداد النبي 6 ( القرن الثاني قبل الهجرة ) هدمها وبناها فأحكم بنائها ، وسقفها بخشب الدوم وجذوع النخل وبنى إلى جانبها دار الندوة ، وكان في هذه الدار حكومته وشوراه مع أصحابه ، ثم قسم جهات الكعبة بين طوائف قريش فبنوا دورهم على المطاف حول الكعبة ، وفتحوا عليه أبواب دورهم.

وقبل البعثة بخمس سنين هدم السيل الكعبة فاقتسمت الطوائف العمل لبنائها


وكان الذي يبنيها ياقوم الرومي ويساعده عليه نجار مصري ، ولما انتهوا إلى وضع الحجر الأسود تنازعوا بينهم في أن أيها يختص بشرف وضعه فرأوا أن يحكموا محمداً 6 ، وسنه إذ ذاك خمس وثلثون سنة لما عرفوا من وفور عقله وسداد رأيه ، فطلب رداء ووضع عليه الحجر ، وأمر القبائل فأمسكوا بأطرافه ورفعوه حتى إذا وصل إلى مكانه من البناء في الركن الشرقي أخذه هو فوضعه بيده في موضعه.

وكانت النفقة قد بهظتهم فقصروا بنائها على ما هي عليه الآن وقد بقي بعض ساحته خارج البناء من طرف الحجر حجر إسماعيل لاستصغارهم البناء.

وكان البناء على هذا الحال حتى تسلط عبدالله بن الزبير على الحجاز في عهد يزيد ابن معاوية فحاربه الحصين قائد يزيد بمكة ، وأصاب الكعبة بالمنجنيق فانهدِمت وأُحرقت كسوتها وبعض أخشابها ، ثم انكشف عنها لموت يزيد ، فرأى ابن الزبير أن يهدم الكعبة ويعيد بنائها فأتى لها بالجص النقي من اليمن ، وبناها به ، وأدخل الحجر في البيت ، وألصق الباب بالأرض ، وجعل قبالته باباً آخر ليدخل الناس من باب ويخرجوا من آخر ، وجعل ارتفاع البيت سبعة وعشرين ذراعاً ولما فرغ من بنائها ضمخها بالمسك والعبير داخلاً وخارجاً ، وكساها بالديباج ، وكان فراغه من بنائها ١٧ رجب سنه ٦٤ هجرية.

ثم لما تولى عبد الملك بن مروان الخلافة بعث الحجاج بن يوسف قائده فحارب ابن الزبير حتى غلبه فقتله ، ودخل البيت فأخبر عبد الملك بما أحدثه ابن الزبير في الكعبة ، فأمره بإرجاعها إلى شكلها الأول ، فهدم الحجاج من جانبها الشمالي ستة أذرع وشبراً ، وبنى ذلك الجدار على أساس قريش ، ورفع الباب الشرقي وسد الغربي ثم كبس أرضها بالحجارة التي فضلت منها.

ولما تولى السلطان سليمان العثماني الملك سنة ستين وتسعمأة غير سقفها ، ولما تولى السلطان أحمد العثماني سنة إحدى وعشرين بعد الألف أحدث فيها ترميماً ولما حدث السيل العظيم سنة تسع وثلثين بعد الألف هدم بعض حوائطها الشمالية والشرقية والغربية فأمر السلطان مراد الرابع من ملوك آل عثمان بترميمها ، ولم يزل على ذلك حتى اليوم وهو سنة ألف وثلاث مأة وخمس وسبعين هجرية قمرية وسنة ألف وثلاثمأه وثمانية وثلاثين هجرية شمسية.


شكل الكعبة : شكل الكعبة مربع تقريباً وهي مبنية بالحجارة الزرقاء الصلبة ويبلغ ارتفاعها ستة عشر متراً ، وقد كانت في زمن النبي 6 أخفض منه بكثير على ما يستفاد من حديث رفع النبي 6 علياً 7 على عاتقه يوم الفتح لأخذ الأصنام التي كانت على الكعبة وكسرها.

وطول الضلع الذي فيه الميزاب والذي قبالته عشرة أمتار وعشرة سانتي مترات ، وطول الضلع الذي فيه الباب والذي قبالته اثنا عشر متراً ، والباب على ارتفاع مترين من الأرض ، وفي الركن الذي على يسار الباب للداخل ، الحجر الأسود على ارتفاع متر ونصف من أرض المطاف ، والحجر الأسود حجر ثقيل بيضي الشكل غير منتظم ، لونه أسود ضارب إلى الحمرة ، وفيه نقط حمراء ، وتعاريج صفراء ، وهي أثر لحام القطع التي كانت تكسرت منه قطره نحو ثلثين سانتي متراً.

وتسمى زوايا الكعبة من قديم أيامها بالأركان فيسمى الشمالي بالركن العراقي ، والغربي بالشامي والجنوبي باليماني ، والشرقي إلذي فيه الحجر الأسود بالأسود ، وتسمى المسافة التي بين الباب وركن الحجر بالملتزم لالتزام الطائف إياه في دعائه واستغاثته ، وأما الميزاب على الحائط الشمالي ويسمى ميزاب الرحمة فمما أحدثه الحجاج بن يوسف ثم غيره السلطان سليمان سنة ٩٥٤ إلى ميزاب من الفضة ثم أبدله السلطان أحمد سنة ١٠٢١ بآخر من فضة منقوشة بالميناء الزرقاء يتخللها نقوش ذهبية ، ثم أرسل السلطان عبد المجيد من آل عثمان سنة ١٢٧٣ ميزاباً من الذهب فنصب مكانه وهو الموجود الآن.

وقبالة الميزاب حائط قوسي يسمى بالحطيم ، وهو قوس من البناء طرفاه إلى زاويتي البيت الشمالية والغربية ، ويبعدان عنهما مقدار مترين وثلاثة سانتيمترات ، ويبلغ ارتفاعه متراً وسمكه متراً ونصف متر ؛ وهو مبطن بالرخام المنقوش ، والمسافة بين منتصف هذا القوس من داخله إلى منتصف ضلع الكعبة ثمانية أمتار وأربعة وأربعون سانتيمتراً.

والفضاء الواقع بين الحطيم وبين حائط البيت هو المسمى بحجر إسماعيل ، وقد كان يدخل منه ثلاثة أمتار تقريباً في الكعبة في بناء إبراهيم ، والباقي كان زريبة لغنم هاجر وولدها ، ويقال : إن هاجر وإسماعيل مدفونان في الحجر.

وأما تفصيل ما وقع في داخل البيت من تغيير وترميم ، وما للبيت من السنن


والتشريفات فلا يهمنا التعرض له.

كسوة الكعبة : قد تقدم في ما نقلناه من الروايات في سورة البقرة في قصة هاجر وإسماعيل ونزولهما أرض مكة أن هاجر علق كسائها على باب الكعبة بعد تمام بنائها.

وأما كسوة البيت نفسه فيقال : إن أول من كساها تبع أبو بكر أسعد كساها بالبرود المطرزة بأسلاك الفضة ، وتبعه خلفائه ثم أخذ الناس يكسونها بأردية مختلفة فيضعونها بعضها على بعض ، وكلما بلى منها ثوب وضع عليها آخر إلى زمن قصى ، ووضع قصى على العرب رفادة لكسوتها سنوياً واستمر ذلك في بنيه وكان أبو ربيعة ابن المغيرة يكسوها سنة وقبائل قريش سنة.

وقد كساها النبي 6 بالثياب اليمانية ، وكان على ذلك حتى إذا حج الخليفة العباسي المهدي شكى إليه سدنة الكعبة من تراكم الأكسية على سطح الكعبة ، وذكروا أنه يخشى سقوطه فأمر برفع تلك الأكسية ، وإبدالها بكسوة واحدة كل سنة ، وجرى العمل على ذلك حتى اليوم ، وللكعبة كسوة من داخل ، وأول من كساها من داخل ام العباس بن عبد المطلب لنذر نذرته في ابنها العباس.

منزلة الكعبة : كانت الكعبة مقدسة معظمة عند الامم المختلفة فكانت الهنود يعظمونها ؛ ويقولون : إن روح ( سيفا ) وهو الاقنوم الثالث عندهم حلت في الحجر الأسود حين زار مع زوجته بلاد الحجاز.

وكانت الصابئة من الفرس والكلدانيين يعدونها أحد البيوت السبعة المعظمة (١) وربما قيل : إنه بيت زحل لقدم عهده وطول بقائه.

وكانت الفرس يحترمون الكعبة أيضاً زاعمين أن روح هرمز حلت فيها ، وربما حجوا إليها زائرين.

