



بسم الله
الرحمن الرحيم
المقدمة :
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام علىٰ سيد الأنبياء والمرسلين
أبي القاسم محمّد وآله الطيّبين الطاهرين .
وبعد ، فإنّ ممّا أطبق عليه المسلمون بشتّىٰ طوائفهم ومذاهبهم هو أنّ
كتاب الله وسنّة رسوله هما المصدران الأوّلان لمعرفة الاحكام الشرعية والتكاليف المناطة بالفرد المسلم ، ولا يهمنا في محلّ كلامنا هنا الاختلاف بعد ذلك في باقي مصادر التشريع الإسلامي ، إذ المراد هنا هو إلقاء الضوء علىٰ السنّة النبويّة الشريفة ومداليلها الشرعية وتبيانها لتفاصيل مرادات الشارع المقدس من كتاب الله المجيد .
وللأهمية البالغة للسنّة المباركة حرص المسلمون ـ والشيعة الإماميّة منهم قبل باقي الطوائف ـ علىٰ تدوينها والحفاظ عليها ، حتّىٰ أنّهم
كانوا يضربون آباط الإبل ويقطعون الفيافي من أجل العثور علىٰ حديث من
أحاديث البشير النذير .
وإذا كان تدوين السنّة الشريفة قد تعثّر شوطاً طويلاً عند أبناء العامّة من المسلمين ، ومن بعد ذلك دوّنت تحت ضغوط وتأثيرات الحكّام والسلطات ، فإنّ التدوين عند الإمامية اتّخذ شكلاً مستقلّاً عن الحكومات ، وفي وقت مبكّر من عصر الإسلام .
ولذلك نجد بصمات الاستقلال ـ وعدم التأثّر بالمؤثّرات الحكوميّة والسياسية والعنصرية والعصبية القبليّة ـ واضحة المعالم في مدوّنات الإماميّة للسنّة الشريفة ، كما نلمس بوضوح آثار منقولات أهل البيت عن رسول الله صلىاللهعليهوآله دون المنقولات عمّن لا يمتّ للتدوين بصلة إلّا بنحو بعيد وبعد زمان متطاول .
فقد حرص أئمّة أهل البيت بدءاً من الإمام علي بن أبي طالب عليهالسلام ، وانتهاءً بالإمام الحجة بن الحسن عليهالسلام ، علىٰ نقل أحاديث النبيّ صلىاللهعليهوآله وسنّته علىٰ وجهها التامّ دون أيّ تغيير ، بل جهدوا في بيان وتصحيح التحريفات والانحرافات والتصحيفات وسوء الفهم الّذي وقع عند عامة المسلمين ، ففهموا الأحاديث علىٰ غير وجهها الصحيح .
هذا من جهة ، ومن جهة أخرىٰ فإنّ أئمة آل محمّد عليهمالسلام وضعوا قواعد وقوانين إسلامية ثابتة لمعرفة الحديث ، صحيحه من سقيمه ، والمعوّل عليه من المطرّح ، وما صدر فعلاً عن النبيّ صلىاللهعليهوآله وما تقوِّل فيه عليه .
وقد تمخّض ذلك المسير العلميّ الطويل عن بروز أربعمائة أصل من الأصول المعوّل عليها إجمالاً في الأحاديث النبوية التي نقلها أهل البيت للمسلمين
، ومن ثمّ تناقلتها عنهم الأجيال .
وبعد ذلك ، تلخّصت زُبدة تلك الأصول الأربعمائة في الكتب الحديثية الأربعة التي عُني بجمع شتاتها وتبويبها المحمّدون الثلاثة في كتاب الكافي ومن لا يحضره الفقيه والتهذيب والاستبصار .
الاستبصار من
الكتب الأربعة :
وإذا لاحظنا هذه الأسفار الحديثية النفيسة ، وجدناها تترتب وفق التسلسل الزمني لتأليفها علىٰ النحو التالي :
١ ـ الكافي : لثقة الإسلام أبي جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني ، المتوفّىٰ سنة ٣٢٩ هـ.
٢ ـ من لا يحضره الفقيه : لأبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي ، المتوفّىٰ سنة ٣٨١ هـ.
٣ ـ تهذيب الأحكام في شرح المقنعة : لشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي المتوفّىٰ سنة ٤٦٠ هـ.
٤ ـ الاستبصار فيما اختلف من الأخبار : لشيخ الطائفة أيضاً .
فمن هذا الترتيب يظهر جليّاً أنّ الاستبصار هو آخر الكتب الأربعة تأليفاً ، إذ أنّه يقع زمنيّاً بعد كتاب تهذيب الأحكام ، وقد صرّح شيخ الطائفة نفسه فيه بأنّه ألّفه بعد التهذيب ، فأحال علىٰ التهذيب في عدّة مواضع منه .
والّذي نريد أن نقوله هنا هو : إنّنا ـ عندما دقّقنا النظر في علّة تأليف شيخ الطائفة للاستبصار بعد التهذيب ـ رأينا أنّ للشيخ عناية خاصّة بهذا المؤلّف النفيس ، ربّما يدركها الحاذق من خلال عنوان الكتاب ، إذ أنّ الغرض الأصلي للشيخ من كتابه الاستبصار هو بيان وجوه الجمع بين ما قد يبدو متعارضاً من الأحاديث الواردة عن أئمة أهل البيت ، وهو ما يسمّىٰ في
المصطلح الأصولي « بالتعارض البدوي » أو « التعارض غير
المستقر » ، وهذه ميزة انفرد بها الاستبصار من بين الكتب الأربعة ، وله قدم السبق في هذا الميدان من بينها .
ولا نكاد نبتعد عن الصواب إذا قلنا أنّ لتأخر الشيخ الطوسي عن سابِقَيه ، وتأخّر الاستبصار عن التهذيب ، دوراً فاعلاً في نضوج فكرة التأليف ، وتقدّم هذه المدوّنة ـ المتأخّرة زماناً ـ خطوة أو خطوات إلىٰ
الأمام من حيث النضوج العلمي ، فالكافي والفقيه والتهذيب كلها لم تضع في منهجها طريقة الجمع بين المختلف من الأخبار بالدرجة الأساسيّة ، فإن جاء شيء من ذلك فيها كان عرضيّاً ومن فيوضات الأقلام الشريفة لمؤلّفيها ، بخلاف كتاب الاستبصار الّذي جعل جُلّ همّه وغاية سعيه إلىٰ حلّ ما اختلف من الأخبار الواردة عن أهل البيت والخروج بنتيجة فقهيّة ، بعد الفراغ من النتيجة الترجيحية لرواية علىٰ أخرىٰ أو لطائفة من
المرويّات علىٰ طائفة أُخرىٰ .
كلّ هذا من حيث نفس منهجيّة الكتاب ، ومن حيثية أخرىٰ نرىٰ أهميّة هذا الكتاب من خلال عبقريّة مؤلّفه وإلمامه الواسع بمرويّات أهل البيت عليهمالسلام ، ومن خلال
كونه شيخَ الطائفة وفقيهها في زمانه ، وقد عرف واشتهر ـ بحقّ ـ بصواب استنباطاته وعلميّته الفائقة في تشخيص مرادات المعصوم من المرويّات ، حتّىٰ أنّ آرائه ما زالت حتّىٰ اليوم شاخصة
للعيان ينهل منها كلّ فقيه ، ويستفيد منها كلّ عالم ، فلا تضع يدك علىٰ كتاب من كتب الفقه الإماميّ إلّا وتطالعك آراء الشيخ الطوسي شامخة ، موضوعة موضع الاحترام ـ أخذاً وردّاً ـ من قبل الأعلام .
كلّ هذه الأمور مجتمعة تجعل لكيفيّة الجمع بين مختلفات الأخبار
عند الشيخ الطوسي أهميّة قصوىٰ وبرمجة رائعة في
الفقه الإمامي ، كما تضفي علىٰ كتاب الاستبصار مسحة اضافية من العبقريّة والإبداع ، لا نجدها في نظائره الثلاثة الاُخر .
