ِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ )

المائدة : ٥٥

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )

التوبة : ١١٩

( وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ )

الزّمر : ٣٣

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ )

البيّنة : ٧


الإهداء

إلى .. رائد النهضة الفكرية

إلى .. صانع الحضارة الإنسانية

إلى ... المنقذ ، والمحرّر لإرادة الإنسان وسلوكه

إلى ... سيّد الأنبياء وخاتم المرسلين النبيّ محمّد 6 أرفع إلى سموّ مقامه الرفيع هذه الدراسة عن وصيّه وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين 7 راجيا التلطّف عليّ بالرضا والقبول ليكون ذخرا لي يوم ألقى الله تعالى.


كلمة النّاشر

بسم الله الرّحمن الرّحيم

( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ )

إذا أراد إنسان كامل الحجى متتامّ النّهية كالنبي 6 ، بيان ما يتمتّع به شخص من المنزلة لديه ، والمكانة عنده ، فقد يستخدم لأداء ذلك تعابير شتّى ، فإذا أراد بلوغ الغاية في الإطراء والمديح ، فليس أقصى من أن يقرنه بنفسه ، ولا أبلغ في بيان مكانته عنده ، من أن يقول : هو نفسي ، او بمنزلتي ، وما شاكل ذلك من التعابير.

ولشدّ ما نتساءل هل كان بإمكانه 6 في بيانه لمكانة أمير المؤمنين وسيّد العابدين عليّ بن أبي طالب 7 من نفسه ، أن يزيد على ما قاله ممّا اتّفقت عليه كلمة أهل الإسلام ، من أمثال قوله :

« عليّ أخي ، وصيّي ، حربك حربي ، سلمك سلمي ، أنا المنذر وعليّ الهادي ، لا يؤدّي عنّي إلاّ أنا أو عليّ ، رفيقي في الجنّة ، من أطاع عليّا فقد أطاعني ، من عصى عليّا فقد عصاني ، عليّ منّي بمنزلتي من ربّي ، بمنزلة رأسي من بدني ، خير من أترك بعدي ، خير أمّتي ، وزيري ، عيبة علمي ، باب علمي ، من أحبّه أحبّني ، من أبغضه أبغضني ، وارثي ، إنّ عليّا منّي وأنا منه ، وليّ كلّ مؤمن بعدي ، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاده ، من كنت مولاه فهذا وليّه ، خير البريّة ، وغير ذلك ممّا يضيق عن ذكره المجال.

هذا بعد قوله تعالى في آية المباهلة مع نصارى نجران : ( وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ) يعني عليّا ، فلعمر الحقّ ، ما هذا بجزاف من القول ، بل فيه آيات بيّنات.

وأمّا هذا السّفر الذي بين يديك ، الجليل بجلالة موضوعه ، والكريم بكريم محتواه ، فهو ممّا حبّرته يراعة الكاتب الفذّ ، والعالم الملهم ، صاحب التآليف القيّمة ، والقلم السمح بسهولة اللفظ ، وجودة البيان ، وحسن التنسيق ، الذي أثرى مكتبة التراث بمؤلّفاته المعطاءة ، سماحة الشيخ باقر شريف القرشي حفظه الله وأطال عمره المبارك في خدمة معارف الإسلام.

وإنّه لمن دواعي السرور لدى مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلامية التي تعنى بفرائد الكتب ، أن تتصدّى لطبع ونشر هذا السّفر الشريف.

مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة

الخامس من ذي القعدة ١٤٢٢ هـ


كلمة شكر

بسم الله الرّحمن الرّحيم

عند ما يسعى المرء في إبراز فضائل سيّد الأوصياء 7 وتتظافر اهتماماته على رصف الكلم ، وتحرير الصفحات للتعريف بمناقب الآية الكبرى والنبأ العظيم ، فإنّ ذلك من دواعي الشرف الوفير ، والافتخار والاعتزاز ، حين يوفّق المرء لهذا العمل ، لما فيه من التقرّب إلى الله تعالى ، وإلى رسوله 6 ، الذي شرّف الدنيا بوجوده وبآله الطيّبين الطاهرين ، وفي طليعتهم أمير المؤمنين 7 الذي كان هو نفس النبيّ 6 بنصّ القرآن ، وباب مدينة علمه.

وهذه الموسوعة تبحث عن تلك الصورة المشرقة من سيرة مولى الموحّدين والآفاق المضيئة من حياته المباركة التي تعبق منها المثل الكريمة ، والخصال الجميلة ، والأبعاد الإنسانية بما للكلمة من معنى. ونحن نحمد الله عزّ وجلّ على ما وفّقنا إليه من المتابعة والإشراف وتقويم النصوص لهذه الموسوعة لتخرج بحلّتها القشيبة ولتكون بين يدي القارئ الكريم ، الذي كان ينتظرها بشوق ليتعرّف على تلك السيرة العطرة.

ولا يسعني وأنا اشاهد هذا الأثر النافع يرى النور ، إلاّ أن أتقدّم بالشكر والتقدير للإخوة الذين ساهموا في مساعدتي في إخراج هذه الموسوعة.

وكذلك أرفع آيات الشكر والتقدير لمؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة لتحمّلها مسئولية نشر هذا التراث الكبير.

وأخيرا نسأله تعالى أن يتقبّل منّا هذا الجهد ، إنّه سميع مجيب.

والحمد لله أوّلا وآخرا

مهدي باقر القرشي

١١ ذي الحجّة ١٤٢٢ هـ


مقدمة الطبعة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

كان من نعم الله تعالى على عباده ، ومن ألطافه وفيضه عليهم أن بعث لهم رسولاً من أنفسهم يزكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة ، ويهديهم للتي هي أقوم ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ، وقد أيدّ الله تعالى رسوله بأخيه ، وباب مدينة علمه ، فكان القوّة الضاربة التي حمته من كيد قريش واعتدائهم عليه ، وضللّ ملازماله يصدّ عنه العدوان ، ويذبّ عنه بقوّة وحزم ونشاط كلّ من أراد النيل منه.

الامام نفس النبي 9 من بعده علما لامته ، وقائد لمسيرتها ، وبانيا لحضارتها ، ولكن المهاحرين وضعوا الحواجز والسدود أمامه وحالت بين الامة ، وبين مواهبة ، وعبقريّاته ، وقد رفعت شعارها بعد انتقال النبي 9 من الى خظيرة القدس وهو : « أبت قريش أن تجتمع النبوّة والخلافة في بيت واحد ». وهذا الشعار مهلل ليس له أي رصيد من المنطق والعلم ، ونتساءل هل إنّ قريشا هي التي منحت النبوة للنبي 9 حتى يكون لها الحق في رفع الخلافة عن أهل بيته مراكز العلم والحكمة في دنيا الاسلام.

أليست قريش هي التي كفرت برسالة النبي 9 واتهمته بالكذب تارة ، وبالجنون اخرى ، وبالسحر ثالثا؟ اليس قريش هي التي عذبت من آمن به من الضعفاء والارقاء حتى اضطروا الى الهجرة للحبشة وترك اوطانهم؟ اليست قريش هي التي اجمعت على قتل النبي 9 حتى اضطر الى الهجرة في غلس الليل ، وأناب أخاه في فراشه ، فكان الامام المدافع الاول عن النبي 9؟ اليست قريش هي التي ناجزت النبي 9 وشنت الحرب عليه في بدر واحد والاحزاب؟

فاي حق لقريش في خلافة المسلمين ، لو كان هناك منطق لكان موضوع الخلاقة بيد


الاسرة النبوية ، وبيد الأوس والخزرج الذين نصروا الاسلام في محنته وغربته ، وعلى أي حال فقد عانت الامة من الخطوب والازمات ما لاتوصف لمرارتها وقسوتها ، فكان من نتائجها أن رفعت رؤوس أبناء النبي 9 على أطراف الرمال وعقائل الوحي سبايا يطاف بهن من بلد الى اخر ، وصارت الخلافة الاسلامية العوبة بايدي الامويين والعباسيين ، فأنفقوا أموال المسلمين على شهواتهم ولياليهم الحمراء واستعبدوا المسلمين وأرغموهم على ما يكرهون.

ومهما يكن الأمر فان الامام امير المؤمنين 7 ثروة من العلوم والمعارف لايدانيه في فضله أحد ، وهو القائل : « سلوني عن طرق السماء فاني أعلم بها من طرق الارض ».

وقد ذكر العقاد أن الامام فتح اثنين وثلاثين علما لم يعرفها الناس من قبله والخليفة الثاني يقول : « حتى النساء افقه منك يا عمر ، واله تعالى يقول : ( هل يستوي الذين يعلمُونَ والذين لا يعلمون ).

وقد تناول العلماء من قدامى ومحدثين حياة الامام وسيرته ومنهج حكمه وعجائب قضائه بالبحث والتحليل ، وقد وفقني الله تعالى للبحث عنه في موسوعة بلغت « ١١ » جزءأ ، فان ذلك أمر بعيد المنال ، وقد لاقى الكتاب رضا في نفوس القراء ، وقد قامت بطبعه مؤسسة الكوثر وجامعة آل البيت : التي هي برعاية سيادة حجة الاسلام والمسلمين العلامة الدكتور عبدالهادي الفضلي أعزة الله ورعاه.

ومن الوفاء أن اقدم آيات الشكر إلى سماحة العالم السيد محمد باقر الناصر ، والى سماحة الفاضل حجة الاسلام الشيخ عبدالمجيد عبدالله البقشي لاهتمامهم ورعايتهم بنشر الموسوعة ، وقد نفدت الطبعة الاولى فرأت المؤسسة القيام بطبعها ثانيا ، أجزل الله تعالى لهم المزيد من الأجر ، وشكر لهم الصنيع ، إنّه تعالى ولي ذلك والقادر عليه.

باقر شريف القريش

٢٤ / جمادى الاولى / ١٤٢٧ هـ


تقديم

( ١ )

من جهاد الرسول الأعظم محمّد 6 ، وكفاح أخيه ووصيّه الإمام أمير المؤمنين 7 انطلقت أشعة النور التي أضاء سناها في سماء الجزيرة العربية ، وامتدّت موجاتها المشرقة إلى امم العالم وشعوب الأرض ، وهي تحمل التحرير الكامل لفكر الإنسان وإرادته وسلوكه ، وتقدّم له منهجا متطوّرا وإصلاحا شاملا لجميع مناحي حياته ، التي منها إشاعة العلم وإقصاء الجهل وتنمية العقل ورفع مستوى الإنسان من مساوئ الحياة إلى حياة تزدهر بالوعي والنور.

من فم الرسول 6 ارتفعت أسمى كلمة في دنيا الوجود إنّها كلمة التوحيد التي تحمل جميع ألوان التحرّر للإنسان ، وتحسم جميع ألوان العبودية لغير الله تعالى خالق الكون وواهب الحياة. وتبنّى الرسول 6 بصورة إيجابية كلمة التوحيد وأعلنها في مكّة ، وحمل لواءها وصيّه وباب مدينة علمه ، وهو يلوّح بها في فضاء مكّة التي كانت موئلا للأصنام والأوثان ، ومركزا لجهل الإنسان وخرافاته.

وهبّت في وجه الرسول 6 الاسر العاتية من قريش مجمعة على إخماد نور الرسالة ، ولفّ لواء القرآن ، وإعادة الجاهلية إلى مجتمعها ، فانبرى إليهم بطل الإسلام الخالد الإمام أمير المؤمنين بشجاعته النادرة محاميا عن النبيّ 6 ومدافعا عنه فكان


القوّة الضاربة التي وقفت إلى جانب الرسول 6 وحمته من شرّ اولئك الوحوش.

( ٢ )

وليس في دنيا الإسلام وغيره شخصية تضارع شخصية أبي الحسن في مواهبه وعبقرياته وسائر ملكاته التي استوعبت ـ بشرف وفخر ـ جميع لغات الأرض ، وتحدّث عنها العلماء بإكبار وإعجاب ، وكان من جملة مواهبه إحاطته الكاملة بأسرار الشريعة وأحكام الدين فكان فيها العلم البارز. ولم تقتصر مواهبه وطاقاته العلمية على فقه الشريعة وأحكام الدين وإنّما كانت شاملة لجميع شئون الكون في فضائه وكواكبه ومجرّاته ، وهو القائل : « سلوني عن طرق السماء فإنّي أعلم بها من طرق الأرض ... ».

إنّ هذا العملاق العظيم قد بهر العالم بعلومه ومواهبه التي لا تخضع للحصر ...

وقد أراد أن يقيم في هذا الشرق العربي صروحا للعلم بجميع صوره وأنواعه ، ويؤسّس مراكز للتطوّر والتقدّم التكنولوجي ، ويشيع العلم والمعرفة في العالم الإسلامي ، ولكنّ العتاة الظلمة وقفوا أمام تطلّعاته ورغباته كما وقفوا من قبل أمام أخيه وابن عمّه الرسول 6 ، فسعوا مجمعين جاهدين إلى إفشال مخطّطاته ووضعوا أمامه الحواجز والسدود.

( ٣ )

وكان من أهمّ ما يتطلّع إليه الإمام ويصبو إليه أن يؤسّس في دنيا الإسلام حكومة قائمة على العدل الخالص والحقّ المحض ، ويوزّع خيرات الله تعالى على عباده ، فلا يختصّ بها فريق دون فريق ولا قوم دون آخرين ، وأن ينعم الإنسان في ظلّ حكومته ، ولا يبقى في البلاد أي شبح للبؤس والحرمان ، فالكفر والفقر في شريعة الإمام سواء ، فكما يجب مكافحة الكفر كذلك يجب مكافحة الفقر.


إنّ الإمام أخو الفقراء وأبو البؤساء وأمل المحرومين والمعذّبين في الأرض ، وقد جهد على إسعادهم وإشاعة الرفاهية والسعة بينهم ، ولكنّ القوى الباغية التي يمثّلها الأمويّون قد خاصموه وحاربوه وصدّوه عن سياسته وأهدافه ، ولو أنّ الامور استقامت له لرأى الناس من صنوف العدل في ميادين الحكم والإدارة ما لم يروه في جميع فترات التاريخ.

( ٤ )

إنّ هذا الإمام الملهم العظيم أوّل مظلوم في دنيا الإسلام ، فقد طافت به المحن والأزمات يتبع بعضها بعضا بعد وفاة أخيه وابن عمّه الرسول 6 ، وراحت القوى الحاقدة عليه تهتف بقوى محمومة : « لا تجتمع النبوّة والخلافة في بيت واحد ... ».

واقصي الإمام عن الخلافة وقيادة الامّة ، وقبع في أرباض بيته يسامر الهموم ويبارح الأحزان ويصعّد آهات آلامه ، فقد عامله القوم كمواطن عادي ، والغيت في حقّه جميع وصايا الرسول.

ولمّا آلت إليه الخلافة بعد مقتل عثمان عميد الاسرة الأموية قامت قيامة القرشيّين وورمت آنافهم ، فقد خافوا على مصالحهم وعلى امتيازاتهم وما نهبوه من الثراء العريض في أيام حكومة عثمان ، فجنّدوا جميع ما يملكونه من طاقات مادية وسياسية للاطاحة بحكومته. لقد أبغضوه ونقموا عليه لأنّه لم يتجاوب مع مصالحهم ، لقد أخلص للحقّ وجهد في إقامة العدل ، وتبنّى قضايا المحرومين والبائسين ، وآثر رضا الله تعالى على كلّ شيء.

إنّ القوى الحاقدة على الإمام كانت على يقين لا يخامره شكّ أنّ الإمام لا يقيم أي وزن لمصالحهم ورغباتهم التي هي أبعد ما تكون عن منهج الإسلام ومصلحة المسلمين ، فقد صحبوه طفلا وشابا وكهلا ، وعرفوا شدّة وطأته وتنمّره في ذات الله تعالى ، وشاهدوا ضرباته القاصمة في فجر الدعوة الإسلامية حينما حصد رءوس


أعلامهم ، وما أشاعه في بيوتهم من الثكل والحزن والحداد. فإذا هم خصومه وأعداؤه قبل أن يكون خليفة ، وبعد أن صار حاكما وخليفة عليهم.

( ٥ )

إنّ الأحداث الجسام التي ألمّت بالإمام 7 بعد وفاة أخيه الرسول الأعظم 6 يجب أن تدرس بعمق وشمول وينظر في محتوياتها وأبعادها حسب الدراسات العلمية البعيدة عن الأهواء والعواطف ، فقد تركت تلك الأحداث بصماتها على مجريات الأحداث في العالم الإسلامي وأغرقته بالمحن والخطوب.

من المؤسف أنّ التاريخ الإسلامي في عصوره الاولى لم يكتب له أن يدرس دراسة واعية مستوعبة ، بعيدة عن التيارات المذهبية ، وإنّ من الحقّ أن ينظر إلى تلك الحقبة الخاصّة من الزمن التي أعقبت وفاة الرسول 6 فتدرس دراسة ملمّة بشئونها وملابساتها ، فقد احيطت بالقيود والأغلال وظلّت قابعة بالتعتيم والغموض والإبهام.

إنّ كلّ شيء في عصر النهضة الفكرية خاضع للدراسة العلمية ، فقد خضع الفضاء والمجرّات للدراسة سوى التاريخ الإسلامي الذي ظلّ مكبّلا بقيود الطائفية ورواسب التقاليد الموروثة ، وابتعد عن التحقيق والتدقيق.

( ٦ )

إنّ من أهمّ الأحداث التي جرت في العصر الإسلامي الأوّل مؤتمر السقيفة والشورى ، فلم يقرّر فيهما مصير الامّة الإسلامية وقضاياها المصيرية ، فقد قدّمت فيهما المصالح الشخصية والرغبات الخاصّة واستهدفت فيها إقصاء الإمام عن الحكم وإبعاده عن كلّ ما يتعلّق بالدولة الإسلامية ، وما يرتبط بشئونها السياسية والعسكرية ... وقد تمّ ذلك بوضوح فقد عزل الإمام وابعد ، وحرمت الامّة من مواهبه وعبقرياته ، وما أراده لها من


التطوّر والتقدّم والسيادة العامّة على جميع امم العالم وشعوب الأرض.

( ٧ )

ومني العالم الإسلامي بأحداث رهيبة من جرّاء إقصاء الإمام 7 عن قيادة الامّة ، كان من أفجعها محنة وأقساها بلاء أن آلت الخلافة الإسلامية التي هي ظلّ الله تعالى في الأرض إلى بني اميّة الذين هم من ألدّ أعداء الرسول 6 ومن أكثرهم حقدا عليه ومن أشدّ الناقمين على قيمه ومبادئه ، فأنزلوا الضربات القاصمة على آله الذين هم وديعته وخزنة علومه ، وطاردوا شيعتهم ، وأشاعوا المنكر والفساد في الأرض.

وبعد أن طويت حكومة الأمويّين واستولى العباسيّون على الحكم نشروا الجور والظلم ، وسخّروا اقتصاد الامّة صوب شهواتهم ولياليهم الحمراء ، وصبّوا جام غضبهم على السادة العلويّين دعاة الاصلاح الاجتماعي ، وعلى شيعتهم بصورة أكثر بشاعة ، وأقسى عنفا ممّا اقترفه الأمويّون تجاههم.

وعلى أي حال فإنّ جميع ما عاناه المسلمون من الكوارث والأزمات أيام الحكم الأموي والعباسي كان ناجما ـ من دون شكّ ـ من مؤتمر السقيفة والشورى ، وسندلل على ذلك في بحوث هذا الكتاب.

( ٨ )

أمّا الإمام 7 فهو من مغارس النبوّة ، ومن مشارق أضوائها ، إنّه من الشجرة المباركة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء ، تؤتي اكلها كلّ حين بإذن ربّها.

إنّ تاريخ الإمام يرتبط ارتباطا وثيقا بسيرة الرسول 6 فهو جزء لا يتجزّأ من سيرته ونضاله ، فهو المثل الأعلى له ، والقوّة الضاربة التي وقفت إلى جانبه أيام محنة الإسلام وغربته ، فقد جاهد معه كأعظم ما يكون الجهاد حتى قام الإسلام على سوقه


عبل الذراع ينشر الوعي ، ويفتح آفاق الفكر ويضيء جوانب الحياة ويدمّر الجهل ، ويحطّم الشرك.

( ٩ )

واستوعبت شخصية هذا الإمام الملهم العظيم أفكار العلماء وروّاد الفكر من مسلمين وغيرهم في جميع الأعصار والأمصار ، فقد أذهلهم ما أثر عنه من العلوم والمعارف التي لم يعرفها الشرق العربي وغيره ، وتحدّثوا ـ بإعجاب ـ عن روعة قضائه ، وسموّ بلاغته ، وإعجاز فصاحته وما خلّفه من ثروات تعدّ من مناجم الأدب وذخائر الفكر والبيان ، يقول ابن أبي الحديد : « ما أقول في رجل تعزى إليه كلّ فضيلة ، وتنتهي إليه كلّ فرقة ، وتتجاذبه كلّ طائفة ، فهو رئيس الفضائل وينبوعها ، وسابق مضمارها ، ومجلّي حلبتها ».

وقد تناول العلماء والادباء البحث عن شخصيّته ، وكتبوا عشرات الكتب عن سيرته ، ومئات المقالات عن حياته ومآثره ، ومن المؤكّد أنّهم لم يلمّوا بجميع مناحي شخصيّته وإنمّا ألقوا الأضواء عليها.

إنّ معالم شخصية الإمام وما خلّفه من الثروات الفكرية والعلمية قد حفل بها الكثير من المخطوطات العربية التي ضمّتها خزائن المخطوطات في مكتبات العالم.

وعلى أي حال فإنّي على يقين لا يخامرني شكّ أنّه لا يستطيع أي عالم مهما بذل من جهد شاق أن يلمّ بشخصية هذا العملاق العظيم ويحيط بمكوّناته النفسية والعلمية فإنّ الإحاطة بذلك أمر بعيد المنال.

( ١٠ )

لا أعتقد أنّ شخصية في التاريخ الإنساني اختلفت فيها آراء الناس كشخصية


الإمام 7 ، فقد تباينت فيها آراء محبّيه ومبغضيه واختلفوا فيه كأشدّ ما يكون الاختلاف ، فقد غالى فيه بعض محبّيه غلوّا فاحشا ، وأسرفوا إسرافا مقيتا ، فزعموا أنّه المدبّر لهذا الكون والموجد للحياة دفعهم ـ فيما أحسب ـ إلى هذا الغلوّ الفاحش ما رأوه من سموّ ذاته وسعة علومه وشجاعته النادرة وبسالته في الحروب واندفاعه نحو الحقّ ، فاعتقدوا جازمين بإلهيّته.

وأفرط آخرون في بغضه وكراهته ، فذهبوا إلى كفره ومروقه من الدين لأنّ الإمام قد وترهم وأباد آباءهم في سبيل الإسلام ، وهؤلاء هم النواصب ... وتبعهم الخوارج في بغض الإمام وهم الذين أرغموه على قبول التحكيم حينما أحرزت جيوشه النصر الحاسم على معاوية وصار في متناول أيديهم ، فرفع أصحابه المصاحف ففتنوا بها ، ودعوه إلى تحكيمها ، فيما شجر بينه وبين معاوية من خلاف ، وعرّفهم الإمام أنّهم إنّما رفعوا المصاحف غيلة ومكرا ، وأنّهم لا يؤمنون بالقرآن ولا يدينون بأحكامه فلم يستجيبوا له ، وشهروا سيوفهم ورماحهم في وجهه ، وأرغموه على التحكيم ، ولمّا استبان لهم ضلال ما ذهبوا إليه حكموا بكفره لأنّه استجاب لهم أوّلا ، وقد امتحن الإمام 7 بهم كأشدّ ما يكون الامتحان ، فقد جرّعوه نغب التهمام ـ على حدّ تعبيره ـ ، ومنذ ذلك الوقت أيقن بافول دولة الحقّ واستعلاء كلمة الباطل لأنّه لم تكن له قوّة يركن إليها. وبقي في أرباض الكوفة يصعّد آهاته وأحزانه حتى وافته المنيّة على يد مجرم باغ أثيم من الخوارج.

وعلى أي حال فالغلاة والنواصب والخوارج خارجون عن هدي الإسلام ومارقون من الدين ولا نصيب لهم من هدي القرآن.

( ١١ )

وليس من الوفاء ، ولا من الانصاف في شيء أن لا اشيد بإجلال وتعظيم ما أسداه عليّ من الطاف سماحة المغفور له حجّة الإسلام والمسلمين أخي الشيخ هادي شريف


القرشي نضّر الله مثواه ، فقد تتابعت عليّ أياديه منذ فجر صباي حتى بلغت سن الشيخوخة ، وواساني في السرّاء والضرّاء ، ولم يبق أي لون من ألوان البرّ والإحسان إلاّ تكرّم به عليّ ، ففي ذرى عطفه واصلت مسيرتي في الدراسة والتأليف ، وإنّي أتضرّع إلى الله تعالى أن يجازيه عنّي خير ما يجازي عباده الصالحين ، وأن يجزل له المزيد من الرحمة والغفران.

ومن الحقّ عليّ أن أذكر بكل خير سماحة استاذنا المعظّم حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ حسين الخليفة على ألطافه المتواصلة وتشجيعه لي في خدمة أهل البيت : ، شكر الله مساعيه وأعزّ به الدين.

كما أنّ من الواجب أن اشيد بألطاف أخي في الله سماحة حجّة الإسلام والمسلمين سيّدنا المعظّم السيّد الجواد الوداعي دامت بركاته ، فقد كان له الفضل الوافر على مكتبة الإمام الحسن 7 ، فقد أمدّها بالكثير من شئونها ، وإنّي أسأل من الله تعالى أن يجزل له المزيد من الأجر ويحفظه ذخرا لأهل العلم والتوفيق بيد الله تعالى يهبه للصالحين من عباده.

إنّه ولي التوفيق

النّجف الأشرف

باقر شريف القريشى

١٨ / محرّم الحرام / ١٤١٨ هـ


النّسب الوضّاح



ليس في دنيا الأنساب نسب وضّاح التقت به جميع عناصر الشرف والكرامة كنسب الإمام أمير المؤمنين 7 ، فهو من صميم الاسرة الهاشمية التي عرفت بالنبل والشهامة وقراية الضيف ونجدة الضعيف وحماية الجار وغير ذلك من الصفات الكريمة التي جعلتها في طليعة الاسر العربية سموّا وإشراقا وشرفا ، ونشير ـ بإيجاز ـ إلى بعض مآثرها الرفيعة وإلى كوكبة من أعمدتها وساداتها الذين سجّلوا الفخر والاعتزاز لا لاسرتهم فحسب وإنّما لجميع أبناء العالم العربي.

المآثر الكريمة :

نقل المؤرّخون بعض المآثر الكريمة التي تميّزت بها الاسرة الهاشمية منذ فجر تأريخها ، وقد شاعت مآثرهم في مجتمع بعيد كلّ البعد عن الفضائل النفسية التي يسمو بها الإنسان ، فقد كانت السمت البارز لأخلاق قبائل مكّة الغلظة والتكبّر والأنانية والقسوة والحسد ووأد البنات وعبادة الأوثان والأصنام ، وغير ذلك من صنوف الانحطاط.

ومن المؤكّد أنّه لم تكن في مكّة اسرة عرفت بالنبل والشهامة سوى الاسرة الهاشمية ، ومن بين مآثرها :

١ ـ عبادة الله :

وكانت عبادة الأصنام هي السائدة في قبائل مكّة ، فقد كانت أصنامهم معلّقة


على ظهر الكعبة ، فلكلّ قبيلة صنم يعبدونه من دون الله سوى الاسرة الهاشمية فانّها وحدها تعبد الله وحده ، وتدين بدين إبراهيم شيخ الأنبياء. يقول الإمام أمير المؤمنين 7 :

« والله! ما عبد أبي ولا جدّي عبد المطّلب ولا عبد مناف ولا هاشم صنما ، وإنّما كانوا يعبدون الله ، ويصلّون إلى البيت على دين إبراهيم متمسّكين به ... » (١).

وتلك كرامة للاسرة الهاشمية دلّت على نضوجهم الفكري وإيمانهم العميق بالله ونبذهم التامّ لخرافات الجاهلية وأوثانها ، فقد سخروا من الأصنام والأوثان ، واعتنقوا ملّة جدّهم إبراهيم 7 الذي حارب الأوثان وأعلن الإيمان بالله.

٢ ـ حلف الفضول :

وكان أهمّ حدث اجتماعي ظهر في مكّة هو حلف الفضول الذي كان من أبرز بنوده القيام بنجدة المظلوم والأخذ بحقّه ، سواء أكان من قريش أم من غيرهم ، وكان هذا الحلف يتّفق مع طباع الهاشميّين الذين يمثّلون المروءة والنجدة والشهامة والنبل ، وقد

شهده الرسول 6 واعتزّ به ، وقال : شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما احبّ أنّ لي به حمر النعم ، ولو ادعى به في الإسلام لأجبت (٢).

وتخلّف الأمويّون عن هذا الحلف الذي يتجافى مع ميولهم التي طبعت عليها الاثرة والأنانية ، وهم على نقيض تامّ من طباع السادة الهاشميّين الذين تبنّوا هذا الحلف بصورة إيجابية. ومن الجدير بالذكر أنّه حدثت مشادّة بين الإمام الحسين 7 وبين الوليد بن عتبة حاكم المدينة ، فغضب الإمام 7 ونادى بحلف

__________________

(١) إكمال الدين ـ الصدوق : ١٠٤.

(٢) السيرة النبوية ـ ابن هشام ١ : ١٣٤.


الفضول فاستجاب له عيون القرشيّين ، فخاف الوليد وردّ على الإمام ظلامته (١).

وعلى أي حال فإنّ حلف الفضول من أروع الحركات الإصلاحية التي ساهم الهاشميّون في دعمها وتأسيسها.

٣ ـ إخراج ماء زمزم :

من المآثر الكريمة التي نسبت للهاشميّين ، والتي هي من مواضع الاعتزاز والفخر ، إخراج عين ماء زمزم التي خفيت حقبة من الزمن على القرشيّين ولم يهتدوا لموضعها ، وقد أنفقوا على ذلك جهدا شاقّا وعسيرا فلم يظفروا بها.

وانبرى زعيم الهاشميّين عبد المطّلب للبحث عنها فأصاب موضعها ، وفي أثناء حفره عنها أصاب كنزا فيه غزالان من ذهب وسيوف ودروع ، فرفع صوته بالتكبير ، فأسرع القرشيّون إليه وبهروا بما رأوه من الكنز ، وتنازعوا فيه ، فقال هشام ابن المغيرة : إنّه لقريش لأنّه وجد في البيت الحرام ، وكلّ ما وجد فيه فهو لعامّة قريش ، وأنكر عليه حرب بن اميّة ، فردّ عليه بعنف قائلا : إنّما هو لعبد مناف خاصّة فهم الذين حفروا البئر وظفروا به ، وما ينبغي لقريش أن تشاركهم فيه ، واشتدّ النزاع بين القوم ، وكان عبد المطّلب ساكتا يسمع مقالة قريش ، فانبرى إليه حرب فقال له : ما لك لا تتكلّم وأنت الذي عثرت عليه؟ فقال عبد المطّلب بأناة غير حافل بصيرورة الكنز إليه : « ما ينبغي أن يكون الكنز لأحد منّا حتى نضرب بالقداح فنجعل للكعبة قد حين ولي قد حين ولكم قد حين » ، فاستجابوا له ، فضرب بين قريش والكعبة فخرج للكعبة ثلاثة أقداح ، فصاح بهم عبد المطّلب قائلا : « تفرّقوا يا معشر قريش ، ويا بني عبد مناف ليس لأحد منكم في هذا الكنز نصيب ... أمّا هذا الذهب فسيصاغ

__________________

(١) السيرة النبوية ١ : ١٢٧.


صفائح ويوضع على باب الكعبة ... ».

وأكبرته قريش على هذا النبل والسموّ ، وبعثوا بالذهب إلى الصاغة فصاغوه صفائح ووضعوه على الكعبة (١). وأكبر الظنّ أنّ أوّل ما كسيت به الكعبة المشرّفة بالذهب على يد عبد المطّلب سيّد قريش.

وعمّت الأفراح والمسرّات جميع أهالي مكّة بماء زمزم الذي أخرجه لهم عبد المطّلب ، فقد وفّر لهم أعظم نعمة وأعزّ ما في الحياة وهو الماء.

٤ ـ سقاية الحاج :

من مكارم الهاشميّين وأريحيّتهم واندفاعهم نحو الخير سقايتهم للحجّاج وبذل الماء لهم بسخاء ، وكان عزيز الوجود ، وأوّل من بادر منهم إلى هذه الفضيلة هاشم فكان ـ فيما يقول الرواة ـ إذا وفد الحجّاج إلى بيت الله الحرام قام خطيبا في قريش رافعا عقيرته قائلا : « يا معشر قريش ، إنّكم جيران الله وأهل بيته ، وإنّكم يأتيكم في هذا الموسم زوّار الله وحجّاج بيته ، وهم ضيف الله وأحقّ بالكرامة ضيفه ، فاجمعوا له ما تصنعون لهم به طعاما أيامهم هذه التي لا بدّ لهم من الإقامة بها ... » (٢).

وهذه الدعوة دعوة نبل وشهامة وشرف ، ويقوم القرشيّون بدورهم بالتبرّع بجمع المال وشراء الماء والطعام.

٥ ـ إطعام الطعام :

وثمّة مكرمة اخرى للهاشميّين وهي إطعامهم الطعام وبذلهم بسخاء للغرباء

__________________

(١) السيرة النبوية ـ ابن هشام ١ : ١٣٦.

(٢) المصدر السابق : ١٤٣.


والبؤساء ، وأوّل من عرف بهذه المكرمة منهم زعيم الاسرة الهاشميّة ، وهو هاشم فقد كان يهشم الثريد ويبذله بطيب نفسه لقومه ، ومن أجل ذلك لقّب بهاشم ، وفيه يقول الشاعر :

عمرو العلى هشم الثّريد لقومه

ورجال مكّة مسنتون عجاف

وورث هذه الظاهرة معظم أبنائه وأحفاده ، وكان من أبرزهم ريحانة رسول الله 6 الإمام الحسن 7 ، فقد كان أجود أهل زمانه ، ومضرب المثل في سخائه حتى لقّب بكريم أهل البيت مع أنّهم معدن الكرم والجود ، وكان يضارعه في كرمه أخوه سيّد شباب أهل الجنّة وأبو الأحرار الإمام الحسين 7 ، فقد كان من أروع وأسمى أمثلة السخاء في دنيا الإسلام ، وكان عبد الله بن جعفر من ألمع الأسخياء في العالم العربي ... وهكذا كان الهاشميّون اصولا وفروعا من أندى الناس كفّا ، ومن أكثرهم برّا وسخاء حتى عدّ الكرم من عناصرهم وذاتياتهم.

أعمدة الشرف من الهاشميّين :

وحظيت الاسرة الهاشمية بأفذاذ الرجال وعيونهم كان منهم السادة التالية أسماؤهم :

١ ـ هاشم :

أمّا هاشم فهو أشرف من في مكّة ، وكان مضرب المثل في جوده ، وهو الذي كان يطعم الحجّاج بمكّة ومنى وعرفة (١) ، وهو أوّل من سنّ الرحلتين لقريش الرحلة إلى اليمن والرحلة إلى الشام (٢) ، وفيه يقول الشاعر :

__________________

(١) السيرة النبوية ٣ : ٤٥٨.

(٢) تاريخ الطبري ٢ : ١٨٠.


سنّت إليه الرّحلتان كلاهما

سفر الشّتاء ورحلة الأصياف (١)

٢ ـ عبد المطّلب :

من سادات بني هاشم ومن عيونهم ومن مفاخر قريش السيّد الجليل عبد المطّلب ، فقد كان في شبابه من أنبل فتيان قريش ، وفي شيخوخته كان من أوقر وأجلّ شيوخ عصره حتى لقّب بشيبة الحمد ، وذلك لكثرة حمد الناس وثنائهم عليه (٢) ، وقد اسندت إليه رفادة الحجّاج وسقايتهم بعد وفاة عمّه ، وقد لاقى جهدا شاقّا وعسيرا في جمع الماء ، فكان يجمعه من المطر وغيره في أحواض من الأدم ويقدّمه لحجّاج بيت الله الحرام ، وهو الذي أخرج ماء زمزم بعد أن جهل القرشيّون موضعه ، ولمّا توفّي كان له صدى حزن وأسى في جميع أوساط القرشيّين ورثاه مطرود بن كعب الخزاعي بقوله :

يا أيّها الرجل المحوّل رحله

ألاّ نزلت بآل عبد مناف

هبلتك امّك لو نزلت عليهم

ضمنوك من جوع ومن إقراف

هبلتك امّك لو نزلت عليهم

والرّاحلون لرحلة الإيلاف

والمطعمون إذا الرياح تناوحت

ورجال مكّة مسنتون عجاف

والمفصلون إذا المحول ترادفت

والقائلون هلمّ للأضياف

والخالطون غنيّهم بفقيرهم

حتى يكون فقيرهم كالكافي

كانت قريش بيضة فتفلّقت

فالمخّ خالصة لعبد مناف (٣)

__________________

(١) تاريخ الطبري ٢ : ١٨٠.

(٢) قيل : إنّما لقّب بشيبة الحمد لأنّه كان في ذؤابته شعرة بيضاء حين ولد ، جاء ذلك في معرفة الصحابة ١ : ٢٧٦.

(٣) أمالي المرتضى ٢ : ٢٦٨ ، وذكرت هذه الأبيات باختلاف في أمالي القالي ١ : ٢٤١.


وحكى هذا الشعر كرم الاسرة الهاشميّة وقريها للضيف وسخاءها اللامحدود ، ومن الجدير بالذكر أنّ النبيّ كان عمره بعد وفاة عبد المطّلب ثمان سنين (١).

٣ ـ أبو طالب :

أمّا أبو طالب فهو حامي الإسلام ، والرصيد الأعظم للدعوة الإسلامية منذ بزوغ نورها ، فهو القوّة الضاربة التي حمت الإسلام حينما هبّت طغاة قريش وعتاتهم لإطفاء نور الله وإخماد شعلة التوحيد ، ومن المؤكّد أنّه لو لا حماية أبي طالب للنبيّ 6 لما استطاع أن يبلّغ رسالة ربّه ، ويقف بعزم وشموخ أمام تلك الوحوش الكاسرة مستهينا بها محتقرا لأصنامها ساخرا من تقاليدها وعاداتها ، ونعرض ـ بإيجاز ـ إلى بعض مواقفه البطولية في نصرة الإسلام ، والذبّ عن حمى الرسول 6 التي سجّلت له بمداد من النور والفخر ، وفيما يلي ذلك :

رعايته للنبيّ 6 :

وعنى أبو طالب عناية بالغة بالنبيّ 6 ، وقام بجميع خدماته وشئونه ، وتولّى رعايته منذ نعومة أظفاره ، فكان المربّي والحارس له ، فقد علم بما سيكون في مستقبل حياته من السمو والعظمة ، وأنّه سيملأ الدنيا نورا ووعيا ، وأنّه رسول ربّ العالمين ، وخاتم المرسلين ، وسيّد النبيّين ، وقد أحاطه الكهّان علما بذلك ، وحذّروه من فتك اليهود واغتيالهم له ، يقول الرواة : إنّ أبا طالب سافر للتجارة إلى الشام مع النبيّ 6 فسارع إليه الراهب فقال له : إنّي أنصحك أن ترجع بابن أخيك من مكانك هذا وإن أدّى ذلك إلى ذهاب أموالك وخسارتك في تجارتك ، فإنّي لا آمن

__________________

(١) الامتاع والمؤانسة ٢ : ٨١.


عليه من دسائس الشرك ومكائد اليهود ؛ فإنّهم إن عرفوا الذي عرفته فلا يولّوا حتّى يلحقوا به الأذى ، بل يغتالونه بكلّ نشاط وقوّة (١) ، وقفل أبو طالب راجعا إلى مكّة ، ولم يمض في تجارته إلى الشام حفظا لابن أخيه ، وبلغ من رعايته له أنّه كان يصحبه معه في فراشه خوفا عليه (٢) ، كما كان ينقله في غلس الليل من مكان إلى مكان ، ويمضي ليله ساهرا على حراسته لئلا يغتاله أحد.

حمايته للإسلام :

ولمّا أعلن النبيّ 6 دعوته الخالدة الهادفة لتحرير الإنسان وإنقاذه من ظلمات الجهل وعبادة الأوثان هبّت قريش عن بكرة أبيها فزعة كأشدّ ما يكون الفزع له لإطفاء شعلة التوحيد.

لقد أوجدت الدعوة الإسلامية في المجتمع الجاهلي انقلابا فكريا وتحوّلا اجتماعيا مهيبا ، فقد خافت قريش على مصالحها وتقاليدها ، وخافت على نسائها وأبنائها من الانجراف بالشعارات والمبادئ التي أعلنها النبيّ 6 ، لقد خافوا على آلهتهم وأصنامهم التي سخر منها النبيّ ودعا إلى تحطيمها وتدميرها ، فورمت آنافهم ، وانتفخ سحرهم ، وأجمعوا اكتعين على مناجزته وإطفاء نور رسالته ، إلاّ أنّ أبا طالب ، بطل الإسلام وقف سدّا منيعا لحمايته ، وكان يبعث النشاط والحماس في نفس ابن أخيه لإشاعة مبادئه ، وقد خاطبه بهذه الأبيات :

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

وابشر بذاك وقرّ منك عيونا

ودعوتني وعلمت أنّك ناصحي

ولقد صدقت وكنت ثمّ أمينا

ولقد علمت بأنّ دين محمّد

من خير أديان البريّة دينا

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ : ٩٠.

(٢) السيرة الحلبية ١ : ١٤٠.


والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتّى أوسّد في التّراب دفينا (١)

وحكت هذه الأبيات إيمانه العميق بالإسلام ووقوفه إلى جانب النبيّ 6 وحمايته لدعوته ، وأنّ القوى المعادية له مهما بذلت من جهد فإنّها لن تستطيع أن تصدّه عن إشاعة مبادئه وتبليغ رسالة ربّه.

وقد صمّم أبو طالب على حماية النبيّ 6 والذبّ عنه بجميع طاقاته ، وقد خاطب القرشيّين قائلا :

كذبتم وبيت الله نخلي محمّدا

و لمّا نطاعن دونه ونناضل

وننصره حتّى نصرّع حوله

ونذهل عن أبنائنا والحلائل (٢)

ومعنى ذلك أنّه لا يخلي عن النبيّ 6 ولا يترك قريشا تعتدي عليه ، وسيدافع عنه حتّى يصرع هو وأهل بيته دونه.

لقد هام أبو طالب في ولائه للنبيّ ، وملك عواطفه ومشاعره ، وهو القائل فيه :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

وقد وقع هذا البيت في نفس النبيّ 6 موقعا عظيما ، ويقول الرواة : إنّ أهل المدينة أصابهم قحط شديد فشكوا ذلك إلى رسول الله 6 ، فصعد المنبر فاستسقى ، فما لبث أن جاء من المطر ما خشي منه أهل المدينة من الغرق ، فشكوا ذلك إلى

رسول الله 6 فقال : « اللهمّ حوالينا ولا علينا » ، فانجاب السحاب عن

__________________

(١) أسنى المطالب في نجاة أبي طالب : ٢٥.

(٢) المغازي ـ الواقدي ١ : ٧٠.


المدينة وصار حواليها ، فقال النبيّ : « لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لسرّه » ، فالتفت الإمام 7 إلى النبيّ فقال له : « كأنّك أردت قوله :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل » (١)

كما كان لهذا البيت وقع خاصّ عند الاسرة النبوية ، فقد أنشدته سيّدة نساء العالمين 3 في الساعات الأخيرة من حياة أبيها فقال لها أبوها بلطف : « هذا قول عمّي أبي طالب » ، وتلا قوله تعالى : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ... ) الآية (٢).

وعلى أي حال فقد خفّ جماعة من رؤساء قريش إلى أبي طالب وعرضوا عليه أن يسلّم لهم النبيّ 6 لتصفيته جسديا ويعطوه عوض ذلك عمارة وهو من أنبل فتيان قريش ، ومن أصبحهم وجها ، فسخر منهم أبو طالب وصاح بهم : « والله ما أنصفتموني أيّها الحمقى ، تبّا لكم وسحقا! أتريدون منّي أن اعطيكم روحي وولدي لتقتلوه ، وتعطوني ابنكم اربّيه لكم! ما لكم كيف تحكمون ، أترجون منّي أن أستبدل محمّدا بعمارة بن الوليد ، فو الذي نفسي بيده لو أعطيتموني العالم كلّه لما استبدلته بظفر من رجل محمّد ، فإليكم عنّي ، لا تكلّموني ، وإلاّ علوت رءوسكم بالسيف ».

وانصرفوا خائبين خاسرين ، قد خيّب آمالهم وسخر منهم أبو طالب ووقف بصلابة لحماية النبيّ 6. لقد وقف أبو طالب منافحا عن النبيّ 6 ، ولو لا حمايته له لما أبقى القرشيّون للنبيّ ولا لدعوته أيّ ظلّ.

__________________

(١) خزانة الأدب ٢ : ٦٩.

(٢) آل عمران : ١٤٤.


مع النبيّ في الشعب :

وضاق القرشيّون ذرعا من دعوة النبيّ 6 ، واشتدّ فزعهم منها ، وزادهم أسى وحزنا إيمان بعض أبنائهم وغلمانهم ونسائهم وعبيدهم ، وهم يسخرون بآلهتهم ويعيبون عليهم تقاليدهم وعاداتهم ، ويحكمون بنجاستهم فأجمع رأي الطغاة والرؤساء منهم على اعتقال النبيّ ، وسائر بني هاشم وبني المطّلب ، وحبسهم في شعب أبي طالب خارج مكّة ، وكتبوا فيهم صحيفة سجّلوا فيها بنودا قاسية وعلّقوها في جوف الكعبة ، وهذه بعض موادها :

١ ـ حرمانهم من المواد الغذائية.

٢ ـ منع الدخول عليهم.

٣ ـ عدم الزواج منهم.

٤ ـ منع ايصال الماء لهم.

٥ ـ منع ايصال الفراش لهم.

٦ ـ عدم فكّ الحصار عنهم ، إلاّ أن يسلّموا لهم النبيّ.

٧ ـ إقامة حرس على باب الشعب لمنع كلّ من يحاول الهرب منهم (١).

ووقّع على الصحيفة أبو سفيان ، وأبو جهل ، والعاص بن وائل ، وأبو البختري ، وأبو لهب ، وعمرو بن العاص وغيرهم من طغاة القرشيّين ، وعلّقوا الصحيفة في جوف الكعبة.

وحاول مردة القرشيّين اغتيال النبيّ في الشعب ، فخاف عليه أبو طالب فكان يقيم ولده الإمام أمير المؤمنين في مكانه ، واستمر الحصار الظالم ثلاث سنين

__________________

(١) السيرة الحلبية ١ : ٣٧٤ ـ ٣٧٥ وغيرها.


عجاف ، وكانت السيّدة الزكية أمّ المؤمنين خديجة هي التي تمدّهم بما يحتاجونه من الطعام والشراب وغير ذلك من النفقات حتى أنفقت عليهم جميع ما عندها من الثراء العريض حتى فرّج الله عنهم.

وبعث الله تعالى الأرضة على صحيفتهم فأتت عليها ، ولم تترك منها كلمة سوى لفظ الجلالة ، وأحاط النبيّ 6 عمّه أبا طالب علما بذلك فخرج من الشعب إلى الحرم فاجتمع القرشيّون فقال لهم :

إنّ ابن أخي أخبرني أنّ الله أرسل على صحيفتكم الأرضة فأكلت ما فيها من قطيعة رحم وظلم ، وتركت اسم الله تعالى فأحضروها فإن كان صادقا علمتم أنّكم ظالمون لنا قاطعون لأرحامنا ، وإن كان كاذبا علمنا أنّكم على حقّ وإنّا على باطل.

فانبروا مسرعين إلى الصحيفة فوجودها كما أخبر عنها أبو طالب واشتدّت صولته ، وخاطب قريش قائلا :

إنّكم أولى بالظلم والقطيعة ، وقال في ذلك :

وقد كان في أمر الصّحيفة عبرة

متى ما يخبّر غائب القوم يعجب

محا الله ذكراهم وأفنى عقوقهم

وما نقموا من ناطق الحقّ معرب

فأصبح ما قالوا من الأمر باطلا

ومن يختلق ما ليس بالحقّ يكذب (١)

وأفرج الله تعالى عن نبيّه وسائر من كان معه من الهاشميّين ، فقد انبرى ابن اميّة إلى قريش فخطب فيهم خطابا بليغا ، وطلب منهم فكّ الحصار عن الهاشميّين فردّه أبو جهل ردّا عنيفا إلاّ أنّ كوكبة من قريش انضمّوا إلى زهير ودعموا مقالته فاستجابت قريش لهم ورفعوا الحصار عن النبيّ وسائر من معه.

