

مقدمة الطبعة الأولى :
علم الكلام
رائد الفطرة الإنسانية
الالتفات إلى ما
وراء الطبيعة انجذاب طبيعيّ وميل فطريّ بشريّ ، يظهر في كلّ فردٍ من أفراد النوع
البشري من أوائل شبابه ، ومطلع عمره ما دامت مرآة تلك الفطرة نقيّة صافية لم تنكسف
بآراء بشرية غير نقيّة.
وذلك الالتفات
والانجذاب نعمة كبيرة من نعمِ الله سبحانه على العباد ، حيث يدفعهم نحو مبدأ هذا
الكون وصانعه ومنشئه ، وما يترتب على ذلك من مسائل حيويّة.
ولكن هذا الانجذاب
إنّما يجديه إذا خضع لتربية الأنبياء ورعايتهم ، وصار مشفوعاً بالدليل والبرهان ،
إذ حينذاك يُصبحُ هذا الانجذاب كشجرة مباركة (تُؤْتِي أُكُلَها
كُلَّ حِينٍ) ، ولا تُضعْضعها العواصف مهما كانت شديدة قالعة.
وأمّا إذا ترك حتى
استغلّته الأهواء والآراء المنحرفة ، انطفأت هذه الشعلة المقدّسة واختفت تحت ركام
من الأوهام والخرافات.
ولأجل ذلك يجب على
القائمين على شئون التربية أن يُطْعِموا الفطرة البشريّة بالبراهين العقليّة
القاطعة الساطعة الّتي هدانا إليها الذكر الحكيم والأحاديث الصحيحة الشريفة ، وما
أنتجته الأبحاث الفكريّة طوال العصور والأزمنة في الأوساط الدينيّة.
ومن هنا عمد أئمّة
أهل البيت عليهمالسلام واحداً تلو الآخر ، بصقل الأذهان وتنويرها بالبراهين
الدامغة ، مراعين فيها مستوى الأذهان يومذاك ، بل وآخذين بالاعتبار ، مستوى أذهان
الأجيال القادمة.
وقد اهتمّ
المسلمون من عصر الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام بتدوين علم الكلام ، مقتبسين اصوله من خطبه وكلمه ، فلم
يزل ينمو ويتكامل في ظلِّ الاحتكاكات والمذاكرات ، إلى أن دخل رابع القرون ، فقامت
شخصيات مفكّرة كبيرة ألَّفت في ذلك المضمار كتباً قيِّمة.
فمن الشيعة نجد
الشيخ الأقدم أبا إسحاق إبراهيم بن نوبخت (من أعلام القرن الرابع الهجري) والشيخ
المفيد (٤١٣ ه) والشريف المرتضى (٤٣٦ ه) وأبا الصلاح الحلبي (٤٤٧ ه) وشيخ
الطائفة الطوسي (٤٦٠ ه) وابن زهرة الحلبي (٥٨٥ ه) وسديد الدين الحمصي (٦٠٠ ه)
والمحقّق الطوسي (٦٧٢ ه) وابن ميثم البحراني (٦٧٩ ه) والعلّامة الحلّي (٧٢٦ ه)
والفاضل المقداد (٨٢٦ ه) و ... من الأعلام الفطاحل ، والعلماء الأفذاذ.
وما كتبته تلك
الثلّة المباركة في هذا المضمار رسائل جليلة تكفّلت أداء الرسالة بصورة كاملة.
ولكن حيث إنّ كلّ
عصر يطلب لنفسه طوراً من التأليف يتناسب مع حاجات ذلك العصر ويستجيب لمطالبه ، فلا
بدّ من أبحاث في هذا العصر تناسب حاجاته ومتطلّباته.
وقد قام شيخنا
العلّامة الحجّة آية الله السبحاني ـ دام ظلّه ـ بهذه المهمَّة في عصرنا الحاضر ،
وهو ممّن كرّس قسماً كبيراً من حياته في هذا المجال. وقد أكثر من التأليف في هذا
العلم ، ودبّجت يراعته أسفاراً متنوعة مناسبة لكلّ مستوى من المستويات ، ومن أحسن
نتاجاته المباركة في هذا العلم محاضراته القيّمة الّتي ألقاها في جامعة قم الدينية
العلمية ، وحرَّرها تلميذه الفاضل الشيخ حسن مكّي العاملي ـ حفظه الله ـ ، وسمّاها
«الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل» حيث كانت المحاضرات جامعة لأطراف هذا العلم
، ومتكفّلة لجميع مسائله المهمّة ، وقد تعرّض فيها للآراء بعد أن حاكمها قضاء
منطقياً منصفاً. فالكتاب يغني الطالب الديني الّذي يريد أن يحيط بالآراء الكلامية
في جميع الأبواب ، وقد صار محور الدراسة الكلامية في جامعة قم منذ سنين. وقد قمت ـ
بإذن من شيخنا الأُستاذ ـ بتلخيص هذا الكتاب القيِّم على وجه لا يُخلّ بمقاصده
وأهدافه ، ومنهجه ، ويتمثّل عملي هذا في :
تلخيص العبارات ،
والاكتفاء بأقصرها وأقلّها أوّلاً ؛
والاقتصار على
أقوى البراهين وأوضحها ثانياً ؛
وحذف الأقوال
والأبحاث الموجبة للإطناب ثالثاً ؛
والتصرّف في تنسيق
الأبحاث وترتيبها رابعاً ؛
واستدراك ما فات
شيخنا الأُستاذ في بعض المجالات خامساً.
وإن كان ما
أحدثناه مستفاداً من مشكاة علمه ، ومستقى من معين فضله ، وله حقوق كبيرة على العلم
وأهله ، والجيل المعاصر ، حفظه الله مناراً للعلم ، ومشعلاً للهداية ، انّه سميع
مجيب.
|
جامعة قم المقدّسة ـ علي الربّاني الگلپايگاني
٣٠ رجب ١٤١٤ ه ق
المطابق ل ٢٣ بهمن ١٣٧٢ ه ش
|
مقدمة الطبعة
العاشرة :
ثمرة التجربة حُسن الاختيار
إنّ كتاب «الإلهيات
على هدى الكتاب والسنة والعقل» من أجمع وأحسن ما أُلّفَّ في العقائد الإسلامية في
العصر الحاضر.
والكتاب عبارة عن
محاضرات شيخنا الأستاذ العلّامة آية الله جعفر السبحاني (دام ظلّه الوارف) قام
بتقريرها وتحريرها تلميذه الفاضل الشيخ محمد حسن مكّي العاملي (دامت إفاضاته).
طبعت هذه الموسوعة
العقائدية في أربعة أجزاء.
وقد قمت ـ في سالف
الزمان ـ بتلخيصها وتهذيبها فصار التلخيص أحد المواد الدراسية المقررة في الحوزة
العلمية في قم المقدسة وقد تولّيت تدريسه دورة بعد دورة كما شاركني في ذلك عدد آخر
من الأفاضل ، فابدوا ـ حفظهم الله ـ آراءً حول الكتاب تهدف إلى لزوم عرض الكتاب
بشكل آخر يحقق الهدفين التاليين :
١. رعاية مستوى
الفهم لطلاب العلوم الإسلامية.
٢. الانسجام مع
الفترة الدراسية المقررة لدراسة هذه المادة.
__________________
فلذلك قمت على ضوء
مقترحاتهم وتجاربي عبر التدريس بإكمال بعض البحوث ، وحذف ما لا يتمتع بأهمية ، كما
أوجدت تغييراً في ترتيب مباحث الكتاب ، كل ذلك انطلاقاً من قول الإمام علي عليهالسلام : «أن الأُمور بالتجربة» .
وها اني اقدم
نتيجة عملي في هذا التلخيص الجديد الوافي للموسوعة الأم راجياً من الله أن يستفيد
منه طلاب العلوم الحقة.
نشكر الله تعالى
على ألطافه وتوفيقاته العظيمة كما نشكر الأساتذة الكرام على ما أبدوه من ملاحظات
حول الكتاب نقداً واصلاحاً.
|
علي الرباني الگلپايگاني
قم المقدّسة
٢٩ جمادى الاولى ١٤٢٧ ه. ق.
المطابق ل ٥ / ٤ / ١٣٨٥ ه. ش
|
__________________
الباب الأوّل :
فيما يتعلّق بذاته تعالى
وفيه أربعة فصول :
١. مقدمات وأصول ؛
٢. برهان النظم
وإثبات وجود الصانع العليم ؛
٣. برهان الحدوث
وإثبات وجود المحدث للعالم ؛
٤. برهان الإمكان
وإثبات واجب الوجود بالذات.
الفصل الأول :
مقدمات وأُصول
إنّ هناك مقدمات
وأصولاً ينبغي للطالب الوقوف عليها قبل أن يبتدئ بالبحث عن براهين وجود الله تعالى
وتوحيده وصفاته وهي :
١ ـ دور الدين الإلهي في حياة الإنسان
الدين ثورة فكرية
تقود الإنسان إلى الكمال والترقّي في جميع المجالات المهمّة الّتي لها صلة وثيقة
بحياة الإنسان ؛ أهمّها :
أ. تقويم الأفكار
والعقائد وتهذيبها عن الأوهام والخرافات ؛
ب. تنمية الأصول
الأخلاقية ؛
ج. تحسين العلاقات
الاجتماعية.
أمّا في المجال
الأوّل : فإنّ الدين يفسّر واقع الكون بأنّه إبداع موجود عال قام بخلق المادّة
وتصويرها وتحديدها بقوانين وحدود ، كما أنه يفسّر الحياة الإنسانية بأنّها لم تظهر
على صفحة الكون عبثا ولم يخلق الإنسان سدى ، بل لتكوّنه في هذا الكوكب غاية عليا
يصل إليها في ظلّ تعاليم الأنبياء والهداة المبعوثين من جانب الله تعالى.
وفي مقابل هذا
التفسير الديني لواقع الكون والحياة الإنسانية تفسير المادّي القائل بأنّ المادّة
الأولى قديمة بالذات وهي الّتي قامت فأعطت لنفسها نظماً ، وانّه لا غاية لها ولا
للإنسان القاطن فيها وراء هذه الحياة الماديّة ، وهذا التفسير يقود الإنسان إلى
الجهل والخرافة ، إذ كيف يمكن للمادّة أن تمنح نفسها نظماً؟! وهل يمكن أن تتّحد
العلّة والمعلول ، والفاعل والمفعول ، والجاعل والمجعول؟
ومن هنا يتبيّن
أنّ التكامل الفكري إنّما يتحقّق في ظلّ الدين ، لأنّه يكشف آفاقاً وسيعة أمام
عقله وتفكّره.
وأمّا في المجال
الثاني : فإنّ العقائد الدينية تُعدّ رصيداً للُاصول الاخلاقية ، إذ التقيّد
بالقيم ورعايتها لا ينفكّ عن مصائب وآلام يصعب على الإنسان تحمّلها إلّا بعامل
روحي يسهِّلها ويزيل صعوبتها له ، وهذا كالتضحية في سبيل الحق والعدل ، ورعاية
الأمانة ومساعدة المستضعفين ، فهذه بعض الأُصول الأخلاقية الّتي لا تنكر صحّتها ،
غير أن تجسيدها في المجتمع يستتبع آلاماً وصعوبات ، والاعتقاد بالله سبحانه وما في
العمل بها من الأجر والثواب خير عامل لتشويق الإنسان على اجرائها وتحمّل المصائب
والآلام.
وأمّا في المجال
الثالث : فإنّ الدين يعتبر البشر كلّهم مخلوقين لمبدإ واحد ، فالكلّ بالنسبة إليه
حسب الذات والجوهر كأسنان المشط ، ولا يرى أيّ معنى للمميّزات القوميّة والتفاريق
الظاهرية. هذا من جانب ، ومن جانب آخر فإنّ العقيدة الدينية تساند الأُصول
الاجتماعية ، لأنّها تصبح عند الإنسان
المتديّن تكاليف
لازمة ، ويكون الإنسان بنفسه مقوداً إلى العمل والإجراء ، أي إجراء التكاليف
والقوانين الاجتماعية في شتّى الحقول.
فهذه بعض المجالات
الّتي للدين فيها دور وتأثير واضح ، أفيصحّ بعد الوقوف على هذه التأثيرات المعجبة
أن نهمل البحث عنه ، ونجعله في زاوية النسيان؟
نعم ما ذكرنا من
دور الدين وتأثيره في الجوانب الحيويّة من الإنسان إنّما هو من شئون الدين الحقيقي
الّذي يؤيّد العلم ويؤكّد الاخلاق ولا يخالفهما ، وأمّا الأديان غير الإلهية أو
المنسوبة إلى الوحي بكذب وزور فخارجة عن موضوع بحثنا.
٢ ـ الدين والفطرة
إنّ علماء النفس
يعتقدون بأنّ للنفس الإنسانية أبعاداً أربعة ، يكون كلّ بعدٍ منها مبدأ لآثار خاصة
:
أ. روح الاستطلاع
واستكشاف الحقائق ، وهذا البعد من الروح الإنسانية باعث فطري لسعي الإنسان في سبيل
معرفة الكون واستكشاف الحقائق.
ب. حبّ الخير
والنزوع إلى البرّ والمعروف ، ولأجل ذلك يجد الإنسان في نفسه ميلاً إلى الخير
والصلاح ، وانزجاراً عن الشرّ والفساد ، وهذا الإحساس الفطري مبدأ للقيم والاخلاق
الإنسانية.
ج. علاقة الإنسان
بالجمال في مجالات الطبيعة والصناعة ،
فالمصنوعات
الدقيقة والجميلة ، واللوحات الفنّية والتماثيل الرائعة تستمدّ روعتها وجمالها من
هذا البعد.
د. الشعور الديني
الّذي يدعو الإنسان إلى الاعتقاد بأنّ وراء هذا العالم عالما آخر يستمدّ هذا
العالم وجوده منه ، وأنَّ الإنسان بكلّ خصوصياته متعلّق بذلك العالم ويستمدّ منه.
وهذا البعد الرابع
الّذي اكتشفه علماء النفس في العصر الأخير وأيّدوه بالاختبارات المتنوّعة مما ركّز
عليه الذكر الحكيم قبل قرون وأشار إليه في آياته المباركات ، منها قوله تعالى :
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) .
فالآية تنصّ على
أنّ الدين ـ بمعنى الاعتقاد بخالق العالم والإنسان وبأنّ مصير الإنسان بيده ـ شيء
خلق الإنسان عليه وفطر به ، كما خلق وفطر على كثير من الميول والغرائز.
٣. المعرفة المعتبرة
إنّ الخطوة الأولى
لفهم الدين هي الوقوف على المعرفة المعتبرة فيه ؛ فالدين الواقعي لا يعتبر كلّ
معرفة حقّا قابلاً للاستناد ، بل يشترط أن تكون معرفة قطعية حاصلة من أدوات
المعرفة المناسبة لذلك. يقول سبحانه :
(وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ
كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) .
__________________
ترى أنَّ الآية
ترفض كلّ معرفة خرجت عن إطار العلم القطعي. ولأجل ذلك يذمّ اقتفاء سنن الآباء والأجداد
، اقتفاءً بلا دليل معتبر ، وبلا علم بصحته وإتقانه. يقول سبحانه :
(وَكَذلِكَ ما
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها
إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) .
وقال سبحانه ردّاً
لمقالتهم هذه :
(أَوَلَوْ كانَ
آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) .
ربّما يقال : إذا
كان اقتفاء الآباء والأجداد وتقليدهم امراً مذموماً فلما ذا جوّز الاسلام تقليد
الفقهاء في فروع الدين؟
والجواب : أنّ
تقليد الفقيه في الأحكام الدينية ليس من قسم التقليد المذموم ، لأنّ رجوع الجاهل
إلى العالم واقتفائه أثره رجوع إليه مع الدليل ، وعليه سيرة العقلاء في جميع
المجالات ، فالجاهل بالصنعة يرجع إلى عالمها ، وجاهل الطب يرجع إلى خبيره.
هذا ، مضافاً إلى
أنَّ أصول العقائد ممّا يتمكّن كلّ إنسان بعقله وفطرته أن يتعرّف عليها ، ويعتقد
بها فليس للتقليد فيها مجال ، إلّا فيما يرجع إلى الأبحاث الدقيقة والغامضة ،
فيجوز فيها الاستناد بآراء العلماء البارزين في الكلام.
__________________
٤. وجوب البحث عن وجود الله تعالى
إنّ العقل يدعو
الإنسان العاقل ويحفزه إلى التفكر والبحث عن وجود الله تعالى. وذلك لأنّ هناك
مجموعة كبيرة من رجالات الإصلاح والأخلاق الديني فدوا انفسهم في طريق إصلاح
المجتمع وتهذيبه وتوالوا على مدى القرون والأعصار ، ودعوا المجتمعات البشرية إلى
الاعتقاد بالله سبحانه وصفاته الكمالية ، وادّعوا أنّ له تكاليف على عباده ووظائف
وضعها عليهم ، وأنّ الحياة لا تنقطع بالموت ، وإنّما ينقل الإنسان من دار إلى دار
، وأنّ من قام بتكاليفه فله الجزاء الأوفى ، ومن خالف واستكبر فله النكاية الكبرى.
هذا ما سمعته آذان
أهل الدنيا من رجالات الوحي والاصلاح ، ولم يكن هؤلاء متَّهمين بالكذب والاختلاق ،
بل كانت علائم الصدق لائحة من خلال حياتهم وأفعالهم وأذكارهم ، عند ذلك يدفع العقل
الإنسان المفكّر إلى البحث عن صحّة مقالتهم دفعاً للضرر المحتمل أو المظنون الّذي
يورثه أمثال هؤلاء.
إنّ هاهنا وجهاً
آخر لوجوب البحث عن وجود الله تعالى. وهو أنّ الإنسان في حياته غارق في النعم ،
وهذا ممّا لا يمكن لأحد إنكاره ، ومن جانب آخر أنّ العقل يستقلّ بلزوم شكر المنعم
، ولا يتحقّق الشكر إلّا بمعرفته.
__________________
وعلى هذين الأمرين
يجب البحث عن المنعم الّذي غمر الإنسان بالنعم وأفاضها عليه ، فالتعرّف عليه من
خلال البحث إجابة لهتاف العقل ودعوته إلى شكر المنعم المتوقّف على معرفته .
__________________
الفصل الثاني :
برهان النظم وإثبات وجود الصانع العليم
إنّ البراهين
الدالّة على وجود خالق لهذا الكون ومفيض لهذه الحياة كثيرة متعدّدة ، ونحن نكتفي
بتقرير ثلاثة منها :
١. برهان النظم ؛
٢. برهان الحدوث ؛
٣. برهان الإمكان
والوجوب.
ففي هذا الفصل
نبيّن برهان النظم ونقول :
إنّ من أوضح
البراهين العقلية وأيسرها تناولاً للجميع هو برهان النظم ، وهو الاهتداء إلى وجود
الله سبحانه عن طريق مشاهدة النظام الدقيق البديع السائد في عالم الكون والتفكّر
فيه.
ما هو النظم؟
إنّ مفهوم النظم
من المفاهيم الواضحة لدى الأذهان ومن خواصّه أنّه يتحقّق بين أُمور مختلفة سواء
كانت أجزاء لمركب أو افراداً من ماهية واحدة
أو ماهيات مختلفة
، فهناك ترابط وتناسق بين الأجزاء ، أو توازن وانسجام بين الأفراد يؤدّي إلى هدف
وغاية مخصوصة ، كالتلاؤم الموجود بين أجزاء الشجر ، وكالتوازن الحاصل بين حياة
الشجر والحيوان.
تقرير برهان النظم
إنّ برهان النظم
يقوم على مقدّمتين : إحداهما حسيّة ، والأُخرى عقلية.
أمّا الأُولى :
فهي هناك نظاماً سائداً على الظواهر الطبيعية الّتي يعرفها الإنسان إمّا بالمشاهدة
الحسّية الظاهرية وإمّا بفضل الأدوات والطرق العلميّة التجريبيّة. وما زالت العلوم
الطبيعيّة تكشف مظاهر وأبعاداً جديدة من النظام السائد في عالم الطبيعة ، وهناك
آلاف من الرسائل والكتب المؤلّفة حول العلوم الطبيعيّة مليئة بذكر ما للعالم
الطبيعي من النظام المعجب. فلا حاجة إلى تطويل الكلام في هذا المجال.
وأما الثانية :
فهي أنّ العقل بعد ما لاحظ النظام وما يقوم عليه من المحاسبة والتقدير والتوازن
والانسجام ، يحكم بالبداهة بأنّ أمراً هكذا شأنه يمتنع صدوره إلّا عن فاعل قادر
عليم ذي إرادة وقصد ، ويستحيل تحقّقها صدفة وتبعا لحركات فوضويّة للمادّة العمياء
الصمّاء ، فإنّ تصوّر مفهوم النظم وأنّه ملازم للمحاسبة والعلم يكفي في التصديق
بأنّ النظم لا ينفك عن وجود ناظم عالم أوجده ، وهذا على غرار حكم العقل بأنّ كلّ
ممكن فله علّة موجدة ، وغير ذلك من البديهيات العقلية.
برهان النظم في الوحي
الإلهي
إنّ الوحي الإلهي
قد أعطى برهان النظم اهتماماً بالغاً ، وهناك آيات كثيرة من القرآن تدعو الإنسان
إلى مطالعة الكون وما فيه من النظم والإتقان حتى يهتدي إلى وجود الله تعالى وعلمه
وحكمته.
نرى أنّ القرآن
الكريم يلفت نظر الإنسان إلى السّير في الآفاق والأنفس ويقول :
(سَنُرِيهِمْ آياتِنا
فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) .
ويقول : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) .
ويقول : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي
الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ
فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ
وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).
ويقول : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ) .
__________________
ويقول ايضاً : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) .
وقال علي عليهالسلام : «ألا ينظرون إلى صغير ما خلق؟ كيف أحكم خلقه وأتقن
تركيبه ، وفلق له السّمع والبصر ، وسوّى له العظم والبشر ، انظروا إلى النّملة في
صغر جثّتها ولطافة هيئتها لا تكاد تنال بلحظ البصر ولا بمستدرك الفكر ، كيف دبّت
على أرضها وصبّت على رزقها ، تنقل الحبّة إلى جحرها وتعدّها في مستقرها ، تجمع في
حرِّها لبردها وفي ورْدِها لصَدَرها ... فالويل لمن أنكر المقدِّر وجحد المدبِّر ...»
وقال الامام
الصادق عليهالسلام في ما أملاه على تلميذه المفضّل بن عمر :
«أوّل العبر
والأدلّة على الباري جلّ قدسه ، تهيئة هذا العالم وتأليف أجزائه ونظمها على ما هي
عليه ، فإنّك إذا تأمّلت بفكرك وميّزته بعقلك وجدته كالبيت المبنيّ المعدّ فيه
جميع ما يحتاج إليه عباده ، فالسّماء مرفوعة كالسّقف ، والأرض ممدودة كالبساط ،
والنجوم مضيئة كالمصابيح ، والجواهر مخزونة كالذخائر ، وكلّ شيء فيه لشأنه معدّ ،
والإنسان كالمملَّك ذلك البيت ، والمُخَوَّل جميع ما فيه ، وضروب النبات مهيئة
لمآربه ، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه.
ففي هذا دلالة
واضحة على أنّ العالم مخلوق بتقدير وحكمة ونظام وملاءمة ، وانّ الخالق له واحد ،
وهو الّذي ألّفه ونظّمه بعضاً إلى بعض جلّ قدسه وتعالى جدّه».
__________________
إشكالات والإجابة عنها
إنّ هناك إشكالات
طرحت حول برهان النظم يجب علينا الإجابة عنها ، والمعروف منها ما طرحه ديفويد هيوم
الفيلسوف الانكليزي (١٧١١ ـ ١٧٧٦ م) في كتابه «محاورات حول الدّين الطبيعي» وهي ستّة إشكالات كما يلي :.
الإشكال الأوّل
إنّ برهان النّظم
لا يتمتّع بشرائط البرهان التجريبي ، لأنّه لم يجرّب في شأن عالم آخر غير هذا
العالم ، صحيح أنّا جرّبنا المصنوعات البشريّة فرأينا أنّها لا توجد إلّا بصانع
عاقل كما في البيت والسفينة والسّاعة وغير ذلك ، ولكنّنا لم نجرّب ذلك في الكون ،
فانّا لم نشاهد عوالم اخر مماثلة لهذا العالم وهي مخلوقة لخالق عاقل وحكيم حتى
نحكم بذلك في خلق هذا العالم ، ولهذا لا يمكن أن نثبت له علّة خالقة على غرار المصنوعات
البشريّة.
والجواب عنه : إنّ
برهان النظم ليس برهانا تجريبيّاً بأن يكون الملاك فيه هو تعميم الحكم على أساس
المماثلة الكاملة بين الأشياء المجرّبة وغير المجرّبة ، بل هو برهان عقلي يحكم
العقل بعد مشاهدة النظم الحاكم على
__________________
العالم الطبيعي
والتفكر فيه بأنّه مخلوقٌ موجودٍ عالم قادر مختار من دون حاجة إلى مقولة التمثيل
ونحوه.
وكون إحدى
مقدّمتيه حسّيّة لا يضرّ بكون البرهان عقليّاً ، فإنّ دور الحسّ فيه ينحصر في
إثبات الموضوع ، أي إثبات النظم في عالم الكون ، وأمّا الحكم والاستنتاج يرجع إلى
العقل ويبتنى على محاسبات عقلية ، وهو نظير ما إذا ثبت بالحس أنّ هاهنا مربّعاً ،
فإنّ العقل يحكم من فوره بأنّ أضلاعه الأربعة متساوية في الطول.
فالعقل يرى ملازمة
بيّنة بين النظم بمقدّماته الثلاث ، أعني : الترابط والتناسق والهدفيّة ، وبين
دخالة الشعور والعقل ، فعند ما يلاحظ ما في جهاز العين مثلا من النظام بمعنى تحقّق
أجزاء مختلفة كمّاً وكيفاً ، وتناسقها بشكل يمكنها من التعاون والتفاعل فيما بينها
ويتحقّق الهدف الخاص منه ، يحكم بأنّها من فعل خالق عظيم ، لاحتياجه إلى دخالة
شعور وعقل وهدفيّة وقصد.
الإشكال الثاني
إنّ هناك في عالم
الطبيعة ظواهر وحوادث غير متوازنة خارجة عن النظام وهي لا تتّفق مع النظام المدّعى
ولا مع الحكمة الّتي يوصف بها خالق الكون ، كالزلازل والطوفانات.
والجواب عنه : أنّ
ما تعدّ من الحوادث الكونيّة شروراً كالزلازل والطوفانات لها نظام خاصّ في صفحة
الكون ، ناشئة عن علل وأسباب معيّنة
تتحكّم عليها
محاسبات ومعادلات خاصّة وقد وفّق الإنسان إلى اكتشاف بعضها وإن بقي بعض آخر منها
مجهولاً له بعد.
وأمّا أنّها
ملائمة لمصالح الإنسان أو غير ملائمة له ، فلا صلة له ببرهان النظم الّذي بصدد
إثبات أنّ هناك مبدئاً وفاعلاً لعالم الطبيعة ذا علم وقدرة وإرادة ، وسيجيء البحث
عنها في الفصول القادمة فانتظره.
الإشكال الثالث
ما ذا يمنع من أن
نعتقد بأنّ النظام السائد في عالم الطبيعة حاصل من قبل عامل كامن في نفس الطبيعة ،
أي أنّ النظام يكون ذاتيّاً للمادّة؟ إذ لكلّ مادّة خاصيّة معيّنة لا تنفكّ عنها ،
وهذه الخواصّ هي الّتي جعلت الكون على ما هو عليه الآن من النظام.
والجواب عنه : أنّ
غاية ما تعطيه خاصيّة المادّة هي أن تبلغ بنفسها فقط إلى مرحلة معيّنة من التكامل
الخاصّ والنظام المعيّن ـ على فرض صحّة هذا القول ـ لا أن تتحسّب للمستقبل وتتهيّأ
للحاجات الطارئة ، ولا أن تقيم حالة عجيبة ورائعة من التناسق والانسجام بينها وبين
الأشياء
__________________
المختلفة والعناصر
المتنافرة في الخواصّ والأنظمة.
ولنأت بمثال لما
ذكرناه ، وهو مثال واحد من آلاف الأمثلة في هذا الكون ، هب أنّ خاصيّة الخليّة
البشريّة عند ما تستقرّ في رحم المرأة ، هي أن تتحرّك نحو الهيئة الجنينية ، ثمّ
تصير إنساناً ذا أجهزة منظّمة ، ولكن هناك في الكون في مجال الإنسان تحسُّباً
للمستقبل وتهيُّؤاً لحاجاته القادمة لا يمكن أن يستند إلى خاصيّة المادّة ، وهو
أنّه قبل أن تتواجد الخليّة البشريّة في رحم الأُمّ وجدت المرأة ذات تركيبة وأجهزة
خاصّة تناسب حياة الطفل ثمّ تحدث للأُمّ تطوّرات في أجهزتها البدنية والروحيّة
مناسبة لحياة الطفل وتطوّراته.
هل يمكن أن نعتبر
كلّ هذا التحسّب من خواصّ الخليّة البشريّة ، وما علاقة هذا بذاك؟
ثلاثة اشكالات أُخرى
لهيوم
١. من أين نثبت
أنّ النظام الموجود فعلاً هو النظام الأكمل ، لأنّا لم نلاحظ مشابهه حتى نقيس به؟
٢. من يدري لعلّ
خالق الكون جرّب صنع الكون مراراً حتى اهتدى إلى النظام الفعلي؟
٣. لو فرضنا أنّ
برهان النظم أثبت وجود الخالق العالم القادر ، غير أنّه لا يدلّ مطلقاً على الصفات
الكمالية كالعدالة والرحمة الّتي يوصف بها.
والجواب عنها : أنّ هذه الإشكالات ناشئة من عدم الوقوف على رسالة برهان
النظم ومدى ما يسعى إلى اثباته ، إنّ رسالة برهان النظم تتلخّص في إثبات أنّ
النظام السائد في الكون ليس ناشئاً من الصدفة ولا من خاصيّة ذاتية للمادّة العمياء
، بل وجد بعقل وشعور ومحاسبة وتخطيط ، فله خالق عالم قادر.
وأمّا أنّ هذا
الخالق الصانع هو الله الواجب الوجوب الأزلي الأبدي أم لا ، وأنّ علمه بالنظام
الأحسن هل هو ذاتي فعلي أو انفعالي تدريجى ، وأنّ النظام الموجود هل هو أحسن نظام
أو لا؟ فهي ممّا لا يتكفّل بإثباته هذا البرهان ولا أنّه في رسالته ولا مقتضاه ،
بل لا بدّ في هذا المورد من الاستناد إلى براهين أُخرى مثل برهان الإمكان والوجوب
، والاستناد بقواعد عقلية بديهية أو مبرهنة مذكورة في كتب الفلسفة والكلام ، مثل
أنّ علمه تعالى ذاتي فعلي وليس بانفعالي تدريجى ، وأنّ النظام الكياني ناشئ عن
النظام الربّاني ومطابق له ، وذلك النظام الربّاني العلمي أكمل نظام ممكن ، إلى
غير ذلك من الأُصول الفلسفية.
٢
برهان الحدوث
من البراهين الّتي
يُستدلّ بها على إثبات وجود خالق الكون ، برهان الحدوث ، وهو المشهور عند
المتكلمين وتقرير البرهان يتوقف على تعريف الحدوث وأقسامه أوّلا وإثبات حدوث
العالم ثانياً فنقول :
تعريف الحدوث وأقسامه
الحدوث وصف للوجود
باعتبار كونه مسبوقاً بالعدم وهو على قسمين :
الأوّل : الحدوث
الزماني وهو مسبوقيّة وجود الشيء بالعدم الزماني كمسبوقيّة اليوم بالعدم في أمس
ومسبوقيّة حوادث اليوم بالعدم في أمس.
والثاني : الحدوث
الذّاتي وهو مسبوقيّة وجود الشيء بالعدم في ذاته ، كجميع الموجودات الممكنة الّتي
لها الوجود بعلّة خارجة من ذاتها ، وليس لها في ماهيّتها وحدّ ذاتها إلّا العدم ،
هذا حاصل ما ذكروه في تعريف الحدوث وتقسيمه إلى الزماني والذاتي والتفصيل يطلب من
محلّه.
ثمّ إنّ مرجع
الحدوث الذاتى إلى الإمكان الذاتي ، فالاستدلال
__________________
بالحدوث الذاتي
راجع إلى برهان الإمكان والوجوب ، فلنركّز البرهان هنا على الحدوث الزّماني فنقول
:
حدوث الحياة في عالم
المادّة
أثبت العلم بوضوح
أنّ هناك انتقالاً حراريّاً مستمرّاً من الأجسام الحارّة إلى الأجسام الباردة ،
ولا تتحقّق في عالم الطبيعة عملية طبيعية معاكسةً لذلك ، ومعنى ذلك أنّ الكون
يتّجه إلى درجة تتساوى فيها جميع الأجسام من حيث الحرارة وعند ذلك لن تتحقّق
عمليات كيميائيّة أو طبيعيّة ، ويستنتج من ذلك : أنّ الحياة في عالم المادّة أمر
حادث ولها بداية ، إذ لو كانت موجوداً أزلياً وبلا ابتداء لزم استهلاك طاقات
المادّة ، وانضباب ظاهرة الحياة المادّية منذ زمن بعيد. وإلى ما ذكرنا أشار «فرانك
آلن» أستاذ علم الفيزياء بقوله :
قانون «ترموديناميا»
أثبت أنّ العالم لا يزال يتّجه إلى نقطة تتساوى فيها درجة حرارة جميع الأجسام ،
ولا توجد هناك طاقة مؤثِّرة لعمليّة الحياة ، فلو لم يكن للعالم بداية وكان
موجوداً من الأزل لزم أن يقضى للحياة أجلها منذ أمدٍ بعيدٍ ، فالشَّمس المشرقة
والنجوم والأرض المليئة من الظواهر الحيويّة وعملياتها أصدق شاهد على أنّ العالم
حدث في زمان معيَّن ، فليس العالم إلّا مخلوقاً حادثاً.
__________________
تقرير برهان الحدوث
ممّا تقدّم تبيَّنت
صغرى برهان الحدوث وهي أنّ الحياة في العالم المادّي حادث ، فليس بذاتي له ، وليُضمَّ إليها الأصل البديهي العقلي وهو أنّ كلّ أمر غير
ذاتي معلَّل ، كما أنّ كلّ حادث لا بدّ له من محدث وخالق ، فما هو المحدث لحياة
المادة؟ إمّا هي نفسها أو غيرها؟ ولكنّ الفرض الأوّل باطل ، لأنّ المفروض أنّها
كانت قبل حدوث الحياة لها فاقدة لها ، وفاقد الشيء يستحيل أن يكون معطياً له ، فلا
مناص من قبول الفرض الثاني ، فهناك موجود آخر وراء عالم المادّة هو الموجد للمادّة
ومحدث الحياة لها.
إلى هنا تمّ دور
الحدوث الزماني في البرهان ، وأنتج أنّ هناك موجوداً غير مادّي ، محدثاً لهذا
العالم المادّي ، وأمّا أنّ ذلك المحدث هل هو ممكن أو واجب ، وحادث أو قديم ، فلا
بدّ لإثباته من اللجوء إلى برهان الإمكان والوجوب وامتناع الدور والتسلسل.
__________________
الإجابة عن شبهة رسل
إنّ لبرترند رسل هاهنا شبهة يجب أن نجيب عنها وهي : انّه بعد الإشارة إلى
قانون «ترموديناميا» وما يترتب عليه من حدوث العالم المادّي ، قال :
لا يصحّ أن يستنتج
منه أنّ العالم مخلوق لخالق وراءه ، لأنّ استنتاج وجود الخالق استنتاج عليّ
والاستنتاج العليِّ في العلوم غير جائز إلّا إذا انطبقت عليه القوانين العلمية ،
ومن المعلوم استحالة إجراء العمليّة التجريبيّة على خلقة العالم من العدم ، ففرض
كون العالم مخلوقاً لخالق محدث ، ليس أولى من فرض حدوثه بلا علّة محدثة ، فانّ
الفرضين مشتركان في نقض القوانين العلميّة المشهودة لنا.
والجواب عنها :
أنّ برهان الحدوث ـ كما عرفت ـ متشكّل من مقدّمتين ، الأُولى : حدوث العالم ، وهذا
نتيجة واضحة من الأبحاث العلمية التجريبيّة ، والثانية : الأصل العقلي البديهي ،
وليس هذا مستفاداً من الأبحاث العلمية ، بل هو خارج عن نطاق العلم التجريبي رأساً
، فإن كان مراد رسل من تساوي فرض مخلوقية العالم وفرض وجوده صدفةً أنّهما خارجتان
عن نطاق
__________________
العلوم التجريبيّة
، فصحيح ، لكنّهما غير متساويين عند العقل الصريح الّذي هو الحاكم الفريد في أمثال
هذه الأبحاث العقلية الخارجة عن نطاق العلوم التجريبيّة الحسيّة ، فكأنّ رسل رفض
العقل والبراهين العقليّة وحصر طريق الاستدلال على طريقة الحسّ والاستقراء
والتجربة ، كما هو مختار جميع الفلاسفة الحسّيّين الأوروبيّين وغيرهم ، وقد برهن
على فساد هذا المبنى في محلّه.
برهان الحدوث في الكتاب
والسنّة
إنّ في الكتاب
الكريم نصوصاً على حدوث الكون أرضا وسماءً وما بينهما وما فيهما. قال سبحانه : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ
تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) .
وقال سبحانه : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ
وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) .
فصرّح في الآية
الأولى بخلق كلّ شيء وفي الآية الثانية بخلق السماوات والأرضين. وقد صرّح في الآية
التالية بخلق كل دابّة قال سبحانه : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ
دَابَّةٍ) .
وقال في حقّ
الإنسان : (هَلْ أَتى عَلَى
الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) .
__________________
إلى غير ذلك من
الآيات. وكلّ مخلوق فهو حادث في ذاته كما أنّ كلّ مخلوق مادّي حادث ذاتاً وزماناً.
فالآيات الناظرة إلى مخلوقيّة العالم المادّي ناظرة إلى برهان الحدوث.
والأحاديث المروية
عن العترة الطاهرة عليهمالسلام في حدوث العالم كثيرة نكتفى بذكر بعض منها :
١. قال الإمام علي
عليهالسلام : «الحمد لله الدالّ على وجوده بخلقه وبمحدث خلقه على
أزليّته» .
٢. وقال عليهالسلام : «الحمد لله الدالّ على قدمه بحدوث خلقه ، وبحدوث خلقه
على وجوده» .
٣. دخل رجل على
الإمام علي بن موسى الرضا عليهالسلام وقال : يا ابن رسول الله ، ما الدليل على حَدَث العالم؟
فقال عليهالسلام : «أنت لم تكن ثمّ كنت ، وقد علمت أنّك لم تكوّن نفسك ولا
كوّنك من هو مثلك».
٤. دخل أبو شاكر
الديصاني على الإمام الصادق عليهالسلام وقال : «ما الدليل على حدوث العالم»؟ فدعا الإمام عليهالسلام ببيضة فوضعها على راحته فقال : هذا حصن ملموم ، داخله غرقئ
رقيق لطيف به فضّة سائلة وذهبة مائعة ، ثمّ تنفلق عن مثل الطاوس ، أدخلها شيء؟
فقال : لا.
قال عليهالسلام : فهذا الدليل على حدوث العالم.
__________________
٣
برهان الإمكان والوجوب
إنّ برهان الإمكان
والوجوب من أحكم البراهين على وجود الواجب الوجود بالذّات وهو الله ـ عزّ اسمه ـ ومن
هنا قد اكتفى به المتكلم البارع نصير الدين الطوسي في سفره القيّم «تجريد الاعتقاد»
وتقرير هذا البرهان يتوقّف على بيان أُمور :
الأمر الأوّل :
تقسيم الموجود إلى الواجب والممكن ، وذلك لأنّ الموجود إمّا أن يستدعي من صميم
ذاته ضرورة وجوده ولزوم تحقّقه في الخارج ، فهذا هو الواجب لذاته ، وإمّا أن يكون
متساوي النسبة إلى الوجود والعدم ولا يستدعي في حدّ ذاته أحدهما أبداً ، وهو
الممكن لذاته ، كأفراد الإنسان وغيره.
الأمر الثاني :
كلّ ممكن يحتاج إلى علّة في وجوده ، وهذا من البديهيات الّتي لا يرتاب فيها ذو
مُسكة ، فإنّ العقل يحكم بالبداهة على أنّ ما لا يستدعي في حدّ ذاته الوجود ،
يتوقف وجوده على أمر آخر وهو العلّة ، وإلّا فوجوده ناش من ذاته ، هذا خلف.
الأمر الثالث :
الدور ممتنع ، وهو عبارة عن كون الشيء موجداً لثان وفي الوقت نفسه يكون الشيء
الثاني موجداً لذاك الشيء الأوّل.
وجه امتناعه أنّ
مقتضى كون الأوّل علّة للثاني ، تقدّمه عليه وتأخّر الثاني عنه ، ومقتضى كون
الثاني علّة للأوّل تقدّم الثاني عليه ، فينتج كون الشيء الواحد ، في حالة واحدة
وبالنسبة إلى شيء واحد ، متقدّماً وغير متقدّم ومتأخّراً وغير متأخّر وهذا هو
الجمع بين النقيضين.
إنّ امتناع الدور
وجداني ولتوضيح الحال نأتي بمثال : إذا اتّفق صديقان على إمضاء وثيقة واشترط كلّ
واحد منهما لإمضائها ، إمضاء الآخر فتكون النتيجة توقّف إمضاء كلٍّ على إمضاء
الآخر ، وعند ذلك لن تكون تلك الورقة ممضاة إلى يوم القيامة ، وهذا ممّا يدركه
الإنسان بالوجدان وراء دركه بالبرهان.
الأمر الرابع :
التسلسل محال ، وهو عبارة عن اجتماع سلسلة من العلل والمعاليل الممكنة ، مترتبة
غير متناهية ، ويكون الكلّ متَّسماً بوصف الإمكان ، بأن يتوقف (أ) على (ب) و (ب)
على (ج) و (ج) على (د) وهكذا من دون أن تنتهي إلى علّة ليست بممكنة ولا معلولة.
والدليل على استحالته
أنّ المعلوليّة وصف عامّ لكلّ جزء من أجزاء السلسلة ، فعندئذ يطرح هذا السؤال نفسه
: إذا كانت السلسلة الهائلة معلولة ، فما هي العلّة الّتي أخرجتها من كتم العدم
إلى عالم الوجود؟ والمفروض أنّه ليس هناك شيء يكون علّة ولا يكون معلولاً ، والّا
يلزم انقطاع السلسلة
وتوقّفها عند نقطة
خاصّة ، وهي الموجود الّذي قائم بنفسه وغير محتاج إلى غيره وهو الواجب الوجود
بالذات.
فإن قلت : إنّ كلّ
معلول من السلسلة متقوّم بالعلّة الّتي تتقدّمه ومتعلّق بها ، فالجزء الأوّل من
آخر السلسلة وجد بالجزء الثاني ، والثاني بالثالث ، وهكذا إلى أجزاء وحلقاتٍ غير
متناهية ، وهذا المقدار من التعلّق يكفي لرفع الفقر والحاجة.
قلت : المفروض أنّ
كلّ جزء من أجزاء السلسلةُ متَّسم بوصف الإمكان والمعلولية ، وعلى هذا فوصف
العلّيّة له ليس بالأصالة والاستقلال ، فليس لكلّ حلقة دور الإفاضة والإيجاد بالاستقلال
، فلا بدّ أن يكون هناك علّة وراء هذه السلسلة ترفع فقرها وتكون سناداً لها.
ولتوضيح الحال
نمثّل بمثال وهو أنّ كلّ واحدة من هذه المعاليل بحكم فقرها الذاتي ، بمنزلة الصفر
، فاجتماع هذه المعاليل بمنزلة اجتماع الأصفار ، ومن المعلوم أنّ الصفر بإضافة
أصفار متناهية أو غير متناهية إليه لا ينتج عدداً ، بل يجب أن يكون إلى جانب هذه
الأصفار عدد صحيح قائم بالذات حتّى يكون مصحِّحاً لقراءة تلك الأصفار.
فقد خرجنا بهذه
النتيجة وهي أنّ فرض علل ومعاليل غير متناهية مستلزم لأحد أمرين : إمّا تحقّق
المعلول بلا علّة ، وإمّا عدم وجود شيء في الخارج رأساً ، وكلاهما بديهي
الاستحالة.
تقرير برهان الإمكان
إلى هنا تمّت
المقدّمات الّتي يبتني عليها برهان الإمكان ، وإليك نفس البرهان :
لا شكّ أنّ صفحة
الوجود مليئة بالموجودات الإمكانية ، بدليل انّها توجد وتنعدم وتحدث وتفني ويطرأ
عليها التبدّل والتغير ، إلى غير ذلك من الحالات الّتي هي آيات الإمكان وسمات
الافتقار.
وأمر وجودها لا
يخلو عن الفروض التالية :
١. لا علّة
لوجودها ، وهذا باطل بحكم المقدّمة الثانية (كلّ ممكن يحتاج إلى علّة).
٢. البعض منها
علّة لبعض آخر وبالعكس ، وهو محال بمقتضى المقدّمة الثالثة (بطلان الدور).
٣. بعضها معلول
لبعض آخر وذلك البعض معلول لآخر من غير أن ينتهي إلى علّة ليست بمعلول ، وهو ممتنع
بمقتضى المقدّمة الرابعة (استحالة التسلسل).
٤. وراء تلك
الموجودات الإمكانية علّة ليست بمعلولة بل يكون واجب الوجود لذاته وهو المطلوب.
فاتّضح أنّه لا
يصحّ تفسير النظام الكوني إلّا بالقول بانتهاء الممكنات
إلى الواجب لذاته
القائم بنفسه ، فهذه الصورة هي الّتي يصحِّحها العقل ويعدُّها خالية عن الإشكال ،
وأمّا الصور الباقية ، فكلّها تستلزم المحال ، والمستلزم للمحال محال.
برهان الإمكان في الذكر
الحكيم
قد أُشير في الذكر
الحكيم إلى شقوق برهان الإمكان ، فإلى أنّ حقيقة الممكن حقيقة مفتقرة لا تملك
لنفسها وجوداً وتحقّقاً ولا أيّ شيء آخر أشار بقوله :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) .
ومثله قوله سبحانه
: (وَأَنَّهُ هُوَ
أَغْنى وَأَقْنى) .
وقوله سبحانه : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ
الْفُقَراءُ) .
وإلى أنّ الممكن
ومنه الإنسان لا يتحقّق بلا علّة ، ولا تكون علّته نفسه ، أشار سبحانه بقوله : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ
هُمُ الْخالِقُونَ) .
وإلى أنّ الممكن
لا يصحّ أن يكون خالقاً لممكن آخر بالأصالة والاستقلال ومن دون الاستناد إلى خالق
واجب أشار بقوله :
(أَمْ خَلَقُوا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) .
__________________
إجابة عن إشكال
قد استشكل على
القول بانتهاء الممكنات إلى علّة أزليّة ليست بمعلول ، بأنّه يستلزم تخصيص القاعدة
العقلية ، فإنّ العقل يحكم بأنّ الشيء لا يتحقّق بلا علّة.
والجواب : انّ
القاعدة العقليّة تختص بالموجودات الإمكانية الّتي لا تقتضي في ذاتها وجوداً ولا
عدماً ، إذ الحاجة إلى العلّة ، ليست من خصائص الموجود بما هو موجود ، بل هي من
خصائص الموجود الممكن ، فإنّه حيث لا يقتضي في حدِّ ذاته الوجود ولا العدم ، لا
بدَّ له من علّة توجده ، ويجب انتهاء أمر الإيجاد إلى ما يكون الوجود عين ذاته ولا
يحتاج إلى غيره ، لما تقدّم من إقامة البرهان على امتناع التسلسل ، فالاشتباه نشأ
من الغفلة عن وجه الحاجة إلى العلّة وهو الإمكان لا الوجود.
الباب الثاني :
في التوحيد ومراحله
يحتلّ التوحيد
المكانة العليا في الشرائع السماوية ، فكان أوّل كلمة في تبليغ الرسل الدعوة إلى
التوحيد ورفض الثنوية والشرك ، يقول سبحانه :
(وَلَقَدْ بَعَثْنا
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ
فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ
فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (النحل : ٣٦).
ولأجل ذلك يجب على
الإلهي التركيز على مسألة التوحيد أكثر من غيرها ، واستيفاء الكلام فيه موقوف على
البحث حول أهمِّ مراحل التوحيد ، وهي :
١. التوحيد في
الذات ؛
٢. التوحيد في
الصفات ؛
٣. التوحيد في
الخالقية ؛
٤. التوحيد في
الربوبية ؛
٥. التوحيد في
العبادة.
وإليك دراسة
المواضيع المتقدّمة :
الفصل الأوّل :
التوحيد في الذات
يعنى بالتوحيد في
الذات أمران : الأوّل أنّ ذاته سبحانه بسيط لا جزء له ، والثاني أنّ ذاته تعالى
متفرِّد ليس له مثل ولا نظير ، وقد يعبَّر عن الأوّل بأحديّة الذات وعن الثاني
بواحديّته. وفي سورة التوحيد إشارة إلى هذين المعنيين ، فقوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) إشارة إلى المعنى الأوّل وقوله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) إشارة إلى المعنى الثاني.
البرهان على بساطة ذاته
تعالى
اعلم أنّ التركيب
على أقسام :
١. التركيب من
الأجزاء العقلية فقط كالجنس والفصل.
٢. التركيب منها
ومن الأجزاء الخارجية كالمادّة والصورة والأجزاء العنصرية.
٣. التركيب من
الأجزاء المقدارية كأجزاء الخط والسطح.
والمدّعى أنّ ذاته
تعالى بسيط ليس بمركب من الأجزاء مطلقاً.
والدليل على أنّه
ليس مركّباً من الأجزاء الخارجية والمقداريّة أنّه سبحانه منزّه عن الجسم والمادّة
كما سيوافيك البحث عنه في الصفات السلبية.
والبرهان على عدم
كونه مركّباً من الأجزاء العقلية هو أنّ واجب الوجود بالذات لا ماهية له ، وما لا
ماهية له ليس له الأجزاء العقليّة الّتي هي الجنس والفصل .
والوجه في انتفاء
الماهيّة عنه تعالى بهذا المعنى هو أنّ الماهيّة من حيث هي هى ، مع قطع النظر عن
غيرها ، متساوية النسبة إلى الوجود والعدم ، فكلّ ماهيّة من حيث هي ، تكون ممكنة ،
فما ليس بممكن ، لا ماهيّة له والله تعالى بما أنّه واجب الوجود بالذات ، لا يكون
ممكناً بالذات فلا ماهيّة له.
دلائل وحدانيّته :
أ. التعدّد يستلزم
التركيب
لو كان هناك واجب
وجود آخر لتشارك الواجبان في كونهما واجبي الوجود ، فلا بدّ من تميّز أحدهما عن
الآخر بشيء وراء ذلك الأمر المشترك ، وذلك يستلزم تركب كلّ منهما من شيئين :
أحدهما يرجع إلى ما به الاشتراك ،
__________________
والآخر إلى ما به
الامتياز ، وقد عرفت انّ واجب الوجود بالذات بسيط ليس مركّباً لا من الأجزاء
العقلية ولا الخارجية.
ب. صرف الوجود لا يتثنّى
ولا يتكرّر
قد تبيّن أنّ واجب
الوجود بالذات لا ماهيّة له ، فهو صرف الوجود ، ولا يخلط وجوده نقص وفقدان ، ومن
الواضح أنّ كلّ حقيقة من الحقائق إذا تجرّدت عن أيّ خليط وصارت صرف الشيء ، لا
يمكن أن تتثنّى وتتعدّد.
وعلى هذا ، فإذا
كان سبحانه ـ بحكم أنّه لا ماهيّة له ـ وجوداً صرفاً ، لا يتطرّق إليه التعدّد ،
ينتج أنّه تعالى واحد لا ثاني له ولا نظير وهو المطلوب.
التوحيد الذاتي في
القرآن والحديث
إنّ القرآن الكريم
عند ما يصف الله تعالى بالوحدانية ، يصفه ب «القهّاريّة» ويقول:
(هُوَ اللهُ الْواحِدُ
الْقَهَّارُ)
وبهذا المضمون
آيات متعدّدة أُخرى في الكتاب المجيد ، وما ذلك إلّا لأنّ الموجود المحدود
المتناهي مقهور للحدود والقيود الحاكمة عليه ، فإذا كان قاهراً من كل الجهات لم
تتحكّم فيه الحدود ، فاللّامحدودية تلازم وصف القاهرية.
__________________
ومن هنا يتضح أنّ
وحدته تعالى ليست وحدة عددية ولا مفهومية ، قال العلّامة الطباطبائى قدسسره :
إنّ كلاً من
الوحدة العددية كالفرد الواحد من النوع ، والوحدة النوعية كالإنسان الّذي هو نوع
واحد في مقابل الانواع الكثيرة ، مقهور بالحدّ الّذي يميّز الفرد عن الآخر والنوع
عن مثله ، فإذا كان تعالى لا يقهره شيء وهو القاهر فوق كل شيء ، فليس بمحدود في
شيء ، فهو موجود لا يشوبه عدم ، وحقّ لا يعرضه باطل ، فلله من كلّ كمال محضه .
ثمّ إنّ إمام
الموحّدين عليّاً عليهالسلام عند ما سئل عن وحدانيّته تعالى ، ذكر للوحدة أربعة معان ،
اثنان منها لا يليقان بساحته تعالى واثنان منها ثابتان له.
أمّا اللّذان لا يليقان
بساحته تعالى ، فهما : الوحدة العددية والوحدة المفهومية حيث قال :
«فأمّا اللّذان لا
يجوزان عليه ، فقول القائل واحد يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ، لأنّ ما
لا ثاني له لا يدخل في باب الاعداد ، أما ترى انّه كفر من قال إنّه ثالث ثلاثة ،
وقول القائل هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس ، فهذا ما لا يجوز ، لأنّه
تشبيه وجلّ ربُّنا وتعالى عن ذلك».
__________________
وأمّا اللذان
ثابتان له تعالى ، فهما : بساطة ذاته ، وعدم المثل والنظير له ، حيث قال:
«وأمّا الوجهان اللّذان
يثبتان فيه ، فقول القائل : هو واحد ليس له في الأشياء شبه ... وأنّه عزوجل أحديّ المعنى .... لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم ...» .
نظريّة التثليث عند
النصارى
إنّ كلمات
المسيحيين في كتبهم الكلاميّة تحكي عن أنّ الاعتقاد بالتثليث من المسائل الأساسية
الّتي تبتني عليها عقيدتهم ، ولا مناص لأيّ مسيحي من الاعتقاد به ، وفي عين الوقت
يعتبرون أنفسهم موحّدين غير مشركين ، وأنّ الإله في عين كونه واحداً ثلاثة ومع
كونه ثلاثة واحد أيضاً.
وأقصى ما عندهم في
تفسير الجمع بين هذين النقيضين هو أنّ عقيدة التثليث عقيدة تعبّديّة محضة ولا سبيل
إلى نفيها وإثباتها إلّا الوحي ، فإنّها فوق التجربيات الحسيّة والإدراكات
العقليّة المحدودة للإنسان.
نقد هذه النظريّة
ويلاحظ عليه أنّ
عقيدة التثليث بالتفسير المتقدّم مشتملة على التناقض الصريح ، إذ من جانب يعرّفون
كلّ واحد من الآلهة الثلاثة بأنّه متشخّص ومتميّز عن البقية ، وفي الوقت نفسه
يعتبرون الجميع واحداً
__________________
حقيقة لا مجازاً ،
أفيمكن الاعتقاد بشيء يضادّ بداهة العقل ، ثمّ إسناده إلى ساحة الوحي الإلهي؟
وأيضاً نقول : ما
هو مقصودكم من الآلهة الثلاثة الّتي تتشكّل منها الطبيعة الإلهية الواحدة ، فإنّ
لها صورتين لا تناسب واحدة منهما ساحته سبحانه :
١. أن يكون لكلّ
واحد من هذه الآلهة الثلاثة وجوداً مستقلاً عن الآخر بحيث يظهر كلّ واحد منها في
تشخّص ووجود خاص ، ويكون لكلّ واحد من هذه الأقانيم أصل مستقلّ وشخصيّة خاصّة
مميّزة عمّا سواها.
لكن هذا هو
الاعتقاد بتعدّد الإله الواجب بذاته ، وقد وافتك أدلّة وحدانيته تعالى.
٢. أن تكون
الأقانيم الثلاثة موجودة بوجود واحد ، فيكون الإله هو المركّب من هذه الأُمور
الثلاثة ، وهذا هو القول بتركّب ذات الواجب ، وقد عرفت بساطة ذاته تعالى.
__________________
تسرّب خرافة التثليث إلى
النصرانية
إنّ التاريخ
البشري يرينا أنّه طالما عمد بعض أتباع الأنبياء ـ بعد وفاة الأنبياء أو خلال
غيابهم ـ إلى الشرك والوثنية ، تحت تأثير المضلّين ؛ إنّ عبادة بني اسرائيل للعجل
في غياب موسى عليهالسلام أظهر نموذج لما ذكرناه وهو ممّا أثبته القرآن والتاريخ ،
وعلى هذا فلا عجب إذا رأينا تسرُّب خرافة التثليث إلى العقيدة النصرانية بعد ذهاب
السيد المسيح عليهالسلام وغيابه عن أتباعه.
إنّ القرآن الكريم
يصرّح بأنّ التثليث دخل النصرانية بعد رفع المسيح ، من العقائد الخرافية السابقة
عليها ، حيث يقول تعالى :
(وَقالَتِ النَّصارى
الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)
لقد أثبتت الأبحاث
التاريخية انّ هذا التثليث كان في الديانة البرهمانية والهندوكيّة قبل ميلاد
السيّد المسيح بمئات السنين ، فقد تجلّى الربّ الأزلي الأبدي لديهم في ثلاثة مظاهر
وآلهة :
١. براهما (الخالق).
٢. فيشنو (الواقي).
٣. سيفا (الهادم).
__________________
وبذلك يظهر قوّة
ما ذكره الفيلسوف الفرنسي «غستاف لوبون» قال :
لقد واصلت
المسيحية تطوّرها في القرون الخمسة الأولى من حياتها ، مع أخذ ما تيسّر من
المفاهيم الفلسفية والدينية اليونانية والشرقية ، وهكذا أصبحت خليطاً من المعتقدات
المصرية والإيرانية الّتي انتشرت في المناطق الأُوروبيّة حوالي القرن الأوّل
الميلادي فاعتنق الناس تثليثاً جديداً مكوّناً من الأب والابن وروح القدس ، مكان
التثليث القديم المكوّن من «نروبى تر» و «وزنون» و «نرو».
__________________
الفصل الثاني :
التوحيد في الصفات
اختلف الإلهيون في
كيفية إجراء صفات الله الذاتية عليه سبحانه على قولين :
الأوّل : عينية
الصفات مع الذات ، وهذا ما تبنّته أئمة أهل البيت عليهمالسلام واختاره الحكماء الإلهيون وعليه جمهور المتكلّمين من
الإمامية والمعتزلة وغيرهما.
والثاني : زيادتها
على الذات وهو مختار المشبِّهة من أصحاب الصفات والأشاعرة ، قال الشيح المفيد في
هذا المجال :
إنّ الله عزوجل اسمه حيّ لنفسه لا بحياة ، وانّه قادر لنفسه وعالم لنفسه
لا بمعنى كما ذهب إليه المشبِّهة من اصحاب الصفات ... وهذا مذهب الإمامية كافّة
والمعتزلة إلّا من سمّيناه وأكثر المرجئة وجمهور الزيدية وجماعة من اصحاب الحديث
والمحكِّمة.
__________________
قوله : «لا بحياة»
يعني حياة زائدة على الذات ، وقوله : «لا بمعنى» أي صفة زائدة كالعلم والقدرة.
إذا عرفت ذلك
فاعلم : أنّ الصحيح هو القول بالعينية ، فإنّ القول بالزيادة يستلزم افتقاره سبحانه
في العلم بالأشياء وخلقه إيّاها إلى أمور خارجة عن ذاته ، فهو يعلم بعلم هو سوى
ذاته ، ويخلق بقدرة هي خارجة عن حقيقته وهكذا ، والواجب بالذات منزّه عن الاحتياج
إلى غير ذاته ، والأشاعرة وإن كانوا قائلين بأزليّة الصفات مع زيادتها على الذات ،
لكنّ الأزلية لا ترفع الفقر والحاجة عنه ، لأنّ الملازمة غير العينية. ثمّ إن
زيادة الصفات على الذات تستلزم الاثنينية والتركيب ، قال الامام علي عليهالسلام :
«وكمال الإخلاص له
نفي الصفات عنه ، لشهادة كلّ صفة انّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف انّه غير
الصفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ،
ومن جزّأه فقد جهله».
فإن قلت : لا شكّ
أنّ لله تعالى صفات وأسماء مختلفة أُنهيت في الحديث النبوي المعروف إلى تسع وتسعين
، فكيف يجتمع ذلك مع القول بالعينيّة ووحدة الذات والصفات؟
قلت : كثرة الأسماء
والصفات راجعة إلى عالم المفهوم ، مع أنّ العينية
__________________
ناظرة إلى مقام
الواقع العيني ، ولا يمتنع كون الشيء على درجة من الكمال يكون فيها كلّه علماً
وقدرة وحياة ومع ذلك فينتزع منه باعتبارات مختلفة صفات متعدّدة متكثّرة ، وهذا كما
أنّ الإنسان الخارجي مثلا بتمام وجوده مخلوق لله سبحانه ، ومعلوم له ومقدور له ،
من دون أن يخصّ جزء منه بكونه معلوماً وجزء آخر بكونه مخلوقاً أو مقدوراً ، بل
كلّه معلوم وكلّه مخلوق ، وكلّه مقدور.
ثمّ إنّ الشيخ
الأشعري استدلّ على نظرية الزيادة بأنّه يستحيل أن يكون العلم عالماً ، أو العالم
علماً ، ومن المعلوم انّ الله عالم ، ومن قال : إنّ علمه نفس ذاته لا يصحّ له أن
يقول إنّه عالم ، فتعيّن أن يكون عالماً بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه.
يلاحظ عليه : أنّ
الحكم باستحالة اتحاد العلم والعالم وعينيتهما مأخوذ عمّا نعرفه في الإنسان ونحوه
من الموجودات الممكنة في ذاتها ولا شكّ في مغايرة الذات والصفة في هذا المجال ،
ولكن لا تصحّ تسريته إلى الواجب الوجود بالذات ، فإذا قام البرهان على العينية هنا
، فلا استحالة في كون العلم عالماً وبالعكس.
وهناك ادلّة أخرى
للأشاعرة على إثبات نظريّتهم ، والكلّ مخدوشة كما اعترف بذلك صاحب المواقف.
ثمّ إنّ المشهور
أنّ المعتزلة نافون للصفات مطلقاً وقائلون بنيابة الذات
__________________
عن الصفات ،
ولكنّه لا أصل له ، فالمنفي عندهم هو الصفات الزائدة الأزلية ، لا أصل الصفات فهم
قائلون بالعينية كالإمامية ، ويدلّ على ذلك كلام الشيخ المفيد الآنف الذكر ، نعم
يظهر القول بالنيابة من عبّاد بن سليمان وأبي علي الجبّائي.
__________________
الفصل الثالث :
التوحيد في الخالقية
إنّ العقل يدلّ
بوضوح على أنّه ليس في الكون خالق أصيل إلّا الله سبحانه ، وأنّ الموجودات
الإمكانية مخلوقة لله تعالى ، وما يتبعها من الأفعال والآثار ، حتى الإنسان وما
يصدر منه ، مستندة إليه سبحانه بلا مجاز وشائبة عناية ، غاية الأمر أنّ ما في
الكون مخلوق له إمّا بالمباشرة أو بالتسبيب.
وذلك لما عرفت من
أنّه سبحانه هو الواجب الغني ، وغيره ممكن بالذات ، ولا يعقل أن يكون الممكن غنياً
في ذاته وفعله عن الواجب ، فكما أنّ ذاته قائمة بالله سبحانه ، فهكذا فعله ، وهذا
ما يعبّر عنه بالتوحيد في الخالقية. ومن عرف الممكن حقّ المعرفة وانّه الفقير
الفاقد لكلّ شيء في حدّ ذاته ، يعد المسألة بديهيّة.
هذا ما لدى العقل
، وأمّا النقل فقد تضافرت النصوص القرآنية على أنّ الله سبحانه هو الخالق ، ولا
خالق سواه. وإليك نماذج من الآيات الواردة في هذا المجال :
(قُلِ اللهُ خالِقُ
كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) .
__________________
(اللهُ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) .
(ذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) .
(أَنَّى يَكُونُ لَهُ
وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) .
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) .
إلى غير ذلك من
الآيات القرآنيّة الدالّة على ذلك.
موقف القرآن الكريم تجاه
قانون العلّيّة
إنّ الامعان في
الآيات الكريمة يدفع الإنسان إلى القول بأنّ الكتاب العزيز يعترف بأنّ النظام
الإمكاني نظام الأسباب والمسبّبات ، فإنّ المتأمّل في الذكر الحكيم لا يشكّ في
أنّه كثيراً ما يسند آثاراً إلى الموضوعات الخارجية والأشياء الواقعة في دار
المادة ، كالسماء وكواكبها ونجومها ، والأرض وجبالها وبحارها وبراريها وعناصرها
ومعادنها ، والسحاب والرعد والبرق والصواعق والماء والأعشاب والأشجار والحيوان
والإنسان ، إلى غير ذلك من الموضوعات الواردة في القرآن الكريم ، فمن أنكر إسناد
القرآن آثار تلك الأشياء إلى أنفسها فإنّما أنكره بلسانه وقلبه مطمئن بخلافه ،
وإليك ذكر نماذج من الآيات الواردة في هذا المجال:
١. (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ
بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ.)
__________________
فقد صرّح في هذه
الآية بتأثير الماء في تكوّن الثمرات والنباتات ، فإنّ الباء في قوله : (بِهِ) بمعنى السببية ، ونظيرها الآية : ٢٧ من سورة السجدة والآية
: ٤ من سورة الرعد ، وغيرها من الآيات.
٢. (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ
فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ.)
فقوله سبحانه : (فَتُثِيرُ سَحاباً) صريح في أنّ الرياح تحرّك السحاب وتسوقها من جانب إلى جانب
، فالرياح اسباب وعلل تكوينية لحركة السحاب وبسطها في السماء.
٣. (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا
أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
بَهِيجٍ) .
فالآية تصرّح
بتأثير الماء في اهتزاز الأرض وربوتها ، ثمّ تصرّح بإنبات الأرض من كلّ زوج بهيج.
٤. (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) .
فالآية تسند إنبات
السنابل السبع إلى الحبَّة.
ثمّ إنّ هناك
أفعالاً أسندها القرآن إلى الإنسان لا تقوم إلّا به ، ولا يصحّ إسنادها إلى الله
سبحانه بحدودها وبلا واسطة كأكله وشربه ومشيه وقعوده
__________________
ونكاحه ونموّه
وفهمه وشعوره وسروره وصلاته وصيامه ، فهذه أفعال قائمة بالإنسان مستندة إليه ، فهو
الّذي يأكل ويشرب وينمو ويفهم.
فالقرآن يعدّ
الإنسان فاعلا لهذه الأفعال وعلّة لها.
كما أنّ في القرآن
آيات مشتملة على الأوامر والنواهي الإلهية ، وتدلّ على مجازاته على تلك الأوامر
والنواهي ، فلو لم يكن للإنسان دور في ذلك المجال وتأثير في الطاعة والعصيان فما
هي الغاية من الأمر والنهي وما معنى الجزاء والعقوبة؟
التفسير الصحيح للتوحيد
في الخالقية
إنّ المقصود من
حصر الخالقية بالله تعالى هو الخالقية على سبيل الاستقلال وبالذات ، وأمّا
الخالقية المأذونة من جانبه تعالى فهي لا تنافي التوحيد في الخالقية. كما انّ
المراد من السببية الإمكانية (اعم من الطبيعية وغيرها) ليست في عرض السببية
الإلهية ، بل المقصود انّ هناك نظاماً ثابتاً في عالم الكون تجرى عليه الآثار
الطبيعية والأفعال البشرية ، فلكلّ شيء أثر تكويني خاصّ ، كما أنّ لكلّ أثر وفعل
مبدأً فاعلياً خاصّاً ، فليس كلّ فاعل مبدأً لكل فعل ، كما ليس كلّ فعل وأثر
صادراً من كل مبدأ فاعلي ، كل ذلك بإذن منه سبحانه ، فهو الّذي أعطى السببيّة
للنار كما أعطى لها الوجود ، فهي تؤثّر بإذن وتقدير منه سبحانه ، هذا هو قانون
العليّة العامّ الجاري في النظام الكوني الّذي يؤيّده الحسّ والتجربة وتبتني عليه
حياة الإنسان في ناحية العلم والعمل.
وبهذا البيان
يرتفع التنافي البدئي بين طائفتين من الآيات القرآنية ؛
الطائفة الدالّة
على حصر الخالقية بالله تعالى ، والطائفة الدالّة على صحّة قانون العلّية
والمعلولية واستناد الآثار إلى مبادئها القريبة ، والشاهد على صحّة هذا الجمع ،
لفيف من الآيات وهي الّتي تسند الآثار إلى أسباب كونية خاصة وفي عين الوقت تسندها
إلى الله سبحانه ، وكذلك تسند بعض الأفعال إلى الإنسان أو غيره من ذوى العلم
والشعور ، وفي الوقت نفسه تسند نفس تلك الأفعال إلى مشيَّته سبحانه ، وإليك فيما
يلي نماذج من هذه الطائفة :
١. انّ القرآن
الكريم أسند حركة السحاب إلى الرياح وقال : (اللهُ الَّذِي
يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) .
كما أسندها إلى
الله تعالى وقال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) .
٢. القرآن يسند
الإنبات تارة إلى الحبّة ويقول :
(أَنْبَتَتْ سَبْعَ
سَنابِلَ) وأخرى إلى الله تعالى ويقول : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً
فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) .
٣. انّه تعالى نسب
توفّى الموتى إلى الملائكة تارة وإلى نفسه أُخرى فقال : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) وقال : (اللهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) .
__________________
٤. انّ الذكر
الحكيم يصفه سبحانه بأنّه الكاتب لأعمال عباده ويقول : (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) .
ولكن في الوقت
نفسه ينسب الكتابة إلى رسله ويقول : (بَلى وَرُسُلُنا
لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) .
٥. لا شكّ انّ
التدبير كالخلقة منحصر في الله تعالى ، والقرآن يأخذ من المشركين الاعتراف بذلك
ويقول : (وَمَنْ يُدَبِّرُ
الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ) و ـ مع ذلك ـ يصرّح
بمدبّريّة غير الله سبحانه حيث يقول : (فَالْمُدَبِّراتِ
أَمْراً) .
٦. إنّ القرآن
يشير إلى كلتا النسبتين (أي نسبة الفعل إلى الله سبحانه وإلى الإنسان) في جملة
ويقول : (وَما رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) .
فهو يصف النبيّ
الأعظم صلىاللهعليهوآله بالرمي وينسبه إليه حقيقة ويقول : (إِذْ رَمَيْتَ) ، ومع ذلك يسلبه عنه ويرى أنّه سبحانه الرامي الحقيقي.
هذه المجموعة من
الآيات ترشدك إلى النظريّة الحقّة في تفسير التوحيد في الخالقية وهو ـ كما تقدّم ـ
أنّ الخالقية على وجه الاستقلال منحصرة فيه سبحانه ، وغيره من الأسباب الكونية
والفواعل الشاعرة إنما
__________________
تكون مؤثرات
وفواعل بإذنه تعالى ومشيَّته ، وليست سببيّتها وفاعليّتها في عرض فاعليته تعالى ،
بل في طولها.
الإجابة عن شبهات
قد عرفت أنّ
خالقيّته تعالى عامّة لجميع الأشياء والحوادث ، وكلّ ما في صفحة الوجود يستند إليه
سبحانه ، وعندئذ تطرح إشكالات أو شبهات يجب على المتكلم الإجابة عنها ، وهي :
أ. شبهة الثنويّة
في خلق الشرور ؛
ب. شبهة استناد
القبائح إلى الله تعالى ؛
ج. شبهة الجبر في
الأفعال الإرادية.
أ. الثنوية وشبهة الشرور
نسب إلى الثنوية
القول بتعدّد الخالق ، واستدلّوا عليه بما يشاهد في عالم المادّة من الشرور
والبلايا ، قالوا : إنّ الشر يقابل الخير ، فلا يصحّ استنادهما إلى مبدأ واحد ،
فزعموا أنّ هناك مبدأين : أحدهما : مبدأ الخيرات ، وثانيهما : مبدأ الشرور.
والجواب عنه بوجهين :
١. الشرّ أمر قياسي
إذا كانت هناك
ظاهرة ليست لها صلة وثيقة بحياة الإنسان ، أو لا تؤدّى
صلتها بها إلى
اختلال في حياته فلا تتصف بالشرّ والبلاء ، إنما تتّصف بصفة الشرّيّة إذا أوجبت
نحو اختلال في حياة الإنسان بحيث يوجب هلاكة نفسه أو ما يتعلّق به أو يتضرّر به
بوجه.
ومن المعلوم أنّ
هذه النسبة والإضافة متأخّرة عن وجود ذلك الموجود أو تلك الحادثة ، فلو تحقّقت
الظاهرة وقطع النظر عن المقايسة والإضافة لا يتّصف إلّا بالخير ، بمعنى أنّ وجود
كلّ شيء يلائم ذاته ، وإنما يأتي حديث الشرّ إذا كانت هناك مقايسة إلى موجود آخر ،
إذا عرفت ذلك فاعلم : أنّ ما يستند إلى الجاعل اوّلاً وبالذات ، هو وجوده النفسي ،
والمفروض أنّ وجود كلّ من المقيس والمقيس إليه ، لا يتّصفان بالشرّ والبلاء ، بل
بالخير والكمال ، وأمّا الوجود الإضافي المنتزع من مقايسة إحدى الظاهرتين مع
الأخرى فليس أمراً واقعياً محتاجاً إلى مبدأ يحقّقها.
٢. الشرّ عدمي
هناك تحليل آخر
للشبهة وهو ما نقل عن أفلاطون وحاصله : أنّ ما يسمّى بالشرّ من الحوادث والوقائع
يرجع عند التحليل إلى العدم ، فالّذي
__________________
يسمّى بالشرّ عند
وقوع القتل ليس إلّا انقطاع حياة البدن الناشئ عن قطع علاقة النفس عن البدن ، وما
يسمّى بالشر عند وقوع المرض ليس إلّا الاختلال الواقع في أجهزة البدن وزوال ما كان
موجودا له عند الصحّة من التعادل الطبيعي في الأعضاء والأجهزة البدنيّة.
وكذلك سائر
الحوادث الّتي تتّصف بالبليّة والشرّيّة.
ومن المعلوم أنّ
الّذي يحتاج إلى الفاعل المفيض هو الوجود ، وأما العدم فليس له حظّ من الواقعية
حتى يحتاج إلى المبدأ الجاعل. وإلى هذا أشار الحكيم السبزواري في منظومة حكمته :
والشّرّ أعدام
فكم قد ضلّ من
|
|
يقول باليزدان
ثمّ الأهرمن
|
ب. التوحيد في الخالقية
وقبائح الأفعال
ربّما يقال :
الالتزام بعمومية خالقيته تعالى لكلّ شيء يستلزم إسناد قبائح الأفعال إليه تعالى ،
وهذا ينافي تنزُّهه سبحانه من كلّ قبح وشين.
__________________
والجواب : أنّ
للأفعال جهتين ، جهة الثبوت والوجود ، وجهة استنادها إلى فواعلها بالمباشرة ،
فعنوان الطّاعة والمعصية ينتزع من الجهة الثانية ، وما يستند إلى الله تعالى هي
الجهة الاولى ، والأفعال بهذا اللحاظ متّصفة بالحسن والجمال ، أي الحسن التكويني.
وبعبارة
أخرى : عنوان الحسن
والقبح المنطبق على الأفعال الصادرة عن فاعل شاعر مختار ، هو الّذي يدركه العقل
العملي بلحاظ مطابقة الأفعال لأحكام العقل والشرع وعدمها ، وهذا الحسن والقبح يرجع
إلى الفاعل المباشر للفعل.
نعم أصل وجود
الفعل ـ مع قطع النظر عن مقايسته إلى حكم العقل أو الشرع ـ يستند إلى الله تعالى
وينتهي إلى إرادته سبحانه ، والفعل بهذا الاعتبار لا يتّصف بالقبح ، فإنّه وجود
والوجود خير وحسن في حدّ ذاته.
قال سبحانه : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) .
وقال : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) .
فكلّ شيء كما أنّه
مخلوق ، حسن ، فالخلقة والحسن متصاحبان لا ينفكّ احدهما عن الآخر اصلاً.
وأمّا الإجابة عن
شبهة الجبر على القول بعموم الخالقية فسيوافيك بيانها في الفصل المختصّ بذلك.
__________________
الفصل الرابع :
التوحيد في الربوبيّة
يستفاد من الكتاب
العزيز أنّ التوحيد في الخالقية كان موضع الوفاق عند الوثنيّين قال سبحانه : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) ومثله في سورة الزمر الآية ٣٨.
وقال سبحانه : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ
لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) .
وأمّا مسألة
التوحيد في التدبير فلم تكن أمراً مسلّماً عندهم ، بل الشرك في التدبير كان شائعا
بين الوثنيين ، كما أنّ عبدة الكواكب والنجوم في عصر بطل التوحيد «إبراهيم» كانوا
من المشركين في أمر التدبير ، حيث كانوا يعتقدون بأنّ الأجرام العلوية هي
المتصرّفة في النظام السفلي من العالم وأنّ أمر تدبير الكون ، ومنه الإنسان ، فوّض
إليها فهي أرباب لهذا العالم ومدبّرات له لا خالقات له ، ولأجل ذلك نجد أنّ
ابراهيم يردّ عليهم بإبطال ربوبيتها عن طريق الإشارة إلى أُفولها وغروبها ، يقول
سبحانه حاكياً عنه :
__________________
(فَلَمَّا جَنَّ
عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا
أُحِبُّ الْآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا
أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ
الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ
فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).
ترى أنّه عليهالسلام استعمل كلمة الربّ في احتجاجه مع المشركين ، ولم يستعمل
كلمة الخالق ، للفرق الواضح بين التوحيدين وعدم إنكارهم التوحيد في الأوّل
وإصرارهم على الشرك في الثاني.
