

سورة النّور
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ
أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما
مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ
كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما
طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ
مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا
تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ
الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(٥) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ
أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ
الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ
الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ
بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ
عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)
هذه السورة مدنية
بلا خلاف ، ولما ذكر تعالى مشركي قريش ولهم أعمال من دون ذلك أي أعمال سيئة هم لها
عاملون ، واستطرد بعد ذلك إلى أحوالهم ، واتخاذهم الولد والشريك ، وإلى مآلهم في
النار كان من أعمالهم السيئة أنه كان لهم جوار بغايا يستحسنون عليهن ويأكلون من
كسبهم من الزنا ، فأنزل الله أول هذه السورة تغليظا في أمر الزنا وكان فيما ذكر
وكأنه لا يصح ناس من المسلمين هموا بنكاحهن.
وقرأ الجمهور (سُورَةٌ) بالرفع فجوّزوا أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذه (سُورَةٌ) أو مبتدأ محذوف الخبر ، أي فيما أوحينا إليك أو فيما يتلى
عليكم. وقال ابن عطية : ويجوز أن يكون مبتدأ أو الخبر (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) وما بعد ذلك ، والمعنى السورة المنزلة والمفروضة كذا وكذا
إذ السورة عبارة عن آيات مسرودة لها بدء وختم إلّا أن يكون المبتدأ ليس بالبين أنه
الخبر إلّا أن يقدر الخبر في السورة كلها وهذا بعيد في القياس و (أَنْزَلْناها) في هذه الأعاريب في موضع الصفة انتهى.
وقرأ عمر بن عبد
العزيز ومجاهد وعيسى بن عمر الثقفي البصري وعيسى بن عمر الهمداني الكوفي وابن أبي
عبلة وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمرو وأمّ الدرداء (سُورَةٌ) بالنصب فخرج على إضمار فعل أي أتلو سورة و (أَنْزَلْناها) صفة. قال الزمخشري : أو على دونك (سُورَةٌ) فنصب على الإغراء ، ولا يجوز حذف أداة الإغراء وأجازوا أن
يكون من باب الاشتغال أي أنزلنا (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) فأنزلناها مفسر لأنزلنا المضمرة فلا موضع له من الإعراب
إلّا أنه فيه الابتداء بالنكرة من غير مسوغ إلّا إن اعتقد حذف وصف أي (سُورَةٌ) معظمة أو موضحة (أَنْزَلْناها) فيجوز ذلك.
وقال الفراء : (سُورَةٌ) حال من الهاء والألف والحال من المكنى يجوز أن يتقدّم عليه
انتهى. فيكون الضمير المنصوب في (أَنْزَلْناها) ليس عائدا على (سُورَةٌ) وكان المعنى أنزلنا الأحكام (وَفَرَضْناها) سورة أي في حال كونها سورة من سور القرآن ، فليست هذه
الأحكام ثابتة بالسنة فقط بل بالقرآن والسنة.
وقرأ الجمهور (وَفَرَضْناها) بتخفيف الراء أي فرضنا أحكامها وجعلناها واجبة متطوّعا
بها. وقيل : وفرضنا العمل بما فيها. وقرأ عبد الله وعمر بن عبد العزيز ومجاهد
وقتادة وأبو عمرو وابن كثير بتشديد الراء إما للمبالغة في الإيجاب ، وإما لأن فيها
فرائض شتى أو لكثرة المفروض عليهم. قيل : وكل أمر ونهي في هذه السورة فهو فرض.
(وَأَنْزَلْنا فِيها
آياتٍ) بينات أمثالا ومواعظ وأحكاما ليس فيها مشكل يحتاج إلى
تأويل. وقرأ الجمهور (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي) بالرفع ، وعبد الله والزان بغير ياء ، ومذهب سيبويه أنه
مبتدأ والخبر محذوف أي فيما يتلى عليكم حكم (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي) وقوله (فَاجْلِدُوا) بيان لذلك الحكم ، وذهب الفراء والمبرد والزجاج إلى أن
الخبر (فَاجْلِدُوا) وجوزه الزمخشري ، وسبب الخلاف هو أنه عند سيبويه لا بد أن
يكون المبتدأ الداخل الفاء في خبره موصولا بما يقبل أداة الشرط لفظا أو تقديرا ،
واسم الفاعل واسم المفعول لا يجوز أن
يدخل عليه أداة
الشرط وغير سيبويه ممن ذكرنا لم يشرط ذلك ، وتقرير المذهبين والترجيح مذكور في
النحو. وقرأ عيسى الثقفي ويحيى بن يعمر وعمرو بن فائد وأبو جعفر وشيبة وأبو السمال
ورويس (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي) بنصبهما على الاشتغال ، أي واجلدوا (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) كقولك زيدا فاضربه ، ولدخول الفاء تقرير ذكر في علم النحو
والنصب هنا أحسن منه في (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) لأجل الأمر ، وتضمنت السورة أحكاما كثيرة فيما يتعلق
بالزنا ونكاح الزواني وقذف المحصنات والتلاعن والحجاب وغير ذلك. فبدىء بالزنا
لقبحه وما يحدث عنه من المفاسد والعار. وكان قد نشأ في العرب وصار من إمائهم أصحاب
رايات وقدّمت الزانية على الزاني لأن داعيتها أقوى لقوة شهوتها ونقصان عقلها ،
ولأن زناها أفحش وأكثر عارا وللعلوق بولد الزنا وحال النساء الحجبة والصيانة.
وقال الزمخشري :
فإن قلت : قدّمت الزانية على الزاني أولا ثم قدم عليها ثانيا؟ قلت : سبقت تلك
الآية لعقوبتهما على ما جنيا والمرأة على المادة التي منها نشأت الجناية ، فإنها
لو لم تطمع الرجل ولم تربض له ولم تمكنه لم يطمع ولم يتمكن ، فلما كانت أصلا وأولا
في ذلك بدىء بذكرها ، وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه لأنه هو
الراغب والخاطب ومنه يبدأ الطلب انتهى. ولا يتم هذا الجواب في الثانية إلّا إذا
حمل النكاح على العقد لا على الوطء. وأل في (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي) للعموم في جميع الزناة.
وقال ابن سلام
وغيره : هو مختص بالبكرين والجلد إصابة الجلد بالضرب كما تقول : رأسه وبطنه وظهره
أي ضرب رأسه وبطنه وظهره وهذا مطرد في أسماء الأعيان الثلاثية العضوية ، والظاهر
اندراج الكافر والعبد والمحصن في هذا العموم وهو لا يندرج في المجنون ولا الصبيّ
بإجماع. وقال ابن سلام وغيره : واتفق فقهاء الأمصار على أن المحصن يرجم ولا يجلد.
وقال الحسن وإسحاق وأحمد : يجلد ثم يرجم. وجلد عليّ رضياللهعنه شراحة الهمدانية ثم رجمها وقال : جلدتها بكتاب الله
ورجمتها بسنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولا حجة في كون
مرجومة أنيس والغامدية لم ينقل جلدهما لأن ذلك معلوم من أحكام القرآن فلا ينقل
إلّا ما كان زائدا على القرآن وهو الرجم ، فلذلك ذكر الرجم ولم يذكر الجلد. ومذهب
أبي حنيفة أن من شرط الإحصان الإسلام ، ومذهب الشافعي أنه ليس بشرط ، واتفقوا على
أن الأمة تجلد خمسين وكذا العبد على مذهب الجمهور. وقال أهل الظاهر : يجلد العبد
مائة ومنهم من قال : تجلد الأمة مائة إلّا إذا تزوجت فخمسين ، والظاهر اندراج
الذمّيين في الزانية والزاني فيجلدان عند أبي حنيفة والشافعي وإذا كانا محصنين
يرجمان عند
الشافعي. وقال مالك : لا حد عليهما والظاهر أنه ليس على الزانية والزاني حد غير
الجلد فقط وهو مذهب الخوارج ، وقد ثبت الرجم بالسنة المستفيضة وعمل به بعد الرسول
خلفاء الإسلام أبو بكر وعمر وعليّ ، ومن الصحابة جابر وأبو هريرة وبريدة الأسلمي
وزيد بن خالد ، واختلفوا في التغريب بنفي البكر بعد الجلد. وقال الثوري والأوزاعي
والحسن بن صالح والشافعي بنفي الزاني. وقال الأوزاعي ومالك : ينفى الرجل ولا تنفى
المرأة قال مالك : ولا ينفى العبد نصف سنة ، والظاهر أن هذا الجلد إنما هو على من
ثبت عليه الزنا فلو وجدا في ثوب واحد فقال إسحاق يضرب كل واحد منهما مائة جلدة ،
وروي عن عمر وعليّ. وقال عطاء والثوري ومالك وأحمد : يؤدبان على مذاهبهم في الأدب
، وأما الإكراه فالمكرهة لا حد عليها وفي حد الرجل المكره خلاف وتفصيل بين أن
يكرهه سلطان فلا يحد أو غيره فيحد ، وهو قول أبي حنيفة وقول أبي يوسف ومحمد والحسن
بن صالح والشافعي لا يحد في الوجهين ، وقول زفر يحد فيهما جميعا. والظاهر أنه لا
يندرج في الزنا من أتى امرأة من دبرها ولا ذكرا ولا بهيمة. وقيل : يندرج والمأمور
بالجلد أئمة المسلمين ونوابهم. واختلفوا في إقامة الخارجي المتعلب الحدود. فقيل له
ذلك. وقيل : لا وفي إقامة السيد على رقيقه. فقال ابن مسعود وابن عمر وعائشة وفاطمة
والشافعي : له ذلك. وقال أبو حنيفة ومحمد وزفر : لا ، وقال مالك والليث : له ذلك
إلّا في القطع في السرقة فإنما يقطعه الإمام ، والجلد كما قلنا ضرب الجلد ولم
تتعرض الآية لهيئة الجالد ولا هيئة المجلود ولا لمحل الجلد ولا لصفة الآلة المجلود
بها وذلك مذكور في كتب الفقه.
وقال الزمخشري :
فإن قلت : هذا حكم جميع الزناة والزواني أم حكم بعضهم؟ قلت : بل هو حكم من ليس
بمحصن منهم ، فإن المحصن حكمه الرجم فإن قلت : اللفظ يقتضي تعليق الحكم بجميع
الزناة والزواني لأن قوله (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي) عام في الجميع يتناوله المحصن وغير المحصن قلت : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) يدلان على الجنسين المنافيين لجنسي العفيف والعفيفة دلالة
مطلقة ، والجنسية قائمة في الكل والبعض جميعا فأيهما قصد المتكلم فلا عليه كما
يفعل بالاسم المشترك انتهى. وليست دلالة اللفظ على الجنسين كما ذكر دلالة طلقة لأن
دلالة عموم الاستغراق مباينة لدلالة عموم البدل وهو الإطلاق ، وليست كدلالة المشترك
لأن دلالة العموم هي كل فرد فرد على سبيل الاستغراق ، ودلالة المشترك تدل على فرد
فرد على الاستغراق أعني في الاستعمال وإن كان في ذلك خلاف في أصول الفقه ، لكن ما
ذكرته هو الذي يصح في النظر واستعمال كلام العرب.
وقرأ عليّ بن أبي
طالب والسلمي وابن مقسم وداود بن أبي هند عن مجاهد : ولا يأخذكم بالياء لأن تأنيث
الرأفة مجاز وحسن ذلك الفصل. وقرأ الجمهور بالتاء الرأفة لفظا. وقرأ الجمهور (رَأْفَةٌ) بسكون الهمزة وابن كثير بفتحها وابن جريج بألف بعد الهمزة.
وروي هذا عن عاصم وابن كثير ، وكلها مصادر أشهرها الأول والرأفة المنهي أن تأخذ
المتولين إقامة الحد. قال أبو مجلز ومجاهد وعكرمة وعطاء : هي في إسقاط الحد ، أي
أقيموه ولا يدرأ هذا تأويل ابن عمر وابن جبير وغيرهما. ومن مذهبهم أن الحد في
الزنا والفرية والخمر على نحو واحد. وقال قتادة وابن المسيب وغيرهما : الرأفة
المنهي عنها هي في تخفيف الضرب على الزناة ، ومن رأيهم أن يخفف ضرب الفرية والخمر
ويشدد ضرب الزنا.
وقال الزمخشري :
والمعنى أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله ويستعملوا الجد والمتانة
فيه ، ولا يأخذهم اللين والهوادة في استيفاء حدوده انتهى. فهذا تحسين قول أبي مجلز
ومن وافقه. وقال الزهري : يشدّد في الزنا والفرية ويخفف في حد الشرب.
وقال مجاهد
والشعبي وابن زيد : في الكلام حذف تقديره (وَلا تَأْخُذْكُمْ
بِهِما رَأْفَةٌ) فتعطلوا الحدود ولا تقيموها. والنهي في الظاهر للرأفة
والمراد ما تدعو إليه الرأفة وهو تعطيل الحدود أو نقصها ومعنى (فِي دِينِ اللهِ) في الإخلال بدين الله أي بشرعه. قيل : ويحتمل أن يكون
الدين بمعنى الحكم (إِنْ كُنْتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) تثبيت وحض وتهييج للغضب لله ولدينه ، كما تقول : إن كنت
رجلا فافعل ، وأمر تعالى بحضور جلدهما طائفة إغلاظا على الزناة وتوبيخا لهم بحضرة
الناس ، وسمى الجلد عذابا إذ فيه إيلام وافتضاح وهو عقوبة على ذلك الفعل ،
والطائفة المأمور بشهودها ذلك يدل الاشتقاق على ما يكون يطوف بالشيء وأقل ما يتصور
ذلك فيه ثلاثة وهي صفة غالبة لأنها الجماعة الحافة بالشيء. وعن ابن عباس وابن زيد
في تفسيرها أربعة إلى أربعين. وعن الحسن : عشرة. وعن قتادة والزهري : ثلاثة
فصاعدا. وعن عكرمة وعطاء : رجلان فصاعدا وهو مشهور قول مالك. وعن مجاهد : الواحد
فما فوقه واستعمال الضمير الذي للجمع عائدا على الطائفة في كلام العرب دليل على
أنه يراد بها الجمع وذلك كثير في القرآن.
(الزَّانِي لا
يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) الظاهر أنه خبر قصد به تشنيع الزنا وأمره ، ومعنى (لا يَنْكِحُ) لا يطأ وزاد المشركة في التقسيم ، فالمعنى أن الزاني في
وقت زناه
لا يجامع إلّا
زانية من المسلمين أو أخس منها وهي المشركة ، والنكاح بمعنى الجماع مروي عن ابن
عباس هنا. وقال الزمخشري : وقيل المراد بالنكاح الوطء وليس بقول لأمرين. أحدهما :
أن هذه الكلمة أينما وردت في القرآن لم يرد بها إلّا معنى العقد. والثاني : فساد
المعنى وأداؤه إلى قولك الزاني لا يزني إلّا بزانية ، والزانية لا تزني إلا بزان
انتهى. وما ذكره من الأمر الأول أخذه من الزجاج قال : لا يعرف النكاح في كتاب الله
إلا بمعنى التزويج وليس كما قال ، وفي القرآن حتى تنكح زوجا غيره ، وبيّن الرسول صلىاللهعليهوسلم أنه بمعنى الوطء. وأما الأمر الثاني فالمقصود به تشنيع
الزنا وتشنيع أمره وأنه محرم على المؤمنين. وقال الزمخشري : وأخذه من الضحاك وحسنه
الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا ، والخبث لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء
اللاتي على خلاف صفته ، وإنما يرغب في فاسقه خبيثة من شكله ، أو في مشركة.
والفاسقة الخبيثة المسافحة كذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها
، وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة والمشركين ، ونكاح المؤمن الممدوح عند
الله الزانية ورغبته فيها وانخراطه بذلك في سلك الفسقة المتسمين بالزنا محرم محظور
لما فيه من التشبه بالفساق ، وحضور موقع التهمة والتسبب لسوء القالة فيه والغيبة
وأنواع المفاسد ومجالسة الخطائين ، كم فيها من التعرض لاقتراف الآثام فكيف بمزاوجة
الزواني والقحاب وإقدامه على ذلك انتهى.
وعن ابن عمر وابن
عباس وأصحابه أنها في قوم مخصوصين كانوا يزنون في جاهليتهم ببغايا مشهورات ، فلما
جاء الإسلام وأسلموا لم يمكنهم الزنا فأرادوا لفقرهم زواج أولئك النسوة إذ كن من
عادتهن الإنفاق على من ارتسم بزواجهن ، فنزلت الآية بسببهن والإشارة بالزاني إلى
أحد أولئك أطلق عليه اسم الزنا الذي كان في الجاهلية وقوله (لا يَنْكِحُ) أي لا يتزوج ، وعلى هذين التأويلين فيه معنى التفجع عليهم
وفيه توبيخ كأنه يقول : الزاني لا يريد أن يتزوج إلا زانية أو مشركة ، أي تنزع
نفوسهم إلى هذه الخسائس لقلة انضباطهم ، ويرد على هذين التأويلين الإجماع على أن
الزانية لا يجوز أن يتزوجها مشرك في قومه (وَحُرِّمَ ذلِكَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ). أي نكاح أولئك البغايا ، فيزعم أهل هذين التأويلين أن
نكاحهن حرمه الله على أمّة محمد صلىاللهعليهوسلم.
وقال الحسن :
المراد الزاني المحدود ، والزانية المحدودة قال : وهذا حكم من الله فلا يجوز لزان
محدود أن يتزوج إلّا زانية. وقد روي أن محدودا تزوج غير محدودة فردّ
عليّ بن أبيّ طالب
نكاحها. (وَحُرِّمَ ذلِكَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) يريد الزنا. وروى الزهراني في هذا حديثا من طريق أبي هريرة
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا ينكح الزاني المحدود إلّا مثله». قال ابن عطية :
وهذا حديث لا يصح ، وقول فيه نظر ، وإدخال المشرك في الآية يرده وألفاظ الآية
تأباه وإن قدرت المشركة بمعنى الكتابية فلا حيلة في لفظ المشرك انتهى. وقال ابن
المسيب : هذا حكم كان في الزناة عام أن لا يتزوج زان إلّا زانية ، ثم جاءت الرخصة
ونسخ ذلك بقوله (وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ) وقوله (فَانْكِحُوا ما طابَ
لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) وروي ترتيب هذا النسخ عن مجاهد إلّا أنه قال : حرم نكاح
أولئك البغايا على أولئك النفر. قال ابن عطية : وذكر الإشراك في الآية يضعف هذه
المناحي انتهى.
وعن الجبائي إنها
منسوخة بالإجماع ، وضعف بأنه ثبت في أصول الفقه أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به ،
وتلخص من هذه الأقوال أن النكاح إن أريد به الوطء فالآية وردت مبالغة في تشنيع
الزنا ، وإن أريد به التزويج فإما أن يراد به عموم في الزناة ثم نسخ ، أو عموم في
الفساق الخبيثين لا يرغبون إلّا فيمن هو شكل لهم ، والفواسق الخبائث لا يرغبن إلّا
فيمن هو شكل لهن ، ولا يجوز التزويج على ما قرره الزمخشري ، أو يراد به خصوص في
قوم كانوا في الجاهلية زناة ببغايا فأرادوا تزويجهن لفقرهم وإيسارهن مع بقائهن على
البغاء فلا يتزوج عفيفة ، ولو زنا رجل بامرأة ثم أراد تزويجها فأجاز ذلك أبو بكر
الصديق وابن عمر وابن عباس وجابر وطاوس وابن المسيب وجابر بن زيد وعطاء والحسن
وعكرمة ومالك والثوري والشافعي ، ومنعه ابن مسعود والبراء ابن عازب وعائشة وقالا :
لا يزالان زانيين ما اجتمعا ، ومن غريب النقل أنه لو تزوج معروف بالزنا أو بغيره
من الفسوق ثبت الخيار في البقاء معه أو فراقه وهو عيب من العيوب التي يترتب الخيار
عليها ، وذهب قوم إلى أن الآية محكمة ، وعندهم أن من زنى من الزوجين فسد النكاح
بينهما. وقال قوم منهم : لا ينفسخ ويؤمر بطلاقها إذا زنت ، فإن أمسكها أثم. قالوا
: ولا يجوز التزوج بالزانية ولا من الزاني فإن ظهرت التوبة جاز.
وقال الزمخشري :
فإن قلت : أي فرق بين معنى الجملة الأولى ومعنى الثانية؟ قلت : معنى الأولى صفة
الزاني بكونه غير راغب في العفائف ولكن في الفواجر ، ومعنى الثانية صفتها بكونها
غير مرغوب فيها للأعفّاء ولكن للزناة ، وهما معنيان مختلفان.
وعن عمرو بن عبيد (لا يَنْكِحُ) بالجزم على النهي والمرفوع فيه معنى النهي ولكن
__________________
هو أبلغ وآكد كما
أن رحمك الله ويرحمك الله أبلغ من ليرحمك ، ويجوز أن يكون خبرا محضا على معنى إن
عادتهم جارية على ذلك ، وعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت هذه العادة ويتصون عنها
انتهى. وقرأ أبو البر هيثم (وَحُرِّمَ) مبنيا للفاعل أي الله ، وزيد بن عليّ (وَحُرِّمَ) بضم الراء وفتح الحاء والجمهور (وَحُرِّمَ) مشددا مبنيا للمفعول.
والقذف الرمي
بالزنا وغيره ، والمراد به هنا الزنا لاعتقابه إياه ولاشتراط أربعة شهداء وهو مما
يخص القذف بالزنا إذ في غيره يكفي شاهدان. قال ابن جبير : ونزلت بسبب قصة الإفك.
وقيل : بسبب القذفة عاما ، واستعير الرمي للشتم لأنه إذاية بالقول. كما قال :
وجرح اللسان كجرح
اليد
وقال :
رماني بأمر كنت
منه ووالدي
|
|
بريئا ومن أجل
الطويّ رماني
|
و (الْمُحْصَناتِ) الظاهر أن المراد النساء العفائف ، وخص النساء بذلك وإن
كان الرجال يشركونهن في الحكم لأن القذف فيهن أشنع وأنكر للنفوس ، ومن حيث هن هوى
الرجال ففيه إيذاء لهن ولأزواجهن وقراباتهن. وقيل : المعنى الفروج المحصنات كما
قال : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ
فَرْجَها) . وقيل : الأنفس المحصنات وقاله ابن حزم : وحكاه الزهراوي
فعلى هذين القولين يكون اللفظ شاملا للنساء وللرجال ، ويدل على الثاني قوله (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) وثم محذوف أي بالزنا ، وخرج بالمحصنات من ثبت زناها أو
زناه ، واستلزم الوصف بالإحصان الإسلام والعقل والبلوغ والحرية. قال أبو بكر
الرازي : ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في هذا المعنى ، والمراد بالمحصنات غير
المتزوجات الرامين أو لمن زوجه حكم يأتي بعد ذلك ، والرمي بالزنا الموجب للحد هو
التصريح بأن يقول : يا زانية ، أو يا زاني ، أو يا ابن الزاني وابن الزانية ، يا
ولد الزنا لست لأبيك لست لهذه وما أشبه ذلك من الصرائح ، فلو عرض كأن يقول : ما
أنا بزان ولا أمي بزانية لم يحد في مذهب أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد وابن
شبرمة والثوري والحسن بن صالح والشافعي ، ويحد في مذهب مالك ، وثبت الحد فيه عن
عمر بعد مشاورته الناس وقال أحمد وإسحاق هو قذف في حال الغضب دون الرضا ، فلو قذف
كتابيا إذا كان للمقذوف ولد مسلم. وقيل : إذا قذف الكتابية تحت المسلم حدّ واتفقوا
على أن قاذف الصبي لا يحد وإن كان مثله يجامع ، واختلفوا في قاذف
__________________
الصبية. فقال مالك
: يحد إذا كان مثلها يجامع. وقال مالك والليث : يحد إذا كان مثلها يجامع. وقال
مالك والليث : يحد قاذف المجنون. وقال غيرهما : لا يحد.
(وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ) ظاهره الذكور وحكم الراميات حكمهم ، ولو قذف الصبي أو
المجنون زوجته أو أجنبية فلا حدّ عليه أو أخرس وله كناية معروفة أو إشارة مفهومة
حد عند الشافعي. وقال أبو حنيفة : لا يصح قذفه ولا لعانه ولما كانت معصية الزنا
كبيرة من أمهات الكبائر وكان متعاطيها كثيرا ما يتسير بها فقلما يطلع أحد عليها ،
شدد الله تعالى على القاذف حيث شرط فيها أربعة شهداء رحمة بعباده وسترا لهم
والمعنى (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا) الحكام والجمهور على إضافة (بِأَرْبَعَةِ) إلى (شُهَداءَ). وقرأ أبو زرعة وعبد الله بن مسلم (بِأَرْبَعَةِ) بالتنوين وهي قراءة فصيحة ، لأنه إذا اجتمع اسم العدد والصفة
كان الاتباع أجود من الإضافة ، ولذلك رجح ابن جني هذه القراءة على قراءة الجمهور
من حيث أخذ مطلق الصفة وليس كذلك ، لأن الصفة إذا جرت مجرى الأسماء وباشرتها
العوامل جرت في العدد وفي غيره مجرى الأسماء ، ومن ذلك شهيد ألا ترى إلى قوله (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ
أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) وقوله (وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ) وكذلك عبد فثلاثة شهداء بالإضافة أفصح من التنوين والاتباع
، وكذلك ثلاثة أعبد.
وقال ابن عطية :
وسيبويه يرى أن تنوين العدد وترك إضافته إنما يجوز في الشعر انتهى. وليس كما ذكر
إنما يرى ذلك سيبويه في العدد الذي بعده اسم نحو : ثلاثة رجال ، وأما في الصفة فلا
بل الصحيح التفصيل الذي ذكرناه ، وإذا نونت أربعة فشهداء بدل إذ هو وصف جرى مجرى
الأسماء أو صفة لأنه صفة حقيقية ، ويضعف قول من قال إنه حال أو تمييز ، وهذه
الشهادة تكون بالمعاينة البليغة كالمرود في المكحلة ، والظاهر أنه لا يشترط
شهادتهم أن تكون حالة اجتماعهم بل لو أتى بهم متفرقين صحت شهادتهم. وقال أبو حنيفة
: شرط ذلك أن يشهدوا مجتمعين ، فلو جاؤوا متفرقين كانوا قذفه. والظاهر أنه يجوز أن
يكون أحد الشهود زوج المقذوفة لاندراجه في أربعة شهداء ولقوله (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
مِنْكُمْ) ولم يفرق بين كون الزوج فيهم وبين أن يكونوا أجنبيين ، وبه
قال أبو حنيفة وأصحابه وتحد المرأة ، وروي ذلك عن الحسن والشعبي. وقال مالك
والشافعي : يلاعن الزوج ويحد الثلاثة وروي مثله عن ابن عباس.
__________________
(فَاجْلِدُوهُمْ) أمر للإمام ونوابه بالجلد ، والظاهر وجوب الجلد وإن لم
يطالب المقذوف وبه قال ابن أبي ليلى. وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي :
لا يحد إلّا بمطالبته. وقال مالك كذلك إلّا أن يكون الإمام سمعه يقذفه فيحده إذا
كان مع الإمام شهود عدول وإن لم يطالب المقذوف ، والظاهر أن العبد القاذف حرّا إذا
لم يأت بأربعة شهداء حد ثمانين لاندراجه في عموم (وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ) وبه قال عبد الله بن مسعود والأوزاعي. وقال أبو حنيفة
وأصحابه ومالك والثوري وعثمان البتي والشافعي : يجلد أربعين وهو قول عليّ وفعل أبي
بكر وعمر وعليّ ومن بعدهم من الخلفاء قاله عبد الله بن ربيعة ، ولو قذف واحد جماعة
بلفظ واحد أو أفرد لكل واحد حد حدّا واحدا وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ومالك
والثوري والليث. وقال عثمان البتي والشافعي لكل واحد حد. وقال الشعبي وابن أبي
ليلى : إن كان بلفظ واحد نحو يا زناة فحدوا حد ، أو قال : لكل واحد يا زاني فلكل
إنسان حد ، والظاهر من الآية أنه لا يجلد إلّا القاذف ولم يأت جلد الشاهد إذا لم
يستوف عدد الشهود ، وليس من جاء للشهادة للقاذف بقاذف وقد أجراه عمر مجرى القاذف.
وجلد أبا بكرة وأخاه نافعا وشبل بن معبد البجلي لتوقف الرابع وهو زيادة في الشهادة
فلم يؤدها كاملة ، ولو أتى بأربعة شهداء فساق. فقال زفر : يدرأ الحد عن القاذف
والشهود. وعن أبي يوسف يحد القاذف ويدرأ عن الشهود. وقال مالك وعبيد الله بن الحسن
: يحد الشهود والقاذف.
(وَلا تَقْبَلُوا
لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) الظاهر أنه لا يقبل شهادته أبدا وإن أكذب نفسه وتاب ، وهو
نهي جاء بعد أمر ، فكما أن حكمه الجلد كذلك حكمه رد شهادته وبه قال شريح القاضي
والنخعي وابن المسيب وابن جبير والحسن والثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح
: لا تقبل شهادة المحدود في القذف وإن تاب ، وتقبل شهادته في غير المقذوف إذا تاب.
وقال مالك : تقبل في القذف بالزنا وغيره إذا تاب وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد
والشعبي والقاسم بن محمد وسالم والزهري ، وقال : لا تقبل شهادة محدود في الإسلام
يعني مطلقا ، وتوبته بماذا تقبل بإكذاب نفسه في القذف وهو قول الشافعي وكذا فعل
عمر بنافع وشبل أكذبا أنفسهما فقبل شهادتهما ، وأصر أبو بكرة فلم تقبل شهادته حتى
مات.
(وَأُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ) الظاهر أنه كلام مستأنف غير داخل في حيز الذين يرمون ،
كأنه إخبار بحال
الرامين بعد انقضاء الموصول المتضمن معنى الشرط وما ترتب في خبره من الجلد وعدم
قبول الشهادة أبدا.
(إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا) هذا الاستثناء يعقب جملا ثلاثة ، جملة الأمر بالجلد وهو لو
تاب وأكذب نفسه لم يسقط عنه حد القذف ، وجملة النهي عن قبول شهادتهم أبدا وقد وقع
الخلاف في قبول شهادتهم إذا تابوا بناء على أن هذا الاستثناء راجع إلى جملة النهي
، وجملة الحكم بالفسق أو هو راجع إلى الجملة الأخيرة وهي الثالثة وهي الحكم بفسقهم
، والذي يقتضيه النظر أن الاستثناء إذا تعقب جملة يصلح أن يتخصص كل واحد منها بالاستثناء
أن يجعل تخصيصا في الجملة الأخيرة ، وهذه المسألة تكلم عليها في أصول الفقه وفيها
خلاف وتفصيل ، ولم أر من تكلم عليها من النحاة غير المهاباذي وابن مالك فاختار ابن
مالك أن يعود إلى الجمل كلها كالشرط ، واختار المهاباذي أن يعود إلى الجملة
الأخيرة وهو الذي نختاره ، وقد استدللنا على صحة ذلك في كتاب التذييل والتكميل في
شرح التسهيل. وقال الزمخشري : وجعل يعني الشافعي الاستثناء متعلقا بالجملة الثانية
وحق المستثنى عنده أن يكون مجرور بدلا من هم في (لَهُمْ) وحقه عند أبي حنيفة النصب لأنه عن موجب ، والذي يقتضيه
ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاث مجموعهن جزاء الشرط يعني الموصول المضمن
معنى الشرط كأنه قيل : ومن قذف المحصنات فاجلدوه وردوا شهادته وفسّقوه أي أجمعوا
له الحد والرد والفسق.
(إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا) عن القذف (وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ
اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فينقلبون غير محدودين ولا مردودين ولا مفسقين انتهى. وليس
يقتضي ظاهر الآية عود الاستثناء إلى الجمل الثلاث ، بل الظاهر هو ما يعضده كلام
العرب وهو الرجوع إلى الجملة التي تليها والقول بأنه استثناء منقطع مع ظهور اتصاله
ضعيف لا يصار إليه إلّا عند الحاجة.
ولما ذكر تعالى
قذف المحصنات وكان الظاهر أنه يتناول الأزواج وغيرهن ولذلك قال سعد بن عبادة : يا
رسول الله إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء والله لأضربنه
بالسيف غير مصفح ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم عزم على حد هلال بن أمية حين رمى زوجته بشريك بن سحماء
فنزلت (وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) واتضح أن المراد بقوله (وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) غير الزوجات ، والمشهور أن نازلة هلال قبل نازلة عويمر. وقيل
: نازلة عويمر قبل ، والمعنى بالزنا ولم يكن لهم شهداء ولم يقيد بعدد اكتفاء
بالتقييد في قذف غير الزوجات ، والمعنى (شُهَداءُ) على صدق قولهم. وقرئ ولم تكن بالتاء.
وقرأ الجمهور
بالياء وهو الفصيح لأنه إذا كان العامل مفرغا لما بعد إلّا وهو مؤنث فالفصيح أن
يقول ما قام إلّا هند ، وأما ما قامت إلّا هند فأكثر أصحابنا يخصه بالضرورة ، وبعض
النحويين يجيزه في الكلام على قلة.
و (أَزْواجَهُمْ) يعم سائر الأزواج من المؤمنات والكافرات والإماء ، فكلهن
يلاعن الزوج للانتفاء من العمل. وقال أبو حنيفة وأصحابه : بأحد معنيين أحدهما : أن
تكون الزوجة ممن لا يجب على قاذفها الحد وإن كان أجنبيا ، نحو أن تكون الزوجة
مملوكة أو ذمية وقد وطئت وطأ حر إما في غير ملك. والثاني : أن يكون أحدهما ليس من
أهل الشهادة بأن يكون محدودا في قذف أو كافرا أو عبدا ، فأمّا إذا كان أعمى أو
فاسقا فله أن يلاعن. وقال الثوري والحسن بن صالح : لا لعان إذا كان أحد الزوجين
مملوكا أو كافرا ، ويلاعن المحدود في القذف. وقال الأوزاعي : لا لعان بين أهل
الكتاب ولا بين المحدود في القذف وامرأته. وقال الليث : يلاعن العبد امرأته الحرة
والمحدود في القذف. وعن مالك : الأمة المسلمة والحرة الكتابية يلاعن الحر المسلم
والعبد يلاعن زوجته الكتابية ، وعنه : ليس بين المسلم والكافرة لعان إلّا لمن يقول
رأيتها تزني فيلاعن ظهر الحمل أو لم يظهر ، ولا يلاعن المسلم الكافرة ولا زوجته
الأمة إلّا في نفي الحمل ويتلاعن المملوكان المسلمان لا الكافران. وقال الشافعي كل
زوج جاز طلاقه ولزمه الفرض يلاعن ، والظاهر العموم في الرامين وزوجاتهم المرميات
بالزنا ، والظاهر إطلاق الرمي بالزنا سواء قال : عاينتها تزني أم قال زنيت وهو قول
أبي حنيفة وأصحابه ، وكان مالك لا يلاعن إلّا أن يقول : رأيتك تزنين أو ينفي حملا
بها أو ولدا منها والأعمى يلاعن. وقال الليث : لا يلاعن إلّا أن يقول : رأيت عليها
رجلا أو يكون استبرأها ، فيقول : ليس هذا الحمل مني ولم تتعرض الآية في اللعان
إلّا لكيفيته من الزوجين. وقد أطال المفسرون الزمخشري وابن عطية وغيرهما في ذكر
كثير من أحكام اللعان مما لم تتعرض له الآية وينظر ذلك في كتب الفقه.
وقرأ الجمهور (أَرْبَعُ شَهاداتٍ) بالنصب على المصدر. وارتفع (فَشَهادَةُ) خبرا على إضمار مبتدإ ، أي فالحكم أو الواجب أو مبتدأ على
إضمار الخبر متقدما أي فعليه أن يشهد أو مؤخرا أي كافيه أو واجبه. و (بِاللهِ) من صلة (شَهاداتٍ) ويجوز أن يكون من صلة (فَشَهادَةُ) قاله ابن عطية ، وفرغ الحوفي ذلك على الأعمال ، فعلى رأي
البصريين واختيارهم يتعلق بشهادات ، وعلى اختيار الكوفيين يتعلق بقوله (فَشَهادَةُ). وقرأ الأخوان
وحفص والحسن
وقتادة والزعفراني وابن مقسم وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو بحرية وأبان وابن سعدان
(أَرْبَعُ) بالرفع خبر للمبتدأ ، وهو (فَشَهادَةُ) و (بِاللهِ) من صلة (شَهاداتٍ) على هذه القراءة ، ولا يجوز أن يتعلق بفشهادة للفصل بين
المصدر ومعموله بالجر ولا يجوز ذلك.
وقرأ الجمهور (وَالْخامِسَةُ) بالرفع فيهما. وقرأ طلحة والسلمي والحسن والأعمش وخالد بن
إياس ويقال ابن إياس بالنصب فيهما. وقرأ حفص والزعفراني بنصب الثانية دون الأولى ،
فالرفع على الابتداء وما بعده الخبر ، ومن نصب الأولى فعطف على (أَرْبَعُ) في قراءة من نصب (أَرْبَعُ) ، وعلى إضمار فعل يدل عليه المعنى في قراءة من رفع (أَرْبَعُ) أي وتشهد (الْخامِسَةُ) ومن نصب الثانية فعطف على (أَرْبَعُ) وعلى قراءة النصب في (الْخامِسَةُ) يكون (أَنَ) بعده على إسقاط حرف الجر ، أي بأن ، وجوّز أن يكون (أَنَ) وما بعده بدلا من (الْخامِسَةُ). وقرأ نافع أن لعنت بتخفيف أن ورفع لعنت و (أَنَّ غَضَبَ) بتخفيف (أَنَ) و (غَضَبَ) فعل ماض والجلالة بعد مرفوعة ، وهي ان المخففة من الثقيلة
لما خففت حذف اسمها وهو ضمير الشأن. وقرأ أبو رجاء وقتادة وعيسى وسلام وعمرو بن
ميمون والأعرج ويعقوب بخلاف عنهما ، والحسن (أَنْ لَعْنَةُ) كقراءة نافع ، و (أَنَّ غَضَبَ) بتخفيف (أَنَ) و (غَضَبَ) مصدر مرفوع وخبر ما وبعده وهي أن المخففة من الثقيلة. وقرأ
باقي السبعة (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ) و (أَنَّ غَضَبَ اللهِ) بتشديد (أَنَ) ونصب ما بعدهما اسما لها وخبر ما بعد. قال ابن عطية : و (أَنَ) الخفيفة على قراءة نافع في قوله (أَنَّ غَضَبَ) قد وليها الفعل.
قال أبو علي :
وأهل العربية يستقبحون أن يليها الفعل إلّا أن يفصل بينها وبينه بشيء نحو قوله (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ) وقوله (أَفَلا يَرَوْنَ
أَلَّا يَرْجِعُ) وأما قوله تعالى (وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) فذلك لعلة تمكن ليس في الأفعال. وأما قوله (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) فبورك على معنى الدعاء فلم يجر دخول الفواصل لئلا يفسد
المعنى انتهى. ولا فرق بين (أَنَّ غَضَبَ اللهِ) و (أَنْ بُورِكَ) في كون الفعل بعد أن دعاء ، ولم يبين ذلك ابن عطية ولا
الفارسي ، ويكون غضب دعاء مثل النحاة أنه إذا كان الفعل دعاء لا يفصل بينه وبين أن
بشيء ، وأورد ابن عطية (أَنَّ غَضَبَ) في قراءة نافع مورد المستغرب.
__________________
(وَيَدْرَؤُا عَنْهَا
الْعَذابَ) أي يدفع و (الْعَذابَ) قال الجمهور الحد. وقال أصحاب الرأي لا حد عليها إن لم يلاعن
ولا يوجبه عليها قول الزوج. وحكى الطبري عن آخرين أن (الْعَذابَ) هو الحبس ، والظاهر الاكتفاء في اللعان بهذه الكيفية
المذكورة في الآية وبه قال الليث ، ومكان ضمير الغائب ضمير المتكلم في شهادته
مطلقا وفي شهادتها في قوله عليها تقول عليّ. فقال الثوري وأبو حنيفة ومحمد وأبو
يوسف : يقول بعد (مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما رماها به من الزنا وكذا بعد من الكاذبين ، وكذا هي
بعد من الكاذبين و (مِنَ الصَّادِقِينَ) فإن كان هناك ولد ينفيه زاد بعد قوله فيما رماها به من
الزنا في نفي الولد. وقال مالك : يقول أشهد بالله أني رأيتها تزني وهي أشهد بالله
ما رآني أزني ، والخامسة تقول ذلك أربعا و (الْخامِسَةُ) لفظ الآية.
وقال الشافعي :
يقول أشهد بالله أني لصادق فيما رميت به زوجتي فلانة بنت فلان ، ويشير إليها إن
كان حاضرة أربع مرات ، ثم يقعد الإمام ويذكره الله تعالى فإن رآه يريد أن يمضي أمر
من يضع يده على فيه ويقول : إن قولك وعليّ لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميت
به فلانة من الزنا ، فإن قذفها بأحد يسميه بعينه واحد أو اثنين في كل شهادة ، وإن
نفى ولدها زاد وأن هذا الولد ما هو مني ، والظاهر أنه إذا طلقها بائنا فقذفها
وولدت قبل انقضاء العدة فنفي الولد أنه يحد ويلحقه الولد لأنه لا ينطلق عليها زوجة
إلّا مجازا. وعن ابن عباس : إذا طلقها تطليقة أو تطليقتين ثم قذفها حدّ. وعن ابن
عمر : يلاعن. وعن الليث والشافعي : إذا أنكر حملها بعد البينونة لاعن. وعن مالك :
إن أنكره بعد الثلاث لاعنها. ولو قذفها ثم بانت منه بطلاق أو غيره فقال الثوري
وأبو حنيفة وأصحابه : لا حد ولا لعان. وقال الأوزاعي والليث والشافعي : يلاعن وهذا
هو الظاهر لأنها كانت زوجته حالة القذف ، والظاهر من قوله (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ) أنه يلزم ذلك فإن نكل حبس حتى يلاعن وكذلك هي ، وهذا مذهب
أبي حنيفة وأصحابه.
وقال مالك والحسن
بن صالح والليث والشافعي : أيهما نكل حدّ هو للقذف وهي للزنا. وعن الحسن : إذا
لاعن وأبت حبست. وعن مكحول والضحاك والشعبي : ترجم ومشروعية اللعان دليل على أن
الزنا والقذف ليسا بكفر من فاعلهما خلافا للخوارج في قولهم : إن ذلك كفر من الكاذب
منهما لاستحقاق اللعن من الله والغضب. قال الزمخشري : فإن قلت : لم خصت الملاعنة
بأن تخمس بغضب الله؟ قلت : تغليظا عليها
لأنها هي أصل
الفجور ومتبعة بإطماعها ، ولذلك كانت مقدّمة في آية الجلد ويشهد لذلك قوله صلىاللهعليهوسلم لخويلة : «والرجم أهون عليك من غضب الله».
(وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ) إلى آخره. قال السدّي فضله منته ورحمته نعمته. وقال ابن
سلام : فضله الإسلام ورحمته الكتمان. ولما بين تعالى حكم الرامي المحصنات والأزواج
كان في فضله ورحمته أن جعل اللعان سبيلا إلى الستر وإلى درء الحدّ وجواب (لَوْ لا) محذوف. قال
التبريزي : تقديره لهلكتم أو لفضحكم أو لعاجلكم بالعقوبة أو لتبين الكاذب. وقال
ابن عطية : لكشف الزناة بأيسر من هذا أو لأخذهم بعقاب من عنده ، ونحو هذا من
المعاني التي يوجب تقديرها إبهام الجواب.
إِنَّ
الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ
هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ
وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْ لا إِذْ
سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا
هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ
يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْ لا
فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ
فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ
وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ
هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ
ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦)
يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
(١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ
الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ
رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠)
سبب نزول هذه
الآيات مشهور مذكور في الصحيح ، والإفك : الكذب والافتراء. وقيل : هو البهتان لا
تشعر به حتى يفجأك. والعصبة : الجماعة وقد تقدم الكلام عليها في سورة يوسف عليهالسلام. (مِنْكُمْ) أي من أهل ملتكم وممن ينتمي إلى الإسلام ، ومنهم
منافق ومنهم مسلم
، والظاهر أن خبر (إِنَ) هو (عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) و (مِنْكُمْ) في موضع الصفة وقاله. الحوفي وأبو البقاء. و (لا تَحْسَبُوهُ) : مستأنف. وقال ابن عطية (عُصْبَةٌ) رفع على البدل من الضمير في (جاؤُ) وخبر (إِنَ) في قوله و (لا تَحْسَبُوهُ) التقدير أن فعل الذين وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من
أن يكون (عُصْبَةٌ) خبر (إِنَ) انتهى. والعصبة : عبد الله بن أبيّ رأس النفاق ، وزيد بن
رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم ممن لم يرد
ذكر اسمه ، و (لا تَحْسَبُوهُ) خطاب لمن ساءه ذلك من المؤمنين وخصوصا أصحاب القصة.
والضمير في (لا تَحْسَبُوهُ) الظاهر أنه عائد على الإفك ، وعلى إعراب ابن عطية. يعول
على ذلك المحذوف الذي قدره اسم (إِنَ). قيل : ويجوز أن يعود على القذف وعلى المصدر المفهوم من (جاؤُ) وعلى ما نال المسلمين من الغم ، والمعنى (لا تَحْسَبُوهُ) ينزل بكم منه عار (بَلْ هُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ) لبراءة الساحة وثواب الصبر على ذلك الأذى وانكشاف كذب القاذفين.
وقيل : الخطاب بلا
تحسبوه للقاذفين وكينونة ذلك خيرا لهم حيث كان هذا الذكر عقوبة معجلة كالكفارة ،
وحيث تاب بعضهم. وهذا القول ضعيف لقوله بعد : (لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) أي جزاء ما اكتسب ، وذلك بقدر ما خاض فيه لأن بعضهم ضحك
وبعضهم سكت وبعضهم تكلم ، و (اكْتَسَبَ) مستعمل في المآثم ونحوها لأنها تدل على اعتمال وقصد فهو
أبلغ في الترتيب وكسب مستعمل في الخير لأن حصوله مغن عن الدلالة على اعتمال فيه ،
وقد يستعمل كسب في الوجهين.
(وَالَّذِي تَوَلَّى) كبره المشهور أنه عبد الله بن أبيّ ، والعذاب العظيم عذاب
يوم القيامة. وقيل : هو ما أصاب حسان من ذهاب بصره وشل يده ، وكان ذلك من عبد الله
بن أبي لإمعانه في عداوة الرسول صلىاللهعليهوسلم وانتهازه الفرص ، وروي عنه كلام قبيح في ذلك نزهت كتابي عن
ذكره وقلمي عن كتابته قبحه الله. وقيل : (الَّذِي تَوَلَّى
كِبْرَهُ) حسان ، والعذاب الأليم عماه وحده وضرب صفوان له بالسيف على
رأسه وقال له :
توقّ ذباب السيف
عني فإنني
|
|
غلام إذا هوجيت
لست بشاعر
|
ولكنني أحمي
حماي وأتقي
|
|
من الباهت
الرامي البريء الظواهر
|
وأنشد حسان أبياتا
يثني فيها على أم المؤمنين ويظهر براءته مما نسب إليه وهي :
حصان رزان ما
تزنّ بريبة
|
|
وتصبح غرثى من
لحوم الغوافل
|
حليلة خير الناس
دينا ومنصبا
|
|
نبيّ الهدى
والمكرمات الفواضل
|
عقيلة حي من لؤي
بن غالب
|
|
كرام المساعي
مجدها غير زائل
|
مهذبة قد طيب
الله خيمها
|
|
وطهرها من كل
شين وباطل
|
فإن كان ما بلغت
عني قلته
|
|
فلا رفعت سوطي
إليّ أناملي
|
وكيف وودي ما
حييت ونصرتي
|
|
بآل رسول الله
زين المحافل
|
له رتب عال على
الناس فضلها
|
|
تقاصر عنها سورة
المتطاول
|
والمشهور أنه حد
حسان ومسطح وحمنة. قيل : وعبد الله بن أبيّ وقد ذكره بعض شعراء ذلك العصر في شعر.
وقيل : لم يحد مسطح. وقيل : لم يحد عبد الله. وقيل : لم يحد أحد في هذه القصة وهذا
مخالف للنص. (فَاجْلِدُوهُمْ
ثَمانِينَ جَلْدَةً) وقابل ذلك بقول : إنما يقال الحد بإقرار أو بينة ، ولم
يتقيد بإقامته بالإخبار كما لم يتقيد بقتل المنافقين ، وقد أخبر تعالى بكفرهم.
وقرأ الجمهور (كِبْرَهُ) بكسر الكاف. وقرأ الحسن وعمرة بنت عبد الرحمن والزهري وأبو
رجاء ومجاهد وأبو البرهسم والأعمش وحميد وابن أبي عبلة وسفيان الثوري ويزيد بن
قطيب ويعقوب والزعفراني وابن مقسم وسورة عن الكسائي ومحبوب عن أبي عمرو بضم الكاف
، والكبر والكبر مصدران لكبر الشيء عظم لكن استعمال العرب الضم ليس في السن. هذا
كبر القوم أي كبيرهم سنا أو مكانة. وفي الحديث في قصة حويصة ومحيصة : «الكبر الكبر».
وقيل (كِبْرَهُ) بالضم معظمه ، وبالكسر البداءة بالإفك. وقيل : بالكسر
الإثم.
(لَوْ لا إِذْ
سَمِعْتُمُوهُ) هذا تحريض على ظن الخير وزجر وأدب ، والظاهر أن الخطاب
للمؤمنين حاشا من تولى كبره. قيل : ويحتمل دخولهم في الخطاب وفيه عتاب ، أي كان
الإنكار واجبا عليهم ، وعدل بعد الخطاب إلى الغيبة وعن الضمير إلى الظاهر فلم يجئ
التركيب ظننتم بأنفسكم (خَيْراً) وقلتم ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات وليصرح بلفظ
الإيمان دلالة على أن الاشتراك فيه مقتض أن لا يصدق مؤمن على أخيه قول عائب ولا
طاعن ، وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في أخيه أن يبني الأمر فيه على
ظن الخير ، وأن يقول بناء على ظنه (هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) هكذا باللفظ الصريح ببراءة أخيه كما يقول المستيقن المطلع
على حقيقة الحال. وهذا من الأدب الحسن ومعنى (بِأَنْفُسِهِمْ) أي كان يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات هذا الأمر على
أنفسهم فإذا كان ذلك يبعد عليهم
__________________
قضوا بأنه في حق
من هو خير منهم أبعد. وقيل : معنى (بِأَنْفُسِهِمْ) بأمهاتهم. وقيل : بإخوانهم. وقيل : بأهل دينهم ، وقال (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) فسلموا على أنفسكم أي لا يلمز بعضكم بعضا ، وليسلم بعضكم
على بعض.
(لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ
بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) جعل الله فصلا بين الرمي الكاذب والرمي الصادق ثبوت أربعة
شهداء وانتفاؤها. (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا) فهم في حكم الله وشريعته كاذبون ، وهذا توبيخ وتعنيف للذين
سمعوا الإفك ولم يجدّوا في دفعه وإنكاره واحتجاج عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع
من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة والتنكيل.
(وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ) أي في الدنيا بالنعم التي منها الإمهال للتوبة (وَرَحْمَتُهُ) عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة. (لَمَسَّكُمْ) العذاب فيما خضتم فيه من حديث الإفك يقال : أفاض في الحديث
واندفع وهضب وخاض. (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) لعامل في (إِذْ لَمَسَّكُمْ). وقرأ الجمهور (تَلَقَّوْنَهُ) بفتح الثلاث وشد القاف وشد التاء البزي وأدغم ذال (إِذْ) في التاء النحويان وحمزة أي يأخذه بعضكم من بعض ، يقال :
تلقى القول وتلقنه وتلقفه والأصل تتلقونه وهي قراءة أبيّ. وقرأ ابن السميفع (تَلَقَّوْنَهُ) بضم التاء والقاف وسكون اللام مضارع ألقى وعنه (تَلَقَّوْنَهُ) بفتح التاء والقاف وسكون اللام مضارع لقي. وقرأت عائشة
وابن عباس وعيسى وابن يعمر وزيد بن عليّ بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف من قول
العرب : ولق الرجل كذب ، حكاه أهل اللغة. وقال ابن سيده ، جاؤوا بالمتعدي شاهدا
على غير المتعدي ، وعندي أنه أراد يلقون فيه فحذف الحرف ووصل الفعل للضمير. وحكى
الطبري وغيره أن هذه اللفظة مأخوذة من الولق الذي هو الإسراع بالشيء بعد الشيء
كعدد في أثر عدد ، وكلام في أثر كلام ، يقال : ولق في سيره إذا أسرع قال :
جاءت به عيسى من
الشام يلق
وقرأ ابن أسلم
وأبو جعفر تألقونه بفتح التاء وهمزة ساكنة بعدها لام مكسورة من الألق وهو الكذب.
وقرأ يعقوب في رواية المازني تيلقونه بتاء مكسورة بعدها ياء ولام مفتوحة كأنه
مضارع ولق بكسر اللام كما قالوا : تيجل مضارع وجلت. وقال سفيان : سمعت أمي تقرأ إذ
تثقفونه يعني مضارع ثقف قال : وكان أبوها يقرأ بحرف ابن مسعود. ومعنى (بِأَفْواهِكُمْ) وتديرونه فيها من غير علم لأن الشيء المعلوم يكون في القلب
ثم يعبر عنه اللسان ، وهذا الإفك ليس محله إلّا الأفواه كما قال (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ
فِي قُلُوبِهِمْ) .
__________________
(وَتَحْسَبُونَهُ
هَيِّناً) أي ذنبا صغيرا (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ) من الكبائر وعلق مس العذاب بثلاثة آثام تلقي الإفك والتكلم
به واستصغاره ثم أخذ يوبخهم على التكلم به ، وكان الواجب عليهم إذ سمعوه أن لا
يفوهوا به.
وقال الزمخشري :
فإن قلت : كيف جاز الفصل بين (لَوْ لا) و (قُلْتُمْ)؟ قلت : للظروف شأن وهو تنزلها من الأشياء منزلة نفسها
لوقوعها فيها ، وأنها لا تنفك عنها فلذلك يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها انتهى.
وما ذكره من أدوات التحضيض يوهم أن ذلك مختص بالظرف وليس كذلك ، بل يجوز تقديم
المفعول به على الفعل فتقول : لو لا زيدا ضربت وهلا عمرا قتلت.
قال الزمخشري :
فإن قلت : فأي فائدة في تقديم الظرف حتى أوقع فاصلا؟ قلت : الفائدة بيان أنه كان
الواجب عليهم أن ينقادوا حال ما سمعوه بالإفك عن التكلم به ، فلما كان ذكر الوقت
أهم وجب التقديم.
فإن قلت : ما معنى
(يَكُونُ) والكلام بدونه متلئب لو قيل ما لنا أن نتكلم بهذا قلت : معناه
ما ينبغي ويصح أي ما ينبغي (لَنا أَنْ
نَتَكَلَّمَ بِهذا) ولا يصح لنا ونحوه ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق و (سُبْحانَكَ) تعجب من عظم الأمر.
فإن قلت : ما معنى
التعجب في كلمة التسبيح؟ قلت : الأصل في ذلك أن تسبيح الله عند رؤية المتعجب من
صنائعه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه ، أو لتنزيه الله عن أن تكون حرمة نبيه صلىاللهعليهوسلم كما قيل فيها انتهى.
(يَعِظُكُمُ اللهُ
أَنْ تَعُودُوا) أي في أن تعودوا ، تقول : وعظت فلانا في كذا فتركه. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) حث لهم على الاتعاظ وتهييج لأن من شأن المؤمن الاحتراز مما
يشينه من القبائح. وقيل : (أَنْ تَعُودُوا) مفعول من أجله أي كراهة (أَنْ تَعُودُوا). (وَيُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمُ الْآياتِ) أي الدلالات على علمه وحكمته بما ينزل عليكم من الشرائع
ويعلمكم من الآداب ، ويعظكم من المواعظ الشافية. (إِنَّ الَّذِينَ
يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ). قال مجاهد وابن زيد الإشارة إلى عبد الله بن أبي ومن
أشبهه. (فِي الَّذِينَ آمَنُوا) لعداوتهم لهم ، والعذاب الأليم في الدنيا الحد ، وفي
الآخرة النار. والظاهر في (الَّذِينَ يُحِبُّونَ
أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) العموم في كل قاذف منافقا كان أو مؤمنا ، وتعليق الوعيد
على محبة الشياع دليل على أن إرادة الفسق فسق والله يعلم أي البريء من المذنب
وسرائر الأمور ، ووجه الحكمة في ستركم والتغليظ في الوعيد.
وقال الحسن : عنى
بهذا الوعيد واللعن المنافقين ، وأنهم قصدوا وأحبوا إذاية الرسول صلىاللهعليهوسلم وذلك كفر وملعون فاعله. وقال أبو مسلم : هم المنافقون
أوعدهم الله بالعذاب في الدنيا على يد الرسول بالمجاهدة كقوله (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) . وقال الكرماني : والله يعلم كذبهم (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) لأنه غيب. وجواب (لَوْ لا) محذوف أي لعاقبكم. (أَنَّ اللهَ رَؤُفٌ) بالتبرئة (رَحِيمٌ) بقبول توبة من تاب ممن قذف. قال ابن عباس : الخطاب لحسان
ومسطح وحمنة والظاهر العموم.
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ
خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا
فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً
وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ
أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى
وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا
تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢) إِنَّ
الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤)
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ
الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ
لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ
أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)
تقدم الكلام على (خُطُواتِ الشَّيْطانِ) تفسيرا وقراءة في البقرة. والضمير في (فَإِنَّهُ) عائد على (مَنْ) الشرطية ، أي فإن متبع خطوات الشيطان (يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) وهو ما أفرط قبحه (وَالْمُنْكَرِ) وهو ما تنكره العقول السليمة أي يصير رأسا في الضلال بحيث
يكون آمرا يطيعه أصحابه.
(وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بالتوبة الممحصة ما طهر أحد منكم. وقرأ الجمهور (ما زَكى) بتخفيف الكاف ، وأمال حمزة والكسائي وأبو حيوة والحسن
والأعمش وأبو جعفر في رواية وروح بتشديدها ، وأماله الأعمش وكبت (زَكى) المخفف بالياء وهو
__________________
من ذوات الواو على
سبيل الشذوذ لأنه قد يمال ، أو على قراءة من شد الكاف. (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) ممن سبقت له السعادة ، وكان عمله الصالح أمارة على سبقها
أو من يشاء بقبول التوبة النصوح (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالهم (عَلِيمٌ) بضمائرهم.
(وَلا يَأْتَلِ) هو مضارع ائتلى افتعل من الألية وهي الحلف. وقيل : معناه
يقصر من افتعل ألوت قصرت ومنه (لا يَأْلُونَكُمْ) . وقول الشاعر :
وما المرء ما
دامت حشاشة نفسه
|
|
بمدرك أطراف
الخطوب ولا آل
|
وهذا قول أبي
عبيدة ، واختاره أبو مسلم. وسبب نزولها المشهور أنه حلف أبي بكر على مسطح أن لا
ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة. وقال ابن عياش والضحاك : قطع جماعة من المؤمنين
منافعهم عمن قال في الإفك ، وقالوا : لا نصل من تكلم فيه فنزلت في جميعهم.
والآية تتناول من
هو بهذا الوصف. وقرأ الجمهور (يَأْتَلِ). وقرأ عبد الله بن عياش بن ربيعة وأبو جعفر مولاه وزيد بن
أسلم والحسن يتأل مضارع تألى بمعنى حلف. قال الشاعر :
تألّى ابن أوس
حلفة ليردّني
|
|
إلى نسوة كأنهن
معائد
|
والفضل والسعة
يعني المال ، وكان مسطح ابن خالة أبي بكر الصديق رضياللهعنه ، وكان من المهاجرين وممن شهد بدرا ، وكان ما نسب إليه
داعيا أبا بكر أن لا يحسن إليه ، فأمر هو ومن جرى مجراه بالعفو والصفح ، وحين سمع أبو
بكر (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ
يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ)؟ قال : بلى ، أحب أن يغفر الله لي ورد إلى مسطح نفقته وقال
: والله لا أنزعها أبدا. وقرأ أبو حيوة وابن قطيب وأبو البرهسم أن تؤتوا بالتاء
على الالتفات ، ويناسبه (أَلا تُحِبُّونَ) و (أَنْ يُؤْتُوا) نصب الفعل المنهي فإن كان بمعنى الحلف فيكون التقدير كراهة
(أَنْ يُؤْتُوا) وأن لا يؤتوا فحذف لا ، وإن كان بمعنى يقصر فيكون التقدير
في أن يؤتوا أو عن أن يؤتوا. وقرأ عبد الله والحسن وسفيان بن الحسين وأسماء بنت
يزيد ولتعفوا ولتصفحوا بالتاء أمر خطاب للحاضرين.
(إِنَّ الَّذِينَ
يَرْمُونَ) عام في الرامين واندرج فيه الراميان تغليبا للمذكر على
المؤنث. و (الْمُحْصَناتِ) ظاهره أنه عام في النساء العفائف. وقال النحاس : من أحسن
ما قيل فيه أنه عام لجميع الناس من ذكر وأنثى ، وأن التقدير يرمون الأنفس (الْمُحْصَناتِ) فيدخل فيه
__________________
المذكر والمؤنث.
وقيل : هو خاص بمن تكلم فيها في حديث الإفك. وقيل : خاص بأمهات المؤمنين وكبراهن
منزلة وجلالة تلك فعلى أنه خاض بها جمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة
الموصوفات بتلك الصفات من الإحصان والعقل والإيمان كما قال :
قدني من نصر
الخبيبين قدي
يعني عبد الله بن
الزبير وأشياعه. و (الْغافِلاتِ) السليمات الصدور النقيات القلوب اللاتي ليس فيهن دهاء ولا
مكر لأنهن لم يجربن الأمور ولا يفطنّ لما يفطن له المجريات ، كما قال الشاعر :
ولقد لهوت بطفلة
ميالة
|
|
بلهاء تطلعني على
أسرارها
|
وكذلك البله من
الرجال في قوله «أكثر أهل الجنة البله». (لُعِنُوا فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) في قذف المحصنات. قيل : هذا الاستثناء بالتوبة وفي هذه لم
يجىء استثناء. وعن ابن عباس أن من خاض في حديث الإفك وتاب لم تقبل توبته ، والصحيح
أن الوعيد في هذه الآية مشروط بعدم التوبة ، ولا فرق بين الكفر والفسق وأن من تاب
غفر له. ويناسب أن تكون هذه الآية كما قيل نزلت في مشركي مكة ، كانت المرأة إذا
خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا : خرجت لتفجر قاله أبو حمزة اليماني ،
ويؤيده قوله (يَوْمَ تَشْهَدُ
عَلَيْهِمْ) وعن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن أبيّ كان يشك في
الدين فإذا كان يوم القيامة علم حيث لا ينفعه. والناصب ليوم تشهد ما تعلق به الجار
والمجرور وهو ولهم. وقال الحوفي : العامل فيه عذاب ، ولا يجوز لأنه موصوف إلّا على
رأي الكوفيين. وقرأ الأخوان والزعفراني وابن مقسم وابن سعدان يشهد بياء من تحت
لأنه تأنيث مجازي ، ووقع الفصل ، وباقي السبعة بالتاء ، ولما كان قلب الكافر لا
يريد ما يشهد به أنطق الله الجوارح والألسنة والأيدي والأرجل بما عملوا في الدنيا
وأقدرها على ذلك ، وليست الحياة شرطا لوجود الكلام. وقالت المعتزلة : يخلق في هذه
الجوارح الكلام ، وعندهم المتكلم فاعل الكلام فتكون تلك الشهادة من الله في
الحقيقة إلّا أنه تعالى أضافها إلى الجوارح توسعا. وقالوا أيضا : إنه تعالى ينشئ
هذه الجوارح على خلاف ما هي عليه ، ويلجئها أن تشهد على الإنسان وتخبر عنه
بأعماله. قال القاضي : وهذا أقرب إلى الظاهر لأن ذلك يفيد أنها بفعل الشهادة.
وانتصب (يَوْمَئِذٍ) بيوفيهم ، والتنوين في إذ عوض من الجملة المحذوفة ،
والتقدير يوم إذ تشهد. وقرأ زيد بن عليّ (يُوَفِّيهِمُ) مخففا والدين هنا الجزاء أي جزاء أعمالهم. وقال :
ولم يبق سوى
العد
|
|
وإن دناهم كما
دانوا
|
ومنه : كما تدين
تدان. وقرأ الجمهور (الْحَقَ) بالنصب صفة لدينهم. وقرأ عبد الله ومجاهد وأبو روق وأبو
حيوة بالرفع صفة لله ، ويجوز الفصل بالمفعول بين الموصول وصفته و (يَعْلَمُونَ) إلى آخره يقوي قول من قال : إن الآية في عبد الله بن أبيّ
لأن كل مؤمن يعلم (أَنَّ اللهَ هُوَ
الْحَقُّ الْمُبِينُ).
قال الزمخشري :
ولو قلبت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر الله عزوجل قد غلظ في شيء تغليظه في الإفك وما أنزل من الآيات القوارع
المشحونة بالوعيد الشديد ، والعذاب البليغ ، والزجر العنيف ، واستعظام ما ركب من
ذلك واستفظاع ما أقدم عليه ما نزل فيه على طرق مختلفة وأساليب متقنة كل واحد منها
كاف في بابه ، ولو لم ينزل إلّا هذه الثلاث لكفى بها حيث جعل القذفة ملعونين في
الدارين جميعا وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة وأن (أَلْسِنَتُهُمْ
وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ) تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا به ، وأنه (يُوَفِّيهِمُ) جزاء الحق الذي هم أهله حتى يعلموا عند الله (أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) فأوجز في ذلك وأشبع وفصل وأجمل وأكد وكرر ، وجاء بما لم
يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلّا ما هو دونه في الفظاعة انتهى. وهو كلام
حسن. ثم قال بعد كلام فإن قلت : ما معنى قوله (هُوَ الْحَقُّ
الْمُبِينُ)؟ قلت : معناه ذو الحق المبين العادل الذي لا ظلم في حكمه ،
والمحقّ الذي لا يوصف بباطل ، ومن هذه صفته لم تسقط عنده إساءة مسيء ولا إحسان
محسن ، فحق مثله أن يتقى وتجتنب محارمه انتهى. وفي قوله لم تسقط عنده إساءة مسيء
دسيسة الاعتزال.
والظاهر أن (الْخَبِيثاتُ) وصف للنساء ، وكذلك (الطَّيِّباتُ) أي النساء الخبيثات للرجال (لِلْخَبِيثِينَ) ويرجحه مقابلته بالذكور فالمعنى أن (الْخَبِيثاتُ) من النساء ينزعن للخباث من الرجال ، فيكون قريبا من قوله (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً
أَوْ مُشْرِكَةً) وكذلك (الطَّيِّباتُ) من النساء (لِلطَّيِّبِينَ) من الرجال ويدل على هذا التأويل قول عائشة حين ذكرت التسع
التي ما أعطيتهن امرأة غيرها. وفي آخرها : ولقد خلقت طيبة عند طيب ، ولقد وعدت
مغفرة ورزقا كريما. وهذا التأويل نحا إليه ابن زيد فهو تفريق بين عبد الله وأشباهه
والرسول وأصحابه ، فلم يجعل الله له إلّا كل طيبة وأولئك خبيثون فهم أهل النساء
__________________
الخبائث. وقال ابن
عباس والضحاك ومجاهد وقتادة : هي الأقوال والأفعال ، ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم :
الكلمات والفعلات الخبيثة لا يقولها ولا يرضاها إلّا الخبيثون من الناس فهي لهم
وهم لها بهذا الوجه. وقال بعضهم الكلمات : والفعلات لا تليق وتلصق عند رمي الرامي
وقذف القاذف إلّا بالخبيثين من الناس فهي لهم وهم لها بهذا الوجه.
(أُولئِكَ) إشارة للطيبين أو إشارة لهم وللطيبات إذا عنى بهن النساء. (مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) أي يقول الخبيثون من خبيثات الكلم أو القاذفون الرامون
المحصنات ووعد الطيبين المغفرة عند الحساب والرزق الكريم في الجنة.
غض البصر : أطبق
الجفن على الجفن بحيث تمتنع الرؤية. قال الشاعر :
فغض الطرف إنك
من نمير
|
|
فلا كعبا بلغت
ولا كلابا
|
الخمر : جمع خمار
وهو المقنعة التي تلقي المرأة على رأسها ، وهو جمع كثرة مقيس فيه ، ويجمع في القلة
على أخمرة وهو مقيس فيها أيضا. قال الشاعر :
وترى الشجراء في
ريقه
|
|
كرؤوس قطعت فيها
الخمر
|
الجيب : فتح يكون
في طوق القميص يبدو منه بعض الجسد. والعورة : ما احترز من الإطلاع عليه ويغلب في
سوأة الرجل. والمرأة الأيم : قال النضر بن شميل : كل ذكر لا أنثى معه ، وكل أنثى
لا ذكر معها ووزنه فعيل كلين ويقال : آمت تئيم. وقال الشاعر :
كل امرئ ستئيم
من
|
|
ه العرس أو منها
يئم
|
أي : سينفرد فيصير
أيما ، وقياس جمعه أيائم كسيائد في جمع سيد وجمعه على فعالى محفوظ لا مقيس. البغاء
: الزنا ، يقال : بغت المرأة تبغي بغاء فهي بغي وهو مختص بزنا النساء. المشكاة :
الكوة غير النافذة. قال الكلبي حبشي معرب. الزجاجة : جوهر مصنوع معروف ، وضم الزاي
لغة الحجاز ، وكسرها وفتحها لغة قيس. الزيت : الدهن المعتصر من حب شجرة الزيتون.
قال الكرماني : السراب بخار يرتفع من قعور القيعان فيكيف فإذا اتصل به ضوء الشمس
أشبه الماء من بعيد ، فإذا دنا منه الإنسان لم يره كما كان يراه بعيدا. وقال
الفراء : السراب : ما لصق بالأرض. وقيل : هو الشعاع الذي يرى نصف النهار عند
اشتداد الحر في البر ، يخيل للناظر أنه الماء السارب أي الجاري. وقال الشاعر :
فلما كففنا
الحرب كانت عهودكم
|
|
كلمع سراب في
الفلا متألق
|
وقال :
أمر الطول لماع
السراب
وقيل : السراب ما
يرقون من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنبسطة. اللجي : الكثير الماء ، ولجة
البحر معظمة ، وكان لجيا مسنوب إلى اللجة. الودق : المطر شديده وضعيفه. قال الشاعر
:
فلا مزنة ودقت
ودقها
|
|
ولا أرض أبقل
إبقالها
|
وقال أبو الأشهب
العقيلي : هو البرق. ومنه قول الشاعر :
أثرن عجاجة
وخرجن منها
|
|
خروج الودق من
خلل السحاب
|
والودق : مصدر ودق
السحاب يدق ودقا ، ومنه استودقت الفرس. البرد : معروف وهو قطع متجمدة يذوب منه ماء
بالحرارة. السنا : مقصور من ذوات الواو وهو الضوء. قال الشاعر :
يضيء سناه أو
مصابيح راهب
يقال : سنا يسنو
سنا ، والسنا أيضا نبت يتداوى به ، والسناء بالمد الرفعة والعلو قال :
وسن كسنق سناء
وسنما
أذعن للشيء :
انقاد له. وقال الزجاج : الإذعان : الإسراع مع الطاعة. الحيف : الميل في الحكم ،
يقال : حاف في قضيته أي جار. اللواذ : الروغان من شيء إلى شيء في خفية.
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى
تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى
يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ
وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا
بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ
وَما تَكْتُمُونَ (٢٩) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ
وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما
يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ
أَبْصارِهِنَّ
وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ
لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ
أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ
بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ
التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ
لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ
لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)
جاءت امرأة من
الأنصار إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقالت : يا رسول الله إني أكون في بيتي على حال لا أحب
أن يراني عليها أحد ، فلا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَدْخُلُوا) الآية. فقال أبو بكر بعد نزولها : يا رسول الله أرأيت
الخانات والمساكن التي ليس فيها ساكن فنزل (لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ) الآية. ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أن أهل الإفك إنما
وجدوا السبيل إلى بهتانهم من حيث اتفقت الخلوة ، فصارت كأنها طريق للتهمة ، فأوجب
الله تعالى أن لا يدخل المرء بيت غيره إلّا بعد الاستئذان والسلام ، لأن في الدخول
لا على هذا الوجه وقوع التهمة وفي ذلك من المضرة ما لا خفاء به. والظاهر أنه يجوز
للإنسان أن يدخل بيت نفسه من غير استئذان ولا سلام لقوله (غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) ويروى أن رجلا قال للنبيّ صلىاللهعليهوسلم : أأستأذن على أمي؟ قال : «نعم» قال : ليس لها خادم غيري أأستأذن
عليها كلما دخلت؟ قال : «أتحب أن تراها عريانة» قال الرجل : لا ، قال : وغيّا
النهي عن الدخول بالاستئناس والسلام على أهل تلك البيوت ، والظاهر أن الاستئناس هو
خلاف الاستيحاش ، لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا ، فهو كالمستوحش
من جفاء الحال إذا أذن له استأنس ، فالمعنى حتى يؤذن لكم كقوله : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ
إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) وهذا من باب الكنايات والإرداف ، لأن هذا النوع من
الاستئناس يردف الإذن فوضع موضع الإذن.
وقد روي عن ابن
عباس أنه قال (تَسْتَأْنِسُوا) معناه تستأذنوا ، ومن روى عن ابن عباس أن قوله (تَسْتَأْنِسُوا) خطأ أو وهم من الكاتب وأنه قرأ حتى تستأذنوا فهو طاعن في
__________________
الإسلام ملحد في
الدين ، وابن عباس بريء من هذا القول. و (تَسْتَأْنِسُوا) متمكنة في المعنى بنية الوجه في كلام العرب. وقد قال عمر
للنبيّ صلىاللهعليهوسلم : استأنس يا رسول الله وعمر وأقف على باب الغرفة الحديث
المشهور. وذلك يقتضي أنه طلب الأنس به صلىاللهعليهوسلم. وقيل : هو من الاستئناس الذي هو الاستعلام والاستكشاف ،
واستفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهرا مكشوفا ، والمعنى حتى تستعلموا وتستكشفوا
الحال هل يراد دخولكم أم لا ، ومنه استأنس هل ترى أحدا واستأنست فلم أر أحدا ، أي
تعرفت واستعلمت ومنه بيت النابعة :
كان رحلي وقد
زال النهار بنا
|
|
يوم الجليل على
مستأنس وحد
|
ويجوز أن يكون من
الإنس وهو أن يتعرف هل ثم إنسان. وعن أبي أيوب قال : قلنا : يا رسول الله ، ما
الاستئناس؟ قال : «يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة يتنحنح يؤذن أهل البيت
والتسليم أن يقول السلام عليكم». وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتا
غير بيته : حييتم صباحا وحييتم مساء ثم يدخل ، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف
واحد فصدّ الله عن ذلك وعلم الأحسن الأكمل. وذهب الطبري في (تَسْتَأْنِسُوا) إلى أنه بمعنى حتى تؤنسوا أهل البيت من أنفسكم بالتنحنح
والاستئذان ونحوه وتؤنسوا أنفسكم بأن تعلموا أن قد شعر بكم. قال ابن عطية : وتصريف
الفعل يأبى أن يكون من آنس انتهى. وقال عطاء : الاستئذان واجب على كل محتلم ،
والظاهر مطلق الاستئذان فيكفي فيه المرة الواحدة. وفي الحديث : «الاستئذان ثلاث»
يعني كماله. «فإن أذن له وإلّا فليرجع ولا يزيد على ثلاث إلّا أن يحقق أن من في
البيت لم يسمع». والظاهر تقديم الاستئذان على السلام. وفي حديث أبي داود : قل
السلام عليكم أأدخل؟ والواو في (وَتُسَلِّمُوا) لا تقتضي ترتيبا فشرع النداء بالسلام على الإذن لما في
السلام من التفاؤل بالسلامة.
(ذلِكُمْ) إشارة إلى المصدر المفهوم من (تَسْتَأْنِسُوا) و (تُسَلِّمُوا) أي (ذلِكُمْ) الاستئناس والتسليم (خَيْرٌ لَكُمْ) من تحية الجاهلية. (لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ) أي شرّعنا ذلك ونبهناكم على ما فيه مصلحتكم من الستر وعدم
الاطلاع على ما تكرهون الإطلاع عليه (لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ) اعتناء بمصالحكم.
(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا
فِيها أَحَداً) أي يأذن لكم فلا تقدموا على الدخول في ملك غيركم (حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) إذ قد يكون لرب البيت فيه ما لا يحب أن يطلع عليه. (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا
فَارْجِعُوا) وهذا عائد إلى من استأذن في دخول بيت غيره فلم يؤذن له
سواء كان فيه
من يأذن أم لم يكن
، أي لا تلحوا في طلب الإذن ولا في الوقوف على الباب منتظرين. (هُوَ أَزْكى) أي الرجوع أطهر لكم وأنمى خيرا لما فيه من سلامة الصدر
والبعد عن الريبة. ثم أخبر أنه تعالى (بِما تَعْمَلُونَ
عَلِيمٌ) أي بما تأتون وما تذرون مما خوطبتم به فيجازيكم عليه ، وفي
ذلك توعد لأهل التجسس على البيوت وطلب الدخول على غيره والنظر لما لا يحل.
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ) قال الزمخشري : استثنى من البيوت التي يجب الاستئذان على
داخلها ما ليس بمسكون منها نحو لفنادق وهي الخانات والربط وحوانيت البياعين ،
والمتاع المنفعة كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الرحال والسلع والشراء والبيع
انتهى. وما ذكره الزمخشري من أنه استثناء من البيوت كما ذكر هو مروي عن ابن عباس
وعكرمة والحسن ، ولا يظهر أنه استثناء لأن الآية الأولى في البيوت المسكونة
والمملوكة ، ولذلك قال (بُيُوتاً غَيْرَ
بُيُوتِكُمْ) وهذا الآية الثانية هي في البيوت المباحة ، وقد مثل
العلماء لهذه البيوت أمثلة. فقال محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد : هي في الفنادق
التي في طرق المسافرين. قال مجاهد : لا يسكنها أحد بل هي موقوفة يأوي إليها كل ابن
سبيل. و (فِيها مَتاعٌ) لهم أي استمتاع بمنفعتها ، ومثل عطاء بالخرب التي تدخل
للتبرز. وقال ابن زيد والشعبي : هي حوانيت القيسارية والسوق. قال ابن الحنفية أيضا
: هي دور مكة ، وهذا لا يسوغ إلا على القول بأن دور مكة غير مملوكة ، وأن الناس
فيها شركاء وأن مكة فتحت عنوة. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما
تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) وعيد للذين يدخلون البيوت غير المسكونة من أهل الريب.
و (مِنْ) في (مِنْ أَبْصارِهِمْ) عند الأخفش زائدة أي (يَغُضُّوا
أَبْصارِهِمْ) عما يحرم ، وعند غيره للتبعيض وذلك أن أول نظرة لا يملكها
الإنسان وإنما يغض فيما بعد ذلك ، ويؤيده قوله لعليّ كرم الله وجهه : لا تتبع
النظرة النظرة فإن الأولى لك وليست لك الثانية. وقال ابن عطية : يصح أن تكون (مِنْ) لبيان الجنس ، ويصح أن تكون لابتداء الغاية انتهى. ولم
يتقدم مبهم فتكون (مِنْ) لبيان الجنس على أن الصحيح أن من ليس من موضوعاتها أن تكون
لبيان الجنس. (وَيَحْفَظُوا
فُرُوجَهُمْ) أي من الزنا ومن التكشف. ودخلت (مِنْ) في قوله (مِنْ أَبْصارِهِمْ) دون الفرج دلالة على أن أمر النظر أوسع ، ألا ترى أن
الزوجة ينظر زوجها إلى محاسنها من الشعر والصدر والعضد والساق والقدم ، وكذلك
الجارية المستعرضة وينظر من الأجنبية إلى وجهها وكفيها وأما أمر الفرج فمضيق.
وعن أبي العالية
وابن زيد : كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلّا هذا فهو من الاستتار ،
ولا يتعين ما قاله بل حفظ الفرج يشمل النوعين. (ذلِكَ) أي غض البصر وحفظ الفرج أطهر لهم (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) من إحالة النظر وانكشاف العورات ، فيجازي على ذلك. وقدم غض
البصر على حفظ الفرج لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبلوى فيه أشد وأكثر لا
يكاد يقدر على الاحتزاز منه ، وهو الباب الأكبر إلى القلب وأعمر طرق الحواس إليه
ويكثر السقوط من جهته. وقال بعض الأدباء :
وما الحب إلا
نظرة إثر نظرة
|
|
تزيد نموا إن
تزده لجاجا
|
ثم ذكر تعالى حكم
المؤمنات في تساويهنّ مع الرجال في الغض من الأبصار وفي الحفظ للفروج. ثم قال (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) واستثنى ما ظهر من الزينة ، والزينة ما تتزين به المرأة من
حلّي أو كحل أو خضاب ، فما كان ظاهرا منها كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب فلا بأس
بإبدائه للأجانب ، وما خفى منها كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل
والوشاح والقرط فلا تبديه إلا لمن استثنى. وذكر الزينة دون مواضعها مبالغة في
الأمر بالتصون والتستر لأن هذه الزين واقعة على مواضع من الحسد لا يحل النظر إليها
لغير هؤلاء وهي الساق والعضد والعنق والرأس والصدر والآذان ، فنهى عن إبداء الزين
نفسها ليعلم أن النظر لا يحل إليها لملابستها تلك المواقع بدليل النظر إليها غير
ملابسة لها ، وسومح في الزينة الظاهرة لأن سترها فيه حرج فإن المرأة لا تجد بدّا
من مزاولة الأشياء بيدها ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصا في الشهادة والمحاكمة
والنكاح ، وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها الفقيرات منهنّ وهذا معنى قوله
(إِلَّا ما ظَهَرَ
مِنْها) يعني إلّا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره ، والأصل فيه
الظهور وسومح في الزينة الخفيفة. أولئك المذكورون لما كانوا مختصين به من الحاجة
المضطرة إلى مداخلتهم ومخالطتهم ولقلة توقع الفتنة من جهاتهم ولما في الطباع من
النفرة عن مماسة القرائب ، وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب
وغير ذلك. وقال ابن مسعود (ما ظَهَرَ مِنْها) هو الثياب ، ونص على ذلك أحمد قال : الزينة الظاهرة الثياب
، وقال تعالى (خُذُوا زِينَتَكُمْ
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وفسرت الزينة بالثياب. وقال ابن عباس : الكحل والخاتم.
وقال الحسن في جماعة : الوجه والكفان. وقال ابن جريج : الوجه والكحل والخاتم
والخضاب والسوار.
__________________
وقال الحسن أيضا :
الخاتم والسوار. وقال ابن عباس : الكحل والخاتم فقط. وقال المسور بن مخرمة : هما
والسوار. وقال الحسن أيضا : الخاتم والسوار. وقال ابن بحر : الزينة تقع على محاسن
الخلق التي فعلها الله وعلى ما يتزين به من فضل لباس ، فنهاهنّ الله عن إبداء ذلك
لمن ليس بمحرم واستثنى ما لا يمكن اخفاؤه في بعض الأوقات كالوجه والأطراف على غير
التلذذ. وأنكر بعضهم إطلاق الزينة على الخلقة والأقرب دخوله في الزينة وأي زينة
أحسن من خلق العضو في غاية الاعتدال والحسن.
وفي قوله (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى
جُيُوبِهِنَ) دليل على أن الزينة ما يعم الخلقة وغيرها ، منعهنّ من
إظهار محاسن خلقهنّ فأوجب سترها بالخمار. وقد يقال لما كان الغالب من الوجه
والكفين ظهورها عادة وعبادة في الصلاة والحج حسن أن يكون الاستثناء راجعا إليهما ،
وفي السنن لأبي داود أنه عليهالسلام قال : «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى
منها إلّا هذا : وأشار إلى وجهه وكفيه». وقال ابن خويز منداد : إذا كانت جميلة
وخيف من وجهها وكفيها الفتنة فعليها ستر ذلك ، وكان النساء يغطين رؤوسهنّ بالأخمرة
ويسدلنها من وراء الظهر فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر عليهنّ وضمّن (وَلْيَضْرِبْنَ) معنى وليلقين وليضعن ، فلذلك عداه بعلى كما تقول ضربت بيدي
على الحائط إذا وضعتها عليه. وقرأ عياش عن أبي عمرو (وَلْيَضْرِبْنَ) بكسر اللام وطلحة (بِخُمُرِهِنَ) بسكون الميم وأبو عمرو ونافع وعاصم وهشام (جُيُوبِهِنَ) بضم الجيم وباقي السبعة بكسر الجيم.
وبدأ تعالى
بالأزواج لأن اطلاعهم يقع على أعظم من الزينة ، ثم ثنى بالمحارم وسوى بينهم في
إبداء الزينة ولكن تختلف مراتبهم في الحرمة بحسب ما في نفوس البشر ، فالأب والأخ
ليس كابن الزوج فقد يبدى للأب ما لا يبدى لابن الزوج. ولم يذكر تعالى هنا العم ولا
الخال. وقال الحسن : هما كسائر المحارم في جواز النظر قال : لأن الآية لم يذكر
فيها الرضاع وهو كالنسب ، وقال في سورة الأحزاب (لا جُناحَ
عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَ) ولم يذكر فيها البعولة وذكرهم هنا ، والإضافة في (نِسائِهِنَ) إلى المؤمنات تقتضي تعميم ما أضيف إليهن من النساء من
مسلمة وكافرة كتابية ومشركة من اللواتي يكن في صحبة المؤمنات وخدمتهن ، وأكثر
السلف على أن قوله (أَوْ نِسائِهِنَ) مخصوص بمن كان على دينهن.
__________________
قال ابن عباس :
ليس للمسلمة أن تتجرد بين نساء أهل الذمة ولا تبدي للكافرة إلّا ما تبدي للأجانب
إلّا أن تكون أمة لقوله (أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُنَ) وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن امنع نساء أهل الذمة من دخول
الحمام مع المؤمنات. والظاهر العموم في قوله (أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُنَ) فيشمل الذكور والإناث ، فيجوز للعبد أن ينظر من سيدته ما
ينظر أولئك المستثنون وهو مذهب عائشة وأم سلمة. وعن مجاهد : كان أمهات المؤمنين لا
يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم ، وروي أن عائشة كانت تمتشط وعبدها ينظر
إليها. وعن سعيد بن المسيب مثله ثم رجع عنه. وقال ابن مسعود والحسن وابن المسيب
وابن سيرين : لا ينظر العبد إلى شعر مولاته وهو قول أبي حنيفة. وفي الحديث : «لا
يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاث إلّا مع ذي محرم» والعبد
ليس بذي محرم. وقال سعيد بن المسيب : لا يغرنكم آية النور فإن المراد بها الإماء.
قال الزمخشري : وهذا هو الصحيح لأن عبد المرأة بمنزلة الأجنبي منها خصيا كان أو
فحلا. وعن ميسون بنت بحدل الكلابية : إن معاوية دخل عليها ومعه خصي فتقنعت منه ،
فقال : هو خصي فقالت : يا معاوية أترى المثلة تحلل ما حرم الله. وعند أبي حنيفة لا
يحل إمساك الخصيان واستخدامهم وبيعهم وشراؤهم ، ولم ينقل عن أحد من السلف إمساكهم
انتهى. والإربة الحاجة إلى الوطء لأنهم بله لا يعرفون شيئا من أمر النساء ،
ويتبعون لأنهم يصيبون من فضل الطعام. قال ابن عطية : ويدخل في هذه الصفة المجنون
والمعتوه والمخنث والشيخ الفاني والزمن الموقوذ بزمانته.
وقرأ ابن عامر
وأبو بكر بالنصب على الحال أو الاستثناء وباقي السبعة بالجر على النعت وعطف (أَوِ الطِّفْلِ) على (مِنَ الرِّجالِ) قسم التابعين غير أولي الحاجة للوطء إلى قسمين رجال وأطفال
، والمفرد المحكي بأل يكون للجنس فيعم ، ولذلك وصف بالجمع في قوله (الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا) ومن ذلك قول العرب : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم
البيض يريد الدنانير والدراهم فكأنه قال : أو الأطفال. و (الطِّفْلِ) ما لم يبلغ الحلم وفي مصحف حفصة أو الأطفال جمعا. وقال
الزمخشري : وضع الواحد موضع الجمع لأنه يفيد الجنس ويبين ما بعده أنه يراد به
الجمع ونحوه (يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) انتهى. ووضع المفرد موضع الجمع لا ينقاس عند سيبويه وإنما
قوله (الطِّفْلِ) من باب المفرد المعرف بلام الجنس فيعم كقوله (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) ولذلك صح الاستثناء منه والتلاوة ثم
__________________
يخرجكم بثم لا
بالواو. وقوله ونحوه ليس نحوه لأن هذا معرف بلام الجنس وطفلا نكره ، ولا يتعين حمل
طفلا هنا على الجمع الذي لا يقيسه سيبويه لأنه يجوز أن يكون المعنى ثم يخرج كل
واحد منكم كما قيل في قوله تعالى (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ
مُتَّكَأً) أي لكل واحدة منهن. وكما تقول : بنو فلان يشبعهم رغيف أي
يشبع كل واحد منهم رغيف. وقوله (لَمْ يَظْهَرُوا) إما من قولهم ظهر على الشيء إذا اطّلع عليه أي لا يعرفون
ما العورة ولا يميزون بينها وبين غيرها ، وإما من ظهر على فلان إذا قوي عليه وظهر
على القرن أخذه. ومنه (فَأَصْبَحُوا
ظاهِرِينَ) أي غالبين قادرين عليه ، فالمعنى لم يبلغوا أوان القدرة
على الوطء.
وقرأ الجمهور (عَوْراتِ) بسكون الواو وهي لغة أكثر العرب لا يحركون الواو والياء في
نحو هذا الجمع. وروي عن ابن عباس تحريك واو (عَوْراتِ) بالفتح. والمشهور في كتب النحو أن تحريك الواو والياء في
مثل هذا الجمع هو لغة هذيل بن مدركة. ونقل ابن خالويه في كتاب شواذ القراءات أن
ابن أبي إسحاق والأعمش قرأ (عَوْراتِ) بالفتح. قال : وسمعنا ابن مجاهد يقول : هو لحن وإنما جعله
لحنا وخطأ من قبل الرواية وإلّا فله مذهب في العربية بنو تميم يقولون : روضات
وجورات وعورات ، وسائر العرب بالإسكان. وقال الفراء : العرب على تخفيف ذلك إلّا
هذيلا فتثقل ما كان من هذا النوع من ذوات الياء والواو. وأنشدني بعضهم :
أبو بيضات رائح
متأوب
|
|
رفيق بمسح
المنكبين سبوح
|
(وَلا
يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) كانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها
ذات خلخال. وقال ابن عباس : هو قرع الخلخال بالإجراء وتحريك الخلاخل عند الرجال.
وزعم حضرمي أن امرأة اتخذت خلخالا من فضة واتخذت جزعا فجعلته في ساقها ، فمرت على
القوم فضربت برجلها الأرض فوقع الخلخال على الجزع فصوت فنزلت هذه الآية. وقال
الزجاج : وسماع صوت ذي الزينة أشد تحريكا للشهوة من إبدائها انتهى. وقال أبو محمد
بن حزم ما معناه أنه تعالى نهاهن عن ذلك لأن المرأة إذا مرت على الرجال قد لا
يلتفت إليها ولا يشعر بها : وهي تكره أن لا ينظر إليها ، فإذا فعلن ذلك نبهن على
أنفسهن وذلك بحبهن في تعلق الرجال بهن ، وهذا من خفايا
__________________
الإعلام بحالهن.
وقال مكي : ليس في كتاب الله آية أكثر ضمائر من هذه ، جمعت خمسة وعشرين ضميرا
للمؤمنات من مخفوض ومرفوع.
وقال الزمخشري :
وإنما نهى عن إظهار صوت الحلّي بعد ما نهى عن إظهار الحلّي علم بذلك أن النهي عن
إظهار مواقع الحلّي أبلغ.
(وَتُوبُوا إِلَى
اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) لما سبقت أوامر منه تعالى ومناه ، وكان الإنسان لا يكاد
يقدر على مراعاتها دائما وإن ضبط نفسه واجتهد فلا بد من تقصير أمر بالتوبة وبترجي
الفلاح إذا تابوا. وعن ابن عباس (تُوبُوا) مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا
والآخرة. وقرأ ابن عامر (أَيُّهَا
الْمُؤْمِنُونَ) ويا أيه الساحر يا أيه الثقلان بضم الهاء ، ووجهه أنها
كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف ، فلما سقطت الألف بالتقاء الساكنين اتبعت حركتها حركة
ما قبلها وضمها التي للتنبيه بعد أي لغة لبني مالك رهط شقيق ابن سلمة ، ووقف بعضهم
بسكون الهاء لأنها كتبت في المصحف بلا ألف بعدها ووقف بعضهم بالألف.
وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا
فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢)
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ
فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ
فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ
الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ
تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ
اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ
آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ (٣٤)
لما تقدمت أوامر
ونواه في غض البصر وحفظ الفرج وإخفاء الزينة وغير ذلك وكان الموجب للطموح من
الرجال إلى النساء ومن النساء إلى الرجال هو عدم التزوج غالبا لأن في تكاليف
النكاح وما يجب لكل واحد من الزوجين ما يشغل أمر تعالى بإنكاح الأيامى ، وهم الذين
لا أزواج لهم من الصنفين حتى يشتغل كل منهما بما يلزمه ، فلا يلتفت إلى غيره.
والظاهر أن الأمر في قوله (وَأَنْكِحُوا) للوجوب ، وبه قال أهل الظاهر ، وأكثر العلماء
على أنه هنا للندب
ولم يخل عصر من الأعصار من وجود (الْأَيامى) ولم ينكر ذلك ولا أمر الأولياء بالنكاح.
وقال الزمخشري : (الْأَيامى) واليتامى أصلهما أيائم ويتائم فقلبا انتهى. وفي التحرير
قال أبو عمر : وأيامى مقلوب أيائم ، وغيره من النحويين ذكر أن أيما ويتيما جمعا على
أيامي ويتامى شذوذا يحفظ ووزنه فعالى ، وهو ظاهر كلام سيبويه. قال سيبويه في أواخر
هذا باب تكسيرك ما كان من الصفات. وقالوا : وج ووجيا كما قالوا : زمن وزمنى فأجروه
على المعنى كما قالوا : يتيم ويتامى وأيم وأيامى فأجروه مجرى رجاعي انتهى. وتقدم
في المفردات الأيم من لا زوج له من ذكر أو أنثى. وفي شرح كتاب سيبويه لأبي بكر
الخفاف : الأيم التي لا زوج لها ، وأصله في التي كانت متزوجة ففقدت زوجها برزء طرأ
عليها فهو من البلايا ، ثم قيل في البكر مجازا لأنها لا زوج لها انتهى.
(مِنْكُمْ) خطاب للمؤمنين ، أمر تعالى بإنكاح من تأيم من الأحرار
والحرائر ومن فيه صلاح من العبيد والإماء ، واندرج المؤنث في المذكر في قوله (وَالصَّالِحِينَ) وخص الصالحين ليحصن لهم دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم ، ولأن (الصَّالِحِينَ) من الأرقاء هم الذين يشفق مواليهم عليهم وينزلونهم منزلة
الأولاد في الأثرة والمودة ، فكانوا مظنة للاهتمام بشأنهم وتقبل الوصية فيهم ،
والمفسدون منهم حالهم عند مواليهم على عكس ذلك. وقيل : معنى (وَالصَّالِحِينَ) أي للنكاح والقيام بحقوقه. وقرأ مجاهد والحسن من عبيدكم
بالياء مكان الألف وفتح العين وأكثر استعماله في المماليك.
و (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ
اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) هذا مشروط بالمشيئة المذكورة في قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ
يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) . (وَاللهُ واسِعٌ) أي ذو غنى وسعة ، يبسط الله لمن يشاء (عَلِيمٌ) بحاجات الناس ، فيجري عليهم ما قدر من الرزق. (وَلْيَسْتَعْفِفِ) أي ليجتهد في العفة وصون النفس وهو استفعل بمعنى طلب العفة
من نفسه وحملها عليها ، وجاء الفك على لغة الحجاز ولا يعلم أحد قرأ وليستعف
بالإدغام (الَّذِينَ لا
يَجِدُونَ نِكاحاً). قيل النكاح هنا اسم ما يمهر وينفق في الزواج كاللحاف
واللباس لما يلتحف به ويلبس ، ويؤيده قوله (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ
اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) فالمأمور بالاستعفاف هو من عدم المال الذي يتزوج به ويقوم
بمصالح الزوجية. والظاهر أنه أمر ندب لقوله قبل (إِنْ يَكُونُوا
فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ).
__________________
ومعنى (لا يَجِدُونَ نِكاحاً) أي لا يتمكنون من الوصول إليه ، فالمعنى أنه أمر
بالاستعفاف كل من تعذر عليه النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر ، ثم أغلب الموانع عن
النكاح عدم المال و (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ) ترجئة للمستعففين وتقدمة للوعد بالتفضل عليهم ، فالمعنى
ليكون انتظار ذلك وتأميله لطفا في استعفافهم وربطا على قلوبهم ، وما أحسن ما ترتبت
هذه الأوامر حيث أمر أولا بما يعصم عن الفتنة ويبعد عن مواقعة المعصية وهو غض
البصر ، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام ، ثم
بالحمل على النفس الأمارة بالسوء وعزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح
إلى أن يرزق القدرة عليه انتهى. وهو من كلام الزمخشري وهو حسن ، ولما بعث السيد
على تزويج الصالحين من العبيد والإماء رغبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك ليصيروا
أحرارا فيتصرفون في أنفسهم.
(وَالَّذِينَ
يَبْتَغُونَ الْكِتابَ) أي المكاتبة كالعتاب والمعاتبة. (مِمَّا مَلَكَتْ) يعم المماليك الذكور والإناث. و (الَّذِينَ) يحتمل أن يكون مبتدأ وخبره الجملة ، والفاء دخلت في الخبر
لما تضمن الموصول من معنى اسم الشرط ، ويحتمل أن يكون منصوبا كما تقول : زيدا
فاضربه لأنه يجوز أن تقول زيدا فاضرب ، وزيدا اضرب ، فإذا دخلت الفاء كان التقدير
بنية فاضرب زيدا فالفاء في جواب أمر محذوف ، وهذا يوضح في النحو بأكثر من هذا. قال
الأزهري : وسمي هذا العقد مكاتبة لما يكتب للعبد على السيد من العتق إذا أدى ما تراضيا
عليه من المال ، وما يكتب للسيد على العبد من النجوم التي يؤديها ، والظاهر وجوب
المكاتبة لقوله (فَكاتِبُوهُمْ) وهذا مذهب عطاء وعمرو بن دينار والضحاك وابن سيرين وداود ،
وظاهر قول عمر لأنه قال لأنس حين سأل سيرين الكتابة فتلكأ أنس كاتبه ، أو لأضربنك
بالدرة ، وذهب مالك وجماعة إلى أنه أمر ندب وصيغتها كاتبتك على كذا ، ويعين ما
كاتبه عليه ، وظاهر الأمر يقتضي أنه لا يشترط تنجيم ولا حلول بل يكون حالا ومؤجلا
ومنجما وغير منجم ، وهذا مذهب أبي حنيفة.
وقال الشافعي : لا
يجوز على أقل من ثلاثة أنجم. وقال أكثر العلماء : يجوز على نجم واحد. وقال ابن
خويز منداد : إذا كاتب على مال معجل كان عتقا على مال ولم تكن كتابة ، وأجاز بعض
المالكية الكتابة الحالية وسماها قطاعة. والخير المال قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء
والضحاك ، أو الحيلة التي تقتضي الكسب قاله ابن عباس أيضا أو الدين قاله الحسن ،
أو إقامة الصلاة قاله عبيدة السلماني ، أو الصدق والوفاء والأمانة قاله الحسن
وإبراهيم أو إرادة
خير بالكتابة قاله سعيد بن جبير. وقال الشافعي : الأمانة والقوة على الكسب والذي
يظهر من الاستعمال أنه الدين يقول : فلان فيه خير فلا يتبادر إلى الذهن إلّا الصلاح
، والأمر بالكتابة مقيد بهذا الشرط ، فلو لم يعلم فيه خيرا لم تكن الكتابة مطلوبة
بقوله (فَكاتِبُوهُمْ) والظاهر في (وَآتُوهُمْ) أنه أمر للمكاتبين وكذا قال المفسرون وجمهور العلماء ،
واختلفوا هل هو على الوجوب أو على الندب؟ واستحسن ابن مسعود والحسن أن يكون ثلث
الكتابة وعلى ربعها ، وقتادة عشرها. وقال عمر : من أول نجومه مبادرة إلى الخير.
وقال مالك : من آخر نجم. وقال بريدة والحسن والنخعي وعكرمة والكلبي والمقاتلان :
أمر الناس جميعا بمواساة المكاتب وإعانته. وقال زيد بن أسلم : الخطاب لولاة الأمور
أن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حقهم وهو الذي تضمنه قوله (وَفِي الرِّقابِ).
وقال صاحب النظم :
لو كان المراد بالإيتاء الحط لوجب أن تكون العبارة العربية ضعوا عنهم أو قاصوهم ،
فلما قال (وَآتُوهُمْ) دل على أنه من الزكاة إذ هي مناولة وإعطاء ، ويؤكده أنه
أمر بإعطاء وما أطلق عليه الإعطاء كان سبيله الصدقة. وقوله (مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) هو ما ثبت ملكه للمالك أمر بإخراج بعضه ، ومال الكتابة ليس
بدين صحيح لأنه على عبده ، والمولى لا يثبت له على عبده دين صحيح ، وأيضا ما آتاه
الله هو الذي يحصل في يده ويملكه وما يسقطه عقيب العقد لا يحصل له عليه ملك فلا
يستحق الصفة بأنه من مال الله الذي آتاه.
(وَلا تُكْرِهُوا
فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) في صحيح مسلم عن
جابر إن جارية لعبد الله بن أبيّ يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة كان يكرههما
على الزنا ، فشكيا ذلك إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فنزلت. وقيل : كانت له ست معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى
وقتيلة جاءته إحداهن ذات يوم بدينار وأخرى ببرد ، فقال لهما ارجعا فازنيا ، فقالتا
: والله لا نفعل ذلك وقد جاءنا الله بالإسلام وحرم الزنا ، فأتتا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وشكتا فنزلت والفتاة المملوكة وهذا خطاب للجميع ، ويؤكد أن
يكون (وَآتُوهُمْ) خطابا للجميع والنهي عن الإكراه على الزنا مشروط بإرادة
التعفف منهن ، لأنه لا يمكن الإكراه إلّا مع إرادة التحصن ، أما إذا كانت مريدة
للزنا فإنه لا يتصور الإكراه. وكلمه (إِنْ) وإيثارها على إذا إيذان بأن المسافحات كن يفعلن ذلك برغبة
وطواعية منهن ، وأن ما وجد من معاذة ومسيكة من خبر الشاذ النادر. وقد
ذهب هذا النظر على
كثير من المفسرين فقال بعضهم (إِنْ أَرَدْنَ) راجع إلى قوله (وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ) وهذا فيه بعد وفصل كثير ، وأيضا فالأيامى يشمل الذكور
والإناث ، فكان لو أريد هذا المعنى لكان التركيب : إن أرادوا تحصنا فيغلب المذكر
على المؤنث. وقال بعضهم : هذا الشرط ملغى. وقال الكرماني : هذا شرط في الظاهر وليس
بشرط كقوله (إِنْ عَلِمْتُمْ
فِيهِمْ خَيْراً) ومع أنه وإن كان لم يعلم خيرا صحت الكتابة.
وقال ابن عيسى :
جاء بصيغة الشرط لتفحيش الإكراه على ذلك ، وقال : لأنها نزلت على سبب فوقع النهي
على تلك الصفة انتهى. و (عَرَضَ الْحَياةِ
الدُّنْيا) هو ما يكسبنه بالزنا. وقوله (فَإِنَّ اللهَ) جواب للشرط. والصحيح أن التقدير (غَفُورٌ رَحِيمٌ) لهم ليكون جواب الشرط فيه ضمير يعود على من الذين هو اسم
الشرط ، ويكون ذلك مشروطا بالتوبة. ولما غفل الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء عن
هذا الحكم قدروا (فَإِنَّ اللهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ) لهن أي للمكرهات ، فعريت جملة جواب الشرط من ضمير يعود على
اسم الشرط. وقد ضعف ما قلناه أبو عبد الله الرازي فقال : فيه وجهان أحدهما : فإن
الله غفور رحيم لهنّ لأن الإكراه يزيل الإثم والعقوبة من المكره فيما فعل ،
والثاني : فإن الله غفور رحيم للمكره بشرط التوبة ، وهذا ضعيف لأنه على التفسير
الأول لا حاجة لهذا الإضمار. وعلى الثاني يحتاج إليه انتهى. وكلامهم كلام من لم
يمعن في لسان العرب.
فإن قلت : قوله (إِكْراهِهِنَ) مصدر أضيف إلى المفعول والفاعل مع المصدر محذوف ، والمحذوف
كالملفوظ والتقدير من بعد إكراههم إياهنّ والربط يحصل بهذا المحذوف المقدر فلتجز
المسألة قلت : لم يعدوا في الروابط الفاعل المحذوف ، تقول : هند عجبت من ضربها
زيدا فتجوز المسألة ، ولو قلت هند عجبت من ضرب زيدا لم تجز. ولما قدر الزمخشري في
أحد تقدير أنه لهن أورد سؤالا فإن قلت : لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهن لأن
المكرهة على الزنا بخلاف المكره عليه في أنها غير آثمة قلت : لعل الإكراه كان دون
ما اعتبرته الشريعة من إكراه بقتل أو بما يخاف منه التلف أو ذهاب العضو من ضرب
عنيف وغيره حتى يسلم من الإثم ، وربما قصرت عن الحد الذي تعذر فيه فتكون آثمة
انتهى. وهذا السؤال والجواب مبنيان على تقدير لهنّ.
وقرأ (مُبَيِّناتٍ) بفتح الياء الحرميان وأبو عمرو وأبو بكر أي بيّن الله في
هذه السورة وأوضح آيات تضمنت أحكاما وحدودا وفرائض ، فتلك الآيات هي المبينة ،
ويجوز أن يكون المراد مبينا فيها ثم اتسع فيكون المبين في الحقيقة غيرها. وهي ظرف
للمبين. وقرأ
باقي السبعة
والحسن وطلحة والأعمش بكسر الياء ، فإما أن تكون متعدية أي (مُبَيِّناتٍ) غيرها من الأحكام والحدود ، فأسند ذلك إليها مجازا ، وإما
أن تكون لا تتعدى أي بينات في نفسها لا تحتاج إلى موضح بل هي واضحة لقولهم في
المثل. قد بيّن الصبح لذي عينين. أي قد ظهر ووضح. وقوله (وَمَثَلاً) معطوف على آيات ، فيحتمل أن يكون المعنى (وَمَثَلاً) من أمثال الذين من قبلكم ، أي قصة غريبة من قصصهم كقصة
يوسف ومريم في براءتهما لبراءة من رميت بحديث الإفك لينظروا قدرة الله في خلقه
وصنعه فيه فيعتبروا. وقال الضحاك : والمراد بالمثل ما في التوراة والإنجيل من
إقامة الحدود ، فأنزل في القرآن مثله. وقال مقاتل : أي شبها من حالهم في تكذيب
الرسل أي بينا لكم ما أحللنا بهم من العذاب لتمردهم ، فجعلنا ذلك مثلا لكم لتعلموا
أنكم إذا شاركتموهم في المعصية كنتم مثلهم في استحقاق العقاب. (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي ما وعظ في الآيات والمثل من نحو قوله (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) و (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ يَعِظُكُمُ
اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً) وخص المتقين لأنهم المنتفعون بالموعظة.
اللهُ
نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ
الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ
شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها
يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ
مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ
يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ
تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ
يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧)
لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ
يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨)
النور في كلام
العرب الضوء المدرك بالبصر ، فإسناده إلى الله تعالى مجاز كما تقول : زيد كرم وجود
وإسناده على اعتبارين ، إما على أنه بمعنى اسم الفاعل أي منوّر السموات والأرض ،
ويؤيد هذا التأويل قراءة عليّ بن أبي طالب وأبي جعفر وعبد العزيز المكي
__________________
وزيد بن عليّ
وثابت بن أبي حفصة والقورصي ومسلمة بن عبد الملك وأبي عبد الرحمن السلمي وعبد الله
بن عياش بن أبي ربيعة (نُورُ) فعلا ماضيا و (الْأَرْضِ) بالنصب. وإما على حذف أي ذو نور ، ويؤيده قوله (مَثَلُ نُورِهِ) ويحتمل أن يجعل نورا على سبيل المدح ، كما قالوا فلان شمس
البلاد ونور القبائل وقمرها ، وهذا مستفيض في كلام العرب وأشعارها. قال الشاعر :
كأنك شمس والملوك
كواكب
وقال :
قمر القبائل خالد
بن زيد
وقال :
إذا سار عبد
الله من مرو ليلة
|
|
فقد سار منها
بدرها وجمالها
|
ويروى نورها ،
وأضاف النور إلى (السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) لدلالة على سعة إشراقه وفشو إضاءته حتى يضيء له السموات
والأرض ، أو يراد أهل السموات والأرض وأنهم يستضيئون به. وقال ابن عباس : (نُورُ السَّماواتِ) أي هادي أهل السموات. وقال مجاهد : مدبر أمور السموات.
وقال الحسن : منور السموات. وقال أبي : الله به نور السموات أو منه نور السموات أي
ضياؤها. وقال أبو العالية : مزين السموات بالشمس والقمر والنجوم ، ومزين الأرض
بالأنبياء والعلماء. وقيل : المنزه من كل عيب امرأة نوار بريئة من الريبة
والفحشاء. وقال الكرماني : هو الذي يرى ويرى به مجاز وصف الله به لأنه يرى ويرى
بسببه مخلوقاته لأنه خلقها وأوجدها.
والظاهر أن الضمير
في (مَثَلُ نُورِهِ) عائد على الله تعالى. واختلفوا في هذا القول ما المراد
بالنور المضاف إليه تعالى. فقيل : الآيات البينات في قوله (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ
مُبَيِّناتٍ) وقيل : الإيمان المقذوف في قلوب المؤمنين. وقيل : النور هنا
هو رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وقيل : النور هنا
المؤمن. وقال كعب وابن جبير : الضمير في (لِنُورِهِ) عائد على محمد صلىاللهعليهوسلم ، أي مثل نور محمد. وقال أبيّ : هو عائد على المؤمنين وفي
قراءته مثل نور المؤمن. وروي أيضا فيها مثل نور من آمن به. وقال الحسن : يعود على
القرآن والإيمان وهذه الأقوال الثلاثة عاد فيها الضمير على غير مذكور ، ونقلت
المعنى المقصود
__________________
بالآية بخلاف عوده
على الله تعالى ، ولذلك قال مكي يوقف على (وَالْأَرْضِ) في تلك الأقوال الثلاثة. واختلفوا في هذا التشبيه أهو
تشبيه جملة بجملة لا يقصد فيها إلى تشبيه جزء بجزء ومقابلة شيء بشيء ، أو مما قصد
به ذلك أي مثل نور الله الذي هو هداه وإتقانه صنعة كل مخلوق وبراهينه الساطعة على
الجملة كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة التي هي أبلغ صفات النور
الذي بين أيدي الناس ، أي مثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أيها
البشر. وقيل : هو من التشبيه المفصل المقابل جزءا بجزء ، وقرروه على تلك الأقوال
الثلاثة أي (مَثَلُ نُورِهِ) في محمد أو في المؤمن أو في القرآن والإيمان (كَمِشْكاةٍ) فالمشكاة هو الرسول أو صدره و (الْمِصْباحُ) هو النبوة وما يتصل بها من علمه وهداه و (الزُّجاجَةُ) قلبه. والشجرة المباركة الوحي والملائكة رسل الله إليه ،
وشبه الفصل به بالزيت وهو الحجج والبراهين والآيات التي تضمنها الوحي وعلى قول
المؤمن فالمشكاة صدره و (الْمِصْباحُ) الأيمان والعلم. و (الزُّجاجَةُ) قلبه والشجرة القرآن وزيتها هو الحجج والحكمة التي تضمنها.
قال أبيّ : فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات ،
وعلى قول الإيمان والقرآن أي مثل الإيمان والقرآن في صدر المؤمن في قلبه (كَمِشْكاةٍ) وهذا القول ليس في مقابلة التشبيه كالأولين ، لأن المشكاة
ليست تقابل الإيمان.
وقال الزمخشري :
أي صفة (لِنُورِهِ) لعجيبة الشأن في الإضاءة (كَمِشْكاةٍ) أي كصفة مشكاة انتهى. ويظهر لي أن قوله (كَمِشْكاةٍ) هو على حذف مضاف أي (مَثَلُ نُورِهِ) مثل نور مشكاة وتقدّم في المفردات أن المشكاة هي الكوة غير
النافذة ، وهو قول ابن جبير وسعيد بن عياض والجمهور. وقال أبو موسى : المشكاة
الحديدة والرصاصة التي تكون فيها الفتيل في جوف الزجاجة. وقال مجاهد : المشكاة
العمود الذي يكون المصباح على رأسه ، وقال أيضا الحدائد التي تعلق فيها القناديل.
(فِيها مِصْباحٌ) أي سراج ضخم ، والظاهر أن (الزُّجاجَةُ) ظرف للمصباح لقوله (الْمِصْباحُ فِي
زُجاجَةٍ) وقدره الزمخشري في زجاج شامي ، وكان عنده أصفى الزجاج هو
الشامي ولم يقيد في الآية. وقرأ أبو رجاء ونصر بن عاصم (فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ) بكسر الزاي فيهما ، وابن أبي عبلة ونصر بن عاصم في رواية
ابن مجاهد بفتحها. (كَأَنَّها) أي كأن الزجاجة لصفاء جوهرها وذاتها وهو أبلغ في الإنارة ،
ولما احتوت عليه من نور المصباح.
(كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) قال الضحاك : هو الزهرة شبه الزجاجة في زهرتها بأحد
الدراري من الكواكب المشاهير ، وهي المشتري ، والزهرة ، والمريخ ، وسهيل ونحو ذلك.
وقرأ الجمهور من السبعة نافع وابن عامر وحفص وابن كثير (دُرِّيٌ) بضم الدال وتشديد الراء والياء ، والظاهر نسبة الكوكب إلى
الدر لبياضه وصفائه ، ويحتمل أن يكون أصله الهمز فأبدل وأدغم. وقرأ قتادة وزيد بن
عليّ والضحاك كذلك إلّا أنهما فتحا الدال. وروى ذلك عن نصر بن عاصم وأبي رجاء وابن
المسيب. وقرأ الزهري كذلك إلّا أنه كسر الدال. وقرأ حمزة كذلك إلّا أنه همز من
الدرء بمعنى الدفع ، أي يدفع بعضها بعضا ، أو يدفع ضوؤها خفاءها ووزنها فعيل. قيل
: ولا يوجد فعيل إلّا قولهم مريق للعصفر ودريء في هذه القراءة. قيل : وسرية إذا
قيل إنها مشتقة من السرور ، وأبدل من أحد المضعفات الياء فأدغمت فيها ياء فعيل ،
وسمع أيضا مريخ للذي في داخل القرن اليابس بضم الميم وكسرها. وقيل : منه عليه.
وقيل : (دُرِّيٌ) ووزنه في الأصل فعول كسبوح فاستثقل الضم فرد إلى الكسر ،
وكذا قيل في سرته ودرته. وقرأ أبو عمرو والكسائي كذلك إلّا أنه كسر الدال وهو بناء
كثير في الأسماء نحو سكين وفي الأوصاف سكير. وقرأ قتادة أيضا وأبان بن عثمان وابن
المسيب وأبو رجاء وعمرو بن فائد والأعمش ونصر بن عاصم كذلك إلّا أنه بفتح الدال.
قال ابن جني : وهذا عزيز لم يحفظ منه إلّا السكينة بفتح السين وشدّ الكاف انتهى. وفي
الأبنية حكى الأخفش كوكب دريء من درأته ودرية وعليك بالسكينة والوقار عن أبي زيد.
وحكى الفراء بكسر السين.
وقرأ الأخوان وأبو
بكر والحسن وزيد بن عليّ وقتادة وابن وثاب وطلحة وعيسى والأعمش توقد بضم التاء أي (الزُّجاجَةُ) مضارع أوقدت مبينا للمفعول ، ونافع وابن عامر وحفص كذلك
إلّا أنه بالياء أي (الْمِصْباحُ) وابن كثير وأبو عمرو توقد بفتح الأربعة فعلا ماضيا أي (الْمِصْباحُ). والحسن والسلمي وقتادة وابن محيصن وسلام ومجاهد وابن أبي
إسحاق والمفضل عن عاصم كذلك إلّا أنه بضم الدال مضارع توقد وأصله تتوقد أي (الزُّجاجَةُ). وقرأ عبد الله وقد بغير تاء وشدد القاف جعله فعلا ماضيا
أي وقد المصباح. وقرأ السلمي وقتادة وسلام أيضا كذلك إلّا أنه بالياء من تحت ،
وجاء كذلك عن الحسن وابن محيصن ، وأصله يتوقد أي (الْمِصْباحُ) إلّا أن حذف الياء في يتوقد مقيس لدلالة ما أبقى على ما
حذف. وفي (يُوقَدُ) شاذ جدّا لأن الياء الباقية لا تدل على التاء المحذوفة ،
وله وجه من القياس وهو حمله على يعد إذ حمل يعد وتعد وأعد في حذف
الواو كذلك هذ لما
حذفوا من تتوقد بالتاءين حذفوا التاء مع الياء وإن لم يكن اجتماع التاء والياء
مستثقلا.
(مِنْ شَجَرَةٍ) أي من زيت شجرة ، وهي شجرة الزيتون. (مُبارَكَةٍ) كثيرة المنافع أو لأنها تنبت في الأرض التي بارك فيها
للعالمين. وقيل : بارك فيها للعالمين. وقيل : بارك فيها سبعون نبيا منهم إبراهيم عليهالسلام ، والزيتون من
أعظم الشجر ثمرا ونماء واطراد أفنان ونضارة أفنان. وقال أبو طالب :
بورك الميت
الغريب كما
|
|
بورك نضر الرمان
والزيتون
|
(لا
شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ). قال ابن زيد : هي من شجر الشام فهي ليست من شرق الأرض ولا
من غربها ، لأن شجر الشام أفضل الشجر. وقال ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم : هي في
منكشف من الأرض تصيبها الشمس طول النهار تستدير عليها ، فليست خالصة للشرق فتسمى (شَرْقِيَّةٍ) ، ولا للغرب فتسمى (غَرْبِيَّةٍ) وقال الحسن : هذا مثل وليست من شجر الدنيا إذ لو كانت في
الدنيا لكانت شرقية أو غربية. وعن ابن عباس : أنها في درجة أحاطت بها فليست منكشفة
لا من جهة الشرق ولا من جهة الغرب ، وهذا لا يصح عن ابن عباس لأنها إذا كانت بهذه
الصفة فسد جناها. وقال ابن عطية : إنها في وسط الشجر لا تصيبها الشمس طالعة ولا
غاربة ، بل تصيبها بالغداة والعشي. وقال عكرمة : هي من شجر الجنة. وقال ابن عمر :
الشجرة مثل أي إنها ملة إبراهيم ليست بيهودية ولا نصرانية. وقيل : ملة الإسلام
ليست بشديدة ولا لينة. وقيل : لا مضحى ولا مفيأة ، ولكن الشمس والظل يتعاقبان
عليها ، وذلك أجود لحملها وأصفى لدهنها.
و (زَيْتُونَةٍ) بدل من (شَجَرَةٍ) وجوز بعضهم فيه أن يكون عطف بيان ، ولا يجوز على مذهب
البصريين لأن عطف البيان عندهم لا يكون إلّا في المعارف ، وأجاز الكوفيون وتبعهم
الفارسي أنه يكون في النكرات. و (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا) على (غَرْبِيَّةٍ) على قراءة الجمهور بالخفض صفة لزيتونة. وقرأ الضحاك بالرفع
أي لا هي شرقية ولا غربية ، والجملة في موضع الصفة.
(يَكادُ زَيْتُها
يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) مبالغة في صفاء الزيت وأنه لإشراقه وجودته يكاد يضيء من
غير نار. والجملة من قوله (وَلَوْ لَمْ
تَمْسَسْهُ نارٌ) حالية معطوفة على حال محذوفة أي (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ) في كل حال ولو في هذه الحال التي تقتضي أنه لا يضيء
لانتفاء مس النار
له ، وتقدم لنا أن هذا العطف إنما يأتي مرتبا لما كان لا ينبغي أن يقع لامتناع
الترتيب في العادة وللاستقصاء حتى يدخل ما لا يقدر دخوله فيما قبله نحو : «أعطوا
السائل ولو جاء على فرس ، ردوا السائل ولو بظلف محرق». وقرأ الجمهور : (تَمْسَسْهُ) بالتاء وابن عباس والحسن بالياء من تحت ، وحسنه الفصل وأن
تأنيث النار مجازي وهو مؤنث بغير علامة.
(نُورٌ عَلى نُورٍ) أي متضاعف تعاون عليه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت ،
فلم يبق مما يقوى النور ويزيده إشراقا شيء لأن المصباح إذا كان في مكان ضيق كان
أجمع لنوره بخلاف المكان المتسع ، فإنه ينشر النور ، والقنديل أعون شيء على زيادة
النور وكذلك الزيت وصفاؤه ، وهنا تم المثال.
ثم قال (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) أي لهداه والإيمان من يشاء هدايته ويصطفيه لها. ومن فسر
النور في (مَثَلُ نُورِهِ) بالنبوة قدر يهدي الله إلى نبوته. وقيل : إلى الاستدلال
بالآيات ، ثم ذكر تعالى أنه يضرب الأمثال للناس ليقع لهم العبرة والنظر المؤدّي
إلى الإيمان ، ثم ذكر إحاطة علمه بالأشياء فهو يضع هداه عند من يشاء. (فِي بُيُوتٍ) متعلق بيوقد قاله الرماني ، أو في موضع الصفة لقوله (كَمِشْكاةٍ) أي كمشكاة في بيوت قاله الحوفي ، وتبعه الزمخشري قال (كَمِشْكاةٍ) في بعض بيوت الله وهي المساجد. قال (مَثَلُ نُورِهِ) كما ترى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت
انتهى. وقوله كأنه إلى آخره تفسير معنى لا تفسير إعراب أو في موضع الصفة لمصباح أي
مصباح (فِي بُيُوتٍ) قاله بعضهم أو في موضع الصفة لزجاجة قاله بعضهم ، وعلى هذه
الأقوال الأربعة لا يوقف على قوله (عَلِيمٌ). وقيل : (فِي بُيُوتٍ) مستأنف والعامل فيه (يُسَبِّحُ) حكاه أبو حاتم وجوزه الزمخشري. فقال : وقد ذكر تعلقه
بكمشكاة قال : أو بما بعده وهو (يُسَبِّحُ) أي (يُسَبِّحُ لَهُ) رجال في بيوت وفيها تكرير كقولك زيد في الدار جالس فيها أو
بمحذوف كقوله (فِي تِسْعِ آياتٍ) أي سبحوا في بيوت انتهى. وعلى هذه الأقوال الثلاثة يوقف
على قوله (عَلِيمٌ) والذي اختاره أن يتعلق (فِي بُيُوتٍ) بقوله (يُسَبِّحُ) وإن ارتباط هذه بما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر أنه يهدي
لنوره من يشاء ذكر حال من حصلت له الهداية لذلك النور وهم المؤمنون ، ثم ذكر أشرف
عبادتهم القلبية وهو تنزيههم الله عن النقائص وإظهار ذلك بالتلفظ به في مساجد
الجماعات ، ثم ذكر سائر أوصافهم من التزام ذكر الله
__________________
وإقام الصلاة
وإيتاء الزكاة وخوفهم ما يكون في البعث. ولذلك جاء مقابل المؤمنين وهم الكفار في
قوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) وكأنه لما ذكرت الهداية للنور جاء في التقسيم لقابل
الهداية وعدم قابلها ، فبدئ بالمؤمن وما تأثر به من أنواع الهدى ثم ذكر الكافر.
والظاهر أن قوله (فِي بُيُوتٍ) أريد به مدلوله من الجمعية.
وقال الحسن : أريد
به بيت المقدس ، وسمى بيوتا من حيث فيه مواضع يتحيز بعضها عن بعض ، ويؤثر أن عادة
بني إسرائيل في وقيده في غاية التهمم والزيت مختوم على ظروفه وقد صنع صنعة وقدس
حتى لا يجري الوقيد بغيره ، فكان أضوأ بيوت الأرض. والظاهر أن (فِي بُيُوتٍ) مطلق فيصدق على المساجد والبيوت التي تقع فيها الصلاة
والعلم. وقال مجاهد : بيوت الرسول صلىاللهعليهوسلم. وقال ابن عباس والحسن أيضا ومجاهد : هي المساجد التي من
عادتها أن تنور بذلك النوع من المصابيح. وقيل : الكعبة وبيت المقدس ومسجد الرسول
عليه الصلاة والسلام ومسجد قباء. وقيل : بيوت الأنبياء. ويقوي أنها المساجد قوله (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ
وَالْآصالِ) وإذنه تعالى وأمره بأن (تُرْفَعَ) أي يعظم قدرها قاله الحسن والضحاك. وقال ابن عباس ومجاهد :
تبنى وتعلى من قوله (وَإِذْ يَرْفَعُ
إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) . وقيل : (تُرْفَعَ) تطهر من الأنجاس والمعاصي. وقيل : (تُرْفَعَ) أي ترفع فيها الحوائج إلى الله. وقيل : (تُرْفَعَ) الأصوات بذكر الله وتلاوة القرآن.
(وَيُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ) ظاهره مطلق الذكر فيعم كل ذكر عموم البدل. وعن ابن عباس :
توحيده وهو لا إله إلّا الله. وعنه : يتلى فيها كتابه. وقيل : أسماؤه الحسنى. وقيل
: يصلى فيها. وقرأ الجمهور (يُسَبِّحُ) بكسر الباء وبالياء من تحت ، وابن وثاب وأبو حيوة كذلك
إلّا أنه بالتاء من فوق ، وابن عامر وأبو بكر والبحتري عن حفص ومحبوب عن أبي عمرو
والمهال عن يعقوب والمفضل وأبان بفتحها وبالياء من تحت واحد المجرورات في موضع
المفعول الذي لم يسم فاعله ، والأولى الذي يلي الفعل لأن طلب الفعل للمرفوع أقوى
من طلبه للمنصوب الفضلة. وقرأ أبو جعفر : تسبح بالتاء من فوق وفتح الباء.
قال الزمخشري :
ووجهها أن تسند إلى أوقات الغدو والآصال على زيادة الباء ، وتجعل الأوقات مسبحة.
والمراد بها كصيد عليه يومان والمراد وحشهما انتهى. ويجوز أن
__________________
يكون المفعول الذي
لم يسم فاعله ضمير التسبيحة الدال عليه (تُسَبِّحُ) أي تسبح له هي أي التسبيحة كما قالوا (لِيَجْزِيَ قَوْماً) في قراءة من بناه للمفعول أي ليجزي هو أي الجزاء.
وقرأ أبو مجلز :
والإيصال وتقدم نظيره وارتفع (رِجالٌ) على هاتين القراءتين على الفاعلية بإضمار فعل أي (يُسَبِّحُ) أو يسبح له رجال. واختلف في اقتياس هذا ، فعلى اقتياسه نحو
ضربت هند زيد أي ضربها زيد ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي المسبح رجال. وتقدم
الكلام في تفسير الغدو والآصال والمراد بهما.
ثم ذكر تعالى وصف
المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمر الله وطلبهم رضاه لا يشتغلون عن ذكر الله واحتمل
قوله (لا تُلْهِيهِمْ
تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ) وجهين : أحدهما : أنهم لا تجارة لهم ولا بيع فيلهيهم عن
ذكر الله كقوله :
على لا حب لا
يهتدى بمناره
أي لا منار له
فيهتدى به. والثاني : أنهم ذوو تجارة وبيع ولكن لا يشغلهم ذلك عن ذكر الله وعما
فرض عليهم ، والظاهر مغايرة التجارة والبيع ، ولذلك عطف فاحتمل أن تكون تجارة من
إطلاق العام ويراد به الخاص ، فأراد بالتجارة الشراء ولذلك قابله بالبيع ، أو يراد
تجارة الجلب ويقال : تجر فلان في كذا إذا جلبه وبالبيع البيع بالأسواق ، ويحتمل أن
يكون (وَلا بَيْعٌ) من ذكر خاص بعد عام ، لأن التجارة هي البيع والشراء طلبا
للربح. ونبه على هذا الخاص لأنه في الإلهاء أدخل من قبل أن التاجر إذا اتجهت له
بيعة رابحة وهي طلبته الكلية من صناعته ألهته ما لا يلهيه شيء يتوقع فيه الربح لأن
هذا يقين وذاك مطنون.
قال الزمخشري :
التاء في إقامة عوض من العين الساقطة للإعلال والأصل أقوام ، فلما أضيفت أقيمت
الإضافة مقام حرف التعويض فأسقطت ونحوه :
وأخلفوك عد الأمر
الذي وعدوا.
انتهى. وهذا الذي
ذكر من أن التاء سقطت لأجل الإضافة هو مذهب الفراء ومذهب البصريين ، أن التاء من
نحو هذا لا تسقط للإضافة وتقدم لنا الكلام على (وَإِقامِ الصَّلاةِ) في الأنبياء وصدر البيت الذي أنشد عجزه قوله :
__________________
إن الخليط أجدوا
البين فانجردوا
وقد تأول خالد بن
كلثوم قوله عدا الأمر على أنه جمع عدوة ، والعدوة الناحية كأن الشاعر أراد نواحي
الأمر وجوانبه.
(يَخافُونَ يَوْماً) هو يوم القيامة ، والظاهر أن معنى (تَتَقَلَّبُ) تضطرب من هول ذلك اليوم كما قال تعالى (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ
الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) فتقلبها هو قلقها واضطرابها ، فتتقلب من طمع في النجاة إلى
طمع ومن حذر هلاك إلى هلاك. وهذا المعنى تستعمله العرب في الحروب كقوله :
بل كان قلبك في
جناحي طائر
ويبعد قول من قال (تَتَقَلَّبُ) على جمر جهنم لأن ذلك ليس في يوم القيامة بل بعده. وقول من
قال إن تقلبها ظهور الحق لها أي فتتقلب عن معتقدات الضلال إلى اعتقاد الحق على
وجهه فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعا عليها ، وتبصر الأبصار بعد أن كانت عميا
والقول الأول أبلغ في التهويل. وقرأ ابن محيصن : تقلب بإدغام التاء في التاء.
واللام في (لِيَجْزِيَهُمُ) متعلقة بمحذوف أي فعلوا ذلك (لِيَجْزِيَهُمُ) ويجوز أن تتعلق بيسبح وهو الظاهر. وقال الزمخشري : والمعنى
يسبحون ويخافون (لِيَجْزِيَهُمُ) انتهى. والظاهر أن قوله (يَخافُونَ) صفة لرجال كما أن (لا تُلْهِيهِمْ) كذلك. (أَحْسَنَ) هو على حذف مضاف أي ثواب أحسن ما عملوا ، أو (أَحْسَنَ) جزاء ما عملوا. (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ) على ما تقتضيه أعمالهم ، فأهل الجنة أبدا في مزيد. وقال
الزمخشري : (لِيَجْزِيَهُمُ) ثوابهم مضاعفا (وَيَزِيدَهُمْ) على الثواب تفضيلا وكذلك معنى قوله (الْحُسْنى) وزيادة المثوبة الحسنى ، وزيادة عليها من التفضل وعطاء
الله عزوجل إما تفضل وإما ثواب وإما عوض.
(وَاللهُ يَرْزُقُ
مَنْ يَشاءُ) ما يتفضل به (بِغَيْرِ حِسابٍ) فأما الثواب فله حسنات لكونه على حسب الاستحقاق انتهى. وفي
قوله على حسب الاستحقاق دسيسة اعتزال.
وَالَّذِينَ
كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا
جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ
وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ
__________________
فِي
بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ
ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ
لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠)
لما ذكر تعالى
حالة الإيمان والمؤمنين وتنويره قلوبهم ووصفهم بما وصفهم من الأعمال النافعة في
الآخرة أعقب ذلك بذكر مقابلهم الكفرة وأعمالهم ، فمثل لهم ولأعمالهم مثلين أحدهما
يقتضي بطلان أعمالهم في الآخرة وأنهم لا ينتفعون بها. والثاني يقتضي حالها في
الدنيا من ارتباكها في الضلال والظلمة شبه أولا أعمالهم في اضمحلالها وفقدان
ثمرتها بسراب في مكان منخفض ظنه العطشان ماء فقصده وأتعب نفسه في الوصول إليه. (حَتَّى إِذا جاءَهُ) أي جاء موضعه الذي تخيله. فيه (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) أي فقده لأنه مع الدنو لا يرى شيئا. كذلك الكافر يظن أن
عمله في الدنيا نافعه حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم ينفعه عمله بل صار وبالا عليه.
وقرأ مسلمة بن
محارب : بقيعات بتاء ممطوطة جمع قيعة كديمات وقيمات في ديمة وقيمة ، وعنه أيضا
بتاء شكل الهاء ويقف عليها بالهاء فيحتمل أن يكون جمع قيعة ، ووقف بالهاء على لغة
طيء كما قالوا البناه والأخواه في الوقف على البنات والأخوات. قال صاحب اللوامح :
ويجوز أن يريد قيعة كالعامة أي كالقراءة العامة ، لكنه أشبع الفتحة فتولدت منها
الألف مثل مخر نبق لينباع. وقال الزمخشري : وقد جعل بعضهم بقيعات بتاء ممدودة كرجل
عزهاة. وقال صاحب اللوامح : ويجوز أنه جعله مثل سعلة وسعلاة وليلة وليلاة ،
والقيعة مفرد مرادف للقاع أو جمع قاع كنار ونيرة ، فتكون على هذا قراءة قيعات جمع
صحة تناول جمع تكسير مثل رجالات قريش وجمالات صفر.
وقرأ شيبة وأبو
جعفر ونافع بخلاف عنهما الظمان بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الميم ، والظاهر أن قوله
(يَحْسَبُهُ
الظَّمْآنُ) هو من صفات السراب ولا يعني إلّا مطلق (الظَّمْآنُ) لا الكافر (الظَّمْآنُ) وقال الزمخشري : شبه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان ولا
يتبع الحق من الأعمال الصالحة التي يحسبها أن تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه يوم
القيامة ، ثم يخيب في العاقبة أمله ويلقى خلاف ما قدر بسراب يراه الكافر بالساهرة
وقد غلبه عطش يوم القيامة فيحسبه ماء ، فيأتيه فلا يجد ما رجاه ويجد ربانية الله
عنده ، يأخذونه ويعتلونه ويسقونه الحميم والغساق وهم الذين قال الله فيهم (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) و (هُمْ
__________________
يَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (وَقَدِمْنا إِلى ما
عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) . وقيل : نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبد ولبس
المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام انتهى. فجعل (الظَّمْآنُ) هو الكافر حتى تطرد الضمائر في (جاءَهُ) و (لَمْ يَجِدْهُ وَوَجَدَ) و (عِنْدَهُ) و (فَوَفَّاهُ) لشخص واحد ، وغيره غاير بين الضمائر فالضمير في (جاءَهُ) و (لَمْ يَجِدْهُ) للظمآن. وفي (وَوَجَدَ) للكافر الذي ضرب له مثلا بالظمئان ، أي ووجد هذا الكافر
وعد الله بالجزاء على عمله بالمرصاد (فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) عمله الذي جازاه عليه. وهذا معنى قول أبي وابن عباس ومجاهد
والحسن وقتادة وأفرد الضمير في (وَوَجَدَ) بعد تقدم الجمع حملا على كل واحد من الكفار.
وقال ابن عطية :
يحتمل أن يعود الضمير في (جاءَهُ) على السراب. ثم في الكلام متروك كثير يدل عليه الظاهر
تقديره وكذلك الكافر يوم القيامة يظن عمله نافعا (حَتَّى إِذا جاءَهُ
لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) ويحتمل الضمير أن يعود على العمل الذي يدل عليه قوله (أَعْمالُهُمْ) ويكون تمام المثل في قوله (ماءً) ويستغني الكلام عن متروك على هذا التأويل ، لكن يكون في
المثل إيجاز واقتضاب لوضوح المعنى المراد به.
(وَوَجَدَ اللهَ
عِنْدَهُ) أي بالمجازاة ، والضمير في (عِنْدَهُ) عائد على العمل انتهى. والذي يظهر لي أنه تعالى شبه
أعمالهم في عدم انتفاعهم بها بسراب صفته كذا ، وأن الضمائر فيما بعد (الظَّمْآنُ) له. والمعنى في (وَوَجَدَ اللهَ
عِنْدَهُ) أي (وَوَجَدَ) مقدور (اللهَ) عليه من هلاك بالظمأ (عِنْدَهُ) أي عند موضع السراب (فَوَفَّاهُ) ما كتب له من ذلك. وهو المحسوب له ، والله معجل حسابه لا
يؤخره عنه فيكون الكلام متناسقا آخذا بعضه بعنق بعض. وذلك باتصال الضمائر لشيء
واحد ، ويكون هذا التشبيه مطابقا لأعمالهم من حيث أنهم اعتقدوها نافعة فلم تنفعهم
وحصل لهم الهلاك بأثر ما حوسبوا. وأما في قول الزمخشري : فإنه وإن جعل الضمائر
للظمآن لكنه جعل (الظَّمْآنُ) هو الكافر وهو تشبيه الشيء بنفسه كما قال. وشبه الماء بعد
الجهد بالماء. وأما في قول غيره : ففيه تفكيك الكلام إذ غاير بين الضمائر وانقطع
ترصيف الكلام بجعل بعضه مفلتا من بعض.
(أَوْ كَظُلُماتٍ) هذا التشبيه الثاني لأعمالهم فالأول فيما يؤول إليه
أعمالهم في الآخرة ، وهذا الثاني فيما هم عليه في حال الدنيا. وبدأ بالتشبيه الأول
لأنه آكد في الإخبار
__________________
لما فيه من ذكر ما
يؤول إليه أمرهم من العقاب الدائم والعذاب السرمدي. ثم أتبعه بهذا التمثيل الذي
نبههم على ما هي أعمالهم عليه لعلهم يرجعون إلى الإيمان ويفكرون في نور الله الذي
جاء به الرسول صلىاللهعليهوسلم ، والظاهر أنه تشبيه لأعمالهم وضلالهم بالظلمات المتكاثفة.
وقال أبو علي
الفارسي : التقدير أو كذي ظلمات ، قال : ودل على هذا المضاف قوله (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ) فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف ، فالتشبيه وقع عند أبي
عليّ للكافر لا للأعمال وهو خلاف الظاهر ، ويتخيل في تقرير كلامه أن يكون التقدير
أو هم كذي ظلمات فيكون التشبيه الأول لأعمالهم. والثاني لهم في حال ضلالهم. وقال
أبو البقاء : في التقدير وجهان أحدهما : أو كأعمال ذي ظلمات ، فيقدر ذي ظلمات ليعود
الضمير من قوله (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ) إليه ، ويقدر أعمال ليصح تشبيه أعمال الكفار بأعمال صاحب
الظلمة إذ لا معنى لتشبيه العمل بصاحب الظلمات. والثاني : لا حذف فيه ، والمعنى
أنه شبه أعمال الكفار بالظلمة في حيلولتها بين القلب وبين ما يهتدى إليه ، فأما
الضمير في قوله (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ) فيعود إلى مذكور حذف اعتمادا على المعنى تقديره إذا أخرج
من فيها يده.
وقال الجرجاني :
الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار. والثانية في ذكر كفرهم ونسق الكفر على أعمالهم
لأن الكفر أيضا من أعمالهم ، وقد قال تعالى يخرجهم من الظلمات إلى النور. من الكفر
إلى الإيمان ، فيكون التمثيل قد وقع لأعمالهم بكفر الكافر و (أَعْمالُهُمْ) منها كفرهم ، فيكون قد شبه (أَعْمالُهُمْ) بالظلمات ، والعطف بأو هنا لأنه قصد التنويع والتفصيل لا
أن (أَوْ) للشك. وقال الكرماني : (أَوْ) للتخيير على تقدير شبه أعمال الكفار بأيهما شئت.
وقرأ سفيان بن
حسين (أَوْ كَظُلُماتٍ) بفتح الواو جعلها واو عطف تقدّمت عليها الهمزة التي لتقرير
التشبيه الخالي عن محض الاستفهام. والظاهر أن الضمير في (يَغْشاهُ) عائد على (بَحْرٍ لُجِّيٍ) أي يغشى ذلك البحر أي يغطي بعضه بعضا ، بمعنى أن تجيء موجة
تتبعها أخرى فهو متلاطم لا يسكن ، وأخوف ما يكون إذا توالت أمواجه ، وفوق هذا
الموج (سَحابٌ) وهو أعظم للخوف لإخفائه النجوم التي يهتدى بها ، وللريح
والمطر الناشئين مع السحاب. ومن قدر أو كذي ظلمات أعاد الضمير في (يَغْشاهُ) على ذي المحذوف ، أي يغشى صاحب الظلمات.
وقرأ الجمهور (سَحابٌ) بالتنوين (ظُلُماتٌ) بالرفع على تقدير خبر لمبتدأ محذوف ، أي هذه أو تلك (ظُلُماتٌ) وأجاز الحوفي أن تكون مبتدأ و (بَعْضُها فَوْقَ
بَعْضٍ) مبتدأ وخبره في موضع خبر (ظُلُماتٌ). والظاهر أنه لا يجوز لعدم المسوغ فيه للابتداء بالنكرة إلّا
إن قدرت صفة محذوفة أي ظلمات كثيرة أو عظيمة (بَعْضُها فَوْقَ
بَعْضٍ). وقرأ البزي (سَحابٌ ظُلُماتٌ) بالإضافة. وقرأ قنبل (سَحابٌ) بالتنوين (ظُلُماتٌ) بالجر بدلا من (ظُلُماتٌ) و (بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) مبتدأ وخبر في موضع الصفة لكظلمات.
قال الحوفي :
ويجوز على رفع (ظُلُماتٌ) أن يكون (بَعْضُها) بدلا منها ، وهو لا يجوز من جهة المعنى لأن المراد والله
أعلم الأخبار بأنها ظلمات ، وأن بعض تلك الظلمات فوق بعض أي هي ظلمات متراكمة وليس
على الأخبار بأن بعض ظلمات فوق بعض من غير إخبار بأن تلك الظلمات السابقة ظلمات
متراكمة. وتقدم الكلام في كاد إذا دخل عليها حرف نفي مشبعا في البقرة في قوله (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) فأغنى عن إعادته ، والمعنى هنا انتفاء مقاربة الرؤية ،
ويلزم من ذلك انتفاء الرؤية ضرورة وقول من اعتقد زيادة يكد أو أنه يراها بعد عسر
ليس بصحيح ، والزيادة قول ابن الأنباري وأنه لم يرها إلّا بعد الجهد قول المبرد
والفراء.
وقال ابن عطية ما
معناه : إذا كان الفعل بعد كاد منفيا دل على ثبوته نحو كاد زيد لا يقوم ، أو مثبتا
دل على نفيه كاد زيد يقوم ، وإذا تقدم النفي على كاد احتمل أن يكون منفيا تقول :
المفلوخ لا يكاد يسكن فهذا تضمن نفي السكون. وتقول : رجل منصرف لا يكاد يسكن فهذا
تضمن إيجاب السكون بعد جهد انتهى. والظاهر أن هذا التشبيه الثاني هو تشبيه أعمال
الكفار بهذه الظلمات المتكاثفة من غير مقابلة في المعنى بأجزائه لا جزاء المشبه.
قال الزمخشري :
وشبهها يعني أعماله في ظلمتها وسوادها لكونا باطلة ، وفي خلوها عن نور الحق بظلمات
متراكمة من لجج البحر والأمواج والسحاب ، ومنهم من لاحظ التقابل فقال : الظلمات
الأعمال الفاسدة والمعتقدات الباطلة. والبحر اللجيّ صدر الكافر وقلبه ، والموج
الضلال والجهالة التي غمرت قلبه والفكر المعوجة والسحاب شهوته في الكفر وإعراضه عن
الإيمان.
وقال الفراء : هذا
مثل لقلب الكافر أي إنه يعقل ولا يبصر. وقيل الظلمات أعماله والبحر هواه. القيعان
القريب الغرق فيه الكثير الخطر ، والموج ما يغشى قلبه من
__________________
جهل وغفلة ،
والموج الثاني ما يغشاه من شك وشبهة ، والسحاب ما يغشاه من شرك وحيرة فيمنعه من
الاهتداء على عكس ما في مثل نور الدين انتهى. والتفسير بمقابلة الأجزاء شبيه
بتفسير الباطنية ، وعدول عن منهج كلام العرب.
ولما شبه أعمال
الكفار بالظلمات المتراكمة وذكر أنه لا يكاد يرى اليد من شدة الظلمة قال (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً) أي من لم ينور قلبه بنور الإيمان ويهده إليه فهو في ظلمة
ولا نور له ، ولا يهتدي أبدا. وهذا النور هو في الدنيا. وقيل : هو في الآخرة أي من
لم ينوره الله بعفوه ويرحمه برحمته فلا رحمة له ، وكونه في الدنيا أليق بلفظ الآية
وأيضا فذلك متلازم لأن نور الآخرة هو لمن نور الله قلبه في الدنيا. وقال الزمخشري
: ومن لم يوله نور توفيقه وعصمته ولطفه فهو في ظلمة الباطل لا نور له. وهذا الكلام
مجراه مجرى الكنايات لأن الألطاف إنما تردف الإيمان والعمل الصالح أو كونهما مرتقبين
، ألا ترى إلى قوله (وَالَّذِينَ جاهَدُوا
فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) وقوله (وَيُضِلُّ اللهُ
الظَّالِمِينَ) انتهى. وهو على طريقة الاعتزال.
أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ
صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما
يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ
الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ
بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ
وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ
يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ
بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ
لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ
فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي
مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦)
لما ذكر تعالى مثل
المؤمن والكافر وأن الإيمان والضلال أمرهما راجع إليه أعقب بذكر الدلائل على قدرته
وتوحيده ، والظاهر حمل التسبيح على حقيقته وتخصيص (مَنْ)
__________________
في قوله ومن في
الأرض بالمطيع لله تعالى من الثقلين. وقيل : (مَنْ) عام لكل موجود غلب من يعقل على ما لا يعقل ، فأدرج ما لا
يعقل فيه ويكون المراد بالتسبيح دلالته بهذه الأشياء على كونه تعالى منزها عن
النقائص موصوفا بنعوت الكمال. وقيل : المراد بالتسبيح التعظيم فمن ذي الدين بالنطق
والصلاة ومن غيرهم من مكلف وجماد بالدلالة ، فيكون ذلك قدرا مشتركا بينهما وهو
التعظيم. وقال سفيان : تسبيح كل شيء بطاعته وانقياده.
(وَالطَّيْرُ
صَافَّاتٍ) أي صفت أجنحتها في الهواء للطيران ، وإنما خص الطير بالذكر
لأنها تكون بين السماء والأرض إذا طارت فهي خارجة من جملة (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) حالة طيرانها. وقرأ الجمهور (وَالطَّيْرُ) مرفوعا عطفا على (مَنْ) و (صَافَّاتٍ) نصب على الحال. وقرأ الأعرج (وَالطَّيْرُ) بالنصب على أنه مفعول معه. وقرأ الحسن وخارجة عن نافع (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) برفعهما مبتدأ وخبر تقديره يسبحن. قيل : وتسبيح الطير
حقيقي قاله الجمهور. قال الزمخشري : ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه
كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها. وقال الحسن
وغيره : هو تجوّز إنما تسبيحه ظهور الحكمة فيه فهو لذلك يدعو إلى التسبيح.
(كُلٌ) أي كل ممن ذكر ، فيشمل الطير والظاهر أن الفاعل المستكن في
(عَلِمَ) وفي (صَلاتَهُ
وَتَسْبِيحَهُ) عائد على (كُلٌ) وقاله الحسن قال : فهو مثابر عليهما يؤديهما. وقال الزجاج
: الضمير في (عَلِمَ) وفي (صَلاتَهُ
وَتَسْبِيحَهُ) لكل. وقيل : الضمير في (عَلِمَ) لكل وفي (صَلاتَهُ
وَتَسْبِيحَهُ) لله أي صلاة الله وتسبيحه اللذين أمر بهما وهدى إليهما ،
فهذه إضافة خلق إلى خالق. وقال مجاهد : الصلاة للبشر والتسبيح لما عداهم.
وقرأ الحسن وعيسى
وسلام وهارون عن أبي عمر وتفعلون بتاء الخطاب ، وفيه وعيد وتخويف. (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) إخبار بأن جميع المخلوقات تحت ملكه يتصرف فيهم بما يشاء
تصرف القاهر الغالب. وإليه (الْمَصِيرُ) أي إلى جزائه من ثواب وعقاب. وفي ذلك تذكير وتخويف.
ولما ذكر انقياد
من في السموات والأرض والطير إليه تعالى وذكر ملكه لهذا العالم وصيرورتهم إليه أكد
ذلك بشيء عجيب من أفعاله مشعر بانتقال من حال إلى حال. وكان عقب قوله وإليه المصير
فاعلم بانتقال إلى المعاد فعطف عليه ما يدل على تصرفه في نقل الأشياء من حال إلى
حال ومعنى (يُزْجِي) يسوق قليلا قليلا ويستعمل في سوق الثقيل برفق كالسحاب
والإبل ، والسحاب اسم جنس واحده سحابة ، والمعنى يسوق سحابة إلى
سحابة. (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) أي بين أجزائه لأنه سحابة تتصل بسحابة فجعل ذلك ملتئما
بتأليف بعض إلى بعض. وقرأ ورش يولف بالواو ، وباقي السبعة بالهمز وهو الأصل. فيجعله
(رُكاماً) أي متكاثفا يجعل بعضه إلى بعض ، وانعصاره بذلك (مِنْ خِلالِهِ) أي فتوقه ومخارجه التي حدثت بالتراكم والانعصار. والخلال :
قيل مفرد. وقيل : جمع خلل كجبال وجبل. وقرأ ابن مسعود وابن عباس والضحاك ومعاذ
العنبري عن أبي عمرو والزعفراني من خلله بالإفراد ، والظاهر أن في السماء جبالا من
برد قاله مجاهد والكلبي وأكثر المفسرين : خلقها الله كما خلق في الأرض جبالا من
حجر. وقيل : جبال مجاز عن الكثرة لا أن في السماء جبالا كما تقول : فلان يملك
جبالا من ذهب ، وعنده جبال من العلم يريد الكثرة. قيل : أو هو على حذف حرف
التشبيه.
و (السَّماءِ) السحاب أي (مِنَ السَّماءِ) التي هي جبال أي كجبال كقوله (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ
ناراً) أي كنار قاله الزجاج ، فجعل السماء هو السحاب المرتفع سمي
بذلك لسموه وارتفاعه. وعلى القول الأول المراد بالسماء الجسم الأزرق المخصوص وهو
المتبادر للذهن ، ومن استعماله الجبال في الكثرة مجازا قول ابن مقبل :
إذا مت عن ذكر
القوافي فلن
|
|
ترى لها شاعرا
مني أطلب وأشعرا
|
وأكثر بيتا
شاعرا ضربت له
|
|
بطون جبال الشعر
حتى تيسرا
|
واتفقوا على أن (مِنْ) الأولى لابتداء الغاية. وأما (مِنْ جِبالٍ). فقال الحوفي : هي بدل من (السَّماءِ) ثم قال : وهي للتبعيض ، وهذا خطأ لأن الأولى لابتداء
الغاية في ما دخلت عليه ، وإذا كانت الثانية بدلا لزم أن يكون مثلها لابتداء
الغاية ، لو قلت : خرجت من بغداد من الكرخ لزم أن يكونا معا لابتداء الغاية. وقال الزمخشري
وابن عطية : هي للتبعيض فيكون على قولهما في موضع المفعول لينزل. قال الحوفي
والزمخشري : والثانية للبيان انتهى. فيكون التقدير وينزل من السماء بعض جبال فيها
التي هي البرد فالمنزل برد لأن بعض البرد برد فمفعول (يُنَزِّلُ مِنْ
جِبالٍ).
قال الزمخشري : أو
الأولان للابتداء والأخيرة للتبعيض ، ومعناه أنه ينزل البرد من السماء من جبال
فيها انتهى. فيكون (مِنْ جِبالٍ) بدلا (مِنَ السَّماءِ).
وقيل : (مِنْ) الثانية والثالثة زائدتان وقاله الأخفش ، وهما في موضع نصب
عنده
__________________
كأنه قال : وينزل
من السماء جبالا فيها أي في السماء بردا وبردا بدل أي برد جبال. وقال الفراء : هما
زائدتان أي جبالا فيها برد لا حصى فيها ولا حجر ، أي يجتمع البرد فيصير كالجبال
على التهويل فبرد مبتدأ وفيها خبره. والضمير في (فِيها) عائد على الجبال أو فاعل بالجار والمجرور لأنه قد اعتمد
بكونه في موضع الصفة لجبال. وقيل : (مِنْ) الأولى والثانية لابتداء الغاية ، والثالثة زائدة أي (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ) السماء بردا. وقال الزجاج : معناه (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ) برد فيها كما تقول : هذا خاتم في يدي من حديد ، أي خاتم
حديد في يدي ، وإنما جئت في هذا وفي الآية بمن لما فرقت ، ولأنك إذا قلت : هذا
خاتم من حديد كان المعنى واحدا انتهى. فعلى هذا يكون (مِنْ بَرَدٍ) في موضع الصفة لجبال ، كما كان من في من حديد صفة لخاتم ،
فيكون في موضع جر ويكون مفعول (يُنَزِّلُ) هو (مِنْ جِبالٍ) وإذا كانت الجبال (مِنْ بَرَدٍ) لزم أن يكون المنزل بردا. والظاهر إعادة الضمير في (بِهِ) على البرد ، ويحتمل أن يكون أريد به الودق والبرد وجرى في
ذلك مجرى اسم الإشارة. وكأنه قال : فيصيب بذلك والمطر هو أعم وأغلب في الإصابة
والصرف أبلغ في المنفعة والامتنان.
وقرأ الجمهور (سَنا) مقصورا (بَرْقِهِ) مفردا. وقرأ طلحة بن مصرف سناء ممدودا (بَرْقِهِ) بضم الباء وفتح الراء جمع برقه بضم الباء ، وهي المقدار من
البرق كالغرفة واللقمة ، وعنه بضم الباء والراء اتبع حركة الراء لحركة الباء كما
اتبعت في (ظُلُماتٌ) وأصلها السكون. والسناء بالمدّ ارتفاع الشأن كأنه شبه
المحسوس من البرق لارتفاعه في الهواء بغير المحسوس من الإنسان ، فإن ذلك صيب لا
يحس به بصر. وقرأ الجمهور (يَذْهَبُ) بفتح الياء والهاء وأبو جعفر (يَذْهَبُ) بضم الياء وكسر الهاء. وذهب الأخفش وأبو حاتم إلى تخطئة
أبي جعفر في هذه القراءة قالا : لأن الياء تعاقب الهمزة وليس بصواب لأنه لم يكن
ليقرأ إلّا بما روي. وقد أخذ القراءة عن سادات التابعين الآخذين عن جلة الصحابة
أبيّ وغيره ، ولم ينفرد بها أبو جعفر بل قرأه شيبة كذلك وخرج ذلك على زيادة الباء
أي يذهب الأبصار. وعلى أن الباء بمعنى من والمفعول محذوف تقديره يذهب النور من
الأبصار كما قال :
شرب النزيف ببرد
ماء الحشرج
يريد من برد.
وتقليب الليل والنهار آيتان أحدهما بعد الآخر أو زيادة هذا وعكسه ، أو يغير النهار
بظلمة السحاب مرة وضوء الشمس أخرى ، ويغير الليل باشتداد ظلمته مرة وضوء
القمر أخرى ، أو
باختلاف ما يقدر فيهما من الخير والنفع والشدة والنعمة والأمن ومقابلاتها ونحو ذلك
أقوال أربعة إن في ذلك إشارة إلى ما تقدم من الدلائل الدالة على وحدانيته من تسبيح
من ذكر وتسخير السحاب ، وما يحدثه تعالى فيه من أفعاله حتى ينزل المطر فيقسم رحمته
بين خلقه وإراءتهم البرق في السحاب الذي يكاد يخطف الأبصار ويقلب الليل والنهار.
(لَعِبْرَةً) أي اتّعاظا. وخص أولو الأبصار بالاتّعاظ لأن البصر
والبصيرة إذا استعملا وصلا إلى إدراك الحق كقوله (إِنَّما يَتَذَكَّرُ
أُولُوا الْأَلْبابِ) .
وقرأ الجمهور (خَلَقَ) فعلا ماضيا. (كُلَ) نصب. وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش خالق اسم فاعل
مضاف إلى (كُلَ). والدابة : ما يحرك أمامه قدما ويدخل فيه الطير. قال
الشاعر :
دبيب قطا البطحاء
في كل منهل
والحوت وفي الحديث
: «دابة من البحر مثل الظرب». واندرج في (كُلَّ دَابَّةٍ) المميز وغيره ، فسهل التفصيل بمن التي لمن يعقل وما لا
يعقل إذا كان مندرجا في العام ، فحكم له بحكمه كان الدواب كلهم مميزون. والظاهر أن
(مِنْ ماءٍ) متعلق بخلق. و (مِنْ) لابتداء الغاية ، أي ابتداء خلقها من الماء. فقيل : لما
كان غالب الحيوان مخلوقا من الماء لتولده من النطفة أو لكونه لا يعيش إلّا بالماء
أطلق لفظ (كُلَ) تنزيلا للغالب منزلة العام ، ويخرج عما خلق من ماء ما خلق
من نور وهم الملائكة ، ومن نار وهم الجنّ ، ومن تراب وهو آدم. وخلق عيسى من الروح
وكثير من الحيوان لا يتولد من نطفة. وقيل (كُلَّ دَابَّةٍ) على العموم في هذه الأشياء كلها وإن أصل جميع المخلوقات
الماء ، فروي أن أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ، ثم خلق
من ذلك الماء النار والهواء والنور ، ولما كان المقصود من هذه الآية بيان أصل
الخلقة وكان الأصل الأول هو الماء قال : (خَلَقَ كُلَّ
دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ). وقال القفال : ليس (مِنْ ماءٍ) متعلقا بخلق وإنما هو في موضع الصفة لكل دابة ، فالمعنى
الإخبار أنه تعالى خلق كل دابة متولدة من الماء أي متولدة من الماء مخلوقة لله
تعالى. ونكر الماء هنا وعرف في (وَجَعَلْنا مِنَ
الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) لأن المعنى هنا (خَلَقَ كُلَّ
دَابَّةٍ) من نوع من الماء مختص بهذه الدابة ، أو (مِنْ
__________________
ماءٍ) مخصوص وهو النطفة ، ثم خالف بين المخلوقات من النطفة هوامّ
وبهائم وناس كما قال (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ
وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) وهنا قصد أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس الذي
هو جنس الماء ، وذلك أنه هو الأصل وإن تخللت بينها وبينه وسائط كما قيل : إن أصل
النور والنار والتراب الماء.
وسمي الزحف على البطن
مشيا لمشاكلته ما بعده من ذكر الماشين أو استعارة ، كما قالوا : قد مشى هذا الأمر
وما يتمشى لفلان أمر ، كما استعاروا المشفر للشفة والشفة للجحفلة. والماشي (عَلى بَطْنِهِ) الحيات والحوت ونحو ذلك من الدود وغيره. و (عَلى رِجْلَيْنِ) الإنسان والطير والأربع لسائر حيوان الأرض من البهائم
وغيرها ، فإن وجد من له أكثر من أربع. فقيل : اعتماده إنما هو على أربع ولا يفتقر
في مشيه إلى جميعها وقدم ما هو أعرف في القدرة وأعجب وهو الماشي بغير آلة مشى من
له رجل وقوائم ، ثم الماشي على رجلين ثم الماشي على أربع. وفي مصحف أبيّ ومنهم من
يمشي على أكثر ، فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان لكنه لم يثبت قرآنا ولعله ما أورده
مورد قرآن بل تنبيها على أن الله خلق من يمشي على أكثر من أربع كالعنكبوت والعقرب
والرتيلاء وذي أربع وأربعين رجلا وتسمى الاذن وهذا النوع لندوره لم يذكر.
(يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) إشارة إلى أنه تعالى ما تعلقت به إرادة خلقه أنشأه واخترعه
، وفي ذلك تنبيه على كثرة الحيوان وأنها كما اختلفت بكيفية المشيء اختلفت بأمور
أخر.
وَيَقُولُونَ
آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ
وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ
يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ
بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا
دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا
وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ
وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا
بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا
تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
__________________
(٥٣)
قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما
عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا
وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ
كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ
الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً
يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ
هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧)
نزلت إلى قوله (إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) في المنافقين بسبب منافق اسمه بشر ، دعاه يهودي في خصومة
بينهما إلى الرسول صلىاللهعليهوسلم ، ودعا هو إلى كعب بن الأشرف فنزلت.
ولما ذكر تعالى
دلائل التوحيد أتبع ذلك بذمّ قوم آمنوا بألسنتهم دون عقائدهم. (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) عن الإيمان. (بَعْدِ ذلِكَ) أي بعد قولهم (آمَنَّا وَما
أُولئِكَ) إشارة إلى القائلين فينتفي عن جميعهم الإيمان ، أو إلى
الفريق المتولي فيكون ما سبق لهم من الإيمان ليس إيمانا إنما كان ادّعاء باللسان
من غير مواطأة بالقلب. وأفرد الضمير في (لِيَحْكُمَ
بَيْنَهُمْ) وقد تقدم قوله (إِلَى اللهِ
وَرَسُولِهِ) لأن حكم الرسول هو عن الله. قال الزمخشري : كقولك أعجبني
زيد وكرمه يريد كرم زيد ومنه :
ومنهل من
الفلافي أوسطه
|
|
غلسته قبل القطا
وفرطه
|
أراد قبل فرط
القطا انتهى. أي قبل تقدم القطا إليه. وقرأ أبو جعفر (لِيَحْكُمَ) في الموضعين مبنيا للمفعول و (إِذا) الثانية للفجاءة. جواب (إِذا) الأولى الشرطية ، وهذا أحد الدلائل على أن الجواب لا يعمل
في إذا الشرطية خلافا للأكثرين من النحاة ، لأن إذا الفجائية لا يعمل ما بعدها
فيما قبلها. وقد أحكم ذلك في علم النحو. والظاهر أن (إِلَيْهِ) متعلق بيأتوا. والضمير في (إِلَيْهِ) عائد على الرسول صلىاللهعليهوسلم. وأجاز الزمخشري أن يتعلق (إِلَيْهِ) بمذعنين قال : لأنه بمعنى مسرعين في الطاعة وهذا أحسن
لتقدم صلته ودلالته على الاختصاص. وقد رددنا عليه ذلك وفي ما رجح تهيئة العامل
للعمل وقطعه عن العمل
وهو مما يضعف ،
والمعنى أنهم لمعرفتهم أنه ليس معه إلا الحق المرّ والعدل البحت يزورون عن
المحاكمة إليك إذا ركبهم الحق لئلا تنزعه منهم بقضائك عليهم لخصومهم ، وإن ثبت لهم
الحق على خصم أسرع إليك كلهم ولم يرضوا إلا بحكومتك.
(أَفِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَمِ) هنا منقطعة والتقدير : بل ارتابوا بل أيخافون وهو استفهام
توقيف وتوبيخ ، ليقروا بأحد هذه الوجوه التي عليهم في الإقرار بها ما عليهم ، وهذا
التوقيف يستعمل في الأمور الظاهرة مما يوبخ به ويذم ، أو مما يمدح به وهو بليغ جدا
فمن المبالغة في الذم. قول الشاعر :
ألست من القوم
الذين تعاهدوا
|
|
على اللؤم
والفحشاء في سالف الدهر
|
ومن المبالغة في
المدح. قول جرير :
ألستم خير من
ركب المطايا
|
|
وأندى العالمين
بطون راح
|
وقسم تعالى جهات
صدودهم عن حكومته فقال (أَفِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ) أي نفاق وعدم إخلاص (أَمِ ارْتابُوا) أي عرضت لهم الريبة والشك في نبوته بعد أن كانوا مخلصين (أَمْ يَخافُونَ) أي يعرض لهم الخوف من الحيف في الحكومة ، فيكون ذلك ظلما
لهم. ثم استدرك ببل أنهم (هُمُ الظَّالِمُونَ).
وقرأ عليّ وابن
أبي إسحاق والحسن (إِنَّما كانَ قَوْلَ) بالرفع والجمهور بالنصب. قال الزمخشري : والنصب أقوى لأن
أولى الاسمين بكونه اسما لكان أو غلهما في التعريف و (أَنْ يَقُولُوا) أو غل لأنه لا سبيل عليه للتنكير بخلاف قول المؤمنين. وكان
هذا من قبيل كان في قوله (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ
يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) (ما يَكُونُ لَنا أَنْ
نَتَكَلَّمَ بِهذا) انتهى. ونص سيبويه على أن اسم كان وخبرها إذا كانتا
معرفتين فأنت بالخيار في جعل ما شئت منهما الاسم والآخر الخبر من غير اعتبار شرط
في ذلك ولا اختيار.
وقرأ أبو جعفر
والجحدري وخالد بن الياس (لِيَحْكُمَ
بَيْنَهُمْ) مبنيا للمفعول ، والمفعول الذي لم يسم فاعله هو ضمير
المصدر أي (لِيَحْكُمَ) هو أي الحكم ، والمعنى ليفعل الحكم (بَيْنَهُمْ) ومثله قولهم : جمع بينهما وألف بينهما وقوله تعالى (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ) . قال الزمخشري : ومثله (لَقَدْ تَقَطَّعَ
بَيْنَكُمْ) فيمن قرأ بينكم منصوبا أي
__________________
وقع التقطع بينكم
انتهى. ولا يتعين ما قاله في الآية إذ يجوز أن يكون الفاعل ضميرا يعود على شيء
قبله وتقدم الكلام في ذلك في موضعه.
(أَنْ يَقُولُوا
سَمِعْنا) أي قول الرسول (وَأَطَعْنا) أي أمره. وقرئ (وَيَتَّقْهِ) بالإشباع والاختلاس والإسكان. وقرئ (وَيَتَّقْهِ) بسكون القاف وكسر الهاء من غير إشباع أجرى خبر كان المنفصل
مجرى المتصل ، فكما يسكن علم فيقال علم كذلك سكن ويتقه لأنه تقه كعلم وكما قال
السالم :
قالت سليمى اشتر
لنا سويقا
يريد اشتر لنا (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ) في فرائضه (وَرَسُولَهُ) في سننه و (يَخْشَى اللهَ) على ما مضى من ذنوبه (وَيَتَّقْهِ) فيما يستقبل. وعن بعض الملوك أنه سأل عن آية كافية فتليت
له هذه.
ولما بلغ
المنافقين ما أنزل تعالى فيهم أتوا إلى الرسول صلىاللهعليهوسلم وأقسموا إلى آخره أي (لَيَخْرُجُنَ) عن ديارهم وأموالهم ونسائهم و (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ) بالجهاد (لَيَخْرُجُنَ) إليه وتقدم الكلام في (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) في الأنعام. ونهاهم تعالى عن قسمهم لعلمه تعالى أنه ليس
حقا. (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) أي معلومة لا شك فيها ولا يرتاب ، كطاعة الخلص من المؤمنين
المطابق باطنهم لظاهرهم ، لا أيمان تقسموا بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها ، أو
طاعتكم طاعة معروفة بالقول دون الفعل ، أو طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه
الأيمان الكاذبة قاله الزمخشري. وقال ابن عطية : يحتمل معاني.
أحدها
: النهي عن القسم
الكاذب إذ قد عرف أن طاعتهم دغلة رديئة فكأنه يقول : لا تغالطوا فقد عرف ما أنتم
عليه.
والثاني
: لا تتكلفوا القسم
طاعة معروفة متوسطة على قدر الاستطاعة أمثل وأجدى عليكم ، وفي هذا الوجه إبقاء
عليهم.
والثالث
: لا تقنعوا بالقسم
طاعة تعرف منكم وتظهر عليكم هو المطلوب منكم.
والرابع
: لا تقنعوا
لأنفسكم بإرضائنا بالقسمة طاعة الله معروفة وجهاد عدوه مهيع لائح انتهى.
و (طاعَةٌ) مبتدأ و (مَعْرُوفَةٌ) صفة والخبر محذوف ، أي أمثل وأولى أو خبر مبتدأ محذوف أي
أمرنا أو المطلوب (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ). وقال أبو البقاء : ولو قرئ بالنصب لكان
جائزا في العربية
وذلك على المصدر أي أطيعوا طاعة انتهى. وقدراه بالنصب زيد بن عليّ واليزيدي وتقدير
بعضهم الرفع على إضمار ولتكن (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) ضعيف لأنه لا يحذف الفعل ويبقى الفاعل ، إلّا إذا كان ثم
مشعر به نحو (رِجالٌ) بعد (يُسَبِّحُ) مبنيا للمفعول أي يسبحه رجال ، أو يجاب به نفي نحو : بلى
زيد لمن قال : ما جاء أحد. أو استفهام نحو قوله :
ألا هل أتى أم
الحويرث مرسل
|
|
بلى خالد إن لم
تعقه العوائق
|
أي أتاها خالد. (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي مطلع على سرائركم ففاضحكم. والتفت من الغيبة إلى الخطاب
لأنه أبلغ في تبكيتهم.
ولما بكتهم بأن
مطلع على سرائرهم تلطف بهم فأمرهم بطاعة الله والرسول وهو أمر عام للمنافقين
وغيرهم. (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي فإن تتولوا. (فَإِنَّما عَلَيْهِ) أي على الرسول (ما حُمِّلَ) وهو التبليغ ومكافحة الناس بالرسالة وإعمال الجهد في
إنذارهم. (وَعَلَيْكُمْ ما
حُمِّلْتُمْ) وهو السمع والطاعة واتّباع الحق. ثم علق هدايتهم على طاعته
فلا يقع إلا بطاعته (وَما عَلَى
الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) تقدم الكلام على مثل هذه الجملة في المائدة.
روي أن بعض
الصحابة شكا جهد مكافحة العدو وما كانوا فيه من الخوف وأنهم لا يضعون أسلحتهم فنزل
(وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ). وروي أنه عليه الصلاة والسلام لما قال بعضهم ما أتى علينا
يوم نأمن من فيه ونضع السلاح ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «لا تغبرون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ
العظيم محتبيا ليس معه حديدة». قال ابن عباس : وهذا الوعد وعده الله أمّة محمد صلىاللهعليهوسلم في التوراة والإنجيل. والخطاب في (مِنْكُمْ) للرسول وأتباعه و (مِنْ) للبيان أي الذين هم أنتم وعدهم الله أن ينصر الإسلام على
الكفر ويورثهم الأرض ويجعلهم خلفاء. وقوله (فِي الْأَرْضِ) هي البلاد التي تجاورهم وهي جزيرة العرب ، ثم افتتحوا بلاد
الشرق والغرب ومزقوا ملك الأكاسرة وملكوا خزائنهم واستولوا على الدنيا. وفي الصحيح
: «زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي عنها». قال
بعض العلماء : ولذلك اتسع نطاق الإسلام في الشرق والغرب دون اتساعه في الجنوب
والشمال. قلت : ولا سيما في عصرنا هذا بإسلام معظم العالم في المشرق كقبائل الترك
، وفي المغرب كبلاد السودان التكرور والحبشة وبلاد الهند.
(كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي بني إسرائيل حين أورثهم مصر والشام بعد هلاك الجبابرة.
وقيل : هو ما كان في زمان داود وسليمان عليهماالسلام ، وكان الغالب على الأرض المؤمنون. وقرئ (كَمَا اسْتَخْلَفَ) مبنيا للمفعول. واللام في (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) جواب قسم محذوف ، أي وأقسم (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) أو أجرى وعد الله لتحققه مجرى القسم فجووب بما يجاوب به
القسم. وعلى التقدير حذف القسم بكون معمول (وَعَدَ) محذوفا تقديره استخلافكم وتمكين دينكم. ودل عليه جواب القسم
المحذوف. وقال الضحاك : هذه الآية تتضمن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ لأنهم
أهل الإيمان وعمل الصالحات. وقال صلىاللهعليهوسلم : «الخلافة بعدي ثلاثون» انتهى. ونيدرج من جرى مجراهم في
العدل من استخلف من قريش كعمر بن عبد العزيز من الأمويين ، والمهتدين بالله في
العباسيين.
(وَلَيُمَكِّنَنَّ
لَهُمْ دِينَهُمُ) أي يثبته ويوطده بإظهاره وإعزاز أهله وإذلال الشرك وأهله. و
(الَّذِي ارْتَضى
لَهُمْ) صفة مدح جليلة وقد بلغت هذه الأمة في تمكين هذا الدين
الغاية القصوى مما أظهر الله على أيديهم من الفتوح والعلوم التي فاقوا فيها جميع
العالم من لدن آدم إلى زمان هذه الملة المحمدية. وقرأ الجمهور (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ) بالتشديد وابن كثير وأبو بكر والحسن وابن محيصن بالتخفيف.
وقال أبو العالية : لما أظهر الله عزوجل رسوله صلىاللهعليهوسلم على جزيرة العرب وضعوا السلاح وآمنوا ، ثم قبض الله نبيه عليهالسلام فكانوا آمنين كذلك في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا
فيما وقعوا فيه وكفروا بالنعمة ، فأدخل الله عليهم الخوف فغيروا فغير الله ما بهم.
(يَعْبُدُونَنِي) الظاهر أنه مستأنف فلا موضع له من الإعراب كأنه قيل : ما
لهم يستخلفون ويؤمنون فقال (يَعْبُدُونَنِي) قاله الزمخشري. وقال ابن عطية : (يَعْبُدُونَنِي) فعل مستأنف أي هم (يَعْبُدُونَنِي) ويعني بالاستئناف الجملة لا نفس الفعل وحده وقاله الحوفي
قال : ويجوز أن يكون مستأنفا على طريق الثناء عليهم أي هم (يَعْبُدُونَنِي). وقال الزمخشري : وإن جعلته حالا عن وعدهم أي وعدهم الله
ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم فمحله النصب انتهى. وقال الحوفي قبله. وقال أبو
البقاء : (يَعْبُدُونَنِي) حال من (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) و (لَيُبَدِّلَنَّهُمْ لا يُشْرِكُونَ) بدل من (يَعْبُدُونَنِي) أو حال من الفاعل في (يَعْبُدُونَنِي) موحدين انتهى. والظاهر أنه متى أطلق الكفر كان مقابل
الإسلام والإيمان وهو ظاهر قول حذيفة قال : كان النفاق على عهد النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وقد ذهب ولم يبق إلّا كفر بعد
إيمان. قال ابن
عطية : يحتمل أن يريد كفر هذه النعم إذا وقعت ويكون الفسق على هذا غير مخرج عن
الملة. قيل : ظهر في قتلة عثمان.
وقال الزمخشري : (وَمَنْ كَفَرَ) يريد كفران النعمة كقوله (فَكَفَرَتْ
بِأَنْعُمِ اللهِ) (فَأُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ) أي هم الكاملون في فسقهم حيث كفروا تلك النعمة العظيمة. والظاهر
أن قوله (وَأَقِيمُوا) التفات من الغيبة إلى الخطاب ويحسنه الخطاب في منكم. وقال
الزمخشري : (وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ) معطوف على (أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) وليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه. فاصل. وإن
طال لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه وكررت طاعة الرسول توكيدا لوجوبها
انتهى.
وقرأ الجمهور (لا تَحْسَبَنَ) بتاء الخطاب والتقدير ، (لا تَحْسَبَنَ) أيها المخاطب ولا يندرج فيه الرسول ، وقالوا : هو خطاب
للرسول وليس بجيد لأن مثل هذا الحسبان لا يتصوّر وقوعه فيه عليهالسلام. وقرأ حمزة وابن عامر لا يحسبن بالياء للغيبة ، والتقدير
لا يحسبن حاسب ، والرسول لا يندرج في حاسب وقالوا : يكون ضمير الفاعل للرسول لتقدم
ذكره في (وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ) قاله أبو عليّ والزمخشري وليس بجيد لما ذكرناه في قراءة
التاء. وقال النحاس : ما علمت أحدا من أهل العربية بصريا ولا كوفيا إلّا وهو يخطئ
قراءة حمزة ، فمنهم من يقول : هي لحن لأنه لم يأت إلّا بمفعول واحد ليحسبن ، وممن
قال هذا أبو حاتم انتهى. وقال الفرّاء : هو ضعيف وأجازه على حذف المفعول الثاني
وهو قول البصريين تقديره أنفسهم. و (مُعْجِزِينَ) المفعول الثاني.
وقال عليّ بن
سليمان : (الَّذِينَ كَفَرُوا) في موضع نصب قال : ويكون المعنى ولا يحسبن الكافر (الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي
الْأَرْضِ). وقال الكوفيون : (مُعْجِزِينَ) المفعول الأول. و (فِي الْأَرْضِ) الثاني قيل : وهو خطأ وذلك لأن ظاهر في (الْأَرْضِ) تعلقه بمعجزين ، فلا يكون مفعولا ثانيا. وخرج الزمخشري ذلك
متبعا قول الكوفيين. فقال (مُعْجِزِينَ فِي
الْأَرْضِ) هما المفعولان والمعنى لا يحسبن الذين كفروا أحدا يعجز
الله في الأرض حتى يطمعوا لهم في مثل ذلك ، وهذا معنى قوي جيد انتهى. وقال أيضا :
يكون الأصل : لا يحسبنهم (الَّذِينَ كَفَرُوا
مُعْجِزِينَ) ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول ، وكان الذي سوغ ذلك
أن الفاعل والمفعولين لما كانت كالشيء الواحد اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث
انتهى. وقد رددنا هذا التخريج في آل عمران في قوله
__________________
(لا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) في قراءة من قرأ بياء الغيبة ، وجعل الفاعل (الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) وملخصه أنه ليس هذا من الضمائر التي يفسرها ما بعدها فلا
يتقدر لا يحسبنهم إذ لا يجوز ظنه زيد قائما على تقدير رفع زيد بظنه.
(وَمَأْواهُمُ
النَّارُ) قال الزمخشري : عطف على (لا تَحْسَبَنَ) كأنه قيل الذين كفروا لا يفوتون الله (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) والمراد بهم المقسمون جهد أيمانهم انتهى. وقال صاحب النظام
لا يحتمل أن يكون (وَمَأْواهُمُ) متصلا بقوله (لا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) بل هم مقهورون (وَمَأْواهُمُ
النَّارُ) انتهى. واستبعد العطف من حيث إن (لا تَحْسَبَنَ) نهي (وَمَأْواهُمُ
النَّارُ) جملة خبرية فلم يناسب عنده أن يعطف الجملة الخبرية على
جملة النهي لتباينهما وهذا مذهب قوم. ولما أحس الزمخشري بهذا قال : كأنه قيل الذين
كفروا لا يفوتون الله فتأول جملة النهي بجملة خبرية حتى تقع المناسبة ، والصحيح أن
ذلك لا يشترط بل يجوز عطف الجمل على اختلافها بعضا على بعض وإن لم تتحد في النوعية
وهو مذهب سيبويه.
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ
وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ
صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ
صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ
جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ
يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ
الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ
عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ
وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠) لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ
وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
__________________
آبائِكُمْ
أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ
أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ
أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ
بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً
طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)
روي أن عمر بعث
إليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم غلاما من الأنصار يقال له مدلج ، وكان نائما فدق عليه
الباب ودخل ، فاستيقظ وجلس فانكشف منه شيء فقال عمر : وددت أن الله نهى أبناءنا
ونساءنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلّا بإذن. ثم انطلق إلى الرسول فوجد هذه
الآية قد نزلت فخرّ ساجدا. وقيل : نزلت في أسماء بنت أبي مرثد قيل : دخل عليها
غلام لها كبير في وقت كرهت دخوله ، فأتت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالت : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا حالا نكرهها.
(لِيَسْتَأْذِنْكُمُ) أمر والظاهر حمله على الوجوب والجمهور على الندب. وقيل :
بنسخ ذلك إذ صار للبيوت أبواب روي ذلك عن ابن عباس وابن المسيب والظاهر عموم (الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) في العبيد والإماء وهو قول الجمهور. وقال ابن عمر وآخرون ،
العبيد دون الإماء. وقال السلمي : الإماء دون العبيد. (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ
مِنْكُمْ) عام في الأطفال عبيد كانوا أو أحرارا. وقرأ الحسن وأبو عمر
وفي رواية وطلحة (الْحُلُمَ) بسكون اللام وهي لغة تميم. وقيل (مِنْكُمْ) أي من الأحرار ذكورا كانوا أو إناثا. والظاهر من قوله (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) ثلاث استئذانات لأنك إذا ضربت ثلاث مرات لا يفهم منه إلّا
ثلاث ضربات ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : «الاستئذان ثلاث» والذي عليه
الجمهور أن معنى (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) ثلاث أوقات وجعلوا ما بعده من ذكر تلك الأوقات تفسيرا
لقوله (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) ولا يتعين ذلك بل تبقى (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) على مدلولها.
(مِنْ قَبْلِ صَلاةِ
الْفَجْرِ) لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ما ينام فيه من الثياب
ولبس ثياب اليقظة وقد ينكشف النائم. (وَحِينَ تَضَعُونَ
ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) لأنه وقت وضع الثياب للقائلة لأن النهار إذ ذاك يشتد حره
في ذلك الوقت. و (مِنْ) في (مِنَ الظَّهِيرَةِ) قال أبو البقاء : لبيان الجنس أي حين ذلك هو الظهيرة ، قال
: أو بمعنى من أجل
حر الظهيرة و (حِينَ) معطوف على موضع (مِنْ قَبْلِ وَمِنْ
بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) سمى كل واحد منها عورة لأن الناس يختل تسترهم وتحفظهم فيها
، والعورة الخلل ومنه أعور الفارس وأعور المكان ، والأعور المختل العين. وقرأ حمزة
والكسائي (ثَلاثَ) بالنصب قالوا : بدل من (ثَلاثُ عَوْراتٍ) وقدره الحوفي والزمخشري وأبو البقاء أوقات (ثَلاثُ عَوْراتٍ) وقال ابن عطية : إنما يصح يعنى البدل بتقدير أوقات (عَوْراتٍ) فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقرأ باقي السبعة
بالرفع أي هن (ثَلاثُ عَوْراتٍ) وقرأ الأعمش (عَوْراتٍ) بفتح الواو وتقدم أنها لغة هذيل بن مدركة وبني تميم وعلى
رفع (ثَلاثَ).
قال الزمخشري :
يكون (لَيْسَ عَلَيْكُمْ) الجملة في محل رفع على الوصف والمعنى هن (ثَلاثُ عَوْراتٍ) مخصوصة بالاستئذان ، وإذا نصبت لم يكن له محل وكان كلاما مقررا
للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة.
(بَعْدَهُنَ) أي بعد استئذانهم فيهن حذف الفاعل وحرف الجر بفي بعد
استئذانهن ثم حذف المصدر وقيل (لَيْسَ) على العبيد والإماء ومن لم يبلغ الحلم في الدخول (عَلَيْكُمْ) بغير استئذان (جُناحٌ) بعد هذه الأوقات الثلاث (طَوَّافُونَ
عَلَيْكُمْ) يمضون ويجيؤون وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره هم (طَوَّافُونَ) أي المماليك والصغار (طَوَّافُونَ
عَلَيْكُمْ) أي يدخلون عليكم في المنازل غدوة وعشية بغير إذن إلّا في
تلك الأوقات. وجوّزوا في (بَعْضُكُمْ عَلى
بَعْضٍ) أن يكون مبتدأ وخبرا لكن الجر قدروه طائف على بعض وهو كون
مخصوص فلا يجوز حذفه. قال الزمخشري : وحذف لأن طوافون يدل عليه وأن يكون مرفوعا
بفعل محذوف تقديره يطوف بعضكم. وقال ابن عطية (بَعْضُكُمْ) بدل من قوله (طَوَّافُونَ) ولا يصح لأنه إن أراد بدلا من (طَوَّافُونَ) نفسه فلا يجوز لأنه يصير التقدير هم (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) وهذا معنى لا يصح. وإن جعلته بدلا من الضمير في (طَوَّافُونَ) فلا يصح أيضا إن قدر الضمير ضمير غيبة لتقدير المبتدأ هم
لأنه يصير التقدير هم يطوف (بَعْضُكُمْ عَلى
بَعْضٍ) وهو لا يصح. فإن جعلت التقدير أنتم يطوف (عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) فيدفعه أن قوله (عَلَيْكُمْ) بدل على أنهم هم المطوف عليهم ، وأنتم طوافون ، يدل على
أنهم طائفون فتعارضا. وقرأ ابن أبي عبلة طوافين بالنصب على الحال من ضمير (عَلَيْهِمْ). وقال الحسن : إذا بات الرجل خادمه معه فلا استئذان عليه
ولا في هذه الأوقات الثلاثة.
(وَإِذا بَلَغَ
الْأَطْفالُ) أي من أولادكم وأقربائكم (فَلْيَسْتَأْذِنُوا) أي في كل الأوقات فإنهم قبل البلوغ كانوا يستأذنون في ثلاث
الأوقات. (كَمَا اسْتَأْذَنَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني البالغين. وقيل : الكبار من أولاد الرجل وأقربائه.
ودل ذلك على أن الابن والأخ البالغين كالأجنبي في ذلك وتكلموا هنا فيما به البلوغ
وهي مسألة تذكر في الفقه. كذلك الإشارة إلى ما تقدم ذكره من استئذان المماليك وغير
البلغ.
ولما أمر تعالى
النساء بالتحفظ من الرجال ومن الأطفال غير البلغ في الأوقات التي هي مظنة كشف عورتهن
استثنى (الْقَواعِدُ مِنَ
النِّساءِ) اللاتي كبرن وقعدن عن الميل إليهن والافتتان بهن فقال (وَالْقَواعِدُ) وهو جمع قاعد من صفات الإناث. وقال ابن السكيت : امرأة
قاعد قعدت عن الحيض. وقال ابن قتيبة : سميّن بذلك لأنهن بعد الكبر يكثرن القعود.
وقال ربيعة لقعودهن عن الاستمتاع بهن فأيسن ولم يبق لهن طمع في الأزواج. وقيل قعدن
عن الحيض والحبل. و (ثِيابَهُنَ) الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار والملاء الذي فوق
الثياب أو الخمر أو الرداء والخمار أقوال ، ويقال للمرأة إذا كبرت امرأة واضع أي
وضعت خمارها. (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ
بِزِينَةٍ) أي غير متظاهرات بالزينة لينظر إليهن ، وحقيقة التبرج
إظهار ما يجب إخفاؤه أو غير قاصدات التبرج بالوضع ، ورب عجوز يبدو منها الحرص على
أن يظهر بها جمال.
(وَأَنْ
يَسْتَعْفِفْنَ) عن وضع الثياب ويتسترن كالشباب أفضل لهن. (وَاللهُ سَمِيعٌ) لما يقول كل قائل (عَلِيمٌ) بالمقاصد. وفي ذكر هاتين الصفتين توعد وتحذير.
عن ابن عباس لما
نزل (وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) تحرج المسلمون عن مواكلة الأعمى لأنه لا يبصر موضع الطعام
الطيب ، والأعرج لأنه لا يستطيع المزاحمة على الطعام ، والمريض لأنه لا يستطيع
استيفاء الطعام فأنزل الله هذه الآية قيل : وتحرجوا عن أكل طعام القرابات فنزلت
مبيحة جميع هذه المطاعم ومبينة أن تلك إنما هي في التعدي والقمار وما يأكله المؤمن
من مال من يكره أهله أو بصفقة فاسدة ونحوه. وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن
مسعود وابن المسيب كانوا إذا نهضوا إلى الغزو وخلفوا أهل العذر في منازلهم
وأموالهم تحرجوا من أكل مال الغائب فنزلت مبيحة لهم ما تمس إليه حاجتهم من مال
الغائب إذا كان الغائب قد بنى على ذلك. وقال مجاهد : كان الرجل إذا ذهب بأهل العذر
__________________
إلى بيته فلم يجد
فيه شيئا ذهب بهم إلى بيوت قراباته فتحرج أهل الأعذار من ذلك فنزلت. وقيل : كانت
العرب ومن بالمدينة قبل البعث تجتنب الأكل مع أهل هذه الأعذار فبعضهم تقذرا لمكان
جولان يد الأعمى ، ولانبساط الجلسة مع الأعرج ، ولرائحة المريض وهي أخلاق جاهلية
وكبر. فنزلت واستبعد هذا لأنه لو كان هذا السبب لكان التركيب ليس عليكم حرج أن
تأكلوا معهم ولم يكن (لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمى حَرَجٌ) وأجاب بعضهم : بأن (عَلَى) في معنى أي في مواكلة الأعمى وهذا بعيد جدا. وفي كتاب
الزهراوي عن ابن عباس أن أهل هذه الأعذار تحرجوا في الأكل مع الناس من أجل عذرهم
فنزلت. وعلى هذه الأقوال كلها يكون نفي الحرج عن أهل العذر ومن بعدهم في المطاعم.
وقال الحسن وعبد الرحمن بن زيد الحرج المنفي عن أهل العذر هو في القعود عن الجهاد
وغيره مما رخص لهم فيه ، والحرج المنفي عمن بعدهم في الأكل مما ذكر وهو مقطوع مما
قبله إذ متعلق الحرجين مختلف. وإن كان قد اجتمعا في انتفاء الحرج. وهذا القول هو
الظاهر. ولم يذكر بيوت الأولاد اكتفاء بذكر بيوتكم لأن ولد الرجل بعضه وحكمه حكم
نفسه ، وبيته بيته. وفي الحديث «إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه».
ومعنى (مِنْ بُيُوتِكُمْ). من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم ، والولد أقرب من
عدد من القرابات فإذا كان سبب الرخصة هو القرابة كان الذي هو أقرب منهم أولى. وقرأ
طلحة إمهاتكم بكسر الهمزة. (أَوْ ما مَلَكْتُمْ
مَفاتِحَهُ). قال ابن عباس : هو وكيل الرجل أن يتناول من التمر ويشرب
من اللبن. وقال قتادة : العبد لأن ماله لك. وقال مجاهد والضحاك : خزائن بيوتكم إذا
ملكتم مفاتيحها. وقال ابن جرير : الزمنى ملكوا التصرف في البيوت التي سلمت إليهم
مفاتيحها. وقيل : ولي اليتيم يتناول من ماله بقدر ما قال تعالى (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ
بِالْمَعْرُوفِ) ومفاتحه بيده.
وقرأ الجمهور (مَلَكْتُمْ) بفتح الميم واللام خفيفة. وقرأ ابن جبير بضم الميم وكسر
اللام مشددة ، والجمهور (مَفاتِحَهُ) جمع مفتح وابن جبير مفاتيحه جمع مفتاح ، وقتادة وهارون عن
أبي عمرو مفتاحه مفردا. (أَوْ صَدِيقِكُمْ) قرئ بكسر الصاد اتباعا لحركة الدال حكاه حميد الخزاز ، قرن
الله الصديق بالقرابة المحضة. قيل لبعضهم : من أحب إليك أخوك أم صديقك؟ فقال : لا
أحب أخي إلّا إذا كان صديقي. وقال معمر : قلت لقتادة ألا أشرب من هذا الحب؟ قال :
أنت لي صديق فما هذا الاستئذان. وقال ابن عباس :
__________________
الصديق أوكد من
القرابة ألا ترى استغاثة الجهنميين (فَما لَنا مِنْ
شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) ولم يستغيثوا بالآباء والأمهات ومعنى (أَوْ صَدِيقِكُمْ) أو بيوت أصدقائكم ، والصديق يكون للواحد والجمع كالخليط
والقطين ، وقد أكل جماعة من أصحاب الحسن من بيته وهو غائب فجاء فسر بذلك وقال :
هكذا وجدناهم يعني كبراء الصحابة ، وكان الرجل يدخل بيت صديقه فيأخذ من كيسه فيعتق
جاريته التي مكنته من ذلك. وعن جعفر الصادق : من عظم حرمة الصديق أن جعله الله من
الأنس والثقة والانبساط وترك الحشمة بمنزلة النفس والأب والابن والأخ. وقال هشام
بن عبد الملك : نلت ما نلت حتى الخلافة وأعوزني صديق لا أحتشم منه. وقال أهل العلم
: إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح.
وانتصب (جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) على الحال أي مجتمعين أو متفرقين. قال الضحاك وقتادة :
نزلت في حي من كنانة تحرجوا أن يأكل الرجل وحده فربما قعدوا لطعام بين يديه لا يجد
من يؤاكله حتى يمسي فيضطر إلى الأكل وحده. وقال بعض الشعراء :
إذا ما صنعت
الزاد فالتمسي له
|
|
أكيلا فإني لست
آكله وحدي
|
وقال عكرمة في قوم
من الأنصار : إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلّا معه. وقيل في قوم : تحرجوا أن يأكلوا
جميعا مخافة أن يزيد أحدهم على الآخرة في الأكل. وقيل (أَوْ صَدِيقِكُمْ) هو إذا دعاك إلى وليمة فحسب. وقيل : هذه الآية منسوخة
بقوله عليهالسلام «ألا إن دماءكم
وأموالكم عليكم حرام» وبقوله عليهالسلام من حديث ابن عمر : «لا يحلبن أحد ماشية أحد إلّا بإذنه» وبقوله
تعالى (لا تَدْخُلُوا
بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) الآية.
(فَإِذا دَخَلْتُمْ
بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ). قال ابن عباس والنخعي : المساجد فسلموا على من فيها فإن
لم يكن فيها أحد قال السلام على رسول الله. وقيل : يقول السلام عليكم يعني
الملائكة ، ثم يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وقال جابر وابن عباس
وعطاء : البيوت المسكونة وقالوا يدخل فيها غير المسكونة ، فيقول : السلام علينا
وعلى عباد الله الصالحين. وقال ابن عمر : بيوتا خالية. وقال السدّي (عَلى أَنْفُسِكُمْ) على أهل دينكم. وقال قتادة : على أهاليكم في بيوت أنفسكم.
وقيل : بيوت الكفار (فَسَلِّمُوا
__________________
عَلى
أَنْفُسِكُمْ) وقال الزمخشري (فَإِذا دَخَلْتُمْ
بُيُوتاً) من هذه البيوت لتأكلوا ، فابدؤوا بالسلام على أهلها الذين
هم فيها منكم دينا وقرابة. و (تَحِيَّةً مِنْ
عِنْدِ اللهِ) أي ثابتة بأمره مشروعة من لدنه ، أو لأن التسليم والتحية
طلب للسلامة وحياة للمسلم عليه ووصفها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى
بها من الله زيادة الخير وطيب الرزق انتهى. وقال مقاتل : مباركة بالأجر. وقيل :
بورك فيها بالثواب. وقال الضحاك : في السلام عشر حسنات ، ومع الرحمة عشرون ، ومع
البركات ثلاثون. وانتصب (تَحِيَّةً) بقوله (فَسَلِّمُوا) لأن معناه فحيوا كقولك : قعدت جلوسا.
إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى
أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا
اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا
دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ
الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ
عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣)
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ
عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤)
لما افتتح السورة
بقوله (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) وذكر أنواعا من الأوامر والحدود مما أنزله على الرسول عليهالسلام اختتمها بما يجب له عليهالسلام على أمته من التتابع والتشايع على ما فيه مصلحة الإسلام
ومن طلب استئذانه إن عرض لأحد منهم عارض ، ومن توقيره في دعائهم إياه. وقال
الزمخشري : أراد عزوجل أن يريهم عظيم الجناية في ذهاب الذاهب عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بغير إذنه.
(إِذا كانُوا مَعَهُ
عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) فجعل ترك ذهابهم (حَتَّى
يَسْتَأْذِنُوهُ) ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله صلىاللهعليهوسلم ، وجعلهما كالتسبيب له والنشاط لذكره. وذلك مع تصدير
الجملة بإنما وارتفاع المؤمنين مبتدأ ومخبر عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين
، ثم عقبه
__________________
بما يزيده توكيدا
وتسديدا بحيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله (إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) وضمنه شيئا آخر وهو أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة
الإيمانين ، وعرّض بحال الماضين وتسللهم لو إذا.
ومعنى قوله (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) لم يذهبوا حتى يستأذنوه ويأذن لهم ، ألا تراه كيف علق
الأمر بعد وجود استئذانهم بمشيئته وإذنه لمن استصوب أن يأذن له ، والأمر الجامع
الذي يجمع له الناس ، فوصف بالجمع على المجاز وذلك نحو مقابلة عدو وتشاور في أمرهم
أو تضام لإرهاب مخالف ، أو ما ينتج في حلف وغير ذلك. والأمر الذي يعم بضرره أو
بنفعه وفي قوله (وَإِذا كانُوا مَعَهُ
عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) أنه خطب جليل لا بد لرسول الله صلىاللهعليهوسلم فيه من ذوي رأي وقوة يظاهرونه عليه ويعاونونه ويستضيء
بآرائهم ومعارفهم وتجاربهم في كفاءته ، فمفارقة أحدهم في مثل هذه الحالة مما يشق
على قلبه ويشعث عليه رأيه. فمن ثم غلظ عليهم وضيق الأمر في الاستئذان مع العذر
المبسوط ومساس الحاجة إليه واعتراض ما يهمهم ويعينهم ، وذلك قوله (لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) وذكر الاستغفار للمستأذنين دليل على أن الأحسن الأفضل أن
لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب ولا يستأذنوا فيه.
وقيل : نزلت في
حفر الخندق وكان قوم يتسللون بغير إذن لذلك ينبغي أن يكون الناس مع أئمتهم
ومقدميهم في الدين والعلم يظاهرونهم ولا يخذلونهم في نازلة من النوازل ، ولا
يتفرقون عنهم ، والأمر في الإذن مفوض إلى الإمام إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن على
حسب ما اقتضاه رأيه انتهى. وهو تفسير حسن ويجري هذا المجرى إمام الأمرة إذا كان
الناس معه مجتمعين لمراعاة مصلحة دينية فلا يذهب أحد منهم عن المجمع إلّا بإذن منه
إذ قد يكون له رأي في حضور ذلك الذاهب. وقال مكحول والزهري : الجمعة من الأمر الجامع
، فإذا عرض للحاضر ما يمنعه الحضور من سبق رعاف فليستأذن حتى يذهب عنه سوء الظن
به. وقال ابن سيرين : كانوا يستأذنون الإمام على المنبر ، فلما كثر ذلك قال زياد :
من جعل يده على أنفه فليخرج دون إذن وقد كان هذا بالمدينة حتى إنّ سهيل بن أبي
صالح رعف يوم الجمعة فاستأذن الإمام. وقال ابن سلام : هو كل صلاة فيها خطبة
كالجمعة والعيدين والاستسقاء. وقال ابن زيد : في الجهاد. وقال مجاهد : الاجتماع في
طاعة الله. قيل : في قوله (فَأْذَنْ لِمَنْ
شِئْتَ مِنْهُمْ) أريد بذلك عمر بن الخطاب. وقرأ اليماني على أمر جميع.
(لا تَجْعَلُوا) خطاب لمعاصري الرسول عليهالسلام لما كان التداعي بالأسماء على
عادة البداوة ،
أمروا بتوقير رسول الله صلىاللهعليهوسلم بأحسن ما يدعى به نحو : يا رسول الله ، يا نبي الله ، ألا
ترى إلى بعض جفاة من أسلم كان يقول : يا محمد وفي قوله (كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) إشارة إلى جواز ذلك مع بعضهم لبعض إذ لم يؤمر بالتوقير
والتعظيم في دعائه عليهالسلام إلّا من دعاه لا من دعا غيره. وكانوا يقولون : يا أبا
القاسم يا محمد فنهوا عن ذلك. وقيل : نهاهم عن الإبطاء والتأخر إذا دعاهم ،
واختارهم المبرد والقفال ويدل عليه (فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) وهذا القول موافق لمساق الآية ونظمها.
وقال الزمخشري :
إذا احتاج إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تتفرّقوا عنه إلّا بإذنه ، ولا
تقيسوا دعاءه على دعاء بعضكم بعضا ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي انتهى. وهو
قريب مما قبله. وقال أيضا : ويحتمل (لا تَجْعَلُوا) دعاء الرسول ربه مثل ما يدعو صغيركم كبيركم وفقيركم غنيكم
، يسأله حاجة فربما أجابه وربما رده ، وإن دعوات رسول الله صلىاللهعليهوسلم مسموعة مستجابة انتهى. وقال ابن عباس : إنما هو لا تحسبوا
دعاء الرسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض أي دعاؤه عليكم مجاب فاحذروه. قال ابن عطية
: ولفظ الآية يدفع هذا المعنى انتهى.