__________________

(١) الكامل في التاريخ ـ ابن الأثير ٢ : ٣٣.


تبنّي أبي طالب الدعوة الإسلامية :

وقام أبو طالب بدور إيجابي ومتميّز في الدعوة إلى الإسلام ، وقد دعا ملك الحبشة إلى اعتناق الإسلام ، وكتب له رسالة بذلك ، وختمها بهذه الأبيات :

أتعلم ملك الحبش أنّ محمّدا

نبيّ كموسى والمسيح بن مريم

أتى بالهدى مثل الّذي في هداهما

فكلّ بأمر الله يهدي ويعصم

وأنّكم تتلونه في كتابكم

بصدق حديث لا حديث التّراجم

فلا تجعلوا لله ندّا وأسلموا

فإنّ طريق الحقّ ليس بمظلم (١)

لقد كان أبو طالب داعية الإسلام وحاميه والذابّ عنه ، وكان يذيع فضائل النبيّ 6 وينشر مناقبه ومآثره ، وممّا قال فيه :

ظهرت دلائل نوره فتزلزلت

منها البسيطة وازدهت أيّام

وهوت عروش الكفر عند ظهوره

وبسيفه قد شيّد الإسلام

وأتاهم أمر عظيم فادح

وتساقطت من حوله الأصنام

صلّى عليه الله خلاّق الورى

ما أعقب الصّبح المضيء ظلام

وقال أيضا :

ألا يا بني فهر أفيقوا ولا تقم

نوائح قتلاكم لتدعى بالتّندّم

على ما مضى من بغيكم وعقوقكم

وإتيانكم في أمركم كلّ مأثم

وظلم نبيّ جاء يدعو إلى الهدى

وأمر أتى من عند ذي العرش قيّم

فلا تحسبونا مسلميه ومثله

إذا كان في قوم فليس بمسلم

فهذي معاذير وتقدمة لكم

لئلاّ تكون الحرب قبل التّقدّم (٢)

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ : ٣٥٧. شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٣ : ٢٢٤.

(٢) إيمان أبي طالب : ١٨٩.


لقد كانت مواقف أبي طالب متميّزة بروح الإيمان ، فقد اعتنق الإسلام وجاهد في سبيله كأعظم ما يكون الجهاد ، ولو لاه لما قام الإسلام على سوقه عبل الذراع شامخ الكيان ، فما أعظم عائدته على الإسلام والمسلمين.

وصيّته الخالدة :

وأوصى أبو طالب عملاق الإسلام أبناءه وسائر أفراد اسرته بهذه الوصية التي حفلت بمكارم الأخلاق ، ومحاسن الآداب ، والولاء العارم لابن أخيه سيّد الكائنات 6 ، وهذه بعض بنودها :

« اوصيكم بتعظيم هذه البنية ـ يعني الكعبة المقدّسة ـ فإنّ فيها مرضاة الربّ ، وقواما للمعاش ، وثباتا للوطأة ، صلوا أرحامكم ولا تقطعوها ؛ فإنّ صلة الرحم منسأة للأجل ، وزيادة في العدد واتركوا البغي وأعطوا السائل ، وعليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة ، فإنّ فيها محبّة في الخاص ومكرمة في العام ... ».

وحكى هذا المقطع كلّ فضيلة يسمو بها الإنسان ، والتي هي من صميم القيم الكريمة التي أعلنها الرسول 6.

ومن بنود هذه الوصية حثّه للاسرة الهاشميّة وغيرها على الولاء والاخلاص للرسول 6 ومناصرته والذبّ عنه قال : « وإنّي اوصيكم بمحمّد 6 فإنّه الأمين في قريش ، والصديق في العرب ، وهو الجامع لكلّ ما أوصيتكم به ، ولقد جاءنا بأمر قبله الجنان ووعاه القلب. وأيم الله كأنّي أنظر إلى صعاليك العرب وأهل الأطراف ، والمستضعفين من الناس ، وقد أجابوا دعوته وصدّقوا كلمته ، وعظّموا أمره ، فخاض بهم غمار الموت ، وصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا ، ودورها خرابا ، وإذا بأعظمهم عليه أحوجهم إليه ، وأبعدهم عنه أحظاهم عنده ، قد محضته العرب ودادها ، وأعطته قيادتها ، دونكم يا معشر قريش ، دونكم


ابن أخيكم كونوا له ولاة ولحزبه حماة ، فو الله! لا يسلك أحد سبيل محمّد إلاّ رشد ، ولا يأخذ به إلاّ سعد ولو كان لنفسي مدّة ، وفي أجلي تأخير لكففت عنه الهزاهز ، ولدفعت عنه الدواهي ، غير أنّي أشهد بشهادته واعظّم مقالته » (١).

حكت هذه الوصية إيمان أبي طالب بالنبيّ 6 واعتناقه للإسلام وتفانيه في الدفاع عنه.

لقد استشفّ هذا العملاق العظيم المستقبل الزاهر للإسلام ، وأنّه سيؤمن به المستضعفون في الأرض ، وأنّهم سيشكّلون قوّة ضاربة للدفاع عنه ، وستكون صناديد قريش وساداتها أذلاّء صاغرين يستعطفون النبيّ وأصحابه ، ويطلبون ودّهم ، ولم تمض الأيام حتى تحقّق ذلك على مسرح الحياة ، وإذا بجبابرة قريش أذلاّء صاغرون ، ويقول الرواة : إنّ امرأة من المسلمين خطبها معاوية فجاءت إلى النبيّ وطلبت رأيه في ذلك ، فنهاها عن الزواج به وقال لها : « إنّه صعلوك » (٢).

وعلى أي حال فإنّ وصيّة أبي طالب حافلة بالقيم الكريمة والمثل العليا والإيمان العميق بالإسلام.

في ذمّة الخلود :

ولاقى أبو طالب جهدا شاقّا وعسيرا في حمايته للنبيّ 6 ونصرته للإسلام ، وكفاحه للقوى المعادية لابن أخيه ، وقد تعرّض لأقسى ألوان المحن والخطوب من طغاة القرشيّين وعتاتهم ، وقد ألمّت به العلل والأمراض ودنا منه الموت ، وكان أهمّ ما يعانيه مصير الرسول 6 من بعده ، وما ذا سيلاقيه من ذئاب قومه الذين تنكّروا لجميع القيم والأعراف ، فأخذ وهو على حافة الموت يوصي أبناءه وأفراد اسرته

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٢ : ٢١٣. الدرجات الرفيعة : ٦١. أسنى المطالب : ٢٠. ثمرات الأوراق : ٢٩٤ ، وغيرها.

(٢) حياة الإمام الحسن 7 ٢ : ١٥٠.


بنصرة الرسول والوقوف إلى جانبه ، وحمايته من كيد القرشيّين وبطشهم وأخذ المرض يزداد فيه حتى وافته المنيّة في شهر شوّال أو في ذي القعدة ، وذلك بعد خروج النبيّ من الشعب (١).

لقد انتقل هذا العملاق إلى حضيرة القدس بعد ما أدّى ما عليه من جهد في نصرة الإسلام والذبّ عن الرسول 6 ، ولمّا اذيع نبأ وفاته اهتزّت مكّة من هول الفاجعة ، فتصدّعت القلوب ، وغامت العيون كما فرح الطغاة والجبابرة بموته.

وسارع الإمام أمير المؤمنين 7 فغسّل جسد أبيه الطاهر وأدرجه في أكفانه ، وقد ذابت نفسه عليه حزنا وأسى ، وهرعت الجماهير إلى دار أبي طالب فحملوا الجثمان المقدّس بمزيد من الحفاوة والتكريم ، وواروه في مقرّه الأخير ، وقد واروا معه الشرف والإيمان.

لقد انطوت حياة هذا المجاهد العظيم الذي وهب حياته لله تعالى ، فنصر الإسلام ، وقاوم الشرك ، وقارع الباطل ، فسلام الله عليه ، فما أعظم عائدته على الإسلام والمسلمين!

تأبين النبيّ له :

ووقف النبيّ 6 على حافّة قبر عمّه ، وهو واجم حزين ، قد روى ثرى قبره بدموعه ، وأخذ يصوغ من حزنه كلمات في تأبينه قائلا :

« وصلتك رحم يا عمّ ، جزيت خيرا ، فلقد ربّيت وكفلت صغيرا ، وآزرت ونصرت كبيرا ، أما والله يا عمّ لأستغفرنّ لك ، وأشفعنّ فيك شفاعة يعجب منها الثّقلان ... » (٢).

__________________

(١) الكامل في التاريخ ـ ابن الأثير ٢ : ٣٤.

(٢) أبو طالب وبنوه : ١٠٣.


وبلغ من تأثّر النبيّ 6 وشدّة حزنه على عمّه أنّه سمّى العام الذي توفّي فيه « عام الحزن ».

وقد فقد النبيّ 6 المحامي والناصر ، والركن الشديد الذي كان يأوي إليه ، فقد استوحدته قريش وأجمعت على التنكيل به وقال : « ما نالت قريش شيئا أكرهه حتّى مات أبو طالب » (١). وقد بالغت قريش في إيذائه ، فجعلوا ينثرون التراب على رأسه ، وطرح بعضهم عليه رحم الشاة وهو يصلّي ... إلى غير ذلك من صنوف الاعتداء عليه (٢) ، وقد أجمعوا على قتله ، فخرج في غليس الليل البهيم بعد ما أحاطوا بداره ميمّما وجهه تجاه يثرب ، وترك أخاه ووصيّه الإمام في فراشه كما سنعرض لذلك في البحوث الآتية.

وعلى أي حال فأبو طالب حامي الإسلام وناصره ، والمساهم الأوّل في إقامة دعائمه ، فله اليد البيضاء على كلّ مسلم ومسلمة ، فما أعظم عائدته على الإسلام! ومن سخف القول إنّ هذا المجاهد العظيم مات كافرا ولم يكن يدين بدين الإسلام ، فإنّ هذا البهتان من صنع الأمويّين والعبّاسيّين الحاقدين على الاسرة النبوية ، وممّا يدعم زيف ذلك شدّة حزن النبيّ 6 عليه بعد وفاته وتسميته لعام موته بعام الحزن ، فإنّه إذا كان كافرا كيف يحزن عليه؟ وكيف يترحّم عليه ويذكره بمزيد من التكريم والتعظيم؟ وكيف يأكل ويشرب في داره؟ وحكم الإسلام صريح واضح في نجاسة الكافر؟ وكيف يكون هذا المؤمن المجاهد في النار وابنه الإمام أمير المؤمنين 7 قسيم الجنّة والنار؟

إنّ من المآثر والفضائل والأوسمة الشريفة التي يتحلّى بها الإمام 7 أنّه نجل هذا المجاهد العظيم الذي حمى الإسلام في أيام محنته وغربته فجزاه الله عن

__________________

(١) و (٢) الكامل ٢ : ٣٤.


الإسلام وأجزل له الأجر ، وحشره مع النبيّين والصدّيقين والشهداء وحسن اولئك رفيقا.

وبهذا العرض الموجز عن جهاد أبي طالب في نصرة الإسلام وحمايته للنبيّ 6 نطوي الحديث عنه ، لنلتقي بالسيّدة الزكية فاطمة بنت أسد أمّ الإمام 7.

٤ ـ فاطمة بنت أسد أمّ الإمام 7 :

أمّا أمّ الإمام 7 فهي السيّدة الزكية فاطمة بنت أسد ، وهي من سيّدات عصرها في عفّتها وطهارتها وسموّ ذاتها ، وهذا عرض لبعض شئونها :

سبقها إلى الإسلام :

كانت هذه السيّدة المعظّمة من السابقات لاعتناق الإسلام وبذلك فقد نالت الشرف العظيم ، فقد أسلمت بعد عشرة أشخاص (١).

مبايعتها للنبيّ :

وهذه السيّدة الزكية أوّل امرأة بايعت النبيّ 6 (٢) حينما أخذ العهد على السيّدات بالعفّة والطهارة واجتناب المنكر.

رعايتها للنبيّ :

وقامت هذه السيّدة الطاهرة بدور مهمّ في خدمة النبيّ 6 ، وكانت تفضّله في الرعاية والحنان على أولادها ، وكان النبيّ 6 يكرمها ويعظّمها ويدعوها امّه (٣).

روايتها للحديث :

وعدّها علماء الحديث من رواة الحديث عن النبيّ 6 ، فقد رووا عنها

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ١٤.

(٢) و (٣) المصدر السابق.


(٤٦) حديثا ، وقد أخرج لها في الصحيحين حديث واحد متّفق عليه (١).

إقامتها في بيت الإمام :

ولازمت هذه السيّدة الطاهرة ولدها الإمام أمير المؤمنين 7 ولم تقم مع بقيّة أبنائها ، ولمّا تزوّج الإمام 7 بسيّدة نساء العالمين زهراء الرسول 6 قال الإمام لامّه :

« اكفي فاطمة بنت رسول الله 6 سقاية الماء والذّهاب في الحاجة ، وتكفيك في داخل البيت الطّحن والعجين ».

وفاتها :

ألمّت الأمراض بهذه السيّدة المعظّمة فكانت زهراء الرسول تقوم برعايتها وشئونها حتى انتقلت إلى حضيرة القدس ، فقام ولدها الإمام 7 بتجهيزها ، وأخبر النبيّ 6 بوفاتها فحزن عليها حزنا عميقا ، وأمر عليّا بتكفينها في قميصه ، ولمّا انتهى تجهيزها شيّعها النبيّ وحفروا لها قبرا فاضطجع فيه ، وجزّاها الخير ودعا لها بالرحمة والرضوان ، وذلك لما أسدت عليه من البرّ والإحسان ، وقيل للنبيّ : ما رأيناك صنعت بأحد كما صنعت بهذه؟ فقال :

« لم يكن بعد أبي طالب أبرّ بي منها ، إنّما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنّة ، واضطجعت في قبرها ليهوّن عليها » (٢).

__________________

(١) أعلام النساء ٣ : ١١٣.

(٢) اسد الغابة ٥ : ٥١٠. الاستيعاب ( المطبوع على هامش الإصابة ) ٤ : ٢٦٩. شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ١٤. معرفة الصحابة ١ : ٢٧٩.


أرأيتم كيف قابل رسول الله 6 هذه السيّدة المعظّمة بمزيد من التكريم والتعظيم!

لقد آمنت هذه الفاضلة بالله ورسوله 6 ، وبذلت قصارى جهودها في خدمته ، وحسبها فخرا وشرفا وسموّا أنّها أمّ الإمام أمير المؤمنين 7 ، وممّا لا ريب في أنّ الإمام ورث فضائلها وسجاياها ، كما ورث فضائل آبائه الذين سادوا العرب بمكارمهم ومآثرهم ، وبهذا نطوي الحديث عن نسبه الوضّاح.


وليد الكعبة



الشيء المحقّق الذي اتّفق عليه المؤرّخون والرواة هو أنّ الإمام أمير المؤمنين 7 قد ولد في الكعبة المقدّسة (١) ولم يولد بها أحد سواه ، وكان ذلك من آيات سموّه وعظيم مكانته عند الله تعالى ، فقد اختار لولادته أفضل مكان في الأرض وهو البيت المعظّم. قال شهاب الدين السيّد محمود الآلوسي في شرحه لقول عبد الباقي العمري :

أنت العليّ الّذي فوق العلى رفعا

ببطن مكّة عند البيت إذ وضعا

قال : وكون الأمير كرّم الله وجهه ولد في البيت أمر مشهور في الدنيا ، وذكر في كتب الفريقين : السنّة والشيعة ... ولم يشتهر وضع غيره كرّم الله وجهه به كما اشتهر وضعه ، بل لم تتّفق الكلمة إلاّ عليه ، وما أحرى بإمام الامّة أن يكون وضعه فيما هو

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ : ٤٨٣ ، قال الحاكم : « وتواترت الأخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب في الكعبة ».

وذكر ذلك كلّ من المسعودي في مروج الذهب ٢ : ٢. ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمّة : ١٤. محمّد بن طلحة الشافعي في مطالب السئول : ١١. السبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص : ٧. والشنقيطي في كفاية الطالب : ٣٧. الشبلنجي في نور الأبصار : ٧٦. عبد الرحمن الصفوري الشافعي في نزهة المجالس ٢ : ٢٠٤. الشيخ علي القاوي الحنفي في شرح الشفاء ١ : ١٥١. علي الحلبي الشافعي في السيرة النبوية ١ : ١٥٠. والبردواني في روائح المصطفى : ١٠. علاء الدين الكتواري في محاضرة الأوائل : ١٢٠. عبد الحقّ الدهلوي في غاية الاختصار : ٩٧. العقّاد في عبقرية الإمام : ٣٨.


قبلة للمؤمنين ، وسبحان من يضع الأشياء في موضعها وهو أحكم الحاكمين » (١).

كيفيّة ولادته :

وصف الرواة كيفيّة ولادة إمام المتّقين فقالوا : إنّ والدته السيّدة الزكية فاطمة لمّا أحسّت بالطلق نهضت وهي مبهورة الأنفاس ، فاتّجهت صوب الكعبة المقدّسة ، وهي على يقين لا يخامره شكّ أن لحملها شأنا كبيرا عند الله تعالى ، ولمّا مثلت أمام الكعبة اتّجهت بعواطفها نحو الله تعالى ، وأخذت تناجيه وتدعوه أن ييسّر لها ولادتها ، وتعلّقت بأستار الكعبة قائلة :

« ربّ إنّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب ، وإنّي مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم الخليل ... وانّه بنى البيت العتيق ، فبحقّ الذي بنى هذا البيت وبحقّ المولود الذي في بطني لمّا يسّرت عليّ ولادتي ... » (٢).

وحكت هذه الكلمات إيمانها العميق بالله تعالى وبرسله وكتبه وبما جاء من عنده ، وأنّها لم تؤمن بالأوثان والأصنام التي لوّثت جدران الكعبة التي أقامها القرشيّون يعبدونها من دون الله تعالى ، وقد اتّجهت بعواطفها نحو الله تعالى ليسهّل لها ولادة مولودها العظيم.

وما انتهت السيّدة فاطمة من دعائها حتى انشقّ لها جدار البيت المعظّم فدخلت فيه وقلبها مطمئن بذكر الله تعالى وبعظمة وليدها الذي ستضيء الدنيا به.

مشرق النور :

ولم تمكث السيّدة فاطمة في حرم البيت المعظّم إلاّ زمنا قليلا حتى وضعت

__________________

(١) شرح الخريدة الغيبية في شرح القصيدة العينية : ١٥.

(٢) بحار الأنوار ٣٥ : ٨.


وليدها المبارك حجّة الله في أرضه الذي طوّق الدنيا بمواهبه وعبقرياته.

وليدها المبارك حجّة الله في أرضه الذي طوّق الدنيا بمواهبه وعبقرياته.

لقد ولد هذا العملاق العظيم في أقدس بيت من بيوت الله ليضيء رحابه ويرفع فيه شعلة التوحيد والإيمان.

لقد ولد أخو النبيّ المصطفى ، وباب مدينة علمه ، وناصر دينه ، وحامي رسالته.

لقد ولد أبو الغرباء ، وأخو الفقراء ، وملاذ المنكوبين ، وصديق المحرومين.

لقد ولد هذا الإمام العظيم الذي غيّر بكفاحه ونضال ابن عمّه مجرى التأريخ وأقاما كلمة العدل والحقّ في الأرض.

مع الشعراء :

وانبرت كوكبة من الشعراء من قدامى ومحدّثين إلى نظم ولادة الإمام في بيت الله الحرام ، كان منهم :

١ ـ السيّد الحميري :

أمّا السيّد الحميري فهو من أعلام الفكر الشيعي الذي هام بحبّ أهل البيت : ونظم ببليغ نظمه مآثرهم ومناقبهم ، قال في ولادة الإمام 7 في الكعبة :

ولدته في حرم الإله وأمنه

و البيت حيث فناؤه والمسجد

بيضاء طاهرة الثّياب كريمة

طابت وطاب وليدها والمولد

في ليلة غابت نحوس نجومها

و بدت مع القمر المنير الأسعد

والسيّد الحميري قريب من عصر الإمام 7 فقد نظم هذه المأثرة التي شاعت في عصره ، وقد حكت هذه الأبيات الثناء العاطر على أمّ الإمام وأنّها كريمة الأصل طاهرة الذيل ، وأنّها ولدت الإمام في ليلة لا نحس فيها.


٢ ـ بولس سلامة :

عرض الشاعر الملهم المسيحي بولس سلامة في ملحمته الرائعة في أهل البيت إلى ولادة الإمام في أعزّ بيت من بيوت الله تعالى ، قائلا :

صبرت فاطم على الضّيم حتّى

لهث اللّيل لهثة المكدود

وإذا نجمة من الافق خفّت

تطعن اللّيل بالشّعاع الجديد

وتدانت من الحطيم وقرّت

وتدلّت تدلّي العنقود

تسكب الضّوء في الأثير دفيقا

فعلى الأرض وابل من سعود

واستفاق الحمام يسجع سجعا

فتهشّ الأركان للتّغريد

بسم المسجد الحرام حبورا

وتنادت حجاره للنّشيد

كان فجران : ذلك اليوم فجر

لنهار وآخر للوليد (١)

٣ ـ منعم الفرطوسي :

أمّا شاعر أهل البيت العلاّمة الزكي الشيخ عبد المنعم الفرطوسي فقد كان من أعلام الشعراء ، وقد وهب حياته وفكره للأئمّة الطاهرين ، وقد نظم في ملحمته الكثير من مناقبهم وفضائلهم ، وهي أهمّ موسوعة شعرية في الأئمّة : ، قال فيما يخصّ ولادة الإمام بالبيت الحرام :

قبسات من الهداية شقّت

ظلمات العمى بصبح مضاء

ولواء التّوحيد رفّ فلفّت

عذبات الإلحاد والكبرياء

ويقين أهاب بالشّكّ حتّى

أذهب الرّيب من ضمير الرّياء

نفحات من الإمامة أوحت

بشذاها شمائل الأنبياء

حملتها أمانة ورعتها

حين أدّت ما عندها بوفاء

__________________

(١) ديوان بولس سلامة : ٤٨.


خير أمّ عذراء قدسا وطهرا

هي أسمى قدرا من العذراء

وضعتها في حيث أزكى مكان

فتجلّت كالدّرّة البيضاء

حين شقّ البيت الحرام جلالا

يوم ميلاد سيّد الأوصياء

فأقامت فيه ثلاثا بأمن

وثمار الجنان خير غذاء

وقريش في حيرة تتقرّى

غامض السّرّ في ضمير الخفاء

وإذا بالفضاء يزهو بهاء

من محيّا مبارك وضّاء

وعليّ كالبدر يشرق نورا

وهي بشر تضيء كالجوزاء

حملته كالذّكر بين يديها

حين وافت لسيّد البطحاء

فتجلّى والحقّ فجر مبين

دامغا كلّ باطل وافتراء

ويقينا يمحو الظّنون وتمحو

آية النّور آية الظّلماء (١)

تسمية امّه له :

وبهرت السيّدة فاطمة بمنظر وليدها العظيم ، فقد رأت الفروسية بادية عليه ، والشجاعة ماثلة فيه ، ورأت سلامة جسده فسمّته حيدرة ، وهو من أسماء الأسد ، وكان الإمام كما سمّته امّه بالأسد ، فقد كان أسد الله وأسد رسوله ، وهو الذي حصد بسيفه رءوس شجعان العرب في سبيل الإسلام ، وكان 7 يعتزّ بهذه التسمية ، وخاطب فارس العرب عمرو بن عبد ودّ حين نازله في ميدان الحرب فقال له :

« أنا الّذي سمّتني امّي حيدره

كليث غابات شديد قسوره »

ولم يلبث أن أطاح برأس عمرو ، وكان ذلك من الانتصارات الباهرة التي أحرزها الإسلام.

ويقول الشاعر الملهم بولس سلامة :

__________________

(١) ملحمة الفرطوسي ٢ : ٧ ـ ٨.


هالت الامّ صرخة جال فيها

بعض شيء من همهمات الاسود

دعت الشّبل حيدرا وتمنّت

وأكبّت على الرّجاء المديد

أسدا سمّت ابنها كأبيها

لبدة الجدّ اهديت للحفيد (١)

تسمية أبي طالب له :

أمّا أبوه شيخ البطحاء ومؤمن قريش فإنّه دخل الكعبة المقدّسة وناجى الله تعالى بإخلاص أن يلهمه تسمية وليده المبارك قائلا :

يا ربّ هذا الغسق الدّجى

والقمر المنبلج المضيّ

بيّن لنا من أمرك الخفيّ

ما ذا ترى في اسم ذا الصّبيّ

فألهمه الله تعالى أن يسمّيه عليّا ، فخرج من البيت الحرام وهو ينشد أمام قريش :

سمّيته بعليّ كي يدوم له

عزّ العلوّ وفخر العزّ أدومه

لقد كان هذا الاسم المبارك الذي سمّته به السماء من أحسن الأسماء وأجملها ، فقد كان الإمام عاليا في مواهبه وعبقرياته ، وعاليا في إيمانه وسموّ أخلاقه ، وعاليا فيما وهبه الله من طاقات الفضل والأدب والكمال. يقول عبد الباقي العمري :

أنت العليّ الّذي فوق العلى رفعا

ببطن مكّة عند البيت إذ وضعا

سمّتك امّك بنت اللّيث حيدرة

أكرم بلبوة ليث أنجبت سبعا (٢)

__________________

(١) ديوان بولس سلامة : ٤٨.

(٢) ديوان عبد الباقي العمري : ٩٦.


سنة ولادته :

ولد أمير البيان ورائد العدالة الإسلامية الإمام 7 في يوم الجمعة الثالث عشر من رجب بعد عام الفيل بثلاثين سنة (١) وبالحساب الميلادي كانت ولادته سنة ( ٦٠٠ م ) ، وقد ولد قبل البعثة النبوية باثنتي عشرة سنة ، وقيل أقلّ من ذلك.

ألقابه :

أمّا الألقاب التي تضفى على الشخص فإنّها تحكي صفاته ونزعاته. يقول الشاعر :

وقلّما أبصرت عيناك من رجل

إلاّ ومعناه إن فكّرت في لقبه

وألقاب الإمام 7 تشير إلى بعض محاسن صفاته ، وهي :

١ ـ الصدّيق :

لقّبه النّبيّ 6 بذلك (٢) ، وإنّما لقّب به لأنّه صدّق رسول الله 6 وآمن بجميع ما جاء به من عند الله تعالى ، وقد أسلم قبل أن يسلم غيره ، قال 7 :

« أنا الصّدّيق الأكبر آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر ، وأسلمت قبل أن يسلم » (٣). وقد اشتهر هذا اللقب في عصره وعرف به. يقول الصحابي الكبير مالك الأشتر مخاطبا الإمام 7 : « أنت الصدّيق الأكبر ». أجل والله إنّه الصدّيق الأكبر الذي لا يضارعه أحد من المسلمين في ذلك.

٢ ـ الوصي :

من الألقاب الكريمة التي عرف بها الإمام 7 « الوصي » أي وصي

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٩٠ ، وفي تاريخ الخميس أنّه ولد بعد عام الفيل بسبع سنين.

(٢) تأريخ الخميس ٢ : ٢٧٥.

(٣) المعارف : ٧٣. الذخائر : ٥٨. الرياض ٢ : ٢٥٧.


رسول الله 6 ، وقد أضفاه عليه الرسول ، فقد منحه ذلك في كوكبة من الأحاديث كان منها :

ـ قال 6 لعليّ : « هذا وصيّي ، وموضع سرّي ، وخير من أترك بعدي » (١).

ـ قال 6 : « إنّ وصيّي ، وموضع سرّي ، وخير من أترك بعدي ، وينجز عدتي ، ويقضي ديني ، عليّ بن أبي طالب » (٢).

ـ سأل سلمان الفارسي رسول الله 6 فقال له : من وصيّك؟ فقال له : « يا سلمان ، من كان وصيّ موسى؟ » ، قال : يوشع بن نون ، قال : « فإنّ وصيّي ووارثي ، يقضي ديني ، وينجز موعدي ، عليّ بن أبي طالب » (٣).

لقد شاع هذا اللقب للإمام بين العامّة والخاصّة ، واستمدّوا ذلك من النبيّ 6.

مع الشعراء :

وانتشر هذا اللقب في جميع العصور الإسلامية ، ونظمه الشعراء من قدامى ومحدثين ، ولنستمع إليهم :

١ ـ خزيمة بن ثابت :

أمّا خزيمة فهو من ألمع أصحاب الإمام وأكثرهم ولاء له ، وكان من قادة جيشه في حرب الجمل ، خاطب الإمام بقوله :

يا وصيّ النّبيّ قد أجلت الحر

ب لنا وسادت الأضغان

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٣ : ١٠٦.

(٢) كنز العمّال ٦ : ١٥٤.

(٣) الرياض النضرة ٢ : ١٧٨.


وقد نقم على عائشة وأنكر عليها خروجها لحرب الإمام قائلا لها :

أ عائش خلّي عن عليّ وعيبه

بما ليس فيه إنّما أنت والده

وصيّ رسول الله من دون أهله

و أنت على ما كان من ذاك شاهده

إنّ خزيمة بن ثابت من أوثق الصحابة ، ومن أكثرهم تحرّجا في دينه ، وأنّه على بيّنة أنّ الإمام 7 وصيّ رسول الله 6 وخليفته من بعده على امّته.

٢ ـ عبد الرحمن الجمحي :

ولمّا بويع الإمام أمير المؤمنين 7 بالخلافة انبرى عبد الرحمن يهنّئ المسلمين ببيعته قائلا :

لعمري لقد بايعتم ذا حفيظة

على الدّين معروف العفاف موفّقا

عليّ وصيّ المصطفى ووزيره

و أوّل من صلّى لذي العرش واتّقى

لقد كان لقب الوصيّ من أشهر ألقاب الإمام وأكثرها ذيوعا بين الناس.

٣ ـ جرير بن عبد الله البجليّ :

أمّا جرير بن عبد الله البجليّ فهو من أفذاذ أصحاب الإمام 7 ، وقد أنكر على شرحبيل بن السمط الكنديّ انضمامه إلى معاوية ومناجزته للإمام ، وقد أرسل له أبياتا من الشعر عاب فيها حربه للإمام كان منها هذا البيت الذي نظم فيه « الوصاية » :

وصيّ رسول الله من دون أهله

و فارسه الحامي به يضرب المثل

٤ ـ سعيد بن قيس :

وسعيد بن قيس من طلائع أصحاب الإمام ، ومن أكثرهم ولاء له ، وكان معه في حرب الجمل الذي قادته عائشة بنت أبي بكر لإسقاط حكومة الإمام 7 ، وقال سعيد في وصف الحرب وضراوتها ، وقد نظم لفظ الوصيّ قال :


أيّة حرب أضرمت نيرانها

و كسّرت يوم الوغى مرّانها؟ (١)

قل للوصيّ أقبلت قحطانها

فادع بها تكفيكهم همدانها

هم بنو هاشم وهم إخوانها

٥ ـ حجر بن عدي :

كان حجر بن عدي من خيار صحابة النبيّ 6 ، ومن أكثرهم ولاء لوصيّه وباب مدينة علمه الإمام 7 وقد استشهد في سبيل ولائه له ، قتله معاوية بن هند ، وكانت شهادته من الأحداث الجسام في ذلك العصر.

وكان حجر من قادة جيش الإمام في حرب الجمل ، وهو القائل :

يا ربّنا سلّم لنا عليّا

سلّم لنا المبارك المضيّا

المؤمن الموحّد التّقيّا

لا خطل الرّأي ولا غويّا

بل هاديا موفّقا مهديا

و احفظه ربّي واحفظ النّبيّا

فيه فقد كان له وليّا

ثمّ ارتضاه بعده وصيّا

٦ ـ النعمان بن عجلان :

كان النعمان بن عجلان مع الإمام في معركة صفّين ، فقال محرّضا لجيش الإمام على حرب معاوية :

كيف التّفرّق والوصيّ إمامنا

لا كيف إلاّ حيرة وتخاذلا

فذروا معاوية الغويّ وتابعوا

دين الوصيّ لتحمدوه آجلا

٧ ـ أبو الأسود الدؤلي :

ونظم العالم الكبير أبو الأسود الدؤلي تلميذ الإمام لفظة الوصيّ بهذا البيت :

__________________

(١) مرّانها : رماحها.


احبّ محمّدا حبّا شديدا

وعبّاسا وحمزة والوصيّا

٨ ـ الفضل بن العباس :

قال الفضل بن العباس في مدحه للإمام 7 :

إلا إنّ خير النّاس بعد محمّد

وصيّ النّبيّ المصطفى عند ذي الذّكر

و أوّل من صلّى وصنو نبيّه

و أوّل من أردى الغواة لدى بدر

٩ ـ حسّان بن ثابت :

نظم حسّان بن ثابت أبياتا في مدح الإمام 7 ذكر فيها لفظ الوصيّ :

حفظت رسول الله فينا وعهده

إليك ومن أولى به منك من ومن؟

ألست أخاه في الهدى ووصيّه

و أعلم فهر بالكتاب وبالسّنن؟

١٠ ـ الكميت :

أمّا الكميت الأسدي فهو من طلائع الفكر الإسلامي ، وتعدّ هاشميّاته من ذخائر الأدب العربي ، وقد صوّر فيها ـ بصدق ـ حقيقة أهل البيت : وما عانى شيعتهم من المحن والخطوب. قال في مدح الإمام :

والوصيّ الّذي أمال التّجوبي

به عرش أمّة لانهدام

كان أهل العفاف والمجد والخي

ر ونقض الامور والإبرام

١١ ـ المتنبّي :

أمّا المتنبّي فهو شاعر الحياة على امتداد التأريخ ، ولم يؤثر عنه ـ فيما نعلم ـ مدح للإمام سوى هذين البيتين ، وقد ذكر فيهما لفظ الوصيّ :

وتركت مدحي للوصيّ تعمّدا

إذ كان نورا مستطيلا شاملا

وإذا استطال الشّيء قام بذاته

و صفات ضوء الشّمس تذهب باطلا

١٢ ـ أبو تمام الطائي :

أمّا أبو تمام الطائي فهو من ألمع شعراء العربية في العصر العبّاسي ، قال في


مدحه للإمام ، وقد ذكر لفظ الوصيّ :

ومن قبله أحلفتم لوصيّه

بداهية دهياء ليس لها قدر

فجئتم بها بكرا عوانا ولم يكن

لها قبلها مثلا عوان ولا بكر

أخوه إذا عدّ الفخار وصهره

فلا مثله أخ ، ولا مثله صهر

وشدّ به أزر النّبيّ محمّد

كما شدّ من موسى بهارونه الأزر

١٣ ـ دعبل الخزاعي :

أمّا دعبل الخزاعي فقد وهب حياته لآل النبيّ 6 وناضل في سبيلهم كأشدّ وأقسى ما يكون النضال ، لقد نشر مآثرهم في العصر العباسي الذي تنكّر للسادة العلويّين وطاردهم تحت كلّ حجر ومدر ، وكان من نظمه في الإمام 7 مع ذكر الوصيّ بهذه الأبيات :

سلام بالغداة وبالعشيّ

على جدث بأكناف الغريّ

ولا زالت عزالي النّوء تزجي

إليه صبابة المزن الرّويّ (١)

ألا يا حبّذا ترب بنجد

و قبر ضمّ أوصال الوصيّ

وصيّ محمّد بأبي وامّي

و أكرم من مشى بعد النّبيّ

وقال في رثاء أبي الأحرار الإمام الحسين 7 وقد ذكر لفظ الوصيّ :

رأس ابن بنت محمّد ووصيّه

يا للرّجال على قناة يرفع!

هذه شذرات ممّا نظمه أعلام الشعر العربي في مدح الإمام 7 ، وقد حفلت بذكر الوصيّ الذي هو من أكثر ألقابه شيوعا وانتشارا.

٣ ـ الفاروق :

لقّب الإمام 7 بالفاروق لأنّه يفرق بين الحقّ والباطل ، وقد اقتبس هذا اللقب

__________________

(١) عزالي النوء : الغيوم الممطرة.


من الأحاديث النبوية التي أضفت عليه ذلك ، وهذه بعضها :

ـ روى أبو ذرّ وسلمان أنّ النبيّ 6 أخذ بيد عليّ 7 وقال : « إنّ هذا أوّل من آمن بي ، وهذا أوّل من يصافحني يوم القيامة ، وهذا الصّدّيق الأكبر ، وهذا فاروق هذه الامّة يفرق بين الحقّ والباطل » (١).

ـ روى الصحابي الجليل أبو ذرّ قال : سمعت رسول الله 6 يقول لعليّ : « أنت الصّدّيق الأكبر ، وأنت الفاروق الّذي تفرق بين الحقّ والباطل » (٢).

ـ روى أبو ليلى الغفاري قال : سمعت رسول الله 6 يقول : « ستكون من بعدي فتنة ، فإذا كان ذلك فألزموا عليّ بن أبي طالب فإنّه أوّل من آمن بي ، وأوّل من يصافحني يوم القيامة ، وهو الصّدّيق الأكبر ، وهو فاروق هذه الامّة » (٣).

٤ ـ يعسوب الدين :

اليعسوب في اللغة فحل النحل ، ثمّ اطلق على السيّد الشريف في قومه ، وهو من ألقاب الإمام 7 ، لقّبه النبيّ 6 بذلك ، فقد قال له : « هذا ـ وأشار إلى الإمام ـ يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الظّالمين » (٤).

وقال 6 : « عليّ يعسوب المؤمنين ». وروى أبو سعد قال : دخلت على عليّ 7 وبين يديه ذهب فقال : « أنا يعسوب المؤمنين ، وهذا ـ أي الذهب ـ يعسوب المنافقين » ، ثمّ قال : « بي يلوذ المؤمنون ، وبهذا يلوذ المنافقون » (٥).

__________________

(١) مجمع الزوائد ٩ : ١٠٢. فيض القدير ٤ : ٣٥٨. كنز العمّال ٦ : ١٥٦. فضائل الصحابة ١ : ٢٩٦.

(٢) الرياض النضرة ٢ : ٦٥٥.

(٣) الاصابة ٧ : ١٦٧. اسد الغابة ٥ : ٢٨٧. الاستيعاب ٢ : ٦٥٧.

(٤) مجمع الزوائد ٩ : ١٠٢.

(٥) كنز العمّال ٦ : ٣٩٤. الصواعق المحرقة : ٧٥. وفي تأريخ الخميس ٢ : ٣٧٥ : « أنّ الإمام كان يلقّب بيعسوب الأئمّة ».


٥ ـ الوليّ :

من الألقاب الرفيعة التي تقلّدها الإمام 7 ( الوليّ ) ، وقد منحته السماء هذا الوسام العظيم ، قال تعالى :

( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (١).

نزلت الآية الكريمة في حقّ الإمام 7 حينما تصدّق بخاتمه على المسكين ، وقد حصرت الآية الولاية العامّة على الناس في الله تعالى ورسوله والإمام ، وعبّرت عنه بصيغة الجمع ، وهي : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) دون المفرد ؛ تعظيما لشأنه وإكبارا لسموّ منزلته.

وممّا يزيد في أهمّية هذا الحصر وتأكيده اسمية الجملة وهي أبلغ في التأكيد من الجملة الفعلية ، بالإضافة إلى حصرها بكلمة « إنّما » التي هي من أدوات الحصر ، وقد أضفى النبيّ 6 هذا اللقب بكوكبة من الأحاديث وهذه بعضها :

ـ روى ابن عبّاس أنّ رسول الله 6 قال لعليّ : « أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي » (٢).

ـ روى الخطيب البغدادي بسنده عن الإمام أمير المؤمنين 7 أنّه قال :

قال رسول الله 6 : « سألت الله فيك خمسا فأعطاني أربعا ومنعني واحدة ؛ سألته فأعطاني فيك أوّل من تنشق الأرض عنه يوم القيامة ، وأنت معي ، معك لواء الحمد وأنت تحمله ، وأعطاني أنّك وليّ المؤمنين بعدي ... » الحديث (٣).

ـ روى النسائي بسنده أنّ قوما شكوا عليّا إلى رسول الله 6 فتألّم ، والغضب

__________________

(١) المائدة : ٥٥.

(٢) سنن أبي داود ١ : ٣٦٠.

(٣) تاريخ بغداد ٤ : ٣٣٩.


يبصر في وجهه ، وقال : « ما تريدون من عليّ؟ إنّ عليّا منّي وأنا منه ، وهو وليّ كلّ مؤمن من بعدي » (١).

والمتأمّل في هذه الأحاديث يتجلّى له الأمر بوضوح أنّ النبيّ 6 أقام الإمام من بعده خليفة ووليّا على امّته ، فإنّ معنى الوليّ هو : مالك الأمر والمتصرّف في شئون من يتولّى عليه.

٦ ـ أمير المؤمنين :

من الألقاب الشائعة للإمام 7 ( أمير المؤمنين ) حتّى أنّه إذا اطلق فلا ينصرف إلى سوى الإمام ، يقول الدكتور زكي مبارك :

« أمير المؤمنين هو اللقب الاصطلاحي لعليّ بن أبي طالب ، فإن رأى القارئ في كتاب قديم من غير نصّ على اسم فليعرف أنّ المراد هو عليّ بن أبي طالب » (٢) ، وقد أفضى النبيّ 6 هذا اللقب عليه.

روى أبو نعيم بسنده عن أنس قال : قال رسول الله 6 : « يا أنس ، اسكب لي وضوءا » ، ثمّ قام فصلّى ركعتين ، ثمّ قال : « يا أنس ، أوّل من يدخل عليك من هذا الباب أمير المؤمنين ، وسيّد المسلمين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، وخاتم الوصيّين » ، قال أنس : قلت : اللهمّ اجعله رجلا من الأنصار وكتمته ، إذ جاء عليّ 7 ، فقال : « من هذا يا أنس؟ » فقلت : عليّ ، فقام مستبشرا فاعتنقه ثمّ جعل عرق وجهه بوجهه ويمسح عرق عليّ بوجهه ، قال علي : « يا رسول الله ، لقد رأيتك صنعت شيئا ما صنعت بي من قبل » ، قال : « وما يمنعني وأنت تؤدّي عنّي؟ وتسمعهم

__________________

(١) خصائص النسائي : ١٩. الرياض النضرة ٢ : ١٧١. كنز العمّال ٦ : ١٩٤. معرفة الصحابة ١ : ٢٩٦.

(٢) عبقرية الشريف الرضي ٢ : ٢٢٨.


صوتي ، وتبيّن لهم ما اختلفوا فيه بعدي » (١).

حكت هذه الرواية سموّ منزلة الإمام 7 وعظيم شأنه عند النبيّ 6 وأنّه لم يحظ بمثل ذلك أحد سواه.

٧ ـ الأمين :

من ألقاب الإمام 7 ( الأمين ) لقّب بذلك لأنّه كان أمينا على امور الدين وأسرار خاتم المرسلين ، وقد منحه هذا اللقب الرسول 6 فقد قال له :

« يا عليّ ، أنت صفيّي وأميني » (٢).

٨ ـ الهادي :

من ألقاب الإمام 7 ( الهادي ) ، فقد كان هاديا للمسلمين ومرشدا للمتّقين ووليّا للمؤمنين ، وقد اقتبس هذا اللقب من

قول النبيّ 6 :

« أنا المنذر وعليّ الهادي ، وبك يهتدي المهتدون » (٣).

٩ ـ الاذن الواعية :

من الألقاب الكريمة للإمام 7 ( الاذن الواعية ) ، فقد كان 7 اذنا واعية لجميع ما انزل على النبيّ 6 ، وقد قال له النبيّ حينما نزلت عليه الآية ( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) :

« سألت ربّي أن يجعلها اذنك يا عليّ » ، فقال عليّ : « فما نسيت شيئا بعد ،

__________________

(١) حلية الأولياء ١ : ٦٣.

(٢) ذخائر العقبى : ٥٧. تأريخ الخميس ٢ : ٣٧٥.

(٣) مستدرك الحاكم ٣ : ١٢٩. كنز العمّال ٦ : ١٥٧. وجاء هذا المعنى في ذيل تفسير الآية : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) من سورة الرعد. تفسير الطبري ١٣ : ٧٢. تفسير الحقائق : ٤٢ ، وكذلك ذكره الفخر الرازي.


وما كان لي أن أنسى » (١).

١٠ ـ المرتضى :

من ألقابه الكريمة ( المرتضى ) لقّب بذلك لأنّ الله ارتضاه وصيّا للنبيّ وخليفة له من بعده ، أو لأنّ الله تعالى ارتضاه لسيّدة النساء زهراء الرسول زوجا (٢).

١١ ـ الأنزع البطين :

لقّب الإمام بذلك لأنّه كان ذا صلعة ليس في رأسه شعر إلاّ من خلفه ، وكان عظيم البطن ولكن بلا بطنة. يقول الجواهري في جوهرته التي رثى بها أبا الأحرار الإمام الحسين 7 :

فيا بن البطين بلا بطنة

و يا ابن الفتى الحاسر الأنزع (٣)

سأل رجل عبد الله بن عباس حبر الامّة ، فقال له : اخبرني عن الأنزع البطين فقد اختلف الناس فيه؟ فأجابه ابن عبّاس : أيّها الرجل ، والله لقد سألت عن رجل ما وطئ الحصى بعد رسول الله 6 أفضل منه ، وإنّه لأخو رسول الله ، وابن عمّه ووصيّه وخليفته على امّته ، وانّه الأنزع من الشرك ، بطين من العلم ، ولقد سمعت رسول الله يقول : « من أراد النّجاة غدا فليأخذ بحجزة هذا الأنزع ـ يعني الإمام » (٤).

١٢ ـ الشريف :

أمّا الإمام فهو من أشرف الناس بحسبه ومثله وورعه وتقواه ، وقد آمن بذلك

__________________

(١) تفسير الطبري ٢٩ : ٣٥. الكشّاف ٤ : ٦٠٠ في تفسير الآية ١٣ من سورة الحاقّة. كنز العمّال ٦ : ١٠٨. الدرّ المنثور ٨ : ٢٦٧.

(٢) ذخائر العقبى : ٣٢. كنز العمال ٦ : ١٥٢.

(٣) ديوان الجواهري ٣ : ٢٣٥.

(٤) حياة أمير المؤمنين 7 : ٤٥.


أعداؤه وخصومه ، فقد روى المؤرّخون أنّ الجيش العباسي لمّا أحاط بمروان آخر ملوك الأمويّين قال لبعض وزرائه : إنّ هذا الجيش ـ أي الجيش العباسي ـ بحاجة لعليّ ، فأنكر عليه ذلك ، وقال له : إنّ عليّا جيش بذاته ، فقال له مروان : لقد عزب عنك ما أردته ، إنّ هذا الجيش بحاجة لعليّ في شرفه ونبله ، فإنّه إذا استولى علينا يستأصل نساءنا وأطفالنا وشيوخنا ، ولا يتركون منّا نافخ رماد ، وإذا كان عليّ قائدا للجيش فإنّه لا يعمل ذلك معنا يصدّه شرفه ونبله عن اقتراف ذلك. وصدق مروان في تفرّسه فإنّ العبّاسيّين حينما استولوا على الحكم استأصلوا شأفة الأمويّين ، ومثّلوا حتّى بأمواتهم (١).

١٣ ـ بيضة البلد :

من ألقابه الكريمة ( بيضة البلد ) كما كان أبوه بيضة مكّة ومصدر عزّها وشرفها (٢).

١٤ ـ خير البشر :

لقّبه النبيّ 6 ( خير البشر ) ، وقد ورد ذلك في كوكبة من الأحاديث هذه بعضها :

ـ روى الخطيب البغدادي بسنده عن جابر ، قال : قال رسول الله 6 : « عليّ خير البشر فمن امترى (٣) فقد كفر » (٤).

ـ قال رسول الله 6 : « عليّ خير البشر من شكّ فيه كفر » (٥).

__________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر 7 ١ : ٣٣٦.

(٢) تاريخ الخميس ٥ : ٣٧٥. معرفة الصحابة ١ : ٢٩٧. حياة الحيوان ـ الجاحظ ٢ : ٣٣٦.

(٣) امترى : أي شكّ.

(٤) تاريخ بغداد ٧ : ٤٢١.

(٥) كنوز الحقائق : ٩٢.


ـ روى الخطيب البغدادي عن عليّ 7 أنّ رسول الله 6 قال : « من لم يقل عليّ خير البشر فقد كفر » (١).