حقيقة الربوبية والتوحيد
فيها
لفظة الربّ في لغة
العرب بمعنى المتصرّف والمدبّر والمتحمّل أمر تربية الشيء ، وحقيقة التدبير تنظيم
الأشياء وتنسيقها بحيث يتحقّق بذلك مطلوب كل منها وتحصل له غايته المطلوبة له ،
وعلى هذا فحقيقة تدبيره سبحانه ليست الّا خلق العالم وجعل الأسباب والعلل بحيث
تأتي المعاليل والمسبّبات دبر الأسباب وعقيب العلل ، فيؤثّر بعض أجزاء الكون في
البعض الآخر حتّى يصل كلّ موجود إلى كماله المناسب وهدفه المطلوب ، يقول سبحانه :
__________________
(رَبُّنَا الَّذِي
أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) .
والتوحيد في
الربوبية هو الاعتقاد بأنّ تدبير العالم الإمكاني بيد الله سبحانه وأمّا الأسباب
والعلل الكونية فكلّها جنود له سبحانه يعملون بأمره ويفعلون بمشيئته وقد صرّح
القرآن الكريم على أن هناك مدبّرات لأمر العالم بإذنه تعالى ، قال سبحانه : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) .
ويقابله الشرك في
الربوبية وهو تصور أنّ هناك مخلوقات لله سبحانه لكن فوّض إليها أمر تدبير الكون
ومصير الإنسان في حياته تكويناً وتشريعاً.
وهاهنا نكتة يجب
التنبيه عليها وهي أنّ الوثنيّة لم تكن معتقدة بربوبيّة الأصنام الحجريّة
والخشبيّة ونحوها بل كانوا يعتقدون بكونها اصناما للآلهة المدبّرة لهذا الكون ،
ولمّا لم تكن هذه الآلهة المزعومة في متناول أيديهم وكانت عبادة الموجود البعيد عن
متناول الحسّ صعبة التصور عمدوا إلى تجسيم تلك الآلهة وتصويرها في أوثان وأصنام من
الخشب والحجر وصاروا يعبدونها عوضاً عن عبادة أصحابها الحقيقية وهي الآلهة
المزعومة.
__________________
دلائل التوحيد في
الربوبية
١. تدبير الكون لا ينفكّ
عن الخلق
إنّ النكتة
الأساسية في خطأ المشركين تتمثّل في أنّهم قاسوا تدبير عالم الكون بتدبير أُمور
عائلة أو مؤسَّسة وتصوّروا أنّهما من نوع واحد ، مع أنّهما مختلفان في الغاية ،
فانّ تدبير الكون في الحقيقة إدامة الخلق والإيجاد.
توضيح
ذلك : أنّ كلّ فرد من
النظام الكوني بحكم كونه فقيراً ممكناً فاقد للوجود الذاتي ، لكن فقره ليس منحصرا
في بدء خلقته بل يستمرّ معه في بقائه وعلى هذا ، فتدبير الكون لا ينفكّ عن خلقه
وإيجاده ، فالتدبير خلق وإيجاد مستمرّ.
فتدبير الوردة
مثلاً ليس إلّا تكوّنها من المواد السُّكرية في الأرض ثمّ توليدها الأوكسجين في
الهواء إلى غير ذلك من عشرات الأعمال الفيزيائية والكيميائية في ذاتها وليست كل منها
إلّا شعبة من الخلق ، ومثلها الجنين مذ تكوّنه في رحم الأُم ، فلا يزال يخضع
لعمليّات التفاعل والنموّ حتى يخرج من بطنها ، وليست هذه التفاعلات إلّا شعبة من
عمليّة الخلق وفرعاً منه.
٢. انسجام النظام واتصال
التدبير
إنّ مطالعة كلّ
صفحة من الكتاب التكويني العظيم يقودنا إلى وجود نظام موحَّد وارتباط وثيق بين
أجزائه ، ومن المعلوم أنّ وحدة النظام
وانسجامه وتلائمه
لا تتحقّق إلّا إذا كان الكون بأجمعه تحت نظر حاكم ومدبِّر واحد ، ولو خضع الكون
لإرادة مدبِّرين لما كان من اتصال التدبير وانسجام اجزاء الكون أيّ اثر ، لانّ
تعدّد المدبّر والمنظِّم ـ بحكم اختلافهما في الذات أو في الصفات والمشخصات ـ يستلزم
بالضرورة الاختلاف في التدبير والإرادة ، وذلك ينافي الانسجام والتلائم في أجزاء
الكون.
فوحدة النظام
وانسجامه كاشف عن وحدة التدبير والمدبّر وإلى هذا يشير قوله سبحانه : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ
لَفَسَدَتا) .
وهذا الاستدلال
بعينه موجود في الأحاديث المروية عن أئمة اهل البيت عليهمالسلام يقول الامام الصادق عليهالسلام : «دلّ صحّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على انّ المدبّر
واحد».
وسأله هشام بن
الحكم : ما الدليل على انّ الله واحد؟
فقال عليهالسلام : «اتصال التدبير وتمام الصنع ، كما قال الله عزوجل (لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا.)
مظاهر التوحيد في
الربوبية
إنّ للتوحيد في
الربوبية نطاقاً واسعاً شاملاً لجميع المظاهر الكونية والحقائق الوجودية فلا
مدبِّر في صفحة الوجود ، بالذات على وجه
__________________
الاستقلال ، سوى
الله تعالى فهو ربّ العالمين لا ربّ سواه.
وينبغي في ختام
هذا البحث أن نشير إلى ثلاثة أقسام لها أهميّة خاصّة في حياة الإنسان الاجتماعية
وهي :
١. التوحيد في الحاكمية
الحاكم هو الّذي
له تسلّط على النفوس والأموال ، والتصرّف في شئون المجتمع بالأمر والنهى ، والعزل
والنصب ، والتحديد والتوسيع ونحو ذلك ، ومن المعلوم أنّ هذا يحتاج إلى ولاية له
بالنسبة إلى المسلّط عليه ، ولو لا ذلك لعدّ التصرّف عدوانياً ، هذا من جانب.
ومن جانب آخر
الولاية على الغير متفرّع على كون الوالي مالكا للمولّى عليه أو مدبّر أموره في
الحياة ، وبما أن لا مالكية لأحد على غيره إلّا لله تعالى ولا مدبِّر سواه فإنّه
الخالق الموجد للجميع والمدبّر للكون بأجمعه ، فلا ولاية لأحد على أحد بالذات سوى
الله تعالى ، فحقّ الولاية منحصر لله تعالى.
قال سبحانه : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ) .
وقال سبحانه : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ
الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) .
ومن جانب ثالث :
أنّ وجود الحكومة والحاكم البشري في المجتمع
__________________
أمر ضروري كما
أشار إليه الإمام علي عليهالسلام بقوله : «لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر».
ومن المعلوم أنّ
ممارسة الإمرة وتجسيد الحكومة في الخارج ليس من شأنه سبحانه ، بل هو شأن من يماثل
المحكوم عليه في النوع ويشافهه ويقابله مقابلة الإنسان للانسان ، وعلى ذلك ، فوجه
الجمع بين حصر الحاكمية في الله سبحانه ولزوم كون الحاكم والأمير بشراً كالمحكوم
عليه ، هو لزوم كون من يمثّل مقام الإمرة مأذوناً من جانبه سبحانه لإدارة الأمور
والتصرّف في النفوس والأموال ، وأن تكون ولايته مستمدّة من ولايته ومنبعثة منها.
وعلى هذا
فالحكومات القائمة في المجتمعات يجب أن تكون مشروعيتها مستمدّة من ولايته سبحانه
وحكمه بوجه من الوجوه ، وإذا كانت علاقتها منقطعة غير موصولة به سبحانه فهي حكومات
طاغوتية لا مشروعيّة لها.
٢. التوحيد في الطّاعة
لا شكّ أنّ من
شئون الحاكم والولي ، لزوم إطاعته على المحكوم والمولّى عليه ، فإنّ الحكومة من
غير لزوم إطاعة الحاكم تصبح لغواً ، وقد تقدّم أنّ الحاكم بالذات ليس إلّا الله
تعالى.
وعلى هذا ، فليس
هناك مطاع بالذات إلّا هو تعالى وأمّا غيره
__________________
تعالى ، فبما أنّه
ليس له ولاية ولا حكومة على أحد إلّا بإذنه تعالى وباستناد حكومته إلى حكومته
سبحانه ، فليس له حقّ الطّاعة على أحد إلّا كذلك.
قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا
لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) .
وقال سبحانه : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ
اللهَ) .
٣. التوحيد في التشريع
إنّ الربوبية على
قسمين : تكوينيّة وتشريعيّة ودلائل التوحيد في الربوبية التكوينية تثبت التوحيد في
الربوبيّة التشريعية أيضاً ، فإنّ التقنين والتشريع نوع من التدبير ، يدبّر به أمر
الإنسان والمجتمع البشري ، كما أنّه نوع من الحكومة والولاية على الأموال والنفوس
، فبما أنّ التدبير والحكومة منحصرتان في الله تعالى ، فكذلك ليس لأحد حقّ التقنين
والتشريع إلّا له تعالى.
وأمّا الفقهاء
والمجتهدون فليسوا بمشرّعين ، بل هم متخصّصون في معرفة تشريعه سبحانه ، ووظيفتهم
الكشف عن الأحكام بعد الرجوع إلى مصادرها وجعلها في متناول الناس.
وأمّا ما تعورف في
القرون الأخيرة من إقامة مجالس النوّاب أو الشورى في البلاد الإسلامية ، فليست لها
وظيفة سوى التخطيط لإعطاء
__________________
البرنامج
للمسئولين في الحكومات في ضوء القوانين الإلهيّة لتنفيذها ، والتخطيط غير التشريع
كما هو واضح.
والقرآن الكريم
يعدّ كل تقنين لا يطابق الحكم والتشريع الإلهي كفراً وظلماً وفسقاً ، قال سبحانه :
١. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ
اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) .
٢. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ
اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) .
٣. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ
اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) .
__________________
الفصل الخامس :
التوحيد في العبادة
التوحيد في
العبادة هو الهدف والغاية الأسنى من بعث الأنبياء والمرسلين ، قال سبحانه :
(وَلَقَدْ بَعَثْنا
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) .
وناهيك في أهميّة
ذلك أنّ الإسلام قرّره شعاراً للمسلمين يؤكّدون عليه في صلواتهم الواجبة والمندوبة
بقولهم :
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) .
كما أنّ مكافحة
النبيّ صلىاللهعليهوآله بل وسائر الانبياء للوثنيين تتركّز على هذه النقطة غالباً
كما هو ظاهر لمن راجع القرآن الكريم.
ولا تجد مسلماً
ينكر هذا الأصل أو يشكّ فيه وإنّما الكلام في حقيقة العبادة ومصاديقها ، فترى أنّ
أتباع الوهّابيّة يرمون غيرهم بالشّرك في العبادة
__________________
بالتبرّك بآثار
الأنبياء والتوسّل بهم إلى الله سبحانه ونحو ذلك ، فتمييز العبادة عن غيرها هي
المشكلة الوحيدة في هذا المجال ، فيجب قبل كلّ شيء دراسة حقيقة العبادة على ضوء
العقل والكتاب والسنّة فنقول :
ما هي حقيقة العبادة؟
العبادة في اللّغة
بمعنى الخضوع والتذلّل وقيل إنها غاية الخضوع والتذلّل. وهذا المعنى ليس هو المقصود من العبادة المختصّة بالله
تعالى.
توضيح ذلك : أنّ
القرآن الكريم أمر الإنسان بالتذلّل لوالديه فيقول :
(وَاخْفِضْ لَهُما
جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي
صَغِيراً) .
فلو كان الخضوع
والتذلّل عبادة لمن يتذلّل له لكان أمره تعالى بذلك أمراً باتّخاذ الشريك له تعالى
في العبادة!
كما أنّه سبحانه
أمر الملائكة بالسجود لآدم فيقول : (وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) .
مع أنّ السجود
نهاية التذلّل والخضوع للمسجود له ، فهل ترى أنّ الله سبحانه يأمر الملائكة بالشرك
في العبادة؟!
__________________
إنّ إخوة يوسف ووالديه
سجدوا جميعاً ليوسف بعد استوائه على عرش الملك والسلطنة ، كما يقول سبحانه :
(وَخَرُّوا لَهُ
سُجَّداً) .
إذن ليس معنى
العبادة الّتي تختصّ بالله سبحانه ولا تجوز لغيره تعالى هو الخضوع والتذلّل ، أو
نهاية الخضوع ، فما هي حقيقة العبادة؟
حقيقة العبادة ـ على
ما يستفاد من القرآن الكريم ـ هي «الخضوع والتذلّل ، لفظاً أو عملاً مع الاعتقاد
بأنَّ المخضوع له خالق وربّ ومالك وهي من شئون الإلهية». فنرى أنّ القرآن في سورة
الفاتحة قبل تخصيص العبادة بالله تعالى ، يوصفه بأنّه ربّ العالمين ، ومالك يوم
الدين ، وأنّه هو الرحمن الرحيم ، ومثله قوله تعالى :
(ذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ) .
فالخضوع لله تعالى
إنّما يكون عبادة له لأنّه هو الخالق والرب وهو المالك والإله واختصاص هذه النعوت
بالله تعالى يستلزم اختصاص العبادة له.
والحاصل : أنّ
أيَّ خضوع ينبع من الاعتقاد بانّ المخضوع له إله العالم أو ربّه أو فوِّض إليه
تدبير العالم كلّه أو بعضه ، يكون الخضوع بأدنى مراتبه عبادة ويكون صاحبه مشركاً
في العبادة إذا أتى به لغير الله ، ويقابل ذلك
__________________
الخضوع غير النابع
من هذا الاعتقاد ، فخضوع أحد أمام موجود وتكريمه ـ مبالغاً في ذلك ـ من دون أن
ينبع من الاعتقاد بأُلوهيته ، لا يكون شركاً ولا عبادة لهذا الموجود ، وإن كان من
الممكن أن يكون حراماً ، مثل سجود العاشق للمعشوقة ، أو المرأة لزوجها ، فإنّه وإن
كان حراماً في الشريعة الإسلامية لكنّه ليس عبادة بل حرام لوجه آخر ، ولعلَّ الوجه
في حرمته هو أنّ السجود حيث أنّه وسيلة عامّة للعبادة عند جميع الأقوام والملل ،
صار بحيث لا يراد منه إلّا العبادة ، لذلك لم يسمح الإسلام بأن يستفاد منها حتّى
في الموارد الّتي لا تكون عبادة ، والتحريم إنّما هو من خصائص الشريعة الإسلامية ،
إذ لم يكن حراماً قبله ، وإلّا لما سجد يعقوب وأبناؤه ليوسف عليهالسلام ويقول عزوجل : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ
عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) .
قال الجصّاص : قد
كان السجود جائزاً في شريعة آدم عليهالسلام للمخلوقين ، ويشبه أن يكون قد كان باقياً إلى زمان يوسف عليهالسلام ... إلّا أنّ السجود لغير الله على وجه التكرمة والتحيّة
منسوخ بما روت عائشة وجابر وأنس انّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : «ما ينبغي لبشر أن يسجد لبشر ، ولو صلح لبشر أن يسجد
لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقِّه عليها».
وإلى ما ذكرناه في
حقيقة العبادة المختصة بالله تعالى وأنّها ليست إلّا خضوعاً خاصاً نابعاً عن
الاعتقاد بألوهية المخضوع له وأنّ له شأن الربوبيّة والخالقية أشار الشيخ محمد
عبده بقوله :
__________________
تدلّ الأساليب
الصحيحة والاستعمال العربي الصراح على أنّ العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية
ناشٍ عن استشعار القلب عظمة للمعبود لا يعرف منشأها ، واعتقاده بسلطة لا يدرك
كنهها وماهيتها. وقصارى ما تعرفه منها أنها محيطة به ولكنّها فوق إدراكه. فمن
ينتهي إلى أقصى الذّل لملك من الملوك لا يقال إنّه عبده ، وإن قبّل موطئ أقدامه ،
ما دام سبب الذلّ والخضوع معروفاً وهو الخوف من ظلمه المعهود ، أو الرجاء بكرمه
المحدود.
نتائج البحث
وعلى ما ذكرنا لا
يكون تقبيل يد النبي أو الإمام أو المعلّم أو الوالدين ، أو تقبيل القرآن أو الكتب
الدينية ، أو أضرحة الأولياء ، وما يتعلّق بهم من آثار ، إلّا تعظيماً وتكريماً ،
لا عبادة ، وبذلك يتّضح أنّ كثيراً من الموضوعات الّتي تعرّفها فرقة الوهّابية
عبادة لغير الله وشركاً به ، ليس صحيحا على إطلاقه ، وإنّما هو شرك وعبادة إذا كان
المخضوع له معنوناً بالأُلوهية وأنّه فوّض إليه الخلق والتدبير والإحياء والإماتة
والرزق وغير ذلك من شئون الإلهية المطلقة ، أو الاعتقاد بأنّ في أيديهم مصير
العباد في حياتهم الدنيوية والأُخروية. وأمّا إذا كان بداعي تكريم أولياء الله
تعالى كان مستحسناً عقلاً وشرعاً ، لأنّه وسيلة لإبراز المحبّة والمودّة للصالحين
من عباد الله تعالى وفيه رضاه سبحانه بالضّرورة.
__________________
الباب الثالث
في
صفاته تعالى
وفيه عشرة فصول :
١. تقسيمات الصفات
عند المتكلمين ؛
٢. طرق معرفة
صفاته تعالى ؛
٣. علمه تعالى ؛
٤. قدرته سبحانه ؛
٥. حياته تعالى ؛
٦. ارادته سبحانه
؛
٧. كلامه تعالى ؛
٨. الصفات الخبرية
؛
٩. الصفات السلبية
؛
١٠. نفي الرؤية
البصرية.
الفصل الأوّل :
تقسيمات الصفات عند المتكلّمين
قد ذكروا لصفاته
تعالى تقسيمات وهي :
١. الصفات الجمالية والجلالية
إذا كانت الصفة
مثبتة لجمال ومشيرة إلى واقعية في ذاته تعالى سمّيت «ثبوتية» أو «جمالية» وإذا
كانت الصفة هادفة إلى نفي نقص وحاجة عنه سبحانه سمّيت «سلبية» أو جلالية.
فالعلم والقدرة
والحياة من الصفات الثبوتية المشيرة إلى وجود كمال وواقعية في الذات الإلهية ولكن
نفي الجسمانية والتحيّز والحركة والتغيّر من الصفات السلبية الهادفة إلى سلب ما هو
نقص عن ساحته سبحانه.
قال صدر المتألهين
: «إنّ هذين الاصطلاحين (الجمالية) و (الجلالية) قريبان ممّا ورد في الكتاب العزيز
، قال سبحانه :
(تَبارَكَ اسْمُ
رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) .
__________________
فصفة الجلال ما
جلّ ذاته عن مشابهة الغير ، وصفة الإكرام ما تكرّمت ذاته بها وتجمّلت ، فيوصف
بالكمال وينزّه بالجلال».
٢. صفات الذات وصفات الفعل
قسَّم المتكلّمون
صفاته سبحانه إلى صفة الذات وصفة الفعل ، والأوّل : ما يكفي في وصف الذات به ، فرض
نفس الذات فحسب ، كالقدرة والحياة والعلم. والثاني : ما يتوقّف توصيف الذات به على
فرض فعله سبحانه.
فصفات الفعل هي
المنتزعة من مقام الفعل ، بمعنى أنّ الذات توصف بهذه الصفات عند ملاحظتها مع الفعل
، وذلك كالخلق والرزق ونظائرهما من الصفات الفعلية الزائدة على الذات بحكم
انتزاعها من مقام الفعل.
٣. الحقيقيّة والإضافيّة
إنّ للصّفات
تقسيماً آخر وهو تقسيماً إلى الحقيقيّة والاضافية والمراد من الاولى ما تتّصف به
الذات حقيقة ، وهي إمّا حقيقية ذات إضافة كالعلم والقدرة ، إمّا حقيقية محضة
كالحياة. والإضافية هي الصفات الانتزاعية كالعالميّة والقادرية والخالقية
والرازقية والعليّة.
__________________
٤. الذاتية والخبريّة
قسّم بعض
المتكلمين صفاته سبحانه إلى ذاتية وخبرية. والمراد من الأولى أوصافه المعروفة من
العلم والقدرة والحياة ، والمراد من الثانية ما ورد توصيفه تعالى بها في الخبر
الإلهي من الكتاب والسنّة ولو لا ذلك لما وصف الله تعالى بها بمقتضى حكم العقل
وذلك ككونه سبحانه مستوياً على العرش وكونه ذا وجه ، ويدين ، وأعين ، إلى غير ذلك
من الألفاظ الواردة في القرآن أو الحديث الّتي لو أجريت على الله سبحانه بمعانيها
المتبادرة عند العرف لزم التجسيم والتشبيه.
الفصل الثاني :
طرق معرفة صفاته تعالى
الطرق الصحيحة إلى
معرفة صفات الله تعالى ثلاثة :
الأوّل : الطريق العقلي
للطريق العقلي إلى
التعرّف على صفاته تعالى وجهان :
الوجه الأول :
الطريق العقلي الصرف ويكفي لذلك إثبات أنّه تعالى واجب الوجود بالذات ، فيستدلّ
بطريق اللمّ جميع صفاته الجمالية والجلالية.
وقد سلك المتكلم
الإسلامي الشهير نصير الدين الطوسي هذا السبيل للبرهنة على جملة من الصفات
الجلالية والجمالية حيث قال :
وجوب الوجود يدلُّ
على سرمديته ، ونفي الزائد ، والشريك ، والمثل ، والتركيب بمعانيه ، والضدّ ،
والتحيّز ، والحلول ، والاتّحاد ، والجهة ، وحلول الحوادث فيه ، والحاجة ، والألم
مطلقاً ، واللّذة المزاجية ، والمعاني ، والاحوال ، والصفات الزائدة والرؤية وعلى
ثبوت الجود ، والملك ، والتمام ، والحقيّة ،
والخيرية ،
والحكمة ، والتّجبُّر ، والقهر ، والقيّوميّة.
والوجه
الثاني : مطالعة الكون
المحيط بنا ، وما فيه من بديع النظام ، فيكشف بطريق الإنّ عن علم واسع وقدرة مطلقة
عارفة بجميع الخصوصيات الكامنة فيه ، وكلّ القوانين الّتي تسود الكائنات ، فمن
خلال هذا الطريق ، أي مطالعة الكون ، يمكن للإنسان أن يهتدي إلى قسم كبير من
الصفات الجمالية لمبدع الكون وخالقه وقد أمر الكتاب العزيز بسلوك هذا الطريق ، يقول
سبحانه :
(قُلِ انْظُرُوا ما ذا
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) .
وقال سبحانه :
(إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي
الْأَلْبابِ).
وقال سبحانه :
(إِنَّ فِي اخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ
لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) .
__________________
الثاني : طريق الوحي
الإلهي
الطريق الثاني لمعرفة
صفات الله تعالى الوحي الإلهي إلى انبياء الله تعالى وما روى عن الهداة الإلهيين
المعصومين عليهمالسلام وذلك بعد ما ثبت وجوده سبحانه وقسم من صفاته ، ووقفنا على
أنّ الأنبياء مبعوثون من جانب الله وصادقون في أقوالهم وكلماتهم.
وباختصار ، بفضل
الوحي ـ الّذي لا خطأ فيه ولا زلل ـ نقف على ما في المبدأ الأعلى من نعوت وشئون ،
فمن ذلك قوله سبحانه :
(هُوَ اللهُ الَّذِي
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ
الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ* هُوَ
اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .
إلى غير ذلك من
الآيات القرآنية والأحاديث المروية عن النبيّ صلىاللهعليهوآله وعترته المعصومين عليهمالسلام بطرق معتبرة.
الثالث : طريق الكشف
والشهود
هناك ثلّة قليلة
يشاهدون بعيون القلوب ما لا يدرك بالأبصار ، فيرون جماله وجلاله وصفاته وأفعاله
بإدراك قلبي ، يدرك لأصحابه ولا يوصف
__________________
لغيرهم. والفتوحات
الباطنية من المكاشفات أو المشاهدات الروحية والإلقاءات في الروع غير مسدودة ،
بنصّ الكتاب العزيز.
قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) .
أي يجعل في قلوبكم
نورا تفرّقون به بين الحقّ والباطل ، وتميّزون به بين الصحيح والزائف ، لا
بالبرهنة والاستدلال بل بالشهود والمكاشفة.
وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ
لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
والمراد من النور
هو ما يمشي المؤمن في ضوئه طيلة حياته في معاشه ومعاده ، في دينه ودنياه.
وقال سبحانه : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) .
إلى غير ذلك من
الآيات الظاهرة في أنّ المؤمن يصل إلى معارف
__________________
(). (الأنعام : ١٢٢).
()
وحقائق في ضوء
المجاهدة والتقوى ، إلى أن يقدر على رؤية الجحيم في هذه الدنيا المادية.
قال سبحانه : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ
الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) .
نعم ليس كلُّ من
رمى ، أصاب الغرض ، وليست الحقائق رَميَّة للنِّبال ، وإنّما يصل إليها الأمثل
فالأمثل ، فلا يحظى بما ذكرناه من المكاشفات الغيبية والفتوحات الباطنية إلّا النزر
القليل ممّن خلَّص روحه وصفّا قلبه.
__________________
الفصل الثالث :
علمه تعالى
لا خلاف بين
الإلهيين في أنّ العلم من صفاته تعالى وأنّ العالم والعليم من أسمائه سبحانه ،
لكنَّهم اختلفوا في كيفية علمه تعالى بذاته وبغيره على أقوال. وقبل البحث عن مراتب
علمه تعاليه وكيفيته يجب أن نبحث عن حقيقة العلم فنقول :
ما هو العلم؟
عرّف العلم بأنّه
صورة حاصلة من الشيء في الذهن ، وهذا التعريف لا يشمل إلّا العلم الحصولي ، مع أنّ
هناك قسما آخر للعلم وهو العلم الحضوري ، والفرق بين القسمين أنّ في العلم الحصولي
ما هو حاضر عند العالم وحاصل له هي الصورة المنتزعة من الشيء وهذه الصورة الذهنية
وسيلة وحيدة لدرك الخارج وإحساسه ولأجل ذلك أصبح الشيء الخارجي معلوماً بالعرض
والصورة الذهنية معلومة بالذات ، وأمّا العلم الحضوري فهو عبارة عن حضور المدرَك
من دون توسط أيّ شيء وذلك كعلم الإنسان بنفسه.
على ضوء ما ذكرناه
من تقسيم العلم إلى الحصولي والحضوري يصحّ أن يقال :
«إنّ العلم على
وجه الإطلاق عبارة عن حضور المعلوم لدى العالم».
وهذا التعريف يشمل
العلم بكلا قسميه ، غير إنّ الحاضر في الأوّل هو الصورة الذهنية دون الواقعية
الخارجية ، وفي الثاني نفس واقعية المعلوم من دون وسيط بينها وبين العالم.
إذا وقفت على
حقيقة العلم ، فاعلم أنّ الإلهيّين أجمعوا على أنّ العلم من صفات الله الذاتية
الكمالية ، وأنّ العالم من أسمائه الحسنى ، وهذا لم يختلف فيه اثنان على إجماله ،
ولكن مع ذلك اختلفوا في حدود علمه تعالى وكيفيته على أقوال ، يلزمنا البحث عنها
لتحقيق الحال في هذا المجال ، فنقول :
١. علمه سبحانه بذاته
قد ذكروا لإثبات
علمه تعالى بذاته وجوهاً من البراهين نكتفى بذكر وجهين منها :
الأوّل : مفيض الكمال
ليس فاقدا له
إنّه سبحانه خلق
الإنسان العالم بذاته علما حضوريا ، فمعطي هذا الكمال يجب أن يكون واجداً له على
الوجه الأتمّ والأكمل ، لأنّ فاقد الكمال لا يعطيه ، ونحن وإن لم نحط ولن نحيط
بخصوصية حضور ذاته لدى ذاته ،
غير إنّا نرمز إلى
هذا العلم ب «حضور ذاته لدى ذاته وعلمه بها من دون وساطة شيء في البين».
الثاني : التجرّد عن
المادة ملاك الحضور
ملاك الحضور
والشهود العلمي ليس إلّا تجرّد الوجود عن المادّة ، فإنّ الموجود المادّي بما أنّه
موجود كمّي ذو أبعاض وأجزاء ليس لها وجود جمعى ، ويغيب بعض أجزائه عن البعض الآخر
، مضافاً إلى أنّه في تحوّل وتغيّر دائمي ، فلا يصحّ للموجود المادّي من حيث إنّه
مادّي أن يعلم بذاته ، لعدم تحقّق ملاك العلم الّذي هو حضور شيء لدى آخر.
فإذا كان الموجود
منزّهاً من المادّة والجزئية والتبعّض ، كانت ذاته حاضرة لديها حضورا كاملاً وبذلك
نشاهد حضور ذواتنا عند ذواتنا ، فلو فرضنا موجوداً على مستوٍ عالٍ من التجرد
والبساطة عاريا عن كلّ عوامل الغيبة الّتي هي من خصائص الكائن المادّي ، كانت ذاته
حاضرة لديه ، وهذا معنى علمه سبحانه بذاته أي حضور ذاته لدى ذاته بأتمّ وجه
لتنزّهه عن الماديّة والتركّب والتفرّق كما تقدّم برهان بساطته عند البحث عن التوحيد.
الإجابة عن إشكال
قد استشكل على
علمه تعالى بذاته بأنّ لازم العلم بشيء المغايرة والاثنينية بين العالم والمعلوم ،
فعلمه تعالى بذاته يستلزم مغايرة واثنينية في ذاته سبحانه وهو محال.
والجواب
عنه : أنّ المغايرة
الاعتبارية تكفى لانتزاع عناوين العلم والمعلوم والعالم من ذات واحدة ، وليس
التغاير الحقيقي من خواصّ العلم حتى يستشكل في علم الذات بنفس ذاته بتوحّد العالم
والمعلوم ، بل الملاك كلّه هو الحضور ، وهذا حاصل في الموجود المجرّد كما تقدّم.
٢. علمه سبحانه بالأشياء قبل إيجادها
إنّ علمه سبحانه
بالأشياء على قسمين : علم قبل الإيجاد أي علمه بالأشياء في مقام ذاته سبحانه ،
وعلم بعد الإيجاد أي علمه بالأشياء في مقام فعله. ونستدلّ على القسم الأوّل بوجهين
:
الأوّل : العلم بالسّبب
علم بالمسبَّب
إنّ العلم بالسّبب
والعلّة بما هو سبب وعلّة ، علم بالمسبّب ، والمراد من العلم بالسبب والعلّة ،
العلم بالحيثية الّتي صارت مبدأ لوجود المعلول وحدوثه ، ولتوضيح هذه القاعدة نمثّل
بمثالين :
١. إنّ المنجّم
العارف بالقوانين الفلكيّة والمحاسبات الكونيّة يقف على أنّ الخسوف والكسوف أو ما
شاكل ذلك يتحقّق في وقت أو وضع خاص ، وليس علمه بهذه الطوارئ ، إلّا من جهة علمه
بالعلّة من حيث هي علّة لكذا وكذا.
٢. إنّ الطبيب
العارف بحالات النبض وأنواعه وأحوال القلب وأوضاعه يقدر على التنبّؤ بما سيصيب
المريض في مستقبل أيّامه وليس هذا العلم إلّا من جهة علمه بالعلّة من حيث هي علّة.
إذا عرفت كيفية
حصول العلم بالمعلول قبل إيجاده من العلم بالعلّة نقول : إنّ العالم بأجمعه معلول
لوجوده سبحانه ، وذاته تعالى علّة له ، وقد تقدّم انَّ ذاته سبحانه عالم بذاته.
وبعبارة أخرى :
العلم بالذات علم بالحيثيّة الّتي صدر منها الكون بأجمعه ، والعلم بتلك الحيثيّة
يلازم العلم بالمعلول.
قال صدر
المتألّهين :
إنّ ذاته ـ سبحانه
ـ لمّا كانت علّة للأشياء ـ بحسب وجودها ـ والعلم بالعلّة يستلزم العلم بمعلولها
... فتعقّلها من هذه الجهة لا بدّ أن يكون على ترتيب صدورها واحداً بعد واحد .
الثاني : إتقان الصنع
يدلّ على علم الصانع
إنّ المصنوع من
جهة الترتيب الّذي في أجزائه ومن جهة موافقة جميع الأجزاء للغرض المقصود من ذلك
المصنوع ، يدلّ على أنّه لم يحدث عن فاعل غير عالم بتلك الخصوصيات. فالعالم بما
انّه مخلوق لله سبحانه يدلّ ما فيه من بديع الخلق ودقيق التركيب على أنّ خالقه
عالم بما خلق ، عليم بما صنع ، فالخصوصيات المكنونة في المخلوق ترشدنا إلى صفات
صانعه وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الدليل بقوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ
اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
__________________
وقال الإمام علي
بن موسى الرضا عليهالسلام : «سبحان من خلق الخلق بقدرته ، أتقن ما خلق بحكمته ، ووضع
كلّ شيء منه موضعه بعلمه».
٣. علمه سبحانه بالأشياء بعد إيجادها
إنّ كلّ ممكن ،
معلول في تحقّقه لله سبحانه ، وليس للمعلولية معنى سوى تعلّق وجود المعلول بعلّته
وقيامه بها قياماً كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمى ، فكما أنّ المعنى الحرفي
بكلّ شئونه قائم بالمعنى الاسمى فهكذا المعلول قائم بعلّته المفيضة لوجوده ، وما
هذا شأنه لا يكون خارجا عن وجود علّته ، إذ الخروج عن حيطته يلازم الاستقلال وهو
لا يجتمع مع كونه ممكناً.
فلازم الوقوع في
حيطته ، وعدم الخروج عنها ، كون الأشياء كلّها حاضرة لدى ذاته والحضور هو العلم ،
لما عرفت من أنّ العلم عبارة عن حضور المعلوم لدى العالم.
ويترتّب على ذلك
أنّ العالم كما هو فعله ، فكذلك علمه سبحانه ، وعلى سبيل التقريب لاحظ الصور
الذهنية الّتي تخلقها النفس في وعاء الذهن ، فهي فعل النفس وفي نفس الوقت علمها ،
ولا تحتاج النفس في العلم بتلك الصور إلى صور ثانية ، وكما أنّ النفس محيطة بتلك
الصور وهي قائمة بفاعلها وخالقها ، فهكذا العالم دقيقه وجليله مخلوق لله سبحانه
قائم به وهو
__________________
محيط به ، فعلم
الله وفعله مفهومان مختلفان ، ولكنّهما متصادقان في الخارج.
وقد اتّضح بما
تعرّفت أنّ علمه بأفعاله بعد إيجادها حضوري ، كما أنّ علمه سبحانه بذاته وبأفعاله
قبل إيجادها حضوريّ ، فإنّ المناط في كون العلم حضورياً هو حصول نفس المعلوم
وحضوره لدى العالم لا حضور صورته وماهيته ، وهذا المناط متحقّق في علمه تعالى
بذاته وبأفعاله مطلقاً.
علمه تعالى بالجزئيات
والإمعان فيما
ذكرنا حول الموجودات الإمكانية يوضح لزوم علمه سبحانه بالجزئيات وضوحاً كاملاً ،
وذلك لما تقدّم أنّ نفس وجود كلّ شيء عين معلوميته لله تعالى ولا فرق في مناط هذا
الحكم بين المجرّد والمادّي ، والكلّي والجزئي ، فكما أنّ الموجود الثابت معلوم له
تعالى بثباته ، كذلك الموجود المتغيّر معلوم لله سبحانه بتغيّره وتبدّله فالإفاضة
التدريجيّة ، والحضور بوصف التدرّج لديه سبحانه يلازم علمه تبارك وتعالى بالجزئيات
الخارجيّة.
شبهات المنكرين
قد عرفت برهان
علمه سبحانه بالجزئيات ، وبقي الكلام في تحليل الشبهات الّتي أُثيرت في هذا المجال
، وإليك بيانها :
١. العلم بالجزئيات
يلازم التغيّر في علمه تعالى
قالوا لو علم
سبحانه ما يجري في الكون من الجزئيات لزم تغيّر علمه بتغيّر المعلوم وإلّا لانتفت
المطابقة ، وعلى هذا فهو سبحانه إنّما يعلم الجزئيات من حيث هي ماهيات معقولة لا
بما هي جزئية متغيّرة.
إنّ الشبهة قائمة
على فرض كون علمه سبحانه بالأشياء علماً حصولياً على طريق الصور المرتسمة القائمة
بذاته سبحانه ، وعند ذلك يكون التغيّر في المعلوم ملازما لتغيّر الصور القائمة به
سبحانه ويلزم على ذلك كون ذاته محلاً للتغيّر والتبدّل.
وقد عرفت أنّ علمه
تعالى بالموجودات حضورى بمعنى أنّ الأشياء بهويّاتها الخارجية وحقائقها العينية
حاضرة لديه سبحانه ، فلا مانع من القول بطروء التغيّر على علمه سبحانه إثر طروء
التغيّر على الموجودات العينية ، فإنّ التغيّر الممتنع على علمه إنّما هو العلم
الموصوف بالعلم الذاتي ، وأمّا العلم الفعلي أي العلم في مقام الفعل ، فلا مانع من
تغيّره كتغيّر فعله ، فإنّ العلم في مقام الفعل لا يعدو عن كون نفس الفعل علمه لا
غير.
٢. إدراك الجزئيات يحتاج
إلى آلة
إنّ إدراك
الجزئيات يحتاج إلى أدوات مادّية وآلات جسمانية ، وهو سبحانه منزّه عن الجسم
ولوازمه الجسمانية.
والجواب عن هذه
الشبهة واضح ، فإنّ العلم بالجزئيات عن طريق
الأدوات المادّية
إنّما هو شأن من لم يحط الأشياء إحاطة قيّوميّة ، ولم تكن الأشياء قائمة به حاضرة
لديه ، كالإنسان في علمه الحصولي بالجزئيات الخارجية ، فإنّ علمه بها لمّا كان عن
طريق انتزاع الصور بوسيلة الأدوات الحسيّة كان إدراك الجزئيات متوقّفاً على تلك
الأدوات ، وأمّا الواجب عزّ اسمه فلمّا كان علمه عن طريق إحاطته بالأشياء وقيامها
به قياماً حقيقياً فلا يتوقّف علمه بها على الأدوات وإعمالها.
تكملة
قد ورد في الشريعة
الإسلامية الحقّة توصيفه تعالى بالسمع والبصر وعدّ السميع والبصير من أسمائه
سبحانه والحقّ أنّ سمعه وبصره تعالى ليسا وصفين يغايران وصف العلم
، إنمّا المغايرة بلحاظ المفهوم لا من حيث الحقيقة والمصداق ، فقد عرفت أنّ جميع
العوالم الإمكانية حاضرة لديه سبحانه ، فالأشياء على الاطلاق ، والمسموعات ،
والمبصرات خصوصاً ، أفعاله سبحانه ، وفي الوقت نفسه علمه تعالى.
ثمّ إنّ الملاك
المتقدّم وإن كان موجوداً في المشمومات والمذوقات والملموسات ، فإنّها أيضاً حاضرة
لديه سبحانه كالمسموعات والمبصرات ، لكن لمّا كان إطلاق هذه الاسماء ملازما
للمادّة والإحساس في أذهان الناس ، لم يصحّ إطلاق اللامس والذائق والشامّ عليه.
ومن الغايات الّتي
يرشد إليها الذكر الحكيم في مقام التوصيف
__________________
بالسميع والبصير
هو إيقاف الإنسان على أنّ ربّه سميع يسمع ما يتلفّظه من كلام ، بصير يرى كلّ عمل
يصدر منه فيحاسبه يوماً حسب ما سمعه ورآه.
ثمّ إنّ بعض
المتكلمين قد عدّ الإدراك من صفاته تعالى والمدرِك ـ بصيغة الفاعل ـ من أسمائه ،
تبعاً لقوله سبحانه :
(لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) .
ولا شكّ أنّه
سبحانه ـ بحكم الآية الشريفة ـ مدرك ، لكن الكلام في أنّ الإدراك هل هو وصف وراء
العلم بالكليات والجزئيات؟ أو هو يعادل العلم ويرادفه؟ أو هو علم خاص؟ والأقرب هو
الأخير وهو العلم بالموجودات الجزئية العينية ، فإدراكه سبحانه هو شهود الأشياء
الخارجية ووقوفه عليه وقوفاً تامّاً. قال سبحانه :
(أَوَلَمْ يَكْفِ
بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) .
__________________
الفصل الرابع
قدرته تعالى
اتّفق الإلهيّون
على أنّ القدرة من صفاته الذاتية الكمالية كالعلم ، ولأجل ذلك يعدّ القادر والقدير
من أسمائه سبحانه ، لكنّهم اختلفوا في حقيقة قدرته تعالى. فيجب تعريف القدرة
أوّلاً وبيان المعنى المناسب لساحته تعالى من القدرة ثانياً.
تعريف القدرة
إنّ هناك تعريفين
للقدرة مشهورين :
الأوّل : أنّها
عبارة عن صحّة الفعل والترك ، والمراد من الصحّة : الإمكان ، فالقادر هو الّذي
يصحّ أن يفعل وأن يترك.
والثاني : أنّها
عبارة عن صدور الفعل بالمشيّة والاختيار ، فالقادر من إن شاء فعل وإن لم يشأ لم
يفعل.
وقد أُورد على
التعريف الأوّل بأنّ الإمكان المأخوذ في التعريف ، إمّا إمكان ماهوي يقع وصفاً
للماهية ، أو إمكان استعدادي يقع وصفاً للمادّة ؛
__________________
وعلى كلا
التقديرين لا يصحّ أخذه في تعريف قدرته سبحانه ، لأنّ الله تعالى منزّه عن الماهية
والمادّة.
والمراد من
المشيّة في التعريف الثاني هو الاختيار الذاتي له سبحانه ، فهو تعالى يفعل
باختياره الذاتي ويترك كذلك ، أي ليس فعله وتركه لازماً عليه ، لعدم وجود قدرة
غالبة تضطرّه على الفعل أو الترك.
برهان قدرته تعالى
إذا كان الفعل
متَّسماً بالإحكام والإتقان ، والجمال والبهاء يدلّ ذلك على علم الفاعل بتلك
الجهات وقدرته على إيجاد مثل ذلك الصنع.
ولأجل ذلك نرى
أنّه سبحانه عند ما يصف روائع أفعاله وبدائع صنعه في آيات الذكر الحكيم ، يختمها
بذكر علمه تعالى وقدرته ، يقول سبحانه :
(اللهُ الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ
لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) .
فالإحكام والإتقان
في الفعل آيتا العلم وعلامتا القدرة ، وإنّا نرى في كلمات الإمام علي عليهالسلام أنّه يستند في البرهنة على قدرته تعالى بروعة فعله وجمال
صنعه سبحانه. قال عليهالسلام : «وأرانا من ملكوت قدرته وعجائب ما نطقت به آثار حكمته».
__________________
وقال أيضاً : «واقام
من شواهد البيّنات على لطيف صنعته وعظيم قدرته».
وقال أيضاً : «فأقام
من الأشياء أودها ، ونهج حدودها ، ولائم بقدرته بين متضادّها».
سعة قدرته تعالى
إنّ الفطرة
البشرية تقضي بأنّ الكمال المطلق الّذي ينجذب إليه الإنسان قادر على كلّ شيء ممكن
، ولا يتبادر إلى الأذهان ابداً ـ لو لا تشكيك المشكّكين ـ أنّ لقدرته حدوداً ، أو
أنّه قادر على شيء دون شيء. قال الإمام الصادق عليهالسلام : «الأشياء له سواء علماً وقدرةً وسلطاناً وملكاً وإحاطةً».
والعقل الفلسفي
يؤيّد هذا القضاء الفطري ، لأنّ وجوده سبحانه غير محدود ولا متناه ، وما هو غير
متناه في الوجود ، غير متناه في الكمال والجمال ، لأنّ منبع الكمال هو الوجود ،
فعدم التناهي في جانب الوجود يلازم عدمه في جانب الكمال ، وأيّ كمال أبهى من
القدرة ، فهي غير متناهية تبعاً لعدم تناهي وجوده وكماله والنصوص الدينية أيضاً
دالّة على سعة قدرته تعالى. قال سبحانه : (وَكانَ اللهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) .
__________________
وقال تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
مُقْتَدِراً) .
كما صرّح بعمومية
قدرته تعالى في الأحاديث المرويّة عن أئمة أهل البيت عليهمالسلام.
دفع شبهات في المقام
إنّ هناك شبهات ،
أوردت على القول بعمومية قدرته تعالى ربما يعسر دفعها على الطالب ، يجب أن نذكرها
ونبيّن وجه الدفع عنها :
١. هل هو سبحانه
قادر على خلق مثله؟ فلو أجيب بالإيجاب لزم افتراض الشريك له سبحانه ، ولو أجيب
بالنفي ثبت ضيق قدرته وعدم عمومها.
ويدفع ذلك بأنّه
ممتنع فلا يصل الكلام إلى تعلّق القدرة به أو عدمه ، والوجه في امتناعه هو لزوم
اجتماع النقيضين ، أعني : كون شيء واحد واجباً بالذات وممكناً كذلك ، فإنّ ذلك
المثل بما أنّه مخلوق ، يكون ممكناً وبما انّه مثل له تعالى ، فهو واجب بالذات ،
وهو محال بالضرورة.
٢. هل هو قادر على
أن يجعل العالم الفسيح في البيضة من دون أن يصغر حجم العالم أو تكبر البيضة؟
والجواب عنه
كسابقه ، فإنّ جعل الشيء الكبير في الظرف الصغير أمر ممتنع في حدّ ذاته ، إذ
البداهة تحكم بأنّ الظرف يجب أن يكون مساويا للمظروف ، فجعل الشيء الكبير في الظرف
الصغير يستلزم كون ذلك
__________________
الظرف مساويا
للمظروف لما يقتضيه قانون مساواة الظرف والمظروف ، وأن يكون أصغر منه غير مساوٍ له
ـ لما هو المفروض ـ وهذا محال ، وإنّما يبحث عن عمومية القدرة وعدمها بعد فرض كون
الشيء ممكناً في ذاته ، وإلى هذا أشار الإمام علي عليهالسلام في الجواب عن نفس السؤال بقوله :
«إنّ الله تبارك
وتعالى لا ينسب إلى العجز ، والّذي سألتني لا يكون».
٣. هل يمكنه
سبحانه أن يوجد شيئاً لا يقدر على إفنائه ، فإن أُجيب بالإيجاب لزم عدم سعة قدرته
حيث لا يقدر على إفنائه وإن أجيب بالسلب لزم أيضا عدم عموم قدرته.
والجواب عنه : أنّ
الشيء المذكور بما أنّه ممكن فهو قابل للفناء ، وبما أنّه مقيّد بعدم إمكان إفنائه
فهو واجب غير ممكن ، فتصبح القضية كون شيء واحد ممكناً وواجباً ، قابلاً للفناء
وغير قابل له ، وهو محال ، فالفرض المذكور مستلزم للمحال ، والمستلزم للمحال محال
، وهو خارج عن موضوع بحث عموميّة القدرة ، كما تقدّم.
__________________
الفصل الخامس :
حياته تعالى
اتّفق الإلهيون
على أنّ الحياة من صفاته تعالى ، وأنّ الحيّ من أسمائه الحسنى ، ولكن إجراء هذا
الاسم عليه سبحانه يتوقّف على فهم معنى الحياة وكيفية إجرائها على الله تعالى ،
فنقول :
حقيقة الحياة
إنّ الحياة
المادّية في الحيوان والإنسان ـ بما أنّه حيوان ـ تقوم بأمرين ، هما : الفعّاليّة
والدرّاكيّة ، فالخصائص الأربع الّتي ذكرها علماء الطبيعة راجعة إلى الفعل والانفعال ،
والتأثير والتأثّر ونرمز لها «بالفعّاليّة» ، كما نرمز إلى الحسّ والإدراك
المتسالم على وجودهما في انواع الحيوان ، وقد يقال بوجودهما في النبات ايضاً ، ب «الدرّاكيّة»
فالحيّ هو الدرّاك والفعّال ، كما هو المصطلح عند الفلاسفة الإلهيين.
فملاك الحياة
الطبيعيّة هو الفعل والدرك ، وهو محفوظ في جميع المراتب لكن بتطوير وتكامل ، أعني
: حذف النواقص والشوائب الملازمة
__________________
للمرتبة النازلة
عن المرتبة العالية ، فالفعل المترقّب من الحياة العقلية في الإنسان لا يقاس بفعل
الخلايا النباتية والحيوانية ، كما أنّ درك الإنسان للمسائل الكلية أعلى وأكمل من
حسّ النبات وشعور الحيوان ومع هذا البون الشاسع بين الحياتين ، تجد أنّا نصف الكلّ
بالحياة بمعنى واحد وليس ذاك المعنى الواحد إلّا كون الموجود «درّاكاً» و «فعّالاً».
معنى حياته تعالى
فإذا صحّ إطلاق
الحياة بمعنى واحد على تلك الدرجات المتفاوتة فليصحّ على الموجودات الحيّة
العِلويّة لكن بنحو متكامل ، فالله سبحانه حيّ بالمعنى الّذي تفيده تلك الكلمة ،
لكن حياة مناسبة لمقامه الأسنى ، بحذف النواقص والأخذ بالزّبدة واللّب ، فهو تعالى
حيّ أي «فاعل» و «مدرك» وإن شئت قلت : «فعّال» و «درّاك» لا كفعّاليّة الممكنات
ودرّاكيّتها.
دلائل حياته تعالى
قد ثبت بالبرهان
أنّه سبحانه عالم وقادر ، وقد تقدّم البحث فيه ، وقد بيّنّا أنّ حقيقة الحياة في
الدرجات العِلوية ، لا تخرج عن كون المتّصف بها درّاكاً وفعّالاً ، ولا شكّ أنّ
لله تعالى أتمّ مراتب الدرك والفعل ، لأنّ له أكمل مراتب العلم والقدرة ، ففعله
النابع عن علمه وقدرته أكمل مراتب الفعل فهو حيّ بأعلى مراتب الحياة.
أضف إلى ذلك انّه
سبحانه خلق موجودات حيّة ، مدركة فاعلة ، فمن المستحيل أن يكون معطي الكمال فاقداً
له.
تذييل
عُدَّ من صفاته
الثبوتية الذاتية ، الأزلية والأبدية والسرمديّة والقدم والبقاء ، وعليه فهو
سبحانه قديم أزليّ ، باق أبديّ ، وموجود سرمديّ. قالوا : يطلق عليه الأوّلان لأجل
أنّه المصاحب لمجموع الأزمنة المحقّقة أو المقدَّرة في الماضي ، كما اطلق عليه
الآخران لأجل انّه الموجود المستمرّ الوجود في الأزمنة الآتية محقّقة كانت أو
مقدَّرة ، ويطلق عليه السرمديّة بمعنى الموجود المجامع لجميع الأزمنة السابقة
واللاحقة. هذا ما عليه المتكلّمون في تفسير هذه الأسماء والصفات.
يلاحظ
عليه : أنّه يناسب شأن
الموجود الزماني الّذي يصاحب الأزمنة المحقّقة أو المقدَّرة ، والماضية أو اللاحقة
، والله سبحانه منزّه عن الزمان والمصاحبة له ، بل هو خالق للزمان سابقه ولاحقه ،
فهو فوق الزمان والمكان ، لا يحيطه زمان ولا يحويه مكان ، وعلى ذلك فالصحيح أن
يقال : إنّ الموجود الإمكاني ما يكون وجوده غير نابع من ذاته ، مسبوقاً بالعدم في
ذاته ولا يمتنع طروء العدم عليه ، ويقابله واجب الوجود بالذات وهو ما يكون وجوده
نابعا من ذاته ، ويمتنع عليه طروء العدم ولا يلابسه أبداً ، ومثل ذلك لا يسبق
وجوده العدم ، فيكون قديماً أزليّاً ، كما يمتنع أن يطرأ عليه العدم ، فيكون
أبدياً باقياً ، وبملاحظة ذينك الأمرين ، أعني : عدم مسبوقية وجوده بالعدم وامتناع
طروء العدم عليه ، يتصف بالسّرمديّة ويقال : إنّه سرمديّ.
الفصل السادس :
إرادته تعالى
إنّ الإرادة من
صفاته سبحانه ، والمريد من أسمائه ، ولم يشكّ في ذلك أحد من الإلهيين أبداً ،
وإنّما اختلفوا في حقيقتها ، وأنّها هل تكون من صفات الذات أو من صفات الفعل؟
حقيقة إرادته تعالى
إنّ الإرادة في
الإنسان بأيّ معنى فسّرت ، ظاهرة تظهر في لوح النفس تدريجيّة ، ومن المعلوم أنّ
الإرادة بهذا المعنى لا يمكن توصيفه سبحانه بها ، لأنّه يستلزم كونه موجوداً
ماديّاً يطرأ عليه التغيّر والتبدّل من الفقدان إلى الوجدان ، وما هذا شأنه لا
يليق بساحة البارئ ، ولأجل ذلك اختلفت كلمة الإلهيين في تفسير ارادته تعالى ،
فالمشهور عند الحكماء والمتكلمين أنّ ارادة الله سبحانه هي علمه تعالى بأنّ الفعل على نظام
الخير والأحسن أو علمه بأن الفعل ذو مصلحة عائدة إلى غيره تعالى وعلى هذا تكون
الإرادة من الصفات الذاتية.
__________________
قال صدر المتألهين
:
معنى كونه مريداً
أنّه سبحانه يعقل ذاته ويعقل نظام الخير الموجود في الكل من ذاته وأنّه كيف يكون.
وقال ابو إسحاق
النوبختي :
وهو يريد أي يعلم
المصلحة في فعل فيدعوه علمه إلى إيجاده.
يلاحظ
عليه : أنّ مفاهيم
الصفات ومعانيها متغايرة وعينيتها في حقّه تعالى راجعة إلى واقعيتها ومصداقها وعلى
هذا تفسير الإرادة بالعلم ، يرجع إلى إنكار حقيقة الإرادة فيه سبحانه ، ولأجل عدم
صحّة هذا التفسير نرى أنّ أئمة اهل البيت عليهمالسلام ينكرون تفسيرها بالعلم ، قال بكير بن أعين : قلت لأبي عبد
الله الصادق عليهالسلام : علمه ومشيئته مختلفان أو متفقان ...؟
فقال عليهالسلام : «العلم ليس هو المشيئة ، ألا ترى أنّك تقول سأفعل كذا إن
شاء الله ، ولا تقول سأفعل كذا إنْ علم الله» .
والحق أنّ الإرادة
من الصفات الذاتية وتجري عليه سبحانه مجرّدة من شوائب النقص وسمات الإمكان ،
فالمراد من توصيفه بالإرادة كونه فاعلاً مختاراً في مقابل كونه فاعلاً مضطرّاً ،
لا إثبات الإرادة له بنعت كونها طارئة
__________________
زائلة عند حدوث
المراد ، أو كون الفاعل خارجاً بها من القوّة إلى الفعل ، لأنّها لا تعدّ من صفات
الكمال مقيّدة بهذه الخصائص ، بل كمالها في كون صاحبها مختاراً ، مالكاً لفعله
آخذاً بزمام عمله ، فإذا كان هذا كمال الإرادة فالله سبحانه واجد له على النحو
الأكمل ، إذ هو الفاعل المختار غير المقهور في سلطانه ، وليس هذا بمعنى إرجاع
الإرادة إلى وصف سلبي وهو كونه غير مقهور ولا مستكره ، بل هي وصف وجودي هو نفس
ذاته ، والتعبير عنه بوصف سلبي لا يجعله أمراً سلبياً كتفسير العلم بعدم الجهل ،
والقدرة بعدم العجز.
فلو صحَّ تسمية
هذا الاختيار الذاتي بالإرادة ، فالإرادة من صفات ذاته تعالى وإلّا وجب القول
بكونها من صفات الفعل.
الإرادة في روايات اهل
البيت عليهمالسلام
يظهر من الروايات
المأثورة عن أئمّة أهل البيت عليهمالسلام أنّ مشيئته وإرادته من صفات فعله ، كالرازقية والخالقية ،
وإليك نبذاً من هذه الروايات :
__________________
١. روى عاصم بن حميد
، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قلت : لم يزل الله مريداً؟ قال : إنّ المريد لا
يكون إلّا لمراد معه ، لم يزل الله عالماً قادراً ثمّ أراد».
٢. روى صفوان بن
يحيى قال : قلت لأبي الحسن عليهالسلام : أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق.
قال : فقال عليهالسلام : «الإرادة من الخلق الضمير ، وما يبدو لهم بعد ذلك من
الفعل ، وأمّا من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك ، لأنّه لا يروّي ولا يهمّ
ولا يتفكّر ، وهذه الصفات منفيّة عنه ، وهي صفات الخلق ، فإرادة الله الفعل لا غير
ذلك ، يقول له كن فيكون بلا لفظ ، ولا نطق بلسان ، ولا همّة ، ولا تفكّر ، ولا كيف
لذلك ، كما انّه لا كيف له».
٣. روى محمد بن
مسلم ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «المشيئة محدثة».
ترى أنّ الرواية
الأُولى تنفي الأزليّة عن الإرادة ، فلا تكون من صفاته الذاتية الّتي هي عين ذاته
تعالى ، كما أنّ الرواية الثالثة صرّحت على أنّ المشيئة محدثة ، فلا تكون من صفاته
الذاتية وقد صرّحت الرواية الثانية على أنّ إرادته تعالى عين إحداثه تعالى وإيجاده
فهي عين فعله ، ولكنّ الروايات لا تنفي كون الإرادة بالمعنى الّذي فسّرناها به ،
أعني : الاختيار
__________________
الذاتي من صفات
ذاته ، بل الّذي نفته ، هي الإرادة بالمعنى الموجود في الإنسان ، لأنّ إثبات هذه
الإرادة لله تعالى يستلزم محذورين :
الأوّل
: قدم المراد أو
حدوث المريد ، كما ورد في الرواية الأولى ؛
الثاني
: طروء التغيّر
والتدريج على ذاته سبحانه ، كما ورد في الرواية الثانية.
الفصل السابع :
كلامه تعالى
أجمع المسلمون
تبعاً للكتاب والسنّة على كونه سبحانه متكلّماً ، ولكنّهم اختلفوا في أمرين :
أ. تفسير حقيقة
كلامه تعالى ؛
ب. حدوثه وقدمه.
لقد شغلت هذه
المسألة بال العلماء والمفكّرين الاسلاميّين في عصر العباسيين ، وحدثت بسببه
مشاجرات بل صدامات دامية مذكورة في التاريخ تفصيلاً ، وعرّفت ب «محنة القرآن»
فيلزمنا البحث والتحليل حول ذينك الأمرين على ضوء القرآن والنقل المعتبر فنقول :
الأقوال في تفسير كلامه
تعالى
الأقوال الّتي
ذكرها المتكلّمون والفلاسفة في هذا المجال ، ثلاثة :
١. نظرية العدلية : وهو أنّ كلامه تعالى عبارة عن أصوات وحروف
__________________
غير قائمة بالله
تعالى قياماً حلوليّاً أو عروضيّاً ، بل يخلقها في غيره كاللوح المحفوظ أو جبرائيل
أو النبيّ أو غير ذلك فكما يكون الله تعالى منعماً بنعمة يوجده في غيره ، فهكذا
يكون متكلّماً بإيجاد الكلام في غيره وليس من شرط الفاعل أن يحلّ عليه فعل.
وهذا المعنى من
الكلام يسمّى بالكلام اللفظي وهو من صفات فعله تعالى ؛ حادث بحدوث الفعل.
٢. نظرية الأشاعرة
: يظهر من مؤلّف المواقف أنّ الأشاعرة معترفون بالكلام اللفظي وبأنّه حادث ،
ولكنّهم يدّعون معنى آخر وراءه ويسمّونه بالكلام النفسي.
قال الفاضل
القوشجي في تفسير الكلام النفسي :
إنّ من يورد صيغة
أمر أو نهي أو نداء أو إخبار أو استخبار أو غير ذلك يجد في نفسه معاني يعبّر عنها
بالألفاظ الّتي نسمّيها بالكلام الحسّي ، فالمعنى الّذي يجده في نفسه ويدور في
خلده ، لا يختلف باختلاف العبارات بحسب الاوضاع والاصطلاحات ويقصد المتكلم حصوله
في نفس السامع ليجري على موجبه ، هو الّذي نسمّيه الكلام النفسي.
__________________
وهذا المعنى من
الكلام ـ على فرض ثبوته ـ يكون من صفات ذاته تعالى وقديم بقدم الذات ، ولكنّه ليس
امراً وراء العلم التصوّري أو التصديقي ، فلا يثبت كلاماً ذاتياً بالمعنى الحقيقي
للكلام ، وأمّا تسمية العلم بالكلام على سبيل المجاز فهي خارج عن موضوع البحث.
٣. نظريّة الحكماء
: ذهبت الحكماء إلى أنّ لكلامه سبحانه مفهوماً أوسع من الكلام اللفظي ، بل كلامه
تعالى مساوق لفعله سبحانه فكلّ موجود كما هو فعله ومخلوقه ، كذلك كلام له تعالى
ونسمّيه ب «الكلام الفعلي».
توضيح
ذلك : أنّ الغرض
المقصود من الكلام اللفظي ليس إلّا إبراز ما هو موجود في نفس المتكلّم ومستور عن
المخاطب والسامع ، فالكلام ليس إلّا لفظاً دالّا على المعنى الّذي تصوّره المتكلّم
وأراد إيجاده في ذهن السامع ، فحقيقة الكلام هي الدلالة والحكاية ، ولا شكّ أنّ
الفعل يدلّ على وجود فاعله وعلى خصوصياته الوجودية ، وليس الفرق بين دلالة اللفظ
على المعنى ودلالة الفعل على الفاعل ، إلّا أنّ دلالة الأوّل وضعي اعتباريّ ،
ودلالة الثاني تكويني عقلي ، والدلالة التكوينيّة العقليّة أقوى من الدلالة
اللفظية الوضعيّة.
وعلى هذا ، فكلّ
فعل من المتكلّم أفاد نفس الأثر الّذي يفيده الكلام ، من إبراز ما يكتنفه الفاعل
في سريرته من المعاني والحقائق ، يصحّ تسميته كلاماً من باب التوسّع والتطوير.
ونظرية الحكماء في
تفسير كلامه تعالى مطابق لإطلاقات الكلام
الإلهى في الكتاب
والسنّة ، فالقرآن يصف المسيح عليهالسلام بأنّه كلمة الله الّتي ألقاها إلى مريم العذراء ، قال
تعالى :
(إِنَّمَا الْمَسِيحُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ
مِنْهُ.)
وقد فسّر الامام
علي عليهالسلام : قوله تعالى بفعله الّذي ينشئه ويمثّله ، حيث قال :
«يقول لمن أراد
كونه كن فيكون ، لا بصوت يقرع ، ولا بنداء يسمع ، وإنّما كلامه سبحانه فعل منه
أنشأه ومثّله».
وبذلك يظهر أنّ الصواب من الآراء المتقدّمة هو نظريّة الحكماء ، وأمّا
نظرية العدلية من المتكلّمين فهي غير منطبقة على جميع مصاديق كلامه سبحانه وإنّما
هو قسم قليل منه. وأمّا نظرية الأشاعرة فليس له أثر في الكتاب والسنّة.
فالعدلية أصابوا
في جهة وأخطئوا في جهة اخرى ، أصابوا في جعلهم كلامه تعالى من صفات افعاله سبحانه
وأخطئوا في حصره في الكلام اللفظي.
ولكنّ الأشاعرة
أخطئوا في جهتين : في حصر الكلام الفعلي بالكلام اللفظي ، وفي ادّعاء قسم آخر من
كلام سمّوه بالكلام النفسي وجعلوه وصفاً ذاتياً له تعالى.
__________________
كلامه سبحانه حادث أو
قديم؟
اختلفوا في حدوث
كلامه تعالى أو قدمه على أقوال :
١. نظرية القدم
أوّل من أكّد
القول بعدم حدوث القرآن وعدم كون كلامه تعالى مخلوقاً وأصرّ عليه ، أهل الحديث ،
وفي مقدّمتهم «أحمد بن حنبل» فإنّه الّذي أخذ يروّج فكرة عدم خلق القرآن ويدافع
عنها بحماس ، متحمّلاً في سبيلها من المشاقّ ما هو مسطور في زبر التاريخ ، وإليك
نصّ نظريته في هذه المسألة :
والقرآن كلام الله
ليس بمخلوق ، فمن زعم انّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر ، ومن زعم انّ القرآن كلام
الله عزوجل ووقف ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق ، فهو اخبث من الأوّل.
٢. نظريّة الحدوث
قد تبنَّت
المعتزلة القول بخلق القرآن وانبروا يدافعون عنه بشتّى الوسائل ، ولمّا كانت
الخلافة العباسية في عصر المأمون ومن بعده إلى زمن الواثق بالله ، تؤيّد حركة
الاعتزال وآراءها ، استعان المعتزلة من هذا الغطاء ،
__________________
وقاموا باختبار
علماء الأمصار الإسلامية في هذه المسألة ، وكانت نتيجة هذا الامتحان أن أجاب جميع
الفقهاء في ذلك العصر بنظرية الخلق ، ولم يمتنع الا نفر قليل على رأسهم أحمد بن
حنبل ، وإليك ما ذكره القاضي عبد الجبّار في هذا المجال :
أمّا مذهبنا في
ذلك أنّ القرآن كلام الله تعالى ووحيه ، وهو مخلوق محدث ، أنزله الله على نبيّه
ليكون علَماً ودالّاً على نبوّته ، وجعله دلالة لنا على الأحكام لنرجع إليه في
الحلال والحرام ، واستوجب منّا بذلك الحمد والشكر والتحميد والتقديس ، وإذاً هو
الّذي نسمعه اليوم ونتلوه وإن لم يكن (ما نقرؤه) محدثاً من جهة الله تعالى فهو
مضاف إليه على الحقيقة كما يضاف ما ننشده اليوم من قصيدة امرئ القيس إليه على
الحقيقة وإن لم يكن امرؤ القيس محدثاً لها الآن.
وهذه النظريّة هي
المقبول عند الشيعة الإمامية.
٣. نظريّة القدم والحدوث
أوّل ما أعلنه
الشيخ الأشعرى في هذا المجال هو القول بعدم كون القرآن مخلوقاً حيث قال :
ونقول : إنّ
القرآن كلام الله غير مخلوق ، وانّ من قال بخلق القرآن فهو كافر.
__________________
ولكنّه رأي القول
بأنّ قدم القرآن المقروء والملفوظ شيء لا يقبله العقل السليم ، فجاء بنظرية جديدة
أصلح بها القول بعدم خلق القرآن والتجأ إلى أنّ المراد من كلام الله تعالى ليس
القرآن المقروء بل الكلام النفسي.
ويردّه أنّه لا
دليل من العقل والوحي على الكلام النفسي.
دلالة القرآن على حدوث
كلامه تعالى
صرّح القرآن
الكريم على حدوث كلامه تعالى ـ أعنى : القرآن ـ في قوله سبحانه : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ
رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ.)
والمراد من «الذكر»
هو القرآن نفسه لقوله سبحانه :
(إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) .
وقوله سبحانه : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ).
والمراد من «محدث»
هو الجديد وهو وصف «للذكر» ومعنى كونه جديداً أنّه أتاهم بعد الإنجيل ، كما أنّ
الإنجيل جديد ، لأنّه أتاهم بعد التوراة ، وكذلك بعض سور القرآن وآياته ذكر جديد
أتاهم بعد بعض.
__________________
موقف أهل البيت عليهمالسلام
إنّ تاريخ البحث
وما جرى على الفريقين من المحن ، يشهد بأنّ التشدّد فيه لم يكن لإحقاق الحقّ
وإزاحة الشكوك بل استغلّت كلّ طائفة تلك المسألة للتنكيل بخصومها ، فلأجل ذلك أنّ
أئمّة أهل البيت عليهمالسلام منعوا أصحابهم من الخوض في تلك المسألة ، فقد سأل الريّان
بن الصلت الإمام الرضا عليهالسلام وقال له : ما تقول في القرآن؟ فقال عليهالسلام:
«كلام الله لا
تتجاوزوه ، ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلّوا».
نرى أنّ الامام عليهالسلام يبتعد عن الخوض في هذه المسألة لما رأى من أنّ الخوض فيها
ليس لصالح الإسلام ، وأنّ الاكتفاء بأنّه كلام الله أحسم لمادّة الخلاف. ولكنّهم عليهمالسلام عند ما أحسّوا بسلامة الموقف ، أدلوا برأيهم في الموضوع ،
وصرّحوا بأنّ الخالق هو الله سبحانه وغيره مخلوق ، والقرآن ليس نفسه سبحانه وإلّا
يلزم اتحاد المنزِل والمنزَل ، فهو غيره ، فيكون لا محالة مخلوقاً.
فقد روى محمد بن
عيسى بن عبيد اليقطيني أنّه كتب علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا عليهالسلام إلى بعض شيعته ببغداد ، وفيه : «وليس الخالق إلّا الله عزوجل وما سواه مخلوق ، والقرآن كلام الله لا تجعل له اسماً من
عندك فتكون من الضالّين».
__________________
تكملة
اتّفق المسلمون
والإلهيّون على أنّ الصدق من صفاته تعالى وأنّه سبحانه صادق. والمراد من صدقه
تعالى كون كلامه منزّهاً عن شوب الكذب ، ولمّا كان المختار عندنا في «الكلام» أنّه
من الصفات الفعلية يكون الصدق في الكلام مثله وهو واضح.
ويمكن الاستدلال
على صدقة بأنّ الكذب قبيح عقلاً ، وهو سبحانه منزّه عمّا يعدّ العقل من القبائح ،
والبرهان مبنيّ على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين ، وهي من القواعد الأساسية في
كلام العدلية.
الفصل الثامن :
الصفات الخبريّة
قسّم بعض
المتكلّمين صفاته سبحانه إلى ذاتيّة وخبريّة ، والمراد من الأُولى أوصافه المعروفة
من العلم والقدرة والحياة ، والمراد من الثانية ما أثبتته ظواهر الآيات والأحاديث
له سبحانه من العلوّ والوجه واليدين إلى غير ذلك ، وقد اختلفت آراء المتكلّمين في
تفسير هذا القسم من الصفات إلى أقوال :
الأوّل : الإثبات مع
التكييف والتشبيه
زعمت المجسِّمة
والمشبِّهة أنّ لله سبحانه عينين ويدين مثل الإنسان. قال الشهرستاني:
أمّا مشبِّهة
الحشويّة ... أجازوا على ربِّهم الملامسة والمصافحة وأنّ المسلمين المخلصين
يعانقونه سبحانه في الدنيا والآخرة ، إذا بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حدّ
الإخلاص.
__________________
وبما أنّ التشبيه
والتجسيم باطل بالعقل والنقل فلا ريب في بطلان هذه النظريّة.
الثاني : الإثبات بلا
تكييف ولا تشبيه
إنّ الشيخ الأشعري
ومن تبعه يجرون هذه الصفات على الله سبحانه بالمعنى المتبادر منها في العرف ، لكن
لأجل الفرار عن التشبيه يقولون : «بلا تشبيه ولا تكييف». يقول الأشعري :
إنّ لله سبحانه
وجهاً بلا كيف ، كما قال : (وَيَبْقى وَجْهُ
رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ).
وإنّ له يدين بلا
كيف ، كما قال : (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) .
وقد نقلت هذه
النظريّة عن أبي حنيفة والشافعي وابن كثير. وحاصل هذه النظريّة أنّ له سبحانه هذه الحقائق لكن لا
كالموجودة في البشر ، فله يد وعين ، لا كأيدينا وأعيننا وبذلك توفقوا ـ على حسب
زعمهم ـ في الجمع بين ظواهر النصوص ومقتضى التنزيه.
أقول : القول بأنّ
لله يداً لا كأيدينا ، أو وجهاً لا كوجوهنا ، وهكذا سائر الصفات الخبرية أشبه
بالألغاز ، فاستعمالها في المعاني الحقيقية وإثبات معانيها على الله سبحانه بلا
كيفيّة أشبه بكون حيوان أسداً حقيقة ولكن بلا
__________________
ذنب ولا مخلب ولا
ناب ولا ... وإبراز العقيدة الإسلاميّة بصورة الإبهام والألغاز كما في هذه
النظريّة كإبرازها بصورة التشبيه والتجسيم المأثور من اليهودية والنصرانية كما في
النظريّة الأُولى ، لا يجتمع مع موقف الاسلام والقرآن في عرض العقائد على المجتمع
الإسلامي.
وممّن خالف هذه
النظريّة أبو حامد الغزالي ، وحاصل ما ذكره في نقدها أنّ هذه الألفاظ الّتي تجرى
في العبارات القرآنية والأحاديث النبويّة لها معان ظاهرة وهي الحسّية الّتي نراها
، وهي محالة على الله تعالى ، ومعان أخرى مجازية مشهورة يعرفها العربي من غير
تأويل ولا محاولة تفسير ، فإذا سمع اليد في قوله صلىاللهعليهوآله : «إنّ الله خمّر آدم بيده ، وإنّ قلب المؤمن بين إصبعين
من أصابع الرحمن» فينبغي أن يعلم أنّ هذه الألفاظ تطلق على معنيين : أحدهما ـ وهو
الوضع الأصلي ـ : هو عنصر مركب من لحم وعظم وعصب ، وقد يستعار هذا اللفظ ، أعني :
اليد ، لمعنى آخر ليس هذا المعنى بجسم اصلاً ، كما يقال : «البلدة في يد الأمير».
فإنّ ذلك مفهوم وإن كان الامير مقطوع اليد ، فعلى العامّي وغير العامّي أن يتحقّق
قطعاً ويقيناً أنّ الرسول صلىاللهعليهوآله لم يرد بذلك جسماً ، وأنّ ذلك في حق الله محال ، فإن خطر
بباله أنّ الله جسم مركّب من أعضاء فهو عابد صنم ، فإنّ كلّ جسم مخلوق وعبادة
المخلوق كفر وعبادة الصنم كانت كفراً لأنّه مخلوق.
ومن المخالفين
لهذه النظريّة أبو زهرة المعاصر فإنّه قال : «قولهم بأنّ
__________________
لله يداً ولكن لا
نعرفها ولله نزولا لكن ليس كنزولنا» الخ هذه إحالات على مجهولات ، لا نفهم مؤدّاها
ولا غاياتها .
الثالث : التفويض
ذهب جمع من
الأشاعرة وغيرهم إلى اجراء هذه الصفات على الله سبحانه مع تفويض المراد منها إليه.
قال الشهرستاني :
إنّ جماعة كثيرة
من السلف يثبتون صفات خبرية مثل اليدين والوجه ولا يؤوّلون ذلك ، إلّا أنّهم
يقولون : إنّا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه ، مثل قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى.)
ومثل قوله : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ). ولسنا مكلّفين بمعرفة تفسير هذه الآيات بل التكليف قد ورد
بالاعتقاد بأنّه لا شريك له وذلك قد أثبتناه .
وإليه جنح الرازي
وقال :
هذه المتشابهات
يجب القطع بأنّ مراد الله منها شيء غير ظواهرها كما يجب تفويض معناها إلى الله
تعالى ولا يجوز الخوض في تفسيرها .
__________________
أقول :
إنّ لأهل التفويض
عذراً واضحاً في هذا المجال ، فإنّهم يتصوّرون أنّ الآيات المشتملة على الصفات
الخبريّة من الآيات المتشابهة ، وقد نهى سبحانه عن ابتغاء تأويلها وأمر عباده
بالإيمان بها.
نعم يلاحظ على
مقالتهم هذه أنّ الآيات ليست من الآيات المتشابهة ، فإنّ المفاد فيها غير متشابهة إذا أمعن فيها الإنسان المتجرّد عن كلّ رأي سابق.
الرابع : التأويل
إنّ العدليّة من
المتكلّمين هم المشهورون بهذه النظريّة حيث يفسّرون اليد بالنعمة والقدرة ،
والاستواء بالاستيلاء وإظهار القدرة وتبعهم في ذلك جماعة من الأشاعرة وغيرهم.
أقول : إنّ الظاهر
على قسمين : الظاهر الحرفي والظاهر الجملي ، فإنّ اليد مثلاً مفردة ظاهرة في العضو
الخاص ، وليست كذلك فيما إذا حفّت بها القرائن ، فإنّ قول القائل في مدح انسان
انّه «باسط اليد» ، أو في ذمّه «قابض
__________________
اليد» ليس ظاهراً
في اليد العضوية الّتي أسميناها بالمعنى الحرفي ، بل ظاهر في البذل والعطاء أو في
البخل والإقتار وربما يكون مقطوع اليد ، وحمل الجملة على غير ذلك المعنى ، حمل على
غير ظاهرها.
وعلى ذلك يجب
ملاحظة كلام المؤوِّلة ، فان كانت تأويلهم على غرار ما بيّنّاه فهؤلاء ليسوا
بمؤوِّلة بل هم مقتفون لظاهر الكتاب والسنة ، ولا يكون تفسير الكتاب العزيز ـ على
ضوء القرائن الموجودة فيه ـ تأويلاً وإنما هو اتّباع للنصوص والظواهر ، وان كان
تأويلهم باختراع معان للآيات من دون أن تكون في الآيات قرائن متصلة أو منفصلة
دالّة عليها فليس التأويل ـ بهذا المعنى ـ بأقلّ خطراً من الإثبات المنتهي إمّا
إلى التجسيم أو إلى التعقيد والإبهام.
وعلى ضوء ما
قرّرنا من الضابطة والميزان ، تقدر على تفسير ما ورد في التنزيل من الوجه والعين والجنب والإتيان والفوقية والعرش والاستواء وما يشابهها ، من دون أن تمسّ كرامة التنزيه ، ومن دون أن
تخرج عن ظواهر الآيات بالتأويلات الباردة غير الصحيحة.
__________________
الفصل التاسع :
الصفات السلبيّة
الصفة السلبيّة ما
تفيد معنى سلبياً ، لكنّ الله تعالى لا يجوز سلب كمال من الكمالات عنه لكونه مبدأ
كل كمال ، فصفاته السلبية ما دلّ على سلب النقص والحاجة ، كمن ليس بجاهل ، وليس
بعاجز ، ولمّا كان معنى النقص والحاجة في معنى سلب الكمال كانت الصفة السلبية المفيدة
لسلب النقص ، راجعة إلى سلب واحد وهو سلب النقص والاحتياج ولقد أجاد الحكيم
السبزواري في المقام حيث قال :
وَوَصْفُهُ
السَّلْبيُّ سَلْبُ السَّلْبِ جا
|
|
في سَلْبِ
الاحتياجِ كُلاً أُدْرِجا
|
وقد ظهرت في مجال
صفاته السلبية عقائد وآراء سخيفة كالحلول والجهة والرؤية وغير ذلك ، فدعا ذلك
المتكلّمين أن يبحثوا عن هذه الصفات السلبية في مسفوراتهم الكلامية ، والأصل
الكافل لإبطال جميع تلك المذاهب والآراء وجوب الوجود بالذات ، فإنّ الجميع مستلزم
للتركيب والجسمية وهما آيتا الفقر والحاجة المنافية لوجوب الوجود
__________________
بالذات. وقد تقدّم
الكلام حول بعض هذه الصفات ، كنفي الشريك والتركيب والصفات الزائدة على الذات في
مباحث التوحيد ، ونبحث الآن عن غيرها فنقول : إنّه تعالى :
١. ليس بجسم
الجسم ـ على ما
نعرف له من الخواصّ ـ هو ما يشتمل على الأبعاد الثلاثة من الطول والعرض والعمق ،
وهو ملازم للتركيب ، والمركّب محتاج إلى أجزائه والمحتاج لا يكون واجب الوجود
بالذات.
