





بسم الله الرحمن الرحيم
ألحمد
لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمدٍ وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
وبعد : الكتاب يشتمل
على مقدّمة ودروس وخاتمة.
أمّا المقدّمة :
ففي بيان أمور :
الأمر الأوّل : في الاشارة الاجماليّة إلى موضوع علم
الأخلاق ومسائله والغرض منه.
أمّا الموضوع : فهو الإنسان لا من حيث أنّه شيء واقع تحت عنوان الوجود ، فإنّ البحث عنه من هذه الجهة يقع في علم المعقول ، ولا من حيث جسمه وبدنه وعروض الصّحة والمرض عليه مثلاً ، فإنّ البحث عنه من هذه الجهة ، محلّه علم الطّب ، بل ولا من حيث سائر جهاته الموجودة فيه ، فإنّ الإنسان من حيث أنّه حيوان ناطق ذو إدراك وشعور ، وتفكّر وتعقّل موجود عجيب ومكوّن غريب ، له حيثيّات ذاتيّة
وعرضيّه
مختلفة وأبعاد وجوديّة متكثّرة وقع البحث عن جُلِّها لو لا كلّها في علوم مختلفة وفنون عديدة.
بل الموضوع في علم
الأخلاق المرسوم لدى المتشرّعة هو الإنسان من حيث نفسه وروحه ، وبعبارةٍ أخرى هو نفس الإنسان من حيث اتّصافها بصفات مختلفة ، حسنة أو قبيحة ، وملكات كثيرة ، مذمومة أو ممدوحة ، منها ما هو ذاتيّة موهوبية : ومنها ما هو عرضية إكتسابية.
ومسائله : الأبحاث الواقعة حول تلك الصفات والملكات ، وما يقع من الفحص والتحقيق في تبيين حقائقها وروابطها ، وانشعاب بعضها عن بعضٍ ، وعلل حصولها وطرق تحصيلها ، وكيفيّة زوالها وإزالتها ، وما يقع من الكلام في تمييز فضائلها عن رذائلها ، وحفظ كرائمها التي أودعها الله تعالى في الإنسان أو حصلها بنفسه ، وتحصيل ما لم يكن واجداً له من الفضائل ، وإزالة ما اتّصف به من الرذائل طبعاً أو اكتساباً.
والغرض منه : تكامل الإنسان وتعاليه ، وتمامية مكارم أخلاقه ونيله إلى مراتبه التي خلقه الله تعالى لأجل الوصول إليها ، وتخلّقه بأخلاق الله تعالى ، وتأدّبه بآداب رسله وأوصيائه لكي يتقرّب إلى ربّه ويسعد في الدنيا والآخرة بدنوّه وقربه لأن يبعثه ربّه مقاماً محموداً ويلحقه بالأبرار والمتّقين ، ويكون في الآخرة مع النبيّين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ، فما أجلّ غاية هذا العلم و أعلاها ، وما أثمنها وأغلاها ، ألا وهي نهاية المنى والغاية القصوى ، وليس للانسان وراء ذلك منتهى ، ألا وفي ذلك فليتنافس المتنافسون وليرغب
الراغبون.
ثّم ليعلم أنّه ليس
الغرض : تأليف كتاب في علم الأخلاق على وتيرة ما ألفه فيه علماؤنا الأخيار قدسسره فإنّهم قد اهتمّوا ببيان أصول السجايا والطبائع ، وقسمتها قسمة أولية إلى أقسام أربعة ، ثمّ ذكر الانقسامات الثانوية الطارئة عليها وهكذا ، وبيان كيفية تولد بعضها عن بعض وانشعاب بعضها عن بعض. وقد أقلّ بعض المؤلفين عند ذكر نفس الصفة من إيراد الآيات والنصوص فيها ، أو ذكر فيما أورد ما لم يثبت عندنا صحّته من الأخبار ، لكنّا أعرضنا عن تلك المراحل فذكرنا عند بيان كلّ فضيلة ورذيلة بحثاً إجماليّاً شارحاً لحقيقتها ، ثمّ أوردنا فيه من الكتاب الكريم والسنّة المأثورة عن النبي الأقدس وأهل بيته المعصومين عليهمالسلام مقداراً غير مخلٍّ للغرض لقلّته ، وغير
مملٍّ لكثرته ، واعتمدنا في إيضاح حقيقة الصفة المبحوث عنها وعلل وجودها وآثارها الدنيوية والأخرويّة على ما تستفيده ألباب القارئين وأفكار الباحثين من النصوص الواردة فإنّ في قول الله تعالى وكتابه الناطق وكلام نبيّه الصادق وأهل بيته عليهمالسلام غنىً وكفايةً عن بحث الباحثين وتقريظ الواصفين ولذلك سمّيناه بـ « دروس في الأخلاق » لا تأليفاً في علم الأخلاق. ونشكره تعالى عدد ما يبلغ رضاه على أن عرّفنا نفسه بعرفان ما تيسّر فهمه لعقولنا من صفات جلاله وجماله ، وعلى أن عرّفنا ملائكته القائمين بتدبير أمر العالم من السماء إلى الأرض بإرادته ، وعرّفنا أنبيائه ورسله ، ولا سيّما خاتم رسله ، وألهمنا الاذعان بما اُنزل عليهم من كتبه وشرائعه ، وعلّمنا كتابه المصدّق لما بين يديه من الكتب والمهيمن
عليه
، وعرّفنا أوصياء نبيّه لا سيما خاتمهم وقائمهم والمستور عن عوالمهم ولم يجعل موتنا ميتةً جاهليّةً ، ورزقنا معرفة كلامه وسنّة نبيّه وأحاديث أوصيائه المعصومين ، كلّ ذلك بمقدار ما تيسّر على عقولنا فهمه وعلى ألبابنا دركه ، فإنّه تعالى أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها ، فحمداً له كثيراً على آلائه ، وشكراً له وافراً على نعمائه ، وأنّى لنا بأداء شكره ، والشكر له يحتاج إلى شكر ، وكلّما قلنا : له الحمد وجب أن نقول لذلك : له الحمد.
الأمر
الثّاني :
أنّه تتعسّر أو تتعذّر للانسان معرفة مسائل علم الأخلاق وتميّز محاسن صفات الإنسان عن مساويها بتحصيلها من غير الطرق التي عيّنها خالقه وبارئه ومبدعه ومصوّره ومودع الطبائع والسجايا فيه ، وهي الطرق التي أوحاها إلى أنبيائه عليهمالسلام بإبلاغ دينه وشرائعه ، فقد بيّن فيها ما هو كمال النفوس الانسانّية وما هو جمالها وجلالها ، وما يكون موصلاً لها إليه من الأصول الاعتقاديّة والفروع العملية ، وذلك لأنّه لا يعرف الإنسان كما يليق بذاته واستعداده ، ولا يقدر على تربيته وإيصاله إلى كماله الحريّ بشأنه إلّا أنبيائه وأوصيائه الذين خلقهم الله لرحمته واصطنعهم لنفسه ، واصطفاهم لسفارة خلقه وهداية عباده ، ليكلّموهم بتعليم الأصول والعمل بالفروع حتّى تتمّ لهم مكارم الأخلاق.
وقد علم بذلك أنّ
جميع ما تحويه الشرائع السماويّة من القوانين الدخيلة في تربية الإنسان ترجع إلى أمور ثلاثة : الأصول الاعتقاديّة :
وهي
الأحكام المتعلّقة بالعقائد الباطنيّة ، وموضوعها النفس من حيث عقلها النّظري. والأحكام الفرعيّة والشرائع العمليّة التكليفيّة والوضعيّة ، وموضوعها النفس من حيث عقلها العمليّ. والأحكام الأخلاقية والشرائع النفسيّة. وموضوعها النفس من حيث صفاتها وملكاتها كما عرفت. وهذا القسم ـ مضافاً إلى كونه ملحوظاً بالاستقلال في المراحل التربويّة ـ يكون كالغرض والغاية للقسمين الآخرين أيضاً كما قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « بُعثت لاُتمّم
مكارم الأخلاق »
وهذا هو المبحوث عنه في المقام.
الأمر
الثّالث : أنّه ينبغي أن نقول في توضيح موضوع
البحث : إنّ هنا موجوداً غير هذا الجسم المرئيّ ينسب إليه الشعور والعقل والعزم والارادة ، ويشار إليه بكلمة « أنا » و « أنت » وتسند إليه أمور ليست من عوارض الجسم وصفاته في قول الشخص : علمت وفهمت وأردت وكرهت وأحببت وأبغضت ونحوها. وبتقارن هذا الجوهر للجسم وازدواجه به يتحقّق مصداق لقوله تعالىٰ : (
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ) في الدنيا ، كما يتحقّق مصداق له أيضاً بازدواجه به بعد الحياة في عالم الآخرة. وبهذا التقارن يصير الجسم خلقاً آخر كما يشير إليه قوله تعالى : ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ
خَلْقًا آخَرَ ) أي : بعد تمام الأربعة الأشهر للجنين
في
____________________________
الرحم
نفخنا فيه الروح فصار بذلك خلقاً آخر غير سابقه ، وهو صيرورته إنساناً ، ومن شأن هذا الموجود الحالّ أنّ له تسلّطاً تامّاً على الجسم ، تصدر حركاته بمشيئته وأفعاله بإرادته.
بل الإنسان في
الحقيقة عبارة عن هذا الموجود المقارن الحالّ ، وأمّا المحلّ فهو كقرينه وجليسه ، ومن معدّات بقائه في الدنيا ودوامه. ولذلك قال تعالى : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ
مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) فإنّ المخاطب في الآية الشريفة هو الإنسان بحقيقته ، وهو الذي يتوفّاه الملك ويأخذه إلى ربّه ، والباقي بعده لباس خلعه ورماه وغلاف تركه وألقاه ، ومن هنا يمكن أن يقال : إنّ ما ذكر في الكتاب العزيز من عنوان الإنسان والبشر وبني آدم والناس وكذا أسماء إشاراتهم وضمائر الغيبة والخطاب الراجعة إليهم لا يراد به إلّا هذا الموجود ، ولا ينطبق إلّا عليه ، فيكون ما نسب إلى تلك العناوين من الأعمال والأفعال والصفات ونحوها منسوباً إليه.
وهذا الموجود وإن لم
ينكشف لنا إلى الآن حقيقته وماهيته إلّا أنّه قد أشير في الآيات والنصوص إلى جملة من أبعاده وأطرافه ، وشئونه وأوصافه فترى فيهما تعابير كثيرة ناطقة عن أحواله حاكية عن آثاره : كالروح والقلب والعقل والنفس وغيرها كما مرّ بعضها ويأتي بعضها الآخر.
الأمر
الرابع :
لا بدّ أن نشير في المقام على حسب اقتضائه إلى شيءٍ من الآيات الكريمة ونصوص أهل البيت عليهمالسلام ممّا فيه تبيان لحقيقة النفس
____________________________
والقلب
وبدء تكوّنها وكيفيّة خلقتها وممّا فيه إيضاح لصفاتها وأفعالها وآثارها ، ليكون الباحث الفاحص عن نفسه وملكاتها المريد لإصلاحها وتزكيتها وحيازة سعادتها وإزالة شقاوتها على بصيرةٍ من أمره.
فنقول : قال الله
تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ )
. الآية الشريفة : إمّا مسوقة لبيان خلق جسم الإنسان بدنه كما عليه أكثر المفسّرين فالمعنى : أنّ الله تعالى ابتدأ بخلق نوع الإنسان بإيجاد فردٍ منه أو أفرادٍ ، فخلقه من أجزاء الأرض مخلوطةً بالماء مسمّاةً « بالسلالة » فقوله : (
مِنْ طِينٍ ) بيان لسلالةٍ ، أي : من سلالةٍ هي الطين ، وهذا المخلوق هو : آدم وحوّاء ، أو هما مع عدّة ذكورٍ وإناثٍ ليكونوا أزواجاً لأوّل أولاد آدم وحوّاء ويتولّد سائر الأفراد منهم بالزواج والتناسل ، ويتحقّق معنى قوله : (
ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً ).
وإمّا مسوقة لبيان
خلق روحه التي هي الإنسان حقيقةً ، فالمراد من الإنسان : روحه ، ومن السلالة : جسمه ، وكلمة « من » في الموردين نشويّة ، ومعنى الآية الشريفة : إنّا خلقنا الروح الانسانّية من جسمه وخلقنا جسمه من طين. وعلى هذا فكلمة : « ثمّ » للتراخي في الذكر والاشارة إلى كيفيّة تكوّن الجسم من الطين والوساطة الواقعة بين الطين والجسم الحيّ ، وهذا في المثل نظير الدهن الصافي اللطيف الحاصل من الزيتون واللوز المخلوقين من الأرض بواسطة الشجر. ويشير إلى هذا النحو من خلقة الإنسان ما قد يقال : إنّ الروح جسمانيّة الحدوث وروحانيّة البقاء ، بمعنى : أنّها موجود لطيف تكوّنت من الجسم ، وهي
____________________________
باقية
أبداً شبه المجرّدات ، فالآية الشريفة على هذا المعنى تبيّن معنى الروح والنفس الانسانيّة وتشير إلى مبدء خلقها.
وقال تعالى : ( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ
نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا
كَفُورًا ) .
النطفة في اللغة :
الماء ، أو القليل منه أو الصافي منه ، والمراد هنا : نطفة الرجل والمرأة ، والأمشاج ـ جمع مشج بالفتح فالسكون أو بفتحتين ـ أي المختلط من شيئين أو أشياء ، فمقتضى كلمة الجمع تركّب النطفة من أشياء كثيرة ، والابتلاء : نقل الشيء من حال إلى حالٍ ، أو بمعنى : الامتحان والاختبار. والظاهر أنّ الآية الشريفة في مقام بيان كيفيّة خلق الإنسان ومبدئه ومنتهاه ، والمعنى : أنّ الله خلق الإنسان من مادّةٍ ممتزجة من عناصر كثيرة جدّاً ، لكلٍّ منها إقتضاء وتأثير يدعوا صاحبه للحركة نحوه ، ويقتضي جريه على وفقه ، فتتعارض وتتمانع العناصر في مقام اقتضائها وتجاذبها التكوينيّ ، وحيث أنّه قد أودع الله تعالى في وجوده قوّة عاقلة مائزة بين الخير والشّر يكون جريه على وفق أيّ مقتضٍ وداعٍ بإرادته واختياره فيحصل الابتلاء والامتحان. فقوله : ( نَبْتَلِيهِ )
في مقام التعليل لتركيب الأجزاء المختلطة ، وأنّ المزج لغرض ذلك الابتلاء.
وتفريع قوله : ( فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا )
لبيان أنّ مجرّد وجود تلك القوّة وكونها مستعدّةً للعلم والإدراك غير كافٍ في تحقّق الابتلاء ، بل اللازم اهتداؤها من الخارج نحو ما تحتاج إليه ويصلحها من العلوم
____________________________
والمعارف
، وحيث أنّ أوسع الطرق المجعولة لارتباطها مع الخارج السمع والبصر خصّهما بالذكر.
وفي قوله : ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ )
الخ ، بيان أنّ الله قد هداها إلى خيرها وشرّها بإرائة شواهد الوجود وآيات الآفاق والأنفس ، وإبلاغ دعوة الأنبياء وعرض الكتاب والشريعة. فقد تحصّل من الآية الشريفة : أنّ هنا موجوداً مخلوقاً من موادّ مختلفة ( ولعلّها هي السلالة من الطين ) قد أودع الله فيه صفات وملكات ووهبه قوّةً بها يدرك نفسه ويعرف صفاته وملكاته ، ويجري أينما جرىٰ بإرادته واختياره فهو إمّا شاكر أو كفور. وهذا الموجود هو الجوهر اللطيف الذي كنّا بصدد تعريفه وأخذه موضوعاً للعلم من حيث أوصافه وسجاياه.
وقال تعالى : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا
وَتَقْوَاهَا ) أي : أقسم بالنفس وبمن خلقها وصنعها وأفهمها عصيانها وطاعتها ، فالآية تشير إلى أنّ هنا موجوداً مسمّىً بالنفس صنعه الله تعالى وأنشأه ، ومن شؤونه وأحواله أنّ الخالق أعلمها قبائح الأمور التي تخرجها عن الاستقامة ، وألهمها طريق تحفّظها واتّقائها عن القبائح.
وهذا الإلهام إمّا
بإعطاء العقل المدرك للحُسن والقبح ، أو إرسال الرسل والكتب والشرائع ، أو بكلا الأمرين كما قال تعالىٰ : ( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) أي : الطريقين ، طريق الخير وطريق الشرّ
، فهداه إلى الطريقين بحجّتين.
وقال تعالى : ( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ
بِالسُّوءِ ) . هذا
____________________________
نقل
كلام عن إمرأة العزيز بمصر أو عن يوسف النّبي عليهالسلام وفيه : توصيف النفس وتعريفها بأنّها كثيرة الأمر بالسوء وذلك لأجل اقتضاء طبعها ووجود غرائز مختلفة فيها فتدلّ الآية على أنّ هنا موجوداً متسلّطاً على الإنسان يأمره وينهاه. فالآمر هو النفس باعتبار اقتضاء غرائزها المودعة فيها والمأمور هو النفس أيضاً باعتبار جريها على طبق اقتضاء غرائزها.
وقال تعالى : ( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ
بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ). أقسم الله تعالى بالنفس ووصفها بكثرة اللوم. ولله تعالى أن يقسم بما أراد من خلقه وليس لعباده إلّا أن يقسموا بذاته وصفاته ، ولكنّ أقسامه تعالى بأيّ شيءٍ يكشف عن وجود قداسةٍ وخيرٍ في المقسم به. فيمكن أن يراد بالنفس هنا : المتّقية التي تلوم نفسها أبداً على تقصيرها في طاعة ربّها وإن كانت عاملةً ناصبةً ، أو تلوم غيرها من الناس مخالفة الله تعالى وعصيانهم ، أو يراد بها : النفس المطمئنّة التي تلوم النفوس اللوّامة وغيرها وتهديها إلى كمالها اللائق بها. وعلى هذا فكلمة « لا » زائدة ، يؤتي بها غالباً فيما قبل القسم ، ويمكن أن يراد بها : النفس الخاطئة الفاجرة التي تلوم نفسها في الدنيا على ما لم تنل إليها من الأموال والشهوات ، أو تلومها يوم القيامة على كفرها ونفاقها وعصيانها وطغيانها وأنّى لها الذكرىٰ وعلى هذا فكلمة « لا » نافية لا زائدة.
ثّم إنّ اتّصاف النفس
بصفة اللوّامة لا يكون إلّا بعد أن تهذّب وتربّى بآداب الدين وتزكّى تطهّر بتعاليم الشريعة حتّى تتعوّد على
____________________________
الأعمال
الصالحة ويكون ذلك لها ملكة راسخة. فالصفة مرتبة كمال خاصٍّ تعرضها بالجهاد والرياضة وتحمّل مشاقّ الطاعة والعبادة ، ولها مراتب أخر في رقاها وتكاملها ككونها مطمئنّةً وقدسيّةً وهكذا.
ثمّ إنّ في ذكر النّفس
اللوّامة بعد القسم بيوم القيامة إشارة إلى التشابه بين لوم الإنسان نفسه في الدنيا ومحاسبة الله إيّاها في القيامة ، فإنّ اللوم في الباطن لا يجري فيه إخفاء ذنبٍ وإذهاب حقٍّ وعذر في الأمر وكذب في القضاء ، فهو واقع في باطن اللائم بأعدل طريقٍ بعين الله تعالى وعلمه وإن لم يعلمه أحد ، والمحاسبة في القيامة كذلك ، فتُبلى فيها السرائر ، فلا يتيسّر لأحدٍ العذر والإخفاء والستر ، ونعوذ بالله من سوء الحساب يوم التغابن والتناد ، ومن الفضيحة على رؤوس الأشهاد.
وقال تعالى : ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ
أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا ) . الشاكلة : اسم فاعل من شكل الشيء وشكّله
، إذا قيّده ، يقال : شكلت الدابّة أي : قيّدتها والمراد بها هنا : الطبيعة والسجيّة لأنّها تقّيد الإنسان بالعمل على طبق ميلها والجري على وفق هواها ، وتمنعه عن الانحراف عنه إلى غيره. فمفاد الآية الشريفة : أنّ الأعمال الصادرة من الإنسان مبناها الطبائع والسجايا ، فهي تصدر عن اقتضائها وهواها ودعوته إلى مناها. فإنّ بين الملكات والصفات النّفسية وبين الأعمال الخارجيّة رابطة خاصّة يحكم بها العقل والتجربة ، فإنّ الصادر في الحرب ـ مثلاً ـ من الشجاع مناضلة الأبطال ومن الجبان الفرار عن القتال ، وكلّ يحكي عن ملكةٍ خاصّةٍ. وكذا الفعل الصادر من السّخيّ
____________________________
والصادر
من البخيل والعِشرة الصادرة من المتواضع والصادرة من المتكبّر ونحوها. فالشاكلة هي : النفس الإنسانيّة المتّصفة بصفاتٍ ، وهي التي يصدر منها الفعل بعزمٍ وإرادةٍ. والحامل لها على ذلك اقتضاء تلك الصفات. وينبغي أن يعلم أنّ دعوة الملكات نحو الفعل واقتضاءها له ليست بنحو العلّة التامّة حتّى يستشكل بلزوم الجبر في الأفعال وسقوط الثواب والعقاب ، بل بنحو الاقتضاء والعلّيّة الناقصة مع بقاء الاختيار في صاحب السجيّة وهذا كمن هو جائع أو عطشان وهنا غذاء وماء حرام مع عدم الإضطرار والإلجاء.
الأمر
الخامس :
قد عرفت فيما سبق أنّه قد أطلق على حقيقة الإنسان وجوهر وجوده الذي هو نفسه وروحه أسماء وألقاب في الكتاب الكريم بملاحظة آثار وجوديّة كامنة فيه ، وخواصّ وحالات موجودة فيه : كعنوان النفس والقلب ونحوهما ، والتأمّل في الآيات الكريمة يعطي أنّ إطلاق عنوان القلب عليه في الغالب بلحاظ الحالات والملكات الحاصلة له ، وإطلاق عنوان النفس بلحاظ وقوعه طرفاً للخطاب في التكاليف ولاستناد صدور الأفعال ورجوع نتائج الأعمال إليه. فهذا الموجود في اصطلاح الكتاب العزيز قلب من حيث اتّصافه بمختلف الصفات والملكات ، ونفس من حيث وقوعه مخاطباً بالتكاليف مأموراً بامتثالها ومجزياً بها في دنياه وآخرته. فلاحظ ما أسند إلى القلب في الكتاب العزيز من كرائم الصفات نظير كتابة الإيمان فيه ، وسلامته من الأمراض ، وتقواه ، وتعقّله ، وسكينته وطمأنينة ، ورأفته ، ورحمته ، وطهارته ، ووجله
من
ربّه ، وإخباته لخالقه ، ولينه ، وخشوعه ، ونحو ذلك.
ولاحظ أيضاً ما أسند
إليه من رذائل الأخلاق من : تكبّره وختمه وطبعه وغلظته ، وشدّة خصومته مع ربّه ، وغفلته ، وغيظه ، وريبه ، ولهوه ، ورينه ، ونحو ذلك. وعلى هذا كان الأنسب أن يسمّى موضوع علم الأخلاق : الإنسان بما هو قلبه.
ثمّ لاحظ ما أسند إلى
النفس في الكتاب الكريم من تكليفها بمقدار وسعها ومقدار ما آتاها ، وقبولها الإيمان ، وظلمها لنفسها وغيرها ، وأمرها بالسوء وكسبها الحسنات والسّيّئات ، وإلهامها فجورها وتقواها ، وارتهانها بما كسبت حتّى تفكّها ، ووسوستها لنفسها ، وتسويلها أمرها ، واتّباعها هواها ، ووقوعها تحت الحفظ والمراقبة من قبل ربّها ، وأخذها وتوفيتها عند النوم والموت ، وإمساكها أو إرسالها بعد الأخذ ، وإماتتها ووجدانها ما عملت يوم القيامة محضراً ، وتوفيتها بما كسبت ومجازاتها بما عملت ونحو ذلك.
وبالجملة : كأنّ هنا
شخصين : أحدهما متّصف بصفات وملكات مختلفة قد وقع في معرض تعارضها وتزاحمها ويجرّه كلّ إلى مقتضاه ، فهو : إمّا من أكرم خلق الله وأشرف خليفته ، أو من أبعد مخلوقه وأشقى بريّته ، والآخر مخاطب بتكاليف مختار بين الطاعة والمعصية ، مسؤول في الدنيا والآخرة ، مجزىء بالثواب والعقاب. ولعلّ في هذا إشارة إلى أنّ الصفات ليست متعلّقة للتكاليف وإن كان لها دخل في متعلّقها ، لا أنّ هنا شخصين حقيقةً فتأمّل.
الأمر
السادس :
قد أطلق على الجوهر اللطيف اسم الروح أيضاً ، وهو المراد في قوله تعالى : (
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا )
.
ولعلّ وجه إعراض الرّب
تعالى عن الجواب لكون سؤالهم عن حقيقة الروح وماهيتها هو ظاهر اسم الجنس ، وكون إدراكها خارجاً عن استعداد عقولهم كما يشير إليه ذيل الآية.
والروح في اللغة بمعنى
: سبب الحياة ومنشأها والعلّة المحدثة لها. وبهذا الاعتبار أطلق هذا الاسم في الكتاب العزيز على تلك الجوهرة اللطيفة عندما أريد بها حدوث الحياة للجسم كقوله تعالى : ( ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) وقوله : (
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي )
. فيعلم من ذلك أنّ هذا الموجود في ابتداء تلاقيه مع البدن وفي حين تأثيره في حياته روح كما أنّه بالقياس إلى اتّصافه بصفاتٍ بعد الاستقرار قلب وبالاضافة إلى توجّه التكاليف إليه والجزاء لها نفس. وإضافة الله تعالىٰ روح آدم إلى نفسه في الآيتين وشبههما وقعت تشريفاً لآدم النبي عليهالسلام وأولاده اصطفاءً لهم لهذا الروح بين الأرواح نظير كون الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم خليله والكعبة بيته ، وإلّا فكلّ روحٍ محدث بإرادته ، مدبّر بتدبيره. وفي الحديث : «
إنّ الأرواح جنود مجنّدة ، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف » .
والمجنّدة : المؤلّفة المنظّمة ، وهي لا تنافي
____________________________
كونها
أصنافاً كثيرةً مختلفة المراتب كجنود السلاطين ، والاختلاف هنا من حيث استعداد الذات ومختلف الصفات. فالمتجانس والمتشابه منها في الأوصاف يميل بعضها إلى بعض ، والمتخالف فيها يتباعد ويتباغض ، قال تعالى : ( الْخَبِيثَاتُ
لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ) .
وفي الحديث في
أوصافها : «
إنّ الروح حياتها علمها ، وموتها جهلها ، ومرضها شكّها ، وصحّتها يقينها ، ونومها غفلتها ، ويقظتها حفظها » .
وفيه أيضاً : «
ألناس معادن كمعادن الذهب والفضّة » أي : كما أنّ أجناس المعادن مختلفة في الصفات والخواصّ والآثار وبها تختلف قيمتها ورغبات الناس فيها فكذلك أرواح الناس فهم مختلفون في الصفات والحالات والملكات تتجلّى أنوار الطّيبات منها من أفق الأبدان وتظهر ثمراتها من أفنان الأعضاء. وتترائى كدورة الخبائث منها وظلماتها من وراء الأقوال والأفعال.
الأمر
السابع :
قال الصدوق رحمهالله : اعتقادنا في الروح أنّها خلقت للبقاء
لا للفناء ، لقول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : « ما خلقتم للفناء ،
بل خلقتم للبقاء ، وإنّما تُنقلون من دارٍ إلى دار »
. واعتقادنا فيها أنّها إذا فارقت الأبدان فهي باقية ، منها منعّمة ومنها معذّبة إلى أن يردّها الله إلى أبدانها ، قال الله تعالى : ( وَلَا
____________________________
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ ... ).
وقال المفيد ـ رحمهالله ـ ما حاصله : إنّ الأرواح بعد الأجساد على ضربين : منها ما ينقل إلى الثواب أو العقاب ، ومنها ما يبطل فلا يشعر بثواب ولا عقاب. وقد روي عن الصادق عليهالسلام ما ذكرنا ، وسئل عمّن مات أين تكون روحه ؟ فقال عليهالسلام : « من مات وهو ماحض
للايمان محضاً يجعل في جنانٍ من جنان الله ، يتنعّم فيها إلى يوم المآب » .
وشاهد ذلك ما حكاه
الله تعالى عن قول حبيب النّجار بمجرّد قتله ودخوله في عالم البرزخ : (
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ )
ومن ماحض الكفر محضاً يجعل في النار فيعذّب بها إلى يوم القيامة ، وشاهد ذلك قوله تعالى في آل فرعون بعد أن أهلكهم الله : (
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ )
والغدوّ والعشيّ من شؤون برزخ الدنيا. وقال تعالىٰ في الضرب الاخر : (
إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا ) . فبيّن أنّ قوماً عند الحشر لا يعلمون
مقدار لبثهم في القبور حتّى يظنّ بعضهم أنّ ذلك كان يوماً ، ولا يمكن ذلك في حقّ من لم يزل منعّماً ، أو لم يزل معذّباً إلى يوم القيامة.
وهل المنعّم والمعذّب
بعد الموت ، الروح أو الجسد الذي فيه الحياة ؟ الأظهر عندي أنّه الجوهر المخاطب ، وهو الروح التي توجّه اليها
____________________________
الأمر
والنهي والتكليف. فيجعل الله للأرواح أجساماً كأجسامهم في دار الدنيا ، ينعّم مؤمنيهم ويعذّب كفّارهم وفسّاقهم دون أجسامهم التي في القبور يشاهدها الناظرون وتتفرّق وتندرس. وهذا مذهبي في النفس ، ومعنىٰ الإنسان المكلّف عندي ، ولا أعلم بيني وبين فقهاء الاماميّة وأصحاب الحديث فيه اختلافاً ، انتهىٰ.
وقال المحقّق الطوسيّ
فيما يشير إليه الإنسان بقوله : أنا : ( فيكون جوهراً عالماً والبدن وسائر الجوارح آلاتُه في أفعاله ،
ونحن نسمّيه هاهنا : الروح ).
الأمر
الثامن :
النفس سلطان الجوارح ، وتسلّطها عليها من أنفذ السلطات ، فبإرادتها تتحرّك الأعضاء وتسكن. ولا تخلف لإرادتها عن وقوع المراد ، وهذا من أحسن أمثلة تسلّط الرّب تعالى على خلقه ونفوذ مشيئته فيما شاء وأراد ، وإن كان بينهما فرق واضح فإنّ النفس فضلاً عن تسلّطها ، حادثة. ووجودها مفاض من إرادة الربّ ، وأنّه قد يحدث للأعضاء خلل ونقص لا يؤثر فيها إرادة النفس ، ولا يكون ذلك في إرادة الله ، وبهذه الملاحظة أطلق على النفس والقلب : إمام الأعضاء ومرجعها وهاديها ورئيسها المتولّي لأمرها.
ففي مباحثة هشام بن
الحكم مع عمرو بن عبيد التي نقلها للصادق عليهالسلام فأمضاها وأقسم بالله تعالىٰ على
كونها مكتوبةً في صُحف إبراهيم وموسىٰ : ( قال : قلت له : ألك قلب ؟ قال : نعم ، قلت : وما تصنع به
؟ قال : أميّز كلّ ما ورد على هذه الجوارح. قلت : أفليس في هذه الجوارح
غنىً
عن القلب ؟ قال : لا ، قلت : وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة ؟ قال : يا بُني ، إنّ الجوارح إذا شكّت في شيءٍ شمّته أو رأته أو ذاقته أو سمعته أو لمسته ردّته إلى القلب فييقّن اليقين ويبطل الشكّ ، قلت : إنّما أقام الله القلب لشكّ الجوارح ؟ قال : نعم ، قلت : فلا بدّ من القلب وإلّا لم يستقم الجوارح قال : نعم ، فقلت : يا أبا مروان ، إنّ الله لم يترك جوارحك حتّى جعل لها إماماً يصحّح لهم الصحيح وييقّن ما شكّ فيه ويترك هذا الخلق كلّهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم لا يقيم لهم إماماً يردّون إليهم شكّهم وحيرتهم. قال : فسكت ولم يقل شيئاً ) .
وفي خبر إبن سنان : (
إعلم : أنّ منزلة القلب من الجسد بمنزلة الإمام من الناس الواجب الطاعة عليهم ، ألا ترىٰ أنّ جميع جوارح الجسد شُرَط للقلب وتراجمة له مؤدّية عنه ) . الشرط كصرد جمع شرطة : أعوان الولاة.
وفي توحيد المفضّل : (
فكّر يا مفضّل في الأفعال التي جعلت في الإنسان من الطعم والنوم والجماع وما دبّر فيها ، فإنّه جعل لكلّ واحدٍ منها في انطباع نفسه محرّك يقتضيه ويستحثّ به ، وقال : فانظر كيف جعل لكلّ واحدٍ من هذه الأفعال التي بها قوام الإنسان وصلاحه محرّك من نفس الطبع يحرّكه كذلك ويحدوه عليه )
ويحدوه أي : يحثّه ويحرّكه.
وقال أمير المؤمنين عليهالسلام : ( سبحان الذي جمع من حزن الأرض وسهلها وعذبها وسبخها فمثلت إنساناً ذا أذهان يجيلها ، وفكرٍ يتصرّف بها ، وجوارح
____________________________
يختدمها وأدواتٍ يقلبها ، ومعرفةٍ يفرّق بها بين الحقّ والباطل
، والأذواق والمشامّ والألوان والأجناس ) .
ووصف علي عليهالسلام في نهج البلاغة قلب الإنسان وروحه بأنّ له موادّ من الحكمة وأضداد من خلافها ، فإن سنح له الرجاء أذلّه الطمع ، و إن هاج به الطمع أهلكه الحرص ، وإن ملكه اليأس قتله الأسف ، وإن عرض له الغضب اشتدّ به الغيظ ، وإن أسعده الرضا نسي التحفّظ ، وإن غاله الخوف شغله الحذر ، وإن اتّسع له الأمن استلبته الغرّة ، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى ـ الخ ـ.
ثمّ إنّه لا يخفى
عليك أنّ الكلام في تشريح حقيقة الإنسان والنفس والروح رفيع المرقىٰ صعب المنال ، والأقوال ـ في كيفيّة خلقه وتكوينه بجسمه وبدنه فضلاً عن روحه ونفسه وأنّ روحه مخلوقة قبل الأبدان بألفي عامٍ أو أقلّ أو أكثر كما ورد بذلك نصوص كثيرة ، أو أنّها مخلوقة من الأبدان ومكوّنة عنها كما أشرنا إليه ـ كثيرة مختلفة ، بل قد تنتهي إلى عشرةٍ أو أكثر ، ولم يكن البحث في ذلك من أغراض هذا الكتاب. وكان ما ذكرنا من الآيات والنصوص وبعض الأقوال في ذلك إيضاحاً إجماليّاً بالمقدار الميسور لموضوع علم الأخلاق وموضوع البحث.
____________________________

