

|
قال جعفر بن
محمد الصادق عليهالسلام ..... في حديث :
فقال له رجل :
يا ابن رسول الله! إني عاجز ببدني عن نصرتكم ولست أملك إلا البراءة من أعدائكم
واللعن [ عليهم ] ، فكيف حالي؟
فقال الصادق عليهالسلام : حدثني أبي عن أبيه عن جده عن رسول الله صلوات الله عليهم أنه قال :
من ضعف عن نصرتنا أهل
البيت فلعن في خلواته أعداءنا بلغ الله صوته جميع الأملاك من الثرى إلى العرش ،
فكلما لعن هذا الرجل أعداءنا لعنا ساعدوه ولعنوا من يلعنه ثم ثنوا ، فقالوا :
اللهم صل على عبدك هذا الذي قد بذل ما في وسعه ولو قدر على أكثر منه لفعل ، فإذا
النداء من قبل الله عز وجل : قد أجبت دعاءكم وسمعت نداءكم ، وصليت على روحه في
الأرواح ، وجعلته عندي من المصطفين الأخيار.
بحار الأنوار :
٢٧ ـ ٢٢٢ ـ ٢٢٣ حديث ١١
تفسير الإمام
العسكري (ع) : ١٦ و ١٧
|
|
|
عن الصادق عليهالسلام : من خالفكم وإن
عبد واجتهد منسوب إلى هذه الآية : (وجوه
يومئذ
خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية).
تفسير القمي :
٧٢٣
بحار الأنوار :
٨ ـ ٣٥٦
روضة الكافي :
١٦٠.
ثواب الأعمال :
٢٠٠.
|
|
[١٦] باب
آخر
فيما كتب عليهالسلام إلى أصحابه في ذلك
تصريحا
وتلويحا
١ ـ قال السيد ابن
طاوس رحمهالله في كتاب كشف المحجة لثمرة المهجة : قال محمد بن
يعقوب في كتاب الرسائل : علي بن إبراهيم ، بإسناده ، قال : كتب أمير المؤمنين عليهالسلام كتابا بعد منصرفه من النهروان وأمر أن يقرأ على الناس ، وذلك أن الناس سألوه
عن أبي بكر وعمر وعثمان ، فغضب عليهالسلام وقال : قد تفرغتم للسؤال عما لا يعنيكم ، وهذه مصر قد
انفتحت ، وقتل معاوية بن خديج محمد بن أبي بكر ، فيا لها من مصيبة ما أعظمها
مصيبتي بمحمد! فو الله ما كان إلا كبعض بني ، سبحان الله! بينا نحن نرجو أن نغلب
القوم على ما في أيديهم إذ غلبونا على ما في أيدينا ، وأنا كاتب لكم كتابا فيه
تصريح ما سألتم إن شاء الله تعالى.
فدعا كاتبه عبيد
الله بن أبي رافع فقال له : أدخل علي عشرة من ثقاتي ، فقال : سمهم لي يا أمير
المؤمنين ، فقال : أدخل أصبغ بن نباتة وأبا الطفيل عامر
__________________
ابن واثلة الكناني ، وزر بن حبيش الأسدي ، وجويرية بن مسهر العبدي ،
وخندق بن زهير الأسدي ، وحارثة بن مضرب الهمداني ، والحارث بن عبد الله الأعور الهمداني ، ومصابيح
النخعي ، و علقمة بن قيس ، وكميل بن زياد ، وعمير بن زرارة ، فدخلوا
إليه ، فقال لهم : خذوا هذا الكتاب وليقرأه عبيد الله بن أبي رافع وأنتم شهود كل
يوم جمعة ، فإن شغب شاغب عليكم فأنصفوه بكتاب الله بينكم وبينه :
( بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى شيعته من المؤمنين
والمسلمين ، فإن الله يقول : ( وَإِنَّ مِنْ
شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ ) وهو اسم شرفه الله تعالى في الكتاب وأنتم شيعة النبي محمد صلىاللهعليهوآله كما أن من شيعته إبراهيم اسم غير مختص ، وأمر غير مبتدع ، وسلام عليكم ، والله هو ( السَّلامُ
الْمُؤْمِنُ ) أولياءه من العذاب المهين ، الحاكم عليهم بعدله ، بعث
محمدا صلىاللهعليهوآله وأنتم معاشر العرب على شر حال ، يغذوا [ يغذو ] أحدكم كلبه
، ويقتل ولده ، ويغير على غيره ، فيرجع وقد أغير عليه ، تأكلون العلهز والهبيد
والميتة والدم ، منيخون على أحجار خشن وأوثان مضلة ، تأكلون الطعام الجشب ،
وتشربون
__________________
الماء الآجن ،
تسافكون دماءكم ، ويسبي بعضكم بعضا ، وقد خص الله قريشا بثلاث آيات وعم العرب بآية
، فأما الآيات اللواتي في قريش فهو قوله تعالى :
( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ
مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ
وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
) ، والثانية :
( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى
لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ
) ، والثالثة : قول قريش لنبي الله صلىاللهعليهوآله حين دعاهم إلى الإسلام والهجرة : ( وَقالُوا
إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا ) ، فقال الله
تعالى : ( أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً
يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ، وأما الآية التي عم بها العرب فهو قوله : (
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ
قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ
مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ، فيا لها نعمة ما أعظمها إن لم تخرجوا منها إلى غيرها ،
ويا لها مصيبة ما أعظمها إن لم تؤمنوا بها وترغبوا عنها ، فمضى نبي الله صلىاللهعليهوآله وقد بلغ ما أرسل به ، فيا لها مصيبة خصت الأقربين وعمت المؤمنين لم تصابوا
بمثلها ولن تعاينوا بعدها مثلها ، فمضى لسبيله صلىاللهعليهوآله وترك كتاب الله وأهل
__________________
بيته إمامين لا
يختلفان ، وأخوين لا يتخاذلان ، ومجتمعين لا يفترقان ، ولقد قبض الله نبيه صلىاللهعليهوآله ولأنا أولى بالناس مني بقميصي هذا ، وما ألقى في روعي ، ولا عرض في رأيي أن
وجه الناس إلى غيره ، فلما أبطئوا عني بالولاية لهممهم ، وتثبط الأنصار ـ وهم
أنصار الله وكتيبة الإسلام ـ قالوا : أما إذا لم تسلموها لعلي فصاحبنا أحق بها من غيري ، فو الله ما
أدري إلى من أشكو؟
فإما أن يكون الأنصار ظلمت حقها ، وإما أن يكونوا ظلموني حقي ، بل حقي المأخوذ
وأنا المظلوم.
فقال قائل قريش :
إن نبي الله صلىاللهعليهوآله قال : الأئمة من قريش ، فدفعوا الأنصار عن دعوتها ومنعوني
حقي منها ، فأتاني رهط يعرضون علي النصر ، منهم ابنا سعيد ، والمقداد
بن الأسود ، وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، وسلمان الفارسي ، والزبير بن
العوام ، والبراء بن العازب.
فقلت لهم : إن
عندي من نبي الله صلىاللهعليهوآله عهدا وله إلي وصية لست أخالف عما أمرني به ، فو الله لو خزموني بأنفي لأقررت لله
تعالى سمعا وطاعة ، فلما رأيت الناس قد انثالوا على أبي بكر للبيعة أمسكت يدي
وظننت أني أولى وأحق بمقام رسول الله صلىاللهعليهوآله منه ومن غيره ، وقد كان نبي الله أمر أسامة بن زيد على جيش
وجعلهما في جيشه ، وما زال النبي صلى الله عليه
__________________
وآله إلى أن فاضت
نفسه يقول : أنفذوا جيش أسامة ، فمضى جيشه إلى الشام حتى انتهوا إلى أذرعات فلقي جمعا من الروم فهزموهم
وغنمهم الله أموالهم ، فلما رأيت راجعة من الناس قد رجعت عن الإسلام تدعو إلى
محو دين محمد وملة إبراهيم عليهماالسلام خشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله أرى فيه ثلما وهدما تك
المصيبة علي فيه أعظم من فوت ولاية أموركم التي إنما هي متاع أيام قلائل ثم تزول
وتنقشع كما يزول وينقشع السحاب ، فنهضت مع القوم في تلك الأحداث حتى زهق الباطل
وكانت كلمة الله هي العليا وإن زعم الكافرون.
ولقد كان سعد لما
رأى الناس يبايعون أبا بكر نادى : أيها الناس! إني والله ما أردتها حتى رأيتكم
تصرفونها عن علي ، ولا أبايعكم حتى يبايع علي ، ولعلي لا أفعل وإن بايع ، ثم ركب
دابته وأتى حوران وأقام في خان حتى هلك ولم يبايع.
وقام فروة بن عمر
الأنصاري ـ وكان يقود مع رسول الله صلىاللهعليهوآله
__________________
فرسين ويصرم ألف
وسق من تمر فيتصدق به على المساكين ـ فنادى : يا معشر قريش! أخبروني
هل فيكم رجل تحل له الخلافة وفيه ما في علي عليهالسلام؟!.
فقال قيس بن مخزمة
الزهوي : ليس فينا من فيه ما في علي عليهالسلام.
فقال له : صدقت ، فهل في علي عليهالسلام ما ليس في أحد منكم؟. قال : نعم.
قال : فما يصدكم عنه؟. قال : إجماع الناس على أبي بكر. قال : أما والله لئن أحييتم سنتكم لقد أخطأتم
سنة نبيكم ، ولو جعلتموها في أهل بيت نبيكم لأكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم. فولي
أبو بكر فقارب واقتصد فصحبته مناصحا ، وأطعته فيما أطاع الله فيه جاهدا ، حتى إذا
احتضر ، قلت في نفسي : ليس يعدل بهذا الأمر عني ، ولو لا خاصة بينه وبين عمر وأمر
كانا رضياه بينهما ، لظننت أنه لا يعدله عني وقد سمع قول النبي صلىاللهعليهوآله لبريدة الأسلمي حين بعثني وخالد بن الوليد إلى اليمن وقال : إذا افترقتما فكل
واحد منكما على حياله ، وإذا اجتمعتما فعلي عليكم جميعا ، فأغزنا وأصبنا سبيا فيهم
خويلة بنت جعفر جار الصفا ـ وإنما سمي جار الصفا من حسنه ـ فأخذت الحنفية خولة واغتنمها
خالد مني ، وبعث بريدة إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله محرشا علي ، فأخبره بما كان من أخذي خولة ، فقال : يا
بريدة! حظه في الخمس أكثر مما أخذ ، إنه وليكم بعدي ، سمعها أبو بكر وعمر ، وهذا
بريدة حي لم يمت ، فهل
__________________
بعد هذا مقال
لقائل؟!.
فبايع عمر دون
المشورة فكان مرضي السيرة من الناس عندهم ، حتى إذا احتضر قلت في نفسي : ليس يعدل
بهذا الأمر عني ، للذي قد رأى مني في المواطن ، وسمع من الرسول صلىاللهعليهوآله ، فجعلني سادس ستة وأمر صهيبا أن يصلي بالناس ، ودعا أبا طلحة زيد بن سعد
الأنصاري فقال له : كن في خمسين رجلا من قومك فاقتل من أبى أن يرضى من هؤلاء الستة
، فالعجب من اختلاف القوم إذ زعموا أن أبي بكر استخلفه النبي صلىاللهعليهوآله ، فلو كان هذا حقا لم يخف على الأنصار فبايعه الناس على الشورى ، ثم جعلها
أبو بكر لعمر برأيه خاصة ، ثم جعلها عمر برأيه شورى بين ستة ، فهذا العجب من
اختلافهم ، والدليل على ما لا أحب أن أذكر قول هؤلاء الرهط الذين قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله وهو عنهم راض ، فكيف يأمر بقتل قوم رضي الله عنهم ورسوله؟!. إن هذا الأمر عجيب ، ولم
يكونوا لولاية أحد منهم أكره منهم لولايتي! كانوا يسمعون وأنا أحاج أبا بكر وأنا
أقول : يا معشر قريش! أنا أحق بهذا الأمر منكم ، ما كان منكم من يقرأ القرآن ،
ويعرف السنة ، ويدين دين الحق ، وإنما حجتي أني ولي هذا الأمر من دون قريش ، أن نبي الله
صلىاللهعليهوآله قال : الولاء لمن أعتق ، فجاء رسول الله صلىاللهعليهوآله بعتق الرقاب من النار ، وأعتقها من الرق ، فكان للنبي صلىاللهعليهوآله ولاء هذه
__________________
الأمة ، وكان لي
بعده ما كان له ، فما جاز لقريش من فضلها عليها بالنبي صلىاللهعليهوآله جاز لبني هاشم على قريش ، وجاز لي على بني هاشم ، بقول النبي صلىاللهعليهوآله يوم غدير خم : من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، إلا أن تدعي
قريش فضلها على العرب بغير النبي صلىاللهعليهوآله ، فإن شاءوا فليقولوا ذلك ، فخشي القوم إن أنا وليت عليهم
أن آخذ بأنفاسهم ، وأعترض في حلوقهم ، ولا يكون لهم في الأمر نصيب ، فأجمعوا على
إجماع رجل واحد منهم حتى صرفوا الولاية عني إلى عثمان رجاء أن ينالوها ويتداولوها
فيما بينهم ، فبينا هم كذلك إذ نادى مناد لا يدرى من هو ـ وأظنه جنيا ـ فأسمع أهل
المدينة ليلة بايعوا عثمان فقال :
يا ناعي الإسلام
قم فانعه
|
|
قد مات عرف وبدا
منكر
|
ما لقريش لا علا
كعبها
|
|
من قدموا اليوم
ومن أخروا
|
إن عليا هو أولى
به
|
|
منه فولوه ولا
تنكروا
|
فكان لهم في ذلك
عبرة ، ولو لا أن العامة قد علمت بذلك لم أذكره ، فدعوني إلى بيعة عثمان فبايعت
مستكرها ، وصبرت محتسبا ، وعلمت أهل القنوت أن يقولوا : اللهم لك أخلصت
القلوب ، وإليك شخصت الأبصار ، وأنت دعيت بالألسن ، وإليك تحوكم في الأعمال ، فـ ( افْتَحْ
بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ ) ، اللهم إنا نشكو إليك غيبة نبينا ، وكثرة عدونا ، وقلة
عددنا ، وهواننا على الناس ، وشدة الزمان ، ووقوع الفتن بنا ، اللهم ففرج ذلك بعدل
تظهره ، وسلطان حق تعرفه.
فقال عبد الرحمن
بن عوف : يا ابن أبي طالب! إنك على هذا الأمر لحريص؟!.
فقلت : لست عليه
حريصا ، و إنما أطلب ميراث رسول الله صلى الله
__________________
عليه وآله وحقه ،
وإن ولاء أمته لي من بعده ، وأنتم أحرص عليه مني إذ تحولون بيني وبينه ، وتصرفون وجهي دونه بالسيف
، اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم قطعوا رحمي وأضاعوا أيامي ، ودفعوا
حقي ، وصغروا قدري وعظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي حقا كنت أولى به
منهم ، فاستلبونيه.
ثم قال : اصبر
مغموما أو مت متأسفا ، وايم الله لو استطاعوا أن يدفعوا قرابتي كما قطعوا سببي
فعلوا ، ولكنهم لا يجدون إلى ذلك سبيلا ، إنما حقي على هذه الأمة كرجل له حق على
قوم إلى أجل معلوم ، فإن أحسنوا وعجلوا له حقه قبله حامدا ، وإن أخروه إلى أجله
أخذه غير حامد ، وليس يعاب المرء بتأخير حقه ، إنما يعاب من أخذ ما ليس له ، وقد
كان رسول الله صلىاللهعليهوآله عهد إلي عهدا فقال : يا ابن أبي طالب! لك ولايتي فإن ولوك في
عافية ورجعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم ، وإن اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه ،
فإن الله سيجعل لك مخرجا ، فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا معي مساعد إلا أهل
بيتي ، فضننت بهم عن الهلاك ، ولو كان بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله عمي حمزة وأخي جعفر لم أبايع كرها ، ولكنني منيت
برجلين حديثي عهد بالإسلام ، العباس وعقيل ، فضننت بأهل بيتي عن الهلاك ، فأغضيت عيني على
القذى ، وتجرعت
__________________
ريقي على الشجا ،
وصبرت على أمر من العلقم ، وآلم للقلب من حز الشفار .
وأما أمر عثمان
فكأنه علم من القرون الأولى ( عِلْمُها عِنْدَ
رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى ) خذله أهل بدر
وقتله أهل مصر ، والله ما أمرت ولا نهيت ولو أنني أمرت كنت قاتلا ،
ولو أني نهيت كنت ناصرا ، وكان الأمر لا ينفع فيه العيان ولا يشفي
فيه الخبر ، غير أن من نصره لا يستطيع أن يقول خذله من أنا خير منه ،
ولا يستطيع من خذله أن يقول نصره من هو خير مني ، وأنا جامع أمره : استأثر فأساء
الأثرة ، وجزعتم فأسأتم الجزع ، والله يحكم بينكم وبينه ، والله ما
يلزمني في دم عثمان ثلمة ما كنت إلا رجلا من المسلمين المهاجرين في بيتي فلما
قتلتموه أتيتموني تبايعوني ، فأبيت عليكم وأبيتم علي ، فقبضت يدي فبسطتموها ،
وبسطتها فمددتموها ، ثم تداككتم علي تداك الإبل الهيم على حياضها يوم
ورودها ، حتى ظننت أنكم قاتلي ، وأن بعضكم قاتل لبعض ، حتى
__________________
انقطعت النعل ،
وسقط الرداء ، ووطئ الضعيف ، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن حمل إليها الصغير
وهدج إليها الكبير ، وتحامل إليها العليل ، وحسرت لها الكعاب .