وكانت اليهود يعظمونها ويعبدون الله فيها على دين إبراهيم ، وكان بها صور

__________________

١ ـ البيوت المعظمة هي : ١ ـ الكعبة ، ٢ ـ مارس على رأس جبل باصفهان ، ٣ ـ مندوسان ببلاد الهند ، ٤ ـ نوبهار بمدينة بلخ ، ٥ ـ بيت غمدان بمدينة صنعاء ، ٦ ـ كلوسان بمدينة فرغانة من خراسان ، ٧ ـ بيت بأعالي بلاد الصين.


وتماثيل منها تمثال إبراهيم وإسماعيل ، وبأيديهما الأزلام ومنها صورتا العذراء والمسيح ، ويشهد ذلك على تعظيم النصارى لامرها أيضاً كاليهود.

وكانت العرب أيضاً تعظمها كل التعظيم ، وتعدها بيتاً لله تعالى ، وكانوا يحجون إليها من كل جهة وهم يعدون البيت بناء لإبرهيم ، والحج من دينه الباقي بينهم بالتوارث.

ولاية الكعبة : كانت الولاية على الكعبة لاسماعيل ثم لولده من بعده حتى تغلبت عليهم جرهم فقبضوا بولايتها ثم ملكتها العماليق وهم طائفة من بني كركر بعد حروب وقعت بينهم ، وقد كانوا ينزلون أسفل مكة كما أن جرهم كانت تنزل أعلى مكة وفيهم ملوكهم.

ثم كانت الدائرة لجرهم على العماليق فعادت الولاية إليهم فتولوها نحواً من ثلاثمأة سنة ، وزادوا في بناء البيت ورفعته على ما كان في بناء إبراهيم.

ثم لما نشأت ولد إسماعيل وكثروا وصاروا ذوي قوة ومنعة وضاقت بهم الدار حاربوا جرهم فغلبوهم وأخرجوهم من مكة ، ومقدم الإسماعيليين يومئذ عمرو بن لحى ، وهو كبير خزاعة فاستولى على مكة وتولى أمر البيت ، وهو الذي وضع الأصنام على الكعبة ودعى الناس إلى عبادتها ، وأول صنم وضعه عليها هو ( هبل ) ، حمله معه من الشام إلى مكة ووضعه عليها ثم أتبعه بغيره حتى كثرت وشاعت عبادتها بين العرب ، وهجرت الحنيفية.

وفي ذلك يقول شحنة بن خلف الجرهمي يخاطب عمرو بن لحى.

يا عمرو إنك قد أحدثت آلهة

شتى بمكة حول البيت أنصاباً

وكان للبيت رب واحد أبداً

فقد جعلت له في الناس أرباباً

لتعرفن بأن الله في مهل

سيصطفي دونكم للبيت حجاباً

وكانت الولاية في خزاعة إلى زمن حليل الخزاعي فجعلها حليل من بعده لابنته وكانت تحت قصي بن كلاب ، وجعل فتح الباب وغلقها لرجل من خزاعة يسمى أبا غبشان الخزاعي فباعه أبو غبشان من قصي بن كلاب ببعير وزق خمر ، وفي ذلك يضرب المثل السائر ( أخسر من صفقة أبي غبشان ).

فانتقلت الولاية إلى قريش ، وجدد قصي بناء البيت كما قدمناه وكان الأمر على


ذلك حتى فتح النبي 6 مكة ، ودخل الكعبة وأمر بالصور والتماثيل فمحيت ، وأمر بالأصنام فهدمت وكسرت ، وقد كان مقام إبراهيم وهو الحجر الذي عليه أثر قدمي إبراهيم موضوعاً بمعجن في جوار الكعبة ثم دفن في محله الذي يعرف به الآن ، وهو قبة قائمة على أربعة أعمدة يقصدها الطائفون للصلاة.

وأخبار الكعبة وما يتعلق بها من المعاهد الدينية كثيرة طويلة الذيل اقتصرنا منها على ما تمسه حاجة الباحث المتدبر في آيات الحج والكعبة.

ومن خواص هذا البيت الذي بارك الله فيه وجعله هدى أنه لم يختلف في شأنه أحد من طوائف الاسلام.

* * *

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ـ ٩٨. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ـ ٩٩. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ـ ١٠٠. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ـ ١٠١.

( بيان )

الآيات كما ترى باتصال السياق تدل على أن أهل الكتاب ( فريق منهم وهم اليهود أو فريق من اليهود ) كانوا يكفرون بآيات الله ، ويصدون المؤمنين عن سبيل الله بارائته إياهم عوجاً غير مستقيم ، وتمثيل سبيل الضلال المعوج المنحرف سبيلاً لله


وذلك بإلقاء شبهات إلى المؤمنين يرون بها الحق باطلاً ، والباطل الذي يدعونهم إليه حقاً والآيات السابقة تدل على ما انحرفوا فيه من إنكار حلية كل الطعام قبل التوراة ، وإنكار نسخ استقبال بيت المقدس فهذه الآيات متممات للآيات السابقة المتعرضة لحل الطعام قبل التوراة ، وكون الكعبة أول بيت وضع للناس فهي تشتمل على الإنكار والتوبيخ لليهود في إلقائهم الشبهات وتفتينهم المؤمنين في دينهم ، وتحذير للمؤمنين أن يطيعوهم فيما يدعون إليه فيكفروا بالدين ، وترغيب وتحريص لهم أن يعتصموا بالله فيهتدوا إلى صراط الإيمان وتدوم هدايتهم.

وقد ورد عن زيد بن أسلم كما رواه السيوطي في لباب النقول على ما قيل (١) : أن شاش بن قيس ـ وكان يهودياً ـ مر على نفر من الأوس والخزرج يتحدثون فغاظه ما رأى من تألفهم بعد العداوة فأمر شاباً معه من اليهود أن يجلس بينهم فيذكرهم يوم بعاث ففعل ، فتنازعوا وتفاخروا حتى وثب رجلان. أوس بن قرظي من الأوس ، وجبار بن صخر من الخزرج فتقاولا وغضب الفريقان ، وتواثبوا للقتال فبلغ ذلك رسول الله 6 فجاء حتى وعظهم وأصلح بينهم فسمعوا وأطاعوا فأنزل الله في أوس وجبار : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ) ، الآية وفي شاش بن قيس : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ) الآية.

والرواية مختصرة مستخرجة مما رواه في الدر المنثور عن زيد بن أسلم مفصلاً وروي ما يقرب منها عن ابن عباس وغيره.

وكيف كان ، الآيات أقرب انطباقاً على ما ذكرنا منها على الرواية كما هو ظاهر ، على أن الآيات يذكر الكفر والإيمان ، وشهادة اليهود ، وتلاوة آيات الله على المؤمنين ، ونحو ذلك ، وكل ذلك لما ذكرناه أنسب ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم الآية ) البقرة ـ ١٠٩ ، فالحق كما ذكرنا أن الآيات متممة لسابقتها.

قوله تعالى : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ) « الخ » المراد بالآيات بقرينة وحدة السياق حلية الطعام قبل نزول التوراة ، وكون القبلة هي الكعبة في الاسلام.

__________________

١ ـ المجلد الرابع من تفسير المنار : سورة آل عمران ـ تفسير الآية.


قوله تعالى : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ) إلى قوله : عوجاً ، الصد الصرف ، وقوله : تبغونها أي تطلبون السبيل ، وقوله : عوجاً : العوج المعطوف المحرف ، والمراد طلب سبيل الله معوجاً من غير استقامة.

قوله تعالى : (وَأَنتُمْ شُهَدَاء) ، أي تعلمون أن الطعام كان حلاً قبل نزول التوراة وأن من خصائص النبوة تحويل القبلة إلى الكعبة ، وقد حاذى في عدهم شهداء في هذه الآية ما في الآية السابقة من عد نفسه تعالى شهيداً على فعلهم وكفرهم ، وفيه من اللطف ما لا يخفى فهم شهداء على حقية ما ينكرونه والله شهيد علي إنكارهم وكفرهم. ولما نسب الشهادة إليهم في هذه الآية أبدل ما ذيل به الآية السابقة أعني قوله : (وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ) من قوله في ذيل هذه الآية : (وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فأفاد ذلك أنهم شهداء على الحقية ، والله سبحانه شهيد على الجميع.

قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ) ـ إلى قوله ـ : وفيكم رسوله ، المراد بالفريق كما تقدم هم اليهود أو فريق منهم ، وقوله تعالى : (وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ ) وفيكم رسوله أي يمكنكم أن تعتصموا بالحق الذي يظهر لكم بالإنصات إلى آيات الله والتدبر فيها ثم الرجوع فيما خفي عليكم منها لقلة التدبر أو الرجوع ابتداء إلى رسوله الذي هو فيكم غير محتجب عنكم ولا بعيد منكم ، واستظهار الحق بالرجوع إليه ثم إبطال شبه القتها اليهود إليكم والتمسك بآيات الله وبرسوله والاعتصام بهما اعتصام بالله ؛ ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم.