الدّرس الأوّل
في بيان ممّا يدلّ على صلاح القلب وفساده
وليعلم أولاً : أنّ
المقصد الأعلى والغرض الأسمى في هذا العلم السعي في إصلاح القلب وإكماله ، وتطهيره وتزكيته عن ذمائم الصفات ، وتزيينه وتحليته لفضائل السجايا وفواضل الملكات ، ليستعدّ على الاستفاضة من إنارة الألطاف الرحمانيّة وإضافة المعارف الالهية من حضرة ذي الجلال. فبالقلب شرف الإنسان وبه فضليّته على كثيرٍ من الخلق ، وبه ينال معرفة ربّه التي هي في الدنيا شرفه وجماله ، وفي الآخرة مقامه وكماله. فالقلب هو العالم بالله ، والعامل لله ،
والساعي إلى الله ، والمتقرّب إلى جوار الله ، والجوارح أتباع وخدم يستعملها استعمال الملك
للعبيد والصانع للآلة.
والقلب هو المقبول
عند الله إذا سلم من الآفات ، والمحجوب عن الله تعالى إذا استغرق في الشهوات وهو الذي يفلح الإنسان إذا زكّاه ويخيب ويشقى إذا دسّاه وهو المطيع لله على الحقيقة والمشرق على الجوارح أنواره وهو العاصي في الواقع
والظاهر
على الأعضاء آثاره وباستنارته وظلمته تظهر محاسن الظن ومساويه ، إذ كلّ إناءٍ يترشّح بما فيه.
وهو الذي إذا عرفه
الإنسان فقد عرف نفسه ، وإذا عرف نفسه فقد عرف ربّه ، وإذا جهله جهل نفسه ، واذا جهل نفسه فقد جهل ربّه.
وهو الذي جهله أكثر
الناس وغفلوا عن عرفانه ، وحيل بينهم وبينه بمعاصيهم والحائل هو الله ، فإنّه يحول بين المرء وقلبه ، وينسى الإنسان نفسه ويضلّه
ولا يهديه. ولا يوفّقه لمشاهدته ومراقبته ومعرفة صفاته ، فمعرفة القلب وأحواله وأوصافه أصل الأخلاق وأساس طريق الكمال.
والقلب لطيفة ربّانيّة
روحانيّة لها تعلّق بالبدن شبه تعلّق الأعراض بالأجسام ، أو تعلّق المستعمل بالآلة ، أو المكين بالمكان.
والروح أيضاً عبارة
عن هذه اللطيفة الربّانيّة العالمة المدركة ، وهو أمر عجيب ربّانيّ يعجز العقول عن إدراك كُنهه.
والنفس أيضاً هي
اللطيفة المذكورة ، وهي الإنسان في الحقيقة ، وتتّصف بأوصاف مختلفة بحسب أحوالها ، فإذا سكنت تحت أمر الله وزال عنها الاضطراب لثقتها بالله ولم تتزلزل ولم تضطرب ولم تنحرف عن سبيل الله وطريق الحقّ عند معارضة الشهوات سمّيت بـ « النفس المطمئنة ». وإذا لم يتمّ سكونها ولكن كانت مدافعةً عن نفسها معارضةً مع ما تقتضيه شهواتها سمّيت بـ « النفس اللّوامة ». وإن أذعنت وأطاعت للشهوات ودواعي الهوى والشياطين سمّيت بـ « النفس الأمّارة بالسوء ».
ثمّ إنّ طريق تسلّط
الشيطان على القلب : الحواس الخمس الظاهرة والقوى الباطنة : كالخيال والشهوة والغضب. فالقلب يتأثّر دائماً من هذه الجهات ، وأخصّ
الآثار
الحاصلة في القلب هي الخواطر ، والخواطر هي المحرّكات للإرادات ، فإنّ سند الأفعال الخواطر ، والخاطر يحرّك الرغبة ، والرغبة تحرّك العزم والنيّة ، والنيّة
هي الإرادة التي تحرّك العضلات والأعضاء.
والخواطر المحرّكة
قسمان : قسم يدعوا إلى الخير ، وهو ما ينفع الإنسان في العاقبة ، وقسم يدعوا إلى الشّر وهو ما يضرّه في العاقبة ، والخاطر المحمود إلهام
، والمذموم وسوسة ، وسبب الخاطر الداعي إلى الخير في الغالب هو الملك ، وإلى الشّر هو الشيطان.
والملك خلق من خلق
الله ، شأنه إفاضة الخير وإفادة العلم وكشف الحقّ والوعد بالمعروف. والشيطان خلق على ضد ذلك. شأنه الوعد بالشّر والأمر بالفحشاء ، والتخويف بالفقر عند الهمّ بالخير ، ولعلّ المقام من مصاديق قوله تعالىٰ
: ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ
خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) فإنّ الموجودات متقابلة مزدوجة بمعانٍ
مختلفةٍ. وقد ورد أنّه للقلب لمّتان : لمّة من الملك ولمّة من الشيطان ، واللّمة : الخطوة
والدنوّ والمساس. وورد أيضاً : إنّ قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمان
، أي : بين خلقين مقهورين بإرادة الله التكوينيّة كالإصبع من صاحبها وهما : الملك والشيطان ومعنى كونه بينهما أنّ الله يخلّي بينه وبين أيٍّ منهما أراد حسب اقتضاء عمل
الإنسان ورغبته ودعائه.
ثمّ إنّ القلب بأصل
الفطرة صالح مستعدّ لقبول دعوات الملك والشيطان ويترجّح أحدهما على الآخر باتّباع الهوىٰ والشهوات أو الإعراض عنها والميل
إلى الطاعات ، فإن اتّبع الإنسان مقتضى الأوّل تسلّط عليه الشيطان وصار القلب عشّاً له ، وصار صاحبه ممّن باض الشيطان وفرّح في صدره ودبّ ودرج في حجره. وإن
____________________________
جاهد
في مخالفة الشهوات كان قلبه مستقرّ الملائكة ومهبطهم وعاد صاحبه ممّن سبقت له من الله الحسنى ، وقد قال تعالى : (
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ) .
وذكرنا هذا ليسهل
عليك فهم ما سوف نذكره من الأحاديث المقصودة واستفدنا ذلك من كلمات بعض المحقّقين على ما نقله عنه الفاضل المجلسي قدسسره في ج ٧٠ من البحار.
وأمّا النصوص الواردة
في بيان القلب وحالاته فعن النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : « في الإنسان مضغة إذا هي سلمت وصحّت سلم بها سائر الجسد ، فإذا سقمت سقم لها سائر الجسد وفسد ، وهي القلب »
. والمراد بالقلب : الروح الإنسانيّ التي لها تعلّق خاصّ
بالقلب الصنوبريّ ، والمراد من صحّتها : حصول صفة التسليم لها ، ومن مرضها : عروض الطغيان عليها ، وسلامة سائر الجسد عدم صدور المعاصي منه ، وسقمه صدورها عنه. وهذا هو المراد من قوله عليهالسلام : « إذا طاب قلب المرء
طاب جسده ، وإذا خبث القلب خبث الجسد »
. وكذا من قول علي عليهالسلام : « أشد من مرض البدن
مرض القلب ، وأفضل من صحّة البدن تقوىٰ القلوب » .
وفي صحيح أبان عن
الصادق عليهالسلام : « ما من مؤمن إلّا
لقلبه اُذنان في جوفه : اُذن ينفث فيها الوسواس الخنّاس ، واُذن ينفث فيها الملك ، فيؤيّد الله المؤمن بالملك
وذلك قوله : وأيّدهم بروح منه »
. وورد في النصوص : أنّ للقلب أذنين ، فإذا همّ العبد
____________________________
بذنبٍ
قال له روح الإيمان : لا تفعل ، وقال له الشيطان : إفعل .
وأنّ بعض القلوب
منكوس لا يعي الخير أبداً ، وبعضها فيه الخير والشرّ يعتلجان ، وبعضها مفتوح فيه مصباح يزهر ولا يطفأ نوره .
وأنّ من علائم الشقاء
قسوة القلب والحرص على الدنيا والإصرار على الذنب وجمود العين .
وأنّه إذا أراد الله
بعبدٍ خيراً فتح عيني قلبه فأبصر بهما الغيب وأمر آخرته وإذا أراد غير ذلك ترك القلب بما فيه .
وأنّ للقلب اُذنين ،
الملك وروح الإيمان يسارّه ويأمره بالخير ، والشيطان يسارّه ويأمره بالشّر ، فأيّهما ظهر على صاحبه غلب .
وأنّ قلوب المؤمنين
مطويّة بالأيمان طيّاً ، فإذا أراد الله إنارة ما فيها فتحها بالوحي .
وأنّ الخطيئة أفسد
شيءٍ للقلب. فما تزال به حتّى تجعله منكوساً .
وأنّه ما جفّت الدموع
إلّا لقسوة القلوب ، وما قست القلوب إلّا لكثرة الذنوب .
وأنّ للقلب إعراباً
كالحروف ، فرفع القلب اشتغاله بذكر الله ، وفتحه رضاه
____________________________
عن
الله ، وخفضه اشتغاله بغير الله ، ووقفه غفلته عن الله .
وأنّ لله في عباده
آنية وهو القلب ، فأحبّها إليه أصفاها وأصلبها وأرقّها أصفاها من الذنوب وأصلبها في دين الله وأرقّها على الاخوان .
وأنّ القلوب مرّة
يصعب عليها الأمر فتحبّ الدنيا ، ومرّة يسهل فترقّ وتسلوا عن الدنيا ويحقر عنده ما في أيدي الناس من الأموال حتّى كأّنها تعاين الآخرة والجنّة والنار .
وأنّه لو دامت على
هذه الحالة لصافحت الملائكة ومشت على الماء .
وأنّ للقلب اضطراباً
عند طلب الحقّ وخوفاً ، فإذا أصابه اطمأنّ به ، فإنّ من يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام. ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً كأنّما يصّعّد في السماء .
وأنّ الله يحول بين
المرء وقلبه ، والحيلولة : أن لا يأتي بشيء ممّا يشتهيه من الحرام إلّا وهو ينكره ويعلم أنّ ذلك باطل ، ولا يستيقن أنّ الحق باطل أبداً ، ولا
يستيقن أنّ الباطل حقّ أبداً .
وأنّ لله خزانة أعظم
من العرش وأوسع من الكرسيّ وأطيب من الجنة وهي القلب .
وأنّه يأتي عليه
تارات أو ساعات ليس فيه إيمان ولا كفر شبه الخرقة
____________________________
البالية
.
وأنّ قلب المؤمن أجرد
فيه سراج يزهر .
وأنّ القلب السليم هو
الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه .
وأنّه لو لا أنّ
الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت .
وأنّه إذا نشطت
القلوب فأودعوها ، وإذا نفرت فودّعوها ، فإنّه إذا أكره عمى .
____________________________

الدّرس الثّاني
في محاسبة النّفس ومراقبتها
قال تعالى : ( وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ).
المخاطب المأمور ، هو الإنسان أمر بالنظر إلى أعماله التي تحصّلها وتقدّمها أمامه لآخرته ، ولازمه النظر إلى من تصدر عنه الاعمال ومعرفته وهو نفسه أيضاً ، فالناظر : النفس باعتبار قوّتها
العاقلة المدركة المميّزة بين الحقّ والباطل ، الداعية إلى الصلاح والسعادة ، والمنظور
إليه أيضاً ذاتها باعتبار صفاتها وغرائزها الداعية إلى الانحراف عن الحقّ واتّباع الهوى
والشهوات ، والأمر للارشاد ، فأرشد الله تعالى نفس كلّ إنسان إلى النظر في نفسها وما هي عليه من العقائد والملكات والأعمال ، فإنّ جميع ذلك ممّا يقدّمه الإنسان لآخرته ، إيماناً أو كفراً ، فضيلةً أو رذيلةً ، طاعةً أو عصياناً ، والجامع
لجميعها سعادةً أو شقاوةً ، ولا يكون النظر إلّا ممّن عرف ذلك كلّه ، أصولها وفروعها ، وعلم بما
هو النفس واجدةً له أو فاقدةً ، وهذه هي المحاسبة للنفس ، وتُنتج ذلك القيام بإصلاحها
____________________________
وسوقها
إلى مراحل تهذيبها.
والنصوص أيضاً في هذا
الباب كثيرة. فقد ورد : أنّ العلم الذي طلبه فريضة على كلّ مسلمٍ ومسلمةٍ هو علم الأنفس .
وأنّه على العاقل أن
يكون له ساعة يحاسب فيها نفسه .
وأنّه لا يزال ابن
آدم بخيرٍ ما كان له واعظ من نفسه وما كانت المحاسبة من هَمّه .
وأنّ من لم يتعاهد
النقص من نفسه غلب عليه الهوىٰ .
وأنّ من رعى قلبه عن
الغفلة ونفسه عن الشهوة وعقله عن الجهل فقد دخل في ديوان المتنبّهين .
وأنّه إذا رأيت
مجتهداً أبلغ منك في الاجتهاد فوبّخ نفسك ولُمها وحثّها على الازدياد .
وأنّ أكيس الكيّسين
من حاسب نفسه .
وأنّه يجب على كلّ
إنسانٍ أن يسأل نفسه في كلّ يومٍ عن عمل ذلك اليوم.
وأنّ من لم يجعل له
من نفسه واعظاً فإنّ مواعظ الناس لن تغنيَ عنه شيئاً .
وأنّه لا يكمل إيمان
العبد حتّى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة الشريك
____________________________
شريكه
والسيّد عبده .
وأنّ من حاسب نفسه
ربح ، ومن غفل عنها خسر .
وأنّ الصادق عليهالسلام قال : « حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا في مواقف القيامة .
وأنّ على العاقل ان
يحصي على نفسه مساويها في الدين والرأي والأخلاق والأدب فيجمع ذلك في صدره أو في كتابٍ ويعمل في إزالتها » .
____________________________

الدّرس الثّالث
في مجاهدة النّفس وبيان حدودها
قال تعالىٰ : ( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ )
.
وقال تعالى : ( وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ )
.
وقال تعالىٰ : ( الَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا )
.
الجهاد والمجاهدة : استفراغ الوسع في مدافعة العدوّ ونحوه ، وهو على ثلاثة أضربٍ : مجاهدة العدوّ الظاهر من إنسانٍ وغيره ، ومجاهدة الشيطان ، ومجاهدة النفس وهواها ، والجميع داخل في المراد من الآيات الشريفة. والأمر بالجهاد والحثّ عليه في هذه الآيات بالنسبة إلى جهاد النفس إرشاد إلى ما يدركه العقل بنفسه ، فإنّ جهاد النفس في الحقيقة عبارة عن فعل الواجبات والمندوبات وترك المحرّمات والمشتبهات ، والقيام بذلك شكر للمنعم وهو واجب عقلاً ، وتركها سبب
____________________________
للوقوع
في ضرر الهلكة والعذاب الأليم ، ورفع الضرر واجب عقلاً ، فالأوامر في هذه الآيات كأوامر الاطاعة والتسليم والاتّباع لله ورسوله من الآيات الكريمة وكذا النصوص الحاثّة على ذلك من السنّة كلّها إرشادات الٰهيّة ونبوّية وولويّة
يترتّب على موافقتها سعادة الإنسان وعلى مخالفتها شقاوته.
والأخبار الواردة في
هذا الباب عن النّبي الأقدس وأهل بيته المعصومين عليهمالسلام كثيرة جدّاً.
فقد ورد أنّ رسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم بعث سريّةً فلمّا رجعوا قال : «
مرحباً بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر ، قيل : يا رسول الله وما الجهاد الأكبر ؟
قال : جهاد النفس ، ثمّ قال : أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه » .
وورد : أنّ من جاهد
نفسه عن الشهوات واللذات والمعاصي فإنّما يجاهد لنفسه .
وأنّ جهاد المرء نفسه
فوق جهاده بالسيف .
وأنّه سئل الرضا عليهالسلام عمّا يجمع خير الدنيا والآخرة ؟ فقال : خالف نفسك .
وأنّ من جاهد نفسه
وهزم جند هواه ظفر برضا الله .
وأنّه لا حجاب أظلم
وأوحش بين العبد وبين الربّ من النفس والهوىٰ .
وأنّ أحمق الحمقاء من
اتّبع نفسه هواه .
____________________________
وأنّه ما حبس عبد
نفسه على الله إلّا أدخله الله الجنّة .
وأنّ رجلاً اسمه
مجاشع قال : يا رسول الله كيف الطريق إلى معرفة الحق ؟ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : معرفة النفس ، فقال : فكيف الطريق إلى
موافقة الحقّ ؟ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : مخالفة النفس ، فقال : فكيف الطريق إلى رضا الحقّ ؟ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : سخط النفس ، فقال : فكيف الطريق إلى طاعة الحق ؟ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : عصيان النفس ، فقال : فكيف الطريق إلى ذكر الحقّ ؟ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : نسيان النفس ، فقال : فكيف الطريق
إلى قرب الحق ؟ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : التباعد عن النفس ، فقال : فكيف
الطريق إلى اُنس الحقّ ؟ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : الوحشة عن النفس ، فقال : فكيف
الطريق إلى ذلك ؟ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « الاستعانة بالحقّ على النفس » .
____________________________

الدّرس الرّابع
في ترك اتّباع الأهواء والشّهوات
قال تعالىٰ : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ )
. : (
وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) . وقال تعالىٰ : ( فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا
يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ ) . وقال تعالىٰ : ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ
الْهَوَىٰ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ )
.
أقول : الهوى : ميل
النفس إلى الشهوة ، وقد يطلق على النفس المائلة إلى الشهوة أيضاً ، ولعلّه سمّي بذلك لأنّه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كلّ داهيةٍ وفي الآخرة إلى الهاوية ، فإنّ من معاني هذه المادّة : السقوط ، وقوله : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ ) قدّم المفعول الثاني إعظاماً لذمّ
اتباع الهوىٰ وعنايةً لتعظيمه الهوىٰ بحيث
____________________________
جعله
إلٰهاً يعبد من دون الله.
وفي الآيات الشريفة
إشارة إلى أنّ اتّباع هوى النفس عبادة لها وأنّه سبب للضلالة عن سبيل الله ، وأنّه لا ضلالة فوقه ، وأنّه يدعوا إلى عدم إجابة رسل الله
وأنّ منع النفس عن هواها سبب لدخول الجنّة.
وهنا نصوص كثيرة
موضحة لهذا المعنىٰ. فقد ورد : أنّ الله أقسم بجلاله وجماله وبهائه وعلاه أنّه لا يؤثر عبد هوى الله تعالىٰ على هواه إلّا جعل
غناه في نفسه وهمّه في آخرته وضمن رزقه .
وأنّه لو آثر هواه
على هوى الله شتّت أمره ، ولبّس عليه دنياه وشغل قلبه بها .
وأنّ اتّباع الهوىٰ
من أخوف ما كان يخاف منه النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والوليّ عليهالسلام على الأمّة .
وأنّه : طوبى لمن ترك
شهوةً حاضرةً لموعودٍ لم يره .
وأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان لا يرجوا النجاة لصاحب الهوىٰ .
وأنّ أشجع الناس من
غلب هواه .
وأنّ الهوىٰ
أقوىٰ سلطانٍ على الإنسان ، وهو الذي يصدّه عن الحقّ .
____________________________
وأنّ من أطاع هواه
أعطىٰ عدوّه مناه .
وأنّ راكب الشهوات لا
تستقال عثراته .
وأنّ من كرمت عليه
نفسه هانت عليه شهوته .
وأنّه استرحم النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لرجلٍ نزع عن شهوته وقمع هوىٰ نفسه .
وأنّ الصادق عليهالسلام قال : « إحذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم ، فإنّه ليس شيء أعدىٰ للرجال من اتّباع أهوائهم » . وأنّه قال : « لا تدع النفس وهواها
فإنّ هواها في رداها وترك النفس وما تهوى أذاها وكفّ النفس عمّا تهواه دواها .
تبصرة :
ينبغي أن يعلم أنّه ليس كلّما تهواه النفس وتشتهيه منهيّاً عنه من قبل الله تعالى ومبغوضاً عنده ، كما أنّه ليس كلّما لا تهواه وتبغضه محبوباً عنده
، بل الحق أنّ ما تهواه النفس على قسمين : محرّم ومبغوض ، ومكروه مذموم. والأوّل ما تهواه وتشتهيه من المحرّمات التي حرّمها الله وأبغضها. والثاني ما تهواه وتشتهيه
ممّا كرّهه الله ولم يحرّمه وكان ارتكاب الإنسان له لمجرّد الشهوة النفسانيّة غير قاصدٍ
به نفعاً ، حتّىٰ تأثيره في إغناء النفس عن الحرام وعمّا لا يليق بحالها ولا
ينبغي لها ، فما يرتكبه الإنسان من الملاذ التي تهواه النفس ولم يحرّمه الشرع كالانتفاع بالأغذية والألبسة المحلّلة والمساكن المجلّلة والنساء والبنين والأموال ونحوها ليس مشمولاً
للنواهي المذكورة ، كيف والشرع الأنور قد حثّ على الزواج ، بل على اختيار المرأة
____________________________
الحسناء
والأكل من الطيّبات ، وكثيراً ما يتلذّذ بعض العلماء بعلمهم أكثر ممّا يتلذّد الفسّاق بفسقهم ويستلذّ العبّاد بمناجاتهم أكثر من أهل اللهو بمعاصيهم ، كما أنّه
ليس كل ما لا تشتهيه النفس مرغوباً إليه في الشرع ، وإلّا لاستلزم وجوب تناول كلّ ما لا تشتهيه من الأطعمة والأشربة والزواج بمن لا يميل إليها الطبع من النساء ولا أقلّ من إستحبابه مع أنّه ليس كذلك. فما ورد من النواهي عن اتّباع الهوىٰ
والتعابير الحاكية عن كراهته ومبغوضيّته خطابات إرشاديّة تهدي إلى وجود مضارّ ومفاسد في اتّباع الهوىٰ وارتكاب ما تعلّقت به النواهي التحريميّة والتنزيهيّة وترتّب
عقوباتها الدنيويّة والأخرويّة.
الدّرس الخامس
في اليقين
قال تعالىٰ : ( قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ )
.
وقال تعالى : ( وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ )
.
وقال تعالى : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا
صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) .
وقال تعالىٰ : ( وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ )
.
وقال تعالىٰ : ( وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ )
.
اليقين من صفات العلم
، وهو سكون العلم وثباته وإتقانه بانتفاء الشّك والشبهة عنه بالاستدلال أو الإشراق. ومتعلّقه في هذا الباب مطلق ما يجب
____________________________
الإذعان
به من المبدء تعالىٰ وصفاته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجميع آياته وما أنزله على أنبيائه من شرائعه ، وهو بهذا المعنى أشرف صفات النفس وأعلاها وأفضلها وأسماها ، وهو الذي عبّر عنه بالاطمئنان في قصّة إبراهيم الخليل. فإنّه لمّا استدعىٰ من ربّه أن يريه إحياء الموتىٰ قال تعالىٰ ( أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) . فأقرّ أوّلاً بالايمان الذي هو :
التصديق والعلم ، ثّم سأل ما يزداد به الإيمان حتّىٰ يكون يقيناً ، وببيانٍ آخر أنّه سأل أن يرتقي بمشاهدة
العيان من علم اليقين إلى عين اليقين ، وقد ذكر تعالىٰ في الآية الثانية : أنّ الآيات
الآفاقيّة والأنفسيّة لا تنفع كما ينبغي ولا تكشف عن وجه الحقيقة كما يليق إلّا لمن تزيّن بهذه الفضيلة النفسيّة والكرامة الالٰهيّة. وذكر في الآية الثالثة : أنّ الملاك في اختيار
الصفوة من الناس للإمامة وهداية المجتمع الانسانيّ هو : الصبر واليقين ، وهما وصفان فاضلان لكلٍّ منهما تأثير متقابل في الآخر ، فالصبر في إقامة أحكام الدين وحدوده يزيد في اليقين ، واليقين يزيد في الصبر.
وفي النصوص الواردة
عن أهل البيت في المقام ما يغني عن كلّ شيءٍ. فقد ورد أنّ اليقين أفضل من الإيمان ، فإنّ الإيمان فوق الإسلام ، والتقوىٰ
فوق الإيمان واليقين فوق التقوىٰ ، فما من شيءٍ أعزّ من اليقين
؛ وذلك لأنّ الإقرار بالشهادتين إسلام ، والإذعان بالقلب بعده إيمان ، والعمل بالإذعان تقوىٰ ، وكمال
الإيمان بالعمل يقين.
وأنّ الصادق عليهالسلام قال ـ لمن لم يحصل له اليقين ـ : إنّما تمسّكتم بأدنى الإسلام
،
____________________________
فإيّاكم
أن ينفلت من أيديكم .
وأنّه لم يقسم بين
الناس شيء أقلّ من اليقين .
وأنّ اليقين تظهر
آثاره وتتجلّىٰ حقيقته في الموقن بأمورٍ أكملها أربعة : التوكّل والتسليم والرضا والتفويض . التوكّل على الله في تنجّز مقاصده عند
التّوسّل بأسبابها ، والتسليم لأحكامه وحكومة ولاة أمره ، والرضا بما قضى عليه ربّه في الحوادث الجارية عليه في حياته ، والتفويض الكامل في كلّ ذلك بحيث يرىٰ نفسه
وقدرته مضمحلّة في جنب إرادة ربّه وقدرته ، وهذا من مراتب القانتين.
وأنّه ليس شيء إلّا
وله حدّ ، وحدّ اليقين أن لا تخاف مع الله شيئاً .
وأنّ من صحّة اليقين
وتمامه أن لا يرضي الناس بسخط الله ، وأن لا يلومهم على ما لم يؤتهم ربّهم. فإنّ الأمر بيد الله .
وأنّ الله جعل الروح
والراحة في اليقين .
وأنّ العمل الدائم
القليل على اليقين أفضل من العمل الكثير على غير يقين .
وأنّ من الكنز الذي
كان لغلامين يتيمين تحت الجدار صحيفة فيها ذكر اليقين وبعض آثاره .
وأنّ النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم نظر إلى شابٍّ في المسجد يخفق ويهوي برأسه مصفرّاً لونه
____________________________
قد
نحف جسمه ، فقال : كيف أصبحت ؟ قال : أصبحت موقناً ، فعجب صلىاللهعليهوآلهوسلم من قوله ، وقال : إنّ لكلّ يقينٍ حقيقة فما حقيقة يقينك ؟ قال : إنّ يقيني هو الذي
أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هواجري. فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتّى كأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة ويتعارفون ، وكأنّي أنظر إلى أهل النار وهم معذّبون
مصطرخون ، وكأنّي الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : هذا عبد نوّر الله قلبه بالايمان ، ثمّ قال له : الزم ما أنت عليه .
وأنّ اوّل صلاح هذه
الأمّة كان بالزهد واليقين .
وأنّ خير ما ألقي في
القلب اليقين .
وأنّ النّبي سأل
جبرئيل عن تفسير اليقين ، قال : المؤمن يعمل لله كأنّه يراه .
وأنّه كفىٰ
باليقين غنىً .
وأنّ عليّاً عليهالسلام قال : سلوا الله اليقين ، وخير ما دام في القلب اليقين ،
والمغبوط من غبط يقينه .
وأن اليقين يوصل
العبد إلى كلّ مقامٍ سنيٍّ .
وأنّه ذكر عند النّبي
أنّ عيسى بن مريم كان يمشي على الماء ، فقال : لو زاد يقينه لمشى في الهواء ، فالأنبياء يتفاضلون على اليقين وكذا المؤمنون .
____________________________
وأنّ النوم على
اليقين خير من الصلاة في الشكّ .
وأنّه إنّما سمّيت
الشبهة شبهةً لأنّها تشبه الحقّ. وأمّا أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين .
وأنّه يجب طرح واردات
الأمور بحسن اليقين .
____________________________

الدّرس السّادس
في النّيّة وتأثيرها وثوابها
النّيّة : هي القصد والإرادة المحرّكة للإنسان نحو الفعل ، وليس الغرض
من البحث عنه في المقام مجرّد إثبات صدور الفعل عنها ، فإنّه لا إشكال في ذلك في الأفعال الاختياريّة ، بل يرجع البحث هنا إلى ملاحظتها من جهة عللها ومعاليلها أعني : مناشىء صدورها من إقتضاء العقل والإيمان والغرائز وآثارها وكيفيّة تأثيرها في أعمال العباد وأنفسهم في الدنيا ويوم القيامة ، وإلى أنواعها من خالصها
ومشوبها ، ومراتب خلوصها وشوبها ، والى ترتّب الثواب والعقاب عليها وعدمه وغير ذلك.
فعن المحقّق الطوسيّ قدسسره : النّيّة : هي القصد إلى الفعل ، وهي واسطة بين العلم والعمل ، إذ ما لم يعلم الشيء لم يمكن قصده ، وما لم يقصده لم يصدر عنه ، ثمّ لمّا
كان غرض السالك العامل الوصول إلى مقصدٍ معيّنٍ وهو الله تعالى لا بدّ من إشتماله على قصد التقرّب به إنتهى. فالأولى ذكر نصوص الباب.
قال تعالىٰ : ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ )
.
الشاكلة : الطبيعة
والسجية كما مرت ، وقد فسّرت في عدّةٍ من النصوص بالنّية ، ولعلّه لأنّ النّية تنشأ عن الشاكلة ، فمعنى الآية : أنّ مبنى عمل كلّ
إنسانٍ وما يصدر منه فعله ، نيّته الصادرة عن شاكلته ، فالنّية مصدر الأعمال وملاكها ولها دخل
تامّ في حسنها وقبحها وخيرها وشرّها ، وهذا ممّا تشير إليه أخبار الباب وتوضحه وتفسّره.
فقد ورد :
أنّه لا قول ولا عمل
إلّا بنيّةٍ ، ولا نيّة إلّا بإصابة السنّة ، أي : لا صحّة ولا ثواب لأيّ قولٍ أو فعلٍ يصدر من المكلّف إلّا إذا قصد كونه لله ورجاء وجهه ورضاه ، أو طلب ثوابه ، أو الخلاص من عقابه. وهذا معنى إصابة السّنة.
وأنّ نيّة المؤمن خير
من عمله ونيّة الكافر شرّ من عمله النّية هنا بمعنى : الاعتقاد والإيمان ، وهو خير من العمل الخارجيّ ، كما أنّ الكفر القلبيّ شرّ من الفسق العمليّ ، أو أنّ نيّة الخير من المؤمن إذا لم يقدر عليه خير من العمل إذا
قدر ؛ لأنّ النّية خالصة لله ، والعمل ربما كان رئاءً ونحوه. والكافر ينوي من الشرّ فوق
ما قد يعمل به ، أو أنّ النّية لمّا كانت أمراً قلبيّاً كثير الشوب بالأغراض النّفسية
والدنيويّة وإخلاصها وتصفيتها وتمحيصها بحيث لا يشوبها أيّ غرضٍ غير رضا الله تعالى ، أمر صعب جدّاً لا يناله إلّا الأوحديّ من الناس ومع ذلك لها عندهم مراتب كثيرة ، فمع ملاحظة أنّ حسن العمل وكماله ينشئان من حسنها وكمالها يعلم
____________________________
أنّ
طبيعة النّية وجوهرتها تغاير طبيعة العمل ، وأنّها خير بالاصالة والعمل خير بالتّبع ، ومنه يعلم شرّيّة نيّة الكافر ، وقيل في هذا المقام معانٍ أخر.
وأنّه يُحشر الناس
على نيّاتهم يوم القيامة ، المراد بها : العقائد الأصوليّة فيحشرون مؤمنين أو كفّاراً أو منافقين كيفما كانت النّيات ، أو يحشرون في اتّصافهم
بجزاء الأعمال على وفق نيّاتهم في تلك الأعمال.
وأنّ صاحب النّية
الصادقة صاحب القلب السليم .
وأنّ حدّ العبادة حسن
النّية بالطاعة .
وأنّ العبادة لله
رغبة في ثوابه عبادة التّجّار وعبادة العبد المطمع ، إن طمع عمل وإلّا لم يعمل. والعبادة رهبةً وخوفاً من النار عبادة العبيد ، إن لم يخافوا
لم يعملوا. والعبادة له تعالى لكونه أهلاً لها وشكراً لأياديه وإنعامه عبادة الأحرار.
وقوله : « عبادة التّجّار
» قد يتخيّل بطلان العبادة إذا قصد بها طلب الجنّة أو الفرار من النار لكنّه فاسد ؛ فإنّ أكثر الناس يتعذّر منهم العبادة لمجرّد كونه
تعالى أهلاً لها ، أو لابتغاء ذات الله ووجهه ، فإنّهم لا يعرفون الله تعالىٰ إلّا
بعنوان أنّه صاحب جنّةٍ ونارٍ ونحوه من الأوصاف ، فيتذكّرون الجنّة ويعملون لطلبها ، والنار فيعملون للفرار عنها ، كما أنّه ليس غرضهم تأثير العمل تكويناً بلا واسطة الربّ تعالى ، بل يعتقدون أنّ له الخيرة كلّها في بذل الثواب ودفع العقاب لكونهما بيده وهذا المقدار كافٍ في الصّحة وترتّب الأثر ، كيف وقد قال الحكيم تعالى : ( وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ) وقال : (
وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ) . وهذا أمر وترغيب في العبادة
____________________________
للخوف
والرهبة والطمع والرغبة. وقد كتب عليّ عليهالسلام : « هذا ما أوصى به وقضى به عبد الله عليّ ابتغاء وجه الله ليولجني به الجنّة ويصرفني به عن النار ». ولو لم
يكن ذلك صحيحاً لما فعله عليّ عليهالسلام ولما لقّن به غيره.
وأنّ العبد المؤمن
الفقير إذا قال : يا ربّ ارزقني حتّى أفعل كذا من وجوه البّرِ وعلم الله ذلك منه بصدق نيّته كتب الله له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله فإنّ الله واسع كريم .
وأنّه يحتجّ عبد يوم
القيامة ويقول : يا ربّ لم أزل أوسّع على خلقك لكي تنشر عليَّ هذا اليوم رحمتك ، فيقول الربّ : صدق عبدي أدخلوه الجنّة .
وأنّ عليّاً عليهالسلام كتب في صحيفة بعض صدقاته : « هذا ما أمر به عليّ في ماله ابتغاء وجه الله ليولجني به الجنّة ويعطيني الأمنة » .
وأنّ من صام يوماً
تطوّعاً ابتغاء ثواب الله وجبت له المغفرة .
وأنّ من عمل الخير
لثواب الدنيا أعطاه الله ثوابه في الدنيا وكان له في الآخرة النار لقوله تعالى : (
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ
أَعْمَالَهُمْ فِيهَا ) .
وأنّ المؤمن إذا اُوقف
يوم القيامة بين يدي الله يقول للملائكة : هلمّوا الصحف التي فيها أعماله التي لم يعملها فيقرأها ويقول : وعزّتك إنّي لم أعمل منها
____________________________
شيئاً
، فيقول : صدقت ، نويتها فكتبناها لك ، ثمّ يُثاب عليها .
وأنّه ما ضعف بدن عبدٍ
عمّا قويت عليه النّية .
وأنّ من حسنت نيّته
زاد الله في رزقه .
وأنّ صاحب النّية
الصادقة صاحب القلب السليم .
وأنّ عون الله على
العباد على قدر نيّاتهم. فمن صحّت نيّته تمّ عون الله له ، ومن قصرت نيّته قصر عون الله .
وأنّه لكلّ امرئٍ ما
نوىٰ ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى الدنيا فهجرته إلى ما هاجر إليه .
____________________________