ولذلك قال العلّامة الطهراني في حقّ الكتاب : الاستبصار فيما اختلف من الأخبار ، لشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن بن عليّ الطوسيّ . . . ، هو أحد الكتب الأربعة والمجاميع الحديثية التي عليها مدار استنباط الأحكام الشرعيّة عند الفقهاء الأثني عشرية منذ عصر المؤلف حتّىٰ اليوم . . . . غير أنّ هذا مقصور علىٰ ذكر ما اختلف فيه من الأخبار وطريق الجمع بينها ، والتهذيب جامع للخلاف والوفاق .
وقال السيّد حسن الصدر الكاظمي : وأمّا الاستبصار فهو بضعة من التهذيب ، أفردها مقتصراً علىٰ الأخبار المختلفة ، والجمع بينها بالقريب والغريب .
شروح الاستبصار
:
ولهذه الخصوصيّة المتطوّرة فكريّاً التي امتاز بها كتاب الاستبصار ـ مضافاً إلىٰ كونه ركناً من أركان الحديث الإمامي ـ عكف عليه العلماء قرنا بعد قرن بالشرح والتحشية والتعليق ، بعد الفراغ عن أنّ ما من عالم إمامي إلّا وهو ينتهل من معين هذا الكتاب الذي ضمّ بين دفّتيه كنوزاً من علوم ومرويات محمّد وآل محمّد عليهمالسلام .
قال العلّامة الطهراني : وهو [ أيّ الاستبصار ] أحد الكتب الأربعة
__________________
والمجاميع الحديثية التي عليها مدار استنباط الأحكام
الشرعيّة عند فقهاء الشيعة الإمامية الاثني عشرية منذ عصر مؤلّفه حتّىٰ اليوم ، ولذلك كثر شرّاحه والمعلّقون عليه منذ القرن الخامس إلىٰ الآن .
وقد ذكر ثلاث عشرة حاشية علىٰ الاستبصار ممّا عثر عليه هو بنفسه قدّس الله سرّه ، دون ما طمسته يد الزمان وأخفاه الحدثان ، وغير ما ذكره الطهراني من تعليقاته وحواشيه بأسماء خاصّة لا بعنوان الشرح والتعليقة .
وعلىٰ كلّ حال فإنّ الذي يهمّنا هنا هو شروح الاستبصار ، لأنّ ما نحن بصدد الكلام عنه هو أحد شروح الاستبصار ، فكان لا بُدّ من معرفة أهمّية ومحلّ هذا الشرح بين الشروح الاُخرىٰ ، وميزاته الّتي يمتاز بها عن باقي الشروح ، وأين يقع مكانه زمنيّاً من مراحل التطوّر والمواكبة في الفقه الإماميّ ، وشروحات الكتب الأربعة .
والذي نراه بارزاً وشاخصاً للعيان من أمّهات الشروح للاستبصار هي الشروح التالية :
١ ـ شرح الاستبصار : للعلّامة الفقيه السيّد محمّد بن عليّ بن الحسين الموسوي العاملي ( صاحب المدارك ) ، المتوفّىٰ سنة ١٠٠٩ هـ.
٢ ـ شرح الاستبصار : للسيّد ماجد بن السيّد هاشم الجد حفصي البحراني ، المتوفّىٰ سنة ١٠٢١ هـ.
٣ ـ شرح الاستبصار : للعلّامة المولىٰ عبدالله بن الحسين التستري ، المتوفّىٰ سنة ١٠٢١ هـ.
٤ ـ شرح الاستبصار : للعلّامة السيّد ميرزا محمّد بن عليّ بن إبراهيم
__________________
الأسترآبادي ، الرجالي المعروف ، المتوفّىٰ سنة
١٠٢٨ هـ.
٥ ـ شرح الاستبصار ( استقصاء الاعتبار ) ، للشيخ الجليل فخر الدين أبي جعفر محمّد بن جمال الدين أبي منصور الحسن ، بن زين الدين الشهيد الثاني ، المتوفّىٰ سنة ١٠٣٠ هـ.
٦ ـ شرح الاستبصار ، الذي هو تعليقات للسيّد يوسف الخراساني ، كتبها سنة ١٠٣٠ هـ.
٧ ـ شرح الاستبصار ( جامع الاخبار في شرح الاستبصار ) : للشيخ عبداللطيف بن أبي جامع العاملي ، تلميذ الشيخ البهائي الذي توفي سنة ١٠٣١ هـ.
٨ ـ شرح الاستبصار : للمولىٰ محمّد أمين بن محمّد شريف الاسترآبادي ، المتوفّىٰ سنة ١٠٣٦ هـ.
٩ ـ شرح الاستبصار : لسيّد الفلاسفة مير محمّد باقر بن شمس الدين محمّد الحسيني المشهور بـ « الداماد » المتوفّىٰ سنة ١٠٤١ هـ.
١٠ ـ شرح الاستبصار : للعلّامة الشيخ عبداللطيف بن الشيخ نور الدين عليّ الجامعي العاملي ، المتوفّىٰ سنة ١٠٥٠ هـ.
١١ ـ شرح الاستبصار : للعلّامة السيّد مير شرف عليّ بن حجّة الله الشولستاني ، المتوفّىٰ سنة ١٠٦٠ هـ.
١٢ ـ شرح الاستبصار : للشيخ زين الدين عليّ بن سليمان بن الحسن ابن درويش بن حاتم البحراني ، المعروف بـ « عليّ القدمي » ، المتوفّىٰ سنة ١٠٦٤ هـ.
١٣ ـ شرح الاستبصار : للمولىٰ عبدالرشيد بن المولىٰ نور الدين التستري ، المتوفّىٰ سنة ١٠٧٨ هـ.
١٤ ـ شرح الاستبصار : للفاضلة حميدة الرويدشتي بنت المولىٰ محمّد شريف بن شمس الدين محمّد الاصفهاني ، المتوفّاة سنة ١٠٨٧ هـ.
١٥ ـ شرح الاستبصار : للشيخ الفقيه قاسم بن محمّد جواد المعروف بـ « ابن الوندي » وبالفقيه الكاظمي ، المتوفّىٰ سنة ١١٠٠ هـ.
١٦ ـ شرح الاستبصار : للفقيه المحدّث الجزائري ، السيّد نعمة الله بن عبدالله الموسوي التستري ، المتوفّىٰ سنة ١١١٢ هـ.
١٧ ـ شرح الاستبصار : للسيّد عبدالرضا بن عبدالصمد الحسيني الأوالي البحراني ، معاصر المحدّث الجزائري .
١٨ ـ شرح الاستبصار : للسيّد مير محمّد صالح بن عبدالواسع الخواتون آبادي ، صهر العلّامة المجلسي ، المتوفّىٰ سنة ١١١٦ هـ.
١٩ ـ شرح الاستبصار : للعلّامة السيّد عبدالله بن نور الدين الجزائري التستري ، المتوفّىٰ سنة ١١٧٣ هـ.
٢٠ ـ شرح الاستبصار : للميرزا حسن بن عبدالرسول الحسيني الزنوزي الخوئي ، المتوفّىٰ سنة ١٢٢٣ هـ.
٢١ ـ شرح الاستبصار : للمحقّق المقدس السيّد محسن بن الحسن الأعرجي الكاظمي ( صاحب المحصول ) ، المتوفّىٰ سنة ١٢٢٧ هـ.
٢٢ ـ شرح الاستبصار : للشيخ عبدالرضا الطفيلي النجفي ، الّذي كان حيّاً في سنة ١٣٠٥ هـ.
فهذه اثنان وعشرون شرحاً للاستبصار ، كلّها كتبت بيد علماء ومجتهدي زمانهم ، عناية منهم بهذا السفر العظيم .
ويلاحظ أنّه تتابعوا عليه قرناً بعد قرن بالشرح والتحشية والتعليق ، رأينا في هذه العجالة كيف أن أجلّة العلماء من القرن الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر ، قد توافروا عليه بالشرح والاهتمام .
استقصاء
الاعتبار :
ولعلّ من أبرز شروح الاستبصار هو « استقصاء الاعتبار » ، لعبقرية كاتبه من جهة ، ولميزاته وفوائده الغزيرة من جهة أخرىٰ كما سيأتي ، فلا غرو أن يحتلّ هذا الشرح المكانة المرموقة بين شروح الاستبصار .