٢. ليس في جهة ولا
محلّ
وقد تبيّن
استغناؤه عنهما ممّا ذكرنا من الدليل على نفي الجسمية ، فإنّ الواقع في جهة أو
محلّ لا يكون إلّا جسماً أو جسمانياً.
٣. ليس حالاً في شيء
إنّ المعقول من
الحلول قيام موجود بموجود آخر على سبيل التبعيّة ، وهذا المعنى لا يصحّ في حقّه
سبحانه لاستلزامه الحاجة وقيامه في الغير.
__________________
٤. ليس متّحداً مع غيره
حقيقة الاتّحاد
عبارة عن صيرورة الشيئين المتغايرين شيئاً واحداً ، وهو مستحيل في حقّه تعالى
مضافاً إلى استحالته في ذاته ، فإنّ ذلك الغير بحكم انحصار واجب الوجود في واحد ،
ممكن ، فبعد الاتحاد إمّا أن يكونا موجودين فلا اتحاد ، أو يكون واحد منهما
موجوداً والآخر معدوماً ، والمعدوم إمّا هو الممكن ، فيلزم الخلف وعدم الاتحاد ،
أو الواجب فيلزم انعدام الواجب وهو محال.
٥. ليس محلّاً للحوادث
والدليل على ذلك
أنّه لو قام بذاته شيء من الحوادث للزم تغيّره ، واللازم باطل ، فالملزوم مثله ،
بيان الملازمة : أنّ التغيّر عبارة عن الانتقال من حالة إلى أُخرى ، فعلى تقدير
حدوث ذلك الأمر القائم بذاته ، يحصل في ذاته شيء لم يكن من قبل ، فيحصل الانتقال
من حالة إلى أُخرى.
وأمّا بطلان
اللازم ، فلأنّ التغيّر نتيجة وجود استعداد في المادّة الّتي تخرج تحت شرائط خاصّة
من القوّة إلى الفعل ، فلو صحّ على الواجب كونه محلّاً للحوادث ، لصحّ أن يحمل
وجوده استعداداً للخروج من القوّة إلى الفعلية ، وهذا من شئون الأُمور المادّية ،
وهو سبحانه أجلّ من أن يكون مادّة أو ماديّاً.
٦. لا تقوم اللَّذة والألم بذاته
قد يطلق الألم
واللّذة ويراد بهما الألم واللّذة المزاجيان ، والاتصاف بهما يستلزم الجسميّة
والمادّة وهو تعالى منزّه عنهما كما تقدّم.
وقد يطلقان ويراد
بهما العقليان ، أعني إدراك القوّة العقلية ما يلائمها أو ينافيها ، وبما أنّه لا
منافي في عالم الوجود لذاته تعالى لأنّ الموجودات أفاعيله ومخلوقاته ، وبين الفعل
وفاعله كمال الملائمة الوجودية ، فلا يتصوّر ألمٌ عقلي له سبحانه.
وأمّا اللَّذة
العقلية فأثبتها لله تعالى بعضهم قائلين بأنّ واجب الوجود في غاية الجمال والكمال
والبهاء ، فإذا عقل ذاته فقد عقل أتمّ الموجودات وأكملها ، فيكون أعظم مدرِك لأجلّ
مدرَك بأتم إدراك.
ولكن منع بعضهم عن
توصيفه سبحانه باللَّذة العقلية أيضاً لعدم الإذن الشرعي بذلك ، وممّن جوز الاتصاف
باللّذة العقلية من متكلّمي الإماميّة ، مؤلّف الياقوت حيث قال :
المؤثّر مبتهج
بالذات لأنّ علمه بكماله الأعظم يوجب له ذلك ، فكيف لا والواحد منّا يلتذُّ بكماله
النقصاني .
وهو ظاهر كلام المحقق
الطوسي في تجريد الاعتقاد ، حيث نفي الألم
__________________
مطلقاً وقيّد
اللَّذة المنفية بالمزاجية ، ومن المانعين له المحقّق البحراني حيث قال :
اتّفق المسلمون
على عدم إطلاق هذين اللفظين عليه تعالى ... وأمّا الفلاسفة فإنّهم ... لمّا فسروا
اللَّذة بأنّها إدراك الملائم أطلقوا عليه لفظ اللَّذة وعنوا بها علمه بكمال ذاته
، فلا نزاع معهم إذن في المعنى ، إذ لكلّ أحد أن يفسِّر لفظه بما شاء ، لكنّا
ننازع في إطلاق هذا اللفظ عليه لعدم الإذن الشرعي.
* * *
__________________
الفصل العاشر :
انّه تعالى ليس بمرئيّ
اتّفقت العدليّة
على أنّه تعالى لا يُرى بالأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وأمّا غيرهم
فالكراميّة والمجسِّمة الّذين يصفون الله سبحانه بالجسميّة ويثبتون له الجهة ،
جوَّزوا رؤيته بلا إشكال في الدارين ، وأهل الحديث والأشاعرة ـ مع تحاشيهم عن
إثبات الجسميّة والجهة له سبحانه ـ قالوا برؤيته يوم القيامة وإنّ المؤمنين يرونه
كما يرى القمر ليلة البدر ، وتحقيق الكلام في هذا المجال رهن دراسة تحليلية حول
أمور ثلاثة :
أ. تحديد محلّ
النزاع ؛
ب. أدلّة امتناع
الرؤية ؛
ج. أدلّة القائلين
بالجواز.
ما هو موضوع النزاع؟
الرؤية الّتي تكون
في محلّ الاستحالة والمنع عند العدلية هي الرؤية البصريّة بمعناها الحقيقي ، لا ما
يعبّر عنه بالرؤية القلبية كما ورد في روايات أهل البيت عليهمالسلام والشهود العلمي التام في مصطلح العرفاء ، وهذا المعنى من
الرؤية هو الظاهر
من كلام الشيخ الأشعري حيث قال :
وندين بأنّ الله
تعالى يرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر ، يراه المؤمنون كما جاءت
الروايات عن رسول الله صلىاللهعليهوآله .
وقال أيضاً :
إن قال قائل : لم
قلتم إنّ رؤية الله بالابصار جائزة من باب القياس؟ قيل له : قلنا ذلك لأنّ ما لا
يجوز أن يوصف به الله تعالى ويستحيل عليه ، لا يلزم في القول بجواز الرؤية.
لكنّ المتأخرين
منهم لمّا رأوا أنّ القول بجواز الرؤية بالابصار يستحيل في حقّه تعالى ، حاولوا
تصحيح مقولتهم بوجوه مختلفة ، فقال الامام الرازي :
وقبل الشروع في
الدلالة لا بدّ من تلخيص محلّ النزاع ، فإنّ لقائل أن يقول : إن أردت بالرؤية
الكشف التامّ ، فذلك ممّا لا نزاع في ثبوته ، وإن أردت بها الحالة الّتي نجدها من
أنفسنا عند إبصارنا الأجسام فذلك ممّا لا نزاع في انتقائه ـ إلى أن قال : ـ والجواب
أنّا إذا علمنا الشيء حال ما لم نره ، ثمّ رأيناه ، فإنّا ندرك تفرقة بين الحالين
، وتلك التفرقة لا تعود إلى ارتسام الشبح في
__________________
العين ولا إلى
خروج الشعاع منها ، بل هي عائدة إلى حالة أُخرى مسمّاة بالرؤية ، فندّعي أنّ تعلّق
هذه الصفة بذات الله تعالى جائز.
وحاصله ـ كما
لخّصه المحقّق الطوسي ـ : أنّ الحالة الحاصلة عند ارتسام الشبح في العين أو خروج
الشعاع منها ، المغايرة للحالة الحاصلة عند العلم ، يمكن أن تحصل مع عدم الارتسام
وخروج الشعاع.
يلاحظ عليه : أنّ
الحالة المذكورة إمّا تكون رؤية بصريّة بالحقيقة ، فذلك محال في حقّه تعالى كما
اعترف به الرازى ايضا ، وإمّا لا تكون كذلك وإنّما هي مشتركة مع الرؤية البصرية في
النتيجة ، أعني : المشاهدة ، فهي راجعة إلى الكشف التام والرؤية القلبية ولا نزاع
فيها ، قال المحقّق الطوسي : «ويحتاج في إثبات كون تلك الحالة غير الكشف التام إلى
دليل».
أدلّة امتناع رؤيته
تعالى
يدلّ على امتناع
الرؤية وجوه :
١. إنّ الرؤية
إنّما تصحّ لمن كان مقابلاً ـ كالجسم ـ أو في حكم المقابل ـ كالصورة في المرآة ـ والمقابلة
وما في حكمها إنّما تتحقّق في الأشياء ذوات الجهة ، والله منزّه عنها فلا يكون
مرئياً ، وإليه أشار مؤلّف الياقوت بقوله : «ولا يصحّ رؤيته ، لاستحالة الجهة
عليه».
__________________
٢. إنّ الرؤية لا
تتحقق إلّا بانعكاس الأشعَّة من المرئى إلى أجهزة العين ، وهو يستلزم أن يكون
سبحانه جسماً ذا أبعاد.
٣. إنّ الرؤية
بأجهزة العين نوع إشارة إليه بالحدقة ، وهي إشارة حسّية لا تتحقق إلّا بمشار إليه
حسّي واقع في جهة ، والله تعالى منزّه عن الجسمانية والجهة.
٤. إنّ الرؤية
إمّا أن تقع على الذات كلِّها أو على بعضها ، فعلى الأوّل يلزم أن يكون المرئى
محدوداً متناهياً ، وعلى الثاني يلزم أن يكون مركّباً ذا أجزاء وأبعاض والجميع
مستحيل في حقِّه تعالى.
أدلّة القائلين بالجواز
إنّ للقائلين
بجواز رؤيته تعالى أدلّة عقلية ونقلية ، فمن أدلّتهم العقلية ما ذكره الأشعرى
بقوله :
ليس في جواز
الرؤية إثبات حدث ، لأنّ المرئى لم يكن مرئيا لأنّه محدث ، ولو كان مرئياً لذلك
للزمه أن يرى كلّ محدث وذلك باطل عنده» .
يلاحظ
عليه : أنّ الحدوث ليس
شرطاً كافياً للرؤية حتّى تلزم رؤية كلّ محدث ، بل هو شرط لازم يتوقّف على انضمام
سائر الشروط الّتي أشرنا إليها وبما أنّ بعضها غير متوفّر في الموجودات المجرّدة
المحدثة ، لا تقع عليها الرؤية.
__________________
وهناك دليل عقلى
استدلّ به مشايخ الأشاعرة في العصور المتأخرة ، وحاصله أنّ ملاك الرؤية والمصحّح
لها أمر مشترك بين الواجب والممكن وهو الوجود ، قالوا :
إنّ الرؤية مشتركة
بين الجوهر والعرض ، ولا بدّ للرؤية المشتركة من علّة واحدة ، وهي إمّا الوجود أو
الحدوث ، والحدوث لا يصلح للعلّيّة لأنّه أمر عدمي ، فتعيّن الوجود ، فينتج أنّ
صحّة الرؤية مشتركة بين الواجب والممكن .
وهذا الدليل ضعيف
جدّاً ومن هنا لم يتمّ عند المفكّرين من الأشاعرة أيضاً ، إذ لقائل أن يقول : إنّ
الجهة المشتركة للرؤية في الجوهر والعرض ليست هي الوجود بما هو وجود ، بل الوجود
المقيّد بعدّة قيود ، وهي كونه ممكناً ، مادّيّاً ، يقع في إطار شرائط خاصّة
يستحيل في حقّه تعالى ، ولو كان الوجود هو الملاك التام لصحّة الرؤية للزم صحّة
رؤية الأفكار والعقائد ، والروحيات والنفسانيات كالقدرة والإرادة وغير ذلك من
الأُمور الروحية الوجودية الّتي لا تقع في محل الرؤية.
استدلال المجوّزين
بالكتاب العزيز
استدلّ القائلون
بالجواز بآيات من الكتاب العزيز :
__________________
١. قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى
رَبِّها ناظِرَةٌ.)
وتوضيح الاستدلال
: أنّ النظر في اللّغة جاء بمعنى الانتظار ويستعمل بغير صلة ، وجاء بمعنى التفكّر
ويستعمل ب (في) وجاء بمعنى الرأفة ويستعمل ب (اللام) وجاء بمعنى الرؤية ويستعمل ب (إلى)
والنظر في الآية موصول ب (إلى) فوجب حمله على الرؤية.
يلاحظ
عليه : أنّ النظر
المتعدّي ب «إلى» كما يجيء بمعنى الرؤية ، كذلك يجيء كناية عن التوقّع والانتظار
كما قال الشاعر :
وجوه ناظرات يوم
بدر
|
|
إلى الرحمن يأتي
بالفلاح
|
وكقول آخر :
إنّي إليك لما
وعدت لناظر
|
|
نظر الفقير إلى
الغني الموسر
|
وقد شاع في
المحاورات : «فلان ينظر إلى يد فلان» يراد أنّه رجل معدم محتاج يتوقّع عطاء الآخر.
والتأمّل في
الآيتين بمقارنتهما بالآيتين الواقعتين في تلوهما يهدينا إلى أنّ المراد من النظر
في الآية ، هو التوقّع والانتظار ، لا الرؤية ، وإليك تنظيم الآيات حسب المقابلة :
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناضِرَةٌ) ويقابلها قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
باسِرَةٌ).
__________________
(إِلى رَبِّها
ناظِرَةٌ). ويقابلها قوله تعالى : (تَظُنُّ أَنْ
يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ.)
فالفقرتان
الأوليتان تصفان الناس يوم القيامة وأنّهم على طائفتين : طائفة مطيعة وهم ذات وجوه
ناضرة ، وطائفة عاصية وهم ذات وجوه باسرة ، ثمّ ذكر لكلّ منهما وصفاً آخر ،
فللأُولى أنّهم ناظرة إلى ربّها ، وللثانية أنّهم يظنّون أن يفعل بهم فاقرة ، أي
يتوقّعون أن ينزل عليهم عذاب يكسر فقارهم ويقصم ظهورهم.
فالمقابلة بين
الفقرة الثالثة والرابعة تشهد على المراد من الفقرة الثالثة الّتي مضادّة للرابعة.
وبما انّ الفقرة الرابعة ظاهرة في أنّ المراد توقُّع العصاة العذاب الفاقر ، يكون
المراد من الفقرة الثالثة توقع الرحمة والكرم من الله تعالى ، لا رؤيته تعالى.
٢. قوله تعالى
حكاية عن موسى عليهالسلام : (رَبِّ أَرِنِي
أَنْظُرْ إِلَيْكَ.)
وجه الاستدلال :
أنّ الرؤية لو لم تكن جائزة لكان سؤال موسى جهلاً أو عبثاً.
والجواب
عنه : أنّ التدبّر في
مجموع ما ورد من الآيات في القصّة يدلّنا على أنّ موسى عليهالسلام ما كان طلب الرؤية إلّا لتبكيت قومه عند ما طلبوا منه أن
يسأل الرؤية لنفسه ، حتى تحلّ رؤيته لله مكان رؤيتهم ، وذلك بعد ما سألوه أن يريهم
الله جهرة لكي يؤمنوا بأنّ الله كلّمه ، فأخذتهم الصاعقة ، فطلب
__________________
الكليم منه سبحانه
أن يحييهم الله تعالى ، حتى يدفع اعتراض قومه عن نفسه إذا رجع اليهم ، فلربما
قالوا : «إنّك لم تكن صادقاً في قولك إنّ الله يكلّمك ، ذهبت بهم فقتلتهم» ، فعند
ذلك أحياهم الله وبعثهم معه ، وإليك الآيات الواردة في القصّة :
الف) (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ
لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ.)
ب) (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ
تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ
ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) .
ج) (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ
رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ
أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ
مِنَّا) .
د) (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا
وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) .
فالآيتان الأُولى
والثانية تدلّان على أنّ أهل الكتاب طلبوا من موسى أن يسأل من الله تعالى أن يريهم
ذاته ، فاستحقّوا بسؤالهم هذا العذاب والدمار فأخذتهم الصاعقة ، والآية الثالثة
تدلّ على أنّ الّذين اختارهم موسى لميقات
__________________
ربّه أخذتهم
الرجفة ، ولم تأخذهم إلّا بما فعلوه من السفاهة ، والظاهر أنّ المراد منها هو سؤال
الرؤية المذكور في الآيتين المتقدّمتين ، والمقصود من الرجفة ، هي رجفة الصاعقة ،
كما عبّر عن هلاكة قوم صالح تارة بالرّجفة وأُخرى بالصّاعقة.
وبما أنّه لم يكن
لموسى مع قومه إلّا ميقات واحد ، كان الميقات في الآية الثالثة نفس الميقات الوارد
في الآية الرابعة ، ففي هذا الميقات وقع السؤالان ، غير إنّ سؤال الرؤية عن جانب
القوم كان قبل سؤال موسى الرؤية لنفسه ، والقوم سألوا الرؤية حقيقة وموسى سألها
تبكيتاً لقومه وإسكاتاً لهم ، يدلّ على ذلك أنّه لم يوجّه إلى الكليم من جانبه
سبحانه أيّ لوم وعتاب أو مؤاخذة وعذاب بل اكتفى تعالى بقوله :
(لَنْ تَرانِي).
٣. قوله تعالى ـ فيما
أجاب موسى عند سؤال الرؤية لنفسه ـ :
(وَلكِنِ انْظُرْ
إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي).
وجه الاستدلال : «انّه
تعالى علّق الرؤية على استقرار الجبل وهو ممكن والمعلّق على الممكن ممكن ، فالرؤية
ممكنة».
يلاحظ
عليه : أنّ المعلَّق
عليه ليس هو إمكان الاستقرار ، بل وجوده
__________________
وتحقّقه بعد
تجلّيه تعالى على الجبل ، والمفروض انّه لم يستقرّ بعد التجلّي ، كما قال تعالى :
(فَلَمَّا تَجَلَّى
رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً).
أضف إلى ذلك أنّ
المذكور في الآية هو استقرار الجبل في حال النظر إليه بعد تجلّيه تعالى عليه ، ومن
المعلوم استحالة استقراره في تلك الحالة ، وإليه اشار المحقّق الطوسي بقوله : «وتعليق
الرؤية باستقرار المتحرّك لا يدلّ على الإمكان».
الرؤية في روايات اهل
البيت عليهمالسلام
إنّ المراجع إلى
خطب الإمام علي عليهالسلام في التوحيد وما أُثر عن أئمة العترة الطاهرة عليهمالسلام يقف على أنّ مذهبهم في ذلك امتناع الرؤية ، فعلى من أراد
الوقوف على كلمات الإمام علي عليهالسلام أن يراجع نهج البلاغة ، وعلى كلمات سائر أئمة اهل البيت عليهمالسلام أن يراجع الكافي لثقة الإسلام الكليني والتوحيد للشيخ
الصدوق.
ثمّ إنّهم عليهمالسلام رغم تأكيدهم على إبطال الرؤية الحسّية البصريّة صرّحوا على
إمكان الرؤية القلبيّة ، فهذا هو الإمام علي عليهالسلام حينما سأله ذعلب اليماني
__________________
هل رأيت ربّك يا
أمير المؤمنين؟ فقال عليهالسلام : «أفأعبد ما لا أرى؟! فقال : وكيف تراه؟ فقال : «لا تدركه
العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان».
وهكذا أجاب عليهالسلام سؤال حبر من اليهود حينما سأله بنفس ذلك السؤال.
وروى الصدوق بسنده
عن عبد الله بن سنان عن أبيه ، قال :
حضرت أبا جعفر عليهالسلام فدخل عليه رجل من الخوارج ، فقال له : يا أبا جعفر أي شيء
تعبد؟ قال : «الله» ، قال : رأيته؟ قال : «لم تراه العيون بمشاهدة العيان ولكن
رأته القلوب بحقائق الإيمان».
إلى غير ذلك من
الروايات ، وأمّا البحث عن حقيقة تلك الرؤية القلبية الّتي هي غير الرؤية البصريّة
الحسّية ، فليطلب من مظانّه.
__________________
الباب الرابع :
في
مباحث العدل والحكمة
وفيه
اثنا عشر فصلاً :
١. تعريف العدل
والحكمة ودلائلهما ؛
٢. التحسين
والتقبيح العقليّان ؛
٣. أفعال الله
سبحانه معلّلة بالغايات ؛
٤. المصائب
والشرور وحكمته تعالى ؛
٥. التكليف بما لا
يطاق قبيح ؛
٦. وجوب اللطف عند
المتكلّمين ؛
٧. الجبر والكسب ؛
٨. نظرية التفويض
؛
٩. أمر بين
الأمرين ؛
١٠. شبهات وردود ؛
١١. القضاء والقدر
؛
١٢. حقيقة البداء.
الفصل الأوّل :
تعريف الحكمة والعدل ودلائلهما :
تعريف الحكمة
أصل الحكمة الحكم
وهو المنع ، قال ابن فارس :
الحاء والكاف
والميم اصل واحد وهو المنع واوّل ذلك الحكم وهو المنع من الظّلم وسمّيت حكمة
الدابّة لأنّها تمنعها ، يقال : حكمت الدابّة وأحكمتها ، ويقال : حكمت السّفيه
وأحكمته ، إذا أخذت على يديه والحكمة هذا قياسها ، لأنّها تمنع من الجهل وتقول :
حكّمت فلاناً تحكيماً : منعته عمّا يريد.
وقد أطلقت الحكمة
على العدل ، والعلم والحلم ، والنبوّة وما يمنع من الجهل ، وكل كلام موافق للحقّ ،
ووضع الشيء في موضعه وصواب الأمر وسداده.
وقد عرّف الراغب
الأصفهانى الحكمة ب «إصابة الحقّ بالعلم والعقل» ثمّ قال :
__________________
فالحكمة من الله
تعالى معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام ، ومن الإنسان معرفة الموجودات
وفعل الخيرات.
ثمّ إنّ الحكمة في
اصطلاح المتكلّمين قد تكون وصفاً للعلم وقد تكون وصفاً للفعل ، ويفسّر الأوّل
بأفضل العلم وأكمله ، ويفسّر الثاني بإتقان الفعل وتنزّهه عمّا لا ينبغي. قال
الرازي :
في الحكيم وجوه :
الأوّل : إنّه فعيل بمعنى مفعل كأليم بمعنى مؤلم. ومعنى الإحكام في حقّ الله تعالى
في خلق الأشياء هو إتقان التدبير فيها ، وحسن التقدير لها ، قال تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ).
ليس المراد الحسن
الرائق في المنظر وإنما المراد منه حسن التدبير في وضع كلّ شيء موضعه بحسب المصلحة
، وهو المراد بقوله :
(وَخَلَقَ كُلَّ
شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) .
الثاني
: إنّ الحكمة عبارة
عن معرفة أفضل المعلومات بأفضل العلوم ، فالحكيم بمعنى العليم.
__________________
الثالث : الحكمة
عبارة عن كونه مقدّساً عن فعل ما لا ينبغي.
قال تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ
عَبَثاً) .
والحاصل : أنّ
الحكمة إما وصف للعلم وإمّا وصف للفعل. فالأوّل هو الحكمة العلمية ، والثاني
الحكمة العملية أو الفعلية ، والحكمة العلمية راجعة إلى علمه تعالى بذاته وبفعله
وهي من الصفات الثبوتية الذاتية ، وقد تقدّم الكلام فيها من الباب الأوّل. والّذي
يراد بالبحث في هذا الباب الحكمة الفعلية بمعنييه وهما : الإحكام في خلق العالم
وتدبيره وتنزّه أفعاله تعالى عمّا لا ينبغي من الجهالة والسفاهة.
تعريف العدل :
للعدل في معاجم
اللّغة إطلاقات أو معانٍ كالقصد في الأمور ، والتعادل والتساوي ، والاستواء
والاستقامة ، والتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط . والمعنى الجامع بينها هو وضع كل شيء في موضعه المناسب له.
وإليه أشار الإمام علي عليهالسلام بقوله : «العدل يضع الامور موضعها».
توضيح ذلك : أنّ
لكلّ شيء وضعاً خاصّاً يقتضيه إمّا بحكم العقل ، أو بنصّ الوحي وباعتبار المصالح
الكلية والجزئية في نظام الكون ، فالعدل هو رعاية ذلك الوضع وعدم الانحراف إلى
جانب الإفراط والتفريط.
__________________
نعم موضع كل شيء
بحسبه ، ففي نظام الطبيعة بوجه ، وفي المجتمع البشري بوجه آخر ، وبلحاظ اختلاف
موارده تحصل له أقسام ليس هنا مقام بيانها ، إلّا أنّ موارد العدل بالنسبة إلى
الله تعالى يجمعها أقسام ثلاثة :
١. العدل التكويني
: وهو إعطاؤه تعالى كلّ موجود ما يستحقه ويليق به من الوجود ، فلا يهمل قابلية ،
ولا يعطّل استعداداً في مجال الإفاضة والإيجاد.
٢. العدل التشريعي
: وهو أنّه تعالى لا يهمل تكليفاً فيه كمال الإنسان وسعادته ، وبه قوام حياته
الماديّة والمعنوية ، والدنيوية والاخروية ، كما انّه لا يكلّف نفساً فوق طاقتها.
٣. العدل الجزائي
: وهو أنّه تعالى لا يساوي بين المصلح والمفسد ، والمؤمن والكافر في مقام الجزاء
بل يجزي كلَّ إنسان بما كسب ، فيجزي المحسن بالإحسان والثواب ، والمسيء بالعقاب.
كما أنّه تعالى لا يعاقب عبداً على مخالفة التكاليف إلّا بعد البيان والإبلاغ.
الملازمة بين الحكمة
والعدل
إنّ الحكمة
الفعلية والعدل متلازمان ، فإنّ لازم إتقان الفعل وإحكامه كونه واقعاً في موضعه
اللائق به ، كما أنّ لازم كون الفعل واقعا في موضعه المناسب كونه محكماً ومتقناً.
ومن هنا نرى أنّ المتكلّمين يردفون العدل بالحكمة في أبحاثهم. قال عبد الجبّار
المعتزلي :
«نحن إذا وصفنا
القديم تعالى بأنّه عدل حكيم ، فالمراد به أنّه لا
يفعل القبيح أو لا
يختاره ولا يخلّ بما هو واجب عليه ، وأنّ أفعاله كلّها حسنة».
وقال الشيخ المفيد
:
«العدل الحكيم هو
الّذي لا يفعل قبيحا ولا يخلّ بواجب».
وقال سديد الدين
الحمصى :
«الكلام في العدل
، كلام في أفعاله تعالى ، وأنّها كلّها حسنة ، وتنزيهه عن القبائح وعن الإخلال
بالواجب في حكمته».
دلائل عدله تعالى وحكمته
إنّ العدل والحكمة
من الأوصاف الكمالية ، والله تعالى بما أنّه واجب الوجود بالذات واجد جميع
الكمالات الوجودية ، ومنزّه عن كلّ نقص وقبح. فواجب الوجود تعالى ، يعلم من ذاته
كلّ شيء من الأشياء بعلله وأسبابه ، ويفعل النظام الأتم لغاية حقيقته يلزمه ، فهو
حكيم في علمه وفعله ، فهو الحكيم المطلق.
ويدلّ على انتفاء
القبح عن أفعاله تعالى. أنّ القبح في الفعل كالظلم ، والعبث ونحو ذلك ، إمّا ناشئ
عن جهل الفاعل بجهات الحسن والإتقان.
__________________
وإما ناشئ عن
حاجته إلى ذلك. والله سبحانه عالم بكلّ شيء كما أنّه غنيّ بالذات. وإليه أشار
المحقق الطوسي بقوله : «واستغناؤه وعلمه يدلّان على انتفاء القبح عن أفعاله
تعالى».
ونصوص الكتاب
والسنّة في عدله تعالى وحكمته متضافرة. قال سبحانه :
(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ.)
قوله «قائماً»
إمّا حال من اسم الله تعالى مؤكّدة ، وإمّا حال من (هُوَ) في قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) والمراد من قيامه بالقسط إمّا مطلق يشمل جميع مراتب القسط (في
التكوين والتشريع والجزاء) وإمّا يختص بالقسط التكويني كما اختاره بعضهم.
وقال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ
لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً.)
هذا ناظر إلى عدله
تعالى في مقام الحساب والجزاء.
وممّا يدلّ على
عدله تعالى في التشريع قوله سبحانه : (لا نُكَلِّفُ نَفْساً
إِلَّا وُسْعَها). وقوله سبحانه :
__________________
(لَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ).
وقال الإمام على عليهالسلام : «العدل أن لا تتّهمه».
وفسّره الإمام
الصادق عليهالسلام بقوله : وأمّا العدل فإن لا تنسب إلى خالقك ما لامك عليه».
وقال أمير
المؤمنين عليهالسلام :
«وأرانا من ملكوت
قدرته وعجائب ما نطقت به آثار حكمته ... فظهرت البدائع الّتي أحدثتها آثار صنعته
وأعلام حكمته .... قدّر ما خلق فأحكم تقديره ، ... بدايا خلائق أحكم صنعها ...».
* * *
__________________
الفصل الثاني :
التحسين والتقبيح العقليان
قد تقدّم أنّ
العدل الحكيم هو الّذي لا يفعل القبيح ولا يُخلُّ بالحسن ، والتصديق بثبوت هذه
الصفة للباري تعالى مبنيٌّ على القول بالتحسين والتقبيح العقليين ، فإنّ مفاد تلك
المسألة : أنّ هناك أفعالاً يدرك العقل كونها حسنة أو قبيحة ، ويدرك أنّ الغنيّ
بالذّات منزّه عن الاتصاف بالقبيح وفعل ما لا ينبغي ، ومن هنا يلزمنا البحث عن تلك
المسألة على ضوء العقل والكتاب العزيز فنقول :
ذهبت العدلية إلى
أنّ هناك أفعالاً يدرك العقل من صميم ذاته ومن دون استعانة من الشرع أنّها حسنة
وأفعالاً أخرى يدرك أنّها قبيحة كذلك ؛ وقالت الأشاعرة : لا حكم للعقل في حسن
الأشياء وقبحها ، فلا حسن إلّا ما حسّنه الشارع ولا قبيح إلّا ما قبّحه ؛ والنزاع
بين الفريقين دائر بين الإيجاب الجزئي والسلب الكلّي ، فالعدلية يقولون بالأوّل
والأشاعرة بالثاني.
ملاكات الحسن والقبح
لا شكّ أنّ للحسن
والقبح معنى واحداً ، وإنّما الكلام في ملاك كون الشيء حسناً أو قبيحاً ، وهو
يختلف بإختلاف الموارد ، فقد ذكر للحَسَن والقبيح ملاكات وهي :
١. ملائمة الطبع
ومنافرته : فالمشهد الجميل بما أنّه يلائم الطبع حسن ، كما أنّ المشهد المخوف بما
أنّه منافر للطبع قبيح ، ومثله الطعام اللّذيذ والصوت الناعم ، فإنّهما حسنان ،
كما أنّ الدواء المرّ ونهيق الحمار قبيحان.
٢. موافقة الغرض
والمصلحة ومخالفتهما : والغرض والمصلحة إمّا شخصيان وإمّا نوعيان ، فقتل عدوّ
الإنسان يعدّ حسناً عنده لأنّه موافق لغرضه ، ولكنّه قبيح لأصدقاء المقتول وأهله ،
لمخالفته لأغراضهم ومصالحهم الشخصية ، هذا في المجال الشخصي ، وأمّا في المجال
النوعي ، فإنّ العدل بما أنّه حافظ لنظام المجتمع ومصالح النوع فهو حسن وبما أنّ
الظلم هادم للنظام ومخالف لمصلحة النوع فهو قبيح.
٣. كون الشيء
كمالاً للنفس أو نقصاناً لها : كالعلم والجهل ، فالأوّل زين لها والثاني شين ،
ومثلهما الشجاعة والجبن ، وغيرهما من كمالات النفس ونقائصها.
٤. ما يوجب مدح
الفاعل وذمّه عند العقل : وذلك بملاحظة الفعل من حيث إنّه مناسب لكمال وجودي
للموجود العاقل المختار أو نقصان له ،
فيستقلّ العقل
بحسنه ووجوب فعله ، أو قبحه ووجوب تركه وهذا كما إذا لاحظ العقل جزاء الإحسان
بالإحسان ، فيحكم بحسنه وجزاء الإحسان بالإساءة فيحكم بقبحه ، فالعقل في حكمه هذا
لا يلاحظ سوى أنّ بعض الأفعال كمال للموجود الحيّ المختار وبعضها الآخر نقص له ،
فيحكم بحسن الأوّل وقبح الثاني.
تعيين محلّ النزاع
لا نزاع في الحسن
والقبح بالملاك الأوّل والثالث ، وهو واضح ، وكذلك في الحسن والقبح بملاك الغرض
والمصلحة الشخصيين ، وأمّا الغرض والمصلحة النوعيان فإنّ كثيراً من الباحثين عن
التحسين والتقبيح العقليين يعلّلون حسن العدل والإحسان ، وقبح الظلم والعدوان ،
باشتمال الأوّل على مصلحة عامّة والثاني على مفسدة كذلك. وهذا الملاك في الحقيقة
من مصاديق الملاك الرابع كما لا يخفى. إذ ربما يكون مدح الفاعل على فعل وذمّه على
فعل لغاية المصالح والمفاسد النوعية. والإتيان بالفعل وتركه بهذه الغاية يعدّ
كمالاً ونقصاناً للفاعل. وهذا المعنى الأخير هو محلّ النزاع بين المثبتين
والنافين.
دلائل المثبتين والنافين
أ.
دلائل المثبتين : استدلّ القائلون بالتحسين والتقبيح العقليين بوجوه عديدة نكتفى بذكر وجهين
منها :
الدليل
الاوّل : وهو ما أشار إليه
المحقّق الطوسي بقوله : «ولانتفائهما مطلقاً لو ثبتا شرعاً».
توضيحه
: أنّ الحسن والقبح
لو كانا بحكم العقل ، بحيث كان العقل مستقلاً في إدراك حسن الصدق وقبح الكذب فلا
اشكال في أنّ ما أخبر الشارع عن حسنه حسن ، وما أخبر عن قبحه قبيح ، لحكم العقل
بأنّ الكذب قبيح والشارع منزّه عن ارتكاب القبيح.
وأمّا لو لم
يستقلّ العقل بذلك ، فلو أخبر الشارع بحسن فعل أو قبحه فلا يمكن لنا الجزم بكونه
صادقاً في كلامه حتى نعتقد بمضمون أخباره ونستكشف منه حسن الفعل أو قبحه ، وذلك
لاحتمال عدم صدق الشارع في أخباره ، فإنّ الكذب حسب الفرض لم يثبت قبحه بعدُ
وإثبات قبح الكذب بإخبار الشارع عن قبحه مستلزم للدور.
الدليل الثاني : وهو
ما ذكره العلّامة الحلّي بقوله :
لو كان الحسن
والقبح باعتبار السمع لا غير لما قبح من الله تعالى شيء ولو كان كذلك لما قبح منه تعالى إظهار المعجزات على يد
الكاذبين ، وتجويز ذلك يسدّ باب معرفة النبوّة ، فإنّ أيّ نبيّ أظهر المعجزة عقيب
إدّعاء النبوّة لا يمكن تصديقه مع تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب في دعوى
النبوّة .
__________________
والعجب أنّ الفضل
بن روزبهان الأشعري حاول الإجابة عن هذا الدليل بقوله :
عدم إظهار المعجزة
على يد الكذّابين ليس لكونه قبيحاً عقلاً بل لعدم جريان عادة الله الجاري مجرى
المحال العادي بذلك .
فعند ذلك لا ينسدّ
باب معرفة النبوة لأنّ العلم العادي حاكم باستحالة هذا الإظهار.
يلاحظ
عليه : أنّه من أين وقف
على تلك العادة وأنّ الله لا يجرى الإعجاز على يد الكاذب؟ ولو كان التصديق
متوقّفاً على إحرازها لزم أن يكون المكذّبون بنبوّة نوح أو من قبله ومن بعده معذورين
في إنكارهم لنبوّة الأنبياء ، إذ لم تثبت عندهم تلك العادة ، لأنّ العلم بها إنّما
يحصل من تكرّر رؤية المعجزة على يد الصادقين دون الكاذبين.
ب. أدلّة النافين
الدليل
الأوّل : قالوا : لو كان
العلم بحسن الإحسان وقبح العدوان ضرورياً لما وقع التفاوت بينه وبين العلم بأنّ
الواحد نصف الاثنين ، لكنّ التالي باطل بالوجدان.
ويلاحظ
عليه اوّلاً : أنّه يجوز التفاوت في الادراكات البديهية ،
__________________
فالأوّليات متقدمة
على المشاهدات وهي على الفطريات وهكذا ، فوجود التفاوت بين البديهيات لا ينافي
بداهتها ، وإليه أشار المحقق الطوسي بقوله :
«ويجوز التفاوت في
العلوم لتفاوت التصور».
وثانياً : نفي كون
الحكم بحسن فعل أو قبحه بديهيّاً لا يدلّ على نفي كونه عقلياً ، فانّ نفي الأخصّ
لا يدلّ على نفي الأعم ، فمن الجائز أن يكون العقل مستقلّاً بحسن فعل أو قبحه لكن
بالتأمل والنظر ، فعلى فرض قبول ما ادّعى من التفاوت لا يجدي المنكر شيئاً.
الدليل الثاني :
لو كان الحسن والقبح عقليين لما اختلفا ، أي لما حسن القبيح ولما قبح الحسن ،
والتالي باطل ، فإنّ الكذب قد يحسن والصدق قد يقبح ، وذلك فيما إذا تضمّن الكذب
إنقاذ نبيّ من الهلاك والصدق إهلاكه.
فلو كان الكذب
قبيحاً لذاته لما كان واجباً ولا حسناً عند ما استفيد به عصمة دم نبيّ عن ظالم
يقصد قتله.
والجواب عنه : أنّ
كلاً من الكذب في الصورة الأُولى والصدق في الصورة الثانية على حكمه من القبح
والحسن ، إلّا أنّ ترك إنقاذ النبيّ أقبح من الكذب ، وإنقاذه أحسن من الصدق ،
فيحكم العقل بترك الصدق وارتكاب الكذب قضاءً لتقديم الأرجح على الراجح ، فإنّ
تقديم الراجح على الأرجح قبيح عند العقل.
__________________
الدليل
الثالث : إنّ القول
بالتحسين والتقبيح العقليين دخالة في شئون ربّ العالمين الّذي هو مالك كل شيء حتى
العقل ، فله أن يتصرّف في ملكه كيف يشاء ، ولازم القول بأنّ العقل حاكم بحسن بعض
الأفعال وقبحه تحديد لملكه وقدرته سبحانه.
ويردّه أنّ العقل
ليس فارضاً على الله تعالى شيئاً وإنّما هو كاشف عن القوانين السائدة على أفعاله
تعالى ، فالعقل يطالع اوّلاً صفات الله الكمالية كالغني الذاتي ، والعلم والقدرة
الذاتيين ، ثمّ يستنتج منها تنزّهه عن ارتكاب القبائح ، وهذا كما أنّ العقل النظري
يكشف عن القوانين السائدة على نظام الكون وعالم الطبيعة.
وبالتأمل فيما
ذكرنا يظهر ضعف سائر ما استدلّ به القائلون بنفي التحسين والتقبيح العقليين ولا
نرى حاجة في ذكرها وبيان وجوه الخلل فيها.
التحسين والتقبيح في
الكتاب العزيز
إنّ التدبُّر في
آيات الذّكر الحكيم يعطي أنّه يسلّم استقلال العقل بالتحسين والتقبيح خارج إطار
الوحي ثمّ يأمر بالحسن وينهى عن القبيح ، وإليك فيما يلي نماذج من الآيات في هذا
المجال :
١. (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ
__________________
الْفَحْشاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.)
٢. (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ
الْفَواحِشَ.)
٣. (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ).
فهذه الآيات تعرب
بوضوح عن أنّ هناك أُموراً توصف بالعدل والإحسان والمعروف والفحشاء والمنكر والبغي
قبل تعلّق الأمر والنهى بها ، وأنّ الإنسان يجد اتّصاف بعض الأفعال بأحدها ناشئاً
من صميم ذاته وليس عرفان الإنسان بها موقوفاً على تعلّق الشرع ، وإنّما دور الشرع
هو تأكيد إدراك العقل بالأمر بالحسن والنهي عن القبيح وبيان ما لا يستقلّ العقل في
إدراك حسنه وقبحه ، وتدلّ على ما تقدّم بأوضح دلالة الآية التالية :
٤. (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا
وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ
بِالْفَحْشاءِ).
فإنّ الظاهر من
الآية أنّ المشركين كانوا عارفين بقبح أفعالهم وأنّها من الفحشاء ولكنّهم حاولوا
توجيه تلك الأفعال الشنيعة إمّا بكونها إبقاءً لسيرة آبائهم وهم كانوا يحسِّنون
ذلك ، وإمّا بكونها ممّا أمر بها الله سبحانه ولكنّ الله تعالى يخطّئهم في ذلك
ويقول إنّ الله لا يأمر بالفحشاء كما يخطّئهم في اتّباعهم سيرة آبائهم بقوله :
__________________
(أَوَلَوْ كانَ
آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ).
٥. (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ
الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ).
٦. (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ
كَالْمُجْرِمِينَ* ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) .
٧. (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا
الْإِحْسانُ) .
وهذه الآيات تدلّ
على أنّه سبحانه اتّخذ وجدان الإنسان سنداً لقضائه فيما تستقلّ به عقليته ،
فالإنسان يجد من تلقاء نفسه قبح التسوية عند الجزاء بين المفسد والمصلح والفاجر
والمؤمن والمسلم والمجرم ، كما أنّه يدرك كذلك حسن جزاء الإحسان بالإحسان ، وهذا
الإدراك الفطري هو السند في حكم العقل بوجوب يوم البعث والحساب كي يفصل بين
الفريقين ويجزي كلّ منهما بما يقتضيه العدل والإحسان الإلهي.
__________________
الفصل الثالث :
أفعال الله سبحانه معلَّلة بالغايات
من مظاهر عدله
تعالى وحكمته تنزيه أفعاله سبحانه عن العبث ولزوم اقترانها بالغايات والأغراض ،
وهذه المسألة من المسائل الّتي تشاجرت فيها العدلية والأشاعرة ، فالأُولى على
الإيجاب والثانية على السلب.
واستدلّت العدلية
على مدّعاهم بأنّ خلوَّ الفعل عن الغاية والغرض يعدّ لغواً وعبثاً وهو من القبائح
العقلية ، والله تعالى منزَّه عن القبائح فلا بدّ أن تكون أفعاله مقترنة بأغراض ومعلَّلة
بغايات.
والمهمّ في هذا
المجال ، التحقيق حول دلائل الأشاعرة على إنكار كون أفعاله تعالى معلّلة بالغايات
، وأمّا دليل نظرية العدلية فهو واضح ، لأنّ هذه المسألة ـ كما تقدّم ـ من فروع
مسألة التحسين والتقبيح العقليّين فنقول :
استدلّت الأشاعرة
على مذهبهم بأنّه لو كان فعله لغرض لكان ناقصاً لذاته مستكملاً بتحصيل ذلك الغرض
لأنّه لا يصلح غرضاً للفاعل الّا ما هو أصلح له من عدمه وهو معنى الكمال.
__________________
يلاحظ
عليه : أنّ الأشاعرة
خلطوا بين الغرض الراجع إلى الفاعل ، والغرض الراجع إلى فعله ، فالاستكمال لازم في
الأوّل دون الثاني ، والقائل بكون أفعاله معلّلة بالأغراض والغايات والدواعي
والمصالح ، إنّما يعني بها الثاني دون الأوّل.
توضيح
ذلك : أنّ العلّة
الغائية في أفعال الفواعل البشرية هي السّبب لخروج الفاعل عن كونه فاعلاً بالقوّة
إلى كونه فاعلاً بالفعل ، فهي متقدّمة على الفعل صورة وذهناً ومؤخّرة عنه وجوداً
وتحقّقاً ، ولا تتصوّر العلّة الغائية بهذا المعنى في ساحته تعالى ، لغناه المطلق
في مقام الذات والوصف والفعل ، فلا يحتاج في الإيجاد إلى شيء وراء ذاته ، وإلّا
لكان ناقصاً في مقام الفاعلية مستكملاً بشيء وراء ذاته وهو لا يجتمع مع غناه
المطلق ، ولكن نفي العلّة الغائية بهذا المعنى لا يستلزم أن لا يترتّب على فعله
مصالح وحِكَم ينتفع بها العباد وينتظم بها النظام ، وذلك لأنّه سبحانه فاعل حكيم ،
والفاعل الحكيم لا يختار من الأفعال الممكنة إلّا ما يناسب ذلك ، ولا يصدر منه ما
يضادّه ويخالفه.
القرآن وأفعاله سبحانه
الحكيمة
والعجب من غفلة
الأشاعرة من النصوص الصريحة في هذا المجال ، يقول سبحانه : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ
عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ).
__________________
وقال : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ).
وقال : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنَ النَّارِ).
وقال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ
إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
مذهب الحكماء في أفعاله
تعالى
ربّما يتوهّم اتّفاق
رأي الحكماء مع الأشاعرة في نفي الغاية والغرض عن أفعاله تعالى ، ولكنّه خطأ محض ،
قال صدر المتألهين :
إنّ الحكماء ما
نفوا الغاية والغرض عن شيء من أفعاله مطلقاً ، بل إنّما نفوا في فعله المطلق وفي فعله الأوّل غرضاً زائداً على ذاته تعالى ، وأمّا
ثواني الأفعال والأفعال المخصوصة والمقيّدة فأثبتوا لكلّ منها غاية مخصوصة كيف
وكتبهم مشحونة بالبحث عن غايات الموجودات ومنافعها ....
__________________
الفصل الرابع :
المصائب والشرور وحكمته تعالى
إنّ الله سبحانه
خلق السّماوات والأرض وما بينهما لمصلحة الإنسان وانتفاعه بها في معيشته ، مع انّ
المصائب والبلايا تنافي هذه الغاية وتضادّها ، والفاعل الحكيم لا يصنع ما يضادّ
غرضه. أضف إلى ذلك أنّ مقتضى رحمة الله الواسعة رفع المصائب ودفع الشرور الواقعة
في عالم الطبيعة كي لا تصعب المعيشة على الإنسان وتكون له هنيئة مريئة بلا جزع
ومصيبة.
والإجابة عن هذه
الشبهة تبتني على بيان أُمور :
الأوّل : المصالح النوعيّة
راجحة على المصالح الفردية
لا شكّ أنّ الحياة
الإنسانية حياة اجتماعية ، فهناك مصالح ومنافع فردية ، وأخرى نوعية اجتماعية ،
والعقل الصريح يرجّح المصالح النوعية على المنافع الفردية ، وعلى هذا فما يتجلّى
من الظواهر الطبيعية لبعض الأفراد في صورة المصيبة والشرّ ، هو في عين الوقت تكون
متضمّنة لمصلحة النوع والاجتماع ، فالحكم بأنّ هذه الظواهر شرور ، تنافي مصلحة
الإنسان ، ينشأ من
التفات الإنسان إليها من منظار خاص والتجاهل عن غير نفسه في العالم ، من غير فرق
بين من مضى في غابر الزمان ومن يعيش في الحاضر في مناطق العالم أو سوف يأتي ويعيش
فيها.
الثاني : ضآلة علم
الإنسان ومحدوديته
إنّ علم الإنسان
المحدود هو الّذي يدفعه إلى أن يقضى في الحوادث بتلك الأقضية الشاذّة ، ولو وقف
على علمه الضئيل ونسبة علمه إلى ما لا يعلمه لرجع القهقرى قائلاً : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً).
ولأذعن بقوله
تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ
الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً).
وما أشبه الإنسان
في حكمه بأنّ المصائب شرور محضة للإنسان ليس لها دور في مصالحه بعابر سبيل يرى
جرّافة تحفر الأرض ، أو تهدم بناء مثيرة الغبار والتراب في الهواء ، فيقضى من فوره
بأنّه عمل ضارّ وشرّ ، وهو لا يدري بأنّ ذلك يتمّ تمهيداً لبناء مستشفى كبير
يستقبل المرضى ويعالج المصابين ويهيّئ للمحتاجين إلى العلاج وسائل المعالجة
والتمريض. ولو وقف على تلك الأهداف النبيلة لقضى بغير ما قضى ، ولوصف ذلك التهديم
بأنّه خير وأنّه لا ضير فيما يحصل من ضوضاء الجرّافة وتصاعد الغبار.
__________________
الثالث : الغفلة عن
القيم الإنسانية العليا
ليست الحياة
الإنسانية حياة ماديّة فقط ، بل للإنسان حياة روحية معنوية ، ولا شكّ أنّ الفلاح
والسّعادة في هذه الحياة ، هي الغاية القصوى من خلق الإنسان ، ومفتاح الوصول إلى
تلك الغاية هو العبادة والخضوع لله سبحانه ، وعلى هذا الأساس فالحوادث الّتي توجب
اختلالاً ما في بعض شئون الحياة الماديّة ربما تكون عاملاً أساسياً لاتّجاه
الإنسان إلى الله سبحانه كما قال سبحانه :
(فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا
شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً).
كما سيوافيك بيان
ذلك.
الرابع : المصائب وليدة
الذنوب والمعاصي
القرآن الكريم
يعدّ الإنسان مسئولاً عن كثير من الحوادث المؤلمة والوقائع الموجعة في عالم الكون
، قال سبحانه :
(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ).
وقال سبحانه :
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).
__________________
وقال سبحانه :
(وَما أَصابَكُمْ مِنْ
مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ).
إلى غير ذلك من
الآيات الدالّة على أنّ لأعمال الإنسان دوراً واقعياً في البلايا والشرور الطبيعية
والاجتماعية ، ولكنّ الإنسان إذا أصابته مصيبة وكارثة يعجل من فوره ، وبدل أن يرجع
إلى نفسه ويتفحّص عن العوامل البشرية لتلك الحوادث ويقوم بإصلاح نفسه ، يعدّها
مخالفة لحكمة الصانع أو عدله ورحمته.
الفوائد التربويّة
للمصائب
إذا عرفت هذه
الأُصول فلنرجع إلى تحليل فوائد المصائب والشرور ، فنقول :
١. المصائب وسيلة لتفجير
الطاقات
إنّ البلايا
والمصائب خير وسيلة لتفجير الطاقات وتقدّم العلوم ورقى الحياة البشرية ، فإنّ
الإنسان إذا لم يواجه المشاكل في حياته لا تنفتح طاقاته ولا تنمو ، بل نموّها
وخروجها من القوّة إلى الفعل رهن وقوع الإنسان في مهبّ المصائب والشدائد. وإلى هذه
الحقيقة يشير قوله تعالى :
(فَإِنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْراً* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً* فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ*
وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ).
__________________
٢. البلايا جرس إنذار
وسبب للعودة إلى الحقّ
إنّ التمتع
بالمواهب المادّية والاستغراق في اللذائذ والشهوات يوجب غفلة كبرى عن القيم
الأخلاقية وكلّما ازداد الإنسان توغّلاً في اللذائذ والنعم ، ازداد ابتعاداً عن
الجوانب المعنوية. وهذه حقيقة يلمسها كلّ إنسان في حياته وحياة غيره ، ويقف عليها
في صفحات التاريخ ، ونحن نجد في الكتاب العزيز التصريح بصلة الطغيان بإحساس الغني
، إذ يقولعزوجل: (إِنَّ الْإِنْسانَ
لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى).
فإذاً لا بدّ
لانتباه الإنسان من هذه الغفلة من هزّة وجرس إنذار يذكّره ويرجعه إلى الطريق
الوسطى ، وليس هناك ما هو أنفع في هذا المجال من بعض الحوادث الّتي تقطع نظام
الحياة الناعمة بشيء من المزعجات حتّى يدرك عجزه ويتنبّه من نوم الغفلة. ولأجل هذا
يعلّل القرآن الكريم بعض النوازل والمصائب بأنّها تنزل لأجل الذكرى والرجوع إلى
الله ، يقول سبحانه :
(وَما أَرْسَلْنا فِي
قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ
لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ).
ويقول أيضاً :
__________________
(وَلَقَدْ أَخَذْنا
آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ).
ويقول أيضاً :
(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ
الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
ويقول تعالى : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ
وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
٣. حكمة البلايا في حياة
الأولياء
يظهر من القرآن
الكريم والأحاديث المتضافرة أنّ البلايا والمحن ألطاف إلهيّة في حياة الأولياء
والصالحين من عباد الله وشرط لوصولهم إلى المقامات العالية في الآخرة.
قال سبحانه :
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ
قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ
الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ
قَرِيبٌ).
وقال أيضاً :
__________________
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ
وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ
قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ* أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ
مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).
وروى هشام بن سالم
عن أبي عبد الله عليهالسلام أنّه قال : «إنّ أشدّ الناس بلاءً الأنبياء ، ثمّ الّذين
يلونهم ، ثمّ الأمثل فالأمثل».
وروى سليمان بن
خالد عنه عليهالسلام أنّه قال : «وإنّه ليكون للعبد منزلة عند الله فما ينالها
إلّا بإحدى خصلتين ، إمّا بذهاب ماله أو ببليّة في جسده».
وقد شكا عبد الله
بن أبي يعفور إلى أبي عبد الله الصادق عليهالسلام ممّا أصابته من الأوجاع ـ وكان مسقاماً ـ فقال عليهالسلام : «يا عبد الله لو يعلم المؤمن ما له من الأجر في المصائب
لتمنّى أنّه قرّض بالمقاريض».
حاصل المقال :
إنّ المصائب على
قسمين : فردية ونوعية ، وإن شئت فقل : محدودة ومطلقة ، ولأعمال الإنسان دور في
وقوع المصائب والبلايا ، وهي جميعاً موافقة للحكمة وغاية الخلقة ، فإنّ الغرض من
خلقة الإنسان وصوله إلى
__________________
الكمالات المعنوية
الخالدة ، وتلك المصائب جرس الإنذار للغافلين وكفّارة لذنوب المذنبين وأسباب
الارتقاء والتعالي للصالحين.
هذا في جانب الغرض
الأُخروي ، وأمّا في ناحية الحياة الدنيوية فيجب إلفات النظر إلى أمرين :
١. ملاحظة منافع
نوع البشر المتوطّنين في نواحي العالم ، بلا قصر النظر إلى منافع الفرد أو طائفة
من الناس.
٢. ملاحظة ما
يتوصّل إليه الإنسان عند مواجهته للمشاكل والشدائد من الاختراعات والاكتشافات
الجديدة المؤدّية إلى صلاح الإنسان في حياته المادية.
الفصل الخامس :
التكليف بما لا يطاق قبيح
إنّ التكليف بما
هو خارج عن قدرة المكلّف ظلم ، وقبح الظلم من البديهيات الأوّلية عند العقل العملي
، فيستحيل على الحكيم أن يكلّف العبد بما لا قدرة له عليه ، من غير فرق بين كون
نفس الفعل المكلّف به ممكناً بالذات ، ولكن كان خارجاً عن إطار قدرة المكلّف ،
كالطيران إلى السّماء بلا وسيلة ، أو كان نفس الفعل بما هو هو محالاً ، كدخول
الجسم الكبير في الجسم الصغير من دون أن يتوسّع الصغير أو يتصغّر الكبير ، هذا هو
قضاء العقل في المسألة.
والآيات القرآنية
أيضاً صريحة في أنّه سبحانه لا يكلّف الإنسان إلّا وسعه ، وقدر طاقته ولا يظلمه
مطلقاً.
قال سبحانه : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا
وُسْعَها).
وقال تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).
__________________
الأشاعرة وتجويز التكليف
بما لا يطاق
مع هذه البراهين
المشرقة نرى أنّ الأشاعرة جوّزوا التكليف بما لا يطاق ، وبذلك أظهروا العقيدة
الإسلامية ، عقيدة مخالفة للوجدان والعقل السليم ، ومن المأسوف عليه أنّ
المستشرقين أخذوا عقائد الإسلام عن المتكلّمين الأشعريين ، فإذا بهم يصفونها
بكونها على خلاف العقل والفطرة لأنّهم يجوّزون التكليف بما لا يطاق.
إنّ الأشاعرة
استدلّوا بآيات تخيّلوا دلالتها على ما يرتئونه ، مع أنّها بمنأى عمّا يتبنّونه في
المقام ، وأظهر ما استدلوا به آيتان :
الآية الأُولى :
قوله تعالى : (ما كانُوا
يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) .
وجه الاستدلال :
إنّ الآية صريحة على أنّ المفترين على الله سبحانه في الدّنيا ، المنكرين للحقّ لم
يكونوا مستطيعين من أن يسمعوا كلام الله ويصغوا إلى دعوة النبيّ إلى الحقّ مع
أنّهم كانوا مكلّفين باستماع الحقّ وقبوله ، فكلّفهم الله تعالى بما لا يطيقون
عليه.
يلاحظ
عليه : أنّ عدم استطاعتهم
ليس بمعنى عدم وجودها فيهم ابتداءً ، بل لأنّهم حرّموا أنفسهم من هذه النعم
بالذنوب ، فصارت الذنوب سبباً لكونهم غير مستطيعين لسمع الحقّ وقبوله ، وقد تواترت
النصوص من
__________________
الآيات والأحاديث
على أنّ العصيان والطغيان يجعل القلوب عمياء والأسماع صمّاء.
قال سبحانه : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ
قُلُوبَهُمْ).
وقال سبحانه
حاكياً عن المجرمين :
(وَقالُوا لَوْ كُنَّا
نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ).
فقولهم : (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ) مع اعترافهم بكونهم مذنبين يدلّ على أنّهم كانوا قادرين
على ذلك ، لأنّه لو لم يكونوا قادرين كان المناسب في مقام الاعتذار أن يقولوا : «ما
كنّا قادرين على أن نسمع أو نعقل فلا نعترف بالذنوب». ولقد أجاد الزمخشري في تفسير
الآية بقوله :
أراد أنّهم لفرط
تصامّهم عن استماع الحقّ وكراهتهم له ، كأنّهم لا يستطيعون السمع ، و ... الناس
يقولون في كلّ لسان : هذا كلام لا استطيع أن أسمعه.
الآية
الثانية : قوله تعالى :
(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ
ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ).
وجه الاستدلال :
إنّه تعالى يدعوا الضالّين والطاغين إلى السجود يوم
__________________
القيامة مع أنّهم
لا يستطيعون الإجابة ، والإتيان بالسجود ، فإذا جاز التكليف بما لا يطاق عليه في
الآخرة ، جاز ذلك في الدنيا.
يلاحظ
عليه : أنّ يوم القيامة
دار الحساب والجزاء ، وليس دار التكليف والعمل ، فدعوته تعالى في ذلك اليوم ليس
بداعي التكليف وغاية العمل ، بل المقصود توبيخ الطاغين وإيجاد الحسرة فيهم لتركهم
السجود في الدنيا مع كونهم مستطيعين عليه كما قال سبحانه : (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى
السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ).
ونظير الآية قوله
سبحانه :
(فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).
__________________
الفصل السادس :
وجوب اللطف عند المتكلّمين
ممّا يترتب على
حكمته تعالى وجوب اللّطف عليه سبحانه. واللّطف عند المتكلّمين عبارة عمّا يقرّب
المكلّف إلى الطاعة ، ويبعّده عن المعصية ، ثمّ إن اتّصل اللطف بوقوع التكليف
يسمّى لطفاً محصِّلاً ، وإلّا يسمّى لطفاً مقرِّباً ، قال السيّد المرتضى :
إنّ اللطف ما دعا
إلى فعل الطاعة ، وينقسم إلى ما يختار المكلّف عنده فعل الطاعة ولولاه لم يختره ،
وإلى ما يكون أقرب إلى اختيارها ، وكلا القسمين يشمله كونه داعياً.
برهان وجوب اللطف
استدلّوا على وجوب
اللطف عليه سبحانه بأنّ ترك اللطف يناقض غرضه تعالى من خلقه العباد وتكليفهم ، وهو
قبيح لا يصدر من الحكيم ، قال المحقّق البحراني :
__________________
إنّه لو جاز
الإخلال به في الحكمة فبتقدير أن لا يفعله الحكيم ، كان مناقضاً لغرضه ، لكن
اللازم باطل فالملزوم مثله.
بيان
الملازمة : إنّه تعالى أراد
من المكلّف الطاعة ، فإذا علم أنه لا يختار الطاعة ، أو لا يكون أقرب إليها إلّا
عند فعل يفعله به لا مشقّة عليه فيه ولا غضاضة ، وجب في الحكمة أن يفعله ، إذ لو
أخلّ به لكشف ذلك عن عدم إرادته له ، وجرى ذلك مجرى من أراد من غيره حضور طعامه وعلم
أو غلب ظنّه أنّه لا يحضر بدون رسول ، فمتى لم يرسل عدَّ مناقضاً لغرضه.
وبيان
بطلان اللازم : إنّ العقلاء يعدّون المناقضة للغرض سفهاً ، وهو ضدّ الحكمة ونقص ، والنقص
عليه تعالى محال.
شروط اللطف
إنّ القائلين
بوجوب اللطف ذكروا له شرطين :
الأوّل
: أن لا يكون له
حظّ في التمكين وحصول القدرة ، إذ العاجز غير مكلّف فلا يتصوّر اللطف في مورده.
الثاني
: أن لا يبلغ حدّ
الإلجاء ولا يسلب عن المكلّف الاختيار ، لئلّا ينافي الحكمة في جعل التكليف من
ابتلاء العباد وامتحانهم.
وباعتبار الشرط
الأخير يتبيّن وهن ما استشكل على وجوب اللطف بأنّه لو وجب اللطف على الله تعالى
لكان لا يوجد في العالم عاص ، لأنّه ما
__________________
من مكلّف إلّا وفي
مقدور الله تعالى من الألطاف ما لو فعله به لاختار عنده الواجب واجتنب القبيح وذلك
لأنّ قدرة الله تعالى وإن كانت مطلقة في نفسها ، لكن إعمالها مقيّدة بما لا ينافي
مقتضى حكمته تعالى من كون الإنسان مختاراً ومكلّفاً.
أقسام اللطف
اللّطف إمّا من
فعل الله تعالى ، ويجب في حكمته فعله كالبعثة ، وإلّا عدّ تركه نقضاً لغرضه كما
مرّ ، أو من فعل المكلّف ، وحينئذٍ فإمّا أن يكون لطفاً في تكليف نفسه ، ويجب في
حكمته تعالى أن يعرِّفه إيّاه ويوجبه عليه ، وذلك كمتابعة الرسل والاقتداء بهم ،
أو في تكليف غيره ، وذلك كتبليغ الرسول الوحي ، ويجب أن يشتمل على مصلحة تعود إلى
فاعله ، إذ إيجابه عليه لمصلحة غيره مع خلوِّه عن مصلحة تعود إليه ظلم وهو عليه
تعالى محال.
__________________
الفصل السابع :
الجبر والكسب
من الأبحاث
الكلامية الهامّة ، البحث عن كيفية صدور أفعال العباد ، وأنّهم مختارون في أفعالهم
أو مجبورون ، مضطرّون عليها؟ والمسألة ذات صلة وثيقة بمسألة العدل الإلهي ، فإنّ
العقل البديهي حاكم على قبح تكليف المجبور ومؤاخذته عليه ، وأنّ الله سبحانه
منزَّه عن كلّ فعل قبيح.
ثمّ إنّ هذه
المسألة من المسائل الفكرية الّتي يتطلّع كلّ إنسان إلى حلّها ، سواء أقدر عليه أم
لا ، ولأجل هذه الخصيصة لا يمكن تحديد زمن تكوّنها في البيئات البشرية ، ومع ذلك
فهي كانت مطروحة في الفلسفة الإغريقية ، ثمّ انطرحت في الأوساط الإسلامية وبحث
عنها المتكلّمون والفلاسفة الإسلاميون ، كما وقع البحث حولها في المجتمعات الغربية
الحديثة ، والمذاهب والآراء المطروحة في هذا المجال في الكلام الإسلامي أربعة :
١. مذهب الجبر
المحض ؛
٢. مذهب الكسب ؛
٣. مذهب التفويض ؛
٤. مذهب الأمر بين
الأمرين.
فلنبحث عنها
واحداً تلو الآخر.
أالجبر المحض
وهو المنسوب إلى
جهم بن صفوان (المتوفّى ١٢٨ ه) ، قال الأشعري :
تفرّد جهم بأمور ،
منها : أنّه لا فعل لأحد في الحقيقة إلّا الله وحده ، وأنّ الناس إنّما تنسب إليهم
أفعالهم على المجاز ، كما يقال : تحرّكت الشجرة ، ودار الفلك ، وزالت الشمس .
وعرّفهم
الشهرستاني بأنّهم يقولون :
إنّ الإنسان لا
يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة وإنّما هو مجبور في أفعاله لا قدرة له ولا إرادة
ولا اختيار ، وإنّما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر
الجمادات ... وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضاً كان جبراً.
ولا ريب في بطلان
هذا المذهب ، إذ لو كان كذلك لبطل التكليف والوعد والوعيد والثواب والعقاب. ولصار
بعث الأنبياء وإنزال الكتب والشرائع السماوية لغواً. تعالى الله عن ذلك علواً
كبيراً.
__________________
نظرية الكسب
قد انطرحت نظرية
الكسب في معترك الأبحاث الكلامية قبل ظهور الشيخ الأشعري بأكثر من قرن ، فهذه هي
الطائفة الضرارية قالت : «إنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى
حقيقة والعبد مكتسبها» .
وتبعتهم في ذلك
الطائفة النجّارية فعرّفهم الشهرستانى بأنّهم يقولون :
إنّ الباري تعالى
هو خالق أعمال العباد خيرها وشرّها ، حسنها وقبيحها ، والعبد مكتسب لها ، ويثبتون
تأثيراً للقدرة الحادثة ، ويسمّون ذلك كسباً.
ومع ذلك فقد
اشتهرت نسبة النظريّة إلى الأشاعرة وعدّت من مميّزات منهجهم ، وما ذلك إلّا لأنّ
الشيخ الأشعري وتلامذة مدرسته قاموا بتحكيم هذه النظريّة وتبيينها بالأدلّة
العقلية والنقلية وقد اختلفت عبارات القوم في تفسيرها ، ومرجعها إلى أمرين :
١. إنّ للقدرة
المحدثة (قدرة العبد) نحو تأثير في اكتساب الفعل لكن لا في وجوده وحدوثه بل في
العناوين الطارئة عليه.
__________________
٢. ليس للقدرة
المحدثة تأثير في الفعل سوى مقارنتها لتحقق الفعل من جانبه سبحانه.
وإليك فيما يلي
نصوصهم في هذا المقام :
كلام القاضي الباقلاني
إنّ للباقلاني
تفسيراً لكسب الأشعري وهو يرجع إلى الوجه الأوّل حيث قال :
الدليل قد قام على
أنّ القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد ، لكن ليست صفات الأفعال أو وجوهها
واعتباراتها تقتصر على جهة الحدوث فقط ، بل هاهنا وجوه أخرى هي وراء الحدوث.
ثمّ ذكر عدّة من
الجهات والاعتبارات ، كالصلاة والصيام والقيام والقعود ، وقال :
إنّ الإنسان
يفرِّق فرقاً ضرورياً بين قولنا : «أوجد» وقولنا : «صلّى» و «صام» و «قعد» و «قام»
وكما لا يجوز أن تضاف إلى الباري جهة ما يضاف إلى العبد ، فكذلك لا يجوز أن تضاف
إلى العبد جهة ما يضاف إلى الباري تعالى.
ثمّ استنتج أنّ
الجهات الّتي لا يصحّ إسنادها إلى الله تعالى فهي
__________________
متعلّقة للقدرة
الحادثة ومكتسبة للإنسان ، وهي الّتي تكون ملاك الثواب والعقاب.
يلاحظ
عليه : أنّ هذه العناوين
والجهات لا تخلو من صورتين :
إمّا أن تكون من
الأُمور العدمية ، فعندئذٍ لا يكون للكسب واقعية خارجية ، بل يكون أمراً ذهنياً
اعتبارياً خارجاً عن إطار الفعل والتأثير ، فكيف تؤثّر القدرة الحادثة فيه ، حتى
يعدّ كسباً للعبد ، ويكون ملاكاً للثواب والعقاب؟
وإمّا تكون من
الأُمور الوجودية ، فعندئذٍ تكون مخلوقة لله سبحانه حسب الأصل المسلَّم (خلق
الأفعال) عندكم.
الغزالي وتفسير الكسب
فسَّر الغزالي
الكسب بما يرجع إلى الوجه الثاني حيث قال :
إنّما الحقّ إثبات
القدرتين على فعل واحد والقول بمقدور منسوب إلى قادرين ، فلا يبقى إلّا استبعاد
توارد القدرتين على فعل واحد ، وهذا إنّما يبعد إذا كان تعلّق القدرتين على وجه
واحد ، فإن اختلفت القدرتان واختلف وجه تعلّقهما فتوارد القدرتين المتعلّقتين على شيء
واحد غير محال.
وحاصل ما ذكره في
تغاير وجه تعلّق القدرتين هو :
إنّ تعلق قدرته
سبحانه بفعل العبد ، تعلّق تأثيري ، وتعلّق قدرة العبد نفسه تعلّق تقارني ، وهذا
القدر من التعلّق كاف في إسناد الفعل إليه وكونه كسباً له.
وقد تبعه في ذلك
عدّة من مشايخهم المتأخرين كالتفتازاني والجرجاني والقوشجي.
يلاحظ
عليه : أنّ دور العبد في
أفعاله على هذا التفسير ليس إلّا دور المقارنة ، فعند حدوث القدرة والإرادة في
العبد يقوم سبحانه بخلق الفعل ، ومن المعلوم أنّ تحقق الفعل من الله مقارناً لقدرة
العبد ، لا يصحّح نسبة الفعل في تحقّقه إليه ، ومعه كيف يتحمّل مسئوليته ، إذا لم
يكن لقدرة العبد تأثير في وقوعه؟
إنكار الكسب من محقّقي الأشاعرة
إنّ هناك رجالاً
من الأشاعرة أدركوا جفاف النظريّة وعدم كونها طريقاً صحيحاً لحلّ معضلة الجبر ،
فنقضوا ما أبرموه وأجهروا بالحقيقة ، نخصّ بالذكر منهم رجالاً ثلاثة :
الأوّل
: إمام الحرمين ،
فقد اعترف بنظام الأسباب والمسبّبات الكونية أوّلاً ، وانتهائها إلى الله سبحانه
وأنّه خالق للأسباب ومسبباتها المستغني على
__________________
الإطلاق ثانياً ،
وأنّ لقدرة العباد تأثيراً في أفعالهم ، وأنّ قدرتهم تنتهي إلى قدرته سبحانه
ثالثاً.
الثاني
: الشيخ عبد
الوهّاب الشعراني ، وهو من أقطاب الحديث والكلام في القرن العاشر ، فقد وافق إمام
الحرمين في هذا المجال وقال :
من زعم أنّه لا
عمل للعبد فقد عاند ، فإنّ القدرة الحادثة ، إذا لم يكن لها أثر فوجودها وعدمها
سواء ، ومن زعم أنّه مستبد بالعمل
فقد أشرك ، فلا
بدّ أنّه مضطرّ على الاختيار.
الثالث : الشيخ
محمد عبده ، فقال في كلام طويل :
منهم القائل بسلطة
العبد على جميع أفعاله واستقلاله المطلق (يريد المعتزلة) وهو غرور ظاهر ومنهم من
قال بالجبر وصرَّح به (يريد الجبرية الخالصة) ومنهم من قال به وتبرّأ من اسمه (يريد
الأشاعرة) وهو هدم للشريعة ومحو للتكاليف ، وإبطال لحكم العقل البديهي ، وهو عماد
الايمان.
ودعوى أن الاعتقاد
بكسب العبد لأفعاله يؤدّي إلى الإشراك بالله ـ وهو الظلم العظيم ـ دعوى
من لم يلتفت إلى معنى
__________________
الإشراك على ما
جاء به الكتاب والسنّة ، فالإشراك اعتقاد أنّ لغير الله أثراً فوق ما وهبه الله من
الأسباب الظاهرة ، وأنّ لشيء من الأشياء سلطاناً على ما خرج عن قدرة المخلوقين ...»
.
__________________
الفصل الثامن :
نظريّة التفويض
المنقول عن
المعتزلة هو أنّ أفعال العباد مفوَّضة إليهم وهم الفاعلون لها بما منحهم الله من
القدرة ، وليس لله سبحانه شأن في أفعال عباده ، قال القاضي عبد الجبّار :
ذكر شيخنا أبو علي
رحمهالله : اتّفق أهل العدل على أنّ أفعال العباد من تصرّفهم
وقيامهم وقعودهم ، حادثة من جهتهم ، وأن الله عزوجل أقدرهم على ذلك ولا فاعل لها ولا محدث سواهم.
وقال أيضاً :
فصلٌ في خلق
الأفعال ، والغرض به ، الكلام في أنّ أفعال العباد غير مخلوقة فيهم وأنّهم
المُحدِثون لها.
ثمّ إنّ دافع
المعتزلة إلى القول بالتفويض هو الحفاظ على العدل الإلهي ، فلمّا كان العدل عندهم
هو الأصل والأساس في سائر المباحث ،
__________________
عمدوا إلى تطبيق
مسألة أفعال العباد عليه ، فوقعوا في التفويض لاعتقادهم بأنّ القول بكون أفعال
العباد مخلوقة لله سبحانه ينافي عدله تعالى وحدّدوا بذلك خالقيته تعالى وسلطانه.
والّذي أوقعهم في هذا الخطأ في الطريق ، أمران :
أحدهما
: خطؤهم في تفسير
كيفيّة ارتباط الأفعال إلى الإنسان وإليه تعالى ، فزعموا أنّهما عرضيان ، فأحدهما
ينافي الآخر ويستحيل الجمع بينهما ، وبما أنّهم كانوا بصدد تحكيم العدل الإلهي
لجئوا إلى التفويض ونفي ارتباط الأفعال إلى الله تعالى ؛ قال القاضي عبد الجبّار:
إنّ من قال إنّ
الله سبحانه خالقها (أفعال العباد) ومحدثها ، فقد عظم خطأه.
يلاحظ
عليه : أنّ الإنسان لا
استقلال له ، لا في وجوده ، ولا فيما يتعلّق به من الأفعال وشئونه الوجودية ، فهو
محتاج إلى إفاضة الوجود والقدرة إليه من الله تعالى مدى حياته ، قال سبحانه :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).
وثانيهما : عدم
التفكيك بين الإرادة والقضاء التكوينيين والتشريعيين ، فالتكويني منهما يعمّ
الحسنات والسيّئات بلا تفاوت ، ولكنّ التشريعي منهما لا يتعلّق إلّا بالحسنات ،
قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا
يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ).
__________________
وقال سبحانه : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ).
فالآيات النازلة
في تنزيهه تعالى عن الظلم والقبائح إمّا راجعة إلى أفعاله سبحانه ، ومدلولها أنّه
سبحانه منزّه عن فعل القبيح مطلقاً ، وإمّا راجعة إلى أفعال العباد ، ومدلولها
أنّه تعالى لا يرضاها ، ولا يأمر بها بل يكرهها وينهى عنها ، فالتفصيل بين حسنات
أفعال العباد وقبائحها إنّما يتمّ بالنسبة إلى الإرادة والقضاء التشريعيين ، لا
التكوينيين ، وهذا هو مذهب أئمّة أهل البيت عليهمالسلام.
روى الصدوق
بأسناده عن الرضا عن آبائه عن الحسين بن علي عليهمالسلام قال : سمعت أبي علي بن أبي طالب عليهالسلام يقول :
«الأعمال على
ثلاثة أحوال : فرائض ، وفضائل ، ومعاصي. فأمّا الفرائض فبأمر الله تعالى وبرضى
الله وبقضائه وتقديره ومشيّته وعلمه. وأمّا الفضائل فليست بأمر الله ، ولكن برضى
الله وبقضاء الله وبقدر الله وبمشيّة الله وبعلم الله. وأمّا المعاصي فليست بأمر
الله ، ولكن بقضاء الله وبقدر الله وبمشيّة الله وبعلمه ، ثمّ يعاقب عليها».
وقال أبو بصير :
قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : شاء لهم الكفر وأراده؟ فقال : «نعم» قلت : فأحبّ ذلك
ورضيه؟ فقال : «لا» قلت : شاء وأراد ما
__________________
لم يحب ولم يرض به؟
قال : «هكذا خرج إلينا».
إلى غير ذلك من
الروايات ، ومفادها كما ترى هو التفكيك بين الإرادة التكوينية والتشريعية ، أعني :
الرضي الإلهي ، فالمعاصي وإن لم تكن برضى من الله ولم يأمر بها ، ولكنّها لا تقع
إلّا بقضاء الله تعالى وقدره وعلمه ومشيّته التكوينية.
بطلان التفويض في الكتاب
والسنّة
إنّ الذكر الحكيم
يردّ التفويض بحماس ووضوح :
١. يقول سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ
الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)
٢. ويقول سبحانه :
(وَما هُمْ بِضارِّينَ
بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)
٣. ويقول تعالى : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ
فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ)
٤. ويقول سبحانه :
(وَما كانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)
إلى غير ذلك من
الآيات الّتي تقيّد فعل الإنسان بإذنه تعالى ، والمراد منه الإذن التكويني ومشيئته
المطلقة.
__________________
وأمّا السنّة ،
فقد تضافرت الروايات على نقد نظرية التفويض فيما أثر من أئمّة أهل البيت عليهمالسلام وكان المعتزلة مدافعين عن تلك النظريّة في عصرهم ، مروّجين
لها.
١. روى الصدوق في «الأمالى»
عن هشام ، قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام : «إنّا لا نقول جبراً ولا تفويضاً».
٢. وفي «الاحتجاج»
عن أبي حمزة الثمالي أنّه قال : قال أبو جعفر عليهالسلام للحسن البصري : «إيّاك أن تقول بالتفويض فإنّ الله عزوجل لم يفوّض الأمر إلى خلقه وهناً منه وضعفاً ، ولا أجبرهم
على معاصيه ظلماً».
٣. وفي «العيون»
عن الرضا عليهالسلام أنّه قال : «مساكين القدرية ، أرادوا أن يصفوا الله عزوجل بعدله فأخرجوه من قدرته وسلطانه».