وقرأ الحسن ويعقوب
في رواية نبيكم بنون مفتوحة وباء مكسورة وياء مشددة بدل قوله (بَيْنَكُمْ) ظرفا قراءة الجمهور. قال صاحب اللوامح : وهو النبيّ عليهالسلام على البدل من (الرَّسُولِ) فإنما صار بدلا لاختلاف تعريفهما باللام مع الإضافة ، يعني
أن الرسول معرفة باللام ونبيكم معرفة بالإضافة إلى الضمير فهو في رتبة العلم ، فهو
أكثر تعريفا من ذي اللام فلا يصح النعت به على المذهب المشهور ، لأن النعت يكون
دون المنعوت أو مساويا له في التعريف. ثم قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون نعتا
لكونهما معرفتين انتهى. وكأنه مناقض لما قرر من اختياره البدل وينبغي أن يجوز
النعت لأن الرسول قد صار علما بالغلبة كالبيت للكعبة إذ ما جاء في القرآن والسنة
من لفظ الرسول إنما يفهم منه أنه محمد صلىاللهعليهوسلم ، فإذا كان كذلك فقد تساويا في التعريف. ومعنى (يَتَسَلَّلُونَ) ينصرفون قليلا قليلا عن الجماعة في خفية ، ولواذ بعضهم
ببعض أي هذا يلوذ بهذا وهذا بذاك بحيث يدور معه حيث دار استتارا من الرسول.
وقال الحسن (لِواذاً) فرارا من الجهاد. وقيل : في حفر الخندق ينصرف المنافقون
بغير إذن ويستأذن المؤمنون إذا عرضت لهم حاجة. وقال مجاهد لوذا خلافا. وقال أيضا (يَتَسَلَّلُونَ) من الصف في القتال وقيل : (يَتَسَلَّلُونَ) على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعلى كتابه
وعلى ذكره. وانتصب
(لِواذاً) على أنه مصدر في موضع الحال أي متلاوذين ، و (لِواذاً) مصدر لاوذ صحت العين في الفعل فصحت في المصدر ، ولو كان
مصدر لاذ لكان لياذا كقام قياما. وقرأ يزيد بن قطيب (لِواذاً) بفتح اللام ، فاحتمل أن يكون مصدر لاذ ولم يقبل لأنه لا
كسرة قبل الواو فهو كطاف طوافا. واحتمل أن يكون مصدر لاوذ وكانت فتحة اللام لأجل
فتحة الواو وخالف يتعدى بنفسه تقول : خالفت أمر زيد وبالي تقول : خالفت إلى كذا
فقوله (عَنْ أَمْرِهِ) ضمن خالف معنى صدّ وأعرض فعداه بعن. وقال ابن عطية : معناه
يقع خلافهم بعد أمره كما تقول كان المطر عن ريح و (عَنْ) هي لما عدا الشيء. وقال أبو عبيدة والأخفش (عَنْ) زائدة أي (أَمْرِهِ) والظاهر أن الأمر بالحذر للوجوب وهو قول الجمهور ، وأن
الضمير في (أَمْرِهِ) عائد على الله. وقيل على الرسول.
وقرئ يخلّفون
بالتشديد أي يخلفون أنفسهم بعد أمره ، والفتنة القتل قاله ابن عباس أيضا أو بلاء
قاله مجاهد ، أو كفر قاله السدي ومقاتل ، أو إسباغ النعم استدراجا قاله الجراح ،
أو قسوة القلب عن معرفة المعروف والمنكر قاله الجنيد ، أو طبع على القلوب قاله
بعضهم. وهذه الأقوال خرجت مخرج التمثيل لا الحصر وهي في الدنيا. أو (عَذابٌ أَلِيمٌ). قيل : عذاب الآخرة. وقيل : هو القتل في الدنيا.
(أَلا إِنَّ لِلَّهِ
ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هذا كالدلالة على قدرته تعالى عليهما وعلى المكلف فيما
يعامله به من المجازاة من ثوابه وعقابه. (قَدْ يَعْلَمُ ما
أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أي من مخالفة أمر الله وأمر رسوله وفيه تهديد ووعيد ،
والظاهر أنه خطاب للمنافقين. وقال الزمخشري : ادخل (قَدْ) ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق ،
ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد وذلك أن قد إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى
ربما ، فوافقت ربما في خروجها إلى معنى التنكير في نحو قوله :
فإن يمس مهجور
الفناء فربما
|
|
أقام به بعد
الوفود وفود
|
ونحو من ذلك قول
زهير :
أخي ثقة لا يهلك
الخمر ماله
|
|
ولكنه قد يهلك
المال نائله
|
انتهى. وكون قد
إذا دخلت على المضارع أفادت التكثير قول بعض النحاة وليس بصحيح ، وإنما التكثير
مفهوم من سياقة الكلام في المدح والصحيح في رب إنها لتقليل الشيء أو
تقليل نظيره فإن
فهم تكثير فليس ذلك من رب. ولا قد إنما هو من سياقة الكلام ، وقد بين ذلك في علم
النحو.
وقرأ الجمهور (يُرْجَعُونَ) مبنيا للمفعول. وقرأ ابن يعمر وابن أبي إسحاق وأبو عمرو
مبنيا للفاعل. والتفت من ضمير الخطاب في (أَنْتُمْ) إلى ضمير الغيبة في (يُرْجَعُونَ) ويجوز أن يكون (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) خطابا عاما ويكون (يُرْجَعُونَ) للمنافقين. والظاهر عطف (وَيَوْمَ) على (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) فنصبه نصب المفعول. قال ابن عطية : ويجوز أن يكون التقديم
والعلم الظاهر لكم أو نحو هذا يوم فيكون النصب على الظرف.
(مفردات سورة الفرقان)
الهباء قال أبو
عبيدة والزجاج : مثل الغبار يدخل الكوة مع ضوء الشمس. وقال ابن عرفة : الهبوة
والهباء التراب الدقيق. وقال الجوهري يقال منه إذا ارتفع هبا يهبو هبوا ، وأهبيته
أنا إهباء. وقيل : هو الشرر الطائر من النار إذا أضرمت. النثر : التفريق. العض : وقع
الأسنان على المعضوض بقوة وفعله على وزن فعل بكسر العين ، وحكى الكسائي عضضت بفتح
عين الكلمة. فلان كناية عن علم من يعقل. الجملة من الكلام هو المجتمع غير المفرق.
الترتيل سرد اللفظ بعد اللفظ يتخلل بينهما زمن يسير من قولهم : ثغر مرتل أي مفلج
الأسنان. السبات : الراحة ، ومنه يوم السبت لما جرت العادة من الاستراحة فيه ويقال
للعليل إذا استراح من تعب العلة مسبوت قاله أبو مسلم. وقال الزمخشري : السبات
الموت والمسبوت الميت لأنه مقطوع الحياة. مرج : قال ابن عرفة خلط ومرج الأمر اختلط
واضطرب. وقيل : مرج وأمرج أجرى ، ومرج لغة الحجاز وأمرج لغة نجد. العذب : الحلو.
والفرات البالغ في الحلاوة. الملح : المالح. والأجاج البالغ في الملوحة. وقيل : المر.
وقيل : الحار. الصهر ، قال الخليل : لا يقال لأهل بيت المرأة إلّا أصهار ، ولأهل
بيت الرجل إلّا أختان ، ومن العرب من يجعلهم أصهارا كلهم. السراج : الشمس. الهون :
الرفق واللين. الغرفة : العلية وكل بناء عال فهو غرفة. عباء من العبء وهو الثقيل ،
يقال : عبأت الجيش بالتخفيف والتثقيل هيأته للقتال ، ويقال : ما عبأت به أي ما
اعتددت به كقولك : ما اكترثت به.
سورة الفرقان
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ
الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ
يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً
(٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ
وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً
وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ
افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤)
وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً
وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦) وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ
يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ
فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ
جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً
مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا
يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ
ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠)
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً
(١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً
(١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ
ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً
واحِداً
وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها
ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦)
هذه السورة مكية
في قول الجمهور. وقال ابن عباس وقتادة : إلّا ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ
إِلهاً آخَرَ) ـ إلى قوله ـ (وَكانَ اللهُ
غَفُوراً رَحِيماً) وقال الضحاك مدنية إلا من أولها إلى قوله (وَلا نُشُوراً) فهو مكي. ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أنه لما
ذكر وجوب مبايعة المؤمنين للرسول وأنهم إذا كانوا معه في أمر مهم توقف انفصال واحد
منهم على إذنه وحذر من يخالف أمره وذكر أن له ملك السموات والأرض وأنه تعالى عالم
بما هم عليه ومجازيهم على ذلك ، فكان ذلك غاية في التحذير والإنذار ناسب أن يفتتح
هذه السورة بأنه تعالى منزه في صفاته عن النقائص كثير الخير ، ومن خيره أنه (نَزَّلَ الْفُرْقانَ) على رسوله منذرا لهم فكان في ذلك اطماع في خيره وتحذير من
عقابه. و (تَبارَكَ) تفاعل مطاوع بارك وهو فعل لا يتصرف ولم يستعمل في غيره
تعالى فلا يجيء منه مضارع ولا اسم فاعل ولا مصدر. وقال الطرماح :
تباركت لا معط
لشيء منعته
|
|
وليس لما أعطيت
يا رب مانع
|
قال ابن عباس : لم
يزل ولا يزول. وقال الخليل : تمجد. وقال الضحاك : تعظم. وحكى الأصمعي تبارك عليكم
من قول عربي صعد رابية فقال لأصحابه ذلك ، أي تعاليت وارتفعت. ففي هذه الأقوال
تكون صفة ذات. وقال ابن عباس أيضا والحسن والنخعي : هو من البركة وهي التزايد في
الخير من قبله ، فالمعنى زاد خيره وعطاؤه وكثر ، وعلى هذا يكون صفة فعل وجاء الفعل
مسندا إلى (الَّذِي) وهم وإن كانوا لا يقرون بأنه تعالى هو الذي نزل الفرقان فقد
قام الدليل على إعجازه فصارت الصلة معلومة بحسب الدليل ، وإن كانوا منكرين لذلك.
وتقدّم في آل عمران لم سمي القرآن فرقانا.
وقرأ الجمهور (عَلى عَبْدِهِ) وهو الرسول محمد صلىاللهعليهوسلم. وقرأ ابن الزبير على عباده أي الرسول وأمته كما قال (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ) (وَما أُنْزِلَ
إِلَيْنا) ويبعد أن يراد بالقرآن
__________________
الكتب المنزلة ،
وبعبده من نزلت عليهم فيكون اسم جنس كقوله (وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) والضمير في (لِيَكُونَ). قال ابن زيد : عائد على (عَبْدِهِ) ويترجح بأنه العمدة المسند إليه الفعل وهو من وصفه تعالى
كقوله (إِنَّا كُنَّا
مُنْذِرِينَ) . والظاهر أن (نَذِيراً) بمعنى منذر. وجوز أن يكون مصدرا بمعنى لإنذار كالنكير
بمعنى الإنكار ، ومنه (فَكَيْفَ كانَ
عَذابِي وَنُذُرِ) . و (لِلْعالَمِينَ) عام للإنس والجن ، ممن عاصره أو جاء بعده وهذا معلوم من
الحديث المتواتر وظواهر الآيات. وقرأ ابن الزبير (لِلْعالَمِينَ) للجن والإنس وهو تفسير (لِلْعالَمِينَ).
ولما سبق في أواخر
السورة ألا إن لله ما في السموات والأرض فكان إخبارا بأن ما فيهما ملك له ، أخبر
هنا أنه له ملكهما أي قهرهما وقهر ما فيهما ، فاجتمع له الملك والملك لهما. ولما
فيهما ، والذي مقطوع للمدح رفعا أو نصبا أو نعت أو بد من (الَّذِي نَزَّلَ) وما بعد (نَزَّلَ) من تمام الصلة ومتعلق به فلا يعد فاصلا بين النعت أو البدل
ومتبوعه.
(وَلَمْ يَتَّخِذْ
وَلَداً) الظاهر نفي الاتخاذ أي لم ينزل أحدا منزلة الولد. وقيل :
المعنى لم يكن له ولد بمعنى قوله لم يلد لأن التوالد مستحيل عليه. وفي ذلك رد على
مشركي قريش وعلى النصارى واليهود الناسبين لله الولد. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي
الْمُلْكِ) تأكيد لقوله (لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ورد على من جعل لله شريكا.
(وَخَلَقَ كُلَّ
شَيْءٍ) عام في خلق الذوات وأفعالها. قيل : وفي الكلام حذف تقديره (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) مما يصح خلقه
لتخرج عنه ذاته وصفاته القديمة انتهى. ولا يحتاج إلى هذا المحذوف لأن من قال :
أكرمت كل رجل لا يدخل هو في العموم فكذلك لم يدخل في عموم (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) ذاته تعالى ولا صفاته القديمة. (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) إن كان الخلق بمعنى التقدير ، فكيف جاء (فَقَدَّرَهُ) إذ يصير المعنى وقدر كل شيء يقدره (تَقْدِيراً). فقال الزمخشري : المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثا مراعى فيه
التقدير والتسوية فقدره وهيأه لما يصلح له ، أو سمي إحداث الله خلقا لأنه لا يحدث
شيئا لحكمته إلّا على وجه التقدير من غير تفاوت. فإذا قيل : خلق الله كذا فهو
بمنزلة إحداث الله وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق ، فكأنه قيل : وأوجد كل شيء
فقدره في إيجاده متفاوتا. وقيل : فجعل له
__________________
غاية ومنتهى ، ومعناه
(فَقَدَّرَهُ) للبقاء إلى أمد معلوم. وقال ابن عطية : تقدير الأشياء هو
حدها بالأمكنة والأزمان والمقادير والمصلحة والإتقان انتهى.
(وَاتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ آلِهَةً) الضمير في (وَاتَّخَذُوا) عائد على ما يفهم من سياق الكلام لأن في قوله (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ
لَهُ شَرِيكٌ) دلالة على ذلك لم ينف إلّا وقد قيل به. وقال الكرماني :
الواو ضمير للكفار وهم مندرجون في قوله (لِلْعالَمِينَ). وقيل : لفظ (نَذِيراً) ينبئ عنهم لأنهم المنذرون ويندرج في (وَاتَّخَذُوا) كل من ادعى إلها غير الله ، ولا يختص ذلك بعباد الأوثان
وعباد الكواكب. وقال القاضي : يبعد أن يدخل فيه النصارى لأنهم لم يتخذوا من دون
الله آلهة على الجمع. والأقرب أن المراد به عبدة الأصنام ، ويجوز أن يدخل فيه من
عبد الملائكة لأن لعبادها كثرة انتهى. ولا يلزم ما قال لأن (وَاتَّخَذُوا) جمع و (آلِهَةً) جمع ، وإذا قوبل الجمع بالجمع تقابل الفرد بالفرد ، ولا
يلزم أن يقابل الجمع بالجمع فيندرج معبود النصارى في لفظ (آلِهَةً).
ثم وصف الآلهة
بانتفاء إنشائهم شيئا من الأشياء إشارة إلى انتفاء القدرة بالكلية ، ثم بأنهم
مخلوقون لله ذاتا أو مصنوعون بالنحت والتصوير على شكل مخصوص ، وهذا أبلغ في
الخساسة ونسبة الخلق للبشر تجوز. ومنه قول زهير :
ولأنت تفري ما
خلقت وبعض
|
|
القوم يخلق ثم
لا يفري
|
وقال الزمخشري :
الخلق بمعنى الافتعال كما في قوله (وَتَخْلُقُونَ
إِفْكاً) والمعنى أنهم آثروا على عبادته عبادة آلهة لا عجز أبين من
عجزهم ، لا يقدرون على شيء من أفعال الله ولا أفعال العباد حيث لا يفتعلون شيئا
وهم يفتعلون لأن عبدتهم يصنعونهم بالنحت والتصوير (وَلا يَمْلِكُونَ
لِأَنْفُسِهِمْ) دفع ضرر عنها ولا جلب نفع إليها ، وهم يستطيعون وإذا عجزوا
عن الافتعال ودفع الضرر وجلب النفع الذي يقدر عليه العباد كانوا عن الموت والحياة
والنشور التي لا يقدر عليها إلّا الله أعجز.
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا). قال ابن عباس : هو النضر بن الحارث وأتباعه ، والإفك أسوأ
لكذب. (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ
قَوْمٌ آخَرُونَ). قال مجاهد : قوم من اليهود ألقوا أخبار الأمم إليه. وقيل
: عداس مولى حويطب بن عبد العزّى ، ويسار مولى العلاء بن الحضرمي ، وجبر مولى عامر
وكانوا كتابيين يقرؤون التوراة أسلموا وكان الرسول يتعهدهم. وقال ابن عباس :
__________________
أشاروا إلى قوم
عبيد كانوا للعرب من الفرس أبو فكيهة مولى الحضرميين. وجبر ويسار وعداس وغيرهم.
وقال الضحاك : عنوا أبا فكيهة الرومي. وقال المبرد : عنوا بقوم آخرين المؤمنين لأن
آخر لا يكون إلّا من جنس الأول انتهى. وما قاله لا يلزم للاشتراك في جنس الإنسان ،
ولا يلزم الاشتراك في الوصف. ألا ترى إلى قوله (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي
سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ) فقد اشتركتا في مطلق الفئة ، واختلفتا في الوصف.
والظاهر أن الضمير
في (فَقَدْ جاؤُ) عائد على (الَّذِينَ كَفَرُوا) والمعنى أن هؤلاء الكفار وردوا ظلما كما تقول : جئت المكان
فيكون جاء متعديا بنفسه قاله الكسائي ، ويجوز أن يحذف الجار أي بظلم وزور ويصل
الفعل بنفسه. وقال الزجاج : إذا جاء يستعمل بهذين الاستعمالين وظلمهم أن جعلوا
العربي يتلقن من العجمي كلاما عربيا أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب ، والزور إن
بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه. وقيل : الضمير عائد على قوم آخرين وهو من كلام
الكفار ، والضمير في (وَقالُوا) للكفار وتقدم الكلام على (أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها) أي جمعها من قولهم كتب الشيء أي جمعه أو من الكتابة أي
كتبها بيده ، فيكون ذلك من جملة كذبهم عليه وهم يعلمون أنه لا يكتب ويكون كاستكب
الماء واصطبه أي سكبه وصبه. ويكون لفظ افتعل مشعرا بالتكلف والاعتمال أو بمعنى أمر
أن يكتب كقولهم احتجم وافتصد إذا أمر بذلك. (فَهِيَ تُمْلى
عَلَيْهِ) أي تلقى عليه ليحفظها لأن صورة الإلقاء على المتحفظ كصورة
الإملاء على الكاتب.
و (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) خبر مبتدأ محذوف أي هو أو هذه (أَساطِيرُ) و (اكْتَتَبَها) خبر ثان ، ويجوز أن يكون (أَساطِيرُ) مبتدأ و (اكْتَتَبَها) الخبر. وقرأ الجمهور (اكْتَتَبَها) مبنيا للفاعل. وقراءة طلحة مبنيا للمفعول والمعنى (اكْتَتَبَها) كاتب له لأنه كان أمّيا لا يكتب بيده وذلك من تمام إعجازه
، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير فصار (اكْتَتَبَها) إياه كاتب كقوله (وَاخْتارَ مُوسى
قَوْمَهُ) ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إياه فانقلب مرفوعا مستترا
بعد أن كان بارزا منصوبا وبقي ضمير الأساطير على حاله ، فصار (اكْتَتَبَها) كما ترى انتهى. وهو من كلام الزمخشري ولا يصح ذلك على مذهب
جمهور البصريين لأن (اكْتَتَبَها) له كاتب وصل فيه اكتتب لمفعولين أحدهما مسرح وهو ضمير
الأساطير ، والآخر مقيد وهو ضميره عليهالسلام. ثم اتسع في الفعل فحذف حرف الجر فصار (اكْتَتَبَها) إياه
__________________
كاتب فإذا بني هذا
الفعل للمفعول إنما ينوب عن الفاعل المفعول المسرح لفظا وتقديرا لا المسرح لفظا
المقيد تقديرا ، فعلى هذا كان يكون التركيب اكتتبته لا (اكْتَتَبَها) وعلى هذا الذي قلناه جاء السماع عن العرب في هذا النوع الذي
أحد المفعولين فيه مسرح لفظا وتقديرا والآخر مسرح لفظا لا تقديرا. قال الشاعر وهو
الفرزدق :
ومنا الذي اختير
الرجال سماحة
|
|
وجودا إذا هب
الرياح الزعازع
|
ولو جاء على ما
قرره الزمخشري لجاء التركيب ومنا الذي اختيره الرجال لأن اختار تعدى إلى الرجال
على إسقاط حرف الجر إذ تقديره اختير من الرجال. والظاهر أن قوله (اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ
بُكْرَةً وَأَصِيلاً) من تمام قول الكفار. وعن الحسن أنه قول الله سبحانه بكذبهم
وإنما يستقيم أن لو فتحت الهمزة في (اكْتَتَبَها) للاستفهام الذي في معنى الإنكار ، ووجهه أن يكون نحو قوله
:
أفرح إن أرزأ
الكرام وإن
|
|
آخذ ذودا شصايصا
نبلا
|
وحق للحسن أن يقف
على الأولين. والظهر تقييد الإملاء بوقت انتشار الناس وحين الإيواء إلى مساكنهم
وهما البكرة والأصيل ، أو يكونان عبارة عن الديمومة. وقرأ طلحة وعيسى فهي تتلى
بالتاء بدل الميم.
(قُلْ أَنْزَلَهُ
الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ) أي كل سر خفي ، ورد عليهم بهذا وهو وصفه تعالى بالعلم لأن
هذا القرآن لم يكن ليصدر إلّا من علام بكل المعلومات لما احتوى عليه من إعجاز
التركيب الذي لا يمكن صدوره من أحد ، ولو استعان بالعالم كلهم ولاشتماله على مصالح
العالم وعلى أنواع العلوم واكتفى بعلم السر لأن ما سواه أولى أن يتعلق علمه به ،
أو (يَعْلَمُ) ما تسرون من الكيد لرسوله مع علمكم ببطل ما تقولون فهو
مجازيكم (إِنَّهُ كانَ
غَفُوراً رَحِيماً) إطماع في إنهم إذا تابوا غفر لهم ما فرط من كفرهم ورخمهم.
أو (غَفُوراً رَحِيماً) في كونه أمهلكم ولم يعاجلكم على ما استوجبتموه من العقاب
بسبب مكابرتكم ، أو لما تقدم ما يدل على العقاب أعقبه بما يدل على القدرة عليه لأن
المتصف بالغفران والرحمة قادر على أن يعاقب.
(وَقالُوا) الضمير لكفار قريش ، وكانوا قد جمعهم والرسول مجلس مشهور ذكره
ابن إسحاق في السير فقال عتبة وغيره : إن كنت تحب الرئاسة ولّيناك علينا أو المال
جمعنا لك ، فلما أبي عليهم اجتمعوا عليه فقالوا : مالك وأنت رسول من الله تأكل
الطعام وتقف
بالأسواق لالتماس
الرزق سل ربك أن ينزل معك ملكا ينذر معك ، أو يلقي إليك كنزا تنفق منه ، أو يرد لك
جبال مكة ذهبا وتزال الجبال ، ويكون مكانها جنات تطرد فيها المياه وأشاعوا هذه
المحاجة فنزلت الآية. وكتب في المصحف لام الجر مفصولة من (لِهذَا) و (لِهذَا) استفهام يصحبه استهزاء أي (ما لِهذَا) الذي يزعم أنه رسول أنكروا عليه ما هو عادة للرسل كما قال (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي
الْأَسْواقِ) أي حاله كحالنا أي كان يجب أن يكون مستغنيا عن الأكل
والتعيش ، ثم قالوا : وهب أنه بشر فهلا أرفد بملك ينذر معه أو يلقى إليه كنز من
السماء يستظهر به ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش. ثم اقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل
منه ويرتزق كالمياسير. وقرئ فتكون بالرفع حكاه أبو معاذ عطفا على (أُنْزِلَ) لأن (أُنْزِلَ) في موضع رفع وهو ماض وقع موقع المضارع ، أي هلا ينزل إليه
ملك أو هو جواب التحضيض على إضمار هو ، أي فهو يكون. وقراءة الجمهور بالنصب على
جواب التخضيض. وقوله (أَوْ يُلْقى أَوْ) يكون عطف على (أُنْزِلَ) أي لو لا ينزل فيكون المطلوب أحد هذه الأمور أو مجموعها
باعتبار اختلاف القائلين ، ولا يجوز النصب في (أَوْ يُلْقى) ولا في (أَوْ تَكُونُ) عطفا على (فَيَكُونَ) لأنهما في حكم المطلوب بالتحضيض لا في حكم الجواب لقوله (لَوْ لا أُنْزِلَ). وقرأ قتادة والأعمش : أو يكون بالياء من تحت. وقرأ (يَأْكُلُ) بياء الغيبة أي الرسول ، وزيد بن عليّ وحمزة والكسائي وابن
وثاب وطلحة والأعمش بنون الجمع أي يأكلون هم من ذلك البستان فينتفعون به في دنياهم
ومعاشهم.
(وَقالَ الظَّالِمُونَ) أي للمؤمنين. قال الزمخشري : وأراد بالظالمين إياهم
بأعيانهم وضع الظاهر موضع المضمر ليسجل عليهم بالظلم فيما قالوه انتهى. وتركيبه
وأراد بالظالمين إياهم بأعيانهم ليس تركيبا سائغا بل التركيب العربي أن يقول : وأرادهم
بأعيانهم بالظالمين (مَسْحُوراً) غلب على عقله السحر وهذا أظهر ، أو ذا سحر وهو الرئة ، أو
يسحر بالطعام وبالشراب أي يغذي ، أو أصيب سحره كما تقول رأسته أصبت رأسه. وقيل (مَسْحُوراً) ساحرا عنوا به أنه بشر مثلهم لا ملك. وتقدم تفسيره في
الإسراء وبهذين القولين قيل : والقائلون ذلك النضر بن الحارث وعبد الله بن أبي
أمية ونوفل بن خويلد ومن تابعهم.
__________________
(انْظُرْ كَيْفَ
ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) أي قالوا فيك تلك الأقوال واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال
النادرة من نبوة مشتركة بين إنسان وملك وإلقاء كنز عليك وغير ذلك فبقوا متحيرين
ضلالا لا يجدون قولا يستقرون عليه ، أي فضلوا عن الحق فلا يجدون طريقا له. وقيل : (ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) بالمسحور والكاهن والشاعر وغيره (فَضَلُّوا) أخطؤوا الطريق فلا يجدون سبيل هداية ولا يطيقونه لالتباسهم
بضده من الضلال. وقيل (فَلا يَسْتَطِيعُونَ
سَبِيلاً) إلى حجة وبرهان على ما يقولون ، فمرة يقولون هو بليغ فصيح
يتقول القرآن من نفسه ويفتريه ومرة مجنون ومرة ساحر ومرة مسحور. وقال ابن عباس :
شبه لك هؤلاء المشركون الأشباه بقولهم هو مسحور فضلوا بذلك عن قصد السبيل ، فلا
يجدون طريقا إلى الحق الذي بعثك به. وقال مجاهد : لا يجدون مخرجا يخرجهم عن
الأمثال التي (ضَرَبُوا لَكَ). ومعناه أنهم (ضَرَبُوا لَكَ) هذه ليتوصلوا بها إلى تكذيبك (فَضَلُّوا) عن سبيل الحق وعن بلوغ ما أرادوا.
وقال أبو عبد الله
الرازي ؛ (انْظُرْ كَيْفَ) اشتغل القوم بضرب هذه الأمثال التي لا فائدة فيها لأجل
أنهم لما ضلوا وأرادوا القدح في نبوتك ، لم يجدوا إلى القدح سبيلا إذا لطعن عليه
إنما يكون فيما يقدح في المعجزات التي ادعاها لا بهذا الجنس من القول. وقال الفراء
: لا يستطيعون في أمرك حيلة. وقال السدي (سَبِيلاً) إلى الطعن.
ولما قال المشركون
ما قالوا قيل : فيما يروى إن شئت أن نعطيك خزائن الدنيا ومفاتيحها ، ولم يعط ذلك
أحد قبلك ولا يعطاه أحد بعدك وليس ذلك بناقصك في الآخرة شيئا ، وإن شئت جمعناه لك
في الآخرة فقال : يجمع لي ذلك في الآخرة فنزل (تَبارَكَ الَّذِي). وعن ابن عباس عنه عليهالسلام قال : عرض على جبريل عليهالسلام بطحاء مكة ذهبا فقلت : بل شبعة وثلاث جوعات ، وذلك أكثر
لذكري ومسألتي. قال الزمخشري في (تَبارَكَ) أي تكاثر خيرا (الَّذِي إِنْ شاءَ) وهب لك في الدنيا (خَيْراً) مما قالوا وهو أن يجعل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات
والقصور انتهى. والإشارة بذلك الظاهر أنه إلى ما ذكره الكفار من الجنة والكنز في
الدنيا قاله مجاهد. ويبعد تأويل ابن عباس أنه إشارة إلى أكله الطعام ومشيه في
الأسواق والظاهر أن هذا الجعل كان يكون في الدنيا لو شاءه الله. وقيل : في الآخرة
ودخلت إن على المشيئة تنبيها أنه لا ينال ذلك إلّا برحمته وأنه معلق على محض
مشيئته ليس لأحد من العباد على الله حق لا في الدنيا ولا في الآخرة. والأول أبلغ
في تبكيت الكفار والرد عليهم. قال ابن عطية : ويرده قوله بعد ذلك (بَلْ كَذَّبُوا
بِالسَّاعَةِ) انتهى. ولا يرده لأن المعنى به متمكن وهو عطف على ما حكى
عنهم يقول : بل أتى بأعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم بالساعة. وقرأ الجمهور (وَيَجْعَلْ) بالجزم قالوا عطفا على موضع جعل لأن التقدير إن يشأ يجعل
ويجوز أن يكون مرفوعا أدغمت لامه في لام (لَكَ) لكن ذلك لا يعرف إلّا من مذهب أبي عمرو والذي قرأ بالجزم
من السبعة نافع وحمزة والكسائي وأبو عمرو ، وليس من مذهب الثلاثة إدغام المثلين
إذا تحرك أولهما إنما هو من مذهب أبي عمر وكما ذكرنا. وقرأ مجاهد وابن عامر وابن
كثير وحميد وأبو بكر ومحبوب عن أبي عمرو بالرفع. قال ابن عطية : والاستئناف ووجهه
العطف على المعنى في قوله (جَعَلَ) لأن جواب الشرط هو موضع استئناف. ألا ترى أن الجمل من
الابتداء والخبر قد تقع موقع جواب الشرط؟ وقال الحوفي من رفع جعله مستأنفا منقطعا
مما قبله انتهى.
وقال أبو البقاء
وبالرفع على الاستئناف. وقال الزمخشري : وقرئ (وَيَجْعَلْ) بالرفع عطفا على (جَعَلَ) لأن الشرط إذا وقع ماضيا جاز في جوابه الجزم والرفع كقوله
:
وإن أتاه خليل
يوم مسألة
|
|
يقول لا غائب
مالي ولا حرم
|
انتهى. وهذا الذي
ذهب إليه الزمخشري من أنه إذا كان فعل الشرط ماضيا جاز في جوابه الرفع ليس مذهب
سيبويه ، إذ مذهب سيبويه أن الجواب محذوف وأن هذا المضارع المرفوع النية به
التقديم ، ولكون الجواب محذوفا لا يكون فعل الشرط إلّا بصيغة الماضي.
وذهب الكوفيون
والمبرد إلى أنه هو الجواب وأنه على حذف الفاء ، وذهب غير هؤلاء إلى أنه هو الجواب
وليس على حذف الفاء ولا على التقديم ، ولما لم يظهر لأداة الشرط تأثير في فعل
الشرط لكونه ماضي اللفظ ضعف عن العمل في فعل الجواب فلم تعمل فيه ، وبقي مرفوعا
وذهب الجمهور إلى أن هذا التركيب فصيح وأنه جائز في الكلام. وقال بعض أصحابنا : هو
ضرورة إذ لم يجئ إلّا في الشعر وهو على إضمار الفاء والكلام على هذه المذاهب مذكور
في علم النحو. وقرأ عبيد الله بن موسى وطلحة بن سليمان (وَيَجْعَلْ) بالنصب على إضمار أن. وقال أبو الفتح هي على جواب الشرط
بالواو ، وهي قراءة ضعيفة انتهى. ونظير هذه القراءات الثلاث قول النابغة :
فإن يهلك أبو
قابوس يهلك
|
|
ربيع الناس
والشهر الحرام
|
ونأخذ بعده
بذناب عيش
|
|
أجب الظهر ليس
له سنام
|
يروى بجرم نأخذ
ورفعه ونصبه. (بَلْ كَذَّبُوا
بِالسَّاعَةِ) قال الكرماني : المعنى ما منعهم من
الإيمان أكلك
الطعام ولا مشيك في السوق ، بل منعهم تكذيبهم بالساعة. وقيل : ليس ما تعلقوا به
شبهة بل الحامل على تكذيبك تكذيبهم بالساعة استثقالا للاستعداد لها. وقيل : يجوز
أن يكون متصلا بما يليه كأنه قال (بَلْ كَذَّبُوا
بِالسَّاعَةِ) فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب ، وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما
وعدك في الآخرة وهم لا يؤمنون بالآخرة انتهى. وبل لترك اللفظ المتقدم من غير إبطال
لمعناه. وأخذ في لفظ آخر (وَأَعْتَدْنا) جعلناه معدا. (سَعِيراً) نارا كبيرة الإيقاد. وعن الحسن : اسم من أسماء جهنم. (إِذا رَأَتْهُمْ) قيل هو حقيقة وإن لجهنم عينين وروي في ذلك أثر فإن صح كان
هو القول الصحيح. وإلّا كان مجازا ، أي صارت منهم بقدر ما يرى الرائي من البعد
كقولهم : دورهم تتراءى أي تتناظر وتتقابل ، ومنه : لا تتراءى ناراهما. وقال قوم :
النار اسم لحيوان ناري يتكلم ويرى ويسمع ويتغير ويزفر حكاه الكرماني ، وقيل : هو
على حذف مضاف أي رأتهم خزنتها من مكان بعيد ، قيل : مسيرة خمسمائة عام. وقيل :
مائة سنة. وقيل : سنة (سَمِعُوا لَها) صوت تغيظ لأن التغيظ لا يسمع ، وإذا كان على حذف المضاف
كان المعنى تغيظوا وزفروا غضبا على الكفار وشهوة للانتقام منهم. وقيل (سَمِعُوا) صوت لهيبها واشتعالها وقيل هو مثل قول الشاعر :
فيا ليت زوجك قد
غدا
|
|
متقلدا سيفا
ورمحا
|
وهذا مخرج على
تخريجين أحدهما الحذف أي ومعتقلا رمحا. والثاني تضمين ضمن متقلدا معنى متسلحا
فكذلك الآية أي (سَمِعُوا لَها) ورأوا (تَغَيُّظاً
وَزَفِيراً) وعاد كل واحد إلى ما يناسبه. أو ضمن (سَمِعُوا) معنى أدركوا فيشمل التغيظ والزفير. وانتصب (مَكاناً) على الظرف أي في مكان ضيق. وعن ابن عباس : تضيق عليهم ضيق
الزج في الرمح مقرنين قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل. وقيل : يقرن مع كل كافر
شيطانه في سلسلة وفي أرجلهم الأصفاد. وقرأ ابن كثير وعبيد عن أبي عمر وضيقا. قال
ابن عطية : وقرأ أبو شيبة صاحب معاذ بن جبل مقرنون بالواو وهي قراءة شاذة ، والوجه
قراءة الناس ونسبها ابن خالويه إلى معاذ بن جبل ووجهها أن يرتفع على البدل من ضمير
(أُلْقُوا) بدل نكرة من معرفة ونصب على الحال ، والظاهر دعاء الثبور
وهي الهلاك فيقولون : وا ثبوراه أي يقال يا ثبور فهذا أوانك. وقيل : المدعو محذوف
تقديره دعوا من لا يجيبهم قائلين ثبرنا ثبورا. والثبور قال ابن عباس : هو الويل ،
وقال الضحاك : هو الهلاك ومنه قول ابن الزبعري :
إذ يجاري
الشيطان في سنن الغي
|
|
ومن مال ميله
مثبور
|
(لا
تَدْعُوا الْيَوْمَ) يقال لهم (لا تَدْعُوا) أو هم أحق أن يقال لهم ذلك وإن لم يكن هناك قول ، أي لا
تقتصروا على حزن واحد بل أحزنوا حزنا كثيرا وكثرته إما لديمومة العذاب فهو متجددا
دائما ، وإما لأنه أنواع وكل نوع يكون منه ثبور لشدته وفظاعته. وقرأ عمرو بن محمد (ثُبُوراً) بفتح الثاء في ثلاثتها وفعول بفتح الواو في المصادر قليل
نحو البتول. وحكى عليّ بن عيسى : ما ثبرك عن هذا الأمر أي ما صرفك. كأنهم دعوا بما
فعلوا فقالوا : واصرفاه عن طاعة الله كما تقول : ووا ندامتاه. روي أن أول ما ينادي
بذلك إبليس يقول : وا ثبوراه حتى يكسى حلة من جهنم يضعها على جبينه ويسحبها من
خلفه ، ثم يتبعه في القول أتباعه فيقول لهم خزان جهنم (لا تَدْعُوا) الآية.
وقيل : نزلت في
ابن خطل وأصحابه. والظاهر أن الإشارة بذلك إلى النار وأحوال أهلها. وقيل إلى الجنة
والكنز في قولهم. وقيل إلى الجنة والقصور المجعولة في الدنيا على تقدير المشيئة و (خَيْرٌ) هنا ليست تدل على الأفضلية بل هي على ما جرت عادة العرب في
بيان فضل الشيء وخصوصيته بالفضل دون مقابله كقوله :
فشركما لخيركما
الفداء
وكقول العرب :
الشقاء أحب إليك أم السعادة. وكقوله (السِّجْنُ أَحَبُّ
إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) وهذا الاستفهام على سبيل التوقيف والتوبيخ.
قال ابن عطية :
ومن حيث كان الكلام استفهاما جاز فيه مجيء لفظه للتفضيل بين الجنة والنار في الخير
لأن الموقف جائز له أن يوقف محاوره على ما شاء ليرى هل يجيبه بالصواب أو بالخطأ ،
وإنما منع سيبويه وغيره من التفضيل إذا كان الكلام خبرا لأن فيه مخالفة ، وأما إذا
كان استفهاما فذلك سائغ انتهى. وما ذكره يخالفه قوله :
فشركما لخيركما
الفداء
وقوله (السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَ) فإن هذا خبر. وكذلك قولهم : العسل أحلى من الخل إلّا إن
تقيد الخبر بأنه إذا كان واضحا الحكم فيه للسامع بحيث لا يختلج في ذهنه ولا يتردد
أيهما أفضل فإنه يجوز. وضمير (الَّتِي) محذوف أي وعدها وضمير (ما يَشاؤُنَ) كذلك أي ما يشاؤونه وفي قوله ما يشاؤونه دليل على أن حصول
المرادات بأسرها لا تكون إلّا في
__________________
الجنة. وشمل قوله (جَزاءً وَمَصِيراً) الثواب ومحله كما قال (نِعْمَ الثَّوابُ
وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) وفي ضده (بِئْسَ الشَّرابُ
وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) لأنه بطيب المكان يتضاعف النعيم ، كما أنه برداءته يتضاعف
العذاب (وَعْداً) أي موعودا (مَسْؤُلاً) سألته الملائكة في قولهم (رَبَّنا
وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) قاله محمد بن كعب والناس في قولهم (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى
رُسُلِكَ) (رَبَّنا آتِنا فِي
الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) وقال معناه ابن عباس وابن زيد.
وقال الفراء : (وَعْداً مَسْؤُلاً) أي واجبا يقال لأعطينك ألفا وعدا مسؤولا أي واجبا ، وإن لم
يسأل. قيل : وما قاله الفراء محال انتهى. وليس محالا إذ يكون المعنى أنه ينبغي أن
يسأل هذا الوعد الذي وعدته أو بصدد أن يسأل أي من حقه أن يكون مسؤولا. و (عَلى رَبِّكَ) أي بسبب الوعد صار لا بد منه. وقال الزمخشري : كان ذلك
موعودا واجبا على ربك إنجازه حقيقا أن يسأل. ويطلب لأنه جزاء وأجر مستحق ، وهذا
على مذهب المعتزلة.
وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ
أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا
سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ
وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً
بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً
وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩) وَما
أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ
الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ
وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠) وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ
__________________
يَرَوْنَ
الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً
مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً
مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ
مَقِيلاً (٢٤)
قرأ أبو جعفر
والأعرج وابن كثير وحفص (يَحْشُرُهُمْ) و (فَيَقُولُ) بالياء فيهما. وقرأ الحسن وطلحة وابن عامر بالنون فيهما.
وقرأ باقي السبعة في نحشرهم بالنون وفي (فَيَقُولُ) بالياء. وقرأ الأعرج (يَحْشُرُهُمْ) بكسر الشين. قال صاحب اللوامح في كل القرآن وهو القياس في
الأفعال المتعدية الثلاثية لأن يفعل بضم العين قد يكون من اللازم الذي هو فعل
بضمها في الماضي. وقال ابن عطية : وهي قليلة في الاستعمال قوية في القياس لأن يفعل
بكسر العين المتعدي أقيس من يفعل بضم العين انتهى. وهذا ليس كما ذكر ابل فعل
المتعدي الصحيح جميع حروفه إذا لم يكن للمبالغة ولا حلقى عين ولا لام فإنه جاء على
يفعل ويفعل كثيرا ، فإن شهر أحد الاستعمالين اتبع وإلّا فالخيار حتى إن بعض
أصحابنا خير فيهما سمعا للكلمة أو لم يسمعا.
(وَما يَعْبُدُونَ) قال الضحاك وعكرمة : الأصنام التي لا تعقل يقدرها الله على
هذه المقالة من الجواب. وقال الكلبي : يحيي الله الأصنام يومئذ لتكذيب عابديها.
وقال الجمهور : من عبد ممن يعقل ممن لم يأمر بعبادته كالملائكة وعيسى وعزير وهو
الأظهر كقوله (أَأَنْتُمْ
أَضْلَلْتُمْ) وما بعده من المحاورة التي ظاهرها أنها لا تصدر إلّا من
العقلاء ، وجاء ما يشبه ذلك منصوصا في قوله (ثُمَّ يَقُولُ
لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) (أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) وسؤاله تعالى وهو عالم بالمسئول عنه ليجيبوا بما أجابوا به
فيبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم فيزيد حسرتهم ويسر المؤمنون بحالهم ونجاتهم من فضيحة
أولئك ، وليكون حكاية ذلك في القرآن لطفا للمكلفين. وجاء الاستفهام مقدما فيه
الاسم على الفعل ولم يأت التركيب أأضللتم ولا أضلوا لأن كلا من الإضلال والضلال
واقع والسؤال إنما هو من فاعله. وتقدم نظير هذا في (أَأَنْتَ فَعَلْتَ
هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ) وقال الزمخشري : وفيه كسر بيّن لقول من يزعم أن الله يضل
عباده على الحقيقة حيث يقول للمعبودين من دونه (أَأَنْتُمْ
أَضْلَلْتُمْ) أم ضلوا
__________________
بأنفسهم فيتبرؤون
من ضلالهم ويستعيذون به أن يكونوا مضلين ويقولون : بل أنت تفضلت من غير سابقة على
هؤلاء وآبائهم تفضل جواد كريم ، فجعلوا الرحمة التي حقها أن تكون سبب الشكر سبب
الكفر ونسيان الذكر وكان ذلك سبب هلاكهم فإذا تبرأت الملائكة والرسل أنفسهم من
نسبة الضلال الذي هو عمل الشياطين إليهم واستعاذوا منهم فهم لربهم الغنى العدل أشد
تبرئة وتنزيها منه ، ولقد نزهوه حين أضافوا إليه التفضل بالنعمة والتمتيع بها.
وأسندوا نسيان الذكر والتسبب به للبوار إلى الكفرة فشرحا الإضلال المجازي الذي
أسنده الله إلى ذاته في قوله (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) ولو كان هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أن
يقولوا بل أنت أضللتم انتهى. وهو على طريقة المعتزلة.
والمعنى (أَأَنْتُمْ) أوقعتم هؤلاء ونسبتم لهم في إضلالهم عن الحق ، أم (ضَلُّوا) بأنفسهم عنه. ضل أصله أن يتعدى بعن كقوله (مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ) ثم اتسع فحذف ، وأضله عن السبيل كما أن هدى يتعدى بإلى ثم
يحذف ويضل مطاوع أضل كما تقول : أقعدته فقعد. و (سُبْحانَكَ) تنزيه لله تعالى أن يشرك معه في العبادة أحد أو يفرد
بعبادة فأنّى لهم أن يقع منهم إضلال أحد وهم المنزهون المقدسون ، أن يكون أحد منهم
ندا وهو المنزه عن الند والنظير.
وقال الزمخشري : (سُبْحانَكَ) تعجب منهم مما قيل لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون فما
أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه انتهى.
وقرأ علقمة ما
ينبغي بسقوط كان وقراءة الجمهور بثبوتها أمكن في المعنى لأنهم أخبروا عن حال كانت
في الدنيا ووقت الإخبار لا عمل فيه. وقرأ أبو عيسى الأسود القاري (يَنْبَغِي لَنا) مبنيا للمفعول. وقال ابن خالويه : زعم سيبويه أن ينبغي
لغة.
وقرأ الجمهور : (أَنْ نَتَّخِذَ) مبنيا للفاعل و (مِنْ أَوْلِياءَ) مفعول على زيادة (مِنْ) وحسن زيادتها انسحاب النفي على (نَتَّخِذَ) لأنه معمول لينبغي. وإذا انتفى الابتغاء لزم منه انتفاء
متعلقة وهو اتخاذ وليّ من دون الله. ونظيره (ما يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ
مِنْ خَيْرٍ) أي خير والمعنى ما كان يصح لنا ولا يستقيم ونحن معصومون أن
نتولى أحدا دونك ، فكيف يصح لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولونا دونك. وقال أبو مسلم
(ما كانَ يَنْبَغِي
لَنا) أن نكون أمثال الشياطين نريد الكفر فنتولى
__________________
الكفار قال (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ
الطَّاغُوتُ) . وقرأ أبو الدرداء وزيد بن ثابت وأبو رجاء ونصر بن علقمة
وزيد بن عليّ وأخوه الباقر ومكحول والحسن وأبو جعفر وحفص بن عبيد والنخعي والسلمي
وشيبة وأبو بشر والزعفراني أن يتخذ مبنيا للمفعول واتخذ مما يتعدى تارة لواحد
كقوله (أَمِ اتَّخَذُوا
آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ) وعليه قراءة الجمهور وتارة إلى اثنين كقوله (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) فقيل : هذه القراءة منه فالأول الضمير في (نَتَّخِذَ) والثاني (مِنْ أَوْلِياءَ) و (مِنْ) للتبعيض أي لا يتخذ بعض أولياء وهذا قول الزمخشري.
وقال ابن عطية :
ويضعف هذه القراءة دخول (مِنْ) في قوله (مِنْ أَوْلِياءَ) اعترض بذلك سعيد بن جبير وغيره. وقال أبو الفتح (مِنْ أَوْلِياءَ) في موضع الحال ودخلت (مِنْ) زيادة لمكان النفي المتقدم كما تقول : ما اتخذت زيدا من
وكيل. وقيل (مِنْ أَوْلِياءَ) هو الثاني على زيادة (مِنْ) وهذا لا يجوز عند أكثر النحويين إنما يجوز دخولها زائدة
على المفعول الأول بشرطه. وقرأ الحجاج أن نتخذ من دونك أولياء فبلغ عاصما فقال :
مقت المخدّج أو ما علم أن فيها (مِنْ) ولما تضمن قولهم (ما كانَ يَنْبَغِي
لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) أنّا لم نضلهم ولم نحملهم على الامتناع من الإيمان صلح أن
يستدرك بلكن ، والمعنى لكن أكثرت عليهم وعلى آبائهم النعم وأطلت أعمارهم وكان يجب
عليهم شكرها والإيمان بما جاءت به الرسل ، فكان ذلك سببا للإعراض عن ذكر الله. قيل
: ولكن متعتهم كالرمز إلى ما صرح به موسى من قوله (إِنْ هِيَ إِلَّا
فِتْنَتُكَ) أي أنت الذي أعطيتهم مطالبهم من الدنيا حتى صاروا غرقى في
بحر الشهوات فكان صارفا لهم عن التوجه إلى طاعتك والاشتغال بخدمتك و (الذِّكْرَ) ما ذكر به الناس على ألسنة الأنبياء أو الكتب المنزلة أو
القرآن. والبور : قيل مصدر يوصف به الواحد والجمع. وقيل : جمع بائر كعائذ وعوذ. قيل
: معناه هلكى. وقيل : فسدى وهي لغة الأزد يقولون : أمر بائر أي فاسد ، وبارت
البضاعة : فسدت. وقال الحسن : لا خير فيهم من قولهم أرض بور أي معطلة لا نبات
فيها. وقيل (بُوراً) عميا عن الحق.
(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) هذا من قول الله بلا خلاف وهي مفاجأة ، فالاحتجاج والإلزام
حسنة
__________________
رابعة وخاصة إذا
انضم إليها الالتفات وهو على إضمار القول كقوله (يا أَهْلَ الْكِتابِ) ـ إلى قوله ـ (فَقَدْ جاءَكُمْ) أي فقلنا قد جاءكم. وقول الشاعر :
قالوا خراسان
أقصى ما يراد بنا
|
|
ثم القفول فقد
جئنا خراسانا
|
أي فقلنا قد جئنا
وكذلك هذا أي فقلنا قد كذبوكم ، فإن كان المجيب الأصنام فالخطاب للكفار أي قد
كذبتكم معبوداتكم من الأصنام بقولهم (ما كانَ يَنْبَغِي
لَنا) وإن كان الخطاب للمعبودين من العقلاء عيسى والملائكة وعزير
عليهمالسلام ، وهو الظاهر لتناسق الخطاب مع قوله (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ) أي كذبكم المعبودون (بِما تَقُولُونَ) أي بقولهم إنكم أضللتموهم ، وزعمهم أنكم أولياؤهم من دون
الله. ومن قرأ (بِما تَقُولُونَ) بتاء الخطاب فالمعنى فيما تقولون أي (سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ
نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ). وقيل : الخطاب للكفار العابدين أي كذبكم المعبودون بما
تقولون من الجواب. (سُبْحانَكَ ما كانَ
يَنْبَغِي لَنا) أو فيما تقولون أنتم من الافتراء عليهم خوطبوا على جهة
التوبيخ والتقريع. وقيل : هو خطاب للمؤمنين في الدنيا أي قد كذبكم أيها المؤمنون
الكفار في الدنيا فيما تقولونه من التوحيد والشرع. وقرأ الجمهور (بِما تَقُولُونَ) بالتاء من فوق. وأبو حيوة وابن الصلت عن قنبل بالياء من
تحت.
وقرأ حفص وأبو
حيوة والأعمش وطلحة (فَما تَسْتَطِيعُونَ) بتاء الخطاب ، ويؤيد هذه القراءة أن الخطاب في (كَذَّبُوكُمْ) للكفار العابدين. وذكر عن ابن كثير وأبي بكر أنهما قرآ بما
يقولون فما يستطيعون بالياء فيهما أي هم. (صَرْفاً) أي صرف العذاب أو توبة أو حيلة من قولهم إنه ليتصرف أي
يحتال ، هذا إن كان الخطاب في (كَذَّبُوكُمْ) للكفار فالتاء جارية على ذلك ، والياء التفات وإن كان
للمعبودين فالتاء التفات. والياء جارية على ضمير (كَذَّبُوكُمْ) المرفوع وإن كان الخطاب للمؤمنين أمّة الرسول عليهالسلام في قوله (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) فالمعنى أنهم شديد والشكيمة في التكذيب (فَما تَسْتَطِيعُونَ) أنتم صرفهم عما هم عليه من ذلك. وبالياء فما يستطيعون (صَرْفاً) لأنفسهم عما هم عليه. أو ما يستطيعون صرفكم عن الحق الذي
أنتم عليه. (وَلا نَصْراً) لأنفسهم من البلاء الذي استوجبوه بتكذيبهم.
(وَمَنْ يَظْلِمْ
مِنْكُمْ) الظاهر أنه عام. وقيل : خطاب للمؤمنين. وقيل : خطاب
__________________
للكافرين. والظلم
هنا الشرك قاله ابن عباس والحسن وابن جريج ، ويحتمل دخول المعاصي غير الشرك في
الظلم. وقال الزمخشري : العذاب الكبير لاحق لكل من ظلم والكافر ظالم لقوله (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) والفاسق ظالم لقوله (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ
فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) انتهى وفيه دسيسة الاعتزال. وقرئ : يذقه بياء الغيبة أي
الله وهو الظاهر. وقيل : هو أي الظلم وهو المصدر المفهوم من قوله (يَظْلِمْ) أي يذقه الظلم.
ولما تقدم الطعن
على الرسول بأكل الطعام والمشي في الأسواق أخبر تعالى أنها عادة مستمرة في كل
رسالة ومفعول (أَرْسَلْنا) عند الزجاج والزمخشري ومن تبعهما محذوف تقديره أحدا. وقدره
ابن عطية رجالا أو رسلا. وعاد الضمير في (إِنَّهُمْ) على ذلك المحذوف كقوله (وَما مِنَّا إِلَّا
لَهُ مَقامٌ) أي وما منا أحد والجملة عند هؤلاء صفة أعني قوله (إِلَّا إِنَّهُمْ) كأنه قال إلّا آكلين وماشين. وعند الفراء المفعول محذوف
وهو موصول مقدر بعد إلّا أي إلّا من. (إِنَّهُمْ) والضمير عائد على (مِنَ) على معناها فيكون استثناء مفرغا وقيل : إنهم قبله قول
محذوف أي (إِلَّا) قيل (إِنَّهُمْ) وهذان القولان مرجوحان في العربية. وقال ابن الأنباري :
التقدير إلّا وإنهم يعنى أن الجملة حالية وهذا هو المختار. قد ردّ على من قال إن
ما بعد إلّا قد يجيء صفة وإما حذف الموصول فضعيف وقد ذهب إلى حكاية الحال أيضا أبو
البقاء قال : وقيل لو لم تكن اللام لكسرت لأن الجملة حالية إذ المعنى إلّا وهم
يأكلون. وقرئ أنهم بالفتح على زيادة اللام وإن مصدرية التقدير إلّا أنهم يأكلون أي
ما جعلناهم رسلا إلى الناس إلّا لكونهم مثلهم. وقرأ الجمهور : (وَيَمْشُونَ) مضارع مشى خفيفا. وقرأ عليّ وابن مسعود وعبد الرحمن بن عبد
الله (يَمْشُونَ) مشددا مبنيا للمفعول ، أي يمشيهم حوائجهم والناس. قال
الزمخشري : ولو قرئ (يَمْشُونَ) لكان أوجه لو لا الرواية انتهى. وقد قرأ كذلك أبو عبد
الرحمن السلمي مشدد مبنيا للفاعل ، وهي بمعنى (يَمْشُونَ) قراءة الجمهور. قال الشاعر :
ومشى بأعطان
المباءة وابتغى
|
|
قلائص منها صعبة
وركوب
|
(وَجَعَلْنا
بَعْضَكُمْ). قال ابن عطية : هو عام للمؤمن والكافر ، فالصحيح فتنة
للمريض ، والغني فتنة للفقير ، والفقير الشاكر فتنة للغني ، والرسول المخصوص
بكرامة النبوّة فتنة لأشراف الناس الكفار في عصره ، وكذلك العلماء وحكام العدل.
وقد تلا ابن القاسم هذه
__________________
الآية حين رأى
أشهب انتهى. وروي قريب من هذه عن ابن عباس والحسن. قال ابن عطية : والتوقيف
بأتصبرون خاص للمؤمنين المحقين فهو لأمّة محمد صلىاللهعليهوسلم ، كأنه جعل إمهال الكفار فتنة للمؤمنين أي اختبارا ثم
وقفهم. هل تصبرون أم لا؟ ثم أعرب قوله (وَكانَ رَبُّكَ
بَصِيراً) عن الوعد للصابرين والوعيد للعاصين.
وقال الزمخشري : (فِتْنَةً) أي محنة وبلاء ، وهذا تصبر لرسول الله صلىاللهعليهوسلم على ما قالوه واستبعدوه من أكله الطعام ومشيه في الأسواق
بعد ما احتج عليهم بسائر الرسل يقول : جرت عادتي وموجب حكمتي على ابتلاء بعضكم
أيها الناس ببعض. والمعنى أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم ومناصبتهم لهم العداوة
وأقاويلهم الخارجة عن حد الإنصاف وأنواع أذاهم ، وطلب منهم الصبر الجميل ونحوه (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) الآية وموقع (أَتَصْبِرُونَ) بعد ذكر الفتنة موقع أيكم بعد الابتلاء في قوله (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ
عَمَلاً) .
(بَصِيراً) عالما بالصواب فيما يبتلى به وبغيره فلا يضيقن صدرك ولا
تستخفنك أقاويلهم فإن في صبرك عليهم سعادة ، وفوزك في الدارين. وقيل : هو تسلية
عما عيروه به من الفقر حين قالوا (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ
كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ) وأنه جعل الأغنياء فتنة للفقراء لينظر هل تصبرون وأنها
حكمته ومشيئته يغني من يشاء ويفقر من يشاء. وقيل : جعلنا فتنة لهم لأنك لو كنت
غنيا صاحب كنوز وجنات لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا أو ممزوجة بالدنيا ،
وإنما بعثناك فقيرا لتكون طاعة من يطيعك منهم خالصة لوجه الله من غير طمع دنيوي.
وقيل : كان أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل ومن في طبقتهم يقولون إن
أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار وصهيب وبلال وفلان وفلان فرفعوا علينا إدلالا بالسابقة
فهو افتتان بعضهم ببعض انتهى. وفيه تكثير وهذا القول الأخير قول الكلبي والفراء
والزجاج. والأولى أن قوله (وَجَعَلْنا
بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) يشمل معاني هذه الألفاظ كلها لأن بين الجميع قدرا مشتركا.
وقيل : في قوله (أَتَصْبِرُونَ) أنه استفهام بمعنى الأمر أي اصبروا ، والظاهر حمل الرجاء
على المشهور من استعماله والمعنى لا يأملون لقاءنا بالخير وثوابنا على الطاعة
لتكذيبهم بالبعث لكفرهم بما جئت به. وقال أبو عبيدة وقوم : معناه لا يخافون. وقال
الفراء : لا يرجون نشورا لا يخافون ، وهذه الكلمة تهامية وهي أيضا من
__________________
لغة هذيل إذا كان
مع الرجاء جحد ذهبوا به إلى معنى الخوف. فتقول : فلان لا يرجو ربه يريدون لا يخاف
ربه ، ومن ذلك (ما لَكُمْ لا
تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) أي لا تخافون لله عظمة وإذا قالوا : فلان يرجو ربه فهذا
معنى الرجاء لا على الخوف. وقال الشاعر :
إذا لسعته النحل
لم يرج لسعها
|
|
وحالفها في بيت
نوب عوامل
|
وقال آخر :
لا ترجى حين
تلاقي الذائذا
|
|
أسبعة لاقت معا
أم واحدا
|
انتهى. ومن لازم
الرجاء للثواب الخوف من العقاب ، ومن كان مكذبا بالبعث لا يرجو ثوابا ولا يخاف
عقابا ومن تأول لم يرج لسعها على معنى لم يرج دفعها ولا الانفكاك عنها. فهو لذلك
يوطن على الصبر ويجد في شغله فتأويله ممكن لكن الفراء وغيره نقلوا ذلك لغة لهذيل
في النفي والشاعر هذلي ، فينبغي أن لا يتكلف للتأويل وأن يحمل على لغته.
(لَوْ لا أُنْزِلَ
عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) فتخبرنا أنك رسول حقا (أَوْ نَرى رَبَّنا) فيخبرنا بذلك قاله ابن جريج وغيره. وهذه كما قالت اليهود (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ
جَهْرَةً) وكقولهم أعني المشركين (أَوْ تَأْتِيَ
بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) وهذا كله في سبيل التعنت ، وإلّا فما جاءهم به من المعجزات
كاف لو وفقوا. (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا) أي تكبروا (فِي أَنْفُسِهِمْ) أي عظموا أنفسهم بسؤال رؤية الله ، وهم ليسوا بأهل لها.
والمعنى أن سؤال ذلك إنما هو لما أضمروا في أنفسهم من الاستكبار عن الحق وهو الكفر
والعناد الكامن في قلوبهم الظاهر عنه ما لا يقع لهم كما قال (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما
هُمْ بِبالِغِيهِ) واللام في لقد جواب قسم محذوف و (عَتَوْا) تجاوزوا الحد في الظلم ووصفه بكبير مبالغة في إفراطه أي لم
يجسروا على هذا القول العظيم إلّا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتو. وجاء
هنا (عَتَوْا) على الأصل وفي مريم (عِتِيًّا) على استثقال اجتماع الواوين والقلب لمناسبة الفواصل. قال
ابن عباس (عَتَوْا) كفروا أشد الكفر وأفحشوا. وقال عكرمة : تجبروا. وقال ابن
سلام : عصوا. وقال ابن عيسى : أسرفوا. قال الزمخشري : هذه الجملة في حسن استيفائها
غاية في أسلوبها. ونحوه قول القائل :
__________________
وجارة جساس
أبأنا بنابها
|
|
كليبا غلت ناب
كليب بواؤها
|
في نحو هذا الفعل
دليل على التعجب من غير لفظ تعجب ، ألا ترى أن المعنى ما أشدّ استكبارهم وما أكثر
عتوهم وما أغلى نابا بواؤها كليب.
(يَوْمَ يَرَوْنَ
الْمَلائِكَةَ يَوْمَ) منصوب باذكر وهو أقرب أو بفعل يدل عليه (لا بُشْرى) أي يمنعون البشرى ولا يعمل فيه (لا بُشْرى) لأنه مصدر ولأنه منفي بلا التي لنفي الجنس لأنه لا يعمل ما
بعدها فيما قبلها ، وكذا الداخلة على الأسماء عاملة عمل ليس ، ودخول (لا) على (بُشْرى) لانتفاء أنواع البشرى وهذا اليوم الظاهر أنه يوم القيامة
لقوله بعد (وَقَدِمْنا إِلى ما
عَمِلُوا) وعن ابن عباس : عند الموت والمعنى أن هؤلاء الذين اقترحوا
نزول الملائكة لا يعرفون ما يكون لهم إذا رأوهم من الشر وانتفاء البشارة وحصول
الخسار والمكروه. واحتمل (بُشْرى) أن يكون مبنيا مع (لا) واحتمل أن يكون في نية التنوين منصوب اللفظ ، ومنع من
الصرف للتأنيث اللازم فإن كان مبنيا مع (لا) احتمل أن يكون
الخبر (يَوْمَئِذٍ) و (لِلْمُجْرِمِينَ) خبر بعد خبر أو نعت لبشرى ، أو متعلق بما تعلق به الخبر ،
وأن يكون (يَوْمَئِذٍ) صفة لبشرى ، والخبر (لِلْمُجْرِمِينَ) ويجيء خلاف سيبويه والأخفش هل الخبر لنفس (لا) أو الخبر للمبتدأ الذي هو مجموع (لا) وما بني معها؟ وإن كان في نية التنوين وهو معرب جاز أن
يكون (يَوْمَئِذٍ) معمولا لبشرى ، وأن يكون صفة ، والخبر من الخبر. وأجاز أن
يكون (يَوْمَئِذٍ) و (لِلْمُجْرِمِينَ) خبر وجاز أن يكون (يَوْمَئِذٍ) خبرا و (لِلْمُجْرِمِينَ) صفة ، والخبر إذا كان الاسم ليس مبنيا لنفس لا بإجماع.
وقال الزمخشري : و
(يَوْمَئِذٍ) للتكرير وتبعه أبو البقاء ، ولا يجوز أن يكون تكريرا سواء
أريد به التوكيد اللفظي أم أريد به البلد ، لأن (يَوْمَ) منصوب بما تقدم ذكره من اذكر أو من يعدمون البشرى وما بعد (لا) العاملة في الاسم لا يعمل فيه ما قبلها وعلى تقديره يكون
العامل فيه ما قبل إلّا والظاهر عموم المجرمين فيندرج هؤلاء القائلون فيهم. قيل : ويجوز
أن يكون من وضع الظاهر موضع الضمير ، والظاهر أن الضمير في (وَيَقُولُونَ) عائد على القائلين لأن المحدث عنهم كانوا يطلبون نزول
الملائكة ، ثم إذا رأوهم كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم لأنهم لا يلقونهم إلّا بما
يكرهون فقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدو ونزول الشدة وقال معناه
مجاهد قال (حِجْراً) عواذا يستعيذون من الملائكة. وقال مجاهد وابن جريج : كانت
العرب إذا كرهت شيئا قالوا حجرا. وقال أبو عبيدة : هاتان
اللفظتان عوذة
للعرب يقولهما من خاف آخر في الحرم أو في شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة انتهى.
ومنه قول المتلمس :
حنت إلى النخلة
القصوى فقلت لها
|
|
حجر حرام ألا
تلك الدهاليس
|
أي هذا الذي حننت
إليه هو ممنوع ، وذكر سيبويه (حِجْراً) في المصادر المنصوبة غير المتصرفة. وقال بعض الرجاز :
قالت وفيها حيرة
وذعر
|
|
عوذ يرى منكم
وحجر
|
وأنه واجب إضمار
ناصبها. قال سيبويه : ويقول الرجل للرجل أتفعل كذا؟ فيقول حجرا وهي من حجره إذا
منعه لأن المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه لا يلحقه.
وقرأ أبو رجاء
والحسن والضحاك (حِجْراً) بضم الحاء. وقيل : الضمير في (وَيَقُولُونَ) عائد على الملائكة أي تقول الملائكة للمجرمين (حِجْراً مَحْجُوراً) عليكم البشرى و (مَحْجُوراً) صفة يؤكد معنى (حِجْراً) كما قالوا : موت مائت ، وذيل ذائل ، والقدوم الحقيقي
مستحيل في حق الله تعالى فهو عبارة عن حكمه بذلك وإنفاذه.
قيل : أو على حذف
مضاف أي قدمت ملائكتنا وأسند ذلك إليه لأنه عن أمره ، وحسنت لفظة (قَدِمْنا) لأن القادم على شيء مكروه لم يقرره ولا أمر به مغير له
ومذهب ، فمثلت حال هؤلاء وأعمالهم التي عملوها في كفرهم من صلة رحم وإغاثة ملهوف
وقرى ضيف ، ومنّ على أسير. وغير ذلك من مكارمهم بحال قوم خالفوا سلطانهم فقصد إلى
ما تحت أيديهم فمزقها بحيث لم يترك لها أثرا ، وفي أمثالهم أقل من الهباء و (مَنْثُوراً) صفة للهباء شبهه بالهباء لقلته وأنه لا ينتفع به ، ثم وصفه
بمنثورا لأن الهباء تراه منتظما مع الضوء فإذا حركته الريح رأيته قد تناثر وذهب.
وقال الزمخشري : أو جعله يعني (مَنْثُوراً) مفعولا ثالثا لجعلناه أي (فَجَعَلْناهُ) جامعا لحقارة الهباء والتناثر. كقوله (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) أي جامعين للمسخ والخسء انتهى. وخالف ابن درستويه فخالف
النحويين في منعه أن يكون لكان خبران وأزيد. وقياس قوله في جعل أن يمنع أن يكون
لها خبر ثالث.
وقال ابن عباس :
الهباء المنثور ما تسفي به الرياح وتبثه. وعنه أيضا : الهباء الماء المهراق
والمستقر مكان الاستقرار في أكثر الأوقات. والمقيل المكان الذي يأوون إليه في
__________________
الاسترواح إلى
الأزواج والتمتع ، ولا نوم في الجنة فسمي مكان استرواحهم إلى الحور (مَقِيلاً) على طريق التشبيه إذ المكان المتخير للقيلولة يكون أطيب
المواضع. وفي لفظ (أَحْسَنُ) رمز إلى ما يتزين به مقيلهم من حسن الوجوه وملاحة الصور
إلى غير ذلك من التحاسين. و (خَيْرٌ) قيل : ليست على بابها من استعمالها دلالة على الأفضلية
فيلزم من ذلك خير في مستقر أهل النار ، ويمكن إبقاؤها على بابها ويكون التفضيل وقع
بين المستقرين والمقيلين باعتبار الزمان الواقع ذلك فيه. فالمعنى (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) في الآخرة من الكفار المترفين في الدنيا (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) في الآخرة من أولئك في الدنيا. وقيل : (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) منهم لو كان لهم مستقر ، فيكون التقدير وجود مستقر لهم فيه
خير. وعن ابن مسعود وابن عباس والنخعي وابن جبير وابن جريج ومقاتل : إن الحساب
يكمل في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا ، ويقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في
النار.
وَيَوْمَ
تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ
عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي
اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ
فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي
وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩) وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ
قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ
نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً
كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا
يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣)
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً
وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤)
قرأ الحرميان وابن
عامر (تَشَقَّقُ) بإدغام التاء من تتشقق في الشين هنا. وفي ق وباقي السبعة
بحذف تلك التاء ويعني يوم القيامة كقوله (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ
بِهِ) . وقرأ
__________________
الجمهور : (وَنُزِّلَ) ماضيا مشددا مبنيا للمفعول ، وابن مسعود وأبو رجاء (وَنُزِّلَ) ماضيا مبنيا للفاعل. وعنه أيضا وأنزل مبنيا للفاعل وجاء
مصدره (تَنْزِيلاً) وقياسه إنزالا إلّا أنه لما كان معنى أنزل ونزّل واحدا جاز
مجيء مصدر أحدهما للآخر كما قال الشاعر :
حتى تطوّيت انطواء
الخصب
كأنه قال : حتى
انطويت. وقرأ الأعمش وعبد الله في نقل ابن عطية وأنزل ماضيا رباعيا مبنيا للمفعول
مضارعه ينزل. وقرأ جناح بن حبيش والخفاف عن أبي عمرو (وَنُزِّلَ) ثلاثيا مخففا مبنيا للفاعل ، وهارون عن أبي عمرو وتنزل
بالتاء من فوق مضارع نزل مشددا مبنيا للفاعل ، وأبو معاذ وخارجة عن أبي عمرو (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ) بضم النون وشد الزاي ، أسقط النون من وننزل وفي بعض
المصاحف وننزل بالنون مضارع نزل مشددا مبنيا للفاعل. ونسبها ابن عطية لابن كثير
وحده قال : وهي قراءة أهل مكة ورويت عن أبي عمرو. وعن أبيّ أيضا وتنزلت. وقرأ أبيّ
ونزلت ماضيا مشددا مبنيا للمفعول بتاء التأنيث. وقال صاحب اللوامح عن الخفاف عن
أبي عمرو : (وَنُزِّلَ) مخففا مبنيا للمفعول (الْمَلائِكَةُ) رفعا ، فإن صحت القراءة فإنه حذف منها المضاف وأقيم المضاف
إليه مقامه وتقديره : ونزل نزول الملائكة فحذف النزول ونقل إعرابه إلى (الْمَلائِكَةُ) بمعنى نزول نازل الملائكة لأن المصدر يكون بمعنى الاسم ،
وهذا مما يجيء على مذهب سيبويه في ترتيب اللازم للمفعول به لأن الفعل يدل على
مصدره انتهى.
وقال أبو الفتح :
وهذا غير معروف لأن (نُزِّلَ) لا يتعدى إلى مفعول فيبني هنا للملائكة ، ووجهه أن يكون
مثل زكم الرجل وجن فإنه لا يقال إلّا أزكمه الله وأجنه. وهذا باب سماع لا قياس
انتهى. فهذه إحدى عشرة قراءة. والظاهر أن الغمام هو السحاب المعهود. وقيل هو الله
في قوله (فِي ظُلَلٍ مِنَ
الْغَمامِ) . وقال ابن جريج : الغمام الذي يأتي الله فيه في الجنة
زعموا. وقال الحسن : سترة بين السماء والأرض تعرج الملائكة فيه تنسخ أعمال بني آدم
ليحاسبوا. وقيل : غمام أبيض رقيق مثل الضبابة ولم يكن لبني إسرائيل في تيههم ،
والظاهر أن (السَّماءُ) هي المظلة لنا. وقيل : تتشقق سماء سماء قاله مقاتل. والباء
باء الحال أي متغيمة أو باء السبب أي بسبب طلوع الغمام منه كأنه الذي تتشقق به
السماء كما تقول : شق السنام بالشفرة وانشق بها ونظيره قوله (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ)
__________________
أو بمعنى عن أقوال
ثلاثة. والفرق بين الباء السببية وعن أن انشق عن كذا تفتح عنه وانشق بكذا أنه هو
الشاق له.
(وَنُزِّلَ
الْمَلائِكَةُ) أي إلى الأرض لوقوع الجزاء والحساب. و (الْحَقُ) صفة للملك أي الثابت لأن كل ملك يومئذ يبطل ، ولا يبقى
إلّا ملكه تعالى وخبر (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ). و (لِلرَّحْمنِ) متعلق بالحق أو للبيان أعني (لِلرَّحْمنِ). وقيل : الخبر (لِلرَّحْمنِ) و (يَوْمَئِذٍ) معمول للملك. وقيل : الخبر (الْحَقُ) و (لِلرَّحْمنِ) متعلق به أو للبيان ، وعسر ذلك اليوم على الكافرين بدخولهم
النار وما في خلال ذلك من المخاوف. ودل قوله (عَلَى الْكافِرِينَ) على تيسيره على المؤمنين ففي الحديث أنه يهون حتى يكون على
المؤمن أخف عليه من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا والظاهر عموم الظالم إذ اللام فيه
للجنس قاله مجاهد وأبو رجاء ، وقالا : فلان هو كناية عن الشيطان.
وقال ابن عباس
وجماعة : (الظَّالِمُ) هنا عقبة بن أبي معيط إذ كان جنح إلى الإسلام وأبيّ بن خلف
هو المكنى عنه بفلان ، وكان بينهما مخالة فنهاه عن الإسلام فقبل منه. وعن ابن عباس
أيضا. عكس هذا القول. قيل وسبب نزولها هو عقبة وأبي. وقيل : كان عقبة خليلا لأمية
فأسلم عقبة فقال أمية : وجهي من وجهك حرام إن بايعت محمدا فكفر وارتد لرضا أمية
فنزلت قاله الشعبي. وذكر من إساءة عقبة على الرسول ما كان سبب أن قال له الرسول عليهالسلام : «لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف». فقتل
عقبة يوم بدر صبرا أمر عليا فضرب عنقه ، وقتل أبيّ بن خلف يوم أحد في المبارزة. والمقصود
ذكر هول يوم القيامة بتندم الظالم وتمنيه أنه لم يكن أطاع خليله الذي كان يأمره
بالظلم وما من ظالم إلا وله في الغالب خليل خاص به يعبر عنه بفلان. والظاهر أن
الظالم يعض على يديه فعل النادم المتفجع. وقال الضحاك : يأكل يديه إلى المرفق ثم
تنبت ، ولا يزال كذلك كلما أكلها نبتت. وقيل : هو مجاز عبر به عن التحير والغم
والندم والتفجع ونقل أئمة اللغة أن المتأسف المتحزن المتندم يعض على إبهامه ندما
وقال الشاعر :
لطمت خدها بحمر
لطاف
|
|
نلن منها عذاب
بيض عذاب
|
فتشكى العناب
نور إقاح
|
|
واشتكى الورد
ناضر العناب
|
وفي المثل : يأكل
يديه ندما ويسيل دمعه دما. وقال الزمخشري : عض الأنامل واليدين والسقوط في اليد
وأكل البنان وحرق الأسنان والإرم وفروعها كنايات عن الغيظ والحسرة لأنها من
روادفها فتذكر الرادفة. ويدل بها على المردوف فيرتفع الكلام به في طبقة
الفصاحة ، ويجد
السامع عنده في نفسه من الروعة والاستحسان ما لا يجد عند لفظ المكنى عنه انتهى. وقال
الشاعر في حرق الناب :
أبى الضيم
والنعمان يحرق نابه
|
|
عليه فأفضى
والسيوف معاقله
|
(يَقُولُ) في موضع الحال أي قائلا (يا لَيْتَنِي) فان كانت اللام للعهد فالمعنى أنه تمنى عقبة أن لو صحب
النبيّ صلىاللهعليهوسلم وسلك طريق الحق ، وإن كانت اللام للجنس فالمعنى أنه تمنى
سلوك طريق الرسول وهو الإيمان ، ويكون الرسول للجنس لأن كل ظالم قد كلف اتّباع ما
جاء به رسول من الله إلى أن جاءت الملة المحمدية فنسخت جميع الملل ، فلا يقبل بعد
مجيئه دين غير الذي جاء به. ثم ينادي بالويل والحسرة يقول (يا وَيْلَتى) أي يا هلكاه كقوله (يا حَسْرَتى عَلى ما
فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) . وقرأ الحسن وابن قطيب (يا لَيْتَنِي) بكسر التاء والياء ياء الإضافة وهو الأصل لأن الرجل ينادي
ويلته وهي هلكته يقول لها تعالى فهذا أوانك. وقرأت فرقة بالإمالة. قال أبو علي :
وترك الإمالة أحسن لأن هذه اللفظة الياء فبدلت الكسرة فتحة والياء ألفا فرارا من
الياء فمن أمال رجع إلى الذي عنه فر أولا. وفلان كناية عن العلم وهو متصرف. وقل
كناية عن نكرة الإنسان نحو : يا رجل وهو مختص بالنداء ، وفلة بمعنى يا امرأة كذلك
ولام قل ياء أو واو وليس مرخما من فلان خلافا للفراء. ووهم ابن عصفور وابن مالك
وصاحب البسيط في قولهم فل كناية عن العلم كفلان. وفي كتاب سيبويه ما قلناه بالنقل
عن العرب.
و (الذِّكْرِ) ذكر الله أو القرآن أو الموعظة ، والظاهر حمل الشيطان على
ظاهره لأنه هو الذي وسوس إليه في مخالة من أضله سماه شيطانا لأنه يضل كما يضل
الشيطان ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة. وتحتمل هذه الجملة أن تكون من تمام كلام
الظالم ، ويحتمل أن تكون إخبارا من كلام الله على جهة الدلالة على وجه ضلالهم
والتحذير من الشيطان الذي بلغهم ذلك المبلغ. وفي الحديث الصحيح تمثيل الجليس
الصالح بالمسك والجليس السوء بنافخ الكير. والظاهر أن دعاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم ربه وإخباره بهجر قومه قريش القرآن هو مما جرى له في
الدنيا بدليل إقباله عليه مسليا مؤانسا بقوله (وَكَذلِكَ جَعَلْنا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) وأنه هو الكافي في هدايته ونصره فهو وعد منه بالنصر وهذا
القول من الرسول وشكايته فيه تخويف لقومه. وقالت فرقة منهم أبو مسلم إنه قوله عليهالسلام في
__________________
الآخرة كقوله (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ
أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) والظاهر أن (مَهْجُوراً) بمعنى متروكا من الإيمان به مبعدا مقصيا من الهجر بفتح
الهاء. وقاله مجاهد والنخعي وأتباعه. وقيل : من الهجر والتقدير (مَهْجُوراً) فيه بمعنى أنه باطل. وأساطير الأولين أنهم إذا سمعوه هجروا
فيه كقوله (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) .
قال الزمخشري :
ويجوز أن يكون المهجور بمعنى الهجر كالملحود والمعقول ، والمعنى اتخذوه هجرا
والعدو يجوز أن يكون واحدا وجمعا انتهى.
وانتصب (هادِياً) و (نَصِيراً) على الحال أو على التمييز. وقالوا أي الكفار على سبيل
الاقتراح والاعتراض الدال على نفورهم عن الحق. قال الزمخشري : (نُزِّلَ) هاهنا بمعنى أنزل لا غير كخبر بمعنى أخبر وإلّا كان
متدافعا انتهى. وإنما قال أن (نُزِّلَ) بمعنى أنزل لأن نزل عنده أصلها أن تكون للتفريق ، فلو أقره
على أصله عنده من الدلالة على التفريق تدافع هو. وقوله (جُمْلَةً واحِدَةً) وقد قررنا أنا (نُزِّلَ) لا تقتضي التفريق لأن التضعيف فيه عندنا مرادف للهمزة. وقد
بيّنا ذلك في أول آل عمران وقائل ذلك كفار قريش قالوا : لو كان هذا من عند الله
لنزل جملة كما نزلت التوراة والإنجيل. وقيل : قائلو ذلك اليهود وهذا قول لا طائل
تحته لأن أمر الاحتجاج به والإعجاز لا يختلف بنزوله جملة واحدة أو مفرقا بل
الإعجاز في نزوله مفرقا أظهر إذ يطالبون بمعارضة سورة منه ، فلو نزل جملة واحدة
وطولبوا بمعارضته مثل ما نزل لكانوا أعجز منهم حين طولبوا بمعارضة سورة منه فعجزوا
والمشار إليه غير مذكور. فقيل : هو من كلام الكفار وأشاروا إلى التوراة والإنجيل
أي تنزيلا مثل تنزيل تلك الكتب الإلهية جملة واحدة ويبقى (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) تعليلا لمحذوف أي فرقناه في أوقات (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ). وقيل : هو مستأنف من كلام الله تعالى لا من كلامهم ، ولما
تضمن كلامهم معنى لم أنزل مفرقا أشير بقوله كذلك إلى التفريق أي (كَذلِكَ) أنزل مفرقا.
قال الزمخشري :
والحكمة فيه أن نقوي بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه لأن المتلقن إنما يقوى قلبه
على حفظ العلم شيئا بعد شيء ، وجزأ عقيب جزء ، ولو ألقي عليه جملة واحدة لكان يعيا
في حفظه والرسول عليهالسلام فارقت حاله حال داود وموسى وعيسى
__________________
عليهمالسلام حيث كان أميا لا يكتب وهم كانوا قارئين كاتبين ، فلم يكن
له بد من التلقن والتحفظ فأنزل عليه منجما في عشرين سنة. وقيل : في ثلاث وعشرين
سنة وأيضا فكان ينزل على حسب الحوادث وجواب السائلين ، ولأن بعضه منسوخ وبعضه ناسخ
، ولا يتأتى ذلك إلّا فيما أنزل مفرقا انتهى.
واللام في (لِنُثَبِّتَ بِهِ) لام العلة. وقال أبو حاتم : هي لام القسم والتقدير والله
ليثبتن فحذفت النون وكسرت اللام انتهى. وهذا قول في غاية الضعف وكان ينحو إلى مذهب
الأخفش أن جواب القسم يتلقى بلام كي وجعل منه ولتصغي إليه أفئدة وهو مذهب مرجوح.
وقرأ عبد الله ليثبت بالياء أي ليثبت الله (وَرَتَّلْناهُ) أي فصلناه. وقيل : بيناه. وقيل : فسرناه.
(وَلا يَأْتُونَكَ
بِمَثَلٍ) يضربونه على جهة المعارضة منهم كتمثيلهم في هذه بالتوراة
والإنجيل الإحاء القرآن بالحق في ذلك ثم هو أوضح بيانا وتفصيلا. وقال الزمخشري : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ) بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة كأنه مثل في البطلان إلّا
أتيناك نحن بالجواب الحق الذي لا محيد عنه وبما هو أحسن معنى ومؤدى من سؤالهم.
ولما كان التفسير هو الكشف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه فقالوا : تفسير هذا
الكلام كيت وكيت ، كما قيل معناه كذا أو (وَلا يَأْتُونَكَ) بحال وصفة عجيبة يقولون هلا كانت هذه صفتك وحالك نحو إن
يقرن بك ملك ينذر معك أو يلقى إليك كنز أو تكون لك جنة أو ينزل عليك القرآن جملة
إلّا أعطيناك ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه وما هو أحسن تكشيفا لما بعثت
عليه ودلالة على صحته انتهى. وقيل : (وَلا يَأْتُونَكَ) بشبهة في إبطال أمرك إلّا جئناك بالحق الذي يدحض شبهة أهل
الجهل ويبطل كلام أهل الزيغ ، والمفضل عليه محذوف أي (وَأَحْسَنَ
تَفْسِيراً) من مثلهم ومثلهم قولهم (لَوْ لا نُزِّلَ
عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً).
و (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ). قال الكرماني : متصل بقوله (أَصْحابُ الْجَنَّةِ
يَوْمَئِذٍ) الآية. قيل : ويجوز أن يكون متصلا بقوله (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ
عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) انتهى. والذي يظهر أنهم لما اعترضوا في حديث القرآن
وإنزاله مفرقا كان في ضمن كلامهم أنهم ذوو رشد وخير ، وأنهم على طريق مستقيم ولذلك
اعترضوا فأخبر تعالى بحالهم وما يؤول إليه أمرهم في الآخرة بكونهم (شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً) والظاهر أنه يحشر الكافر على وجهه بأن يسحب على وجهه. وفي
الحديث «إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن
يمشيهم على وجوههم».
وهذا قول الجمهور. وقيل : هو مجاز للذلة المفرطة والهوان والخزي. وقيل : هو من قول
العرب مر فلان على وجهه إذا لم يدر أين ذهب. ويقال : مضى على وجهه إذا أسرع متوجها
لقصده و (شَرٌّ) و (أَضَلُ) ليسيا على بابهما من الدلالة على التفضيل. وقوله (شَرٌّ مَكاناً) أي مستقرا وهو مقابل لقوله (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) ويحتمل أن يراد بالمكان المكانة والشرف لا المستقر.
وأعربوا (الَّذِينَ) مبتدأ والجملة من (أُوْلئِكَ) في موضع الخبر ويجوز عندي أن يكون (الَّذِينَ) خبر مبتدأ محذوف لما تقدم ذكر الكافرين وما قالوا قال
إبعادا لهم وتسميعا بما يؤول إليه حالهم هم (الَّذِينَ
يُحْشَرُونَ) ثم استأنف إخبارا أخبر عنهم فقال (أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً)
وَلَقَدْ
آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥)
فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ
تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ
وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً
(٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً
(٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ
يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠) وَإِذا رَأَوْكَ
إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١)
إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ
أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ
بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤)
لما تقدم تكذيب
قريش والكفار لما جاء به رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذكر تعالى ما فيه تسلية للرسول وإرهاب للمكذبين وتذكير لهم
أن يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة من هلاك الاستئصال لما كذبوا رسلهم ، فناسب أن
ذكر أولا من نزل عليه كتابه جملة واحدة ومع ذلك
كفروا وكذبوا به
فكذلك هؤلاء لو نزل عليه القرآن دفعة لكذبوا وكفروا كما كذب قوم موسى.
و (الْكِتابَ) هنا التوراة و (هارُونَ) بدل أو عطف بيان ، واحتمل أن يكون معه المفعول الثاني
لجعلنا. وأن يكون (وَزِيراً) والوزارة لا تنافي النبوة فقد كان في الزمان الواحد أنبياء
يوازر بعضهم بعضا ، والمذهوب إليهم القبط وفرعون. وفي الكلام حذف أي فذهبا وأديا
الرسالة فكذبوهما (فَدَمَّرْناهُمْ) والتدمير أشد الإهلاك وأصله كسر الشيء على وجه لا يمكن
إصلاحه. وقصة موسى ومن أرسل إليه ذكرت منتهية في غير ما موضع وهنا اختصرت فأوجز
بذكر أولها وآخرها لأنه بذلك يلزم الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم.
وقرأ عليّ والحسن
ومسلمة بن محارب : فدمراهم على الأمر لموسى وهارون ، وعن عليّ أيضا : كذلك إلّا
أنه مؤكد بالنون الشديدة. وعنه أيضا فدمرا أمرا لهما بهم بباء الجر ، ومعنى الأمر
كونا سبب تدميرهم.
وانتصب (وَقَوْمَ نُوحٍ) على الاشتغال وكان النصب أرجح لتقدم الجمل الفعلية قبل ذلك
، ويكون (لَمَّا) في هذا الإعراب ظرفا على مذهب الفارسي. وأما إن كانت حرف
وجوب لوجوب فالظاهر أن (أَغْرَقْناهُمْ) جواب لما فلا يفسر ناصبا لقوم فيكون معطوفا على المفعول في
(فَدَمَّرْناهُمْ) أو منصوبا على مضمر تقديره اذكر. وقد جوز الوجوه الثلاثة
الحوفي.
(لَمَّا كَذَّبُوا
الرُّسُلَ) كذبوا نوحا ومن قبله أو جعل تكذيبهم لنوح تكذيبا للجميع ،
أو لم يروا بعثه الرسل كالبراهمة والظاهر عطف (وَعاداً) على و (قَوْمَ). وقال أبو إسحاق : يكون معطوفا على الهاء والميم في (وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً). قال : ويجوز أن يكون معطوفا على (لِلظَّالِمِينَ) لأن التأويل وعدنا الظالمين بالعذاب ووعدنا (عاداً وَثَمُودَ). وقرأ عبد الله وعمرو بن ميمون والحسن وعيسى وثمود غير
مصروف. (وَأَصْحابَ الرَّسِ). قال ابن عباس : هم قوم ثمود ويبعده عطفه على ثمود لأن
العطف يقتضي التغاير. وقال قتادة : أهل قرية من اليمامة يقال لها الرس والفلج. قيل
: قتلوا نبيهم فهلكوا وهم بقية ثمود وقوم صالح. وقال كعب ومقاتل والسدّي بئر
بإنطاكية الشام قتل فيها صاحب ياسين وهو حبيب النجار. وقيل : قتلوا نبيهم ورسوه في
بئر أي دسوه فيه.
وقال وهب والكلبي (أَصْحابَ الرَّسِ) وأصحاب الأيكة قومان أرسل إليهما شعيب أرسل إلى أصحاب الرس
وكانوا قوما من عبدة الأصنام وأصحاب آبار ومواش ، فدعاهم إلى الإسلام فتمادوا في
طغيانهم وفي إيذائه فبينما هم حول الرس وهي البئر غير المطوية. وعن أبي عبيدة
انهارت بهم فخسف بهم وبدارهم. وقال عليّ فيما نقله الثعلبي : قوم عبدوا شجرة صنوبر
يقال لها شاه درخت رسوا نبيهم في بئر حفروه له في حديث طويل. وقيل : هم أصحاب
النبيّ صلىاللهعليهوسلم حنظلة بن صفوان كانوا مبتلين بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من
الطير ، سميت بذلك لطول عنقها وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فج وهي تنقض على
صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة ثم إنهم قتلوا
حنظلة فأهلكوا. وقيل : هم أصحاب الأخدود والرس هو الأخدود. وقال ابن عباس : الرس
بئر أذربيجان. وقيل : الرس ما بين نجران إلى اليمن إلى حضرموت. وقيل : قوم بعث
الله إليهم أنبياء فقتلوهم ورسوا عظامهم في بئر. وقيل : قوم بعث إليهم نبيّ
فأكلوه. وقيل : قوم نساؤهم سواحق. وقيل : الرس ماء ونخل لبني أسد. وقيل : الرس نهر
من بلاد المشرق بعث الله إليهم نبيا من أولاد يهوذا بن يعقوب فكذبوه فلبث فيهم
زمانا فشكا إلى الله منهم فحفروا له بئرا وأرسلوه فيها ، وقالوا : نرجو أن يرضى
عنا إلهنا فكانوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيهم ، فدعا بتعجيل قبض روحه فمات
وأضلتهم سحابة سوداء أذابتهم كما يذوب الرصاص.
وروى عكرمة ومحمد
بن كعب القرظي عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم «أن أهل الرس
أخذوا نبيهم فرسّوه في بئر وأطبقوا عليه صخرة فكان عبد أسود آمن به يجيء بطعام إلى
تلك البئر فيعينه الله على تلك الصخرة فيقلها فيعطيه ما يغذيه به. ثم يرد الصخرة ،
إلى أن ضرب الله يوما على أذن ذلك الأسود بالنوم أربع عشرة سنة وأخرج أهل القرية
نبيهم فآمنوا به». في حديث طويل. قال الطبري : فيمكن أنهم كفروا بعد ذلك فذكرهم
الله في هذه الآية وكثر الاختلاف في أصحاب الرس ، فلو صح ما نقله عكرمة ومحمد بن
كعب كان هو القول الذي لا يمكن خلافه وملخص هذه الأقوال أنهم قوم أهلكهم الله
بتكذيب من أرسل إليهم.
(وَقُرُوناً بَيْنَ
ذلِكَ) هذا إبهام لا يعلم حقيقة ذلك إلّا الله و (ذلِكَ) إشارة إلى أولئك المتقدمي الذكر فلذلك حسن دخول (بَيْنَ) عليه من غير أن يعطف عليه شيء كأنه قيل بين المذكورين وقد يذكر
الذاكر أشياء مختلفة. ثم يشير إليها. وانتصب (كُلًّا) الأول على الاشتغال أي وأنذرنا كلا أو حذرنا كلا والثاني
على أنه مفعول بتبرنا لأنه لم يأخذ مفعولا
وهذا من واضح
الإعراب. ومعنى ضرب الأمثال أي بيّن لهم القصص العجيبة من قصص الأولين ووصفنا لهم
ما أدى إليه تكذيبهم بأنبيائهم من عذاب الله وتدميره إياهم ليهتدوا بضرب الأمثال
فلم يهتدوا وأبعد من جعل الضمير في (لَهُ) لرسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : والمعنى وكل الأمثال ضربنا للرسول وعلى هذا و (كُلًّا) منصوب بضربنا و (الْأَمْثالَ) بدل من (كُلًّا). والضمير في (وَلَقَدْ أَتَوْا) لقريش كانوا يمرون على سدوم من قرى قوم لوط في متاجرهم إلى
الشام ، وكانت قرى خمسة أهلك الله منها أربعا وبقيت واحدة وهي زغر لم يكن أهلها
يعملون ذلك العمل قاله ابن عباس و (مَطَرَ السَّوْءِ) الحجارة التي أمطرت عليهم من السماء فهلكوا. وكان إبراهيم عليهالسلام ينادي نصيحة لكم : يا سدوم يوم لكم من الله عزوجل أنهاكم أن تتعرضوا للعقوبة من الله ، ومعنى (أَتَوْا) مروا فلذلك عداه بعلى. وأفرد لفظ القرية وإن كانت قرى لأن
سدوم هي أم تلك القرى وأعظمها.
وقال مكي : الضمير
في (أَتَوْا) عائد على الذين اتخذوا القرآن مهجورا انتهى. وهم قريش
وانتصب (مَطَرَ) على أنه مفعول ثان لأمطرت على معنى أوليت ، أو على أنه
مصدر محذوف الزوائد أي إمطار السوء. (أَفَلَمْ يَكُونُوا
يَرَوْنَها) أي ينظرون إلى ما فيها من العبر والآثار الدالة على ما حل
بها من النقم كما قال (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ
عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ) . وقال (وَإِنَّهُما
لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) وهو استفهام معناه التعجب ومع ذلك فلم يعتبروا برؤيتها أن
يحل بهم في الدنيا ما حل بأولئك ، بل كانوا كفرة لا يؤمنون بالبعث فلم يتوقعوا
عذاب الآخرة وضع الرجاء موضع التوقع لأنه إنما بتوقع العاقبة من يؤمن ، فمن ثم لم
ينظروا ولم يتفكروا ومروا بها كما مرت ركابهم ، أو لا يأملون (نُشُوراً) كما يأمله المؤمنون لطمعهم إلى ثواب أعمالهم أو لا يخافون
على اللغة التهامية. وقرأ زيد بن عليّ مصرت ثلاثي مبنيا للمفعول ومطر متعد. قال الشاعر
:
كمن بواديه بعد
المحل ممطور
وقرأ أبو السماك (مَطَرَ السَّوْءِ) بضم السين.
(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ
يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) لم يقتصر المشركون على إنكار نبوة الرسول عليه الصلاة
والسلام وترك الإيمان به ، بل زادوا على ذلك بالاستهزاء والاحتقار. حتى يقول بعضهم
لبعض (أَهذَا الَّذِي
بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) و (إِنْ) نافية جواب (إِذا) وانفردت (إِذا)
__________________
بأنه إذا كان
جوابها منفيا بما أو بلا لا تدخله الفاء بخلاف أدوات الشرط غيرها فلا بد من الفاء
مع ما ومع لا إذا ارتفع المضارع ، فلو وقعت إن النافية في جواب غير إذا فلا بد من
الفاء كما النافية ومعنى (هُزُواً) موضع هزء أو مهزوا به (أَهذَا) قبله قول محذوف أي يقولون وقال : جواب (إِذا) ما أضمر من القول أي (وَإِذا رَأَوْكَ) قالوا (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ
اللهُ رَسُولاً) و (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) جملة اعتراضية بين (إِذا) وجوابها.
قيل : ونزلت في
أبي جهل كان إذا رأى الرسول عليه الصلاة والسلام قال : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً)؟ وأخبر بلفظ الجمع تعظيما لقبح صنعه أو لكون جماعة معه
قالوا ذلك : والظاهر أن قائل ذلك جماعة كثيرة وهذا الاستفهام استصغار واحتقار منهم
أخرجوه بقولهم بعث الله رسولا في معرض التسليم والإقرار وهم على غاية الجحود
والإنكار سخرية واستهزاء ، ولو لم يستهزئوا لقالوا هذا زعم أو ادعى أنه مبعوث من
عند الله رسولا.
وقولهم (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا) دليل على فرط مجاهدة رسول الله صلىاللهعليهوسلم في دعوتهم ، وبذله قصارى الوسع والطاقة في استعطافهم مع
عرض الآيات والمعجزات حتى شارفوا بزعمهم أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام لو لا
فرط لجاجهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم. و (لَوْ لا) في مثل هذا الكلام جار من حيث المعنى لا من حيث اللفظ مجرى
التقييد للحكم المطلق قاله الزمخشري. وقال أبو عبد الله الرازي : الاستهزاء إما
بالصورة فكان أحسن منهم خلقة أو بالصفة فلا يمكن لأن الصفة التي تميز بها عنهم
ظهور المعجز عليه دونهم ، وما قدروا على القدح في حجته ففي الحقيقة هم الذين
يستحقون أن يهزأ بهم ثم لوقاحتهم قلبوا القصة واستهزؤوا بالرسول عليه الصلاة
والسلام انتهى. قيل : وتدل الآية على أنهم صاروا في ظهور حجته عليه الصلاة والسلام
عليهم كالمجانين استهزءوا به أولا ثم إنهم وصفوه بأنه (كادَ لَيُضِلُّنا) عن مذهبنا (لَوْ لا) أنا قابلناه بالجمود والإصرار. فهذا يدل على أنهم سلموا له
قوة الحجة وكمال العقل ، فكونهم جمعوا بين الاستهزاء به وبين هذه الكيدودة دل على
أنهم كانوا كالمتحيرين في أمره تارة يستهزئون منه وتارة يصفونه بما لا يليق إلّا
بالعالم الكامل.
(وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طالت مدة الإمهال فلا
بد للوعيد أن يلحقهم فلا يغرنهم التأخير ، ولما قالوا (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا) جاء قوله (مَنْ أَضَلُّ
سَبِيلاً) أي سيظهر لهم من المضل ومن الضال بمشاهدة العذاب الذي لا
مخلص لهم منه. والظاهر أن من استفهامية وأضل خبره والجملة في موضع مفعول (يَعْلَمُونَ) إن كانت
متعدية إلى واحد
أو في موضع مفعولين إن كانت تعدت إلى اثنين ، ويجوز أن تكون (مَنْ) موصولة مفعولة بيعلمون و (أَضَلُ) خبر مبتدأ محذوف أي هو أضل ، وصار حذف هذا المضمر
للاستطالة التي حصلت في قول العرب ما أنا بالذي قائل لك سواء.
(أَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) هذا يأس عن إيمانهم وإشارة إليه عليهالسلام أن لا يتأسف عليهم ، وإعلام أنهم في الجهل بالمنافع وقلة
النظر في العواقب مثل البهائم ثم ذكر أنهم (أَضَلُّ سَبِيلاً) من الأنعام من حيث لهم فهم وتركوا استعماله فيما يخلصهم من
عذاب الله. والأنعام لا سبيل لها إلى فهم المصالح. و (أَرَأَيْتَ) استفهام تعجب من جهل من هذه حاله و (إِلهَهُ) المفعول الأول لاتخذ ، و (هَواهُ) الثاني أي أقام مقام الإله الذي يعبده هواه فهو جار على ما
يكون في (هَواهُ) والمعنى أنه لم يتخذ إلها إلّا هواه وادعاء القلب ليس بجيد
إذ يقدره من اتخذ هواه إلهه والبيت من ضرائر الشعر ونادر الكلام فينزه كلام الله
عنه كان الرجل يعبد الصنم فإذا رأى أحسن منه رماه وأخذ الأحسن.
قيل : نزلت في
الحارث بن قيس السهمي ، كان إذا هوى شيئا عبده ، والهوى ميل القلب إلى الشيء أفأنت
تجبره على ترك هواه ، أو أفأنت تحفظه من عظيم جهله. وقرأ بعض أهل المدينة من اتخذ
آلهة منونة على الجمع ، وفيه تقديم جعل هواه أنواعا أسماء لأجناس مختلفة فجعل كل
جنس من هواه إلها آخر. وقرأ ابن هرمز : إلاهة على وزن فعالة وفيه أيضا تقديم أي
هواه إلاهة بمعنى معبود لأنها بمعنى المألوهة. فالهاء فيها للمبالغة فلذلك صرفت.
وقيل : بل الإلاهة الشمس ويقال لها ألاهة بضم الهمزة وهي غير مصروفة للعلمية
والتأنيث لكنها لما كانت مما يدخلها لام المعرفة في بعض اللغات صارت بمنزلة ما كان
فيه اللام ثم نزعت فلذلك صرفت وصارت بمنزلة النعوت فتنكرت قاله صاحب اللوامح.
ومفعول (أَرَأَيْتَ) الأول هو (مَنِ) والجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني. وتقدم الكلام
في (أَرَأَيْتَ) في أوائل الأنعام ومعنى (وَكِيلاً) أي هل تستطيع أن تدعو إلى الهدى فتتوكل عليه وتجبره على
الإسلام. و (أَمْ) منقطعة تتقدّر ببل والهمزة على المذهب الصحيح كأنه قال :
بل أتحسب كان هذه المذمّة أشد من التي تقدمتها حتى حفت بالإضراب عنها إليها وهو
كونهم مسلوبي الأسماع والعقول لأنهم لا يلقون إلى استماع الحق أذنا إلى تدبره عقلا
، ومشبهين بالأنعام التي هي مثل في الغفلة والضلالة ، ونفى ذلك عن أكثرهم لأن فيهم
من سبقت له السعادة فأسلم ، وجعلوا أضل من الأنعام لأنها تنقاد لأربابها وتعرف من
يحسن إليها ممن يسيء إليها وتطلب منفعتها وتتجنب مضرّتها وتهتدي إلى
مراعيها ومشاربها
، وهم لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم ولا يرغبون في الثواب الذي هو
أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار ولا يهتدون للحق
أَلَمْ
تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ
جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً
يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ
سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ
بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨)
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً
وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى
أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ
قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً
كَبِيراً (٥٢) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا
مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ
الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ
قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا
يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ
إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ
إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى
الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ
خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ
خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ
أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠)
لما بيّن تعالى
جهل المعترضين على دلائل الصانع وفساد طريقتهم ذكر أنواعا من الدلائل الواضحة التي
تدل على قدرته التامة لعلهم يتدبرونها ويؤمنون بمن هذه قدرته وتصرفه في عالمه ،
فبدأ بحال الظل في زيادته ونقصانه وتغيره من حال إلى حال وأن ذلك جار على مشيئته.
وتقدم الكلام على (أَلَمْ تَرَ) في البقرة في قصة الذي حاجّ إبراهيم. والمعنى (أَلَمْ تَرَ إِلى) صنع (رَبِّكَ) وقدرته. و (كَيْفَ) سؤال عن حال في موضع نصب
بمد. والجملة في
موضع متعلق (أَلَمْ تَرَ) لأن (تَرَ) معلقة والجملة الاستفهامية التي هي معلق عنها فعل القلب
ليس باقي على حقيقة الاستفهام. فالمعنى ألم تر إلى مدّ ربك الظل.
وقال الجمهور : (الظِّلَ) هنا من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس مثل ظل الجنة ظل ممدود
لا شمس فيه ولا ظلمة. واعترض بأنه في غير النهار بل في بقايا الليل ولا يسمى ظلا.
وقيل : (الظِّلَ) الليل لا ظل الأرض وهو يغمر الدنيا كلها. وقيل : من غيبوبة
الشمس إلى طلوعها وهذا هو القول الذي قبله ولكن أورده كذا. وقيل : ظلال الأشياء
كلها كقوله (أَوَلَمْ يَرَوْا
إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) . وقال أبو عبيدة : (الظِّلَ) بالغداة والفيء بالعشي. وقال ابن السكيت : (الظِّلَ) ما نسخته الشمس والفيء ما نسخ الشمس. وقيل : ما لم تكن
عليه الشمس ظل وما كانت عليه فزالت فيء.
(وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ
ساكِناً) قال ابن عباس وقتادة وابن زيد : كظل الجنة الذي لا شمس
تذهبه. وقال مجاهد : لا تصيبه الشمس ولا تزول. وقال الحسن : (لَوْ شاءَ) لتركه ظلا كما هو. وقيل : لأدامه أبدا بمنع طلوع الشمس بعد
غيبوبتها ، فلما طلعت الشمس دلت على زوال الظل وبدا فيه النقصان فبطلوع الشمس يبدو
النقصان في الظل ، وبغروبها تبدو الزيادة في الظل فبالشمس استدل أهل الأرض على
الظل وزيادته ونقصه ، وكلما علت الشمس نقص الظل ، وكلما دنت للغروب زاد وهو قوله (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً
يَسِيراً) يعني في وقت علو الشمس بالنهار ينقص الظل نقصانا يسيرا بعد
يسير وكذلك زيادته بعد نصف النهار يزيد يسيرا بعد يسير حتى يعم الأرض. كلها فأما
زوال الظل كله فإنما يكون في البلدان المتوسطة في وقت.
وقال الزمخشري :
ومعنى (مَدَّ الظِّلَ) أن جعله يمتد وينبسط فينتفع به الناس. (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي لاصقا بأصل كل مظل من جبل وبناء وشجر وغير منبسط فلم
ينتفع به أحد ، سمي انبساط الظل وامتداده تحركا منه وعدم ذلك سكونا ومعنى كون
الشمس دليلا أن الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها في مسيرها على أحوال الظل من كونه
ثابتا في مكان وزائلا ومتسعا ومتقلصا فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه على
حسب ذلك. وقبضه إليه أن ينسخه بظل الشمس (يَسِيراً) أي على مهل وفي هذا القبض اليسير شيئا
__________________
بعد شيء من
المنافع ما لا يعد ولا يحصى ، ولو قبض دفعة لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس
جميعا فإن قلت : ثم في هذين الموضعين كيف موقعها؟ قلت : موقعها البيان تفاضل
الأمور الثلاثة كأن الثاني أعظم من الأول ، والثالث أعظم من الثاني تشبيها لتباعد
ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت. ووجه آخر وهو أنه بنى الظل
حين بنى السماء كالقبة المضروبة ودحا الأرض تحتها فألقت القبة ظلها على الأرض لعدم
النير.
(وَلَوْ شاءَ
لَجَعَلَهُ ساكِناً) مستقرا على تلك الحالة ثم خلق الشمس وجعله على ذلك الظل
سلطها عليه وجعلها دليلا متبوعا لهم كما يتبع الدليل في الطريق فهو يزيد بها وينقص
ويمتد ويقلص ، ثم نسخه بها قبضه قبضا سهلا يسيرا غير عسير ، ويحتمل أن يريد قبضه
عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام التي تلقي الظل فيكون قد ذكر إعدامه
بإعدام أسبابه ، كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه وقوله (قَبَضْناهُ إِلَيْنا) يدل عليه وكذلك قوله (يَسِيراً) كما قال (ذلِكَ حَشْرٌ
عَلَيْنا يَسِيرٌ) انتهى وقوله : سمى انبساط الظل وامتداده تحركا منه لم يسم
الله ذلك إنما قال كيف مد الظل وقوله : ويحتمل أن يريد قبضه عند قيامه الساعة فهذا
يبعد احتماله لأنه إنما ذكر آثار صنعته وقدرته لتشاهد ثم قال (مَدَّ الظِّلَ) وعطف عليه ماضيا مثله فيبعد أن يكون التقدير ثم قبضه عند
قيام الساعة مع ظهور كونه ماضيا مستداما أمثاله.
وقال ابن عطية : (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي ثابتا غير متحرك ولا منسوخ ، لكنه جعل الشمس ونسخها
إياه بطردها له من موضع إلى موضع دليلا عليه مبينا لوجوده ولوجه العبرة فيه. وحكى
الطبري : أنه لو لا الشمس لم يعلم أن الظل شيء إذ الأشياء إنما تعرف بأضدادها.
وقال ابن عباس : (يَسِيراً) معجلا. وقال مجاهد لطيفا أي شيئا بعد شيء ، ويحتمل أن يريد
سهلا قريب التناول. وقال أبو عبد الله الرازي : أكثر الناس في تأويل هذه الآية
ويرفع الكلام فيها إلى وجهين.
الأول : أن الظل
لا ضوء خالص ولا ظلمة خالصة ، وهو ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس وكذلك الكيفيات
الحاصلة داخل السقف وأبنية الجدارات ، وهي أطيب الأحوال لأن الظلمة الخالصة يكرهها
الطبع وينفر عنها الحس والضوء الخالص يحير الحس البصري
__________________
ويحدث السخونة
القوية وهي مؤذية ، ولهذا قيل في الجنة (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) والناظر إلى الجسم الملون كأنه يشاهد بالظل شيئا سوى الجسم
وسوى اللون والظل ليس أمرا ثالثا ولا معرفة به إلّا إذا طلعت الشمس ووقع ضوءها على
الجسم ثم مال عرف للظل وجود وماهية ، ولولاها ما عرف لأن الأشياء تدرك بأضدادها ،
فظهر للعقل أن الظل كيفية زائدة على الجسم واللون ولذلك قال (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ
دَلِيلاً) أي جعلنا الظل أولا بما فيه من المنافع واللذات ، ثم هدينا
العقول إلى معرفة وجوده بأن أطلعنا الشمس فكانت دليلا على وجود الظل. (ثُمَّ قَبَضْناهُ) أي أزلناه لا دفعة بل (يَسِيراً) يسيرا كلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الظل من جانب
المغرب ، ولما كانت الحركات المكانية لا توجد دفعة بل يسيرا يسيرا كان زوال
الأظلال كذلك.
والثاني : أنه لما
خلق السماء والأرض وقع السماء على الأرض فجعل الشمس دليلا لأنه بحسب حركات الأضواء
تتحرك الأظلال فهما متعاقبان متلازمان لا واسطة بينهما ، فبمقدار ما يزداد أحدهما
ينقص الآخر ، فكما أن المهتدي يقتدي بالهادي والدليل ويلازمه فكذلك الأظلال ملازمة
للأضواء ، ولذلك جعل الشمس دليلا عليه انتهى. ملخصا وهو مأخوذ من كلام الزمخشري ،
ومحسن بعض تحسين. والآية في غاية الظهور ولا تحتاج إلى هذا التكثير.
وقال أيضا : (الظِّلَ) ليس عدما محضا بل هو أضواء مخلوطة بظلام ، فهو أمر وجودي
وفي تحقيقه دقيق يرجع فيه إلى الكتب العقلية انتهى. والآية في غاية الوضوح ولا
تحتاج إلى هذا التكثير وقد تركت أشياء من كلام المفسرين مما لا تمس إليه الحاجة. (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) تشبيها بالثوب الذي يغطي البدن ويستره من حيث الليل يستر
الأشياء.
والسبات : ضرب من
الإغماء يعتري اليقظان مرضا فشبه النوم به ، والسبت الإقامة في المكان فكان السبات
سكونا تاما والنشور هنا الإحياء شبه اليقظة به ليتطابق الإحياء مع الإماتة اللذين
يتضمنهما النوم والسبات انتهى. ومن كلام ابن عطية وقال غيره : السبات الراحة جعل (النَّوْمَ سُباتاً) أي سبب راحة.
وقال الزمخشري :
السبات الموت وهو كقوله (وَهُوَ الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) فإن قلت : هلا فسرته بالراحة؟ قلت : النشور في مقابلته
يأباه انتهى. ولا يأباه إلّا لو تعين تفسير
__________________
النشور بالحياة.
وقال أبو مسلم (نُشُوراً) هو بمعنى الانتشار والحركة. وقال ابن عطية : ويحتمل أن
يريد بالنشور وقت انتشار وتفرق لطلب المعاش وابتغاء فضل الله. و (النَّهارَ نُشُوراً) وما قبله من باب ليل نائم ونهار صائم ، وهذه الآية مع
دلالتها على قدرة الخالق فيها إظهار لنعمته على خلقه ، لأن الاحتجاب بستر الليل كم
فيه لكثير من الناس فوائد دينية ودنيوية. وقال الشاعر :
وكم لظلام الليل
عندي من يد
|
|
تخبر أن
المانوية تكذب
|
والنوم واليقظة
وشبههما بالموت والحياة أي عبرة فيهما لمن اعتبر. وعن لقمان أنه قال لابنه : يا
بني كما تنام فتوقظ فكذلك تموت فتنشر.
وتقدم الخلاف في
قراءة الريح بالإفراد والجمع في البقرة. قال ابن عطية : وقراءة الجمع أوجه لأن عرف
الريح متى وردت في القرآن مفردة فإنما هي للعذاب ، ومتى كانت للمطر والرحمة فإنما
هي رياح لأن ريح المطر تتشعب وتتداءب وتتفرّق وتأتي لينة ومن هاهنا وهاهنا وشيئا
اثر شيء ، وريح العذاب خرجت لا تتداءب وإنما تأتي جسدا واحدا. ألا ترى أنها تحطم
ما تجد وتهدمه. قال الرماني : جمعت رياح الرحمة لأنها ثلاثة لواقح : الجنوب ،
والصبا ، والشمال. وأفردت ريح العذاب لأنها واحدة لا تلقح وهي الدبور. قال ـ أي ابن
عطية ـ : يرد هذا قول النبيّ صلىاللهعليهوسلم : إذا هبت الريح : «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» انتهى.
ولا يسوغ أن يقال : هذه القراءة أوجه لأنه كلا من القراءتين متواتر والألف واللام
في الريح للجنس فتعم ، وما ذكر من أن قول الرماني يرده الحديث فلا يظهر لأنه يجوز
أن يريد بقوله عليهالسلام : «رياحا». الثلاثة اللواقح وبقوله «ولا تجعلها ريحا» الدبور.
فيكون ما قاله الرماني مطابقا للحديث على هذا المفهوم.
وتقدم الخلاف في
قراءة (نَشْراً) وفي مدلوله في الأعراف (بَيْنَ يَدَيْ
رَحْمَتِهِ) استعارة حسنة أي قدام المطر لأنه يجيء معلما به. والطهور
فعول إما للمبالغة كنؤوم فهو معدول عن طاهر ، وإما أن يكون اسما لما يتطهر به
كالسحور والفطور ، وإما مصدر لتطهر جاء على غير المصدر حكاه سيبويه. والظاهر في
قوله (ماءً طَهُوراً) أن يكون للمبالغة في طهارته وجهة المبالغة كونه لم يشبه
شيء بخلاف ما نبع من الأرض ونحوه فإنه تشوبه أجزاء أرضية من مقره أو ممره أو مما
يطرح فيه ، ويجوز أن يوصف بالاسم وبالمصدر. وقال ثعلب : هو ما كان طاهرا في نفسه
مطهرا لغيره ، فإن كان ما قاله شرحا لمبالغته في الطهارة
كان سديدا ويعضده (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ
ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) وإلّا ففعول لا يكون بمعنى مفعل ، ومن استعمال طهور
للمبالغة قوله تعالى (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ
شَراباً طَهُوراً) . وقال الشاعر :
إلى رجح الأكفال
غيد من الظبا
|
|
عذاب الثنايا
ريقهنّ طهور
|
وقرأ عيسى وأبو
جعفر (مَيْتاً) بالتشديد ووصف بلده بصفة المذكر لأن البلدة تكون في معنى
البلد في قوله (فَسُقْناهُ إِلى
بَلَدٍ مَيِّتٍ) ورجح الجمهور التخفيف لأنه يماثل فعلا من المصادر ، فكما
وصف المذكر والمؤنث بالمصدر فكذلك بما أشبهه بخلاف المشدد فإنه يماثل فاعلا من حيث
قبوله للثاء إلّا فيما خص المؤنث نحو طامث. وقرأ عبد الله وأبو حيوة وابن أبي عبلة
والأعمش وعاصم وأبو عمرو في رواية عنهما (وَنُسْقِيَهُ) بفتح النون ورويت عن عمر بن الخطاب. وقرأ يحيى بن الحارث
الذماري (وَأَناسِيَ) بتخفيف الياء. ورويت عن الكسائي (وَأَناسِيَ) جمع إنسان في مذهب سيبويه. وجمع أنسي في مذهب الفراء
والمبرد والزجاج ، والقياس أناسيه كما قالوا في مهلبي مهالبة. وحكي أناسين في جمع
إنسان كسرحان وسراحين ، ووصف الماء بالطهارة وعلل إنزاله بالإحياء والسقي لأنه لما
كان الأناسي من جملة ما أنزل له الماء وصف بالطهور وإكراما له وتتميما للنعمة عليه
، والتعليل يقتضي أن الطهارة شرط في صحة ذلك كما تقول : حملني الأمير على فرس جواد
لأصيد عليه الوحش. وقدم إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي لأن حياتهم
بحياة أرضهم وحياة أنعامهم ، فقدم ما هو السبب في ذلك ولأنهم إذا وجدوا ما يسقي
أرضهم ومواشيهم وجدوا سقياهم. ونكر الأنعام والأناسي ووصفا بالكثرة لأن كثيرا منهم
لا يعيشهم إلا ما أنزل الله من المطر ، وكذلك (لِنُحْيِيَ بِهِ
بَلْدَةً مَيْتاً) يريد بعض بلاد هؤلاء المتباعدين عن مظانّ الماء بخلاف سكان
المدن فإنهم قريبون من الأودية والأنهار والعيون فهم غنيون غالبا عن سقي ماء المطر
، وخص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان الشارب لأن الطيور والوحش تبعد في طلب
الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام فإنها قنية الأناسي ومنافعهم متعلقة بها
فكان الإنعام عليهم بسقي أنعامهم كالإنعام بسقيهم.
والضمير في (صَرَّفْناهُ) عائد على الماء المنزل من السماء ، أي جعلنا إنزال الماء
تذكرة بأن يصرفه عن بعض المواضع إلى بعض وهو في كل عام بمقدار واحد قاله الجمهور
__________________
منهم ابن مسعود
وابن عباس ومجاهد ، فعلى هذا التأويل (إِلَّا كُفُوراً) هو قولهم بالأنواء والكواكب قاله عكرمة. وقيل (كُفُوراً) على الإطلاق لما تركوا التذكر. وقال ابن عباس أيضا : عائد
على القرآن وإن لم يتقدم له ذكر لوضوح الأمر ويعضده (وَجاهِدْهُمْ بِهِ) لتوافق الضمائر ، وعلى أنه للمطر يكون به للقرآن. وقال أبو
مسلم : راجع إلى المطر والرياح والسحاب وسائر ما ذكر فيه من الأدلة. وقال الزمخشري
: صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن وفي سائر الكتب والصحف التي أنزلت على
الرسل ، وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر ليتفكروا ويعتبروا ويعرفوا حق النعمة
فيه ويشكروا ، فأبى أكثرهم إلا كفران النعمة وجحودها وقلة الاكتراث بها. وقيل :
صرّفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة وعلى الصفات المتفاوتة
من وابل وطل وجود ورذاذ وديمة ورهام فأبوا إلا الكفور. وأن يقولوا مطرنا بنوء كذا
ولا يذكروا رحمته وصنعته. وعن ابن عباس : ما من عام أقل مطرا من عام ، ولكن الله
قسم ذلك بين عباده على ما يشاء وتلا هذه الآية. ويروى أن الملائكة يعرفون عدد
المطر ومقداره في كل عام لأنه لا يختلف ، ولكن يختلف في البلاد وينتزع من هاهنا
جواب في تنكير البلدة والأنعام والأناسي كأنه قال : ليحيي به بعض البلاد الميتة ،
ونسقيه بعض الأنعام والأناسي وذلك البعض كثير انتهى. وقرأ عكرمة (صَرَّفْناهُ) بتخفيف الراء.
(وَلَوْ شِئْنا
لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) لما علم تعالى ما كابده الرسول من أذى قومه أعلمه أنه تعالى
لو أراد لبعث في كل قرية نذيرا فيخفف عنك الأمر ولكنه أعظم أجرك وأجلك إذ جعل
إنذارك عاما للناس كلهم ، وخصك بذلك ليكثر ثوابك لأنه على كثرة المجاهدة يكون
الثواب ، وليجمع لك حسنات من آمن بك إذ أنت مؤسسها. (فَلا تُطِعِ
الْكافِرِينَ) يعني كفار قريش فإنهم كانوا استمعوا إليه ورغبوا أن يرجع
إلى دين آبائهم ويملكونه عليهم ويجمعون له مالا عظيما فنهاه تعالى عن طاعتهم حتى
يظهر لهم أنه لا رغبة له في شيء من ذلك ، لكن رغبته في الدعاء إلى الله والإيمان
به. (وَجاهِدْهُمْ بِهِ) أي القرآن أو بالإسلام أو بالسيف أو بترك طاعتهم و (جِهاداً) مصدر وصف بكبيرا لأنه يلزمه عليهالسلام مجاهدة جميع العالم فهو جهاد كبير.
و (مَرَجَ) خلط بينهما أو أفاض أحدهما في الآخر أو أجراهما أقوال ،
والظاهر أنه يراد بالبحرين الماء الكثير العذب والماء الكثير الملح. وقيل : بحران
معينان. فقيل : بحر
__________________
فارس ، وبحر
الروم. وقيل : بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان في كل عام قاله ابن عباس. وقال مجاهد
: مياه الأنهار الواقعة في البحر الأجاج وهذا قريب من القول الأول. قال ابن عطية :
والمقصد بالآية التنبيه على قدرة الله وإتقان خلقه للأشياء في أن بث في الأرض
مياها عذبة كثيرة من الأنهار والعيون والآبار وجعلها خلال الأجاج ، وجعل الأجاج
خلالها فترى البحر قد اكتنفته المياه العذبة في ضفتيه ويلقى الماء البحر في
الجزائر ونحوها قد اكتنفه الماء الأجاج ، والبرزخ والحجر ما حجز بينهما من الأرض
والسد قاله الحسن.
ويتمشى هذا على
قول من قال إن (مَرَجَ) بمعنى أجرى. وقيل : البرزخ البلاد والقفار فلا يختلفان
إلّا بزوال الحاجز يوم القيامة. قال الأكثرون : الحاجز مانع من قدرة الله. قال
الزجاج : فهما مختلطان في مرائي العين منفصلان بقدرة الله ، وسواد البصرة ينحدر
الماء العذب منه في دجلة نحو البحر ، ويأتي المد من البحر فيلتقيان من غير اختلاط
فماء البحر إلى الخضرة الشديدة ، وماء دجلة إلى الحمرة ، فالمستقي يغرف من ماء
دجلة عندنا لا يخالطه شيء ونيل مصر في فيضه يشق البحر المالح شقا بحيث يبقى نهرا
جاريا أحمر في وسط المالح ليستقي الناس منه ، وترى المياه قطعا في وسط البحر
المالح فيقولون : هذا ماء ثلج فيسقون منه من وسط البحر.
وقرأ طلحة وقتيبة
عن الكسائي (مِلْحٌ) بفتح الميم وكسر اللام وكذا في فاطر. قال أبو حاتم وهذا
منكر في القراءة. وقال أبو الفتح أراد مالحا وحذف الألف كما حذفت من برد أي بارد.
وقال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح : هي لغة شاذة قليلة. وقيل : أراد مالح
فقصره بحذف الألف فالمالح جائز في صفة الماء لأن الماء يوجد في الضفيان بأن يكون
مملوحا من جهة غيره ، ومالحا لغيره وإن كان من صفته أن يقال : ماء ملح موصوف بالمصدر
أي ماء ذو ملح ، فالوصف بذلك مثل حلف ونضو من الصفات.
قال الزمخشري :
فإن قلت : (حِجْراً مَحْجُوراً) ما معناه؟ قلت : هي الكلمة التي يقولها المتعوذ وقد
فسرناها وهي هاهنا واقعة على سبيل المجاز ، كان كل واحد من البحرين متعوذ من صاحبه
ويقول له (حِجْراً مَحْجُوراً) كما قال (لا يَبْغِيانِ) أي لا ينبغي أحدهما على صاحبه بالممازجة ، فانتفاء البغي
ثم كالتعوذ هاهنا جعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه فهو يتعوذ منه وهي
من أحسن الاستعارات وأشهدها على البلاغة انتهى.
__________________
والظاهر أن (حِجْراً مَحْجُوراً) معطوف على (بَرْزَخاً) عطف المفعول على المفعول وكذا أعربه الحوفي ، وعلى ما ذكره
الزمخشري يكون ذلك على إضمار القول المجازي أي ، ويقولان أي كل واحد منهما لصاحبه (حِجْراً مَحْجُوراً).
والظاهر عموم
البشر وهم بنو آدم والبشر ينطلق على الواحد والجمع. وقيل : المراد بالنسب آدم
وبالصهر حواء. وقيل : النسب البنون والصهر البنات و (مِنَ الْماءِ) إما النطفة ، وإما أنه أصل خلقة كل حي ، والنسب والصهر
يعمان كل قربى بين آدميين ، فالنسب أن يجتمع مع آخر في أب وأم قرب ذلك أو بعد ،
والصهر هو نواشج المناكحة. وقال عليّ بن أبي طالب النسب ما لا يحل نكاحه والصهر
قرابة الرضاع. وعن طاوس : الرضاعة من الصهر. وعن عليّ : الصهر ما يحل نكاحه والنسب
ما لا يحل نكاحه. وقال الضحاك : الصهر قرابة الرضاع. وقال ابن سيرين : نزلت في
النبيّ صلىاللهعليهوسلم وعليّ لأنه جمعه معه نسب وصهر. قال ابن عطية : فاجتماعهما
وكادة حرمة إلى يوم القيامة. (وَكانَ رَبُّكَ
قَدِيراً) حيث خلق من النطفة الواحدة بشرا نوعين ذكرا وأنثى.
ولما ذكر دلائل
قدرته وما امتن به على عباده من غرائب مصنوعاته ثبت بذلك أنه المستحق للعبادة
لنفعه وضره بين فساد عقول المشركين حيث يعبدون الأصنام. والظاهر أن (الْكافِرُ) اسم جنس فيعم. وقيل : هو أبو جهل والآية نزلت فيه. وقال
عكرمة (الْكافِرُ) هنا إبليس والظهير والمظاهر كالمعين والمعاون قاله مجاهد
والحسن وابن زيد ، وفعيل بمعنى مفاعل كثير والمعنى أن (الْكافِرُ) يعاون الشيطان على ربه بالعداوة والشريك. وقيل : معناه
وكان الذي يفعل هذا الفعل وهو عبادة ما لا ينفع ولا يضر على ربه هينا مهينا من
قولهم : ظهرت به إذا خلفته خلف ظهرك لا يلتفت إليه ، وهذا نحو قوله (أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ) الآية قاله الطبري. وقيل : (عَلى رَبِّهِ) أي معينا على أولياء الله. وقيل : معينا للمشركين على أن
لا يوحد الله.
(وَما أَرْسَلْناكَ
إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) سلّي نبيه بذلك أي لا تهتم بهم ولا تذهب نفسك عليهم حسرات
، وإنما أنت رسول تبشر المؤمنين بالجنة وتنذر الكفرة بالنار ، ولست بمطلوب بإيمانهم
أجمعين. ثم أمره تعالى أن يحتج عليهم مزيلا لوجوه التهم بقوله (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ
أَجْرٍ) أي لا أطلب مالا ولا نفعا يختص بي. والضمير في (عَلَيْهِ) عائد
__________________
على التبشير
والإنذار ، أو على القرآن ، أو على إبلاغ الرسالة أقوال. والظاهر في (إِلَّا مَنْ شاءَ) أنه استثناء منقطع وقاله الجمهور. فعلى هذا قيل بعباده لكن
(مَنْ شاءَ أَنْ
يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) فليفعل. وقيل : لكن من أنفق في سبيل الله ومجاهدة أعدائه
فهو مسؤولي. وقيل : هو متصل على حذف مضاف تقديره : إلّا أجر من اتخذ إلى ربه سبيلا
أي إلّا أجر من آمن أي الأجر الحاصل لي على دعائه إلى الإيمان وقبوله ، لأنه تعالى
يأجرني على ذلك. وقيل : إلّا أجر من آمن من يعني بالأجرة الإنفاق في سبيل الله أي
لا أسألكم أجرا إلّا الإنفاق في سبيل الله ، فجعل الإنفاق أجرا.
ولما أخبر أنه فطم
نفسه عن سؤالهم شيئا أمره تعالى تفويض أمره إليه وثقته به واعتماده عليه فهو
المتكفل بنصره وإظهار دينه. ووصف تعالى نفسه بالصفة التي تقتضي التوكل في قوله (الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) لأن هذا المعنى يختص به تعالى دون كل حي كما قال (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) . وقرأ بعض السلف هذه الآية فقال : لا يصح لذي عقل أن يثق
بعدها بمخلوق ، ثم أمره بتنزيهه وتمجيده مقرونا بالثناء عليه لأن التنزيه محله
اعتقاد القلب والمدح محله اللسان الموافق للإعتقاد. وفي الحديث : «من قال سبحان
الله وبحمده مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر. وهي الكلمتان الخفيفتان
على اللسان الثقيلتان في الميزان».
(وَكَفى بِهِ
بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) أراد أنه ليس إليه من أمور عباده شيء آمنوا أم كفروا ،
وأنه خبير بأحوالهم كاف في جزاء أعمالهم. وفي هذه الجملة تسلية للرسول ووعيد
للكافر. وفي بعض الأخبار كفى بك ظفرا أن يكون عدوك عاصيا وهي كلمة يراد بها
المبالغة تقول : كفى بالعلم جمالا. وكفى بالأدب مالا ، أي حسبك لا تحتاج معه إلى
غيره لأنه خبير بأحوالهم قادر على مكافأتهم.
ولما أمره بالتوكل
والتسبيح وذكر صفة الحياة الدائمة ذكر ما دل على القدرة التامة وهو إيجاد هذا
العالم. وتقدم الكلام في نظير هذا الكلام واحتمل (الَّذِي) أن يكون صفة للحي الذي لا يموت. ويتعين على قراءة زيد بن
عليّ (الرَّحْمنُ) بالجر وأما على قراءة الجمهور (الرَّحْمنُ) بالرفع فإنه يحتمل أن يكون (الَّذِي) صفة للحي و (الرَّحْمنُ) خبر مبتدأ محذوف. ويحتمل أن يكون (الَّذِي) مبتدأ و (الرَّحْمنُ) خبره. وأن يكون (الَّذِي)
__________________
خبر مبتدأ محذوف ،
و (الرَّحْمنُ) صفة له. أو يكون (الَّذِي) منصوبا على إضمار أعني ويجوز على مذهب الأخفش أن يكون (الرَّحْمنُ) مبتدأ. و (فَسْئَلْ) خبره تخريجه على حد قول الشاعر :
وقائلة خولان
فانكح فتاتهم
وجوزوا أيضا في (الرَّحْمنُ) أن يكون بدلا من الضمير المستكن في (اسْتَوى). والظاهر تعلق به بقوله (فَسْئَلْ) وبقاء الباء غير مضمنة معنى عن. و (خَبِيراً) من صفات الله كما تقول : لقيت بزيد أسدا ولقيت بزيد البحر
، تريد أنه هو الأسد شجاعة ، والبحر كرما. والمعنى أنه تعالى اللطيف العالم الخبير
والمعنى (فَسْئَلْ) الله الخبير بالأشياء العالم بحقائقها. وقال ابن عطية : و (خَبِيراً) على هذا منصوب إما بوقوع السؤال ، وإما على الحال المؤكدة.
كما قال (وَهُوَ الْحَقُّ
مُصَدِّقاً) وليست هذه الحال منتقلة إذا الصفة العلية لا تتغير انتهى.
وبني هذا الإعراب على أنه كما تقول : لو لقيت فلانا للقيت به البحر كرما أي لقيت
منه. والمعنى فسئل الله عن كل أمر وكونه منصوبا على الحال المؤكدة على هذا التقدير
لا يصح إنما يصح أن يكون مفعولا به ، ويجوز أن تكون الباء بمعنى عن ، أي (فَسْئَلْ) عنه (خَبِيراً) كما قال الشاعر :
فإن تسألوني
بالنساء فإنني
|
|
بصير بأدواء
النساء طبيب
|
وهو قول الأخفش
والزجاج. ويكون (خَبِيراً) ليس من صفات الله هنا ، كأنه قيل : اسأل عن الرحمن الخبراء
جبريل والعلماء وأهل الكتب المنزلة ، وإن جعلت (بِهِ) متعلقا بخبيرا كان المعنى (فَسْئَلْ) عن الله الخبراء به. وقال الكلبي معناه (فَسْئَلْ) خبيرا به و (بِهِ) يعود إلى ما ذكر من خلق السموات والأرض والاستواء على
العرش ، وذلك الخبير هو الله تعالى لأنه لا دليل في العقل على كيفية خلق ذلك فلا
يعلمها إلّا الله. وعن ابن عباس : الخبير جبريل وقدم لرؤوس الآي.
وقال الزمخشري :
الباء في (بِهِ) صلة سل كقوله (سَأَلَ سائِلٌ
بِعَذابٍ) كما يكون عن صلته في نحو (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ
يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) أو صلة (خَبِيراً) به فتجعل (خَبِيراً) مفعولا أي ، فسل عنه رجلا عارفا يخبرك برحمته ، أو فسل
رجلا خبيرا به
__________________
وبرحمته ، أو فسل
بسؤاله خبيرا. كقولك ، رأيت به أسدا أي رأيت برؤيته ، والمعنى إن سألته وجدته
خبيرا بجعله حالا عن به تريد فسل عنه عالما بكل شيء.
وقيل : (الرَّحْمنُ) اسم من أسماء الله مذكور في الكتب المتقدمة ولم يكونوا
يعرفونه. فقيل : فسل بهذا الاسم من يخبرك من أهل الكتاب حتى يعرف من ينكره ومن ثم
كانوا يقولون : ما نعرف الرحمن إلّا الذي في اليمامة يعنون مسيلمة ، وكان يقال له
رحمن اليمامة انتهى.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ) وكانت قريش لا تعرف هذا في أسماء الله غالطت قريش بذلك
فقالت : إن محمدا يأمرنا بعبادة رحمن اليمامة نزلت (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) و (مَا) سؤال عن المجهول ، فيجوز أن يكون سؤالا عن المسمى به لأنهم
ما كانوا يعرفونه بهذا الاسم ، ويجوز أن يكون سؤالا عن معناه لأنه لم يكن مستعملا
في كلامهم كما يستعمل الرحيم والرحوم والراحم ، أو لأنهم أنكروا إطلاقه على الله
قاله الزمخشري. والذي يظهر أنهم لما قيل لهم (اسْجُدُوا
لِلرَّحْمنِ) فذكرت الصفة المقتضية للمبالغة في الرحمة والكلمة عربية لا
ينكر وضعها ، أظهروا التجاهل بهذه الصفة التي لله مغالطة منهم ووقاحة فقالوا : (وَمَا الرَّحْمنُ) وهم عارفون به وبصفته الرحمانية ، وهذا كما قال فرعون (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) حين قال له موسى : (إِنِّي رَسُولٌ مِنْ
رَبِّ الْعالَمِينَ) على سبيل المناكرة وهو عالم برب العالمين. كما قال موسى : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ
إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) فكذلك كفار قريش استفهموا عن (الرَّحْمنُ) استفهام من يجهله وهم عالمون به ، فعلى قول من قال : لم
يكونوا يعرفون (الرَّحْمنُ) إلّا مسيلمة وعلى قول من قال : من لا يعرفون الرحمن إلّا
مسيلمة. فالمعنى أنسجد لمسيلمة وعلى قول من قال : لا يعرفون (الرَّحْمنُ) بالكلية فالمعنى (أَنَسْجُدُ لِما
تَأْمُرُنا) من غير علم ببيانه. والقائل (اسْجُدُوا) الرسول أو الله على لسان رسوله.
وقرأ ابن مسعود
والأسود بن يزيد وحمزة والكسائي يأمر بالياء من تحت أي يأمرنا محمد ، والكناية عنه
أو المسمى (الرَّحْمنُ) ولا نعرفه. وقرأ باقي السبعة بالتاء خطابا للرسول. ومفعول (تَأْمُرُنا) الثاني محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره يأمرنا سجوده نحو
قولهم : أمرتك الخير.
__________________
(وَزادَهُمْ) أي هذا القول وهو الأمر بالسجود للرحمن (زادَهُمْ) ضلالا يختص به مع ضلالهم السابق ، وكان حقه أن يكون باعثا
على فعلي السجود والقبول. وقال الضحاك : سجد أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وعثمان بن
مظعون وعمرو بن غلسة ، فرآهم المشركون فأخذوا في ناحية المسجد يستهزئون ، فهذا
المراد بقوله (وَزادَهُمْ نُفُوراً) ومعنى (نُفُوراً) فرارا
تَبارَكَ
الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً
(٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ
يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ
عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣)
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً
(٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا
لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) وَالَّذِينَ
لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ
اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً
(٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩)
إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ
سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ
صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ
الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا
ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا
قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ
الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥)
خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ
رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧)
لما جعلت قريش
سؤالها عن اسمه الذي هو الرحمن سؤالا عن مجهول نزلت هذه الآية مصرحة بصفاته التي
تعرف به وتوجب الإقرار بألوهيته. ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أنه خلق
السموات والأرض وما بينهما ، ووصف نفسه بالرحمن ، وسألوا هم فيه عما وضع في السماء
من النيرات وما صرف من حال الليل والنهار لبادروا بالسجود والعبادة للرحمن ، ثم
نبههم على ما لهم به اعتناء تام من رصد الكواكب وأحوالها ووضع أسماء لها. والظاهر
أن المراد بالبروج المعروفة عند العرب وهي منازل الكواكب السيارة وهي الحمل ،
والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس
، والجدي ، والدلو ، والحوت. سميت بذلك لشبهها بما شبهت به. وسميت بالبروج التي هي
القصور العالية لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها واشتقاق البرج من التبرج
لظهوره.
وقيل : البروج هنا
القصور في الجنة. قال الأعمش. وكان أصحاب عبد الله يقرؤونها (فِي السَّماءِ) قصورا. وقال أبو صالح : البروج هنا الكواكب العظام. قال
ابن عطية : والقول بأنها قصور في الجنة تحط من غرض الآية في التنبيه على أشياء
مدركات تقوم بها الحجة على كل منكر لله أو جاهل. والضمير في (فِيها) الظاهر أنه عائد على (السَّماءِ).
وقيل : على البروج
، فالمعنى وجعل في جملتها (سِراجاً). وقرأ الجمهور (سِراجاً) على الإفراد وهو الشمس. وقرأ عبد الله وعلقمة والأعمش
والأخوان سرجا بالجمع مضموم الراء وهو يجمع الأنوار ، فيكون خص القمر بالذكر
تشريفا. وقرأ الأعمش أيضا والنخعي وابن وثاب كذلك بسكون الراء. وقرأ الحسن والأعمش
والنخعي وعصمة عن عاصم (وَقَمَراً) بضم إلقاء وسكون الميم فالظاهر أنه لغة في القمر كالرشد
والرشد والعرب والعرب. وقيل : جمع قمراء أي ليلة قمراء كأنه قال : وذا قمر منير
لأن الليلة تكون قمراء بالقمر ، فأضافه إليها ونظيره في بقاء حكم المضاف بعد سقوطه
وقيام المضاف إليه مقامه قول حسان :
بردى يصفق بالرحيق
السلسل
يريد ماء بردى.
فمنيرا وصف لذلك المحذوف كما قال يصفق بالياء من تحت ، ولو لم يراع المضاف لقال :
تصفق بالتاء وقال (مُنِيراً) أي مضيئا ولم يجعله (سِراجاً) كالشمس لأنه لا توقد له.
وانتصب (خِلْفَةً) على الحال. فقيل : هو مصدر خلف خلفة. وقيل : هو اسم هيئة
كالركبة ووقع حالا
اسم الهيئة في قولهم : مررت بماء قعدة رجل ، وهي الحالة التي يخلف عليها الليل
والنهار كل واحد منهما الآخر. والمعنى جعلهما ذوي خلفة أي ذوي عقبة يعقب هذا ذاك
وذاك هذا ، ويقال الليل والنهار يختلفان كما يقال يعتقبان ومنه قوله (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ويقال : بفلان خلفة واختلاف إذا اختلف كثيرا إلى متبرزه
ومن هذا المعنى قول زهير :
بها العيس والآرام
يمشين خلفة
وقول الآخر :
يصف امرأة تنتقل
من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأبا :
ولها بالماطرون
طرون إذا
|
|
أكل النمل الذي
جمعا
|
خلفة حتى إذا
ارتفعت
|
|
سكنت من جلق
بيعا
|
في بيوت وسط دسكرة
|
|
حولها الزيتون
قد ينعا
|
وقيل (خِلْفَةً) في الزيادة والنقصان. وقال مجاهد وقتادة والكسائي : هذا
أسود وهذا أبيض وهذا طويل وهذا قصير. (لِمَنْ أَرادَ أَنْ
يَذَّكَّرَ). قال عمر وابن عباس والحسن : معناه (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) ما فاته من الخير والصلاة ونحوه في أحدهما فيستدركه في
الذي يليه. وقال مجاهد وغيره : أي يعتبر بالمصنوعات ويشكر الله تعالى على نعمه
عليه في العقل والفكر والفهم. وقال الزمخشري : وعن أبي بن كعب يتذكر والمعنى.
لينظر في اختلافهما الناظر فيعلم أن لا بد لانتقالهما من حال إلى حال وتغيرهما من
نافل ومغير ، ويستدل بذلك على عظم قدرته ويشكر الشاكر على النعمة من السكون بالليل
والتصرف بالنهار كما قال تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ) وليكونا وقتين للمتذكر والشاكر من فاته في أحدهما ورده من
العبادة أتى به في الآخر. وقرأ النخعي وابن وثاب وزيد بن عليّ وطلحة وحمزة تذكر
مضارع ذكر خفيفا.
ولما تقدم ذكر
الكفار وذمهم جاء (لِمَنْ أَرادَ أَنْ
يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) ذكر أحوال المؤمنين المتذكرين الشاكرين فقال : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) وهذه إضافة تشريف وتفضل ، وهو جمع عبد. وقال ابن بحر : جمع
عابد كصاحب وصحاب ، وتاجر وتجار ، وراجل ورجال ، أي الذين يعبدونه حق عبادته.
والظاهر أن (وَعِبادُ) مبتدأ و (الَّذِينَ يَمْشُونَ) الخبر.
__________________
وقيل : أولئك
الخبر و (الَّذِينَ) صفة ، وقوم من عبد القيس يسمون العباد لأن كسرى ملكهم دون
العرب. وقيل : لأنهم تألهوا مع نصارى الحيرة فصاروا عباد الله. وقرأ اليماني :
وعباد جمع عابد كضارب وضراب. وقرأ الحسن : وعبد بضم العين والباء. وقرأ السلمي
واليماني (يَمْشُونَ) مبنيا للمفعول مشددا. والهون : الرفق واللين. وانتصب (هَوْناً) على أنه نعت لمصدر محذوف أي مشيا هونا أو على الحال ، أي
يمشون هينين في تؤدة وسكينة وحسن سمت لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشرا
وبطرا ، ولذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق. وقال مجاهد : بالحلم والوقار.
وقال ابن عباس : بالطاعة والعفاف والتواضع. وقال الحسن : حلماء إن جهل عليهم لم
يجهلوا. وقال ابن عطية (هَوْناً) عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم ، فذكر من ذلك
المعظم لا سيما وفي الانتقال في الأرض هي معاشرة الناس وخلطتهم ثم قال (هَوْناً) بمعنى أمره هون أي ليس بخشن ، وذهبت فرقة إلى أن (هَوْناً) مرتبط بقوله (يَمْشُونَ عَلَى
الْأَرْضِ) أي إن المشي هو الهون ، ويشبه أن يتأول هذا على أن يكون
أخلاق ذلك الماشي (هَوْناً) مناسبة لمشيه فيرجع القول إلى نحو ما بيّنا ، وأما أن يكون
المراد صفة المشي وحده فباطل ، لأن رب ماش (هَوْناً) رويدا وهو ذنب أطلس. وقد كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يتكفأ في مشيه كأنما يمشي في صبب. وهو عليهالسلام الصدر في هذه الآية وقوله عليهالسلام : «من مشى منكم في طمع فليمش رويدا». أراد في عمر نفسه ولم
يرد المشي وحده ألا ترى أن المبطلين المتحلين بالدين تمسكوا بصورة المشي فقط حتى
قال فيهم الشاعر :
كلهم يمشي رويدا
|
|
كلهم يطلب صيدا
|
وقال الزهري :
سرعة المشي تذهب ببهاء الوجه ، يريد الإسراع الخفيف لأنه يخل بالوقار والخير في
التوسط. وقال زيد بن أسلم : أنه رأى في النوم من فسر له (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ
هَوْناً) بأنهم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض. وقال عياض بن
موسى : كان عليهالسلام يرفع في مشيه رجليه بسرعة وعدو خطوة خلاف مشية المختال ،
ويقصد سمته وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة كما قال : «إنما ينحط من صبب». وكان عمر
يسرع جبلة لا تكلفا.
(وَإِذا خاطَبَهُمُ
الْجاهِلُونَ) أي مما لا يسوغ الخطاب به (قالُوا سَلاماً) أي سلام توديع لا تحية كقول إبراهيم عليهالسلام لأبيه (سَلامٌ عَلَيْكَ) قاله الأصم. وقال
__________________
مجاهد : قولا
سديدا فهو منصوب بقالوا. وقيل : هو على إضمار فعل تقديره سلمنا (سَلاماً) فهو جزء من متعلق الجملة المحكية. قال ابن عطية : والذي
أقوله أن (قالُوا) هو العامل في (سَلاماً) لأن المعنى قالوا هذا اللفظ. وقال الزمخشري : تسلما منكم
فأقيم السلام مقام التسليم. وقيل : قالوا سدادا من القول يسلمون فيه من الأذى
والإثم والمراد بالجهل السفه وقلة الأدب وسوء الرغبة من قوله :
ألا لا يجهلن
أحد علينا
|
|
فنجهل فوق جهل
الجاهلينا
|
انتهى. وقال
الكلبي وأبو العالية : نسختها آية القتال. وقال ابن عطية : وهذه الآية كانت قبل
آية السيف فنسخ منها ما يخص الكفرة وبقي حكمها في المسلمين إلى يوم القيامة ،
وذكره سيبويه في هذه الآية في كتابه وما تكلم على نسخ سواه. ورجح به أنه المراد
السلامة لا التسليم لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالسلام على الكفرة ، والآية مكية
فنسختها آية السيف. وفي التاريخ ما معناه أن إبراهيم بن المهدي كان منحرفا عن عليّ
بن أبي طالب فرآه في النوم قد تقدمه إلى عبور قنطرة ، فقال له : إنما تدّعي هذا
الأمر بامرأة ونحن أحق به منك ، وكان حكى ذلك للمأمون قال : فما رأيت له بلاغة في
الجواب كما يذكر عنه فقال له المأمون : فما أجابك به؟ قال : كان يقول لي سلاما
سلاما ، فنبهه المأمون على هذه الآية وقال : يا عم قد أجابك بأبلغ جواب. فخزي
إبراهيم واستحيا ، وكان إبراهيم لم يحفظ الآية أو ذهب عنه حالة الحكاية.
والبيتوتة هو أن
يدرك الليل نمت أو لم تنم ، وهو خلاف الظلول وبجيلة وأزد السراة يقولون : بيات
وسائر العرب يقولون : يبيت ، ولما ذكر حالهم بالنهار بأنهم يتصرفون أحسن تصرف ذكر
حالهم بالليل والظاهر أنه يعني إحياء الليل بالصلاة أو أكثره. وقيل : من قرأ شيئا
من القرآن بالليل في صلاة فقد بات ساجدا وقائما. وقيل : هما الركعتان بعد المغرب ،
والركعتان بعد العشاء. وقيل : من شفع وأوتر بعد أن صلى العشاء فقد دخل في هذه
الآية. وفي هذه الآية حض على قيام الليل في الصلاة. وقدم السجود وإن كان متأخرا في
الفعل لأجل الفواصل ، ولفضل السجود فإنها حالة أقرب ما يكون العبد فيها من الله.
وقرأ أبو البرهسم : سجودا على وزن قعودا. ومدحهم تعالى بدعائه أن يصرف عنهم عذاب
جهنم وفيه تحقيق إيمانهم بالبعث والجزاء. قال ابن عباس : (غَراماً) فظيعا وجيعا. وقال الخدري : لازما ملحّا دائما. قال الحسن
: كل غريم يفارق غريمه إلّا غريم جهنّم. وقال السدّي : شديدا. وأنشدوا على أن (غَراماً) لازما قوله الشاعر وهو بشر بن أبي حاتم :
ويوم اليسار
ويوم الجفار
|
|
كانا عذابا
وكانا غراما
|
وقال الأعشى :
إن يعاقب يكن
غراما
|
|
وإن يعط جزيلا
فإنه لا يبالي
|
وصفهم بإحياء
الليل ساجدين ثم عقبه بذكر دعائهم هذا إيذانا بأنهم مع اجتهادهم خائفون يبتهلون
إلى الله في صرف العذاب عنهم. و (ساءَتْ) احتمل أن يكون بمعنى بئست. والمخصوص بالذم محذوف وفي (ساءَتْ) ضمير مبهم ويتعين أن يكون (مُسْتَقَرًّا
وَمُقاماً) تمييز. والتقدير (ساءَتْ مُسْتَقَرًّا
وَمُقاماً) هي وهذا المخصوص بالذم هو رابط الجملة الواقعة خبرا لأن.
ويجوز أن يكون (ساءَتْ) بمعنى أحزنت فيكون المفعول محذوفا أي ساءتهم. والفاعل ضمير
جهنم وجاز في (مُسْتَقَرًّا
وَمُقاماً) أن يكونا تمييزين وأن يكونا حالين قد عطف أحدهما على
الآخر. والظاهر أن التعليلين غير مترادفين ذكر أولا لزوم عذابها ، وثانيا مساءة
مكانها وهما متغايران وإن كان يلزم من لزوم العذاب في مكان دم ذلك المكان. وقيل :
هما مترادفان ، والظاهر أنه من كلام الداعين وحكاية لقولهم. وقيل : هو من كلام
الله ، ويظهر أن قوله (وَمُقاماً) معطوف على سبيل التوكيد لأن الاستقرار والإقامة كأنهما
مترادفان. وقيل : المستقر للعصاة من أهل الإيمان فإنهم يستقرون فيها ولا يقيمون ،
والإقامة للكفار. وقرأت فرقة (وَمُقاماً) بفتح الميم أي مكان قيام ، والجمهور بالضم أي مكان إقامة.
(لَمْ يُسْرِفُوا) ولم يقتروا. قال أبو عبد الرحمن الجيلي : الإنفاق في غير
طاعة إسراف ، والإمساك عن طاعة إقتار. وقال معناه ابن عباس ومجاهد وابن زيد. وسمع
رجل رجلا يقول : لا خير في الإسراف فقال : لا إسراف في الخير. وقال عون بن عبد
الله بن عتبة : الإسراف أن تنفق مال غيرك. وقال النخعي : هو الذي لا يجيع ولا
يعرّي ولا ينفق نفقة يقول : الناس قد أسرف. وقال يزيد بن أبي حبيب : هم الذين لا
يلبسون الثياب للجمال ولا يأكلون طعاما للّذة وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد
العزيز حين زوجه ابنته فاطمة : ما نفقتك؟ قال له عمر : الحسنة بين السيئتين. ثم
تلا الآية. والإسراف مجاوزة الحد في النفقة والقتر التضييق الذي هو نقيض الإسراف.
وعن أنس في سنن ابن ماجة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن من السرف أن تأكل ما اشتهيته». وقال الشاعر :
ولا تغل في شيء
من الأمر واقتصد
|
|
كلا طرفي قصد
الأمور ذميم
|
وقال آخر :
إذا المرء أعطى
نفسه كلما اشتهت
|
|
ولم ينهها تاقت
إلى كل باطل
|
وساقت إليه
الإثم والعار بالذي
|
|
دعته إليه من
حلاوة عاجل
|
وقال حاتم :
إذا أنت قد
أعطيت بطنك سؤله
|
|
وفرج نالا منتهى
الذم أجمعا
|
وقرأ الحسن وطلحة
والأعمش وحمزة والكسائي وعاصم : يقترون بفتح الياء وضم التاء ومجاهد وابن كثير
وأبو عمرو بفتح الياء وكسر التاء ونافع ، وابن عامر بضم الياء وكسر التاء مشددة
وكلها لغات في التضييق. وأنكر أبو حاتم لغة أقتر رباعيا هنا. وقال أقتر إذا افتقر.
ومنه (وَعَلَى الْمُقْتِرِ
قَدَرُهُ) وغاب عنه ما حكاه الأصمعي وغيره : من اقتر بمعنى ضيق ،
والقوام الاعتدال بين الحالتين. وقرأ حسان بن عبد الرحمن (قَواماً) بالكسر. فقيل : هما لغتان بمعنى واحد. وقيل : بالكسر ما
يقام به الشيء يقال : أنت قوامنا بمعنى ما تقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص.
وقيل : (قَواماً) بالكسر مبلغا وسدادا وملاك حال ، و (بَيْنَ ذلِكَ) و (قَواماً) يصح أن يكونا خبرين عند من يجيز تعداد خبر (كانَ) وأن يكون (بَيْنَ) هو الخبر و (قَواماً) حال مؤكدة ، وأن يكون (قَواماً) خبرا و (بَيْنَ ذلِكَ) إما معمول لكان على مذهب من يرى أن كان الناقصة تعمل في
الظرف ، وأن يكون حالا من (قَواماً) لأنه لو تأخر لكان صفة ، وأجاز الفراء أن يكون (بَيْنَ ذلِكَ) اسم (كانَ) وبني لإضافته إلى مبني كقوله (وَمِنْ خِزْيِ
يَوْمِئِذٍ) في قراءة من فتح الميم و (قَواماً) الخبر.
قال الزمخشري :
وهو من جهة الإعراب لا بأس به ، ولكن المعنى ليس بقوي لأن ما بين الإسراف والتقتير
قوام لا محالة فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدة انتهى.
وصفهم تعالى
بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير ، وبمثله خوطب الرسول صلىاللهعليهوسلم بقوله (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً) الآية. (وَالَّذِينَ لا
يَدْعُونَ) الآية سأل ابن مسعود رسول الله صلىاللهعليهوسلم أي الذنب أعظم؟ فقال : «أن تجعل لله ندا وهو خلقك». قال :
ثم أي؟ قال : «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك». قال : ثم أي؟ قال : «أن تزاني
حليلة جارك». فأنزل الله تصديقها (وَالَّذِينَ لا
يَدْعُونَ) الآية. وقيل : أتى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم مشركون قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا ، فقالوا : إن
الذين تقول وتدعو إليه لحسن ، أو تخبرنا أن لما علمنا
__________________
كفارة فنزلت إلى (غَفُوراً رَحِيماً). وقيل : نزولها قصة وحشي في إسلامه في حديث طويل. قال
الزمخشري : نفي هذه التقبيحات العظام عن الموصوفين بتلك الخلال العظيمة في الدين
للتعريض بما كان عليه أعداء المؤمنين من قريش وغيرهم ، كأنه قيل : والذين برأهم
الله وطهرهم مما أنتم عليه. وقال ابن عطية : إخراج لعباده المؤمنين من صفات الكفرة
في عبادتهم الأوثان وقتلهم النفس بوأد البنات وغير ذلك من الظلم والاغتيال
والغارات وبالزنا الذي كان عندهم مباحا انتهى. وتقدم تفسير نظير (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي
حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) في سورة الأنعام. وقرئ (يَلْقَ) بضم الياء وفتح اللام والقاف مشددة وابن مسعود وأبو رجاء
يلقى بألف ، كان نوى حذف الضمة المقدرة على الألف فأقر الألف. والآثام في اللغة
العقاب وهو جزاء الإثم. قال الشاعر :
جزى الله ابن
عروة حيث أمسى
|
|
عقوق والعقوق له
آثام
|
أي حد وعقوبة وبه
فسره قتادة وابن زيد. وقال عبد الله بن عمرو ومجاهد وعكرمة وابن جبير : آثام واد
في جهنم هذا اسمه جعله الله عقابا للكفرة. وقال أبو مسلم : الآثام الإثم ، ومعناه (يَلْقَ) جزاء آثام ، فأطلق اسم الشيء على جزائه. وقال الحسن :
الآثام اسم من أسماء جهنم. وقيل : بئر فيها. وقيل : جبل. وقرأ ابن مسعود : يلق أياما
جمع يوم يعني شدائد. يقال : يوم ذو أيام لليوم العصيب. وذلك في قوله (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) يظهر أنه إشارة إلى المجموع من دعاء إله وقتل النفس بغير
حق والزنا ، فيكون التضعيف مرتبا على مجموع هذه المعاصي ، ولا يلزم ذلك التضعيف
على كل واحد منها. ولا شك أن عذاب الكفار يتفاوت بحسب جرائمهم.
وقرأ نافع وابن
عامر وحمزة والكسائي (يُضاعَفْ لَهُ
الْعَذابُ) مبنيا للمفعول وبألف (وَيَخْلُدْ) مبنيا للفاعل. والحسن وأبو جعفر وابن كثير كذلك إلّا أنهم
شددوا العين وطرحوا الألف. وقرأ أبو جعفر أيضا وشيبة وطلحة بن سليمان نضعف بالنون
مضمومة وكسر العين مشددة (الْعَذابُ) نصب. وطلحة بن مصرف (يُضاعَفْ) بالياء مبنيا للفاعل (الْعَذابُ) نصبا. وقرأ طلحة بن سليمان وتخلد بتاء الخطاب على الالتفات
مرفوعا أي وتخلد أيها الكافر. وقرأ أبو حيوة (وَيَخْلُدْ) مبنيا للمفعول مشدد اللام مجزوما. ورويت عن أبي عمرو وعنه
كذلك مخففا. وقرأ أبو بكر عن عاصم (يُضاعَفْ وَيَخْلُدْ) بالرفع
__________________
عنهما وكذا ابن
عامر والمفضل عن عاصم (يُضاعَفْ وَيَخْلُدْ) مبنيا للمفعول مرفوعا مخففا. والأعمش بضم الياء مبنيا
للمفعول مرفوعا مخففا. والأعمش بضم الياء مبنيا للمفعول مشددا مرفوعا فالرفع على
الاستئناف أو الحال والجزم على البدل من (يَلْقَ). كما قال الشاعر :
متى تأتنا تلمم
بنا في ديارنا
|
|
تجد حطبا جزلا
ونارا تأججا
|
والضمير في (فِيهِ) عائد على العذاب ، والظاهر أن توبة المسلم القاتل النفس
بغير حق مقبولة خلافا لابن عباس ، وتقدم ذلك في النساء وتبديل سيئاتهم حسنات هو
جعل أعمالهم بدل معاصيهم الأول طاعة ويكون ذلك سبب رحمة الله إياهم قاله ابن عباس.
وابن جبير والحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد وردوا على من قال هو في يوم القيامة.
وقال الزجاج : السيئة بعينها لا تصير حسنة ، ولكن السيئة تمحى بالتوبة وتكتب
الحسنة مع التوبة ، والكافر يحبط عمله وتثبت عليه السيئات. وتأول ابن مسيب ومكحول
أن ذلك يوم القيامة وهو بمعنى كرم العفو. وفي كتاب مسلم إن الله يبدل يوم القيامة
لمن يريد المغفرة له من الموحدين بدل سيئات حسنات. وقالا تمحى السيئة ويثبت بدلها
حسنة. وقال القفال والقاضي : يبدل العقاب بالثواب فذكرهما وأراد ما يستحق بهما.
(إِلَّا مَنْ تابَ) استثناء متصل من الجنس ، ولا يظهر لأن المستثنى منه محكوم
عليه بأنه (يُضاعَفْ لَهُ
الْعَذابُ) فيصير التقدير (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ
وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) فلا يضاعف له العذاب. ولا يلزم من انتفاء التضعيف انتفاء
العذاب غير المضعف فالأولى عندي أن يكون استثناء منقطعا أي لكن من تاب وآمن عمل
صالحا (فَأُوْلئِكَ
يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) وإذا كان كذلك فلا يلقى عذابا البتة و (سَيِّئاتِهِمْ) هو المفعول الثاني ، وهو أصله أن يكون مقيدا بحرف الجر أي
بسيئاتهم. و (حَسَناتٍ) هو المفعول الأول وهو المسرح كما قال تعالى (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ
جَنَّتَيْنِ) . وقال الشاعر :
تضحك مني أخت
ذات النحيين
|
|
أبدلك لله بلون
لونين
|
سواد وجه وبياض
عينين
الظاهر أن (وَمَنْ تابَ) أي أنشأ التوبة فإنه يتوب إلى الله أي يرجع إلى ثوابه
وإحسانه. قال ابن عطية (وَمَنْ تابَ) فإنه قد تمسك بأمر وثيق. كما تقول لمن يستحسن قوله في أمر
:
__________________
لقد قلت يا فلان
قولا فكذلك الآية معناها مدح المتاب ، كأنه قال : فإنه يجد الفرج والمغفرة عظيما.
وقال الزمخشري : ومن يترك المعاصي ويندم عليها ويدخل في العمل الصالح فإنه بذلك
تائب إلى الله الذي يعرف حق التائبين ، ويفعل بهم ما يستوجبون ، والله يحب
التوّابين ويحب المتطهرين. وقيل : من عزم على التوبة فإنه يتوب إلى الله فليبادر
إليها ويتوجه بها إلى الله. وقيل (مَنْ تابَ) من ذنوبه فإنه يتوب إلى من يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن
السيئات. وقيل : (وَمَنْ تابَ) استقام على التوبة فإنه يتوب إلى الله أي فهو التائب حقا
عند الله.
(وَالَّذِينَ لا
يَشْهَدُونَ الزُّورَ) عاد إلى ذكر أوصاف (عِبادُ الرَّحْمنِ) والظاهر أن المعنى لا يشهدون بالزور أو شهادة الزور ، قاله
عليّ والباقر فهو من الشهادة. وقيل : المعنى لا يحضرون من المشاهدة والزور الشرك
والصنم أو الكذب أو آلة الغناء أو أعياد النصارى. أو لعبة كانت في الجاهلية أو
النوح أو مجالس يعاب فيها الصالحون ، أقوال. فالشرك قاله الضحاك وابن زيد ،
والغناء قاله مجاهد ، والكذب قاله ابن جريج. وفي الكشاف عن قتادة مجالس الباطل.
وعن ابن الحنفية : اللهو والغناء. وعن مجاهد : أعياد المشركين و (بِاللَّغْوِ) كل ما ينبغي أن يلغى ويطرح. والمعنى (وَإِذا مَرُّوا) بأهل اللغو (مَرُّوا) معرضين عنهم مكرمين أنفسهم عن التوقف عليهم. والخوض معهم
لقوله (وَإِذا سَمِعُوا
اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) انتهى.
(بِآياتِ رَبِّهِمْ) هي القرآن. (لَمْ يَخِرُّوا
عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) النفي متوجه إلى القيد الذي هو صم وعميان لا للخرور الداخل
عليه ، وهذا الأكثر في لسان العرب أن النفي يتسلط على القيد ، والمعنى أنهم إذا
ذكروا بها أكبّوا عليها حرصا على استماعها ، وأقبلوا على المذكر بها بآذان واعية
وأعين راعية ، بخلاف غيرهم من المنافقين وأشباههم ، فإنهم إذا ذكروا بها كانوا
مكبين عليها مقبلين على من يذكر بها في ظاهر الأمر ، وكانوا (صُمًّا وَعُمْياناً) حيث لا يعونها ولا يتبصرون ما فيها. قال ابن عطية : بل
يكون خرورهم سجّدا وبكيا كما تقول : لم يخرج زيد إلى الحرب جزعا أي إنما خرج جريئا
معدما ، وكان المسمع المذكر قائم القناة قويم الأمر فإذا أعرض كان ذلك خرورا وهو
السقوط على غير نظام وترتيب ، وإن كان قد أشبه الذي يخّر ساجدا لكن أصله أنه على
غير ترتيب انتهى. وقال السدّي (لَمْ يَخِرُّوا
صُمًّا وَعُمْياناً) هي صفة للكفار ، وهي عبارة عن إعراضهم
__________________
وجهدهم في ذلك.
وقرن ذلك بقولك : قعد فلان يتمنى ، وقام فلان يبكي ، وأنت لم تقصد الإخبار بقعود
ولا قيام وإنما هي توطئات في الكلام والعبارة.
(قُرَّةَ أَعْيُنٍ) كناية عن السرور والفرح ، وهو مأخوذ من القر وهو البرد.
يقال : دمع السرور بارد ، ودمع الحزن سخن ، ويقال : أقر الله عينك ، وأسخن الله
عين العدو. وقال أبو تمام :
فأما عيون
العاشقين فأسخنت
|
|
وأما عيون
الشامتين فقرت
|
وقيل : مأخوذ من
القرار أي يقر النظر به ولا ينظر إلى غيره. وقال أبو عمرو : وقرة العين النوم أي
آمنا لأن الأمن لا يأتي مع الخوف حكاه القفال ، وقرة العين فيمن ذكروا رؤيتهم
مطيعين لله قاله ابن عباس والحسن وحضرمي كانوا في أول الإسلام يهتدي الأب والابن
كافر والزوج والزوجة كافرة ، وكانت قرة عيونهم في إيمان أحبابهم. وقال ابن عباس :
قرة عين الولدان تراه يكتب الفقه والظاهر أنهم دعوا بذلك ليجابوا في الدنيا فيسروا
بهم. وقيل : سألوا أن يلحق الله بهم أولئك في الجنة ليتم لهم سرورهم انتهى. ويتضمن
هذا القول الأول الذي هو في الدنيا لأن ذلك نتيجة إيمانهم في الدنيا. ومن الظاهر
أنها لابتداء الغاية أي (هَبْ لَنا) من جهتهم ما تقربه عيوننا من طاعة وصلاح ، وجوز أن تكون
للبيان قاله الزمخشري قال : كأنه قيل (هَبْ لَنا قُرَّةَ
أَعْيُنٍ) ثم بينت القرة وفسرت بقوله (مِنْ أَزْواجِنا
وَذُرِّيَّاتِنا) ومعناه أن يجعلهم الله لهم قرة أعين من قولك : رأيت منك
أسدا أي أنت أسد انتهى. وتقدم لنا أن (مِنْ) التي لبيان الجنس لا بد أن تتقدم المبين. ثم يأتي بمن
البيانية وهذا على مذهب من أثبت أنها تكون لبيان الجنس. والصحيح أن هذا المعنى ليس
بثابت لمن.
وقرأ ابن عامر
والحرميان وحفص وذرياتنا على الجمع وباقي السبعة وطلحة على الإفراد. وقرأ عبد الله
وأبو الدرداء وأبو هريرة قرات على الجمع ، والجمهور على الإفراد. ونكرت القرة
لتنكير الأعين كأنه قال هب لنا منهم سرورا وفرحا وجاء (أَعْيُنٍ) بصيغة جمع القلة دون عيون الذي هو صيغة جمع الكثرة لأنه
أريد أعين المتقين وهي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم قاله الزمخشري. وليس بجيد
لأن أعين تنطلق على العشرة فما دونه من الجمع ، والمتقون ليست أعينهم عشرة بل هي
عيون كثيرة جدا وإن كانت عيونهم قليلة بالنسبة إلى عيون غيرهم فهي من الكثرة بحيث
تفوت العد. وأفرد (إِماماً) إما اكتفاء بالواحد عن الجمع ، وحسنه كونه فاصلة ويدل على
الجنس ولا لبس ، وإما لأن المعنى
واجعل كل واحد (إِماماً) وإما أن يكون جمع آمّ كحال وحلال ، وإما لاتحادهم واتفاق
كلمتهم قالوا : واجعلنا إماما واحدا دعوا الله أن يكونوا قدوة في الدين ولم يطلبوا
الرئاسة قاله النخعي. وقيل : في الآية ما يدل على أن الرئاسة في الدين يجب أن تطلب.
ونزلت في العشرة المبشّرين بالجنة.
(أُوْلئِكَ) إشارة إلى الموصوفين بهذه الصفات العشرة. و (الْغُرْفَةَ) اسم معرف بأل فيعم أي الغرف كما جاء (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) وهي العلالي. قال ابن عباس : وهي بيوت من زبرجد ودر
وياقوت. وقيل (الْغُرْفَةَ) من أسماء الجنة. وقيل : السماء السابعة غرفة. وقيل : هي
أعلى منازل الجنة. وقيل : المراد العلو في الدرجات والباء في (بِما صَبَرُوا) للسبب. وقيل : للبدل أي بدل صبرهم كما قال :
فليت لي بهم قوما
إذا ركبوا
أي فليت لي بدلهم
قوما ولم يذكر متعلق الصبر مخصصا ليعم جميع متعلقاته. وقرأ الحسن وشيبة وأبو جعفر
والحرميان وأبو عمرو وأبو بكر (وَيُلَقَّوْنَ) بضم الياء وفتح اللام والقاف مشددة. وقرأ طلحة ومحمد
اليماني وباقي السبعة بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف. والتحية دعاء بالتعمير
والسلام دعاء بالسلامة ، أي تحييهم الملائكة أو يحيي بعضهم بعضا. وقيل : يحيون
بالتحف جمع لهم بينهم المنافع والتعظيم. (حَسُنَتْ
مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) معادل لقوله في جهنم (ساءَتْ مُسْتَقَرًّا
وَمُقاماً).
ولما وصف عباده
العباد وعدد ما لهم من صالح الأعمال أمر رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يصرح للناس بأن لا اكتراث لهم عند ربهم إنما هو العبادة
والدعاء في قوله (لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) هو العبادة والظاهر أن (ما) نفي أي ليس (يَعْبَؤُا بِكُمْ
رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) ويجوز أن تكون استفهامية فيها معنى النفي أي ، أي عبء يعبأ
بكم ، و (دُعاؤُكُمْ) مصدر أضيف إلى الفاعل أي لو لا عبادتكم إياه أي لو لا
دعاؤكم وتضرعكم إليه أو ما يعبأ بتعذيبكم لو لا دعاؤكم الأصنام آلهة. وقيل : أضيف
إلى المفعول أي لو لا دعاؤه إياكم إلى طاعته. والذي يظهر أن قوله (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ) خطاب لكفار قريش القائلين نسجد لما تأمرنا أي لا يحفل بكم
ربي لو لا تضرعكم إليه واستغاثتكم إياه في الشدائد.
(فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) بما جاء به الرسول صلىاللهعليهوسلم ، فتستحقون العقاب (فَسَوْفَ يَكُونُ) العقاب
__________________
وهو ما أنتجه
تكذيبكم ونفس لهم في حلوله بلفظة (فَسَوْفَ يَكُونُ
لِزاماً) أي لازما لهم لا ينفكون منه. وقرأ عبد الله وابن عباس وابن
الزبير : فقد كذب الكافرون وهو محمول على أنه تفسير لا قرآن ، والأكثرون على أن
اللزام هنا هو يوم بدر وهو قول ابن مسعود وأبيّ. وقيل : عذاب الآخرة. وقيل : الموت
ولا يحمل على الموت المعتاد بل القتل ببدر. وقيل : التقدير (فَسَوْفَ يَكُونُ) هو أي العذاب وقد صرح به من قرأ (فَسَوْفَ يَكُونُ) العذاب (لِزاماً) والوجه أن يترك اسم كان غير منطوق به بعد ما علم أنه مما
توعد به لأجل الإبهام وتناول ما لا يكتنهه الوصف. وعن ابن عباس (فَسَوْفَ يَكُونُ) هو أي التكذيب (لِزاماً) أي لازما لكم لا تعطون توبة ذكره الزهراوي. قال الزمخشري :
والخطاب إلى الناس على الإطلاق ومنهم مؤمنون عابدون ومكذبون عاصون ، فخوطبوا بما
وجد في جنسهم من العبادة والتكذيب (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) يقول إذا أعلمتكم أن حكمي أني لا أعتد إلّا بعبادتهم ، فقد
خالفتم بتكذيبكم حكمي فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم حتى يكبكم في النار. ونظيره في
الكلام أن يقول الملك لمن عصى عليه : إن من عادتي أن أحسن إلى من يطيعني ويتبع
أمري ، فقد عصيت فسوف ترى ما أحل بك بسبب عصيانك. وقرأ ابن جريج : فسوف تكون بتاء
التأنيث أي فسوف تكون العاقبة ، وقرأ الجمهور (لِزاماً) بكسر اللام. وقرأ المنهال وأبان بن ثعلب وأبو السماك
بفتحها مصدر يقول لزم لزوما ولزاما ، مثل ثبت ثبوتا وثباتا. وأنشد أبو عبيدة عليّ
كسر اللام لصخر الغي :
فأما ينج من حتف
أرض
|
|
فقد لقيا
حتوفهما لزاما
|
ونقل ابن خالويه عن
أبي السماك أنه قرأ لزام على وزن حذام جعله مصدرا معدولا عن اللزمة كفجار معدول عن
الفجرة.
سورة الشعراء
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
طسم
(١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ
يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً
فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ
الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا
فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا
إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩) وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي
أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي
فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ
(١٤) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥)
فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ
أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً
وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي
فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ
الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي
حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها
عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ
الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ
كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ
رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي
أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ
وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً
غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ
بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١)
فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ
بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ
عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا
تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ
(٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ
يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩)
لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا
جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ
الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢)
قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ
وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤)
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى
وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ
لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ
أَجْمَعِينَ (٤٩)قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا
نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ
(٥١) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢)
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ
قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ
(٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ
(٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ
(٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١)
قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ
اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ
الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ
مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ
أَغْرَقْنَا
الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ
(٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠)
قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ
يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما
كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ
عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ
(٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ
يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ
أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً
وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ
(٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي
إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧)
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ
سَلِيمٍ (٨٩) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ
لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ
اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ
وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها
يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ
نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ
(٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ
لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما
كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ (١٠٤)
الشرذمة : الجمع
القليل المحتقر ، وشرذمة كل شيء : بقيته الخسيسة : وأنشد أبو عبيدة :
في شراذم البغال
وقال آخر :
جاء الشتاء وقميصي
أخلاق شراذم يضحك منه
وقال الجوهري :
الشرذمة : الطائفة من الناس ، والقطعة من الشيء ، وثوب شراذم : أي قطع. انتهى.
وقيل : السفلة من الناس. كبكبه : قلب بعضه على بعض ، وحروفه كلها أصول عند جمهور
البصريين. وقال الزمخشري : الكبكبة : تكرير الكب ، جعل التكرير في اللفظ دليلا على
التكرير في المعنى. وقال ابن عطية : كبكب مضاعف من كب ، هذا قول الجمهور ، وهو
الصحيح ، لأن معناهما واحد ، والتضعيف في الفعل نحو : صر وصرصر. انتهى. وقول
الزمخشري وابن عطية هو قول الزجاج ، وهو أنه يزعم أن نحو كبكبة مما يفهم المعنى بسقوط
ثالثه ، هو مما ضوعف فيه الباء. وذهب الكوفيون إلى أن الثالث بدل من مثل الثاني ،
فكان أصله كبب ، فأبدل من الباء الثانية كاف ، الحميم : الولي القريب ، وحامة
الرجل : خاصته. وقال الزمخشري : الحميم من الاحتمام ، وهو الاهتمام ، وهو الذي
يهمه ما أهمك ؛ أو من الحامة بمعنى الخاصة ، وهو الصديق الخالص.
(طسم ، تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْمُبِينِ ، لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ،
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ
لَها خاضِعِينَ ، وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا
كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ، فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا
بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ، أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها
مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ
مُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ، وَإِذْ نادى
رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ، قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا
يَتَّقُونَ ، قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ، وَيَضِيقُ صَدْرِي
وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ ، وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ
فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ، قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ
مُسْتَمِعُونَ ، فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ ،
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ).
هذه السورة كلها
مكية في قول الجمهور إلا أربع آيات من : (وَالشُّعَراءُ
يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) إلى آخر السورة ، وقاله ابن عباس وعطاء وقتادة. وقال مقاتل
: (أَوَلَمْ يَكُنْ
لَهُمْ آيَةً) ، الآية مدنية. ومناسبة أولها لآخر ما قبلها أنه قال تعالى
: (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ
فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) ذكر تلهف رسول الله صلىاللهعليهوسلم على كونهم لم يؤمنوا ، وكونهم كذبوا بالحق ، لما جاءهم.
ولما أوعدهم في آخر السورة بقوله : (فَسَوْفَ يَكُونُ
لِزاماً) ، أوعدهم في أول هذه فقال في إثر إخباره بتكذيبهم فسوف
يأتيهم (أَنْباءُ ما كانُوا
بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ). وتلك إشارة إلى آيات السورة ، أو آيات القرآن. وأمال فتحة
الطاء حمزة والكسائي ، وأبو بكر وباقي السبعة : بالفتح ؛ وحمزة بإظهار نون سين ،
وباقي السبعة بإدغامها ؛ وعيسى بكسر الميم من طسم هنا
__________________
وفي القصص ، وجاء
كذلك عن نافع. وفي مصحف عبد الله ط س م مقطوع ، وهي قراءة أبي جعفر. وتكلموا على
هذه الحروف بما يشبه اللغز والأحاجي ، فتركت نقله ، إذ لا دليل على شيء مما قالوه.
و (الْكِتابِ الْمُبِينِ) : هو القرآن ، هو بين في نفسه ومبين غيره من الأحكام
والشرائع وسائر ما اشتمل عليه ، أو مبين إعجازه وصحة أنه من عند الله. وتقدم تفسير
(باخِعٌ نَفْسَكَ) في أول الكهف. (أَلَّا يَكُونُوا) : أي لئلا يؤمنوا ، أو خيفة أن لا يؤمنوا. وقرأ قتادة وزيد
بن علي : باخع نفسك على الإضافة. (إِنْ نَشَأْ
نُنَزِّلْ) دخلت إن على نشأ
وإن للممكن ، أو المحقق المبهم زمانه. قال ابن عطية : ما في الشرط من الإبهام هو
في هذه الآية في حيزنا ، وأما الله تعالى فقد علم أنه لا ينزل عليهم آية اضطرار ،
وإنما جعل الله آيات الأنبياء والآيات الدالة عليه معرضة للنظر والفكر ، ليهتدي من
سبق في علمه هداه ، ويضل من سبق ضلاله ، وليكون للنظرة كسب به يتعلق الثواب
والعقاب ، وآية الاضطرار تدفع جميع هذا إن لو كانت. انتهى. ومعنى آية : أي ملجئة
إلى الإيمان يقهر عليه. وقرأ أبو عمرو في رواية هرون عنه : إن يشأ ينزل على الغيبة
، أي إن يشأ الله ينزل ، وفي بعض المصاحف : لو شئنا لأنزلنا. وقرأ الجمهور : فظلت
، ماضيا بمعنى المستقبل ، لأنه معطوف على ينزل. وقرأ طلحة : فتظلل ، وأعناقهم. قال
الزمخشري : فإن قلت : كيف صح مجيء خاضعين خبرا عن الأعناق؟ قلت : أصل الكلام :
فظلوا لها خاضعين ، فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخشوع ، وترك الكلام على أصله
كقولهم : ذهبت أهل اليمامة ، كان الأهل غير مذكور. انتهى. وقال مجاهد ، وابن زيد ،
والأخفش : جماعاتهم ، يقال : جاءني عنق من الناس ، أي جماعة ، ومنه قول الشاعر :
إن العراق وأهله
عنق إليك فهيت هيتا
وقيل : أعناق
الناس : رؤساؤهم ، ومقدموهم شبهوا بالأعناق ، كما قيل :
لهم الرؤوس
والنواصي والصدور
قال الشاعر :
في مجفل من نواصي
الخيل مشهود
وقيل : أريد
الجارحة. فقال ابن عيسى : هو على حذف مضاف ، أي أصحاب الأعناق. وروعي هذا المحذوف
في قوله : (خاضِعِينَ) ، حيث جاء جمعا للمذكر
العاقل ، أولا حذف
، ولكنه اكتسى من إضافته للمذكر العاقل وصفه ، فأخبر عنه إخباره ، كما يكتسي
المذكر التأنيث من إضافته إلى المؤنث في نحو : كما شرقت صدر القناة من الدم أولا
حذف ، ولكنه لما وضعت لفعل لا يكون إلا مقصودا للعاقل وهو الخضوع ، جمعت جمعه كما
جاء : (أَتَيْنا طائِعِينَ) . وقرأ عيسى ، وابن أبي عبلة : خاضعة. وعن ابن عباس : نزلت
هذه الآية فينا وفي بني أمية ، ستكون لنا عليهم الدولة ، فتذل أعناقهم بعد معاوية
، ويلحقهم هوان بعد عز. (وَما يَأْتِيهِمْ
مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) : تقدم تفسيره في الأنبياء. (إِلَّا كانُوا) : جملة حالية ، أي إلا يكونوا عنها. وكان يدل ذلك أن
ديدنهم وعادتهم الإعراض عن ذكر الله. قال الزمخشري : فإن قلت : كيف خولف بين
الألفاظ والغرض واحد ، وهو الإعراض؟ قلت : كان قبل حين أعرضوا عن الذكر ، فقد
كذبوا به ، وحين كذبوا به ، فقد خف عليهم قدره وصار عرضة الاستهزاء بالسخرية ، لأن
من كان قابلا للحق مقبلا عليه ، كان مصدقا به لا محالة ، ولم يظن به التكذيب. ومن
كان مصدقا به ، كان موقرا له. انتهى.
(فَسَيَأْتِيهِمْ) : وعيد بعذاب الدنيا ، كيوم بدر ، وعذاب الآخرة. ولما كان
إعراضهم عن النظر في صانع الوجود ، وتكذيب ما جاءتهم به رسله من أعظم الكفر ،
وكانوا يجعلون الأصنام آلهة ، نبه تعالى على قدرته ، وأنه الخالق المنشئ الذي
يستحق العبادة بقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا
إِلَى الْأَرْضِ)؟ والزوج : النوع. وقيل : الشيء وشكله. وقيل : أبيض وأسود
وأحمر وأصفر وحلو وحامض. وقال الفراء : الزوج : اللون. والكريم : الحسن ، قاله
مجاهد وقتادة. وقيل : ما يأكله الناس والبهائم. وقيل : الكثير المنفعة. وقيل :
الكريم صفة لكل ما يرضى ويحمد. وجه كريم : مرضي في حسنه وجماله ؛ وكتاب كريم :
مرضي في معانيه وفوائده. وقال : حتى يشق الصفوف من كرمه ، أي من كونه مرضيا في
شجاعته وبأسه ، ويراد الأشياء التي بها قوام الأمور ، والأغذية والنباتات ، ويدخل
في ذلك الحيوان لأنه عن اثنين. قال تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ
مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) . قال الشعبي : الناس من نبات الأرض ، فمن صار إلى الجنة
فهو كريم ، ومن صار إلى النار فبضد ذلك.
قال الزمخشري :
فإن قلت : ما معنى الجمع بين كم وكل؟ ولو قيل : (أَنْبَتْنا فِيها
مِنْ
__________________
كُلِّ
زَوْجٍ كَرِيمٍ) قلت : دل كل على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل ،
وكم على أن هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة ، فهذا معنى الجمع ، وبه نبه على كمال
قدرته. انتهى. وأفرد (لَآيَةً) ، وإن كان قد سبق ما دل على الكثرة في الأزواج ، وهو كم ،
وعلى الإحاطة بالعموم في الأزواج ، لأن المشار إليه واحد ، وهو الإنبات ، وإن
اختلفت متعلقاته ، أو أريد أن في كل واحد من تلك الأزواج لآية. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) : تسجيل على أكثرهم بالكفر. (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) : أي الغالب القاهر. ولما كان الموضع موضع بيان القدرة ،
قدم صفة العزة على صفة الرحمة. فالرحمة إذا كانت عن قدرة ، كانت أعظم وقعا ،
والمعنى : أنه عز في نقمته من الكفار ورحم مؤمني كل أمة. ولما ذكر تكذيب قريش بما
جاءهم من الحق وإعراضهم عنه ، ذكر قصة موسى عليهالسلام ، وما قاسى مع فرعون وقومه ، ليكون ذلك مسلاة لما كان
يلقاه عليه لصلاة والسلام من كفار قريش. إذ ، كانت قريش قد اتخذت آلهة من دون الله
، وكان قوم فرعون قد اتخذوه إلها ، وكان أتباع ملة موسى عليهالسلام هم المجاورون من آمن بالرسول صلىاللهعليهوسلم ، بدأ بقصة موسى ، ثم ذكر بعد ذلك ما يأتي ذكره من القصص.
والعامل في إذ ، قال الزجاج ، اتل مضمرة ، أي اتل هذه القصة فيما يتلو إذ نادى ،
ودليل ذلك (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ إِبْراهِيمَ) إذ. وقيل : العامل اذكر ، وهو مثل واتل ، ومعنى نادى :
دعا. وقيل : أمر. وأن : يجوز أن تكون مصدرية ، وأن تكون تفسيرية ، وسجل عليهم
بالظلم ، لظلم أنفسهم بالكفر ، وظلم بني إسرائيل بالاستعباد ، وذبح الأولاد ، و (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) ، وقيل : بدل من (الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ) ، والأجود أن يكون عطف بيان لأنهما عبارتان يعتقبان على
مدلول واحد ، إذ كل واحد عطف البيان ، وسوغه مستقل بالإسناد. ولما كان القوم
الظالمين يوهم الاشتراك ، أتى عطف البيان بإزالته ، إذ هو أشهر. وقرأ الجمهور :
ألا يتقون ، بالياء على الغيبة. وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار ، وشقيق بن سلمة ،
وحماد بن سلمة ، وأبو قلابة : بتاء الخطاب ، على طريقة الالتفات إليهم إنكارا
وغضبا عليهم ، وإن لم يكونوا حاضرين ، لأنه مبلغهم ذلك ومكافحهم. قال ابن عطية :
معناه قل لهم ، فجمع في هذه العبارة من المعاني نفي التقوى عنهم وأمرهم بالتقوى.
وقال الزمخشري :
فإن قلت : بم تعلق قوله : (أَلا يَتَّقُونَ)؟ قلت : هو كلام مستأنف
__________________
اتبعه عزوجل إرساله إليهم للإنذار والتسجيل عليهم بالظلم تعجيبا لموسى عليهالسلام من حالهم التي سعت في الظلم والعسف ، ومن أمنهم العواقب
وقلة خوفهم وحذرهم من أيام الله. ويحتمل أن يكون ألا يتقون حالا من الضمير في
الظالمين ، أي يظلمون غير متقين الله وعقابه ، فأدخلت همزة الإنكار على الحال.
انتهى. وهذا الاحتمال الذي أورده خطأ فاحش لأنه جعله حالا من الضمير في الظالمين ،
وقد أعرب هو (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) عطف بيان ، فصار فيه الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي
بينهما ، لأن قوم فرعون معمول لقوله : (ائْتِ) والذي زعم أنه حال معمول لقوله الظالمين ، وذلك لا يجوز
أيضا لو لم يفصل بينهما بقوله : قوم فرعون. لم يجز أن تكون الجملة حالا ، لأن ما
بعد الهمزة يمتنع أن يكون معمولا لما قبلها. وقولك : جئت أمسرعا؟ على أن يكون أمسرعا
حالا من الضمير في جئت لا يجوز ، فلو أضمرت عاملا بعد الهمزة جاز. وقرىء : بفتح النون
وكسرها ، التقدير : أفلا يتقونني؟ فحذفت نون الرفع لالتقاء الساكنين ، وياء
المتكلم اكتفاء بالكسرة. وقال الزمخشري : في ألا يتقون بالياء وكسر النون وجه آخر
، وهو أن يكون المعنى : ألا يا ناس اتقون ، كقوله : (أَلَّا يَسْجُدُوا) . انتهى. يعني : وحذف ألف يا خطا ونطقا لالتقاء الساكنين ،
وهذا تخريج بعيد. والظاهر أن ألا للعرض المضمن الحض على التقوى ، وقول من قال إنها
للتنبيه لا يصح ، وكذلك قول الزمخشري : إنها للنفي دخلت عليها همزة الإنكار.
ولما كان فرعون
عظيم النخوة حتى ادعى الإلهية ، كثير المهابة ، قد أشربت القلوب الخوف منه خصوصا
من كان من بني إسرائيل ، قال موسى عليهالسلام : (إِنِّي أَخافُ أَنْ
يُكَذِّبُونِ). وقرأ الجمهور : (وَيَضِيقُ وَلا
يَنْطَلِقُ) ، بالرفع فيهما عطفا على أخاف. فالمعنى : إنه يفيد ثلاث
علل : خوف التكذيب ، وضيق الصدر ، وامتناع انطلاق اللسان. وقرأ الأعرج ، وطلحة ،
وعيسى ، وزيد بن عليّ ، وأبو حيوة ، وزائدة ، عن الأعمش ، ويعقوب : بالنصب فيهما
عطفا على يكذبون ، فيكون التكذيب وما بعده يتعلق بالخوف. وحكى أبو عمرو الداني ،
عن الأعرج : أنه قرأ بنصب : ويضيق ، ورفع : ولا ينطلق ، وعدم انطلاق اللسان هو بما
يحصل من الخوف وضيق الصدر ، لأن اللسان إذ ذاك يتلجلج ولا يكاد يبين عن مقصود
الإنسان. وقال ابن عطية : وقد يكون عدم انطلاق اللسان بالقول لغموض المعاني التي
تطلب لها ألفاظ محررة ، فإذا كان هذا في وقت ضيق الصدر ، لم ينطلق اللسان.
__________________
(فَأَرْسِلْ إِلى
هارُونَ) : معناه يعينني ويؤازرني ، وكان هارون عليهالسلام فصيحا واسع الصدر ، فحذف بعض المراد من القول ، إذ باقية
دال عليه. انتهى. وقال الزمخشري : ومعنى (فَأَرْسِلْ إِلى
هارُونَ) : أرسل إليه جبريل عليهالسلام ، واجعله نبيا ، وأزرني به ، واشدد به عضدي ؛ وهذا كلام
مختصر ، وقد أحسن في الاختصار حيث قال : (فَأَرْسِلْ إِلى
هارُونَ) ، فجاء بما يتضمن معنى الاستثناء. وقوله : (إِنِّي أَخافُ) إلى آخره ، بعد أن أمره الله بأن يأتي القوم الظالمين ،
ليس توقفا فيما أمره الله تعالى به ، ولكنه طلب من الله أن يعضده بأخيه ، حتى
يتعاونا على إنفاذ أمره تعالى ، وتبليغ رسالته ، مهد قبل طلب ذلك عذره ثم طلب.
وطلب العون دليل على القبول لا على التوقف والتعلل ، ومفعول أرسل محذوف. فقيل
جبريل ، كما تقدم ذكره ، وفي الخبر أن الله أرسل موسى إلى هارون ، وكان هارون بمصر
حين بعث الله موسى نبيا بالشام. قال السدي : سار بأهله إلى مصر ، فالتقى بهارون
وهو لا يعرفه فقال : أنا موسى ، فتعارفا ؛ وأمرهما أن ينطلقا إلى فرعون لأداء
الرسالة ، فصاحت أمهما لخوفها عليهما ، فذهبا إليه.
(وَلَهُمْ عَلَيَّ
ذَنْبٌ) : أي قبلي قود ذنب ، أو عقوبة ، وهو قتله القبطي الكافر
خباز فرعون بالوكزة التي وكزها ، أو سمى تبعة الذنب ذنبا ، كما سمى جزاء السيئة
سيئة. وليس قول موسى ذلك تلكأ في أداء الرسالة ، بل قال ذلك استدفاعا لما يتوقعه
منهم من القتل ، وخاف أن يقتل قبل أداء الرسالة ، ويدل على ذلك قوله : (كَلَّا) ، وهي كلمة الردع ، ثم وعده تعالى بالكلاءة والدفع. وكلا
رد لقوله : (إِنِّي أَخافُ) ، أي لا تخف ذلك ، فإني قضيت بنصرك وظهورك. وقوله : (فَاذْهَبا) ، أمر لهما بخطاب لموسى فقط ، لأن هارون ليس بمكلم بإجماع
، ولكنه قال لموسى : (اذْهَبْ أَنْتَ
وَأَخُوكَ) . قال الزمخشري : جمع الله له الاستجابتين معا في قوله : (كَلَّا فَاذْهَبا) ، لأنه استدفعه بلاءهم ، فوعده الدفع بردعه عن الخوف ،
والتمس الموازرة بأخيه ، فأجابه بقوله : اذهب ، أي اذهب أنت والذي طلبته هارون.
فإن قلت : علام عطف قوله اذهبا؟ قلت : على الفعل الذي يدل عليه كلا ، كأنه قيل :
ارتدع يا موسى عما تظن ، فاذهب أنت وهارون بآياتنا ، يعم جميع ما بعثهما الله به ،
وأعظم ذلك العصا ، وبها وقع العجز. قال ابن عطية : ولا خلاف أن موسى هو الذي حمله
الله أمر النبوة وكلفها ، وأن هارون كان نبيا رسولا معينا له ووزيرا. انتهى. ومعكم
، قيل : من وضع الجمع موضع المثنى ، أي معكما. وقيل : هو على ظاهره من الجمع ،
والمراد
__________________
موسى وهارون ومن
أرسلا إليه. وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يرجح أن يكون أريد بصورة الجمع
المثنى ، والخطاب لموسى وهارون فقط ، قال : لأن لفظة مع تباين من يكون كافرا ،
فإنه لا يقال الله معه. وعلى أنه أريد بالجمع التثنية ، حمله سيبويه رحمهالله وكأنهما لشرفهما عند الله ، عاملهما في الخطاب معاملة
الجمع ، إذ كان ذلك جائزا أن يعامل به الواحد لشرفه وعظمته.
قال ابن عطية : (مُسْتَمِعُونَ) اهتبالا ، ليس في صيغة سامعون ، وإلا فليس يوصف الله تعالى
بطلب الاستماع ، وإنما القصد إظهار التهمم ليعظم أنس موسى ، أو يكون الملائكة بأمر
الله إياها تستمع. وقال الزمخشري : (مَعَكُمْ
مُسْتَمِعُونَ) من مجاز الكلام ، يريد أنا لكما ولعدو كما كالناصر الظهير
لكما عليه إذا حضر واستمع ما يجري بينكما وبينه ، فأظهركما وغلبكما وكسر شوكته
عنكما ونكسه. انتهى. ويجوز أن يكون معه متعلقا بمستمعون ، وأن يكون خبرا ،
ومستمعون خبر ثان. والمعية هنا مجاز ، وكذلك الاستماع ، لأنه بمعنى الإصغاء ، ولا
يلزم من الاستماع السماع ، تقول : أسمع إليه ، فما سمع واستمع إليه ، فسمع كما قال
: (اسْتَمَعَ نَفَرٌ
مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا) ، وأفرد رسول هنا ولم يثن ، كما في قوله : (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) ، إما لأنه مصدر بمعنى الرسالة ، فجاز أن يقع مفردا خبر المفرد
فما فوقه ، وإما لكونهما ذوي شريعة واحدة ؛ فكأنهما رسول واحد. وأريد بقوله : أنا
أو كل واحد منا رسول.
و (رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) فيه رد عليه ، وأنه مربوب لله تعالى ، بادهه بنقض ما كان
أبرمه من ادعاء الألوهية ، ولذلك أنكر فقال : وما رب العالمين والمعنى إليك ، و (أَنْ أَرْسِلْ) : يجوز أن تكون تفسيرية لما في رسول من معنى القول ، وأن
تكون مصدرية ، وأرسل بمعنى أطلق وسرح ، كما تقول : أرسلت الحجر من يدي ، وأرسلت
الصقر. وكان موسى مبعوثا إلى فرعون في أمرين : إرسال بني إسرائيل ليزول عنهم
العبودية ، والإيمان بالله وبعث بالعبادات والشرع إلى بني إسرائيل وإرسالهم معهما
كان إلى فلسطين ، وكانت مسكن موسى وهارون.
(قالَ أَلَمْ
نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ، وَفَعَلْتَ
فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ ، قالَ فَعَلْتُها إِذاً
وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ، فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي
__________________
رَبِّي
حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ، وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ
أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ ، قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ ،
قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ،
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ ، قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ
الْأَوَّلِينَ ، قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ
، قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ ، قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ
الْمَسْجُونِينَ ، قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ، قالَ فَأْتِ بِهِ
إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ، فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ،
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ).
ويروى أنهما
انطلقا إلى باب فرعون ، ولم يؤذن لهما سنة ، حتى قال البواب : إن هنا إنسانا يزعم
أنه رسول رب العالمين ، فقال له : ائذن له لعلنا نضحك منه. فأديا إليه الرسالة ،
فعرف موسى فقال له : (أَلَمْ نُرَبِّكَ
فِينا وَلِيداً؟) وفي الكلام حذف
يدل عليه المعنى تقديره : فأتيا فرعون ، فقالا له ذلك. ولما بادهه موسى بأنه رسول
رب العالمين ، وأمره بإرسال بني إسرائيل معه ، أخذ يستحقره ويضرب عن المرسل وعما
جاء به من عنده ، ويذكره بحالة الصغر والمنّ عليه بالتربية. والوليد الصبي ، وهو
فعيل بمعنى مفعول ، أطلق ذلك عليه لقربه من الولادة. وقرأ أبو عمرو في رواية : من
عمرك ، بإسكان الميم ، وتقدم ذكر الخلاف في كمية هذه السنين في طه. وقرأ الجمهور :
فعلتك ، بفتح الفاء ، إذ كانت وكزة واحدة ، والشعبي : بكسر الفاء ، يريد الهيئة ،
لأن الوكزة نوع من القتل. عدد عليه نعمة التربية ومبلغه عنده مبلغ الرجال ، حيث
كان يقتل نظراءه من بني إسرائيل ، وذكره ما جرى على يده من قتل القبطي ، وعظم ذلك
بقوله : (وَفَعَلْتَ
فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) ، لأن هذا الإبهام ، بكونه لم يصرح أنها القتل ، تهويل
للواقعة وتعظيم شأن. (وَأَنْتَ مِنَ
الْكافِرِينَ) : يجوز أن يكون حالا ، أي قتلته وأنت إذ ذاك من الكافرين ،
فافترى فرعون بنسبة هذه الحال إليه إذ ذاك ، والأنبياء عليهمالسلام معصومون. ويجوز أن يكون إخبارا مستأنفا من فرعون ، حكم
عليه بأنه من الكافرين بالنعمة التي لي عليك من التربية والإحسان ، قاله ابن زيد ؛
أو من الكافرين بي في أنني إلهك ، قاله الحسن ؛ أو من الكافرين بالله لأنك كنت
معنا على ديننا هذا الذي تعيبه الآن ، قاله السدي.
(قالَ فَعَلْتُها
إِذاً) : إجابة موسى عن كلامه الأخير المتضمن للقتل ، إذ كان
الاعتذار فيه أهم من الجواب في ذكر النعمة بالتربية ، لأنه فيه إزهاق النفس. قال
ابن عطية : إذن صلة في الكلام وكأنها بمعنى حينئذ. انتهى. وليس بصلة ، بل هي حرف
معنى. وقوله وكأنها بمعنى حينئذ ، ينبغي أن يجعل قوله تفسير معنى ، إذ لا يذهب أحد
إلى أن إذن
ترادف من حيث
الإعراب حينئذ. وقال الزمخشري : فإن قلت : إذا جواب وجزاء معا ، والكلام وقع جوابا
لفرعون ، فكيف وقع جزاء؟ قلت : قول فرعون : (وَفَعَلْتَ
فَعْلَتَكَ) فيه معنى : إنك جازيت نعمتي بما فعلت ؛ فقال له موسى : نعم
فعلتها ، مجازيا لك تسليما لقوله ، كأن نعمته كانت عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلك
الجزاء. انتهى. وهذا الذي ذكره من أن إذا جواب وجزاء معا ، هو قول سيبويه ، لكن
الشراح فهموا أنها قد تكون جوابا وجزاء معا ، وقد تكون جوابا فقط دون جزاء.
فالمعنى اللازم لها هو الجواب ، وقد يكون مع ذلك جزاء. وحملوا قوله : (فَعَلْتُها إِذاً) من المواضع التي جاءت فيها جوابا لآخر ، على أن بعض أئمتنا
تكلف هنا كونها جزاء وجوابا ، وهذا كله محرر فيما كتبناه في إذن في شرح التسهيل ،
وإنما أردنا أن نذكر أن ما قاله الزمخشري ليس هو الصحيح ، ولا قول الأكثرين.