فالمراد بالكفر في قوله : ( وكيف تكفرون الكفر بعد الإيمان ) ، وقوله وأنتم تتلى عليكم ، كناية من إمكان الاعتصام في الاجتناب عن الكفر بآيات الله وبرسوله ، وقوله : ويعتصم بالله ، بمنزلة الكبرى الكلية لذلك والمراد بالهداية إلى صراط مستقيم الاهتداء إلى إيمان ثابت وهو الصراط الذي لا يختلف ولا يتخلف أمره ، ويجمع سالكيه في مستواه ولا يدعهم يخرجون عن الطريق فيضلوا.

وفي تحقيق الماضي في قوله : فقد هدى ، مع حذف الفاعل دلالة على تحقق الفعل من غير شعور بفاعله.

ويتبين من الآية أن الكتاب والسنة كافيان في الدلالة على كل حق يمكن أن يضل فيه.


***

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ـ ١٠٢. وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ـ ١٠٣. وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ـ ١٠٤. وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ـ ١٠٥. يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ـ ١٠٦. وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ـ ١٠٧. تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ ـ ١٠٨. وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ـ ١٠٩. كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ـ ١١٠.


( بيان )

الآيات من تتمة ما خاطب به المؤمنين بالتحذير من أهل الكتاب وتفتينهم ، وأن عندهم ما يمكنهم أن يعتصموا به فلا يضلوا ولا يسقطوا في حفر المهالك ، وهي مع ذلك كلام اعتقبه كلام ، ولا تغير السياق السابق أعني أن التعرض لحال أهل الكتاب لم يختتم بعد ، والدليل على ذلك قوله تعالى بعد هذه الآيات : لن يضروكم إلا أذى « الخ ».

قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) ، قد مر فيما مر أن التقوى وهو نوع من الاحتراز إذا كان تقوى الله سبحانه كان تجنباً وتحرزاً من عذابه كما قال تعالى : (فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) البقرة ـ ٢٤ ، وذلك إنما يتحقق بالجري على ما يريده ويرتضيه فهو امتثال أوامره تعالى ، والانتهاء عن نواهيه ، والشكر لنعمه ، والصبر عند بلائه ، ويرجع الاخيران جميعاً إلى الشكر بمعنى وضع الشيء موضعه وبالجملة تقوى الله سبحانه أن يطاع ولا يعصى ويخضع له فيما أعطى أو منع.

لكنه إذا أخذ التقوى حق التقوى الذي لا يشوبه باطل فاسد من سنخه كان محض العبودية التي لا تشوبها إنية وغفلة ، وهي الطاعة من غير معصية ، والشكر من غير كفر والذكر من غير نسيان ، وهو الاسلام الحق أعني الدرجة العليا من درجاته ؛ وعلى هذا يرجع معنى قوله : ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون إلى نحو قولنا : ودوموا على هذه الحال ( حق التقوى ) حتى تموتوا.

وهذا المعنى غير ما يستفاد من قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) التغابن ـ ١٦ ، فإن هذه الآية في معنى أن لا تذروا التقوى في شيء مما تستطيعونه غير أن الاستطاعة تختلف باختلاف قوى الأشخاص وأفهامهم وهممهم ، ولا ريب أن حق التقوى بالمعنى الذي ذكرناه ليس في وسع كثير من الناس ، فإن في هذا المسير الباطني مواقف ومعاهد ومخاطر لا يعقلها إلا العالمون ، ودقائق ولطائف لا يتنبه لها إلا المخلصون ، فرب مرحلة من مراحل التقوى لا يصدق الفهم العامي بكونها مما تستطيعه النفس الإنسانية فيجزم بكونها غير مستطاعة وإن كان أهل التقوى الحقة خلفوها وراء ظهورهم ، وأقبلوا بهممهم على ما هو أشق وأصعب.

فقوله : (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) الآية كلام يتلقاه الأفهام المختلفة بمعان مختلفة على


حسب ما يطبقه كل فهم على ما يستطيعه صاحبه ثم يكون ذلك وسيلة ليفهم من هذه الآية أعني قوله : (اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) أن المراد أن يقعوا في صراط حق التقوى ، ويقصدوا نيل هذا المقام والشخوص والمثول فيه ، وذلك نظير الاهتداء إلى الصراط المستقيم الذي لا يتمكن منه إلا الأوحديون ، ومع ذلك يدعى إليه جميع الناس ، فيكون محصل الآيتين : (اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ـ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أن يندب جميع الناس ويدعوا إلى حق التقوى ثم يؤمروا بالسير إلى هذا المقصد ما قدروا واستطاعوا ، وينتج ذلك أن يقع الجميع في صراط التقوى إلا أنهم في مراحل مختلفة ، وعلى درجات مختلفة على طبق ما عندهم من الأفهام والهمم ، وعلى ما يفاض عليهم من توفيق الله وتأييده وتسديده ، فهذا ما يعطيه التدبر في معنى الآيتين.

ومنه يظهر : أن الآيتين غير مختلفتين بحسب المضمون ، ولا أن الآية الاولى أعني قوله : اتقوا الله حق تقاته الآية ، اريد بها عين ما اريد من قوله : (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) الآية ، بل الآية الاولى تدعو إلى المقصد والثانية تبين كيفية السلوك.

قوله تعالى : ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون الموت من الامور التكوينية التي هي خارجة عن حومة اختيارنا ، ولذلك يكون الأمر والنهي المتعلقان به وبأمثاله أمراً ونهياً تكوينيين كقوله : (فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ) البقرة ـ ٢٤٣ ، وقوله : (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) يس ـ ٨٢ ، إلا أنه ربما يجعل الأمر غير الاختياري مضافاً إلى أمر اختياري فيتركبان بنحو وينسب المركب إلى الاختيار فيتأتى الأمر والنهي الاعتباري حينئذ كقوله تعالى : (فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) البقرة ـ ١٤٧ ، وقوله : (وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ) هود ـ ٤٢ ، وقوله : (وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ) التوبة ـ ١١٩ ، وغير ذلك ، فإن أصل الكون لازم تكويني للإنسان لا أثر لاختياره فيه لكنه بارتباطه بأمر اختياري كالامتراء والكفر والتزام الصدق مثلاًً يعد أمراً اختيارياً فيؤمر به وينهى عنه أمراً ونهياً مولويين.

وبالجملة النهي عن الموت إلا مع الاسلام إنما هو لمكان عده اختيارياً ويرجع بالآخرة إلى الكناية عن لزوم التزام الاسلام في جميع الحالات ، حتى يقع الموت في واحدة من هذه الحالات فيكون الميت مات في حال الاسلام.

قوله تعالى : (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) ، ذكر سبحانه فيما مر


من قوله : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ) الآية أن التمسك بآيات الله وبرسوله ( الكتاب والسنة ) اعتصام بالله مأمون معه المتمسك المعتصم ، مضمون له الهدى ، والتمسك بذيل الرسول تمسك بذيل الكتاب فإن الكتاب هو الذي يأمر بذلك في مثل قوله : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) الحشر ـ ٧.

وقد بدل في هذه الآية الاعتصام المندوب إليه في تلك الآية بالاعتصام بحبل الله فأنتج ذلك أن حبل الله هو الكتاب المنزل من عند الله ، وهو الذي يصل ما بين العبد والرب ويربط السماء بالأرض ، وإن شئت قلت : إن حبل الله هو القرآن والنبي 6 فقد عرفت أن مآل الجميع واحد.

والقرآن وإن لم يدع إلا إلى حق التقوى والاسلام الثابت لكن غرض هذه الآية غير غرض الآية السابقة الآمرة بحق التقوى والموت على الاسلام فإن الآية السابقة تتعرض لحكم الفرد ، وهذه الآية تتعرض لحكم الجماعة المجتمعة والدليل عليه قوله : ( جميعاً ) وقوله : ( ولا تتفرقوا ) فالآيات تأمر المجتمع الاسلامي بالاعتصام بالكتاب والسنة كما تأمر الفرد بذلك.

قوله تعالى : (وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ) جملة إذ كنتم ، بيان لما ذكر من ، النعمة وعليه يعطف قوله : ( وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ).

والأمر بذكر هذه النعمة مبني على ما عليه دأب القرآن أن يضع تعليمه على بيان العلل والأسباب ، ويدعو إلى الخير والهدى من وجهه من غير أن يأمر بالتقليد العامي المعمى ، وحاشا التعليم الإلهي أن يهدي الناس إلى السعادة وهي العلم النافع والعمل الصالح ثم يأمر بالوقوع في تيه التقليد وظلمة الجهل.