__________________
الفصل التاسع :
الأمر بين الأمرين
قد عرفت أنّ
المجبّرة جنحوا إلى الجبر لأجل التحفّظ على التوحيد الأفعالي وحصر الخالقية في
الله سبحانه ، كما أنّ المفوّضة انحازوا إلى التفويض لغاية التحفّظ على عدله
سبحانه ، وكلا الفريقين غفلا عن نظرية ثالثة يؤيّدها العقل ويدعمها الكتاب والسنّة
، وفيها الحفاظ على كلٍّ من أصلي التوحيد والعدل ، مع نزاهتها عن مضاعفات القولين
، وهذا هو مذهب الأمر بين الأمرين الّذي أبدعته ائمّة اهل البيت عليهمالسلام وهو مختار الحكماء الإسلاميين والإمامية من المتكلّمين ،
وتبيين هذه النظريّة رهن المعرفة بأصلين عقليّين برهن عليهما في الفلسفة الأُولى
وهما :
١. وجود المعلول عين الربط بوجود علّته
إنّ قيام المعلول
بالعلّة ليس من قبيل قيام العرض بموضوعه أو الجوهر بمحلّه ، بل قيامه بها يرجع إلى
معنى دقيق يشبه قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي في المراحل الثلاث : التصوّر ،
والدلالة والتحقّق ، فإذا قلت : سرت من البصرة إلى الكوفة ، فهناك معان اسميّة هي
السير والبصرة
والكوفة ، ومعنى
حرفي وهو كون السير مبدوّاً من البصرة ومنتهياً إلى الكوفة ، فالابتداء والانتهاء
المفهومان من كلمتي «من» و «إلى» فاقدان للاستقلال في مجال التصوّر ، فلا يتصوّران
مستقلّين ومنفكّين عن تصوّر البصرة والكوفة ، وإلّا لعاد المعنى الحرفي معنى
اسمياً ولصار نظير قولنا : «الابتداء خير من الانتهاء».
وكذلك فاقدان
للاستقلال في مجال الدلالة فلا يدلّان على شيء إذا انفكّتا عن مدخوليهما ، كما هما
فاقدان للاستقلال في مقام التحقّق والوجود ، فليس للابتداء الحرفي وجود مستقل
منفكّ عن متعلّقه ، كما ليس للانتهاء الحرفي وجود كذلك.
وعلى ضوء ذلك
يتبيّن وزان الوجود الإمكانى الّذي به تتجلّى الأشياء وتتحقّق الماهيات ، فإنّ
وزانه إلى الواجب لا يعدو عن وزان المعنى الحرفي إلى الاسمي ، لأنّ توصيف الوجود
بالإمكان ليس إلّا بمعنى قيام وجود الممكن وتعلّقه بعلّته الموجبة له ، وليس وصف
الإمكان خارجاً عن هويّته وحقيقته ، بل الفقر والربط عين واقعيته ، وإلّا فلو كان
في حاق الذات غنيّاً ثمّ عرض له الفقر يلزم الخلف.
٢. وحدة حقيقة الوجود تلازم عموميّة التأثير
قد ثبت في الفلسفة
الأُولى أنّ سنخ الوجود الواجب والوجود الممكن واحد يجمعهما قدر مشترك وهو الوجود
وطرد العدم وما يفيد ذلك ، وأنّ مفهوم الوجود يطلق عليهما بوضع واحد وبمعنى فارد.
وعلى ضوء هذا الأصل
، إذا كانت الحقيقة في مرتبة من المراتب العالية ذات أثر خاص ، يجب أن يوجد ذلك
الأثر في المراتب النازلة ، أخذاً بوحدة الحقيقة ، نعم يكون الأثر من حيث الشدّة
والضعف ، تابعاً لمنشئه من هذه الحيثيّة ، فالوجود الواجب بما أنّه أقوى وأشدّ ،
يكون العلم والدرك والحياة والتأثير فيه مثله ، والوجود الإمكاني بما أنّ الوجود
فيه أضعف يكون أثره مثله.
إذا وقفت على هذين
الأصلين تقف على النظريّة الوسطى في المقام وأنّه لا يمكن تصوير فعل العبد
مستقلّاً عن الواجب ، غنيّاً عنه ، غير قائم به ، قضاءً للأصل الأوّل ، وبذلك
يتّضح بطلان نظرية التفويض ، كما أنّه لا يمكن إنكار دور العبد بل سائر العلل في
آثارها قضاءً للأصل الثاني ، وبذلك يتبيّن بطلان نظرية الجبر في الأفعال ونفي
التأثير عن القدرة الحادثة.
فالفعل مستند إلى
الواجب من جهة ومستند إلى العبد من جهة أخرى ، فليس الفعل فعله سبحانه فقط بحيث
يكون منقطعاً عن العبد بتاتاً ، ويكون دوره دور المحل والظرف لظهور الفعل ، كما
أنّه ليس فعل العبد فقط حتى يكون منقطعاً عن الواجب ، وفي هذه النظريّة جمال
التوحيد الأفعالي منزّهاً عن الجبر كما أنّ فيها محاسن العدل منزّهاً عن مغبّة
الشرك والثنويّة.
إيضاح وتمثيل
هذا إجمال
النظريّة حسب ما تسوق إليه البراهين الفلسفية ، ولإيضاحها نأتي بمثال وهو أنّه لو
فرضنا شخصاً مرتعش اليد فاقد القدرة ،
فإذا ربط رجل بيده
المرتعشة سيفاً قاطعاً وهو يعلم أن السّيف المشدود في يده سيقع على آخر ويهلكه ،
فإذا وقع السّيف وقتل ، ينسب القتل إلى من ربط يده بالسّيف دون صاحب اليد الّذي
كان مسلوب القدرة في حفظ يده ، فهذا مثال لما يتبنّاه الجبري في أفعال الإنسان.
ولو فرضنا أنّ
رجلاً أعطى سيفاً لمن يملك حركة يده وتنفيذ إرادته فقتل هو به رجلاً ، فالأمر على
العكس ، فالقتل ينسب إلى المباشر دون من أعطى ، وهذا مثال لما يعتقده التفويضي في
أفعال الإنسان.
ولكن لو فرضنا
شخصاً مشلول اليد (لا مرتعشها) غير قادر على الحركة إلّا بإيصال رجل آخر التيّار
الكهربائي إليه ليبعث في عضلاته قوّة ونشاطاً بحيث يكون رأس السلك الكهربائي بيد
الرجل بحيث لو رفع يده في آنٍ انقطعت القوّة عن جسم هذا الشخص ، فذهب باختياره
وقتل إنساناً به ، والرجل يعلم بما فعله ، ففي مثل ذلك يستند الفعل إلى كلّ منهما
، أمّا إلى المباشر فلأنّه قد فعل باختياره وإعمال قدرته ، وأمّا إلى الموصل ، فلأنّه أقدره وأعطاه التمكّن
حتّى في حال الفعل والاشتغال بالقتل ، وكان متمكّناً من قطع القوّة عنه في كلّ آنٍ
شاء وأراد ، وهذا مثال لنظرية الأمر بين الأمرين ، فالإنسان في كلّ حال يحتاج إلى
إفاضة القوّة والحياة منه تعالى إليه بحيث لو انقطع الفيض في آنٍ واحد بطلت الحياة
والقدرة ، فهو حين الفعل يفعل بقوّة مفاضة منه وحياة كذلك من غير فرق بين الحدوث
والبقاء.
محصّل هذا التمثيل
أنّ للفعل الصادر من العبد نسبتين واقعيتين ، إحداهما نسبته إلى فاعله بالمباشرة
باعتبار صدوره منه باختياره وإعمال
قدرته ، وثانيهما
نسبته إلى الله تعالى باعتبار أنّه معطي الحياة والقدرة في كلّ آنٍ وبصورة مستمرّة
حتى في آن اشتغاله بالعمل .
الأمر بين الأمرين في
الكتاب والسنّة
إذا كان معنى
الأمر بين الأمرين هو وجود النسبتين والإسنادين في فعل العبد ، نسبة إلى الله
سبحانه ، ونسبة إلى العبد ، من دون أن تزاحم إحداهما الأخرى ، فإنّا نجد هاتين النسبتين
في آيات من الذكر الحكيم :
١. قوله سبحانه : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ
اللهَ رَمى).
فترى أنّ القرآن
الكريم ينسب الرمي إلى النبيّ ، وفي الوقت نفسه يسلبه عنه وينسبه إلى الله.
٢. قال سبحانه : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ
بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ
مُؤْمِنِينَ).
فإنّ الظاهر أنّ
المراد من التعذيب هو القتل ، لأنّ التعذيب الصادر من الله تعالى بأيد من المؤمنين
ليس إلّا ذاك ، لا العذاب البرزخي ولا الأُخروي ،
__________________
فإنّهما راجعان
إلى الله سبحانه دون المؤمنين ، وعلى ذلك فقد نسب فعلاً واحداً إلى المؤمنين وإلى
خالقهم.
٣. إنّ القرآن
الكريم يذمّ اليهود بقساوة قلوبهم ويقول :
(ثُمَّ قَسَتْ
قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ ...) .
ولا يصحّ الذم
واللوم إلّا أن يكونوا هم السّبب لعروض هذه الحالة على قلوبهم ، وفي الوقت نفسه
يسند حدوث القساوة إلى الله تعالى ويقول :
(فَبِما نَقْضِهِمْ
مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) .
وقد تقدّم تفصيل
ذلك في البحث عن التوحيد في الخالقيّة.
هذا ما يرجع إلى
الكتاب الحكيم ، وأمّا الروايات فنذكر النزر اليسير ممّا جمعه الشيخ الصدوق في «توحيده»
والعلّامة المجلسي في «بحاره» :
١. روى الصدوق عن
أبي جعفر وأبي عبد الله عليهماالسلام قالا : «إنّ الله عزوجل أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ، ثمّ يعذّبهم
عليها والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون».
قال : فسئلا عليهماالسلام : هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا : «نعم أوسع ممّا
بين السماء والأرض» .
٢. وروى بإسناد
صحيح عن الرضا عليهالسلام أنّه قال : «إنّ الله عزوجل لم يُطَع
__________________
بإكراه ، ولم
يُعصَ بغلبة ، ولم يهمل العباد في ملكه ، وهو المالك لما ملّكهم ، والقادر على ما
أقدرهم عليه ، فإن ائتمر العباد بطاعته ، لم يكن الله عنها صادّاً ولا منها مانعاً
، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، وإن لم يحل وفعلوه فليس
هو الّذي أدخلهم فيه».
٣. وروى أيضاً عن
المفضّل بن عمر عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين».
قال ، فقلت : وما
أمر بين أمرين؟ قال : «مثل ذلك مثل رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته ، فتركته
ففعل تلك المعصية ، فليس حيث لم يقبل منك فتركته ، أنت الّذي أمرته بالمعصية».
٤. وللإمام الهادي
عليهالسلام رسالة مبسّطة في الردِّ على أهل الجبر والتفويض ، وإثبات
العدل والأمر بين الأمرين نقلها علي بن شعبة قدسسره في «تحف العقول» ، وأحمد بن أبي طالب الطبرسي قدسسره في «الاحتجاج» ، وممّا جاء فيها في بيان حقيقة الأمر بين
الأمرين ، قوله : «وهذا القول بين القولين ليس بجبر ولا تفويض ، وبذلك أخبر أمير
المؤمنين صلوات الله عليه عباية بن ربعى الاسدي حين سأله عن الاستطاعة الّتي بها
يقوم ويقعد ويفعل ، فقال له أمير المؤمنين عليهالسلام :
سألت عن الاستطاعة
تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت عباية ، فقال
__________________
له أمير المؤمنين عليهالسلام : قل يا عباية ، قال : وما أقول؟ قال عليهالسلام : ... تقول إنّك تملكها بالله الّذي يملّكها من دونك ، فإن
يملّكها إيّاك كان ذلك من عطائه ، وإن يسلبكها كان ذلك من بلائه ، هو المالك لما
ملّكك ، والقادر على ما عليه أقدرك».
ممّن اعترف بالأمر
بين الأمرين شيخ الأزهر في وقته ، محمّد عبده في رسالته حول التوحيد ، قال :
جاءت الشريعة
بتقرير أمرين عظيمين ، هما ركنا السعادة وقوام الأعمال البشرية ، الأوّل : أنّ
العبد يكسب بإرادته وقدرته ما هو وسيلة لسعادته ، والثاني : أنّ قدرة الله هي مرجع
لجميع الكائنات وأن من آثارها ما يحول بين العبد وإنفاذ ما يريده .... وقد كلّفه سبحانه
أن يرفع همّته إلى استمداد العون منه وحده بعد أن يكون قد أفرغ ما عنده من الجهد
في تصحيح الفكر وإجادة العمل ، وهذا الّذي قرّرناه قد اهتدى إليه سلف الأُمّة ،
وعوّل عليه من متأخّري أهل النظر إمام الحرمين الجويني رحمهالله ، وإن أنكر عليه بعض من لم يفهمه.
__________________
الفصل العاشر :
شبهات وردود
إلى هنا فرغنا عن
دراسة المذاهب والآراء في مسألة الجبر والاختيار ، ثمّ إنّ هاهنا شبهات وشكوكاً
يجب علينا دراستها والإجابة عنها :
١. علم الله الأزلي
قالوا : «إنّ ما
علم الله عدمه من أفعال العبد فهو ممتنع الصدور عن العبد وإلّا جاز انقلاب العلم
جهلاً ، وما علم الله وجوده من أفعاله فهو واجب الصدور عن العبد ، وإلا جاز ذلك
الانقلاب وهو محال في حقّه سبحانه ، وذلك يبطل اختيار العبد ، إذ لا قدرة على
الواجب والممتنع ، ويبطل أيضاً التكليف لابتنائه على القدرة والاختيار ، فما لزم
القائلين بمسألة خلق الاعمال فقد لزم غيرهم لأجل اعتقادهم بعلمه الأزلي المتعلّق بالأشياء».
والجواب
عنه : أنّ علمه الأزلي
لم يتعلّق بصدور كلّ فعل عن فاعله على وجه الإطلاق ، بل تعلّق علمه بصدوره عنه حسب
الخصوصيات
__________________
الموجودة فيه وعلى
ضوء ذلك ، تعلّق علمه الأزلي بصدور الحرارة من النّار على وجه الجبر والاضطرار ،
كما تعلّق علمه الأزلي بصدور الرعشة من المرتعش كذلك ، ولكن تعلّق علمه سبحانه
بصدور فعل الإنسان الاختياري منه بقيد الاختيار والحرّيّة ، ومثل هذا العلم يؤكّد
الاختيار. قال العلّامة الطباطبائي :
إنّ العلم الأزلي
متعلّق بكلّ شيء على ما هو عليه ، فهو متعلّق بالأفعال الاختيارية بما هي اختيارية
، فيستحيل أن تنقلب غير اختيارية ....
٢. إرادة الله الأزلية
قالوا : «ما أراد
الله وجوده من أفعال العبد وقع قطعاً ، وما أراد الله عدمه منها لم يقع قطعاً ،
فلا قدرة له على شيء منهما».
والجواب عنه : أنّ
هذا الاستدلال نفس الاستدلال السّابق لكن بتبديل العلم بالإرادة ، فيظهر الجواب
عنه ممّا ذكرناه في الجواب عن سابقه. قال العلامة الطباطبائي :
تعلّقت الإرادة
الإلهية بالفعل الصادر من زيد مثلاً لا مطلقاً ، بل من حيث إنّه فعل اختياري صادر
من فاعل كذا ، في زمان كذا ومكان كذا ، فإذن تأثير الإرادة الإلهية في الفعل يوجب
كون
__________________
الفعل اختيارياً
وإلّا تخلّف متعلّق الإرادة ... فخطأ المجبرة في عدم تمييزهم كيفيّة تعلّق الإرادة
الإلهية بالفعل ....
٣. لزوم الفعل مع المرجِّح الخارج عن الاختيار
قالوا : «إنّ
العبد لو كان موجداً لفعله بقدرته فلا بدّ من أن يتمكن من فعله وتركه ، وإلّا لم
يكن قادراً عليه ، إذ القادر من يتمكّن من كلا الطرفين. وعلى هذا يتوقّف ترجيح
فعله على تركه على مرجّح ، وإلّا لزم وقوع أحد الجائزين بلا مرجِّح وسبب وهو محال
، وذلك المرجِّح إن كان من العبد وباختياره لزم التسلسل الباطل ، لأنّا ننقل
الكلام إلى صدور ذلك المرجِّح عن العبد فيتوقّف صدوره عنه إلى مرجِّح ثان وهكذا
....
وإن كان من غيره
وخارجاً عن اختياره ، فبما أنّه يجب وقوع الفعل عند تحقّق المرجِّح ، والمفروض أنّ
ذلك المرجِّح أيضاً خارج عن اختياره ، فيصبح الفعل الصادر عن العبد ، ضروريّ
الوقوع غير اختياري له».
والجواب عنه : أنّ
صدور الفعل الاختياري من الإنسان يتوقّف على مقدّمات ومبادئ من تصوّر الشيء
والتصديق بفائدته والاشتياق إلى تحصيله وغير ذلك من المقدمات ، ولكن هذه المقدمات
لا تكفي في تحقّق الفعل وصدوره منه إلّا بحصول الإرادة النفسانية الّتي يندفع بها
الإنسان نحو الفعل ، ومعها يكون الفعل واجب التحقّق وتركه ممتنعاً.
__________________
والمرجّح ليس
شيئاً وراء داعي الفاعل وإرادته وليس مستنداً إلّا إلى نفس الإنسان وذاته ، فإنّها
المبدأ لظهوره في الضمير ، إنّما الكلام في كونه فعلاً اختيارياً للنفس أو لا؟ فمن
جعل الملاك في اختيارية الأفعال كونها مسبوقة بالإرادة وقع في المضيق في جانب
الإرادة ، لأنّ كونها مسبوقةً بإرادة أُخرى يستلزم التسلسل في الإرادات غير
المتناهية ، وهو محال.
وأمّا على القول
المختار ، من أنّ الملاك في اختياريّة الأفعال كونها فعلاً للفاعل الّذي يكون
الاختيار عين هويّته وينشأ من صميم ذاته وليس أمراً زائداً على هويّته عارضاً
عليها ، فلا إشكال مطلقاً ، وفاعلية الإنسان بالنسبة إلى أفعاله الاختيارية كذلك ،
فالله سبحانه خلق النفس الإنسانية مختارةً ، وعلى هذا يستحيل أن يسلب عنها وصف
الاختيار ويكون فاعلاً مضطرّاً كالفواعل الطبيعيّة.
٤. التكليف بمعرفة الله تكليف بالمحال
قالوا :
«التكليف واقع
بمعرفة الله تعالى إجماعاً ، فإن كان التكليف في حال حصول المعرفة فهو تكليف
بتحصيل الحاصل ، وهو محال ، وإن كان حال عدمها فغير العارف بالمكلّف وصفاته
المحتاج إليه في صحّة التكليف منه ، غافل عن التكليف وتكليف الغافل تكليف بالمحال».
__________________
والجواب
عنه : أنّا نختار الشقّ
الأوّل من الاستدلال ولكن لا بمعنى المعرفة التفصيلية حتى يكون تحصيلاً للحاصل ،
بل المعرفة الإجمالية الباعثة على تحصيل التفصيلية منها.
توضيح ذلك : أنّ
التكليف بمعرفة الله تعالى تكليف عقلي ، يكفي فيه التوجّه الإجمالي إلى أنّ هناك
منعماً يجب معرفته ومعرفة أسمائه وصفاته شكراً لنعمائه ، أو دفعاً للضرر المحتمل.
٥. لا يوجد الشيء إلّا بالوجوب السابق عليه
قد ثبت في الفلسفة
الأُولى أنّ الموجود الممكن ما لم يجب وجوده من جانب علّته لم يتعيّن وجوده ولم
يوجد ، وذلك : لأنّ الممكن في ذاته لا يقتضي الوجود ولا العدم ، فلا مناص لخروجه
من ذلك إلى مستوى الوجود من عامل خارجي يقتضي وجوده ، ثمّ ما يقتضي وجوده إمّا أن
يقتضي وجوبه أيضاً أو لا؟ فعلى الأوّل وجب وجوده ، وعلى الثاني ، بما أنّ بقاءه
على العدم لا يكون ممتنعاً بعدُ ، فيسأل : لما ذا اتّصف بالوجود دون العدم؟ وهذا
السؤال لا ينقطع إلّا بصيرورة وجود الممكن واجباً وبقائه على العدم محالاً ، وهذا
معنى قولهم : «إنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد».
هذا برهان القاعدة
، ورتّب عليها القول بالجبر ، لأنّ فعل العبد ممكن فلا يصدر منه إلّا بعد اتّصافه
بالوجوب ، والوجوب ينافي الاختيار.
والجواب عنه : أنّ
القاعدة لا تعطي أزيد من أنّ المعلول إنّما يتحقّق بالإيجاب المتقدّم على وجوده ،
ولكن هل الإيجاب المذكور جاء من
جانب الفاعل
والعلّة أو من جانب غيره؟ فإن كان الفاعل مختاراً كان وجود الفعل ووجوبه المتقدّم
عليه صادراً عنه بالاختيار ، وإن كان الفاعل مضطرّاً كالفواعل الكونية كانا صادرين
عنه بالاضطرار.
والحاصل : أنّ
الوجوب المذكور في القاعدة وإن كان وصفاً متقدّماً على الفعل ، ولكنّه متأخّر عن
الفاعل ، فالمستفاد منه ليس إلّا كون الفعل موجباً (بالفتح) وأمّا الفاعل فهو قد
يكون أيضاً كذلك وقد يكون موجِباً (بالكسر) ، فإن أثبتنا كون الإنسان مختاراً فلا
تنافيه القاعدة المذكورة قيد شعرة.
الفصل الحادي عشر :
القضاء والقدر
إنّ القضاء والقدر
من الأُصول الإسلامية الواردة في الكتاب والسنّة ، وليس لمن له إلمام بهذين
المصدرين الرئيسيين أن ينكرهما أو ينكر واحداً منهما ، إلّا أنّ المشكلة في توضيح
ما يراد منهما ، فإنّه المزلقة الكبرى في هذا المقام ، واستيفاء البحث عنه يستدعي
بيان أمور:
١. تعريف القضاء والقدر
قال ابن فارس :
القدر ـ بفتح
الدال وسكونه مبلغ الشيء وكنهه ونهايته ، وقوله تعالى : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) فمعناه قُتِر وقياسه أنّه أعطى ذلك بقدر يسير. وقال أيضاً :
قضى ... يدل على
إحكام أمر وإتقانه وإنفاذه لجهته ، قال الله تعالى :
__________________
(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ
سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ)
أي أحكم خلقهنّ ـ إلى
أن قال : ـ وسمّي القاضي قاضياً لأنّه يحكم الأحكام وينفّذها ، وسمّيت المنيّة
قضاءً لأنّها أمر ينفّذ في ابن آدم وغيره من الخلق .
وقال الراغب : «القدر
والتقدير تبيين كميّته الشيء ، والقضاء فصل الأمر قولاً كان ذلك أو فعلاً».
هذا ما ذكره أئمّة
اللغة ، وقد سبقهم أئمّة أهل البيت عليهمالسلام ، كما ورد فيما روي عنهم عليهمالسلام فقد روى الكليني بسنده ، إلى يونس بن عبد الرحمن ، عن أبي
الحسن الرضا عليهالسلام وقد سأله يونس عن معنى القدر والقضاء ، فقال :
«هي الهندسة ووضع
الحدود من البقاء والفناء ، والقضاء هو الإبرام وإقامة العين».
والحاصل : أنّ حدّ
الشيء ومقداره يسمّى قدره وكونه بوجه يتعيّن وجوده ولا يتخلّف يسمّى قضائه.
٢. القضاء والقدر التشريعيان
ويعني بهما
الأوامر والنواهي الإلهية الواردة في الكتاب والسنّة ، وقد
__________________
أشار إليها الإمام
أمير المؤمنين عليهالسلام في كلامه حينما سأله الشامي عن معنى القضاء والقدر فقال : «الأمر
بالطاعة والنهي عن المعصية ، والتمكين من فعل الحسنة وترك السيئة ، والمعونة على
القربة إليه والخذلان لمن عصاه ، والوعد والوعيد» إلى آخر كلامه الشريف.
٣. القضاء والقدر العلميّان
التقدير العلمي
عبارة عن تحديد كلّ شيء بخصوصياته في علمه الأزلي سبحانه ، قبل إيجاده ، فهو تعالى
يعلم حدّ كلّ شيء ومقداره وخصوصياته الجسمانية وغير الجسمانية. والمراد من القضاء
العلمي هو علمه تعالى بضرورة وجود الأشياء وإبرامها عند تحقق جميع ما يتوقّف عليه
وجودها من الأسباب والشرائط ورفع الموانع.
فعلمه السابق
بحدود الأشياء وضرورة وجودها ، تقدير وقضاء علميّان ، وقد أُشير إلى هذا القسم ،
في آيات الكتاب المجيد : قال سبحانه :
(وَما كانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً)
وقال أيضاً :
(قُلْ لَنْ يُصِيبَنا
إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ) .
__________________
وقال : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا
يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) .
وقال :
(ما أَصابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ
نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) .
هذه بعض الآيات
الّتي وردت في بيان أن خصوصيات الأشياء وضرورة وجودها متحقّقة في علمه الأزلي ، أو
مراتب علمه كالكتاب الوارد في الآيات الماضية.
٤. القضاء والقدر العينيان
التقدير العيني
عبارة عن الخصوصيات الّتي يكتسبها الشيء من علله عند تحقّقه وتلبّسه بالوجود
الخارجي.
والقضاء العيني هو
ضرورة وجود الشيء عند وجود علّته التامّة ضرورةً عينيةً خارجيةً.
فالتقدير والقضاء
العينيان ناظران إلى التقدير والضرورة الخارجيين اللّذين يحتفّان بالشيء الخارجي ،
فهما مقارنان لوجود الشيء بل متّحدان معه ، مع أنّ التقدير والقضاء العلميان
مقدّمان على وجود الشيء.
__________________
فالعالم المشهود
لنا لا يخلو من تقدير وقضاء ، فتقديره تحديد الأشياء الموجودة فيه من حيث وجودها ،
وآثار وجودها ، وخصوصيات كونها بما أنّها متعلقة الوجود والآثار بموجودات أخرى ،
أعنى العلل والشرائط ، فيختلف وجودها وأحوالها باختلاف عللها وشرائطها ، فالتقدير
يهدي هذا النوع من الموجودات إلى ما قدّر له في مسير وجوده ، قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَالَّذِي
قَدَّرَ فَهَدى) . أي هدى ما خلقه إلى ما قدّر له.
وأما قضاؤه ،
فلمّا كانت الحوادث في وجودها وتحقّقها منتهية إليه سبحانه فما لم تتمّ لها العلل
والشرائط الموجبة لوجودها ، فإنّها تبقى على حال التردّد بين الوقوع واللاوقوع ،
فإذا تمَّت عللها وعامّة شرائطها ولم يبق لها إلّا أن توجد ، كان ذلك من الله
قضاءً وفصلاً لها من الجانب الآخر وقطعاً للإبهام.
وبذلك يظهر أنّ
التقدير والقضاء العينيين من صفاته الفعلية سبحانه فإنّ مرجعهما إلى إفاضة الحدّ
والضرورة على الموجودات ، وإليه يشير الإمام الصادق عليهالسلام في قوله :
«القضاء والقدر خلقان
من خلق الله ، والله يزيد في الخلق ما يشاء».
ومن هنا يكشف لنا
الوجه في عناية النبيّ وأهل البيت عليهمالسلام بالإيمان
__________________
بالقدر ، وأنّ
المؤمن لا يكون مؤمناً إلّا بالإيمان به ، فإنّ التقدير والقضاء العينيين من شعب الخلقة ، وقد عرفت
في أبحاث التوحيد أن من مراتب التوحيد ، التوحيد في الخالقية ، وقد عرفت آنفاً أنّ
حدود الأشياء وخصوصياتها ، وضرورة وجودها منتهية إلى إرادته سبحانه ، فالإيمان
بهما ، من شئون التوحيد في الخالقية.
ولأجل ذلك ترى
أنّه سبحانه أسند القضاء والقدر إلى نفسه ، وقال :
(قَدْ جَعَلَ اللهُ
لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً).
وقال تعالى : (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ
لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
وقال سبحانه : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي
يَوْمَيْنِ) .
__________________
وقال تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ
بِقَدَرٍ)
وقال سبحانه : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا
خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ.)
وغيرها من الآيات
الحاكية عن قضائه سبحانه بالشيء وإبرامه على صفحة الوجود.
__________________
الفصل الثاني عشر :
في حقيقة البداء
تحتلّ مسألة
البداء مكانة مهمّة في عقائد الشيعة الإمامية ، وهم تابعون في ذلك للنصوص الواردة
عن أئمّة أهل البيت عليهمالسلام في تلك المسألة :
١. روى الصدوق
بإسناده عن زرارة عن أحدهما ، يعنى أبا جعفر وأبا عبد الله عليهماالسلام ، قال :
«ما عبد الله عزوجل بشيء مثل البداء».
٢. وروى بإسناده
عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «ما عظّم الله عزوجل بمثل البداء».
٣. وروى بإسناده
عن محمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «ما بعث الله عزوجل نبيّاً حتى يأخذ عليه ثلاث خصال :
الإقرار بالعبودية
، وخلع الأنداد ، وأن الله يقدِّم ما يشاء ويؤخِّر ما يشاء».
٤. وعن الرّيان بن
الصلت ، قال : سمعت الرضا عليهالسلام يقول :
__________________
«ما بعث الله
نبيّاً قطّ إلّا بتحريم الخمر ، وأن يقرّ له بالبداء».
إلى غير ذلك من
مأثوراتهم عليهمالسلام في هذا المجال.
والبداء في اللغة
هو الظهور بعد الخفاء وهو يستلزم الجهل بشيء وتبدّل الإرادة والرأي وهما مستحيلان
في حقّه تعالى.
واتّفقت الإمامية
تبعاً لنصوص الكتاب والسنّة والبراهين العقلية على أنّه سبحانه عالم بالأشياء
والحوادث كلّها غابرها وحاضرها ومستقبلها ، كلّيِّها وجزئيِّها ، وقد وردت بذلك
نصوص عن أئمّة أهل البيت عليهمالسلام.
قال الامام الباقر
عليهالسلام : «كان الله ولا شيء غيره ، ولم يزل الله عالماً بما يكون
، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد ما كوَّنه».
وقال الإمام
الصادق عليهالسلام : «فكلّ أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه ليس شيء
يبدو له إلّا وقد كان في علمه ، إنّ الله لا يبدو له من جهل».
إلى غير ذلك من
النصوص المتضافرة في ذلك.
حقيقة البداء عند
الإماميّة
وبذلك يظهر أنّ
المراد من البداء الوارد في أحاديث الامامية ـ ويعدُّ من العقائد الدينية عندهم ـ ليس
معناه اللغوي ، أفهل يصحّ أن ينسب إلى عاقل ـ فضلاً عن باقر العلوم وصادق الأُمّة عليهماالسلام ـ القول بأنّ الله لم يعبد ولم
__________________
يعظّم إلّا بالقول
بظهور الحقائق له بعد خفائها عنه ، والعلم بعد الجهل؟! كلّا ، كلّ ذلك يؤيّد أنّ
المراد من البداء في كلمات هؤلاء العظام غير ما يفهمه المعترضون ، بل مرادهم من
البداء ليس إلّا أنّ الإنسان قادر على تغيير مصيره بالأعمال الصالحة والطالحة وأنّ لله سبحانه تقديراً مشترطاً موقوفاً ، وتقديراً مطلقاً
، والإنسان إنّما يتمكّن من التأثير في التقدير المشترط ، وهذا بعينه قدر إلهي ،
والله سبحانه عالم في الأزل ، بكلا القسمين كما هو عالم بوقوع الشرط ، أعني :
الأعمال الإنسانية المؤثّرة في تغيير مصيره وعدم وقوعه.
قال الشيخ المفيد
:
قد يكون الشيء
مكتوباً بشرط فيتغيّر الحال فيه ، قال الله تعالى :
(ثُمَّ قَضى أَجَلاً
وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ). فتبيّن أنّ الآجال على ضربين ، وضرب منهما مشترط يصحّ فيه
الزيادة والنقصان ، ألا ترى قوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ
مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ). وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ) .
__________________
فبيّن أنّ آجالهم
كانت مشترطة في الامتداد بالبرّ والانقطاع عن الفسوق ، وقال تعالى فيما أخبر به عن
نوح عليهالسلام في خطابه لقومه : (اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً)
فاشترط لهم في مدّ
الأجل وسبوغ النعم الاستغفار ، فلو لم يفعلوا قطع آجالهم وبتَّر أعمالهم واستأصلهم
بالعذاب ، فالبداء من الله تعالى يختصّ بما كان مشترطاً في التقدير وليس هو
انتقالاً من عزيمة إلى عزيمة ، تعالى الله عما يقول المبطلون علوّاً كبيراً.
تفسير البداء في ضوء الكتاب والسنّة
قد اتّضح ممّا
تقدّم أنّ المقصود بالبداء ليس إلّا تغيير المصير والمقدّر بالأعمال الصالحة
والطالحة وتأثيرها في ما قدّر الله تعالى لهم من التقدير المشترط ، ولإيضاح هذا المعنى
نشير إلى نماذج من الآيات القرآنية وما ورد من الروايات في تغيير المصير بالأعمال
الصالحة والطالحة.
١. قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ).
٢. وقال سبحانه : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً
نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ).
__________________
٣. وقال سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا
وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ
كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).
٤. وقال سبحانه : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ
شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) .
٥. وقال سبحانه : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ
فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ
عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) .
٦. وقال سبحانه : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ
الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
٧. وقال سبحانه : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ
آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ
بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا
يَصْنَعُونَ) .
إلى غير ذلك من
الآيات. ومن الروايات يدلّ على ذلك ما يلي :
١. روى جلال الدين
السيوطي (المتوفّى ٩١١ ه) عن علي عليهالسلام أنّه سأل رسول الله صلىاللهعليهوآله عن هذه الآية (يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ) ، فقال : «لأقرَّن
__________________
عينيك بتفسيرها ،
ولأقرَّن عين أُمّتي بعدي بتفسيرها : الصدقة على وجهها ، وبرّ الوالدين ، واصطناع
المعروف ، يحوِّل الشقاء سعادة ، ويزيد في العمر ، ويقي مصارع السوء».
٢. وأخرج الحاكم
عن ابن عباس ، قال : «لا ينفع الحذر من القدر ، ولكن الله يمحو بالدعاء ما يشاء من
القدر».
٣. وقال الإمام
الباقر عليهالسلام : «صلة الأرحام تزكّى الأعمال ، وتنمّي الأموال ، وتدفع
البلوى ، وتيسّر الحساب ، وتنسئ في الأجل».
٤. وقال الصادق عليهالسلام : «إن الدعاء يردّ القضاء ، وإنّ المؤمن ليذنب فيحرم بذنبه
الرزق».
إلى غير ذلك من
الأحاديث المتضافرة المروية عن الفريقين في هذا المجال.
النزاع لفظي
ممّا تقدّم يظهر
أنّ حقيقة البداء ـ وهي تغيير مصير الإنسان بالأعمال الصالحة والطالحة ـ ممّا لا
مناص لكلّ مسلم من الاعتقاد به وإلى هذا أشار الشيخ الصدوق بقوله :
فمن أقرَّ لله عزوجل بأن له أن يفعل ما يشاء ، ويعدم ما يشاء ،
__________________
ويخلق مكانه ما
يشاء ، ويقدِّم ما يشاء ، ويؤخِّر ما يشاء ، ويأمر بما شاء كيف شاء ، فقد أقرَّ
بالبداء ، وما عظّم الله عزوجل بشيء أفضل من الإقرار بأنّ له الخلق والأمر والتقديم
والتأخير وإثبات ما لم يكن ومحو ما قد كان .
فالنزاع في
الحقيقة ليس إلّا في التسمية ، ولو عرف المخالف أنّ تسمية فعل الله سبحانه بالبداء
من باب المجاز والتوسّع لما شهر سيف النقد عليهم ، وإن أبي حتى الإطلاق التجوّزي ،
فعليه أن يتّبع النبيّ الأعظم صلىاللهعليهوآله حيث أطلق لفظ البداء عليه سبحانه بهذا المعنى المجازي
الّذي قلنا ، في حديث الأقرع والأبرص والأعمى ، روى أبو هريرة أنّه سمع رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : «إنّ ثلاثة في بنى إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى ، بدا
لله عزوجل أن يبتليهم». فبأي وجه فسِّر كلامه صلىاللهعليهوآله يفسَّر كلام أوصيائه.
والتسمية من باب
المشاكلة ، وأنّه سبحانه يعبّر عن فعل نفسه في مجالات كثيرة بما يعبِّر به الناس
عن فعل أنفسهم لأجل المشاكلة الظاهرية ، فترى القرآن ينسب إلى الله تعالى «المكر» و
«الكيد» و «الخديعة» و «النسيان» و «الأسف» إذ يقول :
(يَكِيدُونَ كَيْداً*
وَأَكِيدُ كَيْداً).
(وَمَكَرُوا مَكْراً
وَمَكَرْنا مَكْراً) .
__________________
(إِنَّ الْمُنافِقِينَ
يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ).
(نَسُوا اللهَ
فَنَسِيَهُمْ) .
(فَلَمَّا آسَفُونا
انْتَقَمْنا مِنْهُمْ).
إلى غير ذلك من
الآيات والموارد.
وبذلك تقف على أنّ
ما ذكره الأشعري في «مقالات الاسلاميّين» ، والبلغمي في تفسيره ، والرازي في
المحصَّل ، وغيرهم حول البداء ، لا صلة له بعقيدة الشيعة فيه ، فإنّهم فسّروا
البداء لله بظهور ما خفي عليه ، والشيعة برآء منه ، بل البداء عندهم كما عرفت
تغيير التقدير المشترط من الله تعالى ، بالفعل الصالح والطالح ، فلو كان هناك ظهور
بعد الخفاء فهو بالنسبة إلينا لا بالنسبة إلى الله تعالى ، بل هو بالنسبة إليه
إبداء ما خفي وإظهاره ، ولو أطلق عليه البداء من باب التوسع.
اليهود وإنكار النسخ
والبداء
إنّ المعروف من
عقيدة اليهود أنّهم يمنعون النسخ سواء كان في التشريع والتكوين ، أمّا النسخ في
التشريع فقد استدلّوا على امتناعه بوجوه مذكورة في كتب أصول الفقه مع الجواب عنها
، وأما النسخ في التكوين وهو تمكّن الإنسان من تغيير مصيره بما يكتسبه من الأعمال
بإرادته واختياره ، فقد استدلوا على امتناعه بأنّ قلم التقدير والقضاء إذا جرى على
الأشياء في
__________________
الأزل استحال أن
تتعلّق المشيئة بخلافه. وبعبارة أخرى : ذهبوا إلى أنّ الله قد فرغ من أمر النظام
وجفّ القلم بما كان فلا يمكن لله سبحانه محو ما أثبت وتغيير ما كتب أوّلاً.
وهذا المعنى من
النسخ الّذي أنكرته اليهود هو بنفسه كما ترى حقيقة البداء بالمعنى الّذي تعتقده
الشيعة الإمامية كما عرفت ، فإنكاره من العقائد اليهودية الّتي تسرّت إلى
المجتمعات الإسلامية في بعض الفترات واكتسى ثوب العقيدة الإسلامية ، مع أنّ القرآن
الكريم يردّ على اليهود في عقيدتهم هذه ويقول :
(يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ).
ويقول أيضاً : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) .
وقد حكى سبحانه
عقيدة اليهود بقوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ
يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) .
فهذا القول عنهم
يعرب عن عقيدتهم في حق الله سبحانه ، وأنّه مسلوب الإرادة تجاه كلّ ما كتب وقدّر ،
وبالنتيجة عدم قدرته على الانفاق زيادة على ما قدّر وقضى ، فردّ الله سبحانه عليهم
بإبطال تلك العقيدة بقوله :
(بَلْ يَداهُ
مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) .
ولأجل ذلك فسَّر
الإمام الصادق عليهالسلام الآية بقوله : «ولكنّهم (اليهود) قالوا :
__________________
قد فرغ من الأمر
فلا يزيد ولا ينقص ، فقال الله جلّ جلاله تكذيباً لقولهم : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما
قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) ألم تسمع الله عزوجل يقول :
(يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ.)
ومن هنا تعرف أنّ
القول بالبداء من صميم الدين ولوازم التوحيد والاعتقاد بعمومية قدرته سبحانه ،
وأنّه من مقاديره وسننه السائدة على حياة الإنسان من غير أن يسلب عنه الاختيار في
تغيير مصيره ، فكما أنّه سبحانه ، كلّ يوم هو في شأن ، ومشيئته حاكمة على التقدير
، وكذلك العبد مختار له أن يغيِّر مصيره ومقدّره بحسن فعله ، ويخرج نفسه من عداد
الأشقياء ويدخلها في عداد السعداء ، كما أنّ له عكس ذلك. فالله سبحانه : (لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)
فهو تعالى إنّما
يغيِّر قدر العبد بتغيير منه بحسن عمله أو سوئه ، ولا يعدّ تغيير التقدير الإلهي
بحسن الفعل أو سوئه معارضاً لتقديره الأوّل سبحانه ، بل هو أيضاً جزء من قدره
وسننه.
التقدير المحتوم
والموقوف
قد أشرنا سابقاً
إلى أنّ التغيير إنّما يقع في التقدير الموقوف دون المحتوم ، وهذا ما يحتاج إلى
شيء من البيان فنقول :
__________________
إنّ لله سبحانه
تقديرين ، محتوماً وموقوفاً ، والمراد من المحتوم ما لا يبدّل ولا يغيّر مطلقاً ،
وذلك كقضائه سبحانه للشّمس والقمر مسيرين إلى أجل معيّن ، وللنظام الشّمسي عمراً
محدّداً ، وتقديره في حقِّ كلّ إنسان بأنّه يموت ، إلى غير ذلك من السنن الثابتة
الحاكمة على الكون والإنسان.
والمراد من
التقدير الموقوف الأُمور المقدّرة على وجه التعليق ، فقدّر أنّ المريض يموت في وقت
كذا إلّا إذا تداوى ، أو أجريت له عمليّة جراحية ، أو دعي له وتصدّق عنه ، وغير
ذلك من التقادير الّتي تغيّر بإيجاد الأسباب المادّية وغيرها الّتي هي أيضاً من
مقدّراته سبحانه ، والله سبحانه يعلم في الأزل كلا التقديرين : المحتوم ، الموقوف
، وما يتوقف عليه الموقوف ، وإليك بعض ما ورد عن أئمّة أهل البيت عليهمالسلام حول هذين التقديرين :
١. سئل أبو جعفر
الباقر عليهالسلام عن ليلة القدر ، فقال : تنزل فيها الملائكة والكتبة إلى
سماء الدنيا فيكتبون ما هو كائن في أمر السنة ... إلى أن قال ـ : وأمر موقوف لله
تعالى فيه المشيئة ، يقدِّم منه ما يشاء ويؤخِّر ما يشاء ، وهو قوله :
(يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)
٢. روى الفضيل :
سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : «من الأُمور أمور محتومة جائية لا محالة ، ومن
الأُمور أُمور موقوفة عند الله يقدِّم منها ما يشاء ويمحو منها ما يشاء : ويثبت
منها ما يشاء».
__________________
٣. وفي حديث قال
الرضا عليهالسلام لسليمان المروزي : «يا سليمان إنّ من الأُمور أموراً
موقوفة عند الله تبارك وتعالى يقدِّم منها ما يشاء ويؤخِّر ما يشاء».
ثمّ إنّ القرآن
الكريم ذكر الأجل بوجهين : على وجه الإطلاق ، وبوصف كونه مسمّى فقال :
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ
مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ
تَمْتَرُونَ) .
فجعل للإنسان
أجلين : مطلقاً ومسمّى.
والمقصود من الأجل
المسمّى هو التقدير المحتوم ، ومن الأجل المطلق التقدير الموقوف ، قال العلّامة
الطباطبائي :
إنّ الأجل أجلان :
الأجل على إبهامه ، والأجل المسمّى عند الله تعالى ، وهذا هو الّذي لا يقع فيه
تغيير لمكان تقييده بقوله (عنده) وقد قال تعالى : (وَما عِنْدَ اللهِ
باقٍ).
وهو الأجل المحتوم
الّذي لا يتغيّر ولا يتبدّل ، قال تعالى : (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ
فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) فنسبة الأجل المسمّى إلى الأجل غير المسمّى ، نسبة المطلق
المنجّز
__________________
إلى المشروط
المعلّق ، فمن الممكن أن يتخلّف المشروط المعلّق عن التحقّق لعدم تحقّق شرطه الّذي
علّق عليه ، بخلاف المطلق المنجّز ، فإنّه لا سبيل إلى عدم تحقّقه البتّة.
والتدبّر في
الآيات يفيد أنّ الأجل المسمّى هو الّذي وضع في أُمّ الكتاب ، وغير المسمّى من
الأجل هو المكتوب فيما نسمّيه ب (لوح المحو والإثبات).
__________________
الباب الخامس
في النبوّة العامّة
وفيه خمسة فصول :
١. أدلّة لزوم
البعثة.
٢. أدلّة منكري
النبوّة.
٣. طرق التعرّف
على صدق مدّعى النبوَّة.
٤. حقيقة الوحي في
النبوَّة.
٥. عصمة أنبياء
الله تعالى.
مقدمة :
النبوَّة سفارة
بين الله وبين ذوي العقول من عباده ، لتدبير حياتهم في أمر معاشهم ومعادهم ،
والنبيّ هو الإنسان المخبر عن الله تعالى بطريق الوحي الإلهي.
والبحث في
النبوَّة يقع على صورتين :
الأُولى
: البحث عن مطلق
النبوَّة ويسمّى النبوّة العامّة ؛
الثاني
: البحث عن نبوَّة
نبيّ خاص ، كنبوَّة سيّدنا محمّد صلىاللهعليهوآله ويسمّى النبوّة الخاصّة.
والأبحاث الّتي
طرحها المتكلّمون حول النبوَّة العامّة تتمحور في أربعة أُمور وهي :
١. حسن البعثة
ولزومها ، أو تحليل أدلّة مثبتي البعثة ومنكريها ؛
٢. الطريق الّذي
يعرف به النبيّ الصادق من المتنبّئ الكاذب ؛
٣. الطريق أو
الوسيلة الّتي يتلقّى بها النبيّ تعاليمه من الله سبحانه ؛
٤. الصفات
المميّزة للنبيّ عن غيره.
الفصل الأوّل :
أدلّة لزوم البعثة :
١. حاجة المجتمع إلى القانون الكامل
لا يشكّ أحد من
الفلاسفة والباحثين في الحياة الإنسانية ، في أنّ للإنسان ميلاً إلى الاجتماع
والتمدّن ، كما أنّ حاجة المجتمع إلى القانون ممّا لا يرتاب فيه ، وذلك لأنّ
الإنسان مجبول على حبِّ الذات ، وهذا يجرّه إلى تخصيص كلّ شيء بنفسه من دون أن
يراعي لغيره حقّاً ، ويؤدّي ذلك إلى التنافس والتشاجر بين أبناء المجتمع وبالتالي
إلى عقم الحياة وتلاشي أركان المجتمع ، فلا يقوم للحياة الاجتماعية أساس إلّا بوضع
قانون جامع يقوم بتحديد وظائف كلّ فرد وحقوقه ، فيمكن لكلّ فرد أن يعيش في ظلّ
العدالة الاجتماعية ويسلك سبيل الفلاح والنجاح.
شرائط المقنِّن
لا ريب في أنّ جعل
قانون جامع بالوصف المذكور يحتاج إلى توفّر شروط أهمّها شرطان تاليان :
الأوّل : معرفة
المقنِّن بالإنسان ؛ إنّ أوّل وأهمّ خطوة في وضع القانون ،
أن يكون المقنِّن
عارفاً بالإنسان : جسمه وروحه ، غرائزه وفطريّاته ، وما يصلح لهذه الأُمور أو يضرّ
بها ، وكلّما تكاملت هذه المعرفة بالإنسان كان القانون ناجحاً وناجعاً في علاج
مشاكله وإبلاغه إلى السعادة المتوخّاة من خلقه.
الثاني : عدم
انتفاع المقنِّن بالقانون ؛ وهذا الشرط بديهي ، فإنَّ المقنِّن إذا كان منتفعاً من
القانون الّذي يضعه ، سواء كان النفع عائداً إليه أو إلى من يمت إليه بصلة خاصّة ،
فهذا القانون سيتمّ لصالح المقنِّن لا لصالح المجتمع ، ونتيجته الحتميّة الظلم
والإجحاف.
فالقانون الكامل
لا يتحقّق إلّا إذا كان واضعه مجرّداً عن حبّ الذّات وهوى الانتفاع الشّخصي.
أمّا
الشرط الأوّل : فإنّا لن نجد في صفحة الوجود موجوداً أعرف بالإنسان من خالقه ، فإنّ صانع
المصنوع أعرف به من غيره ، يقول سبحانه :
(أَلا يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) .
إنّ عظمة الإنسان
في روحه ومعنوياته ، وغرائزه وفطرياته ، أشبه ببحر كبير لا يرى ساحله ولا يضاء
محيطه ، وقد خفيت كثير من جوانب حياته ورموز وجوده حتى لقِّب ب «الموجود المجهول».
وأمّا الشرط
الثاني : فلن نجد أيضاً موجوداً مجرداً عن أيّ فقر وحاجة وانتفاع سواه سبحانه.
__________________
وممّا يدلّ على
عدم صلاحيّة البشر نفسه لوضع قانون كامل ، ما نرى من التبدّل الدائم في القوانين
والنقض المستمرّ الّذي يورد عليها بحيث تحتاج في كلّ يوم إلى استثناء بعض
التشريعات وزيادة أُخرى ، إضافة إلى تناقض القوانين المطروحة في العالم من قبل
البشر ، وما ذلك إلّا لقصورهم عن معرفة الإنسان حقيقة المعرفة وانتفاء سائر الشروط
في واضعيها.
فإذا كان استقرار
الحياة الاجتماعية للبشر متوقّفاً على التقنين الإلهي ، فواجب في حكمته تعالى
إبلاغ تلك القوانين إليهم عبر واحد منهم يرسله إليهم ، والحامل لرسالة الله سبحانه
هو النبيّ المنبئ عنه والرسول المبلّغ إلى الناس ، فبعث الأنبياء واجب في حكمته
تعالى حفظاً للنظام المتوقّف على التقنين الكامل. وإلى هذا الدليل يشير قوله تعالى
:
(لَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ)
٢. حاجة الانسان إلى المعارف العالية
إنّ أهمّ ما يحتاج
الإنسان إلى التعرّف عليه ليكون ناجحاً في الوصول إلى السعادة المطلوبة من حياته
أمران : المعرفة بالله سبحانه ، والتعرّف على مصالح الحياة ومفاسدها ، والمعرفة
الكاملة في هذين المجالين لا تحصل للإنسان إلّا في ضوء الوحي وتعاليم الأنبياء ،
وأمّا العلوم الإنسانية فهي غير كافية فيهما.
__________________
وممّا يوضح قصور
العلم البشري في العلوم الإلهية أنّ هناك الملايين من البشر يقطنون بلدان جنوب شرق
آسيا على مستوى راق في الصناعات والعلوم الطبيعية ، ومع ذلك فهم في الدرجة السّفلى
في المعارف الإلهية ، فجلّهم ـ إن لم يكن كلّهم ـ عبّاد للأصنام والأوثان ، وببابك
بلاد الهند الشاسعة وما يعتقده مئات الملايين من أهلها من قداسة في «البقر».
نعم هناك نوابغ من
البشر عرفوا الحقّ عن طريق التفكّر والتعقّل كسقراط وأفلاطون وأرسطو ، ولكنّهم
أُناس استثنائيون ، لا يعدّون معياراً في البحث ، وكونهم عارفين بالتوحيد لا يكون
دليلاً على مقدرة الآخرين عليه.
على أنّه من
المحتمل جدّاً أن يكون وقوفهم على هذه المعارف في ظلّ ما وصل إليهم من التعاليم
السماوية عن طريق رسله سبحانه وأنبيائه ، قال صدر المتألّهين :
أساطين الحكمة
المعتبرة عند اليونانيين خمسة : أنباذقلس وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس قدسسره ، وقد لقى فيثاغورس تلاميذ سليمان بن داود عليهماالسلام بمصر واستفاد منهم وتلمّذ للحكيم المعظم الربّاني أنباذقلس
وهو أخذ عن لقمان الآخذ عن داود عليهالسلام ، ثمّ سقراط أخذ عن فيثاغورس وأفلاطون عن سقراط والآخذ
أرسطاطاليس عن أفلاطون وصحبه نيِّفاً وعشرين سنة ... .
__________________
وممّا يدلّ على
قصور العلم الإنساني عن تشخيص منافع البشر والمجتمعات ومضارّها ، أنّ المجتمع
الإنساني ـ مع ما بلغه من الغرور العلمي ـ لم يقف بعدُ على النظام الاقتصادي
النافع له ، فطائفة تزعم أنّ سعادة البشر في نظام الرأسمالية والاقتصاد الحرّ
المطلق ، والأُخرى تدّعي أنّ سعادة البشر في النظام الاشتراكي وسلب المالكية عن
أدوات الانتاج وتفويضها إلى الدولة الحاكمة.
كما أنّه لم يصل
بعدُ إلى وفاق في مجال الأخلاق وقد تعدّدت المناهج الأخلاقيّة في العصر الأخير إلى
حدّ التضادّ فيها.
وأيضاً نرى أنّ
الإنسان ـ مع ما يدّعيه من العلم والمعرفة ـ لم يدرك بعدُ عوامل السّعادة والشّقاء
له ، بشهادة أنّه يشرب المسكرات ، ويستعمل المخدّرات ، ويتناول اللحوم الضارّة ،
كما يقيم اقتصاده على الرِّبا الّذي هو عامل إيجاد التفاوت الطبقي بين أبناء
المجتمع.
وفيما روي عن
أئمّة أهل البيت عليهمالسلام إشارات إلى هذا البرهان نأتي بنموذجين منها : قال الإمام
الكاظم عليهالسلام :
«يا هشام : ما بعث
الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلّا ليعقلوا عن الله ، فأحسنهم استجابة أحسنهم
معرفة ، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلاً ، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا
والآخرة» .
وقال الإمام الرضا
عليهالسلام :
__________________
«لم يكن بدّ من رسول بينه وبينهم معصوم
يؤدّي إليهم أمره ونهيه وأدبه ، ويوقفهم على ما يكون به إحراز منافعهم ودفع
مضارّهم إذ لم يكن في خلقهم ما يعرفون به ما يحتاجون إليه».
__________________
أدلّة منكري بعثة الأنبياء
استدلّ المنكرون
لبعثة الأنبياء على مدّعاهم بوجوه أهمّها ما يلي :
الدليل الأوّل
إنّ الرسول إمّا
أن يأتي بما يوافق العقول أو بما يخالفها ، فإن جاء بما يوافق العقول ، لم يكن
إليه حاجة ، ولا فائدة فيه ، وإن جاء بما يخالف العقول ، وجب ردّ قوله.
والجواب
عنه : أنّ ما يأتي به
الرّسول موافق للعقل في نفس الأمر ، لكن لا يستلزم ذلك أن يكون العقل عارفاً بجميع
ما يأتي به النبيّ. فهاهنا فرض ثالث وهو إتيان الرّسول بما لا يصل إليه العقل
بالطاقات الميسورة له ، فإنّك قد عرفت فيما أقمنا من الأدلّة على لزوم البعثة ،
أنّ عقل الإنسان وتفكّره قاصر عن نيل الكثير من المسائل.
الدليل الثاني :
قد دلّت الدلائل
العقلية على أنّ للعالم صانعاً عالماً قادراً حكيماً ، وأنّه
أنعم على عباده
نعماً توجب الشكر ، فننظر في آيات خلقه بعقولنا ، ونشكره بآلائه علينا ، وإذا
عرفناه وشكرنا له ، استوجبنا ثوابه ، وإذا أنكرناه وكفرنا به ، استوجبنا عقابه ،
فما بالنا نتّبع بشراً مثلنا؟!
والجواب
عنه : أنّ كثيراً من
الناس لا يعرفون كيفية الشكر ، فربما يتصوّرون أنّ عبادة المقرَّبين نوع شكر لله
سبحانه ، فلأجل ذلك ترى عبدة الأصنام والأوثان يعتقدون أنّ عبادتهم للمخلوق شيء
موجب للتقرّب. أضف الى ذلك أنّ تخصيص برامج الأنبياء بالأمر بالشكر
والنهي عن كفران النعمة ، غفلة عن أهدافهم السامية ، فإنّهم جاءوا لإسعاد البشر في
حياتهم الفردية والاجتماعية ، ولا تختصّ رسالتهم بالأوراد والأذكار الجافّة ، كتلك
الّتي يردّدها أصحاب بعض الديانات أيّام السّبت والأحد في البيع والكنائس ، وإنّك
لتقف على عظيم أهداف رسالة النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله إذا وقفت على كلمته المأثورة : «إنّي قد جئتكم بخير الدنيا
والآخرة».
الدليل
الثالث : إنّ أكبر الكبائر في الرسالة ، اتّباع رجل هو مثلك في
الصورة والنفس والعقل ، يأكل ممّا تأكل ، ويشرب ممّا تشرب ... فأي مزيّة له عليك؟
وأيّ فضيلة أوجبت استخدامك؟ وما دليله على صدق دعواه؟
__________________
والجواب
عنه : أنّ هذه شبهة
أشير إليها في القرآن الكريم مع الجواب عنها ، فقد أشير الى الشّبهة في قوله تعالى
:
(.... وَأَسَرُّوا
النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ
السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ)
وفي قوله تعالى :
(وَقالَ الْمَلَأُ
مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ
وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ* وَلَئِنْ
أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ).
وقد أجيب عنها في
قوله سبحانه :
(قالَتْ لَهُمْ
رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى
مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا
بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).
وفي قوله سبحانه :
(قُلْ إِنَّما أَنَا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ).
فالجملة الأُولى ،
وهي الاتحاد في البشرية ، إشارة إلى أحد ركني
__________________
الرسالة ، وهو
لزوم المسانخة التامّة بين المرسل ـ بالفتح ـ والمُرسَل إليه. وقوله : (يُوحى إِلَيَّ) ، إشارة إلى وجه الفرق بينهما ، وأنّه لأجل نزول الوحي
عليه يجب اتّباعه وإطاعته. وبذلك يظهر مزيّة الأنبياء وفضيلتهم وتقدّمهم على
غيرهم.
وأمّا دليلهم على
صدق ادّعاءاتهم ، فسيوافيك في البحث التالي أنّ المعجزة طريق برهاني لتمييز النبيّ
الصادق عن المتنبّئ الكاذب.
الفصل الثالث :
المعجزة وإثبات صدق دعوى النبوّة
يجب أن تقترن دعوى
النبوَّة بدليل يثبت صحّتها وإلّا كانت دعوى فارغة غير قابلة للإذعان والقبول وهذا
ما تقتضيه الفطرة الإنسانية ، يقول الشيخ الرئيس في كلمته المشهورة : «مَن قَبِل
دعوى المدّعي بلا بيِّنة وبرهان ، فقد خرج عن الفطرة الإنسانية».
ثمّ إنّ هنا طرقاً
ثلاثة للوقوف على صدق مدّعي النبوَّة في دعواه وهي :
أ. المعجزة ؛
ب. تصديق النبيّ
السّابق نبوّة النبيّ اللاحق ؛
ج. جمع القرائن
والشّواهد من حالات المدّعي وتلامذة منهجه.
ونحن نكتفى هنا
بتبيين طريق المعجزة الّتي هي الأهمّ منها.
تعريف المعجزة
المشهور في تعريف
المعجزة أنّها : «أمر خارق للعادة ، مقرون بالتحدّي ، مع عدم المعارضة». وإليك توضيحه :
__________________
إن هناك أُموراً
تعدّ مضادّة للعقل ، كاجتماع النقيضين وارتفاعهما ، ووجود المعلول بلا علّة ونحو
ذلك ، وأُموراً أُخرى تخالف القواعد العادية ، بمعنى أنّها تعدّ محالات حسب
الأدوات والأجهزة العادية ، والمجاري الطبيعية ، ولكنّها ليست مستحيلة عقلاً لو
كان هناك أدوات أُخرى خارجة عن نطاق العادة ، وهي المسمّاة بالمعاجز ، وذلك كحركة
جسم كبير من مكان إلى مكان آخر بعيد عنه ، في فترة زمانية لا تزيد على طرفة العين
بلا تلك الوسائط العادية ، فإنّه غير ممتنع عقلاً ولكنّه محال عادة ، ومن هذا
القبيل ما يحكيه القرآن من قيام من أوتي علماً من الكتاب بإحضار عرش بلقيس ملكة
سبأ ، من بلاد اليمن إلى بلاد الشام في طرفة عين بلا توسط شيء من تلك الأجهزة
المادّية المتعارفة. فتحصّل أنّ المعجزة أمر خارق للعادة لا مضادّ للعقل.
ثمّ إنّ الإتيان
بما هو خارق للعادة لا يسمّى معجزة إلّا إذا كان مقترناً بدعوى النبوّة ، وإذا
تجرّد عنها وصدر من بعض أولياء الله تعالى يسمّى «كرامة» وذلك كحضور الرزق لمريم عليهاالسلام بلا سعي طبيعي. ولأجل ذلك كان الأُولى أن يضيفوا إلى التعريف قيد : «مع
دعوى النبوّة».
__________________
ولا يتحقّق
الإعجاز إلّا إذا عجز الناس عن القيام بمعارضة ما أتى به مدّعي النبوّة ، ويترتّب
على هذا أنّ ما يقوم به كبار الأطباء والمخترعين من الأُمور العجيبة خارج عن إطار
الإعجاز ، كما أنّ ما يقوم به السّحرة والمرتاضون من الأعمال المدهشة ، لا يعدّ
معجزاً لانتفاء هذا الشرط.
ومن شرائط كون
الإعجاز دليلاً على صدق دعوى النبوّة أن يكون فعل المدّعي مطابقاً لدعواه ، فلو
خالف ما ادّعاه لما سمّي معجزة وإن كان أمراً خارقاً للعادة ، ومن ذلك ما حصل من
مسيلمة الكذّاب عند ما ادّعى أنّه نبي ، وآية نبوّته أنّه إذا تفل في بئر قليلة
الماء ، يكثر ماؤها ، فتفل فغار جميع ماؤها.
دلالة المعجزة وقاعدة
الحسن والقبح العقليين
إنّ دلالة المعجزة
على صدق دعوى النبوّة يتوقّف على القول بالحسن والقبح العقليين ، لأنّ الإعجاز
إنّما يكون دليلاً على صدق النبوّة ، إذا قبح في العقل إظهار المعجزة على يد
الكاذب ، فإذا توقّف العقل عن إدراك قبحه واحتمل صحّة إمكان ظهوره على يد الكاذب ،
لا يقدر على التمييز بين الصادق والكاذب ، فالّذين أنكروا حكم العقل بهما ، يلزم
عليهم سدّ باب التصديق بالنبوّة من طريق الإعجاز ، قال العلّامة الحلّي :
لو كان الحسن
والقبح باعتبار السمع لا غير لما قبح من الله تعالى شيء ، ولو كان كذلك لما قبح
منه تعالى إظهار المعجزات على يد الكاذبين ، وتجويز ذلك يسدّ باب معرفة النبوّة ،
فإنّ أيّ
نبي أظهر المعجزة
عقيب ادّعاء النبوّة لا يمكن تصديقه مع تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب في دعوى
النبوّة.
المعجزة دليل برهاني
هناك من يتخيّل أن
دلالة المعجزة على صدق دعوى النبيّ ، دلالة إقناعية لا برهانية ، بحجّة أنّ الدليل
البرهاني يتوقّف على وجود رابطة منطقية بين المدّعى والدليل ، وهي غير موجودة في
المقام ، ويردّه أنّ دعوى النبوّة والرسالة من كلّ نبيّ ورسول ـ على ما يقصّه
القرآن ـ إنّما كانت بدعوى الوحي والتكليم الإلهي بلا واسطة أو بواسطة نزول ملك ،
وهذا أمر لا يساعده الحسّ ولا تؤيّده التجربة ، فإنّ الوحي والتكليم الإلهي وما
يتلوه من التشريع والتربية الدينية ممّا لا يشاهده البشر في أنفسهم ، والعادة
الجارية في الأسباب والمسبّبات تنكره ، فهو أمر خارق للعادة.
فلو كان النبيّ
صادقاً في دعواه النبوّة والوحي ، لكان لازمه أنّه متّصل بما وراء الطبيعة ،
مؤيَّد بقوَّة إلهية تقدر على خرق العادة ، فلو كان هذا حقّاً كان من الممكن أن
يصدر من النبيّ خارق آخر للعادة يصدّق النبوّة والوحي من غير مانع منه ، فإنّ حكم
الأمثال واحد ، فلئن أراد الله هداية الناس بطريق خارق للعادة وهو طريق النبوّة
والوحي ، فليؤيّدها وليصدّقها بخارق آخر وهو المعجزة.
__________________
وهذا هو الّذي بعث
الأُمم إلى سؤال المعجزة على صدق دعوى النبوّة كلّما جاءهم رسول من أنفسهم.
فوارق المعجزة لسائر
خوارق العادة
إنّ هناك جهات من
التمايز والتفارق بين المعجزة والكرامة وبين غيرهما من خوارق العادات وهي :
الجهة الأُولى من
حيث طريق الحصول عليها ، فإنّ المعجزة والكرامة وليدتان لعناية إلهية خاصة ، وليس
السّبب لهما ممّا تناله يد الدراسة والتعلّم ، ولكنّ السّحر ونحوه نتاج التعليم
والتعلّم ولها مناهج تعليمية يجب ممارستها حتّى يصل طالبها إلى النتائج المطلوبة
يقول سبحانه :
(وَاتَّبَعُوا ما
تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ
الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى
يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما
يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ).
ولمّا كان السحر
ونحوه رهن التعليم والتعلّم ، فهو متشابه في نوعه ، متّحد في جنسه ، يدور في فلك
واحد ، ولا يخرج عن نطاق ما تعلّمه أهله ولذا لا يأتون إلّا بما تدرّبوا عليه ،
بخلاف معجزة الأنبياء فإنّه على جانب عظيم من التنوّع في الكيفيّة إلى حدّ قد لا
يجد الإنسان بين المعجزات قدراً
__________________
مشتركاً وجنساً
قريباً ، كما في المعجزات الّتي يخبر بها القرآن عن موسى وعيسى عليهماالسلام بقوله تعالى :
(فَأَلْقى عَصاهُ
فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) .
وقوله تعالى : (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ
لِلنَّاظِرِينَ) .
وقوله تعالى :
(وَإِذِ اسْتَسْقى
مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ
اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) .
وقوله تعالى :
(فَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ
كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ).
وقوله سبحانه :
(وَرَسُولاً إِلى
بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ
لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً
بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ
اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) .
__________________
نعم ، الحكمة
الإلهية اقتضت أن تكون معاجز الأنبياء مناسبة للفنون الرائجة في عصورهم حتى يتسنّى
لخبراء كلّ فنٍّ تشخيص المعاجز وإدراك استنادها إلى القدرة الغيبية ، وتميّزها عن
الأعمال الباهرة المستندة إلى العلوم والفنون الرائجة.
الجهة الثانية من
حيث الأهداف والغايات ، فإنّ أصحاب المعاجز يتبنّون أهدافاً عالية ويتوسّلون
بمعاجزهم لإثبات حقّانية تلك الأهداف ونشرها ، وهي تتمثّل في الدعوة إلى الله
تعالى وحده وتخليص الإنسان عبوديّة الأصنام والحجارة والحيوانات والدعوة إلى
الفضائل ونبذ الرذائل ، واستقرار نظام العدل الاجتماعي وغير ذلك ، كما أنّ أصحاب
الكرامات أيضاً لا يتبنّون إلّا ما يكون موافقاً لرضى الله سبحانه لا غير.
وهذا بخلاف
المرتاضين والسّحرة ، فغايتهم إمّا كسب الشهرة والسّمعة بين الناس ، أو جمع المال
والثروة ، وغير ذلك ممّا يناسب متطلّبات القوى البهيميّة.
الجهة الثالثة من
حيث التقيّد بالقيم الأخلاقية ، فإنّ أصحاب المعاجز والكرامات ـ باعتبار كونهم
خرّيجي المدرسة الإلهيّة ـ متحلّون بأكمل الفضائل والأخلاق الإنسانيّة ، والمتصفّح
لسيرتهم لا يجد فيها أيّ عمل مشين ومناف للعفّة ومكارم الأخلاق ، وأمّا أصحاب
الرّياضة والسّحر ، فهم دونهم في ذلك ، بل تراهم غالباً فارغين عن المثل والفضائل
والقيم.
فبهذه الضوابط
يتمكّن الإنسان من تمييز المعجزة عن غيرها من الخوارق والنبيّ عن المرتاض
والسّاحر.
المعجزة وقانون العلّية
إنّ المعجزات لا
تعدّ نقضاً لقانون العلّية العام ، فإنّ المنفي في مورد المعجزة هو العلل المادّية
المتعارفة الّتي وقف عليها العالم الطبيعي واعتاد الإنسان على مشاهدته في حياته
ولكن لا يمتنع أن يكون للمعجزة علّة أُخرى لم يشاهدها النّاس من قبل ولم يعرفها
العلم ولم تقف عليها التجربة.
كما أنّها لا
تضعضع برهان النظم الّذي يستدل به على وجود الصانع ، وذلك لأنّ الإعجاز ليس خرقاً
لجميع النظم السائدة على العالم ، وإنّما هو خرق في جزء من أجزائه غير المتناهية
الخاضعة للنظام والدالّة ببرهان النظم على وجود الصانع.
* * *
الفصل الرابع :
حقيقة الوحي في النبوّة
الوحي في اللّغة
كما يستنبط من نصوص أهلها في معاجمهم هو الإعلام بخفاء بطريق من الطرق وقد جاء استعماله في القرآن الكريم في موارد متعدّدة
مختلفة يجمعها المعنى اللغوي حقيقة أو ادّعاء ، منها قوله سبحانه :
(وَأَوْحى فِي كُلِّ
سَماءٍ أَمْرَها) أي أودع في كلّ سماءٍ السنن والأنظمة الكونية ، وقدّر
عليها دوامها ، فإيجاد السنن والنظم في السّماوات على وجه لا يقف عليه إلّا
المتدبّر في عالم الخلقة يشبه الإلقاء والإعلام بخفاء بنحو لا يقف عليه إلّا
الملقى إليه ، وهو الوحي.
ومنها قوله سبحانه
: (وَأَوْحى رَبُّكَ
إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ
وَمِمَّا يَعْرِشُونَ.) فأطلق الوحي على ما أودع في
__________________
صميم وجود النحل
من غريزة إلهية تهديه إلى أعماله الحيويّة الخاصّة.
ومنها قوله سبحانه
: (وَأَوْحَيْنا إِلى
أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) حيث إنّ تفهيم أُمّ موسى مصير ولدها كان بإلهام وإعلام خفي
، عبّر عنه بالوحي.
ومنها قوله تعالى
في وصف زكريّا :
(فَخَرَجَ عَلى
قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً
وَعَشِيًّا) .
والمعنى : أشار
إليهم من دون أن يتكلّم ، لأمره سبحانه إيّاه أن لا يكلّم الناس ثلاث ليال سويّاً
، فأشبه فعله ، إلقاء الكلام بخفاء لكون الإشارة أمراً مبهماً.
ومنها قوله تعالى
: (وَإِنَّ الشَّياطِينَ
لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) ويعلم وجه استعمال الوحي هنا ممّا ذكرناه فيما سبقه.
وحي النبوّة
إنّ الغالب في
استعمال كلمة الوحي في القرآن هو كلام الله المنزل على نبيّ من أنبيائه ، فكلّما
أطلق الوحي وجرّد عن القرينة يراد منه ذلك ، وهذا هو الّذي نحن بصدد بيان حقيقته ،
فنقول : الوحي الّذي يختصّ به الأنبياء إدراك خاصّ متميّز عن سائر الإدراكات فإنّه
ليس نتاج الحسّ ولا
__________________
العقل ولا الغريزة
، وإنّما هو شعور خاص يوجده الله سبحانه في الأنبياء لا يغلط معه النبيّ في إدراكه
ولا يشتبه ولا يختلجه شكّ ولا يعترضه ريب في أنّ الّذي يوحي إليه هو الله سبحانه ،
من غير أن يحتاج إلى إعمال نظر أو التماس دليل ، أو إقامة حجّة. قال سبحانه : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى
قَلْبِكَ) فهذه الآية تشير إلى أنّ الّذي يتلقّى الوحي من الروح
الأمين هو نفس النبيّ الشريفة ، من غير مشاركة الحواس الظاهرة الّتي هي الأدوات
المستعملة في إدراك الأُمور الجزئية.
وعلى هذا ، فالوحي
حصيلة الاتّصال بعالم الغيب ، ولا يصحّ تحليله بأدوات المعرفة المعتادة ولا
بالأُصول الّتي تجهّز بها العلم الحديث.
ومن لم يذعن بعالم
الغيب يشكل عليه الإذعان بهذا الإدراك الّذي لا صلة له بعالم المادّة وأصوله.
فرضيّة النبوغ
قد فسّر بعض
المتجددين النبوّة بالنبوغ والوحي بلمعات ذاك النبوغ. وحاصل مذهبهم : أنّه يتميّز
بين أفراد الإنسان المتحضّر ، أشخاص يملكون فطرة سليمة وعقولاً مشرقة تهديهم إلى
ما فيه صلاح الاجتماع وسعادة الإنسان ، فيضعون قوانين فيها مصلحة المجتمع وعمران
الدنيا ، والإنسان الصالح الّذي يتميّز بهذا النوع من النبوغ هو النبيّ ، والفكر
الصالح المترشّح من مكامن عقله وومضات نبوغه هو الوحي ، والقوانين الّتي يسنّها
لصلاح
__________________
الاجتماع هو
الدّين ، والروح الأمين هو نفسه الطاهرة الّتي تفيض هذه الأفكار إلى مراكز إدراكه
، والكتاب السّماوي هو كتابه الّذي يتضمّن سننه وقوانينه.
يلاحظ
عليه أوّلاً : لو صحّت هذه النظريّة لم يبق من الاعتقاد بالغيب إلّا الإعتقاد بوجود الخالق
البارئ ، أمّا ما سوى ذلك فكلّه نتاج الفكر الإنساني الخاطئ ، وهذا في الواقع نوع
إنكار للدين.
وثانياً : أنّ
قسماً ممّا يقع به الوحي الإنباء عن الحوادث المستقبلة ، إنباءً لا يخطئ تحقّقه
أبداً ، مع أنّ النوابغ وإن سموا في الذكاء والفطنة لا يخبرون عن الحوادث
المستقبلة إلّا مع الاحتياط والتردّد ، لا بالقطع واليقين ، وعلى فرض إخبارهم كذلك
لا يكون مصوناً عن الخطأ والكذب.
وثالثاً : أنّ
حملة الوحي ومدّعي النبوّة ـ من أوّلهم إلى آخرهم ـ إنّما ينسبون تعاليمهم وسننهم
إلى الله سبحانه ولا يدّعون لأنفسهم شيئاً ، ولا يشكّ أحد في أنّ الأنبياء عباد
صالحون ، صادقون لا يكذبون ، فلو كانت السّنن الّتي أتوا بها من وحي أفكارهم ،
فلما ذا يغرّون المجتمع بنسبتها إلى الله تعالى؟
هل الوحي نتيجة تجلّي
الأحوال الروحيّة؟
زعم بعض
المستشرقين أنّ الوحي إلهام يفيض من نفس النبيّ لا
__________________
من الخارج ، وذاك
أنّ منازع نفسه العالية ، وسريرته الطاهرة ، وقوّة إيمانه بالله وبوجوب عبادته ،
وترك ما سواها من عبادة وثنية وتقاليد وراثية رديئة يكون لها من التأثير ما يتجلّى
في ذهنه ، ويحدث في عقله الباطن الرؤى والأحوال الروحية فيتصوّر ما يعتقد وجوبه ،
إرشاداً إلهياً نازلاً عليه من السّماء بدون وساطة ، أو يتمثّل له رجل يلقّنه ذلك
، يعتقد أنّه ملك من عالم الغيب ، وقد يسمعه يقول ذلك ولكنّه إنّما يرى ويسمع ما
يعتقده في اليقظة كما يرى ويسمع مثل ذلك في المنام الّذي هو مظهر من مظاهر الوحي
عند جميع الأنبياء.
يقول أصحاب هذه
النظريّة : لا نشكّ في صدق الأنبياء في إخبارهم عمّا رأوا وسمعوا ، وإنّما نقول :
إنّ منبع ذلك من نفسه وليس فيه شيء جاء من عالم الغيب الّذي يقال إنّه وراء عالم
المادّة والطبيعة.
نقد هذه النظريّة
هذه النظريّة
الّتي جاء بها بعض الغربيين وإن كانت تنطلي على السّذّج من الناس وتأخذ بينهم
رونقاً إلّا أنّ رجال التحقيق يدركون تماماً أنّها ليست بشيء جديد قابل للذكر ،
وإنّما هي تكرار لمقالات العرب الجاهليين في النبوّة والوحي ، فمن جملة افتراءاتهم
على النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله ، وصم شريعته بأنّها نتاج الأحلام العذبة الّتي كانت تراود
خاطره ، ثمّ تتجلّى على لسانه وبصره ، قال تعالى : (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ
أَحْلامٍ) .
__________________
والقرآن يردّ
مقالتهم ويركّز على أنّ الوحي أمر واقعي مفاض من الله سبحانه ، ويقول:
(وَالنَّجْمِ إِذا
هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ
إِلَّا وَحْيٌ يُوحى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) .
وكذلك يقول : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) أي لم يكذّب فؤاد محمّد صلىاللهعليهوآله ما أدركه بصره ، أي كانت رؤيته صحيحة غير كاذبة وإدراكا
حقيقياً.
وكذلك يقول : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) كناية عن صحّة رؤيته وإنّه لم يبصر ما أبصره على غير صفته
الحقيقية ولا أبصر ما لا حقيقة له.
والحاصل : أنّ
الأنبياء كانوا يعرّفون أنفسهم بأنّهم مبعوثون من جانب الله تعالى ولا شأن لهم
إلّا إبلاغ الرسالات الإلهيّة إلى الناس.
ولا ريب في أنّهم
كانوا صادقين في أقوالهم ـ كما اعترف به صاحب النظريّة ـ وعندئذ لو قلنا بأنّ ما
ذكروه غير مطابق للواقع وأنّ ما أتوا به من المعارف والشرائع لم يكن رسالات إلهية
وذكراً من جانبه سبحانه ، بل كان نابعاً من باطن ضميرهم وتجلّيات نفوسهم ، لكان
الأنبياء قاصرين في مجال المعرفة ، ما زالوا في جهل مركب ، وهذا ما لا يتفوّه به
من له أدنى معرفة
__________________
بمقالات الأنبياء
وشخصياتهم الجليلة في مجال العلم والعمل ، بل يأبى العقل والفطرة من اتّسام من
دونهم بمراتب من رجالات العلم والدّين بمثل هذا الجهل والخبط.