(وَأَنَا مِنَ
الضَّالِّينَ) ، قال ابن زيد : معناه من الجاهلين ، بأن وكزتي إياه تأتي
على نفسه. وقال أبو عبيدة : من الناسين ، ونزع لقوله : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) . وفي قراءة عبد الله ، وابن عباس : وأنا من الجاهلين ،
ويظهر أنه تفسير للضالين ، لا قراءة مروية عن الرسول صلىاللهعليهوسلم. وقال الزمخشري : من الفاعلين فعل أولي الجهل ، كما قال
يوسف لإخوته : (إِذْ أَنْتُمْ
جاهِلُونَ) أو المخلصين ، كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل ، أو
الذاهبين عن تلك الصفة. انتهى. وقيل : من الضالين ، يعني عن النبوة ، ولم يأتني عن
الله فيه شيء ، فليس عليّ فيما فعلته في تلك الحالة توبيخ. ومن غريب ما شرح به أن
معنى (وَأَنَا مِنَ
الضَّالِّينَ) ، أي من المحبين لله ، وما قتلت القبطي إلا غيرة لله. قيل
: والضلال يطلق ويراد به المحبة ، كما في قوله : (إِنَّكَ لَفِي
ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) ، أي في محبتك القديمة. وجمع ضمير الخطاب في منكم وخفتكم
بأن كان قد أفرد في : تمنها وعبدت ، لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده ، وإنما
منه ومن ملئه المذكورين قبل (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) ، وهم كانوا قوما يأتمرون لقتله. ألا ترى إلى قوله : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ
لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ) . وقرأ الجمهور : لما حرف وجوب لوجوب ، على قول سيبويه ،
وظرفا بمعنى حين ، على مذهب الفارسي. وقرأ حمزة في رواية : لما بكسر اللام وتخفيف
الميم ، أي يخوفكم. وقرأ عيسى : حكما بضم الكاف ؛ والجمهور : بالإسكان. والحكم :
النبوة.
__________________
(وَجَعَلَنِي مِنَ
الْمُرْسَلِينَ) : درجة ثانية للنبوة ، فرب نبي ليس برسول. وقيل : الحكم :
العلم والفهم.
(وَتِلْكَ نِعْمَةٌ
تَمُنُّها عَلَيَ) : وتلك إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) ؛ وذكر بهذا آخرا على ما بدأ به فرعون في قوله : (أَلَمْ نُرَبِّكَ). والظاهر أن هذا الكلام إقرار من موسى عليهالسلام بالنعمة ، كأنه يقول : وتربيتك لي نعمة عليّ من حيث عبدت
غيري وتركتني واتخذتني ولدا ، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي. وإلى هذا التأويل ذهب
السدّي والطبري. وقال قتادة : هذا منه على جهة الإنكار عليه أن تكون نعمة ، كأنه
يقول : أو يصح لك أن تعتد على نعمة ترك قتلي من أجل أنك ظلمت بني إسرائيل وقتلتهم؟
أي ليست بنعمة ، لأن الواجب كان أن لا تقتلني ولا تقتلهم ولا تستعبدهم بالقتل
والخدمة وغير ذلك. وقرأ الضحاك : وتلك نعمة ما لك أن تمنها ، وهذه قراءة تؤيد هذا
التأويل ، وهذا التأويل فيه مخالفة لفرعون ونقض كلامه كله. والقول الأول فيه إنصاف
واعتراف. وقال الأخفش : والفراء : قبل الواو همزة استفهام يراد به الإنكار ، وحذفت
لدلالة المعنى عليها ، ورده النحاس بأنها لا تحذف ، لأنها حرف يحدث معها معنى ،
إلا إن كان في الكلام أم لا خلاف في ذلك إلا شيئا ، قاله الفراء من أنه يجوز حذفها
مع أفعال الشك ، وحكى : ترى زيدا منطلقا ، بمعنى : ألا ترى؟ وكان الأخفش الأصغر
يقول : أخذه من ألفاظ العامة. وقال الضحاك : الكلام إذا خرج مخرج التبكيت يكون
باستفهام وبغير استفهام ، والمعنى : لو لم يقتل بني إسرائيل لرباني أبواي ، فأي
نعمة لك علي فأنت تمنّ علي بما لا يجب أن تمنّ به. وقيل : اتخاذك بني إسرائيل
عبيدا أحبط نعمتك التي تمنّ بها. وقال الزمخشري : وأبي ، يعني موسى عليهالسلام ، أن يسمي نعمته أن لا نعمة ، حيث بين أن حقيقة إنعامه
تعبد بني إسرائيل ، لأن تعبدهم وقصدهم بذبح أبنائهم هو السبب في حصوله عنده
وتربيته ، فكأنه امتن عليه بتعبيد قومه إذا حققت. وتعبيدهم : تذليلهم واتخاذهم
عبيدا ، يقال : عبدت الرجل وأعبدته ، إذا اتخذته عبدا ، قال الشاعر :
علام يعبدني
قومي وقد كثرت
|
|
فيهم أباعر ما
شاءوا وعبدان
|
فإن قلت : وتلك
إشارة إلى ماذا؟ وأن عبدت ما محلها من الإعراب؟ قلت : تلك إشارة إلى خصلة شنعاء
مبهمة ، لا يدري ما هي إلا بتفسيرها ؛ ومحل أن عبدت الرفع ، عطف بيان لتلك ،
ونظيره قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ
ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ
مُصْبِحِينَ) ، والمعنى : تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها عليّ. وقال
الزجاج : يجوز أن يكون في موضع نصب ، المعنى أنها صارت نعمة عليّ ، لأن عبدت بني
إسرائيل ، أي لو لم تفعل لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم. انتهى. وقال الحوفي : (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) في موضع نصب مفعول من أجله. وقال أبو البقاء : بدل ، ولما
أخبر موسى فرعون بأنه رسول رب العالمين ، لم يسأل إذ ذاك فيقول : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ)؟ بل أخذ في المداهاة وتذكار التربية والتقبيح لما فعله من
قتل القبطي. فلما أجابه عن ذلك انقطعت حجته في التربية والقتل ، وكان في قوله : (رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) دعاء إلى الإقرار بربوبية الله ، وإلى طاعة رب العالم ،
فأخذ فرعون يستفهم عن الذي ذكر موسى أنه رسول من عنده. والظاهر أن سؤاله إنما كان
على سبيل المباهتة والمكابرة والمرادّة ، وكان عالما بالله. ويدل عليه : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ
إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) ، ولكنه تعامى عن ذلك طلبا للرياسة ودعوى الإلهية ،
واستفهم بما استفهاما عن مجهول من الأشياء. قال مكي : كما يستفهم عن الأجناس ، وقد
ورد له استفهام بمن في موضع آخر ، ويشبه أنها مواطن. انتهى. والموضع الآخر قوله : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى)؟ ولما سأله فرعون ، وكان السؤال بما التي هي سؤال عن
الماهية ، ولم يمكن الجواب بالماهية ، أجاب بالصفات التي تبين للسامع أنه لا
مشاركة لفرعون فيها ، وهي ربوبية السموات والأرض وما بينهما. وقال الزمخشري : وهذا
السؤال لا يخلو أن يريد به أي شيء من الأشياء التي شوهدت وعرفت أجناسها ، فأجاب
بما يستدل عليه من أفعاله الخاصة ، ليعرفه أنه ليس مما شوهد وعرف من الأجرام
والأعراض ، وأنه شيء مخالف لجميع الأشياء ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ). وأما أن يريد أنه شيء على الإطلاق تفتيشا عن حقيقة الخاصة
ما هي ، فأجاب بأن الذي سألت عنه ليس إليه سبيل ، وهو الكافي في معرفته معرفة
بيانه بصفاته استدلالا بأفعاله الخاصة على ذلك ؛ وأما التفتيش عن حقيقة الخاصة
التي هي فوق فطر العقول ، فتفتيش عما لا سبيل إليه ، والسائل عنه متعنت غير طالب
للحق. والذي يليق بحال فرعون ، ويدل عليه الكلام ، أن كون سؤاله إنكارا لأن يكون
للعالمين رب سواه ، ألا ترى أنه يعلم حدوثه بعد العدم؟ وأنه محل للحوادث؟ وأنه لم
يدعّ الإلهية إلا في محل ملكه مصر؟ وأنه لم يكن ملك الأرض؟ بل كان فيها ملوك غيره
، وأنبياء في ذلك الزمان يدعون إلى الله كشعيب عليه
__________________
السلام؟ وأنه كان
مقرا بالله تعالى في باطن أمره؟ وجاء قوله : (وَما بَيْنَهُمَا) على التثنية ، والعائد عليه الضمير مجموع اعتبارا للجنسين
: جنس السماء ، وجنس الأرض ؛ كما ثنى المظهر في قوله :
بين رماحي مالك
ونهشل
اعتبارا للجنسين :
وقال أبو عبد الله الرازي يحتمل أن يقال : كان عالما بالله ولكنه قال ما قال طلبا
للملك والرياسة. وقد ذكر تعالى في كتابه ما يدل على أنه كان عارفا بالله ، وهو
قوله : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما
أَنْزَلَ هؤُلاءِ) الآية. ويحتمل أنه كان على مذهب الدهرية من أن الأفلاك
واجبة الوجود لذواتها ، وأن حركاتها أسباب لحصول الحوادث بالفاعل المختار ، ثم
اعتقد أنه بمنزلة إله لأهل إقليمه من حيث استعبدهم وملك زمام أمرهم. ويحتمل أن
يقال : كان على مذهب الحلولية القائلين : بأن ذات الإله تقرر بجسد إنسان معين حتى
يكون الإله سبحانه بمنزلة روح كل إنسان بالنسبة إلى جسده ، وبهذه التقديرات كان
يسمي نفسه إلها. انتهى. ومعنى : (إِنْ كُنْتُمْ
مُوقِنِينَ) : إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إلى النظر الصحيح ،
نفعكم هذا الجواب ، وإلا لم ينفعكم ؛ أو إن كنتم موقنين بشيء قط ، فهذا أولى ما
توقنون به لظهوره وإنارة دليله. وهذه المحاورة من فرعون تدل على أن موسى عليهالسلام دعاه إلى التوحيد.
(قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ) : هم أشراف قومه. قيل : كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساور ،
وكانت للملوك خاصة. (أَلا تَسْتَمِعُونَ) : أي ألا تصغون إلى هذه المقالة إغراء به وتعجبا ، إذ كانت
عقيدتهم أن فرعون ربهم ومعبودهم. قال ابن عطية : والفراعنة قبله كذلك ، وهذه ضلالة
منها في مصر وديارنا إلى اليوم بقية. انتهى. يشير إلى ما أدركه في عصره من ملوك
العبيديين الذين كان أتباعهم تدعى فيهم الإلهية ، وأقاموا ملوكا بمصر ، من زمان
المعز إلى زمان العاضد ، إلى أن محى الله دولتهم بظهور الملك الناصر صلاح الدين
يوسف بن أيوب بن شاري رضياللهعنه ، فلقد كانت له مآثر في الإسلام منها : فتح بيت المقدس
وبلاد كثيرة من سواحل الشام ، كان النصارى مستولين عليها ، فاستنقذها منهم. (قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ
الْأَوَّلِينَ) : نبههم على منشئهم ومنشىء آبائهم ، وجاء في قوله :
الأولين ، دلالة على إماتتهم بعد إيجادهم. وانتقل من الاستدلال بالعام إلى ما
يخصهم ، ليكون أوضح لهم في بيان بطل دعوى فرعون الإلهية ، إذ كان آباؤهم الأولون
تقدموا فرعون في الوجود ، فمحال أن يكون وهو في العدم إلها لهم.
(قالَ إِنَّ
رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ). قال أبو عبد الله الرازي : التعريف بهذا الأثر أظهر ،
فلهذا عدل موسى عليهالسلام من الكلام الأول إليه ، إذ كان لا يمكن أن يعتقد العاقل في
نفسه وفي آبائه كونهم واجبي الوجود لذواتهم ، لأن المشاهدة دلت على وجودهم بعد
عدمهم ، وعدمهم بعد وجودهم ، فعند ذلك قال فرعون : ما قال يعني أن المقصود من سؤال
ما طلبت الماهية وخصوصية الحقيقة. والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا تفيد تلك
الخصوصية ، فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلا عن أن يجيب عنه ،
فقال موسى عليهالسلام : (رَبُّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) : فعدل إلى طريق أوضح من الثاني ، وذلك أنه أراد بالمشرق :
طلوع الشمس وظهور النهار ، وأراد بالمغرب : غروب الشمس وزوال النهار.
وهذا التقدير
المستمر على الوجه العجيب لا يتم إلا بتدبير مدبر ، وهذا بعينه طريقة إبراهيم عليهالسلام مع نمروذ ، فإنه استدل أولا بالإحياء والإماتة ، وهو الذي
ذكره موسى عليهالسلام هنا بقوله : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ
آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) ، فأجابه نمروذ بقوله : (أَنَا أُحْيِي
وَأُمِيتُ) ، فقال : (فَإِنَّ اللهَ
يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ
الَّذِي كَفَرَ) وهو الذي ذكره موسى عليهالسلام هنا بقوله : (رَبُّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) : أي إن كنتم من العقلاء ، عرفتم أن لا جواب عن السؤال إلا
ما ذكرت. انتهى ، وفيه بعض تلخيص. وقال ابن عطية : زاده موسى عليهالسلام في بيان الصفات التي تظهر نقص فرعون ، وتبين أنه في غاية
البعد عن القدرة عليها ، وهي ربوبية المشرق والمغرب ، ولم يكن لفرعون إلا ملك مصر
من البحر إلى أسوان وأرض الإسكندرية. وقرأ مجاهد ، وحميد ، والأعرج : أرسل إليكم ،
على بناء الفاعل ، أي أرسله ربه إليكم. وقرأ عبد الله ، وأصحابه ، والأعمش : رب
المشارق والمغارب ، على الجمع فيهما. ولما انقطع فرعون في باب الاحتجاج ، رجع إلى
الاستعلاء والغلب ، وهذا أبين علامات الانقطاع ، فتوعد موسى بالسجن حين أعياه
خطابه : (قالَ لَئِنِ
اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ). وقال الزمخشري : لما أجاب موسى بما أجاب ، عجب قومه من
جوابه ، حيث نسب الربوبية إلى غيره ، فلما ثنى بتقرير قوله ، جننه إلى قومه وظنن
به ، حيث سماه رسولهم ، فلما ثلث احتد واحتدم ، وقال : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي).
فإن قلت : كيف قال
: أولا : (إِنْ كُنْتُمْ
مُوقِنِينَ) ، وآخرا : (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ)؟
__________________
قلت : لأين أوّلا
، فلما رأى شدة الشكيمة في العناد وقلة الإصغاء إلى عرض الحجج ، خاشن وعارض إن
رسولكم لمجنون بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ). فإن قلت : ألم يكن لأسجننك أخصر من (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) ومؤدّيا مؤدّاه؟ قلت : أما أخصر فنعم ، وأما مؤدّيا مؤدّاه
فلا ، لأن معناه : لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم في سجوني. وكان من عادته أن يأخذ
من يريد سجنه فيطرحه في هوّة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فردا ، لا يبصر فيها ولا
يسمع ، فكان ذلك أشد من القتل. انتهى. ولما كان عند موسى عليهالسلام من أمر فرعون ما لا يروعه معه توعد فرعون ، قال له على جهة
اللطف به والطمع في إيمانه : (أَوَلَوْ جِئْتُكَ
بِشَيْءٍ مُبِينٍ) ، أي يوضح لك صدقي ، أفكنت تسجنني؟ قال الزمخشري : أو لو
جئتك ، واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام ، معناه : أتفعل بي ذلك ولو جئتك بشيء
مبين؟ انتهى. وتقدّم لنا الكلام على هذه الواو ، والداخلة على لو في مثل هذا
السياق في قوله : (أَوَلَوْ كانَ
آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) ، فأغنى عن إعادته. وقال الحوفي : واو العطف دخلت عليها
همزة الاستفهام للتقرير ، والمعنى : أتسجنني حتى في هذه الحالة التي لا تناسب أن
أسجن وأنا متلبس بها؟.
ولما سمع فرعون
هذا من موسى طمع أن يجده موضع معارضة فقال له : (فَأْتِ بِهِ إِنْ
كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ، إن لك ربا بعثك رسولا إلينا. قال الزمخشري : وفي قوله : (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) دليل على أنه لا يأتي بالمعجزة إلا الصادق في دعواه ، لأن
المعجزة تصديق من الله لمدعي النبوة ، والحكيم لا يصدق الكاذب. ومن العجب أن مثل
فرعون لم يخف عليه مثل هذا ، وخفي على ناس من أهل القبلة ، حيث جوزوا القبيح على
الله حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات. انتهى. وتقديره : إن كنت من الصادقين
فأت به ، حذف الجزاء ، لأن الأمر بالإتيان يدل عليه. وقدره الزمخشري : إن كنت من
الصادقين في دعواك أتيت به. جعل الجواب المحذوف فعلا ماضيا ، ولا يقدر إلا من جنس
الدليل بقولهم : أنت ظالم إن فعلت ، تقديره : أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم. وقال
الحوفي : إن حرف شرط يجوز أن يكون ما تقدم جوابه ، وجاز تقديم الجواب ، لأن حذف
الشرط لم يعمل في اللفظ شيئا. ويجوز أن يكون الجواب محذوفا تقديره فأت به. وقول
الزمخشري : حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات ، إشارة إلى إنكار الكرامات التي
ذهب أهل السنة إلى إثباتها. والمعجز عندهم هو ما كان خارقا للعادة ، ولا يكون إلا
لنبي أو
__________________
في زمان نبي ، إن
جرى على يد غيره فتكون معجزة لذلك النبي ، أو على سبيل الإرهاص لنبي.
(فَأَلْقى عَصاهُ) : أي رماها من يده ، وتقدم الكلام على عصا موسى عليهالسلام. والثعبان : أعظم ما يكون من الحيات. ومعنى (مُبِينٌ) : ظاهر الثعبانية ، ليست من الأشياء التي تزوّر بالشعبذة
والسحر. (وَنَزَعَ يَدَهُ) من جيبه ، (فَإِذا هِيَ) تلألأ كأنها قطعة من الشمس. ومعنى (لِلنَّاظِرِينَ) : أي بياضها يجتمع النظارة على النظر إليه لخروجه عن
العادة ، وكان بياضا نورانيا. روي أنه لما أبصر أمر العصا قال : فهل غيرها؟ فأخرج
يده ، فقال : ما هذه؟ قال : يدك ، فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي
الأبصار ويسد الأفق.
(قالَ لِلْمَلَإِ
حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ
بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ ، قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي
الْمَدائِنِ حاشِرِينَ ، يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ، فَجُمِعَ السَّحَرَةُ
لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ، وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ ،
لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ ، فَلَمَّا جاءَ
السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ
الْغالِبِينَ ، قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ، قالَ
لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ ، فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ
وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ ،
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ ، فَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ ساجِدِينَ ، قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ ، رَبِّ مُوسى
وَهارُونَ ، قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ
الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ
أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ،
قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ ، إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ
يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ).
قال ابن عطية :
وانتصب حوله على الظرف ، وهو في موضع الحال ، أي كائنين حوله ، فالعامل فيه محذوف
، والعامل فيه هو الحال حقيقة والناصب له ، قال : لأنه هو العامل في ذي الحال
بواسطة لام الجر ، نحو : مررت بهند ضاحكة. والكوفيون يجعلون الملأ موصولا ، فكأنه
قيل : قال للذي حوله ، فلا موضع للعامل في الظرف ، لأنه وقع صلة. وقال الزمخشري :
فإن قلت : ما العامل في حوله؟ قلت : هو منصوب نصبين : نصب في اللفظ ، ونصب في
المحل. فالعامل في النصب اللفظي ما يقدر في الظرف ، وذلك استقروا حوله ، وهذا يقدر
في جميع الظروف ، والعامل في النصب المحلي ، وهو النصب على الحال. انتهى. وهو
تكثير وشقشقة كلام في أمر واضح من أوائل علم العربية.
ولما رأى فرعون
أمر العصا واليد ، وما ظهر فيهما من الآيات ، هاله ذلك ولم يكن له فيه مدفع فزع
إلى رميه بالسحر. وطمع لغلبة علم السحر في ذلك الزمان أن يكون ثمّ من يقاومه ، أو
كان علم صحة المعجزة. وعمى تلك الحجة على قومه ، برميه بالسحر ، وبأنه (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ
أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) ، ليقوي تنفيرهم عنه ، وابتغاؤهم الغوائل له ، وأن لا
يقبلوا قوله ؛ إذ من أصعب الأشياء على النفوس مفارقة الوطن الذي نشأوا فيه ، ثم
استأمرهم فيما يفعل معه ، وذلك لما حل به من التحير والدهش وانحطاطه عن مرتبة
ألوهيته إلى أن صار يستشيرهم في أمره ، فيأمرونه بما يظهر لهم فيه ، فصار مأمورا
بعد أن كان آمرا. وتقدم الكلام في (فَما ذا تَأْمُرُونَ) وفي الألفاظ التي وافقت ما في سورة الأعراف ، فأغنى عن
إعادته. ولما قال : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ
عَلِيمٌ) ، عارضوا بقوله : (بِكُلِّ سَحَّارٍ) ، فجاءوا بكلمة الاستغراق والبناء الذي للمبالغة ، لينفسوا
عنه بعض ما لحقه من الكرب. وقرأ الأعمش ، وعاصم في رواية : بكل ساحر. واليوم
المعلوم : يوم الزينة ، وتقدم الكلام عليه في سورة طه. وقوله : (هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) ، استبطاء لهم في الاجتماع ، والمراد منه استعجالهم ، كما
يقول الرجل لغلامه : هل أنت منطلق؟ إذا أراد أن يحرك منه ويحثه على الانطلاق ، كما
يخيل إليه أن الناس قد انطلقوا وهو واقف ، ومنه قول تأبط شرا :
هل أنت باعث
دينارا لحاجتنا
|
|
أو عند رب أخا
عون بن مخراق
|
يريد : ابعثه
إلينا سريعا ولا تبطئ به. وترجوا اتباع السحرة ، أي في دينهم ، إن غلبوا موسى عليهالسلام ، ولا يتبعون موسى في دينه. وساقوا الكلام سياق الكناية ،
لأنهم إذا اتبعوهم لم يتبعوا موسى عليهالسلام. ودخلت إذا هنا بين اسم إن وخبرها ، وهي جواب وجزاء. و (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) : الظاهر أن الباء للقسم ، والذي تتعلق به الباء محذوف ،
وعدلوا عن الخطاب إلى اسم الغيبة تعظيما ، كما يقال للملوك : أمروا رضياللهعنهم بكذا ، فيخبر عنه إخبار الغائب ، وهذا من نوع إيمان
الجاهلية. وقد سلك كثير من المسلمين في الإيمان ما هو أشنع من إيمان الجاهلية ، لا
يرضون بالقسم بالله ، ولا يعتدون به حتى يحلف أحدهم بنعمة السلطان وبرأس المحلف ،
فحينئذ يستوثق منه. وقال ابن عطية : بعد أن ذكر أنه قسم قال : والأجر أن يكون على
جهة التعظيم والتبرك باسمه ، إذ كانوا يعبدونه ؛ كما تقول إذا ابتدأت بعمل شيء :
بسم الله ، وعلى بركة الله ، ونحو هذا. وبين قوله : (قالَ لَهُمْ مُوسى) ، وقوله : (لَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ) ، كلام محذوف ، وهو ما ثبت في الأعراف من تخييرهم إياه في
البداءة من يلقى. قال الزمخشري : فإن قلت : فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به؟
قلت : هو الله عزوجل ، بما خوّلهم من التوفيق وإيمانهم ، أو بما عاينوا من
المعجزة الباهرة ، ولك أن لا تقدر فاعلا ، لأن ألقوا بمعنى خروا وسقطوا. انتهى.
وهذا القول الآخر ليس بشيء. لا يمكن أن يبني الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله إلا
وقد حذف الفاعل فناب ذلك عنه ، أما أنه لا يقدر فاعل ، فقول ذاهب عن الصواب. وقال
ابن عطية : قرأ البزي ، وابن فليح ، عن ابن كثير : بشد التاء وفتح اللام وشد القاف
، ويلزم على هذه القراءة إذا ابتدأ أن يحذف همزة الوصل ، وهمزة الوصل لا تدخل على
الأفعال المضارعة ، كما لا تدخل على أسماء الفاعلين. انتهى. كأنه يخيل أنه لا يمكن
الابتداء بالكلمة إلا باجتلاب همزة الوصل ، وليس ذلك بلازم كثيرا ما يكون الوصل
مخالفا للوقف ، والوقف مخالفا للوصل ، ومن له تمرن في القراآت عرف ذلك.
(قالُوا : لا ضَيْرَ) : أي لا ضرر علينا في وقوع ما وعدتنا به من قطع الأيدي
والأرجل والتصليب ، بل لنا فيه المنفعة التامة بالصبر عليه. يقال : ضاره يضيره
ضيرا ، وضاره يضوره ضورا. (إِنَّا إِلى رَبِّنا) : أي إلى عظيم ثوابه ، أو : لا ضير علينا ، إذ انقلابنا
إلى الله بسبب من أسباب الموت والقتل أهون أسبابه. وقال أبو عبد الله الرازي : لما
آمنوا بأجمعهم ، لم يأمن فرعون أن يقول قومه لم تؤمن السحرة على كثرتهم إلا عن
معرفة بصحة أمر موسى فيؤمنون ، فبالغ في التنفير من جهة قوله : (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ
لَكُمْ) موهما أن مسارعتهم للإيمان دليل على ميلهم إليه قبل.
وبقوله : (إِنَّهُ
لَكَبِيرُكُمُ) ، صرح بما رمزه أولا من مواطأتهم وتقصيرهم ليظهر أمر
كبيرهم ، وبقوله : (فَلَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ) ، حيث أوعدهم وعيدا مطلقا ، وبتصريحه بما هددهم به من
العذاب ، فأجابوا بأن ذلك إن وقع ، لن يضير ، وفي قولهم : (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) ، نكتة شريفة ، وهو أنهم آمنوا لا رغبة ولا رهبة ، إنما
قصدوا محض الوصول إلى مرضات الله والاستغراق في أنوار معرفته. انتهى ملخصا. ويدفع
هذا الأخير قولهم : (إِنَّا نَطْمَعُ) إلى آخره ، ولا يكون ذلك إلا من خوف تبعات الخطايا.
والظاهر بقاء الطمع على بابه كقوله : (وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا
رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) . وقيل : يحتمل اليقين. قيل : كقول إبراهيم عليهالسلام : (وَالَّذِي أَطْمَعُ) .
وقرأ الجمهور : (أَنْ كُنَّا) ، بفتح الهمزة ، وفيه الجزم بإيمانهم. وقرأ أبان بن تغلب ،
وأبو معاذ : إن كنا ، بكسر الهمزة. قال صاحب اللوامح على الشرط : وجاز حذف
__________________
الفاء من الجواب ،
لأنه متقدم ، وتقديره : (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ
الْمُؤْمِنِينَ) فإنا نطمع ، وحسن الشرط لأنهم لم يتحققوا ما لهم عند الله
من قبول الإيمان. انتهى. وهذا التخريج على مذهب الكوفيين وأبي زيد والمبرد ، حيث
يجيزون تقديم جواب الشرط عليه ، ومذهب جمهور البصريين أن ذلك لا يجوز ، وجواب مثل
هذا الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه. وقال الزمخشري : هو من الشرط الذي يجيء به
المدلول بأمره المتحقق لصحته ، وهم كانوا متحققين أنهم أول المؤمنين. ونظيره قول
العامل لمن يؤخر. جعله إن كنت عملت فوفني حقي ، ومنه قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي
سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) ، مع علمه أنهم لم يخرجوا إلا لذلك. وقال ابن عطية بمعنى :
أن طمعهم إنما هو بهذا الشرط. انتهى. ويحتمل أن تكون إن هي المخففة من الثقيلة ،
وجاز حذف اللام الفارقة لدلالة الكلام على أنهم مؤمنون ، فلا يحتمل النفي ،
والتقدير : إن كنا لأول المؤمنين. وجاء في الحديث : «إن كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يحب العسل» ، أي ليحب. وقال الشاعر :
ونحن أباة الضيم
من آل مالك
|
|
وإن مالك كانت
كرام المعادن
|
أي : وإن مالك
لكانت كرام المعادن ، وأول يعني أول المؤمنين من القبط ، أو أول المؤمنين من حاضري
ذلك المجمع. وقال الزمخشري : وكانوا أول جماعة مؤمنين من أهل زمانهم ، وهذا لا يصح
لأن بني إسرائيل كانوا مؤمنين قبل إيمان السحرة.
(وَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ، فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي
الْمَدائِنِ حاشِرِينَ ، إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ، وَإِنَّهُمْ
لَنا لَغائِظُونَ ، وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ ، فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ ، كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي
إِسْرائِيلَ ، فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ، فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ
أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ، قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ
فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ
كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ، وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ ،
وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ،
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ). تقدم الخلاف في (أَسْرِ) ، وأنه قرىء بوصل الهمزة وبقطعها في سورة هود. وقرأ
اليماني : أن سر ، أمر من سار يسير. أمر الله موسى عليهالسلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلا من مصر إلى تجاه البحر ، وأخبره
أنهم سيتبعون. فخرج سحرا ، جاعلا طريق الشام على يساره ، وتوجه نحو
__________________
البحر ، فيقال له
في ترك الطريق ، فيقول : هكذا أمرت. فلما أصبح ، علم فرعون بسري موسى ببني إسرائيل
، فخرج في أثرهم ، وبعث إلى مدائن مصر ليحلقه العساكر. وذكروا أعدادا في أتباع
فرعون وفي بني إسرائيل ، الله أعلم بصحة ذلك. (إِنَّ هؤُلاءِ
لَشِرْذِمَةٌ) : أي قال إن هؤلاء وصفهم بالقلة ، ثم جمع القليل فجعل كل
حزب قليلا ، جمع السلامة الذي هو للقلة ، وقد يجمع القليل على أقلة وقلل ، والظاهر
تقليل العدد. قال الزمخشري : ويجوز أن يريد بالقلة : الذلة والقماءة ، ولا يريد
قلة العدد ، والمعنى : أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا تتوقع غفلتهم ، ولكنهم يفعلون
أفعالا تغيظنا وتضيق صدورنا ، ونحن قوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في
الأمور ، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى حسم يساره ، وهذه معاذير اعتذر بها إلى
أهل المدائن ، لئلا يظن به ما يكسر من قهره وسلطانه. انتهى. قال أبو حاتم : وقرأ
من لا يؤخذ عنه : (لَشِرْذِمَةٌ
قَلِيلُونَ) ، وليست هذه موقوفة. انتهى. يعني أن هذه القراءة ليست
موقوفة على أحد رواها عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وقيل : (لَغائِظُونَ) : أي بخلافهم وأخذهم الأموال حين استعاروها ولم يردوها ،
وخرجوا هاربين.
وقرأ الكوفيون ،
وابن ذكوان ، وزيد بن علي : (حاذِرُونَ) ، بالألف ، وهو الذي قد أخذ يحذر ويجدد حذره ، وحذر متعد.
قال تعالى : (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) . وقال العباس بن مرداس :
وإني حاذر أنمي
سلاحي
|
|
إلى أوصال ذيال
صنيع
|
وقرأ باقي السبعة
: بغير ألف وهو المتيقظ. وقال الزجاج : مؤدون ، أي ذوو أدوات وسلاح ، أي متسلحين.
وقيل : حذرون في الحال ، وحاذرون في المآل. وقال الفراء : الحاذر : الخائف ما يرى
، والحذر : المخلوق حذرا. وقال أبو عبيدة : رجل حذر وحذر وحاذر بمعنى واحد. وذهب
سيبويه إلى أن حذرا يكون للمبالغة ، وأنه يعمل كما يعمل حاذر ، فينصب المفعول به ،
وأنشد :
حذر أمورا لا
تضير وآمن
|
|
ما ليس منجيه من
الأقدار
|
وقد نوزع في ذلك
بما هو مذكور في كتب النحو. وعن الفراء أيضا ، والكسائي : رجل حذر ، إذا كان الحذر
في خلقته ، فهو متيقظ منتبه. وقرأ سميط بن عجلان ، وابن أبي
__________________
عمار ، وابن
السميفع : حادرون ، بالدال المهملة من قولهم : عين حدرة ، أي عظيمة ، والحادر : المتورم.
قال ابن عطية : فالمعنى ممتلئون غيظا وأنفة. وقال ابن خالويه : الحادر : السمين
القوي الشديد ، يقال غلام حدر بدر. وقال صاحب اللوامح : حدر الرجل : قوي بأسه ،
يقال : منه رجل حدر بدر ، إذا كان شديد البأس في الحرب ، ويقال : رجل حدر ، بضم
الدال للمبالغة ، مثل يقظ. وقال الشاعر :
أحب الصبي السوء
من أجل أمّه
|
|
وأبغضه من بغضها
وهو حادر
|
أي سمين قوي. وقيل
: مدجّجون في السلام. (فَأَخْرَجْناهُمْ) : الضمير عائد على القبط. (مِنْ جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ) : بحافتي النيل من أسوان إلى رشيد ، قاله ابن عمر وغيره ،
والجمهور : على أنها عيون الماء. وقال ابن جبير : المراد عيون الذهب. (وَكُنُوزٍ) : هي الأموال التي خربوها. قال مجاهد : سماها كنوزا لأنه
لم ينفق في طاعة الله قط. وقال الضحاك : الكنوز : الأنهار. قال صاحب التحبير :
وهذا فيه نظر ، لأن العيون تشملهما. وقيل : هي كنوز المقطم ومطالبه. قال ابن عطية
: هي باقية إلى اليوم. انتهى.
وأهل مصر في
زماننا في غاية الطلب لهذه الكنوز التي زعموا أنها مدفونة في المقطم ، فينفقون على
حفر هذه المواضع في المقطم الأموال الجزيلة ، ويبلغون في العمق إلى أقصى غاية ،
ولا يظهر لهم إلا التراب أو حجر الكذان الذي المقطم مخلوق منه ، وأي مغربي يرد
عليهم سألوه عن علم المطالب. فكثير منهم يضع في ذلك أوراقا ليأكلوا أموال المصريين
بالباطل ، ولا يزال الرجل منهم يذهب ماله في ذلك حتى يفتقر ، وهو لا يزداد إلا
طلبا لذلك حتى يموت. وقد أقمت بين ظهرانيهم إلى حين كتابة هذه الأسطر ، نحوا من
خمسة وأربعين عاما ، فلم أعلم أن أحدا منهم حصل على شيء غير الفقر ؛ وكذلك رأيهم
في تغوير الماء. يزعمون أن ثم آبارا ، وأنه يكتب أسماء في شقفة ، فتلقى في البئر ،
فيغور الماء وينزل إلى باب في البئر ، يدخل منه إلى قاعة مملوءة ذهبا وفضة وجوهرا
وياقوتا. فهم دائما يسألون من يرد من المغاربة عمن يحفظ تلك الأسماء التي تكتب في
الشقفة ، فيأخذ شياطين المغاربة منهم مالا جزيلا ، ويستأكلونهم ، ولا يحصلون على
شيء غير ذهاب أموالهم ، ولهم أشياء من نحو هذه الخرافات ، يركنون إليها ويقولون
بها ، وإنما أطلت في هذا على سبيل التحذير لمن يعقل.
وقوله تعالى : (وَمَقامٍ كَرِيمٍ). قال ابن لهيعة : هو الفيوم. وقال ابن عباس ، ومجاهد ،
والضحاك : هو المنابر للخطباء. وقيل : الأسرة في الكلل. وقيل : مجالس الأمراء
والأشراف والحكام.
وقال النقاش : المساكن الحسان. وقيل : مرابط الخيل ، حكاه الماوردي. وقرأ قتادة ،
والأعرج : ومقام ، بضم الميم من أقام كذلك. قال الزمخشري : يحتمل ثلاثة أوجه :
النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه ، والجر على أنه وصف لمقام ، أي
ومقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم ، والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي
الأمر كذلك. انتهى. فالوجه الأول لا يسوغ ، لأنه يؤول إلى تشبيه الشيء بنفسه ،
وكذلك الوجه الثاني ، لأن المقام الذي كان لهم هو المقام الكريم ، ولا يشبه الشيء
بنفسه.
والظاهر أن قوله :
(وَأَوْرَثْناها بَنِي
إِسْرائِيلَ) ، أنهم ملكوا ديار مصر بعد غرق فرعون وقومه ، لأنه اعتقب
قوله : (وَأَوْرَثْناها) : قوله : و (فَأَخْرَجْناهُمْ) ، وقاله الحسن ؛ قال : كما عبروا النهر ، رجعوا وورثوا
ديارهم وأموالهم. وقيل : ذهبوا إلى الشام وملكوا مصر زمن سليمان. وقرأ الجمهور : (فَأَتْبَعُوهُمْ) : أي فلحقوهم. وقرأ الحسن ، والذماري : فاتبعوهم ، بوصل
الألف وشد التاء. (مُشْرِقِينَ) : داخلين في وقت الشروق ، من شرقت الشمس شروقا ، إذا طلعت
، كأصبح : دخل في وقت الصباح ، وأمسى : دخل في وقت المساء. وقال أبو عبيدة :
فاتبعوهم نحو الشرق ، كأنجد : إذا قصد نحو نجد. والظاهر أن مشرقين حال من الفاعل.
وقيل : مشرقين : أي في ضياء ، وكان فرعون وقومه في ضباب وظلمة ، تحيروا فيها حتى
جاوز بنو إسرائيل البحر ، فعلى هذا يكون مشرقين حالا من المفعول.
(فَلَمَّا تَراءَا
الْجَمْعانِ) : أي رأى أحدهما الآخر ، (قالَ أَصْحابُ مُوسى
إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) : أي ملحقون ، قالوا ذلك حين رأوا العدوّ القوي وراءهم
والبحر أمامهم ، وساءت ظنونهم. وقرأ الأعمش : وابن وثاب : تراي الجمعان ، بغير همز
، على مذهب التخفيف بين بين ، ولا يصح القلب لوقوع الهمزة بين ألفين ، إحداهما ألف
تفاعل الزائدة بعد الفاء ، والثانية اللام المعتلة من الفعل. فلو خففت بالقلب
لاجتمع ثلاث ألفات متسقة ، وذلك مما لا يكون أبدا ، قاله أبو الفضل الرازي. وقال
ابن عطية : وقرأ حمزة : تريء ، بكسر الراء ويمد ثم يهمز ؛ وروى مثله عن عاصم ،
وروي عنه أيضا مفتوحا ممدود ، أو الجمهور يقرؤونه مثل تراعى ، وهذا هو الصواب ، لأنه
تفاعل. وقال أبو حاتم : وقراءة حمزة هذا الحرف محال ، وحمل عليه ، قال : وما روي
عن ابن وثاب والأعمش خطأ. انتهى. وقال الأستاذ أبو جعفر أحمد ابن الأستاذ أبي
الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري ،
هو ابن الباذش ،
في كتاب الإقناع من تأليفه : تراءى الجمعان في الشعراء. إذا وقف عليها حمزة
والكسائي ، أما لا الألف المنقلبة عن لام الفعل ، وحمزة يميل ألف تفاعل وصلا ووقفا
لإمالة الألف المنقلبة ؛ ففي قراءته إمالة الإمالة. وفي هذا الفعل ، وفي راءى ،
إذا استقبله ألف وصل لمن أمال للإمالة ، حذف السبب وإبقاء المسبب ، كما قالوا :
صعقى في النسب إلى الصعق. وقرأ الجمهور : لمدركون ، بإسكان الدال ؛ والأعرج ،
وعبيد بن عمير : بفتح الدال مشددة وكسر الراء ، على وزن مفتعلون ، وهو لازم ،
بمعنى الفناء والاضمحلال. يقال : منه ادّرك الشيء بنفسه ، إذا فنى تتابعا ، ولذلك
كسرت الراء على هذه القراءة ، نص على كسرها أبو الفضل الرازي في (كتاب اللوامح) ،
والزمخشري في (كشافه) وغيرهما. وقال أبو الفضل الرازي : وقد يكون ادّرك على افتعل
بمعنى أفعل متعديا ، فلو كانت القراءة من ذلك ، لوجب فتح الراء ، ولم يبلغني ذلك
عنهما ، يعني عن الأعرج وعبيد بن عمير. قال الزمخشري : المعنى إنا لمتتابعون في
الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد ، ومنه بيت الحماسة :
أبعد بني أمي
الذين تتابعوا
|
|
أرجى الحياة أم
من الموت أجزع
|
(قالَ
كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) : زجرهم وردعهم بحرف الردع وهو كلا ، والمعنى : لن يدركوكم
لأن الله وعدكم بالنصر والخلاص منهم ، إن معي ربي سيهدين عن قريب إلى طريق النجاة
ويعرفنيه. وقيل : سيكفيني أمرهم. ولما انتهى موسى إلى البحر ، قال له مؤمن آل
فرعون ، وكان بين يدي موسى : أين أمرت ، وهذا البحر أمامك وقد غشيتك آل فرعون؟ قال
: أمرت بالبحر ، ولا يدري موسى ما يصنع. ورويت هذه المقالة عن يوشع ، قالها لموسى عليهالسلام ، فأوحى الله إليه (أَنِ اضْرِبْ
بِعَصاكَ الْبَحْرَ) ، فخاض يوشع الماء. وضرب موسى بعصاه ، فصار فيه اثنا عشر
طريقا ، لكل سبط طريق. أراد تعالى أن يجعل هذه الآية متصلة بموسى ومتعلقة بفعل
فعله ، ولكنه بقدرة الله إذ ضرب البحر بالعصا لا يوجب انفلاق البحر بذاته ، ولو
شاء تعالى لفلقه دون ضربه بالعصا ، وتقدّم الخلاف في مكان هذا البحر.
(فَانْفَلَقَ) : ثم محذوف تقديره : فضرب فانفلق. وزعم ابن عصفور في مثل
هذا التركيب أن المحذوف هو ضرب ، وفاء انفلق. والفاء في انفلق هي فاء ضرب ، فأبقى
من كل ما يدل على المحذوف ، أبقيت الفاء من فضرب واتصلت بانفلق ، ليدل على ضرب
المحذوفة ، وأبقى انفلق ليدل على الفاء المحذوفة منه. وهذا قول شبيه بقول صاحب
البرسام ، ويحتاج
إلى وحي بسفر عن هذا القول ، وإذا نظرت القرآن وجدت جملا كثيرة محذوفة ، وفيها
الفاء نحو قوله : (فَأَرْسِلُونِ ،
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) ، أي فأرسلوه ، فقال يوسف أيها الصديق ، والفرق الجزء
المنفصل. والطود : الجبل العظيم المنطاد في السماء. وحكى يعقوب عن بعض القراء ،
أنه قرأ كل فلق باللام عوض الراء.
(وَأَزْلَفْنا) : أي قربنا ، (ثَمَ) : أي هناك ، وثم ظرف مكان للبعد. (الْآخَرِينَ) : أي قوم فرعون ، أي قربناهم ، ولم يذكر من قربوا منه ،
فاحتمل أن يكون المعنى : قربناهم حيث انفلق البحر من بني إسرائيل ، أو قربنا بعضهم
من بعض حتى لا ينجو أحد ، أو قربناهم من البحر. وقرأ الحسن ، وأبو حيوة : وزلفنا
بغير ألف. وقرأ أبي ، وابن عباس ، وعبد الله بن الحرث : وأزلقنا بالقاف عوض الفاء
، أي أزللنا ، قاله صاحب اللوامح. قيل : من قرأ بالقاف صار الآخرين فرعون وقومه ،
ومن قرأ بالعامة يعني بالقراءة العامة ، فالآخرون هم موسى وأصحابه ، أي جمعنا
شملهم وقربناهم بالنجاة. انتهى ، وفي الكلام حذف تقديره : ودخل موسى وبنو إسرائيل
البحر وأنجينا. قيل : دخلوا البحر بالطول ، وخرجوا في الصفة التي دخلوا منها بعد
مسافة ، وكان بين موضع الدخول وموضع الخروج أوعار وجبال لا تسلك.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) : أي لعلامة واضحة عاينها الناس وشاع أمرها. قال الزمخشري
: (وَما كانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) : أي ما تنبه أكثرهم عليها ولا آمنوا. وبنو إسرائيل ،
الذين كانوا أصحاب موسى المخصوصين بالإنجاء ، قد سألوه بقرة يعبدونها ، واتخذوا
العجل ، وطلبوا رؤية الله جهرة. انتهى. والذي يظهر أن قوله : (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) : أي أكثر قوم فرعون ، وهم القبط ، إذ قد آمن السحرة ،
وآمنت آسية امرأة فرعون ، ومؤمن آل فرعون ، وعجوز اسمها مريم ، دلت موسى على قبر
يوسف عليهالسلام ، واستخرجوه وحملوه معهم حين خرجوا من مصر.
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ إِبْراهِيمَ ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ ، قالُوا
نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ ، قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ
تَدْعُونَ ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ، قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا
كَذلِكَ يَفْعَلُونَ ، قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ، أَنْتُمْ
وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ
، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ،
وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ
__________________
يَشْفِينِ
، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي
خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ، رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي
بِالصَّالِحِينَ ، وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ، وَاجْعَلْنِي
مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ، وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ
الضَّالِّينَ ، وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا
بَنُونَ ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ، وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ
، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ ، وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ
تَعْبُدُونَ ، مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ ،
فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ ، وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ، قالُوا
وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ ، تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، إِذْ
نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ ، وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ، فَما
لَنا مِنْ شافِعِينَ ، وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ، فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً
فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ
مُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).
لما كانت العرب
لها خصوصية بإبراهيم عليهالسلام ، أمر الله نبيه صلىاللهعليهوسلم أن يتلو عليهم قصصه ، وما جرى له مع قومه. ولم يأت في قصة
من قصص هذه السورة أمره عليهالسلام بتلاوة قصة إلا في هذه ، وإذ : العامل فيه. قال الحوفي :
أتل ، ولا يتصور ما قال إلا بإخراجه عن الظرفية وجعله بدلا من نبأ ، واعتقاد أن
العامل في البدل والمبدل منه واحد. وقال أبو البقاء : العامل في إذ نبأ. والظاهر
أن الضمير في (وَقَوْمِهِ) عائد على إبراهيم. وقيل : على أبيه ، أي وقوم أبيه ، كما
قال : (إِنِّي أَراكَ
وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) . وما : استفهام بمعنى التحقير والتقرير. وقد كان إبراهيم عليهالسلام يعلم أنهم عبدة أصنام ، ولكن سألهم ليريهم أن ما كانوا
يعبدونه ليس مستحقا للعبادة ، لما ترتب على جوابهم من أوصاف معبوداتهم التي هي
منافية للعبادة. ولما سألهم عن الذي يعبدونه ، ولم يقتصروا على ذكره فقط ، بل
أجابوا بالفعل ومتعلقه وما عطف عليه من تمام صفتهم مع معبودهم ، فقالوا : (نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها
عاكِفِينَ) : على سبيل الابتهاج والافتخار ، فأتوا بقصتهم معهم كاملة
، ولم يقتصروا على أن يجيبوا بقولهم : أصناما ، كما جاء : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا
خَيْراً) ، (وَيَسْئَلُونَكَ ما
ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) ، ولذلك عطفوا على ذلك الفعل قولهم : (فَنَظَلُ). قال : كما تقول لرئيس : ما تلبس؟ فقال : ألبس مطرف الخز
فأجر ذيوله ، يريد الجواب : وحاله مع ملبوسه. وقالوا : فنظل ، لأنهم كانو يعبدونهم
بالنهار دون الليل. ولما أجابوا إبراهيم ، أخذ يوقفهم على قلة عقولهم ، باستفهامه
عن أوصاف مسلوبة عنهم لا يكون ثبوتها إلا لله تعالى.
__________________
وقرأ الجمهور : (يَسْمَعُونَكُمْ) ، من سمع ؛ وسمع إن دخلت على مسموع تعدّت إلى واحد ، نحو :
سمعت كلام زيد ، وإن دخلت على غير مسموع ، فمذهب الفارسي أنها تتعدى إلى اثنين ،
وشرط الثاني منهما أن يكون مما يسمع ، نحو : سمعت زيدا يقرأ. والصحيح أنها تتعدى
إلى واحد ، وذلك الفعل في موضع الحال ، والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو.
وهنا لم تدخل إلا على واحد ، ولكنه ليس بمسموع ، فتأولوه على حذف مضاف تقديره : هل
يسمعونكم ، تدعون؟ وقيل : (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ) بمعنى : يجيبونكم. وقرأ قتادة ، ويحيى بن يعمر : بضم الياء
وكسر الميم من أسمع ، والمفعول الثاني محذوف تقديره : الجواب ، أو الكلام. وإذ :
ظرف لما مضى ، فإما أن يتجاوز فيه فيكون بمعنى إذا ، وإما أن يتجاوز في المضارع
فيكون قد وقع موقع الماضي ، فيكون التقدير : هل سمعوكم إذ دعوتم؟ وقد ذكر أصحابنا
أن من قرائن صرف المضارع إلى الماضي إضافة إذ إلى جملة مصدرة بالمضارع ، ومثلوا
بقوله : (وَإِذْ تَقُولُ
لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) ، أي وإذ قلت. وقال الزمخشري : وجاء مضارعا مع إيقاعه في
إذ على حكاية الحال الماضية التي كنتم تدعونها فيها ، وقولوا : هل سمعوا ، أو
اسمعوا قط؟ وهذا أبلغ في التبكيت. انتهى. وقرىء : بإظهار ذال إذ وبإدغامها في تاء
تدعون. قال ابن عطية : ويجوز فيه قياس مذكر ، ولم يقرأ به أحد ؛ والقياس أن يكون
اللفظ به ، إذ ددعون. فالذي منع من هذا اللفظ اتصال الدال الأصلية في الفعل ،
فكثرة المتماثلات. انتهى. وهذا الذي ذكر أنه يجوز فيه قياس مذكر لا يجوز ، لأن ذلك
الإبدال ، وهو إبدال التاء دالا ، لا يكون إلا في افتعل ، مما فاؤه ذال أو زاي أو
دال ، نحو : اذدكر ، وازدجر ، وادهن ، أصله : اذتكر ، وازتجر ، وادتهن ؛ أو جيم
شذوذ ، قالوا : أجد مع في اجتمع ، ومن تاء الضمير بعد الزاي والدال ، ومثلوا بتاء
الضمير للمتكلم فقالوا في فزت : فزد ، وفي جلدت : جلدّ ، ومن تاء تولج شذوذا قالوا
: دولج ، وتاء المضارعة ليست شيئا مما ذكرنا ، فلا تبدل تاؤه. وقول ابن عطية :
والذي منع من هذا اللفظ إلى آخره ، يدل على أنه لو لا ذلك لجاز إبدال تاء ،
المضارعة دالا وإدغام الذال فيها ، فكنت تقول : إذ تخرج : ادّخرج ، وذلك لا يقوله
أحد ، بل إذا أدغم مثل هذا أبدل من الذال تاء وأدغم في التاء ، فتقول : أتخرج.
(أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ) بتقربكم إليهم ودعائكم إياهم. (أَوْ يَضُرُّونَ) بترك عبادتكم إياهم ، فإذا لم ينفعوا ولم يضروا ، فما معنى
عبادتكم لها؟ (قالُوا بَلْ وَجَدْنا) هذه حيدة عن جواب
__________________
الاستفهام ، لأنهم
لو قالوا : يسمعوننا وينفعوننا ويضروننا ، فضحوا أنفسهم بالكذب الذي لا يمتري فيه
، ولو قالوا : يسمعوننا ولا يضروننا ، أسجلوا على أنفسهم بالخطأ المحض ، فعدلوا
إلى التقليد البحث لآبائهم في عبادتها من غير برهان ولا حجة. والكاف في موضع نصب
بيفعلون ، أي يفعلون في عبادتهم تلك الأصنام مثل ذلك الفعل الذي يفعله ، وهو
عبادتهم ؛ والحيدة عن الجواب من علامات انقطاع الحجة. وبل هنا إضراب عن جوابه لما
سأل وأخذ في شيء آخر لم يسألهم عنه انقطاعا وإقرارا بالعجز.
(وَآباؤُكُمُ
الْأَقْدَمُونَ) : وصفهم بالأقدمين دلالة على ما تقادم عبادة الأصنام فيهم
، وإذ كانوا قد عبدوها في زمان نوح عليهالسلام ، فزمان من بعده؟ وعدو : يكون للمفرد والجمع ، كما قال : (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) ، قيل : شبه بالمصدر ، كالقبول والولوع. قال الزمخشري :
وإنما قال : (عَدُوٌّ لِي) ، تصورا للمسألة في نفسه على معنى : أي فكرت في أمري ،
فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو ، فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله منه ، وأراهم
بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه أولا ، وبنى عليها تدبير أمره ، لينظروا ويقولوا :
ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه ، وما أراد لنا إلا ما أراد لروحه ، ليكون
أدنى لهم إلى القبول ، وأبعث على الاستماع منه. ولو قال : فإنه عدو لكم ، لم يكن
بتلك المثابة ، ولأنه دخل في باب من التعريض ، وقد يبلغ التعريض للمنصوح. ما لا
يبلغ التصريح ، لأنه ربما يتأمل فيه ، فربما قاده التأميل إلى التقبل. ومنه ما
يحكى عن الشافعي رضياللهعنه ، أن رجلا واجهه بشيء فقال : لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى
أدب ؛ وسمع رجل ناسا يتحدثون عن الحجر فقال : ما هو بيتي ولا بيتكم. انتهى. وهو
كلام فيه تكثير على عادته ، وذهاب من ذهب إلى أن قوله : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) ، من المقلوب والأصل : فإني عدو لهم ، لأن الأصنام لا تعادي
لكونها جمادا ، وإنما هو عاداها ليس بشيء ولا ضرورة تدعو إلى ذلك. ألا ترى إلى
قوله : (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ
بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) ، فهذا معنى العداوة ، ولأن المغري على عداوتها عدو
الإنسان ، وهو الشيطان. وقيل : لأنه تعالى يحيي ما عبدوه من الأصنام حتى يبترؤوا
من عبدتهم ويوبخوهم. وقيل : هو على حذف ، أي : فإن عبادهم عدو لي. والظاهر إقرار
الاستثناء في موضعه من غير تقديم ولا تأخير. وقال الجرجاني : تقديره : أفرأيتم ما
كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا رب العالمين ، فإنهم عدو لي ، وإلا : بمعنى
دون وسوى. انتهى. فجعله مستثنى مما بعد كنتم تعبدون ، ولا حاجة إلى هذا التقدير
لصحة أن يكون مستثنى من قوله : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ
لِي). وجعله جماعة منهم الفراء ،
واتبعه الزمخشري
استثناء منقطعا ، أي لكن رب العالمين ، لأنهم فهموا من قوله : ما كنتم تعبدون أنهم
الأصنام. وأجاز الزجاج أن يكون استثناء متصلا على أنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون
معه الأصنام ، فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلا الله ، وأجازوا في (الَّذِي خَلَقَنِي) النصب على الصفة لرب العالمين ، أو بإضمار ، أعني : والرفع
خبر مبتدأ محذوف ، أي هو الذي. وقال الحوفي : ويجوز أن يكون (الَّذِي خَلَقَنِي) رفعا بالابتداء ، (فَهُوَ يَهْدِينِ) : ابتداء وخبر في موضع الخبر عن الذي ، ودخلت الفاء لما في
الكلام من معنى الشرط. انتهى. وليس الذي هنا فيه معنى اسم الشرط لأنه خاص ، ولا
يتخيل فيه العموم ، فليس نظير : الذي يأتيني فله درهم ، وأيضا ليس الفعل الذي هو
خلق لا يمكن فيه تحدد بالنسبة إلى إبراهيم.
وتابع أبو البقاء
الحوفي في إعرابه هذا ، لكنه لم يقل : ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط.
فإن كان أراد ذلك ، فليس بجيد لما ذكرناه ، وإن لم يرده ، فلا يجوز ذلك إلا على
زيادة الفاء ، على مذهب الأخفش في نحو : زيد فاضربه ؛ الذي خلقني بقدرته فهو يهدين
إلى طاعته. وقيل : إلى جنته. وقال الزمخشري : فهو يهدين ، يريد أنه حين أتم خلقه ،
ونفخ فيه الروح عقب هدايته المتصلة التي لا تنقطع إلى ما يصلحه ويعينه ، وإلا فمن
هداه إلى أن يغتذي بالدم في البطن امتصاصا؟ ومن هداه إلى معرفة الثدي عند الولادة؟
وإلى معرفة مكانه؟ ومن هداه لكيفية الارتضاع؟ إلى غير ذلك من هدايات المعاش
والمعاد. انتهى. والظاهر أن قوله : (يُطْعِمُنِي
وَيَسْقِينِ) : الطعام المعروف المعهود ، والسقي المعهود ، وفيه تعديد
نعمة الرزق. وقال أبو بكر الوراق : يطعمني بلا طعام ، ويسقيني بلا شراب ، كما جاء
أني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ولما كان الخلق لا يمكن أن يدعيه أحد لم يؤكد فيه بهو
، فلم يكن التركيب الذي هو خلقني ، ولما كانت الهداية قد يمكن ادعاؤها. والإطعام
والسقي كذلك أكد بهو في قوله : (فَهُوَ يَهْدِينِ
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي) ، وذكر بعد نعمة الخلق والهداية ما تدوم به الحياة ويستمر
به نظام الخلق ، وهو الغذاء والشرب. ولما كان ذلك سببا لغلبة إحدى الكيفيات على
الأخرى بزيادة الغذاء أو نقصانه ، فيحدث بذلك مرض ذكر نعمته ، بإزالة ما حدث من
السقم ، وأضاف المرض إلى نفسه ، ولم يأت التركيب : وإذا أمرضني ، وإن كان تعالى هو
الفاعل لذلك وإبراهيم عليهالسلام عدد نعم الله تعالى عليه والشفاء محبوب والمرض مكروه ،
ولما لم يكن المرض منها ، لم يضفه إلى الله. وعن جعفر الصادق ، ولعله لا يصح :
وإذا مرضت بالذنوب شفاني بالتوبة.
وقال الزمخشري :
وإنما قال : مرضت دون أمرضني ، لأن كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان
في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك. ومن ثم قال الحكماء : لو قيل لأكثر الموتى : ما سبب
آجالكم؟ لقالوا : التخم ، ولما كان الشفاء قد يعزى إلى الطيب ، وإلى الدواء على
سبيل المجاز ؛ كما قال : (فِيهِ شِفاءٌ
لِلنَّاسِ) ، أكد بقوله : (فَهُوَ يَشْفِينِ) : أي الذي هو يهدين ويطعمني ويسقين هو الله لا غيره.
ولما كانت الإماتة
بعد البعث ، لا يمكن إسنادها إلا إلى الله ، لم يحتج إلى توكيد ودعوى نمروذ الإماتة
والإحياء هي منه على سبيل المخرفة والقحة ، وكذلك لم يحتج إلى تأكيد في : (وَالَّذِي أَطْمَعُ). وأثبت ابن أبي إسحاق ياء المتكلم في يهديني وما بعده ،
وهي رواية عن نافع. والطمع عبارة عن الرجاء ، وإبراهيم عليهالسلام كان جازما بالمغفرة. فقال الزمخشري : لم يجزم القول
بالمغفرة ، وفيه تعليم لأممهم ، وليكون لطفا بهم في اجتناب المعاصي والحذر منها ،
وطلب المغفرة مما يفرط منهم. انتهى. ورده الرازي قال : لأن حاصله يرجع إلى أنه ،
ونطق بكلمة لا أذكرها ، وبعدها على نفسه لأجل تعليم الأمة ، وهو باطل قطعا. وقال
الجبائي : أراد به سائر المؤمنين ، لأنهم الذين يطمعون ولا يقطعون. ورده الرازي
بأن جعل كلام الواحد من كلام غيره ، مما يبطل نظم الكلام. وقال الحسن : المراد
بالطمع اليقين. وقال الرازي : لا يستقيم هذا إلا على مذهبنا ، حيث قلنا : إنه لا
يجب على الله شيء ، وإنه يحسن منه كل شيء ، ولا اعتراض لأحد عليه في فعله. وقال
ابن عطية : أوقف عليه الصلاة والسلام نفسه على الطمع في المغفرة ، وهذا دليل على
شدة خوفه مع منزلته وخلته.
وقرأ الجمهور : (خَطِيئَتِي) على الإفراد ، والحسن : خطاياي على الجمع ، وذهب الأكثرون
إلى أنها قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) ، و (بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ) ، وهي أختي في سارة. وقالت فرقة : أراد بالخطيئة اسم الجنس
، قدرها في كل أمره من غير تعيين. قال ابن عطية : وهذا أظهر عندي ، لأن تلك الثلاث
قد خرجها كثير من العلماء على المعاريض. وقال الزمخشري : المراد ما يندر منه في
بعض الصغائر ، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون مختارون على العالمين ،
وهي قوله وذكر الثلاثة ثم قال وما هي إلا معاريض ، كلام وتخيلات للكفرة ، وليست
بخطايا يطلب لها الاستغفار. فإن قلت : إذا لم يندر منهم
__________________
إلا الصغائر ، وهي
تقع مكفرة ، فما له أثبت لنفسه خطيئة أو خطايا ، وطمع أن يغفر له؟ قلت : الجواب ما
سبق ، أن استغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم وهضم لأنفسهم ، ويدل عليه قوله : أطمع
، ولم يجزم القول. انتهى. و (يَوْمَ الدِّينِ) : ظرف ، والعامل فيه يغفر ، والغفران ، وإن كان في الدنيا
، فأثره لا يتبين إلا يوم الجزاء ، وهو في الدنيا لا يعلم إلا بإعلام الله تعالى.
وضعف أبو عبد الله الرازي حمل الخطيئة على تلك الثلاث ، لأن نسبة ما لا يطابق إلى
إبراهيم غير جائز ، وحمله على سبيل التواضع قال : لأنه إن طابق في هذا الموضع زال
الإشكال ، وإن لم يطابق رجع حاصل الجواب إلى إلحاق المعصية به ، لأجل تنزيهه عن
المعصية. قال : والجواب الصحيح أن يحمل ذلك على ترك الأولى ، وقد يسمى خطأ. فإن من
باع جوهرة تساوي ألفا بدينار ، قيل : أخطأ ، وترك الأولى على الأنبياء جائز. انتهى
، وفيه بعض تلخيص وتبديل ألفاظ للأدب بما يناسب مقام النبوة.
وقدم إبراهيم عليهالسلام الثناء على الله تعالى ، وذكره بالأوصاف الحسنة بين يدي
طلبته ومسألته ، ثم سأله تعالى فقال : (رَبِّ هَبْ لِي
حُكْماً) ، فدل على أن تقديم الثناء على المسألة من المهمات.
والظاهر أن الحكم هو الفصل بين الناس بالحق. وقيل : الحكم : الحكمة والنبوة ،
لأنها حاصلة تلو طلب النبوة ، لأن النبي ذو حكمة وذو حكم بين الناس. وقال أبو عبد
الله الرازي : لا يجوز تفسير الحكم بالنبوة لأنها حاصلة ، فلو طلب النبوة لكانت
مطلوبة ، إما عين الحاصلة أو غيرها. والأول محال ، لأن تحصيل الحاصل محال ،
والثاني محال ، لأنه يمنع أن يكون الشخص الواحد نبيا مرتين ، بل المراد من الحكم
ما هو كمال النبوة العملية ، وذلك بأن يكون عالما بالخير لأجل العمل به. انتهى. وقال
ابن عطية : وقد فسر الحكم بالحكمة والنبوة ، قال : ودعاؤه عليهالسلام في مثل هذا هو في التثبت والدوام. وإلحاقه بالصالحين :
توفيقه لعمل ينتظمه في جملتهم ، أو يجمع بينه وبينهم في الجنة. وقد أجابه تعالى
حيث قال : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ
لَمِنَ الصَّالِحِينَ) .
قال أبو عبد الله
الرازي : وإنما قدّم قوله : (هَبْ لِي حُكْماً) على قوله : (وَأَلْحِقْنِي
بِالصَّالِحِينَ) ، لأن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية ، لأنه يمكنه
أن يعلم الحق ، وإن لم يعمل به ، وعكسه غير ممكن ، لأن العلم صفة الروح ، والعمل
صفة البدن ، وكما أن الروح أشرف من البدن ، كذلك العلم أفضل من الإصلاح. انتهى.
ولسان الصدق ، قال ابن عطية : هو الثناء وتخليد المكانة بإجماع من المفسرين. وكذلك
أجاب الله دعوته ، فكل
__________________
ملة تتمسك به
وتعظمه ، وهو على الحنيفية التي جاء بها محمد صلىاللهعليهوسلم. قال مكي : وقيل معنى سؤاله أن يكون من ذريته في آخر
الزمان من يقوم بالحق ، فأجيبت الدعوة في محمد عليهالسلام ، وهذا معنى حسن ، إلا أن لفظ الآية لا يعطيه إلا بتحكم
على اللفظ. انتهى. ولما طلب سعادة الدنيا ، طلب سعادة الآخرة ، وهي جنة النعيم ،
وشبهها بما يورث ، لأنه الذي يقسم في الدنيا شبه غنيمة الدنيا بغنيمة الآخرة ،
وقال تعالى : (تِلْكَ الْجَنَّةُ
الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) .
ولما فرغ من مطالب
الدنيا والآخرة لنفسه ، طلب لأشد الناس التصاقا به ، وهو أصله الذي كان ناشئا عنه
، وهو أبوه ، فقال : (وَاغْفِرْ لِأَبِي) ، وطلبه المغفرة مشروط بالإسلام ، وطلب المشروط يتضمن طلب
الشرط ، فحاصله أنه دعا بالإسلام. وكان وعده ذلك يوضحه قوله : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ
لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ
أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ) ، أي الموافاة على الكفر تبرأ منه. وقيل : كان قال له إنه
على دينه باطنا وعلى دين نمروذ ظاهرا ، تقية وخوفا ، فدعا له لاعتقاده أن الأمر
كذلك ، فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه ، ولذلك قال في دعائه : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ
الضَّالِّينَ). فلو لا اعتقاده أنه في الحال ليس بضال ما قال ذلك. (وَلا تُخْزِنِي) : إما من الخزي ، وهو الهوان ، وإما من الخزاية ، وهي
الحياء. والضمير في (يُبْعَثُونَ) ضمير العباد ، لأنه معلوم ، أو ضمير (الضَّالِّينَ) ، ويكون من جملة الاستغفار ، لأنه يكون المعنى : يوم يبعث
الضالون. وأتى فيهم : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ) بدل من : (يَوْمَ يُبْعَثُونَ). (مالٌ وَلا بَنُونَ) : أي كما ينفع في الدنيا يفديه ماله ويذب عنه بنوه. وقيل :
المراد بالبنين جميع الأعوان. وقيل : المعنى يوم لا ينفع إعلاق بالدنيا ومحاسنها ،
فقصد من ذلك الذكر العظيم والأكثر ، لأن المال والبنين هي زينة الحياة الدنيا.
والظاهر أن الاستثناء منقطع ، أي لكن من أتى الله بقلب سليم ينفعه سلامة قلبه. قال
الزمخشري : ولك أن تجعل الاستثناء منقطعا ، ولا بد لك مع ذلك من تقدير المضاف ،
وهو الحال المراد بها السلامة ، وليست من جنس المال والبنين حتى يؤول المعنى إلى
أن المال والبنين لا ينفعان ، وإنما ينفع سلامة القلب ، ولو لم يقدر المضاف لم
يتحصل للاستثناء معنى. انتهى. ولا ضرورة تدعو إلى حذف مضاف ، كما ذكر ، إذ قدرناه
، لكن (مَنْ أَتَى اللهَ
بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) ينفعه ذلك ، وقد جعله الزمخشري في أول توجيهه متصلا بتأويل
قال : إلا من أتى الله : إلا حال من أتى الله بقلب سليم ، وهو من قوله :
__________________
تحية بينهم ضرب
وجيع
وما ثوابه إلى
السيف ، ومثاله أن يقال : هل لزيد مال وبنون؟ فيقول : ماله وبنوه سلامة قلبه ،
تريد نفي المال والبنين عنه ، وإثبات سلامة القلب له بدلا عن ذلك. وإن شئت حملت
الكلام على المعنى ، وجعلت المال والبنين في معنى الغنى ، كأنه قيل : يوم لا ينفع
غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم ، لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه ، كما أن
غناه في دنياه بماله وبنيه. انتهى. وجعله بعضهم استثناء مفرغا ، فمن مفعول ،
والتقدير : لا ينفع مال ولا بنون أحدا إلا من أتى الله بقلب سليم ، فإنه ينفعه
ماله المصروف في وجوه البر ، وبنوه الصلحاء ، إذ كان أنفقه في طاعة الله ، وأرشد
بنيه إلى الدين ، وعلمهم الشرائع وسلامة القلب ، خلوصه من الشرك والمعاصي ، وعلق
الدنيا المتروكة وإن كانت مباحة كالمال والبنين. وقال سفيان : هو الذي يلقى ربه
وليس في قلبه شيء غيره ، وهذا يقتضي عمومه اللفظ ، ولكن السليم من الشرك هو الأعم.
وقال الجنيد : بقلب لديغ من خشية الله ، والسليم : اللديغ. وقال الزمخشري : هو من
بدع التفاسير وصدق.
(وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ) : قربت لينظروا إليها ويغتبطوا بحشرهم إليها. (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) : أظهرت وكشفت بحيث كانت بمرأى منهم كقوله : (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ
وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ) ، وذلك على سبيل التوبيخ. هل ينفعونكم بنصرهم إياكم ، أو
ينتصرون هم فينفعون أنفسهم بحمايتها ، إذ هم وأنتم وقود النار؟ وقرأ الأعمش :
فبرزت بالفاء ، جعل تبريز الجحيم بعد تقريب الجنة يعقبه ، وذلك لأن الواو للجمع ،
فيمكن أن يكون كل واحد منهما ظهوره قبل الآخر ، وهو من تقديم الرحمة على العذاب ،
وهو حسن ، لو لا أن رسم المصحف بالواو. وقرأ مالك بن دينار : (وَبُرِّزَتِ) بالفتح والتخفيف ؛ (الْجَحِيمُ) بالرفع ، بإسناد الفعل إليها اتساعا. ولما وبخهم وقرعهم ،
أخبر عن حال يوم القيامة ، وجيء في ذلك كله بلفظ الماضي في أتى وأزلفت وبرزت. وقيل
: (فَكُبْكِبُوا) ، لتحقق وقوع ذلك ، وإن كان لم يقع. والضمير في : فكبكبوا
عائد على الأصنام ، أجريت مجرى من يعقل. قال الكرماني : فكبكبوا : قذفوا فيها.
وقيل : جمعوا. وقيل : هدروا. وقيل : نكسوا على رؤوسهم يموج بعضهم في بعض. وقيل :
ألقوا في جهنم ينكبون مرة بعد مرة حتى يستقروا في قعرها. (وَالْغاوُونَ) : هم الكفرة الذين
__________________
شملتهم الغواية.
وقيل : الضمير يعود على الكفار ، والغاوون : الشياطين. (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ) : قبيلة ، وكل من تبعه فهو جند له وعون. وقال السدّي : هم
مشركو العرب ، والغاوون : سائر المشركين. وقيل : هم القادة والسفلة ، قالوا : أي
عباد الأصنام ، والجملة بعده حال ، والمقول جملة القسم ومتعلقه ، والخطاب في (نُسَوِّيكُمْ) للأصنام على جهة الإقرار والاعتراف بالحق. قال ابن عطية :
أقسموا بالله إن كنا إلا ضالين في أن نعبدكم ونجعلكم سواء مع الله تعالى ، الذي هو
رب العالمين وخالقهم ومالكهم. انتهى. وقوله : إن كنا إلا ضالين ، إن أراد تفسير
المعنى فهو صحيح ، وإن أراد أن إن هنا نافية ، واللام في لفي بمعنى إلا ، فليس
مذهب البصريين ، وإنما هو مذهب الكوفيين. ومذهب البصريين في مثل هذا أن إن هي
المخففة من الثقيلة ، وأن اللام هي الداخلة للفرق بين إن النافية وإن التي هي
لتأكيد مضمون الجملة.
(وَما أَضَلَّنا
إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) : أي أصحاب الجرائم والمعاصي العظام والجرأة ، وهم ساداتهم
ذوو المكانة في الدنيا والاستتباع كقولهم : (أَطَعْنا سادَتَنا
وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) . وقال السدي : هم الأولون الذين اقتدوا بهم. وقيل :
المجرمون : الشياطين ، وقيل : من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس. وقال
ابن جريج : إبليس وابن آدم القاتل ، لأنه أول من سن القتل وأنواع المعاصي. وحين
رأوا شفاعة الملائكة والأنبياء والعلماء نافعة في أهل الإيمان ، وشفاعة الصديق في
صديقه خاصة ، قالوا على جهة التلهف والتأسف ، (فَما لَنا مِنْ
شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ). وقال ابن جريج : شافعين من الملائكة وصديق من الناس.
ولفظة الشفيع تقتضي رفعة مكانة عند المشفوع عنده ، ولفظة الصديق تقتضي شدة مساهمة
ونصرة ، وهو فعيل من صدق الود من أبنية المبالغة ونفي الشفعاء. والصديق يحتمل أن
يكون نفيا لوجودهم إذ ذاك ، وهم موجودون للمؤمنين ، إذ تشفع الملائكة وتتصادق
المؤمنون ، كما قال : الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين ، أو ذلك على حسب
اعتقادهم في معبوداتهم أنهم شفعاؤهم عند الله ، وأن لهم أصدقاء من الإنس والشياطين
، فقصدوا بنفيهم نفي ما يتعلق بهم من النفع ، لأن ما لا ينفع ، حكمه حكم المعدوم ،
فصار المعنى : فما لنا من نفع من كنا نعتقد أنهم شفعاء وأصدقاء ، وجمع الشفعاء
لكثرتهم في العادة. ألا ترى أنه يشفع فيمن وقع في ورطة من لا يعرفه ، وأفرد الصديق
لقلته ، وأريد به الجمع؟ إذ يقال : هم صديق ، أي أصدقاء ، كما
__________________
يقال : هم عدو ،
أي أعداء. والظاهر أن لو هنا أشربت معنى التمني ، وفنكون الجواب ، كأنه قيل : يا
ليت لنا كرة فنكون. وقيل : هي الخالصة للدلالة لما كان سيقع لوقوع غيره ، فيكون
قوله : (فَنَكُونَ) معطوفا على كرة ، أي فكونا من المؤمنين ، وجواب لو محذوف ،
أي لكان لنا شفعاء وأصدقاء ، أو لخلصنا من العذاب. والظاهر أن هذه الجمل كلها
متعلقة بقول إبراهيم ، أخبر بما أعلمه الله من أحوال يوم القيامة ، وما يكون فيها
من حال قومه.
وقال ابن عطية :
وهذه الآيات من قوله : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ
مالٌ وَلا بَنُونَ) هي عندي منقطعة من كلام إبراهيم عليهالسلام ، وهي إخبار من الله عزوجل ، تعلق بصفة ذلك اليوم الذي وقف إبراهيم عليهالسلام عنده في دعائه أن لا يخزي فيه. انتهى. وكان ابن عطية قد
أعرب (يَوْمَ لا يَنْفَعُ) بدلا من (يَوْمَ يُبْعَثُونَ) ، وعلى هذا لا يتأتى هذا الذي ذكره من تفكيك الكلام ، وجعل
بعضه من كلام إبراهيم ، وبعضه من كلام الله ، لأن العامل في البدل على مذهب
الجمهور فعل آخر من لفظ الأول ، أو الأول. وعلى كلا التقديرين ، لا يصح أن يكون من
كلام الله ، إذ يصير التقدير : ولا تخزني يوم لا ينفع مال ولا بنون. والإشارة
بقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً) إلى قصة إبراهيم عليهالسلام ومحاورته لقومه. (وَما كانَ
أَكْثَرُهُمْ) : أي أكثر قوم إبراهيم. بين تعالى أن أكثر قومه لم يؤمنوا
مع ظهور هذه الدلائل التي استدل بها إبراهيم عليهالسلام ، وفي ذلك مسلاة للرسول صلىاللهعليهوسلم في تكذيب قومه إياه عليهالسلام.
كَذَّبَتْ
قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا
تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ
عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ
لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣)
وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ
(١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ
(١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ
فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ
وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ
الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ
(١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢) كَذَّبَتْ عادٌ
الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ
أَخُوهُمْ
هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا
اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ
إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً
تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا
بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١)
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ
وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ
الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ
بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما
كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ (١٤٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ
أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣)
فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ
أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا
آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ
(١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ
يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ
الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ
كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ
يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ
عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ
رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ
الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ
(١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ
لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ
(١٦٦)
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧)
قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا
يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً
فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا
عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً
وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ (١٧٥) كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ
لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨)
فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ
أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا
مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا
تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣)
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما
أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ
نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ
إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ
(١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ
(١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ
رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ
لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ
لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ
عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ
(١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩)
كَذلِكَ
سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا
الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا
هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ
إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما
أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ
إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما
تَنَزَّلَتْ بِهِ
الشَّياطِينُ
(٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ
لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ
الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ
جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ
إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ
(٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩)
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ
الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ
السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ
(٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ
يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا
وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)
المشحون : المملوء
بما ينبغي له من قدر ما يحمل ، يقال : شحنها عليهم خيلا ورجالا ، الريع : بكسر
الراء وفتحها : جمع ريعة ، وهو المكان المرتفع. قال ذو الرمة :
طراق الخوافي
مشرق فوق ريعه
|
|
بذي ليلة في
ريشه يترقرق
|
وقال أبو عبيدة :
الريع : الطريق. قال ابن المسيب بن علس يصف ظعنا :
في الآل يخفضها
ويرفعها
|
|
ريع يلوح كأنه
سحل
|
الطلع : الكفري ،
وهو عنقود التمر قبل أن يخرج من الكم في أول نباته. وقال الزمخشري : الطلعة : هي
التي تطلع من النخلة ، كنصل السيف في جوفه. شماريخ القنو ، والقنو : اسم للخارج من
الجذع ، كما هو بعرجونه. الفراهة : جودة منظر الشيء وقوته وكماله في نوعه. وقيل :
الكيس والنشاط. القالي : المبغض ، قلى يقلي ويقلى ، ومجيئه على يفعل بفتح العين
شاذ. الجبلة : الخلق المتجسد الغليظ ، مأخوذ من الجبل. قال الشاعر :
والموت أعظم
حادث
|
|
مما يمر على
الجبلة
|
ويقال : بسكون
الباء مثلث الجيم. وقال الهروي : الجبل والجبل والجبل ، لغات ، وهو الجمع الكثير
العدد من الناس. انتهى. هام : ذهب على وجهه ، قاله الكسائي. وقال أبو عبيدة : حاد
عن القصد.
(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ
الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ ، إِنِّي
لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ، وَما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ، فَاتَّقُوا
اللهَ وَأَطِيعُونِ ، قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ، قالَ
وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ، إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ
تَشْعُرُونَ ، وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ
مُبِينٌ ، قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ
الْمَرْجُومِينَ ، قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ، فَافْتَحْ بَيْنِي
وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ،
فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ، ثُمَّ أَغْرَقْنا
بَعْدُ الْباقِينَ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ
، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).
القوم : مؤنث
مجازي التأنيث ، ويصغر قويمة ، فلذلك جاء : (كَذَّبَتْ قَوْمُ
نُوحٍ). ولما كان مدلوله أفرادا ذكورا عقلاء ، عاد الضمير عليه ،
كما يعود على جمع المذكر العاقل. وقيل : قوم مذكر ، وأنث لأنه في معنى الأمة
والجماعة ، وتقدم معنى تكذيب قوم نوح المرسلين ، وإن كان المرسل إليهم واحدا في
الفرقان في قوله : (وَقَوْمَ نُوحٍ
لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ) ، وإخوة نوح قيل : في النسب. وقيل : في المجانسة ، كقوله :
يا أخا تميم تريد
يا واحد أمته
وقال الشاعر :
لا يسألون أخاهم
حين يندبهم
|
|
في النائبات على
ما قال برهانا
|
ومتعلق التقوى
محذوف ، فقيل : ألا تتقون عذاب الله وعقابه على شرككم؟ وقيل : ألا تتقون مخالفة
أمر الله فتتركوا عبادتكم للأصنام وأمانته ، كونه مشهورا في قومه بذلك ، أو مؤتمنا
على أداء رسالة الله؟ ولما عرض عليهم برفق تقوى الله فقال : (أَلا تَتَّقُونَ) ، انتقل من العرض إلى الأمر فقال : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) في نصحي لكم ، وفيما دعوتكم إليه من توحيد الله وإفراده
بالعبادة. (وَما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ) : أي على دعائي إلى الله والأمر بتقواه. وقيل : الضمير في
عليه يعود على النصح ، أو على التبليغ ، والمعنى : لا أسئلكم عليه شيئا من
أموالكم. وقدم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته ، لأن تقوى الله سبب لطاعة نوح عليهالسلام. ثم كرر الأمر بالتقوى والطاعة ، ليؤكد عليهم ويقرر ذلك في
نفوسهم ، وإن اختلف التعليل ، جعل الأول معلولا لأمانته ، والثاني لانتفاء أخذ
الأجر. ثم لم ينظروا في أمر رسالته ، ولا تفكروا فيما أمرهم به ، لما جبلوا عليه
ونشؤوا من حب الرئاسة ، وهي التي
__________________
تطبع على قلوبهم.
فشرع أشرافهم في تنقيص متبعيه ، وأن الحامل على انتفاء إيمانهم له ، كونه اتبعه
الأرذلون.
وقوله : (وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) ، جملة حالية ، أي كيف نؤمن وقد اتبعك أراذلنا ، فنتساوى
معهم في اتباعك؟ وكذا فعلت قريش في شأن عمار وصهيب. والضعفاء أكثر استجابة من
الرؤساء ، لأن أذهانهم ليست مملوءة بزخارف الدنيا ، فهم أدرك للحق وأقبل له من
الرؤساء. وقرأ الجمهور : واتبعك فعلا ماضيا. وقرأ عبد الله ، وابن عباس ، والأعمش
، وأبو حيوة ، والضحاك ، وابن السميفع ، وسعيد بن أبي سعد الأنصاري ، وطلحة ،
ويعقوب : واتباعك جمع تابع ، كصاحب وأصحاب. وقيل : جمع تبيع ، كشريف وأشراف. وقيل
: جمع تبع ، كبرم وإبرام ، والواو في هذه القراءة للحال. وقيل : للعطف على الضمير
الذي في قوله : (أَنُؤْمِنُ لَكَ) ، وحسن ذلك للفصل بلك ، قاله أبو الفضل الرازي وابن عطية
وأبو البقاء. وعن اليماني : واتباعك بالجر عطفا على الضمير في لك ، وهو قليل ،
وقاسه الكوفيون. والأرذلون : رفع بإضمارهم. قيل : والذين آمنوا به بنوه ونساؤه
وكنانة وبنو بنيه ، فعلى هذا لا تكون الرذالة دناءة المكاسب ؛ وتقدم الكلام في
الرذالة في هود في قوله : (إِلَّا الَّذِينَ
هُمْ أَراذِلُنا) ، وأرادوا بذلك تنقيص نوح عليهالسلام ، إذ لم يعلموا أن ضعفاء الناس هم أتباع الرسل ، كما ورد
في حديث هرقل. وهذا الذي أجابوا به في غاية السخافة ، إذ هو مبعوث إلى الخلق كافة
، فلا يختلف الحال بسبب الفقر والغنى ، ولا شرف المكاسب ودناءتها.
وقال ابن عطية :
ويظهر من الآية أن مراد قوم نوح نسبة الرذيلة إلى المؤمنين ، بتهجين أفعالهم لا
النظر إلى صنائعهم ، يدل على ذلك قول نوح : (وَما عِلْمِي) الآية ، لأن معنى كلامه ليس في نظري ، وعلمي بأعمالهم
ومعتقداتهم فائدة ، فإنما أقنع بظاهرهم وأجتزئ به ، ثم حسابهم على الله تعالى ،
وهذا نحو ما قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» ،
الحديث بجملته انتهى. وقال الكرماني : لا أطلب العلم بما عملوه ، إنما على أن
أدعوهم. وقال الزمخشري : وما علمي ، وأي شيء علمي ، والمراد انتفاء علمه بإخلاص
أعمالهم واطلاعه على سرائرهم ؛ وإنما قال هذا لأنهم قد طعنوا في استرذالهم في
إيمانهم ، وأنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة ، وإنما آمنوا هوى وبديهة ، كما حكى الله
عنهم في قوله : (الَّذِينَ هُمْ
أَراذِلُنا) بادىء الرأي. ويجوز أن يتعالى لهم نوح
__________________
عليهالسلام ، فيفسر قولهم : الأرذلون ، بما هو الرذالة عنده من سوء
الأعمال وفساد العقائد ، ولا يلتفت إلى ما هو الرذالة عندهم. ثم بنى جوابه على ذلك
فيقول : ما عليّ إلا اعتبار الظواهر ، دون التفتيش على أسرارهم والشق عن قلوبهم ،
وإن كان لهم شيء ، فالله محاسبهم ومجازيهم ، وما أنا إلا منذر لا محاسب ، ولا مجاز
، لو تشعرون ذلك ، ولكنكم تجهلون ، فتنساقون مع الجهل حيث سيركم. وقصد بذلك رد
اعتقادكم ، وإنكار أن يسمى المؤمن رذلا ، وإن كان أفقر الناس وأوضعهم نسبا. فإن
الغنى غنى الدين ، والنسب نسب التقوى. انتهى. وهو تكثير. وقال الحوفي : وما علمي ،
ما نافية ، والباء متعلقة بعلمي. انتهى. وهذا التخريج يحتاج فيه إلى إضمار خبر حتى
تصير جملة ولما كانوا لا يصدقون بالحساب ولا بالبعث ، أردفه بقوله : (لَوْ تَشْعُرُونَ) ، أي بأن المعاد حق ، والحساب حق. وقرأ الجمهور : تشعرون
بتاء الخطاب. وقرأ الأعرج ، وأبو زرعة ، وعيسى بن عمر الهمداني : بياء الغيبة.
(وَما أَنَا بِطارِدِ
الْمُؤْمِنِينَ) : هذا مشعر بأنهم طلبوا منه ذلك فأجابهم بذلك ، كما طلب
رؤساء قريش من رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يطرد من آمن من الضعفاء ، فنزلت : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ) الآية ، أي لا
أطردهم عني لاتباع شهواتكم والطمع في إيمانكم. (إِنْ أَنَا إِلَّا
نَذِيرٌ مُبِينٌ) ، ما جئت به بالبرهان الصحيح الذي يميز به الحق من الباطل.
ولما اعتلوا في ترك إيمانهم بإيمان من هو دونهم ، دل ذلك على أنهم لم تثلج صدورهم
للإيمان ، إذ اتباع الحق لا يأنف منه أحد لوجود الشركة فيه ، أخذوا في التهديد
والوعيد.
(قالُوا لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهِ يا نُوحُ) عن تقبيح ما نحن عليه ، وادعائك الرسالة من الله ، (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) ، أي بالحجارة. وقيل : بالشتم. وأيس إذ ذاك من فلاحهم ،
فنادى ربه ، وهو أعلم بحاله : (إِنَّ قَوْمِي
كَذَّبُونِ) ، فدعائي ليس لأجل أنهم آذوني ، ولكن لأجل دينك. (فَافْتَحْ) ، أي فاحكم. ودعا لنفسه ولمن آمن به بالنجاة ، وفي ذلك
إشعار بحلول العذاب بقومه ، أي : (وَنَجِّنِي) مما يحل بهم. وقيل : ونجني من عملهم لأنه سبب العقوبة.
والفلك واحد وجمع ، وغالب استعماله جمعا لقوله : (وَتَرَى الْفُلْكَ
مَواخِرَ فِيهِ) ، (وَالْفُلْكِ الَّتِي
تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) ، فحيث أتى في غير فاصلة ، استعمل جمعا ، وحيث كان فاصلة ،
استعمل مفردا لمراعاة الفواصل ، كهذا الموضع. والذي في سورة يس ، وتقدّم الخلاف
إذا كان مدلوله جمعا ، أهو جمع تكسير ، أم اسم جمع؟ والمشحون ، قال ابن عباس :
الموقر ، وقال عطاء : المثقل. (ثُمَّ أَغْرَقْنا
بَعْدُ) : أي بعد نجاة نوح والمؤمنين.
__________________
(كَذَّبَتْ عادٌ
الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ ، إِنِّي
لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ، وَما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ، أَتَبْنُونَ
بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ، وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ
تَخْلُدُونَ ، وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ، فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ ، وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ ، أَمَدَّكُمْ
بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ ، قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ
الْواعِظِينَ ، إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ، وَما نَحْنُ
بِمُعَذَّبِينَ ، فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما
كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).
كان أخاهم من
النسب ، وكان تاجرا جميلا ، أشبه الخلق بآدم عليهالسلام ، عاش أربعمائة سنة وأربعا وستين سنة ، وبينه وبين ثمود
مائة سنة. وكانت منازل عاد ما بين عمان إلى حضرموت. أمرع البلاد ، فجعلها الله
مفاوز ورمالا. أمرهم أولا أمر به نوح قومه ، ثم نعى عليهم من سوء أعمالهم مع كفرهم
فقال : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ
رِيعٍ)؟ قال ابن عباس : هو رأس الزقاق. وقال مجاهد : فج بين
جبلين. وقال عطاء : عيون فيها الماء. وقال ابن بحر : جبل. وقيل : الثنية الصغيرة.
وقرأ الجمهور : ريع بكسر الراء ، وابن أبي عبلة : بفتحها. قال ابن عباس : (آيَةً) : علما. وقال مجاهد : أبراج الحمام. وقال النقاش وغيره :
القصور الطوال. وقيل : بيت عشار. وقيل : ناديا للتصلف. وقيل : أعلاما طوالا
ليهتدوا بها في أسفارهم ، عبثوا بها لأنهم كانوا يهتدون بالنجوم. وقيل : علامة
يجتمع إليها من يعبث بالمار في الطريق. وفي قوله إنكار للبناء على صورة العبث ،
كما يفعل المترفون في الدنيا. والمصانع : جمع مصنعة. قيل : وهي البناء على الماء.
وقيل : القصور المشيدة المحكمة. وقيل : الحصون. وقال قتادة : برك الماء. وقيل :
بروج الحمام. وقيل : المنازل. واتخذ هنا بمعنى عمل ، أي ويعملون مصانع ، أي تبنون.
وقال لبيد :
وتبقى جبال بعدنا
ومصانع
(لَعَلَّكُمْ
تَخْلُدُونَ) : الظاهر أن لعل على بابها من الرجاء ، وكأنه تعليل للبناء
والاتخاذ ، أي الحامل لكم على ذلك هو الرجاء للخلود ولا خلود. وفي قراءة عبد الله
: كي تخلدون ، أو يكون المعنى يشبه حالكم حال من يخلد ، فلذلك بنيتم واتخذتم. وقال
ابن زيد : معناه الاستفهام على سبيل التوبيخ والهزء بهم ، أي هل أنتم تخلدون :
وكون لعل للاستفهام مذهب كوفي. وقال ابن عباس : المعنى كأنكم خالدون ، وفي حرف أبي
: كأنكم تخلدون. وقرىء : كأنكم خالدون. وقرأ الجمهور : تخلدون ، مبنيا للفاعل ؛
وقتادة : مبنيا
للمفعول. ويقال : خلد الشيء وأخلده : غيره. وقرأ أبيّ ، وعلقمة ، وأبو العالية ،
مبنيا للمفعول مشددا ، كما قال الشاعر :
وهل ينعمن إلا
سعيد مخلد
|
|
قليل الهموم ما
يبيت بأوجال
|
(وَإِذا
بَطَشْتُمْ) : أي أردتم البطش ، وحمل على الإرادة لئلا يتحد الشرط
وجوابه ، كقوله :
متى تبعثوها
تبعثوها ذميمة
أي متى أردتم
بعثها. قال الحسن : بادروا تعذيب الناس من غير تثبت ولا فكر في العواقب. وقيل :
المعنى أنكم كفار الغضب ، لكم السطوات المفرطة والبوادر. فبناء الأبنية العالية
تدل على حب العلو ، واتخاذ المصانع رجاء الخلود يدل على البقاء ، والجبارية تدل
على التفرد بالعلو ، وهذه صفات الإلهية ، وهي ممتنعة الحصول للعبد. ودل ذلك على
استيلاء حب الدنيا عليهم بحيث خرجوا عن حد العبودية ، وحب الدنيا رأس كل خطيئة. ولما
نبههم ووبخهم على أفعالهم القبيحة ، أمرهم ثانيا بتقوى الله وطاعة نبيه. ثم أمرهم
ثالثا بالتقوى تنبيها لهم على إحسانه تعالى إليهم ، وسبوغ نعمته عليهم. وأبرز صلة (الَّذِي) متعلقة بعلمهم ، تنبيها لهم وتحريضا على الطاعة والتقوى ،
إذ شكر المحسن واجب ، وطاعته متعينة ، ومشيرا إليهم بأن من أمد بالإحسان هو قادر
على سلبه ، وعلى تعذيب من لم يتقه ، إذ هذا الإمداد ليس من جهتكم ، وإنما هو من
تفضله تعالى عليكم بحيث أتبعكم إحسانه شيئا بعد شيء. ولما أتى بذكر ما أمدهم به
مجملا محالا على علمهم ، أتى به مفصلا. فبدأ بالأنعام ، وهي التي تحصل بها الرئاسة
في الدنيا ، والقوة على من عاداهم ، والغنى هو السبب في حصول الذرية غالبا لوجده.
وبحصول القوة أيضا بالبنين ، فلذلك قرنهم بالأنعام ، ولأنهم يستعينون بهم في حفظها
والقيام عليها. واتبع ذلك بالبساتين والمياه المطردة ، إذ الإمداد بذلك من إتمام
النعمة.
و (بِأَنْعامٍ) : ذهب بعض النحويين إلى أنه بدل من قوله : (بِما تَعْلَمُونَ) ، وأعيد العامل كقوله : (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ
اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ) . والأكثرون لا يجعلون مثل هذا بدلا وإنما هو عندهم من
تكرار الجمل ، وإن كان المعنى واحدا ، ويسمى التتبيع ، وإنما يجوز أن يعاد عندهم
العامل إذا كان حرف جر دون ما يتعلق به ، نحو : مررت بزيد بأخيك ،
__________________
ثم حذرهم عذاب
الله ، وأبرز ذلك في صورة الخوف لا على سبيل الجزم ، إذ كان راجيا لإيمانهم ، فكان
من جوابهم أن قالوا : (سَواءٌ عَلَيْنا) وعظك وعدمه ، وجعلوا قوله وعظا ، إذ لم يعتقدوا صحة ما جاء
به ، وأنه كاذب فيما ادعاه ، وقولهم ذلك على سبيل الاستخفاف وعدم المبالاة بما
خوفهم به. وقرأ الجمهور : وعظت ، بإظهار الظاء. وروي عن أبي عمرو ، والكسائي ،
وعاصم : إدغام الظاء في التاء. وبالإدغام ، قرأ ابن محيصن ، والأعمش ؛ إلا أن
الأعمش زاد ضمير المفعول فقرأ : أوعظتنا. وينبغي أن يكون إخفاء ، لأن الظاء مجهورة
مطبقة ، والتاء مهموسة منفتحة ، فالظاء أقوى من التاء ، والإدغام إنما يحسن في
المتماثلين ، أو في المتقاربين ، إذا كان الأول أنقص من الثاني. وأما إدغام الأقوى
في الأضعف ، فلا يحسن. على أنه قد جاء من ذلك أشياء في القرآن بنقل الثقات ، فوجب
قبولها ، وإن كان غيرها هو أفصح وأقيس.
وعادل (أَوَعَظْتَ) بقوله : (أَمْ لَمْ تَكُنْ
مِنَ الْواعِظِينَ) ، وإن كان قد يعادله : أم لم تعظ. كما قال : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ
صَبَرْنا) لأجل الفاصلة ، كما عادلت في قوله : (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ
أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) ، ولم يأت التركيب أم صمتم ، وكثيرا ما يحسن مع الفواصل ما
لا يحسن دونه. وقال الزمخشري : بينهما فرق ، يعني بين ما جاء في الآية وهي : أم لم
تعظ ، قال : لأن المراد سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن أصلا
من أهله ومباشرته ، فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه من قولك : أم لم تعظ. ولما لم
يبالوا بما أمرهم به ، وبما ذكرهم من نعم الله وتخويفه الانتقام منهم ، أجابوه بأن
قالوا : (إِنْ هذا إِلَّا
خُلُقُ الْأَوَّلِينَ). وقرأ عبد الله ، وعلقمة ، والحسن ، وأبو جعفر ، وأبو عمرو
، وابن كثير ، والكسائي : خلق ، بفتح الخاء وسكون اللام ، فهو يحتمل أن يكون
المعنى : إن هذا الذي تقوله وتدعيه إلا اختلاق الأولين من الكذبة قبلك ، فأنت على
مناهجهم. وروى علقمة عن عبد الله : أن هذا إلا اختلاق الأولين. ويحتمل أن يكون
المعنى : ما هي البنية التي نحن عليها إلا البنية التي عليها الأولون ، حياة وموت
ولا بعث ولا تعذيب. وقرأ باقي السبعة : خلق ، بضمتين ؛ وأبو قلابة ، والأصمعي عن
نافع : بضم الخاء وسكون اللام ؛ وتحتمل هذه القراءة ذينك الاحتمالين اللذين في
خلق.
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ
الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ ، إِنِّي
لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ، وَما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ،
__________________
أَتُتْرَكُونَ
فِي ما هاهُنا آمِنِينَ ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها
هَضِيمٌ ، وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ ، فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ ، وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي
الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ ، قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ، ما
أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ،
قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ، وَلا
تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، فَعَقَرُوها
فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ ، فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما
كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).
(أَتُتْرَكُونَ) : يجوز أن يكون إنكارا لأن يتركوا مخلدين في نعيمهم لا
يزولون عنه ، وأن يكون تذكيرا بالنعمة في تخلية الله إياهم وما يتنعمون فيه من
الجنات ، وغير ذلك مع الأمن والدعة ، قاله الزمخشري. وقال ابن عطية : تخويف لهم ،
بمعنى : أتطمعون إن كفرتم في النعم على معاصيكم؟ وقيل : أتتركون؟ استفهام في معنى
التوبيخ ، أي أيترككم ربكم؟ (فِي ما هاهُنا) : أي فيما أنتم عليه في الدنيا (آمِنِينَ) : لا تخافون بطشه. انتهى. وما موصولة ، وهاهنا إشارة إلى
المكان الحاضر القريب ، أي في الذي استقر في مكانكم هذا من النعيم. و (فِي جَنَّاتٍ) بدل من ما هاهنا أجمل ، ثم فصل ، كما أجمل هود عليهالسلام في قوله : (أَمَدَّكُمْ بِما
تَعْلَمُونَ) ، ثم فصل في قوله : (أَمَدَّكُمْ
بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) ، وكانت أرض ثمود كثيرة البساتين والماء والنخل. والهضيم ،
قال ابن عباس : إذا أينع وبلغ. وقال الزهري : الرخص اللطيف أول ما يخرج. وقال
الزجاج : الذي رطبه بغير نوى. وقال الضحاك : المنضد بعضه على بعض. وقيل : الرطب
المذنب. وقيل : النضيج من الرطب. وقيل : الرطب المتفتت. وقيل : الحماض الطلع ،
ويقارب قشرته من الجانبين من قولهم : خصر هضيم. وقيل : العذق المتدلي. وقيل :
الجمار الرخو. وجاء قوله : (وَنَخْلٍ) بعد قوله : (فِي جَنَّاتٍ) ، وإن كانت الجنة تتناول النخل أول شيء ، ويطلقون الجنة ،
ولا يريدون بها إلا النخل ، كما قال الشاعر :
كأن عيني في
غربي مقتلة
|
|
من النواضح تسقي
جنة سحقا
|
أراد هنا النخل.
والسحق جمع سحوق ، وهي التي ذهبت بجردتها صعدا فطالت. فأفرد (وَنَخْلٍ) بالذكر بعد اندراجه في لفظ جنات ، تنبيها على انفراده عن
شجر الجنة بفضله. أو أراد بجنات غير النخل من الشجر ، لأن اللفظ صالح لهذه الإرادة
، ثم عطف عليه ونخل ، ذكرهم تعالى نعمه في أن وهب لهم أجود النخل وأينعه ، لأن
الإناث ولادة التمر ، وطلعها فيه لطف ، والهضيم : اللطيف الضامر ، والبرني ألطف من
طلع اللون. ويحتمل
اللطف في الطلع أن
يكون بسبب كثرة الحمل ، فإنه متى كثر لطف فكان هضيما ، وإذا قل الحمل جاء التمر
فاخرا. ولما كانت منابت النخل جيدة ، وكان السقي لها كثيرا ، وسلمت من العاهة ،
كبر الحمل بلطف الحب. وقرأ الجمهور : (وَتَنْحِتُونَ) ، بالتاء للخطاب وكسر الحاء ؛ وأبو حيوة ، وعيسى ، والحسن
: بفتحها ، وتقدم ذكره ، وعنه بألف بعد الحاء إشباعا. وعن عبد الرحمن بن محمد ، عن
أبيه : بالياء من أسفل وكسر الحاء. وعن أبي حيوة ، والحسن أيضا : بالياء من أسفل
وفتح الحاء. وقرأ عبد الله ، وابن عباس ، وزيد بن علي ، والكوفيون ، وابن عامر :
فارهين بألف ، وباقي السبعة : بغير ألف ؛ ومجاهد : متفرهين ، اسم فاعل من تفره ،
والمعنى : نشطين مهتمين ، قاله ابن عباس. وقال مجاهد : شرهين. وقال ابن زيد :
أقوياء. وقال ابن عباس أيضا ، وأبو عمرو بن العلاء : أشرين بطرين. وقال عبد الله
بن شداد : بمعنى مستفرهين ، أي مبالغين في استجادة المغارات ليحفظوا أموالهم فيها.
وقال قتادة : آمنين. وقال الكلبي : متجبرين. وقال خصيف : معجبين. وقال عكرمة :
ناعمين. وقال الضحاك : كيسين. وقال أبو صالح : حاذقين. وقال ابن بحر : قادرين.
وقال أبو عبيدة : مرحين.
وظاهر هذه الآيات
أن الغالب على قوم هود : اللذات الخيالية من طلب الاستعلاء والبقاء والتفرد
والتجبر ، وعلى قوم صالح : اللذات الحسية من المأكول والمشروب والمساكن الطيبة
الحصينة. (وَلا تُطِيعُوا) : خطاب الجمهور قومه. والمسرفون : هم كبراؤهم وأعلامهم في
الكفر والإضلال ، وكانوا تسعة رهط. (يُفْسِدُونَ فِي
الْأَرْضِ) : أي أرض ثمود. وقيل : في الأرض كلها ، لأن بمعاصيهم
امتناع الغيث. ولما كانوا يفسدون دلالته دلالة المطلق ، أتى بقوله : (وَلا يُصْلِحُونَ) ، فنفى عنهم الصلاح ، وهو نفي لمطلق الصلاح ، فيلزم منه
نفي الصلاح كائنا ما كان ، فلا يحصل منهم صلاح البتة. والمسحر : الذي سحر كثيرا
حتى غلب على عقله. وقيل : من السحر ، وهو الرئة ، أي أنت بشر لا تصلح للرسالة.
ويضعف هذا القول قولهم بعد : (ما أَنْتَ إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُنا) ، إذ تكون هذه الجملة توكيدا لما قبلها ، والأصل التأسيس.
ومثلنا : أي في الأكل والشرب وغير ذلك من صفات البشر ، فلا اختصاص لك بالرسالة.
(فَأْتِ بِآيَةٍ) : أي بعلامة على صحة دعواك ، وفي الكلام حذف تقديره : قال
آتي بها ، قالوا : ما هي؟ (قالَ هذِهِ ناقَةٌ). روي أنهم اقترحوا عليه ناقة عشراء تخرج من هذه الصخرة تلد
سقبا. فقعد صالح يتفكر ، فقال له جبريل عليهالسلام : صل ركعتين وسل
ربك الناقة ، ففعل
؛ فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم ، ونتجت سقبا مثلها في العظم. وتقدم في الأعراف
طرف من قصة ثمود والناقة ، والشرب النصيب المشروب من الماء نحو السقي. وقرأ ابن
أبي عبلة : شرب ، بضم الشين فيهما ، وظاهر هذا العذاب أنه في الدنيا ، وكذا وقع
ووصف بالعظم لحلول العذاب فيه ، ووصفه به أبلغ من وصف العذاب به ، لأن الوقت إذا
عظم بسبب العذاب ، كان موقع العذاب من العظم أشد. ونسب العقر إلى جميعهم ، لكونهم
راضين بذلك ، حتى روي أنهم استرضوا المرأة في خدرها والصبيان ، فرضوا جميعا.
(فَأَصْبَحُوا
نادِمِينَ) ، لا ندم توبة ، بل ندم خوف أن يحل بهم العذاب عاجلا ،
وذلك عند معاينة العذاب في غير وقت التوبة. أصبحوا وقد تغيرت ألوانهم حسبما كان
أخبرهم به صالح عليهالسلام ، وكان العذاب صيحة خمدت لها أبدانهم ، وانشقت قلوبهم ،
وماتوا عن آخرهم ، وصب عليهم حجارة خلال ذلك. وقيل : كانت ندامتهم على ترك عقر
الولد ، وهو قول بعيد. وأل في : (فَأَخَذَهُمُ
الْعَذابُ) للعهد في العذاب السابق ، عذاب ذلك اليوم العظيم.
(كَذَّبَتْ قَوْمُ
لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ ،
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ، وَما
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ
، أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ ، وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ
رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ ، قالُوا لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ، قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ
مِنَ الْقالِينَ ، رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ، فَنَجَّيْناهُ
وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ ، ثُمَّ دَمَّرْنَا
الْآخَرِينَ ، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ،
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).
(أَتَأْتُونَ) : استفهام إنكار وتقريع وتوبيخ ؛ و (الذُّكْرانَ) : جمع ذكر ، مقابل الأنثى. والإتيان : كناية عن وطء الرجال
، وقد سماه تعالى بالفاحشة فقال : (أَتَأْتُونَ
الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) ، هو مخصوص بذكران بني آدم. وقيل : مخصوص بالغرباء. (وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ) : ظاهر في كونهم لا يأتون النساء ، إما البتة ، وإما غلبة.
(ما خَلَقَ لَكُمْ
رَبُّكُمْ) : يدل على الإباحة بشرطها. (مِنْ أَزْواجِكُمْ) : أي من الإناث. ومن إما
__________________
للتبيين لقوله : (ما خَلَقَ) ، وإما للتبعيض : أي العضو المخلوق للوطء ، وهو الفرج ،
وهو على حذف مضاف ، أي وتذرون إتيان. فإن كان ما خلق لا يراد به العضو ، فلا بد من
تقدير مضاف آخر ، أي وتذرون إتيان فروج ما خلق. (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
عادُونَ) : أي متجاوزون الحد في الظلم ، وهو إضراب بمعنى الانتقال
من شيء إلى شيء ، لا أنه إبطال لما سبق من الإنكار عليهم وتقبيح أفعالهم واعتداؤهم
؛ إما في المعاصي التي هذه المعصية من جملتها ، أو من حيث ارتكاب هذه الفعلة
الشنيعة. وجاء تصدير الجملة بضمير الخطاب تعظيما لقبح فعلهم وتنبيها على أنهم هم
مختصون بذلك ، كما تقول : أنت فعلت كذا ، أي لا غيرك. ولما نهاهم عن هذا الفعل
القبيح توعدوه بالإخراج ، وهو النفي من بلده الذي نشأ فيه ، أي : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) عن دعواك النبوة ، وعن الإنكار علينا فيما نأتيه من
الذكران ، لننفينك كما نفينا من نهانا قبلك. ودل قوله : (مِنَ الْمُخْرَجِينَ) على أنه سبق من نهاهم عن ذلك ، فنفوه بسبب النهي ، أو من
المخرجين بسبب غير هذا السبب ، كأنه من خالفهم في شيء نفوه ، سواء كان الخلاف في
هذا الفعل الخاص ، أم في غيره.
(قالَ إِنِّي
لِعَمَلِكُمْ) : أي للفاحشة التي أنتم تعملونها. ولعملكم يتعلق إما
بالقالين ، وإن كان فيه أل ، لأنه يسوغ في المجرورات والظروف ما لا يسوغ في غيرها
، لاتساع العرب في تقديمها ، حيث لا يتقدم غيرها ؛ وإما بمحذوف دل عليه القالين
تقديره : إني قال لعملكم ؛ وإما أن تكون للتبيين ، أي لعملكم ، أعني من القالين.
وكونه بعض القالين يدل على أنه يبغض هذا الفعل ناس غيره هو بعضهم ، ونبه ذلك على
أن هذا الفعل موجب للبغض حتى يبغضه الناس. ومن القالين أبلغ من قال لما ذكرنا من
أن الناس يبغضونه ، ولتضمنه أنه معدود ممن يبغضه. ألا ترى إن قولك : زيد من العلماء
، أبلغ من : زيد عالم ، لأن في ذلك شهادة بأنه معدود في زمرتهم. وقال أبو عبد الله
الرازي : القلى : البغض الشديد ، كأنه بغض فقلى الفؤاد والكبد. انتهى. ولا يكون
قلى بمعنى أبغض. وقلا من الطبخ ؛ والشيء من مادّة واحدة لاختلاف التركيب. فمادة
قلا من الشّيء من ذوات الواو ، وتقول : قلوت اللحم فهو مقلو. ومادّة قلى من البغض
من ذوات الياء ، قليت الرجل ، فهو مقلي. قال الشاعر :
ولست بمقلي الخلال
ولا قال
ولما توعدوه
بالإخراج ، أخبرهم ببغض عملهم ، ثم دعا ربه فقال : (رَبِّ نَجِّنِي
وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) : أي من عقوبة ما يعملون من المعاصي. ويحتمل أن يكون دعاء
لأهله
بالعصمة من أن يقع
واحد منهم في مثل فعل قومه. ودل دعاؤه بالتنجية لأهله على أنهم كانوا مؤمنين. ولما
كانت زوجته مندرجة في الأهل ، وكان ظاهر دعائه دخولها في التنجية ، وكانت كافرة
استثنيت في قوله : (فَنَجَّيْناهُ
وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) ، ودل قوله : عجوزا ، على أنها قد عسيت في الكفر ودامت فيه
إلى أن صارت عجوزا. ومن الغابرين صفة ، أي من الباقين من لداتها وأهل بيتها ، قاله
أبو عبيدة. وقال قتادة : من الباقين في العذاب النازل بهم. وتقدّم القول في غبر ،
وأنه يستعمل بمعنى بقي ، وهو المشهور ، وبمعنى مضى. ونجاته عليهالسلام أن أمره تعالى بالرّحلة ليلا ، وكانت امرأته كافرة تعين
عليه قومه ، فأصابها حجر ، فهلكت فيمن هلك. قال قتادة : أمطر الله على شذاذ القوم
حجارة من السماء فأهلكهم. وقال قتادة : أتبع الائتفاك مطرا من الحجارة. وساء :
بمعنى بئس ، والمخصوص بالذم محذوف ، أي مطرهم. وقال مقاتل : خسف الله بقوم لوط ،
وأرسل الحجارة إلى من كان خارجا من القرية ، ولم يكن فيها مؤمن إلا بيت لوط.
(كَذَّبَ أَصْحابُ
الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ ، إِنِّي
لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ، وَما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ، أَوْفُوا
الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ، وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ
الْمُسْتَقِيمِ ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي
الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ، وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ
الْأَوَّلِينَ ، قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ، وَما أَنْتَ إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ ، فَأَسْقِطْ عَلَيْنا
كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ، قالَ رَبِّي أَعْلَمُ
بِما تَعْمَلُونَ ، فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ
كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ
مُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).
قرأ الحرميان وابن
عامر : ليكة هنا ، وفي ص بغير لام ممنوع الصرف. وقرأ باقي السبعة الأيكة ، بلام
التعريف. فأما قراءة الفتح ، فقال أبو عبيد : وجدنا في بعض التفسيران : ليكة : اسم
للقرية ، والأيكة : البلاد كلها ، كمكة وبكة ، ورأيتها في الإمام مصحف عثمان في
الحجر وق : الأيكة ، وفي الشعراء وص : ليكة ، واجتمعت مصاحف الأمصار كلها بعد على
ذلك ولم تختلف. انتهى. وقد طعن في هذه القراءة المبرد وابن قتيبة والزجاج وأبو
عليّ الفارسي والنحاس ، وتبعهم الزمخشري ؛ ووهموا القراء وقالوا : حملهم على ذلك
كون الذي كتب في هذين الموضعين على اللفظ في من نقل حركة الهمزة إلى اللام وأسقط
الهمزة ، فتوهم أن اللام من بنية الكلمة ففتح الياء ، وكان
الصواب أن يجيز ،
ثم مادّة ل ي ك لم يوجد منها تركيب ، فهي مادّة مهملة. كما أهملوا مادّة خ ذ ج
منقوطا ، وهذه نزغة اعتزالية ، يعتقدون أن بعض القراءة بالرأي لا بالرواية ، وهذه
قراءة متواترة لا يمكن الطعن فيها ، ويقرب إنكارها من الردّة ، والعياذ بالله. أما
نافع ، فقرأ على سبعين من التابعين ، وهم عرب فصحاء ، ثم هي قراءة أهل المدينة
قاطبة. وأما ابن كثير ، فقرأ على سادة التابعين ممن كان بمكة ، كمجاهد وغيره ، وقد
قرأ عليه إمام البصرة أبو عمرو بن العلاء ، وسأله بعض العلماء : أقرأت على ابن
كثير؟ قال : نعم ، ختمت على ابن كثير بعد ما ختمت على مجاهد ، وكان ابن كثير أعلم
من مجاهد باللغة. قال أبو عمرو : ولم يكن بين القراءتين كبير يعني خلافا. وأما ابن
عامر فهو إمام أهل الشام ، وهو عربي قح ، قد سبق اللحن ، أخذ عن عثمان ، وعن أبي
الدرداء وغيرهما. فهذه أمصار ثلاثة اجتمعت على هذه القراءة الحرمان مكة والمدينة
والشام ، وأما كون هذه المادّة مفقودة في لسان العرب ، فإن صح ذلك كانت الكلمة
عجمية ، ومواد كلام العجم مخالفة في كثير مواد كلام العرب ، فيكون قد اجتمع على
منع صرفها العلمية والعجمة والتأنيث.
وتقدم مدلول
الأيكة في الحجر ، وكان شعيب عليهالسلام من أهل مدين ، فلذلك جاء : (وَإِلى مَدْيَنَ
أَخاهُمْ شُعَيْباً) . ولم يكن من أهل الأيكة ، فلذلك قال هنا : (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ). ومن غريب النقل ما روي عن ابن عباس ، أن (أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) هم أصحاب مدين ، وعن غيره ، أن (أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) هم أهل البادية ، وأصحاب مدين هم الحاضرة. وروي في الحديث
: «أن شعيبا أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة ، أمرهم بإيفاء الكيل ، وهو
الواجب ، ونهاهم عن الإخسار ، وهو التطفيف ، ولم يذكر الزيادة على الواجب ، لأن
النفوس قد تشح بذلك فمن فعله فقد أحسن ، ومن تركه فلا حرج». وتقدم تفسير القسطاس
في سورة الإسراء. وقال الزمخشري : إن كان من القسط ، وهو العدل ، وجعلت العين
مكررة ، فوزنه فعلاء ، وإلا فهو رباعي. انتهى. ولو تكرر ما يماثل العين في النطق ،
لم يكن عند البصريين إلا رباعيا. وقال ابن عطية : هو مبالغة من القسط. انتهى.
والظاهر أن قوله : (وَزِنُوا) ، هو أمر بالوزن ، إذ عادل قوله : (أَوْفُوا الْكَيْلَ) ، فشمل ما يكال وما يوزن مما هو معتاد فيه ذلك. وقال ابن
عباس ومجاهد : معناه عدلوا أموركم كلها بميزان العدل الذي جعله الله لعباده.
(وَلا تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) : الجملة والتي تليها تقدم الكلام عليهما. ولما تقدم
__________________
أمره عليهالسلام إياهم بتقوى الله ، أمرهم ثانيا بتقوى من أوجدهم وأوجد من
قبلهم ، تنبيها على أن من أوجدهم قادر على أن يعذبهم ويهلكهم. وعطف عليهم (وَالْجِبِلَّةَ) إيذانا بذلك ،
فكأنه قيل : يصيركم إلى ما صار إليه أولوكم ، فاتقوا الله الذي تصيرون إليه. وقرأ
الجمهور : والجبلة بكسر الجيم والباء وشد اللام. وقرأ أبو حصين ، والأعمش ، والحسن
: بخلاف عنه ، بضمها والشد للام. وقرأ السلمي : والجبلة ، بكسر الجيم وسكون الباء
، وفي نسخة عنه : فتح الجيم وسكون الباء ، وهي من جبلوا على كذا ، أي خلقوا. قيل :
وتشديد اللام في القراءتين في بناءين للمبالغة. وعن ابن عباس : الجبلة : عشرة
آلاف. (وَما أَنْتَ) : جاء هنا بالواو ، وفي قصة هود : (ما أَنْتَ) ، بغير واو. فقال الزمخشري : إذا دخلت الواو فقد قصد
معنيان ، كلاهما مخالف للرسالة عندهم ، التسحير والبشرية ، وأن الرسول لا يجوز أن
يكون مسحرا ، ولا يجوز أن يكون بشرا ، وإذا تركت الواو فلم يقصد إلا معنى واحد ،
وهو كونه مسحرا ، ثم قرر بكونه بشرا. انتهى.
(وَإِنْ نَظُنُّكَ
لَمِنَ الْكاذِبِينَ) : إن هي المخففة من الثقيلة ، واللام في لمن هي الفارقة ،
خلافا للكوفيين ، فإن عندهم نافية واللام بمعنى إلا ، وتقدم الخلاف في نحو ذلك في
قوله : (وَإِنْ كانَتْ
لَكَبِيرَةً) في البقرة. ثم طلبوا منه إسقاط كسف ، من السماء عليهم ،
وليس له ذلك ، فالمعنى : إن كنت صادقا ، فادع الذي أرسلك أن يسقط علينا كسفا ، أي
قطعة ، أو قطعا على حسب التسكين والتحريك. وقال الزمخشري : وكلاهما جمع كسفة ، نحو
: قطع وشذر. وقيل : الكسف والكسفة ، كالريع والريعة ، وهي القطعة وكسفة : قطعة ،
والسماء : السحاب أو المظلة. ودل طلبهم ذلك على التصميم على الجحود والتكذيب. ولما
طلبوا منه ما طلبوا ، أحال علم ذلك إلى الله تعالى ، وأنه هو العالم بأعمالكم ،
وبما تستوجبون عليها من العقاب ، فهو يعاقبكم بما شاء.
(فَكَذَّبُوهُ
فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) ، وهو نحو مما اقترحوا. ولم يذكر الله كيفية عذاب يوم
الظلة ، حتى أن ابن عباس قال : من حدثك ما عذاب يوم الظلة فقد كذب ، وذكر في
حديثها تطويلات. فروى أنه حبس عنهم الريح سبعا ، فابتلوا بحرّ عظيم يأخذ بأنفاسهم
، لا ينفعهم ظل ولا ماء ، فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية ، فأظلتهم سحابة وجدوا
لها بردا ونسيما ، فاجتمعوا تحتها ، فأمطرت عليهم نارا فأحرقتهم. وكرر ما كرر في
أوائل هذه القصص ، تنبيها على أن طريقة الأنبياء واحدة لا اختلاف فيها ، وهي
الدعاء إلى
__________________
توحيد الله
وعبادته ورفض ما سواه ، وأنهم ورسول الله صلىاللهعليهوسلم مشتركون في ذلك ، وأن ما جاء به صلىاللهعليهوسلم هو ما جاءت به الرسل قبله ، وتلك عادة الأنبياء.
قال ابن عطية :
وجاءت الألفاظ في دعاء كل واحد من هؤلاء الأنبياء واحدة بعينها ، إذ كان الإيمان
المدعو إليه معنى واحدا بعينه. وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف كرر في هذه السورة
في أول كل قصة وآخرها ما كرر؟ قلت : كل قصة منها كتنزيل برأسه ، وفيها من الاعتبار
مثل ما في غيرها. فكانت كل واحدة منها تدلي بحق ، إلى أن يفتتح بمثل ما افتتحت به
صاحبتها ، وأن تختتم بمثل ذلك مما اختتمت به. ولأن التكرير تقرير للمعاني في النفوس
، وتثبيت لها في الصدور ، ولأن هذه القصص طرقت بهذا آذان ، وقرعن الإنصات للحق ،
وقلوب غلف عن تدبره ، فأوثرت بالوعظ والتذكير ، وروجعت بالترديد والتكرير.
(وَإِنَّهُ
لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى
قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ، وَإِنَّهُ
لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ، أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ
عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ ، وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ،
فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ، كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي
قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ، لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ
الْأَلِيمَ ، فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ، فَيَقُولُوا هَلْ
نَحْنُ مُنْظَرُونَ ، أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ ، أَفَرَأَيْتَ إِنْ
مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ، ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ، ما أَغْنى
عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ ، وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها
مُنْذِرُونَ ، ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ).
الضمير في : (وَإِنَّهُ) عائد على القرآن ، أي إنه ليس بكهانة ولا سحر ، بل هو من
عند الله ، وكأنه عاد أيضا إلى ما افتتح به السورة من إعراض المشركين عما يأتيهم
من الذكر ، ليتناسب المفتتح والمختتم. وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو ، وحفص : (نَزَلَ) مخففا ، و (الرُّوحُ الْأَمِينُ) : مرفوعان ؛ وباقي السبعة : بالتشديد ونصبهما. والروح هنا
: جبريل عليهالسلام ، وقد تقدم في سورة مريم لم أطلق عليه الروح ، وبه قال ابن
عطية : في موضع الحال كقوله : (وَقَدْ دَخَلُوا
بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) . انتهى. والظاهر تعلق (عَلى قَلْبِكَ) و (لِتَكُونَ) بنزل ، وخص القلب والمعنى عليك ، لأنه محل الوعي والتثبيت
، وليعلم أن المنزل على قلبه عليهالسلام محفوظ ، لا يجوز عليه التبديل ولا التغيير ، وليكون علة في
التنزيل أو النزول اقتصر عليها ، لأن ذلك أزجر للسامع ، وإن كان القرآن نزل
__________________
للإنذار والتبشير.
والظاهر تعلق (بِلِسانٍ) بنزل ، فكان يسمع من جبريل حروفا عربية. قال ابن عطية ،
وهو القول الصحيح : وتكون صلصلة الجرس صفة لشدة الصوت وتداخل حروفه وعجلة مورده
وإغلاظه. ويمكن أن يتعلق بقوله : (لِتَكُونَ) ، وتمسك بهذا من رأى النبي صلىاللهعليهوسلم ، كان يسمع أحيانا مثل صلصلة الجرس ، يتفهم له منه القرآن
، وهو مردود. انتهى. وقال الزمخشري : (بِلِسانٍ) ، إما أن يتعلق بالمنذرين ، فيكون المعنى : لتكون من الذين
أنذروا بهذا اللسان ، وهم خمسة : هود ، وصالح ، وشعيب ، وإسماعيل ، ومحمد صلىاللهعليهوسلم وعليهم ؛ وإما أن يتعلق بنزل ، فيكون المعنى : نزله
باللسان العربي المبين لتنذر به ، لأنه لو نزله باللسان الأعجمي ، لتجافوا عنه
أصلا وقالوا : ما نصنع بما لا نفهمه؟ فيتعذر الإنذار به. وفي هذا الوجه ، إن
تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك ، تنزيل له على قلبك ، لأنك تفهمه ويفهمه
قومك. ولو كان أعجميا ، لكان نازلا على سمعك دون قلبك ، لأنك تسمع أجراس حروف لا
تفهم معانيها ولا تعيها ، وقد يكون الرجل عارفا بعدة لغات ، فإذا كلم بلغتها التي
لقنها أولا ونشأ عليها وتطبع بها ، لم يكن قلبه إلا إلى معاني تلك الكلم يتلقاها
بقلبه ، ولا يكاد يفطن للألفاظ كيف جرت. وإن كلم بغير تلك اللغة ، وإن كان ماهرا
بمعرفتها ، كان نظره أولا في ألفاظها ، ثم في معانيها. فهذا تقرير أنه نزل على
قلبه لنزوله بلسان عربي مبين. انتهى. وفيه تطويل.
(وَإِنَّهُ) ، أي القرآن (لَفِي زُبُرِ
الْأَوَّلِينَ) : أي مذكور في الكتب المنزلة القديمة ، منبه عليه مشار
إليه. وقيل : إن معانيه فيها ، وبه يحتج لأبي حنيفة في جواز القراءة بالفارسية في
الصلاة ، على أن القرآن قرآن إذا ترجم بغير العربية ، حيث قيل : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) ، لكون معانيه فيها. وقيل : الضمير عائد على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أي إن ذكره ورسالته في الكتاب الإلهية المتقدمة يكون
التفاتا ، إذ خرج من ضمير الخطاب في قوله : (عَلى قَلْبِكَ
لِتَكُونَ) إلى ضمير الغيبة ، وكذلك قبل في أن يعلمه ، أي أن يعلم
محمدا صلىاللهعليهوسلم ، وتناسق الضمائر لشيء واحد أوضح. وقرأ الأعمش : لفي زبر ،
بسكون الباء ، والأصل الضم ، ثم احتج عليهم بأنهم كان ينبغي أن يصحح عندهم أمره ،
كون علماء بني إسرائيل يعلمونه ، أي أو لم يكن لهم علامة على صحة علم بني إسرائيل
به؟ إذ كانت قريش ترجع في كثير من الأمور النقلية إلى بني إسرائيل ، ويسألونهم
عنها ويقولون : هم أصحاب الكتب الإلهية. وقد تهود كثير من العرب وتنصر كثير ،
لاعتقادهم في صحة دينهم. وذكر الثعلبي ، عن ابن عباس ، أن أهل مكة بعثوا إلى أحبار
يثرب يسألونهم عن
النبي صلىاللهعليهوسلم ، فقالوا : هذا زمانه ، ووصفوا نعته ، وخلطوا في أمر محمد عليهالسلام ، فنزلت الآية في ذلك ، ويؤيد هذا كون الآية مكية. وقال
مقاتل : هي مدنية.
و (عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) : عبد الله بن سلام ونحوه ، قاله ابن عباس ومجاهد ، وذلك
أن جماعة منهم أسلموا ونصوا على مواضع من التوراة والإنجيل ذكر فيها الرسول عليهالسلام ، قال تعالى : (وَإِذا يُتْلى
عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا) الآية. وقيل : علماؤهم من أسلم منهم ومن لم يسلم. وقيل :
أنبياؤهم ، حيث نبهوا عليه وأخبروا بصفته وزمانه ومكانه. وقرأ الجمهور : (أَوَلَمْ يَكُنْ) ، بالياء من تحت ، (آيَةً) : بالنصب ، وهي قراءة واضحة الإعراب توسط خبر يكن ، و (أَنْ يَعْلَمَهُ) : هو الاسم. وقرأ ابن عامر ، والجحدري : تكن بالتاء من فوق
، آية : بالرفع. قال الزمخشري : جعلت آية اسما ، وأن يعلمه خبرا ، وليست كالأولى
لوقوع النكرة اسما والمعرفة خبرا ، وقد خرج لها وجه آخر ليتخلص من ذلك فقيل : في
تكن ضمير القصة ، وآية أن يعلمه جملة واقعة موقع الخبر ، ويجوز على هذا أن يكون
لهم آية جملة الشأن ، وأن يعلمه بدلا من آية. انتهى. وقرأ ابن عباس : تكن بالتاء
من فوق ، آية بالنصب ، كقراءة من قرأ : لم ثم تكن ، بتاء التأنيث ، (فِتْنَتُهُمْ) بالنصب ، (إِلَّا أَنْ قالُوا) ، وكقول لبيد :
فمضى وقدمها
وكانت عادة
|
|
منه إذا هي عردت
أقدامها
|
ودل ذلك إما على
تأنيث الاسم لتأنيث الخبر ، وإما لتأويل أن يعلمه بالمعرفة ، وتأويل (إِلَّا أَنْ قالُوا) بالمقالة ، وتأويل الإقدام بالإقدامة. وقرأ الجحدري : أن
تعلمه بتاء التأنيث ، كما قال الشاعر :
قالت بنو عامر
خالوا بني أسد
|
|
يا بؤس للجهل
ضرارا لأقوام
|
وكتب في المصحف :
علموا بواو بين الميم والألف. قيل : على لغة من يميل ألف علموا إلى الواو ، كما
كتبوا الصلاة والزكوة والربوا على تلك اللغة. قال الزمخشري : الأعجمي الذي لا يفصح
، وفي لسانه عجمة واستعجام ، والأعجمي مثله إلا أن فيه لزيادة ياء النسبة زيادة
توكيد. وقال ابن عطية : الأعجمون جمع أعجم ، وهو الذي لا يفصح ، وإن كان عربي
النسب يقال له أعجم ، وذلك يقال للحيوانات والجمادات ، ومنه قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «جرح العجماء جبار». وأسند الطبري ، عن عبد الله بن مطيع
أنه قال ، حين قرأ هذه الآية
__________________
وهو واقف بعرفة : «جملي
هذا أعجم ، فلو أنزل عليه ما كانوا يؤمنون». والعجمي هو الذي نسبته في العجم ، وإن
كان أفصح الناس. انتهى. وفي التحرير : (الْأَعْجَمِينَ) : جمع أعجم على التخفيف ، ولو لا هذا التقدير لم يجز أن
يجمع جمع سلامة. قيل : والمعنى ولو نزلناه بلغة العجم على رجل أعجمي فقرأه على
العرب ، لم يؤمنوا به ، حيث لم يفهموه ، واستنكفوا من اتباعه. وقيل : ولو نزلنا
القرآن على بعض العجم من الدواب فقرأه عليهم ، لم يؤمنوا ، لعنادهم لقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ
الْمَلائِكَةَ) الآية ، وجمع جمع السلامة ، لأنه وصف بالإنزال عليه
والقراءة ، وهو فعل العقلاء. وقيل : ولو نزل على بعض البهائم ، فقرأه عليهم محمد صلىاللهعليهوسلم ، لم تؤمن البهائم ، كذلك هؤلاء لأنهم : (كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ
سَبِيلاً) انتهى.
ولما بين بما تقدم
، من أن هذا القرآن في كتب الأولين ، وأن علماء بني إسرائيل يعلمون ذلك ، وكان في
ذلك دليلين على صدق نبوّة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، بين أن هؤلاء الكفار لا تجدي فيهم الدلائل. ألا ترى
نزوله على رجل عربي بلسان عربي ، وسمعوه وفهموه وأدركوا إعجازه وتصديق كتب الله
القديمة له ، ومع ذلك جحدوا وسموه تارة شعرا وتارة سحرا؟ ولو نزل على بعض الأعاجم الذي
لا يحسن العربية ، لكفروا به وتمحلوا بجحوده. وقال الفراء : الأعجمين جمع أعجم أو
أعجمي ، على حذف ياء النسب ، كما قالوا : الأشعرين ، وواحدهم أشعري. وقال ابن
الجهم : قال الكميت :
ولو جهزت قافية
شرودا
|
|
لقد دخلت بيوت
الأشعرينا
|
انتهى. وقرأ الحسن
، وابن مقسم : الأعجميين ، بياء النسب : جمع أعجمي. والضمير في (سَلَكْناهُ) ، الظاهر أنه عائد على ما عادت عليه الضمائر. قيل : وهو
القرآن ، وقاله الرماني. والمعنى : مثل ذلك السلك ، وهو الإدخال والتمكين والتفهيم
لمعانيه. (سَلَكْناهُ) : أدخلناه ومكناه في (قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ). والمعنى : ما ترتب على ذلك السلك من كونهم فهموه وأدركوه
، ولم يزدهم ذلك إلا عنادا وجحودا وكفرا به ، أي على مثل هذه الحالة وهذه الصفة من
الكفر به والتكذيب له ، كما وضعناه فيها. فكيف ما يرام إيمانهم به لم يتغير؟
وأعماهم عليه من الإنكار والجحود ، كما قال : (وَلَوْ نَزَّلْنا
عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) الآية. وقال الكرماني : أدخلناه فيها ، فعرفوا معانيه ،
وعجزهم عن الإتيان
__________________
بمثله ، ولم
يؤمنوا به. وقال يحيى بن سلام : الضمير في سلكناه يعود على التكذيب ، فذلك الذي
منعهم من الإيمان. انتهى. ويقويه قوله : (فَقَرَأَهُ
عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ). وقال الحسن : الضمير يعود على الكفر الذي يتضمنه قوله : (ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ). انتهى. وهو قريب من القول الذي قبله. وقال عكرمة : سلكناه
، أي القسوة ، وأسند السلك تعالى إليه ، لأنه هو موجد الأشياء حقيقة ، وهو الهادي
وخالق الضلال.
وقال الزمخشري :
فإن قلت : كيف أسند السلك بصفة التكذيب إلى ذاته؟ قلت : أراد به الدلالة على تمكنه
مكذبا في قلوبهم أشد التمكين وأثبته ، فجعله بمنزلة أمر قد جبلوا عليه. ألا ترى
إلى قولهم : هو مجبول على الشح؟ يريدون تمكن الشح فيه ، لأن الأمور الخلقية أثبت
من العارضة ، والدليل عليه أنه أسند ترك الإيمان به إليهم على عقبه ، وهو قوله : (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ). انتهى. وهو على طريقة الاعتزال والتشبيه بين السلكين ،
يقتضي تغاير من حل به. والمعنى : مثل ذلك السلك في قلوب قريش ، سلكناه في قلوب من
أجرم ، لاشتراكهما في علة السلك وهو الإجرام. قال ابن عطية : أراد بهم مجرمي كل
أمّة ، أي إن هذه عادة الله فيهم ، أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب ، فلا ينفعهم
الإيمان بعد تلبس العذاب بهم ، وهذا على جهة المثال لقريش ، أي هؤلاء كذلك ، وكشف
الغيب بما تضمنته الآية يوم بدر.
قال الزمخشري :
فإن قلت : ما موقع (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) من قوله : (سَلَكْناهُ فِي
قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ)؟ قلت : موقعه منه موقع الموضح والملخص ، لأنه مسوق لثباته
مكذبا مجحودا في قلوبهم ، فاتبع بما يقرر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على
التكذيب به وجحوده حتى يعاينوا الوعيد ، ويجوز أن يكون حالا ، أيّ سلكناه فيها غير
مؤمن به. انتهى. ورؤيتهم العذاب ، قيل : في الدنيا ، وقيل : يوم القيامة. وقرأ الجمهور
: (فَيَأْتِيَهُمْ) ، بياء ، أي العذاب. وقرأ الحسن ، وعيسى : بتاء التأنيث ،
أنث على معنى العذاب لأنه العقوبة ، أي فتأتيهم العقوبة يوم القيامة ، كما قال :
أتته كتابي ، فلما سئل قال : أو ليس بصحيفة؟ قال الزمخشري : فتأتيهم بالتاء ، يعني
الساعة. وقال أبو الفضل الرازي : أنث العذاب لاشتماله على الساعة ، فاكتسى منها
التأنيث ، وذلك لأنهم كانوا يسألون عذاب القيامة تكذيبا بها ، فلذلك أنث. ولا
يكتسى المذكر من المؤنث تأنيثا إلا إن كان مضافا إليه نحو : اجتمعت أهل اليمامة ،
وقطعت بعض أصابعه ، وشرقت صدر القناة ، وليس كذلك. وقرأ الحسن : بغتة ، بفتح الغين
، فتأتيهم بالتاء من فوق ، يعني الساعة.
وقال الزمخشري :
فإن قلت : ما معنى التعقيب في قوله : (فَيَأْتِيَهُمْ
بَغْتَةً) قلت : ليس المعنى يراد برؤية العذاب ومفاجأته وسؤال النظرة
فيه الوجود ، وإنما المعنى ترتبها في الشدة ، كأنه قيل : لا يؤمنون بالقرآن حتى
تكون رؤيتهم العذاب مما هو أشد منها ، وهو لحوقه بهم مفاجأة مما هو أشد منه ، وهو
سؤالهم النظرة. ومثل ذلك أن تقول : إن أسأت مقتك الصالحون ، فمقتك الله ، فإنك لا
تقصد بهذا الترتيب أن مقت الله يوجد عقيب مقت الصالحين ، وإنما قصدك إلى ترتيب شدة
الأمر على المسيء ، وأنه يحصل له بسبب الإساءة مقت الصالحين. فما هو أشد من مقتهم؟
وهو مقت الله. ويرى ، ثم يقع هذا في هذا الأسلوب ، فيحل موقعه. انتهى. (فَيَقُولُوا) ، أي كل أمّة معذبة : (هَلْ نَحْنُ
مُنْظَرُونَ) : أي مؤخرون ، وهذا على جهة التمني منهم والرغبة حيث لا
تنفع الرغبة. ثم رجع لفظ الآية إلى توبيخ قريش على استعجالهم عذاب الله في طلبهم
سقوط السماء كسفا وغير ذلك ، وقولهم للرسول : أين ما تعدنا به؟
وقال الزمخشري : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) ، تبكيت لهم بإنكاره وتهكم ، ومعناه : كيف يستعجل العذاب
من هو معرض لعذاب يسأل فيه من جنس ، ما هو فيه اليوم من النظرة والإمهال؟ طرفة عين
فلا يجاب إليها. ويحتمل أن يكون هذا حكاية توبيخ ، يوبخون به عند استنظارهم يومئذ
، ويستعجلون هذا على الوجه ، حكاية حال ماضية ووجه آخر متصل بما بعده ، وذلك أن
استعجالهم بالعذاب إما كان لاعتقادهم أنه غير كائن ولا لاحق بهم ، وأنهم ممتعون
بأعمار طوال في سلامة وأمن. فقال عز وعلا : (أَفَبِعَذابِنا
يَسْتَعْجِلُونَ)؟ أشرا وبطرا واستهزاء واتكالا على الأمل الطويل؟ ثم قال :
وهب أن الأمر كما يعتقدون من تمتعهم وتعميرهم ، فإذا لحقهم الوعيد بعد ذلك ، ما
ينفعهم حينئذ ما مضى من طول أعمارهم وطيب معايشهم؟ انتهى. وقيل : اتبع قوله :
فتأتيهم بغتة بما يكون منهم عند ذلك على وجه الحسرة. (فَيَقُولُوا هَلْ
نَحْنُ مُنْظَرُونَ) ، كما يستغيث إليه المرء عند تعذر الخلاص ، لأنهم يعلمون
في الآخرة أن لا ملجا ، لكنهم يقولون ذلك استرواحا. وقيل : يطلبون الرجعة حين
يبغتهم عذاب الساعة ، فلا يجابون إليها.
(أَفَرَأَيْتَ إِنْ
مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ) : خطاب للرسول عليهالسلام بإقامة الحجة عليهم ، في أن مدة الإرجاء والإمهال والإملاء
لا تغني إذا نزل العذاب بعدها. وقال عكرمة : سنين ، عمر الدنيا. انتهى. وتقرر في
علم العربية أن أرأيت إذا كانت بمعنى أخبرني ، تعدت إلى مفعولين ، أحدهما منصوب
والآخر جملة استفهامية. في الغالب تقول العرب : أرأيت زيدا
ما صنع؟ وما جاء
مما ظاهره خلاف ذلك أول ، وتقدم الكلام على ذلك مشبعا في أوائل سورة الأنعام.
وتقول هنا مفعول أرأيت محذوف ، لأنه تنازع على ما يوعدون أرأيت وجاءهم ، فأعمل
الثاني فهو مرفوع بجاءهم. ويجوز أن يكون منصوبا بأرأيت على إعمال الأول ، وأضمر
الفاعل في جاءهم. والمفعول الثاني هو قوله : (ما أَغْنى عَنْهُمْ) ، وما استفهامية ، أي : أيّ شيء أغنى عنهم تمتعهم في تلك
السنين التي متعوها؟ وفي الكلام محذوف يتضمن الضمير العائد على المفعول الأول ، أي
: أيّ شيء أغنى عنهم تمتعهم حين حل ، أي الموعود به ، وهو العذاب؟ وظاهر ما فسر به
المفسرون ما أغنى : أن تكون ما نافية ، والاستفهام قد يأتي مضمنا معنى النفي كقوله
: (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا
الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) ؟ بعد قوله : (أَرَأَيْتَكُمْ) في سورة الأنعام ، أي ما يهلك إلا القوم الظالمون. وجوز
أبو البقاء في ما أن تكون استفهاما ونافية. وقرىء : يمتعون ، بإسكان الميم وتخفيف
التاء.
ثم أخبر تعالى أنه
لم يهلك قرية من القرى إلا وقد أرسل إليها من ينذرها عذاب الله ، إن هي عصت ولم
تؤمن ، كما قال تعالى : (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) . وجمع منذرون ، لأن (مِنْ قَرْيَةٍ) عام في القرى الظالمة ، كأنه قيل : وما أهلكنا القرى
الظالمة. والجملة من قوله : (لَها مُنْذِرُونَ) ، في موضع الحال (مِنْ قَرْيَةٍ) ، والإعراب أن تكون لها في موضع الحال ، وارتفع منذرون
بالمجرور إلا كائنا لها منذرون ، فيكون من مجيء الحال مفردا لا جملة ، ومجيء الحال
من المنفي كقول : ما مررت بأحد إلا قائما ، فصيح. وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف
عزلت الواو عن الجملة بعد إلا ، ولم تعزل عنها في قوله : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا
وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ)؟ قلت : الأصل عزل الواو ، لأن الجملة صفة لقرية ، وإذا زيدت
فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف ، كما في قوله : (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ
كَلْبُهُمْ) . انتهى. ولو قدرنا لها منذرون جملة ، لم يجز أن تجيء صفة
بعد إلا. ومذهب الجمهور ، أنه لا تجيء الصفة بعد إلا معتمدة على أداة الاستثناء
نحو : ما جاءني أحد إلا راكب. وإذا سمع مثل هذا ، خرجوه على البدل ، أي : إلا رجل
راكب. ويدل على صحة هذا المذهب أن العرب تقول : ما مررت بأحد إلا قائما ، ولا يحفظ
من كلامها : ما مررت بأحد إلا قائم. فلو كانت الجملة في موضع الصفة للنكرة ، لورد
المفرد بعد إلا صفة
__________________
لها. فإن كانت
الصفة غير معتمدة على أداة ، جاءت الصفة بعد إلا نحو : ما جاءني أحد إلا زيد خير
من عمرو ، التقدير : ما جاءني أحد خير من عمرو إلا زيد. وأمّا كون الواو تزاد
لتأكيد وصل الصفة بالموصوف ، فغير معهود في كلام النحويين. لو قلت : جاءني رجل
وعاقل ، على أن يكون وعاقل صفة لرجل ، لم يجز ، وإنما تدخل الواو في الصفات جوازا
إذا عطف بعضها على بعض ، وتغاير مدلولها نحو : مررت بزيد الكريم والشجاع والشاعر.
وأما (وَثامِنُهُمْ
كَلْبُهُمْ) فتقدم الكلام عليه في موضعه.
(ذِكْرى) : منصوب على الحال عند الكسائي ، وعلى المصدر عند الزجاج.
فعلى الحال ، إما أن يقدر ذوي ذكرى ، أو مذكرين. وعلى المصدر ، فالعامل منذرون ،
لأنه في معنى مذكرون ذكرى ، أي تذكرة. وأجاز الزمخشري في ذكرى أن يكون مفعولا له ،
قال : على معنى أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة ، وأن تكون مرفوعة صفة بمعنى
منذرون ذوو ذكرى ، أو جعلوا ذكرى لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها. وأجاز هو
وابن عطية أن تكون مرفوعة على خبر مبتدأ محذوف بمعنى هذه ذكرى ، والجملة اعتراضية.
قال الزمخشري : ووجه آخر ، وهو أن يكون ذكرى متعلقة بأهلكنا مفعولا له ، والمعنى :
وما أهلكنا من قرية ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم ،
لتكون تذكرة وعبرة لغيرهم ، فلا يعصوا مثل عصيانهم. (وَما كُنَّا
ظالِمِينَ) ، فنهلك قوما غير ظالمين ، وهذا الوجه عليه المعول. انتهى.
وهذا لا معوّل عليه ، لأن مذهب الجمهور أن ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إلا أن
يكون مستثنى ، أو مستثنى منه ، أو تابعا له غير معتمد على الأداة نحو : ما مررت
بأحد إلا زيد خير من عمرو. والمفعول له ليس واحدا من هذه الثلاثة ، فلا يجوز أن
يتعلق بأهلكنا. ويتخرج جواز ذلك على مذهب الكسائي والأخفش ، وإن كانا لم ينصا على
المفعول له بخصوصيته.
(وَما تَنَزَّلَتْ
بِهِ الشَّياطِينُ ، وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ ، إِنَّهُمْ عَنِ
السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ، فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ
الْمُعَذَّبِينَ ، وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ، وَاخْفِضْ جَناحَكَ
لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ
مِمَّا تَعْمَلُونَ ، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ، الَّذِي يَراكَ
حِينَ تَقُومُ ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ ، هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ ، تَنَزَّلُ
عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ، يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ ،
وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ
يَهِيمُونَ ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما
لا
يَفْعَلُونَ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ
كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا
أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).
كان مشركو قريش
يقولون : إن لمحمد تابعا من الجن يخبره كما يخبر الكهنة ، فنزلت ، والضمير في (بِهِ) يعود على القرآن ، بل (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الْأَمِينُ). وقرأ الحسن : الشياطون ، وتقدمت في البقرة ، وقد ردها أبو
حاتم والقراءة ؛ قال أبو حاتم : هي غلط منه أو عليه. وقال النحاس : هو غلط عند
جميع النحويين. وقال المهدوي : هو غير جائز في العربية. وقال الفراء : غلط الشيخ ،
ظن أنها النون التي على هجائن. فقال النضر بن شميل : إن جاز أن يحتج بقول العجاج
ورؤبة ، فهلا جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه ، يريد محمد بن السميفع ، مع أنا نعلم
أنهما لم يقرآ بها إلا وقد سمعا فيه؟ وقال يونس بن حبيب : سمعت أعرابيا يقول :
دخلت بساتين من ورائها بساتون ، فقلت : ما أشبه هذا بقراءة الحسن. انتهى. ووجهت
هذه القراءة بأنه لما كان آخره كآخر يبرين وفلسطين ، فكما أجرى إعراب هذا على
النون تارة وعلى ما قبله تارة فقالوا : يبرين ويبرون وفلسطين وفلسطون ؛ أجرى ذلك
في الشياطين تشبيها به فقالوا : الشياطين والشياطون. وقال أبو فيد مؤرج السدوسي :
إن كان اشتقاقه من شاط ، أي احترق ، يشيط شوطة ، كان لقراءتهما وجه. قيل : ووجهها
أن بناء المبالغة منه شياط ، وجمعه الشياطون ، فخففا الياء ، وقد روي عنهما
التشديد ، وقرأ به غيرهما. انتهى. وقرأ الأعمش : الشياطون ، كما قرأه الحسن وابن
السميفع. فهؤلاء الثلاثة من نقلة القرآن ، قرأوا ذلك ، ولا يمكن أن يقال غلطوا ،
لأنهم من العلم ونقل القرآن بمكان. وما أحسن ما ترتب نفي هذه الجمل ؛ نفى أولا
تنزيل الشياطين به ، والنفي في الغالب يكون في الممكن ، وإن كان هنا لا يمكن من
الشياطين التنزل بالقرآن ، ثم نفى انبغاء ذلك والصلاحية ، أي ولو فرض الإمكان لم
يكونوا أهلا له ، ثم نفى قدرتهم على ذلك ، وأنه مستحيل في حقهم التنزل به ، فارتقى
من نفي الإمكان إلى نفي الصلاحية إلى نفي القدرة والاستطاعة ، وذلك مبالغة مترتبة
في نفي تنزيلهم به ، ثم علل انتفاء ذلك عن استماع كلام أهل السماء مرجومون بالشهب.
ثم قال تعالى : (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) : والخطاب في الحقيقة للسامع ، لأنه تعالى قد علم أن ذلك
لا يمكن أن يكون من الرسول صلىاللهعليهوسلم ، ولذلك قال المفسرون : المعنى قل يا محمد لمن كفر : لا
تدع مع الله إلها آخر. ثم أمره تعالى بإنذار عشيرته ، والعشيرة تحت الفخذ وفوق
الفصيلة ، ونبه على العشيرة ، وإن كان مأمورا بإنذار الناس كافة. كما
قال : (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) ، لأن في إنذارهم ، وهم عشيرته ، عدم محاباة ولطف بهم ،
وأنهم والناس في ذلك شرع واحد في التخويف والإنذار. فإذا كانت القرابة قد خوفوا
وأنذروا مع ما يلحق الإنسان في حقهم من الرأفة ، كان غيرهم في ذلك أوكد وأدخل ، أو
لأن البداءة تكون بمن يليه ثم من بعده ، كما قال : (قاتِلُوا الَّذِينَ
يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) . وقال عليه الصلاة والسلام حين دخل مكة : «كل ربا في
الجاهلية موضوع تحت قدميّ هاتين ، فأول ما أضعه ربا العباس ، إذ العشيرة مظنة
الطواعية ، ويمكنه من الغلظة عليهم ما لا يمكنه مع غيرهم ، وهم له أشد احتمالا».
وامتثل صلىاللهعليهوسلم ما أمره به ربه من إنذار عشيرته ، فنادى الأقرب فالأقرب
فخذا. روروي عنه في ذلك أحاديث. (وَاخْفِضْ جَناحَكَ
لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) : تقدم الكلام على هذه الجمل في آخر الحجر ، وهو كناية عن
التواضع. وقال بعض الشعراء :
وأنت الشهير
بخفض الجناح
|
|
فلا تك في رفعه
أجدلا
|
نهاه عن التكبر
بعد التواضع. والأجدل : الصقر ، ومن المؤمنين عام في عشيرته وغيرهم. ولما كان
الإنذار يترتب عليه إما الطاعة وإما العصيان ، جاء التقسيم عليهما ، فكان المعنى :
أن من اتبعك مؤمنا ، فتواضع له ؛ فلذلك جاء قسيمه : (فَإِنْ عَصَوْكَ) فتبرأ منهم ومن أعمالهم. وفي هذا موادعة نسختها آية السيف.
والظاهر عود الضمير المرفوع في عصوك ، على أن من أمر بإنذارهم ، وهم العشيرة ،
والذي برىء منه هو عبادتهم الأصنام واتخاذهم إلها آخر. وقيل : الضمير يعود على من
اتبعه من المؤمنين ، أي فإن عصوك يا محمد في الأحكام وفروع الإسلام ، بعد تصديقك
والإيمان بك ، (فَقُلْ إِنِّي
بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) ، لا منكم ، أي أظهر عدم رضاك بعملهم وإنكارك عليهم. ولو
أمره بالبراءة منهم ، ما بقي بعد هذا شفيعا للعصاة ، ثم أمره تعالى بالتوكل. وقرأ
نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، وشيبة : فتوكل بالفاء ، وباقي السبعة : بالواو.
وناسب الوصف بالعزيز ، وهو الذي لا يغالب ، وبالرحيم ، وهو الذي يرحمك. وهاتان
الصفتان هما اللتان جاءتا في أواخر قصص هذه السورة. فالتوكل على من هو بهذين
الوصفين كافية شر من بعضه من هؤلاء وغيرهم ، فهو يقهر أعداءك بعزته ، وينصرك عليهم
برحمته. والتوكل هو تفويض الأمر إلى من يملك الأمر ويقدر عليه. ثم وصف بأنه الذي
أنت منه بمرأى ، وذلك من رحمته بك أن أهلك لعبادته ،
__________________
وما تفعله من
تهجدك. وأكثر المفسرين منهم ابن عباس ، على أن المعنى حين تقوم إلى الصلاة.
وقرأ الجمهور : (وَتَقَلُّبَكَ) مصدر تقلب ، وعطف على الكاف في (يَراكَ). وقرأ جناح بن حبيش : (وَتَقَلُّبَكَ) مضارع قلب مشددا ، عطفا على (يَراكَ). وقال مجاهد وقتادة : (فِي السَّاجِدِينَ) : في المصلين. وقال ابن عباس : في أصلاب آدم ونوح وإبراهيم
حتى خرجت. وقال عكرمة : يراك قائما وساجدا. وقيل : معنى (تَقُومُ) : تخلو بنفسك. وعن مجاهد أيضا : المراد تقلب بصره فيمن
يصلي خلفه ، كما قال : «أتموا الركوع والسجود فو الله إني لأراكم من خلفي». وفي
الوجيز لابن عطية : ظاهر الآية أنه يريد قيام الصلاة ، ويحتمل أن يريد سائر
التصرفات ، وهو تأويل مجاهد وقتادة. وفي الساجدين : أي صلاتك مع المصلين ، قاله
ابن عباس وعكرمة وغيرهما. وقال ابن عباس أيضا ، وقتادة : أراد وتقلبك في المؤمنين
، فعبر عنهم بالساجدين. وقال ابن جبير : أراد الأنبياء ، أي تقلبك كما تقلب غيرك
من الأنبياء. وقال الزمخشري : ذكر ما كان يفعله في جوف الليل من قيامه للتهجد ،
وتقلبه في تصفح أحوال المتهجدين من أصحابه ، ليطلع عليهم من حيث لا يشعرون ،
ويستبطن سرائرهم وكيف يعملون لآخرتهم. كما يحكى أنه حين نسخ فرض قيام الليل ، طاف
تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون ، بحرصه عليهم وعلى ما يوجد منهم من فعل
الطاعات وتكثير الحسنات ، فوجدها كبيوت الزنابير ، لما سمع من دندنتهم بذكر الله
والتلاوة. والمراد بالساجدين : المصلون. وقيل : معناه يراك حين تقوم للصلاة بالناس
جماعة ، وتقلبه في الساجدين : تصرفه فيما بينهم لقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذا
أمهم. وعن مقاتل ، أنه سأل أبا حنيفة رضياللهعنه : هل تجد الصلاة في الجماعة في القرآن؟ فتلا هذه الآية.
ويحتمل أن لا يخفى على حالك كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في كفاية أمور الدين.
انتهى.
(إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ) لما تقوله ، (الْعَلِيمُ) بما تنوبه وتعمله ، وذهبت الرافضة إلى أن آباء النبي صلىاللهعليهوسلم كانوا مؤمنين ، واستدلوا بقوله تعالى : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) قالوا : فاحتمل الوجوه التي ذكرت ، واحتمل أن يكون المراد
أنه تعالى نقل روحه من ساجد إلى ساجد ، كما نقوله نحن. فإذا احتمل كل هذه الوجوه ،
وجب حمل الآية على الكل ضرورة ، لأنه لا منافاة ولا رجحان. وبقوله عليه الصلاة
والسلام : «لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ، وكل من كان كافرا
فهو نجس لقوله تعالى : (إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ
نَجَسٌ)» فأما قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) ، فلفظ الأب قد يطلق على العم ، كما قالوا أبناء يعقوب له
: (نَعْبُدُ إِلهَكَ
وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) ،. سموا إسماعيل أبا مع أنه كان عما له.
(قُلْ : هَلْ
أُنَبِّئُكُمْ) : أي قل يا محمد : هل أخبركم؟ وهذا استفهام توقيف وتقرير. وعلى
من متعلق بتنزل ، والجملة المتضمنة معنى الاستفهام في موضع نصب لأنبئكم ، لأنه
معلق ، لأنه بمعنى أعلمكم ، فإن قدرتها متعدية لاثنين ، كانت سادة مسد المفعول
الثاني ؛ وإن قدرتها متعدية لثلاثة ، كانت سادة مسد الاثنين. والاستفهام إذا علق
عنه العامل ، لا يبقى على حقيقة الاستفهام وهو الاستعلام ، بل يؤول معناه إلى
الخبر. ألا ترى أن قولك : علمت أزيد في الدار أم عمرو ، كان المعنى : علمت أحدهما
في الدار؟ فليس المعنى أنه صدر منه علم ، ثم استعلم المخاطب عن تعيين من في الدار
من زيد وعمرو ، فالمعنى هنا : هل أعلمكم من تنزل الشياطين عليه؟ لا أنه استعلم
المخاطبين عن الشخص الذي تنزل الشياطين عليه.
ولما كان المعنى
هذا ، جاء الإخبار بعده بقوله : (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ
أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) ، كأنه لما قال : هل أخبركم بكذا؟ قيل له : أخبر ، فقال : (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ) ، وهو الكثير الإفك ، وهو الكذب ، أثيم : كثير الإثم.
فأفاك أثيم : صيغتا مبالغة ، والمراد الكهنة. والضمير في (يُلْقُونَ) يحتمل أن يعود إلى الشياطين ، أي ينصتون ويصغون بأسماعهم ،
ليسترقوا شيئا مما يتكلم به الملائكة ، حتى ينزلوا بها إلى الكهنة ، أو : (يُلْقُونَ السَّمْعَ) : أي المسموع إلى من يتنزلون عليه. (وَأَكْثَرُهُمْ) : أي وأكثر الشياطين الملقين (كاذِبُونَ). فعلى معنى الإنصات يكون استئناف إخبار ، وعلى إلقاء
المسموع إلى الكهنة احتمل الاستئناف ، واحتمل أن يكون حالا من الشياطين ، أي تنزل
على كل أفاك أثيم ملقين ما سمعوا. ويحتمل أن يعود الضمير في يلقون على كل أفاك
أثيم ، وجمع الضمير ، لأن كل أفاك فيه عموم وتحته أفراد. واحتمل أن يكون المعنى :
يلقون سمعهم إلى الشياطين ، لينقلوا عنهم ما يقررونه في أسماعهم ، وأن يكون يلقون
السمع ، أي المسموع من الشياطين إلى الناس ؛ وأكثرهم ، أي أكثر الكهنة كاذبون. كما
جاء أنهم يتلقون من الشياطين الكلمة الواحدة التي سمعت من السماء ، فيخلطون معها
مائة كذبة. فإذا صدقت
__________________
تلك الكلمة ، ـ كانت
سبب ضلالة لمن سمعها. وعلى كون الضمير عائدا على كل أفاك ، احتمل أن يكون يلقون
استئناف إخبار عن الأفاكين ، واحتمل أن يكون صفة لكل أفاك ، ولا تعارض بين قوله : (كُلِّ أَفَّاكٍ) ، وبين قوله : (وَأَكْثَرُهُمْ
كاذِبُونَ) ، لأن الأفاك هو الذي يكثر الكذب ، ولا يدل ذلك على أنه لا
ينطق إلا بالإفك ، فالمعنى : أن الأفاكين من صدق منهم فيما يحكى عن الجني ،
فأكثرهم مغتر.
قال الزمخشري :
فإن قلت : (وَإِنَّهُ
لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، و (ما تَنَزَّلَتْ بِهِ
الشَّياطِينُ ، هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) ، لم فرق بينهن وبين إخوان؟ قلت : أريد التفريق بينهن
بآيات ليست في معناهن ، ليرجع إلى المجيء بهن ، ويطريه ذكر ما فيهن كرة بعد كرة ،
فيدل بذلك على أن المعنى الذي نزلن فيه من المعاني التي أسندت كراهة الله لها ،
ومثاله : أن يحدث الرجل بحديث ، وفي صدره اهتمام بشيء منه وفضل عناية ، فتراه يعيد
ذكره ولا ينفك عن الرجوع إليه. انتهى. ولما ذكر الكهنة بإفكهم الكثير وحالهم
المقتضية ، نفي كلام القرآن ، إذ كان بعض الكفار قال في القرآن : إنه شعر ، كما
قالوا في الرسول : إنه كاهن ، وإن ما أتى به هو من باب الكهانة ، كما قال تعالى : (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ) ، وقال : (وَما هُوَ بِقَوْلِ
شاعِرٍ) .
فقال : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ). قيل : هي في أمية بن أبي الصلت ، وأبي عزة ، ومسافع
الجمحي ، وهبيرة بن أبي وهب ، وأبي سفيان بن الحارث ، وابن الزبعري. وقد أسلم ابن
الزبعري وأبو سفيان. والشعراء عام يدخل فيه كل شاعر ، والمذموم من يهجو ويمدح شهوة
محرمة ، ويقذف المحصنات ، ويقول الزور وما لا يسوغ شرعا. وقرأ عيسى : والشعراء :
نصبا على الاشتغال ؛ والجمهور : رفعا على الابتداء والخبر. وقرأ السلمي ، والحسن
بخلاف عنه ، ونافع يتبعهم مخففا ؛ وباقي السبعة مشددا ؛ وسكن العين : الحسن ، وعبد
الوارث ، عن أبي عمرو. وروى هارون : نصبها عن بعضهم ، وهو مشكل. (وَالْغاوُونَ) ، قال ابن عباس : الرواة ، وقال أيضا : المستحسنون
لأشعارهم ، المصاحبون لهم. وقال عكرمة : الرعاع الذين يتبعون الشاعر. وقال مجاهد ،
وقتادة : الشياطين. وقال عطية : السفهاء المشركون يتبعون شعراءهم.
(أَلَمْ تَرَ
أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) : تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول ،
__________________
واعتسافهم وقلة
مبالاتهم بالغلو في المنطق ، ومجاوزة حد القصد فيه ، حتى يفضلوا أجبن الناس على
عنترة ، وأشحهم على حاتم ، ويبهتوا البريء ، ويفسقوا التقي. وقال ابن عباس : هو
تقبيحهم الحسن ، وتحسينهم القبيح. (وَأَنَّهُمْ
يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) ، وذلك لغلوهم في أفانين الكلام ، ولهجهم بالفصاحة
والمعاني اللطيفة ، قد ينسبون لأنفسهم ما لا يقع منهم. وقد درأ الحد في الخمر عمر
بن الخطاب رضياللهعنه ، عن النعمان بن عدي ، في شعر قاله لزوجته حين احتج عليه
بهذه الآية ، وكان قد ولاه بيسان ، فعزله وأراد أن يحده والفرزدق ، سليمان بن عبد
الملك :
فبتن كأنهن
مصرعات
|
|
وبت أفض أغلاق
الختام
|
فقال له سليمان :
لقد وجب عليك الحد ، فقال : لقد درأ الله عني الحدّ بقوله : (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا
يَفْعَلُونَ). أخبر تعالى عن الشعراء بالأحوال التي تخالف حال النبوة ،
إذ أمرهم ، كما ذكر ، من اتباع الغواة لهم ، وسلوكهم أفانين الكلام من مدح الشيء
وذمه ، ونسبة ما لا يقع منهم إليهم ، وذلك بخلاف حال النبوة ، فإنها طريقة واحدة ،
لا يتبعها إلا الراشدون. دعوة الأنبياء واحدة ، وهي الدعاء إلى توحيد الله وعبادته
، والترغيب في الآخرة والصدق. هذا مع أن ما جاءوا به لا يمكن أن يجيء به غيرهم من
ظهور المعجز. ولما كان ما سبق ذما للشعراء ، واستثنى منهم من اتصف بالإيمان والعمل
الصالح والإكثار من ذكر الله ، وكان ذلك أغلب عليهم من الشعر ؛ وإذا نظموا شعرا
كان في توحيد الله والثناء عليه وعلى رسوله صلىاللهعليهوسلم وصحبه ، والموعظة والزهد والآداب الحسنة وتسهيل علم ، وكل
ما يسوغ القول فيه شرعا فلا يتلطخون في قوله بذنب ولا منقصة. والشعر باب من الكلام
، حسنه حسن ، وقبيحه قبيح.
وقال رجل علوي
لعمرو بن عبيد : إن صدري ليجيش بالشعر ، فقال : ما يمنعك منه فيما لا بأس به. وقيل
: المراد بالمستثنين : حسان ، وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك ، وكعب بن زهير ،
ومن كان ينافخ عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقال عليهالسلام لكعب بن مالك : «اهجهم فو الذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من
النبل». وقال لحسان : «قل وروح القدس معك» ، وهذا معنى قوله : (وَانْتَصَرُوا) : أي بالقول فيمن ظلمهم. وقال عطاء بن يسار وغيره : لما ذم
الشعراء بقوله : (وَالشُّعَراءُ) الآية ، شق ذلك على حسان وابن رواحة وكعب بن مالك ، وذكروا
ذلك للرسول عليه الصلاة والسلام ، فنزلت آية الاستثناء بالمدينة ، وخص ابن زيد
قوله : (وَذَكَرُوا اللهَ
كَثِيراً) ، فقال : أي في شعرهم. وقال ابن عباس : صار
خلقا لهم وعادة ،
كما قال لبيد ، حين طلب منه شعره : إن الله أبدلني بالشعر القرآن خيرا منه. ولما
ذكر : (وَانْتَصَرُوا مِنْ
بَعْدِ ما ظُلِمُوا) ، توعد الظالمين هذا التوعد العظيم الهائل الصادع للأكباد
وأبهم في قوله : (أَيَّ مُنْقَلَبٍ
يَنْقَلِبُونَ).
ولما عهد أبو بكر
لعمر رضياللهعنهما ، تلا عليه : (وَسَيَعْلَمُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) ، وكان السلف الصالح يتواعظون بها. والمفهوم من الشريعة أن
الذين ظلموا هم الكفار. وقال الزمخشري : وتفسير الظلم بالكفر تعليل ، وكان ذكر قبل
أن الذين ظلموا مطلق ، وهذا منه على طريق الاعتزال. وقرأ ابن عباس ، وابن أرقم ،
عن الحسن : أي منفلت ينفلتون ، بفاء وتاءين ، معناه : إن الذين ظلموا يطمعون أن
ينفلتوا من عذاب الله ، وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات ، وهو النجاة. (وَسَيَعْلَمُ) هنا معلقة ، وأي منقلب : استفهام ، والناصب له ينقلبون ،
وهو مصدر. والجملة في موضع المفعول لسيعلم. وقال أبو البقاء : أي منقلب مصدر نعت
لمصدر محذوف ، والعامل ينقلبون انقلابا ، أي منقلب ، ولا يعمل فيه يعلم ، لأن
الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. انتهى. وهذا تخليط ، لأن أيا ، إذا وصف بها ، لم
تكن استفهاما ، بل أي الموصوف بها قسم لأي المستفهم بها ، لا قسم. فأي تكون شرطية
واستفهامية وموصولة ، ووصفا على مذهب الأخفش موصوفة بنكرة نحو : مررت بأي معجب لك
، وتكون مناداة وصلة لنداء ما فيه الألف واللام نحو : يا أيها الرجل. والأخفش يزعم
أن التي في النداء موصولة. ومذهب الجمهور أنها قسم برأسه ، والصفة تقع حالا من المعرفة
، فهذه أقسام أي ؛ فإذا قلت : قد علمت أي ضرب تضرب ، فهي استفهامية ، لا صفة لمصدر
محذوف.
سورة النّمل
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طس
تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ
يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ
أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ
وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ
مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً
سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ
تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ
حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها
جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ
لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ
سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ
بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ
إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً
قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ
ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤) وَلَقَدْ
آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا
عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ
وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ
شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ
جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧)
حَتَّى
إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ
ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي
أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ
أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ
(١٩) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ
الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ
لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ
بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي
وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ
عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ
وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا
يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا
إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ
أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ
ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا
الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ
وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ
وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي
ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا
قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا
تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها
وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤)وَإِنِّي
مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥)
فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ
مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ
إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها
وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧) قالَ يا أَيُّهَا
الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ
أَنْ
يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ
قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ
الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ
إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ
رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قالَ نَكِّرُوا
لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ
(٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا
الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ
مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي
الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ
إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤)
الوزع : أصله الكف
والمنع ، يقال : وزعه يزعه ، ومنه قول عثمان رضياللهعنه : «ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن» ، وقول احسن : لا
بد للقاضي من وزعة ، وقول الشاعر :
ومن لم يزعه لبه
وحياؤه
|
|
فليس له من شيب
فوديه وازع
|
النمل : جنس ،
واحده نملة ، ويقال بضم الميم فيهما ، وبضم النون مع ضم الميم ، وسمي بذلك لكثرة
تنمله ، وهو حركته. الحطم : الكسر ، قاله النحاس. التبسم : ابتداء الضحك ، وتفعل
فيه بمعنى المجرد ، وهو بسم. قال الشاعر :
وتبسم عن ألمي
كان منوّرا
|
|
تخلل حر الرمل
دعص له ند
|
وقال آخر :
أبدى نواجذه لغير
تبسم
التفقد : طلب ما
فقدته وغاب عنك. الهدهد : طائر معروف ، وتصغيره على القياس هديهد ، وزعم بعضهم أن
ياءه أبدلت ألفا في التصغير ، فقيل : هداهد. قال الشاعر :
كهداهد كسر الرماة
جناحه
كما قالوا : دوابة
وشوابة ، يريدون : دويبة وشويبة. سبأ : هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، وهو
يصرف ولا يصرف إذا صار اسما للحي والقبيلة ، أو البقعة التي تسمى مأرب
سميت باسم الرجل.
الخبء : الشيء المخبوء ، من خبأت الشيء خبأ : سترته ، وسمي المفعول بالمصدر.
الهدية : ما سيق إلى الإنسان مما يتحف به على سبيل التكرمة. العفريت والعفر
والعفرتة والعفارتة من الرجال : الخبيث المنكر الذي يعفر أقرانه ، ومن الشياطين :
الخبيث المارد. قال الشاعر :
كأنه كوكب في
إثر عفرية
|
|
مصوب في سواد
الليل منقضب
|
الصرح : القصر ،
أو صحن الدار ، أو ساحتها ، أو البركة ، أو البلاط المتخذ من القوارير ، أقوال
تأتي في التفسير. الساق : معروف ، يجمع على أسوق في القلة ، وعلى سووق وسوق في
الكثرة ، وهمزة لغة : الممرد : المملس ، ومنه الأمرد ، وشجرة مرداء : لا ورق
عليها. القوارير : جمع قارورة.
(طس ، تِلْكَ آياتُ
الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ ، هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ، الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
، إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ
فَهُمْ يَعْمَهُونَ ، أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ، وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ
حَكِيمٍ عَلِيمٍ ، إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ
مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ،
فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ
اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ،
وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً
وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ،
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ
، وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ
آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ، فَلَمَّا
جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ، وَجَحَدُوا بِها
وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ
عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).
هذه السورة مكية
بلا خلاف. ومناسبة أول السورة لآخر ما قبلها واضحة ، لأنه قال : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) ، وقبله : (وَإِنَّهُ
لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، وقال هنا : (طس تِلْكَ آياتُ
الْقُرْآنِ) : أي الذي هو تنزيل رب العالمين. وأضاف الآيات إلى القرآن
والكتاب المبين على سبيل التفخيم لها والتعظيم ، لأن المضاف إلى العظيم عظيم.
والكتاب المبين ، إما اللوح ، وإبانته أن قد خط فيه كل ما هو كائن فهو يبينه
للناظرين ، وإما السورة ، وإما القرآن ، وإبانتهما أنهما يبينان ما أودعاه من
العلوم والحكم والشرائع. وأن إعجازهما
ظاهر مكشوف ونكر. (وَكِتابٍ مُبِينٍ) ، ليبهم بالتنكير ، فيكون أفخم له كقوله : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) . وإذا أريد به القرآن ، فعطفه من عطف إحدى الصفتين على
الأخرى ، لتغايرهما في المدلول عليه بالصفة ، من حيث أن مدلول القرآن الاجتماع ،
ومدلول كتاب الكتابة. وقيل : القرآن والكتاب اسمان علمان على المنزل على محمد صلىاللهعليهوسلم ، فحيث جاء بلفظ التعريف ، فهو العلم ، وحيث جاء بوصف
النكرة ، فهو الوصف ، وقيل : هما يجريان مجرى العباس ، وعباس فهو في الحالين اسم
العلم. انتهى. وهذا خطأ ، إذ لو كان حاله نزع منه علما ، ما جاز أن يوصف بالنكرة.
ألا ترى إلى قوله : (وَكِتابٍ مُبِينٍ) ، (وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) ، وأنت لا تقول : مررت بعباس قائم ، تريد به الوصف؟ وقرأ
ابن أبي عبلة : وكتاب مبين ، برفعهما ، التقدير : وآيات كتاب ، فحذف المضاف ،
وأقيم المضاف إليه مقامه ، فأعرب بإعرابه. وهنا تقدم القرآن على الكتاب ، وفي
الحجر عكسه ، ولا يظهر فرق ، وهذا كالمتعاطفين في نحو : ما جاء زيد وعمرو. فتارة
يظهر ترجيح كقوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) ، وتارة لا يظهر كقوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ
وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) .
قال يحيى بن سلام
: (هُدىً) إلى الجنة ، (وَبُشْرى) بالثواب. وقال الشعبي : هدى من الضلال ، وبشرى بالجنة ،
وهدى وبشرى مقصوران ، فاحتمل أن يكونا منصوبين على الحال ، أي هادية ومبشرة. قيل :
والعامل في الحال ما في تلك من معنى الإشارة ، واحتمل أن يكونا مصدرين ، واحتملا
الرفع على إضمار مبتدأ. أي هي هدى وبشرى ؛ أو على البدل من آيات ؛ أو على خبر بعد
خبر ، أي جمعت بين كونها آيات وهدى وبشرى. ومعنى كونها هدى للمؤمنين : زيادة
هداهم. قال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) . وقيل : هدى لجميع الخلق ، ويكون الهدى بمعنى الدلالة
والإرشاد والتبيين ، لا بمعنى تحصيل الهدى الذي هو مقابل الضلال. (وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) خاصة ، وقيل : هدى للمؤمنين وبشرى للمؤمنين ، وخصهم بالذكر
لانتفاعهم به.
(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ
هُمْ يُوقِنُونَ) : تحتمل هذه الجملة أن تكون معطوفة على صلة (الَّذِينَ). ولما كان : (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) مما يتجدد ولا يستغرق الأزمان ، جاءت
__________________
الصلة فعلا. ولما
كان الإيمان بالآخرة بما هو ثابت عندهم مستقر الديمومة ، جاءت الجملة اسمية ،
وأكدت المسند إليه فيها بتكراره ، فقيل : (هُمْ يُوقِنُونَ) وجاء خبر المبتدأ فعلا ليدل على الديمومة ، واحتمل أن تكون
الجملة استئناف إخبار. قال الزمخشري : ويحتمل أن تتم الصلة عنده ، أي عند قوله : (وَهُمْ) ، قال : وتكون الجملة اعتراضية ، كأنه قيل : وهؤلاء الذين
يؤمنون ويعملون الصالحات من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة هم الموقنون بالآخرة ، وهو
الوجه ، ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية وكرر فيها المبتدأ الذي هو هم ، حتى صار
معناها : وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل
الصالح ، لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق. انتهى. وقوله : وتكون الجملة
اعتراضية ، هو على غير اصطلاح النحاة في الجملة الاعتراضية من كونها لا تقع إلا
بين شيئين متعلق بعضهما ببعض ، كوقوعها بين صلة وموصولة ، وبين جزأي إسناد ، وبين
شرط وجزائه ، وبين نعت ومنعوت ، وبين قسم ومقسم عليه ، وهنا ليست واقعة بين شيئين
مما ذكر وقوله إلخ. حتى صار معناها فيه دسيسة الاعتزال. وقال ابن عطية : والزكاة
هنا يحتمل أن تكون غير المفروضة ؛ لأن السورة مكية قديمة ، ويحتمل أن تكون المفروضة
من غير تفسير. وقيل : الزكاة هنا بمعنى الطهارة من النقائص وملازمة مكارم الأخلاق.
انتهى.
ولما ذكر تعالى
المؤمنين الموقنين بالبعث ، ذكر المنكرين والإشارة إلى قريش ومن جرى مجراهم في
إنكار البعث. والأعمال ، إما أن تكون أعمال الخير والتوحيد التي كان الواجب عليهم
أن تكون أعمالهم ، فعموا عنها وتردّدوا وتحيروا ، وينسب هذا القول إلى الحسن
البصري ؛ أو أعمال الكفر والضلال ، فيكون تعالى قد حبب ذلك إليهم وزينه بأن خلقه
في نفوسهم ، فرأوا تلك الأعمال القبيحة حسنة. وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف أسند
تزين أعمالهم إلى ذاته ، وأسنده إلى الشيطان في قوله : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ
أَعْمالَهُمْ) ؟ قلت : بين الإسنادين فرق ، وذلك أن إسناده إلى الشيطان
حقيقة ، وإسناده إلى الله تعالى مجاز ، وله طريقان في علم البيان : أحدهما : أن يكون من المجاز الذي يسمى الاستعارة. والثاني : أن يكون من المجاز المحكي.
فالطريق
الأول : أنه لما متعهم
بطول العمر وسعة الرزق ، وجعلوا إنعام الله عليهم بذلك وإحسانه إليهم ذريعة إلى
اتباع شهواتهم وبطرهم وإيثارهم الترفه ونفارهم عما يلزمهم فيه التكاليف الصعبة
والمشاق المتعبة ، فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم ، وإليه إشارة
__________________
الملائكة بقولهم :
(وَلكِنْ
مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) . والطريق الثاني : أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم
ملابسة ظاهرة للتزيين فأسند إليه ، لأنه المختار المحكي ببعض الملابسات. انتهى ،
وهو تأويل على طريق الاعتزال.
(أُوْلئِكَ) : إشارة إلى منكري البعث ، و (سُوءُ الْعَذابِ) : الظاهر أنه ليس مقيدا بالدنيا ، بل لهم ذلك في الدنيا
والآخرة. وقيل : المعنى في الدنيا ، وفسر بما نالهم يوم بدر من القتل والأسر
والنهب. وقيل : ما ينالونه عند الموت وما بعده من عذاب القبر. وسوء العذاب : شدته
وعظمه. والظاهر أن (الْأَخْسَرُونَ) أفعل التفضيل ، وذلك أن الكافر خسر الدنيا والآخرة ، كما
أخبر عنه تعالى ، وهو في الآخرة أكثر خسرانا ، إذ مآله إلى عقاب دائم. وأما في الدنيا
، فإذا أصابه بلاء ، فقد يزول عنه وينكشف. فكثرة الخسران وزيادته ، إنما ذلك له في
الآخرة ، وقد ترتب الأكثرية ، وإن كان المسند إليه واحدا بالنسبة إلى الزمان
والمكان ، أو الهيئة ، أو غير ذلك مما يقبل الزيادة. وقال الكرماني : أفعل هنا
للمبالغة لا للشركة ، كأنه يقول : ليس للمؤمن خسران البتة حتى يشركه فيه الكافر
ويزيد عليه ، وقد بينا كيفية الاشتراك بالنسبة إلى الدنيا والآخرة. وقال ابن عطية
: والأخسرون جمع أخسر ، لأن أفعل صفة لا يجمع إلا أن يضاف ، فتقوى رتبته في
الأسماء ، وفي هذا نظر. انتهى. ولا نظر في كونه يجمع جمع سلامة وجمع تكسير. إذا
كان بأل ، بل لا يجوز فيه إلا ذلك ، إذا كان قبله ما يطابقه في الجمعية فيقول :
الزيدون هم الأفضلون ، والأفاضل ، والهندات هنّ الفضليات والفضل. وأما قوله : لا
يجمع إلا أن يضاف ، فلا يتعين إذ ذاك جمعه ، بل إذا أضيف إلى نكرة فلا يجوز جمعه ،
وإن أضيف إلى معرفة جاز فيه الجمع والإفراد على ما قرر ذلك في كتب النحو.
ولما تقدم : (تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ) ، خاطب نبيه بقوله : (وَإِنَّكَ) ، أي هذا القرآن الذي تلقيته هو من عند الله تعالى ، وهو
الحكيم العليم ، لا كما ادعاه المشركون من أنه إفك وأساطير وكهانة وشعر ، وغير ذلك
من تقوّلاتهم. وبنى الفعل للمفعول ، وحذف الفاعل ، وهو جبريل عليهالسلام ، للدلالة عليه في قوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الْأَمِينُ) . ولقي يتعدى إلى واحد ، والتضعيف فيه للتعدية ، فيعدى به
إلى اثنين ، وكأنه كان غائبا عنه فلقيه فتلقاه. قال ابن عطية : ومعناه يعطي ، كما
قال : (وَما يُلَقَّاها
إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) .
__________________
وقال الحسن :
المعنى وإنك لتقبل القرآن. وقيل : معناه تلقن. والحكمة : العلم بالأمور العملية ،
والعلم أعم منه ، لأنه يكون عمليا ونظريا ، وكمال العلم : تعلقه بكل المعلومات
وبقاؤه مصونا عن كل التغيرات ، ولا يكون ذلك إلا لله تعالى. وهذه الآية تمهيد لما
يخبر به من المغيبات وبيان قصص الأمم الخالية ، مما يدل على تلقيه ذلك من جهة الله
، وإعلامه بلطيف حكمته دقيق علمه تعالى. قيل : وانتصب (إِذْ) باذكر مضمرة ، أو بعليم ؛ وليس انتصابه بعليم واضحا ، إذ
يصير الوصف مقيدا بالمعمول.
وقد تقدم طرف من
قصة موسى عليهالسلام في رحلته بأهله من مدين : في سورة طه ، وظاهر أهله جمع
لقوله : (سَآتِيكُمْ) و (تَصْطَلُونَ) ، وروي أنه لم يكن معه غير امرأته. وقيل : كانت ولدت له ،
وهو عند شعيب ، ولدا ، فكان مع أمه. فإن صح هذا النقل ، كان من باب خطاب الجمع على
سبيل الإكرام والتعظيم. وكان الطريق قد اشتبه عليه ، والوقت بارد ، والسير في ليل
، فتشوقت نفسه ، إذ رأى النار إلى زوال ما لحق من إضلال الطريق وشدة البرد فقال : (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) : أي من موقدها بخبر يدل على الطريق ، (أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ) : أي إن لم يكن هناك من يخبر ، فإني أستصحب ما تدفؤون به
منها. وهذا الترديد بأو ظاهر ، لأنه كان مطلوبه أولا أن يلقي على النار من يخبره
بالطريق ، فإنه مسافر ليس بمقيم. فإن لم يكن أحد ، فهو مقيم ، فيحتاجون لدفع ضرر
البرد ، وهو أن يأتيهم بما يصطلون ، فليس محتاجا للشيئين معا ، بل لأحدهما الخبر
إن وجد من يخبره فيرحل ، أو الاصطلاء إن لم يجد وأقام. فمقصوده إما هداية الطريق ،
وإما اقتباس النار ، وهو معنى قوله : (لَعَلِّي آتِيكُمْ
مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) .
وجاء هنا : (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) ، وهو خبر ، وفي طه : (لَعَلِّي آتِيكُمْ
مِنْها بِقَبَسٍ) ، وفي القصص : (لَعَلِّي آتِيكُمْ
مِنْها بِخَبَرٍ) ، وهو ترج ، ومعنى الترجي مخالف لمعنى الخبر. ولكن الرجاء
إذا قوي ، جاز للراجي أن يخبر بذلك ، وإن كانت الخيبة يجوز أن تقع. وأتى بسين
الاستقبال ، إما لأن المسافة كانت بعيدة ، وإما لأنه قد يمكن أن يبطىء لما قدر أنه
قد يعرض له ما يبطئه. والشهاب : الشعلة ، والقبس : النار المقبوسة ، فعل بمعنى
مفعول ، وهو القطعة من النار في عود أو غيره ، وتقدم ذلك في طه. وقرأ الكوفيون :
بشهاب منونا ، فقبس بدل أو صفة ، لأنه بمعنى المقبوس. وقرأ باقي
__________________
السبعة : بالإضافة
، وهي قراءة الحسن. قال الزمخشري : أضاف الشهاب إلى القبس ، لأنه يكون قبسا وغير
قبس ، واتبع في ذلك أبا الحسن. قال أبو الحسن : الإضافة أجود وأكثر في القراءة ،
كما تقول : دار آجر ، وسوار ذهب. والظاهر أن الضمير في (جاءَها) عائد على النار ، وقيل : على الشجرة ، وكان قد رآها في
شجرة سمر خضراء. وقيل : عليق ، وهي لا تحرقها ، كلما قرب منها بعدت. و (نُودِيَ) المفعول الذي لم يسم فاعله ، الظاهر أنه ضمير عائد على
موسى عليهالسلام. و (أَنْ) على هذا يجوز أن تكون مفسرة لوجود شرط المفسرة فيها ،
ويجوز أن تكون مصدرية. أما الثنائية التي تنصب المضارع ، وبورك صلة لها ، والأصل
حرف الجر ، أي بأن بورك ، وبورك خبر. وأما المخففة من الثقيلة فأصلها حرف الجر.
وقال الزمخشري : فإن قلت : هل يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة ، وتقديره بأنه
بورك ، والضمير ضمير الشأن والقصة؟ قلت : لا ، لأنه لا بد من قد. فإن قلت : فعلى
إضمارها؟ قلت : لا يصح ، لأنها علامة ولا تحذف. انتهى. ويجوز أن تكون المخففة من
الثقيلة ، وبورك فعل دعاء ، كما تقول : بارك الله فيك. وإذا كان دعاء ، لم يجز
دخول قد عليه ، فيكون كقوله تعالى : (وَالْخامِسَةَ أَنَّ
غَضَبَ اللهِ عَلَيْها) في قراءة من جعله فعلا ماضيا ، وكقول العرب : إما أن جزاك
الله خيرا ، وإما أن يغفر الله لك ، وكان الزمخشري بنى ذلك على (أَنْ بُورِكَ) خبر لا دعاء ، فلذلك لم يجز أن تكون مخففة من الثقيلة ،
وأجاز الزجاج أن تكون (أَنْ بُورِكَ) في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله ، وهو على إسقاط الخافض
، أي نودي بأن بورك ، كما تقول : نودي بالرخص. ويجوز أن تكون أن الثنائية ، أو
المخففة من الثقيلة ، فيكون بورك دعاء. وقيل : المفعول الذي لم يسم فاعله هو ضمير
النداء ، أي نودي هو ، أي النداء ، ثم فسر بما بعده. وبورك معناه : قدّس وطهر وزيد
خيره ، ويقال : باركك الله ، وبارك فيك ، وبارك عليك ، وبارك لك. وقال الشاعر :
فبوركت مولودا
وبوركت ناشئا
|
|
وبوركت عند
الشيب إذ أنت أشيب
|
وقال آخر :
بورك الميت
الغريب كما
|
|
بورك نبع الرمان
والزيتون
|
وقال عبد الله بن
الزبير :
فبورك في بنيك
وفي بنيهم
|
|
إذا ذكروا ونحن
لك الفداء
|
__________________
و (مَنْ) : المشهور أنها لمن يعلم ، فقال ابن عباس ، وابن جبير ،
والحسن وغيرهم : أراد تعالى بمن في النار ذاته ، وعبر بعضهم بعبارات شنيعة مردودة
بالنسبة إلى الله تعالى. وإذا ثبت ذلك عن ابن عباس ومن ذكر أول على حذف ، أي بورك
من قدرته وسلطانه في النار. وقيل لموسى عليهالسلام : أي بورك من في المكان أو الجهة التي لاح له فيها النار. وقال
السدّي : من للملائكة الموكلين بها. وقيل : من تقع هنا على ما لا يعقل. فقال ابن
عباس : أراد النور. وقيل : الشجرة التي تتقد فيها النار. وقيل : والظاهر في (وَمَنْ حَوْلَها) أنه لمن يعلم تفسير (يا مُوسى) ، وفسر بالملائكة ، ويدل عليه قراءة أبي ؛ فيما نقل أبو
عمرو الداني : وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ؛ ومن حولها من الملائكة ، وتحمل هذه
القراءة على التفسير ، لأنها مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه ، وفسر أيضا بموسى
والملائكة عليهمالسلام معا. وقيل : تكون لما لا يعقل ، وفسر بالأمكنة التي حول
النار ؛ وجدير أن يبارك من فيها ومن حواليها إذا حدث أمر عظيم ، وهو تكليم الله
لموسى عليهالسلام ؛ وتنبيئه وبدؤه بالنداء بالبركة تبشير لموسى وتأنيس له
ومقدمة لمناجاته.
والظاهر أن قوله :
(وَسُبْحانَ اللهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) داخل تحت قوله : (نُودِيَ).
لما نودي ببركة من
ذكر ، نودي أيضا بما يدل على التنزيه والبراءة من صفات المحدثين مما عسى أن يخطر
ببال ، ولا سيما إن حمل من في النار على تفسير ابن عباس أن من أريد به الله تعالى
، فإن ذلك دال على التحيز ، فأتى بما يقتضي التنزيه. وقال السدّي : هو من كلام
موسى ، لما سمع النداء قال : (وَسُبْحانَ اللهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) تنزيها لله تعالى عن سمات المحدثين. وقال ابن شجرة : هو من
كلام الله ، ومعناه : وبورك من سبح الله ، وهذا بعيد من دلالة اللفظ. وقيل : (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) خطاب لمحمد عليه الصلاة والسلام ، وهو اعتراض بين الكلامين
، والمقصود به التنزيه.
ولما آنسه تعالى ،
ناداه وأقبل عليه فقال : (يا مُوسى إِنَّهُ
أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). والظاهر أن الضمير في إنه ضمير الشأن ، وأنا الله : جملة
في موضع الخبر ، والعزيز الحكيم : صفتان ، وأجاز الزمخشري أن يكون الضمير في إنه
راجعا إلى ما دل عليه ما قبله ، يعني : إن مكلمك أنا ، والله بيان لأنا ، والعزيز
الحكيم صفتان للبيان. انتهى. وإذا حذف الفاعل وبني الفعل للمفعول ، فلا يجوز أن
يعود الضمير على ذلك المحذوف ، إذ قد غير الفعل عن بنائه له ، وعزم على أن لا يكون
محدثا عنه. فعود الضمير إليه مما ينافي ذلك ، إذ يصير مقصودا معتنى به ، وهذا
النداء والإقبال والمخاطبة تمهيد لما أراد الله تعالى
أن يظهره على يده
من المعجز ، أي أنا القوي القادر على ما يبعد في الأوهام ، الفاعل ما أفعله
بالحكمة. وقال الزمخشري : فإن قلت : علام عطف قوله : (وَأَلْقِ عَصاكَ)؟ قلت : على بورك ، لأن المعنى : (نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ). وقيل له : ألق عصاك ، والدليل على ذلك قوله : (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) ، بعد قوله : (أَنْ يا مُوسى إِنِّي
أَنَا اللهُ) ، على تكرير حرف التفسير ، كما تقول : كتبت إليه أن حج
واعتمر ، وإن شئت أن حج وأن اعتمر. انتهى. وقوله : (إِنَّهُ) ، معطوف على بورك مناف لتقديره. وقيل له : ألق عصاك ، لأن
هذه جملة معطوفة على بورك ، وليس جزؤها الذي هو. وقيل : معطوفا على بورك ، وإنما
احتيج إلى تقدير. وقيل له : ألق عصاك ، لتكون الجملة خبرية مناسبة للجملة الخبرية
التي عطفت عليها ، كأنه يرى في العطف تناسب المتعاطفين ، والصحيح أنه لا يشترط ذلك
، بل قوله : (وَأَلْقِ عَصاكَ) معطوف على قوله : (إِنَّهُ أَنَا اللهُ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، عطف جملة الأمر على جملة الخبر. وقد أجاز سيبويه : جاء
زيد ومن عمرو.
(فَلَمَّا رَآها
تَهْتَزُّ) : ثم محذوف تقديره : فألقاها من يده. وقرأ الحسن ، والزهري
، وعمرو بن عبيد : جأن ، بهمزة مكان الألف ، كأنه فر من التقاء الساكنين ؛ وقد
تقدم الكلام في نحو ذلك في قوله : ولا الضألين ، بالهمز في قراءة عمرو بن عبيد.
وجاء : (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ) ، (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ
مُبِينٌ) ، وهذا إخبار من الله بانقلابها وتغيير أوصافها وإعراضها ،
وليس إعداما لذاتها وخلقها لحية وثعبان ، بل ذلك من تغيير الصفات لا تغيير الذات.
وهنا شبهها حالة اهتزازها بالجان ، فقيل : وهو صغار الحيات ، شبهها بها في سرعة
اضطرابها وحركتها ، مع عظم جثتها. ولما رأى موسى هذا الأمر الهائل ، (وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ). قال مجاهد : ولم يرجع. وقال السدّي : لم يمكث. وقال قتادة
: ولم يلتفت ، يقال : عقب الرجل : توجه إلى شيء كان ولى عنه ، كأنه انصرف على
عقبيه ، ومنه : عقب المقاتل ، إذا كر بعد الفرار. قال الشاعر :
فما عقبوا إذ
قيل هل من معقب
|
|
ولا نزلوا يوم
الكريهة منزلا
|
ولحقه ما لحق طبع
البشرية إذا رأى الإنسان أمرا هائلا جدا ، وهو رؤية انقلاب العصا حية تسعى ، ولم
يتقدمه في ذلك تطمين إليه عند رؤيتها. قال الزمخشري : وإنما رغب لظنه أن
__________________
ذلك لأمر أريد به
، ويدل عليه : (إِنِّي لا يَخافُ
لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ). انتهى. وقال ابن عطية : وناداه الله تعالى مؤنسا ومقويا
على الأمر : (يا مُوسى لا تَخَفْ) ، فإن رسلي الذين اصطفيتم للنبوة لا يخافون غيري. فأخذ
موسى عليهالسلام الحية ، فرجعت عصا ، ثم صارت له عادة. انتهى. وقيل :
المعنى لا يخاف المرسلون في الموضع الذي يوحى إليه فيه ، وهم أخوف الناس من الله.
وقيل : إذا أمرتهم بإظهار معجز ، فينبغي أن لا يخافوا فيما يتعلق بإظهار ذلك ،
فالمرسل يخاف الله لا محالة. انتهى.
والأظهر أن قوله :
(إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) ، استثناء منقطع ، والمعنى : لكن من ظلم غيرهم ، قاله
الفراء وجماعة ، إذ الأنبياء معصومون من وقوع الظلم الواقع من غيرهم. وعن الفراء :
إنه استثناء متصل من جمل محذوفة ، والتقدير : وإنما يخاف غيرهم إلا من ظلم. ورده
النحاس وقال : الاستثناء من محذوف محال ، لو جاز هذا لجاز أن لا يضرب القوم إلا
زيدا ، بمعنى : وإنما أضرب غيرهم إلا زيدا ، وهذا ضد البيان والمجيء بما لا يعرف
معناه. انتهى. وقالت فرقة : إلا بمعنى الواو ، والتقدير : ولا من ظلم ، وهذا ليس
بشيء ، لأن معنى إلا مباين لمعنى الواو مباينة كثيرة ، إذ الواو للإدخال ، وإلا
للإخراج ، فلا يمكن وقوع أحدهما موقع الآخر. وروي عن الحسن ، ومقاتل ، وابن جريج ،
والضحاك ، ما يقتضي أنه استثناء متصل.
قال ابن عطية :
وأجمع العلماء على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من الكبائر ومن
الصغائر التي هي رذائل ، واختلف فيما عداها ، فعسى أن يشير الحسن وابن جريج إلى ما
عدا ذلك. انتهى. وقال الزمخشري : وإلا بمعنى لكن ، لأنه لما أطلق نفي الخوف عن
المرسل كان ذلك مظنة لطرو الشبهة فاستدرك ذلك ، والمعنى : ولكن من ظلم منهم ، أي
فرطت منهم صغيرة مما لا يجوز على الأنبياء ، كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان
وإخوة يوسف ، ومن موسى ، بوكزة القبطي. ويوشك أن يقصد بهذا التعريض ما وجد من موسى
، وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها ، وسماه ظلما ؛ كما قال موسى : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
فَاغْفِرْ لِي) . انتهى. وقرأ أبو جعفر ، وزيد بن أسلم : ألا من ظلم ، بفتح
الهمزة وتخفيف اللام ، حرف استفتاح. ومن : شرطية. والحسن : حسن التوبة ، والسوء :
الظلم الذي ارتكبه. وقرأ الجمهور : حسنا ، بضم الحاء وإسكان السين
__________________
منونا. وقرأ محمد
بن عيسى الأصبهاني : كذلك ، إلا أنه لم ينون ، جعله فعلى ، فامتنع الصرف ؛ وابن
مقسم : بضم الحاء والسين منونا. ومجاهد ، وأبو حيوة ، وابن أبي ليلى ، والأعمش ،
وأبو عمرو في رواية الجعفي ، وأبو زيد ، وعصمة ، وعبد الوارث ، وهارون ، وعياش :
بفتحهما منونا.
(وَأَدْخِلْ) : أمر بما يترتب عليه من ظهور المعجز العظيم ، لما أظهر له
معجزا في غيره ، وهو العصا ، أظهر له معجزا في نفسه ، وهو تلألؤ يده كأنها قطعة
نور ، إذا فعل ما أمر به. وجواب الأمر الظاهر أنه تخرج ، لأن خروجها مترتب على
إدخالها. وقيل : في الكلام حذف تقديره : وأدخل يدك في جيبك تدخل ، وأخرجها تخرج ،
فحذف من الأول ما أثبت مقابله في الثاني ، ومن الثاني ما أثبت مقابله في الأول.
قال قتادة : (فِي جَيْبِكَ) : قميصك ، كانت له مدرعة من صوف لا كمين لها. وقال ابن
عباس ، ومجاهد : كان كمها إلى بعض يده. وقال السدي : في جيبك : أي تحت إبطك.
والظاهر أن قوله : (فِي تِسْعِ آياتٍ
إِلى فِرْعَوْنَ) متعلق بمحذوف تقديره : اذهب بهاتين الآيتين : (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ) ، ويدل عليه قوله بعد : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ
آياتُنا مُبْصِرَةً) ، وهذا الحذف مثل قوله :
أتوا ناري فقلت
منون أنتم
|
|
فقالوا الجن قلت
عموا ظلاما
|
وقلت إلى الطعام
فقال منهم
|
|
فريق يحسد الإنس
الطعاما
|
التقدير : هلموا
إلى الطعام. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى : وألق عصاك ، وأدخل يدك ، في (تِسْعِ آياتٍ) ، أي في جملة تسع آيات. ولقائل أن يقول : كانت الآيات إحدى
عشرة ، ثنتان منها : اليد والعصا ، والتسع : الفلق ، والطوفان ، والجراد ، والقمل
، والضفادع ، والدم ، والطمسة ، والجذب في بواديهم ، والنقصان من مزارعهم. انتهى. فعلى
الأول يكون العصا واليد داخلتين في التسع ، وعلى الثاني تكون في بمعنى مع ، أي مع
تسع آيات. وقال ابن عطية : (فِي تِسْعِ آياتٍ) متصل بقوله : (أَلْقِ) ، و (أَدْخِلْ) ، وفيه اقتضاب وحذف تقديره : تمهد ذلك وتيسر لك في جملة
تسع آيات وهي : العصا ، واليد ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ،
والطمس ، والحجر ؛ وفي هذين الأخيرين اختلاف ، والمعنى : يجيء بهنّ إلى فرعون
وقومه. وقال الزجاج : في تسع آيات ، أي من تسع آيات ، كما تقول : خذ لي عشرا من
الإبل فيها فحلان ، أي منها إلى فرعون ، أي مرسلا إلى فرعون. انتهى. وانتصب (مُبْصِرَةً) على الحال ، أي بينة
واضحة ، ونسب
الإبصار إليها على سبيل المجاز ، لما كان يبصر بها جعلت مبصرة ، أو لما كان معها
الإبصار والوضوح. وقيل : لجعلهم بصراء ، من قول : أبصرته المتعدية بهمزة النقل من
بصر. وقيل : فاعل بمعنى مفعول ، كماء دافق. وقرأ قتادة ، وعلي بن الحسين : مبصرة ،
بفتح الميم والصاد ، وهو مصدر ، كما تقول : الولد مجبنة ، وأقيم مقام الاسم ،
وانتصب أيضا على الحال ، وكثر هذا الوزن في صفات الأماكن نحو : أرض مسبعة ، ومكان
مضية. قال الزمخشري : أي مكانا يكثر فيه التبصر. انتهى. والأبلغ في : (وَاسْتَيْقَنَتْها) أن تكون الواو واو الحال ، أي كفروا بها وأنكروها في
الظاهر ، وقد استيقنت أنفسهم في الباطن أنها آيات من عند الله ، وكابروا وسموها
سحرا. وقال تعالى ، حكاية عن موسى في محاورته لفرعون : (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ
هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) . (ظُلْماً) : مجاوزة الحد ، (وَعُلُوًّا) : ارتفاعا وتكبرا عن الإيمان ، وانتصبا على أنهما مصدران
في موضع الحال ، أي ظالمين عالين ؛ أو مفعولان من أجلهما ، أي لظلمهم وعلوهم ، أي
الحامل لهم على الإنكار والجحود ، مع استيقان أنها آيات من عند الله هو الظلم
والعلو. واستفعل هنا بمعنى تفعل نحو : استكبر في معنى تكبر. وقرأ عبد الله ، وابن
وثاب ، والأعمش ، وطلحة ، وأبان بن تغلب ، وعليا : بقلب الواو ياء ، وكسر العين
واللام ، وأصله فعول ، لكنهم كسروا العين اتباعا ؛ وروي ضمها عن ابن وثاب والأعمش
وطلحة ، وتقدم الخلاف في كفر العناد ، هل يجوز أن يقع أم لا؟ والعاقبة : ما آل
إليه قوم فرعون من سوء المنقلب ، وما أعد لهم في الآخرة أشد ، وفي هذا تمثيل لكفار
قريش ، إذ كانوا مفسدين مستعلين ، وتحذير لهم أن يحل بهم مثل ما حل بمن كان قبلهم.
(وَلَقَدْ آتَيْنا
داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى
كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا
أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ، وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ
الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ، حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى
وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا
يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ، فَتَبَسَّمَ
ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي
أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ
وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ).
