

( سورة الأنعام ـ مكية وهي
مائة وخمس وستون آية )
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
( الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ
طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ
(٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ
وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣) )
(
بيان )
غرض السورة هو
توحيده تعالى بمعناه الأعم أعني أن للإنسان ربا هو رب العالمين جميعا منه يبدأ كل
شيء وإليه ينتهي ويعود كل شيء ، أرسل رسلا مبشرين ومنذرين يهدي بهم عباده
المربوبين إلى دينه الحق ، ولذلك نزلت معظم آياتها في صورة الحجاج على المشركين في
التوحيد والمعاد والنبوة ، واشتملت على إجمال الوظائف الشرعية والمحرمات الدينية.
وسياقها ـ على
ما يعطيه التدبر ـ سياق واحد متصل لا دليل فيه على فصل يؤدي إلى نزولها نجوما.
وهذا يدل على
نزولها جملة واحدة ، وأنها مكية فإن ذلك ظاهر سياقها الذي وجه الكلام في جلها أو
كلها إلى المشركين.
وقد اتفق
المفسرون والرواة على كونها مكية إلا في ست آيات روي عن بعضهم أنها مدنية. وهي
قوله تعالى : « وَما
قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ » : ( آية ـ ٩١ ) إلى تمام ثلاث آيات ، وقوله تعالى : «
قُلْ
تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ
» : ( آية ـ ١٥١ ) إلى
تمام ثلاث آيات.
وقيل : إنها
كلها مكية إلا آيتان منها نزلتا بالمدينة ، وهما قوله تعالى : « قُلْ تَعالَوْا
أَتْلُ » والتي بعدها.
وقيل : نزلت
سورة الأنعام كلها بمكة إلا آيتين نزلتا بالمدينة في رجل من اليهود ، وهو الذي قال
: « ما
أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ » الآية.
وقيل : « إنها
كلها مكية إلا آية واحدة نزلت بالمدينة ، وهو قوله تعالى : « وَلَوْ أَنَّنا
نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ » الآية.
وهذه الأقوال
لا دليل على شيء منها من جهة سياق اللفظ على ما تقدم من وحدة السياق واتصال آيات
السورة ، وسنبينها بما نستطيعه ، وقد ورد عن أئمة أهل البيت عليهالسلام وكذا عن أبي وعكرمة وقتادة : أنها نزلت جملة واحدة
بمكة.
قوله
تعالى : « الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ » افتتح بالثناء على الله وهو كالمقدمة لما يراد بيانه
من معنى التوحيد ، وذلك بتضمين الثناء ما هو محصل غرض السورة ليتوسل بذلك إلى
الاحتجاج عليه تفصيلا ، وتضمينه العجب منهم ولومهم على أن عدلوا به غيره والامتراء
في وحدته ليكون كالتمهيد على ما سيورد من جمل الوعظ والإنذار والتخويف.
وقد أشار في
هذا الثناء الموضوع في الآيات الثلاث إلى جمل ما تعتمد عليه الدعوة الدينية في
المعارف الحقيقية التي هي بمنزلة المادة للشريعة ، وتنحل إلى نظامات ثلاث :
نظام الكون
العام وهو الذي تشير إليه الآية الأولى ، ونظام الإنسان بحسب وجوده ، وهو الذي
تشتمل عليه الآية الثانية ، ونظام العمل الإنساني وهو الذي تومئ إليه الآية
الثالثة.
فالمتحصل من
مجموع الآيات الثلاث هو الثناء عليه تعالى بما خلق العالم الكبير الذي يعيش فيه
الإنسان ، وبما خلق عالما صغيرا هو وجود الإنسان المحدود من حيث ابتدائه بالطين
ومن حيث انتهائه بالأجل المقضي ، وبما علم سر الإنسان وجهره وما يكسبه.
وما في الآية
الثالثة : « ( وَهُوَ اللهُ فِي
السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ ) ، بمنزلة الإيضاح لمضمون
الآيتين ، السابقتين والتمهيد لبيان علمه بسر الإنسان وجهره وما تكسبه
نفسه.
فقوله : « خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ » إشارة إلى نظام الكون العام الذي عليه تدبر الأشياء
على كثرتها وتفرقها في عالمنا في نظامه الجاري المحكم إلا عالم الأرض الذي يحيط به
عالم السماوات على سعتها ثم يتصرف بها بالنور والظلمات اللذين عليهما يدور رحى
العالم المشهود في تحوله وتكامله فلا يزال يتولد شيء من شيء ، ويتقلب شيء إلى شيء
، ويظهر واحد ويخفى آخر ، ويتكون جديد ويفسد قديم ، وينتظم من تلاقي هذه الحركات
المتنوعة على شتاتها الحركة العالمية الكبرى التي تحمل أثقال الأشياء ، وتسير بها
إلى مستقرها.
والجعل في قوله : « وَجَعَلَ الظُّلُماتِ » إلخ بمعنى الخلق غير أن الخلق لما كان مأخوذا في الأصل
من خلق الثوب كان التركيب من أجزاء شتى مأخوذا في معناه بخلاف الجعل ، ولعل هذا هو
السبب في تخصيص الخلق بالسماوات والأرض لما فيها من التركيب بخلاف الظلمة والنور ،
ولذا خصا باستعمال الجعل. والله أعلم.
وقد أتى
بالظلمات بصيغة الجمع دون النور ، ولعله لكون الظلمة متحققة بالقياس إلى النور
فإنها عدم النور فيما من شأنه أن يتنور فتتكثر بحسب مراتب قربه من النور وبعده
بخلاف النور فإنه أمر وجودي لا يتحقق بمقايسته إلى الظلمة التي هي عدمية ، وتكثيره
تصورا بحسب قياسه التصوري إلى الظلمة لا يوجب تعدده وتكثره حقيقة.
قوله تعالى : « ثُمَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ » مسوق للتعجب المشوب بلوم أي إن الله سبحانه بخلقه
السماوات والأرض وجعله الظلمات والنور متوحد بالألوهية متفرد بالربوبية لا يماثله
شيء ولا يشاركه ، ومن العجب أن الذين كفروا مع اعترافهم بأن الخلق والتدبير لله
بحقيقة معنى الملك دون الأصنام التي اتخذوها آلهة يعدلون بالله غيره من أصنامهم
ويسوون به أوثانهم فيجعلون له أندادا تعادله بزعمهم فهم ملومون على ذلك.
وبذلك يظهر وجه
الإتيان بثم الدال على التأخير والتراخي فكأن المتكلم لما وصف تفرده بالصنع
والإيجاد وتوحده بالألوهية والربوبية ذكر مزعمة المشركين وأصحاب الأوثان أن هذه
الحجارة والأخشاب المعمولة أصناما يعدلون بها رب العالمين فشغله التعجب
زمانا وكفه عن التكلم ثم جرى في كلامه وأشار إلى وجه سكوته ، وأن حيرة
التعجب كان هو المانع عن جريه في كلامه فقال : ( الَّذِينَ كَفَرُوا
بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ).
قوله تعالى : « هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً » يشير إلى خلقه العالم الإنساني الصغير بعد الإشارة إلى
خلق العالم الكبير فيبين أن الله سبحانه هو الذي خلق الإنسان ودبر أمره بضرب الأجل
لبقائه الدنيوي ظاهرا فهو محدود الوجود بين الطين الذي بدأ منه خلق نوعه وإن كان
بقاء نسله جاريا على سنة الازدواج والوقاع كما قال تعالى : « وَبَدَأَ خَلْقَ
الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ » : ( السجدة : ـ ٨ ).
وبين الأجل
المقضي الذي يقارن الموت كما قال تعالى : « كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ
إِلَيْنا تُرْجَعُونَ » : ( العنكبوت : ـ ٥٧ ) ومن الممكن أن يراد بالأجل ما يقارن الرجوع إلى
الله سبحانه بالبعث فإن القرآن الكريم كأنه يعد الحياة البرزخية من الدنيا كما
يفيده ظاهر قوله تعالى : «
قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ، قالُوا لَبِثْنا يَوْماً
أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ ، قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً
لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ » : ( المؤمنون ـ ١١٤ ) ، وقال أيضا : «
وَيَوْمَ
تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ، ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ
كانُوا يُؤْفَكُونَ ، وقال الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ
فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ
» : ( الروم : ـ ٥٦ ).
وقد أبهم أمر
الأجل بإتيانه منكرا في قوله : «
ثُمَّ قَضى أَجَلاً » للدلالة على كونه مجهولا للإنسان لا سبيل له إلى المعرفة به بالتوسل إلى
العلوم العادية.
قوله تعالى : « وَأَجَلٌ مُسَمًّى
عِنْدَهُ » تسمية الأجل تعيينه فإن العادة جرت في العهود والديون ونحو ذلك بذكر الأجل وهو المدة المضروبة أو آخر المدة باسمه ، وهو الأجل
المسمى ، قال تعالى : «
إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ » : ( البقرة : ـ ٢٨٢ ) وهو الأجل بمعنى آخر المدة المضروبة
، وكذا قوله تعالى : «
مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ » : ( العنكبوت : ـ ٥ ) وقال تعالى في قصة موسى وشعيب :
« قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى
ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ
عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ ـ إلى أن قال ـ
قالَ ذلِكَ
بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ
» : ( القصص ـ ٢٨ )
وهو الأجل بمعنى تمام المدة المضروبة.
والظاهر أن
الأجل بمعنى آخر المدة فرع الأجل بمعنى تمام المدة استعمالا أي أنه استعمل كثيرا «
الأجل المقضي » ثم حذف الوصف واكتفي بالموصوف فأفاد الأجل معنى الأجل المقضي ، قال
الراغب في مفرداته : يقال للمدة المضروبة لحياة الإنسان « أجل » فيقال : دنا أجله
عبارة عن دنو الموت ، وأصله استيفاء الأجل ، انتهى.
وكيف كان فظاهر
كلامه تعالى أن المراد بالأجل والأجل المسمى هو آخر مدة الحياة لإتمام المدة كما
يفيده قوله : « فَإِنَّ
أَجَلَ اللهِ لَآتٍ » الآية.
فتبين بذلك أن
الأجل أجلان : الأجل على إبهامه ، والأجل المسمى عند الله تعالى. وهذا هو الذي لا
يقع فيه تغير لمكان تقييده بقوله «
عِنْدَهُ » وقد قال
تعالى : « وَما
عِنْدَ اللهِ باقٍ » : ( النحل : ـ ٩٦ ) وهو الأجل المحتوم الذي لا يتغير ولا يتبدل قال تعالى
: « إِذا جاءَ
أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ » : ( يونس : ٤٩ ).
فنسبة الأجل
المسمى إلى الأجل غير المسمى نسبة المطلق المنجز إلى المشروط المعلق فمن الممكن أن
يتخلف المشروط المعلق عن التحقق لعدم تحقق شرطه الذي علق عليه بخلاف المطلق المنجز
فإنه لا سبيل إلى عدم تحققه البتة.
والتدبر في
الآيات السابقة منضمة إلى قوله تعالى : « لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ ، يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ » : ( الرعد : ٣٩ ) يفيد أن الأجل المسمى هو الذي وضع في
أم الكتاب ، وغير المسمى من الأجل هو المكتوب فيما نسميه بلوح المحو والإثبات ،
وسيأتي إن شاء الله تعالى أن أم الكتاب قابل الانطباق على الحوادث الثابتة في
العين أي الحوادث من جهة استنادها إلى الأسباب العامة التي لا تتخلف عن تأثيرها ،
ولوح المحو والإثبات قابل الانطباق على الحوادث من جهة استنادها إلى الأسباب
الناقصة التي ربما نسميها بالمقتضيات التي يمكن اقترانها بموانع تمنع من تأثيرها.
واعتبر ما ذكر
من أمر السبب التام والناقص بمثال إضاءة الشمس فإنا نعلم أن هذه الليلة ستنقضي بعد
ساعات وتطلع علينا الشمس فتضيء وجه الأرض لكن يمكن أن يقارن ذلك بحيلولة سحابة أو
حيلولة القمر أو أي مانع آخر فتمنع من الإضاءة ، وأما إذا كانت الشمس فوق الأفق
ولم يتحقق أي مانع مفروض بين الأرض وبينها فإنها تضيء وجه الأرض لا محالة.
فطلوع الشمس
وحده بالنسبة إلى الإضاءة بمنزلة لوح المحو والإثبات ، وطلوعها مع حلول وقته وعدم
أي حائل مفروض بينها وبين الأرض بالنسبة إلى الإضاءة بمنزلة أم الكتاب المسمى
باللوح المحفوظ.
فالتركيب الخاص
الذي لبنية هذا الشخص الإنساني مع ما في أركانه من الاقتضاء المحدود يقتضي أن يعمر
العمر الطبيعي الذي ربما حددوه بمائة أو بمائة وعشرين سنة وهذا هو المكتوب في لوح
المحو والإثبات مثلا غير أن لجميع أجزاء الكون ارتباطا وتأثيرا في الوجود الإنساني
فربما تفاعلت الأسباب والموانع التي لا نحصيها تفاعلا لا نحيط به فأدى إلى حلول
أجله قبل أن ينقضي الأمد الطبيعي ، وهو المسمى بالموت الاخترامي.
وبهذا يسهل
تصور وقوع الحاجة بحسب ما نظم الله الوجود إلى الأجل المسمى وغير المسمى جميعا ،
وأن الإبهام الذي بحسب الأجل غير المسمى لا ينافي التعين بحسب الأجل المسمى ، وأن
الأجل غير المسمى والمسمى ربما توافقا وربما تخالفا والواقع حينئذ هو الأجل المسمى
البتة.
هذا ما يعطيه
التدبر في قوله : «
ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ » وللمفسرين تفسيرات غريبة للأجلين الواقعين في الآية :
منها : أن
المراد بالأجل الأول ما بين الخلق والموت والثاني ما بين الموت والبعث ، ، ذكره
عدة من الأقدمين وربما روي عن ابن عباس.
ومنها : أن
الأجل الأول أجل أهل الدنيا حتى يموتوا ، والثاني أجل الآخرة الذي لا آخر له ،
ونسب إلى المجاهد والجبائي وغيرهما.
ومنها : أن
الأجل الأول أجل من مضى ، والثاني أجل من بقي من سيأتي ، ونسب إلى أبي مسلم.
ومنها : أن
الأجل الأول النوم ، والثاني الموت.
ومنها : أن
المراد بالأجلين واحد ، وتقدير الآية الشريفة : ثم قضى أجلا وهذا أجل مسمى عنده.
ولا أرى
الاشتغال بالبحث عن صحة هذه الوجوه وأشباهها وسقمها يسوغه
الوقت على ضيقه ، ولا يسمح بإباحته العمر على قصره.
قوله
تعالى : « ثُمَّ أَنْتُمْ
تَمْتَرُونَ » من المرية بمعنى الشك والريب ، وقد وقع في الآية التفات من الغيبة إلى
الحضور ، وكأن الوجه فيه أن الآية الأولى تذكر خلقا وتدبيرا عاما ينتج من ذلك أن
الكفار ما كان ينبغي لهم أن يعدلوا بالله سبحانه غيره ، وكان يكفي في ذلك ذكرهم
بنحو الغيبة لكن الآية الثانية تذكر الخلق والتدبير الواقعين في الإنسان خاصة فكان
من الحري الذي يهيج المتكلم المتعجب اللائم أن يواجههم بالخطاب ويلومهم بالتجبيه
كأنه يقول : هذا خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور عذرناكم في الغفلة عن
حكمه لكون ذلك أمرا عاما ربما أمكن الذهول عما يقتضيه فما عذركم أنتم في امترائكم
فيه وهو الذي خلقكم وقضى فيكم أجلا وأجل مسمى عنده؟.
قوله
تعالى : « وَهُوَ اللهُ فِي
السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ » الآيتان السابقتان تذكران الخلق والتدبير في العوالم
عامة وفي الإنسان خاصة ، ويكفي ذلك في التنبه على أن الله سبحانه هو الإله الواحد
الذي لا شريك له في خلقه وتدبيره.
لكنهم مع ذلك
أثبتوا آلهة أخرى وشفعاء مختلفة لوجوه التدبير المختلفة كإله الحياة وإله الرزق
وإله البر وإله البحر وغير ذلك ، وكذا للأنواع والأقوام والأمم المتشتتة كإله
السماء وإله هذه الطائفة وإله تلك الطائفة فنفى ذلك بقوله : « وَهُوَ اللهُ فِي
السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ ».
فالآية نظيرة
قوله : « وَهُوَ
الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ » ( الزخرف : ٨٤ ) مفادها انبساط حكم ألوهيته تعالى في
السماوات وفي الأرض من غير تفاوت أو تحديد ، وهي إيضاح لما تقدم وتمهيد لما يتلوها
من الكلام.
قوله
تعالى : « يَعْلَمُ سِرَّكُمْ
وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ » السر والجهر متقابلان وهما وصفان للأعمال ، فسرهم ما
عملوه سرا وجهرهم ما عملوه جهرا من غير ستر.
وأما ما يكسبون
فهو الحال النفساني الذي يكسبه الإنسان بعمله السري والجهري من حسنة أو سيئة فالسر
والجهر المذكوران ـ كما عرفت ـ وصفان صوريان لمتون الأعمال الخارجية ، وما يكسبونه
حال روحي معنوي قائم بالنفوس فهما مختلفان بالصورية
والمعنوية ، ولعل اختلاف المعلومين من حيث نفسهما هو الموجب لتكرار ذكر
العلم في قوله : « يَعْلَمُ
سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ ».
والآية
كالتمهيد لما ستتعرض له من أمر الرسالة والمعاد فإن الله سبحانه لما كان عالما بما
يأتي به الإنسان من عمل سرا أو جهرا ، وكان عالما بما يكسبه لنفسه بعمله من خير أو
شر ، وكان إليه زمام التربية والتدبير كان له أن يرسل رسولا بدين يشرعه لهداية
الناس على الرغم مما يصر عليه الوثنيون من الاستغناء عن النبوة كما قال تعالى : « إِنَّ عَلَيْنا
لَلْهُدى » : ( الليل :
١٢ ).
وكذا هو تعالى
لما كان عالما بالأعمال وبتبعاتها في نفس الإنسان كان عليه أن يحاسبهم في يوم لا
يغادر منهم أحدا كما قال تعالى : «
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي
الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ » : ( ـ ص : ٢٨ ).
(
بحث روائي )
في الكافي ،
بإسناده عن الحسن بن علي بن أبي حمزة قال قال أبو عبد الله عليهالسلام : إن سورة الأنعام نزلت جملة ، شيعها سبعون ألف ملك حتى
أنزلت على محمد صلىاللهعليهوآله ـ فعظموها وبجلوها ـ فإن اسم الله عز وجل فيها في سبعين
موضعا ، ولو يعلم الناس ما في قراءتها ما تركوها :
أقول
: ورواه العياشي
عنه عليهالسلام مرسلا.
وفي تفسير
القمي ، قال حدثني أبي عن الحسين بن خالد عن الرضا عليهالسلام قال : نزلت الأنعام جملة واحدة ، يشيعها سبعون ألف ملك
ـ لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتكبير فمن قرأها استغفروا له إلى يوم القيامة.
أقول
: ورواه في
المجمع ، أيضا عن الحسين بن خالد عنه عليهالسلام : إلا أنه قال سبحوا له إلى يوم القيامة.
وفي تفسير
العياشي ، عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : إن سورة
الأنعام نزلت جملة واحدة ـ وشيعها سبعون ألف ملك حين أنزلت على رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ فعظموها وبجلوها ـ فإن اسم الله عز وجل فيها سبعين
موضعا ، ولو يعلم الناس ما في قراءتها من الفضل ما تركوها ، الحديث.
وفي جوامع
الجامع ، للطبرسي قال : في حديث أبي بن كعب عن النبي صلىاللهعليهوآله قال : أنزلت علي الأنعام جملة واحدة ـ يشيعها سبعون ألف
ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد فمن قرأها صلى عليه أولئك السبعون ألف ملك ـ بعدد
كل آية من الأنعام يوما وليلة.
أقول
: ورواه في الدر
المنثور ، عنه بعدة طرق.
وفي الكافي ،
بإسناده عن ابن محبوب عن أبي جعفر الأحول عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر عليهالسلام قال : إن الله خلق الجنة قبل أن يخلق النار ، وخلق
الطاعة قبل أن يخلق المعصية ، وخلق الرحمة قبل الغضب ، وخلق الخير قبل الشر ـ وخلق
الأرض قبل السماء ، وخلق الحياة قبل الموت ، وخلق الشمس قبل القمر ، وخلق النور
قبل الظلمة.
أقول
: خلق النور قبل
الظلمة بالنظر إلى كون الظلمة عدميا مضافا إلى النور ظاهر المعنى ، وأما نسبة
الخلق إلى الطاعة والمعصية فليس يلزم منها بطلان الاختيار فإن بطلانه يستلزم بطلان
نفس الطاعة والمعصية فلا تبقى لنسبتهما إلى الخلق وجه صحة بل المراد كونه تعالى
يملكهما كما يملك كل ما وقع في ملكه ، وكيف يمكن أن يقع في ملكه ما هو خارج عن
إحاطته وسلطانه ومنعزل عن مشيته وإذنه.؟
ولا دليل على
انحصار الخلق في الإيجاد والصنع الذي لا واسطة فيه حتى يكون تعالى مستقلا بإيجاد
كل ما نسب خلقه إليه فيكون إذا قيل : إن الله خلق العدل أو القتل مثلا أنه أبطل
إرادة الإنسان العادل أو القاتل ، واستقل هو بالعدل والقتل بإذهاب الواسطة من
البين فافهم ذلك ، وقد تقدم استيفاء البحث عن هذا المعنى في الجزء الأول من
الكتاب.
وبنظير البيان
يتبين معنى نسبة الخلق إلى الخير والشر أيضا ، سواء كانا خيرا وشرا في الأمور
التكوينية أو في الأفعال.
وأما كون
الطاعة مخلوق قبل المعصية ، وكذا الخير قبل الشر فيجري أيضا في
بيانه نظير ما تقدم من بيان كون النور قبل الظلمة من أن النسبة بينهما نسبة
العدم والملكة ، والعدم يتوقف في تحققه على الملكة ويظهر به أن خلق الحياة قبل
الموت.
وبذلك يتبين أن
خلق الرحمة قبل الغضب فإن الرحمة متعلقة بالطاعة والخير والغضب متعلق بالمعصية
والشر ، والطاعة والخير قبل المعصية والشر.
وأما خلق الأرض
قبل السماء فيدل عليه قوله تعالى : « خَلَقَ الْأَرْضَ فِي
يَوْمَيْنِ ـ إلى أن قال ـ
ثُمَّ
اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً
أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ، فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي
يَوْمَيْنِ » : ( حم السجدة : ١٢ ).
وأما كون خلق
الشمس قبل القمر فليس كل البعيد أن يستفاد من قوله تعالى : « وَالشَّمْسِ وَضُحاها
، وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها » : ( الشمس : ٢ ) وقد رجحت الأبحاث الطبيعية اليوم أن الأرض مشتقة من
الشمس والقمر مشتق من الأرض.
وفي تفسير
العياشي ، عن جعفر بن أحمد عن العمركي بن علي عن العبيدي عن يونس بن عبد الرحمن عن
علي بن جعفر عن أبي إبراهيم عليهالسلام قال : لكل صلاة وقتان ، ووقت يوم الجمعة زوال الشمس ثم
تلا هذه الآية : « الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ـ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ
وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ » ـ قال : يعدلون بين الظلمات والنور وبين الجور والعدل.
أقول
: وهذا معنى آخر
للآية ، وبناؤه على جعل قوله : «
بِرَبِّهِمْ » متعلقا بقوله «
كَفَرُوا » دون « يَعْدِلُونَ ».
وفي الكافي ،
عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن فضال عن ابن بكير عن زرارة عن حمران عن
أبي جعفر عليهالسلام قال : سألت عن قول الله عز وجل « قَضى أَجَلاً
وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ » قال : هما أجلان أجل محتوم وأجل موقوف.
وفي تفسير
العياشي ، عن حمران قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن قول الله : « قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى » قال : فقال هما أجلان ـ أجل موقوف يصنع الله ما يشاء ،
وأجل محتوم.
وفي تفسير
العياشي ، عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليهالسلام : في قوله : «
ثُمَ
قَضى
أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ
» ـ قال : الأجل الذي
غير مسمى موقوف يقدم منه ما شاء ، وأما الأجل المسمى فهو الذي ينزل مما يريد ـ أن
يكون من ليلة القدر إلى مثلها ـ قال : فذلك قول الله : « فَإِذا جاءَ
أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ».
وفيه ، عن
حمران عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : سألته عن قول الله : « أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ » قال : المسمى ما سمي لملك الموت في تلك الليلة ، وهو
الذي قال الله « فَإِذا
جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ » وهو الذي سمي لملك الموت في ليلة القدر ، والآخر له
فيه المشية إن شاء قدمه ، وإن شاء أخره.
أقول
: وفي هذا
المعنى غيرها من الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهالسلام ، والذي يدل عليه من معنى الأجل المسمى وغيره هو الذي
تقدمت استفادته من الآيات الكريمة.
وفي تفسير علي
بن إبراهيم ، قال : حدثني أبي عن النضر بن سويد عن الحلبي عن عبد الله بن مسكان عن
أبي عبد الله عليهالسلام قال : الأجل المقضي هو المحتوم الذي قضاه الله وحتمه ،
والمسمى هو الذي فيه البداء ـ يقدم ما يشاء ويؤخر ما شاء ، والمحتوم ليس فيه تقديم
ولا تأخير.
أقول
: وقد غلط بعض
من في طريق الرواية فعكس المعنى وفسر كلا من المسمى وغيره بمعنى الآخر. على أن الرواية
لا تتعرض لتفسير الآية فلا كثير ضير في قبولها.
وفي تفسير
العياشي ، عن الحصين عن أبي عبد الله عليهالسلام : في قوله : « قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ » قال : ثم قال أبو عبد الله عليهالسلام : الأجل الأول هو ما نبذه إلى الملائكة والرسل والأنبياء
، والأجل المسمى عنده هو الذي ستره الله عن الخلائق.
أقول
: ومضمون
الرواية ينافي ما تقدمت من الروايات ظاهرا ، ولكن من الممكن أن يستفاد من قوله : «
نبذه » أن المراد أنه تعالى أعطاهم الأصل الذي تستنبط منه الآجال غير المسماة وأما
الأجل المسمى فلم يسلط أحدا على علمه بمعنى أن ينبذ إليه نورا يكشف به كل أجل مسمى
إذا أريد ذلك ، وإن كان تعالى يسميه لملك الموت أو لأنبيائه ورسله إذا شاء ، وذلك
كالغيب يختص علمه به تعالى ، وهو مع ذلك يكشف عن شيء منه لمن ارتضاه من رسول إذا
شاء ذلك.
وفي تفسير
البرهان ، عن ابن بابويه بإسناده عن مثنى الحناط عن أبي جعفر ـ أظنه محمد بن
النعمان ـ قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن قول الله عز وجل : « وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ
» قال : كذلك
هو في كل مكان ، قلت : بذاته؟ قال : ويحك إن الأماكن أقدار ـ فإذا قلت : في مكان
بذاته ـ لزمك أن تقول : في أقدار وغير ذلك.
ولكن هو بائن
من خلقه محيط بما خلق علما ـ وقدرة وإحاطة وسلطانا ـ وليس علمه بما في الأرض بأقل
مما في السماء ، ولا يبعد منه شيء ، والأشياء له سواء علما وقدرة وسلطانا وملكا
وإرادة.
* * *
( وَما تَأْتِيهِمْ
مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ
كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا
بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ
قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا
السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ
فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ
(٦) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ
لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا
يُنْظَرُونَ (٨) )
( وَلَوْ جَعَلْناهُ
مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا
مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ
انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١) )
(
بيان )
الآيات إشارة
إلى تكذيبهم الحق الذي أرسل به الرسول وتماديهم في تكذيب الحق والاستهزاء بآيات
الله سبحانه ثم موعظة لهم وتخويف وإنذار ، وجواب عن بعض ما لغوا به في إنكار الحق
الصريح.
قوله
تعالى : « وَما تَأْتِيهِمْ
مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ » إشارة إلى أن سجية الاستكبار رسخت في نفوسهم فأنتجت
فيهم الإعراض عن الآيات الدالة على الحق فلا يلتفتون إلى آية من الآيات من غير
تفاوت بين آية وآية لأنهم كذبوا بالأصل المقصود الذي هو الحق ، وهو قوله تعالى : « فَقَدْ كَذَّبُوا
بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ ».
قوله
تعالى : « فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ
أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ » تخويف وإنذار فإن الذي يستهزءون به حق ، والحق يأبى
إلا أن يظهر يوما ويخرج من حد النبإ إلى حد العيان قال تعالى : « وَيَمْحُ اللهُ
الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ » : ( الشورى : ٢٤ ) ، وقال : « يُرِيدُونَ
لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْكافِرُونَ. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ » : ( الصف : ٩ ) وقال في مثل ضربه : « كَذلِكَ يَضْرِبُ
اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما
يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ » : ( الرعد : ١٧ ).
ومن المعلوم أن
الحق إذا ظهر لم يستو في مساسه المؤمن والكافر ، والخاضع والمستهزئ ، قال تعالى :
« وَلَقَدْ
سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ
وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ
وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذا
نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ » : ( الصافات : ١٧٧ ).
قوله تعالى : « أَلَمْ يَرَوْا كَمْ
أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ » إلى آخر الآية ، قال الراغب : القرن القوم المقترنون في زمن واحد وجمعه قرون انتهى.
وقال أيضا :
قال تعالى : « وَأَرْسَلْنَا
السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً » «
يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً » وأصله من الدر ـ بالفتح ـ والدرة ـ بالكسر ـ أي اللبن ، ويستعار ذلك للمطر استعارة أسماء
البعير وأوصافه فقيل : لله دره ودر درك ، ومنه أستعير قولهم
غسوق دره أي نفاق ـ بالفتح ـ انتهى.
وفي قوله تعالى
: «
مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ » التفات من الغيبة إلى الحضور ، والوجه فيه ظاهرا رفع
اللبس من جهة مرجع الضمير فلو لا الالتفات إلى الحضور في قوله : « ما لَمْ نُمَكِّنْ
لَكُمْ » أوهم السياق
رجوعه إلى ما يرجع إليه الضمير في قوله : « مَكَّنَّاهُمْ » وإلا فأصل السياق في مفتتح السورة للغيبة ، وقد تقدم
الكلام في الالتفات الواقع في قوله : « هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ».
وفي قوله : « فَأَهْلَكْناهُمْ
بِذُنُوبِهِمْ » دلالة على أن للسيئات والذنوب دخلا في البلايا والمحن العامة ، وفي هذا
المعنى وكذا في معنى دخل الحسنات والطاعات في إفاضات النعم ونزول البركات آيات
كثيرة.
قوله
تعالى : « وَلَوْ نَزَّلْنا
عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ » إلى آخر الآية ، إشارة إلى أن استكبارهم قد بلغ مبلغا
لا ينفع معه حتى لو أنزلنا كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم فناله حسهم بالبصر
والسمع ، وتأيد بعض حسهم ببعض فإنهم قائلون حينئذ لا محالة : هذا سحر مبين ، فلا
ينبغي أن يعبأ باللغو من قولهم : «
وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ » : ( الإسراء : ٩٣ ).
وقد نكر الكتاب
في قوله : « كِتاباً
فِي قِرْطاسٍ » لأن هذا الكتاب نزل نوع تنزيل لا يقبل إلا التنزيل نجوما وتدريجا ، وقيده
بكونه في قرطاس ليكون أقرب إلى ما اقترحوه ، وأبعد مما يختلج في صدورهم أن الآيات
النازلة على النبي صلىاللهعليهوآله من منشآت نفسه من غير أن ينزل به الروح الأمين على ما
يذكره الله سبحانه : «
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ
بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ » : ( الشعراء : ١٩٥ ).
قوله
تعالى : « وَقالُوا لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا
يُنْظَرُونَ » قولهم « لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ » تحضيض للتعجيز ، وقد أخبرهم النبي صلىاللهعليهوآله بما كان يتلو عليهم من آيات الله النازلة عليه أن الذي
جاء به إليه ملك كريم نازل من عند الله كقوله تعالى : « إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ، ذِي
قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ » : ( كورت : ٢١ ) إلى غيرها من الآيات.
فسؤالهم إنزال
الملك إنما كان لأحد أمرين على ما يحكيه الله عنهم في كلامه :
أحدهما
: أن يأتيهم بما
يعدهم النبي من العذاب كما قال تعالى : « فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ
صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ » : ( حم السجدة : ١٣ ) وقال : «
قُلْ هُوَ
نَبَأٌ عَظِيمٌ ـ إلى أن قال ـ
إِنْ يُوحى
إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ
» : ( ص : ٧٠ ).
ولما كان نزول
الملك انقلابا للغيب إلى الشهادة ، ولا مرمى بعده استعقب إن لم يؤمنوا ـ ولن
يؤمنوا بما استحكم فيهم من قريحة الاستكبار ـ القضاء بينهم بالقسط ، ولا محيص
حينئذ عن إهلاكهم كما قال تعالى : « وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ
ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ ».
على أن نفوس
الناس المتوغلين في عالم المادة القاطنين في دار الطبيعة لا تطيق مشاهدة الملائكة
لو نزلوا عليهم واختلطوا بهم لكون ظرفهم غير ظرفهم فلو وقع الناس في ظرفهم لم يكن
ذلك إلا انتقالا منهم من حضيض المادة إلى ذروة ما وراها وهو الموت كما قال تعالى :
« وَقالَ
الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ
نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً
، يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ
وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً » : ( الفرقان : ٢٢ ) وهذا هو يوم الموت أو ما هو بعده
بدليل قوله بعده « أَصْحابُ
الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً » : ( الفرقان : ٢٤ ).
وقال تعالى
بعده ـ وظاهر السياق أنه يوم آخر ـ : « وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ
وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ ، تَنْزِيلاً الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ
وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً » : ( الفرقان : ٢٦ ) ولعلهم إياه كانوا يعنون بقولهم :
« أَوْ
تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً » : ( الإسراء : ٩٢ ).
وبالجملة فقوله
تعالى : « وَلَوْ
أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ » إلخ ، جواب عن اقتراحهم نزول الملك ليعذبهم ، وعلى هذا
ينبغي أن يضم إليه ما وعده الله هذه الأمة أن يؤخر عنهم العذاب كما تشير إليه
الآيات من سورة يونس : « وَلِكُلِّ أُمَّةٍ
رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ ، وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، قُلْ
لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ
أَجَلٌ ـ إلى أن قال ـ
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ
أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ
» : ( يونس : ٥٣ ) وفي
هذا المعنى آيات أخرى كثيرة سنستوفي البحث عنها في سورة أخرى إن شاء الله.
وقال تعالى : « وَما كانَ اللهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ » :
( الأنفال : ٣٣ ).
فالمتحصل من
الآية أنهم يسألون نزول الملك ، ولا نجيبهم إلى ما سألوه لأنه لو نزل الملك لقضي
بينهم ولم ينظروا وقد شاء الله أن ينظرهم إلى حين فليخوضوا فيما يخوضون حتى يلاقوا
يومهم ، وسيوافيهم ما سألوه فيقضي الله بينهم.
ويمكن أن يقرر
معنى الآية على نحو آخر وهو أن يكون مرادهم أن ينزل الملك ليكون آية لا ليأتيهم
بالعذاب ، ويكون المراد من الجواب أنه لو نزل عليهم لم يؤمنوا به لما تمكن فيهم من
رذيلة العناد والاستكبار وحينئذ قضي بينهم وهم لا ينظرون ، وهم لا يريدون ذلك.
وثانيهما
: أن ينزل عليهم
الملك ليكون حاملا لأعباء الرسالة داعيا إلى الله مكان النبي صلىاللهعليهوآله أو يكون معه رسولا مثله مصدقا لدعوته شاهدا على صدقه
كما في قولهم فيما حكى الله : « وَقالُوا ما لِهذَا
الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ
إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً
» : ( الفرقان : ٧ )
فإنهم يريدون أن الذي هو رسول من جانب الله لا يناسب شأنه أن يشارك الناس في
عادياتهم من أكل الطعام واكتساب الرزق بالمشي في الأسواق بل يجب أن يختص بحياة
سماوية وعيشة ملكوتية لا يخالطه تعب السعي وشقاء الحياة المادية فيكون على أمر
بارز من الدعوة أو ينزل معه ملك سماوي فيكون معه نذيرا فلا يك في حقية دعوته
وواقعية رسالته.
وهذا هو الذي
تجيب عنه الآية التالية : «
وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً » إلخ.
قوله
تعالى : « وَلَوْ جَعَلْناهُ
مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ » اللبس بالفتح الستر بساتر لما يجب ستره لقبحه أو لحاجته إلى
ذلك واللبس بالضم التغطية على الحق ، وكأن المعنى استعاري والأصل
واحد.
قال الراغب في
المفردات : لبس الثوب استتر به وألبسه غيره ـ إلى أن قال ـ وأصل اللبس ( بضم اللام
) ستر الشيء ويقال ذلك في المعاني يقال : لبست عليه أمره قال : ( وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ) وقال : ( وَلا تَلْبِسُوا
الْحَقَّ بِالْباطِلِ ) ، ( لِمَ تَلْبِسُونَ
الْحَقَّ بِالْباطِلِ ) ، ( الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) و، يقال : في الأمر لبسه أي التباس ، انتهى.
ومعمول يلبسون
محذوف ، وربما استفيد من ذلك العموم والتقدير يلبس الكفار على أنفسهم أعم من لبس
البعض على نفسه ، ولبس البعض على البعض الآخر.
أما لبسهم على
غيرهم فكما يلبس علماء السوء الحق بالباطل لجهلة مقلديهم وكما يلبس الطواغيت
المتبعون لضعفة أتباعهم الحق بالباطل كقول فرعون فيما حكى الله لقومه : « يا قَوْمِ أَلَيْسَ
لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ ، فَلَوْ
لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ
مُقْتَرِنِينَ ، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ » : ( الزخرف : ٥٤ ) وقوله : « ما أُرِيكُمْ إِلَّا
ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ » : ( المؤمن : ٢٩ ).
وأما لبسهم على
أنفسهم فهو بتخييلهم إلى أنفسهم أن الحق باطل وأن الباطل حق ثم تماديهم على الباطل
فإن الإنسان وإن كان يميز الحق من الباطل فطرة الله التي فطر الناس عليها ، وكان
تلهم نفسه فجورها وتقواها غير أن تقويته جانب الهوى وتأييده روح الشهوة والغضب من
نفسه تولد في نفسه ملكة الاستكبار عن الحق ، والاستعلاء على الحقيقة فتنجذب نفسه
إليه ، وتغتر بعمله ، ولا تدعه يلتفت إلى الحق ويسمع دعوته ، وعند ذاك يزين له
عمله ، ويلبس الحق بالباطل وهو يعلم كما قال تعالى : « أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ
وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى
بَصَرِهِ غِشاوَةً » : ( الجاثية : ٢٣ ) وقال : « قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ
أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً » : ( الكهف : ١٠٤ ).
وهذا هو المصحح
لتصوير ضلال الإنسان في أمر مع علمه به فلا يرد عليه أن لبس الإنسان على نفسه الحق
بالباطل إقدام منه على الضرر المقطوع وهو غير معقول.
على أنا لو
تعمقنا في أحوال أنفسنا ثم أخذنا بالنصفة عثرنا على عادات سوء نقضي بمساءتها لكنا
لسنا نتركها لرسوخ العادة وليس ذلك إلا من الضلال على علم ، ولبس الحق بالباطل على
النفس والتلهي باللذة الخيالية والتوله إليها عن التثبت على الحق والعمل به ،
أعاننا الله تعالى على مرضاته.
وعلى أي حال
فقوله تعالى : « وَلَوْ
جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً » إلخ ، الجواب عن
مسألتهم نزول الملك ليكون نذيرا فيؤمنوا به.
ومحصله أن
الدار دار اختيار لا تتم فيها للإنسان سعادته الحقيقية إلا بسلوكه مسلك الاختيار ،
واكتسابه لنفسه أو على نفسه ما ينفعه في سعادته أو يضره ، وسلوك أي الطريقين رضي
لنفسه أمضى الله سبحانه له ذلك.
قال تعالى : « إِنَّا هَدَيْناهُ
السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً » : ( الدهر : ٣ ) فإنما هي هداية وإراءة للطريق ليختار
ما يختاره لنفسه من التطرق والتمرد من غير أن يضطر إلى شيء من الطريقين ويلجأ إلى
سلوكه بل يحرث لنفسه ثم يحصد ما حرث ، قال تعالى : « وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى » : ( النجم : ٤١ ) فليس للإنسان إلا مقتضى سعيه فإن كان
خيرا أراه الله ذلك وإن كان شرا أمضاه له ، قال تعالى : « مَنْ كانَ يُرِيدُ
حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا
نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ » : ( الشورى : ٢٠ ).
وبالجملة هذه
الدعوة الإلهية لا يستقيم أمرها إلا أن توضع على الاختيار الإنساني من غير اضطرار
وإلجاء ، فلا محيص عن أن يكون الرسول الحامل لرسالات الله أحدا من الناس يكلمهم
بلسانهم فيختاروا لأنفسهم السعادة بالطاعة أو الشقاء بالمخالفة والمعصية من غير أن
يضطرهم الله إلى قبول الدعوة بآية سماوية يلجئهم إليه وإن قدر على ذلك كما قال : «
لَعَلَّكَ
باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ، إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ
مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ » ( الشعراء : ٤ ).
فلو أنزل الله
إليهم ملكا رسولا لكان من واجب الحكمة أن يجعله رجلا مثلهم فيربح الرابحون
باكتسابهم ويخسر الخاسرون فيلبسوا الحق بالباطل على أنفسهم وعلى أتباعهم كما
يلبسون مع الرسول البشري فيمضي الله ذلك ويلبس عليهم كما لبسوا ، قال تعالى : « فَلَمَّا زاغُوا
أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ » : ( الصف : ٥ ).
فإنزال الملك
رسولا لا يترتب عليه من النفع والأثر أكثر مما يترتب على إرسال الرسول البشري ،
ويكون حينئذ لغوا فقول الذين كفروا : ( لَوْ لا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ مَلَكٌ ) ليس إلا سؤالا لأمر لغو لا يترتب عليه بخصوصه أثر خاص
جديد كما رجوا ، فهذا معنى قوله :
« وَلَوْ
جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ».
فظهر مما تقدم
من التوجيه أولا أن الملازمة بين جعل الرسول ملكا وجعله رجلا إنما هي من جهة إيجاب
الحكمة حفظ الاختيار الإنساني في الدعوة الدينية الإلهية إذ لو أنزل الملك على
صورته السماوية وبدل الغيب شهادة كان من الإلجاء الذي لا تستقيم معه الدعوة
الاختيارية.
وثانيا : أن
الذي تدل عليه الآية هو صيرورة الملك رجلا مع السكوت عن كون ذلك هل هو بقلب ماهية
الملكية إلى الماهية الإنسانية ـ الذي ربما يحيله عدة من الباحثين ـ أو بتمثيله
مثالا إنسانيا كتمثل الروح لمريم بشرا سويا ، وتمثل الملائكة الكرام لإبراهيم ولوط
عليهالسلام في صورة الضيفين من الآدميين.
وجل الآيات
الواردة في مورد الملائكة وإن كان يؤيد الثاني من الوجهين لكن قوله تعالى : « وَلَوْ نَشاءُ
لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ » : ( الزخرف : ٦٠ ) لا يخلو عن دلالة ما على الوجه
الأول ، وللبحث ذيل ينبغي أن يطلب من محل آخر.
وثالثا : أن
قوله تعالى : «
وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ » من قبيل قوله تعالى : « فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ » : ( الصف : ٥ ) فهو إضلال إلهي لهم بعد ما استحبوا
الضلال لأنفسهم من غير أن يكون إضلالا ابتدائيا غير لائق بساحة قدسه سبحانه.
ورابعا : أن
متعلق يلبسون المحذوف أعم يشمل لبسهم على أنفسهم ولبس بعضهم على بعض.
وخامسا : أن
محصل الآية احتجاج عليهم بأنه لو أنزل عليهم ملك بالرسالة لم ينفعهم ذلك في رفع
حيرتهم فإن الله جاعل الملك عندئذ رجلا يماثل الرسول البشري وهم لابسون على أنفسهم
معه متشككون فإنهم لا يريدون بهذه المسألة إلا أن يتخلصوا من الرسول البشري الذي
هو في صورة رجل ليبدلوا بذلك شكهم يقينا وإذا صار الملك على هذا النعت ـ ولا محالة
ـ فهم لا ينتفعون بذلك شيئا.
وسادسا : أن في
التعبير : «
لَجَعَلْناهُ رَجُلاً » ولم يقل : لجعلناه بشرا ليشمل الرجل والمرأة جميعا إشعارا ـ كما قيل ـ بأن
الرسول لا يكون إلا رجلا كما أن التعبير لا يخلو
من إشعار بأن هذا الجعل إنما هو بتمثل الملك في صورة الإنسان دون انقلاب
هويته إلى هوية الإنسان كما قيل.
وغالب المفسرين
وجهوا الآية بأن المراد : أنهم لما كانوا لا يطيقون رؤية الملك في صورته الأصلية
لتوغلهم في عالم المادة فلو أرسل إليهم ملك لم يكن بد من تمثله لهم بشرا سويا ،
وحينئذ كان يبدو لهم من اللبس والشبهة ما يبدو مع الرسول من البشر ولم ينتفعوا به
شيئا.
وهذا التوجيه
لا يفي باستقامة الجواب ، وإن سلمنا أن الإنسان العادي لا تسعه مشاهدة الملائكة في
صورهم الأصلية بالاستناد إلى أمثال قوله تعالى : « يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى
يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ » : ( الفرقان : ٢٢ ).
وذلك أن شهود الملك
في صورته الأصلية لو كان محالا على الإنسان لم يختلف فيه حال الأفراد الإنسانية
بالجواز والامتناع ، وقد ورد في روايات الفريقين أن النبي صلىاللهعليهوآله رأى جبرئيل في صورته الأصلية مرتين ، ومن المقدور لله
أن يقوي سائر الناس على ما قوى عليه نبيه فيعاينوهم ويؤمنوا بهم ، ولا محذور فيه
بحسب الحكمة إلا محذور الإلجاء فهو المحذور الذي يجب أن يدفع بالآية كما تقدم.
وكذا مشاهدة
الملك في صورة الآدميين لا تلازم جواز الشك واللبس فإن الله سبحانه يخبر عن
إبراهيم ولوط عليهالسلام أنهما عاينا الملائكة في صورة الآدميين ثم عرفهم ولم
يشكا في أمرهم ، وكذا أخبر عن مريم أنها شاهدت الروح ثم عرفته ولم تشك فيه ولا
التبس عليها أمره فلم لم يكن من الجائز أن يكون حال سائر الناس حالهم عليهالسلام في معاينة الملك في صورة الإنسان ثم معرفته واليقين
بأمره؟ لو لا أن جعل نفوس الناس جميعا كنفس إبراهيم ولوط ومريم يستلزم إمحاء
غرائزهم وفطرهم ، وتبديلها نفوسا طاهرة قادسة ، وفيه محذور الإلجاء ، فالإلجاء هو
المحذور الذي لا يبقى معه موضوع الامتحان ، وهو الذي يجب دفعه بالآية كما تقدم.
قوله
تعالى : « وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ
بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ » إلى آخر الآيتين ، الحيق الحلول والإصابة ، وفي مفردات الراغب : ، قيل وأصله حق
فقلب نحو زل وزال ، وقد قرئ : «
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ » فأزالهما ، وعلى هذا ذمه وذامه ، انتهى.
وقد كان
استهزاؤهم بالرسل بالاستهزاء بالعذاب الذي كانوا ينذرونهم بنزوله وحلوله فحاق بهم
عين ما استهزءوا به ، وفي الآية الأولى تطييب لنفس النبي صلىاللهعليهوآله ، وإنذار للمشركين ، وفي الآية الثانية أمر بالاعتبار
وعظة.
* * *
( قُلْ لِمَنْ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ
وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ
وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ
إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ
الْمُبِينُ (١٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ
وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ
الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) )
(
بيان )
فريق من الآيات
تحتج على المشركين في أمر التوحيد والمعاد فالآيتان الأوليان تتضمنان البرهان على
المعاد ، وبقية الآيات وهي خمس مسوقة للتوحيد تقيم البرهان على ذلك من وجهين على
ما سيأتي.
قوله
تعالى : « قُلْ لِمَنْ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ » شروع في البرهنة على المعاد ، ومحصله أن الله تعالى
مالك ما في السماوات والأرض جميعا له أن يتصرف فيها كيف
شاء وأراد ، وقد اتصف سبحانه بصفة الرحمة وهي رفع حاجة كل محتاج وإيصال كل
شيء إلى ما يستحقه وإفاضته عليه وعدة من عباده ومنهم الإنسان صالحون لحياة خالدة
مستعدون لأن يسعدوا فيها فهو بمقتضى ملكه ورحمته سيتصرف فيهم بحشرهم وإعطائهم ما
يستحقونه البتة.
فقوله تعالى :
« قُلْ
لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » إلخ ، يتضمن إحدى مقدمات الحجة وقوله : « كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ » يتضمن مقدمة أخرى ، وقوله : « وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ » إلخ ، مقدمة أخرى ثالثة بمنزلة الجزء من الحجة.
فقوله تعالى :
« قُلْ
لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » إلخ ، يأمر النبي صلىاللهعليهوآله أن يسألهم عمن يملك السماوات والأرض وله التصرف فيها
بما شاء من غير مانع يمنعه ، وهو الله سبحانه من غير شك لأن غيره حتى الأصنام
وأرباب الأصنام التي يدعوها المشركون هي كسائر الخلقة ينتهي خلقها وأمرها إليه
تعالى فهو المالك لما في السماوات والأرض جميعا.
ولكون المسئول
عنه معلوما بينا عند السائل والمسئول جميعا والخصم معترف به لم يحتج إلى صدور
الجواب عن الخصم واعترافه به بلسانه ، وأمر النبي صلىاللهعليهوآله أن يذكر هو الجواب ويتكفل ذلك لتتم الحجة من غير انتظار
ما لجوابهم.
والسؤال عن
الخصم ، ومباشرة السائل بنفسه الجواب كلاهما من السلائق البديعة الدائرة في سرد
الحجج ، يقول المنعم لمن أنعم عليه فكفر بنعمته : من الذي أطعمك وسقاك وكساك؟ أنا
الذي فعل ذلك بك ومن بها عليك وأنت تجازيني بالكفر.
وبالجملة ثبت
بهذا السؤال والجواب أن الله سبحانه هو المالك على الإطلاق فله التصرف فيها بما
شاء من إحياء ورزق وإماتة وبعث بعد الموت من غير أن يمنعه من ذلك مانع كدقة في
العمل وموت وغيبة واختلال وغير ذلك. وبهذا تمت إحدى مقدمات الحجة فألحقها المقدمة
الأخرى وهي قوله : ( كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ ).
قوله تعالى : « كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ » الكتابة هو الإثبات والقضاء الحتم ، وإذ كانت الرحمة ـ وهي إفاضة النعمة
على مستحقها وإيصال الشيء إلى سعادته التي تليق به ـ
من صفاته تعالى الفعلية صح أن ينسب إلى كتابته تعالى ، والمعنى : أوجب على
نفسه الرحمة وإفاضة النعم وإنزال الخير لمن يستحقه.
ونظيره في نسبة
الفعل إلى الكتابة ونحوها قوله تعالى : « كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي » : ( المجادلة : ٢١ ) وقوله : « فَوَ رَبِّ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ » : ( الذاريات : ٢٣ ) وأما صفات الذات كالحياة والعلم
والقدرة فلا تصح نسبتها إلى الكتابة ونحوها البتة لا يقال : كتب على نفسه الحياة
والعلم والقدرة.
ولازم كتابة
الرحمة على نفسه ـ كما تقدم ـ أن يتم نعمته عليهم بجمعهم ليوم القيامة ليجزيهم
بأقوالهم وأعمالهم فيفوز به المؤمنون ويخسر غيرهم.
ولذلك ذيل
بقوله وهو كالنتيجة في الحجة : ( لَيَجْمَعَنَّكُمْ
إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ) فأكد المعنى بأبلغ التأكيد : لام القسم ونون التأكيد
وقوله : ( لا رَيْبَ فِيهِ ).
ثم أشار إلى أن
الربح في هذا اليوم للمؤمنين والخسران على غيرهم فقال : « الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ».
والحجة التي
أقيمت في هذه الآية على المعاد غير ما أقيمت من الحجتين عليه في قوله تعالى : « وَما خَلَقْنَا السَّماءَ
وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ، أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ
كَالْفُجَّارِ » : ( ـ ص : ٢٨ ) فإن الآيتين تقيمان الحجة على المعاد من جهة أن فعله
تعالى ليس بباطل بل له غاية ، ومن جهة أن التسوية بين المؤمن والكافر والمتقي
والفاجر ظلم لا يليق به تعالى ، وهما في الدنيا لا يتميزان فلا بد من نشأة أخرى
يتميزان فيها بالسعادة والشقاوة ، وهذا غير ما في هذه الآية من السلوك إلى المطلوب
من طريق الرحمة.
قوله
تعالى : « وَلَهُ ما سَكَنَ فِي
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » السكون في الليل والنهار هو الوقوع في ظرف هذا العالم
الطبيعي الذي يدبر أمره بالليل والنهار ، ويجري نظامه بغشيان النور الساكب من شمس
مضيئة ، وعمل التحولات النورية فيه بالقرب والبعد والكثرة والقلة والحضور والغيبة
والمسامتة وغيرها.
فالليل والنهار
هما المهد العام يربى فيه العناصر الكلية ومواليدها تربية تسوق كل جزء من أجزائها
وكل شخص من أشخاصها إلى غايته التي قدرت له ، وتكملها روحا وجسما.
وكما أن للمسكن
عاما وخاصا دخلا تاما في كينونة الساكن كالإنسان مثلا يسكن أرضا فيطوف بها في طلب
الرزق ، ويرتزق مما يخرج منها من حب وفاكهة وما يتربى فيها من حيوان ، ويشرب من
مائها ، ويستنشق من هوائها ، ويفعل وينفعل من كيفيات منطقتها ، وينمو جميع أجزاء
جسمه على حسب تقديرها كذلك الليل والنهار لهما الدخل التام في تكون عامة ما يتكون
فيهما.
والإنسان من
الأشياء الساكنة في الليل والنهار تكون بمشية الله من ائتلاف أجزاء بسيطة ومركبة
على صورة خاصة يمتاز وجوده حدوثا وبقاء بحياة تقوم على شعور فكري وإرادة يتهيئان
له من قوى له باطنية عاطفية تأمره بجذب المنافع ودفع المضار ، وتدعوه إلى إيجاد
مجتمع متشكل فيه ما نراه من تفاصيل التفاهم باللغات والتباني على اتباع السنن
والقوانين والعادات في المعاشرات والمعاملات ، واحترام الآراء والعقائد العامة في
الحسن والقبح والعدل والظلم والطاعة والمعصية والثواب والعقاب والجزاء والعفو.
وإذا كان الله
سبحانه هو الخالق لليل والنهار وما سكن فيهما المتفرد بإيجادها فله ما سكن في
الليل والنهار ، وهو المالك الحق لجميع الليل والنهار وسكانهما وما يستعقب وجودها
من الحوادث والأفعال والأقوال ، وله النظام الجاري فيها على عجيب سعته فهو السميع
لأقوالنا من أصوات وإشارات ، والعليم بأعمالنا وأفعالنا بما لها من صفتي الحسن
والقبح ، والعدل والظلم والإحسان والإساءة ، وما تكتسبه النفوس من سعادة وشقاء.
وكيف يمكنه
الجهل بذلك وقد نشأ الجميع في ملكه وبإذنه؟ ونحو وجود هذا النوع من الأمور أعني
الحسن والقبح والعدل والظلم والطاعة والمعصية ، وكذا اللغات الدالة على المعاني
الذهنية كل ذلك أمور علمية لا تحقق لها في غير ظرف العلم ، ولذلك نرى أن الفعل لا
يقع منا حسنا ولا قبيحا ولا طاعة ولا معصية ، والصوت المؤلف لا يسمى كلاما إلا إذا
علمنا به وقصدنا وجهه.
وكيف يمكن أن
يملك شيء علمي في نفسه من حيث كونه كذلك ثم يجهله مالكه ولا يعلم به؟ ( أجد التأمل
فيه ).
والله سبحانه
هو الذي أوجد هذا العالم على عجيب سعته في أجزائه البسيطة
والعنصرية والمركبة على نظام يدهش اللب ، ثم خلقنا وأسكننا الليل والنهار
ثم كثرنا وأجرى بيننا نظام الاجتماع الإنساني ثم هدانا إلى وضع اللغات ، واعتبار
السنن ووضع الاعتبارات ، ولم يزل يصاحبنا ويصاحب سائر الأسباب خطوة خطوة ،
ويجارينا وإياها في مسير الليل والنهار لحظة لحظة ، وساق حوادث لا نحصيها حادثة
بعد حادثة.
حتى تكلم
الواحد منا بكلام فوضع المعنى في قلبه بإلهامه ، وأجرى اللفظ في لسانه بتعريفه ،
وأسمع الصوت لمخاطبه بإسماعه ، وسار بمعناه إلى ذهنه بحفظه ، وفهم المعنى لمفكرته
بتعليمه ، ثم بعثه لموافقة ما ألقاه إليه المتكلم أو صده عن ذلك بإرادة باعثة له
إليه أو كراهة دافعة له عنه ، وهو في جميع هذه المراحل التي تعجز عن الانعقاد
عليها أنامل العد والإحصاء قائد وسائق وهاد وحفيظ ورقيب! فكيف يسع لقائل إلا أن
يقول : إنه تعالى سميع عليم ، وما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا
هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا
يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم.
وكذا إذا عمل
الواحد منا بعمل حسنة كان أو سيئة فهو مولود من أب وأم يولدانه تحت مراقبة
الاختيار والإرادة ، وقد انتقل إليهما بعد ما قطع طريقا بعيدا وأمدا مديدا في
أصلاب أسباب فاعله ، وأرحام علل أخرى منفعلة إلى أن ينتهي بما الله أعلم به ، ولم
يزل سبحانه ينقله بإرادته من حجر إلى حجر ، والأرض قبضته والسماوات بيمينه حتى نزل
منزل الاختيار فصاحبه منزلا بعد منزل بإذنه حتى طلع من أفق العين ، وأخذ موضعه من
مسكن الليل والنهار ثم لا يزال يجري فيما يتأثر منه من أجزاء الكون كأحد الأسباب
الجارية ، والله سبحانه عليه شهيد وبه محيط فكيف يمكن أن يغفل سبحانه عما هذا شأنه؟
ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
ومما تقدم يظهر
أن قوله تعالى : « وَهُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » بمنزلة النتيجة لقوله : «
وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ».
والسمع والعلم
وإن كانا معدودين من صفاته تعالى الذاتية التي هي عين الذات المتعالية من غير أن
يتفرع على أمر غيرها لكن من العلم وكذا السمع والبصر ما هو صفة فعلية خارجة عن
الذات وهي التي يتوقف ثبوتها على تحقق متعلق غير الذات المقدسة
كالخلق والرزق والإحياء والإماتة المتوقفة على وجود مخلوق ومرزوق وحي وميت.
والأشياء لما
كانت بأنفسها وأعيانها مملوكة محاطة له تعالى فهي إن كانت أصواتا سمع ومسموعة له
تعالى ، وإن كانت أنوارا وألوانا بصر ومبصرة له تعالى ، والجميع كائنة ما كانت علم
ومعلومة له تعالى ، وهذا النوع من العلم من صفاته الفعلية التي تتحقق عند تحقق
الفعل منه تعالى لا قبل ذلك ، ولا يلزم من ثبوتها بعد ما لم تكن تغير في ذاته
تعالى وتقدس لأنها لا تعدو مقام الفعل ، ولا يدخل في عالم الذات فالآية في
استنتاجها العلم من الملك تريد إثبات العلم الفعلي ، فافهم ذلك.
والآية أعني
قوله : « وَلَهُ ما
سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ » إلخ ، كإحدى مقدمات الحجة المبينة بالآية السابقة فإن
الحجة على المعاد وإن تمت بقوله : « قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ » لكن النظر الابتدائي الساذج ربما غفل عن كون ملكه
تعالى للأشياء مستلزما لعلمه بها وسمعه بما يسمع منها كالأصوات والأقوال.
ولذلك نبه عليه
بتكرار ملك السماوات والأرض ، وتفريع السمع والعلم عليه فقال : « ( وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ) ـ وهو في معنى قوله : « له ما في السماوات والأرض ـ وهو
السميع العليم » فكانت هذه الآية لذلك بمنزلة مقدمة متممة للحجة المسرودة في الآية
السابقة.
والآية ـ على
أنا لم نستوف حقها ولن يستوفي ـ من أرق الآيات القرآنية معنى وأدقها إشارة وحجة ،
وأبلغها منطقا.
قوله تعالى : « قُلْ أَغَيْرَ اللهِ
أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ
» شروع في
الاحتجاج على وحدانيته تعالى وأن لا شريك له.
والذي يتحصل من
تاريخ الوثنية واتخاذ الأصنام والآلهة أنهم كانوا إنما دانوا بذلك وخضعوا للآلهة
لأحد أمرين : إما أنهم وجدوا أنفسهم في حاجة إلى أسباب كثيرة في إبقاء الحياة
كالتغذي بالطعام واللباس والمسكن والأزواج والأولاد والعشيرة ونحو ذلك ، وعمدتها
الطعام الذي حاجة الإنسان إليه أشد من حاجته إلى غيره بحسب النظر الساذج ، وقد
اعتقدوا أن لكل صنف من أصناف هذه الحوائج تعلقا بسبب هو الذي يجود لهم بالتمتع من
وسيلة رفع تلك الحاجة كالسبب الذي يمطر السماء فينبت المرعى والكلأ
لدوابهم ويمنع بالخصب لأنفسهم ، والسبب الذي يدبر أمر السهل والجبل أو يلقي
بالمحبة والألفة أو إليه أمر البحر والسفائن الجارية فيه.
ثم وجدوا أن
قوتهم لا تفي بالتسلط على تلك الحاجة أو الحوائج الضرورية فاضطروا إلى الخضوع إلى
السبب المربوط بحاجتهم واتخاذه إلها ثم عبادته.
وإما لأنهم
وجدوا هذا الإنسان الأعزل غرضا لسهام الحوادث محصورا بمكاره وشرور عامة عظيمة لا
يقاومها كالسيل والزلزلة والطوفان والقحط والوباء ، وببلايا ومحن أخرى جزئية لا
يحصيها كالأمراض والأوجاع والسقوط والفقر والعقم والعدو والحاسد والشانئ وغير ذلك
، ثم وضعوا لها أسبابا قاهرة هي المرسلة لها إليهم ، والقاصمة بها ظهورهم ،
والمكدرة لصفوة عيشهم ، وهي مخلوقات علوية كأرباب الأنواع وأرواح الكواكب والأجرام
العلوية فاتخذوها آلهة خوفا من سخطهم وعذابهم ، وعبدوها ليستميلوها بالعبادة
ويرضوها بالخضوع والاستكانة فيخلصوا بذلك عن المكاره والرزايا ويأمنوا شرورها
والمضار النازلة منها إليهم.
والآية أعني
قوله : « قُلْ أَغَيْرَ
اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا » إلخ ، والآيات التالية لها تحتج على المشركين بقلب حجتيهم بعينهما إليهم
أي تسلم أصل الحجة وتعدها حقة لكن تبين أن لازمها أن يعبد الله سبحانه وحده ،
وينفى عنه كل شريك موضوع.
فقوله تعالى :
« قُلْ أَغَيْرَ
اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا
يُطْعَمُ » إشارة إلى
الحجة من المسلك الأول ، وهو مسلك الرجاء أن يعبد الإله لأنه منعم فيكون عبادته
شكرا لإنعامه سببا لمزيده.
أمر سبحانه
نبيه صلىاللهعليهوآله أن يبين لهم في صورة الاستفهام والسؤال أن الله سبحانه
وحده هو الولي للنعمة التي يتنعم بها الإنسان وغيره لأنه هو الرازق الذي لا يحتاج
إلى أن يرزقه غيره يطعم ولا يطعم ، والدليل عليه أنه تعالى هو الذي فطر السماوات
والأرض ، وأخرجها من ظلمة العدم إلى نور الوجود ، وأنعم عليها بنعمة التحقق
والثبوت ، ثم أفاض عليها بنعم لا يحصيها إلا هو لإبقاء وجودها ، ومنها الإطعام
للإنسان وغيره فإن جميع هذه النعم المعدة لبقاء وجود الإنسان وغيره ، والأسباب
التي تسوق تلك النعم إلى محال الاستحقاق كل ذلك ينتهي إلى فطرة وإيجاده الأشياء
والأسباب ومسبباتها
جميعا من صنعه.
فإليه سبحانه
يرجع الرزق الذي من أهم مظاهره عند الإنسان الإطعام فيجب أن يعبد الله وحده لأنه
هو الذي يطعمنا من غير حاجة إلى إطعام من غيره.
فظهر بما بيناه
أولا : أن التعبير عن العبودية والتأله باتخاذ الولي في قوله : « أَغَيْرَ اللهِ
أَتَّخِذُ وَلِيًّا » إنما هو لكون الحجة مسوقة من جهة إنعامه تعالى بالإطعام.
وثانيا : أن
التعلق بقوله : « فاطِرِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » إنما هو لبيان سبب انحصار الإطعام به تعالى كما تقدم تقريره ، وربما
استفيد ذلك من التعريض الذي في قوله : « وَلا يُطْعَمُ » فإن فيه تعريضا بكون سائر من اتخذوهم آلهة محتاجين
كعيسى وغيره إلى إطعام أو ما يجري مجراه.
ومن الممكن أن
يستفاد من ذكره في الحجة أنه إشارة إلى مسلك آخر في إقامة الحجة على توحيده تعالى
هو أشرف من المسلكين جميعا ، ومحصله أن الله سبحانه هو الموجد لهذا العالم ، وإلى
فطرة ينتهي كل شيء فيجب الخضوع له.
ووجه كون هذا
المسلك أشرف : هو أن المسلكين الآخرين وإن كانا أنتجا توحيد الإله من جهة أنه
معبود لكنهما لا يخلوان مع ذلك من شيء ، وهو أنهما ينتجان وجوب عبادته طمعا في
النعمة أو خوفا من النقمة فالمطلوب بالذات هو جلب النعمة أو الأمن من النقمة دونه
تعالى وتقدس ، وأما هذا المسلك فإنه ينتج وجوب عبادة الله لأنه الله سبحانه.
وثالثا : أن
اختصاص الإطعام من بين نعمه تعالى على كثرتها بالذكر إنما العناية فيه كون الإطعام
بحسب النظر الساذج أوضح حوائج الحيوان العائش ومنه الإنسان.
ثم أمر سبحانه
بعد تمام الحجة نبيه صلىاللهعليهوآله أن يذكر لهم ما يؤيد به هذه الحجة العقلية ، وهو أن
الله أمره من طريق الوحي أن يجري في اتخاذ الإله على الطريق الذي يهدي إليه العقل
وهو التوحيد ، ونهاه صريحا أن يتخطاه إلى أن يلحق بالمشركين فقال : « قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ
أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ » ثم قال : « وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ».
بقي هنا أمران
:
أحدهما : أن
قوله : « أَوَّلَ
مَنْ أَسْلَمَ » إن كان المراد أول من أسلم من بينكم فهو ظاهر فقد أسلم ص قبل أمته ، وإن
كان المراد به أول من أسلم من غير تقييد كما هو ظاهر الإطلاق كانت أوليته في ذلك
بحسب الرتبة دون الزمان.
وثانيهما : أن
نتيجة الحجة لما كانت هي العبودية وهي نوع خضوع وتسليم كان استعمال لفظة الإسلام
في المقام أولى من لفظة الإيمان لما فيه من الدلالة على غرض العبادة ، وهو الخضوع.
قوله
تعالى : « قُلْ إِنِّي أَخافُ
إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ » وهذا هو المسلك الثاني من المسلكين اللذين تقدم أن
المشركين تعلقوا بهما في اتخاذ الآلهة ، وهو أن عبادة آلهتهم يؤمنهم من شمول سخطها
ونزول عذابها.
وقد أخذ سبحانه
في الحجة أخوف ما يجب أن يخاف منه من أنواع العذاب وأمره وهو عذاب الساعة التي
ثقلت في السماوات والأرض كما أخذ في الحجة الأولى أحوج ما يحتاج إليه الإنسان بحسب
بادئ النظر من النعم ، وهو الإطعام.
وقد قيل : « إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي
» دون أن يقال
: إن أشركت بربي إشارة إلى ما في قوله تعالى في الآية السابقة : « وَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ » من نهيه صلىاللهعليهوآله عن الشرك فأدت الآية أن من الواجب علي عقلا أن أعبد
الله وحده لأومن مما أخاف من عذاب يوم عظيم ، وهذا الذي دل عليه العقل دلني عليه
الوحي من ربي.
وبهذا تناظر
هذه الآية الآية السابقة من جهة إقامة الحجة العقلية أولا ثم تأييده بالوحي من
الله سبحانه فافهم ذلك ، وهذا من لطائف إيجاز القرآن الكريم فقد اكتفى في إفادة
هذا المعنى على سعته بمجرد وضع قوله : « عَصَيْتُ » موضع أشركت.
قوله
تعالى : « مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ
يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ » إلخ ، المعنى ظاهر الآية متممة للحجة المسرودة في الآية السابقة فظاهر
الآية السابقة بحسب النظر البسيط إقامة النبي صلىاللهعليهوآله الحجة في وجوب التوحيد على نفسه بأن الله نهاه عن الشرك
فيجب عليه توحيده ليؤمن عذاب الآخرة.
فيلوح لنظر
المغفل غير المتدبر أن يرد عليه الحجة بأن النهي لما كان مختصا بك كما تدعيه يختص
الخوف ثم وجوب التوحيد أيضا بك فلا تقتضي الحجة وجوب التوحيد ونفي الشريك على غيرك
، وتصير الحجة عليك لا على غيرك.
فأفاد بقوله :
« مَنْ
يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ » أن عذابه مشرف على الجميع محيط بالكل لا مخلص عنه إلا
برحمته فعلى كل إنسان أن يخاف من عذاب يومئذ على نفسه ما يخافه النبي صلىاللهعليهوآله على نفسه فالحجة عامة قائمة على جميع الناس لا خاصة به صلىاللهعليهوآله.
قوله
تعالى : « وَإِنْ يَمْسَسْكَ
اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ » إلى آخر الآية ، قد كانت الحجتان المذكورتان في الآيات
السابقة أخذتا أنموذجا مما يرجوه الإنسان وهو الإطعام وأنموذجا مما يخافه وهو عذاب
يوم القيامة ، وتممتا بهما البيان ، ولم تتعرضا لسائر أنواع الضر وأقسام الخير
التي يمس الله سبحانه بهما الإنسان ، والكل من الله عز اسمه.
فالآية توضح
بالتصريح أن هناك من الضر ما هو غير عذاب يوم القيامة يمس الله سبحانه به الإنسان
يجب أن يتوجه إليه تعالى في كشفه ، وأن من الخير ما يمس الله به الإنسان ولا راد
لفضله ولا مانع يمنع من إفاضته لقدرته على كل شيء ، ورجاء الخير يوجب على الإنسان
أن يتخذه سبحانه إلها معبودا.
ولما أمكن أن يتوهم
أن كونه تعالى يمس الإنسان بضر أو بخير إنما يقتضي أن يتخذ معبودا ، والخصم لا
ينكر ذلك . وأما قصر الألوهية والمعبودية فيه تعالى فلا لأن ما
اتخذوه من الآلهة هي أسباب متوسطة وشفعاء أقوياء لها تأثيرات في الكون من شر أو
خير يوجب على الإنسان أن يتقرب إليها خوفا من شرها أو رجاء لخيرها.
دفعه بأن الله
سبحانه هو القاهر فوق عباده لا يفوقه منهم أحد ولا يعادله فهم أنفسهم تحت قهره ،
وكذا أفعالهم وآثارهم لا يعملون عملا من خير أو شر إلا بإذنه ومشيته غير مستقلين
بأمر البتة ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا غير ذلك ، فما
__________________
يطلع من أفق ذواتهم من أثر خيرا أو شرا ينتهي إلى أمره ومشيته وإذنه يستند
إليه على ما يليق بساحة قدسه وعزته من الاستناد.
فالآيتان جميعا
تتممان معنى واحدا ، وهو أن ما يصيب الإنسان من خير أو شر فمن الله على ما يليق
بساحته من الانتساب ، فالله سبحانه هو المتوحد بالألوهية ، والمتفرد بالمعبودية لا
إله غيره ، ولا معبود سواه.
وقد عبر عن
إصابة الضر والخير بالمس الدال على الحقارة في قوله : « إِنْ يَمْسَسْكَ » «
وَإِنْ يَمْسَسْكَ » ليدل به على أن ما يصيب الإنسان من ضر أو من خير شيء يسير مما تحمله
القدرة غير المتناهية التي لا يقوم لها شيء ، ولا يطيقها ولا يتحملها مخلوق محدود.
وكأن قوله
تعالى في جانب الخير : «
فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » وضع موضع نحو من قولنا : فلا مانع يمنعه ، ليدل على
أنه تعالى قدير على كل خير مفروض كما أنه قدير على كل ضر مفروض ، وتنكشف به علة
قوله : ( فَلا كاشِفَ لَهُ
إِلَّا هُوَ ) إذ لو كشف غيره تعالى شيئا مما مس به من ضر دفع ذلك
قدرته عليه ، وكذلك قدرته على كل شيء تقتضي أن لا يقوى شيء على دفع ما يمس به من
خير.
وتخصيص ما يمس
به من ضر أو خير بالنبي صلىاللهعليهوآله في هذه الآية نظير التخصيص الواقع في قوله : « قُلْ إِنِّي أَخافُ
إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ » ويفيد قوله : « وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ » من التعميم نظير ما أفاد قوله : « مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ
يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ ».
قوله
تعالى : « وَهُوَ الْقاهِرُ
فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ » القهر هو نوع من الغلبة ، وهو أن يظهر شيء على شيء
فيضطره إلى مطاوعة أثر من الغالب يخالف ما للمغلوب من الأثر طبعا أو بنحوه من
الافتراض كالماء يظهر على النار فيقهرها على الخمود ، والنار تقهر الماء فتبخره أو
تجفف رطوبته. وإذ كانت الأسباب الكونية إنما أظهرها الله سبحانه لتكون وسائط في
حدوث الحوادث فتضع آثارها في مسبباتها ، وهي كائنة ما كانت مضطرة إلى مطاوعة ما
يريده الله سبحانه فيها وبها ، يصدق عليها عامة أنها مقهورة لله سبحانه فالله قاهر
عليها.
فالقاهر من
الأسماء التي تصدق عليه تعالى كما تصدق على غيره ، غير أن بين قهره تعالى وقهر
غيره فرقا ، وهو أن غيره تعالى من الأشياء إنما يقهر بعضها بعضا وهما مجتمعان من
جهة مرتبة وجودهما ودرجة كونهما بمعنى أن النار تقهر الحطب على الاحتراق والاشتعال
، وهما معا موجودان طبيعيان يقتضي أحدهما بالطبع خلاف ما يقتضيه الآخر لكن النار
أقوى في تحميل أثرها على الحطب منه من النار فهي تظهر عليه في تأثيرها بأثرها فيه.
والله سبحانه
قاهر لا كقهر النار الحطب ، بل هو قاهر بالتفوق والإحاطة على الإطلاق بمعنى أنا
إذا نسبنا إحراق جسم وإشعاله كالحطب مثلا إلى الله سبحانه فهو سبحانه قاهر عليه
بالوجود المحدود الذي أوجده به ، قاهر عليه بالخواص والكيفيات التي أعطاها له
وعبأه بها بيده ، قاهر عليه بالنار التي أوقدها لإحراقه وإشعاله ، وهو المالك
لجميع ما للنار من ذات وأثر ، قاهر عليه بقطع عطية المقاومة للحطب ، ووضع الاحتراق
والاشتعال موضعه فلا مقاومة ولا تعصي ولا جموح ولا شبه ذلك قبال إرادته ومشيته
لكونها من أفق أعلى.
فهو تعالى قاهر
على عباده لكنه فوقهم لا كقهر شيء شيئا وهما متزاملان. وقد صدق القرآن الكريم هذا
البحث بنتيجته فذكره اسما له تعالى في موضعين من هذه السورة وهما هذه الآية وآية (٦١).
وقيد الاسم في
كلا الموضعين بقوله : «
فَوْقَ عِبادِهِ » والغالب في المحفوظ من موارد استعمال القهر هو أن يكون المغلوب من أولي
العقل بخلاف الغلبة ، ولذا فسره الراغب بالتذليل ، والذلة في أولي العقل أظهر ،
ولا يمنع ذلك من صحة صدقه في غير مورد أولي العقل بحسب الاستعمال أو بعناية.
والله سبحانه
قاهر فوق عباده يمسهم بالضر وبالخير ويذللهم لمطاوعته وقاهر فوق عباده فيما
يفعلونه ويؤثرون به من أثر لأنه المالك لما ملكهم والقادر على ما عليه أقدرهم.
ولما نسب في
الآيتين إليه المس بالضر والخير ، وقد ينسبان إلى غيره ، ميز مقامه من مقام غيره
بقوله في ذيل الآية : «
وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ » فهو الحكيم لا يفعل ما يفعل جزافا وجهلا ، الخبير لا
يخطئ ولا يغلط كغيره.
( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ
أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ
هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ
أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ
وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ
يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) )
(
بيان )
احتجاج على
الوحدانية من طريق الوحي فإن وحدة الإله وانتفاء الشريك عنه وإن كانت مما يناله
العقل بوجوه من النيل فلا مانع من إثباته من طريق الوحي الصريح الذي لا مرية فيه ،
فالمطلوب هو اليقين بأنه تعالى إله واحد لا شريك له ، وإذا فرض حصوله من طريق
الوحي الذي لا يداخله ريب في كونه وحيا إلهيا كالقرآن المتكئ على التحدي فلا مانع
من الاستناد إليه.
قوله
تعالى : « قُلْ أَيُّ شَيْءٍ
أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ » أمر نبيه أن يسألهم عن أكبر الأشياء من حيث الشهادة ،
والشهادة هي تحمل الخبر عن نوع من العيان كالإبصار ونحوه ، وأداء ما تحمل كذلك
بالإخبار والإنباء ، وإذ كان التحمل والأداء ـ وخاصة التحمل ـ مما يختلف بحسب
إدراك المتحملين وبحسب وضوح الخبر الذي تحمله المتحمل ، وبحسب قوة المؤدى بيانا
وضعفه اختلافا فاحشا.
فليس المتحمل
الذي يغلب على مزاجه السهو والنسيان أو الغفلة كالذي يحفظ ما يعيه سمعه ويقع عليه
بصره ، وليس الصاحي كالسكران ولا الخبير الأخصائي بأمر كالأجنبي الأعزل.
وإذا كان الأمر
على ذلك فلا يقع ريب في أن الله سبحانه هو أكبر من كل شيء
شهادة فإنه هو الذي أوجد كل ما دق وجل من الأشياء ، وإليه ينتهي كل أمر
وخلق ، وهو المحيط بكل شيء ومع كل شيء لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات
والأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر لا يضل ولا ينسى.
ولكون الأمر بينا
لا يقع فيه شك لم يحتج إلى إيراد الجواب في اللفظ بأن يقال : قل الله أكبر شهادة ،
كما قيل : « قُلْ
لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ » : ( الأنعام ـ ١٢ ) أو يقال : سيقولون الله ، كما قيل
: « قُلْ
لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ » : ( المؤمنون : ٨٥ ).
على أن قوله :
« قُلِ
اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ » يدل عليه ويسد مسده ، وليس من البعيد أن يكون قوله « شَهِيدٌ » خبرا لمبتدإ ، محذوف هو الضمير العائد إلى الله ،
والتقدير : « قل الله هو شهيد بيني وبينكم » فتشتمل الجملة على جواب السؤال وعلى
ما استؤنف من الكلام.
وقوله : « قُلِ اللهُ شَهِيدٌ
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ » على أنه يشتمل على إخباره صلىاللهعليهوآله بشهادة الله تعالى هو بنفسه شهادة لمكان قوله : « قُلْ » إذ أمره بأن يخبرهم بشهادته تعالى بالنبوة لا ينفك عن
الشهادة بذلك ، وعلى هذا فلا حاجة إلى التشبث بأنواع ما وقع في القرآن الكريم من
شهادة الله تعالى على نبوته صلىاللهعليهوآله وعلى نزول القرآن من عنده كقوله تعالى : « وَاللهُ يَعْلَمُ
إِنَّكَ لَرَسُولُهُ » : ( المنافقون : ١ ) أو قوله : « لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ
أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ » : ( النساء : ١٦٦ ) وغير ذلك من الآيات الدالة على ذلك تصريحا أو تلويحا
بلفظ الشهادة أو بغيره.
وتقييد شهادته
تعالى بقوله « بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ » يدل على توسطه تعالى بين طرفين متخاصمين هما النبي صلىاللهعليهوآله وقومه ، والنبي لم ينعزل عنهم ولم يتميز منهم في جانب
إلا في دعوى النبوة والرسالة ودعوى نزول القرآن لكن نزول القرآن بالوحي قد ذكر بعد
في قوله : « وَأُوحِيَ
إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ » فالمراد بشهادته تعالى بينه وبينهم شهادته بنبوته ، ويؤيده أيضا قوله في
الآية التالية : « الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ » على ما سيجيء إن شاء الله.
قوله تعالى : « وَأُوحِيَ إِلَيَّ
هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ » من مقول القول
وهو معطوف على قوله : «
اللهُ شَهِيدٌ » إلخ ، وجعل الإنذار غاية لنزول القرآن الكريم أخذ بمسلك الخوف في الدعوة
النبوية ، وهو الأوقع في أفهام عامة الناس فإن مسلك الرجاء والوعد وإن كان أحد
الطريقين في الدعوة ، وقد استعمله الكتاب العزيز في الجملة لكن رجاء الخير لا يبعث
إلى طلبه بعثا إلزاميا وإنما يورث شوقا ورغبة بخلاف الخوف لوجوب دفع الضرر المحتمل
عقلا.
ولأن دعوة
الإسلام إنما هي إلى دين الفطرة ، وهو مخزون مكنوز في فطرة الناس وإنما حجبهم عنه
ما ابتلوا به من الشرك والمعصية مما يوجب عليهم غلبة الشقوة ونزول السخط الإلهي
فالأقرب إلى الحكمة والحزم في دعوتهم أن تبدأ بالإنذار ، ولهذا كله ربما حصر شأن
النبي صلىاللهعليهوآله في الإنذار كما في قوله : « إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ » : ( الفاطر ـ ٢٣ ) وقوله : « وَإِنَّما أَنَا
نَذِيرٌ مُبِينٌ » : ( العنكبوت : ٥٠ ).
هذا في عامة
الناس وأما الخاصة من عباد الله ، وهم الذين يعبدونه حبا له لا خوفا من نار ولا
طمعا في جنة فإنهم يتلقون من الدعوة بالخوف والرجاء أمرا آخر فإنهم يتلقون من
النار أنها دار بعد وسخط فيخافونها لذلك ، ومن الجنة أنها ساحة قرب ورضوان
فيشتاقون إليها لذلك.
وظاهر قوله : « لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ
وَمَنْ بَلَغَ » أنه خطاب لمشركي مكة أو لقريش أو للعرب عامة إلا أن التقابل بين ضمير
الخطاب وبين من بلغ ـ والمراد بمن بلغ هو من لم يشافهه النبي صلىاللهعليهوآله بالدعوة في زمن حياته أو بعده ـ يدل على أن المراد
بالمخاطبين في قوله : «
لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ » هم الذين شافههم النبي صلىاللهعليهوآله بالدعوة ممن تقدم دعاؤه على نزول الآية أو قارنه أو
تأخر عنه.
فقوله : « وَأُوحِيَ إِلَيَّ
هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ » يدل على عموم رسالته صلىاللهعليهوآله بالقرآن لكل من سمعه منه أو سمعه من غيره إلى يوم
القيامة ، وإن شئت فقل : تدل الآية على كون القرآن الكريم حجة من الله وكتابا له
ينطق بالحق على أهل الدنيا من لدن نزوله إلى يوم القيامة.
وقد قيل : « لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ » ولم يقل : لأنذركم بقراءته فالقرآن حجة على من سمع
لفظه وعرف معناه واهتدى إلى مقاصده ، أو فسر له لفظه وقرع سمعه بمضامينه
فليس من شرط كتاب مكتوب إلى قوم أن يكون بلسانهم بل أن تقوم عليهم حجته
وتشملهم مضامينه ، وقد دعا صلىاللهعليهوآله بكتابه إلى مصر والحبشة والروم وإيران ولسانهم غير لسان
القرآن ، وقد كان فيمن آمن به في حياته وقبل إيمانهم سلمان الفارسي وبلال الحبشي
وصهيب الرومي وعدة من اليهود ولسانهم عبري هذا كله مما لا ريب فيه.
قوله
تعالى : « أَإِنَّكُمْ
لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ » إلى آخر الآية ، لما ذكر شهادة الله وهو أكبر شهادة
على رسالته ولم يرسل إلا ليدعوهم إلى دين التوحيد ، وليس لأحد بعد شهادة الله
سبحانه على أن لا شريك له في ألوهيته أن يشهد أن مع الله آلهة أمر نبيه أن يسألهم
سؤال متعجب منكر : هل يشهدون بتعدد الآلهة ، وهذا هو الذي يدل عليه تأكيد المسئول
عنه بأن واللام ، كأن النفس لا تقبل أن يشهدوا به بعد أن سمعوا شهادة الله تعالى.
ثم أمره أن
يخالفهم في الشهادة فينفي عن نفسه الشهادة بما شهدوا به فقال : « قُلْ لا أَشْهَدُ » أي بما شهدتم به بقرينة المقام ، ثم قال : « قُلْ إِنَّما هُوَ
إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ » وهو شهادة على وحدانيته تعالى ، والبراءة مما يدعون له
من شركاء.
قوله
تعالى : « الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ » وهذا إخبار عما شهد به الله سبحانه في الكتب المنزلة
على أهل الكتاب ، وعلمه علماء أهل الكتاب مما عندهم من كتب الأنبياء من البشارة
بعد البشارة بالنبي صلىاللهعليهوآله ووصفه بما لا يعتريه شك ولا يطرأ عليه ريب.
فهم بما
استحضروا من نعته صلىاللهعليهوآله يعرفونه بعينه كما يعرفون أبناءهم ، قال تعالى : « الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً
عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ » : ( الأعراف : ١٥٧ ) وقال تعالى : «
مُحَمَّدٌ
رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ
بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ
وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ
فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ
» ( الفتح : ٢٩ ) ،
وقال تعالى : « أَوَلَمْ
يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ » : ( الشعراء : ١٩٧ ).
ولما كان بعض
علمائهم يكتمون ما عندهم من بشاراته ونعوته صلىاللهعليهوآله ويستنكفون عن الإيمان به بين الله تعالى خسرانهم في
أمرهم فقال : « الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ
فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ».
وقد تقدم بعض
الكلام في تفسير نظيرة الآية من سورة البقرة ( آية ١٤٦ ) وبينا هناك وجه الالتفات
من الحضور إلى الغيبة وسيأتي تمام الكلام في سورة الأعراف ( آية ١٥٦ ) إن شاء الله
تعالى.
(
بحث روائي )
في تفسير
البرهان ، عن ابن بابويه بإسناده عن محمد بن عيسى بن عبيد قال : قال لي أبو الحسن عليهالسلام : ما تقول إذا قيل لك : أخبرني عن الله عز وجل أشيء أم
لا شيء؟ قال : قلت : قد أثبت الله عز وجل نفسه شيئا ـ حيث يقول : « قُلْ أَيُّ شَيْءٍ
أَكْبَرُ شَهادَةً ـ قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ » وأقول : إنه شيء لا كالأشياء ـ إذ في نفي الشيئية عنه
نفيه وإبطاله : قال لي : صدقت وأحسنت.
قال الرضا عليهالسلام : للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب : نفي ، وتشبيه ،
وإثبات بغير تشبيه ـ فمذهب النفي لا يجوز ، ومذهب التشبيه لا يجوز ـ لأن الله
تبارك وتعالى لا يشبهه شيء ، والسبيل في الطريقة الثالثة إثبات بلا تشبيه.
أقول
: المراد بمذهب
النفي نفي معاني الصفات عنه تعالى كما ذهبت إليه المعتزلة ، وفي معناه إرجاع
الصفات الثبوتية إلى نفي ما يقابلها كالقول بأن معنى القادر أنه ليس بعاجز ، ومعنى
العالم أنه ليس بجاهل إلا أن يرجع إلى ما ذكره عليهالسلام من المذهب الثالث.
والمراد بمذهب
التشبيه أن يشبهه تعالى بغيره ـ وليس كمثله شيء ـ أي أن يثبت له من الصفة معناه
المحدود الذي فينا المتميز من غيره من الصفات بأن يكون قدرته كقدرتنا وعلمه كعلمنا
، وهكذا ، ولو كان ما له من الصفة كصفتنا احتاج كاحتياجنا فلم يكن واجبا تعالى عن
ذلك.
والمراد بمذهب
الإثبات من غير تشبيه أن يثبت له من الصفة أصل معناه وتنفى
عنه خصوصيته التي قارنته في الممكنات المخلوقة أي تثبت الصفة وينفي الحد.
وفي تفسير
القمي ، : في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليهالسلام : «
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ » وذلك أن مشركي أهل مكة قالوا : يا محمد ما وجد الله
رسولا أرسله غيرك؟ ما نرى أحدا يصدقك بالذي تقول ـ ذلك في أول ما دعاهم وهم يومئذ
بمكة ـ قالوا : ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى ـ فزعموا أنه ليس لك ذكر عندهم ،
فأتنا بمن يشهد أنك رسول الله ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : ( اللهُ شَهِيدٌ
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ).
وفي تفسير
العياشي ، عن بكير عن محمد عن أبي جعفر عليهالسلام : في قول الله : « لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ » قال : علي عليهالسلام ممن بلغ.
أقول
: ظاهره أن « مَنْ بَلَغَ » معطوف على ضمير « بَيْنَكُمْ » ، ولقد ورد في بعض الروايات أن المراد بمن بلغ هو
الإمام ، ولازمه عطف «
مَنْ بَلَغَ » على فاعل «
لِأُنْذِرَكُمْ » المقدر ، وظاهر الآية هو الأول.
وفي تفسير
البرهان ، عن ابن بابويه بإسناده عن يحيى بن عمران الحلبي عن أبيه عن أبي عبد الله
عليهالسلام قال : سئل عن قول الله عز وجل : « وَأُوحِيَ إِلَيَّ
هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ » قال : بكل لسان.
أقول
: قد مر وجه
استفادته من الآية.
وفي تفسير
المنار ، : أخرج أبو الشيخ عن أبي بن كعب قال : أتي رسول الله صلىاللهعليهوآله بأسارى فقال لهم : هل دعيتم إلى الإسلام؟ قالوا : لا ،
فخلى سبيلهم ثم قرأ : «
وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ » ثم قال : خلوا سبيلهم حتى يأتوا مأمنهم ـ من أجل أنهم
لم يدعوا.
وفي تفسير
القمي : أن عمر بن الخطاب قال لعبد الله بن سلام : هل تعرفون محمدا في كتابكم؟ قال
: نعم والله نعرفه ـ بالنعت الذي نعته الله لنا إذ رأيناه فيكم ـ كما يعرف أحدنا
ابنه إذا رآه مع الغلمان.
والذي يحلف به
ابن سلام : لأنا بمحمد هذا أشد معرفة مني بابني.
وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا
يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ
لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢)
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا
مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا
كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ
يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ
وَما يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا
لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
(٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا
لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ
حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا
عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ
فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ
السَّاعَةُ
بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ
أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ
يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢)
(
بيان )
تعود الآيات
إلى أصل السياق وهو الحضور فتلتفت إلى النبي صلىاللهعليهوآله بالخطاب فتذكر له مظالم المشركين في أصول العقائد
الطاهرة وهي التوحيد والاعتقاد بالنبوة والمعاد ، وذلك قوله تعالى : « وَمَنْ أَظْلَمُ » إلخ ، وقوله : « وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ » إلخ ، وقوله : « وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا
الدُّنْيا » إلخ.
ثم تبين أن ذلك
منهم أشد الظلم وإهلاك لأنفسهم وخسران لها ، وتبين كيف تنعكس إليهم وتوافيهم هذه
المظالم يوم القيامة فيكذبون على أنفسهم بإنكار ما قالوا في الدنيا ويتمنون الرجوع
إلى الدنيا ليعملوا الصالحات ، ويبدون التحسر على ما فرطوا في جنب الله سبحانه.
قوله
تعالى : « وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ » الظلم من أشنع الذنوب بل التحليل الدقيق يقضي أن سائر
الذنوب إنما هي شنيعة مذمومة بمقدار ما فيها من معنى الظلم ، وهو الانحراف والخروج
عن الوسط العدل.
والظلم كما
يكبر ويصغر من جهة خصوصيات من صدر عنه الظلم كذلك يختلف حاله بالكبر والصغر من جهة
من وقع عليه الظلم أو أريد إيقاعه عليه فكلما جل موقعه وعظم شأنه كان الظلم أكبر
وأعظم ، ولا أعز قدرا وأكرم ساحة من الله سبحانه ولا من آياته الدالة عليه ، فلا
أظلم ممن ظلم هذه الساحة المنزهة أو ما ينتسب إليها بوجه ، ولا يظلم إلا نفسه.
وقد صدق الله
سبحانه هذه النظرة العقلية بقوله : « وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى
اللهِ
كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ
» أما افتراء الكذب
عليه تعالى فبإثبات الشريك له ، ولا شريك له ، أو دعوى النبوة أو نسبة حكم إليه
كذبا وابتداعا ، وأما تكذيب آياته الدالة عليه فكتكذيب النبي الصادق في دعواه
المقارنة للآيات الإلهية أو إنكار الدين الحق ، ومنه إنكار الصانع أصلا.
والآية تنطبق
على المشركين ، وهم أهل الأوثان الذين إليهم وجه الاحتجاج من جهة أنهم أثبتوا لله
سبحانه شركاء بعنوان أنهم شفعاء مصادر أمور في الكون ، وإليهم ينتهي تدبير شئون
العالم مستقلين بذلك ، ومن جهة أنهم أنكروا آياته تعالى الدالة على النبوة
والمعاد.
وربما ألحق
بعضهم بذلك القائلين بجواز شفاعة النبي صلىاللهعليهوآله أو الطاهرين من ذريته أو الأولياء الكرام من أمته فقضى
بكون الاستشفاع بهم في شيء من حوائج الدنيا أو الآخرة شركا تشمله الآية وما
يناظرها من الآيات الشريفة.
وكأنه خفي
عليهم أنه تعالى أثبت الشفاعة إذا قارنت الإذن في كلامه من غير أن يقيده بدنيا أو
آخرة ، فقال عز من قائل : «
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ » : ( البقرة : (٢٥٥).
على أنه تعالى
قال : « وَلا
يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ
بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ » : ( الزخرف : ٨٦ ) فأثبت الشفاعة حقا للعلماء الشهداء
بالحق ، والقدر المتيقن منهم الأنبياء ومنهم النبي صلىاللهعليهوآله ، وقد أثبت الله سبحانه شهادته بقوله : « وَجِئْنا بِكَ عَلى
هؤُلاءِ شَهِيداً » : ( النساء : ٤١ ) ونص على علمه حيث قال : « وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً
لِكُلِّ شَيْءٍ » : ( النحل : ٨٩ ) ، وقال : « نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى
قَلْبِكَ » ( الشعراء :
١٩٤ ) وهل يعقل نزول الكتاب الذي هو تبيان كل شيء على قلب من غير علم به ، أو بعثه
تعالى إياه شهيدا وليس بشهيد بالحق؟ وقال الله تعالى : « لِتَكُونُوا شُهَداءَ
عَلَى النَّاسِ » : ( البقرة : (١٤٣) ، وقال : « وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ » : ( آل عمران : ١٤٠ ) ، وقال تعالى : « وَتِلْكَ الْأَمْثالُ
نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ » : ( العنكبوت : ٤٣ ) فأثبت في هذه الأمة شهداء علماء
ولا يثبت إلا الحق.
وقال تعالى في
أهل بيته عليهالسلام : « إِنَّما يُرِيدُ اللهُ
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ
أَهْلَ
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً
» : ( الأحزاب : ٣٣ )
فبين أنهم مطهرون بتطهيره ، ثم قال : « إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ، فِي كِتابٍ
مَكْنُونٍ ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ » : ( الواقعة : ٧٩ ) فعدهم العلماء بالقرآن الذي هو
تبيان كل شيء والمطهرون هم القدر المتيقن من هذه الأمة في الشهادة بالحق التي لا
سبيل للغو والتأثيم إليها ، وقد أشبعنا الكلام في معنى الشفاعة في الجزء الأول من
الكتاب فليراجع.
قوله
تعالى : « إِنَّهُ لا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ » الفلاح والفوز والنجاح والظفر والسعادة ألفاظ قريبة المعنى ، ولهذا فسر الراغب الفلاح بإدراك
البغية الذي هو معنى السعادة تقريبا ، قال في المفردات : الفلح : الشق ، وقيل الحديد بالحديد يفلح أي يشق ، والفلاح
الأكار لذلك والفلاح الظفر وإدراك البغية ، وذلك ضربان دنيوي وأخروي :
فالدنيوي الظفر
بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا وهو البقاء والغنى والعز وإياه قصد الشاعر
بقوله :
أفلح بما شئت
فقد يدرك
|
|
بالضعف وقد يخدع
الأريب
|
وفلاح أخروي ،
وذلك أربعة أشياء : بقاء بلا فناء ، وغنى بلا فقر ، وعز بلا ذل ، وعلم بلا جهل.
انتهى ، فمن الممكن أن يقال : إن الفلاح هو السعادة سميت به لأن فيها الظفر وإدراك
البغية بشق الموانع الحائلة دون المطلوب.
وهذا معنى جامع
ينطبق على موارد الاستعمال كقوله : « قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ » : ( المؤمنون : ١ ) ، وقوله : « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
زَكَّاها » : ( الشمس :
٩ ) ، وقوله : « إِنَّهُ
لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ » : ( المؤمنون : ١١٧ ) إلى غير ذلك من الموارد.
فقوله : « إِنَّهُ لا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ » ـ وقد أخذ الظلم وصفا ـ معناه أن الظالمين لا يدركون بغيتهم التي تشبثوا
لأجل إدراكها بما تشبثوا به فإن الظلم لا يهدي الظالم إلى ما يبتغيه من السعادة
والظفر بواسطة ظلمه.
وذلك أن
السعادة لن تكون سعادة إلا إذا كانت بغية ومطلوبا بحسب واقع الأمر وخارج الوجود ،
ويكون حينئذ الشيء الذي يطلب هذه البغية والسعادة بحسب وجوده طبيعة كونه مجهزا بما
يناسب هذه السعادة المطلوبة من الأسباب والأدوات
كالإنسان الذي من سعادته المطلوبة أن يبقى بقاء بوضع البدل مكان ما تحلل من
بنيته ثم هو مجهز بجهاز التغذي الدقيق الذي يناسب ذلك ، والأدوات والأسباب
الملائمة له ، ثم في المادة الخارجية ما يوافق مزاج بنيته فيأخذها بالأسباب
والأدوات المهيأة لذلك ، ثم يصفيه ويبدل صورته إلى ما يشابه صورة المتحلل من بدنه
ثم يلصقه ببدنه فيعود البدن تاما بعد نقصانه ، وهذا حكم عام جار في جميع الأنواع
الخارجية التي تناله حواسنا ويسعه استقراؤنا من غير تخلف واختلاف البتة.
وعلى هذا يجري
نظام الكون في مسيره فلكل غاية مطلوبة وسعادة مقصودة طريق خاص لا يسلك إليها إلا
منه ، ولو توصل إليها من غير سببه الذي يألفها النظام أوجب ذلك العطل في السبب
وبطلان الطريق ، وفي عطله وبطلانه فساد جميع ما يرتبط ويتعلق به من الأسباب
والعلائق كالإنسان الذي فرض توصله إلى إبقاء الوجود من غير طريق التناول والالتقام
والهضم فإن ذلك يفضي إلى عطل قوته الغاذية ، وفي عطله انحراف قوتيه المنمية
والمولدة مثلا جميعا.
وقد اقتضت
العناية الإلهية في هذه الأنواع التي تعيش بالشعور والإرادة أن تعيش بتطبيق
أعمالها على ما حصلته من العلم بالخارج فلو انحرفت عن الخارج لعارض ما كان في ذلك
بطلان العمل ، ولو تكرر ذلك بطلت الذات كالإنسان المريد للأكل إذا غلط وحسب السم
غذاء أو الطين خبزا ونحو ذلك.
وللإنسان عقائد
وآراء عامة متولدة من نظام الكون الخارجي يضعها أصلا ويطبق عمله عليها كالعائد
الراجعة إلى المبدإ والمعاد ، والأحكام العملية التي يجعلها مقاييس لأعماله من
العبادات والمعاملات.
وهذه طرق إلى
السعادات الإنسانية بحسب طبعها لا طريق إليها دونها إذا سلكها الإنسان أدرك بغيته
وظفر بسعادته ، ولو انحرف عنها إلى غيرها ـ وهو الظلم ـ لم يوصله إلى بغيته ولئن
أوصله إليه لم يثبت عليه ، ولم يدم له ذلك فإن سائر الطرق والسبل مربوطة به
فتنازعه في ذلك ، وتخالفه وتضاده بجميع ما لها من الوسع والطاقة ، ثم أجزاء الكون
الخارجي الذي هو السبب لانتشاء هذه الآراء والأحكام لا توافقه في عمله ، ولا تزال
على هذا الحال حتى تقلب له الأمر ، وتفسد عليه سعادته ، وتنغص عليه عيشته.
فالظالم ربما
دعته طاغية الشره إلى أن يستعمل ما له من العزة بالإثم والقدرة الكاذبة في الحصول
على بغية وسعادة من غير طريقه المشروع ، فيخالف الاعتقاد الحق لتوحيد الله سبحانه
، أو ينازع الحقوق المشروعة فيتعدى إلى أموال الناس فيغصبها ظلما ، أو إلى أعراض
الناس فيهتك أستارهم عنوة ، أو إلى دمائهم ونفوسهم فيتصرف فيها من غير حق أو يعصي
في شيء من نواميس العبودية لله سبحانه بصلاة أو صوم أو حج أو غيرها ، أو يقترف
شيئا من الذنوب المتعلقة بذلك ، كالكذب والفرية والخدعة ونحوها.
يأتي بشيء من
ذلك وربما أدرك ما قصده ، وهو طيب النفس بما ظفر به من مطلوبه بحسب زعمه ، وقد ذهب
عن خسران صفقته وخيبة مسعاه في دنياه وآخرته.
أما في دنياه
فلأن ما سلكه من الطريق إنما هو طريق الهرج والمرج واختلال النظام إذ لو كان طريقا
حقا لعم ولو عم أبطل النظام ، ولو بطل النظام بطلت حياة المجتمع الإنساني فالنظام
الذي يضمن بقاء النوع الإنساني كائنا ما كان ينازعه فيما حازه بعمله غير المشروع ،
ولا يزال على المنازعة حتى يفسد عليه مقتضى عمله ونتيجة سعيه المشئوم عاجلا أو على
مهل ولن يدوم ظلمه البتة.
وأما في الآخرة
فلأن ظلمه مكتوب في صحيفة عمله ، وهو منقوش في لوح نفسه بما يورد عليها من الأثر
ثم هو مجزي به عائش على وتيرته ، وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به
الله.
قال الله تعالى
: « أَفَتُؤْمِنُونَ
بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ
مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ
إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ » : ( البقرة : ٨٥ ) ، وقال : « كَذَّبَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ، فَأَذاقَهُمُ
اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ
كانُوا يَعْلَمُونَ » ( الزمر : ٢٦ ) وقال : «
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ
مُنِيرٍ ، ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا
خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ ، ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ
يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ » : ( الحج : ١٠ ) إلى غير ذلك من الآيات وهي كثيرة.
والآيات ـ كما
ترى ـ تشمل المظالم الاجتماعية والفردية فهي تصدق ما تقدم من
البحث ، وأشملها مضمونا الآية المبحوث عنها : « إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ».
قوله
تعالى : « وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً » إلى آخر الآيتين ، الظرف متعلق بمقدر والتقدير : واذكر يوم « إلخ » ، وقد
تعلقت العناية في الكلام بقوله «
جَمِيعاً » للدلالة على
أن العلم والقدرة لا يتخلفان عن أحد منهم ، فالله سبحانه محيط بجميعهم علما وقدرة
سيحصيهم ويحشرهم ولا يغادر منهم أحدا.
والجملة في
مقام بيان قوله : «
إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ » كأنه لما قيل : « إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ » سئل فقيل : وكيف ذلك؟ فقيل : لأن الله سيحشرهم ويسألهم
عن شركائهم فيضلون عنهم ويفقدونهم فينكرون شركهم ويقسمون لذلك بالله كذبا ، ولو
أفلح هؤلاء الظالمون في اتخاذهم لله شركاء لم يضل عنهم شركاؤهم ، ولم يكذبوا على
أنفسهم بل وجدوهم على ما ادعوا من الشركة والشفاعة ونالوا شفاعتهم.
وقوله : « ثُمَّ لَمْ تَكُنْ
فِتْنَتُهُمْ » إلخ ، قيل : المراد بالفتنة الجواب أي لم يكن جوابهم إلا أن أقسموا بالله
على أنهم ما كانوا مشركين ، وقيل : الكلام على تقدير مضاف والمراد : لم تكن عاقبة
افتتانهم بالأوثان إلا أن قالوا « إلخ » ، وقيل : المراد بالفتنة المعذرة ، ولكل
من الوجوه وجه.
قوله
تعالى : « انْظُرْ كَيْفَ
كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ » بيان لمحل الاستشهاد فيما قص من حالهم يوم القيامة ،
والمراد أنهم سيكذبون على أنفسهم ويفقدون ما افتروا به ، ولو أفلحوا في ظلمهم
وسعدوا فيما طلبوا لم ينجر أمرهم إلى فقد ذلك وإنكاره على أنفسهم.
أما كذبهم على
أنفسهم فلأنهم لما أقسموا بالله أنهم ما كانوا مشركين أنكروا ما ادعوه في الدنيا
من أن لله سبحانه شركاء ، وهم كانوا يصرون عليه ويعرضون فيه عن كل حجة واضحة وآية
بينة ظلما وعتوا ، وهذا كذب منهم على أنفسهم.
وأما ضلال ما
كانوا يفترونه عنهم فلأن اليوم يوم ينجلي فيه عيانا أن الأمر والملك والقوة لله
جميعا ليس لغيره من شيء إلا ذلة العبودية ، والفقر والحاجة من غير أي استقلال قال
تعالى : « وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ
الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ
الْعَذابِ
» : ( البقرة : ١٦٥ )
، وقال : « لِمَنِ
الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ » : ( المؤمن : ١٦ ) وقال : « يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ،
وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ » : ( الانفطار : ١٩ ).
فيشاهدون عندئذ
مشاهدة عيان أن الألوهية لله وحده لا شريك له ، ويظهر لهم أوثانهم وشركاؤهم وهم لا
يملكون ضرا ولا نفعا لأنفسهم ولا لغيرهم ، ووجدوا الأوصاف التي أثبتوها لهم من
الربوبية والشفاعة وغيرهما إنما هي لله وحده ، وقد كان اشتبه عليهم الأمر فتوهموها
لغيره وضل عنهم ما كانوا يفترون.
فإن استمدوا
منهم ردوا عليهم ردا لا مطمع معه بعد قال تعالى : « وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا
شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ
دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ ، وَأَلْقَوْا
إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ » : ( النحل : ٨٧ ) وقال تعالى : « ذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ
قِطْمِيرٍ ، إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا
اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ » ( الفاطر : ١٤ ) وقال تعالى : « وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ
وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا
تَعْبُدُونَ ، فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ
عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ ، هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ
وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا
يَفْتَرُونَ » : ( يونس : ٣٠ ).
وبالتدبير في
هذه الآيات يظهر أن المراد بضلال ما افتروا به هو ظهور حقيقة شركائهم فاقدة لوصف
الشركة والشفاعة وتبينهم أن ما ظهر لهم من ذلك في الدنيا لم يكن إلا ظهورا سرابيا
كما قال تعالى : «
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً
حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ
حِسابَهُ » : ( النور :
٣٩ ).
فإن
قلت : إن الآيات
المتعرضة لوصف يوم القيامة ـ كما تقدم ـ ظاهرة في بروز الحقائق وخروجها عن مكمن
الخفاء والالتباس الذي هو من لوازم النشأة الأولى الدنيوية كما قال تعالى : « يَوْمَ هُمْ
بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ » : ( المؤمن : ١٦ ) فأي نفع حينئذ لكذبهم؟ وكيف يكذبون
وما أخبروا به من الكذب مشهود خلافه عيانا؟ وقد قال تعالى : « يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ
نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ » : ( آل عمران : ٣٠ ).
قلت
: كذبهم وحلفهم
على الكذب يوم القيامة مما وقع في كلامه تعالى غير مرة ، ومثل الآية قوله تعالى :
« يَوْمَ
يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ » : ( المجادلة : ١٨ ) وليس كذبهم وحلفهم عليه للتوصل به
إلى الأغراض الفاسدة وستر الحق كما يتوصل إليها بالكذب في الدنيا فإن الآخرة دار
جزاء لا دار عمل واكتساب.
لكنهم لكونهم
اعتادوا أن يتفصوا من المخاطرات والمهالك ويجلبوا المنافع إليهم بالأيمان الكاذبة
والأخبار المزورة خدعة وغرورا رسخت في نفوسهم ملكة الكذب ، والملكة إذا رسخت في
النفس اضطرت النفس إلى إجابتها إلى ما تدعو إليه ، وذلك كما أن البذي الفحاش إذا
استقرت في نفسه ملكة السب لا يقدر على الكف عنه وإن عزم عليه والمستكبر اللجوج
العنود لا يملك من نفسه أن يتواضع ، وإن خضع في موقف المهلكة والذلة أحيانا فإنما
يخضع ظاهرا وبلسانه ، وأما باطنا وفي قلبه فهو على حاله لم يتغير ولن يتغير البتة.
وهذا هو السر
في كذبهم يوم القيامة لأنه يوم تبلى فيه السرائر والسريرة المعقودة على الكذب ليس
فيها إلا الكذب فيظهر ما استقر فيه كما قال تعالى : « وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً » : ( النساء : ٤٢ ) ونظيره التخاصم الدائر بين أهل
الدنيا فإنه يظهر بعينه يوم القيامة بينهم ، وقد قص الله سبحانه ذلك في مواضع
كثيرة من كلامه ، وأجمله في قوله :
« إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ
تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ » : ( ـ ص : ٦٤ ) هذا في أهل العذاب وأما أهل المغفرة والجنة فيظهر منهم
هناك ما كان في نفوسهم هاهنا من الصفا والسلامة ، قال تعالى : « لا يَسْمَعُونَ فِيها
لَغْواً وَلا تَأْثِيماً ، إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً » : ( الواقعة : ٢٦ ) فافهم ذلك.
قوله
تعالى : « وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ » إلى آخر الآية ، الأكنة جمع كن بكسر الكاف وهو الغطاء الذي يكن فيه الشيء ويغطى
، والوقر هو الثقل في السمع ، والأساطير جمع أسطورة بمعنى الكذب والمين على ما نقل عن المبرد ،
وكان أصله السطر وهو الصف من الكتابة أو الشجر أو الناس غلب استعماله فيما جمع
ونظم ورتب من الأخبار الكاذبة.
وكان ظاهر
السياق أن يقال : يقولون إن هذا إلا أساطير الأولين ، ولعل الإظهار للإشعار بالسبب
في هذا الرمي وهو الكفر.
قوله
تعالى : « وَهُمْ يَنْهَوْنَ
عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما
يَشْعُرُونَ » ينهون عنه أي عن اتباعه ، والنأي الابتعاد ، والقصر في قوله : « وَإِنْ يُهْلِكُونَ
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ » من قصر القلب فإنهم كانوا يحسبون أن النهي عنه والنأي عنه إهلاك له
وإبطال للدعوة الإلهية ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره فهم هم الهالكون من حيث لا
يشعرون.
قوله
تعالى : « وَلَوْ تَرى إِذْ
وُقِفُوا عَلَى النَّارِ » إلى آخر الآيتين. بيان لعاقبة جحودهم وإصرارهم على الكفر والإعراض عن
آيات الله تعالى.
وقوله : « يا لَيْتَنا نُرَدُّ
وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا » إلخ ، على قراءة النصب في « نُكَذِّبَ » و «
نَكُونَ » تمن منهم
للرجوع إلى الدنيا والانسلاك في سلك المؤمنين ليخلصوا به من عذاب النار يوم
القيامة ، وهذا القول منهم نظير إنكارهم الشرك بالله وحلفهم بالله على ذلك كذبا من
باب ظهور ملكاتهم النفسانية يوم القيامة فإنهم قد اعتادوا التمني فيما لا سبيل لهم
إلى حيازته من الخيرات والمنافع الفائتة عنهم ، وخاصة إذا كان فوتها مستندا إلى
سوء اختيارهم وقصور تدبيرهم في العمل ، ونظيره أيضا ما سيجيء من تحسرهم على ما
فرطوا في أمر الساعة.
على أن التمني
يصح في المحالات المتعذرة كما يصح في الممكنات المتعسرة كتمني رجوع الأيام الخالية
وغير ذلك قال الشاعر :
ليت وهل ينفع
شيئا ليت
|
|
ليت الشباب
بوع فاشتريت
|
وقوله : « بَلْ بَدا لَهُمْ ما
كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ » إلخ ، ظاهر الكلام أن مرجع الضمائر أعني ضمائر « لَهُمْ » و «
كانُوا » و « يُخْفُونَ » واحد وهو المشركون السابق ذكرهم ، وأن المراد بالقبل
هو الدنيا فالمعنى أنه ظهر لهؤلاء المشركين حين وقفوا على النار ما كانوا هم
أنفسهم يخفونه في الدنيا فبعثهم ظهور ذلك على أن تمنوا الرد إلى الدنيا ، والإيمان
بآيات الله ، والدخول في جماعة المؤمنين.
ولم يبد لهم
إلا النار التي وقفوا عليها يوم القيامة فقد كانوا أخفوها في الدنيا بالكفر والستر
للحق والتغطية عليه بعد ظهوره لهم كما يشير إليه نحو قوله تعالى : « لَقَدْ كُنْتَ فِي
غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ » : ( ق : ٢٢ ).
وأما نفس الحق
الذي كفروا به في الدنيا مع ظهوره لهم فهو كان بادئا لهم من قبل والسياق يأبى أن
يكون مجرد ظهور الحق لهم مع الغض عن ظهور النار وهول يوم القيامة باعثا لهم على
هذا التمني.
ويشعر بذلك بعض
ما في نظير المقام من كلامه تعالى كقوله : « وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ
وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ
إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا
وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ » : ( الجاثية : ٣٣ ) ، وقوله : « وَلَوْ أَنَّ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا
بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ
يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ، وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما
كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ » : ( الزمر : ٤٨ ).
وقد ذكروا في
الآية أعني قوله : «
بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ » وجوها كثيرة أنهاها في المنار إلى تسعة أوجه قال : (
وفيه أقوال الأول أنه أعمالهم السيئة وقبائحهم الشائنة ظهرت لهم في صحائفهم ،
وشهدت بها عليهم جوارحهم.
الثاني : أنه
أعمالهم التي كانوا يفترون بها ويظنون أن سعادتهم فيها إذ يجعلها الله تعالى هباء
منثورا.
الثالث : أنه
كفرهم وتكذيبهم الذي أخفوه في الآخرة من قبل أن يوقفوا على النار كما تقدم حكايته
عنهم في قوله تعالى : «
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا
مُشْرِكِينَ ».
الرابع : أنه الحق
أو الإيمان الذي كانوا يسرونه ويخفونه بإظهار الكفر والتكذيب عنادا للرسول
واستكبارا عن الحق ، وهذا إنما ينطبق على أشد الناس كفرا من المعاندين المتكبرين
الذين قال في بعضهم : «
وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا ».
الخامس : أنه
ما كان يخفيه الرؤساء عن أتباعهم من الحق الذي جاءت به الرسل بدا للأتباع الذين
كانوا مقلدين لهم ، ومنه كتمان بعض أهل الكتاب لرسالة نبينا صلىاللهعليهوآله وصفاته وبشارة أنبيائهم به.
السادس : أنه
ما كان يخفيه المنافقون في الدنيا من أسرار الكفر وإظهار الإيمان والإسلام.
السابع : أنه
البعث والجزاء ومنه عذاب جهنم ، وأن إخفاءهم له عبارة عن تكذيبهم به ، وهو المعنى
الأصلي لمادة الكفر.
الثامن : أن في
الكلام مضافا محذوفا أي بدا لهم وبال ما كانوا يخفونه من الكفر والسيئات ونزل بهم
عقابه فتبرموا وتضجروا وتمنوا التفصي منه بالرد إلى الدنيا ، وترك ما أفضي إليه من
التكذيب بالآيات وعدم الإيمان كما يتمنى الموت من أمضه الداء العضال لأنه ينقذه من
الآلام لا لأنه محبوب في نفسه ، ونحن لا نرى رجحان قول من هذه الأقوال بل الصواب
عندنا قول آخر ، وهو :
التاسع : أنه
يظهر يومئذ لكل من أولئك الذين ورد الكلام فيهم ولأشباههم من الكفار ما كان يخفيه
في الدنيا ما هو قبيح في نظره أو نظر من يخفيه عنهم ، انتهى ، ثم عمم الكلام
لرؤساء الكفار وأتباعهم المقلدة وللمنافقين والفساق ممن يقترف الفواحش ويخفيها عن
الناس أو يترك الواجبات ويعتذر بأعذار كاذبة ويخفي حقيقة الحال في كلام طويل.
وبالرجوع إلى
ما قدمناه من الوجه والتأمل فيه يظهر ما في كل واحد من هذه الأقوال من وجوه الخلل
فلا نطيل.
وقوله : « وَلَوْ رُدُّوا
لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ » تذكير لفعل ما تقرر في نفوسهم من الملكات الرذيلة في
نشأة الدنيا فإن الذي بعثهم إلى تمني الرجوع إلى الدنيا والإيمان فيها بآيات الله
والدخول في جماعة المؤمنين إنما هو ظهور الحق المتروك بجميع ما يستتبعه من العذاب
يوم القيامة ، وهو من مقتضيات نشأة الآخرة المستلزمة لظهور الحقائق الغيبية ظهور
عيان.
ولو عادوا إلى
الدنيا لزمهم حكم النشأة ، وأسدلت عليهم حجب الغيب ، ورجعوا إلى اختيارهم ، ومعه
هوى النفس ووسوسة الشيطان وقرائح العباد والاستكبار والطغيان فعادوا إلى سابق
شركهم وعنادهم مع الحق فإن الذي دعاهم وهم في الدنيا إلى
مخالفة الحق والتكذيب بآيات الله تعالى هو على حاله مع فرض ردهم إلى الدنيا
بعد البعث ، فحكمه حكمه من غير فرق.
وقوله : « وَإِنَّهُمْ
لَكاذِبُونَ » أي في قولهم : «
يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا » إلخ ، والتمني وإن كان إنشاء لا يقع فيه الصدق والكذب
إلا أنهم لما قالوا : «
نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ » أي ردنا الله إلى الدنيا ولو ردنا لم نكذب ، ولم يقولوا : نعود ولا نكذب
، كان كلامهم مضمنا للمسألة والوعد أعني مسألة الرد ووعد الإيمان والعمل الصالح
كما صرح بذلك في قوله : «
وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا
أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ » : ( السجدة : ١٢ ) وقوله : « وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ
فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ » : ( الفاطر : ٣٧ ).
وبالجملة قولهم
: « يا
لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ » إلخ ، في معنى قولهم ربنا ردنا إلى الدنيا لا نكذب
بآياتك ونكن من المؤمنين ، وبهذا الاعتبار يحتمل الصدق والكذب ، ويصح عدهم كاذبين.
وربما وجه نسبة
الكذب إليهم في تمنيهم بأن المراد كذب الأمل والتمني وهو عدم تحققه خارجا كما يقال
: كذبك أملك ، لمن تمنى ما لا يدرك.
وربما قيل : إن
المراد كذبهم في سائر ما يخبرون به عن أنفسهم من إصابة الواقع واعتقاد الحق ، هو
كما ترى.
قوله
تعالى : « وَقالُوا إِنْ هِيَ
إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا » إلى آخر الآيتين. ذكر لإنكارهم الصريح للحشر وما يستتبعه يوم القيامة من
الإشهاد وأخذ الاعتراف بما أنكروه ، والوثنية كانت تنكر المعاد كما حكى الله عنهم
ذلك في كلامه غير مرة ، وقولهم بشفاعة الشركاء إنما كان في الأمور الدنيوية من جلب
المنافع إليهم ودفع المضار والمخاوف عنهم.
فقوله : « وَقالُوا إِنْ هِيَ » إلخ ، حكاية لإنكارهم أي ما الحياة إلا حياتنا الدنيا
لا حياة بعدها ، وما نحن بمبعوثين بعد الممات ، وقوله : « وَلَوْ تَرى إِذْ
وُقِفُوا » كالجواب وهو
بيان ما يستتبعه قولهم : ( إِنْ هِيَ إِلَّا ) ، « إلخ » للنبي صلىاللهعليهوآله في صورة التمني لمكان قوله :
« وَلَوْ
تَرى » وهو أنهم
سيصدقون بما جحدوه ، ويعترفون بما أنكروه بقولهم : « وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ » إذ يوقفون على ربهم فيشاهدون عيانا هذا الموقف الذي
أخبروا به في الدنيا ، وهو أنهم مبعوثون بعد الموت فيعترفون بذلك بعد ما أنكروه في
الدنيا.
ومن هنا يظهر
أن الله سبحانه فسر البعث في قوله : « وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ » بلقاء الله ، ويؤيده أيضا قوله في الآية التالية : « قَدْ خَسِرَ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ » إلخ ، حيث بدل الحشر والبعث والقيامة المذكورات في
سابق الكلام لقاء ثم ذكر الساعة أي ساعة اللقاء.
وقوله : « أَلَيْسَ هذا » أي أليس البعث الذي أنكرتموه في الدنيا وهو لقاء الله
«
بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ » به وتسترونه.
قوله
تعالى : « قَدْ خَسِرَ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ » إلى آخر الآية ، قال في المجمع ، : كل شيء أتى فجأة
فقد بغت يقال : بغته الأمر يبغته بغتة انتهى ، وقال الراغب في المفردات ، : الحسر كشف الملبس عما عليه يقال : حسرت عن الذراع ، والحاسر
من لا درع عليه ولا مغفر ، والمحسرة المكنسة ـ إلى أن قال ـ والحاسر المعيا لانكشاف
قواه ـ إلى أن قال ـ والحسرة الغم على ما فاته والندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل
الذي حمله على ما ارتكبه أو انحسر قواه من فرط غم أو أدركه إعياء عن تدارك ما فرط
منه. انتهى موضع الحاجة.
وقال : الوزر ( بفتحتين ) الملجأ الذي يلتجأ إليه من الجبل ، قال : « كَلَّا لا وَزَرَ
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ » والوزر ( بالكسر فالسكون ) الثقل تشبيها بوزر الجبل ، ويعبر بذلك عن الإثم كما
يعبر عنه بالثقل ، قال «
لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً » الآية كقوله : « وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً
مَعَ أَثْقالِهِمْ » ، انتهى.
والآية تبين
تبعة أخرى من تبعات إنكارهم البعث وهو أن الساعة سيفاجئهم فينادون بالحسرة على
تفريطهم فيها ويتمثل لهم أوزارهم وذنوبهم وهم يحملونها على ظهورهم وهو أشق أحوال
الإنسان وأردؤها ألا ساء ما يزرون ويحملونه من الثقل أو من الذنب أو من وبال
الذنب.
والآية أعني
قوله : « قَدْ
خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ » بمنزلة النتيجة المأخوذة من قوله : « وَقالُوا إِنْ هِيَ
إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا » إلى آخر الآيتين ، وهي أنهم بتعويضهم راحة الآخرة وروح لقاء الله من
إنكار البعث وما يستتبعه من أليم العذاب خسروا صفقة.
قوله
تعالى : « وَمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ » إلخ ، تتمة للكلام فيه بيان حال الحياتين : الدنيا
والآخرة والمقايسة بينهما فالحياة الدنيا لعب ولهو ليس إلا فإنها تدور مدار سلسلة
من العقائد الاعتبارية والمقاصد الوهمية كما يدور عليه اللعب فهي لعب ، ثم هي
شاغلة للإنسان عما يهمه من الحياة الأخرى الحقيقية الدائمة فهي لهو ، والحياة
الآخرة لكونها حقيقية ثابتة فهي خير ولا ينالها إلا المتقون فهي خير لهم.
(
بحث روائي )
وفي تفسير
العياشي ، عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : إن الله يعفو يوم القيامة عفوا لا يخطر على بال
أحد ـ حتى يقول أهل الشرك : «
وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ».
وفي المجمع ، :
في قوله تعالى : « ثُمَّ
لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا » الآية : أن المراد : لم تكن معذرتهم إلا أن قالوا ،
إلخ : ، قال : وهو المروي عن أبي عبد الله (ع).