الوحي والشخصية الباطنة
إنّ جماعة من
الغربيّين فسّروا الوحي بما أثبتوه في أبحاثهم النفسية من الشخصيّة الباطنة لكلّ
إنسان ، وقد جرّبوا ذلك على المنوَّمين تنويماً مغناطيسياً ، فوجدوا أنّ النائم
يظهر بمظهر من الحياة الروحية لا يكون له وهو يقظان ، فيعلم الغيب ويخبر عن
البعيدين ، يبصر ويسمع ويحسّ بغير حواسه الظاهرة ويكون على جانب كبير من التعقّل
والإدراك.
قالوا : هذه الشخصيّة
هي الّتي تهدي الإنسان بالخواطر الجيّدة من خلال حجبه الجسمية الكثيفة ، وهي الّتي
تعطيه الإلهامات الطيّبة الفجائية في الظروف الحرجة ، وهي الّتي تنفث في روع
الأنبياء ما يعتبرونه وحياً من الله ، وقد تظهر له متجسّدة فيحسبونها من ملائكة
الله هبطت عليهم من السماء.
يلاحظ عليه أوّلاً
: أنّ هذه النظريّة على فرض صحتها لا دلالة لها على أنّ خصوص الوحي عند الأنبياء
من سنخ إفاضة الشخصية الباطنية وتجلّيها عند تعطّل القوى الظاهرية.
وثانياً : أنّ
الشخصيّة الباطنية للإنسان إنّما تتجلّى وتجد مجالاً للظهور
__________________
بآثارها المختلفة
، عند تعطّل القوى الظاهرية ، فلذا يقوى ظهورها في المرضى والسكارى والنائمين ،
وتبقى مندثرة ومغمورة في طوايا النفس عند ما تكون القوى الظاهرية والحواس البشرية
في حالة الفعّالية والسعي ، مع أنّ المعلوم من حالات الأنبياء أنّ الوحي الإلهي
كان ينزل عليهم في أقصى حالات تنبّههم واشتغالهم بالأُمور السياسية والدفاعية
والتبليغية ، فكيف يكون ما تجلّى للنبي وهو يخوض غمار الحرب ، تجلّياً للشخصيّة
الباطنة والضمير المخفي؟ وأين الأنبياء من الخمول والانعزال عن المجتمع؟
الفصل الخامس :
عصمة أنبياء الله تعالى
إنّ للعصمة مراتب
أو أبعاداً وهي :
١. العصمة في
تلقّي الوحي وإبلاغه ؛
٢. العصمة في
العمل بالشريعة الإلهيّة ؛
٣. العصمة عن
الخطأ في تطبيق الشريعة ؛
٤. العصمة عن
الخطأ في تشخيص مصالح الأُمور ومفاسدها ؛
٥. العصمة عن
الخطأ في الأُمور العادية ؛
٦. التنزّه عن
المنفِّرات.
والبحث عنها وعن
مسائل أُخرى متعلّقة بها هو الغرض من هذا الفصل.
العصمة في اللّغة
والاصطلاح
العصمة في اللّغة
بمعنى الإمساك والمنع وأمّا في اصطلاح
__________________
المتكلّمين
فالمشهور عند العدلية أنّها لطف من الله لا داعي معه إلى ترك الطاعة ولا إلى
ارتكاب المعصية مع القدرة عليهما وعند الأشاعرة «أن لا يخلق الله فيهم ذنباً». وقال المحقّق الجرجاني : «العصمة ملكة اجتناب المعاصى مع
التمكن منها».
أقول
: ما ذكره الشريف
هو الصحيح وما ذكره المشهور سبب إلهيّ لتحقّق العصمة ، فالحقّ أنّ العصمة ملكة
نفسانية راسخة في النفس ، تمنع الإنسان عن المعصية مطلقاً ، فهي من سنخ التقوى
لكنّها درجة قصوى منها ، فالتقوى في العاديين من الناس ، كيفية نفسانية تعصم
صاحبها عن اقتراف كثير من القبائح والمعاصي ، فهي إذا ترقّت في مدارجها وعلت في
مراتبها ، تبلغ بصاحبها درجة العصمة الكاملة والامتناع المطلق عن ارتكاب أيّ قبيح
من الأعمال ، بل يمنعه حتى التفكير في خلاف أو معصية .
عصمة الأنبياء في تلقّي
الوحي وإبلاغه
ذهب جمهور
المتكلّمين من السنّة والشيعة إلى عصمة الأنبياء في تلقّي الوحي وإبلاغه. والعصمة
في هذه المرحلة على وجهين : أحدهما : العصمة عن الكذب ، والثاني : العصمة عن الخطأ
سهواً في تلقّي الوحي
__________________
ووعيه وأدائه ،
وما سيجيء من الدليل الأوّل على إثبات العصمة عن المعصية ، يثبت عصمتهم في هذا
المجال أيضاً ، فإنّ الوثوق التام بالأنبياء لا يحصل إلّا بالإذعان البات
بمصونيتهم عن الخطأ في تلقّي الوحي وتحمّله وأدائه ، عمداً وسهواً.
أضف إلى ذلك أنّ
تجويز الخطأ في التبليغ ولو سهواً ينافي الغرض من الرسالة ، أعني : إبلاغ أحكام
الله تعالى إلى الناس.
ويدلّ على عصمة
الأنبياء في هذا المجال قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ
فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ
يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً* لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ
أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ
عَدَداً) .
إنّ الآيات تصف
طريق بلوغ الوحي إلى الرسل ، ومنهم إلى الناس بأنّه محروس بالحفظة يمنعون تطرّق
أيّ خلل وانحراف فيه ، حتى يبلغ الناس كما أُنزل من الله تعالى ، ويعلم هذا بوضوح
ممّا تذكره الآية من أن الله سبحانه يجعل بين الرسول ومن أرسل إليهم (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) وبينه ومصدر الوحي (وَمِنْ خَلْفِهِ) رصداً مراقبين هم الملائكة.
لزوم عصمة الأنبياء عن
المعاصي
إنّ الأدلّة
العقليّة على وجوب عصمة الأنبياء كثيرة نكتفي بتقرير دليلين منها :
__________________
١. الوثوق فرع العصمة
قال المحقق الطوسي
:
«ويجب في النبيّ
العصمة ليحصل الوثوق ، فيحصل الغرض». تقريره ـ كما قال العلّامة الحلّي ـ :
إنّ المبعوث إليهم
لو جوَّزوا الكذب على الأنبياء والمعصية ، جوّزوا في أمرهم ونهيهم وأفعالهم الّتي
أمروهم باتّباعهم فيها ذلك ، وحينئذٍ لا ينقادون إلى امتثال أوامرهم ، وذلك نقض
الغرض من البعثة.
وبعبارة أخرى ـ كما
قال العلّامة الطباطبائي ـ : «التبليغ يعمّ القول والفعل ، فإنّ في الفعل تبليغاً
، كما في القول ، فالرسول معصوم عن المعصية باقتراف المحرّمات وترك الواجبات
الدينيّة ، لأنّ في ذلك تبليغاً لما يناقض الدين فهو معصوم من فعل المعصية».
فإن قلت : إنّ هذا
الدليل لا يثبت أزيد من عصمة الأنبياء بعد البعثة.
قلت : لو كانت
سيرة النبيّ مخالفة لما هو عليه بعد البعثة لا يحصل الوثوق الكامل به وإن صار
إنساناً مثاليّاً ، فتحقّق الغرض الكامل من البعثة رهن عصمته في جميع فترات عمره ،
يقول السيد المرتضى في الإجابة عن هذا السؤال :
__________________
إنّا نعلم أنّ من
نجوّز عليه الكفر والكبائر في حال من الأحوال ، وإن تاب منهما ... لا نسكن إلى
قبول قوله كسكوننا إلى من لا نجوّز عليه ذلك في حال من الأحوال ولا على وجه من
الوجوه ... فليس إذاً تجويز الكبائر قبل النبوّة منخفضاً عن تجويزها في حال
النبوّة وناقصاً عن رتبته في باب التنفير.
٢. التربية رهن عمل
المربّي
إنّ الهدف العامّ
الّذي بعث لأجله الأنبياء هو تزكية الناس وتربيتهم ، ولا شكّ أنّ تأثير التربية
بالعمل أشدّ وأعمق وآكد منها عن طريق الوعظ والإرشاد ، وذلك أنّ التطابق بين
مرحلتي القول والعمل هو العامل الرئيسي في إذعان الآخرين بأحقّيّة تعاليم المصلح
والمربّي ، وهذا الأصل التربويّ يجرّنا إلى القول بأنّ التربية الكاملة المتوخّاة
من بعثة الأنبياء لا تحصل إلّا بمطابقة أعمالهم لأقوالهم ، وهذا كما يوجب العصمة
بعد البعثة ، يقتضيها قبلها أيضاً ، لأنّ لسوابق الأشخاص وصحائف أعمالهم الماضية
تأثيراً في قبول الناس كلامهم وإرشاداتهم.
__________________
عصمة الأنبياء في الكتاب
العزيز
إذا ثبتت عصمة
الأنبياء في التبليغ ، يجوز الاستناد بكلامهم في العصمة عن المعاصي ، وعلى ضوء ذلك
نقول : يصف القرآن الكريم الأنبياء بالعصمة بلطائف البيان ودقائقه ، نكتفي
بالإشارة إلى نموذج منها ، قال عزوجل ـ بعد ذكره عدّة من الأنبياء ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ
فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) .
وقال في موضع آخر
: (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ
فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) .
ثمّ بيّن أنّ
المعصية ضلالة بقوله : (وَلَقَدْ أَضَلَّ
مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً)
فإذا كان الأنبياء
مهديّين بهداية الله ، ومن هداه الله لا تتطرّق إليه الضلالة ، وكانت المعصية نفس
الضلالة ، فينتج أنّ المعصية لا سبيل لها إلى الأنبياء.
العصمة عن الخطأ في
تطبيق الشريعة والأُمور العادية
إنّ صيانة النبيّ
عن الخطأ والاشتباه في مجال تطبيق الشريعة (مثل أن يسهو في صلاته ، أو يغلط في
إجراء الحدود) والأُمور العادية المرتبطة بحياته الشخصية (مثل خطائه في مقدار دينه
للناس) ممّا طرح في علم الكلام ، وطال البحث فيه بين المتكلّمين ، فالظاهر من
الأشاعرة والمعتزلة
__________________
تجويزهم السهو على
الأنبياء في هذا المجال ، فإنّهم جوّزوه في صدور الصغائر من الذنوب ، فتجويزه في
غيره أولى ، وأمّا الإمامية ، فالصدوق وأستاذه محمّد بن الحسن بن الوليد جوّزاه ، ولكن مشهور المحقّقين على خلافه وقد ألّف غير واحد منهم كتباً ورسائل في نفي السهو عن
النبيّ ، وقد فصّل العلّامة المجلسي في البحار الكلام في المسألة ، وأطنب في بيان شذوذ الأخبار الّتي
استند إليها القائلون بالسهو ، وناقشها بأدلّة متعدّدة السيد عبد الله شُبّر في
كتابيه : «حقّ اليقين» و «مصابيح الأنوار»
والحقّ أنّ الدليل
العقلي الدالّ على لزوم عصمة النبيّ في مجال تبليغ الرسالة دالّ ـ بعينه ـ على
عصمته عن الخطأ في تطبيق الشريعة وأُموره الفردية ، فإنّ التفكيك بين صيانة النبيّ
في مجال الوحي ، وصيانته في سائر المجالات وإن كان أمراً ممكناً عقلاً ، لكنّه
كذلك بالنسبة إلى عقول الناضجين في الأبحاث الكلامية ، وأمّا عامّة الناس فإنّهم
غير قادرين على التفكيك بين تينك المرحلتين ، بل يجعلون السهو في إحداهما دليلاً
على إمكان تسرّب السهو في الأُخرى. فلا بدّ لسدِّ هذا الباب الّذي ينافي الغاية
المطلوبة من إرسال الرسل ، من أن يكون النبيّ مصوناً عن الخطأ في عامّة المراحل.
__________________
وممّا تقدّم يظهر
الحكم في عصمة الأنبياء في تشخيص مصالح الأُمور ومفاسدها ، فإنّ الملاك في لزوم
العصمة فيما تقدّم من المراتب والموارد ، موجود هنا.
التنزّه عن المنفِّرات
كما أنّ العصمة عن
الذنوب والخطأ في التبليغ وتطبيق الشريعة والأُمور العادية لازمة للأنبياء حتّى
يحصل الوثوق التام بأقوالهم وأفعالهم ويحصل بذلك الغرض من بعثتهم ، كذلك ينبغي
تنزّههم عن كلّ صفة توجب تنفّر الناس ، وتحلّيهم بكلّ ما يوجب انجذابهم إليهم ،
قال المحقّق البحراني :
ينبغى أن يكون
منزّهاً عن كلّ أمر ينفّر عن قبوله ، إمّا في خلقه كالرذائل النفسانية من الحقد
والبخل والحسد والحرص ونحوها ، أو في خلقه كالجذام والبرص ، أو في نسبه كالزنا
ودناءة الآباء ، لأنّ جميع هذه الأُمور صارف عن قبول قوله والنظر في معجزته ،
فكانت طهارته عنها من الألطاف الّتي فيها تقريب الخلق إلى طاعته واستمالة قلوبهم
إليه.
العصمة والاختيار
ربّما يتوهّم أنّ
العصمة تسلب من المعصوم الحرية والاختيار وتقهره
__________________
على ترك المعصية ،
لتكون النتيجة انتفاء كلّ مكرمة ومحمدة تنسب إليه لاجتنابه المعاصي والمآثم.
ويدفعه أنّ
المعصوم قادر على اقتراف المعاصي بمقتضى ما أُعطي من القدرة والحرية ، غير أنّ
تقواه العالية ، وعلمه بآثار المعاصي ، واستشعاره عظمة الخالق ، يصدّه عن ذلك ،
فهو كالوالد العطوف الّذي لا يقدم على ذبح ولده ولو أُعطي ملء الأرض ذهباً ، وإن
كان مع ذلك قادراً على قطع وتينه كما يقطع وتين عدوّه. يقول العلّامة الطباطبائي :
إنّ ملكة العصمة
لا تغيّر الطبيعة الإنسانية المختارة في أفعاله الإرادية ولا تخرجها إلى ساحة
الإجبار والاضطرار ، كيف والعلم من مبادئ الاختيار ، كطالب السلامة إذا أيقن بكون
مائع ما سمّاً قاتلاً من حينه ، فإنّه يمتنع باختياره من شربه.
وهذا نظير صدور
القبيح من الله سبحانه ، فإنّه ممكن بالذّات ويقع تحت إطار قدرته ، فبإمكانه تعالى
إخلاد المطيع في نار جهنّم ، لكنّه لا يصدر منه لكونه مخالفاً للحكمة ، ومبايناً
لما وعد به.
فالعصمة موهبة
تفاض على من يعلم من حاله أنّه باختياره ينتفع منها في ترك القبائح ، فيعدّ مفخرة
قابلة للتحسين والتكريم ، وقد شبّه الشيخ المفيد العصمة بالحبل الّذي يعطى للغريق
ليتشبّث به فيسلم ، فالغريق مختار في التقاط الحبل والنجاة ، أو عدمه والغرق.
__________________
الباب السادس :
في
النبوّة الخاصة
وفيه تمهيد وثلاثة
فصول :
١. الإعجاز البياني
للقرآن الكريم ؛
٢. إعجاز القرآن
من جهات أخرى ؛
٣. الخاتمية في
ضوء العقل والوحي.
تمهيد
بعد الفراغ عن
البحث حول النبوّة العامّة ، علينا أن نبحث عن النبوّة الخاصّة ، أعني : نبوة نبيّ
الإسلام محمّد بن عبد الله صلىاللهعليهوآله فنقول : ولد صلىاللهعليهوآله بمكّة عام (٥٧٠ م) وقام بالدعوة في أوائل القرن السابع
الميلادي (٦١٠ م) وأوّل ما بدأ به ، دعوة أقربائه وعشيرته ، وبعد سنوات ـ استطاع
في أثنائها هداية جمع من عشيرته ـ وجَّه دعوته إلى عموم الناس ، ثمّ استمرّ في
رسالته والناس بين مؤمن به مفاد بنفسه ونفيسه ، وعدوّ ينابذه ويتحيّن الفرص للفتك
به وقتله ، فلمّا أحسَّ بالخطر ، غادر موطنه إلى مدينة يثرب فأقام هناك سنين عشر ،
إلى أن أجاب داعي الموت وذلك في عام ٦٣٣ ميلادي. إنّ التدبر في آثار دعوته صلىاللهعليهوآله يدفع الإنسان إلى الإذعان بأنّ لها سمات وخصائص تمتاز بها
عن غيرها وهي :
١. سرعة انتشارها
في أقطار العالم الإنساني لا سيّما بين الأُمم المتحضّرة ، سرعة لم ير التاريخ لها
مثيلاً.
٢. تحفّظ الأُمة
المؤمنة على حضارات الأُمم المغلوبة والحضارات المفتوحة ، وبذلك افترقت عن سائر
الثورات البشرية ، وأصبح التمدّن الإسلامي حضارة إنسانية مكتملة الأبعاد ، وصانت
السّالف من الحضارات اليونانية والرومانية والفارسية ، والتمدّن الصناعي الحديث.
٣. تضحية
المعتنقين لدينه وتفانيهم في سبيله حتى قدَّموا كلّ دقيق وجليل ممّا يملكون في
سبيل نصرته وإعزازه.
وهناك سمات
للدّعوة المحمّدية وردت في القرآن الكريم من أهمّها عالمية الرسالة ، وخاتميتها ،
وعلى هذا فاللازم على المنصف المتحرّي للحقيقة أن يبحث عن حقيقة هذه الدعوة وصحّة
دلائلها ، وقد وقفت عند البحث عن النبوّة العامّة على أنّ للتعرّف على صدق مدّعي
النبوّة طرقاً ثلاثة ، وهي : إتيانه بالمعجز ، وتصديق النبيّ السابق وتنصيصه على
نبوّته ، والقرائن الدالّة على صدق دعواه ، ونحن نكتفى هنا ببيان طريق الإعجاز.
الفصل الأوّل :
الإعجاز البياني للقرآن الكريم
قد ضبط التاريخ
أنّه كانت لنبيّ الإسلام معاجز كثيرة في مواقف حاسمة غير أنّه كان يركّز على معجزته
الخالدة وهي القرآن الكريم ، ونحن نقتصر بالبحث عن هذه المعجزة الخالدة فنقول :
إنّ الحكمة
الإلهية اقتضت أن يكون الدّين الخالد مقروناً بالمعجزة الخالدة حتى تتمّ الحجّة
على جميع الأجيال والقرون إلى أن تقوم السّاعة : (لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) بل تكون «لله (الْحُجَّةُ
الْبالِغَةُ) على الناس في كلّ زمان ومكان.
إنّ للقرآن في
مجالي اللفظ والمعنى كيفية خاصّة يمتاز بها عن كلّ كلام سواه ، سواء أصدر من أعظم
الفصحاء والبلغاء أو من غيرهم ، وهذا هو الّذي لمسه العرب المعاصرون لعصر الرسالة
، ونحن نعيش في بدايات القرن الخامس عشر من هجرة النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وندّعي أنّ القرآن لم يزل كان معجزاً إلى الآن ، وأنّه
أرقى من أن يعارض أو يبارى ويؤتى بمثله أبداً ،
__________________
والدليل الواضح
على إعجاز القرآن في مجال الفصاحة والبلاغة أنّ العرب في عصر الرسالة وقبله كانوا
على درجة عالية من الفصاحة والبلاغة والنبيّ صلىاللهعليهوآله قد عاش بينهم أربعين سنة لم يأت بكلام يتحدّى به ، فإذا هو
ادّعى النبوة وأتى بالقرآن الكريم وتحدّى به على صدق دعواه وعجز المشركون عن
معارضته ، مع أنّهم قاموا بالمكافحة معه بكلّ ما كان في مقدرتهم ، وقد تحمّلوا
مصاعب ومصائب كثيرة في هذا المجال ، فإن كانت المعارضة مع النبيّ صلىاللهعليهوآله من طريق الإتيان بكلام يماثل القرآن في الفصاحة والبلاغة
ممكنة لهم عارضوه بذلك بلا ريب ، ولو فعلوا ذلك لنقل في التاريخ نقلا متواتراً
لكثرة الدعاوي على ذلك مع كثرة المخالفين والمعاندين للإسلام.
اعتراف بلغاء العرب
بإعجاز القرآن البياني
إنّ التاريخ قد
ضبط اعتراف مجموعة كبيرة من فصحاء العرب بهذا الأمر نشير إلى نماذج منها :
أ) الوليد بن
المغيرة : كان الوليد بن المغيرة شيخاً كبيراً ومن حكّام العرب يتحاكمون إليه في
أمورهم وينشدونه الأشعار ، فما اختاره من الشّعر كان مقدّماً مختاراً ، يروي
التاريخ أنّه سمع آيات من القرآن عند ما كان يتلوها النبيّ صلىاللهعليهوآله ولمّا سمع ذلك قام حتّى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال :
والله لقد سمعت من
محمّد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ ، وأن له لحلاوة ، وأنّ
عليه لطلاوة ، وأن أعلاه
لمثمر ، وأن أسفله
لمغدق ، وأنه ليعلو وما يعلى عليه.
ب) عتبة بن ربيعة
: سمع عتبة بن ربيعة آيات من الذكر الحكيم تلاها رسول الله صلىاللهعليهوآله عليه فرجع إلى أصحابه وقال لهم :
إنّي قد سمعت
قولاً والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ،
... فو الله ليكوننّ لقوله الّذي سمعت منه نبأ عظيم.
ج) ثلاثة من بلغاء
قريش : يحكي لنا القرآن أنّ المشركين تواصوا بترك سماع القرآن والإلغاء عند قراءته
في قوله :
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَغْلِبُونَ) .
ومع ذلك فأولئك
الّذين كانوا مبدءاً لردع الشباب عن سماع القرآن قد نقضوا عهدهم لشدّة التذاذهم من
سماعه ، فهؤلاء ثلاثة من بلغاء قريش وأشرافهم وهم : أبو سفيان بن حرب ، وأبو جهل
بن هشام ، والأخنس بن شريق ، خرجوا ليلة ليستمعوا كلام رسول الله صلىاللهعليهوآله وهو يصلّي من الليل في بيته ، فأخذ كلّ رجل منهم مجلساً
يستمع فيه ، وكلٌّ لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر
تفرّقوا ، فجمعهم الطريق فتلاقوا
__________________
وقال بعضهم لبعض :
«لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً ، ثمّ انصرفوا». ولكن عادوا في ليلتين آخرتين بمثل ذلك.
وما هذا إلّا لأنّ
القرآن كان كلاماً خلّاباً لعذوبة ألفاظه وبلاغة معانيه ، رائعاً في نظمه وأُسلوبه
، ولم يكن له نظير في أوساطهم.
د) الطفيل بن عمر
الدوسي : من الحبائل الّتي سلكها أعداء النبيّ صلىاللهعليهوآله لصدّ تأثير القرآن ، منع شخصيّات المشركين من لقاء الرسول صلىاللهعليهوآله ومن تلك الشخصيّات الطفيل ، وكان رجلاً شريفاً شاعراً
لبيباً ، فقد قدم مكّة ورسول الله بها فمشى إليه رجال من قريش وخوَّفوه من سماع
كلام النبيّ صلىاللهعليهوآله وبالغوا في ذلك ، يقول الطفيل :
فو الله ما زالوا
بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئاً ولا أُكلّمه ، حتى حشوت في أُذني حين غدوت إلى
المسجد كرسفاً ... فغدوت إلى المسجد ، فإذا رسول الله قائم يصلّي عند الكعبة ،
فقمت منه قريباً فأبى الله إلّا أن يسمعني بعض قوله فسمعت كلاماً حسناً ، فقلت في
نفسي وا ثكل أُمّي ، والله إنّي لرجل لبيب ، شاعر ، ما يخفى عليّ الحسن من القبيح
، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ، فإن كان الّذي يأتي به حسناً قبلته وإن كان
قبيحاً تركته ، فمكثت حتى انصرف رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى بيته ، فاتبعته ، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت : «يا
محمّد إنّ
__________________
قومك قد قالوا لي
كذا وكذا ، فو الله ما برحوا يخوّفونني أمرك حتّى سددت أُذني بكرسف لئلّا أسمع
قولك ، ثمّ أبى الله إلّا أن يسمعني قولك فسمعته قولاً حسناً ، فأعرض عليَّ أمرك.
قال : «فعرض عليَّ
رسول الله صلىاللهعليهوآله الإسلام وتلا عليَّ القرآن ، فلا والله ما سمعت قولاً قطّ
أحسن منه ، ولا أمراً أعدل منه ، فأسلمت وشهدت شهادة الحق».
نقد مذهب الصّرفة
الرأى السائد بين
المسلمين في إعجاز القرآن هو كونه في الطبقة العليا من الفصاحة والدرجة القصوى من
البلاغة مع ما له من النظم الفريد والأُسلوب البديع. وهناك مذهب آخر نجم في القرن
الثالث اشتهر بمذهب الصّرفة وإليه ذهب جماعة من المتكلّمين ، وأقدم من نسب إليه
هذا القول أبو إسحاق النظّام ، وتبعه أبو إسحاق النصيبي ، وعبّاد بن سليمان
الصيمري ، وهشام بن عمرو الفوطي وغيرهم من المعتزلة ، واختاره من الإمامية الشيخ
المفيد في «أوائل المقالات» وإن حكي عنه غيره ، والسيّد المرتضى في رسالة أسماها ب
«الموضح عن جهة إعجاز القرآن» والشيخ الطوسي في شرحه لجمل السيّد ، وإن رجع عنه في
كتابه «الاقتصاد» وابن سنان الخفاجي (المتوفّى ٤٦٤ ه) في كتابه «سرّ الفصاحة».
وحاصل هذا المذهب
هو أنّه ليس الإتيان بمثل القرآن من حيث
__________________
الفصاحة والبلاغة
وروعة النظم وبداعة الأُسلوب خارجاً عن طوق القدرة البشرية ، وإنّما العجز
والهزيمة في حلبة المبارزة لأمر آخر وهو حيلولته سبحانه بينهم وبين الإتيان بمثله
، فالله سبحانه لأجل إثبات التحدّي ، حال بين فصحاء العرب وبلغائهم وبين الإتيان
بمثله.
وقد أورد عليها
وجوه من النقاش والإشكال نكتفي بذكر ثلاثة منها :
الأوّل
: إنّ المتبادر من
آيات التحدّي أنّ القرآن في ذاته متعال ، حائز أرقى الميزات وكمال المعجزات حتى
يصحّ أن يقال في حقّه بأنّه :
(لَئِنِ اجْتَمَعَتِ
الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) .
الثاني : لو كان
عجز العرب عن المقابلة لطارئ مباغت أبطل قواهم البيانية ، لأُثر عنهم أنّهم حاولوا
المعارضة ففوجئوا بما ليس في حسبانهم ، ولكان ذلك مثار عجب لهم ، ولأعلنوا ذلك في
الناس ، ليلتمسوا العذر لأنفسهم وليقلّلوا من شأن القرآن في ذاته.
الثالث : لو كان
الوجه في إعجاز القرآن هو الصرفة كما زعموا ، لما كانوا مستعظمين لفصاحة القرآن ،
ولما ظهر منهم التعجب لبلاغته وحسن فصاحته كما أثر عن الوليد بن المغيرة ، فإنّ
المعلوم من حال كلّ بليغ فصيح
__________________
سمع القرآن يتلى
عليه ، أنّه يدهش عقله ويحيّر لبّه وما ذاك إلّا لما قرع مسامعهم من لطيف التأليف
وحسن مواضع التصريف في كلّ موعظة وحكاية كلّ قصَّة ، فلو كان كما زعمه أهل الصرفة
لم يكن للتعجّب من فصاحته وجه ، فلمَّا علمنا بالضرورة إعجابهم بالبلاغة ، دلَّ
على فساد هذه المقالة.
__________________
الفصل الثاني :
إعجاز القرآن من جهات أُخرى
قد تعرّفت على
الإعجاز البياني للقرآن الكريم ، غير أنّ له جهات أُخرى من الإعجاز لا يختصّ فهمها
بمن كان عارفاً باللغة العربيّة وواقفاً على فنون البلاغة في الكلام ، وهذه
العمومية في الإعجاز هي الّتي يدلّ عليها قوله تعالى :
(قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) .
فلو كان التحدّي
ببلاغة بيان القرآن وجزالة أُسلوبه فقط لم يتعدّ التحدّي العرب العرباء ، وقد قرع
بالآية أسماع الإنس والجن ، فإطلاق التحدّي على الثقلين ليس إلّا في جميع ما يمكن
فيه التفاضل في الصفات ، فالقرآن آية للبليغ في بلاغته وفصاحته ، وللحكيم في حكمته
، وللعالم في علمه ، وللمقنّنين في تقنينهم ، وللسياسيين في سياستهم ، ولجميع
العالمين فيما لا ينالونه جميعاً كالغيب وعدم الاختلاف في الحكم والعلم والبيان ،
وإليك فيما يلى بيان تلك الجهات :
__________________
١. عدم التناقض والاختلاف
ممّا تحدّى به
القرآن هو عدم وجود التناقض والاختلاف في آياته حيث قال : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ
وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) .
توضيح ذلك : أنّ
الإنسان جبل على التحوّل والتكامل ، فهو يرى نفسه في كلّ يوم أعقل من سابقه وأن ما
صنعه اليوم أكمل وأجمل ممّا أتى به الأمس ، وهناك كلمة قيّمة للكاتب الكبير عماد
الدين أبي محمّد بن حامد الأصفهاني (المتوفّى ٥٩٧ ه) يقول فيها :
إنّي رأيت أنّه لا
يكتب إنسان كتاباً في يومه ، إلّا قال في غده لو غيّر هذا لكان أحسن ، ولو زيد كذا
لكان يستحسن ، ولو قدم هذا لكان أفضل ولو ترك هذا لكان أجمل ، وهذا من أعظم العبر
، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر.
هذا من جانب. ومن
جانب آخر ، أنّ القرآن نزل نجوماً في مدّة تقرب من ثلاث وعشرين سنة في فترات
مختلفة وأحوال متفاوتة من ليل ونهار ، وحضر وسفر ، وحرب وسلم وضرّاء وسرّاء وشدّة
ورخاء ، ومن المعلوم أنّ هذه الأحوال تؤثّر في الفكر والتعقّل.
ومن جانب ثالث ،
أنّ القرآن قد تعرّض لمختلف الشئون وتوسّع
__________________
فيها أحسن التوسّع
، فبحث في الإلهيّات والأخلاقيات والسياسيات والتشريعيات والقصص وغير ذلك ، ممّا
يرجع إلى الخالق والإنسان والموجودات العلوية والسفلية.
ومع ذلك كلّه لا
تجد فيه تناقضاً واختلافاً ، أو شيئاً متباعداً عند العقل والعقلاء ، بل ينعطف
آخره على أوّله ، وترجع تفاصيله وفروعه إلى أصوله وعروقه ، إنّ مثل هذا الكتاب ،
يقضي الشعور الحيّ في حقِّه أنّ المتكلم به ليس ممّن يحكم فيه مرور الأيام ويتأثّر
بالظروف والأحوال ، فلا يكون إلّا كلاماً إلهياً ووحياً سماوياً.
ثمّ إنّ كلمة (كَثِيراً) وصف توضيحي لا احترازي ، والمعنى : لو كان من عند غير الله
لوجدوا فيه اختلافاً ، وكان ذلك الاختلاف كثيراً على حدّ الاختلاف الكثير الّذي
يوجد في كلِّ ما هو من عند غير الله ، ولا تهدف الآية إلى أنّ المرتفع عن القرآن
هو الاختلاف الكثير دون اليسير.
٢. الإخبار عن الغيب
إنّ في القرآن
إخباراً عن شئون البشر في مستقبل أدواره وأطواره ، وإخباراً بملاحم وفتن وأحداث
ستقع في مستقبل الزمن ، وهذا الإخبار إن دلَّ على شيء فإنّما يدلّ على كون القرآن
كتاباً سماوياً أوحاه سبحانه إلى أحد سفرائه الّذين ارتضاهم من البشر ، لأنّه أخبر
عن حوادث كان التكهّن والفراسة يقتضيان خلافها ، مع أنّه صدق في جميع أخباره ، ولا
يمكن حملها
__________________
على ما يحدث
بالمصادفة ، أو على كونها على غرار أخبار الكهنة والعرّافين والمنجّمين ، فإنّ
دأبهم هو التعبير عن أحداث المستقبل برموز وكنايات حتى لا يظهر كذبهم عند التخلّف
، وهذا بخلاف أخبار القرآن فإنّه ينطق عن الأحداث بحماس ومنطق قاطع ، وإليك
الأمثلة :
أ) التنبّؤ بعجز البشر
عن معارضة القرآن :
قال سبحانه :
(قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) .
وقال أيضاً :
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ
وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) .
ترى في هذه الآيات
التنبّؤ الواثق بعجز الجنّ والإنس عن معارضة القرآن عجزاً أبدياً ، وقد صدق هذا
التنبّؤ إلى الحال ، فعلى أي مصدر اعتمد النبيّ في هذا التحدّي غير الايحاء إليه
من جانبه تعالى؟
__________________
ب) التنبّؤ بانتصار
الروم على الفرس :
قال سبحانه :
(الم* غُلِبَتِ
الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ*
فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ
يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) .
ينقل التاريخ أنّ
دولة الروم ـ وكانت دولة مسيحية ـ انهزمت أمام دولة الفرس ـ وهي وثنية ـ بعد حروب
طاحنة بينهما سنة ٦١٤ م ، فاغتمّ المسلمون لكونها هزيمة لدولة إلهية أمام دولة
وثنيّة وفرح المشركون ، وقالوا للمسلمين بشماتة : إنّ الروم يشهدون أنّهم أهل كتاب
وقد غلبهم المجوس ، وأنتم تزعمون أنّكم ستغلبوننا بالكتاب الّذي أُنزل عليكم
فسنغلبكم كما غلبت الفرس الروم.
فعند ذلك نزلت هذه
الآيات الكريمات تُنبئ بأنّ هزيمة الروم هذه سيعقبها انتصار لهم في بضع سنين ، وهي
مدّة تتراوح بين ثلاث سنوات وتسع ، تُنبّئ بذلك ، وكانت المقدّمات والأسباب على
خلافه ، لأنّ الحروب الطاحنة أنهكت الدولة الرومانية حتى غزيت في عقر دارها كما
يدلّ عليه قوله : (فِي أَدْنَى
الْأَرْضِ) ، ولأنّ دولة الفرس كانت دولة قويّة منيعة ، وزادها
الانتصار الأخير قوّة ومنعة ، ولكنّ الله تعالى أنجز وعده وحقّق تنبّؤ القرآن في
بضع سنين ، فانتصر الروم سنة ٦٢٢ م.
__________________
ج) التنبّؤ بالقضاء على
العدو قبل لقائه :
قال سبحانه :
(وَإِذْ يَعِدُكُمُ
اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ
الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ
وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) .
نزلت الآية قبل
لقاء المسلمين العدوّ في ساحة المعركة ، فأخبر النبيّ صلىاللهعليهوآله عن هزيمة المشركين ، واستئصال شأفتهم ، ومحق قوتهم كما
يدلّ عليه قوله :
(وَيَقْطَعَ دابِرَ
الْكافِرِينَ.)
د) التنبّؤ بكثرة
الذرية :
قال سبحانه : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ). الكوثر هو الخير الكثير والمراد هنا بقرينة قوله : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) كثرة ذريّته صلىاللهعليهوآله فالمعنى أنّ الله تعالى يعطى نبيّه نسلاً يبقون على مرّ
الزمان.
قال الرازي :
فانظر كَمْ قتل من
أهل البيت ، ثمّ العالم ممتلئ منهم ولم يبق من بني أميّة أحد يعبأ به ، ثمّ انظر
كَمْ كان فيهم من الأكابر من العلماء
__________________
كالباقر والصادق
والكاظم والرضا والنفس الزكية وأمثالهم.
هذه نماذج من تنبّؤات
الذّكر الحكيم ، وهناك تنبّؤات أخرى لم نذكرها لرعاية الاختصار.
٣. الإخبار عن القوانين الكونية
لا شكّ أنّ الهدف
الأعلى للقرآن الكريم هو الهداية ، لكنّه ربما يتوقّف على إظهار عظمة الكون
والقوانين السائدة عليه ، ولأجل ذلك نرى أنّ القرآن أشار إلى بعض تلك القوانين
الّتي كانت مجهولة للبشر في عصر الرسالة ، وإنّما اهتدى إليها العلماء بعد قرون
متطاولة ، وهذا في الحقيقة نوع من الإخبار عن الغيب ، وإليك نماذج من ذلك :
أ) الجاذبية العامة :
يقول سبحانه : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ
بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها)
إنّ الآية تثبت
للسماوات عمداً غير مرئية ، فإذا كانت الجاذبية العامّة عمداً تمسك السماوات ـ حسب
ما اكتشفه نيوتن وهو من القوانين العلمية المسلّمة عند العلماء الطبيعيين ـ فتكون
الآية ناظرة إلى تلك القوّة وإنّما جاء القرآن بتعبير عام حتّى يفهمه الإنسان في
القرون الغابرة والحاضرة ،
__________________
وقد روى الصدوق عن
أبيه عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا عليهالسلام قال : قلت له : أخبرني عن قول الله تعالى
(رَفَعَ السَّماواتِ
بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها)؟
فقال : «سبحان
الله ، أليس يقول : (بِغَيْرِ عَمَدٍ
تَرَوْنَها)؟!»
فقلت : بلى ، فقال
: «ثمَّ عمد ولكن لا ترى».
ب) حركة الأرض :
يشير القرآن إلى
حركة الأرض بقوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ
تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي
أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ).
وقد خصّ بعض
المفسّرين الآية بيوم القيامة ، لأنّ الآية السابقة عليها راجعة إليها ، غير أنّ
هناك قرائن تدلّ على أنّ الآية ناظرة إلى نظام الدنيا وهي أنّ القيامة يوم كشف
الحقائق وحصول الاذعان واليقين فلا يناسب قوله :
(تَحْسَبُها جامِدَةً).
وأيضاً إنّ الأرض
في القيامة تبدّل غير الأرض ، والآية ناظرة إلى الوضع الموجود في الجبال ، ويشعر
بذلك كلمة الصنع في قوله :
(صُنْعَ اللهِ الَّذِي
أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ).
__________________
وأيضاً إنّ الظاهر
من قوله : (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما
تَفْعَلُونَ). هو ما يفعله الإنسان في حياته الدنيا ، فوحدة السّياق في
الأفعال المستعملة في الآية أعنى «ترى» و «تحسبها» و «تمر» و «تفعلون» قرينة على
أنّ المقصود حركة الجبال في هذا النظام الموجود ، وبما أنّ الجبال راسخة في الأرض
فحركتها تلازم حركة الأرض ، وتخصيصها بالذكر لبيان عظمة قدرته تعالى على حركة هذه
الأشياء العظيمة الثقيلة كالسحاب ، وتشبيه حركتها بالسحاب لبيان أنّ حركة الأرض
دائمة أوّلاً ، وأنّها متحقّقة بهدوء وطمأنينة ثانياً.
ج) دور الجبال في ثبات
الأرض :
القرآن الكريم
يبحث عن أسرار الجبال وفوائدها في آيات شتّى ، منها أنّها حافظة لقطعات القشرة
الأرضية ، تقيها من التفرّق والتبعثر ، كما أنّ الأوتاد والمسامير تمنع القطعات
الخشبية عن الانفصال ، يقول سبحانه :
(وَأَلْقى فِي
الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ) .
إلى غير ذلك من
الآيات ، هذا وأساتذة الفيزياء والتضاريس الأرضية يفسّرون كون الجبال أوتاداً
للأرض بشكل علمي خاصّ ، لا يقف عليه إلّا المتخصّص في تلك العلوم والمطّلع على
قواعدها.
__________________
وفي الختام نؤكّد
على ما أشرنا إليه في صدر البحث من أنّ المقصود الأعلى للقرآن هو الهداية والتزكية
وليس من شأنه تبيين قضايا العلوم الطبيعية ونحوها وإنّما يتعرّض لذلك أحياناً لأجل
الاهتداء إلى المعارف الإلهية ، وعلى ذلك فلا يصحّ لنا الإكثار في هذا النوع من الإعجاز
وتطبيق الآيات القرآنية على معطيات العلوم حتى وإن لم يكن ظاهراً فيها ، بل يجب أن
يعتمد في تفسيرها على نفس الكتاب أو الأثر المعتبر من صاحب الشريعة ومن جعلهم
قرناء الكتاب وأعداله ـ صلوات الله عليه وعليهم أجمعين ـ.
٤. الجامعيّة في التشريع
إنّ التشريع القرآني
شامل لجميع النواحي الحيويّة في حياة البشر يرفع بها حاجة الإنسان في جميع
المجالات ، من الاعتقاد والأخلاق والسياسة والاقتصاد وغيرها ، إنّ نفس وجود تلك
القوانين في جميع تلك الجوانب ، معجزة كبرى لا تقوم بها الطاقة البشريّة واللجان
الحقوقية ، خصوصاً مع اتصافها بمرونة خاصّة تجامع كلّ الحضارات والمجتمعات
البدائية والصناعية المتطورة ، يقول الإمام الباقر عليهالسلام في هذا المجال :
«إن الله تعالى لم
يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إلّا أنزله في كتابه وبيَّنه لرسوله ، وجعل لكل شيء
حدّاً ، وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه».
والدليل الواضح
على ذلك أنّ المسلمين عند ما بسطوا ظلال دولتهم
__________________
على أكثر من نصف
المعمورة ، وأُمم الأرض كانت مختلفة في جانب العادات والوقائع والأحداث ، رفعوا ـ رغم
ذلك ـ صرح الحضارة الإسلامية وأداروا المجتمع الإسلامي طيلة قرون في ظلّ الكتاب
والسنّة من غير أن يستعينوا بتشريعات أجنبيّة ، وسنرجع إلى هذا البحث عند الكلام
حول الخاتمية.
٥. أُمّيّة حامل الرسالة
إنّ صحائف تاريخ
حامل الرسالة أوضح دليل على أنّه لم يدخل مدرسة ، ولم يحضر على أحد للدراسة وتعلّم
الكتاب ، وقد صرّح بذلك القرآن بقوله :
(وَما كُنْتَ تَتْلُوا
مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ
الْمُبْطِلُونَ).
كيف وقد عاش
وتربّى في بلد كان أهله محرومين من فنون العلم والحضارة آنذاك ولذلك وصفهم القرآن
ب «الأميين» ، فبالرغم من مغالطة قساوسة الغرب والمستغربة وتشبثاتهم بمراسيل عن
مجاهيل ، وانتحالات الملاحدة في هذا الأمر ، فإنّ أُمّيّة النبيّ صلىاللهعليهوآله وقومه تموج بالشواهد الواضحة من الكتاب والتاريخ والحديث.
نعم لمّا أحسّ
فصحاء العرب وبلغاؤهم بالعجز عن معارضة القرآن
__________________
وأنّه ليس من سنخ
كلام البشر ، اتّهموه بأنّه أساطير الأوّلين تملى عليه بكرة وأصيلاً يمليها عليه
بشر ويردّه تعالى بقوله :
(لِسانُ الَّذِي
يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) .
فمن لاحظ ذاك
المعهد البسيط يذعن بأنّ من الممتنع أن يخرج منه شخصيّة فذَّة كشخصيّة النبيّ صلىاللهعليهوآله وكتاب مثل كتابه إلّا أن يكون له صلة بقدرة عظيمة مهيمنة
على الكون ، كما أنّه لو قارن القرآن فيما يبيّنه في مجال المعارف ويقصّه من قصص
الأنبياء الإلهيّين بالعهدين ، يتجلّى له أنّ القرآن لم يتأثّر في ذلك بالعهدين ،
بل ويتّضح له أنّ ما في العهدين ليس وحياً إلهياً وإنّما هي من منشئات الأحبار
والرهبان خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً فموّهوا الكتب السماوية بخرافاتهم.
وفي ذلك يقول
العلّامة الطباطبائي قدسسره :
إنّ من قرأ
العهدين وتأمّل ما فيهما ثمّ رجع إلى ما قصّه القرآن من تواريخ الأنبياء السالفين
وأُممهم رأى أنّ التاريخ غير التاريخ
__________________
والقصّة غير
القصّة ، ففيهما عثرات وخطايا لأنبياء الله الصالحين تنبو الفطرة وتنفر من أن
تنسبها إلى المتعارف من صلحاء الناس وعقلائهم ، والقرآن يبرّئهم منها.
__________________
الفصل الثالث :
الخاتمية في ضوء العقل والوحي
اتّفقت الأُمّة الإسلامية
على أنّ نبيّها محمّداً صلىاللهعليهوآله خاتم النبيّين ، وشريعته خاتمة الشرائع ، وكتابه خاتم
الكتب السماوية ، ويدلّ على ذلك نصوص من الكتاب والسنّة نشير إليها ، ثمّ نجيب عن
أسئلة حول الخاتمية.
نصّ القرآن الكريم
على أنّه خاتم النبيين بقوله : (ما كانَ مُحَمَّدٌ
أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) .
والختم هو بلوغ
آخر الشيء ، يقال : ختمت العمل وختم القارئ السورة ، والختم وهو الطبع على الشيء
فذلك من هذا الباب أيضاً ، لأنّ الطبع على الشيء لا يكون إلّا بعد بلوغ آخره. ثمّ إنّ ختم باب النبوّة يستلزم ختم باب الرسالة ، وذلك
لأنّ الرسالة هي إبلاغ ما تحمّله الرسول عن طريق الوحي ، فإذا انقطع الوحي
والاتصال بالمبدإ الأعلى فلا يبقى للرسالة موضوع. وهناك آيات أخرى تدلّ على خاتمية
الرسالة المحمّدية تصريحاً أو تلويحاً يطول المقام بذكرها.
__________________
وممّا ينصّ على
الخاتمية من الأحاديث ، حديث المنزلة المتّفق عليه بين الأُمة فقد نزّل النبيّ صلىاللهعليهوآله نفسه مكان موسى ، ونزّل عليّاً عليهالسلام مكان هارون ، وقال مخاطباً عليّاً عليهالسلام : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي».
ودلالة الحديث على
الخاتمية واضحة ، كدلالته على خلافة علي عليهالسلام للنبي صلىاللهعليهوآله بعد رحلته كما سيوافيك بيانه في باب الإمامة.
وقال علي عليهالسلام : «أرسله على حين فترة من الرسل ، وتنازع من الألسن ،
فقفّى به الرسل وختم به الوحي».
إلى غير ذلك من
النصوص المتضافرة في ذلك.
شبهة واهية
أُورد على
الخاتمية شبهات واهية غنية عن الإجابة يقف عليها كلّ من له إلمام بالكتاب والسنّة
والأدب العربي ، ولأجل إراءة وهن هذه الشبهات نأتي بما تعدّ من أقواها ، ثمّ نرجع إلى البحث حول سؤال
مهمّ حول الخاتمية ، وهي قابلة للبحث والنقاش ، أمّا الشبهة فهي :
__________________
كيف يدّعي
المسلمون انغلاق باب النبوّة والرسالة ، مع أنّ صريح كتابهم ناصّ بانفتاح بابهما
إلى يوم القيامة حيث يقول :
(يا بَنِي آدَمَ
إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ
اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) .
والجواب : أنّ
الآية تحكي خطاباً خاطب سبحانه به بني آدم في بدء الخلقة ، وفي الظرف الّذي هبط
فيه آدم إلى الأرض ، فالخطاب ليس من الخطابات المنشأة في عصر الرّسالة حتى ينافي
ختمها ، بل حكاية للخطاب الصادر بعد هبوط أبينا آدم إلى الأرض ، والشاهد على ذلك أمران :
الأوّل
: سياق الآيات
المتقدّمة على هذه الآية.
الثاني : قوله
سبحانه في موضع آخر : (قالَ اهْبِطا مِنْها
جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً
فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) .
فقوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً). يتّحد مضموناً مع قوله : (إِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي).
الخاتمية وخلود التشريع
الإسلامي
إنّ هاهنا سؤالاً
يجب علينا الإجابة عنه ، وهو أنّ توسّع الحضارة يلزم المجتمع بتنظيم قوانين جديدة
تفوق ما كان يحتاج إليها فيما مضى ، وبما أنّ
__________________
الحضارة والحاجات
في حال تزايد وتكامل ، فكيف تعالج القوانين المحدودة الواردة في الكتاب والسنّة ،
الحاجات المستحدثة غير المحدودة؟
والجواب
: أنّ خلود التشريع
الإسلامي وغناه عن كلّ تشريع مبنيّ على أُمور تالية :
١. حجيّة العقل في مجالات خاصّة
اعترف القرآن
والسنّة بحجيّة العقل في مجالات خاصّة ، ممّا يرجع إليه القضاء فيها ، وقد بيّن
مواضع ذلك في كتب أُصول الفقه ، فهناك موارد من الأحكام العقلية الكاشفة عن أحكام
شرعية ، كاستقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، الملازم لعدم ثبوت الحرمة والوجوب
إلّا بالبيان ، واستقلاله بلزوم الاجتناب عن أطراف العلم الإجمالي في الشبهات
التحريمية ، ولزوم الموافقة القطعية في الشبهات الوجوبية ، واستقلاله بإطاعة
الأوامر الظاهرية.
ومن مصاديق هذا
الأصل قاعدة الأهمّ والمهمّ.
توضيح ذلك :
يستفاد من القرآن الكريم بجلاء أنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد ، وبما
أنّ للمصالح والمفاسد درجات ومراتب ، عقد الفقهاء باباً لتزاحم الأحكام وتصادمها ،
فيقدّمون الأهم على المهمّ ، والأكثر مصلحة على الأقلّ منه ، وقد أعان فتح هذا
الباب على حلّ كثير من المشاكل الاجتماعية الّتي ربّما يتوهّم الجاهل أنّها تعرقل
خُطى المسلمين في معترك الحياة.
وبما أنّ هذا
البحث ، يرجع إلى علم أُصول الفقه نقتصر على هذا القدر ، ونختم الكلام بحديث عن
الإمام موسى بن جعفر عليهالسلام وهو يخاطب تلميذه هشام بن الحكم بقوله : «إنّ لله على
الناس حجّتين : حجَّة ظاهرة ، وحجَّة باطنة. فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء
والأئمّة ، وأمّا الباطنة فالعقول».
٢. تشريع الاجتهاد
إنّ من مواهب الله
تعالى العظيمة على الأُمة الإسلامية ، تشريع الاجتهاد ، وقد كان الاجتهاد مفتوحاً
بصورته البسيطة بين الصحابة والتابعين ، كما أنّه لم يزل مفتوحاً بين أصحاب
الائمّة الطاهرين عليهمالسلام.
وقد جنت بعض
الحكومات في المجتمعات الإسلامية حيث أقفلت باب الاجتهاد في أواسط القرن السابع وحرمت
الأُمة الإسلاميّة من هذه الموهبة العظيمة ، يقول المقريزي :
استمرّت ولاية
القضاة الأربعة من سنة ٦٦٥ ، حتّى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من
مذاهب الإسلام ، غير هذه الأربعة وعودي من تمذهب بغيرها وأنكر عليه ، ولم يولَّ
قاض ، ولا قبلت شهادة أحد ما لم يكن مقلِّداً لأحد هذه المذاهب ...
__________________
ومن بوادر الخير
أن وقف غير واحد من أهل النظر من علماء أهل السنّة وقفة موضوعية ، وأحسُّوا بلزوم
فتح هذا الباب بعد غلقه قروناً.
٣. صلاحيات الحاكم الإسلامي وشئونه
من الأسباب
الباعثة على كون التشريع الإسلامي صالحاً لحلّ المشاكل أنّه منح للحاكم الإسلامي
كافَّة الصلاحيات المؤدِّية إلى حقّ التصرّف المطلق في كلّ ما يراه ذا صلاحية
للأمَّة ، ويتمتّع بمثل ما يتمتّع به النبيّ صلىاللهعليهوآله والإمام المعصوم عليهالسلام من النفوذ المطلق ، إلّا ما يُعدّ من خصائصهما.
قال المحقّق
النائيني قدسسره :
فوِّض إلى الحاكم
الإسلامي وضع ما يراه لازماً من المقرّرات ، لمصلحة الجماعة وسدّ حاجاتها في إطار
القوانين الإسلامية.
وهناك كلمة قيّمة
للإمام الخميني قدسسره نأتي بنصّها :
إنّ الحاكم
الإسلامي إذا نجح في تأسيس حكومة إسلامية في قطر من أقطار الإسلام ، أو في مناطقه
كلِّها ، وتوفّرت فيه الشرائط والصلاحيات اللازمة ، وأخصّ بالذكر : العلم الوسيع ،
والعدل ، يجب على المسلمين إطاعته ، وله من الحقوق
__________________
والمناصب والولاية
، ما للنبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله من إعداد القوّات العسكرية ، ودعمها بالتجنيد ، وتعيين
الولاة وأخذ الضرائب ، وصرفها في محالّها ، إلى غير ذلك ....
وليس معنى ذلك أنّ
الفقهاء والحكّام الإسلاميين ، مثل النبيّ صلىاللهعليهوآله والأئمة عليهمالسلام في جميع الشئون والمقامات ، حتّى الفضائل النفسانية ،
والدرجات المعنوية ، فإنّ ذلك رأي تافه لا يركن إليه ، إذ أنّ البحث إنّما هو في
الوظائف المحوّلة إلى الحاكم الإسلامي ، والموضوعة على عاتقه ، لا في المقامات
المعنوية والفضائل النفسانية ، فإنّهم ـ صلوات الله عليهم ـ في هذا المضمار في
درجة لا يدرك شأوهم ولا يشقّ لهم غبار حسب روائع نصوصهم وكلماتهم.
٤. الأحكام الّتي لها دور التحديد
من الأسباب
الموجبة لانطباق التشريع القرآني على جميع الحضارات ، تشريعه لقوانين خاصّة ، لها
دور التحديد والرقابة بالنسبة إلى عامّة تشريعاته ، فهذه القوانين الحاكمة ، تعطي
لهذا الدين مرونة يماشي بها كلّ الأجيال والقرون.
يقول سبحانه : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ) .
__________________
ويقول سبحانه : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ
فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
ويقول سبحانه : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ.)
ويقول سبحانه : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) .
وما ورد حول النهي
عن الضرر من الآيات ، كلّها تحدّد التشريعات القرآنية بحدود الحرج والعسر والضرر ،
فلولا هذه التحديدات الحاكمة لما كانت الشريعة الإسلامية مماشية لجميع الحضارات
البشرية.
٥. الاعتدال في التشريع
من الأسباب
الموجبة لصلاح الإسلام للبقاء والخلود كون تشريعاته مبتنية على أساس الاعتدال
موافقة للفطرة الإنسانية ، فأخذت من الدنيا ما هو لصالح العباد ، ومن الآخرة مثله
، فكما ندب إلى العبادة ، ندب إلى طلب الرزق أيضاً ، بل ندب إلى ترويح النفس ،
والتخلية بينها وبين لذّاتها بوجه مشروع.
وقال الإمام علي عليهالسلام : «للمؤمن ثلاث ساعات : ساعة يناجي ربّه ، وساعة يرمُّ
فيها معاشه ، وساعة يخلّي بين نفسه ولذاتها».
__________________
الباب السابع :
في
الإمامة والخلافة
وفيه ثمانية فصول
:
١. لما ذا نبحث عن
الإمامة؟
٢. حقيقة الإمامة
عند الشيعة وأهل السنّة ؛
٣. طرق إثبات
الإمامة عند أهل السنّة ؛
٤. أدلّة وجوب
تنصيب الإمام عند الشيعة ؛
٥. وجوب العصمة في
الإمام ؛
٦. النصوص الدينية
وتنصيب علي ٧ للامامة ؛
٧. السنّة النبوية
والأئمّة الاثنا عشر ؛
٨. الإمام الثاني
عشر في الكتاب والسنّة.
الفصل الأوّل :
لما ذا نبحث عن الإمامة؟
إنّ أوّل خلاف
عظيم نجم بين المسلمين بعد ارتحال الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله هو الاختلاف في مسألة الإمامة والخلافة ، وصارت الأُمة
بذلك فرقتين ، فرقة تشايع عليّاً عليهالسلام وفرقة تشايع غيره من الخلفاء ، والبحث حول كيفية وقوع هذا
الاختلاف وعلله خارج عمّا نحن بصدده هنا ، لأنّه بحث تاريخي على كاهل علم الملل
والنحل ، والمقصود بالبحث في هذا المجال هو تحليل حقيقة الإمامة وشروطها عند
الشيعة وأهل السنّة ، على ضوء العقل والوحي والواقعيات التاريخية.
قد يقال : إنّ
البحث عن صيغة الخلافة بعد النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله يرجع لُبّه إلى أمر تاريخي قد مضى زمنه ، وهو أنّ الخليفة
بعد النبيّ هل هو الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام أو أبو بكر ، وما ذا يفيد المؤمنين البحث حول هذا الأمر
الّذي لا يرجع إليهم بشيء في حياتهم الحاضرة ، أو ليس من الحريّ ترك هذا البحث
حفظا للوحدة؟
والجواب أنّه لا
شكّ أنّ من واجب المسلم الحرّ السعي وراء الوحدة ، ولكن ليس معنى ذلك ترك البحث
رأساً ، فإنّه إذا كان البحث نزيهاً موضوعياً
يكون مؤثّراً في
توحيد الصفوف وتقريب الخطى ، إذ عندئذٍ تتعرّف كلّ طائفة على ما لدى الأُخرى من
العقائد والأُصول ، وبالتالي تكون الطائفتان متقاربتين ، وهذا بخلاف ما إذا تركنا
البحث مخافة الفرقة فإنّه يثير سوء الظن من كلّ طائفة بالنسبة إلى أختها في مجال
العقائد فربّما تتصوّرها طائفة أجنبية عن الإسلام ، هذا أوّلاً.
وثانياً : أنّ
لمسألة الخلافة بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله بُعدين : أحدهما تاريخي مضى عصره ، والآخر بُعد ديني باق
أثره إلى يومنا هذا ، وسيبقى بعد ذلك ، وهو أنّه إذا دلّت الأدلّة على تنصيب علي عليهالسلام على الولاية والخلافة بالمعنى الّذي تتبنّاه الإمامية يكون
الإمام وراء كونه زعيماً في ذلك العصر ، مرجعاً في رفع المشاكل الّتي خلّفتها رحلة
النبيّ صلىاللهعليهوآله ، كما سيوافيك بيانها ، فيجب على المسلمين الرجوع إليه في
تفسير القرآن وتبيينه ، وفي مجال الموضوعات المستجدة الّتي لم يرد فيها النصّ في
الكتاب والسنّة ، فليس البحث متلخّصاً في البعد السياسي حتى نشطب عليه بدعوى أنّه
مضى ما مضى ، بل له مجال أو مجالات باقية.
ولو كان البحث
بعنوان الإمامة والخلافة مثيراً للخلاف ولكن للبحث صورة أُخرى نزيه عنه ، وهو
البحث عن المرجع العلمي للمسلمين بعد رحلة النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله في مسائلهم ومشاكلهم العلمية ، وهل قام النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله بنصب شخص أو طائفة على ذلك المقام أو لا؟ والبحث بهذه
الصورة لا يثير شيئاً.
والشيعة تدّعي أنّ
السنّة النبويّة أكَّدت على مرجعية أهل البيت عليهمالسلام في
العقائد والمسائل
الدينية ، وراء الزعامة السياسية المحدَّدة بوقت خاصّ ومن أوضحها حديث الثقلين
المتواتر عند الفريقين ولا يشكّ في صحّته إلّا الجاهل به أو المعاند ، فقد روي
بطرق كثيرة عن نيّف وعشرين صحابياً. روى أصحاب الصحاح والمسانيد عن النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله أنّه قال :
«يا أيّها الناس
إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي».
وقال في موضع آخر
:
«إنّي تركت فيكم
ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا ، كتاب الله حبل ممدود من السّماء إلى الأرض ، وعترتي
أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما».
وغير ذلك من
النصوص المتقاربة.
إنّ الإمعان في
الحديث يعرب عن عصمة العترة الطاهرة ، حيث قورنت بالقرآن الكريم وأنّهما لا
يفترقان ، ومن المعلوم أنّ القرآن الكريم كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
خلفه ، فكيف يمكن أن يكون قرناء القرآن وأعداله خاطئين فيما يحكمون ، أو يقولون
ويحدِّثون.
__________________
أضف إلى ذلك أنّ
الحديث ، يعدّ المتمسّك بالعترة غير ضالٍّ ، فلو كانوا غير معصومين من الخلاف
والخطأ فكيف لا يضلُّ المتمسك بهم؟
كما أنّه يدلُّ
على أنّ الاهتداء بالكتاب والوقوف على معارفه وأسراره يحتاج إلى معلّم خبير لا
يخطأ في فهم حقائقه وتبيين معارفه ، وليس ذلك إلّا من جعلهم النبيّ صلىاللهعليهوآله قرناء الكتاب إلى يوم القيامة وهم العترة الطاهرة ، وقد
شبَّههم في حديث آخر بسفينة نوح في أنّ من لجأ إليهم في الدين وأخذ أُصوله وفروعه
عنهم نجا من عذاب النار ، ومن تخلَّف عنهم كمن تخلّف يوم الطوفان عن سفينة نوح
وأدركه الغرق.
__________________
الفصل
الثاني :
حقيقة الإمامة عند الشيعة وأهل السنّة
الإمام في اللّغة
هو الّذي يؤتمُّ به إنساناً كان أو كتاباً أو غير ذلك ، محقّاً كان أو مبطلاً
وجمعه أئمّة. وقوله تعالى :
(يَوْمَ نَدْعُوا
كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) أي بالّذي يقتدون به ، وقيل بكتابهم.
وعرّف المتكلّمون
الإمامة بوجوه :
١. الإمامة رئاسة
عامّة في أُمور الدين والدنيا ؛
٢. الإمامة خلافة
الرسول في إقامة الدين ، بحيث يجب اتّباعه على كافّة الأمّة ؛
٣. الإمامة خلافة
عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا ؛
__________________
٤. الإمامة رئاسة
عامّة دينية مشتملة على ترغيب عموم الناس في حفظ مصالحهم الدينية والدنياوية ،
وزجرهم عمّا يضرّهم بحسبها.
واتّفقت كلمة أهل
السنّة ، أو أكثرهم ، على أنّ الإمامة من فروع الدين.
قال الغزالى : «اعلم
أنّ النظر في الإمامة ليس من فنّ المعقولات ، بل من الفقهيّات».
وقال الآمدي : «واعلم
أنّ الكلام في الإمامة ليس من أصول الديانات».
وقال الإيجي : «ومباحثها
عندنا من الفروع ، وإنّما ذكرناها في علم الكلام تأسّياً بمن قبلنا».
وقال ابن خلدون : «وقصارى
أمر الإمامة إنّها قضية مصلحية إجماعية ولا تلحق بالعقائد».
وقال التفتازاني :
«لا نزاع في أن مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق ...».
وأمّا الشيعة
الإمامية ، فينظرون إلى الإمامة كمسألة أصولية كلاميّة ، وزانها وزان النبوّة ،
سوى تلقّي الوحي التشريعي والإتيان بالشريعة ، فإنّها
__________________
مختومة بارتحال
النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله ، فمسألة الإمامة تكون من المسائل الجذرية الأصليّة.
مؤهِّلات الإمام وصفاته
اختلفت كلمات أهل
السنّة في ما يشترط في الإمام من الصفات ، فمنهم من قال إنّها أربع ، هي : العلم ، والعدالة ، والمعرفة
بوجوه السّياسة وحسن التدبير ، وأن يكون نسبه من قريش ، وزاد بعضهم عليها سلامة الحواسّ والأعضاء والشجاعة ، وبعض آخر البلوغ والرجولية ، قال الإيجي :
الجمهور على أنّ
أهل الإمامة : مجتهد في الأُصول والفروع ليقوم بأُمور الدين ، ذو رأي ليقوم بأمور
الملك ، شجاع ليقوى على الذبّ عن الحوزة ، وقيل : لا يشترط هذه الصفات ، لأنّها لا
توجد ، فيكون اشتراطها عبثاً أو تكليفاً بما لا يطاق ومستلزماً للمفاسد الّتي يمكن
دفعها بنصب فاقدها ، نعم يجب أن يكون عدلاً لئلّا يجور ، عاقلاً ليصلح للتصرّفات ،
بالغاً لقصور عقل
__________________
الصبي ، ذكراً إذ
النساء ناقصات عقل ودين ، حُرّاً لئلّا يشغله خدمة السيّد ولئلّا يحتقر فيعصى.
يلاحظ على هذه
الشروط
أوّلاً
: أنّ اختلافهم في
عددها ناش من افتقادهم لنصٍّ شرعي في مجال الإمامة ، وإنّما الموجود عندهم نصوص
كلّية لا تتكفّل بتعيين هذه الشروط ، والمصدر لها عندهم هو الاستحسان والاعتبارات
العقلائية في ذلك ، وهذا ممّا يقضى منه العجب ، فكيف ترك النبيّ صلىاللهعليهوآله بيان هذا الأمر المهمّ شرطاً وصفة ، مع أنّه بيّن أبسط
الأشياء وأدناها من المكروهات والمستحبات؟!
وثانياً
: أنّ اعتبار
العدالة لا ينسجم مع ما ذهبوا إليه من أنّ الإمام لا ينخلع بفسقه وظلمه ، قال
الباقلاني :
لا ينخلع الإمام
بفسقه وظلمه بغصب الأموال وتضييع الحقوق وتعطيل الحدود ، ولا يجب الخروج عليه ، بل
يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته في شيء ممّا يدعو إليه من معاصى الله.
وثالثاً : أنّ
التاريخ الإسلامي يشهد بأنّ الخلفاء بعد علي عليهالسلام كانوا يفقدون أكثر هذه الصلاحيات ومع ذلك مارسوا الخلافة.
__________________
وأمّا الشيعة
الإمامية فبما أنّهم ينظرون إلى الإمامة بأنّها استمرار لوظائف الرسالة ـ كما
تقدّم ـ يعتبرون في الإمام توفّر صلاحيات عالية لا ينالها الفرد إلّا إذا وقع تحت
عناية إلهيّة خاصّة ، فهو يخلف النبيّ صلىاللهعليهوآله في العلم والعصمة والقيادة الحكمية وغير ذلك من الشئون ،
قال المحقّق البحراني :
إنّا لمّا بيَّنّا
أنّه يجب أن يكون الإمام معصوماً وجب أن يكون مستجمعاً لأصول الكمالات النفسانية ،
وهي العلم والعفّة والشجاعة والعدالة ... ويجب أن يكون أفضل الأُمة في كلّ ما يعدّ
كمالاً نفسانياً ، لأنّه مقدَّم عليهم ، والمقدَّم يجب أن يكون أفضل ، لأنّ تقديم
الناقص على من هو أكمل منه قبيح عقلاً ، ويجب أن يكون متبرئاً من جميع العيوب
المنفِّرة في خلقته من الأمراض كالجذام والبرص ونحوهما ، وفي نسبه وأصله كالزنا
والدناءة ، لأنّ الطهارة من ذلك تجري مجرى الألطاف المقرِّبة للخلق إلى قبول قوله
وتمكّنه ، فيجب كونه كذلك.
__________________
الفصل الثالث :
طرق إثبات الإمامة عند أهل السنّة
الطريق لإثبات
الإمامة عند الشيعة الإمامية منحصرة في النصّ من النبيّ صلىاللهعليهوآله والإمام السابق ، وسيوافيك الكلام فيه في الفصل القادم.
وأمّا عند أهل
السنّة فلا ينحصر بذلك ، بل يثبت أيضاً ببيعة أهل الحلّ والعقد ، قال الإيجي :
المقصد الثالث
فيما تثبت به الإمامة ، وإنّها تثبت بالنصّ من الرسول ومن الإمام السابق بالإجماع
وتثبت ببيعة أهل الحلّ والعقد خلافاً للشيعة ، لنا ثبوت إمامة أبي بكر بالبيعة.
ثمّ إنّهم اختلفوا
في عدد من تنعقد به الإمامة على أقوال ، قال الماوردي (المتوفّي ٤٥٠ ه) :
اختلف العلماء في عدد
من تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتّى : فقالت طائفة : لا تنعقد إلّا بجمهور
أهل الحلّ والعقد من كلّ بلد ليكون الرضا به عامّاً ، والتسليم لإمامته إجماعاً ،
وهذا
__________________
مذهب مدفوع ببيعة
أبي بكر على الخلافة باختيار من حضرها ، ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها.
وقالت طائفة أُخرى
: أقلّ ما تنعقد به منهم الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضا
الأربعة ، استدلالاً بأمرين :
أحدهما : أنّ بيعة
أبي بكر انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ثمَّ تابعهم الناس فيها ، وهم : عمر بن الخطاب
، وأبو عبيدة بن الجراح ، وأسيد بن خضير ، وبشر بن سعد ، وسالم مولى أبي حذيفة.
والثاني : أنّ عمر
جعل الشورى في ستّة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة ، وهذا قول أكثر الفقهاء ،
والمتكلّمين من أهل البصرة.
وقال آخرون من
علماء الكوفة : تنعقد بثلاثة يتولّاها أحدهم برضا الاثنين ليكونوا حاكماً وشاهدين
، كما يصحّ عقد النكاح بولي وشاهدين.
وقالت طائفة أخرى
: تنعقد بواحد ، لأنّ العباس قال لعلي : امدد يدك أبايعك ، فيقول الناس عمّ رسول
الله صلىاللهعليهوآله بايع ابن عمِّه فلا يختلف عليك اثنان ، ولأنّه حكم وحكم
واحد نافذ».
__________________
يلاحظ على هذه
الأقوال والنظريات
أوّلاً
: أنّ موقف أصحابها
موقف من اعتقد بصحّة خلافة الخلفاء ، فاستدلّ به على ما يرتئيه من الرأي ، وهذا ،
استدلال على المدّعى بنفسها ، وهو دور واضح.
وثانياً
: أنّ هذا الاختلاف
الفاحش في كيفية عقد الإمامة ، يعرب عن بطلان نفس الأصل ، لأنّه إذا كانت الإمامة
مفوَّضة إلى الأُمّة ، كان على النبيّ صلىاللهعليهوآله بيان تفاصيلها وطريق انعقادها ، وليس عقد الإمام لرجل أقلّ
من عقد النكاح بين الزوجين الّذي اهتمّ القرآن والسنّة ببيانه وتحديده ، والعجب
أنّ عقد الإمامة الّذي تتوقّف عليه حياة الأُمّة ، لم يطرح في النصوص ـ على زعم
القوم ـ ولم يتبيّن حدوده وشرائطه.
والعجب من هؤلاء
الأعلام كيف سكتوا عن الاعتراضات الهائلة الّتي توجّهت من نفس الصحابة من الأنصار
والمهاجرين على خلافة الخلفاء الّذين تمَّت بيعتهم ببيعة الخمسة في السقيفة ، أو
بيعة أبي بكر لعمر ، أو بشورى الستّة ، فإنّ من كان ملِمّاً بالتاريخ ، يرى كيف
كانت عقيرة كثير من الصحابة مرتفعة بالاعتراض ، حتى أنّ الزبير وقف في السقيفة
أمام المبايعين وقد اخترط سيفه وهو يقول :
«لا أغمده حتى
يبايع عليّ ، فقال عمر : عليكم الكلب فأخذ سيفه من يده ، وضرب به الحجر وكسر».
__________________
هل الشورى أساس الحكم
والخلافة؟
قد حاول
المتجدّدون من متكلّمي أهل السنّة ، صبَّ صيغة الحكومة الإسلامية على أساس المشورة
بجعله بمنزلة الاستفتاء الشعبي واستدلّوا على ذلك بآيتين :
الآية
الأُولى : قوله سبحانه : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا
عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ).
فالله سبحانه أمر
نبيّه بالمشاورة تعليماً للأُمّة حتى يشاوروا في مهامّ الأُمور ومنها الخلافة.
يلاحظ
عليه : أوّلاً : أنّ الخطاب في الآية متوجّه إلى الحاكم الّذي استقرّت حكومته ، فيأمره سبحانه
أن ينتفع من آراء رعيته ، فأقصى ما يمكن التجاوز به عن الآية هو أنّ من وظائف كلّ
الحكام التشاور مع الأُمّة ، وأمّا أنّ الخلافة بنفس الشورى ، فلا يمكن الاستدلال
عليه بها.
وثانياً
: أنّ المتبادر من
الآية هو أنّ التشاور لا يوجب حكماً للحاكم ، ولا يلزمه بشيء ، بل هو يقلّب وجوه
الرأي ويستعرض الأفكار المختلفة ، ثمّ يأخذ بما هو المفيد في نظره ، حيث قال تعالى
: (فَإِذا عَزَمْتَ
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ).
__________________
كلّ ذلك يعرب عن
أنّ الآية ترجع إلى غير مسألة الخلافة والحكومة ، ولأجل ذلك لم نر أحداً من
الحاضرين في السقيفة احتجّ بهذه الآية.
الآية الثانية :
قوله سبحانه :
(وَالَّذِينَ
اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).
ببيان أنّ كلمة «أمر»
أضيفت إلى ضمير «هم» وهو يفيد العموم لكلّ أمر ومنه الخلافة ، فيعود معنى الآية :
إنّ شأن المؤمنين في كلّ مورد شورى بينهم.
يلاحظ
عليه : أنّ الآية حثَّت
على الشورى فيما يمت إلى شئون المؤمنين بصلة ، لا فيما هو خارج عن حوزة أمورهم ،
وكون تعيين الإمام داخلاً في أُمورهم فهو أوّل الكلام ، إذ لا ندري ـ على الفرض ـ هل
هو من شئونهم أو من شئون الله سبحانه؟ ولا ندري ، هل هي إمرة وولاية إلهيّة تتمّ
بنصبه سبحانه وتعيينه ، أو إمرة وولاية شعبيّة يجوز للناس التدخّل فيها؟
فإن قلت : لو لم
تكن الشورى أساس الحكم ، فلما ذا استدلّ بها الإمام علي عليهالسلام على المخالف ، وقال مخاطباً لمعاوية : «إنّه بايعني القوم
الّذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه»؟
قلت : الاستدلال
بالشورى كان من باب الجدل حيث بدأ رسالته بقوله :
__________________
«أمّا بعد ، فإنّ
بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام ، لأنّه بايعني الّذين بايعوا أبا بكر وعمر ...».
ثمّ ختمها بقوله :
«فادخل فيما دخل فيه المسلمون».
فالابتداء بالكلام
بخلافة الشيخين يعرب عن أنّه في مقام إلزام معاوية الّذي يعتبر البيعة وجهاً
شرعياً للخلافة ، ولو لا ذلك لما كان وجه لذكر خلافة الشيخين ، بل لاستدلّ بنفس
الشورى. ولو كان الإمام عليّ عليهالسلام يرى أنّ الشورى أساس ومصدر شرعي للخلافة لم يطعن في خلافة الخلفاء
الثلاثة قبله وكلماته عليهالسلام في الخطبة الشقشقيّة وغيرها تدلّ على أنّ خلافتهم لم تكن
مشروعة. وأنّه عليهالسلام إنّما لم يقم بالمعارضة أو وافقهم في شئون الحكومة في
الجملة قياماً بمصالح الإسلام والمسلمين.
تصوّر النبيّ الأكرم
للقيادة بعده
إنّ الكلمات
المأثورة عن الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله ، تدلّ على أنّه صلىاللهعليهوآله كان يعتبر أمر القيادة بعده مسألة إلهيّة وحقّاً خاصّاً
لله جلّ جلاله ، فإنّه صلىاللهعليهوآله لمّا دعا بني عامر إلى الإسلام وقد جاءوا في موسم الحج إلى
مكّة ، قال رئيسهم : أرأيت أنّ نحن بايعناك على أمرك ، ثمّ أظهرك الله على من
خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك؟
__________________
فأجابه صلىاللهعليهوآله بقوله : «الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء».
فلو كان أمر
الخلافة بيد الأُمة لكان عليه صلىاللهعليهوآله أن يقول الأمر إلى الأُمّة ، أو إلى أهل الحلّ والعقد ، أو
ما يشابه ذلك ، فتفويض أمر الخلافة إلى الله سبحانه ظاهر في كونها كالنبوّة يضعها
سبحانه حيث يشاء ، قال تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ
حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) فاللسان في موردين واحد.
أضف إلى ذلك أنّ
هناك نصوصاً تشير إلى ما في مرتكز العقل ، من أنّ ترك الأُمّة بلا قائد وإمام قبيح
على من بيده زمام الأمر ، هذه عائشة تقول لعبد الله بن عمر : «يا بُنيّ أبلغ عمر
سلامي وقل له ، لا تدع أُمّة محمّد بلا راع».
وإنّما قالت ذلك
عند ما اغتيل عمر وأحسّ بالموت ، وأرسل ابنه إلى عائشة ليستأذن منها أن يدفن في
بيتها مع رسول الله صلىاللهعليهوآله ومع أبي بكر.
وهذا عبد الله بن
عمر يقول لأبيه : «إنّي سمعت الناس يقولون مقالة ، فآليت أن أقولها لك ، وزعموا
أنّك غير مستخلف ، وأنّه لو كان لك راعي إبل أو غنم ثمّ جاءك وتركها ، لرأيت أن قد
ضيّع ، فرعاية الناس أشدّ».
وبذلك استصوب
معاوية أخذه البيعة من الناس لابنه يزيد وقال : «إنّي كرهت أن أدع أمّة محمّد بعدي
كالضأن لا راعي لها».
__________________
فإذا كان ترك
الأُمّة بلا راع ، أمراً غير صحيح في منطق العقل ، فكيف يجوز لهؤلاء أن ينسبوا إلى
النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه ترك الأُمة بلا راع؟! فكأنَّ هؤلاء كانوا أعطف على
الأُمّة من النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله ، إنّ هذا ممّا يقضى منه العجب.