الدّرس السّابع
في الإخلاص والقربة
قال تعالى : ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ
الدِّينَ ) .
وقال تعالىٰ : ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ حُنَفَاءَ ) .
الدين : الطاعة
والعبادة ، والحنيف : المائل إلى الحقّ ، والحنفاء : المائلون إلى ربّهم في أعمالهم الراغبون عن غيره إليه في طاعاتهم.
وقال تعالى : ( قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) . النسك : العبادة ، واللام في قوله : « لله » للملكيّة والسلطنة ، والمعنى : أنّ
عملي ونفسي جميعاً لله تعالى ، وليس لغيره فيهما نصيب.
وقال تعالىٰ : ( وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ )
.
____________________________
هذا البحث لبيان لزوم
إخلاص العبد قصده لله في جميع ما يعمله له ، وعدم شوب أيّ غرضٍ فيه ، وأن لا يعبد غيره تعالى من الوثن والشيطان والنفس ، ولا يشرك غيره فيما هو عبادة له.
فالإخلاص يكون ـ تارةً
ـ واجباً عقلاً وشرعاً ، ويكون تركه شركاً وكفراً كعبادة غير الله تعالى فقط أو إشراكه في عبادته ، و ـ أخرىٰ ـ واجباً وتركه
فسقاً مبطلاً للعمل كالرئاء ونحوه. و ـ ثالثةً ـ مندوباً مطلوباً وتركه مسقطاً للعمل عن درجة الكمال ، كشوب الضمائم المباحة التّبعيّة لنيّة العبادة ، ويقرب منه العبادة
لله طمعاً في جنّته أو خوفاً من ناره كما مرّ.
والنصوص الدالّة على
لزوم إخلاص الأعمال وتزكيتها وتمحيصها والسعي في كونها خالصةً لله تعالىٰ بحيث لا يشوبها أيّ غرضٍ غيره كثيرة جدّاً
بألسنة مختلفة ، بعضها وارد في تفسير الآيات الشريفة ، وبعضها مستقلّ.
فقد ورد أنّ رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : « أيها النّاس ، إنّما هو الله
والشيطان ، والحّق والباطل ، والهدىٰ والضلال ، والرشد والغيّ ، والعاجلة والعاقبة ، والحسنات والسّيئات ، فما كان من حسناتٍ فللّه ، وما كان من سيّئاتٍ فللشيطان » .
والضمير في « هو الله » راجع إلى مقصد كلّ عامل ونيّته ، والمعنى : أنّ الغرض
الباعث إلى العمل في الناس لا يخلوا من أحد أمرين : إمّا هو الله تعالى فهو إذاً حقّ
وهداية ورشد وعاقبة وحسنة ، أو هو الشيطان فهو باطل وضلالة وغيّ وعاجلة وسيّئة. وقوله : « فما كان من حسناتٍ » تفريع لما قبله ، والمعنى : أنّ كلّ حسنةٍ نراها
فهي من الأوّل ، وكلّ سيّئةٍ فهي من الثاني.
وورد أنّه : طوبىٰ
لمن أخلص لله العبادة والدعاء ولم يشغل قلبه بما ترىٰ
____________________________
عيناه
.
وأنّ الله أراد
بالأحسن في قوله : (
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا )
الأصوب الصادر عن النيّة الصادقة .
وأنّ قوله تعالىٰ
: ( إِلَّا مَنْ أَتَى
اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ). هو القلب الذي يلقىٰ ربّه وليس فيه أحد سواه ، وكلّ قلبٍ فيه شرك أو شكّ فهو ساقط .
وأنّه إذا أخلص عبد
إيمانه بالله وأجمل ذكر الله أربعين يوماً زهّده في الدنيا وبصّره دائها ودوائها وجرت ينابيع الحكمة من قلبه إلى لسانه
، أي : أثبت الله الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه ( والإيمان هنا : عقد بالجنان وإقرار باللسان وعمل
بالأركان ، وإخلاصه تصفية القلب عن غيره تعالى وتخليص الكلام عمّا لا يليق بمقام المؤمن وإخلاص العمل عن الحرام والشبهة ، والأربعين لها خصوصيّة أو هو مثال ).
وأنّ إخلاص العمل لله
ممّا لا يغلّ عليه قلب امرءٍ مسلمٍ ، أي : لا يغشّ ولا يخون المسلم في إخلاص عمله ، وليس ذلك من شأنه.
وأنّ عمل أهل الدنيا
كلّه رئاء ، إلّا ما كان مخلصاً ، والإخلاص على خطرٍ
____________________________
حتّى
ينظر العبد بما يختم .
وأنّ قول إبراهيم عليهالسلام عند توجيه وجهه إلى الله بالعبادة : ( حَنِيفًا مُسْلِمًا ) معناه : خالصاً مخلصاً لا يشوبه شيء .
وأنّ العبد إذا أشرك
غير الله في عمله ترك الله الجميع لغيره فإنّه خير شريكٍ .
وأنّه قد يصلّي العبد
ركعتين يريد بهما وجه الله فيدخله الله به الجنّة .
وأنّ الحسن الزّكي عليهالسلام قال : لو جعلت الدنيا كلّها لقمةً واحدةً ولقّمتها من يعبد الله خالصاً لرأيت أنّي مقصّر في حقّه .
وأنّ الله لا ينظر
إلى الصور والأعمال ، وإنّما ينظر إلى القلوب .
وأنّ المؤمن الكامل
هو من يكون حبّه وبغضه ، وإعطاؤه ومنعه لله تعالى وطلباً لمرضاته .
وأنّ أفضل العبادة :
الإخلاص ، أي : العبادة التي فيها الإخلاص ، أو أنّ نفس إخلاص النّية ـ مع قطع النظر عن العمل الخارجيّ ـ عبادة قلبيّة لها فضيلة وثواب ، وغيرها ممّا ورد في هذا الباب.
____________________________
الدّرس الثّامن
في العبادة وإخفائها
إخفاء العبادة وكلّ
عمل خيرٍ يصدر من المؤمن عدا الموارد التي أباح الشرع إظهار العمل فيها أو أمر بإظهاره فيها للناس قولاً أو عملاً ، مطلوب بالطبع من ناحية الشارع محثوث عليه ، حفظاً لنفس العامل عن عروض بعض الرذائل عليها كالعجب والرئاء والتكبّر وحبّ الجاه ونحوها ، وتخليصاً لعمله عن شوب الأغراض الفاسدة ، وهداية له إلى الأعمال التي ينبغي الإتيان بها خفاءً.
فقد ورد : إنّ أعظم
العبادة أجراً أخفاها .
وإنّ العمل الصالح
إذا كتمه العبد أبى الله إلّا أن يظهره ليزين الفاعل به مع ما يدّخر له من الثواب .
وإنّ المستتر بالحسنة
تعدل سبعين حسنة .
____________________________
وإنّ من كنوز الجنّة
إخفاء العمل .
وإنّ من شهر نفسه
بالعبادة فاتّهموه فإنّ الله يبغض شهرة العبادة .
وإن لله عباداً
عاملوه بخالص من سرّه فقابلهم بخالصٍ من برّه. فهم الذين تمرّ صحفهم يوم القيامة فارغةً ، فاذا وقفوا بين يديه ملأها لهم من سرّ ما أسرّوا إليه .
نعم ، من المندوب
المطلوب إظهار العمل أحياناً والإتيان به بمرئىً من الناس ومنظرٍ كما في الصلوات الواجبة خاصّةً مع الجماعة ، وفي إخراج الوجوه الواجبة من الزكاة والخمس ومنذور التّصدّق به وغيره ، وذلك لأن تشيع عبادة الله وطاعته في الناس ويرغب إليها الغافلون ، ويكون نوعاً من الأمر بالمعروف ، وسبباً لزوال التّهمة عن العامل لو كان مورداً للتّهمة. ومقتضى بعض هذه الوجوه ـ كما ترىٰ
ـ وجوب إظهاره. وقد يوسوس الوسواس الخنّاس في صدور بعض الناس في هذه الموارد بأنّ الإظهار يكون رئاءً فيخفيه لذلك ، وهو من همزات الشياطين فلا يعتن بذلك ، وليقل :
إنّ ربّي أحبّ
الإظهار وما أحبّ إلّا ما أحبّه. وإذا شكّ في مورٍد في حسن الإخفاء أو الإظهار فليختر ما شاء ، وليقل : (
رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ) . وليقل أيضاً : اللّهمّ لا تجعل
للشيطان على عقلي سبيلاً ، ولا للباطل على عملي دليلاً. والشيطان يتعقّب العامل ويوسوس له فيما إذا رآه يعتني بشأنه ، فإذا توجّه إلى ما أمره ربّه واستمرّ عليه وأعرض عن الشيطان وعصاه يئس منه وخلّاه.
____________________________
الدّرس التّاسع
في التّقوىٰ والورع والمتّقين وصفاتهم
التّقوىٰ : مصدر وقى يقي وقياً ، فبدّل واو المصدر تاءً وياؤه واواً ،
ومعناه : الحفظ والحراسة ، والمراد هنا : حفظ النفس عن مخالفة الله تعالى بفعل ما أوجبه وترك ما حرّمه ، وبمعناه الوقوىٰ والاتّقاء والتوقّي.
ثمّ إنّه لا اشكال في
أنّ مواظبة الإنسان على فعل الواجب وترك الحرام توجب حصول ملكةٍ في النفس يسهل عليه الأفعال والتروك وان كانت مخالفة لميله وهواه.
والتقوى كلمة تطلق
على كلّ واحد من الأمرين ، أي : الملكة الحاصلة في النفس ، الباعثة على الوظائف الخارجيّة ، وعلى نفس الأعمال والتروك. ويبحث في علم الأخلاق تارةً عن نفس الملكة : لأنّها من مسائل العلم ، وأخرىٰ عن
الأفعال والتروك ؛ لأنّها تكون من أسباب حصولها ، كما أنّها تكون من آثارها ومسبّباتها ،
لما عرفت من أنّ بين الأفعال الخارجيّة والصفات والملكات تأثيرات متقابلة وإن كان
حق
السبق للأعمال في الملكات الاكتسابيّة ، وللملكات في الموهوبيّة. فالبحث عن الأفعال في المقام ، لأنّها تورث في النفس حصول الملكة.
وأمّا الورع : فقد
يطلق على التقوىٰ. وقد يطلق على خصوص ترك المحرّمات ، وقد يطلق على ترك الشبهات أيضاً ، حتّى فيما لو قام الدليل على الجواز
من خبرٍ أو أصلٍ مع احتمال عدمه في الواقع. فهو ـ حينئذٍ ـ مرتبة فوق التقوىٰ
، ويشهد على إرادة الملكة من التقوىٰ في عدّةٍ من الآيات والنصوص ، كثرة ذكر المتّقين بصيغة الفاعل الظاهرة في إرادة الصفة دون الفعل ، وعدّ العمل بالوظائف الدينيّة من علامات المتّقين ، ووقوع التصريح في بعض النصوص بأنّ التقوىٰ في
القلب وما أشبه ذلك ، كما أنّ القرائن قد تشهد على كون المراد بالتقوىٰ في
بعض النصوص : هو نفس الأعمال الخارجيّة كما ورد في تفسير التقوىٰ عن الصادق عليهالسلام : « أن لا يفقدك الله حيث أمرك ، ولا يراك حيث نهاك » .
ثمّ إنّ الآيات
الشريفة القرآنيّة ونصوص أهل البيت عليهمالسلام في المقام كثيرة جدّاً سيقت لبيان نفس التقوىٰ وما يترتّب عليها من الآثار الدنيويّة
والمثوبة الأخرويّة ، وبيان حال المتّقين ومدحهم وذكر مراتبهم عند الله وصفاتهم وعلائمهم وغير ذلك ـ جعلنا الله منهم ، ووفّقنا للدخول في زمرتهم والوفود إليه في الجنان معهم إن شاء الله ـ.
فقد ورد في الكتاب
الكريم : ( فَإِنَّ خَيْرَ
الزَّادِ التَّقْوَىٰ ) .
وأن ( لِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ )
.
____________________________
وأنّه يجب التعاون
على التقوىٰ.
وأنّ المسجد الذي اُسّس
على التقوىٰ أحقّ بالقيام فيه.
وأنّ من أسّس بنيانه
على تقوىً خير.
وأنّ العاقبة للتقوىٰ.
وأنّ تعظيم شعائر
الله من تقوىٰ القلوب. وأنّ الله لا يناله لحوم الأضاحي ودماءها ، بل يناله التقوىٰ منكم.
وأنّ الله ألزم
المؤمنين كلمة التقوىٰ وكانوا أحقَّ بها وأهلها.
(
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ
أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ ) .
وأنّ الناس اُمروا
بأن يتناجوا بالتقوىٰ.
وأنّ الله ألهم النفس
فجورها وتقواها.
وأنّ ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ
تَقْوَاهُمْ ) . وقد ورد في الكتاب الكريم بالنسبة إلى المتّقين : إنّ المتّقين هم الذين يؤمنون بالغيب ، وبما اُنزل
إلى
____________________________
الأنبياء
، وبالآخرة ، ويقيمون الصلاة ، وينفقون ممّا رزقهم الله ،
و ( أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) ، و (
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) ، وأنّ (
اللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ) . وأنّ العمل ( إِنَّمَا
يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) . وأنّ الله يكتب رحمته للذين يتّقون ،
وأنّ الله قال للناس : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) . وأنّه قال للمتّقين : ( إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ) وأنّ (
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا
يَحْتَسِبُ ) وأنّ المتّقين ( إِذَا مَسَّهُمْ
طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ )
، و (
إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) ، و (
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ) .
وأنّ الكتاب الكريم ( هُدًى لِلْمُتَّقِينَ )
، وأنّه (
مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) وأنّه ( تَذْكِرَةٌ
لِلْمُتَّقِينَ ) ، وأنّه نزل بلسان النّبي ليبشّر به
المتّقين ، وأنّ كتاب موسىٰ كان فرقاناً ( وَضِيَاءً وَذِكْرًا
لِلْمُتَّقِينَ ) .
____________________________
وأنّ الدار الآخرة
نعم دار المتّقين ، وأنّ (
الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ )
، وأنّ الذين يتّقون فوق الكفّار يوم القيامة ، وأنّ الله لم يجعل المتّقين كالفجّار
، وأنّ المتّقين يُحشرون إلى الرحمن وفداً ، و (
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ) و (
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ) ، و أنّ الجنّة اُعدّت للمتّقين
، وأنّه ( أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ
لِلْمُتَّقِينَ ) ، وأنّه ( سِيقَ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ) ، وأنّ الذين اتّقوا ( لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ ) .
وورد في نصوص أهل
البيت عليهمالسلام : أنّ التقوىٰ في القلب .
وأنّه ينفجر من عين
المعرفة بالله .
وأنّ التُقىٰ
رئيس الأخلاق .
وأنّ هنا خصلةً من
لزمها أطاعته الدنيا وربح الفوز بالجنّة وهي : التقوىٰ .
____________________________
وأنّ التقوىٰ :
أن لا يفقدك الله حيث أمرك ، ولا يراك حيث نهاك .
وأنّه يجب على الناس
الاتّقاء حقّ التقوىٰ ، أي : بما استطاعوا.
وأنّ من أخرجه الله
من ذلّ المعاصي إلى عزّ التقوىٰ أغناه من غير مالٍ ، وأعزّه من غير عشيرةٍ ، وآنسه من غير بشرٍ ( أي : لو أعرض عنه الناس لتقواه أوجد في قلبه طمأنينةً يأنس بها بإيمانه وعلومه وعباداته ).
وأنّ لأهل التقوىٰ
علامات يعرفون بها : كصدق الحديث وأداء الأمانة والوفاء بالعهد ـ الخ .
وأنّ من اتقىٰ
عاش قويّاً وسار في بلاد عدوّه آمناً .
وأنّ الأتقياء حصون
الناس .
وأنّ الله قد ضمن لمن
اتّقاه أن يحوّله عمّا يكره إلى ما يحبّ .
وأنّ من اعتصم بالله
بتقواه عصمه الله ، وكان في حرز الله بالتقوىٰ من كلّ بليّةٍ ، فإنّ الله قال : (
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ).
وأنّ السماوات والأرض
لو كانتا رتقاً على عبدٍ ثمّ اتّقى الله لجعل الله له منهما فرجاً ومخرجاً .
____________________________
وأنّ التقوىٰ
دواء داء القلوب ، وبصر عمى الأفئدة ، وطهور دنس الأنفس .
وأنّ أتقى الناس من
قال الحقّ فيما له وعليه .
وأنّه لا كرم أعزّ من
التقوىٰ .
وأنّ التقوىٰ
رأس الأمر .
وأنّه لا فضل لأحدٍ
على أحدٍ إلّا بتقوى الله .
وأنّ المتّقي محبوب
عند كلّ فريق .
وأنّ القيامة عرس
المتّقين .
وأنّ أكثر ما يدخل به
الجنّة تقوى الله .
وأنّ أشدّ العبادة
الورع .
وأنّه لا ينفع اجتهاد
لا ورع فيه ( أي : إتعاب النفس في فعل الطاعات مع عدم ترك المحرّمات ).
وأنّ من لقي الله بالورع
كان له عند الله فرجاً ، أي : كان ورعه في الدنيا فرجه عن كلّ ضيقٍ في الآخرة.
____________________________
وأنّه لا يُعدّ الرجل
مؤمناً حتّى يكون ورعاً .
وأنّ الورع هو الذي
يثبت الإيمان في قلب العبد .
وأنّ أورع النّاس من
وقف عند الشبهة .
وأنّ الورع هو الدين
الذي يلازمه الأئمّة عليهمالسلام ويريدونه من مواليهم .
وأنّ المتورّع لا يُتعب
الأئمّة عليهمالسلام بالشفاعة .
وأنّه يجب صون الدين
بالورع .
وأنّه لا يُنال ما
عند الله ولا يتقرّب به إلّا بالورع .
____________________________
الدّرس العاشر
في الزّهد ودرجاته وعلاماته
الزّهد
في اللغة : ترك الشيء والإعراض عنه ، يقال : زهد يزهد من باب منع وشرف ، في الشيء وعن الشيء : رغب عنه وتركه. ويُراد به في الشرع كثيراً مّا ، ملكة الإعراض عن الدنيا وعدم تعلّق القلب بها ، وعدم الاعتناء بشأنها وإن كانت نفسها حاصلةً للشخص من طريقٍ محلّلٍ ؛ وله مرتبتان : الزهد عن حرامها وعمّا نهى الله عنه من زخارفها ، والزهد عن حلالها وما أباحه وسوّغه ، وفي الآيات الكريمة والنصوص الواردة في الباب ما يوضح حقيقته ومراتبه وما يترتّب عليه من الآثار والثواب.
قال تعالى : ( لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا
تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ) وقال : (
لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ )
.( فمن الواضح أنّه إذا لم يتعلّق القلب بشيء لم يتأثر بالحزن عند فوته ، ولا بالفرح عند حصوله ). وقد خاطب الله تعالى النّبيّ
____________________________
الأقدس
أو كلّ مخاطبٍ له قلب ، وقال : (
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ) ( ومدّ العين كناية عن النظر إليه
إعجاباً ورغبةً ). والنهي إرشاد إلى وجود المفسدة في ذلك ، فإنّه يضادّ الزهد ، وتركه يستلزم تحقّق صفة الزهد. وورد في النصوص أنّ حدّ الزهد ما ذكره تعالى ، فإنّه بين كلمتين من الكتاب ( لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ )
.
وأنّ الزهد في الدنيا
قصر الأمل .
وأنّه ليس بإضاعة
المال ولا بتحريم الحلال ، بل الزهد في الدنيا أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله .
وأنّ الزهد تنكب حرام
الدنيا .
وأنّه لا زهد كالزهد
في الحرام .
وأنّ أزهد الناس من ترك
الحرام .
وأنّ الزاهد في
الدنيا : الذي يتحرّج من حلالها فيتركه مخافة حسابها ، ويترك حرامها مخافة عقابها .
وأنّه ما تزين المتزيّنون
بمثل الزهد في الدنيا .
____________________________
وأنّ حبّ الدنيا رأس
كل خطيئةٍ ، فإنّه قد أحبّ ما أبغضه الله ، وأيّ خطأ أشدّ جرماً من هذا.
وأنّ الزاهد هو
المتبلّغ بدون قوّته والمستعدّ ليوم موته والمتبرّم بحياته .
وأنّ أفضل الزهد
إخفاء الزهد .
وأنّ الزهّاد كانوا
قوماً من أهل الدنيا وليسوا من أهلها فكانوا فيها كمن ليس منها يرون أهل الدنيا يعظّمون موت أجسادهم وهم أشدّ إعظاماً لموت قلوبهم .
وأنّ الناس ما
تعبّدوا الله بشئٍ مثل الزهد في الدنيا .
وأنّ أعلى درجات
الزهد أدنى درجات الورع .
وأنّ صلاح أوّل هذه
الأمّة كان بالزهد .
وإذا رأيتم الرجل قد
أعطى الزهد في الدنيا فاقتربوا منه فإنّه يلقى الحكمة .
وإذا زهد الرجل فيما
عند الناس أحبّه الناس . ومن زهد الدنيا أثبت الله الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه ، وبصّره عيوب الدنيا داءها ودواءها .
____________________________
والله تعالى يبيح جنّته
للمتقرّب إليه بالزهد .
وأزهد الناس من لا
يطلب المعدوم حتّى ينفد الموجود .
____________________________
الدّرس الحادي عشر
في الخوف والرّجاء
هما
من الأوصاف القلبيّة والصفات النفسيّة ، ووجودهما في الإنسان من ذاتيّاته وفطريّاته ، ولا يوجد إنسان لم يكونا فيه ولو بالنسبة إلى بعض الأمور ويختلفان بالقياس إلى الأشخاص وإلى المتعلّقات في الشّدّة والضعف اختلافاً كثيراً.
والمراد بالخوف في
المقام : الخوف من الله تعالى من مقام ذاته ، ومن غضبه وسخطه ، ومن عذابه في الدنيا وعقابه وناره في الآخرة. وبالرجاء : الرجاء منه تعالى ، رجاء رحمته وقربه وإحسانه في الدنيا ونعمه ورضاه وجنّته في الآخرة وهذان هما اللذان يمكن أن لا يوجدا في الإنسان أو يوجدا قليلاً ، وهما اللذان يجب عقلاً ونقلاً ـ تحصيلها بالتّفكر في عظمته وقدرته ، والتّأمل في أخذه للطاغين والعاصين وبطشه ، وما صنعه تعالى بالكفّار والمنافقين والمستكبرين من الأمم الماضية من الإهلاك بالطوفان والغرق والصاعقة والرجفة والصيحة والخسف
والوباء
والطاعون وما أوعده تعالى لأعدائه في عالم الآخرة. وبالتّفكر في ما أنعم الله على عباده الصالحين في الدنيا من العلم والملك والولد والمال والنعمة والعافية وما وعده تعالى لأوليائه في الآخرة من غفرانه وإحسانه وإعطائه مقام الشهادة والشفاعة والجنّة والرضوان ممّا يعجز عنه وصف الواصفين ولم يبلغه نعت الناعتين.
ثمّ إنّ الوصفين
حالتان تعرضان على النفس كثيراً ما تكونان متلازمتين ، بل يجب أن يكونا كذلك بالنسبة لمقام ربّ العالمين ، بحيث لو حصل للانسان خوف منه تعالى بلا رجاء أو رجاء بلا خوف كان ممّا ورد النهي عنه وعبّر عنهما : باليأس من روح الله والأمن من مكر الله ، بل اللازم وجودهما وتساويهما بحيث لو وزنا لم يتراجحا ، وأيضاً : من اللازم أن يكونا مسبّبين عن قدرة الله تعالى وعفوه وكرمه
نظير ما إذا قتل زيد ولد شخصٍ كبيرٍ قادرٍ على الانتقام عظيم كريم الصفح ، فإنّه يحصل للقاتل ـ مع ملاحظة خطأه ـ حالة خوفٍ بالنظر إلى قدرته ورجاء بالقياس إلى كرمه ، فاللازم على العبد المذنب إذا فكّر في قدرة الله أن يخاف منه ،
وإذا فكّر في عفوه وكرمه أن يرجوا صفحه. وأمّا الرجاء الحاصل من حسبان نفسه لائقاً بالعفو أو الإثابة أو رؤية عمله حسناً جميلاً يستحقّ به الجزاء فهو مذموم.
والحالتان قد تحصلان
بالنسبة إلى الذنب وعقوبته ، وقد تحصلان بالنسبة إلى العمل الصالح وثوابه ، فالعبد كما قد يخاف من عقاب ذنبه ويرجوا العفو عنه كذلك قد يخاف من حرمان ثواب عمله ويرجوا الفوز به ، فالأولى أن نورد شيئاً ممّا ورد في الوصفين وآثارهما ، أي : ما ورد في صفة الخوف من الله تعالى ومن بطشه و عقابه ، وفي صفة الرجاء منه تعالى ـ رجاء غفرانه وإحسانه ـ.
فنقول : خاطب الله
الناس بقوله : (
وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) وقوله : (
وَخَافُونِ إِنْ
____________________________
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) وقوله : (
فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ) وقال لرسله بعدما وعدهم إهلاك الظالمين وإسكانهم الأرض : (
ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ )
ووصف رسله بأنّهم الذين يرجون رحمته ويخافون عذابه وقال تعالى : ( وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ )
وقال لنبيّه في حقّ القرآن : (
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَىٰ رَبِّهِمْ )
وقال : (
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ
اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ )
.
ووصف رجالاً من
أوليائه بأنّهم : (
يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) .
ووصف آخرين بأنّهم هم
( الَّذِينَ
يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ) وقال في حقّ الملائكة والأنبياء : ( وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ) وقال في حقّ المتّقين : ( الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ
السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ) وقال في حقّ المسارعين إلى الخيرات : ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ )
. وقال في حقّ العلماء : (
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
____________________________
الْعُلَمَاءُ ) . وقال : (
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ
وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ )
. وقال تعالى : (
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ )
و (
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ
كَبِيرٌ ) . وأنّ المؤمنين المهاجرين (
أُولَـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ )
. وأنّ المؤمنين من النصارىٰ قالوا : ( وَنَطْمَعُ أَنْ
يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ )
وقال : (
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ )
.
وورد في النصوص
الصادرة عن النّبيّ الأعظم وأهل بيته المعصومين أنّ الخوف رقيب القلب والرجاء شفيع النفس ، ومن كان بالله عارفاً كان من الله خائفاً واليه راجياً .
وأنّ الصادق عليهالسلام قال : أرج الله رجاءً لا يجرّئك على معاصيه ، وخفِ الله خوفاً لا يؤيسك من رحمته .
وأنّ لقمان قال لابنه
: خفِ الله خيفةً لو جئته ببر الثقلين لعذّبك ، وارجُ الله رجاءً لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك .
وأنّ الصادق عليهالسلام قال : خفِ اللهَ كأنّك تراه ، وإن كنت لا تراه ، فإنّه يراك .
____________________________
وأنّ من عرف الله
خافه ، ومن خاف الله سخت نفسه عن الدنيا .
وأنّ الذين يقولون :
نرجوا ولا يعملون يترجّحون في الأماني كذبوا ليسوا براجين .
وأنّ من رجا شيئاً
طلبه ، ومن خاف من شيءٍ هرب منه .
وأنّ من شدّة العبادة
الخوف من الله .
وأنّ حبّ الشرف
والذكر لا يكونان في قلب الخائف الراهب .
وأنّ المؤمن يعمل بين
مخافتين : بين أجلٍ قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه ، وبين أجلٍ قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه ، فلا يصبح ولا يمسي إلّا خائفاً وإن
كان محسناً ، ولا يصلحه إلّا الخوف .
وأنّه لا يكون المؤمن
مؤمناً حتّى يكون خائفاً راجياً .
وأنّه لا ينال المؤمن
خير الدنيا والآخرة إلّا بحسن ظنّه ورجائه .
وأنّ خير الناس عند
الله أخوفهم لله .
وأنّ من اجتنب شهوةً
من مخافة الله حرّم الله عليه النار .
____________________________
وأنّه كفىٰ
بخشية الله علماً .
وأنّ الله تعالى قال
: «
وعزّتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ، ولا أجمع له أمنين ، فإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة ، وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم
القيامة » .
وأنّ سلمان قال :
أبكتني ثلاث : فراق الأحبّة ، والهول عند غمرات الموت ، والوقوف بين يدي ربِّ العالمين .
____________________________
الدّرس الثّاني عشر
في حسن الظّن بالله تعالى
حسن الظّن بالله
ملازم لرجائه ، أو هو علّة لتحقّقه ، وقد ذكر مدحه في النصوص ، ووردت في حسنه ولزوم تحصيله الحثوث ، وذلك لئلّا يغلب على المؤمن حالة الخوف فيترجّح على رجائه ، أو يحصل له اليأس من روح الله لكثرة ما أوعد الله في كتابه من العذاب والنار على الكافرين والعاصين مع الغفلة عما وعده تعالى
في كتابه من الرحمة والمغفرة والجنّة للمؤمنين المطيعين أو يحصل له ذلك من وساوس الخنّاس ، من الجنّة والناس.
ويمكن أن يكون ذلك
إرشاداً إلى حسن غلبة حالة الرجاء على الخوف ، لأنّ الله سبقت رحمته غضبه وعفوه عقابه ، وسيأتي ما يظهر منه الأمر.
وقد ورد في آيات من
الكتاب الكريم ، كقوله تعالى في ذمّ كلّ منافق : ( الظَّانِّينَ
بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ) وقوله فيهم أيضاً : ( يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ
____________________________
الْجَاهِلِيَّةِ ) . وفي الآيتين توضيح للمنافقين بأنّهم
ظنّوا أنّ الله لا ينصر رسوله فاللازم للانسان أن يظنّ بالله ما يناسب مقامه تعالى. وقوله تعالى : ( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) وقوله تعالى : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَىٰ
ظُلْمِهِمْ ) ففي الآيتين إرشاد إلى لزوم الرجاء وحسن الظّن. وقوله تعالى : ( مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى
السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ ) أي : فليعلّق حبلاً بسقف بيته وسماء داره وليجعله على عنقه ليقطع نفسه. والآية تنهى عن قطع الرجاء وترك حسن الظّن. وقوله تعالى : (
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ )
فتوصيف الربّ بالكرم تلقين للإنسان أن يقول : غرّني كرمك يا ربّ ففيه حثّ على تحسين الظنّ بالكريم تعالى.
وورد في النصوص أنّه
، أحسن الظنّ بالله فإنّ الله يقول : « أنا عند حسن ظنّ عبدي المؤمن بي إن خيراً فخيراً وإن شرّاً فشرّاً » .
وأنّ حسن الظّن بالله
أن لا ترجوا إلّا الله ، ولا تخاف إلّا ذنبك .
وأنّه ما أعطي مؤمن
خير الدنيا والآخرة إلّا بحسن ظنّه بالله ورجائه له .
وأنّه لا يحسن ظنّ
عبد مؤمن بالله إلّا كان الله عند ظنّه ، لأنّه يستحي أن يكون عبده قد أحسن به الظّن ثمّ يخلف ظنّه ورجاءه ، فيجب حسن الظّن بالله
____________________________
والرغبة
إليه . وفي منظومة المحقّق بحر العلوم في حكم المحتضر :
وليحسن
الظن بربٍّ ذي منن
|
|
فإنّه
في ظن عبده الحسن
|
____________________________

الدّرس الثّالث عشر
في الصّدق ووجوبه وموارد استثنائه
الصّدق
في اللغة : المطابقة ويقابله الكذب وهو : اللّا مطابقة. وكثر استعماله في مطابقة الكلام الإخباري للمخبر به ، أو لاعتقاد المخبر أو لكليهما ، بل قد قيل :
إنّ هذا هو معناه الحقيقي وغيره مجاز ، ويستعمل الصدق في الاعتقاد المطابق للواقع وفي الفعل الموافق للقول ، وفي كلّ فعلٍ خارجيٍّ إذا وقع على النحو الذي يترقّب ويليق. فيقال : صدق في ظنّه ، وصدق في وعده ، وصدق في قتاله وعطائه.
والصّدّيق : كثير الصّدق
أو من لم يكذب قطّ ، أو من لا يقدر على الكذب إلّا بعسر ؛ لاعتياده بالصدق. والصّدّيقون : قوم من الناس يتلون تلو الأنبياء كما قيل. والمراد بالبحث هنا : الصدق في الكلام أو ملكة الصدق فيه. ويقع الكلام في غيره أيضاً بالمناسبة.
وقد ورد في الكتاب
الكريم أنّ ( هَـٰذَا
يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ )
أي : صدقهم فيما اعتقدوا وتكلّموا وعملوا. وقال تعالى : (
رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) وهذا صدق في العمل على طبق العهد.
وورد في النصوص : أنّ
الله لم يبعث نبيّاً إلّا بصدق الحديث وأداء الأمانة ،
أي : كان النّبيّ المبعوث متلبّساً بالصدق في كلامه ، أو أنّ وجوب الصدق في الحديث
كان من أحكام شريعته.
وورد أنّه : لا تغترّوا
بصلاة الرجل وصيامه حتّى تختبروه بصدق الحديث .
وأنّ : من صدق لسانه
زكى عمله .
وأنّه : يجب تعلّم
الصدق قبل الحديث ، أي : قبل مطلق الكلام ، أو قبل نقل الرواية عن أهل البيت عليهمالسلام.
وأنّ علياً عليهالسلام بلغ ما بلغ به عند النّبي الأعظم بصدق الحديث .
فيجب على كل أحد أن يلتزم به.
وأنّ الصادق في القول
أوّل من يصدّقه الله تعالى حيث يعلم أنّه صادق ، ثمّ
____________________________
تصدّقه
نفسه فيعلم أنّه صادق .
وأنّ الرجل ليصدق حتّى
يكتبه الله صدّيقاً ، أي : من الصادقين.
وأنّ زينة الحديث
الصدق .
وأنّ الأحسن من الصدق
: قائله .
وأنّه : ألزموا الصدق
فإنّه منجاة .
وأنّه : ثلاث يقبح
فيهنّ الصدق : النّميمة ، وإخبارك الرجل عن أهله بما يكرهه ، وتكذيبك الرجل عن الخبر .
وأنّ المسلم إذا سئل
عن مسلمٍ فصدق وأدخل على ذلك المسلم مضرّةً كتب من الكاذبين ، وإذا كذب فأدخل عليه منفعةً كتب عند الله من الصادقين .
وأنّه : يحرم الصدق
ويجب الكذب عند التّقيّة ، وقد ذكر في بابها.
____________________________

الدّرس الرّابع عشر
في الشّكر
الشّكر
في اللغة : الثناء ، يُقال : شكرته أو شكرت له ، أي : أثنيت عليه. أو هو بمعنى : الكشف ؛ لأنّه مقلوب كشر بمعنى : كشف ، والمراد هنا : مقابلة نعمة المنعم
بالنّيّة أو القول أو الفعل ، ومعنى الأوّل : القصد إلى تعظيم صاحبها وتمجيده وتحميده ويلازم ذلك عرفانه بذاته وصفاته ومقامه والتّفكر في علل إنعامه وإحسانه ليعرف كيفية شكره ومقدار ما يجب عليه عقلاً من مقابلة نعمته والعزم على القيام بذلك مهما تيسّر.
ومعنى الثاني : إظهار
ذلك بلسانه بما يناسب مقام المنعم ومقدار النعمة.
ومعنى الثالث :
إستعمال ما وصل إليه من النعمة فيما أراده المنعم ، إن علم كون البذل لغرضٍ خاصٍّ أو اشترط عليه مصرفاً معيّناً. وأن لا يصرفها في خلاف رضاه أو في مخالفته ومضادّته. هذا في الشكر بنحو الإطلاق ، وأمّا شكر المنعم تعالى
فهو من أوجب الواجبات العقليّة ، ولا يمكن الإتيان بشئٍ من شكر نعمه تعالى
إلّا
بصرف
نعم كثيرةٍ أخرىٰ منه تعالى ، فإنّ جميع أسباب القيام بالشكر : من العقل والقلب واللّسان والجوارح كلّها نعم مبذولة من ناحيته تعالى ، والأفعال الصادرة بها أيضاً تصدر بنصرته وإمداده.
فكلّما قال الشاكر :
لك الشكر احتاج ذلك إلى شكر. وكلّما قال : لك الحمد وجب أن يقول كذلك : لك الحمد. وعلى هذا فحقيقة الشكر تنتهي إلى العجز عن الشكر ، ويكون آخر مراتب الشكر هو الاعتراف بالعجز عن الشكر ، فقد ورد : أنّ الله أوحى إلى موسى « أشكرني حقّ شكري ، فقال : يا ربّ كيف ذلك وليس من شكرٍ إلّا وأنت أنعمت به عليّ ، فقال : الآن شكرتني حين علمت ذلك » .
وفي الباب آيات ونصوص
: فقد ورد في الذكر الحكيم قوله تعالى : (
وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ) وقوله تعالى : ( فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )
وقوله تعالى : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ
رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي
لَشَدِيدٌ ) وقوله تعالى : ( وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ) .
وورد : أنّ إبراهيم ( شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ )
.
وأنّ نوحاً ( عَبْدًا شَكُورًا ) .
وأنّه ( مَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ )
.
____________________________
وأنّ الله أسبغ نعمه
على الناس ظاهرةً وباطنةً ، ليأكلوا من رزق ربّهم ويشكروا له .
وأنّه : ( إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ )
.
وفي النصوص الواردة :
الطاعم الشاكر أجره كأجر الصائم المحتسب ( والمحتسب : الذي يأتي بعمله لوجه الله )
وما فتح الله على عبدٍ
باب شكر فخزن عنه باب الزيادة .
وقالت عائشة : يا
رسول الله لِمَ تُتعِب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : أفلا أكون عبداً شكوراً ؟ .
وفي التوراة مكتوب :
أشكر من أنعم عليك ، وأنعم على من شكرك ، فإنّه لا زوال للنعماء إذا شكرت ، ولا بقاء لها إذا كفرت. والشكر زيادة في النعم وأمان من الغير .
والمعافي الشاكر له
من الأجر ما للمبتلى الصابر. والمعطي الشاكر له من الأجر كالمحروم القانع .
وقوله تعالى : ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ )
معناه : حدّث بما أعطاك الله
____________________________
ورزقك
وأحسن اليك وهداك ، وهذا خطاب للنّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ولجميع أمّته.
وحدّ الشكر الذي إذا
فعله العبد كان شاكراً أن يحمد على كلّ نعمةٍ في أهلٍ ومالٍ يؤدّى كلّ حقّ في المال .
ومن حمد الله على
النعمة فقد شكرها وكان الحمد أفضل من تلك النعمة وأعظم وأوزن ( أي : التوفيق على الحمد نعمة أخرى
أفضل من الأولى ).
وما أنعم الله على
عبدٍ نعمةً صغرت أو كبرت فقال : الحمد لله إلّا أدّىٰ شكرها .
ومن عرفها بقلبه فقد
أدّى شكرها ، أي : عرف مُنعمها وقدرها.
وسعة الدنيا وتتابع
النعم على الإنسان لا يكون إستدراجاً مع الحمد .
وإذا ورد على الإنسان
أمر يسرّه فليقل : الحمد لله على هذه النعمة ، وإذا ورد أمر يغتم به فليقل : الحمد لله على كلّ حال .
وإذا نظرت إلى
المبتلى بالمرض أو المعصية فقل في نفسك : الحمد لله الذي عافاني ممّا ابتلاك به وفضّلني بالعافية . أو فقل : اللّهم لا أسخر ولا أفخر ،
ولكن أحمدك عظيم نعمائك عليّ .
____________________________
وينبغي أن تسجد لله
عند تجدّد كلّ نعمةٍ سجدةً .
ويقول الله تعالى
لعبده يوم القيامة : أشكرت فلاناً ؟ ( واسطة النعمة ) فيقول : بل شكرتك ، فيقول : لم تشكرني إذ لم تشكره ، فأشكركم لله أشكركم للناس .
ومن لم يشكر المنعم
من المخلوقين لم يشكر الله .
ولا يضر للانسان شيء
مع الشكر عند النعمة .
ومن اُعطى الشكر اُعطي
الزيادة لقوله تعالى : (
لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ) .
وما أنعم الله على
عبدٍ نعمةً فعرفها بقلبه وحمد الله بلسانه إلّا اُمر له بالمزيد ولا ينقطع المزيد من الله حتّى ينقطع الشكر من العبد .
وأعظم شكر النعمة إجتناب
المحارم .
وكلّ نعمةٍ إذا لم
تشكر تصير وبالاً .
ومن احتمل الجفاء ولم
ينكره ولم يبغضه لم يشكر النعمة .
وإذا رأى الإنسان صرف
البلاء عنه فعليه الشكر له .
____________________________
وكلّ نعمةٍ قصّر
العبد عن شكره فللّه عليه حجّة فيه .
ومن اُتي إليه معروف
فليكافئ ، فإن عجز فليثن به ، وإن كَلَّ لسانه فليعرفه وليحبّ المنعم ، وإلّا كفر النعمة .
ويجب إحسان جوار
النعم مخافة أن تنتقل إلى الغير ، وإذا انتقلت تشهد على صاحبها بما عمل فيها ولم ترجع فإنّه قلّ ما أدبر شيء فأقبل .
ومن لم يعلم فضل نعم
الله إلّا في مطعمه ومشربه فقد قصر علمه ودنا عذابه .
والشكر يدفع العذاب
لقوله تعالى : (
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ) .
وضغطة القبر كفّارة
من تضييع النعم .
وعليك في كلّ نفسٍ من
أنفاسك شكر . وأدناه أن لا تعصي المنعم ولا تخالفه بنعمته.
ونعمة لا تُشكر كسيّئةٍ
لا تُغفر .
____________________________
الدّرس الخامس عشر
في الصّبر
عرّفه المحقّق الطّوسي
قدسسره بأنّه : حبس النفس عن الجزع عند
المكروه. وعرّفه الراغب في مفرداته بأنّه : الامساك في ضيق ، يقال : صبرت الدابّة : حبستها بلا علفٍ
، والصبر حبس النفس على ما يقتضيه العقل أو الشرع ـ انتهى.
والأولى تعريفه بأنّه
: ملكة قوّةٍ وصلابةٍ في النفس تفيد عدم تأثّرها عند المكاره ، وعدم تسليمها للأهواء ، ويسهل عليها القيام بما يقتضيه العقل ويطلبه الشرع ، فيسهل للصابر حبس النفس عند المصائب عن إضطراب القلب وشكاية اللسان وحركات الأعضاء على خلاف ما ينبغي. وعند المحرّمات والشهوات عن الوقوع في العصيان ، وعند الفرائض حملها على الطاعة والانقياد. وعلى هذا يدخل تحتها عدّة من الصفات وتكون من مصاديقها : كالشجاعة في الحروب ، ويضادّها الجبن ، وقوّة الكتمان ويضادّها الإذاعة ، والتقوى عن المحارم ويضادّها الفسق. والجود عن النفس والمال ويضادّها البخل ، وهكذا.
وتحصل هذه القوّة
بالممارسة على الأمور الشاقّة ، وحمل النفس عليها عملاً بقضاء العقل وحكم الشرع ، وأكثر موارد استعماله في الكتاب والسنّة هو الصبر على المكاره وإن لم يكن في غيره أيضاً قليلاً.
فقد ورد في الكتاب
العظيم قوله تعالى : (
وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) و (
اصْبِرُوا وَصَابِرُوا ) (
فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ ) (
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) (
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) (
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ) (
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ) (
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) (
اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ ) (
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ) (
وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ) (
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )
(
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا ) (
وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ ) ( أُولَـٰئِكَ
يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا ) (
نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا )
____________________________
(
وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا )
. وغير ذلك من الآيات الشريفة.
وورد في النصوص :
عليك بالصبر في جميع أمورك ، فإنّ الله بعث محمّداً صلىاللهعليهوآلهوسلم
فأمره بالصبر ، فصبر
حتّى نالوه بالعظائم ورموه بها ، فأنزل الله : (
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ
أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ) فصبر في جميع أحواله حتّى قاتل أعداءه ، فقتلهم الله على أيدي رسول الله وأحبّائه ، وجعله ثواب صبره مع ما ادّخر له في الآخرة فمن صبر واحتسب ، لم يخرج من الدنيا حتّى يقرّ الله عينه
في أعدائه .
والصبر رأس الإيمان ،
فلا إيمان لمن لا صبر له .
والحرّ حرّ في جميع
أحواله ، إن نابته نائبةً صبر لها ، وإن تتراكب عليه المصائب لم تكسره ، كما صبر يوسف الصّدّيق فجعل الله الجبّار العاتي عبداً له. فالصبر يعقب خيراً ، فاصبروا ووطّنوا أنفسكم بالصبر تؤجروا .
والجنّة محفوفة
بالمكاره فمن صبر عليها في الدنيا دخل الجنّة .
والصبر في الأمور
بمنزلة الرأس من الجسد. فإذا فارق الرأس الجسد فسد الجسد ، وإذا فارق الصبر الأمور فسدت الأمور .
والإنسان إن صبر على المصائب
يُغتبط ، وإن لا يصبر ينفذ الله مقاديره راضياً
____________________________
كان
أم كارهاً .
والصبر ثلاثة : صبر
عند المصيبة حسن جميل ، وأحسن منه الصبر على الطاعة ، وأحسن من ذلك ، الصبر على المعصية والوقوف عند ما حرّم الله عليك .
وإذا فسد الزمان فصبر
المؤمن على الفقر وهو يقدر على الغنى ، وعلى البغضة وهو يقدر على المحبّة ، وعلى الذلّ وهو يقدر على العزّ آتاه الله ثواب خمسين صدّيقاً
ممّن صدّق به .
وقد عجز من لم يعدّ
لكلّ بلاءٍ صبراً .
ولا يعدم الصبور
الظفر وإن طال به الزمان .
ومن لم يُنجِهِ الصبر
أهلكه الجزع .
وقال مولانا السّجّاد
للباقر عليهماالسلام حين وفاته : أوصيك بما أوصاني به أبي :
إصبر على الحقّ وإن كان مرّاً .
والله إذا أخذ من
عبده نعمةً قسراً فصبر أعطاه الله ثلاثاً لو أعطى واحدةً منها ملائكته لرضوا ، وذلك قوله تعالى : ( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ
رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ )
.
____________________________
(
فالاسترجاع دليل الصبر والتسليم ، والجزاء : الصلاة والرحمة والهداية ).
وقال مولانا الصادق عليهالسلام : إنا صبّر وشيعتنا أصبر منّا ؛ لأنّا نصبر على ما نعلم وشيعتنا يصبرون على ما لا يعلمون ( أي : نحن نعلم بالمصائب قبل حدوثها ،
ونعلم الحكمة في حدوثها والثواب المترتّب عليها ، ونعلم عواقبها ووقت زوالها ، وكلّ ذلك له دخل في سهولة التحمّل ).
والمصيبة إذا صبر
عليها الإنسان تصير له نعمةً .
والصبر خلق قبل
البلاء وإلّا لتفطّر المؤمن كتفطّر البيضة على الصفا .
ومروءة الصبر في حال
الفاقة أكثر من مروءة الإعطاء ( أي : تكامل صفات الإنسان مع الصبر على الفاقة وعدم إقدامه على ما حرّم الله أكثر منه مع غناه وإنفاقه ).
والصبر الجميل هو
الذي ليس فيه شكوى إلى غير المؤمن .
والصبر يلي مسائلة
الإنسان في القبر إذا لم تنفعه صلاته وزكاته .
ويُنادي يوم القيامة
: أين الصابرون ؟ فيقوم الذين صبروا على أداء الفرائض ، وينادي : أين المتصبّرون ؟ فيقوم الذين اجتنبوا المحارم .
____________________________
والصبر عند البلاء
فريضة على المؤمن ، وهو من كمال الإيمان .
وعلامة الصابر أنّه
لا يكسل ولا يضجر ولا يشكوا من ربّه .
____________________________
الدّرس السّادس عشر
في التّوكّل والتّفويض
الوكول
في اللغة : ترك الأمر إلى الغير وتفويضه إليه. يقال : وكل الأمر إلى زيد : سلّمه إليه وفوّضه ، وتوكّل لزيدٍ قبل الوكالة له ، وتولّىٰ أمره وتوكّل له
وعليه : عجز من الأمر واعتمد عليه. قال في لسان العرب : والمتوكّل على الله : الذي يعلم أنّ الله
كافل رزقه وأمره فيركن إليه وحده ولا يتوكّل على غيره.
والمراد به باصطلاح
الشرع : هو الاعتماد على الله تعالى في جميع الأمور والاتّكال على إرادته ، والاعتقاد بأنّه مسبّب الأسباب والمتسلّط عليها ، وبإرادته
تتمّ الأسباب وتؤثّر لا بمعنى الاستغناء بذلك عن طلب الحوائج وترك إعداد مقدّماتها وحسبان بطلان السببيّة ، بل بمعنى : عدم الانقطاع إلى الأسباب الظاهرّية
وتوجّه النفس إلى إرادة الله التي هي وراء كلّ سببٍ وفوق كلّ سلطان.
ومقتضى توكّل المؤمن
على ربّه عدم ركونه في رزقه على الأسباب ، وتوجّه
باطنه
وسكون قلبه إلى ربّه عند الاشتغال بكلّ سبب ، وسهولة إقدامه على ما أمر الله به من بذل المال والنفس ، فيجود بالإعطاء ويطمئنّ بالخلف ، ويخوض الغمرات ولا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه.
ثّم إنّ الظاهر أنّ
مورد التوكّل والتفويض عند الإقدام إلى الأمور التي على العبد وينبغي صدوره منه : كتحصيل العلم والحرث والزرع والزواج للولد وعلاج المرض ونحوها ، ومورد الرضا والتسليم الآتيين حال حدوث الأمور الراجعة إلى فعل الله تعالى : كالحوادث الكونيّة والأمراض وغيرها. فإذا أقدم المؤمن على أمرٍ هامٍّ فعليه أن يتوكّل ويفوّض ، وإذا قضى النظام الأتمّ على خلاف مناه فعليه أن يرضى ويسلّم هذا ، ولكنّه قد يستعمل كلّ من العناوين في موضع الآخر.
وقد ورد في الكتاب
الكريم : أنّ (
عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ )
(
وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) وأنّه (
إِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُتَوَكِّلِينَ ) . وأنّه ( وَكَفَىٰ
بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ نَصِيرًا )
و (
وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا ) وأنّ المؤمن يقول : ( إِنَّ وَلِيِّيَ
اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ )
. وأنّ الله قال لنبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : ( إِنْ يُرِيدُوا أَنْ
يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ) . وأنّ النّبيّ موسى عليهالسلام قال : (
يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا ... فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ
تَوَكَّلْنَا ) .
____________________________
وأنّ ( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ
وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ) . وأنّه (
مَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ) . وأنّ ما (
يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) . وأنّهم (
لَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا ).
وأنه : (
اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ) وأنّ (
بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ ).
و (
مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ
بِكُمْ رَحْمَةً ) و (
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) . وأنّ مؤمن آل فرعون قال : ( وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ )
فوقاه سيّئات ما مكروا. وأنّ ( مَنْ يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) .
وورد في النصوص : أنّ
الغنى والعزّ يجولان ، فإذا ظفرا بموضع التوكّل أوطنا ( وهذه إستعارة تمثيلية لبيان أنّ غنا النفس والعزّ ملازمان
للتوكّل ، فالمتوكّل مستغنٍ قلباً وعملاً ، ولو كان به خصاصة فلا يذلّ نفسه بالسؤال والخضوع ويغنيه ربّه ويعزّه إذا رأى ذلك منه ).
وأنّ من اعتصم بالله
عصمه الله .
____________________________
وأنّ من درجات التّوكل
على الله أن تتوكّل عليه في أمورك كلّها ، فما فعل بك كنت عنه راضياً تعلم أنّه لا يألوك خيراً وفضلاً .
وأنّه من أعطي التوكّل
أعطي الكفاية .
وأنّه : كُن لما لا
ترجوا أرجىٰ منك لما ترجوا ، فإنّ موسىٰ خرج يقتبس لأهله ناراً رجع نبيّاً. وخرجت ملكة سبأ فأسلمت مع سليمان. وخرج سحرة فرعون يطلبون العزّة لفرعون فرجعوا مؤمنين .
وثِق بالله تكن
مؤمناً .
ومن وثق بالزمان صرع .
وأنّ ممّا لا حيلة
لإبليس فيه أن يعتصم العبد بالله عن نيّةٍ صادقةٍ ويتّكل عليه في جميع أموره .
وأنّه أعقِل راحلتك
وتوكّل عليه .
وأنّ من أحبّ أن يكون
أتقىٰ الناس فليتوكّل على الله .
____________________________
الدّرس السّابع عشر
في الرّضا والتّسليم
مفهومهما معروف ،
ورضى العبد عن الله أن لا يكره ما يجري به قضاؤه ويقتضيه تقديره من الحوادث الكونيّة التي جرت عليه فيما مضى بلا إرادته وتجري عليه في حياته بدون اختياره كخصوصيّة خلقته وبعض ملكات نفسه ممّا ليس بيده حدوثاً أو بقاءً ، ومقدار رزقه مع بذله الوسع في طلبه بميسور قدرته ، وعدم رزق الولد له أو قلّته ، وعروض الأمراض والنوائب والمكاره ونحو ذلك ، وليس من الرّضا الممدوح رضاه بالفقر والذلّة والظلم والاستضعاف ونحوها من الأمور المتوجّهة إليه من ناحية أبناء نوعه مع قدرته على الدفاع عن نفسه وأهله وماله واستقلاله وحرّيّته ودينه وأرضه وبلاده وجميع ما له دخل في أمور معاشه ومعاده.
وأمّا رضا العبد بما
أراد الله منه من دينه وشرعه والتسليم لأحكامه وحدوده فهو أيضاً من الرّضا الممدوح ، إلّا أنّه يذكر في شرائط الإيمان وكماله ولم
يذكر في هذا الباب.
وأمّا نصوص الباب :
فقد ورد فيها : أنّ الله قال : من لم يرض بقضائي ولم يؤمن بقدري فليلتمس إلٰهاً غيري .
وقال : يا داوود إن
أسلمت لما اُريد أعطيتك ما تريد ، وإن لم تسلم أتعبتك فيما تريد ، ثمّ لا يكون إلّا ما اُريد .
وأنّ في كلّ قضاء
الله خيرة للمؤمن .
وأنّ من رضي بالقضاء
أتى عليه القضاء وهو مأجور ، ومن سخط القضاء أتى عليه وأحبط الله أجره .
وأنّ من رضي بما قسم
الله عليه استراح بدنه وقرّت عينه .
وأنّ رأس طاعة الله :
الرضا بما صنع الله فيما أحبّ وكره .
وأنّ من عباد الله من
لا يصلحه إلّا الفاقة ولو أغناه لفسد ، ومنهم من لا يصلحه إلّا السقم ، فليطمئنّوا إلى حسن نظر الله ، فإنّه يدبّر عباده بما يصلحهم والتسليم على العبد في قضاء الله فريضة .
وأنّ موسى عليهالسلام سأل ربّه عن أبغض الخلق إليه قال : من يتّهمني ، قال : وهل من خلقك من يتّهمك ؟ قال : نعم ، الذي أقضي له القضاء وهو خير له فيتّهمني .
____________________________
وأنّ : أعلم الناس
بالله أرضاهم بقضاء الله .
وأنّ : رأس الطاعة :
الرضا .
ومن رضي بالقضاء جعل
الخير فيه .
وأنّ : من ابتلاه كان
كفارةً لذنبه .
وأنّ في قضاء الله كلّ
خيرٍ للمؤمن . وأنّ الرضا بمكروه القضاء من أعلى درجات اليقين .
وأنّ أحقّ الخلق
بالتسليم لقضاء الله من عرف الله .
وأنّ علياً عليهالسلام قال : ما اُحبّ أنّ لي بالرضا في موضع القضاء حُمر النِعم
( الباء في قوله : بالرضا للبدليّة ، وحمر النعم : أقسامها وألوانها ، والمعنى :
لا اُحبّ أن ينتفي منّي الرضا ويكون لي بدله أنواع النعم ).
____________________________