وفي تفسير
القمي ، : في قوله تعالى : «
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ » الآية ، قال : قال : بنو هاشم كانوا ينصرون رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ ويمنعون قريشا ، وينأون أي يباعدون عنه ولا يؤمنون.
أقول :
والرواية تقرب مما روي عن عطاء ومقاتل" : أن المراد أبو طالب عم النبي صلىاللهعليهوآله ـ فإنه كان ينهى قريشا عن النبي ـ وينأى عن النبي ولا
يؤمن به.
والسياق يأبى
ذلك فإن ظاهر الآية أن الضمير راجع إلى القرآن دون النبي ص. على أن الروايات من
طرق أهل البيت عليهالسلام متظافرة بإيمانه.
قال في المجمع
، : قد ثبت إجماع أهل البيت عليهالسلام بإيمان أبي طالب ،
وإجماعهم حجة لأنهم أحد الثقلين الذين أمر النبي صلىاللهعليهوآله بالتمسك بهما بقوله : ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا.
ويدل على ذلك
أيضا ما رواه ابن عمر : أن أبا بكر جاء بأبيه أبي قحافة ـ يوم الفتح إلى رسول الله
صلىاللهعليهوآله ـ فقال : ألا تركت الشيخ فآتيه؟ وكان أعمى ، فقال أبو
بكر : أردت أن يأجره الله تعالى ، والذي بعثك بالحق لأنا كنت بإسلام أبي طالب ـ أشد
فرحا مني بإسلام أبي ـ ألتمس بذلك قرة عينك ، فقال صلىاللهعليهوآله : صدقت.
وروى الطبري ،
بإسناده" : أن رؤساء قريش لما رأوا ذب أبي طالب عن النبي صلىاللهعليهوآله ـ اجتمعوا عليه وقالوا : جئناك بفتى قريش جمالا وجودا
وشهامة ـ عمارة بن الوليد ندفعه إليك ـ وتدفع إلينا ابن أخيك الذي فرق جماعتنا ،
وسفه أحلامنا فنقتله ، فقال أبو طالب ما أنصفتموني ـ تعطونني ابنكم فأغذوه ،
وأعطيكم ابني فتقتلونه ـ بل فليأت كل امرئ منكم بولده فأقتله ، وقال :
منعنا الرسول
رسول المليك
|
|
ببيض تلألأ
كلمع البروق
|
أذود وأحمي
رسول المليك
|
|
حماية حام
عليه شفيق
|
وأقواله
وأشعاره المنبئة عن إسلامه كثيرة مشهورة لا تحصى فمن ذلك قوله :
ألم تعلموا
أنا وجدنا محمدا
|
|
نبيا كموسى
خط في أول الكتب
|
أليس أبونا
هاشم شد أزره
|
|
وأوصى بنيه
بالطعان وبالحرب
|
وقوله من قصيدة
:
وقالوا لأحمد
أنت امرؤ
|
|
خلوف اللسان
ضعيف السبب
|
ألا إن أحمد
قد جاءهم
|
|
بحق ولم
يأتهم بالكذب
|
وقوله في حديث
الصحيفة وهو من معجزات النبي صلىاللهعليهوآله :
وقد كان في
أمر الصحيفة عبرة
|
|
متى ما يخبر
غائب القوم يعجب
|
محا الله
منها كفرهم وعقوقهم
|
|
وما نقموا من
ناطق الحق معرب
|
وأمسى ابن
عبد الله فينا مصدقا
|
|
على سخط من
قومنا غير معتب
|
وقوله في قصيدة
يحض أخاه حمزة على اتباع النبي والصبر في طاعته :
صبرا أبا
يعلى على دين أحمد
|
|
وكن مظهرا
للدين وفقت صابرا
|
فقد سرني إذ
قلت إنك مؤمن
|
|
فكن لرسول
الله في الله ناصرا
|
وقوله من قصيدة
:
أقيم على نصر
النبي محمد
|
|
أقاتل عنه
بالقنا والقنابل
|
وقوله يحض
النجاشي على نصر النبي صلىاللهعليهوآله :
تعلم مليك
الحبش أن محمدا
|
|
وزير لموسى
والمسيح بن مريم
|
أتى بهدى مثل
الذي أتيا به
|
|
وكل بأمر الله
يهدي ويعصم
|
وإنكم تتلونه
في كتابكم
|
|
بصدق حديث لا
حديث المرجم
|
فلا تجعلوا
لله ندا وأسلموا
|
|
وإن طريق
الحق ليس بمظلم
|
وقوله في وصيته
وقد حضرته الوفاة :
أوصى بنصر
النبي الخير مشهده
|
|
عليا ابني
وشيخ القوم عباسا
|
وحمزة الأسد
الحامي حقيقته
|
|
وجعفرا أن
يذودوا دونه الناسا
|
كونوا فدى
لكم أمي وما ولدت
|
|
في نصر أحمد
دون الناس أتراسا
|
وأمثال هذه
الأبيات مما هو موجود في قصائده المشهورة ووصاياه وخطبه يطول بها الكتاب ، انتهى.
والعمدة في
مستند من قال بعدم إسلامه بعض روايات واردة من طريق الجمهور في ذلك ، وفي الجانب
الآخر إجماع أهل البيت عليهالسلام وبعض الروايات من طريق الجمهور ، وأشعاره المنقولة عنه
، ولكل امرئ ما اختار.
وفي تفسير
العياشي ، عن خالد عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه إنهم ملعونون في
الأصل.
وفيه ، عن
عثمان بن عيسى عن بعض أصحابه عنه عليهالسلام ، قال : إن الله قال للماء : كن عذبا فراتا أخلق منك
جنتي وأهل طاعتي ، وقال للماء : كن ملحا أجاجا ـ أخلق
منك ناري وأهل معصيتي ـ فأجرى المائين على الطين ـ ثم قبض قبضة بيده وهي
يمين فخلقهم خلقا كالذر ـ ثم أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم وعليكم طاعتي؟ قالوا :
بلى ، فقال للنار : كوني نارا ـ فإذا نارا تأجج ، وقال لهم :
قعوا فيها ـ فمنهم من أسرع ، ومنهم من أبطأ في السعي ، ومنهم من لم يبرح مجلسه ـ فلما
وجدوا حرها رجعوا فلم يدخلها منهم أحد ـ.
ثم قبض قبضة
بيده فخلقهم خلقا مثل الذر مثل أولئك ـ ثم أشهدهم على أنفسهم مثل ما أشهد الآخرين
، ثم قال لهم : قعوا في هذه النار ـ فمنهم من أبطأ ، ومنهم من أسرع ـ ومنهم من مر
بطرف العين فوقعوا فيها كلها ، فقال : اخرجوا منها سالمين فخرجوا لم يصبهم شيء ـ.
وقال الآخرون :
يا ربنا أقلنا نفعل كما فعلوا ، قال : قد أقلتكم ـ فمنهم من أسرع في السعي ، ومنهم
من لم يبرح مجلسه ـ مثل ما صنعوا في المرة الأولى ، فذلك قوله : « وَلَوْ رُدُّوا
لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ».
أقول : هذه
الرواية والتي قبلها من روايات الذر وسيأتي استيفاء البحث عنها في سورة الأعراف في
تفسير قوله تعالى : «
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ
عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ، قالُوا بَلى » الآية.
ومحصلها أنه
كما أن لنظام الثواب والعقاب في الآخرة ارتباطا تاما بنشأة أخرى قبلها وهي نشأة
الدنيا من حيث الطاعة والمعصية كذلك للطاعة والمعصية في الدنيا ارتباط تام بنشأة
أخرى قبلها رتبة ، وهي عالم الذر.
فالمراد بقوله
في الرواية : فذلك قوله تعالى : « ( وَلَوْ رُدُّوا
لَعادُوا ) إلخ ، أن معنى الآية ولو ردوا من عرصات الحشر إلى
الدنيا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون من عالم الذر إذ كذبوا الله فيه ، وهذا
هو المراد بعينه بقوله عليهالسلام في الرواية الأولى : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه إنهم
ملعونون في الأصل أي في عالم الذر لكذبهم فيه.
وعلى هذا
فالروايتان تشتملان على وجه رابع في تفسير الآية غير الوجوه الثلاثة
__________________
المتقدمة في البيان السابق.
وفي المجمع ،
عن الأعمش عن أبي صالح عن النبي صلىاللهعليهوآله : في قوله تعالى : « يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها » الآية ، قال : يرى أهل النار منازلهم من الجنة فيقولون
: يا حسرتنا ، اه.
( قَدْ نَعْلَمُ
إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ
الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ
قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا
مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤)
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ
نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ
شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥)
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ
إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) )
(
بيان )
تسلية للنبي صلىاللهعليهوآله عن هفوات المشركين في أمر دعوته ، وتطييب لنفسه بوعد
النصر الحتمي ، وبيان أن الدعوة الدينية إنما ظرفها الاختيار الإنساني فمن شاء
فليؤمن ومن شاء فليكفر فالقدرة والمشية الإلهية الحاتمتان لا تداخلان ذلك حتى
تجبراهم على القبول ، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى.
قوله
تعالى : « قَدْ نَعْلَمُ
إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ » إلى آخر الآية ، « قد » حرف
تحقيق في الماضي ، وتفيد في المضارع التقليل وربما استعملت فيه أيضا
للتحقيق ، وهو المراد في الآية ، وحزنه كذا وأحزنه بمعنى واحد ، وقد قرئ بكلا الوجهين.
وقوله : « فَإِنَّهُمْ لا
يُكَذِّبُونَكَ » قرئ بالتشديد من باب التفعيل ، وبالتخفيف ، والظاهر أن الفاء في قوله : « فَإِنَّهُمْ » للتفريع وكأن المعنى قد نعلم أن قولهم ليحزنك لكن لا
ينبغي أن يحزنك ذلك فإنه ليس يعود تكذيبهم إليك لأنك لا تدعو إلا إلينا وليس لك
فيه إلا الرسالة بل هم يظلمون بذلك آياتنا ويجحدونها.
فما في هذه
الآية مع قوله في آخر الآيات : «
ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ » في معنى قوله تعالى : «
وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ
بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ » : ( لقمان : ٢٣ ) وقوله : « فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ
ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ » : ( يس : ٧٦ ) وغير ذلك من الآيات النازلة في تسليته صلىاللهعليهوآله ، هذا على قراءة التشديد.
وأما على قراءة
التخفيف فالمعنى : لا تحزن فإنهم لا يظهرون عليك بإثبات كذبك فيما تدعو إليه ، ولا
يبطلون حجتك بحجة وإنما يظلمون آيات الله بجحدها وإليه مرجعهم.
وقوله : « وَلكِنَّ
الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ » كان ظاهر السياق أن يقال : ولكنهم ، فالعدول إلى
الظاهر للدلالة على أن الجحد منهم إنما هو عن ظلم منهم لا عن قصور وجهل وغير ذلك
فليس إلا عتوا وبغيا وطغيانا وسيبعثهم الله ثم إليه يرجعون.
ولذلك وقع
الالتفات في الكلام من التكلم إلى الغيبة فقيل : « بِآياتِ اللهِ » ولم يقل : بآياتنا ، للدلالة على أن ذلك منهم معارضة
مع مقام الألوهية واستعلاء عليه وهو المقام الذي لا يقوم له شيء.
وقد قيل في
تفسير معنى الآية وجوه أخرى :
أحدها : ما عن
الأكثر أن المعنى : لا يكذبونك بقلوبهم اعتقادا ، وإنما يظهرون التكذيب بأفواههم
عنادا.
وثانيها : أنهم
لا يكذبونك وإنما يكذبونني فإن تكذيبك راجع إلي ولست
مختصا به ، وهذا الوجه غير ما قدمناه من الوجه وإن كان قريبا منه ،
والوجهان جميعا على قراءة التشديد.
وثالثها : أنهم
لا يصادفونك كاذبا تقول العرب : قاتلناهم فما أجبناهم أي ما صادفناهم جبناء ،
والوجه ما تقدم.
قوله تعالى : « وَلَقَدْ كُذِّبَتْ
رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا » إلى آخر الآية. هداية له صلىاللهعليهوآله إلى سبيل من تقدمه من الأنبياء ، وهو سبيل الصبر في ذات
الله ، وقد قال تعالى : «
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ » : ( الأنعام : ٩٠ ).
وقوله : « حَتَّى أَتاهُمْ
نَصْرُنا » بيان غاية
حسنة لصبرهم ، وإشارة إلى الوعد الإلهي بالنصر ، وفي قوله : « وَلا مُبَدِّلَ
لِكَلِماتِ اللهِ » تأكيد لما يشير إليه الكلام السابق من الوعد وحتم له ، وإشارة إلى ما
ذكره بقوله : « كَتَبَ
اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي » ( المجادلة : ٢١ ) ، وقوله : « وَلَقَدْ سَبَقَتْ
كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ » ( الصافات : ١٧٢ ).
ووقوع المبدل
في قوله : « وَلا
مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ » في سياق النفي ينفي أي مبدل مفروض سواء كان من ناحيته تعالى بأن يتبدل
مشيته في خصوص كلمة بأن يمحوها بعد إثباتها أو ينقضها بعد إبرامها أو كان من ناحية
غيره تعالى بأن يظهر عليه ويقهره على خلاف ما شاء فيبدل ما أحكم ويغيره بوجه من
الوجوه.
ومن هنا يظهر
أن هذه الكلمات التي أنبأ سبحانه عن كونها لا تقبل التبديل أمور خارجة عن لوح
المحو والإثبات ، فكلمة الله وقوله وكذا وعده في عرف القرآن هو القضاء الحتم الذي
لا مطمع في تغييره وتبديله ، قال تعالى : « قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ » : ( ـ ص : ٨٤ ) وقال تعالى : « وَاللهُ يَقُولُ
الْحَقَّ » : ( الأحزاب
: ٤ ) وقال تعالى : «
أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ » : ( يونس : ٥٥ ) وقال تعالى : « لا يُخْلِفُ اللهُ
الْمِيعادَ » : ( الزمر : ٢٠ ) وقد مر البحث المستوفى في معنى كلمات الله تعالى وما
يرادفها من الألفاظ في عرف القرآن في ذيل قوله تعالى : « مِنْهُمْ مَنْ
كَلَّمَ اللهُ » : ( البقرة : ٢٥٣ ).
وقوله في ذيل
الآية : « وَلَقَدْ
جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ » تثبيت واستشهاد لقوله :
« وَلَقَدْ
كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ » إلخ ، ويمكن أن يستفاد منه أن هذه السورة نزلت بعد بعض
السور المكية التي تقص قصص الأنبياء كسورة الشعراء ومريم وأمثالهما ، وهذه السور
نزلت بعد أمثال سورة العلق والمدثر قطعا فتقع سورة الأنعام على هذا في الطبقة
الثالثة من السور النازلة بمكة قبل الهجرة ، والله أعلم.
قوله
تعالى : «
وَإِنْ
كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ
ـ إلى قوله ـ
فَتَأْتِيَهُمْ
بِآيَةٍ » قال الراغب : النفق الطريق النافذ والسرب في الأرض النافذ فيه قال : ( فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً
فِي الْأَرْضِ ) ، ومنه نافقاء اليربوع ، وقد نافق اليربوع ونفق ، ومنه
النفاق وهو الدخول في الشرع من باب والخروج عنه من باب ، وعلى ذلك نبه بقوله : ( إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) أي الخارجون من الشرع ، وجعل الله المنافقين شرا من
الكافرين فقال : ( إِنَّ الْمُنافِقِينَ
فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) ، ونيفق السراويل معروف ، انتهى.
وقال : السلم ما يتوصل به إلى الأمكنة العالية فيرجى به السلامة ثم
جعل اسما لكل ما يتوصل به إلى شيء رفيع كالسبب قال تعالى : ( أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ ) ، وقال : ( أَوْ سُلَّماً فِي
السَّماءِ ) ، وقال الشاعر : ولو نال أسباب السماء بسلم ،. انتهى.
وجواب الشرط في
الآية محذوف للعلم به ، والتقدير كما قيل : وإن استطعت أن تبتغي كذا وكذا فافعل.
والمراد بالآية
في قوله تعالى : «
فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ » الآية التي تضطرهم إلى الإيمان فإن الخطاب عنى قوله : « وَإِنْ كانَ كَبُرَ
عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ » إلخ ، إنما ألقي إلى النبي صلىاللهعليهوآله من طريق القرآن الذي هو أفضل آية إلهية تدل على حقية دعوته
، ويقرب إعجازه من فهمهم وهم بلغاء عقلاء فالمراد أنه لا ينبغي أن يكبر ويشق عليك
إعراضهم فإن الدار دار الاختيار ، والدعوة إلى الحق وقبولها جاريان على مجرى
الاختيار ، وأنك لا تقدر على الحصول على آية توجب عليهم الإيمان وتلزمهم على ذلك
فإن الله سبحانه لم يرد منهم الإيمان إلا على اختيار منهم فلم يخلق آية تجبر الناس
على الإيمان والطاعة ، ولو شاء الله لآمن الناس جميعا فالتحق هؤلاء الكافرون
بالمؤمنين بك فلا تبتئس ولا تجزع بإعراضهم فتكون من الجاهلين بالمعارف الإلهية.
وأما ما احتمله
بعضهم : أن المراد : فتأتيهم بآية هي أفضل من الآية التي أرسلناك
بها أي القرآن فلا تلائمه سياق الآية وخاصة قوله « وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى » فإنه ظاهر في الاضطرار.
ومن هنا يظهر
أن المراد بالمشية أن يشاء الله منهم الاهتداء إلى الإيمان فيضطروا إلى القبول
فيبطل بذلك اختيارهم هذا ما يقتضيه ظاهر السياق من الآية الشريفة.
لكنه سبحانه
فيما يشابه الآية من كلامه لم يبن عدم مشيته ذلك على لزوم الاضطرار كقوله تعالى :
« وَلَوْ
شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ، وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ » : ( السجدة : ١٣ ) يشير تعالى بذلك إلى نحو قوله : « قالَ فَالْحَقُّ
وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ
أَجْمَعِينَ » : ( ـ ص : ٨٥ ) فبين تعالى أن عدم تحقق مشيته لهداهم جميعا إنما هو لقضائه
ما قضى تجاه ما أقسم عليه إبليس أنه سيغويهم أجمعين إلا عباده منهم المخلصين.
وقد أسند
القضاء في موضع آخر إلى غوايتهم قال تعالى في قصة آدم وإبليس : « قالَ رَبِّ بِما
أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ
مُسْتَقِيمٌ ، إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ
اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ » : ( الحجر : ٤٣ ) وقد نسب ذلك إليهم إبليس أيضا فيما
حكى الله سبحانه من كلامه لهم يوم القيامة : «
وَقالَ
الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ
وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ
ـ إلى أن قال ـ
إِنِّي
كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ
» : ( إبراهيم : ٢٢ ).
فالآيات تبين
أن المعاصي ومنها الشرك تنتهي إلى غواية الإنسان والغواية تنتهي إلى نفس الإنسان ،
ولا ينافي ذلك ما يظهر من آيات أخر أن الإنسان ليس له أن يشاء إلا أن يشاء الله
منه المشية كقوله تعالى : «
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً ، وَما
تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ » : ( الإنسان : ٣٠ ) ، وقال تعالى : « إِنْ هُوَ إِلَّا
ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ، لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ، وَما تَشاؤُنَ
إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ » : ( التكوير : ٢٩ ).
فمشية الإنسان
في تحققها وإن توقفت على مشية الله سبحانه إلا أن الله سبحانه لا يشاء منه المشية
إلا إذا استعد لذلك بحسن سريرته ، وتعرض منه لرحمته ، قال تعالى :
« وَيَهْدِي
إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ » : ( الرعد : ٢٧ ) أي انعطف ورجع إليه ، وأما الفاسق الزائغ قلبه المخلد
إلى الأرض المائل إلى الغواية فإن الله لا يشاء هدايته ولا يغشاه برحمته كما قال :
« يُضِلُّ
بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ » : ( البقرة : ٢٦ ) وقال : « فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ » : ( الصف : ٥ ) وقال : « وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ
أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ » : ( الأعراف : ١٧٦ ).
وبالجملة
فالدعوة الدينية لا تسلك إلا سبيل الاختيار ، والآيات الإلهية لا تنزل إلا مع
مراعاة الاختيار ، ولا يهدي الله سبحانه إليه إلا من تعرض لرحمته واستعد لهدايته
من طريق الاختيار.
وبهذا تنحل
شبهة أخرى لا تخلو عن إعضال ، وهي أنا سلمنا أن إنزاله تعالى آية تجبرهم على
الإيمان وتضطرهم إلى قبول الدعوة الدينية ينافي أساس الاختيار الذي تبتني عليه
بنية الدعوة الدينية لكن لم لا يجوز أن يشاء الله إيمان الناس جميعا على حد مشيته
إيمان من آمن منهم بأن يشاء من الجميع أن يشاءوا كما شاء من المؤمنين خاصة أن
يشاءوا ثم ينزل آية تسوقهم إلى الهدى ، وتلبسهم الإيمان من غير أن يبطل بذلك
اختيارهم وحريتهم في العمل.
وذلك أنه وإن
أمكن ذلك بالنظر إلى نفسه لكنه ينافي الناموس العام في عالم الأسباب ، ونظام
الاستعداد والإفاضة فالهدى إنما يفاض على من اتقى الله وزكى نفسه وقد أفلح من
زكاها ولا يصيب الضلال إلا من أعرض من ذكر ربه ودس نفسه وقد خاب من دساها ، وأصابه
الضلال هو أن يمنع الإنسان الهدى قال تعالى : « مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ
فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها
مَذْمُوماً مَدْحُوراً ، وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ، كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ
وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً » : ( الإسراء : ٢٠ ) أي ممنوعا فالله سبحانه يمد كل نفس
من عطائه بما يستحقه فإن أراد الخير أوتيه وإن أراد الشر أوتيه أي منع من الخير ،
ولو شاء الله لكل نفس صالحة أو طالحة أن تشاء الخير وتنكب على الإيمان والتقوى من
طريق الاختيار كان في ذلك إبطال النظام العام وإفساد أمر الأسباب.
وتؤيد ما ذكر
الآية التالية أعني قوله تعالى : «
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ »
إلى آخر الآية على ما سيجيء من معناها.
قوله
تعالى : « إِنَّما يَسْتَجِيبُ
الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ
» الآية
كالبيان لقوله : « وَإِنْ
كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ » إلى آخر الآية فإن ملخصه أنك لا تستطيع صرفهم عن هذا
الإعراض ، والحصول على آية تسوقهم إلى الإيمان ، فبين في هذه الآية أنهم بمنزلة
الموتى لا شعور لهم ولا سمع حتى يشعروا بمعنى الدعوة الدينية ويسمعوا دعوة الداعي
وهو النبي ص.
فهذه الهياكل
المتراءات من الناس صنفان : صنف منهم أحياء يسمعون ، وإنما يستجيب الذين يسمعون ،
وصنف منهم أموات لا يسمعون وإن كانوا ظاهرا في صور الأحياء وهؤلاء يتوقف سمعهم
الكلام على أن يبعثهم الله ، وسوف يبعثهم فيسمعون ما لم يستطيعوا سمعه في الدنيا
كما حكاه الله عنهم بقوله : «
وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا
أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ » : ( السجدة : ١٢ ).
فالكلام مسوق
سوق الكناية ، والمراد بالذين يسمعون المؤمنون وبالموتى المعرضون عن استجابة
الدعوة من المشركين وغيرهم ، وقد تكرر في كلامه تعالى وصف المؤمنين بالحياة والسمع
، ووصف الكفار بالموت والصمم كما قال تعالى : « أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ
وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي
الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها » ( الأنعام : ١٢٢ ) وقال تعالى : ( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ
الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ، وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ
عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ
مُسْلِمُونَ ) » ( النمل : ٨١ ) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
وقد تكرر في
بعض الأبحاث السابقة معنى آخر لهذه الأوصاف التي حملها الجمهور من المفسرين على
الكناية والتشبيه ، وأن لها معنى من الحقيقة فليراجع.
وفي الآية
دلالة على أن الكفار والمشركين سيفهمهم الله الحق ويسمعهم دعوته في الآخرة كما فهم
المؤمنين وأسمعهم في الدنيا ، فالإنسان مؤمنا كان أو كافرا لا مناص له عن فهم الحق
عاجلا أو آجلا.
(
بحث روائي )
في تفسير القمي
، قال : وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليهالسلام قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يحب ـ إسلام الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ، دعاه
رسول الله صلىاللهعليهوآله وجهد به أن يسلم فغلب عليه الشقاء ـ فشق ذلك على رسول
الله صلىاللهعليهوآله فأنزل الله : «
وَإِنْ
كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ ـ
إلى قوله ـ
نَفَقاً
فِي الْأَرْضِ » ، يقول : سربا.
أقول
: والرواية على
ما بها من ضعف وإرسال لا تلائم ظاهر الروايات الكثيرة الدالة على نزول السورة دفعة
، وإن كان يمكن توجيهها بوقوع السبب قبل نزول السورة ثم الإشارة بالآية إلى السبب
المحقق بعنوان الانطباق
وَقالُوا
لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ
يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما
فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ
اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ
إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ
إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى
أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ
لَعَلَّهُمْ
يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ
قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا
نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا
فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤)
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعالَمِينَ (٤٥) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ
وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ
كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ
أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ
الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما
كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩) قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا
أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما
يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ
(٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ
لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا
تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ
وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ
حِسابِكَ
عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢)
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذا
جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ
عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ
تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ
نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥)
(
بيان )
احتجاجات
متنوعة على المشركين في أمر التوحيد وآية النبوة.
قوله
تعالى : « وَقالُوا لَوْ لا
نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ » إلى آخر الآية ، تحضيض منهم على تنزيل الآية بداعي
تعجيز النبي صلىاللهعليهوآله ، ولما صدر هذا القول منهم وبين أيديهم أفضل الآيات
أعني القرآن الكريم الذي كان ينزل عليهم سورة سورة وآية آية ، ويتلى عليهم حينا
بعد حين تعين أن الآية التي كانوا يقترحونها بقولهم : « لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ » هي آية غير القرآن ، وأنهم كانوا لا يعدونه آية تقنعهم
وترتضيه نفوسهم بما لها من المجازفات والتهوسات.
وقد حملهم
التعصب لآلهتهم أن ينقطعوا عن الله سبحانه كأنه ليس بربهم ، فقالوا :
« لَوْ لا نُزِّلَ
عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ » ولم يقولوا : من ربنا أو من الله ونحوهما إزراء بأمره
وتأكيدا في تعجيزه أي لو كان ما يدعيه ويدعو إليه حقا فليغر له ربه الذي يدعو إليه
ولينصره ولينزل عليه آية تدل على حقية دعواه.
والذي بعثهم
إلى هذا الاقتراح جهلهم بأمرين : أحدهما : أن الوثنية يرون لآلهتهم استقلالا في
الأمور المرجوعة إليهم في الكون مع ما يدعون لهم من مقام
الشفاعة فإله الحرب أو السلم له ما يدبره من الأمر من غير أن يختل تدبيره
من ناحية غيره ، وكذلك إله البر وإله البحر وإله الحب وإله البغض وسائر الآلهة ،
فلا يبقى لله سبحانه شأن يتصرف فيه فقد قسم الأمر بين أعضاده وإن كان هؤلاء شفعاءه
وهو رب الأرباب ، فليس يسعه تعالى أن يبطل أمر آلهتهم بإنزال آية تدل على نفي ألوهيتها.
وكان يحضهم على
هذه المزعمة ويؤيد هذا الاعتقاد في قلوبهم ما كانوا يتلقونه من يهود الحجاز أن يد
الله مغلولة لا سبيل له إلى تغيير شيء من النظام الجاري ، وخرق العادة المألوفة في
عالم الأسباب.
وثانيهما : أن
الآيات النازلة من عند الله سبحانه إذا كانت مما خص الله به رسولا من رسله من غير
أن يقترحه الناس فإنما هي بينات تدل على صحة دعوى الرسول من غير أن يستتبع محذورا
للناس المدعوين كالعصا واليد البيضاء لموسى وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص
وخلق الطير لعيسى ، والقرآن الكريم لمحمد ص.
لكن الآية لو
كانت مما اقترحها الناس فإن سنة الله جرت على القضاء بينهم بنزولها فإن آمنوا بها
وإلا نزل عليهم العذاب ولم ينظروا بعد ذلك كآيات نوح وهود وصالح وغير ذلك ، وفي
القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على ذلك ، كقوله تعالى : « وَقالُوا لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا
يُنْظَرُونَ » : ( الأنعام : ٨ ) وقوله : ( وَما مَنَعَنا أَنْ
نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ
النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها ) » ( الإسراء : ٥٩ ).
وقد أشير في
الآية الكريمة أعني قوله : «
وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ
عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ » ، إلى الجهتين جميعا.
فذكر أن الله
قادر على أن ينزل أي آية شاء ، وكيف يمكن أن يفرض من هو مسمى باسم « الله » ولا
تكون له القدرة المطلقة ، وقد بدل في الجواب لفظة « الرب » إلى اسم « الله »
للدلالة على برهان الحكم ، فإن الألوهية المطلقة تجمع كل كمال من غير أن تحد بحد
أو تقيد بقيد فلها القدرة المطلقة ، والجهل بالمقام الألوهي هو الذي بعثهم إلى
اقتراح الآية بداعي التعجيز.
على أنهم جهلوا
أن نزول ما اقترحوه من الآية لا يوافق مصلحتهم ، وأن اجتراءهم
على اقتراحها تعرض منهم لهلاك جمعهم وقطع دابرهم ، والدليل على أن هذا
المعنى منظور إليه بوجه في الكلام قوله تعالى في ذيل هذه الاحتجاجات : « قُلْ لَوْ أَنَّ
عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ
أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ » : ( الأنعام : ٥٨ ).
وفي قوله تعالى
: « نُزِّلَ » و «
يُنَزِّلَ » مشددين من التفعيل دلالة على أنهم اقترحوا آية تدريجية أو آيات كثيرة
تنزل واحدة بعد واحدة كما يدل عليه ما حكي من اقتراحهم في موضع آخر من كلامه تعالى
كقوله : « وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ
لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ
ـ إلى أن قال ـ
أَوْ
تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا
كِتاباً نَقْرَؤُهُ » الآيات : ( الإسراء : ٩٣ ) وقوله : « وَقالَ الَّذِينَ لا
يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا » : ( الفرقان : ٢١ ) وقوله : « وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً » : ( الفرقان : ٣٢ ).
وروي عن ابن
كثير أنه قرأ بالتخفيف.
قوله
تعالى : « وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ » إلى آخر الآية ، الدابة كل حيوان يدب على الأرض وقد كثر استعماله في الفرس ، والدب بالفتح والدبيب هو المشي الخفيف.
والطائر ما يسبح في الهواء بجناحيه ، وجمعه الطير كالراكب ،
والركب والأمة هي الجماعة من الناس يجمعهم مقصد واحد يقصدونه كدين
واحد أو سنة واحدة أو زمان واحد أو مكان واحد ، والأصل في معناها ، القصد يقال :
أم يؤم إذا قصد ، والحشر جمع الناس بإزعاج إلى الحرب أو جلاء ونحوه من الأمور
الاجتماعية.
والظاهر أن
توصيف الطائر بقوله : «
يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ » محاذاة لتوصيف الدابة بقوله : « فِي الْأَرْضِ » فهو بمنزلة قولنا : ما من حيوان أرضي ولا هوائي ، مع
ما في هذا التوصيف من نفي شبهة التجوز فإن الطيران كثيرا ما يستعمل بمعنى سرعة
الحركة كما أن الدبيب هو الحركة الخفيفة فكان من المحتمل أن يراد بالطيران حيث ذكر
مع الدبيب الحركة السريعة فدفع ذلك بقوله : « يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ ».
(
كلام في المجتمعات الحيوانية )
والخطاب في
الآية للناس ، وقد ذكر فيها أن الحيوانات أرضية كانت أو هوائية هي أمم أمثال الناس
، وليس المراد بذلك كونها جماعات ذوات كثرة وعدد فإن الأمة لا تطلق على مجرد العدد
الكثير بل إذا جمع ذلك الكثير جامع واحد من مقصد اضطراري أو اختياري يقصده أفراده
، ولا أن المراد مجرد كونها أنواعا شتى كل نوع منها يشترك أفراده في نوع خاص من
الحياة والرزق والسفاد والنسل والمأوى وسائر الشئون الحيوية فإن هذا المقدار من
الاشتراك وإن صحح الحكم بمماثلتها الإنسان لكن قوله في ذيل الآية : « ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ
يُحْشَرُونَ » يدل على أن المراد بالمماثلة ليس مجرد التشابه في الغذاء والسفاد والإواء
بل هناك جهة اشتراك أخرى تجعلها كالإنسان في ملاك الحشر إلى الله ، وليس ملاك
الحشر إلى الله في الإنسان إلا نوعا من الحياة الشعورية التي تخد للإنسان خدا إلى
سعادته وشقائه ، فإن الفرد من الإنسان يمكن أن ينال في الدنيا ألذ الغذاء وأوفق
النكاح وأنضر المسكن ولا يكون مع ذلك سعيدا في حياته لما ينكب عليه من الظلم
والفجور أو أن يحيط به جماع المحن والشدائد والبلايا وهو سعيد في حياته مبتهج
بكمال الإنسانية ونور العبودية.
بل حياة
الإنسان الشعورية وإن شئت فقل : الفطرة الإنسانية وما يؤيدها من دعوة النبوة تسن
للإنسان سنة مشروعة من الاعتقاد والعمل إن أخذ بها وجرى عليها ووافقه المجتمع عليه
سعد في الحياتين : الدنيا والآخرة ، وإن استن بها وحده سعد بها في الآخرة أو في
الدنيا والآخرة معا ، وإن لم يعمل بها وتخلف عن الأخذ ببعضها أو كلها كان في ذلك
شقاؤه في الدنيا والآخرة.
وهذه السنة
المكتوبة له تجمعها كلمتان : البعث إلى الخير والطاعة ، والزجر عن الشر والمعصية ،
وإن شئت قلت : الدعوة إلى العدل والاستقامة ، والنهي عن الظلم والانحراف عن الحق
فإن الإنسان بفطرته السليمة يستحسن أمورا هي العدل في نفسه أو غيره ، ويستقبح
أمورا هي الظلم على نفسه أو غيره ثم الدين الإلهي يؤيدها ويشرح له تفاصيلها.
وهذا محصل ما
تبين لنا في كثير من الأبحاث السابقة ، وكثير من الآيات القرآنية
تفيد ذلك وتؤيده كقوله تعالى : « وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها
فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها » : ( الشمس : ١٠ ) ، وقوله تعالى : « كانَ النَّاسُ
أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ
وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا
فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ
الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » : ( البقرة : ٢١٣ ).
والإمعان في
التفكر في أطوار الحيوانات العجم التي تزامل الإنسان في كثير من شئون الحياة ،
وأحوال نوع منها في مسير حياتها وتعيشها يدلنا على أن لها كالإنسان عقائد وآراء
فردية واجتماعية تبني عليها حركاتها وسكناتها في ابتغاء البقاء نظيره ما يبني
الإنسان تقلباته في أطوار الحياة الدنيا على سلسلة من العقائد والآراء.
فالواحد منا
يشتهي الغذاء والنكاح أو الولد أو غير ذلك ، أو يكره الضيم أو الفقر أو غير ذلك
فيلوح له من الرأي أن من الواجب أن يطلب الغذاء أو يأكله أو يدخره في ملكه ، وأن
يتزوج وأن ينسل وهكذا ، وأن من الممنوع المحرم عليه أن يصبر على ضيم أو يتحمل
مصيبة الفقر وهكذا فيتحرك ويسكن على طبق ما تخدّ له هذه الآراء اللائحة لنفسه من
الطريق.
كذلك الواحد من
الحيوان ـ على ما نشاهده ـ يأتي في مبتغيات حياته من الحركات المنظمة التي يحتال
بها إلى رفع حوائج نفسه في الغذاء والسفاد والمأوى بما لا نشك به في أن له شعورا
بحوائجه وما يرتفع به حاجته ، وآراء وعقائد ينبعث بها إلى جلب المنافع ودفع المضار
كما في الإنسان ، وربما عثرنا فيها من أنواع الحيل والمكائد للحصول على الصيد
والنجاة من العدو من الطرق الاجتماعية والفردية ما لم يتنبه إليه الإنسان إلا بعد
طي قرون وأحقاب من عمره النوعي.
وقد عثر
العلماء الباحثون عن الحيوان في كثير من أنواعه ، كالنمل والنحل والأرضة على عجائب
من آثار المدنية والاجتماع ، ودقائق من الصنعة ولطائف من السنن والسياسات لا تكاد
توجد نظائرها إلا في الأمم ذوي الحضارة والمدنية من الإنسان.
وقد حث القرآن
الكريم على معرفة الحيوان والتفكر في خلقها وأعمالها عامة كقوله
تعالى : « وَفِي
خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ » : ( الجاثية : ٤ ) ودعا إلى الاعتبار بأمر كثير منها
كالأنعام والطير والنحل والنمل.
وهذه الآراء
والعقائد التي نرى أن الحيوان على اختلاف أنواعها في شئون الحياة ومقاصدها تبنى
عليها أعمالها إذا لم تخل عن الأحكام الباعثة والزاجرة لم تخل عن استحسان أمور
واستقباح أمور ، ولم تخل عن معنى العدل أو الظلم.
وهو الذي يؤيده
ما نشاهده من بعض الاختلاف في أفراد أي نوع من الحيوان في أخلاقها ، فكم بين الفرس
والفرس وبين الكبش والكبش وبين الديك والديك مثلا من الفرق الواضح في حدة الخلق أو
سهولة الجانب ولين العريكة.
وكذا يؤيده
جزئيات أخرى من حب وبغض وعطوفة ورحمة أو قسوة أو تعد وغير ذلك مما نجدها بين
الأفراد من نوع وقد وجدنا نظائرها بين أفراد الإنسان ، ووجدناها مؤثرة في الاعتقاد
بالحسن والقبح في الأفعال ، والعدل والظلم في الأعمال ثم إنها مؤثرة أيضا في حياة
الإنسان الأخروية ، وملاكا لحشره ومحاسبة أعماله والجزاء عليها بنعمة أو نقمة
أخروية.
وببلوغ البحث
هذا المبلغ ربما لاح لنا أن للحيوان حشرا كما أن للإنسان حشرا فإن الله سبحانه يعد
انطباق العدل والظلم والتقوى والفجور على أعمال الإنسان ملاكا للحشر ويستدل به
عليه كما في قوله تعالى : «
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي
الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ » : ( ـ ص : ٢٨ ) بل يعد بطلان الحشر في ما خلقه من
السماء والأرض وما بينهما بطلانا لفعله وصيرورته لعبا أو جزافا كما في الآية
السابقة على هذه الآية : «
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ » : ( ـ ص : ٢٧ ).
فهل للحيوان
غير الإنسان حشر إلى الله سبحانه كما أن للإنسان حشرا إليه؟ ثم إذا كان له حشر فهل
يماثل حشره حشر الإنسان فيحاسب على أعماله وتوزن وينعم بعد ذلك في جنة أو نار على
حسب ما له من التكليف في الدنيا؟ وهل استقرار التكليف الدنيوي عليه ببعث الرسل
وإنزال الأحكام؟ وهل الرسول المبعوث إلى الحيوان من نوع نفسه أو أنه إنسان؟.
هذه وجوه من
السؤال تسبق إلى ذهن الباحث في هذا الموقف :
أما السؤال
الأول ( هل للحيوان غير الإنسان حشر؟ ) فقوله تعالى في الآية : « ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ
يُحْشَرُونَ » يتكفل الجواب عنه ، ويقرب منه قوله تعالى : « وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ » : ( كورت : ٥ ).
بل هناك آيات
كثيرة جدا دالة على إعادة السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والجن والحجارة
والأصنام وسائر الشركاء المعبودين من دون الله ، والذهب والفضة حيث يحمى عليهما في
نار جهنم فتكوى بها جباه مانعي الزكاة وجنوبهم إلى غير ذلك في آيات كثيرة لا حاجة
إلى إيرادها ، والروايات في هذه المعاني لا تحصى كثرة.
وأما السؤال
الثاني ، وهو أنه هل يماثل حشره حشر الإنسان فيبعث وتحضر أعماله ويحاسب عليها
فينعم أو يعذب بها فجوابه أن ذلك لازم الحشر بمعنى الجمع بين الأفراد وسوقهم إلى
أمر بالإزعاج ، وأما مثل السماء والأرض وما يشابههما من شمس وقمر وحجارة وغيرها
فلم يطلق في موردها لفظ الحشر كما في قوله تعالى : « يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ
وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ » : ( إبراهيم : ٤٨ ) وقوله : « وَالْأَرْضُ جَمِيعاً
قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ » : ( الزمر : ٦٧ ) وقوله : « وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ » : ( القيامة : ٩ » وقوله : « إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ ، لَوْ
كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها » : ( الأنبياء : ٩٩ ).
على أن الملاك
الذي يعطيه كلامه تعالى في حشر الناس هو القضاء الفصل بينهم فيما اختلفوا فيه من
الحق قال تعالى : «
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ » : ( السجدة : ٢٥ ) وقوله : « ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ » : ( آل عمران : ٥٥ ) وغير ذلك من الآيات.
ومرجع الجميع
إلى إنعام المحسن والانتقام من الظالم بظلمه كما ذكره في قوله : « إِنَّا مِنَ
الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ » : ( السجدة : ٢٢ ) وقوله : « فَلا تَحْسَبَنَّ
اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ ، يَوْمَ
تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ
الْقَهَّارِ » : ( إبراهيم : ٤٨ ) وهذان الوصفان أعني الإحسان والظلم موجودان في أعمال
الحيوانات في الجملة.
ويؤيده ظاهر
قوله تعالى : « وَلَوْ
يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ
وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى » فاطر ٣٥ فإن ظاهره أن ظلم الناس لو استوجب المؤاخذة
الإلهية كان ذلك لأنه ظلم والظلم شائع بين كل ما يسمى دابة : الإنسان وسائر
الحيوانات فكان ذلك مستعقبا لأن يهلك الله تعالى كل دابة على ظهرها هذا وإن ذكر
بعضهم : أن المراد بالدابة في الآية خصوص الإنسان.
ولا يلزم من
شمول الأخذ والانتقام يوم القيامة لسائر الحيوان أن يساوي الإنسان في الشعور
والإرادة ، ويرقى الحيوان العجم إلى درجة الإنسان في نفسياته وروحياته ، والضرورة
تدفع ذلك ، والآثار البارزة منها ومن الإنسان تبطله.
وذلك أن مجرد
الاشتراك في الأخذ والانتقام والحساب والأجر بين الإنسان وغيره لا يقضي بالمعادلة
والمساواة من جميع الجهات كما لا يقتضي الاشتراك في ما هو أقرب من ذلك بين أفراد
الإنسان أنفسهم أن يجري حساب أعمالهم من حيث المداقة والمناقشة مجرى واحدا فيوقف
العاقل والسفيه والرشيد والمستضعف في موقف واحد.
على أنه تعالى
ذكر من بعض الحيوان من لطائف الفهم ودقائق النباهة ما ليس بكل البعيد من مستوى
الإنسان المتوسط الحال في الفقه والتعقل كالذي حكى عن نملة سليمان بقوله : « حَتَّى إِذا أَتَوْا
عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا
مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ » : ( النمل : ١٨ ) وما حكاه من قول هدهد له عليهالسلام في قصة غيبته عنه : « فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ
وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً
تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ ، وَجَدْتُها
وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ
أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ » إلى آخر الآيات : ( النمل : ٢٤ ) فإن الباحث النبيه
إذا تدبر هذا الآيات بما يظهر منها من آثار الفهم والشعور لها ثم قدر زنته لم يشك
في أن تحقق هذا المقدار من الفهم والشعور يتوقف على معارف جمة وإدراكات متنوعة
كثيرة من بساط المعاني ومركباتها.
وربما أيد ذلك
ما حصله أصحاب معرفة الحيوان بعميق مطالعاتهم وتربياتهم لأنواع الحيوان المختلفة
من عجائب الأحوال التي لا تكاد تظهر إلا من موجود ذي إرادة لطيفة وفكر عميق وشعور
حاد.
وأما السؤال
الثالث والرابع أعني أنه : هل الحيوان يتلقى تكليفه في الدنيا برسول يبعث إليه
ووحي ينزل عليه؟ وهل هذا الرسول المبعوث إلى نوع من أنواع الحيوان من أفراد ذلك
النوع بعينه؟ فعالم الحيوان إلى هذا الحين مجهول لنا مضروب دونه بحجاب فالاشتغال
بهذا النوع من البحث مما لا فائدة فيه ولا نتيجة له إلا الرجم بالغيب ، والكلام
الإلهي على ما يظهر لنا من ظواهره غير متعرض لبيان شيء من ذلك ، ولا يوجد في
الروايات المأثورة عن النبي والأئمة من أهل بيته صلىاللهعليهوآله ما يعتمد عليه في ذلك.
فقد تحصل أن
المجتمعات الحيوانية كالمجتمع الإنساني فيها مادة الدين الإلهي ترتضع من فطرتها
نحو ما يرتضع الدين من الفطرة الإنسانية ويمهدها للحشر إلى الله سبحانه كما يمهد
دين الفطرة الإنسان للحشر والجزاء ، وإن كان المشاهد من حال الحيوان بالقياس إلى
الإنسان ـ وتؤيده الآيات القرآنية الناطقة بتسخير الأشياء للإنسان وأفضليته من
عامة الحيوان ـ أن الحيوان لم يؤت تفاصيل المعارف الإنسانية ولا كلف بدقائق
التكاليف الإلهية التي كلف بها الإنسان.
ولنرجع إلى متن
الآية فقوله تعالى : «
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ
أَمْثالُكُمْ » يدل على أن المجتمعات الحيوانية التي توجد بين كل نوع من أنواع الحيوان
إنما تأسست على مقاصد نوعية شعورية يقصدها كل نوع من الحيوان على اختلافها بالشعور
والإرادة كالإنسان.
وليس ذلك
مقصورا على المقاصد الطبيعية أعني مقاصد التغذي والنمو وتوليد المثل المحدودة بهذه
الحياة الدنيا بل ينبسط ذيله على ما بعد الموت ويتهيأ به إلى حياة أخرى ترتبط
بالسعادة والشقاوة المرتضعتين من ثدي الشعور والإرادة.
وربما اعترض
عليه أن القوم تسلموا أن غير الإنسان من أنواع الحيوان محروم من موهبة الاختيار ،
ولذلك يعد أفعال الحيوان كأفعال النبات طبيعية غير اختيارية لما يشاهد من حالها
أنها لا تملك نفسها من الإقدام على الفعل إذا صادف ما فيه نفعها المطلوب كالهرة
إذا رأت فأرة أو الأسد إذا رأى فريسته ، والهرب إذا صادف ما يخافه من عدو غالب
كالفأرة إذا رأت هرة أو الغزالة إذا شاهدت أسدا فلا معنى للسعادة والشقاوة
الاختياريتين في الحيوان غير الإنسان.
لكن التأمل في
معنى الاختيار والحالات النفسية التي يتوسل بها الإنسان إلى إتيان أفعاله
الاختيارية يدفع هذه الشبهة وذلك أن الشعور والإرادة الذين يتم بهما فعل الإنسان
الاختياري بالحقيقة إنما أودعا في الإنسان مثلا لأنه نوع شعوري يتصرف في المادة
الخارجية للانتفاع بها في بقاء وجوده بتمييز ما ينفعه مما يضره ، ولذلك جهزته
العناية الإلهية بالشعور والإرادة فهو يميز بشعوره الحي ما يضره مما ينفعه فإذا
تحقق النفع أراد ففعل فما كان من الأمور بين النفع ولا يحتاج في الحكم بكونه مما
ينتفع به إلى أزيد من وجدانه وحصول العلم به إرادة من فوره وفعله وتصرف فيه من غير
توقف كما في موارد الملكات الراسخة غالبا مثل التنفس ، وأما ما كان من الأمور غير
بين النفع موسوما بنقص من الأسباب أو محفوفا بشيء من الموانع الخارجية أو
الاعتقادية لم يكف مجرد العلم بتحققه في إرادته وفعله لعدم الجزم بالانتفاع به.
فهذه الأمور هي
التي يتوقف الانبعاث إليها إلى التفكر مثلا فيها من جهة ما معها من النواقص
والموانع والتروي فيها ليميز بذلك إنما هل هي من قبيل النافع أو الضار؟ فإن أنتج
التروي كونها نافعة ظهرت الإرادة متعلقة بها وفعلت كما لو كانت بينة النفع غير
محتاجة إلى التروي فيها ، وذلك كالإنسان الجائع إذا وجد غذاء يمكنه أن يسد به خلة
الجوع فربما شك في أمره أنه هل هو غذاء طيب صالح لأن يتغذى به أو أنه غير صالح
فاسد أو مسموم أو مشتمل على مواد مضرة؟ وأنه هل هو ماله نفسه ولا مانع من التصرف
فيه كاحتياج مبرم مستقبل أو صوم ونحوه أو مال غيره ولا يجوز التصرف فيه؟ وحينئذ
يتوقف عن المبادرة إلى التصرف فيه ، ولا يزال يتروى حتى يقطع بأحد الطرفين فإن حكم
بالجواز كان مصداقا لما ينتفع فلا يتوقع بعد ذلك دون أن يريد فيتصرف فيه.
وإن لم يشك في
أمره وكان بينا عنده من أول الأمر أنه طيب صالح للتغذي إرادة إذا علم بوجوده من
غير ترو أو تفكر ، ولم ينفك العلم به عن إرادة التصرف فيه قطعا.
فمحصل حديث
الاختيار أن الإنسان إذا لم يتميز عنده بعض الأمور التي يتصرف فيها أنها نافعة أو
ضارة ميز ذلك بالتروي والتفكر فاختار أحد الجانبين أو الجوانب ،
وأما لو تميز من أول الأمر إرادة ففعله من غير مهل ولم يحتج إلى ترو أصلا
فالإنسان يختار ما يرى نفعه بترو أو من غير ترو ولا تروي إلا لرفع الموانع عن
الحكم.
ثم إنك إذا
تأملت حال أفراد الإنسان المختارين في أفعالهم وجدتهم ذوي اختلاف شديد في مبادئ
اختيارهم أعني الصفات الروحية والأحوال الباطنية من شجاعة وجبن وعفة وشره ونشاط
وكسل ووقار وخفة ، وكذا في قوة التعقل وضعفه وإصابة النظر وخطائه فكثيرا ما يرى
الشره نفسه مضطرة مسلوبة الاختيار في موارد يشتهي الانهماك فيها لا يعبأ بأمرها
العفيف المتطهر ، وربما يرى الجبان أدنى أذى يصيبه في مهمة أو مقتلة عذرا لنفسه
ينفي عنه الاختيار ، ولا يرى الشجاع الباسل الآبي عن الضيم الموت الأحمر وأي زجر
بدني أمرا فوق الطاقة ، ولا يرى لأي مصيبة هائلة في سبيل مقاصده من بأس ، وربما
اختار السفيه خفيف العقل بأدنى تصور ، واه ولا يرى العاقل اللبيب ترجيح الفعل
بأمثال تلك المرجحات إلا تلهيا ولعبا ، وأفعال الصبيان غير المميزين اختيارية معها
بعض التروي ولا يعبأ بها وبأمرها البالغ الرشيد ، وكثيرا ما نعد في محاوراتنا فعلا
من أفعالنا اضطراريا أو إجباريا إذا قارن أعذارا اجتماعية غير ملزمة بحسب الحقيقة
كشارب الدخان يعتذر بالعادة ، والنومة يعتذر بالكسل والسارق أو الخائن يعتذر
بالفقر.
وهذا الاختلاف
الفاحش في مبادئ الاختيار وأسبابه والعرض العريض في مستوى الأفعال الاختيارية هو
الذي بعث الدين وسائر السنن الاجتماعية أن يحدوا الفعل الاختياري بما يراه المتوسط
من أفراد المجتمع الإنساني اختياريا ، ويبنوا على ذلك صحة تعلق الأمر والنهي
والعقاب والثواب ونفوذ التصرف وغير ذلك ، ويعذروا من لم يتحقق فيه ما يتحقق في
الفعل الاختياري الذي يأتي به الإنسان المتوسط من المبادي والأسباب ، وهو المتوسط
من الاستطاعة والفهم.
فهذا الوسط
المعدود اختيارا النافي لاختيارية ما دونه إنما هو كذلك بحسب الحكم الديني أو
الاجتماعي المراعى فيه مصلحة الدين أو الاجتماع وإن كان الأمر بحسب النظر التكويني
أوسع من ذلك.
والإمعان فيما
تقدم يعطي أن يجزم بأن الحيوان غير الإنسان غير محروم من موهبة الاختيار في الجملة
وإن كان أضعف مما نجده في المتوسط من الناس من معنى الاختيار
وذلك لما نشاهده في كثير من الحيوانات وخاصة الحيوانات الأهلية من آثار
التردد في بعض الموارد المقرونة بالموانع من الفعل وكذا الكف عن الفعل بزجر أو إخافة
أو تربية ، فجميع ذلك يدل على أن في نفوسها صلاحية الحكم بلزوم الفعل والترك ، وهو
الملاك في أصل الاختيار وإن كان التروي ضعيفا فيها جدا غير بالغ حد ما نجده في
الإنسان المتوسط.
وإذا صح أن
الحيوان غير الإنسان لا يخلو عن معنى الاختيار في الجملة وإن كان ضعيفا فمن الجائز
أن يجعل الله سبحانه المتوسط من مراتب الاختيار الموجودة فيها ملاكا لتكاليف
مناسبة لها خاصة بها لا نحيط بها ، أو يعاملها بما لها من موهبة الاختيار بنحو آخر
لا معرفة لنا به إلا أنه فيها بنحو يصحح الإنعام عليها عند الموافقة ، ومؤاخذتها
والانتقام منها عند المخالفة بما الله سبحانه أعلم به.
وقوله تعالى :
« ما
فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ » جملة معترضة ، وظاهرها أن المفرط فيه هو الكتاب ، ولفظ
« مِنْ
شَيْءٍ » بيان للفرط
الذي يقع التفريط به ، والمعنى لا يوجد شيء تجب رعاية حاله والقيام بواجب حقه وبيان
نعته في الكتاب إلا وقد فعل من غير تفريط ، فالكتاب تام كامل.
والمراد
بالكتاب إن كان هو اللوح المحفوظ الذي يسميه الله سبحانه في موارد من كلامه كتابا
مكتوبا فيه كل شيء مما كان وما يكون وما هو كائن ، كان المعنى أن هذه النظامات
الأممية المماثلة لنظام الإنسانية كان من الواجب في عناية الله سبحانه أن يبني
عليها خلقة الأنواع الحيوانية فلا يعود خلقها عبثا ولا يذهب وجودها سدى ، ولا تكون
هذه الأنواع بمقدار ما لها من لياقة القبول ممنوعة من موهبة الكمال.
فالآية على هذا
تفيد بنحو الخصوص ما يفيده بنحو العموم ، قوله تعالى : « وَما كانَ عَطاءُ
رَبِّكَ مَحْظُوراً » : ( الإسراء : ٢٠ ) وقوله : « ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ
بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » : ( هود : ٥٦ ).
وإن كان هو
القرآن الكريم وقد سماه الله كتابا في مواضع من كلامه ، كان المعنى أن القرآن
المجيد لما كان كتاب هداية يهدي إلى صراط مستقيم على أساس بيان حقائق المعارف التي
لا غنى عن بيانها في الإرشاد إلى صريح الحق ومحض الحقيقة لم يفرط فيه في
بيان كل ما يتوقف على معرفته سعادة الناس في دنياهم وآخرتهم كما قال تعالى
: «
وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ » : ( النحل : ٨٩ ).
ومما يجب أن
يعرفه الناس في سبيل تفقه أمر المعاد أن يتبينوا كيفية ارتباط الحشر وهو البعث يوم
القيامة على نهج الاجتماع بالتشكل الأممي في الدنيا ، وأن ذلك هو الذي يجدونه بين
أنفسهم ويجدونه بين سائر الأنواع الحيوانية ، ويترتب عليه دون ذلك فوائد أخرى
كالتبصر في توحيد الله تعالى ولطيف قدرته وعنايته بأمر الخليقة والنظام العام
الجاري في العالم ، ومن أهم فوائده معرفة أن الموجود آخذ في سلسلته من النقص إلى
الكمال ، وبعض قطعاتها المشتملة على حلقات الحيوان الشامل للإنسان وما دونه مراتب
مختلفة مترتبة آخذة من المراتب القاطنة في أفق النبات إلى المراتب المجاورة لمرتبة
الإنسان ثم الإنسان.
وقد ندب الله
سبحانه الناس إلى معرفة الحيوان والنظر في الآيات المودعة في وجوده أبلغ الندب ،
وعد ذلك موصلا إلى أفضل النتائج العلمية الملازمة للسعادة الإنسانية وهو اليقين
بالله سبحانه حيث قال : «
وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ » ( الجاثية : ٤ ) والآيات في الحث على النظر في أمر
الحيوان كثيرة في القرآن الكريم.
ومن الممكن أن
يشار في الآية إلى كلا المعنيين فيراد في الكتاب مطلق الكتاب ، ويكون المعنى أن
الله سبحانه لا يفرط فيما يكتب من شيء ، أما في كتاب التكوين فإنه يقضي ويقدر لكل
نوع ما في استحقاقه أن يناله من كمال الوجود كالأنواع الحيوانية هيأ لكل منها من
سعادة الحياة الأممية الاجتماعية ما هيأه للإنسان لما رأى من صلوحها لذلك فلم يفرط
في أمرها ، وأما في كتابه الذي هو كلامه الموحى إلى الناس فإنه يبين فيه ما في
معرفته خير الناس وسعادة عاجلهم وآجلهم ولا يفرط في ذلك ، ومن ذلك أنه لم يفرط في
أمر الأمم الحيوانية ، وبين في هذه الآية حقيقة ما وهبه لها من نوع السعادة الوجودية
التي جعلتهم أمما حية سائرة بوجودها إلى الله سبحانه محشورة إليه كالإنسان.
وقوله
تعالى : « ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ
يُحْشَرُونَ » بيان لعموم الحشر لهم وأن حياتهم الموهوبة نوع حياة تستتبع الحشر إلى
الله كما أن الحياة الإنسانية كذلك ، ولذلك أرجع الضمير المستعمل في أولي الشعور
والعقل ، فقال : « إِلى
رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ » إشارة إلى
أن أصل الملاك وهو الأمر الذي يدور عليه الرضا والسخط والإثابة والمؤاخذة
موجود فيهم.
وقد وقع في
الآية التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير ثم إلى الغيبة بالنسبة إليه تعالى ،
والتدبر فيها يعطي أن الأصل في السياق الغيبة وإنما تحول السياق في قوله : « ما فَرَّطْنا فِي
الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ » إلى التكلم مع الغير لكون المعترضة خطابا خاصا بالنبي صلىاللهعليهوآله فلما فرغ منه رجع إلى أصل السياق.
ومن عجيب ما
قيل في الآية استدلال بعضهم بها على التناسخ وهو أن تتعلق نفس الإنسان بعد
مفارقتها البدن بالموت ببدن واحد من الحيوان يناسبها في الخلق الرذيل الذي رسخ
فيها كأن تتعلق نفس المكار بدن ثعلب ، ونفس المفسد الحقود ببدن الذئب ، ونفس من
يتبع سقطات الناس وعوراتهم ببدن خنزير ، ونفس الشره الأكول ببدن البقر ، وهكذا ولا
تزال تنتقل من بدن إلى بدن وتعذب بذلك هذا إن كانت شقية ذات أخلاق رذيلة ، وإن
كانت سعيدة تعلقت بعد الموت ببدن سعيد منعم بسعادته من أفاضل أفراد الإنسان ومعنى
الآية على هذا : ما من حيوان من الحيوانات إلا أمم إنسانية أمثالكم انتقلت بعد
الموت إلى صور الحيوانات.
وقد ظهر مما
تقدم أن الآية في معزل من هذا المعنى ، على أن ذيل الآية : « ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ
يُحْشَرُونَ » لا يلائم هذا المعنى ، على أن أمثال هذه الأقاويل من وضوح الفساد بحيث لا
طائل في التعرض لها والبحث عن صحتها وسقمها.
ومن عجيب ما
قيل فيها أيضا : إن المراد بحشر الحيوان موتها فلا بعث بعد ذلك أو مجموع الموت
والبعث. أما الأول فينفيه ظاهر قوله : « إِلى رَبِّهِمْ » إذ لا معنى للموت إلى الله ، وأما الثاني فهو من
الالتزام بما لا يلزم إذ لا موجب لضم الموت إلى البعث في المعنى ، ولا أن في الآية
ما يستوجبه.
قوله
تعالى : « وَالَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ » إلى آخر الآية يريد تعالى أن المكذبين لآياته محرومون
من نعمة السمع والتكلم والبصر لكونهم في ظلمات لا يعمل فيها البصر فهم لصممهم لا
يقدرون على أن يسمعوا الكلام الحق وأن يستجيبوا له ، ولبكمهم لا يستطيعون أن
يتكلموا بالقول الحق ويشهدوا بالتوحيد والرسالة ، ولإحاطة
الظلمات بهم لا يسعهم أن يبصروا طريق الحق فيتخذوه طريقا.
وفي قوله تعالى
: « مَنْ
يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ » إلخ ، دلالة على أن هذا الصمم والبكم والوقوع في الظلمات إنما هي رجز وقع
عليهم منه تعالى جزاء لتكذيبهم بآيات الله فإن الله سبحانه جعل إضلاله المنسوب
إليه من قبيل الجزاء ، كما في قوله : « وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ » : ( البقرة : ٢٦ ).
فتكذيب آيات
الله غير مسبب عن كونهم صما بكما في الظلمات بل الأمر بالعكس وعلى هذا فالمراد
بالإضلال بحسب الانطباق على المورد هو جعلهم صما بكما في الظلمات والمراد بمن شاء
الله ضلاله هم الذين كذبوا بآياته.
وبالمقابلة
يظهر أن المراد بالجعل على صراط مستقيم هو أن يعطيه سمعا يسمع به فيجيب داعي الله
بلسانه ويتبصر بالحق ببصره ، وأن هذا جزاء من لا يكذب بآيات الله سبحانه فمن يشأ
الله يضلله ولا يشاء إلا إضلال من يستحقه ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ولا يشاء
ذلك إلا لمن تعرض لرحمته.
وقد تقدم البحث
عن حقيقة معنى ما يصفهم الله تعالى به من الصمم والبكم والعمى وما يشابه ذلك من
الصفات ، وقد عني في الآية بنكتة أخرى ، وهي ما يفيده الوصل والفصل في قوله : « صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي
الظُّلُماتِ » حيث ذكر الصمم وهو من أوصافهم ثم ذكر البكم وعطفه عليه وهو صفة ثانية ،
ثم ذكر كونهم في الظلمات ولم يعطفها وهي صفة ثالثة ، وبالجملة وصل بعض الصفات وفصل
بعضها ، وقد أتى في مثل الآية بحسب المعنى بالفصل أعني قوله في المنافقين : « صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ » : ( البقرة : ١٨ ) وفي آية أخرى يماثلها بالعطف وهي
قوله في الكفار : «
خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ » : ( البقرة : ٧ ).
ولعل النكتة في
الآية التي نحن فيها أعني قوله : « صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي
الظُّلُماتِ » ، الإشارة إلى كون من هم صم غير الذين هم بكم فالصم هم
الجهلاء المقلدون الذين يتبعون كبراءهم فلا يدع لهم ذلك سمعا يسمعون به الدعوة
الحقة ، والبكم هم العظماء المتبوعون الذين لهم علم بصحة الدعوة إلى التوحيد
وبطلان الشرك ، غير أنهم لعنادهم وبغيهم بكم
لا تنطلق ألسنتهم إلى الاعتراف بكلمة الحق والشهادة بها ، والطائفتان جميعا
تشتركان في أنهما واقعتان في ظلمة لا يتبصر فيها إلى الحق ، ولا يسع غيرهما أن
يبصرهما بشيء من الإشارات لمكان وقوعهما في الظلمات فلا تنجح فيها الإشارة.
ويؤيد ذلك أن
الكلام المسرود في الآيات يعم الطائفتين جميعا كما يشير إليه قوله تعالى في الآيات
السابقة : « وَهُمْ
يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ » : ( آية : ٢٦ ) ، وكذا قوله : « وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ » : ( آية : ٣٧ ).
هذا في الآية
التي نحن فيها ، وأما آية المنافقين : « صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ » ، فالعناية فيها باجتماع جميع هذه الصفات فيهم في زمان
واحد لانقطاعهم عن رحمة الله من كل جهة ، وأما آية الكفار : « خَتَمَ اللهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ » فقد تعلقت العناية فيها بكون ختم السمع من غير جنس ختم
القلوب كما حكاه عنهم في قوله : «
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ
وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ » : ( حم السجدة : ٥ ) وربما وجهت الآية بغير ذلك من
الوجوه.
قوله
تعالى : « قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ
إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ » إلى آخر الآيتين لفظ « أَرَأَيْتَكُمْ » بهمزة الاستفهام وصيغة المفرد المذكر الماضي من الرؤية
وضمير الجمع المخاطب ، أخذه أهل الأدب بمعنى أخبرني ، قال الراغب في المفردات : ،
ويجري « أرأيت » مجرى أخبرني فيدخل عليه الكاف ويترك التاء على حالته
في التثنية والجمع والتأنيث ، ويسلط التغيير على الكاف دون التاء ، قال تعالى : « أَرَأَيْتَكَ هذَا
الَّذِي » ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ ) ، انتهى.
وفي الآية تجديد
احتجاج على المشركين ، وإقامة حجة على بطلان شركهم من وجه ، وهو أنها تفرض عذابا
آتيا من جانب الله أو إتيان الساعة إليهم ثم تفرض أنهم يدعون في ذلك من يكشف
العذاب عنهم على ما هو المغروز في فطرة الإنسان أنه يتوجه بالمسألة إذا بلغت به
الشدة نحو من يقدر أن يكشفها عنه.
ثم تسألهم أنه
من الذي تدعونه وتتوجهون إليه بالمسألة إن كنتم صادقين؟ أغير الله تدعون من
أصنامكم وأوثانكم التي سميتموها من عند أنفسكم آلهة أم إياه تدعون؟ وهيهات أن
تدعوا غيره وأنتم تشاهدون حينئذ أنها محكومة بالأحكام الكونية مثلكم لا
ينفعكم دعاؤها شيئا.
بل تنسون هؤلاء
الشركاء المسمين آلهة لأن الإنسان إذا أحاطت به البلية وهزهزته الهزاهز ينسى كل
شيء دون نفسه إلا أن في نفسه رجاء أن ترتفع عنه البلية ، والرافع الذي يرجو رفعها
منه هو ربه ، فتنسون شركاءكم وتدعون من يرفعها من دونهم وهو الله عز اسمه فيكشف
الله سبحانه ما تدعون كشفه إن شاء أن يكشفه ، وليس هو تعالى بمحكوم على الاستجابة
ولا مضطرا إلى الكشف إذا دعي بل هو القادر على كل شيء في كل حال.
فإذا كان الله
سبحانه هو الرب القدير الذي لا ينساه الإنسان وإن نسي كل شيء إلا نفسه ويضطر إلى
التوجه إليه ببعث من نفسه عند الشدائد القاصمة الحاطمة دون غيره من الشركاء
المسمين آلهة فهو سبحانه هو رب الناس دونها.
فمعنى الآية « قُلْ » يا محمد « أَرَأَيْتَكُمْ » أخبروني « إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ
السَّاعَةُ » فرض إتيان عذاب من الله ولا ينكرونه ، وفرض إتيان الساعة ولم يعبأ
بإنكارهم لظهوره « أَغَيْرَ
اللهِ تَدْعُونَ » لكشفه ، وقد حكى الله في كلامه عنهم سؤال كشف العذاب في الدنيا ويوم
القيامة جميعا لما أن ذلك من فطريات الإنسان « إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » وجئتم بالنصفة « بَلْ إِيَّاهُ » الله سبحانه دون غيره من أصنامكم « تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ
ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ » من العذاب «
إِنْ شاءَ » أن يكشفه كما كشف لقوم يونس ، وليس بمجبر ولا مضطرا إلى القبول لقدرته
الذاتية «
وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ » من الأصنام والأوثان على ما في غريزة الإنسان أن يشتغل
عند إحاطة البلية به عن كل شيء بنفسه ، ولا يهم إلا بنفسه لضيق المجال به أن يتلهى
بما لا ينفعه ، فاشتغاله والحال هذه بدعاء الله سبحانه ونسيانه الأصنام أصرح حجة
أنه تعالى هو الله لا إله غيره ولا معبود سواه.
وبما تقدم من
تقرير معنى الآية يتبين أولا : أن إتيان العذاب أو الساعة ، وكذا الدعاء لكشفه
مفروضان في حجة الآية ، والمطلوب بيان أن المدعو حينئذ هو الله عز اسمه دون
الأصنام ، وأما أصل الدعاء عند الشدائد والمصائب ، وأن للإنسان توجها جبليا عند ما
تطل عليه البلية ويتقطع عنه كل سبب إلى من يكشفها عنه فهو حجة أخرى
غير هذه الحجة ، والمطلوب بهذه الحجة ـ وهي التي في هذه الآية ـ التوحيد
وبتلك الحجة إثبات الصانع من غير نظر إلى توحيده ، وإن تلازم المطلوبان.
وثانيا : أن
تقييد قوله : «
فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ » ، بقوله : « إِنْ شاءَ » لبيان إطلاق القدرة فلله سبحانه أن يكشف كل شديدة حتى الساعة
التي لا ريب فيها ، فإن قضاءه الحتم لأمر من الأمور وإن كان يحتمه ويوجبه لكنه لا
يسلب عنه القدرة على الترك فله القدرة المطلقة على ما قضى به ، وما لم يقض به ومثل
الساعة في ذلك كل عذاب غير مردود وأمر محتوم إن يشأ يأت به وإن لم يشأ لم يأت به
وإن كان يشاء دائما ما قضى به قضاء حتما ووعده وعدا جزما والله لا يخلف الميعاد
فافهم ذلك.
وله سبحانه أن
لا يجيب دعوة أي داع دعاه وإن عرف نفسه بأنه مجيب ، فقال : « وَإِذا سَأَلَكَ
عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ » : ( البقرة : ١٨٦ ) ووعد الاستجابة لداعيه وعدا بتيا ،
فقال : « ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ » : ( المؤمن : ٦٠ ) فإن وعد الاستجابة لا يسلب عنه القدرة على عدم
الاستجابة وإن كان يستجيب دائما كل من دعاه بحقيقة الدعاء ، وتجري على ذلك سنته
صراطا مستقيما لا تخلف فيه.
ومن هنا يظهر
فساد ما استشكل على الآية بأن مدلولها يخالف ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة أن
الساعة لا ريب فيها ولا محيص عن وقوعها وأن عذاب الاستئصال لا مرد له ، وقد قال
تعالى : « وَما
دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ » : ( المؤمن : ٥٠ ) وجه الفساد أن الآية لا تدل على أزيد
من أن الله سبحانه أن يفعل ما يشاء وأنه قادر على كل شيء ، وأما أنه يشاء كل شيء
ويفعل كل شيء فلا دلالة فيها على ذلك ولا ريب أن قضاءه الحتمي بوقوع الساعة أو
بعذاب قوم عذاب استئصال لا يبطل قدرته على خلافه فله أن يخالف إن شاء وإن كان لا
يخلف الميعاد ولا ينقض ما أراد.
وأما قوله
تعالى : « وَما
دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ » فهو دعاؤهم في جهنم لكشف عذابها وتخفيفه عنهم ، ومن
المعلوم أن الدعاء مع تحتم الحكم وفصل القضاء لا يتحقق بحقيقته فإن سؤال أن لا
يبعث الله الخلق أو لا يعذب أهل جهنم فيها من الله سبحانه بمنزلة أن يسأل الله
سبحانه أن لا يكون هو الله سبحانه فإن من لوازم معنى الألوهية أن يرجع
إليه الخلق على حسب أعمالهم فلمثل هذه الأدعية صورة الدعاء فقط دون حقيقة
معناها ، وأما لو تحقق الدعاء بحقيقته بأن يدعى حقيقة ويتعلق ذلك الدعاء بالله
حقيقة كما هو ظاهر قوله : «
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ » الآية ، فإن ذلك لا يرد البتة ، والدعاء على هذا النعت
لا يدع الكافر كافرا ولو حين الدعاء كما قال تعالى : « فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ
يُشْرِكُونَ » : ( العنكبوت : ٦٥ ).
فما في قوله :
« وَما
دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ » دعاء منهم وهم على الكفر فإن الثابت من ملكة الكفر لا
يفارقهم في دار الجزاء وإن كان من الجائز أن يفارقهم في دار العمل بالتوبة
والإيمان.
فدعاؤهم لكشف
العذاب عنهم يوم القيامة أو في جهنم ككذبهم على الله يوم القيامة بقولهم ـ كما حكى
الله ـ ( وَاللهِ رَبِّنا ما
كُنَّا مُشْرِكِينَ ) ، ولا ينفع اليوم كذب غير أنهم اعتادوا ذلك في الدنيا
ورسخت رذيلتهم في نفوسهم فبرزت عنهم آثاره يوم تبلى السرائر ، ونظير أكلهم وشربهم
وخصامهم في النار ، ولا غنى لهم في شيء من ذلك ، كما قال تعالى : « تُسْقى مِنْ عَيْنٍ
آنِيَةٍ لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ
جُوعٍ » : ( الغاشية
: ٧ ) وقال تعالى : «
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ
مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ
الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ » : ( الواقعة : ٥٥ ) وقال تعالى : « إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ
تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ » : ( ـ ص : ٦٤ ) ، فهذا كله من قبيل ظهور الملكات فيهم.
وما قبل الآية
يؤيد ما ذكرناه من أن دعاءهم ليس على حقيقته وهو قوله تعالى : « وَقالَ الَّذِينَ فِي
النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ
الْعَذابِ ، قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا
بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ » : ( المؤمن : ٥٠ ) فإن مسألتهم خزنة النار أن يدعوا
الله لهم في تخفيف العذاب ظاهر في أنهم آيسون من استجابة دعائهم أنفسهم ، والدعاء
مع اليأس عن الاستجابة ليس دعاء ومسألة حقيقية إذ لا يتعلق الطلب بما لا يكون
البتة.
وثالثا : أن
النسيان في قوله : «
وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ » حقيقة معناه على ما هو
المشهود من حال الإنسان عند ما تغشاه الشدائد والخطوب إذ يشتغل بنفسه وينسى
كل أمر دونها إلا الله سبحانه فلا موجب للالتزام بما ذكره بعضهم : أن المراد بقوله
: «
وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ » تعرضون عنها إعراض من نسي الشيء عنه.
وإن كان لا
مانع من ذلك لكونه من المجازات الشائعة لكلمة النسيان ، وقد استعمل في القرآن
النسيان بمعنى الإعراض عن الشيء وعدم الاعتناء به كثيرا كما قال تعالى : « وَقِيلَ الْيَوْمَ
نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا » : ( الجاثية : ٣٤ ) إلى غير ذلك من الآيات.
قوله
تعالى : « وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ
لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ » البأساء والبأس والبؤس هو الشدة والمكروه إلا أن البؤس يكثر استعماله في الحرب
ونحوه والبأس والبأساء في غيره كالفقر والجدب والقحط ونحوها ، والضر والضراء هو سوء الحال فيما يرجع إلى النفس كغم وجهل أو ما يرجع
إلى البدن كمرض ونقص بدني أو ما يرجع إلى غيرهما كسقوط جاه أو ذهاب مال ، ولعل
المقصود من الجمع بين البأساء والضراء الدلالة على تحقق الشدائد في الخارج كالجدب
والسيل والزلزلة ، وما يعود إلى الناس من قبلها من سوء الحال كالخوف والفقر ورثاثة
الحال.
والضراعة هي المذلة والتضرع التذلل والمراد به التذلل إلى الله سبحانه لكشف ما نزل
عليهم من نوازل الشدة والرزية.
والله سبحانه
يذكر لنبيه صلىاللهعليهوآله في هذه الآية وما يتلوها إلى تمام أربع آيات سنته في
الأمم التي من قبله إذ جاءتهم رسلهم بالبينات : أنه كان يرسل إليهم الرسل
فيذكرونهم بتوحيد الله سبحانه والتضرع وإخلاص الإنابة إليه ثم يبتليهم بأنواع
الشدة والمحن ويأخذهم بالبأساء والضراء ولكن بمقدار لا يلجئهم إلى التضرع ولا
يضطرهم إلى الابتهال والاستكانة لعلهم يتضرعون إليه بحسن اختيارهم ، ويلين قلوبهم
فيعرضوا عن التزيينات الشيطانية وعن الإخلاد إلى الأسباب الظاهرية لكنهم لم
يتضرعوا إليه بل أقسى الاشتغال بأعراض الدنيا قلوبهم وزين لهم الشيطان أعمالهم ،
وأنساهم ذلك ذكر الله.
فلما نسوا ذكر
الله سبحانه فتح الله عليهم أبواب كل شيء وصب عليهم نعمه المتنوعة صبا حتى إذا
فرحوا بما عندهم من النعم واغتروا واستقلوا بأنفسهم من دون الله
أخذهم الله بغتة ومن حيث لا يشعرون به فإذا هم آيسون من النجاة شاهدون سقوط
ما عندهم من الأسباب فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
وهذه السنة سنة
الاستدراج والمكر الذي لخصها الله تعالى في قوله : « وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا
سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي
مَتِينٌ » : ( الأعراف
: ١٨٣ ) وبالتأمل فيما تقدم من تقرير معنى الآية والتدبر في سياقها يظهر أن الآية
لا تنافي سائر الآيات الناطقة بأن الإنسان مفطور على التوحيد ملجأ باقتضاء من
فطرته وجبلته إلى الإقرار به والتوجه إليه عند الانقطاع عن الأسباب الكونية كما
قال تعالى : « وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا
اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ
» : ( لقمان : ٣٢ ).
وذلك أن الآية
لا تريد من البأساء والضراء إلا ما لا يبلغ من الشدة والمهابة مبلغا يذهلون به عن
كل سبب وينسون به كل وسيلة عادية ، ومن الدليل على ذلك قوله في الآية : « لَعَلَّهُمْ
يَتَضَرَّعُونَ » إذ « لعل » كلمة رجاء ولا رجاء مع الإلجاء والاضطرار ، وكذا قوله تعالى :
« وَزَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ » فإن ظاهره أنهم اغتروا بذلك وتوسلوا في رفع البأساء
والضراء إلى أعمالهم التي عملوها بأيديهم ودبروها بتدابيرهم للغلبة على موانع
الحياة وأضداد العيش فاشتغلوا بالأسباب الطبيعية الملهية إياهم عن التضرع إلى الله
سبحانه والاعتصام به ، كقوله تعالى : « فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا
بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ، فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ
وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ » : ( المؤمن : ٨٤ ) فالآية الأولى ـ كما ترى ـ تحكي
عنهم نظير ما تحكيه الآية التي نحن فيها من الإعراض عن التضرع والاغترار بالأعمال
، والآية الثانية تحكي ما تحكيه الآيات الأخرى من التوحيد في حال الاضطرار.
ومن هنا يظهر
فساد ما يظهر من بعضهم أن ظاهر الآية كون الأمم السابقة مستنكفة عن التوحيد معرضة
عن التضرع حتى في الشدائد الملجئة قال في تفسير الآية : أقسم الله تعالى لرسوله صلىاللهعليهوآله أنه أرسل رسلا قبله إلى أمم قبل أمته فكانوا أرسخ من
قومه في الشرك ، وأشد منهم إصرارا على الظلم فإن قومه يدعون الله وحده عند شدة
الضيق ،
وينسون ما اتخذوه من الأولياء والأنداد ، وأما تلك الأمم فلم تلن الشدائد
قلوبهم ، ولم تصلح ما أفسد الشيطان من فطرتهم ، انتهى.
ولازم ما ذكره
أن لا يكون التوحيد فطريا يظهر عند ارتفاع الأوهام الشاغلة والانقطاع عن الأسباب الظاهرة
أو أن يمكن إبطال حكم الفطرة من أصله ، وقد قال تعالى : « فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللهِ » ( الروم : ٣٠ ) فأفاد أن دين التوحيد فطري ، وأن الفطرة لا تقبل التغيير
بمغير وأيد ذلك بآيات أخر ناصة على أن الإنسان عند انقطاعه عن الأسباب يتوجه إلى
ربه بالدعاء مخلصا له الدين لا محالة.
على أن الإقرار
بالإله الواحد عند الشدة والانقطاع مما نجده من أنفسنا وجدانا ضروريا ولا يختلف في
ذلك الإنسان الأولي وإنسان اليوم البتة.
قوله
تعالى : « فَلَوْ لا إِذْ
جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ » إلخ ، « فَلَوْ لا » للتحضيض أو للنفي ، وعلى أي حال تفيد في المقام فائدة
النفي بدليل قوله : «
وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ » وقسوة القلب مقابل لينه ، وهو كون الإنسان لا يتأثر عن مشاهدة ما يؤثر
فيه عادة أو عن استماع كلام شأنه التأثير.
والمعنى : فلم
يتضرعوا حين مجيء البأس ولم يرجعوا إلى ربهم بالتذلل بل أبت نفوسهم أن تتأثر عنه ،
وتلهوا بأعمالهم الشيطانية الصارفة لهم عن ذكر الله سبحانه ، وأخلدوا إلى الأسباب
الظاهرة التي كانوا يرون استقلالها في إصلاح شأنهم.
قوله
تعالى : « فَلَمَّا نَسُوا ما
ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ » إلخ ، المراد بفتح أبواب كل شيء إيتاؤهم من كل نعمة من
النعم الدنيوية التي يتنافس فيها الناس للتمتع من مزايا الحياة من المال والبنين
وصحة الأبدان والرفاهية والخصب والأمن والطول والقوة ، كل ذلك توفيرا من غير تقتير
ومنع كما أن خزانة المال إذا أعطي منها أحد بقدر وميزان فتح بابها فأعطي ما أريد
ثم سد ، وأما إذا أريد الإعطاء من غير تقدير فتح بابها ولم يسد على وجه قاصده
بالجملة كناية عن إيتائهم أنواع النعم من غير تقدير على ما يساعده المقام.
على أن فتح
الباب إنما يناسب بحسب الطبع الحسنات والنعم وأما السيئات والنقم فإنما تتحقق
بالمنع ويناسبها سد الباب كما يلمح إليه قوله تعالى : « ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ
فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ » : ( فاطر : ٢ ).
ومبلسون من
أبلس إبلاسا ، قال الراغب : الإبلاس الحزن المعترض من شدة اليأس ـ إلى أن قال ـ ولما كان
المبلس كثيرا ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه ، قيل : أبلس فلان إذا سكت وإذا
انقطعت حجته ، انتهى. وعلى هذا المعنى المناسب لقوله : « فَإِذا هُمْ
مُبْلِسُونَ » أي خامدون منقطعوا الحجة.
ومعنى الآية
أنهم لما نسوا ما ذكروا به أو أعرضوا عنه آتيناهم من كل نعمة استدراجا حتى إذا تمت
لهم النعم وفرحوا بما أوتوا منها أخذناهم فجأة فانخمدت أنفاسهم ولا حجة لهم
لاستحقاقهم ذلك.
قوله
تعالى : « فَقُطِعَ دابِرُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » دبر الشيء مقابل قبله وهما الجزءان : المقدم والمؤخر من
الشيء ، ولذا يكنى بهما عن العضوين المخصوصين ، وربما توسع فيهما فأطلقا على ما
يلي الجزء المقدم أو المؤخر فينفصلان عن الشيء ، وقد اشتق منهما الأفعال بحسب
المناسبة نحو أقبل وأدبر وقبل ودبر وتقبل وتدبر واستقبل واستدبر ، ومن ذلك اشتقاق دابر بمعنى ما يقع خلف الشيء ويليه من ورائه ، ويقال : أمس
الدابر أي الواقع خلف اليوم كما يقال : عام قابل ، ويطلق الدابر بهذا المعنى على أثر
الشيء كدابر الإنسان على أخلافه وسائر آثاره ، فقوله : « فَقُطِعَ دابِرُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا » أي إن الهلاك استوعبهم فلم يبق منهم عينا ولا أثرا أو
أبادهم جميعا فلم يخلص منهم أحد كما قال تعالى : « فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ » : ( الحاقة : ٨ ).
ووضع الظاهر
موضع المضمر في قوله : «
دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا » دون أن يقال : دابرهم للدلالة على سبب الحكم وهو الظلم
الذي أفنى جمعهم وقطع دابرهم ، وهو مع ذلك يمهد السبيل إلى إيراد قوله : « وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ ».
ومن هذه الآية
بما تشتمل على وصفهم بالظلم وعلى حمده تعالى بربوبيته تتحصل الدلالة على أن اللوم
والسوء في جميع ما حل بهم من عذاب الاستئصال يرجع إليهم لأنهم القوم الذين ظلموا ،
وأنه لا يعود إليه تعالى إلا الثناء الجميل لأنه لم يأت في تدبير
أمرهم إلا بما تقتضيه الحكمة البالغة ، ولم يسقهم في سبيل ما انتهوا إليه
إلا إلى ما ارتضوه بسوء اختيارهم فقد تحقق أن الخزي والسوء على الكافرين ، وأن
الحمد لله رب العالمين.
قوله تعالى : « قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ » إلى آخر الآية ، أخذ السمع والأبصار هو سلب قوتي السمع
والإبصار وهو الإصمام والإعماء والختم على القلوب إغلاق بابها إغلاقا لا يدخلها
معه شيء من خارج حتى تتفكر في أمرها ، وتميز الواجب من الأعمال من غير : والخير
النافع منها من الشر الضار مع حفظ أصل الخاصية وهو صلاحية التعقل وإلا كان جنونا
وخبلا.
وإذ كان هؤلاء
المشركون لا يسمعون حق القول في الله سبحانه ولا يبصرون آياته الدالة على أنه واحد
لا شريك له فصارت قلوبهم لا يدخلها شيء من واردات السمع والبصر حتى تعرف بذلك الحق
من الباطل أقام الحجة بذلك على إبطال مذهبهم في أمر الإله تعالى ووحدته.
وملخصها أن القول
بثبوت شركاء لله يستلزم القول ببطلانه وذلك أن القول بالشركاء لإثبات الشفاعة ،
وهي أن تشفع وتتوسط في جلب المنافع ودفع المضار ، وإذ كانت الشركاء شفعاء على
الفرض كان لله سبحانه أن يفعل في ملكه ما يشاء من غير مصادفة مانع يمانعه أو ضد
يضاده فلو سلب الله عنكم سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم فعل ذلك ولم يعارضه أحد
من شركائكم لأنها شفعاء متوسطة لا أضداد معارضة ، ولو فعل ذلك وسلب ما سلب لم يقدر
أحد منها أن يأتيكم به لأنها شفعاء وسائط لا مصادر للخلق والإيجاد.
وإذا لم يقدر
على إيتاء نفع أو إذهاب ضر فما معنى ألوهيتها فليس الإله إلا من يوجد ويعدم ويتصرف
في الكون كيف شاء ، وإنما اضطرت الفطرة الإنسانية إلى الإقرار بأن للعالم إلها من
جهة الحصول على مبدإ حوادث الخير والشر التي تشاهدها في الوجود ، وإذ كان شيء لا
يضر ولا ينفع في جنب الحوادث شيئا فليس تسميته إلها إلا لغوا من القول.
وليس لإنسان
صحيح العقل والتمييز أن يجوز كون صورة حجرية أو خشبية
أو فلزية عملته يد الإنسان وصنعته فكرته خالقا للعالم أو متصرفا فيه
بالإيجاد والإعدام وكذا كون رب الصنم ربا معبودا أبدع العالم على غير مثال سابق مع
الاعتراف بكونه عبدا مربوبا.
والحجة تعود
بتقرير آخر إلى أن معنى الألوهية يأبى عن الصدق على الشريك بمعنى الشفيع المتوسط
فإن مبدئية الصنع والإيجاد لازم معناها الاستقلال في التصرف والتعين في استحقاق
خضوع المصنوع المربوب ، والواسطة المفروضة إن كان لها استقلال في العمل كانت أصلا
ومبدأ لا واسطة وشفيعا وإن لم يكن له حظ من الاستقلال كانت أداة آلة لها مبدأ
وإلها.
ولذا كانت
الأسباب الكونية أيا ما فرضت ليس لها إلا معنى الإله والأداة كسببية الأكل للشبع
والشرب للري والوالدين للولد والقلم للكتابة والمشي لانطواء المسافة وهكذا.
وقوله : « انْظُرْ كَيْفَ
نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ » تصريف الآيات تحويلها إلى نحو أفهامهم ، والصدوف الإعراض ، يقال : صدف يصدف صدوفا إذا مال عن الشيء.
قوله
تعالى : « قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ
إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً » إلى آخر الآية ، الجهرة الظهور التام الذي لا يقبل الارتياب ولذا قابلت البغتة
التي هي إتيان الشيء فجأة لا يظهر على من أتاه إلا بعد إتيانه وغشيانه فلا يترك له
مجال التحذر.
وهذه حجة بين
فيها على وجه العموم أن الظالمين على خطر من عذاب الله عذابا لا يتخطاهم ، ولا
يغلط في إصابتهم بإصابة من سواهم ، ثم بين أنهم هم الظالمون لفسقهم عن الدعوة
الإلهية وتكذيبهم بآيات الله تعالى.
وذلك أن معنى
العذاب ليس إلا إصابة المجرم بما يسوؤه ويدمره من جزاء إجرامه ولا إجرام إلا مع
ظلم فلو أتاهم من قبل الله سبحانه عذاب لم يهلك به إلا الظالمون ، فهذا ما يدل
عليه الآية ثم بين الآيتين التاليتين أنهم هم الظالمون.
قوله
تعالى : « وَما نُرْسِلُ
الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ » إلى آخر الآيتين يبين بالآيتين أنهم هم الظالمون ، ولا
يهلك بعذاب الله إن أتاهم إلا لظلمهم.
ولذا غير سياق
الكلام فوجه وجه البيان إلى النبي صلىاللهعليهوآله ليكون هو المخبر عن شأن عذابه فيكون أقطع للعذر وجيء
بلفظ المتكلم ليدل به على صدوره من ساحة العظمة والكبرياء.
فكان ملخص
المضمون أمره تعالى نبيه صلىاللهعليهوآله أن يقيم عليهم الحجة أن لو أتاهم عذاب الله لم يهلك إلا
الظالمين منهم ثم يقول تعالى لرسوله : إنا نحن الملقين إليك الحجة الآتين بالعذاب
نخبرك أن إرسالنا الرسل إنما هو للتبشير والإنذار فمن آمن وأصلح فلا عليه ، ومن
كذب بآياتنا فهو الذي يمسه عذابنا لفسقه وخروجه عن طور العبودية فلينظروا في أمر
أنفسهم من أي الفريقين هم؟.
وقد تقدم في
المباحث السابقة استيفاء البحث عن معنى الإيمان والإصلاح والفسق ومعنى نفي الخوف
والحزن عن المؤمنين.
قوله
تعالى : « قُلْ لا أَقُولُ
لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ
إِنِّي مَلَكٌ » لعل المراد بخزائن الله ما ذكره بقوله تعالى : « قُلْ لَوْ أَنْتُمْ
تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ » : ( الإسراء : ١٠٠ ) وخزائن الرحمة هذه هي ما يكشف عن
أثره ، قوله تعالى : «
ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها » ، الآية : ( فاطر : ٢ ) وهي فائضة الوجود التي تفيض من
عنده تعالى على الأشياء من وجودها ، وآثار وجودها وقد بين قوله تعالى : « إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » : ( يس : ٨٢ ) أن مصدر هذا الأثر الفائض هو قوله ، وهو
كلمة « كُنْ » الصادرة عن مقام العظمة والكبرياء ، وهذا هو الذي يخبر
عنه بلفظ آخر في قوله : «
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ
مَعْلُومٍ » : ( الحجر : ٢١ ).
فالمراد بخزائن
الله هو المقام الذي يعطي بالصدور عنه ما أريد من شيء من غير أن ينفد بإعطاء وجود
أو يعجزه بذل وسماحة ، وهذا مما يختص بالله سبحانه ، وأما غيره كائنا ما كان ومن
كان فهو محدود وما عنده مقدر إذا بذل منه شيئا نقص بمقدار ما بذل ، وما هذا شأنه
لم يقدر على إغناء أي فقير ، وإرضاء أي طالب ، وإجابة أي سؤال.
وأما قوله : « وَلا أَعْلَمُ
الْغَيْبَ » فإنما أريد بالعلم الاستقلال به من غير تعليم بوحي وذلك أنه تعالى يثبت
الوحي في ذيل الآية بقوله : «
إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ » ، وقد
بين في مواضع من كلامه أن بعض ما يوحيه لرسله من الغيب ، كقوله تعالى : « عالِمُ الْغَيْبِ فَلا
يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ » ، : ( الجن : ٢٦ ) وكقوله بعد سرد قصة يوسف : « ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ
وَهُمْ يَمْكُرُونَ » : ( يوسف : ١٠٢ ) وقوله في قصة مريم : « ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ
إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ
مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ » ( آل عمران : ٤٤ ) وقوله بعد قصة نوح : « تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ
قَبْلِ هذا » : ( هود : ٤٩ ).
فالمراد بنفي
علم الغيب نفي أن يكون مجهزا في وجوده بحسب الطبع بما لا يخفى عليه معه ما لا سبيل
للإنسان بحسب العادة إلى العلم به من خفيات الأمور كائنة ما كانت.
وأما قوله : « وَلا أَقُولُ لَكُمْ
إِنِّي مَلَكٌ » فهو كناية عن نفي آثار الملكية من أنهم منزهون عن حوائج الحياة المادية
من أكل وشرب ونكاح وما يلحق بذلك ، وقد عبر عنه في مواضع أخرى بقوله : « قُلْ إِنَّما أَنَا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ » : ( الكهف : ١١٠ ) وإنما عبر عن ذلك هاهنا بنفي
الملكية دون إثبات البشرية ليحاذي به ما كانوا يقترحونه عليه صلىاللهعليهوآله بمثل قولهم : « ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ
وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ » : ( الفرقان : ٧ ).
ومن هنا يظهر
أن الآية بما في سياقها من النفي بعد النفي ـ كأنها ـ ناظرة إلى الجواب عما كانوا
يقترحونه على النبي صلىاللهعليهوآله من سؤال الآيات المعجزة والاعتراض بما كان يأتي به من
أعمال كأعمال المتعارف من الناس كما حكاه عنهم في قوله : « وَقالُوا ما لِهذَا
الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ
إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ، أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ
تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها » : ( الفرقان : ٨ ) وقوله : «
وَقالُوا
لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ، أَوْ تَكُونَ
لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً
، أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ
وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً ، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ
ـ إلى أن قال ـ
قُلْ سُبْحانَ
رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً
» : ( الإسراء : ٩٣ )
وقوله : «
فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ » ( الإسراء : ٥١ ) ، وكقوله : « يَسْئَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها » : ( الأعراف : ١٨٧ )
فمعنى قوله : « قُلْ لا أَقُولُ
لَكُمْ » إلخ ، قل :
لم أدع فيما أدعوكم إليه وأبلغكموه أمرا وراء ما أنا عليه من متعارف حال الإنسان
حتى تبكتوني بإلزامي بما تقترحونه مني فلم أدع أني أملك خزائن الألوهية حتى
تقترحوا أن أفجر أنهارا أو أخلق جنة أو بيتا من زخرف ، ولا ادعيت أني أعلم الغيب
حتى أجيبكم عن كل ما هو مستور تحت أستار الغيوب كقيام الساعة ولا ادعيت أني ملك
حتى تعيبوني وتبطلوا قولي بأكل الطعام والمشي في الأسواق للكسب.
قوله تعالى : « إِنْ أَتَّبِعُ
إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ » بيان لما يدعيه حقيقة بعد رد ما اتهموه به من الدعوى من جهة دعواه
الرسالة من الله إليهم أي ليس معنى قولي : إني رسول الله إليكم أن عندي خزائن الله
ولا أني أعلم الغيب ولا أني ملك بل إن الله يوحي إلي بما يوحي.
ولم يثبته في
صورة الدعوى بل قال : «
إِنْ أَتَّبِعُ » إلخ ، ليدل على كونه مأمورا بتبليغ ما يوحى إليه ليس له إلا اتباع ذلك
فكأنه لما قال : لا أقول لكم كذا ولا كذا ولا كذا قيل له : فإذا كان كذلك وكنت
بشرا مثلنا وعاجزا كأحدنا لم تكن لك مزية علينا فما ذا تريد منا؟ فقال : إن أتبع
إلا ما يوحى إلي أن أبشركم وأنذركم فأدعوكم إلى دين التوحيد.
والدليل على
هذا المعنى قوله بعد ذلك : «
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ » فإن مدلوله بحسب ما يعطيه السياق : أني وإن ساويتكم في
البشرية والعجز لكن ذلك لا يمنعني عن دعوتكم إلى اتباعي فإن ربي جعلني على بصيرة
بما أوحى إلي دونكم فأنا وأنتم كالبصير والأعمى ولا يستويان في الحكم وإن كانا
متساويين في الإنسانية فإن التفكر في أمرهما يهدي الإنسان إلى القضاء بأن البصير
يجب أن يتبعه الأعمى ، والعالم يجب أن يتبعه الجاهل.
قوله
تعالى : « وَأَنْذِرْ بِهِ
الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ » إلى آخر الآية الضمير في « بِهِ » راجع إلى القرآن وقد دل عليه قوله في الآية السابقة :
« إِنْ
أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ » وقوله : « لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا
شَفِيعٌ » حال والعامل
فيه يخافون أو يحشرون.
والمراد بالخوف
معناه المعروف دون العلم وما في معناه إذ لا دليل عليه بحسب ظاهر المعنى المتبادر
من السياق ، والأمر بإنذار خصوص الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم لا ينافي عموم
الإنذار لهم ولغيرهم كما يدل عليه قوله في الآيات السابقة : « وَأُوحِيَ إِلَيَّ
هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ » : ( آية : ١٩ ) بل لما كان خوف الحشر إلى الله معينا
لنفوسهم على القبول ومقربا للدعوة إلى أفهامهم أفاد تخصيص الأمر بالإنذار بهم
ووصفهم هذا الوصف تأكيدا لدعوتهم وتحريضا له أن لا يسامح في أمرهم ولا يضعهم موضع
غيرهم بل يخصهم بمزيد عناية بدعوتهم لأن موقفهم أقرب من الحق وإيمانهم أرجى فالآية
بضميمة سائر آيات الأمر بالإنذار العام تفيد من المعنى : أن أنذر الناس عامة ولا
سيما الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم.
وقوله : « لَيْسَ لَهُمْ مِنْ
دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ » نفي مطلق لولاية غير الله وشفاعته فيقيده الآيات الأخر
المقيدة كقوله : « مَنْ ذَا
الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ » : ( البقرة : ٢٥٥ ) وقوله : « وَلا يَشْفَعُونَ
إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى » ( الأنبياء : ٢٨ ) وقوله : « وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ » الزخرف ٨٦.
وإنما لم يستثن
في الآية لأن الكلام يواجه به الوثنيون الذين كانوا يقولون بولاية الأوثان
وشفاعتها ، ولم يكونوا يقولون بذلك بالإذن والجعل فإن الولاية والشفاعة عن إذن
يحتاج القول به إلى العلم به ، والعلم إلى الوحي والنبوة ، وهم لم يكونوا قائلين
بالنبوة ، وأما الذي أثبتوه من الولاية والشفاعة فكأنه أمر متهيئ لأوليائهم
وشركائهم بالضرورة من طبعها لا بإذن من الله كأن أقوياء الوجود من الخليقة لها نوع
من التصرف في ضعفائه بالطبع وإن لم يأذن به الله سبحانه ، وإن شئت قلت : لازمه أن يكون
إيجادها إذنا اضطراريا في التصرف في ما دونها.
وبالجملة قيل :
« ما لهم من دونه ولي ولا شفيع » ولم يقل : إلا بإذنه لأن المشركين إنما قالوا إن
الأوثان أولياء وشفعاء من غير تقييد فنفي ما ذكروه من الولي والشفيع من دون الله
محاذاة بالنفي لإثباتهم ، وأما الاستثناء فهو وإن كان صحيحا كما وقع في مواضع من
كلامه تعالى لكن لا يتعلق به غرض هاهنا.
وقد تبين مما
تقدم أن الآية على إطلاق ظاهرها تأمر بإنذار كل من لا يخلو من استشعار
خوف من الحشر في قلبه إذا ذكر بآيات الله سواء كان ممن يؤمن بالحشر
كالمؤمنين من أهل الكتاب أو ممن لا يؤمن به كالوثنيين وغيرهم لكنه يحتمله فيغشى
الخوف نفسه بالاحتمال أو المظنة فإن الخوف من شيء يتحقق بمجرد احتمال وجوده وإن لم
يوقن بتحققه.
وقد اختلفت
أنظار المفسرين في الآية فمن قائل : إن الآية نزلت في المؤمنين القائلين بالحشر ،
وأنهم هم الذين عنوا في الآية التالية بقوله : « وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ ». ومن قائل : إنها نزلت في طائفة من المشركين الوثنيين يجوزون الحشر بعد
الموت وإن لم يثبت وجود القائل بهذا القول بين مشركي مكة أو العرب يوم نزول السورة
مع كون خطابات السورة متوجهة إلى المشركين من قريش أو العرب بحسب السياق. ، ومن
قائل : إن المراد بهم كل معترف بالحشر من مسلم أو كتابي ، وإنما خص هؤلاء
المعترفون بالأمر بالإنذار مع أن وجوب الإنذار عام لجميع الخلق لأن الحجة أوجب
عليهم لاعترافهم بالمعاد.
لكن الآية لم
تأخذ في وصفهم إلا الخوف من الحشر ، ولا يتوقف الخوف من الشيء على العلم بتحققه
ولا الاعتراف بوجوده بل الشك ـ وهو الاحتمال المتساوي طرفاه ـ والمظنة وهي الإدراك الراجح على ما له من المراتب يجامع الخوف
كالعلم وهو ظاهر.
فالآية إنما
تحرض النبي صلىاللهعليهوآله على إنذار كل من شاهد في سيماه علائم الخوف من أي طائفة
كان لأن بناء الدعوة الدينية على أساس الحشر وإقامة المحاسبة على السيئة والحسنة
والمجازاة عليهما ، وأدنى ما يرجى من تأثير الدعوة الدينية في واحد أن يجوزه
فيخافه ، وكلما ازداد احتمال وقوعه ازداد الخوف وقوي التأثير حتى يتلبس باليقين
وينتفي احتمال الخلاف بالكلية ، فهناك التأثير التام.
قوله
تعالى : « وَلا تَطْرُدِ
الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ » إلى آخر الآية ظاهر السياق على ما يؤيده ما في الآية
التالية : « وَكَذلِكَ
فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ » إلخ ، أن المشركين من قومه صلىاللهعليهوآله اقترحوا عليه أن يطرد عن نفسه الضعفاء المؤمنين به
فنهاه الله تعالى في هذه الآية عن ذلك.
وذلك منهم نظير
ما اقترحه المستكبرون من سائر الأمم من رسلهم أن يطردوا عن أنفسهم الضعفاء
والفقراء من المؤمنين استكبارا وتعززا ، وقد حكى الله تعالى ذلك
عن قوم نوح فيما حكاه من محاجته عليهالسلام حجاجا يشبه ما في هذه الآيات من الحجاج قال تعالى : «
فَقالَ
الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا
وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما
نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ. قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ
فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ
ـ إلى أن قال ـ وَما أَنَا
بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ
ـ إلى أن قال ـ
وَلا
أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ
إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ
اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ
الظَّالِمِينَ » : ( هود ـ ٣١ ).
والتطبيق بين
هذه الآيات والآيات التي نحن فيها يقضي أن يكون المراد بالذين يدعون ربهم بالغداة
والعشي ويريدون وجهه هم المؤمنين ، وإنما ذكر دعاءهم بالغداة والعشي وهو صلاتهم أو
مطلق دعائهم ربهم للدلالة على ارتباطهم بربهم بما لا يداخله غيره تعالى وليوضح ما
سيذكره من قوله : «
أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ».
وقوله : « يُرِيدُونَ وَجْهَهُ » أي وجه الله ، قال الراغب في مفرداته : ، أصل الوجه الجارحة قال : ( فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) ، ( وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ
النَّارُ ) ، ولما كان الوجه أول ما يستقبلك وأشرف ما في ظاهر
البدن استعمل في مستقبل كل شيء وفي أشرفه ومبدئه فقيل : وجه كذا ووجه النهار ،
وربما عبر عن الذات بالوجه في قول الله : ( وَيَبْقى وَجْهُ
رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) ، قيل : ذاته وقيل أراد بالوجه هاهنا التوجه إلى الله
بالأعمال الصالحة.
وقال : ( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) ، ( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ ) ، ( يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ
) ، ( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ
لِوَجْهِ اللهِ ) ، قيل : إن الوجه في كل هذا ذاته ويعني بذلك كل شيء
هالك إلا هو وكذا في أخواته ، وروي أنه قيل ذلك لأبي عبد الله بن الرضا فقال :
سبحان الله لقد قالوا قولا عظيما إنما عنى الوجه الذي يؤتى منه ومعناه : كل شيء من
أعمال العباد هالك وباطل إلا ما أريد به الله ، وعلى هذا الآيات الأخر ، وعلى هذا
قوله : ( يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) ، ( يُرِيدُونَ وَجْهَ
اللهِ ) ، انتهى.
أقول : أما
الانتقال الاستعمالي من الوجه بمعنى الجارحة إلى مطلق ما يستقبل به الشيء غيره
توسعا فلا ريب فيه على ما هو المعهود من تطور الألفاظ في معانيها لكن النظر
الدقيق لا يسوغ إرادة الذات من الوجه فإن الشيء أيا ما كان إنما يستقبل
غيره بشيء من ظواهر نفسه من صفاته وأسمائه ، وهي التي تتعلق بها المعرفة فإنا إنما
نعرف ما نعرف بوصف من أوصافه أو اسم من أسمائه ثم نستدل بذلك على ذاته من غير أن
نماس ذاته مساسا على الاستقامة.
فإنا إنما ننال
معرفة الأشياء أولا بأدوات الحس التي لا تنال إلا الصفات من أشكال وتخاطيط وكيفيات
وغير ذلك من دون أن ننال ذاتا جوهرية ثم نستدل بذلك على أن لها ذوات جوهرية هي
القيمة لأعراضها وأوصافها التابعة لما أنها تحتاج إلى ما يقيم أودها ويحفظها ففي
الحقيقة قولنا : ذات زيد مثلا معناه الشيء الذي نسبته إلى أوصاف زيد وخواصه
كنسبتنا إلى أوصافنا وخواصنا فإدراك الذوات إدراكا فكريا يكون دائما بضرب من
القياس والنسبة.
وإذا لم يمكن
إدراك الذوات الماهوية بإدراك تام فكري إلا من طريق أوصافها وآثارها بضرب من
القياس والنسبة فالأمر في الله سبحانه ولا حد لذاته ولا نهاية لوجوده أوضح وأبين ،
ولا يقع العلم على شيء إلا مع تحديد ما له فلا مطمع في الإحاطة العلمية به تعالى
قال : « وَعَنَتِ
الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ » : ( طه : ١١١ ) وقال : « وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً » : ( طه : ١١٠ ).
لكن وجه الشيء
لما كان ما يستقبل به غيره كانت الجهة بمعنى الناحية أعني ما ينتهي إليه الإشارة
وجها فإنها بالنسبة إلى الشيء الذي يحد الإشارة كالوجه بالنسبة إلى الإنسان يستقبل
غيره به ، وبهذه العناية تصير الأعمال الصالحة وجها لله تعالى كما أن الأعمال
الطالحة وجه للشيطان وهذا بعض ما يمكن أن ينطبق عليه أمثال قوله : « يُرِيدُونَ وَجْهَ
اللهِ » وقوله : « إِنَّما نُطْعِمُكُمْ
لِوَجْهِ اللهِ » وغير ذلك ، وكذا الصفات التي يستقبل بها الله سبحانه خلقه كالرحمة والخلق
والرزق والهداية ونحوها من الصفات الفعلية بل الصفات الذاتية التي نعرفه تعالى بها
نوعا من المعرفة كالحياة والعلم والقدرة كل ذلك وجهه تعالى يستقبل خلقه بها ويتوجه
إليه من جهتها كما يشعر به بعض الأشعار أو الدلالة قوله تعالى : « وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ
ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ » : ( الرحمن : ٢٧ ) فإن ظاهر الآية أن قوله : « ذُو الْجَلالِ
وَالْإِكْرامِ » نعت للوجه دون الرب فافهم ذلك.
وإذا صح أن
ناحيته تعالى جهته ووجهه صح بالجملة أن كل ما ينسب إليه تعالى نوعا من نسبة القرب
كأسمائه وصفاته وكدينه ، وكالأعمال الصالحة وكذا كل من يحل في ساحة قربه كالأنبياء
والملائكة والشهداء وكل مغفور له من المؤمنين وجه له تعالى.
وبذلك يتبين
أولا : معنى قوله سبحانه : «
وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ » : ( النحل : ٩٦ ) وقوله : « وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبادَتِهِ » : ( الأنبياء : ١٩ ) وقوله : « إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ » : ( الأعراف : ٢٠٦ ) ، وقوله فيمن يقتل في سبيل الله :
« بَلْ
أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ » : ( آل عمران : ١٦٩ ) وقوله : «
وَإِنْ مِنْ
شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ
» ( الحجر : ٢١ )
فالآيات تدل بانضمام الآية الأولى إليهن أن هذه الأمور كلها باقية ببقائه تعالى لا
سبيل للهلاك والبوار إليها ، ثم قال تعالى : « كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ » : ( القصص : ٨٨ ) فدل الحصر الذي في الآية على أن ذلك
كله وجه لله سبحانه وبعبارة أخرى كلها واقعة في جهته تعالى مستقرة مطمئنة في جانبه
وناحيته.
وثانيا : أن ما
تتعلق به إرادة العبد من ربه هو وجهه كما في قوله : « يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ
وَرِضْواناً » : ( المائدة : ٢ ) وقوله : « ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ » : ( الإسراء :
٢٨ ) وقوله : « وَابْتَغُوا إِلَيْهِ
الْوَسِيلَةَ » : ( المائدة : ٣٥ ) فكل ذلك وجهه تعالى لأن صفات فعله تعالى كالرحمة
والمرضاة والفضل ونحو ذلك من وجهه ، وكذلك سبيله تعالى من وجهه على ما تقدم ، وقال
تعالى : « إِلَّا ابْتِغاءَ
وَجْهِ اللهِ » : ( البقرة : ٢٧٢ ).
وقوله : « ما عَلَيْكَ مِنْ
حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ » الحساب هو استعمال العدد بالجمع والطرح ونحو ذلك ، ولما كان
تمحيص الأعمال وتقديرها لتوفية الأجر أو أخذ النتيجة ونحوهما لا يخلو بحسب العادة
من استعمال العدد بجمع أو طرح سمي ذلك حسابا للأعمال.
وإذ كان حساب
الأعمال لتوفية الجزاء ، والجزاء إنما هو من الله سبحانه فالحساب على الله تعالى
أي في عهدته وكفايته كما قال : «
إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي » : ( الشعراء : ١١٣ ) ، وقال : « ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا
حِسابَهُمْ » : ( الغاشية : ٢٦ ) وعكس في قوله : « إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً » : ( النساء : ٨٦ ) للدلالة على سلطانه تعالى وهيمنته
على كل شيء.
وعلى هذا
فالمراد من نفي كون حسابهم عليه أو حسابه عليهم نفي أن يكون هو
الذي يحاسب أعمالهم ليجازيهم حتى إذا لم يرتض أمرهم وكره مجاورتهم طردهم عن
نفسه أو يكونوا هم الذين يحاسبون أعماله حتى إذا خاف مناقشتهم أو سوء مجازاتهم أو
كرههم استكبارا واستعلاء عليهم طردهم ، وعلى هذا فكل من الجملتين : « ما عَلَيْكَ » إلخ ، « وما عليهم » إلخ ، مقصودة في الكلام مستقلة.
وربما أمكن أن
يستفاد من قوله : «
ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ » نفي أن يحمل عليه حسابهم أي أعمالهم المحاسبة حتى
يستثقله وذلك بإيهام أن للعمل ثقلا على عامله أو من يحمل عليه فالمعنى ليس شيء من
ثقل أعمالهم عليك ، وعلى هذا فاستتباعه بقوله : « وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ » ـ ولا حاجة إليه لتمام الكلام بدونه ـ إنما هو لتتميم
أطراف الاحتمال وتأكيد مطابقة الكلام ، ومن الممكن أيضا أن يقال : إن مجموع
الجملتين أعني قوله : «
ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ
شَيْءٍ » كناية عن نفي
الارتباط بين النبي صلىاللهعليهوآله وبينهم من حيث الحساب.
وربما قيل : إن
المراد بالحساب حساب الرزق دون حساب الأعمال والمراد : ليس عليك حساب رزقهم ،
وإنما الله يرزقهم وعليه حساب رزقهم ، وقوله : « وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ » إلخ ، جيء به تأكيدا لمطابقة الكلام على ما تقدم في
الوجه السابق ، والوجهان وإن أمكن توجيههما بوجه لكن الوجه هو الأول.
وقوله : « فَتَطْرُدَهُمْ
فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ » الدخول في جماعة الظالمين متفرع على طردهم أي طرد
الذين يدعون ربهم فنظم الكلام بحسب طبعه يقتضي أن يفرع قوله : « فَتَكُونَ مِنَ
الظَّالِمِينَ » ، على قوله في أول الآية : « وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ » إلخ ، إلا أن الكلام لما طال بتخلل جمل بين المتفرع
والمتفرع عليه أعيد لفظ الطرد ثانيا في صورة الفرع ليتفرع عليه قوله : « فَتَكُونَ مِنَ
الظَّالِمِينَ » بنحو الاتصال ويرتفع اللبس.
فلا يرد عليه
أن الكلام مشتمل على تفريع الشيء على نفسه فإن ملخصه : ولا تطرد الذين يدعون ربهم
فتطردهم ، وذلك أن إعادة الطرد ثانيا لإيصال الفرع أعني قوله : « فَتَكُونَ مِنَ
الظَّالِمِينَ » ، إلى أصله كما عرفت.
قوله
تعالى : « وَكَذلِكَ فَتَنَّا
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا » إلى آخر الآية ، الفتنة هي
الامتحان ، والسياق يدل على أن الاستفهام في قوله : « أَهؤُلاءِ مَنَّ
اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا » للتهكم والاستهزاء ، ومعلوم أنهم لا يسخرون إلا ممن
يستحقرون أمره ويستهينون موقعه من المجتمع ، ولم يكن ذلك إلا لفقرهم ومسكنتهم
وانحطاط قدرهم عند الأقوياء والكبرياء منهم.
فالله سبحانه
يخبر نبيه أن هذا التفاوت والاختلاف إنما هو محنة إلهية يمتحن بها الناس ليميز به
الكافرين من الشاكرين ، فيقول أهل الكفران والاستكبار في الفقراء المؤمنين : ( أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ
بَيْنِنا ) فإن السنن الاجتماعية عند الناس توصف بما عند المستن
بها من الشرافة والخسة ، وكذا العمل يوزن بما لعامله من الوزن الاجتماعي فالطريقة
المسلوكة عند الفقراء والأذلاء والعبيد يستذلها الأغنياء والأعزة ، والعمل الذي
أتى به مسكين أو الكلام الذي تكلم به عبد أو أسير مستذلا لا يعتني به أولو الطول
والقوة.
فانتحال
الفقراء والأجراء والعبيد بالدين ، واعتناء النبي بهم وتقريبه إياهم من نفسه
كالدليل عند الطغاة المستكبرين من أهل الاجتماع على هوان أمر الدين وأنه دون أن
يلتفت إليه من يعتني بأمره من الشرفاء والأعزة.
وقوله تعالى :
« أَلَيْسَ
اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ » جواب عن استهزائهم المبني على الاستبعاد ، بقولهم : « أَهؤُلاءِ مَنَّ
اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا » ومحصله أن هؤلاء شاكرون لله دونهم ولذلك قدم هؤلاء
لمنه وأخرهم فكنى سبحانه عن ذلك بأن الله أعلم بالشاكرين لنعمته أي إنهم شاكرون ،
ومن المسلم أن المنعم إنما يمن وينعم على من يشكر نعمته وقد سمى الله تعالى توحيده
ونفي الشريك عنه شكرا في قوله حكاية عن قول يوسف عليهالسلام : « ما كانَ لَنا أَنْ
نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ
» ( يوسف : ٣٨ ).
فالآية تبين
أنهم بجهالتهم يبنون الكرامة والعزة على التقدم في زخارف الدنيا من مال وبنين وجاه
، ولا قدر لها عند الله ولا كرامة ، وإنما الأمر يدور مدار صفة الشكر والنعمة بالحقيقة هي الولاية الإلهية.
قوله
تعالى : « وَإِذا جاءَكَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ » إلى آخر الآية ،
قد تقدم معنى السلام ، والمراد بكتابته الرحمة على نفسه إيجابها على نفسه
أي استحالة انفكاك فعله عن كونه معنونا بعنوان الرحمة ، والإصلاح هو التلبس بالصلاح فهو لازم وإن كان بحسب الحقيقة
متعديا وأصله إصلاح النفس أو إصلاح العمل.
والآية ظاهرة
الاتصال بالآية التي قبلها يأمر الله سبحانه فيها نبيه صلىاللهعليهوآله ـ بعد ما نهاه عن طرد المؤمنين عن نفسه ـ أن يتلطف بهم
ويسلم عليهم ويبشر من تاب منهم عن سيئة توبة نصوحا بمغفرة الله ورحمته فتطيب بذلك
نفوسهم ويسكن طيش قلوبهم.
ويتبين بذلك
أولا : أن الآية ـ وهي من آيات التوبة ـ إنما تتعرض للتوبة عن المعاصي والسيئات
دون الكفر والشرك بدليل قوله : «
مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ » أي المؤمنين بآيات الله.
وثانيا : أن
المراد بالجهالة ما يقابل الجحود والعناد اللذين هما من التعمد المقابل للجهالة
فإن من يدعو ربه بالغداة والعشي يريد وجهه وهو مؤمن بآيات الله لا يعصيه تعالى
استكبارا واستعلاء عليه بل لجهالة غشيته باتباع هوى في شهوة أو غضب.
وثالثا : أن
تقييد قوله : « تابَ » بقوله : « وَأَصْلَحَ » للدلالة على تحقق التوبة بحقيقتها فإن الرجوع حقيقة
إلى الله سبحانه واللواذ بجنابه لا يجامع لطهارة موقفه التقذر بقذارة الذنب الذي
تطهر منه التائب الراجع ، وليست التوبة قول : « أتوب إلى الله » قولا لا يتعدى من
اللسان إلى الجنان ، وقد قال تعالى : « وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ
تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ » : ( البقرة : ٢٨٤ ).
ورابعا : أن
صفاته الفعلية كالغفور والرحيم يصح تقييدها بالزمان حقيقة فإن الله سبحانه وإن كتب
على نفسه الرحمة لكنها لا تظهر ولا تؤثر أثرها إلا إذا عمل بعض عباده سوءا بجهالة
ثم تاب من بعده وأصلح.
وقد تقدم في
الكلام على قوله تعالى : «
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ » إلى آخر الآيتين ( النساء : ١٧ ) في الجزء الرابع من
الكتاب ما له تعلق بالمقام.
قوله
تعالى : « وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ
الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ » تفصيل الآيات بقرينة المقام شرح المعارف الإلهية
وتخليصها من الإبهام والاندماج ، وقوله : «
وَلِتَسْتَبِينَ
سَبِيلُ
الْمُجْرِمِينَ » اللام فيه للغاية ، وهو معطوف على مقدر طوي عن ذكره
تعظيما وتفخيما لأمره وهو شائع في كلامه تعالى ، كقوله : « وَتِلْكَ الْأَيَّامُ
نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا » : ( آل عمران : ١٤٠ ) وقوله : « وَكَذلِكَ نُرِي
إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ » : ( انعام : ٧٥ ).
فالمعنى :
وكذلك نشرح ونميز المعارف الإلهية بعضها من بعض ونزيل ما يطرأ عليها من الإبهام
لأغراض هامة منها أن تستبين سبيل المجرمين فيتجنبها الذين يؤمنون بآياتنا ، وعلى
هذا فالمراد بسبيل المجرمين السبيل التي يسلكها المجرمون قبال الآيات الناطقة
بتوحيد الله سبحانه والمعارف الحقة التي تتعلق به وهي سبيل الجحود والعناد
والإعراض عن الآيات وكفران النعمة.
وربما قيل إن
المراد بسبيل المجرمين السبيل التي تسلك في المجرمين ، وهي سنة الله فيهم من لعنهم
في الدنيا وإنزال العذاب إليه بالآخرة ، وسوء الحساب وأليم العقاب في الآخرة ،
والمعنى الأول أوفق بسياق الآيات المسرودة في السورة.
(
بحث روائي )
في الكافي ،
بإسناده فيه رفع عن الرضا عليهالسلام قال : إن الله عز وجل لم يقبض نبينا حتى أكمل له الدين
، وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء ـ بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام
، وجميع ما يحتاج إليه الناس كملا ، وقال عز وجل : ( ما فَرَّطْنا فِي
الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ).
وفي تفسير
القمي ، حدثني أحمد بن محمد قال حدثني جعفر بن محمد قال حدثنا كثير بن عياش عن أبي
الجارود عن أبي جعفر عليهالسلام : في قوله : « وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ
وَبُكْمٌ » يقول : صم عن
الهدى بكم لا يتكلمون بخير «
فِي الظُّلُماتِ » يعني ظلمات الكفر «
مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » وهو رد على قدرية هذه الأمة ـ يحشرهم الله يوم القيامة
من الصابئين والنصارى والمجوس ـ فيقولون « ( رَبِّنا ما كُنَّا
مُشْرِكِينَ )
__________________
، يقول الله : «
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ـ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا
يَفْتَرُونَ » قال : فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : ألا إن لكل أمة مجوسا ـ ومجوس هذه الأمة الذين يقولون
: لا قدر ـ ويزعمون أن المشية والقدرة إليهم ولهم.
قال في البرهان
، عند نقل الحديث : وفي نسخة أخرى من تفسير علي بن إبراهيم في الحديث هكذا : قال :
فقال : ألا إن لكل أمة مجوسا ، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون : لا قدر ـ ويزعمون
أن المشية والقدرة ليست لهم ولا عليهم ، وفي نسخة ثالثة ، يقولون : لا قدر ـ ويزعمون
أن المشية والقدرة ليست إليهم ـ ولا لهم ، انتهى.
أقول
: مسألة القدر
من المسائل التي وقع الكلام فيها في الصدر الأول فأنكر القدر ـ وهو أن لإرادة الله
سبحانه تعلقا ما بأعمال العباد ـ قوم وأثبتوا المشية والقدرة المستقلتين للإنسان
في فعله وأنه هو الخالق له المستقل به ، وسموا بالقدرية أي المتكلمين في القدر ، وقد
روى الفريقان عن النبي صلىاللهعليهوآله أنه قال : « القدرية مجوس هذه الأمة ، وانطباقه عليهم واضح
فإنهم يثبتون للأعمال خالقا هو الإنسان ولغيرها خالقا هو الله سبحانه وهو قول
الثنوية وهم المجوس بإلهين اثنين : خالق للخير ، وخالق للشر.
وهناك روايات
أخر عن النبي صلىاللهعليهوآله وعن أئمة أهل بيته عليهالسلام تفسر الرواية بالمعنى الذي تقدم ، وتثبت أن هناك قدرا
وأن لله مشية في أفعال عباده كما يثبته القرآن.
وقد أول
المعتزلة وهم النافون للقدر الرواية بأن المراد بالقدرية المثبتون للقدر ، وهم
كالمجوس في إسنادهم الخير والشر كله إلى خالق غير الإنسان ، وقد تقدم بعض الكلام
في ذلك ، وسيجيء استيفاؤه إن شاء الله تعالى.
ومما ذكرنا
يظهر أن الجمع بين القول بأنه لا قدر ، والقول بأنه ليست المشية والقدرة للإنسان
ولا إليه جمع بين المتنافيين فإن القول بنفي القدر يلازم القول باستقلال الإنسان
بالمشية والاستطاعة ، والقول بالقدر يلازم القول بنفي استقلاله بالمشية والقدرة.
وعلى هذا فما
وقع في النسختين من الجمع بين قولهم : لا قدر ، وقولهم : إن المشية والقدرة ليست
لهم ولا إليهم ليس إلا من تحريف بعض النساخ ، وقد اختلط عليه المعنى حيث حفظ قوله
« لا قدر » وغير الباقي.
وفي الدر
المنثور ، أخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر والطبراني في
الكبير وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عقبة بن عامر عن النبي
صلىاللهعليهوآله قال : إذا رأيت الله يعطي العبد في الدنيا ـ وهو مقيم
على معاصيه ما يحب ـ فإنما هو استدراج ثم تلا رسول الله صلىاللهعليهوآله : ( فَلَمَّا نَسُوا ما
ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ ). الآية والآية التي بعدها.
وفيه ، أخرج
ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبادة بن الصامت : أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : إن الله تبارك وتعالى إذا أراد بقوم بقاء أو نماء
ـ رزقهم القصد والعفاف ـ وإذا أراد بقوم اقتطاعا ـ فتح لهم أو فتح عليهم باب خيانة
ـ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة ـ فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم ـ الذين
ظلموا والحمد لله رب العالمين.