لكن يجب أن لا يشتبه الأمر ولا يختلط الحال على المتدبر الباحث ، فالله سبحانه يعلم الناس حقيقة سعادتهم ، ويعلم الوجه فيها ليتبصروا بارتباط الحقائق بعضها ببعض ، وأن الجميع فائضة من منبع التوحيد مع وجوب إسلامهم لله لأنه الله رب العالمين

( ٣ ـ المزان ـ ٢٤)


واعتصامهم بحبله لأنه حبل الله رب العالمين كما يومي إليه ما في آخر الآيات من قوله : تلك آيات الله نتلوها عليك ، الآيتان.

وبالجملة هو أمرهم أن لا يقبلوا قولاً ، ولا يطيعوا أمراً إلا عن علم بوجهه ، ثم أمرهم بالتسليم المطلق لنفسه وبين وجهه أنه هو الله الذي يملكهم على الإطلاق فليس لهم إلا ما أراده فيهم وتصرف فيه منهم ، وأمرهم بالطاعة المطلقة لما يبلغه رسوله وبين وجهه بأنه رسول لا شأن له إلا البلاغ ، ثم يكلمهم بحقائق المعارف ، وبيان طرق السعادة ، وبيّن الوجه العام في جميع ذلك ليهتدوا إلى روابط المعارف ، وطرق السعادة فيتحققوا أصل التوحيد ، وليتأدبوا بهذا الأدب الإلهي فيتسلطوا على سبيل التفكر الصحيح ، ويعرفوا طريق التكلم الحق فيكونوا أحياء بالعلم أحراراً من التقليد ، ونتيجة ذلك أنهم لو عرفوا وجه الأمر في شيء من المعارف الثابتة الدينية أو ما يلحق بها أخذوا به ، ولو لم يعرفوا وقفوا عن الرد ورجعوا نيله بالبحث والتدبر من غير رد أو اعتراض بعد ثبوته.

وهذا غير أن يقال إن الدين موضوع على أن لا يقبل شيء حتى من الله ورسوله إلا عن دليل فإن ذلك من أسفه الرأي وأردأ القول ، ومرجعه إلى أن الله يريد من عباده أن يطالبوا الدليل بعد وجوده فإن ربوبيته وملكه أصل كل دليل على وجوب التسليم ونفوذ الحكم. ورسالة رسوله هو الدليل على أن ما يؤديه عن الله سبحانه فافهم ذلك ، أو مرجعه إلى إلغاء ربوبيته فيما يتصرف فيه بربوبيته وليس إلا التناقض ، والحاصل أن المسلك الاسلامي والطريق النبوي ليس إلا الدعوة إلى العلم دون التقليد على ما يزعمه هؤلاء المقلدة المتسمون بالناقدين.

ولعل الوجه في ذكر أن هذا المذكور نعمة ( نعمة الله عليكم ) هو الاشارة إلى ما ذكرناه أي إن الدليل على ما ندبناكم إليه من الاتحاد والاجتماع هو ما شاهدتموه من مرارة العداوة وحلاوة المحبة والالفة والاخوة والإشراف على حفرة النار والتخلص منها ، وإنما نذكركم بهذا الدليل لا لأن علينا أن نؤيد قولنا بما لولاه لم يكن حقاً فإنما قولنا حق سواء دللنا عليه أو لا ، بل لأن تعلموا أن ذلك نعمة منا عليكم فتعرفوا أن في هذا الاجتماع كسائر ما نندبكم إليه سعادتكم وراحتكم ومفازتكم.

وما ذكره تعالى من الدليلين أحدهما وهو قوله إذ كنتم أعداء مبتن على أصل


التجربة ، والثاني وهو قوله : وكنتم على شفا حفرة ، على طريقة البيان العقلي كما هو ظاهر.

وفي قوله : فأصبحتم بنعمته إخواناً تكرار للامتنان الذي يدل عليه قوله : (وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ) ، والمراد بالنعمة هو التأليف ، فالمراد بالاخوّة التي توجده وتحققه هذه النعمة أيضاً تألف القلوب فالاخوة هاهنا حقيقة ادعائية.

ويمكن أن يكون إشارة إلى ما يشتمل عليه قوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) الآية ـ الحجرات ـ ١٠ ، من تشريع الاخوة بينهم فإن بين المؤمنين أُخوّة مشرعة تتعلق بها حقوق هامة.

قوله تعالى : (وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ) ، شفا الحفرة طرفها الذي يشرف على السقوط فيها من كان به.

والمراد من النار إن كان نار الآخرة ، فالمراد بكونهم على شفا حفرتها أنهم كانوا كافرين ليس بينهم وبين الوقوع فيها إلا الموت الذي هو أقرب إلى الإنسان من سواد العين إلى بياضها فأنقذهم الله منها بالإيمان.

وإن كان المراد بيان حالهم في مجتمعهم الفاسد الذي كانوا فيه قبل إيمانهم وتألف قلوبهم ، وكان المراد بالنار هي الحروب والمنازعات ـ وهو من الاستعمالات الشائعة بطريق الاستعارة ـ فالمقصود أن المجتمع الذي بني على تشتت القلوب واختلاف المقاصد والأهواء ، ولا محالة لا يسير مثل هذا المجتمع بدليل واحد يهديهم إلى غاية واحدة بل بأدلة شتى تختلف باختلاف الميول الشخصية والتحكمات الفردية اللاغية التي تهديهم إلى أشد الخلاف والاختلاف ـ يشرفهم إلى أردأ التنازع ـ ويهددهم دائماً بالقتال والنزال ، ويعدهم الفناء والزوال ، وهي النار التي لا تبقى ولا تذر على حفرة الجهالة التي لا منجا ولا مخلص للساقط فيها.

فهؤلاء وهم طائفة من المسلمين كانوا آمنوا قبل نزول الآية بعد كفرهم ، وهم المخاطبون الأقربون بهذه الآيات لم يكونوا يعيشون مدى حيوتهم قبل الاسلام إلا في حال تهددهم الحروب والمقاتلات آناً بعد آن ، فلا أمن ولا راحة ولا فراغ ، ولم يكونوا يفقهون ما حقيقة الأمن العام الذي يعم المجتمع بجميع جهاتها من جاه ومال وعرض ونفس وغير ذلك.


ثم لما اجتمعوا على الاعتصام بحبل الله ، ولاحت لهم آيات السعادة ، وذاقوا شيئاً من حلاوة النعم وجدوا صدق ما يذكّرهم به الله من هنيء النعمة ولذيذ السعادة فكان الخطاب أوقع في نفوسهم ونفوس غيرهم.

ولذلك بني الكلام ووضعت الدعوة على أساس المشاهدة والوجدان دون مجرد التقدير والفرض فليس العيان كالبيان ، ولا التجارب كالفرض والتقدير ، ولذلك بعينه أشار في التحذير الآتي في قوله : (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ ) « الخ » إلى حال من قبلهم فإن مآل حالهم بمرأى ومسمع من المؤمنين فعليهم أن يعتبروا بهم وبما آل إليه أمرهم فلا يجروا مجراهم ولا يسلكوا مسلكهم.

ثم نبههم الله على خصوصية هذا البيان فقال : كذلك : (يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ).

قوله تعالى : (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) « الخ » التجربة القطعية تدل على أن المعلومات التي يهيئها الإنسان لنفسه في حياته ـ ولا يهيء ولا يدخر لنفسه إلا ما ينتفع به ـ من أي طريق هيأها وبأي وجه ادخرها تزول عنه إذا لم يذكرها ولم يدم على تكرارها بالعمل ، ولا نشك أن العمل في جميع شؤونه يدور مدار العلم يقوي بقوته ، ويضعف بضعفه ويصلح بصلاحه ، ويفسد بفساده ، وقد مثل الله سبحانه حالهما في قوله : (الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً ، الآية ) الأعراف ـ ٥٨.

ولا نشك أن العلم والعمل متعاكسان في التأثير فالعلم أقوى داع إلى العمل والعمل الواقع المشهود أقوى معلم يعلم الإنسان.

وهذا الذي ذكر هو الذي يدعو المجتمع الصالح الذي عندهم العلم النافع والعمل الصالح أن يتحفظوا على معرفتهم وثقافتهم ، وأن يردوا المتخلف عن طريق الخير المعروف عندهم إليه ، وأن لا يدعوا المائل عن طريق الخير المعروف وهو الواقع في مهبط الشر المنكر عندهم أن يقع في مهلكة الشر وينهوه عنه.

وهذه هي الدعوة بالتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي التي يذكرها الله في هذه الآية بقوله : (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ).