الدّرس الثّامن عشر
في الحثّ على الاجتهاد والمواظبة على العمل
حثّ الكتاب الكريم
الإنسان على عمل الخير والطاعة والاهتمام به والمواظبة عليه حثّاً بليغاً ، ووعد عليه وعداً حسناً ، وأوعد على الغافلين
المعرضين عنه بالحرمان عن ثوابه والاضطرار إلى عذابه.
والمداومة والاستمرار
على ذلك يوجب حصول خلقٍ كريمٍ في النفس ، فلا تضيع عنه أيّام عمره ولا تفوته أعماله التي هي مرهونة بأوقاتها ، ولا تعقبه
الندامة والحسرة يوم القيامة ، وهذا يشمل الإتيان بالواجبات والمندوبات والترك للمحرّمات والمكروهات حسب اختلاف مراتبها في الفضيلة والقرب إلى الله تعالى والمثوبة.
فقد نطق القرآن
الكريم بأنّه : (
قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ ) وأنّ (
مَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ ) .
____________________________
وأنّ الذين عند ربّك ( لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ) .
وأنّ ( الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا
وَخَيْرٌ أَمَلًا ) . وأنّه : (
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ
حَيَاةً طَيِّبَةً ) . وأنّه : (
فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ) . وأنّه : (
لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا )
وأنّ (
عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) . وأنّه (
اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ )
. وأنّ ( الَّذِينَ جَاهَدُوا
فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) .
وأنّه ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) . وأنّه (
نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) . وأنّ (
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ) وأنّه : (
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ )
و (
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) . وأنّه (
سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ
السَّمَاءِ
____________________________
وَالْأَرْضِ ) وأنّ (
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) . و (
إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ) . و (
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا
فَمُلَاقِيهِ ) .
وورد في النصوص : أنّه
: طوبى لمن طال عمره وحسن عمله .
وكان علي عليهالسلام ينادي بعد العشاء الآخرة : أيّها الناس : تجهّزوا رحمكم الله
، فقد نودي فيكم بالرّحيل وانتقلوا بأحسن ما بحضرتكم من الزّاد وهو زاد التّقوى .
وأنّ من استوى يوماه
فهو مغبون ، ومن كان آخر يوميه شرّهما فهو ملعون. ومن لم يعرف الزيادة في نفسه كان إلى النقصان أقرب .
ومن لم يتعاهد النقص
من نفسه غلب عليه الهوى .
وأنّ الخير كثير
وفاعله قليل .
وكونوا على قبول
العمل أشدّ عنايةً منكم على العمل .
وأنّه من أحبّنا
فليعمل بعملنا وليستعن بالورع .
____________________________
وما أقبح بالمؤمن أن
يدخل الجنّة وهو مهتوك الستر .
ولا تعنّتونا في
الطلب والشفاعة لكم يوم القيامة ، ولا تفضحوا أنفسكم عند عدوكم يوم القيامة.
ولا تكذبوها عندهم في
منزلتكم عند الله ، فما بين أحدكم وبين أن يغبط ويرىٰ ما يحبّ إلّا أن يحضره رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم .
ولو لم يخوّف الله
الناس بجنّةٍ ونارٍ لكان الواجب عليهم أن يطيعوه ولا يعصوه .
وأنّ من أخلّاء
المؤمن خليل ، يقول له : أنا معك حيّاً وميّتاً ، وهو عمله .
وأنّ الصادق عليهالسلام قال : إنّكم على دين الله ودين ملائكته ، فأعينونا بورعٍ واجتهادٍ .
وأنّه خذ من حياتك
لموتك .
ومن يزرع خيراً يحصد
غبطةً ، ومن يزرع شرّاً يحصد ندامةً .
وأنّ الله أخفى رضاه
في طاعته ، فلا تستصغرنّ شيئاً من طاعته ، وأنّ قوله تعالى : ( لَا تَنْسَ
نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) معناه : لا تنس صحّتك وقوّتك وفراغك
____________________________
وشبابك
ونشاطك أن تطلب بها الآخرة .
وأنّ المغبون من غبن
عُمُره ساعةً بعد ساعةٍ .
وأنّ كلّ يومٍ يمرّ
على ابن آدم يقول : قل فيّ خيراً واعمل في خيراً أشهدك به يوم القيامة ، فإنّك لن تراني بعده .
وأنه لا تُصغرنّ حسنةً
فإنّها ستسرّك يوم القيامة.
وويح من غلبت واحدته
عشرته .
والعمل الصالح يذهب
إلى الجنّة فيُمهّد لصاحبه كما يبعث الرجل غلامه فيفرش له ، قال تعالى : (
وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ )
.
وأنّ جبرئيل قال للنّبي
صلىاللهعليهوآلهوسلم : إعمل ما شئت فإنّك ملاقيه .
وشتّان بين عملين :
عمل تذهب لذّته وتبقى تبعته ، وعمل تذهب مؤنته ويبقى أجره .
ومن تذكّر بُعد السفر
استعدّ .
____________________________
والطاعة غنيمة
الأكياس عند تفريط العجزة .
واحذر أن يفقدك الله
عند طاعته فتكون من الخاسرين .
____________________________
الدّرس التّاسع عشر
في الاقتصاد في العبادة
قد تعرض على المؤمن
حالة رغبةٍ واشتياقٍ للعبادة فلا يقنع بالإتيان بالواجبات فقط ، بل لا يقنع بالبعض اليسير من المندوبات أيضاً ، فيرغب إلى الازدياد عنها كمّاً وكيفاً ، وتسمّى هذه الحالة « شِرّة » في الشرع وهي قد تنتهي
إلى ترك بعض الملاذ للاشتغال بالعبادة ، بل إلى ترك بعض ما يجب عقلاً وشرعاً من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح ، وقد تعرض له حالة سأمٍ وكسلٍ عن العبادة بحيث يصعب عليه الإتيان بالفرائض فضلاً عن السنن ، فيقنع بالفرائض في الكمّ وينقص عنها أيضاً في الكيف ، وتسمّى هذه « فتوراً » ، بل قد تغلب على الإنسان حالة يترك أغلب ما كان عاملاً به أو جميعه حتّى الفرائض ولو مع بقاء الإيمان في الجملة ـ ونستعيذ بالله من الكسل والفشل والغفلة والغرّة ـ وحيث أنّ كلتا الحالتين
لا تخلوا عن الخطر في الدين بالنسبة لأصوله وفروعه فقد ورد عن أهل بيت
الوحي
عليهمالسلام : التنبيه على الحالتين وكيفيّة حفظ
النفس عن شرّهما وتسويل الشيطان عند عروضها ، فبيّن فيها خطر الشرّة بأنّه قد يبتدع الإنسان في هذه الحالة
من نفسه أعمالاً وأوراداً وينسبها إلى الشرع بعنوانها الخاصّ ، مع أنّ العبادات توقيفيّة لا يجوز لأحدٍ الاقتراح فيها من نفسه ، فكلّ قولٍ أو فعلٍ يُنسب إلى
الشرع فلا بدّ له من دليلٍ معتبر من آيةٍ أو روايةٍ معتبرةٍ ، وإلّا فيخرج عن الحقّ ، ويدخل
تحت عنوان البدعة ، فيقع العامل في معصية البدعة عند طلب الطاعة. كما أنّه في الفتور يترك بعض ما فرضه الله تعالى أو كلّها ، وقد ينتهي إلى الكفر وهو خطر الفتور.
ففي النّصوص الواردة
أنّه قال النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : ألا إنّ لكلّ عبادةٍ شرّة ، ثمّ تصير
إلى فترةٍ ، فمن كانت شرّة عبادته إلى سنّتي فقد اهتدى ، ومن خالف سنّتي فقد ضلّ أما إنّي أصلّي وأنام وأصوم وأفطر وأضحك وأبكي ، فمن رغب عن منهاجي وسنّتي فليس منّي ، والشِرّة بالكسر فالتشديد : شدّة الرغبة والميل. كما ورد :
أنّ لهذا القرآن شرّة ، ثمّ إنّ للنّاس فيه فترة ، وهذا إشارة إلى اختلاف الأزمنة في رغبة الناس وإقبالهم عليه كما في صدر الإسلام وآخر الزمان. وقوله : « إلى سنّتي » أي : كانت وفق سنّتي ومطابقةً لها من غير خروجٍ عن الطريق المستقيم.
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : وأنّ هذا الدين متين ، فأوغلوا فيه برفقٍ ، ولا تبغض إلى
نفسك عبادة ربّك ، فإنّ المنبتّ لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع
، والمتين : صفة بمعنى : القويّ الشديد ، من : متن يمتن من باب : نصر ، أي : اشتدّ وصلب وقوي. وقد يوصف به المركوب إذا صعب ركوب متنه ، والكلام هنا تشبيه به لمشقّة القيام بشرائط الدين وأداء وظائفه. فاُمر الإنسان أن يدخل أبوابه مترفّقاً ويصعد مرقاه متدرّجاً حتّى
____________________________
يتمرّن
ويعتاد ، ولذا ورد : « عليكم هدياً قاصداً ، فإنّه من يثابر هذا الدين يغلبه » .
وانبتّ الرجل كاشتدّ : انقطع في سفره وهلكت راحلته ( وهذا مثال من أوقع نفسه فيما فوق وظيفته من العمل ).
وورد : أنّه لا تُكرهوا
إلى أنفسكم العبادة .
وأنّ الله إذا أحبّ
عبداً فعمل قليلاً جزّاه بالقليل الكثير .
وأنّ الصادق عليهالسلام قال : اجتهدت في العبادة وأنا شابّ ، فقال لي أبي : يا بنيّ :
دون ما أراك تصنع ! فإنّ الله إذا أحبّ عبداً رضي عنه باليسير
، ( والمراد بقوله : أحبّ أي : بصحّة العقائد وترك المحرمات ).
وورد : أنّه إقتصد في
عبادتك وعليك بالأمر الدائم الذي تطيقه .
والدائم القليل على
اليقين أفضل من الكثير على غير يقينٍ .
وأحبّ الأعمال إلى
الله مادام عليه العبد وإن قلّ .
وأنّ الاقتصاد في
العمل هو الوسط بين الإفراط والتفريط فكأنّه حسنة بين السيّئتين كقوله تعالى : (
وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ
سَبِيلًا ) وقوله : ( وَلَا تَجْعَلْ
يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ )
وقوله : (
وَالَّذِينَ
____________________________
إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ
بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا )
. فالطرفان في الجميع سيئة والوسط حسنة.
وأنّه لا يرى الجاهل
إلّا مفرطاً أو مفرّطاً .
وأنّ للقلوب شهوةً
وإقبالاً وإدباراً ، فأتوها من قبل شهوتها وإقبالها ، والقلب إذا أكره عمي .
وأنّه إذا أضرّت
النوافل بالفرائض فارفضوها .
وأنّ الخير ثقيل على
أهل الدنيا كثقله في موازينهم يوم القيامة. وأنّ الشرّ خفيف عليهم كخفّته في موازينهم يوم القيامة .
وأنّ قليلاً مدوماً
عليه خير من كثيرٍ مملولٍ منه .
____________________________
الدّرس العشرون
في الحسنات بعد السّيّئات
هذا العنوان يرجع إلى
مسألة التكفير ، وهي مسألة كلاميّة.
ويمكن البحث فيها
أخلاقيّاً أيضاً ، فإنّ إتيان الإنسان بحسنةٍ بعد كلّ سيّئةٍ لأجل تكفيرها وتطهير النفس عن الرجز الحاصل منها كاشف عن حالة يقظةٍ للنفس وصلاحها ، وهو يمنعها عن حدوث حالة الغفلة والقسوة فيها ، والمواظبة على هذا النحو من النظافة والنزاهة تورث ملكة المراقبة وتزكية النفس ، وهي من أفضل الملكات.
وقد ورد في الكتاب
العزيز : أنّ (
الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) .
وأنّ (مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا
فَأُولَـٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ )
.
وأنّ ( مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي
غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .
____________________________
وورد في النصوص أنّه
: ما أحسن الحسنات بعد السيّئات وما أقبح السيّئات بعد الحسنات .
وأنّه إذا عملت سيّئة
فأتبعها بحسنةٍ تمحها سريعاً .
وأنّ المؤمن يوم
القيامة ينظر في صحيفته ، فأوّل ما يراه سيّئاته ، فيتغيّر لذلك لونه وترتعش فرائصه ، ثمّ يعرض عليه حسناته فيفرح لذلك نفسه ، فيقول الله عزّ وجلّ : «
بدّلوا سيّئاته حسناتٍ ، وأظهروها للناس » فيقول الناس : ما له سيّئة واحدة .
وأنّه ليس شيء قطّ
أشدّ طلباً ولا أسرع دركاً من حسنة محدثةٍ لذنبٍ قديم .
ومن عمل سيّئةً في
السّرّ فليعمل حسنةً في السّرّ. ومن عمل سيّئةً في العلانية فليعمل حسنةً في العلانية .
____________________________
الدّرس الحادي والعشرون
في الحسنات والسّيّئات
في أنّ الحسنات يضاعف
ثوابها ، ويعجّل في كتابها ، ويُثاب على مقدّماتها والسّيّئات لا يضاعف عقابها ، ويؤجّل كتابها ، ولا يُعاقب على مقدّماتها.
وقد ورد في الكتاب
الكريم : أنّ (
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا )
. وأنّ
(
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ )
.
وأنّ ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ
جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) ، وأنّ (
اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا
وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ) ، وأنّه (
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا
كَثِيرَةً ) ، وأنّه (
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ
أَنْبَتَتْ سَبْع
____________________________
سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ
يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ) .
وورد في النصوص : أنّه
لمّا نزل قوله : (
فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا ) قال رسول الله : اللهّم زدني ، فأنزل الله (
فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) فقال رسول الله : اللّهم زدني ، فأنزل
الله ( فَيُضَاعِفَهُ لَهُ
أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) فعلم رسول الله أنّ الكثير من الله لا
يُحصى وليس له منتهى ( ويدلّ الخبر على : أنّ الإقراض لله يشمل الأعمال الصالحة ،
فكأنّ العبد يقرضها في الدنيا ويأخذها ربوياً في الآخرة ، ولا بأس بالرّبا بين المولى وعبده ).
وأنّه إذا همّ المؤمن
بحسنةٍ كُتبت له حسنة ، فإذا عملها كتبت له عشر حسناتٍ ، وإذا همّ بسيّئةٍ لم تُكتب عليه ، فإذا عملها اُجّلَ تسع ساعاتٍ ، فإن
ندم واستغفر لم تكتب ، وإلّا كتبت عليه سيّئة واحدة .
وأنّ صاحب اليمين
أمير على صاحب الشمال ، فإذا عمل العبد سيّئةً قال له : لا تعجل ، وأنظره سبع ساعاتٍ ، فإن مضت ولم يستغفر قال : أكتب فما أقلّ حياء هذا
العبد !
وأنّه إذا أحسن
المؤمن عمله ضاعف الله لكلّ حسنةٍ سبعمائة وذلك قوله : ( وَاللَّهُ يُضَاعِفُ
لِمَنْ يَشَاءُ ) فأحسنوا أعمالكم ، قيل : فما الاحسان ؟
قال : كلّ عملٍ تعمله فليكن نقيّاً من الدّنس. ( واختلاف تضاعف الثواب : إمّا من جهة
اختلاف مقام المؤمنين ، أو اختلاف مراتب خلوص النّيات ، أو وقوع الحسنات في الأمكنة الشريفة ، أو الأزمنة المباركة ، أو غير ذلك ).
____________________________
الدّرس الثّاني والعشرون
في الاستعداد للموت
من الأمور التّي اختصّ
بعلمه خالق الإنسان انقضاء أجله ووقوع موته وهو لمصالح كثيرةٍ كامنةٍ فيه ، ومنها : إستعداده في جميع أوقات عمره لإجابة دعوة ربّه
ومراقبته لحالات نفسه وأقواله وأفعاله. ولازمه إعداده ما يلزمه لهذا السفر العظيم الطويل من الزّاد ، ورفع ما يمكن أن يكون مانعاً من العبور من العقبات المتعدّدة ،
والمواقف المختلفة كقضاء فوائته الواجبة ، وما عليه من ديونه لخالقه ، وما عليه من
حقوق الناس وأموالهم ، وتعيين ما عليه من الحقوق في دفاتر وكتاباتٍ ، فيكون في جميع أوقات عمره على تهيّؤٍ بحيث لو نزل به الموت لم يكن مأثوماً في أمره معاقباً على فعل شيء أو تركه ، وهذا القسم من التهيّؤ من أفضل خلق الإنسان وأحسن حالاته ، فطوبى لمن كان كذلك.
وقد ورد في النصوص :
أنّه سئل أمير المؤمنين عن الاستعداد للموت ؟ قال : أداء الفرائض واجتناب المحارم والاشتمال على المكارم ثمّ لا يبالي : أوقع على
الموت
أو
وقع الموت عليه .
وقال عليهالسلام : لا غائب أقرب من الموت ، ولكلّ حبّة آكل وأنت قوت الموت .
وأنّ من عرف الأيّام
لم يغفل عن الاستعداد .
وكان عليهالسلام : بالكوفة ينادي بعد العشاء الآخرة : تجهّزوا رحمكم الله ،
فقد نودي فيكم بالرّحيل وانتقلوا بأفضل ما بحضرتكم من الزّاد وهو التّقوى ، واعلموا أنّ طريقكم إلى المعاد ، وعلى طريقكم عقبة كؤود ، ومنازل مهولة مخوفة لا بدّ لكم من الممرّ عليها والوقوف بها .
وقال عليهالسلام : إنّ الموت ليس منه فوت ، فأحذروا قبل وقوعه ، وأعدّوا له عدّته
وهو ألزم لكم من ظلّكم ، فأكثروا ذكره عندما تنازعكم أنفسكم من الشهوات وكفى بالموت واعظاً وإنّا خلقنا وإيّاكم للبقاء لا للفناء ، ولكنّكم من دار إلى
دار تنقلون ، فتزوّدوا لما أنتم إليه صائرون .
وورد : أنّ من أكثر
ذكر الموت زهد في الدنيا .
وأنّ أكيس المؤمنين
أكثرهم ذكراً للموت وأشدّهم إستعداداً له .
وأنّ عيسى عليهالسلام قال : هول لا تدري متى يلقاك ، ما يمنعك أن تستعدّ له قبل أن يفجأك .
____________________________
وأنّ من أكثر ذكر
الموت رضي من الدنيا باليسير . وأنّ المراد بقوله : ( لَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) لا تنس صحّتك وقوتّك وفراغك وشبابك
ونشاطك وغناك أن تطلب به الآخرة .
وأنّه سئل زين
العابدين عليهالسلام عن خير ما يموت عليه العبد ، قال : أن
يكون قد فرغ من أبنيته ودوره وقصوره ، قيل ، وكيف ذلك ؟ قال : أن يكون من ذنوبه تائباً وعلى الخيرات مقيماً ، يرد على الله حبيباً كريماً .
وأنّ من مات ولم يترك
درهماً ولا ديناراً لم يدخل الجنّة أغنى منه .
وأنّه إذا أويت فراشك
فانظر ما سلكت في بطنك وما كسبت في يومك ، واذكر أنّك ميّت وأنّ لك معاداً .
____________________________

الدّرس الثّالث والعشرون
في عفّة البطن والفرج
تخصيص العضوين بلزوم
العفّة من بين سائر الاعضاء التي يجب حفظها عن المعاصي التي تصدر منها : كاللسان عن الكلام المحرّم ، والعين عن النظر الحرام والسمع عن استماع اللغو واللهو ، والبدن عن اللبس المحرّم ، لابتلاء الإنسان بمعاصيهما أكثر من غيرها.
ولا سيّما في أوائل
شبابه وأزمنة ثوران شهوته ، ولمّا يبلغ علمه بالله وإيمانه بالأصول واعتياده بالعبادات حدّاً يزجره عن الغيّ ويردعه عن الهوى ، ونعوذ بالله من غلبة الهوى والشهوة على عقل الرجل ودينه. وقد ورد في الكتاب الكريم : أنّ ( الْحَافِظِينَ
فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ ... أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا
عَظِيمًا ) وكرّر تعالى في سورتين قوله : (
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ
فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ) . فحكم بأنّهم
____________________________
مفلحون
، وأنّهم في جنّات مكرمون.
وقد ورد في النصوص :
أنّه ما عبد الله بشيء أفضل من عفّة بطن وفرج .
وأنّ أفضل العبادة
العفاف ( العفّة والعفاف في اللغة : الكفّ ، وعفّ الرجل عفّة : كفّ عمّا لا يحلّ ولا يجمل ، والعفيف والمتعفّف : من يترك الحرام بضرب من الممارسة ، وفي اصطلاح الشرع : حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة ، وتكفّ البطن والفرج عن المشتهيات المحرّمة ، بل المشتبهة ، والمكروهة من المآكل والمشارب والمناكح وما هو من مقدّماتها ولوازمها ).
وأنّ رجلاً قال
للباقر عليهالسلام : إنّي ضعيف العمل قليل الصيام ، ولكنّي
أرجو أن لا آكل إلّا حلالاً ، فقال له : وأي الاجتهاد أفضل من عفّة بطن وفرج ؟ .
وأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : أكثر ما تلج به أمّتي النار ، وأوّل ما تلج به أمّتي
النار : الأجوفان : البطن والفرج .
وممّا أخاف بعدي على
أمّتي شهوة البطن والفرج .
ومن ضمن لي ما بين
لحييه وما بين رجليه ضمنت له الجنّة .
ومن أسلم من اتّباعهما
فله الجنّة .
وأنّه : لا تنسوا
الجوف وما وعى ( أي : البطن وما يدخل فيه ويمكن أن يكون المراد : القلب وما يعقد عليه من الإيمان أو الكفر ).
____________________________
وأنّ الله يحبّ الحييّ
المتعفّف .
وأنّ الباقر عليهالسلام قال : كلّكم في الجنّة معنا ، إلّا أنّه ما أقبح بالرجل منكم
أن يدخل الجنّة قد هتك وبدت عورته ، قيل : وكيف ذلك ؟ قال : إن لم يحفظ فرجه وبطنه .
وأنّه : عفّوا عن
نساء الناس تعفّ نساؤكم .
وأنّ العفيف لا تبدو
له عورة وإن كان عارياً ، والفاجر بادي العورة وإن كان كاسياً .
وأنّ من أوّل من يدخل
الجنّة رجل عفيف متعفّف ذو عبادة .
وأنّ من المروّة العفاف
في الدين .
وأنّ أعرابيّاً قال :
أوصني يا رسول الله ، قال : أوصيك بحفظ ما بين رجليك .
____________________________

الدّرس الرّابع والعشرون
في الكلام والسّكوت والصّمت
موقع اللسان من
الإنسان موقع ينبغي أن يمتاز بالبحث والتحقيق عن حاله وبيان وظائفه عقلاً وشرعاً واجتماعاً ، فإنّه من أعظم ما يمتاز به الإنسان عن
أبناء جنسه ، ولذا قال تعالى : (
خَلَقَ الْإِنْسَانَ ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ) ، واللسان هو الطريق الوحيد العامّ لانتقال ضمائر الإنسان وعلومه ومعارفه إلى بني نوعه.
وأمّا البيان بالقلم
، كما قيل : إنّ البيان بيانان : بيان باللسان ، وبيان بالبنان ، فهو يختصّ من حيث الملقّن والملقّن له ، وكيفيّة التلقين بالعلماء ولا يعمّ الجميع. وذكر
بعض علماء الفنّ أنّ المعاصي التي يمكن صدورها من اللسان ثمانية عشر نوعاً ، وسيأتي بعضها.
ثمّ إنّ المراد
بالصمت الممدوح أعمّ من الصمت عن التكلم الحرام ، أو عن التكلّم بما لا فائدة فيه للانسان.
____________________________
فقد ورد في النصوص :
أنّ عليّ بن الحسين عليهماالسلام سئل عن الكلام والسكوت أيّهما أفضل ؟ فقال : لكلّ واحد منهما آفات ، فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من
السكوت ، قيل : كيف ذلك ؟ قال : لأنّ الله ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت ، إنّما
بعثهم بالكلام ، ولا استحقّت الجنة بالسكوت ، ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت ولا توقّيت النار بالسكوت ، إنّما ذلك كلّه بالكلام ما كنت لأعدل القمر بالشمس ، إنّك تصف فضل السكوت بالكلام ، ولست تصف فضل الكلام بالسكوت .
وأنّه ليس على
الجوارح عبادة أخفّ مؤونة وأفضل منزلة وأعظم قدراً عند الله من الكلام في رضا الله ، ألا ترى أنّ الله لم يجعل فيما بينه وبين رسله معنى
يكشف ما أسرّ إليهم من مكنونات علمه غير الكلام ؟ وكذلك بين الرسل والأمم فهو أفضل الوسائل والعبادة. وكذلك لا معصية أسرع عقوبة وأشدّ ملامة منه .
والسكوت خير من إملاء
الشرّ ، وإملاء الخير خير من السكوت .
ولكن قد ورد : أنّ
الكلام لو كان من فضّة كان ينبغي للصّمت أن يكون من ذهب ، وظاهره أنّ الصمت في موضع رجحانه أفضل من الكلام في مورد رجحانه ، فهذا : إمّا بنحو الموجبة الجزئيّة ، أو أنّ الجملة مسوقة لبيان حال أكثر
الناس ، حيث إنّهم جاهلون بسطاء ، وكلامهم لو كان خيراً فهو خير قليل ، فسكوتهم أفضل منه.
وأنّه : جمع الخير كلّه
في ثلاث خصال : النّظر والسّكوت والكلام ، فكلّ نظر ليس فيه اعتبار فهو سهو ، وكلّ سكوت ليس فيه فكر فهو غفلة ، وكلّ كلام ليس
____________________________
فيه
ذكر فهو لغو ، فطوبى لمن كان نظره عبراً وسكوته فكراً وكلامه ذكراً .
وأنّه لا حافظ أحفظ
من الصمت .
وأنّ عليّاً عليهالسلام وقف على رجل يتكلّم بفضول الكلام وقال : إنّك تملي على حافظيك كتاباً إلى ربّك ، فتكلّم بما يعنيك ودع ما لا يعنيك .
وأنّ أعظم الناس
قدراً من ترك ما لا يعنيه .
وأنّ النطق راحة
للروح ، والسكوت راحة للعقل .
وأنّه تكلّموا تعرفوا
فإنّ المرء مخبوء تحت لسانه .
وأنّ من علامات الفقه
الصمت ( قال المجلسيّ قدسسره : الفقه هو العلم الربّانيّ المستقرّ في القلب الذي يظهر آثاره على الجوارح ).
وأنّ الصمت باب من
أبواب الحكمة يكسب المحبّة ، وهو دليل على الخير .
وأنّ على لسان كلّ
قائل رقيباً ، فليتّق العبد ولينظر ما يقول .
وأنّ من حسن إسلام
المرء تركه ما لا يعنيه .
____________________________
وأنّه : ما من شيء
أحقّ بطول السجن من اللسان .
وأنّ المؤمن يكتب
محسناً ما دام ساكتاً ، فاذا تكلّم كتب محسناً أو مسيئاً .
وأنّ داود قال
لسليمان : عليك بطول الصّمت إلّا من خير ، فإنّ الندامة على طول الصمت مرّة واحدة خير من الندامة على كثرة الكلام مرّات .
وأنّه ما عبد الله
بشيء أفضل من الصمت .
وأنّ من لم يملك
لسانه يندم .
وأنّ من حسب كلامه من
عمله قلّ كلامه إلّا فيما يعنيه .
وأنّ الصمت مطردة
للشيطان وعون لك على أمر دينك .
وأنه من المنجيات .
وأنّه : إن أردت خير
الدنيا والآخرة فاخزن لسانك كما تخزن مالك .
ولا يعرف عبد حقيقة
الإيمان حتّى يخزن لسانه .
وأنّ الصمت نعم العون
في مواطن كثيرة وإن كنت فصيحاً .
____________________________
وأنّ كثرة الكلام
بغير ذكر الله تقسي القلب .
وأنّه : لا بدّ
للعاقل أن ينظر في شأنه فليحفظ لسانه .
وأنّ نجاة المؤمن في
حفظ لسانه ، ومن حفظ لسانه ستر الله عورته .
وأنّ ذلاقة اللسان رأس
المال .
وأنّ من حقّ اللسان
إكرامه عن الخنا وتعويده حسن القول وترك الفضول .
وأنّ الكلام في وثاقك
ما لم تتكلّم به ، فاذا تكلّمت فأنت في وثاقه .
وربّ كلمة سلبت نعمة .
ومن كثر كلامه كثر
خطؤه .
وحبس اللسان سلامة
الإنسان .
وبلاء الإنسان من
اللسان .
وفتنة اللسان أشدّ من
ضرب السيف .
____________________________
وأنّ من خاف الناس
لسانه فهو من أهل النار .
وأنّه : لا يستقيم
إيمان عبد حتّى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه ، فمن استطاع أن يلقى الله وهو سليم اللسان من أعراض المسلمين فليفعل .
وأنّ اللسان كلب عقور
، إن خلّيته عقر .
وأنّ نجاة المؤمن من
حفظه .
وأنّه ما أحسن الصمت
لا من عيّ ، والمهذار له سقطات .
وأنّ الكلام ثلاثة :
رابح وسالم وشاحب ، فأمّا الرابح فالذي يذكر الله ، وأمّا السالم فالذي يقول ما أحبّ الله ، وأمّا الشاحب فالذي يخوض في الله .
وأنّه : لا يكبّ
الناس في النار إلّا حصائد ألسنتهم .
وأنّ اللسان سبع ، إن
خلّي عنه عقر .
وأنّه : هانت عليه
نفسه من أمّر عليها لسانه .
وأنّه إذا تمّ العقل
نقص الكلام .
____________________________
وأنّه : ربّ قول أنفذ
من صول .
وأنّه : اجعلوا
اللسان واحداً. وأنّ اللسان جموح بصاحبه ، وما أرى عبداً يتّقي بتقوى الله تنفعه حتّى يختزن لسانه .
وأنّ لسان المؤمن من
وراء قلبه ، وأنّ قلب المنافق من وراء لسانه .
وأنّ اللسان بضعة من
الإنسان ، فلا يسعده القول إذا امتنع ، ولا يمهله النطق إذا اتّسع .
وأنّ تلافيك ما فرط
من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك وحفظ ما في الوعاء بشدّ الوكاء .
وأنّه إذا فاتك الأدب
فالزم الصمت .
وأنّ المرء يعثر
برجله فيبرأ ، ويعثر بلسانه فيقطع رأسه .
وأنّ الله جعل صورة
المرأة في وجهها وصورة الرجل في منطقه .
ورحم الله عبداً قال
خيراً فغنم ، أو سكت عن سوء فسلم .
وأنّ الباقر عليهالسلام قال : شيعتنا الخُرس ( هو جمع أخرس ، أي : لا يتكلّمون باللغو والباطل ، وفيما لا يعلمون ، وفيما لا يعنيهم ، وفي مقام التّقية ).
____________________________
وأنّه : ما من يوم إلّا
وكلّ عضو من أعضاء الجسد يكفّر اللسان يقول : نشدتك الله أن نعذّب فيك . ( يكفّر اللسان أي : يذلّ ويخضع له ،
والمراد : أنّ لسان حال الأعضاء هو الإقسام له بأن تكفّ نفسك من أن نعذّب بسببك ).
وأنّ الله يعذّب
اللسان بعذاب لا يعذّب به شيئاً من الجوارح ، فيقول له : خرجت منك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها ، فسفك بها الدم الحرام ، وانتهب بها المال الحرام ، وانتهك بها الفرج الحرام .
وأنّه : إن كان في
شيء شؤم ففي اللسان .
____________________________
الدّرس الخامس والعشرون
في التّفكّر والاعتبار بالعبر والاتّعاظ بالعظات
حقيقة التّفكّر : سير
الباطن من المبادئ إلى المقاصد ، ولا يرتقي من النقص إلى الكمال إلّا بهذا السير ، ومبادئه الآفاق والأنفس بأن يتفكّر في أجزاء العالم وذرّاته
وفي الأجرام العلويّة والكواكب ، وفي الأجرام السفليّة ، برّها وبحرها ومعادنها وحيواناتها ، وفي أجزاء الإنسان وأعضائه وما فيها من المصالح والحكم وغيرها ، ممّا
يستدلّ بها على كمال الصانع وعظمته وعلمه وقدرته ، فالتّفكّر من حيث خلقها وإتقان صنعها وغرائب الصنع وعجائب الحكم الموجودة فيها ، أثره الايقان بوجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته ، ومن حيث تغيّرها وفنائها بعد وجودها ، أثره الانقطاع منها والتّوجّه بالكلّيّة إلى خالقها وبارئها ، ونظيره التّفكّر في أحوال
الماضين وانقطاع أيديهم عن الدنيا وما فيها ورجوعهم إلى دار الآخرة ، فإنّه يوجب قطع المحبّة عن غير الله ، والانقطاع إليه بالطاعة والتقوى.
فالتّفكّر في الحقيقة
من الأسباب والمقدّمات الموصلة إلى عرفان نظريّ هو أشرف المعارف ، وهو عرفان الرّب تعالى بصفاته وأفعاله ، وإلى حالة نفسانيّة هي أفضل الحالات ، وهي الانقطاع إليه تعالى عن غيره ، والمداومة على هذا العمل والممارسة عليه تورث ملكة التّفكّر والاتّعاظ ودوام التّوجّه إلى الله تعالى ،
وانقطاع النفس عن كلّ ما يقطعها عن الربّ. وقد ورد الحثّ الأكيد على ذلك في الكتاب الكريم ، والأمر والترغيب في النصوص بمقدار وافٍ كثير.
فقال في الكتاب
العزيز : ( يُبَيِّنُ اللَّهُ
لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) وقال في أولي الألباب : ( يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا ) وقال : (
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ
اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ) .
وقال : ( انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ )
. وقال في عباد الرحمن : (
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا
) .
وقال : ( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى ) . وقال : (
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ ). وقال : (
إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ
لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ).
____________________________
وقال : ( وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ).
وقال : (
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ).
و (
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ )
، و ( كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ). و (
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ) ، و (
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ). وقال : (
لَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ).
وقال : (
فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ). وقال : (
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ).
و ( تِلْكَ الْأَمْثَالُ
نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ).
و (
إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ ) و ( فَاعْتَبِرُوا يَا
أُولِي الْأَبْصَارِ ).
وقد ورد في النصوص عن
أهل البيت عليهمالسلام قول علي : (
نبّه بالفكر قلبك )
. قال المحقّق الطّوسي يمكن تعميم التفكّر هنا للتفكّر في أجزاء العالم العلويّ
والأجرام السفليّة ، وأعضاء الإنسان ، وأحوال الماضين ، والتفكّر في معاني الآيات القرآنيّة
والأخبار النبويّة ، والآثار المرويّة عن الأئمّة الأطهار ، والمسائل الدينيّة والأحكام
الشرعيّة.
____________________________
وورد : أنّ تفكّر
ساعة خير من قيام ليلة . فإذا مرّ بالخربة أو بالدار يقول : أين ساكنوك وأين بانوك ما لك لا تتكلّمين ؟
وأنّ أفضل العبادة
إدمان التفكّر في الله وفي قدرته . وقوله : ( في الله ) أي : في صفاته تعالى وأفعاله ، وليس المراد : التفكّر في ذات الله وكنه صفاته ، فإنّه
ممنوع يورث الحيرة واضطراب العقل.
وأنّه ليس العبادة
كثرة الصلاة والصوم ، إنّما العبادة : التفكّر في أمر الله .
وأنّ التفكّر يدعوا
إلى البرّ والعمل به .
وأنّه كان أكثر عبادة
أبي ذرّ التفكّر والاعتبار .
وأنّ على العاقل أن
يكون له ثلاث ساعات : ساعة يتفكّر فيما صنع الله إليه . وأنّ الفكر مرآة صافية .
وأنّه لا عبادة
كالتفكّر في صنعة الله .
وأنّ أغفل الناس من
لم يتّعظ بتغيّر الدنيا من حال إلى حال .
وأنّ السعيد من وعظ
بغيره .
____________________________
وأنّ أوجز الوعظ أنّه
ما من شيء تراه عينك إلّا وفيه موعظة .
وأنّ كلّ نظر ليس فيه
اعتبار فهو سهو ، وكلّ سكوت ليس فيه فكرة فهو غفلة .
وأنّ الله يحبّ
المتوحّد بالفكرة .
وأنّ مرآتك يريك سيّئاتك
وحسناتك .
وأنّه من اعتبر أبصر
، ومن أبصر فهم ، ومن فهم علم .
وأنّه ما أكثر العبر
وأقلّ الاعتبار .
وأنّ القلب مصحف
البصر .
وأنّه يجب الاستدلال
على ما لم يكن بما قد كان فإنّ الأمور أشباه .
____________________________