الفصل الرابع :
أدلة وجوب النصّ في الإمامة
عند الشيعة الإمامية
إنّ الإمامة عند
الشيعة تختلف في حقيقتها عما لدى أهل السنّة ، فهي إمرة إلهية واستمرار لوظائف
النبوّة كلّها سوى تحمّل الوحي الإلهى ، ومقتضى هذا اتّصاف الإمام بالشروط
المشترطة في النبيّ ، سوى كونه طرفاً للوحي التشريعي ، وبناءً على هذا ينحصر طريق
ثبوت الإمامة بتنصيص من الله وتنصيب من النبيّ صلىاللهعليهوآله أو الإمام السابق ، وإليك فيما يلي براهين هذا الأصل :
أ) الفراغات الهائلة بعد
النبيّ صلىاللهعليهوآله في مجالات أربعة
إنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله لم تكن مسئوليّاته وأعماله مقتصرة على تلقّي الوحي الإلهي
وتبليغه إلى الناس ، بل كان يقوم بالأُمور التالية أيضاً :
١. يفسّر الكتاب
العزيز ويشرح مقاصده ويكشف أسراره ، يقول سبحانه :
(وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)؛
٢. يحكم بين الناس
فيما يحدث بينهم من الاختلافات والمنازعات. قال سبحانه : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ
بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ
لِلْخائِنِينَ خَصِيماً)؛
٣. يبيّن أحكام
الموضوعات الّتي كانت تحدث في زمن دعوته ؛
٤. يدفع الشبهات
ويجيب عن التساؤلات العويصة المريبة الّتي كان يثيرها أعداء الإسلام من يهود
ونصارى ؛
٥. يصون الدّين من
التحريف والدسِّ ويراقب ما أخذه عنه المسلمون من أصول وفروع حتى لا تزلّ فيه
أقدامهم.
هذه هي الأُمور
الّتي مارسها النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله أيّام حياته ، ومن المعلوم أنّ رحلته تخلّف فراغاً هائلاً
في هذه المجالات الخمسة ، فيكون التشريع الإسلامي حينئذٍ أمام محتملات ثلاثة :
الأوّل : أن لا
يبدي الشارع اهتماماً بسدِّ هذه الفراغات الهائلة الّتي ستحدث بعد الرسول. وهذا
الاحتمال ساقط جدّاً ، لا يحتاج إلى البحث ، فإنّه لا ينسجم مع غرض البعثة ، فإنّ
في ترك هذه الفراغات ضياعاً للدّين والشريعة.
الثاني
: أن تكون الأُمة
قد بلغت بفضل جهود صاحب الدعوة في
__________________
إعدادها حدّاً
تقدر معه بنفسها على سدِّ ذلك الفراغ ، غير أنّ التاريخ والمحاسبات الاجتماعية
يبطلان هذا الاحتمال ويثبتان أنّه لم يقدر للأمّة بلوغ تلك الذروة لتقوم بسدّ هذه
الثغرات الّتي خلّفها غياب النبيّ الأكرم ، لا في جانب التفسير ولا في جانب فصل
الخصومات ، ولا في جانب ردّ التشكيكات ودفع الشبهات ، ولا في جانب صيانة الدّين عن
الانحراف.
أمّا في جانب
التفسير ، فيكفي وجود الاختلاف الفاحش في تفسير آيات الذكر الحكيم حتّى فيما يرجع
إلى عمل المسلمين يوماً وليلة.
وأمّا في جانب
القضاء في الاختلافات والمنازعات فيشهد بذلك عجز الخلفاء والصحابة عن ذلك في كثير
من الموارد ، سوى الإمام علي عليهالسلام حيث كان مدينة علم النبيّ صلىاللهعليهوآله وأقضاهم بنصّ خاتم الرسالة صلىاللهعليهوآله.
وأمّا في مجال
الأحكام ، فيكفي في ذلك الوقوف على أنّ بيان الأحكام الدينية حصل تدريجاً على ما
تقتضيه الحوادث والحاجات الاجتماعية في عهد الرسول صلىاللهعليهوآله ، ومن المعلوم أنّ هذا النمط كان مستمرّاً بعد الرسول ،
غير أنّ ما ورثه المسلمون منه صلىاللهعليهوآله لم يكن كافياً للإجابة عن ذلك ، أمّا الآيات القرآنية في
مجال الأحكام فهي لا تتجاوز ثلاثمائة آية ، وأمّا الأحاديث في هذا المجال ، فالّذي
ورثته الأمّة لا تتجاوز خمسمائة حديث ، وهذا القدر لا يفي بالإجابة على جميع
الموضوعات المستجدّة.
ولا نعني من ذلك
أنّ الشريعة الإسلامية ناقصة في إيفاء أغراضها التشريعية وشمول المواضيع المستجدّة
، بل المقصود أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله كان
يراعي في إبلاغ
الحكم حاجة الناس ومقتضيات الظروف الزمنية ، فلا بدّ في إيفاء غرض التشريع على وجه
يشمل المواضيع المستجدّة والمسائل المستحدثة أن يستودع أحكام الشريعة من يخلفه
ويقوم مقامه.
وأمّا في مجال ردّ
الشبهات والتشكيكات وإجابة التساؤلات ، فقد حصل فراغ هائل بعد رحلة النبيّ من هذه
الناحية ، فجاءت اليهود والنصارى تترى ، يطرحون الأسئلة ، حول أُصول الإسلام
وفروعه ، ولم يكن في وسع الخلفاء آنذاك الإجابة الصحيحة عنها ، كما يشهد بذلك
التاريخ الموجود بأيدينا.
وأمّا في جانب
صيانة المسلمين عن التفرقة ، والدّين عن الانحراف ، فقد كانت الأُمّة الإسلامية في
أشدّ الحاجة إلى من يصون دينها عن التحريف وأبناءها عن الاختلاف ، فإنّ التاريخ
يشهد على دخول جماعات عديدة من أحبار اليهود ورهبان النصارى ومؤبدي المجوس بين
المسلمين ، فراحوا يدسّون الأحاديث الإسرائيلية والأساطير النصرانية والخرافات
المجوسية بينهم ، ويكفي في ذلك أن يذكر الإنسان ما كابده البخاري من مشاقّ وأسفار
في مختلف أقطار الدولة الإسلامية ، وما رواه بعد ذلك ، فإنّه ألفى الأحاديث
المتداولة بين المحدّثين في الأقطار الإسلامية ، تربو على ستمائة ألف حديث ، لم
يصحّ لديه منها أكثر من أربعة آلاف ، وكذلك كان شأن سائر الّذين جمعوا الأحاديث
وكثير من هذه الأحاديث الّتي صحّت عندهم كانت موضع نقد وتمحيص عند غيرهم.
__________________
هذا البحث الضافي
يثبت حقيقة ناصعة ، وهي عدم تمكّن الأُمّة ، مع ما لها من الفضل ، من القيام بسدِّ
الفراغات الهائلة الّتي خلّفتها رحلة النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله ويبطل بذلك الاحتمال الثاني تجاه التشريع الإسلامي بعد عصر
الرسالة.
الاحتمال
الثالث : أن يستودع صاحب
الدعوة ، كلّ ما تلقّاه من المعارف والأحكام بالوحي ، وكلّ ما ستحتاج إليه الأُمّة
بعده ، شخصيّة مثالية ، لها كفاءة تقبُّل هذه المعارف والأحكام وتحمّلها ، فتقوم
هي بسدّ هذا الفراغ بعد رحلته صلىاللهعليهوآله. وبعد بطلان الاحتمالين الأوّلين لا مناص من تعيُّن هذا
الاحتمال ، فإنّ وجود إنسان مثالي كالنبيّ في المؤهّلات ، عارف بالشريعة ومعارف
الدين ، ضمان لتكامل المجتمع ، وخطوة ضرورية في سبيل ارتقائه الروحي والمعنوي ،
فهل يسوغ على الله سبحانه أن يهمل هذا الأمر الضروري في حياة الإنسان الدينية؟
إن الله سبحانه
جهّز الإنسان بأجهزة ضرورية فيما يحتاج إليها في حياته الدنيوية الماديّة ، ومع
ذلك كيف يعقل إهمال هذا العنصر الرئيسي في حياته المعنوية والدينية؟! وما أجمل ما
قاله أئمّة أهل البيت في فلسفة وجود هذا الخلف ومدى تأثيره في تكامل الأُمّة.
قال الإمام علي عليهالسلام : «اللهمّ بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة ، إمّا
ظاهراً مشهوراً ، وإمّا خائفاً مغموراً ، لئلّا تبطل حجج الله وبيّناته».
__________________
وقال الإمام
الصادق عليهالسلام : «إنّ الأرض لا تخلو إلّا وفيها إمام ، كيما إن زاد
المؤمنون شيئاً ردَّهم ، وإذا نقصوا شيئاً أتمّه لهم».
هذه المأثورات من
أئمّة أهل البيت عليهمالسلام تعرب عن أنّ الغرض الداعي إلى بعثة النبيّ ، داع إلى وجود
إمام يخلف النبي في عامّة سماته ، سوى ما دلّ القرآن على انحصاره به ككونه نبيّاً
رسولاً وصاحب شريعة.
ب) الأُمّة الإسلامية
ومثلث الخطر الدّاهم
إنّ الدولة
الإسلامية الّتي أسّسها النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله كانت محاصرة حال وفاة النبيّ من جهتي الشمال والشرق بأكبر
إمبراطوريتين عرفهما تاريخ تلك الفترة ، وكانتا على جانب كبير من القوّة والبأس ،
وهما : الروم وإيران ، ويكفي في خطورة إمبراطورية إيران إنّه كتب ملكها إلى عامله
باليمن ـ بعد ما وصلت إليه رسالة النبيّ تدعوه إلى الإسلام ، ومزَّقها ـ : «ابعث
إلى هذا الرجل بالحجاز ، رجلين من عندك ، جلدين ، فليأتياني به» . وكفى في خطورة موقف الإمبراطورية الرومانية ، إنّه وقعت
اشتباكات عديدة بينها وبين المسلمين في السنّة الثامنة للهجرة ، منها سريّة موتة
الّتي قتل فيها قادة الجيش الإسلامي ، وهم : جعفر بن أبي طالب ، وزيد ابن حارثة ،
وعبد الله بن رواحة ، ورجع الجيش الإسلامي من تلك الواقعة منهزما ، ولأجل ذلك
توجّه الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله بنفسه على رأس الجيش الإسلامي إلى تبوك في السنّة
__________________
التاسعة لمقابلة
الجيوش البيزنطية ولكنّه لم يلق أحداً ، فأقام في تبوك أيّاماً ثمّ رجع إلى
المدينة ، ولم يكتف بهذا بل جهّز جيشاً في أُخريات أيّامه بقيادة أسامة بن زيد
لمواجهة جيوش الروم ، هذا من الخارج.
وأمّا من الداخل ،
فقد كان الإسلام والمسلمون يعانون من وطأة مؤامرات المنافقين الّذين كانوا يشكّلون
جبهة عدوانية داخلية ، أشبه بما يسمّى بالطابور الخامس ، فهؤلاء أسلموا بألسنتهم
دون قلوبهم ، وكانوا يتحيّنون الفرص لإضعاف الدولة الإسلامية بإثارة الفتن
الداخلية ، ولقد انبرى القرآن الكريم لفضح المنافقين والتشهير بخططهم ضد الدين
والنبيّ في العديد من السور القرآنية وقد نزلت في حقّهم سورة خاصّة.
إنّ اهتمام القرآن
بالتعرّض للمنافقين المعاصرين للنبيّ صلىاللهعليهوآله ، المتواجدين بين الصحابة أدلّ دليل على أنّهم كانوا قوة
كبيرة ويشكّلون جماعة وافرة ويلعبون دوراً خبيثاً في إفساح المجال لأعداء الإسلام
، بحيث لو لا قيادة النبيّ الحكيمة لقضوا على كيان الدين ، ويكفي في ذلك قوله
سبحانه :
(لَقَدِ ابْتَغَوُا
الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ
وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ) .
وقد كان محتملاً
ومترقّباً أن يتّحد هذا المثلث الخطير لاكتساح الإسلام واجتثاث جذوره بعد وفاة
النبيّ ، فمع هذا الخطر المحيق الداهم ، ما
__________________
هي وظيفة القائد
الحكيم الّذي أرسى قواعد دينه على تضحيات عظيمة؟ فهل المصلحة كانت تقتضي تنصيب
قائد حكيم عارف بأحكام القيادة ووظائفها حتى يجتمع المسلمون تحت رايته ويكونوا
صفّاً واحداً في مقابل ذاك الخطر ، أو أنّ المصلحة العامّة تقتضي تفويض الأمر إلى
الأُمّة حتى يختاروا لأنفسهم أميراً ، مع ما يحكيه التاريخ لنا من سيطرة الروح
الحزبيّة على المسلمين آنذاك؟ ويكفي شاهداً على ذلك ما وقع من المشاجرات بين
المهاجرين والأنصار يوم السقيفة.
إنّ القائد الحكيم
هو من يعتني بالأوضاع الاجتماعية لأُمّته ، ويلاحظ الظروف المحيطة بها ، ويرسم على
ضوئها ما يراه صالحاً لمستقبلها ، وقد عرفت أنّ مقتضى هذه الظروف هو تعيين القائد
والمدبّر ، لا دفع الأمر إلى الأُمّة. وإلى ما ذكرنا ينظر قول الشيخ الرئيس ابن
سينا في حقّ الإمام :
«والاستخلاف
بالنصّ أصوب ، فإنّ ذلك لا يؤدّي إلى التشعّب والتشاغب والاختلاف».
ج) نصب الإمام لطف إلهي
هذا حاصل ما
سلكناه في بيان وجوب تنصيب الخليفة والإمام للأُمّة الإسلامية من جانب النبيّ
الأكرم صلىاللهعليهوآله على ضوء العقل الفطري ودراسة التاريخ الإسلامي وشئون
الرسالة النبويّة ومسئولياتها الخطيرة ، وهذا
__________________
المسلك يقرب ممّا
سلكه مشايخنا الإماميّة في هذا المجال من الاستناد بقاعدة اللطف ، وفي ذلك يقول
السيّد المرتضى :
والّذي يدلّ على
ما ادّعيناه إنّ كلّ عاقل عرف العادة وخالط الناس ، يعلم ضرورة أنّ وجود الرئيس
المصيب النافذ الأمر ، السديد التدبير ترتفع عنده التظالم والتقاسم والتباغي أو
معظمه ، أو يكون الناس إلى ارتفاعه أقرب ، وإن فقد من هذه صفته يقع عنده كلّ ما
أشرنا إليه من الفساد أو يكون الناس إلى وقوعه أقرب ، فالرئاسة على ما بيَّنّاه
لطف في فعل الواجب والامتناع من القبيح ، فيجب أن لا يخلّي الله تعالى المكلّفين
منها ، ودليل وجوب الالطاف يتناولها.
هذا الاستدلال كما
ترى مؤلّف من مقدمتين :
الأولى
: إنّ نصب الإمام
لطف من الله على العباد.
الثانية
: إنّ اللطف واجب
على الله لما تقتضيه حكمته تعالى.
أمّا المقدمة
الأولى ، فلأنّ اللطف هو ما يقرّب المكلّفين إلى الطاعة ويبعّدهم عن المعصية ولو
بالإعداد ، وبالضرورة أنّ نصب الإمام كذلك لما به من بيان المعارف والأحكام
الإلهيّة وحفظ الشريعة من الزيادة والنقصان وتنفيذ الأحكام ورفع الظلم والفساد
ونحوها.
وأمّا المقدّمة
الثانية ، فلأنّ ترك هذا اللطف من الله سبحانه إخلال بغرضه
__________________
ومطلوبه وهو طاعة
العباد له وترك معصيته فيجب على الله نصبه لئلا يخلّ بغرضه ، ولا ينافي اللطف في
نصبه سلب العباد سلطانه أو غيبته ، لأنّ الله سبحانه قد لطف بهم بنصب المُعَدّ لهم
، وهم فوَّتوا أثر اللطف على أنفسهم. وإلى هذا أشار المحقّق الطوسي بقوله :
الإمام لطف فيجب
نصبه على الله تعالى تحصيلاً للغرض ... ووجوده لطف وتصرّفه لطف آخر وعدمه منّا.
وأوضحه العلّامة
الحلّي ، بقوله :
لطف الإمامة يتمّ
بأمور : منها ما يجب على الله تعالى وهو خلق الإمام وتمكينه بالتصرّف والعلم والنص
عليه باسمه ونسبه ، وهذا قد فعله الله تعالى ، ومنها ما يجب على الإمام وهو تحمّله
للإمامة وقبوله لها وهذا قد فعله الإمام ، ومنها ما يجب على الرعية وهو مساعدته
والنصرة له وقبول أوامره وامتثال قوله ، وهذا لم يفعله الرعية ، فكان منع اللطف
الكامل منهم لا من الله تعالى ولا من الإمام.
مناظرة هشام بن الحكم مع
عمرو بن عبيد
ناظر هشام بن
الحكم ـ وهو من أبرز أصحاب الإمام الصادق عليهالسلام في علم الكلام ـ مع عمرو بن عبيد ـ وهو من مشايخ المعتزلة
ـ في مسألة
__________________
الإمامة وصارت
النتيجة إفحام هشام لعمرو عند جمع من تلامذته ، وإليك ما رواه الكليني في ذلك :
علي بن إبراهيم ،
عن أبيه ، عن الحسن بن إبراهيم ، عن يونس بن يعقوب ، قال : كان عند أبي عبد الله عليهالسلام جماعة من أصحابه ، منهم :
حمران بن أعين ،
ومحمّد بن النعمان ، وهشام بن سالم ، والطيّار ، وجماعة فيهم هشام بن الحكم وهو
شاب ، فقال أبو عبد الله عليهالسلام :
«يا هشام ألا
تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد؟ وكيف سألته؟».
فقال هشام : يا بن
رسول الله إنّي أُجلُّك واستحييك ولا يعمل لساني بين يديك.
فقال أبو عبد الله
عليهالسلام : «إذا أمرتكم بشيء فافعلوا».
قال هشام : بلغني
ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة ، فعظم ذلك عليّ ، فخرجت إليه
ودخلت البصرة يوم الجمعة ، فأتيت مسجد البصرة ، فإذا أنا بحلقة كبيرة فيها عمرو بن
عبيد وعليه شملة سوداء ، متَّزر بها من صوف ، وشملة مرتدياً بها والناس يسألونه ،
فاستفرجت الناس ، فأفرجوا لي ، ثمّ قعدت في آخر القوم على ركبتَيَّ ، ثمّ قلت :
أيّها العالم : إنّي رجل غريب تأذن لي في مسألة؟
فقال لي : نعم.
فقلت له : ألك عين؟
فقال : يا بُنيّ أيّ شيء هذا من السؤال وشيء تراه كيف تسأل عنه؟
فقلت : هكذا
مسألتي. فقال : يا بنيَّ سَل وإن كانت مسألتك حمقاً.
قلت : أجِبْني
فيها. قال لي : سَل.
قلت : ألك عين؟
قال : نعم ، قلت : فما تصنع بها؟ قال : أرى بها الألوان والأشخاص.
قلت : فلك أنف؟
قال : نعم ، قلت : فما تصنع به؟ قال : أشمّ به الرائحة.
قلت : ألك فم؟ قال
: نعم ، قلت : فما تصنع به؟ قال : أذوق به الطعم.
قلت : فلك أُذن؟
قال : نعم ، قلت : فما تصنع بها؟ قال : أسمع بها الصوت.
قلت : ألك قلب؟
قال : نعم ، قلت : فما تصنع به؟ قال : أُميِّز به كلّ ما ورد على هذه الجوارح
والحواس.
قلت : أو ليس في
هذه الجوارح غنى عن القلب؟ فقال : لا ، قلت : وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة؟
قال : يا بني :
إنّ الجوارح إذا شكّت في شيء شمَّته أو رأته أو ذاقته أو سمعته ، ردَّته إلى القلب
فيستيقن اليقين ويبطل الشكّ.
فقلت له : فإنّما
أقام الله القلب لشكّ الجوارح؟ قال : نعم.
قلت : لا بدّ من
القلب وإلّا لم تستيقن الجوارح؟ قال : نعم.
فقلت له : يا أبا
مروان فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماماً يصحّح لها الصحيح
ويتيقّن به ما شكّ فيه ، ويترك هذا الخلق
كلّهم في حيرتهم
وشكّهم واختلافهم ، لا يقيم لهم إماماً يردون إليه شكّهم وحيرتهم ، ويقيم لك
إماماً لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكّك؟
فسكت ولم يقل لي
شيئاً ... ثمّ ضمّني إليه وأقعدني في مجلسه ، وما زال عن مجلسه وما نطق حتى قمت.
فضحك أبو عبد الله
عليهالسلام وقال : يا هشام من علّمك هذا؟
قلت : شيء أخذته
منك وألَّفته.
قال عليهالسلام : هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم وموسى.
ولعلّ قوله عليهالسلام : هذا والله مكتوب الخ ، إشارة إلى أنّ مسألة نصب الخليفة
والإمام الّتي يحكم بها العقل الصريح ، كانت من سنن الأنبياء والمرسلين ، وإنّما
ذكر إبراهيم وموسى لما كان لهما من المكانة الخاصّة في هذا المجال ، ولذلك أيضاً
ذكر القرآن ما استدعياه من الله سبحانه في أمر الإمامة والوزارة ويدلّ على ذلك أيضاً ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله
أنّه قال : «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلَّما هلك نبي خلفه نبيّ ، وإنّه
لا نبيّ بعدي ، وسيكون بعدي خلفاء يكثرون».
وظاهر الحديث أنّ
استخلاف الخلفاء في الأُمّة الإسلامية ، كاستخلاف الأنبياء في الأُمم السالفة ،
ومن المعلوم أنّ الاستخلاف كان هناك بالتنصيص.
__________________
الفصل الخامس :
وجوب العصمة في الإمام
اتّفق أهل السنّة
على أنّ العصمة ليست من شرائط الإمام أخذاً بمبادئهم حيث إنّ الخلفاء بعد رسول
الله صلىاللهعليهوآله لم يكونوا بمعصومين ، قال التفتازاني :
واحتجّ أصحابنا
على عدم وجوب العصمة بالإجماع على إمامة أبي بكر وعمر وعثمان ، مع الإجماع على
أنّهم لم تجب عصمتهم ... وحاصل هذا دعوى الإجماع على عدم اشتراط العصمة في الإمام.
وأمّا الشيعة
الإمامية فقد اتّفقت كلمتهم على هذا الشرط ، قال الشيخ المفيد : «اتّفقت الإمامية
على أنّ إمام الدين لا يكون إلّا معصوماً من الخلاف لله تعالى».
وقال «أقول : إنّ
الأئمّة القائمين مقام الأنبياء في تنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وحفظ الشرائع
وتأديب الأنام ، معصومون كعصمة الأنبياء».
__________________
ثمّ إنّهم
استدلّوا على وجوب العصمة بوجوه ، نكتفي ببعضها :
١. الإمام حافظ للشريعة كالنبيّ صلىاللهعليهوآله
يجب أن يكون
الإمام مصوناً عن الخطأ في العلم والعمل لكي تحفظ الشريعة به ويكون هادياً للناس
إلى مرضاة الله سبحانه ، وإليه أشار العلّامة الحلّي بقوله :
ذهبت الإمامية إلى
أنّ الأئمّة كالأنبياء في وجوب عصمتهم عن جميع القبائح والفواحش من الصغر إلى
الموت عمداً وسهواً ، لأنّهم حفظة الشرع والقوّامون به ، حالهم في ذلك كحال النبيّ
صلىاللهعليهوآله».
وناقش فيه
التفتازاني بقوله : «إنّ نصب الإمام إلى العباد الّذين لا طريق لهم إلى معرفة
عصمته بخلاف النبيّ».
والجواب عنه ظاهر
بما تقدّم من بطلان القول بأنّ نصب الإمام مفوَّض إلى العباد ، ولنا أن نعكس ونقول
: وجوب عصمة الإمام ممّا يحكم به العقل الصريح بالتأمّل في حقيقة الإمامة والغرض
منها ، وحيث إنّ الناس لا طريق لهم إلى معرفة عصمة الإمام كما اعترف به الخصم ،
فلا يكون نصبه مفوَّضاً إليهم.
__________________
٢. آية ابتلاء إبراهيم عليهالسلام
قال سبحانه : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) .
الاستدلال بالآية
على المقصود رهن بيان أمرين :
الأوّل : ما هو
المقصود من الإمامة الّتي أنعم الله سبحانه بها على نبيّه الخليل عليهالسلام؟
الثاني : ما هو
المراد من الظالمين؟
أما الأوّل : فقال
بعضهم : إنّ المراد من الإمامة ، هي النبوّة والرسالة ، ويردّه إنّ إبراهيم كان
نبيّاً قبل تنصيبه إماماً ، وذلك لأنّه طلب الإمامة لذريَّته ، فكان له عند ذلك
ولد أو أولاد ، ولا أقلّ من كون الولد والذريّة مرجوّا له. مع أنّ القرآن يحكى أنّ
إبراهيم عليهالسلام تعجّب من بشارة الملائكة إيّاه بالولد : (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ
مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) فإبراهيم كان نبياً ورسولاً ولم يكن له ولدٌ وذرّيّة حتى
مسّه الكبر ، ثمّ رزق ولداً في أوان الكبر بنصّ القرآن الكريم ، حيث قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي
عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) فطلب الإمامة لذريّته. وعلى ذلك يجب أن تكون الإمامة
الموهوبة للخليل غير النبوّة ، والظاهر أنّ المراد منها هي القيادة الإلهية
__________________
للمجتمع ، مضافاً
إلى تحمّل الوحي وإبلاغه ، فإنّ هناك مقامات ثلاثة :
١. مقام النبوّة ،
وهو منصب تحمّل الوحي.
٢. مقام الرسالة ،
وهو منصب إبلاغه إلى الناس.
٣. مقام الإمامة ،
وهو منصب القيادة وتنفيذ الشريعة في المجتمع بقوّة وقدرة.
والإمامة الّتي
يتبنّاها المسلمون بعد رحلة النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله ، تتّحد واقعيتها مع هذه الإمامة.
وأمّا
الثاني : أعني المراد من
الظّالمين ، فالظلم في اللغة هو وضع الشيء في غير موضعه ومجاوزة الحدّ الّذي عيّنه
الشّرع ، والمعصية من وضع الشيء (العمل) في غير موضعه ، فالمعصية من مصاديق الظلم
، قال سبحانه :
(وَمَنْ يَتَعَدَّ
حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) .
ثمّ إنّ الظاهر من
صيغة الجمع المحلّى باللام ، إنّ الظلم بكلّ ألوانه وصوره مانع عن نيل هذا المنصب
الإلهي ، وتكون النتيجة ممنوعيّة كلّ فرد من أفراد الظَّلَمة عن الارتقاء إلى منصب
الإمامة ، سواء أكان ظالماً في فترة من عمره ثمّ تاب وصار غير ظالم ، أو بقي على
ظلمه ، فالظالم عند ما يرتكب الظلم يشمله قوله سبحانه : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فصلاحيته بعد ارتفاع الظلم يحتاج إلى دليل.
__________________
وعلى ذلك فكلّ من
ارتكب ظلماً وتجاوز حدّاً في يوم من أيّام عمره ، أو عبد صنماً ، وبالجملة ارتكب
ما هو حرام ، فضلاً عمّا هو كفر ، ليس له أهليّة منصب الإمامة ، ولازم ذلك كون
الإمام طاهراً من الذنوب من لدن وضع عليه قلم التكليف ، إلى آخر حياته ، وهذا ما
يرتئيه الإمامية في عصمة الإمام.
وممّا يؤكّد ما
ذكرناه أنّ الناس بالنسبة إلى الظلم على أقسام أربعة :
١. من كان طيلة
عمره ظالماً.
٢. من كان طاهراً
ونقيّاً في جميع فترات عمره.
٣. من كان ظالماً
في بداية عمره ، وتائباً في آخره.
٤. عكس الثالث.
وحاشى إبراهيم عليهالسلام أن يسأل الإمامة للقسم الأوّل والرابع من ذريّته ، وقد
نصَّ سبحانه على أنّه لا ينال عهده الظالم ، وهو لا ينطبق إلّا على القسم الثالث ،
فإذا خرج هذا القسم بقي القسم الثاني وهو المطلوب.
٣. آية إطاعة أولى الأمر
قال سبحانه : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)
إنّه تعالى أمر
بطاعة أُولي الأمر على وجه الإطلاق ، ولم يقيّده بشيء
__________________
ومن البديهي أنّه
سبحانه لا يرضى لعباده الكفر والعصيان ولو كان على سبيل الإطاعة عن شخص آخر ،
وعليه تكون طاعة أولى الأمر فيما إذا أمروا بالعصيان محرّماً.
فمقتضى الجمع بين
هذين الأمرين أن يكون أولو الأمر الّذين وجبت إطاعتهم على وجه الإطلاق معصومين لا
يصدر عنهم معصية مطلقاً ، فيستكشف من إطلاق الأمر بالطاعة اشتمال المتعلّق على
خصوصيّة تصدّه عن الأمر بغير الطاعة.
هذا ، مضافاً إلى
أنّ أولى الأمر معطوف على الرسول بلا إعادة فعل «اطيعوا» وهذا دليل على وحدة
الملاك في اطاعة الرسول واولى الامر فكما أنّ وجوب إطاعة الرسول صلىاللهعليهوآله ، مطلق ومتفرع على عصمته ، فكذلك وجوب إطاعة أولى الامر
مطلق ومتفرع على عصمتهم.
وممَّن صرَّح
بدلالة الآية على عصمة أُولى الأمر الإمام الرازي في تفسيره ، ولكنّه لم يستثمر
نتيجة ما هداه إليه استدلاله المنطقي ، حيث استدرك قائلاً بأنّا عاجزون عن معرفة
الإمام المعصوم والوصول إليه واستفادة الدّين والعلم منه ، فلا مناص من كون المراد
هو أهل الحلّ والعقد.
يلاحظ
عليه : أنّه إذا دلّت
الآية على عصمة أولى الأمر فيجب علينا التعرّف عليهم ، وادّعاء العجز هروب من
الحقيقة ، فهل العجز يختصّ بزمانه
__________________
أو كان يشمل زمان
نزول الآية؟ والثاني باطل قطعاً ، فإنّه لا يعقل أن يأمر الوحي الإلهي بإطاعة
المعصوم ثمّ لا يقوم بتعريفه حين النزول ، وبالتعرّف عليه في عصر النزول ، يعرف
المعصوم في أزمنة متأخرة عنه حلقة بعد أخرى.
هذا مع أنّ تفسير «أولى
الأمر» بأهل الحلِّ والعقد تفسير بما هو أشدّ غموضاً ، فهل المراد منهم ، العساكر
والضبّاط ، أو العلماء والمحدّثون ، أو الحكّام والسياسيّون ، أو الكلّ؟ وهل اتّفق
اجتماعهم على شيء ولم يخالفهم لفيف من المسلمين؟!
وهناك نصوص من
الكتاب والسنّة تدلّ على عصمة أهل بيت النبيّ وعترته ، كآية التطهير وحديث الثقلين
وغير ذلك ، تركنا البحث عنها لرعاية الاختصار . وقد تقدّم في الفصل الأوّل ما يفيد في المقام فراجع.
__________________
الفصل السادس :
النصوص الدينية
وتنصيب علي عليهالسلام للإمامة
قد تبيّن بما
قدّمناه من الأبحاث على ضوء الكتاب والسنّة ومن خلال مطالعة تاريخ الإسلام
والمحاسبة في الأُمور الاجتماعية والسياسية ، وفي ظلّ هداية العقل الصريح ، أنّ
خليفة النبيّ صلىاللهعليهوآله وإمام المسلمين يجب أن يكون منصوباً من جانب الرّسول بإذن
من الله سبحانه ، وعندئذ يلزمنا الرجوع إلى الكتاب والسنّة لنقف على ذلك القائد
المنصوب فنقول : إنّ من أحاط بسيرة النبيّ صلىاللهعليهوآله يجد علي بن أبي طالب وزير رسول الله في أمره ووليّ عهده
وصاحب الأمر من بعده ، ومن وقف على أقوال النبيّ وأفعاله في حلّه وترحاله ، يجد
نصوصه في ذلك متواترة ، كما أنّ هناك آيات من الكتاب العزيز تهدينا إلى ذلك ، ونحن
نكتفي في هذا المجال بذكر آية الولاية من الكتاب ونتبعها بحديثي المنزلة والغدير :
آية الولاية
قال سبحانه : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ
راكِعُونَ)
وقبل الاستدلال
بالآية نذكر شأن نزولها ، روى المفسّرون عن أنس بن مالك وغيره أنّ سائلاً أتى
المسجد وهو يقول : من يقرض الملي الوفيّ ، وعليّ راكع يشير بيده للسائل : اخلع الخاتم
من يدي ، فما خرج أحد من المسجد حتى نزل جبرئيل ب : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ
اللهُ)
وإليك توضيح
الاستدلال :
إنّ المستفاد من
الآية أنّ هناك أولياء ثلاثة وهم : الله تعالى ، ورسوله ، والمؤمنون الموصوفون
بالأوصاف الثلاثة ، وأنّ غير هؤلاء من المؤمنين هم مولّى عليهم ولا يتحقّق ذلك
إلّا بتفسير الولي بالزعيم والمتصرّف في شئون المولّى عليه ، إذ هذه الولاية تحتاج
إلى دليل خاص ، ولا يكفي الإيمان في
__________________
ثبوتها ، بخلاف
ولاية المحبّة والنصرة ، إذ هما من فروع الإيمان ، فكلّ مؤمن محبّ لأخيه المؤمن
وناصر له. هذا مضافاً إلى الاختصاص المستفاد من كلمة (إِنَّما) وأحاديث شأن النزول الواردة في الإمام علي عليهالسلام ، فهذه الوجوه الثلاثة تجعل الآية كالنصّ في الدلالة على
ما يرتئيه الإمامية في مسألة الإمامة.
فإن
قلت : إذا كان المراد
من قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا) هو الإمام علي بن أبي طالب عليهالسلام فلما ذا جيء بلفظ الجماعة؟
قلت
: جيء بذلك ليرغب
الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه ، ولينبِّه على أنّ سجيَّة المؤمنين يجب أن
تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان وتفقد الفقراء حتى إن لزمهم أمر
لا يقبل التأخير وهم في الصلاة ، لم يؤخّروه إلى الفراغ منها.
وهناك وجه آخر
أشار إليه الشيخ الطبرسي ، وهو أن النكتة في إطلاق لفظ الجمع على أمير المؤمنين ،
تفخيمه وتعظيمه ، وذلك أنّ أهل اللّغة يعبّرون بلفظ الجمع عن الواحد على سبيل
التعظيم ، وذلك أشهر في كلامهم من أن يحتاج إلى الاستدلال عليه.
ربّما يقال : «إنّ
المراد من الوليّ في الآية ليس هو المتصرّف ، بل المراد الناصر والمحبّ بشهادة ما
قبلها وما بعدها ، حيث نهى الله المؤمنين أن
__________________
يتّخذوا اليهود
والنصارى أولياء ، وليس المراد منه إلّا النصرة والمحبّة ، فلو فُسّرت في الآية
بالمتصرّف يلزم التفكيك».
والجواب
عنه : أنّ السّياق
إنّما يكون حجّة لو لم يقم دليل على خلافه ، وذلك لعدم الوثوق حينئذٍ بنزول الآية
في ذلك السّياق ، إذ لم يكن ترتيب الكتاب العزيز في الجمع موافقاً لترتيبه في
النزول بإجماع الأُمّة ، وفي التنزيل كثير من الآيات الواردة على خلاف ما يعطيه
السّياق كآية التطهير المنتظمة في سياق النساء مع ثبوت النصّ على اختصاصها بالخمسة
أهل الكساء.
حديث «المنزلة»
روى أهل السِيَر
والتاريخ أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله خلّف علي بن أبي طالب عليهالسلام على أهله في المدينة عند توجّهه إلى تبوك ، فأرجف به
المنافقون ، وقالوا ما خلّفه إلّا استثقالاً له وتخوّفاً منه ، فضاق صدره بذلك ،
فأخذ سلاحه وأتى النبيّ وأبلغه مقالتهم ، فقال صلىاللهعليهوآله : «كذبوا ، ولكنّي خلفتك لما تركت ورائي ، فارجع واخلف في
أهلي وأهلك ، أفلا ترضى يا عليّ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا
نبيّ بعدي؟».
__________________
إضافة كلمة «منزلة»
ـ وهي اسم جنس ـ إلى هارون يقتضي العموم ، فالرواية تدلّ على أنّ كلّ مقام ومنصب
كان ثابتاً لهارون فهو ثابت لعليّ ، إلّا ما استثني وهو النبوّة ، بل الاستثناء
أيضاً قرينة على العموم ولولاه لما كان وجه للاستثناء ، وكون المورد هو الاستخلاف
على الأهل لا يدلّ على الاختصاص ، فإنّ المورد لا يكون مخصِّصاً ، كما لو رأيت
الجنب يمسّ آية الكرسي مثلاً فقلت له لا يمسَّنَّ آيات القرآن محدث ، يكون دليلاً
على حرمة مسّ القرآن على الجنب مطلقاً.
وأمّا منزلة هارون
من موسى فيكفي في بيانها قوله سبحانه حكاية عن موسى : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي*
هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) .
وقد أوتي موسى
جميع ذلك كما يقول سبحانه : (قالَ قَدْ أُوتِيتَ
سُؤْلَكَ يا مُوسى).
وقد استخلف موسى
أخيه هارون عند ذهابه إلى ميقات ربّه مع جماعة من قومه ، قال سبحانه :
__________________
(وَقالَ مُوسى
لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ
الْمُفْسِدِينَ).
وهذا الاستخلاف
وإن كان في قضية خاصّة ووقت خاصّ ، لكنّ اللفظ مطلق والمورد لا يكون مخصّصاً. ومن
هنا لو فرض غيبة أُخرى لموسى من قومه مع عدم تنصيصه على استخلاف هارون كان خليفة
له بلا إشكال. وهارون وإن كان شريكاً لموسى في النبوّة إلّا أنّ الرئاسة كانت
مخصوصة لموسى ، فموسى كان وليّاً على هارون وعلى غيره.
حديث «الغدير»
حديث الغدير ،
ممّا تواترت به السنّة النبويّة وتواصلت حلقات أسانيده منذ عهد الصحابة والتابعين
إلى يومنا الحاضر ، رواه من الصحابة (١١٠) صحابياً ومن التابعين (٨٤) تابعياً ،
وقد رواه العلماء والمحدّثون في القرون المتلاحقة ، وقد أغنانا المؤلّفون في
الغدير عن إراءة مصادره ومراجعه ، وكفاك في ذلك كتب لمّة كبيرة من أعلام الطائفة ،
منهم : العلّامة السيد هاشم البحراني (المتوفي ١١٠٧ ه) مؤلّف «غاية المرام» ،
والسيد مير حامد حسين الهندي (المتوفي ١٣٠٦ ه) مؤلف «العبقات» ، والعلّامة
الأميني (المتوفي ١٣٩٠ ه) مؤلف «الغدير» ، والسيد شرف الدين العاملي (المتوفي
١٣٨١ ه) مؤلف «المراجعات».
ومجمل الحديث هو
أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله أذَّن في الناس بالخروج إلى
__________________
الحجّ في السنّة
العاشرة من الهجرة ، وأقلّ ما قيل إنّه خرج معه تسعون ألفاً ، فلمّا قضى مناسكه
وانصرف راجعاً إلى المدينة ووصل إلى غدير «خمّ» ، وذلك يوم الخميس ، الثامن عشر من
ذي الحجّة ، نزل جبرئيل الأمين عن الله تعالى بقوله :
(يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ).
فأمر رسول الله صلىاللهعليهوآله أن يردّ من تقدّم ، ويحبس من تأخّر حتّى إذا أخذ القوم
منازلهم نودي بالصلاة ، صلاة الظهر ، فصلّى بالناس ، ثمّ قام خطيباً وسط القوم على
أقتاب الإبل ، وبعد الحمد والثناء على الله سبحانه وأخذ الإقرار من الحاضرين
بالتوحيد والنبوّة والمعاد ، والإيصاء بالثقلين ، وبيان أنّ الرسول صلىاللهعليهوآله أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، أخذ بيد «عليّ» فرفعها حتى رؤي
بياض إبطيهما وعرفه القوم أجمعون ، ثمّ قال : «من كنت مولاه ، فعليّ مولاه ـ يقولها
ثلاث مرّات ـ».
ثمّ دعا لمن والاه
، وعلى من عاداه ، وقال : «ألا فليبلغ الشاهد الغائب».
ثمّ لم يتفرّقوا
حتى نزل أمين وحى الله بقوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) الآية.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضى الربّ
برسالتي والولاية لعليّ من بعدي».
ثمّ أخذ الناس
يهنّئون عليّاً ، وممّن هنَّأه في مقدم الصحابة الشيخان أبو بكر وعمر كلّ يقول :
«بخٍّ بخٍّ لك يا
ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة».
دلالة الحديث
إنّ كلمة «المولى»
استعملت في معاني أو مصاديق مختلفة وهي : المالك ، والعبد ، والمعتق (بالكسر)
والمعتق (بالفتح) والصاحب ، والجار ، والحليف ، والابن ، والعمّ ، وابن العمّ ،
والنزيل ، والشريك ، وابن الأخت ، والربّ ، والناصر ، والمنعم ، والمنعم عليه ،
والمحبّ ، والتابع ، والصهر ، والأولى بالشيء والّذي وقع مورد الاختلاف بين الشيعة
وأهل السنّة من هذه المعاني ، هي المحبّ والأولى بالشيء. فأهل السنّة يقولون ،
المقصود من المولى في حديث الغدير هو المحبّة والمودّة ، والشيعة تقول : المقصود
منها هو الأولى بالتصرف في أمور المؤمنين وهو معنى الإمامة. وهم يستشهدون على ذلك
بقرائن حالية ومقالية. تجعل الحديث كالنصّ في أنّ المراد من المولى هو الأولى
بالتصرّف في شئون المؤمنين على غرار ما كان للنبيّ صلىاللهعليهوآله من الولاية.
وأما القرينة
الحالية ، فلأنّ لزوم المحبّة الإيمانية أمر عامّ شامل لكلّ مؤمن ومؤمنة وهو من
الأمور الواضحة لكلّ مسلم ولا حاجة لبيانه أو التأكيد عليه في مثل ذلك الموقف
الحرج وفي أثناء المسير ، ورمضاء الهجير ، والناس قد أنهكتهم وعثاء السفر وحرّ
المجير ، حتّى أنّ أحدهم ليضع طرفا من ردائه تحت قدميه وطرفا فوق رأسه. فيرقى
هنالك منبر الأهداج ،
ويعلنهم النبيّ صلىاللهعليهوآله بما هو من الواضحات وهذا بخلاف الولاية بمعنى الأولى
بالتصرف في شئون المسلمين لأنّ الأصل عدم ولاية أحد على غيره بهذا المعنى. هذا
مضافاً إلى أنّ الدواعي والرغبات فيها كثيرة فتعيين المتولّى لأمور المسلمين بعد
النبيّ صلىاللهعليهوآله في مثل ذلك المحتشد العظيم كان مقتضى الحكمة والمصلحة.
وأما القرائن
المقالية فمتعدّدة نشير إلى بعضها :
القرينة
الأولى : صدر الحديث وهو
قوله صلىاللهعليهوآله : «ألست أولى بكم من أنفسكم». أو ما يؤدّي مؤدّاه من ألفاظ
متقاربة ، ثمّ فرَّع على ذلك قوله : «فمن كنت مولاه فعليّ مولاه» وقد روى هذا
الصدر من حفّاظ أهل السنّة ما يربو على أربعة وستّين عالماً.
القرينة
الثانية : نعي النبيّ نفسه
إلى الناس حيث إنّه يعرب عن أنّه سوف يرحل من بين أظهرهم فيحصل بعده فراغ هائل ،
وأنّه يسدّ بتنصيب علي عليهالسلام في مقام الولاية. وغير ذلك من القرائن الّتي استقصاها
شيخنا المتتبّع في غديره . الى غير ذلك من القرائن المحفوفة بها لحديث الغدير.
__________________
لما ذا أعرض الصحابة عن
مدلول حديث الغدير؟
أقوى مستمسك لمن يريد
التخلّص من الاعتناق بنصّ الغدير ونحوه ، هو أنّه لو كان الأمر كذلك فلما ذا لم
تأخذه الصحابة مقياساً بعد النبيّ؟ وليس من الصحيح إجماع الصحابة وجمهور الأُمّة
على ردّ ما بلغه النبيّ في ذلك المحتشد العظيم.
والجواب عنه أنّ
من رجع إلى تاريخ الصحابة يرى لهذه الأُمور نظائر كثيرة في حياتهم السياسية ،
وليكن ترك العمل بحديث الغدير وغيره من نصوص الإمامة من هذا القبيل ، منها «رزيّة
يوم الخميس» رواها الشيخان وغيرهما ومنها «سريّة أسامة» ومنها «صلح الحديبية» واعتراض لفيف من الصحابة ولسنا بصدد استقصاء مخالفات القوم لنصوص النبيّ وتعليماته
، فإنّ المخالفة لا تقتصر على ما ذكر بل تربو على نيّف وسبعين مورداً ، استقصاها
بعض الأعلام.
وعلى ضوء ذلك لا
يكون ترك العمل بحديث الغدير ، من أكثريّة الصحابة دليلاً على عدم تواتره ، أو عدم
تماميّة دلالته.
__________________
الفصل السابع :
السنّة النبويّة والأئمّة الاثنا عشر :
حديث اثني عشر خليفة
إنّ النبيّ الأكرم
صلىاللهعليهوآله لم يكتف بتنصيب عليّ عليهالسلام منصب الإمامة والخلافة ، كما لم يكتف بإرجاع الأُمّة
الإسلامية إلى أهل بيته وعترته الطاهرة ، ولم يقتصر على تشبيههم بسفينة نوح ، بل
قام ببيان عدد الأئمة الّذين يتولّون الخلافة بعده ، واحداً بعد واحد ، حتّى لا
يبقى لمرتاب ريب ، فقد روي في الصّحاح والمسانيد بطرق مختلفة عن جابر بن سمرة أنّ
الخلفاء بعد النبيّ اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش ، وإليك ما ورد في توصيفهم من
الخصوصيات :
١. لا يزال الدّين
عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة ؛
٢. لا يزال
الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة ؛
٣. لا يزال الدّين
قائماً حتى تقوم السّاعة ، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة ؛
٤. لا يزال الدّين
ظاهراً على من ناوأه حتّى يمضي من أمّتي اثنا عشر خليفة ؛
٥. لا يزال هذا
الأمر صالحاً حتّى يكون اثنا عشر أميراً ؛
٦. لا يزال الناس
بخير إلى اثني عشر خليفة.
وقد اختلفت كلمة
شرّاح الحديث في تعيين هؤلاء الأئمّة ، ولا تجد بينها كلمة تشفي العليل ، وتروي
الغليل ، إلّا ما نقله الشيخ سليمان البلخي القندوزي الحنفيّ في ينابيعه عن بعض
المحقّقين ، قال :
إنّ الأحاديث
الدالّة على كون الخلفاء بعده اثني عشر ، قد اشتهرت من طرق كثيرة ، ولا يمكن أن
يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من الصحابة ، لقلّتهم عن اثني عشر ، ولا يمكن أن
يحمل على الملوك الأُمويّين لزيادتهم على الاثني عشر ولظلمهم الفاحش إلّا عمر بن
عبد العزيز ... ولا يمكن أن يحمل على الملوك العباسيّين لزيادتهم على العدد المذكور
ولقلّة رعايتهم قوله سبحانه : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى).
وحديث الكساء ،
فلا بدّ من أن يحمل على الأئمّة الاثني عشر من أهل بيته وعترته ، لأنّهم كانوا
أعلم أهل زمانهم ، وأجلّهم ، وأورعهم ، وأتقاهم ،
__________________
وأعلاهم نسباً ،
وأفضلهم حسباً ، وأكرمهم عند الله ، وكانت علومهم عن آبائهم متّصلة بجدّهم صلىاللهعليهوآله وبالوراثة اللّدنية ، كذا عرّفهم أهل العلم والتحقيق ،
وأهل الكشف والتوفيق.
ويؤيّد هذا المعنى
ويرجّحه حديث الثقلين والأحاديث المتكثّرة المذكورة في هذا الكتاب وغيرها».
أقول : الإنسان
الحرّ الفارغ عن كلّ رأي مسبق ، لو أمعن النظر في هذه الأحاديث وأمعن في تاريخ
الأئمّة الاثنى عشر من ولد الرسول ، يقف على أنّ هذه الأحاديث لا تروم غيرهم ،
فإنّ بعضها يدلّ على أنّ الإسلام لا ينقرض ولا ينقضي حتّى يمضي في المسلمين اثنا
عشر خليفة ، كلّهم من قريش ، وبعضها يدلّ على أنّ عزَّة الإسلام إنّما تكون إلى اثني
عشر خليفة ، وبعضها يدلّ على أنّ الدّين قائم إلى قيام السّاعة وإلى ظهور اثني عشر
خليفة ، وغير ذلك من العناوين.
وهذه الخصوصيات لا
توجد في الأُمّة الإسلامية إلّا في الأئمّة الاثني عشر المعروفين عند الفريقين خصوصاً ما يدلّ على أنّ وجود الأئمّة مستمرّ إلى آخر الدهر
ومن المعلوم أنّ آخر الأئمّة هو المهدي المنتظر الّذي يعدّ ظهوره من أشراط الساعة.
__________________
حديث الثقلين
ومن نصوص إمامة العترة
الطاهرة حديث الثقلين المتواتر عند الفريقين. فالنبي صلىاللهعليهوآله قرنهم بمحكم الكتاب وجعلهم قدوة لأولى الألباب فقال :
«إنّي تارك فيكم
ما إن تمسّكتم لن تضلّوا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وأنّهما لن يفترقا حتى
يردا عليَّ الحوض».
فيجب على الأمّة التمسك
بالعترة الطاهرة كما يجب عليهم التمسك بالكتاب المجيد وكما لا يجوز الرجوع الى
كتاب يخالف في حكمه كتاب الله سبحانه لا يجوز الرجوع الى إمام يخالف في حكمه أئمّة
العترة الطاهرة. ومن تدبّر الحديث وجده يرمي الى حصر الخلافة في أئمّة العترة
الطاهرة.
ثمّ إنّه قد
تضافرت النصوص في تنصيص الإمام السّابق على الإمام اللاحق ، فمن أراد الوقوف على
هذه النصوص ، فليرجع إلى الكتب المؤلّفة في هذا الموضوع.
__________________
الفصل الثامن :
الإمام الثاني عشر
في الكتاب والسنّة
إنّ إفاضة القول
في تعريف أئمّة أهل البيت عليهمالسلام ببيان علومهم وفضائلهم ونتائج جهودهم في مجال العلوم
الدينيّة ، وتربية الشخصيات المبرزة في مجال العلم والعمل ، وما لاقوه من اضطهاد
خلفاء عصرهم يحتاج إلى موسوعة كبيرة ، ولأجل ذلك طوينا الكلام عن ذلك ، إلّا أن
الاعتقاد بالإمام المنتظر لما كان أصلاً رصيناً من أبحاث الإمامة للشيعة ، وكان
الاعتقاد به ـ في الجملة ـ مشتركاً بين طوائف المسلمين ، رجّحنا إلقاء الضوء على
هذا الأصل على وجه الإجمال فنقول :
كلّ من كان له
إلمام بالحديث ، يقف على تواتر البشارة عن النبيّ وآله وأصحابه ، بظهور المهدي في
آخر الزمان لإزالة الجهل والظلم ونشر العلم وإقامة العدل ، وإظهار الدين كلِّه ولو
كره المشركون ، وقد تضافر مضمون قول الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله :
«لو لم يبق من
الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم ، حتى يخرج رجل من ولدي ، فيملؤها
عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً».
ولو وجد هنا خلاف
بين طوائف المسلمين فهو الاختلاف في ولادته ، فإنّ الأكثريّة من أهل السنّة يقولون
بأنّه سيولد في آخر الزمان ، لكن معتقد الشيعة بفضل الروايات الكثيرة هو أنّه ولد
في «سُرَّمن رأى» عام ٢٥٥ بعد الهجرة النبويّة ، وغاب بأمر الله سبحانه سنة وفاة
والده عام ٢٦٠ ه ، وسوف يظهره الله سبحانه ليتحقّق عدله.
ونحن نكتفي في
المقام بذكر فهرس الروايات الّتي رواها السنّة والشيعة :
١. البشارة بظهوره
٦٥٧ رواية
٢. إنّه من أهل
بيت النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله ٣٨٩ رواية
٣. إنّه من أولاد
الإمام علي عليهالسلام ٢١٤ رواية
٤. إنّه من أولاد
فاطمة الزهراء عليهاالسلام ١٩٢ رواية
٥. إنّه التاسع من
أولاد الحسين عليهالسلام ١٤٨ رواية
٦. إنّه من أولاد
الإمام زين العابدين عليهالسلام ١٨٥ رواية
٧. إنّه من أولاد
الحسن العسكري عليهالسلام ١٤٦ رواية
٨. إنّه يملأ
الأرض قسطاً وعدلاً ١٣٢ رواية
__________________
٩. إنّ له غيبة
طويلة ٩١ رواية
١٠. إنّه يعمر
عمراً طويلاً ٣١٨ رواية
١١. الإمام الثاني
عشر من أئمّة أهل البيت عليهمالسلام ١٣٦ رواية
١٢. الإسلام يعمّ
العالم كلّه بعد ظهوره ٢٧ رواية
١٣. الروايات
الواردة حول ولادته ٢١٤ رواية.
ولم ير التضعيف
لأخبار الإمام المهدي إلّا من ابن خلدون في مقدّمته ، وقد فنّد مقاله الأُستاذ
أحمد محمّد صديق برسالة أسماها «إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون».
قال بعض المحقّقين
من أهل السنّة ـ ردّاً لمزعمة ابن خلدون ـ :
إنّ المشكلة ليست
مشكلة حديث أو حديثين ، أو رواية أو روايتين ، إنّها مجموعة من الأحاديث والآثار
تبلغ الثمانين تقريباً ، اجتمع على تناقلها مئات الرواة وأكثر ، من صاحب كتاب
__________________
صحيح. فلما ذا
نردّ كلّ هذه الكمّية؟ أكلّها فاسدة؟! لو صحّ هذا الحكم لانهار الدين ـ والعياذ
بالله ـ نتيجة تطرق الشك والظن الفاسد إلى ما عداها من سنّة رسول اللهصلىاللهعليهوآله.
ثمّ إنّي لا أجد
خلافاً حول ظهور المهدي ، أو حول حاجة العالم إليه ، وإنّما الخلاف حول من هو؟
حسني ، أو حسيني؟ سيكون في آخر الزمان ، أو موجود الآن؟ ولا عبرة بالمدّعين
الكاذبين فليس لهم اعتبار.
وإذا نظرنا إلى
ظهور المهدي ، نظرة مجردة ، فإنّنا لا نجد حرجاً من قبولها وتصديقها ، أو على
الأقلّ عدم رفضها.
وقد يتأيّد ذلك
بالأدلّة الكثيرة والأحاديث المتعدّدة ، ورواتها مسلمون مؤتمنون ، والكتب الّتي
نقلتها إلينا كتب قيّمة ، والترمذي من رجال التخريج والحكم ، بالإضافة إلى أنّ
أحاديث المهدي لها ما يصحّ أن يكون سنداً لها في البخاري ومسلم ، كحديث جابر في
مسلم الّذي فيه : «فيقول أميرهم (أي لعيسى) تعال صلِّ بنا». وحديث أبي هريرة في البخاري وفيه : «وكيف بكم إذا نزل فيكم
المسيح بن مريم وإمامكم منكم». فلا مانع من أن يكون هذا الأمير وهذا الإمام هو المهدي.
__________________
يضاف إلى هذا أنّ
كثيراً من السّلف رضياللهعنهم ، لم يعارضوا هذا القول ، بل جاءت شروحهم وتقريراتهم
موافقة لإثبات هذه العقيدة عند المسلمين.
أسئلة حول المهدي المنتظر (عجّل الله تعالى
فرجه الشريف)
إنّ القول بأنّ الإمام
المهدي لم يزل حيّاً منذ ولادته إلى الآن ، وأنّه غائب سوف يظهر بأمر الله سبحانه
أثار أسئلة حول حياته وإمامته أهمّها ما يلي :
١. كيف يكون
إماماً وهو غائب؟
٢. لما ذا غاب؟
٣. كيف يمكن أن
يعيش إنسان هذه المدّة الطويلة؟
٤. متى يظهر؟ (علائم
ظهوره).
وقد قام العلماء
المحقّقون من علماء الإمامية بالإجابة عليها في مؤلَّفات مستقلّة لا مجال لنقل
معشار ممّا جاء فيها ، ونحن نكتفي في المقام بالبحث عنها على وجه الإجمال ، ونحيل
من أراد التبسّط إلى المصادر المؤلَّفة في هذا المجال ، فنقول :
أ) كيف يكون إماماً وهو
غائب؟
إنّ الغاية من
تنصيب الإمام هي القيام بوظائف الإمامة والقيادة وهو
__________________
يتوقّف على كونه
ظاهراً بين أبناء الأُمّة ، مشاهداً لهم ، فكيف يكون إماماً قائداً وهو غائب عنهم؟
والجواب عنه بوجوه
:
الأوّل
: إنّ عدم علمنا
بفائدة وجوده في زمان غيبته لا يدلّ على انتفائها ، ومن أعظم الجهل في تحليل
المسائل العلمية أو الدينية هو جعل عدم العلم مقام العلم بالعدم ، ولا شكّ أنّ
عقول البشر لا تصل إلى كثير من الأُمور المهمّة في عالم التكوين والتشريع ، بل لا
يفهم مصلحة كثير من سنن الله تعالى ولكن مقتضى تنزُّه فعله سبحانه عن اللّغو
والعبث هو التسليم أمام التشريع إذا وصل إلينا بصورة صحيحة ، وقد عرفت تواتر
الروايات على غيبته.
الثاني : إنّ
الغيبة لا تلازم عدم التصرّف في الأمر مطلقاً ، وهذا مصاحب موسى كان ولياً من
أوليائه تعالى لجأ إليه أكبر أنبياء الله في عصره كما يحكيه القرآن الكريم ويقول :
(فَوَجَدا عَبْداً
مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا
عِلْماً* قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا
عُلِّمْتَ رُشْداً) .
فأيّ مانع حينئذٍ
من أن يكون للإمام الغائب في كلّ يوم وليلة تصرّف من هذا النمط ، ويؤيّد ذلك ما
دلَّت عليه الروايات من أنّه يحضر الموسم في أشهر الحجّ ، ويحجّ ويصاحب الناس
ويحضر المجالس.
__________________
الثالث
: المسلَّم هو عدم
إمكان وصول عموم الناس إليه في غيبته ، وأمّا عدم وصول الخواصّ إليه ، فليس
بمسلَّم بل الّذي دلَّت عليه الروايات خلافه ، فالصلحاء من الأُمّة الّذين يستدرُّ
بهم الغمام ، لهم التشرّف بلقائه والاستفادة من نور وجوده ، وبالتالي تستفيد
الأُمّة منه بواسطتهم ، والحكايات من الأولياء في ذلك متضافرة.
الرابع
: قيام الإمام
بالتصرّف في الأُمور الظاهرية وشئون الحكومة لا ينحصر بالقيام به شخصاً وحضوراً ،
بل له تولية غيره على التصرّف في الأُمور كما فعل الإمام المهدي أرواحنا له الفداء
في غيبته ، ففي الغيبة الصغرى (٢٦٠ ـ ٣٢٩ ه) كان له وكلاء أربعة ، قاموا بحوائج
الناس ، وكانت الصلة بينه وبين الناس مستمرّة بهم وفي الغيبة الكبرى نصب الفقهاء
والعلماء العدول العالمين بالأحكام للقضاء وإجراء السياسيات وإقامة الحدود وجعلهم
حجّة على الناس ، كما جاء في توقيعه الشريف : «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها
إلى رواة أحاديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله عليهم».
وإلى هذه الاجوبة
أشار الإمام المهدي عليهالسلام في آخر توقيع له إلى بعض نوّابه بقوله :
«وأمّا وجه
الانتفاع في غيبتي ، فكالانتفاع بالشمس ، إذا غيَّبتها عن الأبصار ، السحاب».
__________________
ب) لما ذا غاب المهدي عليهالسلام؟
إنّ ظهور الإمام
بين الناس ، يترتّب عليه من الفائدة ما لا يترتّب عليه في زمان الغيبة ، فلما ذا
غاب عن الناس ، حتّى حرموا من الاستفادة من وجوده ، وما هي المصلحة الّتي أخفته عن
أعين الناس؟
الجواب
: إنّ هذا السؤال
يجاب عليه بالنقض والحلّ :
أمّا النقض ، فبما
ذكرناه في الإجابة عن السؤال الأوّل ، فإنّ قصور عقولنا عن إدراك أسباب غيبته ، لا
يجرّنا إلى إنكار المتضافرات من الروايات ، فالاعتراف بقصور أفهامنا أولى من ردّ
الروايات المتواترة ، بل هو المتعيّن.
وأمّا الحلّ ،
فإنّ أسباب غيبته واضحة لمن أمعن فيما ورد حولها من الروايات ، فإنّ الإمام المهدي
عليهالسلام هو آخر الأئمة الاثني عشر الّذين وعد بهم الرسول ، وأناط
عزّة الإسلام بهم ، ومن المعلوم أنّ الحكومات الإسلامية لم تقدرهم ، بل كانت لهم
بالمرصاد ، تلقيهم في السّجون ، وتريق دماءهم الطاهرة ، بالسّيف أو السمّ ، فلو
كان ظاهراً ، لأقدموا على قتله ، إطفاءً لنوره ، فلأجل ذلك اقتضت المصلحة أن يكون
مستوراً عن أعين الناس ، يراهم ويرونه ولكن لا يعرفونه إلى أن تقتضي مشيئة الله سبحانه
ظهوره ، بعد حصول استعداد خاص في العالم لقبوله ، والانضواء تحت لواء طاعته ، حتى
يحقّق الله تعالى به ما وعد به الأُمم جمعاء من توريث الأرض للمستضعفين.
وقد ورد في بعض
الروايات إشارة إلى هذه النكتة ، روى زرارة قال : سمعت أبا جعفر (الباقر عليهالسلام) يقول : إنّ للقائم غيبة قبل أن يقوم ، قال : قلت ولم؟ قال
: يخاف ، قال زرارة : يعني القتل. وفي رواية أُخرى : يخاف على نفسه الذبح.
ج) الإمام المهدي عليهالسلام وطول عمره
إنّ من الأسئلة
المطروحة حول الإمام المهدي ، طول عمره في فترة غيبته ، فإنّه ولد عام ٢٥٥ ه ،
فيكون عمره إلى الأعصار الحاضرة أكثر من ألف ومائة وخمسين عاماً ، فهل يمكن في
منطق العلم أن يعيش إنسان هذا العمر الطويل؟
والجواب
: من وجهين ، نقضاً
وحلّاً.
أمّا النقض ، فقد
دلّ الذكر الحكيم على أنّ شيخ الأنبياء عاش قرابة ألف سنة ، قال تعالى : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا
خَمْسِينَ عاماً)
وقد تضمّنت
التوراة أسماء جماعة كثيرة من المعمَّرين ، وذكرت أحوالهم في سفر التكوين.
وقد قام المسلمون
بتأليف كتب حول المعمّرين ، ككتاب «المعمّرين»
__________________
لأبي حاتم
السجستاني ، كما ذكر الصدوق أسماء عدّة منهم في كتاب «كمال الدين» والعلّامة الكراجكي في رسالته الخاصّة ، باسم «البرهان على
صحّة طول عمر الإمام صاحب الزمان عليهالسلام» والعلّامة المجلسي في «البحار» وغيرهم.
وأمّا الحلّ ،
فإنّ السؤال عن إمكان طول العمر ، يعرب عن عدم التعرّف على سعة قدرة الله سبحانه :
(وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ) .
فإنّه إذا كانت
حياته وغيبته وسائر شئونه ، برعاية الله سبحانه ، فأيّ مشكلة في أن يمدّ الله
سبحانه في عمره ما شاء ، ويدفع عنه عوادي المرض ويرزقه عيش الهناء.
وبعبارة أُخرى ،
إنّ الحياة الطويلة ، إمّا ممكنة في حدّ ذاتها أو ممتنعة ، والثاني لم يقل به أحد
، فتعيّن الأوّل ، فلا مانع من أن يقوم سبحانه بمدّ عمر وليّه لتحقيق غرض من أغراض
التشريع.
أضف إلى ذلك ما
ثبت في العلم الجديد من إمكان طول عمر الإنسان إذا كان مراعياً لقواعد حفظ الصحّة
وإنّ موت الإنسان في فترة متدنّية ، ليس لقصور الاقتضاء ، بل لعوارض تمنع عن
استمرار الحياة ، ولو أمكن تحصين الإنسان منها بالأدوية والمعالجات الخاصة لطال
عمره ما شاء الله.
__________________
وهناك كلمات ضافية
من مهرة علم الطب في إمكان إطالة العمر ، وتمديد حياة البشر ، نشرت في الكتب
والمجلات العلمية المختلفة.
وإذا قرأت ما
تدوّنه أقلام الأطبّاء في هذا المجال ، يتّضح لك معنى قوله سبحانه : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ
الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)
فإذا كان عيش
الإنسان في بطون الحيتان ، في أعماق المحيطات ، ممكناً إلى يوم البعث ، فكيف لا
يعيش إنسان على اليابسة ، في أجواء طبيعية ، تحت رعاية الله وعنايته ، إلى ما شاء؟!
د) ما هي علائم
ظهور المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)؟
إذا كان للإمام
الغائب ، ظهور بعد غيبة طويلة ، فلا بدّ من أن يكون لظهوره علائم وأشراط ، تخبر عن
ظهوره ، فما هي هذه العلائم؟
الجواب
: إنّ ما جاء في
كتب الأحاديث من الحوادث الواقعة قبل ظهور المهدي المنتظر عبارة عن عدّة أمور ،
منها :
١. النداء في
السّماء ، ينادي مناد من السّماء باسم المهدي فيسمع من بالمشرق والمغرب ، والمنادي
هو جبرائيل روح الأمين.
٢. الخسوف والكسوف
في غير مواقعهما ، الكسوف في النصف من
__________________
شهر رمضان والخسوف
في آخره والقاعدة العكس.
٣. الشقاق والنفاق
في المجتمع.
٤. ذيوع الجور
والظلم والهرج والمرج في الأُمّة.
٥. ابتلاء الإنسان
بالموت الأحمر والأبيض ، أمّا الموت الأحمر فالسيف ، وأمّا الموت الأبيض فالطاعون.
٦. قتل النفس
الزكية ، من أولاد النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله.
٧. خروج الدجّال.
٨. خروج السّفياني
، وهو عثمان بن عنبسة من أولاد يزيد بن معاوية.
وغير ذلك ممّا جاء
في الأحاديث الإسلامية.
هذه هي علامات
ظهوره ، ولكن هناك أُموراً تمهّد لظهوره ، وتسهّل تحقيق أهدافه نشير إلى أبرزها :
١. الاستعداد
العالمي : والمراد منه أن المجتمع الإنسانى ـ بسبب شيوع الفساد ـ يصل إلى حدّ ،
يقنط معه من تحقّق الإصلاح بيد البشر ، وعن طريق المنظّمات العالمية الّتي تحمل
عناوين مختلفة ، وأنّ ضغط الظلم والجور على الإنسان يحمله على أن يذعن ويقرَّ بأنّ
الإصلاح لا يتحقّق إلّا
__________________
بظهور إعجاز إلهي
وحضور قوَّة غيبية ، تدمِّر كلّ تلك التكتّلات البشرية الفاسدة ، الّتي قيّدت
بأسلاكها أعناق البشر.
٢. تكامل الصناعات
: إنّ الحكومة العالمية الموحّدة لا تتحقّق إلّا بتكامل الصّناعات البشرية ، بحيث
يسمع العالم كلّه صوته ونداءه ، وتعاليمه وقوانينه في يوم واحد ، وزمن واحد.
قال الإمام الصادق
عليهالسلام : «إنّ المؤمن في زمان القائم ، وهو بالمشرق ، يرى أخاه
الّذي في المغرب ، وكذا الّذي في المغرب يرى أخاه الّذي بالمشرق».
٣. الجيش الثوري
العالمي : إنّ حكومة الإمام المهدي عليهالسلام وإن كانت قائمة على تكامل العقول ، ولكنّ الحكومة لا
تستغني عن جيش فدائي ثائر وفعّال ، يمهّد الطريق للإمام عليهالسلام ، ويواكبه بعد الظهور إلى تحقّق أهدافه وغاياته المتوخّاة.
* * *
__________________
الفصل التاسع :
الرجعة
الرجعة في اللّغة
ترادف العودة ، وتطلق اصطلاحاً على عودة الحياة إلى مجموعة من الأموات بعد النهضة
العالمية للإمام المهدي عليهالسلام وهي ممّا تعتقد به الشيعة الإمامية بمقتضى الأحاديث
المتضافرة ـ بل المتواترة ـ المروية عن أئمة أهل البيت عليهمالسلام في ذلك. وفي ذلك يقول الشيخ المفيد :
«إنّ الله تعالى
يحيى قوماً من أمة محمد صلىاللهعليهوآله بعد موتهم قبل يوم القيامة ، وهذا مذهب تختص به آل محمد صلىاللهعليهوآله».
وقال السيد
المرتضى :
اعلم انّ الّذي
يذهب الشيعة الإمامية إليه أنّ الله تعالى بعيد عن ظهور إمام الزمان المهدي عليهالسلام قوماً ممّن كان قد تقدّم موته من شيعته ليفوزوا بثواب
نصرته ومعونته ومشاهدة دولته ، ويعيد أيضاً قوماً من أعدائه لينتقم منهم ،
فيلتذّوا بما يشاهدون من ظهور الحقّ وعلوّ كلمة أهله.
__________________
والرجعة تختصّ بمن
محض الإيمان ومحض الكفر والنفاق من أهل الملّة ، دون من سلف من الأمم الخالية ودون
ما سوى الفريقين من ملّة الإسلام.
ويقع الكلام في
الرجعة في مقامين :
١. إمكانها.
٢. الدليل على
وقوعها.
ويكفي في إمكانها
، إمكان بعث الحياة من جديد يوم القيامة ، مضافاً إلى وقوع نظيرها في الأُمم
السالفة ، كإحياء جماعة من بني إسرائيل (البقرة ، ٥٥ ـ ٦٥) وإحياء قتيل منهم (البقرة
، ٧٢ ـ ٧٣) وبعث عُزَير بعد مائة عام من موته (البقرة ، ٢٥٩) وإحياء الموتى على يد
عيسى عليهالسلام (آل عمران ، ٤٩).
وسيأتي أنّ تصوّر الرجعة من قبيل التناسخ المحال عقلاً ، تصور
باطل.
ومن الآيات
الدالّة على وقوع الرجعة قوله تعالى :
(وَيَوْمَ نَحْشُرُ
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) .
إنّ الآية تركّز
على حشر فوج من كلّ جماعة لا حشر جميعهم ، ومن
__________________
المعلوم أنّ الحشر
ليوم القيامة يتعلّق بالجميع لا بالبعض ، يقول سبحانه : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى
الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) فأخبر سبحانه أنّ الحشر حشران : عامّ وخاصّ.
وأمّا كيفيّة وقوع
الرجعة وخصوصياتها فلم يتحدّث عنها القرآن ، كما هو الحال في تحدّثه عن البرزخ
والحياة البرزخية.
ويؤيّد وقوع
الرجعة في هذه الأُمّة وقوعها في الأُمم السابقة كما عرفت ، وقد روى الفريقان أنّ
رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : «تقع في هذه الأُمّة السنن الواقعة في الأُمم
السابقة».
وبما أنّ الرجعة
من الحوادث المهمّة في الأُمم السابقة ، فيجب أن يقع نظيرها في هذه الأُمّة. وقد
سأل المأمون العباسي الإمام الرضا عليهالسلام عن الرجعة فأجابه بقوله :
«إنّها حقّ ، قد
كانت في الأُمم السابقة ، ونطق بها القرآن وقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : يكون في هذه الأُمّة كلّ ما كان في الأُمم السالفة حذو
النعل بالنعل والقذة بالقذة».
هذا محصّل الكلام
في حقيقة الرجعة ودلائلها ، ولا يدّعي المعتقدون بها أنّ الاعتقاد بها في مرتبة
الاعتقاد بالله وتوحيده ، والنبوّة والمعاد ، بل أنّها
__________________
تعدّ من المسلّمات
القطعية ، ولا ينكرها إلّا من لم يمعن النظر في أدلّتها.
أسئلة وأجوبتها
١. إنّ الاعتقاد
بالرجعة يعارض قوله تعالى : (وَحَرامٌ عَلى
قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) فإنّ الآية تنفي رجوعهم بتاتاً.
والجواب : أنّ
الآية مختصة بالظالمين من الأُمم السّابقة الّذين أهلكوا بعذابات إلهيّة ولا تنافي
الرجعة لطائفة من الأمّة الإسلامية.
٢. إنّ القول
بالرجعة ينافي ظاهر قوله تعالى :
(حَتَّى إِذا جاءَ
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما
تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى
يَوْمِ يُبْعَثُونَ) .
والجواب : أنّ
الآية تحكى عن قانون كلّي قابل للتخصيص بدليل منفصل ، والدليل على ذلك ما عرفت من
إحياء الموتى في الأُمم السّالفة ، ومفاد الآية أنّ الموت بطبعه ليس بعده رجوع ،
وهذا لا ينافي الرجوع في مورد أو موارد لمصالح عُليا.
٣. لم لا يجوز أن
يكون قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً) الآية.
__________________
ناظراً إلى يوم
القيامة ، والمراد من الفوج من كلّ أمّة هو الملأ الظالمين ورؤسائهم؟
والجواب : أنّ
ظاهر الآيات أنّ هناك يومين : يوم حشر فوج من كلّ أمّة ، ويوم ينفخ في الصور ،
وجعل الأوّل من متمّمات القيامة ، يستلزم وحدة اليومين وهو على خلاف الظاهر.
وبما ذكرناه يظهر
سقوط كثير ممّا ذكره الآلوسي في تفسيره عند البحث عن الآية.
* * *
__________________
الباب الثامن :
في المعاد
وفيه عشرة فصول :
١. براهين إثبات
المعاد ؛
٢. براهين تجرد
النفس الناطقة ؛
٣. المعاد
الجسمانى والروحانى ؛
٤. براهين بطلان
التناسخ ؛
٥. القبر والبرزخ
؛
٦. الحساب والشهود
؛
٧. الميزان
والصراط ؛
٨. الشفاعة في
القيامة ؛
٩. الإحباط
والتكفير ؛
١٠. الإجابة عن
أسئلة حول المعاد ؛
الفصل الأوّل :
براهين إثبات المعاد
الاعتقاد بالمعاد
عنصر أساسيّ في كلّ شريعة لها صلة بالسّماء بحيث تصبح الشرائع بدونه مسالك بشرية
مادّية لا تمتُّ إلى الله بصلة ، وقد بيَّن الذكر الحكيم وجود تلك العقيدة في
الشرائع السّماوية من لدن آدم إلى المسيح. وقد اهتمّ به القرآن الكريم اهتماماً بالغاً يكشف عنه كثرة
الآيات الواردة في مجال المعاد ، وقد قام بعضهم بإحصاء ما يرجع إليه في القرآن
فبلغ زهاء ألف وأربعمائة آية ، وكان السيّد العلّامة الطباطبائي قدسسره يقول بأنّه ورد البحث عن المعاد في القرآن في آيات تربو
على الألفين ، ولعلّه ضمّ الإشارة إليه إلى التصريح به ، وعلى كلّ تقدير فهذه
الآيات الهائلة تعرب عن شدّة اهتمام القرآن به.
لا شكّ أنّ المعاد
أمر ممكن في ذاته وإنّما الكلام في وجوب وقوعه ، وهناك وجوه عقلية تدلّ على ضرورة
وجود نشأة الآخرة هدانا إليها القرآن الكريم.
__________________
الأوّل : صيانة الخلقة
عن العبث
يستدلّ الذكر
الحكيم على لزوم المعاد بأنّ الحياة الأُخروية هي الغاية من خلق الإنسان وأنّه لولاها
لصارت حياته منحصرة في إطار الدنيا ، ولأصبح إيجاده وخلقه عبثاً وباطلاً ، والله
سبحانه منزَّه عن فعل العبث ، يقول سبحانه :
(أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) .
ومن لطيف البيان
في هذا المجال قوله سبحانه :
(وَما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ* ما خَلَقْناهُما إِلَّا
بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ* إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ
مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) ترى أنّه يذكر يوم الفصل بعد نفي كون الخلقة لعباً ، وذلك
يعرب عن أنّ النشأة الأُخروية تصون الخلقة عن اللّغو واللّعب.
ويقرب من ذلك
الآيات الّتي تصفه تعالى بأنّه الحقّ ، ثمّ يرتّب عليه إحياء الموتى والنشأة
الآخرة ، يقول سبحانه : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) إلى غير ذلك من الآيات.
__________________
الثاني : المعاد مقتضى
العدل الإلهي
إنّ العباد فريقان
: مطيع وعاص ، والتسوية بينهما بصورها المختلفة خلاف العدل ، فهنا يستقلّ العقل بأنّه يجب
التفريق بينهما من حيث الثواب والعقاب ، وبما أنّ هذا غير متحقّق في النشأة
الدنيوية ، فيجب أن يكون هناك نشأة أخرى يتحقّق فيها ذلك التفريق ، وإلى هذا
البيان يشير المحقّق البحراني بقوله :
إنّا نرى المطيع
والعاصي يدركهما الموت من غير أن يصل إلى أحد منهما ما يستحقّه من ثواب أو عقاب ،
فإن لم يحشروا ليوصل إليهما ذلك المستحق لزم بطلانه أصلاً.
وإلى هذا الدليل
العقلي يشير قوله تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ* أَمْ
نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) .
وقوله تعالى : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ
كَالْمُجْرِمِينَ* ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) .
وقوله سبحانه :
__________________
(إِنَّ السَّاعَةَ
آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى)
فقوله : (لِتُجْزى) إشارة إلى أنّ قيام القيامة تحقيق لمسألة الثّواب والعقاب
اللّذين هما مقتضى العدل الإلهي.
الثالث : المعاد مجلى
لتحقّق مواعيده تعالى
أنّه سبحانه قد
وعد المطيعين بالثواب في آيات متضافرة ، ولا شكّ أنّ إنجاز الوعد حسن والتخلّف عنه
قبيح ، فالوفاء بالوعد يقتضي وقوع المعاد ، قال المحقّق الطوسي : «ووجوب إيفاء
الوعد والحكمة يقتضي وجوب البعث».
وإلى هذا البرهان
يشير قوله سبحانه :
(رَبَّنا إِنَّكَ
جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) .
تنبيه
إنّ القرآن الكريم
أكَّد بوجه بليغ على قدرة الخالق وعلمه فيما أجاب عن شبهات المخالفين ، والوجه في
ذلك واضح ، لأنّ جلّ شبهاتهم ناشئة عن الغفلة أو الجهل بالقدرة المطلقة والعلم
الوسيع لله تعالى ، فإنّ إحياء
__________________
الموتى ليس من
المحالات الذاتية وإنّما ينكر من ينكر أو يستبعده لجهله بقدرة الله المطلقة وعلمه
الشامل وإليك فيما يلي نماذج من الآيات في هذا المجال :
(وَهُوَ الَّذِي
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) .