فقالوا : بايعنا
على ما بويع عليه أبو بكر وعمر ، فإنا لا نجد غيرك ولا نرضى إلا بك ، فبايعنا لا
نفترق ولا نختلف ، فبايعتكم على كتاب الله وسنة نبيه صلىاللهعليهوآله ، ودعوت الناس إلى بيعتي ، فمن بايعني طائعا قبلت منه ،
ومن أبى تركته ، فكان أول من بايعني طلحة والزبير ، فقالا : نبايعك على أنا شركاؤك
في الأمر. فقلت : لا ، ولكنكما شركائي في القوة ، وعوناي في العجز. فبايعاني على
هذا الأمر ولو أبيا لم أكرههما كما لم أكره غيرهما ، وكان طلحة يرجو اليمن والزبير
يرجو العراق ، فلما علما أني غير موليهما استأذناني للعمرة يريدان الغدر ، فأتيا
عائشة واستخفاها مع كل شيء في نفسها علي ، والنساء نواقص الإيمان ، نواقص العقول ،
نواقص الحظوظ ، فأما نقصان إيمانهن فقعودهن عن الصلاة والصيام في أيام حيضهن ،
وأما نقصان عقولهن فلا شهادة لهن إلا في الدين وشهادة امرأتين برجل ، وأما نقصان
حظوظهن فمواريثهن على الأنصاف من مواريث الرجال ، وقادهما عبيد الله بن عامر إلى
البصرة ، وضمن لهما الأموال والرجال ، فبينما هما يقودانها إذ هي تقودهما ،
فاتخذاها فئة يقاتلان دونها ، فأي خطيئة أعظم مما أتيا إخراجهما زوجة رسول الله صلىاللهعليهوآله من بيتها ، فكشفا عنها حجابا ستره الله عليها ، وصانا حلائلهما في بيوتهما
ولا أنصفا الله ولا رسوله من أنفسهما ،
__________________
ثلاث خصال مرجعها
على الناس ، قال الله تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ) ، وقال : ( فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما
يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ ) ، وقال : ( لا يَحِيقُ الْمَكْرُ
السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ) فقد بغيا علي ، ونكثا بيعتي ، ومكرا بي ، فمنيت بأطوع
الناس في الناس عائشة بنت أبي بكر ، وبأشجع الناس الزبير ، وبأخصم الناس طلحة ، وأعانهم علي يعلى بن
منبه بأصوع الدنانير ، والله لئن استقام أمري لأجعلن ماله فيئا
للمسلمين ، ثم أتوا البصرة وأهلها مجتمعون على بيعتي وطاعتي ، وبها شيعتي خزان بيت
مال الله ومال المسلمين ، فدعوا الناس إلى معصيتي وإلى نقض بيعتي ، فمن أطاعهم
أكفروه ، ومن عصاهم قتلوه ، فناجزهم حكيم بن جبلة فقتلوها في سبعين رجلا من
عباد أهل البصرة ومخبتيهم يسمون : المثفنين ، كأن راح أكفهم ثفنات الإبل ، وأبى أن
يبايعهم يزيد بن الحارث اليشكري ، فقال : اتقيا الله! إن أولكم قادنا إلى الجنة
فلا يقودنا آخركم إلى النار ، فلا تكلفونا أن نصدق المدعي ونقضي على الغائب ، أما
يميني فشغلها علي بن أبي طالب ببيعتي إياه ، وهذه شمالي فارغة فخذاها إن شئتما ،
فخنق حتى مات ، وقام عبد الله بن حكيم التميمي فقال : يا طلحة! هل تعرف هذا الكتاب؟ قال :
نعم ، هذا كتابي إليك. قال : هل تدري ما فيه؟ قال : اقرأه علي ، فإذا فيه عيب
عثمان ودعاؤه إلى قتله ، فسيره من البصرة ، وأخذوا على عاملي عثمان
__________________
ابن حنيف الأنصاري
غدرا فمثلوا به كل المثلة ، ونتفوا كل شعرة في رأسه ووجهه ، وقتلوا شيعتي ، طائفة
صبرا ، وطائفة غدرا ، وطائفة عضوا بأسيافهم حتى لقوا الله ، فو الله لو لم يقتلوا
منهم إلا رجلا واحدا لحل لي به دماؤهم ودماء ذلك الجيش لرضاهم بقتل من قتل ، دع مع
أنهم قد قتلوا أكثر من العدة التي قد دخلوا بها عليهم ، وقد أدال الله منهم ( فَبُعْداً
لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ، فأما طلحة فرماه مروان بسهم فقتله ، وأما الزبير فذكرته
قول رسول الله صلىاللهعليهوآله : إنك تقاتل عليا (ع) وأنت ظالم له ، وأما عائشة
فإنها كان نهاها رسول الله صلىاللهعليهوآله عن مسيرها فعضت يديها نادمة على ما كان منها. وقد كان طلحة لما نزل ذا قار
قام خطيبا فقال : يا أيها الناس! إنا أخطأنا في عثمان خطيئة ما يخرجنا منها
إلا الطلب بدمه ، وعلي قاتله ، وعليه دمه. وقد نزل دارن مع شكاك اليمن
ونصارى ربيعة ومنافقي مضر ، فلما بلغني قوله وقول كان عن الزبير فيه ، بعثت إليهما
أناشدهما بحق محمد صلىاللهعليهوآله ما أتيتماني وأهل مصر محاصرو عثمان ، فقلتما : اذهب بنا
إلى هذا الرجل فإنا لا نستطيع قتله إلا بك ، لما تعلم أنه سير أبا ذر رحمهالله ، وفتق عمارا ، وآوى الحكم بن أبي العاص ـ وقد طرده رسول الله صلى الله
__________________
عليه وآله وأبو
بكر وعمر ـ واستعمل الفاسق على كتاب الله الوليد بن عقبة ، وسلط خالد بن عرفطة
العذري على كتاب الله يمزق ويخرق ، فقلت : كل هذا قد علمت ولا أرى
قتله يومي هذا ، وأوشك سقاؤه أن يخرج المخض زبدته ، فأقرا بما قلت. وأما قولكما :
إنكما تطلبان بدم عثمان فهذان ابناه عمرو وسعيد فخلوا عنهما يطلبان دم أبيهما ، متى كانت أسد وتيم
أولياء بني أمية؟! فانقطعا عند ذلك.
فقام عمران بن
حصين الخزاعي صاحب رسول الله صلىاللهعليهوآله وهو الذي جاءت عنه الأحاديث ـ وقال : يا هذان لا تخرجان ببيعتكما من طاعة
علي ، ولا تحملانا على نقض بيعته ، فإنها لله رضا ، أما وسعتكما بيوتكما حتى
أتيتما بأم المؤمنين؟! فالعجب لاختلافها إياكما ، ومسيرها معكما ، فكفا عنا
أنفسكما ، وارجعا من حيث جئتما ، فلسنا عبيد من غلب ، ولا أول من سبق ، فهما به ثم
كفا عنه ، وكانت عائشة قد شكت في مسيرها وتعاظمت القتال ، فدعت
كاتبها عبيد الله بن كعب النميري فقالت : اكتب ، من عائشة بنت أبي بكر إلى علي بن
أبي طالب فقال : هذا أمر لا يجري به القلم ، قالت : ولم؟! قال : لأن علي بن أبي
طالب في الإسلام أول ، وله بذلك البداء في الكتاب. فقالت : اكتب ، إلى علي بن أبي
طالب من عائشة بنت أبي بكر ، أما بعد : فإني لست أجهل قرابتك من رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ولا قدمك في الإسلام ، ولا غناك من رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وإنما خرجت مصلحة بين بني لا أريد حربك إن كففت عن هذين
الرجلين .. في كلام لها كثير ، فلم أجبها بحرف ، وأخرت جوابها لقتالها ، فلما قضى
الله لي الحسنى سرت إلى الكوفة واستخلفت عبد الله بن عباس على
__________________
البصرة ، فقدمت
الكوفة وقد اتسقت لي الوجوه كلها إلا الشام ، فأحببت أن أتخذ الحجة ، وأقضي
العذر ، وأخذت بقول الله تعالى : ( وَإِمَّا تَخافَنَّ
مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ ) ، فبعثت جرير بن
عبد الله إلى معاوية معذرا إليه ، متخذا للحجة عليه ، فرد كتابي ، وجحد حقي ، ودفع
بيعتي ، وبعث إلي أن ابعث إلي قتلة عثمان ، فبعثت إليه : ما أنت وقتلة عثمان؟!
أولاده أولى به ، فادخل أنت وهم في طاعتي ثم خاصموا إلي القوم لأحملكم
وإياهم على كتاب الله ، وإلا فهذه خدعة الصبي عن رضاع الملي ، فلما يئس من هذا
الأمر بعث إلي أن اجعل الشام لي حياتك ، فإن حدث بك حادثة عن الموت لم يكن لأحد
علي طاعة ، وإنما أراد بذلك أن يخلع طاعتي من عنقه فأبيت عليه.
فبعث إلي : أن أهل
الحجاز كانوا الحكام على أهل الشام فلما قتلوا عثمان صار أهل الشام الحكام على أهل الحجاز ، فبعثت إليه :
إن كنت صادقا فسم لي رجلا من قريش الشام تحل له الخلافة ، ويقبل في الشورى فإن لم
تجده سميت لك من قريش الحجاز من تحل له الخلافة ، ويقبل في الشورى ، ونظرت إلى أهل
الشام فإذا هم بقية الأحزاب فراش نار وذباب طمع تجمع من كل أوب ممن ينبغي له أن يؤدب ويحمل على السنة
، ليسوا من المهاجرين ولا الأنصار ولا التابعين بإحسان ، فدعوتهم إلى الطاعة
والجماعة فأبوا إلا فراقي وشقاقي ، ثم نهضوا في وجه المسلمين ، ينضحونهم بالنبل ،
ويشجرونهم بالرماح ، فعند ذلك نهضت إليهم ، فلما عضتهم السلاح ، ووجدوا ألم الجراح
رفعوا المصاحف فدعوكم إلى ما فيها ،
__________________
فأنبأتكم أنهم
ليسوا بأهل دين ولا قرآن وإنما رفعوها مكيدة وخديعة ، فامضوا لقتالهم ، فقلتم : اقبل منهم واكففت [
اكفف ] عنهم ، فإنهم إن أجابوا إلى ما في القرآن جامعونا على ما نحن عليه
من الحق ، فقبلت منهم وكففت عنهم ، فكان الصلح بينكم وبينهم على رجلين حكمين
ليحييا ما أحياه القرآن ويميتا ما أماته القرآن ، فاختلف رأيهما واختلف حكمهما ،
فنبذا ما في الكتاب وخالفا ما في القرآن وكانا أهله ، ثم إن طائفة اعتزلت فتركناهم
ما تركونا حتى إذا عاثوا في الأرض يفسدون ويقتلون ، وكان فيمن قتلوه أهل ميرة من
بني أسد ، وقتلوا خباب بن الأرت وابنه وأم ولده ، والحارث بن مرة العبدي ، فبعثت إليهم
داعيا ، فقلت : ادفعوا إلينا قتلة إخواننا ، فقالوا : كلنا قتلتهم ، ثم شدت علينا
خيلهم ورجالهم فصرعهم الله مصارع الظالمين ، فلما كان ذلك من شأنهم أمرتكم أن
تمضوا من فوركم ذلك إلى عدوكم ، فقلتم : كلت سيوفنا ، ونصلت أسنة رماحنا ، وعاد
أكثرها قصيدا فأذن لنا فلنرجع ولنقصد بأحسن عدتنا ،
وإذا نحن رجعنا زدنا في مقاتلتنا عدة من قتل منا حتى إذا أظللتم على النخيلة
أمرتكم أن تلزموا معسكركم ، وأن
__________________
تضموا إليه
نواصيكم ، وأن توطنوا على الجهاد نفوسكم ، ولا تكثروا زيارة أبنائكم ولا نسائكم ، فإن
أصحاب الحرب مصابروها وأهل التشهير فيها ، والذين لا يتوجدون من سهر ليلهم ، ولا ظمإ نهارهم ،
ولا فقدان أولادهم ولا نسائهم ، وأقامت طائفة منكم معدة وطائفة دخلت المصر عاصية ،
فلا من دخل المصر عاد إلي ، ولا من أقام منكم ثبت معي ولا صبر ، فلقد رأيتني وما في عسكري
منكم خمسون رجلا ، فلما رأيت ما أنتم عليه دخلت عليكم فما قدر لكم أن تخرجوا معي
إلى يومكم هذا ، لله أبوكم ألا ترون أي مصر قد افتتحت؟ وأي أطرافكم قد انتقصت؟ وأي مسالحكم ترقى؟ وأي بلادكم تغزى؟ وأنتم
ذوو عدد جم وشوكة شديدة ، وأولو بأس قد كان مخوفا ، لله أنتم! أين تذهبون؟ وأنى
تؤفكون؟.
ألا إن القوم جدوا
وتآسوا وتناصروا ، وإنكم أبيتم وونيتم وتخاذلتم
__________________
وتغاششتم ، ما
أنتم إن بقيتم على ذلك سعداء ، فأنبهوا ـ رحمكم الله ـ نائمكم ، وتحروا لحرب عدوكم ، فقد
أبدت الرغوة عن الصريح ، وأضاء الصبح لذي عينين ، فانتبهوا إنما تقاتلون
الطلقاء وأبناء الطلقاء وأهل الجفاء ، ومن أسلم كرها ، وكان لرسول الله صلىاللهعليهوآله أنفا ، وللإسلام كله حربا ، أعداء السنة والقرآن ، وأهل البدع والأحداث ، ومن
كانت نكايته تتقى وكان على الإسلام وأهله مخوفا ، وأكلة الرشا ، وعبيد
الدنيا ، ولقد أنهي إلي أن ابن النابغة لم يبايع معاوية حتى شرط له أن يؤتيه أتية
هي أعظم مما في يديه من سلطانه ، فصغرت يد هذا البائع دينه بالدنيا ، وخزيت أمانة
هذا المشتري بنصرة فاسق غادر بأموال المسلمين ، وأي سهم لهذا المشتري وقد شرب الخمر ،
وضرب حدا في الإسلام ، وكلكم يعرفه بالفساد في الدنيا ، وإن منهم من لم
يدخل في الإسلام وأهله حتى رضخ له عليه رضيخة ، فهؤلاء قادة القوم ، ومن تركت لكم ذكر مساويه
أكثر وأبور ، وأنتم تعرفونهم بأعيانهم وأسمائهم كانوا على الإسلام ضدا
، ولنبي الله صلىاللهعليهوآله حربا ، وللشيطان حزبا ، لم يتقدم إيمانهم ، ولم يحدث
نفاقهم ، وهؤلاء الذين لو ولوا عليكم لأظهروا فيكم الفخر والتكبر والتسلط بالجبرية
والفساد في الأرض ، وأنتم على ما كان منكم من تواكل وتخاذل خير منهم وأهدى سبيلا ،
منكم الفقهاء والعلماء والفهماء وحملة الكتاب والمتهجدون بالأسحار ، ألا تسخطون
وتنقمون أن ينازعكم الولاية السفهاء البطاة عن الإسلام
__________________
الجفاة فيه؟!
اسمعوا قولي ـ يهدكم الله ـ إذا قلت ، وأطيعوا أمري إذا أمرت ، فو الله لئن
أطعتموني لا تغووا ، وإن عصيتموني لا ترشدوا ، قال الله تعالى : ( أَفَمَنْ
يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ
يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) ، وقال الله تعالى لنبيه صلىاللهعليهوآله : ( إِنَّما أَنْتَ
مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) ، فالهادي من بعد النبي صلىاللهعليهوآله هاد لأمته على ما كان من رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فمن عسى أن يكون الهادي إلا الذي دعاكم إلى الحق وقادكم إلى الهدى ، خذوا
للحرب أهبتها ، وأعدوا لها عدتها ، فقد شبت وأوقدت نارها ، وتجرد لكم
الفاسقون لكيلا ( يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ ) ويغزوا عباد الله
، ألا إنه ليس أولياء الشيطان من أهل الطمع والجفاء أولى بالحق من أهل البر
والإخباث في طاعة ربهم ومناصحة إمامهم ، إني والله لو لقيتهم وحدي
وهم أهل الأرض ما استوحشت منهم ولا باليت ، ولكن أسف يريني ، وجزع يعتريني
من أن يلي هذه الأمة فجارها وسفهاؤها فيتخذون مال الله دولا ، وكتاب الله دغلا ، والفاسقين
حزبا ، والصالحين حربا ، وايم الله لو لا ذلك ما أكثرت تأنيبكم وتحريصهم ، وتركتكم إذا أبيتم حتى ألقاهم
متى حم لي لقاؤهم ،
__________________
فو الله إني لعلى
الحق ، وإنني للشهادة لمحب ، وإني إلى لقاء الله ربي لمشتاق ، ولحسن ثوابه منتظر ، إني نافرتكم فـ ( انْفِرُوا
خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ) ولا تثاقلوا في
الأرض فتعموا بالذل ، وتقروا بالخسف ، ويكون نصيبكم الأخسر ، إن أخا الحرب
اليقظان الأرق إن نام لم تنم عينه ، ومن ضعف أوذي ، ومن كره الجهاد في سبيل الله
كان المغبون المهين ، إني لكم اليوم على ما كنت عليه أمس ولستم لي على ما كنتم
عليه ، من تكونوا ناصريه أخذ بالسهم الأخيب ، والله لو نصرتم الله لنصركم وثبت أقدامكم ، إنه حق
على الله أن ينصر من نصره ويخذل من خذله ، أترون الغلبة لمن صبر بغير نصر وقد يكون
الصبر جبنا ويكون حمية ، وإنما الصبر بالنصر والورود بالصدر ، والبرق بالمطر.
اللهم اجمعنا
وإياهم على الهدى ، وزهدنا وإياهم في الدنيا ، واجعل الآخرة خيرا لنا من الأولى ..
تبيين :
الشغب ـ بالتسكين ـ : تهييج الشر .
__________________
وقال الجوهري :
العلهز ـ بالكسر ـ : طعام كانوا يتخذونه من الدم ووبر البعير في سني المجاعة .
وقال : الهبيد :
حب الحنظل .