قال الشيخ آغا بزرك الطهراني : استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار للشيخ أبي جعفر محمّد بن أبي منصور الحسن . . . كبيرٌ ، خرج منه ثلاثة مجلّدات في الطهارة والصلاة والنكاح والمتاجر إلىٰ آخر القضاء . . . بدأ فيه
بمقدّمة فيها اثنتا عشرة فائدة رجالية ، نظير المقدمات الاثنتي عشرة لمنتقىٰ
الجمان لوالده الشيخ حسن ، وبعد المقدمة اخذ في شرح الأحاديث ، فيذكر الحديث ويتكلّم أوّلاً فيما يتعلّق بسنده من أحوال رجاله تحت عنوان « السند » ، ثمّ بعد الفراغ عن السند يشرع في بيان مداليل ألفاظ الحديث وما يستنبط منها من الأحكام تحت عنوان « المتن » . . .
وقد ذكر هذا التأليف القيّم كلّ من ترجم للشيخ المترجم له ، مضافاً إلىٰ تآليف أخرىٰ قيّمة له في عدّة علوم .
وكتاب الاستقصاء فيه من الفوائد ما يعسر أن تجده في غيره من الكتب ، خصوصاً في المسائل الدرائية والرجالية ، فإنّه قدسسره كان ذا باع
طويل في هذا المجال ، وحسبك أنّ المحدّث النوري في خاتمة المستدرك أفاد كثيرا من تلكم الفوائد . وسنشير إلىٰ ميزات اُخرىٰ لشرحه هذا عند
التعرّض لذلك في هذه المقدمة .
__________________
المؤلّف ـ ولادته
:
هو الشيخ الجليل فخر الدين أبو جعفر محمّد بن جمال الدين أبي منصور الحسن ، بن زين الدين الشهيد الثاني .
ولد شيخنا المترجم له ضحىٰ يوم الاثنين العاشر من شهر شعبان المعظّم عام ثمانين وتسعمائة .
وقد وجد تاريخ ولادته هذا بخطّ والده الشيخ حسن بن الشهيد الثاني ، كما صرّح بذلك الشيخ عليّ ابن المترجم له في كتابه « الدرّ المنظوم والمنثور » .
ويبدو أنّ والده كان يتوسّم فيه مخايل النجابة والفقاهة والعلم ، فأحبّه وحرص علىٰ ضبط تاريخ ولادته بالشعر ، بعد أن فدّاه وأخاه بنفسه ، وإليك النص الذي نقله الشيخ عليّ في كتابه الدر المنظوم والمنثور ، قال :
وعندي بخطّ جدي المرحوم المبرور الشيخ حسن ، ما هذا لفظه ـ بعد ذكر مولد ولده زين الدين عليّ ـ : ولد أخوه فخر الدين محمّد أبو جعفر ـ وفّقهما الله لطاعته وهداهما إلىٰ الخير وملازمته ، وأيّدهما بالسعد والإقبال في جميع الأمور ، وجعلني فداهما من كلّ محذور ـ ضحىٰ يوم الاثنين ، العاشر من الشهر الشريف شعبان عام ثمانين وتسعمائة ، وقد نظمت هذا التاريخ عشية الخميس تاسع شهر رجب عام واحد وثمانين وتسعمائة بمشهد الحسين عليهالسلام بهذين البيتين ، وهما :
أحمد ربي
الله إذ جاءني
|
|
محمّد من فيض
نُعماه
|
تاريخه لا
زال مثل اسمه
|
|
« بجوده يسعده الله »
|
__________________
نشأته :
لم تذكر المصادر التي ترجمت للمؤلف مكان ولادته علىٰ وجه الدقة والتحديد ، إلّا أنّ قرائن الأحوال وعباراتهم في شرح أحواله تدلّ علىٰ أنّه ولد في لبنان ، مضافاً إلىٰ أنّ الحر العاملي ذكره في القسم الأوّل من أمل الآمل الّذي ذكر فيه علماء جبل عامل ، وكان أوّل اشتغاله لطلب العلم فيها .
قال الشيخ يوسف البحراني : وكان اشتغاله أوّلاً عند والده والسيّد محمّد صاحب المدارك ، قرأ عليهما وأخذ عنهما الحديث والاُصولين وغير ذلك من العلوم ، وقرأ عليهما مصنّفاتهما من المنتقىٰ والمعالم والمدارك ، وما كتبه السيّد علىٰ المختصر النافع ، ولما انتقلا إلىٰ رحمه الله
بقي مدّة مشتغلاً بالمطالعة .
ثمّ سافر إلىٰ مكّة المشرّفة واجتمع فيها بالميرزا محمّد الاسترآبادي
صاحب كتاب الرجال ، فقرأ عليه الحديث .
ثمّ رجع إلىٰ بلاده وأقام بها مدّة قليلة ، ثمّ سافر إلىٰ
العراق ، خوفاً من أهل النفاق وعداوة أهل الشقاق ، وبقي مدّة في كربلاء مشتغلاً بالتدريس .
ثمّ سافر إلىٰ مكّة المشرّفة ، ثمّ رجع منها إلىٰ العراق وأقام
فيها مدّة .
ثمّ عرض ما يقتضي الخروج منها ، فسافر إلىٰ مكّة المشرّفة ، وبقي فيها إلىٰ أن توفّي رحمه
الله .
وذكر الآغا بزرك أنّه اختصّ بالميرزا محمّد الرجاليّ خمس سنين .
__________________
وأوضح الخوانساري أنّ ملازمته للميرزا الاسترآبادي كانت في مكّة المكرّمة ، وأنّ المترجم له كان معجباً غاية الإعجاب ، بأستاذه الرجاليّ النحرير ، فقال : وكان هو أيضاً مجاوراً بمكّة المعظّمة ، وملازماً لمجلس مباحثة صاحب الترجمة المتقدمة [ أي الميرزا محمّد الاسترآبادي ] ، ومعتقداً لغاية نبله وفضله وتحقيقه ، بل مفتخراً بالاهتداء إلىٰ سبيله وطريقه .
ونقل الخوانساري في الروضات عن ولد المترجم له في كتابه « الدرّ المنثور » قوله : وكان وهو في البلاد يذهب إلىٰ دمشق ويقيم بها مدّة بعد مدّة ، واختلط بفضلاء العامّة ، وصاحبهم وعاشرهم أحسن عِشرة ، وقرأ عندهم في علوم شتّىٰ .
وهذا ما يؤكّد لنا أنّ هذا العالم الجليل ، وغيره من علماء وفضلاء الطائفة كانوا حريصين أشدّ الحرص علىٰ تتبّع الحقائق ، وأخذ الشاردة والواردة من العلماء ، أيّاً كان انتماؤهم المذهبيّ ، لأنّ الحقيقة العلمية مناطها
الدليل والبرهان ، لا المذاهب والمشارب .
فقد تتلمَذَ المؤلّف رحمهالله منذ نعومة أظفاره علىٰ كبار علماء الطائفة الإماميّة ، مثل والده وصاحب المدارك ، كما يبدو واضحاً جليّاً أنّه كان مولعاً بعلم الرجال ، وقد مرّ أنّه لازم الميرزا محمّد الاسترآبادي خمس سنين يباحث ويدرس معه في علم الرجال . ولذلك برزت عبقريته وقدرته العلميّة في هذا المجال أكثر من أيّ مجال آخر ، وهذا ما سنوضّحه في ميزات الكتاب ، وما يبدو شاخصاً للعيان من خلال مباحث شرح الاستبصار ، وقد وقعت تحقيقاته الرجالية موقع إجلال وإكبار علماء الطائفة
__________________
ومحدّثيهم ، حتّىٰ أنّ العلّامة المحدّث النوري
عبّر عنه تارة بـ « المحقّق الشيخ محمّد » ، وتارة بـ « المدقّق الشيخ محمّد » ، وقد أفاد منه ونقل الكثير من تحقيقاته الرجالية التي دوّنت في استقصاء الاعتبار ، وذلك لأهميتها وضخامة فكر صاحبها في التنقيحات والتحقيقات الرجالية .