(وَضَرَبَ لَنا
مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ* قُلْ
يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) .
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ
الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي
الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ).
(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
(أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ* قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ
مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) .
__________________
الفصل الثاني :
بقاء النفس الإنسانية بعد الموت
إنّ بعض شبهات
منكري المعاد ناشٍ عن توهّم أنّ الإنسان ليس إلّا مجموعة خلايا وعروق وأعصاب وعظام
وجلود تعمل بانتظام ، فإذا مات الإنسان صار تراباً ولا يبقى من شخصيته شيء ، فكيف
يمكن أن يكون الإنسان المُعاد هو نفس الإنسان في الدنيا؟ وعليه فلا يتحقّق المقصود
من المَعاد وهو تحقيق العدل الإلهي بإثابة المطيع وعقوبة العاصي ، ولعلّه إلى هذه
الشبهة يشير قولهم :
(أَإِذا ضَلَلْنا فِي
الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) .
وقد أجاب سبحانه
عنها بقوله : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ
مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) يعني أن شخصيتكم الحقيقية لا تضلّ أبداً في الأرض ، فإنّها
محفوظة لا تتغيّر ولا تضلّ ، وتلك الشخصية هي ملاك وحدة الإنسان المحشور في الآخرة
والإنسان الدنيوي ، فالآية تعرب عن
__________________
بقاء الروح بعد
الموت وهذا الجواب هو الأساس لدفع أكثر الشبهات حول المعاد الجسماني.
لقد شغل أمر تجرّد
الروح وبقائه بال المفكّرين ، واستدلّوا عليه بوجوه عقلية ، كما اهتمّ القرآن
الكريم ببيانه في لفيف من آياته ، وفيما يلي نسلك في البحث عن تجرّد الروح هذين
الطريقين ؛ العقلي والنقلي :
أ) البراهين العقلية
إنّ البحث العقلي
في تجرّد الروح مترامي الأطراف ، مختلف البراهين ، نكتفي من ذلك ببيان برهانين ،
ومن أراد التبسّط فليرجع إلى الكتب المعدّة لذلك.
١. ثبات الشخصية
الإنسانية في دوامة التغيّرات الجسديّة
لقد أثبت العلم
أنّ التغيّر والتحوّل من الآثار اللازمة للموجودات الماديّة ، فلا تنفك الخلايا
الّتي يتكوّن منها الجسم البشري عن التغيّر والتبدّل ، وقد حسب العلماء معدّل هذا
التجدّد فظهر لهم أنّه يحدث بصورة شاملة في البدن مرَّة كلّ عشر سنين ، هذا.
ولكن كلّ واحد
منّا يحسّ بأنّ نفسه باقية ثابتة في دوامة تلك التغيّرات الجسميّة ، ويجد أنّ هناك
شيئاً يسند إليه جميع حالاته من الطفولية
__________________
والصباوة والشّباب
، والكهولة ، فهناك وراء بدن الإنسان وتحوّلاته البدنيّة حقيقة باقية ثابتة رغم
تغيّر الأحوال وتصرّم الأزمنة.
فلو كانت تلك
الحقيقة الّتي يحمل عليها تلك الصفات أمراً مادّيّاً مشمولاً لسنّة التغيّر
والتحوّل لم يصحّ حمل تلك الصفات على شيء واحد حتّى يقول : أنا الّذي كتبت هذا
الخط يوم كنت صبيّاً أو شابّا ، وأنا الّذي فعلت كذا وكذا في تلك الحالة وذلك
الوقت.
٢. عدم الانقسام آية
التجرّد
الانقسام والتجزّؤ
من لوازم المادّة ، ولكن كلّ واحد منّا إذا رجع إلى ما يشاهده في صميم ذاته ،
ويعبّر عنه ب «أنا» وجده معنى بسيطاً غير قابل للانقسام والتجزّي ، فارتفاع أحكام
المادّة ، دليل على أنّه ليس بمادّي.
إنّ عدم الانقسام
لا يختصّ بالنفس بل هو سائد على الصفات النفسانية من الحبّ والبغض والإرادة
والكراهة والإذعان ونحو ذلك ، اعطف نظرك إلى حبّك لولدك وبغضك لعدوّك فهل تجد
فيهما تركّباً ، وهل ينقسمان إلى أجزاء؟ كلّا ، ولا.
فظهر أنّ الروح
وآثارها ، والنفس والنفسانيات كلّها موجودات واقعية خارجة عن إطار المادة.
ب) القرآن وتجرّد النفس
الآيات القرآنية
الدالّة على بقاء النفس بعد الموت تصريحاً أو تلويحاً كثيرة نأتي بنماذج منها :
١. يقول سبحانه : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ
مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا
الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) لفظة التوفّي بمعنى القبض والأخذ لا الإماتة ، وعلى ذلك
فالآية تدلّ على أنّ للإنسان وراء البدن شيئاً يأخذه الله سبحانه حين الموت والنوم
، فيمسكه إن كتب عليه الموت ، ويرسله إن لم يكتب عليه ذلك إلى أجل مسمّى.
٢. قال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ*
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ
يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ.) صراحة الآية في الدلالة على حياة الشهداء غير قابلة
للإنكار ، فإنّها تقول : إنّهم أحياء أوّلاً ، ويرزقون ثانياً ، وإنّ لهم آثاراً
نفسانية يفرحون ويستبشرون ثالثاً ، وتفسير الحياة ، بالحياة في شعور الناس
وضمائرهم وقلوبهم ، وفي الأندية والمحافل تفسير مادّي للآية مخالف لما ذكر للحياة
من الأوصاف الحقيقية.
٣. قال تعالى : (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ
الْعَذابِ* النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ). وجه الاستدلال بالآية على المقصود واضح.
__________________
٤. قال تعالى : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ
قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) المخاطب لقوله : (ادْخُلِ الْجَنَّةَ) والقائل لما ذكر بعده من التمنّي هو مؤمن آل يس واسمه حبيب
النجّار كما ورد في الروايات ، وقصّته معروفة ، والآية تدل على أنّه باق بعد الموت
يرزق في الجنّة ، ويتمنّى أنّ يعلم قومه بما رزق من الكرامة.
__________________
الفصل الثالث :
المعاد الجسماني والروحاني
في القرآن الكريم
إنّ القول بالمعاد
الجسماني والروحاني معاً يتوقّف على أمور :
أ. الاعتقاد
بتجرّد الروح الإنساني.
ب. الاعتقاد بأنّ
الروح يعود إلى البدن عند الحشر.
ج. إنّ هناك
آلاماً ولذائذ جزئية وكلية ، جسمانية وروحانية.
إنّ من أمعن النظر
في الآيات الواردة حول المعاد يقف على أنّ المعاد الّذي يصرُّ عليه القرآن هو عود
البدن الّذي كان الإنسان يعيش به في الدنيا وتعلّق الروح إليه مرّة أخرى ولا يكتفي
بحياة الروح في عالم الآخرة ، كما أنّه لا يخصّ الثواب والعقاب بالجسمانية منهما
بل يثبت أيضاً ثواباً وعقاباً روحانيّين غير حسيّين ، وإليك فيما يلي نماذج من
عناوين الآيات في هذين المجالين :
١. ما ورد في قصّة
إبراهيم ، وإحياء عزير ، وبقرة بني إسرائيل ، ونحو ذلك.
٢. ما يصرّح على
أنّ الإنسان خلق من الأرض وإليها يعاد ومنها يخرج.
٣. ما يدلّ على
أنّ الحشر عبارة عن الخروج من الأجداث والقبور.
٤. ما يدلّ على
شهادة الأعضاء يوم القيامة.
٥. ما يدلّ على
تبديل الجلود بعد نضجها وتقطع الأمعاء.
هذا كلّه بالنسبة
إلى الملاك الأوّل ، وأمّا بالنسبة إلى الملاك الثاني ، فالآيات الراجعة إلى
الآلام واللّذائذ الحسّية أكثر من أن تحصى ويكفى نموذجاً لذلك في سورتي الواقعة
والرحمن. فلنقتصر بالإشارة إلى نماذج من الآيات الناظرة إلى الآلام واللّذائذ
العقلية :
١. قال سبحانه : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها
وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ترى أنّه سبحانه يجعل رضوان الله في
__________________
مقابل سائر
اللّذات الجسمانية ويصفه بكونه أكبر من الأُولى وأنّه هو الفوز العظيم ، ومن
المعلوم أنّ هذا النوع من اللّذة لا يرجع إلى الجسم والبدن ، بل هي لذَّة تدرك
بالعقل والروح في درجتها القصوى.
٢. يقول سبحانه : (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ
وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ
وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) يظهر عظم هذا الألم بوقوع هذه الآية قبل آية الرضوان ،
فكأنَّ الآيتين تعربان عن اللَّذات والآلام العقلية الّتي تدركها الروح بلا حاجة
إلى الجسم والبدن.
٣. يقول سبحانه في
وصف أصحاب الجحيم : (كَذلِكَ يُرِيهِمُ
اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) إنّ عذاب الحسرة أشدّ على النفس ممّا يحلّ بها من عذاب
البدن ، ولأجل ذلك يسمّى يوم القيامة ، يوم الحسرة ، قال سبحانه : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ)
نختم الكلام بما
أفاده المحقّق الطوسي في المقام حيث قال :
«أمّا الأنبياء
المتقدّمون على محمّد صلىاللهعليهوآله فالظاهر من كلام أُممهم أنّ موسى عليهالسلام لم يذكر المعاد البدني ، ولا أنزل عليه في التوراة لكن جاء
ذلك في كتب الأنبياء الّذين جاءوا بعده ، كحزقيل وأشعيا عليهماالسلام ولذلك أقرّ اليهود به ، وأمّا في الإنجيل فقد ذكر : أنّ
الأخيار يصيرون كالملائكة وتكون لهم الحياة الأبدية ،
__________________
والسعادة العظيمة
، والأظهر أنّ المذكور فيه المعاد الروحاني.
وأمّا القرآن فقد
جاء فيه كلاهما : أمّا الروحاني ففي مثل قوله عزّ من قائل : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ
لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) و (لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) و (وَرِضْوانٌ مِنَ
اللهِ أَكْبَرُ)
وأمّا الجسماني
فقد جاء أكثر من أن يعدّ ، وأكثره ممّا لا يقبل التأويل ، مثل قوله عزّ من قائل :
(قالَ مَنْ يُحْيِ
الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ فَإِذا
هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ).
(وَانْظُرْ إِلَى
الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً).
(أَيَحْسَبُ
الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ * بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ
بَنانَهُ).
(وَقالُوا
لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا).
ثمّ إنّه ردّ
نظرية التأويل في آيات المعاد الجسماني قياساً بالآيات الواردة في الصفات الدالّة
بظاهرها على التشبيه وقال :
أمّا القياس على
التشبيه فغير صحيح ، لأنّ التشبيه مخالف للدليل العقلي الدالّ على امتناعه ، فوجب
فيه الرجوع إلى التأويل ، وأمّا المعاد البدني فلم يقم دليل ، لا عقلي ولا نقلي
على امتناعه ،
فوجب إجراء النصوص الواردة فيه على مقتضى ظواهرها.
شبهة الآكل والمأكول
إنّ هذه الشبهة من
أقدم الشبهات الّتي وردت في الكتب الكلامية حول المعاد الجسماني وقد اعتنى بدفعها
المتكلّمون والفلاسفة الإلهيّون عناية بالغة ، والإشكال يقرّر بصورتين نأتي بهما
مع الإجابة عنهما :
الصورة الأولى :
لو أكل إنسان كافر
إنساناً مؤمناً صار بدنه أو جزء منه جزءاً من بدن الكافر ، والكافر يعذّب فيلزم
تعذيب المؤمن وهو ظلم عليه.
والجواب عنه واضح
، فإنّ المدرك للآلام واللذائذ هو الروح ، والبدن وسيلة لإدراك ما هو المحسوس
منهما ، وعليه فصيرورة بدن المؤمن جزءاً من بدن الكافر لا يلازم تعذيب المؤمن ،
لأنّ المعذّب في الحقيقة هو روح الكافر ونفسه ، لا روح المؤمن ، وهذا نظير أخذ
كُلْيَة الإنسان الحيّ ووصلها بإنسان آخر ، فلو عذّب هذا الأخير أو نعمّ ،
فالمعذّب والمنعَّم هو هو ، ولا صلة بينه وبين من وهب كُلْيَته إليه.
الصورة الثانية :
إذا أكل إنسان
إنساناً يصير بدنه المأكول أو جزء منه ، جزء البدن الآكل ،
__________________
وتلك الأجزاء إمّا
يعاد مع بدن الآكل ، وإمّا يعاد مع بدن المأكول ، أو لا يعاد أصلاً. ولازم الجميع عدم عود البدن بتمامه وبعينه ، أمّا في
أحدهما كما في الفرضين الأوّلين ، أو في كليهما كما في الفرض الأخير ، فالمعاد
الجسماني بمعنى حشر الأبدان بعينها باطل.
والمشهور عند
المتكلّمين في الإجابة عنه هو أنّ بدن الإنسان مركب من الأجزاء الأصليّة والفاضلة
، والأجزاء الأصليّة باقية بعد الموت ، وعند الإعادة تؤلّف وتضمّ معها أجزاء أخرى
زائدة ، والمعتبر في المعاد الجسماني هو إعادة تلك الأجزاء الأصليّة ، والأجزاء
الأصليّة في كلّ بدن تكون فاضلة في غيره وإليه أشار المحقّق الطوسي بقوله : «ولا يجب إعادة فواضل
المكلّف».
أقول : المعاد
الجسماني لا يتوقّف على كون البدن المحشور نفس البدن الدنيوي حتّى في المادّة
الترابية بل لو تكوّن بدن الإنسان المعاد من أيّة مادّة ترابية كانت وتعلّقت به
الروح وكان من حيث الصورة متّحداً مع البدن الدنيوي يصدق على المعاد أنّه هو المنشأ
في الدنيا.
يؤيّد ذلك قول
الإمام الصادق عليهالسلام :
«فإذا قبضه الله
إليه صيَّر تلك الروح إلى الجنّة في صورة كصورته فيأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم
القادم ، عرفهم
__________________
بتلك الصورة الّتي
كانت في الدنيا».
فترى أنّ الإمام عليهالسلام يذكر كلمة الصورة ، ولعلّ فيه تذكير بأنّه يكفي في المعاد
الجسماني كون المُعاد متّحداً مع المبتدأ في الصورة من غير حاجة إلى أن يكون هناك
وحدة في المادة الترابية بحيث إذا طرأ مانع من خلق الإنسان منه ، فشل المعاد
الجسماني ولم يتحقّق. ويستظهر ذلك أيضاً من نحو قوله تعالى :
(أَوَلَيْسَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) .
قال التفتازاني :
ربما يميل كلام
الغزالي وكلام كثير من القائلين بالمعادين إلى أنّ معنى ذلك أن يخلق الله تعالى من
الأجزاء بعد خراب البدن ، ولا يضرّنا كونه غير البدن الأوّل بحسب الشخص لامتناع
إعادة المعدوم بعينه ، وما شهد به النصوص من كون أهل الجنّة جرداً مرداً ، وكون
ضرس الكافر مثل جبل أُحد يعضد ذلك ، وكذا قوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ
بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) .
ولا يبعد أن يكون
قوله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ
__________________
وَالْأَرْضَ
بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) .
إشارة الى هذا.
وقال العلّامة
الطباطبائي قدسسره :
البدن اللاحق من
الإنسان إذا اعتبر بالقياس إلى البدن السابق منه كان مثله لا عينه ، لكنّ الإنسان
ذا البدن اللاحق إذا قيس إلى الإنسان ذي البدن السابق ، كان عينه لا مثله ، لأنّ
الشخصيّة بالنفس وهي واحدة بعينها.
__________________
الفصل الرابع :
براهين بطلان التناسخ
التناسخ هو انتقال
النفس من بدن إلى بدن آخر في هذه النشأة ، بلا توقّف أبداً ، فالقائلون بالتّناسخ
ينكرون عالم الآخرة ويفسّرون الثواب والعقاب باللّذات والآلام الدنيوية في هذه
النشأة. قال الشهرستاني :
إنّ التناسخ هو أن
يتكرّر الأكوار والأدوار إلى ما لا نهاية له ، ويحدث في كل دور مثل ما حدث في
الأوّل والثواب والعقاب في هذه الدار ، لا في دار أخرى لا عمل فيها. والأعمال التى
نحن فيها إنما هي أجزية على أعمال سلفت منّا في الأدوار الماضية. فالراحة والسرور
والفرح والدعة الّتي نجدها هي مرتّبة على أعمال البرّ الّتي سلفت منّا في الأدوار
الماضية. والغمّ والحزن والضنك والكلفة التى نجدها هي مرتّبة على أعمال الفجور
التى سبقت منّا. وكذا كان في الأوّل وكذا يكون في الآخرة.
__________________
يرد على القول
بالتناسخ أمور تالية :
١. أنّهم يقولون :
«إنّ المصائب والآلام الّتي تبتلي بها طائفة من الناس هي في الحقيقة جزاء لما
صنعوا في حياتهم السّابقة من الذنوب عند ما كانت أرواحهم متعلّقة بأبدان أخرى ،
كما أنّ النعم واللّذائذ الّتي تلتذّ بها جماعة أخرى من الناس هي أيضاً جزاء
أعمالهم الحسنة في حياتهم المتقدمة» ، وعلى هذا فكلٌّ يستحقّ لما هو حاصل له ، فلا
ينبغي الاعتراض على المستكبرين والمترفين ، كما لا ينبغي القيام بالانتصاف من
المظلومين والمستضعفين ، وبذلك تنهدم الأخلاق من أساسها ولا يبقى للفضائل
الإنسانية مجال ، وهذه العقيدة خير وسيلة للمفسدين والطغاة لتبرير أعمالهم
الشنيعة.
٢. إنّ هذه
العقيدة معارضة للقول بالمعاد الّذي أُقيم البرهان العقلي على وجوبه ، ومن الواضح
أنّ الّذي ينافي البرهان الصحيح فهو باطل ، فالقول بالتناسخ باطل.
٣. إنّ لازم القول
بالتناسخ هو اجتماع نفسين في بدن واحد ، وهو باطل. بيان الملازمة إنّه متى حصل في
البدن مزاج صالح لقبول تعلّق النفس المدبّرة له ، فبالضرورة تفاض عليه النفس من
الواهب من غير مهلة وتراخ ، قضاءً للحكمة الإلهية الّتي شاءت إبلاغ كلّ ممكن إلى
كماله الخاص به ، فإذا تعلّقت النفس المستنسخة به أيضاً كما هو مقتضى القول
بالتناسخ ، لزم اجتماع نفسين في بدن واحد.
وأمّا بطلان
اللازم فلأنّ تشخّص كلّ فرد من الأنواع بنفسه وصورته
النوعية ، ففرض
نفسين في بدن واحد مساوق لفرض ذاتين لذات واحدة وشخصين في شخص واحد ، وهذا محال ،
على أنّ ذلك مخالف لما يجده كلّ إنسان في صميم وجوده وباطن ضميره.
فإن
قلت : إنّ تعلّق النفس
المنسوخة إذا كان مقارناً لصلاحية البدن لإفاضة نفس عليه ، يمنع عن إفاضتها عليه ،
فلا يلزم اجتماع نفسين في بدن واحد.
قلت : إنّ استعداد
المادّة البدنية لقبول النفس من واهب الصور يجري مجرى استعداد الجدار لقبول نور
الشّمس مباشرة وانعكاساً ، فلا يكون أحدهما مانعاً عن الآخر ، غير أنّ اجتماع
النفسين في بدن واحد ممتنع عقلاً ، والامتناع ناشٍ من فرض التناسخ كما لا يخفى.
التناسخ والمسخ
ربما يقال : «لو
كان التناسخ ممتنعاً فكيف وقع المسخ في الأُمم السّالفة ، كما صرّح به الذكر
الحكيم؟» .
والجواب
: أنّ محذور
التناسخ المحال ، أمران :
أحدهما
: اجتماع نفسين في
بدن واحد.
ثانيهما
: تراجع النفس
الإنسانية من كمالها إلى الحدّ الّذي يناسب بدنها المتعلّقة به.
__________________
والمحذوران
منتفيان في المقام ، فإنّ حقيقة مسخ الأُمّة المغضوبة والملعونة هي تلبّس نفوسهم
الخبيثة لباس الخنزير والقرد ، لا تبدّل نفوسهم الانسانية إلى نفوس القردة
والخنازير ، قال التفتازاني :
إنّ المتنازع هو
أنّ النفوس بعد مفارقتها الأبدان ، تتعلّق في الدنيا بأبدان أخر للتدبير والتصرّف
والاكتساب لا أن تتبدّل صور الأبدان كما في المسخ ...
وقال العلّامة
الطباطبائي : «الممسوخ من الإنسان ، إنسان ممسوخ لا أنّه ممسوخ فاقد للإنسانية».
التناسخ والرجعة
قد يقال : ما هو
الفرق بين التناسخ الباطل والقول بالرجعة على ما عليه الإمامية؟».
الجواب
: الفرق بينهما
واضح بعد الوقوف على ما تقدّم ، فإنّ الرجعة لا تستلزم انتقال النفس من بدن إلى
بدن آخر ، ولا اجتماع نفسين في بدن واحد ، ولا تراجع النفس عن كمالها الحاصل لها ،
وبذلك تعرف قيمة كلمة أحمد أمين المصري حيث يقول : «وتحت التشيّع ظهر القول بتناسخ
الأرواح».
__________________
الفصل الخامس :
القبر والبرزخ
البرزخ هو المنزل
الأوّل للإنسان بعد الموت ، وقد صرّح القرآن على أنّ أمام الإنسان بعد موته برزخ
إلى يوم القيامة قال عزّ من قائل :
(وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ
إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
ولكنّ الآية لا
تدلّ على وجود حياة في تلك الفاصلة ، نعم هناك آيات يستفاد منها وجود حياة واقعية
للإنسان في تلك النشأة نأتي ببعضها :
١. قال تعالى :
(قالُوا رَبَّنا
أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا
فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ).
والظاهر أنّ
المراد من الإحياءين والإماتتين ما يلي :
الإماتة الأولى هي
الإماتة عن الحياة الدنيا. والإحياء الأوّل هو الإحياء في البرزخ ، وتستمرّ هذه
الحياة إلى نفخ الصور الأوّل.
__________________
والاماتة الثانية
، عند نفخ الصور الأوّل ، يقول سبحانه : (وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) والإحياء الثاني ، عند نفخ الصور الثاني ، يقول سبحانه : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ
الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) .
وتعدّد نفخ الصّور
يستفاد من الآيتين ، فيترتّب على الأوّل هلاك من في السّماوات ومن في الأرض ، إلّا
من شاء الله ، وعلى الثاني قيام الناس من أجداثهم ، وفي أمر النفخ الثاني يقول
سبحانه : (وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) .
ويقول سبحانه : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا
أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ).
واختلاف الآثار
يدلّ على تعدّد النفخ.
وعلى ضوء هذا
فللإنسان حياة بعد الإماتة من الحياة الدنيا ، وهي حياة برزخية متوسطة بين
النشأتين.
٢ ـ قوله سبحانه :
(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ
أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) وهذه الآية تدلّ على أنّهم دخلوا النار بعد الغرق بلا فصل
للفاء في قوله : (فَأُدْخِلُوا).
__________________
٣ ـ قوله سبحانه :
(النَّارُ يُعْرَضُونَ
عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ
فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) .
وهذه الآية تحكي
عرض آل فرعون على النار صباحاً ومساءً ، قبل يوم القيامة ، بشهادة قوله بعد العرض
: (وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ) ولأجل ذلك ، عبّر عن العذاب الأوّل بالعرض على النّار ،
وعن العذاب في الآخرة ، بإدخال آل فرعون أشدّ العذاب ، حاكياً عن كون العذاب في
البرزخ ، أخفّ وطأً من عذاب يوم السّاعة.
ثمّ إنّ هناك آيات
تدلّ على حياة الإنسان في هذا الحدّ الفاصل بين الدنيا والبعث ، حياة تناسب هذا
الظرف ، تقدّم ذكرها عند البحث عن تجرّد النفس ، ونكتفي هنا بهذا المقدار ، حذراً
من الإطالة.
وأمّا من السنّة ،
فنكتفي بما جاء عن الصادق عليهالسلام ، عند ما سُئِلَ عن أرواح المؤمنين ، فقال :
في حجرات في
الجنّة ، يأكلون من طعامها ، ويشربون من شرابها ، ويقولون ربّنا أتمم لنا السّاعة
وأنجز ما وعدتنا».
وسئل عن أرواح
المشركين ، فقال : «في النّار يعذّبون ، يقولون لا تقم لنا السّاعة ، ولا تنجز لنا
ما وعدتنا».
__________________
السؤال في القبر وعذابه
ونعيمه
إذا كانت الحياة
البرزخية هي المرحلة الأُولى من الحياة بعد الدنيا ، يظهر لنا أنّ ما اتّفق عليه
المسلمون من سؤال الميّت في قبره ، وعذابه إن كان طالحاً ، وإنعامه إن كان مؤمناً
صالحاً ، صحيح لا غبار عليه ، وأنّ الإنسان الحيّ في البرزخ مسئول عن أمور ، ثمّ
معذّب أو منعّم.
قال الصدوق :
اعتقادنا في
المسألة في القبر أنّها حق لا بدّ منها ، ومن أجاب الصواب ، فاز بروحٍ وريحان في
قبره ، وبجنّة النعيم في الآخرة ، ومن لم يجب بالصواب ، فله نُزُلٌ من حميم في
قبره ، وتصلية جحيم في الآخرة.
وقال الشيخ المفيد
:
جاءت الآثار
الصحيحة عن النبيّ أنّ الملائكة تنزل على المقبورين فتسألهم عن أديانهم ، وألفاظ
الأخبار بذلك متقاربة ، فمنها أنّ ملكين لله تعالى ، يقال لهما ناكر ونكير ،
ينزلان على الميت فيسألانه عن ربّه ونبيّه ودينه وإمامه ، فإن أجاب بالحقّ ،
سلّموه إلى ملائكة النعيم ، وإن ارتج سلّموه إلى ملائكة العذاب. وفي بعض الروايات
أنّ اسمي الملكين اللذين ينزلان على الكافر : ناكر ونكير ، واسمي الملكين اللذين
ينزلان على المؤمن : مبشّر وبشير.
إلى أن قال :
وليس ينزل الملكان
إلّا على حي ، ولا يسألان إلّا من يفهم المسألة ويعرف معناها ، وهذا يدلّ على أنّ
الله تعالى يحيي العبد بعد موته للمسألة ، ويديم حياته لنعيم إن كان يستحقّه ، أو
لعذاب إن كان يستحقّه.
والظاهر اتفاق
المسلمين على ذلك ، يقول أحمد بن حنبل :
وعذاب القبر حق ،
يسأل العبد عن دينه وعن ربّه ، ويرى مقعده من النار والجنّة ، ومنكر ونكير حق.
وقد نسب إلى
المعتزلة إنكار عذاب القبر ، والنسبة في غير محلّها ، وإنّما المنكر واحد منهم ،
هو ضرار بن عمرو ، وقد انفصل عن المعتزلة ، صرّح بذلك القاضي عبد الجبار المعتزلي.
هذا كلّه ممّا لا
ريب فيه ، إنّما الكلام فيما هو المراد هنا من القبر ، والإمعان في الآيات الماضية
الّتي استدللنا بها على الحياة البرزخية ، والروايات الواردة حول البرزخ ، تعرب
بوضوح عن أنّ المراد من القبر ، ليس هو المكان الّذي يدفن فيه الإنسان ، ولا
يتجاوز جثَّته في السَّعة ، وإنّما المراد منه هو النشأة الّتي يعيش فيها الإنسان
بعد الموت وقبل البعث ، وإنّما
__________________
كنّي بالقبر عنها
، لأنّ النزول إلى القبر يلازم أو يكون بدءاً لوقوع الإنسان فيها.
والظاهر من
الروايات تعلّق الروح بأبدان تماثل الأبدان الدنيوية ، لكن بلطافة تناسب الحياة في
تلك النشأة ، وليس التعلّق بها ملازماً لتجويز التناسخ ، لأنّ المراد من التناسخ
هو رجوع الشيء من الفعلية إلى القوّة ، أعني عودة الروح إلى الدنيا عن طريق النطفة
، فالعلقة ، فالمضغة إلى أن تصير إنساناً كاملاً ، وهذا منفي عقلاً وشرعاً ، كما
تقدّم ، ولا يلزم هذا في تعلّقها ببدن ألطف من البدن المادي ، في النشأة الثانية.
قال الشيخ البهائى
:
قد يتوهّم أنّ
القول بتعلّق الأرواح ، بعد مفارقة أبدانها العنصرية ، بأشباح أُخر ـ كما دلّت عليه
الأحاديث ـ قول بالتناسخ ، وهذا توهّم سخيف ، لأنّ التناسخ الّذي أطبق المسلمون
على بطلانه ، هو تعلّق الأرواح بعد خراب أجسادها ، بأجسام أخر في هذا العالم ،
وأمّا القول بتعلّقها في عالم آخر ، بأبدان مثالية ، مدّة البرزخ ، إلى أن تقوم
قيامتها الكبرى ، فتعود إلى أبدانها الأوليّة بإذن مُبدعها ، فليس من التناسخ في
شيء.
__________________
الفصل السادس :
الحساب والشهود :
أ. الحساب يوم القيامة
إنّ من أسماء يوم
القيامة ، «يوم الحساب» ، يحكي القرآن الكريم دعاء إبراهيم عليهالسلام إلى الله تعالى ، حيث قال :
(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي
وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) .
كما يحكي أنّ موسى
عليهالسلام فيما أجاب فرعون حينما هدده بالقتل قال : (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ
مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) .
ثمّ إنّ الغرض من
الحساب ليس هو وقوفه سبحانه على ما يستحقّه العباد من الثواب والعقاب ، بالوقوف
على أعمالهم الصالحة والطالحة وهذا واضح ، بل الغرض منه الاحتجاج على العاصين ،
وإبراز عدله تعالى على العباد في مقام الجزاء ، ولأجل ذلك يقيم عليهم شهوداً
مختلفة ، وللشيخ الصدوق كلام مبسوط في المقام نأتي به إيضاحاً للمقصود ، قال :
اعتقادنا في
الحساب أنّه حقّ ، منه ما يتولّاه الله عزوجل ، ومنه
__________________
ما يتولّاه حججه ،
فحساب الأنبياء والأئمة عليهمالسلام يتولّاه عزوجل ، ويتولّى كلّ نبي حساب أوصيائه ويتولّى الأوصياء حساب
الأُمم ، والله تبارك وتعالى هو الشهيد على الأنبياء والرسل ، وهم الشهداء على
الأوصياء ، والأئمّة شهداء على الناس ، وذلك قول الله عزوجل :
(لِيَكُونَ الرَّسُولُ
شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) .
وقوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ
أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً).
وقال الله تعالى :
(أَفَمَنْ كانَ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) .
والشاهد أمير
المؤمنين عليهالسلام ؛
وقوله تعالى : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ
عَلَيْنا حِسابَهُمْ) .
ومن الخلق من يدخل
الجنّة بغير حساب ، وأمّا السؤال فهو واقع على جميع الخلق لقول الله تعالى :
(فَلَنَسْئَلَنَّ
الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) .
يعني عن الدّين ،
وكلّ محاسب معذّب ولو بطول الوقوف ، ولا ينجو
__________________
من النار ولا يدخل
الجنّة أحد بعمله إلّا برحمة الله تعالى.
وإنّ الله تبارك
وتعالى يخاطب عباده من الأوّلين والآخرين بمجمل حساب عملهم مخاطبة واحدة يسمع منها
كلّ واحد قضيته دون غيرها ، ويظنّ أنّه المخاطب دون غيره ، ولا تشغله تعالى مخاطبة
عن مخاطبة.
ويخرج الله تعالى
لكلّ إنسان كتاباً يلقاه منشوراً ، ينطق عليه بجميع أعماله ، لا يغادر صغيرة ولا
كبيرة إلّا أحصاها ، فيجعله الله محاسب نفسه والحاكم عليها بأن يقال له :
(اقْرَأْ كِتابَكَ
كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) .
ويختم الله تبارك
وتعالى على قوم على أفواههم وتشهد أيديهم وأرجلهم وجميع جوارحهم بما كانوا يكتمون.
(وَقالُوا
لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي
أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) .
ب. الشهود يوم القيامة
يستفاد من آيات
الذكر الحكيم أنّ الشهود في يوم الحساب على أصناف ، وهم :
__________________
١. الله سبحانه :
يقول تعالى : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) .
ويقول أيضاً : (لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ
شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) .
٢. نبيّ كلّ أمّة :
يقول سبحانه : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ
شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) .
ويقول أيضاً : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ
شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ* وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ
شَهِيداً) .
والظاهر أنّ هذا
الشاهد من كلّ أمّة هو نبيُّهم ، وإن لم يصرّح به في الآيات ، وذلك للزوم كون
الشهادة القائمة هناك مشتملة على حقائق لا سبيل للمناقشة فيها ، فيجب أن يكون هذا
الشاهد عالماً بحقائق الأعمال الّتي يشهد عليها ، ولا يكون هذا إلّا بأن يستوي
عنده الحاضر والغائب ، ولا يتصوّر هذا المقام إلّا لنبي كلّ أمّة.
__________________
٣. نبيّ الإسلام :
يقول سبحانه : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ
أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً).
٤. بعض الأُمّة
الإسلامية :
يقول سبحانه : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً
لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) .
والخطاب في الآية
وإن كان للأمّة الإسلامية ، لكنّ المراد بعضهم ، نظير قوله تعالى : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) مخاطباً لبني إسرائيل ، والمراد بعضهم ، والدليل على أنّ
المراد بعض الأُمّة ، هو أنّ أكثر أبنائها ليس لهم معرفة بالأعمال إلّا بصورها إذا
كانوا في محضر المشهود عليهم ، وهو لا يفي في مقام الشهادة ، لأنّ المراد منها هو
الشهادة على حقائق الأعمال والمعاني النفسانية من الكفر والإيمان ، وعلى كلّ ما
خفي عن الحسّ ومستبطن عن الإنسان ممّا تكسبه القلوب الّذي يدور عليه حساب ربّ
العالمين يقول سبحانه : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ
بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) .
وليس ذلك في وسع
الإنسان العادي إذا كان حاضراً عند المشهود عليه ، فضلاً عن كونه غائباً ، وهذا
يدلّنا على أنّ المراد رجال من الأُمّة لهم
__________________
تلك القابليّة
بعنايةٍ من الله تعالى ، فيقفون على حقائق أعمال الناس المشهود عليهم.
أضف إلى ذلك أنّ
أقلّ ما يعتبر في الشهود هو العدالة والتقوى ، والصدق والأمانة ، والأكثرية
الساحقة من الأُمّة يفقدون ذلك وهم لا تقبل شهادتهم على صاع من تمرٍ أو باقة من
بقل ، فكيف تقبل شهادتهم يوم القيامة؟!
وإلى هذا تشير
رواية الزبيري عن الإمام الصادق عليهالسلام ، قال : «أفَتَرى أنّ من لا تجوّز شهادته في الدنيا على
صاع من تمر ، يطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأُمم الماضية؟!
كلّا ، لم يعن الله مثل هذا من خلقه».
٥. الأعضاء والجوارح :
يقول سبحانه : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).
وأمّا كيفية
الشهادة فهي من الأُمور الغيبية نؤمن بها ، وما إنطاقها على الله بعزيز ، وقد وسعت
قدرته تعالى كلّ شيء ، كما يشير إليه قوله تعالى :
(قالُوا أَنْطَقَنَا
اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) .
__________________
الفصل السابع :
الميزان والصراط
من الأبحاث
الكلامية الراجعة إلى المعاد هو البحث حول الميزان والصراط ، ولا اختلاف بين
المسلمين في الاعتقاد بهما ، وإنّما الاختلاف في المقصود منهما ، ونحن نذكر
الأقوال في هذا المجال أوّلاً ، ثمّ نبيّن ما هو الصحيح عندنا فنقول :
أ) الميزان
اختلفوا في كيفية
الميزان يوم القيامة ، فقال شيوخ المعتزلة : إنّه يوضع ميزان حقيقي له كفّتان يوزن
به ما يتبيّن من حال المكلّفين في ذلك الوقت لأهل الموقف ، بأن يوضع كتاب الطاعات
في كفّة الخير ويوضع كتاب المعاصي في كفّة الشرّ ، ويجعل رجحان أحدهما دليلاً على
إحدى الحالتين ، أو بنحو من ذلك لورود الميزان سمعاً والأصل في الكلام الحقيقة مع
إمكانها.
وقال عبّاد وجماعة
من البصريين وآخرون من البغداديين المراد بالموازين ، العدل دون الحقيقة.
__________________
أقول
: لا شكّ أنّ
النشأة الآخرة ، أكمل من هذه النشأة وأنّه لا طريق لتفهيم الإنسان حقائق ذاك
العالم وغيوبه المستورة عنّا إلّا باستخدام الألفاظ الّتي يستعملها الإنسان في
الأُمور الحسّية ، وعلى ذلك فلا وجه لحمل الميزان على الميزان المتعارف ، خصوصاً بعد
استعماله في القرآن في غير هذا الميزان المحسوس ، قال سبحانه :
(لَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ).
لا معنى لتخصيص
الميزان هنا بما توزن به الأثقال ، مع أنّ الهدف هو قيام الناس بالقسط في جميع
شئونهم العقيديّة والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.
كما أنّ تفسير
الميزان بالعدل ، أو بالنبيّ ، أو بالقرآن كلّها تفاسير بالمصداق ، فليس للميزان
إلّا معنى واحد هو ما يوزن به الشيء ، وهو يختلف حسب إختلاف الموزون من كونه جسماً
أو حرارة أو نوراً أو ضغطاً أو رطوبة أو غير ذلك ، قال صدر المتألهين :
ميزان كلّ شيء
يكون من جنسه ، فالموازين مختلفة ، والميزان المذكور في القرآن ينبغي أن يحمل على
أشرف الموازين ، وهو ميزان يوم الحساب ، كما دلّ عليه قوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ
الْقِيامَةِ) وهو ميزان العلوم وميزان
__________________
الأعمال القلبية
الناشئة من الأعمال البدنية.
ولسيّدنا الأُستاذ
العلّامة الطباطبائي قدسسره في المقام تحقيق لطيف استظهره من الآيات القرآنية وحاصله :
أنّ ظاهر آيات
الميزان هو أنّ الحسنات
توجب ثقل الميزان والسيئات خفَّته فإنّها تثبت الثقل في جانب الحسنات دائماً
والخفّة في جانب السيئات دائماً ، لا أن توزن الحسنات فيؤخذ ما لها من الثقل ثمّ
السيّئات ويؤخذ ما لها من الثقل ، ثمّ يقاس الثقلان فأيّهما كان أكثر كان القضاء
له ، ولازمه صحّة فرض أن يتعادل الثقلان كما في الموازين الدائرة بيننا من ذي
الكفّتين والقبّان وغيرهما.
ومن هنا يتأيّد في
النظر أنّ هناك أمراً آخر تقاس به الأعمال ، والثقل له ، فما كان منها حسنة انطبق
عليه ووزن به وهو ثقل الميزان ، وما كان منها سيئة لم ينطبق عليه ولم يوزن به وهو
خفة الميزان ، كما نشاهده فيما عندنا من الموازين ، فإنّ فيها مقياساً وهو الواحد
من الثقل كالمثقال يوضع في إحدى الكفتين ثمّ يوضع المتاع في الكفة الأخرى ، فإن
عادل المثقال وزناً بوجه على ما يدل عليه الميزان أخذ به وإلّا فهو الترك لا محالة
والمثقال في الحقيقة هو الميزان الّذي يوزن به ، وأمّا
__________________
القبّان ، وذو
الكفّتين ونظائرهما فهي مقدّمة لما يبيّنه المثقال من حال المتاع الموزون به ثقلاً
وخفة.
ففي الأعمال واحد
مقياس توزن به ، فللصلاة مثلاً ميزان توزن به وهي الصلاة التامّة الّتي هي حقّ
الصلاة ، وللزكاة والإنفاق نظير ذلك ، وللكلام والقول حقّ القول الّذي لا يشتمل
على باطل ، وهكذا كما يشير إليه قوله تعالى :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) .
فالله سبحانه يزن
الأعمال يوم القيامة بالحقّ ، فما اشتمل عليه العمل من الحقّ فهو وزنه وثقله.
وعلى هذا فالوزن
في الآية بمعنى الثقل دون المعنى المصدري ، وإنّما عبّر بالموازين ـ بصيغة الجمع ـ
لأنّ لكلّ أحد موازين كثيرة من جهة اختلاف الحقّ الّذي يوزن به بإختلاف الأعمال ،
فالحقّ في الصلاة ـ وهو حقّ الصلاة ـ غير الحقّ في الزكاة والصيام والحج وغيرها
وهو ظاهر.
ب) الصراط
يستظهر من الذكر
الحكيم ، ويدلّ عليه صريح الروايات ، وجود صراط في النشأة الأخروية يسلكه كلّ مؤمن
وكافر يقول سبحانه : (فَوَ رَبِّكَ
__________________
لَنَحْشُرَنَّهُمْ
وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ... وَإِنْ
مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) .
وقد اختلف
المفسّرون في معنى الورود ، بين قائل بأنّ المراد منه هو الوصول إليها ، والإشراف
عليها لا الدخول ، وقائل بأنّ المراد دخولها ، وعلى كلّ تقدير فلا مناص للمسلم من
الاعتقاد بوجود صراط في النشأة الأخروية وهو طريق المؤمن إلى الجنّة والكافر إلى
النّار.
ثمّ إنّهم اختلفوا
في أنّ الصراط هل هو واحد يمرّ عليه الفريقان ، أو أنّ لكلّ من أصحاب الجنّة
والنار طريقاً يختصّ به؟ قال العلّامة الحلّي :
وأمّا الصراط فقد
قيل إنّ في الآخرة طريقين : أحدهما إلى الجنة يهدي الله تعالى إليها أهل الجنة
والأخرى إلى النّار يهدي الله تعالى أهل النّار إليها ، كما قال تعالى في أهل
الجنة :
(سَيَهْدِيهِمْ
وَيُصْلِحُ بالَهُمْ* وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) .
وقال في أهل النار
: (فَاهْدُوهُمْ إِلى
صِراطِ الْجَحِيمِ) .
وقيل إنّ هناك
طريقاً واحداً على جهنّم يكلّف الجميع المرور عليه ويكون أدقّ من الشعر وأحدّ من
السيف ، فأهل الجنّة يمرّون عليه لا يلحقهم خوف ولا غمّ ، والكفّار يمرّون عليه
عقوبة لهم وزيادة في خوفهم ، فإذا بلغ
__________________
كلّ واحد إلى
مستقره من النّار سقط من ذلك الصراط.
وقال الشيخ المفيد
في تفسير كون الصراط أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف :
المراد بذلك أنّه
لا يثبت لكافر قدم على الصراط يوم القيامة من شدّة ما يلحقهم من أهوال يوم القيامة
ومخاوفها فهم يمشون عليه كالذي يمشي على الشيء الّذي هو أدقّ من الشعرة وأحدّ من
السيف ، وهذا مثل مضروب لما يلحق الكافر من الشدّة في عبوره على الصّراط.
أقول
: لا شكّ أنّ هناك
صلة بين الصراط الدنيوي (القوانين الشرعية الّتي فرضها الله سبحانه على عباده
وهداهم إليها) والصراط الأُخروي ، والقيام بالوظائف الإلهية ، الّذي هو سلوك
الصراط الدنيوي ، أمر صعب أشبه بسلوك طريق أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف ، فكم من
إنسان ضلّ في طريق العقيدة ، وعبد النفس والشيطان والهوى ، مكان عبادة الله سبحانه
، وكم من إنسان فشل في مقام الطاعة والعمل بالوظائف الإلهيّة.
فإذا كان هذا حال
الصراط الدنيوي من حيث الصعوبة والدقّة ، فهكذا حال الصراط الأخروي ، ولأجل ذلك
تضافرت روايات عن الفريقين بإختلاف مرور الناس حسب اختلافهم في سلوك صراط الدنيا ،
قال الإمام الصادق عليهالسلام :
__________________
«الناس يمرّون على
الصراط طبقات ، فمنهم من يمرُّ مثل البرق ، ومنهم مثل عدو الفرس ، ومنهم من يمرُّ
حبواً ، ومنهم من يمرُّ مشياً ، ومنهم من يمرُّ متعلّقاً قد تأخذ النار منه شيئاً
وتترك شيئاً».
* * *
__________________
الفصل الثامن :
الشفاعة في القيامة
المراد من الشفاعة
في مصطلح المتكلّمين هو أن تصل رحمته سبحانه ومغفرته إلى عباده من طريق أوليائه
وصفوة عباده ، ووزان الشفاعة في كونها سبباً لإفاضة رحمته تعالى على العباد وزان
الدعاء في ذلك ، يقول سبحانه :
(وَلَوْ أَنَّهُمْ
إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ
الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) .
وتتّضح هذه
الحقيقة إذا وقفنا على أنّ الدعاء بقول مطلق ، وبخاصّة دعاء الصالحين ، من
المؤثِّرات الواقعة في سلسلة نظام الأسباب والمسبّبات الكونية ، وعلى هذا ترجع
الشفاعة المصطلحة إلى الشفاعة التكوينية بمعنى تأثير دعاء النبيّ صلىاللهعليهوآله في جلب المغفرة الإلهيّة إلى العباد.
الشفاعة في الكتاب
والسنّة
قد ورد ذكر
الشفاعة في الكتاب الحكيم في سور مختلفة لمناسبات شتّى
__________________
كما وقعت مورد
اهتمام بليغ في الحديث النبويّ وأحاديث العترة الطاهرة ، والآيات القرآنية في هذا
المجال على أصناف :
الصنف الأوّل : ما
ينفي الشفاعة في بادئ الأمر ، كقوله سبحانه :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ
يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ
الظَّالِمُونَ) .
الصنف الثاني : ما
ينفي شمول الشفاعة للكفّار ، يقول سبحانه ـ حاكياً عن الكفّار ـ :
(وَكُنَّا نُكَذِّبُ
بِيَوْمِ الدِّينِ* حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ* فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ
الشَّافِعِينَ) .
الصنف الثالث : ما
ينفي صلاحية الأصنام للشفاعة ، يقول سبحانه :
(وَما نَرى مَعَكُمْ
شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ
بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) .
الصنف الرابع : ما
ينفي الشفاعة عن غيره تعالى ، يقول سبحانه : (وَأَنْذِرْ بِهِ
الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ
وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) .
__________________
الصنف
الخامس : ما يثبت الشفاعة
لغيره تعالى بإذنه ، يقول سبحانه : (يَوْمَئِذٍ لا
تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) .
الصنف السادس : ما
يبيّن من تناله شفاعة الشافعين ، يقول سبحانه : (وَلا يَشْفَعُونَ
إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) .
ويقول أيضاً : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا
تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ
يَشاءُ وَيَرْضى) .
هذه نظرة إجماليّة
إلى آيات الشفاعة ، وأما السنّة فمن لاحظ الصحاح والمسانيد والجوامع الحديثية يقف
على مجموعة كبيرة من الأحاديث الواردة في الشفاعة توجب الإذعان بأنّها من الأُصول
المسلّمة في الشريعة الإسلامية ، وإليك نماذج منها :
١. قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «لكلّ نبيّ دعوة مستجابة ، فتعجّل كلّ نبيّ دعوته ،
وإنّي اختبأت دعوتي شفاعة لأُمتي ، وهي نائلة من مات منهم لا يشرك بالله شيئاً».
وقال صلىاللهعليهوآله : «أعطيت خمساً وأعطيت الشفاعة ، فادّخرتها لأُمتي ، فهي
لمن لا يشرك بالله».
__________________
وقال صلىاللهعليهوآله : «إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي».
وقال علي عليهالسلام : «ثلاثة يشفعون إلى الله عزوجل فيشفّعون : الأنبياء ، ثمّ العلماء ، ثمّ الشهداء».
وقال الإمام زين
العابدين عليهالسلام : «اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد ، وشرِّف بنيانه ،
وعظِّم برهانه ، وثقِّل ميزانه ، وتقبَّل شفاعته».
الشفاعة المطلقة
والمحدودة
تتصوّر الشفاعة
بوجهين :
١.
المطلقة : بأن يستفيد
العاصي من الشفاعة يوم القيامة وإن فعل ما فعل ، وهذا مرفوض في منطق العقل والوحي.
٢.
المحدودة : وهي الّتي تكون
مشروطة بأُمور في المشفوع له ، ومجمل تلك الشروط أن لا يقطع الإنسان جميع علاقاته
العبودية مع الله ووشائجه الروحية مع الشافعين ، وهذا هو الّذي مقبول عند العقل
والوحي.
وبذلك يتضح الجواب
عمّا يعترض على الشفاعة من كونها توجب الجرأة وتحيي روح التمرّد في العصاة
والمجرمين ، فإنّ ذلك من لوازم الشفاعة المطلقة المرفوضة ، لا المحدودة المقبولة.
__________________
والغرض من تشريع
الشفاعة هو الغرض من تشريع التوبة الّتي اتّفقت الأُمّة على صحّتها ، وهو منع
المذنبين عن القنوط من رحمة الله وبعثهم نحو الابتهال والتضرّع إلى الله رجاء شمول
رحمته إليهم ، فإنّ المجرم لو اعتقد بأنّ عصيانه لا يغفر قطّ ، فلا شكّ أنّه
يتمادى في اقتراف السيئات باعتقاد أنّ ترك العصيان لا ينفعه في شيء ، وهذا بخلاف
ما إذا أيقن بأنّ رجوعه عن المعصية يغيّر مصيره في الآخرة ، فإنّه يبعثه إلى ترك
العصيان والرجوع إلى الطاعة.
وكذلك الحال في
الشفاعة ، فإذا اعتقد العاصي بأنّ أولياء الله قد يشفعون في حقّه إذا لم يهتك
الستر ولم يبلغ إلى الحدّ الّذي يحرم من الشفاعة ، فعند ذلك ربّما يحاول تطبيق
حياته على شرائط الشفاعة حتى لا يحرمها.
شرائط شمول الشفاعة
قد تعرّفت على أنّ
الشفاعة المشروعة هي الشفاعة المحدودة بشروط ، وقد عرفت مجمل تلك الشروط ، وينبغي
لنا أن نذكر بعض تلك الشروط تفصيلاً على ما ورد في الروايات :
١. منها عدم الإشراك بالله تعالى :
وقد تقدّم ذلك
فيما نقلناه من أحاديث الشفاعة.
٢. الإخلاص في الشهادة بالتوحيد :
قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلّا الله مخلصاً ، يصدِّق
قلبه لسانه ، ولسانه قلبه».
٣. عدم كونه ناصبياً :
قال الإمام الصادق
عليهالسلام : «إنّ المؤمن ليشفع لحميمه إلّا أن يكون ناصباً ، ولو أنّ
ناصباً شفع له كلّ نبيّ مرسل وملك مقرّب ما شفعوا».
٤. عدم الاستخفاف بالصلاة :
قال الإمام الكاظم
عليهالسلام : «إنّه لا ينال شفاعتنا من استخف بالصلاة».
٥. عدم التكذيب بشفاعة النبيّ صلىاللهعليهوآله :
قال الإمام علي بن
موسى الرضا عليهالسلام : قال أمير المؤمنين عليهالسلام : «من كذّب بشفاعة رسول الله لم تنله».
ما هو أثر الشفاعة؟
إنّ الشفاعة عند
الأُمم ، مرفوضها ومقبولها يراد منها حطّ الذنوب ورفع العقاب ، وهي كذلك عند
الإسلام كما يوضحه قوله صلىاللهعليهوآله : «إدّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي».
__________________
ولكنّ المعتزلة
ذهبت إلى أنّ أثرها ينحصر في رفع الدرجة وزيادة الثواب ، فهي تختصّ بأهل الطاعة ،
وما هذا التأويل في آيات الشفاعة إلّا لأجل موقف مسبق لهم في مرتكب الكبيرة ، حيث
حكموا بخلوده في النار إذا مات بلا توبة ، فلمّا رأوا أنّ القول بالشفاعة الّتي
أثرها هو إسقاط العقاب ، ينافي ذلك المبنى ، أوّلوا آيات الله فقالوا إنّ أثر
الشفاعة إنّما هو زيادة الثواب وخالفوا في ذلك جميع المسلمين.
هل يجوز طلب الشفاعة؟
ذهب ابن تيمية ،
وتبعه محمّد بن عبد الوهاب ـ مخالفَين الأُمّة الإسلاميّة جمعاء ـ إلى أنّه لا
يجوز طلب الشفاعة من الأولياء في هذه النشأة ولا يجوز للمؤمن أن يقول : «يا رسول
الله اشفع لي يوم القيامة».
وإنّما يجوز له أن
يقول : «اللهم شفّع نبيّنا محمّداً فينا يوم القيامة».
واستدلا على ذلك
بوجوه تالية :
١. إنّه من أقسام
الشرك ، أي الشرك بالعبادة ، والقائل بهذا الكلام يعبد الولي.
والجواب عنه ظاهر
، بما قدّمناه في حقيقة الشّرك في العبادة ، وهي أن يكون الخضوع والتذلّل لغيره
تعالى باعتقاد أنّه إله أو ربّ ، أو أنّه مفوّض إليه
__________________
فعل الخالق
وتدبيره وشئونه ، لا مطلق الخضوع والتذلّل.
٢. إنّ طلب
الشفاعة من النبيّ يشبه عمل عبدة الأصنام في طلبهم الشفاعة من آلهتهم الكاذبة ،
يقول سبحانه :
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا
عِنْدَ اللهِ).
وعلى ذلك
فالاستشفاع من غيره سبحانه عبادة لهذا الغير.
ويردّه أنّ
المعيار في القضاء ليس هو التشابه الصوري ، بل المعيار هو البواطن والعزائم ،
وإلّا لوجب أن يكون السعي بين الصفا والمروة والطواف حول البيت شركاً ، لقيام
المشركين به في الجاهلية ، وهؤلاء المشركون كانوا يطلبون الشفاعة من الأوثان باعتقاد
أنّها آلهة أو أشياء فوّض إليها أفعال الله سبحانه من المغفرة والشفاعة.
وأين هذا ممّن طلب
الشفاعة من الأنبياء والأولياء بما أنّهم عباد الله الصالحون ، فعطف هذا على ذلك
جور في القضاء وعناد في الاستدلال.
٣. إنّ طلب
الشفاعة من الغير دعاء له ودعاء غيره سبحانه حرام ، يقول سبحانه :
(فَلا تَدْعُوا مَعَ
اللهِ أَحَداً) .
__________________
ويردّه أنّ مطلق
دعاء الغير ليس محرّماً وهو واضح ، وإنّما الحرام منه ما يكون عبادة له بأن يعتقد
الأُلوهية والربوبيّة في المدعوّ ، والآية ناظرة إلى هذا القسم بقرينة قوله : (مَعَ اللهِ) أي بأن يكون دعاء الغير على وزان دعائه تعالى وفي مرتبته ،
ويدلّ عليه قوله سبحانه ـ حاكياً قولهم يوم القيامة ـ : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ
مُبِينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ)
٤. إنّ طلب
الشفاعة من الميّت أمر باطل.
ويردّه إنّ
الإشكال ناجم من عدم التعرّف على مقام الأولياء في كتاب الله الحكيم ، وقد عرفت في
الفصول السابقة إنّ القرآن يصرّح بحياة جموع كثيرة من الشهداء ، وغيرهم ، ولو لم
يكن للنبي صلىاللهعليهوآله حياة فما معنى التسليم عليه في كلّ صباح ومساء وفي تشهّد
كلّ صلاة : «السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته»؟!
والمؤمنون لا
يطلبون الشفاعة من أجساد الصالحين وأبدانهم ، بل يطلبونها من أرواحهم المقدّسة
الحيّة عند الله سبحانه ، بأبدان برزخية.
* * *
__________________
الفصل التاسع :
الإحباط والتكفير
الإحباط في اللّغة
بمعنى الإبطال ، يقال : أحبط عمل الكافر أي أبطله. والتكفير بمعنى التغطية ، يقال
: للزارع كافر ، لأنّه يغطّي الحَبّ بتراب الأرض ، قال الله تعالى : (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ
نَباتُهُ) .
والكفر ضدّ
الإيمان ، سمّي بذلك لأنّه تغطية الحقّ.
والمراد من الحبط
في اصطلاح المتكلّمين هو سقوط ثواب العمل الصالح بالمعصية المتأخّرة ، كما أنّ
المراد من التكفير هو سقوط الذنوب المتقدّمة بالطاعة المتأخّرة.
واختلف المتكلّمون
هنا ، فقال جماعة من المعتزلة بالإحباط والتكفير ، ونفاهما المحقّقون ، ثمّ
القائلون بهما اختلفوا ، فقال أبو علي الجبّائي : إنّ المتأخّر يسقط المتقدّم
ويبقى على حاله ، وقال أبو هاشم : إنّه
__________________
ينتفي الأقل
بالأكثر ، وينتفي من الأكثر بالأقلّ ما ساواه ، ويبقى الزائد مستحقّاً ، وهذا هو
الموازنة.
ويبطل القول
الأوّل أنّه يستلزم الظلم ، لأنّ من أساء وأطاع وكانت إساءته أكثر ، يكون بمنزلة
من لم يحسن ، وإن كان إحسانه أكثر ، يكون بمنزلة من لم يسيء ، وإن تساويا يكون
مساوياً لمن لم يصدر عنه أحدهما وليس كذلك عند العقلاء.
وأيضاً ينافي قوله
تعالى :
(فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) .
ويردّ قول أبي
هاشم ما ذكره المحقّق الطوسي بقوله : «ولعدم الأولويّة إذا كان الأخر ضعفاً ،
وحصول المتناقضين مع التساوي» .
توضيحه
: أنّا إذا فرضنا
استحقاق المكلّف خمسة أجزاء من الثواب وعشرة أجزاء من العقاب ، وليس إسقاط إحدى
الخمستين من العقاب بالخمسة من الثواب أولى من الأخرى ، فإمّا أن يسقطا معاً وهو
خلاف مذهبه ، أو لا يسقط شيء منهما وهو المطلوب. ولو فرضنا أنّه فعل خمسة أجزاء من
الثواب وخمسة أجزاء من العقاب ، فإن تقدّم إسقاط أحدهما
__________________
للآخر لم يسقط
الباقي بالمعدوم لاستحالة صيرورة المعدوم والمغلوب غالباً ومؤثّراً ، وإن تقارنا
لزم وجودهما معاً ، لأنّ وجود كلّ منهما ينفي وجود الآخر فيلزم وجودهما حال عدمهما
، وذلك جمع بين النقيضين.
فإن
قلت : لو كان الإحباط
باطلاً فما هو المخلص فيما يدلّ على حبط العمل في غير مورد من الآيات الّتي ورد
فيها أنّ الكفر والارتداد والشرك والإساءة إلى النبيّ وغيرها ممّا يحبط الحسنات؟
قلت
: إنّ القائلين
ببطلان الإحباط يفسّرون الآيات بأنّ استحقاق الثواب في مواردها كان مشروطاً بعدم
لحوق العصيان بالطاعات. ويمكن أن يقال إنّ الاستحقاق في بدء صدور الطاعات لم يكن
مشروطاً بعدم لحوق العصيان ، بل كان استقراره وبقاؤه هو المشروط بعدم لحوق
المعصية.
قال الطبرسي في
تفسير قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ
بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) وفي قوله : (فَقَدْ حَبِطَ
عَمَلُهُ) هنا دلالة على أنّ حبوط الأعمال لا يترتّب على ثبوت الثواب
، فإنّ الكافر لا يكون له عمل قد ثبت عليه ثواب ، وإنّما يكون له عمل في الظاهر لو
لا كفره لكان يستحقّ الثواب عليه ، فعبّر سبحانه عن هذا العمل بأنّه حبط ، فهو
حقيقة معناه».
__________________
وبما ذكره الطبرسي
يظهر جواب سؤال آخر ، وهو أنّه إذا كان الاستحقاق مشروطاً بعدم صدور العصيان فكيف
يطلق عليه الإحباط ، إذ الإحباط إبطال وإسقاط ولم يكن هناك شيء يبطل أو يسقط؟
وذلك لأنّ نفس
العمل في الظاهر سبب ومقتضٍ ، فالإبطال والإسقاط كما يصدقان مع وجود العلّة
التامّة ، فهكذا يصدقان مع وجود المقتضي الّذي هو جزء العلّة.
هذا كلّه في
الإحباط ، وأمّا التكفير فهو لا يعدّ ظلماً لأنّ العقاب حقّ للمولى وإسقاط الحقّ
ليس ظلماً بل إحسان ، وخلف الوعيد ليس بقبيح عقلاً ، وإنّما القبيح خلف الوعد ،
فلأجل ذلك لا حاجة إلى تقييد استحقاق العقاب أو استمراره بعدم تعقّب الطاعات ، بل
هو ثابت غير أنّ المولى سبحانه عفي عبده لما فعله من الطاعات.
قال سبحانه :
(إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ
مُدْخَلاً كَرِيماً).
هذا ولا يصحّ
القول بالإحباط والتكفير في كلّ الأعمال ، بل يجب تتّبع النصوص والاقتصار بها في
ذلك.
__________________
الفصل العاشر :
الإجابة عن أسئلة حول المعاد
نختم مباحث المعاد
بالإجابة عن أسئلة طرحت في هذا المجال :
١. كيف يخلّد الإنسان في الآخرة مع أنّ
المادّة تفنى؟
دلّت الآيات
والروايات على خلود الإنسان في الآخرة ، إمّا في جنّتها ونعيمها ، أو في جحيمها
وعذابها مع أنّ القوانين العلمية دلّت على أنّ المادّة حسب تفجُّر طاقاتها ، على
مدى أزمنة طويلة ، تبلغ إلى حدّ تنفد طاقتها ، فلا يمكن أن يكون للجنّة والنار
بقاء ، وللإنسان خلود.
والجواب ، أنّ
السؤال ناش من مقايسة الآخرة بالدنيا وهو خطأ فادح ، لأنّ التجارب العلمية لا
تتجاوز نتائجها المادّة الدنيوية ، وإسراء حكم هذا العالم إلى العالم الآخر ، وإن
كان ماديّاً ، قياس بلا دليل ، فللآخرة أحكام تخصّها لا يقاس بها أحكام هذه النشأة
يقول سبحانه : (يَوْمَ تُبَدَّلُ
الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) .
__________________
قال العلّامة
الطباطبائي :
المسلم من التبدّل
أنّ حقيقة الأرض والسماء وما فيهما يومئذ هي هي ، غير أنّ النظام الجاري فيهما
يومئذ غير النظام الجاري فيهما في الدنيا.
وقد تعلّقت مشيئته
تعالى بإخلاد الجنّة والنار والحياة الأُخروية ، وله إفاضة الطاقة ، إفاضة بعد
إفاضة على العالم الأُخروي ويعرب عن ذلك قوله سبحانه :
(كُلَّما نَضِجَتْ
جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ
كانَ عَزِيزاً حَكِيماً) .
٢. ما هو الغرض من عقاب المجرم؟
إنّ الحكيم لا
يعاقب إلّا لغاية ، وغاية العقوبة إمّا التشفّي كما في قصاص المجرم ، وهو محال على
الله ، أو تأديب المجرم ، أو اعتبار الآخرين ، وهما يختصّان بالنشأة الدنيوية ،
فتعذيب المجرم في الآخرة عبث.
والجواب عنه : أنّ
وقوع المعاد من ضروريات العقل ومن غاياته تحقّق العدل الإلهي بوجه كامل في مورد
المكلّفين ، ويتوقّف ذلك على عقوبة المجرمين وإثابة المطيعين. (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ
كَالْمُجْرِمِينَ* ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) .
__________________
٣. هل يجوز العفو عن المسيء؟
والجواب مثبت ،
لأنّ التعذيب حقّ للمولى سبحانه وله إسقاط حقّه ، فيجوز ذلك إذا اقتضته الحكمة
الإلهيّة ولم يكن هناك مانع عنه.
وقد خالف معتزلة
بغداد في ذلك ، فلم يجوّزوا العفو عن العصاة عقلاً ، واستدلّوا عليه بوجهين :
الأوّل : «إنّ
المكلّف متى علم أنّه يفعل به ما يستحقّه من العقوبة على كلّ وجه ، كان أقرب إلى
أداء الواجبات واجتناب الكبائر».
يلاحظ
عليه : أنّه لو تمّ لوجب
سدّ باب التوبة ، لإمكان أن يقال إنّ المكلّف متى علم أنّه لا تقبل توبته كان أقرب
إلى الطاعة وأبعد من المعصية.
أضف إلى ذلك أنّ
للرجاء آثاراً بنّاءة في حياة الإنسان ، ولليأس آثاراً سلبية في الإدامة على الموبقات
، ولأجل ذلك جاء الذكر الحكيم بالترغيب والترهيب معاً.
ثمّ إنّ الكلام في
جواز العفو لا في حتميته ، والأثر السّلبي ـ لو سلّمناه ـ يترتّب على الثاني دون
الأوّل.
الثاني : إنّ الله
أوعد مرتكب الكبيرة بالعقاب ، فلو لم يعاقب ، للزم الخلف في وعيده والكذب في خبره
وهما محالان.
__________________
والجواب
: أنّ الخلف في
الوعد قبيح دون الوعيد ، والدليل على ذلك أنّ كلّ عاقل يستحسن العفو بعد الوعيد في
ظروف خاصّة ، والوجه فيه أنّ الوعيد ليس جعل حقّ للغير بخلاف الوعد ، بل الوعيد حق
لمن يَعِد فقط ، وله إسقاط حقّه ، والصدق والكذب من أحكام الإخبار دون الإنشاء ،
والوعيد إنشاء ليس بإخبار فلا يعرضه الكذب.
٤. هل الجنّة والنار مخلوقتان؟
اختلف المتكلّمون
في ذلك ، فذهب الجمهور إلى أنّهما مخلوقتان ، وأكثر المعتزلة والخوارج وطائفة من
الزيدية ذهبوا إلى خلاف ذلك ، قال الشيخ المفيد :
إنّ الجنة والنار
في هذا الوقت مخلوقتان ، وبذلك جاءت الأخبار ، وعليه إجماع أهل الشرع والآثار ،
وقد خالف في هذا القول المعتزلة والخوارج وطائفة من الزيدية ، فزعم أكثر من
سمّيناه أنّ ما ذكرناه من خلقهما من قسم الجائز دون الواجب ، ووقفوا في الوارد به
من الآثار ، وقال من بقي منهم بإحالة خلقهما.
واستدلّ القائلون
بكونهما مخلوقتين بالآيات الدالّة على أنّ الجنة أعدَّت للمتّقين والنار أُعدَّت
للكافرين.
__________________
وقد احتمل السيّد
الرضي في «حقائق التأويل» أن يكون التعبير بالماضي لقطعية وقوعه ، فكأنّه قد كان وله نظائر في القرآن الكريم.
أقول
: ممّا يدلّ على
أنّ الجنة مخلوقة قوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ
نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى * عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) .
ولم ير التعبير عن
الشيء الّذي سيتحقّق غداً بالجملة الاسمية.
ثمّ إنّ هناك
روايات متضافرة مصرّحة بأنّ الجنّة والنار مخلوقتان ، فلا يمكن العدول عنها.
واستدلّ النافون
لخلقهما بوجوه :
١. إنّ خلق الجنة
والنار قبل يوم الجزاء عبث.
وفيه أن الحكم
بالعبثية يتوقّف على العلم القطعي بعدم ترتّب غرض عليه ، ومن أين لنا العلم بهذا؟
ويمكن عدّ ذلك من مصاديق لطفه تعالى كما أشار إليه المحقّق اللاهيجي.
٢. إنّهما لو
خلقتا لهلكتا لقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ) .
واللازم باطل
للإجماع على دوامهما ، وللنصوص الشاهدة بدوام أُكُل الجنّة وظِلِّها.
__________________
يلاحظ
عليه : أنّه ليس المراد
من «هالك» هو تحقّق انعدام كلّ شيء وبطلان وجوده ، بل المراد أنّ كلّ شيء هالك في
نفسه باطل في ذاته ، هذا بناء على كون المراد بالهالك في الآية ، الهالك بالفعل ،
وأمّا إذا أُريد منه الاستقبال ـ بناءً على ما قيل من أنّ اسم الفاعل ظاهر في
الاستقبال ـ فهلاك الأشياء ليس بمعنى البطلان المطلق بعد الوجود بأن لا يبقى منها
أثر ، فإنّ آيات القرآن ناصّة على أنّ كلّ شيء مرجعه إلى الله وإنّما المراد
بالهلاك على هذا الوجه ، تبدّل نشأة الوجود والانتقال من الدنيا إلى الآخرة ، وهذا
يختصّ بما يكون وجوده وجوداً دنيوياً محكوماً بأحكامها ، فالجنّة والنّار
الأخرويان خارجان من مدلول الآية تخصّصاً.
وقد أجيب عن
الإشكال بمنع الملازمة ، وحمل دوام أُكُلِها وظلّها على دوامها بعد وجودها ودخول
المكلّفين فيها.
٥. أين مكان الجنّة والنّار؟
المشهور عند
المتكلّمين أنّ الجنّة فوق السماوات ، تحت العرش ، وأنّ النار تحت الأرضين والالتزام بذلك مشكل لعدم ورود دليل صريح أو ظاهر في ذلك ،
قال المحقّق الطوسي :
والحقّ إنّا لا
نعلم مكانهما ويمكن أن يستدلّ على موضع الجنة بقوله تعالى : (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) يعني عند سدرة المنتهى.
__________________
نعم ربّما يستظهر
من قوله تعالى : (وَفِي السَّماءِ
رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) إنّ الجنة في السماء فإنّ الظاهر من قوله : (وَما تُوعَدُونَ) هو الجنة».
هذا كلّه على
القول بأنّ الجنّة والنار حسب ظواهر الكتاب موجودتان في الخارج مع قطع النظر عن
أعمال المكلّفين ، وإنّهما معدَّتان للمطيع والعاصي ، وأمّا على القول بأنّ حقيقة
الجنّة والنار عبارة عن تجسّم عمل الإنسان بصورة حسنة وبهيَّة أو قبيحة ومرعبة ،
فالجنّة والنار موجودتان واقعاً بوجودهما المناسب في الدار الآخرة وإن كان أكثر
الناس ، لأجل كونه محاطاً بهذه الظروف الدنيوية ، غير قادر على رؤيتهما ، وإلّا
فالعمل سواء كان صالحاً أو طالحاً قد تحقّق وله وجودان وتمثّلان ، وكلٌّ موجود في
ظرفه.
٦. من هو المخلَّد في النار؟
اختلفت كلمة
المتكلّمين في المخلَّدين في النار ، فذهب جمهور المسلمين إلى أنّ الخلود يختصّ
بالكافر دون المسلم وإن كان فاسقاً ، وذهبت الخوارج والمعتزلة إلى خلود مرتكبي
الكبائر إذا ماتوا بلا توبة.
قال المحقّق
البحراني :
__________________
المكلّف العاصي إمّا
أن يكون كافراً أو ليس بكافر ، أمّا الكافر فأكثر الأُمّة على أنّه مخلّد في النار
، وأمّا من ليس بكافر ، فإن كانت معصيته كبيرة فمن الأُمّة من قطع بعدم عقابه وهم
المرجئة الخالصة ، ومنهم من قطع بعقابه وهم المعتزلة والخوارج ، ومنهم من لم يقطع
بعقابه إمّا لأنّ معصيته لم يستحقّ بها العقاب وهو قول الأشعرية ، وإمّا لأنّه
يستحق بها عقاباً إلّا أنّ الله تعالى يجوز أن يعفو عنه ، وهذا هو المختار.
واستدلّ المحقّق
الطوسي على انقطاع عذاب مرتكب الكبيرة بوجهين حيث قال :
وعذاب صاحب
الكبيرة ينقطع لاستحقاقه الثواب بإيمانه ولقبحه عند العقلاء.
توضيحه
: إنّ صاحب الكبيرة
يستحقّ الثواب والجنّة لإيمانه ، فإذا استحقّ العقاب بالمعصية ، فإمّا أن يقدّم
الثواب على العقاب ، وهو باطل ، لأنّ الإثابة لا تكون إلّا بدخول الجنّة والداخل
فيها مخلّد بنصّ الكتاب المجيد وعليه إجماع الأُمّة ، أو بالعكس وهو المطلوب.
أضف إلى ذلك أنّ
لازم عدم الانقطاع أن يكون من عبد الله تعالى مدّة عمره بأنواع القربات إلى الله ،
ثمّ عصى في آخر عمره معصية واحدة مع
__________________
حفظ إيمانه ،
مخلّداً في النار ، ويكون نظير من أشرك بالله تعالى مدّة عمره وهو قبيح عقلاً محال
على الله سبحانه.
واستدلّت المعتزلة
على خلود الفاسق في النّار بإطلاق الآيات الواردة في الخلود ، ولكنّ المتأمّل في
الآيات يقف على قرائن تمنع من الأخذ بإطلاقها ولا نرى ضرورة في التعرّض لها.
٧. كيف يصحّ الخلود مع كون الذنب منقطعاً؟
إنّ من السنن
العقلية المقرّرة رعاية المعادلة بين الجرم والعقوبة ، وهذه المعادلة منتفية في
العذاب المخلّد ، فإنّ الذنب كان موقتاً منقطعاً.
والجواب
عنه أمّا أوّلاً : فإنّ المراد من المعادلة بين الجرم والعقوبة ليس هو في جانب الكمّيّة ومن حيث
الزمان ، بل في جانب الكيفيّة ومن حيث عظمة الجرم بلحاظ مفاسده الفردية أو النوعية
، كما نرى ذلك في العقوبات المقرّرة عند العقلاء لمثل القتل والإخلال في النظم
الاجتماعي ، ونحو ذلك ، فالجرم يقع في زمان قليل ومع ذلك فقد يحكم عليه بالأعدام
والحبس المؤبَّد.
وأمّا
ثانياً : «فإنّ العذاب في الحقيقة أثر لصورة الشّقاء الحاصلة بعد
تحقّق علل معدّة وهي المخالفات المحدودة وليس أثراً لتلك العلل
__________________
المحدودة المنقطعة
حتى يلزم تأثير المتناهي أثراً غير متناه وهو محال ، نظيره أنّ عللاً معدّة
ومقرّبات معدودة محدودة أوجبت أن تتصوّر المادّة بالصورة الإنسانية فتصير المادة
إنساناً يصدر عنه آثار الإنسانيّة المعلولة للصورة المذكورة».
ولا معنى لأن يسأل
ويقال :
إنّ الآثار
الإنسانية الصادرة عن الإنسان بعد الموت صدوراً دائمياً سرمديّاً لحصول معدّات
محدودة مقطوعة الأمر للمادّة ، فكيف صارت مجموع منقطع الآخر من العلل سبباً لصدور
الآثار المذكورة وبقائها مع الإنسان دائماً ، لأنّ علّتها الفاعلة ـ وهي الصورة
الإنسانية ـ موجودة معها دائماً على الفرض ، فكما لا معنى لهذا السؤال لا معنى
لذلك أيضاً.
* * *
__________________
خاتمة المطاف
إلى هنا وقفنا على
الصحيح من العقائد الإسلامية مدعماً بالبرهنة من الكتاب والسنّة والعقل ، بقي
الكلام في أمورٍ نختم أبحاثنا العقائدية بالبحث عنها ، وهي :
١. الإيمان وأحكامه
الإيمان من الأمن
وله في اللّغة معنيان متقاربان : أحدهما : الأمانة الّتي هي ضد الخيانة ، ومعناها
سكون القلب. والآخر : التصديق ، والمعنيان متدانيان.
وأمّا في الشرع
فاختلفت الآراء في تحقيق الإيمان وإنّه اسم لفعل القلب فقط ، أو فعل اللسان فقط ،
أو لهما جميعاً ، أو لهما مع فعل سائر الجوارح ، وعلى القول الأوّل فهل هو المعرفة
فقط أو هي مع إذعان القلب.
فنسب إلى
الكرّامية إنّهم فسّروا الإيمان بالإقرار باللسان فقط ، واستدلّوا عليه بقوله صلىاللهعليهوآله : «أمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلّا الله ،
محمّد رسول الله».
__________________
وردّ بأنّ معنى
القول في كلامه : حتى يقولوا ، هو الإذعان والإيمان ، وإطلاق القول على الاعتقاد
والإذعان شائع ، وأيضاً الإيمان أمر قلبي يحتاج إثباته إلى مظهر وهو الإقرار
باللسان في الغالب ، وسيوافيك أنّ ظاهر كثير من النصوص هو أنّ الإيمان فعل للقلب.
وذهبت المعتزلة والخوارج
إلى أن العمل بالجوارح مقوِّم للإيمان والفاقد له ليس بمؤمن بتاتاً ، إلّا أنّهما
اختلفا ، فالخوارج يرون الفاقد كافراً ، والمعتزلة يقولون : إنّه ليس بمؤمن ولا
كافر بل هو في منزلة بين المنزلتين ، وممّا استدلوا به قوله تعالى :
(وَما كانَ اللهُ
لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) .
إذ المراد من
الإيمان في الآية هو صلاتهم إلى بيت المقدس قبل النسخ.
وردّ بأنّ
الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، ولا شكّ أنّ العمل أثر الإيمان ، ومن الشائع إطلاق
اسم السبب على المسبّب ، والقرينة على ذلك الآيات المتضافرة الدالّة على أنّ
الإيمان فعل القلب وأنّ العمل متفرّع عليه كما سيجيء.
وذهب بعض
المتكلّمين إلى أنّ الإيمان مركّب من الإذعان بالقلب والإقرار باللسان ، وهو مختار
المحقّق الطوسي في تجريد العقائد ، والعلّامة الحلّي في نهج المسترشدين ، ونسبه
التفتازاني إلى كثير من المحقّقين وقال :
__________________
هو المحكي عن أبي
حنيفة ، واستدلّ عليه بقوله تعالى :
(وَجَحَدُوا بِها
وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) .
وأُجيب بأنّ مفاد
الآية أنّهم كانوا عالمين بالحقّ مستيقنين به ، ومع ذلك لم يؤمنوا ولم يسلّموا به
ظلماً وعلوّاً ، وهذا نظير قوله سبحانه :
(فَلَمَّا جاءَهُمْ ما
عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) .
فالآية وما
يشابهها تدلّ على أنّ المعرفة بوحدها ليست هي الإيمان المطلوب في الشريعة بل يحتاج
إلى إذعان بالقلب ، والجحود باللسان ونحوه كاشف عن عدم تحقّقه.