والجشب ـ بكسر
الشين ـ الغليظ .
والآجن : المتغير .
والروع ـ بالضم ـ :
القلب والعقل ، ولعله كناية عن أنه لم يكن مظنة أن يفعلوا ذلك لما اجتمع
له من النصوص والفواضل والسوابق ، لأنه عليهالسلام كان يعلم وقوع تلك الأمور ويخبر بها قبل وقوعها.
ويقال : خزمت البعير
بالخزامة وهي حلقة من شعر تجعل في وترة أنفه يشد فيها الزمام ويقال لكل
مثقوب : مخزوم ، ذكره الجوهري .
وقال : انثال عليه
الناس من كل وجه : انصبوا .
قوله عليهالسلام : وظننت .. أي علمت ، كما ورد كثيرا في الآيات بهذا المعنى ، أو المعنى :
إني ظننت أن الناس يرونني أولى وأحق ويعاونونني على
__________________
منازعتهم.
وقوله عليهالسلام : تقارب .. أي لم يبالغ في معاندة الحق بعد غصب الخلافة حيلة وخديعة ، لأنه
كان يستقبل تارة ويعتذر إليه عليهالسلام أخرى ، ويرجع إليه في الأمور ليتمشى أمره ، ويظهر للناس
أنه إنما ولي الأمر لصلاح المسلمين.
قال في النهاية :
فيه سددوا وقاربوا .. أي اقتصدوا في الأمور كلها ، واتركوا الغلو فيها والتقصير ،
يقال : قارب فلان في أموره : إذا اقتصد .
قوله عليهالسلام : لو لا خاصة .. أي محبة أو خلطة خاصة.
والتحريش :
الإغراء بين القوم .
وهذا الخبر يدل
على أن خولة إنما سبيت في حياة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فلا تبقى للمخالفين فيها شبهة ، وقد مر الكلام فيه وسيأتي .
والنعي : خبر
الموت .
وقوله عليهالسلام : لا علا كعبها .. جملة دعائية. قال في النهاية : .. في حديث قيلة : والله لا
يزال كعبك عاليا .. هو دعاء لها بالشرف والعلو .
قوله عليهالسلام : وأضاعوا أيامي .. أي ضيعوا ولم يلتفتوا إلى أيامي المشهورة التي نصرت فيها الدين ووقيت فيها المسلمين ، وفي
بعض النسخ :
__________________
بالذال المعجمة من
الإذاعة بمعنى الإفشاء ، فالمراد بالأيام أيام مظلوميته عليهالسلام ، ولعله تصحيف ، والظاهر : واكفئوا إنائي أو أصغوا إنائي كما مر .
قوله عليهالسلام : فكأنه علم .. إشارة إلى ما ذكره تعالى في قصة فرعون إنه قال لموسى عليهالسلام : ( فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى ) ، والمشهور في
تفسيره أنه سئل عن حالهم بعد موتهم من السعادة والشقاوة ، فقال موسى : ( عِلْمُها
عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى ) أي إنه غيب لا
يعلمه إلا الله ، وإنما أنا عبد ملك لا أعلم منه إلا ما أخبرني به ، فمراده عليهالسلام هنا أن أمر عثمان في الآخرة وما ترتب على أعماله الشنيعة في علمه تعالى وهو
أعلم بذلك ، وإنما عبر كذلك للمصلحة ، أو المعنى أن أمره كان شبيها بأمور وقعت على
القرون الأولى كقارون.
قوله عليهالسلام : لا ينفع فيه العيان .. لعل المعنى أن أمره كان أمرا مشتبها على من عاين
الأمر وعلى من سمع الخبر فلا يدري كيف وقع ، أو اشتبه على أكثر الناس إنه هل كان قتله حقا أو
باطلا.
والثلمة ـ بالضم ـ
: الخلل في الحائط وغيره .
قوله عليهالسلام : فئة يقاتلان دونها .. لعل المراد بها هنا المرجع ، من فاء إذا رجع ، ولا يبعد أن
يكون قبة ـ بالقاف والباء الموحدة المشددة أو بالقاف
__________________
والنون المشددة ـ وهي
بالضم ـ : الجبل الصغير وقلة الجبل ، والمنفرد المستطيل في السماء أو الجبل السهل
المستوي المنبسط على الأرض .
وقوله عليهالسلام : ثلاث خصال .. استئناف كلام.
قوله عليهالسلام : بأطوع الناس .. أي إنها لقلة عقلها كانت تطيع الناس في كل باطل ، أو على
بناء المفعول .. أي كان الناس يطيعونها في كل ما تريد ، والأول أظهر لفظا ،
والثاني معنى.
والأنجع : الأنفع
، والذي أثر كلامه أكثر ، أو تدبيره أوفر ، قال في القاموس : نجع الطعام ـ كمنع ـ نجوعا
: هنأ أكله ، والعلف في الدابة والوعظ والخطاب فيه : دخل فأثر كأنجع ..
وانتجع : طلب الكلأ في موضعه ، وفلانا :
أتاه طالبا معروفه ، وفي بعض النسخ : وبأشجع الناس.
والمناجزة في
الحرب : المبادرة والمقاتلة .
والراح ـ جمع
الراحة ـ وهي الكف ، ولعل المراد بها هنا بطونها.
والثفنة ـ بكسر
الفاء : واحدة ثفنات البعير ـ وهي ما يقع على الأرض من أعضائه إذا استناخ وغلظ
كالركبتين وغيرهما .
قوله عليهالسلام : الفاسق على كتاب الله .. أي الذي سماه الله في كتابه
__________________
فاسقا ، في قوله
تعالى : ( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً
.. ) كما مر مرارا.
وعرفطة ـ بضم
العين وسكون الراء وضم الفاء ـ.
والعذري .. نسبة
إلى جدته العليا : عذرة بن سعد.
قوله عليهالسلام : وأوشك سقاءه .. لعله مثل.
والمخض : تحريك
السقاء الذي فيه اللبن ليخرج ما فيه من الزبد ، والمعنى أنه يفعل بنفسه ما يحصل به المقصود ، أو يفعل
هؤلاء فيه ما يغني عن فعل غيرهم.
قولها : ولا قدمك
.. أي تقدمك في الإسلام وسبقك ، ذكره الجزري .
والغنا ـ بالفتح ـ
النفع : ويقال ما يغني عنك هذا .. أي ما يجدي عنك وما ينفعك . وفي بعض النسخ
بالعين المهملة وهو التعب ، والأول أظهر.
قوله تعالى : ( مِنْ
قَوْمٍ ). أي معاهدين ( خِيانَةً ). أي نقض عهد بأمارات تلوح
لك ( فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ ). أي فاطرح إليهم عهدهم ( عَلى سَواءٍ ) ..
أي على عدل وطريق قصد في العداوة ، ولا تناجزهم الحرب فإنه يكون خيانة
منك ، أو على سواء في الخوف أو العلم بنقض العهد ، وهو في موضع الحال من النابذ
على الوجه الأول .. أي ثابتا على طريق سوي ، أو من المنبوذ إليهم ،
أو
__________________
منهما على غيره ،
ذكره البيضاوي .
قوله عليهالسلام : عن رضاع الملي .. في الروايات الأخر : خدع الصبي عن اللبن ، ولعله هنا عن
الرضاع الملي .. أي عن رضاع يتملأ الصبي منه ، ولعله ـ على ما في النسخ ـ المراد به رضاع اللبن الملي ،
أو الطفل الملي.
والفراش ـ بالفتح
ـ : الطير الذي يلقي نفسه في ضوء السراج .
قوله عليهالسلام : من كل أوب .. أي من جهة ، وفي بعض النسخ :
أدب ـ بالدال المهملة ـ وهو الظرف .
وقال الفيروزآبادي
: نضح فلانا بالنبل : رماه ، وقال : شجره بالرمح : طعنه .
قوله عليهالسلام : وكانا أهله .. أي كانا أهلا لمخالفة القرآن ، ولم يكن مستبعدا منهما.
وعثا يعثو عثوا :
أفسد .
وقال في النهاية :
يقال نصل السهم : إذا خرج منه النصل ، ونصل أيضا ـ : إذا ثبت نصله في الشيء .. فهو
من الأضداد .
__________________
قوله عليهالسلام : وعاد أكثرها قصدا .. قال في القاموس : رمح قصد ككتف ـ وقصيد وأقصاد : متكسر
انتهى. وفي بعض النسخ : وعاد أكثرنا قعيدا .. أي قاعدا عن الحرب عاجزا ،
والقعيد : الجراد لم يستو جناحه ، ولعله تصحيف.
قوله عليهالسلام : ظللتم على النخيلة .. على بناء التفعيل ، وفي بعض النسخ على الإفعال .. أي
أشرفتم ، يقال : أظلك فلان : إذا دنا منك كأنه ألقى عليك ظله فضمن معنى
الإشراف ، ويقال : ظللت أعمل كذا ـ بالكسر ـ : إذا عملته بالنهار ، فيمكن أن يقرأ
على بناء المجرد ، لكن فيه تكلف.
قوله عليهالسلام : نواصيكم .. أي تطيعوا إمامكم في لزوم معسكركم ، فإن الأخذ بالناصية كناية
عن الإطاعة ، وفي بعض النسخ : قواصيكم .. أي تدعوا إلى حضور معسكركم الفرق القاصية
البعيدة عنكم ، ولعله أظهر.
قوله عليهالسلام : وإلى مصالحكم ترقى .. أي تصعد وترفع من بينكم ، أو من المهموز من رقأ الدمع إذا سكن ، ولا يبعد أن
يكون بالزاء مهموزا من الرزء بمعنى النقص فخفف ، وفي بعض النسخ إلى مسالحكم ـ بالسين ـ
..
أي ثغوركم وهو الصواب .. أي يرقى العدو عليها.
__________________
قوله عليهالسلام : تآسوا .. أي اقتدى بعضهم ببعض في التعاون والجد ، وفي بعض النسخ
: بؤسوا ـ بضم الهمزة ـ من البأس ـ بمعنى الشدة في الحرب .
قوله عليهالسلام : فقد أبدت الرغوة .. هذا مثل سائر يضرب لظهور الحق .
__________________
قال الزمخشري في
المستقصى : أبدى الصريح عن الرغوة هذا من مقلوب الكلام ، وأصله
أبدت الرغوة عن الصريح ، كقوله وتحت الرغوة اللبن الصريح. قال عبيد الله بن
زياد لهانئ بن عروة حين سأل عن مسلم بن عقيل ـ وكان متواريا عنه ـ فجحد ثم أقر ، يضرب في ظهور كامن
الأمر.
قوله : أنفا ـ ككتف
أو كصاحب ـ ولعله من الأنفة بمعنى الاستنكاف والتكبر ، والأظهر ألبا ـ باللام والباء ـ بقرينة حربا ،
يقال : هم عليه ألب ـ بالفتح والكسر ـ أي مجتمعون عليه بالظلم والعداوة ، والتأليب
: التحريص والإفساد ، والألب ـ بالفتح ـ : التدبير على العدو من حيث لا يعلم
والطرد الشديد ، والألب والحرب كثيرا ما يذكران معا ، وعلى التقديرين لا
بد من تجوز في اللام.
وقال الجوهري : شببت النار
والحرب أشبها شبا وشبوبا : إذا أوقدتهما.
قوله عليهالسلام : ولكن أسف يبريني .. أي يهزلني ، من بريت السهم أو ينبريني من
انبرى له أي اعترض ، أو يريني من ورى القيح جوفه : أفسده ، وفلان فلانا أصاب
رئته ، أو يريبني من أربيته .. أي زدته يعني يزيدني هما ،
__________________
وكانت نسخ المنقول
منه تحتمل الجميع.
والدول ـ جمع دولة
ـ بالضم ـ : هو ما يتداول من المال ، فيكون لقوم دون قوم .
وكتاب الله دغلا
.. أي يخدعون الناس به . والدغل ـ بالتحريك ـ : الفساد والشر والمكر .
وحم له كذا ـ على
المجهول ـ قدر .
والخسف : الذل
والمشقة والنقصان .
والأرق : السهر ،
وقد أرقت ـ بالكسر ـ .. أي سهرت .. فأنا أرق ، ذكره الجوهري .
قوله : بغير نصر
.. أي من الله تعالى ، فينبغي أن يكون الصبر لله تعالى ، فإن الصبر قد يكون لأجل
الجبن عن الفرار وللحمية ، ويمكن أن يقرأ بالبصر بالباء ـ .. أي بالعلم أو البصيرة.
قوله عليهالسلام : وإنما الصبر بالنصر .. أي ما قرن الصبر إلا بالنصر ، وفي بعض النسخ بالعكس
، وهو ظاهر. ويؤيد الأول الفقرتان اللتان بعدهما ، فإن المراد بهما أن الورود على
الماء مقرون بالصدور. والصدر ـ بالفتح ـ الرجوع ،
__________________
وبالتحريك الاسم
منه .
والبرق مقرون
بالمطر .. ويمكن أن يقرأ بالبصر هنا ـ أيضا بالباء ـ ، فتفطن.
وقد مر تفسير بعض
الفقرات وسيأتي شرح بعضها فيما نقلناه وسننقل من خطبه عليهالسلام.
٢ ـ وروى السيد رضياللهعنه في الكتاب المذكور ، عن محمد بن يعقوب الكليني مما رواه في كتاب الرسائل ، عن
علي بن محمد ومحمد بن الحسن وغيرهما ، عن سهل بن زياد ، عن العباس بن عمران ، عن
محمد بن القاسم بن الوليد الصيرفي ، عن المفضل ، عن سنان بن ظريف ، عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : كان أمير المؤمنين عليهالسلام يكتب بهذه الخطبة إلى أكابر أصحابه ، وفيها كلام عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
( بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ، إلى المقربين في الأظلة ، الممتحنين بالبلية ، المسارعين
في الطاعة ، المنشئين في الكرة ، تحية منا إليكم ، سلام عليكم ، أما بعد :
فإن نور البصيرة
روح الحياة الذي لا ينفع إيمان إلا به مع اتباع كلمة الله
والتصديق بها ، فالكلمة من الروح ، والروح من النور ، والنور ( نُورُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) ، فبأيديكم سبب وصل إليكم منا نعمة من الله لا تعقلون
شكرها ،
__________________
خصكم بها
واستخلصكم لها ( وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ
وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ ) إن الله عهد أن لن يحل عقده أحد سواه ، فتسارعوا إلى وفاء
العهد ، وامكثوا في طلب الفضل ، فإن الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر
والفاجر ، وإن الآخرة وعد صادق يقضي فيها ملك قادر ، ألا وإن الأمر كما قد وقع لسبع بقين من
صفر ، تسير فيها الجنود ، يهلك فيها البطل الجحود ، خيولها عراب ، وفرسانها حراب ، ونحن بذلك
واقفون ، ولما ذكرنا منتظرون انتظار المجدب المطر لينبت العشب ،
ويجني الثمر ، دعاني إلى الكتاب إليكم استنقاذكم من العمى ، وإرشادكم باب الهدى ،
فاسلكوا سبيل السلامة ، فإنها جماع الكرامة ، اصطفى الله منهجه ، وبين حججه ، وأرف أرفه ، ووصفه وحده
وجعله نصا كما وصفه ، إن العبد إذا أدخل حفرته يأتيه ملكان أحدهما منكر
__________________
والآخر نكير ،
فأول ما يسألانه عن ربه ، وعن نبيه ، وعن وليه ، فإن أجاب نجا وإن تحير عذباه.
فقال قائل : فما
حال من عرف ربه ، وعرف نبيه ، ولم يعرف وليه؟. فقال : ذلك مذبذب ( لا إِلى
هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ ) قيل : فمن الولي يا رسول الله (ص)؟. فقال : وليكم في هذا
الزمان أنا ، ومن بعدي وصيي ، ومن بعد وصيي لكل زمان حجج الله كيما تقولوا كما قال
الضلال قبلكم حيث فارقهم نبيهم : ( رَبَّنا لَوْ لا
أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ
وَنَخْزى ) ، وإنما كان تمام ضلالتهم جهالتهم بالآيات وهم الأوصياء فأجابهم الله : ( قُلْ
كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ
وَمَنِ اهْتَدى ) وإنما كان تربصهم أن قالوا : نحن في سعة عن معرفة الأوصياء
حتى يعلن إمام علمه ، فالأوصياء قوام عليكم بين الجنة والنار
، لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه ،
لأنهم عرفاء العباد عرفهم الله إياهم عند أخذ المواثيق عليهم بالطاعة لهم ، فوصفهم
في كتابه فقال جل وعز : ( وَعَلَى الْأَعْرافِ
رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ ) وهم الشهداء على الناس ، والنبيون شهداء لهم بأخذه لهم مواثيق
العباد بالطاعة ، وذلك قوله :
( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ
بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ
__________________
كَفَرُوا
وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ
حَدِيثاً ) .