ومن هنا يظهر السر في تعبيره تعالى عن الخير والشر بالمعروف والمنكر فإن الكلام مبني على ما في الآية السابقة من قوله : (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) « الخ ». ومن المعلوم أن المجتمع الذي هذا شأنه يكون المعروف فيه هو الخير ، والمنكر فيه هو الشر ، ولو لا العبرة بهذه النكتة لكان الوجه في تسمية الخير والشر بالمعروف والمنكر كون الخير والشر معروفاً ومنكراً بحسب نظر الدين لا بحسب العمل الخارجي.

وأما قوله : (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ ) فقد قيل : إن ( من ) للتبعيض بناء على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكذا الدعوة من الواجبات الكفائية.

وربما قيل : إن ( من ) بيانية والمراد منه ولتكونوا بهذا الاجتماع الصالح امة يدعون إلى الخير فيجري الكلام على هذا مجرى قولنا ليكن لي منك صديق أي كن صديقاً لي. والظاهر أن المراد بكون ( من ) بيانية كونها نشوئية ابتدائية.

والذي ينبغي أن يقال : أن البحث في كون من تبعيضية أو بيانية لا يرجع إلى ثمرة محصلة فإن الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر امور لو وجبت لكانت بحسب طبعها واجبات كفائية إذ لا معنى للدعوة والأمر والنهي المذكورات بعد حصول الغرض فلو فرضت الامة بأجمعهم داعية إلى الخير آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر كان معناه أن فيهم من يقوم بهذه الوظائف فالأمر قائم بالبعض على أي حال ، والخطاب إن كان للبعض فهو ذاك ، وإن كان للكل كان أيضاً باعتبار البعض ، وبعبارة اخرى المسؤول بها الكل والمثاب بها البعض ، ولذلك عقبه بقوله : وأولئك هم المفلحون فالظاهر أن من تبعيضية ، وهو الظاهر من مثل هذا التركيب في لسان المحاورين ولا يصار إلى غيره إلا بدليل.

واعلم أن هذه الموضوعات الثلاثة أعني الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذوات أبحاث تفسيرية طويلة عميقة سنتعرض لها في موضع آخر يناسبها إنشاء الله تعالى. وكذا ما يتعلق بها من الأبحاث العلمية والنفسية والاجتماعية.

قوله تعالى : (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ). لا يبعد أن يكون قوله : من بعد ما جائهم البينات متعلقاً بقوله : واختلفوا فقط وحينئذ كان المراد بالاختلاف التفرق من حيث الاعتقاد ، بالتفرق الاختلاف والتشتت


من حيث الأبدان وقدم التفرق على الاختلاف لأنه كالمقدمة المؤدية إليه لأن القوم مهما كانوا مجتمعين متواصلين اتصلت عقائد بعضهم ببعض واتحدت بالتماس والتفاعل ، وحفظهم ذلك من الاختلاف فإذا تفرقوا وانقطع بعضهم عن بعض أداهم ذلك إلى اختلاف المشارب والمسالك ، ولم يلبثوا دون أن يستقل أفكارهم وآرائهم بعضها عن بعض ، وبرز فيهم الفرقة ، وانشق عصا الوحدة فكأنه تعالى يقول : (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ بالأبدان ) أولاً ، وخرجوا من الجماعة ، وأفضاهم ذلك إلى اختلاف العقائد و الآراء أخيراً.

وقد نسب تعالى هذا الاختلاف في موارد من كلامه إلى البغي. قال تعالى : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) البقرة ـ ٢١٣ ، مع أن ظهور الاختلاف في العقائد والآراء ضروري بين الأفراد لاختلاف الأفهام لكن كما أن ظهور هذا الاختلاف ضروري كذلك دفع الاجتماع لذلك ، ورده المختلفين إلى ساحة الاتحاد أيضاً ضروري فرفع الاختلاف ممكن مقدور بالواسطة ، وإعراض الامة عن ذلك بغي منهم ، وإلقاء لأنفسهم في تهلكة الاختلاف.

وقد أكد القرآن الدعوة إلى الاتحاد ، وبالغ في النهي عن الاختلاف ؛ وليس ذلك إلا لما كان يتفرس من أمر هذه الأمة ، أنهم سيختلفون كالذين من قبلهم بل يزيدون عليهم في ذلك ، وقد تقدم مراراً أن من دأب القرآن أنه إذا بالغ في التحذير عن شيء والنهي عن اقترافه كان ذلك آية وقوعه وارتكابه ، وهذا أمر أخبر به النبي 6 أيضاً كما أخبر به القرآن وأن الاختلاف سيدب في أمته ثم يظهر في صورة الفرق المتنوعة ، وأن امته ستختلف كما اختلفت اليهود والنصارى من قبل وسيجيء الرواية في البحث الروائي.

وقد صدق جريان الحوادث هذه الملحمة القرآنية فلم تلبث الامة بعد رسول الله 6 دون أن تفرقوا شذر مدر ، واختلفوا في مذاهب شتى بعضهم يكفر بعضاً من لدن عصر الصحابة إلى يومنا هذا ، وكلما رام أحد أن يوفق بين مختلفين منها أولد ذلك مذهباً ثالثاً.

والذي يهدينا إليه البحث بالتحليل والتجزية أن أصل هذا الاختلاف ينتهي إلى المنافقين الذين يغلظ القرآن القول فيهم وعليهم ويستعظم مكرهم وكيدهم فإنك لو


تدبرت ما يذكره الله تعالى في حقهم في سور البقرة والتوبة والأحزاب والمنافقين وغيرها لرأيت عجباً ، وكان هذا حالهم في عهد رسول الله 6 ولما ينقطع الوحي ثم لما توفاه الله غاب ذكرهم وسكنت أجراسهم دفعة.

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر.

ولم يلبث الناس دؤن أن وجدوا أنفسهم وقد تفرقوا أيادي سبا ، وباعدت بينهم شتى المذاهب ، واستعبدتهم حكومات التحكم والاستبداد ، وأبدلوا سعادة الحيوة بشقاء الضلال والغي. والله المستعان ، والمرجو من فضل الله أن يوفقنا لاستيفاء هذا البحث في تفسير سورة البرائة إنشاء الله.

قوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) إلى آخر الآيتين ، لما كان المقام مقام الكفر بالنعمة وهو نظير الخيانة مما يوجب خسة الانفعال والخجل ذكر سبحانه من بين أنواع عذاب الآخرة ما يناسبها بحسب التمثيل وهو سواد الوجه الذي يكنى به في الدنيا عن الانفعال والخجل ونحوهما كما يشعر أو يدل على ذلك قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ).

وكذا ذكر من ثواب الشاكرين لهذه النعمة ما يناسب الشكر وهو بياض الوجه المكنى به في الدنيا عن الارتضاء والرضا.

قوله تعالى : (تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) ، الظرف متعلق بقوله : نتلوها ، والمراد كون التلاوة تلاوة حق من غير أن يكون باطلاً شيطانياً ، أو متعلق بالآيات باستشمام معنى الوصف فيه أو مستقر متعلق بمقدر ، والمعنى أن هذه الآيات الكاشفة عن ما يصنع الله بالطائفتين : الكافرين والشاكرين مصاحبة للحق من غير أن تجري على نحو الباطل والظلم ، وهذا الوجه أوفق لما يتعقبه من قوله : (وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً).

قوله تعالى : (وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ) ، تنكير الظلم وهو في سياق النفي يفيد الاستغراق وظاهر قوله للعالمين وهو جمع محلى باللام أن يفيد الاستغراق ، والمعنى على هذا أن الله لا يريد ظلماً أي ظلم فرض لجميع العالمين ، وكافة الجماعات ، وهو كذلك فإنما التفرق بين الناس أمر يعود أثره المشؤوم إلى جميع العالمين وكافة الناس.

قوله تعالى : (وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ) ، لما ذكر أن


الله لا يريد الظلم علل ذلك بما يزول معه توهم صدور الظلم فذكر أن الله تعالى يملك جميع الأشياء من جميع الجهات فله أن يتصرف فيها كيف يشاء فلا يتصور في حقه التصرف فيما لا يملكه حتى يكون ظلماً وتعدياً.

على أن الشخص إنما ينحو الظلم إذا كان له حاجة لا يتمكن من رفعها إلا بالتعدي على ما لا يملكه والله الغني الذي له ما في السموات والأرض هذا ما قرره بعضهم لكنه لا يلائم ظاهر الآية فإن هذا الجواب يبتني بالحقيقة على غناه تعالى دون ملكه ، والمذكور في الآية هو الملك دون الغنى ، وكيف كان فملكه دليل أنه تعالى ليس بظالم.