الدّرس السّادس والعشرون
في الحياء من الله ومن الخلق
الحياء
ملكة انقباض النفس عن القبيح وانزجارها عن كلّ فعل أو ترك تعدّه سيّئاً ، وإذا نسب إلى الله تعالى فالمراد به : التنزيه عملاً عن القبيح ، وترتيب
أثر الانقباض فهو في الخلق من صفات الذات ، وفي الخالق من صفات الفعل كالرؤوف والرّحيم وهذه الصفة إذا كان متعلّقها القبائح الشرعيّة والعقليّة من أفضل الصفات والملكات الانسانيّة ، وقد ورد في فضلها وكونها من آثار الإيمان ، وكون تركها خروجاً عن الإيمان ، نصوص كثيرة مستفيضة أو متواترة.
فورد عن النّبيّ
الأقدس وأهل بيته عليهمالسلام : أنّ الحياء من الإيمان ، والإيمان في
الجنّة ، ( وكلمة « من » للسببيّة ، والمعنى : أنّ الحياء من آثار
الإيمان وشؤونه ، فإنّه مسبّب عن الاعتقاد بالتوحيد وما أنزله تعالى على رسله ، فالإذعان بذلك يوجب إنزجار النفس عن جميع ما حرّمه الدين ومنعه ).
____________________________
وأنّ الحياء والإيمان
مقرونان في قرن ، فإذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه .
وأنّه لا إيمان لمن
لا حياء له .
وأنّ الحياء حياءان :
حياء عقل وحياء حمق ، فحياء العقل هو العلم ، وحياء الحمق هو الجهل . ( حياء العقل هو الحياء الذي منشأه
تعقّل قبح الشيء عقلاً أو شرعاً ، وهذا ممدوح معلول للعلم ، وحياء الحمق ما كان منشأه اتّباع العادات والرسوم غير الممضاة من الشرع : كالحياء عن تعلّم بعض المسائل العلمية والشّرعيّة ، وهذا جهل مذموم ، ولذا قيل : إن الحياء منه ضعف ومنه قوة وإيمان ).
وأنّ من رقّ وجهه رقّ
علمه ( أي : من استحيىٰ من السؤال قلّ علمه ).
وأنّ الحياء من
الأوصاف التي من كنّ فيه بدّل الله سيّئاته حسنات
( والمعنى : أنّ الحياء يجرّه بالأخرة إلى التوبة فيمحوا الله سوابق معاصيه ويبدّل
مكانها لواحق الطاعات أو أنّ ملكة المعصية في النفس تتبدّل بملكة الحسنة وللآية الشريفة أي ( إِلَّا مَنْ تَابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَـٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ
سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) معانٍ أخر ).
وأنّ رسول الله قال :
لم يبق من أمثال الأنبياء إلّا قول الناس : إذا لم تستحي فاصنع ما شئت .
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : استحيوا من الله حقّ الحياء .
____________________________
وأنّ الله يحب الحييّ
المتعفّف .
وأنّه ما كان الحياء
في شيء إلّا زانه .
وأنّ الحياء خير كلّه
.
وأنّ أوّل ما ينزع
الله من العبد الحياء ، ثمّ الأمانة ، ثم الدين فيصير شيطاناً لعيناً .
وأنّه استحي من الله
لقربه منك .
وأنّه قرن الحياء
بالحرمان .
وأنّ من كساه الحياء
ثوبه لم ير الناس عيبه .
____________________________

الدّرس
السّابع والعشرون
في
التّدبّر والتّثبّت وترك الاستعجال
للعاقل البصير المجرّب
للأمور إذا أراد الاقدام على أيّ عمل من أعماله أن يتأمّل جميع جوانب المراد من مقدّماته وشرائطه وموانعه وملازماته وعواقبه وآثاره تأمّلاً تامّاً حتّى يكون على بصيرة من غرضه ومرماه ، لئلاً يعرض له ضرر أو ندامة من ناحية قصور نفسه ، فإنّ عروض الحوادث غير الاختياريّة لا لوم عليه. ثمّ إنّ من نتائج التدبّر عدم تعجيله في الاقدام لو لم يحلّ وقته ، ولزوم
الاسراع بعده إذا احتمل فوت الفرصة.
والممارسة على هذا
الأمر تورثت ملكة فاضلة للانسان ينطبق عليه بذلك عنوان العاقل الحكيم ذي الحزم والتّدبير ، وهو من أكمل المراتب الانسانيّة.
وقد ورد الحثّ بذلك
في نصوص وفيها :
أنّ التدبير قبل
العمل يؤمنك من الندم .
____________________________
وأنّه : لا عقل كالتّدبير
.
ومع التّثبّت تكون
السلامة ، ومع العجلة تكون الندامة. ومن ابتدأ بعمل في غير وقته كان بلوغه في غير حينه .
وأنّ النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أوصى وأكّد في الوصيّة : بأنّه إذا هممت بأمر فتدبّر عاقبته ،
فإن يك رشداً فامضه وأسرع إليه ، وإن يك غيّاً فانته عنه .
وأنّ عليّاً عليهالسلام قال عند موته : أنهاكم عن التّسرع بالقول والفعل .
وأنّ العاقل لا بدّ أن
ينظر في شأنه .
وأنّ الحزم كياسة .
وأنّ الحزم : أن
تنتظر فرصتك وتعاجل ما أمكنك .
وأنّه : إنّما أهلك
الناس العجلة ، ولو أنّهم تثبّتوا لم يهلك أحد .
وأنّ الأناة من الله
والعجلة من الشيطان .
وأنّ من طلب الأمر من
وجهه لم يزلّ ، فإن زلّ لم تخذله الحيلة .
وأنّه : إتّئد تُصب
أو تكدّ ( والاتّئاد : التمهّل والتأنّي ، والمراد : إن فكّرت في أمر من غير استعجال فإمّا أن تصب هناك أو تعزب عنه ).
____________________________
وأنّ من لم يعرف
الموارد أعيته المصادر .
وأنّ من انقاد إلى
الطمأنينة قبل الخبرة فقد عرض نفسه للهلكة والعاقبة المتعبة .
وأنّ الظفر بالحزم ،
والحزم بإجالة الرأي والرأي بتحصين الأسرار .
وأنّه : بادر الفرصة
قبل أن تكون غصّة .
وأنّه ما أنقض النوم
لعزائم اليوم .
وأنّه : روِّ تحزم
فإذا استوضحت فاجزم ( أي : تفكّر حتّى يحصل لك التثبّت والصلاح ، فإذا وضح لك ذلك فاجزم بالعمل ).
____________________________

الدّرس الثّامن والعشرون
في الاقتصاد والقناعة
الاقتصاد
من القصد وهو الاستقامة ، والمراد به هنا : إعتدال الإنسان واستقامته في صرف ماله وانفاقاته لنفسه وعياله ، فهو حالة متوسّطة بين الإفراط الذي هو الإسراف ، والتّفريط الّذي هو التّقتير ، فيرادف القناعة في المعنى ، وهذا
غير الجود المتوسّط بين الإسراف والبخل ، فإنّ ذلك ملحوظ في ما يبذله الإنسان
لغيره.
وقد ورد في الكتاب
والسنّة في فضل الاقتصاد وحسنه وآثاره.
قال تعالى : ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ
يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا )
.
وورد في النصوص : أنّ
القصد أمر يحبّه الله .
وأنّ التقدير نصف
العيش .
وأنّه : ما عال امرؤ
اقتصد .
____________________________
وأنّ القصد مثراة
والسّرف مثواة .
وأنّ حسن التقدير من
المعيشة في المروَّة .
وأنّ القناعة مال لا
ينفد .
وأنّه : كفى بالقناعة
ملكاً .
وأنّ قوله تعالى : ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً )
هي القناعة .
وأنّ القصد في الغنى
والفقر من المنجيات .
وأنّ من قنع بما اوتي
قرّت عينه .
وأنّ من قنع شبع ،
ومن لم يقنع لم يشبع .
وأنّه : لا مال أنفع
من القنوع باليسير المجزي .
وأنّ الانفاق على
العيال ينبغي أن يكون بين المكروهين لقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ إِذَا
أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ
قَوَامًا ) .
وأنّ من رضي من الله
باليسير من الرّزق رضي الله منه بالقليل من العمل .
____________________________
الدّرس التّاسع والعشرون
في السّخاء والجود
السّخاء
، لغةً واضح ، وشرعاً : بذل المال أو النفس فيما يجب أو ينبغي ، عن ملكة حاصلة بالممارسة عليه ، أو هو نفس تلك الملكة ، ونظيره الجود فيشمل اللفظان جميع موارد الإنفاقات الواجبة : كالزّكوات والأخماس ، والإنفاقات المندوبة ، وهي كثيرة في الشرع ، وهذه الصفة من أفضل الصفات والملكات الانسانيّة قد حكم بحسنها العقل ومدحها الشرع ، وحثّ على الأعمال الموجبة لحصولها في النفس ، ويقابلها البخل والشّح كما سيأتي بيانهما. فقد ورد في النصوص :
أنّ السّخاء من خصال
الأنبياء عليهماالسلام .
وأنّ السخاء : البذل
في السعر واليسر .
وأنّ سخاء النفس من
أبواب البرّ .
____________________________
وأنّه أحسنوا صحبة
الإسلام بالسّخاء .
وأنّ السّخاء شجرة في
الجنّة ، من تعلّق بغصن من أغصانها دخل الجنّة .
وأنّ حدّ السّخاء أن
تخرج من مالك الحقّ الذي أوجبه الله عليك فتضعه في موضعه .
وأنّ السّخاء ما كان
ابتداءاً ، فأمّا ما كان عن مسألة فحياء وتذمّم .
وأنّ السّخاء : أن
تسخو نفس العبد عن الحرام أن تطلبه ، فإذا ظفر بالحلال طابت نفسه أن ينفقه في طاعة الله .
وأنّ السماحة إجابة
السائل وبذل النائل .
وأنّ سادة الناس في
الدنيا الأسخياء .
وأنّ خياركم سمحاؤكم
وشراركم بخلاؤكم .
وأنّه : قد مدح الله
صاحب القليل ، فقال : (
وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ ) .
وأنّ الجواد الذي يؤدّي
ما افترض الله عليه ، والبخيل من بخل بما افترض الله عليه .
____________________________
وأنّ السّخيّ قريب من
الله ، قريب من الجنة ، قريب من النّاس .
وأنّ السّخيّ يأكل من
طعام الناس ليأكلوا من طعامه . وأنّه : ليس السّخيّ المبذّر الذي ينفق ماله في غير حقّه ، ولكنّه الذي يؤدّي إلى الله ما فرض عليه في
ماله من الزكاة وغيرها . وأنّ السّخيّ الكريم الذي ينفق ماله
في حقّ .
وأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عفى عن أسير محكوم بالقتل ، وأخبره بأنّ الله أوحى إليه أنّه سخيّ فأسلم الأسير لذلك ، فقاده سخاؤه إلى الجنّة .
وأنّ الشّاب السّخيّ
المعترف للذنوب أحبّ إلى الله تعالى من الشيخ العابد البخيل .
وأنّ السّخيّ هو الذي
يبذل ممّا ملك ويريد به وجه الله ، وأمّا السّخيّ في معصية الله فحمّال سخط الله وغضبه ، وهو أبخل الناس على نفسه .
وأنّ الجنّة دار
الأسخياء .
وأنّ مالك إن لم يكن
لك كنت له ، فلا تُبق عليه ، فإنّه لا يُبقي عليك ، وكله قبل أن يأكلك .
____________________________

الدّرس الثّلاثون
في حسن الخُلق
الخُلق
بالضّم وبضمّتين : الطبع والسّجيّة ، وهو صورة نفس الإنسان وباطنه في مقابل الخَلق بالفتح الذي هو صورة جسمه وظاهره ، وهي تتّصف بالحسن والقبح كاتّصاف الجسم بهما ، إلّا أنّ ذاك الاتّصاف يكون تحت اختيار الإنسان وإرادته ، لأجل اختياريّة أسبابها بخلاف صورته الجسميّة الظاهريّة ، وذلك لأنّ صورة النّفس والرّوح البرزخيّة سواء قلنا بكون الروح في ذلك العالم موجوداً مستقلّاً قائماً بنفسه ، أو حالاً في القالب المثاليّ تتبع صفاته النفسيّة الدنيويّة
وتتشكّل على وفق تلك الحالات والملكات ، بل وكذا الجسم الدنيويّ للمؤمن المنشور من الأرض والمبعوث عنها بعد القيامة ، فهو وإن كان على صورته الدنيويّة عند البعث والحشر إلّا أنّه يتشكّل عند اقتراب الوفود على الله والورود في الجنّة على طبق الصفات والسجايا التي اكتسبها وحصّلها وربّاها وحسّنها ، ففي النشأتين بعد الموت ، أعني : البرزخ والقيامة تبلى السرائر الخلقيّة ، وتتجلّى السجايا
الروحيّة
بالصورة
البرزخيّة والأخرويّة ، حيث أنّ إصلاح صورة النفس في الدنيا وتحصيل الفضائل لها وإزالة الرذائل عنها بيد الإنسان ، وللعقائد الباطنة من الكفر
والإيمان وللأعمال الظاهرة من الطاعة والعصيان دخلاً وافراً في تلك الصفات والملكات فلا جرم تكون الصور البرزخيّة والأخرويّة في تشكّل هيئتها وحسن منظرها وبياضها وقبح مظهرها وسوادها بيد الإنسان ، فله أن يشكّلها بأيّ شكل أراد ويصوّرها بأية صورة شاء ، غير أنّه يبقى في الشخص شيء من وصفه الكمّيّ أو الكيفيّ السابق ، ليتعارف به في تلك النشأة في أبناء نوعه كما في « الكاريكاتور »
، قال تعالى : ( يَتَعَارَفُونَ
بَيْنَهُمْ ) .
ثّم إنّه قد يطلق حسن
الخلق ويراد به حسن العشرة مع الناس من الأقارب والأباعد بطلاقة الوجه وحسن اللقاء وطيب الكلام ، وجميل المخالطة والمصاحبة ورعاية الحقوق وإعمال الرأفة والإشفاق ونحو ذلك.
وقد يطلق ويراد به :
حسن جميع الأوصاف النفسيّة الدخيلة في حسن الهيئة البرزخيّة أو الأخرويّة ، وهو الذي يصعب تحصيله ، ولا يتحقّق إلّا لأولياء الله
تعالى والأوحديّ من الناس ، ولذا قيل في تعريف هذه الصفة بأنّها : حالة نفسانيّة يتوقّف حصولها على اشتباك الأخلاق النفسانيّة بعضها ببعض ، فهي حسن الصورة الباطنة التي هي صورة الناطقة ، كما أنّ حسن الخلق هو الصورة الظاهرة وتناسب الأجزاء ، إلّا أنّ حسن الصورة الباطنة قد يكون مكتسباً ، ولذا تكرّرت الأحاديث في الحثّ به وبتحصيله .
هذا ، وأدلّة الباب
وأخبارها توضح المراد من حسن الخلق بالتأمّل فيها.
فقد ورد في الكتاب
الكريم خطاباً للنّبيّ الأقدس صلىاللهعليهوآلهوسلم : (
إِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ
____________________________
عَظِيمٍ ). وقال تعالى : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ
فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) .
وورد في النصوص : أنّ
حدّ حسن الخلق أن تلين جانبك وتطيب كلامك وتلقى أخاك ببشر حسن .
وأنّ المؤمن هين لين
سمح ، له خلق حسن .
وأنّ خيار المؤمنين
أحاسنهم أخلاقاً ، الموطّئون أكنافاً ، الذين يألفون ويؤلفون وتُوطأ رحالهم. ( رجل موطّئ الأكناف أي : سهل الأخلاق
كريم مضياف ).
وأنّ من لم يكن له
خلق يداري به الناس ، لم يقم له عمل .
وأنّ اكمل المؤمنين
إيماناً أحسنهم خلقاً .
وأنّه : ما يوضع في
ميزان امرئ مؤمن يوم القيامة أفضل من حسن الخلق .
وأنّه : أوّل ما يوضع
في ميزانه .
____________________________
وأنّه : أفضل ما أعطي
المرء المسلم .
وأنّ حسن الخلق من
الخصال التي تكمل بها الإيمان .
وأنّه : ما يقدم
المؤمن على الله بعمل بعد الفرائض أحبّ إلى الله من أن يسع الناس بخلقه .
وأنّ صاحب الخلق
الحسن يعطيه الله من الثواب كما يعطي المجاهد في سبيل الله يغدوا عليه ويروح .
وأنّ العبد يكون له
بعض التقصير من العبادة ويكون له حسن خلق فيبلغه الله به درجة الصائم القائم ( والثواب إمّا لنفس الصفة الباطنة تفضّلاً
، أو لما يظهر من صاحبها من العشرة المندوبة فيترتّب عليها ثواب الواجبات ).
وأنّ من أكثر ما تلج
به الأمّة الجنّة ، حسن الخلق .
وأنّ الخلق الحسن
يميث الخطيئة كما تميث الشمس الجليد ، ( الميث : الاذابة والجليد : الماء الجامد ).
وأنّ ما في الكفّار
من حسن الخلق أعاره الله إيّاهم ليعيش أولياؤه معهم في دولاتهم .
وأنّ المؤمن مألوف ،
ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف .
____________________________
وأنّ أحسن الحسن
الخلق الحسن .
وأنّ قوله تعالى : ( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً )
منها حسن الخلق .
وأنّكم لن تسعوا
الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم ، أي : بطلاقة الوجه وحسن اللقاء.
وأنّه حسّن خلقك يخفف
الله حسابك .
وأنّ حسن الخلق ذهب
بخير الدنيا والآخرة .
وأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أطلق أسيراً من بين الأسراء وأعلنه أنّ الله أخبر بحسن خلقه ، فأسلم الأسير لذلك .
وأنّه قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : أحبّكم إلَيّ وأقربكم منّي يوم القيامة مجلساً أحسنكم خلقاً .
وأنّ الخلق الحسن نصف
الدين ( ولعلّ نصفه الآخر التّقوى الذي هو حسن المعاملة مع الله ، وقد ورد عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : أكثر ما تلج به أمّتي الجنّة ، تقوى
الله وحسن الخلق ) .
____________________________
وأنّ حسن الخلق في
الجنّة لا محالة ؛ وسوء الخلق في النار لا محالة .
وأنّ حسن الخلق خير
قرين .
وأنّ النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : أنا زعيم ببيتٍ في ربض الجنّة وبيت في وسطها وبيت في أعلاها لمن حسن خلقه .
وأنّه : لا حسب كحسن
الخلق .
وأنّ الكمال هو تقوى
الله وحسن الخلق .
وأنّه : أحسنوا صحبة
الدين بحسن الخلق .
وأنّه يزين الرجل كما
تزين الواسطة القلادة .
وأنّ العجب ممّن
يشتري العبيد بماله كيف لا يشتري الأحرار بحسن خلقه .
وأنّه : جمال في
الدنيا ونزهة في الآخرة .
وأنّه شجرة في الجنّة
وصاحبه متعلّق بغصنها .
وأنّه يعمر الديار
ويزيد في الأعمار .
____________________________
وأنّه : يزيد في
الرزق .
وأنّه : أكرم الحسب .
وأنّه : خير رفيق .
____________________________

الدّرس الحادي والثّلاثون
في الحلم وكظم الغيظ والعفو والصّفح
الحلم :
ضبط النفس عن هيجان الغضب ، والكظم : الحبس والسدّ ، فكظم الغيظ يرادف الحلم ، والعفو : ترك عقوبة الذنب ، والصفح : ترك التثريب واللوم عليه
فالمراد من العبائر والعناوين المذكورة : أن يحلم الإنسان عند غضبه للغير ولا يرتّب
الآثار التي يقتضيها الغضب من العقوبة بالقول أو الفعل ، والممارسة على ذلك والعمل بما يحكم به الشرع والعقل سبب لحصول ملكة في النفس تمنعها من سرعة الانفعال عن الواردات المكروهة ، وجزعها عن الأمور الهائلة ، وطيشها في المؤاخذة ، وصدور الحركات غير المنظّمة منها ، وإظهار المزيّة على الغير ، والتّهاون
في حفظ ما يجب عليه شرعاً وعقلاً. وهذه الملكة عن أفضل الأخلاق وأشرف الملكات ، والحليم هو صاحب هذه الملكة ، وكذا الكاظم.
وقد ورد في الكتاب
والسنّة في فضل هذه الخليقة وحسنها والحثّ على تحصيلها وترتيب آثارها عليها بل ، والجري على وفقها ـ وإن لم يكن عن ملكة ـ
آيات
كثيرة ونصوص متواترة.
فقد قال تعالى في
الكتاب الكريم في وصف المتّقين : (
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) وأمر بذلك في عدّة آيات كقوله :
(
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ )
وقوله : (
خُذِ الْعَفْوَ ) وقوله : ( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ
الْجَمِيلَ ) وقوله : (
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ )
وقوله :
(
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ
كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ).
( وما يلقّاها أي : وما يعطي ويبذل هذه السجيّة ، أي : مقابلة الإسائة بالاحسان إلّا ذو حظّ من الإيمان وفضائل الإنسان ).
وقوله : ( وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ )
(
فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ) و (
لَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ )
(
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ ) و ( قُلْ لِلَّذِينَ
آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ )
إلى غير ذلك.
وقد ورد في النصوص :
أنّ من خير أخلاق الدنيا والآخرة ومكارمها : أن تعفو عمّن ظلمك وتحلم إذا جهل عليك .
____________________________
وأنّه إذا جمع الله
الناس يوم القيامة في صعيد واحد نادى منادٍ : أين أهل الفضل ؟ فيقوم عُنق من الناس فيسأل عن فضلهم ، فيقولون : كنّا نعفوا عمّن ظلمنا ، فيقال : صدقتم ، ادخلوا الجنة. ( والعنق : الجماعة ).
وأنّ عليكم بالعفو
فإنّه لا يزيد العبد إلّا عزّاً ، فتعافوا يعزّكم الله .
وأنّ الندامة على
العفو أفضل وأيسر من الندامة على العقوبة .
وأنّه : ما التقت
فئتان قطّ إلّا نصر أعظمها عفواً .
وأنّه : إذا نودي يوم
القيامة من بُطنان العرش : ألا فليقم كلّ من أجرُهُ عليّ ، فلا يقوم إلّا من عفى عن أخيه .
وأنّ عليّ بن الحسين عليهالسلام قال : إنّه ليعجبني الرجل أن يدركه حلمه عند غضبه .
وأنّ الله يحبّ
الحييّ الحليم . وأنّه : ما أذلّ بحلم قطّ .
وكفى بالحلم ناصراً
وهو وزير المرء. وإذا لم تكن حليماً فتحلّم .
وأنّ الحليم أقوى
الخلق .
وأنّه : إذا وقع بين
رجلين منازعة نزل ملكان فيقولان للحليم منهما : صبرت وحلمت سيغفر لك إن اتممت ذلك .
____________________________
وأنّ نعم الجرعة
الغيظ لمن صبر عليها. وأنّها من أحبّ السبيل إلى الله ، فإنّ عظيم الأجر لمن عظيم البلاء .
وأنّك لن تكافئ من
عصى الله فيك بأفضل من أن تطيع الله فيه .
وأنّ من كظم غيظاً
ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضاه وحشاه أمناً وإيماناً .
وأنّ أهل بيت النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مروّتهم العفو عمّن ظلمهم .
وأنّه لا عزّ أرفع من
الحلم .
وأنّ كظم الغيظ إذا
كان في الرجل استكمل خصال الإيمان وزوّجه الله من الحور العين كيف شاء .
وأنّه : أوحى الله
إلى نبيّ من أنبيائه : إذا أصبحت فأوّل شيء يستقبلك فكُله ، فلمّا أصبح استقبله جبل أسود عظيم فبقى متحيّراً ، ثمّ رجع إلى نفسه ، فقال : إنّ
ربّي لا يأمرني إلّا بما أطيق ، فمشى إليه ليأكله فلمّا دنىٰ صغر ، فوجده لقمة
فأكلها ، فوجدها أطيب شيء أكله ، ثمّ قيل له : إنّ الجبل الغضب ، إنّ العبد إذا غضب لمن ير نفسه ، وجهل قدره من عظيم الغضب ، فاذا حفظ نفسه وعرف قدره وسكن غضبه كانت عاقبته كاللقمة الطيّبة التي أكلتها .
وأنّ أولى الناس
بالعفو أقدرهم على العقوبة .
____________________________
وأنّ من لم يكن له
حلم لم يقم له عمل .
وأنّه ما أرضى المؤمن
ربّه بمثل الحلم .
وأنّ الناس أعوان
الحليم على الجاهل .
وأنّه لا يعرف الحليم
إلّا عند الغضب .
وأنّ من كفّ غضبه عن
الناس كفّ الله عنه عذاب يوم القيامة .
وأنّ الصفح الجميل :
العفو بغير عتاب .
وأنّه إذا قدرت على
العدوّ فاجعل العفو شكراً للقدرة عليه .
وانّ الحلم عشيرة .
وأنّه غطاء ساتر .
وأنّ الحلم والأناة
توأمان تنتجهما علو الهمّة .
وأنّه من لا يكظم
غيظه يشمت عدوّه .
وأنّ الحلم سجيّة
فاضلة .
____________________________