وأثرت عن رسول الله 6 بهذا المضمون كوكبة اخرى من الأحاديث.

١٥ ـ سيّد العرب :

من الألقاب الكريمة للإمام 7 ( سيّد العرب ) أضفاه عليه النبيّ 6 ، قال : « أنا سيّد ولد آدم وعليّ سيّد العرب » (٢).

وروت عائشة أنّ رسول الله 6 قال : « ادعوا لي سيّد العرب » ، فقلت :

يا رسول الله ، ألست سيّد العرب؟ قال : « أنا سيّد ولد آدم وعليّ سيّد العرب » (٣).

وروى سلمة بن كهيل قال : مرّ عليّ بن أبي طالب على النبيّ 6 وعنده عائشة فقال لها : « إذا سرّك أن تنظري إلى سيّد العرب فانظري إلى عليّ بن أبي طالب » ، فقالت : يا نبيّ الله ، ألست سيّد العرب؟ فقال : « أنا إمام المسلمين ، وسيّد المتّقين ، وإذا سرّك أن تنظري إلى سيّد العرب فانظري إلى عليّ بن أبي طالب » (٤).

١٦ ـ حجّة الله :

من ألقابه العظيمة ( حجّة الله ) فقد كان حجّة من الله على عباده يهديهم للتي هي أقوم وينير لهم طرق الهداية ، منحه هذا اللقب النبيّ 6 قال : « أنا وعليّ حجّة الله على عباده » (٥) ، وروى أنس بن مالك قال : كنت عند النبيّ 6 فرأى عليّا مقبلا

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ : ١٢٤. كنز العمّال ٦ : ١٥٧. حلية الأولياء ١ : ٦٣.

(٢) كنز العمّال ٦ : ١٥٧. حلية الأولياء ١ : ٦٣.

(٣) مستدرك الحاكم ٣ : ١٢٤.

(٤) تاريخ بغداد ١١ : ٨٩.

(٥) كنوز الحقائق ـ المناوي : ٤٣.


فقال : « يا أنس » ، قلت : لبّيك ، قال : « هذا المقبل حجّتي على أمّتي يوم القيامة » (١).

هذه بعض الألقاب التي أضيفت على الإمام 7 ، وهي تحكي سموّ ذاته وعظيم شأنه ومعالي أخلاقه.

كناه :

كنّي الإمام 7 بكوكبة من الكنى الشريفة ، وهذه بعضها :

١ ـ أبو الريحانتين :

وهما الإمامان الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة ، كنّاه بذلك الرسول 6 ، فقد قال له :

« يا أبا الرّيحانتين ، فعمّا قليل يذهب ركناك ، والله خليفتي عليك » ، فلمّا قبض رسول الله قال عليّ : « هذا أحد الرّكنين » ، فلمّا توفّيت سيّدة نساء العالمين زهراء الرسول 3 قال : « هذا الرّكن الآخر » (٢).

٢ ـ أبو السبطين :

كنّي بولديه سبطي رسول الله 6 الإمامين الحسن والحسين 3 (٣) ، وقد شاعت هذه الكنية.

٣ ـ أبو الحسن :

كنّي الإمام 7 بابنه الأكبر الإمام الحسن السبط الأوّل للنبيّ 6 ، وأحبّ ذرّيّته إليه (٤).

__________________

(١) الرياض النضرة ٢ : ١٩٣.

(٢) ذخائر العقبى : ٥٦. تأريخ الخميس ٢ : ٣٧٥.

(٣) و (٤) إعلام الورى : ١٩٤.


٤ ـ أبو الحسين :

وشاعت هذه الكنية (١) في الأوساط الإسلامية ، فقد كنّي بولده مفخرة الإسلام والمجدّد الأعظم لدين الإسلام الإمام الحسين 7 الذي استشهد من أجل أن يقيم في الشرق دولة القرآن ويحطّم الدولة الأموية التي استهدفت القضاء على الإسلام.

٥ ـ أبو تراب :

إنّ هذه الكنية من أحبّ الكنى عند الإمام 7 ، فقد كنّاه بها رسول الله 6 في عدّة مناسبات كان من بينها ما يلي :

١ ـ روى ابن عبّاس حبر الامّة ، قال : لمّا آخى النبيّ 6 بين أصحابه من المهاجرين والأنصار ولم يواخ بين الإمام وبين أحد منهم خرج عليّ مغضبا حتّى أتى جدولا فتوسّد ذراعه فسفت عليه الريح ، فطلبه النبيّ حتى ظفر به فوكزه برجله ، فقال له :

« قم فما صلحت أن تكون إلاّ أبا تراب ، غضبت عليّ حين آخيت بين المهاجرين والأنصار ولم اواخ بينك وبين أحد منهم ، أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ، ألا من أحبّك حفّ بالأمن والإيمان ، ومن أبغضك أماته الله ميتة جاهليّة وحوسب بعمله في الإسلام » (٢).

حكت الرواية ما يلي :

أوّلا : أنّ النبيّ كنّى الإمام بأبي تراب.

ثانيا : أنّ النبيّ صرّح أنّ الإمام منه بمنزلة هارون من موسى ، فكما أنّ هارون

__________________

(١) معرفة الصحابة ١ : ٢٧٩.

(٢) مجمع الزوائد ٩ : ١١١. الفصول المهمّة ـ ابن الصبّاغ : ٢٢.


خليفة موسى ووصيّه كذلك الإمام خليفة النبيّ 6 ووصيّه من بعده.

ثالثا : أنّ الرواية بشّرت محبّي الإمام بالرحمة والمغفرة والرضوان ، كما أنذرت مبغضيه بسوء العاقبة والخلود في النار.

٢ ـ روى الإمام أمير المؤمنين 7 قال :

« طلبني رسول الله 6 فوجدني نائما في جدول ، فقال : ما النّوم؟ النّاس يسمّونك أبا تراب ، فرآني كأنّي وجدت في نفسي من ذلك ، فقال : قم والله لارضينّك ، أنت أخي وأبو ولدي تقاتل على سنّتي وتبرئ ذمّتي ، من مات في عهدي فهو كبّر الله ، ومن مات في عهدك فقد قضى نحبه ، ومن مات يحبّك بعد موتك ختم الله له بالأمن والإيمان ما طلعت شمس أو غربت ، ومن مات يبغضك مات ميتة جاهليّة » (١).

٣ ـ روى الحاكم بسنده أنّ رسول الله 6 وجد عليّا وعمّارا في دقعاء (٢) من التراب فأيقظهما ، وحرّك عليّا فقال : « قم يا أبا تراب ألا اخبرك بأشقى النّاس؟ رجلين : احيمر ثمود عاقر النّاقة ، والّذي يضربك على هذه ـ أي على هامة رأسك ـ فيخضب هذه ـ أي لحيته ـ منها » (٣).

٤ ـ روى أبو الفضل الطفيل ، قال : جاء النبيّ 6 ، وعليّ نائم في التراب ، فقال : « إنّ أحقّ أسمائك أبو تراب ، أنت أبو تراب » (٤).

٥ ـ روى عبد العزيز بن أبي حازم ، عن أبيه قال : قلت لسهل بن سعد : إنّ بعض امراء المدينة يريد أن يبعث إليك أن تسبّ عليّا فوق المنبر ، قال : أقول :

__________________

(١) الجامع الكبير ـ السيوطي ٦ : ٤٠٤.

(٢) الدقعاء : التراب اللين.

(٣) مستدرك الحاكم ٣ : ١٠٤. تأريخ الطبري ٢ : ٢٦١. إمتاع الأسماع ١ : ٥٠.

(٤) مجمع الزوائد ٩ : ١٠٠.


ما ذا؟ قال : تقول : لعن الله أبا تراب ، قال : والله ما سمّاه بذلك إلاّ رسول الله 6 ، قلت : وكيف ذلك يا أبا العبّاس؟

قال : دخل عليّ على فاطمة ثمّ خرج من عندها فاضطجع في فيء المسجد ثمّ دخل رسول الله 6 على فاطمة فقال لها : أين ابن عمّك؟ فقالت : هو ذاك مضطجعا في المسجد ، فجاءه رسول الله 6 فوجده قد سقط رداؤه على ظهره ، وخلص التراب إلى ظهره فجعل يمسح التراب عن ظهره ويقول : « اجلس أبا تراب » ، فو الله ما سمّاه به إلاّ رسول الله 6 ، وو الله ما كان له اسم أحبّ إليه منه (١).

وشاع هذا اللقب بين المسلمين ونظمه الشعراء ، وكان فيما نظمه بعضهم :

وجاء رسول الله مرتضيا له

و ما كان عن زهرائه في تشرّد

فمسّح عنه التّرب إذ مسّ جلده

و قد قام منها آلفا للتّفرّد

وقال له قول التّلطّف : قم أبا

تراب كلام المخلص المتودّد

وما أبدع ما قاله عبد الباقي العمري :

أنت ثاني الآباء في منتهى الدّو

ر وآباؤه تعدّ بنوه

خلق الله آدما من تراب

فهو ابن له وأنت أبوه (٢)

إنّ الله تعالى خلق آدما من تراب ، والإمام أبوه تكريما وتعظيما من الله الذي ميّز الابن على أبيه ...

وقال العلاّمة الشيخ حسن طرّاد العاملي :

نور الحقيقة والصّواب

متمثّل بأبي تراب

__________________

(١) تأريخ الطبري ٢ : ٣٦٣. تاريخ الخميس ٢ : ٣٧٥.

(٢) ديوان عبد الباقي العمري : ١٢٦.


عنوان مجد شامخ

متنزّه عن كلّ عاب

قد أبدعته يد السّما

ليجيء بالعجب العجاب

و يكون نفس محمّد

في حفظ أحكام الكتاب

فعلومه من علمه

و بيانه فصل الخطاب

إنّ كنية أبي تراب وسام فخر وشرف أضفاه الرسول 6 على وصيّه وباب مدينة علمه للتدليل على زهده في الدنيا ورفضه لجميع متعها وزينتها ، وإنّها عنده كالتراب.

مع الأمويّين :

واتّخذ الأمويّون لقب أبي تراب وسيلة لانتقاص الإمام والتشهير به ، قال الحاكم النيسابوري :

كان بنو اميّة ينقصون عليّا بهذا الاسم الذي سمّاه به رسول الله 6 ويلعنونه على المنبر بعد الخطبة مدّة ولايتهم ، وكانوا يستهزءون به ، وإنّما استهزءوا بالذي سمّاه ، وقد قال الله تعالى : ( قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ ) (١).

وكان الذئب الجاهلي ( معاوية في آخر خطبة الجمعة يقول :

اللهمّ إنّ أبا تراب ألحد في دينك وصدّ عن سبيلك فالعنه لعنا وبيلا وعذّبه عذابا أليما ... وكتب بذلك إلى الآفاق ، فكانت هذه الكلمات الفاجرة يشاد بها وتتلى على منابر المسلمين (٢) التي أنشئت ليشاد عليها الحقّ والعدل وتكون مدرسة لتهذيب الأخلاق وإشاعة الفضيلة بين الناس ، ولكنّ معاوية بوحي من جاهليّته

__________________

(١) الغدير ٦ : ٣٣. التوبة : ٦٥.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٤ : ٣٠٦.


حوّلها إلى سبّ العترة الطاهرة التي أذهب الله عنها الرجس وطهّرها تطهيرا ، وقد اقتدى به ملوك الأمويّين فجعلوا سبّ أهل البيت واجبا إسلاميا يحاسبون العامّة والخاصّة على تركه ، وكانت هذه السياسة النكراء من المآسي القاسية التي عاناها الأخيار والمصلحون من المسلمين.

ومن طريف ما ينقل أنّ رجلا من أهل السنّة أهدى إلى صديق له شيعي برّا من الحنطة كانت رديئة فردّها عليه ، فأرسل إليه عوضها حنطة جيّدة إلاّ أنّها كانت مخلوطة بالتراب فكتب إليه :

بعثت لنا بدال البرّ برّا

رجاء للجزيل من الثّواب

رفضناه عتيقا وارتضينا

به إذ جاء وهو أبو تراب (١)

ملامحه وصفاته :

كان الإمام 7 من أجمل الناس وجها وأحسنهم أخلاقا ، وكانت أسارير النور على وجهه الشريف ، وقد وصفت ملامحه بصفات كثيرة كان منها ما يلي :

١ ـ وصف النبيّ له :

ووصف النبيّ 6 أخاه ووصيّه بهذه الأوصاف الرفيعة ، قال : « من أراد أن ينظر إلى إبراهيم في حلمه ، وإلى نوح في حكمه ، وإلى يوسف في جماله ، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب » (٢).

حكت هذه الكلمات عظيم صفات الإمام ، فقد ضارع أنبياء الله الممجّدين في أجلّ صفاتهم ومعالي حكمهم وأخلاقهم.

__________________

(١) نفحة اليمن : ١٢.

(٢) ذخائر العقبى : ٢٤.


٢ ـ وصف ضرار للإمام :

طلب معاوية من ضرار أن يصف له الإمام لأنّه كان من أخلص أحبّائه ، فامتنع ضرار خوفا من معاوية إلاّ أنّه أصرّ عليه ، فقال له :

كان والله! بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فصلا ، ويحكم عدلا ، يتفجّر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من لسانه ، يستوحش من الدنيا وزخرفها ، ويستأنس بالليل ووحشته ، وكان غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يعجبه من اللباس ما خشن ، ومن الطعام ما جشب ، وكان فينا كأحدنا ، يجيبنا إذا سألناه ، وينبئنا إذا استنبأناه ، ونحن ـ والله! ـ مع تقرّبه لنا وقربه منّا لا نكاد نكلّمه هيبة له ، يعظّم أهل الدين ، ويقرّب المساكين ، لا يطمع القويّ في باطله ، ولا ييأس الضعيف من عدله ، وإنّي أشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه ـ وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه ـ قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين وهو يقول :

« يا دنيا غرّي غيري ، إليّ تعرّضت أم إليّ تشوّقت؟ هيهات هيهات ، قد باينتك ثلاثا (١) لا رجعة فيها ، فعمرك قصير ، وخطرك كبير ، وعيشك حقير ، آه! من قلّة الزّاد ، وبعد السّفر ، ووحشة الطّريق ».

وأثرت هذه الكلمات في نفس معاوية ، فقال : رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك ... (٢).

وحكت هذه الكلمات بعض الصفات الروحية التي تميّز بها الإمام أمير المؤمنين 7 والتي هي مبعث إعجاب وإكبار حتى عند ألدّ أعدائه وخصومه.

__________________

(١) باينتك : أي طلّقتك طلاقا بائنا.

(٢) الاستيعاب ٣ : ١٠٧. حلية الأولياء ١ : ٨٤. الرياض النضرة ٢ : ٢١٢.


٣ ـ وصف ابنه محمّد له :

ووصف ابنه محمّد بن الحنفية ملامحه فقال :

كان ربع القامة ، أزجّ الحاجبين (١) ، أنجل (٢) كأنّ وجهه القمر ليلة البدر حسنا وهو إلى السّمرة ، أصلع ، له حفاف (٣) من خلفه كأنّه إكليل ، وكأنّ عنقه ابريق فضّة ، وهو أرقب (٤) ضخم البطن ، أقرأ الظّهر (٥) ، عريض الصدر ، محض المتن (٦) ، ضخم الكسور ، لا يبين عضده من ساعده ، تدامجت إدماجا ، عبل الذراعين (٧) ، عريض المنكبين ، عظيم المشاشين (٨) كمشاش السبع الضاري ، له لحية قد زانت صدره ، غليظ العضلات ، حمش الساقين (٩). وألمّ هذا الوصف ببعض ملامحه وشكله.

٤ ـ وصف المغيرة له :

ووصفه المغيرة وهو من أعدائه فقال : كان على هيئة الأسد ، غليظا منه ما استغلظ ، دقيقا منه ما استدقّ (١٠).

حكى هذا الوصف القوّة البدنية للإمام 7 وشجاعته النادرة.

__________________

(١) الأزج : دقّة الحاجب وطوله.

(٢) الأنجل : سعة العين وجمالها.

(٣) الحفاف : الطرّة من الشعر تكون حول رأس الأصلع.

(٤) الأرقب : غليظ الرقبة.

(٥) أقرأ الظهر : طويله.

(٦) المحض : كناية عن استواء الجسم.

(٧) عبل الذراعين : أي ضخم الذراعين.

(٨) المشاش : رءوس العظام الليّنة.

(٩) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٩١.

(١٠) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٩١.


٥ ـ وصف بعض المعاصرين له :

ووصف بعض المعاصرين للإمام بعض صفاته الجسدية قال : كان ربعة من الرجال ، أدعج العينين (١) عظيمهما ، حسن الوجه كأنّه قمر ليلة البدر ، عظيم البدن ، عريض ما بين المنكبين ، لمنكبه مشاش كمشاش السبع الضاري ، لا يبين عضده من ساعده قد ادمج إدماجا ، شثن الكفّين ، عظيم الكراديس (٢) ، أغيد (٣) كأنّ عنقه إبريق فضّة ، أصلع ليس في رأسه شعر إلاّ من خلفه ، كثير شعر اللحية ، وكان لا يخضب ، وكان إذا مشى تكفّأ ، شديد الساعد واليد ، وإذا مشى إلى الحرب هرول ، ثبت الجنان ، قويا ، ما صارع أحدا إلاّ صرعه ، شجاعا ، منصورا عند من لاقاه (٤).

وهذه الصفات التي أدلى بها الرواة متّفقة على أنّ الإمام 7 أبرز بطل في العالم الإسلامي وغيره ، وأنّه يملك قوّة البدن ، وقوّة البأس والشجاعة التي لا يملكها أحد سواه بالاضافة إلى صفاته النفسية التي هي انشودة المتّقين في كلّ زمان ومكان.

__________________

(١) الأدعج : شدّة السواد في العين مع سعتها.

(٢) الكراديس : كلّ عظم تكردس ، أي اجتمع اللحم فيه.

(٣) الأغيد : ميل العنق.

(٤) ذخائر العقبى : ٥٧. ألمح إلى بعض صفاته ابن حجر في تهذيب التهذيب ٧ : ٣٣٨ ، وابن سعد في طبقاته ٢ : ٢٦.


نشأته



نشأ الإمام أمير المؤمنين 7 في عهد طفولته في كنف أبيه أبي طالب مؤمن قريش وشيخ البطحاء ، الذي كان مثالا لكلّ فضيلة وعنوانا لكلّ كرامة ، فربّى ولده الإمام على الشهامة والنبل ، وغذّاه بالإيمان بالله ، كما قامت بتربيته امّه الزكية السيّدة فاطمة سيّدة نساء عصرها في عفّتها وطهارتها ، فغذّته بالأخلاق الكريمة والعادات الحسنة ، وغرست في نفسه النزعات الشريفة.

احتضان النبيّ للإمام :

وحينما كان الإمام في فجر الصبا أصابت قريشا أزمة مادية وضائقة اقتصادية تأثّر منها أبو طالب ، فانبرى رسول الله 6 إلى عمّيه حمزة والعباس وطلب منهما أن يتحمّلا ثقل عمّه ، فاتّجهوا صوبه وعرضوا عليه الأمر ، فقال لهم : دعوا لي عقيلا وخذوا من شئتم ، وكان شديد الحبّ لابنه عقيل فأخذ العباس طالبا ، وأخذ حمزة جعفرا ، وأخذ الرسول عليّا ، وقال لهما : اخترت من اختاره الله عليكما ـ يعني عليّا ـ ، فكان الإمام في حجر رسول الله 6 وفي ذرى مودّته وعطفه.

ومن المؤكّد أنّ النبيّ إنّما أخذ الإمام من عمّه ليربّيه ويغذّيه بطباعه وهديه ، وقد وجد في كنفه من الحبّ والمودّة والعطف والإيثار ما لم يجده في بيت أبيه ، وقد غرس النبيّ في دخائل نفس الإمام وأعماق ذاته جميع مقوّمات الإسلام ومبادئه وقيمه ، فكان في المرحلة الاولى من حياته قد وعى الإسلام وآمن به وفهم جوهره.


إنّ الإمام 7 كان من ألصق الناس برسول الله 6 ومن أكثرهم تطبّعا بأخلاقه وفهما لرسالته ، ولمّا أعلن النبيّ 6 ثورته الكبرى على الأفكار الجاهلية وعاداتها ، كان الإمام في فجر الصبا يذبّ عنه ، ويحميه من صبيان قريش الذين كانوا يحاربونه بالحجارة ويقذفونه بالتراب ، ويصيحون وراءه ساحر ومجنون ، وكان الإمام 7 يوقع بهم الضرب واللكم فينهزمون إلى امّهاتهم وآبائهم وكان ذلك أوّل جهاد له في سبيل الإسلام.

وقد تحدّث الإمام 7 عن تلك الفترة الذهبية التي عاشها في رعاية النبيّ وما لاقاه من صنوف الحفاوة والتكريم فقال :

« وقد علمتم موضعي من رسول الله 6 بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة. وضعني في حجره وأنا وليد ، يضمّني إلى صدره ، ويكنفني في فراشه ، ويمسّني جسده ، ويشمّني عرفه. وكان يمضغ الشّيء ثمّ يلقمنيه ، وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل. وكنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر امّه ، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علما ، ويأمرني بالاقتداء به » (١).

ارأيتم كيف أخلص له النبيّ في الحبّ والمودّة والرعاية؟ فقد أغدق عليه بعطفه وحنانه ، وغذّاه بسموّ أخلاقه وآدابه ليكون صورة عنه وممثّلا له في حياته وبعد وفاته.

التربية النبوية للإمام :

عنى النبيّ 6 عناية بالغة بتربية أخيه وابن عمّه الإمام 7 فغرس في أعماق ذاته صفاته الكريمة ونزعاته الشريفة حتى يحكي طباعه واتّجاهاته ويقيمه من بعده

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٢.


علما لامّته ورائدا لتبليغ رسالته.

لقد حفلت تربية النبيّ 6 بجميع مقوّمات الارتقاء وسموّ الذات ، وكان من برامجها هذه الصور الرائعة.

١ ـ نكران الذات :

ربّى النبيّ 6 أخاه على الواقعية ونبذ الأنانية ونكران الذات ، وكان من بين ذلك أنّ الإمام 7 طرق باب النبيّ ، فقال الرسول :

« من هذا؟ ».

« أنا يا رسول الله ».

وكره النبيّ 6 كلمة « أنا » من الإمام والتي تخلو من التعظيم لقائلها ، فجعل يقول له : « أنا ، أنا » وفهم الإمام كراهة النبيّ لهذه الكلمة ، فلم يفه بها بعد ذلك (١).

وتكشف هذه البادرة عن سموّ التربية الإسلامية التي أمدّت الحياة بالاشراق والنهوض ، وظلّ الإمام متأثّرا بهذه التربية الرفيعة طيلة حياته ، ففي أيام حكومته وقيادته للامّة نبذ نبذا تامّا جميع مظاهر الحكم والسلطان التي تلازمها الابّهة والاستعلاء على الناس ، وعامل نفسه كبقيّة أفراد الشعب لا ميزة له عليهم ، وقد روى المؤرّخون أنّه اجتاز على أهل المدائن فأقاموا له مهرجانا شعبيا وذبحوا له الذبائح فنفر من ذلك وخاطبهم أنّه كأحدهم ، ومنع جيشه من أكل لحوم الذبائح حتى يعطي أهلها ثمنها (٢) ، وهكذا كان عليّ صورة لا ثاني لها في تاريخ البشرية على الإطلاق سوى الرسول 6.

__________________

(١) حياة الحيوان ـ الجاحظ ١ : ٣٣٧.

(٢) بحار الانوار ٧٧ : ٤٥.


٢ ـ التحلّي بالصفات الكريمة :

من ألوان التربية الإسلامية المشرقة التي غذّى بها النبيّ 6 الإمام أمير المؤمنين 7 هذه الكوكبة من الأحاديث التربوية ، وهي :

أ ـ قال رسول الله 6 :

« يا عليّ ، ثلاث من مكارم الأخلاق : تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمّن ظلمك » (١).

إنّ هذه الخصال الكريمة تسمو بالإنسان وترفع مستواه إلى أرقى ما يصل إليه من كمال النفس.

ب ـ قال رسول الله 6 :

« يا عليّ ، سيّد الأعمال ثلاث خصال : إنصافك النّاس من نفسك ، ومساواة الأخ في الله عزّ وجلّ ، وذكر الله تبارك وتعالى على كلّ حال » (٢).

إنّ هذه الصفات الرفيعة هي اسس الفضائل التي ينبغي للمسلم أن يتحلّى بها.

ج ـ قال رسول الله 6 : « يا عليّ ، ثلاث خصال من حقائق الإيمان : الإنفاق في الإقتار ، وإنصاف النّاس من نفسك ، وبذل العلم للمتعلّم » (٣).

بهذه الصفات الكريمة ربّى النبيّ 6 أخاه وابن عمّه وباب مدينة علمه ليكون انموذجا للإسلام.

د ـ قال رسول الله 6 : « يا عليّ ، اوصيك بوصيّة فاحفظها فلا تزال بخير ما حفظت وصيّتي. يا عليّ ، من كظم غيظا وهو يقدر على إمضائه أعقبه الله يوم

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٧ : ٤٤.

(٢) و (٣) المصدر السابق : ٤٥.


القيامة أمنا وإيمانا يجد طعمه » (١).

أرأيتم هذه التعاليم التربوية التي تجعل الإنسان في اطار من الفضيلة والسلامة من كثير من الأزمات والمصاعب؟

هـ ـ قال 6 : « يا عليّ ، ثلاث من لقي الله عزّ وجلّ فهو من أفضل النّاس : من أتى الله بما افترض عليه فهو من أعبد النّاس ، ومن ورع عن محارم الله فهو من أورع النّاس ، ومن قنع بما رزقه الله فهو من أغنى النّاس » (٢).

إن من يطبّق على حياته هذه الخصال الكريمة فهو من أفضل الناس ومن أكثرهم طاعة لله تعالى وقربا منه.

و ـ قال 6 : « يا عليّ ، إنّ الله تبارك وتعالى قد أذهب بالإسلام نخوة الجاهليّة وتفاخرهم بآبائهم ، ألا وإنّ النّاس من آدم ، وآدم من تراب ، وأكرمهم عند الله أتقاهم » (٣).

إنّ هذه الوصية من أرقى تعاليم الإسلام ، فقد هدمت الحواجز بين الناس ، وألغت الفوارق والتفاضل بالأنساب ، وجعلت التفاوت بينهم بالتقوى والعمل الصالح الذي هو أعظم رصيد للإنسان يميّزه عن غيره ويشرّفه عليه.

ز ـ من الوصايا الرفيعة التي عهد به النبيّ 6 قوله :

« يا عليّ ، ثلاثة تحت ظلّ العرش يوم القيامة : رجل أحبّ لأخيه ما أحبّ لنفسه ، ورجل بلغه أمر فلم يتقدّم فيه ولم يتأخّر حتّى يعلم أنّ ذلك الأمر لله رضى

__________________

(١) الخصال ـ الصدوق ٢ : ٣٢. بحار الأنوار ٧٧ : ٤٦.

(٢) بحار الأنوار ٧٧ : ٥١.

(٣) المصدر السابق : ٥٣.


أو سخط ، ورجل لم يعب أخاه بعيب حتّى يصلح ذلك العيب من نفسه ، فإنّه كلّما أصلح من نفسه عيبا بدا له منها آخر ؛ وكفى بالمرء في نفسه شغلا » (١).

ما أروع هذه الصفات! التي يسمو بها الإنسان إلى أرقى مستويات الرشد والكمال ... وقد تغذّى بها الإمام 7 فكانت من برامج حياته.

هذه بعض الخصال الكريمة التي أوصى بها النبيّ 6 أخاه وابن عمّه لتكون له منهجا في سلوكه مع غيره ، وهي أحد برامج التربية النبوية للإمام ، وقد ذكرنا الكثير منها في مسند الإمام.

٣ ـ الاجتناب عن الصفات المذمومة :

حذّر النبيّ 6 الإمام من بعض الصفات والخصال التي تهبط بالإنسان إلى مستوى سحيق ، وهذه بعضها :

أ ـ قال 6 :

« يا عليّ ، أنهاك عن ثلاث خصال : الحسد ، والحرص ، والكبر » (٢).

إنّ هذه الخصال من مآثم الحياة ، ولا يتّصف بها الشريف.

ب ـ قال 6 :

« يا عليّ ، من تعلّم علما ليماري به السّفهاء ، أو يجادل به العلماء ، أو ليدعو النّاس إلى نفسه فهو من أهل النّار » (٣).

إنّ طلب العلم ينبغي أن يكون خالصا لوجه الله تعالى غير مشوب بالأغراض الدنيئة ، أمّا إذا كان مشفوعا بأغراض لا تمّت إلى الواقع بصلة فإنّه يكون نقمة عليه

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٧ : ٦٦.

(٢) المصدر السابق : ٥٢.

(٣) المصدر السابق : ٥٤.


عند الله تعالى ، وقد ألمح إليها الحديث وهي :

ـ طلب العلم لمماراة السفهاء والتغلّب عليهم وإبراز قابليات الشخص ، فإنّ ذلك ينمّ عن مرض النفس وبعدها عن الله تعالى.

ـ طلب العلم لمجادلة العلماء وإظهار الشخص أمام المجتمع بأنّه من مصاف العلماء ، أمّا دوافع هذه الجهة فهو حبّ الدنيا ، ومن المؤكّد أنّها ممّا تبعده عن الله تعالى.

ـ طلب العلم لدعوة الناس إليه ، والالتفاف حوله أعاذنا الله بلطفه وفضله من ذلك.

ج ـ من بنود التربية النبوية للإمام قوله 6 :

« يا عليّ ، ألا أنبّئك بشرّ النّاس؟ قال عليّ : بلى يا رسول الله ، قال : من لا يغفر الذّنب ، ولا يقيل العثرة. ألا أنبّئك بشرّ من ذلك؟ قال عليّ : بلى ، قال : من لا يؤمن شرّه ، ولا يرجى خيره » (١).

إنّ هذه الخصال الذميمة لا يتّصف بها إلاّ أشرار الناس وسفله المجتمع.

د ـ من الوصايا التربوية التي غذّى بها النبيّ 6 أخاه وولي عهده الإمام 7 قوله : « يا عليّ ، إنّه لا فقر أشدّ من الجهل ، ولا مال أعود من العقل ، ولا وحدة أوحش من العجب ، ولا عمل كالتّدبير ، ولا ورع كالكفّ ـ أي عن محارم الله ـ ، ولا حسب كحسن الخلق ؛ إنّ الكذب آفة الحديث ، وآفة العلم النّسيان ، وآفة السّماحة المنّ » (٢).

على ضوء هذه الحكم المشرقة التي تمثّل معالي الآداب ومحاسن الأخلاق

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٧ : ٦٦.

(٢) المصدر السابق : ٦٤.


ربّى النبيّ 6 وصيّه وباب مدينة علمه ليكون مثالا له في حياته وبعد وفاته.

هـ ـ من معالي التربية النبوية للإمام 7 قوله : « يا عليّ ، إيّاك والكذب ، فإنّ الكذب يسوّد الوجه ، ثمّ يكتب عند الله كذّابا ، وإنّ الصّدق يبيّض الوجه ويكتب عند الله صادقا ؛ واعلم أنّ الصّدق مبارك ، والكذب مشئوم » (١).

إنّ الكذب مفتاح الشرّ ، وبه فساد الدنيا وهلاك العباد ، ويباينه الصدق فإنّه مصدر لكلّ فضيلة وسبب للنجاة من كلّ شرّ.

و ـ من روائع التربية الإسلامية التي غذّى بها النبيّ 6 الإمام 7 قوله :

« يا عليّ ، احذر الغيبة والنّميمة » (٢).

إنّ النبيّ 6 حذّر من الغيبة لأنّها توجب نشر الأحقاد والضغائن بين الناس بالإضافة إلى الحطّ من شخصيّة المغتاب في المجتمع ، والإسلام يحرص كلّ الحرص على كرامة المسلم ، وأن لا ينال بسوء ، وقد ذكر الفقهاء تعريف الغيبة وتحريمها المشدّد في الإسلام ، واستثنوا من ذلك ما إذا كان المغتاب متجاهرا بالفسق والفجور فتجوز غيبته بالجهة المتجاهر بها ولا يجوز قذفه بغيرها من المعاصي. ونهى النبيّ 6 عن النميمة ، وهي من موجبات نشر الكراهية بين المجتمع ، وقد تظافرت الأخبار عن الأئمّة : أنّ النمّام من شرار خلق الله تعالى.

ز ـ من الوصايا التربوية للنبيّ 6 قوله : « يا عليّ ، لا تغضب ، فإذا غضبت فاقعد ، وتفكّر في قدرة الرّبّ على العباد ، وحلمه عنهم ، وإذا قيل لك : اتّق الله فانبذ غضبك ، وراجع حلمك » (٣).

__________________

(١) تحف العقول : ١٤.

(٢) و (٣) بحار الأنوار ٧٧ : ٦٧.


الغضب مفتاح كلّ شرّ وسبب لكلّ جريمة ، وقد حذّر منه النبيّ 6 لأنّه يؤدّي إلى دمار الشخص وهلاكه ، وقد ذكر النبيّ 6 كيفيّة علاجه والوقاية من شرّه ، وهو أن يتفكّر الإنسان في حالة غضبه بقدرة الله تعالى عليه ، وما يعقبه الغضب من الأضرار والمفاسد.

ح ـ من غرر الوصايا التربوية التي عهد بها النبيّ 6 للإمام قوله :

« يا عليّ ، أنهاك أن تخفر عهدا ـ أي تنقض عهدا ـ وتعين عليه ، وأنهاك عن المكر فإنّه لا يحيق المكر السّيّئ إلاّ بأهله ، وأنهاك عن البغي ، فإنّه من بغي عليه لينصرنّه الله » (١).

إنّ هذه الخصال التي نهى النبيّ عنها من موجبات سقوط الإنسان وهلاكه.

ط ـ من معالم التربية للإمام 7 هذه الوصية : « يا عليّ ، إنّ من اليقين أن لا ترضي أحدا بسخط الله ، ولا تحمد أحدا بما آتاك الله ، ولا تذمّ أحدا على ما لم يؤتك الله ؛ فإنّ الرّزق لا يجرّه حرص حريص ، ولا يصرفه كراهة كاره ، إنّ الله بحكمه وفضله جعل الرّوح والفرج في اليقين والرّضا ، وجعل الهمّ والحزن في الشّكّ » (٢).

وبهذه الوصية الثمينة من النبيّ 6 لوصيّه وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين 7 نطوي الحديث عن بعض معالم التربية النبوية للإمام والتي استهدفت أن يكون ممثّلا للنبيّ 6 لأهدافه وقيمه التي تنشد صالح الإنسان وتطوّر حياته.

وقد ذكرنا عرضا مفصّلا لوصايا النبيّ 6 للإمام في مسنده لذا أوجزنا الحديث في هذا الموضوع.

__________________

(١) الأمالي ـ الصدوق ٢ : ٢١٠. بحار الأنوار ٧٧ : ٦٩.

(٢) المحاسن : ١٦ ـ ١٧. بحار الأنوار ٥٧ : ٦٨.


سبقه للإسلام :

والشيء الذي اتّفق عليه المؤرّخون والرواة أنّ الإمام 7 أوّل من آمن بالنبيّ 6 واستجاب لدعوته عن وعي وإيمان ، وقد قال 7 : « لقد عبدت الله تعالى قبل أن يعبده أحد من هذه الامّة » (١).

وقال 7 : « كنت أسمع الصّوت ، وابصر الضّوء سنين سبعا ، ورسول الله ٦ صامت ما اذن له في الإنذار والتّبليغ » (٢). ومعنى هذا الحديث أنّه سلام الله عليه في سنّه المبكّر كان يسمع صوت جبرئيل ، ويبصر ضوءه قبل أن يبلّغ النبيّ رسالته ويشيعها بين الناس.

وقد أجمع الرواة أنّ الإمام 7 لم تدنّسه الجاهلية بأوثانها ، ولم تلبسه من مدلهمّات ثيابها ، فلم يسجد لصنم قطّ كما سجد غيره (٣) يقول المقريزي : أمّا عليّ ابن أبي طالب الهاشمي فلم يشرك بالله قطّ ، وذلك أنّ الله تعالى أراد به الخير فجعله في كفالة ابن عمّه سيّد المرسلين (٤).

وقد أسلم الإمام وأسلمت معه أمّ المؤمنين الصدّيقة الطاهرة خديجة ، فقد احتضنت الإسلام وآمنت بقيمه وأهدافه ، وقدّمت في سبيله جميع ما تملكه من الثراء العريض. وقد تحدّث الإمام 7 عن إيمانه وإيمان خديجة بالإسلام بقوله :

« ولم يجمع بيت يومئذ واحد في الإسلام غير رسول الله 6 وخديجة وأنا ثالثهما ». وقال ابن عباس : كان عليّ أوّل من آمن من الناس بعد خديجة (٥) ، وقال

__________________

(١) صفة الصفوة ١ : ١٦٢.

(٢) بحار الأنوار ٣٤ : ٢٥٥.

(٣) تاريخ ابن عساكر ١ : ٣٣.

(٤) إمتاع الأسماع ١ : ١٦.

(٥) نهج البلاغة ٤ : ١١٦.


ابن إسحاق : كان عليّ أوّل من آمن بالله وبمحمّد رسول الله 6 (١).

إنّ سبق الإمام إلى اعتناق الإسلام ممّا اتّفق عليه الرواة والمؤرّخون (٢) ، وقد كان عمره الشريف حينما أسلم سبع سنين ، وقيل : تسع سنين (٣) ، إلاّ أنّ التأمّل في تربية النبيّ 6 له يقضي بأنّه أسلم في وقت مبكّر من حياته.

وعلى أي حال فقد أعلن ـ باعتزاز وفخر ـ سبقه إلى الإسلام قائلا :

« أنا الصّدّيق الأكبر ، والفاروق الأوّل ، أسلمت قبل إسلام أبي بكر ، وصلّيت قبل صلاته » (٤).

ونسب إليه من الشعر بذلك قوله :

« سبقتكم إلى الإسلام طرّا

غلاما ما بلغت أوان حلمي »

وشاعت هذه الكرامة للإمام في جميع الأوساط الإسلامية ، وافتخر بها خيار صحابة الإمام ، يقول هاشم المرقال في صفّين :

مع ابن عمّ أحمد المعلّى

فيه الرّسول بالهدى استهلاّ

أوّل من صدّقه وصلّى

فجاهد الكفّار حتّى أبلى (٥)

وقال سعيد بن قيس وهو من أفاضل أصحاب الإمام :

__________________

(١) نهج البلاغة ٤ : ١١٦.

(٢) صحيح الترمذي ٢ : ٣٠١. طبقات ابن سعد ٣ : ١٤ ( الفصل الأوّل ). كنز العمّال ٦ : ٤٠٠. تاريخ الطبري ٢ : ٥٠.

(٣) لطائف المعارف ـ الثعالبي : ١٢.

(٤) المعارف : ٧٣. الذخائر : ٥٨. الرياض ٢ : ٢٥٧.

(٥) الكامل ـ ابن الأثير ٣ : ١٣٥.


هذا عليّ وابن عمّ المصطفى

أوّل من أجاب لمّا أن دعا

وأعلن النبيّ 6 أنّ الإمام 7 هو أوّل من آمن به ، فقد قال لأصحابه :

« أوّلكم واردا عليّ الحوض أوّلكم إسلاما عليّ بن أبي طالب » (١).

وعلى أي حال فسبق الإمام إلى الإسلام قد اتّفق عليه المسلمون ، وهو وسام شرف وفخر للإمام 7.

حبّه للنبيّ :

كان الإمام 7 يحبّ النبيّ حبّا استوعب نفسه ، وأخلص له في الودّ كأعظم ما يكون الودّ ، وقد سأله شخص عن مدى حبّه له قائلا : كيف كان حبّكم لرسول الله؟

فأجابه الإمام :

« كان والله أحبّ إلينا من أموالنا وأولادنا وامّهاتنا ومن الماء البارد على الظّمأ ... » (٢).

ومن المؤكّد أنّه ليس في الاسرة النبوية ولا في الصحابة من يضارع الإمام في حبّه وإخلاصه للرسول؟ وكان من مودّته له أنّه أتى حائطا فقال له صاحبه : هل لك أن تسقيه ولك بكلّ دلو تمرة ، وسارع إلى سقيه فأعطاه صاحب البستان تمرا حتى ملأ كفّه منه ، فبادر إلى النبيّ 6 فأطعمه به (٣).

قيامه بخدمة النبيّ :

كان الإمام 7 يتولّى رعاية النبيّ 6 والقيام بخدماته حتّى أنّه إذا أراد القيام

__________________

(١) الغدير ٣ : ٢١.

(٢) خزانة الأدب ٣ : ٢١٣.

(٣) مسند أحمد ٢ : ١٠٢.


بادر فأخذ بيده ، وإذا أراد أن يجلس اتّكأ عليه (١).

ومن طرائف ما ينقل أنّ شخصا وفد على النبيّ 6 يستميحه ويطلب رفده فقال للإمام : « يا عليّ ، اقطع لسانه عنّي » ، ولم يفهم الشخص المراد من قول النبيّ 6 فسار مع عليّ وقد استولى عليه الفزع والخوف ، فقال للإمام : أقاطع لساني أنت يا أبا الحسن؟

فقال الإمام له : « إنّي ماض لما امرت به ».

وسار الإمام حتى انتهى به إلى إبل الصدقة فقال له : « خذ ما أحببت » ، فسكن روع الرجل وفهم ما أراده النبيّ ، وعلّق الإمام على كلمة النبيّ بقوله :

« أحسن مواربة سمعتها في كلام العرب » (٢).

وتولّى الإمام بإخلاص القيام بقضاء حوائج النبيّ ، وكان يعتلي بغلة النبيّ الشهباء ، ويسير في شعب الأنصار لتنفيذ ما عهد إليه (٣).

نماذج من أدعيته للنبيّ :

والشيء المحقّق أنّه لم يعرف أحد من الصحابة وغيرهم مكانة النبيّ 6 وسموّ منزلته سوى أخيه وباب مدينة علمه الإمام 7 ، فقد خصّه بكثير من الأدعية الحافلة بالتمجيد والتعظيم له والإشادة بفضله وعظيم شأنه ، وهذه بعضها :

١ ـ قال 7 :

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على أطيب المرسلين محمّد بن

__________________

(١) إعلام الورى : ١٨٧.

(٢) خزانة الأدب ١ : ١٥٤.

(٣) رسائل الجاحظ ٢ : ٢٢٢.


عبد الله المنتجب الفاتق الرّاتق.

اللهمّ فخصّ محمّدا 6 بالذّكر المحمود ، والحوض المورود.

اللهمّ آت محمّدا صلواتك عليه وآله الوسيلة ، والرّفعة والفضيلة واجعل في المصطفين محبّته ، وفي العلّيّين درجته ، وفي المقرّبين كرامته.

اللهمّ أعط محمّدا صلواتك عليه وآله من كلّ كرامة أفضل تلك الكرامة ، ومن كلّ نعيم أوسع ذلك النّعيم ، ومن كلّ عطاء أجزل ذلك العطاء ، ومن كلّ يسر أنضر ذلك اليسر ، ومن كلّ قسم أوفر ذلك القسم حتّى لا يكون أحد من خلقك أقرب منه مجلسا ، ولا أرفع منه عندك ذكرا ومنزلة ، ولا أعظم عليك حقّا ، ولا أقرب وسيلة من محمّد صلواتك عليه وآله ، إمام الخير وقائده ، والدّاعي إليه ، والبركة على جميع العباد والبلاد ورحمة للعالمين.

اللهمّ اجمع بيننا وبين محمّد صلواتك عليه وآله في برد العيش ، وتروّح الرّوح ، وقرار النّعمة ، وشهوة الأنفس ، ومنى الشّهوات ، ونعم اللذّات ، ورجاء الفضيلة ، وشهود الطّمأنينة ، وسؤدد الكرامة ، وقرّة العين ، ونضرة النّعيم ، وبهجة لا تشبه بهجات الدّنيا. نشهد أنّه قد بلّغ الرّسالة ، وأدّى النّصيحة ، واجتهد للأمّة ، وأوذي في جنبك ، وجاهد في سبيلك ، وعبدك حتّى أتاه اليقين ، فصلى الله عليه واله الطّيّبين.

اللهمّ ربّ البلد الحرام ، وربّ الرّكن والمقام ، وربّ المشعر الحرام ، وربّ الحلّ والحرام بلّغ روح محمّد 6 عنّا


السّلام. اللهمّ صلّ على ملائكتك المقرّبين ، وعلى أنبيائك ، ورسلك أجمعين ، وصلّ اللهمّ على الحفظة الكرام الكاتبين ، وعلى أهل طاعتك من أهل السّماوات السّبع وأهل الأرضين السّبع من المؤمنين أجمعين » (١).

وأنت ترى في هذا الدعاء جميع صنوف التكريم والتعظيم قد رفعها الإمام إلى سموّ النبيّ 6 ، ودعا له أن يبوّئه الله أسمى مكانة وأعلى درجة في حضيرة القدس.

٢ ـ وكان من مظاهر تعظيم الإمام للنبيّ 6 هذا الدعاء ، قال 7 :

اللهمّ داحي المدحوّات ، وداعم المسموكات ، وجابل القلوب (٢) على فطرتها ، شقيّها وسعيدها ، اجعل شرائف صلواتك ، ونوامي بركاتك على محمّد عبدك ورسولك الخاتم لما سبق ، والفاتح لما انغلق ، والمعلن الحقّ بالحقّ ، والدّامغ خبيثات الأباطيل ، والدّامغ صولات الأضاليل ، كما حمّلته فاضطلع بأمرك ، مستوفرا في مرضاتك ، غير ناكل عن قدم ، ولا واه في عزم ، واعيا لوحيك ، حافظا لعهدك ، ماضيا على نفاذ أمرك ، حتّى أورى قبس القابس ، وأضاء الطّريق للخابط ، وهديت به القلوب بعد خوضات الفتن والآثام ، وأقام بموضحات الأعلام ، ونيّرات الأحكام ، فهو أمينك المأمون ، وخازن علمك المخزون ، وشهيدك يوم الدّين ، وبعيثك بالحقّ ، ورسولك إلى الخلق.

اللهمّ افسح له مفسحا في ظلّك ، واجزه مضاعفات الخير من فضلك.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٣ : ٨٣. بحار الأنوار ٢٠ : ٢٦٣.

(٢) جابل القلوب : أي خالقها.


اللهمّ وأعل على بناء البانين بناءه ، وأكرم لديك منزلته ، وأتمم له نوره ، واجعله من انبعاثك مقبول الشّهادة ، مرضيّ المقالة ، ذا منطق عدل ، وخطبة فصل.

اللهمّ اجمع بيننا وبينه في برد العيش ، وإقرار النّعمة ، ورخاء الدّعة ، ومنتهى الطّمأنينة ، وتحف الكرامة » (١).

وحفل هذا الدعاء بإحاطة الإمام ومعرفته الكاملة بالرسول الأعظم 6 ، فقد أضفى عليه جميع ألوان الحفاوة والتكريم ، ودعا له بالمنزلة الكريمة التي يتبوّؤها في الفردوس الأعلى.

تمجيده للنبيّ :

وكان الإمام على يقين لا يخامره شكّ بنبوّة النبيّ 6 ورسالته ، وكان يثني عليه عاطر الثناء ، وممّا قال فيه :

١ ـ قال 7 :

« مستقرّه ـ أي النبيّ ـ خير مستقرّ ، ومنبته أشرف منبت ، في معادن الكرامة ، ومماهد السّلامة ؛ قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار ، وثنيت إليه أزمّة الأبصار ، دفن الله به الضّغائن ، وأطفأ به الثّوائر ألّف به إخوانا ، وفرّق به أقرانا ، أعزّ به الذّلّة ، وأذلّ به العزّة. كلامه بيان ، وصمته لسان » (٢).

ونرى في هذه الكلمات جميع ألوان التعظيم والتمجيد لشخصيّة الرسول 6 الذي ما عرفه سوى باب مدينة علمه.

__________________

(١) و (٢) نهج البلاغة ١ : ١٨٦.