ومن هنا تبيّن
بطلان قول من فسَّر الإيمان بالمعرفة فقط ، وقد نسب إلى جهم بن صفوان (المتوفّى
١٢٨ ه) وإلى أبي الحسن الأشعري في أحد قوليه ونسبه شارح المواقف إلى بعض الفقهاء.
وذهب جمهور
الأشاعرة إلى أنّ الإيمان هو التصديق بالجنان ، قال صاحب المواقف :
هو عندنا وعليه
أكثر الأئمّة كالقاضي والأستاذ التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة ، فتفصيلاً
فيما علم تفصيلاً ، وإجمالاً فيما علم إجمالاً.
__________________
وقال التفتازاني
بعد حكاية هذا المذهب : «وهذا هو المشهور ، وعليه الجمهور».
وقال الفاضل
المقداد :
قال بعض أصحابنا
الإمامية والأشعرية : إنّه التصديق القلبي فقط ، واختاره ابن نوبخت وكمال الدين
ميثم في قواعده ، وهو الأقرب لما قلناه من أنّه لغة التصديق ، ولما ورد نسبته إلى
القلب ، عرفنا أنّ المراد به التصديق القلبي ، لا أي تصديق كان ... ويكون النطق
باللسان مبيّناً لظهوره ، والأعمال الصالحات ثمرات مؤكِّدة له.
وهذا القول هو
الصحيح وتدلّ عليه طوائف ثلاث من الآيات :
الأُولى : ما عدّ
الإيمان من صفات القلب ، والقلب محلاً له ، مثل قوله تعالى :
(أُولئِكَ كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) .
وقوله تعالى : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي
قُلُوبِكُمْ) .
وقوله تعالى : (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) .
والثانية : ما عطف
العمل الصالح على الإيمان ، فإنّ ظاهر العطف إنّ
__________________
المعطوف غير
المعطوف عليه ، والآيات في هذا المعنى فوق حدّ الإحصاء.
والثالثة : آيات
الختم والطبع نحو قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ
طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ).
وقوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) .
فالإمعان في هذه
الآيات يثبت أن الإيمان هو التصديق القلبي ، يترتّب عليه أثر دنيوي وأخروي ، أمّا
الدنيوي فحرمة دمه وعرضه وماله ، إلّا أن يرتكب قتلاً أو يأتي بفاحشة.
وأمّا الأُخروي
فصحّة أعماله ، واستحقاق المثوبة عليها وعدم الخلود في النار ، واستحقاق العفو
والشفاعة في بعض المراحل.
ثمّ إنّ السّعادة
الأُخروية رهن الإيمان المشفوع بالعمل ، لا يشكّ فيه من له إلمام بالشريعة والآيات
والروايات الواردة حول العمل ، ومن هنا يظهر بطلان عقيدة المرجئة الّتي كانت تزعم
أنّ العمل لا قيمة له في الحياة الدينية ، وتكتفي بالإيمان فقط ، وقد تضافر عن
أئمّة أهل البيت عليهمالسلام لعن المرجئة قال الصادق عليهالسلام :
«ملعون ، ملعون من
قال : الإيمان قول بلا عمل».
وممّا ذكرنا تبيّن
أنّ الأحاديث المروية في أنّ الإيمان عبارة عن معرفة
__________________
بالقلب ، وقول
باللسان ، وعمل بالأركان ، لا تهدف تفسير حقيقة الإيمان ، بل هي ناظرة إلى أن
الإيمان بلا عمل لا يكفي لوصول الإنسان إلى السعادة ، وإنّ مزعمة المرجئة لا أساس
لها ، هذا هو مقتضى الجمع بينها وبين ما تقدم من الآيات.
نسأل الله سبحانه
أن يجعلنا من الصالحين من عباده المؤمنين الّذين قال في حقّهم :
(مَنْ عَمِلَ
سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها
بِغَيْرِ حِسابٍ).
٢. الشيعة والاتّهامات الواهية
هناك بعض المسائل
الّتي لم تزل الشيعة الإمامية تزدري بها أو تتّهم بالاعتقاد بها ، وهي الاعتقاد
بالبداء ، والرجعة والمتعة ، وعدم الاعتقاد بعدالة جميع الصحابة ، والتقيّة
واتّهام القول بتحريف القرآن.
وقد تقدّم الكلام
حول البداء في مبحث العدل ، والرجعة في مبحث المعاد ، والبحث حول المتعة يحال إلى
علم الفقه فلنبحث هنا عن بقية تلك المسائل وهي ثلاث :
__________________
أ) موقف الشيعة من
القرآن الكريم
اتّهمت الشيعة من
جانب بعض المخالفين بالقول بتحريف القرآن ونقصانه ، ولكنّ المراجعة إلى أقوال
أكابر الطائفة وأقطابهم يثبت خلاف ذلك ، وإليك فيما يلي نصوص بعض أعلامهم ؛
قال الصدوق (المتوفّى
٣٨١ ه) :
اعتقادنا أنّ
القرآن الّذي أنزله الله تعالى على نبيه محمّد صلىاللهعليهوآله هو ما بين الدفّتين ، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من
ذلك ، ومن نسب إلينا إنّا نقول إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب.
وقال السيد
المرتضى (المتوفّى ٤٣٦ ه) :
إنّ القرآن معجزة
النبوّة ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في
حفظه وحمايته الغاية حتى عرفوا كلّ شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته
، فكيف يجوز أن يكون مغيّراً ومنقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد.
__________________
وقال شيخ الطائفة
محمّد بن الحسن الطوسي (المتوفّى ٤٦٠ ه) :
إنّ الزيادة فيه
مجمع على بطلانها ، وأمّا النقصان منه ، فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه ،
وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا ، وهو الّذي نصره المرتضى ، وهو الظاهر من الروايات.
وقال أمين الإسلام
الطبرسي (المتوفّى ٥٤٨ ه) :
أمّا الزيادة
فمجمع على بطلانها ، وأمّا النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية
أهل السنّة إنّ في القرآن نقصاناً والصحيح من مذهبنا خلافه.
وقال العلّامة
الحلّي (المتوفّى ٧٢٦ ه) :
الحقّ أنّه لا
تبديل ولا تأخير ولا تقديم ، وأنّه لم يزد ولم ينقص ، ونعوذ بالله من أن يعتقد مثل
ذلك ، فإنّه يوجب تطرق الشك إلى معجزة الرسول المنقولة بالتواتر.
هؤلاء ثُلّة من
أعلام الشيعة في القرون السابقة من رابعها إلى ثامنها ، ويكفي ذلك في إثبات أنّ
نسبة التحريف إلى الشيعة ظلم وعدوان ، وأمّا المتأخّرون فحدِّث عنه ولا حرج ،
ونكتفي منهم بنقل كلمة للأُستاذ الأكبر الإمام الخميني قدسسره في هذا المجال ، حيث قال :
__________________
إنّ الواقف على
عناية المسلمين بجمع الكتاب وحفظه وضبطه ، قراءة وكتابة ، يقف على بطلان تلك
المزعمة (التحريف) وأنّه لا ينبغي أن يركن إليها ذو مسكة ، وما ورد فيه من الأخبار
بين ضعيف لا يستدلّ به ، إلى مجعول تلوح منه أمارات الجعل ، إلى غريب يقضى منه
العجب ، إلى صحيح يدلّ على أنّ مضمونه ، تأويل الكتاب وتفسيره.
أجل ، الغفلة عن
ذلك وعدم التفرقة بين تأويل القرآن وتنزيله دعا بعضهم إلى القول بالتحريف ، قال
المفيد (المتوفّى ٤١٣ ه) :
قد قال جماعة من
أهل الإمامة إنّه لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة ، ولكن حذف ما كان
مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين عليهالسلام من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله ، وذلك كان
ثابتاً منزلاً وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الّذي هو القرآن المعجز وقد
يسمّى تأويل القرآن قرآناً ـ إلى أن قال : ـ
وعندي أنّ هذا
القول أشبه من مقال من ادّعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل ،
وإليه أميل والله أسأل توفيقه للصواب.
__________________
روايات النقيصة في كتب
أهل السنّة
ثمّ إنّ روايات
النقيصة لا تختصّ بأحاديث الشيعة ـ وقد عرفت الرأي الصحيح فيها ـ بل هناك مجموعة
من الروايات في كتب التفسير والحديث عند أهل السنّة تدلّ على نقصان طائفة من
الآيات والسّور ، وهذا القرطبي يقول في تفسير سورة الأحزاب :
أخرج أبو عبيد في
الفضائل وابن مردويه ، وابن الأنباري عن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تقرأ في
زمان النبيّ مائتي آية ، فلمّا كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلّا على ما هو
الآن.
وهذا هو البخاري
يروي عن عمر قوله : «لو لا أن يقول الناس إنّ عمر زاد في كتاب الله ، لكتبت آية
الرجم بيدي» إلى غير ذلك من الروايات الّتي نقل قسما منها السيوطي في
الإتقان.
ومع ذلك فنحن
نُجِلُّ علماء السنّة ومحقّقيهم عن نسبة التحريف إليهم ، ولا يصح الاستدلال
بالرواية على العقيدة ، ونقول مثل هذا في حق الشيعة ، وقد عرفت أنّ الشيخ المفيد يحمل
هذه الروايات على أنّها تفسير للقرآن ، وللسيد محمّد رشيد رضا أيضاً كلام في توجيه
ما ورد حول نسخ
__________________
التلاوة في روايات
أهل السنّة نأتي بنصِّه ، قال :
ليس كلّ وحي
قرآناً ، فإنّ للقرآن أحكاماً ومزايا مخصوصة وقد ورد في السنّة كثير من الأحكام
مسندة إلى الوحي ولم يكن النبيّ صلىاللهعليهوآله ولا أصحابه يعدّونها قرآناً ، بل جميع ما قاله عليهالسلام على أنّه دين فهو وحي عند الجمهور ، واستدلّوا عليه بقوله
: (وَما يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) وأظهره الأحاديث القدسية.
ومن لم يفقه هذه
التفرقة من العلماء وقعت لهم أوهام في بعض الأحاديث رواية ودراية وزعموا أنّها
كانت قرآناً ونسخت».
ب) موقف الشيعة من عدالة
الصحابة
عدالة الصحابة
كلّهم ونزاهتهم من كلّ سوء هي أحد الأُصول الّتي يتديّن بها أهل السنّة ، قال ابن
حجر :
«اتّفق أهل السنّة
على أن الجميع عدول ولم يخالف في ذلك إلّا شذوذ من المبتدعة».
وقال الإيجي :
يجب تعظيم الصحابة
كلّهم ، والكف عن القدح فيهم ، لأنّ الله
__________________
عظّمهم وأثنى
عليهم في غير موضع من كتابه والرسول قد أحبّهم وأثنى عليهم في أحاديث كثيرة.
وقال التفتازاني :
اتّفق أهل الحقّ على
وجوب تعظيم الصحابة والكفّ عن الطعن فيهم ، سيّما المهاجرين والأنصار ، لما ورد في
الكتاب والسنّة من الثناء عليهم.
غير أنّ الشيعة
الإمامية عن بكرة أبيهم على أنّ الصحابة كسائر الرواة فيهم العدول وغير العدول ،
وإنّ كون الرجل صحابيّاً لا يكفي في الحكم بالعدالة ، بل يجب تتّبع أحواله حتى يقف
على وثاقته ، وذلك لأنّ القول بعدالة جميع الصحابة ونزاهتهم من كلّ شيء ممّا لا
يلائم القرآن والسنّة ويكذبه التاريخ ، وإليك البيان :
الصحابة في الذكر الحكيم
إنّ الذكر الحكيم
يصنِّف الصحابة إلى أصناف يمدح بعضها ويذمّ بعضاً آخر ، فالممدوحون هم السّابقون
الأوّلون والمبايعون تحت الشجرة والمهاجرون والأنصار وأمّا المذمومون فهم أصناف نشير إلى بعضها :
__________________
١.
المنافقون : لقد أعطى القرآن
الكريم عناية خاصّة بعصبة المنافقين ، وأعرب عن نواياهم وندَّد بهم في السور
التالية : البقرة ، آل عمران ، المائدة ، التوبة ، العنكبوت ، الأحزاب ، محمّد ،
الفتح ، الحديد ، المجادلة ، الحشر والمنافقين ، وهذا يدلّ على أنّهم كانوا جماعة
هائلة في المجتمع الإسلامي.
٢.
المرتابون والسمّاعون : يحكي سبحانه عن طائفة من أصحاب النبيّ أنّهم كانوا يستأذنونه في ترك الخروج
إلى الجهاد ، ويصفهم بأنّ في قلوبهم ارتياب ، وأنّ خروجهم إلى الجهاد لا يزيد
المسلمين إلّا خبالاً ، وإنّهم يقومون بالسماع للكفّار.
٣.
الظانون بالله غير الحقّ : يحكي سبحانه عن طائفة من أصحاب النبيّ أنّهم كانوا يظنون بالله غير الحقّ ظنّ
الجاهليّة ، إذ يشكّون في كون المسلمين على صراط الحق ويقولون : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ
ما قُتِلْنا هاهُنا)
٤. المولُّون أمام
الكفّار : يستفاد من بعض الآيات ويشهد التاريخ على أنّ جماعة من صحابة النبيّ
انهزموا عن القتال مع الكفّار يوم أحد وحنين ؛ قال ابن هشام في تفسير الآيات
النازلة في أُحُد :
ثمّ أنّبهم على
الفرار عن نبيّهم وهم يدعون ، لا يعطفون عليه لدعائه إياهم ، فقال :
__________________
(إِذْ تُصْعِدُونَ
وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) .
وقال في انهزام
الناس يوم حنين :
فلمّا انهزم الناس
ورأى من كان مع رسول الله صلىاللهعليهوآله من جفاة أهل مكّة ، الهزيمة تكلّم رجال منهم بما في أنفسهم
من الضغن ، فقال أبو سفيان بن حرب لا تنتهي هزيمتهم دون البحر ، وصرخ جبلة بن حنبل
: ألا بطل السحر اليوم.
هذه صنوف من
الصحابة ندَّد بهم القرآن الكريم وعيَّرهم بذمائم أفعالهم وقبائح أوصافهم ، أفبعد
هذا يصحّ أن يعدّ جميع الصحابة عدولاً أتقياء ، ويرمي من يقدح في هؤلاء بالزندقة
والبدعة؟ مع أنّ الله سبحانه وصف طائفة منهم (وهم السمّاعون) بالظلم.
الصحابة في السنّة
النبوية
روى أبو حازم عن
سهل بن سعد قال ، قال النبيّ صلىاللهعليهوآله : «إنّي فرطكم على الحوض من ورد شرب ، ومن شرب لم يظمأ
أبداً ، وليردنَّ عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثمّ يحال بيني وبينهم ...» قال
أبو حازم : فسمع النعمان بن أبي عياش ، وأنا أُحدّثهم بهذا الحديث فقال : هكذا
سمعت سهلاً يقول؟ فقلت : نعم ، قال : وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد
فيقول : إنّهم منّي ، فقال :
__________________
إنّك لا تدري ما
أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي ، أخرجه البخاري ومسلم».
وروى البخاري
ومسلم أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قال :
يرد عليَّ يوم
القيامة رهط من أصحابي (أو قال من أمّتي) فيحلئون عن الحوض ، فأقول يا ربّ أصحابي
، فيقول :
إنّه لا علم لك
بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقري.
وقد اكتفينا من
الكثير بالقليل ، ومن أراد الوقوف على ما لم نذكره فليراجع جامع الأُصول لابن
الأثير.
التاريخ وعدالة الصحابة
كيف يمكن عدّ
الصحابة جميعاً عدولاً والتاريخ بين أيدينا ، نرى أنّ بعضهم كوليد بن عقبة ظهر
عليه الفسق في حياة النبيّ وبعده ، أما الأوّل فمن المجمع عليه بين أهل العلم أنّ
قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) .
نزلت في شأنه ،
كما نزل في حقّه قوله تعالى :
(أَفَمَنْ كانَ
مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) .
__________________
وأمّا الثاني فروى
أصحاب السِّيَر والتاريخ أنّ الوليد سكر وصلّى الصبح بأهل الكوفة أربعاً ثمّ التفت
إليهم وقال : هل أزيدكم ....
وهذا قدّامة بن
مظعون صحابي بدري ، روي أنّه شرب الخمر ، وأقام عليه عمر الحدّ ولا درأ عنه الحدّ بحجّة أنّه بدري ، ولا قال : قد نهي
رسول الله صلىاللهعليهوآله عن ذكر مساوئ الصحابة ، كما أنّ المشهور أنّ عبد الرحمن الأصغر بن عمر بن الخطاب ، قد شرب الخمر
وضربه عمر حدّاً فمات ، وكان ممّن عاصر رسول الله صلىاللهعليهوآله.
إنّ بعض الصحابة
خضب وجه الأرض بالدماء ، فاقرأ تاريخ بسر بن أرطاة ، حتى أنّه قتل طفلين لعبيد
الله بن عباس ، وكم وكم بين الصحابة لدَّة هؤلاء من رجال العيث والفساد ، قد حفل
التاريخ بضبط مساوئهم ، أفبعد هذه البيّنات يصحّ التقوّل بعدالة الصحابة مطلقاً؟!
إنّ النظرة
العابرة لتاريخ الصحابة تقضي بأنّ بعضهم كان يتّهم الآخر بالنفاق والكذب ، كما أنّ بعضهم كان يقاتل بعضاً ويقود جيشاً لمحاربته ،
فقتل بين ذلك جماعة كثيرة ، أفهل يمكن تبرير أعمالهم من الشاتم والمشتوم ، والقاتل
والمقتول ، وعدّهم عدولاً ومثلاً للفضل والفضيلة؟!
__________________
حديث أصحابي كالنجوم
إنّ القائلين
بعدالة الصحابة جميعاً يتمسّكون بما يروى عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه قال : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم».
أقول : كيف يصح
إسناد هذا الحديث إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله مع أنّ لازمه الأمر بالمتناقضين؟ لأنّ هذا يوجب أن يكون
أهل الشام في صفّين على هدى ، وأن يكون أهل العراق أيضاً على هدى ، وأن يكون قاتل
عمار بن ياسر مهتدياً ، وقد صحّ الخبر عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه قال له : «تقتلك الفئة الباغية».
وقال سبحانه : (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى
تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ)
فدلّ على أنّها ما
دامت موصوفة بالمقام على البغي فهي مفارقة لأمر الله ، ومن يفارق أمر الله لا يكون
مهتدياً.
إنّ هذا الحديث
موضوع على لسان النبيّ الأكرم ، كما صرّح بذلك جماعة من أعلام أهل السنّة ، قال
أبو حيّان الأندلسي : «هو حديث موضوع لا يصحّ بوجه عن رسول الله». ثمّ نقل قول
الحافظ ابن حزم في رسالته «إبطال الرأي والقياس» ما نصّه : «وهذا خبر مكذوب باطل
لم يصحّ قطّ».
ثمّ نقل عن
البزّاز صاحب المسند قوله : «وهذا كلام لم يصحّ عن النبيّ صلىاللهعليهوآله وشرع بالطعن في سنده».
__________________
ثمّ إنّ
التفتازاني وإن أخذته العصبية في الدعوة إلى ترك الكلام في حقّ البغاة والجائرين ،
لكنّه أصحر بالحقيقة فقال :
ما وقع بين
الصحابة من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التاريخ ، والمذكور على
السنة الثقات يدلّ بظاهره على أنّ بعضهم حاد عن طريق الحق ، وبلغ حدّ الظلم والفسق
... إلّا أنّ العلماء لحسن ظنّهم بالصحابة ذكروا لها محامل وتأويلات بها تليق ...».
كلمة لبعض المعاصرين من أهل السنّة
إنّ بعض المنصفين
من المصريّين المعاصرين قد اعترف بالحقّ ، وأراد الجمع بين رأيي السنّة والشيعة في
حقّ الصحابة ، فقال :
إنّ منهج أهل
السنّة في تعديل الصحابة أو ترك الكلام في حقّهم منهج أخلاقي ، وإنّ طريقة الشيعة
في نقد الصحابة وتقسيمهم إلى عادل وجائر منهج علمي ، فكلّ من المنهجين مكمّل للآخر
ـ إلى أن قال : ـ إنّ الشيعة وهم شطر عظيم من أهل القبلة يضعون جميع المسلمين في
ميزان واحد ، ولا يفرّقون بين صحابي وتابعي ومتأخر ، كما لا يفرقون بين متقدّم في
الإسلام وحديث عهد به إلّا باعتبار درجة الأخذ بما جاء به حضرة
__________________
الرسول صلىاللهعليهوآله والأئمّة الاثنا عشر بعده ، وإنّ الصحبة في ذاتها ليست
حصانة يتحصّن بها من درجة الاعتقاد ، وعلى هذا الأساس المتين أباحوا لأنفسهم ـ اجتهاداً
ـ نقد الصحابة والبحث في درجة عدالتهم ، كما أباحوا لأنفسهم الطعن في نفر من
الصحابة أخلّوا بشروط الصحبة وحادوا عن محبة آل محمّد عليهمالسلام ، كيف لا ، وقد قال الرسول الأعظمصلىاللهعليهوآله :
«إنّي تارك فيكم
ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا ، كتاب الله وعترتي آل بيتي ...».
وعلى أساس هذا
الحديث ونحوه يرون أنّ كثيراً من الصحابة خالفوا هذا الحديث ، باضطهادهم لآل محمّد
ولعنهم لبعض أفراد هذه العترة ، ومن ثمّ فكيف يستقيم لهؤلاء المخالفين شرف الصحبة
، وكيف يوسموا باسم العدالة؟!
ذلك هو خلاصة رأي
الشيعة في نفي صفة العدالة عن بعض الصحابة ، وتلك هي الأسباب العلمية الواقعية
الّتي بنوا عليها حججهم .
ج) التقيّة بين الوجوب
والحرمة
ممّا يشنّع به على
الشيعة قولهم بالتّقية وعملهم به في أحايين وظروف خاصّة ، ولكن المشنِّعين لم
يقفوا على مغزاها ، ولو تثبّتوا في الأمر ورجعوا
__________________
إلى الكتاب
والسنّة لوقفوا على أنّها ممّا تحكم به ضرورة العقل ونصّ الشريعة.
حقيقة التقيّة وغايتها
التقيّة مشتقّة من
الوقاية والمراد منها التحفّظ على ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحقّ ،
وإذا كان هذا مفهومها فهي تقابل النفاق ، تقابل الإيمان والكفر ، فإنّ النفاق
عبارة عن إظهار الحقّ وإخفاء الباطل ، ومع هذا التباين بينهما لا يصحّ عدّها من
فروع النفاق ، كما أنّ القرآن الكريم يعرف المنافقين بالمتظاهرين بالإيمان
والمبطنين للكفر ، يقول سبحانه :
(إِذا جاءَكَ
الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ
لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ)
فالغاية من
التقيّة الدينية هي صيانة النفس والعرض والمال ، وذلك في ظروف قاهرة لا يستطيع
فيها المؤمن أن يعلن عن موقفه الحقّ صريحاً ، إنّ التقية سلاح الضعيف في مقابل
القوي الغاشم ، سلاح من يبتلي بمن لا يحترم دمه وعرضه وماله ، لا لشيء إلّا لأنّه
لا يتّفق في بعض المبادئ والأفكار.
فإذا كان هذا معنى
التقيّة ومفهومها ، وكانت هذه غايتها ، فهو أمر فطري يسوق الإنسان إليه قبل كلّ
شيء عقله وتدعو إليه فطرته ، ولأجل ذلك
__________________
يستعملها كلّ من
ابتلي بالملوك والساسة الّذين لا يحترمون شيئاً سوى رأيهم وفكرتهم ومطامعهم ولا
يتردّدون عن التنكيل بكلّ من يعارضهم في ذلك ، من غير فرق بين المسلم ـ شيعياً كان
أم سنّيّاً ـ ومن هنا يظهر جدوى التقية وعمق فائدتها.
التقية في الكتاب العزيز
إنّ التقية من
المفاهيم القرآنية الّتي وردت في أكثر من موضع في القرآن الكريم ، وفي تلك الآيات
إشارات واضحة إلى الموارد الّتي يلجأ فيها المؤمن إلى استخدام هذا المسلك الفطري
خلال حياته أثناء الظروف العصيبة ليصون بها نفسه وعرضه وماله ، أو نفس من يمت إليه
بصلة وعرضه وماله ، كما استعملها مؤمن آل فرعون لصيانة الكليم عن القتل والتنكيل وغير ذلك من الموارد ، وإليك بعض الآيات الدالّة على
مشروعية التقية بالمعنى المتقدّم :
الآية الأُولى :
قال سبحانه : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ
إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ).
ترى أنّه سبحانه
يجوّز إظهار الكفر كرهاً ومجاراة للكافرين خوفاً منهم بشرط أن يكون القلب مطمئناً
بالإيمان وصرّح بذلك لفيف من المفسّرين.
__________________
قال الزمخشري :
روي أنّ أُناساً
من أهل مكّة فتنوا فارتدّوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه ، وكان فيهم من أكره وأجرى
كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان ، منهم عمّار بن ياسر وأبواه : ياسر
وسميّة ، وصهيب وبلال وخباب. أمّا عمّار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها ...
وقال القرطبي :
قال الحسن :
التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة ، ثمّ قال : أجمع أهل العلم على أنّ من
أُكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنّه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن
بالإيمان ، ولا تبين زوجته ، ولا يحكم عليه بالكفر ، هذا قول مالك والكوفيّين
والشافعي.
وقال الخازن :
«التقيّة لا تكون
إلّا مع خوف القتل مع سلامة النيّة ، قال الله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ثمّ هذه التقية رخصة».
__________________
الآية الثانية
قال سبحانه : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ
الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ
فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً)
هذه الآية أيضاً
كأُختها ناصّة على جواز التقية ، كما صرّح بذلك المفسّرون ، كالطبري ، والزمخشري ،
والرازي ، والآلوسي ، وجمال الدين القاسمي ، والمراغي وغيرهم ، قال الأخير :
قد استنبط العلماء
من هذه الآية جواز التقية بأن يقول الإنسان أو يفعل ما يخالف الحق ، لأجل التوقّي
من ضرر يعود من الأعداء إلى النفس أو العرض أو المال.
الإجابة عن سؤال
قد يقال : إنّ
الآيتين راجعتان إلى تقيّة المسلم من الكافر ، ولكنّ الشيعة تتّقي إخوانهم
المسلمين ، فكيف يستدلّ بهما على صحّة عملهم؟
والجواب : أنّ
مورد الآيتين وإن كان هو اتّقاء المسلم من الكافر ، ولكنّ المورد لا يكون مخصِّصاً
لحكم الآية إذا كان الملاك موجوداً في غيره ، وقد عرفت أنّ وجه تشريع التقيّة هو
صيانة النفس والعرض والمال من الهلاك
__________________
والدمار ، فإن كان
هذا الملاك موجوداً في غير مورد الآية ، فيجوز ، أخذاً بوحدة الملاك.
قال الرازي :
ظاهر الآية (آية
آل عمران) إنّ التقيّة إنّما تحلّ مع الكفّار الغالبين ، إلّا أن مذهب الشافعي إنّ
الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والكافرين حلّت التقيّة محاماة
عن النفس ، وقال : التقيّة جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن
يحكم فيها بالجواز لقوله صلىاللهعليهوآله : حرمة مال المسلم كحرمة دمه ، وقوله عليهالسلام : «من قتل دون ماله فهو شهيد.
وقال المراغي في
تفسير آية النحل :
ويدخل في التقية
مداراة الكفرة والظلمة والفسقة ، والإنة الكلام لهم ، والتبسّم في وجوههم وبذل
المال لهم ، لكفّ أذاهم وصيانة العرض منهم ، ولا يعدّ هذا من الموالاة المنهي عنها
، بل هو مشروع ، فقد أخرج الطبراني قوله صلىاللهعليهوآله : «ما وقى المؤمن به عرضه فهو صدقة».
والتاريخ بين
أيدينا يحدّثنا بوضوح عن لجوء جملة معروفة من كبار المسلمين إلى التقيّة في ظروف
عصيبة ، وخير مثال على ذلك ما أورده
__________________
الطبري في تاريخه
عن محاولة المأمون دفع وجوه القضاة والمحدّثين في زمانه إلى الإقرار بخلق القرآن
قسراً ، ولما أبصر أولئك المحدّثون حدّ السيف مشهراً عمدوا إلى مصانعة المأمون في
دعواه وأسرّوا معتقدهم في صدورهم ، ولما عوتبوا على ما ذهبوا إليه من موافقة
المأمون برَّروا عملهم بعمل عمَّار بن ياسر والقصة شهيرة وصريحة في جواز اللجوء إلى التقية الّتي دأب
البعض على التشنيع فيها على الشيعة. والّذي دفع بالشيعة إلى التقيّة بين إخوانهم
وأبناء دينهم إنّما هو الخوف من السلطات الغاشمة ، فلو لم يكن هناك في غابر الزمان
ـ من عصر الأمويّين ثمّ العباسيّين والعثمانيّين ـ أي ضغط على الشيعة ، كان من
المعقول أن تنسى الشيعة كلمة التقية وأن تحذفها من ديوان حياتها ، ولكن يا للأسف
أنّ كثيراً من إخوانهم كانوا أداة طيعة بيد الأمويّين والعباسيّين الّذين كانوا
يرون في مذهب الشيعة خطراً على مناصبهم فكانوا يؤلّبون العامّة من أهل السنّة على
الشيعة يقتلونهم ويضطهدونهم وينكلون بهم ، ونتيجة لتلك الظروف الصعبة لم يكن
للشيعة ، بل لكل من يملك شيئاً من العقل ، وسيلة إلّا اللجوء إلى التقيّة أو رفع
اليد عن المبادئ المقدّسة الّتي هي أعلى عنده من نفسه وماله والشواهد على ذلك أكثر
من أن تحصى.
التقيّة المحرَّمة
إنّ التقية كما
تجب لحفظ النفوس والأعراض والأموال ، إنّها تحرم إذا
__________________
ترتّب عليها مفسدة
أعظم ، كهدم الدّين وخفاء الحقيقة على الأجيال الآتية ، وتسلّط الأعداء على شئون
المسلمين وحرماتهم ومعابدهم ، ولأجل ذلك ترى أنّ كثيراً من أكابر الشّيعة رفضوا
التقيّة في بعض الأحيان وقدّموا أنفسهم وأرواحهم أضاحي من أجل الدين.
قال الإمام
الخميني قدسسره :
تحرم التقية في
بعض المحرمات والواجبات الّتي تمثّل في نظر الشارع والمتشرعة مكانة بالغة ، مثل
هدم الكعبة والمشاهد المشرفة ، والردّ على الإسلام والقرآن ، والتفسير بما يفسّر
المذهب ويطابق الإلحاد وغيرها من عظائم المحرمات ، ولا تعمّها أدلّة التقية ولا
الاضطرار ولا الإكراه.
وتدلّ على ذلك
معتبرة مسعدة بن صدقة وفيها : فكلّ شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية ممّا لا
يؤدي إلى الفساد في الدين فإنّه جائز».
كلمة لبعض المحقّقين من
أهل السنّة
نختم المقال بنقل
كلام للعلّامة الشهرستاني حيث قال :
إنّ التقيّة شعار
كلّ ضعيف مسلوب الحرّيّة ، إنّ الشيعة قد اشتهرت بالتقية أكثر من غيرها لأنّها منيت
باستمرار الضغط
__________________
عليها أكثر من
أيّة أمّة أخرى ، فكانت مسلوبة الحرية في عهد الدولة الأموية كلّه ، وفي عهد
العباسيّين على طوله ، وفي أكثر أيّام الدولة العثمانيّة ، ولأجله استشعروا بشعار
التقيّة أكثر من أيّ قوم ، ولما كانت الشيعة تختلف عن الطوائف المخالفة لها في قسم
مهم من الاعتقادات في أصول الدين وفي كثير من الأحكام الفقهية ، والمخالفة تستجلب
بالطبع رقابة ، وتصدّقه التجارب ، لذلك أصبحت الشّيعة مضطرّة في أكثر الأحيان إلى
كتمان ما تختصّ به من عادة أو عقيدة أو فتوى ، وكتاب أو غير ذلك ، تبتغي بهذا
الكتمان صيانة النفس والنفيس ، والمحافظة على الوداد والأخوّة مع سائر إخوانهم
المسلمين لئلّا تنشقّ عصا الطاعة ، ولكي لا يحسّ الكفّار بوجود اختلاف ما في المجتمع
الإسلامي فيوسع الخلاف بين الأُمّة المحمّدية ـ إلى أن قال : ـ لقد كانت التقية
شعاراً لآل البيت عليهمالسلام دفعاً للضرر عنهم ومن أتباعهم وحقنا لدمائهم واستصلاحاً
لحال المسلمين وجمعاً لكلمتهم ولمّاً لشعثهم ، وما زالت سمة تعرف بها الإمامية دون
غيرها من الطوائف والأُمم ، وكلّ إنسان إذا أحسّ بالخطر على نفسه ، أو ماله بسبب
نشر معتقده ، أو التظاهر به لا بدّ أن يكتم ويتّقي مواضع الخطر ، وهذا أمر تقتضيه
فطرة العقول ـ إلى آخر ما قال ـ.
__________________
أسأل الله تعالى
البصيرة في الدين وتوحيد صفوف المسلمين في سبيل الحق واليقين
(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي
أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) .
والحمد لله رب
العالمين.
__________________
فهرس المصادر
١. القرآن الكريم
، كلام الله جلّ جلاله.
٢. إثبات وجود خدا
(فارسى) ، جان كلور مونسما ، المترجم ، أحمد آرام ، انتشارات حقيقت ، تهران ، ١٣٥٥
ش.
٣. الإتقان في
علوم القرآن ، السيوطي ، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر ، منشورات الرضي ، قم
المقدسة.
٤. الأمالي ،
الصدوق ، أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ،
بيروت ، ١٤٠٠ ق.
٥. أحكام القرآن ،
الجصّاص ، أحمد بن على الرازي ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، ١٣٣٥ ق.
٦. إلجاء العوام
عن علم الكلام ، الغزالي ، أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الطوسي ، دار الكتاب
العربي ، بيروت ، ١٤٠٦ ق.
٧. الإلهيات على
هدى الكتاب والسنة والعقل ، السبحاني ، جعفر ،
الدار الإسلامية ،
بيروت ، ١٤١٠ ق.
٨. أصول الفلسفة (فارسى)
، الطباطبائي ، السيد محمد حسين ، دار العلم ، قم المقدسة ، ١٣٥٠ ش.
٩. الأسفار
الأربعة في الحكمة الإلهية ، صدر الدين محمد بن ابراهيم الشيرازي ، مكتبة المصطفوى
، قم المقدسة.
١٠. الإبانة عن
أُصول الديانة ، الأشعري ، ابو الحسن علي بن إسماعيل ، مكتبة دار البيان ، السورية
، ١٤١٦ ق.
١١. أساس التقديس
، فخر الدين الرازي ، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين ، مكتبة العبيكان ،
الرياض ، ١٤١٣ ق.
١٢. الاقتصاد في
الاعتقاد ، الغزالي ، أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الطوسي ، دار مكتبة الهلال ،
بيروت ، ١٤٢١ ق.
١٣. أجود
التقريرات ، الإمام الخوئي ، السيد أبو القاسم ، مكتبة المصطفوي ، قم المقدسة.
١٤. الاعتقادات في
دين الإمامية ، الصدوق ، أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه ، المطبعة
العلميّة ، قم المقدسة ، ١٤١٢ ق.
١٥. إظهار الحق ،
الهندي ، الشيخ رحمة الله بن خليل الرحمن ، دار الفكر ، القاهرة.
١٦. الإصابة في
تمييز الصحابة ، ابن حجر العسقلاني ، أحمد بن علي ، دار الكتب العلمية ، بيروت ،
١٤٢٣ ق.
١٧. أسد الغابة ،
ابن الأثير ، عز الدين علي بن محمد الجزري ، تحقيق على محمد معوّض ، وعادل أحمد
عبد الموجود ، دار الكتب العلمية ، بيروت.
١٨. أُصول الدين ،
البغدادي ، أبو منصور عبد القاهر بن طاهر تميمي ، دار الفكر ، بيروت ، ١٤١٧ ق.
١٩. الإمامة
والسياسة ، ابن قتيبة الدينوري ، عبد الله بن مسلم ، دار المعرفة ، بيروت.
٢٠. أوائل
المقالات في المذاهب والمختارات ، الشيخ المفيد ، محمد بن محمد بن نعمان ، المؤتمر
العالمي للشيخ المفيد ، قم المقدسة ، ١٤١٣ ق.
٢١. أنوار الملكوت
في شرح الياقوت ، العلامة الحلّي ، جمال الدين الحسن بن يوسف ، منشورات الرضي ، قم
المقدسة ، ١٤١٤ ق.
٢٢. الاعتصام
بالكتاب والسنة ، السبحاني ، جعفر ، مؤسسة الإمام الصادق ٧ ، قم المقدسة ، ١٤١٤ ق.
٢٣. الأحكام
السلطانية ، الماوردي ، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري البغدادي ، دار
الفكر ، بيروت.
٢٤. أنوار التنزيل
وأسرار التأويل ، البيضاوي ، ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد ، مؤسسة
الأعلمي ، بيروت ، ١٤١٠ ق.
٢٥. إعجاز القرآن
، الجرجاني ، عبد القاهر ،
٢٦. إرشاد
الطالبين ، السيوري ، مقداد بن عبد الله ، مكتبة المرعشي النجفي ، قم المقدسة ،
١٤٠٥ ق.
ب
٢٧. البرهان على
صحة طول عمر الإمام صاحب الزمان (عج) ، الكراجكي ، الشيخ ابو الفتح ، ضمن كتاب كنز
الفوائد ، دار الذخائر ، قم.
٢٨. البرهان في
تفسير القرآن ، البحراني ، السيد هاشم ، دار الكتب العلمية ، قم المقدسة.
٢٩. البيان
والتبيين ، الجاحظ ، أبو عثمان عمرو بن بحر كناني ، عبد السلام محمد هارون ،
القاهرة ـ ١٩٦٨ م.
٣٠. بين يدي
الساعة ، الدكتور عبد الباقي ،
٣١. بحار الأنوار
، المجلسي ، المولى محمد باقر ، المكتبة الإسلامية ، تهران.
٣٢. بداية الحكمة
، الطباطبائي ، السيد محمد حسين ، المكتبة الطباطبائي ، قم المقدسة.
٣٣. بحوث في الملل
والنحل ، السبحاني ، جعفر ، مؤسسة الإمام الصادق عليهالسلام ، قم المقدسة ، ١٤١٦ ق.
٣٤. البيان في
تفسير القرآن ، الإمام الخوئي ، السيد أبو القاسم ، أنوار الهدى ، قم المقدسة ،
١٤٠١ ق.
ت
٣٥. التوحيد ،
الصدوق ، أبو جعفر محمد بن علي بن حسين بن بابويه ، دار المعرفة ، بيروت.
٣٦. تفسير المنار
، عبده ، الشيخ محمد ، دار المعرفة ، بيروت.
٣٧. تفسير المراغي
، المراغي ، أحمد مصطفى ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت.
٣٨. التعريفات ،
الجرجاني ، السيد الشريف علي بن محمد ، دار الفكر ، بيروت ، ١٤١٩ ق.
٣٩. تنزيه
الأنبياء ، السيد الشريف المرتضى ، أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي البغدادي ،
مكتبة بصيرتى ، قم المقدسة.
٤٠. تاريخ الأمم
والملوك ، الطبري ، محمد بن جرير ، مكتبة خيّاط ، بيروت.
٤١. تصحيح
الاعتقاد بصواب الانتقاد ، الشيخ المفيد ، محمد بن محمد بن النعمان ، انتشارات
الرضي ، قم المقدسة.
٤٢. تلخيص المحصّل
، الطوسي ، الخواجة نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن ، دار الأضواء ، بيروت ،
١٤٠٥ ق.
٤٣. تاريخ المذاهب
الإسلامية ، أبو زهرة ، محمّد ، دار الفكر العربي ، قاهرة ، ١٩٨٩ م.
٤٤. تفسير القرآن
العظيم ، ابن كثير الدمشقي ، عماد الدين ابو الفداء اسماعيل ، دار الأندلس ، بيروت
، ١٤١٦ ق.
٤٥. تاريخ حصر
الاجتهاد ، الطهراني ، الشيخ ، آغا بزرگ ، مدرسة الإمام المهدي (عج) ، خوانسار ـ ايران
، ١٤٠١ ق.
٤٦. تنبيه الأمة
وتنزيه الملّة ، النائيني ، الشيخ محمد حسين ، شركت سهامي انتشار ، تهران.
٤٧. تمهيد الأوائل
وتلخيص الدلائل ، الباقلاني ، القاضي أبو بكر محمد بن الطيّب ، مؤسسة الكتب
الثقافية ، بيروت ، ١٤١٤ ق.
٤٨. تهذيب الأصول
، السبحاني ، جعفر ، مطبعة مهر ، قم المقدسة.
ث
٤٩. ثواب الأعمال
وعقاب الأعمال ، الصدوق ، أبو جعفر محمد بن على بن حسين بن بابويه ، مؤسسة الأعلمي
للمطبوعات ، بيروت ، ١٤١٠ ق.
ج
٥٠. جهان بينى
علمى (فارسى) ، راسل ، برتراند ، سيد حسن منصور ، انتشارات آگاه ، تهران ، ١٣٦٠ ش.
٥١. الجامع الصحيح
(سنن الترمذي) ، الترمذي ، أبو عيسى ، دار الكتب العربي ، بيروت ، ١٤٢٣ ق.
٥٢. جامع الاصول ،
ابن الأثير الجزري ، علي بن محمد بن محمد بن عبد الواحد ، دار الفكر ، بيروت ،
١٤٠٣ ق.
٥٣. الجامع لأحكام
القرآن ، القرطبي ، محمد بن أحمد ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، ١٤٢٣ ق.
ح
٥٤. حلية الأولياء
، الأصفهاني ، أبو نعيم أحمد بن عبد الله ، قاهرة ، ١٩٣٢ م.
٥٥. حياة محمد صلىاللهعليهوآله ، هيكل ، محمد حسين ، مكتبة النهضة المصرية ، قاهرة ، ١٩٦٨
م.
خ
٥٦. الخصال ،
الصدوق ، أبو جعفر محمد بن على بن حسين بن بابويه ، المكتبة الإسلامية ، تهران ،
١٣٥١ ش.
٥٧. الخطط
المقريزية ، المقريزي ، تقى الدين احمد بن علي ، مكتبة مدبولي ، قاهرة ، ١٨٥٣ م.
٥٨. الخصائص
الكبرى ، السيوطي ، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر ، حيدرآباد بالهند ، ١٣٢٠ ه.
د
٥٩. الدر المنثور
، السيوطي ، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر ، دار احياء التراث العربي ، بيروت
، ١٤٢١ ق.
٦٠. دلائل الصدق ،
المظفر ، الشيخ محمد حسن ، مكتبة النجاح ، تهران.
٦١. دائرة المعارف
القرن العشرين ، فريد وجدي ، محمد ، دار المعرفة ، بيروت.
ذ
٦٢. الذخيرة في
علم الكلام ، السيد الشريف المرتضى ، ابو القاسم على بن الحسين الموسوي البغدادي ،
مؤسسة النشر الإسلامي ، قم المقدسة ، ١٤١١ ق.
ر
٦٣. الرسائل ،
الإمام الخميني ، السيد روح الله ، مؤسسة اسماعيليان ، قم المقدسة ، ١٣٨٥ ق.
٦٤. رسالة التوحيد
، عبده ، الشيخ محمد ، دار ابن حزم ، بيروت ، ١٤٢١ ق.
٦٥. روح المعاني ،
الآلوسي ، السيد محمود ، دار الفكر ، بيروت.
س
٦٦. السيرة
النبوية ، ابن هشام ، عبد الملك بن هشام بن ايّوب الحميري ، دار المعرفة ، بيروت.
٦٧. سنن ابن ماجة
، ابن ماجة القزويني ، محمد بن يزيد ، دار احياء التراث العربي ، بيروت ، ١٣٩٥ ق.
٦٨. سنن أبي داود
، السجستاني ، أبو داود سليمان بن الأشعث ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ١٤٢٢ ق.
ش
٦٩. شرح المواقف ،
الجرجاني ، السيد الشريف على بن محمد ، منشورات الشريف الرضى ، قم المقدسة ، ١٤١٢
ق.
٧٠. شرح المنظومة
، السبزواري ، المولى هادي ، النسخة الناصرية ، ١٣٦٧ ق.
٧١. شرح التجريد ،
القوشجي ، المولى علي ، منشورات الشريف الرضي ، قم المقدسة.
٧٢. شرح الأصول
الخمسة ، الهمداني ، القاضي عبد الجبار بن احمد ، دار احياء التراث العربي ، بيروت
، ١٤٢٢ ق.
٧٣. شرح العقائد
النسفية ، التفتازاني ، سعد الدين مسعود بن عمر بن عبد الله ، مطبعة مولوى محمد
عارف ، ١٣٦٤ ش.
٧٤. شرح المقاصد ،
التفتازاني ، سعد الدين مسعود بن عمر بن عبد الله ، منشورات الشريف الرضي ، قم
المقدسة.
٧٥. شرح الإشارات
، الطوسي ، الخواجة نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن ، دفتر نشر الكتاب ، ١٤٠٣ ق.
٧٦. شرح العقائد
العضدية ، الدواني ، جلال الدين ، مع تعليقات السيد جمال الدين الأفغاني ، مكتبة
الشروق الدولية ، القاهرة ، ١٣٨١ ق.
٧٧. شرح العقيدة
الطحاوية ، الحنفي ، ابن أبي العزّ ، طبعة جديدة ، مخرّجة الأحاديث ، كراچي.
٧٨. الشفاء
الإلهيات ، ابن سينا ، أبو علي حسين بن عبد الله ، راجعه وقدّم له الدكتور ابراهيم
مذكور ، الجمهورية العربية المتحدة.
ص
٧٩. صحيح البخاري
، البخاري ، محمد بن اسماعيل ، دار المعرفة ، بيروت.
٨٠. صحيح مسلم ،
النيشابوري ، مسلم بن الحجاج ، دار إحياء التراث العربى ، بيروت.
٨١. صبح الأعشى ،
القلقشندي ، احمد بن علي ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ١٤٠٧ ق.
٨٢. صيانة القرآن
عن التحريف ، معرفة ، محمد هادي ، دار القرآن الكريم ، قم ، ١٤١٠ قم.
ط
٨٣. الصحيفة
السجادية ، الإمام على بن الحسين زين العابدين ٧ ، مؤسسة النشر الاسلامى ، قم
المقدسة.
٨٤. الطبقات
الكبرى ، الكاتب الواقدى ، محمد بن أسعد ، مكتبة العلوم والحكم ، المدينة المنوّرة
، ١٤٢٥ ق.
٨٥. الطراز
المتضمن لأسرار البلاغة ، العلوي ، السيد يحيى بن حمزة ، مؤسسة النصر ، طهران ،
١٣٣٢ ق.
ع
٨٦. عيون أخبار
الرضا ٧ ، الصدوق ، أبو جعفر محمد بن على بن حسين بن بابويه ، انتشارات جهان ،
تهران.
غ
٨٧. غاية المرام
في علم الكلام ، سيف الدين الآمدي ، أبو الحسن علي بن محمد بن سالم التغلبي ،
القاهرة ، ١٣٩١ ق.
ف
٨٨. الفصل في
الملل والأهواء والنحل ، ابن حزم ، على بن احمد الأندلسي ، دار إحياء التراث
العربى ، ١٤٢٢ ق.
٨٩. فجر الإسلام ،
أمين المصري ، أحمد ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ، ١٩٦١ م.
ق
٩٠. قصّة الحضارة
، ويل دورانت ، زكى نجيب محمود ، دار الجيل ، بيروت.
٩١. قواعد العقائد
، الطوسي ، الخواجة نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن ، تحقيق على الرباني
الگلپايگاني ، مركز مديرية الحوزة العلمية ، بقم المقدسة ، ١٤١٦ ق.
٩٢. قواعد المرام
في علم الكلام ، البحراني ، كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم ، مكتبة المرعشي النجفي
، قم المقدسة ، ١٤٠٦ ق.
٩٣. القواعد
الكلامية ، الرباني الگلپايگاني ، علي ، مؤسسة الامام الصادق عليهالسلام ، قم المقدسة ، ١٤١٨ ق.
ك
٩٤. الكامل في
التاريخ ، ابن الأثير ، علي بن أبي الكرم الشيباني ، مؤسسة التاريخ العربي ، بيروت
، ١٤١٤ ق.
٩٥. كمال الدين وتمام
النعمة ، الصدوق ، أبو جعفر محمد بن علي بن حسين بن بابويه ، مؤسسة النشر الإسلامي
، قم المقدسة ، ١٤١٦ ق.
٩٦. كنز العمال ،
المتقي الهندي ، علاء الدين على ، مؤسسة الرسالة ـ بيروت ، ١٤٠٥ ق.
٩٧. كشف الشبهات ،
محمد بن عبد الوهاب ، في مجموعة الجامع الفريد ، المدينة المنورة ، ١٤١٠ ق.
٩٨. كشف المراد ،
العلّامة الحلّي ، الحسن بن يوسف ، مؤسسة النشر الإسلامي ، قم المقدسة ، ١٤١٩ ق.
٩٩. الكافي ،
الكليني ، محمد بن يعقوب ، المكتبة الإسلامية ، تهران ، ١٣٨٨ ق.
گ
١٠٠. گوهر مراد (فارسى)
، اللاهيجي ، المولى عبد الرزاق ، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامى ، تهران ، ١٣٧٢
ش.
ل
١٠١. اللّمع في
الرد على أهل الزيغ والبدع ، الأشعري ، أبو الحسن علي بن إسماعيل ،
١٠٢. اللوامع
الإلهية ، السيوري ، مقداد بن عبد الله ، مكتب الإعلام الاسلامي ، قم المقدسة ،
١٤٢٢ ق.
م
١٠٣. المفردات في
غريب القرآن ، الراغب الأصفهاني ، الحسين بن محمد ، المكتبة المرتضوية ، تهران.
١٠٤. مفاهيم
القرآن ، السبحاني ، جعفر ، مؤسسة الامام الصادق عليهالسلام ، قم المقدسة.
١٠٥. الملل والنحل
، الشهرستاني ، عبد الكريم ، دار المعرفة ، بيروت.
١٠٦. المنقذ من
التقليد ، الحمصي الرازي ، سديد الدين ، مؤسسة النشر الإسلامى ، قم المقدسة ، ١٤١٢
ق.
١٠٧. معجم مقاييس
اللّغة ، ابن فارس ، أحمد ، دار الفكر ، بيروت ، ١٤١٨ ق.
١٠٨. المغني في
أبواب التوحيد والعدل ، الهمداني ، عبد الجبار ابن أحمد ، دار الكتب ، بيروت ،
١٣٨٢ ق.
١٠٩. المسائل
السروية ، الشيخ المفيد ، محمد بن محمد بن النعمان ، مصنفات الشيخ المفيد ، المجلد
السابع ، قم المقدسة ، ١٤١٣ ق.
١١٠. منتخب الأثر
، الصافي الگلپايگانى ، لطف الله ، مكتبة الداوري ، قم المقدسة.
١١١. مجموعة
الرسائل الكبرى ، ابن تيمية ، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ، مكتبة محمد علي
صبيح وأولاده ، قاهرة ، ١٣٨٥ ق.
١١٢. المواقف في
علم الكلام ، الإيجي ، القاضي عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد ، عالم الكتب ، بيروت.
١١٣. من لا يحضره
الفقيه ، الصدوق ، أبو جعفر محمد بن حسين ابن بابويه ، دار الكتب الإسلامية ،
تهران ، ١٣٩٠ ق.
١١٤. مصابيح
الأنوار ، الشبّر ، السيد عبد الله ، مكتبة بصيرتي ، قم المقدسة.
١١٥. مناهل
العرفان في علوم القرآن ، الزرقاني ، الشيخ محمد عبد العظيم ، دار الحديث ،
القاهرة ، ١٤٢٢ ق.
١١٦. المستدرك على
الصحيحين ، الحاكم النيشابورى ، محمد بن عبد الله ، دار الكتب العلمية ، بيروت ،
١٩٧٨ م.
١١٧. المسند ، ابن
حنبل ، احمد بن محمد ، شرحه احمد محمد شاكر ، دار الحديث ، القاهرة ، ١٤١٦ ق.
١١٨. المقدمة ،
ابن خلدون ، دار القلم ، بيروت ، ١٩٧٨ م.
١١٩. المراجعات ،
العاملي ، السيد شرف الدين ، دار الصادق ، بيروت.
١٢٠. المهدي ،
الصدر ، السيد صدر الدين ، انتشارات انصاريان ، قم المقدسة.
١٢١. مجمع البيان
في علوم القرآن ، الطبرسي ، أبو علي الفضل بن الحسن ، دار احياء التراث العربي ،
بيروت ، ١٣٧٩ ق.
١٢٢. الميزان في
تفسير القرآن ، العلّامة الطباطبائي ، السيد محمد حسين ، مؤسسة الأعلمي ، بيروت ، ١٣٩٣
ق.
ن
١٢٣. نهج البلاغة
، السيد الشريف الرضي ، ابو الحسن محمد بن الحسين الموسوي البغدادي ، سيد كاظم
محمدى ـ محمد دشتى ، نشر امام علي عليهالسلام ، قم المقدسة ، ١٣٦٩ ش.
١٢٤. نهج الحق
وكشف الصدق ، العلامة الحلّي ، الحسن بن يوسف ، منشورات دار الهجرة ، قم المقدسة ،
١٤١٤ ق.
١٢٥. النص
والاجتهاد ، العاملي ، السيد شرف الدين ، انتشارات اسوة ، قم المقدسة ، ١٤١٣ ق.
١٢٦. نهاية الحكمة
، الطباطبائي ، السيد محمد حسين ، دار التبليغ الإسلامي ، قم المقدسة.
و
١٢٧. الوحى
المحمدي ، رشيد رضا ، محمد ، جمهورية مصر العربية ، وزارة الأوقاف ، القاهرة ،
١٤٢١ ق.
١٢٨. الوافي ،
الفيض الكاشاني ، المولى محسن ، مكتبة الامام أمير المؤمنين عليهالسلام ، اصفهان ، ١٤٠٦ ق.
١٢٩. وقعة صفين ،
المنقري ، نصر بن مزاحم ، عبد السلام محمد هارون ، مكتبة آية الله العظمى مرعشى
النجفي ، قم.
ه
١٣٠. الهدية السنيّة
، محمد بن عبد الوهاب ، في مجموعة الجامع الفريد ، المدينة المنورة.
ي
١٣١. ينابيع
المودّة ، القندوزي الحنفي ، الشيخ سليمان ، مؤسسة الأعلمي ، بيروت ، ١٤١٨ ق.
١٣٢. اليواقيت
والجواهر ، الشعراني ، الشيخ عبد الوهّاب ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت.
فهرس المحتويات
مقدمة الطبعة الأولى : علم الكلام رائد الفطرة
الإنسانية......................... ٥
مقدمة الطبعة العاشرة : ثمرة التجربة حسن الأختيار.............................. ٩
الباب الأوّل
فيما يتعلّق بذاته تعالى
الفصل الأول : مقدمات وأُصول............................................. ١٣
١ ـ دور الدين الإلهي في حياة الإنسان....................................... ١٣
٢ ـ الدين والفطرة......................................................... ١٥
٣. المعرفة المعتبرة.......................................................... ١٦
٤. وجوب البحث عن وجود الله تعالى....................................... ١٨
الفصل الثاني : برهان النظم وإثبات وجود الصانع
العليم....................... ٢١
ما هو النظم؟............................................................. ٢١
تقرير برهان النظم......................................................... ١٨
برهان النظم في الوحي الإلهي................................................ ٢٣
إشكالات والإجابة عنها................................................... ٢٥
ثلاثة اشكالات أُخرى لهيوم................................................ ٢٨
٢ برهان الحدوث.......................................................... ٣٠
تعريف الحدوث وأقسامه................................................... ٣٠
حدوث الحياة في عالم المادّة................................................. ٣١
تقرير برهان الحدوث....................................................... ٣٢
الإجابة عن شبهة رسل..................................................... ٣٣
برهان الحدوث في الكتاب والسنّة............................................ ٣٤
٣ برهان الإمكان والوجوب.................................................. ٣٦
الأمر الأول : تقسيم الموجوى إلى الواجب
والممكن............................. ٣٦
الأمر الثاني : كلّ ممكن يحتاج إلى علّة
في وجوده............................... ٣٦
الأمر الثالث : الدور ممتنع.................................................. ٣٧
الأمر الرابع : التسلسل ممتنع................................................ ٣٧
تقرير برهان الإمكان....................................................... ٣٩
برهان الإمكان في الذكر الحكيم............................................. ٤٠
إجابة عن إشكال......................................................... ٤١
الباب الثاني
في التوحيد ومراحله
الفصل الأوّل : التوحيد في الذات........................................... ٤٥
البرهان على بساطة ذاته تعالى.............................................. ٤٥
دلائل وحدانيّته........................................................... ٤٦
أ. التعدّد يستلزم التركيب................................................... ٤٦
ب. صرف الوجود لا يتثنّى ولا يتكرّر........................................ ٤٧
التوحيد الذاتي في القرآن والحديث............................................ ٤٧
نظريّة التثليث عند النصارى................................................ ٤٩
نقد هذه النظريّة........................................................... ٤٩
تسرّب خرافة التثليث إلى النصرانية........................................... ٥١
الفصل الثاني : التوحيد في الصفات......................................... ٥٣
الفصل الثالث : التوحيد في الخالقية......................................... ٥٧
موقف القرآن الكريم تجاه قانون العلّيّة........................................ ٥٨
التفسير الصحيح للتوحيد في الخالقية......................................... ٦٠
الإجابة عن شبهات....................................................... ٦٣
أ. الثنوية وشبهة الشرور ، والجواب عنه
بوجهين............................... ٦٣
١. الشرّ أمر قياسي....................................................... ٦٣
٢. الشرّ عدمي........................................................... ٦٤
ب. التوحيد في الخالقية وقبائح الأفعال....................................... ٦٥
الفصل الرابع : التوحيد في الربوبيّة........................................... ٦٧
حقيقة الربوبية والتوحيد فيها................................................ ٦٨
دلائل التوحيد في الربوبية................................................... ٧٠
١. تدبير الكون لا ينفكّ عن الخلق.......................................... ٧٠
٢. انسجام النظام واتصال التدبير........................................... ٧٠
مظاهر التوحيد في الربوبية.................................................. ٧١
١. التوحيد في الحاكمية.................................................... ٧٢
٢. التوحيد في الطّاعة...................................................... ٧٣
٣. التوحيد في التشريع..................................................... ٧٤
الفصل الخامس : التوحيد في العبادة......................................... ٧٧
ما هي حقيقة العبادة؟..................................................... ٧٤
الباب الثالث
في صفاته تعالى
الفصل الأوّل : تقسيمات الصفات عند المتكلّمين............................ ٨١
١. الصفات الجمالية والجلالية.............................................. ٨٥
٢. صفات الذات وصفات الفعل........................................... ٨٦
٣. الحقيقيّة والإضافيّة..................................................... ٨٦
٤. الذاتية والخبريّة......................................................... ٨٧
الفصل الثاني : طرق معرفة صفاته تعالى...................................... ٨٩
الأوّل : الطريق العقلي..................................................... ٨٩
الثاني : طريق الوحي الإلهي................................................. ٩١
الثالث : طريق الكشف والشهود............................................ ٩١
الفصل الثالث : علمه تعالى................................................. ٩٥
ما هو العلم؟............................................................. ٩٥
١. علمه سبحانه بذاته.................................................... ٩٦
الأوّل : مفيض الكمال ليس فاقدا له........................................ ٩٦
الثاني : التجرّد عن المادة ملاك الحضور....................................... ٩٧
الإجابة
عن إشكال........................................................ ٩٧
٢. علمه سبحانه بالأشياء قبل إيجادها....................................... ٩٨
الأوّل : العلم بالسّبب علم بالمسبَّب......................................... ٩٨
الثاني : إتقان الصنع يدلّ على علم الصانع................................... ٩٩
٣. علمه سبحانه بالأشياء بعد إيجادها..................................... ١٠٠
علمه تعالى بالجزئيات..................................................... ١٠١
شبهات المنكرين......................................................... ١٠١
١. العلم بالجزئيات يلازم التغيّر في علمه
تعالى............................... ١٠٢
٢. إدراك الجزئيات يحتاج إلى آلة........................................... ١٠٢
الفصل الرابع قدرته تعالى.................................................. ١٠٥
تعريف القدرة........................................................... ١٠٥
برهان قدرته تعالى........................................................ ١٠٦
سعة قدرته تعالى......................................................... ١٠٧
دفع شبهات في المقام..................................................... ١٠٨
الفصل الخامس : حياته تعالى.............................................. ١١١
حقيقة الحياة............................................................ ١١١
معنى حياته تعالى........................................................ ١١٢
دلائل حياته تعالى....................................................... ١١٢
الفصل السادس : إرادته تعالى............................................. ١١٥
حقيقة إرادته تعالى....................................................... ١١٥
الإرادة في روايات اهل البيت عليهمالسلام........................................ ١١٧
الفصل السابع : كلامه تعالى.............................................. ١٢١
الأقوال في تفسير كلامه تعالى............................................. ١٢١
كلامه سبحانه حادث أو قديم؟........................................... ١٢٥
١. نظرية القدم......................................................... ١٢٥
٢. نظريّة الحدوث....................................................... ١٢٥
٣. نظريّة القدم والحدوث................................................. ١٢٦
دلالة القرآن على حدوث كلامه تعالى..................................... ١٢٧
موقف أهل البيت عليهمالسلام................................................. ١٢٨
الفصل الثامن : الصفات الخبريّة........................................... ١٣١
الأوّل : الإثبات مع التكييف والتشبيه...................................... ١٣١
الثاني : الإثبات بلا تكييف ولا تشبيه...................................... ١٣٢
الثالث : التفويض....................................................... ١٣٤
الرابع : التأويل.......................................................... ١٣٥
الفصل التاسع : الصفات السلبيّة.......................................... ١٣٧
١. ليس بجسم.......................................................... ١٣٨
٢. ليس في جهة ولا محلّ................................................. ١٣٨
٣. ليس حالاً في شيء................................................... ١٣٨
٤. ليس متّحداً مع غيره.................................................. ١٣٩
٥. ليس محلّاً للحوادث.................................................. ١٣٩
٦. لا تقوم اللَّذة والألم بذاته.............................................. ١٤٠
الفصل العاشر : انّه تعالى ليس بمرئيّ....................................... ١٤٣
ما هو موضوع النزاع؟.................................................... ١٤٣
أدلّة امتناع رؤيته تعالى.................................................... ١٤٥
أدلّة القائلين بالجواز...................................................... ١٤٦
استدلال المجوّزين بالكتاب العزيز........................................... ١٤٧
الرؤية في روايات اهل البيت عليهمالسلام......................................... ١٥٢
الباب الرابع
في مباحث العدل والحكمة
وفيه اثنا عشر فصلاً :..................................................... ١٥٥
الفصل الأوّل : تعريف الحكمة والعدل ودلائلهما........................... ١٥٧
تعريف الحكمة.......................................................... ١٥٧
تعريف العدل........................................................... ١٥٩
الملازمة بين الحكمة والعدل................................................ ١٦٠
دلائل عدله تعالى وحكمته................................................ ١٦١
الفصل الثاني : التحسين والتقبيح العقليان.................................. ١٦٥
ملاكات الحسن والقبح................................................... ١٦٦
تعيين محلّ النزاع......................................................... ١٦٧
دلائل المثبتين........................................................... ١٦٧
أدلّة والنافين............................................................ ١٦٩
التحسين والتقبيح في الكتاب العزيز........................................ ١٧١
الفصل الثالث : أفعال الله سبحانه معلَّلة
بالغايات............................ ١٧٥
القرآن وأفعاله سبحانه الحكيمة............................................ ١٧٦
مذهب الحكماء في أفعاله تعالى............................................ ١٧٧
الفصل الرابع : المصائب والشرور وحكمته تعالى............................ ١٧٩
الأوّل : المصالح النوعيّة راجحة على المصالح
الفردية.......................... ١٧٩
الثاني : ضآلة علم الإنسان ومحدوديته...................................... ١٨٠
الثالث : الغفلة عن القيم الإنسانية العليا................................... ١٨١
الرابع : المصائب وليدة الذنوب والمعاصي................................... ١٨١
الفوائد التربويّة للمصائب................................................. ١٨٢
١. المصائب وسيلة لتفجير الطاقات....................................... ١٨٢
٢. البلايا جرس إنذار وسبب للعودة إلى الحقّ............................... ١٨٣
٣. حكمة البلايا في حياة الأولياء......................................... ١٨٤
الفصل الخامس : التكليف بما لا يطاق قبيح............................... ١٨٧
الأشاعرة وتجويز التكليف بما لا يطاق...................................... ١٨٨
الفصل السادس : وجوب اللطف عند المتكلّمين............................ ١٩١
برهان وجوب اللطف..................................................... ١٩١
شروط اللطف.......................................................... ١٩٢
أقسام اللطف........................................................... ١٩٣
الفصل السابع : الجبر والكسب........................................... ١٩٥
أالجبر المحض............................................................ ١٩٦
نظرية الكسب.......................................................... ١٩٧
كلام القاضي الباقلاني................................................... ١٩٨
الغزالي وتفسير الكسب................................................... ١٩٩
إنكار الكسب من محقّقي الأشاعرة........................................ ١٩٦
الفصل الثامن : نظريّة التفويض............................................. ٢٠٣
بطلان التفويض في الكتاب والسنّة......................................... ٢٠٦
الفصل التاسع : الأمر بين الأمرين.......................................... ٢٠٩
١. وجود المعلول عين الربط بوجود علّته.................................... ٢٠٩
٢. وحدة حقيقة الوجود تلازم عموميّة التأثير................................ ٢١٠
إيضاح وتمثيل........................................................... ٢١١
الأمر بين الأمرين في الكتاب والسنّة........................................ ٢١٣
الفصل العاشر : شبهات وردود............................................. ٢١٧
١. علم الله الأزلي....................................................... ٢١٧
٢. إرادة الله الأزلية...................................................... ٢١٨
٣. لزوم الفعل مع المرجِّح الخارج عن الاختيار............................... ٢١٩
٤. التكليف بمعرفة الله تكليف بالمحال...................................... ٢٢٠
٥. لا يوجد الشيء إلّا بالوجوب السابق عليه............................... ٢٢١
الفصل الحادي عشر: القضاء والقدر....................................... ٢٢٣
١. تعريف القضاء والقدر................................................ ٢٢٣
٢. القضاء والقدر التشريعيان............................................. ٢٢٤
٣. القضاء والقدر العلميّان............................................... ٢٢٥
٤. القضاء والقدر العينيان................................................ ٢٢٦
الفصل الثاني عشر : في حقيقة البداء...................................... ٢٣١
حقيقة البداء عند الإماميّة................................................ ٢٣٢
تفسير البداء في ضوء الكتاب والسنّة....................................... ٢٣٤
النزاع لفظي............................................................. ٢٣٦
اليهود وإنكار النسخ والبداء.............................................. ٢٣٨
التقدير المحتوم والموقوف................................................... ٢٤٠
الباب الخامس
في النبوّة العامّة
مقدمة :.................................................................. ٢٤٧
الفصل الأوّل : أدلّة لزوم البعثة :........................................... ٢٤٩
١. حاجة المجتمع إلى القانون الكامل....................................... ٢٤٩
شرائط المقنِّن............................................................ ٢٤٩
٢. حاجة الانسان إلى المعارف العالية...................................... ٢٥١
الفصل الثاني : أدلّة منكري بعثة الأنبياء..................................... ٢٥٥
الفصل الثالث : المعجزة وإثبات صدق دعوى النبوّة......................... ٢٥٩
تعريف المعجزة........................................................... ٢٥٩
دلالة المعجزة وقاعدة الحسن والقبح العقليين................................. ٢٦١
المعجزة دليل برهاني...................................................... ٢٦٢
فوارق المعجزة لسائر خوارق العادة.......................................... ٢٦٣
المعجزة وقانون العلّية..................................................... ٢٦٦
الفصل الرابع : حقيقة الوحي في النبوّة..................................... ٢٦٧
وحي النبوّة.............................................................. ٢٦٨
فرضيّة النبوغ............................................................ ٢٦٩
هل الوحي نتيجة تجلّي الأحوال الروحيّة؟.................................... ٢٧٠
نقد هذه النظريّة......................................................... ٢٦٧
الوحي والشخصية الباطنة................................................. ٢٧٣
الفصل الخامس : عصمة أنبياء الله تعالى.................................... ٢٧٥
العصمة في اللّغة والاصطلاح.............................................. ٢٧٥
عصمة الأنبياء في تلقّي الوحي وإبلاغه..................................... ٢٧٦
لزوم عصمة الأنبياء عن المعاصي........................................... ٢٧٧
١. الوثوق فرع العصمة.................................................. ٢٧٨
٢. التربية رهن عمل المربّي................................................ ٢٧٩
عصمة الأنبياء في الكتاب العزيز........................................... ٢٨٠
العصمة عن الخطأ في تطبيق الشريعة والأُمور
العادية.......................... ٢٨٠
التنزّه عن المنفِّرات........................................................ ٢٨٢
العصمة والاختيار....................................................... ٢٨٢
الباب السادس
في النبوّة الخاصة
تمهيد.................................................................... ٢٨٧
الفصل الأوّل : الإعجاز البياني للقرآن الكريم............................... ٢٨٩
اعتراف بلغاء العرب بإعجاز القرآن البياني................................... ٢٩٠
أ) الوليد بن المغيرة....................................................... ٢٩٠
ب) عتبة بن ربيعة....................................................... ٢٩١
ج) ثلاثة من بلغاء قريش................................................. ٢٩١
نقد مذهب الصّرفة...................................................... ٢٩٣
الفصل الثاني : إعجاز القرآن من جهات أُخرى.............................. ٢٩٧
١. عدم التناقض والاختلاف............................................. ٢٩٨
٢. الإخبار عن الغيب................................................... ٢٩٩
أ) التنبّؤ بعجز البشر عن معارضة القرآن.................................... ٣٠٠
ب) التنبّؤ بانتصار الروم على الفرس....................................... ٣٠١
ج) التنبّؤ بالقضاء على العدو قبل لقائه.................................... ٣٠٢
د)
التنبّؤ
بكثرة الذرية.................................................... ٣٠٢
٣. الإخبار عن القوانين الكونية........................................... ٣٠٣
أ) الجاذبية العامة........................................................ ٣٠٣
ب) حركة الأرض........................................................ ٣٠٤
ج) دور الجبال في ثبات الأرض............................................ ٣٠٥
٤. الجامعيّة في التشريع................................................... ٣٠٦
٥. أُمّيّة حامل الرسالة.................................................... ٣٠٧
الفصل الثالث : الخاتمية في ضوء العقل والوحي............................ ٣١١
شبهة واهية............................................................. ٣١٢
الخاتمية وخلود التشريع الإسلامي........................................... ٣١٣
١. حجيّة العقل في مجالات خاصّة......................................... ٣١٤
٢. تشريع الاجتهاد...................................................... ٣١٥
٣. صلاحيات الحاكم الإسلامي وشئونه.................................... ٣١٦
٤. الأحكام الّتي لها دور التحديد.......................................... ٣١٧
٥. الاعتدال في التشريع.................................................. ٣١٨
الباب السابع
في الإمامة والخلافة
الفصل الأوّل : لما ذا نبحث عن الإمامة؟.................................. ٣٢١
الفصل الثاني : حقيقة
الإمامة عند الشيعة وأهل السنّة........................ ٣٢٥
مؤهِّلات الإمام وصفاته................................................... ٣٢٧
الفصل الثالث : طرق إثبات الإمامة عند أهل
السنّة.......................... ٣٣١
هل الشورى أساس الحكم والخلافة؟........................................ ٣٣٤
تصوّر النبيّ الأكرم للقيادة بعده............................................ ٣٣٦
الفصل الرابع : أدلة وجوب النصّ في الإمامة
عند الشيعة الإمامية............. ٣٣٩
أ) الفراغات الهائلة بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله في مجالات أربعة........................... ٣٣٩
ب) الأُمّة الإسلامية ومثلث الخطر الدّاهم.................................. ٣٤٤
ج) نصب الإمام لطف إلهي.............................................. ٣٤٦
مناظرة هشام بن الحكم مع عمرو بن عبيد.................................. ٣٤٨
الفصل الخامس : وجوب العصمة في الإمام................................ ٣٥٩
١. الإمام حافظ للشريعة كالنبيّ صلىاللهعليهوآله..................................... ٣٥٤
٢. آية ابتلاء إبراهيم عليهالسلام............................................... ٣٥٥
٣. آية إطاعة أولى الأمر................................................. ٣٥٧
الفصل السادس : النصوص الدينية وتنصيب علي
عليهالسلام للإمامة............... ٣٦١
آية الولاية.............................................................. ٣٦٢
حديث «المنزلة»........................................................ ٣٦٤
حديث «الغدير»....................................................... ٣٦٦
دلالة الحديث........................................................... ٣٦٨
لما ذا أعرض الصحابة عن مدلول حديث الغدير؟............................ ٣٧٠
الفصل السابع : السنّة النبويّة والأئمّة الاثنا
عشر............................ ٣٧١
حديث اثني عشر خليفة.................................................. ٣٧١
حديث الثقلين.......................................................... ٣٧٤
الفصل الثامن : الإمام الثاني عشر في الكتاب
والسنّة........................ ٣٧٥
أسئلة حول المهدي المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف).................... ٣٧٩
أ) كيف يكون إماماً وهو غائب؟......................................... ٣٧٩
ب) لما ذا غاب المهدي عليهالسلام؟............................................ ٣٨٢
ج) الإمام المهدي عليهالسلام وطول
عمره........................................ ٣٨٣
ج) ما هي علائم ظهور المهدي (عج)؟.................................... ٣٨٥
الفصل التاسع : الرجعة.................................................... ٣٨٩
أسئلة وأجوبتها.......................................................... ٣٩٢
الباب الثامن
في المعاد
الفصل الأوّل : براهين إثبات المعاد........................................ ٣٩٧
الأوّل : صيانة الخلقة عن العبث........................................... ٣٩٨
الثاني : المعاد مقتضى العدل الإلهي......................................... ٣٩٩
الثالث : المعاد مجلى لتحقّق مواعيده تعالى................................... ٤٠٠
الفصل الثاني : بقاء النفس الإنسانية بعد الموت............................ ٤٠٣
أ) البراهين العقلية....................................................... ٤٠٤
١. ثبات الشخصية الإنسانية في دوامة التغيّرات
الجسديّة..................... ٤٠٤
٢. عدم الانقسام آية التجرّد.............................................. ٤٠٥
ب) القرآن وتجرّد النفس.................................................. ٤٠٥
الفصل الثالث : المعاد الجسماني والروحاني
في القرآن الكريم............... ٤٠٩
شبهة الآكل والمأكول.................................................... ٤٠٣
الفصل الرابع : براهين بطلان التناسخ...................................... ٤١٧
التناسخ والمسخ.......................................................... ٤١٩
التناسخ والرجعة......................................................... ٤٢٠
الفصل الخامس : القبر والبرزخ............................................ ٤٢١
السؤال في القبر وعذابه ونعيمه............................................ ٤٢٤
الفصل السادس : الحساب والشهود....................................... ٤٢٧
أ. الحساب يوم القيامة................................................... ٤٢٧
ب. الشهود يوم القيامة.................................................. ٤٢٩
١. الله سبحانه.......................................................... ٤٣٠
٢. نبيّ كلّ أمّة......................................................... ٤٣٠
٣. نبيّ الإسلام......................................................... ٤٣١
٤. بعض الأُمّة الإسلامية................................................ ٤٣١
٥. الأعضاء والجوارح.................................................... ٤٣٢
الفصل السابع : الميزان والصراط.......................................... ٤٣٣
أ) الميزان................................................................ ٤٣٣
ب) الصراط............................................................ ٤٣٦
الفصل الثامن : الشفاعة في القيامة......................................... ٤٤١
الشفاعة في الكتاب والسنّة............................................... ٤٤١
الشفاعة المطلقة والمحدودة................................................. ٤٤٤
شرائط شمول الشفاعة.................................................... ٤٤٥
١. منها عدم الإشراك بالله تعالى........................................... ٤٤٥
٢. الإخلاص في الشهادة بالتوحيد......................................... ٤٤٥
٣. عدم كونه ناصبياً.................................................... ٤٤٦
٤. عدم الاستخفاف بالصلاة............................................ ٤٤٦
٥. عدم التكذيب بشفاعة النبيّ صلىاللهعليهوآله..................................... ٤٤٦
ما هو أثر الشفاعة؟..................................................... ٤٤٦
هل يجوز طلب الشفاعة؟................................................. ٤٤٧
الفصل التاسع : الإحباط والتكفير.......................................... ٤٥١
الفصل العاشر : الإجابة عن أسئلة حول المعاد.............................. ٤٥٥
١. كيف يخلّد الإنسان في الآخرة مع أنّ المادّة تفنى؟......................... ٤٥٥
٢. ما هو الغرض من عقاب المجرم؟........................................ ٤٥٦
٣. هل يجوز العفو عن المسيء؟........................................... ٤٥٧
٤. هل الجنّة والنار مخلوقتان؟............................................. ٤٥٨
٥. أين مكان الجنّة والنّار؟................................................ ٤٦٠
٦. من هو المخلَّد في النار؟............................................... ٤٦١
٧. كيف يصحّ الخلود مع كون الذنب منقطعاً؟............................. ٤٦٣
خاتمة المطاف........................................................... ٤٦٥
١. الإيمان وأحكامه..................................................... ٤٦٥
٢. الشيعة والاتّهامات الواهية............................................. ٤٧٠
أ) موقف الشيعة من القرآن الكريم......................................... ٤٧١
روايات النقيصة في كتب أهل السنّة....................................... ٤٧٤
ب) موقف الشيعة من عدالة الصحابة..................................... ٤٧٥
الصحابة في الذكر الحكيم................................................ ٤٧٦
الصحابة في السنّة النبوية................................................. ٤٧٨
التاريخ وعدالة الصحابة.................................................. ٤٧٩
حديث أصحابي كالنجوم................................................ ٤٨١
كلمة لبعض المعاصرين من أهل السنّة...................................... ٤٨٢
ج) التقيّة بين الوجوب والحرمة............................................. ٤٨٣
حقيقة التقيّة وغايتها..................................................... ٤٨٤
التقية في الكتاب العزيز................................................... ٤٨٥
الآية الأُولى............................................................. ٤٨٥
الآية الثانية............................................................. ٤٨٧
التقيّة المحرَّمة............................................................. ٤٨٩
كلمة لبعض المحقّقين من أهل السنّة........................................ ٤٩٠
فهرس المصادر........................................................... ٤٩٣
فهرس
المحتويات......................................................... ٥١١
|