الدّرس الثّاني والثّلاثون
في الفقر والفقراء والغنى والأغنياء
الفقر
في اللغة : انكسار فقار الظهر والفقير بمعنى : المفقور المنكسر فقرات ظهره يقال : فقرته الداهية أي : نزلت به وكسرت فقاره ، ويستعمل بمعنى : الحفر ، والفقيرة : الحفيرة ، والفقير من أثّرت المكاره الخدشة والحفرة في نفسه ، أو ذهبت بماله فتركت محلّه حفرة.
وهو في اصطلاح الشرع
وأهله يطلق على معانٍ كما أشار إليها الرّاغب :
الأوّل : الحاجة
والافتقار ، وهي بمعناها الحقيقي العامّ ، متحقّق في كلّ موجود بالنسبة إلى الله تعالى ، فالكلّ مفتقر في وجوده وبقائه ، بل وفي زواله وانعدامه
إلى الله تعالى ومشيئته كما قال تعالى : (
أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ) والفقر بهذا المعنى أمر وجوديّ.
____________________________
الثاني : فقد لوازم
العيش والحياة بالنسبة إلى من يحتاج إليها ، وهو المراد في أغلب مأثورات الباب ، وهذا أمر عدميّ.
الثالث : فقر النفس
بمعنى : حرصها وشرهها إلى الدنيا ومتاعها ، ويقابله غنى النفس.
الرابع : الفقر إلى
الله بمعنى : حالة اعتماد النفس إليه تعالى وانقطاعها عن غيره وعدم عنايتها إلى الأسباب الظاهريّة. ثمّ إنّه لا كلام هنا في المعنى الأول ، والعلم
والاذعان به من شؤون الإيمان ، ولا في المعنى الثالث ، فإنّه من رذائل الصفات ،
وقد وقعت الاشارة في النصوص أحياناً إلى المعنى الرابع ، فعمدة الكلام في المقام هو المعنى الثاني ، وعليه فقد يستظهر من أدلّة الباب أنّ الفقر بنفسه أمر ممدوح مطلوب
ذو فضل ورجحان ، مندوب إليه في الشرع. وأنّ الغنى مذموم مبغوض منهيّ عنه لكنّ الظاهر أنّ الفقر الممدوح مشروط :
أوّلاً : بعدم كون
حصوله من ناحية قصور المكلّف وتقصيره في الحركة والسعي إلى تحصيل رزقه كما أمره الله تعالى ، وإلّا فلا حسن في ذلك ، ولا يكون مشمولاً لما دلّ على فضله.
وثانياً : بتقارنه
بالرّضا والتسليم ، وعدم ظهور الجزع منه والشّكوى إلى الناس.
وثالثاً : بعدم وقوع
صاحبه في المعصية من جهته ، وهو ممدوح ـ حينئذٍ ـ لرضا الفقير باطناً بقضاء الله تعالى وتسليمه قلباً لأمره ، مع وقوعه في ضيق العيش
وضنك الحياة ، مع أنّ أغلب أهل هذا الفقر ، يصرفون أعمارهم في سبيل دينهم وطاعة ربّهم ، وسائر الأمور النافعة لمعاش أنفسهم وإخوانهم ولمعادهم عوضاً عن الأوقات التي يصرفها الأغنياء في دنياهم.
وأمّا الغنى : فهو
مذموم إذا أورث الحرص على الدنيا والغفلة عن الله تعالى ، وعن القيام بالوظائف والطاعات المندوبة أو الواجبة ، بل والوقوع في المعاصي والانهماك فيها كما هو الغالب في هذه الطائفة ونعوذ بالله منها.
ولو فرض أنّ صاحب
الغنى قد واظب في عين تلك الحالة على ما أراد الشرع منه وأدّى حقوق أمواله الواجبة والمندوبة ، بل وحصل له توفيق صرف المال في سبيل ربّه وإحياء دينه والخدمة لأهل ملّته بما لا يمكن ذلك للفقير فلا إشكال في عدم شمول الذموم الواردة في الغنى له.
وبالجملة : كم من غنيّ
لم يشغله غناه عن الله ، وكم من فقير شغله فقره عن الله. فإطلاقات المدح والذم في الوصفين محمولة على الغالب ، إذاً ، فالحسن عارض للفقر ، لملازمته أو مقارنته لما هو حسن عقلاً أو شرعاً ، والقبح عارض للغنى لتقارنه لما هو مبغوض كذلك. وقال المجلسيّ قدسسره : ( مقتضى الجمع بين أخبارنا : أنّ الفقر والغنى كلّ منهما نعمة من نعم الله يعطيها من يشاء من عباده لمصالح ، وعلى العبد أن يصبر على الفقر ، بل ويشكره ويشكر الغنى ويعمل بمقتضاه ، فمع عمل كلّ منهما بمقتضى حاله ، فالغالب أنّ الفقير الصابر أكثر ثواباً من الغنيّ الشاكر ،
لكن مراتبهما مختلفة ، والظاهر أنّ الكفاف أسلم وأقلّ خطراً من الجانبين ).
والأولى ذكر أدلّة
الباب حتّى يّتضح حقيقة الحال ، فإنّ الحقّ الحقيق بالاتّباع هو المستفاد من الكتاب والسنّة.
فقد ورد في الكتاب
الكريم قوله : (
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ
تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا
). فقد ورد : أنّ نزولها كان في
____________________________
أصحاب
النّبيّ وطائفة من الأغنياء ، فصدر الآية ناظر إلى الفقراء من أصحابه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وذيلها إلى الأغنياء في عصره ، حيث
استدعوا من النّبيّ أن يطرد الفقراء من عنده حتّى يرغبوا في الإسلام ويجالسوا النّبيّ الأعظم ، فالفقراء هم
الذين أرادوا وجه الله ورضوانه ، وداوموا على الدعاء والصلاة صباحاً ومساءً ، والأغنياء كانوا ـ عندئذ ـ هم الذين أغفل الله قلبهم عن ذكره واتّبعوا أهواءهم وكان أمرهم فرطاً ، أي : في تجاوز عن الحقّ وتضييع له. ثمّ إنّ النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال بعد نزولها : الحمد لله الذي أمرني أن أصبر مع هؤلاء الرجال ، منعكم المحيا ومعكم الممات .
وقال تعالى أيضاً بعد ذكر قولهم : (
لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ ... أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ
تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا ) ، (
تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَٰلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا ).
فيستفاد من حال الكفّار
ـ عندئذ كما هو حالهم الآن ـ أنّ الدنيا وما عليها من الزّينة لها فضل وكرامة وأصالة في حياة الإنسان ، مع أنّها وجميع ما فيها وعليها ليست إلّا مقدّمة لغرض أصيل آخر وآلة ووسيلة لتحصيله ، فالغنى المذموم عبارة عن الأموال التي ينظر إليها بتلك النظرة الاستقلاليّة ، ولذلك قال تعالى : لو شاء
ربّك لأعطاك فوق ما يقولون ، أو فوق ما يخطر ببالهم ، ونظيرتها الآية ٣٣ من الزخرف. وورد في النصوص :
أنّ الفقر مخزون عند
الله ( والمراد : إختزان ثوابه إذا صبر عليه صاحبه صبراً جميلاً ).
____________________________
وأنّ الله جعل الفقر
والحاجة أمانة عد خلقه ، فمن أسرّه وكتمه أعطاه الله مثل أجر الصائم القائم .
وأنّه : ما أعطي أحد
من الدنيا إلّا اعتباراً ، وما زُويَ عنه إلّا اختباراً ( اعتباراً أي : ليعتبر الغير به ، واختباراً : ليختبر نفسه ).
وأنّ الله يلتفت يوم
القيامة إلى فقراء المؤمنين شبيهاً بالمعتذر إليهم ، فيقول : ما أفقرتكم في الدنيا من هوانٍ بكم عليّ ، ولترونّ ما أصنع بكم اليوم ، فتصفّحوا وجوه
الناس ، فمن صنع إليكم معروفاً لم يصنعه إلّا فيّ فكافئوه عنّي بالجّنة ، وارفعوا
هذا السّجف ، فانظروا إلى ما عوّضتكم من الدنيا ، فيقولون ما ضرّنا ما منعتنا مع ما عوّضتنا ( والسّجف ـ بالفتح والكسر ـ السّتر ).
وأنّه : قال الله
تعالى لموسى : يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلاً فقل : مرحباً بشعار الصالحين ، وإذا رأيت الغنى مقبلاً فقل : ذنب عجّلت عقوبته ،
( عجّلت عقوبته أي : وقع منّي ذنب وهذه عقوبته قد عجّلت ).
وأنّه : طوبى للمساكين
بالصبر ، وهم الذين يرون ملكوت السّموات والأرض .
وأنّ الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : يا معشر المساكين ، طيبوا نفساً ، وأعطوا الله الرّضا من قلوبكم يثبكم الله على فقركم .
وأنّه : كلّ ما يراه
الفقير في السوق من الأمتعة والفاكهة فله بكلّ ما لم يقدر
____________________________
على
شرائه حسنة .
وأنّه : لا تدع أن
يغنيك الله عن خلقه ، فإن الله قسّم رزق من شاء على يدي من شاء ، بل إسأل الله أن يغنيك عن الحاجة الّتي تضطرّك إلى لئام خلقه .
وأنّ في فقر الفقراء
ابتلاء للأغنياء .
وأنّ الصادق عليهالسلام : قال : مياسير شيعتنا أمناء على محاويجهم فاحفظونا فيهم .
وأنّ الفقر أزين
للمؤمنين من العذار على خدّ الفرس .
وأنّه : لا تستخفّوا
بفقراء الشيعة ، فإنّ الرجل منهم ليشفع في مثل ربيعة ومضر .
وأنّ من استخفّ
بالفقير لفقره استخفّ بحق الله ، والله يستخفّ به يوم القيامة .
وأنّ السلام على
الفقير خلاف السلام على الغنيّ ، استخفاف .
وأنّ ابن آدم يكره قلّة
المال ، وهي أقلّ للحساب .
وأنّه : لا يبلغ
أحدكم حقيقة الإيمان حتّى يكون الفقر أحبّ إليه من الغنى .
____________________________
وأنّ عليّاً عليهالسلام أوصى بحبّ المساكين ومجالستهم .
وأنّه : أنظر إلى من
هو دونك ، ولا تنظر إلى من هو فوقك في المقدرة ، فإنّ ذلك أقنع لك بما قسّم لك .
وأنّ الفقر مع اعتقاد
الولاية خير من الغنى مع عدمه ، والقتل معه خير من الحياة مع عدمه .
وأنّ فقراء المؤمنين
يتقلّبون في رياض الجنّة قبل أغنيائهم بأربعين خريفاً ، وذلك مثل : سفينتين مرّ بهما على عاشر لم يجد في إحداهما شيئاً ، فقال : أسربوها ،
ووجد الأخرى موقّرة ، فقال : إحبسوها .
وأنّ فقر الدنيا غنى
الآخرة ، وغنى الدنيا فقر الآخرة ، وذلك الهلاك .
وأنّه هل يسرّك أنّك
على بعض ما عليه هؤلاء الجبّارون ولك الدنيا مملوّةً ذهباً فما أحسن حالك وبيدك صناعة لا تبيعها بملئ الأرض ذهباً .
وأنّ الأنبياء
وأولادهم وأتباعهم خصّوا بالفقر .
وأنّ النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : الفقر فخري .
وأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : اللهمّ أحيني مسكيناً ، وأمتني مسكيناً ، واحشرني مع المساكين .
____________________________
وأنّه : ما أحسن
تواضع الأغنياء للفقراء طلباً لما عند الله ، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء اتّكالاً على الله ( والتّيه : التكبّر وعدم الاعتناء ).
وأنّ الفقر كرامة من
الله .
وأنّ من توفّر حظّه
في الدنيا انتقص حظّه في الآخرة وإن كان كريماً .
وأنّ الفقر شين عند
الناس وزين عند الله يوم القيامة .
وأنّه : لولا الفقر
في ابن آدم ما طأطأ رأسه شيء .
وأنّ العفاف زينة
الفقر ، والشكر زينة الغنى .
وأنّ الفقر والغنى
بعد العرض على الله .
وأنّ من كثر اشتباكه
بالدنيا كان أشدّ لحسرته عند فراقها .
وأنّه : تخفّفوا
تلحقوا ، فإنّما ينتظر بأوّلكم آخركم .
ثمّ إنّ هنا روايات
وردت بألسنة أخرى. فورد : أنّ الفقر الموت الأحمر
، وأنّ الفقر الموت الأكبر .
____________________________
وأنّ الفقر يخرس
الفطن عن حجّته. والمقلّ غريب في بلده .
وأنّ الفقر في الوطن
غربة .
وأنّه : ما خلق الله
في الأرض أشدّ من الفقر ، والفقر أشدّ من القتل .
وأنّ من عدم قوته كثر
خطاياه .
وأنّ الفقير لا يسمع
كلامه ولا يعرف مقامه لو كان صادقاً يسمّونه كاذباً ، ولو كان زاهداً يسمّونه جاهلاً .
وأنّ لقمان قال : قد
ذقت الصبر وأنواع المرّ ، فلم أر أمرّ من الفقر
ونحو ذلك ، لكنّها لا تخالف ما سبق فإنّ هذه الأخبار تشير إلى بعض آثار الفقر الراجعة إلى نفس الفقير من شدّته عليه وصعوبة تحمّله ، أو إلى معاملة الناس مع صاحب الفقر من تحقيرهم له ، ونحو ذلك.
نعم ، يمكن أن يشير
بعضها إلى معنى آخر : كقوله : كاد الفقر أن يكون كفراً .
وأنّ الفقر سواد
الوجه في الدارين . فلعلّ المراد بها : المعنى الثالث
للفقر ، وهو : شره النفس وحرصها على المال والجاه ، أو المراد فقر النفس وفقدها لما ينبغي أن تكون واجدة له من العلم والدين ، والفضائل النفسانيّة ، والعمل بطاعة الله ونحو
ذلك ، وهذا له مراتب : فبعضها كفر ، وبعضها فسق ، وبعضها جهل وبهيميّة.
____________________________
فقد ورد : أنّ الصّادق
عليهالسلام قال : الفقر الموت الأحمر ، فقيل :
الفقر من الدنانير والدراهم ؟ قال : لا ، ولكن من الدين .
وأنّه قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : الفقر فقران : فقر الدنيا وفقر الاخرة ، وهو الهلاك .
وأنّه قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : الفقر فقر القلب .
ثمّ إنّ ابتلاء الله
تعالى الناس بالفقر الماليّ يكون لجهاتٍ ، منها : إصلاح نفوسهم وردعها عن الشهوات ، وعن الوقوع في أنواع المعاصي والمحرّمات.
ومنها : حطّ ما صدر
عنهم من السيّئات ، وكونه كفّارة لذلك.
ومنها : إقتضاء صلاح
غير الفقير ، من أرحامه أو مجتمعه ذلك.
ومنها : إقتضاء صلاح
دينه له. وعلى أيّ تقدير فقد عرفت أنّ الله تعالى يعوّض الفقير عن فقره في الدنيا أو في الآخرة ، وهذا تفضّل منه تعالى ، أو أنّه
عوض صبره ، أو عوض نفس حرمانه ، والله تعالى هو الغفور الشكور.
____________________________
الدّرس الثّالث والثّلاثون
في الكفاف في الرّزق
ذكر هذا العنوان في
المقام لأجل أنّ دوام ذلك يوجب حصول صفة الصّبر والرّضا فيكون من الملكات ، إلّا أنّه ينبغي أن يعدّ من شعب الصبر أو الرضا والتسليم.
وقد ورد في النصوص :
أنّ الله تعالى قال : « إنّ أغبط أوليائي عندي رجل خفيف الحال جعل رزقه كفافاً فصبر عليه » . ( والكفاف بالفتح هو الذي لا يفضل عن الشيء ، ويكون بقدر الحاجة إليه ، يقال : قوته كفاف أي : غير زائد ولا ناقص سمّي بذلك لأنّه يكفّ عن سؤال الناس ويغني عنهم ).
وورد : أنّه : طوبى
لمن أسلم وكان عيشه كفافاً .
____________________________
وأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : اللّهم من أحبّني فارزقه الكفاف والعفاف .
وأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم مرّ براعي غنم فبعث إليه يستسقيه فحلب له ما في ضروعها ، وبعث إليه بشاة ، فقال : هذا ما عندنا ، وإن أحببت أن نزيدك زدناك ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : اللهمّ ارزقه الكفاف .
وأنّه قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : من رضي من الله بالقليل من الرزق رضي الله منه بالقليل من العمل ( والقليل من العمل : أن يقتصر على الواجبات أو يطيعه في بعض الأحكام ويعصيه في بعضها ).
وأنّ قيّم أبي ذرّ في
غنمه أخبره بأنّه قد ولدت الأغنام وكثرت ، فقال : تبشّرني بكثرتها ، ما قلّ وكفى خير ممّا كثر وألهى .
____________________________
الدّرس الرّابع والثّلاثون
في الكذب ونقله وسماعه
الكذب
لغة هو : اللا مطابقة ويتّصف به الاعتقاد والفعل كما يتّصف به الكلام فالظنّ أو الاعتقاد المخالف للواقع ، كذب ، كما أنّ العمل المخالف للقول والوعد ـ مثلاً ـ كذب. والكذب في القول هو : الكلام المخالف للواقع ، خالف الاعتقاد أيضاً
أم لا ، أو هو : الكلام المخالف للاعتقاد ، خالف الواقع أم طابق.
ثمّ إنّه لا ريب في
أنّ الكذب من أعظم المعاصي وأشنعها ، وهو ممّا يحكم العقل والنقل بقبحه ، وله مراتب شتّى في القبح والشناعة : كالكذب على الله ، وعلى رسوله
، وعلى الأئمّة عليهمالسلام ، وعلى المؤمنين وهكذا.
والكلام في المقام ليس
في حرمة الكذب أصالة ، فإنّ البحث عن ذلك يقع في الفقه ، بل لأنّ الجرأة عليه في ابتداء الأمر تورث في النفس حالة الانحراف عن الواقع ، والغفلة عن الحقّ وستره ، والممارسة عليها توجب حصول ملكة الكذب ، وهي من أشنع الملكات وأخبثها ، وهي التي يسمّى صاحبها كذّاباً. ففي صحيح ابن
الحجّاج
: قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الكذّاب هو الذي يكذب في الشيء ؟ قال
: لا ، ما من أحد إلّا يكون ذلك منه ، ولكنّ المطبوع على الكذب .
فإنّ المطبوع هو المجبول عليه بحيث صار عادة له لا يتحرّز ولا يبالي به ولا يندم.
وكيف كان ، فقد ورد
في تحريمه وذمّه آيات كقوله تعالى : (
وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) وقوله : (
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ) وقوله : (
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ) وقوله : (
لَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـٰذَا حَلَالٌ وَهَـٰذَا
حَرَامٌ ) وقوله : (
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ) و (
لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) وغير ذلك.
وقد ورد في النصوص :
أنّ الباقر عليهالسلام قال : لا تكذب علينا كذبة فتسلب الحنيفيّة ( وكذبة أي : مرّة واحدة فضلاً عن الكثير ، والحنيفيّة :
الطريقة الحقّة وهي الدين ).
وأنّه : اتّقوا الكذب
الصغير منه والكبير ، وفي كلّ جدّ وهزل ، فإنّ الرجل إذا كذب في الصغير اجترأ على الكبير ، وما يزال العبد يكذب حتّى يكتبه الله كذّاباً .
وأنّ الله قد جعل
للشرّ أقفالاً ، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب ، والكذب شرّ من الشراب .
____________________________
( الصغر والكبر في
الكذب : إمّا بلحاظ اختلاف مراتب المفسدة الموجودة في المخبر به ، أو مراتب مقام المتكلّم بالكذب ، أو اختلاف المكان أو الزمان الذي يقع
فيه أو غير ذلك ، وكونه شرّاً من الشراب إنّما هو في بعض مصاديقه : كالكذب في أصول العقائد ، أو الأحكام الشرعية الفرعية ، فإنّه سبب للإضلال في الأصول والفروع ، أو الكذب في الموضوعات الذي ينجر إلى المعاصي الكبيرة : كالقتل والزنا وغيرهما.
وأنّه : إيّاكم
والكذب ، فإنّ كلّ راجٍ طالب ، وكلّ خائفٍ هارب
( والمراد به : الكذب في دعوى رجاء الآخرة والخوف من النار ).
وأنّ الكذب خراب
للإيمان .
وأنّ أوّل من يُكذّب
الكذّاب ، الله تعالى ، ثمّ الملكان اللذان معه ، ثم هو يعلم أنّه كاذب .
وأنّ الكذّاب يهلك
بالبيّنات ، ويهلك أتباعه بالشبهات ( والمراد من الكذّاب هنا : مدّعي مقام يعلم ببطلانه ويتّبعه الناس جهلاً كمدّعي النبوّة
والولاية والفقاهة ونحوها ، فإنّه يهلك هو لعلمه بكذبه والعلم بنيّته ، ويهلك الناس بجهالته
وحسن ظنّهم ).
وأنّ الكذبة لتفطر
الصائم ، وذلك الكذب على الله ورسوله والأئمّة عليهمالسلام .
وأنّ الحائك الذي ورد
اللعن عليه هو الذي يحوك الكذب على الله ورسوله .
____________________________
وأنّه : لا يجد عبد
طعم الإيمان حتّى يترك الكذب جدّه وهزله .
وأنّ من كثر كذبه ذهب
بهاؤه .
وأنّه : ينبغي للمسلم
أن يجتنب مؤاخاة الكذّاب .
وأنّ ممّا أعان الله
على الكذّابين النسيان .
وأنّ أقل الناس مروءة
من كان كاذباً .
وأنّه : لا سوء أسوء
من الكذب .
وأنّ الكذب يهدي إلى
الفجور ، والفجور إلى النار .
وأنّه : ما يزال
أحدكم يكذب حتّى لا يبقى في قلبه موضع إبرة صدق فيسمّى عند الله كذّابا.
وأنّ شرّ الرواية
رواية الكذب .
وأنّه : جانبوا الكذب
، فإنّ الكذب مجانب الإيمان .
وأنّ الرجل ليكذب
الكذبة فيحرم صلاة الليل ، فإذا حرم صلاة الليل حرم بها الرزق .
____________________________
وأنّ الكذب لعوق
إبليس .
وأنّ من كان فيه
الكذب ففيه خصلة من النفاق .
وأنّ اعتياده يورث
الفقر .
وأنّه خيانة .
وأنّ المؤمن يكون
جباناً وبخيلاً ولا يكون كذّاباً .
وأنّ رجلاً قال : يا
رسول الله ، علّمني خلقاً يجمع لي خير الدنيا والآخرة ، فقال : لا تكذب .
وأنّ الكاذب لا يكذب
إلّا من مهانة نفسه .
وأنّ أصل السخرية
الطمأنينة إلى أهل الكذب .
وأنّ الكذب مذموم إلّا
في الحرب ، ودفع شرّ الظلمة ، وإصلاح ذات البين .
____________________________

الدّرس الخامس والثّلاثون
في الرّياء
الرّياء
لغة : مصدر باب المفاعلة من رأي ، فهو والمراءاة بمعنى : إراءة الشيء للغير على خلاف واقعه : كإراءة أنّ صلاته وصيامه لله ، وليس كذلك. ويقع غالباً في الأفعال الحسنة لطلب المنزلة عند الناس. فالمرائي اسم فاعل ، هو العامل كذلك والمرائى له اسم مفعول من يطلب جلب قلبه ، والمرائى به هو : العمل والرياء قصد إظهار ذلك.
والمرائى به تارة
يكون من حالات البدن : كإظهار الحزن والضعف والتحوّل ونحوها ، وأخرى من قبيل الزّي : كالهيئة وكيفيّة الشّعر واللباس ، وثالثةً من قبيل
القول والكتابة ونحوهما ، ورابعةً من قبيل العمل ، وخامسةً من قبيل الرفقة والأصحاب والزائرين والمزورين وغيرهم فجميع ذلك ممّا يمكن للانسان الرياء فيها.
وأيضاً الرياء يكون
تارة في أصول العقائد : كالرياء في أصل إظهار الإيمان
فيكون
صاحبه منافقاً كافراً في الباطن متظاهراً بالاسلام ، وهو أشدّ من الكفر في الظاهر والواقع. وأخرى في أصول العبادات : كإتيان الواجبات ظاهراً مع تركها في الباطن. وثالثةً في العبادات المندوبة : كالنوافل وقراءة القرآن والأدعية. ورابعةً
في أوصاف العبادات : كالإسراع إليها ، وحضور الأمكنة المتبرّكة ، وتحرّي الأزمنة الشريفة ، والحضور في الاجتماعات.
ثمّ إنّه يترتّب على
العمل المأتيّ به رياءً في الجملة آثار ، ويتّصف بعناوين كونه كذباً وتلبيساً واستهزاءً وإشراكاً لله تعالى وباطلاً ، فإنّ إراءة ما لغير
الله لله تعالى ، كذب عمليّ ، والتخييل إلى الناس بأنّه مطيع لله مخلص له تلبيس لهم ومكر ، وإراءة عمل الناس إليهم بدعوى أنّه من الله مع وقوعه بمرئى من الله ومنظر منه استهزاء.
وجعل ظاهر عمل واحد
لله وباطنه للناس إشراك لغيره معه ، وبهذا المعنى يكون كلّ رياء شركاً كما سيأتي ، ولا إشكال في اتّصاف هذا النحو من العمل بالبطلان في أكثر مصاديقه وتفصيل ذلك في الفقه.
ثمّ إنّ اعتياد
الانسان بالرياء في عمله وتخلّقه بذلك من أقبح صفات النفس وملكاته ، بل لا صفة أقبح من بعض مصاديقه.
وقد ورد في تحريمه
وذمّه آيات : كقوله تعالى في وصف المنافقين : (
وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ
اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ) ، وقال : (
لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ
النَّاسِ ) ، وقال : (
الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ
الْمَاعُونَ ).
____________________________
وقد ورد في نصوص أهل
البيت عليهمالسلام أنّه : إيّاك والرياء ، فإنّه من عمل
لغير الله وكله الله إلى من عمل له .
وأنّه : اجعلوا أمركم
هذا لله ، ولا تجعلوه للناس ، فإنّه ما كان لله فهو لله ، وما كان للناس فلا يصعد إلى الله .
وأنّ كلّ رياء شرك .
وأنّ الرياء هو الشرك
الأصغر .
وأنّه : من عمل للناس
كان ثوابه على الناس ، ومن عمل لله كان ثوابه على الله .
وأنّه : ما عمل أحد
عملاً إلّا ردّاه الله به ، إن خيراً فخيراً ، وإن شرّاً فشرّاً
( ردّاه به أي : جعله رداء له ، وهو تشبيه أي : أنّ الله يظهر أثره للناس كالثوب الجميل والقبيح ، أو يجعله رداء روحه أو رداءه يوم القيامة ).
وأنّ الملك ليصعد
بعمل العبد مبتهجاً به ، فإذا صعد بحسناته يقول الله : اجعلوها في سجّين ، إنّه ليس إيّاي أراد به .
وأنّه للمرائي ثلاث
علامات : ينشط إذا رأى الناس ، ويكسل إذا كان وحده ،
____________________________
ويحبّ
أن يحمد في جميع أموره .
وأنّ الله تعالى قال
: « أنا خير شريك ، من أشرك معي غيري في عمل عمله ، لم أقبله إلّا ما كان لي خالصاً » .
وأنّه : من أظهر
للناس ما يحبّ الله وبارز الله بما كرهه لقي الله وهو ماقت له .
وأنّه : ما يصنع
أحدكم أن يظهر حسناً ويسرّ سيّئاً ، أليس يرجع إلى نفسه فيعلم أنّ ذلك ليس كذلك والله يقول : ( بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ )
.
وأنّ أيّما عبد أسرّ
شرّاً لم تذهب الأيام حتّى يظهر له شرّاً .
ومن أراد الله
بالقليل من عمله أظهره الله له أكثر ممّا أراد ، ومن أراد النّاس بالكثير من عمله أبى الله إلّا أن يقلّله في أعين الناس .
وأنّ الإبقاء على
العمل أشدّ من العمل ، وهو : أن ينفق نفقة لله فتكتب له سرّاً ، ثمّ يذكرها فتمحى فتكتب له علانيةً ، ثمّ يذكرها فتمحى وتكتب له رياء
( والإبقاء على العمل : شدّة المحافظة عليه حتّى لا يذهب بتكرار ذكره أو بحسد أو عجب أو غيبة الناس ).
____________________________
وأنّ من عمل لغير
الله وكله الله إلى عمله .
وأنّه : لو عمل خيراً
فرآه إنسان فسرّ بذلك لا يكون رياءً إذا لم يكن صنع ذلك لذلك .
وأنّ المرائي يخادع
الله ، يعمل بما أمره ثمّ يريد به غيره ، فاتّقوا الله واجتنبوا الرياء ، فإنّه شرك بالله. إنّ المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء : يا كافر ،
يا فاجر ، يا غادر ، يا خاسر ، حبط عملك ، وبطل أجرك ، ولا خلاق لك اليوم .
وأنّ أحدكم إذا أتاه
الشيطان وهو في صلاته فقال : إنّك مراءٍ فليطل صلاته ما بدا له .
وأنّ الشرك المنهيّ
في قوله تعالى : (
وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا )
شرك رياء .
وأنّ الاشتهار
بالعبادة ريبة .
وأنّه : سيأتي على
الناس زمان تخبث فيه سرائرهم وتحسن فيه علانيتهم طمعاً في الدنيا ، يكون دينهم رياء لا يخالطهم خوف ، يعمّهم الله بعقاب فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجيب لهم .
____________________________
وأنّ الله يقول : «
أنا خير شريكٍ ، من عمل لي ولغيري فهو لمن عمل له غيري » .
وأنّ الرياء من قلّة
العقل ، فإنّه يعمل ما فيه رضا الله لغير الله ، فلو أنّه أخلصه لله لجاءه الذي يريد في أسرع من ذلك .
وأنّ جبّ الخزي وادٍ في
جهنّم اُعدّ للمرائين .
وأنّ النجاة أن لا
يعمل العبد بطاعةٍ يريد بها الناس .
____________________________
الدّرس السّادس والثّلاثون
في العجب بالعمل واستكثار الطّاعة
العجب :
ابتهاج الإنسان وسروره بتصوّر الكمال في نفسه وإعجابه بأعماله ، والإدلال بها بظنّ تماميّتها وخلوصها ، وحسبان نفسه خارجاً عن حدّ التقصير ، لا السرور بصدور العمل مع التواضع لله والشكر له على التوفيق ، والخوف من عدم تمامه وعدم قبوله ، فإنّه لا بأس به ، بل هو حسن.
والعجب من أخبث
الصفات وأعظم المهلكات ، سواءٌ أكان حالةً غير راسخةٍ في القلب أو صار بالمدوامة عليه ملكة راسخة ، وهو من أشدّ الحُجُبِ بين القلب والرّب تعالى. والمعجب مبغوض عند الله ، مسلوب التوفيق من ناحية الله لحسبان نفسه غنيّاً عن إنعامه وإفضاله ونعوذ بالله من ذلك.
وظاهر الأدلّة كما هو
ظاهر كلمات الأصحاب حرمته ، ومعروض الحرمة : إمّا نفس الحالة النفسانيّة أو إظهارها في ضمن قولٍ أو فعل.
وقد ورد في الكتاب
الكريم : ( أَفَمَنْ زُيِّنَ
لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ). ( وخبر الموصول المبتدأ محذوف أي : كمن لم يزيّن له وعرف كيفيّة عمله فلم يعجب به ). وسوء العمل : إمّا لحرمته ذاتاً أو لعروض القبح عليه بإعجاب العامل به.
وورد في عدّة نصوصٍ :
أنّه : من دخله العجب هلك ( والهلاك هنا : البعد من الله واستحقاق عقابه ).
وأنّ الذنب خير
للمؤمن من العجب .
وأنّ سيّئةً تسوءك
خير من حسنةٍ تُعجبك .
وأنّ موسىٰ عليهالسلام سأل إبليس عن الذنب الذي إذا أذنبه إبن آدم استحوذ عليه قال : إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله .
وأنّه : لا تستكثروا
الخير وإن كثر في أعينكم .
وأنّ استكثار العمل
من قاصمات الظّهر .
وأنّه : لا وحدة ولا
وحشة أوحش من العجب .
وأنّه : لا جهل أضرّ
من العجب .
____________________________
وأنّ من لا يعرف لأحدٍ
الفضل فهو المعجب برأيه .
وأنّ الإعجاب يمنع من
الازدياد .
وأنّ عجب المرء بنفسه
أحد حُسّاد عقله .
وأنّه : من المهلكات .
وأنّه : لا تُخرجنّ
نفسك من حدّ التقصير في عبادة الله ، فإنّ الله لا يُعبد حقّ عبادته .
وأنّه قال الله تعالى
: « إنّ من عبادي من يسألني الشيء من طاعتي لاحبّه فأصرف ذلك عنه ؛ لكيلا يعجبه عمله » .
وأنّه : قُلْ يا ربّ
لا تُخرجني من التقصير ، فكلّ عملٍ تريد به الله فكن فيه مقصّراً عند نفسك .
____________________________