وفيه ، أخرج
ابن المنذر عن جعفر قال : أوحى الله إلى داود : خفني على كل حال ، وأخوف ما تكون
عند تظاهر النعم عليك ـ لا أصرعك عندها ثم لا أنظر إليك.
أقول
: قوله : لا
أصرعك نهي يفيد التحذير ، وقوله : ثم لا أنظر « إلخ » منصوب للتفريع على النهي.
وفي تفسير
القمي في قوله تعالى : «
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً » الآية ، قال : إنها نزلت لما هاجر رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى المدينة ، وأصاب أصحابه الجهد والعلل والمرض ـ فشكوا
ذلك إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله فأنزل الله : ( قُلْ ) لهم يا محمد ( أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ
أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً ـ أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ
الظَّالِمُونَ ) ـ أي لا يصيبكم إلا الجهد والضر في الدنيا ـ فأما
العذاب الأليم الذي فيه الهلاك ـ فلا يصيب إلا القوم الظالمين.
أقول
: الرواية على
ضعفها تنافي ما استفاض أن سورة الأنعام نزلت بمكة دفعة. على أن الآية بمضمونها لا
تنطبق على القصة والذي تمحل به في تفسيرها بعيد عن نظم القرآن.
وفي المجمع ، :
في قوله تعالى : ( وَأَنْذِرْ بِهِ
الَّذِينَ يَخافُونَ ) ـ الآية قال قال الصادق عليهالسلام : أنذر بالقرآن من يخافون الوصول إلى ربهم ـ ترغبهم
فيما عنده فإن القرآن شافع مشفع لهم.
أقول
: وظاهر الحديث
رجوع الضمير في قوله : « من دونه » إلى القرآن ، وهو معنى صحيح وإن لم يعهد في
القرآن أن يسمى وليا كما سمي إماما.
وفي الدر
المنثور، أخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن
مردويه وأبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن مسعود قال" : مر الملأ من
قريش على النبي صلىاللهعليهوآله ـ وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ـ ونحوهم من ضعفاء
المسلمين ـ فقالوا : يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء من الله عليهم من بيننا؟
أنحن نكون تبعا لهؤلاء : اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك ، فأنزل فيهم القرآن
: «
وَأَنْذِرْ بِهِ ـ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ » : إلخ.
أقول
: ورواه في
المجمع ، عن الثعلبي بإسناده عن عبد الله بن مسعود مختصرا.
وفيه ، أخرج
ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال" : مشى عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ـ وقرظة
بن عبد عمرو بن نوفل ـ والحارث بن عامر بن نوفل ـ ومطعم بن عدي بن خيار بن نوفل ـ في
أشراف الكفار من عبد مناف إلى أبي طالب ـ فقالوا : لو أن ابن أخيك طرد عنا هؤلاء
الأعبد ـ فإنهم عبيدنا وعسفاؤنا ـ كان أعظم له في صدورنا وأطوع له عندنا ـ وأدنى
لاتباعنا إياه وتصديقه.
فذكر ذلك أبو
طالب للنبي صلىاللهعليهوآله فقال عمر : لو فعلت يا رسول الله حتى ننظر ما يريدون
بقولهم؟ وما تصيرون إليه من أمرهم؟ فأنزل الله : «
وَأَنْذِرْ
بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ
ـ إلى قوله ـ
أَلَيْسَ
اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ
».
قال : وكانوا
بلالا وعمار بن ياسر ـ وسالما مولى أبي حذيفة وصبحا مولى أسيد ، ومن الحلفاء ابن
مسعود والمقداد بن عمرو ـ وواقد بن عبد الله الحنظلي وعمرو بن عبد عمرو ذو
الشمالين ـ ومرثد بن أبي مرثد وأشباههم.
ونزلت في أئمة
الكفر من قريش والموالي والحلفاء : « وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
لِيَقُولُوا » الآية فلما نزلت أقبل عمر فاعتذر من مقالته ـ فأنزل الله : «
وَإِذا
جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا
» الآية.
وفيه ، أخرج
ابن أبي شيبة وابن ماجة وأبو يعلى وأبو نعيم في الحلية وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن خباب قال" : جاء
الأقرع بن حابس التميمي ـ وعيينة بن حصين الفزاري ـ فوجدا النبي صلىاللهعليهوآله قاعدا مع بلال ـ وصهيب وعمار وخباب في أناس ضعفاء من
المؤمنين ـ فلما رأوهم حوله حقروهم ـ فأتوه فخلوا به فقالوا : إنا نحب أن تجعل لنا
منك مجلسا ـ تعرف لنا العرب به فضلنا ـ فإن وفود العرب ستأتيك ـ فنستحيي أن ترانا
العرب قعودا مع هؤلاء الأعبد ـ فإذا نحن جئناك فأقمهم
عنا فإذا نحن فرغنا ـ فلتقعد معهم إن شئت قال : نعم ، قالوا فاكتب لنا عليك
بذلك كتابا ، فدعا بالصحيفة ودعا عليا ليكتب ، ونحن قعود في ناحية
إذ نزل جبرئيل
ـ بهذه الآية : « وَلا
تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ ـ
إلى قوله ـ فَقُلْ سَلامٌ
عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ـ فألقى رسول الله صلىاللهعليهوآله الصحيفة من يده ـ ثم دعانا فأتيناه وهو يقول : سلام
عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ، فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا ـ فأنزل
الله : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ
مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ـ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ
) الآية. قال : فكان رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ يقعد معنا بعد فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها ـ قمنا
وتركناه حتى يقوم.
أقول
: ورواه في
المجمع ، عن سلمان وخباب وفي معنى هذه الروايات الثلاث المتقدمة بعض روايات أخر ،
والرجوع إلى ما تقدم في أول السورة من استفاضة الروايات على نزول سورة الأنعام
دفعة ثم التأمل في سياق الآيات لا يبقي ريبا أن هذه الروايات إنما هي من قبيل ما
نسميه تطبيقا بمعنى أنهم وجدوا مضامين بعض الآيات تقبل الانطباق على بعض القصص
الواقعة في زمن النبي صلىاللهعليهوآله فعدوا القصة سببا لنزول الآية لا بمعنى أن الآية إنما
نزلت وحدها ودفعة لحدوث تلك الواقعة ورفع الشبهة الطارئة من قبلها بل بمعنى أن
الآية يرتفع بها ما يطرأ من قبل تلك الواقعة من الشبهة كما ترتفع بها الشبه
الطارئة من قبل سائر الوقائع من أشباه الواقعة ونظائرها كما يشهد بذلك ما ترى في هذه
الروايات الثلاث الواردة في سبب نزول قوله : ( وَلا تَطْرُدِ
الَّذِينَ يَدْعُونَ ) الآية فإن الغرض فيها واحد لكن القصص مختلفة في عين
أنها متشابهة فكأنهم جاءوا إلى النبي صلىاللهعليهوآله واقترحوا عليه أن يطرد عنه الضعفاء كرة بعد كرة وعنده
في كل مرة عدة من ضعفاء المؤمنين وفي مضمون الآية انعطاف إلى هذه الاقتراحات أو
بعضها.
وعلى هذه
الوتيرة كانوا يذكرون أسباب نزول الآيات بمعنى القصص والحوادث الواقعة في زمنه صلىاللهعليهوآله مما لها مناسبة ما مع مضامين الآيات الكريمة من غير أن
تكون للآية مثلا نظر إلى خصوص القصة والواقعة المذكورة ، ثم شيوع النقل بالمعنى في
الأحاديث والتوسع البالغ في كيفية النقل أوهم أن الآيات نزلت في خصوص الوقائع
الخاصة على أن تكون أسبابا منحصرة ، فلا اعتماد في أمثال هذه الروايات الناقلة
لأسباب النزول وخاصة في أمثال هذه السورة من السور التي نزلت دفعة على أزيد من
أنها تكشف عن نوع ارتباط
للآيات بالوقائع التي كانت في زمنه صلىاللهعليهوآله. ولا سيما بالنظر إلى شيوع الوضع والدس في هذه الروايات
والضعف الذي فيها وما سامح به القدماء في أخذها ونقلها.
وقد روى في
الدر المنثور ، عن الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن عمر بن عبد الله ابن المهاج
: أن الآية نزلت في اقتراح بعض الناس ـ أن يطرد النبي صلىاللهعليهوآله الضعفاء ـ من أصحاب الصفة عن نفسه في نظير من القصة ،
ويضعفه ما تقدم في نظيره أن السورة إنما نزلت دفعة وفي مكة قبل الهجرة.
وفي تفسير
العياشي ، عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : رحم الله عبدا تاب إلى الله قبل الموت ـ فإن
التوبة مطهرة من دنس الخطيئة ـ ومنقذة من شقاء الهلكة فرض الله بها على نفسه
لعباده الصالحين ـ فقال : ( كَتَبَ رَبُّكُمْ
عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ـ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ـ ثُمَّ
تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ ـ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ، ( وَمَنْ يَعْمَلْ
سُوءاً ـ أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ ـ يَجِدِ اللهَ
غَفُوراً رَحِيماً ).
وفي تفسير
البرهان ، روي عن ابن عباس" : في قوله تعالى : ( وَإِذا جاءَكَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا ) ـ الآية نزلت في علي وحمزة وزيد.
أقول
: وفي عدة من
الروايات أن الآيات السابقة نزلت في أعداء آل البيت عليهالسلام والظاهر أنها جميعا من قبيل الجري والتطبيق أو الأخذ
بباطن المعنى فإن نزول السورة بمكة دفعة يأبى أن يجعل أمثال هذه الروايات من أسباب
النزول ولذلك طوينا عن إيرادها ، والله أعلم.
( قُلْ إِنِّي نُهِيتُ
أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ
أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ
إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما
تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ
خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ
لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ
وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا
يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ
مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ
وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ
بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ
لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ
عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا
وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا
لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ
ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا
مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها
وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى
أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ
أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ
نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ
الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ
وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا
يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ (٦٨)
وَما
عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً
وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ
بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ
كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا
لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) قُلْ
أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى
أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي
الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ
هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ
أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ
فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣) ).
(
بيان )
الآيات من تتمة
الاحتجاجات على المشركين في التوحيد وما يرتبط به من المعارف في النبوة والمعاد ،
وهي ذات سياق متصل متسق.
قوله
تعالى : « قُلْ إِنِّي نُهِيتُ
أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ » إلى آخر الآية. أمر بأن خبرهم بورود النهي عليه عن
عبادة شركائهم هو نهي عن عبادتهم بنوع من الكناية
ثم أشار إلى ملاك النهي عنها بقوله : « قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ » وهو أن عبادتهم اتباع للهوى وقد نهي عنه ثم أشار بقوله
: « قَدْ
ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ » إلى سبب الاستنكاف عن اتباع الهوى وهو الضلال والخروج
عن جماعة المهتدين وهم الذين اتصفوا بصفة قبول هداية الله سبحانه ، وعرفوا بذلك ،
فاتباع الهوى ينافي استقرار صفة الاهتداء في نفس الإنسان ، ويمانع إشراق نور
التوحيد على قلبه إشراقا ثابتا ينتفع به.
وقد تلخص بذلك
كله بيان تام معلل للنهي أو الانتهاء عن عبادة أصنامهم ، وهو أن في عبادتها اتباعا
للهوى ، وفي اتباع الهوى الضلال والخروج عن صف المهتدين بالهداية الإلهية.
قوله
تعالى : « قُلْ إِنِّي عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ » إلى آخر الآية. البينة هو الدلالة الواضحة من البيان وهو الوضوح ، والأصل في
معنى هذه المادة هو انعزال شيء عن شيء وانفصاله عنه بحيث لا يتصلان ولا يختلطان ،
ومنه البين والبون والبينونة وغير ذلك ، قد سميت البينة بينة لأن الحق يبين بها عن
الباطل فيتضح ويسهل الوقوف عليه من غير تعب ومئونة.
والمراد بمرجع
الضمير في قوله : «
وَكَذَّبْتُمْ بِهِ » هو القرآن وظاهر السياق أن يكون التكذيب إنما تعلق بالبينة التي هو صلىاللهعليهوآله عليها على ما هو ظاهر اتصال المعنى ، ويؤيده قوله بعده
: « ما
عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ » إلخ ، فإن المحصل من الكلام مع انضمام هذا الذيل : أن
الذي أيد الله به رسالتي من البينات وهو القرآن تكذبون به ، والذي تقترحونه علي
وتستعجلون به من الآيات ليس في اختياري ولا مفوضا أمره إلي فليس بيننا ما نتوافق
فيه لما أني أوتيت ما لا تريدون وأنتم تريدون ما لم أوت.
فمن هنا يظهر
أن الضمير المجرور في قوله : «
وَكَذَّبْتُمْ بِهِ » راجع إلى البينة لكون المراد به القرآن ، وأن قوله : « ما عِنْدِي ما
تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ » أريد به نفي التسلط على ما يستعجلون به بالتكنية فإن الغالب فيما يقدر
الإنسان عليه وخاصة في باب الإعطاء والإنفاق أن يكون ما يعطيه وينفقه حاضرا عنده
أو مذخورا لديه وتحت تسلطه ثم ينفق منه ما ينفق فقد أريد بقوله : « ما عِنْدِي » نفي التسلط والقدرة من باب نفي الملزوم بنفي اللازم.
وقوله : « إِنِ الْحُكْمُ
إِلَّا لِلَّهِ » إلخ ، بيان لسبب النفي ، ولذلك جيء فيه بالنفي
والاستثناء المفيد للحصر ليدل بوقوع النفي على الجنس على أن ليس لغيره
تعالى من سنخ الحكم شيء قط وأنه إلى الله سبحانه فحسب.
(
كلام في معنى الحكم وأنه لله وحده )
مادة الحكم تدل
على نوع من الإتقان يتلاءم به أجزاء وينسد به خلله وفرجه فلا يتجزى إلى الأجزاء
ولا يتلاشى إلى الأبعاض حتى يضعف أثره وينكسر سورته ، وإلى ذلك يرجع المعنى الجامع
بين تفاريق مشتقاته كالإحكام والتحكيم والحكمة والحكومة وغير ذلك.
وقد تنبه
الإنسان على نوع تحقق من هذا المعنى في الوظائف المولوية والحقوق الدائرة بين
الناس فإن الموالي والرؤساء إذا أمروا بشيء فكأنما يعقدون التكليف على المأمورين
ويقيدونهم به عقدا لا يقبل الحل وتقييدا لا يسعهم معه الانطلاق ، وكذلك مالك سلعة
كذا أو ذو حق في أمر كذا كان بينه وبين سلعته أو الأمر الذي فيه نوعا من الالتيام
والاتصال الذي يمنع أن يتخلل غيره بينه وبين سلعته بالتصرف أو بينه وبين مورد حقه
فيقصر عنه يده ، فإذا نازع أحد مالك سلعة في ملكها كأن ادعاه لنفسه أو ذا الحق في
حقه فأراد إبطال حقه فقد استوهن هذا الإحكام وضعف هذا الإتقان ثم إذا عقد الحكم أو
القاضي الذي رفعت إليه القضية الملك أو الحق لأحد المتنازعين فقد أوجد هناك حكما
أي إتقانا بعد فتور ، وقوة إحكاما بعد ضعف ووهن ، وقوله : ملك السلعة لفلان أو
الحق في كذا لفلان حكم يرتفع به غائلة النزاع والمشاجرة ، ولا يتخلل غير المالك
وذي الحق بين الملك والحق وبين ذيهما ، وبالجملة الآمر في أمره والقاضي في قضائه
كأنهما يوجدان نسبة في مورد الأمر والقضاء يحكمانه بها ويرفعان به وهنا وفتورا ،
وهو الذي يسمى الحكم.
فهذه سبيل تنبه
الناس لمعنى الحكم في الأمور الوضعية الاعتبارية ثم رأوا أن معناه يقبل الانطباق
على الأمور التكوينية الحقيقية إذا نسبت إلى الله سبحانه من حيث قضائه وقدره فكون
النواة مثلا تنمو في التراب ثم تنبسط ساقا وأغصانا وتورق وتثمر وكون النطفة تتبدل
جسما ذا حياة وحس وهكذا كل ذلك حكم من الله سبحانه وقضاء ، فهذا ما نعلقه من معنى
الحكم وهو إثبات شيء لشيء أو إثبات شيء عند شيء.
ونظرية التوحيد
التي يبني عليها القرآن الشريف بنيان معارفه لما كانت تثبت حقيقة
التأثير في الوجود لله سبحانه وحده لا شريك له ، وإن كان الانتساب مختلفا
باختلاف الأشياء غير جار على وتيرة واحدة كما ترى أنه تعالى ينسب الخلق إلى نفسه
ثم ينسبه في موارد مختلفة إلى أشياء مختلفة بنسب مختلفة ، وكذلك العلم والقدرة
والحياة والمشية والرزق والحسن إلى غير ذلك ، وبالجملة لما كان التأثير له تعالى
كان الحكم الذي هو نوع من التأثير والجعل له تعالى سواء في ذلك الحكم في الحقائق
التكوينية أو في الشرائع الوضعية الاعتبارية ، وقد أيد كلامه تعالى هذا المعنى
كقوله : « إِنِ الْحُكْمُ
إِلَّا لِلَّهِ » : ( الأنعام : ٥٧ يوسف : ٦٧ ) وقوله تعالى : « أَلا لَهُ الْحُكْمُ » : ( الأنعام : ٦٢ ) وقوله : « لَهُ الْحَمْدُ فِي
الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ » : ( القصص : ٧٠ ) وقوله تعالى : « وَاللهُ يَحْكُمُ لا
مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ » : ( الرعد : ٤١ ) ولو كان لغيره تعالى حكم لكان له أن يعقب حكمه ويعارض
مشيته ، وقوله : «
فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ » : ( المؤمن : ١٢ ) إلى غير ذلك ، فهذه آيات خاصة أو
عامة تدل على اختصاص الحكم التكويني به تعالى.
ويدل على
اختصاص خصوص الحكم التشريعي به تعالى قوله : « إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا
تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ » ( يوسف : ٤٠ ) فالحكم لله سبحانه لا يشاركه فيه غيره
على ظاهر ما يدل عليه ما مر من الآيات غير أنه تعالى ربما ينسب الحكم وخاصة
التشريعي منه في كلامه إلى غيره كقوله تعالى : « يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ » : ( المائدة : ٩٥ ) وقوله لداود عليهالسلام : «
إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ » : ( ـ ص : ٢٦ ) وقوله للنبي صلىاللهعليهوآله : «
أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ » : ( المائدة : ٤٩ ) وقوله : « فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ » : ( المائدة : ٤٨ ) وقوله : « يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ » : ( المائدة : ٤٤ ) إلى غير ذلك من الآيات وضمها إلى
القبيل الأول يفيد أن الحكم الحق لله سبحانه بالأصالة وأولا لا يستقل به أحد غيره
، ويوجد لغيره بإذنه وثانيا ، ولذلك عد تعالى نفسه أحكم الحاكمين وخيرهم لما أنه
لازم الأصالة والاستقلال والأولية فقال : « أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ » : ( التين : ٨ ) وقال « وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ » : ( الأعراف : ٨٧ ).
والآيات
المشتملة على نسبة الحكم إلى غيره تعالى بإذن ونحوه ـ كما ترى ـ تختص بالحكم
الوضعي الاعتباري ، وأما الحكم التكويني فلا يوجد فيها ـ على ما أذكر ـ ما يدل على
نسبته إلى غيره وإن كانت معاني عامة الصفات والأفعال المنسوبة إليه تعالى لا تأبى
عن الانتساب إلى غيره نوعا من الانتساب بإذنه ونحوه كالعلم والقدرة والحياة والخلق
والرزق والإحياء والمشية وغير ذلك في آيات كثيرة لا حاجة إلى إيرادها.
ولعل ذلك
مراعاة لحرمة جانبه تعالى لإشعار الصفة بنوع من الاستقلال الذي لا مسوغ لنسبته إلى
هذه الأسباب المتوسطة كما أن القضاء والأمر التكوينيين كذلك ، ونظيرتها في ذلك
ألفاظ البديع والبارئ والفاطر وألفاظ أخر يجري مجراها في الإشعار بمعاني تنبئ عن
نوع من الاختصاص ، وإنما كف عن استعمالها في غير مورده تعالى رعاية لحرمة ساحة
الربوبية.
ولنرجع إلى ما
كنا فيه من تفسير الآية فقوله تعالى : « إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ » أريد بالحكم فيه القضاء التكويني ، والجملة تعليل
للنفي في قوله : « ما
عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ » والمعنى ـ على ما يعطيه السياق ـ أن الحكم لله وحده
وليس إلي أن أقضي بيني وبينكم ، وهو الذي تستعجلون به باستعجالكم بما تقترحون علي
من الآية.
وعلى هذا فقوله
: « ما
عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ » مستعمل استعمال الكناية كأنهم باقتراحهم إتيان آية
أخرى غير القرآن كانوا يقترحون عليه صلىاللهعليهوآله أن يقضي بينه وبينهم ولعل هذا هو السر في تكرار لفظ
الموصول والصلة في الآية التالية حيث يقول تعالى : « قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ
بِهِ » وكان مقتضى
ظاهر السياق أن يقال : لو أن عندي ذلك ، وذلك أنه أريد بقوله : « ما تَسْتَعْجِلُونَ
بِهِ » في الآية
الأولى لازم الآية وهو القضاء بينه وبينهم على ما جرت به السنة الإلهية ، وفي
الآية الثانية نفس الآية ، ومن المحتمل أيضا أن يكون أمر الكناية بالعكس من ذلك
فيكون المراد بما تستعجلون به هو القضاء بالصراحة في الآية الأولى ، والآية
بالتكنية في الآية الثانية.
وقوله : « يَقُصُّ الْحَقَّ
وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ » قرأ عاصم ونافع وابن كثير من السبعة بالقاف والصاد المهملة من القص وهو
قطع شيء وفصله من شيء ومنه قوله تعالى : « وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ » : ( القصص : ١١ ) وقرأ الباقون بالقاف والضاد المعجمة
من القضاء ، وقد حذف الياء من الرسم على حد قوله تعالى : « فَما تُغْنِ
النُّذُرُ » : ( القمر : ٥ ) ولكن من القراءتين وجه ، ومآلهما من حيث المعنى واحد فإن
قص الحق وفصله من الباطل لازم القضاء والحكم بالحق وإن كان قوله : « وَهُوَ خَيْرُ
الْفاصِلِينَ » أنسب مع القص بمعنى الفصل.
وأما أخذ قوله
« يَقُصُّ
الْحَقَ » من القص بمعنى الإخبار عن الشيء أو بمعنى تتبع الأثر على ما
احتمله بعض المفسرين فمما لا يلائم المورد :
أما الأول فلأن
الله سبحانه وإن قص في كلامه كثيرا قصص الأنبياء وأممهم غير أن المقام خال عن ذلك
فلا موجب لذكر هذا النعت له وتوصيفه تعالى به.
وأما الثاني
فلأن محصل معناه أن سنته تعالى أن يتبع الحق ويقتفي أثره في تدبير مملكته وتنظيم
أمور خليقته ، والله سبحانه وإن كان لا يحكم إلا الحق ولا يقضي إلا الحق إلا أن
أدب القرآن الحكيم يأبى عن نسبة الاتباع والاقتفاء إليه تعالى ، وقد قال تعالى
فيما قال : « الْحَقُّ
مِنْ رَبِّكَ » : ( آل عمران : ٦٠ ) ولم يقل : الحق مع ربك ، لما في التعبير بالمعية من
شائبة الاعتضاد والتأيد والإيهام إلى الضعف.
(
كلام في معنى حقيقة فعله وحكمه تعالى )
فعله وحكمه
تعالى نفس الحق لا مطابق للحق موافق له ، بيان ذلك أن الشيء إنما يكون حقا إذا كان
ثابتا في الخارج واقعا في الأعيان من غير أن يختلقه وهم أو يصنعه ذهن كالإنسان
الذي هو أحد الموجودات الخارجية والأرض التي يعيش عليها والنبات والحيوانات التي
يغتذي بها ، والخبر إنما يكون حقا إذا طابق الواقع الثابت في نفسه مستقلا عن
إدراكنا والحكم والقضاء إنما يكون حقا إذا وافق السنة الجارية في الكون فإذا أمر
الآمر بشيء أو قضى القاضي بشيء فإنما يكون حكم هذا وقضاء ذاك حقا مطلقا إذا وافق
المصلحة المطلقة المأخوذة من السنة الجارية في الكون ، ويكون حقا نسبيا إذا وافق
المصلحة النسبية المأخوذة من سنة الكون بالنسبة إلى بعض أجزائه من غير نظر إلى
النظام العام العالمي.
فإذا أمرنا آمر
بالتزام العدل أو اجتناب الظلم فإنما يعد ذلك حقا لأن نظام الكون يهدي الأشياء إلى
سعادتها وخيرها ، وقد قضى على الإنسان أن يعيش اجتماعيا ، وقضى على كل مجتمع مركب
من أجزاء أن يتلاءم أجزاؤه ولا يزاحم بعضها بعضا ، ولا يفسد طرف منه طرفا ، حتى
ينال ما قسم له من سعادة الوجود ، ويتوزع ذلك بين أجزائه المجتمعين ، فمصلحة هذا
النوع المطلقة هي سعادته في الحياة ، ويطابقها الأمر بالعدل والنهي عن الظلم فكل
منهما حكم حق ، ولا يطابقها الأمر بالظلم والنهي عن العدل فهما من الباطل ،
والتوحيد حق لأنه يهدي إلى سعادة الإنسان في حياته الحقيقية ، والشرك باطل لأنه
يجر الإنسان إلى شقاء مهلك وعذاب خالد.
وكذلك القضاء
بين متخاصمين إنما يكون حقا إذا وافق الحكم المشروع المراعى
فيه المصلحة الإنسانية المطلقة أو مصلحة قوم خاص أو أمة خاصة ، والمصلحة
الحقيقية ـ كما عرفت ـ مأخوذة من السنة الجارية في الكون مطلقا أو نسبيا.
فقد تبين أن
الحق أيا ما كان إنما هو مأخوذ من الكون الخارجي والنظام المنبسط عليه والسنة
الجارية فيه ، ولا ريب أن الكون والوجود مع ما له من النظام والسنن والنواميس فعله
سبحانه منه يبتدئ وبه يقوم ، وإليه ينتهي ، فالحق أيا ما كان والمصلحة كيفما فرضت
يتبعان فعله ويقتفيان أثره ، ويثبتان بالاستناد إليه لا أنه تعالى يتبع الحق في
فعله ويقفو أثره فهو تعالى حق بذاته وكل ما سواه حق به.
ونحن معاشر
الآدميين لما كنا نطلب بأفعالنا الاختيارية تتميم نواقص وجودنا ورفع حوائج حياتنا
، وكانت أفعالنا ربما طابقت سعادتنا المطلوبة لنا وربما خالفت اضطررنا في ذلك إلى
رعاية جانب المصلحة التي نذعن بأنها مصلحة أي فيها صلاح حالنا وسعادة جدنا وأدى
ذلك إلى الإذعان بقوانين جارية وأحكام عامة ، واعتبار شرائع وسنن اجتماعية لازمة
المراعاة واجبة الاتباع لموافاتها المصلحة الإنسانية وموافقتها السعادة المطلوبة.
وأدى ذلك إلى
الإذعان بأن للمصالح والمفاسد ثبوتا واقعيا وظروفا من التحقق منحازا عن العالمين :
ـ الذهن والخارج ـ منعزلا عن الدارين : ـ العلم والعين ـ وهي تؤثر أثرها في خارج
الكون بالموافقة والمخالفة فإذا طابقت أفعالنا أو أحكامنا المصالح الواقعية
الثابتة في نفس الأمر ظهرت فيها المصلحة وانتهت إلى السعادة ، وإذا خالفتها وطابقت
المفاسد الواقعية الحقيقية ساقتنا إلى كل ضر وشر ، وهذا النحو من الثبوت ثبوت
واقعي غير قابل للزوال والتغير فللمصالح والمفاسد الواقعية وكذا لما معها من
الصفات الداعية إلى الفعل والترك كالحسن والقبح وكذا للأحكام المنبعثة منها كوجوب
الفعل والترك مثلا لكل ذلك ثبوت واقعي يتأبى عن الفناء والبطلان ، ويمتنع عن
التغير والتبدل وهي حاكمة فينا باعثة لنا إلى أفعال كذا أو صارفة ، والعقل ينال
هذه الأمور النفس الأمرية كما ينال سائر الأمور الكونية.
ثم لما وجدوا
أن الأحكام والشرائع الإلهية لا تفارق الأحكام والقوانين الإنسانية المجعولة في
المجتمعات من جهة معنى الحكم ، وكذا أفعاله تعالى لا تختلف مع أفعالنا من جهة معنى
الفعل حكموا بأن الأحكام الإلهية والأفعال المنسوبة إلى الله سبحانه كأفعالنا في
الانطباق
على المصالح الواقعية والاتصاف بصفة الحسن ، فللمصالح الواقعية تأثير في
أفعاله تعالى وحكومة على أحكامه وخاصة من حيث إنه تعالى عالم بحقائق الأمور بصير
بمصالح عباده.
وهذا كله من
إفراط الرأي ، وقد عرفت مما تقدم أن هذه أحكام وعلوم اعتبارية غير حقيقية اضطرنا
إلى اعتبارها وجعلها الحوائج الطبيعية وضرورة الحياة الاجتماعية لا خبر عنها في
الخارج عن ظرف الاجتماع ، ولا قيمة لها إلا أنها أمور متقررة في ظرف الوضع
والاعتبار يميز بها الإنسان ما ينفعه من الأعمال مما يضره ، وما يصلح شأنه مما
يفسده ، وما يسعده مما يشقيه.
وقد ساقت
العصبية المذهبية الطائفتين الباحثتين عن المعارف الدينية في صدر الإسلام إلى
تقابل عجيب بالإفراط والتفريط في هذا المقام فطائفة ـ وهم المفوضة ـ أثبتوا مصالح
ومفاسد نفس أمرية وحسنا وقبحا واقعيين هي ثابتة ثبوتا أزليا أبديا غير متغير ولا
متبدل وهي حاكمة على الله سبحانه بالإيجاب والتحريم ، مؤثرة في أفعاله تكوينا
وتشريعا بالحظر والترخيص فأخرجوه تعالى عن سلطانه ، وأبطلوا إطلاق ملكه.
وطائفة ـ وهم
المجبرة ـ نفت ذلك كله ، وأصرت على أن الحسن في الشيء إنما هو تعلق الأمر به ،
والقبح تعلق النهي به ، ولا غرض ولا غاية في تكوين ولا تشريع ، وأن الإنسان لا
يملك من فعله شيئا ولا قدرة قبل الفعل عليه كما أن الطائفة الأولى ذهبت إلى أن
الفعل مخلوق للإنسان وأن الله سبحانه لا يملك من فعل الإنسان شيئا ولا تتعلق به
قدرته.
والقولان ـ كما
ترى ـ إفراط وتفريط فلا هذا ولا ذاك بل حقيقة الأمر أن هذه ونظائرها أمور اعتبارية
وضعية لها أصل حقيقي وهو أن الإنسان ـ ونظيره سائر الحيوانات الاجتماعية كل على
قدره ـ في مسيره الحيوي الذي لا يريد به إلا إبقاء الحياة ونيل السعادة ناقص محتاج
يرفع جهات نقصه وحاجته بأعماله الاجتماعية الصادرة عن الشعور والإرادة فاضطره ذلك
إلى أن يصف أعماله والأمور التي تتعلق بها أعماله في طريق الوصول إلى غاية سعادته
والتجنب عن شقائه بأوصاف الأمور الخارجية من حسن وقبح ووجوب وحرمة وجواز وملك وحق
وغير ذلك ويجري فيها نواميس الأسباب والمسببات فيضع في إثر ذلك قوانين عامة وخاصة
، ويعتقد لذلك نوعا من الثبوت الذي يعتقده للأمور الحقيقية حتى يتم له بذلك أمر
حياته الاجتماعية.
فترانا نعتقد
أن العدل حسن كما أن الورد حسن جميل ، والظلم قبيح شاءه كما أن الميتة المنتنة
كذلك ، وأن المال لنا كما أن أعضاءنا لنا ، والعمل الكذائي واجب كما أن الآثار
واجبة لعللها التامة ، وعلى هذا القياس ، ولذلك ترى أن هذه الآراء تختلف بين
الأقوام إذا اختلفت مقاصد مجتمعاتهم فترى هؤلاء يحسنون ما يقبحه آخرون وتجد طائفة
تلغي من الأحكام ما تعتبره أخرى ، وتلفى أمة تنكر ما تعرفه أمة أو تعجبها ما
يستشنعه غيرها ، وربما تترك سنة مأخوذة ثم تؤخذ ثم تترك في أمة واحدة على نسق
الدوران بحسب مراحل السير الاجتماعي ومساسه بلوازم الحياة ، هذا في المقاصد التي
تختلف في المجتمعات ، وأما المقاصد العامة التي لا يختلف فيه اثنان كأصل الاجتماع
والعدل والظلم ونحو ذلك فما لها من وصف الحسن والقبح والوجوب والحرمة وغيرها لا
تختلف البتة ولا يختلف فيه ، هذا فيما يرجع إلينا.
والله سبحانه
لما قلب دينه في قالب السنن العامة الاجتماعية اعتبر في بيانه المعارف الحقيقية
المسبوكة في قالب السنن الاجتماعية ما نعتبره نحن في مسير حياتنا فأراد منا أن
نفكر فيما يرجع إلى معارفه ، ونتلقى ما يلقيه إلينا من الحقائق كما نفكر ونتلقى ما
عندنا من سنن الحياة فعد نفسه ربا معبودا ، وعدنا عبادا مربوبين ، وذكرنا أن له
دينا مؤلفا من عقائد أصلية وقوانين عملية تستعقب ثوابا وعقابا وأن في اتباعه صلاح
حالنا ، وحسن عاقبتنا ، وسعادة جدنا على نحو المسلك الذي نسلكه في آرائنا
الاجتماعية.
فهناك عقائد
أصلية يجب علينا أن نعتقد بها ونلزمها ، وهناك وظائف عملية وقوانين إلهية في
العبادات والمعاملات والسياسات يجب علينا أن نعمل بها ونراعيها كما أن الأمر في
جميع المجتمعات الإنسانية على ذلك.
وهذا هو الذي
يسوغ لنا أن نبحث عن المعارف الدينية اعتقادية أو عملية كما نبحث عن المعارف
الاجتماعية اعتقادية أو عملية ، وأن نستند في المعارف الدينية من الآراء العقلية
والقضايا العملية بعين ما نستند إليه في المعارف الاجتماعية فالله سبحانه لا يختار
لعباده من الوظائف والتكاليف إلا ما فيه المصلحة التي تصلح شأنهم في دنياهم
وآخرتهم ، ولا يأمر إلا بالحسن الجميل ، ولا ينهى إلا عن القبيح الشائه الذي فيه
فساد دين أو دنيا ، ولا يفعل إلا ما يؤثره العقل ، ولا يترك إلا ما ينبغي أن يترك.
إلا أنه تعالى
ذكرنا مع ذلك بأمرين :
أحدهما : أن
الأمر في نفسه أعظم من ذلك وأعظم فإن ذلك كله معارف مأخوذة من مواد الآراء
الاجتماعية وهي في الحقيقة لا تتعدى طور الاجتماع ، ولا ترقى إلى عالم السماء كما
قال : « إِنَّا
جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ، وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ » : ( الزخرف : ٤ ) وقال في مثل ضربه : « أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً
رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ
مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ » الآية ( الرعد : ١٧ ) وقال صلىاللهعليهوآله : إنا معاشر الأنبياء أمرنا ـ أن نكلم الناس على قدر
عقولهم ، إلى غير ذلك مما ورد في الكتاب والسنة.
وليس معنى هذا
البحث نفي الحسن والمصلحة مثلا عن أفعاله تعالى بمعنى إثبات ما يقابله حتى يستتبع
ذلك إثبات القبح والمفسدة أو سقوط أفعاله عن الاعتبار العقلائي كأفعال الصبيان
تعالى عن ذلك كما أن نفي البصر بمعنى الجارحة عن العقل لا يوجب إثبات العمى له أو
سقوطه عن مرتبة الإدراك بل تنزيه عن النقص.
وثانيهما : أن
جهات الحسن ومزايا المصالح وإن كانت تعلل بها أفعاله تعالى وشرائع أحكامه وتبين
بها وظائف العبودية كما تعلل بها ما عندنا من الأحكام والأعمال العقلائية إلا أن
بين البابين فرقا وهو أنها في جانبنا حاكمة على الإرادة مؤثرة في الاختيار فنحن
بما أنا عقلاء إذا وجدنا فعلا ذا صفة حسن مقارنا لمصلحة غير مزاحمة بعثنا ذلك إلى
اقتراف العمل وإذا وجدنا حكما على هذا النعت لم نتردد في تقنينه وحكمنا به
وأجريناه في مجتمعنا مثلا.
وليست هذه
الوجوه والعلل أعني جهات الحسن والمصلحة إلا معاني أخذناها من سنة التكوين والوجود
الخارجي الذي هو منفصل من أذهاننا مستقل دوننا فأردنا في اختيار الأعمال الحسنة
ذوات المصلحة أن لا نخبط في مسيرنا وتنطبق أعمالنا على سنة التكوين وتقع في صراط
الحقيقة ، فهذه الجهات والمصالح معان منتزعة من خارج الأعيان متفرعة عليه ،
وأعمالنا متفرعة على هذه الجهات محكومة لها متأثرة عنها ، والكلام في أحكامنا
المجعولة لنا نظير الكلام في أعمالنا.
وأما فعله
تعالى فهو نفس الكون الخارجي والوجود العيني الذي كنا ننتزع منه وجوه الحسن
والمصلحة وكانت تتفرع عليه بما أنها انتزعت منه فكيف يمكن أن يعد فعله تعالى
متفرعا عليها محكوما لها متأثرا عنها ، وكذلك أحكامه تعالى المشرعة تستتبع الواقع
لا أنها
تتبع الواقع فافهم ذلك.
فقد تبين : أن
جهات الحسن والمصلحة وما يناظرها في عين أنها موجودة في أفعاله تعالى وأحكامه ،
وفي أفعالنا وأحكامنا بما نحن عقلاء تختلف في أنها بالنسبة إلى أعمالنا وأحكامنا
حاكمة مؤثرة ، وإن شئت قلت دواع وعلل غائية ، وبالنسبة إلى أفعاله وأحكامه تعالى
لازمة غير منفكة وإن شئت قلت : فوائد مطردة ، فنحن بما أنا عقلاء نفعل ما نفعل
ونحكم ما نحكم لأنا نريد به تحصيل الخير والسعادة وتملك ما لا نملكه بعد ، وهو
تعالى يفعل ما يفعل ويحكم ما يحكم لأنه الله ، ويترتب على فعله ما يترتب على فعلنا
من الحسن والمصلحة ، وأفعالنا مسئول عنها معللة بغاياتها ومصالحها ، وأفعاله غير
مسئول عنها ولا معللة بغاية لا يملكها بل مكشوفة بلوازمها ونعوتها اللازمة ولا
يسأل عما يفعل وهم يسألون فافهم ذلك.
وهذا هو الذي
يهدي إليه كلامه عز اسمه كقوله تعالى : « لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ
يُسْئَلُونَ » : ( الأنبياء : ٢٣ ) وقوله : « لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ
وَلَهُ الْحُكْمُ » : ( القصص : ٧٠ ) وقوله : « وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ » : ( إبراهيم : ٢٧ ) وقوله : « وَاللهُ يَحْكُمُ لا
مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ » : ( الرعد : ٤١ ).
ولو كان فعله
تعالى كأفعالنا العقلائية لكان لحكمه معقب إلا أن يعتضد بمصلحة محسنة ولم يكن له
ليفعل ما يشاء بل ما تشير إليه المصلحة المقارنة ، وقوله : « قُلْ إِنَّ اللهَ لا
يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ » : ( الأعراف : ٢٨ ) وقوله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا
لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ » : ( الأنفال : ٢٤ ) وغير ذلك من الآيات التي تعلل
الأحكام بوجوه الحسن والمصلحة.
قوله
تعالى : « قُلْ لَوْ أَنَّ
عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ » إلى آخر الآية ، أي لو قدرت على ما تقترحونه علي من
الآية والحال أنها بحيث إذا نزلت على رسول لم تنفك عن الحكم الفصل بينه وبين أمته
لقضي الأمر بيني وبينكم ، ونجي بذلك أحد المتخاصمين المختلفين وعذب الآخر وأهلك ،
ولم يعذب بذلك ولا يهلك إلا أنتم لأنكم ظالمون ، والعذاب الإلهي إنما يأخذ
الظالمين بظلمهم ، وهو سبحانه أنزه ساحة من أن يشتبه عليه الأمر ولا يميز الظالمين
من غيرهم فيعذبني دونكم.
ففي قوله تعالى
: « وَاللهُ
أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ » نوع تكنية وتعليل أي إنكم أنتم المعذبون
لأنكم ظالمون والعذاب الإلهي لا يعدو الظالمين إلى غيرهم ، وفي الجملة
إشارة إلى ما تقدم من قوله تعالى : « قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ
اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ » ( محمد : ٤٧ ).
قوله
تعالى : « وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ
الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ » إلى آخر الآية. ذكروا في وجه اتصال الآية بما قبلها أن
الآية السابقة لما ختمت بقوله : «
وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ » زاد الله سبحانه في بيانه فذكر أن خزائن الغيب أو
مفاتيح تلك الخزائن عنده سبحانه لا يعلمها إلا هو ، ويعلم كل دقيق وجليل.
وهذا الوجه لا
يتضح به معنى الحصر الذي يدل عليه قوله : « لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ » فالأولى أن يوجه الاتصال بما يشتمل عليه مجموع الآيتين
السابقتين أعني قوله : « قُلْ
إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ـ إلى قوله ـ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ » حيث يدل المجموع على أن ما كانوا يقترحونه من الآية
وما يستتبعه من الحكم الفصل والقضاء بينه وبينهم إنما هو عند الله لا سبيل إليه
لغيره فهو العالم بذلك الحاكم به ، ولا يغلط في حكمه الفصل وتعذيب الظالمين لأنه
أعلم بهم فهو عالم بالغيب لا يشاركه فيه غيره ، وعالم بكل ما جل ودق لا يضل ولا
ينسى ، ثم زاد ذلك بيانا بقوله : « وعنده مفاتح الغيب » الآية فبين به اختصاصه
تعالى بعلم الغيب وشمول علمه كل شيء ، ثم تمم البيان بالآيات الثلاث التي تتلوها.
وبذلك تصير
الآيات جارية مجرى ما سيقت إليه نظائرها في مثل المورد كقوله تعالى في قصة هود
وقومه : « قالُوا أَجِئْتَنا
لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ. قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما
أُرْسِلْتُ بِهِ » ( الأحقاف : ٢٣ ).
ثم نقول : المفاتح جمع مفتح بفتح الميم وهو الخزينة ، وربما احتمل أن يكون
جمع مفتح بكسر الميم وهو المفتاح ، ويؤيده ما قرئ شاذا : « وعنده مفاتيح الغيب »
ومآل المعنيين واحد فإن من عنده مفاتيح الخزائن هو عالم بما فيها قادر على التصرف
فيها كيف شاء عادة كمن عنده نفس الخزائن إلا أن سائر كلامه تعالى فيما يشابه هذا
المورد يؤيد المعنى الأول فإنه تعالى كرر في كلامه ذكر خزائنه وخزائن رحمته ـ وذلك
في سبعة مواضع ـ ولم يذكر لها مفاتيح في شيء من كلامه قال تعالى : « أَمْ عِنْدَهُمْ
خَزائِنُ رَبِّكَ » : ( الطور : ٣٧ ) وقال : « لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ » : ( الأنعام : ٥٠ ) وقال : « وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ » : ( الحجر : ٢١ ) وقال : « وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ »
: ( المنافقون : ٧ ) وقال : « أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ » : ( ـ ص : ٩ ) فالأقرب أن يكون المراد بمفاتح الغيب
خزائنه.
وكيف كان فقوله
: «
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ » مسوق لبيان انحصار العلم بالغيب فيه تعالى إما لأن
خزائن الغيب لا يعلمها إلا الله ، وإما لأن مفاتيح الغيب لا يعلمها غيره تعالى فلا
سبيل لغيره إلى تلك الخزائن إذ لا علم له بمفاتيحها التي يتوصل بها إلى فتحها
والتصرف فيها.
وصدر الآية وإن
أنبأ عن انحصار علم الغيب فيه تعالى لكن ذيلها لا يختص بعلم الغيب بل ينبئ عن شمول
علمه تعالى بكل شيء أعم من أن يكون غيبا أو شهادة فإن كل رطب ويابس لا يختص بما
يكون غيبا وهو ظاهر فالآية بمجموعها يبين شمول علمه تعالى لكل غيب وشهادة ، غير أن
صدرها يختص ببيان علمه بالغيوب ، وذيلها ينبئ عن علمه بكل شيء أعم من الغيب والشهادة.
ومن جهة أخرى
صدر الآية يتعرض للغيوب التي هي واقعة في خزائن الغيب تحت أستار الخفاء وأقفال
الإبهام ، وقد ذكر الله سبحانه في قوله : « وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ
وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ » ( الحجر : ٢١ ) أن التي في خزائن الغيب عنده من
الأشياء أمور لا يحيط بها الحدود المشهودة في الأشياء ، ولا يحصرها الأقدار
المعهودة ، ولا شك أنها إنما صارت غيوبا مخزونة لما فيها من صفة الخروج عن حكم
الحد والقدر فإنا لا نحيط علما إلا بما هو محدود ومقدر ، وأما التي في خزائن الغيب
من الأشياء فهي قبل النزول في منزل الشهود والهبوط إلى مهبط الحد والقدر ،
وبالجملة قبل أن يوجد بوجوده المقدر له غير محدودة مقدرة مع كونها ثابتة نوعا من
الثبوت عنده تعالى على ما تنطق به الآية.
فالأمور
الواقعة في هذا الكون المشهود المسجونة في سجن الزمان هي قبل وقوعها وحدوثها
موجودة عند الله ثابتة في خزائنه نوعا من الثبوت مبهما غير مقدر وإن لم نستطع أن
نحيط بكيفية ثبوتها فمن الواقع في مفاتح الغيب وخزائنه الأشياء قبل حدوثها
واستقرارها في منزلها المقدر لها من منازل الزمان ، ولعل هناك أشياء أخر مذخورة
مخزونة لا تسانخ ما عندنا من الأمور الزمانية المشهودة المعهودة ، ولنسم هذا النوع
من الغيب غير الخارج إلى عرصة الشهود بالغيب المطلق.
وأما الأشياء
بعد تلبسها بلباس التحقق والوجود ونزولها في منزلها بالحد والقدر
فالذي في داخل حدودها وأقدارها يرجع بالحقيقة إلى ما في خزائن الغيب ويرجع
إلى الغيب المطلق ، وأما هي مع ما لها من الحد والقدر فهي التي من شأنها أن يقع
عليها شهودنا ويتعلق بها علمنا فعند ما نعلم بها تصير من الشهادة وعند ما نجهل بها
تصير غيبا ، ومن الحري أن نسميها عند ما تصير مجهولة لنا غيبا نسبيا لأن هذا الوصف
الذي يطرؤها عندئذ وصف نسبي يختلف بالنسب والإضافات كما أن ما في الدار مثلا من
الشهادة بالنسبة إلى من فيها ، ومن قبيل الغيب بالنسبة إلى من هو في خارجها ، وكذا
الأضواء والألوان المحسوسة بحاسة البصر من الشهادة بالنسبة إلى البصر ، ومن الغيب
بالنسبة إلى حاسة السمع ، والمسموعات التي ينالها السمع شهادة بالنسبة إليه وغيب
بالنسبة إلى البصر ، ومحسوساتهما جميعا من الشهادة بالنسبة إلى الإنسان الذي
يملكهما في بدنه ومن الغيب بالنسبة إلى غيره من الأناسي.
والتي عدها
تعالى في الآية بقوله : « وَيَعْلَمُ
ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا
حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ » من هذا الغيب النسبي فإنها جميعا أمور محدودة مقدرة لا
تأبى بحسب طبعها أن يتعلق بها علمنا ولا أن يكون مشهودة لنا فهي من الغيب النسبي.
وقد دلت الآية
على أن هذه الأمور في كتاب مبين فما هو الذي منها في كتاب مبين؟ أهو هذه الأشياء
من جهة شهادتها وغيبها جميعا أم هي من جهة غيبها فقط؟ وبعبارة أخرى : الكتاب
المبين أهو هذا الكون المشتمل على أعيان هذه الأشياء لا يغيب عنه شيء منها وإن غاب
بعضها عن بعض أم هو أمر وراء هذا الكون مكتوبة فيه هذه الأشياء نوعا من الكتابة
مخزونة فيه نوعا من الخزن غائبة من شهادة الشهداء من أهل العالم فيكون ما في
الكتاب من الغيب المطلق.
وبلفظ آخر
الأشياء الواقعة في الكون المعدودة بنحو العموم في الآية أهي واقعة بنفسها في
الكتاب المبين كما تقع الخطوط بأنفسها في الكتب التي عندنا أم هي واقعة بمعانيها
فيه كما تقع المطالب الخارجية بمعانيها بنوع من الوقوع في ما نكتبه من الصحائف
والرسائل ثم تطابق الخارج مطابقة العلم العين.؟
لكن قوله تعالى
: « ما أَصابَ
مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ
قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها » : ( الحديد : ٢٢ ) يدل على أن نسبة هذا الكتاب إلى الحوادث الخارجية نسبة
الكتاب الذي يكتب فيه برنامج العمل إلى العمل الخارجي ، ويقرب منه قوله تعالى :
« وَما
يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ
وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ » ( يونس : ٦١ ) وقوله : « لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي
السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا
فِي كِتابٍ مُبِينٍ » : ( سبأ : ٣ ) وقوله : «
قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى ، قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا
يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى » : ( طه : ٥٢ ) إلى غير ذلك من الآيات.
فالكتاب المبين
أيا ما كان هو شيء غير هذه الخارجيات من الأشياء بنحو من المغايرة ، وهو يتقدمها
ثم يبقى بعد فنائها وانقضائها كالبرنامجات المكتوبة للأعمال التي تشتمل على مشخصات
الأعمال قبل وقوعها ثم تحفظ المشخصات المذكورة بعد الوقوع.
على أن هذه
الموجودات والحوادث التي في عالمنا متغيرة متبدلة تحت قوانين الحركة العامة
والآيات تدل على عدم جواز التغير والفساد فيما يشتمل عليه هذا الكتاب كقوله تعالى
: « يَمْحُوا
اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ » : ( الرعد : ٣٩ ) وقوله : « فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ » : ( البروج : ٢٢ ) وقوله : « وَعِنْدَنا كِتابٌ
حَفِيظٌ » : ( ق : ٤ )
فالآيات ـ كما ترى ـ تدل على أن هذا الكتاب في عين أنه يشتمل على جميع مشخصات
الحوادث وخصوصيات الأشخاص المتغيرة المتبدلة لا يتبدل هو في نفسه ولا يتسرب إليه
أي تغير وفساد.
ومن هنا يظهر
أن هذا الكتاب بوجه غير مفاتح الغيب وخزائن الأشياء التي عند الله سبحانه فإن الله
تعالى وصف هذه المفاتح والخزائن بأنها غير مقدرة ولا محدودة ، وأن القدر إنما يلحق
الأشياء عند نزولها من خزائن الغيب إلى هذا العالم الذي هو مستوى الشهادة ، ووصف
هذا الكتاب بأنه يشتمل على دقائق حدود الأشياء وحدود الحوادث ، فيكون الكتاب
المبين من هذه الجهة غير خزائن الغيب التي عند الله سبحانه ، وإنما هو شيء مصنوع
لله سبحانه يضبط سائر الأشياء ويحفظها بعد نزولها من الخزائن وقبل بلوغها منزل
التحقق وبعد التحقق والانقضاء.
ويشهد بذلك أن
الله سبحانه إنما ذكر هذا الكتاب في كلامه لبيان إحاطة علمه بأعيان الأشياء
والحوادث الجارية في العالم سواء كانت غائبة عنا أو مشهودة لنا ، وأما الغيب
المطلق الذي لا سبيل لغيره تعالى إلى الاطلاع عليه فإنما وصفه بأنه في خزائنه
والمفاتح التي عنده لا يعلمها إلا هو بل ربما أشعرت أو دلت بعض الآيات على جواز
اطلاع غيره على الكتاب دون الخزائن كقوله تعالى : « فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا
الْمُطَهَّرُونَ » : ( الواقعة : ٧٩ ).
فما من شيء مما
خلقه الله سبحانه إلا وله في خزائن الغيب أصل يستمد منه ، وما من شيء مما خلقه
الله إلا والكتاب المبين يحصيه قبل وجوده وعنده وبعده غير أن الكتاب أنزل درجة من
الخزائن ، ومن هنا يتبين للمتدبر الفطن أن الكتاب المبين ـ في عين أنه كتاب محض ـ ليس
من قبيل الألواح والأوراق الجسمانية فإن الصحيفة الجسمانية أيا ما فرضت وكيفما
قدرت لا تحتمل أن يكتب فيها تاريخ نفسه فيما لا يزال فضلا عن غيره فضلا عن كل شيء
في مدى الأبد.
فقد بان بما مر
من البحث أولا : أن المراد بمفاتح الغيب الخزائن الإلهية التي تشتمل على الأشياء
قبل تفريغها في قالب الأقدار ، وهي تشتمل على غيب كل شيء على حد ما يدل عليه قوله
تعالى : « وَإِنْ
مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ
مَعْلُومٍ » : ( الحجر : ٢١ ).
وثانيا : أن
المراد بالكتاب المبين أمر نسبته إلى الأشياء جميعا نسبة الكتاب المشتمل على
برنامج العمل إلى نفس العمل ففيه نوع تعيين وتقدير للأشياء إلا أنه موجود قبل
الأشياء ومعها وبعدها ، وهو المشتمل على علمه تعالى بالأشياء علما لا سبيل للضلال
والنسيان إليه ، ولذلك ربما يحدس أن المراد به مرتبة واقعية الأشياء وتحققها
الخارجي الذي لا سبيل للتغير إليه فإن شيئا ما لا يمتنع من عروض التغير عليه إلا
بعد الوقوع ، وهو الذي يقال : إن الشيء لا يتغير عما وقع عليه.
وبالجملة هذا
الكتاب يحصي جميع ما وقع في عالم الصنع والإيجاد مما كان وما يكون وما هو كائن من
غير أن يشذ عنه شاذ إلا أنه مع ذلك إنما يشتمل على الأشياء من حيث تقدرها وتحددها
، ووراء ذلك ألواح وكتب تقبل التغيير والتبديل ، وتحتمل المحو والإثبات كما يدل
عليه قوله تعالى : «
يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ » فإن المحو والإثبات ـ وخاصة إذا قوبلا بأم الكتاب ـ إنما
يكونان في الكتاب.
وعند ذلك يتضح
اتصال الآية أعني قوله : «
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ » إلى آخر الآية بما قبلها من الآيات فإن محصل الآيتين
السابقتين أن الذي تقترحونه علي من الآيات القاضية بيني وبينكم ليس في مقدرتي ،
ولا الحكم الحق راجع إلي بل هو عند ربي في علمه وقدرته ولو كان ذلك إلي لقضي بيني
وبينكم وأخذكم العذاب الذي لا يأخذ إلا الظالمين لأن الله يعلم أنكم أنتم الظالمون
وهو العالم الذي لا يجهل شيئا أما أنه لا سبيل إلى الوقوف والتسلط على ما يريده
ويقضيه من آية قاضية فلأن مفاتح الغيب عنده لا يعلمها إلا
هو ، وأما أنه أعلم بالظالمين ولا يخطئهم إلى غيرهم فلأنه يعلم ما في البر
والبحر ويعلم كل دقيق وجليل ، والكل في كتاب مبين.
فقوله تعالى :
«
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ » راجع إلى الغيب المطلق الذي لا سبيل لغيره تعالى إليه
، وقوله : « لا
يَعْلَمُها » « إلخ » حال وهو يدل على أن مفاتح الغيب من قبيل العلم غير أن هذا العلم
من غير سنخ العلم الذي نتعارفه فإن الذي يتبادر إلى أذهاننا من معنى العلم هو
الصورة المأخوذة من الأشياء بعد وجودها وتقدرها بأقدارها ومفاتح الغيب ـ كما تبين
ـ علم بالأشياء وهي غير موجودة ولا مقدرة بأقدارها الكونية أي علم غير متناه من
غير انفعال من معلوم.
وقوله : « وَيَعْلَمُ ما فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ » تعميم لعلمه بما يمكن أن يتعلق به علم غيره مما ربما يحضر بعضه عند بعض
وربما يغيب بعضه عن بعض ، وإنما قدم ما في البر لأنه أعرف عند المخاطبين من الناس.
وقوله : « وَما تَسْقُطُ مِنْ
وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها » اختص بالذكر لأنه مما يستصعب الإنسان حصول العلم به لأن الكثرة البالغة
التي في أوراق الأشجار تعجز الإنسان أن يميز معها بعضها من بعض فيراقب كلا منها
فيما يطرأ عليه من الأحوال ، ويتنبه على انتقاصها بالساقط منها إذا سقط.
وقوله : « وَلا حَبَّةٍ فِي
ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ » إلخ ، معطوفات على قوله :
« مِنْ وَرَقَةٍ » على ظاهر السياق ، والمراد بظلمات الأرض بطونها
المظلمة التي تستقر فيها الحبات فينمو منها ما ينمو ويفسد ما يفسد فالمعنى : ولا
تسقط من حبة في بطون الأرض المظلمة ولا يسقط من رطب ولا من يابس أيا ما كانا إلا
يعلمها ، وعلى هذا فقوله : «
إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ » بدل من قوله : «
إِلَّا يَعْلَمُها » سد مسده ، وتقديره إلا هو واقع مكتوب في كتاب مبين.
وتوصيف الكتاب
بالمبين إن كان بمعنى المظهر إنما هو لكونه يظهر لقارئه كل شيء على حقيقة ما هو
عليه من غير أن يطرأ عليه إبهام التغير والتبدل وسترة الخفاء في شيء من نعوته ،
وإن كان المبين بمعنى الظاهر فهو ذلك أيضا لأن الكتاب في الحقيقة هو المكتوب ،
والمكتوب هو المحكي عنه ، وإذا كان ظاهرا لا سترة عليه ولا خفاء فيه فالكتاب كذلك.
قوله
تعالى : « وَهُوَ الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ » التوفي أخذ الشيء بتمامه ، ويستعمله الله سبحانه في كلامه
بمعنى أخذ الروح الحية كما في حال الموت كما في قوله في الآية التالية : « حَتَّى إِذا جاءَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ».
قد عد الإنامة
توفيا كما عد الإماتة توفيا على حد قوله : « اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها
وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها » : ( الزمر : ٤٢ ) لاشتراكهما في انقطاع تصرف النفس في
البدن كما أن البعث بمعنى الإيقاظ بعد النوم يشارك البعث بمعنى الإحياء بعد الموت
في عود النفس إلى تصرفها في البدن بعد الانقطاع ، وفي تقييد التوفي بالليل كالبعث
بالنهار جري على الغالب من أن الناس ينامون بالليل ويستيقظون بالنهار.
وفي قوله تعالى
«
يَتَوَفَّاكُمْ » دلالة على أن الروح تمام حقيقة الإنسان الذي يعبر عنه بأنا لا كما ربما
يتخيل لنا أن الروح أحد جزئي الإنسان لا تمامه أو أنها هيئة أو صفة عارضة له ،
وأوضح منه دلالة قوله تعالى : «
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ
بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ ، قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي
وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ » : ( السجدة : ١١ ) فإن استبعاد الكفار مبني على أن
حقيقة الإنسان هو البدن الذي يتلاشى ويفسد بانحلال التركيب بالموت فيضل في الأرض ،
والجواب مبني على كون حقيقته هو الروح ( النفس ) وإذ كان ملك الموت يتوفاه ويقبضه
فلا يفوت منه شيء.
وقوله : « وَيَعْلَمُ ما
جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ » الجرح هو الفعل بالجارحة والمراد به الكسب أي يعلم ما كسبتم
بالنهار ، والأنسب أن يكون الواو حالية والجملة حالا من فاعل يتوفاكم ، ويتصل
حينئذ قوله : « ثُمَّ
يَبْعَثُكُمْ فِيهِ » بقوله : «
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ » إلخ ، من غير تخلل معنى أجنبي فإن الآيتين في مقام شرح
وقوع التدبير الإلهي بالإنسان في حياته الدنيا وعند الموت وبعده حتى يرد إلى ربه ،
والأصل العمدة من جمل الآيتين المسرودة لبيان هذا المعنى قوله تعالى : « وَهُوَ الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ
يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ـ أي في النهار ـ لِيُقْضى أَجَلٌ
مُسَمًّى وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ. ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ
مَوْلاهُمُ الْحَقِ » فهذا هو الأصل في المقصود ، وما وراء ذلك مقصود بالتبع ، والمعنى وهو
الذي يتوفاكم بالليل والحال أنه يعلم ما كسبتم في النهار ، ثم يبعثكم في النهار
إلخ.
قوله
تعالى : « ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ
فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى » إلخ. سمي الإيقاظ والتنبيه بعثا محاذاة لتسمية الإنامة
توفيا وجعل الغرض من البعث قضاء الأجل المسمى وهو الوقت
المعلوم عند الله الذي لا يتخطاه حياة الإنسان الدنيوية كما قال : « فَإِذا جاءَ
أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ » : ( الأعراف : ٣٤ ).
وإنما جعل قضاء
الأجل المسمى غاية لأنه تعالى أسرع الحاسبين ، ولو لا تحقق قضاء سابق لأخذهم
بسيئات أعمالهم ووبال آثامهم ، كما قال : « وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما
جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ » : ( الشورى : ١٤ ) والقضاء السابق هو الذي يشتمل عليه
قوله تعالى في قصة هبوط آدم عليهالسلام : «
وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ » : ( الأعراف : ٢٤ ).
فالمعنى أن
الله يتوفاكم بالليل والحال أنه يعلم ما كسبتم في النهار من السيئات وغيرها لكن لا
يمسك أرواحكم ليديم عليها الموت بل يبعثكم في النهار بعد التوفي لتقضى آجالكم
المسماة ثم إليه مرجعكم بنزول الموت والحشر فينبئكم بما كنتم تعملون.
قوله
تعالى : « وَهُوَ الْقاهِرُ
فَوْقَ عِبادِهِ » قد تقدم الكلام فيه في تفسير الآية ١٧ من السورة.
قوله
تعالى : « وَيُرْسِلُ
عَلَيْكُمْ حَفَظَةً » إلخ ، إطلاق إرسال الحفظة من غير تقييد لا في الإرسال ولا في الحفظة ثم
جعله مغيا بمجيء الموت لا يخلو عن دلالة على أن هؤلاء الحفظة المرسلين شأنهم حفظ
الإنسان من كل بلية تتوجه إليه ومصيبة تتوخاه ، وآفة تقصده فإن النشأة التي نحن فيها
نشأة التفاعل والتزاحم ، ما فيه من شيء إلا وهو مبتلى بمزاحمة غيره من شيء من جميع
الجهات لأن كلا من أجزاء هذا العالم الطبيعي بصدد الاستكمال واستزادة سهمه من
الوجود ، ولا يزيد في شيء إلا وينقص بنسبته من غيره فالأشياء دائما في حال التنازع
والتغلب ، ومن أجزائه الإنسان الذي تركيب وجوده ألطف التراكيب الموجودة فيه وأدقها
فيما نعلم فرقباؤه في الوجود أكثر وأعداؤه في الحياة أخطر فأرسل الله إليه من
الملائكة حفظة تحفظه من طوارق الحدثان وعوادي البلايا والمصائب ولا يزالون يحفظونه
من الهلاك حتى إذا جاء أجله خلوا بينه وبين البلية فأهلكته على ما في الروايات.
وأما ما ذكره
في قوله : « إِنَّ
عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ » : ( الانفطار : ١٢ ) فإنما يريد به الحفظة على الأعمال
غير أن بعضهم أخذ الآيات مفسرة لهذه الآية ، والآية وإن لم تأب هذا المعنى كل
الإباء لكن قوله : «
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ »
إلى آخر الآية ، كما تقدم يؤيد المعنى الأول.
وقوله : « تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا
وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ » الظاهر أن المراد من التفريط هو التساهل والتسامح في إنفاذ الأمر الإلهي
بالتوفي فإن الله سبحانه وصف ملائكته بأنهم يفعلون ما يؤمرون ، وذكر أن كل أمة رهن
أجلهم فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون فالملائكة المتصدون لأمر
التوفي لا يقصرون عن الحد الواجب المحدود المكشوف لهم من موت فلان في الساعة
الفلانية على الشرائط الكذائية فهم لا يسامحون في توفي من أمروا بتوفيه ولا مقدار
ذرة فهم لا يفرطون.
وهل هذه الرسل
هم الرسل المذكورون أولا حتى تكون الحفظة هم الموكلين على التوفي؟ الآية ساكتة عن
ذلك إلا ما فيها من إشعار ضعيف بالوحدة غير أن هؤلاء الرسل المأمورين بالتوفي
كائنين من كانوا هم من أعوان ملك الموت لقوله تعالى : « قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي
وُكِّلَ بِكُمْ » : ( السجدة : ١١ ).
ونسبة التوفي
إلى هؤلاء الرسل ثم إلى ملك الموت في الآية المحكية آنفا ثم إلى الله سبحانه في
قوله : « اللهُ
يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ » : ( الزمر : ٤٢ ) من قبيل التفنن في مراتب النسب فالله سبحانه ينتهي إليه
كل أمر وهو المالك المتصرف على الإطلاق ، ولملك الموت التوسل إلى ما يفعله من قبض
الأرواح بأعوانه الذين هم أسباب الفعل ووسائله وأدواته كالخط الذي يخط القلم
وورائه اليد ووراءهما الإنسان الكاتب.
قوله
تعالى : « ثُمَّ رُدُّوا إِلَى
اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ » إشارة إلى رجوعهم إلى الله سبحانه بالبعث بعد الموت ، وتوصيفه تعالى بأنه
مولاهم الحق للدلالة على علة جميع ما تقدم من تصرفاته تعالى بالإنامة والإيقاظ
والتدبير والإماتة والبعث ، وفيه تحليل لمعنى المولى ثم إثبات حق المولوية له
تعالى ، فالمولى هو الذي يملك الرقبة فيكون من حقه جواز التصرف فيها كيفما شاء ،
وإذ كان له تعالى حقيقة الملك ، وكان هو المتصرف بالإيجاد والتدبير والإرجاع فهو
المولى الحق الذي يثبت له معنى المولوية ثبوتا لا زوال له بوجه البتة.
والحق من أسماء
الله الحسنى لثبوته تعالى بذاته وصفاته ثبوتا لا يقبل الزوال ويمتنع عن التغير
والانتقال والضمير في «
رُدُّوا » راجع إلى
الآحاد الذي يومئ إليه سابق الكلام من قوله : « حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ » فإن حكم الموت يعم كل واحد ويجتمع به آحادهم
نفس الجماعة ، ومن هنا يظهر أن قوله : « ثُمَّ رُدُّوا » ليس من قبيل الالتفات من الخطاب السابق إلى الغيبة.
قوله
تعالى : « أَلا لَهُ الْحُكْمُ » إلخ ، لما بين تعالى اختصاصه بمفاتح الغيب وعلمه
بالكتاب المبين الذي فيه كل شيء ، وتدبيره لأمر خلقه من لدن وجدوا إلى أن يرجعوا إليه
تبين أن الحكم إليه لا إلى غيره ، وهو الذي ذكره فيما مر من قوله : « إِنِ الْحُكْمُ
إِلَّا لِلَّهِ » أعلن نتيجة بيانه فقال «
أَلا لَهُ الْحُكْمُ » ليكون منبها لهم مما غفلوا عنه.
وكذلك قوله : « وَهُوَ أَسْرَعُ
الْحاسِبِينَ » نتيجة أخرى لسابق البيان فإنه تبين به أنه تعالى لا يؤخر حساب أعمال
الناس عن الوقت الصالح له ، وإنما يتأخر ما يتأخر ليدرك الأجل الذي أجل له.
قوله
تعالى : « قُلْ مَنْ
يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ » إلى آخر الآية كأن المراد بالتنجية من ظلمات البر
والبحر هو التخليص من الشدائد التي يبتلى بها الإنسان في خلال الأسفار إذا ضرب في
الأرض أو ركب البحر كالبرد الشديد والأمطار والثلوج وقطاع الطريق والطوفان ونحو
ذلك ، وأشق ما يكون ذلك على الإنسان في الظلمات من ليل أو سحاب أو ريح تثير عجاج
الأرض فيزيد في اضطراب الإنسان وحيرته وضلاله طريق الاحتيال لدفعه ، ولذلك علقت
التنجية على الظلمات ، وكان أصل المعنى الاستفهام عمن ينجي الإنسان من الشدائد
التي يبتلى بها في أسفاره في البر والبحر فأضيفت الشدائد إلى البر والبحر بعناية
الظرفية ثم أضيفت إلى ظلمات البر والبحر لأن للظلمات تأثيرا تاما في تشديد هذه
المكاره ، ثم حذفت الشدائد وأقيمت الظلمات مقامها فعلقت التنجية عليها فقيل :
ينجيكم من ظلمات البر والبحر.
وإنما خصت
الظلمات بالذكر وإن كان المنجي من كل مكروه وغم هو الله سبحانه كما يذكره في الآية
التالية لأن أسفار البر والبحر معروف عند الإنسان بالعناء والوعثاء والكريهة.
والتضرع إظهار الضراعة وهو الذل والخضوع على ما ذكره الراغب ،
ولذلك قوبل بالخفية وهو الخفاء والاستتار فالتضرع والخفية في الدعاء هما
الإعلان والإسرار فيه ، والإنسان إذا نزلت به المصيبة يبتدئ فيدعو للنجاة بالإسرار
والمناجاة ثم إذا اشتدت به ولاح بعض آثار اليأس والانقطاع من الأسباب لا يبالي بمن
حوله ممن يطلع على ذلته واستكانته فيدعو بالتضرع والمناداة ففي ذكر التضرع والخفية
إشارة إلى أنه تعالى هو المنجي من مصائب البر والبحر شديدتها ويسيرتها.
وفي قوله : « لَئِنْ أَنْجانا مِنْ
هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ » إشارة إلى أن الإنسان يضيف في هذه الحالة التي يدعو
لكشفها إلى دعائه عهدا يقدمه إلى ربه ووعدا يعده به أن لو كشف الله عنه ليكونن من
الشاكرين ويرجع عن سابق كفره.
وأصل هذه العدة
مأخوذ من العادة الجارية بين أفراد الإنسان بعضهم مع بعض فإن الواحد منا إذا أعيته
المذاهب وأحاطت به البلية من مصيبة قاصمة أو فقر أو عدو واستغاث لكشف ما به من كرب
إلى أحد الأقوياء القادرين على كشفه بزعمه وعده بما يطيب به نفسه ويقوي باعث
عزيمته وفتوته ، وذلك بثناء جميل أو مال أو طاعة أو وفاء كل ذلك لما أن الأعمال
الاجتماعية التي تدور بيننا كلها معاملات قائمة بطرفين يعطي فيها الإنسان شيئا
ويأخذ شيئا لأن الحاجة محيطة بالإنسان ليس له أن يعمل عملا أو يؤثر أثرا إلا لنفع
عائد إلى نفسه ، ومثله سائر أجزاء الكون.
لكن الله
سبحانه أكرم ساحة أن تمسه حاجة أو يطرأ عليه منقصة لا يفعل فعلا إلا ليعود نفعه
إلى غيره من خليقته فوجه التوحيد في مقابلة الإنسان له بوعد الشكر والطاعة في
دعائه الفطري هو أن الإنسان إذا نزلت به النازلة ، وانقطعت عنه الأسباب وغابت عن
مسرح نظره وسائل الخلاص وجد أن الله سبحانه هو السبب الوحيد الذي يقدر على كشف ما
به من غم ، وأنه الذي يدبر أمره منذ خلقه ويدبر أمر كل سبب فوجد نفسه ظالما مفرطا
في جنب الله سبحانه لا يستحق كشف الغم ورفع الحاجة من قبله تعالى لما كسبت يداه من
السيئات ، وحملت نفسه من وبال الخطيئة فعندئذ يعد ربه الشكر والطاعة ليصحح ذلك
استحقاقه لاستجابة دعائه وكشف ضره.
ولذلك نجده أنه
إذا نجي مما نزل به النائبة ذهب لوجهه ناسيا لما عهد به ربه ووعده من الشكر كما
قال تعالى في ذيل الآية التالية : « ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ».
قوله
تعالى : « قُلِ اللهُ
يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ » قال الراغب في مفرداته : ، الكرب الغم الشديد ، قال تعالى : « وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ
الْعَظِيمِ » والكربة كالغمة ، وأصل ذلك من كرب الأرض بسكون الراء وهو قلبها
بالحفر فالغم يثير النفس إثارة ذلك وقيل في مثل : الكراب على البقر وليس ذلك من
قولهم : الكلاب على البقر ، في شيء ، ويجوز أن يكون الكرب من كربت الشمس إذا دنت
للمغيب ، وقولهم : إناء كربان أي قريب نحو قربان أي قريب من الملء ، أو من الكرب ( بفتحتين ) وهو عقد غليظ في رشا الدلو ، وقد يوصف الغم بأنه عقد على القلب
يقال : أكربت الدلو ، انتهى.
وقد أضيف في
هذه الآية كل كرب إلى ظلمات البر والبحر ليعم الجميع فإن إنسانا ما لا يخلو في مدى
حياته من شيء من الكروب والغموم فالمسألة والدعاء عام فيهم سواء أعلنوا به أو
أسروا.
فملخص المراد
بالآية أنكم في الشدائد النازلة بكم في ظلمات البر والبحر وغيرها إذا انقطعتم عن
الأسباب الظاهرة وأعيت بكم الحيل تشاهدون بالرجوع إلى فطرتكم الإنسانية أن الله
سبحانه هو ربكم لا رب سواه وتجزمون أن عبادتكم لغيره ظلم وإثم والشاهد على ذلك
أنكم تدعونه حينئذ تضرعا وخفية ، وتعدونه أن تشكروه بعد ذلك ولا تكفروا به إن
أنجاكم لكنكم بعد الإنجاء تنقضون ميثاقكم الذي واثقتموه به وتستمرون على سابق
كفركم ، ففي الآيتين احتجاج على المشركين وتوبيخ لهم على حنث اليمين وخلف الوعد.
قوله
تعالى : « قُلْ هُوَ الْقادِرُ
عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ » إلى آخر الآية ، قال الراغب في المفردات ، : أصل البعث إثارة الشيء وتوجيهه يقال : بعثته فانبعث ، ويختلف
البعث بحسب اختلاف ما علق به فبعثت البعير أثرته وسيرته ، وقوله عز وجل : ( وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ) أي يخرجهم ويسيرهم إلى القيامة ـ إلى أن قال ـ فالبعث
ضربان : بشري كبعث البعير وبعث الإنسان في حاجة ، وإلهي وذلك ضربان : أحدهما :
إيجاد الأعيان والأجناس والأنواع عن ليس وذلك يختص به الباري تعالى ولم يقدر عليه
أحد ، والثاني إحياء الموتى وقد خص بذلك بعض أوليائه كعيسى عليهالسلام وأمثاله ، انتهى.
وبالجملة في
لفظه شيء من معنى الإقامة والإنهاض ، وبهذه العناية يستعمل في التوجيه والإرسال
لأن التوجيه إلى حاجة والإرسال نحو قوم يكون بعد سكون وخمود غالبا ، وعلى هذا فبعث
العذاب لا يخلو من إشعار على أنه عذاب من شأنه أن يتوجه إليهم ويقع بهم ، وإنما
يمنع عن هذا الاقتضاء مانع كالإيمان والطاعة ، وللكلام تتمة سنوافيك.
وقال في المجمع
، : لبست عليهم الأمر ألبسه إذا لم أبينه وخلطت بعضه ببعض ولبست الثوب ألبسه ، واللبس اختلاط الأمر واختلاط الكلام ، ولابست الأمر خالطته ، والشيع الفرق ، وكل فرقة شيعة على حدة ، وشيعة فلان تبعته ، والتشيع الاتباع على وجه التدين والولاء ، انتهى.
وعلى هذا
فالمراد بقوله : « أَوْ
يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً » أن يضرب البعض بالبعض ويخلط
حال كونهم شيعا وفرقا مختلفة.
فقوله : « قُلْ هُوَ الْقادِرُ
عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِكُمْ » ظاهره إثبات القدرة لله سبحانه على بعث العذاب عليهم من فوق أو من تحت ،
والقدرة على الشيء لا تستلزم فعله ، وهو أعني إثبات القدرة على الفعل الذي هو
العذاب كاف في الإخافة والإنذار لكن المقام يعطي أن المراد ليس هو إثبات مجرد
القدرة بل لهم استحقاق لمثل هذا العذاب ، وفي العذاب اقتضاء أن ينبعث عليهم إن لم
يجتمعوا على الإيمان بالله وآياته كما مر من استفادة ذلك من معنى البعث ، ويؤيده
قوله بعد : « لِكُلِّ
نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ » فإنه تهديد صريح.
على أنه تعالى
يهدد هذه الأمة صريحا بالعذاب في موارد مشابهة لهذا المورد من كلامه كقوله تعالى :
« وَلِكُلِّ
أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ـ إلى أن قال ـ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي
وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ » الآيات ( يونس : ٤٧ ـ ٥٣ ) وقوله : « إِنَّ هذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ، وَتَقَطَّعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ » إلى آخر الآيات : ( الأنبياء : ٩٣ ـ ٩٧ ) وقوله تعالى : « فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفاً ـ إلى أن قال ـ وَلا
تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا
شِيَعاً » إلى آخر
الآيات : ( الروم : ٣٠ ـ ٤٥ ).
وقد قيل : إن
المراد بالعذاب الذي من فوقهم هو الصيحة والحجارة والطوفان والريح كما فعل بعاد
وثمود وقوم شعيب وقوم لوط ، وبالذي من تحت أرجلهم الخسف كما فعل بقارون ، وقيل :
إن المراد بما من فوقهم العذاب الآتي من قبل كبارهم أو سلاطينهم الجبابرة وبما من
تحت أرجلهم ما يأتيهم من قبل سفلتهم أو عبيدهم السوء ، وقيل : المراد بما من فوق
وبما من تحت الأسلحة النارية القتالة التي اخترعها البشر أخيرا من الطيارات
والمناطد التي تقذف القنابل المحرقة والمخربة وغيرها ومراكب تحت البحر المغرفة
للسفائن والباخرات فإن الإنذار إنما وقع في كلامه تعالى وهو أعلم بما كان سيحدث في
مملكته.
والحق أن اللفظ
مما يقبل الانطباق على كل من المعاني المذكورة وقد وقع بعد النزول ما ينطبق عليه
اللفظ ، والمحتد الأصلي لهذه الوقائع الذي مهد لها الطريق هو اختلاف الكلمة
والتفرق الذي بدأت به الأمة وجبهت به النبي صلىاللهعليهوآله فيما كان يدعوهم إليه من الاتفاق على كلمة الحق ، وأن
هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم.
قوله
تعالى : « أَوْ يَلْبِسَكُمْ
شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ » ظاهره أنه أريد به التحزبات التي نشأت بعد النبي صلىاللهعليهوآله ، فأدى ذلك إلى حدوث مذاهب متنوعة ألبست لباس العصبية
والحمية الجاهلية واستتبعت حروبا ومقاتل يستبيح كل فريق من غيره كل حرمة ويطرده
بمزعمته من حرمة الدين وبيضة الإسلام.
وعلى هذا فقوله
: « أَوْ
يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ » إلخ ، عذاب واحد لا عذابان وإن أمكن بوجه عد كل من
إلقاء التفرق في الكلمة وإذاقة البعض بأس بعض عذابا مستقلا برأسه فللتفرقة بين
الأمة أثر سوء آخر وهو طرو الضعف ونفاد القوة وتبعض القدرة لكن المأخوذ في الآية
المعدود عذابا أعني قوله : «
وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ » إلخ ، حينئذ بالنسبة إلى مجرد إلقاء الاختلاف بمنزلة المقيد بالنسبة إلى
المطلق ، ولا يحسن مقابلة المطلق بالمقيد إلا بعناية زائدة في الكلام ، على أن
العطف بواو الجمع يؤيد ما ذكرناه.
فبالجملة معنى
الآية : قل يا رسول الله مخاطبا لهم منذرا لهم عاقبة استنكافهم عن الاجتماع تحت
لواء التوحيد واستماع دعوة الحق إن لشأنكم هذا عاقبة سيئة في قدرة الله سبحانه أن
يأخذكم بها وهو أن يبعث عليكم عذابا لا مفر لكم منه ولا ملاذ تلوذون به وهو العذاب
من فوقكم أو من تحت أرجلكم ، أو أن يضرب بعضكم ببعض فتكونوا شيعا وفرقا مختلفين
متنازعين ومتحاربين فيذيق بعضكم بأس بعض ، ثم تمم البيان بقوله خطابا لنبيه : ( انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ
لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ) ، والمعنى ظاهر.
قوله
تعالى : « وَكَذَّبَ بِهِ
قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ » قوم النبي صلىاللهعليهوآله هم قريش أو مضر أو عامة العرب والمستفاد من فحوى بعض
كلامه تعالى في موارد أخر أن المراد بقومه صلىاللهعليهوآله هم العرب كقوله : « وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ
، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ، كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي
قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ، لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ
الْأَلِيمَ ، فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ » : ( الشعراء : ٢٠٢ ) وقوله : « وَما أَرْسَلْنا مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ » : ( إبراهيم : ٤ ).
وكيف كان فقوله
: « وَكَذَّبَ
بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ » بمنزلة التمهيد لتحقيق النبإ الذي يتضمنه الإنذار
السابق كأنه قيل : يا أيتها الأمة اجتمعوا في توحيد ربكم واتفقوا في اتباع كلمة
الحق وإلا فلا مؤمن يؤمنكم عذابا يأتيكم من فوق أو من تحت أو من اختلاف
وتحزب يستتبع سيفا وسوطا من بعضكم على بعض ، ثم خوطب النبيصلىاللهعليهوآله فقيل : إن قومك كذبوا بذلك فليستعدوا لعذاب بئيس أو بأس
شديد يذوقونه.
ومن هنا يظهر
أولا : أن الضمير في قوله : «
وَكَذَّبَ بِهِ » راجع إلى العذاب كما نسبه الآلوسي إلى غالب المفسرين ، وربما قيل : إنه
عائد إلى تصريف الآيات أو إلى القرآن وهو بعيد ، وليس من البعيد أن يرجع إلى النبإ
باعتبار ما تشتمل عليه الآية السابقة.
وثانيا : أن
هذا الخبر أعني قوله : «
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ » بحسب ما يعطيه المقام في معنى ذكر أول خبر يمهد الطريق
لنبإ موعود كأنه قيل : يجب على أمتك أن يجتمعوا على الإيمان بالله وآياته ويكونوا
على تحرز وتحذر من أن يتسرب إليهم الكفر بالله وآياته ويدب فيهم اختلاف حتى لا
ينزل عليهم عذاب الله سبحانه ثم قيل : إن قومك من بين جميع أمتك ومن عاصرك أو جاء
من بعدك من أهل الدنيا بادروا إلى نقض ما كان يجب عليهم أن يبرموه وكذبوا النبأ
فانثلم بذلك الأمر فسوف يعلمون ذلك أن المكذبين للنبي صلىاللهعليهوآله أو للقرآن أو لهذا العذاب ليسوا هم الأعراب خاصة وهم
قومه صلىاللهعليهوآله بل كذبته اليهود وأمم من غيرهم في زمانه وبعده وكان
تكذيبهم واختلافهم جميعا ذا أثر مثبت في ما هددوا به من العذاب فتخصيص تكذيب قومه
بالذكر والحال هذه يفيد ما ذكرناه.
والبحث
التحليلي عن نفسية المجتمع الإسلامي يؤيد هذا الذي استفدناه من الآية فإن ما
ابتليت به الأمة الإسلامية اليوم من الانحطاط في نفسيتهم والوهن في قوتهم والتشتت
في كلمتهم ينتهي بحسب التحليل إلى ما نشأت من الاختلافات والمشاجرات في الصدر
الأول بعد رحلة النبي صلىاللهعليهوآله ثم يصعد ذلك إلى حوادث أول الهجرة وقبل الهجرة مما لقيه
النبي من قومه ، وما جبهوه به من التكذيب وتسفيه الرأي.
وهؤلاء وإن
تجمعوا حول راية الدعوة الإسلامية واستظلوا بظلها بعد ما ظهرت كلمة الحق وأنارت
مشعلته لكن المجتمع الطيب الديني لم يصف من خبث النفاق ، وقد نطقت آيات جمة من
القرآن الكريم بذلك ، وكان أهل النفاق لا يستهان بعددهم ومن المحال أن يسلم بنية
المجتمع من سيء أثرهم في نفسية أجزائه ولم يقدر على هضمهم هضما تاما يحيلهم إلى
أعضاء صالحة في المجتمع مدى حياة النبي صلىاللهعليهوآله ، ولم يمكث وقودهم دون أن اشتعل ثم زاد اشتعالا ولم يزل
، والجميع يرجع إلى ما بدأ منه ، وكل الصيد في جوف الفراء.
وثالثا : أن
قوله تعالى : «قُلْ
لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ» مسوق سوق الكناية أي أعرض عنهم وقل : إن أمركم غير مفوض إلي ولا محمول
علي حتى أمنعكم من هذا التكذيب نصيحة لكم، وإنما الذي إلي بحسب مقامي أن أنذركم عذابا
شديدا هو كمين لكم.
ومن هنا يظهر
أيضا : أن قوله : «
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ » من مقول القول وتتمة قول النبي صلىاللهعليهوآله لقومه كما يؤيده الخطاب في قوله : « وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
» فإن القوم
إنما هم في موقف الخطاب بالنسبة إلى النبي صلىاللهعليهوآله لا بالنسبة إليه تعالى.
وقوله : « لِكُلِّ نَبَإٍ
مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ » تصريح بالتهديد وإنباء عن الوقوع الحتمي وقد ظهر مما
تقدم وجه صحة خطاب المشركين بما سيبتلى به الأمة الإسلامية من تفرق الكلمة ونزول
الشدة فإن الأعراق تنتهي إليهم وليس الناس إلا أمة واحدة يؤخذ آخرهم بما اكتسبه
أولهم ويعود إلى أولهم ما يظهر في آخرهم علموا ذلك أو جهلوا ، أبصروا من أنفسهم
ذلك أو عموا قال تعالى : «
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ، فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ
مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ
إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ
قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ » : ( الدخان : ١٥ ).
تدبر في الآيات
كيف أخذ آخرهم بما أجرمه أولهم أو هي في عداد ما تقدم نقله من آيات سورة يونس
والأنبياء والروم ، وفي القرآن الشريف شيء كثير من الآيات المنبئة عما سيوافي
الأمة من وخيم العاقبة ووبال السيئة ثم إدراك العناية الإلهية ومن أسوإ التقصير إهمال
الباحثين منا أمر البحث في هذه الآيات الكريمة على كثرتها وأهميتها وشدة مساسها
بحال الأمة وسعادة جدها في دنياها وآخرتها.
قوله
تعالى : « وَإِذا رَأَيْتَ
الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي
حَدِيثٍ غَيْرِهِ » ذكر الراغب في المفردات ، أن الخوض هو الشروع في الماء والمرور فيه ، ويستعار في الأمور ،
وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه ، انتهى. وهو الدخول في باطل
الحديث والتوغل فيه كذكر الآيات الحقة والاستهزاء بها والإطالة في ذلك.
والمراد
بالإعراض عدم مشاركتهم فيما يخوضون فيه كالقيام عنهم والخروج من بينهم أو ما يشابه
ذلك مما يتحقق به عدم المشاركة ، وتقييد النهي بقوله : « حَتَّى يَخُوضُوا فِي
حَدِيثٍ
غَيْرِهِ » للدلالة على
أن المنهي عنه ليس مطلق مجالستهم والقعود معهم ، ولو كان لغرض حق ، وإنما المنهي
عنه مجالستهم ما داموا مشتغلين بالخوض في آيات الله سبحانه.
ومن هنا يظهر
أن في الكلام نوعا من إيجاز الحذف فإن تقدير الكلام : وإذا رأيت الذين يخوضون في
آياتنا يخوضون فيها فأعرض عنهم « إلخ » ، فحذفت الجملة المماثلة للصلة استغناء بها
عنها ، والمعنى ـ والله أعلم ـ وإذا رأيت أهل الخوض والاستهزاء بآيات الله يجرون
على خوضهم واستهزائهم بالآيات الإلهية فأعرض عنهم ولا تدخل في حلقهم حتى يخوضوا في
حديث غيره فإذا دخلوا في حديث غيره فلا مانع يمنعك من مجالستهم ، والكلام وإن وقع
في سياق الاحتجاج على المشركين لكن ما أشير إليه من الملاك يعممه فيشمل غيرهم كما
يشملهم ، وقد وقع في آخر الآية قوله : « فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ » فالخوض في آيات الله ظلم والآية إنما نهت عن مشاركة الظالمين في ظلمهم ،
وقد ورد في مورد آخر من كلامه تعالى : « إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ » : ( النساء : ١٤٠ ).
فقد تبين : أن
الآية لا تأمر بالإعراض عن الخائضين في آيات الله تعالى بل إنما تأمر بالإعراض
عنهم إذا كانوا يخوضون في آيات الله ما داموا مشتغلين به.
والضمير في
قوله : « غَيْرِهِ » راجع إلى الحديث الذي يخاض فيه في آيات الله باعتبار
أنه خوض وقد نهي عن الخوض في الآية.
قوله
تعالى : « وَإِمَّا
يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ » و « إِمَّا » في قوله : « إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ » زائد يفيد نوعا من التأكيد أو التقليل والنون للتأكيد
، والأصل وإن ينسك ، والكلام في مقام التأكيد والتشديد للنهي أي حتى لو غفلت عن
نهينا بما أنساكه الشيطان ثم ذكرت فلا تهاون في القيام عنهم ولا تلبث دون أن تقوم
عنهم فإن الذين يتقون ليس لهم أي مشاركة للخائضين اللاعبين بآيات الله المستهزئين
بها.
والخطاب في
الآية للنبي صلىاللهعليهوآله والمقصود غيره من الأمة فقد تقدم في البحث عن عصمة
الأنبياء عليهمالسلام ما ينفي وقوع هذا النوع من النسيان ـ وهو نسيان حكم
إلهي ومخالفته عملا بحيث يمكن الاحتجاج بفعله على غيره والتمسك به نفسه ـ عنهم عليهالسلام.
ويؤيد ذلك عطف
الكلام في الآية التالية إلى المتقين من الأمة حيث يقول : « وَما عَلَى الَّذِينَ
يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ » إلى آخر الآية.
وأوضح منها
دلالة قوله تعالى في سورة النساء : « وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ
إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا
مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ
اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً » : ( النساء : ١٤٠ ) فإن المراد في الآية وهي مدنية
بالحكم الذي نزل في الكتاب هو ما في هذه الآية من سورة الأنعام وهي مكية ولا آية
غيرها ، وهي تذكر أن الحكم النازل سابقا وجه به إلى المؤمنين ، ولازمه أن يكون
الخطاب الذي في قوله : «
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا » إلخ موجها إلى النبي صلىاللهعليهوآله والمقصود به غيره على حد قولهم : إياك أعني واسمعي يا
جارة.
قوله
تعالى : « وَما عَلَى الَّذِينَ
يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ » إلى آخر الآية. يريد أن الذي يكتسبه هؤلاء الخائضون من
الإثم لا يحمل إلا على أنفسهم ولا يتعداهم إلى غيرهم إلا أن يماثلوهم ويشاركوهم في
العمل أو يرضوا بعملهم فلا يحاسب بعمل إلا عامله ولكن نذكرهم ذكرى لعلهم يتقون فإن
الإنسان إذا حضر مجلسهم وإن أمكنه أن لا يجاريهم فيما يخوضون ولا يرضى بقلبه
بعملهم وأمكن أن لا يعد حضوره عندهم إعانة لهم على ظلمهم تأييدا لهم في قولهم لكن
مشاهدة الخلاف ومعاينة المعصية تهون أمر المعصية عند النفس وتصغر الخطيئة في عين
المشاهد المعاين ، وإذا هان أمرها أوشك أن يقع الإنسان فيها فإن للنفس في كل معصية
هوى ومن الواجب على المتقي بما عنده من التقوى والورع عن محارم الله أن يجتنب
مخالطة أهل الهتك والاجتراء على الله كما يجب على المبتلين بذلك الخائضين في آيات
الله لئلا تهون عليه الجرأة على الله وآياته فتقربه ذلك من المعصية فيشرف على
الهلكة ، ومن يحم حول الحمى أوشك أن يقع فيه.
ومن هذا البيان
يظهر أولا : أن نفي الاشتراك في الحساب مع الخائضين عن الذين يتقون فحسب مع أن غير
العامل لا يشارك العامل في جزاء عمله إنما هو للإيماء إلى أن من شاركهم في مجلسهم
وقعد إليهم لا يؤمن من مشاركتهم في جزاء عملهم والمؤاخذة بما يؤاخذون به ، فالكلام
في تقدير قولنا : وما على غير الخائضين من حسابهم من شيء إذا كانوا يتقون الخوض
معهم ولكن إنما ننهاهم عن القعود معهم ليستمروا على تقواهم من الخوض أو ليتم لهم
التقوى والورع عن محارم الله سبحانه.
وثانيا : أن
المراد بالتقوى في قوله : «
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ » التقوى العام وهو الاجتناب والتوقي عن مطلق ما لا يرتضيه الله
تعالى ، وفي قوله : «
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ » التقوى
من خصوص معصية الخوض في آيات الله ، أو المراد بالتقوى الأول أصل التقوى
وبالثاني تمامه ، أو الأول إجمال التقوى والثاني تفصيله بفعلية الانطباق على كل
مورد ومنها مورد الخوض في آيات الله ، وهاهنا معنى آخر وهو أن يكون المراد بالأول
تقوى المؤمنين وبالتقوى الثاني تقوى الخائضين وتقدير الكلام ولكن ذكروا الخائضين
ذكرى لعلهم يتقون الخوض.
وثالثا : أن
قوله : ذكرى مفعول مطلق لفعل مقدر والتقدير ولكن نذكرهم بذلك ذكرى أو ذكروهم ذكرى
أو خبر لمبتدإ محذوف والتقدير : ولكن هذا الأمر ذكرى أو مبتدأ لخبر محذوف والتقدير
: ولكن عليك ذكراهم وأوسط الوجوه أسبقها إلى الذهن.
قوله
تعالى : « وَذَرِ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً » إلى آخر الآية ، قال الراغب : البسل ضم الشيء ومنعه ولتضمنه لمعنى الضم أستعير لتقطيب الوجه
فقيل : هو باسل ومبتسل الوجه ، ولتضمنه لمعنى المنع قيل للمحرم
والمرتهن بسل ، وقوله تعالى : ( وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ
تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ ) ، أي تحرم الثواب ، والفرق بين الحرام والبسل أن الحرام
عام فيما كان ممنوعا منه بالحكم والقهر ، والبسل هو المنوع منه بالقهر قال عز وجل
: « أُولئِكَ
الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا » أي حرموا الثواب ، انتهى.
وقال في المجمع
، يقال : أبسلته بجريرته أي أسلمته ، والمستبسل المستسلم الذي يعلم أنه لا يقدر على التخلص ـ إلى أن
قال ـ قال الأخفش : تبسل أي تجازى ، وقيل : تبسل أي ترهن والمعاني متقاربة ،
انتهى.
والمعنى : «
واترك الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا » عد تدينهم بما يدعوهم إليه هوى أنفسهم لعبا
وتلهيا بدينهم ، وفيه فرض دين حق لهم وهو الذي دعتهم إليه فطرتهم فكان يجب عليهم
أن يأخذوا به أخذ جد ويتحرزوا به عن الخلط والتحريف ولكنهم اتخذوه لعبا ولهوا
يقلبونه كيف شاءوا من حال إلى حال ويحولونه حسب ما يأمرهم به هوى أنفسهم من صورة
إلى صورة.
ثم عطف على
اتخاذهم الدين لعبا ولهوا قوله : «
وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا » لما بينهما من الملازمة لأن الاسترسال في التمتع من
لذائذ الحياة المادية والجد في اقتنائها يوجب الإعراض عن الجد في الدين الحق
والهزل واللعب به.
ثم قال : ( وَذَكِّرْ بِهِ ) أي بالقرآن حذرا من أن تبسل أي تمنع نفس بسبب ما كسبت
من السيئات أو تسلم نفس مع ما كسبت للمؤاخذة والعقاب ، وتلك نفس ليس لها من دون
الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل وتفد كل فدية لا يؤخذ منها لأن اليوم يوم
الجزاء بالأعمال لا يوم البيع والشري أولئك الذين أبسلوا ومنعوا من ثواب الله أو
أسلموا لعقابه لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون.
قوله
تعالى : « قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا » احتجاج على المشركين بنحو الاستفهام الإنكاري ، وإنما
ذكر من أوصاف شركائهم كونها لا تنفع ولا تضر لأن اتخاذ الآلهة ـ كما تقدم ـ كان
مبنيا على أحد الأساسين : الرجاء والخوف وإذ كانت الشركاء لا تنفع ولا تضر فلا
موجب لدعائها وعبادتها والتقرب منها.
قوله
تعالى : « وَنُرَدُّ عَلى
أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ ـ إلى قوله ـ ائْتِنا » الاستهواء طلب الهوى والسقوط ، والرد على الأعقاب كناية عن الضلال
وترك الهدى فإن لازم الهداية الحقة الوقوع في مستقيم الصراط والشروع في السير فيه
فالارتداد على الأعقاب ترك السير في الصراط والعود إلى ما خلف من المسير وهو
الضلال ، ولذا قال : ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله فقيد الرد بكونه بعد
الهداية الإلهية.
ومن عجيب
الاستدلال احتجاج بعض بهذه الآية أعني قوله : « وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ
هَدانَا اللهُ » الآية وما يجري مجراها من الآيات كقول شعيب عليهالسلام على ما حكاه الله تعالى في قصته بقوله : « قالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ
آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ
كُنَّا كارِهِينَ ، قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي
مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ
فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا » ( الأعراف : ٨٩ ).
فقد احتجوا بها
على أن الأنبياء عليهمالسلام كانوا قبل البعثة والتلبس بلباس النبوة على الكفر لما
في لفظ الرد على الأعقاب بعد إذ هدى الله ، والعودة في ملة الشرك بعد إذ نجاهم
الله منها من الدلالة على كونهم منتحلين بها واقعين فيها قبل النجاة وهو احتجاج
فاسد فإن ذلك تكلم منهم بلسان المجتمع الديني الذي كانت أفراده على الشرك حتى
هداهم الله بواسطة أنبيائه ولسنا نعني أن غلبة الأفراد الذين كانوا على الشرك في
أول عهدهم سوغ
أن ينسب كفرهم السابق إلى الجميع حتى يكون تغليبا لشركهم على إيمان نبيهم
فإن كلامه الحق لا يحتمل ذلك بل نعني أن مجتمع الدين الشامل للنبي وأمته يصدق عليه
أن أفراده إنما نجوا من الشرك بعد هداية الله سبحانه إياهم وليس لهم من دونه إلا
الضلال أما الأمة فإنهم كانوا على الشرك في زمان قبل زمان اهتدائهم بالدين ، وأما
أنبياؤهم فإنما اهتداؤهم بالله سبحانه ، وليس لهم من أنفسهم لو لا الهداية الإلهية
إلا الضلال فإن غيره تعالى لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فمن الصادق في حقهم أن ليس
لهم أن يرتدوا على أعقابهم بعد إذ هداهم الله أو يعودوا إلى الشرك بعد إذ نجاهم
الله منه.
وبالجملة
الكلمة صادقة عليهم بنحو الحقيقة وإن لم يكن بعض مجتمعهم وهو النبي الذي فيهم
كافرا قبل نبوته فإن الإيمان والاهتداء على أي حال لهم من الله سبحانه بعد الحال
الذي لهم من أنفسهم وحالهم من أنفسهم هو الضلال كما عرفت.
على أنك قد
عرفت فيما تقدم من البحث المتنوع في عصمة الأنبياء أن القرآن الشريف ناص على طهارة
ساحتهم عن أصغر المعاصي الصغيرة فكيف بالكبيرة وبأكبر الكبائر الذي هو الشرك بالله
العظيم.
وقوله : « كَالَّذِي
اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ » « إلخ » تمثيل مثل به حال الإنسان المتحير الذي لم يؤت
بصيرة في أمره وعزيمة راسخة على سعادته فترك أحسن طريق وأقومه إلى مقصده ، وقد
ركبه قبله أصحاب له مهتدون به وبقي متحيرا بين شياطين يدعونه إلى الردى والهلاك ،
وأصحاب له مهتدين قد نزلوا في منازلهم أو أشرفوا على الوصول يدعونه إلى الهدى أن
ائتنا فلا يدري ما يفعل وهو بين مهبط ومستوى؟.
قوله
تعالى : « قُلْ إِنَّ هُدَى
اللهِ هُوَ الْهُدى » إلى آخر الآية. أي إن كان الأمر دائرا بين دعوة الله سبحانه وهي التي
توافق الفطرة وتسميه الفطرة هدى الله ، وبين دعوة الشياطين وهي التي فيها الهوى
واتخاذ الدين لعبا ولهوا فهدى الله هو الهدى الحقيقي دون غيره.
أما أن ما
يوافق دعوة الفطرة هو هدى الله فلا شك يعتريه لأن حق الهداية هو الذي ينطق به
الصنع والإيجاد الذي ليس إلا لله ولا نروم شيئا من دين أو اعتقاد إلا لابتغاء
مطابقة الواقع والواقع لله فلا يعدوه هداه ، وأما أن هدى الله هو الهدى الحقيقي
الذي يجب أن يؤخذ به دون الدعوة الشيطانية فظاهر أيضا لأن الله سبحانه هو الذي
إليه
أمرنا كله من جهة مبدئنا ومنتهانا وما نحتاج إليه في دنيا أو آخرة.
وقوله : « وَأُمِرْنا
لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ » قال في المجمع ، : تقول العرب : أمرتك لتفعل وأمرتك أن
تفعل وأمرتك بأن تفعل فمن قال : أمرتك بأن تفعل فالباء للإلصاق والمعنى وقع الأمر
بهذا الفعل ، ومن قال : أمرتك أن تفعل حذف الجار ، ومن قال : أمرتك لتفعل فالمعنى
أمرتك للفعل ، وقال الزجاج : التقدير أمرنا كي نسلم.
والجملة أعني
قوله : «
وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ » إلخ ، عطف تفسير لقوله : « إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى » فالأمر بالإسلام هو مصداق لهدى الله ، والمعنى : أمرنا
الله لنسلم له وإنما أبهم فاعل الفعل ليكون تمهيدا لوضع قوله : « لِرَبِّ الْعالَمِينَ
» موضع الضمير
فيدل به على علة الأمر فالمعنى أمرنا من ناحية الغيب أن نسلم لله لأنه رب العالمين
جميعا ليس لها جميعا أو لكل بعض منها ـ كما تزعمه الوثنية ـ رب آخر ولا أرباب أخر.
وظاهر الآية أن
المراد بالإسلام هو تسليم عامة الأمور إليه تعالى لا مجرد التشهد بالشهادتين ، وهو
ظاهر قوله : « إِنَّ
الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ » : ( آل عمران : ١٩ ) كما مر في تفسير الآية.
قوله
تعالى : « وَأَنْ أَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ » تفنن في سرد الكلام بأخذ الأمر بمعنى القول والجري في مجرى هذه العناية
كأنه قيل : وقيل لنا : أن أسلموا لرب العالمين وأن أقيموا الصلاة واتقوه.
وقد أجمل
تفاصيل الأعمال الدينية ثانيا في قوله : « وَاتَّقُوهُ » غير أنه صرح من بينها باسم الصلاة تعظيما لأمرها
واعتناء بشأنها واهتمام القرآن الشريف بأمر الصلاة ظاهر لا شك فيه.
قوله
تعالى : « وَهُوَ الَّذِي
إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ » فمن الواجب أن يسلم له ويتقى لأن الرجوع إليه ، والحساب والجزاء بيده.
قوله
تعالى : « وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ » إلى آخر الآية. بضعة أسماء وأوصاف له سبحانه مذكورة
أريد بذكرها بيان ما تقدم من القول وتعليله فإنه تعالى ذكر أن الهدى هداه ثم فسره
نوع تفسير بالإسلام له والصلاة والتقوى وهو تمام الدين ثم بين السبب في كون هداه
هو الهدى الذي لا يجوز التجافي عنه وهو أن حشر الجميع إليه
ثم بينه أتم بيان بقوله : «
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ » إلخ ، فهذه أسماء ونعوت له تعالى لو انتفى واحد منها
لم يتم البيان.
فقوله : « هُوَ الَّذِي خَلَقَ » إلخ ، يريد به أن الخلقة جميعا فعله وإنما أتى به
بالحق لا بالباطل ، والفعل إذا لم يكن باطلا لم يكن مندوحة من ثبوت الغاية له
فللخلقة غاية وهو الرجوع إليه تعالى وهذا هو إحدى الحجتين اللتين ذكرهما في قوله
عز من قائل « وَما
خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا » إلى آخر
الآيتين : ( ـ ص : ٢٧ ) فخلقة السماوات والأرض بخلقة حقة تؤدي إلى أن الخلق يحشرون
إليه.
وقوله : « يَوْمَ يَقُولُ كُنْ
فَيَكُونُ » السياق يدل على أن المراد بالمقول له هو يوم الحشر وإن كان كل موجود
مخلوق على هذه الصفة كما قال تعالى : « إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ
يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » : ( يس : ٨٢ ) ويوم ظرف متعلق بالقول والمعنى : يوم
يقول ليوم القيامة : كن فيكون ، وربما قيل : إن المقول له هو الشيء والتقدير : يوم
يقول لشيء كن فيكون ، وما ذكرناه أوفق للسياق.
وقوله : « قَوْلُهُ الْحَقُ » تعليل عللت به الجملة التي قبله ، والدليل عليه فصل
الجملة ، والحق هو الثابت بحقيقة معنى الثبوت وهو الوجود الخارجي والكون العيني
وإذ كان قوله هو فعله وإيجاده كما يدل عليه قوله : « وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ » فقوله تعالى هو نفس الحق فلا مرد له ولا مبدل لكلماته
قال تعالى : « وَالْحَقَّ
أَقُولُ » : ( ـ ص : ٨٤
).
قوله
تعالى : « وَلَهُ الْمُلْكُ
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ » يريد به يوم القيامة قال تعالى : « يَوْمَ هُمْ
بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ
لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ » : ( المؤمن : ١٦ ) والمراد بثبوت الملك له تعالى يوم
النفخ مع أن له الملك دائما إنما هو ظهور ذلك بتقطع الأسباب وانبتات الروابط
والأنساب وقد تقدم شذور من البحث في ذلك فيما تقدم وسيجيء استيفاء البحث عنه وعن
معنى الصور في الموضع المناسب لذلك إن شاء الله تعالى.
وقوله « عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ » قد تقدم معناه ، وهو اسم يتقوم بمعناه الحساب والجزاء ، وكذلك الاسمان :
الحكيم والخبير فهو تعالى بعلمه بالغيب والشهادة يعلم ظاهر الأشياء وباطنها فلا
يخفى عليه ظاهر لظهوره ولا باطن لبطونه ، وبحكمته يتقن تدبير الخليقة ويميز الواجب
من الجزاء كما ينبغي فلا يظلم ولا يجازف ، وبخبرته لا يفوت عنه دقيق لدقته ولا
جليل لجلالته.
فهذه الأسماء
والنعوت تبين بأتم البيان أن الجميع محشورون إليه وأن هداه هو الهدى ودين الفطرة
الذي أمر به هو الدين الحق فإنه تعالى خلق العالم لغاية مطلوبة أرادها منه وهو
الرجوع إليه ، وإذ كان يريدها فسيقول لها كن فيكون لأن قوله حق لا مرد له ، ويظهر
اليوم أن الملك له لا سلطنة لشيء غيره على شيء ، وعند ذلك يتميز بتمييزه من أطاعه
ممن عصاه لأنه يعلم كل غيب وشهادة عن حكمة وخبرة.
وقد بان مما
تقدم أولا : أن قوله : «
بِالْحَقِ » أريد به أن خلق السماوات والأرض خلق حق أي إن الحق وصفه ، وقد تقدم قريبا
معنى كون فعله وقوله تعالى حقا ، وأما ما قيل : إن المعنى خلق السماوات والأرض
بالقول الحق فبعيد.
وثانيا : أن
ظاهر قوله : « وَيَوْمَ
يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ » بدلالة السياق بيان لأمر يوم القيامة وإن كان الأمر في خلق جميع الأشياء
على هذه الطريقة.
وثالثا : أن
اختصاص نفخ الصور من بين أوصاف القيامة بالذكر في قوله : « وَلَهُ الْمُلْكُ
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ » للإشارة إلى معنى الإحضار العام الذي هو المناسب لبيان
قوله في ذيل الآية السابقة : «
وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ » فإن الحشر هو إخراج الناس وتسييرهم مجتمعين بنوع من
الإزعاج ، والصور إنما ينفخ فيه لاجتماع أفراد العسكر لأمر يهمهم ، ولذلك ينفخ
الصور أعني النفخة الثانية يوم القيامة ليحضروا عرصة المحشر لفصل القضاء قال تعالى
: « وَنُفِخَ
فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ـ إلى أن قال ـ إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا
هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ. فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا
تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » : ( يس : ٥٤ ).
وليس اليوم في
الموضعين بمعنى واحد فاليوم الأول أريد به مطلق الظرف كالظرف ليوم القيامة بنوع من
العناية الكلامية كقولنا : يوم خلق الله الحركة وحين خلق الله الأيام والليالي
وإنما اليوم من فروع الحركة متفرع عليه ، والحين هو اليوم والليل ، والمراد باليوم
الثاني نفس يوم القيامة.
(
بحث روائي )
في الدر
المنثور ، في قوله تعالى : ( يَقُصُّ الْحَقَ ) الآية أخرج الدارقطني في الإفراد وابن مردويه عن أبي بن
كعب قال : أقرأ رسول الله صلىاللهعليهوآله رجلا : « يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ ».
وفيه ، في قوله
تعالى : ( وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ
الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ) الآية ، أخرج أحمد والبخاري وحشيش بن أصرم في الاستقامة
وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله : لا يعلم
ما في غد إلا الله ، ولا يعلم متى تغيض الأرحام إلا الله ، ولا يعلم متى يأتي
المطر أحد إلا الله ، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله و، لا يعلم أحد متى تقوم
الساعة إلا الله تبارك وتعالى.
أقول
: ولا ينبغي أن
تعد الرواية على تقدير صحتها منافية لما تقدم من عموم الآية لأن العدد لا مفهوم له
، وما في الرواية من المفاتيح يجمعها العلم بالحوادث قبل حدوثها ، وللغيب مصاديق
أخر غير الخمس بدلالة من نفس الآية.
وفيه ، أخرج
الخطيب في تاريخه بسند ضعيف عن ابن عمر أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : ما من زرع على وجه الأرض ولا ثمار على أشجار ـ إلا
عليها مكتوب ـ بسم الله الرحمن الرحيم هذا رزق فلان ابن فلان ، وذلك قوله تعالى : ( وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا
يَعْلَمُها ـ وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ ـ إِلَّا
فِي كِتابٍ مُبِينٍ ).
أقول
: والرواية على
ضعف سندها لا ينطبق مضمونها على الآية ذاك الانطباق.
وفي تفسير
العياشي ، عن أبي الربيع الشامي قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن قول الله : ( وَما تَسْقُطُ مِنْ
وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها ) ـ إلى قوله ـ ( إِلَّا فِي كِتابٍ
مُبِينٍ ) ، قال : الورقة السقط ، والحبة الولد ، وظلمات الأرض
الأرحام ـ والرطب ما يحيى ، واليابس ما يغيض ، وكل ذلك في كتاب مبين :
أقول
: ورواه أيضا
الكليني والصدوق عن أبي الربيع عنه ، والقمي مرسلا والرواية لا تنطبق على ظاهر
الآية ، ونظيرتها رواية أخرى رواها العياشي عن الحسين بن سعيد عن أبي الحسن (ع).
وفي المجمع في
قوله تعالى :« قُلْ هُوَ
الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ »
قال : السلاطين الظلمة «
أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ » العبيد السوء ومن لا خير فيه ـ قال : وهو المروي عن
أبي عبد الله عليهالسلام :
وقال : في قوله
تعالى : « أَوْ
يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً » قيل : عنى به يضرب بعضكم ببعض ـ بما يلقيه بينكم من العداوة والعصبية ـ وهو
المروي عن أبي عبد الله عليهالسلام ، : وقال : في قوله : « وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ » قيل : هو سوء الجوار ـ وهو المروي عن أبي عبد الله عليهالسلام.
وفي تفسير
القمي ، : وقوله : «
يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ » قال : السلطان الجائر « أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ » قال : السفلة ومن لا خير فيه « أَوْ يَلْبِسَكُمْ
شِيَعاً » قال :
العصبية « وَيُذِيقَ
بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ » قال سوء الجوار.
قال القمي :
وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليهالسلام : في قوله : « هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ
عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ » قال : هو الدخان والصيحة « أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ » قال قال : وهو الخسف « أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً » وهو اختلاف في الدين ـ وطعن بعضكم على بعض « وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ
بَأْسَ بَعْضٍ » وهو أن يقتل بعضكم بعضا ـ فكل هذا في أهل القبلة ـ يقول الله : ( انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ
لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ).
وفي الدر المنثور
، أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والبخاري والترمذي والنسائي ونعيم بن حماد في
الفتن وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وأبو الشيخ وابن مردويه
والبيهقي في الأسماء والصفات عن جابر بن عبد الله قال : لما نزلت هذه الآية « قُلْ هُوَ الْقادِرُ
عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ » قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : أعوذ بوجهك « أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ » قال : أعوذ بوجهك « أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ
بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ » قال : هذا أهون أو أيسر :
أقول
: وروي أيضا ما
يقرب منه عن ابن مردويه عن جابر.
وفيه : ، أخرج
أحمد والترمذي وحسنه ونعيم بن حماد في الفتن وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعد بن
أبي وقاص عن النبي صلىاللهعليهوآله : في هذه الآية : « قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ
عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ ـ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ » فقال النبي صلىاللهعليهوآله : أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد.
أقول : وهناك
روايات كثيرة مروية من طرق أهل السنة وروايات أخرى من
طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهالسلام أن ما أوعده الله في الآية من العذاب النازل من فوقهم
ومن تحت أرجلهم أعني الصيحة والخسف سيقع على هذه الأمة ، وأما لبسهم شيعا وإذاقة
بعضهم بأس بعض فوقوعه مفروغ عنه.
وقد روى
السيوطي في الدر المنثور ، وابن كثير في تفسيره أخبارا كثيرة دالة على أنه لما
نزلت الآية : « قُلْ هُوَ
الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ » إلى آخرها استعاذ النبي صلىاللهعليهوآله إلى ربه ودعاه أن لا يعذب أمته بما أوعدهم من أنواع
العذاب فأجابه ربه إلى بعضها ولم يجبه إلى بعض آخر وهو أن لا يلبسهم شيعا ولا يذيق
بعضهم بأس بعض.
وهذه الروايات
ـ على كثرتها ـ وإن اشتملت على القوية والضعيفة من حيث أسنادها موهونة جميعا
بمخالفتها لظاهر الآية فإن قوله تعالى في الآيتين التاليتين : « وَكَذَّبَ بِهِ
قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ، لِكُلِّ نَبَإٍ
مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ » تهديد صريح بالوقوع وقد نزلت الآيات ـ وهي من سورة
الأنعام ـ دفعة وقد أمر الله تعالى نبيه صلىاللهعليهوآله أن يبلغ ذلك أمته ولو كان هناك بداء برفع البلاء لكان
من الواجب أن نجده في كلامه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وليس
من ذلك أثر بل الأمر على خلافه كما تقدم في البيان السابق أن عدة من آيات القرآن
الكريم تؤيد هذه الآيات في مضمونها كالتي في سورة يونس والروم وغيرهما.
على أنها تعارض
روايات أخر كثيرة من طرق الفريقين دالة على وقوع ذلك ونزوله على الأمة في مستقبل
الزمان.
على أن هذه
الروايات ـ على كثرتها واتفاق كثير منها في أن النبي صلىاللهعليهوآله إنما دعا بهذه المسائل عقيب نزول هذه الآية : « قُلْ هُوَ الْقادِرُ
عَلى أَنْ يَبْعَثَ » الآية ـ لا تتفق لا في عدد المسائل ففي بعضها أنها كانت ثلاثا وفي بعضها
أنها كانت أربعا ، ولا في عدد ما أجيب إليه ففي بعضها أنه كان واحدا وفي بعضها أنه
كان اثنين ، ولا في نفس المسائل ففي بعضها أنها كانت هي الرجم من السماء والغرق من
الأرض وأن لا يلبسهم شيعا وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض ، وفي بعضها أنها الغرق
والسنة وجعل بأسهم بينهم ، وفي بعضها أنها السنة العامة وأن يسلط عليهم عدوا من
غيرهم وأن يذيق بعضهم بأس بعض ، وفي بعضها أن المسائل هي أن لا يجمع أمته على
ضلالة وأن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم وأن
لا يهلكهم بالسنين وأن لا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض ، وفي بعضها
أنها أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم وأن لا يهلكهم بغرق وأن لا يجعل بأسهم بينهم
، وفي بعضها أنها أن لا يهلكهم بما أهلك به من قبلهم وأن لا يظهر عليهم عدوا من
غيرهم وأن لا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض ، وفي بعضها أنها العذاب من فوقهم
ومن تحت أرجلهم وأن يلبسهم شيعا وأن يذيق بعضهم بأس بعض.
على أن في كثير
منها أن دعاءه صلىاللهعليهوآله كان في حرة بني معاوية قرية من قرى الأنصار بالعالية
ولازمه كونه بعد الهجرة وسورة الأنعام من السور النازلة بمكة قبل الهجرة دفعة ،
وفي الروايات اختلافات أخرى تظهر لمن راجعها.
وإن كان ولا بد
من أخذ شيء من الروايات فالوجه هو اختيار ما رواه عن عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن
جرير وابن المنذر وابن مردويه عن شداد بن أوس يرفعه إلى النبي صلىاللهعليهوآله قال : إن الله زوي لي الأرض ـ حتى رأيت مشارقها
ومغاربها ، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها ، وإني أعطيت الكنزين : الأحمر
والأبيض ، وإني سألت ربي أن لا يهلك قومي بسنة عامة ـ وأن لا يلبسهم شيعا ـ ولا
يذيق بعضهم بأس بعض ، فقال : يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد ، وإني أعطيتك
لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة ـ ولا أسلط عليهم عدوا من سواهم فيهلكوهم ـ حتى يكون
بعضهم يهلك بعضا ـ وبعضهم يقتل بعضا ، وبعضهم يسبي بعضا ـ.
فقال النبي صلىاللهعليهوآله : إني أخاف على أمتي الأئمة المضلين ـ فإذا وضع السيف
في أمتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة.
فهذه الرواية
وما في مضمونها خالية عن غالب الإشكالات السابقة ، وليس فيها أن الدعاء كان إثر
نزول الآية ، وينبغي مع ذلك أن يحمل على أن المراد رفع الهلاك العام والسنة العامة
التي تبيد الأمة ، وإلا فالسنين والمثلات والمقاتل الذريعة التي لقيتها الأمة في
حروب المغول والصليب وبأندلس وغيرها مما لا سبيل إلى إنكارها ، وينبغي أيضا أن
تحمل على أن الدعاء والمسألة كان في أوائل البعثة قبل نزول السورة وإلا فالنبي صلىاللهعليهوآله أعلم بمقام ربه وأجل قدرا من أن يتلقى هذه الآيات
بالوحي ثم يراجع ربه في تغيير ما قضى به وأمره بتبليغه وإنذار أمته به.
وبعد اللتيا
والتي فالقرآن الشريف يدل بآياته على حاق الأمر وهو أن هذا الدين قائم إلى يوم
القيامة ، وأن الأمة لا تبيد عامة ، وأن أمثال ما ابتلى الله به الأمم السالفة
تبتلي بها هذه الأمة حذو النعل بالنعل من غير أي اختلاف وتخلف.
والروايات
المستفيضة المروية عن النبي والأئمة من أهل بيته صلىاللهعليهوآله القطعية في صدورها ودلالتها ناطقة بذلك.
وفي الدر
المنثور ، أخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس" : في قوله : « قُلْ لَسْتُ
عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ » قال : نسخ هذه الآية آية السيف : « فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ ».
أقول : قد عرفت
مما تقدم من البيان أن قوله : «
قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ » مسوق تمهيدا للتهديد الذي يتضمنه قوله : « لِكُلِّ نَبَإٍ
مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ » وهذا المعنى لا يقبل نسخا.
وفي تفسير
القمي ، في قوله تعالى : «
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا » الآية بإسناده عن عبد الأعلى بن أعين قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوآله : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ـ فلا يجلس في مجلس
يسب فيه إمام أو يغتاب فيه مسلم ـ فإن الله يقول في كتابه : « إِذا رَأَيْتَ
الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا ـ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي
حَدِيثٍ غَيْرِهِ ـ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ ـ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ
الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ».
وفي الدر
المنثور ، أخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم في الحلية ، عن أبي جعفر قال : لا
تجالسوا أهل الخصومات ـ فإنهم الذين يخوضون في آيات الله.
وفيه ، أخرج
عبد بن حميد وابن المنذر عن محمد بن علي قال : إن أصحاب الأهواء من الذين يخوضون
في آيات الله.
وفي تفسير
العياشي ، عن ربعي بن عبد الله عمن ذكره عن أبي جعفر عليهالسلام : في قول الله : « وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي
آياتِنا » قال : الكلام
في الله والجدال في القرآن ـ «
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ » قال : منه القصاص.
أقول
: والروايات ـ كما
ترى ـ تعمم الآية وهو أخذ بالملاك.
وفي المجمع ،
قال أبو جعفر عليهالسلام : لما أنزل « فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ
» قال المسلمون
: كيف نصنع؟ إن كان كلما استهزأ المشركون بالقرآن ـ قمنا وتركناهم فلا ندخل إذا
المسجد الحرام ـ ولا نطوف بالبيت الحرام فأنزل الله تعالى : « وَما عَلَى الَّذِينَ
يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ » أمرهم بتذكيرهم ما استطاعوا.
أقول
: والرواية ـ كما
ترى ـ مبنية على أخذ قوله : «
ذِكْرى » مفعولا مطلقا
وإرجاع الضميرين في قوله : «
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ » إلى المشركين والتقدير : ولكن ذكروهم ذكرى لعلهم يتقون ، ويبقى على
الرواية كون السورة نازلة دفعة واحدة.
وفي الدر
المنثور ، أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريح قال" : كان
المشركون يجلسون إلى النبي صلىاللهعليهوآله ـ يحبون أن يسمعوا منه ـ فإذا سمعوا استهزءوا فنزلت ـ « وَإِذا رَأَيْتَ
الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ » الآية ـ قال : فجعلوا إذا استهزءوا قام فحذروا وقالوا
: لا تستهزءوا فيقوم فذلك قوله : «
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ » أن يخوضوا فتقوم ونزل : «
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ » إن تقعد معهم ولكن لا تقعد ـ ثم نسخ ذلك قوله بالمدينة
: « وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ
إِذا سَمِعْتُمْ ـ إلى قوله ـ إِنَّكُمْ
إِذاً مِثْلُهُمْ » نسخ قوله : «
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ » الآية.
أقول
: لو كانت آية
النساء : « وَقَدْ
نَزَّلَ عَلَيْكُمْ » الآية وهي عين قوله : «
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ » الآية معنى ناسخة لقوله : « وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ » الآية فهو أعني قوله : « وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ » الآية ناسخ لقوله : « وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ » الآية وهو ظاهر ، ويأباه نزول السورة دفعة.
على أن الذي
ذكره من المعنى لا يوجب تنافيا بين الآيات الثلاث يؤدي إلى النسخ حتى تكون الثانية
ناسخة للأولى ومنسوخة بالثالثة وهو ظاهر.
ونظير الرواية ما
رواه أيضا في الدر المنثور ، عن النحاس في ناسخه عن ابن عباس" : في قوله
تعالى : « وَما
عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ » ، قال : هذه مكية نسخت بالمدينة بقوله : « وَقَدْ نَزَّلَ
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ ـ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها » الآية.
وفي تفسير
البرهان ، في قوله تعالى : «
قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ » الآية عن ابن بابويه بإسناده عن ثعلبة بن ميمون عن بعض
أصحابنا عن أبي عبد الله عليهالسلام : في قول الله عز
وجل : « عالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ » فقال : « عالِمُ
الْغَيْبِ » ما لم يكن «
وَالشَّهادَةِ » ما قد كان.
أقول
: فيه ذكر أعرف
مصاديق الغيب والشهادة عندنا ، وقد تقدم في البيان المتقدم آنفا وغيره أن للغيب
مصاديق أخر.