هذا ابتداء قصص
وأخبار بمغيبات وعبر ونكر. (عِلْماً) لأنه طائفة من العلم. وقال
__________________
قتادة : علما :
فهما. وقال مقاتل : علما بالقضاء. وقال ابن عطاء : علما بالله تعالى. وقال
الزمخشري : أو علما سنيا عزيزا. (وَقالا) قال : فإن قلت : أليس هذا موضوع الفاء دون الواو ، كقولك :
أعطيته فشكر ومنعته فصبر؟ قلت : بلى ، ولكن عطفه بالواو إشعار بأن ما قالاه بعض ما
أحدث فيهما إيتاء العلم وشيء من مواجبه ، فأضمر ذلك ، ثم عطف عليه التحميد ، كأنه
قال : ولقد آتيناهما علما ، فعملا به وعلماه ، وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة ، (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، والكثير المفضل عليه من لم يؤت علما ، أو من لم يؤت مثل
علمهما ، وفي الآية دليل على شرف العلم. انتهى. والموروث : الملك والنبوّة ، بمعنى
: صار ذلك إليه بعد موت أبيه فسمي ميراثا تجوزا ، كما قيل : العلماء ورثة
الأنبياء. وحقيقة الميراث في المال والأنبياء لا نورث مالا ، وكان لداود تسعة عشر
ولدا ذكرا ، فنبىء سليمان من بينهم وملك. وقيل : ولاه على بين إسرائيل في حياته من
بين سائر أولاده ، فكانت الولاية في معنى الوراثة. وقال الحسن : ورث المال لأن
النبوة عطية مبتدأة لا تورث. وقيل : الملك والسياسة. وقيل : النبوة فقط ، والأظهر
القول الأول ، ويؤيده قوله : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ
الطَّيْرِ) ، فهذا يدل على النبوة ، (وَأُوتِينا مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ) يدل على الملك ، وكان هذا شرحا للميراث. وقوله : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) يقوي ذلك ، ولا يناسب شيء من هذا وراثة المال.
وقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) تشهير لنعمة الله ، وتنويه بها واعتراف بمكانها ، ودعاء
الناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير ، وغير ذلك مما أوتيه من
عظائم الأمور. و (مَنْطِقَ الطَّيْرِ) : استعارة لما يسمع منها من الأصوات ، وهو حقيقة في بني
آدم ، لما كان سليمان يفهم منه ما يفهم من كلام بني آدم ، كما يفهم بعض الطير من
بعض ، أطلق عليه منطق. وقيل : كانت الطير تكلمه معجزة له ، كقصة الهدهد ، والظاهر
أنه علم منطق الطير وعموم الطير. وقيل : علم منطق الحيوان. قيل : والنبات ، حتى
كان يمر على الشجرة فتذكر له منافعها ومضارها ، وإنما نص على الطير ، لأنه كان
جندا من جنوده ، يحتاج إليه في التظليل من الشمس ، وفي البعث في الأمور. وقال
قتادة : والشعبي : وكذلك كانت هذه النملة القائلة ذات جناحين. وأورد المفسرون مما
ذكروا : أن سليمان عليهالسلام أخبر عن كثير من الطير بأنواع من الكلام ، تقديس لله تعالى
وعظات ، وعبر ما الله أعلم بصحته.
(وَأُوتِينا مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ) : ظاهره العموم ، والمراد الخصوص ، أي من كل شيء
يصلح لنا ونتمناه
، وأريد به كثرة ما أوتي ، فكأنه مستغرق لجميع الأشياء. كما تقول : فلان يقصده كل
أحد ، يريد كثرة قصاده ، وهذا كقوله تعالى في قصة بلقيس : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ؛ وبنى علمنا وأوتينا للمفعول ، وحذف الفاعل للعلم به ،
وهو الله تعالى. وكانا مسندين لنون العظمة لا لتاء المتكلم ، لأنه إما إن أراد
نفسه وأباه ، أو لما كان ملكا مطاعا خاطب أهل طاعته ومملكته بحاله التي هو عليها ،
لا على سبيل التعاظم والتكبر. (إِنَّ هذا لَهُوَ
الْفَضْلُ الْمُبِينُ) : إقرار بالنعمة وشكر لها ومحمدة.
روي أن معسكره كان
مائة فرسخ في مائة خمسة وعشرون للجن ، ومثلها للإنس ، ومثلها للطير ، ومثلها للوحش
، وألف بيت من قوارير على الخشب ، فيها ثلاثمائة منكوحة ، وسبعمائة سرية ، وقد
نسجت له الجن بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ ، ومنبره في وسطه من ذهب ، فيصعد
عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة ، تقعد الأنبياء على كراسي الفضة ، وحولهم
الناس ، وحول الناس الجن والشياطين ، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس
، وترفع ريح الصبا البساط ، فتسير به مسيرة شهر ، وتفصيل هذه الأشياء يحتاج إلى
صحة نقل ، وكان ملكه عظيما ، ملأ الأرض ، وانقاد له أهل المعمور منها. وتقدم لنا
أنه ملك الأرض بأسرها أربعة : مؤمنان : سليمان وذو القرنين ، وكافران : بختنصر
ونمروذ. وحشر الجنود يقتضي سفرا وفسر الجنود أنهم الجن والإنس والطير ، وذكر
المفسرون الوحش رابعا.
(فَهُمْ يُوزَعُونَ) : يحشر أولهم على آخرهم ، أي يوقف متقدمو العسكر حتى يأتي
آخرهم فيجتمعون ، لا يتخلف منهم أحد وذلك للكثرة العظيمة ، أو يكفون عن المسير حتى
يجتمعوا. وقيل : يجتمعون من كل جهة. وقيل : يساقون. وقيل : يدفعون. وقيل : يحبسون.
كانت الجيوش تسير معه إذا سار ، وينزل إذا نزل. (حَتَّى إِذا أَتَوْا) : هذه غاية لشيء مقدر ، أي وساروا حتى إذا أتوا ، أو يضمن
يوزعون معنى فعل يقتضي أن تكون حتى غاية له ، أي فهم يسيرون مكنوفا بعضهم من
مفارقة بعض. وعدى أتوا بعلى ، إما لأن إتيانهم كان من فوق ، وإما أن يراد قطع
الوادي وبلوغ آخره من قولهم : أتى على الشيء ، إذا أتى على آخره وأنفذه ، كأنهم
أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي ، لأنهم ما دامت الريح تحملهم لا يخاف حطمهم ،
قاله الزمخشري.
__________________
وقال ابن عطية :
والظاهر أن سليمان وجنوده كانوا مشاة في الأرض ، ولذلك يتهيأ حطم النمل بنزولهم في
وادي النمل. ويحتمل أنهم كانوا في الكرسي المحمول بالريح ، فأحست النمل بنزولهم في
وادي النمل ، ووادي النمل قيل بالشام. وقيل : بأقصى اليمن ، وهو معروف عند العرب
مذكور في أشعارها. وقال كعب : وادي السدر من الطائف. والظاهر صدور القول من النملة
، وفهم سليمان كلامها ، كما فهم منطق الطير. قال مقاتل : من ثلاثة أميال. وقال
الضحاك بلغته : الريح كلامها. وقال ابن بحر : نطقت بالصوت معجزة لسليمان ، ككلام
الضب والذراع للرسول. وقيل : فهمه إلهاما من الله ، كما فهمه جنس النمل ، لا أنه
سمع قولا. وقال الكلبي : أخبره ملك بذلك. قال الشاعر :
لو كنت أوتيت
كلام الحكل
|
|
علم سليمان كلام
النمل
|
والحكل : ما لا
يسمع صوته. وذكروا اختلافا في صغر النملة وكبرها ، وفي اسمها العلم ما لفظه. وليت
شعري ، من الذي وضع لها لفظا يخصها ، أبنو آدم أم النمل؟ وقالوا : كانت نملة عرجاء
، ولحوق التاء في قالت لا يدل على أن النملة مؤنث ، بل يصح أن يقال في المذكر :
قالت نملة ، لأن نملة ، وإن كان بالتاء ، هو مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث. وما
كان كذلك ، كالنملة والقملة ، مما بينه في الجمع وبين واحده من الحيوان تاء
التأنيث ، فإنه يخبر عنه إخبار المؤنث ، ولا يدل كونه يخبر عنه إخبار المؤنث على
أنه ذكر أو أنثى ، لأن التاء دخلت فيه للفرق ، لا دالة على التأنيث الحقيقي ، بل
دالة على الواحد من هذا الجنس.
وقال الزمخشري ،
وعن قتادة : أنه دخل الكوفة ، فالتف عليه الناس فقال : سلوا عما شئتم. وكان أبو
حنيفة حاضرا ، وهو غلام حدث ، فقال : سلوه عن نملة سليمان ، أكانت ذكرا أم أنثى :
فسألوه فأفحم ، فقال أبو حنيفة : كانت أنثى. فقيل له : من أين عرفت؟ فقال : من
كتاب الله ، وهو قوله : (قالَتْ نَمْلَةٌ) ، ولو كان ذكرا لقال قال نملة. قال الزمخشري : وذلك أن
النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى ، فيميز بينهما بعلامة ،
نحو قولهم : حمامة ذكر وحمامة أنثى ، وهو وهي. انتهى. وكان قتادة بن دعامة السدوسي
بصيرا بالعربية ، وكونه أفحم ، يدل على معرفته باللسان ، إذ علم أن النملة يخبر
عنها إخبار المؤنث ، وإن كانت تنطلق على الأنثى والذكر ، إذ هو مما لا يتميز فيه
أحد هذين ، فتذكيره وتأنيثه لا يعلم ذلك من إلحاق العلامة للفعل فتوقف ، إذ لا
يعلم ذلك إلا بوحي من الله. وأما استنباط تأنيثه من كتاب الله من قوله : (قالَتْ نَمْلَةٌ) ، ولو كان ذكرا
لقال : قال نملة ،
وكلام النحاة على خلافه ، وأنه لا يخبر عنه إلا إخبار المؤنث ، سواء كان ذكرا أم
أنثى. وأما تشبيه الزمخشري النملة بالحمامة والشاة ، فبينهما قدر مشترك ، وهو
إطلاقهما على الذكر والمؤنث ، وبينهما فرق ، وهو أن الحمامة والشاة يتميز فيهما
المذكر من المؤنث ، فيمكن أن تقول : حمامة ذكر وحمامة أنثى ، فتميز بالصفة. وأما
تمييزه بهو وهي ، فإنه لا يجوز. لا تقول : هو الحمامة ، ولا هو الشاة ؛ وأما
النملة والقملة فلا يتيمز فيه المذكر من المؤنث ، فلا يجوز فيه في الإخبار إلا
التأنيث ، وحكمه حكم المؤنث بالتاء من الحيوان العاقل نحو : المرأة ، أو غير
العاقل كالدابة ، إلا أن وقع فصل بين الفعل وبين ما أسند إليه من ذلك ، فيجوز أن
تلحق العلامة الفعل ، ويجوز أن لا تلحق ، على ما قرر ذلك في باب الإخبار عن المؤنث
في علم العربية.
وقرأ الحسن ،
وطلحة ، ومعتمر بن سليمان ، وأبو سليمان التيمي : نملة ، بضم الميم كسمرة ، وكذلك
النمل ، كالرجلة والرجل لعتان. وعن سليمان التيمي : نمل ونمل بضم النون والميم ،
وجاء الخطاب بالأمر ، كخطاب من يعقل في قوله : (ادْخُلُوا) وما بعده ، لأنها أمرت النمل كأمر من يعقل ، وصدر من النمل
الامتثال لأمرها. وقرأ شهر بن حوشب : مسكنكم ، على الإفراد. وعن أبيّ : أدخلن
مساكنكن لا يحطمنكم : مخففة النون التي قبل الكاف. وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ،
وقتادة ، وعيسى بن عمر الهمداني ، الكوفي ، ونوح القاضي : بضم الياء وفتح الحاء
وشد الطاء والنون ، مضارع حطم مشددا. وعن الحسن : بفتح الياء وإسكان الحاء وشد
الطاء ، وعنه كذلك مع كسر الحاء ، وأصله : لا يحتطمنكم من الاحتطام. وقرأ ابن أبي
إسحاق ، وطلحة ، ويعقوب ، وأبو عمرو في رواية عبيد : كقراءة الجمهور ، إلا أنهم
سكنوا نون التوكيد. وقرأ الأعمش : بحذف النون وجزم الميم ، والظاهر أن قوله : (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) ، بالنون خفيفة أو شديدة ، نهي مستأنف ، وهو من باب : لا
أرينك هاهنا ، نهت غير النمل ، والمراد النمل ، أي لا تظهروا بأرض الوادي فيحطمكم
، ولا تكن هنا فأراك. وقال الزمخشري : فإن قلت : لا يحطمنكم ما هو؟ قلت : يحتمل أن
يكون جوابا للأمر ، وأن يكون هنا بدلا من الأمر ، والذي جوز أن يكون بدلا منه ،
لأنه في معنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم على طريقة لا أرينك هاهنا ، أرادت لا
يحطمنكم جنود سليمان ، فجاءت بما هو أبلغ ونحوه : عجبت من نفسي ومن إشفاقها.
انتهى. وأما تخريجه على أنه أمر ، فلا يكون ذلك إلا على قراءة الأعمش ، إذ هو
مجزوم ، مع أنه يحتمل أن يكون استئناف نفي ، وأما مع وجود نون التوكيد ، فإنه لا
يجوز ذلك إلا إن كان في الشعر.
وإذا لم يجز ذلك
في جواب الشرط إلا في الشعر ، فأحرى أن لا يجوز في جواب الأمر إلا في الشعر. وكونه
جواب الأمر متنازع فيه على ما قرر في النحو ، ومثال مجيء نون التوكيد في جواب
الشرط ، قول الشاعر :
نبتم نبات
الخيزرانة في الثرى
|
|
حديثا متى يأتك
الخير ينفعا
|
وقول الآخر :
مهما تشا منه
فزارة يعطه
|
|
ومهما تشا منه
فزارة يمنعا
|
قال سيبويه : وذلك
قليل في الشعر ، شبهوه بالنفي حيث كان مجزوما غير واجب. انتهى. وقد تنبه أبو
البقاء لشيء من هذا قال : وقيل هو جواب الأمر ، وهو ضعيف ، لأن جواب الشرط لا يؤكد
بالنون في الاختيار. وأما تخريجه على البدل فلا يجوز ، لأن مدلول (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) مخالف لمدلول (ادْخُلُوا). وأما قوله : لأنه في معنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم ،
فهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب ، والبدل من صفة الألفاظ. نعم لو كان اللفظ
القرآني لا تكونوا حيث أنتم لا يحطمنكم لتخيل فيه البدل ، لأن الأمر بدخول
المساكن. نهي عن كونهم في ظاهر الأرض. وأما قوله : أنه أراد لا يحطمنكم جنود
سليمان إلى آخره ، فيسوغ زيادة الأسماء ، وهو لا يجوز ، بل الظاهر إسناد الحطم
إليه وإلى جنوده ، وهو على حذف مضاف ، أي خيل سليمان وجنوده ، أو نحو ذلك مما يصح
تقديره. (وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ) : جملة حالية ، أي إن وقع حطم ، فليس ذلك بتعمد منهم ،
إنما يقع وهم لا يعلمون بحطمنا ، كقوله : (فَتُصِيبَكُمْ
مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ، وهذا التفات حسن ، أي من عدل سليمان وأتباعه ورحمته
ورفقه أن لا يحطم نملة فما فوقها إلا بأن لا يكون لهم شعور بذلك.
وما أحسن ما أتت
به هذه النملة في قولها وأغربه وأفصحه وأجمعه للمعاني ، أدركت فخامة ملك سليمان ،
فنادت وأمرت وأنذرت. وذكروا أنه جرى بينها وبين سليمان محاورات ، وأهدت له نبقة ،
وأنشدوا أبياتا في حقارة ما يهدى إلى العظيم ، والاستعذار من ذلك ، ودعاء سليمان
للنمل بالبركة ، والله أعلم بصحة ذلك أو افتعاله. والنمل حيوان قوي الحس شمام جدا
، يدخر القوت ، ويشق الحبة قطعتين لئلا تنبت ، والكزبرة بأربع ، لأنها إذا قطعت
قطعتين أنبتت ، وتأكل في عامها بعض ما تجمع ، وتدخر الباقي عدة. وفي
__________________
الحديث : «النهي
عن قتل أربع من الدواب : الهدهد والصرد والنملة والنحلة» ، خرجه أبو داود عن ابن
عباس. وروي من حديث أبي هريرة : وتبسم سليمان عليهالسلام ، إما للعجب بما دل عليه قولها : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ، وهو إدراكها رحمته وشفقته ورحمة عسكره ، وإما للسرور بما
آتاه الله مما لم يؤت أحدا ، وهو إدراكه قول ما همس به ، الذي هو مثل في الصغر ،
ولذلك دعا أن يوزعه الله شكر ما أنعم به عليه. وانتصب ضاحكا على الحال ، أي شارعا
في الضحك ومتجاوزا حد التبسم إلى الضحك ، ولما كان التبسم يكون للاستهزاء وللغضب ،
كما يقولون ، تبسم تبسم الغضبان ، وتبسم تبسم المستهزئ ، وكان الضحك إنما يكون
للسرور والفرح ، أتى بقوله : (ضاحِكاً). وقرأ ابن السميفع : ضحكا ، جعله مصدرا ، لأن تبسم في معنى
ضحك ، فانتصابه على المصدرية ، أو على أنه مصدر في موضع الحال ، كقراءة ضاحكا.
(وَقالَ رَبِّ
أَوْزِعْنِي) : أي اجعلني أزع شكر نعمتك وآلفه وأرتبطه ، حتى لا ينفلت
عني ، حتى لا أنفك شاكرا لك. وقال ابن عباس : أوزعني : اجعلني أشكر. وقال ابن زيد
: حرضني. وقال أبو عبيدة : أولعني. وقال الزجاج : امنعني عن الكفران. وقيل :
ألهمني الشكر ، وأدرج ذكر نعمة الله على والديه في أن يشكرهما ، كما يشكر نعمة
الله على نفسه ، لما يجب للوالد على الولد من الدعاء لهما والبر بهما ، ولا سيما
إذا كان الولد تقيا لله صالحا ، فإن والديه ينتفعان بدعائه وبدعاء المؤمنين لهما
بسببه ، كقولهم : رحم الله من خلفك ، رضي الله عنك وعن والديك. ولما سأل ربه شيئا
خاصا ، وهو شكر النعمة ، سأل شيئا عاما ، وهو أن يعمل عملا يرضاه الله تعالى ،
فاندرج فيه شكر النعمة ، فكأنه سأل إيزاع الشكر مرتين ، ثم دعا أن يلحق بالصالحين.
قال ابن زيد : هم الأنبياء والمؤمنون ، وكذا عادة الأنبياء أن يطلبوا جعلهم من
الصالحين ، كما قال يوسف عليهالسلام : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً
وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) . وقال تعالى ، عن إبراهيم عليهالسلام : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ
لَمِنَ الصَّالِحِينَ) . قيل : لأن كمال الصلاح أن لا يعصي الله تعالى ولا يهم
بمعصية ، وهذه درجة عالية.
(وَتَفَقَّدَ
الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ ،
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي
بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ، فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ
بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً
تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ ،
__________________
وَجَدْتُها
وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ
أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ، أَلَّا
يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ ، اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ
الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ
، اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ
ما ذا يَرْجِعُونَ).
الظاهر أنه تفقد
جميع الطير ، وذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك والاهتمام بالرعايا. قيل :
وكان يأتيه من كل صنف واحد ، فلم ير الهدهد. وقيل : كانت الطير تظله من الشمس ،
وكان الهدهد يستر مكانه الأيمن ، فمسته الشمس ، فنظر إلى مكان الهدهد ، فلم يره. وعن
عبد الله بن سلام : أن سليمان عليهالسلام نزل بمفازة لا ماء فيها ، وكان الهدهد يرى ظاهر الأرض
وباطنها ، وكان يخبر سليمان بذلك ، فكانت الجن تخرجه في ساعة تسلخ الأرض كما تسلخ
الشاة ، فسأل عنه حين حلوا تلك المفازة ، لاحتياجهم إلى الماء. وفي قوله (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) دلالة على تفقد الإمام أحوال رعيته والمحافظة عليهم. وقال
عمر رضياللهعنه : لو أن سخلة على شاطىء الفرات أخذها الذئب لسئل عنها عمر
، وفي الكلام محذوف ، أي فقد الهدهد حين تفقد الطير.
قال ابن عطية
وقوله : (ما لِيَ لا أَرَى
الْهُدْهُدَ) ، مقصد الكلام الهدهد ، غاب ولكنه أخذ اللازم عن مغيبه ،
وهو أن لا يراه ، فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم ، وهذا ضرب من الإيجاز
والاستفهام الذي في قوله : (ما لِيَ) ، ناب مناب الألف التي تحتلجها أم. انتهى. فظاهر هذا
الكلام أن أم متصلة ، وأن الاستفهام الذي في قوله : ما لي ، ناب مناب ألف
الاستفهام ، فمعناه عنده : أغاب عني الآن فلم أره حالة التفقد؟ أم كان ممن غاب قبل
ولم أشعر بغيبته؟ وقال الزمخشري : أم هي المنقطعة ، نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره
فقال : (ما لِيَ لا أَرَى
الْهُدْهُدَ)؟ على معنى : أنه لا يراه ، وهو حاضر ، لساتر ستره أو غير
ذلك ، ثم لاح له أنه غائب ، فأضرب عن ذلك وأخذ يقول : أهو غائب؟ كأنه سأل صحة ما
لاح له ، ونحوه قولهم : إنها لإبل أم شاء؟ انتهى. والصحيح أن أم في هذا هي
المنقطعة ، لأن شرط المتصلة تقدم همزة الاستفهام ، فلو تقدمها أداة الاستفهام غير
الهمزة ، كانت أم منقطعة ، وهنا تقدم ما ، ففات شرط المتصلة. وقيل : يحتمل أن تكون
من المقلوب وتقديره : ما للهدهد لا أراه؟ ولا ضرورة إلى ادعاء القلب. وفي الكشاف ،
أن سليمان لما تم له بناء بيت المقدس ، تجهز للحج ، فوافى الحرم وأقام به ما شاء ،
ثم عزم على المسير إلى اليمن ، فخرج من مكة صباحا يؤم سهيلا ، فوافى صنعاء وقت
الزوال ، وذلك مسيرة شهر ، فرأى أرضا حسناء أعجبته خضرتها ، فنزل ليتغدى
ويصلي ، فلم يجد
الماء ، وكان الهدهد يأتيه ، وكان يرى الماء من تحت الأرض. وذكر أنه كان الجن
يسلخون الأرض حتى يظهر الماء.
(لَأُعَذِّبَنَّهُ
عَذاباً شَدِيداً) : أبهم العذاب الشديد ، وفي تعيينه أقوال متعارضة ،
والأجود أن يجعل أمثلة. فعن ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جريج : نتف ريشه. وقال ابن
جريج : ريشه كله. وقال يزيد بن رومان : جناحه. وقال ابن وهب : نصفه ويبقى نصفه. وقيل
: يزاد مع نتفه تركه للشمس. وقيل : يحبس في القفص. وقيل : يطلى بالقطران ويشمس.
وقيل : ينتف ويلقى للنمل. وقيل : يجمع مع غير جنسه. وقيل : يبعد من خدمة سليمان عليهالسلام. وقيل : يفرق بينه وبين إلفه. وقيل : يلزم خدمة امرأته ،
وكان هذا القول من سليمان غضبا لله ، حيث حضرت الصلاة وطلب الماء للوضوء فلم يجده
، وأباح الله له ذلك للمصلحة ، كما أباح ذبح البهائم والطيور للأكل ، وكما سخر له
الطير ، فله أن يؤذّيه إذا لم يأت ما سخر له.
وقرأ الجمهور : أو
ليأتيني ، بنون مشددة بعدها ياء المتكلم ، وابن كثير : بنون مشددة بعدها نون الوقاية
بعد الياء ؛ وعيسى بن عمر : بنون مشددة مفتوحة بغير ياء. والسلطان المبين : الحجة
والعذر ، وفيه دليل على الإغلاط على العاصين وعقابهم. وبدأ أولا بأخف العقابين ،
وهو التعذيب ؛ ثم أتبعه بالأشد ، وهو إذهاب المهجة بالذبح ، وأقسم على هذين لأنهما
من فعله ، وأقسم على الإتيان بالسلطان وليس من فعله. لما نظم الثلاثة في الحكم بأو
، كأنه قال : ليكونن أحد الثلاثة ، والمعنى : إن أتى بالسلطان ، لم يكن تعذيب ولا
ذبح ، وإلا كان أحدهما. ولا يدل قسمه على الإتيان على ادعاء دراية ، على أنه يجوز
أن يتعقب حلفه بالفعلين وحي من الله بأنه يأتيه بسلطان ، فيكون قوله : (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) عن دراية وإيقان.
وقرأ الجمهور :
فمكث ، بضم الكاف ؛ وعاصم ، وأبو عمرو في رواية الجعفي ، وسهل ، وروح : بضمها. وفي
قراءة أبيّ : فيمكث ، ثم قال : وفي قراءة عبد الله : فيمكث ، فقال : وكلاهما في
الحقيقة تفسير لا قراءة ، لمخالفة ذلك سواد المصحف ، وما روي عنهما بالنقل الثابت.
والظاهر أن الضمير في فمكث عائد على الهدهد ، أي غير زمن بعيد ، أي عن قرب. ووصف
مكثه بقصر المدة ، للدلالة على إسراعه ، خوفا من سليمان ، وليعلم كيف كان الطير
مسخرا له ، ولبيان ما أعطى من المعجزة الدالة على نبوته وعلى قدرة الله. وقيل :
وقف مكانا غير بعيد من سليمان ، وكأنه فيما روي ، حين نزل سليمان حلق الهدهد ،
فرأى هدهدا ،
فانحط عليه ووصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء ، وذكر له صاحبه ملك بلقيس
وعظم منه ، وذهب معه لينظر ، فما رجع إلا بعد العصر. وقيل : الضمير في فمكث
لسليمان. وقيل : يحتمل أن يكون لسليمان وللهدهد ، وفي الكلام حذف ، فإن كان غير
بعيد زمانا ، فالتقدير : فجاء سليمان ، فسأله : ما غيبك؟ فقال : أحطت ؛ وإن كان
مكانا ، فالتقدير : فجاء فوقف مكانا قريبا من سليمان ، فسأله : ما غيبك؟ وكان فيما
روي قد علم بما أقسم عليه سليمان ، فبادر إلى جوابه بما يسكن غيظه عليه ، وهو أن
غيبته كانت لأمر عظيم عرض له ، فقال : (أَحَطْتُ بِما لَمْ
تُحِطْ بِهِ) ، وفي هذا جسارة من لديه علم ، لم يكن عند غيره ، وتبجحه
بذلك ، وإبهام حتى تتشوف النفس إلى معرفة ذلك المبهم ما هو. ومعنى الإحاطة هنا :
أنه علم علما ليس عند نبي الله سليمان.
قال الزمخشري :
ألهم الله الهدهد ، فكافح سليمان بهذا الكلام ، على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة
والعلوم الجملة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ، ابتلاء له في علمه ، وتنبيها على أن
في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به سليمان ، لتتحاقر إليه نفسه ويصغر
إليه علمه ، ويكون لطفا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء ، وأعظم بها فتنة
، والإحاطة بالشيء علما أن يعلم من جميع جهاته ، لا يخفى منه معلوم ، قالوا : وفيه
دليل على بطلان قول الرافضة إن الإمام لا يخفى عليه شيء ، ولا يكون في زمانه أعلم
منه. انتهى.
ولما أبهم في قوله
: (بِما لَمْ تُحِطْ) ، انتقل إلى ما هو أقل منه إبهاما ، وهو قوله : (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ
يَقِينٍ) ، إذ فيه إخبار بالمكان الذي جاء منه ، وأنه له علم بخبر
مستيقن له. وقرأ الجمهور : من سبأ ، مصروفا ، هذا وفي : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) ، وابن كثير ، وأبو عمرو : بفتح الهمزة ، غير مصروف فيهما
، وقنبل من طريق النبال : بإسكانها فيهما. فمن صرفه جعله اسما للحي أو الموضع أو
للأب ، كما في حديث فروة بن مسيك وغيره ، عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أنه اسم رجل ولد عشرة من الولد ، تيامن منهم ستة ،
وتشاءم أربعة. والستة : حمير ، وكندة ، والأزد ، وأشعر ، وخثعم ، وبجيلة ؛
والأربعة : لخم ، وجذام ، وعاملة ، وغسان. وكان سبأ رجلا من قحطان اسمه عبد شمس. وقيل
: عامر ، وسمي سبأ لأنه أول من سبا ، ومن منعه الصرف جعله اسما للقبيلة أو البقعة
، وأنشدوا على الصرف :
__________________
الواردون وتيم
في ذرى سبأ
|
|
قد عض أعناقهم
جلد الجواميس
|
ومن سكن الهمزة ،
فلتوالي الحركات فيمن منع الصرف ، وإجراء للوصل مجرى الوقف. وقال مكي : الإسكان في
الوصل بعيد غير مختار ولا قوي. انتهى. وقرأ الأعمش : من سبأ ، بكسر الهمزة من غير
تنوين ، حكاها عنه ابن خالويه وابن عطية ، ويبعد توجيهها. وقرأ ابن كثير في رواية
: من سبأ ، بتنوين الباء على وزن رحى ، جعله مقصورا مصروفا. وذكر أبو معاذ أنه قرأ
من سبأ : بسكون الباء وهمزة مفتوحة غير منونة ، بناه على فعلى ، فامتنع الصرف
للتأنيث اللازم. وروى ابن حبيب ، عن اليزيدي : من سبأ ، بألف ساكنة ، كقولهم :
تفرقوا أيدي سبا. وقرأت فرقة : بنبإ ، بألف عوض الهمزة ، وكأنها قراءة من قرأ :
لسبا ، بالألف ، لتتوازن الكلمتان ، كما توازنت في قراءة من قرأهما بالهمزة
المكسور والتنوين. وقال في التحرير : إن هذا النوع في علم البديع يسمى بالترديد ،
وفي كتاب التفريع بفنون البديع. إن الترديد رد أعجاز البيوت على صدورها ، أو رد
كلمة من النصف الأول إلى النصف الثاني ، ويسمى أيضا التصدير ، فمثال الأول قوله :
سريع إلى ابن
العم يجبر كسره
|
|
وليس إلى داعي
الخنا بسريع
|
ومثال الثاني قوله
:
والليالي إذا
نأيتم طوال
|
|
والليالي إذا
دنوتم قصار
|
وذكر أن مثل : (مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ) ، يسمى تجنيس التصريف ، قال : وهو أن تنفرد كل كلمة من
الكلمتين عن الأخرى بحرف ، ومنه قوله تعالى : (ذلِكُمْ بِما
كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ
تَمْرَحُونَ) ، وما ورد في الحديث : «الخيل معقود في نواصيها الخير». وقال
الشاعر :
لله ما صنعت بنا
|
|
تلك المعاجر والمحاجر
|
وقال الزمخشري :
وقوله : (مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ) ، من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع ، وهو من محاسن
الكلام الذي يتعلق باللفظ ، بشرط أن يجيء مطبوعا ، أو بصيغة عالم بجوهر الكلام ،
يحفظ معه صحة المعنى وسداده. ولقد جاء هاهنا زائدا على الصحة ، فحسن وبدع لفظا
ومعنى. ألا ترى لو وضع مكان بنبإ بخبر لكان المعنى صحيحا؟ وهو كما جاء أصح ، لما
في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال. انتهى. والزيادة التي أشار
إليها هي أن النبأ
لا يكون إلا الخبر الذي له شأن ، ولفظ الخبر مطلق ، ينطلق على ما له شأن وما ليس
له شأن.
ولما أبهم الهدهد
أولا ، ثم أبهم ثانيا دون ذلك الإبهام ، صرح بما كان أبهمه فقال : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ). ولا يدل قوله : (تَمْلِكُهُمْ) على جواز أن تكون المرأة ملكة ، لأن ذلك كان من فعل قوم
بلقيس ، وهم كفار ، فلا حجة في ذلك. وفي صحيح البخاري ، من حديث ابن عباس ، أن
النبي صلىاللهعليهوسلم ، لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال : «لن يفلح
قوم ولوا أمرهم امرأة». ونقل عن محمد بن جرير أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية ، ولم
يصح عنه. ونقل عن أبي حنيفة أنها تقضي فيما تشهد فيه ، لا على الإطلاق ، ولا أن
يكتب لها مسطور بأن فلانة مقدمة على الحكم ، وإنما ذلك على سبيل التحكم والاستنابة
في القضية الواحدة. ومعنى وجدت هنا : أصبت ، والضمير في تملكهم عائد على سبأ ، إن
كان أريد القبيلة ، وإن أريد الموضع ، فهو على حذف ، أي وجئتك من أهل سبأ.
والمرأة بلقيس بنت
شراحيل ، وكان أبوها ملك اليمن كلها ، وقد ولد له أربعون ملكا ، ولم يكن له ولد
غيرها ، فغلبت على الملك ، وكانت هي وقومها مجوسا يعبدون الشمس. واختلف في اسم
أبيها اختلافا كثيرا. قيل : وكانت أمها جنية تسمى ريحانة بنت السكن ، تزوجها أبوها
، إذ كان من عظمه لم ير أن يتزوج أحدا من ملوك زمانه ، فولدت له بلقيس ، وقد طولوا
في قصصها بما لم يثبت في القرآن ، ولا الحديث الصحيح.
وبدأ الهدهد
بالإخبار عن ملكها ، وأنها (أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ
شَيْءٍ) ، وهذا على سبيل المبالغة ، والمعنى : من كل شيء احتاجت
إليه ، أو من كل شيء في أرضها. وبين قول الهدهد ذلك ، وبين قول سليمان : (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) فرق ، وذلك أن سليمان عطف على قوله : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) ، وهو معجزة ، فيرجع أولا إلى ما أوتي من النبوة والحكمة
وأسباب الدين ، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا ، وعطف الهدهد على الملك ، فلم يرد إلا
ما أوتيت من أسباب الدنيا اللائقة بحالها. (وَلَها عَرْشٌ
عَظِيمٌ) ، قال ابن زيد : هو مجلسها. وقال سفيان : هو كرسيها ، وكان
مرصعا بالجواهر ، وعليه سبعة أبواب. وذكروا من وصف عرشها أشياء ، الله هو العالم
بحقيقة ذلك ، واستعظام الهدهد عرشها ، إما لاستصغار حالها أن يكون لها مثل هذا
العرش ، وإما لأن سليمان لم يكن له مثله ، وإن كان عظيم المملكة في كل شيء ، لأنه
قد يوجد لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون للملك الذي هو تحت طاعته.
ولما كان سليمان
قد آتاه الله من كل شيء ، وكان له عرش عظيم ، أخبره بهذا النبأ العظيم ، حيث كان
في الدنيا من يشاركه فيما يقرب من ذلك. ولم يلتفت سليمان لذلك ، إذ كان معرضا عن
أمور الدنيا. فانتقل الهدهد إلى الإخبار إلى ما يتعلق بأمور الدين ، وما أحسن
انتقالات هذه الأخبار بعد تهدد الهدهد وعلمه بذلك ، أخبر أولا باطلاعه على ما لم
يطلع عليه سليمان ، تحصنا من العقوبة ، بزينة العلم الذي حصل له ، فتشوف السامع
إلى علم ذلك. ثم أخبر ثانيا يتعلق ذلك العلم ، وهو أنه من سبأ ، وأنه أمر متيقن لا
شك فيه ، فزاد تشوف السامع إلى سماع ذلك النبأ. ثم أخبر ثالثا عن الملك الذي
أوتيته امرأة ، وكان سليمان عليهالسلام قد سأل الله أن يؤتيه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده. ثم أخبر
رابعا ما ظاهره الاشتراك بينه وبين هذه المرأة التي ليس من شأنها ولا شأن النساء
أن تملك فحول الرجال ، وهو قوله : (وَأُوتِيَتْ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ) ، وقوله : (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) ، وكان سليمان له بساط قد صنع له ، وكان عظيما. ولما لم
يتأثر سليمان للإخبار بهذا كله ، إذ هو أمر دنياوي ، أخبره خامسا بما يهزه لطلب
هذه الملكة ، ودعائها إلى الإيمان ، وإفراده بالعبادة فقال : (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ
لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) ، وقد تقدم القول : إنهم كانوا مجوسا يعبدون الأنوار ، وهو
قول الحسن. وقيل : كانوا زنادقة.
وهذه الإخبارات من
الهدهد كانت على سبيل الاعتذار عن غيبته عن سليمان ، وعرف أن مقصد سليمان الدعاء
إلى توحيد الله والإيمان به ، فكان ذلك عذرا واضحا أزال عنه العقوبة التي كان
سليمان قد توعده بها. وقام ذلك الإخبار مقام الإيقان بالسلطان المبين ، إذ كان في
غيبته مصلحة لإعلام سليمان بما كان خافيا عنه ، ومآله إلى إيمان الملكة وقومها. وخفي
ملك هذه المرأة ومكانها على سليمان ، وإن كانت المسافة بينهما قريبة ، كما خفي ملك
يوسف على يعقوب ، وذلك لأمر أراده الله تعالى. قال الزمخشري : ومن نوكي القصاص من
يقف على قوله : (وَلَها عَرْشٌ
عَظِيمٌ) ، وجدتها يريد أمر عظيم ، إن وجدتها فر من استعظام الهدهد
عرشها ، فوقع في عظيمة وهي نسخ كتاب الله. انتهى. وقال أيضا فإن قلت : من أين
للهدهد الهدى إلى معرفة الله ووجوب السجود له ، وإنكار السجود للشمس ، وإضافته إلى
الشيطان وتزيينه؟ قلت : لا يبعد أن يلهمه الله ذلك ، كما ألهمه وغيره من الطيور
وسائر الحيوانات المعارف اللطيفة التي لا تكاد العقلاء يهتدون لها. ومن أراد
استقراء ذلك فعليه بكتاب الحيوان خصوصا في زمان نبي سخرت له الطيور وعلم منطقها ،
وجعل ذلك معجزة له. انتهى.
وأسند التزيين إلى
الشيطان ، إذ كان هو المتسبب في ذلك بأقدار الله تعالى. (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) ، أي الشيطان ، أو تزيينه عن السبيل وهو الإيمان بالله
وإفراده بالعبادة. (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) ، أي إلى الحق. وقرأ ابن عباس ، وأبو جعفر ، والزهري ،
والسلمي ، والحسن ، وحميد ، والكسائي : ألا ، بتخفيف لام الألف ، فعلى هذا له أن
يقف على : (فَهُمْ لا
يَهْتَدُونَ) ، ويبتدىء على : (أَلَّا يَسْجُدُوا). قال الزمخشري : وإن شاء وقف على ألا يا ، ثم ابتدأ اسجدوا
، وباقي السبعة : بتشديدها ، وعلى هذا يصل قوله : (فَهُمْ لا
يَهْتَدُونَ) بقوله : (أَلَّا يَسْجُدُوا). وقال الزمخشري : وفي حرف عبد الله ، وهي قراءة الأعمش :
هلا وهلا ، بقلب الهمزتين هاء ، وعن عبد الله : هلا يسجدون ، بمعنى : ألا تسجدون ،
على الخطاب. وفي قراءة أبي : ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض
ويعلم سركم وما تعلنون ، انتهى. وقال ابن عطية : وقرأ الأعمش : هلا يسجدون ؛ وفي
حرف عبد الله : ألا هل تسجدون ، بالتاء ، وفي قراءة أبي : ألا تسجدون ، بالتاء
أيضا ؛ فأما قراءة من أثبت النون في يسجدون ، وقرأ بالتاء أو الياء ، فتخريجها
واضح. وأما قراءة باقي السبعة فخرجت على أن قوله : (أَلَّا يَسْجُدُوا) في موضع نصب ، على أن يكون بدلا من قوله : (أَعْمالَهُمْ) ، أي فزين لهم الشيطان أن لا يسجدوا. وما بين المبدل منه
والبدل معترض ، أو في موضع جر ، على أن يكون بدلا من السبيل ، أي نصدهم عن أن لا
يسجدوا. وعلى هذا التخريج تكون لا زائدة ، أي فصدهم عن أن يسجدوا لله ، ويكون (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) معترضا بين المبدل منه والبدل ، ويكون التقدير : لأن لا
يسجدوا. وتتعلق اللام إما بزين ، وإما بقصدهم ، واللام الداخلة على أن داخلة على
مفعول له ، أي علة تزيين الشيطان لهم ، أو صدهم عن السبيل ، هي انتفاء سجودهم لله
، أو لخوفه أن يسجدوا لله. وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون لا مزيدة ، ويكون المعنى
فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا. انتهى. وأما قراءة ابن عباس ومن وافقه ، فخرجت على
أن تكون ألا حرف استفتاح ، ويا حرف نداء ، والمنادى محذوف ، واسجدوا فعل أمر ،
وسقطت ألف يا التي للنداء ، وألف الوصل في اسجدوا ، إذ رسم المصحف يسجدوا بغير
ألفين لما سقطا لفظا سقطا خطا. ومجيء مثل هذا التركيب موجود في كلام العرب. قال
الشاعر :
ألا يا اسلمي ذات
الدمالج والعقد
وقال :
ألا يا اسقياني
قبل غارة سنجال
وقال :
ألا يا اسلمي يا
دار ميّ على البلى
وقال :
ألا يا اسقياني
قبل حبل أبي بكر
وقال :
فقالت ألا يا
اسمع أعظك بخطبة
|
|
فقلت سمعنا
فانطقي وأصيبي
|
وقال :
ألا يا اسلمي يا
هند هند بني بدر
|
|
وإن كان جبانا
عدا آخر الدهر
|
وسمع بعض العرب
يقول :
ألا يا ارحمونا
ألا تصدّقوا علينا
ووقف الكسائي في
هذه القراءة على يا ، ثم يبتدىء اسجدوا ، وهو وقف اختيار لا اختبار ، والذي أذهب
إليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب ليست يا فيه للنداء ، وحذف المنادى ، لأن
المنادى عندي لا يجوز حذفه ، لأنه قد حذف الفعل العامل في النداء ، وانحذف فاعله
لحذفه. ولو حذفنا المنادى ، لكان في ذلك حذف جملة النداء ، وحذف متعلقه وهو
المنادى ، فكان ذلك إخلالا كبيرا. وإذا أبقينا المنادى ولم نحذفه ، كان ذلك دليلا
على العامل فيه جملة النداء. وليس حرف النداء حرف جواب ، كنعم ، ولا ، وبلى ، وأجل
؛ فيجوز حذف الجمل بعدهنّ لدلالة ما سبق من السؤال على الجمل المحذوفة. فيا عندي
في تلك التراكيب حرف تنبيه أكد به ألا التي للتنبيه ، وجاز ذلك لاختلاف الحرفين ،
ولقصد المبالغة في التوكيد ، وإذا كان قد وجد التأكيد في اجتماع الحرفين المختلفي
اللفظ العاملين في قوله :
فأصبحن لا يسألنني
عن بما به
والمتفقي اللفظ
العاملين في قوله :
ولا للما بهم أبدا
دواء
وجاز ذلك ، وإن
عدوه ضرورة أو قليلا ، فاجتماع غير العاملين ، وهما مختلفا اللفظ ، يكون جائزا ،
وليس يا في قوله :
يا لعنة الله والأقوام
كلهم
حرف نداء عندي ،
بل حرف تنبيه جاء بعده المبتدأ ، وليس مما حذف منه المنادى لما ذكرناه. وقال
الزمخشري : فإن قلت : أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعا ، أو في واحدة منهما؟
قلت : هي واجبة فيهما ، وإحدى القراءتين أمر بالسجود ، والأخرى ذمّ للتارك ؛ وما
ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد فغير مرجوع إليه ، انتهى.
والخبء : مصدر أطلق على المخبوء ، وهو المطر والنبات وغيرهما مما خبأه تعالى من
غيوبه. وقرأ الجمهور : الخبء ، بسكون الباء والهمزة. وقرأ أبيّ ، وعيسى : بنقل
حركة الهمزة إلى الباء وحذف الهمزة. وقرأ عكرمة : بألف بدل الهمزة ، فلزم فتح ما
قبلها ، وهي قراءة عبد الله ، ومالك بن دينار. ويخرج على لغة من يقول في الوقف :
هذا الخبو ، ومررت بالخبي ، ورأيت الخبا ، وأجرى الوصل مجرى الوقف. وأجاز الكوفيون
أن تقول في المرأة والكمأة : المرأة والكمأة ، فيبدل من الهمزة ألفا ، فتفتح ما
قبلها ، فعلى قولهم هذا يجوز أن يكون الخبأ منه. قيل : وهي لغة ضعيفة ، وإجراء
الوصل مجرى الوقف أيضا نادر قليل ، فيعادل التخريجان. ونقل الحركة إلى الباء ،
وحذف الهمزة ، حكاه سيبويه ، عن قوم من بني تميم وبني أسد. وقراءة الخبا بالألف ،
طعن فيها أبو حاتم وقال : لا يجوز في العربية ، قال : لأنه إن حذف الهمزة ألقى
حركتها على الباء فقال : الخب ، وإن حولها قال : الخبي ، بسكون الباء وياء بعدها.
قال المبرد : كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو ، ولم يلحق بهم ، إلا أنه إذا خرج
من بلدتهم لم يلق أعلم منه. والظاهر أن (فِي السَّماواتِ) متعلق بالخبء ، أي المخبوء في السموات. وقال الفراء في ومن
يتعاقبان بقول العرب : لأستخرجن العلم فيكم ، يريد منكم. انتهى. فعلى هذا يتعلق
بيخرج ، أي من في السموات.
ولما كان الهدهد
قد أوتي من معرفة الماء تحت الأرض ما لم يؤت غيره ، وألهمه الله تعالى ذلك ، كان
وصفه ربه تعالى بهذا الوصف الذي هو قوله : (الَّذِي يُخْرِجُ
الْخَبْءَ) ، إذ كل مختص بوصف من علم أو صناعة ، يظهر عليه مخايل ذلك
الوصف في روائه ومنطقه وشمائله ، ولذلك ما ورد : «ما عمل عبد عملا إلا ألقى الله
عليه رداء عمله». وقرأ الحرميان والجمهور : ما يخفون وما يعلنون ، بياء الغيبة ،
والضمير عائد على المرأة وقومها. وقرأ الكسائي وحفص : بتاء الخطاب ، فاحتمل أن
يكون خطابا لسليمان عليهالسلام والحاضرين معه ، إذ يبعد أن تكون محاورة الهدهد لسليمان ،
وهما ليس معهما أحد. وكما جاز له أن يخاطبه بقوله : (أَحَطْتُ بِما لَمْ
تُحِطْ بِهِ) ، جاز أن يخاطبه والحاضرين معه بقوله :
(ما تُخْفُونَ وَما
تُعْلِنُونَ) ، بل خطابه بهذا ليس فيه ظهور شغوف بخلاف ذلك الخطاب. والظاهر
أن قوله : (أَلَّا يَسْجُدُوا) إلى العظيم من كلام الهدهد. وقيل : من كلام الله تعالى
لأمة رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وقال ابن عطية : القراءة بياء الغيبة تعطي أن الآية من
كلام الهدهد ، وبتاء الخطاب تعطي أنها من خطاب الله عزوجل لأمة محمد صلىاللهعليهوسلم. وقال صاحب الغنيان : لما ذكر الهدهد عرش بلقيس ووصفه
بالعظم ، رد الله عزوجل عليه وبين أن عرشه تعالى هو الموصوف بهذه الصفة على
الحقيقة ، إذ لا يستحق عرش دونه أن يوصف بالعظمة. وقيل : إنه من تمام كلام الهدهد
، كأنه استدرك ورد العظمة من عرش بلقيس إلى عرش الله. وقال الزمخشري : فإن قلت :
كيف سوى الهدهد بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظم؟ قلت : بين الوصفين فرق ،
لأن وصف عرشها بالعظم تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك ، ووصف
عرش الله بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض. انتهى. وقرأ
ابن محيصن وجماعة : العظيم بالرفع ، فاحتمل أن تكون صفة للعرش ، وقطع على إضمار هو
على سبيل المدح ، فتستوي قراءته وقراءة الجمهور في المعنى. واحتمل أن تكون صفة
للرب ، وخص العرش بالذكر ، لأنه أعظم المخلوقات ، وما عداه في ضمنه.
ولما فرغ الهدهد
من كلامه ، وأبدى عذره في غيبته ، أخر سليمان أمره إلى أن يتبين له صدقه من كذبه فقال
: (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ) في أخبارك أم كذبت. والنظر هنا : التأمل والتصفح ، وأصدقت
: جملة معلق عنها سننظر ، وهي في موضع نصب على إسقاط حرف الجر ، لأن نظر ، بمعنى
التأمل والتفكر ، إنما يتعدى بحرف الجر الذي هو في. وعادل بين الجملتين بأم ، ولم
يكن التركيب أم كذبت ، لأن قوله : (أَمْ كُنْتَ مِنَ
الْكاذِبِينَ) أبلغ في نسبة الكذب إليه ، لأن كونه من الكاذبين يدل على
أنه معروف بالكذب ، سابق له هذا الوصف قبل الإخبار بما أخبر به. وإذا كان قد سبق
له الوصف بالكذب ، كان متهما فيما أخبر به ، بخلاف من يظن ابتداء كذبه فيما أخبر
به. وفي الكلام حذف تقديره : فأمر بكتابة كتاب إليهم ، وبذهاب الهدهد رسولا إليهم
بالكتاب ، فقال : (اذْهَبْ بِكِتابِي
هذا) : أي الحاضر المكتوب الآن. (فَأَلْقِهْ
إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) : أي تنح عنهم إلى مكان قريب ، بحيث تسمع ما يصدر منهم وما
يرجع به بعضهم إلى بعض من القول.
وفي قوله : (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ
إِلَيْهِمْ) دليل على إرسال الكتب إلى المشركين
من الإمام ،
يبلغهم الدعوة ويدعوهم إلى الإسلام. وقد كتب رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى كسرى وقيصر وغيرهما ملوك العرب. وقال وهب : أمره
بالتولي حسن أدب ليتنحى حسب ما يتأدّب به الملوك ، بمعنى : وكن قريبا بحيث تسمع
مراجعاتهم. وقال ابن زيد : أمره بالتولي بمعنى الرجوع إليه ، أي ألقه وارجع. قال :
وقوله : (فَانْظُرْ ما ذا
يَرْجِعُونَ) في معنى التقديم على قوله : (ثُمَّ تَوَلَّ
عَنْهُمْ). انتهى. وقاله أبو علي ، ولا ضرورة تدعو إلى التقديم
والتأخير ، بل الظاهر أن النظر معتقب التولي عنهم. وقرىء في السبعة : فألقه ، بكسر
الهاء وياء بعدها ، وباختلاس الكسرة وبسكون الهاء. وقرأ مسلم بن جندب : بضم الهاء
وواو بعدها ، وجمع في قوله : (إِلَيْهِمْ) الهدهد قال : (وَجَدْتُها
وَقَوْمَها). وفي الكتاب أيضا ضمير الجمع في قوله : (أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى) ، والكتاب كان فيه الدعاء إلى الإسلام لبلقيس وقومها.
ومعنى : (فَانْظُرْ ما ذا
يَرْجِعُونَ) : أي تأمل واستحضره في ذهنك. وقيل معناه : فانتظر. ماذا :
إن كان معنى فانظر معنى التأمل بالفكر ، كان انظر معلقا ، وماذا : إما كلمة
استفهام في موضع نصب ، وإما أن تكون ما استفهاما وذا موصول بمعنى الذي. فعلى الأول
يكون يرجعون خبرا عن ماذا ، وعلى الثاني يكون ذا هو الخبر ويرجعون صلة ذا. وإن كان
معنى فانظر : فانتظر ، فليس فعل قلب فيعلق ، بل يكون ماذا كله موصولا بمعنى الذي ،
أي فانتظر الذي يرجعون ، والمعنى : فانظر ماذا يرجعون حتى ترد إلى ما يرجعون من
القول.
(قالَتْ يا أَيُّهَا
الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ ، إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ
وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ
وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ، قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما
كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ ، قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ
وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ ،
قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ
أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ ، وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ
بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ، فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ
قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ
أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ، ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ
بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ
صاغِرُونَ).
في الكلام حذف
تقديره : فأخذ الهدهد الكتاب وذهب به إلى بلقيس وقومها وألقاه إليهم ، كما أمره
سليمان. فقيل : أخذه بمنقاره. وقيل : علقه في عنقه ، فجاءها حتى وقف على رأسها ،
وحولها جنودها ، فرفرف بجناحيه ، والناس ينظرون إليه ، حتى رفعت رأسها ،
__________________
فألقى الكتاب في
حجرها. وقيل : كانت في قصرها قد غلقت الأبواب واستلقت على فراشها نائمة ، فألقى
الكتاب على نحرها. وقيل : كانت في البيت كوة تقع الشمس فيها كل يوم ، فإذا نظرت
إليها سجدت ، فجاء الهدهد فسدها بجناحه ، فرأت ذلك وقامت إليه ، فألقى الكتاب
إليها ، وكانت قارئة عربية من قوم تبع. وقيل : ألقاه من كوة وتوارى فيها.
فأخذت الكتاب
ونادت أشراف قومها : (قالَتْ يا أَيُّهَا
الْمَلَأُ). وكرم الكتاب لطبعه بالخاتم ، وفي الحديث : «كرم الكتاب
ختمه» أو لكونه من سليمان ، وكانت عالمة بملكه ، أو لكون الرسول به الطير ، فظنته
كتابا سماويا ؛ أو لكونه تضمن لطفا ولينا ، لا سبأ ولا ما يغير النفس ، أو لبداءته
باسم الله ، أقوال. ثم أخبرتهم فقالت : (إِنَّهُ مِنْ
سُلَيْمانَ) ، كأنها قيل لها : ممن الكتاب وما هو؟ فقالت : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) ، وإنه كيت وكيت. أبهمت أولا ثم فسرت ، وفي بنائها ألقي
للمفعول دلالة على جهلها بالملقي ، حيث حذفته ، أو تحقيرا له ، حيث كان طائرا ، إن
كانت شاهدته. والظاهر أن بداءة الكتاب من سليمان باسم الله الرحمن الرحيم ، إلى
آخر ما قص الله منه خاصة ، فاحتمل أن يكون من سليمان مقدما على بسم الله ، وهو
الظاهر ، وقدمه لاحتمال أن يندر منها ما لا يليق ، إذ كانت كافرة ، فيكون اسمه
وقاية لاسم الله تعالى. أو كان عنوانا في ظاهر الكتاب ، وباطنه فيه بسم الله إلى
آخره. واحتمل أن يكون مؤخرا في الكتابة عن بسم الله ، وإن ابتدأ الكتاب باسم الله
، وحين قرأته عليهم بعد قراءتها له في نفسها ، قدمته في الحكاية ، وإن لم يكن
مقدما في الكتابة.
وقال أبو بكر بن
العربي : كانت رسل المتقدمين إذا كتبوا كتابا بدأوا بأنفسهم ، من فلان إلى فلان ،
وكذلك جاءت الإشارة. وعن أنس : ما كان أحد أعظم حرمة من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وكان أصحابه إذا كتبوا إليه كتابا بدأوا بأنفسهم. وقال
أبو الليث في (كتاب البستان) له : ولو بدأ بالمكتوب إليه جاز ، لأن الأمة قد أجمعت
عليه وفعلوه. وقرأ الجمهور : إنه من سليمان ، وإنه بكسر الهمزة فيهما. وقرأ عبد
الله : وإنه من سليمان ، بزيادة واو عطفا على (إِنِّي أُلْقِيَ). وقرأ عكرمة ، وابن أبي عبلة : بفتحهما ، وخرج على البدل
من كتاب ، أي ألقي إليّ أنه ، أو على أن يكون التقدير لأنه كأنها. عللت كرم الكتاب
لكونه من سليمان وتصديره ببسم الله. وقرأ أبي : أن من سليمان وأن بسم الله ، بفتح
الهمزة ونون ساكنة ، فخرج على أن أن هي المفسرة ، لأنه قد تقدمت جملة فيها معنى
القول ، وعلى أنها أن المخففة من الثقيلة ، وحذفت الهاء وبسم الله الرحمن الرحيم ،
استفتاح
شريف بارع المعنى
مبدوء به في الكتب في كل لغة وكل شرع. وأن في قوله : (أَنْ لا تَعْلُوا) ، قيل : في موضع رفع على البدل من كتاب. وقيل : في موضع
نصب على معنى بأن لا تعلوا ، وعلى هذين التقديرين تكون أن ناصبة للفعل. وقال
الزمخشري : وأن في (أَنْ لا تَعْلُوا
عَلَى) مفسرة ، فعلى هذا تكون لا في لا تعلوا للنهي ، وهو حسن
لمشاكلة عطف الأمر عليه. وجوز أبو البقاء أن يكون التقدير هو أن لا تعلوا ، فيكون
خبر مبتدأ محذوف. ومعنى لا تعلوا : لا تتكبروا ، كما يفعل الملوك. وقرأ ابن عباس ،
في رواية وهب بن منبه والأشهب العقيلي : أن لا تغلوا ، بالغين المعجمة ، أي ألا
تتجاوزوا الحد ، وهو من الغلو. والظاهر أنه طلب منهم أن يأتوه وقد أسلموا ، وتركوا
الكفر وعبادة الشمس. وقيل : معناه مذعنين مستسلمين من الانقياد والدخول في الطاعة
، وما كتبه سليمان في غاية الإيجاز والبلاغة ، وكذلك كتب الأنبياء.
والظاهر أن الكتاب
هو ما نص الله عليه فقط. واحتمل أن يكون مكتوبا بالعربي ، إذ الملوك يكون عندهم من
يترجم بعدة ألسن ، فكتب بالخط العربي واللفظ العربي ، لأنها كانت عربية من نسل تبع
بن شراحيل الحميري. واحتمل أن يكون باللسان الذي كان سليمان يتكلم به ، وكان عندها
من يترجم لها ، إذ كانت هي عارفة بذلك اللسان. وروي أن نسخة الكتاب من عبد الله
سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ : السلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فلا
تعلوا عليّ وائتوني مسلمين. وكانت كتب الأنبياء جملا لا يطيلون ولا يكثرون ، وطبع
الكتاب بالمسك ، وختمه بخاتمه. وروي أنه لم يكتب أحد بسم الله الرحمن الرحيم قبل
سليمان ، ولما قرأت على الملأ الكتاب ، ورأت ما فيه من الانتقال إلى سليمان ،
استشارتهم في أمرها. قال قتادة : وكان أولو مشورتها ثلاثمائة واثني عشر ، وعنه : وثلاثة
عشر ، كل رجل منهم على عشرة آلاف ، وكانت بأرض مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام ،
وذكر عن عسكرها ما هو أعظم وأكثر من هذا ، والله أعلم بذلك. وتقدم الكلام في
الفتوى في سورة يوسف ، والمراد هنا : أشيروا عليّ بما عندكم في ما حدث لها من
الرأي السديد والتدبير. وقصدت بإشارتهم : استطلاع آرائهم واستعطافهم وتطييب أنفسهم
ليمالئوها ويقوموا.
(ما كُنْتُ قاطِعَةً
أَمْراً) : أي مبرمة وفاصلة أمرا ، (حَتَّى تَشْهَدُونِ) : أي تحضروا عندي ، فلا أستبد بأمر ، بل تكونون حاضرين
معي. وفي قراءة عبد الله : ما كنت قاضية أمرا ، أي لا أبت إلا وأنتم حاضرون معي.
وما كنت قاطعة أمرا ، عام في كل أمر ، أي إذا
كانت عادتي هذه
معكم ، فكيف لا أستشيركم في هذه الحادثة الكبرى التي هي الخروج من الملك والانسلاك
في طاعة غيري والصيرورة تبعا؟ فراجعها الملأ بما أقر عينها من قولهم : إنهم (أُولُوا قُوَّةٍ) ، أي قوة بالعدد والعدد ، (وَأُولُوا بَأْسٍ
شَدِيدٍ) : أي أصحاب شجاعة ونجدة. أظهروا القوة العرضية ، ثم القوة
الذاتية ، أي نحن متهيؤون للحرب ودفع هذا الحادث. ثم قالوا : (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا
تَأْمُرِينَ) ، وذلك من حسن محاورتهم ، إذ وكلوا الأمر إليها ، وهو دليل
على الطاعة المفرطة ، أي نحن ذكرنا ما نحن عليه ، ومع ذلك فالأمر موكول إليك ،
كأنهم أشاروا أولا عليها بالحرب ، أو أرادوا : نحن أبناء الحرب لا أبناء الاستشارة
، وأنت ذات الرأي والتدبير الحسن. فانظري ماذا تأمرين به ، نرجع إليك ونتبع رأيك ،
وفانظري من التأمل والتفكر ، وماذا هو المفعول الثاني لتأمرين ، والمفعول الأول
محذوف لفهم المعنى ، أي تأمريننا. والجملة معلق عنها انظري ، فهي في موضع مفعول
لأنظري بعد إسقاط الحرف من اسم الاستفهام.
ولما وصل إليها
كتاب سليمان ، لا على يد رجل بل على طائر ، استعظمت ملك سليمان ، وعلمت أن من سخر
له الطير حتى يرسله بأمر خاص إلى شخص خاص مغلق عليه الأبواب ، غير ممتنع عليه
تدويخ الأرض وملوكها ، فأخبرت بحال الملوك ومالت إلى المهاداة والصلح فقالت : (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا
قَرْيَةً) : أي تغلبوا عليها ، (أَفْسَدُوها) : أي خربوها بالهدم والحرق والقطع ، وأذلوا أعزة أهلها
بالقتل والنهب والأسر ، وقولها فيه تزييف لآرائهم في الحرب ، وخوف عليهم وحياطة
لهم ، واستعظام لملك سليمان. والظاهر أن (وَكَذلِكَ
يَفْعَلُونَ) هو من قولها ، أي عادة الملوك المستمرة تلك من الإفساد
والتذليل ، وكانت ناشئة في بيت الملك ، فرأت ذلك وسمعت. ذكرت ذلك تأكيدا لما ذكرت
من حال الملوك. وقيل : هو من كلام الله إعلاما لرسوله صلىاللهعليهوسلم وأمته ، وتصديقا لإخبارها عن الملوك إذا تغلبوا.
ولما كانت عادة
الملوك قبول الهدايا ، وأن قبولها يدل على الرضا والإلفة ، قالت : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ) ، أي إلى سليمان ومن معه ، رسلا (بِهَدِيَّةٍ) ، وجاء لفظ الهدية مبهما. وقد ذكروا في تعيينها أقوالا
مضطربة متعارضة ، وذكروا من حيلها ومن حال سليمان حين وصلت إليه الهدية ، وكلامه
مع رسلها ما الله أعلم به. و (فَناظِرَةٌ) معطوف على (مُرْسِلَةٌ). و (بِمَ) متعلق بيرجع. ووقع للحوفي أن الباء متعلقة بناظرة ، وهو
وهم فاحش ، والنظر هنا معلق أيضا. والجملة في موضع مفعول به ، وفيه دلالة على أنها
لم تثق بقبول
الهدية ، بل جوزت
الرد ، وأرادت بذلك أن ينكشف لها غرض سليمان. والهدية : اسم لما يهدى ، كالعطية هي
اسم لما يعطى. وروي أنها قالت لقومها : إن كان ملكا دنياويا ، أرضاه المال وعملنا
معه بحسب ذلك ، وإن كان نبيا ، لم يرضه المال وينبغي أن نتبعه على دينه ، وفي
الكلام حذف تقديره : فأرسلت الهدية ، فلما جاء ، أي الرسول سليمان ، والمراد
بالرسول الجنس لا حقيقة المفرد ، وكذلك الضمير في ارجع والرسول يقع على الجمع
والمفرد والمذكر والمؤنث. وقرأ عبد الله : فلما جاءوا ، وقرأ : ارجعوا ، جعله
عائدا على قوله : (الْمُرْسَلُونَ). و (أَتُمِدُّونَنِ
بِمالٍ) : استفهام إنكار واستقلال ، وفي ذلك دلالة على عزوفه عن
الدنيا ، وعدم تعلق قلبه عليه الصلاة والسلام بها.
ثم ذكر نعمة الله
عليه ، وإن ما آتاه الله من النبوة وسعة الملك خير مما آتاكم ، بل أنتم بما يهدى
إليكم تفرحون بحبكم الدنيا ، والهدية تصح إضافتها إلى المهدي وإلى المهدى إليه ،
وهي هنا مضافة للمهدى إليه ، وهذا هو الظاهر. ويجوز أن تكون مضافة إلى المهدي ، أي
بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون فرح افتخار على الملوك ، فإنكم قدرتم
على إهداء مثلها. ويجوز أن تكون عبارة عن الرد ، كأنه قال : بل أنتم من حقكم أن
تأخذوا هديتكم وتفرحوا بها. وقرأ جمهور السبعة : أتمدونني ، بنونين ، وأثبت بعض
الياء. وقرأ حمزة : بإدغام نون الرفع في نون الوقاية وإثبات ياء المتكلم. وقرأ
المسيبي ، عن نافع : بنون واحدة خفيفة. وقال الزمخشري : فإن قلت : ما الفرق بين
قولك : أتمدونني بمال وأنا أغنى منكم ، وبين أن يقوله بالفاء؟ قلت : إذا قلته
بالواو ، فقد جعلت مخاطبي عالما بزيادتي عليه في الغنى ، وهو مع ذلك يمدني بالمال
، وإذا قلته بالفاء ، فقد جعلته ممن خفيت عنه حالي ، وأنا أخبره الساعة بما لا
أحتاج معه إلى إمداده ، كأني أقول له : أنكر عليك ما فعلت ، فإني غني عنه. وعليه
ورد قوله : (فَما آتانِيَ اللهُ). فإن قلت : فما وجه الإضراب؟ قلت : لما أنكر عليهم الإمداد
وعلل إنكاره ، أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه ، وهو أنهم لا يعرفون
سبب رضا ولا فرح إلا أن يهدى إليهم حظ من الدنيا التي لا يعلمون غيرها. انتهى.
(ارْجِعْ إِلَيْهِمْ) : هو خطاب للرسول الذي جاء بالهدية ، وهو المنذر بن عمرو
أمير الوفد ، والمعنى : ارجع إليهم بهديتهم ، وتقدمت قراءة عبد الله : ارجعوا
إليهم ، وارجعوا هنا لا تتعدى ، أي انقلبوا وانصرفوا إليهم. وقيل : الخطاب بقوله :
ارجع ، للهدهد محملا كتابا آخر. ثم أقسم سليمان فقال : (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ) ، متوعدا لهم ، وفيه حذف ، أي إن
لم يأتوني مسلمين.
ودل هذا التوعد على أنهم كانوا كفارا باقين على الكفر إذ ذاك. والضمير في (بِها) عائد على الجنود ، وهو جمع تكسير ، فيجوز أن يعود الضمير
عليه ، كما يعود على الواحدة ، كما قالت العرب : الرجال وأعضادها. وقرأ عبد الله :
بهم. ومعنى (لا قِبَلَ) : لا طاقة ، وحقيقة القبل المقاومة والمقابلة ، أي لا
تقدرون أن تقابلوهم. والضمير في منها عائد على سبأ ، وهي أرض بلقيس وقومها. وانتصب
(أَذِلَّةً) على الحال. (وَهُمْ صاغِرُونَ) : حال أخرى. والذل : ذهاب ما كانوا فيه من العز ، والصغار
: وقوعهم في أسر واستعباد ، ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقة بعد أن كانوا ملوكا.
وفي مجيء هاتين الحالتين دليل على جواز أن يقضي العامل حالين لذي حال واحد ، وهي
مسألة خلاف ، ويمكن أن يقال : إن الثانية هنا جاءت توكيدا لقوله : (أَذِلَّةً) ، فكأنهما حال واحدة.
(قالَ يا أَيُّهَا
الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ،
قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ
مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ، قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ
مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ
فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ
أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ
رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ، قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ
تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ ، فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ
قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ
، وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ
كافِرِينَ ، قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً
وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ
رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ
الْعالَمِينَ).
في الكلام حذف
تقديره : فرجع المرسل إليها بالهدية ، وأخبرها بما أقسم عليه سليمان ، فتجهزت
للمسير إليه ، إذ علمت أنه نبي ولا طاقة لها بقتال نبي. فروي أنها أمرت عند خروجها
إلى سليمان ، فجعل عرشها في آخر سبعة أبيات ، بعضها في جوف بعض ، في آخر قصر من
قصورها ، وغلقت الأبواب ووكلت به حراسا يحفظونه ، وتوجهت إلى سليمان في أقيالها
وأتباعهم.
قال عبد الله بن
شداد : فلما كانت على فرسخ من سليمان ، قال : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي
بِعَرْشِها)؟ وقال ابن عباس : كان سليمان مهيبا ، لا يبتدأ بشيء حتى
يكون هو الذي يسأل عنه. فنظر ذات يوم رهجا قريبا منه فقال : ما هذا؟ فقالوا :
بلقيس ، فقال ذلك. واختلفوا
في قصد سليمان
استدعاء عرشها. فقال قتادة ، وابن جريج : لما وصف له عظم عرشها وجودته ، أراد أخذه
قبل أن يعصمها وقومها الإسلام ويمنع أخذ أموالهم ، والإسلام على هذا الدين ، وهذا
فيه بعد أن يقع ذلك من نبي أوتي ملكا لم يؤته غيره. وقال ابن عباس ، وابن زيد :
استدعاه ليريها القدرة التي هي من عند الله ، وليغرب عليها سليمان والإسلام على
هذا الاستسلام. وأشار الزمخشري لقول فقال : ولعله أوحي إليه عليهالسلام باستيثاقها من عرشها ، فأراد أن يغرب عليها ويريها بذلك
بعض ما خصه به من إجراء العجائب على يده ، مع اطلاعها على عظيم قدرة الله تعالى ،
وعلى ما يشهد لنبوة سليمان ويصدقها. انتهى. وقال الطبري : أراد أن يختبر صدق
الهدهد في قوله : (وَلَها عَرْشٌ
عَظِيمٌ) ، وهذا فيه بعد ، لأنه قد ظهر صدقة في حمل الكتاب ، وما
ترتب على حمله من مشورة بلقيس قومها وبعثها بالهدية. وقيل : أراد أن يؤتي به ،
فينكر ويغير ، ثم ينظر أتثبته أم تنكره ، اختبارا لعقلها. والظاهر ترتيب هذه
الأخبار على حسب ما وقعت في الوجود ، وهو قول الجمهور. وعن ابن عباس أنه قال : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها)؟ حين ابتدأ النظر في صدق الهدهد من كذبه لما قال : (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ). ففي ترتيب القصص تقديم وتأخير ، وفي قوله : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) دليل على جواز الاستعانة ببعض الأتباع في مقاصد الملوك ،
ودليل على أنه قد يخص بعض أتباع الأنبياء بشيء لا يكون لغيرهم ، ودليل على مبادرة
من طلبه منه الملوك قضاء حاجة ، وبداءة الشياطين في التسخير على الإنس ، وقدرتهم
بأقدار الله على ما يبعد فعله من الإنس. وقرأ الجمهور : عفريت ، وأبو حيوة : بفتح
العين. وقرأ أبو رجاء ، وأبو السماك ، وعيسى ، ورويت عن أبي بكر الصديق : عفرية ،
بكسر العين ، وسكون الفاء ، وكسر الراء ، بعدها ياء مفتوحة ، بعدها تاء التأنيث.
وقال ذو الرمة :
كأنه كوكب في
إثر عفرية
|
|
مصوّب في سواد
الليل مقتضب
|
وقرأت فرقة : عفر
، بلا ياء ولا تاء ، ويقال في لغة طيىء وتميم : عفراة بالألف وتاء التأنيث ، وفيه
لغة سادسة عفارية ، ويوصف بها الرجل ، ولما كان قد يوصف به الإنس خص بقوله من
الجن. وعن ابن عباس : اسمه صخر. وقيل : كوري. وقيل : ذكران. و (آتِيكَ) : يحتمل أن يكون مضارعا واسم فاعل. وقال قتادة ، ومجاهد ،
ووهب : (مِنْ مَقامِكَ) : أي من مجلس الحكم ، وكان يجلس من الصبح إلى الظهر في كل
يوم. وقيل : قبل أن تستوي من جلوسك قائما. (وَإِنِّي عَلَيْهِ) : أي على الإتيان به لقوي على حمله ؛
(أَمِينٌ) : لا أختلس منه شيئا. قال الحسن : كان كافرا ، لكنه كان
مسخرا ، والعفريت لا يكون إلا كافرا.
(قالَ الَّذِي
عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) ، قيل : هو من الملائكة ، وهو جبريل ، قاله النخعي.
والكتاب : اللوح المحفوظ ، أو كتاب سليمان إلى بلقيس. وقيل : ملك أيد الله به
سليمان. وقيل : هو رجل من الإنس ، واسمه آصف بن برخيا ، كاتب سليمان ، وكان صديقا
عالما قاله الجمهور. أو اسطوم ، أو هود ، أو مليخا ، قاله قتادة. أو اسطورس ، أو
الخضر عليهالسلام ، قاله ابن لهيعة. وقالت جماعة : هو ضبة بن ادجد بني ضبة ،
من العرب ، وكان فاضلا يخدم سليمان ، كان على قطعة من خيله ، وهذه أقوال مضطربة ،
وقد أبهم الله اسمه ، فكان ينبغي أن لا يذكر اسمه حتى يخبر به نبي. ومن أغرب
الأقوال أنه سليمان عليهالسلام ، كأنه يقول لنفسه : (أَنَا آتِيكَ بِهِ
قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) ، أو يكون خاطب بذلك العفريت ، حكى هذا القول الزمخشري
وغيره ، كأنه استبطأ ما قال العفريت ، فقال له سليمان ذلك على تحقير العفريت.
والكتاب : هو المنزل من عند الله ، أو اللوح المحفوظ ، قولان. والعلم الذي أوتيه ،
قيل : اسم الله الأعظم وهو : يا حي يا قيوم. وقيل : يا ذا الجلال والإكرام. وقيل
بالعبرانية : أهيا شراهيا. وقال الحسن : الله ثم الرحمن. والظاهر أن ارتداد الطرف
حقيقة ، وأنه أقصر في المدة من مدة العفريت ، ولذلك روي أن سليمان قال : أريد أسرع
من ذلك حين أجابه العفريت ، ولما كان الناظر موصوفا بإرسال البصر ، كما قال الشاعر
:
وكنت متى أرسلت
طرفك رائدا
|
|
لقلبك يوما
أتعبتك المناظر
|
وصف برد الطرف ،
ووصف الطرف بالارتداد. فالمعنى أنك ترسل طرفك ، فقبل أن ترده أتيتك به ، وصار بين
يديك. فروي أن آصف قال لسليمان عليهالسلام : مد عينيك حتى ينتهي طرفك ، فمد طرفه فنظر نحو اليمن ،
فدعا آصف فغاب العرش في مكانه بمأرب ، ثم نبع عند مجلس سليمان بالشام بقدرة الله ،
قبل أن يرد طرفه. وقال ابن جبير ، وقتادة : قبل أن يصل إليك من يقع طرفك عليه في
أبعد ما ترى. وقال مجاهد : قبل أن تحتاج إلى التغميض ، أي مدة ما يمكنك أن تمد
بصرك دون تغميض ، وذلك ارتداده. قال ابن عطية : وهذان القولان يقابلان قول من قال
: إن القيام هو من مجلس الحكم ، ومن قال : إن القيام هو من الجلوس ، فيقول في
ارتداد الطرف هو أن تطرف ، أي قبل أن تغمض عينيك وتفتحهما ، وذلك أن الثاني يعطي
الأقصر في المدة ولا بد. انتهى. وقيل : طرفك
مطروفك ، أي قبل
أن يرجع إليك من تنظر إليه من منتهى بصرك ، وهذا هو قول ابن جبير وقتادة المتقدم ،
لأن من يقع طرفك عليه هو مطروفك. وقال الماوردي : قبل أن ينقبض إليك طرفك بالموت ،
فخبره أنه سيأتيه قبل موته ، وهذا تأويل بعيد ، بل المعنى آتيك به سريعا. وقيل :
ارتداد الطرف مجاز هنا ، وهو من باب مجاز التمثيل ، والمراد استقصار مدة الإتيان
به ، كما تقول لصاحبك : افعل كذا في لحظة ، وفي ردة طرف ، وفي طرفة عين ، تريد به
السرعة ، أي آتيك به في مدة أسرع من مدة العفريت.
(فَلَمَّا رَآهُ
مُسْتَقِرًّا) عنده : في الكلام حذف تقديره : فدعا الله فأتاه به ، فلما
رآه : أي عرش بلقيس. قيل : نزل على سليمان من الهواء. وقيل : نبع من الأرض. وقيل :
من تحت عرش سليمان ، وانتصب مستقرا على الحال ، وعنده معمول له. والظرف إذا وقع في
موضع الحال ، كان العامل فيه واجب الحذف. فقال ابن عطية : وظهر العامل في الظرف من
قوله : (مُسْتَقِرًّا) ، وهذا هو المقدر أبدا في كل ظرف وقع في موضع الحال.
وقال أبو البقاء :
ومستقرا ، أي ثابتا غير متقلقل ، وليس بمعنى الحضور المطلق ، إذ لو كان كذلك لم
يذكر. انتهى. فأخذ في مستقرا أمرا زائدا على الاستقرار المطلق ، وهو كونه غير
متقلقل ، حتى يكون مدلوله غير مدلول العندية ، وهو توجيه حسن لذكر العامل في الظرف
الواقع حالا ؛ وقد قدر ذكر العامل في ما وقع خبرا من الجار والمجرور التام في قول
الشاعر :
لك العزان مولاك
عزوان يهن
|
|
فأنت لدى بحبوحة
الهون كائن
|
(قالَ
هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) : أي هذا الإتيان بعرشها ، وتحصيل ما أردت من ذلك ، هو من
فضل ربي عليّ وإحسانه ، ثم علل ذلك بقوله : (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ
أَمْ أَكْفُرُ). قال ابن عباس : المعنى أأشكر على السرير وسوقه أم أكفر؟
إذ رأيت من هو دوني في الدنيا أعلم مني. انتهى. وتلقى سليمان النعمة وفضل الله
بالشكر ، إذ ذاك نعمة متجددة ، والشكر قيد للنعم. وأ أشكر أم أكفر في موضع نصب
ليبلوني ، وهو معلق ، لأنه في معنى التمييز ، والتمييز في معنى العلم ، وكثير
التعليق في هذا الفعل إجراء له مجرى العلم ، وإن لم يكن مرادفا له ، لأن مدلوله
الحقيقي هو الاختبار. (وَمَنْ شَكَرَ
فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) : أي ذلك الشكر عائد ثوابه إليه ، إذ كان قد صان نفسه عن
كفران النعمة ، وفعل ما هو واجب عليه من شكر نعمة الله عليه. (وَمَنْ كَفَرَ) : أي فضل الله ونعمته عليه ، فإن ربي غني عن شكره ، لا
يعود منفعتها إلى الله ، لأنه هو الغني المطلق الكريم بالإنعام على من كفر نعمته. والظاهر
أن قوله : (فَإِنَّ رَبِّي
غَنِيٌّ كَرِيمٌ) هو جواب الشرط ، ولذلك أضمر فاء في قوله :
(غَنِيٌ) ، أي عن شكره. ويجوز أن يكون الجواب محذوفا دل عليه ما
قبله من قسيمه ، أي ومن كفر فلنفسه ، أي ذلك الكفر عائد عقابه إليه. ويجوز أن تكون
ما موصولة ، ودخلت الفاء في الخبر لتضمنها معنى الشرط.
(قالَ نَكِّرُوا لَها
عَرْشَها). روي أن الجن أحست من سليمان ، أو ظنت به أنه ربما تزوج
بلقيس ، فكرهوا ذلك ورموها عنده بأنها غير عاقلة ولا مميزة ، وأن رجلها كحافر دابة
، فجرب عقلها وميزها بتنكير العرش ، ورجلها بالصرح ، لتكشف عن ساقيها عنده. وتنكير
عرشها ، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك : بأن زيد فيه ونقص منه. وقيل : بنزع ما عليه
من الفصوص والجواهر. وقيل : بجعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره. والتنكير : جعله
متنكرا متغيرا عن شكله وهيئته ، كما يتنكر الرجل للناس حتى لا يعرفوه. وقرأ
الجمهور : ننظر : بالجزم على جواب الأمر. وقرأ أبو حيوة : بالرفع على الاستئناف.
أمر بالتنكير ، ثم استأنف الإخبار عن نفسه بأنه ينظر ، ومتعلق أتهتدي محذوف.
والظاهر أنه أتهتدي لمعرفة عرشها ولا يجعل تنكيره قادحا في معرفتها له فيظهر بذلك
فرط عقلها وأنها لم يخف عليه حال عرشها وإن كانوا قد راموا الإخفاء أو أتهتدي
للجواب المصيب إذا سئلت عنه ، أو أتهتدي للإيمان بنبوة سليمان عليهالسلام إذا رأت هذا المعجز من نقل عرشها من المكان الذي تركته فيه
وغلقت الأبواب عليه وجعلت له حراسا.
(فَلَمَّا جاءَتْ) ، في الكلام حذف ، أي فنكروا عرشها ونظروا ما جوابها إذا
سئلت عنه. (فَلَمَّا جاءَتْ
قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ) : أي مثل هذا العرش الذي أنت رأيتيه عرشك الذي تركتيه
ببلادك؟ ولم يأت التركيب : أهذا عرشك؟ جاء بأداة التشبيه ، لئلا يكون ذلك تلقينا
لها. ولما رأته على هيئة لا تعرفها فيه ، وتميزت فيه أشياء من عرشها ، لم تجزم
بأنه هو ، ولا نفته النفي البالغ ، بل أبرزت ذلك في صورة تشبيهية فقالت : (كَأَنَّهُ هُوَ) ، وذلك من جودة ذهنها ، حيث لم تجزم في الصورة المحتملة
بأحد الجائزين من كونه إياه أو من كونه ليس إياه ، وقابلت تشبيههم بتشبيهها.
والظاهر أن قوله : (وَأُوتِينَا
الْعِلْمَ) إلى قوله : (مِنْ قَوْمٍ
كافِرِينَ) ليس من كلام بلقيس ، وإن كان متصلا بكلامها. فقيل : من
كلام سليمان. وقيل : من كلام قوم سليمان وأتباعه. فإن كان من قول سليمان فقيل :
العلم هنا مخصوص ، أي وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة. (مِنْ قَبْلِها) أي من قبل مجيئها. (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) : موحدين خاضعين. وقال ابن عطية : وفي الكلام حذف تقديره
كأنه هو ، وقال سليمان عند ذلك : (وَأُوتِينَا
الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها) الآية ، قال ذلك على جهة تعديد نعم الله تعالى ، وإنما
قال ذلك بما علمت
هي وفهمت ، ذكر هو نعمة الله عليه وعلى آبائه. انتهى ملخصا. وقال الزمخشري :
وأوتينا العلم من كلام سليمان وملائه ، فإن قلت : علام عطف هذا الكلام وبما اتصل؟
قلت : لما كان المقام الذي سئلت فيه عن عرشها ، وأجابت بما أجابت به مقاما ، أجرى
فيه سليمان وملأه ما يناسب قولهم : (وَأُوتِينَا
الْعِلْمَ) ، نحو أن يقولوا عند قولها : (كَأَنَّهُ هُوَ) ، قد أصابت في جوابها ، فطبقت المفصل ، وهي عاقلة لبيبة ،
وقد رزقت الإسلام وعلمت قدرة الله وصحة النبوّة بالآيات التي تقدمت عند وفدة
المنذر.
وبهذه الآية
العجيبة من أمر عرشها عطفوا على ذلك قولهم : وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته
وبصحة نبوّة سليمان ما جاء من عنده قبل علمها ، ولم نزل نحن على دين الإسلام ،
شكروا الله على فضلهم عليها وسبقهم إلى العلم بالله والإسلام قبلها وصدها عن
التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس ونشؤها بين ظهراني الكفرة. ويجوز أن يكون من كلام
بلقيس موصولا بقولها (كَأَنَّهُ هُوَ) ، والمعنى : وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوة
سليمان قبل هذه المعجزة ، أو قبل هذه الحالة ، يعني ما تبينت من الآيات عند وفدة
المنذر ودخلنا في الإسلام. ثم قال الله تعالى : (وَصَدَّها) قبل ذلك عما دخلت فيه ضلالها عن سواء السبيل. وقيل : وصدها
الله أو سليمان عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار واتصال الفعل. انتهى. أما قوله :
ويجوز أن يكون من كلام بلقيس ، فهو قول قد تقدم إليه على سبيل التعيين لا الجواز.
قيل : والمعنى وأوتينا العلم بصحة نبوته بالآيات المتقدمة من أمر الهدهد والرسل من
قبل هذه المعجزة ، يعني إحضار العرش. وكنا مسلمين مطيعين لأمرك منقادين لك.
والظاهر أن الفاعل بصدّها هو قوله : (ما كانَتْ تَعْبُدُ) ، وكونه الله أو سليمان ، وما مفعول صدّها على إسقاط حرف
الجر ، قاله الطبري ، وهو ضعيف لا يجوز إلا في ضرورة الشعر ، نحو قوله :
تمرون الديار ولم
تعوجوا
أي عن الديار ،
وليس من مواضع حذف حرف الجر. وإذا كان الفاعل هو ما كانت بالمصدود عنه ، الظاهر
أنه الإسلام. وقال الرماني : التقدير التفطن للعرش ، لأن المؤمن يقظ والكافر خبيث.
والظاهر أن قوله : (وَصَدَّها) معطوف على قوله : (وَأُوتِينَا) ، إذا كان من كلام سليمان ، وإن كان يحتمل ابتداء إخبار من
الله تعالى لمحمد نبيه ولأمته. وإن كان وأوتينا من كلام بلقيس ، فالظاهر أنه يتعين
كونه من قول الله تعالى وقول من قال إنه متصل بقوله : (أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ
الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ). والواو في صدها للحال ، وقد مضمرة
مرغوب عنه لطول
الفصل بينهما ، ولأن التقديم والتأخير لا يذهب إليه إلا عند الضرورة. وقرأ الجمهور
: إنها بكسر الهمزة ، وسعيد بن جبير ، وابن أبي عبلة : بفتحها ، فإما على تقدير
حرف الجر ، أي لأنها ، وإما على أن يكون بدلا من الفاعل الذي هو ما كانت تعبد.
قال محمد بن كعب
القرظي وغيره : لما وصلت بلقيس ، أمر سليمان الجن فصنعت له صرحا ، وهو السطح في
الصحن من غير سقف ، وجعلته مبنيا كالصهريج ومليء ماء ، وبث فيه السمك والضفادع ،
وجعل لسليمان في وسطه كرسي. فلما وصلته بلقيس ، (قِيلَ لَهَا :
ادْخُلِي) إلى النبي عليهالسلام ، فرأت اللجة وفزعت ، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر ،
فكشفت عن ساقها ، فرأى سليمان ساقيها سليمتين مما قالت الجن. فلما بلغت هذا الحد ،
قال لها سليمان : (إِنَّهُ صَرْحٌ
مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ) ، وعند ذلك استسلمت بلقيس وأذعنت وأسلمت وأقرت على نفسها
بالظلم. وفي هذه الحكاية زيادة ، وهو أنه وضع سريره في صدره وجلس عليه ، وعكفت
عليه الطير والجن والإنس. قال الزمخشري : وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاما لأمره
وتحققا لنبوته وثباتا على الدين. انتهى. والصرح : كل بناء عال ، ومنه : (ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ
الْأَسْبابَ) ، وهو من التصريح ، وهو الإعلان البالغ. وقال مجاهد :
الصرح هنا : البركة. وقال ابن عيسى : الصحن ، وصرحة الدار : ساحتها. وقيل : الصرح
هنا : القصر من الزجاج ؛ وفي الكلام حذف ، أي فدخلته امتثالا للأمر. واللجة :
الماء الكثير. وكشف ساقيها عادة من كان لابسا وأراد أن يخوض الماء إلى مقصد له ،
ولم يكن المقصود من الصرح إلا تهويل الأمر ، وحصل كشف الساق على سبيل التبع ، إلا
أن يصح ما روي عن الجن أن ساقها ساق دابة بحافر ، فيمكن أن يكون استعلام ذلك
مقصودا. وقرأ ابن كثير : قيل في رواية الأخريط وهب بن واضح عن سأقيها بالهمز ، قال
أبو علي : وهي ضعيفة ، وكذلك في قراءة قنبل : يكشف عن سأق ، وأما همز السؤق وعلى
سؤقه فلغة مشهورة في همز الواو التي قبلها ضمة. حكى أبو علي أن أبا حية النميري
كان يهمز كل واو قبلها ضمة ، وأنشد :
أحب المؤقدين إلى
موسى
والظاهر أن الفاعل
يقال هو سليمان ، ويحتمل أن يكون الفاعل هو الذي أمرها بدخول الصرح. وظلمها نفسها
، قيل : بالكفر ، وقيل : بحسبانها أن سليمان أراد أن يعرفها. وقال
__________________
ابن عطية : ومع ،
ظرف بني على الفتح ، وأما إذا أسكنت العين فلا خلاف أنه حرف جاء لمعنى. انتهى ،
والصحيح أنها ظرف ، فتحت العين أو سكنت ، وليس التسكين مخصوصا بالشعر ، كما زعم
بعضهم ، بل ذلك لغة لبعض العرب ، والظرفية فيها مجاز ، وإنما هو اسم يدل على معنى
الصحبة.
وَلَقَدْ
أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ
فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ
قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦)
قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ
أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ
يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ
وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ
وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ
وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا
وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ
وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ
دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ
إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ
يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها
مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ
الْمُنْذَرِينَ (٥٨) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ
اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ
ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ
هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ
(٦٠)
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها
رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ
وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ
قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ
مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ
ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ
اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤) قُلْ لا يَعْلَمُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ
أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ
فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا
كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ
وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا
تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ
مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ
لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى
النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ
ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما
مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥) إِنَّ
هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ
رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨)
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا
تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ
(٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ
يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ
أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ
تُكَلِّمُهُمْ
أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ
أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا
جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا
يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ
وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي
الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى
الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ
الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩)
وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ
إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ
الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما
يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ
بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣)
الحديقة : البستان
، كان عليه جدار أو لم يكن. الحاجز : الفاصل بين الشيئين. الفوج : الجماعة. الجمود
: سكون الشيء وعدم حركته. الإتقان : الإتيان بالشيء على أحسن حالاته من الكمال والإحكام
في الخلق ، وهو مشتق من قول العرب : تقنوا أرضهم إذا أرسلوا فيها الماء الخاثر
بالتراب فتجود ، والتقن : ما رمي به الماء في الغدير ، وهو الذي يجيء به الماء من
الخثورة. كببت الرجل : ألقيته لوجهه.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ
يَخْتَصِمُونَ ، قالَ : يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ
الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ، قالُوا
اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ
قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ، وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي
الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ ، قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ
وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ
وَإِنَّا لَصادِقُونَ ، وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ ، فَانْظُرْ
كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ،
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ ، وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ).
ثمود هي عاد
الأولى ، وصالح أخوهم في النسب. للما ذكر قصة موسى وداود وسليمان ، وهم من بني
إسرائيل ، ذكر قصة من هو من العرب ، يذكر بها قريشا والعرب ، وينبههم أن من تقدم
من الأنبياء من العرب كان يدعو إلى إفراد الله تعالى بالعبادة ، ليعلموا أنهم في
عبادة الأصنام على ضلالة ، وأن شأن الأنبياء عربهم وعجمهم هو الدعاء إلى عبادة
الله ، وإن في : (أَنِ اعْبُدُوا) يجوز أن تكون مفسرة ، لأن (أَرْسَلْنا) تتضمن معنى القول ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي بأن اعبدوا
، فحذف حرف الجر ، فعلى الأول لا موضع لها من الإعراب ، وعلى الثاني ففي موضعها
خلاف ، أهو في موضع نصب أم في موضع جر؟ والظاهر أن الضمير في (فَإِذا هُمْ) عائد على (ثَمُودَ) ، وأن قومه انقسموا فريقين : مؤمنا وكافرا ، وقد جاء ذلك
مفسرا في سورة الأعراف في قوله : (قالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ
مِنْهُمْ) . وقال الزمخشري : أريد بالفريقين : صالح وقومه قبل أن يؤمن
منهم أحد. انتهى. فجعل الفريق الواحد هو صالح ، والفريق الآخر قومه ، وإذا هنا هي
الفجائية ، وعطف بالفاء التي تقتضي التعقيب لا المهلة ، فكان المعنى : أنهم بادروا
بالاختصام ، متعقبا دعاء صالح إياهم إلى عبادة الله. وجاء (يَخْتَصِمُونَ) على المعنى ، لأن الفريقين جمع ، فإن كان الفريقان من آمن
ومن كفر ، فالجمعية حاصلة في كل فريق ، ويدل على أن فريق المؤمن جمع قوله : (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ
كافِرُونَ) فقال : آمنتم ، وهو ضمير الجمع. وإن كان الفريق المؤمن هو
صالح وحده ، فإنه قد انضم إلى قومه ، والمجموع جمع ، وأوثر يختصمون على يختصمان ،
وإن كان من حيث التثنية جائزا فصيحا ، لأنه مقطع فصل ، واختصامهم دعوى كل فريق أن
الحق معه ، وقد ذكر الله تخاصمهم في سورة الأعراف.
ثم تلطف صالح
بقومه ورفق بهم في الخطاب فقال مناديا لهم على جهة التحنن عليهم : (لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ) ، أي بوقوع ما يسوؤكم قبل الحالة الحسنة ، وهي رحمة الله.
وكان قد قال لهم في حديث الناقة : (وَلا تَمَسُّوها
بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) فقالوا له : (ائْتِنا بِعَذابِ
اللهِ) . وقيل : لم تستعجلون بوقوع المعاصي منكم قبل الطاعة؟
__________________
قال الزمخشري :
فإن قلت : ما معنى استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة؟ وإنما يكون ذلك إذا كانتا
متوقعتين إحداهما قبل الأخرى؟ قلت : كانوا يقولون بجهلهم : إن العقوبة التي يعدنا
صالح ، إن وقعت على زعمه ، تبنا حينئذ واستغفرنا ، مقدرين أن التوبة مقبولة في ذلك
الوقت ، وإن لم تقع ، فنحن على ما نحن عليه ، فخاطبهم صالح عليهالسلام على حسب قولهم واعتقادهم. انتهى. ثم حضهم على ما فيه درء
السيئة عنهم ، وهو الإيمان واستغفار الله مما سبق من الكفر ، وناط ذلك بترجي
الرحمة ، ولم يجزم بأنه يترتب على استغفارهم. وكان في التحضيض تنبيه على الخطأ
منهم في استعجال العقوبة ، وتجهيل لهم في اعتقادهم.
ولما لاطفهم في
الخطاب أغلظوا له وقالوا : (اطَّيَّرْنا بِكَ
وَبِمَنْ مَعَكَ) : أي تشاءمنا بك وبالذين آمنوا معك. ودل هذا العطف على أن
الفريقين كانوا مؤمنين وكافرين لقوله : (وَبِمَنْ مَعَكَ) ، وكانوا قد قحطوا. وتقدم الكلام في معنى التطير في سورة
الأعراف ، جعلوا سبب قحطهم هو ذات صالح ومن آمن معه ، فرد عليهم بقوله : (طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) : أي حظكم في الحقيقة من خير أو شر هو عند الله وبقضائه ،
إن شاء رزقكم ، وإن شاء حرمكم. وقال الزمخشري : ويجوز أن يريد عملكم مكتوب عند
الله ، فمنه نزل بكم ما نزل عقوبة لكم وفتنة ، ومنه طائركم معكم ، وكل إنسان
ألزمناه طائره في عنقه. وقرىء : تطيرنا بك على الأصل ، ومعنى تطير به : تشاءم به ،
وتطير منه : نفر عنه. انتهى. ثم انتقل إلى الإخبار عنهم بحالهم فقال : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) ، أي تختبرون ، أو تعذبون ، أو يفتنكم الشيطان بوسوسته
إليكم الطيرة ، أو تفتنون بشهواته : أي تشفعون بها ، كما يقال : فتن فلان بفلان.
وقال الشاعر :
داء قديم في بني
آدم
|
|
فتنة إنسان
بإنسان
|
وهذه أقوال
يحتملها لفظ تفتنون ، وجاء تفتنون بتاء الخطاب على مراعاة أنتم ، وهو الكثير في
لسان العرب. ويجوز يفتنون بياء الغيبة على مراعاة لفظ قوم ، وهو قليل. تقول العرب
: أنت رجل تأمر بالمعروف ، بتاء الخطاب وبياء الغيبة. والمدينة مجتمع ثمود وقريتهم
، وهي الحجر. وذكر المفسرون أسماء التسعة ، وفي بعضها اختلاف ، ورأسهم : قدار بن
سالف ، وأسماؤهم لا تنضبط بشكل ولا تتعين ، فلذلك ضربنا صفحا عن ذكرها ، وكانوا
عظماء القرية وأغنياءها وفساقها. والرهط : من الثلاثة إلى العشرة ، والنفر : من
الثلاثة إلى التسعة ، واتفق المفسرون على أن المعنى : تسعة رجال. وقال الزمخشري :
إنما جاز
تمييز التسعة
بالرهط لأنه في معنى الجماعة ، فكأنه قيل : تسعة أنفس. انتهى. وتقدير غيره : تسعة
رجال هو الأولى ، لأنه من حيث أضاف إلى أنفس كان ينبغي أن يقول : تسع أنفس ، على
تأنيث النفس ، إذ الفصيح فيها التأنيث. ألا تراهم عدوا من الشذوذ قول الشاعر :
ثلاثة أنفس وثلاث
ذود
فأدخل التاء في
ثلاثة ؛ وكان الفصيح أن يقول : ثلاث أنفس. وقال أبو عبد الله الرازي : الأقرب أن
يكون المراد تسعة جمع ، إذ الظاهر من الرهط الجماعة لا الواحد ، ثم يحتمل أنهم
كانوا قبائل ، ويحتمل أنهم دخلوا تحت العدد ، لاختلاف صفاتهم وأحوالهم ، لا
لاختلاف أجناسهم. انتهى. قيل : والرهط اسم الجماعة ، وكأنهم كانوا رؤساء ، مع كل
واحد منهم رهط. وقال الكرماني : وأصله من الترهيط ، وهو تعظيم اللقم وشدة الأكل. انتهى.
ورهط : اسم جمع ، واتفقوا على أن فصله بمن هو الفصيح كقوله تعالى : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) . واختلفوا في جواز إضافة العدد إليه ، فذهب الأخفش إلى أنه
لا ينقاس ، وما ورد من الإضافة إليه فهو على سبيل الندور. وقد صرح سيبويه أنه لا
يقال : ثلاث غنم ، وذهب قوم إلى أنه يجوز ذلك وينقاس ، وهو مع ذلك قليل ، وفصل قوم
بين أن يكون اسم الجمع للقليل ، كرهط ونفر وذود ، فيجوز أن يضاف إليه ، أو للتكثير
، أو يستعمل لهما ، فلا تجوز إضافته إليه ، وهو قول المازني ، وقد أطلنا الكلام في
هذه المسألة في (شرح التسهيل).
و (يُفْسِدُونَ) : صفة لتسعة رهط ، والمعنى : أنهم يفسدون الفساد العظيم
الذي لا يخالطه شيء من الإصلاح ، فلذلك قال : (وَلا يُصْلِحُونَ) ، لأن بعض من يقع منه إفساد قد يقع منه إصلاح في بعض
الأحيان. وقرأ الجمهور : تقاسموا ، وابن أبي ليلى : تقسموا ، بغير ألف وتشديد
السين ، وكلاهما من القسم والتقاسم والتقسيم ، كالتظاهر والتظهير. والظاهر أن قوله
(تَقاسَمُوا) فعل أمر محكي بالقول ، وهو قول الجمهور ، أشار بعضهم على
بعض بالحلف على تبييت صالح. وأجاز الزمخشري وابن عطية أن يكون تقاسموا فعلا ماضيا
في موضع الحال ، أي قالوا متقاسمين. قال الزمخشري : تقاسموا يحتمل أن يكون أمرا
وخبرا على محل الحال بإضمار قد ، أي قالوا : متقاسمين. انتهى. أما قوله : وخبرا ،
فلا يصح لأن الخبر هو أحد قسمي الكلام ، إذ هو منقسم إلى الخبر
__________________
والإنشاء ، وجميع
معانيه إذا حققت راجعة إلى هذين القسمين. وقال بعد ذلك وقرىء لنبيتنه بالياء والتاء
والنون ، فتقاسموا مع النون والتاء يصح فيه الوجهان ، يعني فيه : أي في تقاسموا
بالله ، والوجهان هما الأمر والخبر عنده. قال : ومع الياء لا يصح إلا أن يكون
خبرا. انتهى. والتقييد بالحال ليس إلا من باب نسبة التقييد ، لا من نسبة الكلام
التي هي الإسناد ، فإذا أطلق عليها الخبر ، كان ذلك على تقدير أنها لو لم تكن حالا
لجاز أن تستعمل خبرا ، وكذلك قولهم في الجملة الواقعة قبله صلة أنها خبرية هو مجاز
، والمعنى : أنها لو لم تكن صلة ، لجاز أن تستعمل خبرا ، وهذا شيء فيه غموض ، ولا
يحتاج إلى الإضمار ، فقد كثر وقوع الماضي حالا بغير قد كثرة ينبغي القياس عليها.
وعلى هذا الإعراب ، احتمل أن يكون (بِاللهِ) متعلقا بتقاسموا الذي هو حال ، فهو من صلته ليس داخلا تحت
القول. والمقول : (لَنُبَيِّتَنَّهُ) وما بعده احتمل أن يكون هو وما بعده هو المقول.
وقرأ الجمهور : (لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ
لَنَقُولَنَ) بالنون فيهما ، والحسن ، وحمزة ، والكسائي : بتاء خطاب
الجمع ؛ ومجاهد ، وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش : بياء الغيبة ، والفعلان مسندان
للجمع ؛ وحميد بن قيس : بياء الغيبة في الأول مسندا للجمع ، أي ليبيتنه ، أي قوم
منا ، وبالنون في الثاني ، أي جميعنا يقول لوليه ، والبيات : مباغتة العدو. وعن
الإسكندر أنه أشير عليه بالبيات فقال : ليس من عادة الملوك استراق الظفر ، ووليه
طالب ثأره إذا قتل. وقرأ الجمهور : مهلك ، بضم الميم وفتح اللام من أهلك. وقرأ حفص
: مهلك ، بفتح الميم وكسر اللام ، وأبو بكر : بفتحهما. فأما القراءة الأولى فتحتمل
المصدر والزمان والمكان ، أي ما شهدنا إهلاك أهله ، أو زمان إهلاكهم ، أو مكان
إهلاكهم. ويلزم من هذين أنهم إذا لم يشهدوا الزمان ولا المكان أن لا يشهدوا
الإهلاك. وأما القراءة الثانية فالقياس يقتضي أن يكون للزمان والمكان ، أي ما
شهدنا زمان هلاكهم ولا مكانه. والثالثة : تقتضي القياس أن يكون مصدرا ، أي ما
شهدنا هلاكه. وقال الزمخشري : وقد ذكروا القراءات. الثلاث ، قال : ويحتمل المصدر
والزمان والمكان. انتهى. والظاهر في الكلام حذف معطوف يدل عليه ما قبله ، والتقدير
: ما شهدنا مهلك أهله ومهلكه ، ودل عليه قولهم : (لَنُبَيِّتَنَّهُ
وَأَهْلَهُ) ، وما روي أنهم كانوا عزموا على قتله وقتل أهله ، وحذف مثل
هذا المعطوف جائز في الفصيح ، كقوله : سرابيل تقيكم الحر ، أي والبرد ، وقال
الشاعر :
فما كان بين
الخير لو جاء سالما
|
|
أبو حجر إلا
ليال قلائل
|
أي بين الخير
وبيني ، ويكون قولهم : (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) كذبا في الإخبار ، أوهموا قومهم أنهم إذا قتلوه وأهله سرا
، ولم يشعر بهم أحد ، وقالوا تلك المقالة ، أنهم صادقون وهم كاذبون. وقال الزمخشري
: فإن قلت : كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا فأتوا بالخبر على خلاف المخبر
عنه؟ قلت : كأنهم اعتقدوا إذا بيتوا صالحا وبيتوا أهله ، فجمعوا بين البياتين ، ثم
قالوا : (ما شَهِدْنا مَهْلِكَ
أَهْلِهِ) ، فذكروا أحدهما كانوا صادقين ، فإنهم فعلوا البياتين
جميعا لا أحدهما. وفي هذا دليل قاطع على أن الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون
الشرع ونواهيه ، ولا يخطر ببالهم. ألا ترى أنهم قصدوا قتل نبي الله ، ولم يروا
لأنفسهم أن يكونوا كاذبين حتى سوّوا الصدق في أنفسهم حيلة ينقصون بها عن الكذب؟
انتهى.
والعجب من هذا
الرجل كيف يتخيل هذه الحيل في جعل إخبارهم (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) إخبارا بالصدق؟ وهو يعلم أنهم كذبوا صالحا ، وعقروا الناقة
التي كانت من أعظم الآيات ، وأقدموا على قتل نبي وأهله؟ ولا يجوز عليهم الكذب ،
وهو يتلو في كتاب الله كذبهم على أنبيائهم. ونص الله ذلك ، وكذبهم على من لا تخفى
عليه خافية ، (يَوْمَ تُبْلَى
السَّرائِرُ) ، وهو قولهم ، (وَاللهِ رَبِّنا ما
كُنَّا مُشْرِكِينَ) ، وقول الله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ
كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) ، وإنما هذا منه تحريف لكلام الله تعالى ، حتى ينصر مذهبه
في قوله : إن الكذب قبيح عند الكفرة ، ويتحيل لهم هذا التحيل حتى يجعلهم صادقين في
إخبارهم. وهذا الرجل ، وإن كان أوتي من علم القرآن ، أوفر حظ ، وجمع بين اختراع
المعنى وبراعة اللفظ. ففي كتابه في التفسير أشياء منتقدة ، وكنت قريبا من تسطير
هذه الأحرف قد نظمت قصيدا في شغل الإنسان نفسه بكتاب الله ، واستطردت إلى مدح كتاب
الزمخشري ، فذكرت شيئا من محاسنه ، ثم نبهت على ما فيه مما يجب تجنبه ، ورأيت
إثبات ذلك هنا لينتفع بذلك من يقف على كتابي هذا ويتنبه على ما تضمنه من القبائح ،
فقلت بعد ذكر ما مدحته به :
ولكنه فيه مجال
لناقد
|
|
وزلات سوء قد
أخذن المخانقا
|
فيثبت موضوع
الأحاديث جاهلا
|
|
ويعزو إلى
المعصوم ما ليس لائقا
|
ويشتم أعلام
الأئمة ضلة
|
|
ولا سيما إن
أولجوا المضايقا
|
__________________
ويسهب في المعنى
الوجيز دلالة
|
|
بتكثير ألفاظ
تسمى الشق
|
اشقا يقول فيها
الله ما ليس قائلا
|
|
وكان محبا في
الخطابة و
|
امقا ويخطىء في
تركيبه لكلامه
|
|
فليس لما قد
ركبوه مو
|
افقا وينسب
إبداء المعاني لنفسه
|
|
ليوهم أغمارا
وإن كان س
|
ارقا ويخطىء في
فهم القرآن لأنه
|
|
يجوز إعرابا أبى
أن يط
|
ابقا وكم بين من
يؤتى البيان سليقة
|
|
وآخر عاناه فما
هو
|
لاحقا ويحتال
للألفاظ حتى يديرها
|
|
لمذهب سوء فيه
أصبح م
|
ارقا فيا خسره
شيخا تخرق صيته
|
|
مغارب تخريق
الصبا ومش
|
ارقا لئن لم
تداركه من الله رحمة
|
|
لسوف يرى
للكافرين مرافقا
|
ومكرهم : ما أخفوه
من تدبير الفتك بصالح وأهله. ومكر الله : إهلاكهم من حيث لا يشعرون ، شبه بمكر
الماكر على سبيل الاستعارة ، ومكرهم : أنهاهم أنهم مسافرون واختفاؤهم في غار. قيل
: أو شعب ، أو عزمهم على قتله وقتل أهله ، وحلفهم أنهم ما حضروا ذلك. ومكر الله
بهم : إطباق صخرة على فم الغار والشعب وإهلاكهم فيه ، أو رمي الملائكة إياهم
بالحجارة ، يرونها ولا يرون الرامي حين شهروا أسيافهم بالليل ليقتلوه ، قولان.
وقيل : إن الله أخبر صالحا بمكرهم فيخرج عنه ، فذلك مكر الله في حقهم. وروي أن
صالحا ، بعد عقر الناقة ، أخبرهم بمجيء العذاب بعد ثلاثة أيام ، فاتفق هؤلاء
التسعة على قتل صالح وأهله ليلا وقالوا : إن كان كاذبا في وعيده ، كنا قد أوقعنا
به ما يستحق ؛ وإن كان صادقا ، كنا قد عجلناه قبلنا وشفينا نفوسنا. واختفوا في غار
، وأهلكهم الله ، كما تقدم ذكره ، وأهلك قومهم ، ولم يشعر كل فريق بهلاك الآخر.
والظاهر أن كيف خبر كان ، وعاقبة الاسم ، والجملة في موضع نصب بأنظر ، وهي معلقة ،
وقرأ الجمهور : إنا ، بكسر الهمزة على الاستئناف. وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق ،
والكوفيون : بفتحها ، فأنا بدل من عاقبة ، أو خبر لكان ، ويكون في موضع الحال ، أو
خبر مبتدأ محذوف ، أي هي ، أي العاقبة تدميرهم. أو يكون التقدير : لأنا وحذف حرف
الجر. وعلى كلتا القراءتين يجوز أن يكون (كانَ) تامة و (عاقِبَةُ) فاعل بها ، وأن تكون زائدة وعاقبة مبتدأ خبره (كَيْفَ). وقرأ أبي : أن دمّرناهم ، وهي أن التي من شأنها أن تنصب
المضارع ، ويجوز فيها الأوجه الجائزة في أنا ، بفتح الهمزة. وحكى أبو البقاء : أن
بعضهم أجاز في (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) في قراءة من
فتح الهمزة أن
تكون بدلا من كيف ، قال : وقال آخرون : لا يجوز ، لأن البدل من الاستفهام يلزم فيه
إعادة حرفه ، كقوله : كيف زيد ، أصحيح أم مريض؟
ولما أمر تعالى
بالنظر فيما جرى لهم من الهلاك في أنفسهم ، بين ذلك بالإشارة إلى منازلهم وكيف خلت
منهم ، وخراب البيوت وخلوها من أهلها ، حتى لا يبقى منهم أحد مما يعاقب به الظلمة
، إذ يدل ذلك على استئصالهم. وفي التوراة : ابن آدم لا تظلم يخرب بيتك ، وهو إشارة
إلى هلاك الظالم ، إذ خراب بيته متعقب هلاكه ، وهذه البيوت هي التي قال فيها رسول
الله صلىاللهعليهوسلم لأصحابه ، عام تبوك : «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا
أن تكونوا باكين» ، الحديث. وقرأ الجمهور : خاوية ، بالنصب على الحال. قال
الزمخشري : عمل فيها ما دل عليه تلك. وقرأ عيسى بن عمر : خاوية ، بالرفع. قال
الزمخشري : على خبر المبتدأ المحذوف ، وقاله ابن عطية ، أي هي خاوية ، قال : أو
على الخبر عن تلك ، وبيوتهم بدل ، أو على خبر ثان ، وخاوية خبرية بسبب ظلمهم ، وهو
الكفر ، وهو من خلو البطن. وقال ابن عباس : خاوية ، أي ساقط أعلاها على أسفلها. (إِنَّ فِي ذلِكَ) : أي في فعلنا بثمود ، وهو استئصالنا لهم بالتدمير ، وخلاء
مساكنهم منهم ، وبيوتهم هي بوادي القرى بين المدينة والشام.
(وَأَنْجَيْنَا
الَّذِينَ آمَنُوا) ، أي بصالح من العذاب الذي حل بالكفار ، وكان الذين آمنوا
به أربعة آلاف ، خرج بهم صالح إلى حضرموت ، وسميت حضرموت لأن صالحا عليهالسلام لما دخلها مات بها ، وبنى المؤمنون بها مدينة يقال لها :
حاضورا. وأما الهالكون فخرج بأبدانهم خراج مثل الحمص ، احمر في اليوم الأول ، ثم
اصفر في الثاني ، ثم اسود في الثالث ، وكان عقر الناقة يوم الأربعاء ، وهلكوا يوم
الأحد. قال مقاتل : تفتقت تلك الخراجات ، وصاح جبريل عليهالسلام بهم صيحة فخمدوا.
(وَلُوطاً إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ، أَإِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
تَجْهَلُونَ ، فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ
مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ ، فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ
إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ ، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ
مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ).
(وَلُوطاً) : عطف على (صالِحاً) ، أي وأرسلنا لوطا ، أو (الَّذِينَ) على (آمَنُوا) ، أي وأنجينا لوطا ، أو باذكر مضمرة ، وإذ بدل منه ،
أقوال. و (أَتَأْتُونَ) : استفهام إنكار وتوبيخ ،
وأبهم أولا في
قوله : (الْفاحِشَةَ) ، ثم عينها في قوله : (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ
الرِّجالَ) ، وقوله : (وَأَنْتُمْ
تُبْصِرُونَ) : أي تعلمون قبح هذا الفعل المنكر الذي أحدثتموه ، وأنه من
أعظم الخطايا ، والعلم بقبح الشيء مع إتيانه أعظم في الذنب ، أو آثار العصاة قبلكم
، أو ينظر بعضكم إلى بعض لا يستتر ولا يتحاشى من إظهار ذلك مجانة وعدم اكتراث
بالمعصية الشنعاء ، أقوال ثلاثة. وانتصب (شَهْوَةً) على أنه مفعول من أجله ، و (تَجْهَلُونَ) غلب فيه الخطاب ، كما غلب في (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
تُفْتَنُونَ). ومعنى : (تَجْهَلُونَ) ، أي عاقبة ما أنتم عليه ، أو تفعلون فعل السفهاء المجان ،
أو فعل من جهل أنها معصية عظيمة مع العلم أقوال. ولما أنكر عليهم ونسب إلى الجهل ،
ولم تكن لهم حجة فيما يأتونه من الفاحشة ، عدلوا إلى المغالبة والإيذاء ، وتقدم
معنى يتطهرون في الأعراف. وقرأ الجمهور : (جَوابَ) بالنصب ؛ والحسن ، وابن أبي إسحاق : بالرفع ، والجمهور : (قَدَّرْناها) ، بتشديد الدال ؛ وأبو بكر بتخفيفها ، وباقي الآية تقدم
تفسير نظيره في الأعراف. وساء : بمعنى بئس ، والمخصوص بالذم محذوف ، أي مطرهم.
(قُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا
يُشْرِكُونَ ، أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ
تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ، أَمَّنْ
جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ
وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ ، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ
وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ ،
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ
بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ ، أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ
مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ ، قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ، بَلِ ادَّارَكَ
عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ).
لما فرغ من قصص
هذه السورة ، أمر رسوله صلىاللهعليهوسلم بحمده تعالى والسلام على المصطفين ، وأخذ في مباينة واجب
الوجود ، الله تعالى ، ومباينة الأصنام والأديان التي أشركوها مع الله وعبدوها.
وابتدأ في هذا التقرير لقريش وغيرهم بالحمدلة ، وكأنها صدر خطبة لما يلقى من
البراهين الدالة على الوحدانية والعلم والقدرة. وقد اقتدى بذلك المسلمون في تصانيف
كتبهم وخطبهم ووعظهم ، فافتتحوا بتحميد الله ، والصلاة على
محمد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وتبعهم المترسلون في أوائل كتب الفتوح والتهاني والحوادث
التي لها شأن. وقيل : هو متصل بما قبله ، وأمر الرسول عليهالسلام بتحميد الله على هلاك الهالكين من كفار الأمم ، والسلام
على الأنبياء وأتباعهم الناجين.
وقيل : (قُلِ) ، خطاب للوط عليهالسلام أن يحمد الله على هلاك كفار قومه ، ويسلم (عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى). وعزا هذا القول ابن عطية للفراء ، وقال : هذه عجمة من
الفراء. وقرأ أبو السماك : (قُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ) ، وكذا : قل الحمد لله سيريكم ، بفتح اللام ، وعباده
المصطفون ، يعم الأنبياء وأتباعهم. وقال ابن عباس : العباد المسلم عليهم هم أصحاب
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، اصطفاهم لنبيه ، وفي اختصاصهم بذلك توبيخ للمعاصرين من
الكفار. وقال أبو عبد الله الرازي : لما ذكر تعالى أحوال الأنبياء ، وأن من كذبهم
استؤصل بالعذاب ، وأن ذلك مرتفع عن أمة الرسول ، أمره تعالى بحمده على ما خصه من
هذه النعمة ، وتسليمه على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة. انتهى ، وفيه
تلخيص.
وقوله : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) : استفهام فيه تبكيت وتوبيخ وتهكم بحالهم ، وتنبيه على
موضع التباين بين الله تعالى وبين الأوثان ، إذ معلوم عند من له عقل أنه لا شركة
في الخيرية بين الله تعالى وبينهم ، وكثيرا ما يجيء هذا النوع من أفعل التفضيل حيث
يعلم ويتحقق أنه لا شركه فيها وإنما يذكر على سبيل إلزام الخصم وتنبيهه على خطأ
مرتكبه. والظاهر أن هذا الاستفهام هو عن خيرية الذوات ، فقيل : جاء على اعتقاد
المشركين حيث اعتقدوا في آلهتهم خيرا بوجه ما ، وقيل : في الكلام حذف في موضعين ،
التقدير : أتوحيد الله خير أم عبادة ما يشركون؟ فما في أم ما بمعنى الذي. وقيل :
ما مصدرية ، والحذف من الأول ، أي أتوحيد الله خير أم شرككم؟ وقيل : خير ليست
للتفضيل ، فهي كما تقول : الصلاة خير ، يعني خيرا من الخيور. وقيل : التقدير ذو خير.
والظاهر أن خيرا أفعل التفضيل ، وأن الاستفهام في نحو هذا يجيء لبيان فساد ما عليه
الخصم ، وتنبيهه على خطئه ، وإلزامه الإقرار بحصر التفضيل في جانب واحد ، وانتفائه
عن الآخر ، وقرأ الجمهور : تشركون ، بتاء الخطاب ؛ والحسن ، وقتادة ، وعاصم ، وأبو
عمرو : بياء الغيبة. وأم في أم ما متصلة ، لأن المعنى : أيهما خير؟ وفي (أَمَّنْ خَلَقَ) وما بعده منفصلة. ولما ذكر الله خيرا ، عدّد سبحانه
الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله ، كما عدّدها في غير موضع من كتابه ،
توقيفا لهم على ما أبدع من المخلوقات ، وأنهم لا يجدون بدا من الإقرار بذلك لله
تعالى.
وقرأ الجمهور : (أَمَّنْ خَلَقَ) ، وفي الأربعة بعدها بشد الميم ، وهي ميم أم أدغمت في ميم
من. وقرأ الأعمش : بتخفيفها جعلها همزة الاستفهام ، أدخلت على من ، ومن في
القراءتين مبتدأ وخبره. قال ابن عطية : تقديره : يكفر بنعمته ويشك به ، ونحو هذا
من المعنى. وقدره الزمخشري : خير أما يشركون ، فقدّر ما أثبت في الاستفهام الأول ؛
بدأ أولا في الاستفهام باسم الذات ، ثم انتقل فيه إلى الصفات. وقال أبو الفضل
الرازي في (كتاب اللوامح) له : ولا بد من إضمار جملة معادلة ، وصار ذلك المضمر
كالمنطوق به لدلالة الفحوى عليه. وتقدير تلك الجملة : أمن خلق السموات كمن لم يخلق
، وكذلك أخواتها ، وقد أظهر في غير هذا الموضع ما أضمر فيها لقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) . انتهى. وتسمية هذا المقدّر جملة ، إن أراد بها جملة من
الألفاظ فهو صحيح ، وإن أراد الجملة المصطلح عليها في النحو فليس كذلك ، بل هو
مضمر من قبيل المفرد. وبدأ تعالى بذكر إنشاء مقر العالم العلوي والسفلي ، وإنزال
ما به قوام العالم السفلي وقال : (لَكُمْ) ، أي لأجلكم ، على سبيل الامتنان ، وأن ذلك من أجلكم. ثم
قال : (فَأَنْبَتْنا) ، وهذا التفات من الغيبة إلى التكلم بنون العظمة دالا على
اختصاصه بذلك ، وأنه لم ينبت تلك الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطعوم
والروائح بماء واحد إلا هو تعالى. وقد رشح هذا الاختصاص بقوله : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا
شَجَرَها).
ولما كان خلق
السموات والأرض ، وإنزال الماء من السماء ، لا شبهة للعاقل في أن ذلك لا يكون إلا
لله ، وكان الإنبات مما قد يتسبب فيه الإنسان بالبذر والسقي والتهيئة ، ويسوغ
لفاعل السبب نسبة فعل المسبب إليه ، بين تعالى اختصاصه بذلك بطريق الالتفات وتأكيد
ذلك بقوله : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ
تُنْبِتُوا شَجَرَها). ألا ترى أن المتسبب لذلك قد لا يأتي على وفق مراده؟ ولو
أتى فهو جاهل بطبعه ومقداره وكيفيته ، فكيف يكون فاعلا لها؟ والبهجة : الجمال
والنضرة والحسن ، لأن الناظر فيها يبتهج ، أي يسر ويفرح. وقرأ الجمهور : (ذاتَ) ، بالإفراد ، (بَهْجَةٍ) ، بسكون الهاء ، وجمع التكسير يجري في الوصف مجرى الواحدة
، كقوله : (أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) ، وهو على معنى جماعة. وقرأ ابن أبي عبلة ، ذوات ، بالجمع
، بهجة بتحريك الهاء بالفتح.
(ما كانَ لَكُمْ أَنْ
تُنْبِتُوا شَجَرَها) : قد تقدم أن نفي مثل هذه الكينونة قد يكون ذلك لاستحالة
وقوعه كهذا ، أو لامتناع وقوعه شرعا ، أو لنفي الأولوية. والمعنى هنا : أن إنبات
__________________
ذلك منكم محال ،
لأنه إبراز شيء من العدم إلى الوجود ، وهذا ليس بمقدور إلا لله تعالى. ولما ذكر
منته عليهم ، خاطبهم بذلك ؛ ثم لما ذكر ذمّهم ، عدل من الخطاب إلى الغيبة فقال : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) ، إما التفاتا ، وإما إخبارا للرسول صلىاللهعليهوسلم بحالهم ، أي يعدلون عن الحق ، أو يعدلون به غيره ، أي
يجعلون له عديلا ومثيلا. وقرىء : إلها ، بالنصب ، بمعنى : أتدعون أو أتشركون؟
وقرىء : أإله ، بتخفيف الهمزتين وتليين الثانية ، والفصل بينهما بألف. ولما ذكر
تعالى أنه منشىء السموات والأرض ، ذكر شيئا مشتركا بين السماء والأرض ، وهو إنزال
الماء من السماء وإنبات الحدائق بالأرض ، ذكر شيئا مختصا بالأرض ، وهو جعلها قرارا
، أي مستقرا لكم ، بحيث يمكنكم الإقامة بها والاستقرار عليها ، ولا يديرها الفلك ،
قيل : لأنها مضمحلة في جنب الفلك ، كالنقطة في الرحى.
(وَجَعَلَ خِلالَها) : أي بين أماكنها ، في شعابها وأوديتها ، (أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) : أي جبالا ثوابت حتى لا تتكففا بكم وتميد. والبحران :
العذب والملح ، والحاجز : الفاصل ، من قدرته تعالى ، قاله الضحاك. وقال مجاهد :
بحر السماء والأرض ، والحاجز من الهواء. وقال الحسن : بحر فارس والروم ، وقال
السدّي : بحر العراق والشام ، والحاجز من الأرض. قال ابن عطية : مختارا لهذا القول
في الحاجز : هو ما جعل الله بينهما من حواجز الأرض وموانعها ، على رقتها في بعض
المواضع ، ولطافتها التي لو لا قدرته لبلع الملح العذب. وكان ابن عطية قد قدم أن
البحرين : العذب بجملته ، والماء الأجاج بجملته ؛ ولما كانت كل واحدة منه عظيمة
مستقلة ، تكرر فيها العامل في قوله : (وَجَعَلَ) ، فكانت من عطف الجمل المستقل كل واحدة منها بالامتنان ،
ولم يشرك في عامل واحد فيكون من عطف المفردات. ولأبي عبد الله الرازي في ذكر هذه
الامتنانات الأربع كلام من علم الطبيعة ، والحكماء على زعمه ، خارج عن مذاهب العرب
، يوقف عليه في كتابه. والمضطر : اسم مفعول ، وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو حادث
من حوادث الدهر إلى الالتجاء إلى الله والتضرع إليه ، فيدعوه لكشف ما اعتراه من
ذلك وإزالته عنه. وقال ابن عباس : هو المجهود. وقال السدّي : هو الذي لا حول ولا
قوة له. وقيل : هو المذنب إذا استغفر ، وإجابته إياه مقرونة بمشيئته تعالى ، فليس
كل مضطر دعا يجيبه الله في كشف ما به. وقال الزمخشري : الإجابة موقوفة على أن يكون
المدعو به مصلحة ، ولهذا لا يحسن الدعاء إلا شارطا فيه المصلحة. انتهى ، وهو على
طريق الاعتزال في مراعاة المصلحة من الله تعالى.
(وَيَكْشِفُ السُّوءَ) : هو كل ما يسوء ، وهو عام في كل ضر انتقل من حالة المضطر
، وهو خاص إليّ أعم ، وهو ما يسوء ، سواء كان المكشوف عنه في حالة الاضطرار أو
فيما دونها. وخلفاء : أي الأمم السالفة ، أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،
أو خلفاء النبي صلىاللهعليهوسلم من بعده ، أو خلفاء الكفار في أرضهم ، أو الملك والتسلط ،
أقوال. وقرأ الحسن في رواية : ونجعلكم بنون المتكلم ، كأنه استئناف إخبار ووعد ،
كما قال تعالى : (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ
فِي الْأَرْضِ).
وقوله : (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) : انتقال من حالة المضطر إلى رتبة مغايرة لحالة الاضطرار ،
وهي حالة الخلافة ، فهما ظرفان. وكم رأينا في الدنيا ممن بلغ حالة الاضطرار ثم صار
ملكا متسلطا. وقرأ الجمهور : تذكرون ، بتاء الخطاب ؛ والحسن ، والأعمش ، وأبو عمرو
: بياء الغيبة ، والذال في القراءتين مشددة لإدغام التاء فيها. وقرأ أبو حيوة :
تتذكرون ، بتاءين. وظلمة البر هي ظلمة الليل ، وهي الحقيقة ، وتنطلق مجازا على
الجهل وعلى انبهام الأمر فيقال : أظلم عليّ الأمر. وقال الشاعر :
تجلت عمايات
الرجال عن الصبا
أي جهالات الصبا
وهداية البر تكون بالعلامات ، وهداية البحر بالنجوم.
(وَمَنْ يُرْسِلُ
الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) : تقدم تفسير نظير هذه الجملة. وقرىء : عما تشركون ، بتاء
الخطاب. (أَمَّنْ يَبْدَؤُا
الْخَلْقَ) : الظاهر أن الخلق هو المخلوق ، وبدؤه : اختراعه وإنشاؤه.
ويظهر أن المقصود هو من يعيده الله في الآخرة من الإنس والجن والملك ، لا عموم
المخلوق. وقال ابن عطية : والمقصود بنو آدم من حيث ذكر الإعادة ، والإعادة البعث
من القبور ، ويحتمل أن يريد بالخلق مصدر خلق ، ويكون يبدأ ويعيد استعارة للإتقان
والإحسان ، كما تقول : فلان يبدىء ويعيد في أمر كذا إذا كان يتقنه. وقال الزمخشري
: فإن قلت : كيف قال لهم أمن يبدأ الخلق ثم يعيده وهم منكرون الإعادة؟ قلت : قد
أنعم عليهم بالتمكين من المعرفة والإقرار ، فلم يبق لهم عذر في الإنكار. انتهى.
ولما كان إيجاد
بني آدم إنعاما إليهم وإحسانا ، ولا تتم النعمة إلا بالرزق قال : (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) بالمطر ، (وَالْأَرْضِ) بالنبات؟ (قُلْ هاتُوا
بُرْهانَكُمْ) : أي أحضروا حجتكم ودليلكم على ما تدعون من إنكار شيء مما
تقدم تقريره (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) في أن
مع الله إلها آخر.
فأين دليلكم عليه؟ وهذا راجع إلى ما تقدم من جميع الاستفهام الذي جيء به على سبيل
التقرير ، وناسب ختم كل استفهام بما تقدمه.
لما ذكر إيجاد
العالم العلوي والسفلي ، وما امتن به من إنزال المطر وإنبات الحدائق ، اقتضى ذلك
أن لا يعبد إلا موجد العالم والممتن بما به قوام الحياة ، فختم بقوله : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) ، أي عن عبادته ، أو يعدلون به غيره مما هو مخلوق مخترع. ولما
ذكر جعل الأرض مستقرا ، وتفجير الأنهار ، وإرساء الجبال ، وكان ذلك تنبيها على
تعقل ذلك والفكر فيه ، ختم بقوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ) ، إذ كان فيهم من يعلم ويفكر في ذلك. ولما ذكر إجابة دعاء
المضطر ، وكشف السوء ، واستخلافهم في الأرض ، ناسب أن يستحضر الإنسان دائما هذه
المنة ، فختم بقوله : (قَلِيلاً ما
تَذَكَّرُونَ) ، إشارة إلى توالي النسيان إذا صار في خير وزال اضطراره
وكشف السوء عنه ، كما قال : (نَسِيَ ما كانَ
يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) . ولما ذكر الهداية في الظلمات ، وإرسال الرياح نشرا ،
ومعبوداتهم لا تهدي ولا ترسل ، وهم يشركون بها الله ، قال تعالى : (عَمَّا يُشْرِكُونَ). واعتقب كل واحدة من هذه الجمل قوله : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) ، على سبيل التوكيد والتقرير أنه لا إله إلا هو تعالى.
قيل : سأل الكفار
عن وقت القيامة التي وعدهم الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وألحوا عليه ، فنزل : (قُلْ لا يَعْلَمُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، الآية. والمتبادر إلى الذهن أن من فاعل بيعلم ، والغيب
مفعول ، وإلا الله استثناء منقطع لعدم اندراجه في مدلول لفظ من ، وجاء مرفوعا على
لغة تميم ، ودلت الآية على أنه تعالى هو المنفرد بعلم الغيب. وعن عائشة ، رضياللهعنها : من زعم أن محمدا يعلم ما في غد ، فقد أعظم الفرية على
الله ، والله تعالى يقول : (قُلْ لا يَعْلَمُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) ، ولا يقال : إنه مندرج في مدلول من ، فيكون في السموات
إشارة إلى ظرفا حقيقيا للمخلوقين فيهما ، ومجازيا بالنسبة إليه تعالى ، أي هو فيها
بعلمه ، لأن في ذلك جمعا بين الحقيقة والمجاز. وأكثر العلماء ينكر ذلك ، وإنكاره
هو الصحيح. ومن أجاز ذلك فيصح عنده أن يكون استثناء متصلا ، وارتفع على البدل أو
الصفة ، والرفع أفصح من النصب على الاستثناء ، لأنه استثناء من نفي متقدم ،
والظاهر عموم الغيب. وقيل : المراد غيب الساعة.
__________________
وقال الزمخشري :
فإن قلت : ما الداعي إلى اختيار المذهب التميمي على الحجازي؟ يعني في كونه استثناء
منقطعا ، إذ ليس مندرجا تحت من ، ولم أختر الرفع على لغة تميم ، ولم نختر النصب
على لغة الحجاز ، قال : قلت : دعت إلى ذلك نكتة سرية ، حيث أخرج المستثنى مخرج
قوله : إلا اليعافير ، بعد قوله : ليس بها أنيس ، ليؤول المعنى إلى قولك : إن كان
الله ممن في السموات والأرض ، فهم يعلمون الغيب ، يعني أن علمهم الغيب في استحالته
كاستحالة أن يكون الله منهم. كما أن معنى : ما في البيت إن كانت اليعافير أنيسا ،
ففيها أنيس بناء للقول بخلوها عن الأنيس. انتهى. وكان الزمخشري قد قدم قوله : فإن
قلت : لم أرفع اسم الله ، والله سبحانه أن يكون ممن في السموات والأرض؟ قلت : جاء
على لغة بني تميم ، حيث يقولون : ما في الدار أحد إلا حمار ، كأن أحدا لم يذكر ،
ومنه قوله :
عشية ما تغني
الرماح مكانها
|
|
ولا النبل إلا
المشرفي المصمم
|
وقوله : ما أتاني
زيد إلا عمرو ، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه. انتهى. وملخصه أنه يقول : لو نصب
لكان مندرجا تحت المستثنى منه ، وإذا رفع كان بدلا ، والمبدل منه في نية الطرح ،
فصار العامل كأنه مفرغ له ، لأن البدل على نية تكرار العامل ، فكأنه قيل : قل لا
يعلم الغيب إلا الله. ولو أعرب من مفعولا ، والغيب بدل منه ، وإلا الله هو الفاعل
، أي لا يعلم غيب من في السموات والأرض إلا الله ، أي الأشياء الغائبة التي تحدث
في العالم ، وهم لا يعلمون بحدوثها ، أي لا يسبق علمهم بذلك ، لكان وجها حسنا ،
وكان الله تعالى هو المخصوص بسابق علمه فيما يحدث في العالم. وأيان : تقدم الكلام
فيها في أواخر الأعراف ، وهي هنا اسم استفهام بمعنى متى ، وهي معمولة ليبعثون
ويشعرون معلق ، والجملة التي فيها استفهام في موضع نصب به. وقرأ السلمي : إيان ،
بكسر الهمزة ، وهي لغة قبيلته بني سليم. ولما نفى علم الغيب عنهم على العموم ، نفى
عنهم هذا الغيب المخصوص ، وهو وقت الساعة والبعث ، فصار منتفيا مرتين ، إذ هو
مندرج في عموم الغيب ومنصوص عليه بخصوصه.
وقرأ الجمهور : (بَلِ ادَّارَكَ) ، أصله تدارك ، فأدغمت التاء في الدال فسكنت ، فاجتلبت
همزة الوصل. وقرأ أبي : أم تدارك ، على الأصل ، وجعل أم بدل. وقرأ سليمان بن يسار
أخوه : بل ادّرك ، بنقل حركة الهمزة إلى اللام ، وشدّ الدال بناء على أن وزنه
افتعل ، فأدغم الدال ، وهي فاء الكلمة في التاء بعد قلبها دالا ، فصار قلب الثاني
للأول لقولهم :
اثرد ، وأصله اثترد من الثرد ، والهمزة المحذوفة المنقول حركتها إلى اللام هي همزة
الاستفهام ، أدخلت على ألف الوصل فانحذفت ألف الوصل ، ثم انحذفت هي وألقيت حركتها
على لام بل. وقرأ أبو رجاء والأعرج ، وشيبة ، وطلحة ، وتوبة العنبري : كذلك ، إلا
أنهم كسروا لام بل ؛ وروي ذلك عن ابن عباس ، وعاصم ، والأعمش. وقرأ ابن كثير ،
وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، وأهل مكة : بل أدرك ، على وزن أفعل ، بمعنى تفاعل ، ورويت
عن أبي بكر ، عن عاصم. وقرأ عبد الله في رواية ، وابن عباس في رواية ، وابن أبي
جمرة ، وغيره عنه ، والحسن ، وقتادة ، وابن محيصن : بل آدرك ، بمدة بعد همزة
الاستفهام ، وأصله أأدرك ، فقلب الثانية ألفا تخفيفا ، كراهة الجمع بين همزتين ،
وأنكر أبو عمرو بن العلاء هذه الرواية ووجهها. وقال أبو حاتم : لا يجوز الاستفهام
بعد بل ، لأن بل إيجاب ، والاستفهام في هذا الموضع إنكار بمعنى : لم يكن كقوله
تعالى : (أَشَهِدُوا
خَلْقَهُمْ) ، أي لم يشهدوا ، فلا يصح وقوعهما معا للتنافي الذي بين
الإيجاب والإنكار. انتهى. وقد أجاز بعض المتأخرين الاستفهام بعد بل ، وشبهه بقول
القائل : أخبزا أكلت بل أماء شربت؟ على ترك الكلام الأول والأخذ في الثاني. وقرأ
مجاهد : أم أدرك ، جعل أم بدل بل ، وأدرك على وزن أفعل. وقرأ ابن عباس أيضا : بل
ادّارك ، بهمزة داخلة على ادارك ، فيسقط همزة الوصل المجتلبة ، لأجل الإدغام
والنطق بالساكن. وقرأ ابن مسعود أيضا : بل أأدرك ، بهمزتين ، همزة الاستفهام وهمزة
أفعل. وقرأ الحسن أيضا ، والأعرج : بل أدرك ، بهمزة وإدغام فاء الكلمة ، وهي الدال
في تاء افتعل ، بعد صيرورة التاء دالا. وقرأ ورش في رواية : بل ادّرك ، بحذف همزة
أدرك ونقل حركتها إلى اللام. وقرأ ابن عباس أيضا : بلى أدرك ، بحرف الإيجاب الذي
يوجب به المستفهم المنفي. وقرىء : بل آأدرك ، بألف بين الهمزتين. فأما قراءة من
قرأ بالاستفهام ، فقال ابن عباس : هو للتقريع بمعنى لم يدرك علمهم على الإنكار
عليهم. وقال الزمخشري : هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم ، وكذلك قراءة من
قرأ : أم ادّرك ، وأم تدارك ، لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة. انتهى. وقال ابن
عطية : هو على معنى الهزء بالكفرة والتقرير لهم على ما هو في غاية البعد عنهم ، أي
اعلموا أمر الآخرة وادّركها علمهم. وأما قراءة من قرأ على الخبر ، فقال ابن عباس :
المعنى : بل تدارك علمهم ما جهلوه في الدنيا ، أي علموه في الآخرة ، بمعنى : تكامل
علمهم في الآخرة بأن كل ما وعدوا به حق ، وهذا حقيقة إثبات العلم لهم ،
__________________
لمشاهدتهم عيانا
في الآخرة ما وعدوا به غيبا في الدنيا ، وكونه بمعنى المضي ، ومعناه الاستقبال ،
لأن الإخبار به صدق ، فكأنه قد وقع. وقال ابن عطية : يحتمل معنيين : أحدهما : أنه تناهى علمهم ، كما تقول : أدرك النبات وغيره ، أي
تناهى وتتابع علمهم بالآخرة إلى أن يعرفوا لها مقدارا فيؤمنوا ، وإنما لهم ظنون
كاذبة ؛ أو إلى أن لا يعرفوا لها وقتا ، وتكون في بمعنى الباء متعلقة بعلمهم ، وقد
تعدّى العلم بالباء ، كما تقول : علمي بزيد كذا ، ويسوغ حمل هذه القراءة على معنى
التوقيف والاستفهام ، وجاء إنكارا لأنهم لم يدركوا شيئا نافعا. والثاني : أن أدرك : بمعنى يدرك ، أي علمهم في الآخرة يدرك وقت
القيامة ، ويرون العذاب والحقائق التي كذبوا بها ، وأما في الدنيا فلا. وهذا تأويل
ابن عباس ، ونحا إليه الزجاج ، وفي على بابها من الظرفية متعلقة بتدارك. انتهى ،
وفيه بعض تلخيص وزيادة. وقال الزمخشري : هو على وجهين : أحدهما : أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب
فيها قد حصلت لهم ومكنوا من معرفته وهم شاكون جاهلون ، وذلك قوله : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ
مِنْها عَمُونَ) ، يريد المشركين ممن في السموات والأرض ، لأنهم لما كانوا
في جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع ، كما يقال : بنو فلان فعلوا كذا ، وإنما فعله ناس
منهم. والوجه
الثاني : أن وصفهم
باستحكامه وتكامله تهكم بهم ، كما تقول لأجهل الناس : ما أعلمك ، على سبيل الهزء
به ، وذلك حيث شكوا وعموا عن إتيانه الذي هو طريق إلى علم مشكوك ، فضلا عن أن
يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته. وفي أدرك علمهم وادارك وجه آخر ، وهو أن
يكون أدرك بمعنى انتهى وفني ، من قولهم : أدركت الثمرة ، لأن تلك غايتها التي عندها
تعدم. وقد فسر الحسن باضمحل علمهم وتدارك ، من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في
الهلاك. انتهى.
وقال الكرماني :
العلم هنا بمعنى الحكم والقول ، أي تتابع منهم القول والحكم في الآخرة ، وكثر منهم
الخوض فيها ، فنفاها بعضهم ، وشك فيها بعضهم ، واستبعدها بعضهم. وقال الفراء : بل
أدرك ، فيصير بمعنى الجحد ، ولذلك نظائر ؛ أي لم يعلموا حدوثها وكونها ، ودل على
ذلك (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ
مِنْها) ، فصارت في في الكلام بمعنى الباء ، أي لم يدرك علمهم
بالآخرة. قال الفراء : ويقوي هذا الوجه قراءة من قرأ : أدرك ، بالاستفهام. انتهى.
وأما قراءة من قرأ بلى بحرف الجواب بدل بل ، فقال أبو حاتم : إن كان بلى جوابا
لكلام تقدم ، جاز أن يستفهم به ، كأن قوما أنكروا ما تقدم من القدرة ، فقيل لهم :
بلى إيجابا لما نفوا ، ثم استؤنف بعده الاستفهام وعودل بقوله تعالى : (بَلْ هُمْ فِي
شَكٍّ
مِنْها) ، بمعنى : أم هم في شك منها ، لأن حروف العطف قد تتناوب ،
وكف عن الجملتين بقوله تعالى : (بَلْ هُمْ مِنْها
عَمُونَ). انتهى. يعني أن المعنى : ادّرك علمهم بالآخرة أم شكوا؟
فبل بمعنى أم ، عودل بها الهمزة ، وهذا ضعيف جدا ، وهو أن تكون بل بمعنى أم وتعادل
همزة الاستفهام.
قال الزمخشري :
فإن قلت : فمن قرأ بلى أدرك؟ قلت : لما جاء ببلى بعد قوله : (وَما يَشْعُرُونَ) ، كان معناه : بلى يشعرون ، ثم فسر الشعور بقوله : أدرك
علمهم في الآخرة ، على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم ، فكأنه قال
: شعورهم بوقت الآخرة أنهم لا يعلمون كونها ، فيرجع إلى المبالغة في نفي الشعور
على أبلغ ما يكون. وأما من قرأ : بلى ادّرك ، على الاستفهام فمعناه : يشعرون متى
يبعثون ، ثم أنكر علمهم بكونها ، وإذا أنكر علمهم بكونها ، لم يتحصل لهم شعور بوقت
كونها ، لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن. فإن قلت : هذه الإضرابات
الثلاث ما معناها؟ قلت : ما هي إلا تنزيل لأحوالهم ، وصفهم أولا بأنهم لا يشعرون
وقت البعث ، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة ، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية
فلا يزيلونه ، والإزالة مستطاعة ، وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه ، فلذلك عداه
بمن دون عن ، لأن العاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يبصرون.
انتهى.
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ ، لَقَدْ
وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ
، قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ،
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ،
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، قُلْ عَسى أَنْ
يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو
فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ، وَإِنَّ رَبَّكَ
لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ ، وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي
السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ، إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ
عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ، وَإِنَّهُ
لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ
بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى
الْحَقِّ الْمُبِينِ ، إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ
الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ، وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ
ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ،
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ
تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ).
لما تقدم أنه
تعالى منفرد بعلم الغيب ، ومن جملتها وقت الساعة ، وأنهم لا شعور
لهم بوقتها ، وأن
الكفار في شك منها عمون ، ناسب ذكر مقالاتهم في استبعادها ، وأن ما وعدوا به من
ذلك ليس بصحيح ، إنما ذلك ما سطر الأولون من غير إخبار بذلك عن حقيقة.
وقرأ ابن كثير ،
وأبو عمرو : (أَإِذا ، أَإِنَّا) بالجمع بين الاستفهامين ؛ وقلب الثانية ياء ، وفصل بينهما
بألف أبو عمرو ، وقرأهما عاصم وحمزة : بهمزتين ، ونافع : إذا بهمزة مكسورة ، آينا
بهمزة الاستفهام ، وقلب الثانية ياء ، وبينهما مدة ، والباقون : آئذا ، باستفهام
ممدود ، إننا : بنونين من غير استفهام ، والعامل في إذا محذوف دل على مضمون الجملة
الثانية تقديره : يخرج ويمتنع إعمال لمخرجون فيه ، لأن كلّا من إن ولام الابتداء
والاستفهام يمنع أن يعمل ما بعده فيما قبله ، إلا اللام الواقعة في خبر إن ، فإنه
يتقدم معمول الخبر عليها وعلى الخبر على ما قرر في علم النحو.
(وَآباؤُنا) : معطوف على اسم كان ، وحسن ذلك الفضل بخبر كان. والإخراج
هنا من القبور أحياء ، مردودا أرواحهم إلى الأجساد ، والجمع بين الاستفهام في إذا
وفي إنا إنكار على إنكار ، ومبالغة في كون ذلك لا يكون ، والضمير في إننا لهم
ولآبائهم ، لأن صيرورتهم ترابا ، شامل للجميع. ثم ذكروا أنهم وعدوا ذلك هم وآباؤهم
، فلم يقع شيء من هذا الموعود ، ثم جزموا وحصروا أن ذلك من أكاذيب من تقدم. وجاء
هنا تقديم الموعود به ، وهو هذا ، وتأخر في آية أخرى على حسب ما سيق الكلام لأجله.
فحيث تأكد الإخبار عنهم بإنكار البعث والآخرة ، عمدوا إليها بالتقديم على سبيل
الاعتناء ، وحيث لم يكن ذلك ، عمدوا إلى إنكار إيجاد المبعوث ، فقدموه وأخروا
الموعود به ، ثم أمر نبيه أن يأمرهم بالسير في الأرض ؛ وتقدم الكلام في نظير هذه
الآية في أوائل الأنعام. وأراد بالمجرمين : الكافرين ، ثم سلى نبيه فقال : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) : أي في كونهم لم يسلموا ولم يذعنوا إلى ما جئت به ، (وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ) : أي في حرج وأمر شاق عليك (مِمَّا يَمْكُرُونَ) ، فإن مكرهم لاحق بهم ، لا بك ، والله يعصمك منهم. وتقدّمت
قراءة ضيق ، بكسر الضاد وفتحها ، وهما مصدران. وكره أبو علي أن يكون المفتوح الضاد
، أصله ضيق ، بتشديد الياء فخفف ، كلين في لين ، لأن ذلك يقتضي حذف الموصوف وإقامة
الصفة مقامه ، وليست من الصفات التي تقوم مقام الموصوف باطراد. وأجاز ذلك الزمخشري
، قال : ويجوز أن يراد في أمر ضيق من مكرهم.
ولما استعجلت قريش
بأمر الساعة ، أو بالعذاب الموعود به هم ، وسألوا عن وقت
الموعود به على
سبيل الاستهزاء ، قيل له : قل عسى أن يكون ردفكم بعضه : أي تبعكم عن قرب وصار
كالرديف التابع لكم بعض ما استعجلتم به ، وهو كان عذاب يوم بدر. وقيل : عذاب
القبر. وقرأ الجمهور : ردف ، بكسر الدال. وقرأ ابن هرمز : بفتحها ، وهما لغتان ،
وأصله التعدي بمعنى تبع ولحق ، فاحتمل أن يكون مضمنا معنى اللازم ، ولذلك فسره ابن
عباس وغيره بأزف وقرب لما كان يجيء بعد الشيء قريبا منه ضمن معناه ، أو مزيدا
اللام في مفعوله لتأكيد وصول الفعل إليه ، كما زيدت الباء في : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) ، قاله الزمخشري ، وقد عدى بمن على سبيل التضمين لما يتعدى
بها ، وقال الشاعر :
فلما ردفنا من
عمير وصحبه
|
|
تولوا سراعا
والمنية تعنق
|
أي دنوا من عمير.
وقيل : ردفه وردف له ، لغتان. وقيل : الفعل محمول على المصدر ، أي الرادفة لكم.
وبعض على تقدير ردافة بعض ما تستعجلون ، وهذا فيه تكلف ينزه القرآن عنه. وقيل :
اللام في لكم داخلة على المفعول من أجله ، والمفعول به محذوف تقديره : ردف الخلق
لأجلكم ، وهذا ضعيف. وقيل : الفاعل بردف ضمير يعود على الوعد ، ثم قال : لكم بعض
ما تستعجلون على المبتدأ والخبر ، وهذا فيه تفكيك للكلام ، وخروج عن الظاهر لغير
حاجة تدعو إلى ذلك. (لَذُو فَضْلٍ) : أي إفضال عليهم بترك معاجلتهم بالعقوبة على معاصيهم
وكفرهم ، ومتعلق يشكرون محذوف ، أي لا يشكرون نعمه عندهم ، أو لا يشكرون بمعنى :
لا يعرفون حق النعمة ، عبر عن انتفاء معرفتهم بالنعمة ، بانتفاء ما يترتب على
معرفتها ، وهو الشكر.
ثم أخبر تعالى
بسعة علمه ، فبدأ بما يخص الإنسان ، ثم عم كل غائبة وعبر بالصدور ، وهي محل القلوب
التي لها الفكر والتعقل ، كما قال : (وَلكِنْ تَعْمَى
الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) عن الحال فيها ، وهي القلوب ، وأسند الإعلان إلى ذواتهم ،
لأن الإعلان من أفعال الجوارح. ولما كان المضمر في الصدر هو الداعي لما يظهر على
الجوارح ، والسبب في إظهاره قدم الإكنان على الإعلان. وقرأ الجمهور : (ما تُكِنُ) ، من أكن الشيء : أخفاه. وقرأ ابن محيصن ، وحميد ، وابن
السميفع : بفتح التاء وضم الكاف ، من كن الشيء : ستره ، والمعنى : ما يخفون وما
يعلنون من عداوة الرسول ومكايدهم. والظاهر عموم قوله : (مِنْ غائِبَةٍ) ، أي ما من شيء في غاية الغيبوبة والخفاء إلا في كتاب
__________________
عند الله ومكنون
علمه. وقيل : ما غاب عنهم من عذاب السماء والأرض. وقيل : هو يوم القيامة وأهوالها
، قاله الحسن. والكتاب : اللوح المحفوظ. وقيل : أعمال العباد أثبتت ليجازى عليها.
وقال صاحب الغنيان : أي حادثة غائبة ، أو نازلة واقعة. وقال ابن عباس : أي ما من
شيء سرّ في السموات والأرض وعلانية ، فاكتفى بذكر السر عن مقابله. وقال الزمخشري :
سمي الشيء الذي يغيب ويخفى غائبة وخافية ، فكانت التاء فيهما بمنزلتها في العاقبة
والعافية ، ونظيرهما : النطيحة والذبيحة والرمية في أنها أسماء غير صفات ، ويجوز
أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة ، كالرواية في قولهم : ويل للشاعر من رواية السوء
، كأنه قال : وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء ، إلا وقد علمه الله وأحاط به
وأثبته في اللوح المبين الظاهر لمن ينظر فيه من الملائكة. انتهى.
ولما ذكر تعالى
المبدأ والمعاد ، ذكر ما يتعلق بالنبوة ، وكان المعتمد الكبير في إثبات نبوّة محمد
صلىاللهعليهوسلم هو القرآن. ومن جملة إعجازه إخباره بما تضمن من القصص ،
الموافق لما في التوراة والإنجيل ، مع العلم بأنه أمي لم يخالط العلماء ولا اشتغل
بالتعليم. وبنو إسرائيل هم اليهود والنصارى. قص فيه أكثر ما اختلفوا فيه على وجهه
، وبينه لهم ، ولو أنصفوا وأسلموا. ومما اختلفوا فيه أمر المسيح ، تحزبوا فيه ،
فمن قائل هو الله ، ومن قائل ابن الله ، ومن قائل ثالث ثلاثة ، ومن قائل هو نبي
كغيره من الأنبياء ، وقد عقدوا لهم اجتماعات ، وتباينوا في العقائد ، وتناكروا في
أشياء حتى لعن بعضهم بعضا ، والظاهر عموم المؤمنين. وقيل لمن آمن من بني إسرائيل
والقضاء والحكم ، وإن ظهر أنهما مترادفان ، فقيل : المراد به هنا العدل ، أي بعدله
، لأنه لا يقضي إلا بالعدل ، وقيل : المراد بحكمته والحكم. قيل : ويدل عليه قراءة
من قرأ بحكمه ، بكسر الحاء وفتح الكاف ، جمع حكمة ، وهو جناح بن حبيش. ولما كان
القضاء يقتضي تنفيذ ما يقضي به ، والعلم بما يحكم به ، جاءت هاتان الصفتان عقبه ،
وهو العزة : أي الغلبة والقدرة والعلم ، ثم أمره تعالى بالتوكل عليه ، وأخبره أنه
على الحق الواضح الذي لا شك فيه ، وهو كالتعليل للتوكل ، وفيه دليل على أن من كان
على الحق يحق له أن يثق بالله ، فإنه ينصره ولا يخذله.
ولما كان القرآن
وما قص الله فيه لا يكاد يجدي عندهم ، أخبر تعالى عنهم أنهم موتى القلوب ، أو
شبهوا بالموتى ، وإن كانوا أحياء صحاح الأبصار ، لأنهم إذا تلي عليهم لا تعيه
آذانهم ، فكانت حالهم لانتفاء جدوى السماع كحال الموتى. وقرأ الجمهور : (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَ) هنا ، وفي الروم بضم التاء وكسر الميم ، الصم بالرفع ،
ولما كان الميت لا يمكن
أن يسمع ، لم يذكر
له متعلق ، بل نفي الإسماع ، أي لا يقع منك إسماع لهم البتة لعدم القابلية. وأما
الأصم فقد يكون في وقت يمكن إسماعه وسماعه ، فأتى بمتعلق الفعل وهو الدعاء. وإذا
معمولة لتسمع ، وقيد نفي الإسماع أو السماع بهذا الطرف وما بعده على سبيل التأكيد
لحال الأصم ، لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن يولي مدبرا ، كان أبعد عن إدراك صوته.
شبههم أولا
بالموتى ، ثم بالصم في حالة ، ثم بالعمي ، فقال : (وَما أَنْتَ بِهادِي
الْعُمْيِ) حيث يضلون الطريق ، فلا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم ويحولهم
هداة بصراء إلا الله تعالى. وقرأ الجمهور : بهادي العمى ، اسم فاعل مضاف ؛ ويحيى
بن الحارث ، وأبو حيوة : بهاد ، منونا العمي ؛ والأعمش ، وطلحة ، وابن وثاب ، وابن
يعمر ، وحمزة : تهدي ، مضارع هدي ، العمي بالنصب ؛ وابن مسعود : وما أنت تهتدي ،
بزيادة أن بعد ما ، ويهتدي مضارع اهتدى ، والعمي بالرفع ، والمعنى : ليس في وسعك
إدخال الهدى في قلب من عمي عن الحق ولم ينظر إليه بعين قلبه. (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ
بِآياتِنا) ، وهم الذين علم الله أنهم يصدقون بآياته. (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) : منقادون للحق. وقال الزمخشري : مسلمون مخلصون ، من قوله
: (بَلى مَنْ أَسْلَمَ
وَجْهَهُ لِلَّهِ) ، بمعنى جعله سالما لله خالصا. انتهى.
(وَإِذا وَقَعَ
الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) : أي إذا انتجز وعد عذابهم الذي تضمنه القول الأزلي من
الله ، كقوله : (حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ) ، فالمعنى : إذا أراد الله أن ينفذ في الكافرين سابق علمه
فيهم من العذاب ، أخرج لهم دابة تنفذ من الأرض. ووقع : عبارة عن الثبوت واللزوم
والقول ، إما على حذف مضاف ، أي مضمون القول ، وإما أنه أطلق القول على المقول ،
لما كان المقول مؤدى بالقول ، وهو ما وعدوا به من قيام الساعة والعذاب. وقال ابن
مسعود : (وَقَعَ الْقَوْلُ
عَلَيْهِمْ) يكون بموت العلماء ، وذهاب العلم ، ورفع القرآن. انتهى. وروي
أن خروجها حين ينقطع الخير ، ولا يؤمر بمعروف ، ولا ينهى عن منكر ، ولا يبقى منيب
ولا نائب. وفي الحديث : «أن الدابة وطلوع الشمس من المغرب من أول الأشراط» ، ولم
يعين الأول ، وكذلك الدجال ؛ وظاهر الأحاديث أن طلوع الشمس آخرها ، والظاهر أن
الدابة التي تخرج هي واحدة. وروي أنه يخرج في كل بلد دابة مما هو مثبوت نوعها في
الأرض ، وليست واحدة ، فيكون قوله : (دَابَّةً) اسم جنس. واختلفوا في ماهيتها ،
__________________
وشكلها ، ومحل
خروجها ، وعدد خروجها ، ومقدار ما تخرج منها ، وما تفعل بالناس ، وما الذي تخرج به
، اختلافا مضطربا معارضا بعضه بعضا ، ويكذب بعضه بعضا ؛ فاطرحنا ذكره ، لأن نقله
تسويد للورق بما لا يصح ، وتضييع لزمان نقله.
والظاهر أن قوله :
(تُكَلِّمُهُمْ) ، بالتشديد ، وهي قراءة الجمهور ، من الكلام ؛ ويؤيده
قراءة أبيّ : تنبئهم ، وفي بعض القراءات : تحدثهم ، وهي قراءة يحيى بن سلام ؛
وقراءة عبد الله : بأن الناس. قال السدي : تكلمهم ببطلان سائر الأديان سوى
الإسلام. وقيل : نخاطبهم ، فتقول للمؤمن : هذا مؤمن ، وللكافر : هذا كافر. وقيل
معنى تكلمهم : تجرحهم من الكلم ، والتشديد للتكثير ؛ ويؤيده قراءة ابن عباس ،
ومجاهد ، وابن جبير ، وأبي زرعة ، والجحدري ، وأبي حيوة ، وابن أبي عبلة : تكلمهم
، بفتح التاء وسكون الكاف مخفف اللام ، وقراءة من قرأ : تجرحهم مكان تكلمهم. وسأل
أبو الحوراء ابن عباس : تكلم أو تكلم؟ فقال : كل ذلك تفعل ، تكلم المؤمن وتكلم
الكافر. انتهى. وروي : أنها تسم الكافر في جبهته وتربده ، وتمسح على وجه المؤمن
فتبيضه.
وقرأ الكوفيون ،
وزيد بن علي : (أَنَّ النَّاسَ) ، بفتح الهمزة ، وابن مسعود : بأن وتقدم ؛ وباقي السبعة :
إن ، بكسر الهمزة ، فاحتمل الكسر أن يكون من كلام الله ، وهو الظاهر لقوله : (بِآياتِنا) ، واحتمل أن يكون من كلام الدابة. وروي هذا عن ابن عباس ،
وكسرت إن هذا على القول ، إما على إضمار القول ، أو على إجراء تكلمهم إجراء تقول
لهم. ويكون قوله : (بِآياتِنا) على حذف مضاف ، أو لاختصاصها بالله ؛ كما تقول بعض خواص
الملك : خيلنا وبلادنا ، وعلى قراءة الفتح ، فالتقدير بأن كقراءة عبد الله ،
والظاهر أنه متعلق بتكلمهم ، أي تخاطبهم بهذا الكلام. ويجوز أن تكون الباء المنطوق
بها أو المقدرة سببية ، أي تخاطبهم أو تجرحهم بسبب انتفاء إيقانهم بآياتنا.
(وَيَوْمَ نَحْشُرُ
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ ،
حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً
أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا
فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ ، أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا
فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ، وَيَوْمَ
يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا
مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ ، وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها
جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ
شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ ، مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ
مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ
فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ ، إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ
رَبَّ
هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما
يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ،
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ
بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
أي اذكر يوم نحشر
، والحشر : الجمع على عنف. (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ) : أي من الأمم ، ومن هي للتبعيض. (فَوْجاً) : أي جماعة كثيرة. (مِمَّنْ يُكَذِّبُ
بِآياتِنا) : من للبيان ، أي الذين يكذبون. والآيات : الأنبياء ، أو
القرآن ، أو الدلائل ، أقوال. (فَهُمْ يُوزَعُونَ) : تقدم تفسيره في أول قصة سليمان من هذه السورة. وعن ابن
مسعود ، أبو جهل ، والوليد بن المغيرة ، وشيبة بن ربيعة : بين يدي أهل مكة ، ولذلك
يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار. (حَتَّى إِذا جاؤُ) : أي إلى الموقف ؛ (قالَ أَكَذَّبْتُمْ
بِآياتِي) : استفهام توبيخ وتقريع وإهانة ؛ (وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) : الظاهر أن الواو للحال ، أي أوقع تكذيبكم بها غير
متدبرين لها ولا محيطين علما بكنهها؟ ويجوز أن تكون الواو للعطف ، أي أجحدتموها؟
ومع جحودها لم تلقوا أذهانكم لتحققها وتبصرها ، فإن المكتوب إليه قد يجحد أن يكون
الكتاب من عند من كتبه إليه ، ولا يدع مع ذلك أن يقرأه ويحيط بمعانيه علما. وقيل :
(وَلَمْ تُحِيطُوا
بِها عِلْماً) ، أي ببطلانها حتى تعرضوا عنها ، بل كذبتم جاهلين غير
مستدلين. وأم هنا منقطعة ، وينبغي أن تقدر ببل وحدها. انتقل من الاستفهام الذي
يقتضي التوبيخ إلى الاستفهام عن عملهم أيضا على جهة التوبيخ ، أي : أي شيء كنتم
تعملون؟ والمعنى : إن كان لكم عمل أو حجة فهاتوا ، وليس لهم عمل ولا حجة فيما
عملوه إلا الكفر والتكذيب. وماذا بجملته يحتمل أن يكون استفهاما منصوبا بخبر كان ،
وهو تعملون ، وأن يكون ما هو الاستفهام ، وذا موصول بمعنى الذي ، فيكونان مبتدأ
وخبرا ، وكان صلة لذا والعائد محذوف ، أي تعملونه. وقرأ أبو حيوة : أما ذا ،
بتخفيف الميم ، أدخل أداة الاستفهام على اسم الاستفهام على سبيل التوكيد.
(وَوَقَعَ الْقَوْلُ) : أي العذاب الموعود به بسبب ظلمهم ، وهو التكذيب بآيات
الله. (فَهُمْ لا
يَنْطِقُونَ) : أي بحجة ولا عذر لما شغلهم من عذاب الله. وقيل : يختم
على أفواههم فلا ينطقون ، وانتفاء نطقهم يكون في موطن من مواطن القيامة ، أو من
فريق من الناس ، لأن القرآن يقتضي أنهم يتكلمون بحجج في غير هذا الموطن.
ولما ذكر أشياء من
أحوال يوم القيامة ، ليرتدع بسماعها من أراد الله تعالى ارتداعه ، نبههم على ما هو
دليل على التوحيد والحشر والنبوة بما هم يشاهدونه في حال حياتهم ، وهو
تقليب الليل
والنهار من نور إلى ظلمة ، ومن ظلمة إلى نور ، وفاعل ذلك واحد ، وهو الله تعالى ،
فيجب أن يفرد بالعبادة والألوهية. وفي هذا التقليب دليل على القلب من حياة إلى موت
، ومن موت إلى حياة أخرى ، وفيه دليل أيضا على النبوة ، لأن هذا التقليب هو لمنافع
المكلفين ، ولهذا علل ذلك الجعل بقوله : (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) ، وبعثة الأنبياء لتحصيل منافع الخلق ؛ وأضاف الإبصار إلى
النهار على سبيل المجاز ، لما كان يقع فيه أضافه إليه ، كما تقول : ليلك نائم ،
وعلل جعل الليل بقوله : (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) ، أي لأن يقع سكونهم فيه مما يلحقهم من التعب في النهار
واستراحة نفوسهم. قال بعض الرجاز :
النوم راحة
القوى الحسية
|
|
من حركات والقوى
النفسية
|
ولم يقع التقابل
في جعل النهار بالنص على علته ، فيكون التركيب : والنهار لتبصروا فيه ، بل أتى
بقوله : (مُبْصِراً) ، قيدا في جعل النهار ، لا علة للجعل. فقال الزمخشري : هو
مراعى من حيث المعنى ، وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف ، لأن معنى مبصرا : لتبصروا
فيه طريق التقلب في المكاسب. انتهى. والذي يظهر أن هذا من باب ما حذف من أوله ما
أثبت في مقابله ، وحذف من آخر ما أثبت في أوله ، فالتقدير : جعلنا الليل مظلما
لتسكنوا فيه ، والنهار مبصرا لتتصرفوا فيه ؛ فالإظلام ينشأ عنه السكون ، والإبصار
ينشأ عنه التصرف في المصالح ، ويدل عليه قوله تعالى : (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً
لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) ؟ فالسكون علة لجعل الليل مظلما ، والتصرف علة لجعل النهار
مبصرا وتقدم لنا الكلام على نظير هذين الحذفين مشبعا في البقرة في قوله : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ
الَّذِي يَنْعِقُ) .
(إِنَّ فِي ذلِكَ) : أي في هذا الجعل ، (لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ) : لما كان لا ينتفع بالفكر في هذه الآيات إلا المؤمنون ، خصوا
بالذكر ، وإن كانت آيات لهم ولغيرهم. (وَيَوْمَ يُنْفَخُ
فِي الصُّورِ) : تقدم القول في الصور في سورة الأنعام ، وهذه النفخة هي
نفخة الفزع. وروى أبو هريرة أن الملك له في الصور ثلاث نفخات : نفخة الفزع ، وهو
فزع حياة الدنيا وليس بالفزع الأكبر ، ونفخة الصعق ، ونفخة القيام من القبور. وقيل
: نفختان ، جعلوا الفزع والصعق نفخة واحدة ، واستدلوا بقوله : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) ، ويأتي
__________________
الكلام في ذلك إن
شاء الله. وقال صاحب الغنيان : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ
فِي الصُّورِ) للبعث من القبور والحشر ، وعبر هنا بالماضي في قوله : (فَفَزِعَ) ، وإن كان لم يقع إشعارا بصحة وقوعه ، وأنه كائن لا محالة
، وهذه فائدة وضع الماضي موضع المستقبل ، كقوله تعالى : (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) ، بعد قوله : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ
يَوْمَ الْقِيامَةِ) .
(إِلَّا مَنْ شاءَ
اللهُ) : أي فلا ينالهم هذا الفزع لتثبيت الله قلبه. فقال مقاتل :
هم جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت عليهمالسلام. وإذا كان الفزع الأكبر لا ينالهم ، فهم حريون أن لا
ينالهم هذا. وقال الضحاك : الحور العين ، وخزنة النار ، وحملة العرش. وعن جابر :
منهم موسى ، لأنه صعق مرة. وقال أبو هريرة : هم الشهداء ، ورواه أبو هريرة حديثا ،
وهو : «أنهم هم الشهداء عند ربهم يرزقون» ، وهو قول ابن جبير ، قال : هم الشهداء
متقلدو السيوف حول العرش. وقيل : هم المؤمنون لقوله : (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ). قال بعض العلماء : ولم يرد في تعيينهم خبر صحيح ، والكل
محتمل. قال القرطبي : خفي عليه حديث أبي هريرة ، وقد صححه القاضي أبو بكر بن العربي
، فيعول عليه في التعيين ، وغيره اجتهاد. وهذا النفخ هو حقيقة ، إما في القرن ،
وإما في الصور ، وهو قول الأكثرين. وقيل : يجوز أن يكون تمثيلا لدعاء الموتى ، فإن
خروجهم من قبورهم كخروج الجيش عند سماع الصوت ، فيكون ذلك مجازا. والأول قول
الأكثرين ، وهو الصواب ، لكثرة ورود النفخ في الصور في القرآن وفي الحديث الصحيح.
وقيل : ففزع ، ليس من الفزع بمعنى الخوف ، وإنما معناه : أجاب وأسرع إلى البقاء.
(وَكُلٌّ أَتَوْهُ) : المضاف إليه كل محذوف تقديره : وكلهم. وقرأ الجمهور :
آتوه ، اسم فاعل ؛ وعبد الله ؛ وحمزة ، وحفص : أتوه ، فعلا ماضيا ، وفي القراءتين
روعي معنى كل من الجمع ، وقتادة : أتاه ، فعلا ماضيا مسندا الضمير كل على لفظها ،
وجمع (داخِرِينَ) على معناها. وقرأ الحسن ، والأعمش : دخرين ، بغير ألف. قيل
: ومعنى آتوه : حاضرون الموقف بعد النفخة الثانية ، ويجوز أن يراد رجوعهم إلى أمره
وانقيادهم له. (وَتَرَى الْجِبالَ) : هو من رؤية العين تحسبها حال من فاعل ترى ، أو من
الجبال. وجامدة ، من جمد مكانه إذا لم يبرح منه ، وهذه الحال للجبال عقيب النفخ في
الصور ، وهي أول أحوال الجبال ، تموج وتسير ، ثم ينسفها الله فتصير كالعهن ، ثم
تكون هباء منبثا في آخر الأمر.
__________________
(وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ
السَّحابِ) : جملة حالية ، أي تحسبها في رأي العين ثابتة مقيمة في
أماكنها وهي سائرة ، وتشبيه مرورها بمر السحاب. قيل : في كونها تمر مرا حثيثا ،
كما مر السحاب ، وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد ، إذا تحركت لا تكاد تبين
حركتها ، كما قال النابغة الجعدي في صفة جيش :
نار عن مثل
الطود تحسب أنهم
|
|
وقوف لحاج
والركاب تهملج
|
وقيل : شبه مرورها
بمر السحاب في كونها تسير سيرا وسطا ، كما قال الأعشى :
كأن مشيتها من
بيت جارتها
|
|
مر السحابة لا
ريث ولا عجل
|
وحسبان الرائي
الجبال جامدة مع مرورها ، قيل : لهول ذلك اليوم ، فليس له ثبوت ذهن في الفكر في
ذلك حتى يتحقق كونها ليست بجامدة. وقال أبو عبد الله الرازي : الوجه في حسبانهم
أنها جامدة ، أن الأجسام الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهج واحد في السمت ، ظن
الناظر إليها أنها واقفة ، وهي تمر مرا حثيثا. انتهى. وقيل : وصف تعالى الجبال
بصفات مختلفة ، ترجع إلى تفريغ الأرض منها وإبراز ما كانت تواريه. فأول الصفات :
ارتجاجها ، ثم صيرورتها كالعهن المنفوش ، ثم كالهباء بأن تتقطع بعد أن كانت كالعهن
، ثم نسفها ، وهي مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها ، والأرض غير بارزة ،
وبالنسف برزت ، ونسفها بإرسال الرياح عليها ، ثم تطييرها بالريح في الهواء كأنها
غبار ، ثم كونها سرابا ، فإذا نظرت إلى مواضعها لم تجد فيها منها شيئا كالسراب.
وقال مقاتل : بل تقع على الأرض فتسوى بها.
وانتصب (صُنْعَ اللهِ) على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي تليها ، فالعامل فيه
مضمر من لفظه. وقال الزمخشري : (صُنْعَ اللهِ) من المصادر المؤكدة كقوله : (وَعَدَ اللهُ) و (صِبْغَةَ اللهِ) ، إلا أن مؤكده محذوف ، وهو الناصب ليوم ينفخ ، والمعنى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) ، فكان كيت وكيت ، أثاب الله المحسنين ، وعاقب المجرمين ،
ثم قال : (صُنْعَ اللهِ) ، يريد به الإثابة والمعاقبة ، وجعل هذا الصنع من جملة
الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب ، حيث قال : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ
شَيْءٍ) ، يعني : أن مقابلته الحسنة بالثواب ، والسيئة بالعقاب ،
من جملة أحكامه للأشياء وإتقانه لها وإجرائه لها على قضايا الحكمة أنه عالم بما
يفعل العباد ، وبما يستوجبون عليه ، فيكافئهم
__________________
على حسب ذلك. ثم
لخص ذلك بقوله : (مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ) ، إلى آخر الآيتين. فانظر إلى بلاغة هذا الكلام ، وحسن
نظمه وترتيبه ، ومكانة إضماده ، ورصانة تفسيره ، وأخذ بعضه بحجزة بعض ، كأنما أفرغ
إفراغا واحدا ، وما لأمر أعجز القوى وأخرس الشقاشق ، ونحو هذا المصدر ، إذا جاء
عقيب كلام ، جاء كالشاهد لصحته ، والمنادى على سداده ، وأنه ما كان ينبغي أن يكون
إلا كما كان. ألا ترى إلى قوله : (صُنْعَ اللهِ) ، و (صِبْغَةَ اللهِ) ، و (وَعَدَ اللهُ) ، و (فِطْرَتَ اللهِ) ؟ بعد ما رسمها بإضافتها إليه تسمية التعظيم ، كيف تلاها
بقوله : (الَّذِي أَتْقَنَ
كُلَّ شَيْءٍ) ، و (مَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللهِ صِبْغَةً) ، (إِنَّ اللهَ لا
يُخْلِفُ الْمِيعادَ) ، (لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللهِ) ؟ انتهى. وهذا الذي ذكر من شقاشقه وتكثيره في الكلام ،
واحتياله في إدارة ألفاظ القرآن لما عليه ، من مذاهب المعتزلة.
والذي يظهر أن صنع
الله مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة ، وهي جملة الحال ، أي صنع الله بها ذلك ،
وهو قلعها من الأرض ، ومرّها مرّا مثل مر السحاب. وأما قوله : إلا أن مؤكده محذوف ،
وهو الناصب ليوم ينفخ إلى قوله صنع الله ، يريد به الإثابة والمعاقبة ، فذلك لا
يصح ، لأن المصدر المؤكد لمضمون الجملة لا يجوز حذف جملته ، لأنه منصوب بفعل من
لفظه ، فيجتمع حذف الفعل الناصب وحذف الجملة التي أكد مضمونها بالمصدر ، وذلك حذف
كثير مخل. ومن تتبع مساق هذه المصادر التي تؤكد مضمون الجملة ، وجد الجمل مصرحا
بها ، لم يرد الحذف في شيء منها ، إذ الأصل أن لا يحذف المؤكد ، إذ الحذف ينافي
التوكيد ، لأنه من حيث أكد معتنى به ، ومن حيث حذف غير معتنى به. وقيل : انتصب صنع
الله على الإغراء بمعنى ، انظروا صنع الله. وقرأ العربيان ، وابن كثير : يفعلون
بالياء ؛ وباقي السبعة بتاء الخطاب.
ولما ذكر علامات
القيامة ، ذكر أحوال المكلفين بعد قيام الساعة.
والحسنة :
الإيمان. وقال ابن عباس ، والنخعي ، وقتادة : هي لا إله إلا الله ، ورتب على مجيء
المكلف بالحسنة شيئين : أحدهما : أنه له خير منها ، ويظهر أن خيرا ليس أفعل تفضيل
، ومن لابتداء الغاية ، أي له خير من الخيور مبدؤه ونشؤه منها ، أي من جهة هذه
الحسنة ، والخير هنا : الثواب. وهذا قول الحسن ، وابن جريج ، وعكرمة. قال
__________________
عكرمة : ليس شيء
خيرا من لا إله إلا الله ، يريد أنها ليست أفعل التفضيل. وقيل : أفعل التفضيل.
فقال الزمخشري : (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) ، يريد الإضعاف ، وأن العمل ينقضي والثواب يدوم ، وشتان ما
بين فعل العبد وفعل السيد. انتهى. وقوله : وشتان ما بين فعل العبد وفعل السيد ،
تركيب مختلف فيه ، فبعض العلماء منعه ، والصحيح جوازه. وقال ابن عطية : يحتمل أن
يكون للتفضيل ، ويكون في قوله : (مِنْها) ، حذف مضاف تقديره : خير من قدرها واستحقاقها ، بمعنى : أن
الله تعالى تفضل عليه فوق ما تستحق حسنته. قال ابن زيد : يعطى بالواحدة عشرا ،
والداعية إلى هذا التقدير أن الحسنة لا يتصور بينها وبين الثواب تفضيل. انتهى.
وقيل : ثواب المعرفة الحاصلة في الدنيا هي المعرفة الضرورية الحاصلة في الآخرة ،
ولذة النظر إلى وجهه الكريم. وقد دلت الدلائل على أن أشرف السعادات هي هذه اللذة ،
ولو لم تحمل الآية على ذلك ، لزم أن يكون الأكل والشرب خيرا من معرفة الله تعالى ،
وذلك لا يكون.
وقرأ الكوفيون : (مِنْ فَزَعٍ) ، بالتنوين ، (وَيَوْمَئِذٍ) ، منصوب على الظرف معمول لقوله : (آمِنُونَ) ، أو لفزع. ويدل على أنه معمول له قراءة من أضافه إليه ،
أو في موضع الصفة لفزع ، أي كائن في ذلك الوقت. وقرأ باقي السبعة : بإضافة فزع إلى
يومئذ ؛ فكسر الميم العربيان ، وابن كثير ، وإسماعيل بن جعفر ، عن نافع ، وفتحها ،
بناء لإضافته إلى غير متمكن ؛ نافع ، في غير رواية إسماعيل. والتنوين في يومئذ
تنوين العوض ، حذفت الجملة وعوض منها ، والأولى أن تكون الجملة المحذوفة ما قرب من
الظرف ، أي يوم ، إذ جاء بالحسنة ، ويجوز أن يكون التقدير : يوم إذ ترى الجبال ،
ويجوز أن يكون التقدير : يوم إذ ينفخ في الصور ، ولا سيما إذا فسر بأنه نفخ القيام
من القبور للحساب ، ويكون الفزع إذ ذاك واحدا. وقال أبو عليّ ما معناه : من فزع ،
بالتنوين ، أو بالإضافة ، ويجوز أن يراد به فزع واحد ، وأن يراد به الكثرة ، لأنه
مصدر. فإن أريد الكثرة ، شمل كل فزع يكون في القيامة ، وإن أريد الواحد ، فهو الذي
أشير إليه بقوله : (لا يَحْزُنُهُمُ
الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) .
وقال الزمخشري :
فإن قلت : ما الفرق بين الفزعين؟ قلت : الفزع الأول : ما لا يخلو منه أحد عند
الإحساس بشدة نفع ، وهو يفجأ من رعب وهيبة ، وإن كان المحسن يأمن لحاق الضرر به.
والثاني : الخوف من العذاب. انتهى. والسيئة : الكفر والمعاصي ممن حتم الله عليه من
أهل المشيئة بدخول النار. وخصت الوجوه ، إذ كانت أشرف الأعضاء ،
__________________
ويلزم من كبها في
النار كب الجميع ، أو عبر بالوجه عن جملة الإنسان ، كما يعبر عنها بالرأس والرقبة
، كما قال : (فَكُبْكِبُوا فِيها) ، فكأنه قيل : فكبوا في النار. والظاهر من كبت ، أنهم
يلقون في النار منكوسين ، قاله أبو العالية ، أعلاهم قبل أسفلهم. ويجوز أن يكون
ذلك كناية عن طرحهم في النار ، قاله الضحاك. (هَلْ تُجْزَوْنَ) : خطاب لهم على إضمار القول ، أي يقال لهم وقت الكب : هل
تجزون.
ثم أمر تعالى نبيه
أن يقول : (إِنَّما أُمِرْتُ) ، والآمر هو الله تعالى على لسان جبريل ، أو دليل العقل
على وحدانية الله تعالى. (أَنْ أَعْبُدَ) : أي أفرده بالعبادة ، ولا أتخذ معه شريكا ، كما فعلت قريش
، وهذه إشارة تعظيم كقوله : (وَهذا كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ) ، هذا ذكر من معي من حيث هي موطن نبيه ومهبط وحيه. والبلدة
: مكة ، وأسند التحريم إليه تشريفا لها واختصاصا ، ولا تعارض بين قوله : (الَّذِي حَرَّمَها) ، وقوله عليهالسلام : «إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة» ، لأن إسناد ذلك
إلى الله من حيث كان بقضائه وسابق علمه ، وإسناده إلى إبراهيم من حيث كان ظهور ذلك
بدعائه ورغبته وتبليغه لأمته. وفي قوله : (حَرَّمَها) ، تنبيه بنعمته على قريش ، إذ جعل بلدتهم آمنة من الغارات
والفتن التي تكون في بلاد العرب ، وأهلك من أرادها بسوء. وقرأ الجمهور : الذي :
صفة للرب. وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس : التي حرمها : صفة للبلدة ، ولما أخبر أنه
مالك هذه البلدة ، أخبر أنه يملك كل شيء فقال : (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) ، أي جميع الأشياء داخلة في ربوبيته ، فشرفت البلدة بذكر
اندراجها تحت ربوبيته على جهة الخصوص ، وعلى جهة العموم. (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ) : أي من المستسلمين المنقادين لأمر الله ، فاعبده كما
أمرني ، أو من الحنفاء الثابتين على ملة الإسلام المشار إليهم في قوله : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) ، (وَأَنْ أَتْلُوَا
الْقُرْآنَ) ، إما من التلاوة ، أي : وأن أتلو عليكم القرآن ، وهذا
الظاهر ، إذ بعده التقسيم المناسب للتلاوة ، وإما من المتلو ، أي : وأن أتبع
القرآن ، كقوله : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى
إِلَيْكَ) . وقرأ الجمهور : وأن أتلو. وقرأ عبد الله : وأن اتل ، بغير
واو ، أمرا من تلا ، فجاز أن تكون أن مصدرية وصلت بالأمر ، وجاز أن تكون مفسرة على
إضمار : وأمرت أن أتل ، أي اتل. وقرأ أبي : واتل هذا القرآن ، جعله أمرا دون أن. (فَمَنِ اهْتَدى) ، به ووحد الله ونبيه وآمن بما جاء به ، فثمرة هدايته
مختصة به. (وَمَنْ ضَلَ) ، فوبال إضلاله مختص به ،
__________________
وحذف جواب من ضل
لدلالة جواب مقابله عليه ، أو يقدر في قوله : (فَقُلْ إِنَّما أَنَا
مِنَ الْمُنْذِرِينَ) ضمير حتى يربط الجزاء بالشرط ، إذ أداة الشرط اسم وليس
ظرفا ، فلا بد في جملة الجواب من ذكر يعود عليه ملفوظ به أو مقدر ، فتكون هذه
الجملة هي جواب الشرط ، ويقدر الضمير من المنذرين له ، ليس علي إلا إنذاره ، وأما
هدايته فإلى الله. (وَقُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ) : أمر أن يقول ذلك ، فيحمد ربه على ما خصه به من شرف
النبوة والرسالة ، واختصه من رفيع المنزلة. (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) : تهديد لأعدائه بما يريهم الله من آياته التي تضطرهم إلى
معرفتها والإقرار أنها آيات الله. قال الحسن : وذلك في الآخرة حتى لا تنفعهم
المعرفة. وقال الكلبي : في الدنيا ؛ وهي الدخان وانشقاق القمر وما حل بهم من نقمات
الله. وقيل : يوم بدر. وقيل : خروج الدابة ، ولو بعد حين. وقيل : آياته في أنفسكم
وفي سائر ما خلق مثل قوله : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا
فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) . وقيل : معجزات الرسول ، وأضافها إليه لأنه هو مجريها على
يدي رسوله ، ومظهرها من جهته. (فَتَعْرِفُونَها) : أي حقيقتها ، ولا يسعكم جحودها. وقرأ الجمهور : عما
يعملون ، بياء الغيبة ، التفاتا من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة ؛ ونافع ، وابن
عامر : بتاء الخطاب لقوله : (سَيُرِيكُمْ). ولما قسمهم إلى مهتد وضال ، أخبر تعالى أنه محيط بأعمالهم
، غير غافل عنها.
__________________
سورة القصص
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم
(١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى
وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي
الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ
أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ
وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي
الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا
يَحْذَرُونَ (٦) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ
عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ
إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ
لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما
كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا
تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ
(٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا
أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ
لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١)
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى
أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى
أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ
حَقٌّ
وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ
حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ
عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا
مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى
الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ
نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦)
قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ
بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨)
فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ
أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ
جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩)
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ
يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠)
فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ
يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ
عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ
تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ
وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ
فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ
إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ
أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا
تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ
اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ
تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما
أُرِيدُ
أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ
ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ
وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨) فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ
بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي
آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ
لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ
الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي
أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها
تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ
وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ
بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ
بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً
فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ
يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي
رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ
عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما
بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ
مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا
بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ
بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا
يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ
لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي
صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ
الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ
وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الظَّالِمِينَ
(٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا
يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ
الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ
مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً
وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ
إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤)
وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ
ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا
مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً
مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً
فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ
الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ
يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا
إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ
أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ
يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ
مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ
يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ
أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا
عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا
نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ
يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ
(٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ
نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً
مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ
قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ
بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ
مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ
آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما
أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ
اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً
حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ
يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ
أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ
عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما
غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ
ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا
الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ
ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ
يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ
صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما
يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا
يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ
(٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ
وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ
اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ
اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ
غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢)
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ
وَلِتَبْتَغُوا
مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ
أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ
أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ
وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥) إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ
مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ
لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ
إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ
الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ
إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ
الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ
يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ
أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ
الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ
يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ
لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ
اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ
(٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ
يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ
الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ
عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢) تِلْكَ
الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ
وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ
خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا
السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى
وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ
الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ
ظَهِيراً
لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ
إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا
تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ
وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)
الوكز : الضرب
باليد مجموعا كعقد ثلاث وسبعين. وقيل : بجمع كفه. وقيل : الوكز والنكز واللهز
واللكز : الدفع بأطراف الأصابع. وقيل : الوكز على القلب ، واللكز على اللحى. وقيل
: الوكز بأطراف الأصابع. ذاد : طرد ودفع وقال الفراء : حبس جذوت الشيء جذوا :
قطعته ، والجذوة : عود فيه نار بلا لهب. قال ابن مقبل :
باتت حواطب ليلى
يلتمسن لها
|
|
جزل الجذا غير
خوّار ولا ذعر
|
الخوّار : الذي
يتقصف ، والذعر الذي فيه تعب. وقال آخر :
وألقى على قبس
من النار جذوة
|
|
عليها حمثها
والتهابها
|
وقيل : الجذوة
مثلث الجيم ، العود الغليظ ، كانت في رأسه نار أو لم تكن. وقال السلمي يصف الصلى :
حمى حب هذي
النار حب خليلتي
|
|
وحب الغواني فهو
دون الحبائب
|
وبدلت بعد المسك
والبان شقوة
|
|
ذخان الجذا في
رأس أشمط شاحب
|
الشاطئ والشط :
حفة الوادي. الفصاحة : بسط اللسان في إيضاح المعنى المقصود ، ومقابله : اللكن.
الردء : المعين الذي يشد به في الأمر ، فعل بمعنى مفعول ، فهو اسم لما يعان به ،
كما أن الدفء اسم لما يدفأ به. قال سلامة بن جندل :
وردء كل أبيض
مشرفي
|
|
شحيذ الحد عضب
ذي فلول
|
ويقال : ردأت
الحائط أردؤه ، إذا دعمته بخشبة لئلا يسقط. وقال أبو عبيدة : العون ، ويقال : ردأته
على عدوه : أعنته. المقبوح : المطرود ، وقال الشاعر :
ألا قبح الله
البراجم كلها
|
|
وجدّع يربوعا
وعفر دارما
|
ثوى يثوي ثواء :
أقام ، قال الشاعر :
لقد كان في حول
ثواء ثويته
|
|
تقضي لبانات
ويسأم سائم
|
وقال العجاج :
فبات حيث يدخل
الثوى.
أي الضيف المقيم.
البطر : الطغيان. السرمد : الدائم الذي لا ينقطع.
(طسم ، تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْمُبِينِ ، نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ
بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ
أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ
وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ، وَنُرِيدُ أَنْ
نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ
فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ).
هذه السورة مكية
كلها ، قاله الحسن وعطاء وعكرمة. وقال مقاتل : فيها من المدني (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِهِ) إلى قوله : (لا نَبْتَغِي
الْجاهِلِينَ). وقيل : نزلت بين مكة والجحفة. وقال ابن عباس : بالجحفة ،
في خروجه عليهالسلام للهجرة. وقال ابن سلام : نزل (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) ، بالجحفة ، وقت الهجرة إلى المدينة. ومناسبة أول هذه
السورة لآخر السورة قبلها أنه أمره تعالى بحمده ، ثم قال : (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) .
وكان مما فسر به
آياته تعالى معجزات الرسول ، وأنه أضافها تعالى إليه ، إذ كان هو المخبر بها على
قدمه فقال : (تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ) ، إذ كان الكتاب هو أعظم المعجزات وأكبر الآيات البينات ،
والظاهر أن الكتاب هو القرآن ، وقيل : اللوح المحفوظ. (نَتْلُوا) : أي نقرأ عليك بقراءة جبريل ، أو نقص. ومفعول (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ) : أي بعض نبأ ، وبالحق متعلق بنتلو ، أي محقين ، أو في
موضع الحال من نبأ ، أي متلبسا بالحق ، وخص المؤمنين لأنهم هم المنتفعون بالتلاوة.
(عَلا فِي الْأَرْضِ) : أي تجبر واستكبر حتى ادّعى الربوبية والإلهية. والأرض :
أرض مصر ، والشيع : الفرق. ملك القبط واستعبد بني إسرائيل ، أي يشيعونه على ما
يريد ، أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته ، أو ناسا في بناء وناسا في حفر ، وغير ذلك من
الحرف الممتهنة. ومن لم يستخدمه ، ضرب عليه الجزية ، أو أغرى بعضهم ببعض ليكونوا
له أطوع ، والطائفة المستضعفة بنو إسرائيل. والظاهر أن (يَسْتَضْعِفُ) استئناف يبين حال بعض الشيع ، ويجوز أن يكون حالا من ضمير
، وجعل وأن تكون صفة
__________________
لشيعا ، ويذبح
تبيين للاستضعاف ، وتفسير أو في موضع الحال من ضمير يستضعف ، أو في موضع الصفة
لطائفة. وقرأ الجمهور : يذبح ، مضعفا ؛ وأبو حيوة ، وابن محيصن : بفتح الياء وسكون
الذال.
(إِنَّهُ كانَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ) : علة لتجبره ولتذبيح الأبناء ، إذ ليس في ذلك إلّا مجرد
الفساد. (وَنُرِيدُ) : حكاية حال ماضية ، والجملة معطوفة على قوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ) ، لأن كلتيهما تفسير للبناء ، ويضعف أن يكون حالا من
الضمير في يستضعف ، لاحتياجه إلى إضمار مبتدأ ، أي ونحن نريد ، وهو ضعيف. وإذا
كانت حالا ، فكيف يجتمع استضعاف فرعون وإرادة المنة من الله ولا يمكن الاقتران؟
فقيل : لما كانت المنة بخلاصهم من فرعون قرينة الوقوع ، جعلت إرادة وقوعها كأنها
مقارنة لاستضعافهم. و (أَنْ نَمُنَ) : أي بخلاصهم من فرعون وإغراقه. (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) : أي مقتدى بهم في الدين والدنيا. وقال مجاهد : دعاة إلى
الخير. وقال قتادة : ولاة ، كقولهم : وجعلكم ملوكا. وقال الضحاك : أنبياء.
(وَنَجْعَلَهُمُ
الْوارِثِينَ) : أي يرثون فرعون وقومه ، ملكهم وما كان لهم. وعن علي ،
الوارثون هم : يوسف عليهالسلام وولده ، وعن قتادة أيضا : ورثوا أرض مصر والشام. وقرأ
الجمهور : (وَنُمَكِّنَ) ، عطفا على نمن. وقرأ الأعمش : ولنمكن ، بلام كي ، أي
وأردنا ذلك لنمكن ، أو ولنمكن فعلنا ذلك. والتمكين : التوطئة في الأرض ، هي أرض
مصر والشام ، بحيث ينفذ أمرهم ويتسلطون على من سواهم. وقرأ الجمهور : (وَنُرِيَ) ، مضارع أرينا ، ونصب ما بعده. وعبد الله ، وحمزة ،
والكسائي : ونرى ، مضارع رأى ، ورفع ما بعده. (وَهامانَ) : وزير فرعون وأحد رجاله ، وذكر لنباهته في قومه ومحله من
الكفر. ألا ترى إلى قوله له : (يا هامانُ ابْنِ لِي
صَرْحاً) ؟ ويحذرون أي زوال ملكهم وإهلاكهم على يدي مولود من بني
إسرائيل.
(وَأَوْحَيْنا إِلى
أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ
وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ ، فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا
وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ ، وَقالَتِ
امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا
أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).
إيحاء الله إلى أم
موسى : إلهام وقذف في القلب ، قاله ابن عباس وقتادة ؛ أو منام ،
__________________
قاله قوم ؛ أو
إرسال ملك ، قاله قطرب وقوم ، وهذا هو الظاهر لقوله : (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ
مِنَ الْمُرْسَلِينَ). وأجمعوا على أنها لم تكن نبية ، فإن كان الوحي بإرسال ملك
، كما هو الظاهر ، فهو كإرساله للأقرع والأبرص والأعمى ، وكما روي من تكليم
الملائكة للناس. والظاهر أن هذا الإيحاء هو بعد الولادة ، فيكون ثم جملة محذوفة ،
أي ووضعت موسى أمه في زمن الذبح وخافت عليه. (وَأَوْحَيْنا) ، و (أَنْ) تفسيرية ، أو مصدرية. وقيل : كان الوحي قبل الولادة. وقرأ
عمرو بن عبد الواحد ، وعمر بن عبد العزيز : أن أرضعيه ، بكسر النون بعد حذف الهمزة
على غير قياس ، لأن القياس فيه نقل حركة الهمزة ، وهي الفتحة ، إلى النون ، كقراءة
ورش.
(فَإِذا خِفْتِ
عَلَيْهِ) من جواسيس فرعون ونقبائه الذين يقتلون الأولاد ، (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ). قال الجنيد : إذا خفت حفظه بواسطة ، فسلميه إلينا بإلقائه
في البحر ، واقطعي عنك شفقتك وتدبيرك. وزمان إرضاعه ثلاثة أشهر ، أو أربعة ، أو
ثمانية ، أقوال. واليم هنا : نيل مصر. (وَلا تَخافِي) : أي من غرقه وضياعه ، ومن التقاطه ، فيقتل ، (وَلا تَحْزَنِي) لمفارقتك إياه ، (إِنَّا رَادُّوهُ
إِلَيْكِ) ، وعد صادق يسكن قلبها ويبشرها بحياته وجعله رسولا ، وقد
تقدم في سورة طه طرف من حديث التابوت ورميه في اليم وكيفية التقاطه ، فأغنى عن
إعادته. واستفصح الأصمعي امرأة من العرب أنشدت شعرا فقالت : أبعد قوله تعالى (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) الآية ، فصاحة؟ وقد جمع بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.
(فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ) : في الكلام حذف تقديره : ففعلت ما أمرت به من إرضاعه ومن
إلقائه في اليم. واللام في (لِيَكُونَ) للتعليل المجازي ، لما كان مآل التقاطه وتربيته إلى كونه
عدوا لهم (وَحَزَناً) ، وإن كانوا لم يلتقطوه إلا للتبني ، وكونه يكون حبيبا لهم
، ويعبر عن هذه اللام بلام العاقبة وبلام الصيرورة. وقرأ الجمهور : وحزنا ، بفتح
الحاء والزاي ، وهي لغة قريش. وقرأ ابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي
، وابن سعدان : بضم الحاء وإسكان الزاي. والخاطئ : المتعمد الخطأ ، والمخطئ : الذي
لا يتعمده. واحتمل أن يكون في الكلام حذف ، وهو الظاهر ، أي فكان لهم عدوا وحزنا ،
أي لأنهم كانوا خاطئين ، لم يرجعوا إلى دينه ، وتعمدوا الجرائم والكفر بالله. وقال
المبرد : خاطئين على أنفسهم بالتقاطه. وقيل : بقتل أولاد بني إسرائيل. وقيل : في
تربية عدوّهم.
وأضيف الجند هنا
وفيما قبل إلى فرعون وهامان ، وإن كان هامان لا جنود له ، لأن أمر الجنود لا
يستقيم إلا بالملك والوزير ، إذ بالوزير تحصل الأموال ، وبالملك وقهره يتوصل
إلى تحصيلها ، ولا
يكون قوام الجند إلا بالأموال. وقرىء : خاطيين ، بغير همز ، فاحتمل أن يكون أصله
الهمز. وحذفت ، وهو الظاهر. وقيل : من خطا يخطو ، أي خاطين الصواب.
ولما التقطوه ،
هموا بقتله ، وخافوا أن يكون المولود الذي يحذرون زوال ملكهم على يديه ، فألقى
الله محبته في قلب آسية امرأة فرعون ، ونقلوا أنها رأت نورا في التابوت ، وتسهل
عليها فتحه بعد تعسر فتحه على يدي غيرها ، وأن بنت فرعون أحبته أيضا لبرئها من
دائها الذي كان بها ، وهو البرص ، بإخبار من أخبر أنه لا يبرئها إلا ريق إنسان
يوجد في تابوت في البحر.
وقرة : خبر مبتدأ
محذوف ، أي هو قرة ، ويبعد أن يكون مبتدأ والخبر (لا تَقْتُلُوهُ) ؛ وتقدم شرح قرة في آخر الفرقان. وذكر أنها لما قالت
لفرعون : (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) ، قال : لك لا لي. وروي أنها قالت له : لعله من قوم آخرين
ليس من بني إسرائيل ، وأتبعت النهي عن قتله برجائها أن ينفعهم لظهور مخايل الخير
فيه من النور الذي رأته ، ومن برإ البرص ، أو يتخذوه ولدا ، فإنه أهل لذلك. (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) : جملة حالية ، أي لا يشعرون أنه الذي يفسد ملكهم على يديه
، قاله قتادة ؛ أو أنه عدو لهم ، قاله مجاهد ؛ أو أني أفعل ما أريد لا ما يريدون ،
قاله محمد بن إسحاق. والظاهر أنه من كلام الله تعالى. وقيل : هو من كلام امرأة
فرعون ، أي قالت ذلك لفرعون ، والذين أشاروا بقتله لا يشعرون بمقالتها له واستعطاف
قلبه عليه ، لئلا يغروه بقتله.
وقال الزمخشري :
تقدير الكلام : (فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) ، و (قالَتِ امْرَأَتُ
فِرْعَوْنَ) كذا ، (وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ) أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه وتبنيه.
وقوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ) الآية ، جملة اعتراضية واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه
مؤكدة لمعنى خطئهم. انتهى. ومتى أمكن حمل الكلام على ظاهره من غير فصل كان أحسن.
(وَأَصْبَحَ فُؤادُ
أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى
قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ
فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ، وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ
الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ
يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ ، فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ
تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ، وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ
حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).
(وَأَصْبَحَ) : أي صار فارغا من العقل ، وذلك حين بلغها أنه وقع في يد
فرعون ، فدهمها أمر مثله لا يثبت معه العقل ، لا سيما عقل امرأة خافت على ولدها
حتى طرحته في اليم ، رجاء نجاته من الذبح ؛ هذا مع الوحي إليها أن الله يرده إليها
ويجعله رسولا ، ومع ذلك فطاش لبها وغلب عليها ما يغلب على البشر عند مفاجأة الخطب
العظيم ، ثم استكانت بعد ذلك لموعود الله. وقرأ أحمد بن موسى ، عن أبي عمرو فواد :
بالواو. وقال ابن عباس : فارغا من كل شيء إلا من ذكر موسى. وقال مالك : هو ذهاب
العقل. وقالت فرقة : فارغا من الصبر. وقال ابن زيد : فارغا من وعد الله ووحيه
إليها ، تناسته من الهم. وقال أبو عبيدة : فارغا من الحزن ، إذ لم يغرق ، وهذا فيه
بعد ، وتبعده القراءات الشواذ التي في اللفظة. وقرأ فضالة بن عبيد ، والحسن ،
ويزيد بن قطيب ، وأبو زرعة بن عمرو بن جرير : فزعا ، بالزاي والعين المهملة ، من
الفزع ، وهو الخوف والقلق ؛ وابن عباس : قرعا ، بالقاف وكسر الراء وإسكانها ، من
قرع رأسه ، إذا انحسر شعره ، كأنه خلا من كل شيء إلا من ذكر موسى. وقيل : قرعا ،
بالسكون ، مصدر ، أي يقرع قرعا من القارعة ، وهي الهم العظيم. وقرأ بعض الصحابة :
فزغا ، بالفاء مكسورة وسكون الزاي والغين المنقوطة ، ومعناه : ذاهبا هدرا تالفا من
الهم والحزن. ومنه قول طليحة الأسدي في أخيه حبال :
فإن يك قتلي قد
أصيبت نفوسهم
|
|
فلن تذهبوا فزغا
بقتل حبال
|
أي : بقتل حبال
فزغا ، أي هدرا لا يطلب له بثأر ولا يؤخذ. وقرأ الخليل بن أحمد : فرغا ، بضم الفاء
والراء. (إِنْ كادَتْ
لَتُبْدِي بِهِ) : هي إن المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة. وقيل :
إن نافية ، واللام بمعنى إلّا ، وهذا قول كوفي ، والإبداء : إظهار الشيء. والظاهر
أن الضمير في به عائد على موسى عليهالسلام ، فقيل : الباء زائدة ، أي : لتظهره. وقيل : مفعول تبدي
محذوف ، أي لتبدي القول به ، أي بسببه وأنه ولدها. وقيل : الضمير في به للوحي ، أي
لتبدي بالوحي. وقال ابن عباس : كادت تصيح عند إلقائه في البحر وا ابناه. وقيل :
عند رؤيتها تلاطم الأمواج به (لَوْ لا أَنْ
رَبَطْنا عَلى قَلْبِها). قال قتادة : بالإيمان. وقال السدي : بالعصمة. وقال الصادق
: باليقين. وقال ابن عطاء : بالوحي ، و (لِتَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ). فعلنا ذلك ، أي المصدقين بوعد الله ، وأنه كائن لا محالة.
والربط على القلب كناية عن قراره واطمئنانه ، شبه بما يربط مخافة الانفلات.