الدّرس السّابع والثّلاثون
في الشّكوى إلى الله وإلى النّاس
الشّكوى والشّكاية : مصدران من : شكىٰ يشكوا إلى زيد : تظلّم إليه ، وأخبره بسوء الحوادث ، فالمخبر شاك وزيد مشكوّ إليه ، والمخبر عنه مشكوّ منه ، والإخبار شكاية. والشكوىٰ إن كانت إلى الله تعالى أو إلى عبده المؤمن فهي حسن جميل ، سواء كانت من ظلم الناس أو مكاره الدهر. وإن كانت من الله ومن الحوادث الراجعة إليه تعالىٰ ، فإن كانت إلى المؤمن فلا ذمّ ، وإن كانت إلى غيره فهي
مذمومة. وقد ورد في الكتاب الكريم قول يعقوب عليهالسلام : (
إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ )
.
وورد في النصوص : أنّه
: من شكىٰ إلى أخيه فقد شكىٰ إلى الله ، ومن شكىٰ إلى غير أخيه فقد شكىٰ الله .
وأنّ أبغض الكلام إلى
الله التحريف ، وهو قول الرجل : إنّي مجهود ، وما لي ، وما عندي .
____________________________
وأنّه : إذا ضاق
المسلم فلا يشكونّ ربّه وليشك إلى ربّه الذي بيده مقاليد الأمور وتدبيرها . وأنّه : من لم يرضَ بما قسم الله له
من الرزق وبثّ شكواه ولم يصبر ولم يحتسب لم ترفع له حسنة ، وهو عليه غضبان ، إلّا أن يتوب .
____________________________
الدّرس الثّامن والثّلاثون
في اليأس من روح الله والأمن من مكره
روح الله
تعالىٰ هو : رحمته وفرجه وإحسانه في الدنيا ، وشفاعة أنبيائه وملائكته ، وغفرانه وجنّته في الآخرة. والمكر : أخذه في الدنيا بنحو الإستدراج وغيره ، وعقابه في الآخرة.
ويظهر من النّصّ
والفتوىٰ تحريم الأمرين ، وقد عدّهما أصحابنا في الفقه من المعاصي الكبيرة ، وظاهرهما كون نفس الحالتين معصية محرّمة فتحرم التسبيب لحدوثهما ، ويجب السعي في إزالتهما لو اتّفق حصولهما بالتأمّل والتفكر في مفاد النصوص الواردة فيه ، في الكتاب والسنّة والعقل الحاكم بقبحهما بعد ملاحظة سعة رحمة الله تعالىٰ وشمول عفوه وغفرانه ، وبعد التوجّه إلىٰ قدرته
وسطوته وما يقتضيه ذنوب عباده ، ولو لم يقدر على التأمّل في ذلك فعليه أن يراجع أهله من علماء الدين ورواة الأحاديث وحملة العلوم والمعارف الاسلاميّة ، وأطبّاء النفوس من علماء الأخلاق وغيرهم.
وقد قال تعالىٰ
: ( وَلَا تَيْأَسُوا
مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) ، وقال : (
فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ ... قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ
إِلَّا الضَّالُّونَ ) ، وقال : (
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَـٰئِكَ يَئِسُوا
مِنْ رَحْمَتِي ) ، وقال : ( يَا عِبَادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ) ، وقال : (
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ
الْخَاسِرُونَ ).
وُروي : أنّ الله
يبعث المقنطين يوم القيامة مغلّبة وجوههم ، يعني : غلبة السواد على البياض ، فيقال لهم : هؤلاء المقنطون من رحمة الله .
____________________________
الدّرس التّاسع والثّلاثون
في الدّنيا وحبّها وذمّها
هنا أمور : الأوّل :
الدنيا في اللغه : اسم تفضيل مؤنث أدنىٰ ، تستعمل تارةً بمعنى : الأقرب زماناً أو مكاناً ، ويقابله الأبعد ، وأخرىٰ بمعنى : الأرذل
والأخسّ ، ويقابله الخَير ، وثالثةً بمعنى الأقل ويقابله : الأكثر. والكلمة تطلق بمعانيها
على هذه الدنيا في مقابل الآخرة ، فإنّها الأقرب وجوداً والأرذل جوهراً قيمةً ، والأقلّ كمّاً
وكيفاً.
وقد استُعمل في
الكتاب الكريم في كلٍّ من المعاني.
والدنيا المصطلح
عليها عند الشرع وأهله لها إطلاقات ثلاثة :
أحدها :
الدنيا المستعملة مطلقة في مقابل الآخرة ، وهي : عبارة عن كل ما يرتبط بالانسان وله مساس به قبل موته في هذا العالم ممّا هو في داخل وجوده : كتصوّراته وتصديقاته وأقواله وأفعاله ، وممّا هو خارج عنه متأصّلاً كان ، كمآكله وملابسه ومسكانه ، أو غير متأصّلٍ ، كمناصبه وولاياته ونحوها ، وتقابله الآخرة
على
نحو الاطلاق ، وهي : العالم المحيط به بعد موته.
وثانيها : الدنيا المذمومة ، وهي أخصّ من الأولىٰ ، فإنّها عبارة
عنها ، أو عن بعض مصاديقها مع انطباق بعض العناوين عليها وعروض بعض الحالات والإضافات لها كما ستعرف.
وثالثها : الدنيا الممدوحة ، وسيأتي ذكرها في ضمن الروايات. والكلام هنا
في القسم الثاني ، وهو : الدنيا التي نطق الكتاب الكريم بذمّها وتحقيرها ، وحثّت النصوص المتواترة على تركها والإعراض عنها. وهذا القسم يشمل جميع ما يتعلّق بالانسان من تنعّماته وانتفاعاته ، وما يسعىٰ في تحصيله من علومه وفنونه ومناصبه ، وما يحصّله ويعدّه لنفسه من أمواله وأولاده وكلّ ما يملكه ويدّخره لينتفع به ، كلّ ذلك إذا حصلت من الوجه المحرّم ، أو كانت مقدّمةً للحرام ، أو لوحظت بنحو الأصالة في الحياة ، وكانت مبلغ علم الإنسان ومنتهىٰ همّته ،
فتطلق على الحياة المقرونة بجميع ذلك والمشتملة عليها حياة الدنيا ، وعلىٰ نفس تلك
الأمور عرض الحياة وزينتها ومتاعها وحطامها وما أشبهها من التعابير القرآنيّة.
وظواهر الكتاب والسنّة
بعضها مسوق لبيان حال اشتغال الإنسان بها وذمّ حبّها ، وتزيّنها في القلب ورضا الإنسان بها ، وطمأنينته إليها وإيثارها على
الآخرة وابتغائها والفرح بها واستحبابها ، أي : ترجيحها على الآخرة والإشراف بها وكونها لعباً ولهواً وتفاخراً وتكاثراً ، وغير ذلك من التعابير الكاشفة عن حالات الإنسان ونفسيّاته المتعلّقة بها والمذمومة في الشرع.
وبعضها مسوق لبيان ما
يرجع إلى حال نفس أعراضها وأمتعتها. وأنّها حقيرة صغيرة ، وأنّها غرّارة ملهية فانية زائلة ، وأنّها تنفد ولا تبقىٰ ،
وأنّها متاع قليل ، ونحو ذلك من التعابير ، فمن الطائفة الأولىٰ قوله تعالىٰ : ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ
الشَّهَوَاتِ ) أي : زُيّن نفس شهوات الدنيا
ومشتهياتها ، وقال : (
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) أي : نفس الحياة أو ما يقارنها ممّا
عرفت آنفاً ، وقال : (
مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ )
وقال : (
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ ) وقال : (
وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا )
وقال : (
وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا ) وقال : (
وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) وقال : (
فَأَمَّا مَنْ طَغَىٰ وَآثَرَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) وقال : (
ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ )
وقال : ( اعْلَمُوا أَنَّمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ
وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ) .
ومن الطائفة الثانية
قوله : ( فَمَا مَتَاعُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ )
وقال تعالىٰ في توضيح مشتهيات الدنيا من النساء والبنين والقناطير المقنطرة
من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث : (
ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ
) وقال : (
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا
____________________________
عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ )
وغير ذلك من الآيات.
وورد في النصوص : أنّ
حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئةٍ ، فالشقاء والشرور والخطايا والمفاسد كلّها مطويّة تحت عنوان الدنيا ، وذمائم الخصال ورذائلها محويّة
في صفة حبّها والميل إليها.
وأنّه : ما فتح الله
على عبدٍ باباً من أمر الدنيا إلّا فتح عليه من الحرص مثله. وأنّ من أصبح وأمسىٰ والدنيا أكبر همّه جعل الله الفقر بين
عينيه ( أي : كلّما صرف همّه وعمره في تحصيلها زاده الله حرصاً وحاجةً وفقراً ).
وأنّ : أبعد ما يكون
العبد من الله إذا لم يهمّه إلّا بطنه وفرجه .
وأنّ : من كثر
اشتباكه بالدنيا كان أشدّ لحسرته عند فراقها .
وأنّ للدنيا شُعَباً
منها : الكبر ، وهو : أوّل ما عصى الله ، والحرص ، وهو : عصيان آدم وحوّاء ، والحسد وهو : معصية ابن آدم .
وأنّ الله قال : «
جعلت الدنيا ملعونةً ، ملعون ما فيها إلّا ما كان فيها لي ، وأنّ عبادي زهدوا في الدنيا بقدر علمهم ، وسائر الناس رغبوا فيها بقدر جهلهم ، وما من أحد عظّمها
فقرّت عينه فيها ولا يحقّرها أحدٍ إلّا انتفع بها » .
( قال المجلسي قدسسره : قوله : ( ملعون ما فيها إلّا ما كان فيها لي ) هذا معيار
كامل
____________________________
للدنيا
الملعونة وغيرها ، فكلّما كان في الدنيا يوجب القرب إلى الله من المعارف والعلوم الحقّة والطاعات ، وما يتوصّل به إليها من المعيشة بقدر الضرورة والكفاف ، فهي من الآخرة وليست من الدنيا ، وكلّما يصير سبباً للبعد عن الله والاشتغال عن ذكره ويلهي عن درجات الآخرة وكمالاتها ، وليس الغرض فيه القرب منه تعالىٰ والوصول إلى رضاه ، فهي الدنيا الملعونة ـ انتهىٰ. وقد
عرفت ما يؤيّد ذلك.
وأنّ الشيطان يدبر
ابن آدم في كلّ شيءٍ ، فاذا أعياه جثم له عند المال فأخذ برقبته . ( يدبر ، أي : يتعقّبه ويمشي خلفه ، وأعياه ، أي : أعيا ابن
آدم الشيطان ، وجثم له : لزم مكانه ، والمراد : أنّه يقدر على إغوائه من جهة المال ).
وأنّ الدينار والدرهم
أهلكا من كان قبلكم وهما مهلكاكم .
وأنّ مثل الحريص على
الدنيا كمثل دودة القزّ كلّما ازداد من القزّ على نفسها لفّاً كان أبعد من الخروج حتّىٰ تموت غمّاً .
وأنّه : ما ذئبان
ضاريان في غنمٍ بأفسد فيها من حبّ المال والشرف في دين المؤمن .
وأنّ من تعلّق قلبه
بالدنيا تعلّق قلبه بثلاث خصالٍ : همّ لا يفنىٰ ، وأمل لا يُدرك ، ورجاء لا ينال .
____________________________
وأنّ الدنيا دار فناءٍ
وزوال ، وأهل الدنيا أهل غفلةٍ ، والمؤمنون هم الفقهاء ، أهل فكرةٍ وعبرةٍ ، لم يصمّهم عن ذكر الله ما سمعوا ، ولم يعمهم ما رأوا من الزينة
، وأهل التقوىٰ أيسر أهل الدنيا مؤونةً وأكثرهم معونةً ، قوّالون بأمر الله ،
قوّامون على أمر الله .
وأنّ الدنيا مدبرة
والآخرة مقبلة ، ولكلّ واحدةٍ منهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا .
وأنّ اليوم عمل ولا
حساب ، والآخرة حساب ولا عمل .
وأنّ من اشتاق إلى
الجنّة سلا عن الشهوات ، ومن أشفق من النار رجع عن المحرّمات .
وأنّ من زهد في
الدنيا أثبت الله الحكمة في قلبه ، وأنطق بها لسانه ، وبصّره عيوب الدنيا داءها ودواءها ، وأخرجه من الدنيا سالماً إلى دار السلام .
وأنّ الدنيا دار من
لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له ، وشهواتها يطلب من لا فهم له ، وعليها يعادي من لا علم له ، وعليها يحسد من لا فقه له ، ولها يسعىٰ من لا يقين له .
____________________________
وأنّه : إذا أراد
الله بعبدٍ خيراً زهّده في الدنيا وبصّره عيوبها .
وأنّه إذا تخلّى
المؤمن من الدنيا سما ووجد حلاوة حبّ الله ، وكان عند أهل الدنيا كأنّه قد خولط ، وإنّما خالط القوم حلاوة حبّ الله .
وأنّ في طلب الدنيا
إضراراً بالآخرة ، وفي طلب الآخرة إضراراً بالدنيا ، فأضرّوا بالدنيا فإنّها أحقّ بالاضرار .
وأنّ ملكاً ينادي كلّ
يومٍ ابن آدم لد للموت واجمع للفناء وابن للخراب .
وأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : ما لي والدنيا ، إنّما مثلي ومثلها كمثل راكبٍ رفعت له شجرة في يوم صائفٍ فقال تحتها ، ثمّ راح وتركها .
وأنّه قال الله تعالى
: يا موسىٰ ، لا تركن إلى الدنيا ركون الظالمين ، ولو وكلتك إلى نفسك تنظر إليها ، إذاً لغلب عليك حبّ الدنيا وزهرتها ، واعلم : أنّ كلّ فتنةٍ
بدؤها حبّ الدنيا ولا تغبط أحداً بكثرة المال ، فإنّ مع كثرة المال تكثر الذنوب لواجب الحقوق ، ولا برضى الناس عنه حتّىٰ تعلم أنّ الله راضٍ عنه ، ولا
بطاعة الناس له فإنّ طاعة الناس على غير الحقّ هلاك له ولمن اتّبعه .
وأنّ مثل الدنيا كمثل
الحيّة ، ما ألين مسّها وفي جوفها السّمّ الناقع ، يحذرها الرجل العاقل ، ويهوى إليها الصبيّ الجاهل .
وأنّ من اتّقى الله
رفع عقله عن أهل الدنيا ، فبدنه مع أهل الدنيا وقلبه وعقله
____________________________
يعاين
الآخرة ، فقذَّر حرامها وجانب شبهاتها .
وأنّ الدنيا كمثل ماء
البحر كلّما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتّى يقتله .
وأنّه : لا تأسوا على
ما فاتكم من الدنيا كما لا يأسى أهل الدنيا على ما فاتهم من دينهم إذا أصابوا دنياهم .
وأنّ الدنيا دار منىً
لها الفناء ، ولأهلها منها الجلاء .
وأنّ أغفل الناس من
لم يتّعظ بتغيّر الدنيا من حال إلى حال .
وأنّ أعظم الناس
خطراً من لم يجعل للدنيا عنده خطراً .
وأنّ من رمىٰ
ببصره إلى ما في يدي غيره كثر همّه ولم يشف غيظه ، ومن لم يعلم أنّ الله عليه نعمة إلّا في مطعمٍ أو ملبسٍ فقد قصر عمله ودنا عذابه .
وأنّ كلّ شيءٍ تُصيب
من الدنيا فوق قوتك فإنما أنت فيه خازن لغيرك .
وأنّه : ما الدنيا
والآخرة إلّا ككفّتي الميزان ، فأيّهما رحج ذهب بالآخر .
وأنّه : ما اُعطي أحد
منها حفنةً إلّا اُعطي من الحرص مثليها ، وما تعب أولياء الله في الدنيا للدنيا ، بل تعبوا في الدنيا للآخرة .
____________________________
وقال المسيح عليهالسلام : إنّما الدنيا قنطرة ، فاعبروها ولا تعمروها .
وأنّه : من يئس ممّا
فات أراح بدنه ، ومن قَنعَ بما اُوتي قرّت عينه .
وأنّه : ما تنالون في
الدنيا نعمةً تفرحون بها إلّا بفراق أخرىٰ تكرهونها ، إنّا خُلقنا للبقاء لا للفناء ، ولكنّكم من دارٍ تنقلون ، فتزوّدوا لما أنتم صائرون
إليه ، حيّها بعرض موتٍ وصحيحها بعرض سقمٍ ، وملكها مسلوب ، وعزيزها مغلوب .
وأنّ من صفت له دنياه
فاتّهِمْهُ في دينه .
وأنّ أكثر الناس
شبعاً في الدنيا أكثرهم جوعاً في الآخرة .
وأنّها سجن المؤمن
وجنّة الكافر .
وأنّه : خذ من حياتك
لموتك ، ومن صحّتك لسقمك ، فإنّه لا تدري ما اسمك غداً .
وأنّها فناء وعناء ،
وعبر وغير .
وأنّه : كان مكتوباً
في لوح اليتيمين : عجبت لمن يرى الدنيا وتصرف أهلها حالاً بعد حالٍ كيف يطمئنّ إليها ؟!
____________________________
وأنّه : لا يجد ريح
الجنّة جعظريّ ، وهو : الذي لا يشبع من الدنيا .
وأنّ الكاظم عليهالسلام قال عند رؤية قبرٍ : إنّ شيئاً كان هذا آخره لحقيق أن يزهد في أوّله. وإنّ شيئاً هذا أوّله لحقيق أن يخاف آخره .
وأنّ من عرضت له دنيا
وآخرة فاختار الدنيا على الآخرة لقي اللهَ يوم القيامة وليست له حسنة يتّقي بها النار .
وأنّ المسجون : من
سجنته دنياه عن آخرته .
وأنّ آخر نبيٍّ يدخل
الجنّة سليمان بن داود عليهالسلام ، وذلك لما اُعطي في الدنيا .
وأنّها قد أصبحت
كالعروس المجلوّة ، والقلوب إليها تائقة ، وهي لأزواجها كلّهم قاتلة ، فلا الباقي بالماضي معتبِر ، ولا الآخر بسوء أثرها على الأوّل مُزدجِر
، ولا اللبيب فيها بالتجارب منتفِع ، والناس لها طالبان : طالب ظفر بها فاغترّ ،
وآخر لم يظفر بحاجته ففارقها بغرّته وأسفه ، فارتحلا جميعاً بغير زادٍ ، والسّارِ فيها
غارّ ، والنافع فيها ضارّ ، ولو كان خالقها لم يُخبر عنها ولم يأمر بالزهد عنها لكانت
وقائعها وفجائعها قد أنبهت النائم ، وكيف وقد جاء عنها من الله زاجر ؟! وقد صغّرها الله أن
يجعل خيرها ثواباً للمطيعين وعقوبتها عقاباً للعاصين .
ومما يدلّ على
دناءتها : أنّ الله زواها عن أوليائه اختياراً ، وبسطها لأعدائه اختباراً ، والله لو أنّها كانت سهل المنال بلا تعبٍ ونصب غير أنّ ما أخذ منها
لزمه
____________________________
حقّ
الله والشكر عليه والمحاسبة به ، لكان يحقّ على العاقل أن لا يتناول منها إلّا قوته خوفاً من السؤال والعجز عن الشكر ، فكيف بمن تجشّم في طلبها ؟
وأنّه : أنزل الساعة
الماضية من الدنيا والساعة التي أنت فيها منزلة الضيفين نزلا بك ، فظعن الرّاحل عنك بذمّة إياك ، فإحسانك إلى الثاوّي يمحو إساءتك إلى الماضي .
وأنّه : ما الدنيا في
جنب الآخرة إلّا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمّ فلينظر بِمَ يرجع ؟
وأنّ الدنيا دار ما
أخذه الناس منها لها ، اُخرجوا منها وحوسبوا عليه ، وما أخذوه منها لغيرها قدموا عليه وأقاموا فيه .
وأنّ من أبصر بها بصّرته
، ومن أبصر إليها أعمته .
وأنّ حلاوة الدنيا
مرارة الآخرة ، ومرارة الآخرة حلاوة الدنيا .
وأنّه : لا خير في
الدنيا إلّا لأحد رجلين : رجل يزداد كلّ يومٍ إحساناً ، ورجل يتدراك سيّئته بتوبةٍ .
وأنّ مثل الدنيا والآخرة
كمثل رجلٍ له ضرّتان ، إن أرضىٰ إحداهما أسخطت الأخرىٰ .
____________________________
وأنّهما عدوّان
متفاوتان فمن أحبّ الدنيا أبغض الآخرة وأنّهما بمنزلة المشرق والمغرب والماشي بينهما كلّما قرب من واحدٍ بعد من الآخر .
وأنّها دار هانت على
ربّها ، فخلط خيرها بشرها وحُلوَها بُمرِّها لم يرضها لأوليائه ولم يضنَّ بها على أعدائه .
وأنّ يومك جملك ، إذا
أخذت برأسه أتاك ذنبه .
وأنّه لا تدخل في
الدنيا دخولاً يضرّ بآخرتك ، ولا تتركها تركاً تكون كلّاً على الناس .
وأنّ من ازداد في
الله علماً وازداد للدنيا حبّاً ازداد من الله بعداً ، وازداد الله عليه غضباً .
وأنّ قوله تعالى : ( إِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا
إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ) أكثر من ثلثي الناس .
وأنّ الله يعطيها من
يحبّ ويبغض ولا يعطى دينه إلّا من يحب .
وأنّ أهلها كركبٍ يُسار
بهم وهُم نيام .
وأنّها دار ممرٍّ إلى
دار مقرٍّ .
____________________________
وأنّ الناس أبناء
الدنيا ، ولا يُلامُ الرجل على حبّ أمّه .
وأنّ من هوانها على
الله أن لا يُعصىٰ إلّا فيها ، ولا يُنال ما عنده إلّا بتركها .
وأنّها خلقت لغيرها
ولم تخلق لنفسها .
وأنّ في حلالها حساب
وفي حرامها عقاب .
وأنّ ابليس خاطب الدّرهم
والدّينار وقال : ما اُبالى من بني آدم إذا أحبّوكما أن لا يعبدوا وثناً ، حسبي من بني آدم أن يحبّوكما .
وأمّا الدنيا
الممدوحة التي يمكن سلب اسم الدنيا عنها فقد عرفت أنّها كلّما كان من هذه الدنيا لله تعالىٰ ، وفي طريق الوصول إلى رضاه ، ولازم ذلك أن لا
يكون تحصيله وحفظه وصرفه والانتفاع به إلّا عن طريقٍ سوّغه الشرع وأباحه أو أحبّه وندب إليه.
فقد ورد : أنّه : قيل
للصادق عليهالسلام : إنّا لنحبّ الدنيا ، فقال : تصنع بها
ماذا ؟ قال أتزوّج منها وأحجّ بها و اُنفق على عيالي وأنيل أخواني وأتصدّق ، قال لي : ليس هذا
من الدنيا ، هذا من الآخرة .
وأنّ قوله تعالىٰ
: ( وَلَنِعْمَ دَارُ
الْمُتَّقِينَ ) اُريد به الدنيا .
____________________________
وأنّه : نعم العون :
الدنيا على الآخرة .
وأنّ الدنيا ثلاثة
أيام يوم مضىٰ بما فيه ، ويوم أنت فيه ، ويوم لا تدري أنت من أهله. أمّا اليوم الماضي فحكيم مؤدّب ، وأمّا اليوم الذي أنت فيه فصديق مودّع ،
وأمّا غداً فإنّما في يديك منه الأمل .
وأنّ من المأثور عن
أمير المؤمنين عليهالسلام : أنّ الدنيا دار غنىً لمن تزوّد منها
، مسجد أنبياء الله ، ومهبط وحيه ، ومسكن أحبّائه ، ومتجر أوليائه ، إكتسبوا فيها الرحمة وربحوا منها الجنّة ، فمن ذا يذمّ الدنيا وقد نادت بانقطاعها ومثّلث
ببلائها البلاء وشوّقت بسرورها إلى السرور. أيّها المغرور بغرورها : متىٰ غرّتك
بنفسها ، أبمصارع آبائك ، أم بمضاجع أمّهاتك . والكلام الشريف طويل ، أخذنا منه
شيئاً قليلاً روماً للإختصار.
____________________________
الدّرس
الأربعون
في حبّ الرّئاسة
الرئاسة
من مصاديق الدنيا ، وحبّها من حبّ الدنيا ، وقد عرفت تفصيل الأمرين ، إلّا أنّ لها أهمّيّةً وخطراً وشأناً ومحلّاً يقتضي تخصيصها بالذكر
كتاباً ، وبتوجيه النفس إلى حالاتها وآثارها باطناً ، وبالمراقبة عن موجباتها احتياطاً.
وليعلم أنّ الرئاسة
والجاه منها ممدوحة ومنها مذمومة ، والأولىٰ هي التي جعلها الله وأنشأها لبعض عباده : كأنبيائه وأوصيائه ومن يتولّى الأمور والرّئاسة من قبلهم على اختلاف شؤونهم ودرجاتهم ، وهذا القسم الذي في مقدّمه منصب الأمامة مقام محمود ، وجاه ممدوح ، خصّ الله به أولياءه وحفظهم بنحو العصمة التكوينيّة والتوفيقات الغيبيّة الالٰهيّة والأوامر والفرامين التشريعيّة عن
خطراته وزلّاته.
والمعصومون يجب عليهم
قبولها من ناحية الله تعالىٰ ، وعليهم حفظها
والدفاع
عنها والقتال مع من يزاحمهم فيها أو يريد غصبها ، إذ هي كما أنّها حقّ للمعصوم المتصدّي لها والمتلبّس بها فهي حقّ الله تعالىٰ عهده إليهم ،
وأمانته التي أودعها عندهم ، وحقّ للناس فإنها مجعولة لأجلهم ولهدايتهم وإصلاح حالهم وفوزهم ، ونجاتهم في دنياهم وسعادتهم ونجاحهم في أخراهم ، فالمتصدّي الغاصب لها قد ظلم ربّه وإمامه وعباد الله تعالىٰ. وقال النبيّ يوسف عليهالسلام : (
اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ) وكان المقام الذي سأل فرعاً من فروع حقّه
وشعبة من أصوله تمكّن من أخذه فطلبه.
ويجب علىٰ غير
المعصوم أيضاً فيما ولّاه من المناصب الشرعيّة وترتيب آثارها والعمل بوظائفها ما دامت باقيةً مع رعاية عدم الوقوع في العصيان لأجلها ، وقد بيّن حدودها في الفقه ، وذلك كمنصب الإفتاء والولاية ، والحكومة على الناس ، والحكم والقضاء بينهم والمناصب الجنديّة والإداريّة ، وغيرها ممّا كانت مجعولةً من
ناحية الإمام الوالي على الناس ، أو من نصبه الإمام والياً لإدارة أمور المجتمع ،
فمن قصد بقبولها طاعة الإمام والشفقة على عباد الله وإحقاق حقوقهم وحفظ أموالهم وأعراضهم ودمائهم ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وحفظ الحدود ومرابطة الثغور ، فهو من أفضل المجاهدات والعبادات.
ومن غصبها من أهلها
وتقمّص بها ، أو لم يكن غرضه من قبولها من أهلها والتصدي بها إلّا الجاه بنفسه والتلذّذ بعنوانه ، ولم يرتّب عليها ما هي مطلوبة
لأجله فهو من الأخسرين أعمالاً الذين ضلّ ... الخ. والذّم والوعيد بالهلاك ونحو ذلك واردة في هذا القسم.
والحاصل : أنّ الجاه
كالمال فقد يرى الإنسان له أصالة ، وله حرص في جمعه
____________________________
والإستلذاذ
بتكثيره وتكنيزه ، وقد لا يكون الغرض إلّا إمرار معاشه ، وإدارة أمور مجتمعه ، وعمارة البلاد ، وإصلاح العباد. وورد من النصوص في هذا المقام ( مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ).
ثمّ إنّه يظهر لك من
ذلك أنّ جميع الرئاسات والولايات والسّلطات الموجودة في هذه الأعصار ، بل من بدء وقوع الانحراف في المناصب الالٰهية وخروجها عن أيدي أهلها ومن أهّله الله لتصدّيها في الاجتماعات البشرّية ، باطلة غير ممضاةٍ من
الشرع. وأنّ جلّ المفاسد الواقعة بين الناس ـ لولا كلّها ـ من الكفر والشرك والفحشاء والمنكر وضياع الحقوق وهتك الأعراض وتلف الأموال والنفوس مستندة إلى ذاك الانحراف وتلك الولايات الخارجة عن سلطة صاحبها. وأنّ الرؤساء والمتصدّين للولايات والحكومات في المجتمعات البشريّة اليوم ، موقوفون غداً عند ربّهم ، مسؤولون بأسوء الحساب ومُعاقبون بأعظم العقاب. كيف وقد قال تعالىٰ : (
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ )
! هؤلاء الأنبياء فكيف بغيرهم ؟ ونعوذ بالله تعالىٰ من شرّ النفس ، ونقول : ( رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ )
.
ولو ادّعي أنّ بعض
تلك المناصب مجعول من ناحية الناس أنفسهم فلهم أن يختاروا في أمور دنياهم وليّاً ورئيساً وسائساً ومدبّراً ، له تسلّط محدود ، فلا
يكون باطلاً ولا مشمولاً للذموم المستفادة من الأدلّة ، فهي على فرض قبول كبراها مخدوشة في صغراها ، فراجع أحوال الممالك والأمم ، وليس استقصاء ذلك ممّا يقتضيه أبحاث الكتاب. قال الله تعالىٰ : (
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ
____________________________
عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ ).
وورد في النصوص : أنّه
ما ذئبان ضاريان في غنمٍ قد تفرّق رعاؤها بأضرّ في دين المسلم من طلب الرئاسة ( ضرى الحيوان بالصيد : اعتاد أكله ،
والرعاء : جمع الراعي ، والرّئاسة : العلوّ والسلطة والتفوّق ).
وأنّه من طلب الرئاسة
هلك .
وأنّه : إيّاكم
وهؤلاء الرؤساء الذين يترأّسون ، فوالله ما خفقت النّعال خلف رجلٍ إلّا هلك وأهلك .
وأنّه : إيّاك
والرئاسة ، إيّاك أن تطأ أعقاب الرجال أي : تنصب رجلاً دون الحجّة فتصدّقه في كلّ ما قال .
وأنّه : ملعون من ترأّس
، ملعون من همّ بها ، ملعون كلّ من حدّث بها نفسه .
وأنّه لا تطلبنّ
الرئاسة ، ولا تكن ذنباً. ولا تأكل بنا النّاس فيفقرك الله .
وأنّ الصادق عليهالسلام قال : أتراني لا أعرف خياركم من شراركم ؟ بلىٰ والله ،
وإنّ شراركم من أحبّ أن يوطأ عقبه ، إنّه لا بدّ من كذّابٍ أو عاجز الرأي .
وأنّ : من أوّل ما
عصي الله به حبّ الرّئاسة .
____________________________
الدّرس الحادي والأربعون
في الغفلة واللهو
الغفلة
عن الشيء معروف ، والمراد هنا : غفلة القلب عن الله تعالىٰ وعن أحكامه وأوامره ونواهيه ، وبعبارةٍ أخرىٰ : عمّا ينبغي أن يكون متوجّهاً
إليه ويكون حاضراً عنده.
ولها مراتب مختلفة :
يلازم بعضها الكفر والطغيان ، وبعضها الفسق والعصيان ، وبعضها النقص والحرمان ، فالغفلة عن أصول الإيمان بمعنى عدم التوجّه إلى لزومها وإلى قبولها ، كفر ، سواء كان الغافل قاصراً أو مقصّراً وإن لم يعاقب
على الأوّل ، والغفلة عن أداء الواجب وترك الحرام مع التقصير ، فسق ، والغفلة عن الإقبال والتوجّه إلى آيات الله تعالىٰ الآفاقيّة والأنفسيّة ، وعن الاهتداء
بذلك إلى وجوده تعالىٰ وصفات جلاله وجماله وعن التقرّب بذلك لحظةً بعد لحظةٍ ، وآناً
بعد آنٍ إلى قربه ورحمته ، وعن كونه حاضراً عنده بجميع شؤون وجوده وخواطر قلبه ، ولحظات عينه ، ولفظات لسانه ، وحركات أركانه ، نقص وبعد وحرمان عن مقام
السّعداء
والأولياء.
وهل ترىٰ أهل
الدنيا اليوم إلّا غافلين عن الحقّ ، لاهين عن التوحيد والإذعان بالرسل والملائكة والكتاب والنبيّين واليوم الآخر مع اختلافهم في مراتب الغفلة والبعد ، كما كانوا كذلك في الأمس وما قبل الأمس ، ويلازم هذا العنوان الإتراف بالنعم والفرح والمرح بها واللعب واللهو ونحوها.
وقد قال تعالىٰ
في كتابه : ( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ
حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ
إلى قوله : لَاهِيَةً
قُلُوبُهُمْ ) وقال خطاباً لنبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : (
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ) وقال تعالىٰ : ( وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ
أُولَـٰئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ ) وقال : (
وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ) وقال : (
وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ) .
وورد في النصوص : أنّه
: إن كان الشيطان عدوّا فالغفلة لماذا ؟
وأنّ كلّما ألهىٰ
عن ذكر الله فهو ميسر ( أي : مثل المقامرة في انقطاع النفس عن الله والتوجّه إلى غيره ).
وأنّ بينكم وبين
الموعظة حجاباً من الغرّة .
____________________________
الدّرس الثّاني والأربعون
في الحرص وطول الأمل
الحرص :
الشّره وفرط الميل إلى الشيء ، والمراد به هنا : الحرص على الدنيا وجمعها وتكثيرها وادّخارها والاشتغال بالاستلذاذ بها ، ويلازمه طول الأمل ، وهو : رجاء النيل إلى الملاذّ ، وتمنّي الوصول إلى المشتهيات وإن كانت بعيدة
المنال من حيث الكمّ والكيف والمكان والزمان ، وهو من أمراض القلب وذمائم صفات النفس ورذائل ملكاتها ، وهذه الصفة في الغالب من الغرائز المطبوعة والسجايا المودعة في النفس ، تزيد وتتكامل باتّباع مقتضاها ، وإعطاء النفس في دعوتها مناها ، وتنقص أو تزول بالتأمّل والتدبّر في حال الدنيا وخسّتها وزوالها وما جاء من الله تعالىٰ بألسنة رسله وأوصيائه في ذمّها والاحتراز عن اتّباعها.
وقد مرّ فيما مضىٰ
أن ميل النفس إلى تحصيل القوت لمعاشه ومعاش عياله ولو كان شديداً ، وكذا الميل إلى تحصيل ما زاد عن ذلك فيما إذا كان مقدّمة لغرضٍ
مندوبٍ
مرغوبٍ فيه للدنيا والآخرة ليس من مصاديق الحرص ؛ لأنّ ذلك ليس حرصاً على الدنيا حينئذٍ.
فقد قال تعالىٰ
: ( إِنَّ الْإِنْسَانَ
خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ) وقال تعالىٰ : ( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ).
وقال : (
لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ ).
وقد ورد في النصوص :
أنّ حقيقة الحرص طلب القليل بإضاعة الكثير .
وأنّ أغنى الناس من
لم يكن للحرص أسيراً .
وأنّه : إن كان الرزق
مقسوماً فالحرص لماذا ؟
وأنّه : سُئِلَ عليّ عليهالسلام : أيّ ذُلٍّ أذلّ ؟ قال : الحرص على الدنيا .
وأنّه قال الصادق عليهالسلام : منهومان لا يشبعان : منهوم علمٍ ومنهوم مالٍ .
( والمنهوم بالشئ : المولع به لا يشبع منه ).
وأنّ الحريص حرم
خصلتين ، ولزمته خصلتان : حرم القناعة فافتقد الراحة ، وحرم الرضا فافتقد اليقين .
وأنّه يهرم ابن آدم
ويشبّ منه اثنان : الحرص على المال والحرص على العمر .
____________________________
وأنّ المؤمن لا يكون
حريصاً .
وأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم نهىٰ عن الحرص .
وأنّ من علامات
الشقاء شدّة الحرص في طلب الرزق .
وأنّه يورث الفقر .
وأنّه هو الفقر نفسه .
وأنّه من سوء الظنّ
بالله تعالىٰ .
وأنّ من آثار الحرص
وثمراته أمل لا يدرك .
وأنّه : ما أطال عبد
أمله إلّا أساء عمله .
وأنّ طول الأمل من
أخوف ما يُخاف على الأمّة .
وأنّه يُنسي الآخرة .
وأنّ هلاك آخر هذه الاُمّة
بطول الأمل .
وأنّه من الشقاء .
____________________________
وأنّ من جرىٰ
في عنان أمله عثر بأجله .
وأنّ أشرف الغنىٰ
ترك المنىٰ .
وأنّ عليّاً عليهالسلام قال : من أيقن أنّه يفارق الأحباب ويسكن التراب ويواجه الحساب ويستغني عمّا خلّف ويفتقر إلى ما قدمّ ، كان حريّاً بقصر الأمل وطول العمل .
____________________________
الدّرس
الثّالث والأربعون
في الطّمع والتّذلّل لأهل الدنيا طلباً لها
الظاهر أنّ المراد بالطّمع
هو : الميل إلى أخذ ما
بيد الغير من حقٍ أو مالٍ أو جاهٍ لينقله إلى نفسه بحقٍّ كان أم بباطلٍ ، أقدم في طريق ذلك على عملٍ ، أم لم
يقدم فله مراتب مختلفة. وأمّا الميل إلى المال وجمعه مطلقاً لا من يد الغير فهو حرص كما
مرّ ، ولكن قد يستعمل كلّ في مورد الآخر.
وقد ورد في النصوص :
أنّه إن أردت أن تقرّ عينك وتنال خير الدنيا والآخرة فاقطع الطّمع عمّا في أيدي الناس .
وأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أوصىٰ باليأس عمّا في أيدي الناس فإنّه الغنىٰ ،
ونهىٰ عن الطّمع فإنّه الفقر .
____________________________
وأنّ أفقر الناس الطَمِع
.
وأنّ الذي يخرج
الإيمان عن العبد الطمع .
وأنّه أزرىٰ
بنفسه من استشعر الطمع .
وأنّه رقّ مؤبّد .
وأنّه : أكثر مصارع
العقول تحت بروق المطامع .
وأنّ الطامع في وثاق
الذل .
والطمع مورد غير مصدر
، وضامن غير وفيٍّ .
واليأس خير من الطلب
إلى الناس .
وبئس العبد عبد ، له
طمع يقوده. ورغبة تذلّه .
والخير كلّه قد اجتمع
في قطع الطمع عمّا في أيدي الناس .
ومن أراد أن يكون
أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق بما في يد غيره .
____________________________
الدّرس الرّابع والأربعون
في الكِبر
الكِبر :
رذيلة من رذائل الإنسان ، وخلق سيّئ من سجايا باطنه وهو : أنّ يرىٰ نفسه كبيراً عظيماً بالقياس إلى غيره ، وعلى هذا فالكبر صفة ذات إضافةً
تستدعي مستكبراً به ومستكبراً عليه فهو يفترق عن العجب المتعلّق بالفعل بتغاير المتعلّق وعن العجب المتعلّق بالنفس ، بعدم القياس فيه على الغير.
وهذه الصفة من أقبح
خصال النفس وأشنعها ، ولعلّ أصل وجودها كالحسد وحبّ الرئاسة والمال من السجايا المودعة في فطرة الإنسان وزيادتها وتكاملها وتحريكها صاحبها نحو العمل بمقتضاها ، تكون باختياره وتحت قوّته العاقلة ، كما أنّ
معارضتها والسعي في إزالتها أيضاً كذلك ، وهي من الصفات التي تورث اغتراراً في صاحبها وفرحاً وركوناً إلى نفسه ، ومحلّ هذه الصفة ومركزها القلب كما يقول الله
تعالىٰ
: ( إِنْ فِي
صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ) لكنّه إذا ظهرت على الأعضاء والأركان
سمّيت تكبّراً واستكباراً ، لاقتضاء زيادة المباني ذلك ، لكن اُطلقت الكلمتان في الكتاب الكريم على نفس الصفة أيضاً.
ثّم إنّ الكبر من حيث
المتكبّر عليه ينقسم إلى أقسامٍ ثلاثة مع اختلاف مراتبها في القبح :
الأوّل : التكبّر على
الله تعالىٰ : إمّا بإنكار وجوده جلّ وعلا ، أو وحدانيته ، أو شيئاً من صفات جلاله وجماله ، ومنه أيضا عدم قبول إبليس أمره ، وهذا أفحش أنواع الكبر ، ولا صفة في النفس أخبث وأقذر منه ، وقد اتّفق فيما يظهر من التأريخ صدوره من عدّة ممّن ادّعى الألوهيّة وغيرهم.
الثاني : التكبّر على
أنبياء الله ورُسُله وأوصيائه بإنكار رسالتهم وردّ ما جاؤا به من الكتاب والشريعة.
الثالث : التكبّر على
عباد الله بتعظيم نفسه وتحقيرهم والامتناع عن الانقياد لمن هو فوقه منهم بحكم العقل أو الشرع ، وعن العشرة بالمعروف مع من هو مثله فيترفّع عن مجالستهم ومؤاكلتهم ، ويتقدّم عليهم في موارد التقدّم ويتوقّع منهم الخضوع له ، ويمتنع عن استفادة العلم وقبول الحقّ منهم ، ويُأنّف إذا وعظوه ، ويعنّف
إذا وعظهم ، ويغضب إذا ردّوا عليه ، وينظر إليهم نظر البهائم استجهالاً واستحقاراً
وهكذا.
وبالجملة : أنّ كبر
الباطن يظهر في الإنسان المتكبّر من شمائله كتصعير وجهه ، ونظره شزراً ، وإطراق رأسه ! ومن جلوسه متربّعاً أو متّكئاً ، ومن قوله وصوته ومن مشيته وتبختره فيها ، ومن قيامه وجلوسه وحركاته وسكناته وسائر تقلّباته
____________________________
في
أفعاله وأعماله.
وقد ورد في الكتاب
الكريم في ذمّ هذه الصفة آيات ، منها : قوله تعالىٰ لإبليس : ( فَاهْبِطْ مِنْهَا
فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ
) .
وما حكاه تعالىٰ
عن الأمم الماضية : (
أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ). وقولهم : (
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ).
وقوله تعالىٰ : (
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ).
وقوله : (
إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ).
وقوله : (
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ) . ( والتصعير : إمالة العنق عن النظر
كبراً ) وقوله : (
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ).
وقوله : (
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ). إلى غير ذلك.
ورد في النصوص : أنّ
الكبر يكون في شرار الناس .
وأنّه رداء الله
وإزاره.
وأنّ المتكبّر ينازع
الله في ردائه ، ومن نازع الله في ردائه لم يزده الله إلّا سفالاً .
____________________________
ومن تناول شيئاً منه
أكبّه الله في جهنّم .
وأنّ الكبر أن تجهل
الحقّ وتطعن على أهله .
وأن تغمص الناس وتسفه
الحقّ . ( الغمص : التحقير وتسفيّه الرأي نسبته إلى السفاهة بمعنىٰ : أن يستخفّه ولا يراه على الرحجان والرزانة ).
وأنّ المتكبّرين
يجعلون يوم القيامة في صور الذّر يتوطّأهم الناس حتّىٰ يفرغ الله من الحساب .
وأنّه : ما من عبدٍ
إلّا ومعه ملك ، فاذا تكبّر قال له : اتّضع وضعك الله .
وأنّه ما من أحدٍ
يتيه ويتكبّر إلّا من ذلّة يجدها في نفسه .
وأنّ من ذهب إلى أنّ
له على الآخر فضلاً ، فهو من المستكبرين .
وأنّ رجلاً أتى النبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال : أنا فلان بن فلان حتّىٰ
عدّ تسعةً ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : أما إنّك عاشرهم في النار .
وأنّ آفة الحسب ،
الافتخار والعجب .
وأنّه : قال رجل
للباقر عليهالسلام : أنا في الحسب الضخم من قومي قال عليهالسلام : إن الله رفع بالايمان من كان الناس يسمّونه وضيعاً ، ووضع بالكفر من كان الناس يسمّونه
____________________________
شريفاً
، فليس لأحدٍ فضل على أحدٍ إلّا بالتقوىٰ .
وأنّه : عجباً
للمختال الفخور ، وإنّما خُلق من نطفةٍ ثمّ يعود جيفةً ، وهو بين ذلك وعاء للغائط ولا يدري ما يُصنع به .
وأنّ أمقت الناس
المتكبر .
وأنّ من يستكبّر يضعه
الله .
وأنّ رجلاً قال
لسلمان تحقيراً : من أنت ؟ قال : أمّا اُولاي واُولاكَ فنطفة قذرة ، وأمّا اُخرايَ واُخراكَ فجيفة منتنة ، فإذا كان يوم القيامة ووضِعَت
الموازين فمن ثقل ميزانه فهو الكريم ومن خفّ ميزانه فهو اللئيم .
وأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : أبعدكم منّي يوم القيامة الثرثارون ، وهم المستكبرون .
وأنّ في جهنّم
لوادياً للمتكبرين يقال له : « سقر » .
وأنّ المتبختر في
مشيه ، الناظر في عِطفه ، المحرّك جنبيه بمنكبيه هو مجنون في نظر مشرع الإسلام .
وأنّ لإبليس سعوطاً
هو الفخر .
____________________________

الدّرس الخامس والأربعون
في الحسد
الحسد :
تمنّي زوال نعمة الغير ، وله صور : فإنّ الحاسد : إمّا أن يتمنّى زوالها عن الغير فقط ، أو يتمنّىٰ مع ذلك انتقالها إليه ، وعلى التقديرين : إمّا أن
يصدر منه حركة من قولٍ أو فعلٍ على طبق تمنّيه ، أو لا يصدر ، وعلى أيٍّ فحقيقة الحسد عبارة عن تلك الصفة النفسيّة ، ولها مراتب في الشدّة والضعف وصدور الحركات الخارجيّة من آثارها ومقتضياتها.
والظاهر أنّه من
الطبائع المودعة في باطن جميع الناس وتتزايد في عدّةٍ منهم ، وتتناقص في آخرين بملاحظة اختلافهم في التوجّه إلى النفس ومراقبة حالها ومجاهدتها ، ويترتّب عليها آثار كثيرة مختلفة ، بعضها مذموم وبعضها محرّم ، وبعضها كفر وشرك ، ونعوذ بالله من الجميع.
وظاهر أكثر الأصحاب
حرمة الحسد وترتّب العقوبة عليه مطلقاً ، ظهر في
الخارج
أم لا ، وظاهر آخرين أنّه لا يحرم ما لم يظهر بقولٍ أو فعلٍ ؛ لأنّهم صرّحوا بأنّ الحرمة والعقوبة تترتّبان على الأفعال البدنيّة دون الصفات والملكات النفسية
، لكنّ الظاهر من بعض النصوص ترتّب العقوبة على بعض الصفات القلبيّة أيضاً وإن لم يترتّب عليه حكم تكليفيّ ، فاللازم أن يفرّق بين الحرمة والعقوبة كما ذكروا
ذلك في التّجّري ، وللبحث عنه محلّ آخر.
والحسد من أخبث
الصفات وأقبح الطبائع ، وهو من القبائح العقليّة والشرعيّة ، فإنّه في الحقيقة سخط لقضاء الله واعتراض لنظام أمره وكراهة لإحسانه ، وتفضيل بعض عباده على بعضٍ ، ويفترق عن الغبطة الممدوحة ، بأنّ الحاسد يحبّ زوال نعمة الغير والغابط يحبّ بقاءها ، لكنّه يتمنّىٰ مثلها أو
ما فوقها لنفسه.
وللحسد أسباب كثيرة :
عداوة المحسود مخافة أن يتعزّز ويتفاخر عليه ، وتكبّره على المحسود وتعجّبه من نيل المحسود بتلك النعمة ، وحبّ الرئاسة على المحسود ، فيخاف عدم إمكانها حينئذٍ ، وغير ذلك.
ومن آثاره تألّم
الحاسد باطناً ، ووقوعه في ذلك العذاب دائماً ، ولذا قال عليّ عليهالسلام : لله درّ الحسد حيث بدأ بصاحبه فقتله .
فقد ورد في الكتاب
العزيز قوله : (
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) وقوله تعالىٰ في مقام أمره
بالإستعاذة : (
وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ).
وورد في النصوص : أنّ
الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب .
____________________________
وأنّه : كاد الحسد أن
يغلب القدر . ( وهذا مبالغة في تأثير عمل الحسود في زوال نعمة المحسود وقد قدرها الله تعالىٰ له ).
وأنّ آفة الدين الحسد
.
وأنّ الله قال لموسىٰ
عليهالسلام : « لا تحسدنّ الناس
على ما آتيتهم من فضلي ، ولا تمدّن عينيك إلى ذلك ، ولا تتبعه نفسك ، فإنّ الحاسد ساخط لنعمي ، صادّ لقسمي الذي قسمت بين عبادي ، ومن يك كذلك فلست منه وليس منّي » .
وأنّه : لا يتمنّى
الرجل إمراة الرجل ولا إبنته ، ولكن يتمنّىٰ مثلهما .
وأنّ المؤمن يغبط ولا
يحسد ، والمنافق يحسد ولا يغبط .
وأنّ أقلّ الناس لذّةً
الحسود .
وأنّه : لا راحة
لحسودٍ .
وأنّه : لا يؤمن رجل
فيه الحسد .
وأنّ للحاسد ثلاث
علاماتٍ : يغتاب إذا غاب ، ويتملّق إذا شهد ، ويشمت بالمصيبة .
____________________________
وأنّ الله يعذّب
العلماء بالحسد .
وأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يتعوّذ في كلّ يومٍ من اُمورٍ منها : الحسد .
وأنّه : دبّ إليكم
داء الاُمم قبلكم : الحسد .
وأنّه الحالقة ، وليس
بحالق الشَّعرٍ ، لكنّه حالق الدين ، ويُنجى منه : أن يكفّ الإنسان يده ، ويخزن لسانه ، ولا يكون ذا غمزٍ على أخيه المؤمن .
وأنّ الحسد ممّا لم
يعرمنه نبيّ فمن دونه .
وأنّ الحسّاد أعداء
نعم الله على العباد .
وأنّ من شرّ مفاضح
المرء الحسد ، والحاسد مغتاظ على من لا ذنب له .
ويكفيك من الحاسد أنّه
يغتمّ وقت سرورك .
والحسود سريع الوثبة
بطئ العطفة .
____________________________
الدّرس السّادس والأربعون
في الغضب
الغضب :
ثوران النفس واشتعالها لإرادة الانتقام ، ويستخرجه الكبر والحسد والحقد الدفينات في باطن النفس ، فالغضب من حالات النفس وصفاتها ومن آثاره صدور الأفعال والحركات غير العاديّة من صاحبه.
والغضب منه تعالىٰ
: هو الإنتقام دون غيره فهو في الإنسان في صفات الذات ، وفي الله تعالىٰ من صفات الفعل ، ولذا يتّصف تعالىٰ بوجوده وعدمه ،
وتتوجّه هذه القوّة عند ثورانها تارةً إلى دفع المؤذي قبل وقوعه ، وأخرىٰ إلى الانتقام
لأجل التّشفّي بعد وقوعها والإنتقام قوت هذه القوّة ، وفيه شهوتها ولذّتها ولا تسكن إلّا
به ، ولهذه القوة درجات ثالث :
حالة التفريط
المذمومة : كضعفها في النفس بحيث لا يغضب فيما هو محمود فيه عقلا وشرعاً : كموارد دفع الضرر عن نفسه ، والجهاد مع أعداء الدين ، وموارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوها.
وحالة الإفراط
المذمومة أيضاً : كإظهارها بالشتم والضرب والإتلاف والقتل ونحوها فيما نهى العقل والشرع عنه.
وحالة الإعتدال :
كاستعمالها فيما تقتضيه قوّة العقل وحكم الشرع ، وهذه حدّ اعتدالها واستقامتها.
وقد ورد في نصوص هذا
الباب : أنّ الغضب مفتاح كلّ شرٍ .
وأنّ الرجل البدويّ
سأل رسول الله ثلاث مرّات أن يعلّمه جوامع الكلم ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم في كلّ مرّةٍ : آمرك أن لا تغضب .
وأنّه أي شيءٍ أشدٍ
من الغضب ؟ إنّ الرجل يغضب فيقتل النفس التي حرّم الله ، ويقذف المحصنة .
وأنّه مكتوب في
التوراة : يا موسىٰ ، أمسك غضبك عمّن ملّكتك عليه أكفّ عنك غضبي .
وأنّه : أوحىٰ
الله إلى بعض أنبيائه : يا ابن آدم ، أذكرني في غضبك أذكرك في غضبي ، لا أمحقك فيمن أمحق ، وارضَ بي منتصراً ، فإنّ انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك .
وأنّ هذا الغضب جمرة
من الشيطان توقد في قلب ابن آدم. وأنّ أحدكم إذا غضب احمرّت عيناه وانتفخت أوداجه ، ودخل الشيطان فيه .
____________________________
وأنّ الغضب ممحقة
لقلب الحكيم .
ومن لم يملك غضبه لم
يملك عقله .
وأنّ من كفّ غضبه عن
الناس ستر الله عورته وكفّ عنه عذاب يوم القيامة .
وأنّ الرجل ليغضب فما
يرضىٰ أبداً حتّىٰ يدخل النار فأيّما رجلٍ غضب فليجلس من فوره ، فإنّه سيذهب رجز الشيطان ، وإذا غضب على ذي رحمٍ فليمسّه ، فإنّ الرحم إذا مُسّت سكنت .
وأنّه إذا غضب وهو
قائم فليجلس وإن كان جالساً فليقم .
تذييل :
يُعرف ممّا ذكر من تعريف الغضب أنّ المراد به هو : الناشىء عمّا يتعلّق بنفسه ممّا يكرهه ويسوئه حقّاً كان ذلك ، كغضبه على من آذاه وضيّع حقّاً من حقوقه ، أو باطلاً : كغضب أكثر الملوك والجبابرة على الناس فيما لا سلطان لهم عليه.
وأمّا الغضب الحاصل
بحقٍّ : كغضب أولياء الله على أعدائه وعلى العصاة المرتكبين للمعاصي من عباده لكفرهم وعنادهم ولفسقهم وعصيانهم ، فهو أمر آخر ، وهو ممدوح مطلوب ، وإعماله في الخارج بالقيام على أمر الجهاد وبإقامة مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل أن تقع المعاصي وتصدر الكبائر من أهلها ، وبإجراء حدود الله تعالىٰ وتعزيراته بعد وقوعها وصدورها ، فهو واجب
في
____________________________
الشريعه.
والغضب الحاصل لهم من أفضل السجايا ، والعمل الصادر منهم على طبقه من أفضل العبادات ، وليس للمتصدّي لتلك الأمور ، المجري لها بأمر الله العفو والإغماض إلّا في موارد رخّص فيه الشرع ذلك ، وتفصيله في باب الحدود والتعزيرات من الفقه.
الدّرس السّابع والأربعون
في العصبيّة والحميّة
عصب
الشيء عصباً من باب ضرب ، شدّه بالعَصَب والحبل ، والعَصَب بفتحتين : أطناب منتشرة في الجسم كلّه وبها تكون الحركة والحسّ ، والعصبية قد استعير للتحامي عن الشيء وأخذ جانبه والمدافعة عنه والمراد بها هنا : حالة حبّ وعلقة باطنة في النفس تدعوا صاحبها إلى التحامي عن مورد حبّه ومتعلّق ودّه.
وتنقسم إلى قسمين :
مذموم وممدوح ، والأوّل هو ما يقتضي التحامي عن الشيء بغير حقٍ ، كأن يتحامىٰ عن قومه وعشيرته وأصحابه في ظلمهم وباطلهم ، أو عن مذهبه وملّته مع علمه بفساده ، أو عن مطلب ومسألة بلا علمٍ بصحّته ، أو مع العلم ببطلانه لكونه قوله ومختاره مثلاً وهكذا.
والثاني : هو التعصّب
في الدين والحماية عنه ، وكذا في كلّ أمر حقّ كالعلوم والمعارف الاسلاميّة والأعمال والسنن الدينيّة التي قد علم صحّتها وحقيقتها ، بل
والحماية
عن أهل الحقّ والدين ودعاتهما ورعاتهما ، وكذا التحامي عن الأقوام وغيرهم مع العلم بحقّيّتهم وصدقهم. ثمّ إنّ ممّا يلازم العصبيّة التفاخر بما يتعصّب
له وحكمه حكمها.
وقد ورد في النصوص :
أنّه من تعصّب أو تُعُصِّبَ له فقد خلع ربقة الأيمان من عنقه ( الربقة : عروة الحبل والحديث ذو مراتب ، فمن ادّعىٰ
مقاماً ليس له كالنبوّة والإمامة والقضاوة ونحوها وتحامىٰ عنه غيره قولاً أو عملاً أو قلباً ،
فكلاهما خلعا ربقة الإيمان من عنقهما أي : خرجا عن الإيمان بالكلّيّة في بعض الموارد أو عن
كماله في بعضها الآخر ).
وأنّه : من كان في
قلبه حبّة من خردلٍ من عصبيّة بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهليّة .
وأنّ من تعصّب عصّبه
الله بعصابةٍ من نارٍ .
وأنّ العصبيّة التي
يأثم صاحبها : أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين وليس من العصبيّة أن يحبّ الرجل قومه ، ولكن من العصبيّة أن يعين قومه على الظلم .
وأنّ النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يتعوّذ في كلّ يوم من الحميّة.
وأنّ الله يعذّب
العرب بالعصبيّة .
____________________________
وأنّه أهلك الناس ،
طلب الفخر .
وأنّه : ألق من الناس
المفتخر بآبائه وهو خلو من صالح أعمالهم .
وأنّ الفخر بالأنساب
من عمل الجاهليّة .
وأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم خطب يوم فتح مكّة ، وقال : إنّ الله قد أذهب عنكم بالإسلام نخوة الجاهليّة والتفاخر بآبائها وعشائرها ، إنّكم من آدم ، وآدم من طين
، وخيركم أتقاكم .
وأنّه ما لابن آدم
والفخر ، أوّله نطفة وآخره جيفة .
____________________________