٢ ـ قال 7 :

« ابتعثه ـ أي النبيّ ـ بالنّور المضيء ، والبرهان الجليّ ، والمنهاج البادي والكتاب الهادي. أسرته خير أسرة ، وشجرته خير شجرة ؛ أغصانها معتدلة ، وثمارها متهدّلة. مولده بمكّة ، وهجرته بطيبة علا بها ذكره وامتدّ منها صوته. أرسله بحجّة كافية ، وموعظة شافية ، ودعوة متلافية. أظهر به الشّرائع المجهولة ، وقمع به البدع المدخولة ، وبيّن به الأحكام المفصولة (١). فمن يبتغ غير الإسلام دينا تتحقّق شقوته ، وتنفصم عروته ، وتعظم كبوته ، ويكن مآبه إلى الحزن الطّويل والعذاب الوبيل » (٢).

وحكت هذه الكلمات ما يحمله الإمام من صنوف التعظيم والاكبار للنبيّ 6 ، ومن المقطوع به أنّه ليس في اسرة النبيّ ولا في أصحابه من فهم حقيقته وأحاط به علما سوى الإمام أمير المؤمنين 7 ... هذه بعض كلماته في حقّ الرسول 6.

كتابته للوحي :

وتظافرت الأخبار أنّ الإمام أمير المؤمنين 7 كان يكتب الوحي المنزل على عبد الله ورسوله محمّد 6 (٣) ، فقد كتب الكثير من الوحي وسور القرآن الكريم ، كما أنّه أوّل من نقّط المصاحف (٤) ، ومن الجدير بالذكر أنّه تعلّم الكتابة

__________________

(١) المفصولة : أي المفصّلة.

(٢) نهج البلاغة ٢ : ٢٢٩.

(٣) الاستيعاب ( المطبوع على هامش الاصابة ) ١ : ٣٠.

(٤) مفتاح السعادة ١ : ٨٩.


وهو في دور الصبا (١).

كتابته لعهود الرسول :

كان الإمام 7 يكتب عهود الرسول وصلحه ، فقد كتب لأهل نجران وغيرهم ما سجّله النبيّ 6 لهم (٢) ، ولمّا صالح رسول الله 6 أهل الحديبية كتب الإمام بينهم كتابا جاء فيه : « محمّد رسول الله » فقال المشركون : لا تكتب محمّدا رسول الله ، لو كنت رسولا لم نقاتلك ، فقال النبيّ 6 لعليّ : « امحه » ، فقال : « ما أنا بالّذي أمحوه » ، فمحاه النّبي بيده. قال : وكان فيما اشترطوا أن يدخلوا مكّة فيقيموا بها ثلاثا. ولا يدخلها بسلاح إلاّ جلبّان السّلاح ، فسألوه : وما جلبّان السّلاح؟ قال : القراب وما فيه (٣).

ومن الجدير بالذكر أنّ رسول الله 6 كان يتفقّد مقاطع الكلام التي كان يكتبها الإمام كتفقّد المصرم صريمته (٤).

تحطيمه للأصنام :

وظاهرة اخرى من سيرة الإمام واتّجاهاته كراهته البالغة للأصنام وبغضه الشديد لها ، وكان يسعى إلى تدميرها قبل أن يشرق نور الإسلام ، كما فعل جدّه شيخ الأنبياء إبراهيم 7 بأصنام الجاهلية وأوثانها ، وكان 7 ومعه اسامة يجمعان القمامة وأوساخ البيوت وقاذوراتها ويلقونها على أصنام قريش في غلس الليل ، فإذا أصبحت قريش ورأت أصنامها ملوّثة رفعت أصواتها بألم وعنف قائلة : من فعل هذا

__________________

(١) الفصول المختارة ٢ : ٦٦.

(٢) صبح الأعشى ١ : ٦٥.

(٣) صحيح البخاري ـ كتاب الصلح ٣ : ١٦٨. صحيح مسلم ـ كتاب الجهاد : ٣ : ١٤١٠.

(٤) الصناعتين : ٤٣١. إيضاح الوقف والابتداء : ٢٣١.


بآلهتنا ، وأنفقوا نهارهم على غسلها بالماء (١). وقد شاركه النبيّ 6 في تحطيم بعض الأصنام ، فقد تحدّث الإمام عن ذلك قائلا :

« انطلقت أنا والنّبيّ 6 حتّى أتينا الكعبة فقال لي رسول الله : اجلس ، وصعد على منكبيّ فذهبت لأنهض به فرأى منّي ضعفا ، فجلس وارتقيت على منكبه فنهض بي ويخيّل لي أن لو شئت لنلت افق السّماء حتّى صعدت على البيت وعليه تمثال صفر فجعلت ازاوله عن يمينه وعن شماله ومن بين يديه حتّى تمكّنت منه ، فقال لي رسول الله 6 : اقذف به ، فقذفت به فتكسّر كما تتكسّر القوارير ، ثمّ نزلت ، فانطلقت أنا ورسول الله نستبق حتّى توارينا خشية أن يلقانا أحد من النّاس » (٢).

ومن بين الأصنام التي حطّمها الإمام ما يلي :

١ ـ مناة : أقامت العرب صنم مناة وكانت تعظّمه وتعزّه ، فانبرى إليه الإمام فهدّمه (٣).

٢ ـ صنم طيّ : كان لطيّ بجبلي طي فمضى إليه الإمام فحطّمه وأزاله ووجد في مكانه سيفين : اسم أحدهما الرسوب ، واسم الآخر المخذم فحملهما الإمام إلى النبيّ 6 فوهبهما له (٤).

٣ ـ أصنام مكّة : ولمّا فتح الله تعالى لعبده ورسوله محمّد 6 الفتح المبين واحتلّ مكّة ، وكان قد علّق على الكعبة المقدّسة ثلاثمائة صنم أو يزيد عليها اتّخذتها القبائل آلهة يعبدونها من دون الله تعالى ، كان منها نائلة وأساف ومناف وذو

__________________

(١) جواهر المطالب ١ : ٢٦٧.

(٢) صفة الصفوة ١ : ١٦٣. مسند أحمد ١ : ٨٤.

(٣) خزانة الأدب ٧ : ٢٢٤.

(٤) الروض المعطار : ٤٦٧. المفصّل في تأريخ العرب قبل الإسلام ٤ : ٤٥٤.


الخلصة وذو الكنى وذو الشرى والأقيصر ونهم وسمير وغيرها (١) ، وكان زعيم تلك الأصنام ( هبل ) وهو إله أبي سفيان أبو معاوية وجدّ يزيد ، وكان من نحاس ، وقد اوتد بأوتاد من حديد ، فصعد الإمام على منكبي رسول الله 6 فعالجه حتى تمكّن من قلعه ورمى به إلى الأرض والنبيّ 6 يتلو قوله تعالى :

( قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ) (٢).

ثمّ قذف الإمام ببقيّة الأصنام وبذلك تطهّر البيت الحرام من أصنام قريش وأوثانها ، فقد حطّمها بطل الإسلام وقائد المسيرة الإسلامية نحو التحرّر ، وقد تفتّحت آفاق الفكر العربي وانتبه الناس إلى ضلالها. يقول زيد بن نوفل :

تركت اللاّت والعزّى جميعا

كذلك يفعل الجلد الصّبور

فلا العزّى ادين ولا ابنتيها

ولا صنمي بني غنم أزور

ولا هبلا أزور وكان ربّا

لنا في الدّهر إذ حلمي صغير (٣)

نقش خاتم الإمام :

ولشدّة تعلّق الإمام 7 بالله تعالى فقد كتب على خاتمه « الله الملك » (٤).

اجتنابه للخضاب :

ولم يخضب الإمام 7 كريمته الشريفة لقول النبيّ 6 له : « إنّها تخضّب من دم رأسه » (٥) ، لقد آثر الخضاب بدم رأسه الشريف في سبيل الله تعالى.

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٢ : ٣٦٦.

(٢) مستدرك الحاكم ٢ : ٣٦٦ ، الإسراء : ٨١.

(٣) القاموس الإسلامى ٤ : ٣٤٧.

(٤) جواهر المطالب : ٢٩٥.

(٥) وسائل الشيعة ١ : ٤٩٩.


دار سكناه :

ولمّا كان الإمام 7 في مكّة ، كان مقيما مع أبيه أبي طالب في بيته ، ومحلّه معروف في الأوساط المكّية ، ولمّا هاجر الإمام إلى يثرب بنى له النبيّ 6 بيتا مجاورا للجامع النبوي الشريف وفتح له بابا عليه ، ولمّا أمر النبيّ بإغلاق الأبواب المتّصلة بالجامع استثنى منها باب بيت الإمام تكريما وتعظيما له ، ولمّا انتقل الإمام إلى الكوفة واتّخذها عاصمة له لم يسكن في قصر الإمارة الذي بني مقرّا لرئيس الدولة أيام عمر ، فقد امتنع من سكناه وقال : « قصر الخبالى لا أسكن فيه » ، وجلس في بيت ابن اخته ، ثمّ رحل عنه ، وبنى له بيتا من الطين في الكوفة ، وأحاطه بغرف من القصب ... وبهذا العرض ينتهي بنا الحديث عن نشأته ، وسنذكر المزيد من شئونه في البحوث الآتية.



عناصره النّفسيّة



ما من صفة كريمة أو نزعة شريفة يمتاز بها الإنسان ويسمو بها على غيره من الكائنات الحيّة إلاّ وهي من ذاتيات الإمام أمير المؤمنين ، ومن عناصره الفذّة التي لا يضارعه فيها أحد سوى أخيه وابن عمّه الرسول محمّد 6.

لقد كان هذا الإمام الملهم العظيم بمكوّناته النفسية والفكرية دنيا من الكمال والفضائل التي لا حدّ لأبعادها ... إنّه هبة الله تعالى لهذه الامّة مرشدا وهاديا بعد أخيه الرسول الأعظم 6 ، فقد وهبه الله تعالى من الامتيازات والخصائص ، وفضّله على كثير من خلقه تفضيلا ، وليس في ذلك أيّ غلوّ ، فإنّ كلّ من يقرأ سيرته ويلمّ ببعض أحواله وشئونه يؤمن بما ذكرناه.

وعلى أيّ حال فإنّا نلمح ـ بإيجاز ـ بعض خصائصه ومكوّناته النفسية وهي :

إيمانه الوثيق بالله :

والظاهرة الفذّة التي تميّز بها الإمام 7 أنّه كان من أعظم المسلمين إيمانا بالله تعالى ، ومن أكثرهم معرفة به ، وهو القائل :

« لو كشف الغطاء لي ما ازددت يقينا ... ».

ومعنى ذلك أنّه لو تجلّى له الله تعالى بعظمته ورآه لما زاده ذلك يقينا بمعرفته والإيمان به ، وقد ناجى الله تعالى بإيمان قائلا :

« إلهي ما عبدتك خوفا من عقابك ، ولا طمعا في ثوابك ، ولكن وجدتك أهلا


للعبادة فعبدتك » (١).

إنّ هذا هو منتهى الإيمان ، فقد كانت عبادته لله تعالى عبادة المنيبين والعارفين لا عبادة تقليدية ، وقد اثرت عنه من الخطب والكلمات القصار في توحيد الله تعالى وتعظيمه وتنزيهه عن الشريك وغيره ما لم يؤثر عن غيره من ملوك المسلمين وزهّادهم وعلمائهم ... إنّه داعية الله تعالى الأكبر بعد أخيه وابن عمّه الرسول 6 ، فقد وهب حياته لله تعالى ، وجاهد في سبيله كأعظم ما يكون الجهاد ، وكانت جميع أعماله خالصة لوجه الله تعالى لا يشوبها أيّة شائبة من أغراض الدنيا ومتعها التي يؤول أمرها إلى التراب ، وحدّثنا المؤرّخون عنه حينما صرع عمرو بن عبد ودّ العامري فارس العرب ، فإنّه لم يجهز عليه لأنّه قد سبّه وأغلظ في شتمه ، فغضب من ذلك ، ولمّا سكن غضبه أجهز عليه ، وقد سئل عن السبب في تأخيره لقتله ، فأجاب :

« إنّي ما أحببت قتله انتقاما لسبّه لي فيفوت منّي الأجر والثّواب ، فلمّا سكن غضبي أجهزت عليه في سبيل الله تعالى ». وهكذا كانت جميع أعماله وصنوف جهاده خالصة لوجه الله تعالى ، لم يبتغ فيها إلاّ رضا الله تعالى ، وقد ولج في أعنف الحروب وأشدّها محنة وأقساها بلاء دفاعا عن دين الله ونصرة لنبيّ الله.

إنابته لله تعالى :

كان الإمام 7 من أعظم المنيبين لله تعالى ، ومن أكثرهم خوفا منه ، وقد حدّث أبو الدرداء عن شدّة إنابته لله تعالى قال :

شهدت عليّ بن أبي طالب بشويحطات النجّار وقد اعتزل عن مواليه واختفى ممّن يليه واستتر بمغيلات النخل ، فافتقدته ، وبعد عليّ مكانه ، فقلت : لحق

__________________

(١) بحار الأنوار ٤١ : ١٤.


بمنزله ، فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجيّة ، وهو يقول :

« إلهي كم من موبقة حلمت عن مقابلتها بنقمتك ، وكم من جريرة تكرّمت عن كشفها بكرمك ، إلهي إن طال في عصيانك عمري ، وعظم في الصّحف ذنبي ، فما أنا بمؤمّل غير غفرانك ، ولا أنا براج غير رضوانك ... ».

وذهل أبو الدرداء ، وهام في تيارات من خشية الله ، وراح يفتّش عن صاحب هذا الصوت ، ولم يلبث حتى عرفه ، وإذا به إمام المتّقين عليّ بن أبي طالب ، فاستتر أبو الدرداء ليسمع بقيّة مناجاة الإمام ، وراح الإمام يصلّي ، فلمّا فرغ من صلاته توجّه بقلب منيب إلى الدعاء والبكاء من خشية الله تعالى ، وكان ممّا ناجى به الله تعالى قوله :

« إلهي افكّر في عفوك فتهون عليّ خطيئتي ، ثمّ أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليّ بليّتي ... ».

ثمّ قال : « آه إن أنا قرأت في الصّحف سيّئة أنا ناسيها وأنت محصيها ، فتقول : خذوه ، فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته ، ولا تنفعه قبيلته! يرحمه الملأ إذا اذن فيه بالنّداء ... آه من نار تنضج الأكباد والكلى ، آه من نار نزّاعة للشّوى! آه من غمرة من ملهبات لظى ... ».

يقول أبو الدرداء : ثمّ انفجر الإمام 7 باكيا وخمد صوته ، فسارعت إليه فوجدته كالخشبة الملقاة فحرّكته فلم يتحرّك ، فقلت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، مات والله عليّ بن أبي طالب ، فبادرت مسرعا إلى بيته أنعاه إلى أهله ، فقالت زهراء الرسول سلام الله عليها :

« يا أبا الدّرداء ، ما كان من شأنه؟ ... ».

فأخبرتها بما رأيته ، فقالت سيّدة النساء :


« هي والله يا أبا الدرداء الغشية التي تأخذه من خشية الله ... ».

ثمّ أتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق ، ونظر إليّ وأنا أبكي فقال لي :

« ممّ بكاؤك يا أبا الدّرداء؟ ».

ـ ممّا أراه تنزله بنفسك.

فأجابه الإمام وهو غارق بالخشية من الله قائلا :

« يا أبا الدّرداء ، كيف لو رأيتني وقد دعي بي إلى الحساب ، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب ، واحتوشتني ملائكة غلاظ ، وزبانية فظاظ ، فوقفت بين يدي الملك الجبّار ، قد أسلمني الأحياء ، ورحمني أهل الدّنيا ، لكنت أشدّ رحمة لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية ... ».

وبهر أبو الدرداء ممّا رآه من إنابة الإمام وخشيته من الله تعالى وراح يقول : والله ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله 6 (١).

ارأيتم هذا الإيمان الذي يمثّل التقوى والخشية من الله تعالى؟ لقد كان هذا الإمام العظيم في جميع فترات حياته قد تعلّق قلبه وفكره بالله تعالى ، وسعى لكلّ ما يقرّبه إليه زلفى. وممّا قاله ضرار لمعاوية في وصفه للإمام :

ولو رأيته في محرابه ، وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه وهو قابض على لحيته يتململ تململ السليم (٢) ويبكي بكاء الحزين ، وهو يقول : « يا دنيا ، إليّ تعرّضت أم إليّ تشوّقت؟ هيهات هيهات ، لا حاجة لي فيك ، أبنتك ثلاثا (٣) لا رجعة

__________________

(١) أمالي الصدوق ٤٨ ـ ٤٩. بحار الأنوار ٤١ : ١١ ـ ١٢.

(٢) السليم : من لدغته الحيّة.

(٣) باينتك : أي طلّقتك طلاقا بائنا.


لي عليك ». ثمّ يقول : « آه آه لبعد السّفر ، وقلّة الزّاد ، وخشونة الطّريق » وتأثّر معاوية وقال : حسبك يا ضرار ، كذلك والله كان عليّ (١).

وروى نوف شدّة خشيته من الله تعالى ، قال : بتّ ليلة عند أمير المؤمنين 7 فكان يصلّي الليل كلّه ، ويخرج ساعة بعد ساعة ، فينظر إلى السماء ، ويتلو القرآن ، قال : فمرّ بي بعد هدء من الليل فقال :

« يا نوف ، أراقد أنت أم رامق؟ ».

بل رامق أرمقك ببصري يا أمير المؤمنين.

فالتفت إليه الإمام وهو يقول بصوت خافت :

« يا نوف ، طوبى للزّاهدين في الدّنيا ، الرّاغبين في الآخرة ، اولئك الّذين اتّخذوا الأرض بساطا ، وترابها فراشا ، وماءها طيبا ، والقرآن دثارا ، والدّعاء شعارا ، وقرضوا من الدّنيا تقريضا ، على منهاج عيسى بن مريم. إنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى عيسى بن مريم : قل للملإ من بني إسرائيل : لا يدخلوا بيتا من بيوتي إلاّ بقلوب طاهرة ، وأبصار خاشعة ، وأكفّ نقيّة ، وقل لهم : اعلموا إنّي غير مستجيب لأحد منكم دعوة من خلقي في قلبه مظلمة ... » (٢).

إنّ هذه الإنابة تبهر العقول ، إنّها إنابة العارفين بالله تعالى الذين ملئت نفوسهم إيمانا وخشية وإخلاصا لله تعالى ، ولا شكّ في أنّ الإمام 7 هو إمام المتّقين وسيّد العارفين الذي غذّاه النبيّ 6 بإيمانه وتقواه ، فصار صورة صادقة عنه.

وقد روى المؤرّخون صورا مذهلة عن خشية الإمام وإنابته إلى الله تعالى ، فقد

__________________

(١) بحار الأنوار ٤١ : ١٥. أمالي الصدوق : ٣٧١.

(٢) بحار الأنوار ٤١ : ١٦. الخصال ١ : ١٦٤.


رووا أنّه حينما كان في أشدّ الأهوال وأعنفها في صفّين كان يقيم الصلاة في وسط المعركة وسهام الأعداء تأخذه يمينا وشمالا ، وهو غير حافل بها لأنّ مشاعره وعواطفه قد تعلّقت بالله تعالى (١). وكان الإمام زين العابدين وسيّد الساجدين عليّ ابن الحسين 7 إذا أخذ كتاب عليّ ونظر ما فيه من عبادته قال : من يطيق هذا ، خصوصا في حال صلاته فإنّه يتغيّر لونه. وما أطاق أحد أن يعمل مثل عبادته إلاّ عليّ بن الحسين 7 (٢).

وقد روى أبو جعفر ، قال : دخلت على أبي عليّ بن الحسين فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد ، قد اصفرّ لونه من السهر ، ورمضت عيناه من البكاء ، ودبرت جبهته ، وانخرم أنفه من السجود ، وورمت ساقاه وقدماه من الصلاة ، قال أبو جعفر : فلم أملك نفسي حين رأيته بتلك الحالة وهو يبكي فبكيت رحمة له ، فالتفت إليّ فقال : أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة عليّ بن أبي طالب فأعطيته فقرأ فيها شيئا يسيرا ، ثمّ تركها من يده تضجّرا ، وقال : من يقوى على عبادة عليّ بن أبي طالب (٣).

العصمة من الذنوب :

وظاهرة اخرى من نزعات الإمام 7 وذاتياته العصمة من كلّ إثم ورجس ، فلم يقترف ـ بإجماع المؤرّخين ـ أي ذنب أو خطيئة ، ولم يشذّ عن سنّة رسول الله 6 في هديه وسلوكه ، وقد حاول ابن عوف بعد اغتيال عمر أن يقلّده الخلافة وشرط عليه أن يسير بسيرة الشيخين في حكومته فأبى وامتنع ، وأصرّ على متابعة الكتاب والسنّة ، ولو كان من عشّاق الملك وهواة السلطان لأجاب إلى ذلك ، ولمّا أصر عليه الخوارج أن يعلن التوبة لينضمّوا تحت لوائه فأبى لأنّهم هم الذين اقترفوا

__________________

(١) وقعة صفّين : ١٣٣.

(٢) روضة الكافي : ١٩٥. الوسائل ١ : ٦٣.

(٣) الإرشاد : ٢٧١. بحار الأنوار ٣٧ : ١٧. وسائل الشيعة ١ : ٦٨.


الإثم وأرغموا الإمام على قبول التحكيم ، ولو كان يروم السلطة لأجابهم إلى ذلك.

وعلى أي حال فقد صدرت منه مجموعة من الكلمات تدلّ ـ بوضوح ـ على عصمته ، كان منها ما يلي :

١ ـ قال 7 :

« والله لو أعطيت الأقاليم السّبعة بما تحت أفلاكها ، على أن أعصي الله جلب شعيرة أسلبها من فم نملة ما فعلت ».

وهذه هي العصمة التي تقول بها الشيعة ، وتضفيها على أئمّتهم.

٢ ـ قال 7 :

« والله لأن أبيت على حسك السّعدان (١) مسهّدا ، أو أجرّ في الأغلال مصفّدا ، أحبّ إليّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد ، وغاصبا لشيء من الحطام » (٢).

أليست هذه هي العصمة؟

أليست هذه هي الطهارة من الرجس وآثام الحياة؟

أليست هذه هي ملكة العدالة التي تبلغ بالإنسان إلى قمّة الإيمان والتقوى؟

٣ ـ قال 7 :

« وإنّما هي نفسي أروضها بالتّقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر ، وتثبت على جوانب المزلق (٣). ولو شئت لاهتديت الطّريق ، إلى مصفّى هذا

__________________

(١) الحسك : الشوك. السعدان : نبت له شوك ترعاه الإبل.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٣ : ٨٠.

(٣) المزلق : الصراط.


العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القزّ. ولكن هيهات أن يغلبني هواي ، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة ـ ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ، ولا عهد له بالشّبع ـ أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى ، أو أكون كما قال القائل :

وحسبك داء أن تبيت ببطنة

وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ

أأقنع من نفسي بأن يقال : هذا أمير المؤمنين ، ولا أشاركهم في مكاره الدّهر ، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش! » (١).

أليس هذا هو نكران الذات الذي هو عين العصمة من كلّ إثم من مآثم الحياة.

٤ ـ قال 7 :

« والله لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم ».

فإذا كانت الدنيا عنده بهذه الحقارة والضعة كيف يقترف الذنوب للظفر بملاذها وخيراتها.

٥ ـ قال 7 :

« وإنّي لعلى بيّنة من ربّي ، ومنهاج من نبيّي ، وإنّي لعلى الطّريق الواضح ألقطه لقطا ».

لقد كان على الطريق الواضح الذي لا التواء ولا منعطفات فيه ، وهو عين العصمة التي من ذاتيات الإمام 7.

٦ ـ قال 7 :

« ما كذبت ولا كذّبت ، ولا ضللت ولا ضلّ بي ».

__________________

(١) نهج البلاغة ٣ : ٣.


٧ ـ قال 7 :

« إنّي لم أردّ على الله ولا على رسوله ساعة قطّ ».

٨ ـ قال 7 :

« فو الّذي لا إله إلاّ هو إنّي لعلى جادّة الحقّ ، وإنّهم لعلى مزلّة الباطل ».

وتجسّدت العصمة بجميع صورها ومفاهيمها في أقوال الإمام وسلوكه ونزعاته.

زهده :

من ذاتيات إمام المتّقين ، ومن أبرز عناصره الزهد التامّ في الدنيا ، والرفض الكامل لجميع مباهجها وزينتها ، لقد سيطر على نفسه وعوّدها البؤس والحرمان ، وحمّلها من أمره رهقا ، فلم يستجب لأي متعة من متع الحياة ، ولم ينعم بأي نعمة من نعيمها ، فكان أزهد الناس كما يقول عمر بن عبد العزيز (١).

ولمّا آلت إليه الخلافة وأشرقت الدنيا بحكومته التي هي امتداد لحكومة الرسول 6 ، طلّق الدنيا ثلاثا وعاش في أرباض يثرب والكوفة عيشة البؤساء والفقراء ، فلم يبن له دارا ، ولم يلبس من أطائب الثياب وإنّما كان يلبس لباس الفقراء ، ويأكل أكلهم ، وقد قيل له في ذلك فأجاب : « لئلا يتبيّغ بالفقير فقره! » وهكذا انصرف عن الدنيا ، ولم يعد لملاذها ومنافعها أي ظلّ عليه.

صور مذهلة من زهده :

وذكر المؤرّخون والرواة صورا رائعة ومذهلة من زهد الإمام 7 كان منها ما يلي :

__________________

(١) تاريخ دمشق ٣ : ٢٥٢. جواهر المطالب ١ : ٢٧٦.


١ ـ لباسه :

ولم يعن الإمام 7 بلباسه ، وإنّما كان يلبس أخشن الثياب ، وهذه بعض البوادر التي حكيت عنه :

أ ـ روى عمر بن قيس قال : رئي عليّ وعليه إزار مرقوع فعوتب عليه ، فقال :

« يقتدي به المؤمن ، ويخشع له القلب » (١).

ب ـ روى أبو إسحاق السبيعي ، قال : كنت على عنق أبي وأمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب يخطب ، وهو يتروّح بكمّه ، فقلت : يا أبه ، أمير المؤمنين يجد الحرّ؟ فقال : لا يجد حرّا ولا بردا ، ولكنّه غسل قميصه وهو رطب ، ولا له غيره فهو يتروّح به » (٢).

ج ـ روى أبو حيّان التميمي عن أبيه ، قال : رأيت عليّا على المنبر يقول :

« من يشتري منّي سيفي هذا؟ فلو كان عندي ثمن إزار ما بعته ».

فقام إليه رجل فقال له : أنا اسلفك ثمن إزار ... وعلّق على ذلك عبد الرزاق فقال : لقد فعل الإمام ذلك وكانت الدنيا إذ ذاك بيده إلاّ الشّام (٣).

د ـ روى عليّ بن الأقمر قال : رأيت عليّا وهو يبيع سيفا له في السوق ويقول :

« من يشتري منّي هذا السّيف ، فو الّذي فلق الحبّة لطالما كشفت به الكرب عن وجه رسول الله 6 ، ولو كان عندي ثمن إزار ما بعته » (٤).

__________________

(١) صفة الصفوة ١ : ١٦٨. المناقب ١ : ٣٦٦ ، وفيه زيادة : « وتذلّ به النفس ».

(٢) الغارات ١ : ٩٩.

(٣) الاستيعاب ( المطبوع على هامش الإصابة ) ٢ : ٤٩. جواهر المطالب : ٢٨٤.

(٤) صفة الصفوة ١ : ١٦٨.


هـ ـ ذكر الرواة : أنّه لم يكن للإمام إلاّ قميص واحد لا يجد غيره في وقت الغسل (١).

و ـ أتى الإمام 7 سوق البزّازين ليشتري ثوبا له فوقف على تاجر فعرفه ، فأراد مسامحته ليتقرّب إليه ، فانصرف عنه ولم يشتر منه ، ووقف على غلام لم يعرفه فاشترى منه ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم ، والآخر بدرهمين ، فقال لقنبر : « خذ الّذي بثلاثة دراهم ».

فقال له قنبر : أنت أولى به ، إنّك تصعد المنبر وتخطب الناس ، فردّ عليه الإمام وقال له :

« أنت شابّ ، ولك شرخ الشّباب ، وأنا أستحي من ربّي أن أتفضّل عليك » (٢).

ز ـ اشترى الإمام 7 قميصا بثلاثة دراهم ، وقال : « الحمد لله هذا من رياشه » ، أي من ستره (٣).

ح ـ روى هارون بن عنترة قال : دخلت على عليّ في الخورنق ، وهو يرعد من البرد ، وعليه سمل قطيفة ، فقلت :

يا أمير المؤمنين ، إنّ الله قد جعل لك ولأهل بيتك نصيبا في هذا المال ، وأنت تصنع بنفسك ما تصنع؟ فقال :

« والله! ما أرزؤكم شيئا من مالكم ، وإنّها لقطيفتي الّتي خرجت بها من منزلي بالمدينة » (٤).

__________________

(١) المناقب ١ : ٣٦٦.

(٢) الغارات ١ : ١٠٦.

(٣) أمالي المرتضى ١ : ٣٥٣. النجوم الزاهرة ١ : ٣٥٣.

(٤) حلية الأولياء ٣ : ٢٣٦.


ط ـ اشترى الإمام 7 ثوبا فأعجبه فكره أن يلبسه ، وبادر فتصدّق به (١).

ي ـ خطب الإمام 7 على أهل الكوفة ، فقال لهم : « دخلت بلادكم بإسمالي هذه وراحلتي هذه ، فإذا خرجت من بلادكم بغير ما دخلت فإنّي من الخائنين » (٢)!

ك‍ ـ ذكر الرواة أنّ الإمام في أيام خلافته لم يكن عنده قيمة ثلاثة دراهم ليشتري بها إزارا أو ما يحتاج إليه ، ثمّ يدخل بيت المال فيقسّم كلّ ما فيه على الناس ، ثمّ يصلّي فيه ، ويقول : « الحمد لله الّذي أخرجني منه كما دخلته » (٣).

هذه بعض البوادر من زهده في لباسه ، وقد توفّي وليس عنده من الثياب غير الثوب الذي عليه ... ومن الجدير بالذكر أن نلقي نظرة على ما تركه ملوك بني العباس ، فقد توفّي هارون الرشيد وخلّف أربعة آلاف عمامة مطرّزة ما عدا الثياب التي خلّفها ، فضلا عن الأموال التي خلّفها في خزائنه ، وهكذا غيره من ملوك الأمويّين والعبّاسيّين ، الّذين لا يمثّلون إلاّ جانب الترف والنهب لأموال المسلمين ، ومن المؤكّد أنّهم لا علاقة لهم بالسياسة الاقتصادية التي تبنّاها الإسلام.

٢ ـ طعامه :

وامتنع الإمام 7 من تناول ألوان الأطعمة ، واقتصر على ما يسدّ الرمق من الأطعمة البسيطة كالخبز والملح ، وربّما تعدّاه إلى اللبن أو الخلّ ، وكان في أيام رسول الله 6 يربط الحجر على بطنه من الجوع (٤) ، وكان قليل التناول للحم ، وقد قال : « لا تجعلوا بطونكم مقابر للحيوانات » ، ويقول ابن أبي الحديد : إنّه ما شبع

__________________

(١) المناقب ١ : ٣٦٦.

(٢) المصدر السابق : ٣٦٧.

(٣) المصدر السابق : ٣٦٤.

(٤) مسند أحمد ٢ : ٣٥١ ، رقم الحديث ١٣٦٧.


من طعام قطّ ، وقد اتي له بفالوذج (١) ، فلمّا وضع بين يديه ، قال : « إنّه طيّب الرّيح ، حسن اللّون ، طيّب الطّعم ، ولكن أكره أن أعوّد نفسي ما لم تعتد » (٢). وقد روى الإمام أبو جعفر 7 قال : « أكل عليّ من تمر دقل (٣) ثمّ شرب عليه الماء ، وضرب يده على بطنه وقال : من أدخله بطنه النار فأبعده الله » ، ثمّ تمثّل :

« فإنّك مهما تعط بطنك سؤله

وفرجك نالا منتهى الذّمّ أجمعا » (٤)

وروى عبد الملك بن عمير قال : حدّثني رجل من ثقيف أنّ عليّا 7 استعمله على عكبرا ، قال : ولم يكن السواد يسكنه المصلّون ، وقال لي : « إذا كان عند الظّهر فرح إليّ » ، فرحت إليه فلم أجد عنده حاجبا يحبسني عنه دونه ، فوجدته جالسا وعنده قدح وكوز من ماء فدعا بظبية (٥) فقلت في نفسي : لقد أمنني حتى يخرج إليّ جواهرا ـ ولا أدري ما فيها ـ فإذا عليها خاتم فكسر الخاتم فإذا فيها سويق ، فأخرج منها فصبّ في القدح فصبّ عليه ماء فشرب وسقاني ، فلم أصبر فقلت :

يا أمير المؤمنين ، أتصنع هذا بالعراق ، وطعام العراق أكثر من ذلك؟

قال : « أما والله! ما أختم عليه بخلا ، ولكنّي ابتاع قدر ما يكفيني فأخاف أن يفنى فيصنع من غيره ، وإنّما حفظي لذلك ، وأكره أن ادخل بطني إلاّ طيّبا » (٦).

وهكذا كان رائد العدالة الإسلامية متحرّجا في طعامه كأشدّ ما يكون التحرّج ، وقد تحدّث الإمام 7 عن زهده وإعراضه عن الدنيا بقوله :

__________________

(١) الفالوذج : حلواء تعمل من الدقيق والماء والعسل ، والكلمة فارسية.

(٢) حلية الأولياء ١ : ٨١. كنز العمّال ١٥ : ١٦٤.

(٣) الدقل : أردأ التمر.

(٤) كنز العمّال ٢ : ٢٦١.

(٥) الظبية : جراب صغير.

(٦) حلية الأولياء ١ : ٨٢. الرياض النضرة ٢ : ٢٣٥.


« فو الله ما كنزت من دنياكم تبرا ، ولا ادّخرت من غنائمها وفرا ، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا ، ولا حزت من أرضها شبرا ، ولا أخذت منه إلاّ كقوت أتان دبرة ».

ومن المؤكّد أنّ الإمام 7 لم ينل من أطائب الطعام حتى وافاه الأجل المحتوم ، فقد أفطر في آخر يوم من حياته في شهر رمضان على خبز وجريش ملح ، وأمر برفع اللبن الذي قدّمته له بنته الزكية أمّ كلثوم (١) ، وهو في نفس الوقت كان يدعو اليتامى فيطعمهم العسل حتى قال بعض أصحابه : وددت أنّي كنت يتيما (٢) ، وروى عبد الله بن رزين قال : دخلت على عليّ بن أبي طالب يوم الأضحى فقرّب إلينا حريرة فقلت : أصلحك الله ، لو قرّبت إلينا من هذا البطّ ـ يعني الوزّ ـ فإنّ الله عزّ وجلّ قد أكثر الخير ، فقال :

« يا ابن رزين ، إنّي سمعت رسول الله 6 يقول : لا يحلّ للخليفة من مال الله إلاّ قصعتان ، قصعة يأكلها هو وأهله ، وقصعة يضعها بين يدي النّاس » (٣). وقد سار على هذا المنهج المشرق لأنّه إمام المسلمين وله خطته الخاصّة في الزهد ، لا يشاركه فيها أحد من أبناء الشعب ، ومن أمثلة ذلك أنّه شكا إليه الربيع بن زياد الحارثي أخاه قائلا : اعدني على أخي عاصم.

« ما باله؟ ».

لبس العباءة يريد النسك ... فأمر الإمام بإحضاره ، فلمّا مثل بين يديه رآه الإمام مؤتزرا بعباءة مرتديا باخرى ، شعث الرأس واللحية ، فعبس الإمام بوجهه وقال له بعنف :

« أما استحييت من أهلك؟ أما رحمت ولدك؟ أترى أنّ الله أباح لك الطّيّبات ،

__________________

(١) منتهى الآمال ١ : ٣٣٤.

(٢) بحار الأنوار ٤١ : ٢٩.

(٣) مسند أحمد بن حنبل ١ : ٧٨.


وهو يكره أن تنال منها شيئا ، بل أنت أهون على الله ، أما سمعت الله يقول في كتابه : ( وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ. فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ. وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ. وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ. بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ) (١) أفترى أنّ الله أباح هذه لعباده إلاّ ليبتذلوه ، ويحمدوا الله تعالى عليه فيثيبهم ، وإنّ ابتذالك نعم الله بالفعل خير منه بالمقال ... ».

وبادر عاصم قائلا : فما بالك في خشونة مأكلك ، وخشونة ملبسك ، فإنّما تزيّنت بزينتك؟ فردّ عليه الإمام قائلا :

« ويحك إنّ الله فرض على أئمّة الحقّ أن يقدّروا أنفسهم بضعفة النّاس » (٢).

لقد زهد الإمام 7 في الدنيا في جميع فترات حياته خصوصا لمّا تولّى السلطة العامّة للمسلمين ، فقد تجرّد تجرّدا تامّا من جميع رغباتها ، ومن أمثلة زهده ما رواه صالح بن الأسود قال : رأيت عليّا قد ركب حمارا وأدلى رجليه إلى موضع واحد ، وهو يقول : « أنا الّذي أهنت الدّنيا » (٣) ، أجل والله يا رائد العدل لقد أهنت الدنيا ، واحتقرت جميع مباهجها وزينتها ، فقد أتتك الدنيا وتقلّدت أسمى مركز فيها ، فلم تحفل بها ، ولم تعر لسلطتها أي بال ، فسلام الله عليك يا إمام المتّقين.

بطولته النادرة :

من مظاهر شخصيّة الإمام 7 بطولته النادرة التي استوعبت ـ بفخر وشرف ـ

__________________

(١) الرحمن : ١٠ ـ ٢٢.

(٢) ربيع الأبرار ٤ : ٨٥ ـ ٨٦.

(٣) تاريخ دمشق ٣ : ٢٣٦. جواهر المطالب : ٢٧٦.


جميع لغات الأرض ، وصارت مضرب الأمثال وانشودة الأبطال في كلّ زمان ومكان ، فهو بطل الإسلام دون منازع ، لا يعرف المسلمون سيفا كسيف عليّ في إطاحته لرؤوس المشركين وأعلام الملحدين ، وهو الذي أذلّ طغاة القرشيّين ، وسحق كبرياءهم ، ودمّر غلواءهم ، ومواقفه المشرّفة في واقعة بدر واحد والأحزاب وغيرها تدلّل ـ بوضوح ـ على أنّ الإسلام قام بجهوده وجهاده ، ولو لا مواقفه الحاسمة لما أبقت القوى القرشية الضالّة أثرا للإسلام.

وعلى أي حال لقد كان الإمام حتف المشركين ، وعدوّهم الألدّ بعد الرسول 6 ، ولو لا جهاده وقوّة بأسه وصلابة موقفه لما قام الإسلام على سوقه عبل الذراع ، ولقضت عليه قريش في أوّل بزوغ نوره ، وقد شاعت في جميع الأوساط شجاعته ، وراح الناس يتحدّثون عنها بإعجاب ، وقد قيل للنبيّ 6 إنّ أفرس الناس عمرو بن معدي كرب ، فردّ عليهم النبيّ 6 : « إنّ أفرس النّاس عليّ بن أبي طالب » (١).

وقد شبّه السيّد الحميري بطولة الإمام وشجاعته بالريح العاتية التي أخذت قوم عاد بقوله :

إذا أتى معشرا يوما أنامهم

إنامة الرّيح في تدميرها عادا (٢)

يقول ابن أبي الحديد : وأمّا الشجاعة فإنّه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله ، ومحا اسم من يأتي بعده ، ومقاماته في الحرب مشهورة تضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة. وهو الشجاع الذي ما فرّ قطّ ، ولا ارتاع من كتيبة ، ولا بارز أحدا إلاّ قتله ، ولا ضرب ضربة قطّ فاحتاجت الاولى إلى الثانية.

__________________

(١) رسائل الجاحظ ٢ : ٢٢٢.

(٢) أعيان الشيعة ٢ : ١٣٦.


وفي الحديث : « كانت ضرباته وترا » (١). ولمّا دعا معاوية إلى المبارزة ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما ، قال له عمرو : لقد أنصفك ، فقال معاوية : ما غششتني منذ صحبتني إلاّ اليوم ، أتأمرني بمبارزة أبي الحسن وأنت تعلم أنّه الشجاع المطرق ، أراك طمعت في امارة الشام بعدي .. وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته ، فأمّا قتلاه فافتخار رهطهم بأنّه 7 قتلهم أظهر وأكثر.

قالت اخت عمرو بن عبد ودّ ترثيه :

لو كان قاتل عمرو غير قاتله

بكيته ما أقام الرّوح في جسدي

لكنّ قاتله من لا نظير له

وكان يدعى أبوه بيضة البلد (٢)

وجملة الأمر أنّه احتلّ الصدارة في شجعان العالم ، وأنّ شجاعته النادرة كانت في نصرة الإسلام ، ونصرة المظلومين ، والمعذّبين في الأرض.

ومن مظاهر شجاعته أنّه كان يخرج في أيام صفّين وحده بغير حماية فقيل له : تقتل أهل الشام بالغداة وتظهر بالعشي في إزار ورداء؟ فقال 7 : « بالموت تخوّفوني؟ فو الله ما ابالي سقطت على الموت أم سقط عليّ! » (٣) إنّه كان على بيّنة من دينه ، فقد سخر من الموت وهزأ بالحياة ؛ لأنّه عاش مجاهدا طيلة حياته.

قوّته الهائلة :

وهب الله تعالى للإمام 7 قوّة هائلة ، وقوّة نفسية مذهلة ، استطاع بهما أن

__________________

(١) وفي المثل المعروف أنّ ضربة عليّ تفرد المثنى وتثنّى المفرد ، قال الشعبي : عليّ أشجع الناس تقرّ له بذلك العرب ، جاء ذلك في نور القبس المختصر من المقتبس للميرزباني : ٢٤٥.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ٢٠.

(٣) العقد الفريد ١ : ١٠٢.


يلحق العار والهزيمة بالقرشيّين ، ويهزم اليهود الذين كانوا يمدّون القرشيّين بالمال والسلاح لإخماد نور الإسلام ، ومن قوّته أنّه إذا أمسك بذراع رجل كأنّما أمسك نفسه ، ولم يستطع أن يتنفّس (١) ، وكان في صباه يصارع كبار اخوته وصغارهم وكبار بني عمّه وصغارهم فيصرعهم ، وكان أبوه يقول : ظهر عليّ فسمّاه ظهيرا ، فلمّا ترعرع كان يصارع الرجل الشديد فيصرعه ويعلو بالجبار بيده ويجذبه ويقتله ، وربّما قبض على مراق بطنه ورفعه في الهواء ، وربّما يلحق الحصان الجاري فيصدمه ويردّه على عقبيه (٢) ، وهو الذي قلع باب خيبر وجعلها جسرا على الخندق فعبر عليها الجيش الإسلامي ، ثمّ رماها مسافة أذهلت العسكر وصارت احدوثة الناس في جميع مراحل تاريخهم ، وهي من الأسباب التي دعت أن يذهب فريق من محبّي الإمام 7 إلى القول بإلهيّته.

حلمه :

كان الإمام 7 من أحلم الناس ، ومن أكثرهم كظما لغيظه ، فلم يثأر من أي أحد اعتدى عليه أو أساءه ، وإنّما كان يقابلهم بالصفح والإحسان كشأن أخيه وابن عمّه الرسول 6 ، الذي قابل المعتدين عليه بالصفح ، وقد قال لأهل مكّة وهم من ألدّ أعدائه ، الذين ما تركوا لونا من ألوان الاعتداء إلاّ صبّوه عليه : « اذهبوا فقد عفوت عنكم فأنتم الطّلقاء » ، على هذا المنهج سار وصيّه وباب مدينة علمه ، فقابل أعداءه وخصومه بالصفح والإحسان الجميل.

بوادر من حلمه :

وهذه لمحات من بوادر حلمه تنمّ عن نفسه العظيمة التي خلقها الله لتكون

__________________

(١) بحار الأنوار ٤١ : ٢٧٦.

(٢) بحار الأنوار ٤١ : ٢٧٥. مناقب آل أبي طالب ١ : ٤٣٩.


مشكاة نور لعباده تهديهم للتي هي أقوم ، وهي كما يلي :

١ ـ دعا الإمام 7 غلاما له فلم يجبه ، ثمّ دعاه مرّة ثانية وثالثة فلم يجبه ، فقام إليه وقال له :

« ما حملك على ترك إجابتي؟ ».

فردّ عليه الغلام :

ـ كسلت عن إجابتك ، وأمنت عقوبتك ..

وامتلأ قلب الإمام سرورا ، وقال 7 : « الحمد لله الّذي جعلني ممّن يأمنه خلقه ، امض فأنت حرّ لوجه الله تعالى » (١).

٢ ـ قصده أبو هريرة ، وكان معروفا بانحرافه عنه ، ومتجاهرا ببغضه ، فسأله حاجة فقضاها له ، فعاتبه بعض أصحابه على ذلك فقال 7 :

« إنّي لأستحي أن يغلب جهله حلمي ، وذنبه عفوي ، ومسألته جودي » (٢).

٣ ـ كان ابن الكوّاء الخارجي ، وهو من الممسوخين يجاهر بشتم الإمام ويعلن سبّه أمامه ، فلم يقابله بالمثل ، ولا تعرّض لنقمته ، وقد تلا عليه الآية أمام الناس :

( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) (٣) ، وأعاد عليه الآية ، فأجابه الإمام ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) (٤) ، ولم يتّخذ معه الإجراءات الصارمة فيوعز إلى الشرطة باعتقاله وتأديبه.

__________________

(١) المناقب ١ : ٣٨٠. أمالي المرتضى ١ : ٥٢٥.

(٢) المناقب ٦ : ٣٨٠.

(٣) الزمر : ٦٥.

(٤) الروم : ٦٠.


٤ ـ وكان من عظيم حلمه أنّه ظفر بعائشة بعد فشلها في حرب الجمل ، وهي من ألدّ أعدائه ، ومعها مروان بن الحكم ، وعبد الله بن الزبير ، وغيرهما من الحاقدين عليه ، الذين أشعلوا نار الحرب ، وأعلنوا التمرّد والعصيان المسلّح على حكومته ، فعفا عنهم جميعا ، وسرّح عائشة سراحا جميلا ، وجهّزها جهازا حسنا. وهكذا كانت سيرته الصفح والإحسان ليقلع نزعات الحقد والشرّ من نفوسهم.

يقول ابن أبي الحديد عن حلم الإمام :

وأمّا الحلم والصفح فكان أحلم الناس عن مذنب ، وأصفحهم عن مسيء ، وقد ظهر حجّة ما قلناه يوم الجمل حيث ظفر بمروان بن الحكم وكان من أعدى الناس ، وأشدّهم بغضا له ، فصفح عنه.

وكان عبد الله بن الزبير يشتمه على رءوس الأشهاد ، وخطب يوم البصرة فقال : قد أتاكم الوغد اللئيم عليّ بن أبي طالب ، وكان عليّ يقول :

« ما زال الزّبير رجلا منّا أهل البيت حتّى شبّ عبد الله » ، فلمّا ظفر به يوم الجمل صفح عنه ، وقال له : « اذهب فلا أرينّك » ولم يزد على ذلك.

وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكّة ، وكان له عدوّا فأعرض عنه ، ولم يقل له شيئا (١).

ومن عظيم حلمه وصفحه أنّ معاوية لمّا زحف لحرب الإمام واستولى على الماء اعتبر ذلك أوّل الظفر ، فلمّا جاء الإمام مع جيشه وجد حوض الفرات قد احتلّته جيوش معاوية ، فطلب منهم أن يسمحوا لجيشه بالتزوّد من الماء ، فقالوا له : لا والله ولا قطرة حتى تموت ظمأ كما مات ابن عفّان ، فلمّا رأى ذلك أمر جيشه باحتلال الفرات ، فاحتلّته قوّاته وملكوا الماء ، وسار أصحاب معاوية في البيداء

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ٢٣.


لا ماء لهم ، فقال أصحاب الإمام له : امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك ، ولا تسقهم منه قطرة واحدة ، واقتلهم بسيوف العطش ، وخذهم قبضا بالأيدي ، فلا حاجة لك في الحرب ، فقال :

« لا والله لا اكافئهم بمثل فعلهم ، افسحوا لهم عن الشّريعة ففي حدّ السّيف ما يغني عن ذلك » (١).

٦ ـ ومن عظيم عفوه أنّه في يوم من أيام صفّين ظفر بأعدى أعدائه وهو عمرو ابن العاص العقل المدبّر في حكومة معاوية ، فلمّا رأى هذا الجبان الماكر أنّ الإمام قد أقبل عليه بسيفه أخرج عورته ، فخجل الإمام وأشاح بوجهه عنه ترفّعا.