وقال الزمخشري :
ويجوز : وأصبح فؤادها فارغا من الهم حين سمعت أن فرعون
عطف عليه وتبناه. (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي) بأنه ولدها ، لأنها لم تملك نفسها فرحا وسرورا بما سمعت ،
لو لا أنا ظلمنا قلبها وسكّنّا قلقه الذي حدث به من شدة الفرح والابتهاج. (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الواثقين بوعد الله ، لا بتبني فرعون وتعطفه. انتهى. وما
ذهب إليه الزمخشري من تجويز كونه فارغا من الهم إلى آخره ، خلاف ما فهمه المفسرون
من الآية ، وجواب لو لا محذوف تقديره : لكادت تبدي به ، ودل عليه قوله : (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) ، وهذا تشبيه بقوله : (وَهَمَّ بِها لَوْ لا
أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) .
(وَقالَتْ لِأُخْتِهِ) ، طمعا منها في التعرف بحاله. (قُصِّيهِ) : أي اتبعي أثره وتتبعي خبره. فروي أنها خرجت في سكك
المدينة مختفية ، فرأته عند قوم من حاشية امرأة فرعون يتطلبون له امرأة ترضعه ،
حين لم يقبل المراضع ، واسم أخته مريم ، وقيل : كلثمة ، وقيل : كلثوم ، وفي الكلام
حذف ، أي فقصت أثره. (فَبَصُرَتْ بِهِ) : أي أبصرته ؛ (عَنْ جُنُبٍ) ، أي عن بعد ؛ (وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ) بتطلبها له ولا بإبصارها. وقيل : معنى (عَنْ جُنُبٍ) : عن شوق إليه ، حكاه أبو عمرو بن العلاء وقال : هي لغة
جذام ، يقولون : جنبت إليك : اشتقت. وقال الكرماني : جنب صفة لموصوف محذوف ، أي عن
مكان جنب ، يريد بعيد. وقيل : عن جانب ، لأنها كانت تمشي على الشط ، وهم لا يشعرون
أنها تقص. وقيل : لا يشعرون أنها أخته. وقيل : لا يشعرون أنه عدو لهم ، قاله
مجاهد. وقرأ الجمهور : عن جنب ، بضمتين. وقرأ قتادة : فبصرت ، بفتح الصاد ؛ وعيسى
: بكسرها. وقرأ قتادة ، والحسن ، والأعرج ، وزيد بن علي : جنب ، بفتح الجيم وسكون
النون. وعن قتادة : بفتحهما أيضا. وعن الحسن : بضم الجيم وإسكان النون. وقرأ
النعمان بن سالم : عن جانب ، والجنب والجانب والجنابة والجناب بمعنى واحد. وقال
قتادة : معنى عن جنب : أنها تنظر إليه كأنها لا تريده. والتحريم هنا بمعنى المنع ،
أي منعناه أن يرضع ثدي امرأة ؛ والمراضع جمع مرضع ، وهي المرأة التي ترضع ؛ أو جمع
مرضع ، وهو موضع الرضاع ، وهو الثدي ، أو الإرضاع. (مِنْ قَبْلُ) : أي من أول أمره. وقيل : من قبل قصها أثره وإتيانه على من
هو عنده.
(فَقالَتْ هَلْ
أَدُلُّكُمْ) : أي أرشدكم إلى (أَهْلِ بَيْتٍ
يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) ، لكونهم فيهم شفقة ورحمة لمن يكفلونه وحسن تربية. ودل
قوله : (وَحَرَّمْنا
__________________
عَلَيْهِ
الْمَراضِعَ) ، أنه عرض عليه جملة من المرضعات ، والظاهر أن الضمير في
له عائد على موسى. قيل : ويحتمل أن يعود على الملك الذي كان الطفل في ظاهر أمره من
جملته. وقال ابن جريج : تأول القوم أن الضمير للطفل فقالوا لها : إنك قد عرفتيه ،
فأخبرينا من هو؟ فقالت : ما أردت ، إلا أنهم ناصحون للملك ، فتخلصت منهم بهذا
التأويل. وفي الكلام حذف تقديره : فمرت بهم إلى أمه ، فكلموها في إرضاعه ؛ أو
فجاءت بأمه إليهم ، فكلموها في شأنه ، فأرضعته ، فالتقم ثديها. ويروى أن فرعون قال
لها : ما سبب قبول هذا الطفل ثديك ، وقد أبى كل ثدي؟ فقالت : إني امرأة طيبة الريح
، طيبة اللبن ، لا أوتي بصبي إلا قبلني ، فدفعه إليها ، وذهبت به إلى بيتها ،
وأجرى لها كل يوم دينارا. وجاز لها أخذه لأنه مال حربي ، فهو مباح ، وليس ذلك أجرة
رضاع. (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ) ، كما قال تعالى : (إِنَّا رَادُّوهُ
إِلَيْكِ) ، ودمع الفرح بارد ، وعين المهموم حرى سخنة ، وقال أبو
تمام :
فأما عيون
العاشقين فأسخنت
|
|
وأما عيون
الشامتين فقرت
|
لما أنجز تعالى
وعده في الردّ ، ثبت عندها أنه سيكون نبيا رسولا. (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌ) ، فعلنا ذلك. ولا يعلمون ، أي أن وعد الله حق ، فهم
مرتابون فيه ؛ أو لا يعلمون أن الرد إنما كان لعلمها بصدق وعد الله. ولكن أكثر
الناس لا يعلمون بأن الرد كان لذلك ، وفي قوله : (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌ) دلالة على ضعف من ذهب إلى أن الإيحاء إليها كان إلهاما أو
مناما ، لأن ذلك يبعد أن يقال فيه وعد. وقوله : ولتعلم وقوع ذلك فهو علم مشاهدة ،
إذ كانت عالمة أن ذلك سيكون ، وأكثرهم هم القبط ، ولا يعلمون سرّ القضاء. وقال
الضحاك : لا يعلمون مصالحهم وصلاح عواقبهم. وقال الضحاك أيضا ، ومقاتل : لا يعلمون
أن الله وعدها رده إليها ، وتقدم تفسير (وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ) إلى (الْمُحْسِنِينَ) في سورة يوسف عليهالسلام.
(وَدَخَلَ
الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ
يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ
شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ
هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ، قالَ رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
، قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ،
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ
بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ، فَلَمَّا
أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ
أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ
تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ،
وَجاءَ
رَجُلٌ
مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ
بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ، فَخَرَجَ مِنْها
خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
(الْمَدِينَةَ) ، قال ابن عباس : هي منف. ركب فرعون يوما وسار إليها ،
فعلم موسى عليهالسلام بركوبه ، فلحق بتلك المدينة في وقت القائلة ، وعنه بين
العشاء والعتمة. وقال ابن إسحاق : المدينة مصر بنفسها ، وكان موسى قد بدت منه
مجاهرة لفرعون وقومه بما يكرهون ، فاختفى وخاف ، فدخلها متنكرا حذرا متغفلا للناس.
وقال ابن زيد : كان فرعون قد أخرجه من المدينة ، فغاب عنها سنين ، فنسي ، فجاء
والناس في غفلة بنسيانهم له وبعد عهدهم به. وقيل : كان يوم عيد ، وهم مشغولون
بلهوهم. وقيل : خرج من قصر فرعون ودخل مصر. وقيل : المدينة عين شمس. وقيل : قرية
على فرسخين من مصر يقال لها حابين. وقيل : الإسكندرية. وقرأ أبو طالب القارئ : (عَلى حِينِ) ، بنصب نون حين ، ووجهه أنه أجرى المصدر مجرى الفعل ، كأنه
قال : على حين غفل أهلها ، فبناه كما بناه حين أضيف إلى الجملة المصدرة بفعل ماض ،
كقوله :
على حين عاتبت
المشيب على الصبا
وهذا توجيه شذوذ.
وقرأ نعيم بن ميسرة : يقتلان. بإدغام التاء في التاء ونقل فتحتها إلى القاف. قيل :
كانا يقتتلان في الدين ، إذ أحدهما إسرائيلي مؤمن والآخر قبطي. وقيل : يقتتلان ،
في أن كلف القبطي حمل الحطب إلى مطبخ فرعون على ظهر الإسرائيلي ، ويقتتلان صفة
لرجلين. وقال ابن عطية : يقتتلان في موضع الحال. انتهى. والحال من النكرة أجازه
سيبويه من غير شرط. (هذا مِنْ شِيعَتِهِ) : أي ممن شايعه على دينه ، وهو الإسرائيلي. قيل : وهو
السامري ، وهذا من عدوه ، أي من القبط. وقيل : اسمه فاتون ، وهذا حكاية حال ، وقد
كانا حاضرين حالة وجد أن موسى لهما ، أو لحكاية الحال ، عبر عن غائب ماض باسم
الإشارة الذي هو موضوع للحاضر. وقال المبرد : العرب تشير بهذا إلى الغائب. قال
جرير :
هذا ابن عمي في
دمشق خليفة
|
|
لو شئت ساقكم
إليّ قطينا
|
وقرأ الجمهور : (فَاسْتَغاثَهُ) ، أي طلب غوثه ونصره على القبطي. وقرأ سيبويه ، وابن مقسم
، والزعفراني : بالعين المهملة والنون بدل الثاء ، أي طلب منه الإعانة على القبطي.
قال أبو القاسم يوسف بن علي بن جبارة : والاختيار قراءة ابن مقسم ، لأن الإعانة
أولى في
هذا الباب. وقال
ابن عطية : ذكرها الأخفش ، وهي تصحيف لا قراءة. انتهى. وليست تصحيفا ، فقد نقلها
ابن خالويه عن سيبويه ، وابن جبارة عن ابن مقسم والزعفراني. وروي أنه لما اشتد
التناكر بينهما قال القبطي لموسى : لقد هممت أن أحمله عليك ، يعني الحطب ، فاشتد
غضب موسى ، وكان قد أوتي قوة ، (فَوَكَزَهُ) ، فمات. وقرأ عبد الله فلكزه ، باللام ، وعنه : فنكزه ،
بالنون. قال قتادة : وكزه بعصاه ؛ وغيره قال : بجمع كفه ، والظاهر أن فاعل (فَقَضى) ضمير عائد على موسى. وقيل : يعود على الله ، أي فقضى الله
عليه بالموت. ويحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من وكزه ، أي فقضى الوكز عليه ،
وكان موسى لم يتعمد قتله ، ولكن وافقت وكزته الأجل ، فندم موسى. وروي أنه دفنه في
الرمل وقال : (هذا مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطانِ) ، وهو ما لحقه من الغضب حتى أدى إلى الوكزة التي قضت على
القبطي ، وجعله من عمل الشيطان وسماه ظلما لنفسه واستغفر منه ، لأنه أدى إلى قتل
من لم يؤذن له في قتله. وعن ابن جريج : ليس لنبي أن يقتل ما لم يؤمر. وقال كعب :
كان موسى إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة ، وكان قتله خطأ ، فإن الوكزة في الغالب لا
تقتل. وقال النقاش : كان هذا قبل النبوة ، وقد انتهج موسى عليهالسلام نهج آدم عليهالسلام إذ قال : (ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) . والباء في (بِما أَنْعَمْتَ) للقسم ، والتقدير : أقسم بما أنعمت به عليّ من المغفرة ،
والجواب محذوف ، أي لأتوين ، (فَلَنْ أَكُونَ) ، أو متعلقة بمحذوف تقديره : اعصمني بحق ما أنعمت عليّ من
المغفرة ، (فَلَنْ أَكُونَ) إن عصمتني (ظَهِيراً
لِلْمُجْرِمِينَ). وقيل : (فَلَنْ أَكُونَ) دعاء لا خبر ، ولن بمعنى لا في الدعاء ، والصحيح أن لن لا
تكون في الدعاء ، وقد استدل على أن لن تكون في الدعاء بهذه الآية ، وبقول الشاعر :
لن تزالوا كذاكم
ثم ما زل
|
|
ت لهم خالدا
خلود الجبال
|
والمظاهرة ، إما
بصحبته لفرعون وانتظامه في جملته وتكثير سواده حيث كان يركب بركوبه كالولد مع
الوالد ، وكان يسمى ابن فرعون ، وإما أنه أدت المظاهرة إلى القتل الذي جرى على
يده. وقيل : بما أنعمت عليّ من النبوّه ، فلن أستعملها إلّا في مظاهرة أوليائك ،
ولا أدع قبطيا يغلب إسرائيليا. واحتج أهل العلم بهذه الآية على منع معونة أهل
الظلم وخدمتهم ، نص على ذلك عطاء بن أبي رباح وغيره. وقال رجل لعطاء : إن أخي يضرب
بعلمه ولا يعدو رزقه ، قال : فمن الرأس ، يعني من يكتب له؟ قال : خالد بن عبد الله
__________________
القسري ، قال :
فأين قول موسى؟ وتلا الآية : (فَأَصْبَحَ فِي
الْمَدِينَةِ خائِفاً) من قبل القبطي أن يؤخذ به ، يترقب وقوع المكروه به ، أو
الإخبار هل وقفوا على ما كان منه؟ وقيل : خائفا من أنه يترقب المغفرة. وقيل :
خائفا يترقب نصرة ربه ، أو يترقب هداية قومه ، أو ينتظر أن يسلمه قومه. (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ
بِالْأَمْسِ) : أي الإسرائيلي الذي كان قتل القبطي بسببه. وإذا هنا
للمفاجأة ، وبالأمس يعني اليوم الذي قبل يوم الاستصراخ ، وهو معرب ، فحركة سينه
حركة إعراب لأنه دخلته أل ، بخلاف حاله إذا عري منها ، فالحجاز تنبيه إذا كان
معرفة ، وتميم تمنعه الصرف حالة الرفع فقط ، ومنهم من يمنعه الصرف مطلقا ، وقد
يبنى مع أل على سبيل الندور. قال الشاعر :
وإني حسبت اليوم
والأمس قبله
|
|
إلى الليل حتى
كادت الشمس تغرب
|
(يَسْتَصْرِخُهُ) : يصيح به مستغيثا من قبطيّ آخر ، ومنه قول الشاعر :
كنا إذا ما
أتانا صارخ فزع
|
|
كان الصراخ له
قرع الطنابيب
|
قال له موسى :
الظاهر أن الضمير في له عائد على الذي (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ
مُبِينٌ) لكونك كنت سببا في قتل القبطي بالأمس ، قال له ذلك على
سبيل العتاب والتأنيب. وقيل : الضمير في له ، والخطاب للقبطي ، ودل عليه قوله :
يستصرخه ، ولم يفهم الإسرائيلي أن الخطاب للقبطي. (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ
أَنْ يَبْطِشَ) : الظاهر أن الضمير في أراد ويبطش هو لموسى. (بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) : أي للمستصرخ وموسى وهو القبطي يوهم الإسرائيلي أن قوله :
(إِنَّكَ لَغَوِيٌّ
مُبِينٌ) هو على سبيل إرادة السوء به ، وظن أنه يسطو عليه. قال ، أي
الإسرائيلي : (يا مُوسى أَتُرِيدُ
أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) ، دفعا لما ظنه من سطو موسى عليه ، وكان تعيين القائل
القبطي قد خفي على الناس ، فانتشر في المدينة أن قاتل القبطي هو موسى ، ونمى ذلك إلى
فرعون ، فأمر بقتل موسى. وقيل : الضمير في أراد ويبطش للإسرائيلي عند ذلك من موسى
، وخاطبه بما يقبح ، وأن بعد لما يطرد زيادتها. وقيل : لو إذا سبق قسم كقوله :
فأقسم أن لو
التقينا وأنتم
|
|
لكان لكم يوم من
الشر مظلم
|
وقرأ الجمهور :
يبطش ، بكسر الطاء ؛ والحسن ، وأبو جعفر : بضمها. (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا
أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) : وشأن الجبار أن يقتل بغير حق. وقال الشعبي : من قتل
رجلين فهو جبار ، يعني بغير حق ، ولما أثبت له الجبروتية نفى عنه الصلاح. (وَجاءَ رَجُلٌ
مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ) ، قيل : هو مؤمن آل فرعون ، وكان ابن عم فرعون. قال الكلبي
: واسمه جبريل بن شمعون. وقال الضحاك : شمعون بن إسحاق. وقيل : هو غير مؤمن آل
فرعون. (يَسْعى) : يشتد في مشيه. ولما أمر فرعون بقتله ، خرج الجلاوزة من
الشارع الأعظم لطلبه ، فسلك هذا الرجل طريقا أقرب إلى موسى. ومن أقصى المدينة ،
ويسعى : صفتان ، ويجوز أن يكون يسعى حالا ، ويجوز أن يتعلق من أقصى بجاء. قال
الزمخشري : وإذا جعل ، يعني ، من أقصى حالا ، لجاء لم يجز في يسعى إلّا الوصف.
انتهى. يعني : أن رجلا يكون نكرة لم توصف ، فلا يجوز منها الحال ، وقد أجاز ذلك
سيبويه في كتابه من غير وصف. قال : (إِنَّ الْمَلَأَ) ، وهم وجوه أهل دولة فرعون ، (يَأْتَمِرُونَ) : يتشاورون ، قال الشاعر ، وهو النمر بن تولب :
أرى الناس قد
أحدثوا شيمة
|
|
وفي كل حادثة
يؤتمر
|
وقال ابن قتيبة :
يأمر بعضهم بعضا بقوله ، من قوله تعالى : (وَأْتَمِرُوا
بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) . (فَاخْرُجْ إِنِّي
لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ). ولك : متعلق إما بمحذوف ، أي ناصح لك من الناصحين ، أو
بمحذوف على جهة البيان ، أي لك أعني ، أو بالناصحين ، وإن كان في صلة أل ، لأنه
يتسامح في الظرف والمجرور ما لا يتسامح في غيرهما. وهي ثلاثة أقوال للنحويين فيما
أشبه هذا ، فامتثل موسى ما أمره به ذلك الرجل ، وعلم صدقه ونصحه ، وخرج وقد أفلت
طالبيه فلم يجدوه. وكان موسى لا يعرف ذلك الطريق ، ولم يصحب أحدا ، فسلك مجهلا ،
واثقا بالله تعالى ، داعيا راغبا إلى ربه في تنجيته من الظالمين.
(وَلَمَّا تَوَجَّهَ
تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ ،
وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ
وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا
نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ ، فَسَقى لَهُما
ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ
خَيْرٍ فَقِيرٌ. فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ
أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ
عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ،
قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ
الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ، قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ
هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ
عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ
الصَّالِحِينَ ، قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ
__________________
أَيَّمَا
الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ ،
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ
ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها
بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ).
(تَوَجَّهَ) : رد وجهه. و (تِلْقاءَ) : تقدم الكلام عليه في يونس ، أي ناحية وجهه. استعمل
المصدر استعمال الظرف ، وكان هناك ثلاث طرق ، فأخذ موسى أوسطها ، وأخذ طالبوه في
الآخرين وقالوا : المريب لا يأخذ في أعظم الطرق ولا يسلك إلّا بنياتها. فبقي في
الطريق ثماني ليال وهو حاف ، لا يطعم إلا ورق الشجر. والظاهر من قوله : (عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ
السَّبِيلِ) ، أنه كان لا يعرف الطريق ، فسأل ربه أن يهديه أقصد الطريق
بحيث أنه لا يضل ، إذ لو سلك ما لا يوصله إلى المقصود لتاه. وعن ابن عباس : قصد
مدين وأخذ يمشي من غير معرفة ، فأوصله الله إلى مدين. وقيل : هداه جبريل إلى مدين.
وقيل : ملك غيره. وقيل : أخذ طريقا يأمن فيه ، فاتفق ذهابه إلى مدين. والظاهر أن
سواء السبيل : وسط الطريق الذي يسلكه إلى مكان مأمنه. وقال مجاهد : سواء السبيل : طريق
مدين. وقال الحسن : هو سبيل الهدى ، فمشى موسى عليهالسلام إلى أن وصل إلى مدين ، ولم يكن في طاعة فرعون.
(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ
مَدْيَنَ) : أي وصل إليه ، والورود بمعنى الوصول إلى الشيء ، وبمعنى
الدخول فيه. قيل : وكان هذا الماء بئرا. والأمة : الجمع الكثير ، ومعنى عليه : أي
على شفيره وحاشيته. (يَسْقُونَ) : يعني مواشيهم. (وَوَجَدَ مِنْ
دُونِهِمُ) : أي من الجهة التي وصل إليها قبل أن يصل إلى الأمة ، فهما
من دونهم بالإضافة إليه ، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري : في مكان أسفل من مكانهم.
(تَذُودانِ) ، قال ابن عباس وغيره : تذودان غنمهما عن الماء خوفا من
السقاة الأقوياء. وقال قتادة : تذودان الناس عن غنمهما. قال الزجاج : وكأنهما
تكرهان المزاحمة على الماء. وقيل : لئلا تختلط غنمهما بأغنامهم. وقيل : تذودان عن
وجوههما نظر الناظر لتسترهما. وقال الفراء : تحبسانها عن أن تتفرق ، واسم الصغرى
عبرا ، واسم الكبر صبورا.
ولما رآهما موسى عليهالسلام واقفتين لا تتقدمان للسقي ، سألهما فقال : (ما خَطْبُكُما)؟ قال ابن عطية : والسؤال بالخطب إنما هو في مصاب ، أو
مضطهد ، أو من يشفق عليه ، أو يأتي بمنكر من الأمر. قال الزمخشري : وحقيقته : ما
مخطوبكما؟ أي ما مطلوبكما من الذياد؟ سمى المخطوب خطبا ، كما سمى الشؤون شأنا في
قولك :
ما شأنك؟ يقال :
شانت شأنه ، أي قصدت قصده. انتهى. وفي سؤاله عليه الصلاة والسلام دليل على جواز
مكالمة الأجنبية فيما يعنّ ولم يكن لأبيهما أجير ، فكانتا تسوقان الغنم إلى الماء
، ولم تكن لهما قوة الاستقاء ، وكان الرعاة يستقون من البئر فيسقون مواشيهم ، فإذا
صدروا ، فإن بقي في الحوض شيء سقتا. فوافى موسى عليهالسلام ذلك اليوم وهما يمنعان غنمهما عن الماء ، فرق عليهما وقال
: (ما خَطْبُكُما)؟ وقرأ شمر : بكسر الخاء ، أي من زوجكما؟ ولم لا يسقي هو؟
وهذه قراءة شاذة نادرة.
(قالَتا لا نَسْقِي). وقرأ ابن مصرف : لا نسقي ، بضم النون. وقرأ أبو جعفر ،
وشيبة ، والحسن ، وقتادة ، والعربيان : يصدر ، بفتح الياء وضم الدال ، أي يصدرون
بأغنامهم ؛ وباقي السبعة ، والأعرج ، وطلحة ، والأعمش ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى : بضم
الياء وكسر الدال ، أي يصدرون أغنامهم. وقرأ الجمهور : الرعاء ، بكسر الراء : جمع
تكسير. قال الزمخشري : وأما الرعاء بالكسر فقياس ، كصيام وقيام. انتهى. وليس بقياس
، لأنه جمع راع ؛ وقياس فاعل الصفة التي للعاقل أن تكسر على فعلة ، كقاض وقضاة ،
وما سوى جمعه هذا فليس بقياس. وقرىء : الرعاء ، بضم الراء ، وهو اسم جمع ، كالرخال
والثناء. قال أبو الفضل الرازي : وقرأ عياش ، عن أبي عمرو : الرعاء ، بفتح الراء ،
وهو مصدر أقيم مقام الصفة ، فاستوى لفظ الواحد والجماعة فيه ، وقد يجوز أنه حذف
منه المضاف. (وَأَبُونا شَيْخٌ
كَبِيرٌ) : اعتذار لموسى عن مباشرتهما السقي بأنفسهما ، وتنبيه على
أن أباهما لا يقدر على السقي لشيخه وكبره ، واستعطاف لموسى في إعانتهما.
(فَسَقى لَهُما) : أي سقى غنمهما لأجلهما. وروي أن الرعاة كانوا يضعون على
رأس البئر حجرا لا يقله إلا عدد من الرجال ، واضطرب النقل في العدد ، فأقل ما
قالوا سبعة ، وأكثره مائة ، فأقله وحده. وقيل : كانت لهم دلو لا ينزع بها إلا
أربعون ، فنزع بها وحده. وروي أنه زاحمهم على الماء حتى سقى لهما ، كل ذلك رغبة في
الثواب على ما كان به من نصب السفر وكثرة الجوع ، حتى كانت تظهر الخضرة في بطنه من
البقل. وقيل : إنه مشى حتى سقط أصله ، وهو باطن القدم ، ومع ذلك أغاثهما وكفاهما
أمر السقي. وقد طابق جوابهما لسؤاله. سألهما عن سبب الذود ، فأجاباه : بأنا
امرأتان ضعيفتان مستورتان ، لا نقدر على مزاحمة الرجال ، فنؤخر السقي إلى فراغهم.
ومباشرتهما ذلك ليس بمحظور ، وعادة العرب وأهل البدو في ذلك غير عادة أهل الحضر
والأعاجم ، لا سيما إذا دعت إلى ذلك ضرورة. (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى
الظِّلِ) ، قال ابن مسعود : ظل شجرة. قيل : كانت سمرة. وقيل :
إلى ظل جدار لا
سقف له. وقيل : جعل ظهره يلي ما كان يلي وجهه من الشمس. (فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ
إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ، قال المفسرون : تعرض لما يطعمه ، لما ناله من الجوع ،
ولم يصرح بالسؤال ؛ وأنزلت هنا بمعنى تنزل. وقال الزمخشري : وعدى باللام فقير ،
لأنه ضمن معنى سائل وطالب. ويحتمل أن يريد ، أي فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إليّ
من خير الدين ، وهو النجاة من الظالمين ، لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة ، قال
ذلك رضا بالبدل السني وفرحا به وشكرا له. وقال الحسن : سأل الزيادة في العلم
والحكمة ..
(فَجاءَتْهُ
إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) : في الكلام حذف ، والتقدير : فذهبتا إلى أبيهما من غير
إبطاء في السقي ، وقصتا عليه أمر الذي سقى لهما ، فأمر إحداهما أن تدعوه له. (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما). قرأ ابن محيصن : فجاءته إحداهما ، بحذف الهمزة ، تخفيفا
على غير قياس ، مثل : ويل امه في ويل أمه ، ويا با فلان ، والقياس أن يجعل بين بين
، وإحداهما مبهم. فقيل : الكبرى ، وقيل : كانتا توأمتين ، ولدت الأولى قبل الأخرى
بنصف نهار. وعلى استحياء : في موضع الحال ، أي مستحيية متحفزة. قال عمر بن الخطاب
: قد سترت وجهها بكم درعها ؛ والجمهور : على أن الداعي أباهما هو شعيب عليهالسلام ، وهما ابنتاه. وقال الحسن : هو ابن أخي شعيب ، واسمه
مروان. وقال أبو عبيدة : هارون. وقيل : هو رجل صالح ليس من شعيب ينسب. وقيل : كان
عمهما صاحب الغنم ، وهو المزوج ، عبرت عنه بالأب ، إذ كان بمثابته. (لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) ، في ذلك ما كان عليه شعيب من الإحسان والمكافأة لمن عمل
له عملا ، وإن لم يقصد العالم المكافأة.
(فَلَمَّا جاءَهُ) : أي فذهب معهما إلى أبيهما ، وفي هذا دليل على اعتماد
أخبار المرأة ، إذ ذهب معها موسى ، كما يعتمد على أخبارها في باب الرواية. (وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) : أي ما جرى له من خروجه من مصر ، وسبب ذلك. (قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ) : أي قبل الله دعاءك في قولك : (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ) ، أو أخبره بنجاته منهم ، فأنسه بقوله : (لا تَخَفْ) ، وقرب إليه طعاما ، فقال له موسى : إنا أهل بيت ، لا نبيع
ديننا بملء الأرض ذهبا ، فقال له شعيب : ليس هذا عوض السقي ، ولكن عادتي وعادة
آبائي قري الضيف وإطعام الطعام ؛ فحينئذ أكل موسى عليهالسلام.
(قالَتْ إِحْداهُما) : أبهم القائلة ، وهي الذاهبة والقائلة والمتزوجة ، (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) : أي لرعي الغنم وسقيها. ووصفته بالقوة : لكونه رفع الصخرة
عن البئر وحده ،
وانتزع بتلك الدلو
، وزاحمهم حتى غلبهم على الماء ؛ وبالأمانة : لأنها حين قام يتبعها ، هبت الريح
فلفت ثيابها فوصفتها ، فقال : ارجعي خلفي ودليني على الطريق. وقولها كلام حكيم
جامع ، لأنه إذا اجتمعت الكفاية والأمانة في القائم بأمر ، فقد تم المقصود ، وهو
كلام جرى مجرى المثل ، وصار مطروقا للناس ، وكان ذلك تعليلا للاستئجار ، وكأنها
قالت : استأجره لأمانته وقوته ، وصار الوصفان منبهين عليه. ونظير هذا التركيب قول
الشاعر :
ألا إن خير
الناس حيا وهالكا
|
|
أسير ثقيف عندهم
في السلاسل
|
جعل خير من
استأجرت الاسم ، اعتناء به. وحكمت عليه بالقوة والأمانة. ولما وصفته بهذين الوصفين
قال لها أبوها : ومن أين عرفت هذا؟ فذكرت إقلاله الحجر وحده ، وتحرجه من النظر
إليها حين وصفتها الريح ؛ وقاله ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد ، وغيرهم. وقيل :
قال لها موسى ابتداء : كوني ورائي ، فإني رجل لا أنظر إلى أدبار النساء ، ودليني
على الطريق يمينا أو يسارا. وقال ابن مسعود : أفرس الناس ثلاثة : بنت شعيب وصاحب
يوسف في قوله : (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) ، وأبو بكر في عمر. وفي قولها : (اسْتَأْجِرْهُ) ، دليل على مشروعية الإجارة عندهم ، وكذا كانت في كل ملة ،
وهي ضرورة الناس ومصلحة الخلطة ، خلافا لابن علية والأصم ، حيث كانا لا يجيزانها ؛
وهذا مما انعقد عليه الإجماع ، وخلافهما خرق.
(قالَ إِنِّي أُرِيدُ
أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) : رغب شعيب في مصاهرته ، لما وصفته به ، ولما رأى فيه من
عزوفه عن الدنيا وتعلقه بالله وفراره من الكفرة. وقرأ ورش ، وأحمد بن موسى ، عن
أبي عمرو : أنكحك إحدى ، بحذف الهمزة. وظاهر قوله : (أَنْ أُنْكِحَكَ) ، أن الإنكاح إلى الولي لا حق للمرأة فيه ، خلافا لأبي
حنيفة في بعض صوره ، بأن تكون بالغة عالمة بمصالح نفسها ، فإنها تعقد على نفسها
بمحضر من الشهود ، وفيه دليل على عرض الولي وليته على الزوج ، وقد فعل ذلك عمر ،
ودليل على تزويج ابنته البكر من غير استئمار ، وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو
حنيفة : إذا بلغت البكر ، فلا تزوج إلا برضاها. قيل : وفيه دليل على قول من قال :
لا ينعقد إلا بلفظ التزويج ، أو الإنكاح ، وبه قال ربيعة ، والشافعي ، وأبو ثور ،
وأبو عبيد ، وداود. وإحدى ابنتي : مبهم ، وهذا عرض لا عقد. ألا ترى إلى قوله : (إِنِّي أُرِيدُ)؟ وحين العقد يعين من شاء منهما ، وكذلك لم
__________________
يحدّ أول أمد
الإجارة. والظاهر من الآية جواز النكاح بالإجارة ، وبه قال الشافعي وأصحابه وابن
حبيب. وقال الزمخشري : (هاتَيْنِ) ، فيه دليل على أنه كانت له غيرهما. انتهى. ولا دليل في
ذلك ، لأنهما كانتا هما اللتين رآهما تذودان ، وجاءته إحداهما ، فأشار إليهما ،
والإشارة إليهما لا تدل على أن له غيرهما. (عَلى أَنْ
تَأْجُرَنِي) في موضع الحال من ضمير أنكحك ، إما الفاعل ، وإما المفعول.
وتأجرني ، من أجرته : كنت له أجيرا ، كقولك : أبوته : كنت له أبا ، ومفعول تأجرني
الثاني محذوف تقديره نفسك. و (ثَمانِيَ حِجَجٍ) : ظرف ، وقاله أبو البقاء. وقال الزمخشري : حجج : مفعول به
، ومعناه : رعيه ثماني حجج. (فَإِنْ أَتْمَمْتَ
عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) : أي هو تبرع وتفضل لا اشتراط. (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) بإلزام أيّم الأجلين ، ولا في المعاشرة والمناقشة في
مراعاة الأوقات ، وتكليف الرعاة أشياء من الخدم خارجة عن الشرط. (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ
الصَّالِحِينَ) : وعد صادق مقرون بالمشيئة من الصالحين في حسن المعاملة
ووطاءة الخلق ، أو من الصالحين على العموم ، فيدخل تحته حسن المعاملة.
ولما فرغ شعيب مما
حاور به موسى ، قال موسى : (ذلِكَ بَيْنِي
وَبَيْنَكَ) ، على جهة التقدير والتوثق في أن الشرط إنما وقع في ثماني
حجج. وذلك مبتدأ أخبره بيني وبينك ، إشارة إلى ما عاهده عليه ، أي ذلك الذي
عاهدتني وشارطتني قائم بيننا جميعا لا نخرج عنه ، ثم قال : (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ) ، أي الثماني أو العشر؟ (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) : أي لا يعتدى عليّ في طلب الزيادة ، وأي شرط ، وما زائدة.
وقرأ الحسن ، والعباس ، عن أبي عمرو : أيما ، بحذف الياء الثانية ، كما قال الشاعر
:
تنظرت نصرا
والسماكين أيما
|
|
علي من الغيث
استهلت مواطره
|
وقرأ عبد الله :
أي الأجلين ما قضيت ، بزيادة ما بين الأجلين وقضيت. قال الزمخشري فإن قلت : ما
الفرق بين موقع ما المزيدة في القراءتين؟ قلت : وقعت في المستفيضة مؤكدة لإبهام ،
أي زائدة في شياعها وفي الشاذ ، تأكيدا للقضاء ، كأنه قال : أي الأجلين صممت على
قضائه وجردت عزيمتي له؟ وقرأ أبو حيوة ، وابن قطيب : فلا عدوان ، بكسر العين. قال
المبرد : قد علم أنه لا عدوان عليه في أتمهما ، ولكن جمعهما ، ليجعل الأول كالأتم
في الوفاء. وقال الزمخشري : تصور العدوان إنما هو في أحد الأجلين الذي هو أقصر ،
وهو المطالبة بتتمة العشر ، فما معنى تعليق العدوان بهما جميعا؟ قلت : معناه : كما
أني إن طولبت بالزيادة على العشر ، كان عدوانا لا شك فيه ، فكذلك إن طولبت في
الزيادة على
الثماني. أراد
بذلك تقرير الخيار ، وأنه ثابت مستقر ، وأن الأجلين على السواء ، إما هذا ، وإما
هذا من غير تفاوت بينهما في القضاء. وأما التتمة فموكولة إلى رأيي ، إن شئت أتيت
بها وإلا لم أجبر عليها. وقيل : معناه فلا أكون متعديا ، وهو في نفي العدوان عن
نفسه ، كقولك : لا إثم عليّ ولا تبعة. انتهى ، وجوابه الأول فيه تكثير. (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ) : أي على ما تعاهدنا عليه وتواثقنا ، (وَكِيلٌ) : أي شاهد. وقال قتادة : حفيظ. وقال ابن شجرة : رقيب ،
والوكيل الذي وكل إليه الأمر ، فلما ضمن معنى شاهد ونحوه عدى بعلى.
(فَلَمَّا قَضى مُوسَى
الْأَجَلَ) : جاء على النبي صلىاللهعليهوسلم أنه وفي أطول الأجلين ، وهو العشر. وعن مجاهد : وفي عشر أو
عشرا بعدها ، وهذا ضعيف. (وَسارَ بِأَهْلِهِ) : أي نحو مصر بلده وبلد قومه. والخلاف فيمن تزوّج ، الكبرى
أم الصغرى ، وكذلك في اسمها. وتقدّم كيفية مسيره ، وإيناسه النار في سورة طه
وغيرها. وقرأ الجمهور : جذوة ، بكسر الجيم ؛ والأعمش ، وطلحة ، وأبو حيوة ، وحمزة
: بضمها ؛ وعاصم ، غير الجعفي : بفتحها. (لَعَلَّكُمْ
تَصْطَلُونَ) : أي تتسخنون بها ، إذ كانت ليلة باردة ، وقد أضلوا
الطريق.
(فَلَمَّا أَتاها
نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ
الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ، وَأَنْ أَلْقِ
عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ
يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ، اسْلُكْ
يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ
جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ
وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ، قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ
مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ، وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ
مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ
يُكَذِّبُونِ ، قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً
فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ).
من ، في : من
شاطىء ، لابتداء الغاية ، ومن الشجرة كذلك ، إذ هي بدل من الأولى ، أي من قبل
الشجرة. والأيمن : يحتمل أن يكون صفة للشاطىء وللوادي ، على معنى اليمن والبركة ،
أو الأيمن : يريد المعادل للعضو الأيسر ، فيكون ذلك بالنسبة إلى موسى ، لا للشاطىء
، ولا للوادي ، أي أيمن موسى في استقباله حتى يهبط الوادي ، أو بعكس ذلك ؛ وكل هذه
الأقوال في الأيمن مقول. وقرأ الأشهب العقيلي ، ومسلمة : في البقعة ، بفتح الباء.
قال أبو زيد : سمعت من العرب : هذه بقعة طيبة ، بفتح الباء ، ووصفت البقعة بالبركة
، لما خصت به من آيات الله وأنواره وتكليمه لموسى عليهالسلام ، أو لما حوت من الأرزاق والثمار الطيبة. ويتعلق في البقعة
بنودي ، أو تكون في موضع الحال من شاطىء.
والشجرة عناب ، أو
عليق ، أو سمرة ، أو عوسج ، أقوال. وأن : يحتمل أن تكون حرف تفسير ، وأن تكون
مخففة من الثقيلة. وقرأت فرقة : (إِنِّي أَنَا) ، بفتح الهمزة ، وفي إعرابه إشكال ، لأن إن ، إن كانت
تفسيرية ، فينبغي كسر إني ، وإن كانت مصدرية ، تتقدر بالمفرد ، والمفرد لا يكون
خبرا لضمير الشأن ، فتخريج هذه القراءة على أن تكون إن تفسيرية ، وإني معمول لمضمر
تقديره : إني يا موسى أعلم إني أنا الله.
وجاء في طه : (نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) ، وفي النمل : (نُودِيَ أَنْ بُورِكَ
مَنْ فِي النَّارِ) ، وهنا : (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ) ، ولا منافاة ، إذ حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك
النداء. والجمهور : على أنه تعالى كلمه في هذا المقام من غير واسطة. وقال الحسن :
ناداه نداء الوحي ، لا نداء الكلام. وتقدم الكلام على نظير قوله : (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها
تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) ، ثم أمره فقال : (اسْلُكْ يَدَكَ فِي
جَيْبِكَ) ، وهو فتح الجبة من حيث تخرج الرأس ، وكان كم الجبة في
غاية الضيق. وتقدّم الكلام على : (تَخْرُجْ بَيْضاءَ
مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) وفسر الجناح هنا باليد وبالعضد وبالعطاف ، وبما أسفل من
العضد إلى الرسغ ، وبجيب مدرعته. والرهب : الخوف ، وتأتي القراءات فيه. وقيل :
بفتح الراء والهاء : الكم ، بلغة بني حنيفة وحمير ، وسمع الأصمعي قائلا يقول :
اعطني ما في رهبك ، أي في كمك ، والظاهر حمل : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ
جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) على الحقيقة.
قال الثوري : خاف
موسى أن يكون حدث به سوء ، فأمره تعالى أن يعيد يده إلى جيبه لتعود على حالتها
الأولى ، فيعلم موسى أنه لم يكن سوءا بل آية من الله. وقال مجاهد ، وابن زيد :
أمره بضم عضده وذراعه ، وهو الجناح ، إلى جنبه ، ليخفف بذلك فزعه. ومن شأن الإنسان
إذا فعل ذلك في وقت فزعه أن يقوي قلبه. وقيل : لما انقلبت العصا حية ، فزع موسى
واضطرب ، فاتقاها بيده ، كما يفعل الخائف من الشيء ، فقيل له : أدخل يدك تحت عضدك
مكان اتقائك بها ، ثم أخرجها بيضاء لتظهر معجزة أخرى ، وهذا القول بسطه الزمخشري ،
لأنه كالتكرار لقوله : (اسْلُكْ يَدَكَ فِي
جَيْبِكَ). وقد قال هو والجناح هنا اليد ، قال : لأن يدي الإنسان
بمنزلة جناحي الطائر ، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى ، فقد ضم جناحه إليه.
وقيل : المعنى إذا هالك أمر لما يغلب من شعاعها ، فاضممها إليك تسكن. وقالت فرقة :
هو مجاز أمره بالعزم على ما أمره به ، كما تقول العرب : أشدد
__________________
حيازيمك واربط
جأشك ، أي شمر في أمرك ودع الرهب ، وذلك لما كثر تخوفه وفزعه في غير موطن ، قاله
أبو علي ، وكأنه طيره الفزع ، وآلة الطيران الجناح. فقيل له : اسكن ولا تخف ، وضم
منشور جناحك من الخوف إليك ، وذكر هذا القول الزمخشري ، فقال والثاني أن يراد بضم
جناحه إليه : تجلده وضبطه نفسه وتشدده عند انقلاب العصا حية ، حتى لا يضطرب ولا
يرهب ، استعارة من فعل الطائر ، لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما ، وإلا فجناحاه
مضمومان إليه مشمران. ومعنى (مِنَ الرَّهْبِ) : من أجل الرهب ، أي إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية ،
فاضمم إليك جناحك. جعل الرهب الذي كان يصيبه سببا وعلة فيما أمر به من ضم جناحه
إليه. ومعنى : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ
جَناحَكَ) ، وقوله : (اسْلُكْ يَدَكَ فِي
جَيْبِكَ) على أحد التفسيرين واحد ، ولكن خولف بين العبارتين ، وإنما
كرر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين ، وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء ،
وفي الثاني إخفاء الرهب. فإن قلت : قد جعل الجناح ، وهو اليد ، في أحد الموضعين
مضموما وفي الآخر مضموما إليه ، وذلك قوله : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ
جَناحَكَ) ، (وَاضْمُمْ يَدَكَ
إِلى جَناحِكَ) ، فما التوفيق بينهما؟ قلت : المراد بالجناح المضموم هو
اليد اليمنى ، وبالمضموم إليه اليد اليسرى ، وكل واحدة من يمنى اليدين ويسراهما
جناح. ومن بدع التفاسير أن الرهب : الكم ، بلغة حمير ، وأنهم يقولون : اعطني ما في
رهبك ؛ وليت شعري ؛ كيف صحته في اللغة؟ وهل سمع من الأثبات الثقات التي ترضي
عربيتهم؟ ثم ليت شعري : كيف موقعه في الآية؟ وكيف يعطيه الفصل كسائر كلمات التنزيل؟
على أن موسى ، صلوات الله عليه ، ما كان عليه ليلة المناجاة إلّا زرماتقة من صوف ،
لا كمين لها. انتهى. أما قوله : وهل سمع من الأثبات؟ وهذا مروي عن الأصمعي ، وهو
ثقة ثبت. وأما قوله : كيف موقعه من الآية؟ فقالوا : معناه أخرج يدك من كمك ، وكان
قد أخذ العصا بالكم. وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو : من الرهب ، بفتح الراء والهاء ؛
وحفص : بفتح الراء وسكون الهاء ؛ وباقي السبعة : بضم الراء وإسكان الهاء. وقرأ
قتادة ، والحسن ، وعيسى ، والجحدري : بضمهما.
(فَذانِكَ) : إشارة إلى العصا واليد ، وهما مؤنثتان ، ولكن ذكرا
لتذكير الخبر ، كما أنه قد يؤنث المذكر لتأنيث الخبر ، كقراءة من قرأ : ثم لم يكن
فتنتهم إلا أن قالوا ، بالياء في تكن. (بُرْهانانِ) : حجتان نيرتان. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : فذانك ،
بتشديد النون ؛ وباقي السبعة : بتخفيفها. وقرأ ابن مسعود ، وعيسى ، وأبو نوفل ،
وابن هرمز ، وشبل :
__________________
فذانيك ، بياء بعد
النون المكسورة ، وهي لغة هذيل. وقيل : بل لغة تميم ، ورواها شبل عن ابن كثير ،
وعنه أيضا : فذانيك ، بفتح النون قبل الياء ، على لغة من فتح نون التثنية ، نحو
قوله :
على أحوذيين
استقلت عشية
وقرأ ابن مسعود :
بتشديد النون مكسورة بعدها ياء. قيل : وهي لغة هذيل. وقال المهدوي : بل لغتهم
تخفيفها. و (إِلى فِرْعَوْنَ) : يتعلق بمحذوف دل عليه المعنى تقديره : اذهب إلى فرعون. (قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ
نَفْساً) : هو القبطي الذي وكزه فمات ، فطلب من ربه ما يزداد به قوة
، وذكر أخاه والعلة التي تكون له زيادة التبليغ. و (أَفْصَحُ) : يدل على أن فيه فصاحة ، ولكن أخوه أفصح. (فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً) : أي معينا يصدقني ، ليس المعنى أنه يقول لي : صدقت ، إذ
يستوي في قول هذا اللفظ العيي والفصيح ، وإنما المعنى : أنه لزيادة فصاحته يبالغ
في التبيان ، وفي الإجابة عن الشبهات ، وفي جداله الكفار. وقرأ الجمهور : ردأ ،
بالهمزة ؛ وأبو جعفر ، ونافع ، والمدنيان : بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الدال ؛ والمشهور
عن أبي جعفر بالنقل ، ولا همز ولا تنوين ، ووجهه أنه أجرى الوصل مجرى الوقف. وقرأ
عاصم ، وحمزة : يصدقني ، بضم القاف ، فاحتمل الصفة لردأ ، والحال احتمل الاستئناف.
وقرأ باقي السبعة : بالإسكان. وقرأ أبي ، وزيد بن علي : يصدقوني ، والضمير لفرعون
وقومه. قال ابن خالويه : هذا شاهد لمن جزم ، لأنه لو كان رفعا لقال : يصدقونني.
انتهى ، والجزم على جواب الأمر. والمعنى في يصدقوني : أرجو تصديقهم إياي ، فأجابه
تعالى إلى طلبته وقال : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ
بِأَخِيكَ). وقرأ زيد بن علي ، والحسن : عضدك ، بضمتين. وعن الحسن :
بضم العين وإسكان الضاد. وعن بعضهم : بفتح العين وكسر الضاد ؛ وفتحهما ، قرأ به
عيسى ، ويقال فيه : عضد ، بفتح العين وسكون الضاد ، ولا أعلم أحدا قرأ به. والعضد
: العضو المعروف ، وهي قوام اليد ، وبشدتها يشتد. قال الشاعر :
أبني لبيني
لستما بيد
|
|
إلا يدا ليست
لها عضد
|
والمعنى فيه :
سنقويك بأخيك. ويقال في الخير : شد الله عضدك ، وفي الشر : فتّ الله في عضدك.
والسلطان : الحجة والغلبة والتسليط. (فَلا يَصِلُونَ
إِلَيْكُما) : أي بسوء ، أو إلى إذايتكما. ويحتمل (بِآياتِنا) أن يتعلق بقوله : ويجعل ، أو بيصلون ، أو بالغالبون ، وإن
كان موصولا على مذهب من يجوز عنده أن يتقدم الظرف والجار والمجرور على صلة أل ،
وإن
كان عنده موصولا
على سبيل الاتساع ، أو بفعل محذوف ، أي اذهبا بآياتنا. كما علق في تسع آيات باذهب
، أو على البيان ، فالعامل محذوف ، وهذه أعاريب منقولة. وقال الزمخشري : ويجوز أن
يكون قسما جوابه (فَلا يَصِلُونَ) مقدما عليه ، أو من لغو القسم. انتهى. أما أنه قسم جوابه (فَلا يَصِلُونَ) ، فإنه لا يستقيم على قول الجمهور ، لأن جواب القسم لا
تدخله الفاء. وأما قوله : أو من لغو القسم ، فكأنه يريد والله أعلم. إنه لم يذكر
له جواب ، بل حذف لدلالة عليه ، أي بآياتنا لتغلبن.
(فَلَمَّا جاءَهُمْ
مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا
بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ ، وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ
بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا
يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ، وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ
لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي
صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ
، وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ ، فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي
الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ، وَجَعَلْناهُمْ
أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ ،
وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ
الْمَقْبُوحِينَ ، وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا
الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ).
(بِآياتِنا) : هي العصا واليد. (بَيِّناتٍ) : أي واضحات الدلالة على صدقه ، وأنه أمر خارق معجز ، كفوا
عن مقاومته ومعارضته ، فرجعوا إلى البهت والكذب ، ونسبوه إلى أنه سحر ، لأنهم يرون
الشيء على حالة ، ثم يرونه على حالة أخرى ، ثم يعود إلى الحالة الأولى ، فزعموا
أنه سحر يفتعله موسى ويفتريه على الله ، فليس بمعجز. ثم مع دعواهم أنه سحر مفترى ،
وكذبهم في ذلك ، أرادوا في الكذب أنهم ما سمعوا بهذا في آبائهم ، أي في زمان
آبائهم وأيامهم. وفي آبائنا : حال ، أي بهذا ، أي بمثل هذا كائنا في أيام آبائنا.
وإذا نفوا السماع لمثل هذا في الزمان السابق ، ثبت أن ما ادّعاه موسى هو بدع لم
يسبق إلى مثله ، فدل على أنه مفترى على الله ، وقد كذبوا في ذلك ، وطرق سمعهم
أخبار الرسل السابقين موسى في الزمان. ألا ترى إلى قول مؤمن من آل فرعون : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ
بِالْبَيِّناتِ) ؟
__________________
ولما رأى موسى ما
قابلوه به من كون ما أتى به سحرا ، وانتفاء سماع مثله في الزمان السابق ، (قالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ
بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ) ، حيث أهله للرسالة ، وبعثه بالهدى ، ووعده حسن العقبى ،
ويعني بذلك نفسه ، ولو كان كما يزعمون لم يرسله. ثم نبه على العلة الموجبة لعدم
الفلاح ، وهي الظلم. وضع الشيء غير موضعه ، حيث دعوا إلى الإيمان بالله ، وأتوا
بالمعجزات ، فادعوا الإلهية ، ونسبوا ذلك المعجز إلى السحر. وعاقبة الدار ، وإن
كانت تصلح للمحمودة والمذمومة ، فقد كثر استعمالها في المحمودة ، فإن لم تقيد ،
حملت عليها. ألا ترى إلى قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ
عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ) ؟ وقال : (وَسَيَعْلَمُ
الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) وقرأ ابن كثير : قال موسى ، بغير واو ؛ وباقي السبعة : بالواو.
ومناسبة قراءة الجمهور أنه لما جاءهم بالبينات قالوا : كيت وكيت ، وقال موسى : كيت
وكيت ؛ فيتميز الناظر فصل ما بين القولين وفساد أحدهما ، إذ قد تقابلا ، فيعلم
يقينا أن قول موسى هو الحق والهدى. ومناسبة قراءة ابن كثير ، أنه موضع قراءة لما
قالوا : كيت وكيت ، قال موسى : كيت وكيت. ونفى فرعون علمه بإله غيره للملأ ، ويريد
بذلك نفي وجوده ، أي ما لكم من إله غيري. ويجوز أن يكون غير معلوم عنده إله لهم ،
ولكنه مظنون ، فيكون النفي على ظاهره ، ويدل على ذلك قوله : (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) ، وهو الكاذب في انتفاء علمه بإله غيره. ألا ترى إلى قوله
حالة غرقه : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا
إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) ؟ واستمر فرعون في مخرقته ، ونادى وزيره هامان ، وأمره أن
يوقد النار على الطين. قيل : وهو أول من عمل الآجر ، ولم يقل : أطبخ الآجر ، لأنه
لم يتقدم لهامان علم بذلك ، ففرعون هو الذي يعلمه ما يصنع.
(فَاجْعَلْ لِي
صَرْحاً) : أي ابن لي ، لعل أطلع إلى إله موسى. أوهم قومه أن إله
موسى يمكن الوصول إليه والقدرة عليه ، وهو عالم متيقن أن ذلك لا يمكن له ؛ وقومه
لغباوتهم وجهلهم وإفراط عمايتهم ، يمكن ذلك عندهم ، ونفس إقليم مصر يقتضي لأهله
تصديقهم بالمستحيلات وتأثرهم للموهمات والخيالات ، ولا يشك أنه كان من قوم فرعون
من يعتقد أنه مبطل في دعواه ، ولكن يوافقه مخافة سطوه واعتدائه. كما رأيناه يعرض
لكثير من العقلاء ، إذا حدث رئيس بحضرته بحديث مستحيل ، يوافقه على ذلك الحديث.
ولا يدل الأمر ببناء الصرح على أنه بني ، وقد اختلف في ذلك ، فقيل : بناه ، وذكر
من وصفه بما
__________________
الله أعلم به.
وقيل : لم يبن. واطلع في معنى : اطلع ، يقال : طلع إلى الجبل واطلع بمعنى واحد ،
أي صعد ، فافتعل فيه بمعنى الفعل المجرد وبغير الحق ، إذ ليس لهم ذلك ، فهم مبطلون
في استكبارهم ، حيث ادعى الإلهية ووافقوه على ذلك ؛ والكبرياء في الحقيقة إنما هو
لله. وقرأ حمزة ، والكسائي ، ونافع : لا يرجون ، مبنيا للفاعل ؛ والجمهور : مبنيا
للمفعول. والأرض هنا أرض مصر. (فَنَبَذْناهُمْ فِي
الْيَمِ) : كناية عن إدخالهم في البحر حتى غرقوا ، شبهوا بحصيات.
قذفها الرامي من يده ، ومنه نبذ النواة ، وقول الشاعر :
نظرت إلى عنوانه
فنبذته
|
|
كنبذك نعلا من
نعالك باليا
|
وقوم فرعون وفرعون
، وإن ساروا إلى البحر باختيارهم في طلب بني إسرائيل ، فإن ما ضمهم من القدر
السابق ، وإغراقهم في البحر ، هو نبذ الله إياهم. وجعل هنا بمعنى : صير ، أي
صيرناهم أئمة قدوة للكفار يقتدون بهم في ضلالتهم ، كما أن للخير أئمة يقتدى بهم ،
اشتهروا بذلك وبقي حديثهم. وقال الزمخشري : وجعلناهم : دعوناهم ، أئمة : دعاة إلى
النار ، وقلنا : إنهم أئمة دعاة إلى النار ، وهو من قولك : جعله بخيلا وفاسقا إذا
دعاه فقال : إنه بخيل وفاسق. ويقول أهل اللغة في تفسير فسقه وبخله : جعله بخيلا
وفاسقا ، ومنه قوله عزوجل : (وَجَعَلُوا
الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) . ومعنى دعوتهم إلى النار : دعوتهم إلى موجباتها من الكفر.
انتهى. وإنما فسر جعلناهم بمعنى دعوناهم ، لا بمعنى صيرناهم ، جريا على مذهبه من
الاعتزال ، لأن في تصييرهم أئمة ، خلق ذلك لهم. وعلى مذهب المعتزلة ، لا يجوّزون
ذلك من الله ، ولا ينسبونه إليه ، قال : ويجوز خذلناهم حتى كانوا أئمة الكفر ،
ومعنى الخذلان : منع الإلطاف ، وإنما يمنعها من علم أنه لا ينفع فيه ، وهو المصمم
على الكفر ، الذي لا تغني عنه الآيات والنذر. انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال
أيضا. (لَعْنَةً) : أي طردا وإبعادا ، وعطف يوم القيامة على : (فِي هذِهِ الدُّنْيا). (مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) ، قال أبو عبيدة : من الهالكين. وقال ابن عباس : من
المشوهين الخلقة ، لسواد الوجوه وزرقة العيون. وقيل : من المبعدين.
ولما ذكر تعالى ما
آل إليه فرعون وقومه من غضب الله عليهم وإغراقه ، ذكر ما امتن به على رسوله موسى عليهالسلام فقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ) ، وهو التوراة ، وهو أول كتاب أنزلت فيه الفرائض والأحكام.
(مِنْ بَعْدِ ما
أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) : قوم نوح وهود
__________________
وصالح ولوط ،
ويقال : لم تهلك قرية بعد نزول التوراة غير القرية التي مسخ أهلها قردة. وانتصب
بصائر على الحال ، أي طرائق هدي يستبصر بها.
(وَما كُنْتَ بِجانِبِ
الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ
، وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ
ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا
مُرْسِلِينَ ، وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ
رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ ، وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً
فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ
مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ
يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا
إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ ، قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى
مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ
فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ
هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
لما قص الله تعالى
من أنباء موسى وغرائب ما جرى له من الحمل به في وقت ذبح الأبناء ، ورميه في البحر
في تابوت ، ورده إلى أمّه ، وتبني فرعون له ، وإيتائه الحكم والعلم ، وقتله القبطي
، وخروجه من منشئه فارا ، وتصاهره مع شعيب ، ورعيه لغنمه السنين الطويلة ، وعوده
إلى مصر ، وإضلاله الطريق ، ومناجاة الله له ، وإظهار تينك المعجزتين العظيمتين
على يديه ، وهي العصا واليد ، وأمره بالذهاب إلى فرعون ، ومحاورته معه ، وتكذيب
فرعون وإهلاكه وإهلاك قومه ، والامتنان على موسى بإيتائه التوراة ؛ وأوحى تعالى
بجميع ذلك إلى محمد رسوله صلىاللهعليهوسلم ؛ ذكره بإنعامه عليه بذلك ، وبما خصه من الغيوب التي كان
لا يعلمها لا هو ولا قومه فقال : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ
الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ).
والأمر ، قيل :
النبوّة والحكم الذي آتاه الله موسى. وقيل : الأمر : أمر محمد عليهالسلام أن يكون من أمته ، وهذا التأويل يلتئم معه ما بعده من قوله
: (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا
قُرُوناً). وقيل : الأمر : هلاك فرعون بالماء ، ويحمل بجانب الغربي
على اليم ، وبدأ أولا بنفي شيء خاص ، وهو أنه لم يحضر وقت قضاء الله لموسى الأمر ،
ثم ثنى بكونه لم يكن من الشاهدين. والمعنى ، والله أعلم ؛ من الشاهدين بجميع ما
أعلمناك به ، فهو نفي لشهادته جميع ما جرى لموسى ، فكان عموما بعد خصوص. وبجانب
الغربي : من إضافة الموصوف إلى صفته عند قوم ، ومن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه
عند قوم. فعلى
القول الأول أصله
بالجانب الغربي ، وعلى الثاني أصله بجانب المكان الغربي ، والترجيح بين القولين
مذكور في النحو. والغربي ، قال قتادة : غربي الجبل ، وقال الحسن : بعث الله موسى
بالغرب ، وقال أبو عبيدة : حيث تغرب الشمس والقمر والنجوم. وقيل : هنا جبل غربي.
وقيل : الغربي من الوادي ، وقيل : من البحر. قال ابن عطية : المعنى : لم تحضر يا
محمد هذه الغيوب التي تخبر بها ، ولكنها صارت إليك بوحينا ، أي فكان الواجب أن
يسارع إلى الإيمان بك ، ولكن تطاول الأمر على القرون التي أنشأناها زمنا زمنا ،
فعزبت حلومهم ، واستحكمت جهالتهم وضلالتهم. وقال الزمخشري : الغرب : المكان الواقع
في شق الغرب ، وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى من الطور ، وكتب الله له في
الألواح. والأمر المقضي إلى موسى : الوحي الذي أوحى إليه. والخطاب لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، يقول : وما كنت حاضرا المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى ،
ولا كنت من جملة الشاهدين للوحي إليه ، أو على الوحي إليه ، وهم نقباؤه الذين
اختارهم للميقات ، حتى نقف من جملة المشاهدة على ما جرى من أمر موسى في ميقاته ،
وكتب التوراة له في الألواح ، وغير ذلك. فإن قلت : كيف يتصل قوله : (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً) بهذا الكلام ، ومن أي جهة يكون استدراكا؟ قلت : اتصاله به
وكونه استدراكا من حيث أن معناه : ولكنا أنشأنا بعد عهد الوحي إلى عهدك قرونا
كثيرة ، فتطاول على آخرهم ، وهو القرن الذي أنت فيهم.
(الْعُمُرُ) : أي أمد انقطاع الوحي ، واندرست العلوم ، فوجب إرسالك
إليهم ، فأرسلناك وكسبناك العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى ، كأنه قال : وما كنت
شاهدا لموسى وما جرى عليه ، ولكنا أوحيناه إليك ، فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة
النظرة ، ودل به على المسبب على عادة الله في اختصاره. فإذن ، هذا الاستدراك شبيه
للاستدراكين بعده. (وَما كُنْتَ ثاوِياً) : أي مقيما في أهل مدين ، هم شعيب والمؤمنون. (تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) : تقرأ عليهم تعلما منهم ، يريد الآيات التي فيها قصة شعيب
وقومه. ولكنا أرسلناك وأخبرناك بها وعلمناكها. (إِذْ نادَيْنا) ، يريد مناداة موسى ليلة المناجاة وتكليمه ، ولكن علمناك.
وقيل : (فَتَطاوَلَ
عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) ، وفترت النبوة ، ودرست الشرائع ، وحرف كثير منها ؛ وتمام
الكلام مضمر تقديره : وأرسلناك مجددا لتلك الأخبار ، مميزا للحق بما اختلف فيه
منها ، رحمة منا. وقيل : يحتمل أن يكون المعنى : وما كنت من الشاهدين في ذلك
الزمان ، وكانت بينك وبين موسى قرون تطاولت أعمارهم ، وأنت تخبر الآن عن تلك
الأحوال أخبار مشاهدة وعيان بإيحائنا ، معجزة لك. وقيل : تتلو حال ، وقيل : مستأنف
، أي أنت الآن تتلو قصة
شعيب ، ولكنا
أرسلناك رسولا ، وأنزلنا عليك كتابا فيه هذه الأخبار المنسية تتلوها عليهم ،
ولولاك ما أخبرتهم بما لم يشاهدوه.
وقال الفراء : (وَما كُنْتَ ثاوِياً) في أهل مدين مع موسى ، فتراه وتسمع كلامه ، وها أنت (تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) : أي على أمتك ، فهو منقطع. انتهى. قيل : وإذا لم يكن
حاضرا في ذلك المكان ، فما معنى : (وَما كُنْتَ مِنَ
الشَّاهِدِينَ)؟ فقال ابن عباس : التقدير : لم تحضر ذلك الموضع ، ولو حضرت
، فما شاهدت تلك الوقائع ، فإنه يجوز أن يكون هناك : ولا يشهد ولا يرى. وقال مقاتل
: لم يشهد أهل مدين فيقرأ على أهل مكة خبرهم ، ولكنا أرسلناك إلى أهل مكة ،
وأنزلنا إليك هذه الأخبار ، ولو لا ذلك ما علمت. وقال الضحاك : يقول إنك يا محمد
لم تكن الرسول إلى أهل مدين ، تتلو عليهم آيات الكتاب ، وإنما كان غيرك ، ولكنا
كنا مرسلين في كل زمان رسولا ، فأرسلنا إلى مدين شعيبا ، وأرسلناك إلى العرب لتكون
خاتم الأنبياء. انتهى.
وقال الطبري : (إِذْ نادَيْنا) بأن : (فَسَأَكْتُبُها
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الآية. وعن أبي هريرة : أنه نودي من السماء حينئذ يا أمة
محمد استجبت لكم قبل أن تدعوني ، وغفرت لكم قبل أن تسألوني ، فحينئذ قال موسى عليهالسلام : اللهم اجعلني من أمة محمد. فالمعنى : إذ نادينا بأمرك ،
وأخبرناك بنبوتك. وقرأ الجمهور : (رَحْمَةً) ، بالنصب ، فقدر : ولكن جعلناك رحمة ، وقدر أعلمناك
ونبأناك رحمة. وقرأ عيسى ، وأبو حيوة : بالرفع ، وقدر : ولكن هو رحمة ، أو هو رحمة
، أو أنت رحمة. (لِتُنْذِرَ قَوْماً
ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ) : أي في زمن الفترة بينك وبين عيسى ، وهو خمسمائة وخمسون
عاما ونحوه. وجواب (لَوْ لا) محذوف. والمعنى : لو لا أنهم قائلون ، إذ عوقبوا بما قدموا
من الشرك والمعاصي ، هلا أرسلت إلينا رسولا؟ محتجين بذلك علينا ما أرسلنا إليهم :
أي إنما أرسلنا الرسل إزالة لهذا العذر ، كما قال : (لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) ، أن (تَقُولُوا ما جاءَنا
مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) . وتقدير الجواب : ما أرسلنا إليهم الرسل ، هو قول الزجاج.
وقال ابن عطية : تقديره : لعاجلناهم بما يستحقونه. والمصيبة : العذاب. ولما كان
أكثر الأعمال تزاول بالأيدي ، عبر عن كل عمل باجتراح الأيدي ، حتى أعمال القلوب ،
اتساعا في الكلام ، وتصيير الأقل تابعا للأكثر ، وتغليب الأكثر على الأقل. والفاء
في (فَيَقُولُوا) للعطف على نصيبهم ، ولو لا الثانية للتحضيض. وفنتبع :
الفاء فيه جواب للتحضيض.
__________________
وقال الزمخشري :
فإن قلت : كيف استقام هذا المعنى ، وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول
لدخول حرف الامتناع عليها دونه؟ قلت : القول هو المقصود بأن يكون سببا لإرسال
الرسل ، ولكن العقوبة ، لما كانت هي السبب للقول ، فكان وجوده بوجودها ، جعلت
العقوبة كأنها سبب الإرسال بواسطة القول ، فأدخلت عليها لو لا ، وجيء بالقول
معطوفا عليها بالفاء المعطية معنى السببية ، ويؤول معناها إلى قولك : ولو لا قولهم
هذا ، (إِذا أَصابَتْهُمْ
مُصِيبَةٌ) لما أرسلنا ، ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة ، وهو أنهم لم
يعاقبوا مثلا على كفرهم ، وقد عاينوا ما ألجئوا به إلى العلم اليقين. لم يقولو :
لو لا أرسلت إلينا رسولا ، وإنما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير ، لا التأسف
على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم. وفي هذا من الشهادة القوية على استحكام كفرهم
ورسوخهم فيه ما لا يخفى ، كقولهم : (وَلَوْ رُدُّوا
لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) . انتهى.
(الْحَقُ) : هو الرسول ، محمد صلىاللهعليهوسلم ، جاء بالكتاب المعجز الذي قطع معاذيرهم. وقيل : القرآن ، (مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى). (مِنْ قَبْلُ) : أي من قبل الكتاب المنزل جملة واحدة ، وانقلاب العصا حية
، وفلق البحر ، وغيرها من الآيات. اقترحوا ذلك على سبيل التعنت والعناد ، كما
قالوا : لو لا أنزل عليه كنز ، وما أشبه ذلك من المقترحات لهم. وهذه المقالة التي
قالوها هي من تعليم اليهود لقريش ، قالوا لهم. ألا يأتي بآية باهرة كآيات موسى ،
فرد الله عليهم بأنهم كفروا بآيات موسى ، وقد وقع منهم في آيات موسى ما وقع من
هؤلاء في آيات الرسول. فالضمير في : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا) لليهود ، قاله ابن عطية. وقيل : قائل ذلك العرب بالتعليم ،
كما قلنا. وقيل : قائل ذلك اليهود ، ويظهر عندي أنه عائد على قريش الذين قالوا : (لَوْ لا أُوتِيَ) : أي محمد ، (بِما أُوتِيَ مُوسى) ، وذلك أن تكذبيهم لمحمد صلىاللهعليهوسلم تكذيب لموسى عليهالسلام ، ونسبتهم السحر للرسول نسبة السحر لموسى ، إذ الأنبياء هم
من واد واحد. فمن نسب إلى أحد من الأنبياء ما لا يليق ، كان ناسبا ذلك إلى جميع
الأنبياء. وتتناسق الضمائر كلها في هذا ، في قوله : (قُلْ فَأْتُوا
بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وإن كان الظاهر من القول إنه النطق اللساني ، فقد ينطلق
على الاعتقاد وهم من حيث إنكار النبوات ، معتقدون أن ما ظهر على أيدي الأنبياء من
الآيات إنما هو من باب السحر.
وقال الزمخشري : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا) ، يعني آباء جنسهم ، ومن مذهبهم مذهبهم ، وعنادهم عنادهم ،
وهم الكفرة في زمن موسى (بِما أُوتِيَ مُوسى). وعن الحسن : قد كان
__________________
للعرب أصل في أيام
موسى ، فمعناه على هذا : أو لم يكفر آباؤهم؟ قالوا في موسى وهارون : (سِحْرانِ تَظاهَرا) ، أي تعاونا. انتهى. ومن قيل : يحتمل أن يتعلق ب (يَكْفُرُوا) ، و (بِما أُوتِيَ). وقرأ الجمهور : ساحران. قال مجاهد : موسى وهارون. وقال
الحسن : موسى وعيسى. وقال ابن عباس : موسى ومحمد صلىاللهعليهوسلم. وقال الحسن أيضا : عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. وقرأ
عبد الله ، وزيد بن علي ، والكوفيون : سحران. قال ابن عباس : التوراة والقرآن.
وقيل : التوراة والإنجيل ، أو موسى وهارون جعلا سحرين على سبيل المبالغة. (تَظاهَرا) : تعاونا. قرأ الجمهور : تظاهرا : فعلا ماضيا على وزن
تفاعل. وقرأ طلحة ، والأعمش : اظاهرا ، بهمزة الوصل وشد الظاء ، وكذا هي في حرف
عبد الله ، وأصله تظاهرا ، فأدغم التاء في الظاء ، فاجتلبت همزة الوصل لأجل سكون
التاء المدغمة. وقرأ محبوب عن الحسن ، ويحيى بن الحارث الذماري ، وأبو حيوة ، وأبو
خلاد عن اليزيدي : تظاهرا بالتاء ، وتشديد الظاء. قال ابن خالويه : وتشديده لحن
لأنه فعل ماض ، وإنما يشدد في المضارع. وقال صاحب اللوامح : ولا أعرف وجهه. وقال
صاحب الكامل في القراءات : ولا معنى له. انتهى. وله تخريج في اللسان ، وذلك أنه
مضارع حذفت منه النون ، وقد جاء حذفها في قليل من الكلام وفي الشعر ، وساحران خبر
مبتدأ محذوف تقديره : أنتما ساحران تتظاهران ؛ ثم أدغمت التاء في الظاء وحذفت
النون ، وروعي ضمير الخطاب. ولو قرىء : يظاهرا ، بالياء ، حملا على مراعاة ساحران
، لكان له وجه ، أو على تقدير هما ساحران تظاهرا.
(وَقالُوا إِنَّا
بِكُلٍّ كافِرُونَ) : أي بكل من الساحرين أو السحرين ، ثم أمره تعالى أن يصدع
بهذه الآية ، وهي قوله : (قُلْ فَأْتُوا) : أي أنتم أيها المكذبون ، بهذه الكتب التي تضمنت الأمر
بالعبادات ومكارم الأخلاق ، ونهت عن الكفر والنقائص ، ووعد الله عليها الثواب
الجزيل. إن كان تكذيبكم لمعنى (فَأْتُوا بِكِتابٍ
مِنْ عِنْدِ اللهِ) يهدي أكثر من هدي هذه ، أتبعه معكم. والضمير في منها عائد
على ما أنزل على موسى ، وعلى محمد صلى الله عليهما وسلم ، وتعليق إتيانهم بشرط
الصدق أمر متحقق متيقن ، أنه لا يكون ولا يمكن صدقهم ، كما أنه لا يمكن أن يأتوا
بكتاب من عند الله يكون أهدى من الكتابين. ويجوز أن يراد بالشرط التهكم بهم. وقرأ
زيد بن علي : أتبعه ، برفع العين الاستئناف ، أي أنا أتبعه. (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) ، قال ابن عباس : يريد فإن لم يؤمنوا بما جئت به من الحجج
، ولم يمكنهم أن يأتوا بكتاب هو أفضل ، والاستجابة تقتضي دعاء ، وهو صلىاللهعليهوسلم يدعو دائما إلى
الإيمان ، أي فإن
لم يستجيبوا لك بعد ما وضح لهم من المعجزات التي تضمنها كتابك الذي أنزل ، أو يكون
قوله : (فَأْتُوا بِكِتابٍ) ، هو الدعاء إذ هو طلب منهم ودعاء لهم بأن يأتوا به.
ومعلوم أنهم لا يستجيبون لأن يأتوا بكتاب من عند الله ، فاعلم أنه ليس لهم إلا
اتباع هوى مجرد ، لا اتباع دليل. واستجاب : بمعنى أجاب ، ويعدى للداعي باللام
ودونها ، كما قال : (فَاسْتَجابَ لَهُ
رَبُّهُ) ، (فَاسْتَجَبْنا لَهُ
وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى) ، (فَإِلَّمْ
يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) . وقال الشاعر :
فلم يستجبه عند
ذاك مجيب
فعداه بغير لام.
وقال الزمخشري : هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء وإلى الداعي باللام ، ويحذف الدعاء
إذا عدى إلى الداعي في الغالب ، فيقال : استجاب الله دعاءه ، واستجاب له ، فلا
يكاد يقال استجاب له دعاءه. وأما البيت فمعناه : فلم يستجب دعاء ، على حذف المضاف.
انتهى. (وَمَنْ أَضَلُ) : أي لا أحد أضل ، و (بِغَيْرِ هُدىً) : في موضع الحال ، وهذا الحال قيد في اتباع الهوى ، لأنه
قد يتبع الإنسان ما يهواه ، ويكون ذلك الذي يهواه فيه هدى من الله ، لأن الأهواء
كلها تنقسم إلى ما يكون فيه هدى وما لا يكون فيه هدى ، فلذلك قيد بهذه الحال. وقال
الزمخشري : يعني مخذولا مخلى بينه وبين هواه. انتهى ، وهو على طريق الاعتزال.
(وَلَقَدْ وَصَّلْنا
لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ، الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ
مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ، وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا
بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ،
أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ
بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ، وَإِذا سَمِعُوا
اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ
سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ ، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ
أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
، وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ
نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً
مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ).
قرأ الجمهور : (وَصَّلْنا) ، مشدد الصاد ؛ والحسن : بتخفيفها ، والضمير في لهم لقريش.
وقال رفاعة القرظي : نزلت في عشرة من اليهود ، أنا أحدهم. قال الجمهور : وصلنا :
تابعنا القرآن موصولا بعضه ببعض في المواعظ والزجر والدعاء إلى الإسلام. وقال
__________________
الحسن : وفي ذكر
الأمم المهلكة. وقال مجاهد : جعلناه أوصالا من حيث كان أنواعا من القول في معان
مختلفة. وقال ابن زيد : وصلنا لهم خبر الآخرة بخبر الدنيا ، حتى كأنهم عاينوا
الآخرة. وقال الأخفش : أتممنا لوصلك الشيء بالشيء ، وأصل التوصل في الحبل ، يوصل
بعضه ببعض. وقال الشاعر :
فقل لبني مروان
ما بال ذمتي
|
|
بحبل ضعيف لا
يزال يوصل
|
وهذه الأقوال
معناها : توصيل المعاني فيه بها إليهم. وقالت فرقة : التوصيل بالنسبة إلى الألفاظ
، أي وصلنا لهم قولا معجزا دالا على نبوتك. وأهل الكتاب هنا جماعة من اليهود أسلمت
، وكان الكفار يؤذونهم. أو بحيرا الراهب ، أو النجاشي ، أو سلمان الفارسي. وابن
سلام ، وأبو رفاعة ، وابنه في عشرة من اليهود أسلموا. أو أربعون من أهل الإنجيل
كانوا مؤمنين بالرسول قبل مبعثه ، اثنان وثلاثون من الحبشة أقبلوا مع جعفر بن أبي
طالب ، وثمانية قدموا من الشام : بحيرا ، وأبرهة ، وأشرف ، وأربد ، وتمام ، وإدريس
، ونافع ، وتميم وقيل ابن سلام ، وتميم الداري ، والجارود العبدي ، وسلمان ، سبعة
أقوال آخرها لقتادة. والظاهر أنها أمثلة لمن آمن منهم ، والضمير في به عائد على
القول ، وهو القرآن. وقال الفراء : عائد على الرسول ، وقال أيضا : إن عاد على
القرآن ، كان صوابا ، لأنهم قد قالوا : إنه الحق من ربنا. انتهى.
(إِنَّهُ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّنا) : تعليل للإيمان به ، لأن كونه حقا من الله حقيق بأن نؤمن
به. (إِنَّا كُنَّا مِنْ
قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) : بيان لقوله : (آمَنَّا بِهِ) ، أي إيماننا به متقادم ، إذ كان الآباء الأقدمون إلى
آبائنا قرأوا ما في الكتاب الأول ، وأعلموا بذلك الأبناء ، فنحن مسلمون من قبل
نزوله وتلاوته علينا ، والإسلام صفة كل موحد مصدق بالوحي. وإيتاء الأجر مرتين ،
لكونه آمن بكتابه وبالقرآن ؛ وعلل ذلك بصبرهم : أي على تكاليف الشريعة السابقة لهم
، وهذه الشريعة وما يلقون من الأذى. وفي الحديث : «ثلاثة يؤتيهم الله أجرهم مرتين
: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي» ، الحديث. (وَيَدْرَؤُنَ) : يدفعون ، (بِالْحَسَنَةِ) : بالطاعة ، (السَّيِّئَةَ) : المعصية المتقدمة ، أو بالحلم الأذى ، وذلك من مكارم
الأخلاق. وقال ابن مسعود : يدفعون بشهادة أن لا إله إلّا الله الشرك. وقال ابن
جبير : بالمعروف المنكر. وقال ابن زيد : بالخير الشر. وقال ابن سلام : بالعلم
الجهل ، وبالكظم الغيظ. وفي وصية الرسول صلىاللهعليهوسلم ، لمعاذ : «أتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق
حسن». و (اللَّغْوَ) : سقط القول. وقال مجاهد : الأذى والسب. وقال الضحاك : الشرك.
وقال ابن
زيد : ما غيرته
اليهود من وصف الرسول ، سمعه قوم منهم ، فكرهوا ذلك وأعرضوا. (وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) : خطاب لقائل اللغو المفهوم ذلك من قوله : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا
عَنْهُ).
(سَلامٌ عَلَيْكُمْ) ، قال الزجاج : سلام متاركة لإسلام تحية. (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) : أي لا نطلب مخالطتهم. (إِنَّكَ لا تَهْدِي) من أحببت : أي لا تقدر على خلق الهداية فيه ، ولا تنافي
بين هذا وبين قوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، لأن معنى هذا : وإنك لترشد. وقد أجمع المسلمون على أنها
نزلت في أبي طالب ، وحديثه مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، حالة أن مات ، مشهور. وقال الزمخشري : لا تقدر أن تدخل
في الإسلام كل من أحببت ، لأنك لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره ، ولكن الله يدخل
في الإسلام من يشاء ، وهو الذي علم أنه غير مطبوع على قلبه ، وأن الألطاف تنفع فيه
، فتقرب به ألطافه حتى يدعوه إلى القبول. (وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ) : بالقابلين من الذين لا يقبلون. انتهى ، وهو على طريقة
الاعتزال في أمر الألطاف. وقالوا : الضمير في وقالوا لقريش. وقيل ، القائل الحارث
بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف : إنك على الحق ، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا
العرب ، فذلك وإنما نحن أكلة رأس ، أي قليلون أن يتخطفونا من أرضنا.
وقولهم : (الْهُدى مَعَكَ) : أي على زعمك ، فقطع الله حجتهمم ، إذ كانوا ، وهم كفار
بالله ، عباد أصنام قد أمنوا في حرمهم ، والناس في غيره يتقاتلون ، وهم مقيمون في
بلد غير ذي زرع ، يجيء إليهم ما يحتاجون من الأقوات ، فكيف إذا آمنوا واهتدوا؟ فهو
تعالى يمهد لهم الأرض ، ويملكهم الأرض ، كما وعدهم تعالى ، ووقع ما وعد به ؛ ووصف
الحرم بالأمن مجاز ، إذ الآمنون فيه هم ساكنوه. و (ثَمَراتُ كُلِّ
شَيْءٍ) : عام مخصوص ، يراد به الكثرة. وقرأ المنقري : يتخطف ،
برفع الفاء ، مثل قوله تعالى : (أَيْنَما تَكُونُوا
يُدْرِكْكُمُ) ، برفع الكاف ، أي فيدرككم ، أي فهو يدرككم. وقوله : من
يفعل الحسنات الله يشكرها : أي فيتخطف ، وفالله يشكرها ، وهو تخريج شذوذ. وقرأ
نافع وجماعة ، عن يعقوب ؛ وأبو حاتم ، عن عاصم : تجبى ، بتاء التأنيث ، والباقون
بالياء. وقرأ الجمهور : ثمرات ، بفتحتين ؛ وأبان بن تغلب : بضمتين ؛ وبعضهم : بفتح
الثاء وإسكان الميم. وانتصب رزقا على أنه مصدر من المعنى ، لأن قوله : (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ) : أي برزق ثمرات ، أو على أنه مفعول له ، وفاعل الفعل
المعلل محذوف ، أي نسوق إليه ثمرات كل
__________________
شيء ، وإن كان
الرزق ليس مصدرا ، بل بمعنى المرزوق ، جاز انتصابه على الحال من ثمرات ، ويحسن ذلك
تخصيصا بالإضافة. و (أَكْثَرَهُمْ لا
يَعْلَمُونَ) : أي جهلة ، بأن ذلك الرزق هو من عندنا.
(وَكَمْ أَهْلَكْنا
مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ
بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ ، وَما كانَ رَبُّكَ
مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ
آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ ، وَما
أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ
اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ ، أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً
فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ
الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ).
هذا تخويف لأهل
مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم من إنعام الله عليم بالرقود في ظلال
الأمن وخفض العيش ، فعظموا النعمة ، وقابلوها بالأشر والبطر ، فدمرهم الله وخرب
ديارهم. و (مَعِيشَتَها) منصوب على التمييز ، على مذهب الكوفيين ؛ أو مشبه بالمفعول
، على مذهب بعضهم ؛ أو مفعول به على تضمين (بَطِرَتْ) معنى فعل متعد ، أي خسرت معيشتها ، على مذهب أكثر البصريين
؛ أو على إسقاط في ، أي في معيشتها ، على مذهب الأخفش ؛ أو على الظرف ، على تقدير
أيام معيشتها ، كقولك : جئت خفوق النجم ، على قول الزجاج. (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ) : أشار إليها ، أي ترونها خرابا ، تمرون عليها كحجر ثمود ،
هلكوا وفنوا ، وتقدم ذكر المساكن. و (تُسْكَنْ) ، فاحتمل أن يكون الاستثناء في قوله : (إِلَّا قَلِيلاً) من المساكن ، أي إلا قليلا منها سكن ، واحتمل أن يكون من
المصدر المفهوم من قوله : (لَمْ تُسْكَنْ) : أي إلّا سكنى قليلا ، أي لم يسكنها إلّا المسافر ومار
الطريق. (وَكُنَّا نَحْنُ
الْوارِثِينَ) : أي لتلك المساكن وغيرها ، كقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ) ، خلت من ساكنيها فخربت.
تتخلف الآثار عن
أصحابها
|
|
حينا ويدركها
الفناء فتتبع
|
والظاهر أن القرى
عامة في القرى التي هلكت ، فالمعنى أنه تعالى لا يهلكها في كل وقت. حتى يبعث في أم
تلك القرى ، أي كبيرتها ، التي ترجع تلك القرى إليها ، ومنها يمتارون ، وفيها
عظيمهم الحاكم على تلك القرى. (حَتَّى يَبْعَثَ فِي
أُمِّها رَسُولاً) ، لإلزام الحجة وقطع المعذرة. ويحتمل أن يراد بالقرى :
القرى التي في عصر الرسول ، فيكون أم
__________________
القرى : مكة ،
ويكون الرسول : محمدا صلىاللهعليهوسلم ، خاتم الأنبياء ، وظلم أهلها : هو بالكفر والمعاصي. (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) : أي حسن يسركم وتفخرون به ، (فَمَتاعُ الْحَياةِ
الدُّنْيا وَزِينَتُها) : تمتعون أياما قلائل ، (وَما عِنْدَ اللهِ) : من النعيم الدائم الباقي المعد للمؤمنين ، (خَيْرٌ). من متاعكم ، (أَفَلا تَعْقِلُونَ) : توبيخ لهم. وقرأ أبو عمرو : يعقلون ، بالياء ، إعراض عن
خطابهم وخطاب لغيرهم ، كأنه قال : انظروا إلى هؤلاء وسخافة عقولهم. وقرأ الجمهور :
بالتاء من فوق ، على خطابهم وتوبيخهم ، في كونهم أهملوا العقل في العاقبة. ونسب
هذه القراءة أبو علي في الحجة إلى أبو عمرو وحده ، وفي التحرير والتحبير بين الياء
والتاء ، عن أبي عمرو. وقرىء : متاعا الحياة الدنيا ، أي يمتعون متاعا في الحياة
الدنيا ، فانتصب الحياة الدنيا على الظرف.
(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ) : يذكر تفاوت ما بين الرجلين من وعد ، (وَعْداً حَسَناً) ، وهو الثواب ، فلاقاه ، ومن متع في الحياة الدنيا ، ثم
أحضر إلى النار. وظاهر الآية العموم في المؤمن والكافر. قيل : ونزلت في الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وأبي جهل. وقيل : في حمزة وأبي جهل. وقيل : في عليّ وأبي
جهل. وقيل : في عمار والوليد بن المغيرة. وقيل : نزلت في المؤمن والكافر ، وغلب
لفظ المحضر في المحضر إلى النار كقوله : (لَكُنْتُ مِنَ
الْمُحْضَرِينَ) ، (فَكَذَّبُوهُ
فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) . والفاء في : (أَفَمَنْ) ، للعطف ، لما ذكر تفاوت ما بين ما أوتوا من المتاع
والزينة ، وما عند الله من الثواب ، قال : أفبعد هذا التفاوت الظاهر يسوى بين
أبناء الآخرة وأبناء الدنيا؟ والفاء في : (فَهُوَ لاقِيهِ) ، للتسبيب ، لأن لقاء الموعود مسبب عن الوعد الذي هو
الضمان في الخبر ، وثم للتراخي حال الإحضار عن حال التمتع بتراخي وقته عن وقته.
وقرأ طلحة : أمن وعدناه ، بغير فاء.
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ
فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ، قالَ الَّذِينَ
حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ
كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ ، وَقِيلَ
ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا
الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ ، وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما
ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ، فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ
فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ ، فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى
أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما
كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ، وَرَبُّكَ
يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ ، وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا
هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
__________________
جَعَلَ
اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ
اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ
اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ
اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ ، وَمِنْ
رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ
وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
لما ذكر أن
الممتعين في الدنيا يحضرون إلى النار ، ذكر شيئا من أحوال يوم القيامة ، أي واذكر
حالهم يوم يناديهم الله ، ونداؤه إياهم يحتمل أن يكون بواسطة وبغير واسطة ؛ (فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ)؟ أي على زعمكم ، وهذا الاستفهام على جهة التوبيخ والتقريع
؛ والشركاء هم من عبدوه من دون الله ، من ملك ، أو جنّ ، أو إنس ، أو كوكب ، أو
صنم ، أو غير ذلك. ومفعولا (تَزْعُمُونَ) محذوفان ، أحدهما العائد على الموصول ، والتقدير : تزعمونهم
شركاء. ولما كان هذا السؤال مسكتا لهم ، إذ تلك الشركاء التي عمدوها مفقودون ، هم
أوجدوا هم في الآخرة حادوا عن الجواب إلى كلام لا يجدي.
(قالَ الَّذِينَ حَقَّ
عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) : أي الشياطين ، وأئمة الكفر ورؤوسه ؛ وحق : أي وجب عليهم
القول ، أي مقتضاه ، وهو قوله : (لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) . و (هؤُلاءِ) : مبتدأ ، و (الَّذِينَ أَغْوَيْنا) : هم صفة ، و (أَغْوَيْناهُمْ كَما
غَوَيْنا) : الخبر ، و (كَما غَوَيْنا) : صفة لمطاوع أغويناهم ، أي فغووا كما غوينا ، أي تسببنا
لهم في الغي فقبلوا منا. وهذا الإعراب قاله الزمخشري. وقال أبو عليّ : ولا يجوز
هذا الوجه ، لأنه ليس في الخبر زيادة على ما في صفة المبتدأ. قال : فإن قلت : قد
وصلت بقوله : (كَما غَوَيْنا) ، وفيه زيادة. قيل : الزيادة بالظرف لا تصيره أصلا في
الجملة ، لأن الظروف صلات ، وقال هو : (الَّذِينَ أَغْوَيْنا) هو الخبر ، و (أَغْوَيْناهُمْ) : مستأنف. وقال غير أبي علي : لا يمتنع الوجه الأول ، لأن
الفضلات في بعض المواضع تلزم ، كقولك : زيد عمرو قائم في داره. انتهى. والمعنى :
هؤلاء أتباعنا آثروا الكفر على الإيمان ، كما آثرناه نحن ، ونحن كنا السبب في
كفرهم ، فقبلوا منا. وقرأ أبان ، عن عاصم وبعض الشاميين : كما غوينا ، بكسر الواو.
قال ابن خالويه : وليس ذلك مختارا ، لأن كلام العرب : غويت من الضلالة ، وغويت من
البشم. ثم قالوا : (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) ، منهم ما كانوا يعبدوننا ، إنما عبدوا غيرنا ، و (إِيَّانا) : مفعول (يَعْبُدُونَ) ، لما تقدّم الفصل ، وانفصاله لكون
__________________
يعبدون فاصلة ،
ولو اتصل ، ثم لم يكن فاصلة. وقال الزمخشري : إنما كانوا يعبدون أهواءهم ويطيعون
شهواتهم ؛ وإخلاء الجملتين من العاطف ، لكونهما مقرونين لمعنى الجملة الأولى.
انتهى.
(وَقِيلَ ادْعُوا
شُرَكاءَكُمْ) : لما سئلوا أين شركاؤكم وأجابوا بغير جواب ، سئلوا ثانيا
فقيل : ادعوا شركاءكم ، وأضاف الشركاء إليهم ، أي الذين جعلتموهم شركاء لله. وقوله
: (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) ، على سبيل التهكم بهم ، لأنه يعلم أنه لا فائدة في دعائهم
، (فَدَعَوْهُمْ) ، هذا لسخافة عقولهم في ذلك الموطن أيضا ، إذ لم يعلموا أن
من كان موجودا منهم في ذلك الموطن لا يجيبهم ، والضمير في (وَرَأَوُا). قال الضحاك ومقاتل : هو للتابع والمتبوع ، وجواب لو محذوف
، والظاهر أن يقدر مما يدل عليه مما يليه ، أي لو كانوا مؤمنين في الدنيا ، ما
رأوا العذاب في الآخرة. وقيل : التقدير : لو كانوا مهتدين بوجه من وجوه الحيل ،
لدفعوا به العذاب. وقيل : لعلموا أن العذاب حق. وقيل : لتحيروا عند رؤيته من
فظاعته ، وإن لم يعذبوا به ، وقيل : ما كانوا في الدنيا عابدين الأصنام. وقال أبو
عبد الله الرازي : وعندي أن الجواب غير محذوف ، وفي تقريره وجوه : أحدها : أن الله
إذا خاطبهم بقوله : (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) ، اشتدّ خوفهم ولحقهم شيء بحيث لا يبصرون شيئا ، لا جرم ما
رأوا العذاب. وثانيها : لما ذكر الشركاء ، وهي الأصنام ، وأنهم لا يجيبون الذين
دعوهم ، قال في حقهم : (وَرَأَوُا الْعَذابَ) ، لو كانوا من الأحياء المهتدين ، ولكنها ليست كذلك ، ولا
جرم ما رأت العذاب. والضمير في رأوا ، وإن كان للعقلاء ، فقد قال : ودعوهم وهم
للعقلاء. انتهى ، وفيه بعض تلخيص. وقد أثنى على هذا الذي اختاره ، وليس بشيء ،
لأنه بناه على أن الضمير في رأوا عائد على المدعوين ، قال : وهم الأصنام. والظاهر
أنه عائد على الداعين ، كقوله : (إِذْ تَبَرَّأَ
الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ) ، ولأن حمل مهتدين على الأحياء في غاية البعد ، لأن ما
قدره هو جواب ، ولا يشعر به أنه جواب ، إذ صار التقدير عنده : لو كانوا من الأحياء
رأوا العذاب ، لكنها ليست من الأحياء ، فلا ترى العذاب. ألا ترى إلى قوله : فلا
جرم ما رأت العذاب؟
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) : هذا النداء أيضا قد يكون بواسطة من الملائكة ، أو بغير
واسطة. حكى أولا ما يوبخهم من اتخاذهم له شركاء ، ثم ما يقوله رؤوس الكفر عند
توبيخهم ، ثم استعانتهم بشركائهم وخذلانهم لهم وعجزهم عن نصرتهم ، ثم ما يبكتون به
من الاحتجاج
__________________
عليهم بإرسال
الرسل وإزالة العلل. وقرأ الجمهور : (فَعَمِيَتْ) بفتح العين وتخفيف الميم. وقرأ الأعمش ، وجناح بن حبيش ،
وأبو زرعة بن عمرو بن جرير : بضم العين وتشديد الميم ، والمعنى : أظلمت عليهم
الأمور ، فلم يستطيعوا أن يخبروا بما فيه نجاة لهم ، وأتى بلفظ الماضي لتحقق
وقوعه. (فَهُمْ لا
يَتَساءَلُونَ) ، وقرأ طلحة : يساءلون ، بإدغام التاء في السين : أي لا
يسأل بعضهم بعضا فيما يتحاجون به ، إذا أيقنوا أنه لا حجة لهم ، فهم في عمى وعجز
عن الجواب. والمراد بالنبإ : الخبر عما أجاب به المرسل إليه رسوله. ولما ذكر تعالى
أحوال الكفار يوم القيامة ، وما يكون منهم فيه ، أخبر بأن من تاب من الشرك وآمن
وعمل صالحا ، فإنه مرجو له الفلاح والفوز في الآخرة ، وهذا ترغيب للكافر في
الإسلام ، وضمان له للفلاح. ويقال : إن عسى من الله واجبة.
(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ
ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) : نزلت بسبب ما تكلمت به قريش من استغراب أمر النبي صلىاللهعليهوسلم ، وقول بعضهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا
الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) ، وقائل ذلك الوليد بن المغيرة. قال القرطبي : هذا متصل
بذكر الشركاء الذين دعوهم واختاروهم للشفاعة ، أي الاختيار إلى الله تعالى في
الشفعاء ، لا إلى المشركين. وقيل : هو جواب لليهود ، إذ قالوا : لو كان الرسول إلى
محمد غير جبريل ، لأمنا به ، ونص الزجاج ، وعليّ بن سليمان ، والنحاس : على أن
الوقف على قوله : (وَيَخْتارُ) تام ، والظاهر أن ما نافية ، أي ليس لهم الخيرة ، إنما هي
لله تعالى ، كقوله : (ما كانَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ) من أمرهم. وذهب الطبري إلى أن ما موصولة منصوبة بيختار ،
أي ويختار من الرسل والشرائع ما كان خيرة للناس ، كما لا يختارون هم ما ليس إليهم
، ويفعلون ما لم يؤمروا به. وأنكر أن تكون ما نافية ، لئلا يكون المعنى : إنه لم
تكن لهم الخيرة فيما مضى ، وهي لهم فيما يستقبل ، ولأنه لم يتقدّم كلام ينفي. وروي
عن ابن عباس معنى ما ذهب إليه الطبري ، وقد رد هذا القول تقدّم العائد على الموصول
، وأجيب بأن التقدير : ما كان لهم فيه الخيرة ، وحذف لدلالة المعنى. قال الزمخشري
: كما حذف من قوله : (إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ
عَزْمِ الْأُمُورِ) ، يعني : أن التقدير أن ذلك فيه لمن عزم الأمور. وأنشد
القاسم ابن معن بيت عنترة :
أمن سمية دمع
العين تذريف
|
|
لو كان ذا منك
قبل اليوم معروف
|
وقرن الآية بهذا
البيت. والرواية في البيت : لو أن ذا ، ولكن على ما رواه القاسم يتجه في
__________________
بيت عنترة أن يكون
في كان ضمير الشأن. فأما في الآية ، فقال ابن عطية : تفسير الأمر والشأن لا يكون
بجملة فيها محذوف. قال ابن عطية : ويتجه عندي أن تكون ما مفعولة ، إذا قدرنا كان
تامة ، أي أن الله تعالى يختار كل كائن ، ولا يكون شيء إلا بإذنه. وقوله : (لَهُمُ الْخِيَرَةُ) : جملة مستأنفة معناها : تعديد النعمة عليهم في اختيار
الله لهم ، لو قبلوا وفهموا. انتهى. يعني : والله أعلم خيرة الله لهم ، أي
لمصلحتهم. والخيرة من التخير ، كالطيرة من التطير ، يستعملان بمعنى المصدر ؛
والجمل التي بعد هذا تقدم الكلام عليها. والحمد في الآخرة قولهم : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ
عَنَّا الْحَزَنَ) ، (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) ، (الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) ، والتحميد هنالك على سبيل اللذة ، لا التكليف. وفي الحديث
: «يلهمون التسبيح والتقديس». وقرأ ابن محيصن : ما تكن ، بفتح التاء وضم الكاف.
(وَلَهُ الْحُكْمُ) : أي القضاء بين عباده والفصل. و (أَرَأَيْتُمْ) : بمعنى أخبروني ، وقد يسلط على الليل (أَرَأَيْتُمْ) و (جَعَلَ) ، إذ كل منهما يقتضيه ، فأعمل الثاني. وجملة أرأيتم
الثانية هي جملة الاستفهام ، والعائد على الليل محذوف تقديره : من إله غير الله
يأتيكم بضياء بعده ، ولا يلزم في باب التنازع أن يستوي المتنازعان في جهة التعدي
مطلقا ، بل قد يختلف الطلب ، فيطلبه هذا على جهة الفاعلية ، وهذا على جهة
المفعولية ، وهذا على جهة المفعول ، وهذا على جهة الظرف. وكذلك أرأيتم ثاني
مفعولية جملة استفهامية غالبا ، وثاني جعل إن كانت بمعنى صير لا يكون استفهاما ،
وإن كانت بمعنى خلق وأوجد وانتصب ما بعد مفعولها ، كان ذلك المنتصب حالا. و (سَرْمَداً) ، قيل : من السرمد ، فميمه زائدة ، ووزنه فعمل ، ولا يزاد
وسطا ولا آخرا بقياس ، وإنما هي ألفاظ تحفظ مذكورة في علم التصريف. وأتى (بِضِياءٍ) ، وهو نور الشمس ، ولم يجيء التركيب بنهار يتصرفون فيه ،
كما جاء (بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ
فِيهِ) ، لأن منافع الضياء متكاثرة ، ليس التصرف في المعاش وحده ،
والظلام ليس بتلك المنزلة ، ومن ثم قرن بالضياء. (أَفَلا تَسْمَعُونَ)؟ لأن السمع يدرك ما يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده
، وقرن بالليل. (أَفَلا تُبْصِرُونَ)؟ لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون
ونحوه ، قال الزمخشري. و (مِنْ رَحْمَتِهِ) ، من هنا للسبب ، أي وبسبب رحمته إياكم ، (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) ، ثم علل
__________________
جعل كل واحد منهما
، فبدأ بعلة الأول ، وهو الليل ، وهو : (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) ، ثم بعلة الثاني وهو : (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ) ، ثم بما يشبه العلة لجعل هذين الشيئين وهو : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ، أي هذه الرحمة والنعمة. وهذا النوع من علم البديع يسمى
التفسير ، وهو أن تذكر أشياء ثم تفسرها بما يناسبها ، ومنه قول ابن جيوش :
ومقرطق يغني
النديم بوجهه
|
|
عن كأسه الملأى
وعن إبريقه
|
فعل المدام ولونها
ومذاقها
|
|
في مقلتيه
ووجنتيه وريقه
|
والضمير في (فِيهِ) عائد على الليل ، وفي (فَضْلِهِ) يجوز أن يكون عائدا على الله ، والتقدير : من فضله ، أي من
فضل الله فيه ، أي في النهار ؛ وحذف لدلالة المعنى ، ولدلالة لفظ فيه السابق عليه.
ويحتمل أن يعود على النهار ، أي من فضل النهار ، ويكون إضافة إلى ضمير النهار على
سبيل المجاز. لما كان الفضل حاصلا فيه ، أضيف إليه ، كقوله : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) .
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ
فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ، وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ
أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ
وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ، إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى
فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ
بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ
لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ، وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا
تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا
تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ، قالَ
إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ
أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً
وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ، فَخَرَجَ
عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا
لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ، وَقالَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ
وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ ، فَخَسَفْنا بِهِ
وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ
وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ ، وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ
بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ
عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا
وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ).
تقدم الكلام على
قوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) : وكرر هنا على جهة الإبلاغ والتأكيد. (وَنَزَعْنا) : أي ميزنا وأخرجنا بسرعة من كل أمة من الأمم. (شَهِيداً) : وهو نبي تلك
__________________
الأمة ، لأنه هو
الشهيد عليها ، كما قال : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ، وجئنا بك على هؤلاء
شهيدا؟ وقيل : عدولا وخيارا. والشهيد على هذا اسم الجنس ، والشهيد يشهد على تلك الأمّة
بما صدر منها ، وما أجابت به لما دعيت إلى التوحيد ، وأنه قد بلغهم رسالة ربهم. (فَقُلْنا) : أي للملأ ، (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) : أي حجتكم فيما كنتم عليه في الدنيا من الكفر ومخالفة هذا
الشهيد ، (فَعَلِمُوا أَنَّ
الْحَقَّ لِلَّهِ) ، لا لأصنامهم وما عبدوا من دون الله. (وَضَلَّ عَنْهُمْ) : أي وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع ، (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الكذب والباطل.
وقارون أعجمي :
منع الصرف للعجمة والعلمية. وقيل : ومعنى كان من قومه : أي ممن آمن به. قال ابن
عطية : وهو إسرائيلي بإجماع. انتهى. واختلف في قرابته من موسى عليهالسلام ، اختلافا مضطربا متكاذبا ، وأولاها : ما قاله ابن عباس
أنه ابن عمه ، وهو قارون ابن يصهر بن قاهث ، جد موسى ، لأن النسابين ذكروا نسبه
كذلك ، وكان يسمى المنور لحسن صورته ، وكان أحفظ بني إسرائيل للتوراة وأقرأهم ،
فنافق كما نافق السامري. (فَبَغى عَلَيْهِمْ) : ذكروا من أنواع بغيه الكفر والكبر ، وحسده لموسى على
النبوة ، ولهارون على الذبح والقربان ، وظلمه لبني إسرائيل حين ملكه فرعون عليهم ،
ودسه بغيا تكذب على موسى أنه تعرض لها ، وتفضحه بذلك في ملأ من بني إسرائيل ، ومن
تكبره أن زاد في ثيابه شبرا. (وَآتَيْناهُ مِنَ
الْكُنُوزِ) ، قيل : أظفره الله بكنز من كنوز يوسف عليهالسلام. وقيل : سميت أمواله كنوزا ، إذ كان ممتنعا من أداء الزكاة
، وبسبب ذلك عادى موسى عليهالسلام أول عداوته. وما موصوله ، صلتها إن ومعمولاها. وقال النحاس
: سمعت علي بن سليمان ، يعني الأخفش الصغير ، يقول : ما أقبح ما يقوله الكوفيون في
الصلات ، أنه لا يجوز أن تكون صلة الذي إن وما عملت فيه ، وفي القرآن : (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ). انتهى. وتقدم الكلام في مفاتح في سورة الأنعام ، وقالوا
هنا : مقاليد خزائنه. وقال السدي : هي الخزائن نفسها. وقال الضحاك : ظروفه
وأوعيته. وقرأ الأعمش : مفاتيحه ، بياء ، جمع مفتاح ، وذكروا من كثرة مفاتحه ما هو
كذب ، أو يقارب الكذب ، فلم أكتبه. قال أبو زيد : نؤت بالعمل إذا نهضت به. قال
الشاعر :
إذا وجدنا خلفا
بئس الخلف
|
|
عبدا إذا ما ناء
بالحمل وقف
|
ويقول : ناء ينوء
، إذا نهض بثقل. قال الشاعر :
تنوء بأحراها
فلأيا قيامها
|
|
وتمشي الهوينا
عن قريب فتبهر
|
وقال أبو عبيدة :
هو مقلوب وأصله : لتنوء بها العصبة ، أي تنهض ، والقلب عند أصحابنا بابه الشعر.
والصحيح أن الباء للتعدية ، أي لتنيء العصبة ، كما تقول : ذهبت به وأذهبته ، وجئت
به وأجأته. ونقل هذا عن الخليل وسيبويه والفراء ، واختاره النحاس ، وروي معناه عن
ابن عباس وأبي صالح والسدي ، وتقول العرب : ناء الحمل بالبعير إذا أثقله. قال ابن
عطية : ويمكن أن يسند تنوء إلى المفاتح ، لأنها تنهض بتحامل إذا فعل ذلك الذي ينهض
بها ، وذا مطرد في ناء الحمل بالبعير ونحوه ، فتأمله. وقرأ بديل بن ميسرة : لينوء
، بالياء ، وتذكيره راعى المضاف المحذوف ، التقدير : ما إن حمل مفاتحه ، أو
مقدارها ، أو نحو ذلك. وقال الزمخشري : ووجهه أن يفسر المفاتح بالخزائن ، ويعطيها
حكم ما أضيف إليه للملابسة والإيصال ، كقوله : ذهبت أهل اليمامة. انتهى. يعني :
أنه اكتسب المفاتح التذكير من الضمير الذي لقارون ، كما اكتسب أهل التأنيث من
إضافته إلى اليمامة ، فقيل فيه ، ذهبت. وذكر أبو عمرو الداني أن بديل بن ميسرة قرأ
: ما إن مفتاحه ، على الإفراد ، فلا تحتاج قراءته لينوء بالياء إلى تأويل. وتقدم
تفسير العصبة في سورة يوسف عليهالسلام. وتقدم قبل تفسير المفاتح ، أهي المقاليد ، أو الخزائن
نفسها ، أو الظروف والأوعية؟ وعن ابن عباس والحسن : أن المفاتح هي الأموال.
قال ابن عباس :
كانت خزائنه تحملها أربعون أقوياء ، وكانت أربعمائة ألف ، يحمل كل رجل عشرة آلاف.
وقال أبو مسلم : المراد من المفاتح : العلم والإحاطة ، كقوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) ، والمراد : وآتيناه من الكنوز ، ما إن حفظها والإطلاع
عليها ليثقل على العصبة ، أي هذه الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها ، يتعب حفظها
القائمين على حفظها. (إِذْ قالَ لَهُ
قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ) : نهوه عن الفرح المطغى الذي هو انهماك وانحلال نفس وأشر
وإعجاب ، وإنما يفرح بإقبال الدنيا عليه من اطمأن إليها وغفل عن أمر الآخرة ، ومن
جعل أنه مفارق زهرة الدنيا عن قريب ، فلا يفرح بها. وقال أبو الطيب :
أشد الغم عندي
في سرور
|
|
تيقن عنه صاحبه
انتقالا
|
قال الزمخشري :
ومحل إذ منصوب بتنوء. انتهى ، وهذا ضعيف جدا ، لأن إثقال المفاتح العصبة ليس مقيدا
بوقت قول قومه له : (لا تَفْرَحْ). وقال ابن عطية : متعلق بقوله : (فَبَغى عَلَيْهِمْ) ، وهو ضعيف أيضا ، لأن بغيه عليهم لم يكن مقيدا بذلك
الوقت.
__________________
وقال الحوفي :
الناصب له محذوف تقديره أذكر. وقال أبو البقاء : (إِذْ قالَ لَهُ) ظرف لآتيناه ، وهو ضعيف أيضا ، لأن الإيتاء لم يكن وقت ذلك
القول. وقال أيضا : ويجوز أن يكون ظرفا لفعل محذوف دل عليه الكلام ، أي بغى عليهم
، (إِذْ قالَ لَهُ
قَوْمُهُ). انتهى. ويظهر أن يكون تقديره : فأظهر التفاخر والفرح بما
أوتي من الكنوز ، (إِذْ قالَ لَهُ
قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ). وقال تعالى : (وَلا تَفْرَحُوا بِما
آتاكُمْ) ، والعرب تمدح بترك الفرح عند إقبال الخير. وقال الشاعر :
ولست بمفراح إذا
الدهر سرني
|
|
ولا جازع من
صرفه المتحول
|
وقال الآخر :
إن تلاق منفسا
لا تلقنا
|
|
فرح الخير ولا
نكبوا الضر
|
وقرىء : الفارحين
، حكاه عيسى بن سليمان الحجازي. و (لا يُحِبُ) : صفة فعل ، لا صفة ذات ، بمعنى الإرادة ، لأن الفرح أمر
قد وقع ، فالمعنى : لا يظهر عليهم بركته ، ولا يعمهم رحمته. ولما نهوه عن الفرح
المطغى ، أمروه بأن يطلب ، فيما آتاه الله من الكنوز وسعة الرزق ، ثواب الدار
الآخرة ، بأن يفعل فيه أفعال البر ، وتجعله زادك إلى الآخرة. (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) ، قال ابن عباس ، والجمهور : معناه : ولا تضيع عمرك في أن
لا تعمل صالحا في دنياك ، إذ الآخرة إنما يعمل لها في الدنيا ، فنصيب الإنسان عمره
وعمله الصالح فيها ، وهذا التأويل فيه عظة. وقال الحسن ، وقتادة : معناه : لا تضيع
حظك من الدنيا في تمتعك بالحلال وطلبك إياه ونظرك لعاقبة دنياك ، وفي هذا التأويل
بعض رفق. وقال الحسن : معناه : قدم الفضل وأمسك ما تبلغ به. وقال مالك : هو الأكل
والشرب بلا سرف. وقيل : أرادوا بنصيبه الكفن ، وهذا وعظ متصل ، كأنهم قالوا : تترك
جميع مالك ، لا يكون نصيبك منه إلا الكفن ؛ كما قال الشاعر :
نصيبك مما تجمع
الدهر كله
|
|
رداءان تأوي
فيهما وحنوط
|
وقال الزمخشري :
أن تأخذ منه ما يكفيك ويصلحك ، وهذا قريب من قول الحسن : (وَأَحْسِنْ) إلى عباد الله ، أو بشكرك وطاعتك لله. (كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) بتلك النعم التي خولكها ، والكاف للتشبيه ، وهو يكون في
بعض الأوصاف ، لأن مماثلة إحسان العبد لإحسان الله من جميع الصفات يمتنع أن تكون ،
فالتشبيه وقع في مطلق الإحسان ، أو تكون
__________________
الكاف للتعليل ،
أي أحسن لأجل إحسان الله إليك. (وَلا تَبْغِ
الْفَسادَ) : أي ما أنت عليه من البغي والظلم. (عَلى عِلْمٍ) ، علم : مصدر ، يحتمل أن يكون مضافا إليه ومضافا إلى الله.
فقال الجمهور : ادّعى أن عنده علما استوجب به أن يكون صاحب تلك الكنوز. فقيل : علم
التوراة وحفظها ، وكان أحد السبعين الذين اختارهم موسى للميقات ، وكانت هذه مغالطة.
وقال أبو سليمان الداني : أي علم التجارة ووجوه المكاسب ، أي أوتيته بإدراكي
وسعيي. وقال ابن المسيب : علم الكيمياء ، قال ابن المسيب : وكان موسى عليهالسلام يعلم الكيمياء ، وهي جعل الرصاص والنحاس ذهبا. وعن ابن
عباس : على علم الصنعة الذهب ، ولعل ذلك لا يصح عنه ولا عن ابن المسيب. وأنكر
الزجاج علم الكيمياء وقال : باطل لا حقيقة له. انتهى.
وكثيرا ما تولع
أهل مصر بطلب أشياء من المستحيلات والخرافات ؛ من ذلك : تغوير الماء ، وخدمة الصور
الممثلة في الجدر خطوطا ، وادعائهم أن تلك الخطوط تتحرك إذا خدمت بأنواع من الخدم
لهم ، والكيمياء ؛ حتى أن مشايخ العلم عندهم ، الذين هم عندهم بصورة الولاية ،
يتطلب ذلك من أجهل وارد من المغاربة. وقال ابن زيد وغيره : أراد : (أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) من الله وتخصيص من لدنه قصدني به ، أي فلا يلزمني فيه شيء
مما قلتم ، ثم جعل قوله : (عِنْدِي) ، كما يقول : في معتقدي وعلى ما أراه. وقال مقاتل : (عَلى عِلْمٍ) ، أي على خير علمه الله عندي. والظاهر أن قوله : (أَوَلَمْ يَعْلَمْ) ، تقرير لعلمه ذلك ، وتنبيه على خطئه في اغتراره ؛ أي قد
علم أن الله قد أهلك من القرون قبله من هو أقوى منه وأغنى ، لأنه قد قرأه في
التوراة ، وأخبر به موسى ، وسمعه في التواريخ ، كأنه قيل : أو لم يعلم في جملة ما
عنده من العلم؟ هذا حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون
نعتا لعلمه بذلك ، لأنه لما قال : (أُوتِيتُهُ عَلى
عِلْمٍ عِنْدِي) ، فتنفح بالعلم وتعظم به ، قيل : أعنده مثل ذلك العلم الذي
ادعاه؟ وأرى نفسه به مستوجبة لكل نعمة ، ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي نفسه
مصارع الهالكين. انتهى. (وَأَكْثَرُ جَمْعاً) ، إما للمال ، أو جماعة يحوطونه ويخدمونه. قال ابن عطية : (أَوَلَمْ يَعْلَمْ) ، يرجح أن قارون تشبع بعلم نفسه على زعمه.
وقرأ الجمهور : (وَلا يُسْئَلُ) ، مبنيا للمفعول و (الْمُجْرِمُونَ) : رفع به ، وهو متصل بما قبله ، قاله محمد بن كعب. والضمير
في (ذُنُوبِهِمُ) عائد على من أهلك من القرون ، أي لا يسأل غيرهم ممن أجرم ،
ولا ممن لم يجرم ، عمن أهلكه الله ، بل : (كُلُّ نَفْسٍ بِما
كَسَبَتْ
رَهِينَةٌ) . وقيل : أهلك من أهلك من القرون ، عن علم منه بذنوبهم ،
فلم يحتج إلى مسألتهم عنها. وقيل : هو مستأنف عن حال يوم القيامة. قال قتادة : لا
يسألون عن ذنوبهم لظهورها وكثرتها ، لأنهم يدخلون النار بغير حساب. وقال قتادة
أيضا ، ومجاهد : لا تسألهم الملائكة عن ذنوبهم ، لأنهم يعرفونهم بسيماهم من السواد
والتشويه ، كقوله : (يُعْرَفُ
الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) . وقيل : لا يسألون سؤال توبيخ وتفريع. وقرأ أبو جعفر في
روايته : ولا تسأل ، بالتاء والجزم ، المجرمين : نصب. وقرأ ابن سيرين ، وأبو
العالية : كذلك في ولا تسأل على النهي للمخاطب ، وكان ابن أبي إسحاق لا يجوّز ذلك
إلّا أن يكون المجرمين بالياء في محل النصب ، بوقوع الفعل عليه. قال صاحب اللوامح
: فالظاهر ما قاله ، ولم يبلغني في نصب المجرمين شيء ، فإن تركاه على رفعه ، فله
وجهان : أحدهما
: أن تكون الهاء
والميم في (عَنْ ذُنُوبِهِمُ) راجعة إلى ما تقدم من القرون ، وارتفاع المجرمين بإضمار
المبتدأ ، وتقديره : هم المجرمون ، أو أولئك المجرمون ، ومثله : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) في التوبة. والثاني : أن يكون بدلا من أصل الهاء والميم في ذنوبهم ، لأنها ، وإن
كانت في محل الجر بالإضافة إليها ، فإن أصلها الرفع ، لأن الإضافة إليها بمنزلة
إضافة المصدر إلى اسم الفاعل ؛ فعلى ذلك المجرمون محمول على الأصل ، على ما تقدم
لنا من أن بعضهم قرأ : (أَنْ يَضْرِبَ
مَثَلاً ما بَعُوضَةً) بالجر ، على أنها بدل من أصل المثل ، وما زائدة فيه ،
وتقديره : لا يستحي بضرب مثل بعوضة ، أي بضرب بعوضة. في ذلك فسر أن مع الفصل
بالمصدر ناصب إلى المفعول به ، ثم أبدل منه البعوضة من غير أن أعرف فيها أثرا
لحال. فأما قوله : من ذنوبهم ، فذنوب جمع ، فإن كان جمع مصدر ، ففي إعماله خلاف. وأما
قوله على ما تقدم لنا من أن بعضهم قرأ ، فقد ذكر في البقرة أنه سمع ذلك ، ولا نعرف
فيها أثرا ، فينبغى أن لا يجعلها قراءة.
ولما ذكر تعالى
قارون ونعته ، وما آتاه من الكنوز ، وفرحه بذلك فرح البطرين ، وادعاءه أن ما أوتي
من ذلك إنما أوتيه على علم ، ذكر ما هو ناشىء عن التكبر والسرور بما أوتي فقال : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) ، وكان يوم السبت : أي أظهر ما يقدر عليه من الملابس
والمراكب وزينة الدنيا. قال جابر ، مجاهد : في ثياب حمر. وقال ابن زيد : هو وحشمه
في ثياب معصفرة. وقيل : في ثياب الأرجوان. وقيل : على بغلة شهباء عليها
__________________
الأرجوان ، وعليها
سرج من ذهب ، ومعه أربعة آلاف على زيه. وقيل : عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر ،
وعلى يمينه ثلاثمائة غلام ، وعلى يساره ثلاثمائة جارية بيض عليهم الحلي والديباج.
وقيل : في تسعين ألفا عليهم المعصفرات ، وهو أول يوم رؤي فيه المعصفر. وقيل غير
ذلك من الكيفيات.
(قالَ الَّذِينَ
يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) قيل : كانوا مؤمنين. وقال قتادة : تمنوه ليتقربوا به إلى
الله. وقيل : رغبة في اليسارة والثروة. وقيل : كانوا كفارة ، وتمنوا (مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) ، ولم يذكروا زوال نعمته ، وهذا من الغبطة. (إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) : أي درجة عظيمة ، قاله الضحاك. وقيل : نصيب كثير من
الدنيا والحظ البخت والسعد ، يقال : فلان ذو حظ وحظيظ ومحظوظ. (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ، منهم : يوشع ، والعلم : معرفة الثواب والعقاب ، أو
التوكل ، أو الإخبار ، أقوال. (وَيْلَكُمْ) : دعاء بالشر. (ثَوابُ اللهِ) : وهو ما أعده في الآخرة للمؤمن (خَيْرٌ) مما أوتي قارون. (وَلا يُلَقَّاها) : أي هذه الحكمة ، وهي معرفة ثواب الله ، وقيل : الجنة
ونعيمها. وقيل : هذه المقالة ، وهي قولهم : (ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ
لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) ، وبخهم بها. (إِلَّا الصَّابِرُونَ) على الطاعات وعلى قمع أنفسهم عن الشهوات.
تقدم طرف من خبر
قارون وحسده لموسى. ومن حسده أنه جعل لبغي جعلا ، على أن ترمي موسى بطلبها
وبزنائها ، وأنها تابت إلى الله ، وأقرت أن قارون هو الذي جعل لها جعلا على رمي
موسى بذلك ، فأمر الله الأرض أن تطيعه ، فقال : يا أرض خذيه وأتباعه ، فخسف بهم في
حكاية طويلة ، الله أعلم بها. ولما خسف بقارون ومن معه ، فقال بنو إسرائيل : إنما
دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه ، فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله. ومن
زائدة ، أي من جماعة تفيد استغراق الفئات. وإذا انتفت الجملة ، ولم يقدر على نصره
، فانتفاء الواحد عن نصرته أبلغ. (وَما كانَ مِنَ
المُنْتَصِرِينَ) : أي لم يكن في نفسه ممن يمتنع من عذاب الله.
(وَأَصْبَحَ الَّذِينَ
تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ) : بدل ، وأصبح ، إذا حمل على ظاهره ، أن الخسف به وبداره
كان ليلا ، وهو أفظع العذاب ، إذ الليل مقر الراحة والسكون ، والأمس يحتمل أن يراد
به الزمان الماضي ، ويحتمل أن يراد به ما قبل يوم الخسف ، وهو يوم التمني ، ويدل
عليه العطف بالفاء التي تقتضي التعقيب في قوله : (فَخَسَفْنا) ، فيكون فيه اعتقاب العذاب خروجه في زينته ، وفي ذلك تعجيل
العذاب. ومكانه : منزلته في الدنيا من
الثروة والحشم
والأتباع. و: وي ، عند الخليل وسيبويه : اسم فعل مثل : صه ومه ، ومعناها : أعجب.
قال الخليل : وذلك أن القوم ندموا فقالوا ، متندمين على ما سلف منهم : وي ، وكل من
ندم فأظهر ندامته قال : وي. وكأن : هي كاف التشبيه الداخلة على أن ، وكتبت متصلة
بكاف التشبيه لكثرة الاستعمال ، وأنشد سيبويه :
وي كأن من يكن
له نشب يح
|
|
سب ومن يفتقر
يعش عيش ضر
|
والبيت لزيد بن
عمرو بن نفيل. وحكى الفراء أن امرأة قالت لزوجها : أين ابنك؟ فقال : ويكأنه وراء
البيت ، وعلى هذا المذهب يكون الوقف على وي. وقال الأخفش : هي ويك ، وينبغى أن
تكون الكاف حرف خطاب ، ولا موضع له من الإعراب ، والوقف عليه ويك ، ومنه قول عنترة
:
ولقد شفا نفسي
وأبرأ سقمها
|
|
قيل الفوارس ويك
عنتر اقدم
|
قال الأخفش : وأن
عنده مفتوح بتقدير العلم ، أي أعلم أن الله ، وقال الشاعر :
ألا ويك المضرة
لا تدوم
|
|
ولا يبقى على
البؤس النعيم
|
وذهب الكسائي
ويونس وأبو حاتم وغيرهم إلى أن أصله ويلك ، فحذفت اللام والكاف في موضع جر
بالإضافة. فعلى المذهب الأول قيل : تكون الكاف خالية من معنى التشبيه ، كما قيل : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) . وعلى المذهب الثاني ، فالمعنى : أعجب لأن الله. وعلى
المذهب الثالث تكون ويلك كلمة تحزن ، والمعنى أيضا : لأن الله. وقال أبو زيد وفرقة
معه : ويكأن ، حرف واحد بجملته ، وهو بمعنى : ألم تر. وبمعنى : ألم تر ، قال ابن
عباس والكسائي وأبو عبيد. وقال الفراء : ويك ، في كلام العرب ، كقوله الرجل : أما
ترى إلى صنع الله؟ وقال ابن قتيبة ، عن بعض أهل العلم أنه قال : معنى ويك : رحمة
لك ، بلغة حمير.
ولما صدر منهم
تمني حال قارون ، وشاهدوا الخسف ، كان ذلك زاجرا لهم عن حب الدنيا ، وداعيا إلى
الرضا بقدر الله ، فتنبهوا لخطئهم فقالوا : وي ، ثم قالوا : كأن (اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ
مِنْ عِبادِهِ) ، بحسب مشيئته وحكمته ، لا لكرامته عليه ، ويضيق على من
يشاء ، لا لهوانه ، بل لحكمته وقضائه ابتلاء. وقرأ الأعمش : لو لا منّ الله ، بحذف
أن ، وهي مزادة. وروي عنه : منّ الله ، برفع النون والإضافة. وقرأ الجمهور : لخسف
مبنيا
__________________
للمفعول ؛ وحفص ،
وعصمة ، وأبان عن عاصم ، وابن أبي حماد عن أبي بكر : مبنيا للفاعل ؛ وابن مسعود ،
وطلحة ، والأعمش : لا نخسف بنا ، كقولك : انقطع بنا ، كأنه فعل مطاوع ، والمقام
مقام الفاعل هو (بِنا). ويجوز أن يكون المصدر : أي لا نخسف الانخساف ، ومطاوع فعل
لا يتعدى إلى مفعول به ، فلذلك بني إما لبنا وإما للمصدر. وعن ابن مسعود أيضا :
لتخسف ، بتاء وشد السين ، مبنيا للمفعول.
(تِلْكَ الدَّارُ
الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا
فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ، مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ
مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ
إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ ، إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ
لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي
ضَلالٍ مُبِينٍ وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ وَلا يَصُدُّنَّكَ
عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا
تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ).
لما كان من قول
أهل العلم والإيمان ثواب الله خير ، ذكر محل الثواب ، وهو الدار الآخرة. والمعنى :
تلك التي سمعت بذكرها ، وبلغك وصفها. (الدَّارُ الْآخِرَةُ) : أي نعيم الدار الآخرة ، وهي الجنة ، والبقاء فيها سرمدا
، وعلق حصولها على مجرد الإرادة ، فكيف يمن بأشر العلوّ والفساد؟ ثم جاء التركيب
بلا في قوله : (وَلا فَساداً) ، فدل على أن كل واحد من العلوّ والفساد مقصود ، لا
مجموعهما. قال الحسن : العلوّ : العز والشرف ، إن جر البغي الضحاك ، الظلم والفساد
يعم أنواع الشر. وعن عليّ ، كرم الله وجهه : أن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله
أجود من شراك نعل صاحبه ، فيدخل تحتها. وعن الفضيل ، أنه قرأها ثم قال : ذهبت
الأماني. وعن عمر بن عبد العزيز : أنه كان يرددها حتى قبض. (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) : يحتمل أن يكون خير أفعل التفضيل ، وأن يكون واحد الخيور
، أي فله خير بسبب فعلها ، ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله : (فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا
السَّيِّئاتِ) ، تهجينا لحالهم وتبغيضا للسيئة إلى قلوب السامعين ، ففيه
بتكراره ما ليس فيه لو كان : فلا يجزون بالصهر ، وما كانوا على حذف مثل ، أي إلّا
مثل ما كانوا يعملون ، لأن جزاء السيئة سيئة مثلها ، والحسنة بعشر أمثالها.
(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) ، قال عطاء : العمل به ؛ ومجاهد : أعطاكه ؛ ومقاتل : أنزله
عليك ، وكذا قال الفراء وأبو عبيدة. وقال الزمخشري : أوجب عليك تلاوته
وتبليغه والعمل
بما فيه ؛ يعني أن الذي حملك صعوبة هذا التكليف ليثيبك عليها ثوابا لا يحيط به
الوصف. والمعاد ، قال الجمهور : في الآخرة ، أي باعثك بعد الموت ، ففيه إثبات
الجزاء والإعلام بوقوعه. وعن ابن عباس ، وأبي سعيد الخدري : المعاد : الموت. وقيل
: بيت المقدس. وقيل : الجنة ، وكان قد دخلها ليلة المعراج. وقال ابن عباس أيضا ،
ومجاهد : المعاد : مكة ، أراد رده إليها يوم الفتح ، ونكره ، والمقصود التعظيم ،
أي معاد أي معاد ، أي له شأن لغلبة الرسول عليها وقهره لأهلها ، ولظهور عز الإسلام
وأهله ، فكأن الله وعده وهو بمكة أنه يهاجر منها ويعود إليها ظافرا ظاهرا. وقيل :
نزلت عليه حين بلغ الجحفة في مهاجره ، وقد اشتاق إليها ، فقال له جبريل : أتشتاق
إليها؟ قال : نعم ، فأوحاها إليه. ومن منصوب بإضمار فعل ، أي يعلم من جاء بالهدى ،
ومن أجاز أن يأتي أفعل بمعنى فاعل ، وأجاز مع ذلك أن ينصب به ، جاز أن ينتصب به ،
إذ يؤوله بمعنى عالم ، ويعطيه حكمه من العمل.
ولما وعده تعالى
أنه يرده إلى معاد ، وأنه تعالى فرض عليه القرآن ، أمره أن يقول للمشركين ذلك ، أي
هو تعالى عالم بمن جاء بالهدى ، وهو محمد صلىاللهعليهوسلم ، وبما يستحقه من الثواب في معاده ، وهذا إذا عنى بالمعاد
ما بعد الموت. ويعني بقوله : (وَمَنْ هُوَ فِي
ضَلالٍ مُبِينٍ) : المشركين الذين أمره الله بأن يبلغهم ذلك ، هو عالم بهم
، وبما يستحقونه من العقاب في معادهم ، وفي ذلك متاركة للكفار وتوبيخ. (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى
إِلَيْكَ الْكِتابُ) : هذا تذكير لنعمه تعالى على رسوله ، وأنه تعالى رحمه رحمة
لم يتعلق بها رجاؤه. وقيل : بل هو معلق بقوله : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) ، وأنت بحال من لا يرجو ذلك ، وانتصب رحمة على الاستثناء
المنقطع ، أي لكن رحمة من ربك سبقت ، فألقى إليك الكتاب. وقال الزمخشري : هذا كلام
محمول على المعنى ، كأنه قيل : وما ألقى عليك الكتاب إلا رحمة من ربك. انتهى.
فيكون استثناء متصلا ، إما من الأحوال ، وإما من المفعول له. وقرأ الجمهور : يصدنك
، مضارع صد وشدوا النون ، ويعقوب كذلك ، إلا أنه خففها. وقرىء : يصدنك ، مضارع أصد
، بمعنى صد ، حكاه أبو زيد ، عن رجل من كلب قال : وهي لغة قومه ، وقال الشاعر :
أناس أصدوا
الناس بالسيف عنهم
|
|
صدود السواقي عن
أنوف الحوائم
|
(بَعْدَ
إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) : أي بعد وقت إنزالها ، وإذ تضاف إليها أسماء الزمان كقوله
: (بَعْدَ
إِذْ
هَدَيْتَنا) ، ويومئذ ، وحينئذ. قال الضحاك : وذلك حين دعوه إلى دين
إبائه ، أي لا تلتفت إلى هؤلاء ولا تركن إلى قولهم ، فيصدونك عن اتباع آيات الله. (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) : أي دين ربك ، وهذه المناهي كلها ظاهرها أنها للرسول ،
وهي في الحقيقة لأتباعه ، والهلاك يطلق بإزاء العدم المحض ، فالمعنى : أن الله
يعدم كل شيء سواه. وبإزاء نفي الانتفاع به ، إما للإماتة ، أو بتفريق الأجزاء ،
وإن كانت نافية يقال : هلك الثوب ، لا يريدون فناء أجزائه ، ولكن خروجه عن
الانتفاع به. ومعنى : (إِلَّا وَجْهَهُ) : إلا إياه ، قاله الزجاج. وقال مجاهد ، والسدي : هالك
بالموت إلا العلماء ، فإن علمهم باق. انتهى. ويريدون إلا ما قصد به وجهه من العلم
، فإنه باق. وقال الضحاك : إلا الله عزوجل ، والعرش ، والجنة ، والنار. وقيل : ملكه ، ومنه : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) . وقال أبو عبيدة : المراد بالوجه : جاهه الذي جعله في
الناس. وقال سفيان الثوري : إلا وجهه ، ما عمل لذاته ، ومن طاعته ، وتوجه به نحوه
، ومنه قول الشاعر :
رب العباد إليه
الوجه والعمل
وقوله : يريدون
وجهه. (لَهُ الْحُكْمُ) : أي فصل القضاء. (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) : أي إلى جزائه. وقرأ عيسى : ترجعون ، مبنيا للفاعل ؛
والجمهور : مبنيا للمفعول.
__________________
سورة العنكبوت
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم
(١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا
يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ
اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ
يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
(٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ
الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ
عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ
(٧) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ
بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ
فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ
كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا
مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠)
وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ
خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ
لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ
وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً
فَأَخَذَهُمُ
الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ
وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ
اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ
الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً
فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما
عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ
يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ
يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما
أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ
اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ
وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
(٢٣) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ
فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
(٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ
بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ
بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ
ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ
هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا
فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) وَلُوطاً إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ
مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ
السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي
نادِيكُمُ
الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ
إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ
الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا
إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١)
قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ
وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ
جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ
وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ
الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ
السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ
اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ
مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي
دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ
مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ
السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ
وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما
كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا
عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ
خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ
لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠) مَثَلُ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ
بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ
نَضْرِبُها
لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما
أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ
الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما
تَصْنَعُونَ (٤٥) وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ
إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما
يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ
مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ
هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ
بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ
مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ
مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى
عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ
كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ
الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى
لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣)
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤)
يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ
وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥) يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ
الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا
وَعَلى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا
اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا
بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ
لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥)
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ
يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى
عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي
جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)
(الم ، أَحَسِبَ
النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ،
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ ، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ
السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ ، مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ
اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، وَمَنْ جاهَدَ
فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ،
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ
سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ ،
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ
بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا
بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ
وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ
اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ ، وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ ، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ
بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ، وَلَيَحْمِلُنَّ
أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ
عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ).
هذه السورة مكية ،
قاله جابر وعكرمة والحسن. وقال ابن عباس ، وقتادة : مدنية. وقال يحيى بن سلام :
مكية إلا من أولها إلى (وَلَيَعْلَمَنَّ
الْمُنافِقِينَ) ، ونزل أوائلها في مسلمين بمكة كرهوا الجهاد حين فرض
بالمدينة ، قاله السدي ؛ أو في عمار ونظرائه ممن كان يعذب في الله ، قاله ابن عمر
؛ أو في مسلمين كان كفار قريش يؤذونهم ، قاله مجاهد ، وهو قريب مما قبله ؛ أو في
مهجع مولى عمر ، قتل ببدر فجزع أبواه وامرأته عليه ، وقال فيه رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة» ؛ أو
في عياش أخي أبي جهل ، غدر فارتد.
و (النَّاسُ) : فسر بمن نزلت فيه الآية. وقال الحسن : الناس هنا
المنافقون ، أي أن يتركوا لمجرد قولهم آمنا. وحسب يطلب مفعولين. فقال الحوفي ،
وابن عطية ، وأبو البقاء : سدت أن وما بعدها من معمولها مسد القولين ، وأجاز
الحوفي وأبو البقاء أن يقولوا بدلا من أن يتركوا. وأن يكونوا في موضع نصب بعد
إسقاط الخافض ، وقدروه بأن يقولوا ولأن يقولوا. وقال ابن عطية ، وأبو البقاء :
وإذا قدرت الباء كان حالا. قال ابن عطية : والمعنى في الباء واللام مختلف ، وذلك
أنه في الباء كما تقول : تركت زيدا بحاله ، وهي في اللام بمعنى من أجل ، أي حسبوا
أن إيمانهم علة للترك تفسير معنى ، إذ تفسير الأعراب حسبانهم أن الترك لأجل تلفظهم
بالإيمان. وقال الزمخشري : فإن قلت : فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه
الحسبان؟ قلت : هو في قوله : (أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ
يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) ، وذلك أن تقديره حسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا ،
فالترك أول مفعولي حسب ، ولقولهم آمنا هو الخبر ، وأما غير مفتونين فتتمة للترك ،
لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير ، كقوله :
فتركته جزر السباع
ينشنه
ألا ترى أنك قبل
المجيء بالحسبان تقدر أن تقول : تركتهم غير مفتونين ، لقولهم آمنا ، على تقدير
حاصل ومستقر قبل اللام؟ فإن قلت : (أَنْ يَقُولُوا) هو علة تركهم غير مفتونين ، فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ؟ قلت
: كما تقول : خروجه لمخافة الشر وضربه للتأديب ، وقد كان التأديب والمخافة في قوله
: خرجت مخافة الشر وضربته تأديبا ، تعليلين. وتقول أيضا : حسبت خروجه لمخافة الشر
وظننت ضربه للتأديب ، فتجعلها مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وخبرا. انتهى ، وهو كلام
فيه اضطراب.
ذكر أولا أن
تقديره غير مفتونين تتمة ، يعني أنه حال ، لأنه سبك ذلك من قوله :
(وَهُمْ لا
يُفْتَنُونَ) ، وهذه جملة حالية. ثم ذكر (أَنْ يُتْرَكُوا) هنا من الترك الذي هو من التصيير ، وهذا لا يصح ، لأن
مفعول صير الثاني لا يستقيم أن يكون لقولهم ، إذ يصير التقدير أن يصيروا لقولهم : (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) ، وهذا كلام لا يصح. وأما ما مثل به من البيت فإنه يصح ،
وأن يكون جزر السباع مفعولا ثانيا لترك بمعنى صير ، بخلاف ما قدر في الآية.
وأما تقديره تركهم
غير مفتونين لقولهم آمنا ، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام ، فلا يصح ؛ إذ كان
تركهم بمعنى تصييرهم ، كان غير مفتونين حالا ، إذ لا ينعقد من تركهم ، بمعنى
تصييرهم ، وتقولهم مبتدأ وخبر لاحتياج تركهم ، بمعنى تصييرهم ، إلى مفعول ثان ،
لأن غير مفتونين عنده حال ، لا معفول ثان.
وأما قوله : فإن
قلت (أَنْ يَقُولُوا) إلى آخره ، فيحتاج إلى فضلة فهم ، وذلك أن قوله : (أَنْ يَقُولُوا) هو علة تركهم فليس كذلك ، لأنه لو كان علة له لكان متعلقا
، كما يتعلق بالفعل ، ولكنه علة للخبر المحذوف الذي هو مستقر ، أو كائن ، والخبر
غير المبتدأ. ولو كان لقولهم علة للترك ، لكان من تمامه ، فكان يحتاج إلى خبر. وأما
قوله : كما تقول خروجه لمخافة الشر ، فلمخافة ليس علة للخروج ، بل للخبر المحذوف
الذي هو مستقر ، أو كائن. (وَهُمْ لا
يُفْتَنُونَ) ، قال الشعبي : الفتنة هنا ما كلفه المؤمنون من الهجرة
التي لم يتركوا دونها. وقال الكلبي : هو مثال ، (أَوْ يَلْبِسَكُمْ
شِيَعاً) . وقال مجاهد : يتبتلون في أنفسهم وأموالهم.
و (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : المؤمنون أتباع الأنبياء ، أصابهم من المحن ما فرق به
المؤمن بالمنشار فرقتين ، وتمشط بأمشاط الحديد ، ولا يرجع عن دينه. (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ) ، بالامتحان ، (الَّذِينَ صَدَقُوا) في إيمانهم ، (وَلَيَعْلَمَنَّ
الْكاذِبِينَ) فيه من علم المتعدية إلى واحد فيهما ، ويستحيل حدوث العلم
لله تعالى. فالمعنى : وليتعلقن علمه به موجودا به كما كان متعلقا به حين كان
معدوما. والمعنى : وليميزن الصادق منهم من الكاذب ، أو عبر بالعلم عن الجزاء ، أي
وليتبين الصادق وليعذبن الكاذب. ومعنى صدقوا في إيمانهم يطابق قولهم واعتقادهم
أفعالهم ، والكاذبين ضد ذلك. وقرأ علي ، وجعفر بن محمد : فليعلمن ، مضارع المنقولة
بهمزة التعدي من علم المتعدية إلى واحد ، والثاني محذوف ، أي منازلهم
__________________
في الآخرة من ثواب
وعقاب ؛ أو الأول محذوف ، أي فليعلمن الناس الذين صدقوا ، أي يشهرهم هؤلاء في
الخير ، وهؤلاء في الشر ، وذلك في الدنيا والآخرة ، أو من العلامة فيتعدى إلى واحد
، أي يسمهم بعلامة تصلح لهم ، كقوله : «من أسر سريرة ألبسه الله رداءها». وقرأ
الزهري : الأولى كقراءة الجماعة ، والثانية كقراءة علي.
(أَمْ حَسِبَ) ، قال ابن عطية : أم معادلة للألف في قوله : (أَحَسِبَ) ، وكأنه عزوجل قرر الفريقين : قرر المؤمنين على ظنهم أنهم لا يفتنون ،
وقرر الكافرين الذين يعملون السيئات في تعذيب المؤمنين وغير ذلك ، على ظنهم أنهم
يسبقون نقمات الله ويعجزونه. انتهى. وليست أم هنا معادلة للألف في أحسب ، كما ذكر
، لأنها إذ ذاك تكون متصلة ، ولها شرطان : أحدهما : أن يكون قبلها لفظ همزة
الاستفهام ، وهذا الشرط هنا موجود. والثاني : أن يكون بعدها مفرد ، أو ما هو في
تقدير المفرد. مثال المفرد : أزيد قائم أم عمرو؟ ومثال ما هو في تقدير المفرد :
أقام زيد أم قعد؟ وجوابها : تعيين أحد الشيئين ، إن كان التعادل بين شيئين ؛ أو
الأشياء ، إن كان بين أكثر من شيئين. وهنا بعد أم جملة ، ولا يمكن الجواب هنا بأحد
الشيئين ، بل أم هنا منقطعة ، بمعنى بل التي للإضراب ، بمعنى الانتقال من قضية إلى
قضية ، لا بمعنى الإبطال. وهمزة الاستفهام والاستفهام هنا للتقريع والتوبيخ
والإنكار ، فلا يقتضي جوابا ، لأنه في معنى : كيف وقع حسبان ذلك؟
و (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) ، قال ابن عباس : يريد الوليد بن المغيرة ، وأبا جهل ،
والأسود ، والعاصي بن هشام ، وشيبة ، وعتبة ، والوليد بن عتبة ، وعقبة بن أبي معيط
، وحنظلة بن أبي سفيان ، والعاصي بن وائل ، وأنظارهم من صناديد قريش. انتهى.
والآية ، وإن نزلت على سبب ، فهي تعم جميع من يعمل السيئات من كافر ومسلم. وقال
مجاهد : (أَنْ يَسْبِقُونا) : أي يعجزونا ، فلا نقدر على الانتقام ، وقيل : أن يعجلونا
محتوم القضاء ، وقيل : أن يهربوا منا ويفوتونا بأنفسهم. وقال الزمخشري : (أَنْ يَسْبِقُونا) : أن يفوتونا ، يعني أن الجزاء يلحقهم لا محالة ، وهم لم
يطمعوا في الفوت ، ولم يحدثوا به أنفسهم ، ولكنهم لغفلتهم وقلة فكرتهم في العاقبة
، وإصرارهم على المعاصي في صورة من يقدم ذلك ويطمع فيه ؛ ونظيره : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي
الْأَرْضِ) ، (وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) . فإن قلت : أين مفعولا حسب؟ قلت : اشتمال صلة أن على
__________________
مسند ومسند إليه
سد مسد المفعولين ، كقولهم : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) . ويجوز أن تضمن حسب معنى قدر ، وأم منقطعة. ومعنى الإضراب
فيها أن هذا الحسبان الأول ، لأن ذلك يقدر أن لا يمتحن لإيمانه ، وهذا يظن أنه لا
يجازى بمساويه. انتهى.
أمّا قوله : وهو
لم يطمعوا في الفوت ، إلى آخر قوله : ويطمع فيه ، فليس كما ذكر ، بل هم معتقدون أن
لا بعث ولا جزاء ، ولا سيما السرية التي نص عليها ابن عباس ، وما ذكره ، كما
الزمخشري ، هو على اعتقاد من يعلم أن الله يجازيه ، ولكن طمع في عفو الله. وأما
قوله : اشتمال صلة أن ، إلى آخره ، فقد كان ينبغي أن يقدر ذلك في قوله : (أَنْ يُتْرَكُوا) ، فيجعل ذلك سد مسد المفعولين ، ولم يقدر ما لا يصح تقديره
، وأمّا قوله : ويجوز أن تضمن حسب معنى قدر ، فتعين إن أن وما بعدها في موضع مفعول
واحد ، والتضمين ليس بقياس ، ولا يصار إليه إلا عند الحاجة إليه ، وهذا لا حاجة
إليه.
(ساءَ ما يَحْكُمُونَ) ، قال الزمخشري ، وابن عطية ما معناه : أن (ما) موصولة و (يَحْكُمُونَ) صلتها ، أو تمييز بمعنى شيء ، ويحكمون صفة ، والمخصوص
بالذم محذوف ، فالتقدير : أي حكمهم. انتهى. وفي كون ما موصولة مرفوعة بساء ، أو
منصوبة على التمييز خلاف مذكور في النحو. وقال ابن كيسان : ما مصدرية ، فتقديره :
بئس حكمهم. وعلى هذا القول يكون التمييز محذوفا ، أي ساء حكما حكمهم. وساء هنا
بمعنى : بئس ، وتقدم حكم بئس إذا اتصل بها ما ، والفعل في قوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) مشبعا في البقرة. وجاء بالمضارع ، وهو (يَحْكُمُونَ) ، قيل : إشعارا بأن حكمهم مذموم حالا واستقبالا ، وقيل :
لأجل الفاصلة وقع المضارع موقع الماضي اتساعا. والظاهر أن (يَرْجُوا) على بابها ، ومعنى (لِقاءَ اللهِ) : الوصول إلى عاقبة الأمر من الموت والبعث والجزاء ؛ مثلت
حاله بحالة عبد قدم على مولاه من سفر بعيد ، وقد اطلع مولاه على ما عمل في غيبته
عنه ، فإن كان عمل خيرا ، تلقاه بإحسان أو شرا ، فبضد الإحسان.
(فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ
لَآتٍ) : وهو ما أجله وجعل له أجلا ، لا نفسه لا محالة ، فليبادر
لما يصدق رجاءه. وقال أبو عبيدة : يرجو : يخاف ، ويظهر أن جواب الشرط محذوف ، أي (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) ، فليبادر بالعمل الصالح الذي يحقق رجاءه ، فإن ما أجله
الله تعالى من لقاء جزائه لآت. والظاهر أن قوله : (وَمَنْ جاهَدَ) ، معناه : ومن جاهد نفسه بالصبر على
__________________
الطاعات ، فثمرة
جهاده ، وهو الثواب المعد له ، إنما هو له ، لا لله ، والله تعالى عني عنه وعن
العالمين ، وإنما كلفهم ما كلفهم إحسانا إليهم. (لَنُكَفِّرَنَّ
عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) : يشمل من كان كافرا فآمن وعمل صالحا ، فأسقط عنه عقاب ما
كان قبل الإيمان من كفر ومعصية ، ومن نشأ مؤمنا عاملا للصالحات وأساء في بعض
أعماله ، فكفر عنه ذلك ، وكانت سيئاته مغمورة بحسناته. (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي) : أي أحسن جزاء أعمالهم. وقال ابن عطية : فيه حذف مضاف
تقديره : ثواب أحسن الذي كانوا يعملون. انتهى. وهذا التقدير لا يسوغ ، لأنه يقتضي
أن أولئك يجزون ثواب أحسن أعمالهم ، وأما ثواب حسنها فمسكوت عنه ، وهم يجزون ثواب
الأحسن والحسن ، إلّا إن أخرجت أحسن عن بابها من التفضيل ، فيكون بمعنى حسن ، فإنه
يسوغ ذلك. وأما التقدير الذي قبله فمعناه : أنه مجزي أحسن جزاء العمل ، فعمله
يقتضي أن تكون الحسنة بمثلها ، فجوزي أحسن جزائها ، وهي أن جعلت بعشر أمثالها. وفي
هذه الآيات تحريك وهزا لمن تخلف عن الجهرة أن يبادر إلى استدراك ما فرط فيه منها ،
وثناء على المؤمنين الذين بادروا إلى الهجرة ، وتنويه بقدرهم.
(وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ) ، في جامع الترمذي : إنها نزلت في سعد بن أبي وقاص ، آلت
أمه أن لا يطعم ولا يشرب حتى تموت ، أو يكفر. وقيل : في عياش بن أبي ربيعة ، أسلم
وهاجر مع عمر ، وكانت أمه شديدة الحب له ، وحلفت على مثل ذلك ، فتحيل عليه أبو جهل
وأخوه الحارث ، فشداه وثاقا حين خرج معهما من المدينة إلى أمه قصدا ليراها ، وجلده
كل منهما مائة جلدة ، ورداه إلى أمه فقالت : لا يزال في عذاب حتى يكفر بمحمد ، في
حديث طويل ذكر في السير. (وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) : أي أمرناه بتعهدهما ومراعاتهما. وانتصب (حُسْناً) على أنه مصدر ، وصف به مصدر وصينا ، أي إيصاء حسنا ، أي ذا
حسن ، أو على سبيل المبالغة ، أي هو في ذاته حسن. قال ابن عطية : يحتمل أن ينتصب
على المفعول ، وفي ذلك تحريض على كونه عاما لمعان. كما تقول : وصيتك خيرا ،
وأوصيتك شرا ؛ وعبّر بذلك عن جملة ما قلت له ، ويحسن ذلك دون حرف الجر ، كون حرف
الجر في قوله : (بِوالِدَيْهِ) ، لأن المعنى : ووصينا الإنسان بالحسن في قوله مع والده ،
ونظير هذا قول الشاعر :
عجبت من دهماء
إذ تشكونا
|
|
ومن أبي دهماء
إذ يوصينا
|
انتهى. مثله قول
الحطيئة يوصي ابنته برة :
وصيت من برة
قلبا حرا
|
|
بالكلب خيرا
والحماة شرا
|
وعلى هذا التقدير
يكون الأصل بخير ، وهو المفعول الثاني. والباء في بوالديه وفي بالحماة وبالكلب
ظرفية بمعنى في ، أي وصينا الإنسان في أمر والديه بخير. قال ابن عطية : ويحتمل أن
يكون المفعول الثاني في قوله : (بِوالِدَيْهِ) ، وينتصب (حُسْناً) بفعل مضمر تقديره : يحسن حسنا ، وينتصب انتصاب المصدر. وفي
التحرير : حسنا نصب عند البصريين على التكرير ، أي وصيناه حسنا ، وقيل : على القطع
، تقديره : ووصينا بالحسن ، كما تقول : وصيته خيرا ، أي بالخير ، ويعني بالقطع عن
حرف الجر ، فانتصب. وقال أهل الكوفة : ووصينا الإنسان أن يفعل حسنا ، فيقدر له
فعل. انتهى. وفي هذا القول حذف أن وصلتها وإبقاء المعمول ، وهو لا يجوز عند
البصريين. وقال الزمخشري : وصيناه بإيتاء والديه حسنا ، أو نائلا والديه حسنا ، أي
فعلا ذا حسن ، وما هو في ذاته حسن لفرط حسنه ، كقوله : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) . انتهى. وهذا التقدير فيه إعمال المصدر محذوفا وإبقاء
معموله ، وهو لا يجوز عند البصريين. قال الزمخشري : ويجوز أن يجعل حسنا من باب
قولك : زيدا ، بإضمار اضرب إذا رأيته متهيأ للضرب ، فتنصبه بإضمار أولهما ، أو
افعل بهما ، لأن الوصية بهما دالة عليه ، وما بعده مطابق له ، فكأنه قال : قلنا
أولهما معروفا. وقرأ عيسى ، والجحدري : حسنا ، بفتحتين ؛ والجمهور : بضم الحاء
وإسكان السين ، وهما كالبخل والبخل. وقال أبو الفضل الرازي : وانتصابه بفعل دون
التوصية المقدمة ، لأنها قد أخذت مفعوليها معا مطلقا ومجرورا ، فالحسن هنا صفة
أقيم مقام الموصوف بمعنى : أمر حسن. انتهى ، أي أمرا حسنا ، حذف أمرا وأقيم حسن
مقامه. وقوله : مطلقا ، عنى به الإنسان ، وفيه تسامح ، بل هو مفعول به ؛ والمطلق
إنما هو المصدر ، لأنه مفعول لم يقيد من حيث التفسير بأداة جر ، بخلاف سائر
المفاعيل ، فإنك تقول : مفعول به ، ومفعول فيه ، ومفعول معه ، ومفعول له ؛ وفي
مصحف أبي : إحسانا.
(وَإِنْ جاهَداكَ) : أي وقلنا : إن جاهداك (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ) : أي بإلهيته ، فالمراد بنفي العلم نفي المعلوم ، أي (لِتُشْرِكَ) به شيئا ، لا يصح أن يكون إلها ولا يستقيم ، (فَلا تُطِعْهُما) فيما جاهداك عليه من الإشراك ؛ (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) : شامل للموصي والموصى والمجاهد والمجاهد ، (فَأُنَبِّئُكُمْ) : فأجازيكم ، (بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) : من بر ، أو عقوق ، أو طاعة ، أو عصيان. وكرر تعالى ما
رتب للمؤمنين من دخولهم (فِي الصَّالِحِينَ) ، ليحرك النفوس إلى نيل مراتبهم. ومعنى (فِي الصَّالِحِينَ) : في جملتهم ،
__________________
ومرتبة الصلاح
شريفة ، أخبر الله بها عن إبراهيم ، وسألها سليمان ، عليهماالسلام ، وأخبر تعالى أن يجعل من أطاع الله ورسوله معهم. ويجوز أن
يكون التقدير : في ثواب الصالحين ، وهي الجنة. ولما ذكر تعالى ما أعده للمؤمنين
الخلص ، ذكر حال المنافقين ناسا آمنوا بألسنتهم ، فإذا آذاهم الكفار ، جعلوا ذلك
الأذى ، وهو فتنة الناس ، صارفا لهم عن الإيمان ؛ كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين
عن الكفر ؛ وكونها نزلت في منافقين ، قول ابن زيد. وقال الزجاج : جزع كما يجزع من
عذاب الله ، وهذا معنى قول مجاهد والضحاك. وقال قتادة : فيمن هاجر ، فردهم
المشركون إلى مكة. وقيل : في مؤمنين أخرجهم إلى بدر المشركون قارتدوا ، وهم الذين
قال فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ
تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) .
(وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ
مِنْ رَبِّكَ) : أي للمؤمنين ، (لَيَقُولُنَ) : أي القائلون أوذينا في الله ، (إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) : أي متابعون لكم في دينكم ، أو مقاتلون معكم ناصرون لكم ،
قاسمونا فيما حصل لكم من الغنائم. وهذه الجملة المقسم عليها مظهرة مغالطتهم ، إذ
لو كان إيمانهم صحيحا ، لصبروا على أذى الكفار ، وإن كانت فيمن هاجر ، وكانوا
يحتالون في أمرهم ، وركبوا كل هول في هجرتهم. وقرىء : ليقولن ، بفتح اللام ، ذكره
أبو معاذ النحوي والزمخشري. وأعلم : أفعل تفضيل ، أي من أنفسهم ؛ وبما في صدورهم :
أي بما تكن صدورهم من إيمان ونفاق ، وهذا استفهام معناه التقرير ، أي قد علم ما
انطوت عليه الضمائر من خير وشر. (وَلَيَعْلَمَنَّ
الْمُنافِقِينَ) : ظاهر في أن ما قبل هذه الجملة في المنافقين ، كما قال
ابن زيد ، وعلمه بالمؤمن ، وعدله بالثواب ، وبالمنافق وعيد له بالعقاب. ولما ذكر
حال المؤمنين والمنافقين ، ذكر مقالة الكافرين قولا واعتقادا ، وهم رؤساء قريش.
قال مجاهد : كانوا يقولن لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم ، فإن كان عليكم شيء
فهو علينا. وقيل : قائل ذلك أبو سفيان بن حرب وأمية بن خلف ، قال لعمران : كان في
الإقامة على دين الآباء إثم ، فنحن نحمله عنك ، وقيل : قائل ذلك الوليد بن
المغيرة. قال ابن عطية : وقوله : (وَلْنَحْمِلْ) ، أخبر أنهم يحملون خطاياهم على جهة التشبيه بالنقل ،
لكنهم أخرجوه في صيغة الأمر ، لأنها أوجب وأشد تأكيدا في نفس السامع من المجازاة ،
ومن هذا النوع قول الشاعر :
__________________
فقلت ادعى وأدعو
فإن أندى
|
|
لصوت أن ينادى
داعيان
|
ولكونه خبرا حسن
تكذيبهم فيه. وقال الزمخشري : أمروهم باتباع سبيلهم ، وهي طريقتهم التي كانوا
عليها في دينهم ، وأمروا أنفسهم بحمل خطاياهم ، فحمل الأمر على الأمر وأرادوا ،
ليجتمع هذان الأمران في الحصول ، أن يتبعوا سبيلنا وأن نحمل خطاياكم. والمعنى :
تعليق الحمل بالاتباع ، وهذا قول صناديد قريش ، كانوا يقولون لمن آمن منهم : لا
نبعث نحن ولا أنتم ، فإن عسى ، كان ذلك فإنا نتحمل عنكم الإثم. انتهى. وقوله : فإن
عسى ، كان تركيب أعجمي لا عربي ، لأن إن الشرطية لا تدخل على عسى ، لأنه فعل جامد
، ولا تدخل أدوات الشرط على الفعل الجامد ؛ وأيضا فإن عسى لا يليها كان ، واستعمل
عسى بغير اسم ولا خبر ، ولم يستعملها تامة. وقرأ الحسن ، وعيسى ، ونوح القارئ : ولنحمل
، بكسر لام الأمر ؛ ورويت عن علي ، وهي لغة الحسن ، في لام الأمر. والحمل هنا مجاز
، شبه القيام بما يتحصل من عواقب الإثم بالحمل على الظهر ، والخطايا بالمحمول.
وقال مجاهد : نحمل هنا من الحمالة ، لا من الحمل. وقرأ الجمهور : (مِنْ خَطاياهُمْ). وقرأ داود بن أبي هند ، فيما ذكر أبو الفضل الرازي : من
خطيئتهم ، على التوحيد ، قال : ومعناه الجنس ، ودل على ذلك اتصافه بضمير الجماعة.
وذكر ابن خالويه ، وأبو عمرو الداني أن داود هذا قرأ : من خطيآتهم ، بجمع خطيئة
جمع السلامة ، بالألف والتاء. وذكر ابن عطية عنه أنه قرأ : من خطئهم ، بفتح الطاء
وكسر الياء ، وينبغي أن يحمل كسر الياء على أنها همزة سهلت بين بين ، فأشبهت الياء
، لأن قياس تسهيلها هو ذلك.
قال الزمخشري :
فإن قلت : كيف سماهم كاذبين؟ وإنما ضمنوا شيئا علم الله أنهم لا يقدرون على الوفاء
به ، ومن ضمن شيئا لا يقدر على الوفاء به ، لا يسمى كاذبا ، لا حين ضمن ، ولا حين
عجز ، لأنه في الحالين لا يدخل تحت عد الكاذبين ، وهو المخبر عن الشيء ، لا على ما
هو عليه؟ قلت : شبه الله حالهم ، حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به
، فكان ضمانهم عنده ، لا على ما عليه المضمون بالكاذبين الذين خبرهم ، لا على ما
عليه المخبر عنه. ويجوز أن يريد إنهم كاذبون لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه ،
كالكاذبين الذين يصدقون الشيء ، وفي قلوبهم فيه الخلف. انتهى. وتقدم من قول ابن
عطية أن قوله : ولنحمل خبر ، يعني أمرا ، ومعناه الخبر ، وهذان الأمران منزلان
منزلة الشرط والجزاء ، إذ المعنى : أن تتبعوا سبيلنا ، ولحقكم في ذلك إثم على ما
تزعمون ، فنحن
نحمل خطاياكم.
وإذا كان المعنى على هذا ، كان إخبارا في الجزاء بما لا يطابق ، وكان كذبا.
(وَلَيَحْمِلُنَّ
أَثْقالَهُمْ) : أثقال أنفسهم من كفرهم ومعاصيهم ، (وَأَثْقالاً) أي أخر ، وهي أثقال الذين أغروهم ، فكانوا سببا في كفرهم.
ولم يبين من الذين يحملون أثقاله ، فأمكن اندراج أثقال المظلوم بحملها للظالم ،
كما جاء في الحديث : «أنه يقتص من الظالم للمظلوم بأن يعطي من حسنات ظالمه ، فإن
لم يبق للظالم حسنة أخذ من سيئات المظلوم فطرح عليه». وفي صحيح مسلم ما معناه :
أيما داع دعا إلى ضلالة ، فأتبع عليها وعمل بها بعده ، فعليه أوزار من عمل بها ممن
اتبعه ، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا. (وَلَيُسْئَلُنَّ
يَوْمَ الْقِيامَةِ) : أي سؤال توبيخ وتقريع.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً
فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ ، فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ
السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ ، وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ ، إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ
إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ
رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ
إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ
وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ، أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ
يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ، قُلْ
سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ
النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، يُعَذِّبُ مَنْ
يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ، وَما أَنْتُمْ
بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ
مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ
أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).
ذكر هذه القصة
تسلية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، لما كان يلقى من أذى الكفار. فذكر ما لقي أول الرسل ،
وهو نوح ، من أذى قومه ، المدد المتطاولة ، تسلية لخاتم الرسل صلوات الله عليه.
والواو في (وَلَقَدْ) واو عطف ، عطفت جملة على جملة. قال ابن عطية : والقسم فيها
بعيد ، يعني أن يكون المقسم به قد حذف وبقي حرفه وجوابه ، وفيه حذف المجرور وإبقاء
حرف الجار ، وحرف الجر لا يعلق عن عمله ، بل لا بد له من ذكره. والظاهر أنه أقام
في قومه هذه المدة المذكورة يدعوهم إلى الله. وقال ابن عطية : يحتمل أن تكون المدة
المذكورة مدة إقامته في قومه ، من لدن مولده إلى غرق قومه. انتهى. وليس عندي
محتملا ، لأن اللبث متعقب بالفاء الدالة على التعقيب ، واختلف في مقدار عمره ، حين
كان
بعث وحين مات ،
اختلافا مضطربا متكاذبا ، تركنا حكايته في كتابنا ، وهو في كتب التفسير.
والاستثناء من الألف استدل به على جواز الاستثناء من العدد ، وفي كونه ثابتا من
لسان العرب خلاف مذكور في النحو ، وقد عمل الفقهاء المسائل على جواز ذلك ، وغاير
بين تمييز المستثنى منه وتمييز المستثنى ، لأن التكرار في الكلام الواحد مجتنب في
البلاغة ، إلا إذا كان لغرض من تفخيم ، أو تهويل ، أو تنويه. ولأن التعبير عن
المدة المذكورة بما عبر به ، لأن ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكبر منه أوقع وأوصل
إلى الغرض من استطالة السامع مدّة صبره ، ولإزالة التوهم الذي يجيء مع قوله :
تسعمائة وخمسون عاما ، بأن ذلك على سبيل المبالغة لا التمام ، والاستثناء يرفع ذلك
التوهم المجازي.
وتقدمت وقعة نوح
بأكمل مما هنا ، والخلاف في عدد من آمن ودخل السفينة. والضمير في (وَجَعَلْناها) يحتمل أن يعود على (السَّفِينَةِ) ، وأن يعود على الحادثة والقصة ، وأفرد (آيَةً) وجاء بالفاصلة (لِلْعالَمِينَ) ، لأن إنجاء السفن أمر معهود. فالآية إنجاؤه تعالى أصحاب
السفينة وقت الحاجة ، ولأنها بقيت أعواما حتى مر عليها الناس ورأوها ، فحصل العلم
بها لهم ، فناسب ذلك قوله : (لِلْعالَمِينَ) ، وانتصب (إِبْراهِيمَ) عطفا على (نُوحاً). قال ابن عطية : أو على الضمير في (فَأَنْجَيْناهُ). وقال هو والزمخشري : بتقدير اذكروا بدل منه ، إذ بدل
اشتمال منه ، لأن الأحيان تشتمل على ما فيها ، وقد تقدّم لنا أن إذ ظرف لا يتطرف ،
فلا يكون مفعولا به ، وقد كثر تمثيل المعربين ، إذ في القرآن بأن العامل فيها اذكر
، وإذا كانت ظرفا لما مضى ، فهو لو كان منصرفا ، لم يجز أن يكون معمولا لأذكر ،
لأن المستقبل لا يقع في الماضي ، لا يجوز ثم أمس ، فإن كان خلع من الظرفية الماضية
وتصرف فيه ، جاز أن يكون مفعولا به ومعمولا لأذكر. وقرأ النخعي ، وأبو جعفر ، وأبو
حنيفة ، وإبراهيم : بالرفع ، أي : ومن المرسلين إبراهيم. وهذه القصة تمثيل لقريش ،
وتذكير لحال أبيهم إبراهيم من رفض الأصنام ، والدعوى إلى عبادة الله ، وكان نمروذ
وأهل مدينته عباد أصنام. وقرأ الجمهور : (وَتَخْلُقُونَ) ، مضارع خلق ، (إِفْكاً) ، بكسر الهمزة وسكون الفاء. وقرأ علي ، والسلمي ، وعون
العقيلي ، وعبادة ، وابن أبي ليلى ، وزيد بن علي : بفتح التاء والخاء واللام
مشددة. قال ابن مجاهد : رويت عن ابن الزبير ، أصله : تتخلقون ، بتاءين ، فحذفت
إحداهما على الخلاف الذي في المحذوفة. وقرأ زيد بن علي أيضا ، فيما ذكر الأهوازي :
تخلقون ، من خلق المشدد. وقرأ ابن الزبير ، وفضيل بن زرقان : أفكا ، بفتح الهمزة
وكسر الفاء ، وهو مصدر مثل الكذب.
قال ابن عباس : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) ، هو نحت الأصنام وخلقها ، سماها إفكا توسعا من حيث يفترون
بها الإفك في أنها آلهة. وقال مجاهد : هو اختلاف الكذب في أمر الأوثان وغير ذلك.
وقال الزمخشري : إفكا فيه وجهان : أحدهما : أن تكون مصدرا نحو : كذب ولعب ، والإفك
مخفف منه ، كالكذب واللعب من أصلهما ، وأن تكون صفة على فعل ، أي خلقا إفكا ، ذا
إفك وباطل ، واختلافهم الإفك تسمية الأوثان آلهة وشركاء لله وشفعاء إليه ، أو سمي
الأصنام إفكا ، وعملهم لها ونحتهم خلقا للإفك. انتهى.
وهذا الترديد منه
في نحو : (وَتَخْلُقُونَ
إِفْكاً) ، قولان لابن عباس ومجاهد ، وقد تقدم لنا نقلهما عنهما
ونفيهم بقوله : (لا يَمْلِكُونَ
لَكُمْ رِزْقاً) على جهة الاحتجاج بأمر يفهمه عامّتهم وخاصتهم ، فقرر أن
الأصنام لا ترزق ، والرزق يحتمل أن يريد به المصدر : لا يملكون أن يرزقوكم شيئا من
الرزق ، واحتمل أن يكون اسم المرزوق ، أي لا يملكون لكم إيتاء رزق ولا تحصيله ،
وخص الرزق لمكانته من الخلق. ثم أمرهم بابتغاء الرزق ممن هو يملكه ويؤتيه ، وذكر
الرزق لأن المقصود أنهم لا يقدرون على شيء منه ، وعرفه بعد لدلالته على العموم ،
لأنه تعالى عنده الأرزاق كلها. (وَاشْكُرُوا لَهُ) على نعمه السابغة من الرزق وغيره. و (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) : أي إلى جزائه ، أخبر بالمعاد والحشر. ثم قال : (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) : أي ليس هذا مبتكرا منكم ، وقد سبق ذلك من أمم الرسل ،
قيل : قوم شيث وإدريس وغيرهم. وروي أن إدريس عليهالسلام عاش في قومه ألف سنة ، فآمن به ألف إنسان على عدد سنيه ،
وباقيهم على التكذيب.
(وَما عَلَى
الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) : تقدم الكلام على مثل هذه الجملة. وقرأ حمزة ، والكسائي ،
وأبو بكر ، بخلاف عنه : تروا ، بتاء الخطاب ؛ وباقي السبعة : بالياء. والجمهور :
يبدىء ، مضارع أبدأ ؛ والزبير. وعيسى ، وأبو عمرو : بخلاف عنه : يبدأ ، مضارع بدأ.
وقرأ الزهري : (كَيْفَ بَدَأَ
الْخَلْقَ) ، بتخفيف الهمزة بإبدالها ألفا ، فذهبت في الوصل ، وهو
تخفيف غير قياسي ، كما قال الشاعر :
فارعى فزارة لا
هناك المرتع
وقياس تخفيف هذا
التسهيل بين بين ، وتقريرهم على رؤية بدء الخلق في قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا) ، وفي : (فَانْظُرُوا كَيْفَ
بَدَأَ الْخَلْقَ) ، إنما هو لمشاهدتهم إحياء الأرض بالنبات ، وإخراج أشياء
من العدم إلى الوجود ، وقوله : (ثُمَّ يُعِيدُهُ) ، وقوله : (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ) ، ليس داخلا تحت الرؤية ولا تحت النظر ، فليس (ثُمَّ يُعِيدُهُ) معطوفا على (يُبْدِئُ) ،
ولا ثم (يُنْشِئُ) داخلا تحت كيفية النظر في البدء ، بل هما جملتان مستأنفتان
، إخبارا من الله تعالى بالإعادة بعد الموت. وقدم ما قبل هاتين الجملتين على سبيل
الدلالة على إمكان ذلك ، فإذا أمكن ذلك وأخبر الصادق بوقوعه ، صار واجبا مقطوعا
بعلمه ، ولا شك فيه. وقال قتادة : (أَوَلَمْ يَرَوْا) ، بالدلائل والنظر كيف يجوز أن يعيد الله الأجسام بعد
الموت؟ وقال الربيع بن أنس المعنى : كيف يبدأ خلق الإنسان ثم يعيده إلى أحوال أخر
، حتى إلى التراب؟ وقال مقاتل : الخلق هنا الليل والنهار. وقرأ ابن كثير ، وأبو
عمرو : النشاءة هنا ، وفي النجم والواقعة على وزن فعالة ؛ وباقي السبعة : النشأة ،
على وزن فعلة ، وهما كالرآفة والرأفة ، وهما لغتان ، والقصر أشهر ، وانتصابه على
المصدر ، إما على غير المصدر قام مقام الإنشاء ، وإما على إضمار فعله ، أي فتنشئون
النشأة.
وفي الآية الأولى
صرح باسمه تعالى في قوله : (كَيْفَ يُبْدِئُ
اللهُ الْخَلْقَ) ، ثم أضمر في قوله (ثُمَّ يُعِيدُهُ) ، وهنا عكس أضمر في بدا ، ثم أبرزه في قوله : (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ) ، حتى لا تخلو الجملتان من صريح اسمه. ودل إبرازه هنا على
تفخيم النشأة الآخرة وتعظيم أمرها وتقرير وجودها ، إذ كان نزاع الكفار فيها ،
فكأنه قيل : ثم ذلك الذي بدأ الخلق هو الذي (يُنْشِئُ النَّشْأَةَ
الْآخِرَةَ) ، فكان التصريح باسمه أفخم في إسناد النشأة إليه. والآخرة
صفة للنشأة ، فهما نشأتان : نشأة اختراع من العدم ، ونشأة إعادة. ثم ذكر الصفة
التي النشأة هي بعض مقدوراتها. ثم أخبر بأنه (يُعَذِّبُ مَنْ
يَشاءُ) ، أي تعذيبه ، (وَيَرْحَمُ مَنْ
يَشاءُ) رحمته ، وبدأ بالعذاب ، لأن الكلام هو مع الكفار مكذبي
الرسل. (وَإِلَيْهِ
تُقْلَبُونَ) : أي تردون. وقال الزمخشري : ومتعلق المشيئتين مفسر مبين
في مواضع من القرآن ، وهو يستوجبهما من الكافر والفاسق إذا لم يتوبا ، ومن المعصوم
والتائب. انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال. (وَما أَنْتُمْ
بِمُعْجِزِينَ) : أي فائتين ما أراد الله لكم. (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) ، إن حمل السماء على العلو فجائز ، أي في البروج والقلاع
الذاهبة في العلو ، ويكون تخصيصا بعد تعميم ، أو على المظلة ، فيحتاج إلى تقرير ،
أي لو صرتم فيها ، ونظيره قول الأعشى :
ولو كنت في جب
ثمانين قامة
|
|
ورقيت أسباب
السماء بسلم
|
ليعتورنك القول
حتى تهزه
|
|
وتعلم أني فيك
لست بمجرم
|
وقوله تعالى : (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا
مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، على تقدير
__________________
الحكم لو كنتم
فيها ، (وَالْأَرْضِ
فَانْفُذُوا). وقال ابن زيد ، والفراء : التقدير : ولا من في السماء ،
أي يعجز إن عصى. وقال الفراء : وهذا من غوامض العربية ، وأنشد قول حسان :
فمن يهجو رسول
الله منكم
|
|
ويمدحه وينصره
سواء
|
أي : ومن ينصره ،
وهذا عند البصريين لا يكون إلا في الشعر ، لأن فيه حذف الموصول وإبقاء صلته. وأبعد
من هذا القول قول من زعم أن التقدير : وما أنتم بمعجزين من في الأرض من الإنس
والجنّ ، ولا من في السماء من الملائكة ، فكيف تعجزون الله؟ وقرأ الجمهور : (يَئِسُوا) ، بالهمز ؛ والذماري ، وأبو جعفر : بغير همز ، بل بياء بدل
الهمزة ، وهو وعيد ، أي ييأسون يوم القيامة. وقيل : (مِنْ رَحْمَتِي). وقيل : من ديني ، فلا أهديهم. وقيل : هو وصف بحالهم ، لأن
المؤمن يكون دائما راجيا خائفا ، والكافر لا يخطر بباله ذلك. شبه حالهم في انتفاء
رحمته عنهم بحال من يئس من الرحمة. والظاهر أن قول : (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) ، من كلام الله ، حكاية عن إبراهيم ، إلى قوله : (عَذابٌ أَلِيمٌ). وقيل : هذه الآيات اعتراض من كلام الله بين كلام إبراهيم
والإخبار عن جواب قومه ، أي وإن تكذبوا محمدا ، فتقدير هذه الجملة اعتراضا يردّ
على أبي علي الفارسي ، حيث زعم أن الاعتراض لا يكون جملتين فأكثر ، وفائدة هذا
الاعتراض أنه تسلية للرسول صلىاللهعليهوسلم ، حيث كان قد ابتلي بمثل ما كان أبوه إبراهيم قد ابتلي ،
من شرك قومه وعبادتهم الأوثان وتكذيبهم إياه ومحاولتهم قتله. وجاءت الآيات بعد
الجملة الشرطية مقررة لما جاء به الرسول من توحيد الله ودلائله وذكر آثار قدرته
والمعاد.
(فَما كانَ جَوابَ
قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ
النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ، وَقالَ إِنَّمَا
اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ
بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ، فَآمَنَ
لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ ، وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ
النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي
الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ، وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ، أَإِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ
الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ
إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ، قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ
الْمُفْسِدِينَ ، وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا
مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ ، قالَ إِنَّ
فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ
إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ ، وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا
لُوطاً
سِيءَ
بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ
وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ ، إِنَّا مُنْزِلُونَ
عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ،
وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).
لما أمرهم بعبادة
الله ، وبين سفههم في عبادة الأوثان ، وظهرت حجته عليهم ، رجعوا إلى الغلبة ،
فجعلوا القائم مقام جوابه فيما أمرهم به قولهم : (اقْتُلُوهُ أَوْ
حَرِّقُوهُ). والآمرون بذلك ، إما بعضهم لبعض ، أو كبراؤهم قالوا
لأتباعهم : اقتلوه ، فتستريحوا منه عاجلا ، أو حرّقوه بالنار ؛ فإما أن يرجع إلى
دينكم ، إذا أمضته النار ؛ وإما أن يموت بها ، إن أصر على قوله ودينه. وفي الكلام
حذف ، أي حرّقوه في النار ، (فَأَنْجاهُ اللهُ
مِنَ النَّارِ). وتقدمت قصته في تحريقه في سورة (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) . وجمع هنا فقال : الآيات ، لأن الإنجاء من النار ، وجعلها
بردا وسلاما ، وأنها في الحبل الذي كانوا أوثقوه به دون الجسم ، وإن صح ما نقل من
أن مكانها ، حالة الرمي ، صار بستانا يانعا ، هو مجموع آيات ، فناسب الجمع ، بخلاف
الإنجاء من السفينة ، فإنه آية واحدة ، وتقدم الكلام على ذلك ، وفي ذلك إشارة من
النار بعد إلقائه ؛ فيما قال كعب : لم يحترق بالنار إلا الحبل الذي أوثقوه به.
وجاء هنا الترديد بين قتله وإحراقه ، فقد يكون ذلك من قائلين : ناس أشاروا بالقتل
، وناس أشاروا بالإحراق. وفي اقترب قالوا : (حَرِّقُوهُ) اقتصروا على أحد الشيئين ، وهو الذي فعلوه ، رموه في النار
ولم يقتلوه.
وقرأ الجمهور : (جَوابَ) ، بالنصب ؛ والحسن ، وسالم الأفطس : بالرفع ، اسما لكان.
وقرأ الحسن ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، وأبو عمرو في رواية الأصمعي ، والأعمش
عن أبي بكر : مودة بالرفع ، وبينكم بالنصب. فالرفع على خبر إن ، وما موصولة بمعنى
الذي ، أي إن الأوثان التي اتخذتموها مودودا ، أو سبب مودة ، أو مصدرية ، أي إن
اتخاذكم أوثانا مودة ، أو على خبر مبتدأ محذوف ، أي هي مودة بينكم ، وما إذ ذاك
مهيئة. وروي عن عاصم : مودة ، بالرفع من غير تنوين ؛ وبينكم بالفتح ، أي بفتح
النون ، جعله مبنيا لإضافته إلى مبني ، وهو موضع خفض بالإضافة ، ولذلك سقط التنوين
من مودة. وقرأ أبو عمرو ، والكسائي ، وابن كثير : كذلك ، إلا أنه خفض نون بينكم.
وقرأ ابن عامر ، وعاصم : بنصب مودة منونا ونصب بينكم ؛ وحمزة كذلك ، إلا أنه أضاف
مودة إلى بينكم وخفض ، كما في قراءة من نصب مودّة مهيئة. واتخذ ، يحتمل أن يكون
مما تعدت إلى اثنين ، والثاني هو
__________________
مودة ، أي اتخذتم
الأوثان بسبب المودة بينكم ، على حذف المضاف ، أو اتخذتموها مودّة بينكم ، كقوله :
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) ، أو مما تعدت إلى واحد ، وانتصب مودة على أنه مفعول له ،
أي ليتوادوا ويتواصلوا ويجتمعوا على عبادتها ، كما يجتمع ناس على مذهب ، فيقع
التحاب بينهم. وذكروا عن ابن مسعود قراءة شاذة تخالف سواد المصحف ، مع أنه قد روي
عنه ما في سواد المصحف بالنقل الصحيح المستفيض ، فلذلك لم أذكر تلك القراءة. (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) يقع بينكم التلاعن ، أي فيلاعن العبدة والمعبودات الأصنام
، كقوله : و (يَكُونُونَ
عَلَيْهِمْ ضِدًّا) . و (بَيْنِكُمْ) ، و (فِي الْحَياةِ) : يجوز تعليقهما بلفظ مودة وعمل في ظرفين لاختلافهما ، إذ
هما ظرفا مكان وزمان ، ويجوز أن يتعلقا بمحذوفين ، فيكونان في موضع الصفة ، أي
كائنة بينكم في الحياة في موضع الحال من الضمير المستكن في بينكم. وأجاز أبو
البقاء أن يتعلق (فِي الْحَياةِ). باتخذتم على جعل ما كافة ونصب مودة ، لا على جعل ما
موصولة بمعنى الذي ، أو مصدرية ورفع موده ، لئلا يؤدي إلى الفصل بين الموصول وما
في الصلة بالخبر. وأجاز قوم منهم ابن عطية أن يتعلق (فِي الْحَياةِ) بمودة ، وأن يكون (بَيْنِكُمْ) صفة لمودة ، وهو لا يجوز ، لأن المصدر إذا وصف قبل أخذ
متعلقاته لا يعمل ، وشبهتهم في هذا أنه يتسع في الظرف ، بخلاف المفعول به. وأجاز
أبو البقاء أن يتعلق بنفس بينكم ، قال : لأن معناه : اجتماعكم أو وصلكم. وأجاز
أيضا أن يجعله حالا من بينكم ، قال : لتعرفه بالإضافة. انتهى ، وهما إعرابان لا
يتعقلان.
(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) : لم يؤمن بإبراهيم أحد من قومه إلا لوط عليهالسلام ، حين رأى النار لم تحرقه ، وكان ابن أخي سارة ، أو كانت
بنت عمه. والضمير في (وَقالَ) عائد على إبراهيم ، وهو الظاهر ، ليتناسق مع قوله : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ) ، وهو قول قتادة والنخعي. وقالت فرقة : يعود على لوط ،
وهاجر ، وإبراهيم ، عليهمالسلام ، من قريتهما كوثى ، وهي في سواد العراق ، من أرض بابل ،
إلى فلسطين من أرض الشام. وكان إبراهيم ابن خمس وسبعين سنة ، وهو أول من هاجر في
الله. وقال ابن جريج : هاجر إلى حران ، ثم إلى الشام ، وفي هجرته هذه كانت معه
سارة. والمهاجر : الفارغ عن الشيء ، وهو في عرف الشريعة : من ترك وطنه رغبة في رضا
الله. وعرف بهذا الاسم أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، المهاجرون ، قبل فتح مكة. (إِلى رَبِّي) ، أي إلى الجهة التي أمرني ربي بالهجرة إليها.
__________________
وقيل : إلى حيث لا
أمنع عباده ربي. وقيل : مهاجرا من خالفني من قومي ، متقربا إلى ربي. ونزل إبراهيم
قرية من أرض فلسطين ، وترك لوطا في سدوم ، وهي المؤتفكة ، على مسيرة يوم وليلة من
قرية إبراهيم عليهماالسلام. (إِنَّهُ هُوَ
الْعَزِيزُ) الذي لا يذل من عبده ، (الْحَكِيمُ) الذي يضع الأشياء مواضعها. والضمير في (ذُرِّيَّتِهِ) عائد على إبراهيم. (النُّبُوَّةَ) : إسحاق ، ويعقوب ، وأنبياء بني إسرائيل ، وإسماعيل ،
ومحمد خاتمهم ، صلى الله وسلم عليهم أجمعين. (وَالْكِتابَ) : اسم جنس يدخل فيه التوراة ، والزبور ، والإنجيل ،
والفرقان.
(وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ
فِي الدُّنْيا) : أي في حياته قال مجاهد : نجاته من النار ، ومن الملك
الجبار ، والعمل الصالح : والثناء الحسن ، بحيث يتولاه كل أمة وقال ابن جريج :
والولد الذي قرت به عينه ، قاله الحسن. وقال السدي : إنه رأى مكانه من الجنة. وقال
ابن أبي بردة : ما وفق له من عمل الآخرة. وقال الماوردي : بقاء ضيافته عند قبره ،
وليس ذلك لنبي غيره. وقيل : النبوة والحكمة. وقيل : الصلاة عليه إلى آخر الدهر.
وانتصب لوطا بإضمار اذكر ، أو بالعطف على إبراهيم ، أو بالعطف على ما عطف عليه
إبراهيم. والجمهور : على الاستفهام في أئنكم معا. وقرىء : أنكم على الخبر ،
والثاني على الاستفهام. وقال أبو عبيد : وجدته في الإمام بحرف واحد بغير ياء ،
ورأيت الثاني بحرفين ، الياء والنون. ولم يأت في قصة لوط أنه دعا قومه إلى عبادة
الله ، كما جاء في قصة إبراهيم وقصة شعيب ، لأن لوطا كان من قوم إبراهيم وفي زمانه
، وسبقه إبراهيم إلى الدعاء لعبادة الله وتوحيده ، واشتهر أمره بذلك عند الخلق ،
فذكر لوط ما اختص به من المنع من الفحشاء وغيرها. وأما أبراهيم وشعيب فجاءا بعد
انقراض من كان يعبد الله ، فلذلك دعوا إلى عبادة الله.
قال الزمخشري : (ما سَبَقَكُمْ بِها) جملة مستأنفة مقررة لفاحشة تلك الفعلة ، كأن قائلا قال :
لم كانت فاحشة؟ فقيل : لأن أحدا قبلهم لم يقدم عليها اشمئزازا منها في طباعهم
لإفراط قبحها ، حتى قدم عليها قوم لوط لخبث طينتهم ، قالوا : لم ينز ذكر على ذكر
قبل قوم لوط. انتهى. ويظهر أن (ما سَبَقَكُمْ بِها) جملة حالية ، كأنه قال : أتأتون الفاحشة مبتدعين لها غير
مسبوقين بها؟ واستفهم أولا وثانيا استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع ، وبين ما تلك
الفاحشة المبهمة في قوله : (إِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) ، وإن كانت معينة أنها إتيان الذكور في الأدبار بقوله : (ما سَبَقَكُمْ بِها) ، فقال : (أَإِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) : يعني في الأدبار ، (وَتَقْطَعُونَ
السَّبِيلَ) : الولد ، بتعطيل الفرج ووطء أدبار الرجال ، أو بإمساك
الغرباء
لذلك الفعل حتى
انقطعت الطرق ، أو بالقتل وأخذ المال ، أو بقبح الأحدوثة حتى تنقطع سبل الناس في
التجارات. (وَتَأْتُونَ فِي
نادِيكُمُ) : أي في مجلسكم الذي تجتمعون فيه ، وهو اسم جنس ، إذ
أنديتهم في مدائنهم كثيرة ، ولا يسمى ناديا إلّا ما دام فيه أهله ، فإذا قاموا عنه
، لم يطلق عليه ناد إلّا مجازا.
و (الْمُنْكَرَ) : ما تنكره العقول والشرائع والمروءات ، حذف الناس
بالحصباء ، والاستخفاف بالغريب الخاطر ، وروت أم هانىء ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم. أو إتيان الرجال في مجالسهم يرى بعضهم بعضا ، قاله منصور
ومجاهد والقاسم بن محمد وقتادة بن زيد ؛ أو تضارطهم ؛ أو تصافعهم فيها ، قاله ابن
عباس ؛ أو لعب الحمام ؛ أو تطريف الأصابع بالحناء ، والصفير ، والحذف ، ونبذ
الحياء في جميع أمورهم ، قاله مجاهد أيضا ، أو الحذف بالحصى ، والرمي بالبنادق ،
والفرقعة ، ومضغ العلك ، والسواك بين الناس ، وحل الأزرار ، والسبابة ، والفحش في
المزاح ، قاله ابن عباس أيضا مع شركهم بالله. كانت فيهم ذنوب غير الفاحشة ، تظالم
فيما بينهم ، وبشاعة ، ومضاريط في مجالسهم ، وحذف ، ولعب بالنرد والشطرنج ، ولبس
المصبغات ، ولباس النساء للرجال ، والمكوس على كل عابر ؛ وهم أول من لاط ومن ساحق.
ولما وقفهم لوط عليهالسلام على هذه القبائح ، أصروا على اللجاج في التكذيب ، فكان
جوابهم له : (أَنْ قالُوا ائْتِنا
بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ، فيما تعدنا به من نزول العذاب ، قالوا ذلك وهم مصممون
على اعتقاد كذبه فيما وعدهم به. وفي آية أخرى : (إِلَّا أَنْ قالُوا
أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ) ، الجمع بينهما أنهم أولا قالوا : (ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ) ، ثم أنه كثر منه الإنكار ، وتكرر ذلك منه نهيا ووعظا
ووعيدا ، (قالُوا أَخْرِجُوا
آلَ لُوطٍ). ولما كان إنما يأمرهم بترك الفواحش وما كانوا يصنعونه من
قبيح المعاصي ، ويعد على ذلك بالعذاب ، وكانوا يقولون إن الله لم يحرم هذا ولا
يعذب عليه وهو يقول إن الله حرمه ويعذب عليه ، (قالُوا ائْتِنا
بِعَذابِ اللهِ) ، فكانوا ألطف في الجواب من قوم إبراهيم بقولهم : (اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) ، لأنه كان لا يذم آلهتهم ، وعهد إلى أصنامهم فكسرها ،
فكان فعله هذا معهم أعظم من قول لوط لقومه ، فكان جوابهم له : (أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ).
ثم استنصر لوط عليهالسلام ، فبعث ملائكة لعذابهم ، ورجمهم بالحاصب ، وإفسادهم بحمل
الناس على ما كانوا عليه من المعاصي طوعا وكرها ، وخصوصا تلك المعصية المبتدعة. (بِالْبُشْرى) : هي بشارته بولده إسحاق ، وبنافلته يعقوب ، وبنصر لوط
على قومه وإهلاكهم
، و (الْقَرْيَةِ) : سدوم ، وفيها قيل : أجور من قاضي سدوم. (كانُوا ظالِمِينَ) : أي قد سبق منهم الظلم. واستمر على الأيام السالفة وهم
مصرون ، وظلمهم : كفرهم وأنواع معاصيهم. ولما ذكروا لإبراهيم : (إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ
الْقَرْيَةِ) ، أشفق على لوط فقال : (إِنَّ فِيها لُوطاً). ولما عللوا الإهلاك بالظلم ، قال لهم : فيها من هو بريء
من الظلم ، (قالُوا نَحْنُ
أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) : أي منك ، وأخبر بحاله. ثم أخبروه بإنجائهم إياه (وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ). وقرأ حمزة ، والكسائي : (لَنُنَجِّيَنَّهُ) ، مضارع أنجى ؛ وباقي السبعة : مضارع نجى ؛ والجمهور : بشد
النون ؛ وفرقة : بتخفيفها.
(وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ
رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) : تقدم الكلام على مثل هذه الجملة ، إلّا أن هنا زيدت ، أن
بعد لما ، وهو قياس مطرد. وقال الزمخشري أن صلة أكدت وجود الفعلين مترتبا أحدهما
على الآخر في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما ، كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان
، كأنه قيل : لما أحس بمجيئهم ، فاجأت المساءة من غير وقت خيفة عليهم من قومه.
انتهى. وهذا الذي ذكره في الترتيب هو مذهب سيبويه ، إذ مذهبه. أن لما : حرف لا ظرف
، خلافا للفارسي ، وهذا مذكور في علم النحو. وقرأ العربيان ، ونافع ، وحفص : (مُنَجُّوكَ) ، مشددا ؛ وباقي السبعة : مخففا ، والكاف في مذهب سيبويه
في موضع جر. (وَأَهْلَكَ) : منصوب على إضمار فعل ، أي وننجي أهلك. ومن راعى هذا
الموضع ، عطفه على موضع الكاف ، والكاف على مذهب الأخفش وهشام في موضع نصب ، وأهلك
معطوف عليه ، لأن هذه النون كالتنوين ، وهما على مذهبهما يحذفان للطافة الضمير
وشدة طلبه الاتصال بما قبله. وقرأ الجمهور : سيء ، بكسر السين ؛ وضمها نافع وابن
عامر والكسائي. وقرأ عيسى ، وطلحة : سوء ، بضمها ، وهي لغة بني هذيل. وبني وبير
يقولون في قيل وبيع ونحوهما : قول وبوع. وقرىء : منزلون ، مخففا ومشددا ؛ وابن
محيصن : رجزا ، بضم الراء ؛ وأبو حيوة والأعمش : بكسر سين يفسقون. والظاهر أن
الضمير في منها عائد على القرية ، فقال ابن عباس : منازلهم الخربة. وحكى أبو
سليمان الدمشقي أن الآية في قريتهم ، إلا أن أساسها أعلاها ، وسقوفها أسفلها إلى
الآن. وقال الفراء : المعنى تركناها آية ، يقول : إن في السماء لآية ، يريد أنها آية.
انتهى ، وهذا لا يتجه إلا على زيادة من في الواجب ، نحو قوله : أمهرت منها جبة
وتيسا ، يريد : أمهرتها ؛ وكذلك : ولقد تركناها آية ، وقيل : الهاء في منها عائدة
على الفعلة التي فعلت بهم ، فقيل : الآية : الحجارة التي أدركتها أوائل هذه الأمة
، قاله قتادة ؛ وقيل : الماء الأسود
على وجه الأرض ،
قاله مجاهد ؛ وقيل : أنجز ما صنع بهم. و (لِقَوْمٍ) : متعلق بتركنا ، أو بينة.
(وَإِلى مَدْيَنَ
أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ
الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ، فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ، وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ
تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ
فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ، وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ
وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما
كانُوا سابِقِينَ ، فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا
عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ
خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ
لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ، مَثَلُ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ
بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ ، إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما
يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ، خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ، اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ
مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ).
(وَإِلى مَدْيَنَ) : أي وإلى مدين أرسلنا ، أو بعثنا ، مما يتعدى بإلى. أمرهم
بعبادة الله ، والإيمان بالبعث واليوم الآخر. والأمر بالرجاء ، أمر بفعل ما يترتب
الرجاء عليه ، أقام المسبب مقام السبب. والمعنى : وافعلوا ما ترجون به الثواب من
الله ، أو يكون أمرا بالرجاء على تقدير تحصيل شرطه ، وهو الإيمان بالله. وقال أبو
عبيدة : (وَارْجُوا) : خافوا جزاء اليوم الآخر من انتقام الله منكم إن لم
تعبدوه. وتضمن الأمر بالعبادة والرجاء أنه إن لم يفعلوا ذلك ، وقع بهم العذاب ؛
كذلك جاء : (فَكَذَّبُوهُ) ، وجاءت ثمرة التكذيب ، وهي : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ
فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) ، وتقدم تفسير مثل هذه الجمل. وانتصب (وَعاداً وَثَمُودَ) بإضمار أهلكنا ، لدلالة فأخذتهم الرجفة عليه. وقيل :
بالعطف على الضمير في فأخذتهم ، وأبعد الكسائي في عطفه على الذين من قوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ). وقرأ : ثمود ، بغير تنوين ؛ حمزة ، وشيبة ، والحسن ، وحفص
، وباقي السبعة : بالتنوين. وقرأ ابن وثاب : وعاد وثمود ، بالخفض فيهما ، والتنوين
عطفا على مدين ، أي وأرسلنا إلى عاد وثمود. (وَقَدْ تَبَيَّنَ
لَكُمْ) : أي ذلك ، أي ما وصف لكم من إهلاكهم من جهة مساكنهم ، إذا
نظرتم إليها عند مروركم لها ، وكان أهل مكة يمرون عليها في أسفارهم. وقرأ الأعمش :
مساكنهم ، بالرفع من غير من ، فيكون فاعلا بتبين.
(وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطانُ) : أي بوسوسته وإغوائه ، (أَعْمالَهُمْ) القبيحة. (فَصَدَّهُمْ عَنِ
السَّبِيلِ) ؛ وهي طريق الإيمان بالله ورسله. (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) : أي في كفرهم لهم به بصر وإعجاب قاله ، ابن عباس ، ومجاهد
، والضحاك. وقيل : عقلاء ، يعلمون أن الرسالة والآيات حق ، ولكنهم كفروا عنادا ،
وجحدوا بها ، واستيقنتها أنفسهم. (وَقارُونَ) : معطوف على ما قبله ، أو منصوب بإضمار اذكر. (فَاسْتَكْبَرُوا) : أي عن الإقرار بالصانع وعبادته في الأرض ، إشارة إلى قلة
عقولهم ، لأن من في الأرض يشعر بالضعف ، ومن في السماء يشعر بالقوة ، ومن في
السماء لا يستكبرون عن عبادة الله ، فكيف من في الأرض؟ (وَما كانُوا سابِقِينَ) الأمم إلى الكفر ، أي تلك عادة الأمم مع رسلهم. والحاصب
لقوم لوط ، وهي ريح عاصف فيها حصا ، وقيل : ملك كان يرميهم. والصيحة لمدين وثمود ،
والخسف لقارون ، والغرق لقوم نوح وفرعون وقومه. وقال ابن عطية : ويشبه أن يدخل قوم
عاد في الحاصب ، لأن تلك الريح لا بد كانت تحصبهم بأمور مؤذية ، والحاصب : هو
العارض من ريح أو سحاب إذا رمي بشيء ، ومنه قول الفرزدق :
مستقبلين شمال
الشام تضربهم
|
|
بحاصب كنديف
القطن منثور
|
ومنه قول الأخطل :
ترمي العضاة
بحاصب من بلحها
|
|
حتى تبيت على
العضاة حفالا
|
(الْعَنْكَبُوتِ) : حيوان معروف ، ووزنه فعللوت ، ويؤنث ويذكر ، فمن تذكيره
قول الشاعر :
على هطالهم منهم
بيوت
|
|
كأن العنكبوت هو
ابتناها
|
ويجمع عناكب ،
ويصغر عنيكيب. يشبه تعالى الكفار في عبادتهم الأصنام ، وبنائهم أمورهم عليها
بالعنكبوت التي تبني وتجتهد ، وأمرها كله ضعيف ، متى مسته أدنى هامة أو هامة
أذهبته ، فكذلك أمر أولئك ، وسعيهم مضمحل ، لا قوة له ولا معتمد. وقال الزمخشري :
الغرض تشبيه ما اتخذوه متكلا ومعتمدا في دينهم ، وتولوه من دون الله ، مما هو مثل
عند الناس في الوهن وضعف القوة ، وهو نسج العنكبوت. ألا ترى إلى مقطع التشبيه ،
وهو قوله : (إِنَّ أَوْهَنَ
الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ)؟ انتهى. يعني بقوله : ألا ترى إلى مقطع التشبيه بما ذكر
أولا من أن الغرض تشبيه المتخذ بالبيت ، لا تشبيه المتخذ بالعنكبوت؟ والذي يظهر ،
هو تشبيه المتخذ من دون الله وليا ، بالعنكبوت المتخذة بيتا ، أي فلا اعتماد
للمتخذ على وليه من دون الله ، كما أن العنكبوت لا اعتماد لها على بيتها في
استظلال وسكنى ،
بل لو دخلت فيه خرقته. ثم بين حال بيتها ، وأنه في غاية الوهن ، بحيث لا ينتفع به.
كما أن تلك الأصنام لا تنفع ولا تجدي شيئا البتة ، وقوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ، ليس مرتبطا بقوله : (وَإِنَّ أَوْهَنَ
الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) ، لأن كل أحد يعلم ذلك ، فلا يقال فيه : لو كانوا يعلمون ؛
وإنما المعنى : لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم ، وأن أمر دينهم بالغ من الوهن هذه
الغاية لأقلعوا عنه ، وما اتخذوا الأصنام آلهة.
وقال الزمخشري :
إذا صح تشبيه ما اعتمدوه في دينهم ببيت العنكبوت ، وقد صح أن أوهن البيوت بيت
العنكبوت ، فقد تبين أن دينهم أوهن الأديان ، لو كانوا يعلمون ؛ أو أخرج الكلام
بعد تصحيح التشبيه مخرج المجاز ، وكأنه قال : وإن أوهن ما يعتمد عليه في الدين
عبادة الأوثان ، لو كانوا يعلمون. ولقائل أن يقول : مثل المشرك الذي يعبد الوثن ،
بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله ، مثل عنكبوت يتخذ بيتا ، بالإضافة إلى رجل بنى
بيتا بآجر وجص أو نحته من صخر. فكما أن أوهن البيوت ، إذا استقريتها بيتا بيتا ،
بيت العنكبوت ، كذلك أضعف الأديان ، إذا استقريتها دينا دينا ، عبادة الأوثان ، لو
كانوا يعلمون. انتهى.
وما ذكره من قوله
: ولقائل أن يقول إلخ. لا يدل عليه لفظ الآية ، وإنما هو تحميل للفظ ما لا يحتمله
، كعادته في كثير من تفسيره. وقرأ أبو عمرو ، وسلام : يعلم ما ، بالإدغام ؛
والجمهور : بالفك ؛ والجمهور : تدعون ، بتاء الخطاب ؛ وأبو عمرو ، وعاصم : بخلاف ،
بياء الغيبة ؛ وجوزوا في ما أن يكون مفعولا بيدعون ، أي يعلم الذين يدعون من دونه
من جميع الأشياء ، أي يعلم حالهم ، وأنهم لا قدرة لهم. وأن تكون نافية ، أي لستم
تدعون من دونه شيئا له بال ولا قدر ، فيصلح أن يسمى شيئا ، وأن يكون استفهاما ،
كأنه قدر على جهة التوبيخ على هذا المعبود من جميع الأشياء ، وهي في هذين الوجهين
مقتطعة من يعلم ، واعتراض بين يعلم وبين قوله : (وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ). وجوز أبو علي أن يكون ما استفهاما منصوبا بيدعون ، ويعلم
معلقة ؛ فالجملة في موضع نصب بها ، والمعنى : أن الله يعلم أوثانا تدعون من دونه ،
أم غيرها لا يخفى عليه ذلك. والجملة تأكيد للمثل ، وإذا كانت ما نافية ، كان في
الجملة زيادة على المثل ، حيث لم يجعل تعالى ما يدعونه شيئا. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : فيه تجهيل لهم ، حيث عبدوا ما ليس بشيء ، لأنه جماد ليس
معه مصحح العلم والقدرة أصلا ، وتركوا عبادة القادر القاهر الحكيم الذي لا يفعل
شيئا إلا لحكمة. (وَما يَعْقِلُها
إِلَّا الْعالِمُونَ) : أي لا يعقل صحتها وحسنها وفائدتها.
وكان جهلة قريش
يقولون : إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت ، ويضحكون من ذلك ، وما علموا
أن الأمثال والتشبيهات طرق إلى المعاني المحتجبة ، فتبرزها وتصورها للفهم ، كما
صور هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد. والإشارة بقوله : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) إلى هذا المثل ، وما تقدم من الأمثال في السور. وعن جابر ،
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، تلا هذه الآية فقال : «العالم من عقل عن الله فعمل
بطاعته واجتنب سخطه».
(خَلَقَ اللهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) : فيه تنبيه على صغر قدر الأوثان التي عبدوها. ومعنى (بِالْحَقِ) : بالواجب الثابت ، لا بالعبث واللعب ، إذ جعلها مساكن
عباده ، وعبرة ودلائل على عظيم قدرته وباهر حكمته. والظاهر أن الصلاة هي المعهودة
، والمعنى : من شأنها أنها إذا أدّيت على ما يجب من فروضها وسننها والخشوع فيها ،
والتدبر لما يتلو فيها ، وتقدير المثول بين يدي الله تعالى ، أن (تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ). وقال ابن عباس ، والكلبي ، وابن جريج ، وحماد بن أبي
سليمان : تنهى ما دام المصلي فيها. وقال ابن عمر : الصلاة هنا القرآن. وقال ابن
بحر : الصلاة : الدعاء ، أي أقم الدعاء إلى أمر الله ، وأما من تراه من المصلين
يتعاطى المعاصي ، فإن صلاته تلك ليست بالوصف الذي تقدم.