ولا يخفىٰ حرصه علىٰ طلب العلم ومدارسته ، حيث كان بعد وفاة أستاذيه يطالع ويقرأ ولم يركن إلىٰ الراحة والهدوء ، بل راح يجدّ ويثابر ، بل الذي نستشمّه من عبارة ولده أنّه كان بعد تحصيله علوم المذهب ، ووفاة أستاذيه ، يذهب ليدارس ويتتلمذ علىٰ أيدي فضلاء العامّة ، ممّا يظهر مدىٰ
جدّه ومثابرته في تحصيل العلوم ، وذلك هو الذي جعل من هذا الرجل عالماً مجدّاً يغني المكتبة الإسلامية بشتّىٰ التآليف القيّمة .
وكان الشيخ محمّد قد برز علىٰ أقرانه من العامّة في حلقة الدرس ، قال ولده الشيخ عليّ : وكان من جملة من قرأ عليهم رجل فاضل في علوم العربية والتفسير والاُصول اسمه الشيخ شرف الدين الدمشقي ، وكان يجتمع في درسه خلق كثير ، رأيته أنا وشاهدت حلقة درسه ، وهو طاعن في السنّ ، وكان إذا جرىٰ بحث في مجلسه وتكلّم والدي في مسألة بكلام ، وبحث معه يعارضه أهل ذلك المجلس عناداً أو لسوء فهم ، فيقع البحث بينهم والشيخ ساكت ، وإذا انتهىٰ الأمر ليحكم بينهم يقول : يا إخوان لا
يغيّر في وجوه الحسان ، يعني به والدي رحمهالله ، فإذا سمعوا هذا سكتوا . . .
__________________
زهده وتقواه :
وقد كان المؤلّف من الزهّاد الورعين ، يمتاز بتقوىٰ وورع فائق ، وكان
يحتاط أشدّ الاحتياط في أمر الدين ، عملاً بقول الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام لكميل بن زياد : أخوك دينك فاحتَط لدينك بما شئت ، وكان من جملة احتياطه وتقواه أنّه بلغه أنّ بعض أهل العراق لا يخرج الزكاة ، فكان كلّما اشترىٰ من القوت شيئاً زكويّاً زكّاه قبل أن يتصرّف فيه .
ولذلك قال ولده في حقّه : كان عالماً عاملاً ، وفاضلاً كاملاً ، وورعاً عادلاً ، وطاهراً زكيّاً ، وعابداً تقيّاً ، وزاهداً مرضيّاً ، يفرّ من الدنيا
وأهلها ويتجنّب الشبهات . . . كانت افعاله منوطة بقصد القربة . . .
فيظهر جليّاً أنّ من أهمّ ما كان يتمتّع به هذا الرجل الفقيه الرجاليّ هو التقوىٰ والزهد ، والأنس بالله ، وأنّه كان ينيط كلّ أعماله بقصد التقرّب إلىٰ الله ، وهذا ما لا يناله إلّا من رحمه الله وكان ذا حظ عظيم .
ومع أنّ الطائفة المحقّة أجمعت علىٰ جواز أخذ الهدايا حتّىٰ من
الحكّام والأمراء ، لكنّنا نرىٰ شيخنا المصنّف يتورّع عن أخذها احتياطاً
لدينه ومبالغة في التقوىٰ والتقرّب إلىٰ الله ، ساعياً أن لا يعيش إلّا ممّا
رزقه الله ، بل نراه إذا وقع في محذور من قبول الهدايا جعل لذلك طريق حلٍّ لارجاع تلك الأموال إلىٰ معطيها .
فقد أرسل له الأمير يونس بن الحرفوش إلىٰ مكّة المشرّفة خمسمائة
__________________
قرش ، وكان هذا الرجل له أملاك من زرع وبساتين وغير ذلك
. . . وأرسل إليه معها كتابة مشتملة علىٰ آداب وتواضع ، وكان له فيه اعتقاد زائد ، والتمس منه أن يقبل ذلك ، وأنّه من خالص ماله الحلال ، وقد زكّاه وخمّسه ، إلىٰ أن يقبل .
فقال له الرسول : إنّ أهلك وأولادك في بلاد هذا الرجل ، وله بك تمام الاعتقاد ، وله علىٰ أولادك وعيالك شفقة زائدة ، فلا ينبغي أن تجبهه بالردّ .
فقال : إن كان ولا بُدّ من ذلك فأبقها عندك ، واشترِ في هذه السنة مائة قرش منها شيئاً من العود والقماش ، وتوصله إليه علىٰ وجه الهديّة ، وهكذا تفعل كلَّ سنة حتّىٰ لا يبقىٰ منها شيءٌ ، فأرسل له ذلك تلك السنة
وانتقل إلىٰ رحمة الله ورضوانه .
وطلبه سلطان ذلك الزمان ـ عفىٰ الله عنه ـ مرّة من العراق ، فأبىٰ
ذلك ، وطلبه من مكّة المشرّفة ، فأبىٰ ، فبلغه أنّه يعيد عليه أمر الطلب ، وهكذا صار ، فإنّه عيّن له مبلغاً لخرج الطريق ، وكان يكتب له ما يتضمّن تمام اللّطف والتواضع ، وبلغني أنّه قيل له : إذا لم تقبل الإجابة فاكتب له جواباً .
فقال : إن كتبت شيئاً بغير دعاء له كان ذلك غير لائق ، وإن دعوت له فقد نُهينا عن مثل ذلك ، فألحّ عليه بعض أصحابه ، وبعد التأمّل قال : ورد حديث يتضمّن جواز الدعاء لمثله بالهداية ، فكتب له كتابة ، وكتب فيها من الدعاء « هداه الله » لا غير .
__________________
اساتذته
ومشايخه :
لقد مرّ في أثناء ما تقدم ما يتعلّق ببعض أساتذته ، غير أنّ ذكرهم علىٰ نسق واحد يمكن معه استيضاح واستجلاء معالم أكثر وضوحاً عن دراسة هذا الرجل وتعلّمه علىٰ يد كبار العلماء ، فمن أساتذته :
١ والده الفقيه الحسن بن الشهيد الثاني .
٢ السيّد محمّد بن عليّ بن أبي الحسن الموسوي العاملي صاحب « المدارك » .
٣ الميرزا أحمد بن عليّ الاسترآبادي .
٤ الميرزا محمّد الاسترآبادي.
٥ الشيخ شرف الدين الدمشقي .
٦ وروىٰ عن خال والده ، الشيخ عليّ بن محمود العاملي .
٧ وروىٰ عن ابن خال والده ، وهو الشيخ زين الدين بن الشيخ عليّ ابن محمود العاملي .
٨ وروىٰ عن عمه الشيخ علي بن محمّد بن علي الحرّ .
إلىٰ غير هؤلاء من المشايخ الّذين روىٰ عنهم أو قرأ عليهم أو
باحث معهم في مسائل الدين والفقه .
وأمّا تلامذته
:
فقد أقرأ المؤلف الكثير ، وتتلمذ عليه الفضلاء ، وروىٰ عنه المشايخ ،
وقد مرّ أنّه قضىٰ عمره كلّه في القراءة والإقراء والدرس والتدريس والتأليف والتصنيف ، ومن تلامذته ومن قرأوا عليه :
١ ـ ولده الشيخ زين الدين .
٢ ـ الشيخ محمّد بن عليّ الحرفوشي .
٣ ـ الشيخ إبراهيم بن إبراهيم بن فخر الدين العاملي البازوري .
٤ ـ الشيخ أحمد بن أحمد بن يوسف السوادي العاملي العيناثي .
٥ ـ الشيخ حسين بن الحسن العاملي المشغري .
٦ ـ الشيخ عليّ بن أحمد بن موسىٰ العاملي النباطي .
٧ ـ الشيخ عليّ بن محمود العاملي المشغري .
٨ ـ الأمير فيض الله بن عبدالقاهر الحسيني التفرشي .
هؤلاء بعض تلامذته الّذين ذكرهم الحرّ العاملي في أمل الآمل ، وأكثرهم من علماء جبل عامل ، ومن المتيقّن أنّ هناك الكثير ممّن تتلمذوا عليه في كربلاء والنجف والشام ممن تُرِكَ ذكرهم ، ولم نستقصهم اكتفاء بمن ذكرنا من الأعلام والفضلاء .