صبره :

من أبرز صفات الإمام 7 الخلود إلى الصبر ، وعدم الجزع على ما ألمّ به من محن الدنيا ، وكوارث الأيام ، وكان من أشدّها هولا ، وأعظمها محنة فقده لأخيه وابن عمّه الذي عاش في ذرى عطفه سيّد الكائنات الرسول الأعظم 6 ، لقد فقد بموته كلّ أمل له في الحياة ، وطافت به الأزمات يتبع بعضها بعضا ، وكان من أفجعها وأقساها وأشدّها بلاء هجوم القوم عليه في عقر داره ، وإخراجه ملبّبا بحمائل سيفه ليبايع أبا بكر ، وقوبل بمنتهى الصرامة والقسوة ، وتنكّر القوم لمركزه الرفيع ، وعظيم جهاده في الإسلام ، وأنّه أخو نبيّهم ، وأبو سبطيه ، وباب مدينة علمه ، فأقصوه عن مقامه ، واستعملوا معه جميع ألوان الشدّة التي سنذكرها في فصول هذا الكتاب.

ومن المحن الشاقّة التي عاناها الإمام فقده لسيّدة نساء العالمين زهراء

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ٢٤.


الرسول 6 ، فلم تمض أيام معدودة حتى فجع بفقدها ، وهي في فجر الصبا وروعة الشباب ، وقد التاع وحزن على فقدها كأشدّ ما يكون الحزن ، وبقي في أرباض بيته صابرا محتسبا يسامر الهموم والأحزان بمعزل تامّ عن الامّة سياسيا واجتماعيا ، قد خمدت طاقاته ومواهبه وحرمت الامّة من علومه ، لم يشارك الخلفاء في أي أمر من امور الدولة اللهمّ إلاّ إذا ألمّت بهم مسألة لا يهتدون لحلّها فزعوا إليه ليكشف لهم ما جهلوه ، حتى شاعت كلمة عمر : لو لا عليّ لهلك عمر.

ولمّا آلت الخلافة إلى عثمان بن عفّان عميد الاسرة الاموية استبدّ بامور المسلمين ، وارتكب الأحداث الجسام لذا عمد المسلمون إلى قتله ، وهرعوا إلى الإمام 7 ليتولّى قيادة الامّة ويعيد حكم الرسول 6 وسياسته المشرقة بين المسلمين ، فامتنع الإمام من إجابتهم لعلمه بفساد الأوضاع الاجتماعية ، وما سيعانيه من الأزمات والمصاعب ، فأصرّوا عليه وهدّدوه إن لم يستجب لهم ، فأجابهم على كره ، فقام بالأمر باسطا للعدل ناشرا للحقّ ، وبايعته الجماهير ، وعمّت الفرحة الكبرى جميع الأوساط إلاّ الاسر القرشيّة ، فقد فزعت كأشدّ ما يكون الفزع ، فقد خافت عل مصالحها ونفوذها الذي ظفرت به في أيام الخلفاء ، فهبّت للإطاحة بحكومة الإمام ، فكانت واقعة الجمل وصفّين ، ثمّ تتابعت عليه الرزايا والخطوب ، وهو صابر يحتسب حتى لاقى ربّه شهيدا محتسبا في بيت من بيوت الله ، فأي صبر وأي بلاء مثل هذا الصبر والبلاء؟

تواضعه :

من ذاتيات الإمام 7 ونزعاته التواضع ، ولكن لا للأغنياء والمتكبّرين ، وإنّما للفقراء والمستضعفين ، فكان يخفض لهم جناح البرّ والمودّة ، وقد ضارع بذلك أخاه وابن عمّه الرسول 6 ، فقد كان للمؤمنين أبا وللفقراء أخا ..

ونعرض فيما يلي لبعض ما اثر عن الإمام 7.


شذرات من تواضعه :

وهذه شذرات معطّرة بهدي الإمام 7 من تواضعه :

١ ـ وفد عليه رجل مع ابنه فرحّب بهما وأجلسهما في صدر المجلس ، ثمّ أمر لهما بطعام ، وبعد الفراغ منه بادر الإمام فأخذ الإبريق ليغسل يد الأب ففزع الرجل ، وقال :

كيف يراني الله وأنت تصبّ الماء على يدي؟

فأجابه الإمام 7 برفق ولطف :

« إنّ الله يراني أخاك الّذي لا يتميّز منك ، ولا يتفضّل عنك ، ويزيدني بذلك منزلة في الجنّة ».

أيّ روح ملائكية هذه الروح؟ وأيّ سموّ في الذات هذا السموّ؟

وانصاع الرجل إلى كلام الإمام 7 ، فصبّ الماء على يده ، ولمّا فرغ ناول الإبريق إلى ولده محمّد بن الحنفية ، وقال له :

« يا بنيّ ، لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببت الماء على يده ، ولكنّ الله يأبى أن يسوّي بين الابن وأبيه ».

وقام محمّد فغسل يد الولد (١) ، وهذه الأخلاق العلوية مقتبسة من أخلاق الرسول الأعظم 6 الذي امتاز على سائر النبيّين بمكارم أخلاقه.

٢ ـ اجتاز الإمام في رجوعه من صفّين على دهّاقين الأنبار فقابلوه بمزيد من التعظيم والتكريم ، وصنعوا له كما يصنعون للملوك والامراء ، فأنكر الإمام عليهم

__________________

(١) المناقب ١ : ٣٧٣.


ذلك وقال لهم : « والله! ما ينتفع بهذا امراؤكم ، وإنّكم لتشقّون به على أنفسكم ، وتشقّون به على آخرتكم. وما أخسر المشقّة وراءها العقاب ، وما أربح الرّاحة معها الأمان من النّار » (١).

٣ ـ من تواضعه أنّه خرج راكبا فسار معه أصحابه ، فالتفت إليهم :

« ألكم حاجة؟ ».

ـ لا ، ولكن نحبّ أن نمشي معك.

فنهاهم عن ذلك ، وأمرهم بالانصراف إلى منازلهم قائلا :

« ارجعوا ... النّعال خلف أعقاب الرّجال مفسدة لقلوب النّوكى (٢) » (٣).

حقّا إنّ هذه الأخلاق أخلاق الأنبياء العظام وأوصياءهم ، وقد مثّلها بسيرته وسلوكه سيّد الأوصياء وإمام المتّقين والأخيار ، وذكر الرواة صورا مشرقة بالشرف والكرامة من تواضعه أيام خلافته نعرض لها عند البحث عن حكومته.

عيادته المرضى :

من معالي أخلاق الإمام 7 عيادته للمرضى ، وكان يحفّز أصحابه على ذلك ، ويحثّهم على هذه الظاهرة ، فقد قال لهم : « من أتى أخاه المسلم يعوده مشى في خرافة الجنّة (٤) ، فإذا جلس غمرته الرّحمة » (٥).

__________________

(١) المناقب ١ : ٣٧٢.

(٢) النوكى : الحمقى.

(٣) ربيع الأبرار ٤ : ١٣١.

(٤) خرافة الجنّة : ثمارها.

(٥) ربيع الأبرار ٤ : ١٢٧.


وكان 7 إذا علم أنّ أحدا من أصحابه مريض بادر لعيادته ، وهذه بعض زياراته لهم :

١ ـ عاد شخصا من أصحابه ، ولمّا استقرّ به المجلس قال له :

« جعل الله ما كان من شكواك حطّا لسيّئاتك ، فإنّ المرض لا أجر فيه ، ولكنّه يحطّ السّيّئات ، ويحتّها حتّ الأوراق. وإنّما الاجر في القول باللّسان ، والعمل بالأيدي والأقدام » (١).

٢ ـ عاد الإمام 7 صاحبه وصديقه صعصعة بن صوحان ، فقال له الإمام :

« والله ما علمتك إلاّ خفيف المئونة ، حسن المعونة ».

فأجابه صعصعة :

ـ وأنت يا أمير المؤمنين ، إنّ الله في عينك لعظيم ، وإنّك بالمؤمنين لرحيم ، وإنّك بكتاب الله لعليم.

ولمّا أراد الإمام 7 الخروج قال لصعصعة :

« يا صعصعة ، لا تجعل عيادتي فخرا على قومك ، فإنّ الله تعالى لا يحبّ كلّ مختال فخور » (٢).

إنّ جميع ألوان الفخر والمظاهر الزائفة التي يعنى بها الناس قد سحقها الإمام 7 ولم يحفل بأي شيء منها.

كراهته للمدح :

كان الإمام 7 يسأم المدح والإطراء ، وكان يقول لمن أطراه : « أنا دون ما تقول ، وفوق ما في نفسك » ، وإذا أطرى عليه رجل قال : « اللهمّ إنّك أعلم بي منه ،

__________________

(١) ربيع الأبرار ٤ : ١٣١.

(٢) المصدر السابق : ١٣٢.


وأنا أعلم منه بنفسي ، فاغفر لي ما لا يعلم » (١).

إجابته لدعوة من دعاه لتناول الطعام :

ومن معالي أخلاق الإمام 7 أنّه إذا دعي لتناول الطعام أجاب إلى ذلك خصوصا إذا دعاه فقير ، وقد دعاه شخص لذلك فقال له :

« نأتيك على أن لا تتكلّف لنا ما ليس عندك ، ولا تدّخر عنّا ما عندك » (٢).

وهذا من محاسن الآداب ، ومن أروع صور الشرف ، وسموّ الذات.

سخاؤه :

كان الإمام 7 من أندى الناس كفّا ، ومن أكثرهم برّا وإحسانا إلى المحتاجين ، وكان لا يرى للمال قيمة سوى أن يردّ به جوع جائع أو يكسو به عريان ، وكان يؤثر الفقراء على نفسه ولو كانت به خصاصة وهو وأهل بيته الذين أطعموا المسكين واليتيم والأسير قوتهم ، وطووا ثلاثة أيام صياما لم يذوقوا سوى الماء القراح ، فأنزل الله تعالى فيهم سورة ( هل أتى ) فكانت وسام فخر وشرف لهم على امتداد التاريخ تشيد بفضلهم وسموّ مكانتهم عند الله تعالى حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

والإمام 7 هو الذي تصدّق بخاتمه على المسكين في أثناء صلاته فأنزل الله تعالى في حقّه الآية الكريمة : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (٣).

__________________

(١) أمالي المرتضى ١ : ٢٧٤.

(٢) البيان والتبيين ٢ : ١٩٧.

(٣) المائدة : ٥٥.


شذرات من جوده :

هذه شذرات من برّ الإمام 7 وجوده على الفقراء ، لم يبغ بما قدّمه لهم من إحسان إلاّ وجه الله تعالى والدار الآخرة :

١ ـ روى الأصبغ بن نباتة قال : جاء رجل إلى الإمام فقال له : يا أمير المؤمنين ، إنّ لي إليك حاجة قد رفعتها إلى الله تعالى قبل أن أرفعها إليك ، فإن قضيتها حمدت الله تعالى وشكرتك ، وإن لم تقضها حمدت الله تعالى وعذرتك.

فقال له الإمام 7 : « اكتب حاجتك على الأرض ، فإنّي أكره أن أرى ذلّ السّؤال على وجهك ».

فكتب الرجل إنّي محتاج ، فأمر الإمام بإحضار حلّة فاتي بها إليه فأخذها الرجل فلبسها ، وقال :

كسوتني حلّة تبلى محاسنها

فسوف أكسوك من حسن الثّنا حللا

إن نلت حسن ثنائي نلت مكرمة

ولست تبغي بما قد قلته بدلا

إنّ الثّناء ليحيي ذكر صاحبه

كالغيث يحيي نداه السّهل والجبلا

لا تزهد الدّهر في خير تواقعه

فكلّ شخص سيجزى بالّذي عملا

وأمر الإمام بمائة دينار ، فلمّا حضرت دفعها له ، وبادر الأصبغ قائلا :

أمير المؤمنين ، ومائة دينار؟!

فأجابه الإمام :

« سمعت رسول الله 6 يقول : أنزلوا النّاس منازلهم ، وهذه منزلة الرّجل عندي » (١).

__________________

(١) جواهر المطالب ٢ : ١٢٩.


٢ ـ من بوادر جوده أنّه لمّا قسّم بيت مال البصرة على جيشه لحق كلّ واحد منهم خمسمائة درهم ، وأخذ هو مثل ذلك ، فجاءه شخص لم يحضر الواقعة فقال له :

كنت شاهدا معك بقلبي ، وإن غاب عنك جسمي ، فاعطني من الفيء شيئا؟

فدفع إليه ما أخذه لنفسه ، ورجع ولم يصب من الفيء شيئا (١).

٣ ـ روى المعلّى بن خنيس عن الإمام الصادق 7 أنّ عليّا 7 أتى ظلّة بني ساعدة ، وكانت السماء قد أمطرت ، وهو يحمل جرابا فيه الخبز ، فمرّ على قوم نيام ـ وهم من الفقراء ـ فجعل يدسّ الرغيف والرغيفين تحت فراشهم ، حتى أتى على آخرهم ثمّ انصرف (٢).

٤ ـ خرج الإمام 7 وهو يحمل على ظهره قربة ، وفي يده صحفة ، وهو يقول : « اللهمّ وليّ المؤمنين ، وإله المؤمنين ، وجار المؤمنين ، اقبل قرباتي اللّيلة ، فما أمسيت أملك سوى ما في صحفتي وغير ما يواريني ، فإنّك تعلم أنّي منعته نفسي مع شدّة سغبي في طلب القربة إليك غنما ، اللهمّ فلا تخلق وجهي ، ولا تردّ دعوتي » ، واخذ يطعم الفقراء (٣).

٥ ـ كان الإمام 7 يملك أربعة دراهم تصدّق بواحد ليلا ، وبالثاني نهارا ، وبثالث سرّا وبالرابع علانية ، فنزلت فيه الآية الكريمة : ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ ) (٤).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ٢٠٥.

(٢) المناقب ٤ : ٣٤٩.

(٣) بحار الأنوار ٤١ : ٢٩.

(٤) كشف الغمّة : ٥٠. البقرة : ٢٧٤.


٦ ـ كان رجل مؤمن فقير في عهد رسول الله 6 ساكنا في دار ضيّقة وبجوارها حديقة لشخص موسر وفيها نخل يتساقط تمرها على دار الفقير ، فيبادر من حرصه إلى أخذ التمر من أفواه الأطفال ، وشكا الفقير ذلك إلى النبيّ 6 ، فبادر إلى صاحب الحديقة وطلب منه أن يبيعها عليه ، ويأخذ مكانها بستانا في الفردوس الأعلى ، فأبى وقال : لا أبيعك عاجلا بآجل ، فانصرف النبيّ 6 متأثّرا فرأى الإمام ، فأخبره بالأمر ، فتوجّه الإمام صوب ذلك الرجل وطلب منه أن يبيعه بستانه ، فقال له : أبيعك بحائطك الحسن ، فرضي الإمام ، وباعه عليه ، وسارع الإمام إلى الرجل الفقير فوهب له تلك البستان (١).

هذه بعض البوادر من سخائه وجوده على الضعفاء والفقراء ، يقول الشعبي : كان عليّ أسخى الناس ، كان على الخلق الذي يحبّه الله وهو السخاء والجود ، ما قال « لا » لسائل قطّ (٢).

وقد أجمع المؤرّخون والمترجمون له أنّه لم يكن يبغي فيما أنفقه أي غرض من أغراض الدنيا كالجاه والسمعة وذيوع الاسم ، فإنّ ذلك لم يفكّر به ، وإنّما كان يبغي وجه الله تعالى ، وما يقرّبه إليه زلفى.

الرأفة بالفقراء :

من عناصر الإمام 7 وذاتياته الرأفة الكاملة بالفقراء ، فكان لهم أبا ، وعليهم عطوفا ، وقد واساهم في مكاره الدهر وجشوبة العيش وخشونة اللباس ، وهو القائل أيام خلافته :

أأبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى؟ أو أكون كما قال القائل :

__________________

(١) تفسير فرات : ٢١٣. بحار الأنوار ٤١ : ٣٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ٢٢.


وحسبك داء أن تبيت ببطنة

وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ

لقد كان أبو الحسن 7 ملاذا للفقراء وصديقا حميما للبؤساء ، وقد تبنّى قضاياهم في جميع مراحل حياته خصوصا في أيام خلافته ، وقد ثارت عليه الرأسمالية القرشية التي ناهضت الإسلام ، وكفرت بقيمه ومبادئه ، وبجميع ما جاء به النبيّ 6 من هدى ورحمة إلى الناس.

إنّ من أوّليات المبادئ التي آمن بها واعتنقها هي القضاء على البؤس والحرمان ، وتوزيع خيرات الله تعالى على عباده ، فلا يختصّ بها فريق دون فريق ، ولا قوم دون آخرين ، وكانت مواساته للفقراء ومساواتهم للأغنياء من الأسباب الهامّة في بغض القرشيّين له ، واندفاعهم إلى مناجزته ، ووضعهم العراقيل والسدود أمام مخطّطاته ومتطلّباته الهادفة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية في الأرض.

وعلى أي حال فالإمام أوّل حاكم في الشرق العربي واسى الفقراء في آلامهم ومكارههم ، ومن ذلك أنّه نظر إلى امرأة على كتفها قربة ماء ، وكانت مجهدة لا تقوى على حملها ، فبادر إليها الإمام فأخذ القربة منها ، وحملها إلى منزلها ، وسألها عن حالها ، فقالت له : إنّ عليّا بعث زوجي إلى بعض الثغور فاستشهد فيها ، وترك صبيانا يتامى ، وليس عندي شيء أقوتهم به ، فألجأتني الضرورة إلى خدمة الناس ، فانصرف الإمام عنها وهو مثقل بالأحزان ، وبات ليلته قلقا مضطربا ، فلمّا أصبح حمل زنبيلا فيه طعام للأيتام ، فرآه بعض شيعته فطلب منه أن يساعده في حمل الزنبيل عنه ، فامتنع من إجابته ، وقال له :

« من يحمل عنّي وزري يوم القيامة »؟ ومضى نحو بيت اليتامى فقرع الباب ، فخرجت له المرأة فقالت له :

ـ من أنت؟


« أنا العبد الّذي حمل معك القربة ، افتحي الباب فإنّ معي شيئا للصّبيان ».

فدعت له المرأة وقالت له :

ـ رضي الله عنك ، وحكم بيني وبين عليّ بن أبي طالب.

وأجابها الإمام :

« إنّي أحببت اكتساب الثّواب ، فاختاري بين أن تعجني وتخبزي ، وبين أن تعلّلي الصّبيان وأنا أخبز ».

وأجابته المرأة :

ـ أنا بالخبز أبصر ، وعليه أقدر ، ولكن شأنك والصبيان ، فعلّلهم حتى أفرغ من الخبز.

وعمدت المرأة إلى الدقيق فخبزته ، وانبرى الإمام إلى اللحم فطبخه ، وجعل يلقم الصبيان اللحم والتمر وغيره ، وكلّما ناول صبيّا من ذلك شيئا قال له :

« يا بنيّ ، اجعل عليّ بن أبي طالب في حلّ ممّا مرّ عليك ».

ولمّا اختمر العجين ، قالت المرأة له :

ـ قم يا عبد الله ، قم فاسجر التنّور ، فبادر الإمام لسجره ، ولفحت النار في وجهه ، فجعل يقول :

« يا عليّ ، هذا جزاء من ضيّع الأرامل واليتامى ».

ودخلت امرأة من الجيران على المرأة ، وكانت تعرف الإمام فصاحت بها :

ويحك هذا أمير المؤمنين ».

وذهلت المرأة وودّت أن تسيخ بها الأرض ، وقالت للإمام :

ـ واحيائي منك يا أمير المؤمنين!


وسارع الإمام قائلا :

« واحيائي منك يا أمّة الله فيما قصّرت من أمرك » (١).

تدول الدول ، وتفنى الحضارات أو تبقى ، وهذا الشرف العلوي أحقّ بالبقاء من كلّ كائن حيّ.

عدله :

من عناصر الإمام الذاتية إقامة العدل ، وإيثاره على كلّ شيء ، خصوصا في أيام خلافته ، فقد تجرّد عن جميع المحسوبيات ، وآثر رضا الله تعالى ومصلحة الامّة على كلّ شيء ، فهو بحقّ صوت العدالة الإنسانية ، ورائد نهضتها الاصلاحية في جميع الأحقاب والآباد.

بوادر من عدله :

وروى المؤرّخون صورا رائعة من عدله تبهر العقول ، وتجعله طغراء شرف للعالم العربي والإسلامي ، وكان من ضروب عدله ما يلي :

١ ـ وفد عقيل على الإمام في الكوفة ، فرحّب به الإمام وقال لولده الإمام الحسن 7 : « اكس عمّك » ، فكساه قميصا ورداء من ملكه ، ولمّا حضر العشاء قدّم له خبزا وملحا ، فأنكر عقيل ذلك وقال :

ـ ليس ما أرى؟

لقد أراد عقيل أن تقدّم له مائدة شهيّة حافلة بألوان الطعام ، فأجابه الإمام بلطف وهدوء :

« أوليس هذا من نعمة الله؟ فله الحمد كثيرا ».

__________________

(١) المناقب ١ : ٣٨٢.


وفقد عقيل إهابه ، وضاقت عليه الأرض ، فقال للإمام :

ـ اعطني ما أقضي به ديني ، وعجّل سراحي حتى أرحل عنك.

« كم دينك يا أبا يزيد؟ ».

ـ مائة ألف درهم.

« والله ما هي عندي ، ولا أملكها ، ولكن اصبر حتّى يخرج عطاي فاواسيكه ، ولو لا أنّه لا بدّ للعيال من شيء لأعطيتك كلّه ».

وخاطب عقيل الإمام بعنف قائلا :

ـ بيت المال بيدك ، وأنت تسوّفني إلى عطائك ، وكم عطاؤك؟ وما عسى أن يكون؟ ولو أعطيتنيه كلّه.

وضاق الإمام ذرعا من عقيل ، فطرح أمامه حكم الإسلام قائلا :

« وما أنا وأنت فيه ـ أي في العطاء من بيت المال ـ إلاّ بمنزلة رجل من المسلمين ».

وكان الإمام مطلاّ على صناديق التجّار في السوق ، فقال لعقيل :

« إن أبيت يا أبا يزيد ما أقول فانزل إلى بعض هذه الصّناديق فاكسر أقفاله وخذ ما فيه ».

وتوهّم عقيل أنّها من أموال الدولة ، فقال للإمام :

ـ ما في هذه الصناديق؟

« فيها أموال التّجار ».

فأنكر عقيل ، وراح يقول بألم ومرارة :

ـ أتأمرني أن أكسر صناديق قوم توكّلوا على الله وجعلوا فيها أموالهم؟


فردّ عليه الإمام قائلا :

« أتأمرني أن أفتح بيت مال المسلمين فاعطيك أموالهم ، وقد توكّلوا على الله ، وأقفلوا عليها ، وإن شئت أخذت سيفك وأخذت سيفي وخرجنا جميعا إلى الحيرة ، فإنّ فيها تجّارا مياسير ، فدخلنا على بعضهم فأخذنا ماله ».

والتاع عقيل ، وراح يقول بألم :

ـ أوسارقا جئت؟

فأجابه رائد العدالة الإسلامية قائلا :

« تسرق من واحد خير من أن تسرق من المسلمين جميعا ».

ولم يجد عقيل منفذا يسلك فيه ، فقد سدّ عليه الإمام جميع النوافذ ، وصيّره أمام العدل الصارم ، الذي لا يستجيب لأي عاطفة ، ولا ينصاع إلاّ إلى الحقّ ، وراح عقيل يقول بحرارة اليأس :

ـ أتأذن لي أن أخرج إلى معاوية؟

« أذنت لك ».

ـ أعنّي على سفري.

فأمر الإمام ولده الزكي الإمام الحسن 7 بإعطائه أربعمائة درهم نفقة له ، فخرج عقيل وهو يقول :

سيغنيني الّذي أغناك عنّي

ويقضي ديننا ربّ قريب (١)

لقد تجرّد الإمام من جميع المحسوبيات فلم يقم لها أي وزن وأخلص للحقّ والعدل كأعظم ما يكون الإخلاص ، فالقريب والبعيد سواء في ميزانه ... لقد احتاط

__________________

(١) المناقب ١ : ٣٧٩ ، وقريب منه في الصواعق المحرقة : ٧٩.


كأشدّ ما يكون الاحتياط في أموال الدولة ، فلم يؤثر بشيء منها نفسه وأهل بيته ، وحمّل نفسه رهقا وشدّة.

٢ ـ ومن صنوف عدله الباهر أنّه نزل ضيف عند الإمام الحسن 7 ، فاستقرض رطلا من العسل من قنبر خازن بيت المال ، فلمّا قام الإمام بتقسيم العسل على المسلمين وجد زقّا منها ناقصا ، فسأل قنبر عن ذلك ، فأخبره بالأمر ، فاستدعى ولده الإمام الحسن وقال له بنبرات تقطر غيظا :

« ما حملك على أن تأخذ منه قبل القسمة؟ ».

« أليس لنا فيه حقّ ، فإذا أخذناه رددناه إليه ».

وسكن غضب الإمام ، فقال لولده الزكي بلطف :

« فداك أبوك ، وإن كان لك فيه حقّ ، فليس لك أن تنتفع بحقّك قبل أن ينتفع المسلمون بحقوقهم ».

ثمّ دفع إلى قنبر درهما ، وقال له : اشتر به أجود عسل تقدر عليه ، فاشترى قنبر العسل ، ووضعه الإمام في الزقّ وشدّه » (١).

هذا هو العدل الذي جعله الإمام 7 أساسا لدولته ليسير عليها حكّام المسلمين من بعده إلاّ أنّهم شذّوا وابتعدوا عن سيرته ، وناقضوه ، فأنفقوا أموال المسلمين على شهواتهم وملذّاتهم ، وأسرفوا في ذلك إلى حدّ بعيد.

٣ ـ جيء له بمال من أصفهان فقسّمه أسباعا على أهل الكوفة ، ووجد فيها رغيفا فكسره سبعة كسر ، وقسّمه على أهل الأسباع (٢).

__________________

(١) المناقب ٢ : ١٠٧.

(٢) بحار الأنوار ٤١ : ١١٨.


إنّ العدل بجميع رحابه ومفاهيمه من العناصر الذاتية للإمام 7.

٤ ـ روى هارون بن عنترة عن أبيه ، قال : رأيت عليّا في يوم مورود ـ أو نوروز ـ فجاء قنبر فأخذ بيده وقال : يا أمير المؤمنين ، إنّك رجل لا تبقي شيئا لنفسك ، ولا لأهل بيتك ، وإنّ لأهل بيتك في هذا المال نصيبا ، وقد خبّأت لك خبيئة. قال الإمام : « وما هي؟ » قال : انطلق وانظر ما هي؟ فأدخله بيتا مملوءا آنية من ذهب وفضّة مموّهة بالذهب ، فلمّا رآها تميّز غيظا وغضبا ، وقال بشدّة وصراحة لقنبر : « ثكلتك امّك ، لقد أردت أن تدخل بيتي نارا عظيمة » ، ثمّ جعل يزنها ويعطي كلّ عريف حصّته ، ثمّ قال :

هذا جناي وخياره فيه

و كلّ جان يده إلى فيه (١)

أرأيتم هذا العدل الذي مثّله الإمام في أيام خلافته؟

أرأيتم هذا التجرّد عن الدنيا والتنكّر لمنافعها؟

أرأيتم كيف احتاط إمام المتّقين بأموال الدولة ولم يستأثر بأيّ شيء منها؟

إنّ الإنسانية على ما جرّبت من تجارب في ميادين الحاكمين فإنّها لم تشاهد مثل الإمام 7 في عدله ونكرانه للذات ، وتبنّيه للعدل بجميع رحابه ومفاهيمه.

سعة علومه :

وأجمع الرواة على اختلاف ميولهم وأهوائهم على أنّ الإمام 7 أوسع المسلمين علما ، وأكثرهم فقها ، وأنّه لا يماثله أحد من الصحابة وغيرهم في قدراته العلمية ، فقد غذّاه سيّد الكائنات 6 بملكاته ومواهبه ، فهو باب مدينة علمه ،

__________________

(١) جواهر المطالب ١ : ٢٧٣. كتاب الأموال : ٣٤٤.


وقد تحدّث الإمام 7 عن سعة علومه فقال :

١ ـ « بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية (١) في الطّويّ البعيدة (٢)! ».

٢ ـ وقال 7 : « سلوني قبل أن تفقدوني ، فو الّذي نفسي! بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين السّاعة ، ولا عن فئة تهدي مائة وتضلّ مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ، ومناخ ركابها ، ومحطّ رحالها ، ومن يقتل من أهلها قتلا ، ومن يموت منهم موتا » (٣).

٣ ـ قال 7 : « لو شئت أن أخبر كلّ رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت ».

وأعربت هذه الكلمات الثلاث عن طاقاته العلمية ، وما منحه الله تعالى من الفضل والعلم الأمر الذي جعله في قمّة العلم ، وقد تحدّثنا في بعض هذا الكتاب عن العلوم التي فتق أبوابها وأسّسها.

سرعة الجواب :

من خصائص الإمام 7 أنّه كان سريع البديهة ، وقد عرضت عليه أهمّ المسائل المعقّدة في المواريث فأجاب عنها بالوقت ، حتى سمّيت بعضها بالمسائل المنبرية ، وروى الحارث الأعور الهمداني ـ وهو من خلّص أصحاب الإمام 7 ـ أنّه سأل عن مسألة فبادر ودخل الدار ثمّ خرج في حذاء ورداء ، وهو متبسّم ، فبادر بعض الحاضرين ، فقال : يا أمير المؤمنين ، كنت إذا سئلت عن

__________________

(١) الأرشية : الحبال.

(٢) الطوى البعيدة : الآبار العميقة.

(٣) شرح الأخبار ١ : ١٣٩.


المسألة تكون فيها كالسّكّة المحمّاة ، فقال 7 :

« كنت حاقنا (١) ولا رأي لحاقن » ، ثمّ أنشأ يقول :

إذا المشكلات تصدّين لي

كشفت حقائقها بالنّظر

وإن برقت في مخيل الصّوا

ب عمياء لا يجتليها البصر

مقنّعة بغيوب الامور

وضعت عليها صحيح الفكر

لسانا كشقشقة الأرحبيّ (٢)

أو كالحسام اليماني الذّكر

وقلبا إذا استنطقته الفنون

أبرّ عليها بواه درر (٣)

ولست بإمّعة (٤) في الرجال

يسائل هذا وذا ما الخبر

ولكنّني مذرب الأصغرين (٥)

أبيّن ممّا مضى ما غبر (٦)

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض صفاته وعناصره النفسية. ومن المؤكّد أنّه لا يضارعه أحد فيما وهبه الله تعالى من الكمالات ومعالي الآداب والأخلاق.

__________________

(١) الحاقن : الذي اجتمع بوله كثيرا.

(٢) الأرحبي : نسبة إلى أرحب بطن من همدان ، تنسب لهم النجائب الأرحبيّة.

(٣) أبر : زاد على ما استنطقه.

(٤) الأمّعة : الأحمق الذي لا يثبت على رأي.

(٥) المذرب : الحادّ. الأصغرين : القلب واللسان.

(٦) الأمالي ٢ : ١٠١.


الإمام 7

في رحاب القرآن الكريم



أشاد القرآن الكريم في كثير من الآيات البيّنات بفضل أمير المؤمنين 7 ، وإبرازه كأسمى شخصية إسلامية بعد الرسول 6 ، وأنّه له الأهمّية البالغة عند الله تعالى ، وقد أعلنت كثير من المصادر أنّه نزلت في حقّه ثلاثمائة آية (١) ، وهي تشيد بفضله وإيمانه.

ومن الجدير بالذكر أنّه لم ينزل مثل هذا العدد الضخم في حقّ أي أحد من أعلام الإسلام ، أمّا الآيات فهي طوائف ، وهي :

الطائفة الاولى : نزلت في حقّه خاصّة.

الطائفة الثانية : نزلت في حقّه وحقّ الممجّدين من أهل البيت :.

الطائفة الثالثة : نزلت في حقّه ، وحقّ جماعة من خيار الصحابة.

الطائفة الرابعة : نزلت في حقّه ، وذمّ خصومه ومناوئيه.

وفيما يلي بعض تلك الآيات :

الآيات النازلة في حقّه

أمّا الآيات النازلة في فضله ، وسموّ شأنه ، وعظيم منزلته فهذه بعضها :

__________________

(١) تاريخ بغداد ٦ : ٢٢١. الصواعق المحرقة : ٧٦. نور الأبصار : ٧٦ ، وغيرها.


١ ـ قال تعالى :

( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) (١).

روى الطبري بسنده عن ابن عباس قال : لمّا نزلت هذه الآية وضع النبيّ 6 يده على صدره وقال : « أنا المنذر ، ولكلّ قوم هاد » وأومأ إلى منكب عليّ فقال :

« أنت الهادي ، بك يهتدي المهتدون بعدي » (٢).

٢ ـ قال تعالى :

( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) (٣).

قال الإمام أمير المؤمنين 7 في تفسير هذه الآية :

« قال لي رسول الله 6 : سألت ربّي أن يجعلها اذنك يا عليّ ، فما سمعت من رسول الله 6 شيئا فنسيته » (٤).

٣ ـ قال تعالى :

( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٥).

كانت عند الإمام 7 أربعة دراهم ، فأنفق في الليل درهما ، وفي النهار درهما ، وفي السرّ درهما ، وفي العلانية درهما ، فقال له رسول الله 6 :

__________________

(١) الرعد : ٧.

(٢) تفسير الطبري : ١٣ : ٧٢ ، وقريب منه في تفسير الرازي. كنز العمّال ٦ : ١٥٧. تفسير الحقائق : ٤٢. مستدرك الحاكم ٣ : ١٢٩.

(٣) الحاقّة : ١٢.

(٤) كنز العمّال ٦ : ١٠٨. أسباب النزول ـ الواحدي : ٣٢٩. تفسير الطبري ٢٩ : ٣٥. تفسير الكشّاف ٤ : ٦٠٠. الدرّ المنثور ٨ : ٢٦٧.

(٥) البقرة : ٢٧٤.


« ما حملك على هذا؟ فقال : أستوجب على الله ما وعدني » فنزلت فيه هذه الآية (١).

٤ ـ قال تعالى :

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) (٢).

روى ابن عساكر بسنده عن جابر بن عبد الله قال : كنّا عند النبيّ 6 فأقبل عليّ 7 فقال النبيّ 6 : « والّذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة ». ونزلت فيه الآية الكريمة ، فكان أصحاب النبيّ إذا أقبل عليّ قالوا : جاء خير البريّة (٣).

٥ ـ قال تعالى :

( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* ) (٤).

روى الطبري بسنده عن جابر الجعفي قال : لمّا نزلت هذه الآية قال عليّ 7 : « نحن أهل الذّكر » (٥).

٦ ـ قال تعالى :

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (٦).

قال السيوطي : أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس أنّ قول الله تعالى : ( وَكُونُوا

__________________

(١) اسد الغابة ٤ : ٢٥. الصواعق المحرقة : ٧٨. أسباب النزول ـ الواحدي : ٦٤.

(٢) البيّنة : ٧.

(٣) الدرّ المنثور ( في تفسير هذه الآية ) ٨ : ٥٨٩. تفسير الطبري ٣٠ : ١٧. الصواعق المحرقة : ٩٦.

(٤) النحل : ٤٣.

(٥) تفسير الطبري ٨ : ١٤٥.

(٦) التوبة : ١١٩.


مَعَ الصَّادِقِينَ ) ، أى مع عليّ بن أبي طالب 7 ، ومثل ذلك روي عن الإمام أبي جعفر 7 (١).

٧ ـ قال تعالى :

( وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) (٢).

أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة أنّ الذي جاء بالصدق هو رسول الله 6 ، والذي صدّق به هو عليّ بن أبي طالب (٣).

٨ ـ قال تعالى :

( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (٤).

نزلت هذه الآية على الرسول 6 في غدير خم لمّا قفل راجعا من حجّة الوداع ، وقد أمر فيها بنصب الإمام أمير المؤمنين 7 خليفة من بعده ، فقام النبيّ 6 فنصب الإمام خليفة وقائدا لامّته من بعده ، وقال مقالته المشهورة : « من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله » ، فقام عمر وقال له : هنيئا لك يا بن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة (٥).

وقد انبرى الشعراء إلى نظم هذه الحادثة المشرقة التي توّج فيها رائد العدالة

__________________

(١) الدرّ المنثور ٤ : ٣١٦.

(٢) الزمر : ٣٣.

(٣) الدرّ المنثور ٧ : ٢٢٨.

(٤) المائدة : ٦٧.

(٥) أسباب النزول : ١٥٠. تاريخ بغداد ٨ : ٢٩٠. تفسير الرازي ٤ : ٤٠١. الدرّ المنثور ٦ : ١١٧.


الكبرى بالإمامة والخلافة يقول حسّان بن ثابت :

يناديهم يوم الغدير نبيّهم

بخمّ وأسمع بالرسول مناديا

فقال فمن مولاكم ونبيّكم

فقالوا ولم يبدوا هناك التّعاميا

إلهك مولانا وأنت نبيّنا

ولم تلق منّا في الولاية عاصيا

فقال له : قم يا عليّ فإنّني

رضيتك من بعدي إماما وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه

فكونوا له أتباع صدق مواليا

هناك دعا اللهمّ وال وليّه

وكن للّذي عادى عليّا معاديا (١)

ولمّا تليت هذه الأبيات على النبيّ 6 قال لحسّان : « لا تزال مؤيّدا بروح القدس ما نصرتنا أو نافحت عنّا بلسانك ».

وقال قيس بن سعد بن عبادة :

قلت لمّا بغى العدوّ علينا

حسبنا ربّنا ونعم الوكيل

حسبنا ربّنا الّذي فتح البص

رة بالأمس والحديث طويل

وعليّ إمامنا وإمام

لسوانا أتى به التّنزيل

يوم قال النّبيّ من كنت مولا

ه فهذا مولاه خطب جليل

إنّ ما قاله النّبيّ على الامّة

حتم ما فيه قال وقيل (٢)

وقد تلا قيس هذه الأبيات على الإمام أمير المؤمنين 7.

وقال شاعر أهل البيت الكميت :

ويوم الدّوح دوح غدير خمّ

أبان له الولاية لو اطيعا

__________________

(١) دلائل الصدق ٢ : ١٥ ـ ١٦ ، نقله عن تذكرة الخواص للسبط ابن الجوزي.

(٢) الغدير ٢ : ٨٧.


ولكنّ الرّجال تبايعوها

فلم أر مثلها خطرا مبيعا (١)

وقد ألمّ المحقّق الكبير الشيخ الأميني نضّر الله مثواه بالغدير فبحث عنه بحثا موضوعيا في الكتاب والسنّة ، وصحب معه كوكبة من الشعراء من قدامى ومحدثين ، وهم ينشدون فضل الإمام ومناقبه وغديره.

٩ ـ قال تعالى :

( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) (٢).

نزلت الآية الكريمة في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة بعد ما نصب النبيّ 6 الإمام 7 خليفة من بعده (٣) ، وقال 7 بعد نزول الآية عليه : « الله أكبر على إكمال الدّين ، وإتمام النّعمة ، ورضى الرّبّ برسالتي ، والولاية لعليّ بن أبي طالب » (٤).

١٠ ـ قال تعالى :

( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (٥).

روى الصحابي الجليل أبو ذرّ قال : صلّيت مع رسول الله 6 صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد ، فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللهمّ

__________________

(١) دلائل الصدق ٢ : ١٦.

(٢) المائدة : ٣.

(٣) تاريخ بغداد ٨ : ١٩. الدرّ المنثور ٦ : ١٩.

(٤) دلائل الصدق ٢ : ١٥٢.

(٥) المائدة : ٥٥.


اشهد أنّي سألت في مسجد الرسول 6 فما أعطاني أحد شيئا ، وعليّ كان راكعا ، فأومأ إليه بخنصره اليمنى ، وكان فيها خاتم ، فأقبل السائل فأخذ الخاتم بمرأى من النبيّ 6 ، فقال :

« اللهمّ إنّ أخي موسى 7 سألك فقال : ( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي. وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (١) ، فأنزلت قرآنا ناطقا : ( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً ) (٢) ، اللهمّ وأنا محمّد نبيّك وصفيّك فاشرح لي صدري ، ويسّر لي أمري ، واجعل لي وزيرا من أهلي ، عليّا اشدد به ظهري » ، قال أبو ذرّ : فو الله ما أتمّ الرسول 6 هذه الكلمة حتى نزل جبرئيل ، فقال : « يا محمّد ، اقرأ : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ ... ) » (٣).

حصرت هذه الآية الولاية العامّة في الله تعالى وفي رسوله العظيم ، وفي الإمام أمير المؤمنين ، وقد عبّرت عنه بصيغة الجمع تعظيما لشأنه ، وتكريما لمقامه ، بالإضافة إلى اسميّة الجملة ، وحصرها بكلمة « إنّما » ، وقد أكّدت له الولاية العامّة ، وقد نظّم حسّان بن ثابت نزول الآية في الإمام بقوله :

من ذا بخاتمه تصدّق راكعا

وأسرّها في نفسه إسرارا (٤)

١١ ـ قال تعالى :

( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (٥).

__________________

(١) طه : ٢٥ ـ ٣٢.

(٢) القصص : ٣٥.

(٣) تفسير الرازي ١٢ : ٢٦. نور الأبصار : ١٧٠. الطبري في تفسيره ٦ : ١٨٦.

(٤) الدرّ المنثور ٣ : ١٠٦. الكشّاف ١ : ٦٩٢. ذخائر العقبى : ١٠٢. مجمع الزوائد ٧ : ١٧.

كنز العمّال ٧ : ٣٠٥.

(٥) الواقعة : ١٠ و ١١.


روى الجمهور عن ابن عباس أنّ سابق هذه الامّة هو عليّ بن أبي طالب (١).

١٢ ـ قال تعالى :

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ ) (٢).

نزلت الآية الكريمة في مبيت الإمام 7 على فراش النبيّ حينما أجمعت قريش على قتله ، فخرج في غلس الليل من مكّة ، وأناب عنه الإمام ، فكان 7 الفدائي الأوّل في الإسلام ، ففدى النبيّ بروحه ، فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية (٣).

١٣ ـ قال تعالى :

( هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ) (٤).

نزلت الآية الكريمة في الإمام أمير المؤمنين 7 ، وأنّه هو المراد بالمؤمنين ، قال السيوطي : أخرج ابن عساكر عن أبي هريرة : مكتوب على العرش لا إله إلاّ أنا وحدي لا شريك لي ، محمّد عبدي ورسولي ، أيّدته بعليّ (٥) ، هذه بعض الآيات النازلة في حقّ الإمام 7 خاصّة.

الآيات النازلة في أهل البيت :

حفل الكتاب العظيم بآيات في حقّ أهل البيت : الشاملة لسيّدهم الإمام أمير المؤمنين 7 ، وهذه بعضها :

__________________

(١) دلائل الصدق ٢ : ١٠١.

(٢) البقرة : ٢٠٧.

(٣) مستدرك الحاكم ٣ : ٤.

(٤) الأنفال : ٦٢.

(٥) الدرّ المنثور ٤ : ١٠٠. كنز العمّال ٦ : ١٥٨.


١ ـ قال تعالى :

( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ) (١).

ذهب جمهور المفسّرين والرواة أنّ المراد بالقربى الذين فرض الله مودّتهم على عباده هم عليّ وفاطمة والحسن والحسين سلام الله عليهم ، والمراد من اقتراف الحسنة ـ في الآية ـ هي مودّتهم وولائهم ، وهذه طائفة اخرى من الأخبار علّلت ذلك :

أ ـ روى ابن عباس قال : لمّا نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله ، من قرابتك هؤلاء الذين أوجبت علينا مودّتهم؟ قال 6 : « عليّ وفاطمة وابناهما » (٢).

ب ـ روى جابر بن عبد الله قال : جاء اعرابي إلى النبيّ فقال له : اعرض عليّ الإسلام ، فقال 6 : « تشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ».

فانبرى الاعرابي قائلا :

ـ تسألني عليه أجرا؟

قال 6 : « إلاّ المودّة في القربى ».

وطفق الاعرابي قائلا :

ـ قرباي أم قرباك؟

« بل قرباي ».

وراح الاعرابي يقول :

__________________

(١) الشورى : ٢٣.

(٢) مجمع الزوائد ٧ : ١٠٣. ذخائر العقبى : ٢٥. نور الأبصار : ١٠١. الدرّ المنثور ٧ : ٣٤٨.


ـ هات ابايعك ، فعلى من لا يحبّك ولا يحبّ قرابتك ، لعنة الله ...

وأسرع النبيّ 6 قائلا : « آمين » (١).

ج ـ روى ابن عبّاس قال : لمّا نزلت آية المودّة قال قوم في نفوسهم ـ يعني الحسد لأهل البيت ـ : ما يريد إلاّ أن يحثّنا على قرابته من بعده ، فنزل جبرئيل على النبيّ وأخبره بأنّ القوم اتّهموه ، ومعه هذه الآية : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ) ، وأخبر النبيّ القوم فقالوا له : إنّك صادق ، فنزل قوله تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ) (٢).

احتجاج العترة بالآية :

احتجّت العترة الطاهرة بالآية الكريمة على لزوم مودّتهم وولائهم ، وهذا عرض لبعض ما أثر عنهم :

الإمام أمير المؤمنين :

احتجّ الإمام 7 بالآية الكريمة على خصومه ، قال 7 : « فينا ال حم ، آية لا يحفظ مودّتنا إلاّ كلّ مؤمن » ، ثمّ تلا الآية : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (٣).

الإمام الحسن 7 :

خطب سبط رسول الله وريحانته الإمام الحسن 7 خطابا بليغا عرض فيه إلى مكانة أهل البيت ، وسموّ منزلتهم ، ثمّ استشهد بالآية الكريمة ، قال 7 :

__________________

(١) حلية الأولياء ٣ : ١٠٢.

(٢) الصواعق المحرقة : ١٠٢. الآيتان ٢٤ و ٢٥ من سورة الشورى.

(٣) كنز العمّال ١ : ٢١٨. الصواعق المحرقة : ١٠١.


« وأنا من أهل البيت الّذين افترض الله مودّتهم على كلّ مسلم ، قال تبارك وتعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) » (١).

الإمام زين العابدين 7 :

احتجّ الإمام زين العابدين 7 بالآية الكريمة لمّا جيء به أسيرا إلى فاجر بني اميّة يزيد بن معاوية ، واقيم على درج دمشق ومعه حرائر الوحي سبايا ، انبرى إليه رجل من أهل الشام قد ضلّلته الدعاية الاموية بأنّ أهل البيت من الخوارج ، فقال للإمام بعنف :

ـ الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرني الفتنة.

فنظر إليه الإمام فرآه مخدوعا مغفّلا ، فقال له بلطف :

« أقرأت القرآن؟ ».

ـ نعم.

« أقرأت ال حم؟ ».

قرأت القرآن ولم أقرأ ال حم!

« ما قرأت : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى )؟ ».

ـ فذهل الرجل ومشت الرعدة بأوصاله ، وسارع قائلا :

ـ إنّكم لأنتم؟

« نعم » (٢).

__________________

(١) حياة الإمام الحسن 7 ١ : ٦٨.

(٢) تفسير الطبري ٢٥ : ١٦.


وودّ الرجل أنّ الأرض قد ساخت به ، ولم يقابل الإمام بتلك الكلمات القاسية ، وتقدّم إلى الإمام طالبا منه العفو ، فمنحه الرضا والعفو.

إنّ الولاء لأهل البيت فريضة دينية يسأل عنها المسلم يوم يلقى الله تعالى.

يقول محمّد بن إدريس الشافعي :

يا أهل بيت رسول الله حبّكم

فرض من الله في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم القدر أنّكم

من لم يصلّ عليكم لا صلاة له (١).

ويقول شاعر الإسلام الأكبر الكميت الأسدي :

وجدنا لكم في آل حاميم آية

تأوّلها منّا تقيّ ومعرب

إنّ في مودّة العترة الطاهرة التي أذهب الله عنها الرجس وطهّرها تطهيرا أداء لأجر الرسول الأعظم 6 على ما عاناه من جهد وعناء في سبيل إنقاذ البشرية من الشرك والإلحاد ، وتطوير الحياة العامّة من حياة الصحراء الحافلة بالبؤس والشقاء إلى حياة متطوّرة تعمّها الرفاهية والأمن والرخاء ، وقد جعل الله تعالى عوض أتعاب رسوله المودّة والولاء لعترته.

٢ ـ قال تعالى :

( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَن اوَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) (٢).