وفي الحديث أن فتى
من الأنصار كان يصلي مع النبي صلىاللهعليهوسلم ، ولا يدع شيئا من الفواحش والسرقة إلا ارتكبه ، فقيل ذلك
للنبي صلىاللهعليهوسلم ، فقال : «إن صلاتها تنهاه». فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله ،
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ألم أقل لكم؟» ولا يدل اللفظ على أن كل صلاة تنهى ، بل
المعنى ، أنه يوجد ذلك فيها ، ولا يكون على العموم. كما تقول : فلان يأمر بالمعروف
، أي من شأنه ذلك ، ولا يلزم منه أن كل معروف يأمر به. والظاهر أن (أَكْبَرُ) أفعل تفضيل. فقال عبد الله ، وسلمان ، وأبو الدرداء ، وابن
عباس ، وأبو قرة : معناه ولذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه. وقال قتادة ، وابن
زيد : أكبر من كل شيء ؛ وقيل : ولذكر الله في الصلاة أكبر منه خارج الصلاة ، أي
أكبر ثوابا ؛ وقيل : أكبر من سائر أركان الصلاة ؛ وقيل : ولذكر الله نهيه أكبر من
نهي الصلاة ؛ وقيل : أكبر من كل العبادة. وقال ابن عطية : وعندي أن المعنى : ولذكر
الله أكبر على الإطلاق ، أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر ، والجزء الذي منه في
الصلاة ينهى ، كما ينهى في غير الصلاة ، لأن الانتهاء لا يكون إلّا من ذاكر الله
مراقبه ، وثواب ذلك الذاكر أن يذكره الله في ملأ خير من ملائه ، والحركات التي في
الصلاة لا تأثير لها في النهي ، والذكر النافع هو مع العلم وإقبال القلب
وتفرغه إلا من
الله. وأما ما لا يجاوز اللسان ففي ركبة رتبة أخرى. وقال الزمخشري : يريد والصلاة
أكبر من غيرها من الطاعات ، وسماها بذكر الله ، كما قال : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) ، وإنما قال : (وَلَذِكْرُ اللهِ) ، لتستقل بالتعليل ، كأنه قال : والصلاة أكبر ، لأنها ذكر
الله مما تصنعون من الخير والشر فيجازيكم ، وفيه وعيد وحث على المراقبة.
(وَلا تُجادِلُوا
أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ
وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ، وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ
هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ ، وَما
كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً
لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ ، بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ ، وَقالُوا لَوْ
لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ
وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ، قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ
ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا
بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ، وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا
أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ ، يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ
بِالْكافِرِينَ ، يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
و (أَهْلَ الْكِتابِ) : اليهود والنصارى. (إِلَّا بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ) : من الملاطفة في الدعاء إلى الله والتنبيه على آياته. (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) : ممن لم يؤد جزية ونصب الحرب ، وصرح بأن لله ولدا أو
شريكا ، أو يده مغلولة ؛ فالآية منسوخة في مهادنة من لم يحارب ، قاله مجاهد ومؤمنو
أهل الكتاب. (إِلَّا بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ) : أي بالموافقة فيما حدثوكم به من أخبار أوائلهم. (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) : من بقي منهم على كفره ، وعد لقريظة والنضير ، قاله ابن
زيد ، والآية على هذا محكمة. وقيل : إلا الذين آذوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وقال قتادة : الآية منسوخة بقوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) الآية. وقرأ الجمهور : إلا ، حرف استثناء ؛ وابن عباس :
ألا ، حرف تنبيه واستفتاح ، وتقديره : ألا جادلوهم بالتي هي أحسن. (وَقُولُوا آمَنَّا) : هذا من المجادلة بالأحسن. (بِالَّذِي أُنْزِلَ
إِلَيْنا) ، وهو القرآن ، (وَأُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ) ، وهو التوراة والزبور والإنجيل.
__________________
وفي صحيح البخاري
، عن أبي هريرة : كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها بالعربية
لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله
وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم». (وَكَذلِكَ) : أي مثل ذلك الإنزال الذي للكتب السابقة ، (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) : أي القرآن. (فَالَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) هم : عبد الله بن سلام ومن آمن معه. (وَمِنْ هؤُلاءِ) : أي من أهل مكة. وقيل : (فَالَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) : أي الذين تقدموا عهد الرسول ، يؤمنون به : أي بالقرآن ،
إذ هو مذكور في كتبهم أنه ينزل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم. (وَمِنْ هؤُلاءِ) : أي ممن في عهده منهم. (وَما يَجْحَدُ
بِآياتِنا) ، مع ظهورها وزوال الشبهة عنها ، (إِلَّا الْكافِرُونَ) : أي من بني إسرائيل وغيرهم.
قال مجاهد : كان
أهل الكتاب يقرأون في كتبهم أن محمدا عليهالسلام ، لا يخط ولا يقرأ كتابا ، فنزلت : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ) : أي من قبل نزوله عليك ، (مِنْ كِتابٍ) : أي كتابا ، ومن زائدة لأنها في متعلق النفي ، (وَلا تَخُطُّهُ) : أي لا تقرأ ولا تكتب ، (بِيَمِينِكَ) : وهي الجارحة التي يكتب بها ، وذكرها زيادة تصوير لما نفي
عنه من الكتابة ، لما ذكر إنزال الكتاب عليه ، متضمنا من البلاغة والفصاحة
والإخبار عن الأمم السابقة والأمور المغيبة ما أعجز البشر أن يأتوا بسورة مثله.
أخذ يحقق ، كونه نازلا من عند الله ، بأنه ظهر عن رجل أمي ، لا يقرأ ولا يكتب ،
ولا يخالط أهل العلم. وظهور هذا القرآن المنزل عليه أعظم دليل على صدقه ، وأكثر
المسلمين على أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم يكتب قط ، ولم يقرأ بالنظر في كتاب.
وروي عن الشعبي
أنه قال : ما مات رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، حتى كتب وأسند النقاش. حديث أبي كبشة السلولي : أنه صلىاللهعليهوسلم ، قرأ صحيفة لعيينة ابن حصن وأخبر بمعناها. وفي صحيح مسلم
ما ظاهره : أنه كتب مباشرة ، وقد ذهب إلى ذلك جماعة ، منهم أبو ذر عبد الله بن
أحمد الهروي ، والقاضي أبو الوليد الباجي وغيرهما. واشتد نكير كثير من علماء
بلادنا على أبي الوليد الباجي ، حتى كان بعضهم يسبه ويطعن فيه على المنبر. وتأول
أكثر العلماء ما ورد من أنه كتب على أن معناه : أمر بالكتابة ، كما تقول : كتب
السلطان لفلان بكذا ، أي أمر بالكتب. (إِذاً لَارْتابَ
الْمُبْطِلُونَ) : أي لو كان يقرأ كتبا قبل نزول القرآن عليه ، أو يكتب ،
لحصلت الريبة للمبطلين ، إذ كانوا يقولون : حصل ذلك الذي يتلوه مما قرأه ، قيل :
وخطه واستحفظه ؛ فكان يكون لهم في ارتيابهم تعلق ببعض شبهة ، وأما
ارتيابهم مع وضوح
هذه الحجة فظاهر فساده. والمبطلون : أهل الكتاب ، قاله قتادة ؛ أو كفار قريش ،
قاله مجاهد. وسموا مبطلين ، لأنهم كفروا به ، وهو أمي بعيد من الريب. ولما لم يكن
قارئا ولا كاتبا ، كان ارتيابهم لا وجه له.
(بَلْ هُوَ) : أي القرآن : (آياتٌ بَيِّناتٌ) : واضحات الإعجاز ، (فِي صُدُورِ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) : أي مستقرة ، مؤمن بها ، محفوظة في صدورهم ، يتلوها أكثر
الأمة ظاهرا ، بخلاف غيره من الكتب ، فليس بمعجز ، ولا يقرأ إلا من الصحف. وجاء في
صفة هذه الأمة : صدورهم أناجيلهم ، وكونه القرآن ، يؤيده قراءة عبد الله ، بل هي
آيات. وقيل : بل هو ، أي النبي وأموره ، آيات بينات ، قاله قتادة. وقرأ : بل هو
آية بينة على التوحيد ؛ وقيل : بل هو ، أي كونه لا يقرأ ولا يكتب. ويقال : جحدته
وجحدت به ، وكفرته وكفرت به ، قيل : والجحود الأول معلق بالواحدنية ، والثاني معلق
بالنبوّة ، وختمت تلك بالكافر. ولأنه قسيم المؤمنين في قوله : (يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ
يُؤْمِنُ) ، وهذه بالظالمين ، لأنه جحد بعد إقامة الدليل على كونه
الرسول صدر منه القرآن منزل عليه ، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ، فهم الظالمون بعد
ظهور المعجزة.
(وَقالُوا لَوْ لا
نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) : أي قريش ، وبعض اليهود كانوا يعلمون قريشا مثل هذا
الاقتراح يقولون له : ألا يأتيكم بآية مثل آيات موسى من العصا وغيرها؟ وقرأ
العربيان ، ونافع ، وحفص : آيات ، على الجمع ، وباقي السبعة : على التوحيد. (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) ، ينزل أيتها شاء ، ولو شاء أن ينزل ما يقترحونه لفعل. (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ) بما أعطيت من الآيات. وذكر يحيى بن جعدة أن ناسا من
المسلمين أتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، بكتب قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود ، فلما نظر إليها
ألقاها وقال : «كفر بها جماعة قوم أو ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إلى ما
جاء به غير نبيهم» ، فنزلت : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ).
والذي يظهر أنه رد
على الذين قالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) : أي أو لم يكفهم آية مغنية عن سائر الآيات ، إن كانوا
طالبين للحق ، غير متعنتين هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان؟
فلا تزال معهم آية ثابتة لا تزول ولا تضمحل ، كما تزول كل آية بعد وجودها ، ويكون
في مكان دون مكان. إن في هذه الآية الموجودة في كل مكان وزمان لرحمة لنعمة عظيمة
لا تنكر وتذكر. وقيل : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) : يعني اليهود ، (أَنَّا أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) بتحقيق ما في أيديهم من نعتك ونعت دينك ، وروي
أن كعب بن الأشرف
وأصحابه قالوا : يا محمد! من يشهد بأنك رسول الله؟ فنزلت : (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
شَهِيداً) : أي قد بلغت وأنذرت ، وأنكم جحدتم وكذبتم ، وهو العالم (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، فيعلم أمري وأمركم ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِالْباطِلِ). قال ابن عباس : بغير الله. وقال مقاتل : بعبادة الشيطان.
وقيل : بالصنم.
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) : أي كفار قريش في قولهم : (ائْتِنا بِما
تَعِدُنا) ، وقول النضر : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا
حِجارَةً) ، وهو استعجال على جهة التعجيز والتكذيب والاستهزاء
بالعذاب الذي كان يتوعدهم به الرسول. والأجل المسمى : ما سماه الله وأثبته في
اللوح لعذابهم ، وأوجبت الحكمة تأخيره. وقال ابن جبير : يوم القيامة. وقال ابن
سلام : أجل ما بين النفختين ، وقيل : يوم بدر. (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ
بَغْتَةً) : أي فجأة ، وهو ما ظهر يوم بدر ، وفي السنين السبع. ثم
كرر فعلهم وقبحه ، وأخبر أن وراءهم جهنم ، تحيط بهم. وانتصب (يَوْمَ يَغْشاهُمُ) بمحيطة. وقرأ الكوفيون ، ونافع : (وَيَقُولُ) : أي الله ؛ وباقي السبعة : بالنون ، نون العظمة ، أو نون
جماعة الملائكة ؛ وأبو البرهسم : بالتاء ، أي جهنم ؛ كما نسب القول إليها في : (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) . وقرأ ابن مسعود ، وابن أبي عبلة : ويقال ، مبنيا للمفعول.
(يا عِبادِيَ
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ، كُلُّ نَفْسٍ
ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ، الَّذِينَ صَبَرُوا
وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ
رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ، اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ
الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ، وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ
وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ
، فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ ، لِيَكْفُرُوا بِما
آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا
جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ
يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى
عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ
__________________
أَلَيْسَ
فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ ، وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).
أكثر المفسرين
ذهبوا إلى أن قوله : (يا عِبادِيَ) الآية ، نزلت فيمن كان مقيما بمكة ؛ أمروا بالهجرة عنها
إلى المدينة ، أي جانبوا أهل الشرك ، واطلبوا أهل الإيمان. وقال أبو العالية :
سافروا لطلب أوليائه. وقال ابن جبير ، وعطاء ، ومجاهد ، ومالك بن أنس : الأرض التي
فيها الظلم والمنكر تترتب فيها هذه الآية ، ويلزم الهجرة عنها إلى بلد حق. وقال
مطرف بن الشخير : (إِنَّ أَرْضِي
واسِعَةٌ) عدة بسعة الرزق في جميع الأرض. وقيل : أرض الجنة واسعة
أعطيكم. وقال مجاهد : سافروا لجهاد أعدائه. (فَإِيَّايَ
فَاعْبُدُونِ) ، من باب الاشتغال : أي فإياي اعبدوا فاعبدون. وقال
الزمخشري : فإن قلت : ما معنى الفاء في فاعبدون ، وتقدم المفعول؟ قلت : الفاء جواب
شرط محذوف ، لأن المعنى : إن أرضي واسعة ، فإن لم تخلصوا العبادة في أرض ،
فاخلصوها في غيرها. ثم حذف الشرط وعوض من حذفه تقديم المفعول ، مع إفادة تقديمه
معنى الاختصاص والإخلاص. انتهى. ويحتاج هذا الجواب إلى تأمل.
ولما أخبر تعالى
بسعة أرضه ، وكان ذلك إشارة إلى الهجرة ، وأمر بعبادته ، فكأن قد يتوهم متوهم أنه
إذا خرج من أرضه التي نشأ فيها لأجل من حلها من أهل الكفر إلى دار الإسلام ، لا
يستقيم له فيها ما كان يستقيم له في أرضه ، وربما أدى ذلك إلى هلاكه. أخبر أن كل
نفس لها أجل تبلغه ، وتموت في أي مكان حل ، وأن رجوع الجمع إلى أجزائه يوم
القيامة. وقرأ علي : (تُرْجَعُونَ) ، مبنيا للفاعل ؛ والجمهور : مبينا للمفعول ، بتاء الخطاب.
وروي عن عاصم : بياء الغيبة. وقرأ أبو حيوة : (ذائِقَةُ) ، بالتنوين ؛ (الْمَوْتِ) : بالنصب. وقرأ : (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) ، من المباءة. وقرأ علي ، وعبد الله ، والربيع بن خيثم ،
وابن وثاب ، وطلحة ، وزيد بن علي ، وحمزة ، والكسائي : من الثواء ؛ وبوّأ يتعدى
لاثنين. قال تعالى : (تُبَوِّئُ
الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) ، وقد جاء متعديا باللام. قال تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ
الْبَيْتِ) ، والمعنى : ليجعلنّ لهم مكان مباءة ، أي مرجعا يأوون
إليه. (غُرَفاً) : أي علالي ، وأما ثوى فمعناه : أقام ، وهو فعل لازم ،
فدخلت عليه همزة التعدية فصار يتعدى إلى واحد ، وقد قرىء مشددا عدى بالتضعيف ،
فانتصب
__________________
غرفا ، إما على
إسقاط حرف الجر ، أي في غرف ، ثم اتسع فحذف ، وإما على تضمين الفعل معنى التبوئة ،
فتعدى إلى اثنين ، أو شبه الظرف المكاني المختص بالمبهم يوصل إليه الفعل. وروي عن
ابن عامر : غرفا ، بضم الراء. وقرأ ابن وثاب : فنعم ، بالفاء ؛ والجمهور : بغير
فاء. (الَّذِينَ صَبَرُوا) : أي على مفارقة أوطانهم والهجرة وجميع المشاق ، من امتثال
الأوامر واجتناب المناهي. (وَعَلى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ) : هذان جماع الخير كله ، الصبر وتفويض الأمور إلى الله
تعالى.
ولما أمر رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، من أسلم بمكة بالهجرة ، خافوا الفقر فقالوا : غربة في
بلاد لا دار لنا ، ولا فيه عقار ، ولا من يطعم. فمثل لهم بأكثر الدواب التي تتقوت
ولا تدّخر ، ولا تروّى في رزقها ، ولا تحمل رزقها ، من الحمل : أي لا تنقل ، ولا
تنظر في ادخار ، قاله مجاهد ، وأبو مجلز ، وعلي بن الأقمر. والادخار جاء في حديث :
«كيف بك إذا بقيت في حثالة من حثالة الناس يخبئون رزق سنة لضعف اليقين؟» قيل :
ويجوز أن يكون من الحمالة التي لا تتكفل لنفسها ولا تروى. وقال الحسن : (لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) : لا تدخر ، إنما تصبح فيرزقها الله. وقال ابن عباس : لا
يدخر إلا الآدمي والنمل والفأرة والعقعق ، وقيل : البلبل يحتكر في حضنيه ، ويقال :
للعقعق مخابئ ، إلا أنه ينساها. وانتفاء حملها لرزقها ، إما لضعفها وعجزها عن ذلك
، وإما لكونها خلقت لا عقل لها ، فيفكر فيما يخبؤه للمستقبل : أي يرزقها على
ضعفها. (وَإِيَّاكُمْ) : أي على قدرتكم على الاكتساب ، وعلى التحيل في تحصيل
المعيشة ، ومع ذلك فرازقكم هو الله ، (وَهُوَ السَّمِيعُ) لقولكم : نخشى الفقر ، (الْعَلِيمُ) بما انطوت عليه ضمائركم.
ثم أعقب تعالى ذلك
بإقرارهم بأن مبدع العالم ومسخر النيرين هو الله. وأتبع ذلك ببسط الرزق وضيقه ،
فقال : (اللهُ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) أن يبسطه ، (وَيَقْدِرُ) لمن يشاء أن يقدره. والضمير في له ظاهره العود على من يشاء
، فيكون ذلك الواحد يبسط له في وقت ، ويقدر في وقت. ويجوز أن يكون الضمير عائدا
عليه في اللفظ ، والمراد لمن يشاء آخر ، فصار نظير : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ
مُعَمَّرٍ ، وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) : أي من عمر معمر آخر. وقولهم : عندي درهم ونصفه : أي ونصف
درهم آخر ، فيكون المبسوط له الرزق غير المضيق عليه الرزق. وقرأ علقمة الحمصي :
ويقدر : بضم الياء وفتح القاف وشد الدال ، (عَلِيمٌ) : يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم.
__________________
ولما أخبر بأنهم
مقرون بأن موجد العالم ، ومسخر النيرين ، ومحيي الأرض بعد موتها هو الله ، كان ذلك
الإقرار ملزما لهم أن رازق العباد إنما الله هو المتكفل به. وأمر رسوله بالحمد له
تعالى ، لأن في إقرارهم توحيد الله بالإبداع ونفي الشركاء عنه في ذلك ، وكان ذلك
حجة عليهم ، حيث أسندوا ذلك إلى الله وعبدوا الأصنام. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ، حيث يقرون بالصانع الرازق المحيي ، ويعبدون غيره.
(وَما هذِهِ الْحَياةُ
الدُّنْيا) : الإشارة بهذه ازدراء للدنيا وتصغير لأمرها ، وكيف لا؟ وهي
لا تزن عند الله جناح بعوضة ، أي ما هي في سرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها ، إلا
كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون. والحيوان ، والحياة بمعنى واحد ، وهو عند
الخليل وسيبويه مصدر حيي ، والمعنى : لهي دار الحياة ، أي المستمرة التي لا تنقطع.
قال مجاهد : لا موت فيها. وقيل : الحيوان : الحي ، وكأنه أطلق على الحي اسم
المصدر. وجعلت الدار الآخرة حيا على المبالغة بالوصف بالحياة ، وظهور الواو في
الحيوان وفي حيوة ، علم لرجل استدل به من ذهب إلى أن الواو في مثل هذا التركيب
تبدل ياء لكسر ما قبلها ، نحو : شقي من الشقوة. ومن ذهب إلى أن لام الكلمة لامها
ياء ، زعم أن ظهور الواو في حيوان وحيوة بدل من ياء شذوذا ، وجواب لو محذوف ، أي
لو كانوا يعلمون ، لم يؤثروا دار الفناء عليها. وجاء بنا مصدر حي على فعلان ، لأنه
يدل على الحركة والاضطراب ، كالغليان ، والنزوان ، واللهيان ، والجولان ،
والطوفان. والحي : كثير الاضطراب والحركة ، فهذا البناء فيه لكثرة الحركة.
ولما ذكر تعالى
أنهم مقرون بالله إذا سئلوا : من خلق العالم؟ و (مَنْ نَزَّلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً)؟ ذكر أيضا حالة أخرى يرجعون فيها إلى الله ، ويقرون بأنه
هو الفاعل لما يريد ، وذلك حين ركوب البحر واضطراب أمواجه واختلاف رياحه. وقال
الزمخشري : فإن قلت : بم اتصل قوله : (فَإِذا رَكِبُوا فِي
الْفُلْكِ)؟ قلت : بمحذوف دل عليه ما وصفهم به ، وشرح من أمرهم معناه
على ما وصفوا به من الشرك والعناد. (فَإِذا رَكِبُوا فِي
الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) : كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين ، حيث لا
يذكرون إلا الله ، ولا يدعون مع الله آخر. وفي المخلصين ضرب من التهكم ، و (إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) : جواب لما ، أي فاجأ السجية إشراكهم بالله ، أي لم يتأخر
عنها ولا وقتا. والظاهر في (لِيَكْفُرُوا) أنها لام كي ، وعطف عليه (وَلِيَتَمَتَّعُوا) في قراءة من كسر اللام وهم : العربيان ونافع وعاصم ،
والمعنى : عادوا إلى شركهم. (لِيَكْفُرُوا) : أي الحامل لهم على الشرك هو
كفرهم بما أعطاهم
الله تعالى ، وتلذذهم بما متعوا به من عرض الدنيا ، بخلاف المؤمنين ، فإنهم إذا
نجوا من مثل تلك الشدة ، كان ذلك جالب شكر الله تعالى ، وطاعة له مزدادة. وقيل :
اللام في : (لِيَكْفُرُوا) ، (وَلِيَتَمَتَّعُوا) ، لام الأمر ، ويؤيده قراءة من سكن لام وليتمتعوا وهم :
ابن كثير ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ؛ وهذا الأمر على سبيل التهديد ، كقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) .
وقال الزمخشري :
فإن قلت : كيف جاز أن يأمر الله تعالى بالكفر ، وبأن يعمل العصاة ما شاؤا ، وهو
ناه عن ذلك ومتوعد عليه؟ قلت : هو مجاز عن الخذلان والتحلية ، وإن ذلك الأمر مسخط
إلى غاية. انتهى. والتحلية والخذلان من ألفاظ المعتزلة. وقرأ ابن مسعود : فتمتعوا
فسوف تعلمون ، بالتاء فيهما : أي قيل لهم تمتعوا فسوف تعلمون ، وكذا في مصحف أبيّ.
وقرأ أبو العالية : فيتمتعوا ، بالياء ، مبنيا للمفعول. ومن قرأ : وليتمتعوا ،
بسكون اللام ، وكان عنده اللام في : ليكفروا ، لام كي ، فالواو عاطفة كلاما على
كلام ، لا عاطفة فعل على فعل. وحكى ابن عطية ، عن ابن مسعود : لسوف تعلمون ،
باللام ، ثم ذكرهم تعالى بنعمه ، حيث أسكنهم بلدة أمنوا فيها ، لا يغزوهم أحد ولا
يستلب منهم ، مع كونهم قليلي العدد ، قارين في مكان لا زرع فيه ، وهذه من أعظم
النعمة التي كفروها ، وهي نعمة لا يقدر عليها إلا الله تعالى. وقرأ الجمهور : (يُؤْمِنُونَ) ، و (يَكْفُرُونَ) ، بالياء فيهما. وقرأ السلمي ، والحسن : بتاء الخطاب
فيهما. وافتراؤهم الكذب : زعمهم أن لله شريكا ، وتكذيبهم بالحق : كفرهم بالرسول
والقرآن. وفي قوله : (لَمَّا جاءَهُ) : إشعار بأنهم لم يتوقفوا في تكذيبه وقت مجيء الحق لهم ،
بخلاف العاقل ، فإنه إذا بلغه خبر ، نظر فيه وفكر حتى يبين له أصدق هو أم كذب.
وأليس تقرير لمقامهم في جهنم كقوله :
ألستم خير من ركب
المطايا
و (لِلْكافِرِينَ) من وضع الظاهر موضع المضمر : أي مثواهم. (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) : أطلق المجاهدة ، ولم يقيدها بمتعلق ، ليتناول المجاهدة
في النفس الأمّارة بالسوء والشيطان وأعداء الدين ، وما ورد من أقوال العلماء ،
فالمقصود بها المثال. قال ابن عباس : جاهدوا أهواءهم في طاعة الله وشكر آلائه
والصبر على بلائه. (لَنَهْدِيَنَّهُمْ
سُبُلَنا) : لنزيدنهم هداية إلى سبيل الخير ، كقوله : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً
وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) . وقال السدي : جاهدوا فينا بالثبات على الإيمان ، لنهدينهم
سبلنا إلى الجنة.
__________________
وقال أبو سليمان
الداراني : جاهدوا فيما علموا ، لنهدينهم إلى ما لم يعلموا. وقيل : جاهدوا في
الغزو ، لنهدينهم سبل الشهادة والمغفرة. وقال ابن عباس : المحسنين الموحدين. وقال
غيره : المجاهدون. وقال عبد الله بن المبارك : من اعتاصت عليه مسألة ، فليسأل أهل
الثغور عنها ، كقوله تعالى : (لَنَهْدِيَنَّهُمْ
سُبُلَنا). (وَالَّذِينَ) : مبتدأ خبره القسم المحذوف ، وجوابه : وهو لنهدينهم وبهذا
، ونظيره ردّ على أبي العباس ثعلب في منعه أن تقع جملة القسم والمقسم عليه خبرا
للمبتدأ ، ونظيره : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ).
سورة الرّوم
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم
(١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ
سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ
بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ
يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ
الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧) أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما
بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ
بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ
مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها
وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ
كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا
السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) اللهُ
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ
تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ
شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ
(١٦)
فَسُبْحانَ
اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ
الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ
ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ
مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً
وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ
خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً
وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ
السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ
إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ
لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ
عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ
مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ
فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ
الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ
ناصِرِينَ (٢٩) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي
فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ
فَرِحُونَ
(٣٢) وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ
إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ
(٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ
أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ
(٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ
وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ
النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ
وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ
رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ
يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠)
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ
لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ
أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ
(٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ
يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ
فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ
الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ
بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ
الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً
فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ
يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ
عَلَيْهِمْ
مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ
يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا
لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا
تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ
الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ
مُسْلِمُونَ (٥٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ
ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما
يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ
الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ
إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ
وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ
مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ
الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا
يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠)
(الم ، غُلِبَتِ
الرُّومُ ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ،
فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ
يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ، بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ ، وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لا يَعْلَمُونَ ، يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ
الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ ، أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ
اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ
مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ ، أَوَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها
أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ
اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ، ثُمَّ كانَ
عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها
يَسْتَهْزِؤُنَ ، اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ، وَلَمْ
يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ ،
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ
يَتَفَرَّقُونَ
، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ
يُحْبَرُونَ ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ
الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ).
هذه السورة مكية ،
قال ابن عطية وغيره ، بلا خلاف. وقال الزمخشري : إلا قوله : (فَسُبْحانَ اللهِ). وسبب نزولها أن كسرى بعث جيشا إلى الروم ، وأمر عليهم
رجلا ، واختلف النقلة في اسمه ؛ فسار إليهم بأهل فارس ، وظفر وقتل وخرب وقطع
زيتونهم ، وكان التقاؤهم بأذرعات وبصرى ، وكان قد بعث قيصر رجلا أميرا على الروم.
وقال مجاهد : التقت بالجزيرة. وقال السدي : بأرض الأردن وفلسطين ، فشق ذلك على
المسلمين لكونهم مع الروم أهل الكتاب ، وفرح بذلك المشركون لكونهم مع المجوس ليسوا
بأهل كتاب. وأخبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أن الروم (سَيَغْلِبُونَ فِي
بِضْعِ سِنِينَ).
ونزلت أوائل الروم
، فصاح أبو بكر بها في نواحي مكة : (الم ، غُلِبَتِ
الرُّومُ ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ
فِي بِضْعِ سِنِينَ). فقال ناس من مشركي قريش : زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارسا
في بضع سنين ، أفلا نراهنك على ذلك؟ فقال : بلى ، وذلك قبل تحريم الرهان. فاتفقوا
أن جعلوا بضع سنين وثلاث قلائص ، وأخبر أبو بكر رسول الله بذلك فقال : «هلا اختطبت؟
فارجع فزدهم في الأجل والرهان». فجعلوا القلائص مائة ، والأجل تسعة أعوام. فظهرت
الروم على فارس في السنة السابعة ، وكان ممن راهن أبيّ بن خلف. فلما أراد أبو بكر
الهجرة ، طلب منه أبيّ كفيلا بالخطر إن غلبت ، فكفل به ابنه عبد الرحمن. فلما أراد
أبيّ الخروج إلى أحد ، طلبه عبد الرحمن بالكفيل ، فأعطاه كفيلا ومات أبيّ من جرح
جرحه النبي صلىاللهعليهوسلم. وظهر الروم على فارس يوم الحديبية. وقيل : كان النصر يوم
بدر للفريقين ، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبي ، وجاء به إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال له : «تصدق به».
وسبب ظهور الروم ،
أن كسرى بعث إلى شهريزان ، وهو الذي ولاه على محاربة الروم ، أن اقتل أخاك فرّخان
لمقالة قالها ، وهي قوله : لقد رأيتني جالسا على سرير كسرى ، فلم يقتله. فبعث إلى
فارس أني عزلت شهريزان ووليت أخاه فرّخان ، وكتب إليه : إذا ولي ، أن يقتل أخاه
شهريزان ، فأراد قتله ، فأخرج له شهريزان ثلاث صحائف من كسرى يأمره بقتل أخيه
فرّخان. قال : وراجعته في أمرك مرارا ، ثم تقتلني بكتاب واحد؟ فرد الملك إلى أخيه.
وكتب شهريزان إلى قيصر ملك الروم ، فتعاونا على كسرى ، فغلبت الروم فارس ،
وجاء الخبر ، ففرح
المسلمون. وكان ذلك من الآيات البينات الشاهدة بصحة النبوة ، وأن القرآن من عند
الله ، لأنها إيتاء من علم الغيب الذي لا يعلمه إلّا الله.
وقرأ علي ، وأبو
سعيد الخدري ، وابن عباس ، وابن عمر ، ومعاوية بن قرة ، والحسن : (غُلِبَتِ الرُّومُ) : مبنيا للفاعل ، (سَيَغْلِبُونَ) : مبنيا للمفعول ؛ والجمهور : مبنيا للمفعول ، سيغلبون :
مبنيا للفاعل. وتأويل ذلك على ما فسره ابن عمران : الروم غلبت على أدنى ريف الشام
، يعنى : بالريف السواد. وجاء كذلك عن عثمان ، وتأوله أبو حاتم على أن الروم غلبت
يوم بدر ، فعز ذلك على كفار قريش ، وسر المؤمنون ، وبشر الله عباده بأنهم سيغلبون
في بضع سنين. انتهى. فيكون قد أخبر عن الروم بأنهم قد غلبوا ، وبأنهم سيغلبون ،
فيكون غلبهم مرتين. قال ابن عطية : والقراءة بضم الغين أصح. وأجمع الناس على
سيغلبون بفتح الياء ، يراد به الروم. وروي عن ابن عمر أنه قرأ سيغلبون بضم الياء ،
وفي هذه القراءة قلب المعنى الذي تظاهرت به الروايات. انتهى. وقوله : وأجمعوا ،
ليس كذلك. ألا ترى أن الذين قرأوا غلبت بفتح الغين هم الذين قرأوا سيغلبون بضم
الياء وفتح اللام ، وليست هذه مخصوصة بابن عمر؟ وقرأ الجمهور : غلبهم ، بفتح الغين
واللام : وعلي ، وابن عمر ، ومعاوية بن قرة : بإسكانها ؛ والقياس عن ابن عمر :
وغلابهم ، على وزن كتاب. والروم : طائفة من النصارى ، وأدنى الأرض : أقربهما : فإن
كانت الواقعة في أذرعات ، فهي أدنى الأرض بالنظر إلى مكة ، وهي التي ذكرها امرؤ
القيس في قوله :
تنوّرتها من
أذرعات وأهلها
|
|
بيثرب أدنى
دارها نظر عال
|
وإن كانت بالجزيرة
، فهي أدنى بالنظر إلى أرض كسرى. فإن كانت بالأردن ، فهي أدنى بالنظر إلى أرض
الروم. وقرأ الكلبي : (فِي أَدْنَى
الْأَرْضِ) ، وتقدم الكلام في مدلول البضع باعتبار القراءتين. ففي
غلبت ، بضم الغين ، يكون مضافا للمفعول ؛ وبالفتح ، يكون مضافا للفاعل ، ويكون
المعنى : سيغلبهم المسلمون في بضع سنين ، عند انقضاء هذه المدة التي هي أقصى مدلول
البضع.
أخذ المسلمون في
جهاد الروم ، وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يحكي عن أبي الحكم بن برجان
أنه استخرج من قوله تعالى : (الم ، غُلِبَتِ
الرُّومُ) إلى قوله : (فِي بِضْعِ سِنِينَ) ، افتتاح المسلمين بيت المقدس ، معينا زمانه ويومه ، وكان
إذ ذاك بيت المقدس قد غلبت عليه النصارى ، وأن ابن برجان مات قبل الوقت الذي كان
عينه للفتح ،
وأنه بعد موته
بزمان افتتحه المسلمون في الوقت الذي عينه أبو الحكم. وكان أبو جعفر يعتقد في أبي
الحكم هذا ، أنه كان يطلع على أشياء من المغيبات يستخرجها من كتاب الله.
(لِلَّهِ الْأَمْرُ) : أي إنفاذ الأحكام وتصريفها على ما يريد. وقرأ الجمهور : (مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) ، بضمهما : أي من قبل غلبة الروم ومن بعدها. ولما كانا
مضافين إلى معرفة ، وحذفت بنيا على الضم ، والكلام على ذلك مذكور في علم النحو.
وقرأ أبو السماك ، والجحدري ، وعون العقيلي : من قبل ومن بعد ، بالكسر والتنوين
فيهما. قال الزمخشري : على الجر من غير تقدير مضاف إليه واقتطاعه ، كأنه قيل :
قبلا وبعدا ، بمعنى أولا وآخرا. انتهى. وقال ابن عطية : ومن العرب من يقول : من
قبل ومن بعد ، بالخفض والتنوين. قال الفراء : ويجوز ترك التنوين ، فيبقى كما هو في
الإضافة ، وإن حذف المضاف. انتهى. وأنكر النحاس ما قاله الفراء ورده ، وقال للفراء
في كتابه (في القرآن) أشياء كثيرة من الغلط ، منها : أنه زعم أنه يجوز من قبل ومن
بعد ، وإنما يجوز من قبل ومن بعد على أنهما نكرتان ، والمعنى : من متقدم ومن
متأخر. وحكى الكسائي عن بعض بني أسد : لله الأمر من قبل ومن بعد الأول مخفوض منوّن
، والثاني مضموم بلا تنوين. والظاهر أن يومئذ ظرف (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) ، وعلى هذا المعنى فسره المفسرون.
وقيل : (وَيَوْمَئِذٍ) عطف على : (مِنْ قَبْلُ وَمِنْ
بَعْدُ) ، كأنه حصر الأزمنة الثلاثة : الماضي والمستقبل والحال ،
ثم ابتدأ الإخبار بفرح المؤمنين بالنصر. و (بِنَصْرِ اللهِ) : أي الروم على فارس ، أو المسلمين على عدوهم ، أو في أن
صدق ما قال الرسول من أن الروم ستغلب فارس ، أو في أن يسلط بعض الظالمين على بعض ،
حتى تفانوا وتناكصوا ، احتمالات. وفي الحديث : «فارس نطحة أو نطحتان ، ثم لا فارس
بعدها أبدا ، والروم ذات القرون ، كلما ذهب قرن خلف قرن إلى آخر الأبد».
وقال ابن عباس :
يوم بدر كانت هزيمة عبدة الأوثان وعبدة النيران ، وقال معناه أبو سعيد الخدري ،
وقيل : ورد الخبر يوم الحديبية بوفاة كسرى ، فسر المسلمون بحرب المشركين ، ولموت
عدو لهم في الأرض متمكن. وهو (الْعَزِيزُ) بانتقامه من أعدائه ، (الرَّحِيمُ) لأوليائه. وانتصب (وَعْدَ اللهِ) على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي تقدمت ، وهو قوله : (سَيَغْلِبُونَ) ، وقوله : (يَفْرَحُ
الْمُؤْمِنُونَ). (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ) الكفار من قريش وغيرهم ، (لا يَعْلَمُونَ) : نفى عنهم العلم النافع للآخرة ، وقد أثبت لهم
العلم بأحوال
الدنيا. قيل : والمعنى لا يعلمون أن الأمور من عند الله ، وأن وعده لا يخلفه ، وأن
ما يورده بعينه ، صلىاللهعليهوسلم ، حق. (يَعْلَمُونَ ظاهِراً) : أي بينا ، أي ما أدّته إليهم حواسهم ، فكأن علومهم إنما
هي علوم البهائم. وقال ابن عباس ، والحسن ، والجمهور : معناه ما فيه الظهور
والعلوّ في الدنيا من إتقان الصناعات والمباني ومظان كسب المال والفلاحات ، ونحو
هذا. وقالت فرقة : معناه ذاهبا زائلا ، أي يعلمون أمور الدنيا التي لا بقاء لها
ولا عاقبة. وقال الهذلي :
وعيرها الواشون
أني أحبها
|
|
وتلك شكاة ظاهر
عنك عارها
|
أي : زائل. وقال
ابن جبير : (ظاهِراً) ، أي يعلمون من قبل الكهنة مما يسترقه الشياطين. وقال
الرماني : كل ما يعلم بأوائل الرؤية فهو الظاهر ، وما يعلم بدليل العقل فهو
الباطن. وقال الزمخشري : (يَعْلَمُونَ) بدل من قول : (لا يَعْلَمُونَ) ، وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه ، وجعله بحيث
يقوم مقامه ويسد مسده ، لنعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل ، وبين
وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا. وقوله : (ظاهِراً مِنَ
الْحَياةِ الدُّنْيا) : يفيد أن للدنيا ظاهرا وباطنا ، فظاهرها ما يعرفه الجهال
من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها ، وباطنها وحقيقتها أنها مجاز للآخرة ، يتزود
إليها منها بالطاعة والأعمال الصالحة ؛ وهم الثانية توكيد لهم الأولى ، أو مبتدأ.
وفي إظهارهم على أي الوجهين ، كانت تنبيه على غفلتهم التي صاروا ملتبسين بها ، لا
ينفكون عنها. و (فِي أَنْفُسِهِمْ) : معمول ليتفكروا ، إما على تقدير مضاف ، أي في خلق أنفسهم
ليخرجوا من الغفلة ، فيعلموا أنهم يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا فقط ، ويستدلوا
بذلك على الخالق المخترع.
ثم أخبر عقب هذا
بأن الحق هو السبب في خلق السموات والأرض ؛ وأما على أن يكون (فِي أَنْفُسِهِمْ) ظرفا للفكرة في خلق السموات والأرض ، فيكون (فِي أَنْفُسِهِمْ) توكيدا لقوله : (يَتَفَكَّرُوا) ، كما تقول : أبصر بعينك واسمع بأذنك. وقال الزمخشري : في
هذا الوجه كأنه قال : أو لم يحدثوا التفكر في أنفسهم؟ أي في قلوبهم الفارغة من
الفكر. والفكر لا يكون إلا في القلوب ، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين ، كقولك
: اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك. وقال أيضا : يكون صلة المتفكر ، كقولك : تفكر في
الأمر وأجال فكره. و (ما خَلَقَ اللهُ) متعلق بالقول المحذوف ، معناه : أو لم يتفكروا ، فيقولوا
هذا القول؟ وقيل معناه : فيعلموا ، لأن في الكلام دليلا عليه. انتهى. والدليل هو
قوله : (أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا). وقيل : (أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا) متصل بما بعده ، ومثله : ثم (يَتَفَكَّرُوا
ما
بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) ، ومثله : (وَظَنُّوا ما لَهُمْ
مِنْ مَحِيصٍ) ، فيكون في بمعنى الباء ، ثم (يَتَفَكَّرُوا ما
بِصاحِبِهِمْ مِنْ) ، كأنه قال : أو لم يتفكروا بقلوبهم فيعلموا. انتهى. ويجوز
أن يكون تفكروا هنا معلقة ، ومتعلقها الجملة من قوله : (ما خَلَقَ) إلى آخرها. و (فِي أَنْفُسِهِمْ) : ظرف على سبيل التأكيد ، لأن الفكر لا يكون إلا في النفس
، كما أن الكتابة لا تكون إلا باليد. و (بِالْحَقِ) : في موضع الحال ، أي وهي ملتبسة بالحق مقترنة به ،
وبتقدير أجل مسمى لا بد لها أن تنتهي إليه وهو : قيام الساعة ، ووقت الحساب
والثواب والعقاب. ألا ترى إلى قوله : (أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) . كيف سمى تركهم غير راجعين إليه عبثا؟ والمراد بلقاء ربهم
: الأجل المسمى.
وقال ابن عطية : (إِلَّا بِالْحَقِ) ، أي بسبب المنافع التي هي حق واجب ، يريد من الدلالة عليه
والعبادة له دون فتور ، والانتصار للعبرة ومنافع الإرفاق وغير ذلك. (وَأَجَلٍ) عطف على الحق ، أي وبأجل مسمى ، وهو يوم القيامة. ففي
الآية إشارة إلى البعث والنشور وفساد بنية هذا العالم. ثم أخبر عن كثير من الناس
أنهم كفروا بذلك المعنى ، فعبر عنها بلقاء الله ، لأن لقاء الله هو عظيم الأمر ،
فيه النجاة والهلكة. انتهى.
وقال أبو عبد الله
الرازي : قدم هنا دلائل الأنفس على دلائل الآفاق ، وفي : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي
أَنْفُسِهِمْ) دلائل الآفاق على دلائل الأنفس ، وحكمة ذلك أن المفيد يذكر
الفائدة على وجه يختارها ، فإن فهمت ، وإلا انتقل إلى الأبين. والمستفيد يفهم أولا
الأبين ، ثم يرتقي إلى الأخفى. وفي (أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا) بفعل مسند إلى السامع ، فبدأ بما يفهم أولا ، ثم ارتقى
إليه ثانيا. وفي (سَنُرِيهِمْ) أسند إلى المفيد ، فذكر أولا الآفاق ، فإن لم يفهموا ،
فالأنفس ، إذ لا ذهول للإنسان عن دلائلها ، بخلاف دلائل الآفاق ، لأنه قد يذهل
عنها ، وهذا مراعى في (الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً) الآية. بدأ بأحوال الأنفس ، ثم بدلائل الآفاق. وقال أيضا
هنا : (وَإِنَّ كَثِيراً) ، و (قَبْلُ) ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ) ، وذلك أن هنا ذكر كثيرا بعد ذكر الدلائل الواضحة ، وهما :
(أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) ، و (ما خَلَقَ اللهُ). والإيمان بعد الدلائل أكثر من الإيمان قبلها ، فبعد ذكر
الدليل ، لا بد أن يؤمن من ذلك الأكثر جمع ، فلا يبقى الأكثر. انتهى ، وفيه تلخيص.
ولا
__________________
يتم كلامه الأول
إلا إذا جعل (فِي أَنْفُسِهِمْ) محلا للتفكر ، وجعل (ما خَلَقَ) أيضا محلا ثانيا.
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ) : هذا تقرير توبيخ ، أي قد ساروا ونظروا إلى ما حمل ممن
كان قبلهم من مكذبي الرسل ، ووصف حالهم من الشدة وإثارة الأرض وعمارتها ، وأنهم
أقوى منهم في ذلك. قال مجاهد : (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) : حرثوها. وقال الفراء :
قلبوها للزراعة.
وقال غيرهما : قلبوا وجه الأرض لاستنباط المياه ، واستخراج المعادن ، وإلقاء البذر
فيها للزراعة ؛ والإثارة : تحريك الشيء حتى يرتفع ترابه. وقرأ أبو جعفر : وآثاروا
الأرض ، بمدة بعد الهمزة. وقال ابن مجاهد : ليس بشيء ، وخرجه أبو الفتح على
الإشباع كقوله :
ومن ذم الزمان
بمنتزاح
وقال : من ضرورة
الشعر ، ولا يجيء في القرآن. وقرأ أبو حيوة : وآثروا من الإثرة ، وهو الاستبداد
بالشيء. وقرىء : وأثروا الأرض : أي أبقوا عنها آثارا. (وَعَمَرُوها) : من العمارة ، أي بقاؤهم فيها أكثر من بقاء هؤلاء ، أو من
العمران : أي سكنوا فيها ، أو من العمارة. قال الزمخشري : (أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) : من عمارة أهل مكة ، وأهل مكة أهل واد غير ذي زرع ، ما
لهم إثارة الأرض أصلا ، ولا عمارة لهم رأسا ، فما هو إلّا تهكم بهم وتضعيف حالهم
في دنياهم ، لأن معظم ما يستظهر به أهل الدنيا ويتباهون به أمر الدهقنة ، وهم أيضا
ضعاف القوى. (فَما كانَ اللهُ
لِيَظْلِمَهُمْ) : قبله محذوف ، أي فكذبوهم فأهلكوا. وقرأ الحرميان ، وأبو
عمرو : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ) بالرفع اسما لكان ، وخبرها (السُّواى) ، أو هو تأنيث الأسوإ ، أفعل من السوء. (أَنْ كَذَّبُوا) : مفعول من أجله متعلق بالخبر ، لا بأساء ، وإلا كان فيه
الفصل بين الصلة ومتعلقها بالخبر ، وهو لا يجوز ؛ والمعنى : ثم كان عاقبتهم ، فوضع
المظهر موضع المضمر. (السُّواى) : أي العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة ، وهي جهنم.
ويجوز أن تكون (السُّواى) مصدرا على وزن فعلى ، كالرجعى ، وتكون خبرا أيضا. ويجوز أن
تكون مفعولا بأساء بمعنى اقترفوا ، وصفة مصدر محذوف ، أي الإساءة السوأى ، ويكون
خبر كان (أَنْ كَذَّبُوا). وقرأ الأعمش والحسن : السوي ، بإبدال الهمزة واوا وإدغام
الواو فيها ، كقراءة من قرأ : (بِالسُّوءِ) ،
__________________
بالإدغام في يوسف.
وقرأ ابن مسعود : السوء ، بالتذكير. وقرأ الكوفيون وابن عامر : (عاقِبَةَ) ، بالنصب ، خبر كان ، والاسم السوأى ، أو السوء مفعول ،
وكذبوا الاسم. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون أن بمعنى : أي تفسير الإساءة التكذيب
والاستهزاء ، كانت في بمعنى القول ، نحو : نادى وكتب. ووجه آخر ، وهو أن يكون (أَساؤُا السُّواى) بمعنى : اقترفوا الخطيئة التي هي أسوأ الخطايات ، و (أَنْ كَذَّبُوا) عطف بيان لها ، وخبر كان محذوف ، كما يحذف جواب لما ولو
إرادة الإبهام. انتهى. وكون أن هنا حرف تفسير متكلف جدا. وأما قول الخطايات فكذا
هو في النسخة التي طالعناها ، جمع جمع تكسير بالألف والتاء ، وذلك لا ينقاس ، إنما
يقتصر فيه على مورد السماع ، ولا يبعد أن يكون زيادة التاء في الخطايات من الناسخ.
وأما قوله : (أَنْ كَذَّبُوا) عطف بيان لها ، أي للسوأى ، وخبر كان محذوف إلخ. فهذا فهم
أعجمي ، لأن الكلام مستقل في غاية الحسن بلا حذف ، فيتكلف له محذوفا لا يدل عليه
دليل. وأصحابنا لا يجيزون حذف خبر كان وأخواتها ، لا اقتصارا ولا اختصارا ، إلا إن
ورد منه شيء ، فلا ينقاس عليه.
وقرأ عبد الله
وطلحة : يبدىء ، بضم الياء وكسر الدال ؛ والجمهور : بفتحها ؛ والأبوان : يرجعون ،
بياء الغيبة ؛ والجمهور : بتاء الخطاب ، أي إلى ثوابه وعقابه ؛ والجمهور : يبلس ،
بكسر اللام ؛ وعلي والسلمي : بفتحها ، من أبلسه إذا أسكته ؛ والجمهور : ولم يكن ،
بالياء ؛ وخارجة والأريس ، كلاهما عن نافع ، وابن سنان عن أبي جعفر ، والأنطاكي عن
شيبة : بتاء التأنيث. (مِنْ شُرَكائِهِمْ) : من الذين عبدوهم من دون الله ، وهي الأوثان ، وأضيفوا
إليهم لأنهم أشركوهم في أموالهم ، وقيل : لأنهم اتخذوها بزعمهم شركاء لله. وقال
مقاتل : المراد بهم الملائكة شفعاء لله ، كما زعموا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا
إِلَى اللهِ زُلْفى) . (وَكانُوا) معناه : ويكون عند معاينتهم أمر الله وفساد حال الأصنام
عبر بالماضي ، لتيقن الأمر وصحة وقوعه. وكتب السوأى بالألف قبل الياء ، كما كتبوا
علماء بني إسرائيل بواو قبل الألف والتنوين في (يَوْمَئِذٍ) ، تنوين عوض من الجملة المحذوفة ، أي (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) ، يوم إذ (يُبْلِسُ
الْمُجْرِمُونَ). والضمير في (يَتَفَرَّقُونَ) للمسلمين والكافرين ، لدلالة ما بعده عليه. قال الزمخشري :
ويظهر أنه عائد على ما قبله ، إذ قبله : (اللهُ يَبْدَؤُا
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ). قال قتادة : هي فرقة ، لا اجتماع بعدها.
__________________
(فِي رَوْضَةٍ) ، الروضة ، الأرض ذات النبات والماء ، وفي المثل : أحسن من
بيضة ، يريدون : بيض النعامة ، والروضة مما تعجب العرب ، وقد أكثروا من مدحها في
أشعارهم. (يُحْبَرُونَ) : يسرون. حبره : سره سرورا ، وتهلل له وجهه وظهر له أثره.
يحبر بالضم ، حبرا وحبرة وحبورا ، وفي المثل : امتلأت بيوتهم حبرة فهم ينتظرون
العبرة. وحكى الكسائي : حبرته : أكرمته ونعمته. وقال علي بن سليمان : هو من قولهم
: على أسنانه حبرة ، أي أثر ، أي يسير عليهم أثر النعمة. وقيل : من التحبير ، وهو
التحسين ، أي يحسنون. ويقال : فلان حسن الحبر والسبر ، بالفتح ، إذا كان جميلا حسن
الهيئة. وقال ابن عباس ، والضحاك ، ومجاهد : يكرمون. وقال يحيى بن أبي كثير ،
والأوزاعي ، ووكيع : يسمعون الأغاني. وقال أبو بكر ، وابن عباس : يتوجون على
رؤوسهم. وقال ابن كيسان : يحلون. ومعنى (مُحْضَرُونَ) : مجموعون له ، لا يغيب أحد منهم عنه بقوله : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) ، وجاء في روضة منكرا وفي العذاب معرفا. قال الزمخشري :
والتنكير لإبهام أمرها وتفخيمه ، وجاء يحبرون بالفعل المضارع لاستعماله للتجدد ،
لأنهم كل ساعة يأتيهم ما يسرون به من متجددات الملاذ وأنواعها المختلفة. وجاء (مُحْضَرُونَ) باسم الفاعل لاستعماله للثبوت ، فهم إذا دخلوا العذاب
يبقون فيه محضرين ، فهو وصف لا ذم لهم.
(فَسُبْحانَ اللهِ
حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ، يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ
وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها
وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ ، وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا
أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ، وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً
وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ، وَمِنْ آياتِهِ
خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ ، وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَسْمَعُونَ ، وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ
مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ
وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا
أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ).
لما بين تعالى
عظيم قدرته في خلق السموات والأرض بالحق ، وهو حالة ابتداء العالم ، وفي مصيرهم
إلى الجنة والنار ، وهي حالة الانتهاء ، أمر تعالى بتنزيهه من كل
__________________
سوء. والظاهر أنه
أمر عباده بتنزيهه في هذه الأوقات ، لما يتجدد فيها من النعم. ويحتمل أن يكون
كناية عن استغراق زمان العبد ، وهو أن يكون ذاكرا ربه ، واصفه بما يجب له على كل
حال.
وقال الزمخشري :
لما ذكر الوعد والوعيد ، أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجي من الوعيد. وقيل :
المراد هنا بالتسبيح : الصلاة. فعن ابن عباس وقتادة : المغرب والصبح والعصر والظهر
، وأما العشاء ففي قوله : (وَزُلَفاً مِنَ
اللَّيْلِ) . وعن ابن عباس : الخمس ، وجعل (حِينَ تُمْسُونَ) شاملا للمغرب والعشاء. (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : اعتراض بين الوقتين ، ومعناه : أن الحمد واجب على أهل
السموات وأهل الأرض ، وكان الحسن يذهب إلى أن هذه الآية مدنية ، لأنه كان يقول :
فرضت الخمس بالمدينة. وقال الأكثرون : بل فرضت بمكة ؛ وفي التحرير ، اتفق المفسرون
على أن الخمس داخلة في هذه الآية. وعن ابن عباس : ما ذكرت الخمس إلا فيها ، وقدم
الإمساء على الإصباح ، كما قدم ف قول (يُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهارِ) ، والظلمات على النور ، وقابل بالعشي الإمساء. وبالإظهار
الإصباح ، لأن كلّا منهما يعقب بما يقابله ، فالعشي يعقبه الإمساء ، والإصباح
يعقبه الإظهار. ولما لم يتصرف من العشي فعل ، لا يقال أعشى ، كما يقال أمسى وأصبح
وأظهر ، جاء التركيب (وَعَشِيًّا) : وقرأ عكرمة : حينا تمسون وحينا تصبحون ، بتنوين حين ،
والجملة صفة حذف منها العائد تقديره : تمسون فيه وتصبحون فيه. ولما ذكر الإبداء
والإعادة ، ناسب ذكره : (يُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ) ، وتقدم الكلام على هذه الآية في آل عمران. (وَكَذلِكَ) : أي مثل ذلك الإخراج ، والمعنى : تساوي الإبداء والإعادة
في حقه تعالى. وقرأ الجمهور : (تُخْرَجُونَ) ، بالتاء المضمومة ، مبنيا للمفعول ؛ وابن وثاب وطلحة
والأعمش : بفتح تاء الخطاب وضم الراء.
ثم ذكر تعالى
آياته من بدء خلق الإنسان ، آية آية ، إلى حين بعثه من القبر فقال : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ
تُرابٍ) : جعل خلقهم من تراب ، حيث كان خلق أباهم آدم من تراب. و (تَنْتَشِرُونَ) : تتصرفون في أغراضكم بثم المقتضية المهلة والتراخي. ونبه
تعالى على عظيم قدرته بخلق الإنسان من تراب ، وهو أبعد الأشياء عن درجة الإحياء ،
لأنه بارد يابس ، والحياة بالحرارة والرطوبة ، وكذا الروح نير وثقيل ، والروح خفيف
وساكن ، والحيوان متحرك إلى الجهات الست ، فالتراب أبعد من قبول الحياة من سائر
الأجسام.
__________________
(مِنْ أَنْفُسِكُمْ) : فيها قولا (وَخَلَقَ مِنْها
زَوْجَها) . أما كون حواء خلقت من ضلع آدم ، وأما من جنسكم ونوعكم.
وعلل خلق الأزواج بالسكون إليها ، وهو الإلف. فمتى كان من الجنس ، كان بينهما تألف
، بخلاف الجنسين ، فإنه يكون بينهما التنافر ، وهذه الحكمة في بعث الرسل من جنس
بني آدم. ويقال : سكن إليه : مال ، ومنه السكن : فعل بمعنى مفعول. (مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) : أي بالأزواج ، بعد أن لم يكن سابقة تعارف يوجب التواد.
وقال مجاهد والحسن وعكرمة : المودة : النكاح ، والرحمة : الولد ، كنى بذلك عنهما.
وقيل : مودّة للشابة ، ورحمة للعجوز. وقيل : مودة للكبير ، ورحمة للصغير. وقيل :
هما اشتباك الرحم. وقيل : المودة من الله ، والبغض من الشيطان.
(وَاخْتِلافُ
أَلْسِنَتِكُمْ) : أي لغاتكم ، فمن اطلع على لغات رأى من اختلاف تراكيبها
أو قوانينها ، مع اتحاد المدلول ، عجائب وغرائب في المفردات والمركبات. وعن وهب : أن
الألسنة اثنان وسبعون لسانا ، في ولد حام سبعة عشر ، وفي ولد سام تسعة عشر ، وفي
ولد يافث ستة وثلاثون. وقيل : المراد باللغات : الأصوات والنغم. وقال الزمخشري : الألسنة
: اللذات وأجناس النطف وأشكاله. خالف عزوجل بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس
واحد ، ولا جهارة ، ولا حدة ، ولا رخاوة ، ولا فصاحة ، ولا لكنة ، ولا نظم ، ولا
أسلوب ، ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله. انتهى. (وَأَلْوانِكُمْ) : السواد والبياض وغيرهما ، والأنواع والضروب بتخطيط الصور
، ولو لا ذلك الاختلاف ، لوقع الالتباس وتعطلت مصالح كثيرة من المعاملات وغيرها.
وفيه آية بينة ، حيث فرعوا من أصل واحد ، وتباينوا في الأشكال على كثرتهم. وقرأ
الجمهور : (لِلْعالِمِينَ) ، بفتح اللام ، لأنها في نفسها آية منصوبة للعالم. وقرأ
حفص وحماد بن شعيب عن أبي بكر ، وعلقمة عن عاصم ، ويونس عن أبي عمرو : بكسر اللام
، إذ المنتفع بها إنما هم أهل العلم ، كقوله : (وَما يَعْقِلُها
إِلَّا الْعالِمُونَ) . والظاهر أن (بِاللَّيْلِ
وَالنَّهارِ) متعلق ب (مَنامُكُمْ) ، فامتن تعالى بذلك ، لأن النهار قد يقام فيه ، وخصوص من
كان مشتغلا في حوائجه بالليل. (وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ
فَضْلِهِ) : أي فيهما ، أي في الليل والنهار معا ، لأن بعض الناس قد
يبتغي الفعل بالليل ، كالمسافرين والحراس بالليل وغيرهم.
وقال الزمخشري :
هذا من باب اللف ، وترتيبه : (وَمِنْ آياتِهِ
مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ) ، ولأنه فصل بين الفريقين الأولين بالقرينين الآخرين
لأنهما زمانان ، والزمان
__________________
والواقع فيه كشيء
واحد مع إعانة اللف على ذلك ، ويجوز أن يراد (مَنامُكُمْ) في الزمانين ، (وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ
فَضْلِهِ) فيهما. والظاهر هو الأول لتكرره في القرآن ، وأسد المعاني
ما دل عليه القرآن. وقال ابن عطية : وقال بعض المفسرين : في الكلام تقديم وتأخير ،
وهذا ضعيف ، وإنما أراد أن ترتب النوم في الليل والابتغاء للنهار ، ولفظ الآية لا
يعطي ذلك. (وَمِنْ آياتِهِ
يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً) : إما أن يتعلق من آياته بيريكم ، فيكون في موضع نصب ، ومن
لابتداء الغاية ، أو يكون يريكم على إضمار أن ، كما قال :
ألا أيهذا الزاجري
أحضر الوغى
برفع أحضر ،
والتقدير أن أحضر ، فلما حذف أن ، ارتفع الفعل ، وليس هذا من المواضع التي يحذف
منها أن قياسا ، أو على إنزال الفعل منزلة المصدر من غير ما يسبكه له ، كما قال
الخليل في قول :
أريد لأنسى حبها
أي أرادني لأنسى
حبها ، فيكون التقدير في هذين الوجهين : ومن آياته إراءته إياكم البرق ، فمن آياته
في موضع رفع على أنه خبر المبتدأ. وقال الرماني : يحتمل أن يكون التقدير : ومن
آياته يريكم البرق بها ، وحذف لدلالة من عليها ، كما قال الشاعر :
وما الدهر إلا
تارتان فمنهما
|
|
أموت وأخرى
أبتغي العيش أكدح
|
أي : فمنهما تارة
أموت ، ومن على هذه الأوجه الثلاثة للتبعيض. وانتصب (خَوْفاً وَطَمَعاً) على أنهما مصدران في موضع الحال ، أي خائفين وطامعين. وقيل
: مفعول من أجله. وقال الزجاج : وأجازه الزمخشري على تقدير إرادة خوف وطمع ، فيتحد
الفاعل في العامل والمحذوف ، ولا يصح أن يكون العامل يريكم ، لاختلاف الفاعل في
العامل والمصدر. وقال الزمخشري : المفعولون فاعلون في المعنى ، لأنهم راؤون مكانه
، فكأنه قيل : لجعلكم رائين البرق خوفا وطمعا. انتهى. وكونه فاعلا ، قيل : همزة
التعدية لا تثبت له حكمه بعدها ، على أن المسألة فيها خلاف. مذهب الجمهور : اشتراط
اتحاد الفاعل ، ومن النحويين من لا يشترطه. ولو قيل : على مذهب من يشترطه. أن
التقدير : يريكم البرق فترونه خوفا وطمعا ، فحذف العامل للدلالة ، لكان إعرابا
سائغا واتحد فيها الفاعل. وقال الضحاك : خوفا من صواعقه ، وطمعا في مطره. وقال
قتادة : خوفا للمسافر ، وطمعا للمقيم. وقيل : خوفا أن يكون خلبا ، وطمعا أن يكون
ماطرا. وقال الشاعر :
لا يكن برقك
برقا خلبا
|
|
إن خير البرق ما
الغيث معه
|
وقال ابن سلام :
خوفا من البرد أن يهلك الزرع ، وطمعا في المطر أن يحييه. (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ) : أن تثبت وتمسك ، مثل : وإذا أظلم عليهم قاموا : أي ثبتوا
بأمره ، أي بإرادته. وإذا الأولى للشرط ، والثانية للمفاجأة جواب الشرط ، والمعنى
: أنه لا يتأخر طرفة عين خروجكم عن دعائه ، كما يجيب الداعي المطيع مدعوه ، كما
قال الشاعر :
دعوت كليبا دعوة
فكأنما
|
|
دعوت قرين الطود
أو هو أسرع
|
قرين الطود : الصدا
، أو الحجران أيد هذا. والطود : الجبل. والدعوة : البعث من القبور ، و (مِنَ الْأَرْضِ) يتعلق بدعاكم ، و (دَعْوَةً) : أي مرة ، فلا يحتاج إلى تكرير دعاءكم لسرعة الإجابة.
وقيل : (مِنَ الْأَرْضِ) صفة لدعوة. وقال ابن عطية : ومن عندي هنا لأنتهاء الغاية ،
كما يقول : دعوتك من الجبل إذا كان المدعو في الجبل. انتهى. وكون من لأنتهاء
الغاية قول مردود عند أصحابنا. وعن نافع ويعقوب : أنهما وقفا على دعوة ، وابتدا من
الأرض. (إِذا أَنْتُمْ
تَخْرُجُونَ) علقا من الأرض بتخرجون ، وهذا لا يجوز ، لأن فيه الفصل بين
الشرط وجوابه ، بالوقف على دعوة فيه إعمال ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها ، وهو
لا يجوز. وقال الزمخشري : وقوله : (إِذا دَعاكُمْ) بمنزلة قوله : (يُرِيكُمُ) في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى ، كأنه قال : ومن
آياته قيام السموات والأرض ، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاهم دعوة واحدة : يا
أهل القبور أخرجوا ، وإنما عطف هذا على قيام السموات والأرض بثم ، بيانا لعظيم ما
يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله ، وهو أن يقول : يا أهل القبور قوموا ، فلا
تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر. انتهى. وقرأ حمزة والكسائي : تخرجون
، بفتح التاء وضم الراء ؛ وباقي السبعة : بضمها وفتح الراء.
وبدأ أولا من
الآيات بالنشأة الأولى ، وهي خلق الإنسان من التراب ، ثم كونه بشرا منتشرا ، وهو
خلق حي من جماد ، ثم أتبعه بأن خلق له من نفسه زوجا ، وجعل بينهما تواد ، وذلك خلق
حي من عضو حي. وقال : (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، لأن ذلك لا يدرك إلا بالفكر في تأليف بين شيئين لم يكن
بينهما تعارف ، ثم أتبعه بما هو مشاهد للعالم كلهم ، وهو خلق السموات والأرض ،
واختلاف اللغات والألوان ، والاختلاف من لوازم الإنسان لا يفارقه.
وقال : (لِلْعالِمِينَ) ، لأنها آية مكشوفة للعالم ، ثم أتبعه بالمنام والابتغاء ،
وهما من الأمور
المفارقة في بعض
الأوقات ، بخلاف اختلاف الألسنة والألوان. وقال : (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) ، لأنه لما كان من أفعال العبادة قد يتوهم أنه لا يحتاج
إلى مرشد ، فنبه على السماع ، وجعل البال من كلام المرشد. ولما ذكر عرضيات الأنفس
اللازمة والمفارقة ، ذكر عرضيات الآفاق المفارقة من إراءة البرق وإنزال المطر ،
وقدمها على ما هو من الأرض ، وهو الإتيان والإحياء ، كما قدم السموات على الأرض ،
وقدم البرق على الإنزال ، لأنه كالمبشر يجيء بين يدي القادم. والأعراب لا يعلمون
البلاد المعشبة ، إن لم يكونوا قد رأوا البروق اللائحة من جانب إلى جانب. وقال : (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ، لأن البرق والإنزال ليس أمرا عاديا فيتوهم أنه طبيعة ،
إذ يقع ذلك ببلدة دون أخرى ، ووقتا دون وقت ، وقويا وضعيفا ، فهو أظهر في العقل
دلالة على الفاعل المختار ، فقال : هو آية لمن عقل بأن لم يتفكر تفكرا تاما.
ثم ختم هذه الآيات
بقيام السموات الأرض ، وذلك من العوارض اللازمة ، فإن كلّا من السماء والأرض لا
يخرج عن مكانه ، فيتعجب من وقوف الأرض وعدم نزولها ، ومن علو السماء وثباتها من
غير عمد. ثم أتبع ذلك بالنشأة الأخرى ، وهي الخروج من الأرض ، وذكر تعالى من كل
باب أمرين : من الأنفس خلقكم وخلق لكم ، ومن الآفاق السماء والأرض ، ومن لوازم
الإنسان اختلاف الألسنة واختلاف الألوان ، ومن خواصه المنام والابتغاء ، ومن عوارض
الآفاق البرق والمطر ، ومن لوازمه قيام السماء وقيام الأرض.
(وَلَهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ ، وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، ضَرَبَ لَكُمْ
مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ
شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ
كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ،
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي
مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ، فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ
حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ
اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ،
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ
حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ).
(مَنْ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) : عام في كونهم تحت ملكه وقهره. وقال الحسن : (قانِتُونَ) : قائمون بالشهادة على وحدانيته ، كما قال الشاعر :
وفي كل شيء له
آية
|
|
تدل على أنه
واحد
|
وقال ابن عباس :
مطيعون ، أي في تصريفه ، لا يمتنع عنه شيء يريد فعله بهم ، من حياة وموت وصحة ومرض
، فهي طاعة الإرادة لا طاعة العبادة. وقيل : قائمون يوم القيامة ، يوم يقوم الناس
لرب العالمين. وإذا حمل القنوت على الإخلاص ، كما قال ابن جبير ، أو على الإقرار
بالعبودية ، أو قانتون من ملك ومؤمن ، لأن كل عام مخصوص. (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) : أي والعود أهون عليه ، وليست أهون أفعل تفضيل ، لأنه
تفاوت عند الله في النشأتين : الإبداء والإعادة ، فلذلك تأوله ابن عباس والربيع بن
خيثم على أنه بمعنى هين ، وكذا هو في مصحف عبد الله. والضمير في عليه عائد على
الله. وقيل : أهون للتفضيل ، وذلك بحسب معتقد البشر وما يعطيهم النظر في المشاهد
من أن الإعادة في كثير من الأشياء أهون من البداءة ، للاستغناء عن الروية التي
كانت في البداءة ؛ وهذا ، وإن كان الاثنان عنده تعالى من اليسر في حيز واحد. وقيل
: الضمير في عليه عائد على الخلق ، أي والعود أهون على الخلق : بمعنى أسرع ، لأن
البداءة فيها تدريج من طور إلى طور إلى أن يصير إنسانا ، والإعادة لا تحتاج إلى
هذه التدريجات في الأطوار ، إنما يدعوه الله فيخرج ، فكأنه قال : وهو أيسر عليه ،
أي أقصر مدة وأقل انتقالا. وقيل : المعنى وهو أهون على المخلوق ، أي يعيد شيئا بعد
إنشائه ، فهذا عرف المخلوقين ، فكيف تنكرون أنتم الإعادة في جانب الخالق؟ قال ابن
عطية : والأظهر عندي عود الضمير على الله تعالى ، ويؤيده قوله تعالى : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) ، كما جاء بلفظ فيه استعاذة واستشهاد بالمخلوق على الخالق
، وتشبيه بما يعهده الناس من أنفسهم ، خلص جانب العظمة ، بأن جعل له المثل الأعلى
الذي لا يتصل به ، فكيف ولا تمثال مع شيء؟ انتهى. وقال الزمخشري : فإن قلت : لم
أخرت الصلة في قوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ
عَلَيْهِ) ، وقدمت في قوله : (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) ؟ قلت : هنالك قصد الاختصاص ، وهو تجبره ، فقيل : وهو علي
هين ، وإن كان مستصعبا عندك ، وإن تولد بين هرم وعاقر. وأما هنا فلا معنى للاختصاص
، كيف والأمر مبني على ما يعقلون من أن الإعادة أسهل من الابتداء؟ فلو قدمت الصلة
لتغير المعنى. انتهى. ومبنى كلامه على أن تقديم المعمول يؤذن بالاختصاص ، وقد
تكلمنا معه في ذلك ، ولم نسلمه في قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) .
(وَلَهُ الْمَثَلُ
الْأَعْلى) ، قيل : هو متعلق بما قبله ، قاله الزجاج ، وهو قوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ) ؛ قد ضربه لكم مثلا فيما يسهل أو يصعب. وقيل : بما بعده من
قوله : (ضَرَبَ لَكُمْ
__________________
مَثَلاً
مِنْ أَنْفُسِكُمْ). وقيل : المثل : الوصف الأرفع الأعلى الذي ليس لغيره مثله
، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيء من إنشاء وإعادة وغيرهما. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) : أي القاهر لكل شيء ، (الْحَكِيمُ) الذي أفعاله على مقتضى حكمته. وعن مجاهد : المثل الأعلى
قوله : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ، وله الوصف بالوحدانية ، ويؤيده قوله : (ضَرَبَ لَكُمْ).
وقال ابن عباس
وغيره : بين تعالى أمر الأصنام وفساد معتقد من يشركها بالله ، بضربه هذا المثل ،
ومعناه : أنكم أيها الناس ، إذا كان لكم عبيد تملكونهم ، فإنكم لا تشركونهم في
أموالكم ومهم أموركم ، ولا في شيء على جهة استواء المنزلة ، وليس من شأنكم أن
تخافوهم في أن يرثوا أموالكم ، أو يقاسمونكم إياها في حياتكم ، كما يفعل بعضكم
ببعض ؛ فإذا كان هذا فيكم ، فكيف تقولون : إن من عبيده وملكه شركاء في سلطانه
وألوهيته وتثبتون في جانبه ما لا يليق عندكم بجوانبكم؟ وجاء هذا المعنى في معرض
السؤال والتقرير. وقال السدي : كانوا يورثون آلهتهم ، فنزلت. وقيل : لما نزلت ،
قال أهل مكة : لا يكون ذلك أبدا ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «فلم يجوز لربكم»؟ ومن في : (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) لابتداء الغاية ، كأنه قال : أخذ مثلا ، وافترى من أقرب
شيء منكم ، وهو أنفسكم ، ولا يبعد. ومن في : (مِمَّا مَلَكَتْ) للتبعيض ، ومن في : (مِنْ شُرَكاءَ) زائدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. يقول : ليس
يرضى أحد منكم أن يشركه عبده في ماله وزوجته وما يختص به حتى يكون مثله ، فكيف
ترضون شريكا لله ، وهو رب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد؟
وقال أبو عبد الله
الرازي : وبين المثل والممثل به مشابهة ومخالفه. فالمشابهة معلومة ، والمخالفة من
وجوه : قوله : (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) : أي من نسلكم ، مع حقارة الأنفس ونقصها وعجزها ، وقاس
نفسه عليكم مع عظمتها وجلالتها وقدرتها. وقوله : (مِمَّا مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) : أي عبيدكم ، والملك ما قبل النقل بالبيع ، والزوال
بالعتق ، ومملوكه تعالى لا خروج له عن الملك. فإذا لم يجز أن يشرككم مملوككم ، وهو
مثلكم من جميع الوجوه ومثلكم في الآدمية ، حالة الرق ، فكيف يشرك الله مملوكه من
جميع الوجوه المباين له بالكلية؟ وقوله : (فِي ما رَزَقْناكُمْ) : يعني أن الميسر لكم في الحقيقة إنما هو الله ومن رزقه
حقيقة ، فإذا لم يجز أن يشرككم فيما هو لكم من حيث الاسم ، فكيف يكون له تعالى
شريك فيما له من
جهة الحقيقة؟ انتهى ، وفيه بعض تلخيص. و (شُرَكاءَ) في موضع رفع بالابتداء ، و (فِي ما رَزَقْناكُمْ) متعلق به ، و (لَكُمْ) الخبر ، و (مِنْ ما مَلَكَتْ) في موضع الحال ، لأنه نعت نكرة تقدم عليها وانتصب على
الحال ، والعامل فيها العامل في الجار والمجرور ، والواقع خبرا ، وهو مقدر بعد
المبتدأ. وما في (رَزَقْناكُمْ) واقعة على النوع ،
والتقدير : هل شركاء فيما رزقناكم كائنون من النوع الذي ملكته أيمانكم كائنون لكم؟
ويجوز أن يتعلق لكم بشركاء ، ويكون مما رزقناكم في موضع الخبر ، كما تقول : لزيد
في المدينة مبغض ، فلزيد متعلق بمبغض الذي هو مبتدأ ، وفي المدينة الخبر ، و (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) جملة في موضع الجواب للاستفهام المضمن معنى النفي ، وفيه
متعلق بسواء ، و (تَخافُونَهُمْ) خبر ثان لأنتم ، والتقدير : فأنتم مستوون معهم فيما
رزقناكم ، تخافونهم كما يخاف بعضكم بعضا أيها السادة. والمقصود نفي الشركة
والإستواء والخوف ، وليس النفي منسحبا على الجواب وما بعده فقط ، كأحد وجهي ما
تأتينا فتحدثنا ، أي ما تأتينا فتحدثنا ، إنما تأتي ولا تحدث ، بل هو على الوجه
الآخر ، أي ما تأتينا فكيف تحدثنا؟ أي ليس منك إتيان فلا يكون حديث. وكذلك هذا ليس
لهم شريك ، فلا استواء ولا خوف. وقرأ الجمهور : أنفسكم ، بالنصب ، أضيف المصدر إلى
الفاعل ؛ وابن أبي عبيدة : بالرفع ، أضيف المصدر للمفعول ، وهما وجهان حسنان ، ولا
قبح في إضافة المصدر إلى المفعول مع وجود الفاعل.
(كَذلِكَ) : أي مثل ذلك التفصيل ، (نُفَصِّلُ الْآياتِ) : أي نبينها ، لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها ،
لأنه بمنزلة التصوير والتشكيل لها. ألا ترى كيف صور الشرك بالصورة المشوهة؟ وقرأ
الجمهور : نفصل ، بالنون ، حملا على رزقناكم ؛ وعباس عن ابن عمر : بياء الغيبة ،
رعيا لضرب ، إذ هو مسند للغائب. وذكر بعض العلماء في هذه الآية دليلا على صحة أصل
الشركة بين المخلوقين ، لافتقار بعضهم إلى بعض ، كأنه يقول : الممتنع والمستقبح
شركة العبيد لساداتهم ؛ أما شركة السادات بعضهم لبعض فلا يمتنع ولا يستقبح.
والإضراب ببل في قوله : (بَلِ اتَّبَعَ) جاء على ما تضمنته الآية ، إذ المعنى : ليس لهم حجة ولا
معذرة فيما فعلوا من إشراكهم بالله ، بل ذلك بمجرد هوى بغير علم ، لأنه قد يكون
هوى للإنسان ، وهو يعلم. و (الَّذِينَ ظَلَمُوا) : هم المشركون ، اتبعوا أهواءهم جاهلين هائمين على أوجههم
، لا يرغمهم عن هواهم علم ، إذ هم خالون من العلم الذي قد يردع متبع الهوى. (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) : أي لا أحد يهدي من أضله الله ، أي
هؤلاء ممن أضلهم
الله ، فلا هادي لهم. وقال الزمخشري : من أضل الله : من خذله الله ولم يلطف به ،
لعلمه أنه ممن لا لطف له ممن يقدر على هداية مثله. (وَما لَهُمْ مِنْ
ناصِرِينَ) : دليل على أن المراد بالإضلال الخذلان. انتهى ، وهو على
طريقة الاعتزال.
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ) : فقوم وجهك له وعدله غير ملتفت ، وهو تمثيل لإقباله على
الدين واستقامته عليه وثباته واهتمامه بأسبابه. فإن من اهتم بالشيء ، عقد عليه
طرفه وقوم له وجهه مقبلا به عليه ، والدين دين الإسلام. وذكر الوجه ، لأنه جامع
حواس الإنسان وأشرفه. و (حَنِيفاً) : حال من الضمير في أقم ، أو من الوجه ، أو من الدين ،
ومعناه : مائلا عن الأديان المحرفة المنسوخة. (فِطْرَتَ اللهِ) : منصوب على المصدر ، كقوله : (صِبْغَةَ اللهِ) ، وقيل : منصوب بإضمار فعل تقديره : التزم فطرة الله. وقال
الزمخشري : الزموا فطرة الله ، أو عليكم فطرة الله. وإنما أضمرت على خطاب الجماعة
لقوله : (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) ، ومنيبين حال من الضمير في الزموا. وقوله : (وَأَقِيمُوا) ، (وَلا تَكُونُوا) ، معطوف على هذا المضمر. انتهى. وقيل : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ) ، المراد به : فأقيموا وجوهكم ، وليس مخصوصا بالرسول وحده
، وكأنه خطاب لمفرد أريد به الجمع ، أي : فأقم أيها المخاطب ، ثم جمع على المعنى ،
لأنه لا يراد به مخاطب واحد. فإذا كان هذا ، فقوله : (مُنِيبِينَ) ، (وَأَقِيمُوا) ، (وَلا تَكُونُوا) ملحوظ فيه معنى الجمع. وقول الزمخشري : أو عليكم فطرة الله
لا يجوز ، لأن فيه حذف كلمة الإغراء ، ولا يجوز حذفها ، لأنه قد حذف الفعل وعوض
عليك منه. فلو جاز حذفه لكان إجحافا ، إذ فيه حذف العوض والمعوض منه.
والفطرة ، قيل :
دين الإسلام ، والناس مخصوصون بالمؤمنين. وقيل : العهد الذي أخذه الله على ذرية
آدم حين أخرجهم نسما من ظهره ورجح الحذاق. إنها القابلية التي في الطفل للنظر في
مصنوعات الله ، والاستدلال بها على موجده ، فيؤمن به ويتبع شرائعه ، لكن قد تعرض
له عوارض تصرفه عن ذلك ، كتهويد أبويه له ، وتنصيرهما ، وإغواء شياطين الإنس
والجن.
(لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللهِ) : أي لا تبديل لهذه القابلية من جهة الخالق. وقال مجاهد ،
وابن جبير ، والضحاك ، والنخعي ، وابن زيد : لا تبديل لدين الله ، والمعنى :
لمعتقدات الأديان ، إذ هي متفقة في ذلك. وقال الزمخشري : أي ما ينبغي أن تبدل تلك
الفطرة أو
__________________
تغير. وقال ابن
عباس : لا تبديل لقضاء الله بسعادتهم وشقاوتهم ، وقيل : هو نفي معناه : النهي ، أي
لا تبدلوا ذلك الدين. وقيل : (لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللهِ) بمعنى : الوحدانية مترشحة فيه ، لا تغير لها ، حتى لو
سألته : من خلق السموات والأرض؟ تقول : الله. ويستغرب ما روي عن ابن عباس أن معنى (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) : النهي عن خصاء الفحول من الحيوان. وقول من ذهب إلى أن
المعنى في هذه الجملة ألجأ على الكفرة ، اعترض به أثناء الكلام ، كأنه يقول : أقم
وجهك للدين الذي من صفته كذا وكذا ، فإن هؤلاء الكفرة ومن خلق الله لهم الكفر ، و (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) : أي أنهم لا يفلحون ذلك الذي أمرت بإقامة وجهك له ، هو
الدين المبالغ في الاستقامة. والقيم : بياء مبالغة ، من القيام ، بمعنى الاستقامة
، ووزنه فعيل ، أصله قيوم كيد ، اجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ،
فقلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء فيها ، وهو بناء مختص بالمعتل العين ، لم يجىء منه
في الصحيح إلا بيئس وصيقل علم لامرأة.
(مُنِيبِينَ) : حال من (النَّاسَ) ، ولا سيما إذا أريد بالناس : المؤمنون ، أو من الضمير في
: الزموا فطرة الله ، وهو تقدير الزمخشري ، أو من الضمير في : (فَأَقِمْ) ، إذ المقصود : الرسول وأمته ، وكأنه حذف معطوف ، أي فأقم
وجهك وأمتك. وكذا زعم الزجاج في : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ) : أي يا أيها النبي والناس ، ودل على ذلك مجيء الحال في (مُنِيبِينَ) جمعا ، وفي (إِذا طَلَّقْتُمُ) جاء الخطاب فيه وفي ما بعده. جمعا ، أو على خبر كان مضمرة
، أي كونوا منيبين ، ويدل عليه قوله بعد (وَلا تَكُونُوا) ، وهذه احتمالات منقولة كلها. (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) : من اليهود والنصارى ، قاله قتادة. وقال ابن زيد : هم
اليهود ؛ وعن أبي هريرة وعائشة : أنهم أهل القبلة ، ولفظة الإشراك على هذا تجوز
بأنهم صاروا في دينهم فرقا. والظاهر أن المشركين : كل من أشرك ، فيدخل فيهم أهل
الكتاب وغيرهم. و (مِنَ الَّذِينَ) : بدل من المشركين ، (فَرَّقُوا دِينَهُمْ) : أي دين الإسلام وجعلوه أديانا مختلفة لاختلاف أهوائهم. (وَكانُوا شِيَعاً) : كل فرقة تشايع إمامها الذي كان سبب ضلالها. (كُلُّ حِزْبٍ) : أي منهم فرح بمذهبه مفتون به. والظاهر أن (كُلُّ حِزْبٍ) مبتدأ و (فَرِحُونَ) الخبر. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون (مِنَ الَّذِينَ) منقطعا مما قبله ومعناه : من المفارقين دينهم. كل حزب
فرحين بما لديهم ، ولكنه رفع فرحون على الوصف لكل ، كقوله :
__________________
وكل خليل غير هاضم
نفسه انتهى. قدر أولا فرحين مجرورة صفة لحزب ، ثم قال : ولكنه رفع على الوصف لكل ،
لأنك إذا قلت : من قومك كل رجل صالح ، جاز في صالح الخفض نعتا لرجل ، وهو الأكثر ،
كقوله :
جادت عليه كل
عين ترة
|
|
فتركن كل حديقة
كالدرهم
|
وجاز الرفع نعتا
لكل ، كقوله :
وعليه هبت كل
معصفة
|
|
هوجاء ليس للبها
دبر
|
برفع هوجاء صفة
لكل.
(وَإِذا مَسَّ
النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ
مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ، لِيَكْفُرُوا
بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ، أَمْ أَنْزَلْنا
عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ، وَإِذا
أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ ، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ ، فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ
ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
، وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا
عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ
الْمُضْعِفُونَ).
الضر : الشدة ، من
فقر ، أو مرض ، أو قحط ، أو غير ذلك ؛ والرحمة : الخلاص من ذلك الضر. (دَعَوْا رَبَّهُمْ) : أفردوه بالتضرع والدعاء لينجوا من ذلك الضر ، وتركوا
أصنامهم لعلمهم أنه لا يكشف الضر إلا هو تعالى ، فلهم في ذلك الوقت إنابة وخضوع ،
وإذا خلصهم من ذلك الضر ، أشرك فريق ممن خلص ، وهذا الفريق هم عبدة الأصنام. قال
ابن عطية : ويلحق من هذه الألفاظ شيء للمؤمنين ، إذ جاءهم فرج بعد شدة ، علقوا ذلك
بمخلوقين ، أو بحذق آرائهم ، أو بغير ذلك ، ففيه قلة شكر الله ، ويسمى مجازا. وقال
أبو عبد الله الرازي : يقول : تخلصت بسبب اتصال الكوكب الفلاني وسبب الصنم الفلاني
، بل ينبغي أن لا يعتقد أنه يخلص بسبب فلان إذا كان ظاهرا ، فإنه شرك خفي. انتهى. و
(إِذا فَرِيقٌ) : جواب (إِذا أَذاقَهُمْ) ، الأولى شرطية ، والثانية للمفاجأة ، وتقدم نظيره ، وجاء
هنا فريق ، لأن قوله : (وَإِذا مَسَّ
النَّاسَ) عام للمؤمن والكافر ، فلا يشرك إلا الكافر.
وضر هنا مطلق ،
وفي آخر العنكبوت (إِذا هُمْ
يُشْرِكُونَ) لأنه في مخصوصين من المشركين عباد الأصنام ، والضر هناك
معين ، وهو ما يتخوف من ركوب البحر. (إِذا هُمْ) : أي ركاب البحر عبدة الأصنام ، ويدل على ذلك ما قبله وما
بعده. واللام في (لِيَكْفُرُوا) لام كي ، أو لام الأمر للتهديد ، وتقدم نظيره في آخر
العنكبوت.
وقرأ الجمهور : (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ، بالتاء فيهما. وقرأ أبو العالية : فيتمتعوا ، بالياء ،
مبنيا للمفعول ، وهو معطوف على (لِيَكْفُرُوا). فسوف يعلمون : بالياء ، على التهديد لهم. وعن أبي العالية
: فيتمتعوا ، بياء قبل التاء ، عطف أيضا على (لِيَكْفُرُوا) ، أي لتطول أعمارهم على الكفر ؛ وعنه وعن عبد الله :
فليتمتعوا. وقال هارون في مصحف عبد الله : يمتعوا. (أَمْ أَنْزَلْنا) ، أم : بمعنى بل ، والهمزة للإضراب عن الكلام السابق ،
والهمزة للاستفهام عن الحجة استفهام إنكار وتوبيخ. والسلطان : البرهان ، من كتاب
أو نحوه. (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ) : أي يظهر مذهبهم وينطق بشركهم ، والتكلم مجاز لقوله : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ
بِالْحَقِ) . وهو يتكلم : جواب للاستفهام الذي تضمنه أم ، كأنه قال : بل
أنزلنا عليهم سلطانا ، أي برهانا شاهدا لكم بالشرك ، فهو يشهد بصحة ذلك ، وإن قدر
ذا سلطان ، أي ملكا ذا برهان ، كان التكلم حقيقة.
(وَإِذا أَذَقْنَا
النَّاسَ رَحْمَةً) : أي نعمة ، من مطر ، أو سعة ، أو صحة. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) : أي بلاء ، من حدث ، أو ضيق ، أو مرض. (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من المعاصي. (إِنَّ اللهَ لا
يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) ، ففي إصابة الرحمة فرحوا وذهلوا عن شكر من أسداها إليهم ،
وفي إصابة البلاء قنطوا ويئسوا وذهلوا عن الصبر ، ونسوا ما أنعم به عليهم قبل
إصابة البلاء. و (أَذاهُمْ) جواب : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ) ، يقوم مقام الفاء في الجملة الاسمية الواقعة جوابا للشرط.
وحين ذكر إذاقة الرحمة ، لم يذكر سببها ، وهو زيادة الإحسان والتفضل. وحين ذكر
إصابة السيئة ، ذكر سببها ، وهو العصيان ، ليتحقق بدله. ثم ذكر تعالى الأمر الذي
من اعتبره لم ييأس من روح الله ، وهو أنه تعالى هو الباسط القابض ، فينبغي أن لا
يقنط ، وأن يتلقى ما يرد من قبل الله بالصبر في البلاء ، والشكر في النعماء ، وأن
يقلع عن المعصية التي أصابته السيئة بسببها ، حتى تعود إليه رحمة ربه.
__________________
ومناسبة (فَآتِ ذَا الْقُرْبى) لما قبله : أنه لما ذكر أنه تعالى هو الباسط القابض ، وجعل
في ذلك آية للمؤمن ، ثم نبه بالإحسان لمن به فاقة واحتياج ، لأن من الإيمان الشفقة
على خلق الله ، فخاطب من بسط له الرزق بأداء حق الله من المال ، وصرفه إلى من يقرب
منه من حج ، وإلى غيره من مسكين وابن سبيل. وقال الحسن : هذا خطاب لكل سامع بصلة
الرحم ، (وَالْمِسْكِينَ
وَابْنَ السَّبِيلِ). وقيل : للرسول ، عليهالسلام. وذو القربى : بنو هاشم وبنو المطلب ، يعطون حقوقهم من
الغنيمة والفيء. وقال الحسن : حق المسكين وابن السبيل من الصدقة المسماة لهما.
واحتج أبو حنيفة بهذه الآية في وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن
الكسب. أثبت تعالى لذي القربى حقا ، وللمسكين وابن السبيل حقهما.
والسورة مكية ،
فالظاهر أن الحق ليس الزكاة ، وإنما يصير حقا بجهة الإحسان والمواساة. وللاهتمام
بذي القربى ، قدم على المسكين وابن السبيل ، لأن بره صدقة وصلة. (ذلِكَ) : أي الإيتاء ، (خَيْرٌ) : أي يضاعف لهم الأجر في الآخرة ، وينمو ما لهم في الدنيا
لوجه الله ، أي التقرب إلى رضا الله لا يضره. ثم ذكر تعالى من يتصرف في ماله على
غير الجهة المرضية فقال : (وَما آتَيْتُمْ) أكلة الربو ، ليزيد ويزكو في المال ، فلا يزكو عند الله ،
ولا يبارك فيه لقوله : (يَمْحَقُ اللهُ
الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) . قال السدّي : نزلت في ربا ثقيف ، كانوا يعملون بالربا ،
ويعمله فيهم قريش. وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، وطاوس : هذه الآية نزلت
في هبات ، للثواب. وقال ابن عطية : وما جرى مجراهما مما يصنع للمجازاة ، كالسلم
وغيره ، فهو وإن كان لا إثم فيه ، فلا أجر فيه ولا زيادة عند الله. وقال ابن عباس
أيضا ، والنخعي : نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم وتمويلهم
والتفضل عليهم ، وليزيدوا في أموالهم على جهة النفع به ، فذلك النفع لهم. وقال الشعبي
قريبا من هذا وهو : أن ما خدم به الإنسان غيره انتفع به ، فذلك النفع لهم. وقال
الشعبي أيضا قريبا من هذا وهو : أن لا يربو عند الله ، والظاهر القول الأول ، وهو
النهي عن الربا. وقرأ الجمهور : (وَما آتَيْتُمْ) ، الأول بمد الهمزة ، أي وما أعطيتم ؛ وابن كثير : بقصرها
، أي وما جئتم. وقرأ الجمهور : ليربو ، بالياء وإسناد الفعل إلى الربا ؛ وابن عباس
، والحسن ، وقتادة ، وأبو رجاء ، والشعبي ، ونافع ، وأبو حيوة : بالتاء مضمومة ،
وإسناد الفعل إليهم. وقرأ أبو مالك : ليربوها ، بضمير المؤنث.
__________________
والمضعف : ذو
أضعاف في الأجر. قال الفراء : هم أصحاب المضاعفة ، كما تقول : هو مسمن ، أي صاحب
إبل سمان ، ومعطش : أي صاحب إبل عطشى. وقرأ أبي : (الْمُضْعِفُونَ) ، بفتح العين ، اسم مفعول. وقال الزمخشري : (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) ، التفات حسن ، كأنه قال لملائكته وخواص خلقه : فأولئك
الذين يريدون وجه الله بصدقاتهم هم المضعفون ، والمعنى : المضعفون به بدلالة أولئك
هم المضعفون ، والحذف لما في الكلام من الدليل عليه ، وهذا أسهل مأخذا ، والأول
أملأ بالفائدة : انتهى. وإنما احتاج إلى تقدير ما قدر ، لأن اسم الشرط ليس بظرف ،
لا بد أن يكون في الجواب ضمير يعود عليه يتم به الربط.
(اللهُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ
شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا
يُشْرِكُونَ ، ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي
النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ، قُلْ
سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ
كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ، فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ
، مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ
يَمْهَدُونَ ، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ
فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ).
كرر تعالى خطاب
الكفار في أمر أوثانهم ، فذكر أفعاله التي لا يمكن أن يدعى له فيها شريك ، وهي
الخلق والرزق والإماتة والإحياء ، ثم استفهم على جهة التقرير لهم والتوبيخ ، ثم
نزه نفسه عن مقالتهم. و (اللهُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ) : مبتدأ وخبر. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون (الَّذِي خَلَقَكُمْ) صفة للمبتدأ ، والخبر : (هَلْ مِنْ
شُرَكائِكُمْ) ؛ وقوله : (مِنْ ذلِكُمْ) هو الذي ربط الجملة بالمبتدأ لأن معناه : من أفعاله.
انتهى. والذي ذكره النحويون أن اسم الإشارة يكون رابطا إذا كان أشير به إلى
المبتدأ. وأما (ذلِكُمْ) هنا فليس إشارة إلى المبتدأ ، لكنه شبيه بما أجازه الفراء
من الربط بالمعنى ، وخالفه الناس ، وذلك في قوله : (وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ) ، قال : التقدير يتربصن أزواجهم ، فقدر الضمير بمضاف إلى
ضمير الذين ، فحصل به الربط ، كذلك قدر الزمخشري (مِنْ ذلِكُمْ) : من أفعاله المضاف إلى الضمير العائد على المبتدأ. وقال
الزمخشري أيضا : هل من شركائكم الذين اتخذتموهم أندادا له من الأصنام وغيرها من
يفعل شيئا قط من تلك الأفعال ، حتى يصح ما ذهبتم إليه؟ فاستعمل قط في غير موضعها ،
__________________
لأنها ظرف للماضي
، وهنا جعلها معمولة ليفعل. وقال الزمخشري أيضا : ومن الأولى والثانية ، كل واحدة
مستقبلة تأكيد لتعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم ؛ فمن الأولى للتبعيض ، والجار
والمجرور خبر المبتدأ ؛ ومن يفعل هو المبتدأ ، ومن الثانية في موضع الحال من شيء ،
لأنه نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال ؛ ومن الثالثة زائدة لانسحاب الاستفهام
الذي معناه النفي على الكلام ، التقدير : من يفعل شيئا من ذلكم ، أي من تلك
الأفعال.
وقرأ الجمهور : (يُشْرِكُونَ) ، بياء الغيبة ؛ والأعمش ، وابن وثاب : بتاء الخطاب ،
والظاهر مراد ظاهر البر والبحر. وقال الحسن : وظهور الفساد فيهما بارتفاع البركات
، ونزول رزايا ، وحدوث فتن ، وتقلب عدو كافر ، وهذه الثلاثة توجد في البر والبحر.
وقال ابن عباس : (الْفَسادُ فِي
الْبَرِّ) ، القطاع فتسده. وقال مجاهد : (فِي الْبَرِّ) ، بقتل أحد بني آدم لأخيه ، وفي البحر : بأخذ السفن غصبا ،
وعنه أيضا : البر : البلاد البعيدة من البحر ، والبحر : السواحل والجزر التي على
ضفة البحر والأنهار. وقال قتادة : البر : الفيافي ومواضع القبائل وأهل الصحارى
والعمور ، والبحر : المدن ، جمع بحرة ، ومنه : ولقد أجمع أهل هذه البحيرة ليتوجوه
، يعني قول سعد بن عبادة في عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، ويؤيد هذا قراءة عكرمة.
والبحور بالجمع ، ورويت عن ابن عباس ، وكان قد ظهر الفساد برا وبحرا وقت بعثة رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، وكان الظلم عم الأرض ، فأظهر الله به الدين ، وأزال
الفساد ، وأخمده صلىاللهعليهوسلم. وقال النحاس : فيه قولان ، أحدهما : ظهر الجدب في البر في
البوادي وقراها والبحر ، أي في مدن البحر ، مثل : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) أي ظهر قلة العشب ، وغلا السعر. والثاني : ظهرت المعاصي من
قطع السبيل والظلم ، فهذا هو الفساد على الحقيقة ، والأول مجاز ، وقيل : إذا قل
المطر قل الغوص ، وأحنق الصياد وعميت دواب البحر. وقال ابن عباس : إذا مطرت تفتحت
الأصداف في البحر ، فما وقع فيها من السماء فهو لؤلؤ.
(بِما كَسَبَتْ
أَيْدِي النَّاسِ) : أي بسبب معاصيهم وذنوبهم. (لِيُذِيقَهُمْ) : أي أنه تعالى أفسد أسباب دنياهم ومحقهم ، ليذيقهم وبال
بعض أعمالهم في الدنيا ، قبل أن يعاقبهم بها جميعا في الآخرة. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عما هم فيه. وقال ابن عطية : (بِما كَسَبَتْ) : جزاء ما كسبت ، ويجوز أن يتعلق الباء بظهر ، أي بكسبهم
المعاصي في البر والبحر ، وهو
__________________
نفس الفساد
الظاهر. وقرأ السلمي ، والأعرج ، وأبو حيوة ، وسلام ، وسهل ، وروح ، وابن حسان ،
وقنبل من طريق ابن مجاهد ، وابن الصباح ، وأبو الفضل الواسطي عنه ، ومحبوب عن أبي
عمرو : لنذيقهم ، بالنون ؛ والجمهور : بالياء ، ثم أمرهم بالمسير في الأرض ،
فينظروا كيف أهلك الأمم بسبب معاصيهم وإشراكهم ، وذلك تنبيه لقريش وأمر لهم
بالاعتبار بمن سلف من الأمم ، قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم. (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) : أهلكهم كلهم بسبب الشرك ، وقوم بسبب المعاصي ، لأنه
تعالى يهلك بالمعاصي ، كما يهلك بالشرك ، كأصحاب السبت. أو أهلكهم كلهم ، المشرك
والمؤمن ، كقوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً
لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) ، وأهلكهم كلهم ، وهم كفار ، فأكثرهم مشركون ، وبعضهم
معطل. وحين ذكر امتنانه قاله : (اللهُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ) ، فذكر الوجود ثم البقاء بسبب الرزق. وحين ذكر خذلانهم
بالطغيان ، بسبب البقاء بإظهار الفساد ، ثم بسبب الوجود بالإهلاك. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) : يوم القيامة ، وفيه تحذير يعم الناس ، (لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) ، المرد : مصدر رد ، ومن الله : يحتمل أن يتعلق بيأتي ، أي
من قبل أن يأتي من الله يوم لا يرده أحد حتى لا يأتي لقوله : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها) ، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف يدل عليه مرد ، أي لا يرده هو
بعد أن يجيء به ، ولا رد له من جهته. (يَوْمَئِذٍ) : أي يوم إذ يأتي ذلك اليوم. (يَصَّدَّعُونَ) : يتفرقون ، فريق في الجنة ، وفريق في السعير. يقال : تصدع
القوم إذا تفرقوا ، ومنه الصداع ، لأنه يفرق شعب الرأس ، وقال الشاعر :
وكنا كندماني
جذيمة حقبة
|
|
من الدهر حتى
قيل لن يتصدعا
|
ثم ذكر حالتي
المتفرقين : (مَنْ كَفَرَ
فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) : أي جزاء كفره ، وعبر عن حالة الكافر بعليه ، وهي تدل على
الفعل والمشقة ، وعن حال المؤمن بقوله : (فَلِأَنْفُسِهِمْ) ، باللام التي هي لام الملك. و (يَمْهَدُونَ) : يوطئون ، وهي استعارة من الفرش ، وعبارة عن كونهم يفعلون
في الدنيا ما يلقون به ، ما تقر به أعينهم وتسر به أنفسهم في الجنة. وقال مجاهد : هو
التمهيد للقبر. وقال الزمخشري : وتقديم الظرف في الموضعين لدلالة على أن ضرر الكفر
لا يعود إلا على الكافر لا يتعداه ، ومنفعة الإيمان والعمل الصالح ترجع إلى المؤمن
لا تتجاوزه. انتهى. وهو على طريقته في دعواه أن تقديم المفعول وما جرى مجراه يدل
__________________
على الاختصاص ،
وأما على مذهبنا فيدل على الاهتمام ، وأما ما يدعيه من الاختصاص فمفهوم من آي
كثيرة في القرآن منها : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ
نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) . واللام في (لِيَجْزِيَ) ، قال الزمخشري : متعلق بيمهدون ، تعليل له وتكرير (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ، وترك الضمير إلى الصريح لتقديره أنه لا يفلح عنده إلا
المؤمن الصالح. وقوله : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ
الْكافِرِينَ) ، تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس. وقال ابن عطية :
ليجزي متعلق بيصدعون ، ويجوز أن تكون متعلقة بمحذوف تقديره ذلك ليجزي ، وتكون الإشارة
إلى ما تقرر من قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ) ، (وَمَنْ عَمِلَ
صالِحاً). انتهى. ويكون قسم (الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) على هذين التقديرين اللذين ذكرهما ابن عطية محذوفا تقديره
: كأنه قال : والكافرون بعدله ، ودل على حذف هذا القسيم قوله : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ). ومعنى نفي الحب هنا : أنه لا تظهر عليهم أمارات رحمته ،
ولا يرضى الكفر لهم دينا. وقال الزمخشري : (مِنْ فَضْلِهِ) : بما تفضل عليهم بعد توفية الواجب من الثواب ، وهذا يشبه
الكناية ، لأن الفضل تبع للثواب ، فلا يكون إلا بعد حصول ما هو تبع له ، أو أراد
من عطائه ، وهو ثوابه ، لأن الفضول والفواضل هي الأعطية عند العرب.
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ
الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ،
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا
نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ، اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً
فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ
يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ ، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ
قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ، فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا
مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ، فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ
الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ، وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ
عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ
مُسْلِمُونَ).
لما ذكر تعالى
ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك ، ذكر ظهور الصلاح. والكريم لا يذكر لإحسانه عوضا
، ويذكر لعقابه سببا لئلا يتوهم به الظلم ؛ فذكر من أعلام قدرة إرسال الرياح
مبشرات بالمطر ، لأنها متقدمة. والمبشرات : رياح الرحمة ، الجنوب
__________________
والشمال والصبا ،
وأما الدبور ، فريح العذاب ، وليس تبشيرها مقتصرا به على المطر ، بل لها تبشيرات
بسبب السفن والسير بها إلى مقاصد أهلها ، وكأنه بدأ أولا بشيء عام ، وهو التبشير.
وقرأ الأعمش : الريح ، مفردا ، وأراد معنى الجمع ، ولذلك قرأ : (مُبَشِّراتٍ). ثم ذكر من أعظم تباشيرها إذاقة الرحمة ، وهي نزول المطر ،
ويتبعه حصول الخصب ، والريح الذي معه الهبوب ، وإزالة العفونة من الهواء ، وتذرية
الحبوب ، وغير ذلك. (وَلِيُذِيقَكُمْ) : عطف على معنى (مُبَشِّراتٍ) ، فالعامل أن (يُرْسِلَ) ، ويكون عطفا على التوهم ، كأنه قيل : ليبشروكم ، والحال
والصفة قد يجيئان ، وفيهما معنى التعليل. تقول : أهن زيد أسيأ وأكرم زيدا العالم ،
تريد لإساءته ولعلمه. وقيل : ما يتعلق به اللام محذوف ، أي ولكنا أرسلناها. وقيل :
الواو في وليذيقكم زائدة. و (بِأَمْرِهِ) : أي بأمر الله ، يعني أن جريانها ، لما كان مسندا إليها ،
أخبر أنه بأمره تعالى. (مِنْ فَضْلِهِ) : مما يهيء لكم من الريح في التجارات في البحر ، ومن غنائم
أهل الشرك. ثم بين لرسوله بأن ضرب له مثل من أرسل من الأنبياء ، ولما كان تعالى
بين الأصلين : المبدأ والمعاد ، بين ذكر الأصل الثالث ، وهو النبوّة ؛ وفي الكلام
حذف تقديره : وآمن به بعض وكذب بعض ، (فَانْتَقَمْنا مِنَ
الَّذِينَ أَجْرَمُوا).
وفي قوله : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ
الْمُؤْمِنِينَ) : تبشير للرسول وأمته بالنصر والظفر ، إذ أخبر أن المؤمنين
بأولئك المؤمنين نصروا ، وفي لفظ حقا مبالغة في التحتم ، وتكريم للمؤمنين ، وإظهار
لفضيلة سابقة الإيمان ، حيث جعلهم مستحقين النصر والظفر. والظاهر أن (حَقًّا) خبر كان ، و (نَصْرُ
الْمُؤْمِنِينَ) الاسم ، وأخر لكون ما تعلق به فاصلة للاهتمام بالجزاء ، إذ
هو محط الفائدة. وقال ابن عطية : وقف بعض القراء على حقا وجعله من الكلام المتقدم
، ثم استأنف جملة من قوله : (عَلَيْنا نَصْرُ
الْمُؤْمِنِينَ) ، وهذا قول ضعيف ، لأنه لم يدر قدر ما عرضه في نظم الآية.
وقال الزمخشري : وقد يوقف على (حَقًّا) ، ومعناه : وكان الانتقام منهم حقا ، ثم يبتدأ علينا (نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ، انتهى. وفي الوقف على (وَكانَ حَقًّا) بيان أنه لم يكن الانتقام ظلما ، بل عدلا ، لأنه لم يكن
إلا بعد كون بقائهم غير مفيد إلّا زيادة الإثم وولادة الفاجر الكافر ، فكان عدمهم
خيرا من وجودهم الخبيث.
(اللهُ الَّذِي
يُرْسِلُ الرِّياحَ) ، هذا متعلق بقوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) ، والجملة التي بينهما اعتراض ، جاءت تأنيسا للرسول وتسلية
ووعدا بالنصر ووعيدا لأهل الكفر ، وفي إرسالها قدرة وحكمة. أما القدرة ، فإن
الهواء اللطيف الذي يسبقه
البرق بحيث يقلع
الشجر ويهدم البناء ، وهو ليس بذاته يفعل ذلك ، بل بفاعل مختار. وأما الحكمة ،
ففيما يفضي إليه نفس الهبوب من إثارة السحب ، وإخراج الماء منه ، وإنبات الزرع ،
ودر الضرع ، واختصاصه بناس دون ناس ؛ وهذه حكمة بالغة معروفة بالمشيئة والإثارة ،
تحريكها وتسييرها. والبسط : نشرها في الآفاق ، والكسف : القطع. وتقدم الكلام على
قوله : (فَتَرَى الْوَدْقَ
يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) ، وذكر الخلاف في (كِسَفاً) وحاله من جهة القراء. والضمير في : (مِنْ خِلالِهِ) ، الظاهر أنه عائد على السحاب ، إذ هو المحدث عنه ، وذكر
الضمير لأن السحاب اسم جنس يجوز تذكيره وتأنيثه. قيل : ويحتمل أن يعود على (كِسَفاً) في قراءة من سكن العين ، والمراد بالسماء : سمت السماء ،
كقوله : (وَفَرْعُها فِي
السَّماءِ) . (فَإِذا أَصابَ بِهِ
مَنْ يَشاءُ) : أي أرض من يشاء إصابتها ، فاجأهم الاستبشار ، ولم يتأخر
سرورهم. وقال الأخفش : (مِنْ قَبْلِهِ) تأكيد لقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ
يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ).
وقال ابن عطية :
أفاد الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار ، وذلك أن قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) يحتمل الفسحة في الزمان ، أي من قبل أن ينزل بكثير ،
كالأيام ونحوه ، فجاء قوله : (مِنْ قَبْلِ) بمعنى : أن ذلك متصل بالمطر ، فهو تأكيد مقيد. وقال
الزمخشري : وبمعنى التوكيد ، فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد ،
فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم ، فكان الاستبشار على قدر اهتمامهم بذلك. انتهى. وما
ذكره ابن عطية والزمخشري من فائدة التأكيد في قوله : (مِنْ قَبْلِهِ) غير ظاهر ، وإنما هو عند ذكره لمجرد التوكيد ، ويفيد رفع
المجاز فقط. وقال قطرب : التقدير : وإن كانوا من قبل التنزيل ، من قبل المطر.
انتهى. وصار من قبل إنزال المطر : من قبل المطر ، وهذا تركيب لا يسوغ في كلام فصيح
، فضلا عن القرآن. وقيل : التقدير : من قبل تنزيل الغيث : من قبل أن يزرعوا ، ودل
المطر على الزرع ، لأنه يخرج بسبب المطر ؛ ودل على ذلك قوله : (فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا) ، يعني الزرع. انتهى. وهذا لا يستقيم ، لأن (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) متعلق بقوله : (لَمُبْلِسِينَ). ولا يمكن من قبل الزرع أن يتعلق بمبلسين ، لأن حرفي جر لا
يتعلقان بعامل واحد إلا إن كان بواسطة حرف العطف ، أو على جهة البدل. وليس التركيب
هنا ومن قبله بحرف العطف ، ولا يصح فيه البدل ، إذ إنزال الغيث ليس هو الزرع ، ولا
الزرع بعضه. وقد يتخيل فيه بدل الاشتمال بتكلف. أما لاشتمال
__________________
الإنزال على الزرع
، بمعنى أن الزرع يكون ناشئا عن الإنزال ، فكأن الإنزال مشتمل عليه ، وهذا على
مذهب من يقول : الأول يشتمل على الثاني. وقال المبرد : الثاني السحاب ، ويحتاج
أيضا إلى حرف عطف حتى يمكن تعلق الحرفين بمبلسين. وقال علي بن عيسى : من قبل
الإرسال. وقال الكرماني : من قبل الاستبشار ، لأنه قرنه بالإبلاس ، ولأنه منّ
عليهم بالاستبشار. انتهى. ويحتاج قوله وقول ابن عيسى إلى حرف العطف ، فإن ادعى في
قوله من جعل الضمير في من قبله عائد إلى غير إنزال الغيث أن حرف العطف محذوف ،
أمكن ، لكن في حذف حرف العطف خلاف ، أينقاس أم لا ينقاس؟ أما حذفه مع الجمل فجائز
، وأما وحده فهو الذي فيه الخلاف.
وقرأ الحرميان ،
وأبو عمرو ، وأبو بكر : إلى أثر ، بالإفراد ؛ وباقي السبعة : بالجمع ؛ وسلام :
بكسر الهمزة وإسكان الثاء. وقرأ الجحدري ، وابن السميفع ، وأبو حيوة : تحيي ،
بالتاء للتأنيث ، والضمير عائد على الرحمة. وقال صاحب اللوامح : وإنما أنث الأثر
لاتصاله بالرحمة إضافة إليها ، فاكتسب التأنيث منها ، ومثل ذلك لا يجوز إلا إذا
كان المضاف بمعنى المضاف إليه ، أو من سببه. وأما إذا كان أجنبيا ، فلا يجوز بحال.
انتهى. وقرأ زيد بن علي : نحيي ، بنون العظمة ؛ والجمهور : (يُحْيِ) ، بياء الغيبة ، والضمير لله ، ويدل عليه قراءة (آثارِ) بالجمع ، وقيل : يعود على أثر في قراءة من أفرد. وقال ابن
جني : (كَيْفَ يُحْيِ) جملة منصوبة الموضع على الحال حملا على المعنى ، كأنه قال
: محييا ، وهذا فيه نظر. (إِنَّ ذلِكَ) : أي القادر على إحياء الأرض بعد موتها ، هو الذي يحيي
الناس بعد موتهم. وهذا الإخبار على جهة القياس في البعث ، والبعث من الأشياء التي
هو قادر عليها تعالى.
(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا
رِيحاً) : أخبر تعالى عن حال تقلب ابن آدم ، أنه بعد الاستبشار
بالمطر ، بعث الله ريحا ، فاصفر بها النبات. لظلوا يكفرون قلقا منهم ، والريح التي
تصفر النبات صر حرور ، وهما مما يصبح به النبات هشيما ، والحرور جنب الشمال إذا
عصفت. والضمير في (فَرَأَوْهُ) عائد على ما يفهم من سياق الكلام ، وهو النبات. وقيل : إلى
الأثر ، لأن الرحمة هي الغيث ، وأثرها هو النبات. ومن قرأ : آثار ، بالجمع ، رجع
الضمير إلى آثار الرحمة ، وهو النبات ، واسم النبات يقع على القليل والكثير ، لأنه
مصدر سمي به ما ينبت. وقال ابن عيسى : الضمير في (فَرَأَوْهُ) عائد على السحاب ، لأن السحاب إذا اصفر لم يمطر ؛ وقيل :
على الريح ، وهذان قولان ضعيفان. وقرأ صباح بن حبيش : مصفارا ، بألف
بعد الفاء. واللام
في (وَلَئِنْ) مؤذنة بقسم محذوف وجوابه لظلوا ، وهو مما وضع فيه الماضي
موضع المستقبل اتساعا تقديره : ليظلن ، ونظيره قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) : أي ما يتبعون ذمهم تعالى في جميع أحوالهم ، كان عليهم أن
يتوكلوا على فضل الله فقنطوا ، وإن شكروا نعمته فلم يزيدوا على الفرح والاستبشار ،
وإن تصبروا على بلائه كفروا. والضمير في (مِنْ بَعْدِهِ) عائد على الاصفرار ، أي من بعد اصفرار النبات تجحدون
نعمته. وتقدم الكلام على قوله : (فَإِنَّكَ لا
تُسْمِعُ الْمَوْتى) إلى قوله : (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) في أواخر النمل ، إلا أن هنا الربط بالفاء في قوله : (فَإِنَّكَ).
(اللهُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ
بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ
الْقَدِيرُ ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا
غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ ، وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا
يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ، فَيَوْمَئِذٍ لا
يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ، وَلَقَدْ
ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ
بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ،
كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ، فَاصْبِرْ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ).
لما ذكر دلائل
الآفاق ، ذكر شيئا من دلائل الأنفس ، وجعل الخلق من ضعف ، لكثرة ضعف الإنسان أول
نشأته وطفوليته ، كقوله : (خُلِقَ الْإِنْسانُ
مِنْ عَجَلٍ) . والقوة التي تلت الضعف ، هي رعرعته ونماؤه وقوته إلى فصل
الاكتهال. والضعف الذي بعد القوة هو حال الشيخوخة والهرم. وقيل : (مِنْ ضَعْفٍ) : من النطفة ، كقوله : (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) . والترداد في هذه الهيئات شاهد بقدرة الصانع وعلمه. وقرأ
الجمهور : بضم الضاد في ضعف معا ؛ وعاصم وحمزة : بفتحها فيهما ، وهي قراءة عبد
الله وأبي رجاء. وروي عن أبي عبد الرحمن والجحدري والضحاك : الضم والفتح في
الثاني. وقرأ عيسى : بضمتين فيهما. والظاهر أن الضعف والقوة هما بالنسبة إلى ما
عدا البدن من ذلك ، وإن الضم والفتح بمعنى واحد في ضعف. وقال كثير من اللغويين :
الضم في البدن ، والفتح في العقل. (ما لَبِثُوا) : هو جواب ، وهو على المعنى ، إذ لو حكى قولهم ، كان يكون
__________________
التركيب : ما
لبثنا غير ساعة ، أي ما أقاموا تحت التراب غير ساعة ، وما لبثوا في الدنيا : استقلوها
لما عاينوا من الآخرة ، أو فيما بين فناء الدنيا إلى البعث ، وإخبارهم بذلك هو على
جهة التسور والتقول بغير علم ، أو على جهة النسيان ، أو الكذب. (يُؤْفَكُونَ) : أي يصرفون عن قول الحق والنطق بالصدق.
(الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ) : هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون. (فِي كِتابِ اللهِ) : فيما وعد به في كتابه من الحشر والبعث والعلم يعم
الإيمان وغيره ، ولكن نص على هذا الخاص تشريفا وتنبيها على محله من العلم. وقيل : (فِي كِتابِ اللهِ) : اللوح المحفوظ ، وقيل : في علمه ، وقيل : في حكمه. وقرأ
الحسن : البعث ، بفتح العين فيهما ، وقرئ : بكسرها ، وهو اسم ، والمفتوح مصدر.
وقال قتادة : هو على التقديم والتأخير ، تقديره : أوتوا العلم في كتاب الله
والإيمان. (لَقَدْ لَبِثْتُمْ) : وعلى هذا تكون في بمعنى الباء ، أي العلم بكتاب الله ،
ولعل هذا القول لا يصح عن قتادة ، فإن فيه تفكيكا للنظم لا يسوغ في كلام غير فصيح
، فكيف يسوغ في كلام الله؟ وكان قتادة موصوفا بعلم العربية ، فلا يصدر عنه مثل هذا
القول. والفاء في : (فَهذا يَوْمُ
الْبَعْثِ) عاطفة لهذه الجملة المقولة على الجملة التي قبلها ، وهي : (لَقَدْ لَبِثْتُمْ) ، اعتقبها في الذكر. قال الزمخشري : فإن قلت : ما هذه
الفاء ، وما حقيقتها؟ قلت : هي التي في قوله :
فقد جئنا خراسانا
وحقيقتها أنها
جواب شرط يدل عليه الكلام ، كأنه قال : إن صح ما قلتم من أن أقصى ما يراد بنا قلنا
القفول : قد جئنا خراسانا ، وإذا أمكن جعل الفاء عاطفة ، لم يتكلف إضمار شرط ،
وجعل الفاء جوابا لذلك الشرط المحذوف ، لا تعلمون لتفريطكم في طلب الحق واتباعه.
وقيل : لا تعلمون البعث ولا تعرفون به ، فصار مصيركم إلى النار ، فتطلبون التأخير.
(فَيَوْمَئِذٍ) : أي يوم إذ ، يقع ذلك من إقسام الكفار وقول أولي العلم
لهم. وقرأ الكوفيون : (لا يَنْفَعُ) ، بالياء هنا وفي الطول ، ووافقهم نافع في الطول ؛ وباقي
السبعة بتاء التأنيث. (وَلا هُمْ
يُسْتَعْتَبُونَ) ، قال الزمخشري : من قولك : استعتبني فلان فأعتبته : أي
استرضاني فأرضيته ، وذلك إذا كان جانيا عليه ، وحقيقته : أعتبته : أزلت عتبه. ألا
ترى إلى قوله :
غضبت تميم أن يقتل
عامر
|
|
يوم النثار
فأعتبوا بالصيلم
|
كيف جعلهم غضابا.
ثم قال : فأعتبوا : أي أزيل غضبهم ، والغضب في معنى العتب ، والمعنى : لا يقال لهم
أرضوا ربكم بتوبة وطاعة ، ومثله قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ لا
يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) . فإن قلت : كيف جعلوا غير مستعتبين في بعض الآيات ، وغير
معتبين في بعضها؟ وقوله : (وَإِنْ
يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) ؟ قلت : أما كونهم غير مستعتبين ، فهذا معناه ؛ وأما كونهم
غير معتبين ، فمعناه أنهم غير راضين بما هم فيه ؛ فشبهت حالهم بحال قوم جنى عليهم
، فهم عاتبون على الجاني ، غير راضين منه. فإن يستعتبوا الله : أي يسألوه إزالة ما
هم فيه ، فما هم من المجابين إلى إزالته. وقال ابن عطية : هذا إخبار عن هول يوم
القيامة ، وشدّة أحواله على الكفرة في أنهم لا ينفعهم الاعتذار ، ولا يعطون عتبى ،
وهو الرضا. ويستعتبون بمعنى : يعتبون ، كما تقول : يملك ويستملك.
والباب في استفعل
أنه طلب الشيء وليس هذا منه ، لأن المعنى لا يفسد إذا كان المفهوم منه ، ولا يطلب
منهم عتبى. انتهى. فيكون استفعل في هذا بمعنى الفعل المجرد ، وهو عتب ، أي هم من
الإهمال وعدم الالتفات إليهم بمنزلة من لا يؤهل للعتب. وقد قيل : لا يعاتبون على
سيئاتهم ، بل يعاقبون. وقيل : لا يطلب لهم العتبى. وقيل : لا يلتمس منهم عمل وطاعة
، ولكن ضربنا إشارة إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار. وقال
الزمخشري : وصفنا لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها ، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة
الشأن ، كصفة المبعوثين يوم القيامة ، وما يقال لهم ، وما لا يقع من اعتذارهم ،
ولا يسمع من استعتابهم ، ولكنهم لقسوة قلوبهم ومج أسماعهم حديث الآخرة ، إذا جئتهم
بآية من آيات القرآن قالوا : أجئتنا بزور باطل؟ انتهى. و (أَنْتُمْ) : خطاب للرسول
والمؤمنين ، أي : تبطلون في دعواكم الحشر والجزاء. وقال أبو عبد الله الرازي : وفي
توحيد الخطاب بقوله : (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ) ، والجمع في قوله : (إِنْ أَنْتُمْ) لطيفة ، وهي : أن الله عزوجل قال : (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ) بكل آية جاءت بها الرسل ، فيمكن أن يجاوبوه بقوله : أنتم
كلكم أيها المدعون الرسالة مبطلون.
(كَذلِكَ يَطْبَعُ
اللهُ) : أي مثل هذا الطبع يطبع الله ، أي يختم على قلوب الجهلة
الذين قد ختم الله عليهم الكفر في الأزل ، وأسند الطبع إلى ذاته تعالى ، إذ هو
فاعل ذلك ومقدره. وقال الزمخشري : ومعنى طبع الله : صنع الألطاف التي يشرح لها
الصدور حتى تقبل الحق ، ثم قال : فكأنه كذلك تصدأ القلوب وتقسو قلوب الجهلة حتى
يسموا المحقين
__________________
مبطلين ، وهم أعرف
خلق الله في تلك الصفة. انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال. ثم أمره تعالى بالصبر على
عداوتهم ، وقوّاه بتحقق الوعد أنه لا بد من إنجازه والوفاء به ، ونهاه عن الاهتزاز
بكلامهم والتحرك ، فإنهم لا يقين لهم ولا بصيرة. وقرأ ابن أبي إسحاق ، ويعقوب :
ولا يستحقنك : بحاء مهملة وقاف ، من الاستحقاق ؛ والجمهور : بخاء معجمة وفاء ، من
الاستخفاف ؛ وسكن النون ابن أبي عبلة ويعقوب ، والمعنى : لا يفتننك ويكونوا أحق بك
من المؤمنين.
سورة لقمان
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم
(١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ
يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (٥) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ
مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ
يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨)
خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ
السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ
تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ
ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ
فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ (١١) وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ
يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ
حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا
تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ
بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ
أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى
أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي
الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ
إِلَيَّ
مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يا بُنَيَّ إِنَّها
إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي
السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
(١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧)
وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ
لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ
إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ
سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ
نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ
عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما
أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ
الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ
إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى
اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا
مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ
(٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ
اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ
أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ
بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ
سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ
وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ
اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ
هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي
الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِكُلِّ صَبَّارٍ
شَكُورٍ
(٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ
بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا
رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ
هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ
الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ
عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ
وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ
تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)
لقمان : اسم علم ،
فإن كان أعجميا فمنعه من الصرف للعجمة والعلمية ، وإن كان عربيا فمنعه للعلمية
وزيادة الألف والنون ، ويكون مشتقا من اللقم مرتجلا ، إذ لا يعلم له وضع في
النكرات. صعر : مشدد العين ، لغة بني تميم. قال شاعرهم :
وكنا إذا الجبار
صعر خده
|
|
أقمنا له من
ميله فيقوم
|
فيقوم : أمر
بالاستقامة للقوافي في المخفوضة ، أي فيقوم إن قاله أبو عبيدة وإنشاد الطبري
فيقوما فعلا ماضيا خطأ ، وتصاعر لغة الحجاز ، ويقال : يصعر. قال الشاعر :
أقمنا له من خده
المتصعر
ويقال : أصعر خده.
قال الفضل : هو الميل ، وقال اليزيدي : هو التشدق في الكلام. وقال أبو عبيدة : أصل
هذا من الصعر ، داء يأخذ الإبل في رؤوسها وأعناقها ، فتلتوي منه أعناقها. القلم :
معروف. الختار : شديد الغدر ، ومنه قولهم :
إنك لا تمد إلينا
شبرا من غدر
|
|
إلا مددنا لك
باعا من ختر
|
وقال عمرو بن معدي
كرب :
وإنك لو رأيت
أبا عمير
|
|
ملأت يديك من
غدر وختر
|
وقال الأعشى :
فالأيلق الفرد
من تيماء منزله
|
|
حصن حصين وجار
غير ختار
|
(الم
، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ ، هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ،
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ
يُوقِنُونَ ، أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ
، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ، وَإِذا
تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي
أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ، خالِدِينَ فِيها وَعْدَ
اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ
تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها
مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ
كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ، هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ
دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
هذه السورة مكية ،
قال ابن عباس : إلا ثلاث آيات ، أولهنّ : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي
الْأَرْضِ). وقال قتادة : إلا آيتين ، أوّلهما : (وَلَوْ أَنَ) إلى آخر الآيتين ، وسبب نزولها أن قريشا سألت عن قصة لقمان
مع ابنه ، وعن بر والديه ، فنزلت. وقيل : نزلت بالمدينة إلا الآيات الثلاثة : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ) إلى آخرهنّ ، لما نزل (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ
الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) . وقول اليهود : إن الله أنزل التوراة على موسى وخلفها فينا
ومعنا ، فقال الرسول : «التوراة وما فيها من الأنباء قليل في علم الله» ، فنزل : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ
شَجَرَةٍ أَقْلامٌ). ومناسبتها لما قبلها أنه قال تعالى : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا
الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) ، فأشار إلى ذلك بقوله : (الم ، تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْحَكِيمِ) ؛ وكان في آخر تلك : (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ
بِآيَةٍ) ، وهنا : (وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً) ، وتلك إشارة إلى البعيد ، فاحتمل أن يكون ذلك لبعد غايته
وعلو شأنه.
و (آياتُ الْكِتابِ) : القرآن واللوح المحفوظ. ووصف الكتاب بالحكيم ، إما
لتضمنه للحكمة ، قيل : أو فعيل بمعنى المحكم ، وهذا يقل أن يكون فعيل بمعنى مفعل ،
ومنه عقدت العسل فهو عقيد ، أي معقد ، ويجوز أن يكون حكيم بمعنى حاكم. وقال
الزمخشري : الحكيم : ذو الحكمة ؛ أو وصف لصفة الله عزوجل على الإسناد المجازي ، ويجوز أن يكون الأصل الحكيم قابله ،
فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فبانقلابه مرفوعا بعد الجر استكن في الصفة
المشبهة. وقرأ الجمهور : (هُدىً وَرَحْمَةً) ، بالنصب على الحال من الآيات ، والعامل فيها ما في تلك من
معنى الإشارة ، قاله الزمخشري وغيره ، ويحتاج إلى نظر. وقرأ حمزة ، والأعمش ،
والزعفراني ، وطلحة ، وقنبل ، من طريق أبي الفضل الواسطي : بالرفع ، خبر مبتدأ
محذوف ، أو خبر بعد خبر ،
__________________
على مذهب من يجيز
ذلك. (لِلْمُحْسِنِينَ) : الذين يعملون الحسنات ، وهي التي ذكرها. كإقامة الصلاة ،
وإيتاء الزكاة ، والإيقان بالآخرة ، ونظيره قول أوس :
الألمعي الذي
يظن بك ال
|
|
ظن كأن قد رأى
وقد سمعا
|
حكي عن الأصمعي
أنه سئل عن الألمعي فأنشده ولم يزد ، وخص المحسنون ، لأنهم هم الذين انتفعوا به
ونظروه بعين الحقيقة. وقيل : الذين يعملون بالحسن من الأعمال ، وخص منهم القائمون
بهذه الثلاثة ، لفضل الاعتداد بها. ومن صفة الإحسان ما جاء في الحديث من أن
الإحسان : «أن تعبد الله كأنك تراه». وقيل : المحسنون : المؤمنون. وقال ابن سلام :
هم السعداء. وقال ابن شجرة : هم المنجحون. وقيل : الناجون ، وكرر الإشارة إليهم
تنبيها على عظم قدرهم. ولما ذكر من صفات القرآن الحكمة ، وأنه هدى ورحمة ، وأن
متبعه فائز ، ذكر حال من يطلب من بدل الحكمة باللهو ، وذكر مبالغته في ارتكابه حتى
جعله مشتريا له وباذلا فيه رأس عقله ، وذكر علته وأنها الإضلال عن طريق الله.
ونزلت هذه الآية
في النضر بن الحارث ، كان يتجر إلى فارس ، ويشتري كتب الأعاجم ، فيحدث قريشان
بحديث رستم واسفندار ويقول : أنا أحسن حديثا. وقيل : في ابن خطل ، اشترى جارية
تغني بالسب ، وبهذا فسر (لَهْوَ الْحَدِيثِ) : المعازف والغناء. وفي الحديث من رواية أبي أمامة ، أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «شراء المغنيات وبيعهم حرام» ، وقرأ هذه الآية. وقال
الضحاك : (لَهْوَ الْحَدِيثِ) : الشرك. وقال مجاهد ، وابن جريج : الطبل ، وهذا ضرب من
آلة الغناء. وقال عطاء : الترهات. وقيل : السحر. وقيل : ما كان يشتغل به أهل
الجاهلية من السباب. وقال أيضا : ما شغلك عن عبادة الله ، وذكره من السحر. والأضاحيك
والخرافات والغناء. وقال سهل : الجدال في الدين والخوض في الباطل ، والظاهر أن
الشراء هنا مجاز عن اختيار الشيء ، وصرف عقله بكليته إليه. فإن أريد به ما يقع
عليه الشراء ، كالجواري المغنيات عند من لا يرى ذلك ، وككتب الأعاجم التي اشتراها
النضر ؛ فالشراء حقيقة ويكون على حذف ، أي من يشتري ذات لهو الحديث. وإضافة لهو
إلى الحديث هي لمعنى من ، لأن اللهو قد يكون من حديث ، فهو كباب ساج ، والمراد
بالحديث : الحديث المنكر. وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى من
التبعيضية ، كأنه قال : ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه. انتهى.
وقرأ ابن كثير ،
وأبو عمرو : ليضل بفتح الياء ، وباقي السبعة : بضمها. قال
الزمخشري : فإن
قلت : القراءة بالرفع بينة ، لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو أن يصد الناس عن
الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه ، فما معنى القراءة بالفتح؟ قلت :
معنيان ، أحدهما : ليثبت على ضلاله الذي كان عليه ، ولا يصدف عنه ، ويزيد فيه
ويمده بأن المخذول كان شديد الشكيمة في عداوة الدين وصد الناس عنه. والثاني : أن
يوضع ليضل موضع ليضل من قبل أن من أضل كان ضالا لا محالة ، فدل بالرديف على
المردوف. فإن قلت : قوله بغير علم ما معناه؟ قلت : لما جعله مشتريا لهو الحديث
بالقرآن قال : يشتري بغير علم بالتجارة وبغير بصيرة بها ، حيث يستبدل الضلال
بالهدى والباطل بالحق ، ونحوه قوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ
تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) ، أي وما كانوا مهتدين للتجارة وبصراء بها. انتهى. و (سَبِيلِ اللهِ) : الإسلام أو القرآن ، قولان. قال ابن عطية : والذي يترجح
أن الآية نزلت في لهو الحديث مضافا إلى الكفر ، فلذلك اشتدت ألفاظ الآية بقوله : (لِيُضِلَ) إلى آخره. وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص : (وَيَتَّخِذَها) ، بالنصب عطفا على (لِيُضِلَ) ، تشريكا في الصلة ؛ وباقي السبعة : بالرفع ، عطفا على (يَشْتَرِي) ، تشريكا في الصلة. والظاهر عود ضمير (وَيَتَّخِذَها) على السبيل ، كقوله : (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) . قيل : ويحتمل أن يعود على (آياتُ الْكِتابِ). وقال تعالى : (وَلا تَتَّخِذُوا
آياتِ اللهِ هُزُواً) . قيل : ويحتمل أن يعود على الأحاديث ، لأن الحديث اسم جنس
بمعنى الأحاديث. وقال صاحب التحرير : ويظهر لي أنه أراد بلهو الحديث : ما كانوا
يظهرونه من الأحاديث في تقوية دينهم ، والأمر بالدوام عليه ، وتفسير صفة الرسول ،
وأن التوراة تدل على أنه من ولد إسحاق ، يقصدون صد أتباعهم عن الإيمان ، وأطلق اسم
الشراء لكونهم يأخذون على ذلك الرشا والجعائل من ملوكهم ، ويؤيده (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : أي دينه. انتهى ، وفيه بعض حذف وتلخيص.
(وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِ) : بدأ أولا بالحمل على اللفظ ، فأفرد في قوله : (مَنْ يَشْتَرِي) ، و (لِيُضِلَ) ، و (يَتَّخِذَها) ، ثم جمع على الضمير في قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ) ، ثم حمل على اللفظ فأفرد في قوله : (وَإِذا تُتْلى) إلى آخره. ومن في : (مَنْ يَشْتَرِي) موصولة ، ونظيره في من الشرطية قوله : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) ، فما بعده أفرد ثم قال : (خالِدِينَ) ، فجمع ثم قال : (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ
لَهُ رِزْقاً) ، فأفرد ، ولا نعلم جاء في القرآن
__________________
ما حمل على اللفظ
، ثم على المعنى ، ثم على اللفظ ، غير هاتين الآيتين. والنحويون يذكرون (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) الآية فقط ، ثم على المعنى ، ثم على اللفظ ، ويستدلون بها
على أن هذا الحكم جار في من الموصولة ونظيرها مما لم يثن ولم يجمع من الموصولات. وتضمنت
هذه الآية ذم المشتري من وجوه التولية عن الحكمة ، ثم الاستكبار ، ثم عدم الالتفات
إلى سماعها ، كأنه غافل عنها ، ثم الإيغال في الإعراض بكون أذنيه كأن فيهما صمما
يصده عن السماع. و (كَأَنْ لَمْ
يَسْمَعْها) : حال من الضمير في (مُسْتَكْبِراً) ، أي مشبها حال من لم يسمعها ، لكونه لا يجعل لها بالا ولا
يلتفت إليها ؛ وكأن هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن واجب الحذف. و (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) : حال من لم يسمعها. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكونا
استئنافين. انتهى ، يعني الجملتين التشبيهيتين.
ولما ذكر ما وعد
به الكفار من العذاب الأليم ، ذكر ما وعد به المؤمنين. وقرأ زيد بن علي : خالدون ،
بالواو ؛ والجمهور : بالياء. وانتصب (وَعْدَ اللهِ) على أنه مصدر مؤكد لنفسه ، و (حَقًّا) على المصدر المؤكد لغيره ، لأن قوله : (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) ، والعامل فيها متغاير ، فوعد الله منصوب ، أي يوعد الله
وعده ، وحقا منصوب بأحق ذلك حقا. (خَلَقَ السَّماواتِ) إلى (فَأَنْبَتْنا فِيها) ، تقدم الكلام على ذلك. ومعنى (كَرِيمٍ) : مدحته بكرم جوهره ونفاسته وحسن منظره ، وما تقضي له
النفوس بأنه أفضل من غيره حتى استحق الكرم ، فيخص لفظ الأزواج ما كان نفيسا
مستحسنا من جهة ، أو مدحته بإتقان صفته وظهور حسن الرتبة والتحكم للصنع فيه ، فيعم
جميع الأزواج ، وهو الأنواع. (هذا خَلْقُ اللهِ) : إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته ، وبخ بذلك الكفار وأظهر
حجته. والخلق بمعنى المخلوق ، كقولهم : درهم ضرب الأمير ، أي مضروبه. ثم سألهم على
جهة التهكم بهم أن يورده. وأما خلقته آلهتهم لما ذكر مخلوقاته ، فكيف عبدوها من
دونه؟ ويجوز في ماذا أن تكون كلها موصولة بمعنى الذي ، وتكون مفعولا ثانيا لأروني.
واستعمال ماذا كلها موصولا قليل ، وقد ذكره سيبويه. ويجوز أن تكون ما استفهامية في
موضع رفع على الابتداء ، وذا موصولة بمعنى الذي ، وهو خبر عن ما ، والجملة في موضع
نصب بأروني ، وأروني معلقة عن العمل لفظا لأجل الاستفهام. ثم أضرب عن توبيخهم
وتبكيتهم إلى التسجيل عليهم بأنهم في حيرة واضحة لمن يتدبر ، لأن من عبد صنما وترك
خالقه جدير بأن يكون في حيرة وتيه لا يقلع عنه.
(وَلَقَدْ آتَيْنا
لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ، وَإِذْ قالَ لُقْمانُ
لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ
لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ، وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ
إِلَيَّ الْمَصِيرُ ، وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ
مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ ، يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ
فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ
اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ، يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ
وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ
الْأُمُورِ ، وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً
إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ
وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ).
اختلف في لقمان ، أكان
حرا أم عبدا؟ فإذا قلنا : كان حرا ، فقيل : هو ابن باعورا. قال وهب : ابن أخت أيوب
عليهالسلام. وقال مقاتل : ابن خالته. وقيل : كان من أولاد آزر ، وعاش
ألف سنة ، وأدرك داود عليهالسلام ، وأخذ منه العلم ، وكان يفتي قبل مبعث داود ، فلما بعث
داود ، قطع الفتوى ، فقيل له : لم؟ فقال : ألا أكتفي إذا كفيت؟ وكان قاضيا في بني
إسرائيل. وقال الواقدي : كان قاضيا في بني إسرائيل ، وزمانه ما بين عيسى ومحمد ، عليهماالسلام ، والأكثرون على أنه لم يكن نبيا. وقال عكرمة ، والشعبي :
كان نبيا. وإذا قلنا : كان عبدا ، اختلف في جنسه ، فقال ابن عباس ، وابن المسيب ،
ومجاهد : كان نوبيا مشقق الرجلين ذا مشافر. وقال الفراء وغيره : كان حبشيا مجدوع
الأنف ذا مشفر. واختلف فيما كان يعانيه من الأشغال ، فقال خالد بن الربيع : كان
نجارا ، وفي معاني الزجاج : كان نجادا ، بالدال. وقال ابن المسيب : كان خياطا.
وقال ابن عباس : كان راعيا. وقيل : كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة. وهذا الاضطراب
في كونه حرا أو عبدا ، وفي جنسه ، وفيما كان يعانيه ، يوجب أن لا يكتب شيء من ذلك
، ولا ينقل. لكن المفسرون مولعون بنقل المضطربات حشوا وتكثيرا ، والصواب تركه.
وحكمة لقمان
مأثورة كثيرة ، منها : قيل له : أي الناس شر؟ قال : الذي لا يبالي أن يراه الناس
مسيئا. وقال له داود ، عليهالسلام ، يوما : كيف أصبحت؟ قال : أصبحت في يد غيري ، فتفكر داود
فيه ، فصعق صعقة. وقال وهب بن منبه : قرأت في حكم لقمان أكثر من عشرة آلاف. و (الْحِكْمَةَ) : المنطق الذي يتعظ به ويتنبه به ، ويتناقله الناس لذلك. (أَنِ اشْكُرْ) ، قال الزمخشري : أن هي المفسرة ، لأن إيتاء الحكمة في
معنى القول ، وقد نبه
سبحانه على أن
الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي هو العمل بهما ، أو عبادة الله والشكر له ، حيث فسر
إيتاء الحكمة بالبعث على الشك. وقال الزجاج : المعنى : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) لأن يشكر الله ، فجعلها مصدرية ، لا تفسيرية. وحكى سيبويه
: كتبت إليه بأن قم. (فَإِنَّما يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ) : أي ثواب الشكر لا يحصل إلا للشاكرين ، إذ هو تعالى غني
عن الشكر ، فشكر الشاكر لا ينفعه ، وكفر من كفر لا يضره. و (حَمِيدٌ) : مستحق الحمد لذاته وصفاته.
(وَإِذْ قالَ) : أي واذكر إذ ، وقيل : يحتمل أن يكون التقدير : وآتيناه
الحكمة ، إذ قال ، واختصر لدلالة المتقدم عليه. وابنه بارّ ، أي : أو أنعم ، أو
اشكر ، أو شاكر ، أقوال. (وَهُوَ يَعِظُهُ) : جملة حالية. قيل : كان ابنه وامرأته كافرين ، فما زال
يعظهما حتى أسلما. والظاهر أن قوله : (إِنَّ الشِّرْكَ
لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) من كلام لقمان. وقيل : هو خبر من الله ، منقطع عن كلام
لقمان ، متصل به في تأكيد المعنى ؛ وفي صحيح مسلم ما ظاهره أنه من كلام لقمان.
وقرأ البزي : (يا بُنَيَ) ، بالسكون ، و (يا بُنَيَّ إِنَّها) : بكسر الياء ، و (يا بُنَيَّ أَقِمِ) : بفتحها. وقيل : بالسكون في الأولى والثانية ، والكسر في
الوسطى ؛ وحفص والمفضل عن عاصم : بالفتح في الثلاثة على تقدير يا بنيا ، والاجتزاء
بالفتحة عن الألف. وقرأ باقي السبعة : بالكسر في الثلاثة.
(وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) : لما بين لقمان لابنه أن الشرك ظلم ونهاه عنه ، كان ذلك
حثا على طاعة الله ، ثم بين أن الطاعة تكون للأبوين ، وبين السبب في ذلك ، فهو من
كلام لقمان مما وصى به ابنه ، أخبر الله عنه بذلك. وقيل : هو من كلام الله ، قاله
للقمان ، أي قلنا له اشكر. وقلنا له : (وَوَصَّيْنَا). وقيل : هذه الآية اعتراض بيّن أثناء وصيته للقمان ، وفيها
تشديد وتوكيد لاتباع الولد والده ، وامتثال أمره في طاعة الله تعالى. وقال القرطبي
: والصحيح أن هذه الآية وآية العنكبوت نزلتا في سعد بن أبي وقاص ، وعليه جماعة من
المفسرين. ولما خص الأم بالمشقات من الحمل والنفاس والرضاع والتربية ، نبه على
السبب الموجب للإيصاء ، ولذلك جاء في الحديث الأمر ببرّ الأم ثلاث مرات ، ثم ذكر
الأب ، فجعل له مرة الربع من المبرة.
(وَهْناً عَلى وَهْنٍ) ، قال ابن عباس : شدة بعد شدة ، وخلقا بعد خلق. وقال
الضحاك : ضعفا بعد ضعف. وقال قتادة : جهدا على جهد ، يعني : ضعف الحمل ، وضعف
الطلق ، وضعف النفاس ، وانتصب على هذه الأقوال على الحال. وقيل : (وَهْناً
عَلى
وَهْنٍ) : نطفة ثم علقة ، إلى آخر النشأة ، فعلى هذا يكون حالا من
الضمير المنصوب في حملته ، وهو الولد. وقرأ عيسى الثقفي ، وأبو عمرو في رواية :
وهنا على وهن ، بفتح الهاء فيهما ، فاحتمل أن يكون كالشعر والشعر ، واحتمل أن يكون
مصدر وهن بكسر الهاء يوهن وهنا ، بفتحها في المصدر قياسا. وقرأ الجمهور : بسكون
الهاء فيهما. وقرأوا : (وَفِصالُهُ). وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، وقتادة ، والجحدري ، ويعقوب :
وفصله ، ومعناه الفطام ، أي في تمام عامين ، عبر عنه بنهايته ، وأجمعوا على اعتبار
العامين في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات ، وأما في تحريم اللبن في الرضاع
فخلاف مذكور في الفقه. و (أَنِ اشْكُرْ) في موضع نصب ، على قول الزجاج. وقال النحاس : الأجود أن
تكون مفسرة. (لِي) : أي على نعمة الإيمان. (وَلِوالِدَيْكَ) : على نعمة التربية (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) : توعد أثناء الوصية. (وَإِنْ جاهَداكَ) إلى : (فَلا تُطِعْهُما) : تقدم الكلام عليه في العنكبوت ، إلا أن هنا عليّ ، وهناك
لتشرك بلام العلة. وانتصب (مَعْرُوفاً) على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي صحابا ، أو مصاحبا معروفا
وعشرة جميلة ، وهو إطعامهما وكسوتهما وعدم جفائهما وانتهارهما ، وعيادتهما إذا
مرضا ، ومواراتهما إذا ماتا. (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ
مَنْ أَنابَ إِلَيَ) : أي رجع إلى الله ، وهو سبيل الرسول لا سبيلهما. (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) : أي مرجعك ومرجعهما ، فأجازي كلا منكم بعمله.
ولما نهى لقمان
ابنه عن الشرك ، نبهه على قدرة الله ، وأنه لا يمكن أن يتأخر عن مقدوره شيء فقال :
(يا بُنَيَّ إِنَّها
إِنْ تَكُ) ، والظاهر أن الضمير في إنها ضمير القصة. وقرأ نافع :
مثقال ، بالرفع على (إِنْ تَكُ) تامة ، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر ، وأخبر عن مثقال ، وهو
مذكر ، إخبار المؤنث ، لأضافته إلى مؤنث ، وكأنه قال : إن تك زنة حبة ؛ وباقي
السبعة : بالنصب على (إِنْ تَكُ) ناقصة ، واسمها ضمير يفهم من سياق الكلام تقديره : هي ، أي
التي سألت عنها. وكان فيما روي قد سأل لقمان ابنه : أرأيت الحبة تقع في مغاص البحر؟
أيعلمها الله؟ فيكون الضمير ضمير جوهر لا ضمير عرض ، ويؤيده قوله : (إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ). وقرأ عبد الكريم الجزري : فتكن ، بكسر الكاف وشد النون وفتحها
؛ وقراءة محمد بن أبي فجة البعلبكي : فتكن ، بضم التاء وفتح الكاف والنون مشددة.
وقرأ قتادة : فتكن ، بفتح التاء وكسر الكاف وسكون النون ، من وكن يكن ، ورويت هذه
القراءة عن عبد الكريم الجزري أيضا : أي تستقر ، ويجوز أن يكون الضمير ضمير عرض ،
أي تلك الفعلة من الطاعة أو المعصية. وعلى من قرأ بنصب مثقال ، يجوز أن
يكون الضمير في
أنها ضمير الفعلة ، لا ضمير القصة. قال الزمخشري : فمن نصب يعني مثقال ، كان
الضمير للهيئة من الإساءة والإحسان ، أي كانت مثلا في الصغر والقماءة ، كحبة
الخردل ، فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه ، كجوف الصخرة ، أو حيث كانت من
العالم العلوي أو السفلي.
(يَأْتِ بِهَا اللهُ) ، يوم القيامة ، فيحاسب عليها. (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) ، يتوصل علمه إلى كل خفي. (خَبِيرٌ) : عالم بكنهه. وعن قتادة : لطيف باستخراجها ، خبير
بمستقرها. وبدأ له بما يتعلق به أولا ، وهو كينونة الشيء. (فِي صَخْرَةٍ) : وهو ما صلب من الحجر وعسر إخراجه منها ، ثم أتبعه
بالعالم العلوي ، وهو أغرب للسامع ، ثم أتبعه بما يكون مقر الأشياء للشاهد ، وهو
الأرض. وعن ابن عباس والسدي ، أن هذه الصخرة هي التي عليها الأرض. قال ابن عباس :
هي تحت الأرضين السبع ، يكتب فيها أعمال الفجار. قال ابن عطية : قيل : أراد الصخرة
التي عليها الأرض والحوت والماء ، وهي على ظهر ملك. وقيل : هي صخرة في الريح ،
وهذا كله ضعيف لا يثبت سنده ، وإنما معنى الكلام : المبالغة والانتهاء في التفهيم
، أي إن قدرته تنال ما يكون في تضاعيف صخرة ، وما يكون في السماء والأرض. انتهى.
قيل : وخفاء الشيء يعرف بصغره عادة ، ويبعده عن الرائي. وبكونه في ظلمة وباحتجابه
، ففي صخرة إشارة إلى الحجاب ، وفي السموات إشارة إلى البعد ، وفي الأرض إشارة إلى
الظلمة ، فإن جوف الأرض أظلم الأماكن. وفي قوله : (يَأْتِ بِهَا اللهُ) دلالة على العلم والقدرة ، كأنه قال : يحيط بها علمه
وقدرته.
ولما نهاه أولا عن
الشرك ، وأخبره ثانيا بعلمه تعالى وباهر قدرته ، أمره بما يتوسل به إلى الله من
الطاعات ، فبدأ بأشرفها ، وهو الصلاة ، حيث يتوجه إليه بها ، ثم بالأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ، ثم بالصبر على ما يصيبه من المحن جميعها ، أو على ما يصيبه
بسبب الأمر بالمعروف ممن يبعثه عليه ، والنهي عن المنكر ممن ينكره عليه ، فكثيرا
ما يؤذى فاعل ذلك ، وهذا إنما يريد به بعد أن يمثل هو في نفسه فيأتي بالمعروف. إن
ذلك إشارة إلى ما تقدم مما نهاه عنه وأمره به. والعزم مصدر ، فاحتمل أن يراد به
المفعول ، أي من معزوم الأمور ، واحتمل أن يراد به الفاعل ، أي عازم الأمور ،
كقوله : (فَإِذا عَزَمَ
الْأَمْرُ) . وقال ابن جريج : مما عزمه الله وأمر به ؛ وقيل : من مكارم
الأخلاق وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة. والظاهر أنه يريد من لازمات
الأمور الواجبة ، لأن الإشارة
__________________
بذلك إلى جميع ما
أمر به ونهى عنه. وهذه الطاعات يدل إيصاء لقمان على أنها كانت مأمورا بها في سائر
الملل. والعزم : ضبط الأمر ومراعاة إصلاحه. وقال مؤرج : العزم : الحزم ، بلغة
هذيل. والحزم والعزم أصلان ، وما قاله المبرد من أن العين قلبت حاء ليس بشيء ، لا
طراد تصاريف كل واحد من اللفظين ، فليس أحدهما أصلا للآخر.
(وَلا تُصَعِّرْ
خَدَّكَ لِلنَّاسِ) : أي لا تولهم شق وجهك ، كفعل المتكبر ، وأقبل على الناس
بوجهك من غير كبر ولا إعجاب ، قاله ابن عباس والجماعة. قال ابن خويز منداد : نهى
أن يذل نفسه من غير حاجة ، وأورد قريبا من هذا ابن عطية احتمالا فقال : ويحتمل أن
يريد : ولا سؤالا ولا ضراعة بالفقر. قال : والأول ، يعني تأويل ابن عباس والجماعة
، أظهر لدلالة ذكر الاختيال والعجز بعده. وقال مجاهد : (وَلا تُصَعِّرْ) ، أراد به الإعراض ، كهجره بسب أخيه. وقرأ ابن كثير ، وابن
عامر ، وعاصم ، وزيد بن علي : تصعر ، بفتح الصاد وشد العين ؛ وباقي السبعة : بألف
؛ والجحدري : يصعر مضارع أصعر. (وَلا تَمْشِ فِي
الْأَرْضِ مَرَحاً) : تقدم الكلام على هذه الجملة في سورة سبحان. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ
فَخُورٍ) : تقدم الكلام في النساء على نظير هذه الجملة في قوله : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ
مُخْتالاً فَخُوراً) . ولما وصى ابنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذ صار
هو في نفسه ممتثلا للمعروف مزدجرا عن المنكر ، أمر به غيره وناهيا عنه غيره ، نهاه
عن التكبر على الناس والإعجاب والمشي مرحا ، وأخبره أنه تعالى لا يحب المختال ،
وهو المتكبر ، ولا الفخور. قال مجاهد : وهو الذي يعدد ما أعطى ، ولا يشكر الله.
ويدخل في الفخور : الفخر بالأنساب.
(وَاقْصِدْ فِي
مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) : ولما نهاه عن الخلق الذميم ، أمره بالخلق الكريم ، وهو
القصد في المشي ، بحيث لا يبطىء ، كما يفعل المتنامسون والمتعاجبون ، يتباطؤون في
نقل خطواتهم المتنامسين للرياء والمتعاجب للترفع ، ولا يسرع ، كما يفعل الخرق
المتهور. ونظر أبو جعفر المنصور إلى أبي عمرو بن عبيد فقال : كلكم يمشي رويدا ،
كلكم يطلب صيدا ، غير عمرو بن عبيد. وقال ابن مسعود : كانوا ينهون عن خبب اليهود
ودبيب النصارى ، ولكن مشيا بين ذلك. وقيل معناه : اجعل بصرك موضع قدمك. وقرىء :
وأقصد ، بهمزة القطع : أي سدد في مشيك ؛ من أقصده الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية
، ونسبها ابن خالويه للحجاز. والغض من الصوت : التنقيص من
__________________
رفعه وجهارته ،
والغض : رد طموح الشيء ، كالصوت والنظر والزمام. وكانت العرب تفتخر بجهارة الصوت ،
وتمدح به في الجاهلية ، ومنه قول الشاعر :
جهير الكلام
جهير العطاس
|
|
جهير الرواء
جهير النعيم
|
ويخطو على الأين
خطو الظليم
|
|
ويعلو الرجال
بخلق عميم
|
وغض الصوت أوفر
للمتكلم ، وأبسط لنفس السامع وفهمه. وأنكر : أفعل ، إن بنى من فعل المفعول ،
كقولهم : أشغل من ذات النحيين ؛ وبناؤه من ذلك شاذ. والأصوات : أصوات الحيوان
كلها. وأنكر جماعة للمذام اللاحقة للأصوات ، والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة.
شبه الرافعون أصواتهم بالحمير ، وأصواتهم بالنهاق ، ولم يؤت بأداة التشبيه ، بل
أخرج مخرج الاستعارة ، وهذه أقصى مبالغة في الذم والتنفير عن رفع الصوت. ولما كان
صوت الحمير متماثلا في نفسه ، لا يكاد يختلف في الفظاعة ، أفرد لأنه في الأصل
مصدر. وأما أصوات الحمير فغير مختلفة جدا ، جمعت في قوله : (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ) ، فالمعنى : أنكر أصوات الحمير ، بالجمع بغير لام. وقال
الحسن : كان المشركون يتفاخرون برفع الأصوات ، فرد عليهم بأنه لو كان خيرا ، فضل
به الحمير. والظاهر أن قوله : (إِنَّ أَنْكَرَ
الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) من كلام لقمان لابنه ، تنفير له عن رفع الصوت ، ومماثلة
الحمير في ذلك. قيل : هو من كلام الله تعالى ، وفرغت وصية لقمان في قوله : (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) ردا لله به على المشركين الذين كانوا يتفاخرون بجهارة
الصوت ، ورفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوة ، وربما يخرج الغشاء الذي هو
داخل الأذن. وقيل : (وَاقْصِدْ فِي
مَشْيِكَ) : إشارة إلى الأفعال ، (وَاغْضُضْ مِنْ
صَوْتِكَ) : إشارة إلى الأقوال ، فنبه على التوسط في الأفعال ، وعلى
الإقلال من فضول الكلام.
(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ
اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ
عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ، وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا
ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ
كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ ، وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ
إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى
اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ ، وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا
مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ ، نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ ،
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ، لِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ، وَلَوْ أَنَّ
ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ
سَبْعَةُ أَبْحُرٍ
ما
نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، ما خَلْقُكُمْ وَلا
بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ).
(سَخَّرَ لَكُمْ) : تنبيه على الصنعة الدالة على الصانع من تسخير (ما فِي السَّماواتِ) : من الشمس ، والقمر ، والنجوم ، والسحاب ؛ (وَما فِي الْأَرْضِ) : من الحيوان ، والنبات ، والمعادن ، والبحار ، وغير ذلك ؛
وذلك لا يكون إلا بمسخر من مالك متصرف كما يشاء. وقرأ ابن عباس ، ويحيى بن عمارة :
وأصبغ بالصاد ، وهي لغة لبني كلب ، يبدلونها من السين ، إذا جامعت الغين أو الخاء
أو القاف صادا ؛ وباقي القراء : بالسين على الأصل. وقرأ الحسن ، والأعرج ، وأبو
جعفر ، وشيبة ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحفص : (نِعَمَهُ) جمعا مضافا للضمير ؛ وباقي السبعة ، وزيد بن علي : نعمة ،
على الإفراد. والظاهر أنه يراد بالنعمة الظاهرة : الإسلام ، والباطنة : الستر. وعن
الضحاك ، الظاهرة : حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء ، والباطنة :
المعرفة. وقيل : الظاهرة : البصر والسمع واللسان وسائر الجوارح ، والباطنة : القلب
والعقل والفهم. والذي ينبغي أن يقال : إن الظاهرة مما يدرك بالمشاهدة ، والباطنة
ما لا يعلم إلا بدليل ، أو لا يعلم أصلا. فكم من نعمة في بدن الإنسان لا يعلمها ،
ولا يهتدي إلى العلم بها؟ وانتصب (ظاهِرَةً) على الحال من (نِعَمَهُ) ، الجمع على الصفة ، ومن نعمة على الإفراد. وتقدم الكلام
على : (وَمِنَ النَّاسِ) إلى : (مُنِيرٍ) ، في الحج ، وعلى ما بعده إلى : (آباءَنا) ، في نظيره في البقرة. (أَوَلَوْ) : كان تقديره : أيتبعونهم في أحوالهم؟ وفي هذه الحال التي
لا ينبغي أن لا يتبع فيها الآباء؟ لأنها حال تلف وعذاب. وقد تقدم لنا أن مثل هذا
التركيب الذي فيه ولو ، إنما يكون في الشيء الذي كان ينبغي أن لا يكون ، نحو :
اعطوا السائل ولو جاء على فرس ، ردوا السائل ولو بظلف محرق ، (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ
كُنَّا صادِقِينَ) . وكذلك هذا ، كان ينبغي من دعا إلى عذاب السعير أن لا
يتبع. وقرأ الجمهور : (وَمَنْ يُسْلِمْ) ، مضارع أسلم ؛ وعلي ، والسلمي ، وعبد الله بن مسلم بن
يسار : بتشديد اللام ، مضارع سلم ، وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في البقرة ،
والمراد :
التفويض إلى الله.
(فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) : تقدم الكلام عليه في البقرة. وقال الزمخشري ، من باب
التمثيل : مثلت حال المتوكل بحال من تدلى من شاهق ، فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق
عروة من حبل متين مأمون انقطاعه. انتهى. ولما ذكر حال الكافر
__________________
المجادل ، ذكر حال
المسلم ، وأخبر بأن منتهى الأمور صائرة إليه. وقال ابن عطية : والعروة : موضع
التعليق ، فكأن المؤمن متعلق بأمر الله ، فشبه ذلك بالعروة. وسلى رسوله بقوله : (وَمَنْ كَفَرَ) ، إلى آخره ، وشبه إلزام العذاب وإرهاقهم إليه باضطرار من
يضطر إلى الشيء الذي لا يمكنه دفعه ، ولا الانفكاك منه. والغلظ يكون في الإجرام ،
فاستعير للمعنى ، والمراد : الشدة. (لَيَقُولُنَّ اللهُ) : أقام الحجة عليهم بأنهم يقرون بأن الله هو خالق العالم
بأسره ، ويدعون مع ذلك إلها غيره. (قُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ) على ظهور الحجة عليهم. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ) : إضراب عن مقدر ، تقديره : ليس دعواهم ، نحو : لا يعلمون
أن ما ارتكبوه من ادعاء إله غير الله لا يصح ، ولا يذهب إليه ذو علم. ثم أخبر أنه
مالك للعالم كله ، وأنه هو الغني ، فلا افتقار له لشيء من الموجودات. (الْحَمِيدُ) : المستحق الحمد على ما أنشأ وأنعم.
(وَلَوْ أَنَّ ما فِي
الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) : تقدم في أول السورة سبب نزول هذه الآية. ولما ذكر تعالى
أن ما في السموات والأرض ملك له ، وكان ذلك متناهيا ، بين أن في قدرته وعلمه عجائب
لا نهاية لها ، فقال : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي
الْأَرْضِ) ، وأن بعد لو في موضع رفع على الفاعلية ، أي لو وقع أو ثبت
على رأي المبرد ، أو في موضع مبتدأ محذوف الخبر على رأي غيره ، وتقرر ذلك في علم
النحو. و (مِنْ شَجَرَةٍ) : تبيين لما ، وهو في التقرير في موضع الحال من الضمير
الذي في الجار والمجرور المنتقل من العامل فيه ، وتقديره : ولو أن الذي استقر في
الأرض كائنا من شجرة وأقلام خبر لأن ، وفيه دليل على بطلان دعوى الزمخشري وبعض
العجم ممن ينصر قوله : إن خبر أن الجائية بعد لو لا يكون اسما جامدا ولا اسما
مشتقا ، بل يجب أن يكون فعلا ، وهو قول باطل ، ولسان العرب طافع بالزيادة عليه.
قال الشاعر :
ولو أنها عصفورة
لحسبتها
|
|
مسومة تدعو
عبيدا وأيما
|
وقال الآخر :
ما أطيب العيش
لو أن الفتى حجر
|
|
تنبو الحوادث
عنه وهو ملموم
|
وقال آخر :
ولو أن حيا فائت
الموت فاته
|
|
أخو الحرب فوق
القارح القدوان
|
وهو كثير في
لسانهم. والظاهر أن الواو في قوله : (وَالْبَحْرُ) ، في قراءة من رفع ، وهم
الجمهور ، واو
الحال ؛ والبحر مبتدأ ، و (يَمُدُّهُ) الخبر ، أي حال كون البحر ممدودا. وقال الزمخشري : عطفا
على محل إن ومعمولها على ولو ، ثبت كون الأشجار أقلاما ، وثبت أن البحر ممدودا
بسبعة أبحر. انتهى. وهذا لا يتم إلا على رأي المبرد ، حيث زعم أن (أَنَ) في موضع رفع على الفاعلية. وقال بعض النحويين : هو عطف على
أن ، لأنها في موضع رفع بالإبتداء ، وهو لا يتم إلا على رأي من يقول : إن أن بعد
لو في موضع رفع على الابتداء ، ولو لا يليها المبتدأ اسما صريحا إلا في ضرورة شعر
، نحو قوله :
لو بغير الماء
حلقي شرق
|
|
كنت كالغصان
بالماء اعتصاري
|
فإذا عطفت والبحر
على أن ومعموليها ، وهما رفع بالابتداء ، لزم من ذلك أن لو يليها الاسم مبتدأ ، إذ
يصير التقدير : ولو البحر ، وذلك لا يجوز إلا في الضرورة ، إلا أنه قد يقال : إنه
يجوز في المعطوف عليه نحو : رب رجل وأخيه يقولان ذلك. وقرأ عبد الله : وبحر يمده ،
بالتنكير بالرفع ، والواو للحال ، أو للعطف على ما تقدم ؛ وإن كانت الواو واو
الحال ، كان بحر ، وهو نكرة ، مبتدأ ، وذكروا في مسوغات الابتداء بالنكرة أن تكون
واو الحال تقدمته ، نحو قوله :
سرينا ونجم قد
أضاء فقد بدا
|
|
محياك أخفى ضوؤه
كل شارق
|
وقرأ الجمهور : (يَمُدُّهُ) بالياء ، من مد ؛ وابن مسعود ، وابن عباس : بتاء التأنيث ،
من مد أيضا ؛ وعبد الله أيضا ، والحسن ، وابن مطرف ، وابن هرمز : بالياء من تحت ،
من أمد ؛ وجعفر بن محمد : والبحر مداده ، أي يكتب به من السواد. وقال ابن عطية :
هو مصدر. انتهى. (مِنْ بَعْدِهِ) : أي من بعد نفاد ما فيه ، (سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) : لا يراد به الاقتصار على هذا العدد ، بل جيء به للكثرة ،
كقوله : المؤمن يأكل في معي واحد ، والكافر في سبعة أمعاء ، لا يراد به العدد ، بل
ذلك إشارة إلى القلة والكثرة. ولما كان لفظ سبعة ليس موضوعا في الأصل للتكثير ،
وإن كان مرادا به التكثير ، جاء مميزه بلفظ القلة ، وهو أبحر ، ولم يقل بحور ، وإن
كان لا يراد به أيضا إلا التكثير ، ليناسب بين اللفظين. فكما يجوز في سبعة ، واستعمل
للتكثير ، كذلك يجوز في أبحر ، واستعمل للتكثير. وفي الكلام جملة محذوفة يدل عليها
المعنى ، وكتب بها الكتاب كلمات الله.
(ما نَفِدَتْ) ، والمعنى : ولو أن أشجار الأرض أقلام ، والبحر ممدود
بسبعة أبحر ، وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله ، (ما نَفِدَتْ) ، ونفدت الأقلام والمداد
الذي في البحر وما
يمده ، كما قال : (لَوْ كانَ الْبَحْرُ
مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) الآية. وقال الزمخشري : فإن قلت : زعمت أن قوله : (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ) ، حال في أحد وجهي الرفع ، وليس فيه ضمير راجع إلى ذي
الحال ، قلت : هو كقوله :
وقد اغتدي والطير
في وكناتها
وجئت والجيش مصطف
، وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف. يجوز أن يكون المعنى : وبحرها ،
والضمير للأرض. انتهى. وهذا الذي جعله سؤالا وجوابا من واضح النحو الذي لا يجهله
المبتدءون فيه ، وهو أن الجملة الاسمية إذا كانت حالا بالواو ، لا يحتاج إلى ضمير
يربط ، واكتفى بالواو فيها. وأما قوله : وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم
الظروف ، فليس بجيد ، لأن الظرف إذا وقع حالا ، ففي العامل فيه ضمير ينتقل إلى
الظرف. والجملة الاسمية إذا كانت حالا بالواو ، فليس فيها ضمير منتقل. وأما قوله :
ويجوز ، فلا يجوز إلا على رأي الكوفيين ، حيث يجعلون أل عوضا من الضمير. وقال
الزمخشري : فإن قلت : لم قيل : (مِنْ شَجَرَةٍ) ، على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر؟ قلت : أريد
تفصيل الشجر ونقضها شجرة شجرة ، حتى لا يبقى من جنس الشجر واحدة إلا قد بريت
أقلاما. انتهى. وهذا النوع هو مما أوقع فيه المفرد موقع الجمع ، والنكرة موقع
المعرفة ، ونظيره : (ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ) ، (ما يَفْتَحِ اللهُ
لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) ، (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ) ؛ وكقول العرب : هو أول فارس ، وهذا أفضل عالم ، يريد من
الآيات ومن الرحمات ومن الدواب ، وأول الفرسان. أخبروا بالمفرد والنكرة ، وأرادوا
به معنى الجمع المعرف بأل ، وهو مهيع في كلام العرب معروف. وكذلك يتقدر هذا من
الشجرات ، أو من الأشجار. وفي هذا الكلام من المبالغة في تكثير الأقلام والمداد ما
ينبغي أن يتأمل ، وذلك أن الأشجار مشتمل كل واحدة منها على الأغصان الكثيرة ، وتلك
الأغصان كل غصن منها يقطع على قدر القلم ، فيبلغ عدد الأقلام في التناهي إلى ما لا
يعلم به ، ولا يحيط إلا الله تعالى.
وقرأ الجمهور : (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) ، بالألف والتاء. وقرأ زيد بن علي : كلمة الله ، على
التوحيد. وقرأ الحسن : ما نفد ، بغير تاء ، كلام الله. قال أبو علي : المراد
بالكلمات ، والله أعلم : ما في المعدوم دون ما خرج من العدم إلى الوجود. وقالت
فرقة :
__________________
المراد بكلمات
الله : معلوماته. وقال الزمخشري : فإن قلت : الكلمات جمع قلة ، والمواضع مواضع
التكثير لا التقليل ، فهلا قيل : كلم الله؟ قلت : معناه أن كلماته لا تفي بكتبها
البحار ، فكيف بكلمة؟ انتهى. وعلى تسليم أن كلمات جمع قلة ، فجموع القلة إذا تعرفت
بالألف واللام غير العهدية ، أو أضيفت ، عمت وصارت لا تخص القليل ، والعام مستغرق
لجميع الأفراد. (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) : كامل القدرة ، فمقدوراته لا نهاية لها. (حَكِيمٌ) : كامل العلم ، فمعلوماته لا نهاية لها. ولما ذكر تعالى
كمال قدرته وعلمه ، ذكر ما يبطل استبعادهم للحشر. (إِلَّا كَنَفْسٍ
واحِدَةٍ) : إلا كخلق نفس واحدة وبعثها ، ومن لا نفاد لكلماته يقول
للموتى : كونوا فيكونون ، فالقليل والكثير ، والواحد والجمع ، لا يتفاوت في قدرته.
وقال النقاش : هذه الآية في أبيّ بن خلف ، وأبي الأسد ، ونبيه ومنبه ابني الحجاج ،
قالوا : يا محمد : إنا نرى الطفل يخلق بتدريج ، وأنت تقول : الله يعيدنا دفعة
واحدة ، فنزلت. (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ
بَصِيرٌ) : سميع كل صوت ، بصير كل مبصر في حالة واحدة ، لا يشغله
إدراك بعضها عن بعض ، فكذلك الخلق والبعث.
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ
اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ، ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما
يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ، أَلَمْ
تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ
آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ، وَإِذا غَشِيَهُمْ
مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ
إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ
خَتَّارٍ كَفُورٍ ، يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً
لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً
إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا
يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ ، إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ
وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا
تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
خَبِيرٌ).
(يُولِجُ اللَّيْلَ) : الجملتين شرحت في آل عمران وهنا. (إِلى أَجَلٍ) ، ويدل على الانتهاء ، أي : يبلغه وينتهي إليه. وفي الزمر
: (لِأَجَلٍ) ، ويدل على الاختصاص بجعل الجري مختصا بإدراك أجل مسمى ،
وجري الشمس مختص بآخر السنة ، وجري القمر بآخر الشهر ؛ فكلا المعنيين متناسب
لجريهما ، فلذلك عدى بهما. وقرأ عياش ، عن أبي عمرو : بما يعملون ، بياء الغيبة. (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ) الآية ، تقدم شرحها في الحج وهنا.
__________________
(وَأَنَّ ما يَدْعُونَ
مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) ، وفي الحج (مِنْ دُونِهِ هُوَ
الْباطِلُ) ، بزيادة هو. ولما ذكر تعالى تسخير النيرين وامتنانه بذلك
علينا ، ذكر أيضا من سخر الفلك من العالم الأرضي بجامع ما اشتركا فيه من الجريان.
وقرأ الجمهور : (بِنِعْمَتِ اللهِ) على الإفراد اللفظي. وقرأ الأعرج ، والأعمش ، وابن يعمر :
بنعمات الله ، بكسر النون وسكون العين جمعا بالألف والتاء. وقرأ ابن أبي عبلة :
بفتح النون وكسر العين بالألف والتاء والباء ، وتحتمل السببية ، أي تجري بسبب
الريح وتسخير الله ، وتحتمل الحالية ، أي مصحوبة بنعمة الله ، وهي ما تحمله السفن
من الطعام والأرزاق والتجارات. وقال ابن عطية : الباء للالصاق. انتهى. وقرأ موسى
بن الزبير : (الْفُلْكَ) ، بضم اللام. و (صَبَّارٍ شَكُورٍ) : بنيتا مبالغة ، وفعال أبلغ لزيادة حروفه.
ولما تقدم ذكر جري
الفلك في البحر ، وكأن في ذلك ما لا يخفى على راكبه من الخوف ، وتقدم ذكر النعمة ،
ناسب الختم بالصبر على ما يحذر ، وبالشكر على ما أنعم به تعالى ، وشبه الموج في
ارتفاعه واسوداده واضطرابه بالظلل ، وهو السحاب. وقيل : كالظلل : كالجبال ، أطلق
على الجبل ظلة. وقرأ محمد بن الحنفية : كالظلال ، وهما جمع ظلة ، نحو : قلة وقلل
وقلال. وقوله : (وَإِذا غَشِيَهُمْ) ، فيه التفات خرج من ضمير الخطاب في (لِيُرِيَكُمْ) إلى ضمير الغيبة في (غَشِيَهُمْ). و (مَوْجٌ) : اسم جنس يفرق بينه وبين مفرده بتاء التأنيث ، فهو يدل
على الجمع ، ولذلك شبهه بالجمع.
(فَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ) ، قال الحسن : أي مؤمن يعرف حق الله في هذه النعم. وقال
مجاهد : مقتصد على كفره : أي يسلم لله ويفهم أن نحو هذا من القدرة ، وإن ضل في
الأصنام من جهة أنه يعظمها. قيل : أو مقتصد في الإخلاص الذي كان عليه في البحر.
قال الزمخشري : يعني أن ذلك الإخلاص الحادث عند الخوف لا ينبغي لأحد قط. انتهى. وكثر
استعمال الزمخشري قط ظرفا ، والعامل فيه غير ماض ، وهو مخالف لكلام العرب في ذلك.
فقبل حذف مقابل فمنهم مؤمن مقتصد تقديره : ومنهم جاحد ودل عليه ، قوله : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا). وعلى هذا القول يكون مقتصد معناه : مؤمن مقتصد في أقواله
وأفعاله بين الخوف والرجاء ، موف بما عاهد الله عليه في البحر ، وختم هنا ببنيتي
مبالغة ، وهما : (خَتَّارٍ) ، و (كَفُورٍ). فالصبار الشكور معترف بآيات الله ، والختار الكفور يجحد
بها. وتوازنت هذه الكلمات لفظا ومعنى. أما لفظا فظاهر ، وأما معنى فالختار هو
الغدار ، والغدر
__________________
لا يكون إلا من
قلة الصبر ، لأن الصبار يفوّض أمره إلى الله ، وأما الغدار فيعهد ويغدر ، فلا يصبر
على العهد ؛ وأما الكفور فمقابلته معنى للشكور واضحة. ولما ذكر تعالى الدلائل على
الوحدانية والحشر من أوّل السورة ، أمر بالتقوى على سبيل الموعظة والتذكير بهذا
اليوم العظيم.
(لا يَجْزِي) : لا يقضي ، ومنه قيل للمتقاضي : المتجازي ، وتقدم الكلام
في ذلك في أوائل البقرة. ولما كان الوالد أكثر شفقة على الولد من الولد على أبيه ،
بدأ به أولا ، وأتى في الإسناد إلى الوالد بالفعل المقتضي للتجدد ، لأن شفقته
متجددة على الولد في كل حال ، وأتى في الإسناد إلى الولد باسم الفاعل ، لأنه يدل
على الثبوت ، والثبوت يصدق بالمرة الواحدة. والجملة من لا يجزي صفة ليوم ، والضمير
محذوف ، أي منه ، فإما أن يحذف برمته ، وإما على التدريج حذف الخبر ، فتعدى الفعل
إلى الضمير وهو منصوب فحذف. وقرأ الجمهور : لا يجزي مضارع جزى ؛ وعكرمة : بضم
الياء وفتح الزاي مبنيا للمفعول ؛ وأبو السماك ، وعامر بن عبد الله ، وأبو السوار
: لا يجزىء ، بضم الياء وكسر الزاي مهموزا ، ومعناه : لا يغني ؛ يقال : أجزأت عنك
جزاء فلان : أي أغنيت. ويجوز في (وَلا مَوْلُودٌ) وجهان : أحدهما : أن يكون معطوفا على والد ، والجملة من
قوله : (هُوَ جازٍ) ، صفة لمولود. والثاني : أن يكون مبتدأ ، وهو مبتدأ ثان ،
وجاز خبره ، والجملة خبر للأول ، وجاز الابتداء به ، وهو نكرة لوجود مسوغ ذلك ،
وهو النفي. وذهل المهدوي فقال : لا يكون (مَوْلُودٌ) مبتدأ ، لأنه نكرة وما بعده صفة ، فيبقى بلا خبر و (شَيْئاً) منصوب بجاز ، وهو من باب الأعمال ، لأنه يطلبه (لا يَجْزِي) ويطلبه (جازٍ) ، فجعلناه من أعمال الثاني ، لأنه المختار. وقرأ ابن أبي
إسحاق ، وابن أبي عبلة ، ويعقوب : نغرنكم ، بالنون الخفيفة. وقرأ سماك بن حرب ،
وأبو حيوة : الغرور بالضم ، وهو مصدر ؛ والجمهور : بالفتح ، وفسره ابن مجاهد
والضحاك بالشيطان ، ويمكن حمل قراءة الضم عليه جعل الشيطان نفس الغرور مبالغة.
وقال الزمخشري :
فإن قلت قوله : (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ
جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) هو وارد على طريق من التوكيد ، لم يرد عليه ما هو معطوف
عليه. قلت : الأمر كذلك ، لأن الجملة الاسمية آكد من الفعلية ، وقد انضم إلى ذلك
قوله : (هُوَ) ، وقوله : (مَوْلُودٌ) ، والسبب في مجيئه هذا السنن أن الخطاب للمؤمنين ، وغالبهم
قبض آباؤهم على الكفر وعلى الدين الجاهلي ، فأريد حسم أطماعهم وأطماع الناس أن
ينفعوا آباءهم في الآخرة ، وأن يشفعوا
لهم ، وأن يغنوا
عنهم من الله شيئا ، فلذلك جيء به على الطريق الأوكد. ومعنى التوكيد في لفظ
المولود : أن الواحد منهم لو شفع للوالد الأدنى الذي ولد منه ، لم تقبل شفاعته
فضلا أن يشفع لمن فوقه من أجداده ، لأن الولد يقع على الولد ، وولد الولد بخلاف
المولود ، فإنه لمن ولد منك.
(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ
عِلْمُ السَّاعَةِ) : يروى أن الحارث بن عمارة المحاربي قال : يا رسول الله ،
أخبرني عن الساعة متى قيامها؟ وإني لقد ألقيت حباتي في الأرض ، وقد أبطأت عني
السماء ، متى تمطر؟ وأخبرني عن امرأتي ، فقد اشتملت على ما في بطنها ، أذكر أم
أنثى؟ وعلمت ما علمت أمس ، فما أعمل غدا؟ وهذا مولدي قد عرفته ، فأين أموت؟ فنزلت.
وفي الحديث : «خمس لا يعلمهنّ إلا الله ، وتلا هذه الآية. وعلم : مصدر أضيف إلى
الساعة ، والمعنى : علم يقين ، وفيها : (وَيُنَزِّلُ
الْغَيْثَ) في آياته من غير تقديم ولا تأخير. (ما فِي الْأَرْحامِ) من ذكر أم أنثى ، تام أو ناقص ، (وَما تَدْرِي نَفْسٌ) ، برة أو فاجرة. (ما ذا تَكْسِبُ غَداً) من خير أو شر ، وربما عزمت على أحدهما فعلمت ضده. (بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) : وربما أقامت بمكان ناوية أن لا تفارقه إلى أن تدفن به ،
ثم تدفن في مكان لم يخطر لها ببال قط. وأسند العلم إلى الله ، والدراية للنفس ،
لما في الدراية من معنى الختل والحيلة ؛ ولذا وصف الله بالعالم ، ولا يوصف
بالداري. وأما قوله :
لا هم لا أدري
وأنت الداري
فقول عربي جلف
جاهلي ، جاهل بما يطلق على الله من الصفات ، وما يجوز منها وما يمتنع. وقرأ
الجمهور : (بِأَيِّ أَرْضٍ). وقرأ موسى الأسواري ، وابن أبي عبلة : بأية أرض ، بتاء
التأنيث لإضافتها إلى الموت ، وهي لغة قليلة فيهما. كما أن كلّا إذا أضيفت إلى
مؤنث قد تؤنث ، تقول : كلهنّ فعلن ذلك ، وتدري معلقة في الموضعين. فالجملة من قوله
: (ما ذا تَكْسِبُ) في موضع مفعول (تَدْرِي) ، ويجوز أن يكون ماذا كلها موصولا منصوبا بتدري ، كأنه قال
: وما تدري نفس الشيء التي تكسب غدا. وبأي متعلق بتموت ، والباء ظرفية ، أي : في
أي أرض؟ فالجملة في موضع نصب بتدري. ووقع الإخبار بأن الله استأثر بعلمه هذه الخمس
، لأنها جواب لسائل سأل ، وهو يستأثر بعلم أشياء لا يحصيها إلا هو ، وهذه الخمس.
سورة السّجدة
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم
(١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ
يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما
أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا
تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ
يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ
(٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي
أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ
جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ
فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ
قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا
لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ
يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ
تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا
مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ
الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
(١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ
وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤) إِنَّما يُؤْمِنُ
بِآياتِنَا
الَّذِينَ
إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا
يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ
ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) أَفَمَنْ
كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما
أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ
النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ
الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا
مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا
تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣)
وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا
بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ
أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ
إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ
وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا
إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ
إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠)
(الم ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ
لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ، أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ
لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ، اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما
بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ
دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ
مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ
مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ
مِمَّا
تَعُدُّونَ ، ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ،
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ،
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ
فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ
قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ، وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي
خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ ، قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ
مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ،
وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا
أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ).
هذه السورة مكية ،
قيل : إلا خمس آيات : (تَتَجافى) إلى (تُكَذِّبُونَ). وقال ابن عباس ، ومقاتل ، والكلبي : إلا ثلاث آيات نزلت
بالمدينة : (أَفَمَنْ كانَ
مُؤْمِناً). قال كفار قريش : لم يبعث الله محمدا إلينا ، وإنما الذي
جاء به اختلاق منه ، فنزلت. ولما ذكر تعالى ، فيما قبلها ، دلائل التوحيد من بدء
الخلق ، وهو الأصل الأول ؛ ثم ذكر المعاد والحشر ، وهو الأصل الثاني ، وختم به
السورة ، ذكر في بدء هذه السورة الأصل الثالث ، وهو تبيين الرسالة.
و (الْكِتابِ) : القرآن. قال الحوفي : (تَنْزِيلُ) مبتدأ ، و (لا رَيْبَ) خبره. ويجوز أن يكون (تَنْزِيلُ) خبر مبتدأ ، أي هذا المتلو تنزيل ، أو هذه الحروف تنزيل ، و
(الم) بدل على الحروف. وقال أبو البقاء : (الم) مبتدأ ، و (تَنْزِيلُ) خبره بمعنى المنزل ، و (لا رَيْبَ فِيهِ) حال من الكتاب ، والعامل فيه تنزيل ، و (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) متعلق بتنزيل أيضا. ويجوز أن يكون حالا من الضمير في فيه ،
والعامل فيه الظرف. ويجوز أن يكون (تَنْزِيلُ) مبتدأ ، و (لا رَيْبَ فِيهِ) الخبر ، و (مِنْ رَبِّ
الْعالَمِينَ) حال كما تقدم. ولا يجوز على هذا أن يتعلق بتنزيل ، لأن
المصدر قد أخبر عنه. ويجوز أن يكون الخبر (مِنْ رَبِّ
الْعالَمِينَ) ، و (لا رَيْبَ) حال من الكتاب ، وأن يكون خبرا بعد خبر. انتهى. والذي
أختاره أن يكون (تَنْزِيلُ) مبتدأ ، و (لا رَيْبَ) اعتراض ، و (مِنْ رَبِّ
الْعالَمِينَ) الخبر. وقال ابن عطية : (مِنْ رَبِّ
الْعالَمِينَ) متعلق بتنزيل ، ففي الكلام تقديم وتأخير ؛ ويجوز أن يتعلق
بقوله : (لا رَيْبَ) ، أي لا شك ، من جهة الله تعالى ، وإن وقع شك الكفرة ،
فذلك لا يراعى. والريب : الشك ، وكذا هو في كل القرآن ، إلا قوله : (رَيْبَ الْمَنُونِ) . انتهى.
وإذا كان (تَنْزِيلُ) خبر مبتدأ محذوف ، وكانت الجملة اعتراضية بين ما افتقر إلى
__________________
غيره وبينه ، لم
نقل فيه : إن فيه تقديما وتأخيرا ، بل لو تأخر لم يكن اعتراضا. وأما كونه متعلقا
بلا ريب ، فليس بالجيد ، لأن نفي الريب عنه مطلقا هو المقصود ، لأن المعنى : لا
مدخل للريب فيه ، إنه تنزيل الله ، لأن موجب نفي الريب عنه موجود فيه ، وهو
الإعجاز ، فهو أبعد شيء من الريب. وقولهم : (افْتَراهُ) ، كلام جاهل لم يمعن النظر ، أو جاحد مستيقن أنه من عند
الله ، فقال ذلك حسدا ، أو حكما من الله عليه بالضلال. وقال الزمخشري : والضمير في
فيه راجع إلى مضمون الجملة ، كأنه قيل : لا ريب في ذلك ، أي في كونه منزلا من رب
العالمين. ويشهد لوجاهته قوله : (أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ) ، لأن قولهم هذا مفترى إنكار لأن يكون من رب العالمين.
وكذلك قوله : (بَلْ هُوَ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّكَ) ، وما فيه من تقدير أنه من الله ، وهذا أسلوب صحيح محكم ،
أثبت أولا أن تنزيله من رب العالمين ، وأن ذلك ما لا ريب فيه. ثم أضرب عن ذلك إلى
قوله : (أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ) ، لأن أم هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل ، والهمزة إنكارا
لقولهم وتعجبا منه لظهور أمره في عجز بلغائهم عن مثل ثلاث آيات ، ثم أضرب عن
الإنكار إلى الإثبات أنه الحق من ربك. انتهى ، وهو كلام فيه تكثير. وقال أبو عبيدة
: أم يكون معناه : بل يقولون ، فهو خروج من حديث إلى حديث ؛ ومن ربك في موضع الحال
، أي كائنا من عند ربك ، وبه متعلق بلتنذر ، أو بمحذوف تقديره : أنزله لتنذر.
والقوم هنا قريش والعرب ، وما نافية ، ومن نذير : من زائدة ، ونذير فاعل أتاهم.
أخبر تعالى أنه لم
يبعث إليهم رسولا بخصوصيتهم قبل محمد صلىاللهعليهوسلم ، لا لهم ولا لآبائهم ، لكنهم كانوا متعبدين بملة إبراهيم
وإسماعيل ، وما زالوا على ذلك إلى أن غير ذلك بعض رؤسائهم ، وعبدوا الأصنام وعم
ذلك ، فهم مندرجون تحت قوله : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ
إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) ، أي شريعته ودينه ؛ والنذير ليس مخصوصا بمن باشر ، بل
يكون نذيرا لمن باشره ، ولغير من باشره بالقرب ممن سبق لها نذير ، ولم يباشرهم
نذير غير محمد صلىاللهعليهوسلم. وقال ابن عباس ، ومقاتل : المعنى لم يأتهم في الفترة بين
عيسى ومحمد ، عليهماالسلام.
وقال الزمخشري : (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) ، كقوله : (ما أُنْذِرَ
آباؤُهُمْ) ، وذلك أن قريشا لم يبعث الله إليهم رسولا قبل محمد صلىاللهعليهوسلم. فإن قلت : فإذا لم يأتهم نذير ، لم تقم عليهم حجة. قلت :
أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا بالرسل فلا ،
__________________
وأما قيامها
بمعرفة الله وتوحيده وحكمته فنعم ، لأن أدلة العقل الموصلة إلى ذلك معهم في كل
زمان. انتهى. والذي ذهب إليه غير ما ذهب إليه المفسرون ، وذلك أنهم فهموا من قوله
: (ما أَتاهُمْ) ، و (ما أُنْذِرَ
آباؤُهُمْ) ، أن ما نافية ، وعندي أن ما موصولة ، والمعنى : لتنذر
قوما العقاب الذي أتاهم. (مِنْ نَذِيرٍ) : متعلق بأتاهم ، أي أتاهم على لسان نذير من قبلك. وكذلك (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ
آباؤُهُمْ) : أي العقاب الذي أنذره آباؤهم ، فما مفعولة في الموضعين ،
وأنذر يتعدى إلى اثنين. قال تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً) ، وهذا القول جار على ظواهر القرآن. قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها
نَذِيرٌ) ، و (أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا
مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) ، (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ، (وَما كانَ رَبُّكَ
مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) .
ولما حكى تعالى
عنهم أنهم يقولون : إن محمدا صلىاللهعليهوسلم افتراه ورد عليهم ، اقتصر في ذكر ما جاء به القرآن على
الإنذار ، وإن كان قد جاء له وللتبشير ليكون ذلك ردعا لهم ، ولأنه إذا ذكر الإنذار
، صار عند العاقل فكر فيما أنذر به ، فلعل ذلك الفكر يكون سببا لهدايته. و (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) : ترجية من رسول الله ، كما كان في قوله : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) ، من موسى وهارون. قال الزمخشري : وأن يستعار لفظ الترجي
للإرادة. انتهى. يعني أنه عبر عن الإرادة بلفظ الترجي ، ومعناه : إرادة اهتدائهم ،
وهذه نزغة اعتزالية ، لأنه عندهم أن يريد هداية العبد ، فلا يقع ما يريد ، ويقع ما
يريد العبد ، تعالى الله عن ذلك. ولما بين تعالى أمر الرسالة ، ذكر ما على الرسول
من الدعاء إلى التوحيد وإقامة الدليل بذكر مبدأ العالم. وتقدم الكلام على (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) في الأعراف. (ما لَكُمْ مِنْ
دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) : أي إذا جاوزتموه إلى سواه فاتخذتموه ناصرا وشفيعا. (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) موجد هذا العالم ، فتعبدوه وترفضوا ما سواه؟
(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ، الأمر : واحد الأمور. قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ،
وعكرمة ، والضحاك : ينفذ الله قضاءه بجميع ما يشاؤه. (ثُمَّ يَعْرُجُ
إِلَيْهِ) : أي يصعد ، خبر ذلك (فِي
__________________
يَوْمٍ) من أيام الدنيا ، (مِقْدارُهُ) : أن لو سير فيه السير المعروف من البشر (أَلْفَ سَنَةٍ) ، لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام. وقال مجاهد أيضا
: الضمير في مقداره عائد على التدبير ، أي كان مقدار التدبير المنقضي في يوم ألف
سنة لو دبره البشر. وقال مجاهد أيضا : يدبر ويلقي إلى الملائكة أمور ألف سنة من
عندنا ، وهو اليوم عنده ، فإذا فرغت ألقى إليهم مثلها. فالمعنى : أن الأمور تنفذ
عنه لهذه المدة وتصير إليه آخرا ، لأن عاقبة الأمور إليه. وقيل : المعنى يدبره في
الدنيا إلى أن تقوم الساعة ، فينزل القضاء والقدر ، ثم تعرج إليه يوم القيامة ،
ومقداره ما ذكر ليحكم فيه من ذلك اليوم ، حيث ينقطع أمر الأمراء ، أو أحكام الحكام
، وينفرد بالأمر كل يوم من أيام الآخرة بألف سنة ، وهو على الكفار قدر خمسين ألف
سنة حسبما في سورة سأل سائل ، وتأتي الأقوال فيه إن شاء الله تعالى. وقيل : ينزل الوحي
مع جبريل من السماء إلى الأرض ، ثم يرجع إلى ما كان من قبول الوحي أو ربه مع جبريل
، وذلك في وقت هو في الحقيقة ألف سنة ، لأن المسافة مسيرة ألف سنة في الهبوط
والصعود ، لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة ، وهو يوم من أيامكم لسرعة
جبريل ، لأنه يقطع مسيرة ألف سنة في يوم واحد. قال الزمخشري : وبداية الأمر
المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ، ينزله مدبرا من السماء إلى الأرض ، ثم
لا يعمل به ، ولا يصعد إليه ذلك المأمور به خالصا كما يريده ويرتضيه ، إلا في مدة
متطاولة ، لقلة الأعمال لله والخلوص من عباده ، وقلة الأعمال الصاعدة ، لأنه لا
يوصف بالصعود إلا الخالص ، ودل عليه قوله على أثره : (قَلِيلاً ما
تَشْكُرُونَ). انتهى.
وقيل : يدبر أمر
الشمس في طلوعها من المشرق وغروبها في المغرب ، ومدارها في العالم من السماء إلى
الأرض ، لأنها على أهل الأرض تطلع إلى أن تغرب ، وترجع إلى موضعها من الطلوع في
يوم مقداره في المسافة ألف سنة. والضمير في (إِلَيْهِ) عائد إلى السماء ، لأنها تذكر ؛ وقيل : إلى الله. وقال عبد
الله بن سابط : يدبر أمر الدنيا أربعة : جبريل للرياح والجنود ، وميكائيل للقطر
والماء ، وملك الموت لقبض الأرواح ، وإسرافيل لنزول الأمر عليهم. وقيل : العرش
موضع التدبير ، وما دونه موضع التفصيل ، وما دون السموات موضع التعريف. وقال السدي
: الأمر : الوحي. وقال مقاتل : القضاء. وقال غيرهما : أمر الدنيا. قال الزجاج :
تقول عرجت في السلم أعرج ، وعرج الرجل يعرج إذا صار أعرج. وقرأ ابن أبي عبلة : (يَعْرُجُ) مبنيا للمفعول ؛ والجمهور : مبنيا للفاعل. قال أبو عبد
الله الرازي : وفي هذا لطيفة ، وهو أن الله ذكر في الآية المتقدمة عالم الأجسام
والخلق ، وأشار
إلى عظمة الملك ؛
وذكر هنا عالم الأرواح والأمر بقوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ، والروح من عالم الأمر ، كما قال : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ، وأشار إلى دوامه بلفظ يوهم الزمان. والمراد دوام النفاد
، كما يقال في العرف : طال زمان فلان ، والزمان يمتد فيوجد في أزمنة كثيرة. فأشار
إلى عظمة الملك بالمكان ، وأشار إلى دوامه هنا بالزمان والمكان من خلقه وملكه ،
والزمان بحكمه وأمره. انتهى. وهو كلام ليس جاريا على فهم العرب. وقرأ الجمهور : (مِمَّا تَعُدُّونَ) ، بتاء الخطاب. وقرأ السملي ، وابن وثاب ، والأعمش ،
والحسن : بياء الغيبة ، بخلاف عن الحسن. وقرأ جناح بن حبيش : ثم تعرج الملائكة ،
بزيادة الملائكة ، ولعله تفسير منه لسقوطه في سواد المصحف.
(ذلِكَ) : أي ذلك الموصوف بالخلق والاستواء والتدبير ، (عالِمُ الْغَيْبِ) : والغيب الآخرة ، (وَالشَّهادَةِ) : الدنيا ، أو الغيب : ما غاب عن المخلوقين ، والشهادة :
ما شوهد من الأشياء ، قولان. وقرأ زيد بن علي : (عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) : بخفض الأوصاف الثلاثة ؛ وأبو زيد النحوي : بخفض (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ). وقرأ الجمهور : برفع الثلاثة على أنها أخبار لذلك ، أو
الأول خبر والاثنان وصفان ، ووجه الخفض أن يكون ذلك إشارة إلى الأمر ، وهو فاعل
بيعرج ، أي ثم يعرج إليه ذلك ، أي الأمر المدبر ، ويكون عالم وما بعده بدلا من
الضمير في إليه. وفي قراءة ابن زيد يكون ذلك عالم مبتدأ وخبر ، والعزيز الرحيم
بالخفض بدل من الضمير في إليه. وقرأ الجمهور : خلقه ، بفتح اللام ، فعلا ماضيا صفة
لكل أو لشيء. وقرأ العربيان ، وابن كثير : بسكون اللام ، والظاهر أنه بدل اشتمال ،
والمبدل منه كل ، أي أحسن خلق كل شيء ، فالضمير في خلقه عائد على كل. وقيل : الضمير
في خلقه عائد على الله ، فيكون انتصابه نصب المصدر المؤكد لمضمون الجملة ، كقوله :
(صِبْغَةَ اللهِ) ، وهو قول سيبويه ، أي خلقه خلقا. ورجح على بدل الاشتمال
بأن فيه إضافة المصدر إلى الفاعل ، وهو أكثر من إضافته إلى المفعول ، وبأنه أبلغ
في الامتنان ، لأنه إذا قال : (أَحْسَنَ كُلَّ
شَيْءٍ) ، كأن أبلغ من : أحسن خلق كل شيء ، لأنه قد يحسن الخلق ،
وهو المجاز له ، ولا يكون الشيء في نفسه حسنا. فإذا قال : (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ) ، اقتضى أن كل شيء خلقه حسن ، بمعنى : أنه وضع كل شيء في
موضعه. انتهى.
وقيل : في هذا
الوجه ، وهو عود الضمير في خلقه على الله ، يكون بدلا من كل
__________________
شيء ، بدل شيء من
شيء ، وهما لعين واحدة. ومعنى (أَحْسَنَ) : حسن ، لأنه ما من شيء خلقه إلّا وهو مرتب على ما تقضيه
الحكمة. فالمخلوقات كلها حسنة ، وإن تفاوتت في الحسن ، وحسنها من جهة المقصد الذي
أريد بها. ولهذا قال ابن عباس : ليست القردة بحسنة ، ولكنها متقنة محكمة. وعلى
قراءة من سكن لام خلقه ، قال مجاهد : أعطى كل جنس شكله ، والمعنى : خلق كل شيء على
شكله الذي خصه به. وقال الفراء : ألهم كل شيء خلقه فيما يحتاجون إليه ، كأنه
أعلمهم ذلك ، فيكون كقوله : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ
خَلْقَهُ) . وقرأ الجمهور : بدأ بالهمز ؛ والزهري : بالألف بدلا من
الهمزة ، وليس بقياس أن يقول في هدأ : هدا ، بإبدال الهمزة ألفا ، بل قياس هذه
الهمزة التسهيل بين بين ؛ على أن الأخفش حكى في قرأت : قريت ونظائره. وقيل : وهي
لغية ؛ والأنصار تقول في بدأ : بدى ، بكسر عين الكلمة وياء بعدها ، وهي لغة لطي.
يقولون في فعل هذا نحو بقي : بقأ ، فاحتمل أن تكون قراءة الزهري على هذه اللغة
أصله بدى ، ثم صار بدأ ، أو على لغة الأنصار. وقال ابن رواحة :
باسم الإله وبه
بدينا
|
|
ولو عبدنا غيره
شقينا
|
(وَبَدَأَ
خَلْقَ الْإِنْسانِ) : هو آدم ، عليه الصلاة والسلام. (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) : أي ذريته. نسل من الشيء : انفصل منه. (ثُمَّ سَوَّاهُ) : قومه وأضاف الروح إلى ذاته دلالة على أنه خلق عجيب ، لا
يعلم حقيقته إلا هو ، وهي إضافة ملك إلى مالك وخلق إلى خالق تعالى. (وَجَعَلَ لَكُمُ) : التفات ، إذ هو خروج من مفرد غائب إلى جمع مخاطب ،
وتعديد للنعم ، وهي شاملة لآدم ؛ كما أن التسوية ونفخ الروح شامل له ولذريته.
والظاهر أن (وَقالُوا) الضمير لجمع ، وقيل : القائل أبيّ بن خلف ، وأسند إلى
الجمع لرضاهم به ، والناصب للظرف محذوف يدل عليه (أَإِنَّا) وما بعدها تقديره انبعث. (أَإِذا ضَلَلْنا) ، ومن قرأ إذا بغير استفهام ، فجواب إذا محذوف ، أي : إذا
ضللنا في الأرض نبعث ، ويكون إخبارا منهم على طريق الاستهزاء. وكذلك من قرأ : إنا
على الخبر ، أكدوا ذلك الاستهزاء باستهزاء آخر. وقرأ الجمهور : بفتح اللام ،
والمضارع يضل بكسر عين الكلمة ، وهي اللغة الشهيرة الفصيحة ، وهي لغة نجد. قال
مجاهد : هلكنا ، وكل شيء غلب عليه غيره حتى تلف وخفي فقد هلك ، وأصله من : ضل
الماء في اللبن ، إذا ذهب. وقال قطرب : ضللنا : غبنا في الأرض ، وأنشد قول النابغة
الذبياني :
__________________
فآب مضلوه بعين
جلية
|
|
وغودر بالجولان
حزم ونائل
|
وقرأ يحيى بن يعمر
، وابن محيصن ، وأبو رجاء ، وطلحة ، وابن وثاب : بكسر اللام ، والمضارع بفتحها ،
وهي لغة أبي العالية. وقرأ أبو حيوة : ضللنا ، بالضاد المنقوطة وضمها وكسر اللام
مشددة ، ورويت عن علي. وقرأ علي ، وابن عباس ، والحسن ، والأعمش ، وأبان بن سعيد
بن العاص : صللنا ، بالصاد المهملة وفتح اللام ، ومعناه : أنتنا. وعن الحسن :
صللنا ، بكسر اللام ، يقال : صل يصل ، بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع ؛
وصل يصل : بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع ؛ وأصل يصل ، بالهمزة على وزن
أفعل. قال الشاعر :
تلجلج مضغة فيها
أبيض
|
|
أصلت فهي تحت
الكشح داء
|
وقال الفراء :
معناه صرنا بين الصلة ، وهي الأرض اليابسة الصلبة. وقال النحاس : لا نعرف في اللغة
صللنا ، ولكن يقال : أصل اللحم وصل ، وأخم وخم إذا أنتن ، وحكاه غيره. (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) : جاحدون بلقاء الله والصيرورة إلى جزائه. ثم أمره تعالى
أن يخبرهم بجملة الحال غير مفصلة ، من قبض أرواحهم ، ثم عودهم إلى جزاء ربهم
بالبعث. و (مَلَكُ الْمَوْتِ) : اسمه عزرائيل ، ومعناه عبد الله. وقرأ الجمهور : (تُرْجَعُونَ) ، مبنيا للمفعول ؛
وزيد بن علي : مبنيا للفاعل.