الدّرس الثّامن والأربعون
في البخل
البخل :
إمساك المال وحفظه في مورد لا ينبغي إمساكه ، ويقابله الجود ، والبخيل من يصدر منه ذلك ، والمراد به في المقام هو : الحالة الباطنيّة والصفة العارضة على النفس ، الباعثة على الإمساك والمانعة عن الإنفاق. والشّحّ : أيضاً هو
البخل ، وقيل : هو البخل مع الحرص ، فيحفظ الموجود ويطلب غير الموجود.
وهذه الصفة من أقبح
صفات النفس وأخبثها ، ولها مراتب مختلفة في قبحها الخُلقي وحرمتها التكليفيّة ، فإنّه : إمّا أن يبخل عن بذل النفس ، أو عن بذل
المال ، وأيضا : إمّا أن يبخل عن حقوق الله ، أو عن حقوق الناس وأيضاً : إمّا أن يبخل عن الواجب منها أو عن المندوب ، وعليه ففي موارد إطلاق ما دلّ على ذمّ البخل لا يعلم مرتبة الذّم وسنخ الحكم ما لم يعلم متعلّق الصفة.
وقد قال تعالىٰ
في الكتاب الكريم في وصف المتكبّرين : (
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ
وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ )
وقال : (
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ) وقال : (
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ
خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا ) وقال : (
هَا أَنْتُمْ هَـٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ
مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ )
. وقال : (
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ) .
وورد في نصوص الباب
أنّه : إن كان الخلف من الله فالبخل لماذا ؟ .
وأنّ أقلّ الناس راحةً
البخيل ، وأبخل الناس من بخل بما افترض الله عليه .
وأنّ العجب ممّن يبخل
بالدنيا وهي مقبلة عليه ، أو يبخل وهي مدبرة عنه ، فلا الإنفاق مع الإقبال يضرّه ولا الإمساك مع الإدبار ينفعه .
وأنّ الجنّة حرّمت
على البخيل .
وأنّ البخل شجرة في
النار أغصانها في الدنيا ، من تعلّق بغصنٍ منها قاده ذلك الغصن إلى النار .
وأنّ البخيل من منع
حقّ الله ، وأنفق في غير حقّ الله .
____________________________
وأنّ البخيل من ذكرت
عنده فلم يصلّ عليّ .
وأنّ البخيل من بخل
بالسلام .
وأنّ البخل عار .
وأنّه جامع لمساوي
العيوب ، وهو زمام يقاد به إلى كلّ سوءٍ .
وأنّ البخيل بعيد من
الله بعيد من الناس ، قريب من النار .
وأنّ الله يقول : «
أيّما عبدٍ هديته إلى الإيمان وحسّنت خلقه ولم ابتله بالبخل فإنّي اُريد به خيراً »
.
وأنّ شراركم بخلاؤكم .
وحسب البخيل من بخله
سوء الظنّ بربّه .
وأنّه لا تُشاور
البخيل فإنّه يقصر بك عن غايتك .
وأنّ الشحيح أشدّ من
البخيل ، إنّ البخيل يبخل بما في يديه ، والشحيح بما في أيدي الناس ، فلا يرىٰ في أيديهم إلّا تمنّىٰ أن يكون له بالحلّ
والحرام ولا يشبع ، ولا يقنع بما رزقه الله .
____________________________
وأنّ الصادق عليهالسلام دعا في الطواف : اللّهم قِنِى شحّ نفسي ، فُسئل عن ذلك فقال : أيّ شيء أشدّ من شحّ النفس ؟ إنّ الله يقول : ( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .
وأنّه : ما محق
الإيمان محق الشّحّ شيء .
وأنّ الشّحّ هو : أن
ترىٰ ما في يديك شرفاً وما أنفقت تلفاً .
وأنّ لهذا الشّحّ
دبيباً كدبيب النمل وشُعباً كشعب الشرك .
وأنّه لا يجتمع الشّحّ
والإيمان في قلب عبدٍ أبداً .
وأنّ الشّحّ المطاع
من الموبقات.
وأنّ الشحيح إذا شحّ
منع الزكاة والصدقة وصلة الرحم وإقراء الضيف والنفقة في سبيل الله وأبواب البرّ ، وحرام على الجنّة أن يدخلها شحيح.
وأنّه : إيّاكم والشّحّ
، فإنّما هلك من كان قبلكم بالشّحّ ، أمرهم بالكذب فكذبوا ، وأمرهم بالظلم فظلموا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ، ودعاهم حتّىٰ
سفكوا دماءهم ، ودعاهم حتّىٰ انتهكوا واستحلّوا محارمهم .
( أمر الشّحّ بذلك ، كناية عن اقتضاء هذه الرذيلة تحقّق تلك المعاصي ، والجري على وفق ذلك الاقتضاء طاعة منهم ).
وأنّ هلاك آخر هذه الاُمّة
بالشّحّ.
____________________________
الدّرس التّاسع والأربعون
في الذّنوب وآثارها
مخالفة أمر الله
ونهيه والخروج عن طاعته ورضاه يسمىٰ تارةً ذنباً ؛ لكونها ذات آثار تتبعها ومفاسد تترتّب عليها ، فإنّ الذنب : أخذ ذَنَب الشيء ليجرّه إليه
، فيجرّ المذنب بذنبه مفاسد كبيرةً ، واُخرىٰ إثماً ؛ لأنّها تبطئ
الإنسان عن الثواب ، وتؤخره عن الخيرات والأثم : التأخير.
وثالثةً : عصياناً ؛
لأنّ الفاعل عمل ما يجب عليه أن يحفظ نفسه من هجمة العذاب والحوادث فإنّ العصيان التمنّع بالعصاء.
ورابعةً : طغياناً ؛
لأنّ الفاعل خرج عن الحدّ ، إذ الواجبات والمحرّمات حدود الله والطغيان هو : الخروج عن الحدّ.
وخامسةً : فسقاً ؛
لأنّ العاصي خرج عن محيط منع الشارع كما يقال فسق التّمر إذا خرج عن قشره.
وسادسةً : جرماً وإجراماً
، فإنّ العامل جنىٰ ثمراً مرّاً أو كسب سيّئاً ، فإنّ الجرم قطع الثمر عن الشجر أو كسب السّيء.
وسابعةً : سيّئةً ؛
لأنها فعلة قبيحة يحكم العقل والشرع بقبحها.
وثامنةً : تبعةً ؛
لكونها ذات تبعاتٍ مستوخمةٍ وتوالي مضرّةٍ مهلكةٍ.
وتاسعةً : فاحشةً ؛
لعظم قبحها وشناعتها والفاحشة : هي الشيء العظيم قبحه.
وعاشرةً : منكراً ؛
لأنّ العقل والشرع ينكرها ولا يجوز ارتكابها ويوجب إنكارها والنهي عنها.
وبالجملة : مخالفة
الله تعالىٰ ومعصيته والخروج عن طاعته من الأمور التي تنطق العقول بذمّها وقبحها وتؤكّد الآيات والنذر على الاجتناب عنها ، ويصرّح الكتاب والسنّة بترتّب المضارّ والمفاسد عليها ، وكونها موبقةً للنفس مهلكةً لها بهلاكٍ معنويٍ دائم وشقاوةٍ اُخرويّةٍ أبديّةٍ أعاذنا الله منها.
والآيات والأخبار
الواردة في المقام على أقسام :
منها : ما يرجع إلى
النهي عن نفس العصيان وبيان شدّة قبحه ولزوم مراقبة النفس لكيلا تقع فيه.
ومنها : ما يبيّن
مضارّها ومفاسدها التي ترجع إلى باطن العاصي وهلاك نفسه وانحطاطها عن مرتبة الانسانية.
ومنها : ما يشير إلى
آثاره الراجعة إلى دنياه من المصائب والمكاره ، والحوادث المتعلّقة ببدنه وماله وأهله.
ومنها : ما يشير إلى
تأثير العصيان في البلاد والعباد ، أي : تأثيره في المجتمع الذي يقع فيه في أنفسهم وأراضيهم وبلادهم.
ومنها : ما يشير إلى
تأثيره في آخرته وعذابها.
فمّا يدلّ على أصل
النهي والذّم قوله تعالىٰ : (
لَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) .
وقوله : ( وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )
.
وقوله : ( لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) .
وقوله : ( وَكَفَىٰ بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا )
وقوله : (
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ )
وقوله : (
بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ) .
وورد في النصوص أنّ
أشدّ الناس اجتهاداً ، من ترك الذنوب . وأنّه : إن أردت أنْ يختم بخيرٍ عملك حَتّى تقبض وأنت في أفضل الأعمال فعظّم لله حقّه أن تبذل نعماءه في معاصيه .
وأنّ الله قال : يابن
آدم ، ما تنصفني أتحبّب إليك بالنعم وتتمقّت إليّ بالمعاصي ، خيري عليك منزلٌ وشرّك اليّ صاعد ، ولا يزال مَلَكٌ كريم يأتيني عنك في كلّ يومٍ وليلةٍ بعملٍ قبيح. يابن آدم ، لو سمعت وصفك من غيرك وأنت لا تعلم من
____________________________
الموصوف
لسارعت إلى مقته .
وأنّ الله أخفىٰ
سخطه في معصيته ، فلا تستصغرنّ شيئاً منها فربّما وافق سخطه وأنت لا تعلم .
وأنّ الوسواس الخنّاس
قال لكبيره إبليس بعد نزول آية التوبة في حقّ العاصين : أنا أعدهم واُمنّيهم حتّىٰ يواقعوا الخطيئة ، فإذا واقعوها
أنسيتهم الاستغفار ، فوكله إبليس لذلك إلى يوم القيامة .
وأنّه لا تحقّروا
شيئاً من الشرّ وإن صغر في أعينكم ، فإنّه لا صغيرة مع الإصرار .
وأنّ من الذنوب التي
لا تغفر ، قول الرجل : يا ليتني لا اُؤاخذ إلّا بهذا .
وأنّ النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : إنّي لأرجو النجاة لهذه الأمّة إلّا للفاسق المعلن .
وأنّ من لم يُبال أن
يراه الناس مسيئاً فهو شرك شيطانٍ .
وأنّه إذا أخذ القوم
في معصية الله : فإن كانوا ركباناً كانوا من خيل إبليس ، وإن كانوا رجّالةً كانوا من رجّالته .
وأنّ الله يحبّ العبد
أن يطلب إليه في الجرم العظيم ويبغض العبد أن يستخفّ
____________________________
بالجرم
اليسير .
وأنّه : لا يغرّنّك
ذنب الناس عن ذنبك .
وأنّه لا تستقلّوا
قليل الذنوب ، فإنّ قليل الذنوب يجتمع حتّىٰ يكون كثيراً .
وأنّه : احذروا سطوات
الله وهي أخذه على المعاصي .
وأنّه : لو لم يتوعّد
الله على معصيةٍ لكان يجب أن لا يعصىٰ ، شكراً لنعمه .
وأنّ ترك الذنوب أهون
من طلب التوبة .
واتّقوا المعاصي في
الخلوات ، فإنّ الشاهد حاكم .
وأقلّ ما يلزمكم الله
أن لا تستعينوا بنعمه على معاصيه .
واذكروا انقطاع
اللذات وبقاء التبعات .
وأشدّ الذنوب ما
استخفّ به صاحبه .
وأنّ في زبور داود عليهالسلام : أنّ الله يقول : يا بن آدم ، تسألني وأمنعك لعلمي بما
____________________________
ينفعك
، ثمّ تلحّ عليّ بالمسألة فأعطيك ما سألت فتستعين به على معصيتي ، فأهمّ بهتك سترك فتدعوني ، فأستر عليك ، فكم من جميلٍ أصنع معك ، وكم من قبيحٍ تصنع معي ، يوشك أنْ أغضب عليك غضبةً لا أرضىٰ بعدها أبداً .
وممّا يدلّ على
تأثيرها في باطن الإنسان وقلبه وروحه :
ما ورد في النصوص :
أنّه : ما من شيء أفسد للقلب من خطيئته ، إنّ القلب ليواقع الخطيئة فلا تزال به حتّىٰ تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله ،
( فلا تزال به ، أي : لا يزال يتكرّر جنس الخطيئة حتّىٰ يغلب عليه ، أو لا تزال تلك الخطيئة
الواقعة تؤثّر ؛ لعدم التوبة حتّىٰ تغلب عليه ، وصيرورة أعلاه أسفله : إمّا كناية عن
كونه نحو الظرف المقلوب لا يستقرّ في شيء فلا يستقرّ الإيمان والمعارف في القلب ، أو المعنىٰ
ينقلب توجّه القلب من جهة الحقّ والدين التي هي العليا إلى جهة الدنيا التي هي السفلىٰ.
وأنّه : ما من عبدٍ
مؤمنٍ إلّا وفي قلبه نكتة بيضاء ، فإن أذنب وثنّى ، خرج من تلك النكتة سواد ، فإن تاب انمحت ، وإن تمادىٰ في الذنوب اتّسع ذلك السواد
حتّىٰ يغطّي البياض ، فاذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً ،
وهو قول الله : ( كَلَّا بَلْ رَانَ
عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )
.
وأنّ العمل السّيىٔ
أسرع في صاحبه من السّكين في اللحم .
____________________________
وأنّه : من همّ بسيّئةٍ
فلا يعملها فإنه ربما يعمل العبد السيّئة فيراه الربّ فيقول : «
وعزّتي وجلالي لا أغفر لك بعد ذلك أبداً » .
وأنّه : لا وجع أوجع
للقلوب من الذنوب .
وأنّ من علامات
الشقاء : الإصرار على الذنب .
وأنّ الذنب على الذنب
يميت القلب .
وأنّه : ما جفّت
الدموع إلّا لقسوة القلوب ، وما قست القلوب إلّا لكثرة الذنوب .
وأنّه : احذروا
الإنهماك في المعاصي والتهاون بها ، فإنّها تستولي الخذلان على صاحبها حتّىٰ توقعه في ردّ نبوّة نبيّ الله وولاية وصيّه ، ولا تزال حتّىٰ
توقعه في دفع التوحيد والإلحاد في الدين .
وممّا يدلّ على
تأثيرها في جلب المكاره والمصيبات : قوله تعالىٰ : ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ )
.
وقوله : ( أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا )
وقوله : (
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا ) وقوله : (
فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا )
وقوله : (
فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ
____________________________
مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ )
.
وقد ورد في النصوص أنّه
: ما من بليّةٍ ولا نقص رزقٍ ولا من عرقٍ يضرب ولا نكبةٍ ولا صداعٍ ولا مرضٍ حتّى الخدش والكبوة والمصيبة إلّا بذنب .
وأنّه : لا يأمن
البيات من عمل السيّئات .
وأنّ العبد ليذنب
الذنب فيُحرم صلاة الليل ويُزوىٰ عنه الرزق .
وأنّه : لينوى الذنب
فيُحرم الرزق .
وأنّ العبد يسأل الله
الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها ، فيذنب ذنباً فيقول الله للملك : لا تقضِ حاجته ، فإنّه تعرّض لسخطي .
وأنّ الله قضىٰ
قضاءً حتماً لا ينعم على عبدٍ بنعمةٍ فيسلبها إيّاه حتّىٰ يُحدث العبد ذنباً يستحقّ بذلك النقمة .
وأنّ أحدكم ليكثر به
الخوف من السلطان وما ذلك إلّا بالذنوب ، فتوقّوها .
____________________________
وأنّه : قال تعالىٰ
: «
إذا عصاني من عرفني سلّطت عليه من لا يعرفني ».
وأنّ من يموت بالذنوب
أكثر ممّن يموت بالآجال .
وممّا يدل على
تأثيرها في البلاد والعباد قوله تعالىٰ : (
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي
عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )
وقوله :
(
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا )
وقوله : (
فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) .
وورد في النصوص أنّه
: ما من سنةٍ أقلّ مطراً من سنةٍ ، ولكنّ الله يضعه حيث يشاء ، إنّ الله إذا عمل قوم بالمعاصي صرف عنهم ما كان قدّر لهم من المطر في تلك السنة إلى غيرهم وإلى الفيافي والبحار والجبال ، وإنّ الله ليعذّب الجُعل في حجرها
، فيحبس المطر عن الأرض التي هي بمحلّتها لخطايا من بحضرتها ، وقد جعل الله لها السبيل في مسلكٍ سوىٰ محلّة أهل المعاصي ، فاعتبروا يا اُولي الأبصار .
وأنّه حقّ على الله
أن لا يعصىٰ في دار إلّا أضحاها للشمس حتّى تطهّرها .
وأنّ قوم سبأ كفروا
نعم الله فغيّر الله ما بهم من نعمةٍ فغرق قراهم ، وخرّب ديارهم ، وذهب بأموالهم (
ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا )
.
وأنّ الله قال : «
ليس من أهل قرية ولا ناس كانوا على طاعتي فأصابهم سرّاء
____________________________
( شرٌّ ) فتحوّلوا عمّا اُحبّ الى ما أكره إلّا تحوّلت لهم
عمّا يحبّون إلى ما يكرهون »
.
وأنّه : كلّما أحدث العباد
من الذنوب ما لم يكونوا يعملون أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون .
وأنّ لله تعالىٰ
في كلّ يوم وليلة منادياً ينادي : مهلاً مهلاً عباد الله عن معاصي الله ، فلولا بهائم رتّع ، وصبيّة رضّع ، وشيوخ ركّع لصبّ عليكم العذاب صبّاً ، ترضّون به رضّاً .
وأنّه : إذا غضب الله
على اُمّةٍ ولم ينزل بها العذاب ، غلت أسعارها ، وقصرت أعمارها ، ولم تربح تجّارها ، ولم تزك ثمارها ، ولم تغزر أنهارها ، وحبس عنها أمطارها ، وسلّط عليها أشرارها .
وأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : لا تزل اُمّتي بخير ما تحابّوا وأدّوا الأمانة واجتنبوا
الحرام ... ، فإذا لم يفعلوا ابتلوا بالقحط والسنين .
وممّا يدلّ على
تأثيرها في عذاب الآخرة وعقابها ، قوله تعالى : (
بَلَىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ ) ، وقوله : (
وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا
مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .
____________________________
وقال : ( مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا )
(
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ ) و (
إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ
فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ).
وهذه الطائفة كثيرة في القرآن جدّاً.
وورد في النصوص : أنّ
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم نزل بأرضٍ قرعاء ، ما بها من حطب ، قال فليأت كلّ إنسانٍ بما قدر عليه ، فجاؤا به حتّى رموه بين يديه ، فقال : هكذا تجتمع الذنوب ، ثمّ قال : اتّقوا المحقّرات من الذنوب ، فإنّ لكلّ شيء طالباً ألا
وإنّ طالبها يكتب ما قدّموا وآثارهم . ( المحقّرات أي : ما يعدّه الإنسان
صغيراً فلا يتوب ، فيكون ممّا يكتب ويبقىٰ ، وقوله : ما قدّموا أي : قدّموه قبل موتهم ،
وآثارهم : ما يبقى من آثار عملهم بعده ، أو ما قدّموا من نيّة العمل ومقدّماته ، والآثار :
نفس العمل ) .
وأنّ العبد ليحبس على
ذنبٍ من ذنوبه مائة عامٍ. وأنه لينظر إلى أزواجه في الجنّة يتنعّمن .
وأنّه : إن كانت
العقوبة من الله النار فالمعصية لماذا ؟
وأنّه : من أذنب
ذنباً وهو ضاحك ، دخل النار وهو باكٍ .
وأنّ عليّاً عليهالسلام قال : إنّ الشكّ والمعصية في النار ليس منّا ولا إلينا .
____________________________

الدّرس الخمسون
في الإمهال والإملاء على المسلم والكافر
الإمهال والإملاء : هو إعطاء المهلة للعاصي المسلم أو الكافر ، وتأخير أخذه وعقابه في الدنيا بعد ارتكابه العصيان واستحقاقه الأخذ والعقوبة ، وهو يكون :
تارةً : لأنّ الله
تعالى قد قضى في حقّه بأجلٍ مسمّىً فلا بدّ من نفوذ قضائه.
واُخرى : لأجل رحمته
تعالى على نفس العاصي ليتوب ، أو على غيره من حيوانٍ أو انسانٍ ممّن يشاركه في نتائج عمله ثواباً أو عقاباً.
وثالثةً : ليميز
الخبيث من الطّيّب ، والمؤمن من الكافر ، والمطيع من الفاسق.
ورابعةً : للإضلال ،
والإستدراج ليتمّ شقاؤه ، ونعوذ بالله من ذلك.
والإمهال وإن كان من
فعل الله تعالى إلّا أنّه يرجع إلى نفس العبد وينشأ من غفلته وغرّته وشقائه ، فلا بدّ لكلّ إنسانٍ من مراقبة نفسه وأفعاله وأحواله حتّى
لا يقع فيما لا محيص له من ذلك. وقد ورد في بيان ذلك عدّة وافرة من الآيات الكتابيّة
:
قال تعالى : ( وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ )
، (
وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) . (
وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ )
. (
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَـٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ
إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ) وقال : (
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ
بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا ) وقال : (
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ
لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ) وقال : (
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ )
وقال : (
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ )
وقال : (
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ )
وقال : (
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً )
.
وورد في النصوص : أنّ
لله في كلّ يومٍ وليلةٍ ملكاً ينادي : مهلاً مهلاً عباد الله عن معاصى الله ، فلولا بهائم رتّع ، وصبية رضّع ، وشيوخ ركّع ، لصبّ عليكم العذاب صبّاً ترضّون رضّاً .
____________________________
وأنّ الله إذا أراد
أن يصيب أهل الأرض بعذابٍ قال : « لولا الذين يتحابّون بجلالي لأنزلت عذاب »
.
وأنّ الله إذا همّ
بعذاب أهل الأرض جميعاً لارتكابهم المعاصي نظر إلى الشيب ناقلي أقدامهم إلى الصلوات ، والولدان يتعلّمون القرآن ، رحمهم ، وأخّر عنهم
ذلك .
وأنّ الله ليدفع بمن
يصلّي من الشيعة عمّن لا يصلي ، وبمن يصوم عمن لا يصوم ، وبمن يزكي عمّن لا يزكي ، وبمن يحجّ عمّن لا يحج ، ولو اجتمعوا على الخلاف والعصيان لهلكوا ، وهو قوله : ( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ) .
وأنّه : ما عذّب الله
قريةً فيها سبعة من المؤمنين .
وأنّه : إذا رأيت ربّك
يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره .
وأنّه : كم من مستدرجٍ
بالاحسان إليه ، ومغرورٍ بالستر عليه ، ومفتونٍ بحسن القول فيه ، وما ابتلى الله أحداً بمثل الإملاء له .
____________________________
وأنّه ليراكم الله من
النعمة وجلين ، كما يراكم من النقمة فرقين .
وأنّه من وسّع عليه
في ذات يده ، فلم يرَ ذلك استدراجاً فقد أمن مخوفاً ، ومن ضيّق عليه في ذات يده فلم يرَ ذلك اختباراً فقد ضيّع مأمولاً .
وأنّه : إذا أراد
الله بعبدٍ خيراً فأذنب ذنباً تبعه بنقمة ويُذكّره الاستغفار ، وإذا أراد الله بعبدٍ شرّاً فأذنب ذنباً تبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ويتمادى به ،
وهو قوله تعالى : ( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ
مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ )
بالنعم عند المعاصي.
____________________________
الدرس الحادي والخمسون
في طلب رضا الخلق بسخط الخالق أو طلب أمرٍ من طريق المعصية
هذا الذنب ممّا يبتلى
به كثير من الناس ، ولا سيّما التابعين لأئمّة الكفر والجور من أعوانهم وأنصارهم ، والمنسوبين إليهم ، والمادحين لهم والمتقرّبين إليهم طلباً لجاهٍ أو مالٍ ، أو خوفاً من شرورهم ، فيتّبعون أمرهم ويطلبون رضاهم وإن خالف أمر الله ورضاه.
وقد ورد في النصوص :
أنّه : من طلب رضا الناس بسخط الله جعل الله حامده من الناس ذامّاً له ( أي : يذمّه بعد ذلك من كان يحمده ،
أو يذمّه في غيبته من يحمده في حضوره ).
وأنّه : من آثر طاعة
الله بغضب الناس كفاه الله عداوة كل عدوّ .
وأنّه : لا دين لمن
دان بطاعة من عصى الله ( أي : اتّخذ طاعته لنفسه ديناً ،
____________________________
كأن
قال بإمامته وخلافته عن الله ورسوله ).
وأنّه من أرضىٰ
سلطاناً جائراً بسخط الله خرج من دين الله .
وأنّه لا تسخطوا الله
برضا أحدٍ من خلقه ولا تتقربوا إلى أحدٍ من الخلق بتباعدٍ من الله .
____________________________
الدّرس الثّاني والخمسون
في قسوة القلب
القسوة :
غلظ القلب ، وصلابته وعدم تأثّره بالمواعظ والعبر ، في مقابل رقّة القلب ، ورحمته وتأثّره بالعظات واتّعاظه بالعبر. وهي من حالات القلب وصفاته المذمومة السيّئة ، وهي قد تكون ذاتيّةً مودعةً في القلب بالفطرة ، وقد تكون
كسبيّةً حاصلةً من الممارسة على المعاصي والمآثم. وعلى التقديرين : فهي قابلة للزوال بالكليّة ، أو للتخفيف والتضعيف ، ويمكن أيضاً المراقبة الشديدة على النفس حتّى لا
يظهر لها أثر سوءٍ على الجوارح والأركان.
وقد ورد فيها آيات
ونصوص ناظرة إلى ذمّها ولزوم إزالتها ، أو المواظبة عليها لئلّا تظهر آثارها في الأقوال والأفعال.
قال تعالى : ( أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ
عَلَىٰ نُورٍ مِنْ رَبِّه فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) . ( فذكر الله قسوة القلب هنا في مقابل
انشراح الصدر
____________________________
للإسلام
وانفتاحه وسعته ، فصار لذلك على نورٍ من العلم والعمل. والقسوة في قباله انسداد القلب وضيقه وعدم تأثير العظات فيه. وقد أوعد الله تعالى جزاءها بالويل ، وهي بمعنى : القبح والشّر والهلاك ، فالمراد : إنشاء دعاءٍ من الله على
قاسي القلب ، أو إخبار باستحقاقه ).
وقال تعالى : ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ
كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا
يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ) ، وقوله تعالى : ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ
لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ
فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ )
.
وورد في النصوص : أنّ
القلب له لمّتان : لمّة من الشيطان ولمة من الملك ، فلمّة الملك : الرّقة والفهم ، ولمّة الشيطان : السهو والقسوة ،
( واللّمة بالفتح : الإلقاء والخطور ، فخطرات الخير فيه من الملك ، وخطرات الشّر من الشيطان ، ويتولّد من الأوّل فهم المعارف الإلهيّة ولين القلب لفعلها ، ومن الثاني غفلته عن الحقّ
وقسوته ، فقوله : لمّة الملك الرّقّة : أي نتيجتها الرقّة أو علامتها ذلك.
وأنّ فيما ناجى الله
تعالى به موسى : « يا موسى لا تطوّل في الدنيا أملك فيقسو قلبك ، والقاسي القلب منّي بعيد ». ( ولا إشكال في أنّ تطويل الأمل يدعو
إلى الحركة نحو المأمول والسعي فيه وانصرافه القلب عن الحقّ والآخرة ، وعن عبادة الرّب والتقرّب إليه وهي تورث القسوة طبعاً ).
____________________________
الفهرس
الدّرس
الأوّل :
المقدّمة :
ففي بيان أمور : ............. ٧
الامر الأوّل : ........... ٧
الأمر الثاني : .......... ١٠
الأمر الثالث : ........ ١١
الأمر الرابع : .......... ١٢
الأمر الخامس : . ١٨
الأمر السادس : ............ ٢٠
الأمر السابع : .......... ٢١
الأمر الثامن : ............ ٢٣
الدّرس الأوّل
في بيان ممّا يدلّ على
صلاح القلب وفساده .................... ٢٧
الدّرس الثّاني
في محاسبة النّفس
ومراقبتها .................................... ٣٥
الدّرس الثّالث :
في مجاهدة النّفس
وبيان حدودها .............................. ٣٩
الدّرس الرّابع :
في
ترك اتّباع الأهواء والشّهوات ................................ ٤٣
الدّرس الخامس :
في اليقين ....... ٤٧
الدّرس السّادس :
في النّيّة وتأثيرها
وثوابها .................................. ٥٣
الدّرس السّابع :
في الإخلاص والقربة .......................................... ٥٩
الدّرس الثّامن :
في العبادة وإخفائها .......................................... ٦٣
الدّرس التّاسع :
في التّقوىٰ
والورع والمتّقين وصفاتهم ............................. ٦٥
الدّرس العاشر :
في الزّهد ودرجاته
وعلاماته .............................. ٧٣
الدّرس الحادي عشر :
في الخوف والرّجاء ............................... ٧٧
الدّرس الثّاني عشر :
في حسن الظّن بالله
تعالى ..................................... ٨٣
الدّرس الثّالث عشر :
في الصّدق ووجوبه
وموارد استثنائه ............................. ٨٧
الدّرس الرّابع عشر :
في الشّكر ...... ٩١
الدّرس الخامس عشر :
في الصّبر ....... ٩٧
الدّرس السّادس عشر :
في التّوكّل والتّفويض
........................................ ١٠٣
الدّرس السّابع عشر :
في الرّضا والتّسليم .......................................... ١٠٧
الدّرس الثّامن عشر :
في الحثّ على
الاجتهاد والمواظبة على العمل .................. ١١١
الدّرس التّاسع عشر :
في الاقتصاد في
العبادة ...................................... ١١٧
الدّرس العشرون :
في الحسنات بعد السّيّئات
.................................. ١٢١
الدّرس الحادي والعشرون :
في الحسنات والسّيّئات
...................................... ١٢٣
الدّرس الثّاني والعشرون
في الاستعداد للموت ....................................... ١٢٥
الدّرس الثّالث والعشرون :
في عفّة البطن والفرج
....................................... ١٢٩
الدّرس الرّابع والعشرون :
في الكلام والسّكوت
والصّمت .............................. ١٣٣
الدّرس الخامس
والعشرون :
في التّفكّر
والاعتبار بالعبر والاتّعاظ بالعظات ................. ١٤١
الدّرس السّادس والعشرون :
في الحياء من الله
ومن الخلق ................................. ١٤٧
الدّرس السّابع والعشرون :
في التّدبّر والتّثبّت
وترك الاستعجال .......................... ١٥١
الدّرس الثّامن والعشرون :
في الاقتصاد والقناعة
........................................ ١٥٥
الدّرس التّاسع والعشرون :
في السّخاء والجود .......................................... ١٥٧
الدّرس الثّلاثون :
في حُسن الخلق ............................................ ١٦١
الدّرس الحادي والثّلاثون :
في الحلم وكظم الغيظ
والعفو والصّفح ........................ ١٦٩
الدّرس الثّاني والثّلاثون :
في الفقر والفقراء
والغنى والأغنياء ............................. ١٧٥
الدّرس الثّالث والثّلاثون :
في الكفاف في الرّزق ....................................... ١٨٥
الدّرس الرّابع والثّلاثون :
في الكذب ونقله
وسماعه .................................... ١٨٧
الدّرس الخامس والثّلاثون :
في الرّياء ...... ١٩٣
الدّرس السّادس والثّلاثون :
في العجب بالعمل
واستكثار الطّاعة ......................... ١٩٩
الدّرس السّابع والثّلاثون :
في الشّكوى إلى الله
وإلى النّاس .............................. ٢٠٣
الدّرس الثّامن والثّلاثون :
في اليأس من روح الله
والأمن من مكره ....................... ٢٠٥
الدّرس التّاسع والثّلاثون :
في الدّنيا وحبّها
وذمّها ...................................... ٢٠٧
الدّرس الاربعون :
في حبّ الرّئاسة ............................................ ٢٢١
الدّرس الحادي والأربعون :
في الغفلة واللهو ............................................ ٢٢٥
الدّرس الثّاني والأربعون :
في الحرص وطول الأمل ..................................... ٢٢٧
الدّرس الثّالث والأربعون :
في الطّمع والتّذلّل
لأهل الدنيا طلباً لها ....................... ٢٣١
الدّرس الرّابع والأربعون :
في الكِبر ...... ٢٣٣
الدّرس الخامس والأربعون :
في الحسد ..... ٢٣٩
الدّرس السّادس والأربعون :
في الغضب ... ٢٤٣
الدّرس السّابع والأربعون :
في العصبيّة والحميّة
......................................... ٢٤٧
الدّرس الثّامن والأربعون :
في البخل ..... ٢٥١
الدّرس التّاسع والأربعون :
في الذّنوب وآثارها .......................................... ٢٥٥
الدّرس الخمسون :
في الإمهال والإملاء
على المسلم والكافر ..................... ٢٦٧
الدّرس الحادي والخمسون :
في طلب رضا الخلق
بسخط الخالق أو طلب أمرٍ من طريق المعصية .......................................... ٢٧١
الدّرس الثّاني والخمسون :
في
قسوة القلب ............................................ ٢٧٣
*
* *
|