وَإِذْ
قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ
وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ
عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا
أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي
فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ
الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا
أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ
(٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً
وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي
اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي
شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ
أَخافُ ما
أَشْرَكْتُمْ
وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ
سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ
الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى
قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)
(
بيان )
عشر آيات ذكر
الله سبحانه فيها ما آتاه النبي العظيم إبراهيم عليهالسلام من الحجة على المشركين بما هداه إلى توحيده وتنزيهه ثم
ذكر هدايته أنبياءه بتطهير سرهم من الشرك ، وقد سمى بينهم نوحا عليهالسلام وهو قبل إبراهيم عليهالسلام وستة عشر نبيا من ذرية نوح عليهالسلام.
والآيات في
الحقيقة بيان لمصداق كامل من القيام بدين الفطرة والانتهاض لنشر عقيدة التوحيد
والتنزيه عن شرك الوثنية وهو الذي انتهض له إبراهيم عليهالسلام وحاج له على الوثنية حينما أطبقت الدنيا على الوثنية
ظاهرا ، ونسوا ما سنه نوح عليهالسلام والتابعون له من ذريته الأنبياء من طريقة التوحيد
فالآيات بما تشتمل عليه من تلقين الحجة والهداية إلى دين الفطرة كالتبصر لما
تقدمها من الحجج التي لقنها الله : سبحانه نبيه صلىاللهعليهوآله في هذه السورة بقوله : قل كذا وقل كذا فقد كررت لفظة «
قل » في هذه السورة الكريمة أربعين مرة نيف وعشرون منها قبل هذه الآيات فكأنه قيل
: واذكر فيما تقوله لقومك وتحاجهم به من أدلة التوحيد ونفي الشريك بتلقيننا إياك
ما قاله إبراهيم لأبيه وقومه مما آتيناه من حجتنا على قومه بما كنا نريه من ملكوت
السماوات والأرض فقد كان يحاجهم عن إفاضة إلهية عليه بالعلم والحكمة وإراءة منه
تعالى لملكوته مبنية على اليقين لا عن فكرة تصنيعية لا تعدو حد التخيل والتصور ،
ولا تخلو عن التكلف والتعسف الذي لا تهتف به الفطرة الصافية.
ولحن كلام
إبراهيم عليهالسلام فيما حكاه الله سبحانه في هذه الآيات إن تدبرنا فيها
بأذهان
خالية عن التفاصيل الواردة في الروايات والآثار على اختلافها الفاحش ، غير
مشوبة بالمشاجرات التي وقعت للباحثين من أهل التفسير على خلطهم تفسير الآيات
بمضامين الروايات ومحتويات التواريخ وما اشتملت عليه التوراة وأخرى تشايعها من
الإسرائيليات إلى غير ذلك ، وبالجملة لحن كلامه عليهالسلام في ما حكي عنه في هذه الآيات يشعر إشعارا واضحا بأنه
كلام صادر عن ذهن صاف غير مملوء بزخارف الأفكار والأوهام المتنوعة أفرغته في قالب
اللفظ فطرته الصافية بما عندها من أوائل التعقل والتفكير ولطائف الشعور والإحساس.
فالواقف في
موقف النصفة من التدبر في هذه الآيات لا يشك أن كلامه المحكي عنه مع قومه أشبه شيء
بكلام إنسان أولي فرضي عاش في سرب من أسراب الأرض أو كهف من كهوف الجبال لم يعاشر
إلا بعض من يقوم بواجب غذائه ولباسه لم يشاهد سماء بزواهر نجومها وكواكبها ،
والبازغ من قمرها وشمسها ، ولم يمكث في مجتمع إنساني بأفراده الجمة وبلاده الوسيعة
، واختلاف أفكاره ، وتشتت مقاصده ومآربه ، وأنواع أديانه ومذاهبه ، ثم ساقه
الاتفاق أن دخل في واحد من المجتمعات العظيمة ، وشاهد أمورا عجيبة لا عهد له بها
من أجرام سماوية ، وأقطار أرضية ، وجماعات من الناس عاكفين على مشاغلهم كادحين نحو
مآربهم ومقاصدهم ، لا يصرفهم عن ذلك صارف بين متحرك وساكن ، وعامل ومعمول له ،
وخادم ومخدوم ، وآمر ومأمور ، ورئيس ، ومرءوس منكب على الكسب والعمل ، ومتزهد
متعبد يعبد الإله.
فبهته عجيب ما
يراه واستغرقه غريب ما يشاهده فصار يسأل من أنس به عن شأن الواحد بعد الواحد مما
اجتذبت إليه نفسه ، ووقع عليه بصره ، وكثر منه إعجابه نظير ما نراه من حال الصبي
إذا نظر إلى جو السماء الوسيعة بمصابيحها المضيئة وزواهرها اللامعة ، وعقود
كواكبها المنثورة في حالة مطمئنة نراه يسأل أمه : ما هذه التي أشاهدها وأمتلئ من
حبها والإعجاب بها؟ من الذي علقها هناك؟ من الذي نورها؟ من الذي صنعها؟.
غير أن الذي لا
نرتاب فيه أن هذا الإنسان إنما يبدأ في سؤاله من حقائق الأشياء التي يشاهدها
ويتعجب منها بالذي يقرب مما كان يعرفها في حال التوحش والانعزال عن المجتمع وإنما
يسأل عن المقاصد والغايات التي لا يقع عليها الحواس.
وذلك لأن
الإنسان إنما يستعلم حال المجهولات بما عنده من مواد العلم الأولية فلا ينتقل من
المجهولات إلا إلى ما يناسب بعض ما عنده من المعلومات ، وهذا أمر ظاهر
محسوس من حال بعض بسائط العقول كالصبيان وأهل البدو إذا صادفوا أمورا ليس
لهم بها عهد فإنهم يبدءون باستعلام حال ما يستأنسون بأمره بعد الاستيناس فيسألون
عن حقيقته وعن أسبابه وغاياته.
والإنسان
المفروض وهو الإنسان الفطري الأولي تقريبا لما لم يشتغل إلا بأبسط أسباب المعيشة
لم يشغل ذهنه ما يشغل ذهن الإنسان المدني الحضري الذي أحاطت به هذه الأشغال
الكثيرة الطبيعية الخارجة عن الحد والحصر التي لا فراغ له عنها ولو لحظة ، ولذلك
كان الإنسان المفروض في فراغ من الفكر وخلاء من الذهن ، والحوادث الجمة السماوية
والأرضية الكونية محيطة به من غير أن يعرف أسبابها الطبيعية فلذلك كان ذهنه أشد
استعدادا للانتقال إلى سببها الذي هو أعلى من الأسباب الطبيعية وهو الذي يتنبه له
الإنسان الحضري بعد الفراغ عن إحصاء الأسباب الطبيعية لحوادث الكون فوق هذه
الأسباب لو وجد فراغا ، ولذا كان الأسبق إلى ذهن هذا الإنسان المفروض هو الانتقال
إلى هذا السبب الأعلى لو شاهد من الناس الحضريين الاشتغال به والتنسك والعبادة له.
ومن الشواهد
على هذا الذي ذكرنا ما نجد أن الاشتغال بالمراسم الدينية والبحث عن اللاهوت في
آسيا أكثر رواجا وأغلى قدرا منه في أوروبا ، وفي القرى والبلاد الصغيرة أحكم موقعا
منه في البلاد العظيمة وعلى هذه النسبة في البلاد العظيمة والسواد الأعظم لما أن
المجتمع كلما اتسع نطاقه زادت فيه الحوائج الحيوية ، وكثرت وتراكمت الأشغال
الإنسانية فلم تدع للإنسان فراغا تستريح فيه نفسه إلى معنوياتها وتتوجه إلى البحث
عن مبدئها ومعادها.
وبالجملة إذا
راجعنا قصة إبراهيم عليهالسلام المودعة في هذه الآيات وما يناظرها من آيات سورة مريم
والأنبياء والصافات وغيرها وجدنا حاله عليهالسلام فيما يحاج به أباه وقومه أشبه شيء بحال الإنسان البسيط
المفروض نجده يسأل عن الأصنام ويباحث القوم في شأنها ويتكلم في أمر الكوكب والقمر
والشمس سؤاله من لا عهد له بما يصنعه الناس وخاصة قومه الوثنيون في الأصنام يقول
لأبيه وقومه : « ما هذِهِ
التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ » : ( الأنبياء : ٥٢ ) ويقول لأبيه وقومه : « ما تَعْبُدُونَ.
قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ. قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ
إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ. قالُوا بَلْ وَجَدْنا
آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ » : ( الشعراء : ٧٤ ).
فهذا كلام من
لم ير صنما ولم يشاهد وثنيا يعبد صنما وقد كان عليهالسلام في مهد الوثنية وهو بابل كلدان ، وقد عاش بينهم برهة من
الزمان فهل كان مثل هذا التعبير منه عليهالسلام : «
ما هذِهِ التَّماثِيلُ » تحقيرا للأصنام وإيماء إلى أنه لا يضعها الموضع الذي يضعها عليه الناس
ولا يقر لها بما أقروا به من القداسة والفضل كأنه لا يعرفها كقول فرعون لموسى عليهالسلام : «
وَما رَبُّ الْعالَمِينَ » : ( الشعراء : ٢٣ ) وقول كفار مكة للنبي صلىاللهعليهوآله فيما حكى الله تعالى : « وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ
إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ
هُمْ كافِرُونَ » : ( الأنبياء : ٣٦ ).
لكن يبعده أن
إبراهيم عليهالسلام ما كان يستعمل في خطاب أبيه آزر إلا جميل الأدب حتى إذا
طرده أبوه وهدده بالرجم قال له إبراهيم : « سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي
إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا » : ( مريم : ٤٧ ).
فمن المستبعد
أن يلقي إليه أول ما يواجهه من الكلام ما يتضمن تحقير شأن آلهته المقدسة عنده في
لحن التشويه والإهانة فيثير به عصبيته ونزعته الوثنية ، وقد نهى الله سبحانه في
هذه الملة التي هي ملة إبراهيم حنيفا عن سب آلهة المشركين لئلا يثير ذلك منهم ما يواجهون
المسلمين بمثله قال تعالى : «
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً
بِغَيْرِ عِلْمٍ » : ( الأنعام : ١٠٨ ).
ثم إنه عليهالسلام بعد الفراغ مما حاج به أباه آزر وقومه في أمر الأصنام
يشتغل بأربابها وهي الكوكب والقمر والشمس فيقول لما رأى كوكبا : « هذا رَبِّي » ثم يقول لما رأى القمر بازغا : « هذا رَبِّي » ثم يقول لما رأى الشمس بازغة : « هذا رَبِّي هذا
أَكْبَرُ » وهذه
التعبيرات أيضا تعبير من كأنه لم ير كوكبا ولا قمرا ولا شمسا ، وأوضح التعبيرات
دلالة على هذا المعنى قوله عليهالسلام في الشمس : ( هذا رَبِّي هذا
أَكْبَرُ ) فإن هذا كلام من لا يعرف ما هي الشمس وما هما القمر
والكوكب غير أنه يجد الناس يخضعون لها ويعبدونها ويقربون لها القرابين كما يرويه
التاريخ عن أهل بابل ، وهذا كما إذا رأيت شبح إنسان لا تدري أرجل هو أو امرأة تسأل
وتقول : من هذا؟ تريد الشخص لأنك لا تعلم منه أزيد من أنه شخص إنسان فيقال : امرأة
فلان أو هو فلان ، وإذا رأيت شبحا لا تدري إنسان هو أو حيوان أو جماد تقول ما هذا؟
تريد الشبح أو المشار إليه إذ لا
علم لك من حاله إلا بأنه شيء جسماني أيا ما كان فيقال لك : هذا زيد أو هذه
امرأة فلان أو هو شاخص كذا ففي جميع ذلك تراعي ـ وأنت جاهل بالأمر ـ من شأن أولي
العقل وغيره والذكورية والأنوثية مقدار ما لك به علم ، وأما المجيب العالم بحقيقة
الحال فعليه أن يراعي الحقيقة.
فظاهر قوله عليهالسلام : ( هذا رَبِّي ) وقوله : « هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ » أنه ما كان يعرف من حال الشمس إلا أنه شيء طالع أكبر
من القمر والكوكب يقصده الناس بالعبادة والنسك والإشارة إلى مثل هذا المعلوم إنما
هو بلفظة « هذا » بلا ريب ، وأما أنها شمس أي جرم أو صفحة نورانية تدبر
العالم الأرضي بضوئها وترسم الليل والنهار بسيرها بحسب ظاهر الحس أو أنه قمر أو
كوكب يطلع كل ليلة من أفق الشرق ويغيب فيما يقابله من الغرب فلم يكن يعرف ذلك على
ما يشعر به هذا الكلام ، ولو كان يعرف ذلك لقال في الشمس : هذه ربي هذه أكبر أو
قال : إنها ربي إنها أكبر كما راعى هذه النكتة بعد ذلك فيما حاج الملك نمرود وقد
كان يعرفها اليوم : «
فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ
» : ( البقرة :
٢٥٨ ) فلم يقل : فأت به من المغرب.
وكما قال لأبيه
وقومه على ما حكى الله : «
ما تَعْبُدُونَ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ قالَ هَلْ
يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قالُوا بَلْ
وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ » : ( الشعراء : ٧٤ ) فبدأ يسأل عن معبودهم بلفظة « ما » إذ لا علم له عندئذ بشيء من حاله إلا أنه شيء ثم لما
ذكروا الأصنام وهم لا يعتقدون لها شيئا من الشعور والإرادة قالوا : « فَنَظَلُّ لَها » بالتأنيث ، ثم لما سمع ألوهيتها منهم ومن الواجب أن
يتصف الإله بالنفع والضرر والسمع لدعوة من يدعوه عبر عنها تعبيرا أولي العقل ، ثم
لما ذكروا له في قصة كسر الأصنام : « لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ » حذاء قوله : « فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ » سلب عنها شأن أولي العقل فقال : « أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ » : ( الأنبياء : ٦٧ ).
ولا يسعنا أن
نتعسف فنقول : إنه عليهالسلام أراد بقوله : « هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ » الجرم أو المشار إليه أو أنه روعي في ذلك حال لغته
التي تكلم بها وهي السريانية ليس يراعى فيها التأنيث كأغلب اللغات العجمية فإن ذلك
تحكم ، على أنه عليهالسلام قال للملك في
خصوص الشمس بعينها : «
فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ
» : ( البقرة :
٢٥٨ ) فلم يحك القرآن ما لهج به بالوصف الذي في لغته فما بال هذا المورد ( ( هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ ) ) اختص بهذه الحكاية.
ونظير السؤال
آت في قوله يسأل قومه عن شأن الأصنام : « ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها
عاكِفُونَ » : ( الأنبياء : ٥٢ ) وكذا قوله في دعائه : « وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ
الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ » : ( إبراهيم : ٣٦ ).
وكذا لا يسعنا
القول بأنه عليهالسلام في تذكيره الإشارة إلى الشمس صان الإله عن وصمة
الأنوثية تعظيما أو أن الكلام من باب إتباع المبتدإ للخبر الذي هو مذكر أعني قوله
: ( رَبِّي ) ، وقوله : « أَكْبَرُ » فكل ذلك تحكم لا دليل عليه ، وسيجيء تفصيل البحث فيها.
والحاصل أن
الذي حكاه الله تعالى في هذه الآيات وما يناظرها من قول إبراهيم عليهالسلام لأبيه وقومه في توحيده تعالى ونفي الشريك عنه كلام يدل
بسياقه على أنه عليهالسلام إنما عاش قبل ذلك في معزل من الجو الذي كان يعيش فيه
أبوه وقومه ولم يكن يعرف ما يعرفه معاشر المجتمعين من تفاصيل شئون أجزاء الكون
والسنن الاجتماعية الدائرة بين الناس المجتمعين ، وأنه كان إذ ذاك في أوائل زمن
رشده وتمييزه ترك معزله ولحق بأبيه ، ووجد عنده أصناما فسأله عن شأنها فلما أوقفه
على ذلك شاجره في ألوهيتها وألزمه الحجة ، ثم حاج قومه في أمر الأصنام فبكتهم ، ثم
رجع إلى عبادتهم لأرباب الأصنام من الكوكب والقمر والشمس فجاراهم في افتراض
ربوبيتها الواحد منها بعد الواحد ، ولم يزل يراقب أمرها ، وكلما غرب واحد منها
رفضه وأبطل ربوبيته وافترض ربوبية غيره مما يعبدونه حتى أتى في يومه وليلته على
آخرها على ما هو ظاهر الآيات ، ثم عاد إلى التوحيد الخالص بقوله : « إِنِّي وَجَّهْتُ
وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ » وكأنه تم له ذلك في يومين وليلة بينهما تقريبا على ما سنبين إن شاء الله
تعالى.
وكان عليهالسلام على بصيرة من أن للعالم خالقا فاطرا للسماوات والأرض هو
الله وحده لا شريك له في ذلك ، وإنما يبحث عن أنه هل للناس ومنهم إبراهيم نفسه رب
غير الله هو بعض خلقه كشمس أو قمر أو غيرها يربهم ويدبر أمرهم ويشارك الله في أمره
أو
أنه لا رب لهم غير الله سبحانه وحده لا شريك له.
وفي جميع هذه
المراحل التي طواها كان الله سبحانه يمده ويسدده بإراءته ملكوت السماوات والأرض
وعطف نفسه الشريفة إلى الجهة التي ينتسب منها الأشياء إلى الله سبحانه خلقا
وتدبيرا فكان إذا رأى شيئا رأى انتسابه إلى الله وتكوينه وتدبيره بأمره قبل أن يرى
نفسيته وآثار نفسيته كما هو ظاهر سياق قوله : « وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » الآية ، وقوله في ذيل الآيات : « وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ
عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ » الآية ، وقوله : « وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ
قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ » : ( الأنبياء : ٥١ ).
وقول إبراهيم
لأبيه فيما حكى الله تعالى : «
يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي
أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا » : ( مريم : ٤٣ ) إلى غير ذلك من الآيات.
ثم حاج الملك
نمرود في دعواه الربوبية على ما كان ذلك من دأب كثير من جبابرة السلف ومن نظائر
ذلك نشأت الوثنية وكانت لقومه آلهة كثيرة لها أصنام يعبدونها ، وفيهم من كان يعبد
أرباب الأصنام كالشمس والقمر والكوكب الذي ذكره القرآن الكريم ولعله الزهرة.
هذا ملخص ما
يستفاد من الآيات الكريمة وسنبحث عن مضامينها تفصيلا بحسب ما نستطيعه إن شاء الله
تعالى.
قوله
تعالى : « وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ » القراءات السبع في آزر بالفتح فيكون عطف بيان أو بدلا
من أبيه وفي بعض القراءات «
آزَرَ » بالضم وظاهره
أنه منادى مرفوع بالنداء ، والتقدير : يا آزر أتتخذ أصناما آلهة ، وقد عد من
القراءات « أأزرا تتخذ » مفتتحا بهمزة الاستفهام ، وبعده « أزرا » بالنصب مصدر أزر
يأزر بمعنى قوي والمعنى : وإذ قال إبراهيم لأبيه أتتخذ أصناما للتقوي والاعتضاد.
وقد اختلف
المفسرون على القراءة الأولى المشهورة والثانية الشاذة في « آزر » أنه اسم علم
لأبيه أو لقب أريد بمعناه المدح أو الذم بمعنى المعتضد أو بمعنى الأعرج أو المعوج
أو غير ذلك ومنشأ ذلك ما ورد في عدة روايات أن اسم أبيه « تارح » بالحاء
المهملة أو المعجمة ويؤيده ما ضبطه التاريخ من اسم أبيه ، وما وقع في التوراة
الموجودة أنه عليهالسلام ابن تارخ.
كما اختلفوا أن
المراد بالأب هو الوالد أو العم أو الجد الأمي أو الكبير المطاع ومنشأ ذلك أيضا
اختلاف الروايات فمنها ما يتضمن أنه كان والده وأن إبراهيم عليهالسلام سيشفع له يوم القيامة ولكن لا يشفع بل يمسخه الله ضبعا
منتنا فيتبرأ منه إبراهيم ، ومنها ما يدل على أنه لم يكن والده ، وأن والده كان
موحدا غير مشرك ، وما يدل على أن آباء النبي صلىاللهعليهوآله كانوا جميعا موحدين غير مشركين إلى غير ذلك من الروايات
، وقد اختلفت في سائر ما قص من أمر إبراهيم اختلافا عجيبا حتى اشتمل بعضها على
نظائر ما ينسبه إليه العهد العتيق مما تنزهه عنه الخلة الإلهية والنبوة والرسالة.
وقد أطالوا هذا
النمط من البحث حتى انجر إلى غايات بعيدة تغيب عندها رسوم البحث التفسيري الذي يستنطق
الآيات الكريمة عن مقاصدها عن نظر الباحث ، وعلى من يريد الاطلاع على ذلك أن يراجع
مفصلات التفاسير وكتب التفسير بالمأثور.
والذي يهدي
إليه التدبر في الآيات المتعرضة لقصصه عليهالسلام أنه عليهالسلام في أول ما عاشر قومه بدأ بشأن رجل يذكر القرآن أنه كان
أباه آزر ، وقد أصر عليه أن يرفض الأصنام ويتبعه في دين التوحيد فيهديه حتى طرده
أبوه عن نفسه وأمره أن يهجره قال تعالى : « وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ
كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا
يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً ، يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ
جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا
ـ إلى أن قال ـ
قالَ أَراغِبٌ
أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ
وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا » : ( مريم : ٤٦ ) فسلم عليه إبراهيم ووعده أن يستغفر له ، ولعله كان طمعا
منه في إيمانه وتطميعا له في السعادة والهدى قال تعالى : « قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ
سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا ، وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ
رَبِّي شَقِيًّا » : ( مريم : ٤٨ ) والآية الثانية أحسن قرينة على أنه عليهالسلام إنما وعده أن يستغفر له في الدنيا لا أن يشفع له يوم
القيامة وإن بقي كافرا أو بشرط أن لا يعلم بكفره.
ثم حكى الله
سبحانه إنجازه عليهالسلام لوعده هذا واستغفاره لأبيه في قوله : « رَبِّ هَبْ لِي
حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي
الْآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لِأَبِي
إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا
يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ » : ( الشعراء : ٨٩ ) وقوله : « إِنَّهُ كانَ مِنَ
الضَّالِّينَ » يدل على أنه عليهالسلام إنما دعا بهذا الدعاء لأبيه بعد موته أو بعد مفارقته
إياه وهجره له لمكان قوله :
« كانَ » وذيل كلامه المحكي في الآيات يدل على أنه كان صورة
دعاء أتى بها للخروج عن عهدة ما وعده وتعهد له فإنه عليهالسلام يقول : اغفر لهذا الضال يوم القيامة ثم يصف يوم القيامة
بأنه لا ينفع فيه شيء إلا القلب السليم.
وقد كشف الله
سبحانه عن هذه الحقيقة بقوله ـ وهو في صورة الاعتذار ـ : « ما كانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي
قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ، وَما
كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ
إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ » : ( التوبة : ١١٤ ) والآية بسياقها تشهد على أن هذا
الدعاء إنما صدر منه عليهالسلام في الدنيا وكذلك التبري منه لا أنه سيدعو له ثم يتبرأ
منه يوم القيامة فإن السياق سياق التكليف التحريمي العام وقد استثنى منه دعاء
إبراهيم ، وبين أنه كان في الحقيقة وفاء منه عليهالسلام بما وعده ، ولا معنى لاستثناء ما سيقع مثلا يوم القيامة
عن حكم تكليفي مشروع في الدنيا ثم ذكر التبري يوم القيامة.
وبالجملة هو
سبحانه يبين دعاء إبراهيم عليهالسلام لأبيه ثم تبريه منه ، وكل ذلك في أوائل عهد إبراهيم
ولما يهاجر إلى الأرض المقدسة بدليل سؤاله الحق واللحوق بالصالحين وأولادا صالحين
كما يستفاد من قوله في الآيات السابقة : ( رَبِّ هَبْ لِي
حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) » الآية وقوله تعالى ـ ويتضمن التبري عن أبيه وقومه
واستثناء الاستغفار أيضا ـ : «
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ
قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ
أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ
لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ » : ( الممتحنة : ٤ ).
ثم يذكر الله
تعالى عزمه عليهالسلام على المهاجرة إلى الأرض المقدسة وسؤاله أولادا
صالحين بقوله : «
فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ ، وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ
إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ ، رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ » : ( الصافات : ١٠٠ ).
ثم يذكر تعالى ذهابه
إلى الأرض المقدسة ورزقه صالح الأولاد بقوله : « وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ
الْأَخْسَرِينَ ، وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها
لِلْعالَمِينَ ، وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا
صالِحِينَ » : ( الأنبياء : ٧٢ ) وقوله : « فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا » : ( مريم : ٤٩ ).
ثم يذكر تعالى
آخر دعائه بمكة وقد وقع في آخر عهده عليهالسلام بعد ما هاجر إلى الأرض المقدسة وولد له الأولاد وأسكن
إسماعيل مكة وعمرت البلدة وبنيت الكعبة ، وهو آخر ما حكي من كلامه في القرآن
الكريم : « وَإِذْ
قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ
أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ـ إلى أن قال ـ رَبَّنا
إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ـ إلى أن قال ـ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى
الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ ـ إلى أن قال ـ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ » : ( إبراهيم : ٤١ ).
والآية بما لها
من السياق وبما احتف بها من القرائن أحسن شاهد على أن والده الذي دعا له فيها غير
الذي يذكره سبحانه بقوله : «
لِأَبِيهِ آزَرَ » فإن الآيات كما ترى تنص على أن إبراهيم عليهالسلام استغفر له وفاء بوعده ثم تبرأ منه لما تبين له أنه عدو
لله ، ولا معنى لإعادته عليهالسلام الدعاء لمن تبرأ منه ولاذ إلى ربه من أن يمسه فأبوه آزر
غير والده الصلبي الذي دعا له ولأمه معا في آخر دعائه.
ومن لطيف
الدلالة في هذا الدعاء أعني دعاءه الأخير ما في قوله : « وَلِوالِدَيَ » حيث عبر بالوالد والوالد لا يطلق إلا على الأب الصلبي
وهو الذي يلد ويولد الإنسان مع ما في دعائه الآخر : « وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ
الضَّالِّينَ » والآيات الآخر المشتملة على ذكر أبيه آزر فإنها تعبر عنه بالأب والأب
ربما تطلق على الجد والعم وغيرهما ، وقد اشتمل القرآن الكريم على هذا الإطلاق
بعينه في قوله تعالى : «
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما
تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ
وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ » : ( البقرة : ١٣٣ ) فإبراهيم جد
يعقوب وإسماعيل عمه وقد أطلق على كل منهما الأب ، وقوله تعالى فيما يحكي من
كلام يوسف عليهالسلام : «
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ »: (يوسف : ٣٨) فإسحاق جد يوسف وإبراهيم عليهالسلام جد أبيه وقد أطلق على كل منهما الأب.
فقد تحصل أن
آزر الذي تذكره الآية ليس أبا لإبراهيم حقيقة وإنما كان معنونا ببعض الأوصاف
والعناوين التي تصحح إطلاق الأب عليه ، وأن يخاطبه إبراهيم عليهالسلام بيا أبت ، واللغة تسوغ إطلاق الأب على الجد والعم وزوج
أم الإنسان بعد أبيه وكل من يتولى أمور الشخص وكل كبير مطاع ، وليس هذا التوسع من
خصائص اللغة العربية بل يشاركها فيه وفي أمثاله سائر اللغات كالتوسع في إطلاق الأم
والعم والأخ والأخت والرأس والعين والفم واليد والعضد والإصبع وغير ذلك مما يهدي
إليه ذوق التلطف والتفنن في التفهيم والتفهم.
فقد تبين أولا
أن لا موجب للاشتغال بما تقدمت الإشارة إليه من الأبحاث الروائية والتاريخية
والأدبية في أبيه ولفظة آزر وأنه هل هو اسم علم أو لقب مدح أو ذم أو اسم صنم فلا
حاجة إلى شيء من ذلك في الحصول على مراد الآية.
على أن غالب ما
أوردوه في هذا الباب تحكم لا دليل عليه مع ما فيه من إفساد ظاهر الآية وإخلال أمر
السياق باعتبار التراكيب العجيبة التي ذكروها للجملة « آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً » من تقديم وتأخير وحذف وتقدير.
وثانيا : أن
والده الحقيقي غير آزر لكن القرآن لم يصرح باسمه ، وإنما وقع في الروايات ويؤيده
ما يوجد في التوراة أن اسمه « تارخ ».
ومن عجيب الوهم
ما ذكره بعض الباحثين أن القرآن الكريم كثيرا ما يهمل فيما يذكره من تاريخ
الأنبياء والأمم ويقصه من قصص الماضين أمورا مهمة هي من جوهريات القصص كذكر تاريخ
الوقوع ومحله والأوضاع الطبيعية والاجتماعية والسياسية وغيرها المؤثرة في تكون
الحوادث الدخيلة في تركب الوقائع ومنها ما في مورد البحث فإن من العوامل المقومة
لمعرفة حقيقة هذه القصة معرفة اسم أبي إبراهيم ونسبه وتاريخ زمن نشوئه ونهضته
ودعوته ومهاجرته.
وليس ذلك إلا
لأن القرآن سلك في قصصه المسلك الجيد الذي يهدي إليه فن القصص الحقيقي وهو أن
يختار القاص في قصته كل طريق ممكن موصل إلى غايته ومقصده إيصالا حسنا ، ويمثل
المطلوب تمثيلا تاما بالغا من غير أن يبالغ في تمييز صحيح ما يقصه من سقيمه ،
ويحصي جميع ما هو من جوهريات القصة كتأريخ الوقوع ومكانه وسائر نعوته
اللازمة فمن الجائز أن يأخذ القرآن الكريم في سبيل النيل إلى مقصده وهو
الهداية إلى السعادة الإنسانية قصصا دائرة بين الناس أو بين أهل الكتاب في عصر
الدعوة وإن لم يوثق بصحتها أو لم يتبين فيما بأيديهم من القصة جميع جهاتها
الجوهرية حتى لو كانت قصة تخييلية كما قيل بذلك في قصة موسى وفتاه وفي قصة الملإ
الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت وغير ذلك فالفن القصصي لا يمنع شيئا من
ذلك بعد ما ميز القاص أن القصة أبلغ وسيلة وأسهل طريقة إلى النيل بمقصده.
وهذا خطأ فإن
ما ذكره من أمر الفن القصصي حق غير أن ذلك غير منطبق على مورد القرآن الكريم فليس
القرآن كتاب تاريخ ولا صحيفة من صحف القصص التخييلية وإنما هو كتاب عزيز لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه وقد نص على أنه كلام الله سبحانه ، وأنه لا يقول إلا
الحق ، وأن ليس بعد الحق إلا الضلال ، وأنه لا يستعين للحق بباطل ، ولا يستمد
للهدى بضلال ، وأنه كتاب يهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم ، وأن ما فيه حجة لمن أخذ
به وعلى من تركه في آيات جمة لا حاجة إلى إيرادها فكيف يسع لباحث يبحث عن مقاصد
القرآن أن يجوز اشتماله على رأي باطل أو قصة كاذبة باطلة أو خرافة أو تخييل.
لست أريد أن
مقتضى الإيمان بالله ورسوله وبما جاء به رسوله أن ينفى عن القرآن أن يشتمل على
باطل أو كذب أو خرافة وإن كان ذلك ، ولا أن الواجب على كل إنسان سليم العقل صحيح
الفكر مستقيم الأمر أن تخضع نفسه للقرآن بتصديقه ونفي كل خطإ وزلة عنه في وسائل من
المعارف توسل بها إلى مقاصده ، وفي نفس تلك المقاصد وإن كان كذلك.
وإنما أقول :
إنه كتاب يدعي لنفسه أنه كلام إلهي موضوع لهداية الناس إلى حقيقة سعادتهم يهدي
بالحق ويهدي إلى الحق ومن الواجب على من يفسر كتابا هذا شأنه ويستنطقه في مقاصده
ومطالبه أن يفترضه صادقا في حديثه مقتصرا على ما هو الحق الصريح في خبره وكل ما
يسوقه من بيان أو يقيمه من برهان على مقاصده وأغراضه هاديا إلى الصراط الذي لا
يتخلله باطل موصلا إلى غاية لا يشوبها شيء من غير جنس الحق ولا يداخلها أي وهن
وفتور.
وكيف يكون مقصد
من المقاصد حقا على الإطلاق وقد تسرب باطل ما إلى طريقه
الذي يدعو إليه المقصد ولا يدعو ـ على ما يراه ـ إلا إلى حق؟ وكيف يكون
قضية من القضايا قولا فصلا ما هو بالهزل وقد تسرب إلى البيان المنتج لها شيء من
المسامحة والمساهلة؟
وكيف يمكن أن
يكون حديث أو نبأ كلاما لله الذي يعلم غيب السماوات والأرض وقد دب فيه جهل أو خبط
أو خطاء؟ وهل ينتج النور ظلمة أو الجهل معرفة؟.
فهذا هو المسلك
الوحيد الذي لا يحل تعديه في استنطاق القرآن الكريم في مضامين آياته وهو يرى أنه
كلام حق لا يشوبه باطل في غرضه وطريق غرضه.
وأما البحث عن
أنه هل هو صادق فيما يدعيه لنفسه : أنه كلام الله ، وأنه محض الحق في طريقه وغايته؟
وأنه ما ذا يقضي به الكتب المقدسة الأخرى كالعهدين وأوستا وغيرها في قضايا قضى بها
القرآن؟ وأنه ما ذا تهدي إليه الأبحاث العلمية الأخر التاريخية أو الطبيعية أو
الرياضية أو الفلسفية أو الاجتماعية أو غيرها؟ فإنما هذه وأمثالها أبحاث خارجة عن
وظيفة التفسير ليس من الجائز أن تخلط به أو يقام بها مقامه.
نعم قوله تعالى
: « أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ
اخْتِلافاً كَثِيراً » : ( النساء : ٨٢ ) ينطق بأن هناك شبهات عارضة وأوهاما متسابقة إلى
الأذهان تسول لها أن في القرآن اختلافا كان يتراءى من آية أنها تخالف آية ، أو أن
يستشكل في آية أنها بمضمونها تخالف الحق والحقيقة وإذ كان القرآن ينص على أنه يهدي
إلى الحق فيختلف الآيتان بالآخرة ، هذه تدل على أن كل ما تنبئ عنه آية فهو حق وهذه
بمضمونها تنبئ نبأ غير حق لكن الآية أعني قوله : « أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ » إلخ ، تصرح القول بأن القرآن تكفي بعض آياته لدفع
المشكلة عن بعضها الآخر ويكشف جزء منه عما اشتبه على بعض الأفهام من حال جزء آخر فعلى
الباحث عن مراده ومقصده أن يستعين بالبعض على البعض ويستشهد بالبعض على البعض
ويستنطق البعض في البعض والقرآن الكريم كتاب دعوة وهداية لا يتخطى عن صراطه ولو
خطوة وليس كتاب تاريخ ولا قصة وليست مهمته مهمة الدراسة التاريخية ولا مسلك الفن
القصصي ، وليس فيه هوى ذكر الأنساب ولا مقدرات الزمان والمكان ، ولا مشخصات أخر لا
غنى للدرس التاريخي أو القصة التخييلية عن إحصائها وتمثيلها.
فأي فائدة
دينية في أن ينسب إبراهيم أنه إبراهيم بن تارخ بن ناخور بن سروج بن رعو بن فالج بن
عابر بن شالح بن أرفكشاذ بن سام بن نوح؟ أو أن يقال : إنه ولد في أور
الكلدانيين حدود سنة ألفين تقريبا قبل الميلاد في عهد فلان الملك الذي ولد
في كذا وملك كذا مدة ومات سنة كذا.
وسنجمع في ذيل
البحث عن آيات القصة جملا من قصة إبراهيم عليهالسلام منثورة في القرآن ثم نتبعها بما في التوراة وغيرها من
تاريخ حياته وشخصيته فلينظر الباحث المتدبر بعين النصفة ثم ليقض فيما اختاره
القرآن منها وحققه ما هو قاض.
والقرآن الكريم
مع ذلك لم يهمل الواجب في حق العلوم النافعة ، ولم يحرم البحث عن العالم وأجزائه
السماوية والأرضية ، ولا منع من استطلاع أخبار الأمم الماضية وسنن المجتمعات
والقرون الخالية ، والاستعانة بها على واجب المعرفة ولازم العلم والآيات تمدح
العلم أبلغ المدح ، وتندب إلى التفكر والتفقه والتذكر كثرة لا حاجة معها إلى
إيرادها هاهنا.
قوله تعالى : « أَتَتَّخِذُ
أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ » قال الراغب في المفردات : ، الصنم جثة متخذة من فضة أو نحاس أو خشب كانوا يعبدونها
متقربين به إلى الله تعالى وجمعه أصنام قال الله تعالى : ( أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً ) ، ( لَأَكِيدَنَّ
أَصْنامَكُمْ ) ، انتهى ، وما ذكره من اتخاذه من فضة أو نحاس أو خشب
إنما هو من باب المثال لا ينحصر فيه اتخاذها بل كان يتخذ من كل ما يمكن أن يمثل به
تمثال من أقسام الفلزات والحجارة وغيرها ، وقد روي أن بني حنيفة من اليمامة كانوا
قد اتخذوا صنما من أقط ، وربما كانوا يتخذونه من الطين وربما كان صورة مصورة.
وكيف كان فقد
كانت الأصنام ربما يمثل بها موضوع اعتقادي غير محسوس كإله السماء والأرض وإله
العدل ، وربما يمثل بها موضوع محسوس كصنم الشمس وصنم القمر ، وقد كانت من النوعين
جميعا أصنام لقوم إبراهيم عليهالسلام على ما تؤيده الآثار المكشوفة منهم في خرائب بابل وقد
كانوا يعبدونها تقربا بها إلى أربابها ، وبأربابها إلى الله سبحانه ، وهذا أنموذج
بارز من سفه أحلام البشر أن يخضع أعلى حد الخضوع ـ وهو خضوع العبد للرب ـ لمثال
مثل به موضوعا يستعظم أمره ويعظمه ، وحقيقته منتهى درجة خضوع المصنوع المربوب
لصانعه من صانع لمصنوع نفسه كان الواحد منهم يأخذ خشبة فينحت بيده منه صنما ثم
ينصبه فيعبده ويتذلل له ويخضع ولذلك جيء بلفظة الأصنام في قوله المحكي : « أَتَتَّخِذُ
أَصْناماً آلِهَةً » نكرة ليدل على هوان أمرها وحقارته من جهة أنها مصنوعة
لهم مخلوقة بأيديهم كما يشير إليه قوله عليهالسلام لقومه فيما حكى الله : « أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ » : ( الصافات : ٩٥ ) ومن جهة أنها فاقدة لأظهر صفات
الربوبية وهو العلم والقدرة كما في قوله لأبيه : « إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ
ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً » : ( مريم : ٤٢ ).
فقوله : « أَتَتَّخِذُ
أَصْناماً » إلخ ، معناه : أتتخذ أصناما لا خطر في أمرها آلهة والإله هو الذي في أمره
خطر عظيم إني أراك وقومك في ضلال مبين ، وكيف لا يظهر هذا الضلال وهو عبادة وتذلل
عبودي من صانع فيه آثار العلم والقدرة لمصنوعه الذي يفقد العلم والقدرة.
والذي تشتمل
عليه الآية أعني قوله : «
أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً » إلخ ، من الحجاج وإن كان بمنزلة التلخيص لعدة احتجاجات
واجه بها إبراهيم عليهالسلام أباه وقومه على ما حكي تفصيلها في عدة مواضع من القرآن
الكريم إلا أنه أول ما حاج به أباه وقومه فإن الذي حكاه الله سبحانه من محاجته هو
حجاجه أباه وحجاجه قومه في أمر الأصنام وحجاجهم في ربوبية الكوكب والقمر والشمس
وحجاجه الملك.
أما حجاجه في
ربوبية الكوكب والقمر والشمس فالآيات دالة على كونه بعد الحجاج في أمر الأصنام ،
والاعتبار والتدبر يعطي أن يكون حجاجه الملك بعد ما ظهر أمره وشاع مخالفته لدين
الوثنية والصابئة وكسر الأصنام ، وأن يكون مبدأ أمره مخالفته أباه في دينه وهو معه
وعنده قبل أن يواجه الناس ويخالفهم في نحلتهم فقد كان أول ما حاج به في التوحيد هو
ما حاج به أباه وقومه في أمر الأصنام.
قوله
تعالى : « وَكَذلِكَ نُرِي
إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » إلخ ، ظاهر السياق أن تكون الإشارة بقوله : « كَذلِكَ » إلى ما تضمنته الآية السابقة : « وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ » إلخ ، أنه عليهالسلام أري الحق في ذلك ، فالمعنى : على هذا المثال من الإراءة
نري إبراهيم ملك السماوات والأرض.
وبمعونة هذه
الإشارة ودلالة قوله في الآية التالية : « فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ » الدالة على ارتباط ما بعده بما قبله يظهر أن قوله : « نُرِي » لحكاية الحال الماضية كقوله تعالى : « وَنُرِيدُ أَنْ
نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ » : ( القصص : ٥ ).
فالمعنى : أنا
أرينا إبراهيم ملكوت السماوات والأرض فبعثه ذلك أن حاج أباه وقومه في أمر الأصنام
وكشف له ضلالهم ، وكنا نمده بهذه العناية والموهبة وهي إراءة الملكوت وكان على هذه
الحال حتى جن عليه الليل ورأى كوكبا.
وبذلك يظهر أن
ما يتراءى من بعضهم : أن قوله : «
وَكَذلِكَ نُرِي » إلخ ، كالمعترضة لا يرتبط بما قبله ولا بما بعده ، وكذا قول بعضهم : إن
إراءة الملكوت أول ما ظهر من أمرها في إبراهيم عليهالسلام أنه لما جن عليه الليل رأى كوكبا إلخ ، فاسد لا ينبغي
أن يصار إليه.
وأما ملكوت
السماوات والأرض فالملكوت هو الملك مصدر كالطاغوت والجبروت وإن كان آكد من حيث
المعنى بالنسبة إلى الملك كالطاغوت والجبروت بالنسبة إلى الطغيان والجبر أو
الجبران.
والمعنى الذي
يستعمله فيه القرآن هو المعنى اللغوي بعينه من غير تفاوت كسائر الألفاظ المستعملة
في كلامه تعالى غير أن المصداق غير المصداق وذلك أن الملك والملكوت وهو نوع من
السلطنة إنما هو فيما عندنا معنى افتراضي اعتباري بعثنا إلى اعتباره الحاجة
الاجتماعية إلى نظم الأعمال والأفراد نظما يؤدي إلى الأمن والعدل والقوة
الاجتماعيات وهو في نفسه يقبل النقل والهبة والغصب والتغلب كما لا نزال نشاهد ذلك
في المجتمعات الإنسانية.
وهذا المعنى
على أنه وضعي اعتباري وإن أمكن تصويره في مورده تعالى من جهة أن الحكم الحق في
المجتمع البشري لله سبحانه كما قال تعالى : « إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ » : ( الأنعام : ٥٧ ) وقال : « لَهُ الْحَمْدُ فِي
الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ » : ( القصص : ٧٠ ) لكن تحليل معنى هذا الملك الوضعي
يكشف عن ثبوت ذلك في الحقائق ثبوتا غير قابل للزوال والانتقال كما أن الواحد منا
يملك نفسه بمعنى أنه هو الحاكم المسلط المتصرف في سمعه وبصره وسائر قواه وأفعاله
بحيث إن سمعه إنما يسمع وبصره إنما يبصر بتبع إرادته وحكمه لا بتبع إرادة غيره من
الأناسي وحكمه وهذا معنى حقيقي لا نشك في تحققه فينا مثلا تحققا لا يقبل الزوال
والانتقال كما عرفت فالإنسان يملك قوى نفسه وأفعال نفسه وهي جميعا تبعات وجوده
قائمة به غير مستقلة عنه ولا مستغنية عنه فالعين إنما تبصر
بإذن من الإنسان الذي يبصر بها وكذا السمع يسمع بإذن منه ، ولو لا الإنسان
لم يكن بصر ولا إبصار ولا سمع ولا استماع كما أن الفرد من المجتمع إنما يتصرف فيما
يتصرف فيه بإذن من الملك أو ولي الأمر ، ولو لم تكن هذه القوة المدبرة التي تتوحد
عندها أزمة المجتمع لم يكن اجتماع ، ولو منع عن تصرف من التصرفات الفردية لم يكن
له أن يتصرف ولا نفذ منه ذلك ، ولا شك أن هذا المعنى بعينه موجود لله سبحانه الذي
إليه تكوين الأعيان وتدبير النظام فلا غنى لمخلوق عن الخالق عز اسمه لا في نفسه
ولا في توابع نفسه من قوى وأفعال ، ولا استقلال له لا منفردا ولا في حال اجتماعه
مع سائر أجزاء الكون وارتباط قوى العالم وامتزاج بعضها ببعض امتزاجا يكون هذا
النظام العام المشاهد.
قال تعالى : « قُلِ اللهُمَّ مالِكَ
الْمُلْكِ » : ( آل عمران : ٢٦ ) وقال تعالى : « لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » : ( المائدة : ١٢٠ ) وقال تعالى : « تَبارَكَ الَّذِي
بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ
وَالْحَياةَ ـ إلى أن قال ـ الَّذِي
خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً » : ( الملك : ٣ ) والآيات ـ كما ترى ـ تعلل الملك
بالخلق فكون وجود الأشياء منه وانتساب الأشياء بوجودها وواقعيتها إليه تعالى هو
الملاك في تحقق ملكه وهو بمعنى ملكه الذي لا يشاركه فيه غيره ولا يزول عنه إلى
غيره ولا يقبل نقلا ولا تفويضا يغني عنه تعالى وينصب غيره مقامه.
وهذا هو الذي
يفسر به معنى الملكوت في قوله : «
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ،
فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ » : ( يس : ٨٣ ) فالآية الثانية تبين أن ملكوت كل شيء هو
كلمة كن الذي يقوله الحق سبحانه له ، وقوله فعله ، وهو إيجاده له.
فقد تبين أن
الملكوت هو وجود الأشياء من جهة انتسابها إلى الله سبحانه وقيامها به ، وهذا أمر
لا يقبل الشركة ويختص به سبحانه وحده ، فالربوبية التي هي الملك والتدبير لا تقبل
تفويضا ولا تمليكا انتقاليا.
ولذلك كان
النظر في ملكوت الأشياء يهدي الإنسان إلى التوحيد هداية قطعية كما قال تعالى : « أَوَلَمْ يَنْظُرُوا
فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى
أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ » : ( الأعراف : ١٨٥ )
والآية ـ كما ترى ـ تحاذي أول سورة الملك المنقول آنفا.
فقد بان أن
المراد بإراءة إبراهيم ملكوت السماوات والأرض على ما يعطيه التدبر في سائر الآيات
المربوطة بها هو توجيهه تعالى نفسه الشريفة إلى مشاهدة الأشياء من جهة استناد
وجودها إليه ، وإذ كان استنادا لا يقبل الشركة لم يلبث دون أن حكم عليها أن ليس
لشيء منها أن يرب غيره ويتولى تدبير النظام وأداء الأمور فالأصنام تماثيل عملها
الإنسان وسماها أسماء لم ينزل الله عليها من سلطان ، وما هذا شأنه لا يرب الإنسان
ولا يملكه وقد عملته يد الإنسان ، والأجرام العلوية كالكوكب والقمر والشمس تتحول
عليها الحال فتغيب عن الإنسان بعد حضورها ، وما هذا شأنه لا يكون له الملك وتولي
التدبير تكوينا كما سيجيء بيانه.
قوله
تعالى : « وَلِيَكُونَ مِنَ
الْمُوقِنِينَ » اللام للتعليل ، والجملة معطوفة على أخرى محذوفة والتقدير : ليكون كذا
وكذا وليكون من الموقنين.
واليقين هو
العلم الذي لا يشوبه شك بوجه من الوجوه ، ولعل المراد به أن يكون على يقين بآيات
الله على حد ما في قوله : «
وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا
بِآياتِنا يُوقِنُونَ » : ( السجدة : ٢٤ ) وينتج ذلك اليقين بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا.
وفي معنى ذلك
ما أنزله في خصوص النبي صلىاللهعليهوآله قال : «
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى
الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا » : ( الإسراء : ١ ) وقال : « ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى ، لَقَدْ رَأى
مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى » : ( النجم : ١٨ ) وأما اليقين بذاته المتعالية فالقرآن
يجله تعالى أن يتعلق به شك أو يحيط به علم وإنما يسلمه تسليما.
وقد ذكر في
كلامه تعالى من خواص العلم اليقيني بآياته تعالى انكشاف ما وراء ستر الحس من حقائق
الكون على ما يشاء الله تعالى كما في قوله : « كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ،
لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ » : ( التكاثر : ٦ ) وقوله : « كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي
عِلِّيِّينَ ، وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ ، كِتابٌ مَرْقُومٌ ، يَشْهَدُهُ
الْمُقَرَّبُونَ » : ( المطففين : ٢١ ).
قوله
تعالى : « فَلَمَّا جَنَّ
عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي » إلى آخر الآية قال الراغب في المفردات ، : أصل الجن ( بفتح الجيم ) ستر الشيء عن الحاسة يقال : جنه الليل
وأجنه وجن عليه : فجنه ستره ، وأجنه جعل له ما يجنه كقولك : قبرته وأقبرته
وسقيته وأسقيته ، وجن عليه كذا ستر عليه قال عز وجل : ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى
كَوْكَباً ) ، انتهى. فجن الليل إسداله الظلام لا مجرد ما يحصل
بغروب الشمس.
وقوله : « فَلَمَّا جَنَّ
عَلَيْهِ اللَّيْلُ » تفريع على ما تقدم من نفيه ألوهية الأصنام بما يرتبطان بقوله : « وَكَذلِكَ نُرِي
إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » ومحصل المعنى على ذلك أنا كنا نريه الملكوت من الأشياء
فأبطل ألوهية الأصنام إذ ذاك ، ودامت عليه الحال فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال
كذا وكذا.
وقوله : « رَأى كَوْكَباً » كأن تنكير الكوكب إنما هو لنكتة راجعة إلى مرحلة
الإخبار والتحدث فلا غرض في الكلام يتعلق بتعيين هذا الكوكب وأنه أي كوكب كان من
السيارات أو الثوابت لأن الذي أخذه في الحجاج يجري في أي كوكب من الكواكب يطلع
ويغرب لا أن إبراهيم عليهالسلام أشار إلى كوكب ما من الكواكب من غير أن يمتاز بأي مميز
مفروض : أما أولا فلأن اللفظ لا يساعده فلا يقال لمن أشار إلى كوكب بين كواكب لا
تحصى كثرة فقال : هذا ربي : إنه رأى كوكبا قال هذا ربي ، وأما ثانيا فلأن ظاهر
الآيات أنه كان هناك قوم يعبدون الكوكب الذي أشار إليه وقال فيه ما قال ،
والصابئون ما كانوا يعبدون أي كوكب ولا يحترمون إلا السيارات.
والذي يؤيده
الاعتبار أنه كان كوكب الزهرة ، وذلك لأن الصابئين ما كانوا يحترمون وينسبون حوادث
العالم الأرضي إلا إلى سبعة من الأجرام العلوية التي كانوا يسمونها بالسيارات
السبع : القمر ، وعطارد ، والزهرة ، والشمس ، والمريخ ، والمشتري ، وزحل وإنما كان
أهل الهند هم الذين يحترمون النجوم الثوابت وينسبون الحوادث إليها ، ونظيرهم في
ذلك بعض أرباب الطلسمات ووثنية العرب وغيرهم.
فالظاهر أن
الكوكب كان أحد السبعة والقمر والشمس مذكوران بعد ، وعطارد مما لا يرى إلا شاذا
لضيق مداره فقد كان أحد الأربعة : الزهرة ، والمريخ والمشتري ، وزحل ، والزهرة من
بينها هي الكوكبة الوحيدة التي يمنعها ضيق مدارها أن تبتعد من الشمس أكثر من سبع
وأربعين درجة ، ولذلك كانت كالتابعة الملازمة للشمس فأحيانا تتقدمها فتطلع قبيل
طلوعها وتسمى عند العامة حينئذ نجمة الصباح ثم تغيب بعد
طلوعها ، وأحيانا تتبعها فتظهر بعد غروب الشمس في أفق المغرب ثم لا تلبث
إلا قليلا في أول الليل دون أن تغيب ، وإذا كانت على هذا الوضع والليلة من ليالي
النصف الأخير من الشهر القمري كليلة ثماني عشرة وتسع عشرة والعشرين فإنها تجامع
بغروبها طلوع القمر فترى أن الشمس تغرب فتظهر الزهرة في الأفق الغربي ثم تغرب بعد
ساعة أو ساعتين مضتا من غروب الشمس ثم يطلع القمر عند ذلك أو بعد ذلك بيسير.
وهذه الخصوصية
من بينها إنما هي للزهرة بحسب نظام سيرها وفي غيرها كالمشتري والمريخ وزحل أمر
اتفاقي ربما يقع في أوضاع خاصة لا يسبق إلى الذهن فيشبه من هنا أن الكوكب كان هو
الزهرة.
على أن الزهرة
أجمل الكواكب الدرية وأبهجها وأضوؤها أول ما يجلب نظر الناظر إلى السماء بعد جن
الليل وعكوف الظلام على الآفاق يجلب إليها.
وهذا أحسن ما
يمكن أن تنطبق عليه الآية بحسب ما يتسابق إلى الذهن من قوله : ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى
كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ ) ـ إلى أن قال ـ ( فَلَمَّا رَأَى
الْقَمَرَ بازِغاً ) « إلخ » حيث وصل ظاهرا بين أفول الكوكب وبزوغ القمر.
ويتأيد هذا
الذي ذكرناه بما ورد في بعض الروايات عن أئمة أهل البيت عليهالسلام أن الكوكب كان هو الزهرة.
وعلى هذا فقد
كان عليهالسلام رأى الزهرة والقوم يتنسكون بواجب عبادتها من خضوع وصلاة
وقربان ، وكانت الزهرة وقتئذ تتلو الشمس في غروبها ، والليلة من ليالي النصف
الأخير من الشهر القمري جن عليه الليل فرأى الزهرة في الأفق الغربي حتى أفلت فرأى
القمر بازغا بعده.
وقوله تعالى :
« قالَ هذا
رَبِّي » المراد بالرب
هو مالك الأشياء المربوبين ، المدبر لأمرهم لا الذي فطر السماوات والأرض وأوجد كل
شيء بعد ما لم يكن موجودا فإنه الله سبحانه الذي ليس بجسم ولا جسماني ولا يحويه
مكان ولا يقع عليه إشارة ، والذي يظهر مما حكي من كلام إبراهيم مع قومه في أمر
الأصنام ظهورا لا شك فيه أنه كان على بينة من ربه وله من العلم بالله وآياته ما لا
يخفى عليه معه أن الله سبحانه أنزه ساحة من التجسم والتمثل والمحدودية ، قال تعالى
حكاية عنه في محاورة له مع أبيه : « يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ
الْعِلْمِ
ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا » إلى آخر الآيات : ( مريم : ٤٣ ).
على أن
الوثنيين والصابئين لا يثبتون لله سبحانه شريكا في الإيجاد يكافئ بوجوده وجوده
تعالى بل إنما يثبتون الشريك بمعنى بعض من هو مخلوق لله مصنوع له ولا أقل مفتقر
الوجود إليه فوض إليه بعد تدبير الخليقة كإله الحسن وإله العدل وإله الخصب أو
تدبير بعض الخليقة كإله الإنسان أو إله القبيلة أو إله يخص بعض الملوك والأشراف
وقد دلت على ذلك آثارهم المستخرجة وأخبارهم المروية ، والموجودون منهم اليوم على
هذه الطريقة فقوله عليهالسلام بالإشارة إلى الكوكب : « هذا رَبِّي » أراد به إثبات أنه رب يدبر الأمر لا إله فاطر مبدع.
وعليه يدل ما
حكي عنه في آخر الآيات المبحوث عنها : « قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا
تُشْرِكُونَ ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ » فإن ظاهره أنه ينصرف عن فرض الشريك إلى إثبات أن لا
شريك له لا أنه يثبت وجوده تعالى.
فالذي يعطيه
ظاهر الآيات أنه عليهالسلام سلم أن لجميع الأشياء إلها فاطرا واحدا لا شريك له في
الفطر والإيجاد وهو الله تعالى ، وأن للإنسان ربا يدبر أمره لا محالة ، وإنما يبحث
عن أن هذا الرب المدبر للأمر أهو الله سبحانه وإليه يرجع التدبير كما إليه يرجع
الإيجاد أم أنه بعض خلقه أخذه شريكا لنفسه وفوض إليه أمر التدبير.
وفي إثر ذلك ما
كان منه عليهالسلام من افتراض الكوكب الذي كانوا يعبدونه ثم القمر ثم الشمس
والنظر في أمر كل منها هل يصلح لأن يتولى أمر التدبير وإدارة شئون الناس؟.
وهذا الافتراض
والنظر وإن كان بحسب طبعه قبل العلم اليقيني بالنتيجة فإن النتيجة فرع يتأخر طبعا
عن الحجة النظرية لكنه لا يضر به عليهالسلام فإن الآيات كما استفدناه فيما تقدم تقص أول أمر إبراهيم
والإنسان في أول زمن يأخذ بالتمييز ويصلح لتعلق التكليف الإلهي بالنظر في أمر
التوحيد وسائر المعارف الأصلية كاللوح الخالي عن النقش والكتابة غير مشغول بنقش
مخالف فإذا أخذ في الطلب وشرع يثبت شيئا وينفي شيئا لغاية الحصول على الاعتقاد
الحق والإيمان الصحيح فهو بعد في سبيل الحق لا بأس عليه في زمن يمر عليه بين
الانتزاع من قصور التمييز وبين الاعتصام بالمعرفة الكاملة
والعلم التام بالحق.
ومن ضروريات
حياة الإنسان أن يمر عليه لحظة هي أول لحظة ينتقل فيها من قصور الجهل بواجب
الاعتقاد إلى بلوغ العلم بحيث يتعلق به التكليف العقلي بالانتهاض إلى الطلب والنظر
، وهذه سنة عامة في الحياة الإنسانية المتدرجة من النقص إلى الكمال لا يختلف فيها
إنسان وإنسان ، وإن أمكن أن يظهر من بعض الأفراد بعض ما يخالف ذلك من أمارات الفهم
والعلم قبل المتعارف من سن التمييز والبلوغ كما يحكيه القرآن عن المسيح ويحيى عليهالسلام فإنما ذلك من خوارق العادة الجارية وما كل إنسان على
هذا النعت ولا كل نبي فعل به ذلك.
وبالجملة ليس
الإنسان من أول ما ينفخ فيه الروح الإنساني واجدا لشرائط التكليف بالاعتقاد الحق
أو العمل الصالح ، وإنما يستعد لذلك على سبيل التدريج حتى يستتم الشرائط فيكلف
بالطلب والنظر فزمن حياته منقسم لا محالة إلى قسمين هما قبل التمييز والبلوغ وبعد
التمييز والبلوغ وهو الزمان الذي يصلح لأن يشغله الاعتقاد كما أن ما يقابله يقابله
فيه ، وبين الزمانين الصالح لإشغاله بالاعتقاد وغير الصالح له لا محالة زمان متخلل
يتوجه إليه فيه التكليف بالطلب والنظر ، وهو الفصل الذي يبحث فيه عن واجب الاعتقاد
بما تهدي إليه فطرته من طريق الاستدلال فيفرض نفسه أو العالم مثلا بلا صانع مرة
ومع الصانع أخرى ، ويفرض الصانع وحده مرة ومع الشريك أخرى وهكذا ثم ينظر ما ذا
تؤيده الآثار المشهودة في العالم من كل فرض فرضه أو لا تؤيده فيأخذ بذاك ويترك
هذا.
فهو ما لم يتم
له الاستدلال غير قاطع بشيء ولا بان على شيء وإنما هو مفترض ومقدر لما افترضه
وقدره.
وعلى هذا فقول
إبراهيم عليهالسلام في الكوكب : « هذا رَبِّي » وكذا قوله الآتي في القمر والشمس ليس من القطع والبناء
اللذين يعدان من الشرك ، وإنما هو افتراض أمر للنظر إلى الآثار التي تثبته وتؤيده
، ومن الدليل على ذلك ما في الآيات من الظهور في أنه عليهالسلام كان على حالة الترقب والانتظار ، فهذا وجه.
ولكن الذي
يتأيد بما حكاه الله عنه في سورة مريم في محاجته أباه : ( يا أَبَتِ إِنِّي
قَدْ
جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا
، يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا
، يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ
وَلِيًّا ، قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ، قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ
سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا ) » : ( مريم : ٤٧ ) أنه عليهالسلام كان على علم بحقيقة الأمر وأن الذي يتولى تدبير أمره
ويحفي عليه ويبالغ في إكرامه هو الله سبحانه دون غيره.
وعلى هذا فقوله
: « هذا
رَبِّي » جار مجرى
التسليم والمجاراة بعد نفسه كأحدهم ومجاراتهم وتسليم ما سلموه ثم بيان ما يظهر به
فساد رأيهم وبطلان قولهم ، وهذا الطريق من الاحتجاج أجلب لإنصاف الخصم ، وأمنع لثوران
عصبيته وحميته ، وأصلح لإسماع الحجة.
قوله
تعالى : « فَلَمَّا أَفَلَ قالَ
لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ » الأفول الغروب وفيه إبطال ربوبية الكوكب بعروض صفة الأفول له
فإن الكوكب الغارب ينقطع بغروبه ممن طلع عليه ولا يستقيم تدبير كوني مع الانقطاع.
على أن
الربوبية والمربوبية بارتباط حقيقي بين الرب والمربوب وهو يؤدي إلى حب المربوب
لربه لانجذابه التكويني إليه وتبعيته له ، ولا معنى لحب ما يفنى ويتغير عن جماله
الذي كان الحب لأجله ، وما يشاهد من أن الإنسان يحب كثيرا الجمال المعجل والزينة
الداثرة فإنما هو لاستغراقه فيه من غير أن يلتفت إلى فنائه وزواله فمن الواجب أن
يكون الرب ثابت الوجود غير متغير الأحوال كهذه الزخارف المزوقة التي تحيا وتموت
وتثبت وتزول وتطلع وتغرب وتظهر وتخفى وتشب وتشيب وتنضر وتشين ، وهذا وجه برهاني
وإن كان ربما يتخيل أنه بيان خطابي أو شعري فافهم ذلك.
وعلى أي حال
فهو عليهالسلام أبطل ربوبية الكوكب بعروض الأفول له إما بالتكنية عن
البطلان بأنه لا يحبه لأفوله لأن المربوبية والعبودية متقومة بالحب فليس يسع من لا
يحب شيئا أن يعبده وقد ورد في المروي عن الصادق عليهالسلام : « هل الدين إلا الحب؟ » وقد بينا ذلك فيما تقدم.
وإما لكون
الحجة متقومة بعدم الحب وإنما ذكر الأفول ليوجه به عدم حبه له المنافي للربوبية
لأن الربوبية والألوهية تلازمان المحبوبية فما لا يتعلق به الحب الغريزي
الفطري لفقدانه الجمال الباقي الثابت لا يستحق الربوبية ، وهذا الوجه هو
الظاهر يتكئ عليه سياق الاحتجاج في الآية.
ففي الكلام
أولا إشارة إلى التلازم بين الحب والعبودية أو المعبودية.
وثانيا أنه أخذ
في إبطال ربوبية الكوكب وصفا مشتركا بينه وبين القمر والشمس ثم ساق الاحتجاج وكرر
ما احتج به في الكوكب في القمر والشمس أيضا ، وذلك إما لكونه عليهالسلام لم يكن مسبوق الذهن من أمر القمر والشمس وأنهما يطلعان
ويغربان كالكوكب كما تقدمت الإشارة إليه وإما لكون القوم المخاطبين في كل من
المراحل الثلاث غير الآخرين.
وثالثا أنه
اختار للنفي وصف أولي العقل حيث قال : « لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ » وكأنه للإشارة إلى أن غير أولي الشعور والعقل لا يستحق
الربوبية من رأس كما يؤمي إليه في قوله المحكي : « يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا
يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً » : ( مريم : ٤٢ ) وقوله الآخر : « إِذْ قالَ لِأَبِيهِ
وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ ، قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ
، قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ
يَضُرُّونَ ، قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ » : ( الشعراء : ٧٤ ) فسألهم أولا عن معبودهم كأنه لا
يعلم من أمرها شيئا فأجابوه بما يشعر بأنها أجساد وهياكل غير عاقلة ولا شاعرة
فسألهم ثانيا عن علمها وقدرتها وهو يعبر بلفظ أولي العقل للدلالة على أن المعبود
يجب أن يكون على هذه الصفة صفة العقل.
قوله
تعالى : « فَلَمَّا رَأَى
الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي » إلى آخر الآية ، البزوغ هو الطلوع تقدم الكلام في دلالة قوله : « فَلَمَّا رَأَى » إلخ ، على اتصال القضية بما قبلها ، وقوله : « هذا رَبِّي » على سبيل الافتراض أو المجاراة والمماشاة والتسليم
نظير ما تقدم في الآية السابقة.
وأما قوله بعد
أفول القمر : « لَئِنْ
لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ » فهو موضوع وضع الكناية فهو عليهالسلام أبطل ربوبية الكوكب بما يعم كل غارب ولما غرب القمر ظهر
عندئذ رأيه في أمر ربوبيته بما كان قد قاله قبل ذلك في الكوكب : « لا أُحِبُّ
الْآفِلِينَ » فقوله : «
لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي » إلخ ، إشارة إلى أن الوضع الذي ذكره في القمر بقوله :
« هذا
رَبِّي » كان ضلالا لو
دام وأصر عليه كان أحد أولئك الضالين القائلين بربوبيته والوجه في كونه ضلالا ما
قاله في الكوكب حيث عبر بوصف لا يختص به بل يصدق في
مورده وكل مورد يشابهه.
وفي الكلام
إشارة أولا إلى أنه كان هناك قوم قائلون بربوبية القمر كالكوكب كما أن قوله في
الآية التالية بعد ذكر أمر الشمس : « يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ » لا يخلو عن الدلالة على مثله.
وثانيا : أنه عليهالسلام كان وقتئذ في مسير الطلب راجيا للهداية الإلهية مترقبا
لما يفيض ربه عليه من النظر الصحيح والرأي اليقيني سواء كان ذلك بحسب الحقيقة كما
لو حملنا الكلام على الافتراض لتحصيل الاعتقاد ، أو بحسب الظاهر كما لو حملناه على
الوضع والتسليم لبيان الفساد ، وقد تقدم الوجهان آنفا.
وثالثا : أنه عليهالسلام كان على يقين بأن له ربا إليه تدبير هدايته وسائر أموره
، وإنما كان يبحث واقعا أو ظاهرا ليعرفه : أهو الذي فطر السماوات والأرض بعينه أو
بعض من خلقه ، وإذ بان له أن الكوكب والقمر لا يصلحان الربوبية لأفولها توقع أن
يهديه ربه إلى نفسه ويخلصه من ضلال الضالين.
قوله تعالى : « فَلَمَّا رَأَى
الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ » الكلام في دلالة اللفظ على الاتصال بما قبله لمكان
قوله : « فَلَمَّا » وكون قوله : « هذا رَبِّي » مسوقا للافتراض أو التسليم كما تقدم في الآية السابقة.
وقد كان تكرر
قوله : « هذا
رَبِّي » في القمر لما
رآه بازغا بعد ما رأى الكوكب ، ولذلك ضم قوله : « هذا أَكْبَرُ » إلى قوله « هذا رَبِّي » في الشمس في المرة الثالثة ليكون بمنزلة الاعتذار
للعود إلى فرض الربوبية لها مع تبين خطإ افتراضه مرة بعد مرة.
وقد تقدمت
الإشارة إلى أن إشارته إلى الشمس بلفظة « هذا » تشعر بأنه عليهالسلام ما كان يعرف من الشمس ما يعرفه أحدنا أنه جرم سماوي
يطلع ويغرب بحسب ظاهر الحس في كل يوم وليلة ، وإليها تستند النهار والليل والفصول
الأربعة السنوية إلى غير ذلك من نعوتها.
فإن الإتيان في
الإشارة بلفظ المذكر هو الذي يستريح إليه من لا يميز المشار إليه في نوعه كما تقول
فيمن لاح لك شبحه وأنت لا تدري أرجل أم امرأة : من هذا؟ ونظيره ما يقال في شبح لا
يدرى أمن أولي العقل هو أو لا : ما هذا؟ فلعله إنما كان ذلك من إبراهيم عليهالسلام أول ما خرج من مختفى أخفي فيه إلى أبيه وقومه ، ولم يكن
عهد مشاهد الدنيا
الخارجة والمجتمع البشري فرأى جرما هو كوكب وجرما هو القمر وجرما هو الشمس
، وكلما شاهد واحدا منها ـ ولم يكن يشاهد إلا جرما مضيئا لامعا ـ قال : هذا ربي ،
على سبيل عدم المعرفة بحاله معرفة تامة كما سمعت.
ويؤيده بعض
التأييد قوله : « فَلَمَّا
أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ » فإن فيه إشعارا بأنه عليهالسلام مكث بانيا على كون الكوكب ربا حتى شاهد غروبه فحكم بأن
الفرض باطل وأنه ليس برب ، ولو كان عالما بأنه سيغرب أبطل ربوبيته مقارنا لفرض
ربوبيته كما فعل ذلك في أمر الأصنام على ما يدل عليه قوله لأبيه : « أَتَتَّخِذُ
أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ » وقوله أيضا : « يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا
يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً ».
وإن أمكن أن
يقال : إنه أراد بتأخير قوله. «
لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ » إلى أن يأفل أن يحاجهم بما وقع عليه الحس كما أراد بما فعل بالأصنام حيث
جعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم أن يريهم عجز الأصنام وكونها أجسادا ميتة لا تدفع عن
أنفسها الضر والشر.
وللمفسرين في
تذكير الإشارة في قوله : «
هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ » مسالك من التوجيه مختلفة :
فمنهم من قال :
تذكير الإشارة إنما هو بتأويل المشار إليه أو الجرم النير السماوي أي هذا المشار
إليه أو هذا الجرم النير ربي وهو أكبر.
وفيه أنه لا
ريب في صحة الاستعمال بهذا التأويل لكن الشأن في النكتة التي تصحح هذا التأويل ،
ولا يجوز ذلك من غير نكتة مسوغة ، ولو جاز ذلك في اللغة من غير اعتماد على نكتة لجاز
تذكير كل مؤنث قياسي وسماعي في إرجاع الضمير والإشارة إليه بتأويل الشخص ونحوه وفي
ذلك نسخ اللغة قطعا.
ومنهم من قال :
إنه من قبيل إتباع المبتدإ للخبر في تذكيره فإن الرب وأكبر مذكران فأتبع اسم
الإشارة للخبر المذكر كما عكس في قوله تعالى : « ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ
قالُوا » الآية فأتبع
المذكر للمؤنث.
وفيه أنهم
كانوا يرون من الآلهة إناثا كما يثبتون ذكورا ويسمون الأنثى من الآلهة إلهة وربة
وبنت الله وزوجة الرب فكان من الواجب أن يطلق على الشمس ربة لمكان التأنيث ، وأن
يقال : هذه ربتي أو آلهتي ، فالكلام في تذكير الخبر في قوله : « هذا رَبِّي » كالكلام في تذكير المبتدإ ، ولا معنى حينئذ لحديث
الإتباع.
وكذا قوله : « هذا أَكْبَرُ » الخبر فيه من صيغ التفضيل وحكم صيغة التفضيل إذا وقعت
خبرا أن يجاء بأفعل ويستوي فيه المذكر والمؤنث يقال زيد أفضل من عمر وليلى أجمل من
سلمى ، وما هذا شأنه لا نسلم أنه من صيغ المذكر الذي يجري فيه الإتباع.
ومنهم من قال :
إن تذكير الإشارة إنما هو لتعظيم الشمس حيث نسب إليها الربوبية صونا للإله عن وصمة
التأنث.
وفيه : أنهم
كانوا يعدون الأنوثية من النواقص التي يجب أن ينزه عنها الإله وقد كان لأهل بابل
أنفسهم آلهة أنثى كالإلهة « نينو » إلهة الأمهات الخالفة ، والإلهة « نين كاراشا »
ابنة الإله « آنو » والإلهة « مالكات » زوجة الإله « شاماش » والإلهة « زاربانيت »
إلهة الرضاع ، والإلهة « آنوناكي ». وكانت طائفة من مشركي العرب تعبد الملائكة وتعدهم
بنات الله ، وقد رووا في تفسير قوله تعالى : « إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً » ( النساء : ١١٧ ) أنهم كانوا يسمون آلهتهم إناثا ،
وكانوا يقولون : أنثى بني فلان يعنون به الصنم الذي يعبدونه.
ومنهم من قال :
إن قوم إبراهيم عليهالسلام كانوا يعدون الشمس من الذكور وقد أثبتوا لها زوجة
يسمونها « أنونيت » فاحتفظ في الكلام على ظاهر عقيدتهم.
وفيه : أن
اعتقادهم بكون الشمس ذكرا لا يصحح تبديل تأنيث لفظها تذكيرا. على أن قوله عليهالسلام للملك : « فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ » : ( البقرة : ٢٥٨ ) وهو يريد الشمس ينافي ذلك.
ومنهم من قال :
إن إبراهيم عليهالسلام كان يتكلم باللغة السريانية وهي لغة قومه ، ولا يفرق
فيها في الضمائر وأسماء الإشارة بالتذكير والتأنيث بل الجميع على صفة التذكير ،
وقد احتفظ القرآن الكريم في حكاية قوله على ما أتى به من التذكير.
وفيه : منع جواز
ذلك فإنه أمر راجع إلى أحكام الألفاظ المختلفة باختلاف اللغات بل إنما يجوز ذلك
فيما يرجع إلى المعنى الذي لا يؤثر في الخصوصية اللفظية ، على أنه تعالى حكى عن
إبراهيم عليهالسلام احتجاجات كثيرة وأدعية وافرة في القرآن وفيها موارد
كثيرة اعتبر فيها التأنيث فما بال هذا المورد اختص من بينها بإلغاء جهة التأنيث؟ حتى
أن قوله فيما يحاج به ملك بابل : « إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي
وَيُمِيتُ قالَ أَنَا
أُحْيِي
وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ
فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ » : ( البقرة : ٢٥٨ ) ويتضمن ذكر الشمس وتأنيث الضمير
العائد إليها.
ومن عجيب ما
أورد على هذا الوجه ما ذكره بعض المفسرين وأصر عليه : أن إبراهيم عليهالسلام وكذا إسماعيل وهاجر كانوا يتكلمون باللغة العربية
القديمة ، وأنها كانت لغة قومه ، قال ما ملخصه : إنه ثبت عند علماء الآثار القديمة
، أن عرب الجزيرة قد استعمروا منذ فجر التاريخ بلاد الكلدان ومصر وغلبت لغتهم
فيهما ، وصرح بعضهم بأن الملك حموربي الذي كان معاصرا لإبراهيم عليهالسلام عربي وحموربي هذا ملك البر والسلام ووصف في العهد
العتيق بأنه كاهن الله العلي ، وذكر فيه أنه بارك إبراهيم ، وأن إبراهيم أعطاه
العشرة من كل شيء ، قال : ومن المعروف في كتب الحديث والتاريخ العربي أن إبراهيم
أسكن إسماعيل ابنه عليهالسلام مع أمه هاجر المصرية في الواد الذي بنيت فيه مكة بعد
ذلك ، وأن الله سخر لهما جماعة من جرهم سكنوا معهما هنالك ، وأن إبراهيم عليهالسلام كان يزورهما ، وأنه هو وولده إسماعيل بنيا بيت الله
الحرام ونشرا دين الإسلام في البلاد العربية ، وفي الحديث : أن إبراهيم عليهالسلام جاء مكة ليزور ابنه ـ وقد خرج إلى الصيد ـ فكلم زوجته
وكانت جرهمية فلم يرتض أمرها ـ ثم جاءها بعد مدة ليزوره فلم يجده فكلم زوجته
الأخرى ـ فدعته إلى النزول وغسل رأسه ـ فارتضى أمرها ودعا لها ، وكل ذلك يدل على
أنه كان يتكلم بالعربية ، هذا ملخص ما ذكره.
وفيه : أن
مجاورة عرب الجزيرة مصر وكلدان واختلاطهم بهم أو استعمارهم واستيلاؤهم عليهم لا
يوجب تبدل لغاتهم إلى العربية ، وقد كانت لغة مصر قبطية ولغة كلدان والآشوريين
سريانية ، نعم ربما أوجب ذلك دخول أسماء وألفاظ من لغة بعضهم في لغة بعض كما يوجد
في القرآن الكريم أمثال القسطاس والإستبرق وغيرهما وهي من الدخيل.
وأما ما ذكره
من أمر حموربي ومعاصرته لإبراهيم عليهالسلام فلا يطابق ما هو الصحيح من تاريخه ويؤيده الآثار
المكشوفة من خرائب بابل والنصب المستخرجة التي كتبت فيها شريعته التي وضعها
وأجراها في مملكته وهي أقدم القوانين المدونة في العالم على ما بلغنا ، وقد ذكر
بعضهم أن أيام ملكه كانت بين (١٧٢٨) ق م و (١٦٨٦) ق
م ، وذكر آخرون : أنه تملك بابل سنة ( ٢٢٨٧ ـ ٢٢٣٢ ) ق م وكان إبراهيم عليهالسلام يعيش في حدود سنة (٢٠٠٠) ق م ، وحموربي هذا وثني ، وقد
استمد فيما وجد من كلامه المنقوش في ذيل شريعته المنقوشة على النصب بعده من الآلهة
لبقاء شريعته وعمل الناس بها وتدمير من أراد نسخها أو مخالفتها وأما ما ذكره
من حديث إسكانه ابنه وأم ولده بتهامة وبناء بيت الله الحرام ونشر دين الله وتفاهمه
مع العرب فشيء من ذلك لا يدل على كونه عليهالسلام متكلما باللغة العربية وهو ظاهر.
ولنرجع إلى ما
كنا فيه فنقول : قوله : «
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً » إلخ ـ كما سمعت ـ يدل على اتصال ما بعد « فَلَمَّا » بما قبله وهو قوله : « فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي
رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ » فهو يدل على أن القمر قد كان غرب حينما رأى عليهالسلام الشمس بازغة ، وهذا إنما يكون في الخريف أو الشتاء في
العرض الشمالي الذي كانت فيه بلاد كلدان حين يطول الليالي وخاصة إذا كان القمر في
شيء من البروج الجنوبية كالقوس والجدي فعند ذلك يجيز الوضع السماوي أن يغرب القمر
في النصف الأخير من الشهر القمري قبل طلوع الشمس ، وقد تقدم سابقا في قوله تعالى :
« فَلَمَّا
جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا
أُحِبُّ الْآفِلِينَ ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي » أن ظاهر الكلام المؤيد بالاعتبار يدل على أن الليلة
كانت من ليالي النصف الأخير من الشهر القمري ، وكان الكوكب هي الزهرة ، شاهدها
أولا في المغرب حال الانحطاط ثم شاهد غروبها وطلوع القمر من ناحية المشرق.
فيتحصل من
الآيات أن إبراهيم عليهالسلام حاج قومه في أمر الأصنام يوم حاجهم واشتغل بهم يومه ذلك
حتى جن عليه الليل فلما جن عليه الليل رأى الزهرة وقوم يعبدونها فجاراهم في
ربوبيتها وأخذ ينتظر ما يحل بها من حال حتى أفلت بعد سويعات فحاجهم
__________________
به وتبرأ من ربوبيتها ، ثم رأى القمر بازغا وهناك قوم يعبدونه فجاراهم في
ربوبيته بقوله : « هذا
رَبِّي » وأخذ يراقب
ما يحدث به حتى أفل ، وكانت الليلة من الليالي الطوال في النصف الثاني من الشهر
القمري ولعل القمر كان يسير في قوس قصير من أقواس المدارات الجنوبية فلما أفل تبرأ
من ربوبيته ، وأخذ يستهدي ربه ويستعيذ به من الضلال حتى طلعت الشمس فرآها بازغة
وأكبر بالنسبة إلى ما تقدمها من الكوكب والقمر فعاد كذلك إلى مجاراتهم في ربوبيتها
مع ما لاح له من بطلان ربوبية الكوكب والقمر وهما مثلها في كونها جرما سماويا نيرا
لكنه اتخذ كونها أكبر منها عذرا يعتذر به فيما يفترضه أو يسلمه من ربوبيتها فقال :
« هذا
رَبِّي هذا أَكْبَرُ » وأخذ ينتظر مستقبل الأمر حتى أفلت فتبرأ من ربوبيتها وشرك قومه فقال : « يا قَوْمِ إِنِّي
بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ » ثم أثبت الربوبية لله سبحانه كما كان يثبت الألوهية بمعنى إيجاد السماوات
والأرض وفطرها له تعالى فقال : « إِنِّي
وَجَّهْتُ وَجْهِيَ ـ وهو العبودية قبال الربوبية ـ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
حَنِيفاً ـ غير منحرف
من حاق الوسط إلى يمين أو يسار ـ وَما
أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ـ بإشراك شيء من خلقه ومفطوراته له تعالى في العبادة والإسلام ـ ».
وقد تقدم أن
قوله تعالى في ضمن الآيات محفوفا بها : « وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ » يدل على أنه عليهالسلام إنما كان يأخذ ما يلقيه من الحجة على أبيه وقومه مما
كان يشاهده من ملكوت السماوات والأرض ، وقد أفاض الله سبحانه اليقين الذي ذكره
غاية لإراءته الملكوت على قلبه بهذه المشاهدة والرؤية.
وهذا أوضح شاهد
على أن الذي ذكره عليهالسلام من الحجة كانت حجة برهانية ترتضع من ثدي اليقين ، وقد
أورد في ذلك قوله : «
لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ » وتقدمت الإشارة إلى تقريره.
فتبين من جميع
ما تقدم :
أولا
: أن قوله عليهالسلام : «
لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ » حجة برهانية يقينية بني الكلام فيه على عدم حبه للآفلين ، ومنافاة الأفول
للربوبية ، ويظهر من كلام بعضهم أنه يأخذه حجة عامية غير برهانية إذ يقول :
والصواب أن الكلام كان تعريضا خفيا لا برهانا نظريا جليا يعرض فيه بجهل قومه في
عبادة الكواكب أنهم يعبدون ما يتحجب عنهم ، ولا
يدري شيئا من أمر عبادتهم ، وهذا هو السبب في جعله الأفول منافيا للربوبية
دون البزوغ والظهور بل بنى عليه القول بها فإن من صفات الرب أن يكون ظاهرا وإن لم
يكن ظهوره كظهور غيره من خلقه ، هذا.
وقد خفي عليه
أولا : أن وضع قوله : «
وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ
الْمُوقِنِينَ » بين الآيات المتضمنة لحججه ع أدل دليل على كون حججه مأخوذة من مشهوداته
الملكوتية التي هي ملاك يقينه بالله وآياته وكيف يتصور مع ذلك كونها حجة عامية غير
برهانية.
وخفي عليه
ثانيا أن الحجة بنيت على الحب وعدمه لا على الأفول مضافا إلى أن البناء على الأفول
أيضا لا يخرجها عن كونها برهانية فهو عليهالسلام إنما ذكر سبب براءته من ربوبيتها أنه وجدها آفلة غاربة
وهو لا يحب الآفلين فلا يعبدها ، ومن المعلوم أن عبادة الإنسان لربه إنما هي لأنه
رب أي لأنه يدبر أمر الإنسان فيفيض عليه الحياة والرزق والصحة والخصب والأمن
والقدرة والعلم إلى غير ذلك مما يحتاج إليه في بقائه فهو متعلق الوجود بربه من كل
جهة ، ومن فطريات الإنسان أن يحب ما يسعده مما يحتاج إليه وأن يحب من يسعده بذلك
لا يرتاب فيه ذو ريب البتة فإنما يعبد الرب لأن الإنسان يحبه لجلبه المنافع إليه
أو لدفعه المضار عنه أو لهما جميعا.
ومن فطريات
الإنسان أيضا أنه لا تتعلق نفسه بما لا بقاء له إلا أن يحول حرص أو شبق أو نحوهما
نظره إلى جهة اللذة ويصرفه عن التأمل والإمعان في جهة فنائه وزواله ، وقد استعمل
القرآن الكريم هذه الطريقة كثيرا في ذم الدنيا ، وردع الناس عن التعلق المفرط
بزينتها والانهماك في شهواتها كقوله : « إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ
أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ
النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ
وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ
نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ » : ( يونس : ٢٤ ) وقوله : « ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ
باقٍ » : ( النحل : ٩٦
) وقوله : « وَما
عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى » : ( الشورى : ٣٦ ).
فهو عليهالسلام يفيد بقوله : « لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ » أن الذي من شأنه أن يفقده الإنسان ويغيب عنه ولا يبقى
ولا يثبت له لا يستحق أن يحبه الإنسان وتتعلق به نفسه ، والرب
الذي يعبده الإنسان يجب أن يحبه فيجب أن لا يكون من شأنه أن يأفل عنه ويفقد
فهذه الأجرام الآفلة لا تستحق اسم الربوبية ، وهذه ـ كما ترى ـ حجة يعرفها العامة
والخاصة.
وقد خلط ثالثا
بين البزوغ والظهور فحكم أنه غير مناف للربوبية بل القول مبني عليه فإن من صفات
الرب أن يكون ظاهرا إلى آخر ما قال فإن الذي ذكر في الآية ـ ولم يبن الحجة عليه ـ هو
البزوغ وهو الطلوع والظهور بعد خفاء المنافي للربوبية فيبقى السؤال : لم بنى
الكلام على الأفول دون البزوغ؟ على حاله.
وثانيا
: أن أخذ الأفول
في الحجة دون البزوغ إنما هو لأن البزوغ لا يستوجب عدم الحب الذي بنى الحجة عليه
بخلاف الأفول ، وبذلك يظهر ما في قول الكشاف في وجه العدول ، قال : « فإن قلت : لم
احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال؟ قلت : الاحتجاج
بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب » انتهى. فإن الاحتجاج كما عرفت إنما هو
بعدم تعلق الحب لا بالأفول حتى يوجه العدول إليه من البزوغ بما ذكره.
وثالثا
: أن الاحتجاج
إنما أريد به نفي ربوبية الأجرام الثلاثة بمعنى تدبيرها للعالم الأرضي أو العالم
الإنساني لا الربوبية بمعنى المقام الذي ينتهي إليه الإيجاد والتدبير جميعا فإن
الوثنية وعبدة الكواكب لا ينكرون أن آلهتهم ليست أربابا بهذا المعنى ، وأنه الله
الواحد لا شريك له.
ومن هنا يظهر
ما في قول بعضهم : إن الأفول إنما أخذ مبدأ للبرهان لأنه يستلزم الإمكان ، وكل
ممكن محتاج يجب أن يقف سلسلة حاجته عند موجود واجب الوجود ، وكذا ما في قول آخرين
: إن الأفول إنما ينفي الربوبية عن المتصف به لأنه حركة ، ولا بد لكل حركة من محرك
، وينتهي لا محالة إلى محرك غير متحرك وثابت غير متغير بذاته وهو الله عز اسمه.
وذلك أنهما وإن
كانا حجتين برهانيتين غير أنهما تنفيان عن الممكنات وعن المتحركات الربوبية بمعنى
العلية الأولى التي ينتهي إليها جميع العلل ، وسببية الإيجاد والتدبير التي يقف
عندها جميع الأسباب ، وعبدة الكواكب من الصابئين وغيرهم وإن
ذهبوا إلى أن كل جرم سماوي قديم زماني غير قابل للكون والفساد متحرك بحركة
دائمة غير أنهم لا ينكرون أن جميعها معلولة لإمكانها غير مستغنية لا في وجودها ولا
في آثار وجودها عن الواجب عز اسمه.
فالحجتان إنما
هما قائمتان على منكري وجود الصانع من الطبيعيين لا الصابئين وعبدة أرباب الأنواع
وغيرهم من الوثنيين ، وإبراهيم عليهالسلام إنما كان يحاج هؤلاء دون أولئك.
على أنك عرفت
أن الحجة لم تركب من جهة الأفول بل من جهة عدم تعلق الحب بشيء من شأنه الأفول
والغروب.
وأما من دفع ما
ذكروه من تقرير الحجة من جهة الإمكان أو الحركة بأن تفسير الأفول بذلك تفسير للشيء
بما يباينه فإن العرب لا يعرفون الأفول بمعنى الإمكان أو الحدوث وكذلك تفسير
الأفول بالتغير والحركة غلط كسابقه.
فقد خفي عليه
أن هؤلاء لا يقولون : إن الأفول في الآية بمعنى الإمكان أو بمعنى الحركة ، وإنما
يقولون : إن الأفول إنما احتج به لاستلزامه الإمكان أو الحركة والتغير ، وأما
الأفول بمعنى الغيبة بعد الحضور والخفاء بعد الظهور مع قطع النظر عن استلزامه الإمكان
أو التغير غير اللائقين بساحة الواجب جل ثناؤه فليس ينافي الربوبية كما اعترف به
هذا المورد نفسه.
وذلك أن الواجب
تعالى أيضا غائب عن مشاعرنا من غير أن يتحول عليه الحال ويطرأ عليه التغير بالغيبة
بعد الحضور والخفاء بعد الظهور ، ولا ينفع القول بأن الغيبة والخفاء فيه تعالى من
جهتنا لا من جهته ولاشتغالنا بما يصرفنا عنه لا لمحدودية وجوده وقصور استيلائه فإن
غيبة هذه الأجرام السماوية وخاصة الشمس بالحركة اليومية أيضا من قبلنا حيث أنا
أجزاء من الأرض التي تتحرك بحركتها اليومية فتحولنا بها من مسامتة هذه الأجرام
ومواجهتها إلى خلاف ذلك فنغرب عنها في الحقيقة بعد طلوعنا عليها وإن كان الخطأ
الحسي يخيل لنا غيره.
وقد أراد
الرازي أن يجمع بين الوجوه جميعا فقال في تفسيره ما نصه : الأفول عبارة عن غيبوبة
الشيء بعد ظهوره وإذا عرفت هذا فلسائل أن يسأل فيقول : الأفول إنما يدل على الحدوث
من حيث إنه حركة ، وعلى هذا التقدير فيكون الطلوع أيضا دليلا
على الحدوث فلم ترك إبراهيم عليهالسلام الاستدلال على حدوثها بالطوع وعول في إثبات هذا المطلوب
على الأفول؟.
والجواب : لا
شك أن الطلوع والغروب يشتركان في الدلالة على الحدوث إلا أن الدليل الذي يحتج به
الأنبياء في معرض دعوة الخلق كلهم إلى الله لا بد وأن يكون ظاهرا جليا بحيث يشترك
في فهمه الذكي والغبي والعاقل ، ودلالة الحركة على الحدوث وإن كانت يقينية إلا
أنها دقيقة لا يعرفها إلا الأفاضل من الخلق ، أما دلالة الأفول فإنها دلالة ظاهرة
يعرفها كل أحد فإن الكوكب يزول سلطانه وقت الأفول فكانت دلالة الأفول على هذا
المقصود أتم.
وأيضا قال بعض
المحققين : الهوي في خطرة الإمكان أفول وأحسن الكلام ما تحصل فيه حصة الخواص وحصة
الأوساط وحصة العوام : فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان وكل ممكن محتاج لا يكون
مقطوع الحاجة فلا بد من الانتهاء إلى من يكون منزها عن الإمكان حتى تنقطع الحاجات
بسبب وجوده كما قال : ( وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ
الْمُنْتَهى ).
وأما الأوساط
فإنهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة فكل متحرك محدث ، وكل محدث فهو محتاج إلى
القديم القادر فلا يكون الآفل إلها بل الإله هو الذي يحتاج إليه ذلك الآفل.
وأما العوام
فإنهم يفهمون من الأفول الغروب ، وهم يشاهدون أن كل كوكب يقرب من الأفول والغروب
فإنه يزول نوره ، وينتقص ضوؤه ، ويذهب سلطانه ، ويكون كالمعزول ، ومن يكون كذلك لا
يصلح للإلهية ، فهذه الكلمة الواحدة أعني قوله « لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ » كلمة مشتملة على نصيب المقربين وأصحاب اليمين وأصحاب
الشمال فكانت أكمل الدلائل وأفضل البراهين.
وفيه دقيقة
أخرى ، وهو أنه عليهالسلام إنما كان يناظرهم وهم كانوا منجمين ، ومذهب أصحاب
النجوم أن الكوكب إذا كان في الربع الشرقي ويكون صاعدا إلى وسط السماء كان قويا
عظيم التأثير ، أما إذا كان غربيا وقريبا من الأفول فإنه يكون ضعيف التأثير قليل
القوة فنبه بهذه الدقيقة على أن الإله هو الذي لا تتغير قدرته إلى العجز وكماله
إلى النقصان ، ومذهبكم أن الكوكب حال كونه في الربع الغربي يكون ضعيف القوة ناقص
التأثير عاجز عن التدبير ، وذلك يدل على القدح في إلهيته فظهر على قول
المنجمين أن للأفول مزيد خاصية في كونه موجبا للقدح في إلهيته » انتهى موضع الحاجة
من كلامه على طوله.
وأنت بالتأمل
في ما تقدم تقف على أن ما تفنن به من تقسيم البرهان إلى حصص مختلفة باختلاف النفوس
، وتقريره بوجوه شتى لا لفظ الآية يدل عليه ، ولا شبهة الصابئين وأصحاب النجوم
تندفع به فإنهم لا يرون الجرم السماوي إلها واجب الوجود غير متناهي القدرة ذا قوة
مطلقة ، وإنما يرونه ممكنا معلولا ذا حركة دائمة يدبر بحركته ما دونه من العالم
الأرضي ، وشيء مما ذكره من الوجوه لا يدفع هذه النظرية ، وكأنه تنبه لهذا الإشكال
بعد كلامه المنقول آنفا فبسط في الكلام وأطنب في الخروج من العويصة بما لا يجدي
شيئا.
على أن الحجة
الثانية على ما قرره حجة غير تامة فإن الحركة إنما تدل على حدوث المتحرك من حيث
وصفه وهو التحرك لا من حيث ذاته ، وتمام الكلام في ذلك موكول إلى محله ، والمصير
إلى ما قدمناه في تقرير الحجة من جهة الحركة.
ورابعا
: أن إبراهيم عليهالسلام إنما ساق هذه الحجج بحسب ما كان الله سبحانه يريه ملكوت
السماوات والأرض ، وبحسب ما يسمح له جريان محاجته أباه وقومه آخذا بالمحسوس
المعاين إما لأنه لم يكن رأى تفصيل الحوادث السماوية والأرضية اليومية كما تقدمت
الإشارة إليه أو لأنه أراد أن يحاجهم بما تحت حسهم فأورد قوله « هذا رَبِّي » لما شاهد شيئا من الأجرام الثلاثة لامعا بازغا ، وأورد
قوله « لا
أُحِبُّ الْآفِلِينَ » أو ما في معناه لما شاهد أفولها.
وبذلك يظهر
الجواب عما يمكن أن يقال : إن قوله : « فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى
كَوْكَباً » يدل على أنه عليهالسلام كان في النهار المتصل بذلك الليل شاهد قومه فما باله لم
يذكر الشمس لينفي ربوبيتها.
فإن من المحتمل
أن يكون قد خرج إلى قومه للمحاجة والوقت لا يسع أزيد مما حاج به أباه وقومه في أمر
الأصنام فكان يحاجهم طول النهار أو مدة ما أدركه من النهار عند قومه حتى إذا تمم
الحجاج لم يلبث دون أن جن عليه الليل ، وهناك محتملات أخر
كغيم في الهواء أو حضور قومه للصلوات والقرابين في أول الطلوع فحسب وقد كان
يريد أن يواجههم فيما يلقيه إليهم.
وخامسا
: أن الآيات كما
قيل تدل على أن الهداية من الله سبحانه وأما الإضلال فلم ينسب إليه تعالى في هذه
الآيات بل دل قوله : «
لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ » بعض الدلالة على أن من شأن الإنسان بحسب ما يقتضيه نقص
نفسه أن يتصف بالضلال لو لم يهده ربه ، وهو الذي يستفاد من قوله تعالى : « وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً » : ( النور : ٢١ ) وقوله : « إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ
اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ » : ( القصص : ٥٦ ) إلى غير ذلك من الآيات.
نعم هناك آيات
تنسب إليه تعالى الإضلال لكن أمثال قوله : « وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ » : ( البقرة : ٢٦ ) تبين أن الضلال المنسوب إليه تعالى
هو الإضلال الواقع بحسب المجازاة دون الإضلال الابتدائي ، وقد تقدم البحث في تفسير
الآية في الجزء الأول من هذا الكتاب.
وسادسا
: أنه عليهالسلام أخذ في حجته لإبطال ربوبية الأجرام الثلاثة أنه لا يحب
الآفل لأفوله وهو أن يفقده الإنسان بعد أن يجده فهو الوصف الذي لا يتعلق به الحب
المسوغ للعبادة ، وإذ كان ذلك وصفا مطردا في جميع الجسمانيات التي تسير إلى الزوال
والفوت والهلاك والبيد كانت الحجة قاطعة على كل شرك ووثنية حتى على ما يظهر من بعض
الوثنيين من القول بألوهية أرباب الأنواع والموجودات النورية التي يذعنون بوجودها
وأنها فوق المادة والطبيعة متعالية عن الجسمية والحركة فإنهم يصرحون بأنها على ما
لها من صفاء الجوهر وشرف الوجود مستهلكة تجاه النور القيومي ، مستذلة تحت القهر
الأحدي ، وإذ كان هذه صفة ما يدعونه فلو توجه تلقاءها حب لم يتعلق إلا بمن يدبر
أمرها ويصلح شأنها لا بها.
قوله
تعالى : « إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ
لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ » إلى آخر الآية.
ذكر الراغب في
المفردات : ، أن أصل الفطر الشق طولا يقال : فطر فلان كذا فطرا وأفطر هو فطورا
وانفطر انفطارا قال : ( هَلْ تَرى مِنْ
فُطُورٍ ) أي اختلال ووهي فيه ، وذلك قد يكون على سبيل الفساد ،
وقد يكون على سبيل الصلاح قال : السماء منفطر به كان وعده مفعولا.
وفطرت الشاة
حلبتها بإصبعين ، وفطرت العجين إذا عجنته فخبزته من وقته ، ومنه
الفطرة ، وفطر الله الخلق وهو إيجاده الشيء وإبداعه على هيئة مترشحة لفعل
من الأفعال فقوله : ( فِطْرَتَ اللهِ
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) إشارة منه تعالى إلى ما فطر أي أبدع وركز في الناس من
معرفته تعالى ، وفطرة الله هي ما ركز فيه من قوته على معرفة الإيمان وهو المشار
إليه بقوله : ( وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) ، انتهى. وذكر أيضا : أن الحنف هو ميل عن الضلال إلى الاستقامة والجنف ميل عن الاستقامة إلى الضلال قال : وسمت العرب كل من حج
أو اختتن حنيفا تنبيها على أنه على دين إبراهيم عليهالسلام والأحنف من في رجله ميل ، قيل : سمي بذلك على التفاؤل وقيل : بل
أستعير للميل المجرد ، انتهى.
لما تبرأ عليهالسلام من شركهم وشركائهم بقوله : « يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ » إلخ ، وقد سلك إليه تدريجا بإظهار عدم تعلق قلبه
بالشريك حيث قال : «
لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ » ثم الإيماء إلى كون عبادة الشريك ضلالا حيث قال : « لَئِنْ لَمْ
يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ » ثم التبري الصريح من ذلك بقوله : « يا قَوْمِ إِنِّي
بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ » رجع إلى توحيده التام في الربوبية ، وهو إثبات الربوبية والمعبودية للذي
فطر السماوات والأرض ، ونفي الشرك عن نفسه فقال : « إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً ».
فتوجيه الوجه
كناية عن الإقبال إلى الله سبحانه بالعبادة فإن لازم العبودية والمربوبية أن يتعلق
العبد المربوب بربه في قوته وإرادته ، ويدعوه ويرجع إليه في جميع أعماله ، ولا
يكون دعاء ولا رجوع إلا بتوجيه الوجه والإقبال إليه فكنى بتوجيه الوجه عن العبادة
التي هي دعاء ورجوع.
وذكر ربه وهو
الله سبحانه الذي وجه وجهه إليه ، بنعته الذي يخصه بلا نزاع فيه وهو فطر السماوات
والأرض ، وجاء بالموصول والصلة ليدل على العهد فلا يشتبه الأمر على أحد منهم فقال
: ( لِلَّذِي فَطَرَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) أي إني أقبلت بعبادتي على من ينتهي إليه إيجاد كل شيء
وإبداعه ، وهو الذي يثبته ويثبتونه فوق الجميع.
ثم نفى غيره
مما يدعونه شريكا بقوله : «
حَنِيفاً » أي مائلا
إليه عن غيره نافيا للشريك عنه ، وأكده بقوله : « وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ » فأفاد مجموع قوله : « إِنِّي وَجَّهْتُ » إلخ ، إثبات المعبودية لله تعالى ونفي الشريك عنه
قريبا مما تفيده الكلمة الطيبة : ( لا إِلهَ إِلَّا
اللهُ ).
واللام في قوله
: « لِلَّذِي » للغاية وتفيد معنى إلى ، وكثيرا ما تستعمل في الغاية
اللام كما تستعمل « إلى » قال : «
أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ » : ( البقرة : ١١ ) «
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ » : ( لقمان : ٢٢ ).
وفي تخصيص فطر
السماوات والأرض من بين صفاته تعالى الخاصة وكذا من بين الألفاظ الدالة على الخلقة
كالباري والخالق والبديع إشارة إلى ما يؤثره إبراهيم عليهالسلام من دين الفطرة وقد كرر توصيف هذا الدين في القرآن
الكريم بأنه دين إبراهيم الحنيف ودين الفطرة أي الدين الذي بنيت معارفه وشرائعه
على خلقة الإنسان ونوع وجوده الذي لا يقبل التبدل والتغير فإن الدين هو الطريقة
المسلوكة التي يقصد بها الوصول إلى السعادة الحقيقية والسعادة الحقيقية هي الغاية
المطلوبة التي يطلبها الشيء حسب تركب وجوده وتجهزه بوسائل الكمال طلبا خارجيا
واقعيا ، وحاشا أن يسعد الإنسان أو أي شيء آخر من الخليقة بأمر ولم يتهيأ بحسب
خلقته له أو هيئ لخلافه كأن يسعد بترك التغذي أو النكاح أو ترك المعاشرة والاجتماع
وقد جهز بخلافها ، أو يسعد بالطيران كالطير أو بالحياة في قعر البحار كالسمك ولم
يجهز بما يوافقه.
فالدين الحق هو
الذي يوافق بنواميسه الفطرة وحاشا ساحة الربوبية أن يهدي الإنسان أو أي مخلوق آخر
مكلف بالدين ـ إن كان ـ إلى غاية سعيدة مسعدة ولا يوافق الخلقة أو لم يجهز بما
يسلك به إليها فإنما الدين عند الله الإسلام وهو الخضوع لله بحسب ما يهدي إليه
ويدل عليه صنعه وإيجاده.
قوله
تعالى : « وَحاجَّهُ قَوْمُهُ
قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ ». قسم تعالى حججه ع إلى قسمين : أحدهما ما بدأ به هو
فحاج الناس ، وثانيهما ما بدأ به الناس فكلموه به بعد ما تبرأ من آلهتهم ، وهذا
الذي تعرض له في الآية وما بعده هو القسم الثاني.
لم يذكر تعالى
ما أوردوه عليه من الحجة لكنه لوح إليه بقوله حكاية عن إبراهيم عليهالسلام : «
وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ » فهو الاحتجاج لوجوب عبادة آلهتهم من جهة الخوف وقد
تقدم وسيجيء أن الذي بعثهم إلى اتخاذ الآلهة وعبادتها أحد أمرين : الخوف من سخطها
وقهرها بما لها من السلطة على حوادث العالم الأرضي ، أو رجاء البركة والسعادة
منها ، وأشد الأمرين تأثيرا في نفوسهم هو الأمر الأول أعني الخوف وذلك أن
الناس بحسب الطباع يرون ما بأيديهم من النعمة والسعادة المادية ملك أنفسهم إما
مرهون جهدهم في سلوك سبيل المعاش في اقتناء الأموال واكتساب المقام والجاه أو مما
ملكهم إياه الجد الرفيع أو البخت السعيد كمن ورث مالا من مورثه أو صادف كنزا
فتملكه أو ساد قومه برئاسة أبيه.
فطريق الرجاء
قليل التأثير في وجوب العبودية حتى أن المسلمين مع ما بأيديهم من التعليم الكامل
الإلهي يتأثرون من الوعد والبشارة أقل مما يتأثرون من الوعيد والإنذار ، ولذلك
بعينه نرى أن القرآن يذكر الإنذار من وظائف الأنبياء أكثر من ذكر التبشير ، وكلا
الأمرين من وظائفهم والطرق التي يستعملونها في الدعوة الدينية.
وبالجملة اختار
قوم إبراهيم عليهالسلام في محاجتهم إياه عند ما كلموه في أمر الآلهة سبيل الخوف
فأرهبوه من قهر الآلهة وسخطها ووعظوه بسلوك سبيلهم ولزوم طريقهم في التقرب بالآلهة
ورفض القول بربوبية الله سبحانه ، وإثباته في المقام الذي أثبتوه فيه وهو أنه الذي
ينتهي إليه الكل فحسب.
ولما وجد عليهالسلام كلامهم ينحل إلى جزءين : الردع عن القول بربوبية الله
سبحانه والتحريض على القول بربوبية آلهتهم احتج عليهم من الجهتين جميعا لكن لا غنى
للجهة الأولى عن الثانية كما سيجيء.
وما أورده في
الاحتجاج على حجاجهم في الله سبحانه هو قوله : « أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ » أي إني واقع في أمر مفروغ عنه ومهتد بهداية ربي حيث
آتاني العلم بما أراني من ملكوت السماوات والأرض وألهمني بذلك حجة أنفي بها ربوبية
غيره من الأصنام والكواكب ، وإني لا أستغني عن رب يدبر أمري فأنتج لي أنه هو الرب
وحده لا شريك له ، وإذ هداني إليه فأنا في غنى عن الإصغاء إلى حجتكم والبحث عن
الربوبية ثانيا فإن البحث إنما ينفع الطالب ولا طلب بعد الوصول إلى الغاية.
هذا ما يعطيه
ظاهر الآية بالتبادر إلى الذهن لكن هناك معنى أدق من ذلك يظهر بالتدبر وهو أن قوله
: « وَقَدْ
هَدانِ » استدلال بنفس
الهداية لا استغناء بالهداية عن
الاستدلال وتقريره أن الله هداني بما علمني من الحجة على نفي ربوبية ، غيره
وإثبات ربوبيته ونفس هدايته دليل على أنه رب ولا رب غيره فإن الهداية إلى الرب من
جملة التدبير فهي شأن من هو رب ، ولو لم يكن الله سبحانه هو ربي لم يكن ليهديني
ولأقام بها إلى الذي هو الرب لكن الله هو هداني فهو ربي.
ولم يكن لهم أن
يقولوا : إن الذي علمك ما علمت وألهمك الحجة هو بعض آلهتنا لأن الشيء لا يهدي إلى
ما يضره ويميت ذكره ويفسد أمره فاهتداؤه عليهالسلام إلى نفي ربوبيتها لا يصح أن ينسب إليها ، هذا.
ولكن كان لهم
أن يقولوا أو أنهم قالوا : إن ذلك من فعل بعض آلهتنا فعل بك ذلك قهرا وسخطا أبعدك
عن القول بربوبيتها ولقنك هذه الحجج لما وجد من فساد رأيك وعلة نفسك نظير ما شافهت
به عاد هودا عليهالسلام لما دعاهم إلى توحيد الله سبحانه واحتج عليهم بأن الله
هو الذي يجب أن يرجى ويخاف ، وأن آلهتهم لا تنفع ولا تضر فردوا عليه بأن بعض
آلهتنا اعتراك بسوء قال تعالى في قصتهم حكاية عن هود عليهالسلام : « وَيا
قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ
عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا
مُجْرِمِينَ ، قالُوا يا هُودُ ـ إلى أن قال ـ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ
آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا
تُشْرِكُونَ ، مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ » : ( هود : ٥٥ ).
فقوله عليهالسلام : «
وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ » إلخ ، ينفي هذه الشبهة وكما أنه ينفي هذه الشبهة فإنه
حجة تامة تنفي ربوبية شركائهم.
ومحصله : أنكم
تدعونني إلى القول بربوبية شركائكم ورفض القول بربوبية ربي بما تخافونني من أن
تمسني شركاؤكم بسوء ، وترهبونني بإلقاء الشبهة فيما اهتديت به ، وإني لا أخاف ما
تشركون به لأنها جميعا مخلوقات مدبرة لا تملك نفعا ولا ضرا وإذ لم أخفها سقطت
حجتكم وارتفعت شبهتكم.
ولو كنت خفتها
لم يكن الخوف الحاصل في نفسي من صنع شركائكم لأنها لا تقدر على شيء بل كان من صنع
ربي وكان هو الذي شاء أن أخاف شركاءكم فخفتها فكان هذا الخوف دليلا آخر على
ربوبيته وآية أخرى من آيات توحيده يوجب إخلاص العبادة له
لا دليلا على ربوبية شركائكم وحجة توجب عبادتها.
والدليل على أن
ذلك من ربي أنه وسع كل شيء علما فهو يعلم كل ما يحدث ويجري من خير وشر في مملكته
التي أوجدها لغايات صحيحة متقنة ، وكيف يمكن أن يعلم في ملكه بشيء ينفع أو يضر
فيسكت ولا يستقبله بأحد أمرين : إما المنع أو الإذن.؟
فلو حصل في
نفسي شيء من الخوف لكان بمشية من الله وإذن على ما يليق بساحة قدسه ، وكان ذلك من
التدبير الدال على ربوبيته ونفي ربوبية غيره أفلا تتذكرون وترجعون إلى ما تدركونه
بعقولكم وتهدي إليه فطرتكم.
فهذا وجه في
تقرير الحجة المودعة في قوله : «
وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي
كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ » وعلى ذلك فقوله : « وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ » كالمتمم للحجة في قوله : « أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ » وهو مع ذلك حجة تامة في نفسه لإبطال ربوبية شركائهم
بعدم الخوف منها ، وقوله : «
إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً » كالكلام في الحجة على تقدير التسليم أي تحتجون على
وجوب عبادتها بالخوف ولا خوف في نفسي ، ولو فرض خوف لكان دليلا على ربوبية ربي لا
على ربوبية شركائكم فإنه عن مشية من ربي ، وقوله : « وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً » بيان وتعليل لكون الخوف المفروض مستندا إلى مشية ربه
فإن فاطر السماوات والأرض لا يجهل ما يقع في ملكه فلا يقع إلا بإذن منه فهو الذي
يدبر أمره ويقوم بربوبيته ، وقوله : « أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ » استفهام توبيخي وإشارة إلى أن الحجة فطرية ، هذا.
وللمفسرين في
الآية أقوال :
أما قوله تعالى
: « قالَ أَتُحاجُّونِّي
فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ » فقد أورد أكثرهم فيه الوجه الأول من الوجهين اللذين قدمناهما ، ومحصله
أنه يرد اعتراضهم على توحيده بأنه غني عن المحاجة في ذلك فإن الله هداه ولا حاجة
معها إلى المحاجة لكن ظاهر السياق أنه في مقام المحاجة ولازمه أن كلامه احتجاج
للتوحيد الاستغناء عن الاحتجاج.
وأما قوله
تعالى : « لا أَخافُ
ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً » فقد ذكروا في الصدر قريبا مما قدمناه ، وأما الاستثناء
فقيل : معناه إلا أن يغلب ربي هذه الأصنام التي تخوفونني بها فيحييها ويقدرها فتضر
وتنفع فيكون ضررها ونفعها إذ ذاك دليلا
على حدوثها وعلى توحيد الله سبحانه ، وبعبارة أخرى : المعنى أني لا أخافها
في حال من الحالات إلا أن يشاء ربي أن تحيا هؤلاء الشركاء فتضر وتنفع فأخافها وإذ
ذاك كانت الربوبية لله وتبين حدوث شركائكم.
وهذا الوجه وإن
كان قريبا مما قدمناه بوجه لكن نسبة النفع والضر إلى الشركاء لو كانت أحياء ـ مع
أن بعضها أحياء عندهم كالملائكة وأرباب الأنواع وبعضها يضر وينفع بحسب ظاهر النسبة
كالشمس ـ تخالف التعليم الإلهي في كتابه فإن القرآن يصرح أن لا يملك نفعا ولا ضررا
إلا الله سبحانه.
وكذلك ما ذكر
من دلالة ذلك على حدوث شركائهم أمر لا يضر أهل الأوثان فإنهم كما عرفت لا ينكرون
كون الأصنام ولا أربابها معلولة لله مخلوقة له ، والقول بالقدم الزماني في بعضها
لا ينافي إمكانها ولا معلوليتها عندهم.
وقيل : إن معنى
الاستثناء أني لا أخاف شركاءكم وأستثني من عموم الخوف في الأوقات أن يشاء ربي أن
يعذبني ببعض ذنوبي أو يصيبني بمكروه ابتداء ، وبعبارة أخرى الجملة استثناء من معنى
أعم مما يدل عليه الجملة السابقة فقد دل قوله : « وَلا أَخافُ » إلخ ، على نفي الخوف من شركائهم ، وقوله : « إِلَّا أَنْ يَشاءَ » إلخ ، استثناء من كل خوف فالتقدير : لا أخاف ما تشركون
به ولا شيئا آخر إلا من أن يشاء ربي شيئا أكرهه ابتداء أو جزاء فإني أخافه ، ووجه
التعسف في هذا المعنى لا يحتاج إلى بيان.
وأما قوله : « وَسِعَ رَبِّي كُلَّ
شَيْءٍ عِلْماً » فقد قيل. إنه ثناء منه عليهالسلام لربه بعد إتمام الحجة.
وقيل : إنه
تعريض بأصنامهم حيث إنها لا تعلم شيئا ولا تشعر ، ويرد عليه أن التعريض بمثل
القدرة أقرب إلى اقتضاء المقام من التعريض بالعلم فما وجه العدول عن القدرة إلى
العلم؟ والإشكال جار في الوجه السابق.
وقيل : إنه لما
استثنى ما يشاؤه ربه مما يقع عليه من المكاره بين بقوله : « وَسِعَ رَبِّي كُلَّ
شَيْءٍ عِلْماً » أنه تعالى علام الغيوب فلا يفعل إلا الصلاح والخير والحكمة. وفيه أن
الأنسب حينئذ أن يذكر الحكمة مكان العلم ولا أقل من أن يذكر الحكمة مع العلم كما في
أغلب الموارد.
وقيل : إنه
كالتعليل للاستثناء بجواز أن يكون قد سبق في علمه تعالى أصابته بسوء تكون سببه
الأصنام كأن يشاء أن يسقط صنم عليه فيشجه أو تؤثر فيه حرارة الشمس فتمرضه أو تقتله
، وفيه أن التمسك بالقدرة أو الحكمة أنسب للتعليل من العلم.
وقيل : معناه أن
علم ربي وسع كل شيء وأحاط به ومشيئته مرتبطة بعلمه المحيط القديم وقدرته منفذة
لمشيئته فلا يمكن أن يكون لشيء من المخلوقات التي تعبدونها ولا لغيرها تأثير ما في
صفاته ، ولا في أفعاله الصادرة عنها لا بشفاعة ولا غيرها وإنما يكون ذلك لو كان
علم الله تعالى غير محيط بكل شيء فيعلمه الشفعاء والوسطاء من وجوه مرجحات الفعل أو
الترك بالشفاعة أو غيرها ما لم يكن يعلم فيكون ذلك هو الحامل له على الضر أو النفع
أو العطاء أو المنع.
قال هذا القائل
: أخذنا هذا المعنى لهذه الجملة من حجج الله تعالى على نفي الشفاعة الشركية بمثل
قوله : « مَنْ ذَا
الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما
خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ ». قال : وهذا أرجح الوجوه ، وهو من قبيل تفسير القرآن
بالقرآن ، انتهى ملخصا.
ومحصله أن قوله
: « وَسِعَ رَبِّي كُلَّ
شَيْءٍ عِلْماً » بيان وتعليل لعموم نفي الخوف من الآلهة وغيرها كأنه قال : لا أخاف ضر شيء
من آلهتكم وغيرها من المخلوقات فإن ربي يعلم كل شيء فيتمه بمشيئته وينفذه بقدرته
فلا يحتاج إلى شفيع يعلمه ما جهل حتى يكون لها تأثير في أفعاله تعالى وشفاعة.
وأنت تعلم أن
نفي هذا التأثير كما يحتاج إلى سعة علمه تعالى كذلك يحتاج إلى إطلاق القدرة
والمشيئة ـ والمشيئة مع ذلك صفة فعل لا ذات كما يفرضه القائل ـ فما ذا تنفع سعة
العلم لو لم يكن لقدرته ومشيئته إطلاق ، والشاهد عليه نفس كلامه الذي قرر فيه
الوجه بالعلم والمشيئة والقدرة جميعا.
وبالجملة هذا
الوجه لا يتم بسعة العلم وحدها وإنما يتم بها وبإطلاق القدرة والمشيئة ، وقد ذكرت
في الآية سعة العلم وحدها.
وأما ما ذكره
من دلالة آيات الشفاعة على ذلك فالآيات المذكورة مسوقة لإثبات الشفاعة بمعنى
التوسط في السببية بإذن من الله سبحانه لا أنها تنفيها كما خيل إليه فزعم أنه
يفسر القرآن ، بالقرآن وكيف لا؟ والطمع في ارتفاع الأسباب عن العالم
المشهود طمع فيما لا مطمع فيه ، والقرآن الكريم من أوله إلى آخره يتكلم عن السببية
ويبني على أصل العلية والمعلولية العام ، وقد تقدم الكلام في هذه المعاني كرارا في
الأجزاء السابقة من الكتاب.
قوله
تعالى : « وَكَيْفَ أَخافُ ما
أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ
بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً » إلخ ، ثم كر عليهالسلام عليهم بحجة أخرى تثبت المناقضة بين قولهم وفعلهم وبعبارة
أخرى : حالهم يكذب مقالهم ومحصله أنكم تأمرونني أن أخاف ما لا يجب أن يخاف منه ،
وأنتم أنفسكم لا تخافون من يجب أن يخاف منه فأنا أولى بالأمن منكم إن عصيتكم ولم
آتمر بأمركم.
أما كون ما
تأمرونني بخوفه لا يجب أن يخاف منه فلأن الأصنام وأربابها لا دليل على كونها
مستقلة بالضر والنفع حتى توجب الخوف منها ، وأما كونكم لا تخافون من يجب أن يخاف
منه فإنكم أنفسكم أثبتم لله سبحانه شركاء في الربوبية ولم ينزل الله في ذلك عليكم
برهانا يمكن أن يعتمد عليه فإن الصنع والإيجاد لله سبحانه فله الملك وله الحكم فلو
كان اتخذ بعض مخلوقاته شريكا لنفسه يوجب لنا بذلك عبادة شريكه كان إليه لا إلى
غيره أن يبين لنا ذلك ويكشف عن وجه الحقيقة فيه ، والطريق فيه أن يقارنه بعلائم
وآيات تدل على أن له شركة في كذا وكذا ، وذلك إما وحي أو برهان يتكئ على آثار
خارجية ، وشيء من ذلك غير موجود.
وعلى هذا التقرير
فقوله تعالى : « ما
أَشْرَكْتُمْ » مقيد بحسب ما يستفاد من المقام بما قيد به قوله : « أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ
ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً » وإنما ذكر هذا القيد عند ذكر عدم خوفهم من شركهم لأن
الحجة إلى ذكره هناك أحوج وهو ظاهر. وقوله : « فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ » من تتمة الحجة ، والمجموع برهان على مناقضتهم أنفسهم في دعوته عليهالسلام إلى أن يخاف آلهتهم فإنهم يأمرونه بالخوف فيما لا يجب
وهم أنفسهم لا يخافون فيما يجب.
وبالبيان
السابق يظهر أن وصف شركائهم بأن الله لم ينزل بها عليهم سلطانا افتراض استدعاه نوع
الحجة التي وضعت في الكلام لا مفهوم له يثبت إمكان أن يأمر الله باتخاذ الشركاء
آلهة يعبدون فهو بمنزلة قولنا : لا دليل لكم على ما ادعيتم ، في جواب من يخوفنا
من موضوع خرافي يدعي أنه ربما ينفع ويضر ، ولنا أن نبدل قولنا ذلك لو أردنا
التكلم بلسان التوحيد بقولنا : ما أنزل الله على ذلك دليلا ، والكلام بحسب التحليل
المنطقي يئول إلى قياس استثنائي استثني فيها نقيض المقدم في الشرطية لإنتاج نقيض
التالي نحوا من قولنا :
لو كان الله
نزل بها عليكم سلطانا يدل على قدرتهم على الضر لكان اتخاذكم الشركاء خوفا منها في
محله لكنه لم ينزل سلطانا فليس اتخاذكم الشركاء في محله ، ومن المعلوم أن لا مفهوم
في هذا القياس فلا حاجة إلى القول بأن التقييد بقوله : « لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
عَلَيْكُمْ سُلْطاناً » للتهكم ، أو للإشارة إلى أن هذا وصف لازم لشركائهم على حد قوله تعالى : «
وَمَنْ
يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ » ( المؤمنون : ١١٧ ) إلى غير ذلك من التحملات.
والباء في قوله
: « ( لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ ) » للمعية أو السببية وقد كنى عليهالسلام عنهم وعن نفسه بالفريقين ولم يقل : أنا وأنتم أو ما
يشابه ذلك ليكون أبعد من تحريك الحمية وتهييج العصبية كما قيل ، وليدل على تفرقهما
وشقاق بينهما من جهة الاختلاف في أصل الأصول وأم المعارف الحقيقية بحيث لا يأتلفان
بعد ذلك في شيء.
قوله
تعالى : « الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ
مُهْتَدُونَ » سألهم في الآية السابقة في ضمن ما أقامه من الحجة عمن هو أحق بالأمن حيث
قال : « فَأَيُّ
الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ » ثم أجابهم عما سألهم لكون الجواب واضحا لا يختلف فيه
الفريقان المتخاصمان والجواب الذي هذا شأنه لا بأس بأن يبادر السائل إلى إيراده من
غير أن ينتظر المسئول فإن المسئول لا يخالف السائل في ذلك حتى يخاف منه الرد ، وقد
حكى الله تعالى اعترافهم بذلك في قصة كسر الأصنام : « قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ
إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ، فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ
أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما
هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ » : ( الأنبياء : ٦٥ ).
هذا ما يقتضيه
سياق الكلام أن تكون الآية من كلام إبراهيم عليهالسلام ومقولة لقوله ، وأما كونها من كلام قومه وجوابا محكيا
عنهم ، وكذا كونها من الله سبحانه من باب القضاء بين الطرفين المتخاصمين فمما لا
يساعد عليه السياق البتة.
وكيف كان
فالكلام متضمن تأكيدا قويا من جهة إسنادات متعددة في جمل اسمية وهي ما في قوله : « لَهُمُ الْأَمْنُ » جملة اسمية هي خبر لقوله : « أُولئِكَ » والمجموع جملة اسمية
هي خبر لقوله : «
الَّذِينَ آمَنُوا » إلخ ، والمجموع جملة اسمية ، وكذلك ما عطف على قوله : « لَهُمُ الْأَمْنُ » من قوله : « وَهُمْ مُهْتَدُونَ » فينتج أنه لا شك في اختصاص الذين آمنوا ولم يستروا
إيمانهم بظلم بالأمن والاهتداء ولا ريب.
ولا ريب أن
الآية تدل على أن خاصة الأمن والاهتداء من آثار الإيمان مشروطا بأن لا يلبس بظلم ،
واللبس الستر كما ذكر الراغب في المفردات ، : وأصل اللبس ـ بفتح
اللام ـ الستر ، فهو استعارة قصد فيها الإشارة إلى أن هذا الظلم لا يبطل أصل
الإيمان فإنه فطري لا يقبل البطلان من رأس ، وإنما يغطي عليه ويفسد أثره ولا يدعه
يؤثر أثره الصحيح.
والظلم وهو الخروج عن وسط العدل وإن كان في الآية نكرة واقعة
في سياق النفي ولازمه العموم وعدم اقتران الإيمان بشيء مما يصدق عليه الظلم على
الإطلاق لكن السياق حيث دل على كون الظلم مانعا من ظهور الإيمان وبروزه بآثاره
الحسنة المطلوبة كان ذلك قرينة على أن المراد بالظلم هو نوع الظلم الذي يؤثر أثرا
سيئا في الإيمان دون الظلم الذي لا أثر له فيه.
وذلك أن الظلم
وإن كان المظنون أن أول ما انتقل إليه الناس من معناه هو الظلم الاجتماعي وهو
التعدي إلى حق اجتماعي بسلب الأمن من نفس أحد من أفراد المجتمع أو عرضه أو ماله من
غير حق مسوغ لكن الناس توسعوا بعد ذلك فسموا كل مخالفة لقانون أو سنة جارية ظلما
بل كل ذنب ومعصية لخطاب مولوي ظلما من المذنب بالنسبة إلى نفسه بل المعصية لله
سبحانه لما له من حق الطاعة المشروع بل مخالفة التكليف ظلما وإن كان عن سهو أو
نسيان أو جهل وإن لم يبنوا على مؤاخذة هذا المخالف وعقابه على ما أتى به بل يعدون
من خالف النصيحة والأمر الإرشادي ولو اشتبه عليه الأمر وأخطأ في مخالفته من غير
تعمد ظالما لنفسه حتى أن من سامح في مراعاة الدساتير الصحية الطبية أو خالف شيئا
من العوامل المؤثرة في صحة مزاجه ولو من غير عمد عد ظالما لنفسه وإن كان ظلما من
غير شعور ، والملاك في جميع ذلك التوسع في معنى الظلم من جهة تحليله.