(وَلَوْ تَرى) : الظاهر أنه خطاب للرسول ، وقيل : له ولأمته ، أي : ولو
ترى يا محمد منكري البعث يوم القيامة لرأيت العجب. وقال أبو العباس : المعنى يا
محمد قل للمجرم. (وَلَوْ تَرى) : رأى أن الجملة معطوفة على (يَتَوَفَّاكُمْ) ، داخلة تحت (قُلْ) ، فلذلك لم يجعله خطابا للرسول. والظاهر أن لو هنا لم تشرب
معنى التمني ، بل هي التي لما كان سيقع لوقوع غيره ، والجواب محذوف ، أي لرأيت
أسوأ حال يرى. ولو تعليق في الماضي ، وإذ ظرف للماضي ، فلتحقق الأخبار ووقوعه قطعا
أتى بهما تنزيلا منزلة الماضي. وقال الزمخشري : يجوز أن يكون خطابا لرسول الله ،
وفيه وجهان : أحدهما : أن يراد به التمني ، كأنه قيل : وليتك ترى ، والتمني له ،
كما كان الترجي له في : (لَعَلَّهُمْ
يَهْتَدُونَ) ، لأنه تجرع منهم الغصص ومن عداوتهم وضرارهم ، فجعل الله
له ، تمنى أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الحياء والخزي والغم ليشمت بهم ، وأن
تكون لو امتناعية ، وقد حذف جوابها ، وهو : لرأيت أمرا فظيعا. ويجوز أن يخاطب به
كل أحد ، كما تقول : فلان لئيم إن
أكرمته أهانك ،
وإن أحسنت إليه أساء إليك ، فلا يريد به مخاطبا بعينه ، وكأنك قلت : إن أكرم وإن
أحسن إليه. انتهى. والتمني بلو في هذا الموضع بعيد ، وتسمية لو امتناعية ليس بجيد
، بل العبارة الصحيحة لو لما كان سيقع لوقوع غيره ، وهي عبارة سيبويه ، وقوله قد
حذف جوابها وتقديره : وليتك ترى ما يدل على أنها كانت إذا للتمني لا جواب لها ،
والصحيح أنها إذا أشربت معنى التمني ، يكون لها جواب كحالها إذا لم تشربه. قال
الشاعر :
فلو نبش المقابر
عن كليب
|
|
فيخبر بالذنائب
أي زير
|
بيوم الشعشمين
لقر عينا
|
|
وكيف لقاء من
تحت القبور
|
وقال الزمخشري :
وقد تجيء لو في معنى التمني ، كقولك : لو تأتيني فتحدثني ، كما تقول : ليتك تأتيني
فتحدثني. فقال ابن مالك : إن أراد به الحذف ، أي وددت لو تأتيني فصحيح ، وإن أراد
أنها موضوعة للتمني فغير صحيح ، لأنها لو كانت موضوعة له ، ما جاز أن يجمع بينها
وبين فعل التمني. لا يقال : تمنيت ليتك تفعل ، ويجوز : تمنيت لو تقوم. وكذلك امتنع
الجمع بين لعل والترجي ، وبين إلا واستثنى. انتهى. (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) : مطرقوها ، من الذل والحزن والهم والغم والذم. وقرأ زيد
بن علي : نكسوا رؤوسهم ، فعلا ماضيا ومفعولا ؛ والجمهور : اسم فاعل مضاف. (عِنْدَ رَبِّهِمْ) : أي عند مجازاته ، وهو مكان شدة الخجل ، لأن المربوب إذا
أساء ووقف بين يدي ربه كان في غاية الخجل. (رَبَّنا) : على إضمار يقولون ، وقدره الزمخشري : يستغيثون بقولهم : (رَبَّنا أَبْصَرْنا) ما كنا نكذب ؛ (وَسَمِعْنا) : ما كنا ننكر ؛ وأبصرنا صدق وعدك ووعيدك ، وسمعنا تصديق
رسلك ، وكنا عميا وصما فأبصرنا وسمعنا ، فارجعنا إلى الدنيا. (إِنَّا مُوقِنُونَ) : أي بالبعث ، قاله النقاش ؛ وقيل : مصدقون بالذي قال
الرسول ، قاله يحيى بن سلام. وموقنون : مشعر بالالتباس في الحال ، أي حين أبصروا
وسمعوا. وقيل : موقنون : زالت الآن عنا الشكوك ، ولم نكن في الدنيا نتدبر ، وكنا
كمن لا يبصر ولا يسمع. وقيل : لك الحجة ، ربنا قد أبصرنا رسلك وعجائب في الدنيا ،
وسمعنا كلامهم فلا حجة لنا ، وهذا اعتراف منهم.
(وَلَوْ شِئْنا
لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ
لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا
بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ
لا
يَسْتَكْبِرُونَ ، تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما
أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ، أَفَمَنْ
كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ، أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ ، وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما
أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ
النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ
الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ، وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ
مُنْتَقِمُونَ).
(لَآتَيْنا كُلَّ
نَفْسٍ هُداها) : أي اخترعنا الإيمان فيها ، كقوله : (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى
النَّاسَ جَمِيعاً) ، و (لَجَمَعَهُمْ عَلَى
الْهُدى) ، و (لَجَعَلَ النَّاسَ
أُمَّةً واحِدَةً) . وقال الزمخشري : على طريق الإلجاء والقسر ، ولكنا بنينا
الأمر على الاختيار دون الاضطرار ، فاستحبوا العمى على الهدى ، فحقت كلمة العذاب
على أهل العمى دون أهل البصر. ألا ترى إلي ما عقبه به من قوله : (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ)؟ فجعل ذوق العذاب نتيجة فعلهم من نسيان العاقبة وقلة الفكر
فيها ، وترك الاستعداد لها. والمراد بالنسيان : خلاف التذكر ، يعني : أن الانهماك
في الشهوات أنهككم وألهاكم عن تذكر العاقبة ، وسلط عليكم نسيانها. ثم قال : (إِنَّا نَسِيناكُمْ) على المقابلة : أي جازيناكم جزاء نسيانكم. وقيل : هو بمعنى
الترك ، قاله ابن عباس وغيره ، أي تركتم الفكر في العاقبة ، فتركناكم من الرحمة.
انتهى. وقوله : على طريق الإلجاء والقسر ، هو قول المعتزلة. وقالت الإمامية : يجوز
أن يريد هداها إلى طريق الجنة في الآخرة ، ولم يعاقب أحدا ، لكن حق القول منه أن
يملأ جهنم ، فلا يجب على الله هداية الكل إليها. قالوا : بل الواجب هداية
المعصومين ؛ فأما من له ذنب ، فجائز هدايته إلى النار جزاء على أفعاله ، وفي جواز
ذلك منع لقطعهم على أن المراد هداها إلى الإيمان. انتهى. و (هذا) : صفة ليومكم ، ومفعول (فَذُوقُوا) محذوف ، أو مفعول فذوقوا هذا العذاب بسبب نسيانكم (لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) ، وهو ما أنتم فيه من نكس الرؤوس والخزي والغم ؛ أو ذوقوا
العذاب المخلد في جهنم. وفي استئناف قوله : (إِنَّا نَسِيناكُمْ) ، وبناء الفعل على إن واسمها تشديد في الانتقام منهم.
(إِنَّما يُؤْمِنُ
بِآياتِنَا) : أثنى تعالى على المؤمنين في وصفهم بالصفة الحسنى ، من
__________________
سجودهم عند
التذكير ، وتسبيحهم وعدم استكبارهم ؛ بخلاف ما يصنع الكفرة من الإعراض عن التذكير
، وقول الهجر ، وإظهار التكبر ؛ وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن. وقال ابن عباس
: السجود هنا بمعنى الركوع. وروي عن ابن جريج : المسجد مكان الركوع ، يقصد من هذا
ويلزم على هذا أن تكون الآية مدنية ومن مذهب ابن عباس أن القارئ للسجدة يركع ،
واستدل بقوله : (وَخَرَّ راكِعاً
وَأَنابَ) . (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ) : أي ترتفع وتتنحى ، يقال : جفا الرجل الموضع : تركه. قال
عبد الله بن رواحة :
نبي تجافى جنبه
عن فراشه
|
|
إذا استثقلت
بالمشركين المضاجع
|
وقال الزجاج
والرماني : التجافي : التنحي إلى جهة فوق. والمضاجع : أماكن الاتكاء للنوم ،
الواحد مضجع ، أي هم منتبهون لا يعرفون نوما. وقال الجمهور : المراد بهذا التجافي
صلاة النوافل بالليل ، وهو قول الأوزاعي ومالك والحسن البصري وأبي العالية وغيرهم.
وفي الحديث ، ذكر قيام الليل ، ثم استشهد بالآية ، يعني الرسول. وقال أبو الدرداء
، وقتادة ، والضحاك : تجافي الجنب : هو أن يصلي العشاء والصبح في جماعة. وقال
الحسن : هو التهجد ؛ وقال أيضا : هو وعطاء : هو العتمة. وفي الترمذي ، عن أنس : نزلت
في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة. وقال قتادة ، وعكرمة : التنفل ما بين المغرب
والعشاء ، (يَدْعُونَ) : حال ، أو مستأنف خوفا وطمعا ، مفعول من أجله ، أو مصدران
في موضع الحال. والظاهر أن الدعاء هو : الابتهال إلى الله ، وقيل : الصلاة.
وقرأ الجمهور : (ما أُخْفِيَ لَهُمْ) ، فعلا ماضيا مبنيا للمفعول ؛ وحمزة ، والأعمش ، ويعقوب :
بسكون لياء ، فعلا مضارعا للمتكلم ؛ وابن مسعود : وما نخفي ، بنون العظمة ؛
والأعمش أيضا : أخفيت. وقرأ محمد بن كعب : ما أخفي ، فعلا ماضيا مبنيا للفاعل.
وقرأ الجمهور : (مِنْ قُرَّةِ) ، على الإفراد. وقرأ عبد الله ، وأبو الدرداء ، وأبو هريرة
، وعوف العقيلي : من قرات ، على الجمع بالألف والتاء ، وهي رواية عن أبي جعفر
والأعمش ؛ و (ما أُخْفِيَ) يحتمل أن تكون موصولة ، وأن تكون استفهامية ، فيكون (تَعْلَمُ) متعلقة. والجملة في موضع المفعول ، إن كان (تَعْلَمُ) مما عدى لواحد ؛ وفي موضع المفعولين إن كانت تتعدى لاثنين
، وتقدم تفسيره في (قُرَّتُ عَيْنٍ) في الفرقان. وفي الحديث ، قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا
خطر على قلب
__________________
بشر ، اقرأوا إن
شئتم : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ
ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)». وقال ابن مسعود : في التوراة مكتوب على الله للذين
تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت إلى آخره. و (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ) : نكرة في سياق النفي ، فيعم جميع الأنفس مما ادّخرا لله
تعالى لأولئك ، وأخفاه من جميع خلائقه مما تقر به أعينهم ، لا يعلمه إلا هو ، وهذه
عدة عظيمة لا تبلغ الأفهام كنهها ، بل ولا تفاصيلها. وقال الحسن : أخفوا اليوم
أعمالا في الدنيا ، فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، وهو تعالى الموفق للعمل الصالح. وقال الزمخشري : فحسم
أطماع المتمنين. انتهى ، وهذه نزغة اعتزالية.
(أَفَمَنْ كانَ
مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً) ، قال ابن عباس وعطاء : نزلت في علي والوليد بن عقبة.
تلاحيا ، فقال له الوليد : أنا أذلق منك لسانا ، وأحدّ سنانا ، وأرد للكتيبة. فقال
له علي : اسكت ، فإنك فاسق. قال الزمخشري : فنزلت عامة للمؤمنين والفاسقين ،
فتناولتهما وكل من في مثل حالهما. وقال الزجاج ، والنحاس : نزلت في علي وعقبة بن
أبي معيط. فعلى هذا تكون الآية مكية ، لأن عقبة لم يكن بالمدينة ، وإنما قتل بطريق
مكة ، منصرف بدر. والجمع في (لا يَسْتَوُونَ) ، والتقسيم بعده ، حمل على معنى من. وقيل : (لا يَسْتَوُونَ) لاثنين ، وهو المؤمن والفاسق ، والتثنية جمع. وقال الزجاج
: ونزول الآية في علي والوليد ، ثم بين انتفاء الاستواء بمقر كل واحد منهما
بالإفراد. والجمهور : (جَنَّاتُ) بالجمع. وقيل : سميت بذلك لما روي عن ابن عباس ، قال :
يأوي إليها أرواح الشهداء. وقيل : هي عن يمين العرش. وقرأ الجمهور : (نُزُلاً) بضم الزاي ؛ وأبو حيوة : بإسكانها. والنزل : عطاء النازل ،
ثم صار عاما فيما يعد للضيف. (وَأَمَّا الَّذِينَ
فَسَقُوا) : أي بالكفر ، (فَمَأْواهُمُ
النَّارُ). قال الزمخشري : ويجوز أن يراد : فجنة مأواهم النار ، أي
النار لهم مكان جنة المأوى للمؤمنين ، كقوله : (فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ) . انتهى وهذا فيه بعد. وإنما يذهب إلى مثل (فَبَشِّرْهُمْ) إذا كان مصرحا به فيقول : قام مقام التبشير العذاب ، وكذلك
قام مقام التحية ضرب وجيع. أما أن تضمر شيئا لكلام مستغنى عنه جار على أحسن وجوه
الفصاحة حتى يحمل الكلام على إضمار ، فليس بجيد.
و (الْعَذابِ الْأَدْنى) ، قال أبيّ ، وابن عباس ، والضحاك ، وابن زيد : مصائب
الدنيا في الأنفس والأموال. وقال ابن مسعود ، والحسن بن علي : هو القتل بالسيف ،
نحو يوم
__________________
بدر. وقال مجاهد :
القتل والجوع لقريش ، وعنه : إنه عذاب القبر. وقال النخعي ، ومقاتل : هو السّنون
التي أجاعهم الله فيها. وقال ابن عباس أيضا : هو الحدود. وقال أبيّ أيضا : هو
البطشة واللزام والدخان. و (الْعَذابِ
الْأَكْبَرِ) ، قال ابن عطية : لا خلاف أنه عذاب الآخرة. وفي التحرير
وأكثرهم على أن العذاب الأكبر عذاب يوم القيامة في النار. وقيل : هو القتل والسبي
والأسر. وعن جعفر بن محمد : أنه خروج المهدي بالسيف. (لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ) ، قال ابن مسعود : لعل من بقي منهم يتوب. وقال أبو العالية
: لعلهم يتوبون. وقال مقاتل : يرجعون عن الكفر إلى الإيمان. وقيل : لعلهم يريدون
الرجوع ويطلبونه لقوله : (فَارْجِعْنا نَعْمَلْ
صالِحاً). وسميت إرادة الرجوع رجوعا ، كما سميت إرادة القيام قياما
في قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) . انتهى. ويقابل الأدنى : الأبعد ، والأكبر : الأصغر. لكن
الأدنى يتضمن الأصغر ، لأنه منقض بموت المعذب والتخويف ، إنما يصلح بما هو قريب ،
وهو العذاب العاجل. والأكبر يتضمن الأبعد ، لأنه واقع في الآخرة ، والتخويف
بالبعيد إنما يصلح بذكر عظمه وشدته ، فحصلت المقابلة من حيث التضمن ، وخرج في كل
منهما بما هو آكد في التخويف.
وقال الزمخشري :
فإن قلت : من أين صح تفسير الرجوع بالتوبة؟ ولعل من الله إرادة ، وإذا أراد الله
شيئا كان ولم يمتنع ، وتوبتهم مما لا يكون ، ألا ترى أنها لو كانت مما يكون لم
يكونوا ذائقين العذاب الأكبر؟ قلت : إرادة الله تتعلق بأفعاله وأفعال عباده ، فإذا
أراد شيئا من أفعاله كان ، ولم يمنع للاقتدار وخلوص الداعي ؛ وأما أفعال عباده ،
فإما أن يريدها وهم مختارون لها ومضطرون إليها بقسره وإلجائه ، فإن أرادها وقدرها
فحكمها حكم أفعاله ، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم أنهم لا يختارونها لم
يقدح ذلك في اقتداره ، كما لا يقدح في اقتدارك إرادتك أن يختار عبدك طاعتك ، وهو
لا يختارها ، لأن اختياره لا يتعلق بقدرتك ، فلم يكن بعده دالا على عجزك. انتهى ،
وهو على مذهب المعتزلة ، وقد ردّ عليهم أهل السنة ، وذلك مقرر في علم الكلام. (مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ
أَعْرَضَ عَنْها) ، بخلاف المؤمنين ، إذا ذكروا بها خروا سجدا. (ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) ، قال الزمخشري : ثم للاستبعاد ، والمعنى : أن الإعراض عن
مثل آيات الله في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل ، والفوز بالسعادة
العظمى بعد التذكير بها مستبعد في العقل ؛
__________________
والعادة ، كما
تقول لصاحبك : وجدت مثل تلك الفرصة ، ثم لم تنتهزها استبعادا لتركه الانتهاز ،
ومنه ثم في بيت الشاعر :
ولا يكشف الغماء
إلا ابن حرة
|
|
يرى غمرات الموت
ثم يزورها
|
استبعد أن يزور
غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدتها. انتهى. (مِنَ الْمُجْرِمِينَ) : عام في كل من أجرم ، فيندرج فيه بجهة الأولوية من كان
أظلم ظالم ؛ والإجرام هنا هو : الكفر. وقال يزيد بن رفيع : هي في أهل القدر ، وقرأ
: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) إلى قوله : (بِقَدَرٍ) . وفي الحديث : «ثلاث من كن فيه فقد أجرم : من عقد لواء في
غير حق ، ومن عق والديه ، ومن نصر ظالما».
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً
لِبَنِي إِسْرائِيلَ ، وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا
صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ، أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ
كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ ، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ
إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ
وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ ، وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ ، قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا
إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ
مُنْتَظِرُونَ).
لما قرر الأصول
الثلاثة : الرسالة ، وبدء الخلق ، والمعاد ، عاد إلى الأصل الذي بدأ به ، وهو
الرسالة التي ليست بدعا في الرسالة ، إذ قد سبق قبلك رسل. وذكر موسى عليهالسلام ، لقرب زمانه ، وإلزاما لمن كان على دينه ؛ ولم يذكر عيسى
، لأن معظم شريعته مستفاد من التوراة ، ولأن أتباع موسى لا يوافقون على نبوته ،
وأتباع عيسى متفقون على نبوة موسى.
و (الْكِتابَ) : التوراة. وقرأ الحسن : في مرية ، بضم الميم ، والظاهر أن
الضمير عائد على موسى ، مضافا إليه على طريق المفعول ، والفاعل محذوف ضمير الرسول
، أي من لقائك موسى ، أي في ليلة الإسراء ، أي شاهدته حقيقة ، وهو النبي الذي أوتي
التوراة ، وقد وصفه الرسول فقال : «آدم طوال جعد ، كأنه من رجال شنوءة حين رآه
ليلة الإسراء» ، قاله أبو العالية وقتادة وجماعة من السلف. وقال المبرد : حين
امتحن الزجاج بهذه المسألة.
__________________
وقيل : عائد على
الكتاب ، فإما مضاف إليه على طريق الفاعل والمفعول محذوف ، أي من لقاء الكتاب موسى
ووصوله إليه ، وإما بالعكس ، أي من لقاء موسى الكتاب وتلقيه. وقيل : يعود على
الكتاب على تقدير مضمر ، أي من لقاء مثله ، أي : إنا آتيناك مثل ما آتينا موسى ،
ولقناك بمثل ما لقن من الوحي ، فلا تك في شك من أنك لقنت مثله ولقيت نظيره ، ونحوه
من لقائه قوله : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى
الْقُرْآنَ) . وقال الحسن : يعود على ما تضمنه القول من الشدة والمحنة
التي لقي موسى ، وذلك إن إخباره بأنه أتى موسى الكتاب كأنه قال : ولقد آتينا موسى
هذا العبء الذي أنت بسبيله ، فلا تمتر أنك تلقى ما لقي هو من المحنة بالناس. انتهى
، وهذا قول بعيد. وأبعد من هذا ، من جعله عائدا على ملك الموت الذي تقدم ذكره ،
والجملة اعتراضية. وقيل : عائد على الرجوع إلى الآخرة ، وفي الكلام تقديم وتأخير ،
والتقدير : ثم إلى ربكم ترجعون.
(فَلا تَكُنْ فِي
مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) : أي من لقاء البعث ، وهذه أنقال كان ينبغي أن ينزه كتابنا
عن نقلها ، ولكن نقلها المفسرون ، فاتبعناهم. والضمير في (وَجَعَلْناهُ) لموسى ، وهو قول قتادة. وقيل : للكتاب ، جعله هاديا من
الضلالة ؛ وخص بني إسرائيل بالذكر ، لأنه لم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل. (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ) : أي من بني إسرائيل ، (أَئِمَّةً) : قادة يقتدى بهم. وقرأ الجمهور : (لَمَّا صَبَرُوا) ، بفتح اللام وشد الميم. وعبد الله وطلحة ، والأعمش ،
وحمزة ، والكسائي ، ورويس : بكسر اللام وتخفيف الميم. (وَكانُوا) : يحتمل أن يكون معطوفا على (صَبَرُوا) ، فيكون داخلا في التعليق. ويحتمل أن يكون عطفا على (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ). وقرأ عبد الله أيضا : بما صبروا ، بباء الجر ، والضمير في
منهم ظاهره يعود على بني إسرائيل. والفصل : يوم القيامة يعم الخلق كلهم. (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) : تقدم الكلام على نحو هذه الآية إعرابا وقراءة وتفسيرا في
طه ، إلا أن هنا : (مِنْ قَبْلِهِمْ) و (يَسْمَعُونَ) ، وهناك : (قَبْلِهِمْ) ، و (لِأُولِي النُّهى) . ويسمعون ، والنهى من الفواصل.
(أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ) : أقام تعالى الحجة على الكفرة بالأمم السالفة الذين كفروا
فأهلكوا ، ثم أقامها عليهم بإظهار قدرته وتنبيههم على البعث ، وتقدّم تفسير (الْجُرُزِ) في الكهف ، وكل أرض جزر داخلة في هذا ، فلا تخصيص لها
بمكان معين. وقال ابن عباس : هي أرض أبين من اليمن ، وهي أرض تشرب بسيول لا تمطر.
وقرىء :
__________________
الجرز ، بسكون
الراء. (فَنُخْرِجُ بِهِ) : أي بالماء ، وخص الزرع بالذكر ، وإن كان يخرج الله به
أنواعا كثيرة من الفواكه والبقول والعشب المنتفع به في الطب وغيره ، تشريفا للزرع
، ولأنه أعظم ما يقصد من النبات ، وأوقع الزرع موقع النبات. وقدمت الأنعام ، لأن
ما ينبت يأكله الأنعام أول فأول ، من قبل أن يأكل بنو آدم الحب. ألا ترى أن القصيل
، وهو شعير يزرع ، تأكله الأنعام قبل أن يسبل ؛ والبرسيم والفصفصة وأمثال ذلك
تبادره الأنعام بالأكل قبل أن يأكل بنو آدم حب الزرع ، أو لأنه غذاء الدواب ،
والإنسان قد يتغذى بغيره من حيوان وغيره ، أو بدأ بالأدنى ثم ترقى إلى الأشرف ،
وهم بنو آدم؟ وقرأ أبو حيوة ، وأبو بكر في رواية : يأكل ، بالياء من أسفل. وقرأ
الجمهور : (يُبْصِرُونَ) ، بياء الغيبة ؛ وابن مسعود : بتاء الخطاب. وجاءت الفاصلة
: (أَفَلا يُبْصِرُونَ) ، لأن ما سبق مرئي ، وفي الآية قبله مسموع ، فناسب : (أَفَلا يَسْمَعُونَ). ثم أخبر تعالى عن الكفرة ، باستعجال فصل القضاء بينهم
وبين الرسول على معنى الهزء والتكذيب. و (الْفَتْحُ) : الحكم ، قاله الجمهور ، وهو الذي يترتب عليه قوله : (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ) إلخ ، ويضعف قول الحسن ومجاهد : فتح مكة ، لعدم مطابقته
لما بعده ، لأن من آمن يوم فتح مكة ، إيمانه ينفعه ، وكذا قول من قال : يوم بدر. (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) : أي لا يؤخرون عن العذاب. ولما عرف غرضهم في سؤالهم على
سبيل الهزء ، وقيل لهم : لا تستعجلوا به ولا تستهزؤا ، فكأن قد حصلتم في ذلك اليوم
وآمنتم ، فلم ينفعكم الإيمان ، واستنظرتم في حلول العذاب ، فلم تنظروا ، فيوم
منصوب بلا ينفع. ثم أمر بالإعراض عنهم وانتظار النصر عليهم والظفر بهم. (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) للغلبة عليكم لقوله : (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا
مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) ، وقيل : إنهم
منتظرون العذاب ، أي هذا حكمهم ، وإن كانوا لا يشعرون. وقرأ اليماني : منتظرون ،
بفتح الظاء ، اسم مفعول ؛ والجمهور : بكسرها ، اسم فاعل ، أي منتظر هلاكهم ، فإنهم
أحقاء أن ينتظر هلاكهم ، يعني : إنهم هالكون لا محالة ، أو : وانتظر ذلك ، فإن
الملائكة في السماء ينتظرونه.
__________________
سورة الأحزاب
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا
أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ
إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ
وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣) ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي
جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ
وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ
وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ
هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي
الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ
وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥)
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ
ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ
مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ
صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ
وَإِذْ زاغَتِ
الْأَبْصارُ
وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠)
هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ
يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ
وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ
يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ
النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ
يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ
سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤)
وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ
عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ
مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ
مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ
بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً
(١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ
هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً
عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ
أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ
سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ
يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا
لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ
كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ
اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ
وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا
هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ
إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما
عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ
بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ
اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا
بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ
وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً
تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ
وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً
(٢٧) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ
الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً
جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ
فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ
النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا
الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ
مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ
وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ
مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ
الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي
بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ
الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣)
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ
اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ
وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ
وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ
وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ
وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً
وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥) وَما
كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ
يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ
فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي
أَنْعَمَ
اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ
وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ
أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا
يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا
مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ
مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ
قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ
رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى
بِاللهِ حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ
رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١)
وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ
وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ
وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ
شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً
مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً
كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها
فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ
إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ
يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ
وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً
إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها
خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ
فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ
وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي
مَنْ
تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ
عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا
يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي
قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ
بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ
إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢) يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ
يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ
فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ
إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا
يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ
وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ
أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ
أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً
أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ
عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ
إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً
(٥٥) إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ
وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً
مُبِيناً (٥٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ
الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ
يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) لَئِنْ لَمْ
يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي
الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ
قَلِيلاً (٦٠)
مَلْعُونِينَ
أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي
الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢)
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما
يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ
الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا
يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ
يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا
رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧)
رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ
اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ
أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ
فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ
مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ
اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ
اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣)
الجوف : معروف ،
وجمعه أجواف. يثرب : مدينة الرسول ، عليهالسلام ، وقيل : أرض المدينة في ناحية منها. الحنجرة : رأس
الغلصمة ، وهي منتهى الحلقوم ؛ والحلقوم : مدخل الطعام والشراب. الأقطار : النواحي
، واحدها قطر ، ويقال : قتر بالتاء ، لغة فيه. عوّق عن كذا : تثبط عنه. سلقه :
اجترأ عليه وضربه ، ويقال : صلقه بالصاد. قال الشاعر :
فصلقنا في مراد
صلقة وصداء لحقتهم بالثلل
وقيل : سلقه :
خاطبه مخاطبة بليغة ، ومنه خطيب سلاق ومسلاق ، ولسان سلاق ومسلاق. السحب : النذر ،
والشيء الذي لا يلتزمه الإنسان ويعتقد الوفاء به. قال الشاعر :
عشية فر
الحارثون بعيد ما
|
|
قضى نحبه في
ملتقى القوم هزبر
|
وقال جرير :
بطخفة جالدنا
الملوك وخيلنا
|
|
عشية بسطام جرين
على نحب
|
أي على أمر عظيم
التزم القيام به ، وقد يسمى الموت نحبا. الصياصي : الحصون ، واحدها صيصية ، وهي كل
ما يمتنع به. ويقال لقرن الصور والظبي ، ولشوكة الديك ، وهي مخلبه الذي في ساقه
لأنه يتحصن به. والصياصي أيضا : شوك الحاكة ، ويتخذ من حديد ، ومنه قول دريد بن
الصمة : كوقع الصياصي في النسيج الممدد الأسوة : القدوة ، وتضم همزته وتكسر ،
ويتأسى بفلان : يقتدي به ؛ والأسوة من الائتساء ، كالقدوة من الاقتداء : اسم وضع
موضع المصدر. التبرج ، قال الليث : تبرجت : أبدت محاسنها من وجهها وجسدها ، ويرى
مع ذلك من عينها حسن نظر. وقال أبو عبيدة : تخرج محاسنها مما تستدعي به شهوة
الرجال ، وأصله من البرج في عينه وفي أسنانه ، برج : أي سعة. الوطر ، قال أبو
عبيدة : كالأرب ، وأنشد للربيع بن أصبغ :
ودعنا قبل أن
نودعه
|
|
لما قضى من
شبابنا وطرا
|
وقال المبرد :
الوطر : الشهوة والمحبة ، يقال : ما قضيت من لقائك وطرا ، أي ما استمتعت بك حتى
تشتهي نفسي وأنشد :
وكيف ثوائي
بالمدينة بعد ما
|
|
قضى وطرا منها
جميل بن معمر
|
الجلباب : ثوب
أكبر من الخمار.
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ
كانَ عَلِيماً حَكِيماً ، وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ
كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ
وَكِيلاً ، ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ
أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ
أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ
الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ، ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ
عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ
وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما
تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ، النَّبِيُّ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ
ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً ،
وَإِذْ
أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ
وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ،
لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً
أَلِيماً).
هذه السورة مدنية.
وتقدم أن نداءه ، صلىاللهعليهوسلم : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ) ، (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) ، هو على سبيل التشريف والتكرمة والتنويه بمحله وفضيلته ،
وجاء نداء غيره باسمه ، كقوله : (يا آدَمُ) ، (يا نُوحُ) ، (يا إِبْراهِيمُ) ، (يا مُوسى) ، (يا داوُدُ) ، (يا عِيسى) . وحيث ذكره على سبيل الأخبار عنه بأنه رسوله ، صرح باسمه
فقال : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللهِ) ، (وَما مُحَمَّدٌ
إِلَّا رَسُولٌ) ، أعلم أنه رسوله ، ولقنهم أن يسموه بذلك. وحيث لم يقصد
الإعلام بذلك ، جاء اسمه كما جاء في النداء : (لَقَدْ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ، (وَقالَ الرَّسُولُ يا
رَبِ) ، (النَّبِيُّ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ) ، وغير ذلك من الآي. وأمره بالتقوى للمتلبس بها ، أمر
بالديمومة عليها والازدياد منها. والظاهر أنه أمر للنبي ، وإذا كان هو مأمورا بذلك
، فغيره أولى بالأمر. وقيل : هو خطاب له لفظا ، وهو لأمّته.
وروي أنه لما قدم
المدينة ، وكان يحب إسلام اليهود ، فبايعه ناس منهم على النفاق ، وكان يلين لهم
جانبه ، وكانوا يظهرون النصائح في طرق المخادعة ، ولحلفه وحرصه على ائتلافهم ربما
كان يسمع منهم ، فنزلت تحذيرا له منهم وتنبيها على عداوتهم. وروي أيضا أن أبا
سفيان ، وعكرمة بن أبي جهل ، وأبا الأعور السلمي قدموا في الموادعة التي كانت
بينهم وبينه ، وقام عبد الله بن أبي ، ومعتب بن قشير ، والجد بن قيس فقالوا له :
ارفض ذكر آلهتنا وقل : إنها تشفع وتنفع ، وندعك وربك ؛ فشق ذلك عليه وعلى المؤمنين
، وهموا بقتلهم ، فنزلت. وناسب أن نهاه عن طاعة الكفار ، وهم المتظاهرون به ، وعن
طاعة المنافقين ، وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر. فالسببان حاويان
الطائفتين ، أي : ولا تطع الكافرين من أهل مكة ، والمنافقين من أهل المدينة ، فيما
طلبوا إليك. وروي أن
__________________
أهل مكة دعوه إلى
أن يرجع إلى دينهم ، ويعطوه شطر أموالهم ، ويزوجه شيبة بن ربيعة بنته ؛ وخوفه
منافقو المدينة أنهم يقتلونه إن لم يرجع ، فنزلت.
ومناسبة أول هذه
السورة لآخر ما قبلها واضحة ، وهو أنه حكى أنهم يستعجلون الفتح ، وهو الفصل بينهم
، وأخبر تعالى أنه يوم الفتح لا ينفعهم إيمانهم ، فأمره في أول هذه السورة بتقوى
الله ، ونهاه عن طاعة الكفار والمنافقين فيما أرادوا به. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) : عليما بالصواب من الخطأ ، والمصلحة من المفسدة ؛ حكيما
لا يضع الأشياء إلا مواضعها منوطة بالحكمة ؛ أو عليما حيث أمر بتقواه ، وأنها تكون
عن صميم القلب ، حكيما حيث نهى عن طاعة الكفار والمنافقين. وقيل : هي تسلية للرسول
، أي عليما بمن يتقي ، حكيما في هدي من شاء وإضلال من شاء. ثم أمره باتباع ما أوحى
إليه ، وهو القرآن ، والاقتصار عليه ، وترك مراسيم الجاهلية. وقرأ أبو عمرو : بما
يعملون ، الأولى والثانية بياء الغيبة ؛ وباقي السبعة : بتاء الخطاب ، فجاز في
الأولى أن يكون من باب الالتفات ، وجاز أن يكون مناسبا لقوله : (وَاتَّبِعْ) ، ثم أمره بتفويض أمره إلى الله. وتقدم الكلام في (كَفى بِاللهِ) في أول ما وقع في القرآن. روي أنه كان في بني فهر رجل فيهم
يقال له : أبو معمر جميل بن أسد ، وقيل : حميد بن معمر بن حبيب بن وهب بن حارثة بن
جمح ، وفيه يقول الشاعر :
وكيف ثوائي بالمدينة
بعد ما
|
|
قضى وطرا منها
جميل بن معمر
|
يدعي أن له قلبين
، ويقال له : ذو القلبين ، وكان يقول : أنا أذكى من محمد وأفهم ؛ فلما بلغته هزيمة
بدر طاش لبه وحدث أبا سفيان بن حرب بحديث كالمختل ، فنزلت. وقال الحسن : هم جماعة
، يقول الواحد منهم : نفس تأمرني ونفس تنهاني. وقيل : إن بعض المنافقين قال إن
محمدا له قلبان ، لأنه ربما كان في شيء ، فنزع في غيره نزعة ثم عاد إلى شأنه ،
فنفى الله ذلك عنه وعن كل أحد. قيل : وجه نظم هذه الآية بما قبلها ، أنه تعالى لما
أمر بالتقوى ، كان من حقها أن لا يكون في القلب تقوى غير الله ، فإن المرء ليس له
قلبان يتقي بأحدهما الله وبالآخر غيره ، وهو لا يتقي غيره إلا بصرف القلب عن جهة
الله إلى غيره ، ولا يليق ذلك بمن يتقي الله حق تقاته. انتهى ، ملخصا. ولم يجعل
الله للإنسان قلبين ، لأنه إما أن يفعل أحدهما مثل ما يفعل الآخر من أفعال القلوب
، فلا حاجة إلى أحدهما ، أو غيره ، فيؤدي إلى اتصاف الإنسان بكونه مريدا كارها
عالما ظانا شاكا موقنا في حال واحدة. وذكر الجوف ، وإن كان المعلوم أن القلب لا
يكون إلا بالجوف ، زيادة
للتصوير والتجلي
للمدلول عليه ، كما قال تعالى : (وَلكِنْ تَعْمَى
الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) . فإذا سمع بذلك ، صور لنفسه جوفا يشتمل على قلبين يسرع إلى
إنكار ذلك.
(وَما جَعَلَ
أَزْواجَكُمُ) : لم يجعل تعالى الزوجة المظاهر منها أما ، لأن الأم
مخدومة مخفوض لها جناح الذل ، والزوجة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره
كالمملوك ، وهما حالتان متنافيتان. وقرأ قالون وقنبل : (اللَّائِي) هنا ، وفي المجادلة والطلاق : بالهمز من غير ياء ؛ وورش :
بياء مختلسة الكسرة ؛ والبزي وأبو عمرو : بياء ساكنة بدلا من الهمزة ، وهو بدل
مسموع لا مقيس ، وهي لغة قريش ؛ وباقي السبعة : بالهمز وياء بعدها. وقرأ عاصم : (تُظاهِرُونَ) بالتاء للخطاب ، وفي المجادلة : بالياء للغيبة ، مضارع
ظاهر ؛ وبشد الظاء والهاء : الحرميان وأبو عمرو ؛ وبشد الظاء وألف بعدها : ابن
عامر ؛ وبتخفيفها والألف : حمزة والكسائي ؛ ووافق ابن عامر الآخرين في المجادلة ؛
وباقي السبعة فيها بشدها. وقرأ ابن وثاب ، فيما نقل ابن عطية : بضم الياء وسكون
الظاء وكسر الهاء ، مضارع أظهر ؛ وفيما حكى أبو بكر الرازي عنه : بتخفيف الظاء ،
لحذفهم تاء المطاوعة وشد الهاء. وقرأ الحسن : تظهرون ، بضم التاء وتخفيف الظاء وشد
الهاء ، مضارع ظهر ، مشدد الهاء. وقرأ هارون ، عن ابي عمرو : تظهرون ، بفتح التاء
والهاء وسكون الظاء ، مضارع ظهر ، مخفف الهاء ، وفي مصحف أبي : تتظهرون ، بتاءين.
فتلك تسع قراءات ، والمعنى : قال لها : أنت علي كظهر أمي. فتلك الأفعال مأخوذة من
هذا اللفظ كقوله : لبى المحرم إذا قال لبيك ، وأفف إذا قال أف. وعدى الفعل بمن ،
لأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية ، فيتجنبون المظاهر منها ، كما يتجنبون المطلقة
، والمعنى : أنه تباعد منها بجهة الظهار وغيره ، أي من امرأته. لما ضمن معنى
التباعد ، عدى بمن ، وكنوا عن البطن بالظهر إبعادا لما يقارب الفرج ، ولكونهم
كانوا يقولون : يحرم إتيان المرأة وظهرها للسماء ، وأهل المدينة يقولون : يجيء
الولد إذ ذاك أحول ، فبالغوا في التغليظ في تحريم الزوجة ، فشبهها بالظهر ، ثم
بالغ فجعلها كظهر أمه. وروي أن زيد بن حارثة من كلب سبي صغيرا ، فاشتراه حكيم بن
حزام لعمته خديجة ، فوهبته لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وجاء أبوه وعمه بفدائه ، وذلك قبل بعثة رسول الله ،
فأعتقه ، وكانوا يقولون : زيد بن محمد ، فنزلت.
(وَما جَعَلَ
أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) الآية : وكانوا في الجاهلية وصدر الإسلام إذا تبنى
__________________
الرجل ولد غيره
صار يرثه. وأدعياء : جمع دعي ، فعيل بمعنى مفعول ، جاء شاذا ، وقياسه فعلى ، كجريح
وجرحى ، وإنما هذا الجمع قياس فعيل المعتل اللام بمعنى فاعل ، نحو : تقي وأتقياء.
شبهوا أدعياء بتقي ، فجمعوه جمعه شذوذا ، كما شذوا في جمع أسير وقتيل فقالوا :
أسراء وقتلاء ، وقد سمع المقيس فيهما فقالوا : أسرى وقتلى. والبنوة تقتضي التأصل
في النسب ، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية ، فلا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون
أصيلا غير أصيل. (ذلِكُمْ) : أي دعاؤهم أبناء مجرد قول لا حقيقة لمدلوله ، إذ لا
يواطئ اللفظ الاعتقاد ، إذ يعلم حقيقة أنه ليس ابنه. (وَاللهُ يَقُولُ
الْحَقَ) : أي ما يوافق ظاهرا وباطنا. (وَهُوَ يَهْدِي
السَّبِيلَ) : أي سبيل الحق ، وهو قوله : (ادْعُوهُمْ
لِآبائِهِمْ) ، أو سبيل الشرع والإيمان. وقرأ الجمهور : يهدي مضارع هدى
؛ وقتادة : بضم الياء وفتح الهاء وشد الدال. و (أَقْسَطُ) : أفعل التفضيل ، وتقدم الكلام فيه في أواخر البقرة ،
ومعناه : أعدل. ولما أمر بأن يدعى المتبنى لأبيه إن علم قالوا : زيد بن حارثة (وَمَوالِيكُمْ) ؛ ولذلك قالوا : سالم مولى أبي حذيفة. وذكر الطبري أن أبا
بكرة قرأ هذه الآية ثم قال : أنا ممن لا يعرف أبوه ، فأنا أخوكم في الدين ومولاكم.
قال الرازي : ولو علم والله أباه حمارا لانتمى إليه ، ورجال الحديث يقولون فيه :
نفيع بن الحارث. وفي الحديث : «من ادعى إلى غير أبيه متعمدا حرم الله عليه الجنة».
(فِيما أَخْطَأْتُمْ
بِهِ) ، قيل : رفع الحرج عنهم فيما كان قبل النهي ، وهذا ضعيف لا
يوصف بالخطأ ما كان قبل النهي. وقيل : فيما سبق إليه اللسان. أما على سبيل الغلط ،
إن كان سبق ذلك إليهم قبل النهي ، فجرى ذلك على ألسنتهم غلطا ، أو على سبيل التحنن
والشفقة ، إذ كثيرا ما يقول الإنسان للصغير : يا بني ، كما يقول للكبير : يا أبي ،
على سبيل التوقير والتعظيم. وما عطف على ما أخطأتم ، أي ولكن الجناح فيما تعمدت
قلوبكم. وأجيز أن تكون ما في موضع رفع بالابتداء ، أي ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه
الجناح. (وَكانَ اللهُ
غَفُوراً) للعامد إذا تاب ، (رَحِيماً) حيث رفع الجناح عن المخطئ.
وكونه ، عليهالسلام ، (أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) : أي أرأف بهم وأعطف عليهم ، إذ هو يدعوهم إلى النجاة ،
وأنفسهم تدعوهم إلى الهلاك. ومنه قوله ، عليهالسلام : «أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها تقحم
الفراش». ومن حيث ينزل لهم منزلة الأب. وكذلك في مصحف أبي ، وقراءة عبد الله : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) : وهو أب لهم ، يعني في الدين. وقال مجاهد : كل نبي أبو
أمته. وقد قيل في قول لوط عليه
السلام : هؤلاء
بناتي ، إنه أراد المؤمنات ، أي بناته في الدين ؛ ولذلك جاء : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) ، أي في الدين. وعنه عليهالسلام : «ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة.
واقرأوا إن شئتم : (النَّبِيُّ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ، فأيما مؤمن هلك وترك مالا ، فليرثه عصبته من كانوا ؛ وإن
ترك دينا أو ضياعا فإلي». قيل : وأطلق في قوله تعالى : (أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ) : أي في كل شيء ، ولم يقيد. فيجب أن يكون أحب إليهم من
أنفسهم ، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها ، وحقوقه آثر ، إلى غير ذلك مما يجب عليهم في
حقه. انتهى. ولو أريد هذا المعنى ، لكان التركيب : المؤمنون أولى بالنبي منهم
بأنفسهم. (وَأَزْواجُهُ
أُمَّهاتُهُمْ) : أي مثل أمهاتهم في التوقير والاحترام. وفي بعض الأحكام :
من تحريم نكاحهن ، وغير ذلك مما جرين فيه مجرى الأجانب. وظاهر قوله : (وَأَزْواجُهُ) : كل من أطلق عليها أنها زوجة له ، عليهالسلام ، من طلقها ومن لم يطلقها. وقيل : لا يثبت هذا الحكم لمطلقة.
وقيل : من دخل بها ثبتت حرمتها قطعا. وهمّ عمر برجم امرأة فارقها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ونكحت بعده ، فقالت له : ولم هذا ، وما ضرب علي حجابا ،
ولا سميت للمسلمين أما؟ فكف عنها. كان أولا بالمدينة ، توارث بأخوة الإسلام
وبالهجرة ، ثم حكم تعالى بأن أولي الأرحام أحق بالتوارث من الأخ في الإسلام ، أو
بالهجرة في كتاب الله ، أي في اللوح المحفوظ ، أو في القرآن من المؤمنين
والمهاجرين ، أي أولى من المؤمنين الذين كانوا يتوارثون بمجرد الإيمان ، ومن
المهاجرين الذين كانوا يتوارثون بالهجرة. وهذا هو الظاهر ، فيكون من هنا كهي في :
زيد أفضل من عمرو. وقال الزمخشري : يجوز أن يكون بيانا لأولي الأرحام ، أي
الأقرباء من هؤلاء ، بعضهم أولى بأن يرث بعضا من الأجانب. انتهى. والظاهر عموم
قوله : (إِلى أَوْلِيائِكُمْ) ، فيشمل جميع أقسامه ، من قريب وأجنبي ، مؤمن وكافر ، يحسن
إليه ويصله في حياته ، ويوصي له عند الموت ، قاله قتادة والحسن وعطاء وابن
الحنفية. وقال مجاهد ، وابن زيد ، والرماني وغيره : (إِلى أَوْلِيائِكُمْ) ، مخصوص بالمؤمنين.
وسياق ما تقدم في
المؤمنين يعضد هذا ، لكن ولاية النسب لا تدفع في الكافر ، إنما تدفع في أن تلقي
إليه بالمودة ، كولي الإسلام. وهذا الاستثناء في قوله : (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا) هو مما يفهم من الكلام ، أي : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلى بِبَعْضٍ) في النفع بميراث وغيره. وعدى بإلى ، لأن المعنى : إلا أن
توصلوا إلى أوليائكم ، كان ذلك إشارة إلى ما في
__________________
الآيتين. (فِي الْكِتابِ) : إما اللوح ، وإما القرآن ، على ما تقدم. (مَسْطُوراً) : أي مثبتا بالأسطار ، وهذه الجملة مستأنفة كالخاتمة ، لما
ذكر من الأحكام ، ولما كان ما سبق أحكام عن الله تعالى ، وكان فيها أشياء مما كانت
في الجاهلية ، وأشياء في الإسلام نسخت. أتبعه بقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ
مِيثاقَهُمْ) : أي في تبليغ الشرائع والدعاء إلى الله ، فلست بدعا في
تبليغك عن الله. والعامل في إذ ، قاله الحوفي وابن عطية ، يجوز أن يكون مسطورا ،
أي مسطورا في أم الكتاب ، وحين أخذنا. وقيل : العامل : واذكر حين أخذنا ، وهذا
الميثاق هو في تبليغ رسالات الله والدعاء إلى الإيمان ، ولا يمنعهم من ذلك مانع ،
لا من خوف ولا طمع. قال الكلبي : أخذ ميثاقهم بالتبليغ. وقال قتادة : بتصديق بعضهم
بعضا ، والإعلان بأن محمدا رسول الله ، وإعلان رسول الله أن لا نبي بعده. وقال
الزجاج وغيره : الذي أخذ عليهم وقت استخراج البشر من صلب آدم كالذر ، قالوا : فأخذ
الله حينئذ ميثاق النبيين بالتبليغ وتصديق بعضهم بعضا ، وبجميع ما تضمنته النبوة.
وروي نحوه عن أبيّ بن كعب ، وخص هؤلاء الخمسة بالذكر بعد دخولهم في جملة النبيين.
وقيل : هم أولو العزم لشرفهم وفضلهم على غيرهم. وقدم محمد صلىاللهعليهوسلم ، لكونه أفضل منهم ، وأكثرهم اتباعا. وقدم نوح في آية
الشورى في قوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) الآية ، لأن إيراده على خلاف. الإيراد ، فهناك أورده على
طريق وصف دين الإسلام بالأصالة ، فكأنه قال : شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه
نوح في العهد القديم ، وبعث عليه محمد خاتم الأنبياء في العهد الحديث ، وبعث عليه
من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير.
والميثاق الثاني
هو الأول ، وكرر لأجل صفته. والغلظ : من صفة الأجسام ، واستعير للمعنى مبالغا في
حرمته وعظمته وثقل فرط تحمله. وقيل : الميثاق الغليظ : اليمين بالله على الوفاء
بما حمله. واللام في (لِيَسْئَلَ) ، قيل : يحتمل أن تكون لام الصيرورة ، أي أخذ الميثاق على
الأنبياء ليصير الأمر إلى كذا. والظاهر أنها لام كي ، أي بعثنا الرسل وأخذنا عليهم
المواثيق في التبليغ ، لكي يجعل الله خلقه فرقتين : فرقة يسألها عن صدقها على معنى
إقامة الحجة ، فتجيب بأنها قد صدقت الله في إيمانها وجميع أفعالها ، فيثيبها على
ذلك ؛ وفرقة كفرت ، فينالها ما أعد لها من العذاب. فالصادقون على هذا المسئولون هم
: المؤمنون. والهاء في (صِدْقِهِمْ) عائدة عليهم ، ومفعول (صِدْقِهِمْ) محذوف
__________________
تقديره : عن صدقهم
عهده. أو يكون (صِدْقِهِمْ) في معنى : تصديقهم ، ومفعوله محذوف ، أي عن تصديقهم
الأنبياء ، لأن من قال للصادق صدقت ، كان صادقا في قوله. أو ليسأل الأنبياء الذي
أجابتهم به أممهم ، حكاه علي بن عيسى ؛ أو ليسأل عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه
عليهم ، حكاه ابن شجرة ؛ أو ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم ، قاله
مجاهد ، وفي هذا تنبيه ، أي إذا كان الأنبياء يسألون ، فكيف بمن سواهم؟ وقال مجاهد
أيضا : (لِيَسْئَلَ
الصَّادِقِينَ) ، أراد المؤدين عن الرسل. انتهى. وسؤال الرسل تبكيت
للكافرين بهم ، كما قال تعالى : (أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) ، وقال تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ
الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) . (وَأَعَدَّ) : معطوف على (أَخَذْنا) ، لأن المعنى : أن الله أكد على الأنبياء الدعاء إلى دينه
لأجل إثابة المؤمنين. (وَأَعَدَّ
لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) ، أو على ما دل عليه : (لِيَسْئَلَ
الصَّادِقِينَ) ، كأنه قال : فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين ، قالهما
الزمخشري. ويجوز أن يكون حذف من الأول ما أثيب به الصادقون ، وهم المؤمنون ، وذكرت
العلة ؛ وحذف من الثاني العلة ، وذكر ما عوقبوا به. وكان التقدير : ليسأل الصادقين
عن صدقهم ، فأثابهم ؛ ويسأل الكافرين عما أجابوا به رسلهم ، كقوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا
أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ، فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) ، و (أَعَدَّ لَهُمْ
عَذاباً أَلِيماً) ، فحذف من الأول ما أثبت مقابله في الثاني ، ومن الثاني ما
أثبت مقابله في الأول ، وهذه طريقة بليغة ، وقد تقدم لنا ذكر ذلك في قوله : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ
الَّذِي يَنْعِقُ) ، وأمعنا الكلام هناك.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيراً ، إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ
وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ
بِاللهِ الظُّنُونَا ، هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً
شَدِيداً ، وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما
وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ، وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ
يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ
النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ
يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً ، وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ
سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً ، وَلَقَدْ
كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ
__________________
لا
يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً ، قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ
الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ
إِلَّا قَلِيلاً ، قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ
بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ
اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ، قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ
وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا
قَلِيلاً ، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ
إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا
ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ
أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ
يَسِيراً ، يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ
يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ
وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً).
ذكرهم الله تعالى
بنعمته عليهم في غزوة الخندق ، وما اتصل بها من أمر بني قريظة ، وقد استوفى ذلك
أهل السير ، ونذكر من ذلك ما له تعلق بالآيات التي نفسرها.
وإذ معمولة لنعمة
، أي إنعامه عليكم وقت مجيء الجنود ، والجنود كانوا عشرة آلاف ، قريش ومن تابعهم
من الأحابيش في أربعة آلاف يقودهم أبو سفيان ، وبنو أسد يقودهم طليحة ، وغطفان
يقودهم عيينة ، وبنو عامر يقودهم عامر بن الطفيل ، وسليم يقودهم أبو الأعور ،
واليهود النضير رؤساؤهم حيي بن أخطب وابنا أبي الحقيق ، وبنو قريظة سيدهم كعب بن
أسد ، وكان بينه وبين الرسول عهد ، فنبذه بسعي حيي بن أخطب. وقيل : فاجتمعوا خمسة
عشر ألفا ، وهم الأحزاب ، ونزلوا المدينة ، فحفروا الخندق بإشارة سليمان ، وظهرت
للرسول به تلك المعجزة العظيمة من كسر الصخرة التي أعوزت الصحابة ثلاث فرق ، ظهرت
مع كل فرقة برقة ، أراه الله منها مدائن كسرى وما حولها ، ومدائن قيصر وما حولها ،
ومدائن الحبشة وما حولها ؛ وبشر بفتح ذلك ، وأقام الذراري والنساء بالآطام ، وخرج
رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمسلمون في ثلاثة آلاف ، فنزلوا بظهر سلع ، والخندق
بينهم وبين المشركين ، وكان ذلك في شوال ، سنة خمس ، قاله ابن إسحاق. وقال مالك :
سنة أربع.
وقرأ الحسن :
وجنودا ، بفتح الجيم ؛ والجمهور : بالضم. بعث الله الصبا لنصرة نبيه ، فأضرت بهم ؛
هدمت بيوتهم ، وأطفأت نيرانهم ، وقطعت حبالهم ، وأكفأت قدورهم ، ولم يمكنهم معها
قرار. وبعث الله مع الصبا ملائكة تشدد الريح وتفعل نحو فعلها. وقرأ أبو عمرو في
رواية ، وأبو بكرة في رواية : لم يروها ، بياء الغيبة ؛ وباقي السبعة ، والجمهور :
بتاء الخطاب. (مِنْ فَوْقِكُمْ) : من أعلى الوادي من قبل مشرق غطفان ، (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) : من أسفل الوادي منه قبل المغرب ، وقريش تحزبوا وقالوا :
نكون جملة حتى
نستأصل محمدا.
وقال مجاهد : (مِنْ فَوْقِكُمْ) ، يريد أهل نجد مع عيينة بن حصن ، و (مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) ، يريد مكة وسائر تهامة ، وهو قول قريب من الأول. وقيل :
إنما يراد ما يختص ببقعة المدينة ، أي نزلت طائفة في أعلى المدينة ، وطائفة في
أسفلها ، وهذا قريب من القول الأول ، وقد يكون ذلك على معنى المبالغة ، أي جاءوكم
من جميع الجهات ، كأنه قيل : إذ جاءوكم محيطين بكم ، كقوله : (يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ
وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) ، المعنى : يغشاهم محيطا بجميع أبدانهم. وزيغ الأبصار :
ميلها عن مستوى نظرها ، فعل الواله الجزع. وقال الفراء : زاغت عن كل شيء ، فلم
تلتفت إلا إلى عدوها. وبلوغ القلوب الحناجر : مبالغة في اضطرابها ووجيبها ، دون أن
تنتقل من مقرها إلى الحنجرة. وقيل : بحت القلوب من شدة الفزع ، فيتصل وجيبها
بالحنجرة ، فكأنها بلغتها. وقيل : يجد خشونة وقلبه يصعد علوا لينفصل ، فالبلوغ ليس
حقيقة. وقيل : القلب عند الغضب يندفع ، وعند الخوف يجتمع فيتقلص بالحنجرة. وقيل :
يفضي إلى أن يسد مخرج النفس ، فلا يقدر المرء أن يتنفس ، ويموت خوفا ، ومثله : (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) . وقيل : إذا انتفخت الرئة من شدّة الفزع والغضب ، أو الغم
الشديد ، ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة ، ومن ثم قيل للجبان ، انتفخ
سحره. والظنون : جمع لما اختلفت متعلقاته ، وإن كان لا ينقاس عند من جمع المصدر
إذا اختلفت متعلقاته ، وينقاس عند غيره ، وقد جاء الظنون جمعا في أشعارهم ، أنشد
أبو عمرو في كتاب الألحان :
إذا الجوزاء
أردفت الثريا
|
|
ظننت بآل فاطمة
الظنونا
|
فظن المؤمنون الخلص
أن ما وعدهم الله من النصر حق ، وأنهم يستظهرون ؛ وظن الضعيف الإيمان مضطربه ،
والمنافقون أن الرسول والمؤمنين سيغلبون ، وكل هؤلاء يشملهم الضمير في (وَتَظُنُّونَ). وقال الحسن : ظنوا ظنونا مختلفة ، ظن المنافقون أن
المسلمين يستأصلون ، وظن المؤمنون أنهم يبتلون. وقال ابن عطية : أي يكادون يضطربون
، ويقولون : ما هذا الخلف للوعد؟ وهذه عبارة عن خواطر خطرت للمؤمنين ، لا يمكن
البشر دفعها. وأما المنافقون فعجلوا ونطقوا. وقال الزمخشري : ظن المؤمنون الثبت
القلوب بالله أن يبتليهم ويفتنهم ، فخافوا الزلل وضعف الاحتمال ؛ والضعاف القلوب
الذين هم على حرف والمنافقون ظنوا بالله ما حكى عنهم ، وكتب : الظنونا والرسولا
والسبيلا في المصحف بالألف ، فحذفها حمزة وأبو عمرو وقفا ووصلا ؛ وابن كثير ،
__________________
والكسائي ، وحفص :
بحذفها وصلا خاصة ؛ وباقي السبعة : بإثباتها في الحالين. واختار أبو عبيد والحذاق
أن يوقف على هذه الكلمة بالألف ، ولا يوصل ، فيحذف أو يثبت ، لأن حذفها مخالف لما
اجتمعت عليه مصاحف الأمصار ، ولأن إثباتها في الوصل معدوم في لسان العرب ، نظمهم
ونثرهم ، لا في اضطرار ولا غيره. أما إثباتها في الوقف ففيه اتباع الرسم وموافقته
لبعض مذاهب العرب ، لأنهم يثبتون هذه الألف في قوافي أشعارهم وفي تصاريفها ،
والفواصل في الكلام كالمصارع. وقال أبو علي : هي رؤوس الآي ، تشبه بالقوافي من حيث
كانت مقاطع ، كما كانت القوافي مقاطع.
و (هُنالِكَ) : ظرف مكان للبعيد هذا أصله ، فيحمل عليه ، أي في ذلك
المكان الذي وقع فيه الحصار والقتال (ابْتُلِيَ
الْمُؤْمِنُونَ) ، والعامل فيه ابتلي. وقال ابن عطية : (هُنالِكَ) ظرف زمان ؛ قال : ومن قال إن العامل فيه (وَتَظُنُّونَ) ، فليس قوله بالقوي ، لأن البداءة ليست متمكنة. وابتلاؤهم
، قال الضحاك : بالجوع. وقال مجاهد : بالحصار. وقيل : بالصبر على الإيمان. (وَزُلْزِلُوا) ، قال ابن سلام : حركوا بالخوف. وقيل ؛ (زُلْزِلُوا) ، فثبتوا وصبروا حتى نصروا. وقيل : حركوا إلى الفتنة
فعصموا. وقرأ الجمهور : وزلزلوا ، بضم الزاي. وقرأ أحمد بن موسى اللؤلؤي ، عن أبي
عمرو : بكسر الزاي ، قال ابن خالويه. وقال الزمخشري ، وعن أبي عمرو : إشمام زاي
زلزلوا. انتهى ، كأنه يعني : إشمامها الكسر ، ووجه الكسر في هذه القراءة الشاذة
أنه أتبع حركة الزاي الأولى بحركة الثانية ، ولم يعتد بالساكن ، كما يعتدّ به من
قال : منتن ، بكسر الميم اتباعا لحركة التاء ، وهو اسم فاعل من أنتن. وقرأ الجمهور
: (زِلْزالاً) ، بكسر الزاي ؛ والجحدري ، وعيسى : بفتحها ، وكذا : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) ، ومصدر فعلل من المضاعف يجوز فيه الكسر والفتح نحو : قلقل
قلقالا. وقد يراد بالمفتوح معنى اسم الفاعل ، فصلصال بمعنى مصلصل ، فإن كان غير
مضاعف ، فما سمع منه على فعلان ، مكسور الفاء نحو : سرهفه سرهافا.
(وَإِذْ يَقُولُ
الْمُنافِقُونَ) : وهم المظهرون للإيمان المبطنون الكفر. (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : هم ضعفاء الإيمان الذين لم يتمكن الإيمان من قلوبهم ،
فهم على حرف ، والعطف دال على التغاير ، نبه عليهم على جهة الذم. لما ضرب رسول
الله صلىاللهعليهوسلم الصخرة ، وبرقت تلك البوارق ، وبشر بفتح فارس والروم
واليمن والحبشة ، قال معتب بن قشير : يعدنا محمد أن نفتح كنوز كسرى وقيصر ومكة ،
ونحن لا يقدر أحدنا أن يذهب إلى
الغائط ، ما يعدنا
إلا غرورا ، أي أمرا يغرنا ويوقعنا فيما لا طاقة لنا به. وقال غيره من المنافقين
نحو ذلك. وقولهم : (ما وَعَدَنَا اللهُ
وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) ، هو على سبيل الهزء ، إذ لو اعتقدوا أنه رسول حقيقة ما
قالوا هذه المقالة ، فالمعنى : ورسوله على زعمكم وزعمه ، وفي معتب ونظرائه نزلت
هذه الآية.
(وَإِذْ قالَتْ
طائِفَةٌ مِنْهُمْ) : أي من المنافقين ، (لا مُقامَ لَكُمْ) في حومة القتال والممانعة ، (فَارْجِعُوا) إلى بيوتكم ومنازلكم ، أمروهم بالهرب عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وقيل : فارجعوا كفارا إلى دينكم الأول وأسلموه إلى
أعدائه. قال السدي : والقائل لذلك عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه. وقال مقاتل :
بنو مسلمة. وقال أوس بن رومان : أوس بن قبطي وأصحابه. وقال الكلبي : بنو حارثة.
ويمكن صحة هذه الأقوال ، فإن فيهم من كان منافقا. (لا مُقامَ لَكُمْ) ، وقرأ السلمي والأعرج واليماني وحفص : بضم الميم ، فاحتمل
أن يكون مكانا ، أي لا مكان إقامة ؛ واحتمل أن يكون مصدرا ، أي لا إقامة. وقرأ أبو
جعفر ، وشيبة ، وأبو رجاء ، والحسن ، وقتادة ، والنخعي ، وعبد الله بن مسلم ،
وطلحة ، وباقي السبعة : بفتحها ، واحتمل أيضا المكان ، أي لامكان قيام ، واحتمل
المصدر ، أي لا قيام لكم. (وَيَسْتَأْذِنُ
فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ) : هو أوس بن قبطي ، استأذن في الدخول إلى المدينة عن اتفاق
من عشيرته. (يَقُولُونَ) : حال ، أي قائلين : (إِنَّ بُيُوتَنا
عَوْرَةٌ) : أي منكشفة للعدو ، وقيل : خالية للسراق ، يقال : أعور
المنزل : انكشف. وقال الشاعر :
له الشدة الأولى
إذا القرن أعورا
وقال ابن عباس :
الفريق بنو حارثة ، وهم كانوا عاهدوا الله لا يولون الأدبار ، اعتذروا بأن بيوتهم
معرضة للعدو ، ممكنة للسراق ، لأنها غير محرزة ولا محصنة ، فاستأذنوه ليحصنوها ثم
يرجعوا إليه ، فأكذبهم الله بأنهم لا يخافون ذلك ، وإنما يريدون الفرار. وقرأ ابن
عباس ، وابن يعمر ، وقتادة ، وأبو رجاء ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، وأبو طالوت
، وابن مقسم ، وإسماعيل بن سليمان عن ابن كثير : عورة وبعوزة ، بكسر الواو فيهما ؛
والجمهور : بإسكانها. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون تخفيف عورة وبالكسر هو اسم
فاعل. وقال ابن جني : صحة الواو في هذا إشارة لأنها متحركة قبلها فتحة. انتهى.
فيعني أنها تنقلب ألفا ، فيقال : عارة ، كما يقول : رجل مال ، أي ممول. وإذا كان
عورة اسم فاعل ، فهو من عور الذي صحت عينه ، فاسم الفاعل كذلك تصح عينه ، فلا تكون
صحة العين على هذا شذوذا. وقيل : السكون على أنه مصدر وصف به ، والبيت العور : هو
المنفرد المعرض
لمن أراد سوءا.
وقال الزجاج : عور المكان يعور عورا وعورة فهو عور ، وبيوت عورة. وقال الفراء :
أعور المنزل : بدا منه عورة ، وأعور الفارس : كان فيه موضع خلل للضرب والطعن. قال
الشاعر :
متى تلقهم لم
تلق في البيت معورا
|
|
ولا الضيف
مسحورا ولا الجار مرسلا
|
قال الكلبي : (عَوْرَةٌ) : خالية من الرجال ضائعة. وقال قتادة : قاصية ، يخشى عليها
العدو. وقال السدي : قصيرة الحيطان ، يخاف عليها السراق. وقال الليث : العورة :
سوءة الإنسان ، وكل أمر يستحيا منه فهو عورة ، يقال : عورة في التذكير والتأنيث ،
والجمع كالمصدر. وقال ابن عباس : قالت اليهود لعبد الله ابن أبي ابن سلول وأصحابه
من المنافقين : ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان وأصحابه؟ فارجعوا إلى
المدينة فأنتم آمنون. (إِنْ يُرِيدُونَ
إِلَّا فِراراً) : من الدين ، وقيل : من القتل. وقال الضحاك : ورجع ثمانون
رجلا من غير إذن للنبي صلىاللهعليهوسلم. والضمير في : (دُخِلَتْ) ، الظاهر عوده على البيوت ، إذ هو أقرب مذكور. قيل : أو
على المدينة ، أي ولو دخلها الأحزاب الذين يفرون خوفا منها ؛ والثالث على أهاليهم
وأولادهم. (ثُمَّ سُئِلُوا
الْفِتْنَةَ) : أي الردة والرجوع إلى إظهار الكفر ومقاتلة المسلمين. (لَآتَوْها) : أي لجاءوا إليها وفعلوا على قراءة القصر ، وهي قراءة
نافع وابن كثير. وقرأ باقي السبعة : لآتوها بالمد ، أي لأعطوها. (وَما تَلَبَّثُوا بِها) : وما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم (إِلَّا يَسِيراً) ، فإن الله يهلكهم ويخرجهم بالمؤمنين. قال ابن عطية : ولو
دخلت المدينة من أقطارها ، واشتد الحرب الحقيقي ، ثم سئلوا الفتنة والحرب لمحمد صلىاللهعليهوسلم ، لطاروا إليها وأتوها مجيبين فيها ، ولم يتلبثوا في
بيوتهم لحفظها إلا يسيرا ، قيل : قدر ما يأخذون سلاحهم. انتهى. وقرأ الجمهور :
سئلوا ، وقرأ الحسن : سولوا ، بواو ساكنة بعد السين المضمومة ، قالوا : وهي من سال
يسال ، كخاف يخاف ، لغة من سأل المهموز العين. وحكى أبو زيد : هما يتساولان. انتهى.
ويجوز أن يكون أصلها الهمز ، لأنه يجوز أن يكون سولوا على قول من يقول في ضرب ضرب
، ثم سهل الهمزة بإبدالها واوا على قول من قال في بؤس بوس ، بإبدال الهمزة واوا
لضمة ما قبلها. وقرأ عبد الوارث ، عن أبي عمرو والأعمش : سيلوا ، بكسر السين من
غير همز ، نحو : قيل. وقرأ مجاهد : سوئلوا ، بواو بعد السين المضمومة وياء مكسورة
بدلا من الهمزة.
وقال الضحاك : (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) : أي القتال في العصبية ، لأسرعوا إليه. وقال
الحسن : الفتنة ،
الشرك ، والظاهر عود الضمير بها على الفتنة. وقيل : يعود على المدينة. و (عاهَدُوا) : أجرى مجرى اليمين ، ولذلك يتلقى بقوله : (لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ). وجواب هذا القسم جاء على الغيبة عنهم على المعنى : ولو
جاء كما لفظوا به ، لكان التركيب : لا نولي الأدبار. والذين عاهدوا : بنو حارثة
وبنو مسلمة ، وهما الطائفتان اللتان هما بالفشل في يوم أحد ، ثم تابوا وعاهدوا أن
لا يفروا ، فوقع يوم الخندق من بني حارثة ذلك الاستئذان. قال ابن عباس : عاهدوا
بمكة ليلة العقبة أن يمنعوه مما يمنعون منهم أنفسهم. وقيل : ناس غابوا عن وقعة بدر
قالوا : لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن من قبل : أي من قبل هذه الغزوة ، غزوة
الخندق. (لا يُوَلُّونَ
الْأَدْبارَ) : كناية عن الفرار والانهزام ، سئلوا مطلوبا مقتضى حتى
يوفى به ، وفي ذلك تهديد ووعيد.
(قُلْ لَنْ
يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ) : خطاب توبيخ وإعلام أن الفرار لا ينجي من القدر ، وأنه
تنقطع أعمارهم في يسير من المدة ، واليسير : مدة الآجال ، قال الربيع بن خيثم : وجواب
الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه ، أي : (إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ
الْمَوْتِ) ، أو القتل ، لا ينفعكم الفرار ، لأن مجيء الأجل لا بد
منه. وإذا هنا تقدّمها حرف عطف ، فلا يتحتم إعمالها ، بل يجوز ، ولذلك قرأ بعضهم :
وإذا لا يلبثوا خلفك في سورة الإسراء ، بحذف النون. ومعنى خلفك : أي بعد فراقهم
إياك. و (قَلِيلاً) : نعت لمصدر محذوف ، أي تمتيعا قليلا ، أو لزمان محذوف ،
أي زمانا قليلا. ومرّ بعض المروانية على حائط مائل فأسرع ، فتليت له هذه الآية ،
فقال : ذلك القليل نطلب. وقرأ الجمهور : (لا تُمَتَّعُونَ) ، بتاء الخطاب ؛ وقرئ : بياء الغيبة. و (مَنْ ذَا) : استفهام ، ركبت ذا مع من وفيه معنى النفي ، أي لا أحد
يعصمكم من الله. قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة
، ولا عصمة إلا من السوء؟ قلت : معناه أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة ، فاختصر
الكلام وأجرى مجرى قوله :
متقلدا سيفا ورمحا
أو حمل الثاني على
الأول لما في العصمة من معنى المنع. انتهى.
أما الوجه الأول
ففيه حذف جملة لا ضرورة تدعو إلى حذفها ، والثاني هو الوجه ، لا سيما إذا قدر مضاف
محذوف ، أي يمنعكم من مراد الله. والقائلين لإخوانهم كانوا ، أي
__________________
المنافقون ،
يثبطون إخوانهم من ساكني المدينة من أنصار رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، يقولون : ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ، ولو كانوا لحما
لالتهمهم أبو سفيان ، فخلوهم. وقيل : هم اليهود ، كانوا يقولون لأهل المدينة :
تعالوا إلينا وكونوا معنا. وقال ابن زيد : انصرف رجل من عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، يوم الأحزاب ، فوجد شقيقه عنده سويق ونبيذ ، فقال : أنت
هاهنا ورسول الله صلىاللهعليهوسلم بين الرماح والسيوف؟ فقال : هلم إليه ، فقد أحيط بك
وبصاحبك. والذي يحلف به لا يستقبلها محمد أبدا ، فقال : كذبت والذي يحلف به ،
ولأخبرنه بأمرك. فذهب ليخبره ، فوجد جبريل قد نزل بهذه الآية. وقال ابن السائب :
هي في عبد الله بن أبيّ ، ومعتب بن قشير ، ومن رجع من المنافقين من الخندق إلى
المدينة. فإذا جاءهم المنافق قالوا له : ويحك اجلس ولا تخرج ، ويكتبون إلى إخوانهم
في العسكر أن ائتونا فإنا ننتظركم. وكانوا لا يأتون العسكر إلا أن يجدوا بدا من
إتيانه ، فيأتون ليرى الناس وجوههم ، فإذا غفل عنهم عادوا إلى المدينة ، فنزلت.
وتقدم الكلام في (هَلُمَّ) في أواخر الأنعام. وقال الزمخشري : وهلموا إلينا ، أي
قربوا أنفسكم إلينا ، قال : وهو صوت سمي به فعل متعد مثل : احضر واقرب. انتهى.
والذي عليه النحويون
أن هلم ليس صوتا ، وإنما هو مركب مختلف في أصل تركيبه ؛ فقيل : هو مركب من ها التي
للتنبيه ولم ، وهو مذهب البصريين. وقيل : من هل وأم ، والكلام على ترجيح المختار
منهما مذكور في النحو. وأما قوله : سمي به فعل متعد ، ولذلك قدر (هَلُمَّ إِلَيْنا) : أي قربوا أنفسكم إلينا ؛ والنحويون : أنه متعد ولازم ؛
فالمتعدي كقوله : (قُلْ هَلُمَّ
شُهَداءَكُمُ) : أي احضروا شهداءكم ، واللازم كقوله : (هَلُمَّ إِلَيْنا) ، وأقبلوا إلينا. (وَلا يَأْتُونَ
الْبَأْسَ) : أي القتال ، (إِلَّا قَلِيلاً). يخرجون مع المؤمنين ، يوهمونهم أنهم معهم ، ولا نراهم
يقاتلون إلا شيئا قليلا إذا اضطروا إليه ، كقوله : (ما قاتَلُوا إِلَّا
قَلِيلاً). وقلته إما لقصر زمانه ، وإما لقلة عقابه ، وإنه رياء
وتلميع لا تحقيق.
(أَشِحَّةً) : جمع شحيح ، وهو البخيل ، وهو جمع لا ينقاس ، وقياسه في
الصفة المضعفة العين واللام فعلاء نحو : خليل وأخلاء ؛ فالقياس أشحاء ، وهو مسموع
أيضا ، ومتعلق الشح بأنفسهم ، أو بأحوالهم ، أو بأموالهم في النفقات في سبيل الله
، أو بالغنيمة عند القسم ، أقوال. والصواب : أن يعم شحهم كل ما فيه منفعة
للمؤمنين. وقال الزمخشري : (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) في وقت الحرب ، أضناء بكم ، يترفرفون عليكم ، كما يفعل
__________________
الرجال بالذاب عن
المناضل دونه عند الخوف. (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) في تلك الحالة ، كما ينظر المغشي عليه من معالجة سكرات
الموت ، حذرا وخورا ولواذا ، فإذا ذهب الخوف وحيزت الغنائم ووقعت القسمة ، نقلوا
ذلك الشح وتلك الضنة والرفرفة عليكم إلى الخير ، وهو المال والغنيمة وسوء تلك
الحالة الأولى ، واجترءوا عليكم وضربوكم بألسنتهم ، وقالوا : وفروا قسمتنا ، فإنا
قد شاهدناكم وقاتلنا معكم ، وبمكاننا غلبتم عدوكم ، وبنا نصرتم عليهم. انتهى. وهو
تكثير وتحميل للفظ ما لا يحتمله كعادته. وقرأ الجمهور : (أَشِحَّةً) ، بالنصب. قال الفراء : على الذم ، وأجاز نصبه على الحال ،
والعامل يعوقون. وقال الطبري : حال من (هَلُمَّ إِلَيْنا). وقال الزجاج : حال من (وَلا يَأْتُونَ) ؛ وقيل : حال من (الْمُعَوِّقِينَ) ؛ وقيل : من (الْقائِلِينَ) ، ورد القولان بأن فيهما تفريقا بين الموصول وما هو من
تمام صلته. وقرأ ابن أبي عبلة : أشحة ، بالرفع على إضمار مبتدأ ، أي هم أشحة.
(فَإِذا جاءَ
الْخَوْفُ) من العدو ، وتوقع أن يستأصل أهل المدينة ، لاذ هؤلاء
المنافقون بك ينظرون نظر الهلوع المختلط النظر ، الذي يغشى عليه من الموت. و (تَدُورُ) : في موضع الحال ، أي دائرة أعينهم. (كَالَّذِي) : في موضع الصفة لمصدر محذوف ، وهو مصدر مشبه ، أي دورانا
كدوران عين الذي يغشى عليه. فبعد الكاف محذوفان وهما : دوران وعين ، ويجوز أن يكون
في موضع الصفة لمصدر من (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) ، نظرا كنظر الذي يغشى عليه. وقيل : إذا جاء الخوف من
القتال ، وظهر المسلمون على أعدائهم ، (رَأَيْتَهُمْ
يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ) في رؤوسهم ، وتجول وتضطرب رجاء أن يلوح لهم. قال قتادة :
بسطوا ألسنتهم فيكم. قال يزيد بن رومان : في أذى المؤمنين وسبهم وتنقيص الشرع.
وقال قتادة : في طلب العطاء من الغنيمة ، والإلحاف في المسألة. وقيل : السلق في
مخادعة المؤمنين بما يرضيهم من القول على جهة المصانعة والمجاملة. وقرأ الجمهور : (سَلَقُوكُمْ) ، بالسين ؛ وابن أبي عبلة : بالصاد. وقرأ ابن أبي عبلة :
أشحة بالرفع ، أي هم أشحة ؛ والجمهور : بالنصب على الحال من (سَلَقُوكُمْ) ، وعلى الخبر يدل على عموم الشح في قوله أولا : (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ). وقيل : في هذا : أشحة على مال الغنائم. وقيل : على مالهم
الذي ينفقونه. وقيل : على الرسول بظفره.
(أُولئِكَ لَمْ
يُؤْمِنُوا) ، إشارة إلى المنافقين : أي لم يكن لهم قط إيمان. والإحباط
: عدم قبول أعمالهم ، فكانت كالمحبطة. وقال الزمخشري : فإن قلت : هل يثبت للمنافق
عمل حتى يرد عليه الإحباط؟ قلت : لا ، ولكن تعليم لمن عسى يظن أن الإيمان باللسان
إيمان ، وإن لم
يواطئه القلب ؛ وأن ما يعمله المنافق من الأعمال يجزى عليه. فبين أن إيمانه ليس
بإيمان ، وأن كل عمل يوجد منه باطل. انتهى ، وفي كلامه استعمال عسى صلة لمن ، وهو
لا يجوز. وقال ابن زيد ، عن أبيه : نزلت في رجل بدري ، نافق بعد ذلك ووقع في هذه
المعاني ، فأحبط الله عمله في بدر وغيرها. وكان ذلك ، أي الإحباط ، أو حالهم من
شحهم ونظرهم ، يسيرا لا يبالى به ، ولا له أثر في دفع خير ، ولا عليه شر. وقال
الزمخشري : (عَلَى اللهِ يَسِيراً) ، معناه : أن أعمالهم حقيقة بالإحباط ، تدعو إليه الدواعي
، ولا يصرف عنه صارف. انتهى. وهي ألفاظ المعتزلة.
(يَحْسَبُونَ) أنهم لم يرحلوا ، (وَإِنْ يَأْتِ
الْأَحْزابُ) كرة ثانية ، تمنوا لخوفهم بما منوا به عند الكرة أنهم
مقيمون في البدو مع الأعراب ، وهم أهل العمود ، يرحلون من قطر إلى قطر ، يسألون من
قدم من المدينة عما جرى عليكم من قتال الأحزاب ، يتعرفون أحوالكم بالاستخبار ، لا
بالمشاهدة ، فرقا وجبنا ، وغرضهم من البداوة أن يكونوا سالمين من القتال ، ولو
كانوا فيكم ولم يرجعوا إلى المدينة ، وكان قتال لم يقاتلوا إلا قليلا ، لعلة ورياء
وسمعة. قال ابن السائب : رميا بالحجارة خاصة دون سائر أنواع القتال. وقرأ الجمهور
: (بادُونَ) ، جمع سلامة لباد. وقرأ عبد الله ، وابن عباس ، وابن يعمر
، وطلحة : بدى على وزن فعل ، كفاز وغزى ، وليس بقياس في معتل اللام ، بل شبه بضارب
، وقياسه فعلة ، كقاض وقضاة. وعن ابن عباس : بدا فعلا ماضيا ؛ وفي رواية صاحب
الإقليد : بدى بوزن عدى. وقرأ الجمهور : (يَسْئَلُونَ) ، مضارع سأل. وحكى ابن عطية أن أبا عمرو وعاصما والأعمش
قرأوا : يسالون ، بغير همز ، نحو قوله : (سَلْ بَنِي
إِسْرائِيلَ) ، ولا يعرف ذلك عن أبي عمرو وعاصم ، ولعل ذلك في شاذهما ؛
ونقلهما صاحب اللوامح عن الحسن والأعمش. وقرأ زيد بن علي ، وقتادة ، والجحدري ،
والحسن ، ويعقوب بخلاف عنهما : يسأل بعضهم بعضا ، أي يقول بعضهم لبعض : ماذا سمعت
وماذا بلغك؟ أو يتساءلون الأعراب ، كما تقول : تراءينا الهلال. ثم سلى الله نبيه
عنهم وحقر شأنهم بأن أخبر أنهم لو حضروا ما أغنوا وما قاتلوا إلا قتالا قليلا. قال
: هو قليل من حيث هو رياء ، ولو كان كثيرا.
(لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ
__________________
كَثِيراً
، وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ
وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً
وَتَسْلِيماً ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ
فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا
تَبْدِيلاً ، لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ
الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً
رَحِيماً ، وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً
وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً ،
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً
، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها
وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً).
الظاهر أن الخطاب
في قوله : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ) ، للمؤمنين ، لقوله قبل : (وَلَوْ كانُوا
فِيكُمْ) ، وقوله بعد : (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا
اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ). والمعنى : أنه ، صلىاللهعليهوسلم ، لكم فيه الاقتداء. فكما نصركم ووازركم حتى قاتل بنفسه
عدوكم ، فكسرت رباعيته الكريمة ، وشج وجهه الكريم ، وقتل عمه ، وأوذي ضروبا من
الإيذاء ؛ يجب عليكم أن تنصروه وتوازروه ، ولا ترغبوا بأنفسكم عن نفسه ، ولا عن مكان
هو فيه ، وتبذلوا أنفسكم دونه ؛ فما حصل لكم من الهداية للإسلام أعظم من كل ما
تفعلونه معه ، صلىاللهعليهوسلم ، من النصرة والجهاد في سبيل الله ، ويبعد قول من قال : إن
خطاب للمنافقين. (وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) : يوم القيامة. وقيل : يوم السياق. و (أُسْوَةٌ) : اسم كان ، و (لَكُمْ) : الخبر ، ويتعلق (فِي رَسُولِ اللهِ) بما يتعلق به (لَكُمْ) ، أو يكون في موضع الحال ، لأنه لو تأخر جاز أن يكون نعتا
لأسوة ، أو يتعلق بكان على مذهب من أجاز في كان وأخواتها الناقصة أن تعمل في الظرف
والمجرور ، ويجوز أن يكون (فِي رَسُولِ اللهِ) الخبر ، ولكم تبيين ، أي لكم ، أعني : (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ). قال الزمخشري : بدل من لكم ، كقوله : (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ
مِنْهُمْ) . انتهى. ولا يجوز على مذهب جمهور البصريين أن يبدل من ضمير
المتكلم ، ولا من ضمير المخاطب ، اسم ظاهر في بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة
، وأجاز ذلك الكوفيون والأخفش ، ويدل عليه قول الشاعر :
بكم قريش كفينا
كل معضلة
|
|
وأمّ نهج الهدى
من كان ضليلا
|
وقرأ الجمهور :
إسوة بكسر الهمزة ؛ وعاصم بضمها. والرجاء : بمعنى الأمل أو الخوف. وقرن الرجاء
بذكر الله ، والمؤتسي برسول الله ، هو الذي يكون راجيا ذاكرا. ولما بين تعالى
__________________
المنافقين وقولهم
: (ما وَعَدَنَا اللهُ
وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) ، بين حال المؤمنين ، وقولهم صدّ ما قال المنافقون. وكان
الله وعدهم أن يزلزلهم حتى يستنصروه في قوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) الآية. فلما جاء الأحزاب ، ونهض بهم للقتال ، واضطربوا ، (قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ
وَرَسُولُهُ) ، وأيقنوا بالجنة والنصر. وعن ابن عباس ، قال النبي صلىاللهعليهوسلم ، لأصحابه : «إن الأحزاب سائرون إليكم تسعا أو عشرا» ، أي
في آخر تسع ليال أو عشر. فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك. وقيل : الوعد هو
ما جاء في الآية مما وعده عليهالسلام حين أمر بحفر الخندق ، فإنه أعلمهم بأنهم يحضرون ، وأمرهم
بالاستعداد لذلك ، وأعلمهم أنهم سينصرون بعد ذلك. فلما رأوا الأحزاب قالوا ذلك ،
فسلموا لأول الأمر ، وانتظروا آخره. وهذا إشارة إلى الخطب ، إيمانا بالله وبما
أخبر به الرسول مما لم يقع ، كقولك : فتح مكة وفارس والروم ، فالزيادة فيما يؤمن ،
لا في نفس الإيمان.
وقرأ ابن أبي عبلة
: وما زادوهم ، بالواو ، وضمير الجمع يعود على الأحزاب ، وتقول : صدقت زيدا الحديث
، وصدقت زيدا في الحديث. وقد عدت صدق هذه في ما يتعدى بحرف الجر ، وأصله ذلك ، ثم
يتسع فيه فيحذف الحرف ويصل الفعل إليه بنفسه ، ومنه قولهم في المثل : صدقني سن
بكره ، أي في سن بكره. فما عاهدوا ، إما أن يكون على إسقاط الحرف ، أي فيما عاهدوا
، والمفعول الأول محذوف ، والتقدير : صدقوا الله ، وإما أن يكون صدق يتعدى إلى
واحد ، كما تقول : صدقني أخوك إذا قال لك الصدق ، وكذبك أخوك إذا قال لك الكذب.
وكان المعاهد عليه مصدوقا مجازا ، كأنهم قالوا للمعاهد عليه : سنفي لك ، وهم وافون
به ، فقد صدقوه ، ولو كانوا ناكثين لكذبوه ، وكان مكذوبا. وهؤلاء الرجال ، قال
مقاتل والكلبي : هم أهل العقبة السبعون ، أهل البيعة. وقال أنس : نزلت في قوم لم
يشهدوا بدرا ، فعاهدوا أن لا يتأخروا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فوفوا. وقال زيد بن رومان : بنو حارثة.
(فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى
نَحْبَهُ) ، وهذا تجوز ، لأن الموت أمر لا بد منه أن يقع بالإنسان ،
فسمي نحبا لذلك. وقال مجاهد : قضى نحبه : أي عهده. قال أبو عبيدة : نذره. وقال
الزمخشري : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى
نَحْبَهُ) ، يحتمل موته شهيدا ، ويحتمل وفاءه بنذره من الثبات مع
رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وقالت فرقة : الموصوفون بقضاء النحب جماعة من الصحابة
وفوا
__________________
بعهود الإسلام على
التمام. فالشهداء منهم ، والعشرة الذين شهد لهم الرسول بالجنة ، منهم من حصل في
هذه المرتبة بما لم ينص عليه ، ويصحح هذا القول رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وقد سئل من الذي قضى نحبه وهو على المنبر؟ فدخل طلحة بن
عبيد الله فقال : هذا ممن قضى نحبه. (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَنْتَظِرُ) : إذا فسر قضاء النحب بالشهادة ، كان التقدير : ومنهم من
ينتظر الشهادة ؛ وإذا فسر بالوفاء لعهود الإسلام ، كان التقدير : ومنهم من ينتظر
الحصول في أعلى مراتب الإيمان والصلاح. وقال مجاهد : ينتظر يوما فيه جهاد ، فيقضي
نحبه. (وَما بَدَّلُوا) : لا المستشهدون ، ولا من ينتظر. وقد ثبت طلحة يوم أحد حتى
أصيبت يده ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أوجب طلحة» ، وفيه تعريض لمن بدل من المنافقين حين ولوا
الأدبار ، وكانوا عاهدوا لا يولون الأدبار.
(لِيَجْزِيَ اللهُ
الصَّادِقِينَ) : أي الذين (صَدَقُوا ما عاهَدُوا
اللهَ عَلَيْهِ) ، (بِصِدْقِهِمْ) : أي بسبب صدقهم. (وَيُعَذِّبَ
الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ) ، وعذابهم متحتم. فكيف يصح تعليقه على المشيئة ، وهو قد
شاء تعذيبهم إذا وفوا على النفاق؟ فقال ابن عطية : تعذيب المنافقين ثمرته إدامتهم
الإقامة على النفاق إلى موتهم ، والتوبة موازية لتلك الإقامة ، وثمرة التوبة تركهم
دون عذاب. فهما درجتان : إقامة على نفاق ، أو توبة منه. وعنهما ثمرتان : تعذيب ،
أو رحمة. فذكر تعالى ، على جهة الإيجاز ، واحدة من هاتين ، وواحدة من هاتين. ودل
ما ذكر على ما ترك ذكره ، ويدلك على أن معنى قوله : (وَيُعَذِّبَ) ، أي : ليديم على النفاق ، قوله : (إِنْ شاءَ) ، ومعادلته بالتوبة ، وحذف أو. انتهى. وكان ما ذكر يؤول
إلى أن التقدير : ليقيموا على النفاق ، فيموتوا عليه ، إن شاء فيعذبهم ، أو يتوب
عليهم فيرحمهم. فحذف سبب التعذيب ، وأثبت المسبب ، وهو التعذيب. وأثبت سبب الرحمة
والغفران ، وحذف المسبب ، وهو الرحمة والغفران ، وهذا من الإيجاز الحسن. وقال
الزمخشري : ويعذبهم إن شاء إذا لم يتوبوا ، ويتوب عليهم إذا تابوا. انتهى. ولا
يجوز تعليق عذابهم إذا لم يتوبوا بمشيئته تعالى ، لأنه تعالى قد شاء ذلك وأخبر أنه
يعذب المنافقين حتما لا محالة. واللام في (لِيَجْزِيَ) ، قيل : لام الصيرورة ؛ وقيل : لام التعليل ، ويتعلق بقوله
: (وَما بَدَّلُوا
تَبْدِيلاً). قال الزمخشري : جعل المنافقون كأنهم قصدوا عاقبة السوء
وأرادوها بتبديلهم ، كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم ، لأن كلا الفريقين
مسوق إلى عاقبة من الثواب والعقاب ، فكأنهما استويا في طلبهما والسعي لتحصيلهما. وقال
السدي : المعنى : إن شاء يميتهم على نفاقهم ، أو يتوب عليهم بفعلهم من النفاق
بتقبلهم الإيمان.
وقيل : يعذبهم في
الدنيا إن شاء ، ويتوب عليهم إن شاء. (إِنَّ اللهَ كانَ
غَفُوراً رَحِيماً) : غفورا للحوية ، رحيما بقبول التوبة.
(وَرَدَّ اللهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا) الأحزاب عن المدينة ، والمؤمنين إلى بلادهم. (بِغَيْظِهِمْ) : فهو حال ، والباء للمصاحبة ؛ و (لَمْ يَنالُوا) : حال ثانية ، أو من الضمير في بغيظهم ، فيكون حالا
متداخلة. وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون الثانية بيانا للأولى ، أو استئنافا.
انتهى. ولا يظهر كونها بيانا للأولى ، ولا للاستئناف ، لأنها تبقى كالمفلتة مما
قبلها. (وَكَفَى اللهُ
الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) ، بإرسال الريح والجنود ، وهم الملائكة ، فلم يكن قتال بين
المؤمنين والكفار. وقيل : المراد علي بن أبي طالب ومن معه ، برزوا للقتال ودعوا
إليه. وقتل علي من الكفار عمرو بن عبيد مبارزة ، حين طلب عمرو المبارزة ، فخرج
إليه علي ، فقال : إني لا أوثر قتلك لصحبتي لأبيك ، فقال له علي : فأنا أوثر قتلك
، فقتله علي مبارزة. واقتحم نوفل بن الحارث ، من قريش ، الخندق بفرسه ، فقتل فيه.
وقتل من الكفار أيضا : منبه بن عثمان ، وعبيد بن السباق. واستشهد من المسلمين ، في
غزوة الخندق : معاذ ، وأنس بن أوس بن عتيك ، وعبد الله بن سهل ، وأبو عمرو ، وهم
من بني عبد الأشهل ؛ والطفيل بن النعمان ، وثعلبة بن غنمة ، وهما من بني سلمة ؛
وكعب بن زيد ، من بني ذبيان بن النجار ، أصابه سهم غرب فقتله. ولم تغز قريش
المسلمين بعد الخندق ، وكفى الله مداومة القتال وعودته بأن هزمهم بعد ذلك ، وذلك
بقوته وعزته. وعن أبي سعيد الخدري : حبسنا يوم الخندق ، فلم نصل الظهر ، ولا العصر
، ولا المغرب ، ولا العشاء ، حتى كان بعد هوي من الليل ، كفينا وأنزل الله تعالى :
(وَكَفَى اللهُ
الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) ، فأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، بلالا ، فأقام وصلى الظهر فأحسنها ، ثم كذلك كل صلاة
بإقامة.
(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ
ظاهَرُوهُمْ) : أي أعانوا قريشا ومن معهم من الأحزاب من أهل الكتاب ، هم
يهود بني قريظة ، كما هو قول الجمهور. وعن الحسن : بنو النضير. وقذف الرعب سبب
لإنزالهم ، ولكنه قدم المسبب ، لما كان السرور بإنزالهم أكثر والإخبار به أهم قدم.
وقال رجل : يا رسول الله ، مر بنا دحية الكلبي على بغلة بيضاء عليها قطيفة ديباج ،
فقال : «ذلك جبريل ، عليهالسلام ، بعث إلى بني قريظة ، يزلزل بهم حصونهم ، ويقذف الرعب في
قلوبهم». ولما رجعت الأحزاب ، جاء جبريل وقت الظهر فقال : إن الله يأمرك بالخروج
إلى بني قريظة. فنادى في الناس : «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» ، فخرجوا
إليها ، فمصل في الطريق ، ورأى أن ذلك خرج مخرج التأكيد والاستعجال ؛
ومصل بعد العشاء ،
وكل مصيب. فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة ، وقيل : إحدى وعشرين ، وقيل : خمسة عشر.
فنزلوا على حكم سعد بن معاذ الأوسي ، لحلف كان بينهم ، رجوا حنوه عليهم ، فحكم أن
يقتل المقاتلة ويسبي الذرية والعيال والأموال ، وأن تكون الأرض والثمار للمهاجرين
دون الأنصار. فقالت له الأنصار في ذلك ، فقال : أردت أن يكون لهم أموال كما لكم ،
فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرفعة» ، ثم
استنزلهم ، وخندق لهم في سوق المدينة ، وقدمهم فضرب أعناقهم ، وهم من بين ثمانمائة
إلى تسعمائة. وقيل : كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير. وجيء يحيي بن أخطب النضيري
، وهو الذي كان أدخلهم في الغدر برسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فدخل عندهم وفاء لهم ، فترك فيمن ترك على حكم سعد. فلما
قرب ، وعليه حلتان تفاحيتان ، مجموعة يداه إلى عنقه ، أبصر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال : يا محمد! والله ما لمت نفسي في عداوتك ، ولكن من
يخذل الله يخذل. ثم قال : أيها الناس ، إنه لا بأس أمر الله وقدره ، ومحنة كتبت
على بني إسرائيل ، ثم تقدم فضربت عنقه. وقال فيه بعض بني ثعلبة :
لعمرك ما لام
ابن أخطب نفسه
|
|
ولكنه من يخذل
الله يخذل
|
لا جهد حتى أبلغ
النفس عذرها
|
|
وقلقل يبغي الغد
كل مقلقل
|
وقتل من نسائهم
امرأة ، وهي لبابة امرأة الحكم القرظي ، كانت قد طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتل
؛ ولم يستشهد في حصار بني قريظة غيره. ومات في الحصار أبو سفيان بن محصن ، أخو
عكاشة بن محصن ، وكان فتح قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة. وقرأ الجمهور
: وتأسرون ، بتاء الخطاب وكسر السين ؛ وأبو حيوة : بضمها ؛ واليماني : بياء الغيبة
؛ وابن أنس ، عن ابن ذكوان : بياء الغيبة في : (تَقْتُلُونَ
وَتَأْسِرُونَ). (وَأَوْرَثَكُمْ) : فيه إشعار أنه انتقل إليهم ذلك بعد موت أولئك المقتولين
ومن نقلهم من أرضهم ، وقدمت لكثرة المنفعة بها من النخل والزرع ، ولأنهم
باستيلائهم عليها ثانيا وأموالهم ليستعان بها في قوة المسلمين للجهاد ، ولأنها
كانت في بيوتهم ، فوقع الاستيلاء عليها ثالثا. (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) : وعد صادق في فتح البلاد ، كالعراق والشام واليمن ومكة ،
وسائر فتوح المسلمين. وقال عكرمة : أخبر تعالى أن قد قضى بذلك. وقال الحسن : أراد
الروم وفارس. وقال قتادة : كنا نتحدث أنها مكة. وقال مقاتل ، ويزيد بن رومان ،
وابن زيد : هي خيبر ؛ وقيل : اليمن ؛ ولا وجه لهذه التخصيصات ، ومن بدع
التفاسير أنه أراد
نساءهم. وقرأ الجمهور : تطؤوها ، بهمزة مضمومة بعدها واو. وقرأ زيد بن علي : لم
تطوها ، بحذف الهمزة ، أبدل همزة تطأ ألفا على حد قوله :
إن السباع لتهدا
في مرابضها
|
|
والناس لا يهتدى
من شرهم أبدا
|
فالتقت ساكنة مع
الواو فحذفت ، كقولك : لم تروها. وختم تعالى : هذه الآية بقدرته على كل شيء ، فلا
يعجزه شيء ، وكان في ذلك إشارة إلى فتحه على المسلمين الفتوح الكثيرة ، وأنه لا
يستبعد ذلك ، فكما ملكهم هذه ، فكذلك هو قادر على أن يملكهم غيرها من البلاد.
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا
وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً ،
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ
أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ، يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ
يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ
وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ، وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها
رِزْقاً كَرِيماً ، يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ
اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ
مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً ، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ
تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ
وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ
الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ، وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى
فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً
خَبِيراً ، إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ
وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ
وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ
وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ
لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً).
سبب نزولها أن
أزواجه ، صلىاللهعليهوسلم ، تغايرن وأردن زيادة في كسوة ونفقة ، فنزلت. ولما نصر
الله نبيه وفرق عنه الأحزاب وفتح عليه قريظة والنضير ، ظن أزواجه أنه اختص بنفائس
اليهود وذخائرهم ، فقعدن حوله وقلن : يا رسول الله ، بنات كسرى وقيصر في الحلي
والحلل والإماء والخول ، ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق. وآلمن قلبه بمطالبتهن
له بتوسعة الحال ، وأن يعاملهن بما يعامل به الملوك والأكابر أزواجهم ، فأمره الله
أن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن ؛ وأزواجه إذ ذاك تسع : عائشة بنت أبي بكر ، وحفصة
بنت عمر ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأم سملة بنت أبي أمية ،
وهؤلاء من قريش. ومن غير قريش : ميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش
الأسدية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية ، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية.
وقال أبو القاسم
الصيرفي : لما خير رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة ، فاختار الآخرة ، وأمر
بتخيير نسائه ليظهر صدق موافقتهن ، وكان تحته عشر نساء ، زاد الحميرية ، فاخترن
الله ورسوله إلا الحميرية. وروي أنه قال لعائشة ، وبدأ بها ، وكانت أحبهن إليه : «إني
ذاكر لك أمرا ، ولا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك». ثم قرأ عليها القرآن
، فقالت : أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ، لا تخبر
أزواجك أني اخترتك ، فقال : «إنما بعثني الله مبلغا ولم يبعثني متعنتا». والظاهر
أنهن إذا اخترن الحياة الدنيا وزينتها ، متعهن رسول الله وطلقهن ، وأنه ليس
باختيارهن ذلك يقع الفراق دون أن يوقعه هو. وقال الأكثرون : هي آية تخيير ، فإذا
قال لها : اختاري ، فاختارت زوجها ، لم يكن ذلك طلاقا. وعن علي : تكون واحدة رجعية
، وإن اختارت نفسها ، وقعت طلقة بائنة عند أبي حنيفة وأصحابه ، وهو قول علي ؛
وواحدة رجعية عند الشافعي ، وهو قول عمر وابن مسعود ؛ وثلاث عند مالك. وأكثر الناس
ذهبوا إلى أن الآية في التخيير والطلاق ، وهو قول علي والحسن وقتادة ، قال هذا
القائل. وأما أمر الطلاق فمرجأ ، فإن اخترن أنفسهن ، نظر هو كيف يسرحهن ، وليس
فيها تخيير في الطلاق ، لأن التخيير يتضمن ثلاث تطليقات ، وهو قد قال : (وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) ، وليس مع بت الطلاق سراح جميل. انتهى.
والذي يدل عليه
ظاهر الآية هو ما ذكرناه أولا من أنه علق على إرادتهن زينة الحياة الدنيا وقوع
التمتيع والتسريح منه ، والمعنى في الآية : أنه كان عظيم همكن ومطلبكن التعمق في
الدنيا ونيل نعيمها وزينتها.
وتقدم الكلام في :
(فَتَعالَيْنَ) في قوله تعالى : (فَقُلْ تَعالَوْا
نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ) في آل عمران. (أُمَتِّعْكُنَ) ، قيل : المتعة واجبة في الطلاق ؛ وقيل : مندوب إليها.
والأمر في قوله : (وَمَتِّعُوهُنَ) يقتضي الوجوب في مذهب الفقهاء ، وتقدم الكلام في ذلك ، وفي
تفصيل المذاهب في البقرة. والتسريح الجميل إما في دون البيت ، أو جميل الثناء ،
والمعتقد وحسن العشرة إن كان تاما. وقرأ الجمهور : (أُمَتِّعْكُنَ) ، بالتشديد من متع ؛ وزيد بن علي : بالتخفيف من أمتع.
ومعنى (أَعَدَّ) : هيأ ويسر ، وأوقع الظاهر موقع
__________________
المضمر تنبيها على
الوصف الذي ترتب لهن به الأجر العظيم ، وهو الإحسان ، كأنه قال : أعدلكن ، لأن من
أراد الله ورسوله والدار الآخرة كان محسنا. وقراءة حميد الخراز : (أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَ) ، بالرفع على الاستئناف ؛ والجمهور : بالجزم على جواب
الأمر ، أو على جواب الشرط ، ويكون (فَتَعالَيْنَ) جملة اعتراض بين الشرط وجزائه ، ولا يضر دخول الفاء على
جملة الاعتراض ، ومثل ذلك قول الشاعر :
واعلم فعلم
المرء ينفعه
|
|
إن سوف يأتي كل
ما قدرا
|
ثم نادى نساء
النبي ، ليجعلن بالهن مما يخاطبن به ، إذا كان أمرا يجعل له البال. وقرأ زيد بن
علي ، والجحدري ، وعمرو بن فائد الأسواري ، ويعقوب : تأت ، بتاء التأنيث ، حملا
على معنى من ؛ والجمهور : بالياء ، حملا على لفظ من. (بِفاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ) : كبيرة من المعاصي ، ولا يتوهم أنها الزنا ، لعصمة رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، من ذلك ، ولأنه وصفها بالتبيين والزنا مما يتستر به ،
وينبغي أن تحمل الفاحشة على عقوق الزوج وفساد عشرته. ولما كان مكانهن مهبط الوحي
من الأوامر والنواهي ، لزمهن بسبب ذلك. وكونهن تحت الرسول أكثر مما يلزم غيرهن ،
فضوعف لهن الأجر والعذاب. وقرأ نافع ، وحمزة ، وعاصم ، والكسائي : (يُضاعَفْ) ، بألف وفتح العين ؛ والحسن ، وعيسى ، وأبو عمرو :
بالتشديد وفتح العين ؛ والجحدري ، وابن كثير ، وأبو عامر : بالنون وشد العين
مكسورة ؛ وزيد بن علي ، وابن محيصن ، وخارجة ، عن أبي عمرو : بالألف والنون والكسر
؛ وفرقة : بياء الغيبة والألف والكسر. ومن فتح العين رفع (الْعَذابُ) ، ومن كسرها نصبه. (ضِعْفَيْنِ) : أي عذابين ، فيضاف إلى عذاب سائر الناس عذاب آخر. وقال
أبو عبيدة ، وأبو عمرو فيما حكى الطبري عنهما : إنه يضاف إلى العذاب عذابان ،
فتكون ثلاثة. وكون الأجر مرتين بعد هذا القول ، لأن العذاب في الفاحشة بإزاء الأجر
في الطاعة. (وَكانَ ذلِكَ) : أي تضعيف العذاب عليهن ، (عَلَى اللهِ يَسِيراً) : أي سهلا ، وفيه إعلام بأن كونهن نساء ، مع مقارفة الذنب
، لا يغني عنهن شيئا ، وهو يغني عنهن ، وهو سبب مضاعفة العذاب.
(وَمَنْ يَقْنُتْ) : أي يطع ويخضع بالعبودية لله ، وبالموافقة لرسوله. وقرأ
الجمهور : ومن يقنت بالمذكر ، حملا على لفظ من ، وتعمل بالتاء حملا على المعنى. (نُؤْتِها) : بنون العظمة. وقرأ الجحدري ، والأسواري ، ويعقوب ، في
رواية : ومن تقنت بتاء التأنيث ، حملا على المعنى ، وبها قرأ ابن عامر في رواية ،
ورواها أبو حاتم عن أبي جعفر وشيبة ونافع. وقال ابن خالويه : ما سمعت أن أحدا قرأ
: ومن يقنت ، إلا بالتاء. وقرأ السلمي ،
وابن وثاب ، وحمزة
، والكسائي : بياء من تحت في ثلاثتها. وذكر أبو البقاء أن بعضهم قرأ : ومن يقنت
بالياء ، حملا على المعنى ، ويعمل بالياء حملا على لفظ من قال ؛ فقال بعض النحويين
: هذا ضعيف ، لأن التذكير أصل لا يجعل تبعا للتأنيث ، وما عللوه به قد جاء مثله في
القرآن ، وهو قوله تعالى : (خالِصَةٌ لِذُكُورِنا
وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) . انتهى. وتقدم الكلام على (خالِصَةٌ) في الأنعام. والرزق الكريم : الجنة. قال ابن عطية : ويجوز
أن يكون في ذلك وعد دنياوي ، أي أن أرزاقها في الدنيا على الله ، وهو كريم من حيث
هو حلال وقصد ، وبرضا من الله في نيله. وقال بعض المفسرين : العذاب الذي توعد به
ضعفين هو عذاب الدنيا ، ثم عذاب الآخرة ؛ وكذلك الأجر ، وهو ضعيف. انتهى. وإنما
ضوعف أجرهن لطلبهن رضا رسول الله ، بحسن الخلق وطيب المعاشرة والقناعة والتوقر على
عبادة الله.
(يا نِساءَ النَّبِيِّ
لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) : أي ليس كل واحدة منكن كشخص واحد من النساء ، أي من نساء
عصرك. وليس النفي منصبا على التشبيه في كونهن نسوة. تقول : ليس زيد كآحاد الناس ،
لا تريد نفي التشبيه عن كونه إنسانا ، بل في وصف أخص موجود فيه ، وهو كونه عالما ،
أو عاملا ، أو مصليا. فالمعنى : أنه يوجد فيكن من التمييز ما لا يوجد في غيركن ،
وهو كونكن أمهات المؤمنين وزوجات خير المرسلين. ونزل القرآن فيكن ، فكما أنه عليهالسلام ليس كأحد من الرجال ، كما قال عليهالسلام : «لست كأحدكم» ، كذلك زوجاته اللاتي تشرفن به. وقال
الزمخشري : أحد في الأصل بمعنى وحد ، وهو الواحد ؛ ثم وضع في النفي العام مستويا
فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه ، والمعنى : لستن كجماعة واحدة من جماعات
النساء ، أي إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة ، لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن
في الفضل والسابقة ، ومنه قوله عزوجل : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) ، يريد بين جماعة واحدة منهم ، تسوية بين جميعهم في أنهم
على الحق المبين. انتهى. أما قوله : أحد في الأصل بمعنى : وحد ، وهو الواحد فصحيح.
وأما قوله : ثم وضع ، إلى قوله : وما وراءه ، فليس بصحيح ، لأن الذي يستعمل في
النفي العام مدلوله غير مدلول واحدا ، لأن واحد ينطلق على كل شيء اتصف بالوحدة ،
وأحد المستعمل في النفي العام مخصوص بمن يعقل. وذكر النحويون أن مادته همزة وحاء
ودال ، ومادة أحد بمعنى وحد أصله واو وحاء ودال ، فقد اختلفا مادة ومدلولا.
__________________
وأما قوله : (لَسْتُنَ) كجماعة واحدة ، فقد قلنا : إن قوله (لَسْتُنَ) معناه : ليست كل واحدة منكن ، فهو حكم على كل واحدة واحدة
، ليس حكما على المجموع من حيث هو مجموع. وقلنا : إن معنى كأحد : كشخص واحد ،
فأبقينا أحدا على موضوعه من التذكير ، ولم نتأوله بجماعة واحدة. وأما (وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْهُمْ) ، فاحتمل أن يكون الذي للنفي العام ، ولذلك جاء في سياق
النفي ، فعم وصلحت البينية للعموم. واحتمل أن يكون أحد بمعنى واحد ، ويكون قد حذف
معطوف ، أي بين واحد وواحد من رسله ، كما قال الشاعر :
فما كان بين
الخير لو جا سالما
|
|
أبو حجر إلا
ليال قلائل
|
أي : لستن مثلهن
إن اتقيتن الله ، وذلك لما انضاف مع تقوى الله من صحبة الرسول وعظيم المحل منه ،
ونزول القرآن في بيتهن وفي حقهن. وقال الزمخشري : (إِنِ اتَّقَيْتُنَ) : إن أردتن التقوى ، وإن كن متقيات. (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) : فلا تجبن بقولكنّ خاضعا ، أي لينا خنثا ، مثل كلام
المريبات والمومسات. (فَيَطْمَعَ الَّذِي
فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) : أي ريبة وفجورا. انتهى. فعلى القول الأول يكون (إِنِ اتَّقَيْتُنَ) قيدا في كونهن لسن كأحد من النساء ، ويكون جواب الشرط
محذوفا. وعلى ما قاله الزمخشري ، يكون (إِنِ اتَّقَيْتُنَ) ابتداء شرط ، وجوابه (فَلا تَخْضَعْنَ) ، وكلا القولين فيهما حمل. (إِنِ اتَّقَيْتُنَ) على تقوى الله تعالى ، وهو ظاهر الاستعمال ، وعندي أنه
محمول على أن معناه : إن استقبلتن أحدا ، (فَلا تَخْضَعْنَ). واتقى بمعنى : استقبل معروف في اللغة ، قال النابغة :
سقط النصيف ولم
ترد إسقاطه
|
|
فتناولته
واتقتنا باليد
|
أي : استقبلتنا
باليد ، ويكون هذا المعنى أبلغ في مدحهن ، إذ لم يعلق فضيلتهن على التقوى ، ولا
علق نهيهن عن الخضوع بها ، إذ هن متقيات لله في أنفسهن ، والتعليق يقتضي ظاهره
أنهن لسن متحليات بالتقوى. قال ابن عباس : لا ترخصن بالقول. وقال الحسن : لا تكلمن
بالرفث. وقال الكلبي : لا تكلمن بما يهوى المريب. وقال ابن زيد : الخضوع بالقول ما
يدخل في القلب الغزل. وقيل : لا تلن للرجال القول. أمر تعالى أن يكون الكلام خيرا
، لا على وجه يظهر في القلب علاقة ما يظهر عليه من اللين ، كما كان
__________________
الحال عليه في
نساء العرب من مكالمة الرجال برخيم الصوت ولينه ، مثل كلام المومسات ، فنهاهن عن
ذلك ، وقال الشاعر :
يتكلم لو تستطيع
كلامه
|
|
لانت له أروى
الهضاب الصخر
|
وقال آخر :
لو أنها عرضت
لأشمط راهب
|
|
عبد الإله ضرورة
المتعبد
|
لرنا لرؤيتها
وحسن حديثها
|
|
ولحالها رشدا
وإن لم يرشد
|
وقرأ الجمهور : (فَيَطْمَعَ) ، بفتح الميم ونصب العين ، جوابا للنهي ؛ وأبان بن عثمان ،
وابن هرمز : بالجزم ، فكسرت العين لالتقاء الساكنين ، نهين عن الخضوع بالقول ،
ونهى مريض القلب عن الطمع ، كأنه قيل : لا تخضع فلا تطمع. وقراءة النصب أبلغ ،
لأنها تقتضي الخضوع بسبب الطمع. وقال أبو عمرو الداني : قرأ الأعرج وعيسى : فيطمع
، بفتح الياء وكسر الميم. ونقلها ابن خالويه عن أبي السماء ، قال : وقد روي عن ابن
محيصن ، وذكر أن الأعرج ، وهو ابن هرمز ، قرأ : فيطمع ، بضم الياء وفتح العين وكسر
الميم ، أي فيطمع هو ، أي الخضوع بالقول ؛ والذي مفعول ، أو الذي فاعل والمفعول
محذوف ، أي فيطمع نفسه. والمرض ، قال قتادة : النفاق ؛ وقال عكرمة : الفسق والغزل.
(وَقُلْنَ قَوْلاً
مَعْرُوفاً) : والمحرم ، وهو الذي لا تنكره الشريعة ولا العقول. قال
ابن عباس : المرأة تندب إذا خالطت الأجانب ، عليها بالمصاهرة إلى الغلظة في القول
من غير رفع الصوت ، فإنها مأمورة بخفض الكلام. وقال الكلبي : معروفا صحيحا ، بلا
هجر ولا تمريض. وقال الضحاك : عنيفا ؛ وقيل : خشنا حسنا ؛ وقيل : معروفا ، أي قولا
أذن لكم فيه ؛ وقيل : ذكر الله وما يحتاج إليه من الكلام.
وقرأ الجمهور :
وقرن ، بكسر القاف ، من وقر يقر إذا سكن وأصله ، أوقرن ، مثل عدن من وعد. وذكر أبو
الفتح الهمداني ، في كتاب التبيان ، وجها آخر قال : قار يقار ، إذا اجتمع ، ومنه
القارة لاجتماعها. ألا ترى إلى قول عضل والديش : اجتمعوا فكونوا قارة؟ فالمعنى :
اجمعن أنفسكن في بيوتكن. (وَقَرْنَ) : أمر من قار ، كما تقول : خفن من خاف ؛ أو من القرار ،
تقول : قررت بالمكان ، وأصله : وأقررت ، حذفت الراء الثانية تخفيفا ، كما حذفوا
لام ظللت ، ثم نقلت حركتها إلى القاف فذهبت ألف الوصل. وقال أبو علي : أبدلت الراء
ونقلت حركتها إلى القاف ، ثم حذفت الياء لسكوتها وسكون الراء
بعدها. انتهى ،
وهذا غاية في التحميل كعادته. وقرأ عاصم ونافع : بفتح القاف ، وهي لغة العرب ؛
يقولون : قررت بالمكان ، بكسر الراء وبفتح القاف ، حكاه أبو عبيد والزجاج وغيرهما
، وأنكرها قوم ، منهم المازني ، وقالوا : بكسر الراء ، من قرت العين ، وبفتحها من
القرار. وقرأ ابن أبي عبلة : واقررن ، بألف الوصل وكسر الراء الأولى. وتقدم لنا
الكلام على قررت ، وأنه بالفتح والكسر من القرار ومن القرة. أمرهن تعالى بملازمة
بيوتهن ، ونهاهن عن التبرج ، وأعلم تعالى أنه فعل الجاهلية الأولى ، وكانت عائشة
إذا قرأت هذه الآية بكت حتى تبل خمارها ، تتذكر خروجها أيام الجمل تطلب بدم عثمان.
وقيل لسودة : لم لا تحجين وتعتمرين كما يفعل إخوانك؟ فقالت : قد حججت واعتمرت
وأمرني الله أن أقر في بيتي ، فما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها.
(وَلا تَبَرَّجْنَ) ، قال مجاهد وقتادة : التبرج : التبختر والتغنج والتكسر.
وقال مقاتل : تلقي الخمار على وجهها ولا تشده. وقال المبرد : تبدي من محاسنها ما
يجب عليها ستره. و (الْجاهِلِيَّةِ
الْأُولى) : يدل على أن ثم جاهلية متقدمة وأخرى متأخرة. فقيل : هما
ابنان لآدم ، سكن أحدهما الجبل ، فذكور أولاده صباح وإناثهم قباح ؛ والآخر السهل ،
وأولاده على عكس ذلك. فسوى لهم إبليس عيدا يجتمع جميعهم فيه ، فمال ذكور الجبل إلى
إناث السهل وبالعكس ، فكثرت الفاحشة ، فهو تبرج الجاهلية الأولى. وقال عكرمة
والحكم بن عيينة : ما بين آدم ونوح ، وهي ثمانمائة سنة ، كان الرجال صباحا والنساء
قباحا ، فكانت المرأة تدعو الرجل إلى نفسها. وقال ابن عباس أيضا : الجاهلية الأولى
ما بين إدريس ونوح ، كانت ألف سنة ، تجمع المرأة بين زوج وعشيق. وقال الكلبي وغيره
: ما بين نوح وإبراهيم. قال مقاتل : زمن نمروذ ، بغايا يلبسن أرق الدروع ويمشين في
الطرق. وقال الزمخشري : والجاهلية الأولى هي القديمة التي يقال لها الجاهلية
الجهلاء ، وهي الزمان الذي ولد فيه إبراهيم. كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ ،
فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال. وقال أبو العالية : زمن داود وسليمان ،
كان للمرأة قميص من الدر غير مخيط الجانبين ، يظهر منه الأكعاب والسوأتان. وقال
المبرد : كانت المرأة تجمع بين زوجها وحلمها ، للزوج نصفها الأسفل ، وللحلم نصفها
، يتمتع به في التقبيل والترشف. وقيل : ما بين موسى وعيسى. وقال الشعبي : ما بين
عيسى ومحمد ، عليهما الصلاة والسلام. وقال مقاتل : الأولى زمن إبراهيم ، والثانية
زمن محمد ، عليه الصلاة والسلام ، قبل أن يبعث. وقال الزجاج : الأشبه قول الشعبي ،
لأنهم هم الجاهلية المعروفون ، كانوا يتخذون البغايا.
وإنما قيل الأولى
، لأنه يقال لكل متقدم ومتقدمة أول وأولى ، وتأويله أنهم تقدموا على أمة محمد صلىاللهعليهوسلم ، فهم أولى ، وهم أول من أمة محمد ، عليه الصلاة والسلام.
وقال عمر لابن عباس : وهل كانت الجاهلية إلا واحدة؟ فقال ابن عباس : وهل كانت
الأولى إلا ولها آخرة؟ فقال عمر : لله درك يا ابن عباس.
وقال الزمخشري :
والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد ، عليهما الصلاة والسلام. ويجوز أن يكون
الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام ، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق
والفجور في الإسلام ، فكان المعنى : ولا يجدكن بالتبرج جاهلية في الإسلام يتشبهن
بها بأهل جاهلية الكفر. ويعضده ما روي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قال لأبي الدرداء : «إن فيك جاهلية» ، قال : جاهلية كفر
أم إسلام؟ فقال : «بل جاهلية كفر». انتهى. والمعروف في الحديث أنه عليه الصلاة
والسلام إنما قال : «إنك امرؤ فيك جاهلية» ، لأبي ذر ، رضياللهعنه. وقال ابن عطية : والذي يظهر عندي أنه أشار إلى الجاهلية
التي يخصها ، فأمرن بالنقلة من سيرتهن فيها ، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفر
، ولأنهم كانوا لا غيرة عندهم ، وكان أمر النساء دون حجبة ، وجعلها أولى بالإضافة
إلى حالة الإسلام ، وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى. وقد مر إطلاق اسم الجاهلية على
تلك المدة التي قبل الإسلام ، فقالوا : جاهلي في الشعراء. وقال ابن عباس في
البخاري : سمعت ، أي في الجاهلية إلى غير هذا. انتهى.
(وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ) : أمرهن أمرا خاصا بالصلاة والزكاة ، إذ هما عمودا الطاعة
البدنية والمالية ، ثم جاء بهما في عموم الأمر بالطاعة ، ثم بين أن نهيهن وأمرهن
ووعظهن إنما هو لإذهاب المأثم عنهن وتصونهن بالتقوى. واستعار الرجس للذنوب ،
والطهر للتقوى ، لأن عرض المقترف للمعاصي يتدنس بها ويتلوث ، كما يتلوث بدنه
بالأرجاس. وأما الطاعات ، فالعرض معها نقي مصون كالثوب الطاهر ، وفي هذه الاستعارة
تنفير عما نهى الله عنه ، وترغيب فيما أمر به. والرجس يقع على الإثم ، وعلى العذاب
، وعلى النجاسة ، وعلى النقائص ، فأذهب الله جميع ذلك عن أهل البيت. وقال الحسن :
الرجس هنا : الشرك. وقال السدي : الإثم. وقال ابن زيد : الشيطان. وقال الزجاج :
الفسق ؛ وقيل : المعاصي كلها ، ذكره الماوردي. وقيل : الشك ؛ وقيل : البخل والطبع
؛ وقيل : الأهواء والبدع. وانتصب أهل على النداء ، أو على المدح ، أو على الاختصاص
، وهو قليل في المخاطب ، ومنه :
بك الله نرجو
الفضل
وأكثر ما يكون في
المتكلم ، وقوله :
نحن بنات طارق
|
|
نمشي على
النمارق
|
ولما كان أهل
البيت يشملهن وآباءهن ، غلب المذكر على المؤنث في الخطاب في : (عَنْكُمُ) ، (وَيُطَهِّرَكُمْ). وقول عكرمة ، ومقاتل ، وابن السائب : أن أهل البيت في هذه
الآية مختص بزوجاته عليه ليس بجيد ، إذ لو كان كما قالوا ، لكان التركيب : عنكن
ويطهركن ، وإن كان هذا القول مرويا عن ابن عباس ، فلعله لا يصح عنه. وقال أبو سعيد
الخدري : هو خاص برسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين. وروي نحوه عن أنس وعائشة
وأم سلمة. وقال الضحاك : هم أهله وأزواجه. وقال زيد بن أرقم ، والثعلبي : بنو هاشم
الذين يحرمون الصدقة آل عباس ، وآل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، ويظهر أنهم زوجاته
وأهله ، فلا تخرج الزوجات عن أهل البيت ، بل يظهر أنهن أحق بهذا الاسم لملازمتهن
بيته ، عليه الصلاة والسلام. وقال ابن عطية : والذي يظهر أن زوجاته لا يخرجن عن
ذلك البتة ، فأهل البيت : زوجاته وبنته وبنوها وزوجها. وقال الزمخشري : وفي هذا
دليل على أن نساء النبي من أهل بيته. ثم ذكر لهن أن بيوتهن مهابط الوحي ، وأمرهن
أن لا ينسين ما يتلى فيها من الكتاب الجامع بين أمرين : وهو آيات بينات تدل على
صدق النبوة ، لأنه معجز بنظمه ، وهو حكمة وعلوم وشرائع. (إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) ، حين علم ما ينفعكم ويصلحكم في دينكم فأنزله عليكم ، أو
علم من يصلح لنبوته ومن يصلح لأن تكونوا أهل بيته ، أو حيث جعل الكلام جامعا بين
الغرضين. انتهى. واتصال (وَاذْكُرْنَ) بما قبله يدل على أنهن من البيت ، ومن لم يدخلهن قال : هي
ابتداء مخاطبة. (وَاذْكُرْنَ) ، إما بمعنى احفظن وتذكرنه ، وإما اذكرنه لغيركن واروينه
حتى ينقل. و (مِنْ آياتِ اللهِ) : هو القرآن ، (وَالْحِكْمَةِ) : هي ما كان من حديثه وسنته ، عليه الصلاة والسلام ، غير
القرآن ، ويحتمل أن يكون وصفا للآيات. وفي قوله : (لَطِيفاً) ، تليين ، وفي (خَبِيراً) ، تحذير ما. وقرأ زيد بن علي : ما تتلى بتاء التأنيث ،
والجمهور : بالياء.
وروي أن نساءه
عليه الصلاة والسلام ، قلن : يا رسول الله ، ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكرنا
؛ وقيل : السائلة أم سلمة. وقيل : لما نزل في نسائه ما نزل ، قال نساء المسلمين :
فما نزل فينا شيء ، فنزلت : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ) الآية ، وهذه الأوصاف العشرة
تقدّم شرحها ،
فبدأ أولا بالانقياد الظاهر ، ثم بالتصديق ، ثم بالأوصاف التي بعدهما تندرج في
الإسلام وهو الانقياد ، وفي الإيمان وهو التصديق ، ثم ختمها بخلة المراقبة وهي ذكر
الله كثيرا. ولم يذكر لهذه الأوصاف متعلقا إلا في قوله : (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ) و (الذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً) ، نص على متعلق الحفظ لكونه منزلة العقلاء ومركب الشهوة
الغالبة ، وعلى متعلق الذكر بالاسم الأعظم ، وهو لفظ الله ، إذ هو العلم المحتوي
على جميع أوصافه ، ليتذكر المسلم من تذكره ، وهو الله تعالى ، وحذف من الحافظات
والذاكرات المفعول لدلالة ما تقدّم ، والتقدير : والحافظاتها والذاكراته. (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ) : غلب الذكور ، فجمع الإناث معهم وأدرجهم في الضمير ، ولم
يأت التركيب لهم ولهن.
(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلالاً مُبِيناً ، وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ
عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا
اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى
زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ
اللهِ مَفْعُولاً ، ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ
سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً
مَقْدُوراً ، الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا
يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً ، ما كانَ مُحَمَّدٌ
أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ
اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ
ذِكْراً كَثِيراً ، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي
عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ، تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ
لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً ، يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً
وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ، وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً ،
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً ، وَلا
تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ
وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً).
قال الجمهور ،
وابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد ، وغيرهم : خطب الرسول لزيد زينب بنت جحش ، فأبت
وقالت : لست بناكحة ، فقال : «بلى فأنكحيه فقد رضيته لك» ، فأبت ، فنزلت. وذكر
أنها وأخاها عبد الله كرها ذلك ، فلما نزلت الآية رضيا. وقال ابن زيد : وهبت أم
كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وهي أول امرأة وهبت للنبي صلىاللهعليهوسلم نفسها ، فقال : «قد قبلتك وزوجتك زيد بن حارثة» ، فسخطت هي
وأخوها ، قالا : إنما أردناه فزوجنا عبده ، فنزلت ، والسبب الأول أصح. ومناسبة هذه
الآية أنه لما ذكر تلك الأوصاف السابقة من
الإسلام فما بعده
، عقب ذلك بما صدر من بعض المسلمين ، إذ أشار الرسول بأمر وقع منهم الإباء له ،
فأنكر عليهم ، إذ طاعته ، عليهالسلام ، من طاعة الله ، وأمره من أمره.
و (الْخِيَرَةُ) : مصدر من تخير على غير قياس ، كالطيرة من تطير. وقرئ :
بسكون الياء ، ذكره عيسى بن سليمان. وقرأ الحرميان ، والعربيان ، وأبو جعفر ،
وشيبة ، والأعرج ، وعيسى : أن تكون ، بتاء التأنيث ؛ والكوفيون ، والحسن ، والأعمش
، والسلمي : بالياء. ولما كان قوله : (لِمُؤْمِنٍ وَلا
مُؤْمِنَةٍ) ، يعم في سياق النفي ، جاء الضمير مجموعا على المعنى في
قوله : (لَهُمُ) ، مغلبا فيه المذكر على المؤنث. وقال الزمخشري : كان من حق
الضمير أن يوحد ، كما تقول : ما جاءني من رجل ولا امرأة إلا كان من شأنه كذا.
انتهى. ليس كما ذكر ، لأن هذا عطف بالواو ، فلا يجوز إفراد الضمير إلا على تأويل
الحذف ، أي : ما جاءني من رجل إلا كان من شأنه كذا ، وتقول : ما جاء زيد ولا عمرو
إلا ضربا خالدا ، ولا يجوز إلا ضرب إلا على الحذف ، كما قلنا.
(وَإِذْ تَقُولُ) : الخطاب للرسول ، عليهالسلام. (لِلَّذِي أَنْعَمَ
اللهُ عَلَيْهِ) ، بالإسلام ، وهو أجل النعم ، وهو زيد بن حارثة الذي كان
الرسول تبناه. (وَأَنْعَمْتَ
عَلَيْهِ) : وهو عتقه ، وتقدّم طرف من قصته في أوائل السورة. (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) : وهي زينب بنت جحش ، وتقدّم أن الرسول كان خطبها له. وقيل
: أنعم الله عليه بصحبتك ومودتك ، وأنعمت عليه بتبنيه. فجاء زيد فقال : يا رسول
الله ، إني أريد أن أفارق صاحبتي ، فقال : «أرابك منها شيء؟» قال : لا والله
ولكنها تعظم علي لشرفها وتؤذيني بلسانها ، فقال : «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» ، أي لا تطلقها ، وهو أمر ندب ، «(وَاتَّقِ اللهَ) في معاشرتها». فطلقها ، وتزوجها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، بعد انقضاء عدّتها. وعلل تزويجه إياها بقوله : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
حَرَجٌ) في أن يتزوجوا زوجات من كانوا تبنوه إذا فارقوهن ، وأن
هؤلاء الزوجات ليست داخلات فيما حرم في قوله : (وَحَلائِلُ
أَبْنائِكُمُ) .
وقال علي بن
الحسين : كان قد أوحى الله إليه أن زيدا سيطلقها ، وأنه يتزوجها بتزويج الله
إياها. فلما شكا زيد خلقها ، وأنها لا تطيعه ، وأعلمه بأنه يريد طلاقها ، قال له :
«أَمْسِكْ
عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ» ، على طريق الأدب والوصية ، وهو يعلم أنه سيطلقها. وهذا
هو الذي أخفي في نفسه ، ولم يرد أنه يأمره بالطلاق. ولما علم من أنه سيطلقها ،
__________________
وخشي رسول الله أن
يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد ، وهو مولاه ، وقد أمره بطلاقها ،
فعاتبه الله على هذا القدر في شيء قد أباحه الله بأن قال : (أَمْسِكْ) ، مع علمه أن يطلق ، فأعلمه أن الله أحق بالخشية ، أي في
كل حال. انتهى. وهذا المروي عن علي بن الحسين ، هو الذي عليه أهل التحقيق من
المفسرين ، كالزهري ، وبكر بن العلاء ، والقشيري ، والقاضي أبي بكر بن العربي
وغيرهم. والمراد بقوله : (وَتَخْشَى النَّاسَ) ، إنما هو إرجاف المنافقين في تزويج نساء الأبناء ، والنبي
صلىاللهعليهوسلم معصوم في حركاته وسكناته. ولبعض المفسرين كلام في الآية
يقتضي النقص من منصب النبوة ، ضربنا عنه صفحا. وقيل ؛ قوله (وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ
مَا اللهُ مُبْدِيهِ) : خطاب من الله عزوجل ، أو من النبي صلىاللهعليهوسلم لزيد ، فإنه أخفى الميل إليها ، وأظهر الرغبة عنها ، لما
توهم أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أراد أن تكون من نسائه. انتهى.
وللزمخشري : في
هذه الآية كلام طويل ، وبعضه لا يليق ذكره بما فيه غير صواب مما جرى فيه على مذهب
الاعتزال وغيره ، واخترت منه ما أنصه. قال : كم من شيء يتحفظ منه الإنسان ويستحيي
من إطلاع الناس عليه ، وهو في نفسه مباح متسع وحلال مطلق ، لا مقال فيه ولا عيب
عند الله. وربما كان الدخول في ذلك المباح سلما إلى حصول واجبات ، لعظم أثرها في
الدين ، ويجل ثوابها ، ولو لم يتحفظ منه ، لأطلق كثير من الناس فيه ألسنتهم ، إلا
من أوتي فضلا وعلما ودينا ونظرا في حقائق الأشياء ولبابها دون قشورها. ألا ترى
أنهم كانوا إذا طمعوا في بيوت رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، بقوا مرتكزين في مجالسهم لا يديمون مستأنسين بالحديث.
وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يؤذيه قعودهم ، ويضيق صدره حديثهم ، والحياء يصدّه أن
يأمرهم بالانتشار حتى نزلت : (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ
يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ). ولو أبرز رسول الله صلىاللهعليهوسلم مكنون ضميره ، وأمرهم أن ينتشروا ، لشق عليهم ، ولكان بعض
المقالة. فهذا من ذلك القبيل ، لأن طموح قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته ، من امرأة
أو غيرها ، غير موصوف بالقبح في العقل ولا في الشرع. وتناول المباح بالطريق الشرعي
ليس بقبيح أيضا ، وهو خطبة زينب ونكاحها من غير استنزال زيد عنها ، ولا طلب إليه.
ولم يكن مستنكرا عندهم أن ينزل الرجل منهم عن امرأته لصديقه ، ولا مستهجنا إذا نزل
عنها أن ينكحها الآخر. فإن المهاجرين حين دخلوا المدينة ، استهم الأنصار بكل شيء ،
حتى أن الرجل منهم إذا كانت له امرأتان نزل عن إحداهما وأنكحها المهاجر. وإذا كان
الأمر مباحا من جميع جهاته ، ولم يكن فيه وجه من وجوه القبح ، ولا
مفسدة ولا مضرة
بزيد ولا بأحد ، بل كان مستجرا مصالح ؛ ناهيك بواحدة منها : أن بنت عمة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أمنت الأئمة والضيعة ونالت الشرف وعادت أما من أمّهات
المؤمنين ، إلى ما ذكر الله عزوجل من المصلحة العامّة في قوله : (لِكَيْ لا يَكُونَ) الآية. انتهى ما اخترناه من كلام الزمخشري. وقوله : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ) فيه وصول الفعل الرافع الضمير المتصل إلى الضمير المجرور
وهما لشخص واحد ، فهو كقوله :
هوّن عليك ودع عنك
نهيا صيح في حجراته
وذكروا في مثل هذا
التركيب أن على وعن اسمان ، ولا يجوز أن يكونا حرفين ، لامتناع فكر فيك ، وأعني بك
، بل هذا مما يكون فيه النفس ، أي فكر في نفسك ، وأعني بنفسك ، وقد تكلمنا على هذا
في قوله : (وَهُزِّي إِلَيْكِ) ، (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ
جَناحَكَ) . وقال الحوفي : (وَتُخْفِي فِي
نَفْسِكَ) : مستأنف ، (وَتَخْشَى) : معطوف على وتخفي. وقال الزمخشري : واو الحال ، أي تقول
لزيد : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ
زَوْجَكَ) ، مخفيا في نفسك إرادة أن لا يمسكها ، وتخفي خاشيا قاله
الناس ، أو واو العطف ، كأنه قيل : وأن تجمع بين قولك : (أَمْسِكْ) ، وإخفاء قالة ، وخشية الناس. انتهى. ولا يكون (وَتُخْفِي) حالا على إضمار مبتدأ ، أي وأنت تخفي ، لأنه مضارع مثبت ،
فلا يدخل عليه الواو إلا على ذلك الإضمار ، وهو مع ذلك قليل نادر ، لا يبنى على
مثله القواعد ؛ ومنه قولهم : قمت وأصك عينه ، أي وأنا أصك عينه. (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) : تقدّم إعراب نظيره في التوبة .
(فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ
مِنْها وَطَراً) : أي حاجة ، قيل : وهو الجماع ، قاله ابن عباس. وروى أبو
عصمة : نوح بن أبي مريم ، بإسناد رفعه إلى زينب أنها قالت : ما كنت أمتنع منه ،
غير أن الله منعني منه. وقيل : إنه مد تزوجها لم يتمكن من الاستمتاع بها. وروي أنه
كان يتورم ذلك منه حين يريد أن يقربها. وقال قتادة : الوطر هنا : الطلاق. وقرأ
الجمهور : (زَوَّجْناكَها) ، بنون العظمة ؛ وجعفر بن محمد ، وابن الحنفية ، وأخواه
الحسن والحسين ، وأبوهم علي : زوجتكها ، بتاء الضمير للمتكلم. ونفى تعالى الحرج عن
المؤمنين في إجراء أزواج المتبنين مجرى أزواج البنين في تحريمهن عليهن بعد انقطاع علائق
الزواج بينهم وبينهن. (وَكانَ أَمْرُ اللهِ) : أي مقتضى أمر الله ، أو مضمن أمره. قال ابن عطية : وإلا
فالأمر
__________________
قديم لا يوصف بأنه
مفعول ، ويحتمل على بعد أن يكون الأمر واحد الأمور التي شأنها أن تفعل. وقال
الزمخشري : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ) الذي يريد أن يكونه ، (مَفْعُولاً) : مكونا لا محالة ، وهو مثل لما أراد كونه من تزويج رسول
الله صلىاللهعليهوسلم زينب. ويجوز أن يراد بأمر الله المكون ، لأنه مفعول يكن.
ولما نفى الحرج عن المؤمنين فيما ذكر ، واندرج الرسول فيهم ، إذ هو سيد المؤمنين ،
نفى عنه الحرج بخصوصه ، وذلك على سبيل التكريم والتشريف ، ونفى الحرج عنه مرتين ،
إحداهما بالاندراج في العموم ، والأخرى بالخصوص.
(فِيما فَرَضَ اللهُ
لَهُ) ، قال الحسن : فيما خص به من صحة النكاح بلا صداق. وقال
قتادة : فيما أحل له. وقال الضحاك : في الزيادة على الأربع ، وكانت اليهود عابوه
بكثرة النكاح وكثرة الأزواج ، فرد الله عليهم بقوله : (سُنَّةَ اللهِ) : أي في الأنبياء بكثرة النساء ، حتى كان لسليمان ، عليهالسلام ، ثلاثمائة حرة وسبعماية سرية ، وكان لداود مائة امرأة
وثلاثمائة سرية. وقيل : الإشارة إلى أن الرسول جمع بينه وبين زينب ، كما جمع بين
داود وبين التي تزوجها بعد قتل زوجها. وانتصب (سُنَّةَ اللهِ) على أنه اسم موضوع موضع المصدر ، قاله الزمخشري ؛ أو على
المصدر ؛ أو على إضمار فعل تقديره : ألزم أو نحوه ، أو على الإغراء ، كأنه قال :
فعليه سنة الله. قال ابن عطية : وقوله : أو على الإغراء ، ليس بجيد ، لأن عامل
الاسم في الإغراء لا يجوز حذفه ، وأيضا فتقديره : فعليه سنة الله بضمير الغيبة ،
ولا يجوز ذلك في الإغراء ، إذ لا يغرى غائب. وما جاء من قولهم : عليه رجلا ، ليسنى
له تأويل ، وهو مع ذلك نادر. و (الَّذِينَ خَلَوْا) : الأنبياء ، بدليل وصفهم بعد قوله : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ). (وَكانَ أَمْرُ اللهِ) : أي مأموراته ، والكائنات من أمره ، فهي مقدورة. وقوله : (قَدَراً) : أي ذا قدر ، أو عن قدر ، أو قضاء مقضيا وحكما مثبوتا. و (الَّذِينَ) : صفة للذين خلوا ، أو مرفوع ، أو منصوب على إضمارهم ، أو
على أمدح. وقرأ عبد الله : الذين بلغوا ، جعله فعلا ماضيا. وقرأ أبي : رسالة الله
على التوحيد ؛ والجمهور : يبلغون رسالات جمعا. (وَكَفى بِاللهِ
حَسِيباً) : أي محاسبا على جميع الأعمال والعقائد ، أو محسبا : أي
كافيا.
ثم نفى تعالى كون
رسوله (أَبا أَحَدٍ مِنْ
رِجالِكُمْ) ، بينه وبين من تبناه من حرمة الصهارة والنكاح ما يثبت بين
الأب وولده. هذا مقصود هذه الجملة ، وليس المقصود أنه لم يكن له ولد ، فيحتاج إلى
الاحتجاج في أمر بنيه بأنهم كانوا ماتوا ، ولا في أمر الحسن
والحسين بأنهما
كانا طفلين. وإضافة رجالكم إلى ضمير المخاطبين يخرج من كان من بنيه ، لأنهم رجاله
، لا رجال المخاطبين. وقرأ الجمهور ؛ (وَلكِنْ رَسُولَ) ، بتخفيف لكن ونصب رسول على إضمار كان ، لدلالة كان
المتقدّمة عليه ؛ قيل : أو على العطف على (أَبا أَحَدٍ). وقرأ عبد الوارث ، عن أبي عمرو : بالتشديد والنصب على أنه
خبر لكن ، والخبر محذوف تقديره : (وَلكِنْ رَسُولَ
اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) هو ، أي محمد صلىاللهعليهوسلم. وحذف خبر لكن وأخواتها جائز إذا دل عليه الدليل. ومما جاء
في ذلك قول الشاعر :
فلو كنت ضبيا
عرفت قرابتي
|
|
ولكنّ زنجيا
عظيم المشافر
|
أي : أنت لا تعرف
قرابتي. وقرأ زيد بن علي ، وابن أبي عبلة : بالتخفيف ، ورفع ورسوله وخاتم ، أي
ولكن هو رسول الله ، كما قال الشاعر :
ولست الشاعر
السقاف فيهم
|
|
ولكن مدرة الحرب
العوال
|
أي : لكن أنا
مدرة. وقرأ الجمهور : (خاتَمَ) ، بكسر التاء ، بمعنى أنه ختمهم ، أي جاء آخرهم. وروي عنه
أنه قال : أنا خاتم ألف نبي ، وعنه : أنا خاتم النبيين في حديث واللبنة. وروي عنه
، عليهالسلام ، ألفاظ تقتضي نصا
أنه لا نبي بعده صلىاللهعليهوسلم ، والمعنى أن لا
يتنبأ أحد بعده ، ولا يرد نزول عيسى آخر الزمان ، لأنه ممن نبئ قبله ، وينزل عاملا
على شريعة محمد صلىاللهعليهوسلم مصليا إلى قبلته كأنه بعض أمته. قال ابن عطية : وما ذكره
القاضي أبو الطيب في كتابه المسمى بالهداية ، من تجويز الاحتمال في ألفاظ هذه
الآية ضعيف ، وما ذكره الغزالي في هذه الآية ، وهذا المعنى في كتابه الذي سماه
بالاقتصاد ، وتطرق إلى ترك تشويش عقيدة المسلمين في ختم محمد صلىاللهعليهوسلم النبوة ، فالحذر الحذر منه ، والله الهادي برحمته. وقرأ
الحسن ، والشعبي ، وزيد بن علي ، والأعرج : بخلاف ؛ وعاصم : بفتح التاء بمعنى : أنهم
به ختموا ، فهو كالخاتم والطابع لهم.
ومن ذهب إلى أن
النبوة مكتسبة لا تنقطع ، أو إلى أن الولي أفضل من النبي ، فهو زنديق يجب قتله.
وقد ادعى النبوة ناس ، فقلهم المسلمون على ذلك. وكان في عصرنا شخص من الفقراء ادعى
النبوة بمدينة مالقة ، فقتله السلطان بن الأحمر ، ملك الأندلس بغرناطة ، وصلب إلى
أن تناثر لحمه.
(وَكانَ اللهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيماً) : هذا عام ، والقصد هنا علمه تعالى بما رآه الأصلح لرسوله
، وبما قدّره في الأمر كله ، ثم أمر المؤمنين بذكره بالثناء عليه وتحميده وتقديسه
،
وتنزيهه عما لا
يليق به. والذكر الكثير ، قال ابن عباس : أن لا ينساه أبدا ، أو التسبيح مندرج في
الذكر ، لكنه خص بأنه ينزهه تعالى عما لا يليق به ، فهو أفضل ، أو من أفضل
الأذكار. وعن قتادة : قولوا سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله
أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وعن مجاهد : هذه الكلمات يقولها الطاهر والجنب.
و (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) : يقتضيهما اذكروا وسبحوا ، والنصب بالثاني على طريق
الإعمال ، والوقتان كناية عن جميع الزمان ، ذكر الطرفين إشعار بالاستغراق. وقال
ابن عباس : أي صلوا صلاة الفجر والعشاء. وقال الأخفش : ما بين العصر إلى العشاء.
وقال قتادة : الإشارة بهذين الوقتين إلى صلاة الغداة وصلاة العصر ؛ ويجوز أن يكون
الأمر بالذكر وإكثاره تكثير الطاعات والإقبال على الطاعات ، فإن كل طاعة وكل خير
من جملة الذكر. ثم خص من ذلك التسبيح بكرة وأصيلا ، وهي الصلاة في جميع أوقاتها ،
تفضل الصلاة غيرها ، أو صلاة الفجر والعشاء ، لأن أداءهما أشق.
ولما أمرهم بالذكر
والتسبيح ، ذكر إحسانه تعالى بصلاته عليهم هو وملائكته. قال الحسن : (يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) : يرحمكم. وقال ابن جبير : يغفر لكم. وقال أبو العالية
يثني عليكم. وقيل : يترأف بكم. وصلاة الملائكة الاستغفار ، كقوله تعالى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) . وقال مقاتل : الدعاء ، والمعنى : هو الذي يترحم عليكم ،
حيث يدعوكم إلى الخير ، ويأمركم بإكثار الذكر والطاعة ، ليخرجكم من ظلمات المعصية
إلى نور الطاعة. وقال ابن زيد : من الضلالة إلى الهدى. وقال مقاتل : من الكفر إلى
الإيمان. وقيل : من النار إلى الجنة ، حكاه الماوردي. وقيل : من القبور إلى البعث.
(وَمَلائِكَتُهُ) : معطوف على الضمير المرفوع المستكن في (يُصَلِّي) ، فأغنى الفصل بالجار والمجرور عن التأكيد ، وصلاة الله
غير صلاة الملائكة ، فكيف اشتركا في قدر مشترك؟ وهو إرادة وصول الخير إليهم. فالله
تعالى يريد برحمته إياهم إيصال الخير إليهم ، وملائكته يريدون بالاستغفار ذلك.
وقال الزمخشري : جعلوا لكونهم مستجابي الدعوة ، كأنهم فاعلون الرحمة والرأفة ،
ونظيره قولهم : حياك الله : أي أحياك وأبقاك ، وحييتك : أي دعوت لك بأن يحييك الله
، لأنك لا تكالك على إجابة دعوتك كأنك تبقيه على الحقيقة ؛ وكذلك عمرك الله وعمرتك
، وسقاك الله وسقيتك ، وعليه قوله ؛ (إِنَّ اللهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ) : أي ادعوا له بأن يصلى عليه. (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) : دليل
__________________
على أن المراد
بالصلاة الرحمة. انتهى. وما ذكره من قوله ، كأنهم فاعلون فيه الجمع بين الحقيقة
والمجاز ، وما ذكرناه من أن الصلاتين اشتركتا في قدر مشترك أولى.
(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ
يَلْقَوْنَهُ) : أي يوم القيامة. (سَلامٌ) : أي تحية الله لهم. يقول للمؤمنين : السلام عليكم ، مرحبا
بعبادي الذين أرضوني باتباع أمري ، قاله الرقاشي. وقيل : يحييهم الملائكة بالسلامة
من كل مكروه. وقال البراء بن عازب : معناه أن ملك الموت لا يقبض روح المؤمن حتى
يسلم عليه. وقال ابن مسعود : إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال : ربك يقرؤك
السلام ، قيل : فعلى هذا الهاء في قوله : (يَلْقَوْنَهُ) كناية عن غير مذكور ، وقيل : سلام الملائكة عند خروجهم من
القبور. وقال قتادة : يوم دخولهم الجنة يحيي بعضهم بعضا بالسلام ، أي سلمنا وسلمت
من كل مخوف. وقيل : تحييهم الملائكة يومئذ. وقيل : هو سلام ملك الموت والملائكة
معه عليهم ، وبشارتهم بالجنة. والتحية مصدر في هذه الأقوال أضيف إلى المفعول ، إلا
في قول من قال إنه مصدر مضاف للمحيي والمحيا ، لا على جهة العمل ، لأن الضمير
الواحد لا يكون فاعلا مفعولا ، ولكنه كقوله : (وَكُنَّا
لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) : أي للحكم الذي جرى بينهم ، وليبعث إليهم ، فكذلك هذه
التحية الجارية بينهم هي سلام. وفرق المبرد بين التحية والسلام فقال : التحية يكون
ذلك دعاء ، والسلام مخصوص ، ومنه : (وَيُلَقَّوْنَ فِيها
تَحِيَّةً وَسَلاماً) . والأجر الكريم : الجنة ، (شاهِداً) على من بعثت إليهم ، وعلى تكذيبهم وتصديقهم ، أي مفعولا
قولك عند الله ، وشاهدا بالتبليغ إليهم ، وبتبليغ الأنبياء قولك. وانتصب (شاهِداً) على أنه حال مقدّرة ، إذا كان قولك عند الله وقت الإرسال
لم يكن شاهدا عليهم ، وإنما يكون شاهدا عند تحمل الشهادة وعند أدائها ، أو لأنه
أقرب زمان البعثة ، وإيمان من آمن وتكذيب من كذب كان ذلك وقع في زمان واحد.
(وَداعِياً إِلَى
اللهِ) ، قال ابن عباس : شهادة أن لا إله إلا الله. وقال ابن عيسى
: إلى الطاعة. (بِإِذْنِهِ) : أي بتسهيله وتيسيره ، ولا يراد به حقيقة الإذن ، لأنه قد
فهم في قوله : إنا أرسلناك داعيا أنه مأذون له في الدعاء. ولما كان دعاء المشرك
إلى التوحيد صعبا جدا ، قيل : بإذنه ، أي بتسهيله تعالى. و (سِراجاً مُنِيراً) : جلي من ظلمات الشرك ، واهتدى به الضالون ، كما يجلى ظلام
الليل بالسراج المنير. ويهتدى به إذا مد الله بنور نبوته نور
__________________
البصائر ، كما يمد
بنور السراج نور الأبصار. ووصفه بالإنارة ، لأن من السراج ما لا يضيء إذا قل سليطه
ودقت فتيلته. وقال الزجاج : هو معطوف على (شاهِداً) ، أي وذا سراج منير ، أي كتاب نير. وقال الفراء : إن شئت
كان نصبا على معنى : وتاليا سراجا منيرا. وقال الزمخشري : ويجوز على هذا التفسير
أن يعطف على كاف (أَرْسَلْناكَ). انتهى. ولا يتضح هذا الذي قاله ، إذ يصير المعنى : أرسلنا
ذا سراج منير ، وهو القرآن. ولا يوصف بالإرسال القرآن ، إنما يوصف بالإنزال. وكذلك
أيضا إذا كان التقدير : وتاليا ، يصير المعنى : أرسلنا تاليا سراجا منيرا ، ففيه
عطف الصفة التي للذات على الذات ، كقولك : رأيت زيدا والعالم. إذا كان العالم صفة
لزيد ، والعطف مشعر بالتغاير ، لا يحسن مثل هذا التخريج في كلام الله ، وثم حمل
على ما تقتضيه الفصاحة والبلاغة.
ولما ذكر تعالى
أنه أرسل نبيه (شاهِداً) إلى آخره ، تضمن ذلك الأمر بتلك الأحوال ، فكأنه قال ؛
فاشهد وبشر وأنذر وادع وانه ، ثم قال ؛ (وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ) ؛ فهذا متصل بما قبله من جهة المعنى ، وإن كان يظهر أنه
منقطع من الذي قبله. والفضل الكبير الثواب من قولهم : للعطايا فضول وفواضل ، أو
المزيد على الثواب. وإذا ذكر المتفضل به وكبره ، فما ظنك بالثواب؟ أو ما فضلوا به
على سائر الأمم ، وذلك من جهته تعالى ، أو الجنة وما أوتوا فيها ، ويفسره : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ
هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) . (وَلا تُطِعِ
الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) : نهي له عليهالسلام عن السماع منهم في أشياء كانوا يطلبونها مما لا يجب ، وفي
أشياء ينتصحون بها وهي غش. (وَدَعْ أَذاهُمْ) : الظاهر إضافته إلى المفعول. لما نهى عن طاعتهم ، أمر
بتركه إذايتهم وعقوبتهم ، ونسخ منه ما يخص الكافرين بآية السيف. (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ، فإنه ينصرك ويخذلهم. ويجوز أن يكون مصدرا مضافا للفاعل ،
أي ودع إذايتهم إياك ، أي مجازاة الإذاية من عقاب وغيره حتى تؤمر ، وهذا تأويل
مجاهد.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها
فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً ، يا أَيُّهَا النَّبِيُّ
إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ
يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ
وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً
مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ
يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما
فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي
__________________
أَزْواجِهِمْ
وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ
غَفُوراً رَحِيماً ، تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ
تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى
أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ
كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً ،
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ
وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً).
لما ذكر تعالى قصة
زيد وزينب وتطليقه إياها ، وكانت مدخولا بها ، واعتدت ، وخطبها الرسول ، عليهالسلام ، بعد انقضاء عدتها ، بين حال من طلقت قبل المسيس ، وأنها
لا عدة عليها.
ومعنى (نَكَحْتُمُ) : عقدتم عليهن. وسمى العقد نكاحا لأنه سبب إليه ، كما سميت
الخمر إثما لأنها سبب له. قالوا : ولفظ النكاح في كتاب الله لم يرد إلا في العقد ،
وهو من آداب القرآن ؛ كما كنى عن الوطء بالمماسة والملامسة والقربان والتغشي
والإتيان ، قيل : إلا في قوله : (حَتَّى تَنْكِحَ
زَوْجاً غَيْرَهُ) ، فإنه بمعنى الوطء ، وقد تقدم الكلام عليه في البقرة.
والكتابيات ، وإن شاركت المؤمنات في هذا الحكم ، فتخصيص المؤمنات بالذكر تنبيه على
أن المؤمن لا ينبغي أن يتخير لنطفته إلا المؤمنة. وفائدة المجيء بثم ، وإن كان
الحكم ثابتا ، إن تزوجت وطلقت على الفور ، ولمن تأخر طلاقها. قال الزمخشري : نفي
التوهم عمن عسى يتوهم تفاوت الحكم بين أن يطلقها ، وهي قريبة العهد من النكاح ، وبين
أن يبعد عهدها بالنكاح ، وتتراخى بها المدة في حيالة الزوج ثم يطلقها. انتهى.
واستعمل صلة لمن عسى ، وهو لا يجوز ، أو لوحظ في ذلك الغالب. فإن من أقدم على
العقد على امرأة ، إنما يكون ذلك لرغبة ، فيبعد أن يطلقها على الفور ، لأن الطلاق
مشعر بعدم الرغبة ، فلا بد أن يتخلل بين العقد والطلاق مهلة يظهر فيها للزوج نأيه
عن المرأة ، وأن المصلحة في ذلك له. والظاهر أن الطلاق لا يكون إلا بعد العقد ،
ولا يصح طلاق من لم يعقد عليها عينها أو قبيلتها أو البلد ، وهو قول الجمهور من
الصحابة والتابعين. وقالت طائفة كبيرة ، منهم مالك : يصح ذلك. والظاهر أن المسيس
هنا كناية عن الجماع ، وأنه إذا خلا بها ثم طلقها ، لا يعقد. وعند أبي حنيفة
وأصحابه : حكم الخلوة الصحيحة حكم المسيس. والظاهر أن المطلقة رجعية ، إذا راجعها
زوجها قبل أن تنقضي عدتها ، ثم فارقها قبل أن يمسها ، لا تتم عدتها من الطلقة
الأولى ، ولا تستقبل عدة ، لأنها مطلقة قبل الدخول ، وبه
__________________
قال داود. وقال
عطاء وجماعة : تمضي في عدتها عن طلاقها الأول ، وهو أحد قولي الشافعي. وقال مالك :
لا تبنى على العدة من الطلاق الأول ، وتستأنف العدة من يوم طلقها الطلاق الثاني ،
وهو قول فقهاء جمهور الأمصار. والظاهر أيضا أنها لو كانت بائنا غير مبتوتة ،
فتزوجها في العدة ثم طلقها قبل الدخول ، كالرجعية في قول داود ، ليس عليها عدة ،
لا بقية عدة الطلاق الأول ولا استئناف عدة الثاني ، ولها نصف المهر. وقال الحسن ،
وعطاء ، وعكرمة ، وابن شهاب ، ومالك ، والشافعي ، وعثمان البتي ، وزفر : لها نصف
الصداق ، وتتم بقية العدة الأولى. وقال الثوري ، والأوزاعي ، وأبو حنيفة ، وأبو
يونس : لها مهر كامل للنكاح الثاني ، وعدة مستقبلة ، جعلوها في حكم المدخول بها ،
لاعتدادها من مائة.
وقرأ الجمهور : (تَعْتَدُّونَها) ، بتشديد الدال : افتعل من العد ، أي تستوفون عددها ، من
قولك : عد الدراهم فاعتدها ، أي استوفى عددها ؛ نحو قولك : كلته واكتاله ، وزنته
فاتزنته. وعن ابن كثير وغيره من أهل مكة : بتخفيف الدال ، ونقلها عن ابن كثير ابن
خالويه وأبو الفضل الرازي. وقال ابن عطية : وروي عن أبي برزة ، عن ابن كثير :
بتخفيف الدال من العدوان ، كأنه قال : فما لكم عدة تلزمونها عدوانا وظلما لهنّ ،
والقراءة الأولى أشهر عن ابن كثير ، وتخفيف الدال وهم من أبي برزة. انتهى. وليس
بوهم ، إذ قد نقلها عن ابن كثير ابن خالويه وأبو الفضل الرازي في (كتاب اللوامح في
شواذ القراءات) ، ونقلها الرازي المذكور عن أهل مكة وقال : هو من الاعتداد لا
محالة ، لكنهم كرهوا التضعيف فخففوه. فإن جعلت من الاعتداء الذي هو الظلم ضعف ،
لأن الاعتداء يتعدى بعلى. انتهى. وإذا كان يتعدى بعلى ، فيجوز أن لا يحذف على ،
ويصل الفعل إلى الضمير ، نحو قوله :
تحن فتبدى ما
بها من صبابة
|
|
وأخفى الذي لو
لا الأسى لقضاني
|
أي : لقضى علي.
وقال الزمخشري : وقرئ : تعتدونها مخففا ، أي تعتدون فيها ، كقوله : ويوما شهدناه.
والمراد بالاعتداء ما في قوله : ولا تمسكوهنّ ضرارا لتعتدوا. انتهى. ويعني أنه
اتصل بالفعل لما حذف حرف الجر وصل الفعل إلى ضمير العدة ، كقوله :
ويوما شهدناه
سليما وعامرا
أي : شهدنا فيه.
وأما على تقدير على ، فالمعنى : تعتدون عليهنّ فيها. وقرأ الحسن :
بإسكان العين
كغيره ، وتشديد الدال جمعا بين الساكنين. وقوله : (فَما لَكُمْ) يدل على أن العدة حق الزوج فيها غالب ، وإن كانت لا تسقط
بإسقاطه ، لما فيه من حق الله تعالى. والظاهر أن من طلقت قبل المسيس لها المتعة
مطلقا ، سواء كانت ممدودة أم مفروضا لها. وقيل : يختص هذا الحكم بمن لا مسمى لها.
والظاهر أن الأمر في (فَمَتِّعُوهُنَ) للوجوب ، وقيل : للندب ، وتقدم الكلام مشبعا في المتعة في
البقرة. والسراج الجميل : هو كلمة طيبة دون أذى ولا منع واجب. وقيل : أن لا
يطالبها بما آتاها. ولما بين تعالى بعض أحكام أنكحة المؤمنين ، أتبعه بذكر طرف من
نساء النبي صلىاللهعليهوسلم. والأجور : المهور ، لأنه أجر على الاستمتاع بالبضع وغيره
مما يجوز به الاستمتاع. وفي وصفهنّ ب (اللَّاتِي آتَيْتَ
أُجُورَهُنَ) ، تنبيه على أن الله اختار لنبيه الأفضل والأولى ، لأن
إيتاء المهر أولى وأفضل من تأخيره ، ليتفصى الزوج عن عهدة الدين وشغل ذمته به ،
ولأن تأخيره يقتضي أنه يستمتع بها مجانا دون عوض تسلمته ، والتعجيل كان سنة السلف
، لا يعرف منهم غيره. ألا ترى إلى قوله ، عليهالسلام ، لبعض الصحابة حين شكا حالة التزوج : «فأين درعك الحطمية»؟
وكذلك تخصيص ما ملكت يمينه بقوله : (مِمَّا أَفاءَ اللهُ
عَلَيْكَ) ، لأنها إذا كانت مسبية ، فملكها مما غنمه الله من أهل دار
الحرب كانت أحل وأطيب مما تشترى من الجلب. فما سبي من دار الحرب قيل فيه سبي طيبة
، وممن له عهد قيل فيه سبي خبيثة ، وفيء الله لا يطلق إلا على الطيب دون الخبيث.
والظاهر أن قوله :
(إِنَّا أَحْلَلْنا
لَكَ أَزْواجَكَ) ، مخصوص لفظة أزواجك بمن كانت في عصمته ، كعائشة وحفصة ،
ومن تزوجها بمهر. وقال ابن زيد : أي من تزوجها بمهر ، ومن تزوجها بلا مهر ، وجميع
النساء حتى ذوات المحارم من ممهورة ورقيقة وواهبة نفسها مخصوصة به. ثم قال بعد (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) : أي من هذه الأصناف كلها ، ثم الضمير بعد ذلك يعم إلى
قوله : (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ
بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) ، فينقطع من الأول ويعود على أزواجه التسع فقط ، وفي
التأويل الأول تضييق. وعن ابن عباس : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يتزوج أي النساء شاء ، وكان ذلك يشق على نسائه. فلما نزلت
هذه الآية ، وحرم عليه بها النساء ، إلا من سمي سر نساؤه بذلك ، وملك اليمين إنما
يعلقه في النادر ، وبنات العم ، ومن ذكر معهنّ يسير. ومن يمكن أن يتزوج منهن محصور
عند نسائه ، ولا سيما وقد قرن بشرط الهجرة ، والواجب أيضا من النساء قليل ، فلذلك
سر بانحصار الأمر. ثم مجيء (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ
مِنْهُنَ) ، إشارة إلى ما تقدم ، ثم مجيء (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ
أَزْواجٍ) ،
إشارة إلى أن
أزواجه اللواتي تقدم النص عليهن بالتحليل ، فيأتي الكلام مثبتا مطردا أكثر من
اطراده على التأويل الآخر.
(وَبَناتِ عَمِّكَ) ، قالت أم هانىء ، بنت أبي طالب : خطبني رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فاعتذرت إليه فعذرني ، ثم نزلت هذه الآية فحرمتني عليه ،
لأني لم أهاجر معه ، وإنما كنت من الطلقاء. والتخصيص ب (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) ، لأن من هاجر معه من قرابته غير المحارم أفضل من غير المهاجرات.
وقيل : شرط الهجرة في التحليل منسوخ. وحكى الماوردي في ذلك قولين : أحدهما : أن
الهجرة شرط في إحلال الأزواج على الإطلاق. والثاني : أنه شرط في إحلال قرابات
المذكورات في الآية دون الأجنبيات ، والمعية هنا : الاشتراك في الهجرة لا في
الصحبة فيها ، فيقال : دخل فلان معي وخرج معي ، أي كان عمله كعملي وإن لم يقترنا
في الزمان. ولو قلت : فرجعنا معا ، اقتضى المعنيان الاشتراك في الفعل ، والاقتران
في الزمان. وأفرد العم والخال لأنه اسم جنس ، والعمة والخالة كذلك ، وهذا حرف لغوي
قاله أبو بكر بن العربي القاضي.
(وَامْرَأَةً
مُؤْمِنَةً) ، قال ابن عباس ، وقتادة : هي ميمونة بنت الحارث. وقال علي
بن الحسين ، والضحاك ، ومقاتل : هي أم شريك. وقال عروة ، والشعبي : هي زينب بنت
خزيمة ، أم المساكين ، امرأة من الأنصار. وقال عروة أيضا : هي خولة بنت حكيم بن
الأوقص السلمية. واختلف في ذلك. فعن ابن عباس : لم يكن عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم أحد منهن بالهبة. وقيل : الموهبات أربع : ميمونة بنت
الحارث ، ومن ذكر معها قبل. وقرأ الجمهور : (وَامْرَأَتَ) ، بالنصب ؛ (إِنْ وَهَبَتْ) ، بكسر الهمزة : أي أحللناها لك. (إِنْ وَهَبَتْ) ، (إِنْ أَرادَ) ، فهنا شرطان ، والثاني في معنى الحال ، شرط في الإحلال
هبتها نفسها ، وفي الهبة إرادة استنكاح النبي ، كأنه قال : أحللناها لك إن وهبت لك
نفسها ، وأنت تريد أن تستنكحها ، لأن إرادته هي قبوله الهبة وما به تتم ، وهذان
الشرطان نظير الشرطين في قوله : (وَلا يَنْفَعُكُمْ
نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ ، إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ
يُغْوِيَكُمْ) . وإذا اجتمع شرطان ، فالثاني شرط في الأول ، متأخر في
اللفظ ، متقدم في الوقوع ، ما لم تدل قرينة على الترتيب ، نحو : إن تزوجتك أو
طلقتك فعبدي حر. واجتماع الشرطين مسألة فيها خلاف وتفصيل ، وقد استوفينا ذلك في (شرح
التسهيل) ، في باب الجوازم. وقرأ أبو
__________________
حيوة : وامرأة
مؤمنة ، بالرفع على الابتداء ، والخبر محذوف : أي أحللناها لك. وقرأ أبي ، والحسن
، والشعبي ، وعيسى ، وسلام : أن بفتح الهمزة ، وتقديره : لأن وهبت ، وذلك حكم في
امرأة بعينها ، فهو فعل ماض ، وقراءة الكسر استقبال في كل امرأة كانت تهب نفسها
دون واحدة بعينها. وقرأ زيد بن علي : إذ وهبت ، إذ ظرف لما مضى ، فهو في امرأة
بعينها.
وعدل عن الخطاب
إلى الغيبة في النبي ، (إِنْ أَرادَ النَّبِيُ) ، ثم رجع إلى الخطاب في قوله : (خالِصَةً لَكَ) ، للإيذان بأنه مما خص به وأوثر. ومجيئه على لفظ النبي ،
لدلالة على أن الاختصاص تكرمة له لأجل النبوة ، وتكريره تفخيم له وتقرير لاستحقاقه
الكرامة لنبوته. واستنكاحها : طلب نكاحها والرغبة فيه. والجمهور : على أن التزويج
لا يجوز بلفظ الإجارة ولا بلفظ الهبة. وقال أبو الحسن الكرخي : يجوز بلفظ الإجارة
لقوله : (اللَّاتِي آتَيْتَ
أُجُورَهُنَ) ، وحجة من منع : أن عقد الإجارة مؤقت ، وعقد النكاح مؤبد ،
فتنافيا. وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى جواز عقد النكاح بلفظ الهبة إذا وهبت ، فأشهد
على نفسه بمهر ، لأن رسول الله وأمته سواء في الأحكام ، إلا فيما خصه الدليل. وحجة
الجمهور : أنه ، عليهالسلام ، خص بمعنى الهبة ولفظها جميعا ، لأن اللفظ تابع للمعنى ،
والمدعى للاشتراك في اللفظ يحتاج إلى دليل. وقرأ الجمهور : (خالِصَةً) ، بالنصب ، وهو مصدر مؤكد ، ك (وَعَدَ اللهُ) ، و (صِبْغَةَ اللهِ) ، أي أخلص لك إخلاصا. (أَحْلَلْنا لَكَ) ، (خالِصَةً) بمعنى خلوصا ، ويجىء المصدر على فاعل وعلى فاعلة. وقال
الزمخشري : والفاعل والفاعلة في المصادر على غير عزيزين ، كالخارج والقاعد
والعاقبة والكاذبة.
انتهى ، وليس كما
ذكر ، بل هما عزيزان ، وتمثيله كالخارج يشير إلى قول الفرزدق :
ولا خارج من في
زور كلام
والقاعد إلى أحد
التأويلين في قوله :
أقاعدا وقد سار
الركب
والكاذبة إلى قوله
تعالى : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها
كاذِبَةٌ) . وقد تتأول هذه الألفاظ على أنها ليست مصادر. وقرئ : خالصة
، بالرفع ، فمن جعله مصدرا ، قدره ذلك خلوص لك ، وخلوص من دون المؤمنين. والظاهر
أن قوله : (خالِصَةً لَكَ) من صفة الواهبة نفسها لك ، فقراءة
__________________
النصب على الحال ،
قاله الزجاج : أي أحللناها خالصة لك ، والرفع خبر مبتدأ : أي هي خالصة لك ، أي هبة
النساء أنفسهنّ مختص بك ، لا يجوز أن تهب المرأة نفسها لغيرك. وأجمعوا على أن ذلك
غير جائز لغيره ، عليهالسلام. ويظهر من كلام أبيّ بن كعب أن معنى قوله : (خالِصَةً لَكَ) يراد به جميع هذه الإباحة ، لأن المؤمنين قصروا على مثنى
وثلاث ورباع. وقال الزمخشري : والدليل على أنها وردت في أثر الإحلالات الأربع
مخصوصة برسول الله صلىاللهعليهوسلم ، على سبيل التوكيد لها قوله : (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ
فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) ، بعد قوله : (مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ) ، وهي جملة اعتراضية. وقوله : (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) متصل ب (خالِصَةً لَكَ مِنْ
دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) في الأزواج الإماء ، وعلى أي حد وصفه يجب أن يفرض عليهم ،
ففرضه وعلم المصلحة في اختصاص رسول الله صلىاللهعليهوسلم بما اختصه به ، ففعل.
ومعنى (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) : أي لكيلا يكون عليك ضيق في دينك ، حيث اختصصناك بالتنزيه
، واختصاص ما هو أولى وأفضل في دنياك ، حيث أحللنا لك أجناس المنكوحات ، وزدناك
الواهبة نفسها ؛ ومن جعل خالصة نعتا للمرأة ، فعلى مذهبه هذه المرأة خالصة لك من
دونهم. انتهى. والظاهر أن (لِكَيْلا) متعلق بقوله : (أَحْلَلْنا لَكَ
أَزْواجَكَ). وقال ابن عطية : (لِكَيْلا يَكُونَ) ، أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح لكي لا يكون عليك
حرج ، ويظن بك أنك قد أثمت عند ربك ، ثم آنس جميع المؤمنين بغفرانه ورحمته. وقال
الزمخشري : (غَفُوراً) للواقع في الحرج إذا تاب ، (رَحِيماً) بالتوسعة على عباده. انتهى ، وفيه دسيسة اعتزالية. (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ) الآية ، معناه : أن ما ذكرنا فرضك وحكمك مع نسائك ، وأما
حكم أمتك فعندنا علمه ، وسنبينه لهم. وإنما ذكر هذا لئلا يحمل واحد من المؤمنين
نفسه على ما كان للنبي صلىاللهعليهوسلم ، فإن له في النكاح والتسري خصائص ليست لغيره. وقال مجاهد
: (ما فَرَضْنا
عَلَيْهِمْ) ، هو أن لا يجاوزوا أربعا. وقال قتادة : هو الولي والشهود
والمهر. وقيل : ما فرضنا من المهر والنفقة والكسوة. (وَما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُمْ) ، قيل : لا يثبت الملك إلا إذا كانت ممن يجوز سبيها. وقيل
: ما أبحنا لهم من ملك اليمين مع الأربع الحرائر من غير عدد محصور ، والمعنى : قد
علمنا إصلاح كل منك ومن أمتك ، وما هو الأصلح لك ولهم ، فشرعنا في حقك وحقهم على
وفق ما علمنا.
روي أن أزواجه عليهالسلام لما تغايرن وابتغين زيادة النفقة ، فهجرهن شهرا ، ونزل
التخيير ، فأشفقن
أن يطلقن فقلن : يا رسول الله ، افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت. وتقدم الكلام في
معنى ترجي في قوله : (وَآخَرُونَ
مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) ، في سورة براءة. والظاهر أن الضمير في (مِنْهُنَ) عائد على أزواجه عليهالسلام ، والإرجاء : الإيواء. قال ابن عباس ، والحسن : في طلاق
ممن تشاء ممن حصل في عصمتك ، وإمساك من تشاء. وقالت فرقة : في تزوج من تشاء من
الواهبات ، وتأخير من تشاء. وقال مجاهد ، وقتادة ، والضحاك : وتقرر من شئت في
القسمة لها ، وتؤخر عنك من شئت ، وتقلل لمن شئت ، وتكثر لمن شئت ، لا حرج عليك في
ذلك ، فإذا علمن أن هذا حكم الله وقضاؤه ، زالت الإحنة والغيرة عنهن ورضين وقرت
أعينهن ، وهذا مناسب لما روي في سبب هذه الآية المتقدم ذكره.
(وَمَنِ ابْتَغَيْتَ
مِمَّنْ عَزَلْتَ) : أي ومن طلبتها من المعزولات ومن المفردات ، (فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) في ردها وإيوائها إليك. ويجوز أن يكون ذلك توكيدا لما قبله
، أي ومن ابتغيت ممن عزلت ومن عزلت سواء ، لا جناح عليك. كما تقول : من لقيك ممن
لم يلقك ، جميعهم لك شاكر ، تريد من لقيك ومن لم يلقك ، وفي هذا الوجه حذف المعطوف
، وغرابة في الدلالة على هذا المعنى بهذا التركيب ، والراجح القول الأول. وقال
الحسن : المعنى : من مات من نسائك اللواتي عندك ، أو خليت سبيلها ، فلا جناح عليك
أن تستبدل عوضها من اللاتي أحللت لك ، فلا تزداد على عدة نسائك اللاتي عندك. وقال
الزمخشري : بمعنى تترك مضاجع من تشاء منهن وتضاجع من تشاء ، أو تطلق من تشاء وتمسك
من تشاء ، أو لا تقسم لأيتهن شئت وتقسم لمن شئت ، أو تترك من تشاء من أمتك وتتزوج
من شئت. وعن الحسن : كان النبي ، صلىاللهعليهوسلم إذا خطب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يدعها ، وهذه
قسمة جامعة لما هو الغرض ، لأنه إما أن يطلق ، وأما أن يمسك. فإذا أمسك ضاجع ، أو
ترك وقسم ، أو لم يقسم. وإذا طلق وعزل ، فإما أن يخلي المعزولة لا يتبعها ، أو
يتبعها. وروي أنه أرجأ منهن : سودة ، وجويرية ، وصفية ، وميمونة ، وأم حبيبة. فكان
يقسم لهن ما شاء كما شاء ، وكانت ممن أوى إليه : عائشة ، وحفصة ، وأم سملة ، وزينب
، أرجأ خمسا وأوى أربعا. وروي أنه كان يسوي بينهن مع ما أطلق له وخير فيه إلا سودة
، فإنها وهبت نفسها لعائشة وقالت : لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك. انتهى. ذلك
التفويض إلى مشيئتك أدنى إلى قرة عيونهن وانتفاء حزنهن ووجود رضاهن ،
__________________
إذا علمت أن ذلك
التفويض من عند الله ، فحالة كل منهن كحالة الأخرى في ذلك.
وقرأ الجمهور : (أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَ) : مبنيا للفاعل من قرت العين ؛ وابن محيصن : يقر من أقر
أعينهن بالنصب ، وفاعل تقر ضمير الخطاب ، أي أنت. وقرئ : تقر مبنيا للمفعول ،
وأعينهن بالرفع. وقرأ الجمهور : (كُلُّهُنَ) بالرفع ، تأكيدا لنون (يَرْضَيْنَ) ؛ وأبو إياس حوبة بن عائد : بالنصب تأكيدا لضمير النصب في (آتَيْتَهُنَ). (وَاللهُ يَعْلَمُ ما
فِي قُلُوبِكُمْ) : عام. قال ابن عطية : والإشارة به هاهنا إلى ما في قلب
رسول الله صلىاللهعليهوسلم من محبة شخص دون شخص ، ويدخل في المعنى المؤمنون. وقال
الزمخشري ، وعبيدة : من لم يرض منهن بما يريد الله من ذلك ، وفوض إلى مشيئة رسوله
، وبعث على تواطؤ قلوبهن ، والتصافي بينهن ، والتوافق على طلب رضا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وما فيه طيب نفسه. انتهى. (وَكانَ اللهُ
عَلِيماً) بما انطوت عليه القلوب ، (حَلِيماً) : يصفح عما يغلب على القلب من المسئول ، إذ هي مما لا يملك
غالبا. واتفقت الروايات على أنه عليه الصلاة والسلام ، كان يعدل بينهن في القسمة
حتى مات ، ولم يستعمل شيئا مما أبيح له ، ضبطا لنفسه وأخذا بالفضل ، غير ما جرى
لسودة مما ذكرناه.
(لا يَحِلُّ لَكَ
النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) : الظاهر أنها محكمة ، وهو قول أبيّ بن كعب وجماعة ، منهم
الحسن وابن سيرين ، واختاره الطبري. ومن بعد المحذوف منه مختلف فيه ، فقال أبيّ ،
وعكرمة ، والضحاك : ومن بعد اللواتي أحللنا لك في قوله : (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ). فعلى هذا المعنى ، لا تحل لك النساء من بعد النساء اللاتي
نص عليهن أنهن يحللن لك من الأصناف الأربعة : لا أعرابية ، ولا عربية ، ولا كتابية
، ولا أمة بنكاح. وقال ابن عباس ، وقتادة : من بعد ، لأن التسع نصاب رسول الله من
الأزواج ، كما أن الأربع نصاب أمته منهن. قال : لما خيرن فاخترن الله ورسوله ،
جازاهن الله أن حظر عليه النساء غيرهن وتبديلهن ، ونسخ بذلك ما أباحه له قبل من
التوسعة في جميع النساء. وقال مجاهد ، وابن جبير : وروي عن عكرمة : من بعد ، أي من
بعد إباحة النساء على العموم ، ولا تحل لك النساء غير المسلمات من يهودية ولا
نصرانية. وكذلك : (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ
بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) : أي بالمسلمات من أزواج يهوديات ونصرانيات. وقيل : في
قوله (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ) ، هو من البدل الذي كان في الجاهلية. كان يقول الرجل :
بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتي ، فينزل كل واحد منهما عن امرأته للآخر. قال معناه
ابن زيد ، وأنه كان في الجاهلية ، وأنكر هذا القول الطبري وغيره في معنى الآية ،
وما فعلت العرب قط هذا. وما
روي من حديث عيينة
بن حصن أنه قال لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، حين دخل عليه بغير استئذان ، وعنده عائشة. من هذه
الحميراء؟ فقال : «عائشة» ، فقال عيينة : يا رسول الله ، إن شئت نزلت لك عن سيدة
نساء العرب جمالا ونسبا ، فليس بتبديل ، ولا أراد ذلك ، وإنما احتقر عائشة لأنها
كانت صبية. ومن في (مِنْ أَزْواجٍ) زائدة لتأكيد النفي ، وفائدته استغراق جنس الأزواج
بالتحريم. وقيل : الآية منسوخة ، واختلف في الناسخ فقيل : بالسنة. قالت عائشة : ما
مات حتى حل له النساء. وروي ذلك عن أم سلمة ، وهو قول علي وابن عباس والضحاك ،
وقيل بالقرآن ، وهو قوله : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ
مِنْهُنَ) الآية. قال هبة الله الضرير : في الناسخ والمنسوخ له ،
وقال : ليس في كتاب الله ناسخ تقدم المنسوخ سوى هذا. قال ابن عطية : وكلامه يضعف
من جهات. انتهى. وقيل : قوله (إِنَّا أَحْلَلْنا
لَكَ أَزْواجَكَ) الآية ، فترتيب النزول ليس على ترتيب كتابة المصحف. وقد
روي عن ابن عباس القولان : إنها محكمة ، وإنها منسوخة.
(وَلَوْ أَعْجَبَكَ
حُسْنُهُنَ) ، قيل : منهن أسماء بنت عميس الخثعمية ، امرأة جعفر بن أبي
طالب. والجملة ، قال الزمخشري ، في موضع الحال من الفاعل ، وهو الضمير في (تَبَدَّلَ) ، لا من المفعول الذي هو (مِنْ أَزْواجٍ) ، لأنه موغل في التنكير ، وتقديره : مفروضا إعجابك لهن ؛
وتقدم لنا في مثل هذا التركيب أنه معطوف على حال محذوفة ، أي (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ
أَزْواجٍ) على كل حال ، ولو في هذه الحال التي تقتضي التبدل ، وهي
حالة الإعجاب بالحسن. قال ابن عطية : وفي هذا اللفظ (أَعْجَبَكَ
حُسْنُهُنَ) ، دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها. انتهى.
وقد جاء ذلك في السنة من حديث المغيرة بن شعبة ، وحديث محمد بن مسلمة.
(إِلَّا ما مَلَكَتْ
يَمِينُكَ) : أي فإنه يحل لك. وأما إن كانت موصولة واقعة على الجنس ،
فهو استثناء من الجنس ، يختار فيه الرفع على البدل من النساء. ويجوز النصب على
الاستثناء ، وإن كانت مصدرية ، ففي موضع نصب ، لأنه استثناء من غير جنس الأول ،
قاله ابن عطية ، وليس بجيد ، لأنه قال : والتقدير : إلا ملك اليمين ، وملك بمعنى :
مملوك ، فإذا كان بمعنى مملوك صار من جملة النساء لأنه لم يرد حقيقة المصدر ،
فيكون الرفع هو أرجح ، ولأنه قال : وهو في موضع نصب ، ولا يتحتم أن يكون في موضع
نصب. ولو فرضنا أنه من غير الجنس حقيقة ، بل الحجاز تنصب وتميم تبدل ، لأنه مستثنى
، يمكن توجه العامل عليه ، وإنما يكون النصب متحتما حيث كان المستثنى لا يمكن توجه
العامل
عليه نحو : ما زاد
المال إلا النقص ، فلا يمكن توجه الزيادة على النقص ، ولأنه قال : استثناء من غير الجنس.
وقال مالك : بمعنى مملوك فناقض. (وَكانَ اللهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) : أي راقبا ، أو مراقبا ، ومعناه : حافظ وشاهد ومطلع ، وهو
تحذير عن مجاوزة حدوده وتخطي حلاله وحرامه.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ
إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا
طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ
يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ
وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ
أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ
اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ
عِنْدَ اللهِ عَظِيماً ، إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ، لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا
أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ
أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ
إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً ، إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ
وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ، إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ
اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً ،
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا
فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً).
في الصحيحين ، أنه
صلىاللهعليهوسلم لما تزوج زينب بنت جحش ، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا
يتحدثون ، فأخذ كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام ، وقام من القوم
من قام ، وقعد ثلاثة ، فجاء فدخل ، فإذا القوم جلوس ، فرجع وأنهم قاموا فانطلقوا ،
وجئت فأخبرته أنهم قد انطلقوا ، فجاء حتى دخل ، وذهبت أدخل ، فألقى الحجاب بيني
وبينه ، وأنزل عليه هذه الآية. قال ابن عباس : كان ناس يتحينون طعامه ، عليه
الصلاة والسلام ، فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك ، ثم يأكلون ولا يخرجون ،
وكان يتأذى بهم ، فنزلت. وأما سبب الحجاب ، فعمر قال : يا رسول الله ، إن نساءك
يدخل عليهن البار والفاجر ، فلو أمرتهن أن يحتجبن ، فنزلت. وقال مجاهد : طعم معه
بعض أصحابه ، ومعهم عائشة ، فمست يد رجل منهم يد عائشة ، فكره ذلك عليهالسلام ، فنزلت آية الحجاب.
ولما كان نزول
الآية في شيء خاص وقع للصحابة ، لم يدل ذلك على أنه لا يجوز دخول بيوت النبي إلا
إن كان عن إذن (إِلى طَعامٍ غَيْرَ
ناظِرِينَ إِناهُ) ، بل لا يجوز دخول بيوته ، عليهالسلام ، إلا بإذن ، سواء كان لطعام أم لغيره. وأيضا فإذا كان
النهي إلا بإذن إلى طعام ، وهو ما تمس الحاجة إليه لجهة الأولى. و (بُيُوتَ) : جمع ، وإن كانت الواقعة في
بيت واحد خاص يعم
جميع بيوته. و (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ) ، قال الزمخشري : (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ) في معنى الظرف تقديره : وقت أن يؤذن لكم ، و (غَيْرَ ناظِرِينَ) : حال من (لا تَدْخُلُوا) ، أوقع الاستثناء على الوقت والحال معا ، كأنه قيل : لا
تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن ، ولا تدخلوها إلا غير ناظرين إناه. انتهى. فقوله
: (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ) في معنى الظرف وتقديره : وقت أن يؤذن لكم ، وأنه أوقع
الاستثناء على الوقت فليس بصحيح ، وقد نصوا على أن أن المصدرية لا تكون في معنى
الظرف. تقول : أجيئك صياح الديك وقدوم الحاج ، ولا يجوز : أجيئك أن يصيح الديك ولا
أن يقدم الحاج. وأما أن الاستثناء وقع على الوقت والحال معا ، فلا يجوز على مذهب
الجمهور ، ولا يقع بعد إلا في الاستثناء إلا المستثنى ، أو المستثنى منه ، أو صفة
المستثنى منه : وأجاز الأخفش والكسائي ذلك في الحال ، أجازا : ما ذهب القوم إلا
يوم الجمعة راحلين عنا ، فيجوز ما قاله الزمخشري في الحال. وأما قوله : (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) ، فلا يتعين أن يكون ظرفا ، لأنه يكون التقدير : إلا بأن
يؤذن لكم ، فتكون الباء للسببية ، كقوله : (فَأَخْرَجْنا بِهِ
مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) ، أو للحال ، أي مصحوبين بالإذن. وأما (غَيْرَ ناظِرِينَ) ، كما قرر في قوله : (بِالْبَيِّناتِ
وَالزُّبُرِ) . أرسلناهم بالبينات والزبر ، دل عليه (لا تَدْخُلُوا) ، كما دل عليه أرسلناهم قوله : وما أرسلنا. ومعنى (غَيْرَ ناظِرِينَ) فحال ، والعامل فيه محذوف تقديره : ادخلوا بالإذن غير
ناظرين. كما قرر في قوله : (بِالْبَيِّناتِ
وَالزُّبُرِ) ، أي غير منتظرين وقته ، أي وقت استوائه وتهيئته. وقرأ
الجمهور : (غَيْرَ) بالنصب على الحال ؛ وابن أبي عبلة : بالكسر ، صفة لطعام.
قال الزمخشري : وليس بالوجه ، لأنه جرى على غير من هو له ، فمن حق ضمير ما هو له
أن يبرز من إلى اللفظ ، فيقال : غير ناظرين إناه أنتم ، كقوله : هند زيد ضاربته
هي. انتهى. وحذف هذا الضمير جائز عند الكوفيين إذا لم يلبس وأنى الطعام إدراكه ،
يقال : أنى الطعام أنى ، كقوله : قلاه قلى ، وقيل : وقته ، أي غير ناظرين ساعة
أكله. وقرأ الجمهور : إناه مفردا ؛ والأعمش : إناءه ، بمدة بعد النون. ورتب تعالى
الدخول على أن يدعوا ، فلا يقدمون عليه الدخول حين يدعوا ، ثم أمر بالاستثناء إذا
طعموا. (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ
لِحَدِيثٍ) : معطوف على (ناظِرِينَ) ، فهو مجرور أو معطوف على (غَيْرَ) ، فهو منصوب ، أي لا تدخلوها لا ناظرين ولا مستأنسين. وقيل
: ثم حال محذوفة ، أي لا تدخلوها أجمعين ولا مستأنسين ، فيعطف عليه. واللام في (لِحَدِيثٍ) إما لام العلة ، نهوا أن يطيلوا الجلوس يستأنس
__________________
بعضهم ببعض لأجل
حديث يحدثه ، به أو اللام المقوية لطلب اسم الفاعل للمفعول ، فنهوا أن يستأنسوا
حديث أهل البيت. واستئناسه : تسمعه وتوحشه.
(إِنَّ ذلِكُمْ) : أي انتظاركم واستئناسكم ، (يُؤْذِي النَّبِيَّ
فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) : أي من إنهاضكم من البيوت ، أو من إخراجكم منها بدليل
قوله : (وَاللهُ لا
يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) : يعني أن إخراجكم حق ما ينبغي أن يستحيا منه. ولما كان
الحياء مما يمنع الحي من بعض الأفعال ، قيل : (لا يَسْتَحْيِي مِنَ
الْحَقِ) بمعنى : لا يمتنع ، وجاء ذلك على سبيل المقابلة لقوله : (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ). وعن عائشة ، وابن عباس : حسبك في الثقلاء ، أن الله لم
يحتملهم. وقرئت هذه الآية بين يدي إسماعيل بن أبي حكيم فقال : هنا أدب أدب الله به
الثقلاء. وقرأت فرقة : فيستحيي بكسر الحاء ، مضارع استحا ، وهي لغة بني تميم. واختلفوا
ما المحذوف ، أعين الكلمة أم لامها؟ فإن كان العين فوزنها يستفل ، وإن كان اللام
فوزنها يستفع ، والترجيح مذكور في النحو. وقرأ الجمهور : بياءين وسكون الحاء ،
والمتاع عام في ما يمكن أن يطلب على عرف السكنى والمجاورة من المواعين وسائر
المرافق للدين والدنيا. (ذلِكُمْ) ، أي السؤال من وراء الحجاب ، (أَطْهَرُ) : يريد من الخواطر التي تخطر للرجال في أمر النساء ،
والنساء في أمر الرجال ، إذ الرؤية سبب التعلق والفتنة. ألا ترى إلى قول الشاعر :
والمرء ما دام
ذاعين يقلبها
|
|
في أعين العين
موقوف على الخطر
|
يسر مقلته ما
ساء مهجته
|
|
لا مرحبا بانتفاع
جاء بالضرر
|
وذكر أن بعضهم قال
: أننهى أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب؟ لئن مات محمد لأتزوجن فلانة. وقال
ابن عباس وبعض الصحابة : وفلانة عائشة. وحكى مكي عن معمر أنه قال : هو طلحة بن
عبيد الله. قال ابن عطية : وهذا عندي لا يصح على طلحة فإن الله عصمه منه. وفي
التحرير أنه طلحة ، فنزلت : (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا
أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) ، فتاب وأعتق رقبة ، وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله ،
وحج ماشيا.
وروي أن بعض
المنافقين قال : حين تزوج رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أم سلمة بعده ، أي بعد سلمة ، وحفصة بعد خنيس بن حذافة :
ما بال محمد يتزوج نساءنا؟ والله لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه. ولما توفي
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وارتدت العرب ثم رجعت ، تزوج عكرمة ابن أبي جهل قتيلة
بنت الأشعث بن قيس ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قد تزوجها ولم يبن بها. فصعب ذلك على أبي بكر وقلق ،
فقال له عمر : مهلا يا خليفة يا خليفة رسول الله ، إنها ليست من
نسائه ، إنه لم
يبن بها ، ولا أرخى عليها حجابا ، وقد أبانتها منه ردتها مع قومها. فسكن أبو بكر ،
وذهب عمر إلى أن لا يشهد جنازة زينب إلا ذو محرم عنها ، مراعاة للحجاب ، فدلته
أسماء بنت عميس على سترها في النعش في القبة ، وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد
الحبشة ، ومنعه عمر. وروي أنه صنع ذلك في جنازة فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
(وَما كانَ لَكُمْ
أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) : عام في كل ما يتأذى به ، (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا) : خاص بعد عام ، لأن ذلك يكون أعظم الأذى ، فحرم الله نكاح
أزواجه بعد وفاته. (إِنَّ ذلِكُمْ) : أي إذايته ونكاح أزواجه ، (كانَ عِنْدَ اللهِ
عَظِيماً) : وهذا من أعلام تعظيم الله لرسوله ، وإيجابه حرمته حيا
وميتا ، وإعلامه بذلك مما طيب به نفسه ، فإن نحو هذا مما يحدث به المرء نفسه. ومن
الناس من تفرط غيرته على حرمته حتى يتمنى لها الموت ، لئلا تنكح من بعده ، وخصوصا
العرب ، فإنهم أشد الناس غيرة. وحكى الزمخشري أن بعض الفتيان قبّل جارية كان يحبها
في حكاية قال : تصورا لما عسى أن يتفق من بقائها بعده ، وحصولها تحت يد غيره.
انتهى. فقال لما عسى ، فجعل عسى صلة للموصول ، وقد كثر منه هذا وهو لا يجوز. وعن
بعض الفقهاء ، أن الزوج الثاني في هدير الثلث يجري مجرى العقوبة ، فعنى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، عملا يلاحظ ذلك. (إِنْ تُبْدُوا
شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ) : وعيد لما تقدم التعرض به في الآية ممن أشير إليه بقوله :
(ذلِكُمْ أَطْهَرُ) ، ومن أشير إليه : (وَما كانَ لَكُمْ
أَنْ تُؤْذُوا) ، فقيل : (إِنْ تُبْدُوا
شَيْئاً) على ألسنتكم ، (أَوْ تُخْفُوهُ) في صدوركم ، مما يقع عليه العقاب ، فالله يعلمه ، فيجازي
عليه. وقال : (شَيْئاً) ، ليدخل فيه ما يؤذيه ، عليهالسلام ، من نكاحهن وغيره ، وهو صالح لكل باد وخاف.
وروي أنه لما نزلت
آية الحجاب قال : الآباء والأبناء والأقارب ، أو نحن يا رسول الله أيضا ، نكلمهن
من وراء حجاب ، فنزلت : (لا جُناحَ عَلَيْهِنَ) : أي لا إثم عليهن. قال قتادة : في ترك الحجاب. وقال مجاهد
: في وضع الجلباب وإبداء الزينة. وقال الشعبي : لم يذكر العم والخال ، وإن كانا من
المحارم ، لئلا يصفا للأبناء ، وليسوا من المحارم. وقد كره الشعبي وعكرمة أن تضع
المرأة خمارها عند عمها أو خالها ، وقيل : لأنهما يجريان مجرى الوالدين ، وقد جاءت
تسمية العم أبا. وذكر هنا بعض المحارم ، والجميع في سورة النور. ودخل في : (وَلا نِسائِهِنَ) ، الأمهات والأخوات وسائر القربات ، ومن يتصل بهن من
المتطرفات لهن. وقال ابن زيد وغيره : أراد جميع النساء المؤمنات ، وتخصيص الإضافة
إنما هي في الإيمان. وقال مجاهد : من أهل دينهن ، وهو كقول ابن زيد. والظاهر
من قوله : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) ، دخول العبيد والإماء دون ما ملك غيرهن. وقيل : مخصوص
بالإماء ، وقيل : جميع العبيد ممن في ملكهن أو ملك غيرهن. وقال النخعي : يباح
لعبدها النظر إلى ما يواريه الدرع من ظاهر بدنها ، وإذا كان للعبد المكاتب ما يؤدي
، فقد أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بضرب الحجاب دونه ، وفعلته أم سلمة مع مكاتبها نبهان.
(وَاتَّقِينَ اللهَ) : أمر بالتقوى وخروج من الغيبة إلى الخطاب ، أي واتقين
الله فيما أمرتن به من الاحتجاب ، وأنزل الله فيه الوحي من الاستتار ، وكأن في
الكلام جملة حذفت تقديره : اقتصرن على هذا ، واتقين الله فيه أن تتعدينه إلى غيره.
ثم توعد بقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) ، من السر والعلن ، وظاهر الحجاب وباطنه ، وغير ذلك. (شَهِيداً) : لا تتفاوت الأحوال في علمه. وقرأ الجمهور : (وَمَلائِكَتَهُ) نصبا ؛ وابن عباس ، وعبد الوارث عن أبي عمرو : رفعا. فعند
الكوفيين غير الفراء هو عطف على موضع اسم إن ، والفراء يشترط خفاء إعراب اسم إن.
وعند البصريين هو على حذف الخبر ، أي يصلي على النبي ، وملائكته يصلون ، وتقدم
الكلام على كيفية اجتماع الصلاتين في قوله : (هُوَ الَّذِي
يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ). فالضمير في (يُصَلُّونَ) عائد على (اللهَ وَمَلائِكَتَهُ) ، وقيل : في الكلام حذف ، أي يصلي وملائكته يصلون ، فرارا
من اشتراك الضمير ، والظاهر وجوب الصلاة والسلام عليه ، وقيل : سنة. وإذا كانت
الصلاة واجبة فقيل : كلما جرى ذكره قيل في كل مجلس مرة. وقد ورد في الحديث في
الصلاة عليه ، فضائل كثيرة.
وروي أنه لما نزلت
هذه الآية قال قوم من الصحابة : السلام عليك يا رسول الله عرفناه ، فكيف نصلي عليك
قال : «قولوا اللهم صل على محمد ، وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وآل
إبراهيم ، وارحم محمدا وآل محمد ، كما رحمت وباركت على إبراهيم ، في العالمين إنك
حميد مجيد». وفي بعض الروايات زيادة ونقص. (إِنَّ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ، قال ابن عباس : نزلت في الذين طعنوا عليه حين اتخذ صفية
بنت حيي زوجا. انتهى. والطعن في تأمير أسامة بن زيد : أن إيذاءه عليهالسلام ، وإيذاء الله والرسول فعل ما نهى الله ورسوله عنه من
الكفر والمعاصي ، وإنكار النبوة ومخالفة الشرع ، وما يصيبون به الرسول من أنواع
الأذى. ولا يتصور الأذى حقيقة في حق الله ، فقيل : هو على حذف مضاف ، أي يؤذون
أولياء الله ، وقيل : المراد يؤذون رسول الله ، وقيل : في أذى
الله ، هو قول
اليهود والنصارى والمشركين : (يَدُ اللهِ
مَغْلُولَةٌ) ، و (ثالِثُ ثَلاثَةٍ) ، و (الْمَسِيحُ ابْنُ
اللهِ) ، والملائكة بنات الله ، والأصنام شركاؤه. وعن عكرمة : فعل
أصحاب التصاوير الذين يزورون خلقا مثل خلق الله ، وقيل : في أذى رسول الله قولهم :
ساحر شاعر كاهن مجنون ، وقيل : كسر رباعيته وشج وجهه يوم أحد.
وأطلق إيذاء الله
ورسوله على إيذاء المؤمنين بقوله : (بِغَيْرِ مَا
اكْتَسَبُوا) ، لأن إيذاءهما لا يكون إلا بغير حق ، بخلاف إيذاء المؤمن
، فقد يكون بحق. ومعنى (بِغَيْرِ مَا
اكْتَسَبُوا) : بغير جناية واستحقاق أذى. وقال مقاتل : نزلت في ناس من
المنافقين يؤذون عليا ، كرم الله وجهه ، ويسمعونه ؛ وقيل : في الذين أفكوا على
عائشة. وقال الضحاك ، والسدي ، والكلبي : في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات
؛ وقيل : في عمر ، رأى من الريبة على جارية من جواري الأنصار ما كره ، فضربها ،
فأذوي أهل عمر باللسان ، فنزلت. قال ابن عباس : وروي أن عمر قال يوما لأبيّ : قرأت
البارحة (وَالَّذِينَ
يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) ففزعت منها ، وإني لأضربهم وأنهرهم ، فقال له : لست منهم ،
إنما أنت معلم ومقوم.
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ
عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ
وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ، لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ
وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ
لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً ،
مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً ، سُنَّةَ اللهِ
فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً ،
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما
يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً ، إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ
وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا
نَصِيراً ، يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا
أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ، وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا
سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ، رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ
مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ
عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا
قَوْلاً سَدِيداً ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً ، إِنَّا عَرَضْنَا
الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها
__________________
وَأَشْفَقْنَ
مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً ، لِيُعَذِّبَ
اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ
اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).
كان دأب الجاهلية
أن تخرج الحرة والأمة مكشوفتي الوجه في درع وخمار ، وكان الزناة يتعرضون إذا خرجن
بالليل لقضاء حوائجهن في النخيل والغيطان للإماء ، وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة
، يقولون : حسبناها أمة ، فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء ، بلبس الأردية
والملاحف ، وستر الرؤوس والوجوه ، ليحتشمن ويهبن ، فلا يطمع فيهن. وروي أنه كان في
المدينة قوم يجلسون على الصعدات لرؤية النساء ومعارضتهن ومراودتهن ، فنزلت.
قيل : والجلابيب :
الأردية التي تستر من فوق إلى أسفل ، وقال ابن جبير : المقانع ؛ وقيل : الملاحف ،
وقيل : الجلباب : كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها ، وقيل : كل ما تستتر به من كساء
أو غيره. قال أبو زيد :
تجلببت من سواد
الليل جلبابا
وقيل : الجلباب
أكبر من الخمار. وقال عكرمة : تلقي جانب الجلباب على غيرها ولا يرى. وقال أبو
عبيدة السلماني ، حين سئل عن ذلك فقال : أن تضع رداءها فوق الحاجب ، ثم تديره حتى
تضعه على أنفها. وقال السدي : تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين.
انتهى. وكذا عادة بلاد الأندلس ، لا يظهر من المرأة إلا عينها الواحدة. وقال
الكسائي : يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن ، أراد بالانضمام معنى : الإدناء. وقال ابن
عباس ، وقتادة : وذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده ، ثم تعطفه على الأنف ، وإن ظهرت
عيناها ، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه. والظاهر أن قوله : (وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ) يشمل الحرائر والإماء ، والفتنة بالإماء أكثر ، لكثرة
تصرفهن بخلاف الحرائر ، فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح. ومن في : (مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) للتبعيض ، و (عَلَيْهِنَ) : شامل لجميع أجسادهن ، أو (عَلَيْهِنَ) : على وجوههن ، لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو
الوجه. (ذلِكَ أَدْنى أَنْ
يُعْرَفْنَ) : لتسترهن بالعفة ، فلا يتعرض لهن ، ولا يلقين بما يكرهن ؛
لأن المرأة إذا كانت في غاية التستر والانضمام ، لم يقدم عليها ، بخلاف المتبرجة ،
فإنها مطموع فيها. (وَكانَ اللهُ
غَفُوراً رَحِيماً) : تأنيس للنساء في ترك الاستتار قبل أن يؤمر بذلك.