وهناك دليل آخر وهو أن مرجع جميع الامور أياً ما كانت إليه تعالى فليس لغيره تعالى من الأمر شيء حتى يسلبه الله عنه وينتزعه من يده ويجري فيه إرادة نفسه فيكون بذلك ظالماً وهذا هو الذي يشير إليه قوله : (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ).

والوجهان كما ترى متلازمان أحدهما مبني على أن كل شيء له تعالى والثاني مبني على أن شيئاً من الامور ليس لغيره تعالى.

قوله تعالى : كنتم خير أُمة أُخرجت للناس ، المراد بإخراج الامة للناس ( والله أعلم ) إظهارها لهم ، ومزية هذه اللفظة ( الاخراج ) أن فيها إشعاراً بالحدوث والتكون قال تعالى : (الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى ) الاعلى ـ ٤ ، والخطاب للمؤمنين فيكون قرينة على أن المراد بالناس عامة البشر والفعل أعني قوله : كنتم منسلخ عن الزمان ـ على ما قيل ـ والامة إنما تطلق على الجماعة والفرد لكونهم ذوي هدف ومقصد يؤمرونه ويقصدونه وذكر الإيمان بالله بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من قبيل ذكر الكل بعد الجزء أو الأصل بعد الفرع.

فمعنى الآية أنكم معاشر المسلمين خير امة أظهرها الله للناس بهدايتها لأنكم على الجماعة تؤمنون بالله وتأتون بفريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن المعلوم أن انبساط هذا التشريف على جميع الامة لكون البعض متصفين بحقيقة الإيمان والقيام بحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا محصل ما ذكروه في المقام.

والظاهر ( والله أعلم ) أن قوله كنتم غير منسلخ عن الزمان ، والآية تمدح حال


المؤمنين في أول ظهور الإسلام من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، والمراد الإيمان هو الإيمان بدعوة الاجتماع على الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق فيه في مقابل الكفر به على ما يدل عليه قوله قبل : (أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ) الآية ، وكذا المراد بإيمان أهل الكتاب ذلك أيضاً فيؤول المعنى إلى أنكم معاشر امة الإسلام كنتم في أول ما تكوّنتم وظهرتم للناس خير امة ظهرت لكونكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتعتصمون بحبل الله متفقين متحدين كنفس واحدة ، ولو كان أهل الكتاب على هذا الوصف أيضاً لكان خيراً لهم لكنهم اختلفوا منهم امة مؤمنون وأكثرهم فاسقون.

وأعلم أن في الآيات موارد من الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ومن خطاب الجمع إلى خطاب المفرد وبالعكس ، وفيها موارد من وضع الظاهر موضع الضمير كتكرر لفظ الجلالة في عدة مواضع ، والنكتة في الجميع ظاهرة للمتأمل.

( بحث روائي )

في المعاني وتفسير العياشي عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله 7 عن قول الله عز وجل : اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ قال : يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر.

وفي الدر المنثور أخرج الحاكم وابن مردويه من وجه آخر عن ابن مسعود قال : قال رسول الله 6 : اتقوا الله حق تقاته أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى.

وفيه أخرج الخطيب عن انس قال : قال رسول الله 6 : لا يتقي الله عبد حق تقاته حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

أقول : قد مر في البيان المتقدم كيفية استفادة معنى الحديثين الأولين من الآية وأما الحديث الثالث فإنما هو تفسير بلازم المعنى ، وهو ظاهر.

وفي تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب عن تفسير وكيع عن عبد خير قال : سألت علي بن أبي طالب عن قوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ) قال : والله ما عمل بها غير بيت رسول الله نحن ذكرناه فلا ننساه ، ونحن شكرناه فلن نكفره ، ونحن أطعناه فلم نعصه. فلما نزلت هذه الآية قال الصحابة لا نطيق ذلك فأنزل الله :

( ٣ ـ الميزان ـ ٢٥ )


(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) قال وكيع : ما أطقتم الحديث.

وفي تفسير العياشي عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله 7 عن قول الله : ( اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) ، قال : منسوخة ، قلت : وما نسختها ؟ قال : قول الله : (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).

أقول : ويستفاد من رواية وكيع أن المراد بالنسخ في رواية العياشي بيان مراتب التقوى ، وأما النسخ بمعناه المصطلح كما نقل عن بعض المفسرين فهو معنى يرده ظاهر الكتاب.

وفي المجمع عن الصادق 7 في الآية : وأنتم مسلمون بالتشديد.

وفي الدر المنثور في قوله تعالى : (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً) الآية أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله 6 : كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض.

وفيه أخرج ابن أبي شيبة عن أبي شريح الخزاعي قال قال رسول الله 6 : إن هذا القرآن سبب طرفه بيد الله ، وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تزالوا ولن تضلوا بعده أبداً.

وفي المعاني عن السجاد 7 في حديث : وحبل الله هو القرآن.

أقول : وفي هذا المعنى روايات اخرى من طرق الفريقين.

وفي تفسير العياشي عن الباقر 7 : آل محمد هم حبل الله الذي أمر بالاعتصام به فقال : (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ).

أقول : وفي هذا المعنى روايات اخر ؛ وقد تقدم في البيان ما يتأيد به معناها ، ويؤيدها أيضاً ما يأتي من الروايات.

وفي الدر المنثور أخرج الطبراني عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله 6 : إني لكم فرط ، وإنكم واردون علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين ؟ قيل : وما الثقلان يا رسول الله ؟ قال : الأكبر كتاب الله عز وجل سبب طرفه بيد الله ، وطرفه بأيديكم فتمسكوا به لن تزالوا ولن تضلوا ؛ والأصغر عترتي ، وإنهما لن يفترقا


حتى يردا عليّ الحوض. وسألت لهما ذاك ربي فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تعلموهما فإنهما أعلم منكم.

أقول : وحديث الثقلين من المتواترات التي أجمع على روايتها الفريقان ؛ وقد تقدم في أول السورة أن بعض علماء الحديث أنهى رواته من الصحابة إلى خمس وثلثين راوياً من الرجال والنساء ؛ وقد رواه عنهم جم غفير من الرواة وأهل الحديث.

وفي الدر المنثور أيضاً أخرج ابن ماجه وابن جرير وابن أبي حاتم عن ، انس قال : قال رسول الله 6 : افترقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة ، وإن أُمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة ، قالوا : يا رسول الله ومن هذه الواحدة ؟ قال : الجماعة ، ثم قال : (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً).

أقول : والرواية أيضاً من المشهورات ، وقد روتها الشيعة بنحو آخر كما في الخصال والمعاني والاحتجاج والأمالي وكتاب سليم بن قيس وتفسير العياشي واللفظ لما في الخصال بإسناده إلى سليمان بن مهران عن جعفر بن محمد عن آبائه عن أمير المؤمنين : قال : سمعت رسول الله 6 يقول : إن امة موسى افترقت بعده على إحدى وسبعين فرقة فرقة منها ناجية وسبعون في النار ، وافترقت امة عيسى بعده على اثنتين وسبعين فرقة ، فرقة منها ناجية ، وإحدى وسبعون في النار ، وإن امتي ستفترق بعدي على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة منها ناجية ، واثنتان وسبعون في النار.

أقول : وهي الموافقة لما يأتي.

وفي الدر المنثور أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله 7 : افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ؛ وتفترق امتي على ثلاث وسبعين فرقة.

أقول : وهذا المعنى مروي بطرق اخرى عن معاوية وغيره.

وفيه أخرج الحاكم عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله 6 : يأتي على امتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى لو كان فيهم من نكح امه علانية كان في امتي مثله إن بني إسرائيل افترقوا على بإحدى وسبعين ملة ، وتفترق امتي على


ثلاث وسبعين ملة ، كلها في النار إلا ملة واحدة ، فقيل له : ما الواحدة ؟ قال ما أنا عليه اليوم وأصحابي.

أقول : وعن جامع الاصول لابن الأثير عن الترمذي عن ابن عمرو بن العاص عن النبي 6 مثله.

وفي كمال الدين بإسناده عن غياث بن إبراهيم عن الصادق عن آبائه : قال : قال رسول الله 6 : كل ما كان في الامم السالفة فإنه يكون في هذه الامة مثله حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة.

وفي تفسير القمي عن النبي 6 : لتركبن سنة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة ، لا تخطؤون طريقهم ولا يخطى ، شبر بشبر ، وذراع بذراع ، وباع بباع ، حتى أن لو كان من قبلكم دخل جحر ضب لدخلتموه ، قالوا : اليهود والنصارى تعني يا رسول الله ؟ قال : فمن أعني ؟ لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة فيكون أول ما تنقضون من دينكم الأمانة ، وآخره الصلوة.