خطّه وأدبه :
ولم تقف كمالات المؤلّف رحمهالله علىٰ ما ذكرنا من تضلّعه في علم الرجال والدراية ، وتبحّره ودقّته في الفقه ، وباعه غير القصير في الاُصول . بل تعدّىٰ ذلك الىٰ كمالات اُخرىٰ ، فجمع خصلتين اُخريين كانتا
شاخصاً واضحاً في بناء شخصيته العلميّة ، فقد امتاز رحمهالله بجودة الخطّ واستنساخه لبعض المؤلّفات ، كما جلّىٰ في النثر والشعر ، وكان ذا رقّة وروعة في شعره .
قال السيّد الخوانساري : وقد كان عندنا من كتب خزانة سيّدنا وسميّنا وشيخ إجازتنا العلّامة الرشتي أعلىٰ الله تعالىٰ مقامه نسخة كتاب
الرجال
الكبير ، بخطّ هذا الرفيع جنابه [ يعني به المؤلف ]
العادم للعديل والنظير ، وعندنا الآن أيضاً بخطّه الحسن الّذي يقارب في الحسن خطّ والده الجليل الشيخ حسن رحمة الله تعالىٰ عليهما ، علىٰ ظهر كتاب الفقيه الّذي
صحّحه أبوه المذكور في نجف الغريّ علىٰ مشرّفه السلام .
وهذا واضح في أنّ المؤلّف كان ذا خطٍّ حسن ، ربّما قارب خطّ والده المعروف بحُسن وجودة الخطّ .
وأمّا شعره ونثره ، فقد كان رحمهالله شاعراً مجيداً ، لأبياته من الرقّة والسلاسة ما يهزّ السامع ويثير مكامن عواطفه ، كما كان له نثر ومراسلات مع أدباء عصره .
قال الميرزا عبدالله الأفندي : كان عالماً فاضلاً . . . حافظاً شاعراً أديباً
، منشئاً ، جليل القدر عظيم الشأن حسن التقرير . . .
ونقل السيّد الخوانساري عن ولد المؤلّف قوله : ولوالدي رحمهالله أشعار رائقة تشتمل علىٰ مواعظ وحكم وألغاز ومراسلات وإنشاءات نثر . . .
وفي لؤلؤة البحرين ، نقلاً عن الشيخ عليّ ولد المصنّف ، أنّه قال وهو في معرض تعداد مؤلّفات ومصنّفات والده : وله كتاب مشتمل علىٰ أشعار له ولغيره ، ومراسلات بينه وبين من عاصره ، وكتاب جامع مشتمل علىٰ مواعظ ونصائح وحكم ومراثي وألغاز ومدائح ومراسلات شعريّة بينه وبين أهل العصر ، وأجوبة منه لهم في المدائح والألغاز . . .
__________________
وصرّح الحر العاملي أنّ له ديوان شعر ، كما سيأتي ذلك عند تعداد مؤلفاته ، وقال : وله شعر حسن .
ونظرة واحدة في أدب هذا الرجل وشعره ، تهدينا إلىٰ أنّ الأقوال التي قيلت في حقّه ـ خصوص هذا المضمار ـ إن لم نقل أنّها لا توفي حقّه فهي ليست مبالغاً فيها ، لأنّه كان ذا حسّ مرهف ولفظ رقيق حتّىٰ في تصويره لمأساة الحسين عليهالسلام ، ومن قصائده
في الرثاء الحسيني قوله :
كيف ترقأ
دموع أهل الولاء
|
|
والحسين
الشهيد في كربلاء
|
جدّه المصطفىٰ
الأمين علىٰ الوحـ
|
|
ـي من الله
خاتم الأنبياءِ
|
وأبوه أخو
النبي عليّ
|
|
آية الله ،
سيّد الأوصياءِ
|
أمّه البضعة
البتول ، أخوه
|
|
صفوة
الأولياء والأصفياءِ
|
يا لها من
مصيبة أصبح الديـ
|
|
ـن بها في
مذلّة وشقاءِ
|
ليت شعري ما
عذر عبد محبّ
|
|
جامد الدمع
ساكن الأحشاءِ
|
وابن بنت
النبيّ أضحىٰ ذبيحاً
|
|
مستهاماً
مرمّلاً بالدماءِ
|
وحريم الوصي
في أسر ذُلٍّ
|
|
فاقدات
الآباء والأبناءِ
|
وعليّ خير
العباد أسيرٌ
|
|
في قيود العدىٰ
حليف العناءِ
|
مثل هذا جزاء
نصح نبيّ
|
|
كَلَّ عن
نعته لسان الثناءِ
|
أسّس
السابقون بيعة غدر
|
|
وبنىٰ
اللّاحقون شرّ بناءِ
|
حرّفوا ،
بدّلوا ، أضاعوا ، أقاموا
|
|
بِدَعاً
بالعناد والشحناءِ
|
واستبدّوا
بإمرة نصبوها
|
|
شَرَكاً
للأئمّة النجباءِ
|
منعوا فاطم
البتول تراثاً
|
|
من أبيها
بفاسد الآراءِ
|
__________________
يا بني الوحي
لا يُخفِّفُ وجداً
|
|
نالنا من شماتة
الأعداءِ
|
غيرُ ذي
الأمر نور وحي إلهٍ
|
|
حجّة الله
كاشف الغمّاءِ
|
لهفَ نفسي علىٰ
زمان أرىٰ فيـ
|
|
ـه مزيلاً
لدولة الأشقياءِ
|
أترىٰ
يسمح الزمان بهذا
|
|
ويحوز
الراجون خير رجاءِ
|
وهذه القصيدة تمتاز ـ إضافة إلىٰ جودة سبكها وحلاوة ألفاظها ورقّة وصدق العاطفة فيها ـ بشتّىٰ المعاني الضخام ، التي تتّضح فيها بصمات العلماء والفقهاء ، والعقائديين المحقّقين ، والمؤرّخين الذين يعطون فلسفة التاريخ حقّها .
فقد بدأ قصيدته بالحزن وإثارة العواطف الدينيّة ، ثمّ انتقل إلىٰ
صفات الشهيد وبيان ضخامة انتسابه الأسري إلىٰ لباب النبوة ، النبيّ محمّد صلىاللهعليهوآله ، وإلىٰ خاتم الأوصياء عليّ عليهالسلام ، وإلىٰ البضعة الزهراء عليهاالسلام ، مع أخوّته لصفوة الأولياء الحسن الزكي عليهالسلام ، ثمّ عاد إلىٰ التفجّع واستدرار العواطف الجيّاشة ، فصوّر الحسين ذبيحاً مرمّلاً ، وعرّج علىٰ ذكر السبايا والإمام السجّاد عليهالسلام .
ثمّ عاتب المسلمين علىٰ لسان النبيّ صلىاللهعليهوآله عتباً لاذعاً في البيت العاشر من القصيدة ، حيث تجلىٰ فيه نفس الشريف الرضيّ حيث يقول في مقصورته الرائعة :
ليس هذا
لرسول الله يا
|
|
أمّة الطغيان
والبغي جزا
|
وانتقل في البيت الحادي عشر إلىٰ فلسفة الأحداث التاريخية ، فبرز محلّلاً رائعاً ، تتجلّىٰ فيه صورة القاضي ابن قريعة وهو يقول :
__________________
وأريتكم أنّ
الحسيـ
|
|
ـن أصيب في
يوم السقيفة
|
ولأيّ ذنب
أُلحدت
|
|
بالليل فاطمة
الشريفة
|
فقد انتقل المؤلف انتقالة رائعة إلىٰ بيان إمرة علي المغتصبة ، ومنع الزهراء نحلتها وإرثها .
ثمّ عرّج في نهايات قصيدته إلىٰ استنهاض الحجّة ( عج ) والتشوّق لظهوره لكشف الغمّة وإزالة دولة الأشقياء .