وأجمع المفسّرون ورواة الحديث أنّ الآية الكريمة نزلت في أهل بيت

__________________

(١) نور الأبصار : ١٠٤.

(٢) آل عمران : ٦١.


النبوة : ، وقد عبّرت الآية عن الأبناء بالحسن والحسين سبطي الرحمة وإمامي الهدى ، وعبّرت عن النساء بزهراء الرسول سيّدة نساء العالمين ، وعن سيّد العترة الإمام أمير المؤمنين 7 بأنفسنا (١).

نزلت الآية الكريمة في حادثة تاريخيّة بالغة الخطورة جرت بين الرسول 6 وزعماء النصارى الروحيّين ، وموجزها أنّ وفدا من النصارى ضمّ الزعماء الدينيّين منهم قدموا على رسول الله 6 ليناظروه في الإسلام ، وبعد حديث دار بينهما اتّفقوا على الابتهال أمام الله تعالى ليحلّ عذابه ولعنته على الكاذبين ، وعيّنوا وقتا خاصّا للمباهلة ، ولمّا حان الوقت الموعود بينهم اختار النبيّ 6 للمباهلة أفضل الخلق وأكرمهم عند الله تعالى ، وهم :

ـ باب مدينة علمه وأبو سبطيه أمير المؤمنين 7.

ـ بضعته سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء 3.

ـ سبطه الأوّل الزكي الإمام الحسن 7.

ـ سيّد شباب أهل الجنّة ريحانة الرسول الإمام الحسين 7.

وأقبل بهم النبيّ 6 إلى ساحة الابتهال ، وخرج وفد النصارى يتقدّمهم السيّد والعاقب ، ومعهم فرسان بني الحرث على خيولهم على أحسن هيئة واستعداد.

ولمّا رأت النصارى أنّ الرسول 6 قدّم للمباهلة أهل بيته وهم بهيئة تملأ

__________________

(١) تفسير الرازي ٢ : ٦٩٩. تفسير البيضاوي : ٧٦. تفسير الكشّاف ١ : ٤٩. تفسير روح البيان ١ : ٤٥٧. تفسير الجلالين ١ : ٣٥. صحيح مسلم ٢ : ٤٧. صحيح الترمذي ٢ : ١٦٦.

سنن البيهقي ٧ : ٦٣. مسند أحمد بن حنبل ١ : ١٨٥. مصابيح السنّة ـ البغوي ٢ : ٢٠١. سير أعلام النبلاء ٣ : ١٩٣.


العيون ، وتعنوا لها الجباه ، امتلأت نفوسهم رعبا ، وجثا النبيّ على الأرض مع أهل بيته فتقدّم إليه السيّد والعاقب قائلين :

يا أبا القاسم ، بمن تباهلنا؟

فأجابهم النبيّ 6 :

« اباهلكم بخير أهل الأرض ، وأكرمهم عند الله ـ وأشار إلى أهل بيته ـ ».

وغمرتهما موجة من الفزع والدهشة ، وانبريا يقولان :

ـ لم لا تباهلنا بأهل الكرامة وأهل الشارة والكبر ممّن آمن بك واتّبعك؟

فانطلق الرسول يؤكّد لهم أنّ أهل بيته أفضل الخلق عند الله تعالى قائلا :

« أجل ، اباهلكم بهؤلاء خير أهل الأرض وأفضل الخلق ».

وأيقنوا أنّ الرسول على حقّ ، وفزعوا مسرعين مذهولين إلى الاسقف زعيمهم ، فعرضوا عليه ما رأوه فأجابهم بدهشة قائلا :

ـ أرى وجوها لو سأل الله بها أحد أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله.

وخاف الاسقف على النصارى من الهلاك والدمار إن باهل النبيّ 6 ، وسارع قائلا وهو يرتعد :

ـ أفلا تنظرون محمّدا رافعا يديه ينظر ما تجيئان به ، وحقّ المسيح إن نطق فوه بكلمة لا نرجع إلى أهل ، ولا إلى مال.

وملء قلبه رعبا وخوفا ، وهتف بقومه ثانيا قائلا :

ألا ترون الشمس قد تغيّر لونها ، والافق تنجع فيه السحب الداكنة ، والريح تهب هائجة سوداء حمراء ، وهذه الجبال يتصاعد منها الدخان ، لقد أطلّ علينا العذاب ، انظروا إلى الطير وهي تقيئ حواصلها ، وإلى الشجر كيف تتساقط


أوراقها ، وإلى هذه الأرض كيف ترجف تحت أقدامنا.

لقد أيقن الاسقف بنزول الرزء القاصم ، وهلاك النصارى ، فمنع قومه من المباهلة ، وبادر الوفد نحو الرسول 6 طالبين منه أن يعفيهم من المباهلة قائلين :

ـ يا أبا القاسم ، أقلنا أقالك الله.

وخضعوا للشروط التي أملاها عليهم النبيّ 6.

والتفت النبيّ 6 إلى أصحابه وإلى النصارى قائلا :

« والذي نفسي بيده! أنّ العذاب تدلّى على أهل نجران ، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم عليهم الوادي نارا ، ولاستأصل الله نجران وأهله ، حتى الطير على الشجر ، وما حال الحول على النصارى كلّهم » (١).

وأوضحت هذه الحادثة مدى الأهميّة البالغة لأهل البيت : عند الله تعالى ، ومن المؤكّد أنّه لو كان في الاسرة النبوية ، وسائر الصحابة من يضارعهم ويساويهم في الفضل لاختارهم النبيّ 6 للمباهلة ، يقول الإمام شرف الدين نضّر الله مثواه :

وأنت تعلم أنّ مباهلته 6 بهم ، والتماسه منهم التأمين على دعائه بمجرّده لفضل عظيم ، وانتخابه إيّاهم لهذه المهمّة العظيمة ، واختصاصهم بهذا الشأن الكبير ، وإيثارهم فيه على من سواهم من أهل السوابق فضل على فضل ، لم يسبقهم إليه سابق ، ولن يلحقهم به لا حق ، ونزول القرآن العزيز آمرا بالمباهلة بهم بالخصوص فضل ثالث يزيد فضل المباهلة ظهورا ، ويضيف إلى شرف اختصاصهم بها شرفا ، وإلى نوره نورا ... » (٢).

__________________

(١) نور الأبصار : ١٠٠.

(٢) الكلمة الغرّاء : ١٨٤.


كما دلّت الآية ـ بوضوح ـ على أنّ الإمام أمير المؤمنين 7 هو نفس رسول الله ، وهو ـ من دون شكّ ـ أفضل وأكمل من جميع خلق الله تعالى ، فعليّ كذلك بمقتضى المساواة بينهما (١).

وقد أدلى بهذا الفخر الرازي قال : كان في الريّ رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي ، وكان معلّم الاثني عشرية ـ يعني الإمامية ـ وكان يزعم أنّ عليّا أفضل من جميع الأنبياء سوى محمّد 6 واستدلّ على ذلك بقوله تعالى : ( وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ) ؛ إذ ليس المراد بقوله تعالى : ( وَأَنْفُسَنا ) نفس محمّد ؛ لأنّ الإنسان لا يدعو نفسه ، بل المراد غيرها ، وأجمعوا على أنّ ذلك الغير كان عليّ بن أبي طالب ، فدلّت الآية على أنّ نفس عليّ هي نفس محمّد 6 ، ولا يمكن أن يكون المراد أنّ هذه النفس عين تلك ، فالمراد أنّ هذه النفس مثل تلك النفس ، وذلك يقتضي المساواة بينهما في جميع الوجوه تركنا العمل بهذا العموم في حقّ النبوّة ، وفي حقّ الفضل بقيام الدلائل على أنّ محمّدا 6 أفضل من عليّ ، فبقي ما وراء ذلك معمولا به ، ثمّ الإجماع دلّ على أنّ محمّدا 6 كان أفضل من سائر الأنبياء فيلزم أن يكون عليّ أفضل من سائر الأنبياء (٢).

وهذا الرأي وثيق للغاية ليس فيه أي غلوّ بعد إقامة الدليل الحاسم عليه.

٣ ـ قال تعالى :

( هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ ... ) السورة.

وذهب جمهور المفسّرين والرواة أنّ هذه السورة نزلت في أهل بيت النبوّة (٣) ،

__________________

(١) حياة الإمام الحسين 7 ١ : ٧٤.

(٢) تفسير الرازي ٢ : ٤٨٨.

(٣) تفسير الرازي ١٠ : ٢٤٣. أسباب النزول ـ الواحدي : ١٣٣. روح البيان ٦ : ٥٤٦. ينابيع المودّة ١ : ٩٣. الرياض النضرة ٢ : ٢٢٧. امتاع الاسماع : ٥٠٢.


أمّا السبب في نزولها فهو أنّ السبطين سلام الله عليهما مرضا ، فعادهما جدّهما مع كوكبة من الصحابة ، وطلبوا من الإمام 7 أن ينذر لله صوما إن عافا ولديه ، فنذر الإمام صوم ثلاثة أيام ، وتابعته الصدّيقة وجاريتها فضّة في هذا النذر ، ولمّا أبل الحسنان من المرض صاموا جميعا ، ولم يكن عند الإمام 7 شيء من الطعام ليجعله إفطارا لهم ، فاستقرض ثلاثة أصواع من الشعير ، وعمدت سيّدة نساء العالمين الصدّيقة سلام الله عليها في اليوم الأوّل إلى صاع فطحنته وخبزته ، فلمّا آن وقت الافطار وإذا بمسكين طرق الباب يستميحهم شيئا من الطعام ، فعمدوا جميعا إلى هبة قوتهم للمسكين ، واستمرّوا على صيامهم لم يتناولوا شيئا سوى ماء القراح ، وفي اليوم الثاني عمدت بضعة الرسول 6 إلى الصاع الثاني فطحنته وخبزته ، فلمّا حان وقت الافطار ، وإذا بيتيم يشكو الجوع فتبرّعوا جميعا بقوتهم ، ولم يتناولوا شيئا سوى الماء ، وفي اليوم الثالث قامت سيّدة النساء فطحنت ما بقي من الشعير وخبزته ، فلمّا حان وقت الغروب ، وإذا بأسير قد طرق الباب قد ألمّ به الجوع فسحبوا أيديهم من الطعام ومنحوه له.

سبحانك اللهمّ أي إيثار أعظم من هذا الايثار؟ إنّه لم يقصد به إلاّ وجه الله تعالى وابتغاء أجره.

ووفد عليهم رسول الله 6 في اليوم الرابع فرأى أجساما مرتعشة قد ذابت من الجوع ، فتغيّر حاله ، وطفق يقول : « وا غوثاه أهل بيت محمّد يموتون جياعا ».

ولم ينه النبيّ 6 كلامه حتى هبط عليه أمين الوحي وهو يحمل لهم المكافأة العظمى وهي سورة هل أتى ، إنّها مغفرة ورحمة ورضوان من الله تعالى ، وخلود في الفردوس الأعلى ، ووسام شرف في الدنيا باق حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها ، إنّه يحمل هذه الآيات العظام.

( وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً. مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ


فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً. وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً. وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا. قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً. وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً ) (١).

إنّه عطاء سمح لا نهاية له من الله تعالى على هذا الايثار الذي تجاوز حدود الزمان والمكان ، ولا يوصف بكيف ولا يقدّر بكم.

٤ ـ قال تعالى :

( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٢).

أجمع المفسّرون والرواة على أنّ الآية المباركة نزلت في الخمسة أصحاب الكساء (٣) ، وهم سيّد الكائنات الرسول 6 ، وصنوه الجاري مجرى نفسه الإمام أمير المؤمنين 7 ، وبضعته الطاهرة سيّدة نساء العالمين التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها ، وريحانتاه الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة ، ولم يشاركهم أحد من اسرة النبيّ 6 ولا من غيرهم من أعلام الصحابة في هذه الفضيلة ، ويؤيّد ذلك كوكبة من الأخبار الصحاح وهي :

أ ـ إنّ السيّدة الزكية أمّ المؤمنين أمّ سلمة قالت : نزلت هذه الآية في بيتي ، وفيه كانت فاطمة والحسن والحسين وعليّ فجلّلهم رسول الله 6 بكساء كان

__________________

(١) الإنسان : ١٢ ـ ١٧.

(٢) الأحزاب : ٣٣.

(٣) تفسير الرازي ٦ : ٧٨٣. صحيح مسلم ٢ : ٣٣١. الخصائص الكبرى ٢ : ٢٦٤. الرياض النضرة ٢ : ١٨٨. تفسير ابن جرير ٢٢ : ٥. مسند أحمد بن حنبل ٤ : ١٠٧. سنن البيهقي ٢ : ١٥٠. مشكل الآثار ١ : ٣٣٤.

ومن الجدير بالذكر أنّ ابن جرير أورد في تفسيره خمس عشرة رواية بأسانيد مختلفة باختصاص الآية في أهل البيت :.


عليه ، ثمّ قال : « اللهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا » ، يكرّر ذلك ، وأمّ سلمة تسمع وترى ، فقالت : وأنا معكم يا رسول الله؟ ورفعت الكساء لتدخل فجذبه منها ، وقال : « إنّك على خير » (١).

ب ـ روى ابن عبّاس قال : شهدت رسول الله 6 سبعة أشهر يأتي كلّ يوم باب عليّ بن أبي طالب عند وقت كلّ صلاة فيقول : « السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت : ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ، الصّلاة يرحمكم الله » كلّ يوم خمس مرّات (٢).

ج ـ روى أبو برزة قال : صلّيت مع رسول الله 6 سبعة أشهر ، فإذا خرج من بيته أتى باب فاطمة 3 ، فقال : « السّلام عليكم ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) » (٣).

إنّ قيام الرسول 6 بذلك إرشاد للامّة وإلزام لها باتّباع أهل بيته الذين هم الأدلاّء على كلّ ما ينفع الامّة في مسيرتها نحو التقدّم والتطوّر في حياتهم الدنيوية والاخروية.

د ـ احتجّ الإمام الحسن 7 بالآية الكريمة على اختصاصها بهم ، فقد قال في بعض خطبه : « وأنا من أهل البيت الّذي كان جبرئيل ينزل إلينا ويصعد من عندنا ، وأنا من أهل البيت الّذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا » (٤).

لقد تظافرت الأخبار من طرق العترة الطاهرة وغيرها على اختصاص الآية

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٢ : ٤١٦. اسد الغابة ٥ : ٥٢١.

(٢) الدرّ المنثور ٥ : ١٩٩.

(٣) ذخائر العقبى : ٢٤.

(٤) مستدرك الحاكم ٣ : ١٧٢.


بأهل البيت ، وشاع ذلك في الأوساط الإسلامية ، يقول السيّد الحميري :

إنّ يوم التّطهير يوم عظيم

خصّ بالفضل فيه أهل الكساء (١)

وقد حقّقنا بصورة موضوعيّة ودقيقة خروج نساء النبيّ 6 عن الآية في كتابنا « حياة الإمام الحسين 7 ».

هذه بعض الآيات النازلة في أهل بيت النبوّة سلام الله عليهم ، وفي طليعتهم سيّد العترة وإمام المتّقين الإمام أمير المؤمنين 7.

الآيات النازلة في الإمام وخيار الصحابة

نزلت طائفة من آيات الذكر الحكيم في حقّ الإمام 7 ، ومعه كوكبة من أعلام الإسلام وخيار الصحابة ، وهذه بعضها :

١ ـ قال تعالى :

( وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ ) (٢).

روى ابن عباس قال : الأعراف موضع عال من الصراط عليه العباس وحمزة وعليّ بن أبي طالب 7 وجعفر ذو الجناحين يعرفون محبّيهم ببياض وجوههم ، ومبغضيهم بسواد الوجوه (٣).

٢ ـ قال تعالى :

( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ

__________________

(١) الأغاني ٧ : ٢٣٩.

(٢) الأعراف : ٤٦.

(٣) الصواعق المحرقة : ١٠١.


يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) (١).

سئل ـ أي الإمام أمير المؤمنين ـ عن هذه الآية ، وهو على المنبر فقال :

« اللهمّ غفرا نزلت فيّ وفي عمّي حمزة ، وفي ابن عمّي عبيدة بن الحارث ، فأمّا عبيدة فقضى نحبه شهيدا يوم بدر ، وحمزة قضى شهيدا يوم أحد ، وأمّا أنا فانتظر أشقاها يخضّب هذه من هذا » ، وأشار بيده إلى لحيته ورأسه (٢).

الآيات النازلة في حقّه وذمّ مخالفيه

هذه كوكبة من آيات الذكر الحكيم نزلت في حقّه وذمّ مخالفيه ، الذين جاهدوا على الغضّ من مآثره وفضائله :

١ ـ قال تعالى :

( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (٣).

نزلت هذه الآية في الإمام أمير المؤمنين والعباس وطلحة بن شيبة لمّا افتخروا فقال طلحة : أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه وإليّ ثياب بيته ، وقال العباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها ، وقال الإمام :

« ما أدري ما تقولون؟ لقد صلّيت إلى القبلة ستّة أشهر قبل النّاس ، وأنا صاحب الجهاد » ، فنزلت الآية (٤).

__________________

(١) الأحزاب : ٢٣.

(٢) الصواعق المحرقة : ٨٠. نور الأبصار : ٨٠.

(٣) براءة : ١٩.

(٤) تفسير الطبري ١٠ : ٦٨. تفسير الرازي ١٦ : ١١. الدرّ المنثور ٤ : ١٤٦. أسباب النزول : ١٨٢.


٢ ـ قال تعالى :

( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) (١).

نزلت الآية في الإمام أمير المؤمنين 7 وفي الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، فقد افتخر على الإمام قائلا له : أنا أبسط منك لسانا ، وأحدّ منك سنانا ، وأردّ منك للكتيبة ، فقال له الإمام : « اسكت ، فإنّك فاسق » ، فأنزل الله فيهما الآية (٢).

٣ ـ قال تعالى :

( أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (٣).

نزلت الآية في الإمام أمير المؤمنين 7 وحمزة وأبي لهب وأولاده ، فالإمام وحمزة شرح الله صدريهما بالإيمان والتقوى ، وأبو لهب وأولاده قست قلوبهم وفي ضلال مبين (٤).

٤ ـ قال تعالى :

( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) (٥).

نزلت الآية الكريمة في الإمام أمير المؤمنين 7 ، وفي عمّه الشهيد حمزة ،

__________________

(١) السجدة : ١٨.

(٢) تفسير الطبري ٢١ : ٦٨. أسباب النزول ـ الواحدي : ٢٦٣. تاريخ بغداد ١٣ : ٣٢١.

الرياض النضرة ٢ : ٢٠٦.

(٣) الزمر : ٢٢.

(٤) الرياض النضرة ٢ : ٣٠٧.

(٥) الجاثية : ٢١.


وعبيدة ، وفي ثلاثة من المشركين ، وهم : عتبة وشيبة والوليد بن عتبة ، قالوا للمؤمنين : والله! ما أنتم على شيء ، ولو كان ما تقولون حقّا لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة ، كما أنّا أفضل حالا منكم في الدنيا ، فأنكر الله تعالى هذا الكلام وبيّن في كتابه أنّه لا يمكن بأي حال أن يكون المؤمن المطيع لله ولرسوله كالكافر العاصي في درجات الثواب ، ومنازل المتّقين (١).

٥ ـ قال تعالى :

( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ) (٢).

مرّ الإمام أمير المؤمنين 7 ومعه جماعة من المسلمين فسخر منهم المنافقون ، وضحكوا وتغامزوا استهزاء وسخرية بهم ، ثمّ رجعوا إلى أصحابهم ، وقالوا لهم : رأينا اليوم الأصلع فضحكنا منه ، فنزلت الآية على النبيّ 6 قبل أن يصل إليه الإمام وأخبره بذلك (٣).

وبهذا نطوي الحديث عن بعض آيات الذكر الحكيم التي أشادت بفضل إمام المتّقين وسيّد الموحّدين ، وأعلنت سموّ مكانته وعظيم شأنه عند الله تعالى.

__________________

(١) تفسير الرازي ٩ : ٦٧٦.

(٢) المطفّفين : ٢٩.

(٣) الكشّاف ٤ : ٧٢٤.



الإمام 7

في ظلال السّنّة



حفلت مصادر الحديث من صحاح وسنن بكوكبة مشرقة من الأحاديث النبوية ، وهي تشيد بفضل رائد العدالة الإسلامية الإمام 7 ورفعته إلى قمّة المجتمع الإسلامي.

والمتأمّل في كثرة الأحاديث وشهرتها وإشاعتها بين الرواة يطلّ على الغاية المنشودة للنبيّ 6 ، وهي تركيز الإمام وترشيحه للخلافة من بعده ، ليكون امتدادا لذلك ومرجعا لامّته يقيم أودها ، ويصلح شأنها ، ويسير بها سيرا سجحا لا يكلم خشاشه ، لتكون أمّة الإسلام قائدة لشعوب العالم وامم الأرض.

وعلى كلّ حال فإنّا إذا نظرنا إلى الأخبار النبوية في فضل الإمام 7 نجد كوكبة خاصّة به ، وكوكبة اخرى في فضل أهل البيت : وهي شاملة ـ بالضرورة ـ لأنّه سيّد العترة ، وعلمهم الشامخ ، وفيما يلي عرض لذلك :

الكوكبة الاولى

وتحتوي على صور متعدّدة من التعظيم والتكريم ، والإشادة بفضل الإمام 7 ... وهذه بعضها :

مكانته عند النبيّ :

كان الإمام 7 من ألصق الناس برسول الله 6 ، ومن أشدّهم قربا واتّصالا به ، فهو أبو سبطيه ، وباب مدينة علمه ، وقد أخلص له النبيّ 6 كأعظم ما يكون


الإخلاص ، وقد أثرت عنه طائفة من الأحاديث دلّت على عمق محبّته ومودّته له ، وفيما يلي ذلك :

١ ـ الإمام نفس النبيّ :

عرضت آية المباهلة ـ بوضوح ـ إلى أنّ الإمام نفس النبيّ 6 ، وقد ألمحنا إلى ذلك في البحوث السابقة ، وقد أعلن النبيّ 6 أنّ الإمام نفسه في جملة من الأخبار هذه بعضها :

أ ـ أخبر الوليد بن عقبة أخو عثمان لامّه ، النبيّ 6 أنّ بني وليعة ارتدّوا عن الإسلام ، فغضب النبيّ وقال : « لينتهينّ بنو وليعة أو لأبعثنّ إليهم رجلا كنفسي ، يقتل مقاتلهم ويسبي ذراريهم ، وهو هذا » ، ثمّ ضرب على كتف الإمام 7 (١).

ب ـ روى عمرو بن العاص قال : لمّا قدمت من غزوة ذات السلاسل وكنت أظنّ أن ليس أحد أحبّ إلى رسول الله 6 منّي فقلت : يا رسول الله ، أي الناس أحبّ إليك ، فذكر اناسا ، قلت : يا رسول الله ، فأين عليّ؟ فالتفت النبيّ إلى أصحابه ، فقال : « إنّ هذا يسألني عن النّفس » (٢).

٢ ـ الإمام أخو النبيّ :

أعلن النبيّ 6 أمام الصحابة أنّ الإمام أخوه ، وقد أثرت عنه في ذلك جمهرة من الأخبار هذه بعضها :

أ ـ روى الترمذي بسنده عن ابن عمر قال : آخى رسول الله 6 بين أصحابه ،

__________________

(١) مجمع الزوائد ٧ : ١١٠ ، وكان الوليد كاذبا في إخباره بارتداد بني وليعة ، فنزلت الآية : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ ... ) الحجرات : ٦.

(٢) كنز العمّال ٦ : ٤٠٠.


فجاء عليّ تدمع عيناه ، فقال : « يا رسول الله ، آخيت بين أصحابك ، ولم تواخ بيني وبين أحد؟ ». فقال له رسول الله 6 : « أنت أخي في الدّنيا والآخرة » (١).

إنّ اخوّة النبيّ للإمام ليست في هذه الدنيا فحسب ، وإنّما هي ممتدّة إلى دار الآخرة التي لا نهاية لها.

ب ـ روت أسماء بنت عميس قالت : كنت في زفاف فاطمة بنت رسول الله 6 فلمّا أصبحنا جاء النبيّ إلى الباب فقال : « يا أمّ أيمن ، ادعي لي أخي » ، فقلت : هو أخوك وتنكحه ابنتك؟ قال : « نعم ، يا أمّ أيمن » (٢).

ج ـ روى أنس بن مالك قال : صعد رسول الله 6 المنبر وبعد انتهاء خطابه قال : « أين عليّ بن أبي طالب؟ » ، فوثب إليه عليّ قائلا : ها أنا ذا يا رسول الله ، فضمّه إلى صدره ، وقبّل بين عينيه ، وقال بأعلى صوته : « معاشر المسلمين ، هذا أخي وابن عمّي وختني ، هذا لحمي ودمي وشعري ، هذا أبو السّبطين الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة » (٣).

د ـ روى ابن عمر قال : سمعت رسول الله 6 في حجّة الوداع ، وهو على ناقته ، فضرب على منكب عليّ ، وهو يقول : « اللهمّ اشهد ... اللهمّ قد بلّغت هذا أخي ، وابن عمّي ، وصهري ، وأبو ولديّ. اللهمّ كبّ من عاداه في النّار » (٤).

ه‍ ـ قال رسول الله 6 : « لمّا اسري بي إلى السّماء السّابعة قال لي جبرئيل : تقدّم يا محمّد فو الله ما نال هذه الكرامة ملك مقرّب ، ولا نبيّ مرسل ، فأوحى لي

__________________

(١) صحيح الترمذي ٢ : ٢٩٩. مستدرك الحاكم ٣ : ١٤.

(٢) مستدرك الحاكم ٣ : ٢١٠. خصائص النسائي : ١٧٤ ، ح ١٢٤.

(٣) ذخائر العقبى : ٩٢.

(٤) كنز العمّال ٣ : ٦١.


ربّي شيئا ، فلمّا أن رجعت نادى مناد من وراء الحاجب : نعم الأب أبوك إبراهيم ، ونعم الأخ أخوك عليّ ، فاستوص به خيرا » (١).

و ـ قال رسول الله 6 : « إذا كان يوم القيامة نوديت من بطنان العرش :

يا محمّد ، نعم الأب أبوك إبراهيم ، ونعم الأخ أخوك عليّ » (٢).

ز ـ روى أبو الطفيل عامر بن وائلة قال : كنت على الباب يوم الشورى ، فارتفعت الأصوات بينهم ، فسمعت عليّا يقول : « بايع النّاس أبا بكر وأنا والله أولى بالأمر منه ، وأحقّ به منه ، فسمعت وأطعت ، مخافة أن يرجع النّاس كفّارا يضرب بعضهم رقاب بعض بالسّيف ، ثمّ بايع النّاس عمر وأنا والله أولى منه ، وأحقّ به منه ، فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع النّاس كفّارا يضرب بعضهم رقاب بعض بالسّيف ، ثمّ أنتم تريدون أن تبايعوا عثمان إذن أسمع واطيع ، إنّ عمر جعلني في خمسة نفر أنا سادسهم ، لا يعرف لي فضلا عليهم في الصّلاح ، ولا يعرفونه لي ، كلّنا فيه شرع سواء ، وأيم الله لو أشاء أتكلّم ثمّ لا يستطيع عربيّهم ولا عجميّهم ، ولا المعاهد منهم ولا المشرك ، ردّ خصلة منها ، لفعلت ».

ثمّ قال : « نشدتكم الله أيّها النّفر جميعا ، أفيكم أحد أخو رسول الله 6 غيري؟ » ، قالوا : اللهمّ لا (٣).

وحكى هذا الحديث أمرا بالغ الأهمّية ، وهو إقدام الشيخين على الاستيلاء على الخلافة ، وتجاهلهما لمقامه 7 مع علمهما أنّه أحقّ بالأمر وأولى بها منهما ، خصوصا عمر ، فقد تجاهل فضله بالمرّة فقرنه بأعضاء الشورى الذين لم يكن فيهم أحد يساوي مركزه ، فهو أخو النبيّ ، وصاحب المواقف المشهودة يوم بدر واحد

__________________

(١) كنز العمّال ٣ : ١٦١.

(٢) المصدر السابق : ١٦٢.

(٣) المصدر السابق ٥ : ٧٢٥.


والأحزاب ... أمّا السبب في إحجامه عن منازعة القوم بالقوّة فهو خوفه على ارتداد المسلمين ورجوعهم إلى الجاهلية الاولى ، فأطاع وسمع ، ولكن في الحلق شجى وفي العين قذى على حدّ تعبيره في خطبته الشقشقية.

ح ـ قال الإمام 7 : « أنا عبد الله ، وأخو رسوله ، وأنا الصّدّيق الأكبر ، لا يقولها بعدي إلاّ كذّاب ، صلّيت قبل النّاس بسبع سنين » (١).

ط ـ قال الإمام أبو جعفر 7 : « لمّا نزلت الآية ( وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ) (٢) ، كان رسول الله 6 على جبل فدعا ربّه ، وقال : اللهمّ اشدد أزري بأخي عليّ » (٣).

٣ ـ النبيّ والإمام من شجرة واحدة :

أعلن النبيّ 6 أنّه والإمام من شجرة واحدة ، وقد أثر عنه ذلك في طائفة من الأخبار ، وهذه بعضها :

أ ـ روى جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله 6 يقول لعليّ : « يا عليّ ، النّاس من شجر شتّى ، وأنا وأنت من شجرة واحدة » ، ثمّ قرأ رسول الله 6 : ( وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ) (٤).

ب ـ قال رسول الله 6 : « أنا وعليّ من شجرة واحدة ، والنّاس من أشجار شتّى » (٥).

__________________

(١) سنن ابن ماجة ١ : ١٢. مستدرك الحاكم ٣ : ١١١. تاريخ الطبري ٢ : ٥٦.

(٢) طه : ٢٩ ـ ٣١.

(٣) كنز العمّال ٧ : ١١٣. مستدرك الحاكم ٣ : ٢١٠.

(٤) الرعد : ٤. كنوز الحقائق : ١٥٥.

(٥) كنز العمّال ٦ : ١٥٤.


ما أجلّ وأسمى تلك الشجرة التي تفرّع منها سيّد الكائنات ورائد الحضارة الإنسانية الرسول 6 وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين 7 ... إنّها الشجرة المباركة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء والتي أنتجت في جميع الأجيال ما ينفع الناس.

٤ ـ الإمام وزير النبيّ :

أكّد النبيّ 6 في كثير من الأحاديث أنّ الإمام 7 وزيره ، وهذه بعضها :

أ ـ روت أسماء بنت عميس قالت : سمعت رسول الله 6 يقول : « اللهمّ إنّي أقول كما قال أخي موسى : اللهمّ اجعل لي وزيرا من أهلي ، أخي عليّا ، اشدد به أزري ، وأشركه في أمري ، كي نسبّحك كثيرا ، ونذكرك كثيرا ، إنّك كنت بنا بصيرا » (١).

ب ـ روى الصحابي الجليل أبو ذرّ الغفاري قال : صلّيت مع رسول الله 6 يوما من الأيام الظهر ، فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا ، فرفع السائل يديه إلى السماء وقال : اللهمّ اشهد إنّي سألت في مسجد نبيّك محمّد 6 فلم يعطني أحد شيئا ، وكان عليّ في الصلاة راكعا فأومأ إليه بخنصره اليمنى ، وفيها خاتم ، وذلك بمرأى النبيّ وهو في المسجد ، فرفع رسول الله 6 طرفه إلى السماء وقال : « اللهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال :

( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي. وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (٢) ، فأنزلت عليه قرآنا : ( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما

__________________

(١) الرياض النضرة ٢ : ١٦٣.

(٢) طه : ٢٥ ـ ٣٢.


سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما ) (١) ، اللهمّ وإنّي محمّد نبيّك وصفيّك ، اللهمّ فاشرح لي صدري ، ويسّر لي أمري ، واجعل لي وزيرا من أهلي ، عليّا اشدد به ظهري ».

قال أبو ذرّ : فما استتمّ دعاؤه حتى نزل عليه جبرئيل من عند الله بهذه الآية : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (٢) » (٣).

٥ ـ الإمام خليفة النبيّ :

أعلن النبيّ 6 خلافة الإمام من بعده في بداية الدعوة الإسلامية ، وذلك حينما دعا الاسر القرشية إلى اعتناق الإسلام ، وفي ختام دعوته قال للقرشيّين :

« إذا هذا ـ يعني عليّا ـ أخي ، ووصيّي ، وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا » (٤).

لقد قرن الرسول 6 خلافة الإمام من بعده بالدعوة إلى الإسلام ، ونبذ الوثنية والشرك ، وبالإضافة لذلك فإنّ هناك جمهرة من الأخبار أعلن فيها النبيّ 6 خلافة الإمام من بعده ، وهذه بعضها :

أ ـ قال رسول الله 6 : « يا عليّ ، أنت خليفتي على أمّتي » (٥).

ب ـ قال رسول الله 6 : « عليّ بن أبي طالب أقدمهم سلما ، وأكثرهم علما ،

__________________

(١) القصص : ٣٥.

(٢) المائدة : ٥٥.

(٣) نور الأبصار : ٧٠. تفسير الرازي ١٢ : ٢٦.

(٤) تاريخ الطبري ٢ : ١٢٧. تاريخ ابن الأثير ٢ : ٢٢. تاريخ أبي الفداء ١ : ١١٦. مسند أحمد ١ : ٣٣١. كنز العمّال ٦ : ٣٩٩.

(٥) المراجعات : ٢٠٨.


وهو الإمام والخليفة بعدي » (١).

ج ـ قال رسول الله 6 :

« معاشر النّاس ، من أحسن من الله قيلا؟ إنّ ربّكم جلّ جلاله أمرني أن اقيم لكم عليّا علما وإماما وخليفة ووصيّا » (٢).

د ـ قال رسول الله 6 :

« عليّ منّي ، وأنا من عليّ ، قاتل الله من قاتل عليّا ، عليّ إمام الخليقة بعدي » (٣).

ه‍ ـ قال 6 :

« إنّ الله أوحى إليّ أنّه جاعل لي من أمّتي أخا ، ووارثا ، وخليفة ، ووصيّا ، فقلت : يا ربّ من هو؟ فقال : ذاك من احبّه ويحبّني ، وهو عليّ بن أبي طالب » (٤).

وكثير من أمثال هذه الأحاديث رويت بأسانيد صحيحة عن أئمّة الهدى : وغيرهم ، وهي صريحة الدلالة واضحة البيان ، لا لبس ولا اجمال ولا غموض فيها ، في أنّ النبيّ 6 قد نصب الإمام أمير المؤمنين 7 خليفة من بعده على امّته وقائدا لمسيرتها نحو الأفضل ، فقد أكّد النبيّ 6 ضرورة الخلافة من بعده فقد قال لعليّ : « لا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي » (٥).

٦ ـ الإمام من النبيّ كهارون من موسى :

وأثرت عن النبيّ 6 جمهرة من الأحاديث ذات مضمون ومفاد واحد ، أنّه 6 قال لعليّ : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ... » وهذا عرض لبعضها :

__________________

(١) المراجعات : ٢٠٩.

(٢) المراجعات : ٢٠٩.

(٣) المصدر السابق : ١١٠.

(٤) المصدر السابق : ١١٠.

(٥) فضائل الخمسة من الصحاح الستّة ٢ : ٢١.


أ ـ قال النبيّ 6 لعليّ : « أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه ليس نبيّ بعدي » (١).

ب ـ روى سعيد بن المسيّب ، عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص ، عن أبيه سعد قال : قال رسول الله 6 لعليّ : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي » ، قال سعيد : فأحببت أن اشافه بها سعدا ، فلقيت سعدا فحدّثته بما حدّثني به عامر ، فقال : أنا سمعته ، فقلت : أنت سمعته؟! فوضع اصبعه على اذنيه فقال : نعم ، وإلاّ فاستكّتا (٢).

ج ـ روى جابر بن عبد الله أنّ النبيّ قال لعليّ : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي » (٣).

د ـ لمّا آخى النبيّ 6 بين أصحابه قال عليّ 7 للنبيّ : « لقد ذهب روحي ، وانقطع ظهري حين رأيتك فعلت بأصحابك ما فعلت ، غيري ، فإن كان هذا من سخط عليّ فلك العتبى والكرامة » ، فقال رسول الله 6 : « والّذي بعثني بالحقّ ما أخّرتك إلاّ لنفسي ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبيّ بعدي ، وأنت أخي ، ووارثي » ، قال عليّ : « وما أرث منك يا رسول الله؟ » ، قال : « ما ورّث الأنبياء من قبلي » ، قال : « وما ورّث الأنبياء من قبلك؟ » ، قال : « كتاب ربّهم ، وسنّة نبيّهم ، وأنت معي في قصري في الجنّة مع فاطمة ابنتي ، وأنت أخي ورفيقي » (٤).

__________________

(١) مسند أبي داود ١ : ٢٩. حلية الأولياء ٧ : ١٩٥. مشكل الآثار ٢ : ٣٠٩. مسند أحمد بن حنبل ١ : ١٨٢. تاريخ بغداد ١١ : ٤٣٢. خصائص النسائي : ١٦.

(٢) اسد الغابة ٤ : ٢٦. خصائص النسائي : ١٥. صحيح مسلم ـ كتاب فضائل الأصحاب ٧ : ١٢٠.

(٣) صحيح الترمذي ٢ : ٣٠١. تاريخ بغداد ٣ : ٢٨٨. مسند أحمد ٣ : ٢٣٨.

(٤) كنز العمّال ١٣ : ١٠٥.


هـ ـ قال النبيّ 6 لعقيل : « يا عقيل ، والله إنّي لأحبّك لخصلتين : لقرابتك ، ولحبّ أبي طالب إيّاك ، وأمّا أنت يا جعفر فإنّ خلقك يشبه خلقي ، وأمّا أنت يا عليّ ، فأنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبيّ بعدي » (١).

و ـ قال عمر بن الخطّاب : كفّوا عن ذكر عليّ بن أبي طالب فإنّي سمعت رسول الله 6 يقول : « في عليّ ثلاث خصال » ، لأن يكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس : كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة الجرّاح ونفر من أصحاب رسول الله 6 والنبيّ متّكئ على عليّ بن أبي طالب ، حتى ضرب بيده على منكبه ، ثمّ قال : « أنت يا عليّ ، أنت أوّل المؤمنين إيمانا ، وأوّلهم إسلاما » ، ثمّ قال : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى » (٢).

ز ـ قال سعد بن أبي وقّاص : سمعت رسول الله 6 يقول : لعليّ ثلاث خصال ، لأن يكون لي واحدة منها أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها ، سمعته يقول : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي » ، وسمعته يقول : « لاعطينّ الرّاية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ليس بفرّار » ، وسمعته يقول : « من كنت مولاه فعليّ مولاه ... » (٣).

وقد شاع هذا الحديث ، وقد نظمه الشهيد الخالد زيد بن عليّ بن الحسين 7 بقوله :

ومن فضل الأقوام يوما برأيه

فإنّ عليّا فضّلته المناقب

وقول رسول الله والحقّ قوله

وإن رغمت منه الانوف الكواذب

بأنّك منّي يا عليّ معالنا

كهارون من موسى أخ لي وصاحب

__________________

(١) كنز العمّال ٦ : ١٨٨.

(٢) المصدر السابق : ٣٩٥. الرياض النضرة ٢ : ١٦٣.

(٣) المصدر السابق : ٤٠٥.


دعاه ببدر فاستجاب لأمره

فبادر في ذات الإله يضارب (١)

أمّا دلالة الحديث فواضحة في أنّ الإمام وزير النبيّ وخليفته كهارون من موسى ، فهو وزيره وخليفته من بعده على امّته :

احتجاج الإمام بالحديث :

واحتجّ الإمام 7 بحديث المنزلة حينما بويع عثمان بن عفّان ، فقد قال للمهاجرين والأنصار : « فهل تعلمون أنّ رسول الله 6 قال لي : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى » .. ثمّ قال : « فهل لخلق مثل هذه المنزلة؟ نحن صابرون ليقضي الله أمرا كان مفعولا » (٢).

إنّ القوم سمعوا هذا الحديث من النبيّ 6 ، وسمعوا ما هو أعظم من ذلك صراحة ، وهو حديث الغدير ، ولكنّ الأطماع اترعت بها نفوسهم وصدّتهم عن الطريق القويم.

٧ ـ الإمام باب مدينة علم النبيّ :

وكان ممّا أشاد به النبيّ بسموّ الإمام وعظيم منزلته أن جعله بابا لمدينة علمه ، وقد روي هذا الحديث بعدّة طرق ، ونال الدرجة القطعية في سنده ، وقد أثر عن النبيّ 6 في عدّة مناسبات منها :

أ ـ روى جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله 6 يوم الحديبية ، وهو آخذ بيد عليّ 7 ، وهو يقول : « هذا أمير البررة ، وقاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله » ، يمدّ بها صوته : « أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، فمن أراد البيت

__________________

(١) فوات الوفيات ٢ : ٣٨.

(٢) كنز العمّال ٣ : ١٥٤.


فليأت الباب » (١).

ب ـ روى ابن عبّاس قال : قال رسول الله 6 : « أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها » (٢).

ج ـ قال 6 : « عليّ باب علمي ، ومبيّن لامّتي ما أرسلت به من بعدي ، حبّه إيمان ، وبغضه نفاق ، والنّظر إليه رأفة » (٣).

إنّ الإمام 7 باب مدينة علم النبيّ 6 ، فما يؤثر عنه من معالم الدين ، وأحكام الشريعة ، ومحاسن الأخلاق ، وقواعد الآداب ، فإنّها مستمدّة من النبيّ 6 ومأخوذة عنه ، ولازم ذلك وجوب التعبّد والأخذ بها.

إنّ النبيّ 6 خلّف ينبوعا من العلم يمدّ الحياة بالحكمة والازدهار ، وقد أودعه عند الإمام 7 لتنتهل منه امّته ، ولكن من المؤسف أنّ القوى الحاقدة على الإمام من قريش قد سدّت نوافذ ذلك النور ، وحرمت الامّة من الاستفادة منه ، وتركتها تتخبّط في مجاهيل هذه الحياة.

٨ ـ الإمام باب حكمة النبيّ :

أعلن النبيّ 6 أنّ الإمام 7 باب دار حكمته ، وقد أثرت في ذلك جمهرة من الأحاديث كان منها :

أ ـ قال رسول الله 6 : « أنا دار الحكمة وعليّ بابها » (٤).

__________________

(١) تاريخ بغداد ٢ : ٣٧٧.

(٢) كنز العمّال ٦ : ٤٠١.

(٣) كنز العمّال ٦ : ١٥٦. الصواعق المحرقة : ٧٣.

(٤) صحيح الترمذي ٢ : ٢٩٩. حلية الأولياء ١ : ٦٤. كنز العمّال ٦ : ٤٠١.


ب ـ قال 6 : « أنا مدينة الحكمة وعليّ بابها ، فمن أراد الحكمة فليأت الباب » (١).

ج ـ وقريب من هاتين الروايتين قوله 6 : « قسّمت الحكمة عشرة أجزاء فأعطي عليّ تسعة أجزاء والنّاس جزءا واحدا » (٢).

لقد كان الإمام 7 رائد الحكمة ، ودليلها الهادي الذي فتق أبواب الحكمة الإلهية ووضع اسسها ، وفلاسفة المسلمين عليه عيال في هذا الباب.

٩ ـ الإمام أحبّ الناس إلى النبيّ :

والشيء المؤكّد أنّ الإمام 7 أحبّ الناس إلى النبيّ 6 ، فقد سئلت عائشة عن أحبّ النّاس إلى رسول الله 6 قالت : فاطمة 3 ، قيل لها : ومن الرّجال؟

قالت : زوجها إن كان ما علمت صوّاما قوّاما (٣).

وروى معاوية بن ثعلبة قال : جاء رجل إلى أبي ذرّ ، وهو بمسجد رسول الله ، فقال له : ألا تخبرني عن أحبّ الناس إليك؟ فإنّي أعرف أنّ أحبّ الناس إليك أحبّهم لرسول الله 6 ، قال أبو ذرّ : إي وربّ الكعبة ، أحبّهم إليّ أحبّهم لرسول الله 6 ، هو ذلك الشيخ ، وأشار إلى الإمام أمير المؤمنين 7 (٤).

١٠ ـ الإمام شبيه الأنبياء :

كان النبيّ 6 في مجتمع من أصحابه ، فقال لهم : « إن تنظروا إلى آدم في علمه ، ونوح في همّه ، وإبراهيم في خلقه ، وموسى في مناجاته ، وعيسى في

__________________

(١) تاريخ بغداد ١١ : ٢٠٤.

(٢) حلية الأولياء ١ : ٦٤. وقريب منه في كنز العمّال ٦ : ١٥٤.

(٣) صحيح الترمذي ٥ : ٧٠١ ، رقم الحديث ٣٨٧٤. سنن الترمذي ٥ : ٣٦٠.

(٤) جواهر المطالب ١ : ٥٥.


سنّه ، ومحمّد في هديه وحلمه ، فانظروا إلى هذا المقبل » ، فتطاولت الأنظار إليه فإذا هو الإمام أمير المؤمنين 7 ، وقد نظم ذلك الشاعر الكبير أبي عبد الله المفجّع في قصيدته العصماء التي نظم فيها الكثير من مآثره ومناقبه يقول :

أيّها اللاّئمي لحبّي عليّا

قم ذميما إلى الجحيم خزيّا

أ بخير الأنام عرّضت لا زل

ت مذودا عن الهدى مزويّا

أشبه الأنبياء طفلا وزولا (١)

وفطيما وراضعا وغذيّا

كان في علمه كآدم إذ ع

لم شرح الأسماء والمكنيّا

وكنوح من الهلاك نجا

في مسير وإذ علا الجوديّا (٢)

١١ ـ الإمام سيّد العرب :

روى الإمام الحسين 7 عن جدّه 6 أنّه قال لأنس : « يا أنس ، إنّ عليّا سيّد العرب » فبادرت عائشة قائلة : ألست سيّد العرب؟ فقال : « أنا سيّد ولد آدم ، وعليّ سيّد العرب » (٣).

١٢ ـ الإمام أحبّ الخلق إلى الله :

روى أنس قال : قدّمت لرسول الله 6 طيرا ، فسمّى رسول الله وأكل لقمة ، وقال : « اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك » ، فضرب الباب ، فقلت : من أنت؟ قال : عليّ ، قلت : إنّ رسول الله لعلى حاجة ، ثمّ أكل لقمة اخرى ، وقال مثل الاولى ، فضرب عليّ الباب ، فقلت : من أنت؟ قال : عليّ ، قلت : إنّ رسول الله على حاجة ، ثمّ أكل النبيّ لقمة اخرى وقال مثل ذلك ، وضرب عليّ الباب ورفع صوته ،

__________________

(١) الزّول : الفتى ، الفطن.

(٢) معجم الأدباء ١٧ : ٢٠٠.

(٣) حلية الأولياء ٥ : ٣٨.


فقال النبيّ : « يا أنس ، افتح له الباب » ، ففتحت الباب فدخل ، فلمّا رآه تبسّم ثمّ قال : « الحمد لله الّذي جاء بك فإنّي أدعو في كلّ لقمة أن يأتيني الله بأحبّ الخلق إليه وإليّ ، فكنت أنت » ، فقال : « والّذي بعثك بالحقّ إنّي لأضرب الباب ثلاثا ويردّني أنس » ، فقال رسول الله 6 لأنس : « لم رددته؟ » قلت : كنت أحبّ أن يكون رجلا من الأنصار ، فتبسّم النبيّ ، وقال : « ما يلام الرّجل على حبّ قومه » (١).

إنّ حديث الطائر المشوي من أوثق الأحاديث النبوية ، وقد تمسّكت به الشيعة في الاستدلال على أحقّية الإمام للخلافة ؛ لأنّ أحبّ الناس إلى الله تعالى إنّما هو أفضلهم وأتقاهم وأعلمهم ، فلا بدّ أن يكون أحقّ الناس بالخلافة (٢) ، وذلك لتوفّر هذه الصفات فيه.

١٣ ـ إطاعة الإمام إطاعة للرسول :

وأكّد النبيّ 6 في كثير من أحاديثه أنّ طاعة الإمام إطاعة لله تعالى ولرسوله كان منها هذا الحديث :

قال 6 : « من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع عليّا فقد أطاعني ، ومن عصى عليّا فقد عصاني » (٣).