وعن جامع الاصول فيما استخرجه من الصحاح ، وعن صحيح الترمذي عن النبي 6 أنه قال : والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم ( وزاد رزين ) حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى إن كان فيهم من أتى امه يكون فيكم فلا أدري أتعبدون العجل أم لا ؟

أقول : وهذه الرواية أيضاً من المشهورات ، رواها أهل السنة في صحاحهم وغيرها ، وروتها الشيعة في جوامعهم.

وفي الصحيحين عن أنس أن رسول الله 6 قال : ليردن علي الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رفعوا اختلجوا دوني ، فلأقولن : أي رب أصحابي فليقالن : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.

وفي الصحيحين أيضاً عن أبي هريرة أن رسول الله 6 قال : يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي ـ أو قال من امتي ـ فيحلؤون عن الحوض فأقول : يا رب أصحابي فيقول : لا علم لك بما أحدثوا بعدك ارتدوا على أعقابهم القهقرى فيحلؤون.

أقول : وهذا الحديث أيضاً من المشهورات ؛ رواها الفريقان في صحاحهم


وجوامعهم عن عدة من الصحابة كابن مسعود وأنس وسهل بن ساعد وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وعائشة وام سلمة وأسماء بنت أبي بكر وغيرهم وعن بعض أئمة أهل البيت :.

والروايات على كثرتها وتفننها تصدق ما استفدناه من ظاهر الآيات الكريمة ، وتوالي الحوادث والفتن يصدق الروايات.

وفي الدر المنثور أخرج الحاكم وصححه عن ابن عمر أن رسول الله 6 قال : من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه حتى يراجعه ، ومن مات وليس عليه إمام جماعة فإن موتته ميتة جاهلية.

أقول : والرواية أيضاً من المشهورات مضموناً ؛ وقد روى الفريقان عنه 6 أنه قال : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية.

وعن جامع الاصول من الترمذي وسنن أبي داود عن النبي 6 : لا تزال طائفة من امتي على الحق.

وفي المجمع : في قوله تعالى : (أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ الآية ) عن أمير المؤمنين 7 : هم أهل البدع والأهواء والآراء الباطلة من هذه الامة.

وفيه وفي تفسير العياشي في قوله تعالى : كنتم خير امة اخرجت للناس الآية عن أبي عمرو الزبيري عن الصادق 7 قال : يعني الامة التي وجبت لها دعوة إبراهيم ؛ وهم الامة التي بعث الله فيها ومنها واليها ؛ وهم الامة الوسطى ، وهم خير امة أُخرجت للناس.

أقول : وقد مر الكلام في توضيح معنى الرواية في تفسير قوله تعالى : (وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ) البقرة ـ ١٢٨.

وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر كنتم خير امة اخرجت للناس قال : أهل بيت النبي 6.

وفيه أخرج أحمد بسند حسن عن علي ، قال : قال رسول الله 6 : اعطيت ما لم


يعط أحد من الأنبياء : نصرت بالرعب ، واعطيت مفاتيح الأرض ، وسميت أحمد ، وجعل التراب لي طهوراً ، وجعلت امتي خير الامم.

لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ـ ١١١. ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ـ ١١٢. لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ـ ١١٣. يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ـ ١١٤. وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ـ ١١٥. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ـ ١١٦. مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ـ ١١٧. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي


صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ـ ١١٨. هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ـ ١١٩. إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ـ ١٢٠.

( بيان )

الآيات الكريمة ـ كما ترى ـ تنعطف إلى ما كان الكلام فيه قبل من التعرض لحال أهل الكتاب وخاصة اليهود في كفرهم بآيات الله وإغوائهم أنفسهم ، وصدهم المؤمنين عن سبيل الله ، وإنما كانت الآيات العشر المتقدمة من قبيل الكلام في طي الكلام ، فاتصال الآيات على حاله.

قوله تعالى : (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى ) « الخ » الأذى ما يصل إلى الحيوان من الضرر : إما في نفسه أو جسمه أو تبعاته دنيوياً كان أو أخروياً على ما ذكره الراغب مفردات القرآن.

قوله تعالى : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ ) ، الذلة بناء نوع من الذل ، والذل بالضم ما كان عن قهر ، وبالكسر ما كان عن تصعب وشماس على ما ذكره الراغب ، ومعناه العام حال الانكسار والمطاوعة ، ويقابله العز وهو الامتناع.

وقوله : ثقفوا أي وجدوا ، والحبل السبب الذي يوجب التمسك به العصمة ؛ وقد استعير لكل ما يوجب نوعاً من الأمن والعصمة والوقاية كالعهد والذمة والأمان ، والمراد ( والله أعلم ) : أن الذلة مضروبة عليهم كضرب السكة على الفاز أو كضرب


الخيمة على الإنسان فهم مكتوب عليهم أو مسلط عليهم الذلة إلا بحبل وسبب من الله ، وحبل وسبب من الناس.

وقد كرر لفظ الحبل بإضافته إلى الله وإلى الناس لاختلاف المعنى بالاضافة فانه من الله القضاء والحكم تكويناً أو تشريعاً ، ومن الناس البناء والعمل.

والمراد بضرب الذلة عليهم القضاء التشريعي بذلتهم ، والدليل على ذلك قوله : أينما ثقفوا فإن ظاهر معناه أينما وجدهم المؤمنون أي تسلطوا عليهم ، وهو إنما يناسب الذلة التشريعية التي من آثارها الجزية.

فيؤول معنى الآية إلى أنهم أذلاء بحسب حكم الشرع الإسلامي إلا أن يدخلوا تحت الذمة أو أمان من الناس بنحو من الأنحاء.

وظاهر بعض المفسرين أن قوله : ضربت عليهم الذلة ، ليس في مقام تشريع الحكم بل إخبار عن ما جرى عليه أمرهم بقضاء من الله وقدر فإن الإسلام أدرك اليهود وهم يؤدون الجزية إلى المجوس ، وبعض شعبهم كانوا تحت سلطة النصارى.

وهذا المعنى لا بأس به وربما أيده ذيل الكلام إلى آخر الآية فإنه ظاهر في أن السبب في ضرب الذلة والمسكنة عليهم ما كسبته أيديهم من الكفر بآيات الله ، وقتل الأنبياء ، والاعتداء المستمر إلا أن لازم هذا المعنى اختصاص الكلام في الآية باليهود ولا مخصص ظاهراً وسيجيء في ذلك كلام في تفسير قوله تعالى : (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء ) المائدة ـ ٦٤.

قوله تعالى : (بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ) ، بائوا أي اتخذوا مبائة ومكاناً ، أو رجعوا ، والمسكنة أشد الفقر ، والظاهر أن المسكنة أن لا يجد الإنسان سبيلاً إلى النجاة والخلاص عما يهدده من فقر أو أي عدم ، وعلى هذا فيتلائم معنى الآية صدراً وذيلاً.

قوله تعالى : (ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ) ، والمعنى أنهم عصوا وكانوا قبل ذلك يستمرون على الاعتداء.

قوله تعالى : (لَيْسُواْ سَوَاء ) ـ إلى قوله ـ بالمتقين ، السواء مصدر اريد به معنى


الوصف أي ليسوا مستوين في الوصف والحكم فإن منهم امة قائمة يتلون آيات الله « الخ » ومن هنا يظهر أن قوله : من أهل الكتاب « الخ » في مقام التعليل يبين به وجه عدم استواء أهل الكتاب.

وقد اختلف في قوله قائمة فقيل أي ثابتة على أمر الله ، وقيل : أي عادلة ، وقيل : أي ذو امة قائمة أي ذو طريقة مستقيمة ، والحق أن اللفظ مطلق يحتمل الجميع غير أن ذكر الكتاب وذكر أعمالهم الصالحة يعين أن المراد هو القيام على الإيمان والطاعة.

والآناء جمع إني بكسر الهمزة أو فتحها ، وقيل : إنو وهو الوقت.

والمسارعة المبادرة وهي مفاعلة من السرعة قال في المجمع ، والفرق بين السرعة والعجلة أن السرعة هي التقدم فيما يجوز أن يتقدم فيه ، وهي محمودة ، وضدها الإبطاء ، وهو مذموم ، والعجلة هي التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه وهي مذمومة ، وضدها الأناة وهي محمودة ، انتهى ، والظاهر أن السرعة في الأصل وصف للحركة ، والعجلة وصف للمتحرك.

والخيرات مطلق الأعمال الصالحة من عبادة أو إنفاق أو عدل أو قضاء حاجة وهو جمع محلى باللام ؛ ومعناه الاستغراق ، ويكثر إطلاقه على الخيرات المالية كما أن الخير يكثر إطلاقه على المال.