هذا ، وله قصيدة في مدح أُستاذه السيّد محمّد بن أبي الحسن العاملي صاحب المدارك ، يقول في مطلعها :
يا خليليَّ
باللطيف الخبير
|
|
وبودّ أضحىٰ
لكم في الضمير
|
خصّصا بالثنا
إماماً جليلاً
|
|
وخليلاً أضحىٰ
عديم النظير
|
ثمّ رثاه بعد انتقاله إلىٰ رحمة الله ورضوانه بقصيدة قال فيها :
ما لفؤادي مدىٰ
بقائي
|
|
قد صار وقفاً
علىٰ العناء
|
وما لجسمي
حليف سقم
|
|
بدا به اليأس
من شفائي
|
وعلىٰ كلّ حال ، فإنّ المؤلّف كان ذا مرتبة راقية من الأدب شعراً ونثراً ، مضافاً إلىٰ فقهه وأُصوله ونبوغه في علم الرجال ، لكنّ العجب لا ينقضي من عدم انطباع هذه الرقة ، وهذا القلم الدفّاق ، علىٰ عباراته في كتاب « الاستقصاء » ، إلّا إذا عرفت أنّ مؤلّفنا كان دقيقاً غاية الدقّة ، كثير الغوص في التشعّبات وإثارة الإشكالات حولها ، ممّا أفقده مرونة التعبير وسلاسة الإفهام ، كما صرّح بذلك الشيخ يوسف البحراني حيث قال : وقد وقفت علىٰ جملة من مصنّفات الشيخ . . . فوجدت الرجل فاضلاً إلّا أنّ عباراته معقّدة غير سلسة .
__________________
مدح العلماء
وإطراؤهم إيّاه :
بعدما عرفت من بُعد غور الرجل ، وتتلمذه علىٰ يد كبار العلماء ، وتربيته لخيرة الفضلاء ، ومثابرته علىٰ العلم وخدمة الدين ، وبعدما ستعرف من ضخامة مؤلّفاته وكثرتها ، لا غرو أن تجد العلماء يقفون منه موقف الاجلال والإكبار ، ويشيدون به معتزّين ببروز مثل هؤلاء الفضلاء والعلماء الّذين رفدوا الفكر الإسلامي بروائع الأفكار وأبكارها .
فقد ذكره ولده الشيخ علي في كتاب « الدر المنثور » في الجزء الثاني فقال : كان عالماً عاملاً ، وفاضلاً ، كاملاً ، وورعاً عادلاً ، وطاهراً زكيّاً ،
وعابداً تقيّاً ، وزاهداً مرضيّاً ، يفرّ من الدنيا وأهلها ، ويتجنّب الشبهات ، جيّد الحفظ
والذكاء والفكر والتدقيق ، كانت أفعاله منوطة بقصد القربة ، صرف عمره في التصنيف والعبادة والتدريس والإفادة والاستفادة .
وقال الشيخ يوسف البحراني : وكان الشيخ محمّد فاضلاً محقّقاً مدقّقاً ورعاً فقيهاً متبحّراً .
وقال الحرّ العاملي في شأنه : كان عالماً فاضلاً ، محقّقاً مدقّقاً ،
متبحّراً جامعاً كاملاً ، صالحاً ورعاً ، ثقة ، فقيهاً محدّثاً ، متكلّماً حافظاً ، شاعراً
أديباً ، منشئاً جليل القدر ، عظيم الشأن ، حسن التقرير .
ونقل صاحب الروضات مدح أستاذ المؤلف له ، فقال : صورة ما كتبه أستاذه المعظّم عليه في أواخر رجاله الكبير من بيان حال طرق الصدوق إلىٰ
__________________
أرباب الاُصول ، مع تلخيص ما منه رحمهالله ، وهي هكذا :
من فوائد مولانا علّامة الزمان ميرزا محمّد أطال الله بقاءه في كشف طرق هذا الكتاب ، وبيان حالها تفصيلاً ، بالنظر إلىٰ الرواة المعتمدين وغيرهم ، نقلته من كتابه في الرجال ، وهو كتاب لم يُرَ مثله في كتب المتقدّمين ، ولم يسمع بما يدانيه أفكار المتأخرين . . .
وقد مرّ عليك أنّ صاحب الروضات مدحه فقال في معرض بيانه لنسخة كتاب الرجال للمؤلف ، حيث قال : نسخة كتاب الرجال الكبير بخطّ هذا الرفيع جنابه ، العادم للعديل وللنظير . . .
وإطراء العلماء هذا ومدحهم له ـ وعلىٰ وجه الخصوص أستاذه الأسترآبادي الّذي شهد له بالتفوّق ، والسبق ـ لم يكن ليمنع من وجود بعض المؤاخذات علىٰ المؤلّف رحمهالله والّتي ذكرها العلماء وبيّنوا وجهها ومبعث وجودها في قلم وعلميّة هذا العالم الفاضل النحرير .
قال الشيخ يوسف البحراني : وقد وقفت علىٰ جملة من مصنّفات الشيخ المزبور منها شرحه للاستبصار ، وحاشية علىٰ الفقيه ، وتأمّلت كلامه فوجدت الرجل فاضلاً ، إلّا أنّ عبارته معقّدة غير سلسة ، وتصنيفه غير مهذّب ولا محرّر ، وتراه يبحث في المسألة حتىٰ إذا أتىٰ الموضع
المطلوب منها أحال بيانه علىٰ حواش له في كتب أخرىٰ أو مصنّف آخر ، وهذا إمّا ناشئ من العجز أو من عدم جودة الملكة في التصنيف .
ويؤيّد ما قلناه ما وقفت عليه في كلام شيخنا المحدّث الصالح الشيخ عبدالله بن الحاج صالح البحراني رحمهالله ، قال : وكان الشيخ محمّد مدقّقاً غير
__________________
محقّق ، أخبرني الشيخ عمّن أخبره من المشايخ ، عن الشيخ
عليّ بن سليمان البحراني أنّه شاهده وذكر أنّه ليس في مرتبة الاجتهاد ، لأنّه من شدّة دقّته لم يقف علىٰ شيء ، قال الشيخ : وهذه الدقّة تسمّىٰ بالجربزة ، ومن وقف علىٰ مصنّفاته كشرح الاستبصار وحاشية الفقيه عرف صحّة ما نقله الشيخ عنه ، انتهىٰ .
والواقع أنّ هذا الكلام في عين كونه دقيقاً من جهة مدوّنات الشيخ محمّد إلّا أنّ فيه تساهلاً من جانب آخر ، وهو أنّ الذي نميل إليه أنّ المصنّف رحمهالله لم يكن بصدد
تأليف كتاب فقهيّ استدلالي شامل كسائر الشروح المطوّلة الّتي يطرح كتّابها فيها وجهات نظرهم وآراءهم الفقهية ، بل كان غرضه ـ خصوصاً في كتاب الاستقصاء ـ بيان ما ذهب إليه الشيخ الطوسيّ من وجوه الجمع ، وشرحها وتوجيهها ، وإيراد الإشكالات عليها وحلّها إن أمكن ذلك ، وربّما أبدىٰ وجهة نظره في خصوص موردٍ ما ، دون إرادة الوصول إلىٰ النتيجة الفقهية النهائيّة ، فلا يمكن إلقاء التبعة كلها
علىٰ حالة التدقيق المفرط عنده التي أخرجته إلىٰ حالة الجربزة ، فإنّ هذه الحالة وإن كانت واضحة في كتابه الاستقصاء ، وربّما في كلّ تآليفاته كما تقدّم نقل ذلك عن بعض الأعلام ، لكنّ الذي نراه هو أنّ هذا الرجل لم يؤلّف كتاباً استدلالياً موسّعاً ليؤاخذ بهذه المؤاخذة ثمّ يتّهم بعدم الاجتهاد ، لأنّ عدم إبداء النظر الأخير كانت له ـ حسب قرائن التأليف ـ مبرراته كما أوضحنا ذلك .
مضافاً إلىٰ أن الكثير من علماء الطائفة المحقّة كانوا لسببٍ أو لآخر
،
__________________
لا يريدون عن عمد إظهار آرائهم الفقهية ، مقتصرين علىٰ
البحوث العلميّة المحضة ، مختصّين أنفسهم بآرائهم ونتائجهم الفقهية ، طارحين وجهات نظرهم علىٰ تلامذتهم فقط ، وربّما صرّحوا قليلاً برأيهم القاطع الذي يتوصّلون إليه في فرع أو مسألة ما ، فهم يصبّون جلّ اهتماماتهم علىٰ إغناء البحوث العلمية من رفيع أفكارهم وبديع أنظارهم وتنشئة مجموعة من الكوادر والفضلاء .