وكذلك أوحى الله إلى
آدم : أن يا آدم! قد انقضت مدتك ، وقضيت نبوتك ، واستكملت أيامك ، وحضر أجلك ، فخذ
النبوة وميراث النبوة واسم الله الأكبر فادفعه إلى ابنك : هبة الله ، فإني لم أدع
الأرض بغير علم يعرف ، فلم تزل الأنبياء والأوصياء يتوارثون ذلك حتى انتهى الأمر إلي ،
وأنا أدفع ذلك إلى علي وصيي ، وهو مني بمنزلة هارون من موسى ، وإن عليا يورث ولده
حيهم عن ميتهم ، فمن سره أن يدخل جنة ربه فليتول عليا والأوصياء من بعده ، وليسلم
لفضلهم ، فإنهم الهداة بعدي ، أعطاهم الله فهمي وعلمي ، فهم عترتي من لحمي ودمي ،
أشكو إلى الله عدوهم والمنكر لهم فضلهم ، والقاطع عنهم صلتي ، فنحن أهل البيت شجرة النبوة
ومعدن الرحمة ومختلف الملائكة ، وموضع الرسالة ، فمثل أهل بيتي في هذه الأمة كمثل
سفينة نوح (ع) من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك ، ومثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له ، فأيما راية خرجت ليست
من أهل بيتي فهي الدجالية ، إن الله اختار لدينه أقواما انتجبهم للقيام عليه
والنصر له ، طهرهم بكلمة الإسلام ، وأوحى إليهم مفترض القرآن ،
والعمل بطاعته في مشارق الأرض ومغاربها ، إن الله خصكم بالإسلام ، واستخلصكم له ،
وذلك لأنه أمتع سلامة ، وأجمع كرامة ، اصطفى الله منهجه ،
__________________
ووصفه ووصف أخلاقه
، ووصل أطنابه من ظاهر علم وباطن حكم ، ذي حلاوة ومرارة ، فمن طهر باطنه رأى عجائب
مناظره في موارده ومصادره ، ومن فطن لما بطن رأى مكنون الفطن وعجائب الأمثال والسنن ، فظاهره أنيق ، وباطنه عميق ،
ولا تفنى غرائبه ، ولا تنقضي عجائبه ، فيه مفاتيح الكلام ، ومصابيح
الظلام ، لا يفتح الخيرات إلا بمفاتحه ، ولا تكشف الظلمات إلا بمصابيحه ، فيه
تفصيل وتوصيل ، وبيان الاسمين الأعلين اللذين جمعا فاجتمعا ، لا يصلحان إلا معا ،
يسميان فيفترقان ، ويوصلان فيجتمعان ، تمامهما في تمام أحدهما ، حواليها نجوم ، وعلى
نجومها نجوم ، ليحمي حماه ، ويرعى مرعاه ، وفي القرآن تبيانه وبيانه وحدوده وأركانه ،
ومواضع مقاديره ، ووزن ميزانه ، ميزان العدل ، وحكم الفصل ، إن دعاة الدين فرقوا بين
الشك واليقين ، وجاءوا بالحق ، بنوا للإسلام بنيانا فأسسوا له أساسا وأركانا ، وجاءوا على ذلك شهودا
بعلامات وأمارات ، فيها كفي المكتفي ، وشفاء المشتفي ، يحمون حماه ، ويرعون
مرعاه ، ويصونون مصونه ، ويفجرون عيونه ، بحب الله وبره وتعظيم أمره وذكره بما يحب
أن يذكر به ، يتواصلون بالولاية ، ويتنازعون بحسن الرعاية ،
__________________
ويتساقون بكأس روية ،
ويتلاقون بحسن التحية ، وأخلاق سنية ، قوام علماء أمناء ، لا يسوق فيهم الريبة ،
ولا تشرع فيهم الغيبة ، فمن استبطن من ذلك شيئا استبطن خلقا سنيا ، فطوبى لذي قلب
سليم أطاع من يهديه ، واجتنب من يرديه ، ويدخل مدخل كرامة ، وينال سبيل سلامة ،
تبصرة لمن بصره ، وطاعة لمن يهديه إلى أفضل الدلالة ، وكشفا لغطاء الجهالة المضلة
المهلكة ، ومن أراد بعد هذا فليظهر بالهدى دينه ، فإن الهدى لا تغلق أبوابه ، وقد فتحت
أسبابه ببرهان وبيان ، لامرئ استنصح وقبل نصيحة من نصح بخضوع وحسن خشوع ، فليقبل امرؤ
بقبولها ، وليحذر قارعة قبل حلولها ، والسلام ..
توضيح
: إلى المقربين في
الأظلة .. أي الذين قربوا إلى الله أو إلينا في عالم الظلال وعالم الأرواح قبل حلولها الأجساد ،
وفي بعض النسخ : المقرين ..
أي أقروا بإمامتنا في عالم الأرواح عند الميثاق.
قوله عليهالسلام : المنشئين .. وفي بعض النسخ : المنشرين .. أي الذين
__________________
ينشرهم الله
ويبعثهم وينشئهم بعد موتهم في الرجعة ، أي هذا كتاب إلى المقربين ، و ( تحية ) حال
، أو خبر ثان ، أو خبر مبتدإ محذوف يفسره قوله : سلام عليكم ، أو ( سلام ) مبتدأ و
( تحية ) خبره ، وفي الأخير بعد.
وقوله عليهالسلام : كلمة الله .. مبتدأ ، وقوله : مع اتباعه .. خبره ، والضمير راجع إلى الروح
أو النور ، أو الضمير راجع إلى المؤمن بقرينة المقام ، وكلمة ( الله ) مفعول
المصدر ، ويؤيده أن في بعض النسخ : مع اتباع .. فيكون حال [ كذا ] عن الضمير
المجرور.
والحاصل ، أن نور
البصيرة ـ وهي الولاية ومعرفة الأئمة (ع) ـ يصير سببا لتعلق روح الإيمان ، وبروح
الإيمان يحصل ويكمل التوحيد الخالص المقبول ، والنور هو الذي مثل الله تعالى به
نوره في القرآن المجيد في آية النور ، والسبب الذي بأيدي الشيعة أيضا الولاية التي هي سبب
التقرب إلى الله والنجاة من عقابه ، أو حججها وبراهينها ، أو علومهم ومعارفهم التي
علموها مواليهم ، والأحكام والشرائع خاصة ، فإنها الوسيلة إلى التقرب إليه تعالى وإلى
حججه عليهمالسلام ، ويؤيده ما في بعض النسخ وهو قوله : إتيان الواجبات ..
وفي بعضها : إتيان واجبتان [ كذا ] [ واجبتين ] ـ أي الكتاب وأهل البيت عليهمالسلام ـ وإنما أتي بصيغة المفرد أولا وثانيا لارتباطهما بل اتحادهما حقيقة ، و (
نعمة ) بدل أو عطف بيان للسبب ، أو خبر الضمير الراجع إليه.
قوله عليهالسلام : أن لن يحل عقده .. لعل المراد عقد الإمامة .. أي ليس للناس أن يحلوا عقدا
وبيعة عقده الله تعالى لي في زمن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وفي بعض النسخ : عقده الأهواء .. أي لا يحل ما عقده الله
تعالى لأحد آراء الناس وأهوائهم.
__________________
وقوله عليهالسلام : كما قد وقع .. لعله إشارة إلى الصلح والرضا بالحكمين ، أو إلى بعض غزوات
الصفين ، فعلى الأول سير الجنود إشارة إلى قتال الخوارج ، وعلى
الثاني إلى ما أراد عليهالسلام من الرجوع إلى قتال معاوية.
والحراب : مصدر
كالمحاربة ، وجمع حربة ، وفيها هنا تجوز ، ويمكن أن يقرأ بالضم والتشديد جمع حارب
، وفي بعض النسخ : أحزاب .. أي أحزاب الشرك الذين حاربوا الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
والأرف ، كغرف جمع
: أرفة ـ بالضم ـ ، وهي الحد بين الأرضين ، وأرف على الأرض تأريفا جعل لها حدودا
وقسمها .
ونص الشيء : أظهره
.
وفي بعض النسخ :
رصا ـ بالراء ـ من قولهم : رص البناء رصا : إذا لصق بعضه ببعض .
قوله عليهالسلام : حيهم .. أي يرث حيهم .
والمراد بالاسمين
الأعلين : كلمتا التوحيد ، أو القرآن وأهل البيت عليهمالسلام ، والمراد بالنجوم أولا الأئمة ، وثانيا الدلائل الدالة
على إمامتهم.
قوله عليهالسلام : ليحيى حماه .. الضمير راجع إلى الإسلام ، وحماه ما حرمه الله فيه ، ومرعاه
ما أحله ، وميزان العدل بيان للميزان ، وحكم الفصل الحكم الذي يفصل بين الحق
والباطل ، ويقال : كفيك من رجل ـ مثلثة حسبك .
__________________
وقوله : يحب الله .. إما
متعلق بيفجرون ، أو به وبما قبله على التنازع ، أو بقوله : يتواصلون.
قوله : ويتساقون
.. تفاعل من السقي. وفي بعض النسخ : يتناسقون ..
أي يتتابعون ، وفي بعضها : يتراشفون من قولهم رشف الماء : مصه .
أقول
: وكانت النسخ التي
عندنا سقيمة فصححناها على ما تيسر من اجتماعها ، وعسى أن تيسر نسخة أخرى أقرب إلى
الصحة ، وبالله التوفيق.
__________________
[١٧] باب
احتجاج
الحسين عليهالسلام على عمر
وهو على المنبر
١
ـ ج : روي أن عمر بن
الخطاب كان يخطب الناس على منبر رسول الله صلىاللهعليهوآله فذكر في خطبته أنه ( أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) فقال له الحسين عليهالسلام من ناحية المسجد : انزل أيها الكذاب عن منبر أبي رسول الله
صلىاللهعليهوآله ، لا منبر أبيك. فقال له عمر : فمنبر أبيك لعمري يا حسين! لا منبر
أبي ، من علمك هذا ؟ أبوك علي بن أبي طالب؟.
فقال له الحسين :
إن أطع أبي فيما أمرني فلعمري إنه لهاد وأنا مهتد به ، وله في رقاب الناس البيعة
على عهد رسول الله (ص) نزل بها جبرئيل عليهالسلام من عند الله تعالى لا ينكرها أحد إلا جاحد بالكتاب ، قد
عرفها الناس بقلوبهم وأنكروها بألسنتهم ، وويل للمنكرين حقنا أهل البيت (ع) ، ما
ذا يلقاهم به محمد رسول الله صلىاللهعليهوآله من إدامة الغضب وشدة العذاب؟!.
__________________
فقال عمر : يا حسين!
من أنكر حق أبيك فعليه لعنة الله! أمرنا الناس فتأمرنا ، ولو أمروا أباك لأطعنا.
فقال له الحسين (ع) : يا ابن الخطاب! فأي الناس أمرك على نفسه قبل أن تؤمر أبا بكر
على نفسك ليؤمرك على الناس بلا حجة من نبي ولا رضى من آل محمد؟! فرضاكم كان لمحمد
عليه وآله السلام رضى ، أو رضى أهله كان له سخطا؟! أما والله لو أن للسان مقالا
يطول تصديقه ، وفعلا يعينه المؤمنون لما تخطيت رقاب آل محمد (ص) ، ترقى منبرهم
وصرت الحاكم عليهم بكتاب نزل فيهم ، لا تعرف معجمه ، ولا تدري تأويله إلا سماع
الآذان ، المخطئ والمصيب عندك سواء ، فجزاك الله جزاك ، وسألك عما أحدثت سؤالا
حفيا.
قال : فنزل عمر
مغضبا ومشى معه أناس من أصحابه حتى أتى باب أمير المؤمنين صلوات الله عليه ،
فاستأذن عليه فأذن له ، فدخل فقال : يا أبا الحسن! ما لقيت من ابنك الحسين؟!
يجهرنا بصوت في مسجد رسول الله (ص) ويحرض علي الطغام وأهل المدينة؟!.
فقال له الحسن عليهالسلام : مثل الحسين ابن النبي صلىاللهعليهوآله يستحث بمن لا حكم له ، أو يقول بالطغام على أهل دينه ، أما والله
ما نلت ما نلت إلا بالطغام ، فلعن الله من حرض الطغام!.
فقال له أمير
المؤمنين عليهالسلام : مهلا يا أبا محمد! فإنك لن تكون قريب الغضب ، ولا لئيم
الحسب ، ولا فيك عروق من السودان ، اسمع كلامي ، ولا
__________________
تعجل بالكلام.
فقال له عمر : يا أبا الحسن! إنهما ليهمان في أنفسهما بما لا يرى بغير الخلافة.
فقال له أمير المؤمنين عليهالسلام : هما أقرب نسبا برسول الله صلىاللهعليهوآله من أبيهما أما فأرضهما ـ يا ابن الخطاب ـ بحقهما يرض عنك من بعدهما.
قال : وما رضاهما يا أبا الحسن؟ قال : رضاهما الرجعة عن الخطيئة ، والتقية عن
المعصية بالتوبة. فقال له عمر : أدب ـ يا أبا الحسن ـ ابنك أن لا يتعاطى السلاطين
الذين هم الحكماء في الأرض. فقال له أمير المؤمنين عليهالسلام : أنا أؤدب أهل المعاصي على معاصيهم ، ومن أخاف عليه الزلة والهلكة ، فأما من
ولده رسول الله (ص) لا يحل أدبه ، فإنه ينتقل إلى أدب خير له منه ، أما فأرضهما يا ابن الخطاب!.
قال : فخرج عمر
فاستقبله عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف ، فقال له عبد الرحمن : يا أبا حفص! ما
صنعت وقد طالت بكما الحجة؟. فقال له عمر :
و هل حجة مع ابن أبي طالب وشبليه؟!. فقال له عثمان : يا ابن الخطاب! هم بنو عبد
مناف الأسمنون والناس عجاف. فقال له عمر : ما أعد ما صرت إليه فخرا
فخرت به ، أبحمقك ؟. فقبض عثمان على مجامع ثيابه ثم جذبه ورده ، ثم قال : يا ابن الخطاب!
كأنك تنكر ما أقول. فدخل بينهما عبد الرحمن بن عوف
__________________
وفرق بينهما ،
وافترق القوم .
بيان :
قوله عليهالسلام : إلا سماع الآذان .. أي لا تعرف معنى الكتاب إلا بما تسمعه الآذان من الناس
، وفي بعض النسخ : الفعلان ـ بصيغة الغيبة ـ أي لا يمكن معرفة الكتاب وتأويله إلا بالسماع ممن
ينتهي عمله إلى الوحي الإلهي.
والحفاوة والحفاية
والإحفاء : الاستقصاء في السؤال .
والتحريض على
القتال : الحث والترغيب والتحريض عليه.
والطغام : الأراذل
.
قوله : ليهمان ..
أي يقصدان أمرا لا يحصل إلا بالخلافة ، فأجاب عليهالسلام بأن الخلافة غير بعيد منهما ، فإن أباهما خليفة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهما أقرب نسبا به صلىاللهعليهوآلهوسلم منه.
قوله عليهالسلام : فإنه ينتقل .. أي يترقى بنفسه في الآداب الحسنة من غير تأديب ، ويحتمل
الاستفهام الإنكاري ، ويؤيده أن في بعض النسخ : ويحك! أأؤدبه؟! فإنه ينتقل ..
والسمن .. كناية
عن وفور المال والشرف ، كما أن العجف .. كناية عن
__________________
عدمهما وقلتهما.
٢
ـ كشف : عن زيد بن علي
، عن أبيه ، أن الحسين بن علي عليهماالسلام أتى عمر بن الخطاب ـ وهو على المنبر يوم الجمعة ـ فقال له
: انزل عن منبر أبي. فبكى عمر ، ثم قال : صدقت يا بني ، منبر أبيك لا منبر أبي!
فقال علي عليهالسلام : ما هو والله عن رأيي. فقال : صدقت! والله ما اتهمتك يا أبا الحسن ،
ثم نزل عن المنبر فأخذه فأجلسه إلى جانبه على المنبر فخطب الناس ـ وهو جالس على
المنبر معه ـ ، ثم قال : أيها الناس! سمعت نبيكم صلىاللهعليهوآله يقول : احفظوني في عترتي وذريتي ، فمن حفظني فيهم حفظه الله ، ألا لعنة الله
على من آذاني فيهم. ثلاثا.
٣
ـ ما : ـ ابن الصلت ،
عن ابن عقدة ، عن محمد بن عيسى الضرير ، عن محمد بن زكريا المكي ، عن كثير بن طارق
، عن زيد .. مثله.
__________________
[١٨] باب
في ذكر ما
كان من حيرة الناس بعد وفاة
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وغصب الخلافة
وظهور جهل
الغاصبين وكفرهم
ورجوعهم
إلى أمير المؤمنين عليهالسلام
وقد أوردنا كثيرا
من ذلك في أبواب الاحتجاج ، ونورد هاهنا أمثالها بأسانيد أخرى لمناسبتها لهذا الكتاب
أيضا ، ولكونها مشتملة على تغييرات وزيادات.
١
ـ إرشاد القلوب : بحذف الإسناد مرفوعا إلى سلمان الفارسي رضياللهعنه قال : كان من البلاء العظيم الذي ابتلى الله عز وجل به
قريشا بعد نبيها صلىاللهعليهوآله ليعرفها أنفسها ويجرح شهادتها على ما ادعته على رسول الله
__________________
صلىاللهعليهوآله بعد وفاته ، ودحض حجتها ، وكشف غطاء ما أسرت في
قلوبها ، وأخرجت ضغائنها لآل رسول الله صلىاللهعليهوآله أجمعين وأزالتهم عن إمامتهم ، وميراث كتاب الله فيهم ، ما
عظمت خطيئته ، وشملت فضيحته ، ووضحت هداية الله فيه لأهل دعوته وورثة نبيه
صلىاللهعليهوآله ، وأنارت به قلوب أوليائهم ، وغمرهم نفعه وأصابهم بركاته : أن ملك الروم لما
بلغه وفاة رسول الله صلىاللهعليهوآله وخبر أمته واختلافهم في الاختيار عليهم ، وتركهم سبيل
هدايتهم ، وادعائهم على رسول الله صلىاللهعليهوآله أنه لم يوص إلى أحد بعد وفاته صلىاللهعليهوآله ، وإهماله إياهم يختاروا لأنفسهم ، وتوليتهم الأمر بعده الأباعد من قومه ، وصرف ذلك
عن أهل بيته وورثته وقرابته ، دعا علماء بلده واستفتاهم فناظرهم في الأمر
الذي ادعته قريش بعد نبيها صلىاللهعليهوآله وفيما جاء به محمد صلىاللهعليهوآله فأجابوه بجوابات من حججهم على أنه محمد صلىاللهعليهوآله ، فسأل أهل مدينته أن يوجههم إلى المدينة لمناظرتهم والاحتجاج عليهم ، فأمر الجاثليق
أن يختار من أصحابه وأساقفته ، فاختار منهم مائة رجل ، فخرجوا يقدمهم جاثليق لهم
قد أقرت العلماء له جميعا بالفضل والعلم ، متبحرا في علمه يخرج
الكلام من تأويله ، ويرد كل فرع
__________________
إلى أصله ، ليس
بالخرق ولا بالنزق ولا بالبليد والرعديد ، ولا النكل ولا الفشل ينصت لمن يتكلم ، ويجيب إذا سئل ، ويصبر إذا منع
، فقدم المدينة بمن معه من خيار أصحابه حتى نزل القوم عن رواحلهم ، فسأل أهل المدينة عمن
أوصى إليه محمد صلىاللهعليهوآله ومن قام مقامه فدلوه على أبي بكر ، فأتوا مسجد رسول الله ،
فدخلوا ، على أبي بكر وهو في حشدة من قريش فيهم عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وخالد بن
الوليد وعثمان بن عفان وأنا في القوم ، فوقفوا عليه فقال زعيم القوم : السلام عليكم .. فردوا عليهالسلام ، فقال :
أرشدونا إلى القائم مقام نبيكم فإنا قوم من الروم ، وإنا على دين المسيح عيسى ابن
مريم عليهماالسلام ، فقدمنا لما بلغنا وفاة نبيكم واختلافكم نسأل عن صحة نبوته
ونسترشد لديننا ، ونتعرف دينكم ، فإن كان أفضل من ديننا دخلنا فيه وسلمنا وقبلنا
الرشد منكم طوعا وأجبناكم إلى دعوة نبيكم (ص) ، وإن يكن على
__________________
خلاف ما جاءت به
الرسل وجاء به عيسى عليهالسلام رجعنا إلى دين المسيح فإن عنده من عهد رأينا فيه أنبياءه ورسله دلالة
ونورا واضحا ، فأيكم صاحب الأمر بعد نبيكم صلىاللهعليهوآله؟
فقال عمر بن
الخطاب : هذا صاحبنا وولي الأمر بعد نبينا.