ولما ذكر حال
المشرك الذي يؤذي الله ورسوله ، والمجاهر الذي يؤذي المؤمنين ، ذكر حال المسر الذي
يؤذي الله ورسوله ، ويظهر الحق ويضمر النفاق. ولما كان المؤذون ثلاثة ، باعتبار
إذايتهم لله ولرسوله وللمؤمنين ، كان المشركون ثلاثة : منافق ، ومن في قلبه مرض ،
ومرجف. فالمنافق يؤذي سرا ، والثاني يؤذي المؤمن باتباع نسائه ، والثالث يرجف
بالرسول ، يقول : غلب ، سيخرج من المدينة ، سيؤخذ ، هزمت سراياه. وظاهر العطف
التغاير بالشخص ، فيكون المعنى : لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدهم ،
والفسقة عن فجورهم ، والمرجفون عما يقولون من أخبار السوء ويشيعونه. ويجوز أن يكون
التغاير بالوصف ، فيكون واحدا بالشخص ثلاثة بالوصف. كما جاء : إن المسلمين
والمسلمات ، فذكر أوصافا عشرة ، والموصوف بها واحد ، ونص على هذين الوصفين من
المنافقين لشدة ضررهما على المؤمنين. قال عكرمة : (الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، هو العزل وحب الزنا ، ومنه فيطمع الذي في قلبه مرض. وقال
السدي : المرض : النفاق ، ومن في قلوبهم مرض. وقال ابن عباس : هم الذين آذوا عمر.
وقال الكلبي : من آذى المسلمين. وقال ابن عباس : (الْمُرْجِفُونَ) : ملتمسو الفتن. وقال قتادة : الذين يؤذون قلوب المؤمنين
بإيهام القتل والهزيمة. (لَنُغْرِيَنَّكَ
بِهِمْ) : أي لنسلطنك عليهم ، قاله ابن عباس. وقال قتادة : لنحرسنك
بهم.
(ثُمَّ لا
يُجاوِرُونَكَ فِيها) : أي في المدينة ، و (ثُمَّ لا
يُجاوِرُونَكَ) معطوف على (لَنُغْرِيَنَّكَ) ، ولم يكن العطف بالفاء ، لأنه لم يقصد أنه متسبب عن
الإغراء ، بل كونه جوابا للقسم أبلغ. وكان العطف بثم ، لأن الجلاء عن الوطن كان
أعظم عليهم من جميع ما أصيبوا به ، فتراخت حالة الجلاء عن حالة الإغراء. (إِلَّا قَلِيلاً) : أي جوارا قليلا ، أو زمانا قليلا ، أو عددا قليلا ، وهذا
الأخير استثناء من المنطوق ، وهو ضمير الرفع في (يُجاوِرُونَكَ) ، أو ينتصب قليلا على الحال ، أي إلا قليلين ، والأول
استثناء من المصدر الدال عليه (يُجاوِرُونَكَ) ، والثاني من الزمان الدال عليه (يُجاوِرُونَكَ) ، والمعنى : أنهم يضطرون إلى طلب الجلاء عن المدينة خوف
القتل. وانتصب (مَلْعُونِينَ) على الذم ، قاله الطبري ؛ وأجاز ابن عطية أن يكون بدلا من (قَلِيلاً) ، قال : هو من إقلاء الذي قدرناه ؛ وأجاز هو أيضا أن يكون
حالا من الضمير في (يُجاوِرُونَكَ) ، قال : كأنه قال : ينتفون من المدينة ملعونين ، فلا يقدر (لا يُجاوِرُونَكَ) ، فقدر ينتفون حسن هذا. انتهى. وقال الزمخشري ، والحوفي ،
وتبعهما أبو البقاء : يجوز أن يكون حالا من الضمير في
(لا يُجاوِرُونَكَ) ، كما قال ابن عطية. قال الزمخشري : وهذا نصه ملعونين ،
نصب على الشتم أو الحال ، أي لا يجاورونك ، إلا ملعونين. دخل حرف الاستثناء على
الظرف والحال معا ، كما مر في قول : (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ
لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) ، ولا يصح أن ينتصب من أخذوا ، لأن ما بعد كلمة الشرط لا
يعمل فيما قبلها. انتهى. وتقدم الكلام معه في مجيء الحال مما قبل إلا مذكورة بعد
ما استثنى بإلا ، فيكون الاستثناء منصبا عليهما ، وأن جمهور البصريين منعوا من
ذلك. وأما تجويز ابن عطية أن يكون بدلا ، فالبدل بالمشتق قليل. وأما قول الزمخشري
: لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها ، فليس هذا مجمعا عليه ، لأن ما بعد كلمة
الشرط شيئان : فعل الشرط والجواب. فأما فعل الشرط ، فأجاز الكسائي تقديم معموله
على الكلمة ، أجاز زيد أن يضرب اضربه ، وأما الجواب فقد أجاز أيضا تقديم معموله
عليه نحو : إن يقم زيد عمرا يضرب. وقد حكي عن بعض النحويين أنه قال : المعنى : (أَيْنَما ثُقِفُوا) : أخذوا ملعونين ، والصحيح أن ملعونين صفة لقليل ، أي إلا
قليلين ملعونين ، ويكون قليلا مستثنى من الواو في لا يجاورونك ، والجملة الشرطية
صفة أيضا ، أي مقهورين مغلوبا عليهم. ومعنى (ثُقِفُوا) : حصروا وظفر بهم ، ومعنى (أُخِذُوا) : أسروا ، والأخيذ : الأسير. وقرأ الجمهور : (قُتِّلُوا) ، بتشديد التاء ؛ وفرقة : بتخفيفها ، فيكون (تَقْتِيلاً) مصدرا على غير قياس المصدر.
والظاهر أن
المنافقين انتهوا عما كانوا يؤذون به الرسول والمؤمنين ، وتستر جميعهم ، وكفوا
خوفا من أن يقع بهم ما وقع القسم عليه ، وهو الإغراء والجلاء والأخذ والقتل. وقيل
: لم يمتثلوا للانتهاء جملة ، ولا نفذ عليهم الوعيد كاملا. ألا ترى إلى إخراجهم من
المسجد ، ونهيه عن الصلاة عليهم ، وما نزل فيهم في سورة براءة؟ وأبعد من ذهب إلى
أنه لم ينته هؤلاء الأصناف ، ولم ينفذ الله الوعيد عليهم ، ففيه دليل على بطلان
القول بإنفاذ الوعيد في الآخرة ، ويكون هذا الوعيد مفروضا ومشروطا بالمشيئة.
(سُنَّةَ اللهِ) : مصدر مؤكد ، أي سن الله في الذين ينافقون الأنبياء أن
يقتلوا حيثما ظفر بهم. وعن مقاتل : كما قتل أهل بدر وأسروا ، فالذين خلوا يشمل
أتباع الأنبياء الذين نافقوا ، ومن قتل يوم بدر. (يَسْئَلُكَ النَّاسُ) : أي المشركون ، عن وقت قيام الساعة ، استعجالا على سبيل
الهزء ، واليهود على سبيل الامتحان ، إذ كانت معمى وقتها في التوراة ، فنزلت الآية
بأن يرد العلم إلى الله ، إذ لم يطلع عليها ملكا ولا نبيا. ولما ذكر حالهم في
الدنيا أنهم ملعونون مهانون مقتولون ، بيّن حالهم في الآخرة. (وَما يُدْرِيكَ) :
ما استفهام في
موضع رفع بالابتداء ، أي : وأي شيء يدريك بها؟ ومعناه النفي ، أي ما يدريك بها
أحد. (لَعَلَّ السَّاعَةَ
تَكُونُ قَرِيباً) : بين قرب الساعة ، وفي ذلك تسلية للممتحن ، وتهديد
للمستعجل. وانتصب قريبا على الظرف ، أي في زمان قريب ، إذ استعماله ظرفا كثير ،
ويستعمل أيضا غير ظرف ، تقول : إن قريبا منك زيد ، فجاز أن يكون التقدير شيئا
قريبا ، أو تكون الساعة بمعنى الوقت ، فذكر قريبا على المعنى. أو يكون التقدير :
لعل قيام الساعة ، فلوحظ الساعة في تكون فأنث ، ولوحظ المضاف المحذوف وهو قيام في
قريبا فذكر.
(يَوْمَ تُقَلَّبُ
وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) : يجوز أن ينتصب يوم بقوله : (لا يَجِدُونَ) ، ويكون يقولون استئناف إخبار عنهم ، أو تم الكلام عند
قولهم : (وَلا نَصِيراً). وينتصب يوم بقوله : (يَقُولُونَ) ، أو بمحذوف ، أي اذكر ويقولون حال. وقرأ الجمهور : تقلب
مبنيا للمفعول ؛ والحسن ، وعيسى ، وأبو جعفر الرواسي : بفتح التاء ، أي تتقلب ؛
وحكاها ابن عطية عن أبي حيوة. وقال ابن خالويه عن أبي حيوة : نقلب بالنون ، وجوههم
بالنصب. وحكاها ابن عطية عن أبي حيوة أيضا وخارجة. زاد صاحب اللوامح أنها قراءة
عيسى البصري. وقرأ عيسى الكوفي كذلك ، إلا أن بدل النون تاء ، وفاعل تقلب ضمير
يعود على (سَعِيراً) ، وعلى جهنم أسند إليهما اتساعا. وقراءة ابن أبي عبلة :
تتقلب بتاءين ، وتقليب الوجوه في النار : تحركها في الجهات ، أو تغيرها عن هيئاتها
، أو إلقاؤها في النار منكوسة. والظاهر هو الأول ، والوجه أشرف ما في الإنسان ،
فإذا قلب في النار كان تقليب ما سواه أولى. وعبر بالوجه عن الجملة ، وتمنيهم حيث
لا ينفع ، وتشكيهم من كبرائهم لا يجدي. وقرأ الجمهور : (سادَتَنا) ، جمعا على وزن فعلات ، أصله سودة ، وهو شاذ في جمع فيعل ،
فإن جعلت جمع سائد قرب من القياس. وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، وقتادة ، والسلمي ،
وابن عامر ، والعامة في الجامع بالبصرة : ساداتنا على الجمع بالألف والتاء ، وهو
لا ينقاس ، كسوقات ومواليات بني هاشم وسادتهم ، رؤساء الكفر الذين لقنوهم الكفر
وزينوه لهم. قال قتادة : سادتنا : رؤساؤنا. وقال طاوس : أشرافنا ؛ وقال أبو أسامة
: أمراؤنا ، وقال الشاعر :
تسلسل قوم سادة
ثم زادة
|
|
يبدون أهل الجمع
يوم المحصب
|
ويقال : ضل السبيل
، وضل عن السبيل. فإذا دخلت همزة النقل تعدى لاثنين ؛ وتقدم الكلام على إثبات
الألف في الرسولا والسبيلا في قوله : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ
الظُّنُونَا).
ولما لم يجد
تمنيهم الإيمان بطاعة الله ورسوله ، ولا قام لهم عذر في تشكيهم ممن أضلهم ، دعوا
على ساداتهم. (رَبَّنا آتِهِمْ
ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) : ضعفا على ضلالهم في أنفسهم ، وضعفا على إضلال من أضلوا.
وقرأ الجمهور : كثيرا بالثاء المثلثة. وقرأ حذيفة بن اليمان ، وابن عامر ، وعاصم ،
والأعرج : بخلاف عنه بالباء. (كَالَّذِينَ آذَوْا
مُوسى) ، قيل : نزلت في شأن زيد وزينب ، وما سمع فيه من قاله بعض
الناس. وقيل : المراد حديث الإفك على أنه ما أوذي نبي مثل ما أوذيت. وفي حديث
الرجل الذي قال لقسم قسمه رسول الله : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله ، فغضب
وقال : رحم الله أخي موسى ، لقد أوذي أكثر من هذا فصبر. وإذاية موسى قولهم : إنه
أبرص وآدر ، وأنه حسد أخاه هارون وقتله. أو حديث المومسة المستأجرة لأن تقول : إن
موسى زنى بها ، أو ما نسبوه إليه من السحر والجنون ، أقوال.
(مِمَّا قالُوا) : أي من وصم ما قالوا ، وما موصولة أو مصدرية. وقرأ
الجمهور : (وَكانَ عِنْدَ اللهِ) : الظرف معمول لوجيها ، أي ذا وجه ومنزلة عند الله تعالى ،
تميط عنه الأذى وتدفع التهم. وقرأ عبد الله ، والأعمش ، وأبو حيوة : عبد من
العبودية ، لله جر بلام الجر ، وعبدا خبر كان ، ووجيها صفة له. قال ابن خالويه :
صليت خلف ابن شنبوذ في شهر رمضان فسمعته يقرأ : وكان عبد الله ، على قراءة ابن
مسعود. قال ابن زيد : (وَجِيهاً) : مقبولا. وقال الحسن : مستجاب الدعوة ، ما سأل شيئا إلا
أعطي ، إلا الرؤية في الدنيا. وقال قطرب : رفيع القدر ؛ وقيل : وجاهته أنه كلمه
ولقبه كليم الله. والسديد : تقدم شرحه في أوائل النساء. وقال ابن عباس : هنا
صوابا. وقال مقاتل ، وقتادة : سديدا في شأن زيد وزينب والرسول. وقال ابن عباس ،
وعكرمة أيضا : لا إله إلا الله ، وقيل : ما يوافق ظاهره باطنه ؛ وقيل : ما هو
إصلاح من تسديد السهم ليصيب الغرض ؛ وقيل : السديد يعم الخيرات. ورتب على القول
السديد : صلاح الأعمال وغفران الذنوب. قال الزمخشري : وهذه الآية مقررة للتي
قبلها. بنيت تلك على النهي عما يؤدي به رسول الله وهذه على الأمر باتقاء الله في
حفظ اللسان ، ليترادف عليهم النهي والأمر ، مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة
موسى ، واتباع الأمر الوعد البليغ ، فيقوي الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه.
انتهى ، وهو كلام حسن.
(إِنَّا عَرَضْنَا
الْأَمانَةَ) : لما أرشد المؤمنين إلى ما أرشد من ترك الأذى واتقاء الله
وسداد القول ، ورتب على الطاعة ما رتب ، بيّن أن ما كلفه الإنسان أمر عظيم ، فقال
: (إِنَّا
عَرَضْنَا
الْأَمانَةَ) ، تعظيما الأمر التكليف والأمانة : الظاهر أنها كل ما
يؤتمن عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا. والشرع كله أمانة ، وهذا قول الجمهور ،
ولذلك قال أبي زين كعب : من الأمانة أن اؤتمنت المرأة على فرجها. وقال أبو الدرداء
: غسل الجنابة أمانة ، والظاهر عرض الأمانة على هذه المخلوقات العظام ، وهي
الأوامر والنواهي ، فتثاب إن أحسنت ، وتعاقب إن أساءت ، فأبت وأشفقت ، ويكون ذلك
بإدراك خلقه الله فيها ، وهذا غير مستحيل ، إذ قد سبح الحصى في كفه عليه الصلاة
والسلام ، وحن الجذع إليه ، وكلمته الذراع ، فيكون هذا العرض والإباء حقيقة.
قال ابن عباس :
أعطيت الجمادات فهما وتمييزا ، فخيرت في الحمل ، وذكر الجبال ، مع أنها من الأرض ،
لزيادة قوتها وصلابتها ، تعظيما للأمر. وقال ابن الأنباري : عرضت بمسمع من آدم ،
عليه الصلاة والسلام ، وأسمع من الجمادات الإباء ليتحقق العرض عليه ، فيتجاسر على
الحمل غيره ، ويظهر فضله على الخلائق ، حرصا على العبودية ، وتشريفا على البرية
بعلو الهمة. وقيل : هو مجاز ، فقيل : من مجاز الحذف ، أي على من فيها من الملائكة
، وقيل : سن باب التمثيل.
قال الزمخشري : إن
ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه وثقل محمله أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام
وأقواه وأشده أن يتحمله ويستقل به ، فأبى محمله والاستقلال به ، وحملها الإنسان
على ضعفه ورخاوة قوته. (إِنَّهُ كانَ
ظَلُوماً جَهُولاً) ، حيث حمل الأمانة ، ثم لم يف بها. ونحو هذا من الكلام
كثير في لسان العرب ، وما جاء به القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم. من ذلك قول
العرب : لو قيل للشحم أين تذهب لقيل : أسوي العوج. وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم
والجمادات! وتصور مقالة الشحم محال ، ولكن الغرض أن السمن في الحيوان مما يحسن
قبحه ، كما أن العجف مما يقبح حسنه ؛ فصوّر أثر السمن فيه تصويرا هو أوقع في نفس
السامع ، وهي به آنس ، وله أقبل ، وعلى حقيقته أوقف ؛ وكذلك تصوير عظم الأمانة
وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها.
فإن قلت : قد علم
وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأي واحد : أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى ،
لأنه مثلت حال تميله وترجحه بين الرأيين ، وتركه المضي على إحداهما بحال من يتردى
في ذهابه ، فلا يجمع رجليه للمضي في وجهه ، وكل واحد من الممثل والممثل به شيء
مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة ، فليس كذلك ما في الآية. فإن عرض الأمانة على
الجماد ، وإباءه وإشفاقه محال في نفسه غير مستقيم ، فكيف صح
بها التمثيل على
المحال؟ وما مثال هذا إلا أن تشبه شيئا ، والمشبه به غير معقول. قلت : الممثل به
في الآية ، وفي قولهم : لو قيل للشحم أين تذهب؟ وفي نظائره مفروض ، والمفروض أن
يتخيل في الذهن. كما أن المحققات مثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحال
المفروض ، لو عرضت على السموات والأرض والجبال (فَأَبَيْنَ أَنْ
يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها). انتهى.
وقال أيضا : إن
هذه الأجرام العظام قد انقادت لأمر الله انقياد مثلها ، وهو ما تأتى من الجمادات ،
حيث لم يمتنع على مشيئته إيجادا وتكوينا وتسوية على هيئات مختلفة وأشكال متنوعة.
كما قال : (قالَتا أَتَيْنا
طائِعِينَ) . وأما الإنسان ، فلم يكن حاله فيما يصح منه من الانقياد لأوامر
الله ونواهيه ، وهو حيوان صالح للتكليف ، مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها
ويليق بها من الانقياد. والمراد بالأمانة : الطاعة ، لأنها لازمة للوجود. كما أن
الأمانة لازمة للأداء ، وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها مجاز. وحمل الأمانة
من قولك : فلان حامل للأمانة ومحتمل لها ، يريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول
عن ذمته ويخرج عن عهدتها ، لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها ، وهو حامل لها.
ألا تراهم يقولون : ركبته الديون؟ ولي عليه حق؟ فأبين أن لا يؤدونها ، وأبى
الإنسان أن لا يكون محتملا لها لا يؤديها. ثم وصفه بالظلم لكونه تاركا لأداء
الأمانة ، وبالجهل لخطئه ما يسعده مع تمكنه منه وهو أداؤها. انتهى ، وفيه بعض حذف.
وقال قوم : الآية
من المجاز ، أي إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السموات والأرض والجبال ، رأيتهما
أنهما لا تطيقها ، وأنها لو تكلمت ، لأبتها وأشفقت عنها ؛ فعبر عن هذا المعنى
بقوله : (إِنَّا عَرَضْنَا) الآية ، وهذا كما تقول : «عرضت الحمل على البعير فأباه ،
وأنت تريد بذلك مقارنة قوته بثقل الحمل ، فرأيتها تقصر عنه ؛ ونحوه قول ابن بحر»
معنى عرضنا : عارضناها وقابلناها بها. (فَأَبَيْنَ أَنْ
يَحْمِلْنَها) : أي قصرن ونقصن عنها ، كما تقول : أبت الصنجة أن تحمل ما
قابلها. (وَحَمَلَهَا
الْإِنْسانُ) ، قال ابن عباس ، وابن جبير : التزم القيام بحقها ،
والإنسان آدم ، وهو في ذلك ظلوم نفسه ، جهول بقدر ما دخل فيه. وقال ابن عباس : ما
تم له يوم حتى أخرج من الجنة. وقال الضحاك ، والحسن : وحملها معناه : خان فيها ،
والإنسان الكافر والمنافق والعاصي على قدره. وقال ابن مسعود ،
__________________
وابن عباس أيضا :
ابن آدم قابيل الذي قتل أخاه هابيل ، وكان قد تحمل لأبيه أمانة أن يحفظ الأهل بعده
، وكان آدم مسافرا عنهم إلى مكة ، في حديث طويل ذكره الطبري. وقال ابن إسحاق : عرض
الأمانة : وضع شواهد الوحدانية في المصنوعات : والحمل : الخيانة ، كما تقول : حمل
خفي واحتمله ، أي ذهب به. قال الشاعر :
إذا أنت لم تبرح
تؤدي أمانة
|
|
وتحمل أخرى
أخرجتك الودائع
|
انتهى. وليس وتحمل
أخرى نصا في الذهاب بها ، بل يحتمل لأنك تتحمل أخرى ، فتؤدي واحدة وتتحمل أخرى ،
فلا تزال دائما ذا أمانات ، فتخرج إذ ذاك.
واللام في (لِيُعَذِّبَ) لام الصيرورة ، لأنه لم يحملها لأن يعذب ، لكنه حملها فآل
الأمر إلى أن يعذب من نافق وأشرك ، ويتوب على من آمن. وقال الزمخشري : لام التعليل
على طريق المجاز ، لأن نتيجة حمل الأمانة العذاب ، كما أن التأديب في : ضربته
للتأديب ، نتيجة الضرب. وقرأ الأعمش : فيتوب ، يعني بالرفع ، بجعل العلة قاصرة على
فعل الحامل ، ويبتدىء ويتوب. ومعنى قراءة العامة : ليعذب الله حامل الأمانة ويتوب
على غيره ممن لم يحملها ، لأنه إذا ثبت على أن الواو في وكان ذلك نوعان من عذاب
القتال. انتهى. وذهب صاحب اللوامح أن الحسن قرأ ويتوب بالرفع.
سورة سبأ
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ
وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ
الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ
بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ
ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا
أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ
سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥)
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ
الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ
مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ
بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ
الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ
السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ
عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ
مُنِيبٍ (٩) وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ
وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي
السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١)
وَلِسُلَيْمانَ
الرِّيحَ
غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ
الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ
عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ
مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا
آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا
عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ
تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤) لَقَدْ كانَ
لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ
رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥)
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ
بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ
سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ
الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها
قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً
آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ
ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ
هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١) قُلِ ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي
السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ
مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ
لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا
الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ
فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ
عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ
بَيْنَنا
رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً
وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا
تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠) وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ
تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى
بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ
لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ
كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ
نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا
رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ
يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ
نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤)
وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي
تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ
لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧)
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ
مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ
عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ
خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ
لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ
أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ
بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١)
فَالْيَوْمَ
لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا
تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ
يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ
مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ
سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا
إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما
بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥)
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ
تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ
بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ
لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ
الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما
أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ
سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ
مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ
مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ
مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ
بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)
المزق : خرق الشيء
، يقال : منه ثوب ممزوق ومزيق ومتمزق وممزق ، إذا صار قطعا باليا ، ومنه قول
العبدي :
فإن كنت مأكولا
فكن خير آكل
|
|
وإلّا فأدركني
ولما أمزق
|
السابغات : الدروع
، وأصله الوصف بالسبوغ ، وهو التمام والكمال ، وغلب على الدروع فصار كالأبطح ،
وقال الشاعر :
عليها أسود
ضاريات لبوسهم
|
|
سوابغ بيض لا
يخرّقها النبل
|
السرد : اتباع
الشيء بالشيء من جنسه ، قال الشماخ :
فظن تباعا خيلنا
في بيوتكم
|
|
كما تابعت سرد
الضأن الخوارز
|
ويقال للدرع :
مسرودة ، لأنه توبع فيها الحلق بالحلق ، قال الشاعر :
وعليهما
مسرودتان قضاهما
|
|
داود أو صنع
السوابغ تبع
|
ويقال لصانع ذلك :
سرّاد وزراد ، تبدل من السين الزاي ؛ كما قالوا : سراط وزراط. ويقال للأشفى : مسرد
ومسراد وسرد القرآن ، إذا حدر فيه ؛ والكلام إذا تابعه مستعجلا فيه. سال ، من سال
الوادي والدمع : جرى لسرعة ما فيه من الماء والدمع. القطر : النحاس ، وقيل : الفلز
النحاس والحديد وما جرى مجراه. الجفان : جمع جفنة ، وهي معروفة. الجوابي : الحياض
العظام ، واحدها جابية ، لأنه يجبي فيها الماء ، أي يجمع. قال الشاعر :
بجفان تعتري
نادينا
|
|
من سديف حين قد
هاج الضبر
|
كالجوابي لا تفي
مترعة
|
|
لقرى الأضياف أو
للمحتظر
|
وقال الأعشى :
نفى الذم عن آل
المحلق جفنة
|
|
كجابية السيح
العراقي تفهق
|
وقال الأفوه
الأودي :
وقدور كالربا
راسيات
|
|
وجفان كالجوابي
مترعه
|
القدر : إناء يطبخ
فيه من فخار أو غيره ، وهو على شكل مخصوص. المنسأة : العصى تهمز ولا تهمز ، ووزنها
مفعلة ، من نسأت : أي أخرت وطردت ؛ ويقال : منساءة بالمد والهمز على وزن مفعالة ،
كما قالوا : ميضاءة وميضاة ، وقال الشاعر :
ضربنا بمنساءة
وجهه
|
|
فصار بذاك مهينا
ذليلا
|
وقال آخر
إذا دببت على
المنساة من هرم
|
|
فقد تباعد عنك
اللهو والغزل
|
وقياس تخفيف
همزتها أن يكون بين بين ، وأما إبدالها ألفا أو حذفها فغير قياس. العرم : إما صفة
للسيل أضيف فيه الموصوف إلى صفته كقولهم : مسجد الجامع ، وإما اسم لشيء ، ويأتي
القول فيه في تفسير المركبات. الخمط ، قال أبو عبيدة : كل شجرة مرّة ذات شوك. وقال
ابن الأعرابي : الخمط ثمر شجرة على صورة الخشخاش لا ينتفع به. وقال القتبي : يقال
للحماضة خمطة اللبن. إذا أخذ شيئا من الريح فهو خامط وخميط ؛ وتخمط الفحل :
هدر ، والرجل :
تعصب وتكسر ، والخمر : أخذت ريح الأراك كرائحة التفاح ولم تدرك بعد. ويقال : هي
الخامطة ، قاله الجوهري. الأثل : شجر ، وهو ضرب من الطرفاء ، قاله أبو حنيفة
اللغوي في كتاب النبات له ، ويأتي ما قال فيه المفسرون. السدر ، قال الفراء : هو
السرو. وقال الأزهري : السدر سدران : سدر لا ينتفع به ، ولا يصلح ورقه للغسول ،
وله ثمرة عفصة لا تؤكل ، وهو الذي يسمى الضال ؛ وسدر ينبت على الماء ، وثمره النبق
، ورقه غسول يشبه ورق شجر العناب. التناوش : تناول سهل لشيء قريب ، يقال : ناشه
ينوشه وتناوشه القوم وتناوشوا في الحرب : ناش بعضهم بعضا بالسلام. وقال الراجز :
فهي تنوش الحوض
نوشا من غلا
|
|
نوشا به تقطع
أجواز الفلا
|
وأما بالهمز ،
فقال الفراء : من ناشت : أي تأخرت. قال الشاعر :
تمنى نئيش أن
يكون أطاعني
|
|
وقد حدثت بعد
الأمور أمور
|
وقال آخر :
وجئت نئيشا بعد
ما
|
|
فاتك الخبز
نئيشا أخيرا
|
(الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ، يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما
يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ
الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ
بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ
ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا
أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ، وَالَّذِينَ سَعَوْا
فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ، وَيَرَى
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ
الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ، وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ
مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ، أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ
بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ
وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ ، أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما
خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ
أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ
عَبْدٍ مُنِيبٍ).
هذه السورة ، قال
في التحرير ، مكية بإجماعهم. قال ابن عطية : مكية إلا قوله : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ، فقالت فرقة : مدنية فيمن أسلم من أهل الكتاب ، كعبد الله
بن سلام وأشباهه. انتهى. وسبب نزولها أن أبا سفيان قال لكفار مكة ، لما سمعوا
(لِيُعَذِّبَ اللهُ
الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) : إن محمدا يتوعدنا بالعذاب بعد أن نموت ، ويخوّفنا بالبعث
، واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبدا ، ولا نبعث. فقال الله : (قُلْ) يا محمد (بَلى وَرَبِّي
لَتُبْعَثُنَ) ، قاله مقاتل ؛ وباقي السورة تهديد لهم وتخويف. ومن ذكر
هذا السبب ، ظهرت المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) : مستغرق لجميع المحامد. (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
الْآخِرَةِ) : ظاهره الاستغراق. ولما كانت نعمة الآخرة مخبرا بها ، غير
مرئية لنا في الدنيا ، ذكرها ليقاس نعمها بنعم الدنيا ، قياس الغائب على الشاهد ،
وإن اختلفا في الفضيلة والديمومة. وقيل : أل للعهد والإشارة إلى قوله : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ) ، أو إلى قوله : (وَقالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) . وقال الزمخشري : الفرق بين الحمدين وجوب الحمد في الدنيا
، لأنه على نعمه متفضل بها ، وهو الطريق إلى تحصيل نعمة الآخرة ، وهي الثواب. وحمد
الآخرة ليس بواجب ، لأنه على نعمة واجبة الاتصال إلى مستحقها ، إنما هو تتمة سرور
المؤمنين وتكملة اغتباطهم يلتذون به. انتهى ، وفيه بعض تلخيص.
(يَعْلَمُ ما يَلِجُ
فِي الْأَرْضِ) ، من المياه. وقال الكلبي : من الأموات والدفائن. (وَما يَخْرُجُ مِنْها) ، من النبات. وقال الكلبي : من جواهر المعادن. (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) ، من المطر والثلج والبرد والصاعقة والرزق والملك. (وَما يَعْرُجُ فِيها) ، من أعمال الخلق. وقال الكلبي : وما ينزل من الملائكة.
وقيل : من الأقضية والأحوال والأدعية والأعمال. وقيل : من الأنعام والعطاء. وقرأ
عليّ ، والسلمي : وما ينزل بضم الياء وفتح النون وشد الزاي ، أي الله تعالى. وبلى
جواب للنفي السابق من قولهم (لا تَأْتِينَا
السَّاعَةُ) ، أي بلى لتأتينكم. وقرأ الجمهور : (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) بتاء التأنيث ، أي الساعة التي أنكرتم مجيئها. وقرأ طلق عن
أشياخه بياء الغيبة ، أي ليأتينكم البعث ، لأنه مقصودهم من نفي الساعة أنهم لا
يبعثون. وقال الزمخشري : أو على معنى الساعة ، أي اليوم ، أو على إسناده إلى الله
على معنى ليأتينكم أمر عالم الغيب كقوله : (أَوْ يَأْتِيَ
رَبُّكَ) ، أي أمره. ويبعد أن يكون ضمير الساعة ، لأنه مذهوب به
مذهب التذكير ، لا يكون إلا في الشعر ، نحو قوله :
ولا أرض أبقل
أبقالها
__________________
ثم أكد الجواب
بالقسم على البعث ، واتبع القسم بقوله : (عالِمِ الْغَيْبِ) وما بعده ، ليعلم أن إنباتها من الغيب الذي تفرد به تعالى.
وجاء القسم بقوله : (وَرَبِّي) مضافا إلى الرسول ، ليدل على شدّة القسم ، إذ لم يأت به في
الاسم المشترك بينه وبين من أنكر الساعة ، وهو لفظ الله. وقرأ نافع ، وابن عامر ،
ورويس ، وسلام ، والجحدري ، وقعنب : (عالِمِ) بالرفع على إضمار هو ؛ وجوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون
مبتدأ ، والخبر (لا يَعْزُبُ). وقال الحوفي : أو خبره محذوف ، أي عالم الغيب هو ، وباقي
السبعة : عالم بالجر. قال ابن عطية ، وأبو البقاء : وذلك على البدل. وأجاز أبو
البقاء أن تكون صفة ، ويعني أن عالم الغيب يجوز أن يتعرف ، وكذا كل ما أضيف إلى
معرفة مما كان لا يتعرف بذلك يجوز أن يتعرف بالإضافة ، إلا الصفة المشبهة فلا
تتعرف بإضافة. ذكر ذلك سيبويه في كتابه ، وقل من يعرفه. وقرأ ابن وثاب ، والأعمش ،
وحمزة ، والكسائي : علام على المبالغة والخفض ، وتقدّمت قراءة يعزب في يونس.
وقرأ الجمهور : (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ) ، برفع الراءين ، واحتمل أن يكون معطوفا على (مِثْقالُ) ، وأن يكون مبتدأ ، والخبر في قوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ) وعلى الاحتمال الأول ، يكون (إِلَّا فِي كِتابٍ
مُبِينٍ) توكيدا لما تضمن النفي في قوله : (لا يَعْزُبُ) ، وتقديره : لكنه في كتاب مبين ، وهو كناية عن ضبط الشيء
والتحفظ به ، فكأنه في كتاب ، وليس ثم كتاب حقيقة. وعلى التخريج الأول ، يكون
الكتاب هو اللوح المحفوظ. وقرأ الأعمش ، وقتادة : بفتح الراءين. قال ابن عطية :
عطفا على (ذَرَّةٍ). ورويت عن أبي عمرو ، وعزاها أيضا إلى نافع ، ولا يتعين ما
قال ، بل تكون لا لنفي الجنس ، وهو مبتدأ ، أعني مجموع لا وما بني معها على مذهب
سيبويه ، والخبر (إِلَّا فِي كِتابٍ
مُبِينٍ) ، وهو من عطف الجمل ، لا من عطف المفردات ، كما قال ابن
عطية.
وقال الزمخشري :
جوابا لسؤال من قال : هل جاز عطف (وَلا أَصْغَرُ) على (مِثْقالُ) ، وعطف (وَلا أَصْغَرُ) على (ذَرَّةٍ)؟ قلت : يأبى ذلك حرف الاستثناء ، إلا إذا جعلت الضمير في
عنه للغيب ، وجعلت الغيب اسما للخفيات قبل أن تكتب في اللوح ، لأن إثباتها في
اللوح نوع من البروز عن الحجاب على معنى أنه لا ينفصل عن الغيب شيء ولا يزول عنه
إلا مسطورا في اللوح. انتهى. ولا يحتاج إلى هذا التأويل إذا جعلنا الكتاب المبين ليس
اللوح المحفوظ. وقرأ زيد بن علي : ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، بخفض الراءين
بالكسرة ، كأنه نوى مضافا إليه محذوفا ، التقدير : ولا أصغره ولا أكبره ، ومن ذلك
ليس متعلقا بأفعل
، بل هو بتبيين ، لأنه لما حذف المضاف إليه أبهم لفظا فبينه بقوله : (مِنْ ذلِكَ) ، أي عنى من ذلك ، وقد جاءت من مع كون أفعل التفضيل مضافا
في قول الشاعر :
تحن نفوس الورى
وأعلمنا
|
|
بنا يركض الجياد
في السدف
|
وخرج على أنه أراد
علم بنا ، فأضاف ناويا طرح المضاف إليه ، فاحتملت قراءة زيد هذا التوجيه الآخر :
أنه لما أضاف أصغر وأكبر على إعرابهما حالة الإضافة ، وهذا كله توجيه شذوذ ، وناسب
وصفه تعالى بعالم الغيب ، وأنه لا يفوت علمه شيء من الخفيات ، فاندرج في ذلك وقت
قيام الساعة ، وصار ذلك دليلا على صحة ما أقسم عليه ، لأن من كان عالما بجميع
الأشياء كلها وجزئها ، وكانت قدرته ثابتة ، كان قادرا على إعادة ما فنى من جميع
الأرواح والأشباح. قيل : وقوله (مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي
السَّماواتِ) ، إشارة إلى علمه بالأرواح ، (وَلا فِي الْأَرْضِ) ، إشارة إلى علمه بالأشياء. وكما أبرزهما من العدم إلى
الوجود أولا ، فكذلك يعيدهما ثانيا. وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف يكون بمعنى
اليمين مصححة لما أنكروه؟ قلت : هذا لو اقتصر على اليمين ولم يتبعها بالحجة
القاطعة ، وهو قوله : (لِيَجْزِيَ) ، فقد وضع الله في العقول وركب في الغرائز وجوب الجزاء ،
وأن المحسن لا بد له من ثواب ، والمسيء لا بد له من عقاب : انتهى ، وفي السؤال بعض
اختصار ، وفيه دسيسة الاعتزال. والظاهر أن قوله : (لِيَجْزِيَ) متعلق بقوله : (لا يَعْزُبُ) ، وقيل : بقوله (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) ، وقيل : بالعامل (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) : أي إلا مستقرا في كتاب مبين ليجزي. وقرأ الجمهور :
معجزين مخففا ، وابن كثير وأبو عمرو والجحدري وأبو السماك : مثقلا وتقدّم في الحج
، أي معجزين قدرة الله في زعمهم. وقال ابن الزبير : معناه مثبطين عن الإيمان من
أراده ، مدخلين عليه العجز في نشاطه ، وهذا هو سعيهم في الآيات ، أي في شأن
الآيات. وقال قتادة : مسابقين يحسبون أنهم يفوتوننا. وقال عكرمة : مراغمين. وقال
ابن زيد : مجاهدين في إبطالها. وقرأ ابن كثير وحفص وابن أبي عبلة : (أَلِيمٌ) هنا ، وفي الجاثية بالرفع صفة للعذاب ، وباقي السبعة بالجر
صفة للرجز ، والرجز : العذاب السيء. والظاهر أن قوله : (وَالَّذِينَ سَعَوْا) مبتدأ ، والخبر في الجملة الثانية ، وهي (أُولئِكَ). وقيل : هو منصوب عطفا على (الَّذِينَ آمَنُوا) ، أي وليجزي الذين سعوا. واحتمل أن تكون الجملتان
المصدرتان بأولئك هما نفس الثواب والعقاب ، واحتمل أن تكونا مستأنفتين ، والثواب
والعقاب ما تضمنتا مما هو أعظم ، كرضا الله عن المؤمن دائما ، وسخطه على الفاسق
دائما. قال العتبي : والظاهر أن قوله : (وَيَرَى) استئناف إخبار عمن أوتي العلم ،
يعلمون القرآن
المنزل عليك هو الحق. وقيل : ويرى منصوب عطفا على ليجزي ، وقاله الطبري والثعلبي ؛
وتقدّم الخلاف في (الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ) في ذلك المكان الذي نزلت فيه هذه السورة. وقال الزمخشري :
أي وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق علما لا يزاد عليه في الاتفاق ،
ويحتجوا به على الذين كفروا وتولوا. ويجوز أن يريد : وليعلم من لم يؤمن من الأخيار
أنه هو الحق ، فيزداد حسرة وغما. انتهى. وإنما قال : عند مجيء الساعة ، لأنه علق
ليجزي بقوله : (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) ، فبنى التخريج على ذلك. وقرأ الجمهور : الحق بالنصب ،
مفعولا ثانيا ليرى ، وهو فصل ؛ وابن أبي عبلة : بالرفع جعل هو مبتدأ والحق خبره ،
والجملة في موضع المفعول الثاني ليرى ، وهو لغة تميم ، يجعلون ما هو فصل عند غيرهم
مبتدأ ، قاله أبو عمر الجرمي. والظاهر أن الفاعل ليهدي هو ضمير الذي أنزل ، وهو
القرآن ، وهو استئناف إخبار. وقيل : هو في موضع الحال على إضمار ، وهو يهدي ،
ويجوز أن يكون معطوفا على الحق ، عطف الفعل على الاسم ، كقوله : (صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) ، أي قابضات ، كما عطف الاسم على الفعل في قوله :
فألفيته يوما
يبير عدوه
|
|
وبحر عطاء يستحق
المعابرا
|
عطف وبحر على يبير
، وقيل : الفاعل بيهدي ضمير عائد على الله ، وفيه بعد. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) : هم قريش ، قال بعضهم لبعض على جهة التعجب والاستهزاء ،
كما يقول الرجل لمن يريد أن يعجبه : هل أدلك على قصة غريبة نادرة؟ لما كان البعث
عندهم من المحال ، جعلوا من يخبر عن وقوعه في حيز من يتعجب منه ، وأتوا باسمه ، عليهالسلام ، نكرة في قوله : (هَلْ نَدُلُّكُمْ
عَلى رَجُلٍ)؟ وكان اسمه أشهر علم في قريش ، بل في الدنيا ، وإخباره
بالبعث أشهر خبر ، لأنهم أخرجوا ذلك مخرج الاستهزاء والتحلي ببعض الأحاجي المعمولة
للتلهي والتعمية ، فلذلك نكروا اسمه. وقرأ الجمهور : (يُنَبِّئُكُمْ) بالهمز ؛ وزيد بن علي : بإبدال الهمزة ياء محضة. وحكى عنه
الزمخشري : ينبئكم ، بالهمز من أنبأ ، وإذا جوابها محذوف تقديره : تبعثون ، وحذف
لدلالة ما بعده عليه ، وهو العامل إذا ، على قول الجمهور. وقال الزجاج ذلك ، وقال
أيضا هو والنحاس : العامل (مُزِّقْتُمْ). قال ابن عطية : هو خطأ وإفساد للمعنى. انتهى. وليس بخطأ
ولا إفساد للمعنى ، وإذا الشرطية مختلف في العامل فيها ، وقد بينا ما كتبناه في (شرح
التسهيل) أن الصحيح أن يعمل فيها فعل الشرط ، كسائر أدوات الشرط. والجملة الشرطية
يحتمل أن تكون معمولة لينبئكم ، لأنه في معنى يقول
__________________
لكم : (إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) ، ثم أكد ذلك بقوله : (إِنَّكُمْ لَفِي
خَلْقٍ جَدِيدٍ). ويحتمل أن يكون : (إِنَّكُمْ لَفِي
خَلْقٍ جَدِيدٍ) معمولا لينبئكم ، ينبئكم متعلق ، ولو لا اللام في خبر إن
لكانت مفتوحة ، فالجملة سدت مسد المفعولين. والجملة الشرطية على هذا التقدير
اعتراض ، وقد منع قوم التعليق في باب أعلم ، والصحيح جوازه. قال الشاعر :
حذار فقد نبئت
أنك للذي
|
|
ستنجزى بما تسعى
فتسعد أو تشقى
|
وممزق مصدر جاء
على زنة اسم المفعول ، على القياس في اسم المصدر من كل فعل زائد على الثلاثة ،
كقوله :
ألم تعلم مسرحي
القوافي
|
|
فلا عيابهن ولا
اجتلابا
|
أي : تسريحي
القوافي. وأجاز الزمخشري أن يكون ظرف مكان ، أي إذا مزقتم في مكان من القبور وبطون
الطير والسباع ، وما ذهبت به السيول كل مذهب ، وما نسفته الرياح فطرحته كل مطرح.
انتهى. و (جَدِيدٍ) ، عند البصريين ، بمعنى فاعل ، تقول : جد فهو جاد وجديد ،
وبمعنى مفعول عند الكوفيين من جده إذا قطعه. والظاهر أن قوله : (أَفْتَرى) من قول بعضهم لبعض ، أي هو مفتر ، (عَلَى اللهِ كَذِباً) فيما ينسب إليه من أمر البعث ، (أَمْ بِهِ) جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه. عادلوا بين الافتراء
والجنون ، لأن هذا القول عندهم إنما يصدر عن أحد هذين ، لأنه إذا كان يعتقد خلاف
ما أتى به فهو مفتر ، وإن كان لا يعتقده فهو مجنون. ويحتمل أن يكون من كلام السامع
المجيب لمن قال : (هَلْ نَدُلُّكُمْ) ، ردد بين الشيئين ولم يجزم بأحدهما ، حيث جوز هذا وجوز
هذا ، ولم يجزم بأنه افتراء محض ، احترازا من أن ينسب الكذب لعاقل نسبة قطعية ، إذ
العاقل حتى الكافر لا يرضى بالكذب ، لا من نفسه ولا من غيره ، وأضرب تعالى عن
مقالتهم ، والمعنى : ليس للرسول كما نسبتم البتة ، بل أنتم في عذاب النار ، أو في
عذاب الدنيا بما تكابدونه من إبطال الشرع وهو بحق ، وإطفاء نور الله وهو متم.
ولما كان الكلام
في البعث قال : (بَلِ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ، فرتب العذاب على إنكار البعث ، وتقدم الكلام في وصف
الضلال بالبعد ، وهو من أوصاف المحال استعير للمعنى ، ومعنى بعده : أنه لا ينقضي
خبره المتلبس به. (أَفَلَمْ يَرَوْا) : أي هؤلاء الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة ، (إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) : أي حيث ما تصرفوا ، فالسماء والأرض قد أحاطتا بهم ، ولا
يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما ، ولا يخرجوا عن ملكوت الله
فيهما. وقال
الزمخشري : أعموا فلم ينظروا ، جعل بين الفاء والهمزة فعلا يصح العطف عليه ، وهو
خلاف ما ذهب إليه النحويون من أنه لا محذوف بينهما ، وأن الفاء للعطف على ما قبل
همزة الاستفهام ، وأن التقدير فالم ، لكن همزة الاستفهام لما كان لها الصدر قدمت ،
وقد رجع الزمخشري إلى مذهب النحويين في ذلك ، وقد رددنا عليه هذا المذهب فيما
كتبناه في (شرح التسهيل). وقفهم تعالى على قدرته الباهرة ، وحذرهم إحاطتها بهم على
سبيل الإهلاك لهم ، وكان ثم حال محذوفة ، أي أفلا يرون إلى ما يحيط بهم من سماء
وأرض مقهور تحت قدرتنا نتصرف فيه كما نريد؟
(إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ
بِهِمُ الْأَرْضَ) ، كما فعلنا بقارون ، (أَوْ نُسْقِطْ
عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) ، كما فعلنا بأصحاب الظلة ، أو (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) محيطا بهم ، وهم مقهورون تحت قدرتنا؟ (إِنَّ فِي ذلِكَ) النظر إلى السماء والأرض ، والفكر فيهما ، وما يدلان عليه
من قدرة الله ، (لَآيَةً) : لعلامة ودلالة ، (لِكُلِّ عَبْدٍ
مُنِيبٍ) : راجع إلى ربه ، مطيع له. قال مجاهد : مخبت. وقال الضحاك
: مستقيم. وقال أبو روق : مخلص في التوحيد. وقال قتادة : مقبل إلى ربه بقلبه ، لأن
المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله على أنه قادر على كل شيء من البعث ومن عقابه
من يكفر به. وقرأ الجمهور : إن نشأ نخسف ونسقط بالنون في الثلاثة ؛ وحمزة والكسائي
، وابن وثاب ، وعيسى ، والأعمش ، وابن مطرف : بالياء فيهن ؛ وأدغم الكسائي الفاء
في الباء في نخسف بهم. قال أبو علي : وذلك لا يجوز ، لأن الباء أضعف في الصوت من
الفاء ، فلا تدغم فيها ، وإن كانت الباء تدغم في الفاء ، نحو : اضرب فلانا ، وهذا
ما تدغم الباء في الميم ، كقولك : اضرب مالكا ، ولا تدغم الميم في الباء ، كقولك :
اصمم بك ، لأن الباء انحطت عن الميم بفقد الغنة التي في الميم. وقال الزمخشري :
وقرأ الكسائي نخسف بهم ، بالإدغام ، وليست بقوية. انتهى. والقراءة سنة متبعة ،
ويوجد فيها الفصيح والأفصح ، وكل ذلك من تيسيره تعالى القرآن للذكر ، فلا التفات
لقول أبي علي ولا الزمخشري.
(وَلَقَدْ آتَيْنا
داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ
الْحَدِيدَ ، أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً
إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ، وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ
وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ
يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا
نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ ، يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ
وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ
شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ، فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ
الْمَوْتَ
ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ
فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما
لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ).
مناسبة قصة داود
وسليمان ، عليهماالسلام ، لما قبلها ، هي أن أولئك الكفار أنكروا البعث لاستحالته
عندهم ، فأخبروا بوقوع ما هو مستحيل في العادة مما لا يمكنهم إنكاره ، إذ طفحت
ببعضه أخبارهم وشعراؤهم على ما يأتي ذكره ، إن شاء الله ، من تأويب الجبال والطير
مع داود ، وإلانة الحديد ، وهو الجرم المستعصي ، وتسخير الريح لسليمان ، وإسالة
النحاس له ، كما ألان الحديد لأبيه ، وتسخير الجن فيما شاء من الأعمال الشاقة.
وقيل : لما ذكر من
ينيب من عباده ، ذكر من جملتهم داود ، كما قال : (فَاسْتَغْفَرَ
رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) ، وبين ما آتاه الله على إنابته فقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) ، وقيل : ذكر نعمته على داود وسليمان ، عليهماالسلام ، احتجاجا على ما منح محمدا صلىاللهعليهوسلم : أي لا تستبعدوا هذا ، فقد تفضلنا على عبيدنا قديما بكذا
وكذا. فلما فرغ التمثيل لمحمد ، عليهالسلام ، رجع التمثيل لهم بسبأ ، وما كان من هلاكهم بالكفر
والعتو. انتهى. والفضل الذي أوتي داود : الزبور ، والعدل في القضاء ، والثقة بالله
، وتسخير الجبال ، والطير ، وتليين الحديد ، أقوال. (يا جِبالُ) : هو إضمار القول ، إما مصدر ، أي قولنا (يا جِبالُ) ، فيكون بدلا من (فَضْلاً) ، وأما فعلا ، أي قلنا ، فيكون بدلا من (آتَيْنا) ، وإما على الاستئناف ، أي قلنا (يا جِبالُ) ، وجعل الجبال بمنزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا
وأذعنوا ، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا ، إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت
إلا وهو منقاد لمشيئته ، غير ممتنع على إرادته ، ودلالة على عزة الربوبية وكبرياء
الألوهية ، حيث نادى الجبال وأمرها. وقرأ الجمهور : (أَوِّبِي) ، مضاعف آب يؤب ، ومعناه : سبحي معه ، قاله ابن عباس
وقتادة وابن زيد. وقال مؤرج ، وأبو ميسرة : أوبي : سبحي ، بلغة الحبشة ، أي يسبح
هو وترجع هي معه التسبيح ، أي تردد بالذكر ، وضعف الفعل للمبالغة ، قاله ابن عطية.
ويظهر أن التضعيف للتعدية ، فليس للمبالغة ، إذ أصله آب ، وهو لازم بمعنى : رجع
اللازم فعدى بالتضعيف ، إذ شرحوه بقولهم : رجعي معه التسبيح.
قال الزمخشري :
ومعنى تسبيح الجبال : أن الله يخلق فيها تسبيحا ، كما خلق الكلام في الشجرة ،
فيسمع منها ما يسمع من المسبح ، معجزة لداود. قيل : كان ينوح على ذنبه
__________________
بترجيع وتحزين ،
وكانت الجبال تساعده على نوحه بأصدائها والطير بأصواتها. انتهى. وقوله : كما خلق
الكلام في الشجرة ، يعني أن الذي يسمع موسى هو مما خلقه الله في الشجرة من الكلام
، لا أنه كلام الله حقيقة ، وهو مذهب المعتزلة. وأما قوله : تساعده الجبال على
نوحه بأصدائها فليس بشيء ، لأن الصدى ليس بصوت الجبال حقيقة ، والله تعالى نادى
الجبال وأمرها بأن تؤوب معه ، والصدى لا تؤمر الجبال بأن تفعله ، إذ ليس فعلا لها
، وإنما هو من آثار صوت المتكلم على ما يقوم عليه البرهان. وقال الحسن : معنى (أَوِّبِي مَعَهُ) : سيري معه أين سار ، والتأويب : سير النهار. كأن الإنسان
يسير الليل ثم يرجع للسير بالنهار ، أي يردده ، وقال تميم بن مقبل :
لحقنا بحي أوبوا
السير بعد ما
|
|
رفعنا شعاع الشمس
والطرف تجنح
|
وقال آخر :
يومان يوم
مقامات وأندية
|
|
ويوم سير إلى
الأعداء تأويب
|
وقيل : أوّبي :
تصرفي معه على ما يتصرف فيه. فكان إذا قرأ الزبور ، صوتت الجبال معه وأصغت إليه
الطير ، فكأنها فعلت ما فعل. وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وابن أبي إسحاق :
أوبي ، أمر من أوب : أي رجعي معه في التسبيح ، أو في السير ، على القولين.
فأمر الجبال كأمر
الواحدة المؤنثة ، لأن جمع ما لا يعقل يجوز فيه ذلك ، ومنه : يا خيل الله اركبي ،
ومنه : يا رب أخرى ، وقد جاء ذلك في جميع ما يعقل من المؤنث ، قال الشاعر :
تركنا الخيل
والنعم المفدى
|
|
وقلنا للنساء
بها أقيمي
|
لكن هذا قليل.
وقرأ الجمهور : (وَالطَّيْرَ) ، بالنصب عطفا على موضع (يا جِبالُ). قال سيبويه : وقال أبو عمرو : بإضمار فعل تقديره : وسخرنا
له الطير. وقال الكسائي : عطفا على (فَضْلاً) ، أي وتسبيح الطير. وقال الزجاج : نصبه على أنه مفعول معه.
انتهى ، وهذا لا يجوز ، لأن قبله معه ، ولا يقتضي الفعل اثنين من المفعول معه إلا
على البدل أو العطف ، فكما لا يجوز : جاء زيد مع عمرو مع زينب إلا بالعطف ، كذلك
هذا. وقرأ السلمي ، وابن هرمز ، وأبو يحيى ، وأبو نوفل ، ويعقوب ، وابن أبي عبلة ،
وجماعة من أهل المدينة ، وعاصم في رواية : والطير ، بالرفع ، عطفا على لفظ (يا جِبالُ) ؛ وقيل : عطفا على الضمير في (أَوِّبِي) ، وسوغ ذلك الفصل بالظرف ؛ وقيل : رفعا بالابتداء ، والخبر
محذوف ، أي والطير تؤوّب. وإلانة الحديد ، قال ابن عباس وقتادة : صار كالشمع. وقال
الحسن : كالعجين ،
وكان يعمله من غير نار. وقال السدي : كالطين المبلول والعجين والشمع ، يصرفه كيف
شاء من غير نار ولا ضرب مطرقة. وقيل : أعطي قوة يلين بها الحديد. وقال مقاتل :
وكان يفرغ من الدرع في بعض يوم أو في بعض ليلة ثمنها ألف درهم ، وكان داود يتنكر
فيسأل الناس عن حاله ، فعرض له ملك في صورة إنسان فسأله ، فقال : نعم العبد لو لا
خلة فيه ، فقال : وما هي؟ فقال : يرتزق من بيت المال ، ولو أكل من عمل يده تمت
فضائله ، فدعا الله أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه ، فعلمه صنعة الدروع وألان له
الحديد فأثرى ، وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين. وأن في (أَنِ اعْمَلْ) مصدرية ، وهي على إسقاط حرف الجر ، أي ألناه لعمل (سابِغاتٍ). وأجاز الحوفي وغيره أن تكون مفسرة ، ولا يصح ، لأن من
شرطها أن يتقدمها معنى القول ، وأن ليس فيه معنى القول. وقدر بعضهم قبلها فعلا
محذوفا حتى يصح أن تكون مفسرة ، وتقديره : وأمرناه أن اعمل ، أي اعمل ، ولا ضرورة
تدعو إلى هذا المحذوف. وقرىء : صابغات ، بالصاد بدلا من السين ، وتقدم أنها لغة في
قوله : وأسبغ عليكم نعمه. (وَقَدِّرْ فِي
السَّرْدِ) ، قال ابن زيد : هو في قدر الحلقة ، أي لا تعملها صغيرة فتضعف
، فلا يقوى الدرع على الدفاع ، ولا كبيرة فينال لابسها من خلالها. وقال ابن عباس :
هو في المسمار ، لا يرق فينكسر ، ولا يغلظ فيفصم ، بالفاء وبالقاف. وقال قتادة :
إن الدروع كانت قبل صفائح كانت ثقالا ، وهو أول من صنع الدرع حلقا. والظاهر أن
الأمر في قوله : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ) لآل داود ، وإن لم يجر لهم ذكر. ويجوز أن يكون أمرا لداود
شرفه الله بأن خاطبه خطاب الجمع.
(وَلِسُلَيْمانَ
الرِّيحَ) ، قال الحسن : عقر سليمان الخيل على ما فوتته من صلاة
العصر ، فأبدله الله خيرا منها ، وأسرع الريح تجري بأمره. وقرأ الجمهور : الريح
بالنصب ، أي ولسليمان سخرنا الريح ؛ وأبو بكر : بالرفع على الابتداء ، والخبر في
المجرور ، ويكون الريح على حذف مضاف ، أي تسخير الريح ، أو على إضمار الخبر ، أي
الريح مسخرة. وقرأ الحسن ، وأبو حيوة ، وخالد بن الياس : الرياح ، بالرفع جمعا.
وقال قتادة : كانت تقطع في الغدو إلى قرب الزوال مسيرة شهر ، وفي الرواح من بعد
الزوال إلى الغروب مسيرة شهر. وقال الحسن : فخرج من مستقره بالشام يريد تدمر التي
بنتها الجن بالصفاح والعمد ، فيقيل في إصطخر ويروح منها فيبيت في كابل من أرض
خراسان. والغدو ليس الشهر هو على حذف مضاف ، أي جري غدوها ، أي جريها في الغدو
مسيرة شهر ، وجري رواحها ، أي جريها في الرواح مسيرة شهر. وأخبر هنا في الغدو عن
الرواح بالزمان وهو شهر ، ويعني
شهرا واحدا كاملا
، ونصب شهر جائز ، ولكنه لم يقرأ به فيما أعلم. وقرأ ابن أبي عبلة : غدوتها
وروحتها على وزن فعلة ، وهي المرة الواحدة من غدا وراح. وقال وهب : كان مستقر
سليمان ، عليهالسلام ، بتدمر ، وكانت الجن قد بنتها له بالصفاح والعمد والرخام
الأبيض والأشقر ، وفيه يقول النابغة :
ألا سليمان قد
قال الإله له
|
|
قم في البرية
فاصددها عن العبد
|
وجيش الجن إني
قد أذنت لهم
|
|
يبنون تدمر
بالصفاح والعمد
|
ووجدت أبياتا
منقورة في صخرة بأرض يشكر شاهدة لبعض أصحاب سليمان ، عليهالسلام ، وهي :
ونحن ولا حول
سوى حول ربنا
|
|
نروح من الأوطان
من أرض تدمر
|
إذا نحن رحنا
كان ريث رواحنا
|
|
مسيرة شهر
والغدو لآخر
|
أناس أعز الله طوعا
نفوسهم
|
|
بنصر ابن داود
النبي المطهر
|
لهم في معاني
الدين فضل ورفعة
|
|
وإن نسبوا يوما
فمن خير معشر
|
وإن ركبوا الريح
المطيعة أسرعت
|
|
مبادرة عن يسرها
لم تقصر
|
تظلهم طير صفوف
عليهم
|
|
متى رفرفت من
فوقهم لم تنشر
|
انتهى ما حكى وهب.
(وَأَسَلْنا لَهُ
عَيْنَ الْقِطْرِ) : الظاهر أنه جعله له في معدنه عينا تسيل كعيون الماء ،
دلالة على نبوته. قال قتادة : يستعملها فيما يريد. وعن ابن عباس ومجاهد والسدي :
أجريت له ثلاثة أيام بلياليهن ، وكانت بأرض اليمن. قال مجاهد : سالت من صنعاء ،
ولم يذب النحاس فيما روي لأحد قبله ، وكان لا يذوب. وقالت فرقة : المعنى أذبنا له
النحاس على نحو ما كان الحديد يلين لداود ، عليهالسلام. قالوا : وكانت الأعمال تتأتى منه ، وهو بارد دون نار ،
وعين بمعنى الذات. وقالوا : لم يكن أولا ذاب لأحد قبله. وقال الزمخشري : أراد بها
معدن النحاس نبعا له ، كما ألان الحديد لداود ، فنبع كما ينبع الماء من العين ،
فلذلك سماه عين القطر باسم ما آل إليه ، كما قال : (إِنِّي أَرانِي
أَعْصِرُ خَمْراً) . ويحتمل (مَنْ يَعْمَلُ) أن يكون في موضع نصب ، أي وسخرنا من الجن من يعمل ، وأن
يكون في موضع رفع على الابتداء ، وخبره في الجار والمجرور قبله (بِإِذْنِ رَبِّهِ) لقوله : (وَمَنْ يَزِغْ
مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا). وقرأ الجمهور : يزغ مضارع زاغ ، أي ومن
__________________
يعدل عن أمرنا
الذي أمرناه به من طاعة سليمان. وقرىء : يزغ بضم الياء من أزاغ : أي ومن يمل ويصرف
نفسه عن أمرنا. و (عَذابِ السَّعِيرِ) : عذاب الآخرة ، قاله ابن عباس. وقال السدي : كان معه ملك
بيده سوط من نار ، كلما استعصى عليه ضربه من حيث لا يراه الجني. ولبعض الباطنية ،
أو من يشبههم ، تحريف في هذه الجمل. إن تسبيح الجبال هو نوع قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ) ، وإن تسخير الريح هو أنه راض الخيل وهي كالريح ، وإن (غُدُوُّها شَهْرٌ) يكون فرسخا ، لأن من يخرج للتفرج لا يسير في غالب الأمر
أشد من فرسخ. وإلانة الحديد وإسالة القطر هو استخراج ذوبهما بالنار واستعمال الآلات
منهما.
(وَمِنَ الْجِنِ) : هم ناس من بني آدم أقوياء شبهوا بهم في قواهم ، وهذا
تأويل فاسد وخروج بالجملة عما يقوله أهل التفسير في الآية ، وتعجيز للقدرة الإلهية
، نعوذ بالله من ذلك. والمحاريب ، قال مجاهد : المشاهد ، سميت باسم بعضها تجوزا.
وقال ابن عطية : القصور. وقال قتادة : كليهما. وقال ابن زيد : مساكن. وقيل : ما
يصعد اليه بالدرج ، كالغرف. والتماثيل : الصور ، وكانت لغير الحيوان. وقال الضحاك
: كانت تماثيل حيوان ، وكان عملها جائزا في ذلك الشرع. وقال الزمخشري : هي صور
الملائكة والنبيين ، والصالحين ، كانت تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ،
ليراها الناس ، فيعبدوا نحو عبادتهم ، وهذا مما يجوز أن يختلف فيه الشرائع ، لأنه
ليس من مقبحات الفعل ، كالظلم والكذب. وعن أبي العالية : لم يكن اتخاذ الصور إذ
ذاك محرما ، أو صورا محذوفة الرؤوس. انتهى ، وفيه بعض حذف. وقيل : التماثيل طلسمات
، فيعمل تمثالا للتمساح ، أو للذباب ، أو للبعوض ، ويأمر أن لا يتجاوز ذلك الممثل
به ما دام ذلك التمثال والتصوير حرام في شريعتنا. وقد ورد تشديد الوعيد على
المصورين ، ولبعض العلماء استثناء في شيء منها. وفي حديث سهل بن حنيف : لعن الله
المصورين ، ولم يستثن عليه الصلاة والسلام. وحكى مكي في الهداية أن قوما أجازوا
التصوير ، وحكاه النحاس عن قوم واحتجوا بقوله : (وَتَماثِيلَ) ، قاله ابن عطية ، وما أحفظ من أئمة العلم من يجوزه. وقرىء
: (كَالْجَوابِ) بلا ياء ، وهو الأصل ، اجتزاء بالكسرة ، وإجراء الألف
واللام مجرى ما عاقبها ، وهو التنوين ، وكما يحذف مع التنوين يحذف مع ما عاقبه ،
وهو أل. والراسيات : الثابتات على الأثافي ، فلا تنقل ولا تحمل لعظمها. وقدمت
المحاريب
__________________
على التماثيل ،
لأن النقوش تكون في الأبنية. وقدم الجفان على القدور ، لأن القدور آلة الطبخ ،
والجفان آلة الأكل ، والطبخ قبل الأكل ، لما بين الأبنية الملكية. وأراد بيان عظمة
السماط الذي يمد في تلك الدور ، وأشار إلى الجفان لأنها تكون فيها ، والقدور لا
تكون فيها ولا تحضر هناك ، ولهذا قال : (راسِياتٍ). ولما بين حال الجفان ، سرى الذهن إلى عظمة ما يطبخ فيه ،
فذكر القدور للمناسبة ، وذكر في حق داود اشتغاله بآلة الحرب لاحتياجه إلى قتال
الأعداء ، وفي حق سليمان المحاريب والتماثيل ، لأنه كان ملكا ابن ملك ، قد وطد له
أبوه الملك ، فكانت حاله حالة سلم ، إذ لم يكن أحد يقدر على محاربته.
وقال عقب : (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) ، و (اعْمَلُوا صالِحاً) ، وعقب ما يعمله الجن : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ
شُكْراً) ، إشارة إلى أن الإنسان لا يستغرق في الدنيا ولا يلتفت إلى
زخارفها ، وأنه يجب أن يعمل صالحا ، (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ). وقيل : مفعول اعملوا محذوف ، أي اعملوا الطاعات وواظبوا
عليها شكرا لربكم على ما أنعم به عليكم ، فقيل : انتصب شكرا على الحال ، وقيل :
مفعول من أجله ، وقيل : مفعول له باعملوا ، أي اعملوا عملا هو الشكر ، كالصلاة
والصيام والعبادات كلها في أنفسها هي الشكر إذا سدت مسده ، وقيل : على المصدر
لتضمينه اعملوا اشكروا بالعمل لله شكرا. روي أن مصلى آل داود لم يخل قط من قائم
يصلي ليلا ونهارا ، وكانوا يتناوبونه. وكان سليمان ، عليهالسلام ، يأكل الشعير ، ويطعم أهله الخشكار ، والمساكين الدرمك ،
وما شبع قط ، فقيل له في ذلك ، فقال : أخاف إن شبعت أن أنس الجياع. و (الشَّكُورُ) : صيغة مبالغة ، وأريد به الجنس. قال ابن عباس : الشكور :
من يشكر على أحواله كلها. وقال السدي : من يشكر على الشكر. وقيل : من يرى عجزه عن
الشكر ، وهذه الجملة تحتمل أن تكون خطابا لآل داود ، وهو الظاهر ، وأن تكون خطابا
للرسول صلىاللهعليهوسلم ، وفيها تنبيه وتحريض على الشكر.
(فَلَمَّا قَضَيْنا
عَلَيْهِ الْمَوْتَ) : أي أنفذنا عليه ما قضينا عليه في الأزل من الموت ،
وأخرجناه إلى حيز الوجود. وجواب لما النفي الموجب ، وهذا يدل على أن لما حرف لا
ظرف ، خلافا لمن زعم ذلك ، لأنه لو كان ظرفا لكان الجواب هو العامل وما دخلت عليه
، وهي نافية ، ولا يعمل ما قبلها فيما بعدها ، وقد مضى لنا نظير هذا في يوسف في
قوله : (وَلَمَّا دَخَلُوا
مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ
شَيْءٍ) .
__________________
فالضمير في (دَلَّهُمْ) عائد على الجن الذين كانوا يعملون له ، وكان سليمان قد أمر
الجن ببناء صرح له ، فبنوه له. ودخله مختليا ليصفو له يوم من الدهر من الكدر ،
فدخل عليه شاب فقال له : كيف دخلت عليّ بغير إذن؟ فقال : إنما دخلت بإذن ، قال :
ومن أذن لك؟
قال : رب هذا
الصرح. فعلم أنه ملك الموت أتى بقبض روحه ، فقال : سبحان الله ، هذا اليوم الذي
طلبت فيه الصفا ، فقال له : طلبت ما لم يخلق ، فاستوثق من الاتكاء على العصا ،
فقبض روحه ، وبقيت الجن تعمل على عادتها. وكان سليمان قصد تعمية موته ، لأنه كان
بقي من تمام بناء المسجد عمل سنة ، فسأل الله تمامها على يد الإنس والجن ، وكان
يخلو بنفسه الشهرين والثلاثة ، فكانوا يقولون : إنه يتحنث. وقيل : إن ملك الموت
أعلمه أنه بقي من حياته ساعة ، فدعا الشياطين فبنوا له الصرح ، وقام يصلي متكئا
على عصاه ، فقبض روحه وهو متكئ عليها. وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه ، فلا ينظر
أحد منهم إليه في صلاته إلا احترق ، فمر واحد منهم فلم يسمع صوته ، ثم رجع فلم
يسمع ، فنظر فإذا هو قد خر ميتا ، وكان عمره ثلاثا وخمسين سنة. ملك بعد موت أبيه
وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وكان أبوه قد أسس بنيان المسجد موضع بساط موسى ، فمات قبل
أن يتمه ، ووصى به ابنه ، فأمر الشياطين بإتمامه ، ومات قبل تمامه.
و (دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ) : هي سوسة الخشب ، وهي الأرضة. وقيل : ليست سوسة الخشب ،
لأن السوسة ليست من دواب الأرض ، بل هذه حيوان من الأرض شأنه أن يأكل الخشب ، وذلك
موجود. وقالت فرقة ، منها أبو حاتم : الأرض هنا مصدر أرضت الأبواب ، والخشب أكلتها
الأرضة فكأنه قال : دابة الأكل الذي هو بتلك الصورة. وإذا كان الأرض مصدرا ، كان
فعله أرضت الدابة الخشب تأرضه أرضا فأرض بكسر الراء نحو : جدعت أنفه فجدع. ويقال :
إنه مصدر لفعل مفتوح العين ، قراءة ابن عباس. والعباس بن الفضل : الأرض بفتح الراء
، لأن مصدر فعل المطاوع لفعل يكون على فعل نحو : جدع أنفه جدعا وأكلت الأسنان أكلا
، مطاوع أكلت. وقيل : الأرض بفتح الراء جمع أرضه ، وهو من إضافة العام إلى الخاص ،
لأن الدابة أعم من الأرض. وقراءة الجمهور : بسكون الراء ، فالمتبادر أنها الأرض
المعروفة ، وتقدم أنها مصدر لأرضت الدابة الخشب. وتأكل : حال ، أي أكلت منسأته ،
وهي حال مصاحبة. وتقدم أن المنسأة هي العصا ، وكانت فيما روي من خرنوب ، وذلك أنه
كان يتعبد في بيت المقدس ، فتنبت له في محرابه كل سنة شجرة تخبره بمنافعها فيأمر
فتقلع ، ويتصرف في منافعها ، وتغرس لتتناسل. فلما قرب موته ، نبتت شجرة وسألها
فقالت : أنا
الخرنوب ، خرجت لخراب ملكك ، فعرف أنه حضر أجله ، فاستعد واتخذ منها عصا واستدعى
بزاد سنة ، والجن تتوهم أنه يتغذى بالليل. وروي أن سليمان كان في قبة ، وأوصى بعض
أهله بكتمان موته عن الإنس والجن سنة ليتم البناء الذي بدىء في زمن داود ، فلما
مضى لموته سنة ، خر عن العصا ونظر إلى مقدار ما تأكله الأرضة يوما وقيس عليه ،
فعلم أنها أكلت العصا منه سنة. وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وجماعة : منساته بألف ،
وأصله منسأته ، أبدلت الهمزة ألفا بدلا غير قياسي. وقال أبو عمرو : أنا لا أهمزها
لأني لا أعرف لها اشتقاقا ، فإن كانت مما لا تهمز ، فقد احتطت ، وإن كانت تهمز ،
فقد يجوز لي ترك الهمزة فيما يهمز. وقرأ ابن ذكوان وجماعة ، منهم بكار والوليدان
بن عتبة وابن مسلم : منسأته ، بهمزة ساكنة ، وهو من تسكين التحريك تخفيفا ، وليس
بقياس. وضعف النحاة هذه القراءة ، لأنه يلزم فيها أن يكون ما قبل التأنيث ساكنا
غير الفاء. وقيل : قياسها التخفيف بين بين ، والراوي لم يضبط ، وأنشد هارون بن
موسى الأخفش الدمشقي شاهدا على سكون هذه القراءة قول الراجز :
صريع خمر قام من
وكأته
|
|
كقومة الشيخ إلى
منسأته
|
وقرأ باقي السبعة
بالهمز مفتوحة ، وقرىء بفتح الميم وتخفيف الهمزة قلبا وحذفا ، وعلى وزن مفعالة :
منساءة. وقرأت فرقة ، منهم عمر بن ثابت ، عن ابن جبير : مفصولة حرف جر وسأته بجر
التاء ، قيل : ومعناه من عصاه ، يقال لها : ساة القوس وسيتها معا ، وهي يدها
العليا والسفلى ، سميت العصا ساة القوس على الاستعارة ، ولا سيما إن صح النقل أنه
اتخذها من شجر الخروب قبل موته ، فيكون حين اتكأ عليها ، وهي كما قطعت من شجرة
خضراء ، قد اعوجت حتى صارت كالقوس. ألا ترى أنك إذا اتكأت على غصن أخضر كيف يعوج
حتى يكاد يلتقي طرفاه؟ فيها لغتان : ساة وسية ، كما يقال : قحة وقحاة ، والمحذوف
من ساة وسية.
(فَلَمَّا خَرَّ) : أي سقط عن العصا ميتا ، والظاهر أن الضمير في خر عائد
على سليمان. وقيل : إنه لم يمت إلى أن وجد في سفر مضطجعا ، ولكنه كان في بيت مبني
عليه ، وأكلت الأرضة عتبة الباب حتى خر الباب ، فعلم موته. وقال ابن عباس : مات في
متعبده على فراشه ، وقد أغلق الباب على نفسه فأكلت الأرضة المنسأة ، أي عتبة الباب
، فلما خر ، أي الباب. انتهى ، وهذا فيه ضعف ، لأنه لو كانت المنسأة هي العتبة ، وعاد
الضمير عليها ، لكان التركيب : فلما خرت ، بتاء التأنيث ، ولا يجيء حذف مثل هذه
التاء
إلا في ضرورة
الشعر ، ولا يكون من ذكر المعنى على معنى العود لأنه قليل. وقرأ الجمهور : تبينت ،
مبنيا للفاعل ، فاحتمل أن يكون من تبين بمعنى بان ، أي ظهرت الجن ، والجن فاعل ،
وإن وما بعدها بدل من الجن. كما تقول : تبيّن زيد جهله ، أي ظهر جهل زيد ، فالمعنى
: ظهر للناس جهل الجن علم الغيب ، وأن ما ادعوه من ذلك ليس بصحيح. واحتمل أن يكون
من تبين بمعنى علم وأدرك ، والجن هنا خدم الجن ، وضعفتهم (أَنْ لَوْ كانُوا) : أي لو كان رؤساؤهم وكبراؤهم يعلمون الغيب ، قاله قتادة.
وقال الزمخشري : أو علم المدعون علم الغيب منهم عجزهم ، وأنهم لا يعلمون الغيب ،
وإن كانوا عالمين قبل ذلك بحالهم ، وإنما أريد بهم التهكم كما يتهكم بمدعي الباطل
إذا دحضت حجته وظهر إبطاله ، كقولك : هل تبينت أنك مبطل وأنت لا تعلم أنه لم يزل
لذلك متبينا؟ انتهى.
ويجىء تبين بمعنى
بان وظهر لازما ، وبمعنى علم متعديا موجود في كلام العرب. قال الشاعر :
تبين لي أن
القماءة ذلة
|
|
وأن أعزاء
الرجال طيالها
|
وقال آخر :
أفاطم إني ميت
فتبيني
|
|
ولا تجزعي على
الأنام بموت
|
أي : فتبيني ذلك ،
أي اعلميه. وقال ابن عطية : ذهب سيبويه إلى أن أن لا موضع لها من الإعراب ، إنما
هي موزونة ، نحو : إن ما ينزل منزلة القسم من الفعل الذي معناه التحقيق واليقين ،
لأن هذه الأفعال التي هي تحققت وتيقنت وعلمت ونحوها تحل محل القسم. فما لبثوا :
جواب القسم ، لا جواب لو. وعلى الأقوال ، الأول جواب لو. وفي كتاب النحاس إشارة
إلى أنه يقرأ : (تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) ، بنصب الجن ، أي تبينت الإنس الجن ، والمعنى : أن الجن لو
كانت تعلم الغيب ما خفى عليها موته ، أي موت سليمان. وقد ظهر أنه خفي عليها
بدوامها في الخدمة والضعة وهو ميت. وقرأ ابن عباس ، فيما ذكر ابن خالويه ويعقوب
بخلاف عنه : تبينت مبنيا للمفعول ؛ وعن ابن عباس ، وابن مسعود ، وأبيّ ، وعلي بن
الحسن ، والضحاك قراءة في هذا الموضع مخالفة لسواد المصحف ولما روي عنهم ، ذكرها
المفسرون ، أضرب عن ذكرها صفحا على عادتنا في ترك نقل الشاذ الذي يخالف للسواد
مخالفة كثيرة.
(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ
فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ
رَبِّكُمْ
وَاشْكُرُوا
لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ
سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ
خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ، ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا
وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ ، وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى
الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا
فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ ، فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا
وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ
مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ، وَلَقَدْ صَدَّقَ
عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
، وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ
بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ). لما ذكر تعالى حال الشاكرين لنعمه بذكر داود وسليمان ،
بيّن حال الكافرين بأنعمه بقصة سبأ ، موعظة لقريش وتحذيرا وتنبيها على ما جرى لمن
كفر أنعم الله ، وتقدم الكلام في سبأ في النمل. ولما ملكت بلقيس ، اقتتل قومها على
ماء واديهم ، فتركت ملكها وسكنت قصرها ، وراودوها على أن ترجع فأبت فقالوا :
لترجعنّ أو لنقتلنك ، فقالت لهم : لا عقول لكم ولا تطيعوني ، فقالوا : نطيعك ،
فرجعت إلى واديهم ، وكانوا إذا مطروا ، أتاهم السيل من مسيرة ثلاثة أيام ، فأمرت
به فسد ما بين الجبلين بمساءة بالصخر والقار ، وحبست الماء من وراء السد ، وجعلت
له أبوابا بعضها فوق بعض ، وبنت من دونه بركة فيها اثنا عشر مخرجا على عدد أنهارهم
، وكان الماء يخرج لهم بالسوية إلى أن كان من شأنها مع سليمان ، عليهالسلام ، ما سبق ذكره في سورة النمل. وقيل : الذي بنى لهم السد هو
حمير أبو القبائل اليمنية. وعن الضحاك : كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد صلىاللهعليهوسلم. قيل : وكان لهم رئيس يلقب بالحمار ، وكان في الفترة ،
فمات ولده ، فرفع رأسه إلى السماء فبزق وكفر ، فلذا يقال في المثل : أكفر من حمار
، ويقال : بركة جوف حمار ، أي كوادي حمار ، لما حال بهم السيل.
وقرأ الجمهور : في
مساكنهم ، جمعا ؛ والنخعي ، وحمزة ، وحفص : مفردا بفتح الكاف ؛ والكسائي : مفردا
بكسرها ، وهي قراءة الأعمش وعلقمة. وقال أبو الحسن : كسر الكاف لغة فاشية ، وهي
لغة الناس اليوم ؛ والفتح لغة الحجاز ، وهي اليوم قليلة. وقال الفراء : هي لغة
يمانية فصيحة ، فمن قرأ الجمع فظاهر ، لأن كل أحد له مسكن ، ومن أفرد ينبغي أن
يحمل على المصدر ، أي في سكناهم ، حتى لا يكون مفردا يراد به الجمع ، لأن سيبويه
يرى ذلك ضرورة نحو : كلوا في بعض بطنكم تعفوا ، يريد بطونكم. وقوله :
قد عض أعناقهم جلد
الجواميس
أي جلود.
(آيَةٌ) : أي علامة دالة على الله وعلى قدرته وإحسانه ووجوب شكره ،
أو جعل قصتهم لأنفسهم آية ، إذ أعرض أهلها عن شكر الله عليهم ، فخربهم وأبدلهم
عنها الخمط والأثل ثمرة لهم ؛ و (جَنَّتانِ) : خبر مبتدأ محذوف ، أي هي جنتان ، قاله الزجاج ، أو بدل ،
قال معناه الفراء ، قال : رفع لأنه تفسير لآية. وقال مكي وغيره ، وضعفه ابن عطية ،
ولم يذكر جهة تضعيفه. وقال : (جَنَّتانِ) ابتداء ، وخبره في قوله : (عَنْ يَمِينٍ
وَشِمالٍ). انتهى. ولا يظهر لأنه نكرة لا مسوغ للابتداء بها ، إلا إن
اعتقد إن ثم صفة محذوفة ، أي جنتان لهم ، أو عظيمتان لهم (عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) ، وعلى تقدير ذلك يبقى الكلام مفلتا مما قبله. وقرأ ابن
أبي عبلة : جنتين بالنصب ، على أن آية اسم كان ، وجنتين الخبر. قيل : ووجه كون
الجنتين آية نبات الخمط والأثل والسدر مكان الأشجار المثمرة. قال قتادة : كانت
بساتينهم ذات أشجار وثمار تسر الناس بظلالها ، ولم يرد جنتين ثنتين ، بل أراد من
الجهتين يمنة ويسرة. انتهى. قال الزمخشري : وإنما أراد جماعة من البساتين عن يمين
بلدتهم ، وأخرى عن شمالها ، وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتضامها كأنها جنة
واحدة ، كما يكون بلاد الريف العامرة وبساتينها ، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن
يمين مسكنه وشماله ، كما قال : (جَعَلْنا
لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ) . انتهى. قال ابن زيد : لا يوجد فيها برغوث ، ولا بعوض ،
ولا عقرب ، ولا تقمل ثيابهم ، ولا تعيا دوابهم ؛ وكانت المرأة تمشي تحت الأشجار ،
وعلى رأسها المكتل ، فيمتلىء ثمارا من غير أن تتناول بيدها شيئا. وروي نحو هذا عن
عبد الرحمن بن عوف وابن عباس.
(كُلُوا مِنْ رِزْقِ
رَبِّكُمْ) : قول الله لهم على ألسنة الأنبياء المبعوثين إليهم ، وروي
ذلك مع الإيمان بالله ، أو قول لسان الحال لهم ، كما رأوا نعما كثيرة وأرزاقا
مبسوطة ، وفيه إشارة إلى تكميل النعمة عليهم ، حيث لم يمنعهم من أكل ثمارها خوف
ولا مرض. (وَاشْكُرُوا لَهُ) على ما أنعم به عليكم ، (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) : أي كريمة التربة ، حسنة الهواء ، رغدة النعم ، سليمة من
الهوامّ والمضار ، (وَرَبٌّ غَفُورٌ) ، لا عقاب على التمتع بنعمه في الدنيا ، ولا عذاب في
الآخرة ، فهذه لذة كاملة خالية عن المفاسد العاجلة والمآلية. وقرأ رويس : بنصب
الأربعة. قال أحمد بن يحيى : اسكنوا بلدة طيبة واعبدوا ربا غفورا. وقال الزمخشري :
منصوب على المدح. ولما ذكر تعالى ما كان من جانبه من الإحسان إليهم ، ذكر ما كان من
جانبهم في مقابلته فقال : (فَأَعْرَضُوا) : أي عما جاء به إليهم أنبياؤهم ،
__________________
وكانوا ثلاثة عشر
نبيا ، دعوهم إلى الله تعالى ، وذكروهم نعمه ، فكذبوهم وقالوا : ما نعرف لله نعمة
، فبين كيفية الانتقام منهم. كما قال : (وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) ، (إِنَّا مِنَ
الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) ، فسلط الله عليهم الجرذ فأرا أعمى توالد فيه ، ويسمى
الخلد ، وخرقه شيئا بعد شيء ، وأرسل سيلا في ذلك الوادي ، فحمل ذلك السد ، فروي أنه
كان من العظم ، وكثر به الماء بحيث ملأ ما بين الجبلين ، وحمل الجنات وكثيرا من
الناس ممن لم يمكنه الفرار. وروي أنه لما خرق السد كان ذلك سبب يبس الجنات ، فهلكت
بهذا الوجه. وقال المغيرة بن حكيم ، وأبو ميسرة : العرم في لغة اليمن جمع عرمة وهي
: كل ما بني أو سنم ليمسك الماء. وقال ابن جبير : العرم : المسناة ، بلسان الحبشة.
وقال الأخفش : هو عربي ، ويقال لذلك البناء بلغة الحجاز المسناة ، كأنها الجسور
والسداد ، ومن هذا المعنى قول الأعشى :
وفي ذاك للمؤتسي
أسوة
|
|
مآرب عفى عليها
العرم
|
رجام بنته لهم
حمير
|
|
إذا جاش دفاعه
لم يرم
|
فأروى الزروع
وأشجارها
|
|
على سعة ماؤه إذ
قسم
|
فصاروا أيادي لا
يقدرو
|
|
ن منه على شرب
طفل فطم
|
وقال آخر :
ومن سبأ
للحاضرين مآرب
|
|
إذا بنوا من
دونه سيل العرم
|
وقال ابن عباس ،
وقتادة ، والضحاك : العرم اسم ، وإن ذلك الماء بعينه الذي كان السد بني به. انتهى.
ويمكن أن يسمى الوادي بذلك البناء لمجاورته له ، فصار علما عليه. وقال ابن عباس
أيضا : العرم : الشديد ، فاحتمل أن يكون صفة للسيل أضيف فيه الموصوف إلى صفته ،
والتقدير : السيل العرم ، أو صفة لموصوف محذوف ، أي سيل المطر الشديد الذي كان عنه
السيل ، أو سيل الجرذ العرم ، فالعرم صفة للجرذ. وقيل : العرم اسم للجرذ ، وأضيف
السيل إليه لكونه كان السبب في خراب السد الذي حمله السيل ، والإضافة تكون بأدنى
ملابسة. وقرأ عروة بن الورد فيما حكى ابن خالويه : العرم ، بإسكان الراء تخفيف
العرم ، كقولهم : في الكبد الكبد.
ولما غرق من غرق ،
ونجا من نجا ، تفرقوا وتحرفوا حتى ضربت العرب بهم المثل
__________________
فقالوا : تفرقوا
أيدي سبأ وأيادي سبأ ، قيل : الأوس والخزرج منهم. وعن ابن عباس : كان سيل ذلك الوادي
يصل إلى مكة وينتفع به ، وكان سيل العرم في ملك ذي الأذعار بن حسان ، في الفترة
بين عيسى ونبينا صلىاللهعليهوسلم. انتهى.
ودخلت الباء في (بِجَنَّتَيْهِمْ) على الزائل ، وانتصب ما كان بدلا ، وهو قوله : (جَنَّتَيْنِ) على المعهود في لسان العرب ، وإن كان كثيرا لمن ينتمي
للعلم يفهم العكس حتى قال بعضهم : ولو أبدل ضادا بظاء لم تصح صلاته ، وهو خطأ في
لسان العرب ، ولو أبدل ظاء بضاد ، وقد تكلمنا على ذلك في البقرة في قوله : (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ
بِالْإِيمانِ) . وسمى هذا المعوض جنتين على سبيل المقابلة ، لأن ما كان
فيه خمط وأثل وسدر لا يسمى جنة ، لأنها أشجار لا يكاد ينتفع بها. وجاءت تثنية ذات
على الأصح في رد عينها في التثنية فقال : (ذَواتَيْ أُكُلٍ) ، كما جاء (ذَواتا أَفْنانٍ) . ويجوز أن لا ترد فتقول : ذاتا كذا على لفظ ذات ، وتقدم
ذكر الخلاف في ضم كاف أكل وسكونها. وقرأ الجمهور : أكل منونا ، والأكل : الثمر
المأكول ، فخرجه الزمخشري على أنه على حذف مضاف ، أي أكل خمط قال أو وصف الأكل
بالخمط كأنه قيل ذواتي أكل شبع. انتهى. والوصف بالأسماء لا يطرد ، وإن كان قد جاء
منه شيء ، نحو قولهم : مررت بقاع عرفج كله. وقال أبو علي : البدل في هذا لا يحسن ،
لأن الخمط ليس بالأكل نفسه. انتهى. وهو جائز على ما قاله الزمخشري ، لأن البدل
حقيقة هو ذلك المحذوف ، فلما حذف أعرب ما قام مقامه بإعرابه. قال أبو علي : والصفة
أيضا كذلك ، يريد لا بجنتين ، لأن الخمط اسم لا صفة ، وأحسن ما فيه عطف البيان ،
كأنه بين أن الأكل هذه الشجرة ومنها. انتهى. وهذا لا يجوز على مذهب البصريين ، إذ
شرط عطف البيان أن يكون معرفة ، وما قبله معرفة ، ولا يجيز ذلك في النكرة من
النكرة إلا الكوفيون ، فأبو علي أخذ بقولهم في هذه المسألة. وقرأ أبو عمرو : أكل
خمط بالإضافة : أي ثمر خمط. وقرىء : وأثلا وشيئا بالنصب ، حكاه الفضل بن إبراهيم ،
عطفا على جنتين. وقليل صفة لسدر ، وقلله لأنه كان أحسن أشجاره وأكرم ، قاله الحسن
، وذلك إشارة إلى ما أجراه عليهم من تخريب بلادهم ، وإغراق أكثرهم ، وتمزيقهم في
البلاد ، وإبدالهم بالأشجار الكثيرة الفواكه الطيبة المستلذة ، الخمط والأثل
والسدر. ثم ذكر سبب ذلك ، وهو كفرهم بالله وإنكار نعمه. (وَهَلْ نُجازِي) بذلك العقاب (إِلَّا الْكَفُورَ) : أي المبالغ في الكفر ، يجازي بمثل فعله قدرا بقدر ، وأما
المؤمن
__________________
فجزاؤه بتفضل
وتضعيف. وقرأ الجمهور : بضم الياء وفتح الزاي ، الكفور رفعا ؛ وحمزة والكسائي :
بالنون وكسر الزاي ، الكفور نصبا. وقرأ مسلم بن جندب : يجزي مبنيا للمفعول ،
الكفور رفعا ، وأكثر ما يستعمل الجزاء في الخير ، والمجازاة في الشر ، لكن في
تقييدهما قد يقع كل واحد منهما موقع الآخر.
(وَجَعَلْنا
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) : جاءت هذه الجملة بعد قوله : (وَبَدَّلْناهُمْ) ، وذلك أنه لما ذكر ما أنعم به عليهم من جنتيهم ، وذكر
تبديلها بالخمط والأثل والسدر ، ذكر ما كان أنعم به عليهم من اتصال قراهم ، وذكر
تبديلها بالمفاوز والبراري. وقوله : (وَجَعَلْنا) ، وصف تعالى حالهم قبل مجيء السيل ، وهو أنه مع ما كان
منهم من الجنتين والنعمة الخاصة بهم ، كان قد أصلح لهم البلاد المتصلة بهم وعمرها
وجعلهم أربابها ، وقدّر السير بأن قرب القرى بعضها من بعض. قال ابن عطية : حتى كان
المسافر من مأرب إلى الشام يبيت في قرية ويقيل في أخرى ، ولا يحتاج إلى حمل زاد. والقرى
: المدن ، ويقال للجمع الصغير أيضا قرية. والقرى التي بورك فيها بلاد الشام ،
بإجماع من المفسرين. والقرى الظاهرة هي التي بين الشام ومأرب ، وهي الصغار التي هي
البوادي. انتهى. وما ذكره من أن القرى التي بورك فيها هي قرى الشام بإجماع ليس كما
ذكر ، قال مجاهد : هي السراوي. وقال وهب : قرى صنعاء. وقال ابن جبير : قرى مأرب. وقال
ابن عباس : قرى بيت المقدس. وبركتها : كثرة أشجارها أو ثمارها. ووصف قرى بظاهرة ،
قال قتادة : متصلة على الطريق ، يغدون فيقيلون في قرية ، ويروحون فيبيتون في قرية.
قيل : كان كل ميل قرية بسوق ، وهو سبب أمن الطريق. وقال المبرد : ظاهرة : مرتفعة ،
أي في الآكام والظراب ، وهو أشرف القرى. وقيل : ظاهرة ، إذا خرجت من هذه ظهرت لك
الأخرى. وقيل : ظاهرة : معروفة ، يقال هذا أمر ظاهر : أي معروف ، وقيل : ظاهرة :
عامرة. وقال ابن عطية : والذي يظهر لي أن معنى ظاهر : خارجة عن المدة ، فهي عبارة
عن القرى الصغار التي هي في ظواهر المدن ، كأنه فصل بهذه الصفة بين القرى الصغار
وبين القرى المطلقة التي هي المدن. وظواهر المدن : ما خرج عنها في الفيافي والفحوص
، ومنه قولهم : نزلنا بظاهر فلاة أي خارجا عنها ، وقوله : (ظاهِرَةً) : تظهر ، تسميه الناس إياها بالبادية والضاحية ، ومن هذا
قول الشاعر :
فلو شهدتني من
قريش عصابة
|
|
قريش البطاح لا
قريش الظواهر
|
يعني : الخارجين
من بطحاء مكة. وفي الحديث : «وجاء أهل الضواحي يسكنون الغرف».
(وَقَدَّرْنا فِيهَا
السَّيْرَ) : قد ذكر أن الغادي يقيل في قرية ، والرائح في أخرى ، إلى
أن يصل إلى مقصوده آمنا من عدو وجوع وعطش وآفات المسافر. قال الضحاك : مقادير
المراحل كانت القرى على مقاديرها. وقال الكلبي : مقادير المقيل والمبيت ، وقال
القتبي : بين كل قرية وقرية مقدار واحد معلوم ، وقيل : بين كل قريتين نصف يوم ،
وهذه أقوال متقاربة. والظاهر أن قوله : (سِيرُوا) ، أمر حقيقة على لسان أنبيائهم. وقال الزمخشري : ولا قول
ثم ، ولكنهم لما مكنوا من السير ، وسويت لهم أسبابه ، فكأنهم أمروا بذلك وأذن لهم
فيه. انتهى. ودخول الفاء في قوله فكأنهم لا يجوز ، والصواب كأنهم لأنه خبر لكنهم.
وقال قتادة : كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان ، ولو وجد الرجل قاتل ابنه لم
يهجه ، وكان المسافر لا يأخذ زادا ولا سقاء مما بسط الله لهم من النعم. وقال
الزمخشري : (سِيرُوا فِيها) ، إن شئتم بالليل ، وإن شئتم بالنهار ، فإن الأمن فيها لا
يختلف باختلاف الأوقات ؛ أو سيروا فيها آمنين ولا تخافون ، وإن تطاولت مدة أسفاركم
فيها وامتدت أياما وليالي ؛ أو سيروا فيها لياليكم وأيامكم مدة أعماركم ، فإنكم في
كل حين وزمان لا تلقون فيها إلا آمنين. انتهى. وقدم الليالي ، لأنها مظنة الخوف
لمن قال : ومنّ عليهم بالأمن ، حتى يساوي الليل النهار في ذلك.
ولما طالت بهم مدة
النعمة بطروا وملوا العافية ، وطلبوا استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير ، كما
فعلت بنو إسرائيل ، وقالوا : لو كان جني ثمارنا أبعد لكان أشهى وأغلى قيمة ،
فتمنوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز ليركبوا الرواحل فيها ويتزودوا
الأزواد فقالوا : (رَبَّنا باعِدْ
بَيْنَ أَسْفارِنا). وقرأ جمهور السبعة : ربنا بالنصب على النداء ، باعد : طلب
؛ وابن كثير ، وأبو عمرو ، وهشام : كذلك ، إلا أنهم شددوا العين ؛ وابن عباس ،
وابن الحنفية ، وعمرو بن فائد : ربنا رفعا ، بعد فعلا ماضيا مشدد العين ؛ وابن
عباس أيضا ، وابن الحنفية أيضا ؛ وأبو رجاء ، والحسن ، ويعقوب ، وأبو حاتم ، وزيد
بن علي ، وابن يعمر أيضا ؛ وأبو صالح ، وابن أبي ليلى ، والكلبي ، ومحمد بن علي ،
وسلام ، وأبو حيوة : كذلك ، إلا أنه بألف بين الباء والعين ؛ وسعيد بن أبي الحسن
أخي الحسين ، وابن الحنفية أيضا ، وسفيان بن حسين ، وابن السميفع : ربنا بالنصب ،
بعد بضم العين فعلا ماضيا بين بالنصب ، إلا سعيدا منهم ، فضم نون بين جعله فاعلا ،
ومن نصب ، فالفاعل ضمير يعود على السير ، أي أبعد السير بين أسفارنا ، فمن نصب
ربنا جعله نداء ، فإن جاء بعده طلب كان ذلك أشرا منهم وبطرا وإن جاء بعد فعلا
ماضيا كان ذلك شكوى مما أحل بهم من بعد
الأسفار التي
طلبوها أولا ، ومن رفع ربنا فلا يكون الفعل إلا ماضيا ، وهي جملة خبرية فيها شكوى
بعضهم إلى بعض مما حل بهم من بعد الأسفار. ومن قرأ باعد ، أو بعد بالألف والتشديد
، فبين مفعول به ، لأنهما فعلان متعديان ، وليس بين ظرفا. ألا ترى إلى قراءة من
رفعه كيف جعله اسما؟ (فَكَذلِكَ) إذا نصب وقرىء بعد
مبنيا للمفعول. وقرأ ابن يعمر : بين سفرنا مفردا ؛ والجمهور : بالجمع. (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) : عطف على (فَقالُوا). وقال الكلبي : هو حال ، أي وقد ظلموا أنفسهم بتكذيب
الرسل. (فَجَعَلْناهُمْ
أَحادِيثَ) : أي عظاة وعبرا يتحدث بهم ويتمثل. وقيل : لم يبق منهم إلا
الحديث ، ولو بقي منهم طائفة لم يكونوا أحاديث. (وَمَزَّقْناهُمْ
كُلَّ مُمَزَّقٍ) : أي تفريقا ، اتخذه الناس مثلا مضروبا ، فقال كثير :
أيادي سبايا عز
ما كنت بعدكم
|
|
فلم يحل للعينين
بعدك منظر
|
وقال قتادة :
فرقناهم بالتباعد. وقال ابن سلام : جعلناهم ترابا تذروه الرياح. وقال الزمخشري :
غسان بالشام ، وأنمار بيثرب ، وجذام بتهامة ، والأزد بعمان ؛ وفي التحرير وقع منهم
قضاعة بمكة ، وأسد بالبحرين ، وخزاعة بتهامة. وفي الحديث أن سبأ أبو عشرة قبائل ،
فلما جاء السيل على مأرب ، وهو اسم بلدهم ، تيامن منهم ستة قبائل ، أي تبدّدت في
بلاد اليمن : كندة والأزد والسفر ومذحج وأنمار ، التي منها بجيلة وخثعم ، وطائفة
قيل لها حجير بقي عليها اسم الأب الأول ؛ وتشاءمت أربعة : لخم وجذام وغسان وخزاعة
، ومن هذه المتشائمة أولاد قتيلة ، وهم الأوس والخزرج ، ومنها عاملة وغير ذلك.
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ) : أي في قصص هؤلاء لآية : أي علامة. (لِكُلِّ صَبَّارٍ) ، عن المعاصي وعلى الطاعات. (شَكُورٍ) ، للنعم. والظاهر أن الضمير في (عَلَيْهِمْ) عائد على من قبله من أهل سبأ ، وقيل : هو لبني آدم. وقرأ
ابن عباس ، وقتادة ، وطلحة ، والأعمش ، وزيد بن علي ، والكوفيون : (صَدَّقَ) بتشديد الدال ، وانتصب (ظَنَّهُ) على أنه مفعول بصدق ، والمعنى : وجد ظنه صادقا ، أي ظن
شيئا فوقع ما ظن. وقرأ باقي السبعة : بالتخفيف ، فانتصب ظنه على المصدر ، أي يظن
ظنا ، أو على إسقاط الحرف ، أي في ظنه ، أو على المفعول به نحو قولهم : أخطأت ظني
، وأصبت ظني ، وظنه هذا كان حين قال : (لَأُضِلَّنَّهُمْ) ، (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ) ، وهذا مما قاله ظنا منه ، فصدق هذا الظن.
__________________
وقرأ زيد بن علي ،
والزهري ، وجعفر بن محمد ، وأبو الجهجاه الأعرابي من فصحاء العرب ، وبلال بن أبي
برزة : بنصب إبليس ورفع ظنه. أسند الفعل إلى ظنه ، لأنه ظنا فصار ظنه في الناس
صادقا ، كأنه صدقه ظنه ولم يكذبه. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو : إبليس ظنه ،
برفعهما ، فظنه بدل من إبليس بدل اشتمال.
(فَاتَّبَعُوهُ) : أي في الكفر. (إِلَّا فَرِيقاً) : هم المؤمنون ، ومن لبيان الجنس ، ولا يمكن أن تكون
للتبعيض لاقتضاء ذلك ، إن فريقا من المؤمنين اتبعوا إبليس. وفي قوله : (إِلَّا فَرِيقاً) ، تقليل ، لأن المؤمنين بالإضافة إلى الكفار قليل ، كما
قال : لاحتنكن ذريته إلا قليلا. (وَما كانَ لَهُ) : أي لإبليس ، (عَلَيْهِمْ مِنْ
سُلْطانٍ) : أي من تسلط واستيلاء بالوسوسة والاستواء ، ولا حجة إلا
الحكمة بينه وبين تميز المؤمن بالآخرة من الشاك فيها. وعلل التسلط بالعلم ،
والمراد ما تعلق به العلم ، قاله الزمخشري. وقال ابن عطية : (إِلَّا لِنَعْلَمَ) موجودا ، لأن العلم متقدم أولا. انتهى. وقال معناه ابن
قتيبة ، قال : لنعلم حادثا كما علمناه قبل حدوثه. وقال قتادة : ليعلم الله به
المؤمن من الكافر عاما ظاهرا يستحق به العقاب والثواب ؛ وقيل : ليعلم أولياؤنا
وحزبنا. وقال الحسن : والله ما كان له سوط ولا سيف ، ولكنه استمالهم فمالوا
بتزيينه. انتهى. كما قال تعالى عنه : (ما كانَ لِي
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) . وقرأ الزهري : إلا ليعلم ، بضم الياء وفتح اللام ، مبنيا
للمفعول. وقال ابن خالويه : إلا ليعلم من يؤمن بالياء. (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) ، إما للمبالغة عدل إليها عن حافظ ، وإما بمعنى محافظ ،
كجليس وخليل. والحفظ يتضمن العلم والقدرة ، لأن من جهل الشيء وعجز لا يمكنه حفظه.
(قُلِ ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي
السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ
مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ
لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ
وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ، قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ ، قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا
تَعْمَلُونَ ، قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ
وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ، قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ
شُرَكاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، وَما أَرْسَلْناكَ
إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ ، وَيَقُولُونَ مَتى هذَا
__________________
الْوَعْدُ
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ
ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ ، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا
الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ
مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ
الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا
مُؤْمِنِينَ ، قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا : أَنَحْنُ
صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ،
وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ
وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً
وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي
أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ).
لما بين حال
الشاكرين وحال الكافرين ، وذكر قريشا ومن لم يؤمن بمن مضى ، عاد إلى خطابهم فقال :
(قُلْ) ، يا محمد للمشركين الذين ضرب لهم المثل بقصة سبأ المعروفة
عندهم بالنقل في أخبارهم وأشعارهم ، (ادْعُوا الَّذِينَ
زَعَمْتُمْ) ، وهم معبوداتهم من الملائكة والأصنام ، وهو أمر بدعاء هو
تعجيز وإقامة للحجة. وروي أن ذلك نزل عند الجوع الذي أصاب قريشا ، أي ادعوهم
ليكشفوا عنكم ما حل بكم ، والجئوا إليهم فيما يعنّ لكم. وزعم : من الأفعال التي
تتعدى إلى اثنين إذا كانت اعتقادية ، والمفعول الأول هو الضمير المحذوف العائد على
الذين ، والثاني محذوف أيضا لدلالة المعنى ، ونابت صفته منابه ، التقدير : الذي
زعمتموهم آلهة من دونه ؛ وحسن حذف الثاني قيام صفته مقامه ، ولو لا ذلك ما حسن ،
إذ في حذف إحدى مفعولي ظن وأخواتها اختصارا خلاف ، منع ذلك ابن ملكوت ، وأجازه
الجمهور ، وهو مع ذلك قليل ، ولا يجوز أن يكون الثاني من دونه ، لأنه لا يستقل
كلاما. لو قلت : هم من دونه ، لم يصح ، ولا الجملة من قوله : (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) ، لأنه لو كانت هذه النسبة مزعومة لهم لكانوا معترفين
بالحق قائلين له. ولو كان ذلك توحيدا منهم ، وأن آلهتهم ومعبوداتهم لا يملكون شيئا
باعترافهم. ثم أخبر عن آلهتهم أنهم لا يملكون مثقال ذرة ، وهو أحقر الأشياء ، وإذا
انتفى ملك الأحقر عنهم ، فملك الأعظم أولى. ثم ذكر مقر ذلك المثقال ، وهو السموات
والأرض. ثم أخبر أنهم ما لهم في السموات ولا في الأرض من شركة ، فنفى نوعي الملك
من الاستبداد والشركة. ثم نفى الإعانة منهم له تعالى في شيء مما أنشأ بقوله : (وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) ، فبين عجز معبوداتهم من جميع الجهات.
ولما كان من العرب
من يعبد الملائكة لتشفع له ، نفى أن شفاعتهم تنفع ، والنفي منسحب على الشفاعة ، أي
لا شفاعة لهم فتنفع ، وليس المعنى أنهم يشفعون ، ولا تنفع
شفاعتهم ، أي لا
يقع من معبوداتهم شفاعة أصلا. ولأن عابديهم كفار ، فإن كان المعبودون أصناما أو
كفارا ، كفرعون ، فسلب الشفاعة عنهم ظاهر ، وإن كانوا ملائكة أو غيرهم ممن عبد ،
كعيسى عليهالسلام ، فشفاعتهم إذا وجدت تكون لمؤمن. و (إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) : استثناء مفرغ ، فالمستثنى منه محذوف تقديره : ولا تنفع
الشفاعة لأحد (إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ
لَهُ). واحتمل قوله لأحد أن يكون مشفوعا له ، وهو الظاهر ، فيكون
قوله : (إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ
لَهُ) ، أي المشفوع ، أذن لأجله أن يشفع فيه ؛ والشافع ليس
بمذكور ، وإنما دل عليه المعنى. واحتمل أن يكون شافعا ، فيكون قوله : (إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) بمعنى : إلا لشافع أذن له أن يشفع ، والمشفوع ليس بمذكور ،
إنما دل عليه المعنى. وعلى هذا الاحتمال تكون اللام في (أَذِنَ لَهُ) لام التبليغ ، لا لام العلة. وقال الزمخشري : يقول :
الشفاعة لزيد على معنى أنه الشافع ، كما يقول : الكرم لزيد ، وعلى معنى أنه
المشفوع له ، كما تقول : القيام لزيد ، فاحتمل قوله : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ
إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) أن يكون على أحد هذين الوجهين ، أي لا تنفع الشفاعة إلا
كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له ، أو لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن
له ، أي لشفيعه ، أو هي اللام الثانية في قولك : أذن لزيد لعمرو ، أي لأجله ،
وكأنه قيل : إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله ، وهذا وجه لطيف ، وهو الوجه ، وهذا
تكذيب لقولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا
عِنْدَ اللهِ) . انتهى. فجعل (إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ
لَهُ) استثناء مفرغا من الأحوال ، ولذلك قدره : إلا كائنة ، وعلى
ما قررناه استثناء من الذوات.
وقال أبو عبد الله
الرازي : المذاهب المفضية إلى الشرك أربعة : قائل : إن الله خلق السموات وجعل
الأرض والأرضيات في حكمها ، ونحن من جملة الأرضيات ، فنعبد الكواكب والملائكة
السماوية ، وهم إلهنا ، والله إلههم ، فأبطل بقوله : (لا يَمْلِكُونَ) ، (فِي السَّماواتِ) ، كما اعترفتم ، (وَلا فِي الْأَرْضِ) ، خلاف ما زعمتم. وقائل : السموات من الله استبدادا ،
والأرضيات منه بواسطة الكواكب ، فإنه تعالى خلق العناصر والتركيبات التي فيها
بالاتصالات وحركات وطوالع ، فجعلوا مع الله شركاء في الأرض ، والأولون جعلوا الأرض
لغيره ، فأبطل بقوله : (وَما لَهُمْ فِيهِما
مِنْ شِرْكٍ) ، أي الأرض ، كالسماء لله لا لغيره ، ولا لغيره فيهما
نصيب. وقائل : التركيبات والحوادث من الله ، لكن فوض إلى الكواكب ، وفعل المأذون
ينسب إلى الآذن ، ويسلب عن المأذون له فيه ، جعلوا السموات
__________________
معينة لله ، فأبطل
بقوله : (وَما لَهُ مِنْهُمْ
مِنْ ظَهِيرٍ) وقائل : نعبد الأصنام التي هي صور الملائكة ليشفعوا لنا ،
فأبطل بقوله : (وَلا تَنْفَعُ
الشَّفاعَةُ) ، الجملة ، وأل في الشفاعة الظاهر أنها للعموم ، أي شفاعة
جميع الخلق. وقيل : للعهد ، أي شفاعة الملائكة التي زعموها شركاء وشفعاء. انتهى ،
وفيه بعض تلخيص. وقال أبو البقاء : اللام في (لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) يجوز أن تتعلق بالشفاعة ، لأنك تقول : أشفعت له ، وأنت
تعلق بتنفع. انتهى ، وهذا فيه قلة ، لأن المفعول متأخر ، فدخول اللام عليه قليل.
وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : أذن بضم الهمزة ؛ وباقي السبعة : بفتحها ، أي
أذن الله له. والظاهر أن الضمير في قوله : (قُلُوبِهِمْ) عائد على ما عادت عليه الضمائر التي للغيبة في قوله : (لا يَمْلِكُونَ) ، وفي (ما لَهُمْ) ، و (ما لَهُ مِنْهُمْ) ، وهم الملائكة الذين دعوهم آلهة وشفعاء ، ويكون التقدير :
إلا لمن أذن له منهم.
و (حَتَّى) : تدل على الغاية ، وليس في الكلام عائد على أن حتى غاية
له. فقال ابن عطية : في الكلام حذف يدل عليه الظاهر ، كأنه قال : ولا هم شفعاء كما
تحبون أنتم ، بل هم عبدة أو مسلمون أبدا ، يعني منقادون ، (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ). قال : وتظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أن قوله : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ
عَنْ قُلُوبِهِمْ) ، إنما هي في الملائكة إذا سمعت الوحي ، أي جبريل ،
وبالأمر يأمر الله به سمعت ، كجر سلسلة الحديد على الصفوان ، فتفزع عند ذلك تعظيما
وهيبة. وقيل : خوف أن تقوم الساعة ، فإذا فزع ذلك عن قلوبهم ، أي أطير الفزع عنها
وكشف ، يقول بعضهم لبعض ولجبريل : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ)؟ فيقول المسؤلون : قال (الْحَقَّ وَهُوَ
الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) ، وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآيات تتسق هذه
الآية على الأولى ، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله : (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) لم تتصل له هذه الآية بما قبلها ، فلذلك اضطرب المفسرون في
تفسيرها حتى قال بعضهم في الكفار ، بعد حلول الموت : ففزع عن قلوبهم بفقد الحياة ،
فرأوا الحقيقة ، وزال فزعهم مما يقال لهم في حياتهم ، فيقال لهم حينئذ : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ)؟ فيقولون : قال الحق ، يقرون حين لا ينفعهم الإقرار. وقالت
فرقة : الآية في جميع العالم. وقوله : (حَتَّى) ، يريد في الآخرة ، والتأويل الأول في الملائكة هو الصحيح
، وهو الذي تظاهرت به الأحاديث ، وهذا بعيد. انتهى. وإذا كان الضمير في (عَنْ قُلُوبِهِمْ) لا يعود على (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) ، كان عائدا على من عاد عليه الضمير في قوله : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ) ، ويكون الضمير في (عَلَيْهِمْ) عائدا على جميع
الكفار ، ويكون
حتى غاية لقوله : (فَاتَّبَعُوهُ) ، ويكون التفزيع حالة مفارقة الحياة ، أو يجعل اتباعهم
إياه مستصحبا لهم إلى يوم القيامة مجازا.
والجملة بعد من قوله
: (قُلِ ادْعُوا) اعتراضية بين المغيا والغاية. قال ابن زيد : أقروا بالله
حين لا ينفعهم الإقرار ، فالمعنى : فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم ما كان يطلبهم
به ، (قالُوا ما ذا قالَ
رَبُّكُمْ). وقال الحسن : وإنما يقال للمشركين (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) على لسان الأنبياء ، فأقروا حين لا ينفع. وقيل : (حَتَّى) غاية متعلقة بقوله : (زَعَمْتُمْ) ، أي زعمتم الكفر إلى غاية التفزيع ، ثم تركتم ما زعمتم
وقلتم : قال الحق. انتهى. فيكون في الكلام التفاوت من خطاب في (زَعَمْتُمْ) إلى غيبة في (فُزِّعَ عَنْ
قُلُوبِهِمْ). وعن ابن عباس : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قال : فإذا أذن فزع ودام فزعه حتى إذا أزيل التفزيع عن
قلوبهم. قال بعض الشافعين من الملائكة لبعض الملائكة : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) في قبول شفاعتنا؟ فيجيب بعضهم لبعض : قال أي الله الحق ،
أي القول الحق ، وهو قبول شفاعتهم ، إذ كان تعالى أذن لهم في ذلك ، ولا يأذن إلا
وهو مريد لقبول الشفاعة. وقال الزمخشري : فإن قلت بم اتصل قوله : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ)؟ ولا شيء وقعت حتى غاية له. قلت : بما فهم من هذا الكلام
من أن ثم انتظار الإذن وتوقفا وتمهلا وفزعا من الراجين للشفاعة والشفعاء ، هل يؤذن
لهم أو لا يؤذن؟ وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد ملي من الزمان وطول من التربص. ومثل
هذه الحال دل عليه قوله ، عز من قائل : (رَبِّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً ، يَوْمَ
يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ
لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) ، كأنه قيل : يتربصون ويتوقفون مليا فزعين وهلين.
(حَتَّى إِذا فُزِّعَ
عَنْ قُلُوبِهِمْ) : أي كشف الفزع من قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم
بها رب العزة في إطلاق الإذن. تباشروا بذلك وسأل بعضهم بعضا : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ)؟ قال الحق ، أي القول الحق ، وهو الإذن بالشفاعة لمن
ارتضى. انتهى. وتلخص من هذا أن حتى غائية إما لمنطوق وهو زعمتم ، ويكون الضمير في (عَنْ قُلُوبِهِمْ) التفاتا ، وهو للكفار ، أو هو فاتبعوه ، وفيه تناسق
الضمائر لغائب. والفصل بالاعتراض والضمير أيضا للكفار ، والضمير في (قالُوا) للملائكة ، وضمير الخطاب في (رَبُّكُمْ) ، والغائب في (قالُوا) الثانية للكفار. وأما لمحذوف ، فما قدره ابن عطية لا يصح
أن يغيا ،
__________________
لأن ما بعد الغاية
مخالف لما قبلها ، وهم عبدة منقادون دائما لا ينفكون عن ذلك ، لا إذا فزع عن
قلوبهم ، ولا إذا لم يفزع ، وحمل ذلك على الملائكة حال الوحي لا يناسب الآية ،
وكون النبي صلىاللهعليهوسلم ، في قصة الوحي قال : «فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم» ،
لا يدل على أن هذه الآية في الملائكة حالة تكلم الله بالوحي. والحديث رواه ابن
مسعود عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، قال : «إذا تكلم الله عزوجل بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا ،
فيصعقون ، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل عليهالسلام ، فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم ، فيقولون : يا جبريل
ماذا قال ربك؟ قال فيقول الحق ، فينادون الحق». وما قدره الزمخشري يحتمل ، إلا أن
فيه تخصيص الذين زعمتم من دونه بالملائكة ، والذين عبدوهم ملائكة وغيرهم. وتخصيص
من أذن له بالملائكة أيضا ، والمأذون لهم في الشفاعة الملائكة وغيرهم. ألا ترى إلى
ما حكى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، في «الشفاعة في قوله عزوجل؟» .
وقرئ : فزع مشددا
، من الفزع ، مبنيا للمفعول ، أي أطير الفزع عن قلوبهم. وفعل تأتي لمعان منها :
الإزالة ، وهذا منه نحوه : قردت البعير ، أي أزلت القراد عنه. وقرأ ابن مسعود ،
وابن عباس ، وطلحة ، وأبو المتوكل الناجي ، وابن السميفع ، وابن عامر : مبنيا
للفاعل من الفزع أيضا ، والضمير الفاعل في فزع إن كان الضمير في عن قلوبهم
للملائكة ، فهو الله ، وإن كان للكفار ، فالضمير لمغويهم. وقرأ الحسن : (فُزِّعَ) من الفزع ، بتخفيف الزاي ، مبنيا للمفعول ، و (عَنْ قُلُوبِهِمْ) في موضع رفع به ، كقولك : انطلق يزيد. وقرأ الحسن أيضا ،
وأبو المتوكل أيضا ، وقتادة ، ومجاهد : فزع مشددا ، مبنيا للفاعل من الفزع. وقرأ
الحسن أيضا : كذلك ، إلا أنه خفف الزاء. وقرأ عبد الله بن عمر ، والحسن أيضا ،
وأيوب السختياني ، وقتادة أيضا ، وأبو مجلز : فرغ من الفراغ ، مشدد الراء ، مبنيا
للمفعول. وقرأ ابن مسعود ، وعيسى افرنقع : عن قلوبهم ، بمعنى انكشف عنها ، وقيل :
تفرق. وقال الزمخشري : والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين ، كما ركب
قمطر من حروف القمط مع زيادة الراء. انتهى. فإن عنى الزمخشري أن العين من حروف
الزيادة ، وكذلك الراء ، وهو ظاهر كلامه ، فليس بصحيح ، لأن العين والراء ليستا من
حروف الزيادة. وإن عنى أن الكلمة فيها حروف ، وما ذكروا زائدا إلى ذلك العين
والراء كمادة فرقع وقمطر ، فهو صحيح لو لا إيهام ما قاله الزمخشري في هذه الكلمة ،
لم أذكر هذه القراءة لمخالفتها
__________________
سواد المصحف.
وقالوا أيضا في قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ) أقوالا غير ما سبق. قال كعب : إذا تكلم الله عزوجل بلا كيف ضربت الملائكة بأجنحتها وخرت فزعا ، قالوا فيما
بينم : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ
قالُوا الْحَقَ). وقيل : إذا دعاهم إسرافيل من قبورهم ، قالوا مجيبين ماذا
، وهو من الفزع الذي هو الدعاء والاستصراخ ، كما قاله زهير :
إذا فزعوا طاروا
إلى مستغيثهم
|
|
طوال الرماح لا
ضعاف ولا عزل
|
وقيل : هو فزع
ملائكة أدنى السموات عند نزول المدبرات إلى الأرض. وقيل : لما كانت الفترة بين
عيسى ومحمد صلىاللهعليهوسلم ، وبعث الله محمدا ، أنزل الله جبريل بالوحي ، فظنت
الملائكة أنه قد نزل بشيء من أمر الساعة ، وصعقوا لذلك ، فجعل جبريل يمر بكل سماء
ويكشف عنهم الفزع ويخبرهم أنه الوحي ، قاله قتادة ومقاتل وابن السائب. وقيل :
الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض ، ويكتبون أعمالهم إذا أرسلهم الله
فانحدروا ، سمع لهم صوت شديد ، فيحسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر
الساعة ، فيخرون سجدا يصعقون ، رواه الضحاك عن ابن مسعود.
وهذه الأقوال
والتي قبلها لا تكاد تلائم ألفاظ القرآن ، فالله أسأل أن يرزقنا فهم كتابه ،
وأقربها عندي أن يكون الضمير في (قُلُوبِهِمْ) عائدا على من عاد عليه اتبعوه وعليهم ، وممن هو منها في شك
، وتكون الجملة بعد ذلك اعتراضا. وقوله : (قالُوا) ، أي الملائكة ، لأولئك المتبعين الشاكين يسألونهم سؤال
توبيخ : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) ، على لسان من بعث إليكم بعد أن كشف الغطاء عن قلوبهم ،
فيقرون إذ ذاك أن الذي قاله ، وجاءت به أنبياؤه ، وهو الحق ، لا الباطل الذي كنا
فيه من اتباع إبليس. وشكنا في البعث ماذا يحتمل أن تكون ما منصوبة بقال ، أي أي
شيء قال ربكم ، وأن يكون في موضع رفع على أن ذا موصولة ، أي ما الذي قال ربكم ،
وذا خبره ، ومعمول قال ضمير محذوف عائد على الموصول. وقرأ ابن أبي عبلة : قالوا
الحق ، برفع الحق ، خبر مبتدأ ، أي مقوله الحق ، (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) ، تنزيه منهم له تعالى وتمجيد. ثم رجع إلى خطاب الكفار
فسألهم عمن يرزقهم ، محتجا عليهم بأن رازقهم هو الله ، إذ لا يمكن أن يقولوا إن
آلهتهم ترزقهم وتسألهم أنهم (لا يَمْلِكُونَ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) ، وأمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله : (قُلِ اللهُ) ، لأنهم قد لا يجيبون حبا في العناد وإيثارا للشرك. ومعلوم
أنه لا جواب لم ولا لأحد إلا بأن يقول هو الله. (وَإِنَّا) : أي الموحدين الرازق العابدين ، (أَوْ إِيَّاكُمْ) : المشركين العابدين الأصنام والجمادات. (لَعَلى هُدىً) : أي
طريقة مستقيمة ،
أو في حيرة واضحة بينة. والمعنى : أن أحد الفريقين منا ومنكم لعلى أحد الأمرين من
الهدى والضلال ، أخرج الكلام مخرج الشك والاحتمال. ومعلوم أن من عبد الله ووحده هو
على الهدى ، وأن من عبد غيره من جماد أو غيره في ضلال. وهذه الجملة تضمنت الإنصاف
واللطف في الدعوى إلى الله ، وقد علم من سمعها أنه جملة اتصاف ، والرد بالتورية
والتعريض أبلغ من الرد بالتصريح ، ونحوه قول العرب : أخزى الله الكاذب مني ومنك ،
يقول ذاك من يتيقن أن صاحبه هو الكاذب ، ونظيره قوله الشاعر :
فأني ماوأيك كان
شرا
|
|
فسيق إلى
المقادة في هوان
|
وقال حسان :
أتهجوه ولست له
بكفؤ
|
|
فشركما لخيركما
الفداء
|
وهذا النوع يسمى
في علم البيان : استدراج المخاطب. يذكر له أمرا يسلمه ، وإن كان بخلاف ما ذكر حتى
يصغي إليه إلى ما يلقيه إليه ، إذ لو بدأ به بما يكره لم يصغ ، ولا يزال ينقله من حال
إلى حال حتى يتبين له الحق ويقبله. وهنا لما سمعوا الترداد بينه وبينهم ، ظهر لهم
أنه غير جازم أن الحق معه ، فقال لهم بطريق الاستدلال : إن آلهتكم لا تملك مثقال
ذرة ، ولا تنفع ولا تضر ، لأنها جماد ، وهم يعلمون ذلك ، فتحقق أن الرازق لهم
والنافع والضار هو الله سبحانه. وقيل : معنى الجملة استنقاص المشركين والاستهزاء
بهم ، وقد بينوا أن آلهتهم لا ترزقهم شيئا ولا تنفع ولا تضر ، فأراد الله من نبيه
، وأمره أن يوبخهم ويستنقصهم ويكذبهم بقول غير مكشوف ، إن كان ذلك أبلغ في
استنقاصهم ، كقولك : إن أحدنا لكاذب ، وقد علمت أن من خاطبته هو الكاذب ، ولكنك
وبخته بلفظ غير مكشوف. وأو هنا على موضوعها لكونها لأحد الشيئين ، أو الأشياء.
وخبر (إِنَّا أَوْ
إِيَّاكُمْ) هو (لَعَلى هُدىً أَوْ
فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ، ولا يحتاج إلى تقدير حذف ، إذ المعنى : أن أحدنا لفي أحد
هذين ، كقولك : زيد أو عمرو في القصر ، أو في المسجد ، لا يحتاج هذا إلى تقدير حذف
، إذ معناه : أحد هذين في أحد هذين. وقيل : الخبر محذوف ، فقيل : خبر لا وله ،
والتقدير : وإنا لعلى هدى أو في ضلال مبين ، فحذف لدلالة خبر ما بعده عليه ، فلعلى
هدى أو في ضلال مبين المثبت خبر عنه ، أو إياكم ، إذ هو على تقدير إنا ، ولكنها
لما حذفت اتصل الضمير ، وقيل : خبر الثاني ، والتقدير : أو إياكم لعلى هدى أو في
ضلال مبين ، وحذف لدلالة خبر الأول عليه ، وهو هذا المثبت (لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ، ولا حاجة لهذا التقدير من الحذف لو كان ما بعد أو غير
معطوف بها ، نحو : زيد أو عمرو قائم ،
كان يحتاج إلى هذا
التقدير ، وإن مع ما يصلح أن يكون خبرا لأن اسمها عطف عليه بأو ، والخبر معطوف بأو
، فلا يحتاج إليه. وذهب أبو عبيدة إلى أن أو بمعنى الواو ، فيكون من باب اللف
والنشر ، والتقدير : وإنا لعلى هدى ، وإياكم في ضلال مبين ، فأخبر عن كل بما ناسبه
، ولا حاجة إلى إخراج أو عن موضوعها. وجاء في الهدى بعلى ، لأن صاحبه ذو استعلاء ،
وتمكن مما هو عليه ، يتصرف حيث شاء. وجاء في الضلال بعن لأنه منغمس في حيرة مرتبك
فيها لا يدري أين يتوجه.
(قُلْ لا تُسْئَلُونَ
عَمَّا أَجْرَمْنا) هذا أدخل في الإنصاف وأبلغ من الأول ، وأكثر تلطفا
واستدراجا ، حيث سمى فعله جرما ، كما يزعمون ، مع أنه مثاب مشكور. وسمى فعلهم عملا
، مع أنه مزجور عنه محظور. وقد يراد بأجرمنا نسبة ذلك إلى المؤمنين دون الرسول ،
وذلك ما لا يكاد يخلو المؤمن منه من الصغائر ، والذي تعملون هو الكفر وما دونه من
المعاصي الكبائر. قيل : وهذه الآية منسوخة بآية السيف. (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا) : أي يوم القيامة ، (ثُمَّ يَفْتَحُ) : أي يحكم ، (بِالْحَقِ) : بالعدل ، فيدخل المؤمنين الجنة والكفار النار. (وَهُوَ الْفَتَّاحُ) : الحاكم الفاصل ، (الْعَلِيمُ) بأعمال العباد. والفتاح والعليم صيغتا مبالغة ، وهذا فيه
تهديد وتوبيخ. تقول لمن نصحته وخوفته فلم يقبل : سترى سوء عاقبة الأمر. وقرأ عيسى
: الفاتح اسم فاعل ، والجمهور : الفتاح.
(قُلْ أَرُونِيَ
الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) : الظاهر أن أرى هنا بمعنى أعلم ، فيتعدى إلى ثلاثة :
الضمير للمتكلم هو الأول ، والذين الثاني ، وشركاء الثالث ، أي أروني بالحجة
والدليل كيف وجه الشركة ، وهل يملكون مثقال ذرة أو يرزقونكم؟ وقيل : هي رؤية بصر ،
وشركاء نصب على الحال من الضمير المحذوف في ألحقتم ، إذ تقديره : ألحقتموهم به في
حال توهمه شركاء له. قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، لأن استدعاء رؤية العين في هذا لا
غناء له. وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى قوله : أروني ، وكان يراهم ويعرفهم؟ قلت
: أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله ، وأن يقايس على أعينهم
بينه وبين أصنامهم ، ليطلعهم على حالة القياس إليه والإشراك به. و (كَلَّا) : ردع لهم عن مذهبهم بعد ما كسره بإبطال المقايسة ، كما
قال إبراهيم : (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ، بعد ما حجهم ، وقد نبه على تفاحش غلطهم ، وأن يقدروا
الله حق قدره بقوله : (هُوَ اللهُ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، كأنه قال : أي الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات؟ وهو
__________________
راجع إلى الله
وحده ، أو هو ضمير الشأن كما في قوله : (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) . انتهى. وقول ابن عطية ، لأن استدعاء رؤية العين في هذا لا
غناء له ، أي لا نفع له ، ليس بجيد ، بل في ذلك تبكيت لهم وتوبيخ ، ولا يريد حقيقة
الأمر ، بل المعنى : أن الذين هم شركاء الله على زعمكم ، هم ممن إن أريتموهم
افتضحتم ، لأنهم خشب وحجر وغير ذلك من الحجارة والجماد ، كما تقول للرجل الخسيس
الأصل : أذكر لي أباك الذي قايست به فلانا الشريف ولا تريد حقيقة الذكر ، وإنما
أردت تبكيته ، وأنه إن ذكر أباه افتضح.
و (كَافَّةً) : اسم فاعل من كف ، وقيل : مصدر كالعاقبة والعافية ، فيكون
على حذف مضاف ، أي إلا ذا كافة ، أي ذا كف للناس ، أي منع لهم من الكفر ، أو ذا
منع من أن يشذوا عن تبليغك. وإذا كان اسم فاعل ، فقال الزجاج وغيره : هو حال من
الكاف في (أَرْسَلْناكَ) ، والمعنى : إلا جامعا للناس في الإبلاغ ، والكافة بمعنى
الجامع ، والهاء فيه للمبالغة ، كهي في علامة وراوية. وقال الزمخشري : إلا إرسالة
عامة لهم محيطة بهم ، لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم ، قال :
ومن جعله حالا من المجرور متقدما عليه فقد أخطأ ، لأن تقدم حال المجرور عليه في
الأصالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار ، وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ ثم لا يقنع
به حتى يضم إليه أن يجعل اللام بمعنى إلى ، لأنه لا يستوي له الخطأ الأول إلا
بالخطأ الثاني ، فلا بد من ارتكاب الخطأين. انتهى. أما كافة بمعنى عامة ، فالمنقول
عن النحويين أنها لا تكون إلا حالا ، ولم يتصرف فيها بغير ذلك ، فجعلها صفة لمصدر
محذوف ، خروج عما نقلوا ، ولا يحفظ أيضا استعمله صفة لموصوف محذوف. وأما قول
الزجاج : إن كافة بمعنى جامعا ، والهاء فيه للمبالغة ، فإن اللغة لا تساعد على ذلك
، لأن كف ليس بمحفوظ أن معناه جمع. وأما قول الزمخشري : ومن جعله حالا إلى آخره ،
فذلك مختلف فيه. ذهب الأكثرون إلى أن ذلك لا يجوز ، وذهب أبو علي وابن كيسان وابن
برهان ومن معاصرينا ابن مالك إلى أنه يجوز ، وهو الصحيح. ومن أمثلة أبي علي زيد :
خير ما يكون خير منك ، التقدير : زيد خير منك خير ما يكون ، فجعل خير ما يكون حالا
من الكاف في منك ، وقدمها عليه ، قال الشاعر :
إذا المرء أعيته
المروءة ناشئا
|
|
فمطلبها كهلا
عليه شديد
|
وقال آخر :
تسليت طرا عنكم
بعد بينكم
|
|
بذكركم حتى
كأنكم عندي
|
__________________
أي : تسليت عنكم
طرا ، أي جميعا. وقد جاء تقديم الحال على صاحبها المجرور وعلى ما يتعلق به ، ومن
ذلك قول الشاعر :
مشغوفة بك قد
شغفت وإنما
|
|
حتم الفراق فما
إليك سبيل
|
وقال آخر :
غافلا تعرض
المنية للمر
|
|
ء فيدعى ولات
حين إباء
|
أي : شغفت بك
مشغوفة ، وتعرض المنية للمرء غافلا. وإذا جاز تقديمها على المجرور والعامل ،
فتقديمها عليه دون العامل أجوز ، وعلى أن كافة حال من الناس ، حمله ابن عطية وقال
: قدمت للاهتمام والمنقول عن ابن عباس قوله : أي إلى العرب والعجم وسائر الأمم ،
وتقدير إلى الناس كافة. انتهى. وقول الزمخشري : وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ ، إلى
آخر كلامه ، شنيع. لأن قائل ذلك لا يحتاج إلى أن يتأول اللام بمعنى إلى ، لأن أرسل
يتعدى بإلى ويتعدى باللام ، كقوله : (وَأَرْسَلْناكَ
لِلنَّاسِ رَسُولاً) . ولو تأول اللام بمعنى إلى ، لم يكن ذلك خطأ ، لأن اللام
قد جاءت بمعنى إلى ، وإلى قد جاءت بمعنى اللام ، وأرسل مما جاء متعديا بهما إلى
المجرور. ثم حكى تعالى مقالتهم في الاستهزاء بالبعث ، واستعجالهم على سبيل التكذيب
، ولم يجابوا بتعيين الزمان ، إذ ذاك مما انفرد تعالى بعلمه ، بل أجيبوا بأن ما
وعدوا به لا بد من وقوعه ، وهو ميعاد يوم القيامة ، وتقدم الكلام على مثل هذه
الجملة ، ويجوز أن يكون سؤالهم عما وعدوا به من العذاب في الدنيا واستعجلوا به
استهزاء منهم. وقال أبو عبيد : الوعد والوعيد والميعاد بمعنى. وقال الجمهور :
الوعد في الخير ، والوعيد في الشر ، والميعاد يقع لهذا. والظاهر أن الميعاد اسم
على وزن مفعال استعمل بمعنى المصدر ، أي قل لكم وقوع وعد يوم وتنجيزه. وقال
الزمخشري : الميعاد ظرف الوعد من مكان أو زمان ، وهو هاهنا الزمان ، والدليل عليه
قراءة من قرأ ميعاد يوم فأبدل منه اليوم. انتهى. ولا يتعين ما قال ، إذ يكون بدلا
على تقدير محذوف ، أي قل لكم ميعاد يوم ، فلما حذف أعرب ما قام مقامه بإعرابه.
وقرأ الجمهور : (مِيعادُ يَوْمٍ) بالإضافة. ولما جعل الزمخشري الميعاد ظرف زمان قال : أما
الإضافة فإضافة تبيين ، كما تقول : سحق ثوب وبعير سانية. وقرأ ابن أبي عبلة ،
واليزيدي : ميعاد يوما بتنوينهما. قال الزمخشري : وأما نصب اليوم فعلى التعظيم
بإضمار
__________________
فعل تقديره لكم
ميعاد ، أعني يوما ، وأريد يوما من صفته ، أعني كيت وكيت ، ويجوز أن يكون انتصابه
على حذف مضاف ، ويجوز أن يكون الرفع على هذا للتعظيم. انتهى. لما جعل الميعاد ظرف
زمان ، خرج الرفع والنصب على ذلك ، ويجوز أن يكون انتصابه على الظرف على حذف مضاف
، أي إنجاز وعد يوم من صفته كيت وكيت. وقرأ عيسى : ميعاد منونا ، ويوم بالنصب من
غير تنوين مضافا إلى الجملة ، فاحتمل تخريج الزمخشري على التعظيم ، واحتمل تخريجا
على الظرف على حذف مضاف ، أي إنجاز وعد يوم كذا. وجاء هذا الجواب على طريق التهديد
مطابقا لمجيء السؤال على سبيل الإنكار والتعنت ، وأنهم مرصدون بيوم القيامة ،
يفاجئهم فلا يستطيعون تأخرا عنه ولا تقدما عليه. واليوم : يوم القيامة ، وهو
السابق إلى الذهن ، أو يوم مجيء أجلهم عند حضور منيتهم ، أو يوم بدر ، أقوال.
و (لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ) : يعني الذي تضمن التوحيد والرسالة والبعث المتقدم ذكرها
فيه. (وَلا بِالَّذِي
بَيْنَ يَدَيْهِ) : هو ما نزل من كتب الله المبشرة برسول الله. يروى أن كفار
مكة سألوا أهل الكتاب ، فأخبروهم أنهم يجدون صفة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، في كتبهم ، وأغضبهم ذلك ، وقرنوا إلى القرآن ما تقدم من
كتب الله في الكفر ، ويكون (الَّذِينَ كَفَرُوا) مشركي قريش ومن جرى مجراهم. والمشهور أن (بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) : التوراة والإنجيل وما تقدم من الكتب ، وهو مروي عن ابن
جريج. وقالت فرقة : (بِالَّذِي بَيْنَ
يَدَيْهِ) : هي القيامة ، قال ابن عطية : وهذا خطأ ، قائله لم يفهم
أمر بين اليد في اللغة ، وأنه المتقدم في الزمان ، وقد بيناه فيما تقدم. انتهى. (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ) : أخبر عن حالهم في صفة التعجب منها ، وترى في معنى رأيت
لإعمالها في الظرف الماضي ، ومفعول ترى محذوف ، أي حال الظالمين ، إذ هم (مَوْقُوفُونَ). وجواب لو محذوف ، أي لرأيت لهم حالا منكرة من ذلهم
وتخاذلهم وتحاورهم ، حيث لا ينفعهم شيء من ذلك. ثم فسر ذلك الرجوع والجدل بأن
الأتباع ، وهم الذين استضعفوا ، قالوا لرؤسائهم على جهة التذنيب والتوبيخ ورد
اللائمة عليهم : (لَوْ لا أَنْتُمْ
لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) : أي أنتم أغويتمونا وأمرتمونا بالكفر. وأتى الضمير بعد لو
لا ضمير رفع على الأفصح. وحكى الأئمة سيبويه والخليل وغيرهما مجيئه بضمير الجر نحو
: لولاكم ، وإنكار المبرد ذلك لا يلتفت إليه. ولما كان مقاما ، استوى فيه المرءوس
والرئيس.
بدأ الأتباع بتوبيخ
مضليهم ، إذ زالت عنهم رئاستهم ، ولم يمكنهم أن ينكروا أنهم
ما جاءهم رسول ،
بل هم مقرون. ألا ترى إلى قول المتبوعين : (بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ)؟ فالجمع المقرون بأن الذكر قد جاءهم ، فقال لهم رؤساؤهم : (أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ) ، فأتوا بالاسم بعد أداة الاستفهام إنكارا ، لأن يكونوا هم
الذين صدوهم. صددتم من قبل أنفسكم وباختياركم بعد أداة الاستفهام ، كأنهم قالوا :
نحن أخبرناكم وحلنا بينكم وبين الذكر بعد أن هممتم على الدخول في الإيمان ، بل
أنتم منعتم أنفسكم حظها وآثرتم الضلالة على الهدى ، فكنتم مجرمين كافرين باختياركم
، لا لقولنا وتسويلنا. ولما أنكر رؤساؤهم أنهم السبب في كفرهم ، وأثبتوا بقولهم : (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) ، أن كفرهم هو من قبل أنفسهم ، قابلوا إضرابا بإضراب ،
فقال الأتباع : (بَلْ مَكْرُ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) : أي ما كان إجرامنا من جهتنا ، بل مكركم لنا دائما
ومخادعتكم لنا ليلا ونهارا ، إذ تأمروننا ونحن أتباع لا نقدر على مخالفتكم ،
مطيعون لكم لاستيلائكم علينا بالكفر بالله واتخاذ الأنداد. وأضيف المكر إلى الليل
والنهار اتسع في الظرفين ، فهما في موضع نصب على المفعول به على السعة ، أو في
موضع رفع على الإسناد المجازي ، كما قالوا : ليل نائم ، والأولى عندي أن يرتفع مكر
على الفاعلية ، أي بل صدنا مكركم بالليل والنهار ، ونظيره قول القائل : أنا ضربت
زيدا بل ضربه عمرو ، فيقول : بل ضربه غلامك ، والأحسن في التقدير أن يكون المعنى :
ضربه غلامك. وقيل : يجوز أن يكون مبتدأ وخبرا ، أي سبب كفرنا. وقرأ قتادة ، ويحيى
بن يعمر : بل مكر بالتنوين ، الليل والنهار نصب على الظرف. وقرأ سعيد بن جبير بن
محمد ، وأبو رزين ، وابن يعمر أيضا : بفتح الكاف وشد الراء مرفوعة مضافة ، ومعناه
: كدور الليل والنهار واختلافهما ، ومعناها : الإحالة على طول الأمل ، والاغترار
بالأيام مع أمر هؤلاء الرؤساء الكفر بالله. وقرأ ابن جبير أيضا ، وطلحة ، وراشد
هذا من التابعين ممن صحح المصاحف بأمر الحجاج : كذلك ، إلا أنهم نصبوا الراء على
الظرف ، وناصبه فعل مضمر ، أي صددتمونا مكر الليل والنهار ، أي في مكرهما ، ومعناه
دائما. وقال صاحب اللوامح : يجوز أن ينتصب بإذ تأمروننا مكر الليل والنهار. انتهى.
وهذا وهم ، لأن ما بعد إذ لا يعمل فيما قبلها. وقال الزمخشري : بل يكون الإغراء
مكرا دائما لا يفترون عنه. انتهى.
وجاء (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) بغير واو ، لأنه جواب لكلام المستضعفين ، فاستؤنف ، وعطف (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) على ما سبق من كلامهم ، والضمير في (وَأَسَرُّوا) للجميع المستكبرين والمستضعفين ، وهم الظالمون الموقوفون ،
وتقدم الكلام في (وَأَسَرُّوا
النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) في سورة يونس ، والندامة من المعاني القلبية ، فلا
تظهر ، إنما يظهر
ما يدل عليها ، وما يدل عليها غيرها ، وقيل : هو من الأضداد. وقال ابن عطية : هذا
لم يثبت قط في لغة أن أسر من الأضداد وندامة الذين استكبروا على ضلالهم في أنفسهم
وإضلالهم وندامة الذين استضعفوا على ضلالهم وأتباعهم المضلين. (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ
الَّذِينَ كَفَرُوا) ، والظاهر عموم الذين كفروا ، فيدخل فيه المستكبرون
والمستضعفون ، لأن من الكفار من لا يكون له اتباع مراجعة القول في الآخرة ، ولا
يكون أيضا تابعا لرئيس له كافر ، كالغلام الذي قتله الخضر. وقيل : (الَّذِينَ كَفَرُوا) هم الذين سبقت منهم المحاورة ، وجعل الأغلال إشارة إلى
كيفية العذاب قطعوا بأنهم واقعون فيه فتركوا التندم. (هَلْ يُجْزَوْنَ) : معناه النفي ، ولذلك دخلت إلا بعد النفي.
(وَما أَرْسَلْنا فِي
قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ
كافِرُونَ ، وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ
بِمُعَذَّبِينَ ، قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ، وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ
بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً
فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ
آمِنُونَ ، وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي
الْعَذابِ مُحْضَرُونَ ، قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ
عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ
خَيْرُ الرَّازِقِينَ ، وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ
لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ ، قالُوا سُبْحانَكَ
أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ
بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ، فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا
ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ
بِها تُكَذِّبُونَ ، وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا
إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا
ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا
جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).
(وَما أَرْسَلْنا) الآية : هذه تسلية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، مما مني به من قومه قريش ، من الكفر والافتخار بالأموال
والأولاد. وإن ما ذكروا من ذلك هو عادة المترفين مع أنبيائهم ، فلا يهمنك أمرهم. و
(مِنْ نَذِيرٍ) : عام ، أي تنذرهم بعذاب الله إن لم يوحدوه. و (قالَ مُتْرَفُوها) : جملة حالية ، ونص على المترفين لأنهم أول المكذبين للرسل
، لما شغلوا به من زخرفة الدنيا وما غلب على عقولهم منها ، فقلوبهم أبدا مشغولة
منهمكة بخلاف الفقراء. فإنهم خالون من مستلذات الدنيا ، فقلوبهم أقبل للخير ،
ولذلك هم أتباع الأنبياء ، كما جاء في حديث هرقل. وبما متعلق بكافرون ، وبه متعلق
بأرسلتم ، وما عامة في ما جاءت به النذر من طلب الإيمان بالله وإفراده بالعبادة
والأخبار بأنهم رسله إليهم ، والبعث
والجزاء على
الأعمال. والظاهر أن الضمير في (وَقالُوا) عائد على المترفين ؛ وقيل : عائد على قريش ، ويدل عليه ما
بعده من الخطاب في قوله : (قُلْ) ، لأن من تقدم من المترفين الهالكين لا يخاطبون ، فلا يقول
إلا الموجودون ، وقوله : (وَما أَمْوالُكُمْ
وَلا أَوْلادُكُمْ) ؛ واحتجوا على رضا الله عنهم بإحسانه تعالى إليهم ، فلو لم
يتكرم عليهم ما بوسع علينا ، وأما أنتم فلهوانكم عليه حرمكم أيها التابعون للرسل.
ثم نقول : إن يعذبوا نفيا عاما ، لأن الأنبياء قد ينذرون بعذاب عاجل في الدنيا ،
أو آجل في الآخرة ، فنفوا هم جميع ذلك. فإما أن يكونوا منكرين للآخرة ، فقد نفوا
تعذيبهم فيها ، لأنها إذا لم تكن ، فلا يكون فيها عذاب. وإما أن يكونوا مقرين بها
حقيقة ، أو على سبيل الفرض ، فيقولون : كما أنعم علينا في الدنيا ، ينعم علينا في
الآخرة على حالة الدنيا قياسا فاسدا ، فأبطل الله ذلك بأن الرزق فضل منه يقسم
علينا في الآخرة على حالة الدنيا ، كما شاء. (لِمَنْ يَشاءُ) ، فقد يوسع على العاصي ويضيق على الطائع ، وقد يوسع عليهما
، والوجود شاهد بذلك ، فلا تقاس التوسعة في الدنيا ، لأن ذلك في الآخرة إنما هو
على الأعمال الصالحة. وقرأ الأعمش : ويقدر في الموضعين مشددا ؛ والجمهور : مخففا ،
ومعناه : ويضيق مقابل يبسط.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ) : مثل هؤلاء الكفرة ، (لا يَعْلَمُونَ) أن الرزق مصروف بالمشيئة ، وليس دليلا على الرضا ثم أخبر
تعالى أن أموالهم وأولادهم التي افتخروا بها ليست بمقربة من الله ، وإنما يقرب
الإيمان والعمل الصالح. وقرأ الجمهور : (بِالَّتِي) ، وجمع التكسير من العقلاء وغيرهم يجوز أن يعامل معاملة
الواحدة المؤنثة. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون التي هي التقوى ، وهي المقربة عند
الله زلفى وحدها ، أي ليست أموالكم تلك الموضوعة للتقريب. انتهى. فجعل التي نعتا
لموصوف محذوف وهي التقوى. انتهى ، ولا حاجة إلى تقدير هذا الموصوف. والظاهر أن التي
راجع إلى الأموال والأولاد ، وقاله الفراء. وقال أيضا ، هو والزجاج : حذف من الأول
لدلالة الثاني عليه ، والتقدير : (وَما أَمْوالُكُمْ
وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى). انتهى. ولا حاجة لتقدير هذا المحذوف ، إذ يصح أن يكون
التي لمجموع الأموال والأولاد. وقرأ الحسن : باللاتي جمعا ، وهو أيضا راجع للأموال
والأولاد. وقرئ بالذي ، وزلفى مصدر ، كالقربى ، وانتصابه على المصدرية من المعنى ،
أي يقربكم. وقرأ الضحاك : زلفا بفتح اللام وتنوين الفاء ، جمع زلفة ، وهي القربة.
(إِلَّا مَنْ آمَنَ) : الظاهر أنه استثناء منقطع ، وهو منصوب على الاستثناء ،
أي لكن
من آمن ؛ (وَعَمِلَ صالِحاً) ، فإيمانه وعمله يقربانه. وقال الزجاج : هو بدل من الكاف
والميم في تقربكم ، وقال النحاس : وهذا غلط لأن الكاف والميم للمخاطب ، فلا يجوز
البدل ، ولو جاز هذا لجاز : رأيتك زيدا ؛ وقول أبي إسحاق هذا هو قول الفراء.
انتهى. ومذهب الأخفش والكوفيين أنه يجوز أن يبدل من ضمير المخاطب والمتكلم ، لكن
البدل في الآية لا يصح. ألا ترى أنه لا يصح تفريغ الفعل الواقع صلة لما بعد إلا؟
لو قلت : ما زيد بالذي يضرب إلا خالدا ، لم يصح. وتخيل الزجاج أن الصلة ، وإن كانت
من حيث المعنى منفية ، أنه يصح البدل ، وليس بجائز إلا فيما يصح التفريغ له. وقد
اتبعه الزمخشري فقال : (إِلَّا مَنْ آمَنَ) استثناء من كم في تقربكم ، والمعنى : أن الأموال لا تقرب
أحدا إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله ؛ والأولاد لا تقرب أحدا إلا من
علمهم الخير وفقهم في الدين ورشحهم للصلاح والطاعة. انتهى ، وهو لا يجوز. كما
ذكرنا ، لا يجوز : ما زيد بالذي يخرج إلا أخوه ، ولا ما زيد بالذي يضرب إلا عمرا ،
ولا ما زيد بالذي يمر إلا ببكر.
والتركيب الذي
ركبه الزمخشري من قوله : لا يقرب أحدا إلا المؤمن ، غير موافق للقرآن ؛ ففي الذي
ركبه يجوز ما قال ، وفي لفظ القرآن لا يجوز. وأجاز الفراء أن تكون من في موضع رفع
، وتقدير الكلام عنده ما هو المقرب (إِلَّا مَنْ آمَنَ). انتهى. وقوله كلام لا يتحصل منه معنى ، كأنه كان نائما
حين قال ذلك.
وقرأ الجمهور : (جَزاءُ الضِّعْفِ) على الإضافة ، أضيف فيه المصدر إلى المفعول ، وقدره
الزمخشري مبنيا للمفعول الذي لم يسم فاعله ، فقال : أن يجاوز الضعف ، والمصدر في
كونه يبنى للمفعول الذي لم يسم فاعله فيه خلاف ، والصحيح المنع ، ويقدر هنا أن
يجاوز الله بهم الضعف ، أي يضاعف لهم حسناتهم ، الحسنة بعشر أمثالها ، وبأكثر إلى
سبعمائة لمن يشاء. وقرأ قتادة : جزاء الضعف برفعهما ؛ فالضعف بدل ، ويعقوب في
رواية بنصب جزاء ورفع الضعف ، وحكى هذه القراءة الداني عن قتادة ، وانتصب جزاء على
الحال ، كقولك : في الدار قائما زيد. وقرأ الجمهور : (فِي الْغُرُفاتِ) جمعا مضموم الراء ؛ والحسن ، وعاصم : بخلاف عنه ؛ والأعمش
، ومحمد بن كعب : بإسكانها ؛ وبعض القراء : بفتحها ؛ وابن وثاب ، والأعمش ، وطلحة
، وحمزة : وأطلق في اختياره في الغرفة على التوحيد ساكنة الراء ؛ وابن وثاب أيضا :
بفتحها على التوحيد. ولما ذكر جزاء من آمن ، ذكر عقاب من كفر ، ليظهر تباين
الجزأين ، وتقدم تفسير نظير هذه الكلمة. ولما كان افتخارهم بكثرة الأموال والأولاد
، أخبروا أن ذلك على ما شاء الله كبر ، وذلك المعنى تأكيد
أن ذلك جار على ما
شاء الله ، إلا أن ذلك على حسب الاستحقاق ، لا التكرمة ، ولا الهوان. ومعنى (فَهُوَ يُخْلِفُهُ) : أي يأتي بالخلف والعوض منه ، وكان لفظ من عباده مشعرة
بالمؤمنين ، وكذلك الخطاب في (وَما أَنْفَقْتُمْ) : يقصد هنا رزق المؤمنين ، فليس مساق.
(قُلْ إِنَّ رَبِّي
يَبْسُطُ) : مساق ما قيل للكفار ، بل مساق الوعظ والتزهيد في الدنيا
، والحض على النفقة في طاعة الله ، وإخلاف ما أنفق ، إما منجزا في الدنيا ، وإما
مؤجلا في الآخرة ، وهو مشروط بقصد وجه الله. وقال مجاهد : من كان عنده من هذا
المال ما يقيمه فليقتصد ، وأن الرزق مقسوم ، ولعل ما قسم له قليل ، وهو ينفق نفقة
الموسع عليه ، فينفق جميع ما في يده ، ثم يبقى طول عمره في فقر ولا يتأتى. (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ
يُخْلِفُهُ) : في الآخرة ، ومعنى الآية : ما كان من خلف فهو منه. وجاء (الرَّازِقِينَ) جمعا ، وإن كان الرازق حقيقة هو الله وحده ، لأنه يقال :
الرجل يرزق عياله ، والأمير جنده ، والسيد عبده ، والرازقون جمع بهذا الاعتبار ،
لكن أولئك يرزقون مما رزقهم الله ، وملكهم فيه التصرف ، ولله تعالى يرزق من خزائن
لا تفنى ، ومن إخراج من عدم إلى وجود.
(وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) : أي المكذبين ، من تقدم ومن تأخر. وقرأ الجمهور : نحشرهم
، نقول بالنون فيهما ، وحفص بالياء ، وتقدمت في الأنعام . وخطاب الملائكة تقريع للكفار ، وقد علم تعالى أن الملائكة
منزهون برآء مما وجه عليهم من السؤال ، وإنما ذلك على طريق توقيف الكفار ، وقد علم
سوء ما ارتكبوه من عبادة غير الله ، وأن من عبدوه متبرئ منهم. و (هؤُلاءِ) مبتدأ. وخبره (كانُوا يَعْبُدُونَ) ، و (إِيَّاكُمْ) مفعول (يَعْبُدُونَ). ولما تقدم انفصل ، وإنما قدم لأنه أبلغ في الخطاب ، ولكون
(يَعْبُدُونَ) فاصلة. فلو أتى بالضمير منفصلا ، كان التركيب يعبدونكم ،
ولم تكن فاصلة. واستدل بتقديم هذا المعمول على جواز تقديم خبر كان عليها إذا كان
جملة ، وهي مسألة خلاف ، أجاز ذلك ابن السراج ، ومنع ذلك قوم من النحويين ، وكذلك
منعوا توسطه إذا كان جملة. قال ابن السراج : القياس جواز ذلك ، ولم يسمع. ووجه
الدلالة من الآية أن تقديم المعمول مؤذن بتقديم العامل ، فكما جاز تقديم (إِيَّاكُمْ) ، جاز تقديم (يَعْبُدُونَ) ، وهذه القاعدة ليست مطردة ، والأولى منع ذلك إلى أن يدل
على جوازه سماع من العرب. ولما أجابوا الله بدأوا بتنزيهه وبراءته من كل سوء ، كما
قال عيسى عليهالسلام : (سُبْحانَكَ) ، ثم انتسبوا إلى موالاته دون أولئك الكفرة ، أي (أَنْتَ وَلِيُّنا) ، إذ لا موالاة بيننا وبينهم.
__________________
وفي قولهم : (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) ، إشعار لهم بما عبدوه ، وإن لم يصرح به. لكن الإضراب ببل
يدل عليه وذلك لأن المعبود إذا لم يكن راضيا بعبادة عابده مريدا لها ، لم يكن ذلك
العابد عابدا له حقيقة ، فلذلك قالوا : (بَلْ كانُوا
يَعْبُدُونَ الْجِنَ) ، لأن أفعالهم القبيحة من وسوسة الشياطين وإغوائهم
ومراداتهم عابدون لهم حقيقة ، فلذلك قالوا : (بَلْ كانُوا
يَعْبُدُونَ الْجِنَ) ، إذ الشياطين راضون تلك الأفعال. وقيل : صورت لهم
الشياطين صور قوم من الجن ، وقالوا : هذه صور الملائكة فاعبدوها. وقيل : كانوا
يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت ، فيعبدون بعبادتها. وقال ابن عطية : لم تنف
الملائكة عبادة البشر إياها ، وإنما أقرت أنها لم يكن لها في ذلك مشاركة. وعبادة
البشر الجن هي فيما يقرون بطاعتهم إياهم ، وسماعهم من وسوستهم وإغوائهم ، فهذا نوع
من العبادة. وقد يجوز أن يكون في الأمم الكافرة من عبد الجن ، وفي القرآن آيات
يظهر منها أن الجن عبدت ، في سورة الأنعام وغيرها. انتهى. وإذا هم قد عبدوا الجن ،
فما وجه قولهم : أكثرهم مؤمنون ، ولم يقولوا جميعهم ، وقد أخبروا أنهم كانوا
يعبدون الجن؟ والجواب أنهم لم يدعوا الإحاطة ، إذ قد يكون في الكفار من لم يطلع
الملائكة عليهم ، أو أنهم حلموا على الأكثر بإيمانهم بالجن لأن الإيمان من عمل
القلب ، فلم يذكروا الاطلاع على جميع أعمال قلوبهم ، لأن ذلك لله تعالى. ومعنى (مُؤْمِنُونَ) : مصدقون أنهم معبودوهم ، وقيل : مصدقون أنهم بنات الله ،
وأنهم ملائكة ، (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) . وأما من قال بأن الأكثر بمعنى الجميع ، فلا يرد عليه شيء
، لكنه ليس موضوع اللغة.
(فَالْيَوْمَ) : هو يوم القيامة ، والخطاب في (بَعْضُكُمْ) ، قيل : للملائكة ، لأنهم المخاطبون في قوله : (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ) ، ويكون ذلك تبكيتا للكفار حين بين لهم أن من عبدوه لا
ينفع ولا يضر ، ويؤيده : (وَلا يَشْفَعُونَ
إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) ، ولأن بعده : (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا) ، ولو كان الخطاب للكفار ، لكان التركيب فذوقوا. وقيل :
الخطاب للكفار ، لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم ، ويكون قوله : ويقول ، تأكيدا
لبيان حالهم في الظل. وقيل : هو خطاب من الله لمن عبد ومن عبد. وقوله : (نَفْعاً) ، قيل : بالشفاعة ، (وَلا ضَرًّا) بالتعذيب. وقيل هنا : (الَّتِي كُنْتُمْ
بِها تُكَذِّبُونَ) ، وفي السجدة : (الَّذِي كُنْتُمْ
بِهِ تُكَذِّبُونَ) كل منهما ، أي من العذاب ومن النار ، لأنهم هنا لم يكونوا
ملتبسين بالعذاب ،
__________________
بل ذلك أول مارأوا
النار ، إذ جاء عقيب الحشر ، فوصفت لهم النار بأنها هي التي كنتم تكذبون بها. وأما
الذي في السجدة ، فهم ملابسو العذاب ، متردّدون فيه لقوله : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا
مِنْها أُعِيدُوا فِيها) ، فوصف لهم العذاب الذي هم مباشروه ، وهو العذاب المؤبد
الذي أنكروه.
والإشارة بقوله : (ما هذا إِلَّا رَجُلٌ) ، إلى تالي الآيات ، المفهوم من قوله : (وَإِذا تُتْلى) ، وهو رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وحكى تعالى مطاعنهم عند تلاوة القرآن عليهم ، فبدأوا أولا
: بالطعن في التالي ، فإنه يقدح في معبودات آلهتكم. ثانيا : فيما جاء به الرسول من
القرآن ، بأنه كذب مختلق من عنده ، وليس من عند الله. وثالثا : بأن ما جاء به سحر
واضح لما اشتمل على ما يوجب الاستمالة وتأثير النفوس له وإجابته. وطعنوا في الرسول
، وفيما جاء به ، وفي وصفه ، واحتمل أن يكون ذلك صدر من مجموعهم ، واحتمل أن تكون
كل جملة منها قالها قوم غير من قال الجملة الأخرى. وفي قوله : (لَمَّا جاءَهُمْ) دليل على أنه حين جاءهم لم يفكروا فيه ، بل بادروه
بالإنكار ونسبته إلى السحر ، ولم يكتفوا بقولهم ، إنه سحر حتى وصفوه بأنه واضح لمن
يتأمله. وقيل : إنكار القرآن والمعجزة كان متفقا عليه من المشركين وأهل الكتاب ،
فقال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلْحَقِ) ، على وجه العموم.
(وَما آتَيْناهُمْ
مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ،
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ
فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ ، قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ
أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ
جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ ، قُلْ ما
سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ
الْغُيُوبِ ، قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ ، قُلْ
إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي
إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ، وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ
وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ ، وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ
التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ، وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ
وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ، وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما
يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ
مُرِيبٍ).
(وَما آتَيْناهُمْ) : أهل مكة ، (مِنْ كُتُبٍ) ، قال السدي : من عندنا ، فيعلموا بدراستها بطلان ما جئت
به. وقال ابن زيد : فنقضوا أن الشرك جائز ، وهو كقوله : (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ
__________________
سُلْطاناً
فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) . وقال قتادة : ما أنزل الله على العرب كتابا قبل القرآن ،
ولا بعث إليهم نبيا قبل محمد صلىاللهعليهوسلم. والمعنى : من أين كذبوا ، ولم يأتهم كتاب ، ولا نذير بذلك؟
وقيل : وصفهم بأنهم قوم آمنون ، أهل جاهلية ، ولا ملة لهم ، وليس لهم عهد بإنزال
الكتاب ولا بعثة رسول. كما قال : (أَمْ آتَيْناهُمْ
كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) ، فليس لتكذيبهم وجه مثبت ، ولا شبهة تعلق. كما يقول أهل
الكتاب ، وإن كانوا مبطلين : نحن أهل الكتاب والشرائع ، ومستندون إلى رسل من رسل
الله. وقيل : المعنى أنهم يقولون بآرائهم في كتاب الله ، يقول بعضهم سحر ، وبعضهم
افتراء ، ولا يستندون فيه إلى أثارة من علم ، ولا إلى خبر من يقبل خبره. فإنا
آتيناهم كتبا يدرسونها ، ولا أرسلنا إليهم رسولا ولا نذيرا فيمكنهم أن يدعوا ، إن
أقوالهم تستند إلى أمره.
وقرأ الجمهور : (يَدْرُسُونَها) ، مضارع درس مخففا ؛ وأبو حيوة : بفتح الدال وشدها وكسر
الراء ، مضارع ادّرس ، افتعل من الدرس ، ومعناه : تتدارسونها. وعن أبي حيوة أيضا :
يدرسونها ، من التدريس ، وهو تكرير الدرس ، أو من درس الكتاب مخففا ، ودرّس الكتاب
مشددا التضعيف باعتبار الجمع. ومعنى (قَبْلَكَ) ، قال ابن عطية : أي وما أرسلنا من نذير يشافههم بشيء ،
ولا يباشر أهل عصرهم ، ولا من قرب من آبائهم. وقد كانت النذارة في العالم ، وفي
العرب مع شعيب وصالح وهود. ودعوة الله وتوحيده قائم لم تخل الأرض من داع إليه ،
وإنما المعنى : من نذير يختص بهؤلاء الذين بقيت إليهم ، وقد كان عند العرب كثير من
نذارة إسماعيل ، والله تعالى يقول : (إِنَّهُ كانَ صادِقَ
الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) ، ولكن لم يتجرد للنذارة ، وقاتل عليها ، إلا محمد صلىاللهعليهوسلم. انتهى.
(وَكَذَّبَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ) : توعد لهم ممن تقدمهم من الأمم ، وما آل إليه أمرهم ،
وتسلية لرسوله بأن عادتهم في التكذيب عادة الأمم السابقة ، وسيحل بهم ما حل
بأولئك. وأن الضميرين في : (بَلَغُوا) وفي : (ما آتَيْناهُمْ) عائدان على (الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ) ، ليتناسقا مع قوله تعالى : (فَكَذَّبُوا) ، أي ما بلغوا في شكر النعمة وجزاء المنة معشار ما آتيناهم
من النعم والإحسان إليهم. وقال ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد : الضمير في (بَلَغُوا) لقريش ، وفي (ما آتَيْناهُمْ) للأمم (الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ). والمعنى : وما بلغ هؤلاء بعض ما آتينا أولئك من طول الأعمار
وقوة الأجسام وكثرة الأموال ، وحيث كذبوا رسلي
__________________
جاءهم إنكاري
بالتدمير والاستئصال ، ولم يغن عنهم ما كانوا فيه من القوة ، فكيف حال هؤلاء إذا
جاءهم العذاب والهلاك؟ وقيل : الضمير في (بَلَغُوا) عائد على (الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ) ، وفي (آتَيْناهُمْ) على قريش ، وما بلغ الأمم المتقدمة معشار ما آتينا قريشا
من الآيات والبينات والنور الذي جئتهم به. وأورد ابن عطية هذه الأقوال احتمالات ،
والزمخشري ذكر الثاني ، وأبو عبد الله الرازي اختار الثالث ، قال : أي (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ما بلغوا معشار ما آتينا قوم محمد من البرهان ، وذلك لأن
كتاب محمد ، عليهالسلام ، أكمل من سائر الكتب وأوضح ، ومحمد ، عليهالسلام ، أفضل من جميع الرسل وأفصح ، وبرهانه أوفى ، وبيانه أشفى
، ويؤيد ما ذكرنا ، (وَما آتَيْناهُمْ
مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) تغني عن القرآن. فلما كان المؤتى في الآية الأولى هو
الكتاب ، حمل الإيتاء في الآية الثانية على إيتاء الكتاب ، وكان أولى. انتهى.
وعن ابن عباس :
فليس أنه أعلم من أمّته ، ولا كتاب أبين من كتابه. والمعشار مفعال من العشر ، ولم
يبن على هذا الوزن من ألفاظ العدد غيره وغير المرباع ، ومعناهما : العشر والربع.
وقال قوم : المعشار عشر العشر. قال ابن عطية : وهذا ليس بشيء. انتهى. وقيل : والعشر
في هذا القول عشر المعشرات ، فيكون جزءا من ألف جزء. قال الماوردي : وهو الأظهر ،
لأن المراد به المبالغة في التقليل. وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى (فَكَذَّبُوا رُسُلِي) ، وهو مستغنى عنه بقوله (وَكَذَّبَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ)؟ قلت : لما كان معنى قوله : (وَكَذَّبَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ) ، وفعل الذين من قبلهم التكذيب ، وأقدموا عليه ، جعل تكذيب
الرسل مسببا عنه ، ونظيره أن يقول القائل : أقدم فلان على الكفر ، فكفر بمحمد صلىاللهعليهوسلم. ويجوز أن ينعطف على قوله : (ما بَلَغُوا) ، كقولك : ما بلغ زيد معشار فضل عمرو ، فيفضل عليه. (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) : للمكذبين الأوّلين ، فليحذروا من مثله. انتهى. وفكيف : تعظيم
للأمر ، وليست استفهاما مجردا ، وفيه تهديد لقريش ، أي أنهم معرضون لنكير مثله ،
والنكير مصدر كالإنكار ، وهو من المصادر التي جاءت على وزن فعيل ، والفعل على وزن
أفعل ، كالنذير والعذير من أنذر وأعذر ، وحذفت إلى من نكير تخفيفا لأنها أجزأته.
(قُلْ إِنَّما
أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) ، قال : هي طاعة الله وتوحيده. وقال السدي : هي لا إله
إلّا الله. قال قتادة : هي أن تقوموا. قال أبو علي : (أَنْ تَقُومُوا) في موضع خفض على البدل من واحدة. وقال الزمخشري : (بِواحِدَةٍ) : بخصلة واحدة ، وهو فسرها بقوله : (أَنْ تَقُومُوا) على أن عطف بيان لها. انتهى. وهذا لا يجوز ، لأن بواحدة
نكرة ، وأن تقوموا
معرفة لتقديره
قيامكم لله. وعطف البيان فيه مذهبان : أحدهما : أنه يشترط فيه أن يكون معرفة من
معرفة ، وهو مذهب الكوفيين ، وأما التخالف فلم يذهب إليه ذاهب ، وإنما هو وهم من
قائله. وقد ردّ النحويون على الزمخشري في قوله : (مَقامُ إِبْراهِيمَ) عطف بيان من قوله : (آياتٌ بَيِّناتٌ) ، وذلك لأجل التحالف ، فكذلك هذا. والظاهر أن القيام هنا
هو الانتصاب في الأمر ، والنهوض فيه بالهمة ، لا القيام الذي يراد به المقول على
القولين ، ويبعد أن يراد به ما جوزه الزمخشري من القيام عن مجلس رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وتفرقهم عن مجتمعهم عنده. والمعنى : إنما أعظكم بواحدة
فيها إصابتكم الحق وخلاصكم ، وهي أن تقوموا لوجه الله متفرقين اثنين اثنين ،
وواحدا واحدا ، ثم تتفكروا في أمر محمد وما جاء به. وإنما قال : (مَثْنى وَفُرادى) ، لأن الجماعة يكون مع اجتماعهم تشويش الخاطر والمنع من
التفكر ، وتخليط الكلام ، والتعصب للمذاهب ، وقلة الإنصاف ، كما هو مشاهد في
الدروس التي يجتمع فيها الجماعة ، فلا يوقف فيها على تحقيق. وأما الاثنان ، إذا
نظرا نظر إنصاف ، وعرض كل واحد منهما على صاحبه ما ظهر له ، فلا يكاد الحق أن
يعدوهما. وأما الواحد ، إذا كان جيد الفكر ، صحيح النظر ، عاريا عن التعصب ، طالبا
للحق ، فبعيد أن يعدوه. وانتصب (مَثْنى وَفُرادى) على الحال ، وقدم مثنى ، لأن طلب الحقائق من متعاضدين في
النظر أجدى من فكرة واحدة ، إذا انقدح الحق بين الاثنين ، فكر كل واحد منهما بعد
ذلك ، فيزيد بصيرة. قال الشاعر :
إذا اجتمعوا
جاءوا بكل غريبة
|
|
فيزداد بعض
القوم من بعضهم علما
|
(ثُمَّ
تَتَفَكَّرُوا) : عطف على (أَنْ تَقُومُوا) ، فالفكرة هنا في حال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وفيما نسبوه إليه. فإن الفكرة تهدي غالبا إلى الصواب إذا
عرى صاحبها عما يشوش النظر ، والوقف عند أبي حاتم عند قوله : (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ
مِنْ جِنَّةٍ) ، نفي مستأنف. قال ابن عطية : وهو عند سيبويه جواب ما ينزل
منزلة القسم ، لأن تفكر من الأفعال التي تعطي التمييز كتبين ، ويكون على هذا في
آيات الله والإيمان به. انتهى. واحتمل أن يكون تتفكروا معلقا ، والجملة المنفية في
موضع نصب ، وهو محط التفكر ، أي ثم تتفكروا في انتفاء الجنة على محمد صلىاللهعليهوسلم. فإن إثبات ذلك لا يصح أن يتصف به من كان أرجح قريش عقلا ،
وأثبتهم ذهنا ، وأصدقهم قولا ، وأنزههم نفسا ، ومن ظهر على يديه هذا القرآن المعجز
، فيعلمون بالفكرة أن نسبته للجنون لا يمكن ، ولا يذهب إلى ذلك عاقل ، وأن من
__________________
نسبه إلى ذلك فهو
مفتر كاذب. والظاهر أن ما للنفي ، كما شرحنا. وقيل : ما استفهام ، وهو استفهام لا
يراد به حقيقته ، بل يؤول معناه إلى النفي ، التقدير : أي شيء بصاحبكم من الجنون ،
أي ليس به شيء من ذلك. ولما نفى تعالى عنه الجنة أثبت أنه (نَذِيرٌ) ، (بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ
شَدِيدٍ) : أي هو متقدم في الزمان على العذاب الذي توعدوا به ، وبين
يدي يشعر بقرب العذاب.
(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ
مِنْ أَجْرٍ) الآية : في التبري من طلب الدنيا ، وطلب الأجر على النور
الذي أتى به ، والتوكل على الله فيه. واحتملت ما أن تكون موصولة مبتدأ ، والعائد
من الصلة محذوف تقديره : سألتكموه ، و (فَهُوَ لَكُمْ) الخبر. ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، واحتملت أن
تكون شرطية مفعولة بسألتكم ، وفهو لكم جملة هي جواب الشرط. وقوله : (ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ
لَكُمْ) على معنيين : أحدهما : نفي مسألة للأجر ، كما يقول الرجل
لصاحبه : إن أعطيتني شيئا فخذه ، وهو يعلم أنه لم يعطه شيئا ، ولكنه أراد البت
لتعليقه الأخذ بما لم يمكن ، ويؤيده (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا
عَلَى اللهِ). والثاني : أن يريد بالأجر ما في قوله : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ
أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) ، وفي قوله : (لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ، لأن اتخاذ السبيل إلى الله نصيبهم ما فيه نفعهم ، وكذلك
المودة في القرابة ، لأن القرابة قد انتظمت وإياهم ، قاله الزمخشري ، وفيه بعض زيادة.
قال ابن عباس : الأجر : المودة في القربى. وقال قتادة : (فَهُوَ لَكُمْ) ، أي ثمرته وثوابه ، لأني سألتكم صلة الرحم. وقال مقاتل :
تركته لكم. (وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ) : مطلع حافظ ، يعلم أني لا أطلب أجرا على نصحكم ودعائكم
إليه إلا منه ، ولا أطمع منكم في شيء.
والقذف : الرمي
بدفع واعتماد ، ويستعار لمعنى الإلقاء لقوله : (فَاقْذِفِيهِ فِي
الْيَمِ) ، (وَقَذَفَ فِي
قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) . قال قتادة : (يَقْذِفُ بِالْحَقِ) : يبين الحجة ويظهرها. وقال ابن القشيري : يبين الحجة بحيث
لا اعتراض عليها ، لأنه (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ، وأنا مستمسك بما يقذف إليّ من الحق. وأصل القذف : الرمي
بالسهم ، أو الحصا والكلام. وقال ابن عباس : يقذف الباطل بالحق ، والظاهر أن بالحق
هو المفعول ، فالحق هو المقذوف محذوفا ، أي يقذف ، أي يلقي ما يلقي إلى أنبيائه من
الوحي والشرع
__________________
بالحق لا بالباطل
، فتكون الباء إمّا للمصاحبة ، وإمّا للسبب ، ويؤيد هذا الاحتمال كون قذف متعدّيا
بنفسه ، فإذا جعلت بالحق هو المفعول ، كانت الباء زائدة في موضع لا تطرد زيادتها.
وقرأ الجمهور : علام بالرفع ، فالظاهر أنه خبر ثان ، وهو ظاهر قول الزجاج ، قال : هو
رفع ، لأن تأويل قل رب علام الغيوب. وقال الزمخشري : رفع محمول على محل إن واسمها
، أو على المستكن في يقذف ، أو هو خبر مبتدأ محذوف. انتهى. أمّا الحمل على محل إن
واسمها فهو غير مذهب سيبويه ، وليس بصحيح عند أصحابنا على ما قررناه في كتب النحو.
وأمّا قوله على المستكن في يقذف ، فلم يبين وجه حمله ، وكأنه يريد أنه بدل من ضمير
يقذف. وقال الكسائي : هو نعت لذلك الضمير ، لأن مذهبه جواز نعت المضمر الغائب.
وقرأ عيسى ، وابن أبي إسحاق ، وزيد بن علي ، وابن أبي عبلة ، وأبو حيوة ، وحرب عن
طلحة : علام بالنصب ؛ فقال الزمخشري : صفة لربي. وقال أبو الفضل الرازي ، وابن
عطية : بدل. وقال الحوفي : بدل أو صفة ؛ وقيل : نصب على المدح. وقرئ : الغيوب
بالجر ، أمّا الضم فجمع غيب ، وأمّا الكسر فكذلك استثقلوا ضمتين والواو فكسر ،
والتناسب الكسر مع الياء والضمة التي على الياء مع الواو ؛ وأمّا الفتح فمفعول
للمبالغة ، كالصبور ، وهو الشيء الذي غاب وخفي جدا.
ولما ذكر تعالى
أنه يقذف بالحق بصيغة المضارع ، أخبر أن الحق قد جاء ، وهو القرآن والوحي ، وبطل
ما سواه من الأديان ، فلم يبق لغير الإسلام ثبات ، لا في بدء ولا في عاقبة ، فلا
يخاف على الإسلام ما يبطله ، كما قال : (لا يَأْتِيهِ
الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) . وقال قتادة : الباطل : الشيطان ، لا يخلق شيئا ولا يبعثه.
وقال الضحاك : الأصنام لا تفعل ذلك. وقال أبو سليمان : لا يبتدئ الصنم من عنده
كلاما فيجاب ، ولا يرد ما جاء من الحق بحجة. وقيل : الباطل : الذي يضاد الحق ،
فالمعنى : ذهب الباطل بمجيء الحق ، فلم يبق منه بقية ، وذلك أن الجائي إذا هلك لم
يبق له إبداء ولا إعادة ، فصار قولهم : لا يبدي ولا يعيد ، مثلا في الهلاك ، ومنه
قول الشاعر :
أفقر من أهيله
عبيد
|
|
فاليوم لا يبدي
ولا يعيد
|
والظاهر أن ما نفي
، وقيل : استفهام ومآله إلى النفي ، كأنه قال : أي شيء يبدئ الباطل ، أي إبليس ،
ويعيده ، قاله الزجاج وفرقة معه. وعن الحسن : لا يبدئ ، أي
__________________
إبليس ، لأهله
خيرا ، ولا يعيده : أي لا ينفعهم في الدنيا والآخرة. وقيل : الشيطان : الباطل ،
لأنه صاحب الباطل ، لأنه هالك ، كما قيل له الشيطان من شاط إذا هلك. وقيل : الحق :
السيف. عن ابن مسعود : دخل رسول الله صلىاللهعليهوسلم مكة ، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما ، فجعل يطعنها بعود
نبقة ويقول : «(جاءَ الْحَقُّ
وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) ، (جاءَ الْحَقُّ وَما
يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ)».
وقرأ الجمهور : (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ) ، بفتح اللام ، (فَإِنَّما أَضِلُ) ، بكسر الضاد. وقرأ الحسن ، وابن وثاب ، وعبد الرحمن
المقري : بكسر اللام وفتح الضاد ، وهي لغة تميم ، وكسر عبد الرحمن همزة أضل. وقال
الزمخشري : لغتان نحو : ضللت أضل ، وظللت أظل. (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ
فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) ، وأن تكون مصدرية ، أي فبوحي ربي. والتقابل اللفظي : وإن
اهتديت فإنما أهتدي لها ، كما قال : (وَمَنْ أَساءَ
فَعَلَيْها) ، مقابل : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً
فَلِنَفْسِهِ) ، (وَمَنْ ضَلَّ
فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) ، مقابل : (فَمَنِ اهْتَدى
فَلِنَفْسِهِ) ، أو يقال : فإنما أضل بنفسي. وأما في الآية فالتقابل
معنوي ، لأن النفس كل ما عليها فهو لها ، أي كل وبال عليها فهو بسببها. (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ
بِالسُّوءِ) وما لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه ، وهذا حكم عام
لكل مكلف. وأمر رسوله أن يسنده إلى نفسه ، لأنه إذا دخل تحته مع جلالة محله وسر
طريقته كما غيره أولى به. انتهى ، وهو من كلام الزمخشري. (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) ، يدرك قول كل ضال ومهتد وفعله.
والظاهر أن قوله :
(وَلَوْ تَرى إِذْ
فَزِعُوا) ، أنه وقت البعث وقيام الساعة ، وكثيرا جاء : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى
النَّارِ) ، (وَلَوْ تَرى إِذِ
الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، وكل ذلك في يوم القيامة ؛ وعبر بفزعوا ، وأخذوا ، وقالوا
؛ وحيل بلفظ الماضي لتحقق وقوعه بالخبر الصادق. وقال ابن عباس ، والضحاك : هذا في
عذاب الدنيا. وقال الحسن : في الكفار عند خروجهم من القبور. وقال مجاهد : يوم
القيامة. وقال ابن زيد ، والسدّي : في أهل بدر حين ضربت أعناقهم ، فلم يستطيعوا
فرارا من العذاب ، ولا رجوعا إلى التوبة. وقال ابن جبير ، وابن أبي أبزي : في جيش
لغزو الكعبة ، فيخسف بهم في بيداء من الأرض ، ولا ينجو إلا رجل من جهينة ، فيخبر
الناس بما ناله ، قالوا ، وله قيل :
__________________
وعند جهينة الخبر
اليقين.
وروى في هذا
المعنى حديث مطول عن حذيفة. وذكر الطبري أنه ضعيف السند ، مكذوب فيه على رواية ابن
الجراح. وقال الزمخشري ، وعن ابن عباس : نزلت في خسف البيداء ، وذلك أن ثمانين ألفا
يغزون الكعبة ليخربوها ، فإذا دخلوا البيداء خسف بهم. وذكر في حديث حذيفة أنه تكون
فتنة بين أهل المشرق والمغرب ، فبينما هم كذلك ، إذ خرج السفياني من الوادي اليابس
في فوره ، ذلك حين ينزل دمشق ، فيبعث جيشا إلى المدينة فينتهبونها ثلاثة أيام ، ثم
يخرجون إلى مكة فيأتيهم جبريل ، عليهالسلام ، فيضربها ، أي الأرض ، برجله ضربة ، فيخسف الله بهم في
بيداء من الأرض ، ولا ينجو إلا رجل من جهينة ، فيخبر الناس بما ناله ، فذلك قوله :
(فَلا فَوْتَ) ، ولا يتفلت منهم إلا رجلان من جهينة ، ولذلك جرى المثل : «وعند
جهينة الخبر اليقين» ، اسم أحدهما بشير ، يبشر أهل مكة ، والآخر نذير ، ينقلب بخبر
السفياني. وقيل : لا ينقلب إلا رجل واحد يسمى ناجية من جهينة ، ينقلب وجهه إلى
قفاه. ومفعول ترى محذوف ، أي ولو ترى الكفار إذ فزعوا فلا فوت ، أي لا يفوتون الله
، ولا يهرب لهم عنما يريد بهم. وقال الحسن : فلا فوت من صيحة النشور ، وأخذوا من
بطن الأرض إلى ظهرها. انتهى. أو من الموقف إلى النار إذا بعثوا ، أو من ظهر الأرض
إلى بطنها إذا ماتوا ، أو من صحراء بدر إلى القليب ، أو من تحت أقدامهم إذا خسف
بهم ، وهذه أقوال مبنية على تلك الأقوال السابقة في عود الضمير في فزعوا. ووصف
المكان بالقرب من حيث قدرة الله عليهم ، فحيث ما كانوا هو قريب.
وقرأ الجمهور : (فَلا فَوْتَ) ، مبني على الفتح ، (وَأُخِذُوا) : فعلا ماضيا ، والظاهر عطفه على (فَزِعُوا) ، وقيل : على (فَلا فَوْتَ) ، لأن معناه فلا يفوتوا وأخذوا. وقرأ عبد الرحمن مولى بني
هاشم عن أبيه ، وطلحة ؛ فلا فوت ، وأخذ مصدرين منونين. وقرأ أبيّ : فلا فوت مبنيا
، وأخذ مصدرا منونا ، ومن رفع وأخذ فخبر مبتدأ ، أي وحالهما أخذ أو مبتدأ ، أي
وهناك أخذ. وقال الزمخشري : وقرئ : وأخذ ، وهو معطوف على محل فلا فوت ، ومعناه :
فلا فوت هناك ، وهناك أخذ. انتهى. كأنه يقول : لا فوت مجموع لا ، والمبني معها في
موضع مبتدأ ، وخبره هناك ، فكذلك وأخذ مبتدأ ، وخبره هناك ، فهو من عطف الجمل ،
وإن كانت إحداهما تضمنت النفي والأخرى تضمنت الإيجاب. والضمير في به عائد على الله
، قاله مجاهد ، أي يقولون ذلك عند ما يرون العذاب. وقال الحسن : على البعث. وقال
مقاتل : على القرآن. وقيل : على العذاب. وقال الزمخشري وغيره :
على الرسول ،
لمرور ذكره في قوله : (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ
جِنَّةٍ). (وَأَنَّى لَهُمُ
التَّناوُشُ) ، قال ابن عباس : التناوش : الرجوع إلى الدنيا ، وأنشد ابن
الأنباري :
تمنى أن تؤوب
إليّ ميّ
|
|
وليس إلى
تناوشها سبيل
|
أي : تتمنى ، وهذا
تمثيل لطلبهم ما لا يكون ، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت ، كما ينفع
المؤمنين إيمانهم في الدنيا. مثل حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من بعد ، كما
يتناوله الآخر من قرب. وقرأ الجمهور : التناوش بالواو. وقرأ حمزة ، والكسائي. وأبو
عمرو ، وأبو بكر : بالهمز ، ويجوز أن يكونا مادتين ، إحداهما النون والواو والشين
، والأخرى النون والهمزة والشين ، وتقدّم شرحهما في المفردات. ويجوز أن يكون أصل
الهمزة الواو ، على ما قاله الزجاج ، وتبعه الزمخشري وابن عطية والحوفي وأبو
البقاء ، وقال الزجاج : كل واو مضمومة ضمة لازمة ، فأنت فيها بالخيار ، إن شئت
تثبت همزتها ، وإن شئت تركت همزتها. تقول : ثلاث أدور بلا همز ، وأدؤر بالهمز. قال
: والمعنى : من أنى لهم تناول ما طلبوه من التوبة بعد فوات وقتها ، لأنها إنما
تقبل في الدنيا ، وقد ذهبت الدنيا فصارت على بعد من الآخرة ، وذلك قوله تعالى : (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ). وقال الزمخشري : همزت الواو المضمومة كما همزت في أجوه
وأدور. وقال ابن عطية : وأمّا التناؤش بالهمز فيحتمل أن يكون من التناوش ، وهمزت
الواو لما كانت مضمومة ضمة لازمة ، كما قالوا : أفتيت. وقال الحوفي : ومن همز
احتمل وجهان : أحدهما : أن يكون من الناش ، وهو الحركة في إبطاء ، ويجوز أن يكون
من ناش ينوش ، همزت الواو لانضمامها ، كما همزت أفتيت وأدور. وقال أبو البقاء :
ويقرأ بالهمز من أجل ضمة الواو ، وقيل : هي أصل من ناشه. انتهى. وما ذكروه من أن
الواو إذا كانت مضمومة ضمة لازمة يجوز أن تبدل همزة ، ليس على إطلاقه ، بل لا يجوز
ذلك في المتوسطة إذا كان مدغمة فيها ، ونحو يعود ويقوم مصدرين ؛ ولا إذا صحت في
الفعل نحو : ترهوك ترهوكا ، وتعاون تعاونا ، ولم يسمع همزتين من ذلك ، فلا يجوز.
والتناوش مثل التعاون ، فلا يجوز همزه ، لأن واوه قد صحت في الفعل ، إذ يقول :
تناوش.
(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ) : الضمير في به عائد على ما عاد عليه (آمَنَّا بِهِ) على الأقوال ، والجملة حالية ، و (مِنْ قَبْلُ) نزول العذاب. وقرأ الجمهور : (وَيَقْذِفُونَ) مبنيا للفاعل ، حكاية حال متقدّمة. قال الحسن : قولهم لا
جنة ولا نار ، وزاد قتادة : ولا بعث ولا نار. وقال
ابن زيد : طاعنين
في القرآن بقولهم : (أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ) . وقال مجاهد في الرسول صلىاللهعليهوسلم ، بقولهم : شاعر وساحر وكاهن. (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) : أي في جهة بعيدة ، لأن نسبته إلى شيء من ذلك من أبعد
الأشياء. قال الزمخشري : وهذا تكلم بالغيب والأمر الخفي ، لأنهم لم يشاهدوا منه
سحرا ولا شعرا ولا كذبا ، وقد أتوا بهذا الغيب من جهة بعيدة من حاله ، لأن أبعد
شيء مما جاء به الشعر والسحر ، وأبعد شيء من عادته التي عرفت بينهم وجربت الكذب
والزور. انتهى. وقيل : هو مستأنف ، أي يتلفظون بكلمة الإيمان حين لا ينفع نفسها
إيمانها ، فمثلت حالهم في طلبهم تحصيل ما عطلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم :
آمنا في الآخرة ، وذلك مطلب مستبعد ممن يقذف شيئا من مكان بعيد لا مجال للنظر في
لحوقه ، حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائبا عنه بعيدا. والغيب : الشيء الغائب. وقرأ
مجاهد ، وأبو حيوة ، ومحبوب عن أبي عمرو : ويقذفون ، مبنيا للمفعول. قال مجاهد :
ويرجمهم بما يكرهون من السماء. وقال أبو الفضل الرازي : يرمون بالغيب من حيث لا يعلمون
، ومعناه : يجازون بسوء أعمالهم ، ولا علم لهم بما أتاه ، إما في حال تعذر التوبة
عند معاينة الموت ، وإما في الآخرة. وقال الزمخشري : أي يأتيهم به ، يعني بالغيب ،
شياطينهم ويلقنونهم إياهم ، وقيل : يرمون في النار ؛ وقيل : هو مثل ، لأن من ينادي
من مكان بعيد لا يسمع ، أي هم لا يعقلون ولا يسمعون.
(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ) ، قال الحوفي : الظرف قائم مقام اسم ما لم يسم فاعله.
انتهى. ولو كان على ما ذكر ، لكان مرفوعا بينهم ، كفراءة من قرأ : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) ، في أحد المعنيين ، لا يقال لما أضيف إلى مبني وهو الضمير
بنى ، فهو في موضع رفع ، وإن كان مبنيا. كما قال بعضهم في قوله : وإذ ما مثلهم ،
يشير إلى أنه في موضع رفع لإضافته إلى الضمير ، وإن كان مفتوحا ، لأنه قول فاسد.
يجوز أن تقول : مررت بغلامك ، وقام غلامك بالفتح ، وهذا لا يقوله أحد. والبناء
لأجل الإضافة إلى المبني ليس مطلقا ، بل له مواضع أحكمت في النحو ، وما يقول قائل
ذلك في قول الشاعر :
وقد حيل بين العير
والنزوان
فإنه نصب بين ،
وهي مضافة إلى معرب ، وإنما يخرج ما ورد من نحو هذا على أن القائم مقام الفاعل هو
ضمير المصدر الدال عليه ، وحيل هو ، أي الحول ، ولكونه أضمر لم يكن مصدرا مؤكدا ،
فجاز أن يقام مقام الفاعل ، وعلى ذلك يخرج قول الشاعر :
__________________
وقالت متى يبخل
عليك ويعتلل
|
|
بسوء وإن يكشف
غرامك تدرب
|
أي : ويعتلل هو ،
أي الاعتلال. والذي يشتهون الرجوع إلى الدنيا ، قاله ابن عباس ؛ أو الأهل والمال
والولد ، قاله السدي ؛ أو بين الجيش وتخريب الكعبة ، أو بين المؤمنين ، أو بين
النجاة من العذاب ، أو بين نعيم الدنيا ولذتها ، قاله مجاهد أيضا. (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ) ، من كفرة الأمم ، أي حيل بينهم وبين مشتهياتهم. و (مِنْ قَبْلُ) : يصح أن يكون متعلقا (بِأَشْياعِهِمْ) ، أي من اتصف بصفتهم من قبل ، أي في الزمان الأول. ويترجح
بأن ما يفعل بجميعهم إنما هو في وقت واحد ، ويصح أن يكون متعلقا بفعل إذا كانت
الحيلولة في الدنيا. وقال الضحاك : أشياعهم أصحاب الفيل ، يعني أشياع قريش ، وكأنه
أخرجه مخرج التمثيل. وأما التخصيص ، فلا دليل عليه. (إِنَّهُمْ كانُوا فِي
شَكٍّ مُرِيبٍ) : يعني في الدنيا ، ومريب اسم فاعل من أراب الرجل : أتى
بريبة ودخل فيها ، وأربت الرجل : أوقعته في ريبة ، ونسبة الارابة إلى الشك مجاز.
قال الزمخشري : إلا أن بينهما فرقا ، وهو أن المريب من المتعدي منقول ممن يصح أن
يكون مريبا من الأعيان إلى المعنى ، ومن اللازم منقول من صاحب الشك إلى الشك ، كما
تقول : شعر شاعر. انتهى ، وفيه بعض تبيين. قيل : ويجوز أن يكون أردفه على الشك ،
وهما بمعنى لتناسق آخر الآية بالتي قبلها من مكان قريب ، كما تقول : عجب عجيب ،
وشتاشات ، وليلة ليلاء. وقال ابن عطية : الشك المريب أقوى ما يكون من الشك وأشده
إظلاما.
فهرس الجزء الثامن
سورة النور
الكلام على
تفسير قوله تعالى : (سُورَةٌ
أَنْزَلْناها) الآيات
|
٦
|
تفسير قوله
تعالى : (وَالَّذِينَ
كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ) الآيات
|
٥١
|
تفسير قوله
تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
جاؤُ بِالْإِفْكِ) الآيات
|
١٩
|
تفسير قوله
تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) الآية
|
٥٥
|
تفسير قوله تعالى
: (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) الآيات
|
٢٤
|
تفسير قوله
تعالى : (وَيَقُولُونَ
آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ) الآيات
|
٦١
|
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) الآيات ومناسبتها لما قبلها
|
٣٠
|
تفسير قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) الآيات
|
٦٨
|
تفسير قوله
تعالى : (وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ) الآيات ومناسبتها لما قبلها
|
٣٧
|
تفسير قوله
تعالى : (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ
عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) الآيات
|
٧٣
|
تفسير قوله
تعالى : (اللهُ نُورُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآيات
|
٤٣
|
|
|
سورة الفرقان
الكلام على
مفردات قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي
نَزَّلَ الْفُرْقانَ) وتفسيرها
|
٧٧
|
تفسير قوله
تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) الآيات
|
١٠٥
|
تفسير قوله
تعالى : (وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ) و (ما يَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ) الآيات
|
٩٠
|
تفسير قوله
تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى
رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) الآيات
|
١١١
|
تفسير قوله
تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ
السَّماءُ بِالْغَمامِ) الآيات
|
٩٩
|
تفسير قوله
تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي
جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) إلى آخر السورة
|
١٢٣
|
أول سورة الشعراء
الكلام على
كونها مكية أو لا ومناسبة أولها لآخر ما قبلها وعلى تفسير قوله تعالى : (طسم) الآيات
|
١٣٩
|
الكلام على قوله
تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ
نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) الآيات وما جرى بينه وبين قومه من المحاورات وذكر
إهلاكهم
|
١٧٥
|
الكلام على ذنب سيدنا موسى في قوله : (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ)
|
١٤٤
|
الكلام على قوله
تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ) الآيات وما يتصل بذلك من كلامهم مع سيدنا صالح وذكر
عقرهم الناقة وإهلاكهم بسبب ذلك
|
١٨٠
|
محاورة سيدنا
موسى مع فرعون لعنه الله وما يتصل بذلك
|
١٤٦
|
الكلام على قوله
تعالى : (كَذَّبَ أَصْحابُ
الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ) وما حصل من المحاورات بينهم وبين سيدنا شعيب عليهالسلام وذكر إهلاكهم بالظلة
|
١٨٥
|
رمي فرعون
لسيدنا موسى صلىاللهعليهوسلم بالسحر واستشارته ملأه في قتله وما أشاروا به عليه من
تأخيره واستحضار سحرة يبارزونه وما ظهر من حال السحرة فيما بعد وتهديد فرعون لهم
بالقتل بعد ظهور معجزة العصا
|
١٥٣
|
الكلام على قوله
تعالى : (وَإِنَّهُ
لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) الآيات
|
١٨٨
|
الكلام على قوله
تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى) الآيات
|
١٥٦
|
الكلام على قوله
تعالى : (وَما تَنَزَّلَتْ
بِهِ الشَّياطِينُ) إلى آخر السورة
|
١٩٥
|
مبحث في قوله
تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ إِبْراهِيمَ) الآيات
|
١٦١
|
|
|
أول سورة النمل
الكلام على قوله
تعالى : (طس) الآيات وذكر كونها مكية ومناسبة أولها لآخر ما قبلها
|
٢٠٦
|
الكلام على قوله
تعالى : (وَلَقَدْ
أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) الآيات
|
٢٤٧
|
الكلام على قوله
تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا
داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) الآيات وما يتصل بها
|
٢١٦
|
قصيدة لأبي حيان
يذكر فيها ما اشتمل عليه تفسير الزمخشري من القبائح
|
٢٥٢
|
الكلام على قوله
تعالى : (وَتَفَقَّدَ
الطَّيْرَ) الآيات
|
٢٢٢
|
الكلام على قوله
تعالى : (قُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) الآيات
|
٢٥٥
|
الكلام على قوله
تعالى : (قالَتْ يا أَيُّهَا
الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) الآيات
|
٢٣٣
|
الكلام على قوله
تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً) الآيات
|
٢٦٤
|
الكلام على قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) الآيات
|
٢٣٨
|
الكلام على قوله
تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا) الآيات
|
٢٦٩
|
مفردات سورة القصص
أول سورة القصص
والكلام على قوله تعالى :(طسم) الآيات
|
٢٨٥
|
بَطِرَتْ
مَعِيشَتَها) الآيات
|
٣١٦
|
الكلام على قوله
تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى
أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) الآيات
|
٢٨٦
|
الكلام على قوله
: (وَيَوْمَ
يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) الآيات
|
٣١٧
|
الكلام على قوله
تعالى : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ
أُمِّ مُوسى فارِغاً) الآيات
|
٢٨٨
|
الكلام على قصة
هارون
|
٣٢٢
|
الكلام على قوله
تعالى : (وَدَخَلَ
الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) الآيات
|
٢٩١
|
الكلام على قوله
تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ
الْآخِرَةُ) إلى آخر السورة
|
٣٣٠
|
الكلام على قوله
تعالى : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ
تِلْقاءَ مَدْيَنَ) الآيات
|
٢٩٥
|
أول سورة
العنكبوت والكلام على قوله تعالى : (الم
أَحَسِبَ النَّاسُ) الآيات
|
٣٣٧
|
الكلام على قوله
تعالى : (فَلَمَّا أَتاها
نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) الآيات
|
٣٠١
|
الكلام على قصة
سيدنا نوح مع قومه
|
٣٤٦
|
الكلام على قوله
عزوجل : (وَما كُنْتَ
بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ)
|
٣٠٨
|
الكلام على قوله
تعالى : (فَما كانَ جَوابَ
قَوْمِهِ) الآيات
|
٣٥٠
|
الكلام على قوله
عزوجل : (وَلَقَدْ وَصَّلْنا
لَهُمُ الْقَوْلَ) الآيات
|
٣١٣
|
الكلام على قوله
عزوجل : (وَإِلى مَدْيَنَ
أَخاهُمْ شُعَيْباً) الآيات
|
٣٥٦
|
الكلام على قوله
: (وَكَمْ أَهْلَكْنا
مِنْ قَرْيَةٍ
|
|
الكلام على قوله
تعالى : (وَلا تُجادِلُوا
أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الآيات
|
٣٦٠
|
|
|
الكلام على قوله
تعالى : (يا عِبادِيَ
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) الآيات
|
٣٦٣
|
سورة الروم
أوس سورة الروم
والكلام على قوله تعالى : (الم غُلِبَتِ
الرُّومُ) الآيات
|
٣٧٢
|
الكلام على قوله
تعالى : (وَإِذا مَسَّ
النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ) الآيات
|
٣٩١
|
الكلام على قوله
عزوجل : (فَسُبْحانَ اللهِ
حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الآيات
|
٣٨٠
|
الكلام على قوله
تعالى : (اللهُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ) الآيات
|
٣٩٤
|
الكلام على قوله
تعالى : (وَلَهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) الآيات
|
٣٨٥
|
الكلام على قوله
تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ
أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ) الآيات
|
٣٩٧
|
|
|
الكلام على قوله
عزوجل : (اللهُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) الآيات
|
٤٠١
|
سورة لقمان
مفردات سورة
لقمان
|
٤٠٧
|
أول سورة لقمان
والكلام على قوله تعالى : (الم تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ) الآيات
|
٤٠٧
|
الكلام على قوله
تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا
لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) الآيات
|
٤١٢
|
لَكُمْ
ما فِي السَّماواتِ) الآيات
|
٤١٧
|
الكلام على قوله
تعالى : (أَلَمْ تَرَوْا
أَنَّ اللهَ سَخَّرَ
|
|
الكلام على قوله
تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) الآيات
|
٤٢٢
|
سورة السجدة
أول سورة السجدة
والكلام على قوله تعالى : (الم تَنْزِيلُ
الْكِتابِ) الآيات
|
٤٢٧
|
نَفْسٍ
هُداها) الآيات
|
٤٣٥
|
الكلام على قوله
تعالى : (وَلَوْ شِئْنا
لَآتَيْنا كُلَّ
|
|
الكلام على قوله
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ) الآيات
|
٤٤٠
|
سورة الأحزاب
أول سورة
الأحزاب
|
٤٤٩
|
الكلام على قوله
تعالى : (وَما كانَ
لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) الآيات
|
٤٨٠
|
الكلام على قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) الآيات
|
٤٤٩
|
الكلام على قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ) الآيات
|
٤٨٨
|
الكلام على قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) الآيات وما حصل في غزوة الأحزاب
|
٤٥٦
|
الكلام على قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ) الآيات
|
٤٩٨
|
الكلام على قوله
تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) الآيات
|
٤٦٥
|
الكلام على قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ) الآيات وما يتعلق بذلك من الأمر بتستر النساء
|
٥٠٣
|
الكلام على قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) الآيات
|
٤٧٦
|
|
|
سورة سبأ
مفردات سورة سبأ
|
٥١٧
|
مَسْكَنِهِمْ
آيَةٌ) الآيات
|
٥٣٢
|
أول سورة سبأ
والكلام على قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ) الآيات
|
٥١٧
|
الكلام على قوله
تعالى : (قُلِ ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) الآيات
|
٥٤٠
|
الكلام على قوله
تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا
داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) الآيات
|
٥٢٣
|
الكلام على قوله
تعالى : (وَما أَرْسَلْنا
فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) الآيات
|
٥٥٣
|
الكلام على قوله
تعالى : (لَقَدْ كانَ
لِسَبَإٍ فِي
|
|
الكلام على قوله
تعالى : (وَما آتَيْناهُمْ
مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) إلى آخر السورة
|
٥٥٨
|
|