وقد عد الله سبحانه لهم جمل مهمات الصالحات ، وهي الإيمان ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والمسارعة في كل خير ، ثم وصفهم بأنهم صالحون فهم أهل الصراط المستقيم وزملاء النبيين والصديقين والشهداء لقوله تعالى : (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) الحمد ـ ٧ ، وقوله تعالى : (فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ الآية ) النساء ـ ٦٩ ، قيل : المراد بهؤلاء الممدوحين عبد الله بن سلام وأصحابه.

قوله تعالى : (وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ) ، من الكفران مقابل الشكر أي يشكر الله لهم فيرده إليهم من غير ضيعة كما قال تعالى : (وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ


شَاكِرٌ عَلِيمٌ) البقرة ـ ١٥٨ ، وقال : (وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ ـ إلى أن قال ـ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ) البقرة ـ ٢٧٢.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ) ، ظاهر وحدة السياق أن المراد بهؤلاء ، الذين كفروا هم الطائفة الاخرى من أهل الكتاب الذين لم يستجيبوا دعوة النبوة ، وكانوا يوطؤون على الإسلام ، ولا يألون جهداً في إطفاء نوره.

وربما قيل : إن الآية ناظرة إلى حال المشركين فتكون التوطئة لما سيشير إليه من قصة أُحد لكن لا يلائمه ما سيأتي من قوله : وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا « الخ » فإن ذلك بيان لحال اليهود مع المسلمين دون حال المشركين ، ومن هناك يظهر أن اتصال السياق لم ينقطع بعد.

وربما جمع بعض المفسرين بين حمل هذه الآية على المشركين وحمل تلك على اليهود وهو خطأ.

قوله تعالى : (مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) الآية الصر البرد الشديد ، وإنما قيد الممثل بقوله : في هذه الحيوة الدنيا ليدل على أنهم منقطعون عن الدار الآخرة فلا يتعلق إنفاقهم إلا بهذه الحيوة ، وقيد حرث القوم بقوله : ظلموا أنفسهم ليحسن ارتباطه بقوله بعده وما ظلمهم الله.

ومحصل الكلام أن إنفاقهم في هذه الحيوة وهم يريدون به إصلاح شأنهم ونيل مقاصدهم الفاسدة لا يثمر لهم إلا الشقاء ، وفساد ما يريدونه ويحسبونه سعادة لأ نفسهم كالريح التي فيها صر تهلك حرث الظالمين ، وليس ذلك إلا ظلماً منهم لأنفسهم فإن العمل الفاسد لا يأتي إلا بالأثر الفاسد.

قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ) الآية سميت الوليجة بطانة وهي ما يلي البدن من الثوب وهي خلاف الظهارة لكونها تطلع على باطن الإنسان وما يضمره ويستسره ، وقوله : لا يألونكم أي لا يقصرون فيكم ، وقوله : خبالاً أي شراً وفساداً ، ومنه الخبل للجنون لأنه فساد العقل ، وقوله : ودوا ما عنتّم ، ما مصدرية أي ودوا وأحبوا عنتكم وشدة ضرركم ، وقوله : قد بدت البغضاء من أفواههم أُريد به ظهور البغضاء والعداوة من لحن قولهم وفلتات لسانهم ففيه استعارة


لطيفة وكناية ، ولم يبين ما في صدورهم بل أبهم قوله : وما تخفي صدورهم أكبر للإيماء إلى أنه لا يوصف لتنوعه وعظمته وبه يتأكد قوله : أكبر.

قوله تعالى : (هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ ) الآية ، الظاهر أن اولاء اسم إشارة ولفظة ها للتنبيه ، وقد تخلل لفظة أنتم بين ها واولاء ، والمعنى أنتم هؤلاء على حد قولهم زيد هذا وهند هذه كذا وكذا.

وقوله : وتؤمنون بالكتاب كله ، اللام للجنس أي وأنتم تؤمنون بجميع الكتب السماوية النازلة من عند الله : كتابهم ، وكتابكم وهم لا يؤمنون بكتابكم ، وقوله ، وإذا لقوكم قالوا آمنا ، أي إنهم منافقون ، وقوله : وإذا خلوا عصوا عليكم الأنامل من الغيظ العض هو الأخذ بالأسنان مع ضغط ، والأنامل جمع أنملة وهي طرف الاصبع والغيظ هو الحنق وعض الانامل على شيء مثل يضرب للتحسر والتأسف غضباً وحنقاً.

وقوله : قل موتوا بغيظكم دعاء عليهم في صورة الأمر وبذلك تتصل الجملة بقوله : إن الله عليم بذات الصدور أي اللهم امتهم بغيظهم إنك عليم بذات الصدور أي القلوب أي النفوس.

قوله تعالى : (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ) ، المسائة خلاف السرور ، وفي الآية دلالة على أن الأمن من كيدهم مشروط بالصبر والتقوى.



الفهرس


رقم الآيات

موضوع البحث

نوع البحث

رقم الصفحة

١-٦

كلام في معنى العذاب في القرآن

بحث قرآني

١٠

٩-٧

كلام تفصيلي في المحكم والمتشابه والتأويل في عدة فصول.

بحث قرآني

٣١

٩-٧

١ ـ المحكم والمتشابه

بحث قرآني

٣٢

٩-٧

٢ ـ ما معنى كون المحكمات ام الكتاب؟

بحث قرآني

٤٣

٩-٧

٣ ـ ما معنى التأويل ؟

بحث قرآني

٤٤

٩-٧

٤ ـ هل يعلم تأويل القرآن غير الله سبحانه ؟

بحث قرآني

٤٩

٩-٧

٥ ـ ما هو السبب في اشتمال الكتاب على المتشابه

بحث قرآني

٥٦

٩-٧

نتائج هذه الابحاث وهي عشرة

بحث قرآني

٦٣

٩-٧

في المراد من تفسير القرآن بالرأي وما هو حق التفسير؟

بحث قرآني وروائي

٧٥

٢٦-٢٧

معنى الرزق في القرآن

بحث قرآني

١٣٧

٢٦-٢٧

في معنى الملك واعتباره

بحث علمي

١٤٤

٢٦-٢٧

في استناد الملك وسائر الامور الإعتبارية إليه تعالى

بحث فلسفي

١٤٩

٣٥-٤١

كلام في الخواطر الملكية والشيطانية وما يلحق بهما من التكليم

بحث قرآني

١٨٥

٤٢-٦٠

في معنى التحديث

بحث روائي

٢٢٨

المباهلة مع نصارى نجران

بحث روائي

٢٢٩

خاتمة فيها فصول

٧٩-٨٠

١ـ ما هي قصة عيسى وامه في القرآن؟

بحث قرآني

٢٧٩

٧٩-٨٠

٢ ـ منزلة عيسى عند الله وموقفه في نفسه.

بحث قرآني

٢٨١

٧٩-٨٠

٣ ـ ما الذي قاله عيسى ؟ وما الذي قيل فيه؟

بحث قرآني

٢٨٢

٧٩-٨٠

٤ ـ احتجاج القرآن على مذهب التثليث

بحث قرآني

٢٨٧


رقم الآيات

موضوع البحث

نوع البحث

رقم الصفحة

٧٩-٨٠

٥ ـ المسيح من الشفعاء عند الله وليس بفاد

بحث قرآني

٢٩١

٧٩-٨٠

٦ ـ من أين نشأ هذه الآراء ؟

بحث قرآني

٣٠٥

٧٩-٨٠

٧ ـ ما هو الكتاب الذي ينتسب إليه أهل الكتاب وكيف هو ؟

بحث قرآني

٣٠٦

٧٩-٨٠

بحث تاريخي

١ ـ قصة التوارة الحاضرة.

بحث قرآني

٣٠٨

٧٩-٨٠

٢ ـ قصة المسيح والإنجيل

بحث قرآني

٣١٠

٧٩-٨٠

الأناجيل الأربعة

بحث قرآني

٣١١

٧٩-٨٠

إنجيل برنابا

بحث قرآني

٣١٥

٧٩-٨٠

انسعاب الكنائي

بحث قرآني

٣٢٦

٩٦-٩٧

ملخص تاريخ الكعبة

بحث قرآني

٣٥٨

٩٦-٩٧

بنائها.

بحث قرآني

٣٦٠

٩٦-٩٧

شكلها.

بحث قرآني

٣٦١

٩٦-٩٧

منززلتها.

بحث قرآني

٣٦١

٩٦-٩٧

ولايتها.

بحث قرآني

٣٦٢

الميزان في تفسير القرآن - ٣

المؤلف: السيد محمد حسين الطباطبائي
الصفحات: 391