قال الجاثليق : هو
هذا الشيخ؟!.
فقال : نعم.
فقال : يا شيخ ! أنت القائم
الوصي لمحمد صلىاللهعليهوآله في أمته؟ وأنت العالم المستغني بعلمك مما علمك نبيك من أمر
الأمة وما تحتاج إليه؟.
قال أبو بكر : لا ، ما
أنا بوصي.
قال له : فما أنت؟!
قال عمر : هذا خليفة رسول الله.
قال النصراني :
أنت خليفة رسول الله استخلفك في أمته؟.
قال أبو بكر : لا.
قال : فما هذا
الاسم الذي ابتدعتموه وادعيتموه بعد نبيكم؟!. فإنا قد قرأنا كتب الأنبياء صلوات
الله عليهم فوجدنا الخلافة لا تصلح إلا لنبي من أنبياء الله ، لأن الله تعالى جعل
آدم خليفة في الأرض فرض طاعته على أهل السماء والأرض ، ونوه باسم داود عليهالسلام فقال : ( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي
الْأَرْضِ )
__________________
كيف تسميتم بهذا الاسم؟ ومن
سماك به؟ أنبيك سماك به؟.
قال : لا ، ولكن
تراضوا الناس فولوني واستخلفوني.
فقال : أنت خليفة
قومك لا نبيك ، وقد قلت إن النبي لم يوص إليك ، وقد وجدنا في كتب من سنن الأنبياء ،
أن الله لم يبعث نبيا إلا وله وصي يوصي إليه ، ويحتاج الناس كلهم إلى علمه وهو مستغن عنهم ، وقد زعمت
أنه لم يوص كما أوصت الأنبياء ، وادعيت أشياء لست بأهلها ، وما أراكم إلا وقد
دفعتم نبوة محمد وقد أبطلتم سنن الأنبياء في قومهم.
قال : فالتفت الجاثليق إلى
أصحابه وقال : إن هؤلاء يقولون إن محمدا لم يأتهم بالنبوة وإنما كان أمره بالغلبة
، ولو كان نبيا لأوصى كما أوصت الأنبياء ، وخلف فيهم كما خلفت الأنبياء من الميراث
والعلم ، ولسنا نجد عند القوم أثر ذلك ، ثم التفت كالأسد ، فقال : يا شيخ! أما أنت
فقد أقررت أن محمدا لم يوص إليك ولا استخلفك وإنما تراضوا الناس بك ، ولو رضي
الله عز وجل برضى الخلق واتباعهم لهواهم واختيارهم لأنفسهم ما بعث الله
النبيين مبشرين ومنذرين ، وآتاهم الكتاب والحكمة ليبينوا للناس ما يأتون ويذرون
وما فيه يختلفون : ( لِئَلاَّ يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) فقد دفعتم
النبيين عن رسالاتهم ، واستغنيتم بالجهل من اختيار الناس عن اختيار الله عز وجل
الرسل للعباد ، واختيار الرسل لأمتهم ، ونراكم تعظمون بذلك الفرية على الله عز
__________________
وجل وعلى نبيكم ،
ولا ترضون إلا أن تتسموا بعد ذلك بالخلافة ، وهذا لا يحل إلا لنبي أو وصي نبي ،
وإنما تصح الحجة لكم بتأكيدكم النبوة لنبيكم وأخذكم بسنن الأنبياء في هداهم ، وقد
تغلبتم فلا بد لنا أن نحتج عليكم فيما ادعيتم حتى نعرف سبيل ما تدعون إليه ، ونعرف
الحق فيكم بعد نبيكم ، أصواب ما فعلتم بإيمان أم كفرتم بجهل ؟.
ثم قال : يا شيخ!
أجب.
قال : : فالتفت
أبو بكر إلى أبي عبيدة ليجيب عنه ، فلم يحر جوابا ، ثم التفت الجاثليق إلى أصحابه
فقال : بناء القوم على غير أساس ولا أرى لهم حجة ، أفهمتم؟.
قالوا : بلى.
ثم قال لأبي بكر :
يا شيخ! أسألك؟.
قال : سل.
قال : أخبرني عني
وعنك ما أنت عند الله ، وما أنا عند الله ؟.
قال : أما أنا
فعند نفسي مؤمن ، وما أدري ما أنا عند الله فيما بعد ، وأما أنت فعندي كافر ، وما أدري ما أنت عند
الله؟.
قال الجاثليق :
أما أنت فقد منيت نفسك الكفر بعد الإيمان ، وجهلت مقامك في إيمانك ، أمحق أنت فيه
أم مبطل ، وأما أنا فقد منيتني الإيمان بعد الكفر ، فما أحسن حالي وأسوأ حالك عند نفسك ،
إذ كنت لا توقن بما لك عند الله ، فقد شهدت لي بالفوز والنجاة ، وشهدت لنفسك
بالهلاك والكفر.
__________________
ثم التفت إلى
أصحابه فقال : طيبوا نفسا فقد شهد لكم بالنجاة بعد الكفر ، ثم التفت إلى أبي بكر
فقال : يا شيخ! أين مكانك الساعة من الجنة إذا ادعيت الإيمان ، وأين مكاني من
النار؟!.
قال : فالتفت أبو
بكر إلى عمر وأبو [ أبي ] عبيدة مرة أخرى ليجيبا عنه ، فلم ينطق أحدهما .
قال : ثم قال : ما
أدري أين مكاني وما حالي عند الله؟.
قال الجاثليق : يا
هذا! أخبرني كيف استجزت لنفسك أن تجلس في هذا المجلس وأنت محتاج إلى علم غيرك؟ فهل
في أمة محمد من هو أعلم منك؟.
قال : نعم.
قال : ما أعلمك
وإياهم إلا وقد حملوك أمرا عظيما ، وسفهوا بتقديمهم إياك على من هو أعلم منك ، فإن
كان الذي هو أعلم منك يعجز عما سألتك كعجزك فأنت وهو واحد في دعواكم ، فأرى نبيكم
إن كان نبيا فقد ضيع علم الله عز وجل وعهده وميثاقه الذي أخذه على النبيين من قبله
في إقامة الأوصياء لأمتهم حيث لم يقم وصيا ليتفرغوا إليه فيما تتنازعون في أمر دينكم ،
فدلوني على هذا الذي هو أعلم منكم ، فعساه في العلم أكثر منك في محاورة وجواب
وبيان وما يحتاج إليه من أثر النبوة وسنن الأنبياء ، ولقد ظلمك القوم وظلموا
أنفسهم فيك.
قال سلمان رضياللهعنه : فلما رأيت ما نزل بالقوم من البهت والحيرة والذل
__________________
والصغار ، وما حل
بدين محمد (ص) ، وما نزل بالقوم من الحزن ، نهضت ـ لا أعقل أين أضع قدمي ـ إلى باب
أمير المؤمنين عليهالسلام ، فدققت عليه الباب ، فخرج وهو يقول : ما دهاك
يا سلمان؟!. قال : قلت : هلك دين محمد صلىاللهعليهوآله ، وهلك الإسلام بعد محمد صلىاللهعليهوآله ، وظهر أهل الكفر على دينه وأصحابه بالحجة ، فأدرك ـ يا
أمير المؤمنين! ـ دين محمد صلىاللهعليهوآله والقوم قد ورد عليهم ما لا طاقة لهم به ولا بد ولا حيلة ،
وأنت اليوم مفرج كربها ، وكاشف بلواها ، وصاحب ميسمها وتاجها ، ومصباح
ظلمها ، ومفتاح مبهمها.
قال : فقال علي عليهالسلام و ما ذاك؟.
قال : قلت : قد
قدم قوم من ملك الروم في مائة رجل من أشراف الناس من قومهم يقدمهم جاثليق
لهم لم أر مثله ، يورد الكلام على معانيه ، ويصرفه على تأويله ، ويؤكد حجته
ويحكم ابتداءه ، لم أسمع مثل حجته ولا سرعة جوابه من كنوز علمه ، فأتى أبا بكر ـ وهو
في جماعة ـ فسأله عن مقامه ووصية رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فأبطل دعواه بالخلافة ، وغلبهم بادعائهم تخليفهم مقامه ، فأورد على أبي
بكر مسألة أخرجه بها عن إيمانه ، وألزمه الكفر والشك في دينه ، فعلتهم لذلك ذلة وخضوع وحيرة
، فأدرك ـ يا أمير المؤمنين ـ دين محمد ،
__________________
فقد ورد عليهم ما
لا طاقة لهم به .
فنهض أمير
المؤمنين عليهالسلام معي حتى أتينا القوم وقد ألبسوا الذلة والمهانة والصغار
والحيرة ، فسلم علي عليهالسلام ثم جلس ، فقال : يا نصراني! أقبل علي بوجهك واقصدني
بمسائلك فعندي جواب ما يحتاج الناس إليه فيما يأتون ويذرون ،
وبالله التوفيق.
قال : فتحول
النصراني إليه ، وقال : يا شاب! إنا وجدنا في كتاب الأنبياء أن الله لم يبعث نبيا
قط إلا وكان له وصيا [ كذا ] [ وصي ] يقوم مقامه ، وقد بلغنا اختلاف عن أمة محمد
في مقام نبوته ، وادعاء قريش على الأنصار وادعاء الأنصار على قريش ، واختيارهم
لأنفسهم ، فأقدمنا ملكنا وفدا ، وقد اختارنا لنبحث عن دين محمد صلىاللهعليهوآله ونعرف سنن الأنبياء فيه والاستماع من قومه الذين ادعوا مقامه ، أحق ذلك أم باطل؟
قد كذبوا عليه كما كذبت الأمم بعد أنبيائها على نبيها ، ودفعت الأوصياء عن حقها ،
فإنا وجدنا قوم موسى عليهالسلام بعده عكفوا على العجل ودفعوا هارون عن وصيته ، واختاروا ما
أنتم عليه ، وكذلك : ( سُنَّةَ اللهِ فِي
الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً ) ، فقدمنا فأرشدنا
القوم إلى هذا الشيخ ، فادعى مقامه والأمر له من بعده ، فسألنا عن الوصية
إليه عن نبيه (ص) ؟ فلم يعرفها ، وسألناه عن قرابته منه إذ كانت الدعوة في
إبراهيم عليهالسلام فيما سبقت في الذرية في إمامته أنه لا ينالها إلا ذرية ( بَعْضُها
مِنْ بَعْضٍ ) ،
__________________
ولا ينالها إلا
مصطفى مطهر ، فأردنا أن نتبين السنة من محمد صلىاللهعليهوآله وما جاء به النبيون عليهمالسلام ، واختلاف الأمة على الوصي كما اختلفت على من مضى من
الأوصياء ، ومعرفة العترة فيهم؟ ، فإن وجدنا لهذا الرسول وصيا وقائما بعده وعنده
علم ما يحتاج إليه الناس ، ويجيب بجوابات بينة ، ويخبر عن أسباب البلايا والمنايا
وفصل الخطاب والأنساب ، وما يهبط من العلم في ليلة القدر في كل سنة ، وما ينزل به الملائكة
والروح إلى الأوصياء صدقنا بنبوته ، وأجبنا دعوته ، واقتدينا بوصيته ، وآمنا به
وبكتابه ، وبما جاءت به الرسل من قبله ، وإن يكن غير ذلك رجعنا إلى
ديننا وعلمنا أن محمدا لم يبعث ، وقد سألنا هذا الشيخ فلم نجد عنده تصحيح نبوة محمد صلىاللهعليهوآله ، وإنما ادعوا له وكان جبارا غلب على قومه بالقهر ، وملكهم ولم يكن عنده أثر النبوة ،
ولا ما جاءت به الأنبياء عليهمالسلام قبله ، وأنه مضى وتركهم بهما يغلب بعضهم بعضا ، وردهم
جاهلية جهلاء مثل ما كانوا يختارون بآرائهم لأنفسهم .. أي دين أحبوا ، وأي ملك
أرادوا ، وأخرجوا محمدا صلىاللهعليهوآله من سبيل الأنبياء ، وجهلوه في رسالته ، ودفعوا وصيته ، وزعموا أن
الجاهل يقوم مقام العالم ، وفي ذلك هلاك الحرث والنسل وظهور الفساد في الأرض في
البر والبحر ، وحاشا الله عز وجل أن يبعث نبيا إلا مطهرا مسددا مصطفى على العالمين
، وإن العالم أمير على الجاهل أبدا إلى يوم القيامة ، فسألته عن اسمه فقال الذي
إلى جنبه : هذا خليفة رسول
__________________
الله. فقلت : إن هذا الاسم لا
نعرفه لأحد بعد النبي إلا أن يكون لغة من اللغات ، فأما الخلافة
فلا تصلح إلا لآدم وداود عليهماالسلام ، والسنة فيها للأنبياء والأوصياء ، وإنكم لتعظمون الفرية على الله وعلى
رسوله ، فانتفى من العلم ، واعتذر من الاسم ، وقال : إنما تراضوا الناس بي فسموني
خليفة ، وفي الأمة من هو أعلم مني ، فاكتفينا بما حكم على نفسه وعلى من اختاره ،
فقدمت مسترشدا وباحثا عن الحق ، فإن وضح لي اتبعته ولم تأخذني في
الله لومة لائم ، فهل عندك أيها الشاب شفاء لما في صدورنا ؟.
قال علي عليهالسلام : بلى! عندي شفاء لصدوركم ، وضياء لقلوبكم ، وشرح لما أنتم عليه ، وبيان لا
يختلجكم الشك معه ، وإخبار عن أموركم ، وبرهان لدلالتكم ، فأقبل علي بوجهك ، وفرغ لي
مسامع قلبك ، وأحضرني ذهنك ، وع ما أقول لك : إن الله بمنه وطوله وفضله ـ له الحمد
كثيرا دائما ـ قد صدق وعده ، وأعز دينه ، ونصر محمدا عبده ورسوله ، وهزم الأحزاب
وحده ، فـ ( لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ، إنه تبارك وتعالى اختص محمدا صلىاللهعليهوآله واصطفاه وهداه ، وانتجبه لرسالته إلى الناس كافة برحمته ،
وإلى الثقلين برأفته ، وفرض طاعته على أهل السماء والأرض ، وجعله إماما لمن
قبله من الرسل ، وخاتما لمن بعده من الخلق ، وورثه مواريث الأنبياء ، وأعطاه
مقاليد الدنيا والآخرة ،
__________________
واتخذه نبيا
ورسولا وحبيبا وإماما ، ودفعه إليه ، وقربه يمين عرشه بحيث لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل ، فأوحى الله إليه في وحيه ما أوحى ( ما كَذَبَ
الْفُؤادُ ما رَأى ) ، وأنزل علاماته على الأنبياء ، وأخذ ميثاقهم : (
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ) .