مؤلفاته
ومصنفاته :
علمنا من خلال ترجمة هذا العالم الفاضل أنّه صرف عمره مثابراً في التحقيق والتدريس والتدقيق والتأليف والتصنيف ، فكان حصيلة ذلك ـ بعد تربية الفضلاء ـ أن أتحف المكتبة الإسلامية بتآليف قيّمة ، ذكر المترجمون له منها :
١ ـ استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار ، وهو الكتاب الماثل بين يديك .
٢ ـ تعليقات علىٰ كتاب مدارك الأحكام .
٣ ـ حاشية اُصول الكافي .
٤ ـ حاشية علىٰ شرح اللمعة . وصل فيها إلىٰ كتاب الصلح .
٥ ـ حاشية الفقيه ، وهي حاشية علىٰ العبادات من كتاب « من لا يحضره الفقيه » .
٦ ـ حاشية كتاب الرجال ، وهي حاشية علىٰ كتاب الرجال للميرزا محمّد الاسترآبادي الرجالي المعروف .
٧ ـ حاشية المختلف .
٨ ـ حاشية المدارك . وهي غير تعليقاته عليه .
٩ ـ حاشية المطوّل .
١٠ ـ حاشية المعالم . وهي حاشية علىٰ اُصول معالم الدين لوالده .
١١ ـ ديوان شعره .
١٢ ـ رسالة سمّاها « تحفة الدهر في مناظرة الغنىٰ والفقر » .
١٣ ـ رسالة في تزكية الراوي .
١٤ ـ رسالة في التسبيح والفاتحة فيما عدا الاُوليين وترجيح التسبيح .
١٥ ـ رسالة التسليم في الصلاة . حقّق فيها ما ترجّح عنده .
١٦ ـ رسالة في الطهارة .
١٧ ـ « روضة الخواطر ونزهة النواظر » وهو كتاب مشتمل علىٰ فوائد ومسائل وأشعار له ولغيره ، وحِكَم وغيرها ، ملتقطة من كُتُب شتّىٰ .
١٨ ـ شرح الاثني عشرية لوالده .
١٩ ـ شرح تهذيب الأحكام .
٢٠ ـ كتاب مشتمل علىٰ مسائل وأحاديث .
٢١ ـ كتاب جامع مشتمل علىٰ نصائح ومواعظ وحكم ومراث وألغاز ومدائح ومراسلات شعرية بينه وبين شعراء أهل العصر ، وأجوبة منه لهم في المدائح والألغاز .
٢٢ ـ كتاب مشتمل علىٰ أشعار له ولغيره ، ومراسلات بينه وبين من عاصره .
وهكذا تتضح معالم النضوج الفكريّ ، وجوانبه في تأليفاته ، فقد صبّ اهتمامه علىٰ الفقه أوّلاً ، ثمّ علىٰ كتب الأحاديث ، ثمّ الرجال ،
ثمّ أصول الفقه ، ثمّ علم البلاغة فيما يشمل من علم المعاني والبديع والبيان ، ثمّ في الأدب شعراً ونثراً ، وبعد ذلك في علوم شتّىٰ جمعها من كتب شتىٰ .
فلا ريب ولا شبهة في أنّه كان حاوياً لأصناف من الكمالات
وأنواع من العلوم ، كما كان مشهوراً بدقّة النظر وقوّة العقل ، كلّ هذا بعد تسليم الجميع بأنّه من فحول وأساطين الرجاليين .
وفاته ومدفنه :
توفّي الشيخ محمّد رحمهالله في ليلة الاثنين عاشر ذي القعدة الحرام سنة ألف وثلاثين من الهجرة في مكّة المشرّفة . ودفن بمكّة المكرّمة ، في منطقة المعلّىٰ ، قرب مزار أمّ المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها .
وجد بخط السيّد حسين بن محمّد بن علي بن أبي الحسن العاملي ، ما صورة خطّه : توفّي ابن خالي الشيخ محمّد بن الحسن بن زين الدين العاملي في عاشر ذي القعدة الحرام سنة ألف وثلاثين من الهجرة في مكّة المشرّفة .
قال الخوانساري : فظهر من تاريخ مولده ووفاته أنّ عمره خمسون سنة وثلاثة أشهر .
ثمّ قال : وهو بعينه تاريخ وفاة شيخنا البهائي قدسسره البهي بأصفهان
.
وقد كان المؤلّف رحمهالله قد أحسّ بدنوّ أجله ، فكان يتمنّىٰ أن يساعده الله ويعينه علىٰ سكرات الموت وما بعده ، فقد نقل ولده الشيخ عليّ عن خطّ الشيخ حسين المشغري ـ الذي كان من جملة تلامذة أبيه المذكور ومصاحبيه في مكة المشرّفة ـ أنّه كتب بعد ما رقم تاريخ وفاته ليلة الاثنين
__________________
العاشر من ذي القعدة الحرام سنة ثلاثين من الهجرة : وقد
سمعت منه قدسسره قبل انتقاله بأيّام قلائل مشافهة ، وهو يقول لي : إنّي أنتقلُ في هذه الأيّام عسىٰ الله أن يعينني عليها ، وكذا سمعه غيري ، وذلك في مكّة المشرّفة ، ودفنّاه ـ برَّد الله مضجعه ـ في المعلّىٰ ، قريباً من مزار خديجة الكبرىٰ
رضي الله تعالىٰ عنها .
وكان من كرامات هذا الشيخ الجليل ، أنّ زوجته بنت السيّد محمّد بن أبي الحسن ، وأمّ ولده ، أخبرت أنّه لمّا تُوفّي كنَّ يسمعن عنده تلاوة القرآن طول تلك الليلة .
كتاب الاستقصاء
وميزاته :
إنّ كتاب استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار يمثّل واحداً من أبرز شروح الاستبصار ، وقد وجدنا مؤلّفه يقسّمُ مباحثه تقسيمات رباعية .
أ ـ ذكر الروايات الّتي في الاستبصار ، وما قاله الشيخ الطوسي في جمعها ، ورفع تعارضها البدوي .
ب ـ شرح سند الرواية أو الروايات ، والخروج بنتيجة رجالية أخذاً وردّاً ، وصحّةً وسقماً .
ج ـ الخوض في البحث المتنيّ ، وبيان وجوه الرواية ومعانيها ، وربّما توسّع المؤلّف في بحثه وأبدىٰ آراءه ونظراته فيها علىٰ نحو الجزم
والالتزام أو علىٰ نحو الاحتمال لتقوية الذهنية الفقهية .
د ـ شرح لغة الحديث ، إن وجدت فيه كلمات تحتاج إلىٰ الشرح
__________________
ويتوقّف عليها ابتناء هذا الرأي أو ذاك .
هذا هو تقسيم الكتاب بنحو مجمل ، فهو رباعيّ في كلِّ موضوع ، اذ هو كالآتي : الروايات ، السند ، المتن ، اللغة ، وربّما لم يجعل للّغة عنواناً مستقلاً ، فيبقىٰ التقسيم حينذاك ثلاثيّاً .
وعلىٰ كلّ حال ، فإنّ ما يهمّنا تجليته وإبرازه في هذه المقدّمة ، هو
أهمّ ميزات الكتاب ، الّتي امتاز بها فكان محطّ نظر الفقهاء والفضلاء ، لأنّ للكتاب ميزات جمّة يقف عليها المطالع المدقّق ، ونحن نذكر هنا أهمّها ، وهي :
١ ـ إنّ كونه من شروح الاستبصار ـ الذي هو أحد الكتب الأربعة المعتمدة عند الإمامية ـ يعطي له قيمة علميّة وأهميّة كبيرة .
٢ ـ التنظيم الجيّد ، والخطّة المحبوكة ، في تناول المطالب بالبحث والتحقيق .