وبالجملة للظلم
عرض عريض ـ كما عرفت ـ لكن ما كل فرد من أفراده بمؤثر أثرا سيئا في الإيمان فإن
أصنافه التي لا تتضمن ذنبا ومعصية ولا مخالفة مولوية كما إذا كان صدوره عن سهو أو
نسيان أو جهل أو لم يشعر بوقوعه مثلا فتلك كلها مما لا يؤثر في
الإيمان الذي شأنه التقريب من السعادة والفلاح الحقيقي والفوز برضى الرب
سبحانه وهو ظاهر فتأثير الإيمان أثره لا يشترط بعدم شيء من ذلك.
فقوله : « الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ » معناه اشتراط الإيمان في إعطائه الأمن من كل ذنب
ومعصية يفسد أثره بعدم الظلم غير أن هاهنا دقيقة وهي أن الذنب الاختياري ـ كما
استوفينا البحث عنه في آخر الجزء السادس من الكتاب ـ أمر ذو مراتب مختلفة باختلاف
الأفهام فمن الظلم ما هو معصية اختيارية بالنسبة إلى قوم وليس بها عند آخرين.
فالواقف في منشعب طريقي الشرك والتوحيد مثلا وهو الذي يرى أن للعالم صانعا هو الذي
فطر أجزاءها وشق أرجاءها وأمسك أرضها وسماءها ، ويرى أنه نفسه وغيره مخلوقون
مربوبون مدبرون ، وأن الحياة الإنسانية الحقيقية إنما تسعد بالإيمان به والخضوع له
فالظلم اللائح لهذا الإنسان هو الشرك بالله والإيمان بغيره بالربوبية كالأصنام
والكواكب وغيرها على ما يثبته إبراهيم عليهالسلام بقوله : « وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا
تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ
سُلْطاناً » فالإيمان الذي يؤثر أثره بالنسبة إلى هذا الإنسان إنما يشترط في إعطائه
الأمن من الشقاء بأن لا يلبسه ظلم الشرك ومعصيته.
ومن طوى هذه
المرحلة فآمن بالله وحده فإنه يواجه من الظلم الكبائر من المعاصي كعقوق الوالدين
وأكل مال اليتيم وقتل النفس المحترمة والزنا وشرب الخمر فإيمانه في تأثيره آثاره
الحسنة يشترط باجتناب هذا النوع من الظلم ، وقد وعده الله أن يكفر عنه السيئات
والمعاصي الصغيرة إن اجتنب كبائر ما ينهى عنه ، قال تعالى : « إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ
مُدْخَلاً كَرِيماً » : ( النساء : ٣١ ) وفساد أثر هذا الإيمان هو الشقاء بعذاب هذه المعاصي
وإن لم يكن عذابا خالدا غير منقطع الآخر كعذاب الشرك بل منقطعا إما بحلول أجله
وإما بشفاعة ونحوها.
ومن تزود هذا
الزاد من التقوى وحصل شيئا من المعرفة بمقام ربه كان مسئولا بأصناف من الظلم تبدو
له بحسب درجة معرفته بربه كإتيان المكروهات وترك المستحبات والتوغل في المباحات ،
وفوق ذلك المعاصي في مستوى الأخلاق الكريمة والملكات الربانية ووراء ذلك الذنوب
التي تعترض سبيل الحب ، وتحف بساط القرب ، فالإيمان في كل من هذه المراتب إنما
يؤمن المتلبس به ويدفع عنه الشقاء إذا عري عن ملابسة الظلم المناسب لتلك المرتبة.
فلقوله تعالى :
« الَّذِينَ
آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ » إطلاق من حيث الظلم لكنه إطلاق يختلف باختلاف مراتب
الإيمان وإذ كان المقام مقام محاجة المشركين انطبق الظلم المنفي على ظلم الشرك
فحسب والأمن الذي يعطيه هذا الإيمان هو الأمن مما يخاف منه من الشقاء المؤبد
والعذاب المخلد ، والآية مع ذلك آية مستقلة من حيث البيان مع قطع النظر عن خصوصية
المورد تفيد أن الأمن والاهتداء إنما يترتب على الإيمان بشرط انتفاء جميع أنحاء
الظلم الذي يلبسه ويستر أثره بالمعنى الذي تقدم بيانه.
وأما الإيمان
المذكور في الآية ففيه إطلاق والمراد به الإيمان بالربوبية الصالح للتقيد بما
يصلحه أو يفسده ثم إذا قيد بقوله : « وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ » أفاد الإيمان بربوبية الله سبحانه ورفض غيره من
شركائهم فإن إبراهيم عليهالسلام ذكر فيما تحكي عنه الآية السابقة أن قولهم بربوبية
شركائهم وإيمانهم بها مع كونها من خلق الله قول بما لا دليل لهم عليه من جانب الله
ولا سلطان وأنهم بإيمانهم بشركائهم يتوقون شرا ويستأمنون شقاء ليس لها أن تدفعها
لأنها لا تضر ولا تنفع ، وأما هو عليهالسلام فقد خاف وآمن بمن هو فاطره وهو المتصرف بالهداية
والمدبر الذي له في كل أمر إرادة ومشية لسعة علمه ، ثم سألهم : أي الفريقين أحق
بالأمن والناجح بالإيمان بالرب ، ولكل من الفريقين إيمان بالرب ، وإن اختلفا من
جهة الرب ، والذي آمنوا به بين مؤمن برب على ربوبيته دليل ، ومؤمن برب لا دليل على
ربوبيته بل الدليل على خلافه.
ومن هنا يظهر
أن المراد بالإيمان في قوله : «
الَّذِينَ آمَنُوا » مطلق الإيمان بالربوبية ثم بتقيده بقوله : « وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ » يتعين في الإيمان بالله سبحانه الذي هو حق الإيمان
فافهم.
فقد اتضح بما
تقدم أولا : أن المراد بالإيمان هو الإيمان بالربوبية دون الإيمان بوجود صانع
العالم خلافا لمنكري وجوده.
وثانيا : أن
الظلم في الآية مطلق ما يضر الإيمان ويفسده من المعاصي ، وكذا المراد بالأمن مطلق
الأمن من شقاء المعاصي والذنوب ، وبالاهتداء مطلق التخلص من ضلالها وإن انطبق بحسب
المورد على معصية الشرك خاصة.
وثالثا : أن
إطلاق الظلم يختلف بحسب اختلاف مراتب الإيمان.
قال بعض
المفسرين في معنى عموم الظلم في الآية : إن الأمن في الآية مقصور على الذين آمنوا
ولم يلبسوا إيمانهم بظلم فإذا حمل العموم فيها على إطلاقه وعدم مراعاة موضوع
الإيمان يكون المعنى : الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بظلم ما لأنفسهم لا في
إيمانهم ولا في أعمالهم البدنية والنفسية من دينية أو دنيوية ولا لغيرهم من
المخلوقات من العقلاء والعجماوات أولئك لهم الأمن من عقاب الله تعالى الديني على
ارتكاب المعاصي والمنكرات ، وعقابه الدنيوي على عدم مراعاة سببه في ربط الأسباب
بالمسببات كالفقر والأسقام والأمراض دون غيرهم ممن ظلموا أنفسهم أو غيرهم فإن
الظالمين لا أمان لهم بل كل ظالم عرضة للعقاب وإن كان الله تعالى لسعة رحمته لا
يعاقب كل ظالم على كل ظلم بل يعفو عن كثير من ذنوب الدنيا ، ويعذب من يشاء ويغفر
لمن يشاء في الآخرة ما دون الشرك به.
قال : وهذا
المعنى في تفسير الآية صحيح في نفسه ، ويترتب عليه أن الأمن المطلق من الخوف من
عقاب الله الديني والدنيوي أو الشرعي والقدري جميعا لا يصح لأحد من المكلفين دع خوف
الهيبة والإجلال الذي يمتاز به أهل الكمال.
قال : وأما
معنى الآية على فرض عدم الإطلاق فهو أن الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بظلم عظيم
وهو الشرك بالله أولئك لهم الأمن دون غيرهم من العقاب الديني المتعلق بأصل الدين
وهو الخلود في دار العذاب وهم فيما دون ذلك بين الخوف والرجاء.
قال : وظاهر
الآية هو العموم واستدل عليه بفهم الصحابة على ما روي : أن الآية لما نزلت شق ذلك
على الناس ـ وقالوا : يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ فأخبرهم صلىاللهعليهوآله : أن المراد به الشرك ، وربما أشعر بذلك السياق وكون
الموضوع هو الإيمان ، انتهى ملخصا.
وفيه مواقع
للإشكال فأولا : أن ما استدل عليه من العموم بفهم الصحابة هو غير ما قرره من معنى
العموم فإن الذي فهموه من الظلم هو ما يساوي المعصية ، والذي قرره هو أعم من ذلك.
وثانيا : أن ما
قرره من عموم الظلم حتى بالنسبة إلى أفراد من الظلم ليست من المعصية في شيء ثم حكم
بصحة تفسير الآية به أجنبي عن مدلول الآية فإن الآية في مقام بيان أن الأمن
والاهتداء من آثار الإيمان ولكن بشرط أن لا يقارن ظلما يستره ويفسد أثره ، وهذا
الظلم إنما هو المعصية بوجه ، وأما ما لا يعد معصية كأكل الغذاء المضر بصحة
البدن خطاء فمن المعلوم أنه لا يفسد أثر الإيمان من الأمن والاهتداء ، وليس
المراد بالآية بيان آثار الظلم أيا ما كانت ولو مع قطع النظر عن الإيمان فإنه
تعالى قال : « الَّذِينَ
آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ » فجعل الإيمان هو الموضوع وقيده بعدم الظلم وجعل أثره
الأمن والاهتداء ، ولم يجعل الظلم هو الموضوع حتى تكون الآية مسرودة لبيان آثاره.
فالآية سيقت
لبيان الآثار التي تترتب على الإيمان الصحيح ، وأما الظلم بما له من العرض العريض
وما له من الأثر المترتب عليه فالآية غير متعرضة لذلك البتة ، فقوله : « وهذا المعنى
في تفسير الآية صحيح في نفسه » فاسد البتة.
وثالثا : أن
قوله : « ويترتب عليه أن الأمن المطلق لا يصح لأحد من المكلفين » صريح في أن الآية
لا مصداق لها بالنظر إلى الإطلاق الذي قرره ، ولازمه سقوط الكلام عن الفائدة ، وأي
فائدة في أن يوضع في الحجة قول لا مصداق له أصلا؟.
ورابعا : أن
الذي اختاره في معنى الآية أن المراد به هو الظلم الخاص وهو الشرك ليس بمستقيم فإن
الآية من جهة عموم لفظها وإن دلت على وجوب كون الإيمان غير مقارن للشرك حتى يؤثر
أثره لكن ذلك من باب انطباق اللفظ العام على مورده الخاص ، وأما إرادة المعنى
الخاص من اللفظ العام من غير قرينة حالية أو مقالية متصلة أو منفصلة فمما لا
ترتضيه صناعة البلاغة وهو ظاهر.
وأما ما أشار
إليه من قوله صلىاللهعليهوآله : « إنما هو الشرك » فليس بصريح في أن الشرك مراد لفظي
من الآية وإنما هو الانطباق ، وسيجيء البحث عن الحديث في البحث الروائي التالي إن
شاء الله تعالى.
قوله تعالى : « وَتِلْكَ حُجَّتُنا
آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ » إلخ ، في الإشارة بلفظ البعيد إلى الحجة تفخيم وتعظيم
لأمرها لكونها حجة قاطعة جارية على صراط الفطرة مأخوذة بمقدماتها منها.
وأما قوله : « نَرْفَعُ دَرَجاتٍ
مَنْ نَشاءُ » فالدرجات ـ كما قيل ـ هي مراقي السلم ثم توسع فيها فأطلق على
مراتب الكمال من المعنويات كالعلم والإيمان والكرامة والجاه
وغير ذلك فرفعه تعالى من يشاء من عباده درجات من الرفع هو تخصيصه بكمالات
معنوية وفضائل حقيقية في الخيرات الكسبية كالعلم والتقوى وغير الكسبية كالنبوة
والرسالة والرزق وغيرها.
والدرجات
لكونها نكرة في سياق الإيجاب مهملة غير مطلقة غير أن المتيقن من معناها بالنظر إلى
خصوص المورد هو درجات العلم والهداية فقد رفع الله إبراهيم عليهالسلام بهدايته وإراءته ملكوت السماوات والأرض وإيتائه اليقين
والحجة القاطعة ، والجميع من العلم ، وقد قال تعالى في درجات العلم : « يَرْفَعِ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ » : ( المجادلة : ١١ ).
ثم ختم الآية
بقوله : « إِنَّ
رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ » لتثبيت أن ذلك كله كان بحكمة منه تعالى وعلم كما أن الحجج التي آتاها
رسول الله صلىاللهعليهوآله المذكورة في السورة قبل هذه الحجة من حكمته وعلمه تعالى
، وفي الكلام التفات من التكلم إلى الغيبة لتطييب قلب النبي صلىاللهعليهوآله وتثبيت المعارف المذكورة فيه.
(
بحث روائي )
في العيون : ،
حدثنا نعيم بن عبد الله بن تميم القرشي رضي الله عنه قال : حدثنا أبي عن حمدان بن
سليمان النيشابوري عن علي بن محمد بن الجهم قال : حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليهالسلام ـ فقال له المأمون : يا بن رسول الله ـ أليس من قولك إن
الأنبياء معصومون؟ قال : بلى ، قال : فسأله عن آيات من القرآن فيه ـ فكان فيما
سأله أن قال له : فأخبرني عن قول الله عز وجل في إبراهيم : « فَلَمَّا جَنَّ
عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي ».
فقال الرضا عليهالسلام : إن إبراهيم وقع إلى ثلاثة أصناف : صنف يعبد الزهرة ،
وصنف يعبد القمر ، وصنف يعبد الشمس ـ وذلك حين خرج من السرب الذي أخفي فيه فلما جن
عليه الليل رأى الزهرة قال : ( هذا رَبِّي ) على الإنكار والاستخبار ـ فلما أفل الكوكب قال : ( لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ) ـ لأن الأفول من صفات المحدث لا من صفات القديم ـ فلما
رأى القمر بازغا قال : ( هذا رَبِّي ) على الإنكار والاستخبار فلما أفل قال : ( لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي
لَأَكُونَنَّ
مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ) ، فلما أصبح رأى الشمس بازغة قال : ( هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ ) من الزهرة والقمر ـ على الإنكار والاستخبار لا على
الإخبار والإقرار ـ فلما أفلت قال للأصناف الثلاثة ـ من عبدة الزهرة والقمر والشمس
: ( يا قَوْمِ إِنِّي
بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ).
وإنما أراد
إبراهيم بما قال أن يبين لهم بطلان دينهم ، ويثبت عندهم أن العبادة لا يحق ـ لما
كان بصفة الزهرة والقمر والشمس ، وإنما يحق العبادة لخالقها وخالق السماوات والأرض
، وكان ما احتج به على قومه ـ مما ألهمه الله عز وجل وآتاه كما قال عز وجل : ( وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ
عَلى قَوْمِهِ ). فقال المأمون : لله درك يا بن رسول الله.
أقول
: وتأييد
الرواية بمضمونها عدة من الأمور التي استفدناها من سياق الآيات الكريمة ظاهر ،
وسيأتي أيضا بعض ما يؤيدها من الروايات ، وأما ما في الرواية من كون قول إبراهيم عليهالسلام : «
هذا رَبِّي » واقعا على سبيل الإنكار والاستخبار دون الإخبار والإقرار فوجه من الوجوه
التي تقدمت في تفسير الآيات أورده عليهالسلام في قطع حجة المأمون ، ولا ينافي صحة غيره من الوجوه لو
كان هناك وجه كما سيأتي.
وكذا قوله : «
لأن الأفول من صفات المحدث » إلخ ، ليس بظاهر في أن الحجة مأخوذة من الأفول الحادث
كما ذكره بعضهم لجواز أن يكون الحجة مأخوذة من عدم الحب وملاكه كون الأفول من صفات
المحدث التي لا ينبغي أن يتعلق بها حب فافهم.
وفي كمال الدين
: ، أبي وابن الوليد معا عن سعد عن ابن بريد عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن
أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : كان أبو إبراهيم منجما لنمرود بن كنعان ، وكان
نمرود لا يصدر إلا عن رأيه ـ فنظر في النجوم ليلة من الليالي فأصبح فقال : لقد
رأيت في ليلتي هذه عجبا ـ فقال له نمرود : ما هو؟ فقال : رأيت مولودا يولد في
أرضنا هذه ـ يكون هلاكنا على يديه ، ولا يلبث إلا قليلا حتى يحمل به ـ فعجب من ذلك
نمرود وقال : هل حمل به النساء؟ فقال : لا ، وكان فيما أوتي من العلم أنه سيحرق
بالنار ، ولم يكن أوتي أن الله سينجيه.
قال : فحجب
النساء عن الرجال ـ فلم يترك امرأة إلا جعلت بالمدينة ـ حتى لا يخلص إليهن الرجال
، قال : وباشر أبو إبراهيم امرأته فحملت به ـ فظن أنه صاحبه فأرسل إلى
نساء من القوابل ـ لا يكون في البطن شيء إلا علمنا به ـ فنظرنا إلى أم
إبراهيم ـ فألزم الله تبارك وتعالى ذكره ما في الرحم الظهر ـ فقلن : ما نرى شيئا
في بطنها.
فلما وضعت أم
إبراهيم أراد أبوه ـ أن يذهب به إلى نمرود فقالت له امرأته : لا تذهب بابنك إلى
نمرود فيقتله ـ دعني أذهب به إلى بعض الغيران أجعله فيه ـ حتى يأتي عليه أجله ولا
تكون أنت تقتل ابنك ـ فقال لها : فاذهبي فذهبت به إلى غار ثم أرضعته ـ ثم جعلت على
باب الغار صخرة ثم انصرفت عنه ـ فجعل الله رزقه في إبهامه فجعل يمصها فيشرب لبنا ،
وجعل يشب في اليوم كما يشب غيره في الجمعة ، ويشب في الجمعة كما يشب غيره في الشهر
، ويشب في الشهر كما يشب غيره في السنة ـ فمكث ما شاء الله أن يمكث.
ثم إن أمه قالت
لأبيه : لو أذنت لي أن أذهب إلى ذلك الصبي فأراه فعلت ـ قال : ففعل فأتت الغار
فإذا هي بإبراهيم ـ وإذا عيناه تزهران كأنهما سراجان ـ فأخذته وضمته إلى صدرها
وأرضعته ـ ثم انصرفت عنه فسألها أبوه عن الصبي فقالت : قد واريته في التراب.
فمكثت تعتل
فتخرج في الحاجة ، وتذهب إلى إبراهيم ـ فتضمه إليها أصل لازم وترضعه ثم تنصرف ـ فلما
تحرك أتته أمه كما كانت تأتيه ، وصنعت كما كانت تصنع ـ فلما أرادت الانصراف أخذ
ثوبها ـ فقالت له : ما لك؟ فقال : اذهبي بي معك ـ فقالت له : حتى استأمر أباك ـ فلم
يزل إبراهيم في الغيبة مخفيا بشخصه كاتما لأمره ـ حتى ظهر فصدع بأمر الله تعالى
ذكره ، وأظهر الله قدرته فيه.
أقول
: وروي في قصص
الأنبياء ، عن الصدوق عن أبيه وابن الوليد ثم ساق السند إلى أبي بصير عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : كان آزر عم إبراهيم منجما لنمرود ـ وكان لا يصدر
إلا عن رأيه ـ قال : لقد رأيت في ليلتي عجبا قال : ما هو؟ قال : إن مولودا يولد في
أرضنا هذه ـ يكون هلاكنا على يديه ـ فحجب الرجال عن النساء ، وكان تارخ وقع على أم
إبراهيم فحملت ـ ثم ساق الحديث إلى آخره.
وقد حمل وحدة
السند في الحديثين ، ووحدة المضمون إلا في أبي إبراهيم صاحب
__________________
البحار أن قال : الظاهر أن ما رواه الراوندي هو هذا الخبر بعينه ، وإنما
غيره ليستقيم على أصول الإمامية ، انتهى. ثم حمل الرواية وما في مضمونها من
الروايات الدالة على أن آزر الوثني كان والدا لإبراهيم صلبيا على التقية.
وقد روى مثل
المضمون السابق القمي في تفسيره ، والعياشي في تفسيره ، وروي من طرق أهل السنة عن
مجاهد ، ورواه الطبري في تاريخه والثعلبي في قصص الأنبياء ، عن عامة السلف وأهل
العلم.
وكيف كان فالذي
ينبغي أن يقال : إن علماء الحديث والآثار كأنهم مجمعون على أن إبراهيم عليهالسلام كان في بادي عمره قد أخفي في سرب خوفا من أن يقتله
الملك نمرود ، ثم خرج عنه بعد حين فحاج أباه وقومه في أمر الأصنام والكوكب والقمر
والشمس وحاج الملك في دعواه الربوبية ، وقد تقدم أن سياق آيات القصة يؤيد هذا
المعنى.
وأما أبو
إبراهيم فقد ذكر أهل التاريخ أن اسمه تارخ ـ بالحاء المهملة أو المعجمة ـ وآزر إما
لقبه أو اسم صنم أو وصف ذم أو مدح بحسب لغتهم بمعنى المعتضد أو الأعرج وصفه به
إبراهيم.
وذكروا أن هذا
المشرك الذي سماه القرآن أبا إبراهيم وذكر محاجته إياه كان هو تارخ أباه الصلبي
ووالده الحقيقي ووافقهم على ذلك عدة من علماء الحديث والكلام من أهل السنة ،
وخالفهم جمع منهم ، والشيعة كالمجمع على ذلك أو هم مجمعون إلا ما يتراءى من بعض
المحدثين حيث أودعوا تلك الأخبار كتبهم ، وعمدة ما احتج به القائلون بأن آزر
المشرك لم يكن والد إبراهيم ، وإنما كان عمه أو جده لأمه الأخبار الواردة من طرق
الفريقين في أن آباء النبي صلىاللهعليهوآله كانوا موحدين جميعا لم يكن فيهم مشرك ، وقد طالت
المشاجرة بين الفريقين.
أقول
: من البحث على
هذا النمط كيفما تم خارج عن البحث التفسيري وإن كان الباحثون من الفريقين في حاجة
إلى إيراده واستنتاج حق ما ينتجه لكنا في غنى عن ذلك فقد تقدم أن الآيات دالة على
أن آزر المشرك الذي يذكره الله تعالى في هذه الآيات من سورة الأنعام لم يكن والدا
حقيقيا لإبراهيم عليهالسلام.
فالروايات
الدالة على كون آزر أباه الحقيقي على ما فيها من الاختلاف في سرد القصة روايات
مخالفة للكتاب لا يعبأ بها ، ولا حاجة مع ذلك إلى حملها على التقية إن صح الحمل مع
هذا الاختلاف بين القوم.
وفي تفسير
القمي ، : في قوله تعالى : ( وَكَذلِكَ نُرِي
إِبْراهِيمَ ) الآية ـ قال : حدثني أبي عن إسماعيل بن مرار ـ عن يونس
بن عبد الرحمن عن هشام ـ عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : كشط له عن الأرض ومن عليها ، وعن السماء ومن
عليها ، والملك الذي يحملها ، والعرش ومن عليه ، وفعل ذلك برسوله صلىاللهعليهوآله وأمير المؤمنين عليهالسلام.
أقول : وروى
مثله في بصائر الدرجات بطريقين عن عبد الله بن مسكان وأبي بصير عن الصادق عليهالسلام وبطريق عن عبد الرحيم عن الباقر عليهالسلام ورواه العياشي عن زرارة وأبي بصير عن الصادق عليهالسلام وعن زرارة وعبد الرحيم القصير عن الباقر عليهالسلام ورواه في الدر المنثور ، عن ابن عباس ومجاهد والسدي من
مفسري السلف ، وسيأتي في الكلام على العرش
حديث علي عليهالسلام المروي في الكافي في معنى العرش وفيه قال : والذين
يحملون العرش ومن حوله ـ هم العلماء الذين حملهم الله علمه ـ قال : وهو الملكوت
الذي أراه الله أصفياءه ، وأراه خليله عليهالسلام فقال : ( وَكَذلِكَ نُرِي
إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ـ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الحديث.
وفي الحديث
تفسير سائر الأخبار الواردة في تفسير إراءة الملكوت وتأييد لما قدمناه في البيان
السابق ، وسيوافيك الشرح المستوفى لهذا الحديث في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.
وفي تفسير
العياشي ، عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : لما رأى ملكوت السماوات والأرض ـ التفت فرأى رجلا
يزني فدعا عليه فمات ـ ثم رأى آخر فدعا عليه فمات ـ حتى رأى ثلاثة فدعا عليهم
فماتوا ـ فأوحى الله إليه أن يا إبراهيم : إن دعوتك مجابة فلا تدع على عبادي ـ فإني
لو شئت لم أخلقهم ـ إني خلقت خلقي على ثلاثة أصناف : عبد يعبدني ولا يشرك بي شيئا
، وعبد يعبد غيري فلن يفوتني ، وعبد يعبد غيري فأخرج من صلبه من يعبدني :
أقول
: والرواية
مستفيضة ورواه في الكافي مسندا عن أبي بصير عنه عليهالسلام ورواه الصدوق في العلل عنه عليهالسلام والطبرسي في الاحتجاج عن العسكري عليهالسلام ورواه في الدر المنثور ، عن ابن مردويه عن علي عن النبي
صلىاللهعليهوآله ، وعن أبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طريق
شهر بن حوشب عن معاذ بن جبل عن النبي صلىاللهعليهوآله وعن عدة من المفسرين موقوفا.
وفي تفسير
العياشي ، عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهماالسلام قال : في إبراهيم إذ رأى كوكبا قال : إنما كان طالبا
لربه ولم يبلغ كفرا ، وأنه من فكر من الناس في مثل ذلك فإنه بمنزلته.
وفي تفسير
القمي ، قال : وسئل أبو عبد الله عليهالسلام عن قول إبراهيم : « هذا رَبِّي » هل أشرك في قوله : ( هذا رَبِّي )؟ فقال : من قال هذا اليوم فهو مشرك ، ولم يكن من
إبراهيم شرك ، وإنما كان في طلب ربه ـ وهو من غيره شرك.
أقول
: ويقابل الذي
هو طالب من تم له البيان وقامت له الحجة الواضحة فهو غير طالب ، وليس لغير الطالب
أن يفترض ما فيه شرك.
وفي تفسير
العياشي ، عن حجر قال : أرسل العلاء بن سيابة يسأل أبا عبد الله عليهالسلام ـ عن قول إبراهيم : « هذا رَبِّي » وأنه من قال هذا اليوم فهو عندنا مشرك ، قال : لم يكن
من إبراهيم شرك إنما كان في طلب ربه ، وهو من غيره شرك.
وفيه ، عن محمد
بن حمران قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن قول الله ـ فيما أخبر عن إبراهيم : « هذا رَبِّي » قال : لم يبلغ به شيئا ، أراد غير الذي قال.
أقول
: المراد به
ظاهرا أنه أراد به أن قوله : «
هذا رَبِّي » لا يتعدى مفهوم نفسه وليس له وراء ذلك معنى يحكي عنه أي أنه قاله على
سبيل الافتراض أو تسليم المدعى لبيان فساده بفساد لوازمه كما تقدمت الإشارة إليه.
في الدر
المنثور ، في قوله تعالى : ( الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) الآية ، أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني في الأفراد وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد
الله بن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية : « الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا
إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ » شق ذلك على الناس فقالوا : يا رسول الله وأينا لا يظلم نفسه؟
قال : إنه ليس
الذي تعنون ـ ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح : « إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ »؟ إنما هو الشرك.
أقول
: المراد بالعبد
الصالح لقمان على ما حكاه الله تعالى من قوله في سورة لقمان. وفي الحديث دلالة على
أن سورة الأنعام نزلت بعد سورة لقمان ، وقد تقدم أن كون المراد هو الشرك إنما هو
الانطباق بحسب المورد والشرك ذنب لا تتعلق به مغفرة أصلا بخلاف غيره كائنا ما كان
، والدليل على ما ذكرنا ما يأتي من الروايات.
وفيه ، أخرج
أحمد والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن جرير بن عبد
الله قال : خرجنا مع رسول الله صلىاللهعليهوآله فلما برزنا من المدينة ـ إذا راكب يوضع نحونا فانتهى
إلينا فسلم ـ فقال له النبي صلىاللهعليهوآله : من أين أقبلت؟ فقال : من أهلي وولدي وعشيرتي أريد
رسول الله. قال : قد أصبته قال : علمني ما الإيمان؟ قال : تشهد أن لا إله إلا الله
وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ـ قال :
قد أقررت.
ثم إن بعيره
دخلت يده في شبكة جردان فهوى ـ ووقع الرجل على هامته فمات ـ فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ هذا من الذين عملوا قليلا وأجروا كثيرا ، هذا من
الذين قال الله : «
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ـ أُولئِكَ لَهُمُ
الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ » إني رأيت الحور العين يدخلن في فيه من ثمار الجنة ـ فعلمت
أن الرجل مات جائعا :
أقول
: ورواه أيضا عن
الحكيم الترمذي وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه ، ورواه العياشي في تفسيره عن جابر
الجعفي عمن حدثه عن النبي صلىاللهعليهوآله : مثله.
وفيه ، أخرج
عبد بن حميد عن إبراهيم التيمي : أن رجلا سأل عنها النبي صلىاللهعليهوآله ـ فسكت حتى جاء رجل فأسلم ـ فلم يلبث إلا قليلا حتى
قاتل فاستشهد ـ فقال النبي صلىاللهعليهوآله ـ هذا منهم من الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم.
وفيه ، أخرج
الفاريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن
علي بن أبي طالب : في قوله : «
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ » قال : نزلت هذه الآية في إبراهيم وأصحابه خاصة ـ ليس
في هذه الأمة.
أقول
: والرواية لا
توافق بظاهرها الأصول الكلية المستخرجة من الكتاب والسنة
فإن الآية لا تشتمل بمضمونها على حكم خاص تختص به أمة دون أمة كالأحكام
الفرعية التشريعية التي ربما تختص بزمان دون زمان ، وأما الإيمان بما له من الأثر
على مراتبه ، وكذا الظلم على مراتبه بما لها من سوء الأثر في الإيمان فإنما ذلك
أمر مودع في الفطرة الإنسانية لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمم.
وقال بعض
المفسرين في توجيه الحديث : لعل مراده أن الله خص إبراهيم وقومه بأمن موحدهم من
عذاب الآخرة مطلقا لا أمن الخلود فيه فقط ، ولعل سبب هذا ـ إن صح ـ أن الله تعالى
لم يكلف قوم إبراهيم شيئا غير التوحيد اكتفاء بتربية شرائعهم المدنية الشديدة لهم
في الأحوال الشخصية والأدبية وغيرها.
وقد عثر
الباحثون على شرائع حمورابي الملك الصالح الذي كان في عهد إبراهيم وباركه وأخذ منه
العشور ـ كما في سفر التكوين ـ فإذا هي كالتوراة في أكثر أحكامها وأما فرض الله
الحج على لسان إبراهيم فقد كان في قوم ولده إسماعيل لا في قومه الكلدانيين وأما
هذه الأمة فإن من موحديها من يعذبون بالمعاصي على قدرها لأنهم خوطبوا بشريعة كاملة
يحاسبون على إقامتها ، انتهى.
وفي كلامه من
التحكم ما لا يخفى فقد تقدم أن الملك حمورابي هذا كان يعيش على رأس سنة ألف
وسبعمائة قبل المسيح ، وإبراهيم كان يعيش على رأس الألفين قبل المسيح تقريبا كما
ذكره.
وحمورابي هذا
وإن كان ملكا صالحا في دينه عادلا في رعيته ملتزما العمل بقوانين وضعها وعمل
بإجرائها في مملكته أحسن إجراء وإنفاذ ، وهي أقدم القوانين المدنية الموضوعة على
ما قيل إلا أنه كان وثنيا ، وقد استمد بعده من آلهة الوثنيين في ما كتبه بعد
الفراغ عن كتابة شريعته على ما عثروا عليه في الآثار المكشوفة في خرائب بابل ،
والآلهة التي ذكرها في بيانه الموضوع في ختام القانون ، وشكرها في أن آتته الملك
العظيم ووفقته لبسط العدل ووضع الشريعة ، واستعان بها واستمد منها في حفظ شريعته
عن الزوال والتحريف هي « ميروداخ » إله الآلهة ، وأي إله القانون والعدل والإله «
زماما » والإله « إشتار » إله الحرب و « شاماش » الإله القاضي في السماء والأرض و
« سين » إله السماوات ، و « حاداد » إله الخصب و « نيرغال » إله النصر و « بل »
إله القدر والآلهة « بيلتيس » والآلهة « نينو »
والإله « ساجيلا » وغيرها.
والذي ذكره من
أن الله لم يكلف قوم إبراهيم شيئا غير التوحيد اكتفاء بتربية شرائعهم المدنية «
إلخ » يكذبه أن القرآن يحكي عن لسان إبراهيم عليهالسلام الصلاة كما في أدعيته في سورة إبراهيم ويذكر أن الله
أوحى إليه فعل الخيرات وإيتاء الزكاة كما في سورة الأنبياء ، وأنه شرع الحج وأباح
لحوم الأنعام كما في سورة الحج ، وكان من شريعته الاعتزال عن المشركين كما في سورة
الممتحنة ، وكان ينهى عن كل ظلم لا ترتضيه الفطرة كما في سورة الأنعام وغيرها ،
ومن شرعه التطهر كما تشير إليه سورة الحج ووردت الأخبار أنه عليهالسلام شرع الحنيفية وهي عشر خصال : خمس في الرأس وخمس في
البدن ومنها الختنة ، وكان يحيي بالسلام كما في سورة هود ومريم.
وقد قال الله
تعالى : « مِلَّةَ
أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ » : ( الحج : ٧٨ ) وقال : «
قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً » : ( البقرة : ١٣٥ ) فوصف هذا الدين على ما له من
الأصول والفروع بأنه ملة إبراهيم عليهالسلام ، وهذا وإن لم يدل على أن هذا الدين على ما فيه من
تفاصيل الأحكام كان مشرعا في زمن إبراهيم عليهالسلام بل الأمر بالعكس كما يدل عليه قوله : « شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا
بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى » ( الشورى : ١٣ ) إلا أنه يدل على أن شرائعه راجعة إلى
أصل أو أصول كلية تهدي إليها الفطرة مما ترتضيه وتأمر به أو لا ترتضيه وتنهى عنه
قال تعالى في آخر هذه السورة بعد ما ذكر حججا على الشرك وجملا من الأوامر والنواهي
الكلية مخاطبا نبيه صلىاللهعليهوآله : «
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، دِيناً قِيَماً مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » ( الأنعام : ١٦١ ).
ولو كان الأمر
على ما ذكره أن الله لم يشرع لإبراهيم عليهالسلام شريعة بل اكتفى بما بين يديه من القانون المدني الدائر
وهو شريعة حمورابي لكانت الشريعة المذكورة ممضاة مصوبة من عند الله ، وكانت من
أجزاء دين إبراهيم عليهالسلام بل الدين الإسلامي الذي شرع في القرآن لأنه هو ملة
إبراهيم حنيفا فكانت إحدى الشرائع الإلهية ونوعا من الكتب السماوية.
والحق الذي لا
مرية فيه أن الوحي الإلهي كان يعلم الأنبياء السالفين وأممهم
أصولا كلية في المعاش والمعاد كأنواع من العبادة وسننا كلية في الخيرات
والشرور يهتدي إلى تشخيصها الإنسان السليم العقل من المعاشرة الصالحة والتجنب عن
الظلم والإسراف وإعانة المستكبرين ونحوها ، ثم يؤمرون بالدخول في المجتمعات بهذا
التجهيز الذي جهزوا به ، والدعوة إلى أخذ الخير والصلاح ورفض الشر والفحشاء
والفساد سواء كانت المجتمعات التي دخلوا فيها يدبرها استبداد الظلمة والطغاة أو
رأفة العدول من السلاطين وسياستهم المنظمة.
ولم يشرع
تفاصيل الأحكام قبل ظهور الدين الإسلامي إلا في التوراة وفيها أحكام يشابه بعضها
بعض ما في شريعة حمورابي غير أن التوراة نزلها الله على موسى عليهالسلام وكانت محفوظة في بني إسرائيل فقدوها في فتنة بخت نصر
التي أفنت جمعهم وخربت هيكلهم ولم يبق منهم إلا شرذمة ساقتهم الإسارة إلى بابل
فاستعبدوا واسكنوا فيه إلى أن فتح الملك كورش بابل وأعتقهم من الأسر وأجاز لهم
الرجوع إلى بيت المقدس ، وأن يكتب لهم عزراء الكاهن التوراة بعد ما أعدمت نسخها
ونسيت متون معارفها ، وقد اعتادوا بقوانين بابل الجارية بين الكلدانيين.
ومع هذا الحال
كيف يحكم بأن الله أمضى في الشريعة الكليمية كثيرا من شرائع حمورابي ، والقرآن
إنما يصدق من هذه التوراة بعض ما فيها ، وبعد ذلك كله لا مانع من كون بعض القوانين
غير السماوية مشتملا على بعض المواد الصالحة والأحكام الحقة.
وفي الكافي ،
بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام : في قوله تعالى : « الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا
إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ » قال : هو الشرك.
وفيه ، بطريق
آخر عن أبي بصير عنه عليهالسلام : في الآية قال : بشك.
أقول
: ورواه العياشي
أيضا في تفسيره ، عن أبي بصير عنه (ع).
وفي تفسير
العياشي ، عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : سألت عن قول الله : ( الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) ، قال : نعوذ بالله يا با بصير أن نكون ممن لبس إيمانه
بظلم ، ثم قال : أولئك الخوارج وأصحابهم.
وفيه ، عن
يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله عليهالسلام : في قوله : ( وَلَمْ يَلْبِسُوا
إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) ، قال : الضلال وما فوقه.
أقول
: كأن المراد
بالضلال في الرواية الشرك الذي هو أصل كل بما ظلم فوقه وما يزيد عليه من المعاصي
والمظالم ، أو المراد بالضلال أدنى ما يتحقق به الظلم من المعاصي ، وبما فوقه
الشرك الذي هو المرتبة الشديدة من الضلال فإن كل معصية ضلال.
والروايات ـ كما
ترى ـ تتفنن في تفسير الظلم في الآية فتارة تفسرها بالشرك وتارة بالشك وتارة بما
عليه الخوارج ، وفي بعضها : أن منه ولاية أعدائهم ، وكل ذلك من شواهد ما قدمنا أن
الظلم في الآية مطلق وهو في إطلاقه ذو مراتب بحسب درجات الأفهام.
(
كلام في قصة إبراهيم عليهالسلام
وشخصيته )
وفيه أبحاث
مختلفة قرآنية وأخرى علمية وتاريخية وغير ذلك.
١
ـ قصة إبراهيم عليهالسلام في القرآن :
كان إبراهيم عليهالسلام في طفوليته إلى أوائل تمييزه يعيش في معزل من مجتمع
قومه ثم خرج إليهم ولحق بأبيه فوجده وقومه يعبدون الأصنام فلم يرتض منه ومنهم ذلك
وقد كانت فطرته طاهرة زاكية مؤيدة من الله سبحانه بالشهود الحق وإراءة ملكوت كل
شيء وبالجملة وبالقول الحق والعمل الصالح.
فأخذ يحاج أباه
في عبادته الأصنام ويدعوه إلى رفضها وتوحيد الله سبحانه واتباعه حتى يهديه إلى
مستقيم الصراط ويبعده من ولاية الشيطان ، ولم يزل يحاجه ويلح عليه حتى زبره وطرده
عن نفسه وأوعده أن يرجمه إن لم ينته عن ذكر آلهته بسوء والرغبة عنها.
فتلطف إبراهيم عليهالسلام إرفاقا به وحنانا عليه وقد كان ذا خلق كريم وقول مرضي
فسلم عليه ووعده أن يستغفر له ويعتزله وقومه وما يعبدون من دون الله ( مريم : ٤١ ،
٤٨ )
وقد كان من
جانب آخر يحاج القوم في أمر الأصنام ( الأنبياء : ٥١ ـ ٥٦ ، الشعراء : ٦٩ ـ ٧٧ ،
الصافات : ٨٣ ـ ٨٧ ) ويحاج أقواما آخرين منهم يعبدون الشمس والقمر والكوكب في
أمرها حتى ألزمهم الحق وشاع خبره في الانحراف عن الأصنام والآلهة ( الأنعام : ٧٤ ـ
٨٢ ) حتى خرج القوم ذات يوم إلى عبادة جامعة خارج البلد واعتل هو بالسقم فلم يخرج
معهم وتخلف عنهم فدخل بيت الأصنام فراغ على آلهتهم ضربا باليمين فجعلهم جذاذا إلا
كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون فلما تراجعوا وعلموا بما حدث بآلهتهم وفتشوا عمن ارتكب
ذلك قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم.
فأحضروه إلى
مجمعهم فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون فاستنطقوه فقالوا أأنت فعلت هذا
بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ، وقد كان
أبقى كبير الأصنام ولم يجده ووضع الفأس على عاتقه أو ما يقرب من ذلك ليشهد الحال
على أنه هو الذي كسر سائر الأصنام.
وإنما قال عليهالسلام ذلك وهو يعلم أنهم لا يصدقونه على ذلك وهم يعلمون أنه
جماد لا يقدر على ذلك لكنه قال ما قال ليعقبه بقوله : فاسألوهم إن كانوا ينطقون
حتى يعترفوا بصريح القول بأنهم جمادات لا حياة لهم ولا شعور ، ولذلك لما سمعوا
قوله رجعوا إلى أنفسهم فقالوا : إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت
ما هؤلاء ينطقون قال : أفتعبدون من دون الله ما لا يضركم ولا ينفعكم أف لكم ولما
تعبدون من دون الله أفلا تعقلون أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون.
قالوا حرقوه
وانصروا آلهتكم فبنوا له بنيانا وأسعروا فيه جحيما من النار وقد تشارك في أمره
الناس جميعا وألقوه في الجحيم فجعله الله بردا عليه وسلاما وأبطل كيدهم ( الأنبياء
: ٥٧ ـ ٧٠ ، الصافات : ٨٨ ـ ٩٨ ) وقد أدخل في خلال هذه الأحوال على الملك ، وكان
يعبده القوم ويتخذونه ربا فحاج إبراهيم في ربه فقال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت
فغالطه الملك وقال : أنا أحيي وأميت كقتل الأسير وإطلاقه فحاجه إبراهيم بأصرح ما
يقطع مغالطته فقال : إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي
كفر ( البقرة : ٢٥٨ ).
ثم لما أنجاه
الله من النار أخذ يدعو إلى الدين الحنيف دين التوحيد فآمن له شرذمة قليلة وقد سمى
الله تعالى منهم لوطا ومنهم زوجته التي هاجر بها وقد كان تزوج بها قبل الخروج من
الأرض إلى الأرض المقدسة .
ثم تبرأ هو عليهالسلام ومن معه من المؤمنين من قومهم وتبرأ هو من آزر الذي كان
__________________
يدعوه أبا ولم يكن بوالده الحقيقي وهاجر ومعه زوجته ولوط إلى الأرض المقدسة ليدعو الله
سبحانه من غير معارض يعارضه من قومه الجفاة الظالمين ( الممتحنة : ٤ الأنبياء : ٧١
) وبشره الله سبحانه هناك بإسماعيل وبإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب وقد شاخ وبلغه
كبر السن فولد له إسماعيل ثم ولد له إسحاق وبارك الله سبحانه فيه وفي ولديه
وأولادهما.
ثم إنه عليهالسلام بأمر من ربه ذهب إلى أرض مكة وهي واد غير ذي زرع فأسكن
فيه ولده إسماعيل وهو صبي ورجع إلى الأرض المقدسة فنشأ إسماعيل هناك واجتمع عليه
قوم من العرب القاطنين هناك وبنيت بذلك بلدة مكة.
وكان عليهالسلام ربما يزور إسماعيل في أرض مكة قبل بناء مكة والبيت وبعد
ذلك ( البقرة : ١٢٦ ، إبراهيم : ٣٥ ـ ٤١ ) ثم بنى بها الكعبة البيت الحرام بمشاركة
من إسماعيل وهي أول بيت وضع للناس من جانب الله مباركا وهدى للعالمين فيه آيات
بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ( البقرة : ١٢٧ ـ ١٢٩ ، آل عمران : ٩٦ ـ ٩٧
) وأذن في الناس بالحج وشرع نسك الحج ( الحج : ٢٦ : ٣٠ ).
ثم أمره الله
بذبح ولده إسماعيل عليهالسلام فخرج معه للنسك فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك
قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين
نودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا وفداه الله سبحانه بذبح عظيم ( الصافات : ١٠١ ـ
١٠٧ ).
وآخر ما قص
القرآن الكريم من قصصه عليهالسلام أدعيته في بعض أيام حضوره بمكة المنقولة في سورة
إبراهيم ( آية : ٣٥ ـ ٤١ ) وآخر ما ذكر فيها قوله عليهالسلام : «
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ ».
منزلة
إبراهيم عند الله سبحانه وموقفه العبودي : أثنى الله تعالى على إبراهيم عليهالسلام في كلامه أجمل ثناء وحمد محنته في جنبه أبلغ الحمد ،
وكرر ذكره باسمه في نيف وستين موضعا من كتابه وذكر من مواهبه ونعمه عليه شيئا
كثيرا. وهاك جملا من ذلك : آتاه الله رشده من قبل ( الأنبياء : ٥١ ) واصطفاه في
الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين (
البقرة : ١٣٠ ـ ١٣١ ) وهو الذي وجه وجهه إلى ربه
__________________
حنيفا وما كان من المشركين ( الأنعام : ٧٩ ) وهو الذي اطمأن قلبه بالله
وأيقن به بما أراه الله من ملكوت السماوات والأرض ( البقرة : ٢٦٠ ، الأنعام : ٧٥ ).
واتخذه الله
خليلا ( النساء : ١٢٥ ) وجعل رحمته وبركاته عليه وعلى أهل بيته ووصفه بالتوفية (
النجم : ٣٧ ) ومدحه بأنه حليم أواه منيب (هود : ٧٣ ـ ٧٥) ومدحه أنه كان أمة قانتا
لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتاه في
الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ( النحل : ١٢٠ ـ ١٢٢ ).
وكان صديقا
نبيا ( مريم : ٤١ ) وعده الله من عباده المؤمنين ومن المحسنين وسلم عليه ( الصافات
: ٨٣ ـ ١١١ ) وهو من الذين وصفهم بأنهم أولو الأيدي والأبصار وأنه أخلصهم بخالصة
ذكرى الدار ( ص : ٤٥ ـ ٤٦ ).
وقد جعله الله
للناس إماما ( البقرة : ١٢٤ ) وجعله أحد الخمسة أولي العزم الذين آتاهم الكتاب
والشريعة ( الأحزاب : ٧ ، الشورى : ١٣ ، الأعلى : ١٨ ـ ١٩ ) وآتاه الله العلم
والحكمة والكتاب والملك والهداية وجعلها كلمة باقية في عقبه ( النساء : ٥٤ ،
الأنعام : ٧٤ ـ ٩٠ ، الزخرف : ٢٨ ) وجعل في ذريته النبوة والكتاب ( الحديد : ٢٦ )
وجعل له لسان صدق في الآخرين ( الشعراء : ٨٤ ، مريم : ٥٠ ) فهذه جمل ما منحه الله
سبحانه من المناصب الإلهية ومقامات العبودية ولم يفصل القرآن الكريم في نعوت أحد
من الأنبياء والرسل المكرمين وكراماتهم ما فصل من نعوته وكراماته عليهالسلام.
وليراجع في
تفسير كل من مقاماته المذكورة إلى ما شرحناه في الموضع المختص به فيما تقدم أو
سنشرحه إن شاء الله تعالى فالاشتغال به هاهنا يخرجنا عن الغرض المعقود له هذه
الأبحاث.
وقد حفظ الله
سبحانه حياته الكريمة وشخصيته الدينية بما سمى هذا الدين القويم بالإسلام كما سماه
عليهالسلام ونسبه إليه قال تعالى : « مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ
سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ » : ( الحج : ٧٨ ) وقال : « قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ » : ( الأنعام : ١٦١ ).
وجعل الكعبة
البيت الحرام الذي بناها قبلة للعالمين وشرع مناسك الحج وهي في الحقيقة أعمال
ممثلة لقصة إسكانه ابنه وأم ولده وتضحية ابنه إسماعيل وما سعى به إلى ربه والتوجه
له وتحمل الأذى والمحنة في ذاته كما تقدمت الإشارة إليه في تفسير قوله تعالى : « وَإِذْ
جَعَلْنَا
الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ » : الآية ( البقرة : ١٢٥ ) في الجزء الأول من الكتاب.
٣
ـ أثره المبارك في المجتمع البشري : ومن مننه عليهالسلام السابغة أن دين التوحيد ينتهي إليه أينما كان وعند من
كان فإن الدين المنعوت بالتوحيد اليوم هو دين اليهود ، وينتهي إلى الكليم موسى بن
عمران عليهالسلام وينتهي نسبه إلى إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهالسلام ، ودين النصرانية وينتهي إلى المسيح عيسى بن مريم عليهالسلام وهو من ذرية إبراهيم عليهالسلام ، ودين الإسلام والصادع به هو محمد رسول الله صلىاللهعليهوآله وينتهي نسبه إلى إسماعيل الذبيح بن إبراهيم الخليل عليهالسلام ، فدين التوحيد في الدنيا أثره الطيب المبارك ، ويشاهد
في الإسلام من شرائعه الصلاة والزكاة والحج وإباحة لحوم الأنعام والتبري من أعداء
الله ، والسلام ، والطهارات العشر الحنيفية البيضاء خمس منها في الرأس
وخمس منها في البدن : أما التي في الرأس فأخذ الشارب وإعفاء اللحى وطم الشعر والسواك
والخلال وأما التي في البدن فحلق الشعر من البدن والختان وتقليم الأظفار والغسل من
الجنابة والطهور بالماء.
والبحث
المستوفى يؤيد أن السنن الصالحة من الاعتقاد والعمل في المجتمع البشري كائنة ما
كانت من آثار النبوة الحسنة كما تكررت الإشارة إليه في المباحث المتقدمة ،
فلإبراهيم عليهالسلام الأيادي الجميلة على جميع البشر اليوم علموا بذلك أو
جهلوا.
٤
ـ ما تقصه التوراة الموجودة في إبراهيم : قالت التوراة : وعاش تارح ( أبو إبراهيم ) سبعين سنة ـ وولد أبرام وناحور
وهاران ، وهذه مواليد تارح : ولد تارح أبرام وناحور وهاران ، وولد هاران لوطا ،
ومات هاران قبل أبيه في أرض ميلاده ـ في « أور » الكلدانيين ـ واتخذ أبرام وناحور
لأنفسهما امرأتين ـ اسم امرأة أبرام « ساراي » واسم امرأة ناحور ملكة بنت هاران ـ أبي
ملكة وأبي بسكة ، وكانت ساراي عاقرا ليس لها ولد وأخذ تارح أبرام ابنه ولوطا بن
هاران ابن ابنه ، وساراي كنته امرأة أبرام ابنه ـ فخرجوا معا من أور الكلدانيين ـ ليذهبوا
إلى أرض كنعان ـ فأتوا إلى حاران وأقاموا هناك ، وكانت أيام تارح مائتين وخمس سنين
، ومات تارح في حاران.
قالت التوراة :
وقال الرب لأبرام : اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت
__________________
أبيك ـ إلى الأرض التي أريك فأجعلك أمة عظيمة ـ وأباركك وأعظم اسمك وتكون
بركة ـ وأبارك مباركيك ، ولاعنك ألعنه ، ويتبارك فيك جميع قبائل الأرض ، فذهب
أبرام كما قال له الرب ، وذهب معه لوط ، وكان أبرام ابن خمس وسبعين سنة لما خرج من
حاران فأخذ أبرام ساراي امرأته ولوطا ابن أخيه ـ وكل مقتنياتهما التي اقتنيا ـ والنفوس
التي امتلكا في حاران ، وخرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان ـ فأتوا إلى أرض كنعان.
واجتاز أبرام
في أرض إلى مكان « شكيم » إلى « بلوطة مورة » وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض ،
وظهر الرب لأبرام وقال : لنسلك أعطى هذه الأرض ـ فبنى هناك مذبحا للرب الذي ظهر له
، ثم نقل من هناك إلى الجبل شرقي « بيت إيل » ونصبت خيمته وله « بيت إيل » من
المغرب ـ و « عاي » من المشرق ـ فبنى هناك مذبحا للرب ودعا باسم الرب ، ثم ارتحل
أبرام ارتحالا متواليا نحو الجنوب.
وحدث جوع في
الأرض ـ فانحدر أبرام إلى مصر ليغرب هناك ـ لأن الجوع في الأرض كان شديدا ، وحدث
لما قرب أن يدخل مصر أنه قال لساراي امرأته : إني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر ـ
فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون : هذه امرأته فيقتلونني ويستبقونك ، قولي :
إنك أختي ليكون لي خير بسببك ـ وتحيا نفسي من أجلك ، فحدث لما دخل أبرام إلى مصر ـ
أن المصريين رأوا المرأة أنها حسنة جدا ـ ورآها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فرعون ـ فأخذت
المرأة إلى بيت فرعون ـ فصنع إلى أبرام خيرا بسببها ـ وصار له غنم وبقر وحمير
وعبيد وإماء وأتن وجمال.
فضرب الرب
فرعون وبيته ضربات عظيمة ـ بسبب ساراي امرأة أبرام ـ فدعا فرعون أبرام وقال : ما
هذا الذي صنعت لي؟ لما ذا لم تخبرني أنها امرأتك؟ لما ذا قلت : هي أختي أخذتها
لتكون زوجتي؟ والآن هو ذا امرأتك خذها واذهب ، فأوصى عليه رجالا فشيعوه وامرأته
وكل ما كان له.
ثم ذكرت
التوراة : أن أبرام خرج من مصر ومعه ساراي ولوط ـ ومعهم الأغنام والخدم والأموال
العظيمة ـ ووردوا « بيت إيل » المحل الذي كانت فيه خيمته مضروبة ـ بين « بيت إيل »
و « عاي » ثم بعد حين تفرق هو ولوط لأن الأرض ما كانت تسعهما ـ فسكن أبرام كنعان ،
وكان الكنعانيون والفرزيون ساكنون هناك ، ونزل لوط أرض سدوم.
ثم ذكرت : أنه
في تلك الأيام نشبت حرب في أرض سدوم ـ بين « أمرافل » ملك شنعار ومعه ثلاثة من
الملوك ، وبين بارع ملك سدوم ومعه أربعة من الملوك المتعاهدين ـ فانهزم ملك سدوم
ومن معه انهزاما فاحشا ـ وهربوا من الأرض بعد ما قتل من قتل منهم ـ ونهبت أموالهم
وسبيت نساؤهم وذراريهم ، وكان فيمن أسر لوط وجميع أهله ونهبت أمواله.
قالت التوراة :
فأتى من نجى وأخبر أبرام العبراني ـ وكان ساكنا عند « بلوطات ممري » الآموري ـ أخو
« أشكول » وأخي « عانر » وكانوا أصحاب عهد مع أبرام ، فلما سمع أبرام أن أخاه سبي
جر غلمانه المتمرنين ـ ولدان بيته ثلاثمائة وثمانية عشر وتبعهم إلى « دان » وانقسم
عليهم هو وعبيده فكسرهم ـ وتبعهم إلى « حوبة » التي عن شمال دمشق واسترجع كل
الأموال واسترجع لوطا أخاه أيضا ـ وأملاكه والنساء أيضا والشعب.
فخرج ملك سدوم
لاستقباله ـ بعد رجوعه من « كسرة كدر لعومر » والملوك الذين معه إلى عمق « شوى »
الذي هو عمق الملك ، وملكي صادق ملك « شاليم » أخرج خبزا وخمرا ـ وكان كاهنا لله
العلي وباركه وقال : مبارك أبرام من الله العلي مالك السماوات والأرض ـ ومبارك
الله العلي الذي أسلم أعداءك في يدك ـ فأعطاه عشرا من كل شيء.
وقال ملك سدوم
لأبرام : أعطني النفوس ، وأما الأملاك فخذها لنفسك ـ فقال أبرام لملك سدوم : رفعت
يدي إلى الرب الإله العلي ملك السماء والأرض ـ لا آخذن لا خيطا ولا شراك نعل ـ ولا
من كل ما هو لك فلا تقول : أنا أغنيت أبرام ليس لي غير الذي أكله الغلمان ـ وأما
نصيب الرجال الذين ذهبوا معي « عابر » و « أسلول » و « ممرا » فهم يأخذون نصيبهم.
إلى أن قالت :
وأما ساراي فلم تلد له ـ وكانت لها جارية مصرية اسمها هاجر ـ فقالت ساراي لأبرام :
هو ذا الرب قد أمسكني عن الولادة ـ أدخل على جاريتي لعلي أرزق منها بنين ـ فسمع
أبرام لقول ساراي فأخذت ساراي امرأة أبرام ـ هاجر المصرية جاريتها ـ من بعد عشر
سنين لإقامة أبرام في أرض كنعان ـ وأعطتها لأبرام رجلها زوجة له ـ فدخل على هاجر
فحبلت.
ثم ذكرت : أن
هاجر لما حبلت حقرت ساراي واستكبرت عليها ـ فشكت ساراي
__________________
ذلك إلى أبرام ـ ففوض أبرام أمرها إليها فهربت هاجر منها ـ فلقيها ملك
فأمرها بالرجوع إلى سيدتها ـ وأخبرها أنها ستلد ولدا ذكرا وتدعو اسمه إسماعيل ـ لأن
الرب قد سمع لمذلتها ، وأنه يكون إنسانا وحشيا يضاد الناس ويضادونه ، وولدت هاجر
لأبرام ولدا وسماه أبرام إسماعيل ـ وكان أبرام ابن ست وسبعين سنة ـ لما ولدت هاجر
إسماعيل لأبرام.
قالت التوراة :
ولما كان أبرام ابن تسع وتسعين سنة ـ ظهر الرب لأبرام وقال له : أنا الله القدير
سر أمامي وكن كاملا ـ فأجعل عهدي بيني وبينك وأكثرك كثيرا جدا فسقط أبرام على وجهه
وتكلم الله معه قائلا : أما أنا فهو ذا عهدي معك ـ وتكون أبا لجمهور من الأمم ،
فلا يدعى اسمك بعد أبرام بل يكون اسمك إبراهيم ـ لأني أجعلك أبا لجمهور من الأمم ـ
وأثمرك كثيرا جدا وأجعلك أمما : وملوك منك يخرجون ، وأقيم عهدي بيني وبينك ـ وبين
نسلك من بعدك في أجيالهم عهدا أبديا ـ لأكون إلها لك ولنسلك من بعدك وأعطي لك
ولنسلك من بعد أرض غربتك كل أرض ـ كنعان ملكا أبديا وأكون إلههم.
ثم ذكرت : أن
الرب جعل في ذلك عهدا بينه وبين إبراهيم ونسله ـ أن يختتن هو وكل من معه ـ ويختنوا
أولادهم اليوم الثامن من الولادة ـ فختن إبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة ـ وختن
ابنه إسماعيل وهو ابن ثلاث عشرة سنة ـ وسائر الذكور من بنيه وعبيده.
قالت التوراة :
وقال الله لإبراهيم : ساراي امرأتك لا تدعو اسمها ساراي بل اسمها سارة ـ وأباركها
وأعطيت أيضا منها ابنا ، وأباركها فتكون أمما وملوك شعوب منها يكونون ، فسقط
إبراهيم على وجهه وضحك وقال في قلبه : وهل يولد لابن مائة سنة؟ هل تلد سارة وهي
بنت تسعين سنة؟.
وقال إبراهيم
لله : ليت إسماعيل يعيش أمامك ـ فقال الله : بل سارة امرأتك تلد لك ابنا ـ وتدعو
اسمه إسحاق ، وأقيم عهدي معه عهدا أبديا لنسله من بعده ـ وأما إسماعيل فقد سمعت لك
فيه ـ ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا ، اثنا عشر رئيسا يلد وأجعله أمة
كبيرة ، ولكن عهدي أقيمه مع إسحاق ـ الذي تلده سارة في هذا الوقت في السنة الآتية
، فلما فرغ من الكلام معه صعد الله عن إبراهيم.
ثم ذكرت قصة
نزول الرب مع الملكين ـ لإهلاك أهل سدوم قوم لوط ـ وأنهم وردوا على إبراهيم فضافهم
ـ وأكلوا من الطعام الذي عمله لهم من عجل قتله ـ والزبد واللبن اللذين
قدمهما إليهم ـ ثم بشروه وبشروا سارة بإسحاق ـ وذكروا أمر قوم لوط ـ فجادلهم
إبراهيم في هلاكهم فأقنعوه ـ وكان بعده هلاك قوم لوط.
ثم ذكرت أن
إبراهيم انتقل إلى أرض « حرار » وتغرب فيها وأظهر لملكه « أبي مالك » أن سارة أخته
فأخذها الملك منه ـ فعاتبها الرب في المنام ـ فأحضر إبراهيم وعاتبه على قوله :
إنها أختي فاعتذر أنه إنما قال ذلك خوفا من القتل ـ واعترف أنه في الحقيقة أخته من
أبيه دون أمه ـ تزوج بها فرد إليه سارة وأعطاهما مالا جزيلا ( نظير ما قص في فرعون
).
قالت التوراة :
وافتقد الرب سارة كما قال وفعل الرب لسارة كما تكلم ـ فحبلت سارة وولدت لإبراهيم
ابنا في شيخوخته ـ في الوقت الذي تكلم الله عنه ـ ودعا إبراهيم اسم ابنه الذي
ولدته له سارة إسحاق ، وختن إبراهيم إسحاق ابنه ـ وهو ابن ثمانية أيام كما أمره
الله ، وكان إبراهيم ابن مائة سنة حين ولد له إسحاق ابنه ، وقالت سارة : فقد صنع
إلي الله ، ضحكا ـ كل من يسمع يضحك لي ، وقالت من قال لإبراهيم : سارة ترضع بنين
حتى ولدت ابنا في شيخوخته ـ فكبر الولد وفطم وصنع إبراهيم وليمة عظيمة ـ يوم فطام
إسحاق.
ورأت سارة ابن
هاجر المصرية ـ الذي ولدته لإبراهيم يمزح ـ فقالت لإبراهيم : اطرد هذه الجارية
وابنها ـ لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق ـ فقبح الكلام جدا في عيني
إبراهيم لسبب ابنه ـ فقال الله لإبراهيم : لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ـ ومن
أجل جاريتك في كل ما تقول لك سارة ـ اسمع لقولها لأنه بإسحاق يدعى لك نسل ـ وابن
الجارية أيضا سأجعله أمة لأنه نسلك.
فبكر إبراهيم
صباحا وأخذ خبزا وقربة ماء ـ وأعطاهما لهاجر واضعا إياهما على كتفها والولد ـ وصرفها
فمضت وتاهت في برية بئر سبع ـ ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت إحدى
الأشجار ـ ومضت وجلست مقابله بعيدا نحو رمية قوس ـ لأنها قالت : لا أنظر موت الولد
ـ فجلست مقابله ورفعت صوتها وبكت ـ فسمع الله صوت الغلام ونادى ملاك الله هاجر من
السماء ، وقال لها : ما لك يا هاجر؟ لا تخافي لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو
قومي واحملي الغلام وشدي يدك به ـ لأني سأجعله أمة عظيمة ، وفتح الله عينيها
فأبصرت بئر ماء ـ فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام ، وكان الله مع الغلام فكبر
وسكن في
البرية ، وكان ينمو رامي قوس ، وسكن في برية فاران ، وأخذت له أمه زوجة من
أرض مصر .
قالت التوراة :
وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم ـ فقال له : يا إبراهيم فقال : ها أنا
ذا ـ فقال : خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق ـ واذهب إلى أرض المريا وأصعده هناك
محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك ، فبكر إبراهيم صباحا وشد على حماره ـ وأخذ
اثنين من غلمانه معه وإسحاق معه ـ وشقق حطبا لمحرقة وقام ـ وذهب إلى الموضع الذي
قال له الله ، وفي اليوم الثالث رفع إبراهيم عينيه ـ وأبصر الموضع من بعيد فقال
إبراهيم لغلاميه : اجلسا أنتما هاهنا مع الحمار ، أما أنا والغلام فنذهب إلى هناك
ونسجد ونرجع إليكما ، فأخذ إبراهيم حطب المحرقة ـ ووضعه على إسحاق ابنه وأخذ بيده
النار والسكين ـ فذهبا كلاهما معا ، وكلم إسحاق أباه إبراهيم ـ وقال له : يا أبي
فقال : ها أنا ذا يا ابني ـ فقال : هو ذا النار والحطب ولكن أين الخروف للمحرقة؟
فقال إبراهيم : الله يرى له الخروف للمحرقة يا ابني ـ فذهبا كلاهما معا.
فلما أتيا إلى
الموضع الذي قال له الله ـ بنى هنالك إبراهيم المذبح ورتب الحطب ـ وربط إسحاق ابنه
ووضعه على المذبح فوق الحطب ـ ثم مد إبراهيم يده وأخذ السكين لذبح ابنه فناداه
ملاك الرب من السماء وقال : إبراهيم إبراهيم! فقال : ها أنا ذا ، فقال : لا تمد
يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئا ـ لأني الآن علمت أنك خائف الله ـ فلم تمسك ابنك
وحيدك عني فرفع إبراهيم عينيه ونظر ـ وإذا كبش وراءه ممسكا في الغابة بقرنيه ـ فذهب
إبراهيم وأخذ الكبش ـ وأصعده محرقة عوضا عن ابنه ـ فدعا إبراهيم اسم ذلك الموضع «
يهوه برأه » حتى أنه يقال اليوم في جبل الرب « برى » ، ونادى ملاك الرب إبراهيم
ثانية من السماء وقال : بذاتي أقسمت يقول الرب : إني من أجل أنك فعلت هذا الأمر
ولم تمسك ابنك وحيدك ـ أباركك مباركة وأكثر نسلك تكثيرا ـ كنجوم السماء وكالرمل
الذي على شاطئ البحر ـ ويرث نسلك باب أعدائه ـ ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض ـ من
أجل أنك سمعت لقولي ـ ثم رجع إبراهيم إلى غلاميه فقاموا ـ وذهبوا معا إلى بئر سبع
ـ وسكن إبراهيم في بئر سبع.
__________________
ثم ذكرت تزويجه
إسحاق من عشيرته بكلدان ، ثم موت سارة ـ وهي بنت مائة وسبع وعشرين في حبرون ، ثم
ازدواج إبراهيم بعدها بقطورة ـ وإيلادها عدة من البنين ، ثم موت إبراهيم وهو ابن
مائة وخمس وسبعين سنة ، ودفن ابنيه إسحاق وإسماعيل إياه في غار « مكفيلة » وهو
مشهد الخليل اليوم.
فهذه خلاصة قصص
إبراهيم عليهالسلام وتاريخ حياته المورد في التوراة ( سفر التكوين الإصحاح
الحادي عشر ـ الإصحاح الخامس والعشرون ) وعلى الباحث الناقد أن يطبق ما ورد منه
فيها على ما قصه القرآن الكريم ثم يرى رأيه.
٥ ـ الذي تشتمل
عليه من القصة المسرودة على ما فيها من التدافع بين جملها والتناقض بين أطرافها
مما يصدق القرآن الكريم فيما ادعاه أن هذا الكتاب المقدس لعبت به أيدي التحريف.
فمن عمدة ما
فيها من المغمض أنها أهملت ذكر مجاهداته في أول أمره وحجاجاته قومه وما قاساه منهم
من المحن والأذايا ، وهي طلائع بارقة لماعة من تاريخه عليهالسلام.
ومن
ذلك إهمالها ذكر
بنائه الكعبة المشرفة وجعله حرما آمنا وتشريعه الحج ، ولا يرتاب أي باحث ديني ولا
ناقد اجتماعي أن هذا البيت العتيق الذي لا يزال قائما على قواعده منذ أربعة آلاف
سنة من أعظم الآيات الإلهية التي تذكر أهل الدنيا بالله سبحانه وآياته ، وتستحفظ
كلمة الحق دهرا طويلا ، وهو أول بيت لله تعالى وضع للناس مباركا وهدى للعالمين.
وليس إهمال
ذكره إلا لنزعة إسرائيلية من كتاب التوراة ومؤلفيها دعتهم إلى الصفح عن ذكر الكعبة؟
وإحصاء ما بناه من المذابح ومذبح بناه بأرض شكيم ، وآخر بشرقي بيت إيل ، وآخر بجبل
الرب.
ثم الذي وصفوا
به النبي الكريم إسماعيل : أنه كان غلاما وحشيا يضاد الناس ويضادونه ، ولم يكن له
من الكرامة إلا أنه كان مطرودا من حضرة أبيه نما رامي قوس! يريدون ليطفئوا نور
الله بأفواههم والله متم نوره.
ومن
ذلك : ما نسبته إليه
مما لا يلائم مقام النبوة ولا روح التقوى والفتوة
كقولها : إن ملكي صادق ملك « شاليم » أخرج إليه خبزا وخمرا وكان كاهنا لله
العلي وباركه.
ومن ذلك قولها
: إن إبراهيم أخبر تارة رؤساء فرعون مصر أن سارة أخته ووصى سارة أن تصدقه في ذلك
إذ قال لها : قولي : إنك أختي ليكون لي خير بسببك ، وتحيا نفسي من أجلك ، وأظهر
تارة أخرى لأبي مالك ملك حرار أنها أخته ، فأخذها للزوجية فرعون تارة ، وأبو مالك
أخرى ، ثم ذكرت التوراة تأول إبراهيم في قوله : « إنها أختي » مرة بأنها أختي في
الدين ، وأخرى أنها ابنة أبي من غير أمي فصارت لي زوجة.
وأيسر ما في
هذا الكلام أن يكون إبراهيم ( وحاشا مقام الخليل ) يعرض زوجته سارة لأمثال فرعون
وأبي مالك مستغلا بها حتى يأخذاها زوجة وهي ذات بعل وينال هو بذلك جزيل العطاء
ويستدرهما بما عندهما من الخير!.
على أن كلام
التوراة صريح في أن سارة كانت عندئذ وخاصة حينما أخذها أبو مالك عجوزا قد عمرت
سبعين أو أكثر ، والعادة تقضي أن المرأة تفتقد في سن العجائز نضارة شبابها ووضاءة
جمالها ، والملوك والجبابرة المترفون لا يميلون إلى غير الفتيات البديعة جمالا
الطرية حسنا.
وربما وجد ما
يشاكل هذا المعنى في بعض الروايات ففي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلىاللهعليهوآله قال : لم يكذب إبراهيم النبي عليهالسلام قط إلا ثلاث كذبات
__________________
اثنتين في ذات الله : قوله « إِنِّي سَقِيمٌ » وقوله « بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا » وواحدة في شأن سارة ـ فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة
وكانت أحسن الناس ـ فقال لها : إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي ـ يغلبني عليك
فإن سألك فأخبريه ـ أنك أختي فإنك أختي في الإسلام ـ فإني لا أعلم في الأرض مسلما
غيرك وغيري ، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار ـ فأتاه فقال له : لقد قدم أرضك
امرأة ـ لا ينبغي لها أن تكون إلا لك ـ فأرسل إليها فأتي بها فقام إبراهيم إلى
الصلاة ـ فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها ـ فقبضت يده قبضة شديدة فقال
لها : ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ـ ففعلت فعاد فقبضت أشد من القبضتين . الأوليين ـ فقال
: ادعي الله أن يطلق يدي فلك الله أن لا أضرك ـ ففعلت فأطلقت يده ـ ودعا الذي جاء
بها فقال له ـ إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان ـ فأخرجها من أرضي وأعطها
هاجر.
قال فأقبلت
تمشي فلما رآها إبراهيم عليهالسلام انصرف ـ وقال لها : مهيم فقالت : خيرا كف الله يد
الفاجر وأخدم خادما. قال أبو هريرة : فتلك أمكم يا بني ماء السماء.
وفي صحيح
البخاري ، بطرق كثيرة عن أنس وأبي هريرة ، وفي صحيح مسلم ، عن أبي هريرة وحذيفة ،
وفي مسند أحمد ، عن أنس وابن عباس وأخرجه الحاكم عن ابن مسعود والطبراني عن عبادة
بن الصامت وابن أبي شيبة عن سلمان ، والترمذي عن أبي هريرة ، وأبو عوانة عن حذيفة
عن أبي بكر حديث شفاعة النبي صلىاللهعليهوآله يوم القيامة ، وهو حديث طويل فيه : أن أهل الموقف يأتون
الأنبياء واحدا بعد واحد ـ يسألونهم الشفاعة عند الله ، وكلما أتوا نبيا وسألوه
الشفاعة ـ ردهم إلى من بعده واعتذر بشيء من عثراته ـ حتى ينتهوا إلى خاتم النبيين
محمد صلىاللهعليهوآله فيجيبهم إلى مسألتهم وفي الحديث : أنهم يأتون إبراهيم عليهالسلام يطلبون منه أن يشفع لهم عند الله ـ فيقول لهم : لست
هنأكم إني كذبت ثلاث كذبات : قوله « إِنِّي سَقِيمٌ » وقوله « بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا » وقوله لامرأته « أخبريه أني أخوك ».
والاعتبار
الصحيح لا يوافق مضمون الحديثين كما ذكره بعض الباحثين إذ لو كان المراد بهما أن
الأقاويل الثلاث التي وصفت فيهما أنها كذبات ليست كذبات حقيقية بل من قبيل
التوريات والمعاريض البديعية كما ربما يلوح من بعض ألفاظ الحديث كالذي ورد في
__________________
بعض طرقه من قول النبي صلىاللهعليهوآله : « لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلها في ذات الله »
وكذا قوله صلىاللهعليهوآله : « ما منها كذبة إلا ماحل بها عن دين
الله » فما بال إبراهيم في حديث القيامة يعدها ذنوبا لنفسه ومانعة عن القيام بأمر
الشفاعة ويعتذر بها عنها؟ فإنها على هذا التقدير كانت من محنة في ذات الله وحسناته
في الدين لو جاز لنبي من الأنبياء أن يكذب لمصلحة الدين لكنك قد عرفت في ما تقدم
من مباحث النبوة في الجزء الثاني من هذا الكتاب أن ذلك مما لا يجوز على الأنبياء عليهمالسلام قطعا لاستيجابه سلب الوثوق عن إخباراتهم وأحاديثهم من
أصلها.
على أن هذا
النوع من الإخبار لو جاز عده كذبا ومنعه عن الشفاعة عند الله سبحانه كان قوله عليهالسلام لما رأى كوكبا والقمر والشمس : هذا ربي وهذا ربي أولى
بأن يعد كذبا مانعا عن الشفاعة المنبئة عن القرب من الله تعالى.
على أن قوله عليهالسلام على ما حكاه الله تعالى بقوله : « فَنَظَرَ نَظْرَةً
فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ » لا يظهر بشيء من قرائن الكلام كونه كذبا غير مطابق
للواقع فلعله عليهالسلام كان سقيما بنوع من السقم لا يحجزه عما هم به من كسر
الأصنام.
وكذا قوله عليهالسلام للقوم إذ سألوه عن أمر الأصنام المكسورة بقولهم : « أَأَنْتَ فَعَلْتَ
هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ » فأجابهم وهم يعلمون أن أصنامهم من الجماد الذي لا شعور
فيه ولا إرادة له : «
بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا » ثم أردفه بقوله : « فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ » لا سبيل إلى عده كذبا فإنه كلام موضوع مكان التبكيت
مسوق لإلزام الخصم على الاعتراف ببطلان مذهبه ، ولذا لم يجد القوم بدا دون أن
اعترفوا بذلك فقالوا : «
لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما
لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ » : ( الأنبياء : ٦٧ ).
ولو كان المراد
أن الأقاويل الثلاث كذبات حقيقية كان ذلك من المخالفة الصريحة لكتاب الله تعالى ،
ونحيل ذلك إلى فهم الباحث الناقد فليراجع ما تقدم في الفصل ٢ من الكلام في منزلة
إبراهيم عليهالسلام عند الله تعالى وموقفه العبودي مما أثنى الله عليه
بأجمل الثناء وحمد مقامه أبلغ الحمد.
__________________
وليت شعري كيف
ترضى نفس باحث ناقد أو تجوز أن ينطبق مثل قوله تعالى : « وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا » : ( مريم : ٤١ ) على رجل كذاب يستريح إلى كذب القول
كلما ضاقت عليه المذاهب؟ أو كيف يمدح الله بتلك المدائح الكريمة رجلا لا يراقب
الله سبحانه في حق أو صدق ( حاشا ساحة خليل الله عن ذلك ).
وأما الأخبار
المروية عن أئمة أهل البيت عليهالسلام فإنها تصدق التوراة في أصل القصة غير أنها تجل إبراهيم عليهالسلام عما نسب إليه من الكذب وسائر ما لا يلائم قدس ساحته ،
ومن أجمع ما يتضمن قصة الخليل (ع) ما في الكافي ، عن علي عن أبيه وعدة من أصحابنا
عن سهل جميعا عن ابن محبوب عن إبراهيم بن زيد الكرخي قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : إن إبراهيم عليهالسلام كان مولده بكوثار وكان أبوه من أهلها ، وكانت أم إبراهيم وأم لوط عليهالسلام وسارة ـ وورقة ـ وفي نسخة رقبة ـ أختين وهما ابنتان
للاحج ، وكان لاحج نبيا منذرا ولم يكن رسولا.
وكان إبراهيم عليهالسلام في شبيبته على الفطرة ـ التي فطر الله عز وجل الخلق
عليها حتى هداه الله تبارك وتعالى إلى دينه واجتباه ، وأنه تزوج سارة ابنة لاحج
وهي ابنة خالته ـ وكانت سارة صاحبة ماشية كثيرة ـ وأرض واسعة وحال حسنة ، وكانت قد
ملكت إبراهيم جميع ما كانت تملكه ـ فقام فيه وأصلحه وكثرت الماشية ـ والزرع ـ حتى
لم يكن بأرض كوثاريا رجل أحسن حالا منه.
وإن إبراهيم عليهالسلام لما كسر أصنام نمرود وأمر به نمرود ـ فأوثق وعمل له
حيرا وجمع له فيه الحطب وألهب فيه النار ـ ثم قذف إبراهيم عليهالسلام في النار لتحرقه ـ ثم اعتزلوها حتى خمدت النار ـ ثم
أشرفوا على الحير فإذا هم بإبراهيم عليهالسلام سليما ـ مطلقا من وثاقه فأخبر نمرود خبره ـ فأمرهم أن
ينفوا إبراهيم عليهالسلام من بلاده ، وأن يمنعوه من الخروج بماشيته وماله ـ فحاجهم
إبراهيم عليهالسلام عند ذلك فقال : إن أخذتم ماشيتي ومالي فإن حقي عليكم ـ أن
تردوا علي ما ذهب من عمري في بلادكم ، واختصموا إلى قاضي نمرود فقضى على إبراهيم عليهالسلام ـ أن يسلم إليهم جميع ما أصاب في بلادهم ، وقضى على
أصحاب نمرود أن يردوا على إبراهيم عليهالسلام ـ ما ذهب من عمره في بلادهم ، وأخبر بذلك نمرود
__________________
فأمرهم أن يخلوا سبيله ـ وسبيل ماشيته وماله وأن يخرجوه ، وقال : إنه إن
بقي في بلادكم أفسد دينكم وأضر بآلهتكم ـ فأخرجوا إبراهيم ولوطاعليهالسلام معه من بلادهم إلى الشام.
فخرج إبراهيم
ومعه لوط لا يفارقه وسارة ، وقال لهم : ( إِنِّي ذاهِبٌ إِلى
رَبِّي سَيَهْدِينِ ) يعني إلى بيت المقدس ـ فتحمل إبراهيم بماشيته وماله ـ وعمل
تابوتا وجعل فيه سارة ـ وشد عليها الأغلاق غيرة منه عليها ـ ومضى حتى خرج من سلطان
نمرود ، وسار إلى سلطان رجل من القبط يقال له « عزارة » فمر بعاشر له فاعترضه
العاشر ليعشر ما معه ـ فلما انتهى إلى العاشر ومعه التابوت ـ قال العاشر لإبراهيم عليهالسلام : افتح هذا التابوت لنعشر ما فيه ـ فقال له إبراهيم عليهالسلام : قل ما شئت فيه من ذهب أو فضة ـ حتى نعطي عشره ولا
نفتحه. قال : فأبى العاشر إلا فتحه ـ قال : وغصب إبراهيم عليهالسلام على فتحه ـ فلما بدت له سارة وكانت موصوفة بالحسن
والجمال ـ قال له العاشر : ما هذه المرأة منك؟ قال إبراهيم عليهالسلام : هي حرمتي وابنة خالتي ، فقال له العاشر : فما دعاك
إلى أن خبيتها في هذا التابوت؟ فقال إبراهيم عليهالسلام : الغيرة عليها أن يراها أحد ـ فقال له العاشر : لست
أدعك تبرح حتى أعلم الملك حالها وحالك.
قال : فبعث
رسولا إلى الملك فأعلمه ـ فبعث الملك رسولا من قبله ليأتوه بالتابوت فأتوا ليذهبوا
به فقال لهم إبراهيم عليهالسلام : إني لست أفارق التابوت حتى يفارق روحي جسدي ـ فأخبروا
الملك بذلك فأرسل الملك أن ـ احملوه والتابوت معه ـ فحملوا إبراهيم عليهالسلام والتابوت وجميع ما كان معه ـ حتى أدخل على الملك : فقال
له الملك ـ افتح التابوت فقال له إبراهيم عليهالسلام : أيها الملك إن فيه حرمتي وابنة خالتي ـ وأنا مفتد
فتحه بجميع ما معي.
قال : فغصب
الملك إبراهيم على فتحه ـ فلما رأى سارة لم يملك حلمه سفهه أن مد يده إليها ـ فأعرض
إبراهيم عليهالسلام وجهه عنها وعنه غيرة منه وقال : اللهم احبس يده عن
حرمتي وابنة خالتي ـ فلم تصل يده إليها ولم ترجع إليه فقال له الملك: إن إلهك هو
الذي فعل بي هذا؟ فقال له: نعم إن إلهي غيور يكره الحرام ، وهو الذي حال بينك وبين
ما أردته من الحرام ـ فقال له الملك : فادع إلهك يرد علي يدي ـ فإن أجابك فلم أعرض
لها ـ فقال إبراهيم عليهالسلام : إلهي رد إليه يده ليكف عن حرمتي. قال : فرد الله عز
وجل إليه يده ـ فأقبل الملك نحوها ببصره ثم عاد بيده نحوها ـ فأعرض إبراهيم عنه
بوجهه غيرة
__________________
منه ، وقال : اللهم احبس يده عنها. قال : فيبست يده ولم تصل إليها.
فقال الملك
لإبراهيم عليهالسلام : إن إلهك لغيور وإنك لغيور ـ فادع إلهك يرد إلي يدي فإنه
إن فعل لم أعد ـ فقال إبراهيم عليهالسلام : أسأله ذلك على أنك إن عدت لم تسألني أن أسأله ـ فقال
له الملك : نعم فقال إبراهيم عليهالسلام : اللهم إن كان صادقا فرد يده عليه فرجعت إليه يده.
فلما رأى ذلك
الملك من الغيرة ما رأى ـ ورأى الآية في يده عظم إبراهيم عليهالسلام ـ وهابه وأكرمه واتقاه ، وقال له : قد أمنت من أن أعرض
لها أو لشيء مما معك ـ فانطلق حيث شئت ولكن لي إليك حاجة ـ فقال إبراهيم عليهالسلام : ما هي؟ فقال له : أحب أن تأذن لي أن أخدمها ـ قبطية
عندي جميلة عاقلة تكون لها خادما ـ قال : فأذن إبراهيم عليهالسلام فدعا بها فوهبها لسارة ـ وهي هاجر أم إسماعيل عليهالسلام.
فسار إبراهيم عليهالسلام بجميع ما معه ، وخرج الملك معه يمشي خلف إبراهيم عليهالسلام إعظاما لإبراهيم وهيبة له ـ فأوحى الله تبارك وتعالى
إلى إبراهيم عليهالسلام ـ أن قف ولا تمش قدام الجبار المتسلط ـ ويمشي وهو خلفك
، ولكن اجعله أمامك وامش خلفه وعظمه وهبه فإنه مسلط ولا بد من إمرة في الأرض برة
أو فاجرة ـ فوقف إبراهيم عليهالسلام وقال للملك : امض فإن إلهي أوحى إلي الساعة أن أعظمك
وأهابك ، وأن أقدمك أمامي وأمشي خلفك إجلالا لك ـ فقال له الملك : أوحي إليك بهذا؟
فقال إبراهيم عليهالسلام : نعم ـ فقال له الملك : أشهد إن إلهك لرفيق حليم كريم
ـ وأنك ترغبني في دينك.
قال : وودعه
الملك فسار إبراهيم عليهالسلام ـ حتى نزل بأعلى الشامات ، وخلف لوطا عليهالسلام في أدنى الشامات. ثم إن إبراهيم عليهالسلام لما أبطأ عليه الولد قال لسارة : لو شئت لبعتني هاجر ـ لعل
الله أن يرزقنا منها ولدا فيكون لنا خلفا ، فابتاع إبراهيم عليهالسلام هاجر من سارة ـ فوقع عليها فولدت إسماعيل عليهالسلام.
ومن ذلك ما
ذكرته أعني التوراة في قصة الذبح أن الذبيح هو إسحاق دون إسماعيل عليهالسلام مع أن قصة إسكانه بأرض تهامة وبنائه الكعبة المشرفة
وتشريع عمل الحج الحاكي لما جرى عليه وعلى أمه من المحنة والمشقة في ذات الله ،
وقد اشتمل على الطواف والسعي والتضحية كل ذلك تؤيد كون الذبيح هو إسماعيل دون
إسحاق عليهالسلام.
وقد وقع في
إنجيل برنابا أن المسيح لام اليهود ووبخهم على قولهم بأن الذبيح هو
إسحاق دون إسماعيل قال في الفصل ٤٤" : فكلم الله إبراهيم قائلا : خذ
ابنك بكرك إسماعيل واصعد الجبل لتقدمه ذبيحة ـ فكيف يكون إسحاق البكر ـ وهو لما
ولد كان إسماعيل ابن سبع سنين الفصل ٤٤ آية : ١١ ـ ١٢.
وأما القرآن
فإن آياته كالصريحة في كون الذبيح هو إسماعيل عليهالسلام قال تعالى بعد ما ذكر قصة كسر الأصنام وإلقائه في النار
وجعلها بردا وسلاما : «
فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى
رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ
حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي
الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما
تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَما
وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى
إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا
الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وَبارَكْنا
عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ
مُبِينٌ » : ( الصافات
: ١١٣ ).
والمتدبر في
الآيات الكريمة لا يجد مناصا دون أن يعترف أن الذبيح هو الذي ذكر الله سبحانه
البشارة به في قوله : «
فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ » وأن البشارة الأخرى التي ذكرها أخيرا بقوله « وَبَشَّرْناهُ
بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ » غير البشارة الأولى ، والذي بشر به في الثانية وهو
إسحاق عليهالسلام غير الذي بشر به في الأولى وأردفها بذكر قصة التضحية
به.
وأما الروايات
فالتي وردت منها من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهالسلام تذكر أن الذبيح هو إسماعيل عليهالسلام ، والتي رويت من طرق أهل السنة والجماعة مختلفة : فصنف
يذكر إسماعيل وصنف يذكر إسحاق عليهالسلام غير أنك عرفت أن الصنف الأول هو الذي يوافق الكتاب.
قال الطبري في
تاريخه ، : اختلف السلف من علماء أمة نبينا محمد صلىاللهعليهوآله في الذي أمر إبراهيم بذبحه من ابنيه فقال بعضهم : هو
إسحاق بن إبراهيم ، وقال بعضهم : هو إسماعيل بن إبراهيم. وقد روي عن رسول الله صلىاللهعليهوآله كلا القولين لو كان فيهما صحيح لم نعده إلى غيره غير أن
الدليل من القرآن على صحة الرواية التي رويت عنه صلىاللهعليهوآله أنه قال : هو إسحاق أوضح وأبين منه على صحة الأخرى.
إلى أن قال :
وأما الدلالة من القرآن التي قلنا : إنها على أن ذلك إسحاق أصح فقوله تعالى مخبرا
عن دعاء خليله إبراهيم حين فارق قومه مهاجرا إلى ربه إلى الشام مع زوجته سارة قال
: « إِنِّي
ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ » وذلك قبل أن يعرف هاجر ، وقبل أن تصير له أم إسماعيل
ثم أتبع ذلك ربنا عز وجل الخبر عن إجابة دعائه وتبشيره إياه بغلام حليم ثم عن رؤيا
إبراهيم أنه يذبح ذلك الغلام حين بلغ معه السعي.
ولا نعلم في
كتاب الله عز وجل تبشيرا لإبراهيم بولد ذكر إلا بإسحاق وذلك قوله :
« وَامْرَأَتُهُ
قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ » وقوله : « فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ
وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ
وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ».
ثم ذلك كذلك في
كل موضع ذكر فيه تبشير إبراهيم بغلام فإنما ذكر تبشير الله إياه به من زوجته سارة
فالواجب أن يكون ذلك في قوله : «
فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ » نظير ما في سائر سور القرآن من تبشيره إياه من زوجته
سارة.
وأما اعتلال من
اعتل بأن الله لم يأمر بذبح إسحاق وقد أتته البشارة من الله قبل ولادته بولادته
وولادة يعقوب منه من بعده فإنها علة غير موجبة صحة ما قال ، وذلك أن الله تعالى
إنما أمر إبراهيم بذبح إسحاق بعد إدراك إسحاق السعي وجائز أن يكون يعقوب ولد له
قبل أن يؤمر أبوه بذبحه.
وكذلك لا وجه
لاعتلال من اعتل في ذلك بقرن الكبش أنه رآه معلقا بالكعبة وذلك أنه غير مستحيل أن
يكون حمل من الشام إلى الكعبة فعلق هنالك ، انتهى كلامه.
وليت شعري كيف
خفي عليه أن إبراهيم عليهالسلام لما سأل ربه الولد عند مهاجرته إلى الشام وعنده سارة
ولا خبر عن هاجر يومئذ سأل ذلك بقوله : « رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ » فسأل ربه الولد ، ولم يسأل أن يرزقه ذلك من سارة حتى
تحمل البشارة المذكورة عقيبه على البشارة بإسحاق فإنما قال : « رَبِّ هَبْ لِي » ولم يقل : رب هب لي من سارة.
وأما ما ذكره
أن المعروف من سائر مواضع كتاب الله هو البشرى بإسحاق فيجب
أن نحمل البشرى في هذا الموضع عليه أيضا. فمع ما سيجيء من الكلام عليه في
سائر الموارد التي أشار إليها هو في نفسه قياس لا دليل عليه بل الدليل على خلافه
فإن الله سبحانه في هذه الآيات لما ذكر البشارة بغلام حليم ثم ذكر قصة الذبح
استأنف ثانيا ذكر البشارة بإسحاق ولا يرتاب المتدبر في هذا السياق أن المبشر به
ثانيا غير المبشر به أولا فقد بشر إبراهيم عليهالسلام قبل إسحاق بولد له آخر وليس إلا إسماعيل ، وقد اتفق
الرواة والنقلة وأهل التاريخ أن إسماعيل ولد لإبراهيم قبل إسحاق عليهالسلام جميعا.
ومن ذلك
التدافع البين فيما تذكره التوراة من أمر إسماعيل فإنها تصرح أن إسماعيل ولد
لإبراهيم عليهالسلام قبل أن يولد له إسحاق بما يقرب من أربعة عشر عاما وأن
إبراهيم عليهالسلام طرده وأمه هاجر بعد تولد إسحاق لما استهزأ بسارة ثم
تسرد قصة إسكانهما الوادي ونفاد الماء الذي حملته هاجر وعطش إسماعيل ثم إراءة
الملك إياها الماء ، ولا يرتاب الناظر المتدبر في القصة أن إسماعيل كان عندئذ صبيا
مرضعا فعليك بالرجوع إليها والتأمل فيها ، وهذا هو الذي يوافق المأثور من أخبارنا.
٦ ـ القرآن
الكريم يعتني أبلغ الاعتناء بقصة إبراهيم عليهالسلام من جهة نفسه ومن جهة ابنيه الكريمين إسماعيل وإسحاق
وذريتهما معا بخلاف ما يتعرض له في التوراة فإنها تقصر الخبر عنه بما يتعلق بإسحاق
وشعب إسرائيل ، ولا يلتفت إلى إسماعيل إلا ببعض ما يهون أمره ويحقر شأنه ، ومع ذلك
لا يخلو يسير ما تخبر عنه عن التدافع فتارة تذكر خطاب الله سبحانه لإبراهيم عليهالسلام أن نسلك الباقي هو من إسحاق ، وتارة أخرى خطابه أن الله
بارك لنسلك من عقب إسماعيل وسيجعله أمة كبيرة ، وتارة تعرفه إنسانا وحشيا يضاد
الناس ويضاده الناس قد نشأ رامي قوس مطرودا عن بيت أبيه ، وتارة تذكر أن الله معه.
وبالتأمل فيما
تقدم من قصته عليهالسلام في القرآن يظهر الجواب عن إشكالين أشكل بهما على الكتاب
العزيز.
الإشكال
الأول ما ذكره بعض
المستشرقين أن القرآن في سوره المكية لا
__________________
يتعرض لشأن إبراهيم وإسماعيل عليهالسلام إلا كما يتعرض لشأن سائر الرسل من أنهم كانوا على دين
التوحيد ينذرون الناس ويدعونهم إلى الله سبحانه من غير أن يذكر بناءه الكعبة وصلته
بإسماعيل وكونهما داعيين للعرب إلى دين الفطرة والملة الحنيفية. لكن السور المدينة
كالبقرة والحج وغيرهما تذكر إبراهيم وإسماعيل متصلين اتصال الأبوة والبنوة وأبوين
للعرب مشرعين لها دين الإسلام بانيين للكعبة البيت الحرام.
وسر هذا
الاختلاف أن محمدا كان قد اعتمد على اليهود في مكة فما لبثوا أن اتخذوا حياله خطة
عداء فلم يكن له بد أن التمس غيرهم ناصرا. هناك هداه ذكاء مسدد إلى شأن جديد لأبي
العرب إبراهيم وبذلك استطاع أن يخلص من يهودية عصره ليصل حبلة بيهودية إبراهيم
فعده أبا للعرب مشيدا لدينهم الإسلام بانيا لبيتهم المقدس الذي في مكة لما أن هذه
المدينة كانت تشغل جل تفكيره. انتهى ملخصا.
وقد أزرى
المستشكل على نفسه بهذه الفرية التي نسبها إلى الكتاب العزيز الذي له شهرته
العالمية التي لا يتحجب معها على شرقي ولا غربي فكل باحث متدبر يشاهد أن القرآن
الكريم لم يداهن مشركا ولا يهوديا ولا نصرانيا ولا غيرهم في سورة مكية ولا مدنية
ولم يختلف لحن قوله في تخطئة اليهود ولا غيرهم بحسب مكية السور ومدنيتها.
غير أن الآيات
القرآنية لما نزلت نجوما بحسب وقوع الحوادث المرتبطة بالدعوة الدينية ، وكان
الابتلاء بأمر اليهود بعد الهجرة كان التعرض لشئونهم والإبانة عن التشديد في حقهم
لا محالة في الآيات النازلة في تضاعيف السور المدنية كتفاصيل الأحكام المشرعة التي
أنزلت فيها حسب مسيس الحاجة بحدوث الحوادث.
وأما ما ذكراه
من اختصاص حديث اتصال إسماعيل بإبراهيم عليهالسلام وبناء الكعبة وتأسيس الدين الحنيف بالسور المدنية
فيكذبه قوله تعالى في سورة إبراهيم وهي مكية فيما حكاه من دعاء إبراهيم عليهالسلام : « وَإِذْ
قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ
أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ـ إلى أن قال ـ رَبَّنا
إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ
تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ـ إلى أن قال ـ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى
الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ » : ( إبراهيم : ٣٩ ) وقد مر نظيره في الآيات المنقولة
من سورة الصافات آنفا المنبئة عن قصة الذبيح.
وأما ما ذكراه
من يهودية إبراهيم عليهالسلام فإن القرآن يرده بقوله تعالى : « يا أَهْلَ الْكِتابِ
لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ
إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
ـ إلى أن قال ـ
ما كانَ
إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما
كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » ( آل عمران : ٦٧ ).
الإشكال
الثاني : أن الصابئين
وهم عبدة الكواكب الذين يذكر القرآن تعرض إبراهيم عليهالسلام لآلهتهم بقوله : « فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى
كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي » إلى آخر الآيات إنما كانوا بمدينة حران التي هاجر إليها إبراهيم عليهالسلام من بابل أو من « أور » ولازمه أن يكون حجاجه عبدة
الكواكب بعد مدة من حجاجه عبدة الأصنام وكسره الأصنام ودخوله النار ، ولا يلائم
ذلك ما هو ظاهر الآيات أن قصة الحجاج مع عبدة الأصنام والكواكب وقعت جميعا في
يومين عند أول شخوصه إلى أبيه وقومه كما تقدم بيانه.
أقول
: وهذا في
الحقيقة إشكال على التفسير الذي تقدم إيراده في بيان الآيات لا على أصل الكتاب.
ومع ذلك ففيه
غفلة عما يثبته التاريخ ويعطيه الاعتبار الصحيح أما الاعتبار فإن المملكة التي
ينتحل في بعض بلاده العظيمة بدين من الأديان الشائعة المعروفة كالصابئية التي كانت
يومئذ من الأديان المعروفة في الدنيا لا يخلو من شيوع في سائر بلادها ووجود جماعة
من منتحليه منتشرة في أقطارها.
وأما التاريخ
فقد ذكر شيوعه كشيوع الوثنية ببابل ووجود معابد كثيرة فيها بنيت على أسماء الكواكب
وأصنام لها منصوبة فيها فقد جاء في تاريخ أرض بابل وما والاها ذكر بناء معبد إله
الشمس وإله القمر في حدود سنة ثلاثة آلاف ومائتين قبل المسيح ، وفي نصب شريعة حمورابي
ذكر إله الشمس وإله القمر وهو مما يقرب زمن الخليل إبراهيم عليهالسلام.
وقد تقدم فيما
نقلناه من كتاب الآثار الباقية لأبي ريحان البيروني : أن يوذاسف
ظهر عند مضي سنة من ملك طهمورث بأرض الهند ، وأتى بالكتابة الفارسية ، ودعا إلى
__________________
ملة الصابئين فاتبعه خلق كثير ، وكانت الملوك البيشدادية وبعض الكيانية ممن
كان يستوطن بلخ يعظمون النيرين والكواكب وكليات العناصر إلى وقت ظهور زراتشت عند
مضي ثلاثين سنة من ملك بشتاسف.
وساق الكلام
إلى أن قال : وينسبون التدبير إلى الفلك وأجرامه ويقولون بحياتها ونطقها وسمعها
وبصرها ، ويعظمون الأنوار ، ومن آثارهم القبة التي فوق المحراب عند المقصورة من
جامع دمشق كان مصلاهم ، وكان اليونانيون والروم على دينهم ، ثم صارت في أيدي
اليهود فعملوها كنيستهم ، ثم تغلب عليها النصارى فصيروها بيعة إلى أن جاء الإسلام
وأهله فاتخذوها مسجدا.
وكانت لهم
هياكل وأصنام بأسماء الشمس معلومة الأشكال كما ذكرها أبو معشر البلخي في كتابه في
بيوت العبادات مثل هيكل بعلبك كان لصنم الشمس ، وقران فإنها منسوبة إلى القمر
وبناؤها على صورته كالطيلسان ، وبقربها قرية تسمى سلمسين واسمها القديم : صنم سين
أي صنم القمر : وقرية أخرى تسمى ترع عوز أي باب الزهرة.
ويذكرون أن
الكعبة وأصنامها كانت لهم ، وعبدتها كانوا من جملتهم وأن اللات كان باسم زحل ،
والعزى باسم الزهرة ، انتهى.
وذكر المسعودي
أن مذهب الصابئة كان نوعا من التحول والتكامل في دين الوثنية وأن الصبوة ربما كانت
تتحول إلى الوثنية لتقارب مأخذيهما ، وأن الوثنية ربما كانوا يعبدون أصنام الشمس
والقمر والزهرة وسائر الكواكب تقربا بها إلى آلهتها ثم إلى إله الآلهة.
قال في مروج
الذهب : ، كان كثير من أهل الهند والصين وغيرهم من الطوائف يعتقدون أن الله عز وجل
جسم ، وأن الملائكة أجسام لها أقدار وأن الله تعالى وملائكته احتجبوا بالسماء ،
فدعاهم ذلك إلى أن اتخذوا تماثيل وأصناما على صورة الباري عز وجل وبعضها على صورة
الملائكة مختلفة القدود والأشكال ، ومنها على صورة الإنسان وعلى خلافها من الصور
يعبدونها ، وقربوا لها القرابين ، ونذروا لها النذور لشبهها عندهم بالباري تعالى
وقربها منه.
فأقاموا على
ذلك برهة من الزمان وجملة من الأعصار حتى نبههم بعض حكمائهم على أن الأفلاك
والكواكب أقرب الأجسام المرئية إلى الله تعالى وأنها حية ناطقة ، وأن
الملائكة تختلف فيهما بينها وبين الله ، وأن كل ما يحدث في هذا العالم
فإنما هو على قدر ما تجري به الكواكب عن أمر الله فعظموها وقربوا لها القرابين
لتنفعهم فمكثوا على ذلك دهرا.
فلما رأوا
الكواكب تخفى بالنهار وفي بعض أوقات الليل لما يعرض في الجو من السواتر أمرهم بعض
من كان فيهم من حكمائهم أن يجعلوا لها أصناما وتماثيل على صورها وأشكالها فجعلوا
لها أصناما وتماثيل بعدد الكواكب الكبار المشهورة ، وكل صنف منهم يعظم كوكبا منها
، ويقرب لها نوعا من القربان خلاف ما للآخر على أنهم إذا عظموا ما صوروا من
الأصنام تحركت لهم الأجسام العلوية من السبعة بكل ما يريدون ، وبنوا لكل صنم بيتا
وهيكلا مفردا ، وسموا تلك الهياكل بأسماء تلك الكواكب.
وقد ذهب قوم
إلى أن البيت الحرام هو بيت زحل ، وإنما طال عندهم بقاء هذا البيت على مرور الدهور
معظما في سائر الأعصار لأنه بيت زحل ، وأن زحل تولاه لأن زحل من شأنه البقاء
والثبوت ، فما كان له فغير زائل ولا داثر ، وعن التعظيم غير حائل وذكروا أمورا
أعرضنا عن ذكرها لشناعة وصفها.
ولما طال عليهم
العهد عبدوا الأصنام على أنها تقربهم إلى الله وألغوا عبادة الكواكب فلم يزالوا
على ذلك حتى ظهر يوذاسف بأرض الهند وكان هنديا ، وكان يوذاسف خرج من أرض الهند إلى
السند ثم سار إلى بلاد سجستان وبلاد زابلستان وهي بلاد فيروز بن كبك ثم دخل السند
ثم إلى كرمان.
فتنبأ وزعم أنه
رسول الله ، وأنه واسطة بين الله وبين خلقه ، وأتى أرض فارس ، وذلك في أوائل ملك
طهمورث ملك فارس ، وقيل : ذلك في ملك جم ، وهو أول من أظهر مذاهب الصابئة على حسب
ما قدمنا آنفا فيما سلف من هذا الكتاب.
وقد كان يوذاسف
أمر الناس بالزهد في هذا العالم ، والاشتغال بما علا من العوالم ، إذ كان من هناك
بدء النفوس وإليها يقع الصدر من هذا العالم ، وجدد يوذاسف عند الناس عبادة الأصنام
والسجود لها لشبه ذكرها ، وقرب لعقولهم عبادتها بضروب من الحيل والخدع.
وذكر ذوو
الخبرة بشأن هذا العالم وأخبار ملوكهم : أن جم الملك أول من عظم
النار ودعا الناس إلى تعظيمها ، وقال : إنها تشبه ضوء الشمس والكواكب لأن
النور عنده أفضل من الظلمة ، وجعل للنور مراتب. ثم تنازع هؤلاء بعده فعظم كل فريق
منهم ما يرون تعظيمه من الأشياء تقربا إلى الله بذلك.
ثم ذكر
المسعودي البيوت المعظمة عندهم وهي سبعة الكعبة البيت الحرام باسم زحل ، وبيت على
جبل مارس بأصفهان ، وبيت مندوسان ببلاد الهند ، وبيت نوبهار بمدينة بلخ على اسم
القمر ، وبيت غمدان بمدينة صنعاء من بلاد اليمن على اسم الزهرة ، وبيت كاوسان
بمدينة فرغانة على اسم الشمس ، وبيت بأعالي بلاد الصين على اسم العلة الأولى.
واليونان
والروم القديم والصقالبة بيوت معظمة بعضهما مبنية على اسم الكواكب كالبيت الذي
بتونس للروم الذي على اسم الزهرة.
ثم ذكر
المسعودي أن للصابئين من الحرانيين هياكل على أسماء الجواهر العقلية والكواكب فمن ذلك هيكل
العلة الأولى ، وهيكل العقل. قال : ومن هياكل الصابئة هيكل السلسلة ، وهيكل الصورة
وهيكل النفس وهذه مدورات الشكل ، وهيكل زحل مسدس ، وهيكل المشتري مثلث ، وهيكل
المريخ مربع مستطيل ، وهيكل الشمس مربع ، وهيكل عطارد مثلث الشكل ، وهيكل الزهرة
مثلث في جوف مربع مستطيل ، وهيكل القمر مثمن الشكل ، وللصابئة فيما ذكرنا رموز
وأسرار يخفونها ، انتهى. وقريب منه ما في الملل والنحل ، للشهرستاني.
وقد تبين مما
نقلناه أولا : أن الوثنية كما كانت تعبد أصناما للآلهة وأرباب الأنواع كذلك كانت
تعبد أصنام الكواكب والشمس والقمر ، وكانت عندهم هياكل على أسمائها ، ومن الممكن
أن يكون حجاج إبراهيم عليهالسلام في أمر الكواكب والقمر والشمس ، مع الوثنية العابدين
لها المتقربين بها دون الصابئة كما يمكن أن يكون مع بعض الصابئين في مدينة بابل أو
بلدة أور أو كوثاريا على ما في بعض الروايات المنقولة سالفا.
على أن ظاهر ما
يقصه القرآن الكريم : أن إبراهيم عليهالسلام حاج أباه وقومه وتحمل أذاهم في الله حتى اعتزلهم وهجرهم
بالمهاجرة من أرضهم إلى الأرض المقدسة من غير أن يتغرب من أرضهم إلى حران أولا ثم
من حران إلى الأرض المقدسة ، والذي ضبطه كتب
__________________
التاريخ من مهاجرته إلى حران أولا ثم من حران إلى الأرض المقدسة لا مأخذ له
غير التوراة أو أخبار غير سليمة من نفثة إسرائيلية كما هو ظاهر لمن تدبر تاريخ
الطبري ، وغيره.
على أن بعضهم
ذكروا أن حران المذكور في التوراة كان بلدا قرب بابل بين الفرات وخابور ، وهو غير
حران الواقع قرب دمشق الموجود اليوم. نعم ذكر المسعودي أن الذي بقي من هياكلهم ـ الصابئة ـ المعظمة
في هذا الوقت ـ وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة ـ بيت لهم بمدينة حران في باب
الرقة يعرف « بمغليتيا » وهو هيكل آزر أبي إبراهيم الخليل عليهالسلام عندهم ، وللقوم في آزر وابنه إبراهيم كلام كثير ،
انتهى. ولا حجة في قولهم على شيء.
وثانيا : أنه
كما أن الوثنية ربما كانت تعبد الشمس والقمر والكواكب كذلك الصابئة كانت تبني
بيوتا وهياكل لعبادة غير الكواكب والقمر والشمس كالعلة الأولى والعقل والنفس
وغيرها كالوثنية وتتقرب إليها مثلهم وقد ذكر هيرودوتوس في تاريخه في ما يصف معبد
بابل أنه كان مشتملا على ثمانية أبراج بعضها مبنية على بعض وأن آخر الأبراج وهو
أعلاها كان مشتملا على قبة وسيعة ما فيها غير عرش عظيم حياله طاولة من ذهب ، وليس
في القبة شيء من التماثيل والأصنام ، ولا يبيت فيها أحد إلا امرأة يزعم الناس أن
الله هو اختارها للخدمة ووظفها للملازمة. انتهى. ولعله كان
للعلة الأولى المنزهة عن الهيئات والأشكال وإن كانوا ربما يصورونه بما يتوهمونه من
الصور كما ذكره المسعودي. وقد ثبت أن فلاسفتهم كانوا ينزهون الله تعالى عن الهيئات
الجسمانية والأشكال والأوضاع المادية ويصفونه بما يليق به من الصفات غير أنهم
كانوا يتقون العامة أن يظهروا ما يعتقدونه فيه سبحانه إما لعدم استعداد أفهامهم
لتلقي ذلك ، أو لمقاصد وأغراض سياسية توجب كتمان الحق.
__________________
(
وَوَهَبْنا
لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ
وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ
كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً
وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ
وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧)
ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا
لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ
الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ
وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى
اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ
إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠) ).
(
بيان )
اتصال الآيات
بما قبلها واضح لا يحتاج إلى بيان فهي من تتمة حديث إبراهيم عليهالسلام ، والآيات وإن اشتملت على بعض الامتنان عليه وعلى من عد
معه من الأنبياء كما هو ظاهر قوله تعالى : « وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ » وقوله : « وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ » وقوله : « وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ » إلى غير ذلك لكنها ليست مسوقة لذلك فحسب كما يظهر من
بعض المفسرين بل لبيان النعم الجسيمة والأيادي الجميلة الإلهية التي يتعقبها
التوحيد الفطري والاهتداء بالهداية الإلهية.
فإن ذلك هو
الموافق لغرض هذه السورة التي تبين فيها مسألة التوحيد على ما تهدي إليه الفطرة
التي فطر الناس عليها ، وقد تقدم أن قصة إبراهيم عليهالسلام بالنسبة إلى الآيات السابقة من السورة بمنزلة المثال
المضروب لبيان عام.
وفي سياق
الآيات مضافا إلى بيان التوحيد بيان أن عقيدة التوحيد محفوظة بين الناس في سلسلة
متصلة ركبت حلقاتها بعضها على بعض بهداية إلهية وعناية خاصة ربانية حفظ الله بها
الفطرة الإلهية من أن تضيع بالأهواء الشيطانية ، وتسقط رأسا من الفعلية فيبطل بذلك
غرض الخلقة ويذهب سدى كما يشعر بذلك قوله : « وَوَهَبْنا لَهُ » إلخ ، وقوله :
« وَنُوحاً هَدَيْنا
مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ » إلخ ، وقوله : « وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ
وَإِخْوانِهِمْ » وقوله : «
فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ » إلخ.
وفي طي الآيات
بيان ما تمتاز به الهداية الإلهية من غيرها من الخصائص وهي الاجتباء واستقامة
الصراط وإيتاء الكتاب والحكم والنبوة على ما سيجيء من البيان إن شاء الله.
قوله
تعالى : « وَوَهَبْنا لَهُ
إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا » إسحاق هو ابن إبراهيم ويعقوب هو ابن إسحاق عليهالسلام ، وقوله : « كُلًّا هَدَيْنا » قدم فيه كلا للدلالة على أن الهداية الإلهية تعلقت بكل
واحد من المعدودين استقلالا لا أنها تعلقت ببعضهم استقلالا كإبراهيم وبغيره بتبعه
، فهو بمنزلة أن يقال : هدينا إبراهيم وهدينا إسحاق وهدينا يعقوب. كما قيل.
قوله
تعالى : « وَنُوحاً هَدَيْنا
مِنْ قَبْلُ » فيه إشعار بأن سلسلة الهداية غير منقطعة ولا مبتدئة من إبراهيم عليهالسلام بل كانت الرحمة قبله شاملة لنوح عليهالسلام.
قوله
تعالى : « وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ
داوُدَ وَسُلَيْمانَ ـ إلى قوله ـ وَكَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ » الضمير في «
ذُرِّيَّتِهِ » راجع إلى نوح ظاهرا لأنه المرجع القريب لفظا ، ولأن في المعدودين من ليس
هو من ذرية إبراهيم مثل لوط وإلياس على ما قيل.
وربما قيل : إن
الضمير يعود إلى إبراهيم عليهالسلام وقد ذكر لوط وإلياس عليهالسلام من الذرية تغليبا قال : « وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ
وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ » : ( العنكبوت : ٢٧ ) أو أن المراد بالذرية هم الستة
المذكورون في هذه الآية
دون الباقين ، وأما قوله : « وَزَكَرِيَّا » إلخ ، وقوله : « وَإِسْماعِيلَ » إلخ ، فمعطوفان على قوله : ومن « ذُرِّيَّتِهِ » لا على قوله : « داوُدَ » إلخ ، وهو بعيد من السياق.
وأما قوله : « وَكَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ » فالظاهر أن المراد بهذا الجزاء هو الهداية الإلهية المذكورة ، وإليها
الإشارة بقوله « كَذلِكَ » والإتيان بلفظ الإشارة البعيد لتفخيم أمر هذه الهداية
فهو نظير قوله : « كَذلِكَ
يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ » : ( الرعد : ١٧ ) والمعنى نجزي المحسنين على هذا المثال.
قوله
تعالى : « وَزَكَرِيَّا
وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ » تقدم الكلام في معنى الإحسان والصلاح فيما سلف من
المباحث وفي ذكر عيسى بين المذكورين من ذرية نوح عليهالسلام وهو إنما يتصل به من جهة أمه مريم دلالة واضحة على أن
القرآن الكريم يعتبر أولاد البنات وذريتهن أولادا وذرية حقيقة ، وقد تقدم استفادة
نظير ذلك من آية الإرث وآية محرمات النكاح ، وللكلام تتمة ستوافيك في البحث
الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
قوله
تعالى : « وَإِسْماعِيلَ
وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ » الظاهر أن المراد بإسماعيل هو ابن إبراهيم أخو إسحاق عليهالسلام وقوله : « الْيَسَعَ » بفتحتين كأسد وقرئ « الليسع » كالضيغم أحد أنبياء بني
إسرائيل ذكر الله اسمه مع إسماعيل عليهالسلام كما في قوله : « وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا
الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ » : ( ـ ص : ٤٨ ) ولم يذكر شيئا من قصته في كلامه.
وأما قوله : « وَكلًّا فَضَّلْنا
عَلَى الْعالَمِينَ » فالعالم هو الجماعة من الناس كعالم العرب وعالم العجم وعالم
الروم ، ومعنى تفضيلهم على العالمين تقديمهم بحسب المنزلة على عالمي زمانهم لما أن
الهداية الخاصة الإلهية أخذتهم بلا واسطة ، وأما غيرهم فإنما تشملهم رحمة الهداية بواسطتهم
، ويمكن أن يكون المراد تفضيلهم بما أنهم طائفة مهدية بالهداية الفطرية الإلهية من
غير واسطة على جميع العالمين من الناس سواء عاصروهم أو لم يعاصروهم فإن الهداية
الإلهية من غير واسطة نعمة يتقدم بها من تلبس بها على من لم يتلبس ، وقد شملت
المذكورين من الأنبياء ومن لحق بهم من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم فالمجتمع الحاصل
منهم مفضل على غيرهم جميعا بتفضيل إلهي.
وبالجملة
الملاك في أمر هذا التفضيل هو التلبس بتلك الهداية الإلهية التي لا واسطة فيها ،
والأنبياء فضلوا على غيرهم بسبب التلبس بها فلو فرض تلبس من غيرهم بهذه الهداية
كالملائكة كما ربما يظهر من كلامه تعالى وكالأئمة على ما تقدم في البحث عن قوله
تعالى :
« وَإِذِ ابْتَلى
إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ » : ( البقرة : ١٢٤ ) في الجزء الأول من الكتاب فلا يفضل
عليهم الأنبياء عليهمالسلام من هذه الحيثية وإن أمكن أن يفضلوا عليهم من جهة أخرى
غير جهة الهداية.
ومن هنا يظهر :
أن استدلال بعضهم بالآية على أن الأنبياء أفضل من الملائكة ليس في محله.
ويظهر أيضا أن
المراد بالتفضيل إنما هو التفضيل من حيث الهداية الإلهية الخاصة التي أخذتهم من
غير توسط أحد ، وأما كونهم أهل الاجتباء وأهل الصراط المستقيم وأهل الكتاب والحكم
والنبوة فأمر خارج عن مصب التفضيل المذكور في هذه الآية.
واعلم أن الذي
وقع في الآيات الثلاث من ذكر من عدده الله تعالى من الأنبياء بأسمائهم ـ وهم سبعة
عشر نبيا ـ لم يراع فيه الترتيب الذي بينهم لا بحسب الزمان وهو ظاهر ، ولا بحسب
الرتبة والفضيلة فإن فيهم نوحا وموسى وعيسى عليهالسلام ، وهم أفضل من باقي المذكورين بنص الكتاب كما تقدم في
مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب وقد قدم عليهم غيرهم في الذكر.
وقد ذكر صاحب
المنار في وجه الترتيب المأخوذ في الآيات الثلاث بين الأنبياء المسمين فيها ـ وهم
أربعة عشر نبيا ـ ما ملخصه : أنه تعالى جعلهم ثلاثة أقسام لمعان في ذلك جامعة بين
كل قسم منهم.
فالقسم الأول :
داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون ، والمعنى الجامع بينهم أن الله تعالى
آتاهم الملك والإمارة والحكم والسيادة مع النبوة والرسالة ، وقد قدم ذكر داود
وسليمان وكانا ملكين غنيين منعمين ، وذكر بعدهما أيوب ويوسف ، وكان أيوب أميرا
غنيا عظيما محسنا ، وكان يوسف وزيرا عظيما وحاكما متصرفا ، وقد ابتليا بالضراء
فصبرا وبالسراء فشكرا ، وبعد ذلك موسى وهارون وكانا حاكمين في قومهما ولم يكونا
ملكين.
فكل زوجين من
هذه الأزواج الثلاثة ممتاز بمزية والترتيب مع ذلك من حيث نعم الدنيا فداود وسليمان
كانا أكثر تمتعا من نعمها من أيوب ويوسف ، وهما من موسى وهارون ، أو الترتيب من
حيث الفضل الديني فالظاهر أن موسى وهارون أفضل من أيوب ويوسف ، وهما أفضل من داود
وسليمان لجمعهما بين الصبر في الضراء والشكر في السراء.
والقسم الثاني
: زكريا ويحيى وعيسى وإلياس ، وهؤلاء قد امتازوا بشدة الزهد في الدنيا ، والإعراض
عن لذائذها ، والرغبة عن زينتها ، ولذلك خصهم هنا بوصف الصالحين لأن هذا الوصف
أليق بهم عند مقابلتهم بغيرهم وإن كان كل نبي صالحا ومحسنا على الإطلاق.
والقسم الثالث
: إسماعيل واليسع ويونس ولوط ، وأخر ذكرهم لعدم الخصوصية إذ لم يكن لهم من ملك
الدنيا وسلطانها ما كان للقسم الأول ، ولا من المبالغة من الإعراض عن الدنيا ما
كان للقسم الثاني ، انتهى ملخصا.
وفي تفسير
الرازي ، ما يقرب منه وإن كان ما ذكره أوجه بالنسبة إلى ما ذكره الرازي ، ويرد على
ما ذكراه جميعا أنهما جعلا القسم الثالث من لا خصوصية له يمتاز به وهو غير مستقيم
فإن إسماعيل عليهالسلام قد ابتلاه الله بأمر الذبح فصبر على ما امتحنه الله
تعالى به قال تعالى : « فَبَشَّرْناهُ
بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى
فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما
تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ـ إلى أن قال ـ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ » ( الصافات : ١٠٨ ) وهذا من الخصائص الفاخرة التي اختص
الله بها إسماعيل عليهالسلام ، وبلاء مبين امتاز به حتى جعل الله تعالى التضحية في
الحج طاعة عامة مذكرة لمحنته في جنب الله وترك عليه في الآخرين على أنه شارك أباه
الكريم في بناء الكعبة وكفى به ميزا.
وكذلك يونس
النبي عليهالسلام امتحنه الله تعالى بما لم يمتحن به أحدا من أنبيائه وهو
ما التقمه الحوت فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
وأما لوط فمحنه
في جنب الله مذكورة في القرآن الكريم فقد قاسى المحن في أول أمره مع إبراهيم عليهالسلام حتى هاجر قومه وأرضه في صحابته ، ثم أرسله الله إلى
أهل سدوم وما والاه مهد الفحشاء التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين حتى
إذا شملهم الهلاك لم يوجد فيهم غير بيت المسلمين وهو من بيت لوط خلا امرأته.
وأما اليسع فلم
يذكر له في القرآن قصة ، وإنما ورد في بعض الروايات أنه كان وصي إلياس وقد أتى
قومه بما أتى به عيسى بن مريم عليهالسلام من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وقد ابتلى الله
قومه بالسنة والقحط العظيم.
فالأحسن أن
يتمم الوجه المذكور لترتيب الأسماء المعدودة في الآية بأن يقال : إن الطائفة
الأولى المذكورين ـ وهم ستة ـ اختصوا بالملك والرئاسة مع الرسالة ، والطائفة
الثانية ـ وهم أربعة ـ امتازوا بالزهد في الدنيا والإعراض عن زخارفها ، والطائفة
الثالثة ـ وهم أربعة ـ أولو خصائص مختلفة ومحن إلهية عظيمة يختص كل بشيء من
المميزات والله أعلم.
ثم إن الذي
ذكره في أثناء كلامه من تفضيل موسى وهارون على أيوب ويوسف ، وتفضيلهما على داود
وسليمان بما ذكره من الوجه ، وكذا جعله الصلاح بمعنى الزهد والإحسان كل ذلك ممنوع
لا دليل عليه.
قوله
تعالى : « وَمِنْ آبائِهِمْ
وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ » هذا التعبير يؤيد ما قدمناه أن المراد بيان اتصال
سلسلة الهداية حيث أضاف الباقين إلى المذكورين بأنهم متصلون بهم بأبوة أو بنوة أو
أخوة.
قوله
تعالى : « وَاجْتَبَيْناهُمْ
وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » قال الراغب في المفردات : ، يقال : جبيت الماء في الحوض جمعته والحوض الجامع له جابية وجمعها « جواب » قال الله تعالى : ( وَجِفانٍ كَالْجَوابِ
) ، ومنه أستعير جبيت الخراج جباية ومنه قوله تعالى : ( يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ ) ، والاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء قال عز وجل : ( فَاجْتَباهُ رَبُّهُ ).
قال : واجتباء
الله العبد تخصيصه إياه بفيض إلهي يتحصل له منه أنواع من النعم بلا سعي من العبد ،
وذلك للأنبياء وبعض من يقارنهم من الصديقين والشهداء كما قال تعالى : ( وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ) ، ( فَاجْتَباهُ رَبُّهُ
فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) ( وَاجْتَبَيْناهُمْ
وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) وقوله تعالى : ( ثُمَّ اجْتَباهُ
رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى ) ، وقال عز وجل : ( يَجْتَبِي إِلَيْهِ
مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ) ، انتهى.
والذي ذكره من
معنى الاجتباء وإن كان كذلك على ما يفيده موارد وقوعه في كلامه تعالى لكنه لازم
المعنى الأصلي بحسب انطباقه على صنعه فيهم والذي يعطيه سياق الآيات أن العناية
تعلقت بمعنى الكلمة الأصلي وهو الجمع من مواضع وأمكنة مختلفة متشتتة فيكون تمهيدا
لما يذكر بعده من الهداية إلى صراط مستقيم كأنه يقول : وجمعناهم على تفرقهم حتى
إذا اجتمعوا وانضم بعضهم إلى بعض هديناهم جميعا إلى صراط كذا وكذا.
وذلك لما عرفت
أن المقصود بالسياق بيان اتصال سلسلة المهتدين بهذه الهداية الفطرية الإلهية ،
والمناسب لذلك أن يتصور لهم اجتماع وتوحد حتى تشمل جمعهم الرحمة الإلهية ، ويهتدوا
مجتمعين بهداية واحدة توردهم صراطا واحدا مستقيما لا اختلاف فيه أصلا فلا يختلف
بحسب الأحوال ، ولا بحسب الأزمان ، ولا بحسب الأجزاء ، ولا بحسب الأشخاص السائرين
فيه ، ولا بحسب المقصد.