قال : ثم ( قالَ أَأَقْرَرْتُمْ
وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا
مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) وقال : ( يَجِدُونَهُ
مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ
الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) فما مضى صلىاللهعليهوآله حتى أتم الله مقامه ، وأعطاه وسيلته ، ورفع له درجته ، فلن يذكر الله تعالى إلا كان معه
مقرونا ، وفرض دينه ، ووصل طاعته بطاعته ، فقال : ( مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) وقال : ( ما آتاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) فأبلغ عن الله عز
وجل رسالته ، وأوضح برهان ولايته ، وأحكم آياته ، وشرع شرائعه وأحكامه ، ودلهم على
سبيل نجاتهم ، وباب هدايته
__________________
وحكمته ، وكذلك
بشر به النبيون صلى الله عليهم قبله ، وبشر به عيسى روح الله وكلمته إذ يقول في
الإنجيل : أحمد العربي النبي الأمي صاحب الجمل الأحمر والقضيب ، وأقام لأمته وصيه
فيهم ، وعيبة علمه ، وموضع سره ، ومحكم آيات كتابه ، وتاليه حق تلاوته ، وباب حطته
، ووارث كتابه ، وخلفه مع كتاب الله فيهم ، وأخذ فيهم الحجة ، فقال صلىاللهعليهوآله : قد خلفت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وهما الثقلان : كتاب الله
الثقل الأكبر حبل ممدود من السماء إلى الأرض سبب بأيديكم وسبب بيد الله عز وجل ،
وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فلا تقدموهم فتمرقوا ولا تأخذوا عن
غيرهم فتعطبوا ، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم ، وأنا وصيه والقائم بتأويل كتابه ،
والعارف بحلاله وحرامه ، وبمحكمه ومتشابهه ، وناسخه ومنسوخه ، وأمثاله وعبره
وتصاريفه ، وعندي علم ما يحتاج إليه أمته من بعده ، وكل قائم وملتو ، وعندي علم
البلايا والمنايا والوصايا والأنساب وفصل الخطاب ، ومولد الإسلام ، ومولد الكفر ،
وصاحب الكرات ، ودولة الدول ، فاسألني عما يكون إلى يوم القيامة وعما كان على عهد
عيسى عليهالسلام منذ بعثه الله تبارك وتعالى ، وعن كل وصي ، وكل فئة تضل
مائة وتهدي مائة ، وعن سائقها وقائدها وناعقها إلى يوم القيامة ، وكل آية نزلت في
كتاب الله في ليل نزلت أم نهار ، وعن التوراة والإنجيل والقرآن العظيم ، فإنه صلىاللهعليهوآله لم يكتمني من علمه شيئا ولا ما تحتاج إليه الأمم من أهل التوراة والإنجيل ،
وأصناف الملحدين وأحوال
__________________
المخالفين ،
وأديان المختلفين ، وكان صلىاللهعليهوآله خاتم النبيين بعدهم ، وعليهم فرضت طاعته والإيمان به
والنصرة له ، تجدون ذلك مكتوبا في التوراة والإنجيل والزبور ، وفي ( الصُّحُفِ
الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى ) ، ولم يكن ليضيع عهد الله في خلقه ويترك
الأمة قائهين بعده ، وكيف يكون ذلك وقد وصفه الله بالرأفة والرحمة
والعفو والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة القسطاس المستقيم؟!.
وإن الله عز وجل
أوحى إليه كما أوحى ( إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ
مِنْ بَعْدِهِ ) ، وكما أوحى إلى موسى عليهالسلام وعيسى عليهالسلام فصدق الله وبلغ رسالته وأنا على ذلك من الشاهدين ، وقد قال الله تبارك
وتعالى : ( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ
بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ) وقال : و ( كَفى
بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) وقد صدقه الله
وأعطاه الوسيلة إليه وإلى الله عز وجل ، فقال : ( يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) ، فنحن الصادقون ، وأنا أخوه في
الدنيا والآخرة ، والشاهد منه عليهم بعده ، وأنا وسيلته بينه وبين أمته ، وأنا وولدي
ورثته ، وأنا وهم كسفينة
__________________
نوح في قومه من
ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق ، وأنا وهم كباب حطة في بني إسرائيل ، وأنا بمنزلة هارون من
موسى إلا أنه لا نبي بعده ، وأنا الشاهد منه في الدنيا والآخرة ، ورسول الله على
بينة من ربه ويعرض طاعتي ومحبتي بين أهل الإيمان وأهل الكفر وأهل النفاق ، فمن أحبني كان مؤمنا
، ومن أبغضني كان كافرا ، والله ما كذبت ولا كذبت ولا كذب بي ، ولا ضللت ولا
ضل بي ، وإني لعلى بينة بينها ربي عز وجل لنبيه صلىاللهعليهوآله فبينها لي ، فاسألوني عما كان وعما يكون وعما هو كائن إلى
يوم القيامة.
قال : فالتفت
الجاثليق إلى أصحابه وقال : هذا هو والله الناطق بالعلم والقدرة ، الفاتق الراتق ، ونرجو
من الله تعالى أن نكون صادفنا حظنا ، ونور هدايتنا ، وهذه والله حجج الأوصياء من
الأنبياء على قومهم.
قال : فالتفت إلى
علي عليهالسلام : فقال : كيف عدل بك القوم عن قصدهم إياك ، وادعوا ما أنت
أولى به منهم؟! ألا وقد وقع القول عليهم ، قصروا في أنفسهم وما ضر ذلك
الأوصياء مع ما أغناهم الله عز وجل به من العلم واستحقاق مقامات رسله ، فأخبرني ـ أيها
العالم الحكيم ـ عني وعنك ما
__________________
أنت عند الله؟ وما
أنا عند الله؟.
قال علي عليهالسلام : أما أنا فعند الله عز وجل مؤمن وعند نفسي مؤمن متيقن بفضله ورحمته
وهدايته ونعمه علي ، وكذلك أخذ الله جل جلاله ميثاقي على الإيمان وهداني لمعرفته لا أشك في ذلك
ولا أرتاب ، ولم أزل على ما أخذ الله تعالى علي من الميثاق ، ولم أبدل ولم أغير وذلك بمن الله ورحمته
وصنعه ، أنا في الجنة لا أشك في ذلك ولا أرتاب ، لم أزل على ما أخذ الله تعالى علي من الميثاق ،
فإن الشك شرك لما أعطاني الله من اليقين والبينة ، وأما أنت فعند الله كافر بجحودك
الميثاق والإقرار الذي أخذه الله عليك بعد خروجك من بطن أمك وبلوغك العقل ومعرفة
التمييز للجيد والرديء والخير والشر ، وإقرارك بالرسل ، وجحودك لما
أنزل الله في الإنجيل من أخبار النبيين عليهمالسلام ما دمت على هذه الحالة ، كنت في النار لا محالة.
قال : فأخبرني عن
مكاني من النار ومكانك من الجنة؟.
فقال علي عليهالسلام : لم أدخلها فأعرف مكاني من الجنة ومكانك من النار ، ولكن أعرفك ذلك من كتاب الله عز
وجل : إن الله جل جلاله بعث محمدا صلىاللهعليهوآله بالحق ، وأنزل عليه كتابا : ( لا يَأْتِيهِ
الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
__________________
وَلا
مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) أحكم فيه جميع
علمه ، وأخبر رسول الله صلىاللهعليهوآله عن الجنة بدرجاتها ومنازلها ، وقسم الله جل جلاله الجنان
بين خلقه لكل عامل منهم ثوابا منها ، وأحلهم على قدر فضائلهم في الأعمال والإيمان
، فصدقنا الله وعرفنا منازل الأبرار ، وكذلك منازل الفجار ، وما أعد لهم من العذاب في النار ، وقال : ( لَها
سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) فمن مات على كفره
وفسوقه وشركه ونفاقه وظلمه فـ ( لِكُلِّ بابٍ
مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) ، وقد قال جل جلاله : ( إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) وكان رسول الله صلىاللهعليهوآله هو المتوسم ، وأنا والأئمة من ذريتي المتوسمون إلى يوم
القيامة.
قال : فالتفت
الجاثليق إلى أصحابه وقال : قد أصبتم إرادتكم وأرجو أن تظفروا بالحق الذي طلبنا ،
إلا أنه قد نصبت له مسائل فإن أجابني عنها نظرنا في أمرنا وقبلت
منه.
قال علي عليهالسلام : فإن أجبتك عما تسألني عنه ـ وفيه تبيان وبرهان واضح لا تجد له مدفعا ولا من
قبوله بدا أن ـ تدخل في ديننا؟
قال : نعم.
فقال علي عليهالسلام : الله عليك راع و كفيل ، إذا وضح لك الحق وعرفت الهدى أن تدخل في ديننا أنت
وأصحابك؟.
قال الجاثليق :
نعم ، لك الله علي راع و كفيل أني أفعل ذلك.
__________________
فقال علي عليهالسلام : فخذ على أصحابك الوفاء.
قال : فأخذ عليهم
العهد.
ثم قال علي عليهالسلام : سل عما أحببت.
قال : خبرني عن
الله عز وجل أحمل العرش أم العرش يحمله؟.
قال عليهالسلام : الله حامل العرش والسماوات والأرض وما فيهما وما بينهما ، وذلك قول الله
تعالى : ( إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ
إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً ) .
قال : أخبرني عن
قول الله : ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ
يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) فكيف ذلك؟ وقلت إنه يحمل العرش والسماوات والأرض؟.
قال علي عليهالسلام : إن العرش خلقه الله تبارك وتعالى من أنوار أربعة :
نور أحمر ـ احمرت منه
الحمرة ـ ، ونور أخضر ـ اخضرت منه الخضرة ـ ، ونور أصفر ـ اصفرت منه الصفرة ـ ،
ونور أبيض ـ ابيض منه البياض ـ وهو العلم الذي حمله الله الحملة ، وذلك نور
من عظمته ، فبعظمته ونوره ابيضت قلوب المؤمنين ، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون ،
وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض ـ من جميع خلائقه ـ إليه الوسيلة بالأعمال
المختلفة والأديان المتشتتة ، وكل محمول يحمله الله بنوره وعظمته وقدرته لا يستطيع
لنفسه ( نَفْعاً وَلا ضَرًّا ) ولا ( مَوْتاً
وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً ) ، وكل شيء محمول والله عز وجل الممسك لهما ( أَنْ تَزُولا ) ، والمحيط بهما
__________________
وبما فيهما من شيء
، وهو حياة كل شيء ونور كل شيء ( سُبْحانَهُ وَتَعالى
عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً ) .
قال : فأخبرني عن
الله عز وجل أين هو؟.
قال عليهالسلام : هو هاهنا .. وهاهنا .. وهاهنا .. وهاهنا .. ، وهو فوق وتحت ومحيط بنا
ومعنا ، وهو قوله : ( ما يَكُونُ مِنْ
نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ
وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا
ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ ) ، والكرسي محيط
بالسماوات والأرض : ( وَلا يَؤُدُهُ
حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) فـ ( الَّذِينَ
يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ ) هم العلماء ، وهم الذين حملهم الله علمه ، وليس يخرج عن هذه الأربعة شيء
خلقه الله تعالى في ملكوته ، وهو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه ، وأراه الله عز
وجل خليله عليهالسلام ، فقال : ( وَكَذلِكَ نُرِي
إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) فكيف يحمله حملة
العرش وبحياته حييت قلوبهم ، وبنوره اهتدوا إلى معرفته وانقادوا ؟!.
قال : فالتفت
الجاثليق إلى أصحابه ، فقال : هذا هو ـ والله ـ الحق من عند
__________________
الله عز وجل على
لسان المسيح والنبيين والأوصياء عليهمالسلام.
قال : أخبرني عن
الجنة في الدنيا هي أم في الآخرة؟ وأين الآخرة والدنيا؟.
قال عليهالسلام : الدنيا في الآخرة ، والآخرة محيطة بالدنيا ، إذا [ إذ ] كانت النقلة من
الحياة إلى الموت ظاهرة ، كانت الآخرة هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون ، وذلك أن الدنيا
نقلة والآخرة حياة ومقام مثل ذلك النائم ، وذلك أن الجسم ينام والروح لا تنام ،
والبدن يموت والروح لا تموت ، قال الله عز وجل : ( وَإِنَّ الدَّارَ
الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) والدنيا رسم
الآخرة ، والآخرة رسم الدنيا ، وليس الدنيا الآخرة ولا الآخرة الدنيا ، إذا فارق
الروح الجسم يرجع كل واحد منهما إلى ما منه بدأ ، وما منه خلق ، وكذلك الجنة والنار
في الدنيا موجودة وفي الآخرة موجودة ، لأن العبد إذا مات صار في دار من الأرض ، إما روضة من رياض
الجنة ، وإما بقعة من بقاع النار ، وروحه إلى إحدى دارين : إما في دار نعيم مقيم
لا موت فيها ، وإما في دار عذاب أليم لا يموت فيها ، والرسم لمن عقل موجود واضح ،
وقد قال الله تعالى : ( كَلاَّ لَوْ
تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ
الْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) ، وعن الكفار فقال إنهم
: ( كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي
__________________
وَكانُوا
لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ) ، ولو علم الإنسان علم ما هو فيه مات حبا من الموت ، ومن نجا فبفضل اليقين.
قال : فأخبرني عن
قول الله عز وجل : ( وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ، فإذا طويت
السماوات وقبضت الأرض ، فأين تكون الجنة والنار وهما فيهما؟. قال :
فدعا بدواة وقرطاس ثم كتب فيه : الجنة والنار ، ثم درج القرطاس ودفعه إلى النصراني
، وقال له : أليس قد طويت هذا القرطاس؟ قال :نعم. قال : فافتحه .. ففتحته قال :
هل ترى آية النار وآية الجنة أمحاهما القرطاس ؟. قال : لا. قال : فهكذا في قدرة الله تعالى
إذا طويت السماوات وقبضت الأرض لم تبطل الجنة والنار كما لم تبطل طي هذا الكتاب
آية الجنة وآية النار.
قال : فأخبرني عن
قول الله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) ما هذا الوجه؟ ،
وكيف هو؟ ، وأين يؤتى؟ ، وما دليلنا عليه؟.
قال علي عليهالسلام : يا غلام! علي بحطب ونار ، فأتى بحطب ونار وأمر
__________________
أن تضرم ، فلما
استوقدت واشتعلت ، قال له : يا نصراني هل تجد لهذه النار وجها دون وجه؟. قال : لا
، حيثما أتيتها فهو وجه.
قال عليهالسلام : فإذا كانت هذه النار المخلوقة المدبرة في ضعفها وسرعة زوالها لا تجد لها
وجها فكيف من خلق هذه النار وجميع ما في ملكوته من شيء أجابه؟ كيف يوصف بوجه أو يحد
بحد ، أو يدرك ببصر ، أو يحيط به عقل ، أو يضبطه وهم ، وقال الله تعالى : ( لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) .
قال الجاثليق :
صدقت أيها الوصي العليم الحكيم الرفيق الهادي ، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله ( بِالْحَقِّ بَشِيراً
وَنَذِيراً ) ، وأنك وصيه وصديقه ودليله وموضع سره وأمينه على أهل بيته
وولي المؤمنين من بعده ، من أحبك وتولاك هديته ونورت قلبه وأغنيته وكفيته وشفيته ،
ومن تولى عنك وعدل عن سبيلك ضل وغبن عن حظه واتبع هواه بغير هدى من الله ورسوله ، وكفى
هداك ونورك هاديا وكافيا وشافيا.
قال : ثم التفت
الجاثليق إلى القوم فقال : يا هؤلاء! قد أصبتم أمنيتكم وأخطأتم سنة نبيكم ،
فاتبعوه تهتدوا وترشدوا ، فما دعاكم إلى ما فعلتم؟! ما أعرف لكم عذرا بعد آيات
الله والحجة عليكم ، أشهد أنها سنة الله في الذين خلوا
__________________
من قبلكم و ( لا
تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ) ، وقد قضى عز وجل الاختلاف على الأمم ، الاستبدال
بأوصيائهم بعد أنبيائهم ، وما العجب إلا منكم بعد ما شاهدتم؟! فما هذه القلوب
القاسية ، والحسد الظاهر ، والضغن والإفك المبين؟!.
قال : وأسلم
النصراني ومن معه وشهدوا لعلي عليهالسلام بالوصية ولمحمد صلىاللهعليهوآله بالحق والنبوة ، وأنه الموصوف المنعوت في التوراة والإنجيل
، ثم خرجوا منصرفين إلى ملكهم ليردوا عليه ما عاينوا وما سمعوا.
فقال علي عليهالسلام : الحمد لله الذي أوضح برهان محمد صلىاللهعليهوآله وأعز دينه ونصره ، وصدق رسوله وأظهره ( عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) ، (
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) وصلى الله على محمد وآله.
قال : فتباشر القوم بحجج علي عليهالسلام وبيان ما أخرجه إليهم ، فانكشفت عنهم الذلة ، وقالوا : جزاك الله يا أبا الحسن في مقامك بحق
نبيك ، ثم تفرقوا وكأن الحاضرين لم يسمعوا شيئا مما فهمه القوم و الذين هم عندهم
أبدا ، وقد ( نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ ) ، (
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) قال سلمان الخير : فلما خرجوا من المسجد وتفرق الناس
وأرادوا الرحيل أتوا عليا عليهالسلام مسلمين عليه ويدعون الله تعالى له واستأذنوا ، فخرج
إليهم علي عليهالسلام فجلسوا ، فقال الجاثليق : يا وصي محمد وأبا ذريته! ما نرى
الأمة
__________________
إلا هالكة كهلاك من مضى من
بني إسرائيل من قوم موسى وتركهم موسى وعكوفهم على أمر السامري ، وإنا وجدنا لكل نبي بعثه الله ( عَدُوًّا
شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ ) يفسدان على النبي دينه ، ويهلكان أمته ، ويدفعان وصيه ،
ويدعيان الأمر بعده ، وقد أرانا الله عز وجل ما وعد الصادقين من المعرفة بهلاك
هؤلاء القوم ، وبين لنا سبيلك وسبيلهم ، وبصرنا ما أعماهم عنه ، ونحن أولياؤك وعلى
دينك وعلى طاعتك ، فمرنا بأمرك ، إن أحببت أقمنا معك ونصرناك على عدوك ، وإن
أمرتنا بالمسير سرنا وإلى ما صرفتنا إليه صرنا ، وقد نوى صبرك على ما ارتكب منك ، وكذلك شيم الأوصياء وسنتهم بعد
نبيهم ، فهل عندك من نبيك عهد فيما أنت فيه وهم؟.