٣ ـ احتواؤه علىٰ تحقيقات رشيقة ، وتدقيقات والتفاتات يندر أن تجمع في كتاب آخر غيره ، مع عبارة مختصرة وجيزة .
٤ ـ خلوصه عن التكرار في البحوث ، واكتفاؤه بالإحالة علىٰ مواضع أخرىٰ بمثل قوله « تقدّم » أو « سيأتي » ، فلا يكرّر مطلباً إلّا إذا كانت
هناك عناية خاصة أو فائدة جديدة .
٥ ـ محاولته إصابة لباب المطالب ، والابتعاد عن التفصيلات المملّة ، ولذلك فهو يحيل في كثير من الموارد علىٰ مؤلّفاته وتحقيقاته الاُخرىٰ
، خصوصاً حواشيه علىٰ التهذيب والفقيه والروضة والمعالم ، ورجال الميرزا محمّد الاسترآبادي .
٦ ـ وفرة التحقيقات الرجالية بشكل كبير جدّاً ، ولعلّ هذه السمة والميزة هي أهمّ وأعنىٰ ما في كتاب الاستقصاء ، فقد أبدع في تحقيقاته الرجالية ومبانيه الدرائية ، وكان ذلك منه رحمهالله معالجةً للوضع الذي كان سائداً في زمانه ، وهو عدم الاعتناء المتزايد بالبحوث الإسنادية والرجالية ، فكانت هذه الناحية سدّاً للخَلل ، ودفعاً لحركة جديدة في الحوزة العلمية آنذاك .
ولكي لا يخلو المقام من فوائد أكثر ، رأينا من الأرجح أن نثبت هنا بعض مباني المؤلّف والاُصولية ، ثمّ نذكر بعض مبانيه الرجاليّة لنقف علىٰ مدىٰ إبداع هذا الفقيه المدقّق .
من مبانيه الاُصولية
:
١ ـ التسامح في أدلة الكراهة محل تأمل .
٢ ـ قوله بعدم حجيّة مفهوم الوصف .
٣ ـ قوله بحجيّة مفهوم الشرط .
٤ ـ إن الشهرة إنّما تكون مثمرة إذا كانت حاصلة قبل زمان الشيخ الطوسي .
٥ ـ عدم اشتراط جميع الأعصار في تحقق الإجماع .
٦ ـ عدم المنع عن تأخير بيان المجمل إلىٰ زمان الحاجة .
__________________
مبانيه
وتحقيقاته الرجالية والدرائية :
١ ـ إنّ رواية الأجلاء ـ مثل الكليني ـ عن شخص تدل علىٰ اعتباره .
٢ ـ إنّ الاعتماد علىٰ المراسيل لا يصلح للقدح .
٣ ـ تقديم النجاشي علىٰ الشيخ عند تعارض الجرح والتعديل .
٤ ـ عدم إفادة تصحيح العلّامة للتوثيق المعتبر .
٥ ـ الاشكال في إفادة تصحيح الشيخ للتوثيق المعتبر .
٦ ـ مزية تصحيح الصدوق علىٰ نحو يقرب من التوثيق .
٧ ـ ترك النجاشي ذكر المذهب ـ كالوقف ـ دليل علىٰ نفيه .
٨ ـ إنّ حديث إبراهيم بن هاشم لا يعد من الصحيح ، بل من الحسن .
٩ ـ إن الاضمار لا يوجب ضعف الحديث .
١٠ ـ رواية الصدوق مرجح .
__________________
١١ ـ إن الاجماع علىٰ تصحيح ما يصح عن ابن أبي عمير محل كلام ، وعلىٰ تقديره لا يثمر عدم الالتفات الىٰ من بعده .
١٢ ـ إن محمّد بن شهر آشوب غير معلوم الحال .
١٣ ـ إنّ محمّد بن قولويه محل تأمّل .
١٤ ـ انصراف ابن مسكان المطلق إلىٰ عبدالله ، والحلبي إلىٰ محمّد ابن علي الحلبي ، ومعاوية بن وهب إلىٰ الثقة ، وابن سنان الراوي عن أبي عبدالله عليهالسلام هو عبدالله .
١٥ ـ إن الوكالة من ناحية الأئمة عليهمالسلام لا تثبت توثيق الوكيل .
النسخ المخطوطة
المعتمدة في التحقيق :
١ ـ النسخة المخطوطة في مكتبة مدرسة الفيضية / قم : وهي من مقدّمة المؤلّف إلىٰ نهاية الصلاة ، كتبت بخطّ الناسخ محمود الحسيني علىٰ
الأجزاء الثلاثة سنة ١٠٣١ هـ ، ١٠٣٢ هـ ، ١٠٣٧ هـ ورمزنا لها في الهامش بـ ( فض ) .
٢ ـ النسخة المخطوطة في مكتبة الاستانة الرضوية / مشهد : وهي من مقدّمة المؤلّف إلىٰ نهاية الصلاة ، كتبت بخطّ الناسخ محمود الحسيني ، علىٰ
__________________
الأجزاء الثلاثة سنة ١٠٤٤ هـ ، ١٠٤٥ هـ ، ورمزنا لها في الهامش
بـ ( رض ) .
٣ ـ النسخة المخطوطة في مكتبة دانشگاه / طهران : وهي من أبواب تطهير الثياب والبدن إلىٰ باب القعود بين الأذان ، وهي مجهولة الناسخ ، يوجد في الورقة الأخيرة منها سنة ١٠٢٦ هـ. ورمزنا لها في الهامش بحرف ( د ) .
٤ ـ النسخة المخطوطة في مكتبة مجلس الشورىٰ الإسلامي ( شوراي ملي ) ، وهي من قوله « أبواب كيفية الصلاة من فاتحتها إلىٰ خاتمتها / باب وجوب قراءة الحمد » إلىٰ نهاية الصلاة ، بخط الناسخ فخر الدين بن محمّد علي الطُريحي سنة ١٠٢٨ هـ ، ورمزنا لها في الهامش بحرف ( م ) .
كما استفدنا من النسخة المطبوعة من الاستبصار لدار الكتب الاسلامية بطهران ، ومن النسخ المخطوطة الّتي أشار إليها المحقّق .
منهجية التحقيق
:
أخذت مؤسّسة آل البيت في مشهد المقدسّة علىٰ عاتقها تحقيق الكتاب ، وشكلت لأجل ذلك لجاناً ـ عمل فيها المحقّقون حسب اختصاصهم العلمي ـ وشرعت بالعمل الجماعي وفقاً لخطّتها السائرة في التحقيق ، واللّجان كما يلي :
١ ـ لجنة المقابلة : وقد عمل في هذا الحقل الأخَوان الفاضلان محمّد الأنصاري ، وعلي الإبراهيمي .
٢ ـ لجنة الاستخراج : وعملها استخراج الأقوال والروايات وغريب الحديث و . . . ، من المصادر الأساسيّة ، وقد عمل في هذه اللّجنة كلّ من حجج الإسلام : الشيخ علي المقني ، والشيخ محمّد حسين أميني ، والشيخ
محمّد علي زينلي ، والأخوة الأماجد : عبدالحسين الحسون وعبدالرضا
مجيد الروازق ، والسيّد عبدالعزيز كريمي .
٣ ـ لجنة تقويم النصّ : وتكونت هذه اللّجنة من حجج الإسلام : الشيخ محمّد صبحي ، والشيخ عباس تبريزيان ، والشيخ مجتبىٰ فرحناكي ، والشيخ كريم الأنصاري .
٤ ـ كتابة الهامش : وقد اُنيطت بالأخ السيّد محمّد جواد الحسيني .
٥ ـ الإشراف والمراجعة النهائية : وقد كانت مهمّته من مسؤوليّات حجة الاسلام الشيخ محمّد بهرهمند .
وفي الختام نقدّم جزيل شكرنا لجميع العاملين في تحقيق هذا الكتاب ، وبالأخص حجة الاسلام الشيخ محسن قديري لما بذله من جهد في ملاحظة الكتاب .
سائلينه سبحانه وتعالىٰ أن يتقبله بأحسن قبوله
وصلىٰ الله علىٰ محمّد وآله الطيّبين الطاهرين
مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث










|