وذلك أن صراطهم
الذي هداهم الله إليه وإن كان يختلف بحسب ظاهر الشرائع سعة وضيقا إلا أن ذلك إنما
هو بحسب الإجمال والتفصيل وقلة استعداد الأمم وكثرته ، والجميع متفق في حقيقة
واحدة وهو التوحيد الفطري والعبودية التي تهدي إليه البنية الإنسانية بحسب نوع
الخلقة التي أظهرها الله سبحانه على ذلك ومن المعلوم أن الخلقة الإنسانية بما أنها
خلقة إنسانية لا تتغير ولا تتبدل تبدلا يقضي بتبدل أصول الشعور والإرادة
الإنسانيين فحواس الإنسان الظاهرة وإحساساته وعواطفه الباطنة ومبدأ القضاء والحكم
الذي فيه وهو العقل الفطري لا تزال تجري بحسب الأصول على وتيرة واحدة وإن اختلفت
الآراء والمقاصد بحسب الاستكمال التدريجي الذي يتعلق بالنوع والتنبه بجهات حوائج
الحياة.
فلا يزال
الإنسان يشعر بحاجته في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمنكح ، ويشتهي ما يريح
نفسه الشحيحة ، ويكره ما يؤلمه ويضربه ، ويأمل سعادة الحياة ويخشى الشقاء وسوء
العاقبة وإن اختلفت مظاهر حياته وصور أعماله عصرا بعد عصر وجيلا بعد جيل.
قال تعال : « فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ
» : ( الروم :
٣٠ ) فالدين الحنيف
الإلهي الذي هو قيم على المجتمع الإنساني هو الذي تهدي إليه الفطرة وتميل
إليه الخلقة البشرية بحسب ما تحس بحوائجها الوجودية ، وتلهم بما يسعدها فيها من
الاعتقاد والعمل ، وبتعبير آخر من المعارف والأخلاق والأعمال.
وهذا أمر لا
يتغير ولا يتبدل لأنه مبني على الفطرة التكوينية التي لا سبيل للتغير والتبدل
إليها فلا يختلف بحسب الأحوال والأزمان بأن يدعو إلى السعادة الإنسانية في حال دون
حال أو في زمان دون زمان ، ولا بحسب الأجزاء بأن يزاحم بعض أحكام الدين الحنيف
بعضه الآخر بتناقض أو تضاد أو أي شيء آخر يؤدي إلى إبطال بعضها بعضا فإن الجميع
ترتضع من ثدي التوحيد الذي يعدلها أحسن تعديل كما أن القوى البدنية إذا تنافت أو
أراد بعضها أن يطغى على بعض فإن هناك حاكما مدبرا يدبر كلا على حسب ما له من الوزن
والتأثير في تقويم الحياة الإنسانية.
ولا بحسب
الأشخاص فإن المهتدين بهذه الهداية القيمة الفطرية لا يختلف مسيرهم ، ولا يدعو
آخرهم إلا إلى ما دعا إليه أولهم وإن اختلفت دعوتهم بالإجمال والتفصيل بحسب اختلاف
أعصار الإنسانية تكاملا ورقيا كما قال تعالى : « إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ » ( آل عمران : ١٩ ) وقال : « شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ
نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى
وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ » ( الشورى : ١٣ ).
ولا بحسب
المقصد والغاية فإنه التوحيد الذي يئول إليه شتات المعارف الدينية والأخلاق
الفاضلة والأحكام الشرعية قال تعالى : « إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً
وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ » : ( الأنبياء : ٩٢ ) وقال : « وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا
فَاعْبُدُونِ » : ( الأنبياء : ٢٥ ).
وقد ظهر بما
تقدم معنى قوله تعالى : «
وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » وقد نكر الصراط من غير أن يذكر على طريق العهد كما في
قوله : « اهْدِنَا
الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ » : ( الحمد : ٧ ) لتتوجه عناية الذهن إلى اتصافه
بالاستقامة ـ والاستقامة في الشيء كونه على وتيرة واحدة في صفته وخاصته ـ فالصراط
الذي هدوا إليه صراط لا اختلاف فيه في جهة من الجهات ولا حال من الأحوال لما أنه
صراط مبني على الفطرة كما أن الفطرة الإنسانية وهي نوع خلقته وكونه لا تختلف من
حيث إنها خلقة إنسانية في الهداية والاهتداء إلى مقاصد الإنسان التكوينية.
فهؤلاء
المهديون إلى مستقيم الصراط في أمن إلهي من خطرات السير وعثرات
الطريق إذ كان الصراط الذي يسلكونه والمسير الذي يضربون فيه لا اختلاف فيه
بالهداية والإضلال والحق والباطل والسعادة والشقاوة بل هو مؤتلف الأجزاء ومتساوي
الأحوال يقوم على الحق ويؤدي إلى الحق لا يدع صاحبه في حيرة ، ولا يورده إلى ظلم
وشقاء ومعصية قال تعالى : «
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ
الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ » ( الأنعام : ٨٢ ).
قوله تعالى : « ذلِكَ هُدَى اللهِ
يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ » إلى آخر الآية. يبين تعالى أن الذي ذكره من صفة
الهداية التي هدى بها المذكورين من أنبيائه هو المعرف لهداه الخاص به الذي يهدي به
من يشاء من عباده.
فالهدى إنما
يكون هدى ـ حق الهدى ـ إذا كان من الله سبحانه ، والهدى إنما يكون هدى الله إذا
أورد المتلبس به صراطا مستقيما اتفق على الورود فيه أصحاب الهدى وهم الأنبياء
المكرمون عليهالسلام ، واتفق أجزاء ذلك الصراط في الدعوة إلى كلمة التوحيد
وإقامة دعوة الحق والاتسام بسمة العبودية والتقوى.
أما الطريق
الذي يفرق فيه بين رسل الله فيؤمن فيه ببعض ويكفر ببعض أو يفرق فيه بين أحكام الله
وشرائعه فيؤخذ فيه ببعض ويترك بعض ، والطرق التي لا تضمن سعادة حياة المجتمع
الإنساني أو يسوق إلى بعض ما ليس فيه السعادة الإنسانية فتلك هي الطرق التي لا
مرضاة فيها لله سبحانه وقد انحرفت فيها عن شريعة الفطرة إلى مهابط الضلال ومزالق
الأهواء ، والاهتداء إليها ليس اهتداء بهدى الله سبحانه.
قال تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ
وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ
يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ، أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا » : ( النساء : ١٥١ ) وقال : « أَفَتُؤْمِنُونَ
بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ
مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ
إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ » : ( البقرة : ٨٥ ) وقال : « وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ
بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » : ( القصص : ٥٠ ) يريد أن الطريق الذي فيه اتباع الهوى
إنما هو ضلال لا يورد سالكه سعادة الحياة وليس بهدى الله لأن فيه ظلما والله
سبحانه لم يجعل الظلم ولن يجعله مما يتوسل به إلى سعادة ولا أن السعادة تنال بظلم.
وبالجملة هدى
الله سبحانه من خاصته أنه لا يشتمل على ضلال ولا يجامع ضلالا بالتأدية إليه ،
وإنما هو الهدى محضا تتلوه السعادة محضة عطاء غير مجذوذ لكن لا على حد العطايا
المعمولة فيما بيننا التي ينقطع معها ملك المعطي ( بالكسر ) عن عطيته وينتقل إلى
المعطى ( بالفتح ) فيحوزه على أي حال سواء شكر أو كفر.
بل هذه العطية
الإلهية إنما تقوم على شريطة التوحيد والعبودية فلا كرامة لأحد عليه تعالى ولا أمن
له منه إلا بالعبودية محضا ولذلك ذيل الكلام بقوله : « وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ » وإنما ذكر الإشراك لأن محط البيان إنما هو التوحيد.
قوله
تعالى : « أُولئِكَ الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ » الإشارة باللفظ المفيد للبعد للدلالة على علو شأنهم
ورفعة مقامهم ، والمراد بإيتائهم الكتاب وغيره إيتاء جمعهم ذلك بوصف المجموع وإن
كان بعضهم لم يؤتوا بعض المذكورات كما مر في تفسير قوله : « وَاجْتَبَيْناهُمْ
وَهَدَيْناهُمْ » فإن الكتاب إنما أوتيه بعض الأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهالسلام.
والكتاب إذا
نسب في كلامه تعالى إلى الأنبياء عليهمالسلام نوعا من النسبة يراد به الصحف التي تشتمل على الشرائع
ويقضى بها بين الناس فيما اختلفوا فيه كقوله تعالى : « كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ
اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ
بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ » : ( البقرة : ٢١٣ ) وقوله : « إِنَّا أَنْزَلْنَا
التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ـ إلى أن قال ـ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ » : ( المائدة : ٤٨ ) إلى غير ذلك من الآيات.
والحكم هو إلقاء النسبة التصديقية بين أجزاء الكلام كقولنا :
فلان عالم ، وإذا كان ذلك في الأمور الاجتماعية والقضايا العملية التي تدور بين
المجتمعين عد نوع النسبة حكما كما تسمى نفس القضية حكما كما يقال يجب على الإنسان
أن يفعل كذا ويحرم عليه أن يفعل كذا أو يجوز له أن يفعل كذا أو أحب أو أكره أن
تفعل كذا فتسمى الوجوب والحرمة والجواز والاستحباب والكراهة أحكاما كما تسمى
القضايا المشتملة عليها أحكاما ، ولأهل الاجتماع أحكام أخر ناشئة من نسب أخرى
كالملك والرئاسة والنيابة والكفاية
والولاية وغير ذلك.
وإذا قصد به
المعنى المصدري أريد به إيجاد الحكم وجعله إما بحسب التشريع والتقنين كما يجعل أهل
التقنين أحكاما صالحة ليجري عليها الناس ويعملوا بها في مسير حياتهم لحفظ نظام
مجتمعهم ، وإما بحسب التشخيص والنظر كتشخيص القضاة والحكام في المنازعات والدعاوي أن
المال لفلان والحق مع فلان وكتشخيص أهل الفتيا في فتاواهم وقد يراد به إنفاذ الحكم
كحكم الوالي والملك على الناس بما يريدان في حوزة الولاية والملك.
والظاهر من
الحكم في الآية بقرينة ذكر الكتاب معه أن يكون المراد به معنى القضاء فيكون المراد
من إيتاء الكتاب والحكم إعطاء شرائع الدين والقضاء بحسبها بين الناس كما هو ظاهر
عدة من الآيات كقوله تعالى : «
وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ » : ( البقرة : ٢١٣ ) وقوله : ( إِنَّا أَنْزَلْنَا
التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ
أَسْلَمُوا ) » : ( المائدة : ٤٤ ) وقوله : « لِتَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ » : ( النساء : ١٠٥ ) وقوله : « وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي
الْحَرْثِ » : ( الأنبياء : ٧٨ ) وقوله :
« يا داوُدُ إِنَّا
جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا
تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ » : ( ـ ص : ٢٦ ) إلى غير ذلك من الآيات وهي كثيرة ، وإن
كان مثل قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليهالسلام : «
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ » : ( الشعراء : ٨٣ ) لا يأبى بظاهره الحمل على المعنى
الأعم.
وأما النبوة
فقد تقدم في تفسير قوله : «
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ » الآية : ( البقرة : ٢١٣ ) أن المراد بها التحقق بأنباء
الغيب بعناية خاصة إلهية وهي الأنباء المتعلقة بما وراء الحس والمحسوس كوحدانيته
تعالى والملائكة واليوم الآخر.
وعد هذه
الكرامات الثلاث التي أكرم الله سبحانه بها سلسلة الأنبياء عليهمالسلام أعني الكتاب والحكم والنبوة في سياق الآيات الواصفة
لهداه تعالى يدل على أنها من آثار هداية الله وبها يتم العلم بالله تعالى وآياته
فكأنه قيل : تلك الهداية التي جمعنا عليها الأنبياء عليهمالسلام وفضلناهم بها على العالمين هي التي توردهم صراطا
مستقيما وتعلمهم الكتاب المشتمل على شرائعه ، وتسددهم وتنصبهم للحكم بين الناس ،
وتنبئهم أنباء الغيب.
(
كلام في معنى الكتاب في القرآن )
الكتاب بحسب ما
يتبادر منه اليوم إلى أذهاننا هو الصحيفة أو الصحائف التي تضبط فيها طائفة من
المعاني على طريق التخطيط بقلم أو طابع أو غيرهما لكن لما كان
الاعتبار في استعمال الأسماء إنما هو بالأغراض التي وقعت التسمية لأجلها أباح ذلك
التوسع في إطلاق الأسماء على غير مسمياتها المعهودة في أوان الوضع ، والغرض من
الكتاب هو ضبط طائفة من المعاني بحيث يستحضرها الإنسان كلما راجعه ، وهذا المعنى
لا يلازم ما خطته اليد بالقلم على القرطاس كما أن الكتاب في ذكر الإنسان إذا حفظه
كتاب وإذا أملاه عن حفظه كتاب وإن لم يكن هناك صحائف أو ألواح مخطوطة بالقلم
المعهود.
وعلى هذا
التوسع جرى كلامه تعالى في إطلاق الكتاب على طائفة من الوحي الملقى إلى النبي
وخاصة إذا كان مشتملا على عزيمة وشريعة وكذا إطلاقه على ما يضبط الحوادث والوقائع
نوعا من الضبط عند الله سبحانه ، قال تعالى : « كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ » ( ـ ص : ٢٩ ) وقال تعالى : « ما أَصابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ
أَنْ نَبْرَأَها » : ( الحديد : ٢٢ ) وقال تعالى : « وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي
عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً ،
اقْرَأْ كِتابَكَ » : ( الإسراء : ١٤ ).
وفي هذه
الأقسام الثلاثة ينحصر ما ذكره الله سبحانه في كلامه من كتاب منسوب إلى نفسه غير
ما في ظاهر قوله في أمر التوراة : « وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ
شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ » : ( الأعراف : ١٤٥ ) وقوله : « وَأَلْقَى
الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ » : ( الأعراف : ١٥٠ ) وقوله : « وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ
مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ
لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ » : ( الأعراف : ١٥٤ ) .
القسم الأول :
الكتب المنزلة على الأنبياء عليهمالسلام وهي المشتملة على شرائع الدين ـ كما تقدم آنفا ـ وقد
ذكر الله سبحانه منها كتاب نوح عليهالسلام في قوله : « وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ » : ( البقرة : ٢١٣ ) وكتاب إبراهيم وموسى عليهالسلام قال : «
صُحُفِ
__________________
إِبْراهِيمَ
وَمُوسى » : ( الأعلى :
١٩ ) وكتاب عيسى وهو الإنجيل قال : « وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ
» : ( المائدة
: ٤٦ ) وكتاب محمد صلىاللهعليهوآله قال؟ «
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ » : ( الحجر : ١ ) وقال : « رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً
مُطَهَّرَةً ، فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ » ( البينة : ٣ ) وقال : « فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ، مَرْفُوعَةٍ
مُطَهَّرَةٍ ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ، كِرامٍ بَرَرَةٍ » : ( عبس : ١٦ ) وقال : « نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى
قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ » : ( الشعراء : ١٩٥ ).
القسم الثاني :
الكتب التي تضبط أعمال العباد من حسنات أو سيئات فمنها : ما يختص بكل نفس إنسانية
كالذي يشير إليه قوله تعالى : «
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ كِتاباً » : ( الإسراء : ١٣ ) وقوله : « يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ
خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ » : ( آل عمران : ٣٠ ) إلى غير ذلك من الآيات ، ومنها :
ما يضبط أعمال
الأمة كالذي يدل عليه قوله : «
وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا » : ( الجاثية : ٢٨ ) ومنها : ما يشترك فيه الناس جميعا
كما في قوله : « هذا
كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ » : ( الجاثية : ٢٩ ) لو كان الخطاب فيه لجميع الناس.
لعل لهذا القسم
من الكتاب تقسيما آخر بحسب انقسام الناس إلى طائفتي الأبرار والفجار وهو الذي
يذكره في قوله : « كَلَّا
إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ، وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ ، كِتابٌ
مَرْقُومٌ ـ إلى أن قال ـ كَلَّا
إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ، وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ ،
كِتابٌ مَرْقُومٌ ، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ » : ( المطففين : ٢١ ).
القسم الثالث :
الكتب التي تضبط تفاصيل نظام الوجود والحوادث الكائنة فيه فمنها الكتاب المصون عن
التغير المكتوب فيه كل شيء كالذي يشير إليه قوله تعالى : « وَما يَعْزُبُ عَنْ
رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ
مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ » : ( يونس : ٦١ ) وقوله : « وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ
مُبِينٍ » ( يس : ١٢ )
وقوله : «
وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ » : ( ق : ٤ ) وقوله : «
لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ » ( الرعد : ٣٨ ) ومن الآجال الأجل المسمى الذي لا سبيل للتغير إليه وقوله
: « وَما كانَ
لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً » : ( آل عمران : ١٤٦ ).
ولعل هذا النوع
من الكتاب ينقسم إلى كتاب واحد عام حفيظ لجميع الحوادث والموجودات ، وكتاب خاص بكل
موجود موجود يحفظ به حاله في الوجود كما يشعر به الآيتان الأخيرتان وسائر الآيات
الكريمة التي تشاكلهما.
ومنها : الكتب
التي يتطرق إليها التغيير ويداخلها المحو والإثبات كما يدل عليه قوله تعالى : « يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ » : ( الرعد : ٣٩ ) واستيفاء البحث عن كل قسم من أقسام
هذه الكتب موكول إلى المحل الذي يناسبه من الكتاب والله المستعان.
(
كلام في معنى الحكم في القرآن )
الأصل في مادة
الحكم بحسب ما يتحصل من موارد استعمالاتها هو المنع ، وبذلك سمي الحكم المولوي
حكما لما أن الأمر يمنع به المأمور عن الإطلاق في الإرادة والعمل ويلجمه أن يقع
على كل ما تهواه نفسه ، وكذا الحكم بمعنى القضاء يمنع مورد النزاع من أن يتزلزل
بالمنازعة والمشاجرة أو يفسد بالتعدي والجور ، وكذا الحكم بمعنى التصديق يمنع
القضية من تطرق الشك إليه ، والأحكام والاستحكام يشعران عن حال في الشيء يمنعه من
دخول ما يفسده بين أجزائه أو استيلاء الأمر الأجنبي في داخله ، والأحكام يقابل
بوجه التفصيل الذي هو جعل الشيء فصلا فصلا يبطل بذلك التئام أجزائه وتوحدها قال
تعالى : « كِتابٌ
أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ » : ( هود : ١ ) وإلى ذلك يعود معنى المحكم الذي يقابل
المتشابه.
قال الراغب في
المفردات : ، حكم أصله منع منعا لإصلاح ، ومنه سميت اللجام حكمة الدابة (
بفتحتين ) فقيل : حكمته ، وحكمت الدابة منعتها بالحكمة ، وأحكمتها جعلت لها حكمة ،
وكذلك حكمت السفينة وأحكمتها قال الشاعر : « أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ». انتهى.
والحكم إذا نسب
إلى الله سبحانه فإن كان في تكوين أفاد معنى القضاء الوجودي وهو الإيجاد الذي
يساوق الوجود الحقيقي والواقعية الخارجية بمراتبها قال تعالى : « وَاللهُ يَحْكُمُ لا
مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ » : ( الرعد : ٤١ ).
وقال : « وَإِذا قَضى أَمْراً
فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » : ( البقرة : ١١٧ ) ومنه يوجه قوله : « قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ » : ( المؤمن : ٤٨ ).
وإن كان في
تشريع أفاد معنى التقنين والحكم المولوي قال تعالى : « وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ » : ( المائدة : ٤٣ ) وقال : « وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللهِ حُكْماً » المائدة : ٥٠ ).
وإذا نسب إلى
الأنبياء عليهمالسلام أفاد معنى القضاء وهو من المناصب الإلهية التي أكرمهم
بها قال تعالى : ( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ) » ( المائدة : ٤٨ ) وقال تعالى : « أُولئِكَ الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ » : ( الأنعام : ٨٩ ).
ولعل في بعض
الآيات إشعارا أو دلالة على إيتائهم الحكم بمعنى التشريع كما في قوله حكاية عن
إبراهيم عليهالسلام في دعائه : « رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي
بِالصَّالِحِينَ » : ( الشعراء : ٨٣ ).
وأما غير
الأنبياء من الناس فنسب إليهم الحكم بمعنى القضاء كما في قوله : « وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ
الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ » : ( المائدة : ٤٧ ) والحكم بمعنى التشريع وقد ذمهم
الله عليه كما في قوله : « وَجَعَلُوا
لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا
لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا ـ إلى أن قال ـ ساءَ ما يَحْكُمُونَ » : ( الأنعام : ١٣٦ ) وقوله « وَإِنَّ وَعْدَكَ
الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ » : ( هود : ٤٥ ) والآية بحسب موردها يشمل الحكم بمعنى
إنجاز الوعد وإنفاذ الحكم.
قوله
تعالى : « فَإِنْ يَكْفُرْ بِها
هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ » الضميران في قوله : « يَكْفُرْ بِها » وقوله : « وَكَّلْنا بِها » راجعان إلى الهدى ويجوز فيه التذكير والتأنيث من جهة
أنه هداية ، أو راجعان إلى الكتاب والحكم والنبوة التي هي من آثار الهداية الإلهية
، ولا يخلو أول الوجهين عن بعد ، والمشار إليه بقوله : « هؤُلاءِ » الكافرون بالدعوة من قوم النبي صلىاللهعليهوآله والمتيقن منهم بحسب مورد الآية كفار مكة الذين أشار
الله سبحانه إليهم بقوله : «
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ
تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ » : ( البقرة : ٦ ).
والمعنى على
الوجه الأول : فإن يكفر مشركو قومك بهدايتنا وهي طريقتنا فقد وكلنا بها من عبادنا
من ليس يكفر بها ، والكفر والإيمان يتعلقان بالهداية وخاصة إذا كانت
بمعنى الطريقة كما ينسبان إلى الله سبحانه وآياته قال تعالى : « وَأَنَّا لَمَّا
سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ » : ( الجن : ١٣ ) وقال : « فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ » : ( البقرة : ٣٨ ).
وعلى الوجه
الثاني : فإن يكفر بالكتاب والحكم والنبوة ـ وهي التي تشتمل على الطريقة الإلهية
والدعوة الدينية ـ مشركو مكة فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين.
وأما أن هؤلاء
القوم من هم : ـ وفي تنكير اللفظ دلالة على أن لهم خطرا عظيما ـ فقد اختلف فيهم أقوال
المفسرين :
فمن قائل : إن
المراد بهم الأنبياء المذكورون في الآيات السابقة وهم ثمانية عشر نبيا أو مطلق
الأنبياء المذكورين بأسمائهم أو بنعوتهم في قوله : « وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ
وَإِخْوانِهِمْ » ، وفيه أن سياق اللفظ لا يلائمه إذ ظاهر قوله : « لَيْسُوا بِها
بِكافِرِينَ » نفي الحال أو الاستمرار في النفي والمذكورون من الأنبياء عليهمالسلام لم يكونوا موجودين حال الخطاب ولو كان المراد ذلك لكان
المتعين أن يقال : لم يكونوا بها بكافرين ، وليس رسول الله صلىاللهعليهوآله معدودا منهم بحسب هذه العناية وإن كان هو منهم وأفضلهم
فإن الله سبحانه يذكره صلىاللهعليهوآله بعد ذلك بقوله : « أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ
اقْتَدِهْ ».
ومن قائل إن
المراد بهم الملائكة وفيه كما قيل إن القوم وخاصة إذا أطلق من غير تقييد لا يطلق
على الملائكة ولا يسبق إلى الذهن على أن في الآية بحسب السياق نوع تسلية للنبي صلىاللهعليهوآله ولا معنى لتسليته في كفر قومه بإيمان الملائكة.
ومن قائل إن
المراد بهم المؤمنون به صلىاللهعليهوآله عند نزول السورة في مكة أو مطلق المهاجرين. وفيه : أن
بعض هؤلاء قد ارتدوا بعد إيمانهم كالذي قال سأنزل مثل ما أنزل الله ، وقد تعرض
سبحانه لأمره في هذه السورة بعد آيات ، وقد كان فيهم المنافق فلا ينطبق عليهم قوله
: « لَيْسُوا
بِها بِكافِرِينَ ».
ومن قائل : إن
المراد بهم الأنصار أو المهاجرون والأنصار جميعا أو أصحاب النبي صلىاللهعليهوآله من المهاجرين والأنصار وهم الذين أقاموا هذه الدعوة على
ساقها ونصروا النبي صلىاللهعليهوآله يوم العسرة ، وقد مدحهم الله في كتابه أبلغ المدح. وفيه
: أن كرامة جماعتهم ورفعة منزلتهم بما هم جماعة مما لا يدانيه ريب لكن كان بينهم
من ارتد بعد إيمانه والمنافق الذي لم يظهر حاله بعد ، ولا ينطبق على من هذا نعته
مثل قوله تعالى : « فَقَدْ
وَكَّلْنا بِها قَوْماً
لَيْسُوا
بِها بِكافِرِينَ » وظاهره أنه لا سبيل للكفر إليهم ولم يقل : فقد وكلنا بها قوما يؤمنون بها
أو آمنوا بها.
وربما يستفاد
من كلمات بعضهم : أن المراد به قيام الإيمان بجماعتهم وإن أمكن أن يتخلف عن إقامته
آحاد منهم وبعبارة أخرى قوله : «
لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ » وصف للمجتمع ولا ينافي خروج بعض الأبعاض اتصاف المجتمع بوصفه القائم
بالمجموع من حيث هو مجموع ، والمؤمنون به صلىاللهعليهوآله من الأنصار أو منهم ومن المهاجرين أو الصحابة ثبت
الإيمان فيهم ثبوتا من غير زوال وإن زال عن بعض أفرادهم.
وهذا الوجه لو
تم لدل على أن المراد بالقوم جميع الأمة المسلمة أو المؤمنون من جميع الأمم ، ولا
دليل من تخصيصه بقوم دون قوم ، واختصاص بعضهم بمزايا وكرامات دينية كتقدم
المهاجرين في الإيمان بالله والصبر على الأذى في جنب الله ، أو تبوء الأنصار الدار
والإيمان وإعلاؤهم كلمة التوحيد لا يوجب إلا فضل اتصافهم بهذا النعت لا اختصاصه
بهم وحرمان غيرهم منه مع مشاركته إياهم في معناه.
إلا أنه يرد
على هذا الوجه : أن المألوف من كلامه في الأوصاف الاجتماعية التي لا تستوعب جميع
أفراد المجتمع أن يستثني المتخلفين عنها لو كان هناك متخلف أو يأتي بما في معنى
الاستثناء كقوله : «
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ
سافِلِينَ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا » : ( التين : ٦ ).
وقوله : « مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ـ إلى أن قال ـ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً » : ( الفتح : ٢٩ ) وقوله : « إِنَّ الْمُنافِقِينَ
فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ـ إلى أن قال ـ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا
وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ » : ( النساء : ١٤٦ ) وقوله : « كَيْفَ يَهْدِي اللهُ
قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ـ إلى أن قال ـ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
وَأَصْلَحُوا » : ( آل عمران : ٨٩ ) وهذا المعنى كثير دائر في القرآن الكريم فما بال
قوله : « قَوْماً
لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ » لم يستثن منه المتخلف عن الوصف من القوم مع وجوده فيهم.
وأغرب منه قول
بعضهم : إن المراد بوصف القوم بأنهم ليسوا بها بكافرين ـ والقوم
على قوله هم الأنصار ـ الإشارة إلى أنهم وإن لم يؤمنوا بها بعد لكنهم لم
يكفروا بها كما كفر بها مشركو مكة. وفيه مضافا إلى أنه لا يسلم مما تقدم من
الإشكال على الوجوه السابقة أن أهل المدينة من الأنصار كانوا حين نزول الآيات مشركين
يعبدون الأصنام ولا معنى لنفي الكفر عنهم اللهم إلا بمعنى الرد بعد الدعوة وهو
الاستكبار والاستنكاف ولا دليل على كون الكفر في الآية بهذا المعنى مع كون الآيات
مسوقة لوصف الهداية الإلهية المقابلة للإشراك كما جرى على هذا المجرى في قوله : « وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ
عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ». وفيه : أن التوكيل المذكور في الآية يفيد معنى الحفظ
، ولا معنى لقولنا : إن يكفر بها هؤلاء فقد حفظناها بقوم لم يؤمنوا بها ولم يردوها
بعد.
ومن قائل : إن
المراد بهم العجم ولم يكونوا يؤمنوا بها يومئذ وكأنه مأخوذ من قوله تعالى « إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ » : ( النساء : ١٣٣ ) فقد ورد أن المراد بالآخرين هم
العجم لكن يرد عليه ما يرد على سابقه.
ومن قائل : إن
المراد بالقوم هم المؤمنون من أمة محمد صلىاللهعليهوآله أو المؤمنون من جميع الأمم. وفيه : أنه يرد عليه ما
أورد على ما قبله من الوجوه. نعم يمكن أن يوجه بأن المراد بهم نفوس من هذه الأمة
أو من جميع الأمم يؤمن بالله إيمانا لا يعقبه كفر ما دامت تعيش في الدنيا فهؤلاء
قوم مؤمنون وليسوا بها بكافرين وإن لم يمتنع الكفر عليهم لكن دوامهم على الإيمان
بدعوة التوحيد من غير كفر أو نفاق يستدعي صدق قوله « قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ » عليهم ويتم به معنى الآية في أنها مسوقة لتسلية النبي صلىاللهعليهوآله وتطييب قلبه الشريف إذ كان يحزنه كفر المشركين من قومه
واستكبارهم عن إجابة دعوة الحق والإيمان بالله وآياته ، وفي أنها دالة على اعتزازه
تعالى بحفظ هدايته وطريقته التي أكرم بها عباده المكرمين وأنبياءه المقربين.
لكن يتوجه إليه
أن بناء هذا الوجه على قضية اتفاقية وهي إيمان المؤمنين بها إيمانا يتفق أن يبقى
سليما من الزوال من غير ضامن يضمن بقاءه ، ولا يلائمه قوله تعالى : « وَكَّلْنا بِها » فإن التوكيل يفيد معنى الاعتماد ويتضمن معنى الحفظ
والكلاءة ، ولا وجه للاعتزاز والمباهاة بأمر لا ضامن لثباته ولا حافظ لاستقراره
وبقائه.
على أن الله
سبحانه يذم كثيرا من الإيمان إذ يقول : « وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا
وَهُمْ
مُشْرِكُونَ » : ( يوسف : ١٠٦ ) وهذه الآيات إنما تصف التوحيد الفطري المحض والهداية
الإلهية الطاهرة النقية الخالية عن شوب الشرك والظلم التي أكرم الله بها خليله
إبراهيم ومن قبله وبعده من الأنبياء المكرمين عليهالسلام كما يذكره إبراهيم عليهالسلام في قوله على ما يحكيه الله سبحانه عنه : « الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ
مُهْتَدُونَ » : ( الأنعام : ٨٢ ) والهداية التي هذا شأنها لا يعد كل متلبس بالإيمان
حافظا لها موكلا بها من الله يحفظها الله به من الضيعة والفساد البتة وفيهم الطغاة
والبغاة والفراعنة والمستكبرون والجفاة الظلمة وأهل البدع والمتوغلون في الفجور
وأنواع الفحشاء والفسق.
والذي ينبغي أن
يقال في معنى الآية أعني قوله : «
فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها
بِكافِرِينَ » إن الآيات لما كانت تصف التوحيد الفطري والهداية الإلهية الطاهرة من شوب
الشرك بالله سبحانه ، وتذكر أن الله سبحانه أكرم بهذه الهداية سلسلة متصلة متحدة
من أنبيائه واصطفاهم بها ذرية بعضها من بعض واجتباهم وهداهم إلى صراط مستقيم لا
ضلال فيه وآتاهم الكتاب والحكم والنبوة.
ثم فرع على ذلك
قوله : « فَإِنْ
يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ » وسياقه سياق اعتزاز منه تعالى وتسلية للنبي صلىاللهعليهوآله وتطييب لنفسه لئلا يوهنه الحزن ويفسخ عزيمته في الدعوة
الدينية ما يشاهده من كفر قومه واستكبارهم وعمههم في طغيانهم فمعناه أن لا تحزن
بما تراه من كفرهم بهذه الهداية الإلهية والطريقة التي تشتمل عليها الكتاب والحكم
والنبوة التي آتيناها سلسلة المهديين من الأنبياء الكرام فإنا قد وكلنا بها قوما
ليسوا بها بكافرين فلا سبيل للضيعة والزوال إلى هذه الهداية الإلهية لأنا وكلناهم
بها واعتمدنا عليهم فيها وأولئك غير كافرين بها البتة.
فهؤلاء قوم لا
يتصور في حقهم كفر ولا يدخل في قلوبهم شرك لأن الله وكلهم بها واعتمد عليهم فيها
وحفظها بهم ولو جاز عليهم الشرك وأمكن فيهم التخلف كان الاعتماد عليهم فيها خطاء
وضلالا والله سبحانه لا يضل ولا ينسى.
فالآية تدل ـ والله
أعلم ـ على أن لله سبحانه في كل زمان عبدا أو عبادا موكلين بالهداية الإلهية
والطريقة المستقيمة التي يتضمنها ما آتاه أنبياءه من الكتاب والحكم والنبوة يحفظ
الله بهم دينه عن الزوال وهدايته عن الانقراض ، ولا سبيل للشرك والظلم إليهم
لاعتصامهم بعصمة إلهية وهم أهل العصمة من الأنبياء الكرام وأوصيائهم عليهالسلام.
فالآية خاصة
بأهل العصمة وقصارى ما يمكن أن يتوسع به أن يلحق بهم الصالحون من المؤمنين ممن
اعتصم بعصمة التقوى والصلاح ومحض الإيمان عن الشرك والظلم ، وخرج بذلك عن ولاية
الشيطان قال تعالى. «
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ » : ( النحل : ٩٩ ) إن صدق عليهم أن الله وكلهم بها واعتمد عليهم فيها.
قوله
تعالى : « أُولئِكَ الَّذِينَ
هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ » إلى آخر الآية. عاد ثانيا إلى تعريفهم بما فيه تعريف
الهدى الإلهي فالهدى الإلهي لا يتخلف عن شأنه وأثره وهو الإيصال إلى المطلوب قال
تعالى : « فَإِنَّ
اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ » : ( النحل : ٣٧ ).
وقد أمر النبي صلىاللهعليهوآله في قوله : « ( فَبِهُداهُمُ
اقْتَدِهْ ) بالاقتداء ـ وهو الاتباع ـ بهداهم لا بهم لأن شريعته ناسخة
لشرائعهم وكتابه مهيمن على كتبهم ، ولأن هذا الهدى المذكور في الآيات لا واسطة فيه
بينه تعالى وبين من يهديه ، وأما نسبة الهدى إليهم في قوله : « فَبِهُداهُمُ » فمجرد نسبة تشريفية ، والدليل عليه قوله : « ذلِكَ هُدَى اللهِ » إلخ.
وقد استدل
بعضهم بالآية على أن النبي صلىاللهعليهوآله وأمته كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم إلا ما قام الدليل
على نسخه ، وفيه : أن ذلك إنما يتم لو كان قيل : فبهم اقتده ، وأما قوله « فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ
» فهو بمعزل عن
الدلالة على ذلك ، كما هو ظاهر.
وختم سبحانه
كلامه في وصف التوحيد الفطري والهداية الإلهية إليه بقوله خطابا لنبيه : « قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ » كأنه قيل : اهتد بالهدى الإلهي الذي اهتدى به الأنبياء
قبلك ، وذكر به العالمين من غير أن تسألهم أجرا على ذلك ، وقل لهم ذلك لتطيب به
نفوسهم ، ويكون أنجح للدعوة وأبعد من التهمة ، وقد حكى الله سبحانه هذه الكلمة عن
نوح ومن بعده من الأنبياء عليهمالسلام في دعواتهم.
والذكرى أبلغ
من الذكر كما ذكره الراغب ، وفي الآية دليل على عموم نبوته صلىاللهعليهوآله لجميع العالمين.
(
بحث روائي )
في قصص
الأنبياء ، للثعلبي : أن إلياس أتى إلى بيت امرأة من بني إسرائيل ـ لها ابن يسمى
اليسع بن خطوب ، وكان به ضر فآوته وأخفت أمره ـ فدعا له فعوفي من الضر الذي كان به
، واتبع اليسع إلياس فآمن به وصدقه ولزمه ـ فكان يذهب حيثما يذهب ، ثم ذكر قصة رفع
إلياس ، وأن اليسع ناداه عند ذلك : يا إلياس ما تأمرني به؟ فقذف إليه كساءه من
الجو الأعلى ـ فكان ذلك علامة على استخلافه إياه على بني إسرائيل.
قال : ونبأ
الله تعالى بفضله اليسع عليهالسلام ـ وبعثه نبيا ورسولا إلى بني إسرائيل ، وأوحى الله
تعالى إليه وأيده ـ بمثل ما أيد به عبده إلياس ـ فآمنت به بنو إسرائيل ـ وكانوا
يعظمونه وينتهون إلى رأيه وأمره ، وحكم الله تعالى فيهم قائم إلى أن فارقهم اليسع.
وفي البحار ،
عن الاحتجاج والتوحيد والعيون في خبر طويل رواه الحسن بن محمد النوفلي عن الرضا عليهالسلام : فيما احتج به على جاثليق النصارى إلى أن قال عليهالسلام : إن اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى عليهالسلام ـ مشى على الماء وأحيى الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص ـ فلم
يتخذه أمته ربا. الخبر.
وفي تفسير
العياشي ، عن محمد بن الفضيل عن الثمالي عن أبي جعفر عليهالسلام : في قوله : « وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا
هَدَيْنا » لنجعلها في
أهل بيته ، « وَنُوحاً
هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ » لنجعلها في أهل بيته ـ فأمر العقب من ذرية الأنبياء ـ من كان قبل إبراهيم
ولإبراهيم.
أقول
: وفيه تأييد ما
قدمناه أن الآيات لبيان اتصال سلسلة الهداية.
وفي الكافي ،
مسندا وفي تفسير العياشي ، مرسلا عن بشير الدهان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : والله لقد نسب الله عيسى بن مريم في القرآن ـ إلى
إبراهيم من قبل النساء ثم تلا : ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ
داوُدَ وَسُلَيْمانَ ) إلى آخر الآية وذكر عيسى.
وفي تفسير
العياشي ، عن أبي حرب عن أبي الأسود قال : أرسل الحجاج إلى يحيى بن معمر قال :
بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي ـ تجدونه في كتاب الله ، وقد قرأت
كتاب الله من أوله إلى آخره فلم أجده. قال : أليس تقرأ سورة الأنعام؟
« وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ
داوُدَ وَسُلَيْمانَ » حتى بلغ يحيى وعيسى ـ قال : أليس عيسى من ذرية إبراهيم؟
قال : نعم قرأت.
أقول
: ورواه في الدر
المنثور ، عن ابن أبي حاتم عن أبي الحرب بن أبي الأسود : مثله.
وفي الدر
المنثور ، أخرج أبو الشيخ والحاكم والبيهقي عن عبد الملك بن عمير قال : دخل يحيى
بن معمر على الحجاج فذكر الحسين ـ فقال الحجاج : لم يكن من ذرية النبي ص. فقال
يحيى : كذبت ـ فقال لتأتيني على ما قلت ببينة ـ فتلا : « وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ
داوُدَ وَسُلَيْمانَ ـ إلى قوله ـ وَعِيسى
وَإِلْياسَ » فأخبر تعالى أن عيسى من ذرية إبراهيم بأمه. قال : صدقت.
أقول
: ذكر الآلوسي
في روح المعاني ، في قوله تعالى : « و ( عِيسى ) » ، وفي ذكره عليهالسلام دليل على أن الذرية تتناول أولاد البنات لأن انتسابه
ليس إلا من جهة أمه. وأورد عليه : أنه ليس له أب يصرف إضافته إلى الأم إلى نفسه
فلا يظهر قياس غيره عليه في كونه ذرية لجده من الأم وتعقب بأن مقتضى كونه بلا أب
أن يذكر في حيز الذرية. وفيه منع ظاهر والمسألة خلافية ، والذاهبون إلى دخول ابن
البنت في الذرية يستدلون بهذه الآية ، وبها احتج موسى الكاظم رضي الله عنه على ما
رواه البعض عند الرشيد.
وفي التفسير
الكبير : ، أن أبا جعفر رضي الله تعالى عنه استدل بها عند الحجاج بن يوسف وبآية
المباهلة حيث دعا صلىاللهعليهوآله الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما بعد ما نزل « تَعالَوْا نَدْعُ
أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ ». وادعى بعضهم : أن هذا من خصائصه صلىاللهعليهوآله ، وقد اختلف إفتاء أصحابنا في هذه المسألة ، والذي أميل
إليه القول بالدخول. انتهى.
وقال في المنار
: وأقول : في الباب حديث أبي بكرة عند البخاري مرفوعا : « أن ابني هذا سيد » يعني
الحسن ، ولفظ ابن لا يجري عند العرب على أولاد البنات ، وحديث عمر في كتاب معرفة
الصحابة لأبي نعيم مرفوعا : « وكل ولد آدم فإن عصبتهم لأبيهم ـ خلا ولد فاطمة فإني
أبوهم وعصبتهم » وقد جرى الناس على هذا فيقولون في أولاد فاطمة عليهالسلام : أولاد رسول الله صلىاللهعليهوآله وأبناؤه وعترته وأهل بيته. انتهى.
أقول
: وفي المسألة
خلط ، وقد اشتبه الأمر فيها على عدة من الأعلام فحسبوا أن المسألة لفظية يتبع فيها
اللغة حتى احتج فيها بعضهم بمثل قول الشاعر :
بنونا بنو
أبنائنا وبناتنا
|
|
بنوهن أبناء
الرجال الأباعد
|
وقوله :
وإنما أمهات
الناس أوعية
|
|
مستودعات وللأنساب
آباء
|
وقد أخطئوا في
ذلك ، وإنما هي مسألة حقوقية اجتماعية من شعب مسألة القرابة ، والأمم والأقوام
مختلفة في تحديدها وتشخيصها وأن المرأة هل هي داخلة في القرابة؟ وأن أولاد بنت
الرجل هل هي أولاده؟ وأن القرابة هل تختص بما يحصل بالولادة أو تعمه وما حصل
بالادعاء؟ وقد كانت عرب الجاهلية لا ترى للمرأة إلا القرابة الطبيعية التي تؤثر
أثرها في الازدواج والإنفاق ونحو ذلك ، ولا ترى لها قرابة قانونية تسمح لها
بالوراثة ونحوها ، وأما أولاد البنات فلم تكن ترى لها قرابة ، وكانت ترى قرابة
الأدعياء وتسمى الدعي ابنا لا لأن اللغة كانت تجوز ذلك بل لأنهم اتبعوا في ذلك ما
تجاورهم من الأمم الراقية ترى ذلك بحسب قوانينها المدنية أو سننها القومية كالروم
وإيران.
وأما الإسلام
فقد ألغى قرابة الأدعياء من رأس قال تعالى : « وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ » : ( الأحزاب : ٤ ) وأدخل المرأة في القرابة ورتب على
ذلك آثارها وأدخل أولاد البنات في الأولاد قال تعالى في آية الإرث : « يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ » الآية : ( النساء : ١١ ) وقال : « لِلرِّجالِ نَصِيبٌ
مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ
الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ » : ( النساء : ٧ ) وقال في آية محرمات النكاح : « حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ ـ إلى أن قال ـ وَأُحِلَّ
لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ » : ( النساء : ٢٤ ) فسمى بنت البنت بنتا وأولاد البنات أولادا من غير شك
في ذلك ، وقال تعالى : « ويَحْيى
وَعِيسى وَإِلْياسَ » الآية فعد عيسى من ذرية إبراهيم أو نوح عليهالسلام وهو غير متصل بهما إلا من جهة الأم.
وقد استدل أئمة
أهل البيت عليهالسلام بهذه الآية وآية التحريم وآية المباهلة على كون ابن بنت
الرجل ابنا له والدليل عام وإن كان الاحتجاج على أمر خاص ولأبي جعفر الباقر عليهالسلام احتجاج آخر أصرح من الجميع رواه في الكافي ، بإسناده عن
عبد الصمد بن بشير عن أبي الجارود قال : قال أبو جعفر عليهالسلام : يا أبا الجارود ما يقولون لكم في الحسن والحسين؟ قلت
: ينكرون علينا أنهما ابنا رسول الله صلىاللهعليهوآله ، قال : فأي شيء احتججتم عليهم؟ قلت : احتججنا عليهم
بقول الله عز وجل ـ في عيسى بن مريم : « وَمِنْ
ذُرِّيَّتِهِ
داوُدَ وَسُلَيْمانَ ـ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ ـ وَكَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى » فجعل عيسى بن مريم من ذرية نوح.
قال : فأي شيء
قالوا لكم؟ قلت : قالوا : قد يكون ولد الابنة من الولد ـ ولا يكون من الصلب. قال :
فأي شيء احتججتم عليهم؟ قلت : احتججنا عليهم بقوله تعالى لرسول الله صلىاللهعليهوآله : «
فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ ـ وَأَنْفُسَنا
وَأَنْفُسَكُمْ » ثم قال : أي شيء قالوا : قلت قالوا : قد يكون في كلام العرب أبناء رجل ـ وآخر
يقول : أبناؤنا.
قال : فقال أبو
جعفر عليهالسلام : لأعطينكما من كتاب الله عز وجل أنهما من صلب رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ لا يرده إلا كافر. قلت : وأين ذلك جعلت فداك؟ قال :
من حيث قال الله : «
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ » الآية ـ إلى أن انتهى إلى قوله تبارك وتعالى : « وَحَلائِلُ
أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ » يا أبا الجارود ـ هل كان يحل لرسول الله صلىاللهعليهوآله نكاح حليلتهما؟ فإن قالوا : نعم ، كذبوا وفجروا ، وإن
قالوا : لا ، فإنهما ابناه لصلبه : وروى قريبا منه القمي في تفسيره ،.
وبالجملة
فالمسألة غير لفظية ، وقد اعتبر الإسلام في المرأة القرابة الطبيعية والتشريعية
جميعا ، وكذا في أولاد البنات أنهم من الأولاد وأن عمود النسب يجري من جهة المرأة
كما يجري من جهة الرجل كما ألغى الاتصال النسبي من جهة الدعاء أو من غير نكاح شرعي
، وقد روى الفريقان عنه صلىاللهعليهوآله أنه قال : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » غير أن
مساهلة الناس في الحقائق الدينية أنستهم هذه الحقيقة ولم يبق منها إلا بعض آثارها
كالوراثة والحرمة ولم تخل السلطات الدولية في صدر الإسلام من تأثير في ذلك ، وقد
تقدم البحث في ذيل آية التحريم من الجزء الثالث من الكتاب.
وفي تفسير
النعماني ، بإسناده عن سليمان بن هارون العجلي قال سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : إن صاحب هذا الأمر محفوظة له ـ لو ذهب الناس
جميعا أتى الله بأصحابه ،
__________________
وهم الذين قال الله عز وجل : « فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ ـ فَقَدْ
وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ » وهم الذين قال الله فيهم : « فَسَوْفَ يَأْتِي
اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ـ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ».
أقول
: وهو من الجري.
وفي الكافي ،
بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليهالسلام : قال الله عز وجل في كتابه : « وَنُوحاً هَدَيْنا
مِنْ قَبْلُ ـ إلى قوله ـ بِكافِرِينَ
» فإنه وكل
بالفضل من أهل بيته والإخوان والذرية ، وهو قول الله تبارك وتعالى : « فَإِنْ يَكْفُرْ بِها
» أمتك فقد
وكلنا أهل بيتك ـ بالإيمان الذي أرسلناك به فلا يكفرون به أبدا ، ولا أضيع الإيمان
الذي أرسلتك به من أهل بيتك ـ من بعدك علماء أمتك وولاة أمري بعدك ، وأهل استنباط
العلم الذي ليس فيه كذب ـ ولا إثم ولا وزر ولا بطر ولا رياء.
أقول
: ورواه العياشي
مرسلا وكذا الذي قبله والحديث كسابقه من الجري.
وفي المحاسن ،
بإسناده علي بن عيينة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : قال : أبو عبد الله عليهالسلام : ولقد دخلت على أبي العباس وقد أخذ القوم مجلسهم ـ فمد
يده إلي والسفرة بين يديه موضوعة ـ فذهبت لأخطو إليه فوقعت رجلي على طرف السفرة ـ فدخلني
بذلك ما شاء الله أن يدخلني إن الله يقول : « فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ ـ فَقَدْ
وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ » قوما والله يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ـ ويذكرون
الله كثيرا.
أقول : محصله
استحياؤه عليهالسلام من الله سبحانه بوقوع قدمه على طرف السفرة اضطرارا كأن
في وطء السفرة كفرانا لنعمة الله ففيه تعميم للكفر في قوله : « لَيْسُوا بِها
بِكافِرِينَ » لكفر النعمة.
وفي النهج ، :
اقتدوا بهدى نبيكم فإنه أفضل الهدى.
أقول
: واستفادته من
الآيات ظاهرة.
وفي تفسير
القمي ، عن النبي صلىاللهعليهوآله قال : وأحسن الهدى هدى الأنبياء.
وَما
قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ
شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً
لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً
وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ
ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ
مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ
يُحافِظُونَ (٩٢) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ
أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما
أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ
وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ
تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ
وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما
خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ
وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ
لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤) إِنَّ
اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ
الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ
الْإِصْباحِ
وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي
ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ
قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ
خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها
قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ
مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ
وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩) وَجَعَلُوا
لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ
عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ
كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا
إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ
اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣) قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ
أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤)
وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ (١٠٥).
(
بيان )
الآيات لا تخلو
عن ارتباط بما قبلها فإنها تفتتح بالمحاجة في خصوص إنزال الكتاب على أهل الكتاب إذ
ردوا على النبي صلىاللهعليهوآله بقولهم : « ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ » ، والآيات السابقة تعد إيتاء الكتاب من لوازم الهداية
الإلهية التي أكرم بها أنبياءه.
فقد بدأت
الكلام بمحاجة أهل الكتاب ثم تذكر أن أظلم الظلم أن يشرك بالله افتراء عليه أو
يظلم في باب النبوة بإنكار ما هو حق منها أو دعوى ما ليس بحق منها كالذي قال : ( سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ ).
ثم تذكر الآيات
ما يئول إليه أمر هؤلاء الظالمين عند مساءلة الموت إذا غشيتهم غمراته والملائكة
باسطوا أيديهم ، ثم تتخلص إلى ذكر آيات توحيده تعالى وذكر أشياء من أسمائه الحسنى
وصفاته العليا.
قوله
تعالى : « وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ » قدر الشيء وقدره بالتحريك كميته من عظم أو صغر ونحوهما يقال
: قدرت الشيء قدرا وقدرته بالتشديد تقديرا إذا بينت كمية الشيء وهندسته المحسوسة
ثم توسع فيه فاستعمل في المعاني غير المحسوسة فقيل : قدر فلان عند الناس وفي
المجتمع أي عظمته في أعين الناس ووزنه في مجتمعهم وقيمته الاجتماعية.
وإذ كان تقدير
الشيء وتحديده بحدود لا ينفك غالبا عن وصفه بأوصافه المبينة لحاله المستتبعة
لعرفانه أطلق القدر والتقدير على الوصف وعلى المعرفة بحال الشيء ـ على نحو
الاستعارة ـ فيقال قدر الشيء وقدره أي وصفه ، ويقال : قدر الشيء وقدره أي عرفه ،
فاللغة تبيح هذه الاستعمالات جميعا.
ولما كان الله
سبحانه لا يحيط بذاته المتعالية حس ولا وهم ولا عقل وإنما يعرف معرفة ما بما يليق
بساحة قدسه من الأوصاف وينال من عظمته ما دلت عليه آياته وأفعاله صح استعمال القدر
فيه تعالى بكل من المعاني السابقة فيقال : ( ما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ ) أي ما عظموه بما يليق بساحته من العظمة أو ما وصفوه حق
وصفه أو ما عرفوه حق معرفته. فالآية بحسب نفسها تحتمل كلا من المعاني الثلاثة أو
جميعها بطريق الالتزام لكن الأنسب
بالنظر إلى الآيات السابقة الواصفة لهدايته تعالى أنبياءه المستعقبة
لإيتائهم الكتاب والحكم والنبوة ، وعنايته الكاملة بحفظ كلمة الحق ونعمة الهداية
بين الناس زمانا بعد زمان وجيلا بعد جيل أن تحمل على المعنى الأول فإن في إنكار
إنزال الوحي حطا لقدره تعالى وإخراجا له من منزلة الربوبية المعتنية بشئون عباده
وهدايتهم إلى هدفهم من السعادة والفلاح.
ويؤيد ذلك ما
ورد من نظير اللفظ في قوله تعالى : « وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ
وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ
بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ » : ( الزمر : ٦٧ ).
وقوله تعالى :
« إِنَّ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا
لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ
الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ، ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ
لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ » : ( الحج : ٧٤ ) أي وقوته وعزته وضعف غيره وذلته تقتضيان أن لا يحط قدره
ولا يسوى هو وما يدعون من دونه بتسمية الجميع آلهة وأربابا فالأنسب بالآية هو
المعنى الأول وإن لم يمتنع المعنيان الآخران ، وأما تفسير « ما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ » بأن المراد : ما أعطوه من القدرة ما هو حقها كما فسره بعضهم فأبعد
المعاني المحتملة من مساق الآية.
ولما قيد قوله
تعالى : « وَما
قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ » بالظرف الذي في قوله : « إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ
مِنْ شَيْءٍ » أفاد ذلك أن اجتراءهم على الله سبحانه وعدم تقديرهم حق قدره إنما هو من
حيث إنهم نفوا إنزال الوحي والكتاب منه تعالى على بشر فدل ذلك على أن من لوازم
الألوهية وخصائص الربوبية أن ينزل الوحي والكتاب لغرض هداية الناس إلى مستقيم
الصراط والفوز بسعادة الدنيا والآخرة فهي الدعوى.
وقد أشار تعالى
إلى إثبات هذه الدعوى والحجاج له بقوله : « قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ
بِهِ مُوسى » إلخ ، وبقوله : «
وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ » والأول من القولين احتجاج بكتاب من الكتب السماوية
المنزلة على الأنبياء عليهمالسلام الثابتة نبوتهم بالمعجزات الباهرة التي أتوا بها ففيه
تمسك بوجود الهداية الإلهية المتصلة المحفوظة بين الناس بالأنبياء عليهمالسلام نوح ومن بعده ، وهي التي وصفها الله تعالى في الآيات
السابقة من قوله : « وَإِذْ
قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ ـ
إلى قوله ـ إِنْ هُوَ إِلَّا
ذِكْرى لِلْعالَمِينَ ».
والثاني من
القولين احتجاج بوجود معارف وأحكام إلهية بين الناس ليس من شأنها أن تترشح من
الإنسان الاجتماعي من حيث مجتمعة بما له من العواطف والأفكار التي تهديه إلى ما
يصلح حياته من الغذاء والمسكن واللباس والنكاح وجلب المنافع ودفع المضار والمكاره
فهذه الأمور التي في مجرى التمتع بالماديات هي التي يتوخاها الإنسان بحسب طبعه
الحيواني ، وأما المعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة الطيبة والشرائع الحافظة بالعمل
بها لهما فليست من الأمور التي ينالها الإنسان الاجتماعي بشعوره الاجتماعي وأنى
للشعور الاجتماعي ذلك؟ وهو إنما يبعث الإنسان إلى استخدام جميع الوسائل التي يمكنه
أن يتوسل بها إلى مآربه في الحياة الأرضية ، ومقاصده في المأكل والمشرب والمنكح
والملبس والمسكن وما يتعلق بها ثم يدعوه إلى أن يكسر مقاومة كل ما يقاومه في طريق
تمتعه إن قدر على ذلك أو يصطلحه على التعاضد والاشتراك في المنافع ورعاية العدل في
توزيعها إن لم يقدر عليه ، وهو سر كون الإنسان اجتماعيا مدنيا كما تبين في أبحاث
النبوة في البحث عن قوله تعالى : «
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ » الآية : ( البقرة : ٢١٣ ) في الجزء الثاني من الكتاب ،
وسنزيده وضوحا إن شاء الله.
وبالجملة
فالآية أعني قوله تعالى : «
وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ » تدل بما لها من الضمائم على أن من لوازم الألوهية أن
تهدي الإنسان إلى مستقيم الصراط ومنزل السعادة بإنزال الكتاب والوحي على بعض
أفراده ، وتستدل على ذلك بوجود بعض الكتب المنزلة من الله في طريق الهداية أولا ،
وبوجود ما يدل على تعاليم إلهية بينهم لا ينالها الإنسان بما عنده من العقل
الاجتماعي ثانيا.
قوله
تعالى : « قُلْ مَنْ أَنْزَلَ
الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ
قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً » القراءة الدائرة تجعلونه بصيغة الخطاب والمخاطبون به
اليهود لا محالة ، وقرئ « يجعلونه » بصيغة الغيبة ، والمخاطب المسئول عنه بقوله :
« مَنْ
أَنْزَلَ الْكِتابَ إلخ » ، حينئذ اليهود أو مشركو العرب على ما قيل ، والمراد يجعل الكتاب
قراطيس وهي جمع قرطاس إما جعله في قراطيس بالكتابة فيها ، وإما جعله نفس القراطيس
بما فيها من الكتابة فالصحائف والقراطيس تسمى كتابا كما تسمى الألفاظ المدلول
عليها بالكتابة كتابا.
وقوله : « قُلْ مَنْ أَنْزَلَ
الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى » إلخ. جواب عن قولهم المحكي بقوله تعالى : « إِذْ قالُوا ما
أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ » والآية وإن لم تعين القائلين بهذا القول من هم؟ إلا أن
الجواب بما فيه من الخصوصية لا يدع ريبا في أن المخاطبين بهذا الجواب هم اليهود
فالقائلون : « ما
أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ » هم اليهود أيضا ، وذلك أن الآية تحتج على هؤلاء
القائلين بكتاب موسى عليهالسلام والمشركون لا يعترفون به ولا يقولون بنزوله من عند الله
، وإنما القائلون به أهل الكتاب ، وأيضا الآية تذمهم بأنهم يجعلونه قراطيس يبدونها
ويخفون كثيرا ، وهذا أيضا من خصائص اليهود على ما نسبه القرآن إليهم دون المشركين.
على أن قوله
بعد ذلك : «
وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ » على ظاهر معناه الساذج لا يصلح أن يخاطب به غير اليهود
من المشركين أو المسلمين كما تقدم وسيجيء إن شاء الله تعالى.
وأما أن اليهود
كانوا مؤمنين بنبوة الأنبياء موسى ومن قبله عليهالسلام وبنزول كتب سماوية كالتوراة وغيرها فلم يك يتأتى لهم أن
يقولوا : ما أنزل الله على بشر من شيء لمخالفته أصول معتقداتهم فيدفعه : أن يكون
ذلك مخالفا للأصل الذي عندهم لا يمنع أن يتفوه به بعضهم تعصبا على الإسلام أو
تهييجا للمشركين على المسلمين أو يقول ذلك عن مسألة سألها المشركون عن حال كتاب
كان النبي صلىاللهعليهوآله يدعي نزوله عليه من جانب الله سبحانه ، وقد قالوا في
تأييد وثنية مشركي العرب على أهل التوحيد من المسلمين : ( هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
سَبِيلاً ) ، فرجحوا قذارة الشرك على طهارة التوحيد وأساس دينهم
التوحيد حتى أنزل الله : «
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ
بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً » : ( النساء : ٥١ ).
وقولهم ـ وهو
أبين سفها من سابقه ـ اغتياظا على النصارى : إن إبراهيم عليهالسلام كان يهوديا حتى نزل فيهم قوله تعالى : « يا أَهْلَ الْكِتابِ
لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ
إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
ـ إلى أن قال ـ
ما كانَ
إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما
كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » : ( آل عمران : ٦٧ ) إلى غير ذلك من أقوالهم المناقضة لأصولهم الثابتة
المحكية في القرآن الكريم.
ومن كان هذا
شأنه لم يبعد أن ينفي نزول كتاب سماوي على بشر لداع من الدواعي الفاسدة الباعثة له
على إنكار ما يستضر بثبوته أو تلقين الغير باطلا يعلم ببطلانه لينتفع به في بعض
مقاصده الباطلة.
وأما قول من
قال : إن القرآن لم يعتن بأمر أهل الكتاب في آياته النازلة بمكة وإنما كانت الدعوة
بمكة قبل الهجرة إلى المشركين للابتلاء بجماعتهم والدار دارهم ، ففيه أن ذلك لا
يوجب السكوت عنهم من رأس والدين عام ودعوته شاملة لجميع الناس والقرآن ذكر
للعالمين وهم والمشركون جيران يمس بعضهم بعضا دائما وقد جاء ذكر أهل الكتاب في بعض
السور المكية من غير دليل ظاهر على كون الآية مدنية كقوله تعالى : « وَلا تُجادِلُوا
أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْهُمْ » : ( العنكبوت
: ٤٦ ) وقوله : « وَعَلَى
الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ
وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ » : ( النحل : ١١٨ ) وقد ذكر في سورة الأعراف كثير من
مظالم بني إسرائيل مع كون السورة مكية.
ومن المستبعد
أن تدوم الدعوة الإسلامية سنين قبل الهجرة وفي داخل الجزيرة طوائف من اليهود
والنصارى فلا يصل خبرها إليهم أو يصل إليهم فيسكتوا عنها ولا يقولوا شيئا لها أو
عليها وقد هاجر جماعة من المسلمين إلى الحبشة وقرءوا سورة مريم المكية عليهم وفيها
قصة عيسى ونبوته.
وأما قول من
قال : إن السورة ـ يعني سورة الأنعام ـ إنما نزلت في الاحتجاج على المشركين في
توحيد الله سبحانه وعامة الخطابات الواردة فيها متوجهة إليهم فلا مسوغ لإرجاع
الضمير في قوله : «
إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ » إلى اليهود بل المتعين إرجاعه إلى مشركي العرب لأن
الكلام في سياق الخبر عنهم ، ولم يجر لليهود ذكر في هذه السورة فلا يجوز أن تصرف
الآية عما يقتضيه سياقها من أولها إلى هذا الموضع بل إلى آخرها بغير حجة من خبر
صحيح أو عقل فالأرجح قراءة « يجعلونه » إلخ ، بياء الغيبة على معنى أن اليهود
يجعلونه فهو حكاية عنهم ذكرت في خطاب مشركي العرب.
وأما مشكلة أن
المشركين ما كانوا يذعنون بكون التوراة كتابا سماويا فكيف يحاجون بها فقد أجاب عنه
بعضهم : أن المشركين كانوا يعلمون أن اليهود أصحاب التوراة
المنزلة على موسى عليهالسلام فمن الممكن أن يحاجوا من هذه الجهة.
ففيه : أن سياق
السورة فيما تقدم من الآيات وإن كان لمحاجة المشركين لكن لا لأنهم هم بأعيانهم
فالبيان القرآني لا يعتني بشخص أو أشخاص لأنفسهم بل لأنهم يستكبرون عن الخضوع للحق
وينكرون أصول الدعوة التي هي التوحيد والنبوة والمعاد فالمنكرون لهذه الحقائق أو
لبعضها هم المعنيون بالاحتجاجات الموردة فيها فما المانع من أن يذكر فيها بعض
هفوات اليهود لو استلزم إنكار النبوة ونزول الكتاب لدخوله في غرض السورة ، ووقوعه
في صف هفوات المشركين في إنكار أصول الدين الإلهي وإن كان القائل به من غير
المشركين وعبدة الأصنام ، ولعله مما لقنوه بعض المشركين ابتغاء للفتنة فقد ورد في
بعض الآثار أن المشركين ربما سألوهم عن حال النبي صلىاللهعليهوآله وربما بعثوا إليهم الوفود لذلك.
على أن قوله :
«
وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ » كما سيأتي لا يصح أن يخاطب به غير اليهود كما لا يصح
أن يخاطب غير اليهود بقوله تعالى : « قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ
بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ » والقول بأن مشركي العرب كانوا يعلمون أن اليهود هم أصحاب
توراة موسى غير مقنع قطعا فإن العلم بأن اليهود أصحاب التوراة لا يصحح الاحتجاج
بنزول التوراة من عند الله سبحانه وخاصة مع وصفها بأنها نور وهدى للناس فالاعتقاد
بالنزول من عند الله غير العلم بأن اليهود تدعي ذلك والمصحح للخطاب هو الأول دون
الثاني.
وأما قراءة «
يجعلونه » إلخ ، فالوجه أن تحمل على الالتفات مع إبقاء الخطاب في قوله « مَنْ أَنْزَلَ
الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى » ، وقوله : « وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ
وَلا آباؤُكُمْ » لليهود.
وقد حاول بعضهم
دفع الإشكالات الواردة على جعل الخطاب في الآية للمشركين مع تصحيح القراءتين جميعا
فقال ما ملخصه : إن الآية نزلت في ضمن السورة بمكة كما قرأها ابن كثير وأبو عمرو ـ
يجعلونه قراطيس بصيغة الغيبة ـ محتجة على مشركي مكة الذين أنكروا الوحي استبعادا
لأن يخاطب الله البشر بشيء ، وقد اعترفوا بكتاب موسى وأرسلوا الوفد إلى أحبار
اليهود مذعنين بأنهم أهل الكتاب الأول العالمون بأخبار الأنبياء.
فهو تعالى يقول
لنبيه صلىاللهعليهوآله : قل لهؤلاء الذين ما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما
أنزل الله على بشر من شيء كقولهم : أبعث الله بشرا رسولا : « مَنْ أَنْزَلَ
الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً » انقشعت به ظلمات الكفر والشرك الذي ورثته بنو إسرائيل
عن المصريين « وَهُدىً
لِلنَّاسِ » أي الذين أنزل عليهم بما علمهم من الأحكام والشرائع الإلهية فكانوا على
النور والهدى إلى أن اختلفوا فيه ونسوا حظا مما ذكروا به فصاروا باتباع الأهواء «
يجعلونه قراطيس يبدونها » فيما وافق « ويخفون كثيرا » مما لا يوافق أهواءهم.
قال : والظاهر
أن الآية كانت تقرأ هكذا بمكة وكذا بالمدينة إلى أن أخفى أحبار اليهود حكم الرجم
وكتموا بشارة النبي صلىاللهعليهوآله وإلى أن قال بعضهم : ما أنزل الله على بشر من شيء كما
قال المشركون من قبلهم ـ إن صحت الروايات بذلك ـ فعند ذلك كان غير مستبعد ولا مخل
بالسياق أن يلقن الله تعالى رسوله أن يقرأ هذه الجمل بالمدينة على مسمع اليهود
وغيرهم بالخطاب لليهود فيقول : «
تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً » مع عدم نسخ القراءة الأولى.
قال : وبهذا
الاحتمال المؤيد بما ذكر من الوقائع يتجه تفسير القراءتين بغير تكلف ما ، ويزول كل
إشكال عرض للمفسرين في تفسيرهما ، انتهى كلامه ملخصا.
وأنت خبير بأن
إشكال خطاب المشركين بما لا يعترفون به باق على حاله وكذا إشكال خطاب غير اليهود
بقوله : «
وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ » على ما أشرنا إليه ، وكذا تخصيصه قوله تعالى : « نُوراً وَهُدىً
لِلنَّاسِ » باليهود فقط وكذا قوله إن اليهود قالوا في المدينة : « ما أَنْزَلَ اللهُ
عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ » كر على ما فر منه.
على أن قوله :
إن الله لقن رسوله أن يقرأ الآية عليهم ويخاطبهم بقوله : « تَجْعَلُونَهُ
قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً » مما لا دليل عليه فإن أراد بهذا التلقين وحيا جديدا
بالخطاب كالوحي الأول بالغيبة كانت الآية نازلة مرتين مرة في ضمن السورة وهي إحدى
آياته ومرة في المدينة غير داخلة في آيات السورة ولا جزء منها ، وإن أراد بالتلقين
غير الوحي بنزول جبرئيل بها لم تكن الآية آية ولا القراءة قراءة ، وإن أريد به أن
الله فهم رسوله نوعا من التفهيم أن لفظ « تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ » إلخ ، النازل عليه في ضمن سورة الأنعام بمكة يسع
الخطاب والغيبة جميعا وأن القراءتين جميعا صحيحتان مقصودتان كما ربما يقوله
من ينهي القراءات المختلفة إلى قراءة النبي صلىاللهعليهوآله أو القراءة عليه ونحوهما ففيه الالتزام بورود جميع
الإشكال السابقة كما هو ظاهر.
واعلم أن هذه
الأبحاث إنما تتأتى على تقدير كون الآية نازلة بمكة ، وأما على ما وقع في بعض
الروايات من أن الآية نزلت بالمدينة فلا محل لأكثرها.
قوله
تعالى : « وَعُلِّمْتُمْ ما
لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ » المراد بهذا العلم الذي علموه ولم يكونوا يعلمونه هم
ولا آباؤهم ليس هو العلم العادي بالنافع والضار في الحياة مما جهز الإنسان
بالوسائل المؤدية إليه من حس وخيال وعقل فإن الكلام واقع في سياق الاحتجاج مربوط
به ولا رابطة بين حصول العلوم العادية للإنسان من الطرق المودعة فيه وبين المدعى
وهو أن من لوازم الألوهية أن تهدي الإنسان إلى سعادته وتنزل على بعض أفراده الوحي
والكتاب.
وليس المراد
بها أن الله أفاض عليكم العلم بأشياء ما كان لكم من أنفسكم أن تعلموا كما يفيده
قوله تعالى : « وَجَعَلَ
لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ » : ( النحل : ٧٨ ) وقوله : « الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ
الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ » : ( العلق : ٥ ) ، فإن السياق كما عرفت ينافي ذلك.
فالمراد بالآية
تعليم ما ليس في وسع الإنسان بحسب الطرق المألوفة عنده التي جهز بها أن ينال علمه
، وليس إلا ما أوحاه الله سبحانه إلى أنبيائه وحملة وحيه بكتاب أو بغير كتاب من
المعارف الإلهية والأحكام والشرائع فإنها هي التي لا تسع الوسائل العادية التي عند
عامة الإنسان أن تنالها.
ومن هنا يظهر
أن المخاطبين بهذا الكلام أعني قوله : « وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا » إلخ ، ليسوا هم المشركين إذا لم يكن عندهم من معارف
النبوة والشرائع الإلهية شيء بين يعرفونه ويعترفون به والذي كانوا ورثوه من بقايا
آثار النبوة من أسلاف أجيالهم ما كانوا ليعترفوا به حتى يصح الاحتجاج به عليهم من
غير بيان كاف ، وقد وصفهم الله بالجهل في أمثال قوله : « وَقالَ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ » : ( البقرة : ١١٨ ).
فالخطاب متوجه
إلى غير المشركين ، وليس بموجه إلى المسلمين أما أولا : فلأن السياق سياق الاحتجاج
، ولو كان الخطاب متوجها إليهم لكان اعتراضا في سياق الاحتجاج
من غير نكتة ظاهرة.
وأما ثانيا :
فلما فيه من تغيير مورد الخطاب ، والعدول من خطاب المخاطبين بقوله : « مَنْ أَنْزَلَ
الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى » إلخ ، إلى خطاب غيرهم بقوله : « وَعُلِّمْتُمْ » إلخ ، من غير قرينة ظاهرة مع وقوع اللبس فالخطاب لغير
المشركين والمسلمين وهم اليهود المخاطبون بصدر الآية.
فقد احتج الله
سبحانه على اليهود القائلين : «
ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ » عنادا وابتغاء للفتنة من طريقين :
أحدهما : طريق
المناقضة وهو أنهم مؤمنون بالتوراة وأنها كتاب جاء به موسى عليهالسلام نورا وهدى للناس ويناقضه قولهم : « ما أَنْزَلَ اللهُ
عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ » ثم ذمهم على تقطيعها بقطعات يظهرون بعضها ويخفون كثيرا.
وثانيهما :
أنكم علمتم ما لم يكن في وسعكم أن تعلموه أنتم من عند أنفسكم بالاكتساب ولا في وسع
آبائكم أن يعلموه فيورثوكم علمه وذلك كالمعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة والشرائع
والقوانين الناظمة للاجتماع والمعدلة له أحسن نظم وتعديل الحاسمة لأعراق
الاختلافات البشرية الاجتماعية فإنها وخاصة المواد التشريعية من بينها ليست مما
ينال بالاكتساب ، والتي تنال منها من طريق الاكتساب العقلي كالمعارف الكلية
الإلهية من التوحيد والنبوة والمعاد والأخلاق الفاضلة في الجملة لا يكفي مجرد ذلك
في استقرارها في المجتمع الإنساني ، فمجرد العلم بشيء غير دخوله في مرحلة العمل
واستقراره في المستوى العام الاجتماعي ، فحب التمتع من لذائذ المادة وغريزة
استخدام كل شيء في طريق التوصل إلى الاستعلاء على مشتهيات النفس والتسلط التام على
ما تدعو إليه أهواؤها لا يدع مجالا للإنسان يبحث فيه عن كنوز المعارف والحقائق
المدفونة في فطرته ثم يبني ويدوم عليها وفي مسير حياته وخاصة إذا استولت هذه
المادية على المجتمع واستقرت في المستوى فإنها تكون لهم ظرفا يحصرهم في التمتعات
المادية لا ينفذ في شيء من أقطاره شيء من الفضائل الإنسانية ، ولا يزال ينسى فيه
ما بقي من إثارة الفضائل المعنوية الموروثة واحدا بعد واحد حتى يعود مجتمعهم
مجتمعا حيوانيا ساذجا كما نشاهده في الظروف الراقية اليوم أنهم توغلوا في المادية
واستسلموا للتمتعات الحسية فشغلهم ذلك في أوقاتهم بثوانيها وصرفهم عن الآخرة إلى
الدنيا صرفا سلبهم الاشتغال
بالمعنويات ومنعهم أي تفكير في ما يسعدهم في حياتهم الحقيقية الخالدة.
ولم يضبط
التاريخ فيما ضبطه من أخبار الأمم والملل رجلا من رجال السياسة والحكومة كان يدعو
إلى فضائل الأخلاق الإنسانية والمعارف الطاهرة الإلهية ، وطريق التقوى والعبودية
بل أقصى ما كانت تدعو إليه الحكومات الفردية الاستبدادية ـ هو أن يتمهد الأمر
لبقاء سلطتها واستقامة الأمر لها ، وغاية ما كانت تدعو إليه الحكومات الاجتماعية ـ
الديمقراطية وما يشابهها ـ أن ينظم أمر المجتمع على حسب ما يقترحه هوى أكثرية
الأفراد أيا ما اقترحه فضيلة أو رذيلة وافق السعادة الحقيقية العقلية أو خالفها
غير أنهم إذا خالفوا شيئا من الفضائل المعنوية والكمالات والمقاصد العالية
الإنسانية التي بقيت أسماؤها عندهم وألجأتهم الفطرة إلى إعظامها والاحترام لها
كالعدل والعفة والصدق وحب الخير ونصح النوع الإنساني والرأفة بالضعيف وغير ذلك
فسروها بما يوافق جاري عملهم والدائر من سنتهم كما هو نصب أعيننا اليوم.
وبالجملة
فالعقل الاجتماعي والشعور المادي الحاكم في المجتمعات ليس مما يوصل الإنسان إلى
هذه المعارف الإلهية والفضائل المعنوية التي لا تزال المجتمعات الإنسانية على
تنوعها وتطورها تتضمن أسماء كثيرة منها واحترام معانيها وأين الإخلاد إلى الأرض من
الترفع عن المادة والماديات؟.
فليست إلا
آثارا وبقايا من الدعوة الدينية المنتهية إلى نهضات الأنبياء ومجاهداتهم في نشر
كلمة الحق وبث دين التوحيد وهداية النوع الإنساني إلى سعادته الحقيقية في حياته
الدنيوية والأخروية جميعا فهي منتهية إلى تعليم إلهي من طريق الوحي وإنزال الكتب
السماوية.
فقوله تعالى :
«
وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ » احتجاج على اليهود في رد قول القائل منهم : « ما أَنْزَلَ اللهُ
عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ » بأن عندكم من العلم النافع ما لم تنالوه من أنفسكم ولا ناله ولا ورثه
آباؤكم بل إنما علمتم به من غير هذا الطريق وهو طريق إنزال الكتاب والوحي من قبل
الله على بعض البشر فقد أنزل الله على بعض البشر ما علمه وهو المعارف الحقة وشرائع
الدين ، وقد كان عند اليهود من هذا القبيل شيء كثير ورثوه من أنبيائهم وبثه فيهم
كتاب موسى.
وقد ظهر مما
تقدم أن المراد بقوله : «
وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا » مطلق ما ينتهي من المعارف والشرائع إلى الوحي والكتاب
لا خصوص ما جاء منه في كتاب موسى عليهالسلام وإن كان الذي منه عند اليهود هو معارف التوراة وشرائعه
خلافا لبعض المفسرين. وذلك أن لفظ الآية لا يلائم التخصيص فقد قيل : « وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ
تَعْلَمُوا » إلخ ، ولم يقل وعلمتم به أو وعلمكم الله به.
وقد قيل : « وَعُلِّمْتُمْ » إلخ ، من غير فاعل التعليم لأن ذلك هو الأنسب بسياق
الاستدلال لأن ذكر الفاعل في هذا السياق أشبه بالمصادرة بالمطلوب فكأنه قيل : إن
فيما عندكم علوما لا ينتهي إلى اكتسابكم أو اكتساب آبائكم فمن الذي علمكم ذلك؟ ثم
أجيب عن مجموع السؤالين بقوله : الله عز اسمه.
قوله
تعالى : « قُلِ اللهُ ثُمَّ
ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ » لما كان الجواب واضحا بينا لا يداخله ريب ، والجواب
الذي هذا شأنه يسوغ للمستدل السائل أن يتكلفه ولا ينتظر المسئول المحتج عليه ، أمر
تعالى نبيه صلىاللهعليهوآله أن يتصدى هو للجواب فقال : « قُلِ اللهُ » أي الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى والذي علمكم ما
لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم هو الله.
ولما كان القول
بأن الله لم ينزل على بشر شيئا من لغو القول وهزله الذي لا يتفوه به إلا خائض لاعب
بالحقائق وخاصة إذا كان القائل به من اليهود المعترفين بتوراة موسى والمباهين
بالعلم والكتاب أمره بأن يدعهم وشأنهم فقال : « ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ».
قوله
تعالى : « وَهذا كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ
الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها » لما نبه على أن من لوازم الألوهية أن ينزل الوحي على جماعة من البشر هم
الأنبياء عليهمالسلام ، وأن هناك كتابا حقا كالتوراة التي جاء بها موسى ،
وأمورا أخرى علمها البشر لا تنتهي إلا إلى وحي إلهي وتعليم غيبي ، ذكر أن هذا
القرآن أيضا كتاب إلهي منزل من عنده على حد ما نزل سائر الكتب السماوية ، ومن
الدليل على ذلك اشتماله على ما هو شأن كتاب سماوي نازل من عند الله سبحانه.
ومن هنا يظهر
أولا : أن الغرض في المقام متعلق بكون القرآن كتابا نازلا من عند الله تعالى دون
من نزل عليه ، ولذا قال : كتاب أنزلناه ولم يقل أنزلناه إليك على خلاف موارد أخر
كقوله تعالى : « كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ » : ( ـ ص : ٢٩ ) وغيره
وثانيا : أن
الأوصاف المذكورة للكتاب بقوله : ( مُبارَكٌ مُصَدِّقُ ) إلخ ، بمنزلة الأدلة على كونه نازلا من الله وليست
بأدلة فمن أمارات أنه منزل من عند الله أنه مبارك أودع الله فيه البركة والخير
الكثير يهدي الناس للتي هي أقوم ، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ، ينتفع
به الناس في دنياهم باجتماع شملهم ، وقوة جمعهم ، ووحدة كلمتهم ، وزوال الشح من
نفوسهم ، والضغائن من قلوبهم ، وفشوا الأمن والسلام ، ورغد عيشهم ، وطيب حياتهم
وانجلاء الجهل وكل رذيلة عن ساحتهم ، واستظلالهم بمظلة سعادتهم ، وينتفعون به في
أخراهم بالأجر العظيم والنعيم المقيم.
ولو لم يكن من
عند الله سواء كان مختلفا من عند بشر كشبكة يغر بها الناس فيصطادون أو كان تزويقا
نفسانيا أو إلقاء شيطانيا يخيل إلى الذي جاء به أنه وحي سماوي من عند الله وليس من
عنده لم تستقر فيه ولا ترتب عليه هذه البركات الإلهية والخير الكثير فإن سبيل الشر
لا يهدي سالكه إلا إلى الشر ولن ينتج فساد صلاحا ، وقد قال تعالى : « فَإِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ » : ( النحل : ٣٧ ) وقال : « وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ » : ( الصف : ٥ ) وقال : « وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ
بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً » : ( الأعراف : ٥٨ ).
ومن أمارات أنه
حق أنه مصدق لما بين يديه من الكتب السماوية الحقة النازلة من عند الله.
ومن أمارات ذلك
أنه يفي بالغرض الإلهي من خلقه وهو أن يهديهم إلى سعادة حياتهم في الدنيا والآخرة
بالإنذار بوسيلة الوحي المنزل من عنده ، وهذا هو الذي يدل عليه قوله : « وَلِتُنْذِرَ أُمَّ
الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها » فأم القرى هي مكة المشرفة ، والمراد أهلها بدليل قوله : « وَمَنْ حَوْلَها » والمراد بما حولها سائر بلاد الأرض التي يحيط بها أو
التي تجاورها كما قيل ، والكلام يدل على عناية إلهية بأم القرى وهي الحرم الإلهي
منه بدئ بالدعوة وانتشرت الكلمة.
ومن هذا البيان
يظهر : أن الأنسب بالسياق أن يكون قوله : « وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى » وخاصة على قراءة « لينذر » بصيغة الغيبة معطوفا على
قوله : « مُصَدِّقُ
» بما يشتمل
عليه من معنى الغاية ، والتقدير : ليصدق ما بين يديه ولتنذر أم القرى على ما ذكره
الزمخشري ، وقيل : إنه معطوف على قوله : « مُبارَكٌ » والتقدير : أنزلناه لتنذر أم القرى ومن حولها.
قوله تعالى : « وَالَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ » إلخ ، كأنه تفريع لما عده الله سبحانه من أوصاف هذا
الكتاب الذي أنزله أي لما كان هذا الكتاب الذي أنزلناه مباركا ومصدقا لما بين يديه
نازلا لغاية إنذار أهل الأرض فالمؤمنون بالآخرة يؤمنون به لأنه يدعو إلى أمن أخروي
دائم ويحذرهم من عذاب خالد.
ثم عرف تعالى
هؤلاء المؤمنين بالآخرة بما هو من أخص صفات المؤمنين وهو أنهم على صلاتهم وهي
عبادتهم التي يذكرون فيها ربهم يحافظون ، وهذه هي الصفة التي ختم الله به صفات
المؤمنين التي وصفهم بها في أول سورة المؤمنين إذ قال : « الَّذِينَ هُمْ عَلى
صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ » : ( المؤمنون : ٩ ) كما بدأ بمعناها في أولها فقال « الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ » : ( المؤمنون : ٢ ).
وهذا هو الذي
يؤيد أن المراد بالمحافظة في هذه الآية هو الخشوع في الصلاة وهو نحو تذلل وتأثر
باطني عن العظمة الإلهية عند الانتصاب في مقام العبودية لكن المعروف من تفسيره أن
المراد بالمحافظة على الصلاة المحافظة على وقتها.
(
كلام في معنى البركة في القرآن )
ذكر الراغب في
المفردات ، : أن أصل البرك ـ بفتح الباء ـ صدر البعير وإن استعمل في غيره ويقال له
بركة ـ بكسر الباء ـ وبرك البعير ألقى ركبه ، واعتبر منه معنى الملزوم فقيل : ابتركوا في الحرب أي ثبتوا ولازموا موضع الحرب ، وبراكاء الحرب وبروكاؤها للمكان الذي يلزمه الأبطال ، وابتركت الدابة وقفت وقوفا كالبروك ، وسمي محبس الماء بركة ، والبركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء ، قال تعالى : ( لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ
السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) ، وسمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة ،
والمبارك ما فيه ذلك الخير ، على ذلك : ( هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ
أَنْزَلْناهُ ).
قال : ولما كان
الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر قيل لكل ما يشاهد منه
زيادة غير محسوسة : هو مبارك وفيه بركة ، وإلى هذه
الزيادة أشير بما روي : أنه لا ينقص مال من صدقة ، لا إلى النقصان المحسوس
حسب ما قال بعض الخاسرين حيث قيل له ذلك فقال : بيني وبينك الميزان. ثم ذكر : أن
المراد بتباركه تعالى اختصاصه بالخيرات ، انتهى.
فالبركة
بالحقيقة هي الخير المستقر في الشيء اللازم له كالبركة في النسل وهي كثرة الأعقاب
أو بقاء الذكر بهم خالدا ، والبركة في الطعام أن يشبع به خلق كثير مثلا ، والبركة
في الوقت أن يسع من العمل ما ليس في سعة مثله أن يسعه.
غير أن المقاصد
والمآرب الدينية لما كانت مقصورة في السعادات المعنوية أو الحسية التي تنتهي إليها
بالأخرة كان المراد بالبركة الواقعة في الظواهر التي فيها هو الخير المعنوي أو
ينتهي إليه كما أن مباركته تعالى الواقعة في قول الملائكة النازلين على إبراهيم عليهالسلام : «
رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ » : ( هود : ٧٣ ) خيرات متنوعة معنوية كالدين والقرب
وغيرهما وحسية كالمال وكثرة النسل وبقاء الذكر وغيرها وجميعها مربوطة بخيرات
معنوية.
وعلى هذا
فالبركة أعني كون الشيء مشتملا على الخير المطلوب كالأمر النسبي يختلف باختلاف
الأغراض لأن خيرية الشيء إنما هي بحسب الغرض المتعلق به فالغرض من الطعام ربما كان
إشباعه الجائع أو أن لا يضر آكله أو أن يؤدي إلى شفاء واستقامة مزاج أو يكون نورا
في الباطن يتقوى به الإنسان على عبادة الله ونحو ذلك كانت البركة فيه استقرار شيء
من هذه الخيرات فيه بتوفيق الله تعالى بين الأسباب والعوامل المتعلقة به ورفعه
الموانع.
ومن هنا يظهر
أن نزول البركة الإلهية على شيء واستقرار الخير فيه لا ينافي عمل سائر العوامل فيه
واجتماع الأسباب عليه فليس معنى إرادة الله صفة أو حالة في شيء أن يبطل سائر
الأسباب والعلل المقتضية له ـ وقد مر كرارا في أبحاثنا السابقة ـ فإنما الإرادة
الإلهية سبب في طول الأسباب الأخر لا في عرضها. فإنزاله تعالى بركته على طعام مثلا
هو أن يوفق بين الأسباب المختلفة الموجودة في أن لا تقتضي في الإنسان كيفية مزاجية
يضره معها هذا الطعام ، وأن لا تقتضي فساده أو ضيعته أو سرقته أو نهبه أو نحو ذلك
، وليس معناه أن يبطل الله سائر الأسباب ويتكفل هو تعالى إيجاد الخير فيها
من غير توسيطها فافهم ذلك.
والبركة كثيرة
الدور في لسان الدين فقد ورد في الكتاب العزيز ذكرها في آيات كثيرة بألفاظ مختلفة
وكذا ورودها في السنة ، وقد تكرر ذكر البركة أيضا في العهدين في موارد كثيرة يذكر
فيها إعطاء الله سبحانه البركة للنبي الفلاني أو إعطاء الكهنة البركة لغيرهم وقد
كان أخذ البركة في العهد القديم كالسنة الجارية.
وقد ظهر مما
تقدم بطلان زعم المنكرين لوجود البركة كما نقلناه عن الراغب فيما تقدم من عبارته
فقد زعموا أن عمل الأسباب الطبيعية في الأشياء لا يدع مجالا لسبب آخر يعمل فيه أو
يبطل أثرها وقد ذهب عنهم أن تأثيره تعالى في الأشياء في طول سائر الأسباب لا في
عرضها حتى يئول الأمر إلى تزاحم أو إبطال ونحوهما.
قوله
تعالى : « وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ـ إلى قوله ـ ما أَنْزَلَ اللهُ » عد الله سبحانه موارد ثلاثة من الظلم هي من أشد مراتبه
التي لا يرتاب العقل العادي في شناعتها وفظاعتها ، ولذا أوردها في سياق السؤال.
والغرض من ذلك
الدعوة إلى النزول على حكم العقل السليم والأخذ بالنصفة وخفض الجناح لصريح الحق
فكأنه يقول : قل لهم : يجب علي وعليكم أن لا نستكبر عن الحق ولا نستعلي على الله
تعالى بارتكاب ما هو من أشد الظلم وأشنعه وهو الظلم في جنب الله فكيف يصح لكم أن
تفتروا على الله كذبا وتدعوا له شركاء تتخذونها شفعاء؟ وكيف يسوغ لي أن أدعي
النبوة وأقول : أوحي إلي إن كنت لست بنبي يوحى إليه؟ وكيف يجوز لقائل أن يقول :
سأنزل مثل ما أنزل الله ، فيسخر بحكم الله ويستهزئ بآياته؟.
ونتيجة هذه
الدعوة أن ينقادوا لحكم النبوة فإنهم إذا اجتنبوا الافتراء على الله بالشرك ، وكف
القائل «
سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ » عن مقاله والنبي صلىاللهعليهوآله يصر على الوحي بقيت نبوته بلا معارض.
وافتراء الكذب
على الله سبحانه وهو أول المظالم المعدودة وإن كان أعم بالنسبة إلى دعوى الوحي إذا
لم يوح إليه وهو ثاني المظالم المعدودة ، ولذا قيل : إن ذكر الثاني بعد الأول من
باب ذكر الخاص بعد العام اعتناء بشأن الوحي وإعظاما لأمره ، لكن التأمل في سياق
الكلام ووجهه إلى المشركين يعطي أن المراد بالافتراء المذكور هو اتخاذ
الشريك لله سبحانه ، وإنما لم يصرح بذلك ليرتفع به غائلة ذكر الخاص بعد
العام لأن الغرض في المقام ـ كما تقدم ـ هو الدعوة إلى الأخذ بالنصفة والتجافي عن
عصبية الجاهلية فلم يصرح بالمقصود وإنما أبهم إبهاما لئلا يتحرك بذلك عرق العصبية
ولا يتنبه داعي النخوة.
فقوله : « مِمَّنِ افْتَرى
عَلَى اللهِ كَذِباً » وقوله : «
أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ » متباينان من حيث المراد وإن كانا بحسب ظاهر ما يتراءى
منهما أعم وأخص.
ويدل على ما
ذكرنا ما في ذيل الآية من حديث التهديد بالعذاب والسؤال عن الشركاء والشفعاء.
وأما ما قيل :
إن قوله : « أَوْ قالَ
أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ » نزل في مسيلمة حيث ادعى النبوة فسياق الآيات كما عرفت
لا يلائمه بل ظاهره أن المراد به نفسه وإن كان الكلام مع الغض عن ذلك أعم.
على أن سورة
الأنعام مكية ودعواه النبوة من الحوادث التي وقعت بعد الهجرة إلا أن هؤلاء يرون أن
الآية مدنية غير مكية وسيأتي الكلام في ذلك في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
وأما قوله : « وَمَنْ قالَ
سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ » فظاهره أنه حكاية قول واقع ، وأن هناك من قال : سأنزل
مثل ما أنزل الله ، وأنه إنما قاله استهزاء بالقرآن الكريم حيث نسبه إلى الله
سبحانه بالنزول ثم وعد الناس مثله بالإنزال ، ولم يقل : سأقول مثل ما قاله محمد أو
سآتيكم بمثل ما أتاكم به.
ولذا ذكر بعض
المفسرين أنه إشارة إلى قول من قال من المشركين : « لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا
إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ».
وقال آخرون :
إن الآية إشارة إلى قول عبد الله بن سعد بن أبي سرح : إني أنزل مثل ما أنزل الله
والآية مدنية ، ومنهم من قال غير ذلك كما سيجيء إن شاء الله في البحث الروائي ،
والآية ليست ظاهرة الانطباق على شيء من ذلك فإنها تتضمن الوعد بأمر مستقبل ،
وقولهم : لو نشاء لقلنا « إلخ » كلام مشروط وكذا قول عبد الله ـ إن صحت الرواية ـ إخبار
عن أمر حالي جار واقع.
وكيف كان فقوله
: « وَمَنْ
قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ » يحكي قولا قاله بعض المشركين من العرب استكبارا على
آيات الله ، وإنما كرر فيه الموصول أعني قوله : « مَنْ » ولم يتكرر في قوله : « أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَ » « إلخ » لأن المظالم المعدودة وإن كانت ثلاثة لكنها من
نظرة أخرى قسمان فالأول والثاني من الظلم في جنب الله في صورة الخضوع لجانبه
والانقياد لأمره ، والثالث من الظلم في صورة الاستعلاء عليه والاستكبار عن آياته.
قوله
تعالى : « وَلَوْ تَرى إِذِ
الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ » إلى آخر الآية ، الغمر أصله ستر الشيء وإزالة أثره ولذا يطلق الغمرة على الماء
الكثير الساتر لما تحته ، وعلى الجهل المطبق ، وعلى الشدة التي تحيط بصاحبها
والغمرات الشدائد ، ومنه قوله تعالى : « فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ » ، والهون والهوان الذلة.
وبسط اليد معناه واضح غير أن المراد به معنى كنائي ، ويختلف
باختلاف الموارد فبسط الغني يده جوده بماله وإحسانه لمن يستحقه ، وبسط الملك يده
إدارته أمور مملكته من غير أن يزاحمه مزاحم وبسط المأمور الغليظ الشديد يده على
المجرم المأخوذ به هو نكاله وإيذاؤه بضرب وزجر ونحوه.
فبسط الملائكة
أيديهم هو شروعهم بتعذيب الظالمين ، وظاهر السياق أن الذي تفعله الملائكة بهؤلاء
الظالمين هو الذي يترجم عنه قوله : « أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ
عَذابَ الْهُونِ » إلخ ، فهذه الجمل محكية عن الملائكة لا من قول الله سبحانه ، والتقدير : يقول
الملائكة لهم أخرجوا أنفسكم « إلخ » فهم يعذبونهم بقبض أرواحهم قبضا يذوقون به
أليم العذاب وهذا عذابهم حين الموت ولما ينتقلوا من الدنيا إلى ما وراءها ولهم
عذاب بعد ذلك ولما تقم عليهم القيامة كما يشير إليه قوله تعالى : « وَمِنْ وَرائِهِمْ
بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ » : ( المؤمنون : ١٠٠ ).
وبذلك يظهر أن
المراد باليوم في قوله : «
الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ » هو يوم الموت الذي يجزون فيه العذاب وهو البرزخ كما ظهر أن المراد
بالظالمين هم المرتكبون لبعض المظالم الثلاثة التي عدها الله سبحانه من أشد الظلم
أعني افتراء الكذب على الله ، ودعوى النبوة كذبا والاستهزاء بآيات الله.
ويؤيد ذلك ما
ذكره الله من أسباب عذابهم من الذنوب وهو قولهم على الله غير الحق كما هو شأن
المفتري الكذب على الله بنسبة الشريك إليه أو بنسبة حكم تشريعي أو وحي كاذب إليه ،
واستكبارهم عن آيات الله كما هو شأن من كان يقول : « سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ ».
وكذلك قوله : « أَخْرِجُوا
أَنْفُسَكُمُ » أمر تكويني لأن الموت والوفاة ليس في قدرة الإنسان كالحياة حتى يؤمر بذلك
قال تعالى : « وَأَنَّهُ
هُوَ أَماتَ وَأَحْيا » : ( النجم : ٤٤ ) فالأمر تكويني والملائكة من أسبابه ، والكلمة مصوغة صوغ
الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييلية كأن النفس الإنسانية أمر داخل في البدن
وبه حياته وبخروجه عن البدن طرو الموت وذلك أن كلامه تعالى ظاهر في أن النفس ليست
من جنس البدن ولا من سنخ الأمور المادية الجسمانية وإنما لها سنخ آخر من الوجود
يتحد مع البدن ويتعلق به نوعا من الاتحاد والتعلق غير مادي كما تقدم بيانه في بحث
علمي في الجزء الأول من الكتاب وسيأتي في مواضع تناسبه إن شاء الله. فالمراد بقوله
: « أَخْرِجُوا
أَنْفُسَكُمُ » قطع علقة أنفسهم من أبدانهم وهو الموت ، والقول قول الملائكة على ما
يعطيه السياق.
والمعنى :
وليتك ترى حين يقع هؤلاء الظالمون المذكورون في شدائد الموت وسكراته والملائكة
آخذون في تعذيبهم بالقبض الشديد العنيف لأرواحهم وإنبائهم بأنهم واقعون في عالم
الموت معذبون فيه بعذاب الهون والذلة جزاء لقولهم على الله غير الحق ولاستكبارهم
عن آياته.
قوله
تعالى : « وَلَقَدْ جِئْتُمُونا
فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ » إلى آخر الآية الفرادى جمع فرد وهو الذي انفصل عن اختلاط غيره نوعا من
الاختلاط ويقابله الزوج وهو الذي يختلط بغيره بنحو ويقرب منهما بحسب المعنى
الوتر والشفع فالوتر ما لم ينضم إلى غيره والشفع ما انضم إلى غيره ، والتخويل إعطاء الخول أي المال ونحوه الذي يقوم الإنسان به
بالتدبير والتصرف.
والمراد
بالشفعاء الأرباب المعبودون من دون الله ليكونوا شفعاء عند الله فعادوا بذلك شركاء
لله سبحانه في خلقه ، والآية تنبئ عن حقيقة الحياة الإنسانية التي ستظهر له حينما
يقدم على ربه بالتوفي فيشاهد حقيقة أمر نفسه وأنه مدبر بالتدبير الإلهي لا غير
كما كان كذلك في أول مرة كونته الخلقة ، وأن المزاعم التي انضمت إلى حياته
من التكثر بالأسباب والاعتضاد والانتصار بالأموال والأولاد والأزواج والعشائر
والجموع ، وكذا الاستشفاع بالأرباب من دون الله المؤدي إلى الإشراك كل ذلك مزاعم
وأفكار باطلة لا أثر لها في ساحة التكوين أصلا.
فالإنسان جزء
من أجزاء الكون واقع تحت التدبير الإلهي متوجه إلى الغاية التي غياها الله سبحانه
له كسائر أجزاء الكون ، ولا حكومة لشيء من الأشياء في التدبير والتسيير الإلهي إلا
أنها أسباب وعلل ينتهي تأثيرها إليه تعالى من غير أن تستقل بشيء من التأثير.
غير أن الإنسان
إذا ركبته يد الخلقة وأوجدته فوقع نظره إلى زينة الحياة والأسباب والشفعاء الظاهرة
وجذبته لذائذ الحياة تعلقت نفسه بها ودعته ذلك إلى التمسك بذيل الأسباب والخضوع
لها ، وألهاه ذلك عن توجيه وجهه إلى مسبب الأسباب وفاطرها والذي إليه الأمر كله
فأعطاها الاستقلال في السببية لا هم له إلا أن ينال لذائذ هذه الحياة المادية
بالخضوع للأسباب فصار يلعب طول الحياة الدنيا بهذه المزاعم والأوهام التي أوقعته
فيها نفسه المتلهية بلذائذ الحياة المادية ، واستوعب حياته اللعب بالباطل والتلهي
به عن الحق كما قال تعالى : «
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ » : ( العنكبوت : ٦٤ ).
فهذا هو الذي
يسوق إليه تعليم القرآن حيث يذكر أن الإنسان إذا خرج عن زي العبودية نسي ربه فأداه
ذلك إلى نسيان نفسه قال تعالى : «
نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ » : ( الحشر : ١٩ ).
لكن الإنسان
إذا فارقت نفسه البدن بحلول الموت بطل ارتباطه بجميع الأسباب والعلل والمعدات
المادية التي كانت ترتبط بها من جهة البدن وتتصل بها في هذه النشأة الدنيوية وشاهد
عند ذلك بطلان استقلالها واندكاك عظمتها وتأثيرها فوقعت عين بصيرته على أن أمره
أولا وآخرا إلى ربه لا غير وأن لا رب له سواه ولا مؤثر في شأنه دونه.
فقوله تعالى :
« وَلَقَدْ
جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ » إشارة إلى حقيقة الأمر ، وقوله : « وَتَرَكْتُمْ ما
خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ » إلخ ، بيان لبطلان الأسباب الملهية له عن ربه المتخللة
بين أول خلقه وبين يوم يقبض فيه إلى ربه ، وقوله : « لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ
ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ » بيان لسبب انقطاعه من الأسباب وسقوطها عن الاستقلال
والتأثير ، وأن السبب في ذلك انكشاف بطلان المزاعم التي كان الإنسان يلعب
بها طول حياته الدنيا.
فيتبين بذلك أن
ليس لهذه الأسباب والضمائم في الإنسان من النصيب إلا أوهام ومزاعم يتلهى ويلعب بها
الإنسان.
قوله
تعالى : « إِنَّ اللهَ فالِقُ
الْحَبِّ وَالنَّوى » إلى آخر الآية.
الفلق هو الشق. لما
انتهى الكلام في الآية السابقة إلى نفي استقلال الأسباب في تأثيرها ، وبطلان كون
أربابهم شفعاء من دون الله المؤدي إلى كونهم شركاء لله صرف الكلام إلى بيان أن هذه
التي يشتغل بها الإنسان عن ربه ليست إلا مخلوقات لله مدبرة بتدبيره ، ولا تؤثر
أثرا ولا تعمل عملا في إصلاح حياة الإنسان وسوقه إلى غايات خلقته إلا بتقدير من
الله وتدبير يدبره هو لا غير فهو تعالى الرب دون غيره.
فالله سبحانه
هو يشق الحب والنوى فينبت منهما النبات والشجر اللذين يرتزق الناس من حبه وثمره ،
وهو يخرج الحي من الميت والميت من الحي ـ وقد مر تفسير ذلك في الكلام على الآية ٢٧
من سورة آل عمران ـ ذلكم الله لا غير فأنى تؤفكون وإلى متى تصرفون من الحق إلى
الباطل.
قوله
تعالى : « فالِقُ الْإِصْباحِ
وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً » إلى آخر الآية.
الإصباح بكسر الهمزة
هو الصبح وهو في الأصل مصدر ، والسكن ما يسكن إليه ، والحسبان جمع حساب ، وقيل : هو مصدر حسب حسابا وحسبانا. وقوله : « وَجَعَلَ اللَّيْلَ
سَكَناً » عطف على قوله
: « فالِقُ
الْإِصْباحِ » ولا ضير في عطف الجملة الفعلية على الاسمية إذا اشتملت على معنى الفعل
وقرئ : « وجاعل ».
وفي فلق الصبح
وجعل الليل سكنا يسكن فيه المتحركات عن حركاتها لتجديد القوى ودفع ما عرض لها من
التعب والعي والكلال من جهة حركاتها طول النهار ، وجعل الشمس والقمر بما يظهر من
الليل والنهار والشهور والسنين من حركاتهما في ظاهر الحس حسبانا تقدير عجيب
للحركات في هذه النشأة المتغيرة المتحولة ينتظم بذلك نظام المعاش الإنساني ويستقيم
به أمر حياته ، ولذلك ذيلها بقوله : « ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ » فهو العزيز الذي لا يقهره قاهر فيفسد عليه شيئا من
تدبيره ، والعليم الذي لا يجهل بشيء من
مصالح مملكته حتى ينظمه نظما ربما يفسد من نفسه ولا يدوم بطبعه.
قوله
تعالى : « وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها » إلى آخر الآية. المعنى واضح والمراد بتفصيل الآيات إما
تفصيلها بحسب الجعل التكويني أو تفصيلها بحسب البيان اللفظي.
ولا تنافي بين
إرادة مصالح الإنسان في حياته وعيشته في هذه النشأة مما يتراءى لظاهر الحس من
حركات هذه الأجرام العظيمة العلوية والكرات المتجاذبة السماوية ، وبين كون كل من
هذه الأجرام مرادا بإرادة إلهية مستقلة ومخلوقة بمشية تتعلق بنفسه وتخص شخصه فإن
الجهات مختلفة ، وتحقق بعض هذه الجهات لا يدفع تحقق بعض آخر والارتباط والاتصال
حاكم على جميع أجزاء العالم.
قوله
تعالى : « وَهُوَ الَّذِي
أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ » إلى آخر الآية ، قرئ « فَمُسْتَقَرٌّ » بفتح القاف وكسرها وهو على القراءة الأولى اسم مكان
بمعنى محل الاستقرار فيكون «
مُسْتَوْدَعٌ » أيضا اسم مكان بمعنى محل الاستيداع وهو المكان الذي توضع فيه الوديعة. وقد
وقع ذكر المستقر والمستودع في قوله تعالى : « وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا
عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ
مُبِينٍ » : « هود : ٦
» وفي الكلام حذف وإيجاز ، والتقدير : فمنكم من هو في مستقر ومنكم من هو في مستودع
، وعلى القراءة الثانية وهي الرجحى « فَمُسْتَقَرٌّ » اسم فاعل ويكون المستودع اسم مفعول لا محالة ،
والتقدير فمنكم مستقر ومنكم مستودع لم يستقر بعد.
والظاهر أن
المراد بقوله : « وَهُوَ
الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ » انتهاء الذرية الإنسانية على كثرتها وانتشارها إلى آدم
الذي يعده القرآن الكريم مبدأ للنسل الإنساني الموجود ، وأن المراد بالمستقر هو
البعض الذي تلبس بالولادة من أفراد الإنسان فاستقر في الأرض التي هي المستقر لهذا
النوع كما قال تعالى : «
وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ » : ( البقرة : ٣٦ ) والمراد بالمستودع من استودع في
الأصلاب والأرحام ولم يولد بعد وسيولد بعد حين فهذا هو المناسب لمقام بيان الآية
بإنشاء جميع الأفراد النوعية من فرد واحد ومن الممكن أن يؤخذ مستقر ومستودع مصدرين
ميميين.
وقد عبر بلفظ
الإنشاء دون الخلق ونحوه وهو ظاهر في الدفعة وما في حكمه دون
التدريج ، ويؤيد هذا المعنى أيضا ما تقدم من قوله تعالى : « وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها
وَمُسْتَوْدَعَها » كما لا يخفى أي يعلم ما استقر منها في الأرض بفعلية التكون « وما هو في
طريق التكون مما لم يتكون بالفعل ولم يستقر في الأرض.
فالمعنى : وهو
الذي أوجدكم معشر الأناسي من نفس واحدة وعمر بكم الأرض إلى حين فهي مشغولة بكم ما
لم تنقرضوا فلا يزال بعضكم مستقرا فيها وبعضكم مستودع في الأصلاب والأرحام أو في
الأصلاب فقط في طريق الاستقرار فيها.
وقد أورد
المفسرون في الآية معاني أخر كقول بعضهم : إن المراد من إنشائهم من نفس واحدة
خلقهم من نوع واحد من النفس وهو النفس الإنسانية « أو إن المراد هو الإنشاء من نوع
واحد من التركيب النفسي والبدني ، وهو الحقيقة الإنسانية المؤلفة من نفس وبدن
إنسانيين.
وكقول بعضهم :
إن المراد بالمستقر الأرحام وبالمستودع الأصلاب وقول بعض آخر : إن المستقر الأرض
والمستودع القبر ، وقول بعض آخر : إن المستقر هو الرحم والمستودع الأرض أو القبر ،
وقول بعض آخر : إن المستقر هو الروح والمستودع هو البدن ، إلى غير ذلك من أقاويلهم
التي لا كثير جدوى في التعرض لها.
قوله
تعالى : « هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً » إلى آخر الآية. السماء هي جهة العلو فكلما علاك وأظلك فهو سماء ، والمراد
بقوله : «
فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ » على ما قيل ، فأخرجنا بالماء الذي أنزلناه من السماء
النبات والنمو الذي في كل شيء نام له قوة النبات من الكمون إلى البروز ، أي أنبتنا
به كل شيء نباتي كالنجم والشجر والإنسان وسائر الحيوان.
والخضر هو الأخضر وكأنه مخفف الخاضر ، وتراكب الحب انعقاد بعضه فوق بعض كما في السنبلة ، والطلع أول ما يبدو من ثمر النخل ، والقنوان جمع قنو وهو العذق بالكسر وهو من التمر كالعنقود من
العنب ، والدانية أي القريبة ، والمشتبه وغير المتشابه المشاكل وغير
المشاكل في النوع والشكل وغيرهما. وينع الثمر نضجه.
وقد ذكر الله
سبحانه أمورا مما خلقه لينظر فيها من له نظر وبصيرة فيهتدي
بالنظر فيها إلى توحيده ، وهي أمور أرضية كفلق الحبة والنواة ونحو ذلك ،
وأمور سماوية كالليل والصبح والشمس والقمر والنجوم ، وأمر راجع إلى الإنسان نفسه
وهو إنشاء نوعه من نفس واحدة فمستقر ومستودع ، وأمور مؤلفة من الجميع كإنزال المطر
من السماء وتهيئة الغذاء من نبات وحب وثمر وإنبات ما فيه قوة النمو كالنبات
والحيوان والإنسان من ذلك.
وقد عد النجوم
آية خاصة بقوم يعلمون ، وإنشاء النفوس الإنسانية آية خاصة بقوم يفقهون ، وتدبير
نظام الإنبات آية لقوم يؤمنون والمناسبة ظاهرة فإن النظر في أمر النظام أمر بسيط
لا يفتقر إلى مئونة زائدة بل يناله الفهم العادي بشرط أن يتنور بنصفة الإيمان ولا
يتلطخ بقذارة العناد واللجاج ، وأما النظر في النجوم والأوضاع السماوية فمما لا
يتخطى العلماء بهذا الشأن ممن يعرف النجوم ومواقعها وسائر الأوضاع السماوية إلى حد
ما ولا يناله الفهم العام العامي إلا بمئونة : وأما آية الأنفس فإن الاطلاع عليها
وعلى ما عندها من أسرار الخلقة يحتاج مضافا إلى البحث النظري إلى مراقبة باطنية
وتعمق شديد وتثبت بالغ وهو الفقه.
قوله
تعالى : « وَجَعَلُوا لِلَّهِ
شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ » إلى آخر الآية. الجن إما مفعول لجعلوا ومفعوله الآخر
شركاء أو بدل من شركاء ، وقوله : «
وَخَلَقَهُمْ » كأنه حال وإن منعه بعض النحاة وحجتهم غير واضحة. وكيف كان فالكلمة في
مقام ردهم ، والمعنى وجعلوا له شركاء الجن وهو خلقهم والمخلوق لا يجوز أن يشارك
خالقه في مقامه.
والمراد بالجن
الشياطين كما ينسب إلى المجوس القول : بأهرمن ويزدان ونظيره ما عليه اليزيدية
الذين يقولون بألوهية إبليس ( الملك طاووس ـ شاه بريان ) أو الجن المعروف بناء على
ما نسب إلى قريش أنهم كانوا يقولون : إن الله قد صاهر الجن فحدث بينهما الملائكة ،
وهذا أنسب بسياق قوله : «
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ
وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ » وعلى هذا فالبنون والبنات هم جميعا من الملائكة خرقوهم أي اختلقوهم
ونسبوهم إليه افتراء عليه سبحانه وتعالى عما يشركون.
ولو كان المراد
من هو أعم من الملائكة لم يبعد أن يكون المراد بهم ما يوجد في سائر الملل غير
الإسلام فالبرهمانية والبوذية يقولون بنظير ما قالته النصارى من بنوة المسيح
كما تقدم في الجزء الثالث من الكتاب ، وسائر الوثنيين القدماء كانوا يثبتون
لله سبحانه بنين وبنات من الآلهة على ما يدل عليه الآثار المكتشفة ، ومشركو العرب كانوا
يقولون : إن الملائكة بنات الله.
قوله
تعالى : « بَدِيعُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ » إلى آخر الآية. جواب عن قولهم بالبنين والبنات ، ومحصله أن لا سبيل لتحقق
حقيقة الولد إلا اتخاذ الصاحبة ولم يكن له تعالى صاحبة فأنى يكون له ولد؟.
وأيضا هو تعالى
الخالق لكل شيء وفاطره ، والولد هو الجزء من الشيء يربيه بنوع من اللقاح وجزء
الشيء والمماثل له لا يكون مخلوقا له البتة ، ويجمع الجميع أنه تعالى بديع
السماوات والأرض الذي لا يماثله شيء من أجزائها بوجه من الوجوه فكيف يكون له صاحبة
يتزوج بها أو بنون وبنات يماثلونه في النوع فهذا أمر يخبر به الله الذي لا سبيل
للجهل إليه فهو بكل شيء عليم ، وقد تقدم في الكلام على قوله تعالى : « ما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ » الخ : ( آل عمران : ٧٩ ) في الجزء الثالث من الكتاب ما ينفع في المقام.
قوله
تعالى : « ذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ » إلى آخر الآيتين الجملة الأولى أعني قوله : « ذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمْ » نتيجة متخذة من البيان المورد في الآيات السابقة ، والمعنى : إذا كان
الأمر على ما ذكر فالله الذي وصفناه هو ربكم لا غير ، وقوله : « لا إِلهَ إِلَّا هُوَ
» كالتصريح
بالتوحيد الضمني الذي تشتمل عليه الجملة السابقة ، وهو مع ذلك يفيد معنى التعليل
أي هو الرب ليس دونه رب لأنه الله الذي ليس دونه إله وكيف يكون غيره ربا وليس
بإله.
وقوله : « خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ » تعليل لقوله : « لا إِلهَ إِلَّا هُوَ » أي إنما انحصرت الألوهية فيه لأنه خالق كل شيء من غير
استثناء فلا خالق غيره لشيء من الأشياء حتى يشاركه في الألوهية ، وكل شيء مخلوق له
خاضع له بالعبودية فلا يعادله فيها.
وقوله : « فَاعْبُدُوهُ » متفرع كالنتيجة على قوله « ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ » أي إذا كان الله سبحانه هو ربكم لا غير فاعبدوه ،
وقوله : « وَهُوَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ » أي هو القائم على كل شيء المدبر لأمره الناظم نظام وجوده وحياته وإذا كان
كذلك كان من الواجب أن يتقى فلا يتخذ له شريك بغير علم فالجملة كالتأكيد لقوله : « فَاعْبُدُوهُ » أي لا تستنكفوا
عن عبادته لأنه وكيل عليكم غير غافل عن نظام أعمالكم.
وأما قوله : « لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ » فهو لدفع الدخل الذي يوهمه قوله : « وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ » بحسب ما تتلقاه أفهام المشركين الساذجة والخطاب معهم ،
وهو أنه إذا صار وكيلا عليهم كان أمرا جسمانيا كسائر الجسمانيات التي تتصدى
الأعمال الجسمانية فدفعه بأنه تعالى لا تدركه الأبصار لتعاليه عن الجسمية ولوازمها
، وقوله : « وَهُوَ
يُدْرِكُ الْأَبْصارَ » دفع لما يسبق إلى أذهان هؤلاء المشركين الذين اعتادوا بالتفكر المادي ،
وأخلدوا إلى الحس والمحسوس وهو أنه تعالى إذا ارتفع عن تعلق الأبصار به خرج عن
حيطة الحس والمحسوس وبطل نوع الاتصال الوجودي الذي هو مناط الشعور والعلم ، وانقطع
عن مخلوقاته فلا يعلم بشيء كما لا يعلم به شيء ، ولا يبصر شيئا كما لا يبصره شيء
فأجاب تعالى عنه بقوله : «
وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ » ثم علل هذه الدعوى بقوله : « وَهُوَ اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ » واللطيف هو الرقيق النافذ في الشيء ، والخبير من له الخبرة ، فإذا كان تعالى محيطا بكل شيء بحقيقة
معنى الإحاطة كان شاهدا على كل شيء لا يفقده ظاهر شيء من الأشياء ولا باطنه ، وهو
مع ذلك ذو علم وخبرة كان عالما بظواهر الأشياء وبواطنها من غير أن يشغله شيء عن
شيء أو يحتجب عنه شيء بشيء فهو تعالى يدرك البصر والمبصر معا ، والبصر لا يدرك إلا
المبصر.
وقد نسب إدراكه
إلى نفس الأبصار دون أولي الأبصار لأن الإدراك الموجود فيه تعالى ليس من قبيل
إدراكاتنا الحسية حق يتعلق بظواهر الأشياء من أعراضها كالبصر مثلا الذي يتعلق
بالأضواء والألوان ويدرك به القرب والبعد والعظم والصغر والحركة والسكون بنحو بل
الأغراض وموضوعاتها بظواهرها وبواطنها حاضرة عنده مكشوفة له غير محجوبة عنه ولا
غائبة فهو تعالى يجد الأبصار بحقائقها وما عندها وليست تناله.
ففي الآيتين من
سطوح البيان وسهولة الطريق وإيجاز القول ما يحير اللب وهما مع ذلك تهديان المتدبر
فيهما إلى أسرار دونها أستار.
(
كلام في عموم الخلقة وانبساطها على كل شيء )
قوله تعالى : « ذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ » ظاهره وعموم الخلقة لكل شيء وانبساط إيجاده تعالى على
كل ما له نصيب من الوجود والتحقق ، وقد تكرر
هذا اللفظ أعني قوله تعالى : « خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ » منه تعالى في كلامه من غير أن يوجد فيه ما يصلح
لتخصيصه بوجه من الوجوه قال تعالى : « قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ
الْواحِدُ الْقَهَّارُ » : ( الرعد : ١٦ ) وقال تعالى : « اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ وَكِيلٌ » : ( الزمر : ٦٢ ) و. قال تعالى « ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ » : ( المؤمن : ٦٢ ).
وقد نشبت بين
الباحثين من أهل الملل في هذه المسألة مشاجرات عجيبة يتبعها أقاويل مختلفة حتى من
المتكلمين والفلاسفة من النصارى واليهود فضلا عن متكلمي الإسلام وفلاسفته ، ولا
يهمنا المبادرة إلى إيراد أقوالهم وآرائهم والتكلم معهم ، وإنما بحثنا هذا قرآني
تفسيري لا شغل لنا بغير ما يتحصل به الملخص من نظر القرآن الكريم بالتدبر في أطراف
آياته الشريفة.
نجد القرآن
الكريم يسلم ما نتسلمه من أن الموضوعات الخارجية والأشياء الواقعة في دار الوجود
كالسماء وكواكبها ونجومها والأرض وجبالها ووهادها وسهلها وبحرها وبرها وعناصرها
ومعدنياتها والسحاب والرعد والبرق والصواعق والمطر والبرد والنجم والشجر والحيوان
والإنسان لها آثار وخواص هي أفعالها وهي تنسب إليها نسبة الفعل إلى فاعله والمعلول
إلى علته.
ونجده يصدق أن
للإنسان كسائر الأنواع الموجودة أفعالا تستند إليه وتقوم به كالأكل والشرب والمشي
والقعود وكالصحة والمرض والنمو والفهم والشعور والفرح والسرور من غير أن يفرق بينه
وبين غيره من الأنواع في شيء من ذلك فهو يخبر عن أعماله ويأمره وينهاه ، ولو لا أن
له فعلا لم يرجع شيء من ذلك إلى معنى محصل. فالقرآن يزن الواحد من الإنسان بعين ما
نزنه نحن معشر الإنسان في مجتمعنا فنعتقد أن له أفعالا وآثارا منسوبة إليه نؤاخذه
في بعض أفعاله التي ترجع بنحو إلى اختياره كالأكل والشرب والمشي ونصفح عنه فيما لا
يرجع إلى اختياره من آثاره القائمة به كالصحة والمرض والشباب والمشيب وغير ذلك.
فالقرآن ينظم
النظام الموجود مثل ما ينتظم عند حواسنا وتؤيده عقولنا بما شفعت به من التجارب ،
وهو أن أجزاء هذا النظام على اختلاف هوياتها وأنواعها فعالة
بأفعالها مؤثرة متأثرة في غيرها ومن غيرها وبذلك تلتئم أجزاء النظام
الموجود الذي لكل جزء منها ارتباط تام بكل جزء ، وهذا هو قانون العلية العام في الأشياء
، وهو أن كل ما يجوز له في نفسه أن يوجد وأن لا يوجد فهو إنما يوجد عن غيره
فالمعلول ممتنع الوجود مع عدم علته ، وقد أمضى القرآن الكريم صحة هذا القانون
وعمومه ، ولو لم يكن صحيحا أو تخلف في بعض الموارد لم يتم الاستدلال به أصلا ، وقد
استدل القرآن به على وجود الصانع ووحدانيته وقدرته وعلمه وسائر صفاته.
وكما أن
المعلول من الأشياء يمتنع وجوده مع عدم علته كذلك يجب وجوده مع وجود علته قضاء لحق
الرابطة الوجودية التي بينهما. وقد أنفذه الله سبحانه في كلامه في موارد كثيرة
استدل فيها من طريق ما له من الصفات العليا على ثبوت آثارها ومعاليلها كقوله : ( وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) وقوله : ( إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ
ذُو انتِقامٍ ) ، ( أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ ) ، ( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ ) وغير ذلك ، واستدل أيضا على كثير من الحوادث والأمور
بثبوت أشياء أخرى يستعقب ثبوتها بعدها كقوله : « فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ
مِنْ قَبْلُ » : ( يونس : ٧٤ ) وغير ذلك مما ذكر من أمر المؤمنين والكافرين والمنافقين
ولو جاز أن يتخلف أثر من مؤثره إذا اجتمعت الشرائط اللازمة وارتفعت الموانع
المنافية لم يصح شيء من هذه الحجج والأدلة البتة.
فالقرآن يسلم
حكومة قانون العلية العام في الوجود ، وأن لكل شيء من الأشياء الموجودة وعوارضها
ولكل حادث من الحوادث الكائنة علة أو مجموع علل بها يجب وجوده وبدونها يمتنع وجوده
هذا مما لا ريب فيه في بادئ التدبر.
ثم إنا نجد أن
الله سبحانه في كلامه يعمم خلقه على كل ما يصدق عليه شيء من أجزاء الكون قال تعالى
: « قُلِ
اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ » : ( الرعد : ١٦ ) إلى غير ذلك من الآيات المنقولة آنفا
، وهذا ببسط عليته وفاعليته تعالى لكل شيء مع جريان العلية والمعلولية الكونية
بينها جميعا كما تقدم بيانه.
وقال تعالى : «
الَّذِي
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ـ إلى أن قال ـ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً » : ( الفرقان : ٢ ) وقال : « الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ
هَدى » : ( طه : ٥٠
) وقال : « الَّذِي
خَلَقَ فَسَوَّى ، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى » : ( الأعلى : ٣ ) إلى غير ذلك من الآيات.
وفي هذه الآيات
نوع آخر من البيان أخذت فيه الأشياء منسوبة إلى الخلقة وأعمالها وأنواع آثارها
وحركاتها وسكناتها منسوبة إلى التقدير والهداية الإلهية فإلى تقديره تعالى تنتهي
خصوصيات أعمال الأشياء وآثارها كالإنسان يخطو ويمشي في انتقاله المكاني والحوت
يسبح والطير يطير بجناحيه قال تعالى : « فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ
يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ » : ( النور : ٤٥ ) والآيات في هذا المعنى كثيرة ، فخصوصيات أعمال الأشياء
وحدودها وأقدارها تنتهي إليه تعالى ، وكذلك الغايات التي تقصدها الأشياء على
اختلافها فيها وتشتتها وتفننها إنما تتعين لها وتروم نحوها بالهداية الإلهية التي
تصحبها منذ أول وجودها إلى آخره ، وينتهي ذلك إلى تقدير العزيز العليم.
فالأشياء في
جواهرها وذواتها تستند إلى الخلقة الإلهية وحدود وجودها وتحولاتها وغاياتها
وأهدافها في مسير وجودها وحياتها كل ذلك ينتهي إلى التقدير المنتهي إلى خصوصيات
الخلقة الإلهية وهناك آيات أخرى كثيرة ناطقة بأن أجزاء الكون متصل بعضه ببعض
متلائم بعض منه مع بعض متوحدة في الوجود يحكم فيها نظام واحد لا مدبر له إلا الله
سبحانه ، وهو الذي ربما سمي ببرهان اتصال التدبير.
فهذا ما ينتجه
التدبر في كلامه تعالى غير أن هناك جهات أخرى ينبغي للباحث المتدبر أن لا يغفل
عنها وهي ثلاث :
إحداها
: أن من الأشياء
ما لا يرتاب في قبحه وشناعته كأنواع الظلم والفجور التي ينقبض العقل من نسبتها إلى
ساحة القدس والكبرياء والقرآن الكريم أيضا ينزهه تعالى عن كل ظلم وسوء في آيات
كثيرة كقوله : « وَما
رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ » ( حم السجدة : ٤٦ ) وقوله : « قُلْ إِنَّ اللهَ لا
يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ » : ( الأعراف : ٢٨ ) وغير ذلك ، وهذا ينافي عموم الخلقة لكل شيء فمن
الواجب أن تخصص الآية بهذا المخصص العقلي والشرعي.
وينتج ذلك أن
الأفعال الإنسانية مخلوقة للإنسان وما وراءه من الأشياء ذواتها وآثارها مخلوقة لله
سبحانه.
على أن كون
الأفعال الإنسانية مخلوقة له تعالى يبطل كونها عن اختيار الإنسان ، ويبطل بذلك
نظام الأمر والنهي والطاعة والمعصية والثواب والعقاب وإرسال الرسل
وإنزال الكتب وتشريع الشرائع. كذا ذكره جمع من الباحثين.
وقد ذهب على
هؤلاء في بحثهم أن يفرقوا بين الأمور الحقيقية التي تنال الوجود والتحقق حقيقة ،
والأمور الاعتبارية والجهات الوضعية التي لا ثبوت لها في الواقع ، وإنما اضطر
الإنسان إلى تصورها أو التصديق بها حاجة الحياة ، وابتغاء سعادة الوجود بالاجتماع
والتمدن فخلطوا بين الجهات الوجودية والعدمية في الأشياء ، وقد تقدمت نبذة من هذا
البحث في الكلام على الجبر والتفويض في الجزء الأول من الكتاب.