قال علي عليهالسلام : نعم ، والله إن عندي لعهدا من رسول الله صلىاللهعليهوآله مما هم صائرون إليه ، وما هم عاملون ، وكيف يخفى علي أمر
أمته وأنا منه بمنزلة هارون من موسى ، وبمنزلة شمعون من عيسى؟! أوما تعلمون أن وصي
عيسى شمعون بن حمون الصفا ـ ابن خاله ـ اختلفت عليه أمة عيسى (ع) وافترقوا أربع
فرق ، وافترقت الأربع فرق على اثنين [ اثنتين ] وسبعين فرقة ، كلها هالكة إلا فرقة
واحدة ؟ وكذلك أمة موسى (ع) افترقت على اثنين [ اثنتين ] وسبعين فرقة ،
__________________
كلها هالكة إلا
فرقة واحدة ، وقد عهد إلي محمد صلىاللهعليهوآله أن أمته يفترقون على ثلاث وسبعين فرقة ، ثلاث عشرة فرقة
تدعي محبتنا ومودتنا كلهم هالكة إلا فرقة واحدة ، وإني لعلى بينة
من ربي ، وإني عالم بما يصير القوم إليه ، ولهم مدة وأجل معدود ، لأن الله عز وجل
يقول : ( وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ
وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ ) وقد صبر عليهم القليل لما هو بالغ أمره وقدره المحتوم فيهم ، وذكر نفاقهم
وحسدهم و أنه سيخرج أضغانهم ويبين مرض قلوبهم بعد فراق نبيهم قال الله عز وجل
: ( يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ
عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ
اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ ) أي تعلمون ( وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ
وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ
بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً
بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ ) فقد عفا الله عن القليل من هؤلاء ووعدني أن يظهرني على أهل
الفتنة ويردوا [ يرد ] الأمر إلي ولو كره المبطلون ، وعندكم كتاب من رسول الله صلىاللهعليهوآله في المصالحة والمهادنة على أن لا تحدثوا ولا تأووا محدثا ، فلكم الوفاء على
__________________
ما وفيتم ، ولكم
العهد والذمة على ما أقمتم على الوفاء بعهدكم علينا مثل ذلك لكم ،
وليس هذا أوان نصرنا ولا يسل سيف ولا يقام عليهم بحق ما لم يقبلوا ويعطوا طاعتهم ، إذ كنت
فريضة من الله عز وجل ومن رسوله صلىاللهعليهوآله مثل الحج والزكاة والصوم والصلاة ، فهل يقام بهذه الحدود
إلا بعالم قائم ( يَهْدِي إِلَى الْحَقِ ) وهو ( أَحَقُّ
أَنْ يُتَّبَعَ )؟! ولقد أنزل الله سبحانه : ( قُلْ هَلْ مِنْ
شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ
يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ
يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) فأنا ـ رحمك الله فريضة من الله ورسوله صلىاللهعليهوآله عليكم ، بل أفضل الفرائض وأعلاها ، وأجمعها للحق ، وأحكمها
لدعائم الإيمان ، وشرائع الإسلام ، وما يحتاج إليه الخلق لصلاحهم ولفسادهم ولأمر
دنياهم وآخرتهم ، فقد تولوا عني ، ودفعوا فضلي ، وفرض رسول الله صلىاللهعليهوآله إمامتي وسلوك سبيلي ، فقد رأيتم ما شملهم من الذل والصغار من بعد الحجة.
وكيف أثبت الله
عليهم الحجة وقد نسوا ما ذكروا به من عهد نبيهم ، وما أكد عليهم من طاعتي وأخبرهم
من مقامي ، وبلغهم من رسالة الله عز وجل في فقرهم إلى علمي وغناي عنهم وعن جميع
الأمة مما أعطاني الله عز وجل ، فكيف آسى على من ضل عن الحق من بعد ما تبين له و ( اتَّخَذَ
إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ
__________________
عَلى
عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ
يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) إن هداه للهدى ،
وهما السبيلان : سبيل الجنة وسبيل النار والدنيا والآخرة ، فقد ترى ما نزل بالقوم
من استحقاق العذاب الذي عذب به من كان قبلهم من الأمم ، وكيف بدلوا كلام الله ،
وكيف جرت السنة فيهم من الذين خلوا من قبلهم ، فعليكم بالتمسك بحبل الله وعروته
، وكونوا من حزب الله ورسوله ، والزموا عهد رسول الله وميثاقه عليكم ، فإن
الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا ، وكونوا في أهل ملتكم كأصحاب الكهف ، وإياكم أن
تغشوا أمركم إلى أهل أو ولد أو حميم أو قريب ، فإنه دين الله الذي أوجب له التقية
لأوليائه فيقتلكم قومكم وإن أصبتم من الملك فرصة ألقيتم على قدر ما
ترون من قبوله ، وإنه باب الله وحصن الإيمان لا يدخله إلا من أخذ الله ميثاقه ،
ونور له في قلبه وأعانه على نفسه ، انصرفوا إلى بلادكم على عهدكم الذي
عاهدتموني عليه ، فإنه سيأتي على الناس بعد برهة من دهرهم ملوك بعدي وبعد هؤلاء يغيرون دين الله عز وجل ، ويحرفون
كلامه ، ويقتلون أولياء الله ، ويعزون أعداء الله ، وبهم تكثر البدع ،
وتدرس السنن ، حتى تملأ الأرض جورا وعدوانا وبدعا ، ثم يكشف الله
بنا أهل البيت جميع البلايا عن أهل دعوة الله بعد شدة
__________________
من البلاء العظيم
حتى تملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا ، ألا وقد عهد
إلي رسول الله صلىاللهعليهوآله أن الأمر صائر إلي بعد الثلاثين من وفاته وظهور الفتن ،
واختلاف الأمة علي ، ومروقهم من دين الله ، وأمرني بقتال الناكثين والمارقين
والقاسطين ، فمن أدرك منكم ذلك الزمان وتلك الأمور وأراد أن يأخذ بحظه من الجهاد
معي فليفعل ، فإنه والله الجهاد الصافي ، صفاه لنا كتاب الله وسنة نبيه صلىاللهعليهوآله ، فكونوا ـ رحمكم الله ـ من أحلاس بيوتكم إلى أوان ظهور أمرنا ، فمن مات منكم
كان من المظلومين ، ومن عاش منكم أدرك ما تقر به عينه إن شاء الله تعالى.
ألا وإني أخبركم
أنه سيحملون علي خطة جهلهم ، وينقضون علينا عهد نبينا صلىاللهعليهوآله لقلة علمهم بما يأتون ويذرون ، وسيكون منكم ملوك يدرس عندهم
العهد ، وينسون ما ذكروا به ، ويحل بهم ما يحل بالأمم حتى يصيروا إلى الهرج
والاعتداء وفساد العهد ، وذلك لطول المدة وشدة المحنة التي أمرت بالصبر عليها ،
وسلمت لأمر الله في محنة عظيمة يكدح فيها المؤمن حتى يلقى الله ربه ، وواها للمتمسكين
بالثقلين وما يعمل بهم! وواها لفرج آل محمد صلىاللهعليهوآله من خليفة متخلف عتريف مترف ، يقتل خلفي وخلف
__________________
الخلف ، بلى اللهم لا تخلو
الأرض من قائم بحجة إما ظاهرا مشهورا أو باطنا مستورا لئلا تبطل حجج الله وبيناته ، ويكون محنة لمن اتبعه واقتدى
به ، وأين أولئك؟ وكم أولئك؟ أولئك الأقلون عددا ، الأعظمون عند الله خطرا ، بهم يحفظ الله
دينه وعلمه حتى يزرعها في صدور أشباههم ، ويودعها أمثالهم ، هجم بهم العلم على
حقيقة الإيمان ، واستروحوا روح اليقين ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ،
واستلانوا ما استوعر منه المترفون ، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالملإ الأعلى ، أولئك
حجج الله في أرضه ، وأمناؤه على خلقه ، آه .. آه شوقا إليهم وإلى رؤيتهم ،
وواها لهم على صبرهم على عدوهم ، وسيجمعنا الله وإياهم في جنات عدن ( وَمَنْ
صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ )
قال : .. ثم بكى
.. وبكى القوم معه وودعوه وقالوا : نشهد لك بالوصية والإمامة والأخوة ، وإن عندنا
لصفتك وصورتك ، وسيقدم وفد بعد هذا الرجل من قريش على الملك ، ولنخرجن إليهم صورة
الأنبياء وصورة نبيك وصورتك وصورة ابنيك الحسن والحسين عليهماالسلام وصورة فاطمة عليهاالسلام زوجتك سيدة نساء العالمين بعد مريم الكبرى البتول ، وإن
ذلك لمأثور عندنا ومحفوظ ، ونحن راجعون إلى الملك ومخبروه بما أودعتنا من نور
هدايتك وبرهانك وكرامتك وصبرك على ما أنت فيه ، ونحن المرابطون لدولتك ، الداعون
__________________
لك ولأمرك ، فما
أعظم هذا البلاء ، وما أطول هذه المدة ، ونسأل الله التوفيق بالثبات ، والسلام
عليك ورحمة الله وبركاته.
بيان :
قوله : ما عظمت ..
اسم كان ، أو خبره ، أو عطف بيان للبلاء العظيم ، وعلى الأخير إن ملك الروم أحد
معمولي كان ، وعلى الأولين استئناف لبيان ما تقدم ، أو بيان لما ، أو خبر بعد خبر
لكان.
قال الجوهري :
الخرق ـ بالتحريك ـ : الدهش من الخوف أو الحياء ، وقد خرق ـ بالكسر ـ فهو خرق ..
وبالتحريك أيضا مصدر الأخرق ، وهو ضد الرفيق .
والنزق : الخفة
والطيش .
والرعديد ـ بالكسر
ـ : الجبان .
والناكل : الجبان .
قوله : وتركهم
بهما .. البهم ـ بالضم ـ جمع : البهيم ، وهو المجهول الذي لا يعرف ، وبالفتح ويحرك
، جمع : البهيمة ، والبهيم الأسود : الخالص الذي لم يشبه غيره ، وفي الحديث
: يحشر الناس بهما.ـ بالضم ـ قيل : أي ليس بهم شيء مما كان في الدنيا نحو البرص
والعرج ، أو عراة .
__________________
والحاصل أنه تركهم
كالبهائم لا راعي لهم أو أشباها لا تميز بينهم بالإمامة والرعية.
ومرق السهم من
الرمية ـ كنصر ـ : خرج من الجانب الآخر .
وعطب ـ كفرح ـ هلك
.
قوله عليهالسلام : فكيف آسى .. أي أحزن ، من الأسى ـ بالفتح والقصر وهو الحزن .
قوله عليهالسلام : وهما السبيلان .. الضمير راجع إلى ما ظهر سابقا من اتباع الوصي وعدمه.
قوله عليهالسلام : بعد الثلاثين .. هذا تاريخ آخر زمان خلافته عليهالسلام ، ولما اجتمعت أسباب استيلائه عليهالسلام على المنافقين في قرب وفاته ولم يتيسر له ذلك بعروض شهادته علق رجوع الأمر
بهذا الزمان ، أو هذا مما وقع فيه بداء ، والمراد بالأمر الشهادة والاستراحة عن
تلك الدار الفانية وآلامها وفتنها.
وقال الجوهري : أحلاس البيوت :
ما يبسط تحت حر الثياب ، وفي الحديث : كن حلس بيتك .. أي لا تبرح.
والحظة ـ بالضم ـ :
الأمر والقصة .
__________________
قوله : لفرج آل
محمد (ص) .. في أكثر النسخ بالجيم فهو تحسر على عدم حصول الفرج بسبب المتخلف التعريف ،
والأصوب ـ بالخاء المعجمة ـ : أي نسلهم وذريتهم ، وقد مر وسيأتي أنه عبر عن الحسنين عليهماالسلام في كتب الأنبياء عليهمالسلام ب : الفرخين المستشهدين. ويقال : رجل عتريف .. أي خبيث
فاجر جريء ماض ، ولعل المراد به يزيد لعنه الله ، فإنه قتل الحسين
وأولاده عليهمالسلام.
قوله : وسيقدم وفد
بعد هذا الرجل .. أي سيقدم ويأتي إلى ملكنا بعد ذهاب أبي بكر وخلافة عمر رسل ونخرج
إلى رسله تلك الصور ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما سيأتي أنه وقع في زمن معاوية ،
حيث أخرج ملك الروم صور الأنبياء عليهمالسلام إلى يزيد فلم يعرفها وعرفها الحسن عليهالسلام ، وأجاب عن مسائله بعد ما عجز يزيد ـ لعنه الله ـ عنها .
وقد مر شرح بعض
أجزاء الخبر في كتاب التوحيد وكتاب المعاد وسيأتي شرح بعضها في كتاب الغيبة وغيره ، فإن المحدثين
فرقوا أجزاءه على الأبواب ،
__________________
وهي مروية في
الأصول المعتبرة ، وهذا مما يدل على صحتها ، ويؤيده أيضا أنه قال الشيخ قدس الله
روحه في فهرسته : سلمان الفارسي رحمة الله عليه .. روى خبر الجاثليق
الرومي الذي بعثه ملك الروم بعد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ـ أخبرنا به ابن أبي جيد ، عن ابن الوليد ، عن الصفار
والحميري عمن حدثه ، عن إبراهيم بن حكم الأسدي ، عن أبيه ، عن شريك
بن عبد الله ، عن عبد الأعلى الثعلبي ، عن أبي وقاص ، عن سلمان الفارسي. انتهى.
٢
ـ إرشاد القلوب : بحذف الأسانيد ، قيل : لما كان بعد وفاة رسول الله صلىاللهعليهوآله دخل يهودي المسجد فقال : أين وصي رسول الله صلىاللهعليهوآله؟ فأشاروا إلى أبي بكر ، فوقف عليه وقال : إني أريد أن
أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو وصي نبي. فقال أبو بكر : سل عما بدا لك؟ فقال
اليهودي : أخبرني عما ليس لله؟ وعما ليس عند الله؟ وعما لا يعلمه الله؟.
فقال أبو بكر :
هذه مسائل الزنادقة ، يا يهودي! أوفي السماء شيء لا يعلمه الله ؟ وهم به المسلمون
ـ وكان في القوم ابن عباس ـ فقال : ما أنصفتم الرجل؟!. قال أبو بكر : أوما سمعت ما
تكلم به؟. فقال ابن عباس : إن كان عندكم جواب وإلا فاذهبوا به إلى من يجيبه ، فإني سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول لعلي بن أبي طالب عليهالسلام : اللهم اهد قلبه وثبت لسانه.
__________________
قال : فقام أبو
بكر ومن حضر من المهاجرين والأنصار فأتوا عليا عليهالسلام ، فاستأذنوا عليه ، فدخلوا ، فقال أبو بكر : يا أبا الحسن! إن هذا اليهودي
سألني عن مسائل الزنادقة.
قال : فقال علي عليهالسلام لليهودي : ما تقول يا يهودي؟ قال : إني أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو
وصي نبي.
فقال عليهالسلام : سل ، يا يهودي! فأنبئك به. قال : أخبرني عما ليس لله؟ وعما ليس عند الله؟ وعما
لا يعلمه الله؟.
قال عليهالسلام : أما قولك عما ليس لله ، فليس لله شريك ، وأما قولك عما ليس عند الله ،
فليس عند الله ظلم للعباد ، وأما قولك عما لا يعلمه الله ، فذلك قولكم إن عزيرا ابن
الله ، والله لا يعلم أن له ولدا. فقال اليهودي : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول
الله ، وأنك وصيه.
فقام أبو بكر ومن
معه من المهاجرين فقبلوا رأس علي بن أبي طالب عليهالسلام وقال : يا مفرج الكروب .
٣
ـ إرشاد القلوب : ـ بحذف الأسانيد أيضا ـ مرفوعا إلى ابن
__________________
عباس ، قال : :
قدم يهوديان أخوان من رءوس اليهود ، فقالا : يا قوم! إن نبينا حدثنا أنه يظهر بتهامة
رجل يسفه أحلام اليهود ، ويطعن في دينهم ، ونحن نخاف أن يزيلنا عما كانت عليه
آباؤنا ، فأيكم هذا النبي؟. فإن كان المبشر به داود آمنا به واتبعناه ، وإن كان
يورد الكلام على إبلاغه ويورد الشعر ويقهرنا جاهدناه بأنفسنا وأموالنا
، فأيكم هذا النبي؟. فقال المهاجرون والأنصار : إن نبينا قبض.
فقالا : الحمد لله ، فأيكم وصيه؟ فما بعث الله نبيا إلى قوم إلا وله وصي يؤدي من
بعده ويحكم ما أمره به ربه ، فأومأ المهاجرون والأنصار إلى أبي بكر.
فقالوا : هذا وصيه. فقالا لأبي بكر : إنا نلقي عليك من المسائل ما
يلقى على الأوصياء ، ونسألك عما يسأل الأوصياء عنه؟. فقال أبو بكر : ألقيا ،
سأخبركما عنه إن شاء الله تعالى. فقال له أحدهما : ما أنا وأنت عند الله؟
وما نفس في نفس ليس بينهما رحم ولا قرابة؟ وما قبر سار بصاحبه؟ ومن أين تطلع الشمس
وأين تغرب؟ وأين سقطت الشمس ولم تسقط مرة أخرى في ذلك الموضع ؟ وأين تكون الجنة؟
وأين تكون النار؟ وربك يحمل أو يحمل؟ وأين يكون وجه ربك؟ وما اثنان شاهدان؟ وما
اثنان غائبان؟ وما اثنان متباغضان؟ وما الواحد؟ وما الاثنان؟و ما الثلاثة؟ وما
الأربعة؟ وما الخمسة؟ وما الستة؟ وما السبعة؟ وما الثمانية؟ وما التسعة؟ وما
العشرة؟ وما الأحد عشر؟ وما الاثنا عشر؟ وما العشرون؟ وما
__________________
الثلاثون؟ وما
الأربعون؟ وما الخمسون؟ وما الستون؟ وما السبعون؟ وما الثمانون؟
وما التسعون؟ وما المائة؟!.
قال ابن عباس :
فبقي أبو بكر لا يرد جوابا ، وتخوفنا أن يرتد القوم عن الإسلام ، فأتيت منزل علي
بن أبي طالب عليهالسلام فقلت له : يا علي! إن رءوسا من رؤساء اليهود قد قدموا المدينة ،
وألقوا على أبي بكر مسائل ، وقد بقي لا يرد جوابا. فتبسم علي عليهالسلام ضاحكا ، ثم قال : هو الذي وعدني به رسول الله صلىاللهعليهوآله. وأخذ يمشي أمامي فما أخطأت مشيته مشية رسول الله صلىاللهعليهوآله حتى قعد في الموضع الذي كان يقعد فيه رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ثم التفت إلى اليهوديين.