١٤ ـ من أحبّ عليّا فقد أحبّ الله :

وتظافرت الأخبار عن النبيّ 6 في أنّ من أحبّ الإمام 7 فقد أحبّ الله تعالى ، وهذه طائفة من الأخبار متقاربة المعنى وهي :

__________________

(١) ذخائر العقبى : ٦١ ، وقريب منه في : تاريخ بغداد ٣ : ١٧١. اسد الغابة ٤ : ٣٠. كنز العمّال ٦ : ٤٠٦. صحيح الترمذي ٢ : ٢٩٩.

(٢) دلائل الصدق ٢ : ٤٣.

(٣) مستدرك الحاكم ٣ : ١٢٤.


أ ـ قال 6 :

« أوصي من آمن بي وصدّقني بولاية عليّ بن أبي طالب ، فمن تولاّه فقد تولاّني ، ومن تولاّني فقد تولّى الله ، ومن أحبّه فقد أحبّني ، ومن أحبّني فقد أحبّ الله ، ومن أبغضه فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله عزّ وجلّ » (١).

ب ـ قال 6 لعليّ 7 لمّا اختاره لقراءة سورة براءة على أهل مكّة :

« من أحبّك أحبّني ، ومن أحبّني أحبّ الله ، ومن أحبّ الله أدخله الجنّة » (٢).

ج ـ روى ابن عبّاس قال : خرج رسول الله 6 قابضا على يد عليّ 7 ذات يوم فقال :

« ألا من أبغض هذا فقد أبغض الله ورسوله ، ومن أحبّ هذا فقد أحبّ الله ورسوله » (٣).

د ـ روى أبو رافع قال : بعث رسول الله 6 عليّا أميرا على اليمن ، وخرج معه رجل من أسلم يقال له عمرو بن شاس ، فرجع وهو يذمّ عليّا ويشكوه ، فبعث إليه رسول الله 6 ، فقال له : « اخسأ يا عمرو ، هل رأيت من عليّ جورا في حكمه ، أو أثرة في قسمة؟ » ، قال : اللهمّ لا.

قال : « فعلام تقول الّذي بلغني؟ » قال : أبغضه ، ولا أملك نفسي ، فغضب رسول الله حتى عرف ذلك في وجهه ثمّ قال :

« من أبغضه فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله ، ومن أحبّه فقد أحبّني ، ومن أحبّني فقد أحبّ الله تعالى » (٤).

__________________

(١) الرياض النضرة ٢ : ١٦٦. مجمع الزوائد ٩ : ١٠٨. كنز العمّال ٦ : ١٥٤.

(٢) و (٣) كنز العمّال ٦ : ٣٩١.

(٤) مجمع الهيثمي ٩ : ١٢٩.


حكت هذه الأحاديث أنّ الإمام أمير المؤمنين 7 نفس رسول الله 6 ، وأنّ ما يرضي عليّا فهو يرضيه ، وما يسخطه فهو يسخطه ، وبذلك فقد نال الإمام 7 منزلة من النبيّ 6 لم ينالها أحد غيره.

١٥ ـ حبّ عليّ إيمان ، وبغضه نفاق :

أعلن النبيّ 6 أنّ حبّ الإمام إيمان وتقوى ، وبغضه نفاق ومعصية ، وهذه بعض ما أثر عنه :

أ ـ قال عليّ 7 :

« والّذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة إنّه لعهد النّبيّ الامّي إليّ أن لا يحبّني إلاّ مؤمن ، ولا يبغضني إلاّ منافق » (١).

ب ـ روى المساور الحميري عن امّه قالت : دخلت على أمّ سلمة فسمعتها تقول : كان رسول الله 6 يقول :

« لا يحبّ عليّا منافق ، ولا يبغضه مؤمن » (٢).

ج ـ روى ابن عبّاس قال : نظر رسول الله 6 إلى عليّ 7 فقال : « لا يحبّك إلاّ مؤمن ، ولا يبغضك إلاّ منافق ، من أحبّك فقد أحبّني ، ومن أبغضك فقد أبغضني ، وحبيبي حبيب الله ، وبغيضي بغيض الله ، ويل لمن أبغضك بعدي » (٣).

د ـ روى أبو سعيد الخدري قال : قال رسول الله 6 لعليّ 7 : « حبّك إيمان ،

__________________

(١) صحيح الترمذي ٢ : ٣٠١. صحيح ابن ماجة : ١٢. تاريخ بغداد ٢ : ٢٥٥. حلية الأولياء ٤ : ١٨٥.

(٢) صحيح الترمذي ٢ : ٢٩٩.

(٣) مجمع الزوائد ٩ : ١٣٣.


وبغضك نفاق ، وأوّل من يدخل الجنّة محبّك ، وأوّل من يدخل النّار مبغضك » (١).

وشاعت هذه الأحاديث عند الصحابة ، وصاروا يطبّقونها على من أحبّ الإمام فوصفوه بالإيمان ، وعلى من أبغضه بالنفاق ، يقول الصحابي الجليل أبو ذرّ الغفاري : ما كنّا نعرف المنافقين إلاّ بتكذيبهم الله ورسوله ، والتخلّف عن الصلوات ، والبغض لعليّ بن أبي طالب (٢).

وقال الصحابي الكبير جابر بن عبد الله الأنصاري : ما كنّا نعرف المنافقين إلاّ ببغض عليّ بن أبي طالب 7 (٣).

١٦ ـ عنوان صحيفة المؤمن حبّ عليّ :

إنّ الصحيفة المشرقة للمؤمنين يوم يلقون الله تعالى هي الولاء والمحبّة للإمام أمير المؤمنين 7. وروي ذلك عن النبيّ 6 ، يقول أنس بن مالك : والله الذي لا إله إلاّ هو سمعت رسول الله 6 يقول :

« عنوان صحيفة المؤمن حبّ عليّ بن أبي طالب » (٤).

١٧ ـ إخبار النبيّ بما يجري على الإمام من بعده :

استشفّ النبيّ 6 من وراء الغيب ما يعانيه الإمام من بعده ، وما يجري عليه من صنوف المحن والخطوب فقال له :

« أما إنّك ستلقى بعدي جهدا ».

فانبرى الإمام قائلا :

__________________

(١) نور الأبصار ـ الشبلنجي : ٧٢.

(٢) مستدرك الحاكم ٣ : ١٢٩.

(٣) الاستيعاب ٢ : ٤٦٤.

(٤) تاريخ بغداد ٤ : ٤١٠.


« أفي سلامة من ديني؟ ».

وسارع النبيّ 6 قائلا :

« في سلامة من دينك » (١).

ولم يحفل الإمام بما يواجهه من الأزمات والمصاعب ما دام على ثقة من دينه.

١٨ ـ النبيّ يخبر الإمام بغدر الامّة به :

وأحاط النبيّ 6 وصيّه وباب مدينة علمه الإمام 7 بغدر الامّة به من بعده ، وقد أخبر الإمام 7 بذلك ، فقال :

« والله إنّه لعهد النّبيّ الامّي إليّ أنّ الامّة ستغدر بي » (٢).

وروى حيّان الأسدي قال : سمعت عليّا 7 يقول :

« قال لي رسول الله 6 : إنّ الامّة ستغدر بك بعدي ، وأنت تعيش على ملّتي ، وتقتل على سنّتي ، من أحبّك أحبّني ، ومن أبغضك أبغضني وإنّ هذه ـ وأشار إلى كريمته ـ ستخضب من هذا ، وأشار إلى رأسه » (٣).

لقد غدرت الامّة برائد العدالة الإسلامية الممثّل الأوّل لهدي النبيّ 6 وسيرته فأقصته عن مركزه ، وأبعدته عن مقامه ، وتركته في أرباض بيته يسامر الهموم ، ويعالج البرحاء ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون .. وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض الأحاديث النبوية التي رواها أصحاب الصحاح والسنن عن النبيّ 6 في سموّ منزلة الإمام وعظيم مكانته عنده.

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ : ١٤٠.

(٢) مجمع الزوائد ٩ : ١٣٧.

(٣) مستدرك الحاكم ٣ : ١٤٢. كنز العمّال ٦ : ١٥٧.


الكوكبة الثانية

وننتقل إلى عرض بعض الأخبار التي أثرت عن النبيّ 6 في شأن الإمام عند الله تعالى ، وما أعدّ له من الكرامة.

منزلة الإمام في الدار الآخرة :

وتحدّثت كوكبة من الأخبار التي أثرت عن النبيّ 6 فيما أعدّ الله تعالى من الكرامة للإمام في الدار الآخرة ، وهذه بعضها :

١ ـ الإمام حامل لواء الحمد :

وتظافرت الأخبار الصحاح عن النبيّ أنّ الإمام في يوم القيامة يمنحه الله تعالى شرف حمل لواء الحمد ، وهو وسام لم يمنح لغيره ، وهذه بعض الأخبار :

أ ـ قال 6 لعليّ 7 : « أنت أمامي يوم القيامة ، فيدفع لي لواء الحمد فأدفعه إليك ، وأنت تذود النّاس عن حوضي » (١).

ب ـ روى ابن عبّاس قال : سمعت عمر بن الخطّاب يقول : كفّوا عن ذكر عليّ ابن أبي طالب ، فلقد رأيت من رسول الله 6 فيه خصالا لأن تكون لي واحدة منهنّ في آل الخطّاب أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس ، كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة في نفر من أصحاب رسول الله 6 فانتهينا إلى باب أمّ سلمة ، وعليّ قائم على الباب ، فقلنا : أردنا رسول الله 6 ، فقال : « يخرج إليكم » ، فخرج رسول الله 6 فسرنا إليه ، فاتّكأ على عليّ بن أبي طالب ، ثمّ ضرب بيده على منكبه ، وقال له :

« إنّك مخاصم تخاصم ... أنت أوّل المؤمنين إيمانا ، وأعلمهم بأيّام الله ، وأوفاهم بعهده ، وأقسمهم بالسّويّة ، وأرأفهم بالرّعيّة ، وأعظمهم رزيّة ، وأنت

__________________

(١) كنز العمّال ٦ : ٤٠٠.


عاضدي ، وغاسلي ، ودافني ، والمتقدّم إلى كلّ شدّة وكريهة ، ولن ترجع بعدي كافرا ، وأنت تتقدّمني بلواء الحمد ، وتذود عن حوضي » (١).

حكى هذا الحديث بعض الصفات الماثلة في الإمام أمير المؤمنين 7 ، والتي منها :

ـ إنّ الإمام أوّل الناس إسلاما ، وأقدمهم إيمانا.

ـ إنّه أعلم المسلمين وأكثرهم إحاطة بأيام الله تعالى ، بل وفي أحكامه.

ـ إنّه أوفى الناس بالعهد.

ـ إنّه أسمى وأجلّ حاكم في دنيا الإسلام ، فهو الذي يقسّم بالسوية ولا يخضع لأيّة عاطفة أو هوى سوى مرضاة الله تعالى.

ـ إنّه أرأف حاكم بالرعية.

ـ إنّه من أعظم المسلمين رزية وبلاء ، فقد أحاطت به الرزايا بعد وفاة النبيّ 6 ، والتي سنتحدّث عنها في بعض فصول الكتاب.

ـ إنّه عضد النبيّ 6 ، والقائم بجميع شئونه ، والتي منها قيامه بغسل النبيّ ودفنه بعد وفاته.

ـ إنّه السابق لكلّ شدّة وكريهة تحلّ بالنبيّ فيكشفها عنه.

ـ إنّه يتقدّم النبيّ 6 يوم الحشر بحمل لواء الحمد.

٢ ـ الإمام صاحب حوض النبيّ :

وتواترت الأخبار عن النبيّ 6 أنّ الإمام 7 هو صاحب حوض النبيّ الذي

__________________

(١) كنز العمّال ٦ : ١١٧.


هو من أعظم أنهار الجنّة في عذوبة مائه وحلاوته ، وجمال منظره ، ولا يفوز بالشرب منه إلاّ من كان مواليا ومحبّا للإمام 7 ، ولننظر إلى بعض الأخبار التي وردت فيه :

أ ـ قال رسول الله 6 : « عليّ بن أبي طالب صاحب حوضي يوم القيامة ، فيه أكواب كعدد نجوم السّماء ، وسعة حوضي ما بين الجابية وصنعاء » (١).

ووصف السيّد الحميري هذا الحوض وقد حانه الذي يمنحه الله تعالى للإمام بقوله :

حوض له ما بين صنعا إلى

أيلة أرض الشّام أو أوسع

ينصب فيه علم للهدى

و حوض من ماء له مترع

فيه أباريق وقد حانه

يذبّ عنها الأنزع الأصلع

يذبّ عنه ابن أبي طالب

ذبّك جربى إبل تشرع (٢)

ب ـ روى أنس بن مالك قال : بعثني رسول الله 6 إلى أبي برزة الأسلمي ، فلمّا حضر عنده قال له وأنا أسمعه :

« يا أبا برزة ، إنّ ربّ العالمين تعالى عهد إليّ في عليّ بن أبي طالب ، فقال ـ أي الله تعالى ـ : عليّ راية الهدى ، ومنار الإيمان ، وإمام أوليائي ، ونور جميع من أطاعني. يا أبا برزة ، عليّ بن أبي طالب معي غدا يوم القيامة على حوضي ، وصاحب لوائي ، ومعي غدا على مفاتيح خزائن جنّة ربّي » (٣).

ج ـ قال رسول الله 6 لعليّ 7 : « أنت أمامي يوم القيامة ، فيدفع إليّ لواء

__________________

(١) مجمع الزوائد ١ : ٣٦٧.

(٢) ديوان الحميري : ٢٦٤.

(٣) تاريخ بغداد ١٤ : ٩٨.


الحمد فأدفعه إليك ، وأنت تذود النّاس عن حوضي » (١).

د ـ روى أبو هريرة أنّ عليّ بن أبي طالب 7 قال لرسول الله 6 : « يا رسول الله ، أيّما أحبّ إليك أنا أم فاطمة؟ ».

قال 6 : « فاطمة أحبّ إليّ منك ، وأنت أعزّ عليّ منها ، وكأنّي بك وأنت على حوضي تذود عنه النّاس ، وأنّ عليه لأباريق مثل عدد نجوم السّماء » (٢).

وهذه الكرامة لم يظفر بها أي أحد من الاسرة النبويّة ولا غيرها من بقيّة الصحابة.

٣ ـ الإمام قسيم الجنّة والنار :

من الأوسمة الشريفة التي قلّدها الرسول 6 إلى باب مدينة علمه الإمام 7 أنّه قسيم الجنّة والنار ، فقد روى ابن حجر أنّ الإمام 7 قال لأعضاء الشورى الذين انتخبهم عمر : « انشدكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله 6 : يا عليّ ، أنت قسيم الجنّة والنّار يوم القيامة غيري؟ » ، فقالوا : اللهمّ لا. وعلّق ابن حجر على هذا الحديث بقوله : معناه ما روي عن الإمام الرضا 7 أنّه 6 قال له ـ أي للإمام ـ : أنت قسيم الجنّة والنار في يوم القيامة ، تقول للنار هذا لي ، وهذا لك (٣).

ومن المؤكّد أنّه لم ينل أحد من أولياء الله ، قبل الإسلام وبعده ، مثل ما ناله الإمام من هذه الكرامة التي لا حدود لأبعادها ، لقد حباه الله تعالى بذلك تقديرا لجهوده وجهاده في سبيل الإسلام ، ونكرانه لذاته ، وتفانيه في خدمة الحقّ.

٤ ـ الاجتياز على الصراط بإجازة من الإمام :

وثمّة مكرمة اخرى حباها الله تعالى لسيّد الوصيّين وإمام المتّقين الإمام أمير

__________________

(١) كنز العمّال ٦ : ٤٠٠.

(٢) مجمع الزوائد ٩ : ١٧٣.

(٣) الصواعق المحرقة : ٧٥.


المؤمنين 7 ، وهي أنّه لا يجتاز أحد على الصراط إلاّ بإجازة وتوقيع منه ، وقد تظافرت الأخبار بذلك ، كان منها :

أ ـ قال رسول الله 6 : « إذا جمع الله الأوّلين والآخرين يوم القيامة ، ونصب الصّراط على جسر جهنّم ، ما جازها أحد حتّى كانت معه براءة (١) بولاية عليّ بن أبي طالب » (٢).

ب ـ روى أنس بن مالك قال : لمّا حضرت وفاة أبي بكر ، قال أبو بكر : سمعت رسول الله 6 يقول : « إنّ على الصّراط لعقبة لا يجوزها أحد إلاّ بجواز من عليّ بن أبي طالب » (٣).

ج ـ روى قيس بن حازم قال : التقى أبو بكر وعليّ بن أبي طالب فتبسّم أبو بكر في وجه عليّ ، فقال له : « ما لك تبسّمت؟ » ، قال : سمعت رسول الله 6 يقول : « لا يجوز أحد على الصّراط إلاّ من كتب له عليّ الجواز » (٤).

٥ ـ الإمام مع النبيّ في الجنّة :

وخصّ الله تعالى الإمام بمكرمة وهي أنّه يكون مع النبيّ 6 في قصره في الجنّة ، وقد أعلن النبيّ 6 ذلك حينما آخى بين أصحابه ، ولم يؤاخ بين عليّ وأحد من أصحابه ، فتأثّر الإمام 7 ، فقال له النبيّ : « والّذي بعثني بالحقّ ما أخّرتك إلاّ لنفسي ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، غير أنّه لا نبيّ بعدي ، وأنت أخي ووارثي » ، فقال له الإمام : « وما أرث منك يا رسول الله؟ » قال :

__________________

(١) البراءة : المنشور.

(٢) الرياض النضرة ٢ : ١٧٢.

(٣) تاريخ بغداد ١٠ : ٣٥٦.

(٤) الرياض النضرة ٢ : ٢٠٩.


« ما ورّثت الأنبياء من قبلي » ، قال : « وما ورّث الأنبياء من قبلك؟ » ، قال : « كتاب ربّهم ، وسنّة نبيّهم ، وأنت معي في قصري في الجنّة مع فاطمة ابنتي ، وأنت أخي ورفيقي » (١).

قال 6 لعليّ : « أما ترضى أنّك معي في الجنّة والحسن والحسين ، وذرّيّتنا خلف ظهورنا ، وأزواجنا خلف ذرّيّتنا ، وشيعتنا عن أيماننا وشمائلنا » (٢).

وأكّد النبيّ 6 ذلك في حديث آخر له فقال للإمام :

« يا عليّ ، أنت أخي وصاحبي ورفيقي في الجنّة » (٣).

وبهذا نطوي الحديث عن بعض ما أثر عن النبيّ 6 فيما أعدّ الله تعالى من المنزلة الكريمة لوصيّه وباب مدينة علمه وسيّد عترته سلام الله عليه.

الأخبار النبوية في فضل العترة

وتواترت الأخبار عن النبيّ 6 في فضل عترته الطاهرة ولزوم مودّتهم والتمسّك بهم ، وهذه بعضها :

حديث الثقلين :

إنّ حديث الثقلين من أروع الأحاديث النبوية ، ومن أصحّها سندا ، ومن أكثرها شيوعا وانتشارا بين المسلمين ، فقد دوّنته الصحاح والسنن ، وتلقّاه العلماء بالقبول ، ومن الجدير بالذكر أنّ النبيّ 6 قد أدلى بهذا الحديث في مواضع متعدّدة كان منها :

__________________

(١) كنز العمّال ٥ : ٤٠.

(٢) الصواعق المحرقة : ٩٦. الرياض النضرة ٢ : ٢٠٩.

(٣) تاريخ بغداد ١٢ : ٢٦٨.


١ ـ روى زيد بن أرقم أنّ النبيّ 6 قال : « إنّي تارك فيكم الثّقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله ، حبل ممدود من السّماء إلى الأرض ؛ وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما » (١).

٢ ـ أعلن النبيّ 6 هذا الحديث وهو في حجّه يوم عرفة ، وقد رواه جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : رأيت رسول الله 6 وهو في حجّه يوم عرفة ، وهو على ناقته القصوى يخطب ، فسمعته يقول : « يا أيّها النّاس ، إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي » (٢).

٣ ـ روى زيد بن أرقم قال : نزل رسول الله 6 الجحفة ، ثمّ أقبل على الناس فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : « إنّي لا أجد لنبيّ إلاّ نصف عمر الّذي قبله ، وإنّي اوشك أن ادعى ، فما أنتم قائلون؟ ».

فهتفوا جميعا : نصحت.

ثمّ وجّه إليهم هذه الكلمات :

« أليس تشهدون أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، وأنّ الجنّة حقّ ، والنّار حقّ؟ ».

سارعوا قائلين : نشهد.

ورفع النبيّ 6 يده فوضعها على صدره الشريف وقال :

« ألا تسمعون؟ ».

نعم.

__________________

(١) صحيح الترمذي ٢ : ٣٠٨.

(٢) صحيح الترمذي ٢ : ٣٠٨. كنز العمّال ١ : ٨٤.


« فإنّي فرط (١) على الحوض ، وأنتم واردون على الحوض ، وأنّ عرضه ما بين صنعاء وبصرى ، فيه أقداح عدد النّجوم من فضّة فانظروا كيف تخلفوني في الثّقلين؟ ».

فناداه من بهو المجلس مناد : وما الثقلان يا رسول الله؟

« كتاب الله طرف بيد الله عزّ وجلّ ، وطرف بأيديكم فتمسّكوا به ، والآخر عشيرتي (٢) ، وإنّ اللّطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فسألت ذلك ربّي ، فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصّروا عنهما ، ولا تعلّموهم فهم أعلم منكم ... ».

ثمّ أخذ بيد أخيه الإمام أمير المؤمنين 7 وقال :

« من كنت أولى به من نفسه فعليّ وليّه ، اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه » (٣).

٤ ـ خاطب النبيّ 6 أصحابه وهو على فراش الموت فقال لهم : « أيّها النّاس ، يوشك أن اقبض قبضا سريعا ، فينطلق بي ، وقد قدّمت إليكم القول معذرة إليكم ألا إنّي مخلّف فيكم كتاب ربّي عزّ وجلّ ، وعترتي أهل بيتي ».

ثمّ أخذ بيد عليّ 7 وقال :

« وهذا عليّ مع القرآن ، والقرآن مع عليّ ، لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض » (٤).

__________________

(١) فرط : المتقدّم قومه إلى الماء.

(٢) في كنز العمّال ١ : ٤٨ : بدل « عشيرتي » لفظ « عترتي ».

(٣) مجمع الهيثمي ٩ : ١٦٣.

(٤) الصواعق المحرقة : ٧٥.


ولا بدّ لنا من وقفة قصيرة للتأمّل والنظر في هذا الحديث سندا ودلالة :

سند الحديث : أمّا هذا الحديث فهو من أوثق الأحاديث النبوية في سنده ، وقد نقل المناوي عن السمهودي أنّه قال : وفي الباب ما يزيد على عشرين من الصحابة كلّهم قد رووا هذا الحديث (١).

وقال ابن حجر : ولهذا الحديث طرق كثيرة عن بعض وعشرين صحابيا (٢) ، ولا يخامر أي باحث شكّ في صحّة الحديث وسلامته من الوضع والضعف.

دلالة الحديث : أمّا دلالة الحديث ومفاده فهي عصمة أهل البيت من كلّ إثم ورجس ، فقد قرنهم الرسول 6 بالكتاب العزيز ، فكما أنّ الكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فكذلك العترة ، وإلاّ لما صحّت المقارنة بينهما ، فالحديث يدلّ ـ بوضوح ـ على عصمة أهل البيت : ، ومن الطبيعي أنّ أي انحراف في سلوك أهل البيت يعدّ افتراقا عن الكتاب العزيز ، وقد صرّح النبيّ 6 بعدم افتراقهما حتى يردا عليه الحوض.

إنّ البحث عن معطيات هذا الحديث الشريف يستدعي وضع كتاب خاصّ فيه ، وقد عرض جماعة من العلماء إلى البحث عنه بصورة موضوعيّة وشاملة (٣).

حديث السفينة :

روى أبو سعيد الخدري قال : سمعت النبيّ 6 يقول : « إنّما مثل أهل بيتي

__________________

(١) فيض القدير ٣ : ١٤.

(٢) الصواعق المحرقة : ٣٦.

(٣) عرض لذلك الإمام شرف الدين في المراجعات : ٤٩. الحجّة السيّد الحكيم في الاصول العامّة : ١٦٤ ، وألّفت دار التقريب في القاهرة رسالة خاصّة في هذا الحديث عرضت فيه لرواته وسنده.


فيكم كسفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق ، وإنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل ، من دخله غفر له » (١).

حكى هذا الحديث الشريف لزوم التمسّك بالعترة الطاهرة فإنّ فيه نجاة للامّة وسلامة من الغرق في متاهات هذه الحياة ، فأهل البيت : سفن النجاة وأمن العباد ، يقول الإمام شرف الدين نضّر الله مثواه :

وأنت تعلم أنّ المراد من تشبيههم : بسفينة نوح أنّ من لجأ إليهم في الدارين فأخذ فروعه واصوله عن أئمّتهم نجا من عذاب النار ، ومن تخلّف عنهم كان كمن أوى يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر الله غير أنّ ذاك غرق في الماء ، وهذا في الحميم ، والعياذ بالله.

والوجه في تشبيههم : بباب حطّة هو أنّ الله تعالى جعل ذلك الباب مظهرا من مظاهر التواضع لجلاله ، والبخوع لحكمه ، وبهذا كان سببا للمغفرة. هذا وجه الشبه ، وقد حاول ابن حجر إذ قال ـ بعد أن أورد هذه الأحاديث وغيرها من أمثالها ـ :

ووجه تشبيههم بالسفينة أنّ من أحبّهم ، وعظّمهم شكرا لنعمة شرفهم ، وأخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات ، ومن تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم ، وهلك في مفاوز الطغيان ـ إلى أن قال ـ : « وباب حطّة » يعني وجه تشبيههم بباب حطّة ، أنّ الله تعالى جعل دخول ذلك الباب الذي هو باب أريحا أو بيت المقدّس مع التواضع والاستغفار سببا للمغفرة ، وجعل لهذه الامّة مودّة أهل البيت سببا لها (٢).

__________________

(١) مجمع الزوائد ٩ : ١٦٨. المستدرك ٢ : ٤٣. تاريخ بغداد ٢ : ١٢٠. الحلية ٤ : ٣٠٦.

الذخائر : ٢٠.

(٢) مستدرك الحاكم ٣ : ١٤٩. كنز العمّال ٦ : ١١٦. وفي فيض القدير ٦ : ٢٩٧. ومجمع الزوائد ٩ : ١٧٤ : إنّ النبيّ قال : « النجوم أمان لأهل الأرض ، وأهل بيتي أمان لأمّتي ».


أهل البيت أمان للامّة :

وفرض النبيّ 6 مودّة أهل بيته على امّته ، وجعل التمسّك بهم أمان لها من الهلاك ، قال 6 :

« النّجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لامّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتهم قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس » (١).

النبيّ سلم لمن سالم أهل بيته :

وأعلن النبيّ 6 في كثير من أحاديثه أنّه 6 سلم لمن سالم أهل بيته ، وحرب لمن حاربهم ، قال 6 لعليّ وفاطمة والحسن والحسين : « أنا حرب لمن حاربتم ، وسلم لمن سالمتم » (٢).

وروى أبو بكر قال : رأيت رسول الله 6 وهو متّكئ على قوس عربية وفي الخيمة عليّ وفاطمة والحسن والحسين : ، فقال : « معاشر المسلمين ، أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة ، وحرب لمن حاربهم ، ووليّ لمن والاهم ، لا يحبّهم إلاّ سعيد الجدّ ، ولا يبغضهم إلاّ شقيّ الجدّ رديء الولادة » (٣).

ومعنى الحديثين أنّ النبيّ 6 جعل أهل بيته بمنزلة نفسه ، فهو سلم لمن سالمهم وحرب لمن حاربهم.

__________________

(١) الرياض النضرة ٢ : ٢٥٢ ، وقريب منه في صحيح الترمذي ٢ : ٣١٩. سنن ابن ماجة ١ : ٥٢.

(٢) مسند أحمد ١ : ٧٧. صحيح الترمذي ٢ : ٣٠١ ، حدّث بهذا الحديث نصر بن عليّ في أيام المتوكّل فنقل : فأمر بضربه ألف سوط فكلّمه فيه جعفر بن عبد ، وقال له : إنّه من أهل السنّة حتى عفا عنه ـ تهذيب التهذيب ١٠ : ٤٣.

(٣) فرائد السمطين ٢ : ٤٠ ، ح ٣٧٣. شرح الأخبار ٣ : ٥١٥.


من أحبّ أهل البيت كان مع النبيّ :

أعلن النبيّ 6 أنّ من أحبّ أهل بيته حشر معه في الفردوس الأعلى ، قال 6 وقد أخذ بيد الحسن والحسين : « من أحبّني وأحبّ هذين وأباهما كان معي في درجتي يوم القيامة » (١).

معرفة أهل البيت أمان من العذاب :

قال 6 : « معرفة آل محمّد براءة من النّار ، وحبّ آل محمّد جواز على الصّراط ، والولاية لآل محمّد أمان من العذاب » (٢).

السؤال عن محبّة أهل البيت :

قال رسول الله 6 : « لا تزول قدما عبد ـ يوم القيامة ـ حتّى يسأل عن أربع : عن عمره فيم أفناه ، وعن جسده فيم أبلاه ، وعن ماله فيم أنفقه ومن أين اكتسبه ، وعن محبّتنا أهل البيت » (٣).

الاقتداء بأهل البيت :

قال 6 : « اجعلوا أهل بيتي منكم مكان الرأس من الجسد ، ومكان العينين من الرّأس ، ولا يهتدي الرّأس إلاّ بالعينين » (٤).

وقال 6 : « من سرّه أن يحيا حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنّة عدن غرسها ربّي فليوال عليّا من بعدي ، وليوال وليّه ، وليقتد بأهل بيتي من بعدي ، فإنّهم عترتي خلقوا من طينتي ، ورزقوا من فهمي وعلمي ، فويل للمكذّبين بفضلهم

__________________

(١) مسند أحمد ١ : ٧٧. كنز العمّال ١٢ : ٩٧ و ١٣ : ٣٩.

(٢) المراجعات ـ الإمام الأعظم شرف الدين : ٥٤.

(٣) المراجعات : ١٥٨.

(٤) المراجعات : ٥٨ ، نقلا عن الشرف المؤبّد.


من أمّتي ، القاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم شفاعتي » (١).

الممات على حبّ أهل البيت :

قال رسول الله 6 : ألا من مات على حبّ آل محمّد مات شهيدا ، ألا من مات على حبّ آل محمّد مات مغفورا له ، ألا من مات على حبّ آل محمّد مات تائبا ، ألا من مات على حبّ آل محمّد مات مؤمنا مستكملا للإيمان ، ألا من مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنّة ثمّ منكر ونكير ، ألا من مات على حبّ آل محمّد يزفّ الى الجنّة كما تزفّ العروس إلى بيت زوجها ، ألا من مات على حبّ آل محمّد فتح له فى قبره بابان إلى الجنّة ، ألا من مات على حبّ آل محمّد جعل الله قبره مزار ملائكة الرّحمن ، ألا من مات على حبّ آل محمّد مات على السّنّة والجماعة ، ألا من مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه « آيس من رحمة الله » (٢).

هذه بعض الأحاديث التي روتها الثقات ودوّنتها الصحاح والسنن عن النبيّ 6 ، وهي تشيد بفضل عترته الطيّبين دعاة العدل والأدلاّء على مرضاة الله.

والمتأمّل في هذه الأحاديث يطلّ على الغاية المنشودة للنبيّ 6 أنّ غرضه ترشيحهم للخلافة العظمى من بعده حتى لا تزيغ امّته في مسيرتها ، ولا تنحرف في سلوكها عمّا أراده الله لها من السيادة العامّة على جميع امم العالم وشعوب الأرض.

وعلى أي حال فهذه الأخبار التي وردت في فضل عترة النبيّ 6 شاملة لسيّد العترة الطاهرة الإمام أمير المؤمنين 7 رائد العدالة الاجتماعية في دنيا الإسلام ، وبهذا ينتهي بنا المطاف في هذا البحث.

__________________

(١) المراجعات : ٥٨ ، نقلا عن الشرف المؤبّد.

(٢) المراجعات : ٥٩ ، نقلا عن الثعلبي في تفسير آية المودّة.


مع الثّورة الإسلاميّة



إنّ الثورة الإسلامية الكبرى أعظم ثورة إصلاحية عرفتها الإنسانية في جميع مراحل تأريخها ... إنّها ثورة الفكر ، وثورة القيم الكريمة على التخلّف والانحطاط ، إنّها ثورة العلم على الجهل ، وثورة الفقراء والمستضعفين على أسيادهم المستعبدين .. إنّها الثورة العظمى التي أقامت هيكلا رفيعا للتطوّر والابداع في جميع مراحل هذه الحياة.

إنّ الثورة الإسلامية العظمى التي فجرّها الرسول 6 في مكّة قد أوجدت زلزالا مدمّرا للحياة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية في ذلك المجتمع الذي كان فيه ، وكانت أشدّ هولا ، وأعظم محنة على طغاة القرشيّين ، فقد استهدفت تدمير معتقداتهم ، وإقصاء عاداتهم وتقاليدهم التي كانوا يؤمنون بها ، ودعتهم إلى نظام مشرق جديد يفتح لهم آفاقا من العزّة والكرامة لم يألفوها ، ولم يحلموا بها من قبل ، وهذه صور مشرقة من بنود الثورة الإسلامية.

١ ـ تحطيم الأصنام :

أمّا الأصنام فكانت مسرحا للحياة الفكرية والعقائدية في مكّة وما جاورها ، فقد اتّخذها المجتمع آلهة يعبدونها من دون الله تعالى ، وقد علّقت على جدران الكعبة ما يزيد على ثلاثمائة صنم ، وكان أعظمها مكانة وأعزّها شأنا عندهم الأصنام التالية :

ـ هبل.


ـ اللاّت.

ـ عزّى.

ـ مناة.

وكانت هذه الأصنام آلهة لمعظم أهالي مكّة ، فقد نشئوا على عبادتها ، وفطروا على الإيمان بها ، واعتقدوا اعتقادا جازما أنّها خالقة الكون وواهبة الحياة ، وقد تفانوا في عبادتها مقلّدين لآبائهم الذين هم كالأنعام بل أضلّ سبيلا.

وكان أوّل ما أعلنه الرسول 6 في دعوته الخلاّقة الدعوة إلى عبادة الله تعالى خالق الكون وواهب الحياة ، وتدمير الأصنام التي لا تعي ولا تعقل ، والتي تمثّل الانحطاط الفكري ، وتلحق الإنسان بقافلة الحيوان الأعجم.

وكان من أشدّ المؤمنين بالأصنام ، والمتفانين في الولاء لها الجاهلي أبو سفيان عميد الاسرة الامويّة ، وشيخ القرشيّين ، وهو الذي فزع كأشدّ ما يكون الفزع حينما رأى النبيّ 6 يطوف حول الكعبة ، ويقرأ نشيد الإسلام :

« لبّيك اللهمّ لبّيك ، لبّيك لا شريك لك ، إنّ الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبّيك ».

فقد إهابه ، وصاح بأعلى صوته :

اعل هبل.

فردّ عليه النبيّ 6 بعنف :

« يا أبا سفيان ، الله أعلى وأجلّ ».

وكان من شدّة إيمان القرشيّين بالأصنام أن خفّ إلى النبيّ 6 عصابة منهم


فعرضوا عليه أن يعبد أصنامهم سنة ، ويعبدون الله تعالى معه سنة اخرى ، فنزلت على الرسول سورة : ( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ... ) (١).

لقد فزعت قريش وضاقت بها الأرض حينما أعلن الرسول 6 دعوته لسحق الأصنام وتدميرها وتطهير البيت الحرام منها ، واعتبروا ذلك تحطيما لكيانهم العقائدي فهبّوا جميعا لمناجزة الرسول ومقاومته ، وحاربوه بجميع طاقاتهم ، وما يملكونه من وسائل القوّة.

٢ ـ تحرير العبيد والمستضعفين :

أمّا العبيد في العصر الجاهلي فهم المعذّبون في الأرض ، قد نبذهم المجتمع واحتقرهم ، ولم ير لهم أي كيان ، وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ممّا عانوه من صنوف الذلّ والعبودية ، وتبنّى النبيّ 6 قضاياهم ، ودعى إلى تحريرهم ومساواتهم لبقيّة أبناء المجتمع ، وقد بشّرهم بأنّهم سيكونون مع المستضعفين أسياد المجتمع ، وكان من بينهم بلال الحبشي ، وعمّار بن ياسر وأبوه ياسر ، وامّه سميّة ، وعبد الله بن مسعود ، وغيرهم من المؤمنين الذين ألهبت أجسامهم سياط القرشيّين.

لقد دوى صوت الرسول 6 في آفاق مكّة إنه « لا فضل لأبيض على أسود إلاّ بالتّقوى ».

وقد ورمت آناف سادات العبيد من القرشيّين وانتفخ سحرهم من دعوة النبيّ 6 بأنّ عبيدهم سينعمون بالحرية الكاملة ، وأنّهم سيكونون سادة لهم فهبّوا متضامنين أجمعين اكتعين لمناجزته ، والاجهاز على دعوته.

__________________

(١) الكافرون : ١ ـ ٣.


٣ ـ تحرير المرأة :

أمّا المرأة في العصر الجاهلي فقد عانت من القسوة والظلم ما لا يوصف لمرارته وشدّته ، فقد استهان بها العرب ، وحمّلوها من أمرها رهقا ، وكان من مظاهر ظلمها ما يلي :

أ ـ وأد البنات :

وكان من الظلم الفاحش للمرأة في العصر الجاهلي أنّه إذا ولد لشخص بنت ظلّ وجهه مسودّا وهو كظيم ، كما حكى القرآن ذلك بقوله : ( وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) (١) ، والأدهى من ذلك وأشدّ بلاء أنّ بعضهم كان يسارع إلى وأد ابنته وهي حيّة ، وقد نعى القرآن عليهم ذلك بقوله تعالى : ( وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) (٢) ، وكانت هذه البادرة القاسية شائعة عند بعض القبائل كربيعة وكندة وتميم وغيرهم ، ومن الأمثال الشائعة : دفن البنات من المكرمات.

ب ـ حرمانها من الميراث :

أمّا المرأة في العصر الجاهلي فلا ترث زوجها وأباها وسائر أقربائها ، ولا حظّ لها من الميراث مطلقا .. وقد انتصر لها الإسلام ، وفتح لها آفاقا كريمة من الحياة الرفيعة ، وشرّع لها من الحقوق بما لم يقنّنه أي نظام قديما ولا حديثا ، فقد ساوى بينها وبين الرجل مساواة كاملة في جميع الحقوق والواجبات ، وجعلها مسئولة عن حماية الجيل ، وصيانته من التلوّث بالجرائم والموبقات ، وأوجب على الزوج القيام بالإنفاق عليها ، وجعلها ترث وتورّث ، وفرض عليها التفقّه في الدين ،

__________________

(١) النحل : ٥٨.

(٢) التكوير : ٨ ـ ٩.


وطلب العلم ، كما جعل لها الحرية في اختيار الزوج ، ولكن بمشاركة أبيها إذا كانت باكرا ـ كما ذهب إلى ذلك بعض الفقهاء ـ ؛ لأنّه أدرى منها بمعرفة الرجال خوفا أن يكون ما اختارته شاذّا في سلوكه ومنحرفا في شخصيّته وهي لا تعلم ذلك ، إلى غير ذلك من الحقوق الكاملة التي قنّنها الإسلام لها ، وكانت معاملة الإسلام للمرأة بهذه الصورة من الاحتفاء والتكريم غريبة على العرف الجاهلي ، لم يألفوها ، فقد جافت تقاليدهم وعاداتهم.

ج ـ الزواج بأرملة الأب :

من عادات الجاهلية التي حرّمها الإسلام أنّ الرجل منهم إذا توفّي قام أكبر أولاده فألقى ثوبه على امرأة أبيه ، وورث بذلك نكاحها ، فإذا لم يكن له إرب فيها زوّجها من بعض اخوته أو غيرهم ، وأخذ مهرها ، وقد حرّم الإسلام زواج ولد الميّت بها قال تعالى : ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (١).

وكانوا يتوارثون النساء كما يتوارثون الأموال ، وكان زواجهنّ بيد آبائهنّ واخوانهنّ ، فإن شاءوا زوّجوهنّ وأخذوا صداقهنّ ، وإن شاءوا تركوهنّ عوانس أو يفدين أنفسهن بالمال ، وقد حرّرهن الإسلام من هذه القيود والأغلال ، وبنى لهنّ اطارا من العزّة والكرامة ما لم يحلمن به.

٤ ـ المساواة بين الناس :

من المبادئ العليا التي تبنّاها الإسلام المساواة العادلة بين جميع أبناء البشر على اختلاف جنسياتهم وقوميّاتهم ، فلا فرق بين حاكم ومحكوم ، ولا بين غني وفقير ، فالناس كلّهم متساوون أمام القانون وفي الحقوق والواجبات والمسئوليات ، لا امتياز لقوم على آخرين ، وكانت هذه المساواة لذيذة ومقدّسة عند المستضعفين

__________________

(١) النساء : ٢٢.


والبؤساء ، فآمنوا بالإسلام إيمانا مطلقا ، يقول الرسول الأعظم 6 : « لا فضل لعربيّ على عجميّ ، ولا لأبيض على أسود إلاّ بالتّقوى ».

وقد نفرت جبابرة قريش وساداتها من هذه المساواة ، فكانوا يرون أنّهم سادة المجتمع وأشرف من بقيّة القوميّات ، فلذا هبّوا لمناجزة الرسول 6 وتعذيب من آمن به من عبيدهم وأبنائهم ونسائهم.

٥ ـ حماية الحقوق :

من القيم الخلاّقة التي رفع شعارها الإسلام حماية حقوق الناس والأخذ بظلامة الضعيف من القويّ ، وليس لأي أحد سلطان على أحد ، وإنّما الجميع سواسية أمام القانون ، وفزعت قريش من ذلك ، وجنّدت جميع طاقاتها لمحاربة الإسلام.

٦ ـ تحريم الربا :

واصطدمت دعوة الرسول 6 بمصالح الرأسماليّين من قريش الذين كانوا يعتمدون في معاملاتهم وتجارتهم على الربا ، وقد انتشر بصورة هائلة في مكّة ، وكان ممّن يتعاطاه العباس بن عبد المطّلب ، وقد حرّمه النبيّ 6 تحريما باتّا ؛ لأنّه يوجب تكدّس الثراء العريض عند فئة من الناس وشيوع الفقر والحاجة عند الأكثرية الساحقة ، وقد ذعر أصحاب رءوس الأموال من دعوة الرسول وناجزوه بجميع ما يملكون من قوّة.

٧ ـ تحريم الخمر :

أمّا الخمر فكان شائعا في العصر الجاهلي ، ومنتشرا عند جميع الأوساط ، ولمّا حرّمه الإسلام أوجد ضجّة واصطدم مع ملذّاتهم وعاداتهم ، وأضمروا في نفوسهم الحقد على النبيّ 6.


٨ ـ تحريم الاستغلال :

وحرّم الإسلام استغلال الإنسان لأخيه الإنسان ، والاستيلاء على جهوده وأتعابه مجّانا وبلا عوض ، فإنّ ذلك ممّا يؤدّي إلى إشاعة الفقر والحاجة في المجتمع.

٩ ـ إقصاء الفقر :

من المبادئ التي رفع شعارها الرسول 6 إقصاء الفقر وإزالته عن المجتمع ، واعتبره كالكافر في وجوب مكافحته ، وأنّه كارثة مدمرة ومصدر لكلّ جريمة وموبقة تقع في البلاد ، ففرض الضرائب في أموال الأغنياء والتي من أهمّها الزكاة ، وجعل الدولة مسئولة عن جبايتها وتوزيعها على الفقراء ، كما فرض لهم التكافل الاجتماعي ، والتضامن الاجتماعي وغيرهما من مبيد الفقر.

١٠ ـ إشاعة العلم :

من المبادئ التي تبنّاها الرسول 6 إشاعة العلم ونشره بين الناس ، وإقصاء الجهل ، وقد جعل طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ، وأهاب بالمسلمين أن يرفعوا عنهم كابوس الجهل ، وينمّوا عقولهم بالعلم ؛ لأنّه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقوم لهم قائمة وهم يرسفون في قيود الجهل ، وقد عرضنا إلى بحوث مهمّة في هذا الموضوع في كتابنا « النظام التربوي في الإسلام ».

هذه بعض المثل الكريمة والمبادئ الرفيعة التي رفع شعارها النبيّ 6 ، ولم يفهمها المجتمع القرشي في مكّة ، فكانت غريبة عليه ، فاندفع بجميع قواه إلى مناهضتها وإطفاء نورها.

الإمام يصف الإسلام :

ووصف الإمام الإسلام وصفا رائعا وملمّا بواقعه في كثير من خطبه وكلماته


كان منها ما يلي :

١ ـ قال 7 :

ثمّ إنّ هذا الإسلام دين الله الّذي اصطفاه لنفسه ، واصطنعه على عينه ، وأصفاه خيرة خلقه ، وأقام دعائمه على محبّته.

أذلّ الأديان بعزّته ، ووضع الملل برفعه ، وأهان أعداءه بكرامته ، وخذل محادّيه (١) بنصره ، وهدم أركان الضّلالة بركنه (٢).

أرأيتم هذا الوصف الكامل الدقيق للإسلام! فهو دين الله تعالى الذي اصطفاه ووهبه لعباده يقيم أودهم ويصلح شئونهم ويهديهم للتي هي أقوم.

٢ ـ قال 7 :

الحمد لله الّذي شرع الإسلام فسهّل شرائعه لمن ورده ، وأعزّ أركانه على من غالبه ، فجعله أمنا لمن علقه (٣) ، وسلما لمن دخله ، وبرهانا لمن تكلّم به ، وشاهدا لمن خاصم عنه ، ونورا لمن استضاء به ، وفهما لمن عقل ، ولبّا لمن تدبّر ، وآية لمن توسّم ، وتبصرة لمن عزم ، وعبرة لمن اتّعظ ، ونجاة لمن صدّق ، وثقة لمن توكّل ، وراحة لمن فوّض ، وجنّة لمن صبر.

فهو أبلج المناهج ، وأوضح الولائج ؛ مشرف المنار ، مشرق الجوادّ ، مضيء المصابيح ، كريم المضمار ، رفيع الغاية ، جامع الحلبة ، متنافس

__________________

(١) المحادي : الشديد المخالفة.

(٢) نهج البلاغة ـ محمّد عبده ٢ : ١٧٤.

(٣) علقه : أي من تعلّق به.


السّبقة ، شريف الفرسان. التّصديق منهاجه ، والصّالحات مناره ، والموت غايته ، والدّنيا مضماره ، والقيامة حلبته ، والجنّة سبقته (١).

ولقد وعى الإمام 7 الإسلام ، وآمن بقيمه وأهدافه ، فوصفه هذا الوصف الرائع الذي أحاط بمقوّماته ومكوّناته.

الإمام أوّل من صلّى مع النبيّ :

والشيء المحقّق عند الرواة والمحقّقين هو أنّ الإمام أمير المؤمنين 7 هو أوّل من آمن وصلّى مع النبيّ 6 في البيت الحرام (٢) ، وقد نقل المؤرّخون بعض من شاهد صلاته مع النبيّ 6 وهم :

١ ـ عفيف الكندي :

روى عفيف الكندي قال :

جئت في الجاهلية إلى مكّة ، وأنا اريد أن ابتاع لأهلي من ثيابها وعطرها ، فأتيت العبّاس بن عبد المطلب ، وكان تاجرا ، فأنا عنده جالس انظر إلى الكعبة ، وقد حلّقت الشمس في السماء فارتفعت وذهبت إذ جاء شاب فرمى ببصره إلى السماء ثمّ قام مستقبلا الكعبة ، ثمّ لم يلبث إلاّ يسيرا حتّى جاء غلام فقام على يمينه ، ثمّ جاءت امرأة فقامت خلفهما ، فركع الشاب فركع معه الغلام والمرأة ، ثمّ رفع الشاب رأسه فتابعه الغلام والمرأة ، وسجد الشاب فسجد معه الغلام والمرأة ، فقلت متعجّبا :

__________________

(١) نهج البلاغة ١ : ٢٣١.

(٢) صحيح الترمذي ٢ : ٣٠٠. تاريخ الطبري ٢ : ٥٥. البداية والنهاية ٣ : ٢٧. مستدرك الحاكم ٣ : ١١٢. شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٤ : ١٦٩.


يا عبّاس ، أمر عظيم!! وطفق العباس قائلا :

نعم ، أمر عظيم!! أتدري من هذا الشاب؟

لا.