والذي يناسب
المقام من الكلام أن ظاهر قوله : «
اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ » يعمم الخلقة لكل شيء ثم قوله تعالى : « الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ » : ( السجدة : ٧ ) يثبت الحسن لكل ما خلقه الله ،
ويتحصل من الآيتين أن كل ما يصدق عليه اسم شيء ما خلا الله فهو مخلوق ، وأن كل
مخلوق فهو متصف بالحسن فالخلق والحسن متلازمان في الوجود فكل شيء فهو من جهة أنه
مخلوق لله أي بتمام واقعيته الخارجية حسن فلو عرض لها عارض السوء والقبح كان من جهة
النسب والإضافات وأمور أخرى غير جهة واقعيته ووجوده الحقيقي الذي ينسب به إلى الله
سبحانه وإلى فاعله المعروض له.
ثم إنا نحصل في
كلامه تعالى على موارد كثيرة يذكر فيها السيئة والظلم والذنب وغيرها ذكر تسليم
فلنقض بضمها إلى ما تقدم بأن هذه معان وعناوين غير حقيقية لا يلحق الشيء من جهة
انتسابه إلى الله سبحانه وخلقه له ، وإنما يلحق الموضوع الذي يقوم الأثر والعمل به
من جهة وضع أو نسبة أو إضافة فإن كل معصية وظلم فإن معه من سنخه ما ليس بمعصية
وإنما يختلفان من جهة اشتمال أحدهما على مخالفة أمر تشريعي أو عقلي أو اشتماله على
فساد في المجتمع أو نقض لغاية دون الآخر مثاله الزنا والنكاح وهما فعلان متماثلان
لا يختلفان في حقيقتهما ووجودهما النوعي مثلا وإنما يختلفان بالموافقة والمخالفة
للشرع الإلهي أو السنة الاجتماعية أو مصلحة المجتمع ، وتلك أمور وضعية وجهات
إضافية ، والخلقة والإيجاد إنما يتعلق بجهة التكوين والخارج ، وأما الجهات
الإضافية والعناوين الوضعية التي تلحق الأشياء بحسب انطباقها على المصالح والمفاسد
الاجتماعية المستعقبة للمدح والذم أو الثواب والعقاب بحسب ما يشخصها ويحكم بها
العقل العملي والشعور الاجتماعي فإنما هي أمور لا تتعدى طور الاجتماع ولا يدخل في
دار التكوين أصلا إلا
آثارها التي هي أقسام الثواب والعقاب مثلا.
فالفعل الكذائي
كالظلم بعنوانه الذي هو الظلم قبيح في ظرف الاجتماع ومعصية تستتبع الذم والعقاب
عند المجتمعين ، وأما بحسب التكوين فليس إلا أثرا أو مجموع آثار من قبيل الحركات
العارضة للإنسان والعلل الخارجية وخاصة السببية الأولى الإلهية إنما تنتج هذه
الجهة التي هي جهة التكوين ، وأما عنوانه القبيح وما يلحق به فإنما هو مولود النظر
التشريع أو العقلائي لا خبر عنه بنظر التكوين كما أن زيدا الرئيس هو بعنوانه الذي
هو الرئاسة موضوع اجتماعي عندنا له آثار مترتبة عليه في المجتمع كالاحترام والتقدم
ونفوذ الكلمة وإدارة الأمور ، وأما من حيث التكوين والواقعية فإنما هو فرد من
أفراد الإنسان لا فرق بينه وبين الفرد المرءوس أصلا ، ولا خبر في هذا النظر عن
الرئاسة والآثار المرتبة عليها ، وكذا الغني والفقير والسيد والمسود والعزيز
والذليل والشريف والخسيس وأمثال ذلك مما لا يحصى.
وبالجملة
الخلقة في عين أنها تعم كل شيء إنما تتعلق بالموضوعات والأفعال الواقعة في ظرف
الاجتماع المعنونة بمختلف عناوينها بجهة تكوينها وواقعيتها الخارجية ، وأما ما
وراء ذلك من جهات القبح والحسن والمعصية والطاعة وسائر الأوصاف والعناوين
الاجتماعية الطارئة على الأفعال والموضوعات فالخلق والإيجاد لا يتعلق بها ، وليس
لها ثبوت إلا في ظرف التشريع أو القضاء الاجتماعي وساحة الاعتبار والوضع.
وإذا تبين أن
ظرف تحقق الأمر والنهي وانتشاء الحسن والقبح والطاعة والمعصية وتعلق الثواب
والعقاب وارتباطهما بالفعل وكذا سائر الأمور والعناوين الاجتماعية كالمولوية
والعبودية والرئاسة والمرءوسية والعزة والذلة ونحو ذلك غير ظرف التكوين وساحة
الواقعية الخارجية التي يتعلق بها الخلق والإيجاد ظهر أن عموم الخلقة لكل شيء لا
يستلزم شيئا من المفاسد التي ذكروها كبطلان نظام الأمر والنهي والثواب والعقاب
وغير ذلك مما تقدم ذكره.
وكيف يسوغ لمن
تدبر كلامه تعالى أن يفتي بمثل هذه الثنوية وكلامه مشحون بأنه خالق كل شيء وأنه
الله الواحد القهار وأن قضاءه وقدره وهدايته التكوينية وربوبيته وتدبيره شامل لكل
شيء لا يشذ عنه شاذ ، وأن ملكه وسلطانه وإحاطته وكرسيه وسع
كل شيء ، وأن له ما في السماوات والأرض وما ظهر وما بطن ، وكيف يستقيم شيء
من هذه التعاليم الإلهية المنبئة عن توحيده في ربوبيته مع وجود ما لا يحصى من
مخلوقات غيره خلال مخلوقاته.
الثانية
: أن القرآن
الكريم إذ ينسب خلق كل شيء إليه تعالى ويحصر العلة الفاعلة فيه كان لازمه إبطال
رابطة العلية والمعلولية بين الأشياء فلا مؤثر في الوجود إلا الله ، وإنما هي
عادته تعالى جرت أن يخلق ما نسميه معلولا عقيب ما نسميه علة من غير أن تكون بينهما
رابطة توجب وجود المعلول منهما عقيب العلة فالنار التي تستعقب الحرارة نسبتها إلى
الحرارة والبرودة على السواء ، والحرارة نسبتها إلى النار والثلج على السواء غير
أن عادة الله جرت أن يخلق الحرارة عقيب النار والبرودة بعد الثلج من غير أن يكون
هناك إيجاب واقتضاء بوجه أصلا.
وهذا النظر
يبطل قانون العلية والمعلولية العام الذي عليه المدار في القضاء العقلي وببطلانه
ينسد باب إثبات الصانع ولا تصل النوبة مع ذلك إلى كتاب إلهي يحتج به على بطلان
رابطة العلية والمعلولية بين الأشياء ، وكيف يسع أن يبطل القرآن الشريف حكما صريحا
عقليا ويعزل العقل عن قضائه؟ وإنما تثبت حقيته وحجيته بالحكم العقلي والقضاء
الوجداني ، وهو إبطال النتيجة لدليلها الذي لا يؤثر إلا إبطال النتيجة لنفسها.
وهؤلاء إنما
وقعوا فيما وقعوا من جهة خلطهم بين العلل الطولية والعرضية وإنما يستحيل توارد
العلتين على شيء إذا كانتا في عرض واحد لا إذا كانت إحداهما في طول الأخرى ، مثال
ذلك أن العلة التامة لوجود النار كما توجب وجود النار كذلك توجب وجود الحرارة ولا
يجتمع مع ذلك في الحرارة إيجابان ولا تعمل فيها علتان تامتان مستقلتان بل علة
معلولة لعلة.
وبتقريب آخر
أدق : منشأ الخطإ هو عدم التمييز بين الفاعل بمعنى ما منه والفاعل بمعنى ما به
ولاستقصاء القول في المسألة محل آخر.
الثالثة
: وهي قريبة
المأخذ من الثانية أنهم لما وجدوا أنه تعالى ينسب خلق كل شيء إلى نفسه ، وهو تعالى
مع ذلك يسلم وجود رابطة العلية والمعلولية بين الأشياء أنفسها حسبوا أن ما له علة
ظاهرة معلومة من الأشياء فهي العلة له دونه تعالى وإلا لزم اجتماع
علتين مستقلتين على معلول واحد ولا يبقى لتأثيره تعالى إلا حدوث الأشياء
وبدء وجودها ولذا تراهم يرومون إثبات الصانع من جهة حدوث الأشياء كحدوث الإنسان
بعد ما لم يكن وحدوث الأرض بعد ما لم تكن وحدوث العالم بعد ما لم يكن.
ويضيفون إلى
ذلك وجود أمور أو حدوث حوادث مجهولة العلل للإنسان كالروح وكالحياة في الإنسان
والحيوان والنبات فإن الإنسان لم يظفر بعلل وجودها بعد ، والبسطاء منهم يضيفون إلى
ذلك أمثال السحب والثلوج والأمطار وذوات الأذناب والزلازل والقحط والغلاء والأمراض
العامة ونحو ذلك مما لا يظهر عللها الطبيعية للأفهام العامية ثم كلما لاح لهم في
شيء منها علته الطبيعية انهزموا منه إلى غيره وبدلوا موقفا بآخر أو سلموا للخصم.
وهذا بحسب
اللسان العلمي هو أن الوجود الممكن إنما يحتاج إلى الواجب في حدوثه لا في بقائه ،
وهو الذي يصر عليه جم غفير من أهل الكلام حتى صرح بعضهم : أنه لو جاز العدم على
الواجب لم يضر عدمه وجود العالم تعالى الله وتقدس ، وهذا ـ فيما نحسب ـ رأي
إسرائيلي تسرب في أذهان عدة من الباحثين من المسلمين ومن فروع ذلك قولهم باستحالة
البداء والنسخ ، والرأي جار سار بين الناس مع ذلك.
وكيف كان هو من
أردإ الأوهام والاحتجاج القرآني يخالفه فإن الله سبحانه يستدل على وجود الصانع
ووحدته بالآيات المشهودة في العالم وهو النظام الجاري في كل نوع من الخليقة وما
يجري عليه في مسير وجوده وأمد حياته من التغير والتحول والفعل والانفعال والمنافع
التي يستدرها من ذلك ويوصلها إلى غيره كالشمس والقمر والنجوم وطلوعها وغروبها وما
يستجلبه الناس من منافعها والتحولات الفصلية الطارئة على الأرض والبحار والأنهار
والفلك التي تجري فيها والسحب والأمطار وما ينتفع به الإنسان من الحيوان والنبات
وما يجري عليه من الأحوال الطبيعية والتغيرات الكونية من نطفية وجنينية وصباوة
وشباب وشيب وهرم وغير ذلك.
وجميع ذلك من
الجهات الراجعة إلى الأشياء من حيث بقائها وموضوعاتها علل أعراضها وآثارها وكل
مجموع منها في حين علة للمجموع الحاصل بعد ذلك الحين ، وحوادث اليوم علل حوادث
الغد كما أنها معلولة حوادث الأمس.
ولو كانت
الأمور من حيث بقائها مستغنية عن الله سبحانه واستقلت بما يكتنف
بها من الحوادث ويطرأ عليها من الآثار والأعمال لم يستقم شيء من هذه الحجج
الباهرة والبراهين القاهرة وذلك أن احتجاج القرآن بهذه الآيات البينات من جهتين :
إحداهما : من
جهة الفاعل كما يشير إليه أمثال قوله تعالى : « أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ » : ( إبراهيم : ١٠ ) فإن من الضروري أن شيئا من هذه الموجودات لم يفطر
ذاته ولم يوجد نفسه ، ولا أوجده شيء آخر مثله فإنه يناظره في الحاجة إلى إيجاد
موجد ، ولو لم ينته الأمر إلى أمر موجود بذاته لا يقبل طرو العدم عليه لم يوجد في
الخارج شيء من هذه الأشياء فهي موجودة بإيجاد الله الذي هو في نفسه حق لا يقبل
بطلانا ولا تغيرا بوجه عما هو عليه.
ثم إنها إذا
وجدت لم تستغن عنه فليس إيجاد شيء شيئا من قبيل تسخين المسخن مثلا حيث تنصب
الحرارة بالانفصال من المسخن إلى المتسخن فيعود المتسخن واجدا للوصف بقي المسخن
بعد ذلك أو زال ، إذ لو كانت إفاضة الوجود على هذه الوتيرة عاد الوجود المفاض
مستقلا بنفسه واجبا بذاته لا يقبل العدم لمكان المناقضة ، وهذا هو الذي يعبر عنه
الفهم الساذج الفطري بأن الأشياء لو ملكت وجود نفسها واستقلت بوجه عن ربها لم يقبل
الهلاك والفساد فإن من المحال أن يستدعي الشيء بطلان نفسه أو شقاءها.
وهو الذي
يستفاد من أمثال قوله : «
كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ » : ( القصص : ٨٨ ) وقوله : « وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا
نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً » : ( الفرقان : ٣ ) ويدل على ذلك أيضا الآيات الكثيرة
الدالة على أن الله سبحانه هو المالك لكل شيء لا مالك غيره ، وأن كل شيء مملوك له
لا شأن له إلا المملوكية.
فالأشياء كما
تستفيض منه تعالى الوجود في أول كونها وحدوثها كذلك تستفيض منه ذلك في حال بقائها
وامتداد كونها وحياتها فلا يزال الشيء موجودا ما يفيض عليه الوجود وإذا انقطع عنه
الفيض انمحى رسمه عن لوح الوجود قال تعالى : « كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ
عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً » : ( الإسراء : ٢٠ ) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
وثانيتهما : من
جهة الغايات كما تشير إليه الآيات الواصفة للنظام الجاري في الكون متلائمة أجزاؤه
متوافقة أطرافه يضمن سير الواحد منها إيصال الآخر إلى كماله
ويتوجه ما وقع في طرف من السلسلة المترتبة إلى إسعاد ما في طرف آخر منها
ينتفع فيها الإنسان مثلا بالنظام الجاري في الحيوان والنبات ، والنبات مثلا
بالنظام الجاري في الأرض والجو المحيط بها ، وتستمد الأرضيات بالسماويات
والسماويات بالأرضيات فيعود الجميع ذا نظام متصل واحد يسوق كل نوع من الأنواع إلى
ما يسعد به في كونه ويفوز به في وجوده وتأبى الفطرة السليمة والشعور الحي إلا أن
يقضي أن ذلك كله من تقدير عزيز عليم وتدبير حكيم خبير.
وليس هذا
التقدير والتدبير إلا عن فطر ذواتها وإيجاد هوياتها وصوغ أعيانها بضرب كل منها في
قالب يقدر له أفعاله ويحصره في ما أريد منه في موطنه وما يئول إليه في منازل هيئت
على امتداد مسيره ، والذي يقف عليه آخر ما يقف ، وهي في جميع هذه المراحل على
مراكب الأسباب بين سائق القدر وقائد القضاء.
قال تعالى : « لَهُ الْخَلْقُ
وَالْأَمْرُ » : ( الأعراف : ٥٤ ) وقال : « أَلا لَهُ الْحُكْمُ » : ( الأنعام : ٦٢ ) وقال : « وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ
هُوَ مُوَلِّيها » : ( البقرة : ١٤٨ ) وقال : « وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ » : ( الرعد : ٤١ ) وقال : « هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ » : ( الرعد : ٣٣ ).
وكيف يسع
لمتدبر في أمثال هذه الآيات أن يعطف واضح معانيها وصريح مضامينها إلى أن الله
سبحانه خلق ذوات الأشياء على ما لها من الخصوصيات والشخصيات ثم اعتزلها وما كان
يسعه إلا أن يعتزل ويرصد فشرع الأشياء في التفاعل والتناظم بما فيها من روح العلية
والمعلولية واستقلت في الفعل والانفعال وخالقها يتأملها في معزله وينتظر يوم يفنى
فيه الكل حتى يجدد لها خلقا جديدا يثيب فيه من استمع لدعوته في حياته الأولى
ويعاقب المستكبر المستنكف ، وقد صبر على خلافهم طول الزمان غير أنه ربما غضب على
بعض ما يشاهده منهم فيعارضهم في مشيتهم ، ويمنع من تأثير بعض مكائدهم على نحو
المعارضة والممانعة.
أي أنه تعالى
يخرج من مقام الاعتزال في بعض ما تؤدي الأسباب والعلل الكونية المستقلة الجارية
إلى خلاف ما يرتضيه ، أو لا يؤدي إلى ما يوافق مرضاته فيداخل الأسباب الكونية
بإيجاد ما يريده من الحوادث ، وليس يداخل شيئا إلا بإبطال قانون العلية الجاري في
المورد إذ لو أوجد ما كان يريده من طريق الأسباب والعلل كان التأثير على مزعمتهم
للعلل الكونية دونه تعالى ، وهذا هو السر في إصرار هؤلاء على أن المعجزات
وخوارق العادات ونحوهما إنما تتحقق بالإرادة الإلهية وحدها ونقض قانون العلية
العام ، فلا محالة يتم الأمر بنقض السببية الكونية وإبطال قانون العلية ويبطل بذلك
أصل قولهم : إن الأشياء مفتقرة إليه تعالى في حدوثها غنية عنه في بقائها.
فهؤلاء القوم
لا يسعهم إلا أن يلتزموا أحد أمرين : إما القول بأن العالم على سعته ونظامه الجاري
فيه مستقل عن الله سبحانه غير مفتقر إليه أصلا ولا تأثير له تعالى في شيء من
أجزائه ولا التحولات الواقعة فيه إلا ما كان من حاجته إليه في أول حدوثه وقد أحدثه
فارتفعت الحاجة وانقطعت الخلة.
أو القول بأن
الله هو الخالق لكل ما يقع عليه اسم شيء والمفيض له الوجود حال الحدوث وفي حال
البقاء ، ولا غنى عنه تعالى لذات ولا فعل طرفة عين.
وقد عرفت أن
البحث القرآني يدفع أول القولين لتعاضد الآيات على بسط الخلقة والسلطة الغيبية على
ظاهر الأشياء وباطنها وأولها وآخرها وذواتها وأفعالها حال حدوثها وحال بقائها
جميعا فالمتعين هو الثاني من القولين والبحث العقلي الدقيق يؤيد بحسب النتيجة ما
هو المتحصل من الآيات الكريمة.
فقد ظهر من
جميع ما تقدم : أن ما يظهر من قوله : « اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ » على ظاهر عمومه من غير أن يتخصص بمخصص عقلي أو شرعي.
قوله
تعالى : « قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ
مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها » إلخ قال في المجمع ، : البصيرة البينة والدلالة التي يبصر بها الشيء على ما هو به
والبصائر جمعها انتهى. وقيل : البصيرة للقلب كالبصر للعين ، والأصل في الباب على
أي حال هو الإدراك بحاسة البصر الذي يعد أقوى الإدراكات ، ونيلا من خارج الشيء
المشهود ، والإبصار والعمى في الآية هو العلم والجهل أو الإيمان والكفر توسعا.
وكأنه تعالى
يشير بقوله : « قَدْ
جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ » إلى ما ذكره في الآيات السابقة من الحجج الباهرة على
وحدانيته وانتفاء الشريك عنه ، والمعنى أن هذه الحجج بصائر قد جاءتكم من جانب الله
بالوحي إلي ، والخطاب من قبل النبي صلىاللهعليهوآله ثم ذكر للمخاطبين وهم المشركون أنهم على خيرة من أمر
أنفسهم إن شاءوا أبصروا بها وإن شاءوا
عموا عنها غير أن الإبصار لأنفسهم والعمى عليها.
ومن هنا يظهر
أن المراد بالحفظ عليهم رجوع أمر نفوسهم وتدبير قلوبهم إليه فهو إنما ينفي كونه
حفيظا عليهم تكوينا وإنما هو ناصح لهم. والآية كالمعترضة بين الآيات السابقة
والآية اللاحقة ، وهو خطاب منه تعالى عن لسان نبيه كالرسول يأتي بالرسالة إلى قوم
فيؤديها إليهم وفي خلال ما يؤديه يكلمهم من نفسه بما يهيجهم للسمع والطاعة ويحثهم
على الانقياد بإظهار النصح ونفي الأغراض الفاسدة عن نفسه.
قوله
تعالى : « وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ
الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ » إلخ ، وقرئ : دارست بالخطاب و ( دَرَسْتَ ) بالتأنيث والغيبة ، قيل : إن التصريف هو إجراء المعنى
الدائر في المعاني المتعاقبة ليجتمع فيه وجوه الفائدة ، وقوله : « دَرَسْتَ » من الدرس وهو التعلم والتعليم من طريق التلاوة ، وعلى
هذا المعنى قراءة دارست غير أن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني وأما قراءة « دَرَسْتَ » بالتأنيث والغيبة فهو من الدروس بمعنى تعفي الأثر أي
اندرست هذه الأقوال كقولهم : أساطير الأولين.
والمعنى : على
هذا المثال نصرف الآيات ونحولها بيانا لغايات كثيرة ومنها أن يستكمل هؤلاء
الأشقياء شقوتهم فيتهموك يا محمد بأنك تعلمتها من بعض أهل الكتاب أو يقولوا :
اندرست هذه الأقاويل وانقرض عهدها ولا نفع فيها اليوم ، ولنبينه لقوم يعلمون
بتطهير قلوبهم وشرح صدورهم به ، وهذا كقوله : « وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ
وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً » : ( الإسراء : ٨٢ ).
(
بحث روائي )
في الكافي ،
بإسناده عن الفضيل بن يسار قال سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : إن الله لا يوصف ، وكيف يوصف وقال في كتابه : « وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ » فلا يوصف بقدر إلا كان أعظم من ذلك.
وفي الدر
المنثور ، أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن
عباس : في قوله : «
وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ » قال : هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم ـ فمن
آمن أن الله على كل شيء قدير ـ فقد قدر الله حق قدره ، ومن
لم يؤمن بذلك فلم يؤمن بالله حق قدره. « إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ
مِنْ شَيْءٍ » يعني من بني إسرائيل قالت اليهود : يا محمد أنزل الله عليك كتابا؟ قال
نعم ، قالوا : والله ما أنزل الله من السماء كتابا ، فأنزل الله : ( قُلْ ) يا محمد ( مَنْ أَنْزَلَ
الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى ـ نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ
ـ إلى قوله ـ
وَلا
آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ) أنزله.
أقول
: والمعنى الذي
في صدر الرواية تقدم في البيان السابق أنه خلاف ظاهر الآية بل الظاهر أن الذين
قالوا : ( ما أَنْزَلَ اللهُ
عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ) ، هم الذين لم يقدروا الله سبحانه حق قدره.
وفيه ، أخرج
ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي" : في قوله : « إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ
مِنْ شَيْءٍ » قال : قال فنحاص اليهودي : ما أنزل الله على محمد من شيء.
أقول
: واختلاف
الحاكي والمحكي يفسد المعنى ، واحتمال النقل بالمعنى مع هذا الاختلاف الفاحش لا
مسوغ له.
وفيه ، أخرج
ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل من اليهود يقال
له مالك بن الصيف ـ فخاصم النبي صلىاللهعليهوآله فقال له النبي : أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ـ هل
تجد في التوراة : أن الله يبغض الحبر السمين؟ وكان حبرا سمينا فغضب وقال : والله
ما أنزل الله على بشر من شيء ، فقال له أصحابه : ويحك ولا على موسى؟ قال : ما أنزل
الله على بشر من شيء ، فأنزل الله : « وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ » الآية.
وفيه ، أخرج
ابن مردويه عن بريدة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : أم القرى مكة.
وفي تفسير
العياشي ، عن علي بن أسباط قال : قلت لأبي جعفر عليهالسلام : لم سمي النبي الأمي؟ قال : نسب إلى مكة وذلك من قول
الله : «
لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها » وأم القرى مكة ، ومن حولها الطائف.
أقول
: وعلى ما في
الرواية يصير قوله : «
لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها » من قبيل قوله : « وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ » : ( الشعراء : ٢١٤ ) ولا ينافي الأمر بإنذار طائفة
خاصة عموم الرسالة لجميع الناس كما يدل عليه أمثال قوله : « لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ
وَمَنْ بَلَغَ » : ( الأنعام : ١٩ ) وقوله : « إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ » : ( الأنعام : ٩٠ ) وقوله : « قُلْ
يا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً » : ( الأعراف : ١٥٨ ).
وفي تفسير
العياشي ، عن عبد الله بن سنان قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن قول الله : « قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ ـ إلى قوله ـ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها
وَتُخْفُونَ كَثِيراً » قال : كانوا يكتمون ما شاءوا ويبدون ما شاءوا.
قال : وفي
رواية أخرى عنه عليهالسلام قال : كانوا يكتبونه في القراطيس ـ ثم يبدون ما شاءوا
ويخفون ما شاءوا. قال : كل كتاب أنزل فهو عند أهل العلم.
أقول
: أهل العلم
كناية عن أئمة أهل البيت عليهالسلام.
وفي الدر
المنثور ، في قوله تعالى : «
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى » الآية أخرج الحاكم في المستدرك عن شرحبيل بن سعد
قال" : نزلت في عبد الله بن أبي سرح : « وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ
كَذِباً ـ أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ » الآية ، فلما دخل رسول الله صلىاللهعليهوآله مكة ـ فر إلى عثمان أخيه من الرضاعة ـ فغيبه عنده حتى
اطمأن أهل مكة ثم استأمن له.
وفيه ، أخرج
ابن جرير وأبو الشيخ عن عكرمة : في قوله : « وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ
كَذِباً ـ أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ » قال : نزلت في مسيلمة فيما كان يسجع ويتكهن به. « وَمَنْ قالَ
سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ » قال : نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ـ كان يكتب
للنبي صلىاللهعليهوآله فكان فيما يملي « عَزِيزٌ حَكِيمٌ » فيكتب « غفور رحيم » فيغيره ثم يقرأ عليه كذا كذا ـ لما
حول فيقول : نعم سواء ، فرجع عن الإسلام ولحق بقريش.
أقول
: وروي هذا
المعنى بطرق أخرى أيضا غير ما مر.
وفي تفسير
القمي ، قال : حدثنا أبي عن صفوان عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : إن عبد الله بن سعد بن أبي السرح ـ كان أخا
لعثمان من الرضاعة قدم إلى المدينة وأسلم ، وكان له خط حسن ، وكان إذا نزل الوحي
على رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ دعاه ليكتب ما نزل عليه فكان إذا قال له رسول الله صلىاللهعليهوآله : والله سميع بصير يكتب سميع عليم ، وإذا قال : ( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) يكتب بصير ـ وكان يفرق بين التاء والياء ، وكان رسول
الله صلىاللهعليهوآله يقول : هو واحد.
فارتد كافرا
ورجع مكة وقال لقريش : والله ما يدري محمد ما يقول ـ أنا أقول
مثل ما يقول فلا ينكر علي ذلك ـ فأنا أنزل مثل ما أنزل الله ـ فأنزل الله
على نبيه صلىاللهعليهوآله في ذلك : « وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ
كَذِباً ـ أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ـ وَمَنْ قالَ
سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ ».
فلما فتح رسول
الله صلىاللهعليهوآله مكة أمر بقتله ـ فجاء به عثمان وقد أخذ بيده ورسول الله
صلىاللهعليهوآله في المسجد ـ فقال : يا رسول الله اعف عنه فسكت رسول الله
صلىاللهعليهوآله ـ ثم أعاد فقال : هو لك ، فلما مر قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : ألم أقل : من رآه فليقتله؟ فقال رجل : كانت عيني إليك
يا رسول الله ـ أن تشير إلي فأقتله ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : إن الأنبياء لا يقتلون بالإشارة ، فكان من الطلقاء :
أقول : وروى
هذا المعنى في الكافي ، وتفسير العياشي ، ومجمع البيان ، بطرق أخرى عن الباقر
والصادق (ع).
وذكر بعض
المفسرين بعد إيراد القصة عن روايتي عكرمة والسدي : أن هاتين الروايتين باطلتان
فإنه ليس في شيء من السور المكية « سميعا عليما » ولا « عليما حكيما » ولا « عزيز
حكيم » إلا في سورة لقمان المروي عن ابن عباس أنها نزلت بعد سورة الأنعام وأن
الآية التي ختمت بقوله تعالى «
عَزِيزٌ حَكِيمٌ » منها وثنتين بعدها مدنيات كما في الإتقان. قال : وما قيل من احتمال نزول
هذه الآية بالمدينة لا حاجة إليه والرواية غير صحيحة.
قال : وروي :
أن عبد الله بن سعد لما ارتد كان يطعن في القرآن ، ولعله قال شيئا مما ذكر في
الروايات عنه كذبا وافتراء فإن السور التي نزلت في عهد كتابته لم يكن فيها شيء مما
روي عنه أنه تصرف فيه كما علمت ، وقد رجع إلى الإسلام قبل الفتح ولو تصرف في
القرآن تصرفا أقره عليه النبي صلىاللهعليهوآله فشك في الوحي لأجله لما رجع إلى الإسلام. انتهى.
وقد عرفت أن
الروايات المعتبرة المروية عن الصادقين عليهالسلام صريحة في وقوع قصة ابن أبي سرح في المدينة بعد الهجرة
لا في مكة ، والأخبار المروية من طرق أهل السنة والجماعة غير صريحة في وقوعها بمكة
لو لم يكن ظهورها في الوقوع بالمدينة ، وأما ما استند إليه من رواية ابن عباس في
ترتيب نزول السور القرآنية فليس بأقوى اعتبارا مما طرحه.
وأما ما ذكره
من إسلام ابن أبي سرح قبل الفتح طوعا فقد عرفت ورود الرواية من الطريقين أنه لم
يعد إلى الإسلام إلى يوم الفتح ، وقد كان رسول الله صلىاللهعليهوآله أهدر دمه
يوم الفتح حتى شفع له عثمان فعفا عنه ، هذا.
لكن يبقى على
ظاهر الروايات أن قوله تعالى : «
وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ » غير ظاهر الانطباق على قول ابن أبي سرح على ما يحكيه :
« فأنا أنزل مثل ما أنزل الله ».
على أن كون
قوله تعالى : « وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ
يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ » نازلا بالمدينة لا يلائم هذا الاتصال الظاهر بينه وبين
ما يتلوه إلى آخر الآية الثانية فلو كان نازلا بالمدينة كان الأقرب أن تكون
الآيتان جميعا مدنيتين.
وهناك رواية
أخرى تعرب عن سبب للنزول آخر وهو
ما رواه عبد بن
حميد عن عكرمة قال : لما نزلت : ( وَالْمُرْسَلاتِ
عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً ) ، قال النضر وهو من بني عبد الدار : والطاحنات طحنا
فالعاجنات عجنا وقولا كثيرا ـ فأنزل الله : « وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ
كَذِباً ـ أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ » الآية.
وفي تفسير
العياشي ، عن سلام عن أبي جعفر عليهالسلام : في قوله : « الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ » قال : العطش يوم القيامة.
أقول
: ورواه أيضا عن
الفضيل عن أبي عبد الله عليهالسلام وفيه : قال : العطش.
وفي الكافي ،
بإسناده عن إبراهيم عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : إن الله عز وجل لما أراد أن يخلق آدم ـ بعث
جبرئيل في أول ساعة من يوم الجمعة ـ فقبض بيمينه قبضة ـ بلغت من السماء السابعة
إلى السماء الدنيا ، وأخذ من كل سماء تربة وقبض قبضة أخرى ـ من الأرض السابعة
العليا إلى الأرض السابعة القصوى ـ فأمر الله عز وجل كلمته ـ فأمسك القبضة الأولى
بيمينه والقبضة الأخرى بشماله ـ ففلق الطين فلقتين فذرا من الأرض ذروا ـ ومن
السماوات ذروا فقال للذي بيمينه : منك الرسل والأنبياء والأوصياء والصديقون ـ والمؤمنون
والشهداء ومن أريد كرامته ، فوجب لهم ما لهم ما قال كما قال ، وقال للذي بشماله :
منك الجبارون والمشركون والمنافقون والطواغيت ـ ومن أريد هوانه أو شقوته فوجب لهم
ما قال كما قال.
ثم إن الطينتين
خلطتا جميعا وذلك قوله تعالى : «
إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى » فالحب طينة المؤمنين التي ألقى الله عليها محبته ،
والنوى طينة الكافرين الذين نأوا عن كل
خير ، وإنما سمي النوى من أجل أنه نأى عن الحق وتباعد منه.
وقال الله عز
وجل : « يُخْرِجُ
الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ » فالحي المؤمن الذي يخرج من طينة الكافر ، والميت الذي
يخرج من الحي هو الكافر ـ الذي يخرج من طينة المؤمن ـ فالحي المؤمن والميت الكافر
وذلك قول الله عز وجل : «
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ » فكان موته اختلاط طينته مع طينة الكافر ـ وكان حياته
حين فرق الله عز وجل بينهما بكلمته ـ كذلك يخرج الله عز وجل المؤمن في الميلاد ـ من
الظلمة بعد دخوله فيها إلى النور ، ويخرج الكافر من النور إلى الظلمة ـ بعد دخوله
إلى النور وذلك قول الله عز وجل : « لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ
الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ ».
أقول : الرواية
من أخبار الطينة وسيجيء البحث فيها فيما يناسبه من المحل إن شاء الله. وتفسير الحب
والنوى بما فيها من المعنى من قبيل الباطن دون الظاهر ، وقد وقع هذا المعنى في
روايات أخرى غير هذه الرواية.
وفي تفسير
العياشي ، في قوله تعالى «
وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً » عن الحسن بن علي بن بنت إلياس قال : سمعت أبا الحسن الرضا عليهالسلام يقول : إن الله جعل الليل سكنا وجعل النساء سكنا ، ومن
السنة التزويج بالليل وإطعام الطعام.
وفيه ، عن علي
بن عقبة عن أبيه عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : تزوجوا بالليل فإن الله جعله سكنا ـ ولا تطلبوا
الحوائج بالليل.
وفي الكافي ،
بإسناده عن يونس عن بعض أصحابنا عن أبي الحسن عليهالسلام قال : إن الله خلق النبيين على النبوة فلا يكونون إلا
أنبياء ، وخلق المؤمنين على الإيمان فلا يكونون إلا مؤمنين ـ وأعار قوما إيمانا ـ فإن
شاء تممه لهم وإن شاء سلبهم إياه. قال : وفيهم جرت « فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ » وقال : إن فلانا كان مستودعا ـ فلما كذب علينا سلبه
الله إيمانه.
أقول
: وفي تفسير
المستقر والمستودع بقسمي الإيمان روايات كثيرة مروية عنهم عليهالسلام في تفسيري العياشي والقمي ، وهذه الرواية توجهها بأنها
من الجري والانطباق.
وفي تفسير
العياشي ، عن سعد بن سعيد أبي الأصبغ قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام :
__________________
في قوله : «
فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ » قال : مستقر في الرحم ومستودع في الصلب ، وقد يكون
مستودع الإيمان ثم ينزع منه. الحديث.
وفيه ، عن سدير
قال : سمعت حمران يسأل أبا جعفر عليهالسلام عن قول الله : « بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » فقال له أبو جعفر عليهالسلام : ابتدع الأشياء كلها بعلمه على غير مثال كان ، وابتدع
السماوات والأرضين ـ ولم يكن قبلهن سماوات ولا أرضون ـ أما تسمع قوله : « وَكانَ عَرْشُهُ
عَلَى الْماءِ »؟.
وفي الكافي ،
بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام : في قوله : « لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ » قال : إحاطة الوهم ألا ترى إلى قوله : « قَدْ جاءَكُمْ
بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ » ليس يعني من البصر بعينه « وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها » ليس يعني عمى العيون إنما عنى إحاطة الوهم ـ كما يقال
: فلان بصير بالشعر ، وفلان بصير بالفقه ، وفلان بصير بالدراهم ، وفلان بصير
بالثياب ، الله أعظم من أن يرى بالعين.
أقول
: ورواه في
التوحيد بطريق آخر عنه عليهالسلام وبإسناده عن أبي هاشم الجعفري عن الرضا (ع).
وفيه ، بإسناده
عن صفوان بن يحيى قال : سألني أبو قرة المحدث أن أدخله إلى أبي الحسن الرضا عليهالسلام ـ فاستأذنته في ذلك فأذن لي فدخل عليه ـ فسأله عن
الحلال والحرام والأحكام ـ حتى بلغ سؤاله التوحيد فقال أبو قرة : إنا روينا : أن
الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين ـ فقسم الكلام لموسى ولمحمد الرؤية ، فقال :
أبو الحسن عليهالسلام : فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن والإنس ، لا
تدركه الأبصار ، ولا يحيطون به علما ، وليس كمثله شيء؟ أليس محمد صلىاللهعليهوآله؟ قال : بلى. قال : كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعا
فيخبرهم ـ أنه جاء من عند الله ، وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول : لا تدركه
الأبصار ، ولا يحيطون به علما ، وليس كمثله شيء ثم يقول : أنا رأيته بعيني وأحطت
به علما ـ وهو على صورة البشر ، أما تستحون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا ـ أن
يكون يأتي من عند الله بشيء ـ ثم يأتي بخلافه من وجه آخر.
قال أبو قرة :
فإنه يقول. « وَلَقَدْ
رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى » فقال أبو الحسن عليهالسلام : إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى ـ حيث قال : « ما كَذَبَ الْفُؤادُ
ما رَأى » يقول :
ما كذب فؤاد محمد ما رأته عيناه ـ ثم أخبر بما رأى فقال : « لَقَدْ رَأى مِنْ
آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى » فآيات الله غير الله وقد قال الله : « وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً » فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم ووقعت المعرفة.
فقال أبو قرة :
فتكذب بالروايات؟ فقال الرضا عليهالسلام : إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها ، وما أجمع
المسلمون عليه أنه لا يحاط به علما ، ولا تدركه الأبصار ، وليس كمثله شيء.
أقول
: وهذا المعنى
وارد في أخبار أخر مروية عنهم عليهالسلام ، وهناك روايات أخر تثبت الرؤية بمعنى آخر أدق يليق
بساحة قدسه تعالى سنوردها إن شاء الله في تفسير سورة الأعراف ، وإنما شدد النكير
على الرؤية في هذه الرواية لما أن المشهور من إثبات الرؤية في عصرهم كان هو إثبات
الرؤية الجسمانية بالبصر الجسماني التي ينفيها صريح العقل ونص الكتاب ففي تفسير الطبري
، عن عكرمة عن ابن عباس قال : إن النبي صلىاللهعليهوآله رأى ربه ـ فقال له رجل عند ذلك : أليس قال الله : لا
تدركه الأبصار؟ فقال له عكرمة : ألست ترى السماء؟ قال بلى ، قال : فكلها ترى؟ إلى
غير ذلك من الأخبار.
والذي تثبته من
الرؤية صريح الرؤية الجسمانية بالعضو الباصر ، وقد نفاها العقل والنقل ، وقد فات
عكرمة أن لو كان المراد بقوله «
لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ » هو نفي الإحاطة بجميع أقطار الشيء لم يكن وجه لاختصاصه به تعالى فإن شيئا
من الأشياء الجسمانية ولها سطوح مختلفة الجهات كالإنسان والحيوان وسائر الأجسام
الأرضية والأجرام السماوية لا يمس الحس الباصر منها إلا ما يواجه الشعاع الدائر
بين الباصر والمبصر على ما تعينه قوانين الإبصار المدونة في أبحاث المناظر
والمرايا.
فإنا إذا
أبصرنا إنسانا مثلا فإنما نبصر منه بعض السطوح الكثيرة المحيطة ببدنه من فوق وتحت
والقدام والخلف واليمين واليسار مثلا ، ومن المحال أن يقع البصر على جميع ما يحيط
به من مختلف السطوح فلو كان المراد من قوله : « لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ » نفي هذا السنخ من الإدراك البصري المحال فيه وفي غيره
كان كلاما لا محصل له.
وفي التوحيد ،
بإسناده عن إسماعيل بن الفضل قال : سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهالسلام ـ عن الله تبارك وتعالى هل يرى في المعاد؟ فقال : سبحان
الله وتعالى
عن ذلك علوا كبيرا ـ يا بن الفضل إن الأبصار لا تدرك إلا ما له لون وكيفية
، والله خالق الألوان والكيفيات.
اتَّبِعْ
ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ
حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ
زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ
فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ
أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ
عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩)
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ
وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠) وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا
إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ
شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا
شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ
غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢)
وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣).
(
بيان )
اتصال الآيات
بما قبلها واضح لا غبار عليه ، والكلام مسرود في التوحيد.
قوله
تعالى : « اتَّبِعْ ما أُوحِيَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ » أمر باتباع ما أوحي إليه من ربه من أمر التوحيد وأصول
شرائع الدين من غير أن يصده ما يشاهده من استكبار المشركين عن الخضوع لكلمة الحق
والإعراض عن دعوة الدين.
وفي قوله : « مِنْ رَبِّكَ » المشعر بمزيد الاختصاص تلويح إلى شمول العناية الخاصة
الإلهية إلا أن قوله : «
مِنْ رَبِّكَ » لما كان ملحوقا بقوله : «
وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ » وكان ذلك ربما يوهم أن المراد : اتبع الوحي واعبد ربك
، وأعرض عنهم يعبدوا أربابهم ، ولا يخلو ذلك عن إمضاء لطريقتهم وشركهم قدم على
قوله : «
وَأَعْرِضْ » إلخ ، قوله : «
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ » ليندفع به هذا الوهم ، ويجلو معنى قوله : « وَأَعْرِضْ » إلخ ، ويأخذ موضعه.
فالمعنى : اتبع
ما أوحي إليك من ربك الذي له العناية البالغة بك والرحمة المشتملة عليك إذ خصك
بوحيه وأيدك بروح الاتباع ، وأعرض عن هؤلاء المشركين لا بأن تدعهم وما يعبدون
وتسكت راضيا بما يشركون فيكون ذلك إمضاء للوثنية فإنما الإله واحد وهو ربك الذي
يوحي إليك لا إله إلا هو بل إن تعرض عنهم فلا تجهد نفسك في حملهم على التوحيد ولا
تتحمل شقا فوق طاقتك فإنما عليك البلاغ ولست عليهم بحفيظ ولا وكيل ، وإنما الحفيظ
الوكيل هو الله ولم يشأ لهم التوحيد ولو شاء ما أشركوا لكنه تركهم وضلالهم لأنهم
أعرضوا عن الحق واستنكفوا عن الخضوع له.
قوله
تعالى : « وَلَوْ شاءَ اللهُ ما
أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ
» تطييب لقلب
النبي صلىاللهعليهوآله أن لا يجد لشركهم ولا يحزن لخيبة المسعى في دعوتهم
فإنهم غير معجزين لله فيما أشركوا فإنما المشية لله لو شاء ما أشركوا بل تلبسوا
بالإيمان عن طوع ورغبة كما تلبس من وفق للإيمان وذلك أنهم استكبروا في الأرض
واستعلوا على الله ومكروا به وقد أهلكوا بذلك أنفسهم فرد الله مكرهم إليهم وحرمهم
التوفيق للإيمان والاهتداء إذ كما أن السنة الجارية في التكوين هي سنة الأسباب
وقانون العلية والمعلولية العام ، والمشية الإلهية إنما تتعلق بالأشياء وتقع على
الحوادث على وفقها فما تمت فيه العلل
والشرائط وارتفعت عن وجوده الموانع كان هو الذي تتعلق بتحققه المشية
الإلهية وإن كان الله سبحانه له فيه المشية مطلقا إن لم يشأه لم يكن وإن شاء كان ،
كذلك السنة في نظام التشريع والهداية هي سنة الأسباب فمن استرحم الله رحمه ومن
أعرض عن رحمته حرمه ، والهداية بمعنى إراءة الطريق تعم الجميع فمن تعرض لهذه النفحة
الإلهية ولم يقطع طريق وصولها إليه بالفسق والكفر والعناد شملته وأحيته بأطيب
الحياة ، ومن اتبع هواه وعاند الحق واستعلى على الله ، وأخذ يمكر بالله ويستهزئ
بآياته حرمه الله السعادة وأنزل الله عليه الشقوة وأضله على علم وطبع عليه بالكفر
فلا ينجو أبدا. ولو لا جريان المشية الإلهية على هذه السنة بطل نظام الأسباب
وقانون العلية والمعلولية وحلت الإرادة الجزافية محله ولغت المصالح والحكم
والغايات ، وأدى فساد هذا النظام إلى فساد نظام التكوين لأن التشريع ينتهي بالأخرة
إلى التكوين بوجه ودبيب الفساد إليه يؤدي إلى فساد أصله.
وهذا كما أن
الله سبحانه لو اضطر المشركين على الإيمان وخرج بذلك النوع الإنساني عن منشعب
طريقي الإيمان والكفر ، وسقط الاختيار الموهوب له ولازم بحسب الخلقة الإيمان ،
واستقر في أول وجوده على أريكة الكمال ، وتساوى الجميع في القرب والكرامة كان لازم
ذلك بطلان نظام الدعوة ولغو التربية والتكميل ، وارتفع الاختلاف بين الدرجات ،
وأدى ذلك إلى بطلان اختلاف الاستعدادات والأعمال والأحوال والملكات وانقلب بذلك
النظام الإنساني وما يحيط به ويعمل فيه من نظام الوجود إلى نظام آخر لا خبر فيه عن
إنسان أو ما يشعر به فافهم ذلك.
ومن هنا يظهر
أن لا حاجة إلى حمل قوله : «
وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا » على الإيمان الاضطراري ، وأن المراد أن لو شاء الله أن
يتركوا الشرك قهرا وإجبارا لاضطرهم إلى ذلك وذلك أن الذي تقدم من أن المراد تعلق
المشية الإلهية على تركهم الشرك اختيارا كما تعلقت بذلك في المؤمنين سواء هو
الأوفق بكمال القدرة ، والأنسب بتسلية النبي صلىاللهعليهوآله وتطييب قلبه.
فالمعنى : أعرض
عنهم ولا يأخذك من جهة شركهم وجد ولا حزن فإن الله قادر أن يشاء منهم الإيمان
فيؤمنوا كما شاء ذلك من المؤمنين فآمنوا. على أنك لست بمسئول
عن أمرهم لا تكوينا ولا غيره فلتطب نفسك.
ويظهر من ذلك
أيضا أن قوله : « وَما
جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ » أيضا مسوق سوق التسلية وتطييب النفس ، وكأن المراد
بالحفيظ القائم على إدارة شئون وجودهم كالحياة والنشوء والرزق ونحوها ، وبالوكيل
القائم على إدارة الأعمال ليجلب بذلك المنافع ويدفع المضار المتوجهة إلى الموكل
عنه من ناحيتها فمحصل المراد بقوله : « وَما جَعَلْناكَ » إلخ ، أن ليس إليك أمر حياتهم الكونية ولا أمر حياتهم
الدينية حتى يحزنك ردهم لدعوتك وعدم إجابتهم إلى طلبتك.
وربما يقال :
إن المراد بالحفيظ من يدفع الضرر ممن يحفظه وبالوكيل من يجلب المنافع إلى من يتوكل
عنه ، ولا يخلو عن بعد فإن الحفيظ فيما يتبادر من معناه يختص بالتكوين والوكيل يعم
التكوين وغيره ، ولا كثير جدوى في حمل إحدى الجملتين على جهة تكوينية ، والأخرى
على ما يعمها وغيرها بل الوجه حمل الأولى على إحدى الجهتين ، والأخرى على الأخرى.
قوله
تعالى : « وَلا تَسُبُّوا
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ » السب معروف ، قال الراغب في المفردات ، : العدو التجاوز ومنافاة الالتيام فتارة يعتبر بالقلب فيقال له
: العداوة والمعاداة ، وتارة بالمشي فيقال له العدو ، وتارة في الإخلال بالعدالة
في المعاملة فيقال له العدوان والعدو قال : ( فَيَسُبُّوا اللهَ
عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) وتارة بأجزاء المقر فيقال له العدواء يقال مكان ذو
عدواء أي غير متلائم الأجزاء. انتهى.
والآية تذكر
أدبا دينيا تصان به كرامة مقدسات المجتمع الديني وتتوقى ساحتها أن يتلوث بدرن
الإهانة والإزراء بشنيع القول والسب والشتم والسخرية ونحوها فإن الإنسان مغروز على
الدفاع عن كرامة ما يقدسه ، والمقابلة في التعدي على من يحسبه متعديا إلى نفسه ،
وربما حمله الغضب على الهجر والسب لما له عنده أعلى منزلة العزة والكرامة فلو سب
المؤمنون آلهة المشركين حملتهم عصبية الجاهلية أن يعارضوا المؤمنين بسب ما له
عندهم كرامة الألوهية وهو الله عز اسمه ففي سب آلهتهم نوع تسبيب إلى ذكره تعالى
بما لا يليق بساحة قدسه وكبريائه.
وعموم التعليل
المفهوم من قوله : «
كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ » يفيد عموم النهي
لكل قول سيئ يؤدي إلى ذكر شيء من المقدسات الدينية بالسوء بأي وجه أدى.
قوله تعالى : « كَذلِكَ زَيَّنَّا
لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ
بِما كانُوا يَعْمَلُونَ » الزينة أمر جميل محبوب يضم إلى شيء ضما يجلب الرغبة إليه
ويحببه عند طالبه فيتحرك نحو الزينة وينتهي إلى الشيء المتزين بها كاللباس المزين
بهيئته الحسنة الذي يلبسه الإنسان لزينته فيصان به بدنه عن الحر والبرد.
وقد أراد الله
سبحانه أن يعيش الإنسان هذه العيشة الدنيوية ذات الشعب والفروع ويديم حياته
الأرضية الخاصة به من طريق إعمال قواه الفعالة فيدرك ما ينفعه وما يضره بحواسه
الظاهرة ثم يتصرف فيها بحواسه وقواه الباطنة ثم يتغذى بأكل أشياء وشرب أشياء ويهيج
إلى النكاح بأعمال خاصة ويلبس ويأوي ويجلب ويدفع وهكذا.
وله في جميع
هذه الأعمال وما يتعلق بها لذائذ يقارنها وغايات حيوية ينتهي إليها وآخر ما ينتهي
إليه الحياة السعيدة الحقيقية التي خلق لها أو الحياة التي يظنها الحياة السعيدة
الحقيقية. وهو إنما يقصد بما يعمله من عمل ما يتصل به من اللذة المادية كلذة
الطعام والشراب والنكاح وغير ذلك أو اللذة الفكرية كلذة الدواء ولذة التقدم والأنس
والمدح والفخر والذكر الخالد والانتقام والثروة والأمن وغير ذلك مما لا يحصى.
وهذه اللذائذ
أمور زينت بها هذه الأعمال ومتعلقاتها ، وقد سخر الله سبحانه بها الإنسان فهو يوقع
الأفعال ويتوخى الأعمال لأجلها ، وبتحققها يتحقق الغايات الإلهية والأغراض
التكوينية كبقاء الشخص ، ودوام النسل ، ولو لا ما في الأكل والشرب والنكاح من
اللذة المطلوبة لم يكن الإنسان ليتعب نفسه بهذه الحركات الشاقة المتعبة لجسمه
والثقيلة على روحه فاختل بذلك نظام الحياة ، وفنى الشخص ، وانقطع النسل فانقرض
النوع ، وبطلت حكمة التكوين بلا ريب في ذلك.
وما كان من هذه
الزينة طبيعية مغروزة في طبائع الأشياء كالطعوم اللذيذة التي في أنواع الأغذية
ولذة النكاح فهي مستندة إلى الخلقة منسوبة إلى الله سبحانه واقعة في طريق سوق
الأشياء إلى غاياتها التكوينية ، ولا سائق لها إليها إلا الله سبحانه فهو الذي
أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
وما كان منها
لذة فكرية تصلح حياة الإنسان في دنياه ولا تضره في آخرته فهي
منسوبة أيضا إلى الله سبحانه لأنها ناشئة عن الفطرة السليمة التي فطر الله
الناس عليها لا تبديل لخلق الله قال تعالى : « حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ
فِي قُلُوبِكُمْ » : ( الحجرات : ٧ ).
وما كان منها
لذة فكرية توافق الهوى وتشقي في الأخرى والأولى بإبطال العبودية وإفساد الحياة
الطيبة فهي لذة منحرفة عن طريق الفطرة السليمة فإن الفطرة هي الخلقة الإلهية التي
نظمها الله بحيث تسلك إلى السعادة والأحكام الناشئة منها والأفكار المنبعثة منها
لا تخالف أصلها الباعث لها فإذا خالفت الفطرة ولم تؤمن السعادة فليست بالمترشحة
منها بل إنما نشأت من نزعة شيطانية وعثرة نفسانية فهي منسوبة إلى الشيطان كاللذائذ
الوهمية الشيطانية التي في الفسوق بأنواعه من حيث إنه فسوق فإنها زينة منسوبة إلى
الشيطان غير منسوبة إلى الله سبحانه إلا بالإذن قال تعالى حكاية عن قول إبليس : « لَأُزَيِّنَنَّ
لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ » : ( الحجر : ٣٩ ) وقال تعالى : « فَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ » : ( النحل : ٦٣ ).
أما أنها لا
تنسب إلى الله سبحانه بلا واسطة فإنه تعالى هو الذي نظم نظام التكوين فساق الأشياء
فيه إلى غاياتها وهداها إلى سعادتها ثم فرع على فطرة الإنسان الكونية السليمة
عقائد وآراء فكرية يبني عليها أعماله فتسعده وتحفظه عن الشقاء وخيبة المسعى ، وجلت
ساحته عز اسمه أن يعود فيأمر بالفحشاء وينهى عن المعروف ويبعث إلى كل قبيح شنيع
فيأمر الناس جميعا بالحسن والقبيح معا وينهى الناس جميعا عن القبيح والحسن معا
فيختل بذلك نظام التكليف والتشريع ثم الثواب والعقاب ثم يصف الدين الذي هذه صفته
بأنه دين قيم فطرة الله التي فطر الناس عليها ، والفطرة بريئة من هذا التناقض
وأمثاله متأبية مستنكفة من أن ينسب إليها ما تعده من السفه والعتاهية.
فإن قلت : ما
المانع من أن تنسب الدعوة إلى الطاعة والمعصية إليه تعالى بمعنى أن النفوس التي
تزينت بالتقوى وتجهزت بسريرة صالحة يبعثها الله إلى الطاعة والعمل الصالح ،
والنفوس التي تلوثت بقذارة الفسوق واكتست بخباثة الباطن يدعوها الله سبحانه إلى
الفجور والفسق بحسب اختلاف استعداداتها فالداعي إلى الخير والشر والباعث إلى الطاعة
والمعصية جميعا هو الله سبحانه.
قلت : هذا نظر
آخر غير النظر الذي كنا نبحث عنه وهذا هو النظر في الطاعة والمعصية من حيث توسيط
أسباب متخللة بينهما وبينه تعالى فلا شك أن الحالات الحسنة أو السيئة
النفسانية لها دخل في تحقق ما يناسبها من الطاعات أو المعاصي ، وعلى
تقديرها تنسب الطاعة والمعصية إليها بلا واسطة وإلى الله سبحانه بالإذن فالله
سبحانه هو الذي أذن لكل سبب أن يتسبب إلى مسببه.
وأما الذي نحن
فيه من النظر فهو النظر في حال الطاعة والمعصية من حيث تشريع الأحكام ، ومن حيث
انبعاث النفوس إليهما مع قطع النظر عن سائر الأسباب الباعثة الداعية إليهما فهل من
الممكن أن يقال : إن الله سبحانه يدعو إلى الإيمان والكفر جميعا أو يبعث إلى
الطاعة والمعصية معا؟ وهو الذي يصف دينه بأنه الدين القيم على المجتمع الإنساني
المبني على الفطرة الإلهية وهذه الشرائع الإلهية ثم الدواعي النفسانية الموافقة
لها كلها فطرية والدواعي النفسانية الموافقة لهوى النفس المخالفة لأحكام الشريعة
مخالفة للفطرة لا تنسب الدعوة إليها إلى ذي فطرة سليمة فمن المحال أن تنسب إليه
تعالى قال تعالى : «
وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها
قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا
تَعْلَمُونَ ، قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ » : ( الأعراف : ٢٩ ).
وأما أنها
منسوبة إليه تعالى بالإذن فإن الملك عام والسلطنة الإلهية مطلقة وحاشا أن يتأتى
لأحد أن يتصرف في شيء من ملكه إلا بإذنه فما يزينه الشيطان في قلوب أوليائه من
الشرك والفسق وجميع ما ينتهي بوجه من الوجوه إلى سخط الله سبحانه فإنما ذلك عن إذن
إلهي تتم به سنة الامتحان والاختبار الذي لا يتم دونه نظام التشريع ومسلك الدعوة
والهداية ، قال تعالى : «
ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ » : ( يونس : ٣ ) وقال : « وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ » : ( آل عمران : ١٤١ ).
فتبين أن لزينة
الأعمال نسبة إليه تعالى أعم مما بواسطة الإذن أو بلا واسطة ، وعليه يجري قوله
تعالى : « كَذلِكَ
زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ » : ( الآية : ١٠٨ ) وأوضح منه في الانطباق على ما تقدم
قوله تعالى : « إِنَّا
جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ
عَمَلاً » : ( الكهف :
٧ ).
وللمفسرين بحسب
اختلافهم في نسبة الأفعال إليه تعالى أقوال في الآية.
منها
: أن المراد هو
التزيين بالأمر والنهي وبيان الحسن والقبح فالمعنى : كما زينا لكم أيها المؤمنون
أعمالكم زينا لكل أمة من قبلكم أعمالهم من حسن الدعاء إلى الله وترك سب
الأصنام ونهيناهم أن يأتوا من الأفعال ما ينفر الكفار عن قبول الحق. وفيه
أنه مخالف لظهور الآية في العموم ، ولا دليل على تخصيصها بما ذكروه كما ظهر مما
تقدم.
ومنها
: أن المعنى :
وكذلك زينا لكل أمة عملهم بميل الطباع إليه ولكن قد عرفناهم الحق مع ذلك ليأتوا
الحق ويجتنبوا الباطل.
وفيه أنه كما
لا يصح إسناد الدعوة إلى الطاعة والمعصية والإيمان والكفر إليه تعالى بلا واسطة
كذلك لا تصح نسبة ميل الطباع إلى الأعمال الحسنة والسيئة على وتيرة واحدة إليه
تعالى فالفرق بين الدعوة التكوينية وما يشابهها وبين الدعوة التشريعية إلى القبائح
والمساوي ، ونسبة الأول إليه تعالى دون الثاني ليس في محله.
ومنها
: أن المراد هو
التزيين بذكر الثواب فهو كقوله ( وَلكِنَّ اللهَ
حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ
الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ ) » : ( الحجرات : ٧ ) أي حبب إليكم الإيمان بذكر ثوابه
ومدح فاعليه على فعله ، وكره الكفر بذكر عقابه وذم فاعليه. وفيه : أن فيه تقييدا
للأعمال بالحسنة من غير مقيد. على أنه معنى بعيد من السياق ومن ظاهر لفظ التزيين.
على أن التزيين بهذا المعنى لا يختص بالمؤمنين.
ومنها
: أن المراد
التزيين لمطلق الأعمال حسناتها وسيئاتها ابتداء من غير واسطة والدعوة منه تعالى
إلى الطاعة والمعصية جميعا بناء على أن الإنسان مجبر في الأفعال المنسوبة إليه.
وفيه : أن ظاهر
الآية أوفق بالاختيار منه بالإجبار فإن الشيء إنما تضم إليه الزينة ليرغب فيه
الإنسان ويحبب إليه فتكون مرجحة لتعلقه به وترك غيره ، ولو لم تكن نسبة فعله وتركه
إليه على السواء لم يكن وجه لترجيحه فتزين الفعل بما يرغب فيه الفاعل نوع من
الحيلة يتوسل بها إلى وقوعه ، وهو ينطبق في الطاعات وحسنات الأعمال على ما يسمى في
لسان الشرع هداية وتوفيقا ، وفي المعاصي وسيئات الأعمال على ما يعد إضلالا ومكرا
إلهيا ، ولا مانع من نسبة الإضلال والمكر إليه تعالى إذا كانا بعنوان المجازاة دون
الإضلال والمكر الابتدائيين ، وقد تقدم البحث عن هذه المعاني في مواضع من هذا
الكتاب وتقدم البحث عن الجبر وما يقابله من التفويض والأمر بين الأمرين في الجزء
الأول من الكتاب.
وقوله تعالى :
« ثُمَّ
إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ » يؤيد ما تقدم أن حكم
التزيين عام شامل لجميع الأعمال الباطنية كالإيمان والكفر والظاهرية كأعمال
الجوارح الحسنة والسيئة فإن ظاهر الآية أن الإنسان إنما يقصد هذه الأعمال ويوقعها
لأجل ما يرغب فيه من زينته غافلا عن الحقائق المستورة تحت هذه الزينات المضروب
عليها بحجاب الغفلة ثم إذا رجعوا إلى ربهم نبأهم بحقيقة ما كانوا يعملونه ،
وعاينوا ما هم مصروفون عنه ، أما أولياء الرحمن فوجدوا ما لم يكن يعلم مما أخفي
لهم من قرة أعين ، وأما أولياء الشيطان فبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون
فظهور حقائق الأعمال يوم القيامة لا يختص بأحد القبيلين من الحسنات والسيئات.
قوله
تعالى : « وَأَقْسَمُوا بِاللهِ
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ـ إلى قوله ـ عِنْدَ اللهِ » الجهد بفتح الجيم الطاقة والأيمان جمع يمين وهي القسم ، وجهد الأيمان أي ما تبلغه قدرتها
وهو الطاقة ، والمراد أنهم بالغوا في القسم وأكدوه ما استطاعوا ، والمراد بكون
الآيات عند الله كونها في ملكه وتحت سلطته لا ينالها أحد إلا بإذنه.
فالمعنى :
وأقسموا بالله وبالغوا فيه لئن جاءتهم آياته تدل على صدق النبي صلىاللهعليهوآله فيما يدعو إليه ليؤمنن بتلك الآية ـ وهذا اقتراح منهم
للآية كناية ـ قل إنما الآيات عند الله وهو الذي يملكها ويحيط بها وليس إلي من
أمرها شيء حتى أجيبكم إليها من تلقاء نفسي.
قوله
تعالى : « وَما يُشْعِرُكُمْ
أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ » قرئ : ( لا يُؤْمِنُونَ ) بياء الغيبة وتاء الخطاب جميعا ، والخطاب على القراءة
الأولى للمؤمنين بنوع من الالتفات ، وعلى القراءة الثانية للمشركين والكلام من
تتمة قول النبي صلىاللهعليهوآله وهو ظاهر.
والظاهر أن « إِنَّمَا » في قوله : « وَما يُشْعِرُكُمْ » للاستفهام ، والمعنى : وما هو الذي يفيد لكم العلم
بواقع الأمر وهو أنهم لا يؤمنون إذا جاءتهم الآيات؟ فالكلام في معنى قولنا : هؤلاء
يحلفون بالله لئن جاءتكم الآيات ليؤمنن بها فربما آمنتم وصدقتم بحلفهم وليس لكم
علم بأنهم إذا جاءتهم الآيات لا يؤمنون بها لأن الله لم يشأ إيمانهم فالكلام من
الملاحم.
وربما قيل : إن
« أن » في قوله : «
أَنَّها إِذا جاءَتْ » إلخ ، بمعنى لعل وهذا معنى شاذ لا يحمل على مثله كلام الله لو ثبت لغة.
قوله
تعالى : « وَنُقَلِّبُ
أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ » إلخ ، ظاهر السياق أن الجملة عطف على قوله : « لا يُؤْمِنُونَ » وهي بمنزلة التفسير لعدم إيمانهم ، والمراد
بقوله : « أَوَّلَ
مَرَّةٍ » الدعوة
الأولى قبل نزول الآيات قبال ما يتصور له من المرة الثانية التي هي الدعوة مع نزول
الآيات.
والمعنى أنهم
لا يؤمنون لو نزلت عليهم الآيات ، وذلك أنا نقلب أفئدتهم فلا يعقلون بها كما ينبغي
أن يعقلوه ، وأبصارهم فلا يبصرون بها ما من حقهم أن يبصروه فلا يؤمنون بها كما لم
يؤمنوا بالقرآن أول مرة من الدعوة قبل نزول هذه الآيات المفروضة ونذرهم في طغيانهم
يترددون ويتحيرون. هذا ما يقضي به ظاهر سياق الآية.
وللمفسرين في
الآية أقوال كثيرة غريبة لا جدوى في التعرض لها والبحث عنها ، من شاء الاطلاع
عليها فليراجع مظانها.
قوله
تعالى : « وَلَوْ أَنَّنا
نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى » إلى آخر الآية بيان آخر لقوله : « إِنَّمَا الْآياتُ
عِنْدَ اللهِ » وأن قولهم : «
لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها » دعوى كاذبة أجرأهم عليها جهلهم بمقام ربهم فليس في وسع
الآيات التي يظنون أنها أسباب مستقلة في إيجاد الإيمان في قلوبهم وإقدارهم على
التلبس به أن تودع في نفوسهم الإيمان إلا بمشية الله.
فهذا السياق
يدل على أن في الكلام حذفا وإيجازا ، والمعنى : ولو أننا أجبناهم في مسألتهم
وآتيناهم أعاجيب الآيات فنزلنا إليهم الملائكة فعاينوهم ، وأحيينا لهم الموتى
فواجهوهم وكلموهم وأخبروهم بصدق ما يدعون إليه ، وحشرنا وجمعنا عليهم كل شيء قبيلا
قبيلا وصنفا صنفا ، أو حشرنا عليهم كل شيء قبلا ومواجهة فشهدوا لهم بلسان الحال أو
القال ، ما كانوا ليؤمنوا ولم يؤثر شيء من ذلك في استجابتهم للإيمان إلا أن يشاء
الله إيمانهم.
فلا يتم لهم
الإيمان بشيء من الأسباب والعلل إلا بمشية الله فإن النظام الكوني على عرضه العريض
وإن كان يجري على طبق حكم السببية وقانون العلية العام غير أن العلل والأسباب
مفتقرة في أنفسها متدلية إلى ربها غير مستقلة في شيء من شئونها ومقتضياتها فلا
يظهر لها حكم إلا بمشية الله ولا يحيى لها رسم إلا بإذنه.
غير أن
المشركين أكثرهم ـ ولعلهم غير العلماء الباغين منهم ـ يجهلون مقام ربهم ويتعلقون
بالأسباب على أنها مستقلة في نفسها مستغنية عن ربها فيظنون أن لو أتاهم سبب
الإيمان ـ وهو الآية المقترحة ـ آمنوا واتبعوا الحق وقد اختلط عليهم الأمر بجهلهم
فأخذوا
هذه الأسباب الناقصة المفتقرة إلى مشية الله أسبابا مستقلة تامة مستغنية
عنه.
قوله
تعالى : « وَكَذلِكَ جَعَلْنا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ » إلى آخر الآية الشياطين جمع شيطان وهو في اللغة الشرير غلب استعماله في إبليس
الذي يصفه القرآن وذريته ، والجن من الجن بالفتح وهو الاستتار ، وهو في عرف القرآن نوع
من الموجودات ذوات الشعور والإرادة مستور عن حواسنا بحسب طبعها وهم غير الملائكة. يذكر
القرآن أن إبليس الشيطان من سنخهم. والوحي هو القول الخفي بإشارة ونحوها ، والزخرف الزينة المزوقة أو الشيء المزوق فزخرف القول الكلام
المزوق المموه الذي يشبه الحق وليس به ، وغرورا مفعول مطلق لفعل مقدر من جنسه أو
مفعول له.
والمعنى : ومثل
ما جعلنا لك جعلنا لكل نبي عدوا هم شياطين الإنس والجن يشير بعضهم إلى بعض ـ وكأن
المراد وحي شياطين الجن بالوسوسة والنزغة إلى شياطين الإنس ووحي بعض شياطين الإنس
إلى بعض آخر منهم بإسرار المكر والتسويل ـ بأقوال مزوقة وكلمات مموهة يغرونهم بذلك
غرورا أو لغرورهم وإضلالهم بذلك.
وقوله : « وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
ما فَعَلُوهُ » يشير بذلك إلى أن حكم المشية عام جار نافذ فكما أن الآيات لا تؤثر في
إيمانهم شيئا إلا بمشية الله كذلك معاداة الشياطين الأنبياء ووحيهم زخرف القول
غرورا كل ذلك بإذن الله ولو شاء الله ما فعلوه ولم يوحوا ذلك فلم يكونوا عدوا
للأنبياء ، وبهذا المعنى يتصل هذه الآية بما قبلها لاشتراكهما في بيان توقف الأمور
على المشية.
وقوله : « فَذَرْهُمْ وَما
يَفْتَرُونَ » تفريع على نفوذ المشية أي إذا كانت هذه المعاداة والإفساد بالوساوس كل
ذلك بإذن الله ولم يكونوا بمعجزين لله في مشيته النافذة الغالبة فلا يحزنك ما
تشاهد من إخلالهم بالأمر وإفسادهم له بل اتركهم وما يفترونه على الله من دعوى
الشريك ونحوها.
فقوله : « وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
ما فَعَلُوهُ » إلى آخر الآية في معنى قوله في صدر الآيات : « وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شاءَ
اللهُ ما أَشْرَكُوا ».
والكلام في
قوله تعالى : « وَكَذلِكَ
جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ »
إلخ ، حيث أسند ظاهرا جعلهم عدوا للأنبياء ـ وفيه التسبب إلى الشر والبعث
إلى الشرك والمعصية ـ إلى الله سبحانه وهو منزه من كل شر وسوء نظير الكلام في
إسناده تزيين الأعمال إلى الله سبحانه في قوله : « كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ
» وقد تقدم
الكلام فيه ، وكذا الكلام في ظاهر ما يفيده قوله في الآية التالية : « وَلِتَصْغى إِلَيْهِ
أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ » إلخ ، حيث جعل هذه المظالم والآثام غايات إلهية للدعوة
الحقة.
وللمفسرين في
هاتين الآيتين على حسب اختلاف مذاهبهم في انتساب الأعمال إلى الله سبحانه نظائر ما
تقدم من أقوالهم في انتساب زينة الأعمال إليه تعالى.
وقد عرفت أن
الذي يفيده ظاهر الآية الكريمة أن كل ما يصدق عليه اسم شيء فهو مملوك له تعالى
منسوب إليه من غير استثناء لكن الآيات المنزهة لساحة قدسه تعالى من كل سوء وقبح
تعطي أن الخيرات والحسنات جميعا مستندة إلى مشيته منسوبة إليه بلا واسطة أو معها ،
والشرور والسيئات مستندة إلى غيره تعالى كالشيطان والنفس بلا واسطة ، وإنما تنتسب
إليه تعالى بالإذن فهي مملوكة له تعالى واقعة بإذنه ليستقيم أمر الامتحان الإلهي
ويتم بذلك أمر الدعوة الإلهية بالأمر والنهي والثواب والعقاب ولو لا ذلك لبطلت
ولغت السنة الإلهية في تسيير الإنسان كسائر الأنواع نحو سعادته في هذا العالم
الكوني الذي لا سبيل فيه إلى الكمال والسعادة إلا بالسلوك التدريجي.
قوله
تعالى : « وَلِتَصْغى إِلَيْهِ
أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ » إلى آخر الآية. الاقتراف هو الاكتساب ، وضمير المفرد للوحي المذكور في الآية
السابقة واللازم في قوله : «
لِتَصْغى » للغاية
والجملة معطوفة على مقدر ، والتقدير : فعلنا ما فعلنا وشئنا ما شئنا ولم نمنع عن
وحي بعضهم لبعض زخرف القول غرورا لغايات مستورة ولتصغى وتجيب إليه أفئدة الذين لا
يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليكتسبوا ما هم مكتسبون لينالوا بذلك جميعا ما يسألونه
بلسان استعدادهم من شقاء الآخرة ، فإن الله سبحانه يمد كلا من أهل السعادة وأهل
الشقاء بما يتم به سيرهم إلى منازلهم ويرزقهم ما يقترحونه بلسان استعدادهم قال
تعالى : « كُلًّا
نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ
مَحْظُوراً » ( الإسراء : ٢٠ ).
(
بحث روائي )
في الدر
المنثور ، أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش :
انطلقوا فلندخل على هذا الرجل ـ فنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه ـ فإنا نستحيي أن نقتله
بعد موته فتقول العرب : كان يمنعه فلما مات قتلوه.
فانطلق أبو
سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث ـ وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة بن أبي معيط ـ وعمرو
بن العاصي والأسود بن البختري ، وبعثوا رجلا منهم يقال له المطلب فقالوا : استأذن
لنا على أبي طالب فأتى أبا طالب فقال : هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك ـ فأذن
لهم عليه فدخلوا فقالوا : يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا ، وإن محمدا قد آذانا
وآذى آلهتنا ـ فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه ، فدعاه فجاءه
النبي صلىاللهعليهوآله فقال له أبو طالب : هؤلاء قومك وبنو عمك ، قال رسول
الله صلىاللهعليهوآله : ما يريدون؟
قالوا : نريد
أن تدعنا وآلهتنا ولندعك وإلهك. قال النبي صلىاللهعليهوآله؟ أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة أن تكلمتم
بها ملكتم بها العرب ـ ودانت لكم بها العجم الخراج؟ قال أبو جهل : وأبيك لنعطينكها
وعشرة أمثالها فما هي؟ قال : قولوا لا إله إلا الله ، فأبوا واشمأزوا.
قال أبو طالب :
قل غيرها فإن قومك قد فزعوا منها ، قال : يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ـ حتى
يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي ـ ولو آتوني بالشمس فيضعوها في يدي ما قلت غيرها ـ إرادة
أن يؤيسهم فغضبوا وقالوا : لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنك ونشتم من يأمرك ، فأنزل
الله : « وَلا
تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ـ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً
بِغَيْرِ عِلْمٍ ».
أقول
: والرواية ـ كما
ترى ـ لا يلائم ذيلها صدرها فإن مقتضى صدرها أنهم كانوا يسألونه الكف عن آلهتهم أي
لا يدعو الناس إلى رفضها وترك التقرب إليها حتى إذا يئسوا من إجابته هددوه بشتم
ربه إن شتم آلهتهم وكان مقتضى جر الكلام أن يهددوه على دعوة إلى رفضها لا أن
يهملوا ذلك ويذكروا شتمه ويهددوه على ذلك وليس في الآية إشارة إلى صدر القصة وهو
أصلها.
على أن وقار
النبوة وعظيم الخلق الذي كان في عشرته صلىاللهعليهوآله كان يمنعه من التفوه بالشتم الذي هو من لغو القول ،
والذي ورد من لعنه بعض صناديد قريش بقوله : اللهم العن فلانا وفلانا ، وكذا ما ورد
في كلامه تعالى من قبيل قوله : «
لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ » : ( النساء : ٤٦ ) وقوله : « فَقُتِلَ كَيْفَ
قَدَّرَ » : ( المدثر :
١٩ ) وقوله : « قُتِلَ
الْإِنْسانُ » : ( عبس : ١٧ ) وقوله : «
أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ » : ( الأنبياء : ٦٧ ) ونظائر ذلك فإنما هي من الدعاء
دون الشتم الذي هو الذكر بالقبيح الشنيع للإهانة تخييلا ، والذي ورد من قبيل قوله
تعالى : « مَنَّاعٍ
لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ » : ( القلم : ١٣ ) فإنما هو من قبيل بيان الحقيقة.
فالظاهر أن العامة من المؤمنين بالنبي صلىاللهعليهوآله ربما أداهم المشاجرة والجدال مع المشركين إلى ذكر
آلهتهم بالسوء كما يقع كثيرا بين عامة الناس في مجادلاتهم فنهاهم الله عن ذلك كما
يشير إليه الحديث الآتي.
وفي تفسير
القمي ، قال : حدثني أبي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : سئل عن قول النبي صلىاللهعليهوآله : « إن الشرك أخفى ـ من دبيب النمل على صفاة سوداء في
ليلة ظلماء » فقال : كان المؤمنون يسبون ما يعبد المشركون ـ من دون الله فكان
المشركون يسبون ما يعبد المؤمنون ـ فنهى الله المؤمنين عن سب آلهتهم ـ لكيلا يسب
الكفار إله المؤمنين ـ فيكون المؤمنون قد أشركوا بالله من حيث لا يعلمون ـ فقال : ( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ـ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ).
وفي تفسير
العياشي ، عن عمرو الطيالسي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : سألته عن قول الله : « وَلا تَسُبُّوا » الآية. قال : فقال يا عمرو هل رأيت أحدا يسب الله؟ قال
: فقلت : جعلني الله فداك فكيف؟ قال : من سب ولي الله فقد سب الله.
وفي الدر
المنثور ، أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : كلم رسول الله صلىاللهعليهوآله قريشا فقالوا : يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا
يضرب بها الحجر ، وأن عيسى كان يحيي الموتى ـ وأن ثمود كان لهم ناقة ، فأتنا من
الآيات حتى نصدقك ـ فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : أي شيء تحبون أن آتيكم به؟ قالوا : تجعل لنا الصفا
ذهبا ـ قال : فإن فعلت تصدقوني؟ قالوا : نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون ـ فقام
رسول الله صلىاللهعليهوآله يدعو فجاء جبرئيل فقال له : إن شئت أصبح ذهبا فإن لم
يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم ، وإن شئت
فاتركهم حتى يتوب تائبهم ـ فقال : بل يتوب تائبهم فأنزل الله : « وَأَقْسَمُوا بِاللهِ
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ـ إلى قوله ـ يَجْهَلُونَ
».
أقول
: القصة
المذكورة سببا للنزول في الرواية لا تنطبق على ظاهر الآيات فقد تقدم أن ظاهرها
الإخبار عن أنهم لا يؤمنون بما يأتيهم من الآيات ، وأنهم ليسوا بمفارقي الشرك وإن
أتتهم كل آية ممكنة حتى يشاء الله منهم الإيمان ولم يشأ ذلك ، وإذا كان هذا هو
الظاهر من الآيات فكيف ينطبق على ما في الرواية من قول جبرئيل : إن شئت صار ذهبا
فإن لم يؤمنوا عذبوا ، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم ، إلخ.
فالظاهر أن
الآيات في معنى قوله : «
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ
تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ » : ( البقرة : ٦ ) فكأن طائفة من صناديد المشركين
اقترحوا آيات سوى القرآن وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم ليؤمنن بها فكذبهم
الله بهذه الآيات وأخبر أنهم لن يؤمنوا لأنه تعالى لم يشأ ذلك نكالا عليهم.
وفي تفسير
القمي ، : في قوله تعالى : «
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ » الآية ـ في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليهالسلام في الآية ، يقول : وننكس قلوبهم فيكون أسفل قلوبهم
أعلاها ، ونعمي أبصارهم فلا يبصرون الهدى : وقال علي بن أبي طالب عليهالسلام : إن ما تغلبون عليه من الجهاد ـ الجهاد بأيديكم ثم
الجهاد بقلوبكم ـ فمن لم يعرف قلبه معروفا ولم ينكر منكرا ـ نكس قلبه فجعل أسفله
أعلاه فلا يقبل خيرا أبدا.
أقول
: المراد بذلك
تقلب النفس في إدراكها وانعكاس أحكامها من جهة اتباع الهوى والإعراض عن سليم العقل
المعدل لمقترحات القوى الحيوانية الطاغية.
وفي تفسير
العياشي ، عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهالسلام : عن قول الله : « وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ » إلى آخر الآية أما قوله : « كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ » فإنه حين أخذ عليهم الميثاق.
أقول
: سيأتي الكلام
الفصل في الميثاق في تفسير قوله تعالى : « وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ
ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ » : الآية ( الأعراف : ١٧٢ ) لكن تقدم أن ظاهر السياق أن المراد بعدم
إيمانهم به أول مرة عدم إيمانهم بالقرآن في أول الدعوة.
أَفَغَيْرَ
اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ
بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ
صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥)
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ
يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ
هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧)
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ
(١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ
فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ
كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ
الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠)
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ
وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ
أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١).
(
بيان )
الآيات على ما
لها من الاتصال بما قبلها كما يدل عليه التفريع بالفاء في قوله : « أَفَغَيْرَ اللهِ
أَبْتَغِي حَكَماً » إلخ. لها فيما بينها أنفسها ـ وهي ثمان آيات ـ اتصال يرتبط به بعضها ببعض
ويرجع بعضها إلى بعض فإن فيها إنكار أن يتخذ حكم إلا الله وقد فصل أحكامه في كتابه
، ونهيا من اتباع الناس وإطاعتهم وأن إطاعة أكثر الناس من المضلات لاتباعهم الظن
وبنائهم على الخرص والتخمين ، وفي آخرها أن المشركين وهم أولياء الشياطين يجادلون
المؤمنين في أمر أكل الميتة ، وفيها الأمر بأكل ما ذكر اسم الله عليه والنهي عن
أكل ما لم يذكر اسم الله عليه ، وأن ذلك هو الذي فصله في كتابه وارتضاه لعباده.
وهذا كله يؤيد ما
نقل عن ابن عباس : أن المشركين خاصموا النبي صلىاللهعليهوآله والمؤمنين ـ في أمر الميتة قائلين : أتأكلون مما قتلتم
أنتم ولا تأكلون مما قتله الله؟ فنزلت ، فالغرض من هذه الآيات بيان الفرق وتثبيت
الحكم.
قوله تعالى : « أَفَغَيْرَ اللهِ
أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً » قال في المجمع : ، الحكم والحاكم بمعنى واحد إلا أن الحكم أمدح لأن معناه من يستحق أن
يتحاكم إليه فهو لا يقضي إلا بالحق وقد يحكم الحاكم بغير حق. قال : ومعنى التفصيل تبيين المعاني بما ينفي التخليط المعمي للمعنى ، وينفي
أيضا التداخل الذي يوجب نقصان البيان عن المراد ، انتهى.
وفي قوله : « أَفَغَيْرَ اللهِ
أَبْتَغِي حَكَماً » تفريع على ما تقدم من البصائر التي جاءت من قبله تعالى ، وقد ذكر قبل ذلك
في القرآن أنه كتاب أنزله مبارك مصدق الذي بين يديه من التوراة والإنجيل ، والمعنى
: أفغير الله من سائر من تدعون من الآلهة أو من ينتمي إليهم أطلب حكما يتبع حكمه
وهو الذي أنزل عليكم هذا الكتاب وهو القرآن مفصلا متميزا بعض معارفه من بعض غير
مختلط بعض أحكامه ببعض ، ولا يستحق الحكم إلا من هو على هذه الصفة فالآية كقوله
تعالى : « وَاللهُ
يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ
إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ » : ( المؤمن : ٢٠ ).
وقوله : « أَفَمَنْ يَهْدِي
إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى » ( يونس : ٣٥ ).
قوله
تعالى : « وَالَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ » إلى آخر الآية ، رجوع إلى خطاب النبي صلىاللهعليهوآله بما يتأكد به يقينه ويزيد في ثبوت قدمه فيما ألقاه إلى
المشركين من الخطاب المشعر بأن الكتاب النازل إليه منزل من ربه بالحق ففي الكلام
التفات ، وهو بمنزلة المعترضة ليزيد بذلك رسوخ قدمه واطمئنان قلبه وليعلم المشركون
أنه على بصيرة من أمره.
وقوله : « بِالْحَقِ » متعلق بقوله : « مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ » وكون التنزيل بالحق هو أن لا يكون بتنزيل الشياطين
بالتسويل أو بطريق الكهانة كما في قوله تعالى : « هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ
الشَّياطِينُ ، تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ » : ( الشعراء : ٢٢٢ ) أو بتخليط الشياطين بعض الباطل
بالوحي الإلهي ، وقد أمن الله رسول من ذلك بمثل قوله : « عالِمُ الْغَيْبِ
فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ
يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ
أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ » : ( الجن : ٢٨ ).
قوله
تعالى : « وَتَمَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ » الكلمة ـ وهي ما دل على معنى تام أو غيره ـ ربما استعملت في
القرآن في القول الحق الذي قاله الله عز من قائل من القضاء أو الوعد كما في قوله :
« وَلَوْ لا
كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ » : ( يونس : ١٩ ) يشير إلى قوله لآدم عند الهبوط : « وَلَكُمْ فِي
الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ » : ( البقرة : ٣٦ ) وقوله تعالى : « حَقَّتْ عَلَيْهِمْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ » : ( يونس : ٩٦ ) يشير إلى قوله تعالى لإبليس : « لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ » : ( ـ ص : ٨٥ ) وقد فسرها في موضع آخر بقوله : « وَتَمَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ » : ( هود : ١١٩ ) وكقوله تعالى : « وَتَمَّتْ كَلِمَتُ
رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا » : ( الأعراف : ١٣٧ ) يشير إلى ما وعدهم أنه سينجيهم من
فرعون ويورثهم الأرض كما يشير إليه قوله : « وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ
الْوارِثِينَ » : ( القصص : ٥ ).
وربما استعملت
الكلمة في العين الخارجي كالإنسان مثلا كقوله تعالى : « إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ
اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ » : ( آل عمران : ٤٥ ) والعناية فيه أنه عليهالسلام خرق عادة التدريج وخلق بكلمة إلهية موجدة قال تعالى : « إِنَّ مَثَلَ عِيسى
عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
» : ( آل عمران
: ٥٩ ).
فظاهر سياق
الآيات فيما نحن فيه يعطي أن يكون المراد بقوله : « وَتَمَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ
صِدْقاً وَعَدْلاً » كلمة الدعوة الإسلامية وما يلازمها من نبوة محمد صلىاللهعليهوآله ونزول القرآن المهيمن على ما تقدم عليه من الكتب
السماوية المشتمل على جوامع المعارف الإلهية وكليات الشرائع الدينية كما أشار إليه
فيما حكى من دعاء إبراهيم عليهالسلام عند بناء الكعبة : « رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ
يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُزَكِّيهِمْ » : ( البقرة : ١٢٩ ).
وأشار إلى تقدم
ذكره في الكتب السماوية في قوله : « الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ
الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ
وَالْإِنْجِيلِ » : ( الأعراف : ١٥٧ ) وبذلك يشعر قوله في الآية السابقة : « وَالَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ » وقوله : « الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ
يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ » : ( البقرة : ١٤٦ ) إلى غير من ذلك الآيات الكثيرة.
فالمراد بتمام
الكلمة ـ والله أعلم ـ بلوغ هذه الكلمة أعني ظهور الدعوة الإسلامية بنبوة محمد صلىاللهعليهوآله ونزول الكتاب المهيمن على جميع الكتب ، مرتبة الثبوت
واستقرارها في مستقر التحقق بعد ما كانت تسير دهرا طويلا في مدارج التدريج بنبوة
بعد نبوة وشريعة بعد شريعة فإن الآيات الكريمة دالة على أن الشريعة الإسلامية
تتضمن جمل ما تقدمت عليه من الشرائع وتزيد عليها بما ليس فيها كقوله تعالى : « شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا
بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى » : ( الشورى : ١٣ ).
وبذلك يظهر
معنى تمام الكلمة وأن المراد به انتهاء تدرج الشرائع من مراحل النقص إلى مرحلة
الكمال ، ومصداقه الدين المحمدي قال تعالى : « وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْكافِرُونَ ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ » : ( الصف : ٩ ).
وتمام هذه
الكلمة الإلهية صدقا هو أن يصدق القول بتحققها في الخارج بالصفة التي بين بها ،
وعدلا أن تتصف بالتقسيط على سواء فلا يتخلف بعض أجزائه عن بعض وتزن الأشياء على
النحو الذي من شأنها أن توزن به من غير إخسار أو حيف وظلم ، ولذلك بين هذين
القيدين أعني « صِدْقاً
وَعَدْلاً » بقوله « لا
مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ » فإن الكلمة الإلهية إذا لم تقبل تبديلا من مبدل سواء كان المبدل هو نفسه
تعالى كأن ينقض ما قضى بتبدل
إرادة أو يخلف ميعاده ، أو كان المبدل غيره تعالى كأن يعجزه غيره ويقهره
على خلاف ما يريد كانت كلمته صدقا تقع كما قال ، وعدلا لا تنحرف عن حالها التي
كانت عليها وصفها الذي وصفت به فالجملة أعني قوله : « لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ » بمنزلة التعليل يعلل بها قوله : « صِدْقاً وَعَدْلاً ».
ومن أقوال
المفسرين في الآية أن المراد بالكلمة والكلمات القرآن ، وقيل : إن المراد بالكلمة
القرآن ، وبالكلمات ما فيه غير الشرائع فإنها تقبل التبديل بالنسخ والله سبحانه
يقول : « لا
مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ » وقيل : المراد بالكلمة الدين ، وقيل : المراد الحجة ، وقيل : الصدق ما
كان في القرآن من الأخبار والعدل ما فيه من الأحكام ، هذا.
وقوله
تعالى : « وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ » أي السميع المستجيب لما تدعونه بلسان حاجتكم ، العليم بحقيقة ما عندكم من
الحاجة ، أو السميع بما يحدث في ملكه بواسطة الملائكة الرسل ، والعليم بذلك من غير
واسطة ، أو السميع لأقوالكم ، العليم بأفعالكم.
قوله
تعالى : « وَإِنْ تُطِعْ
أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ » إلى آخر الآية. الخرص الكذب والتخمين ، والمعنى الثاني هو الأنسب بسياق الآية
فإن الجملة أعني قوله : «
وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ » والتي قبلها أعني قوله : « إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ » واقعتان موقع التعليل لقوله : « وَإِنْ تُطِعْ
أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ » إلخ ، واتباع الظن والقول بالخرص والتخمين سببان
بالطبع للضلال في الأمور التي لا يسوغ الاعتماد فيها إلا على العلم واليقين
كالمعارف الراجعة إليه تعالى والشرائع المأخوذة من قبله.
وسير الإنسان
وسلوكه الحيوي في الدنيا وإن كان لا يتم دون الركون إلى الظن والاستمداد من
التخمين حتى أن الباحث عن علوم الإنسان الاعتبارية والعلل والأسباب التي تدعوه إلى
صوغه لها وتقليبها في قالب الاعتبار ، وارتباطها بشئونه الحيوية وأعماله وأحواله
لا يكاد يجد مصداقا يركن الإنسان فيه إلى العلم الخالص واليقين المحض اللهم إلا
بعض الكليات النظرية التي ينتهي إليها مما يضطر إلى الإذعان بها والاعتماد عليها.
إلا أن ذلك كله
فيما يقبل التقريب والتخمين من جزئيات الأمور في الحياة ، وأما السعادة الإنسانية
التي فيه فوز هذا النوع وفلاحه ، والشقاء الذي يرتبط به الهلاك الأبدي والخسران
الدائم ، وما يتوقف عليه التبصر فيهما من النظر في العالم وصانعه
والغرض من إيجاده وما ينتهي إليه الأمر من البعث والنشور وما يتعلق به من
النبوة والكتاب والحكم فإن ذلك كله مما لا يقبل الركون إلى الظن والتخمين والله
سبحانه لا يرتضي من عباده في ذلك إلا العلم واليقين ، والآيات في ذلك كثيرة جدا
كقوله تعالى : « وَلا
تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ » : ( الإسراء : ٣٦ ).
ومن أوضحها
دلالة هذه الآية التي نحن فيها يبين فيها أن أكثر أهل الأرض لركونهم العام إلى
الظن والتخمين لا يجوز طاعتهم فيما يدعون إليه ويأمرون به في سبيل الله وطريق
عبوديته لأن الظن ليس مما يكشف به الحق الذي يستراح إليه في أمر الربوبية
والعبودية لملازمته الجهل بالواقع وعدم الاطمئنان إليه ، ولا عبودية مع الجهل
بالرب وما يريده من عبده.
فهذا هو الذي
يقضي به العقل الصريح ، وقد أمضاه الله سبحانه كما في قوله في الآية التالية في
معنى تعليل النهي عن الطاعة : «
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ » حيث علل الحكم بعلم الله دون حكم العقل ، وقد جمع سبحانه بين الطريقين
جميعا في قوله : « وَما
لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً وهذا أخذ بحكم العقل ـ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا
وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ
اهْتَدى » : ( النجم :
٣٠ ) وفي ذيل الآية استناد إلى علم الله سبحانه وحكمه.
قوله
تعالى : « إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ » ذكروا أن « أَعْلَمُ » إذا لم يتم بمن ربما أفاد معنى التفضيل وربما استعمل
بمعنى الصفة خالية عن التفضيل ، والآية تحتمل المعنيين جميعا فإن أريد حقيقة العلم
بالضالين والمهتدين فهو لله سبحانه لا يشاركه فيها أحد حتى يفضل عليه ، وإن أريد
مطلق العلم أعم مما كان المتصف به متصفا بذاته أو كان اتصافه به بعطية منه تعالى
كان المتعين هو معنى التفضيل فإن لغيره تعالى علما بالضال والمهتدي قدر ما أفاضه
الله عليه من العلم.
وتعدي أعلم
بالباء في قوله : «
أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ » يدل على أن قوله : «
مَنْ يَضِلُ » منصوب بنزع الخافض والتقدير : « أعلم بمن يضل » ويؤيده ما نقلناه آنفا من
آية سورة النجم.
قوله
تعالى : « فَكُلُوا مِمَّا
ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ » لما تمهد ما قدمه من البيان الذي هو حجة على أن الله
سبحانه هو أحق بأن يطاع من غيره استنتج منه وجوب الأخذ بالحكم الذي شرعه وهو الذي
يدل عليه هذه الآية ، ووجوب رفض ما يبيحه غيره بهواه من غير علم ويجادل المؤمنين
فيه بوحي الشياطين إليه ، وهو الذي يدل عليه قوله : « وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ
اللهِ عَلَيْهِ » إلى آخر الآية.
ومن هنا يظهر
أن العناية الأصلية متعلقة بجملتين من بين الجمل المتسقة في الآية إلى تمام أربع
آيات ، وسائر الجمل مقصودة بتبعها يبين بها ما يتوقف عليه المطلوب بجهاته فأصل
الكلام : فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه أي
فرقوا بين المذكى والميتة فكلوا من هذه ولا تأكلوا من ذاك ، وإن كان المشركون
يجادلونكم في أمر التفريق.
فقوله : « فَكُلُوا مِمَّا
ذُكِرَ اسْمُ اللهِ » تفريع للحكم على البيان السابق ، ولذا أردفه بقوله : « إِنْ كُنْتُمْ
بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ » والمراد بما ذكر اسم الله عليه الذبيحة المذكاة.
قوله تعالى : « وَما لَكُمْ أَلَّا
تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ » إلى آخر الآية ، بيان تفصيلي لإجمال التفريع الذي في
الآية السابقة ، والمعنى : أن الله فصل لكم ما حرم عليكم واستثنى صورة الاضطرار
وليس فيما فصل لكم ما ذكر اسم الله عليه فلا بأس بأكله وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم
بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين المتجاوزين عن حدوده وهؤلاء هم المشركون
القائلون : لا فرق بين ما قتلتموه أنتم وما قتله الله فكلوا الجميع أو دعوا
الجميع.
ويظهر بما مر
أن معنى قوله : « وَما
لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا » ما لكم من نفع في أن لا تأكلوا ، وما للاستفهام التعجيبي ، وقيل : المعنى
ليس لكم أن لا تأكلوا ، وما للنفي.
ويظهر من الآية
أن محرمات الأكل نزلت قبل سورة الأنعام وقد وقعت في سورة النحل من السور المكية
فهي نازلة قبل الأنعام.
قوله
تعالى : « وَذَرُوا ظاهِرَ
الْإِثْمِ وَباطِنَهُ » إلى آخر الآية ، وإن كانت مطلقة بحسب المضمون تنهى عن عامة الإثم ظاهره
وباطنه غير أن ارتباطها بالسياق المتصل الذي لسابقتها ولاحقتها يقضي بكونها تمهيدا
للنهي الآتي في قوله : « وَلا
تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ
يُذْكَرِ
اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ » ولازم ذلك أن يكون الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه من
مصاديق الإثم حتى يرتبط بالتمهيد السابق عليه فهو من الإثم الظاهر أو الباطن لكن
التأكيد البليغ الذي في قوله : «
وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ » يفيد أنه من الإثم الباطن وإلا لم تكن حاجة إلى تأكيده ذاك التأكيد
الأكيد.
وبهذا البيان
يظهر أن المراد بظاهر الإثم المعصية التي لا ستر على شؤم عاقبته ولا خفاء في شناعة
نتيجته كالشرك والفساد في الأرض والظلم ، وبباطن الإثم ما لا يعرف منه ذلك في بادئ
النظر كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وإنما يتميز هذا النوع بتعريف إلهي وربما
أدركه العقل ، هذا هو الذي يعطيه السياق من معنى ظاهر الإثم وباطنه.
وللمفسرين في
تفسيرهما أقوال أخر ، من ذلك : أن ظاهر الإثم وباطنه هما المعصية في السر
والعلانية ، وقيل : أريد بالظاهر أفعال الجوارح ، وبالباطن أفعال القلوب ، وقيل :
الظاهر من الإثم هو الزنا ، والباطن اتخاذ الأخدان ، وقيل : ظاهر الإثم نكاح امرأة
الأب ، وباطنه الزنا ، وقيل : ظاهر الإثم الزنا الذي أظهر به ، وباطنه الزنا إذا
استسر به صاحبه على ما كان يراه أهل الجاهلية من العرب أن الزنا لا بأس به إذا لم
يتجاهر به ، وإنما الفحشاء هو الذي أظهره صاحبه ، وهذه الأقوال ـ كما ترى ـ على أن
جميعها أو أكثرها لا دليل عليها يخرج الآية عن حكم السياق.
وقوله تعالى :
« إِنَّ
الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ » تعليل للنهي وإنذار بالجزاء السيئ.
قوله
تعالى : « وَلا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ » نهي هو زميل قوله : « فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ » كما تقدم.
وقوله : « وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ » إلى آخر الآية ، بيان لوجه النهي وتثبيت له أما قوله :
« وَإِنَّهُ
لَفِسْقٌ » فهو تعليل
والتقدير : إنه لفسق وكل فسق يجب اجتنابه فالأكل مما لم يذكر اسم الله عليه واجب
الاجتناب.
وأما قوله : « وَإِنَّ الشَّياطِينَ
لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ » ففيه رد ما كان المشركون يلقونه إلى المؤمنين من
الشبهة ، والمراد بأولياء الشياطين هم المشركون ، ومعناه أن ما يجادلكم به
المشركون وهو قولهم : إنكم تأكلون مما قتلتم ولا تأكلون مما قتله الله
يعنون الميتة ، هو مما أوحاه إليهم الشياطين من باطل القول ، والفارق أن
أكل الميتة فسق دون أكل المذكى ، وأن الله حرم أكل الميتة ولم يحرم أكل المذكى
فليس فيما حرمه الله ذكر ما ذكر اسم الله عليه.
وأما قوله : « وَإِنْ
أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ » فهو تهديد وتخويف بالخروج من الإيمان ، والمعنى : إن
أطعتم المشركين في أكل الميتة الذي يدعونكم إليه صرتم مشركين مثلهم إما لأنكم
استننتم بسنة المشركين ، أو لأنكم بطاعتهم تكونوا أولياء لهم فتكونون منهم قال
تعالى : « وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ » : ( المائدة : ٥١ ).
ووقوع هذه
الجملة أعني قوله : «
وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ » إلخ ، في ذيل النهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه دون الأمر بأكل ما
ذكر اسم الله عليه يدل على أن المشركين كانوا يريدون من المؤمنين بجدالهم أن لا
يتركوا أكل الميتة لا أن يتركوا أكل المذكى.
(
بحث روائي )
في الدر
المنثور ، : أخرج ابن مردويه عن أبي اليمان جابر بن عبد الله قال : دخل النبي صلىاللهعليهوآله المسجد الحرام يوم فتح مكة ومعه مخصرة ، ولكل قوم صنم
يعبدونه ـ فجعل يأتيها صنما صنما ـ ويطعن في صدر الصنم بعصا ثم يعقره ـ كلما صرع
صنما أتبعه الناس ضربا بالفئوس ـ حتى يكسرونه ويطرحونه خارجا من المسجد ـ والنبي صلىاللهعليهوآله يقول : وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا ـ لا مبدل لكلماته
وهو السميع العليم.
وفيه ، : أخرج
ابن مردويه وابن النجار عن أنس بن مالك عن النبي صلىاللهعليهوآله : في قوله : « وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً
» قال : لا إله
إلا الله.
وفي الكافي ،
بإسناده عن محمد بن مروان قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : إن الإمام ليسمع في بطن أمه فإذا ولد خط بين
كتفيه : « وَتَمَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ ـ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » فإذا صار الأمر إليه جعل الله له عمودا من نور يبصر به ما يعمل أهل كل
بلدة.
أقول
: وروي هذا
المعنى بطرق أخرى عن عدة من أصحابنا عن أبي عبد الله عليهالسلام ورواه أيضا القمي والعياشي في تفسيريهما عنه عليهالسلام ، وفي بعضها : أن الآية تكتب
بين عينيه ، وفي بعضها : على عضده الأيمن.
واختلاف مورد
الكتابة في الروايات تكشف عن أن المراد بها القضاء بظهور الحكم الإلهي به عليهالسلام واختلاف ما كتب عليه لاختلاف الاعتبار فكأن المراد
بكتابتها فيما بين عينيه جعلها وجهة له يتوجه إليها ، وبكتابتها بين كتفيه حملها
عليه وإظهاره وتأييده بها وبكتابتها على عضده الأيمن جعلها طابعا على عمله وتقويته
وتأييده بها.
وهذه الرواية
والروايتان السابقتان عليها تؤيد ما قدمناه أن ظاهر الآية كون المراد بتمام الكلمة
ظهور الدعوة الإسلامية بما يلازمها من نبوة محمد صلىاللهعليهوآله ونزول القرآن والإمامة من ذلك.
وفي تفسير
العياشي ، في قوله تعالى : «
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ » الآية عن محمد بن مسلم قال : سألته عن الرجل يذبح الذبيحة
ـ فيهلل أو يسبح أو يحمد ويكبر ـ قال : هذا كله من أسماء الله.
وفيه ، عن ابن
سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : سألته عن ذبيحة المرأة والغلام هل تؤكل؟ قال :
نعم إذا كانت المرأة مسلمة وذكرت اسم الله ـ حلت ذبيحتها ، وإذا كان الغلام قويا
على الذبح وذكر اسم الله ـ حلت ذبيحته ، وإن كان الرجل مسلما فنسي أن يسمي ـ فلا
بأس بأكله إذا لم تتهمه.
أقول
: وفي هذه
المعاني أخبار من طرق أهل السنة.
وفيه ، عن
حمران قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : في ذبيحة الناصب واليهودي ـ قال : لا تأكل
ذبيحته حتى تسمعه يذكر اسم الله ، أما سمعت قول الله : « وَلا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ »
وفي الدر
المنثور ، أخرج أبو داود والبيهقي في سننه وابن مردويه عن ابن عباس : « وَلا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ » فنسخ واستثنى من ذلك فقال : « وَطَعامُ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ».
أقول
: وروي النسخ عن
أبي حاتم عن مكحول وقد تقدم في أول المائدة : أن الآية إن نسخت فإنما تنسخ اشتراط
الإسلام في المذكي ـ اسم فاعل ـ دون وجوب التسمية إذ لا نظر لها إليه ولا تنافي
بين الآيتين في ذلك وللمسألة ارتباط بالفقه.
أَوَمَنْ
كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ
كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ
لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ
أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ
وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى
نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ
سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا
يَمْكُرُونَ (١٢٤) فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً
كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ
فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ
رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧).
(
بيان )
قوله
تعالى : « أَوَمَنْ كانَ
مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ
مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها » الآية واضحة المعنى وهي بحسب ما يسبق إلى الفهم البسيط
الساذج مثل مضروب لكل من المؤمن والكافر يظهر بالتدبر فيه حقيقة حاله في الهدى
والضلال.
فالإنسان قبل
أن يمسه الهدى الإلهي كالميت المحروم من نعمة الحياة الذي لا حس له ولا حركة فإن
آمن بربه إيمانا يرتضيه كان كمن أحياه الله بعد موته ، وجعل له نورا يدور معه حيث
دار يبصر في شعاعه خيره من شره ونفعه من ضره فيأخذ ما ينفعه ويدع ما يضره وهكذا
يسير في مسير الحياة.
وأما الكافر
فهو كمن وقع في ظلمات لا مخرج له منها ولا مناص له عنها ظلمة الموت وما بعد ذلك من
ظلمات الجهل في مرحلة تمييز الخير من الشر والنافع من الضار ، ونظير هذه الآية في
معناها بوجه قوله تعالى : «
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ » : ( الأنعام : ٣٦ ) وقال تعالى : « مَنْ عَمِلَ صالِحاً
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً » : ( النحل : ٩٧ ).
ففي الكلام
استعارة الموت للضلال واستعارة الحياة للإيمان أو الاهتداء والإحياء للهداية إلى
الإيمان والنور للتبصر بالأعمال الصالحة ، والظلمة للجهل كل ذلك في مستوى التفهيم
والتفهم العموميين لما أن أهل هذا الظرف لا يرون للإنسان بما هو إنسان حياة وراء
الحياة الحيوانية التي هي المنشأ للشعور باللذائذ المادية والحركة الإرادية نحوها.
فهؤلاء يرون أن
المؤمن والكافر لا يختلفان في هذه الموهبة وهي فيهما شرع سواء فلا محالة عد المؤمن
حيا بحياة الإيمان ذا نور يمشي به في الناس ، وعد الكافر ميتا بميتة الضلال في
ظلمات لا مخرج منها ليس إلا مبتنيا على عناية تخييلية واستعارة تمثيلية يمثل بها
حقيقة المعنى المقصود.
لكن التدبر في
أطراف الكلام والتأمل فيما يعرفه القرآن الكريم يعطي للآية معنى وراء هذا الذي
يناله الفهم العامي فإن الله سبحانه ينسب للإنسان الإلهي في كلامه حياة خالدة
أبدية لا تنقطع بالموت الدنيوي هو فيها تحت ولاية الله محفوظ بكلاءته مصون بصيانته
لا يمسه نصب ولا لغوب ، ولا يذله شقاء ولا تعب ، مستغرب في حب ربه مبتهج ببهجة
القرب لا يرى إلا خيرا ، ولا يواجه إلا سعادة وهو في أمن وسلام لا خوف معه ولا خطر
، وسعادة وبهجة ولذة لا نفاذ لها ولا نهاية لأمدها.
ومن كان هذا
شأنه فإنه يرى ما لا يراه الناس ، ويسمع ما لا يسمعونه ، ويعقل
ما لا يعقلونه ، ويريد ما لا يريدونه وإن كانت ظواهر أعماله وصور حركاته
وسكناته تحاكي أعمال غيره وحركاتهم وسكناتهم وتشابهها فله شعور وإرادة فوق ما
لغيره من الشعور والإرادة فعنده من الحياة التي هي منشأ الشعور والإرادة ما ليس
عند غيره من الناس فللمؤمن مرتبة من الحياة ليست عند غيره.
فكما أن العامة
من الإنسان في عين أنها تشارك سائر الحيوان في الشعور بواجبات الحياة والحركة
الإرادية نحوها ، ويشاركها الحيوان لكنا مع ذلك لا نشك أن الإنسان نوع أرقى من
سائر الأنواع الحيوانية وله حياة فوق الحياة التي فيها لما نرى في الإنسان آثاره
العجيبة المترشحة من أفكار الكلية وتعقلاته المختصة به ، ولذلك نحكم في الحيوان
إذا قسناه إلى النبات وفي النبات إذا قسناه إلى ما قبله من مراتب الكون أن لكل
منهما كعبا أعلى وحياة هي أرقى من حياة ما قبله.
فلنقض في
الإنسان الذي أوتي العلم والإيمان واستقر في دار الإيقان واشتغل بربه وفرغ واستراح
من غيره وهو يشعر بما ليس في وسع غيره ويريد ما لا يناله سواه أن له حياة فوق حياة
غيره ، ونورا يستمد به في شعوره ، وإرادة لا توجد إلا معه وفي ظرف حياته.
يقول الله
سبحانه : «
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً » : ( النحل : ٩٧ ) فلهم الحياة لكنها بطبعها طيبة وراء
مطلق الحياة « ويقول : «
لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها
وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ
أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ » : ( الأعراف : ١٧٩ ) فيثبت لهم أمثال القلوب والأعين والآذان التي في
المؤمنين لكنه ينفي كمال آثارها التي في المؤمنين ، ولم يكتف بذلك حتى أثبت لهم
روحا خاصا بهم فقال : «
أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ » : ( المجادلة : ٢٢ ).
فتبين بذلك أن
للحياة وكذا للنور حقيقة في المؤمن واقعية وليس الكلام جاريا على ذاك التجوز الذي
لا يتعدى مقام العناية اللفظية فما في خاصة الله من المؤمنين من الصفة الخاصة بهم
أحق باسم الحياة مما عند عامة الناس من معنى الحياة كما أن حياة الإنسان كذلك
بالنسبة إلى حياة الحيوان ، وحياة الحيوان كذلك بالنسبة إلى حياة النبات.
فقوله
: « أَوَمَنْ كانَ
مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ » أي ضالا من حيث نفسه أو ضالا كافرا قبل
أن يؤمن بربه وهو نوع من الموت فأحييناه بحياة الإيمان أو الهداية ـ والمال
واحد ـ وجعلنا له نورا أي علما متولدا من إيمانه كما قال صلىاللهعليهوآله فيما رواه الفريقان : « من عمل بما علم رزقه الله علم
ما لم يعلم ـ أو علمه الله ما لم يعلم ». فإن روح الإيمان إذا تمكنت من نفس
الإنسان واستقرت فيها حولت الآراء والأعمال إلى صور تناسبها ولا تخالفها وكذلك
سائر الملكات أعم من الفضائل والرذائل إذا استقرت في باطن الإنسان لم تلبث دون أن
تحول آراءه وأعماله إلى أشكال تحاكيها.
وربما قيل : إن
المراد بالنور هو الإيمان أو القرآن وهو بعيد من السياق.
وهذا النور أثره
في المؤمن أنه « يَمْشِي
بِهِ فِي النَّاسِ » أي يتبصر به في مسير حياته الاجتماعية المظلمة ليأخذ من الأعمال ما ينفعه
في سعادة حياته ، ويترك ما يضره.
فهذا هو حال
المؤمن في حياته ونوره فهل هو «
كَمَنْ مَثَلُهُ » ووصفه أنه « ( فِي الظُّلُماتِ ) ظلمات الضلال وفقدان نور الإيمان « لَيْسَ بِخارِجٍ
مِنْها » لأن الموت لا
يستتبع آثار الحياة البتة فلا مطمع في أن يهتدي الكافر إلى أعمال تنفعه في أخراه
وتسعده في عقباه.
وقد ظهر مما
تقدم أن قوله : « كَمَنْ
مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ » إلخ ، في تقدير : هو في الظلمات ليس بخارج منها ، ففي الكلام مبتدأ محذوف
هو الضمير العائد إلى الموصول ، وقيل : التقدير : كمن مثله مثل من هو في الظلمات ،
ولا بأس به لو لا كثرة التقدير.
قوله
تعالى : « كَذلِكَ زُيِّنَ
لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ » ظاهر سياق صدر الآية أن يكون التشبيه في قوله : « كَذلِكَ » من قبيل تشبيه الفرع بالأصل بعناية إعطاء القاعدة
الكلية كقوله تعالى : «
كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ » وقوله : « كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ » : ( الرعد : ١٧ ) أي اتخذ ما ذكرناه من المثل أصلا وقس
عليه كل ما عثرت به من مثل مضروب فمعنى قوله : « كَذلِكَ زُيِّنَ » إلخ ، على هذا المثال المذكور أن الكافر لا مخرج له من
الظلمات ، زين للكافرين أعمالهم فقد زينت لهم أعمالهم زينة تجذبهم إليها وتحبسهم
ولا تدعهم يخرجوا منها إلى فضاء السعادة وفسحة النور أبدا والله لا يهدي القوم
الظالمين.
وقيل : إن وجه
التشبيه في قوله : «
كَذلِكَ زُيِّنَ » إلخ ، أنه زين لهؤلاء الكفر فعملوه مثل ما زين لأولئك الإيمان فعملوه.
فشبه حال هؤلاء في التزيين بحال أولئك فيه
( انتهى ) وهو بعيد من سياق الصدر.
قوله
تعالى : « وَكَذلِكَ جَعَلْنا
فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها » إلى آخر الآية ، كأن المراد بالآية أنا أحيينا جمعا
وجعلنا لهم نورا يمشون به في الناس ، وآخرين لم نحيهم فمكثوا في الظلمات فهم غير
خارجين منها ولا أن أعمالهم المزينة تنفعهم وتخلصهم منها كذلك جعلنا في كل قرية
أكابر مجرميها ليمكروا فيها بالدعوة الدينية والنبي والمؤمنين لكنه لا ينفعهم
فإنهم في ظلمات لا يبصرون بل إنما يمكرون بأنفسهم ولا يشعرون.
وعلى هذا فقوله
: « كَذلِكَ
زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ » مسوق لبيان أن أعمالهم المزينة لهم لا تنفعهم في
استخلاصهم من الظلمات التي هم فيها ، وقوله : « وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ » إلخ ، مسوق لبيان أن أعمالهم ومكرهم لا يضر غيرهم إنما
وقع مكرهم على أنفسهم وما يشعرون لمكان ما غمرهم من الظلمة.
وقيل : معنى
التشبيه في الآية أن مثل ذلك الذي قصصنا عليك زين للكافرين عملهم ، ومثل ذلك جعلنا
في كل قرية أكابر مجرميها ، وجعلنا ذا المكر من المجرمين كما جعلنا ذا النور من
المؤمنين فكل ما فعلنا بهؤلاء فعلنا بهم إلا أن أولئك اهتدوا بحسن اختيارهم وهؤلاء
ضلوا بسوء اختيارهم لأن في كل واحد منهما الجعل بمعنى الصيرورة إلا أن الأول
باللطف والثاني بالتمكين من المكر ( انتهى ). ولا يخلو من بعد من السياق.
والجعل في قوله
: « جَعَلْنا
فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها » كالجعل في قوله : « وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً » فالأنسب أنه بمعنى الخلق ، والمعنى : خلقنا في كل قرية
أكابر مجرميها ليمكروا فيها وكون مكرهم غاية للخلقة وغرضا للجعل نظير كون دخول
النار غرضا إلهيا في قوله : «
وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ » : ( الأعراف : ١٧٩ ) وقد مر الكلام في معنى ذلك في
مواضع من هذا الكتاب. وإنما خص بالذكر أكابر مجرميها لأن المطلوب بيان رجوع المكر
إلى ما كره ، والمكر بالله وآياته إنما يصدر منهم ، وأما أصاغر المجرمين وهم
العامة من الناس فإنما هم أتباع وأذناب.
وأما قوله : « وَما يَمْكُرُونَ
إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ » فذلك أن المكر هو العمل الذي يستبطن شرا وضرا يعود إلى
الممكور به فيفسد به غرضه المطلوب ويضل به سعيه ويبطل نجاح عمله ، ولا غرض لله
سبحانه في دعوته الدينية ، ولا نفع فيها إلا ما
يعود إلى نفس المدعوين فلو مكر الإنسان مكرا بالله وآياته ليفسد بذلك الغرض
من الدعوة ويمنع عن نجاح السعي فيها فإنما مكر بنفسه من حيث لا يشعر : واستضر بذلك
هو نفسه دون ربه.
قوله
تعالى : « وَإِذا جاءَتْهُمْ
آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ ـ إلى قوله ـ
رِسالَتَهُ
» قولهم : « لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى
نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ » يريدون به أن يؤتوا نفس الرسالة بما لها من مواد
الدعوة الدينية دون مجرد المعارف الدينية من أصول وفروع وإلا كان اللفظ المناسب له
أن يقال : « مثل ما أوتي أنبياء الله » أو ما يشاكل ذلك كقولهم : « لَوْ لا يُكَلِّمُنَا
اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ » : ( البقرة : ١١٨ ) وقولهم : « لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ
أَوْ نَرى رَبَّنا » : ( الفرقان : ٢١ ).
فمرادهم أنا لن
نؤمن حتى نؤتى الرسالة كما أوتيها الرسل ، وفيه شيء من الاستهزاء فإنهم ما كانوا
قائلين بالرسالة فهو بوجه نظير قولهم : « لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ
مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ » : ( الزخرف : ٣١ ) كما أن جوابه نظير جوابه وهو قوله
تعالى : « أَهُمْ
يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ » : ( الزخرف : ٣٢ ) كقوله : « اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ
يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ».
ومما تقدم يظهر
أن الضمير في قوله : «
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا » إلخ ، عائد إلى « أَكابِرَ مُجْرِمِيها » في الآية السابقة ، إذ لو رجع إلى عامة المشركين لغا
قولهم : « حَتَّى
نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ » إذ لا معنى لرسالة جميع الناس حيث لا أحد يرسلون إليه
، ولم يقع قوله : «
اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ » موقعه بل كان حق الجواب أنه لغو من القول كما عرفت.
ويؤيده الوعيد
الذي في ذيل الآية : «
سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا
يَمْكُرُونَ » حيث وصفهم بالإجرام وعلل الوعيد بمكرهم ، ولم ينسب المكر في الآية
السابقة إلا إلى أكابر مجرميها ، والصغار الهوان والذلة.
قوله
تعالى : « فَمَنْ يُرِدِ اللهُ
أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ » الشرح هو البسط وقد ذكر الراغب في مفرداته ، أن أصله بسط
اللحم ونحوه ، وشرح الصدر الذي يعد في الكلام وعاء للعلم والعرفان هو التوسعة فيه
بحيث يسع ما يصادفه من المعارف الحقة ولا يدفع كلمة الحق إذا ألقيت إليه كما يدل
عليه ما ذكر في وصف الإضلال بالمقابلة وهو
قوله : « يَجْعَلْ
صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً » إلخ. فمن شرح الله صدره للإسلام وهو التسليم لله سبحانه فقد بسط صدره
ووسعه لتسليم ما يستقبله من قبله تعالى من اعتقاد حق أو عمل ديني صالح فلا يلقي
إليه قول حق إلا وعاه ولا عمل صالح إلا أخذ به وليس إلا أن لعين بصيرته نورا يقع
على الاعتقاد الحق فينوره أو العمل الصالح فيشرقه خلاف من عميت عين قلبه فلا يميز
حقا من باطل ولا صدقا من كذب قال تعالى : « فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ
تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ » : ( الحج : ٤٦ ).
وقد بين تعالى
شرح الصدر بهذا البيان في قوله ( أَفَمَنْ شَرَحَ
اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ
لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ ) » فوصفه فعرفه بأن صاحبه راكب نور من الله يشرق قدامه
في مسيره ثم عرفه بالمقابلة بلينة في القلب يقبل به ذكر الله ولا يدفعه لقسوة ثم
قال : « اللهُ
نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ
جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ
إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ » : ( الزمر : ٢٣ ) فذكر لين القلب إلى ذكر الله وطوعه للحق وأفاد أن ذلك
هو الهدى الإلهي الذي يهدي به من يشاء ، وعند ذلك يرجع الآيتان أعني آية الزمر
والآية التي نحن فيها إلى معنى واحد وهو أن الله سبحانه عند هدايته عبدا من عباده
يبسط صدره فيسع كل اعتقاد حق وعمل صالح ويقبله بلين ولا يدفعه بقسوة وهو نوع من
النور المعنوي الذي ينور القول الحق والعمل الصالح وينصر صاحبه فيمسك بما نوره فهذا
معرف يعرف به الهداية الإلهية.
ومن هنا يظهر
أن الآية أعني قوله : «
فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ » بمنزلة بيان آخر لقوله : « أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ
وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ » والتفريع الذي في قوله. « فَمَنْ يُرِدِ اللهُ » إلخ. من قبيل تفريع أحد البيانين على الآخر بدعوى أنه
نتيجته كأن التصادق بين البيانين يجعل أحدهما نتيجة مترتبة وفرعا متفرعا على الآخر
، وهو عناية لطيفة.
والمعنى : فإذا
كان من أحياه الله بعد ما كان ميتا على هذه الصفة وهي أنه على نور من ربه يستضيء
به له واجب الاعتقاد والعمل فيأخذ به فمن يرد الله أن يهديه يوسع صدره لأن يسلم
لربه ولا يستنكف عن عبادته فالإسلام نور من الله ، والمسلمون لربهم على نور من
ربهم.
قوله
تعالى : « وَمَنْ يُرِدْ أَنْ
يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً » إلى آخر الآية ، الإضلال مقابل الهداية ، ولذا كان أثره مقابلا لأثرها وهو
التضييق المقابل للشرح والتوسعة وأثره أن لا يسع ما يتوجه إليه من الحق والصدق ،
ويتحرج عن دخولهما فيه ، ولذا أردف كون الصدر ضيقا بكونه حرجا.
والحرج على ما في المجمع ، أضيق الضيق ، وقال في المفردات : ،
أصل الحرج والحراج مجتمع الشيء وتصور منه ضيق ما بينهما فقيل للضيق حرج وللإثم
حرج. انتهى.
فقوله : « حَرَجاً كَأَنَّما
يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ » في محل التفسير لقوله : «
ضَيِّقاً » وإشارة إلى
أن ذلك نوع من الضيق يناظر بوجه التضيق والتحرج الذي يشاهد من الظروف والأوعية إذا
أريد إدخال ما هو أعظم منها ووضعه فيها.
وقوله : « كَذلِكَ يَجْعَلُ
اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ » إعطاء ضابط كلي في إضلال الذين لا يؤمنون أنهم يفقدون
حال التسليم لله والانقياد للحق ، وقد أطلق عدم الإيمان وإن كان مورد الآيات عدم
الإيمان بالله سبحانه وهو الشرك به لكن الذي سبق من البيان في الآية يشمل عدم
الإيمان بالله وهو الشرك ، وعدم الإيمان بآيات الله وهو رد بعض ما أنزله الله من
المعارف والأحكام فقد دل على ذلك كله بقوله : « يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ » إلخ ، وبقوله سابقا : « وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ » إلخ ، وقوله : « يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً » إلخ ، وبقوله سابقا : « فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ».
وقد سمي في
الآية الضلال الذي يساوق عدم الإيمان رجسا والرجس هو القذر غير أنه اعتبر فيه نوعا من الاستعلاء الدال
عليه قوله : « عَلَى
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ » كأن الرجس يعلوهم ويحيط بهم فيحول بينهم وبين غيرهم فيتنفر منهم الطباع
كما يتنفر من الغذاء الملطخ بالقذر.
وقد استدل
بالآية على أن الهدى والضلال من الله لا صنع فيهما لغيره تعالى وهو خطأ فإن الآية
ـ كما عرفت ـ في مقام بيان حقيقة الهدى والضلال اللذين من الله ونوع تعريف لهما
وتحديد لا في مقام بيان انحصارهما فيه وانتفائهما عن غيره كما هو المدعى وهو ظاهر.
ونظير ذلك ما
ذكره بعضهم : أن الآية كما تدل بلفظها على قولنا : إن الهداية
والضلال من الله ، كذلك تدل بلفظها على الدليل العقلي القاطع في هذه
المسألة.
بيانه : أن
العبد قادر على الإيمان والكفر معا على حد سواء فيمتنع صدور أحدهما عنه بدلا من
الآخر إلا إذا اقترن بمرجح يستدعي صدور ما يرجح به وهو الداعي القلبي الذي ليس إلا
العلم أو الاعتقاد أو الظن بكون الفعل مشتملا على مصلحة زائدة ومنفعة راجحة من غير
ضرر زائد أو مفسدة راجحة ، وقد بينا بالدليل أن حصول هذه الدواعي في القلب إنما
يكون من الله تعالى ، وأن مجموع القدرة والداعي يوجب العمل.
إذا ثبت هذا
فنقول : يستحيل صدور الإيمان من العبد إلا إذا خلق الله في قلبه اعتقاد رجحان
الإيمان ، ومعه يحصل من القلب ميل إليه ومن النفس رغبة فيه وهذا هو انشراح الصدر ،
ويمتنع الكفر إلا بخلقه ما يقابل ذلك في القلب ، ويحصل حينئذ النفرة عنه
والاشمئزاز منه وهو المراد بجعل القلب ضيقا حرجا فصار تقدير الآية : أن من أراد الله
منه الإيمان قوي دواعيه إليه ، ومن أراد منه الكفر قوي صوارفه عن الإيمان وقوي
دواعيه إلى الكفر ، ولما ثبت بالدليل العقلي أن الأمر كذلك ثبت أن لفظ القرآن
مشتمل على هذه الدلائل العقلية. انتهى ملخصا.
وفيه أولا : أن
انتساب الشيء إليه تعالى من جهة خلقه أسباب وجوده ومقدماته لا يوجب انتفاء نسبته
إلى غيره تعالى وإلا أوجب ذلك بطلان قانون العلية العام وببطلانه يبطل القضاء
العقلي من رأس فمن الممكن أن تستند الهداية والضلال إلى غيره تعالى استنادا حقيقيا
في حين أنهما يستندان إليه تعالى استنادا حقيقيا من غير تناقض.
وثانيا : أن
الذي ذكرته الآية من صنعه تعالى في موردي هدايته وإضلاله هو سعة القلب وضيقه ،
وهما غير رغبة النفس ونفرته البتة فالآية أجنبية عما ذكره أصلا ، ومجرد استلزام
إرادة الفعل من العبد رغبته وكراهته نفرته منه لا يوجب أن يكون المراد من سعة
القلب وضيقه الإرادة والكراهة بالنسبة إلى الأعمال ، ففيه مغالطة من باب أخذ أحد
المقارنين مكان الآخر ومن عجيب الكلام قوله : إن انطباق الدليل العقلي الذي أقامه
بزعمه على الآية يوجب دلالة لفظ الآية عليه.
وثالثا : أنك
عرفت أن الآية إنما هي في مقام تعريف ما يصنع الله بعبده إذا أراد هدايته أو
ضلالته ، وأما أن كل هداية أو ضلالة فهي من الله تعالى دون غيره فذلك
أمر أجنبي عن غرض الآية فالآية لا دلالة لها على أن الهداية والضلال من
الله سبحانه وإن كان ذلك هو الحق.
قوله
تعالى : « وَهذا صِراطُ رَبِّكَ
مُسْتَقِيماً » إلى آخر الآية ، الإشارة إلى ما تقدم بيانه في الآية السابقة من صنعه عند
الهداية والإضلال وقد تقدم معنى الصراط واستقامته ، وقد بين تعالى في الآية أن ما
ذكره من شرح الصدر للإسلام إذا أراد الهداية ومن جعل الصدر ضيقا حرجا عند إرادة
الإضلال هو صراطه المستقيم وسنته الجارية التي لا تختلف ولا تتخلف فما من مؤمن إلا
وهو منشرح الصدر للإسلام بالله وغير المؤمن بالعكس من ذلك.
فقوله : « وَهذا صِراطُ رَبِّكَ
مُسْتَقِيماً » بيان ثان وتأكيد لكون المعرف المذكور في الآية السابقة معرفا جامعا مانعا
للهداية والضلالة ثم أكد سبحانه البيان بقوله : « قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ
يَذَّكَّرُونَ » أي إن القول حق بين عند من تذكر ورجع إلى ما أودعه الله في نفسه من
المعارف الفطرية والعقائد الأولية التي بتذكرها يهتدي الإنسان إلى معرفة كل حق
وتمييزه من الباطل ، والبيان مع ذلك لله سبحانه فإنه هو الذي يهدي الإنسان إلى
النتيجة بعد هدايته إلى الحجة.
قوله
تعالى : « لَهُمْ دارُ
السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ » المراد بالسلام هو معناه اللغوي ـ على ما يعطيه ظاهر السياق ـ وهو
التعري من الآفات الظاهرة والباطنة ، ودار السلام هي المحل الذي لا آفة تهدد من حل فيه من موت وعاهة ومرض
وفقر وأي عدم وفقد آخر وغم وحزن ، وهذه هي الجنة الموعودة ولا سيما بالنظر إلى
تقييده بقوله : « عِنْدَ
رَبِّهِمْ ».
نعم أولياء
الله تعالى يجدون في هذه النشأة ما وعدهم الله من إسكانهم دار السلام لأنهم يرون
الملك لله فلا يملكون شيئا حتى يخافوا فقده أو يحزنوا لفقده قال تعالى : « أَلا إِنَّ
أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ » : ( يونس : ٦٢ ) وهم لا شغل لهم إلا بربهم خلوا به في
حياتهم فلهم دار السلام عند ربهم ـ وهم قاطنون في هذه الدنيا ـ وهو وليهم بما
كانوا يعملون وهو سيرهم في الحياة بنور الهداية الإلهية الذي جعله في قلوبهم ،
ونور به أبصارهم وبصائرهم.
وربما قيل :
المراد بالسلام هو الله ، وداره الجنة ، والسياق يأباه وضمائر الجمع في الآية
راجعة إلى القوم في قوله : «
لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ » ـ على ما قيل ـ لأنه أقرب المراجع لرجوعها إليها غير أن التدبر في الآيات
يؤيد رجوعها إلى المهتدين بالهداية المذكورة بما أن الكلام فيهم والآيات مسوقة
لبيان حسن صنع الله بهم فالوعد الحسن المذكور يجب أن يعود إليهم ، وأما القوم
المتذكرون فإنما ذكروا ودخلوا في غرض الكلام بالتبع.
(
كلام في معنى الهداية الإلهية )
الهداية
بالمعنى الذي نعرفه كيفما اتخذت هي من العناوين التي تعنون بها الأفعال وتتصف بها
، تقول : هديت فلانا إلى أمر كذا إذا ذكرت له كيفية الوصول إليه أو أريته الطريق
الذي ينتهي إليه ، وهذه هي الهداية بمعنى إراءة الطريق ، أو أخذت بيده وصاحبته في
الطريق حتى توصله إلى الغاية المطلوبة ، وهذه هي الهداية بمعنى الإيصال إلى
المطلوب.
فالواقع في
الخارج في جميع هذه الموارد هو أقسام الأفعال التي تأتي بها من ذكر الطريق أو
إراءته أو المشي مع المهدي وأما الهداية فهي عنوان للفعل يدور مدار القصد كما أن
ما يأتيه المهدي من الفعل في أثره معنون بعنوان الاهتداء فما ينسب إليه تعالى من
الهداية ويسمى لأجله هاديا وهو أحد الأسماء الحسنى من صفات الفعل المنتزعة من فعله
تعالى كالرحمة والرزق ونحوهما.
وهدايته تعالى
نوعان : أحدهما الهداية التكوينية وهي التي تتعلق بالأمور التكوينية كهدايته كل
نوع من أنواع المصنوعات إلى كماله الذي خلق لأجله وإلى أفعاله التي كتبت له ،
وهدايته كل شخص من أشخاص الخليقة إلى الأمر المقدر له والأجل المضروب لوجوده قال
تعالى : « الَّذِي
أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى » : ( طه : ٥٠ ) وقال : « الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ، وَالَّذِي قَدَّرَ
فَهَدى » : ( الأعلى :
٣ ).
والنوع الثاني
: الهداية التشريعية وهي التي تتعلق بالأمور التشريعية من الاعتقادات الحقة
والأعمال الصالحة التي وضعها الله سبحانه للأمر والنهي والبعث والزجر ووعد على
الأخذ بها ثوابا وأوعد على تركها عقابا.
ومن هذه
الهداية ما هي إراءة الطريق كما في قوله تعالى : « إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً
وَإِمَّا كَفُوراً » : ( الدهر : ٣ ).
ومنها ما هي
بمعنى الإيصال إلى المطلوب كما في قوله تعالى : « وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ
أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ » : ( الأعراف : ١٧٦ ) وقد عرف الله سبحانه هذه الهداية
تعريفا بقوله : « فَمَنْ
يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ » : ( الآية : ١٢٥ ) فهي انبساط خاص في القلب يعي به
القول الحق والعمل الصالح من غير أن يتضيق به ، وتهيؤ مخصوص لا يأبى به التسليم
لأمر الله ولا يتحرج عن حكمه.
وإلى هذا
المعنى يشير تعالى بقوله : « أَفَمَنْ
شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ
ـ إلى أن قال ـ
ذلِكَ
هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ » : ( الزمر : ٢٣ ) وقد وصفه في الآية بالنور لأنه ينجلي
به للقلب ما يجب عليه أن يعيه من التسليم لحق القول وصدق العمل عما يجب عليه أن لا
يعيه ولا يقبله وهو باطل القول وفاسد العمل.
وقد رسم الله
سبحانه لهذه الهداية رسما آخر وهو ما في قوله عقيب ذكره هدايته أنبياءه الكرام وما
خصهم به من النعم العظام : «
وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ذلِكَ هُدَى اللهِ
يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ » : ( الأنعام : ٨٨ ) فقد أوضحنا في تفسير الآية أن
الآية تدل على أن من خاصة الهداية الإلهية أنها تورد المهتدين بها صراطا مستقيما
وطريقا سويا لا تخلف فيه ولا اختلاف.
فلا بعض أجزاء
صراطه الذي هو دينه بما فيه من المعارف والشرائع يناقض البعض الآخر لما أن الجميع
يمثل التوحيد الخالص الذي ليس إلا حقيقة ثابتة واحدة ، ولما أن كلها مبنية على الفطرة
الإلهية التي لا تخطئ في حكمها ولا تتبدل في نفسها ولا في مقتضياتها.
ولا بعض
الراكبين عليه السائرين فيه يألفون بعضا آخر فالذي يدعو إليه نبي من أنبياء الله
هو الذي يدعو إليه جميعهم ، والذي يندب إليه خاتمهم وآخرهم هو الذي يندب إليه
آدمهم وأولهم من غير أي فرق إلا من حيث الإجمال والتفصيل.
(
بحث روائي )
في الكافي ،
بإسناده عن زيد قال : سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : في قول الله تبارك وتعالى : « أَوَمَنْ كانَ
مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ ـ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ » فقال : ميت لا
يعرف شيئا «
نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ » إماما يأتم به « كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ
بِخارِجٍ مِنْها » قال : الذي لا يعرف الإمام.
أقول
: وهو من قبيل
الجري والانطباق فسياق الآية يأبى إلا أن تكون الحياة هو الإيمان والنور هو
الهداية الإلهية إلى القول الحق والعمل الصالح.
وقد روى
السيوطي في الدر المنثور ، عن زيد بن أسلم" : أن الآية نزلت في عمار بن ياسر » : ، وروي أيضا عن ابن عباس وزيد بن أسلم" : أنها نزلت في عمر بن
الخطاب وأبي جهل بن هشام والسياق يأبى كون الآية خاصة.
وفي الدر
المنثور ، أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه
والحاكم والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله حين نزلت هذه الآية : « فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ
صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ » قال : إذا أدخل الله النور القلب انشرح وانفسح. قالوا : فهل لذلك آية
يعرف بها؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود ـ والتجافي عن دار الغرور ـ والاستعداد
للموت قبل نزول الموت.
أقول
: ورواه أيضا
عدة من المفسرين عن جمع من التابعين كأبي جعفر المدائني والفضل والحسن وعبد الله
بن السور عن النبي صلىاللهعليهوآله.
وفي العيون ،
بإسناده عن حمدان بن سليمان النيشابوري قال : سألت أبا الحسن الرضا عليهالسلام عن قول الله عز وجل : « فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ
صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ » قال : فمن يرد الله أن يهديه بإيمانه في الدنيا ـ وإلى جنته ودار كرامته
في الآخرة ـ يشرح صدره للتسليم لله والثقة به ـ والسكون إلى ما وعد من ثوابه حتى
يطمئن إليه ، ومن يرد أن يضله عن جنته ودار كرامته في الآخرة ـ لكفره به وعصيانه
له في الدنيا ـ يجعل صدره ضيقا حرجا حتى يشك في كفره ويضطرب عن
اعتقاده حتى يصير كأنما يصعد في السماء ـ كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا
يؤمنون.
أقول
: وفي الحديث
نكات حسنة تشير إلى ما شرحناه في البيان المتقدم.
وفي الكافي ،
بإسناده عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : قال : إن
__________________
الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا ـ نكت في قلبه نكتة من نور ، وفتح مسامع
قلبه ، ووكل به ملكا يسدده ـ وإذا أراد بعبد سوء نكت في قلبه نكتة سوداء ـ وسد
مسامع قلبه ، ووكل به شيطانا يضله ـ ثم تلا هذه الآية : ( فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ
صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ـ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً
حَرَجاً ـ كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ ).
أقول
: ورواه العياشي
في التفسير مرسلا والصدوق في التوحيد مسندا عنه عليهالسلام.
وفي الكافي ،
بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : إن القلب يتلجلج في الجوف يطلب الحق ـ فإذا جاء
به اطمأن وقر ثم تلا : « فَمَنْ
يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ ـ إلى قوله ـ فِي السَّماءِ ».
أقول
: ورواه العياشي
في تفسيره عن أبي جميلة عن عبد الله بن جعفر عن أخيه موسى (ع).
وفي تفسير
العياشي ، عن أبي بصير عن خيثمة قال : سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : إن القلب يتقلب من لدن موضعه إلى حنجرته ـ ما لم
يصب الحق فإذا أصاب الحق قر ـ ثم ضم أصابعه ثم قرأ هذه الآية : « فَمَنْ يُرِدِ اللهُ
أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ـ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ
يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ».
قال : وقال أبو
عبد الله عليهالسلام لموسى بن أشيم : أتدري ما الحرج؟ قال : قلت : لا ـ فقال
بيده وضم أصابعه؟ كالشيء المصمت ـ لا يدخل فيه شيء ولا يخرج منه شيء.
أقول
: وروى ما يقرب
منه في تفسير البرهان ، عن الصدوق وروى صدر الحديث البرقي في المحاسن ، عن خيثمة
عن أبي جعفر عليهالسلام وما فسر به الحرج يناسب ما تقدم نقله من الراغب.
وفي الاختصاص ،
بإسناده عن آدم بن الحر قال : سأل موسى بن أشيم أبا عبد الله عليهالسلام وأنا حاضر ـ عن آية في كتاب الله فخبره بها ـ فلم يبرح
حتى دخل رجل فسأله عن تلك الآية بعينها ـ فخبره بخلاف ما خبر به موسى بن أشيم.
ثم قال ابن
أشيم : فدخلني من ذلك ما شاء الله ـ حتى كأن قلبي يشرح بالسكاكين
__________________
وقلت : تركنا أبا قتادة لا يخطئ في الحرف الواحد : الواو وشبهها ، وجئت لمن
يخطئ هذا الخطأ كله ـ فبينا أنا في ذلك إذ دخل عليه رجل آخر ـ فسأله عن تلك الآية
بعينها فخبر بخلاف ما خبرني ـ وخلاف الذي خبر به الذي سأله بعدي ـ فتجلى عني وعلمت
أن ذلك بعمد فحدثت نفسي بشيء.
فالتفت إلي أبو
عبد الله عليهالسلام فقال : يا بن أشيم لا تفعل كذا وكذا ـ فبان حديثي عن
الأمر الذي حدثت به نفسي ثم قال : يا بن أشيم إن الله فوض إلى سليمان بن داود فقال
: « هذا
عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ » وفوض إلى نبيه صلىاللهعليهوآله فقد فوض إلينا يا بن أشيم ـ ( فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ
صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ـ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً
حَرَجاً ) ، أتدري ما الحرج : فقلت لا ، فقال بيده وضم أصابعه :
هو الشيء المصمت ـ الذي لا يخرج منه شيء ولا يدخل فيه شيء.
أقول
: مسألة التفويض
إلى النبي صلىاللهعليهوآله والأئمة من ولده وإن وردت في تفسيره عدة أحاديث لكن
الذي يدل عليه هذا الحديث معناه إنباؤهم من العلم بكتاب الله ما لا ينحصر في وجه
ووجهين وتسليطهم عليه بالإذن في بث ما شاءوا منها ، يستفاد ذلك من تطبيق ما ذكره عليهالسلام في أمر سليمان بن داود من التفويض المستفاد من الآية
الكريمة ، ولا يبعد أن يكون المراد من تلاوة الآية الإشارة إلى ذلك ، وإن كان
الظاهر أن المراد به بيان حال القلوب بمناسبة ما ابتلي به موسى بن أشيم من اضطراب
القلب وقلقه.
وفي تفسير القمي
، : في الآية قال : قال : مثل شجرة حولها أشجار كثيرة ـ فلا تقدر أن تلقي أغصانها
يمنة ويسرة ـ فتمر في السماء ويستمر حرجه.
أقول
: وذلك أيضا
يناسب ما فسر به الراغب معنى الحرج.
وفي تفسير
العياشي ، عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام : في قوله : « كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ » قال هو الشك.
أقول
: وهو من قبيل
التطبيق وبيان بعض المصاديق.
وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ
وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ
وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ
فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذلِكَ
نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ
الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ
آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا
كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ
وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ
بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ
يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ
مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ
بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ (١٣٥).
( بيان )
الآيات متصلة
بما قبلها وهي تفسر معنى ولاية بعض الظالمين بعضا المجعولة من الله سبحانه كتولية
الشياطين للكافرين ، وأن ذلك ليس من الظلم في شيء فإنهم سيعترفون
يوم القيامة أنهم إنما أشركوا واقترفوا المعاصي بسوء اختيارهم واغترارهم
بالحياة الدنيا بعد البيان الإلهي وإنذارهم باليوم الآخر حتى تلبسوا بالظلم ،
والظالمون لا يفلحون.
فالقضاء الإلهي
لا يسلب عنهم الاختيار الذي عليه مدار المؤاخذة والمجازاة ، ولا الاختيار الإنساني
الذي عليه مدار السعادة والشقاوة يزاحم القضاء الإلهي فمتابعة الإنسان أولياء من
الشياطين باختياره وإرادته هي المقضية لا أن القضاء يبطل اختيار الإنسان في فعله
أولا ثم يضطره إلى اتباع الشياطين فيجبره الله أو يجبره الشياطين على سلوك طريق
الشقاء وانتخاب الشرك واقتراف الذنوب والآثام بل الله سبحانه غني عنهم لا حاجة له
إلى شيء مما بأيديهم حتى يظلمهم لأجله ، وإنما خلقهم برحمته وحثهم عليها لكنهم
ظلموا فلم يفلحوا.
قوله
تعالى : « وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِ ـ إلى قوله ـ أَجَّلْتَ لَنا » يقال : أكثر من الشيء أو الفعل واستكثر منه إذا أتى
بالكثير ، واستكثار الجن من الإنس ليس من جهة أعيانهم فإن الآتي بأعيانهم في
الدنيا والمحضر لهم يوم القيامة هو الله سبحانه ، وإنما للشياطين الاستكثار مما هم
مسلطون عليه وهو إغواء الإنس من طريق ولايتهم عليهم وليست بولاية إجبار واضطرار بل
من قبيل التعامل من الطرفين يتبع التابع المتبوع ابتغاء لما يرى في اتباعه من
الفائدة ، ويتولى المتبوع أمر التابع ابتغاء لما يستدر من النفع في ولايته عليه
وإدارة شئونه ، فللجن نوع التذاذ من إغواء الإنس والولاية عليهم ، وللإنس نوع
التذاذ من اتباع الوساوس والتسويلات ليستدروا بذلك اللذائذ المادية والتمتعات
النفسانية.
وهذا هو الذي
يعترف به أولياء الجن من الإنس بقولهم : ( رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ
بَعْضُنا بِبَعْضٍ ) فتمتعنا بوساوسهم وتسويلاتهم من متاع الدنيا وزخارفها ،
وتمتعوا منا بما كانت تشتهيه أنفسهم حتى آل أمرنا ما آل إليه.
ومن هنا يظهر ـ
كما يعطيه السياق ـ أن المراد بالأجل في قولهم : « وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا » الحد الذي قدر لوجودهم والدرجة التي حصلت لهم من
أعمالهم دون الوقت الذي ينتهي إليه أعمارهم وبعبارة أخرى آخر درجة نالوها من فعلية
الوجود لا الساعة التي ينتهي إليها حياتهم فيرجع المعنى إلى أن بعضنا استمتع ببعض
بسوء اختياره وسيئ عمله فبلغنا بذلك السير الاختياري ما قدرت لنا من الأجل ، وهو
أنا ظالمون كافرون.
فمعنى الآية :
ويوم يحشرهم جميعا ليتم أمر الحجاج عليهم فيقول للجن : يا معشر الجن قد استكثرتم
من ولاية الإنس وإغوائهم ، وقال أولياؤهم من الإنس في الاعتراف بحقيقة الأمر : ( رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ ) فاستمتعنا معشر الإنس من الجن بأن تمتعنا بزخارف الدنيا
وما تهواه أنفسنا بتسويلاتهم ، وتمتع الجن منا باتباع ما كانوا يلقون إلينا من
الوساوس وكنا على ذلك حتى بلغنا آخر ما بلغنا من فعلية الحياة الشقية ودرجة العمل.
فهذا اعتراف
منهم بأن الأجل وإن كان بتأجيل الله سبحانه لكنهم إنما بلغوه بطيهم طريق تمتع
البعض من البعض ، وهو طريق سلكوه باختيارهم. ولا يبعد أن يستظهر من هنا أن المراد
بالجن الشياطين الذين يوسوسون في صدور الناس من الجن.
قوله
تعالى : « قالَ النَّارُ
مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ » إلخ ، هذا جواب منه سبحانه وقضاء عليهم ، ومتن ما قضى
به قوله : « النَّارُ
مَثْواكُمْ » إلخ.
والمثوى اسم مكان من قولهم : ثوى يثوي ثواء أي أقام مع استقرار فقوله : ( النَّارُ مَثْواكُمْ ) أي مقامكم الذي تستقرون فيه من غير خروج ولذا أكده
بقوله؟ « خالِدِينَ
فِيها » وقوله : « إِلَّا ما شاءَ اللهُ
» استثناء يفيد
أن القدرة الإلهية باقية مع ذلك على ما كانت فله مع ذلك أن يخرجكم منها وإن كان لا
يفعل.
ثم تمم الآية
بقوله : « إِنَّ
رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ » وهو يفيد تعليل البيان الواقع في الآية والخطاب للنبي ص.
قوله
تعالى : « وَكَذلِكَ نُوَلِّي
بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ » فيه بيان أن جعله تعالى بعض الظالمين أولياء يجري على
الحقيقة المبينة في الآية السابقة ، وهو أن التابع يستمتع المتبوع من طريق تسويله
وإغوائه فيكسب بذلك الذنوب والآثام حتى يجعل الله المتبوع وليا عليه ويدخل التابع
في ولايته.
وقوله : « بِما كانُوا
يَكْسِبُونَ » الباء للسببية أو المقابلة ، وهو يفيد أن هذه التولية إنما هي بنحو
المجازاة يجازي بها الظالمين في قبال ما اكتسبوه من المظالم لا تولية ابتدائية من
غير ذنب سابق نظير ما في قوله : «
يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا
الْفاسِقِينَ » : ( البقرة : ٢٦ ) وقد التفت في الآية من الغيبة إلى التكلم ليختص النبي صلىاللهعليهوآله ببيان هذه الحقيقة فإنهم غير لائقين بتلقيها وإنما
التفت إلى التكلم لأن التكلم
هو المناسب للمسارة هذا وفي الآيات موارد أخر من الالتفات لا يخفى وجهها
على المتدبر.
قوله
تعالى : « يا مَعْشَرَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ » إلى آخر الآية في هذا الخطاب دفع دخل يمكن أن يتوجه
إلى الحجة السابقة المأخوذة من اعترافهم بأنهم إنما وقعوا فيما وقعوا فيه من ولاية
الشياطين بسوء اختيارهم.
وهو أنهم وإن
ابتلوا بذلك من طريق الاختيار لكنهم لو يكونوا يعلمون أن هذه المعاصي والتمتعات
سوف توردهم مورد الهلكة وتسجل عليهم ولاية الظالمين والشياطين ويخسرهم بالشقاء
الذي لا سعادة بعده أبدا فهم كانوا على غفلة من ذلك وإن كانوا على علم في الجملة
بمساءة أعمالهم وشناعة أفعالهم ومؤاخذة الغافل ظلم.
فدفعه الله
سبحانه بهذا الخطاب الذي يسألهم فيه عن إتيان الرسل وذكرهم آيات الله وإنذارهم
بيوم الجمع والحساب فلما شهدوا على أنفسهم بالكفر بما جاء به الرسل تمت الكلمة
ولزمت الحجة.
فمعنى الآية :
أنا نخاطبهم جميعا فنقول لهم : يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم أرسلناهم
إليكم يقصون عليكم آياتي التي تدل على الدين الحق ، وينذرونكم لقاء يومكم هذا وهو
يوم القيامة وأن الله سيوقفكم موقف المساءلة فيحاسبكم على أعمالكم ثم يجازيكم بما
عملتم إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا فإذا سألناهم عن ذلك أجابونا وقالوا : شهدنا على
أنفسنا أن الرسل أتونا وقصوا علينا آياتك ، وأنذرونا لقاء يومنا هذا ، وشهدوا على
أنفسهم أنهم كانوا كافرين بما جاء به الرسل رادين عليهم عن علم وما كانوا غافلين.
وبذلك تبين
أولا أن قوله : « مِنْكُمْ » لا يدل على أزيد من كون الرسل من جنس المخاطبين وهم
مجموع الجن والإنس لا من غيرهم كالملائكة حتى يتوحشوا منهم ولا يستأنسوا بهم ولا
يفقهوا قولهم ، وأما أن من كل من طائفتي الجن والإنس رسلا منهم فلا دلالة في الآية
على ذلك.
وثانيا : أن
تكرار لفظ الشهادة إنما هو لاختلاف متعلقها فالمراد بالشهادة الأولى الشهادة
بإتيان الرسل وقصهم آيات الله وإنذارهم بيوم القيامة ، وبالشهادة الثانية الشهادة
بكفرهم بما جاء به الرسل من غير غفلة.
وأما ما قيل :
إن المراد بالشهادة الأولى الشهادة بالكفر والمعصية حال التكليف ، وبالثانية
الشهادة في الآخرة على كونهم كافرين في الدنيا فهو غير مفيد لأن الشهادتين بالأخرة
راجعتان إلى شهادة واحدة بالكفر في الدنيا فيبقى تكرار اللفظ على حاجته إلى وجه
يقتضيه.
وثالثا : أن
قوله : «
وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا » معترضة وضعت ليندفع بها ما يمكن أن يختلج ببال السامع
وهو أنهم إذ كانوا يستمتع بعضهم من بعض ، وكانوا غير غافلين عن إتيان الرسل
وبيانهم الآيات وإنذارهم باليوم الآخر فما بالهم وردوا مورد التهلكة وأهلكوا
أنفسهم عن علم واختيار؟ فأجيب بأن الحياة الدنيا غرتهم كلما لاح لقلوبهم شيء من
الحق وبرقت فيها بارقة من الخير هجمت عليهم الأهواء وأسدلت عليهم ظلمات الرذائل
حتى ضربت حجابا بينهم وبين الحق وأعمت أبصارهم عن رؤيته ومشاهدته.
قوله
تعالى : « ذلِكَ أَنْ لَمْ
يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ » الإشارة بقوله : « ذلِكَ » إلى مضمون ما تقدم من البيان ـ على ما يعطيه السياق ـ وقوله
: « أَنْ لَمْ
يَكُنْ » بتقدير لام
التعليل فالمعنى أن الذي بيناه من إرسال الرسل والتذكير بالآيات والإنذار بيوم
القيامة إنما هو لأن الله سبحانه ليس من سنته أن يهلك أهل القرى ويوردهم مورد
السخط والعذاب وهم غافلون عما يريده منهم من الطاعة ويفعله بهم على تقدير المخالفة
، وذلك ظلم منه تعالى.
فهم وإن نزلوا
منزل الشقاء بتأجيل الله سبحانه وقضائه وجعله بعضهم أولياء بعض لكنه تعالى لم
يسلبهم القدرة على الطاعة ولم يبطل منهم الاختيار فاختاروا الشرك والمعصية ثم أرسل
إليهم رسلا منهم يقصون عليهم آياته وينذرونهم لقاء يوم الحساب فكفروا بهم ومكثوا
على بغيهم وعتوهم فجزاهم بولاية بعضهم بعضا وقضى عليهم بأن النار مثواهم فهم
أنفسهم استدعوا الهلاك عن علم وإرادة ، ولم يهلكهم الله وهم غافلون حتى يكون
يظلمهم فهو الحكم العدل تبارك اسمه.
وقد بان بذلك
أولا : أن المراد بقوله : «
لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ » نفي أن يكون ذلك من سنته تعالى فإنه تعالى لا يفعل شيئا إلا بسنة جارية
وصراط مستقيم ، قال تعالى : «
إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » : ( هود : ٥٦ ) وفي اللفظ دلالة على ذلك.
وثانيا : أن
المراد بإهلاك القرى القضاء بشقائهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة على
ما يفيده السياق دون الهلاك بإنزال العذاب في الدنيا.
وثالثا : أن
المراد بالظلم في الآية هو الظلم منه تعالى لو أهلكهم وهم غافلون دون الظلم من أهل
القرى.
قوله
تعالى : « وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ
مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ » متعلق الكل محذوف وهو الضمير الراجع إلى الطائفتين ،
والمعنى : ولكل طائفة من طائفتي الجن والإنس درجات من أعمالهم فإن الأعمال مختلفة
وباختلافها يختلف ما توجبه من الدرجات ، وما ربك بغافل عن أعمالهم.
قوله
تعالى : « وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ
ذُو الرَّحْمَةِ » إلى آخر الآية. بيان عام لنفي الظلم عنه تعالى في الخلقة.
وتوضيحه : أن الظلم وهو وضع الشيء في غير موضعه الذي ينبغي أن يوضع عليه
وبعبارة أخرى إبطال حق إنما يتحقق من الظلم بأخذ شيء أو تركه لأحد أمرين إما لحاجة
منه إليه بوجه من الوجوه كأن يعود إليه أو إلى من يهواه منه نفع أو يندفع عنه أو
عما يعود إليه بذلك ضرر ، وإما لا لحاجة منه إليه بل لشقوة باطنية وقسوة نفسانية
لا يعبأ بها بما يقاسيه المظلوم من المصيبة ويكابده من المحنة ، وليس ذلك منه
لحاجة بل من آثار الملكة المشومة.
والله سبحانه
منزه من هاتين الصفتين السيئتين فهو الغني الذي لا تمسه حاجة ولا يعرضه فقر ، وذو
الرحمة المطلقة التي ينعم بها على كل شيء بما يليق بحاله فلا يظلم سبحانه أحدا ،
وهذا هو الذي يدل عليه قوله : «
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ » إلخ ، ومعنى الآية :
وربك هو الذي
يوصف بالغني المطلق الذي لا فقر معه ولا حاجة ، وبالرحمة المطلقة التي وسعت كل شيء
ومقتضى ذلك أنه قادر على أن يذهبكم بغناه ويستخلف من بعدكم ما يشاء من الخلق
برحمته والشاهد عليه أنه أنشأكم برحمته من ذرية قوم آخرين أذهبهم بغناه عنهم.
وفي قوله : « ما يَشاءُ » دون أن يقال : من يشاء ، إبهام للدلالة على سعة
القدرة.
قوله
تعالى : « إِنَّ ما تُوعَدُونَ
لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ » أي الأمر الإلهي من البعث والجزاء وهو الذي توعدون من
طريق الوحي لآت البتة وما أنتم بمعجزين لله حتى تمنعوا
شيئا من ذلك أن يتحقق ففي الكلام تأكيد للوعد والوعيد السابقين.
قوله تعالى : « قُلْ يا قَوْمِ
اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ » إلى آخر الآية. المكانة هي المنزلة والحالة التي يستقر
عليها الشيء ، وعاقبة الشيء ما ينتهي إليه ، وهي في الأصل مصدر كالعقبى على ما قيل
، وقولهم : كانت له عاقبة الدار كناية عن نجاحه في سعيه وتمكنه مما قصده ، وفي
الآية انعطاف إلى ما بدئ به الكلام ، وهو قوله تعالى قبل عدة آيات : « اتَّبِعْ ما أُوحِيَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ».
والمعنى : قل
للمشركين : يا قوم اعملوا على منزلتكم وحالتكم التي أنتم عليها من الشرك والكفر ـ وفيه
تهديد بالأمر ـ ودوموا على ما أنتم عليه من الظلم إني عامل ومقيم على ما أنعم عليه
من الإيمان والدعوة إلى التوحيد فسوف تعلمون من يسعد وينجح في عمله ، وأنا الناجح
دونكم فإنكم ظالمون بشرككم والظالمون لا يفلحون في ظلمهم.
وربما قيل : إن
قوله : « إِنِّي
عامِلٌ » إخبار عن
الله سبحانه أنه يعمل بما وعد به من البعث والجزاء ، وهو فاسد يدفعه سياق قوله : « فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ ».
(
بحث روائي )
في تفسير القمي
، : في قوله تعالى : «
وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً » الآية. قال : قال : نولي كل من تولى أولياءهم ـ فيكونون
معهم يوم القيامة.
وفي الكافي ،
بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر عليهالسلام قال : ما انتصر الله من ظالم إلا بظالم ـ وذلك قول الله
عز وجل؟ « وَكَذلِكَ
نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً ».
أقول
: دلالة الآية
على ما في الرواية من الحصر غير واضحة.
وفي الدر
المنثور ، أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الأمل وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن
أبي سعيد الخدري قال : اشترى أسامة بن زيد وليدة بمائة دينار إلى شهر ـ فسمعت
النبي صلىاللهعليهوآله يقول : ألا تعجبون من أسامة المشتري إلى شهر؟ إن أسامة
لطويل الأمل ، والذي نفسي بيده ما طرفت عيناي ـ وظننت أن شفري يلتقيان حتى أقبض ،
ولا
رفعت طرفي وظننت أني واضعه حتى أقبض ، ولا لقمت لقمة فظننت أني أسيغها حتى
أغص بالموت ـ يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم في الموتى ، والذي نفسي بيده
إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
وَجَعَلُوا
لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا
لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ
إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما
يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ
أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ
وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ
أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ
حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً
عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ
هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ
يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ
عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ
عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما
كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ
مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ
وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا
أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا
تُسْرِفُوا
إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً
كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ
لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ
وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ
أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ
قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ
أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ
عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤) قُلْ لا أَجِدُ فِي
ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ
مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ
فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ
فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ
ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ
ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ
جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ
رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ
الْمُجْرِمِينَ (١٤٧) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما
أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ
فَتُخْرِجُوهُ
لَنا
إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ
فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ
هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ
شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ
يَعْدِلُونَ (١٥٠).
(
بيان )
الآيات تحاج
المشركين في عدة من الأحكام في الأطعمة وغيرها دائرة بين المشركين وتذكر حكم الله
فيها.
قوله
تعالى : « وَجَعَلُوا لِلَّهِ
مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً » إلى آخر الآية ، الذرء الإيجاد على وجه الاختراع وكأن الأصل في معناه الظهور ،
والحرث الزرع ، وقوله :
« بِزَعْمِهِمْ » في قوله : « فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ » نوع من التنزيه كقوله : « وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً
سُبْحانَهُ » : ( الأنبيا ١ : ٢٦ ). والزعم الاعتقاد ويستعمل غالبا فيما لا يطابق الواقع منه.
وقوله : « وَهذا لِشُرَكائِنا » أضاف الشركاء إليهم لأنهم هم الذين أثبتوها واعتقدوا
بها نظير أئمة الكفر وأئمتهم وأوليائهم ، وقيل : أضيفت الشركاء إليهم لأنهم كانوا
يجعلون بعض أموالهم لهم فيتخذونهم شركاء لأنفسهم.
وكيف كان
فمجموع الجملتين أعني قوله : «
فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا » من تفريع التفصيل على الإجمال يفسر به جعلهم لله نصيبا
من خلقه ، وفيه توطئة وتمهيد لتفريع حكم آخر عليه ، وهو الذي يذكره في قوله : « فَما كانَ
لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى
شُرَكائِهِمْ ».
وإذ كان هذا
الحكم على بطلانه من أصله وكونه افتراء على الله لا يخلو عن إزراء بساحته تعالى
بتغليب جانب الأصنام على جانبه قبحه بقوله : « ساءَ ما يَحْكُمُونَ » ومعنى الآية ظاهر.
قوله
تعالى : « وَكَذلِكَ زَيَّنَ
لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ » إلى آخر الآية. قرأ غير ابن عامر « زَيَّنَ » بفتح الزاي فعل معلوم ، و « قَتْلَ » بنصب اللام مفعول « زَيَّنَ » وهو مضاف إلى « أَوْلادِهِمْ » بالجر وهو مفعول « قَتْلَ » أضيف إليه ، و « شُرَكاؤُهُمْ » فاعل «
زَيَّنَ ».
والمعنى أن
الأصنام بما لها من الوقع في قلوب المشركين والحب الوهمي في نفوسهم زينت لكثير من
المشركين أن يقتلوا أولادهم ويجعلوهم قرابين يتقربون بذلك إلى الآلهة كما يضبطه
تاريخ قدماء الوثنيين والصابئين ، وهذا غير مسألة الوأد التي كانت بنو تميم من
العرب يعملون به فإن المأخوذ في سياق الآية الأولاد دون البنات خاصة.
وقيل : المراد
بالشركاء الشياطين ، وقيل : خدمة الأصنام ، وقيل : الغواة من الناس.
وقرأ ابن عامر
: « زَيَّنَ » بضم الزاي مبنيا للمفعول « قَتْلَ » بضم اللام نائب عن فاعل زين « أَوْلادِهِمْ » بالنصب مفعول المصدر أعني « قَتْلَ » تخلل بين المضاف والمضاف إليه « شُرَكاؤُهُمْ » بالجر مضاف إليه وفاعل للمصدر.
وقوله تعالى :
«
لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ » الإرداء : الإهلاك ، والمراد به إهلاك المشركين بالكفر بنعمة
الله والبغي على خلقه ، وخلط دينهم عليهم بإظهار الباطل في صورة الحق ، فضمير « أَوْلادِهِمْ » في المواضع الثلاث جميعا راجع إلى كثير من المشركين.
وقيل : المراد
به الإهلاك بظاهر معنى القتل ، ولازمه رجوع أول الضمائر إلى الأولاد والثاني
والثالث إلى الكثير ، أو الجميع إلى المشركين بنوع من العناية ، ومعنى الآية ظاهر.
قوله
تعالى : « وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ
وَحَرْثٌ حِجْرٌ » إلى آخر الآية.
الحجر بكسر الحاء
المنع ويفسره قوله بعده : «
لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ » أي هذه الأنعام والحرث حرام إلا على من نشاء أن نأذن
لهم ، وروي : أنهم كانوا يقدمونها لآلهتهم ـ ولا يحلون أكلها إلا لمن كان يخدم
آلهتهم من الرجال ـ دون النساء بزعمهم.
وقوله : « وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ
ظُهُورُها » أي وقالوا : هذه أنعام حرمت ظهورها أو ولهم أنعام حرمت ظهورها ، وهي
السائبة والبحيرة والحامي التي نفاها الله تعالى في قوله :
« ما جَعَلَ
اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ » : ( المائدة : ١٠٣ ) وقيل : هي بعض هؤلاء على الخلاف
السابق في معناها في تفسير آية المائدة.
وقوله : « وَأَنْعامٌ لا
يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا » أي ولهم أنعام ( إلخ ) وهي الأنعام التي كانوا يهلون
عليها بأصنام لا باسم الله ، وقيل : هي التي كانوا لا يركبونها في الحج ، وقيل : أنعام
كانوا لا يذكرون اسم الله عليها ولا في شأن من شئونها ، ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى : « وَقالُوا ما فِي
بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا » إلى آخر الآية ، المراد بما في البطون أجنة البحائر
والسيب ، فقد كانوا يحلونها إذا ولدت حية للرجال دون النساء وإن ولدت ميتة أكله
الرجال والنساء جميعا ، وقيل : المراد بها الألبان ، وقيل : الأجنة والألبان
جميعا.
والمراد بقوله
: « سَيَجْزِيهِمْ
وَصْفَهُمْ » سيجزيهم نفس وصفهم فإنه يعود وبالا وعذابا عليهم ففيه نوع من العناية ،
وقيل : التقدير : سيجزيهم بوصفهم ، وقيل : التقدير : سيجزيهم جزاء وصفهم ، فحذف
المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، والمعنى ظاهر.
قوله
تعالى : « قَدْ خَسِرَ
الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ » إلخ ، رد لما حكي عنهم في الآيات السابقة من الأحكام
المفتراة وهي قتل الأولاد وتحريم أصناف من الأنعام والحرث وذكر أن ذلك منهم خسران
وضلال من غير اهتداء.
وقد وصف قتل
الأولاد بأنه سفه بغير علم ، وكذلك بدل الأنعام والحرث من قوله ما رزقهم الله ووصف
تحريمها بأنه افتراء على الله ليكون في ذلك تنبيه كالتعليل على خسرانهم في ذلك
كأنه قيل : خسروا في قتلهم أولادهم لأنهم سفهوا به سفها بغير علم ، وخسروا في
تحريمهم أصنافا من الأنعام والحرث افتراء على الله لأنها من رزق الله وحاشاه تعالى
أن يرزقهم شيئا ثم يحرمه عليهم.
ثم بين تعالى
ضلالهم في تحريم الحرث والأنعام مع كونها من رزق الله بيانا تفصيليا بالاحتجاج من
ناحية العقل ومصلحة معاش العباد بقوله : « وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ » إلى تمام أربع آيات ، ثم من ناحية السمع ونزول الوحي
بقوله : « قُلْ لا
أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ » إلى تمام الآية.
فيكون محصل
الآيات الخمس أن تحريمهم أصنافا من الحرث والأنعام ضلال منهم لا يساعدهم على ذلك
حجة فلا العقل ورعاية مصلحة العباد يدلهم على ذلك ، ولا الوحي النازل من الله
سبحانه يهديهم إليه فهم في خسران منه.
قوله
تعالى : « وَهُوَ الَّذِي
أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ ـ إلى قوله ـ وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ » الشجرة
المعروشة هي التي ترفع
أغصانها بعضا على بعض بدعائم كالكرم وأصل العرش الرفع فالجنات المعروشات هي بساتين الكرم ونحوها ،
والجنات غير المعروشات ما كانت أشجارها قائمة على أصولها من غير دعائم.
وقوله : « وَالزَّرْعَ
مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ » أي ما يؤكل منه من الحبات كالحنطة والشعير والعدس والحمص.
وقوله : « وَالزَّيْتُونَ
وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ » أي متشابه كل منها وغير متشابه على ما يفيده السياق ،
والتشابه بين الثمرتين باتحادهما في الطعم أو الشكل أو اللون أو غير ذلك.
قوله
تعالى : « كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ
إِذا أَثْمَرَ » إلى آخر الآية ، الأمر للإباحة لوروده في رفع الحظر الذي يدل عليه إنشاء
الجنات والنخل والزرع وغيرها ، والسياق يدل على أن تقدير الكلام : وهو الذي أنشأ
جنات والنخل والزرع إلخ ، وأمركم بأكل ثمر ما ذكر وأمركم بإيتاء حقه يوم حصاده ،
ونهاكم عن الإسراف. فأي دليل أدل من ذلك على إباحتها؟
وقوله : « وَآتُوا حَقَّهُ
يَوْمَ حَصادِهِ » أي الحق الثابت فيه المتعلق به فالضمير راجع إلى الثمر وأضيف إليه الحق
لتعلقه به كما يضاف الحق أيضا إلى الفقراء لارتباطه بهم وربما احتمل رجوع الضمير
إلى الله كالضمير الذي بعده في قوله : « إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ » وإضافته إليه تعالى لانتسابه إليه بجعله.
وهذا إشارة إلى
جعل حق ما للفقراء في الثمر من الحبوب والفواكه يؤدي إليهم يوم الحصاد يدل عليه
العقل ويمضيه الشرع وليس هو الزكاة المشرعة في الإسلام إذ ليست في بعض ما ذكر في
الآية زكاة. على أن الآية مكية وحكم الزكاة مدني.
نعم لا يبعد أن
يكون أصلا لتشريعها فإن أصول الشرائع النازلة في السور المدنية
نازلة على وجه الإجمال والإبهام في السور المكية كقوله تعالى بعد عدة آيات
عند تعداد كليات المحرمات : « قُلْ
تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ إلى أن قال ـ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها
وَما بَطَنَ » : ( الأنعام : ١٥١ ).
وقوله : « وَلا تُسْرِفُوا » إلخ ، أي لا تتجاوزوا الحد الذي يصلح به معاشكم
بالتصرف فيه فلا يتصرف صاحب المال منكم بالإسراف في أكله أو التبذير في بذله أو
وضعه في غير موضعه من معاصي الله وهكذا ، ولا يسرف الفقير الأخذ بتضييعه ونحو ذلك
، ففي الكلام إطلاق ، والخطاب فيه لجميع الناس.
وأما قول بعضهم
: إن الخطاب في « لا
تُسْرِفُوا » مختص بأرباب الأموال ، وقول بعض آخر : إنه متوجه إلى الإمام الآخذ للصدقة
، وكذا قول بعضهم : إن معناه لا تسرفوا بأكله قبل الحصاد كيلا يؤدي إلى بخس حق
الفقراء ، وقول بعض آخر : إن المعنى : لا تقصروا بأن تمنعوا بعض الواجب ، وقول
ثالث : إن المعنى لا تنفقوه في المعصية ، كل ذلك مدفوع بالإطلاق والسياق.
قوله تعالى : « وَمِنَ الْأَنْعامِ
حَمُولَةً وَفَرْشاً » إلى آخر الآية ، الحمولة أكابر الأنعام لإطاقتها الحمل ، والفرش أصاغرها لأنها كأنها تفترش على الأرض أو لأنها توطأ كما يوطأ الفرش ، وقوله
: « كُلُوا
مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ » إباحة للأكل وإمضاء لما يدل عليه العقل نظير قوله في الآية السابقة : « كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ
» ، وقوله : « لا تَتَّبِعُوا
خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ » أي لا تسيروا في هذا الأمر المشروع إباحته باتباع
الشيطان بوضع قدمكم موضع قدمه بأن تحرموا ما أحله ، وقد تقدم أن المراد باتباع
خطوات الشيطان تحريم ما أحله الله بغير علم.
قوله تعالى : « ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ
مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ » إلى آخر الآية ، تفصيل للأنعام بعد الإجمال والمراد به
تشديد اللوم والتوبيخ عليهم ببسطه على كل صورة من الصور والوجوه ، فقوله : « ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ » عطف بيان من « حَمُولَةً وَفَرْشاً » في الآية السابقة.
والأزواج جمع زوج ، ويطلق الزوج على الواحد الذي يكون معه آخر
وعلى الاثنين ، وأنواع الأنعام المعدودة أربعة : الضأن والمعز والبقر والإبل ،
وإذا لوحظت
ذكرا وأنثى كانت ثمانية أزواج.
والمعنى : أنشأ
ثمانية أزواج من الضأن زوجين اثنين هما الذكر والأنثى ومن المعز زوجين اثنين
كالضأن قل آلذكرين من الضأن والمعز حرم الله أم الأنثيين منهما أم حرم ما اشتملت
عليه أرحام الأنثيين من الضأن والمعز نبئوني ذلك بعلم إن كنتم صادقين.
قوله تعالى : «
وَمِنَ
الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ
ـ إلى قوله ـ
الْأُنْثَيَيْنِ
» معناه ظاهر
مما مر ، وقيل : المراد بالاثنين في المواضع الأربعة من الآيتين الأهلي والوحشي.
قوله
تعالى : « أَمْ كُنْتُمْ
شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا » إلى آخر الآية. هذا شق من ترديد حذف شقه الآخر على ما
يدل عليه الكلام ، وتقديره : أعلمتم ذلك من طريق الفكر كعقل أو سمع أم شاهدتم
تحريم الله ذلك وشافهتموه فادعيتم ذلك.
وقوله : « فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً » إلخ ، تفريع على ما قبله باعتبار دلالته على انقطاعهم
عن الجواب وعلى ذلك فمعناه : فمن أظلم منكم ، ويكون قوله :
« مِمَّنِ افْتَرى » إلخ ، كناية عن المشركين المخاطبين وضع موضع ضمير
الخطاب الراجع إليهم ليدل به على سبب الحكم المفهوم من الاستفهام الإنكاري
والتقدير : لا أظلم منكم لأنكم افتريتم على الله كذبا لتضلوا الناس بغير علم ، وإذ
ظلمتم فإنكم لا تهتدون إن الله لا يهدي القوم الظالمين.
قوله تعالى : « قُلْ لا أَجِدُ فِي
ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ » إلخ ، معنى الآية ظاهر ، وقد تقدم في نظيره الآية من
سورة المائدة آية ٣ ، وفي سورة البقرة آية ١٧٣ ما ينفع في المقام.
قوله تعالى : « وَعَلَى الَّذِينَ
هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ » إلخ ، الظفر واحد الأظفار وهو العظم النابت على رءوس الأصابع ، والحوايا المباعر قال في المجمع : ، موضع الحوايا يحتمل أن يكون
رفعا عطفا على الظهور وتقديره : أو ما حملت الحوايا ، ويحتمل أن يكون نصبا عطفا
على ما في قوله : «
إِلَّا ما حَمَلَتْ » فأما قوله : «
أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ » فإن ما هذه معطوفة على ما الأولى ( انتهى ) والوجه
الأول أقرب.
ثم قال : ذلك
في قوله ـ ( ذلِكَ جَزَيْناهُمْ ) ـ يجوز أن يكون منصوب الموضع بأنه مفعول ثان لجزيناهم
التقدير : جزيناهم ذلك ببغيهم ، ولا يجوز أن يرفع بالابتداء لأنه
يصير التقدير : ذلك جزيناهموه فيكون كقولهم : زيد ضربت أي ضربته ، وهذا
إنما يجوز في ضرورة الشعر. انتهى.
والآية كأنها
في مقام الاستدراك ودفع الدخل ببيان أن ما حرم الله على بني إسرائيل من طيبات ما
رزقهم إنما حرمه جزاء لبغيهم فلا ينافي ذلك كونه حلا بحسب طبعه الأولى كما يشير
إلى ذلك قوله : « كُلُّ
الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى
نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ » : ( آل عمران : ٩٣ ) وقوله : « فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً » : ( النساء : ١٦٠ ).
قوله
تعالى : « فَإِنْ كَذَّبُوكَ
فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ » إلى آخر الآية ، معنى الآية ظاهر ، وفيها أمر بإنذارهم
وتهديدهم إن كذبوا بالبأس الإلهي الذي لا مرد له لكن لا ببيان يسلط عليهم اليأس
والقنوط بل بما يشوبه بعض الرجاء ، ولذلك قدم عليه قوله : « رَبُّكُمْ ذُو
رَحْمَةٍ واسِعَةٍ ».
قوله
تعالى : « سَيَقُولُ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ
شَيْءٍ » الآية تذكر
احتجاجهم بهذه الحجة ثم ترد عليهم بأنهم جاهلون بها وإنما يركنون فيها إلى الظن
والتخمين ، والكلمة كلمة حق وردت في كثير من الآيات القرآنية لكنها لا تنتج ما
قصدوه منها.
فإنهم إنما
احتجوا بها لإثبات أن شركهم وتحريمهم ما رزقهم الله بإمضاء من الله سبحانه لا بأس
عليهم في ذلك فحجتهم أن الله لو شاء منا خلاف ما نحن عليه من الشرك والتحريم لكنا
مضطرين على ترك الشرك والتحريم فإذ لم يشأ كان ذلك إذنا في الشرك والتحريم فلا بأس
بهذا الشرك والتحريم.
وهذه الحجة لا
تنتج هذه النتيجة وإنما تنتج أن الله سبحانه إذ لم يشأ منهم ذلك لم يوقعهم موقع الاضطرار
والإجبار فهم مختارون في الشرك والكف عنه وفي التحريم وتركه فله تعالى أن يدعوهم
إلى الإيمان به ورفض الافتراض فلله الحجة البالغة ولا حجة لهم في ذلك إلا اتباع
الظن والتخمين.
قوله
تعالى : « قُلْ فَلِلَّهِ
الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ » كأن الفاء الأولى لتفريع مضمون الجملة على ما تقدم من
قولهم « لَوْ شاءَ
اللهُ ما أَشْرَكْنا » إلخ ، والفاء الثانية
للتعليل فيكون الكلام من قبيل قلب الحجة على الخصم بعد بيان مقتضاها.
والمعنى أن
نتيجة الحجة قد التبست عليكم بجهلكم واتباعكم الظن وخرصكم في المعارف الإلهية
فحجتكم تدل على أن لا حجة لكم في دعوته إياكم إلى رفض الشرك وترك الافتراء عليه ،
وأن الحجة إنما هي لله عليكم فإنه لو شاء لهداكم أجمعين وأجبركم على الإيمان وترك
الشرك والتحريم ، وإذ لم يجبركم على ذلك وأبقاكم على الاختيار فله أن يدعوكم إلى
ترك الشرك والتحريم.
وبعبارة أخرى :
يتفرع على حجتكم أن الحجة لله عليكم لأنه لو شاء لأجبر على الإيمان فهداكم أجمعين
، ولم يفعل بل جعلكم مختارين يجوز بذلك دعوتكم إلى ما دعاكم إليه.
وقد بين تعالى
في طائفة من الآيات السابقة أنه تعالى لم يضطر عباده على الإيمان ولم يشأ منهم ذلك
بالمشية التكوينية حتى يكونوا مجبرين عليه بل أذن لهم في خلافه وهذا الإذن الذي هو
رفع المانع التكويني هو اختيار العباد وقدرتهم على جانبي الفعل والترك ، وهذا
الإذن لا ينافي الأمر التشريعي بترك الشرك مثلا بل هو الأساس الذي يبتني عليه
الأمر والنهي.
قوله
تعالى : « قُلْ هَلُمَّ
شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ » إلى آخر الآية. هلم شهداءكم أي هاتوا شهداءكم وهو اسم فعل يستوي فيه المفرد
والمثنى والمجموع ، والمراد بالشهادة شهادة الأداء والإشارة بقوله : « هذا » إلى ما ذكر من المحرمات عندهم ، والخطاب خطاب تعجيزي
أمر به الله سبحانه ليكشف به أنهم مفترون في دعواهم أن الله حرم ذلك فهو كناية عن
عدم التحريم.
وقوله : « فَإِنْ شَهِدُوا فَلا
تَشْهَدْ مَعَهُمْ » في معنى الترقي ، والمعنى : لا شاهد فيهم يشهد بذلك فلا تحريم حتى أنهم
لو شهدوا بالتحريم فلا تشهد معهم إذ لا تحريم ولا يعبأ بشهادتهم فإنهم قوم يتبعون
أهواءهم.
فقوله : « وَلا تَتَّبِعْ
أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا » إلخ ، عطف تفسير لقوله : « فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ » أي إن شهادتك اتباع لأهوائهم كما أن شهادتهم من اتباع
الأهواء ، وكيف لا؟ وهم قوم كذبوا بآيات الله الباهرة ، ولا يؤمنون بالآخرة
ويعدلون بربهم
غيره من خلقه كالأوثان ، ولا يجترئ على ذلك مع كمال البيان وسطوع البرهان
إلا الذين يتبعون الأهواء.
(
بحث روائي )
في المجمع ، :
في قوله تعالى : « فَما كانَ
لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ » الآية ـ قال : إنه كان إذا اختلط ما جعل للأصنام ـ بما
جعل لله تعالى ردوه ، وإذا اختلط ما جعل لله بما جعل للأصنام ـ تركوه وقالوا :
الله أغنى ، وإذا تخرق الماء من الذي لله ـ في الذي للأصنام لم يسدوه ، وإذا تخرق
من الذي للأصنام في الذي لله ـ سدوه وقالوا : الله أغنى : عن ابن عباس وقتادة ،
وهو المروي عن أئمتنا (ع).
وفي تفسير
القمي ، : في قوله تعالى : «
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » الآية ـ قال : قال : يعني أن أسلافهم زينوا لهم قتل
أولادهم.
وفيه ، : في
قوله تعالى : « وَقالُوا
هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ » قال : قال : الحجر المحرم.
وفيه ، : في
قوله تعالى : « وَهُوَ
الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ » الآيات ـ قال : قال : البساتين.
وفيه ، في قوله
تعالى : « وَآتُوا
حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ » الآية ، أخبرنا أحمد بن إدريس قال : حدثنا أحمد بن
محمد عن علي بن الحكم عن أبان بن عثمان عن شعيب العقرقوفي قال : سألت أبا عبد الله
عليهالسلام عن قوله : « وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ » قال : الضغث من السنبل والكف من التمر إذا خرص. قال :
وسألته هل يستقيم إعطاؤه إذا أدخله بيته؟ قال : لا هو أسخى لنفسه قبل أن يدخل
بيته.
وفيه ، عن أحمد
بن إدريس عن البرقي عن سعد بن سعد عن الرضا عليهالسلام : أنه سئل : إن لم يحضر المساكين وهو يحصد كيف يصنع؟
قال : ليس عليه شيء.
وفي الكافي ،
عن علي بن إبراهيم عن ابن أبي عمير عن معاوية بن الحجاج قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : في الزرع حقان : حق تؤخذ به ، وحق تعطيه. قلت :
وما الذي أوخذ به؟ وما الذي أعطيه؟ قال : أما الذي تؤخذ به فالعشر ونصف العشر ،
وأما الذي تعطيه فقول الله عز وجل : « وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ » يعني من حصدك الشيء بعد الشيء ولا أعلمه إلا قال :
الضغث تعطيه ثم الضغث حتى تفرغ.
وفيه ، بإسناده
عن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا عليهالسلام قال : سألته عن قوله الله عز وجل : « وَآتُوا حَقَّهُ
يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا » قال : كان أبي يقول : من الإسراف في الحصاد والجذاذ ـ أن
يتصدق الرجل بكفيه جميعا ، وكان أبي إذا حضر شيئا من هذا ـ فرأى أحدا من غلمانه
يتصدق بكفيه صاح به : أعط بيد واحدة القبضة بعد القبضة ـ والضغث بعد الضغث من
السنبل.
وفيه ، بإسناده
عن مصادف قال : كنت مع أبي عبد الله عليهالسلام في أرض له وهم يصرمون ـ فجاء سائل يسأل فقلت : الله
يرزقك ـ فقال : مه ليس ذلك لكم حتى تعطوا ثلاثة فإذا أعطيتم فلكم وإن أمسكتم فلكم.
وفيه ، بإسناده
عن ابن أبي عمير عن هشام بن المثنى قال : سأل رجل أبا عبد الله عليهالسلام عن قول الله عز وجل : « وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا
تُسْرِفُوا ـ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ » فقال : كان فلان بن فلان الأنصاري وسماه وكان له حرث ،
وكان إذا أجذ يتصدق به ويبقى هو وعياله بغير شيء ـ فجعل الله عز وجل ذلك إسرافا.
أقول
: المراد انطباق
الآية على عمله دون نزولها فيه فإن الآية مكية ، ولعل المراد بالأنصاري المذكور
ثابت بن قيس بن شماس وقد روى الطبري وغيره عن ابن جريح قال : نزلت في ثابت بن قيس
بن شماس جذ نخلا فقال : لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته ـ فأطعم حتى أمسى وليست له
تمره فأنزل الله : ( وَلا تُسْرِفُوا
إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ )
، والآية كما تقدم
مكية غير مدنية فلا يشمل عمل ثابت بن قيس إلا بالجري والانطباق.
وتفسير العياشي
، عن الصادق عليهالسلام : في الآية قال : أعط من حضرك من المسلمين فإن لم يحضرك
إلا مشرك فأعط.
أقول
: والروايات في
هذه المعاني عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن الرضا عليهالسلام كثيرة جدا.
وفي الدر
المنثور ، أخرج ابن المنذر والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن
النبي صلىاللهعليهوآله : في قوله : « وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ » قال : ما سقط من السنبل.
وفيه ، أخرج
سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس والبيهقي في سننه
عن ابن عباس : « وَآتُوا
حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ » قال : نسخها العشر ونصف العشر.
أقول
: ليست النسبة
بين الآية وآية الزكاة نسبة النسخ إذ لا تنافي يؤدي إلى النسخ سواء قلنا بوجوب
الصدقة أو باستحبابها.
وفيه ، أخرج
أبو عبيد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن الضحاك قال" : نسخت
الزكاة كل صدقة في القرآن.
أقول
: الكلام فيه
كسابقه.
وفيه ، أخرج
ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن ميمون بن مهران ويزيد بن
الأصم قال : كان أهل المدينة إذا صرموا النخل ـ يجيئون بالعذق فيضعونه في المسجد ـ
فيجيء السائل فيضربه بالعصا فيسقط منه ـ فهو قوله : « وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ».
وفي تفسير
القمي ، : في قوله تعالى : «
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ » الآية : فهذه التي أحلها الله في كتابه في قوله : « وَأَنْزَلَ لَكُمْ
مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ » ثم فسرها في هذه الآية فقال : « مِنَ الضَّأْنِ
اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ
الْبَقَرِ اثْنَيْنِ » فقال صلىاللهعليهوآله في قوله : « مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ » عنى الأهلي والجبلي « وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ » عنى الأهلي والوحشي الجبلي « وَمِنَ الْبَقَرِ
اثْنَيْنِ » عنى الأهلي والوحشي الجبلي « وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ » يعني البخاتي والعراب ، فهذه أحلها الله.
أقول
: وروي ما يؤيد
ذلك في الكافي والاختصاص وتفسير العياشي عن داود الرقي وصفوان الجمال عن الصادق عليهالسلام. ويبقى البحث في أن معنى الزوج في قوله : « ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ
مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ » الآية هو الذي في قوله : « وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ
أَزْواجٍ » أو غيره ،
وسيوافيك إن شاء الله تعالى.
وفي تفسير
العياشي ، عن حريز عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : سئل عن سباع الطير والوحش حتى ذكر له القنافذ ـ والوطواط
والحمير والبغال والخيل ـ فقال : ليس الحرام إلا ما حرم الله في كتابه ، وقد نهى
رسول الله صلىاللهعليهوآله يوم خيبر عن أكل لحوم الحمير ، وإنما نهاهم من أجل
ظهورهم أن يفنوه ليس الحمير بحرام ، وقال : قرأ هذه الآيات « قُلْ لا أَجِدُ فِي ما
أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ـ إِلَّا أَنْ يَكُونَ
مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ
فَإِنَّهُ
رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ».
أقول
: وفي معناه
أخبار أخر مروية عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهالسلام وفي عدة منها : إنما الحرام ما حرمه الله في كتابه
ولكنهم كانوا يعافون أشياء فنحن نعافها ، وهنا روايات كثيرة تنهى عن أكل كثير من
الحيوان كذوات الأنياب من الوحش وذوات المخالب من الطير وغير ذلك ، والأمر في
روايات أهل السنة على هذا النحو والمسألة فقهية مرجعها الفقه ، وإذا تمت حرمة ما
عدا المذكورات في الآية فإنما هي مما حرمها النبي صلىاللهعليهوآله استخباثا له وقد وصفه الله تعالى بما يمضيه في حقه ،
قال تعالى : « الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً
عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ » الآية : ( الأعراف : ١٥٧ ).
وفي المجمع ، :
في قوله تعالى : « وَعَلَى
الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ » الآية : أن ملوك بني إسرائيل كانوا يمنعون فقراءهم ـ من
أكل لحوم الطير والشحوم ـ فحرم الله ذلك ببغيهم على فقرائهم : ذكره علي بن إبراهيم
في تفسيره.
وفي أمالي
الشيخ ، بإسناده عن مسعدة بن زياد قال : سمعت جعفر بن محمد عليهالسلام وقد سئل عن قوله تعالى : « فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ » فقال : إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدي كنت
عالما؟ فإن قال : نعم ـ قال له : أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال : كنت جاهلا قال : أفلا
تعلمت حتى تعمل؟ فيخصمه فتلك الحجة البالغة.
أقول
: وهو من بيان
المصداق.
قُلْ
تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً
وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ
نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما
بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ
ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ
الْيَتِيمِ إِلاَّ
بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ
بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا
وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ
وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ
بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣) ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى
الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ
بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ
فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما
أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ
دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا
الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ
وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ
عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا
يَصْدِفُونَ (١٥٧).
(
بيان )
تبين الآيات
المحرمات العامة التي لا تختص بشريعة من الشرائع الإلهية ، وهي الشرك بالله ، وترك
الإحسان بالوالدين ، واقتراف الفواحش ، وقتل النفس المحترمة بغير حق ويدخل فيه قتل
الأولاد خشية إملاق واقتراب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن وعدم إيفاء الكيل
والميزان بالقسط ، والظلم في القول ، وعدم الوفاء بعهد الله ، واتباع غير سبيل
الله المؤدي إلى الاختلاف في الدين.
ومن شواهد أنها
شرائع عامة أنا نجدها فيما نقله الله سبحانه من خطابات الأنبياء
أممهم في تبليغاتهم الدينية كالذي نقل من نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط
وشعيب وموسى وعيسى وغيرهم عليهالسلام ، وقد قال تعالى : « شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ
نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى
وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ » : ( الشورى : ١٣ ) ومن ألطف الإشارة التعبير عما أوتي
نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهالسلام بالتوصية ثم التعبير في هذه الآيات الثلاث التي تقص
أصول المحرمات الإلهية أيضا بالتوصية حيث قال : « ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ » « ذلِكُمْ
وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » «
ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ».
على أن التأمل
فيها يعطي أن الدين الإلهي لا يتم أمره ولا يستقيم حاله بدون شيء منها وإن بلغ من
الإجمال والبساطة ما بلغ وبلغ الإنسان المنتحل به من السذاجة ما بلغ.
قوله
تعالى : « قُلْ تَعالَوْا
أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً » قيل : تعال مشتق من العلو وهو أمر بتقدير أن الأمر في مكان عال وإن
لم يكن الأمر على ذلك بحسب الحقيقة ، والتلاوة قريب المعنى من القراءة ، وقوله : « عَلَيْكُمْ » متعلق بقوله : « أَتْلُ » أو قوله : « حَرَّمَ » على طريق التنازع في المتعلق ، وربما قيل : إن « عَلَيْكُمْ » اسم فعل بمعنى خذوا وقوله : « أَلَّا تُشْرِكُوا » معموله والنظم : عليكم أن لا تشركوا به شيئا
وبالوالدين إحسانا « إلخ » ، وهو خلاف ما يسبق إلى الذهن من السياق.
ولما كان قوله
: « تَعالَوْا
أَتْلُ ما حَرَّمَ » إلخ ، دعوة إلى التلاوة وضع في الكلام عين ما جاء به الوحي في مورد
المحرمات من النهي في بعضها والأمر بالخلاف في بعضها الآخر فقال : « أَلَّا تُشْرِكُوا
بِهِ شَيْئاً » كما قال : «
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ » «
وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ » إلخ ، وقال : « وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً » كما قال : « وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ » «
وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا » إلخ.
وقد قدم الشرك
على سائر المحرمات لأنه الظلم العظيم الذي لا مطمع في المغفرة الإلهية معه قال : « إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ » : ( النساء : ٤٨ ) وإليه ينتهي كل معصية كما ينتهي إلى
التوحيد بوجه كل حسنة.
قوله
تعالى : « وَبِالْوالِدَيْنِ
إِحْساناً » أي أحسنوا بالوالدين إحسانا ، وفي المجمع : ، أي وأوصى بالوالدين إحسانا
، ويدل على ذلك أن في « حرم كذا » معنى أوصى بتحريمه
وأمر بتجنبه. انتهى.
وقد عد في
مواضع من القرآن الكريم إحسان الوالدين تاليا للتوحيد ونفي الشرك فأمر به بعد
الأمر بالتوحيد أو النهي عن الشرك به كقوله : « وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا
إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً » : ( الإسراء : ٢٣ ) وقوله : « وَإِذْ قالَ لُقْمانُ
لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ
لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ » : ( لقمان : ١٤ ) وغير ذلك من الآيات.
ويدل ذلك على
أن عقوق الوالدين من أعظم الذنوب أو هو أعظمها بعد الشرك بالله العظيم ، والاعتبار
يهدي إلى ذلك فإن المجتمع الإنساني الذي لا يتم للإنسان دونه حياة ولا دين هو أمر
وضعي اعتباري لا يحفظه في حدوثه وبقائه إلا حب النسل الذي يتكئ على رابطة الرحمة
المتكونة في البيت القائمة بالوالدين من جانب وبالأولاد من جانب آخر ، والأولاد
إنما يحتاجون إلى رحمتهما وإحسانهما في زمان تتوق أنفسهما إلى نحو الأولاد بحسب الطبع
، وكفى به داعيا ومحرضا لهما إلى الإحسان إليهم بخلاف حاجتهم إلى رأفة الأولاد
ورحمتهم فإنها بالطبع يصادف كبرهما ويوم عجزهما عن الاستقلال بالقيام بواجب
حياتهما وشباب الأولاد وقوتهم على ما يعنيهم.
وجفاء الأولاد
للوالدين وعقوقهم لهما يوم حاجتهما إليهم ورجائهما منهم وانتشار ذلك بين النوع
يؤدي بالمقابلة إلى بطلان عاطفة التوليد والتربية ، ويدعو ذلك من جهة إلى ترك
التناسل وانقطاع النسل ، ومن جهة إلى كراهية تأسيس البيت والتكاهل في تشكيل
المجتمع الصغير ، والاستنكاف عن حفظ سمة الأبوة والأمومة ، وينجر إلى تكون طبقة من
الذرية الإنسانية لا قرابة بينهم ولا أثر من رابطة الرحم فيهم ، ويتلاشى عندئذ
أجزاء المجتمع ، ويتشتت شملهم ، ويتفرق جمعهم ، ويفسد أمرهم فسادا لا يصلحه قانون
جار ولا سنة دائرة ، ويرتحل عنهم سعادة الدنيا والآخرة ، وسنقدم إليك بحثا ضافيا
في هذه الحقيقة الدينية إن شاء الله.
قوله تعالى : « وَلا تَقْتُلُوا
أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ » الإملاق الإفلاس من المال والزاد ومنه التملق ، وقد كان هذا
كالسنة الجارية بين العرب في الجاهلية لتسرع الجدب والقحط إلى بلادهم فكان الرجل
إذا هدده الإفلاس بادر إلى قتل أولاده تأنفا من أن يراهم على ذلة العدم والجوع.
وقد علل النهي
بقوله : « نَحْنُ
نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ » أي إنما تقتلونهم مخافة أن لا تقدروا على القيام بأمر رزقهم ولستم
برازقين لهم بل الله يرزقكم وإياهم جميعا فلا تقتلوهم.
قوله
تعالى : «
وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ » الفواحش جمع فاحشة وهي الأمر الشنيع المستقبح ، وقد عد الله
منها في كلامه الزنا واللواط وقذف المحصنات ، والظاهر أن المراد مما ظهر ومما بطن
العلانية والسر كالزنا العلني واتخاذ الأخدان والأخلاء سرا.
وفي استباحة
الفاحشة إبطال فحشها وشناعتها ، وفي ذلك شيوعها لأنها من أعظم ما تتوق إليه النفس
الكارهة لأن يضرب عليها بالحرمان من ألذ لذائذها وتحجب عن أعجب ما تتعلق به وتعزم
به شهوتها ، وفي شيوعها انقطاع النسل وبطلان المجتمع البيتي وفي بطلانه بطلان
المجتمع الكبير الإنساني ، وسوف نستوفي هذا البحث إن شاء الله فيما يناسبه من
المحل.
وكذلك استباحة
القتل وما في تلوه من الفحشاء إبطال للأمن العام وفي بطلانه انهدام بنية المجتمع
الإنساني وتبدد أركانه.
قوله
تعالى : « وَلا تَقْتُلُوا
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ » أي حرم الله قتلها أو حرمها بالحرمة المشرعة لها التي
تقيها وتحميها من الضيعة في دم أو حق ، قيل : إنه تعالى أعاد ذكر القتل وإن كان
داخلا في الفواحش تفخيما لشأنه وتعظيما لأمره ، ونظيره الكلام في قتل الأولاد خشية
الإملاق اختص بالذكر عناية به ، وقد كانت العرب تفعل ذلك بزعمهم أن خشية الإملاق
تبيح للوالد أن يقتل أولاده ، ويصان به ماء وجهه من الابتذال ، والأبوة عندهم من
أسباب الملك.
وقد استثنى
الله تعالى من جهة قتل النفس المحترمة التي هي نفس المسلم والمعاهد قتلها بالحق
وهو القتل بالقود والحد الشرعي.
ثم أكد تحريم
المذكورات في الآية بقوله : «
ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ » سيجيء الوجه في تعليل هذه المناهي الخمس بقوله : « لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ ».
قوله
تعالى : « وَلا تَقْرَبُوا مالَ
الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ » النهي عن القرب للدلالة على التعميم فلا يحل أكل ماله
ولا استعماله ولا أي تصرف فيه إلا بالطريقة التي هي أحسن الطرق المتصورة لحفظه ،
ويمتد هذا النهي وتدوم الحرمة إلى أن
يبلغ أشده فإذا بلغ أشده لم يكن يتيما قاصرا عن إدارة ماله وكان هو المتصرف
في مال نفسه من غير حاجة بالطبع إلى تدبير الولي لماله.
ومن هنا يظهر
أن المراد ببلوغه أشده هو البلوغ والرشد كما يدل عليه أيضا قوله : « وَابْتَلُوا
الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً
فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ
يَكْبَرُوا » : ( النساء : ٦ ).
ويظهر أيضا أنه
ليس المراد بتحديد حرمة التصرف في مال اليتيم بقوله : « حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ » رفع الحرمة بعد بلوغ الأشد وإباحة التصرف حينئذ بل
المراد بيان الوقت الذي يصلح للاقتراب من ماله ، وارتفاع الموضوع بعده فإن الكلام
في معنى : وأصلحوا مال اليتيم الذي لا يقدر على إصلاح ماله وإنمائه حتى يكبر
ويقدر.
قوله
تعالى : « وَأَوْفُوا الْكَيْلَ
وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها » الإيفاء
بالقسط هو العمل
بالعدل فيهما من غير بخس ، وقوله : « لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها » بمنزلة دفع الدخل كأنه قيل : إن الإيفاء بالقسط
والوقوع في العدل الحقيقي الواقعي لا يمكن للنفس الإنسانية التي لا مناص لها عن أن
تلتجئ في أمثال هذه الأمور إلى التقريب فأجيب بأنا لا نكلف نفسا إلا وسعها ، ومن
الجائز أن يتعلق قوله : «
لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها » بالحكمين جميعا أعني قوله : « وَلا تَقْرَبُوا مالَ
الْيَتِيمِ » إلخ ، وقوله : «
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ ».
قوله
تعالى : « وَإِذا قُلْتُمْ
فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى » ذكر ذي القربى وهو الذي تدعو عاطفة القرابة والرحم إلى
حفظ جانبه وصيانته من وقوع الشر والضرر في نفسه وماله يدل على أن المراد بالقول هو
القول الذي يمكن أن يترتب عليه انتفاع الغير أو تضرره كما أن ذكر العدل في القول
يؤيد ذلك ، ويدل على أن هناك ظلما ، وأن القول متعلق ببعض الحقوق كالشهادة والقضاء
والفتوى ونحو ذلك.
فالمعنى :
وراقبوا أقوالكم التي فيها نفع أو ضرر للناس واعدلوا فيها ، ولا يحملنكم رحمة أو
رأفة أو أي عاطفة على أن تراعوا جانب أحد فتحرفوا الكلام وتجاوزوا الحق فتشهدوا أو
تقضوا بما فيه رعاية لجانب من تحبونه وإبطال حق من تكرهونه.
قال في المجمع
: ، وهذا من الأوامر البليغة التي يدخل فيها مع قلة حروفها الأقارير
والشهادات ، والوصايا والفتاوى ، والقضايا ، والأحكام ، والمذاهب ، والأمر
بالمعروف ، والنهي عن المنكر.
قوله
تعالى : « وَبِعَهْدِ اللهِ
أَوْفُوا » قال الراغب
في المفردات ، : العهد حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال. انتهى. ولذا يطلق على
الفرامين والتكاليف المشرعة والوظائف المحولة وعلى العهد الذي هو الموثق وعلى
النذر واليمين.
وكثرة استعماله
في القرآن الكريم في الفرامين الإلهية ، وإضافته في الآية إلى الله سبحانه ،
ومناسبة المورد وفيه بيان الأحكام والوصايا الإلهية العامة كل ذلك يؤيد أن يكون
المراد بقوله : «
وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا » التكاليف الدينية الإلهية ، وإن كان من الممكن أن يكون المراد بالعهد هو
الميثاق المعقود بمثل قولنا : عاهدت الله على كذا وكذا ، قال تعالى : « وَأَوْفُوا
بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً » : ( الإسراء : ٣٤ ) فيكون إضافته إلى الله نظير إضافة
الشهادة إليه في قوله : «
وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ » : ( المائدة : ١٠٦ ) للإشارة إلى أن المعاملة فيه معه
سبحانه. ثم أكد التكاليف المذكورة في الآية بقوله : « ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ ».
قوله
تعالى : « وَأَنَّ هذا صِراطِي
مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ
سَبِيلِهِ » إلى آخر الآية ، قرئ : «
وَأَنَ » بفتح الهمزة
وتشديد النون وتخفيفها وكأنه بالعطف على موضع قوله : « أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً » وقرئ بكسر الهمزة على الاستئناف.
والذي يعطيه
سياق الآيات أن يكون مضمون هذه الآية أحد الوصايا التي أمر النبي صلىاللهعليهوآله أن يتلوها عليهم ويخبرهم بها حيث قيل : « قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ
ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ » ، ولازم ذلك أن يكون قوله : « وَأَنَّ هذا صِراطِي
مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ » مسوقا لا لتعلق الغرض به بنفسه لأن كليات الدين قد تمت في الآيتين
السابقتين عليه بل ليكون توطئة وتمهيدا لقوله بعده : « وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ » كما أن هذه الجملة بعينها كالتوطئة لقوله : « فَتَفَرَّقَ بِكُمْ
عَنْ سَبِيلِهِ » فالمراد بالآية أن لا تتفرقوا عن سبيله ولا تختلفوا فيه ، فتكون الآية
مسوقة سوق قوله : «
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ
وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا
تَتَفَرَّقُوا فِيهِ » : ( الشورى : ١٣ ) فالأمر في الآية بإقامة الدين هو ما وصى من الدين
المشروع كأنه أعيد ليكون تمهيدا للنهي عن التفرق بالدين.
فالمعنى : ومما
حرم ربكم عليكم ووصاكم به أن لا تتبعوا السبل التي دون هذا الصراط المستقيم الذي
لا يقبل التخلف والاختلاف وهي غير سبيل الله فإن اتباع السبل دونه يفرقكم عن سبيله
فتختلفون فيه فتخرجون من الصراط المستقيم إذ الصراط المستقيم لا اختلاف بين أجزائه
ولا بين سالكيه.
ومقتضى ظاهر
السياق أن يكون المراد بقوله : «
صِراطِي » صراط النبي صلىاللهعليهوآله فإنه هو الذي يخاطب الناس بهذه التكاليف عن أمر من ربه
إذ يقول : « قُلْ
تَعالَوْا أَتْلُ » إلخ ، فهو المتكلم معهم المخاطب لهم ، ولله سبحانه في الآيات مقام الغيبة
حتى في ذيل هذه الآية إذ يقول : «
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ » ولا ضير في نسبة الصراط المستقيم إلى النبي صلىاللهعليهوآله فقد نسب الصراط المستقيم إلى جمع من عباده الذين أنعم
الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في قوله : « اهْدِنَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ ، صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ » : ( الحمد : ٧ ).
لكن المفسرين
كأنهم تسلموا أن ضمير التكلم في قوله : « صِراطِي » لله سبحانه ففي الآية نوع من الالتفات لكن لا في قوله
: « صِراطِي » بل في قوله : « عَنْ سَبِيلِهِ » فإن معنى الآية : تعالوا أتل عليكم ما وصاكم به ربكم
وهو أنه يقول لكم : « إن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه » أو وصيته « إن هذا صراطي
مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيلي » فالالتفات ـ كما مر ـ إنما
هو في قوله : « عَنْ
سَبِيلِهِ ».
وكيف كان فهو
تعالى في الآية يسمي ما ذكره من كليات الدين بأنه صراطه المستقيم الذي لا تخلف في
هداية سالكيه وإيصالهم إلى المقصد ولا اختلاف بين أجزائه ولا بين سالكيه ما داموا
عليه فلا يتفرقون البتة ثم ينهاهم عن اتباع سائر السبل فإن من شأنها إلقاء الخلاف
والتفرقة لأنها طرق الأهواء الشيطانية التي لا ضابط يضبطها بخلاف سبيل الله المبني
على الفطرة والخلقة ولا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم. ثم أكد سبحانه حكمه في
الآية بقوله : « ذلِكُمْ
وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ».
وقد اختلفت
الخواتيم في الآيات الثلاث فختمت الآية الأولى بقوله : « ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ
بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ » والثانية بقوله : « ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ » والثالثة بقوله : «
ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ».
ولعل الوجه في
ذلك أن الأمور المذكورة في الآية الأولى وهي الشرك بالله العظيم وعقوق الوالدين
وقتل الأولاد من إملاق وقربان الفواحش الشنيعة وقتل النفس المحترمة من غير حق مما
تدرك الفطرة الإنسانية حرمتها في بادئ نظرها ولا يجترئ عليها الإنسان الذي يتميز
من سائر الحيوان بالعقل إلا إذا اتبع الأهواء وأحاطت به العواطف المظلمة التي تضرب
بحجاب ثخين دون العقل. فمجرد الاعتصام بعصمة العقل في الجملة والخروج عن خالصة
الأهواء يكشف للإنسان عن حرمتها وشامتها على الإنسان بما هو إنسان ، ولذلك ختمت
بقوله : « ذلِكُمْ
وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ».
وما ذكر منها
في الآية الثانية وهي الاجتناب عن مال اليتيم ، وإيفاء الكيل والميزان بالقسط ،
والعدل في القول ، والوفاء بعهد الله أمور ليست بمثابة ما تليت في الآية الأولى من
الظهور بل يحتاج الإنسان مع تعبيه بالعقل في إدراك حالها إلى التذكر وهو الرجوع
إلى المصالح والمفاسد العامة المعلومة عند العقل الفطري حتى يدرك ما فيها من
المفاسد الهادمة لبنيان مجتمعة المشرفة به وبسائر بني نوعه إلى التهلكة فما ذا
يبقى من الخير في مجتمع إنساني لا يرحم فيه الصغير والضعيف ، ويطفف فيه الكيل
والوزن ، ولا يعدل فيه في الحكم والقضاء ، ولا يصغي فيه إلى كلمة الحق ، ولهذه
النكتة ختمت الآية بقوله : «
ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ».
والغرض المسوق
له الآية الثالثة هو النهي عن التفرق والاختلاف في الدين باتباع سبل غير سبيل الله
، واتباع هاتيك السبل من شأنه أن التقوى الديني لا يتم إلا بالاجتناب عنه.
وذلك أن التقوى
الديني إنما يحصل بالتبصر في المناهي الإلهية والورع عن محارمه بالتعقل والتذكر ،
وبعبارة أخرى بالتزام الفطرة الإنسانية التي بني عليها الدين ، وقد قال تعالى : « وَنَفْسٍ وَما
سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها » : ( الشمس : ٨ ) وقد وعد الله المتقين إن اتقوا يمددهم
بما يتضح به سبيلهم ويفرق به بين الحق والباطل عندهم فقال : « وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً » : ( الطلاق : ٢ ) وقال : « إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ
فُرْقاناً » : ( الأنفال : ٢٩ ).
فهو على صراط
التقوى ما دام ملازما لطريق التعقل والتذكر جاريا على مجرى الفطرة ، وإذا انحرف
إلى الخارج من هذا الصراط وليس إلا اتباع الأهواء والإخلاد إلى
الأرض والاغترار بزينة الحياة الدنيا جذبته الأهواء والعواطف إلى الاسترسال
والعكوف على مخالفة العقل السليم وترك التقوى الديني من غير مبالاة بما يهدده من
شؤم العاقبة كالسكران لا يدري ما يفعل ولا ما يفعل به.
والأهواء
النفسانية مختلفة لا ضابط يضبطها ولا نظام يحكم عليها يجتمع فيه أهلها ولذلك لا
تكاد ترى اثنين من أهل الأهواء يتلازمان في طريق أو يتصاحبان إلى غاية ، وقد عد
الله سبحانه لهم في كلامه سبلا شتى كقوله : « وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ » : ( الأنعام : ٥٥ ) وقوله : « وَلا تَتَّبِعْ
سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ » : ( الأعراف : ١٤٢ ) وقوله : « وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ » : ( يونس : ٨٩ ) وقوله في المشركين : « إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما
تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى » : ( النجم : ٢٣ ) وأنت إن تتبعت آيات الهدى والضلال
والاتباع والإطاعة وجدت في هذا المعنى شيئا كثيرا.
وبالجملة
التقوى الديني لا يحصل بالتفرق والاختلاف ، والورود في أي مشرعة شرعت ، والسلوك من
أي واد لاح لسالكه بل بالتزام الصراط المستقيم الذي لا تخلف فيه ولا اختلاف فذلك
هو الذي يرجى معه التلبس بلباس التقوى ، ولذلك عقب الله سبحانه قوله : « وَلا تَتَّبِعُوا
السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ » بقوله : « ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ ».
وقال في روح
المعاني : وختمت الآية الأولى بقوله سبحانه : « لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ » وهذه ـ يعني الثانية ـ بقوله : « لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ » لأن القوم كانوا مستمرين على الشرك وقتل الأولاد وقربان الزنا وقتل النفس
المحرمة بغير حق غير مستنكفين ولا عاقلين قبحها فنهاهم لعلهم يعقلون قبحها
فيستنكفوا عنها ويتركوها ، وأما حفظ أموال اليتامى عليهم وإيفاء الكيل والعدل في
القول والوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه ويفتخرون بالاتصاف به فأمرهم الله تعالى بذلك
لعلهم يذكرون إن عرض لهم نسيان ، قاله القطب الرازي. انتهى.
وأنت خبير بأن
الذي ذكره من اتصافهم بحفظ أموال اليتامى وإيفاء الكيل والعدل في القول لا يوافق
ما ضبط التاريخ من خصال عرب الجاهلية ، على أن الذي فسر به التذكر إنما هو معنى
الذكر دون التذكر في عرف القرآن.
ثم قال : وقال
الإمام ـ يعني الرازي ـ في التفسير الكبير : ، السبب في ختم كل آية
بما ختمت أن التكاليف الخمسة المذكورة في الآية الأولى ظاهرة جلية فوجب
تعقلها وتفهمها والتكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية ـ يعني الثانية ـ أمور
خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد والفكر الكثير حتى يقف على موضوع الاعتدال وهو
التذكر. انتهى.
وما ذكره من
الوجه قريب المأخذ مما قدمناه غير أن الأمور الأربعة المذكورة في الآية الثانية
مما يناله الإنسان بأدنى تأمل ، وليست بذلك الخفاء والغموض الذي وصفه ، ولذا التجأ
إلى إرجاع التذكر إلى الوقوف على حد الاعتدال فيها دون أصلها فأفسد بذلك معنى
الآية فإن مقتضى السياق رجوع رجاء التذكر إلى أصل ما وصى به فيها ، والذي يحتاج
منها بحسب الطبع إلى الوقوف حد اعتداله هما الأمران الأولان أعني قربان مال اليتيم
وإيفاء الكيل والوزن ، وقد تدورك أمرهما بقوله : « لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها » فافهم ذلك.
ثم قال في
الآية الثالثة : قال أبو حيان : ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف وأمر
سبحانه باتباعه ونهى عن اتباع غيره من الطرق ختم ذلك بالتقوى التي هي اتقاء النار
إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية ، وحصل على السعادة السرمدية انتهى.
وهو مبني على
جعل الأمر باتباع الصراط المستقيم في الآية مما تعلق به القصد بالأصالة وقد تقدم
أن مقتضى السياق كونه مقدمة للنهي عن التفرق باتباع السبل الأخرى. وتوطئة لقوله :
« وَلا
تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ».
قوله
تعالى : « ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى
الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ » إلى آخر الآية ، لما كان ما ذكره ووصى به من كليات
الشرائع تكاليف مشرعة عامة لجميع ما أوتي الأنبياء من الدين ، وهي أمور كلية مجملة
صحح ذلك الالتفات إلى بيان أنه تعالى بعد ما شرعها للجميع إجمالا فصلها حيث اقتضت
تفصيلها لموسى عليهالسلام أولا فيما أنزل عليه من الكتاب ، وللنبي صلىاللهعليهوآله ثانيا فيما أنزله عليه من كتاب مبارك فقال تعالى : « ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى
الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ » إلخ.
فمعنى الآية :
أنا بعد ما شرعنا من إجمال الشرائع الدينية آتينا موسى الكتاب تماما تتم به نقيصة
من أحسن منهم من حيث الشرع الإجمالي وتفصيلا يفصل به كل شيء من فروع هذه الشرائع
الإجمالية مما يحتاج إليه بنو إسرائيل وهدى ورحمة لعلهم
بلقاء ربهم يؤمنون. هذا هو الذي يعطيه سياق الآية المتصل بسياق الآيات
الثلاث السابقة.
فقوله : « ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى
الْكِتابَ » رجوع إلى السياق السابق الذي قبل قوله : « قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ
عَلَيْكُمْ » الآيات ، وهو خطاب الله لنبيه صلىاللهعليهوآله بصيغة المتكلم مع الغير ، وقد أفيد بالتأخير المستفاد
من لفظة « ثُمَ » أن هذا الكتاب إنما أنزل ليكون تماما وتفصيلا للإجمال
الذي في تلك الشرائع العامة الكلية.
وقد وجه
المفسرون قوله : « ثُمَّ
آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ » بوجوه غريبة :
منها : أن في
الكلام حذفا والتقدير : ثم قل يا محمد آتينا موسى الكتاب.
ومنها : أن
التقدير : ثم أخبركم أن موسى أعطي الكتاب.
ومنها : أن
التقدير : ثم أتل عليكم : آتينا موسى الكتاب.
ومنها : أنه
متصل بقوله في قصة إبراهيم : «
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ » والنظم :
« ووهبنا له
إسحاق ويعقوب ثم آتينا موسى الكتاب ».
والذي دعاهم
إلى هذه التكلفات أن التوراة قبل القرآن ولفظة « ثُمَ » تقتضي التراخي ولازمه نزول التوراة بعد القرآن وقد قيل
قبل ذلك : « قُلْ
تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ». وما تقدم من البيان يكفيك مئونة هذه الوجوه.
وقوله : « تَماماً عَلَى
الَّذِي أَحْسَنَ » يبين أن إنزال الكتاب لتتم به نقيصة الذين أحسنوا من بني إسرائيل في
العمل بهذه الشرائع الكلية العامة ، وقد قال تعالى في قصة موسى بعد نزول الكتاب :
«
وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً
لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها » : ( الأعراف : ١٤٥ ) وقال : « وَادْخُلُوا الْبابَ
سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ
الْمُحْسِنِينَ » : ( البقرة : ٥٨ ) وعلى هذا فالموصول في قوله : « عَلَى الَّذِي
أَحْسَنَ » يفيد الجنس.
وقد ذكروا في
معنى الجملة وجوها أخرى فقيل : المعنى : تماما على إحسان موسى بالنبوة والكرامة ،
وقيل : المعنى : إتماما للنعمة على الذين أحسنوا من المؤمنين ، وقيل : المعنى :
إتماما للنعمة على الأنبياء الذين أحسنوا ، وقيل : المعنى : تماما لكرامته في
الجنة على إحسانه في الدنيا ، وقيل : المعنى تماما على الذي أحسن الله إلى موسى من
الكرامة
بالنبوة وغيرها ، وقيل : إنه متصل بقصة إبراهيم والمعنى : تماما للنعمة على
إبراهيم. وضعف الجميع ظاهر.
وقوله : « وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ
شَيْءٍ » أي مما يحتاج
إليه بنو إسرائيل أو ينتفع به غيرهم ممن بعدهم ، وهدى يهتدي به ورحمة ينعمون بها.
وقوله : «
لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ » فيه إشارة إلى أن بني إسرائيل كانوا يتثاقلون أو
يستنكفون عن الإيمان بلقاء الله واليوم الآخر ، ومما يؤيده أن التوراة الحاضرة
التي يذكر القرآن أنها محرفة لا يوجد فيها ذكر من البعث يوم القيامة ، وقد ذكر بعض
المورخين منهم أن شعب إسرائيل ما كانت تعتقد المعاد.
قوله
تعالى : « وَهذا كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ » إلى آخر الآية ، أي وهذا كتاب مبارك يشارك كتاب موسى فيما ذكرناه من الخصيصة
فاتبعوه « إلخ ».
قوله
تعالى : « أَنْ تَقُولُوا
إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا » إلخ ، « أَنْ تَقُولُوا » معناه كراهة أن تقولوا ، أو لئلا تقولوا ، وهو شائع في
الكلام ، وهو متعلق بقوله في الآية السابقة : « أَنْزَلْناهُ ».
وقوله : « طائِفَتَيْنِ مِنْ
قَبْلِنا » يراد به
اليهود والنصارى أنزل عليهما التوراة والإنجيل ، وأما كتب الأنبياء النازلة قبلهما
مما يذكره القرآن مثل كتاب نوح وكتاب إبراهيم عليهالسلام فلم يكن فيها تفصيل الشرائع وإن اشتملت على أصلها ،
وأما سائر ما ينسب إلى الأنبياء عليهمالسلام من الكتب كزبور داود عليهالسلام وغيره فلم تكن فيها شرائع ولا لهم بها عهد.
والمعنى أنا
أنزلنا القرآن كراهة أن تقولوا : إن الكتاب الإلهي المفصل لشرائعه إنما أنزل على
طائفتين من قبلنا هم اليهود والنصارى وإنا كنا غافلين عن دراستهم وتلاوتهم ، ولا
بأس علينا مع الغفلة.
قوله تعالى : « أَوْ تَقُولُوا لَوْ
أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ » إلى آخر الآية أي من الذين أنزل إليهم الكتاب قبلنا ،
وقوله : « فَقَدْ
جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ » تفريع لقوليه : « أَنْ تَقُولُوا » «
أَوْ تَقُولُوا » جميعا ، وقد بدل الكتاب من البينة ليدل به على ظهور حجته ووضوح دلالته
بحيث لا يبقى عذر لمعتذر ولا علة لمتعلل ، والصدف
الإعراض ومعنى الآية ظاهر.
(
بحث روائي )
في تفسير
العياشي ، عن أبي بصير قال : كنت جالسا عند أبي جعفر عليهالسلام ـ وهو متك على فراشه إذ قرأ الآيات المحكمات ـ التي لم
ينسخهن شيء من الأنعام قال : شيعها سبعون ألف ملك : « قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ
عَلَيْكُمْ ـ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ».
وفي الدر
المنثور ، أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه
عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم تلاه؟ « قُلْ تَعالَوْا
أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ » إلى ثلاث آيات.
ثم قال : فمن
وفى بهن فأجره على الله ، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله في الدنيا ـ كانت
عقوبته ، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله ـ إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه.
أقول
: والرواية لا
تخلو عن شيء فإن فيما ذكر في الآيات الشرك بالله ولا تكفي فيه عقوبة الدنيا ولا
تناله مغفرة في الآخرة بنص القرآن ، قال تعالى : « إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ » : ( النساء : ٤٨ ) وقال : « إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ
وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ
الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ » ( البقرة : ١٦٢ ).
على أن ظاهر
الرواية كون هذه الأحكام مما يختص بهذه الشريعة كما يشعر به ما نقل عن بعض الصحابة
والتابعين كالذي رواه في الدر المنثور ، عن جمع عن ابن مسعود قال" : من سره
أن ينظر إلى وصية محمد التي عليها خاتمه ـ فليقرأ هؤلاء الآيات : ( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ
عَلَيْكُمْ ) ـ إلى قوله ( ـ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ ) ، ونظيره ما روي عن منذر الثوري عن الربيع بن خيثم.
وفي تفسير
العياشي ، عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه عن علي بن الحسين عليهالسلام : ( الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ
مِنْها وَما بَطَنَ ) قال : ما ظهر من نكاح امرأة الأب وما بطن منها الزنا.
أقول
: وهو من قبيل
ذكر بعض المصاديق.
وفي الدر
المنثور ، أخرج أحمد وعبد بن حميد والنسائي والبزاز وابن المنذر وابن أبي حاتم
وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : خط رسول الله صلىاللهعليهوآله خطا بيده ثم قال : هذا سبيل الله مستقيما ، ثم خط خطوطا
عن يمين ذلك الخط وعن شماله ـ ثم قال : وهذه السبل ليس منها سبيل ـ إلا عليه شيطان
يدعو إليه ، ثم قرأ : ( وَأَنَّ هذا صِراطِي
مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ـ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ
سَبِيلِهِ ).
وفيه ، أخرج
أحمد وابن ماجة وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : كنا جلوسا
عند النبي صلىاللهعليهوآله فخط خطا هكذا أمامه ـ فقال : هذا سبيل الله ، وخطين عن
يمينه وخطين عن شماله ـ فقال : هذا سبيل الشيطان ـ ثم وضع يده في الخط الأوسط وقرأ
: « وَأَنَّ
هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ » الآية.
وفي تفسير
القمي : ، أخبرنا الحسن بن علي عن أبيه عن الحسين بن سعيد عن محمد بن سنان عن أبي
خالد القماط عن أبي بصير عن أبي جعفر عليهالسلام : في قوله : « هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ـ وَلا
تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ » قال نحن السبيل فمن أبى فهذه السبل فقد كفر.
أقول
: وهو من الجري
، والذي ذكره عليهالسلام مستفاد من قوله تعالى : « قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا
الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى » : ( الشورى : ٢٣ ). إذا انضم إلى قوله : « قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ
إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً » : ( الفرقان : ٥٧ ).
وقد وردت عدة
روايات من طرق الشيعة وأهل السنة أن عليا هو الصراط المستقيم ، وقد تقدمت الإشارة
إليها في تفسير سورة الفاتحة في الجزء الأول من الكتاب.
هَلْ
يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ
يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ
نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها
خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا
مُنْتَظِرُونَ
(١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي
شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا
يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ
بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠).
(
بيان )
الآيات متصلة
بما قبلها وهي تتضمن تهديد من استنكف من المشركين عن الصراط المستقيم وتفرق شيعا ،
وتبرئة النبي صلىاللهعليهوآله من المفرقين دينهم ، ووعدا حسنا لمن جاء بالحسنة
وإنجازا للجزاء.
قوله
تعالى : « هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ
بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ » استفهام إنكاري في مقام لا تنفع فيه عظة ولا تنجح فيه دعوة فالأمور
المذكورة في الآية لا محالة أمور لا تصحب إلا القضاء بينهم بالقسط والحكم الفصل
بإذهابهم وتطهير الأرض من رجسهم.
ولازم هذا
السياق أن يكون المراد بإتيان الملائكة نزولهم بآية العذاب كما يدل عليه قوله
تعالى : « وَقالُوا
يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ، لَوْ ما
تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ، ما نُنَزِّلُ
الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ » ( الحجر : ٨ ).
ويكون المراد
بإتيان الرب هو يوم اللقاء وهو الانكشاف التام لآية التوحيد بحيث لا يبقى عليه ستر
كما هو شأن يوم القيامة المختص بانكشاف الغطاء ، والمصحح لإطلاق الإتيان على ذلك
هو الظهور بعد الخفاء والحضور بعد الغيبة جل شأنه عن الاتصاف بصفات الأجسام.
وربما يقال :
إن المراد إتيان أمر الرب وقد مر نظيره في قوله تعالى : « هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ » : ( البقرة : ٢١٠ ) في الجزء الثاني من الكتاب.
ويكون المراد
بإتيان بعض آيات الرب إتيان آية تلازم تبدل نشأة الحياة عليهم
بحيث لا سبيل إلى العود إلى فسحة الاختيار كآية الموت التي تبدل نشأة العمل
نشأة الجزاء البرزخي أو تلازم استقرار ملكة الكفر والجحود في نفوسهم استقرارا لا
يمكنهم معه الإذعان بالتوحيد والإقبال بقلوبهم إلى الحق إلا ما كان بلسانهم خوفا
من شمول السخط والعذاب كما ربما دل عليه قوله تعالى : « وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ
أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا
بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ » : ( النمل : ٨٢ ).
وكذا قوله
تعالى : «
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، قُلْ يَوْمَ
الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ » : ( السجدة : ٢٩ ) فإن الظاهر أن المراد بالفتح هو
الفتح للنبي صلىاللهعليهوآله بالقضاء بينه وبين أمته بالقسط كما حكاه الله تعالى عن
شعيب عليهالسلام في قوله : « رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا
بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ » : ( الأعراف : ٨٩ ) وحكاه عن رسله في قوله : « وَاسْتَفْتَحُوا
وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ » : ( إبراهيم : ١٥ ).
أو تلازم بأسا
من الله تعالى لا مرد له ولا محيص عنه فيضطرهم الله الإيمان ليتقوا به أليم العذاب
لكن لا ينفعهم ذلك فلا ينفع من الإيمان إلا ما كان عن اختيار كما يدل عليه قوله
تعالى : « فَلَمَّا
رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ
مُشْرِكِينَ ، فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا
سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ » : ( المؤمن : ٨٥ ).
فهذه أعني
إتيان الملائكة أو إتيان الرب أو إتيان بعض آياته أمور تصاحب القضاء بينهم بالقسط
وهم لكونهم لا تؤثر فيهم حجة ولا تنفعهم موعظة لا ينظرون إلا ذلك وإن ذهلوا عنه فإن
الواقع أمامهم علموا أو جهلوا.
وربما قيل : إن
الاستفهام للتهكم ، فإنهم كانوا يقترحون على النبي صلىاللهعليهوآله أن ينزل عليهم الملائكة أو يروا ربهم أو يأتيهم بآية
كما أرسل الأولون فكأنه قيل : هؤلاء لا يريدون حجة وإنما ينتظرون ما اقترحوه من
الأمور.
وهذا الوجه غير
بعيد بالنسبة إلى صدر الآية لكن ذيلها أعني قوله : « يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ » إلخ ، لا يلائمه تلك الملاءمة فإن التهكم لا يتعدى فيه
إلى بيان الحقائق وتفصيل الآثار.
قوله
تعالى : « يَوْمَ يَأْتِي
بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ » إلى آخر الآية ، يشرح خاصة يوم ظهور
هذه الآيات ، وهي في الحقيقة خاصة نفس الآيات وهي أن الإيمان لا ينفع نفسا
لم تؤمن قبل ذلك اليوم إيمان طوع واختيار أو آمنت قبله ولم تكن كسبت في إيمانها
خيرا ولم تعمل صالحا بل انهمكت في السيئات والمعاصي إذ لا توبة لمثل هذا الإنسان ،
قال تعالى : «
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ » : ( النساء : ١٨ ) فالنفس التي لم تؤمن من قبل إيمان
طوع ورضى أو آمنت بالله وكذبت بآيات الله ولم تعتن بشيء من شرائع الله واسترسلت في
المعاصي الموبقة ولم تكتسب شيئا من صالح العمل فيما كان عليها ذلك ثم شاهدت البأس
الإلهي فحملها الاضطرار إلى الإيمان لترد به بأس الله تعالى لم ينفعها ذلك ، ولم
يرد عنها بأسا ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين.
وفي الآية من
بديع النظم ولطيف السياق أنه كرر فيها لفظ « رَبُّكَ » ثلاث مرات وليس إلا لتأييد النبي صلىاللهعليهوآله تجاه خصمه وهم المشركون حيث كانوا يفتخرون بأربابهم
ويباهون بأوثانهم ليعتز بربه ويثبت به قلبه ويربط جأشه في دعوته إن نجحت وإلا
فبالقضاء الفصل الذي يقضي به ربه بينه وبين خصمه ثم أكد ذلك وزاد في طمأنة نفسه
بقوله في ختام الآية : «
قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ » أي فانتظر أنت ما هم منتظرون ، وأخبرهم أنك في انتظاره
، ومرهم أن ينتظروه فهو الفصل وليس بالهزل.
ومن هنا يظهر
أن الآية تتضمن تهديدا جديا لا تخويفا صوريا وبه يظهر فساد ما ذكره بعضهم في دفع
قول القائل : إن الاستفهام في الآية للتهكم فقال : إن هذه الآيات الثلاث هي ما
ينتظرونه كغيرهم في نفس الأمر فلا يصح أن يراد بهذا البعض شيء مما اقترحوه لأن
إيتاء الآيات المقترحة على الرسل يقتضي في سنة الله هلاك الأمة بعذاب الاستئصال
إذا لم تؤمن به ، والله لا يهلك أمة نبي الرحمة. انتهى.
وفيه : أن
دلالة الآيات القرآنية على أن هذه الأمة سيشملهم القضاء بينهم بالقسط والحكم الفصل
مما لا سترة عليها كقوله : « وَلِكُلِّ
أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ ، وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، قُلْ
لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ
أَجَلٌ ـ إلى أن قال ـ
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ
أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ » إلى آخر الآية : ( يونس : ٤٧ ـ ٥٣ ).
وقد استدل
بالآية على أن الإيمان لا أثر له إذا لم يقترن بالعمل وهو حق في الجملة
لا مطلقا فإن الآية في مقام بيان أن من كان في وسعه أن يؤمن بالله فلم يؤمن
أو في وسعه أن يؤمن ويعمل صالحا فآمن ولم يعمل صالحا حتى لحقه البأس الإلهي الشديد
الذي يضطره إلى ذلك فإنه لا ينتفع بإيمانه ، وأما من آمن طوعا فأدركه الموت ولم
يمهله الأجل حتى يعمل صالحا ويكسب في إيمانه خيرا فإن الآية غير متعرضة لبيان حاله
بل الآية لا تخلو عن إشعار أو دلالة على أن النافع إنما هو الإيمان إذا كان عن طوع
ولم يحط به الخطيئة ولم تفسده السيئة.
وفي
قوله : « لا يَنْفَعُ نَفْساً
إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ » الفصل بين الموصوف والوصف بفاعل الفعل وهو إيمانها
وكأنه للاحتراز عن الفصل الطويل بين الفعل وفاعله ، واجتماع « فِي إِيمانِها » و «
إِيمانُها » في اللفظ.
قوله
تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ » إلخ ، وجه الكلام السابق وإن كان مع المشركين وقد
ابتلوا بتفريق الدين الحنيف ، وكان أيضا لأهل الكتاب نصيب من الكلام وربما لوح
إليهم بعض التلويح ولازم ذلك أن ينطبق قوله : « الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا
شِيَعاً » على المشركين
بل عليهم وعلى اليهود والنصارى لاشتراك الجميع في التفرق والاختلاف في الدين
الإلهي.
لكن اتصال
الكلام بالآيات المبينة للشرائع العامة الإلهية التي تبتدئ بالنهي عن الشرك وتنتهي
إلى النهي عن التفرق عن سبيل الله يستدعي أن يكون قوله : « الَّذِينَ فَرَّقُوا
دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً » موضوعا لبيان حال النبي صلىاللهعليهوآله مع من كان هذا وصفه فالإتيان بصيغة الماضي في قوله : « فَرَّقُوا دِينَهُمْ » لبيان أصل التحقق سواء كان في الماضي أو الحال أو
المستقبل لا تحقق الفعل في الزمان الماضي فحسب.
ومن المعلوم أن
تمييز النبي صلىاللهعليهوآله وإخراجه من أولئك المختلفين في الدين المتفرقين شيعة
شيعة كل شيعة يتبع إماما يقودهم ليس إلا لأنه رسول يدعو إلى كلمة الحق ودين
التوحيد ، ومثال كامل يمثل بوجوده الإسلام ويدعو بعمله إليه فيعود معنى قوله : « لَسْتَ مِنْهُمْ فِي
شَيْءٍ » إلى أنهم
ليسوا على دينك الذي تدعو إليه ، ولا على مستوى طريقك الذي تسلكه.
فمعنى الآية أن
الذين فرقوا دينهم بالاختلافات التي هي لا محالة ناشئة عن العلم
ـ وما اختلف الذين أوتوه إلا بغيا بينهم ـ والانشعابات المذهبية ليسوا على
طريقتك التي بنيت على وحدة الكلمة ونفي الفرقة إنما أمرهم في هذا التفريق إلى ربهم
لا يماسك منهم شيء فينبئهم يوم القيامة بما كانوا يفعلون ويكشف لهم حقيقة أعمالهم
التي هم رهناؤها.
وقد تبين بما
مر أن لا وجه لتخصيص الآية بتبرئته صلىاللهعليهوآله من المشركين أو منهم ومن اليهود والنصارى ، أو من
المختلفين بالمذاهب والبدع من هذه الأمة فالآية عامة تعم الجميع.
قوله تعالى : « مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى
إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ » الآية تامة في نفسها تكشف عن منة إلهية يمتن بها على
عباده أنه يجازي الحسنة بعشر أمثالها ، ولا يجازي السيئة إلا بمثلها أي يحسب
الحسنة عشرة والسيئة واحدة ولا يظلم في الإيفاء فلا ينقص من تلك ولا يزيد في هذه ،
إن أمكن أن يزيد في جزاء الحسنة فيزيد على العشر كما يدل عليه قوله : « مَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ
سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ » : ( البقرة : ٢٦١ ) وأمكن أن يعفو عن السيئة فلا يحسب
حق المثل الواحد.
لكنها أعني
الآية باتصالها بما تقدمها وانتظامها معها في سياق واحد تفيد معنى آخر كأنه قيل
بعد سرد الكلام في الآيات السابقة في الاتفاق والاجتماع على الحق والتفرق فيه :
فهاتان خصلتان حسنة وسيئة يجزى فيهما ما يماثلهما ولا ظلم فإن الجزاء يماثل العمل
فمن جاء بالحسنة فله مثلها ويضاعف له ومن جاء بالسيئة وهي الاختلاف المنهي عنه فلا
يجزى إلا سيئة مثلها ولا يطمعن في الجزاء الحسن ، وعاد المعنى إلى نظير ما استفيد
من قوله : « وَجَزاءُ
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها » : ( الشورى : ٤٠ ) أن المراد به بيان مماثلة جزاء
السيئة لها في كونها سيئة لا يرغب فيها لا إثبات الوحدة ونفي المضاعفة.
(
بحث روائي )
في تفسير
العياشي ، عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهالسلام : في قوله : « يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا
يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها » قال : طلوع الشمس من المغرب وخروج الدابة والدخان ، والرجل يكون مصرا ولم
يعمل عمل الإيمان ـ ثم تجيء الآيات فلا ينفعه إيمانه.
أقول
: وقوله : الرجل
يكون مصرا « إلخ » تفسير لقوله : «
أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً » على ما قدمناه ويدل عليه الرواية الآتية.
وفيه ، عن أبي
بصير عن أحدهما عليهماالسلام : في قوله : « أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً » قال : المؤمن العاصي حالت بينه وبين إيمانه ـ كثرة
ذنوبه وقلة حسناته ـ فلم يكسب في إيمانه خيرا.
وفي تفسير
القمي ، حدثني أبي عن صفوان عن ابن مسكان عن أبي جعفر عليهالسلام : في قوله : « يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ » الآية ـ قال : إذا طلعت الشمس من مغربها ـ فكل من آمن
في ذلك اليوم لا ينفعه إيمانه.
وفي الدر
المنثور ، أخرج أحمد وعبد بن حميد في مسنده والترمذي وأبو يعلى وابن أبي حاتم وأبو
الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلىاللهعليهوآله : في قوله : « يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ » قال : طلوع الشمس من مغربها.
أقول
: والظاهر أن
الرواية من قبيل الجري وكذا ما تقدم من الروايات ويمكن أن يكون من التفسير ، وكيف
كان فهو يوم تظهر فيه البطشة الإلهية التي تلجئ الناس إلى الإيمان ولا ينفعهم. وقد
ورد طلوع الشمس من مغربها في أحاديث كثيرة جدا من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهالسلام ومن طرق أهل السنة عن جمع من الصحابة كأبي سعيد الخدري
وابن مسعود وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وحذيفة وأبي ذر وعبد الله بن عباس وعبد
الله بن أبي أوفى وصفوان بن عسال وأنس وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية وأبي أمامة
وعائشة وغيرهم وإن اختلفت في مضامينها اختلافا فاحشا.
والأنظار
العلمية اليوم لا تمنع تبدل الحركة الأرضية على خلاف ما هي عليه اليوم من الحركة
الشرقية أو تبدل القطبين بصيرورة الشمالي جنوبيا وبالعكس إما تدريجا كما يبينه
الأرصاد الفلكية أو دفعة لحادثة جوية كلية هذا كله إن لم يكن الكلمة رمزا أشير بها
إلى سر من أسرار الحقائق.
وقد عدت في
الروايات من تلك الآيات خروج دابة الأرض والدخان وخروج يأجوج ومأجوج وهذه أمور
ينطق بها القرآن الكريم ، وعد منها غير ذلك كخروج المهدي عليهالسلام ونزول عيسى بن مريم وخروج الدجال وغيرها ، وهي وإن كانت
من حوادث
آخر الزمان لكن كونها مما يغلق بها باب التوبة غير واضح.
وفي البرهان ،
عن البرقي بإسناده عن عبد الله بن سليمان العامري عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : ما زالت الأرض إلا ولله فيها حجة ـ يعرف فيها
الحلال والحرام ، ويدعو إلى سبيل الله ، ولا تنقطع الحجة من الأرض ـ إلا أربعين
يوما قبل يوم القيامة ـ فإذا رفعت الحجة وأغلق باب التوبة ـ لم ينفع نفسا إيمانها
ـ لم تكن آمنت من قبل أن ترفع الحجة ، وأولئك من شرار خلق الله ، وهم الذين تقوم
عليهم القيامة.
أقول
: ورواه أبو
جعفر محمد بن جرير الطبري في كتاب مناقب فاطمة بسند آخر عن أبي عبد الله (ع).
وفي تفسير
القمي ، عن أبيه عن النضر عن الحلبي عن معلى بن خنيس عن أبي عبد الله عليهالسلام : في قول الله : « إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا
شِيَعاً » قال : فارق
القوم والله دينهم.
أقول
: أي باختلاف
المذاهب ، وقد مر حديث اختلاف الأمة ثلاثا وسبعين فرقة.
وفي تفسير
العياشي ، عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام : في الآية قال : كان علي عليهالسلام يقرؤها : فارقوا دينهم.
أقول
: والقراءة
مروية عنه عليهالسلام من بعض طرق أهل السنة أيضا على ما في الدر المنثور ،
وغيره.
وفي البرهان ،
عن البرقي عن أبيه عن النضر عن يحيى الحلبي عن ابن مسكان عن زرارة قال : سئل أبو
عبد الله عليهالسلام وأنا جالس ـ عن قول الله تبارك وتعالى : « مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها » يجري لهؤلاء ممن لا يعرف منهم هذا الأمر؟ فقال : إنما
هي للمؤمنين خاصة. قلت له : أصلحك الله أرأيت من صام وصلى ـ واجتنب المحارم وحسن
ورعه ممن لا يعرف ولا ينصب؟ فقال : إن الله يدخل أولئك الجنة برحمته.
أقول
: والرواية تدل
على أن الأجر بقدر المعرفة ، وفي هذا المعنى روايات واردة من طرق الفريقين.
وهناك روايات
كثيرة في معنى قوله : «
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها » الآية رواها الفريقان وأوردوها في تفسير الآية غير
أنها واردة في تشخيص المصاديق من الصوم
والصلاة وغيرها ، تركنا إيرادها لذلك.
قُلْ
إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي
وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ
وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ
أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ
عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ
لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ
لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)
(
بيان )
الآيات ختام
السورة وهي تحتوي على خلاصة الغرض من دعوته صلىاللهعليهوآله في السورة وأنه متلبس بالعمل بما يدعو إليه ، وفيها
خلاصة الحجج التي أقيمت فيها لإبطال عقيدة الشرك.
قوله
تعالى : « قُلْ إِنَّنِي
هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » إلى آخر الآيتين. القيم بالكسر فالفتح مخفف القيام وصف به الدين للمبالغة في
قيامه على مصالح العباد ، وقيل : وصف بمعنى القيم على الأمر.
يأمر الله
سبحانه أن يخبرهم بأن ربه الذي يدعو إليه هداه بهداية إلهية إلى صراط مستقيم وسبيل
واضح قيم على سالكيه لا تخلف فيه ولا اختلاف دينا قائما على مصالح الدنيا والآخرة
أحسن القيام ـ لكونه مبنيا على الفطرة ـ ملة إبراهيم حنيفا مائلا عن
التطرف بالشرك إلى اعتدال التوحيد وما كان من المشركين ، وقد تقدم توضيح
هذه المعاني في تفسير الآيات السابقة من السورة.
قوله
تعالى : « قُلْ إِنَّ صَلاتِي
وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ ـ إلى قوله ـ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ » النسك مطلق العبادة ، وكثر استعماله في الذبح أو الذبيحة
تقربا إلى الله سبحانه.
أمره صلىاللهعليهوآله ثانيا أن يخبرهم بأنه عامل بما هداه الله إليه متلبس به
كما أنه مأمور بذلك ليكون أبعد من التهمة عندهم وأقرب إلى تلقيهم بالقبول فإن من
أمارة الصدق أن يعمل الإنسان بما يندب إليه ، ويطابق فعله قوله.
فقال : قل :
إنني جعلت صلاتي ومطلق عبادتي ـ واختصت الصلاة بالذكر استقلالا لمزيد العناية بها
منه تعالى ـ ومحياي بجميع ما له من الشئون الراجعة إلي من أعمال وأوصاف وأفعال
وتروك ، ومماتي بجميع ما يعود إلي من أموره وهي الجهات التي ترجع منه إلى الحياة ـ
كما قال : كما تعيشون تموتون ـ جعلتها كلها لله رب العالمين من غير أن أشرك به
فيها أحدا فأنا عبد في جميع شئوني في حياتي ومماتي لله وحده وجهت وجهي إليه لا
أقصد شيئا ولا أتركه إلا له ولا أسير في مسير حياتي ولا أرد مماتي إلا له فإنه رب
العالمين ، يملك الكل ويدبر أمرهم.
وقد أمرت بهذا
النحو من العبودية ، وأنا أول المسلمين لله فيما أراده من العبودية التامة في كل
باب وجهة.
ومن هنا يظهر
أن المراد بقوله : «
إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ » إظهار الإخلاص العبودي أو إنشاؤه فيما يرجع إليه من
شئون العبادة والحياة والموت دون الإخبار عن الإخلاص في العبادة والاعتقاد بأن
مالك الموت والحياة هو الله تعالى ، والدليل على ما ذكرنا قوله : « وَبِذلِكَ أُمِرْتُ » فظاهر أنه أمر بجعل الجميع لله سبحانه بمعنى واحد لا
بجعل الأولين له إخلاصا وتسليما والاعتقاد بأن الأخيرين له إلا بتكلف.
وفي قوله : « وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُسْلِمِينَ » دلالة على أنه صلىاللهعليهوآله أول الناس من حيث درجة الإسلام ومنزله فإن قبله زمانا
غيره من المسلمين ، وقد حكى الله سبحانه ذلك عن نوح إذ قال : « وَأُمِرْتُ أَنْ
أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ » : ( يونس : ٧٢ ) وعن إبراهيم في قوله : « أَسْلَمْتُ لِرَبِّ
الْعالَمِينَ » : ( البقرة : ١٣١ ) وعنه وعن ابنه إسماعيل في قولهما : « رَبَّنا وَاجْعَلْنا
مُسْلِمَيْنِ
لَكَ » : ( البقرة
: ١٢٨ ) وعن لوط في قوله : «
فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ » ( الذاريات : ٣٦ ) وعن ملكة سبإ في قوله : « وَأُوتِينَا
الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ » ( النمل : ٤٢ ) إن كان مرادها الإسلام لله. وقولها : « وَأَسْلَمْتُ مَعَ
سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » ( النمل : ٤٤ ) ولم ينعت بأول المسلمين أحد في القرآن
إلا ما يوجد في هذه الآية من أمره صلىاللهعليهوآله أن يخبر قومه بذلك ، وما في سورة الزمر من قوله : « قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ
أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ
الْمُسْلِمِينَ » : ( الزمر : ١٢ ).
وربما قيل : إن
المراد أول المسلمين من هذه الأمة فإن إبراهيم كان أول المسلمين ومن بعده تابع له
في الإسلام ، وفيه أن التقييد لا دليل عليه ، وأما كون إبراهيم أول المسلمين
فيدفعه ما تقدم من الآيات المنقولة.
وأما قوله
تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل في دعائهما : « وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ » : ( البقرة : ١٢٨ ) وقوله : « مِلَّةَ أَبِيكُمْ
إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ » : ( الحج : ٧٨ ) فلا دلالة فيهما على شيء.
قوله
تعالى : « قُلْ أَغَيْرَ اللهِ
أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ » إلخ ، هذه الآية والتي بعدها تشتملان على حجج ثلاث هي
جوامع الحجج المذكورة في السورة للتوحيد ، وهي الحجة من طريق بدء الخلقة ، والحجة
من طريق عودها ، والحجة من حال الإنسان وهو بينهما وبعبارة أخرى الحجة من نشأة
الحياة الدنيا والنشأة التي قبلها والتي بعدها.
فالحجة من طريق
البدء ما في قوله : «
أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ » ومن المعلوم أنه إذا كان رب كل شيء كان كل شيء مربوبا
له فلا رب غيره على الإطلاق يصلح أن يعبد.
والحجة من طريق
العود ما يشتمل عليه قوله : «
وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها » إلى آخر الآية ، أي أن كل نفس لا تعمل عملا ولا تكسب
شيئا إلا حمل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى حتى يحمل ما اكتسبته نفس على غيرها ثم
المرجع إلى الله وإليه الجزاء بالكشف عن حقائق أعمال العباد ، وإذا كان لا محيص عن
الجزاء وهو المالك ليوم الدين فهو الذي تتعين عبادته لا غيره ممن لا يملك شيئا.
والحجة من طريق
النشأة الدنيا ما في قوله : «
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ » إلخ ، ومحصله أن هذا النظام العجيب الذي يحكم في
معاشكم في الحياة الدنيا وهو مبني على خلافتكم في الأرض واختلاف شئونكم بالكبر
والصغر والقوة والضعف والذكورية والأنوثية والغنى والفقر والرئاسة والمرئوسية
والعلم والجهل وغيرها وإن كان نظاما اعتباريا لكنه ناش من عمل التكوين منته إليه
فالله سبحانه هو ناظمه ، وإنما فعل ذلك لامتحانكم وابتلائكم فهو الرب الذي يدبر
أمر سعادتكم ، ويوصل من أطاعه إلى سعادته المقدرة له ويذر الظالمين فيها جثيا ،
فهو الذي يحق عبادته.
وقد تبين بما
مر أن مجموع الجملتين : «
وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى » سيق لإفادة معنى واحد وهو أن ما كسبته نفس يلزمها ولا
يتعداها ، وهو مفاد قوله : «
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ » : ( المدثر : ٣٨ ).
قوله
تعالى : « وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ » الخلائف جمع خليفة أي يستخلف بعضكم بعضا أو استخلفكم لنفسه في
الأرض وقد مر كلام في معنى هذه الخلافة في تفسير قوله تعالى : « إِنِّي جاعِلٌ فِي
الْأَرْضِ خَلِيفَةً » : ( البقرة : ٣٠ ) في الجزء الأول من الكتاب ، ومعنى الآية ظاهر بما مر
من البيان ، وقد ختمت السورة بالمغفرة والرحمة.
(
بحث روائي )
في الكافي ،
بإسناده عن ابن مسكان عن أبي عبد الله عليهالسلام : في قول الله : « حَنِيفاً مُسْلِماً » قال : خالصا مخلصا ليس فيه شيء من عبادة الأوثان.
أقول
: ورواه في
البرهان ، البرقي بإسناده عن ابن مسكان عنه صلىاللهعليهوآله : وفيه : « خالصا مخلصا لا يشوبه شيء » وهو بيان المراد
لا تفسير بالمعنى.
وفي تفسير
العياشي ، عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : لا يقول : درجة واحدة إن الله يقول : درجات بعضها
فوق بعض ، إنما تفاضل القوم بالأعمال.
أقول : وهو من
نقل الآية بالمعنى فإن الآية هكذا : « وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ
دَرَجاتٍ » وفي موضع آخر « وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ
» : « الزخرف :
٣٢ » والظاهر أن قوله : « بعضها فوق بعض » من كلامه عليهالسلام والحديث إنما ورد في تفسير مثل قوله تعالى : « هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ
اللهِ » لا في تفسير
الآية التي نحن فيها فإيراده في ذيل هذه الآية من سهو الراوي ، وذلك أن قوله عليهالسلام في ذيله : « إنما تفاضل القوم بالأعمال » لا ينطبق على
الآية كما لا يخفى.
تم
والحمد لله
الفهرس
رقم الآية
|
|
نوع البحث
|
الصفحة
|
|
سورة الأنعام
|
|
|
٣٧ ـ ٥٥
|
كلام في المجتمعات
الحيوانية
|
بحث قرآني
|
٧٣
|
٥٦ ـ ٧٣
|
كلام في معنى
الحكم وأنه لله وحده
|
بحث قرآني
|
١١٥
|
٥٦ ـ ٧٣
|
كلام في معنى
حقيقة فعله وحكمه تعالى
|
بحث قرآني
|
١١٨
|
٧٦ ـ ٨٣
|
قصة ابراهيم
عليه السلام وشخصيته في أبحاث
|
بحث قرآني
|
٢١٥
|
٧٦ ـ ٨٣
|
١ ـ قصة
ابراهيم عليه السلام في القرآن.
|
بحث قرآني
|
٢١٥
|
٧٦ ـ ٨٣
|
٢ ـ منزلته
عند الله تعالى وموقفه العبودي.
|
بحث قرآني
|
٢١٧
|
٧٦ ـ ٨٣
|
٣ ـ أثره
المبارك في المجتمع البشري.
|
بحث علمي
|
٢١٩
|
٧٦ ـ ٨٣
|
٤ ـ ما تقصه
التوراة فيه.
|
بحث تاريخي
|
٢١٩
|
٧٦ ـ ٨٣
|
٥ ـ تطبيق ما
في التوراة من قصته من ما في القرآن.
|
بحث علمي
|
٢٢٥
|
٧٦ ـ ٨٣
|
٦ ـ الجواب
عما استشكل على القرآن على أمره
|
بحث علمي
|
٢٣٤
|
٨٤ ـ ٩٠
|
كلام في معنى
الكتاب في القرآن.
|
بحث قرآني
|
٢٥٢
|
٨٤ ـ ٩٠
|
كلام في معنى
الحكم في القرآن.
|
بحث قرآني
|
٢٥٤
|
٨٤ ـ ٩٠
|
في أن
الاسلام يعد أولاد البنات أولاداً وذرية
|
بحث قرآني وروايي
|
٢٦١
|
٩١ ـ ١٠٥
|
كلام في معنى
البركة في القرآن
|
بحث قرآني
|
٢٨٠
|
٩١ ـ ١٠٥
|
كلام في عموم
الخلقة وانبساطها على كل شيء
|
بحث قرآني
|
٢٩٢
|
١٢٢ ـ ١٢٧
|
كلام في معنى
الهداية الالهية
|
بحث قرآني
|
٢٤٦
|
|