هذا محمّد بن عبد الله ابن أخي ، أتدري من هذا الغلام؟ هذا عليّ ابن أخي ، أتدري من هذه المرأة؟ هذه خديجة بنت خويلد زوجته. إنّ ابن أخي هذا ـ وأشار إلى محمّد 6 ـ أخبرني أنّ ربّه ربّ السماء والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه ، لا والله ما على الأرض كلّها أحد على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة (١).

٢ ـ عبد الله بن مسعود :

روى عبد الله بن مسعود قال : إنّ أوّل شيء علمته من أمر رسول الله 6 قدمت مكّة مع عمومة لي فأرشدونا إلى العبّاس بن عبد المطّلب ، فانتهينا إليه وهو جالس إلى زمزم ، فجلسنا إليه ، فبينا نحن عنده إذ أقبل رجل من باب الصفا أبيض تعلوه حمرة ، له وفرة جعدة إلى أنصاف اذنيه ، أقنى الأنف ، برّاق الثنايا ، أدعج العينين ، كثّ اللحية ، دقيق المسربة ، شثن الكفّين والقدمين ، عليه ثوبان أبيضان ، كأنّه القمر ليلة البدر ، يمشي عن يمينه غلام أمرد حسن الوجه ، مراهق أو محتلم ، تقفوه امرأة قد سترت محاسنها ، حتى قصد نحو الحجر فاستلمه ، ثمّ استلمه الغلام ، ثمّ استلمته المرأة ، ثمّ طاف بالبيت سبعا ، والغلام والمرأة يطوفان معه.

قلنا : يا أبا الفضل ، إنّ هذا الدين لم نكن نعرفه فيكم ، أو شيء حدث؟

__________________

(١) خصائص النسائي : ٣. مسند أحمد ١ : ٣٠٩. طبقات ابن سعد ٨ : ١٠.


فقال العبّاس : هذا ابن أخي محمّد 6 ، والغلام عليّ بن أبي طالب ، والمرأة خديجة ، وتابع ابن مسعود حديثه قائلا :

أما والله! ما على وجه الأرض من أحد نعلمه يعبد الله بهذا الدين إلاّ هؤلاء الثلاثة (١).

وهذه الفضيلة للإمام 7 لم يفز بها أحد غيره من الصحابة وغيرهم ، وقد اعترف بها سعد بن أبي وقّاص مع انحرافه عن الإمام ، فقد اجتاز على قوم مجتمعين على فارس وهو يسبّ الإمام فبادر إليه سعد قائلا :

يا هذا ، على ما تشتم عليّ بن أبي طالب؟ ألم يكن أوّل من أسلم؟ ألم يكن أوّل من صلّى مع رسول الله 6؟ ألم يكن أزهد الناس؟ ألم يكن أعلم الناس؟ ألم يكن ختن رسول الله 6 على ابنته؟ ألم يكن صاحب راية رسول الله 6 في غزواته؟

واستقبل سعد القبلة ، ورفع يديه بالدعاء ، وقال : اللهمّ إنّ هذا يشتم وليّا من أوليائك فلا تفرّق هذا الجمع حتى تريهم قدرتك ، ولم يلبثوا يسيرا حتى نفرت به دابته فرمته على هامته في تلك الأحجار فانفلق دماغه (٢).

الإمام مع النبيّ في بداية دعوته :

وواكب الإمام 7 الرسول 6 في بداية دعوته ، وكان في فجر الصبا وروعة الشباب ، وقد آمن بوعي وفكر برسالة الإسلام ، وانطبعت في دخائل نفسه ، وأعماق ذاته ، وحينما أمر الرسول 6 بتبليغ رسالة ربّه إلى عشيرته بهذه الآية : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (٣) دعا الإمام وأخبره بما امر به من تبليغ الدعوة

__________________

(١) مجمع الهيثمي ٩ : ٢٢٤. كنز العمّال ٧ : ٥٦.

(٢) مستدرك الحاكم ٣ : ٤٩٩.

(٣) الشعراء : ٢١٤.


المباركة إلى عشيرته الأقربين ، وأحاطه علما أنّهم لا يستجيبون له ، ولا يؤمنون برسالته ، ولكنّه مأمور بذلك لإقامة الحجّة عليهم ، فأعدّ لهم وليمة وشرابا من لبن ، وسارع الإمام إلى دعوتهم فاستجابوا له ، وكان فيهم من أعمامه مؤمن قريش أبو طالب وحمزة والعبّاس وأبو لهب ، ولمّا حضروا قدّم لهم الإمام الطعام ، فتناول النبيّ 6 قطعة من اللحم فشقّها بأسنانه ، وألقاها في نواحي الصفحة ، وقال لهم : « خذوا بسم الله » ، فأكلوا جميعا ، والطعام باق على حاله ، وكان الرجل يأكل مقدار ما في الصفحة إلاّ أنّها ببركة النبيّ 6 لم ينقص منها شيء ، وبادر الإمام فسقاهم اللبن حتى ارتووا.

وقام النبيّ 6 فدعاهم إلى اعتناق الإسلام ونبذ الأصنام ، فقطع الأثيم أبو لهب كلامه ، وخاطب المجتمعين قائلا :

لقد سحركم.

فتفرّقوا بين مستهزء وساخر ، ولم يحدّثهم النبيّ 6 شيئا ، فقد قطع أبو لهب عليه كلامه ، وفي اليوم الثاني دعاهم النبيّ 6 إلى تناول الطعام فأكلوا وشربوا وانبرى النبيّ خطيباً فقال :

« يا بني عبد المطّلب ، إنّي والله ما أعلم شابّا في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به ، إنّي قد جئتكم بخير الدّنيا والآخرة ، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه ، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟ ».

فأحجم القوم كلّهم ولم ينبس أحد منهم ببنت شفة كأنّ على رءوسهم الطير ، ولم يجبه أحد منهم ، فانبرى إليه الإمام أمير المؤمنين فقال له بحماس :

« أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عليه ».

فأخذ النبيّ 6 برقبته ، وخاطب القوم قائلا :


« إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ».

وتعالت أصوات اولئك الأقزام بالسخرية والاستهزاء قائلين لأبي طالب :

قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع (١).

وهذا الحديث من أوضح الأدلّة ، ومن أكثرها بيانا وعطاء على إمامة الإمام أمير المؤمنين ، وأنّه وزير النبيّ 6 وخليفته الشرعي من بعده على امّته.

لقد قرن النبيّ 6 دعوته إلى التوحيد بالدعوة إلى الخلافة والوزارة والإمامة من بعده ، وقلّدها إلى الإمام أمير المؤمنين 7 ، فهو أوّل من آمن بالرسول 6 ، وأجاب دعوته ، وصدّق برسالته ، والذي ينكر ذلك فليس برشيد.

ووصف الشاعر الملهم السيّد الحميري دعوة النبيّ 6 اسرته إلى الإسلام ، ونكوصهم عن إجابته ، وإيمان الإمام بها بقوله :

ويوم قال له جبريل قد علموا

أنذر عشيرتك الأدنين إن بصروا

فقال يا قوم إنّ الله أرسلني

إليكم فأجيبوا الله وادّكروا

فأيّكم يجتبي قولي ويؤمن بي

أنّي نبيّ رسول فانبروا غدر

فقال تبّا أتدعونا لتلفتنا

عن ديننا ثمّ قام القوم فاشتمروا

من الذي قال منهم وهو أحدثهم

سنّا وخيرهم في الذّكر إذ سطروا

آمنت بالله قد اعطيت نافلة

لم يعطها أحد جنّ ولا بشر (٢)

__________________

(١) تاريخ الطبري ٢ : ٦٣. تاريخ ابن الأثير ٢ : ٢٤. مسند أحمد ١ : ٦٣. ومن الغريب أنّ ابن كثير في تفسيره ذكر الحادثة ، وكتب على كلام النبيّ : « أيّكم يوازرني ليكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم » كتب يقول : أيّكم يوازرني على أن يكون كذا وكذا ، وكذلك كتب على قول : النبيّ : « هذا أخي ووصيّي ... إلخ » أيّكم يوازرني على أن يكون كذا وكذا ، قاتل الله هذه العصبية التي تنمّ عن نفس لا علاقة لها بالواقع ولا صلة لها بالتعبّد بقول النبيّ.

(٢) ديوان الحميري : ٢٠٣.


وقال الحميري في قصيدة اخرى منها هذه الأبيات :

فقال لهم إنّي رسول إليكم

ولست أراني عندكم بكذوب

فأيّكم يقفو مقالي؟ فأمسكوا

فقال : ألا من ناطق فمجيبي؟

ففاز بها منهم عليّ وسادهم

وما ذاك من عاداته بغريب (١)

وعلى أي حال فقد انفضّ القوم ، ولم يفلح أي أحد منهم بإجابة الرسول 6 وتصديقه سوى أخيه وابن عمّه الإمام 7.

فزع القرشيّين :

وفزعت قريش كأشدّ ما يكون الفزع من دعوة الرسول 6 واضطربت حياتهم الاجتماعية والفردية ، وانتشرت الكراهة والبغضاء في أوساطهم ، فقد صبا إلى الإسلام فريق من شبابهم ، وبعض السيّدات من نسائهم ، والأرقّاء من عبيدهم ، والمستضعفون في ديارهم أمثال عمّار وياسر وسميّة ، فكان الولد ينفر من أبويه ، وأمّا المرأة فقد خلعت طاعة زوجها ، واحتقرته ولا تقرب منه ، وأمّا الأرقّاء والمستضعفون فقد فتح لهم الإسلام آفاقا كريمة من العزّة والكرامة وبشّرهم بمستقبل كريم ، إنّهم سيكونون سادة المجتمع ، وستكون جبابرة قريش وطغاتها أذلاّء صاغرين.

لقد عمّت الاضطرابات معظم بيوت مكّة ، وحدث زلزال عنيف في ذلك المجتمع ، واستحكم العداء بين الولد وأبويه ، والأخ مع أخيه والسادة مع أرقّائهم.

إجراءات قاسية :

وأجمعت قريش على مناجزة الرسول 6 ومناهضته بجميع ما تملك من

__________________

(١) ديوان الحميري : ١١٨.


وسائل القوّة ، كما أجمعت على تعذيب من آمن به من شبابهم ونسائهم وأرقّائهم والمستضعفين منهم ، وقد اتّخذوا من الاجراءات القاسية ضدّ النبيّ 6 وأصحابه ما يلي :

١ ـ إغراء صبيانهم بمحاربة النبيّ :

وأوعزت قريش إلى صبيانهم بمحاربة النبيّ 6 وإلقاء الحجارة والتراب والرماد عليه ، وإنّما عمدت لذلك لتعتذر من أبي طالب حامي النبيّ ، والمدافع عنه ، وتنفي عنها المسئولية وتلقيها على أطفالهم وصبيانهم الذين لا يعقلون ، ولا يؤاخذون بشيء من أعمالهم ، وقد تصدّى لأولئك الصبيان الإمام 7 ، وكان في سنّه المبكّر قويّ الساعدين ، يحمل عليهم بعنف وقسوة فيوجعهم لكما وضربا ، فإذا خرج النبيّ 6 سار الإمام خلفه ، فإذا رأوه فرّوا منهزمين إلى آبائهم وامّهاتهم يسايرهم الرعب والخوف من الإمام.

٢ ـ اتّهام النبيّ بالجنون :

من الوسائل التي لجأت إليها قريش في محاربة النبيّ 6 رميه بالجنون لأنّه جاءهم بشريعة مجافية لعقولهم التي ران عليها الجهل وخيّم عليها الشرك.

لقد اتّهموه بالجنون ، وهو العقل المدبّر للإنسانية ، والدماغ المفكّر الذي استوعب بوعي جميع قضايا الإنسان ووضع لها الحلول الحاسمة ، لقد اتّهموه بذلك لإفشال دعوته ، وصدّ الجماهير من اعتناقها ، وقد باءوا بالفشل والخزي ، وسارت دعوة الرسول كالضوء ، فقد آمنت كوكبة من الشباب بالدعوة المباركة ، ووقفوا قوّة ضاربة لحمايتها.

٣ ـ اتّهامه بالسحر :

وأشاعت قريش أنّ النبيّ 6 ساحر وأنّه غير مرسل من السماء .. وقد


اتّهموه بذلك حينما كان يتلو عليهم كتاب الله تعالى البالغ حد الاعجاز في بلاغته وفصاحته ، وما كان يلقيه عليهم من روائع الحكم والآداب التي تأخذ بمجامع العقول والنفوس ، بالاضافة إلى ما كان يريهم من آيات معجزاته التي أمدّه الله تعالى بها لتصديقه ، وإيمان الناس به ، وقد باءت هذه التهمة بالفشل ، ولم تلق أي اذن صاغية لها.

٤ ـ تعذيب المؤمنين :

وصبّ القرشيّون جام غضبهم على من آمن بالرسول 6 من أبنائهم ونسائهم وأرقّائهم والمستضعفين منهم ، فقد نكّلوا بهم كأقسى وأفظع ما يكون التنكيل ، فقد عذّبوا ياسرا وسميّة وعمّارا عذابا منكرا وأليما ، وكان النبيّ يجتاز عليهم فيراهم يئنّون تحت وطأة التعذيب فتتقطّع أنياط قلبه عليهم ألما ، فقال فيهم كلمته الخالدة التي كانت وسام شرف وفخر لهذه الاسرة الكريمة في جميع الأحقاب والآباد : « صبرا آل ياسر إنّ موعدكم الجنّة ». واستشهد ياسر ، واستشهدت معه سميّة بأيدي جبابرة قريش ، ونجا الصحابي العظيم عمّار بعد ما عذّب.

وقد عانى المؤمنون من الرجال والنساء جميع صنوف التعذيب والاضطهاد والتنكيل ممّا اضطرّهم إلى الهجرة من وطنهم مكّة إلى الحبشة ، وكان فيهم جعفر الطيّار ، وقد لاحقتهم قريش لإرجاعهم إلى مكّة لتصفيتهم جسديا إلاّ أنّ ملك الحبشة لم يستجب لهم وأبقاهم في بلده ولم يعرض لهم أحد بمكروه.

٥ ـ في شعب أبي طالب :

وأجمع رأي وجوه القرشيّين وساداتهم على حبس النبيّ 6 وأهل بيته في شعب أبي طالب ، وفرض الإقامة الجبرية عليهم حتى لا يختلطوا بالناس فيغيّروا


عقائدهم ويغسلوا أدمغتهم من براثن الجاهلية ، وقد اتّخذوا من القرارات ما يلي :

١ ـ أن لا يزوّجوا هاشميّا بامرأة منهم.

٢ ـ لا يتزوّج أحد منهم بهاشمية.

٣ ـ لا يبايعون هاشميا ولا يشترون شيئا منهم.

وكتبوا في ذلك وثيقة علّقوها في جوف الكعبة ، وأقام الرسول 6 ومن آمن به من الهاشميّين في شعب أبي طالب ، وهم يعانون أشقّ وأقسى ألوان الاضطهاد والضيق ، وقد أمدّتهم بجميع ما يحتاجون إليه أمّ المؤمنين خديجة الكبرى رضي الله عنها حتى نفد ما عندها من الثراء العريض ، فما أعظم عائدتها على الإسلام والمسلمين!

الافراج عن النبيّ وآله :

وبقي النبيّ 6 معتقلا في السجن سنتين أو ما يزيد عليهما ، وقد سلّط الله تعالى الأرضة على صحيفة قريش فأتت عليها ، فأخبر النبيّ 6 عمّه أبا طالب بذلك فهرع إليهم وأخبرهم بالأمر فخفّوا مسرعين إلى الصحيفة فوجدوها كما أخبر النبيّ 6 ، فذهلوا ووجموا ، وانبرى جماعة من قريش فطالبوا قومهم برفع الحصار عن الهاشميّين فعارضهم أبو جهل ، إلاّ أنّ معارضته لم تجد شيئا ، فقد أطلقوا سراح النبيّ 6 مع من آمن به ، وخرجوا من الشعب وهم في أقصى ما يتصوّر من الجهد والعناء.

وخرج النبيّ 6 من الشعب وهو يدعو الناس إلى الإيمان بالإسلام ونبذ الجاهلية ، ولم يحفل بتهديد القرشيّين وإجماعهم على مناهضته ، فقد احتمى بعمّه أبي طالب شيخ البطحاء ومؤمن قريش ، فكان مع أبنائه سدّا حصينا وقوّة ضاربة يحتمي بها ، وقد شجّعه على أداء رسالته ومقاومة المدّ الجاهلي قائلا له :


اذهب بنيّ فما عليك غضاضة

اذهب وقرّ بذاك منك عيونا

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتّى اوسّد في التّراب دفينا

ودعوتني وعلمت أنّك ناصحي

ولقد صدقت وكنت قبل أمينا (١)

ولقد علمت بأنّ دين محمّد

من خير أديان البريّة دينا (٢)

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

وابشر بذاك وقرّ منك عيونا (٣)

ودلّ هذا الشعر على إيمان أبي طالب وتفانيه في الولاء لابن أخيه وتصديقه لرسالته.

وعلى أي حال فقد ورمت قلوب القرشيّين غيظا على النبيّ 6 وحسدا له ، وممّا زاد في بغضهم للنبيّ 6 ما يعلنه من التنديد بالأصنام التي اتّخذوها آلهة يعبدونها من دون الله تعالى ، وقد ازداد حسد الطغاة من قريش للنبيّ حينما كانت الأندية تتحدّث عن سموّ أخلاقه وعظيم ما جاء به من هدى ورحمة وخير إلى الناس وإيمان بعض الناس برسالته.

وفاة أبي طالب وخديجة :

ورزء النبيّ 6 بكارثة كبرى ، وهي وفاة عمّه أبي طالب حامي الإسلامي وأقوى مدافع عنه ، كما ورزئ بوفاة زوجته أمّ المؤمنين خديجة التي كانت من أقوى المناصرين له ، فقد وهبت جميع ما تملكه من الثراء العريض في سبيل الإسلام ، وكانت وفاتها بعد وفاة عمّه أبي طالب بثلاثة أيام (٤) ، وبلغ الحزن من النبيّ 6

__________________

(١) إيمان أبي طالب : ٢٥٧.

(٢) تاريخ أبي الفداء ١ : ١٢٠.

(٣) أسنى المطالب : ١٨.

(٤) إيمان أبي طالب : ٢٦١ ، وفي تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٥ أنّ أمّ المؤمنين توفّيت في شهر رمضان قبل الهجرة بثلاث سنين ، وتوفّي أبو طالب بعدها بثلاثة أيام.


أقصاه ، فقد فقد عمّه وزوجته الرءوم ، وقد سمّي ذلك العامّ عام الحزن ، فلم يجد بعد عمّه ركنا شديدا يأوي إليه ، وبقي في أرباض مكّة تسايره الهموم والأحزان خوفا من بطش القرشيّين وكيدهم.

إجماع القرشيّين على قتل النبيّ :

وبعد ما نكب الرسول 6 بفقد عمّه حامي الإسلام صمّم على مغادرة مكّة والهجرة إلى يثرب ؛ لأنّه وجد فيها ركنا شديدا يأوي إليه ، وهم الذين آمنوا بدعوته من الأوس والخزرج ، فقد كانوا قوّة ضاربة تحمي دعوته.

وحينما اشيع عزم النبيّ 6 على الهجرة إلى المدينة اضطرب القرشيّون وتعاظم سخطهم ، وورمت آنافهم ، فاجتمعوا بدار الندوة ، وعرضوا فيها الأخطار الهائلة التي منوا بها من دعوة النبيّ 6 التي صبا إليها شبابهم ونساؤهم ورقيقهم والمستضعفون في ديارهم ، فصمّموا على قتل النبيّ 6 مهما كلّفهم الأمر ، وكان فيما يروي بعض المؤرّخين قد حضر إبليس في ندوتهم فأشار عليهم بإسناد تنفيذ الجريمة إلى عدد يربو على أربعين شخصا ينتمي كلّ واحد منهم إلى قبيلة معيّنة حتى من الاسرة الهاشمية ، وبذلك يتّخذ قتله صفة عامّة لجميع القبائل فلا تكون قبيلة معيّنة مسئولة عن دمه حتى لا يستطيع أنصاره والمؤمنون به التأثر منهم جميعا ، وقد عيّنوا يوما لذلك سمّوه يوم الزحمة ، وأخبر الله تعالى نبيّه العظيم بما عزمت عليه قريش في قتله (١).

هجرة النبيّ إلى يثرب :

ولمّا حان اليوم الذي عيّنته قريش لقتل النبيّ 6 أحاطوا ليلا بداره من جميع الجهات شاهرين سيوفهم يترقّبون بفارغ الصبر طلوع الفجر لتمزّق سيوفهم جسم

__________________

(١) امتاع الأسماع ـ المقريزي ١ : ٣٨.


النبيّ 6 ويطفئوا ذلك النور الذي أراد أن يحرّرهم من ظلمات الجاهلية ومآثم الحياة. لقد أرادت قريش أن تنصر أصنامها وأوثانها وتعيد ما فقدته من الهيبة في أوساط العرب.

مبيت الإمام على فراش النبيّ :

وأوعز النبيّ 6 إلى أخيه وابن عمّه الإمام أمير المؤمنين 7 أن يبيت في فراشه ، ويتّشح ببردته الخضراء (١) ؛ ليوهم على اولئك الأقزام أنّه النبيّ 6 حتّى يسلم من شرّهم ، وتلقّى الإمام 7 أمر النبيّ بمزيد من السرور والابتهاج وشعر بالسعادة التي لم يحلم بها من قبل ليكون فداء لرسول الله 6.

وخرج النبيّ من الدار ، ورماهم بحفنة من التراب أتت على وجوههم الكريهة قائلا : « شاهت الوجوه ذلاّ ».

وأخذ النبيّ 6 يتلو قوله تعالى : ( وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) (٢).

إنّ مبيت الإمام 7 على فراش النبيّ 6 ووقايته له بنفسه صفحة مشرقة من جهاده ، ومنقبة لا تعدّ لها أيّة منقبة ، وقد أنزل الله تعالى آية من كتابه ، قال تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ ) (٣) ، ويقول الرواة : إنّ الله تعالى باهى ملائكته بالإمام ، فقد أوحى إلى جبرئيل وميكائيل أنّي آخيت بينكما ، وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر ، فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة ،

__________________

(١) امتاع الأسماع ـ المقريزي ١ : ٣٩.

(٢) يس : ٩.

(٣) البقرة : ٢٠٧.


فاختار كلاهما الحياة على صاحبه ، فأوحى الله عزّ وجلّ إليهما : أفلا كنتما مثل عليّ ابن أبي طالب آخيت بينه وبين محمّد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة ، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه ، فنزلا فكان جبرئيل عند رأس عليّ ، وميكائيل عند رجليه ، وجبرئيل يقول للإمام :

« بخّ بخّ ، من مثلك يا ابن أبي طالب ، يباهي الله عزّ وجلّ به الملائكة » ، فأنزل الله على رسوله وهو متوجّه إلى المدينة في شأن علي :

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ ) (١).

إنّ مبيت الإمام في فراش النبيّ 6 يوحي أنّه الشخصية الثانية في رسالة الإسلام الذي يخلف النبيّ ويمثّل شخصيّته ويقوم مقامه ، ولهذه الكرامة دور مهم في دعوة الإسلام لم ينلها أحد من اسرة النبيّ 6 وأصحابه.

ويقول الشاعر الملهم الكبير الشيخ هاشم الكعبي في رائعته :

ومواقف لك دون أحمد جاوزت

بمقامك التّعريف والتّحديدا

فعلى الفراش مبيت ليلك والعدى

تهدي إليك بوارقا ورعودا

فرقدت مثلوج الفؤاد كأنّما

يهدي القراع لسمعك التّغريدا

فكفيت ليلته وقمت معارضا

بالنّفس لا فشلا ولا رعديدا

واستصبحوا فرأوا دوين مرادهم

جبلا أشمّ وفارسا صنديدا

رصدوا الصّباح لينفقوا كنز الهدى

أوما دروا كنز الهدى مرصودا

__________________

(١) اسد الغابة ٤ : ٢٥. نور الأبصار : ٧٧. تفسير الرازي ٥ : ٢٢٣ في تفسير هذه الآية. مسند أحمد ١ : ٣٤٨. تاريخ بغداد ١٣ : ١٩١. طبقات ابن سعد ٨ : ٣٥ ، وغيرها. ذكرت مبيت الإمام في فراش النبيّ ووقايته له بنفسه.


دعاء الإمام :

وأنفق الإمام 7 ليله ساهرا يدعو الله تعالى لينقذه وأخاه من هذه المحنة الحازبة ، وهذا دعاؤه :

يا من ليس له ربّ يدعى ، يا من ليس فوقه خالق يخشى ، يا من ليس دونه إله يتّقى ، يا من ليس له وزير يرشى ، يا من ليس له نديم يغشى ، يا من ليس له حاجب ينادى ، يا من لا يزداد على كثرة السّؤال إلاّ كرما وجودا ، يا من لا يزداد على عظيم ذنوب عباده إلاّ رحمة وعفوا (١).

وأثر عنه أنّه دعا في تلك الليلة الحازبة بهذا الدعاء أيضا وهو :

أمسيت اللهمّ معتصما بذمامك المنيع الّذي لا يحاول ولا يطاول ، من شرّ كلّ غاشم وطارق من سائر من خلقت ، وما خلقت من خلقك الصّامت والنّاطق ، في جنّة من كلّ مخوف ، بلباس سابغة بولاء أهل بيت نبيّك محمّد صلواتك عليه وعليهم ، محتجبا من كلّ قاصد لي بأذيّة ، بجدار حصين الإخلاص في الاعتراف بحقّهم ، والتّمسّك بحبلهم ، موقنا أنّ الحقّ لهم ومعهم وفيهم ، وبهم ومنهم وإليهم ، اوالي من والوا ، وأعادي من عادوا ، واجانب من جانبوا.

فصلّ على محمّد وآل محمّد وأعذني اللهمّ بهم اتّقي من شرّ كلّ ما اتّقيه يا عظيم ، حجزت عنّي الأعادي ببديع السّماوات والأرض وجعلنا من بين ايديهم سدّا ومن خلفهم سدّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون يا أرحم الرّاحمين (٢).

__________________

(١) الصحيفة العلوية الثانية : ١١٧.

(٢) البلد الأمين : ٢٧ ـ ٢٨.


وظلّ الإمام راقدا في فراش النبيّ 6 ، ولمّا اندلع نور الصبح هجم الطغاة شاهرين سيوفهم على سرير النبيّ 6 ، فطلع منه الإمام أمير المؤمنين 7 كالأسد الضاري شاهرا سيفه ، فلمّا رأوه ذهلوا وجبنوا ، وصاحوا به :

أين محمّد؟

فقابلهم الإمام بعنف قائلا :

« جعلتموني حارسا عليه؟ ».

ونكصوا على أعقابهم يجرّون رداء الخيبة والخسران ، فقد فلت من قبضتهم الرسول 6 الذي جاء ليحرّرهم من ويلات الجاهلية وخرافاتها.

وحقدت قريش على الإمام كأشدّ ما يكون الحقد ، ورمته بنظرات حادّة ، فقد أفلت منها بسببه محمّد ، وصفعها الإمام بتلك الصفعة المذلّة ، وتحدّاها واستخفّ بها ، وجعل يغدو ويروح أمامها ساخرا ومستهزئا بها.

مرافقة أبي بكر للرسول :

وغادر النبيّ 6 مكّة ميمّما وجهه صوب يثرب ، وقد أنجاه الله من شرّ اولئك الوحوش الكاسرة الذين اترعت نفوسهم بالآثام والرذائل ، وصادفه في الطريق أبو بكر فصحبه ، وسار معه حتى انتهيا إلى جبل ثور (١) ، وفي أعلاه غار فدخلا فيه ، وأقاما فيه ثلاثة أيام ، وأرسل الله تعالى زوجا من الحمام فباضا في مدخله ، وأوحى الله تعالى إلى العنكبوت فنسجت بيتا لها فيه ، وخفّت قريش مسرعة في طلب النبيّ 6 ، يتقدّمهم سراقة بن مالك ، وكان عالما بصيرا بمعرفة الأثر ، فانتهى إلى باب الغار فرأى البيض وبيت العنكبوت ، فقال : لو دخله أحد

__________________

(١) جبل ثور : يقع في يمين مكّة على مسيرة ساعة ـ الكشّاف ٢ : ٢١٣.


لانكسر البيض ، والنبيّ 6 يراهم وهو يدعو : « اللهمّ أعم أبصارهم ».

وأعمى الله أبصارهم ، وسلب لبّهم ، وقال أبو بكر للنبيّ 6 : لو نظروا إلى أقدامهم لرأونا .. وبلغ به الخوف أقصاه ، فقال له النبيّ :

« لا تخف إنّ الله معنا ».

ونزلت الآية الكريمة على النبيّ العظيم : ( إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (١) ، ونزل رجل من قريش فبال على باب الغار ففزع أبو بكر ، وقال : يا رسول الله ، قد أبصرونا ، فنهره النبيّ وقال له : « لو أبصرونا ما استقبلونا بعوراتهم » (٢).

ولمّا أمن النبيّ وأبو بكر من الطلب خرجا من الغار متّجهين نحو المدينة المنوّرة.

استقبال المدينة للرسول :

ولمّا علم أهالي يثرب بتشريف النبيّ 6 هرعوا جميعا لاستقباله ، وقد علت زغاريد النساء وهن ينشدن :

طلع الفجر علينا

من ثنيّات الوداع

وجب الشّكر علينا

ما دعا لله داع (٣)

__________________

(١) التوبة : ٤٠.

(٢) مجمع البيان ٥ : ٣٠.

(٣) البداية والنهاية ٣ : ٢٤١.


وكان ذلك اليوم مشهودا لم يمرّ على يثرب مثله ، وحينما استقرّ النبيّ 6 فيها أخذ يؤسّس معالم دولته الكبرى دولة التوحيد التي تبنّت القضايا المصيرية لجميع شعوب العالم وامم الأرض ، وأعلنت حقوق الإنسان ، وما يسمو به من الآداب والفضائل.

وقد وجد النبيّ 6 من ولاء أهل المدينة له وتباشيرهم بقدومه ما ملأ قلبه فرحا وسرورا ، وأيقن أنه سيجد منهم أنصارا لدعوته وبناة لدولته.

هجرة الإمام إلى يثرب :

ولمّا نزح الرسول 6 من مكّة إلى يثرب قام الإمام أمير المؤمنين 7 بأداء الأمانات التي عند النبيّ ، وردّ الودائع ، وقضاء ديونه 6 ، وأمر مناديا ينادي بالأبطح من كانت له عند رسول الله 6 أمانة فليأت ويستلم أمانته ، وبعد ما أدّى ذلك حمل السيّدات الزاكيات من الفواطم وهاجر بهنّ إلى يثرب ، فلحقه سبعة من عتاة قريش لصدّه عن السفر ، فانبرى إليهم الإمام ببسالة وعزم ، فقتل واحدا منهم ، وهرب الباقون (١).

وسار الإمام يطوي البيداء لا يلوي على شيء حتّى انتهى إلى يثرب ، وقيل إلى قبا قبل أن يدخل النبيّ إلى المدينة (٢).

ولمّا بلغ النبيّ قدوم عليّ أمر بإحضاره فقيل له إنّه لا يقدر على المشي ، فأتاه النبيّ فلمّا رآه اعتنقه وبكى رحمة لما بقدميه من الورم من كثرة المشي فأخذ النبيّ من ريقه ومسح به رجليه فبرئتا ، ولم يشك بعد ذلك منهما شيئا (٣).

__________________

(١) أعيان الشيعة ٣ : ٩٢.

(٢) طبقات ابن سعد ٣ : ٢٢.

(٣) اسد الغابة ٤ : ٩٢.


الاخوّة بين المسلمين :

وأوّل عمل قام به الرسول 6 أنّه آخى بين المهاجرين والأنصار ، وربط بينهم برباط الاخوة الصادقة فشارك كلّ واحد منهم أخاه في مكاره الدهر ولينه ، وآخى بينه وبين الإمام 7 (١) ، كما قام 6 بالإصلاح وإشاعة المودّة بين الأوس والخزرج اللذين كانا يشكّلان الأكثرية الساحقة من سكّان المدينة المنوّرة ، وكانت البغضاء سائدة بينهما فأطفأها النبيّ.

تأسيس الجامع النبوي :

وحينما استقرّ النبيّ 6 في يثرب قام بتأسيس مسجده المعظّم ليكون مقرّا لحكومته ، ومركزا لعبادته ، ومعهدا لتعاليمه ، وكان عرضه (٦٠) ذراعا ، وطوله كذلك ، وقد انبرى المسلمون من المهاجرين والأنصار إلى العمل فيه ، وكان النبيّ 6 من جملة العمّال ، وقد انبرى أحد المسلمين محرّضا لهم على العمل قائلا :

لئن قعدنا والنّبيّ يعمل

لذاك منّا العمل المضلّل

وردّد المسلمون في أثناء عملهم قائلين :

لا عيش إلاّ عيش الآخرة ... اللهمّ ارحم الأنصار والمهاجرة

وكان النبيّ 6 يردّد :

« لا عيش إلاّ عيش الآخرة ... اللهمّ ارحم المهاجرين والأنصار »

وكان من جملة العاملين الصحابي العظيم الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر ،

__________________

(١) الطبقات ٣ : ٢٢ ، وجاء فيه : أنّ النبيّ 6 قال للإمام : « أنت أخي ترثني وأرثك ».


وقد أثقله بعض الحاقدين عليه بحمل الكثير من اللبن ، فجاء إلى النبيّ 6 وقد أعياه التعب قائلا :

يا رسول الله ، قتلوني ، يحمّلون عليّ ما لا يحملون.

قالت أمّ سلمة : رأيت رسول الله 6 ينفض وفرة عمّار بيده ويقول له :

« ويح ابن سميّة ، ليسوا بالّذين يقتلونك ، إنّما تقتلك الفئة الباغية ».

وكان الإمام أمير المؤمنين 7 من جملة العاملين في تأسيس الجامع النبوي وهو يرتجز :

لا يستوي من يعمر المساجدا

يدأب فيه قائما وقاعدا

ومن يرى عن الغبار حائدا (١)

وتمّ بناء الجامع النبوي ومساكن النبيّ 6 وأهله ، وسرعان ما انتشر الإسلام في يثرب ونواحيها ، وبذلك تشكّلت الدولة الإسلامية العظمى ، وبهذا ينتهي بنا الحديث عن الحلقة الاولى من هذه الموسوعة.

__________________

(١) السيرة النبوية ١ : ٤٩٦ ـ ٤٩٧.



المحتويات

الإهداء....................................................................... ٤

كلمة النّاشر................................................................... ٥

كلمة شكر................................................................... ٦

تقديم......................................................................... ٩

النّسب الوضّاح

١٧ ـ ٣٨

المآثر الكريمة :............................................................... ١٩

١ ـ عبادة الله :.......................................................... ١٩

٢ ـ حلف الفضول :..................................................... ٢٠

٣ ـ إخراج ماء زمزم :.................................................... ٢١

٤ ـ سقاية الحاج :....................................................... ٢٢

٥ ـ إطعام الطعام :....................................................... ٢٢

أعمدة الشرف من الهاشميّين :.................................................. ٢٣

١ ـ هاشم :............................................................. ٢٣

٢ ـ عبد المطّلب :........................................................ ٢٤

٣ ـ أبو طالب :.......................................................... ٢٥

رعايته للنبيّ 6 :................................................... ٢٥


حمايته للإسلام :........................................................ ٢٦

مع النبيّ 6 في الشعب :............................................. ٢٩

تبنّي أبي طالب الدعوة الإسلامية :......................................... ٣١

وصيّته الخالدة :........................................................ ٣٢

في ذمّة الخلود :......................................................... ٣٣

تأبين النبيّ له :.......................................................... ٣٤

٤ ـ فاطمة بنت أسد أمّ الإمام 7 :....................................... ٣٦

سبقها إلى الإسلام :..................................................... ٣٦

مبايعتها للنبيّ 6 :.................................................. ٣٦

رعايتها للنبيّ 6 :.................................................. ٣٦

روايتها للحديث :...................................................... ٣٦

إقامتها في بيت الإمام :.................................................. ٣٧

وفاتها :................................................................ ٣٧

وليد الكعبة

٣٩ ـ ٦٨

كيفيّة ولادته :............................................................... ٤٢

مشرق النور :............................................................... ٤٢

مع الشعراء :................................................................ ٤٣

١ ـ السيّد الحميري :..................................................... ٤٣

٢ ـ بولس سلامة :....................................................... ٤٤

٣ ـ منعم الفرطوسي :.................................................... ٤٤

تسمية امّه له :............................................................... ٤٥

تسمية أبي طالب له :......................................................... ٤٦

سنة ولادته :................................................................ ٤٧


ألقابه :..................................................................... ٤٧

١ ـ الصدّيق :........................................................... ٤٧

٢ ـ الوصي :............................................................ ٤٧

مع الشعراء :........................................................... ٤٨

١ ـ خزيمة بن ثابت :.................................................. ٤٨

٢ ـ عبد الرحمن الجمحي :.............................................. ٤٩

٣ ـ جرير بن عبد الله البجليّ :.......................................... ٤٩

٤ ـ سعيد بن قيس :................................................... ٤٩

٥ ـ حجر بن عدي :.................................................. ٥٠

٦ ـ النعمان بن عجلان :............................................... ٥٠

٧ ـ أبو الأسود الدؤلي :................................................ ٥٠

٨ ـ الفضل بن العباس :................................................ ٥١

٩ ـ حسّان بن ثابت :................................................. ٥١

١٠ ـ الكميت :...................................................... ٥١

١١ ـ المتنبّي :........................................................ ٥١

١٢ ـ أبو تمام الطائي :................................................. ٥١

١٣ ـ دعبل الخزاعي :.................................................. ٥٢

٣ ـ الفاروق :........................................................... ٥٢

٤ ـ يعسوب الدين :..................................................... ٥٣

٥ ـ الوليّ :.............................................................. ٥٤

٦ ـ أمير المؤمنين :........................................................ ٥٥

٧ ـ الأمين :............................................................. ٥٦

٨ ـ الهادي :............................................................ ٥٦

٩ ـ الاذن الواعية :....................................................... ٥٦

١٠ ـ المرتضى :......................................................... ٥٧


١١ ـ الأنزع البطين :..................................................... ٥٧

١٢ ـ الشريف :......................................................... ٥٧

١٣ ـ بيضة البلد :....................................................... ٥٨

١٤ ـ خير البشر :........................................................ ٥٨

١٥ ـ سيّد العرب :...................................................... ٥٩

١٦ ـ حجّة الله :........................................................ ٥٩

كناه :...................................................................... ٦٠

١ ـ أبو الريحانتين :....................................................... ٦٠

٢ ـ أبو السبطين :........................................................ ٦٠

٣ ـ أبو الحسن :......................................................... ٦٠

٤ ـ أبو الحسين :......................................................... ٦١

٥ ـ أبو تراب :.......................................................... ٦١

مع الأمويّين :........................................................ ٦٤

ملامحه وصفاته :............................................................. ٦٥

١ ـ وصف النبيّ له :..................................................... ٦٥

٢ ـ وصف ضرار للإمام :................................................. ٦٦

٣ ـ وصف ابنه محمّد له :................................................. ٦٧

٤ ـ وصف المغيرة له :.................................................... ٦٧

٥ ـ وصف بعض المعاصرين له :........................................... ٦٨

نشأته

٦٩ ـ ٩١

احتضان النبيّ للإمام :......................................................... ٧١

التربية النبوية للإمام :......................................................... ٧٢

١ ـ نكران الذات :...................................................... ٧٣


٢ ـ التحلّي بالصفات الكريمة :............................................. ٧٤

٣ ـ الاجتناب عن الصفات المذمومة :....................................... ٧٦

سبقه للإسلام :.............................................................. ٨٠

حبّه للنبيّ 6 :........................................................... ٨٢

قيامه بخدمة النبيّ 6 :.................................................... ٨٢

نماذج من أدعيته للنبيّ 6 :................................................ ٨٣

تمجيده للنبيّ :............................................................... ٨٦

كتابته للوحي :.............................................................. ٨٧

كتابته لعهود الرسول 6 :................................................ ٨٨

تحطيمه للأصنام :............................................................ ٨٨

١ ـ مناة :.............................................................. ٨٩

٢ ـ صنم طيّ :.......................................................... ٨٩

٣ ـ أصنام مكّة :........................................................ ٨٩

نقش خاتم الإمام 7 :...................................................... ٩٠

اجتنابه للخضاب :........................................................... ٩٠

دار سكناه :................................................................. ٩١

عناصره النّفسيّة

٩٣ ـ ١٣٢

إيمانه الوثيق بالله :............................................................ ٩٥

إنابته لله تعالى :.............................................................. ٩٦

العصمة من الذنوب :....................................................... ١٠٠

زهده :.................................................................... ١٠٣

صور مذهلة من زهده :.................................................. ١٠٣

١ ـ لباسه :...................................................... ١٠٤


٢ ـ طعامه : ..................................................... ١٠٦

بطولته النادرة :............................................................ ١٠٩

قوّته الهائلة :............................................................... ١١١

حلمه :................................................................... ١١٢

بوادر من حلمه :........................................................ ١١٢

صبره :.................................................................... ١١٥

تواضعه :.................................................................. ١١٦

شذرات من تواضعه :.................................................... ١١٧

عيادته المرضى :............................................................ ١١٨

كراهته للمدح :............................................................ ١١٩

إجابته لدعوة من دعاه لتناول الطعام :......................................... ١٢٠

سخاؤه :.................................................................. ١٢٠

شذرات من جوده :...................................................... ١٢١

الرأفة بالفقراء :............................................................. ١٢٣

عدله...................................................................... ١٢٦

بوادر من عدله :......................................................... ١٢٦

سعة علومه :............................................................... ١٣٠

سرعة الجواب :............................................................ ١٣١

الإمام 7 في رحاب القرآن الكريم

١٣٣ ـ ١٥٧

الآيات النازلة في حقّه....................................................... ١٣٥

الآيات النازلة في أهل البيت :............................................. ١٤٢

احتجاج العترة بالآية :.................................................... ١٤٤

١ ـ الإمام أمير المؤمنين 7 :......................................... ١٤٤


٢ ـ الإمام 7 الحسن 7 :......................................... ١٤٤

٣ ـ الإمام 7 زين العابدين 7 :................................... ١٤٥

الآيات النازلة في الإمام 7 وخيار الصحابة................................... ١٥٤

الآيات النازلة في حقّه وذمّ مخالفيه............................................. ١٥٥

الإمام 7 في ظلال السّنّة

١٥٩ ـ ١٩٢

الكوكبة الاولى............................................................. ١٦١

مكانته عند النبيّ 6 :................................................ ١٦١

١ ـ الإمام 7 نفس النبيّ 6 :................................... ١٦٢

٢ ـ الإمام 7 أخو النبيّ 6 :.................................... ١٦٢

٣ ـ النبيّ 6 والإمام من شجرة واحدة :............................ ١٦٥

٤ ـ الإمام 7 وزير النبيّ 6 :................................... ١٦٦

٥ ـ الإمام 7 خليفة النبيّ 6 :.................................. ١٦٧

٦ ـ الإمام 7 من النبيّ 6 كهارون من موسى :................... ١٦٨

احتجاج الإمام بالحديث :........................................... ١٧١

٧ ـ الإمام 7 باب مدينة علم النبيّ 6 :.......................... ١٧١

٨ ـ الإمام 7 باب حكمة النبيّ 6 :............................. ١٧٢

٩ ـ الإمام 7 أحبّ الناس إلى النبيّ 6 :.......................... ١٧٣

١٠ ـ الإمام 7 شبيه الأنبياء :....................................... ١٧٣

١١ ـ الإمام 7 سيّد العرب :........................................ ١٧٤

١٢ ـ الإمام 7 أحبّ الخلق إلى الله :................................. ١٧٤

١٣ ـ إطاعة الإمام 7 إطاعة للرسول 6 :......................... ١٧٥

١٤ ـ من أحبّ عليّا فقد أحبّ الله :.................................... ١٧٥

١٥ ـ حبّ عليّ إيمان ، وبغضه نفاق :.................................. ١٧٧


١٦ ـ عنوان صحيفة المؤمن حبّ عليّ 7 :............................ ١٧٨

١٧ ـ إخبار النبيّ 6 بما يجري على الإمام 7 من بعده :............. ١٧٨

١٨ ـ النبيّ 6 يخبر الإمام 7 بغدر الامّة به :....................... ١٧٩

الكوكبة الثانية............................................................. ١٨٠

منزلة الإمام 7 في الدار الآخرة :......................................... ١٨٠

١ ـ الإمام 7 حامل لواء الحمد :.................................... ١٨٠

٢ ـ الإمام 7 صاحب حوض النبيّ 6 :.......................... ١٨١

٣ ـ الإمام 7 قسيم الجنّة والنار :.................................... ١٨٣

٤ ـ الاجتياز على الصراط بإجازة من الإمام 7 :....................... ١٨٣

٥ ـ الإمام 7 مع النبيّ 6 في الجنّة :.............................. ١٨٤

الأخبار النبوية في فضل العترة................................................. ١٨٥

حديث الثقلين :......................................................... ١٨٥

سند الحديث :........................................................ ١٨٨

دلالة الحديث :....................................................... ١٨٨

حديث السفينة :......................................................... ١٨٨

أهل البيت : أمان للامّة :.............................................. ١٩٠

النبيّ 6 سلم لمن سالم أهل بيته :....................................... ١٩٠

من أحبّ أهل البيت : كان مع النبيّ 6 :............................ ١٩١

معرفة أهل البيت : أمان من العذاب :................................... ١٩١

السؤال عن محبّة أهل البيت : :......................................... ١٩١

الاقتداء بأهل البيت : :............................................... ١٩١

الممات على حبّ أهل البيت : :........................................ ١٩٢


مع الثّورة الإسلاميّة

١٩٣ ـ ٢٢١

١ ـ تحطيم الأصنام :....................................................... ١٩٥

٢ ـ تحرير العبيد والمستضعفين :............................................. ١٩٧

٣ ـ تحرير المرأة :.......................................................... ١٩٨

أ ـ وأد البنات :........................................................ ١٩٨

ب ـ حرمانها من الميراث :............................................... ١٩٨

ج ـ الزواج بأرملة الأب :............................................... ١٩٩

٤ ـ المساواة بين الناس :.................................................... ١٩٩

٥ ـ حماية الحقوق :........................................................ ٢٠٠

٦ ـ تحريم الربا :........................................................... ٢٠٠

٧ ـ تحريم الخمر :.......................................................... ٢٠٠

٨ ـ تحريم الاستغلال :...................................................... ٢٠١

٩ ـ إقصاء الفقر :......................................................... ٢٠١

١٠ ـ إشاعة العلم :....................................................... ٢٠١

الإمام يصف الإسلام :...................................................... ٢٠١

الإمام أوّل من صلّى مع النبيّ 6 :........................................ ٢٠٣

١ ـ عفيف الكندي :................................................... ٢٠٣

٢ ـ عبد الله بن مسعود :................................................ ٢٠٤

الإمام مع النبيّ 6 في بداية دعوته :....................................... ٢٠٥

فزع القرشيّين :............................................................. ٢٠٨

إجراءات قاسية :........................................................... ٢٠٨

١ ـ إغراء صبيانهم بمحاربة النبيّ 6 :.................................. ٢٠٩


٢ ـ اتّهام النبيّ 6 بالجنون :.......................................... ٢٠٩

٣ ـ اتّهامه بالسحر :.................................................... ٢٠٩

٤ ـ تعذيب المؤمنين :................................................... ٢١٠

٥ ـ في شعب أبي طالب :................................................ ٢١٠

الافراج عن النبيّ 6 وآله :......................................... ٢١١

وفاة أبي طالب وخديجة :.................................................... ٢١٢

إجماع القرشيّين على قتل النبيّ 6 :........................................ ٢١٣

هجرة النبيّ إلى يثرب :...................................................... ٢١٣

مبيت الإمام 7 على فراش النبيّ 6 :.................................... ٢١٤

دعاء الإمام 7 :.......................................................... ٢١٦

مرافقة أبي بكر للرسول6 :.............................................. ٢١٧

استقبال المدينة للرسول 6 :............................................. ٢١٨

هجرة الإمام 7 إلى يثرب :................................................ ٢١٩

الاخوّة بين المسلمين :....................................................... ٢٢٠

تأسيس الجامع النبوي :...................................................... ٢٢٠

المحتويات

٢٢٣ ـ ٢٣٢

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ١ و ٢

المؤلف: باقر شريف القرشي
الصفحات: 232
ISBN: 964-94388-6-3