فقال : يا يهوديان!
ادنوا مني وألقيا علي ما ألقيتما على الشيخ.
فقالا : من أنت؟.
فقال : أنا علي بن
أبي طالب ، أخو النبي ، وزوج فاطمة ، وأبو الحسن والحسين ، ووصيه في خلافته كلها ، وصاحب كل نفيسة
وغزاة ، وموضع سر النبي صلىاللهعليهوآله.
فقال اليهودي : ما أنا وأنت
عند الله؟.
قال : أنا مؤمن منذ عرفت نفسي ،
وأنت كافر منذ عرفت نفسك ، وما
__________________
أدري ما يحدث الله
بك يا يهودي بعد ذلك؟.
قال اليهودي : فما
نفس في نفس ليس بينهما رحم ولا قرابة؟.
قال : يونس بن متى
في بطن الحوت.
قال : فما قبر سار
بصاحبه؟.
قال : يونس ، حين
طاف به الحوت في سبعة أبحر.
قال له : فالشمس من أين تطلع؟.
قال : من قرن الشيطان!.
قال : فأين تغرب؟.
قال : ( فِي
عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) ، وقال لي حبيبي رسول الله صلىاللهعليهوآله : لا تصل في إقبالها ولا في إدبارها حتى تصير في مقدار رمح
أو رمحين.
قال : فأين سقطت
الشمس ولم تسقط مرة أخرى في ذلك الموضع ؟.
قال : البحر ، حين
فرقه الله تعالى لقوم موسى عليهالسلام.
قال له : ربك يحمل
أو يحمل؟.
قال : ربي يحمل كل
شيء ولا يحمله شيء.
قال : فكيف قوله :
( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ
يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) .
قال : يا يهودي! ألم
تعلم أن الله ( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى ) ، وكل شيء على الثرى ، والثرى على القدرة ،
والقدرة عند ربي.
__________________
قال : فأين تكون
الجنة؟ وأين تكون النار؟.
قال : الجنة في
السماء ، والنار في الأرض.
قال : فأين يكون وجه ربك؟.
فقال علي عليهالسلام لابن عباس : ائتني بنار وحطب فأضرمها ، وقال :يا يهودي! فأين وجه هذه النار؟.
فقال : لا أقف لها
على وجه.
قال : كذلك ربي (
فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) .
قال : فما اثنان
شاهدان؟.
قال : السماء
والأرض لا يغيبان .
قال : فما اثنان
غائبان؟.
قال : الموت
والحياة لا نقف عليهما.
قال : فما اثنان
متباغضان؟.
قال : الليل
والنهار.
قال : فما نصف الشيء؟.
قال : المؤمن.
قال : فما لا شيء؟.
قال : يهودي مثلك
كافر لا يعرف ربه .
قال : فما الواحد؟.
__________________
قال : الله عز
وجل.
قال : فما الاثنان؟.
قال : آدم وحواء.
قال : فما الثلاثة؟.
قال : كذبت
النصارى على الله عز وجل ، قالوا عيسى ابن مريم ابن الله ، والله لم يتخذ ( صاحِبَةً
وَلا وَلَداً ) قال : فما الأربعة؟.
قال : التوراة
والإنجيل والزبور والفرقان العظيم.
قال : فما الخمسة؟.
قال : خمس صلوات
مفترضات.
قال : فما الستة؟.
قال : ( خَلَقَ ) الله (
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ )
قال : فما السبعة؟.
قال : سبعة أبواب
النار متطابقات.
قال : فما
الثمانية؟.
قال : ثمانية
أبواب الجنة.
قال : فما التسعة؟.
قال : ( تِسْعَةُ
رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ ) .
قال : فما العشرة؟.
__________________
قال : عشرة أيام
من العشرة .
قال : فما الأحد
عشر؟.
قال : قول يوسف
لأبيه : ( إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ) .
قال : فما الاثنا
عشر؟.
قال : شهور السنة.
قال : فما العشرون؟.
قال : بيع يوسف
بعشرين درهما.
قال : فما الثلاثون؟.
قال : ثلاثون ليلة
من شهر رمضان صيامه فرض واجب على كل مؤمن إلا ( مَنْ كانَ مَرِيضاً
أَوْ عَلى سَفَرٍ )
قال : فما
الأربعون؟.
قال : كان ميقات موسى
ثلاثين ليلة قضاها ، والعشر كانت تمامها.
قال : فما الخمسون؟.
قال : دعا نوح
قومه ( أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً )
قال : فما الستون؟.
قال : قال الله : (
فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ) أو ( فَصِيامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتابِعَيْنِ ) .
قال : فما السبعون؟.
__________________
قال : ( اخْتارَ
مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً ) لميقات ربه.
قال : فما
الثمانون؟.
قال : قرية
بالجزيرة يقال لها : ثمانون ، منها قعد نوح في السفينة ( وَاسْتَوَتْ عَلَى
الْجُودِيِ ) وغرق الله القوم.
قال : فما التسعون؟.
قال : الفلك
المشحون اتخذ يوما فيها بيتا للبهائم.
قال : فما المائة؟.
قال : كانت لداود عليهالسلام ستون سنة فوهب له آدم أربعين ، فلما حضر آدم عليهالسلام الوفاة جحده ، فجحد ذريته.
فقال : يا شاب! صف
لي محمدا صلىاللهعليهوآله كأني أنظر إليه حتى أؤمن به الساعة؟.
فبكى علي عليهالسلام ، ثم قال : يا يهودي! هيجت أحزاني ، كان حبيبي رسول الله صلىاللهعليهوآله صلت الجبين ، مقرون الحاجبين ، أدعج
__________________
العينين ، سهل
الخدين ، أقنى الأنف ، دقيق المسربة ، كث اللحية ، براق الثنايا ، كأن عنقه إبريق فضة ، كان له
شعرات من لبته إلى سرته متفرقة كأنها قضيب كافور ، لم يكن بالطويل الذاهب ولا بالقصير
النزر ، كان إذا مشى مع الناس غمرهم ، كان إذا مشى كأنه ينقلع من صخرة أو ينحدر من صبب ، كان مبدول الكعبين ، لطيف
القدمين ، دقيق الخصر ، عمامته السحاب ، سيفه ذو الفقار ، بغلته الدلدل ، حماره
اليعفور ، ناقته العضباء ، فرسه المبدول ، قضيبه الممشوق ، كان أشفق الناس على الناس ، وأرأف الناس
بالناس ، كان بين كتفيه خاتم النبوة مكتوب على الخاتم سطران ، أول سطر :لا إله إلا الله.
والثاني : محمد رسول الله ، هذه صفته يا يهودي!.
__________________
فقال اليهوديان :
نشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأنك وصي محمد حقا.
وأسلما وحسن
إسلامهما ، ولزما أمير المؤمنين عليهالسلام فكانا معه حتى كان من أمر الجمل ما كان ، فخرجا معه إلى
البصرة ، فقتل أحدهما في وقعة الجمل ، وبقي الآخر حتى خرج معه إلى صفين فقتل.
إيضاح :
قوله عليهالسلام : كل نفيسة .. أي خصلة أو منقبة يتنافس ويرغب فيه ، وفي بعض النسخ
: قبسة .. أي اقتباس علم وحكمة .
قوله
: فكيف قوله :
ويحمل .. غرضه إنك قلت الله حامل كل شيء فكيف يكون حامل العرش غيره؟ فأجاب عليهالسلام : بأن حامل الحامل حامل ، والله حامل الحامل والمحمول بقدرته.
والنزر : القليل ، ولعل المراد به
هنا الحقير ، والمبدول لم نعرف له معنى ، ولعله تصحيف ، وقد مر شرح
سائر أجزاء الخبر في أبواب صفاته وحلاه صلىاللهعليهوآلهوسلم .
٤
ـ إرشاد القلوب : ـ بحذف الإسناد ـ مرفوعا إلى الصادق عليهالسلام قال : لما بايع الناس عمر بعد وفاة أبي بكر أتاه رجل من
شبان اليهود ـ وهو
__________________
في المسجد ـ فسلم
عليه والناس حوله ، فقال : يا أمير المؤمنين ! دلني على أعلمكم بالله وبرسوله وبكتابه وسنته؟. فأومأ إلى
علي بن أبي طالب عليهالسلام ، فقال : هذا. فتحول الرجل إلى علي عليهالسلام فسأله : أنت كذلك؟.
قال : نعم .
فقال : إني أسألك
عن ثلاث وثلاث وواحدة.
قال : أفلا قلت عن
سبع؟.
قال اليهودي : لا ، إنما أسألك عن
ثلاث ، فإن أجبت فيهم فسألتك عن ثلاث بعدها ، وإن لم تصب لم أسألك.
فقال أمير
المؤمنين عليهالسلام : أخبرني إذا أجبتك بالصواب والحق تعرف ذلك؟ ـ وكان الفتى
من علماء اليهود وأحبارهم ، يروون أنه من ولد هارون أخي موسى بن عمران ـ.
فقال : نعم.
قال أمير المؤمنين
عليهالسلام : بالله الذي لا إله إلا هو لئن أجبتك بالصواب والحق
لتسلمن وتدع اليهودية ، فحلف له وقال : ما جئتك إلا مرتادا أريد الإسلام.
فقال : يا هاروني!
سل عما بدا لك تخبر إن شاء الله.
فقال : أخبرني عن
أول شجرة نبتت على وجه الأرض؟ وعن أول عين نبعت في الأرض؟ وعن أول حجر وضع على وجه
الأرض؟.
__________________
فقال أمير
المؤمنين عليهالسلام : أما أول شجرة نبتت على وجه الأرض ، فإن أهل الأرض يزعمون
أنها الزيتونة وكذبوا ، وإنما هي النخلة ، وهي العجوة ، هبط بها آدم من الجنة
فغرسها ، وأصل النخل كله منها ، وأما أول عين نبعت على وجه الأرض ، فإن اليهود
يزعمون أنها العين التي في بيت المقدس تحت الحجر وكذبوا ، بل هي عين الحياة التي
انتهى موسى وفتاه إليها فغسلا فيها السمكة فحييت ، وليس من ميت يصيبه
ذلك الماء إلا حيي ، وكان الخضر عليهالسلام شرب منها ولم يجدها ذو القرنين ، وأما أول حجر وضع على وجه
الأرض فإن اليهود يزعمون أنه الحجر الذي في بيت المقدس وكذبوا ، وإنما هو الحجر
الأسود هبط به آدم (ع) من الجنة فوضعه على الركن ، والناس يستلمونه ، وكان أشد
بياضا من الثلج فاسود من خطايا بني آدم.
قال : فأخبرني كم
لهذه الأمة من إمام هدى هادين مهديين ، لا يضرهم خذلان من خذلهم؟ وأين منزل محمد
من الجنة؟ ، ومن معه من أمته في الجنة؟.
قال أمير المؤمنين
عليهالسلام : أما قولك : كم لهذه الأمة من إمام هدى؟
و أين منزل محمد في الجنة؟ ومن معه من أمته في الجنة؟ فإن الأئمة اثنا عشر ، وأما
منزل محمد ففي أشرف الجنان وأفضلها : جنة عدن ، وأما الذين معه فهم الأئمة الاثنا
عشر أئمة الهدى.
قال الفتى : صدقت
، فو الله الذي لا إله إلا هو إنه لمكتوب عندي بإملاء موسى وخط هارون بيده.
ثم قال : أخبرني كم
يعيش وصي محمد صلىاللهعليهوآله بعده؟ وهل
__________________
يموت موتا أو يقتل
قتلا؟.
قال له : ويحك!
أنا وصي محمد ، أعيش بعده ثلاثين لا تزيد يوما ولا تنقص يوما ، ثم يبعث أشقاها شقيق عاقر
ناقة صالح ، فيضربني ضربة في مفرقي فتخضب منه لحيتي ، ثم بكى عليهالسلام بكاء شديدا.
قال : فصرخ الفتى
وقطع كستيجه وقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول
الله صلىاللهعليهوآله ، ( وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ ).
بيان :
قوله عليهالسلام : تعرف ذلك .. أي تصدق وتقر به .
قوله عليهالسلام : لا تزيد يوما ..
أقول
: ليس هذا في أكثر
الروايات ، ويشكل تصحيحه ، لعدم اتحاد يومي وفاتهما صلوات الله عليهما ، ويمكن أن
يقال بناء الثلاثين على التقريب ، وقوله عليهالسلام : « لا يزيد » استئناف لبيان أن الموعد الذي وعدت لك لا
يتخلف ، وأعلمه بحيث لا يزيد يوما ولا ينقص يوما ، وقيل : الضمير راجع إلى كتاب هارون
، وربما يقرأ تزيد وتنقص ـ على صيغة الخطاب ـ أي إنك رأيت في كتاب أبيك هارون ثلاثين سنة فتتوهم أنه
لا كسر فيها ، وليس كذلك ، بل هو مبني على
__________________
إتمام الكسر ، ولا
يخفى بعدهما.
وقال الفيروزآبادي
: الكستيج ـ بالضم ـ : خيط غليظ يشده الذمي فوق ثيابه دون الزنار ، معرب
كستي.
٥
ـ كتاب صفوة الأخبار : عن أبي إسماعيل ، عن أبي نون ، قال : لما توفي رسول الله صلىاللهعليهوآله دخل المدينة رجل من أولاد داود عليهالسلام على دين اليهود ، فوجد الناس متفزعين مغمومين ، فقال : ما
شأنكم؟. قالوا : توفي رسول الله صلىاللهعليهوآله. فقال : أما إنه توفي في اليوم الذي هو مذكور في كتابنا ،
ثم قال : أرشدوني إلى خليفة نبيكم. قالوا : تنتظر قليلا حتى نرشدك إلى من يخبرك بما تسأل ، فأقبل
أمير المؤمنين عليهالسلام من باب المسجد ، فقالوا :عليك بهذا الغلام فإنه يخبرك عما
تسأل. فقام إليه وقال له : أأنت علي بن أبي طالب عليهالسلام؟.
فقال : نعم ،
يرحمك الله ، وأخذ بيده وأجلسه.
وقال : أردت أن
أسأل هؤلاء عن أربعة حروف فأرشدوني إليك ، فعن إذنك أسألك؟.
فقال له : سل عما
بدا لك ، فإني أخبرك إن شاء الله تعالى.
فقال : أخبرني عن
أول حرف كلم الله به نبيك لما أسري به ورجع عن
__________________
محل الشرف؟
وأخبرني عن الأربعة الذين كشف مالك عنهم طبقا من أطباق النار فكلموا نبيك؟ وأخبرني
عن الملك الذي زاحم نبيك؟ وأخبرني عن منزل نبيك في الجنة؟.
فقال عليهالسلام : أما أول حرف كلم الله عز وجل نبينا صلىاللهعليهوآله به فهو قوله تعالى : ( آمَنَ الرَّسُولُ
بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ) .
فقال : ليس هذا
أردت ، ولا عنه سألت.
فقال : إن الأمر
الذي تريد مستور.
فقال : أخبرني
بالذي هو ، وإلا فما أنت هو؟.
فقال له : إذا
أنبأتك تسلم؟.
قال : نعم.
فقال : إن رسول
الله صلىاللهعليهوآله لما رجع عن محل الشرف والكرامة ليلة الإسراء رفع له الحجاب قبل أن
يصير إلى مقام جبرئيل عليهالسلام ونادى ملك : يا محمد [ صلىاللهعليهوآله ]! إن الله يقرئك السلام ويقول لك : اقرأ على السيد المولى
مني السلام. فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : من السيد المولى؟. فقال : علي بن أبي طالب [ ع ].
فقال اليهودي :
صدقت إني لأجده مكتوبا في كتاب داود عليهالسلام.
فقال : وأما
الأربعة الذين كشف عنهم مالك طبق النار فهم : قابيل ، ونمرود ، وهامان ، وفرعون.
فقالوا : يا محمد
[ صلىاللهعليهوآله ]! اسأل ربك يردنا إلى الدنيا حتى نعمل صالحا ، فغضب
جبرئيل عليهالسلام وأخذ الطبق بريشة من جناحه ورده عليهم. وأما الملك الذي
زاحم نبينا صلىاللهعليهوآله فإنه ملك الموت ، جاء من
__________________
عند جبار من ملوك
الدنيا قد تكلم عند موته بكلام عظيم فغضب لله فزاحم نبينا ولم يعرفه لغيظه.
فقال جبرئيل عليهالسلام : يا ملك الموت! هذا محمد بن عبد الله رسول الله وحبيبه.
فقال : إني أتيت
من عند ملك جبار قد تكلم بكلام عظيم عند موته فغضبت لله عز وجل ولم أعرفك ، فعذره
رسول الله صلىاللهعليهوآله.
وأما منزل رسول
الله ، فإن مسكنه جنة عدن ومعه فيها أوصياؤه الاثنا عشر ، وفوقها منزل يقال له :
الوسيلة ، وليس في الجنة شبهه ولا أرفع منه ، وهو منزل رسول الله صلىاللهعليهوآله.
فقال الداودي :
والله لقد رأيته في كتاب داود عليهالسلام ، ولقد صدقت ، وإنا متوارثوه واحد عن واحد حتى وصل إلي ،
فأخرج كتابا فيه مسطور ما ذكر.
ثم قال : مد يدك
أجدد إسلامي ، ثم قال : والله إنك خير هذه الأمة بعد نبيها وأكرمها على الله
تعالى. وعلمه دينه وشرائع الإسلام ، وقد أسلم وحسن إسلامه.
٦
ـ نبه : روي عن ابن
عباس أنه حضر مجلس عمر بن الخطاب يوما ـ وعنده كعب الأحبار ـ إذ قال عمر : يا
كعب! أحافظ أنت للتوراة ؟. قال كعب : إني لأحفظ منها كثيرا. فقال رجل من جنبه : يا أمير
المؤمنين! سله أين
__________________
كان الله جل جلاله
قبل أن يخلق عرشه؟ ومم خلق الماء الذي جعل عليه عرشه ؟ فقال عمر : يا
كعب! هل عندك من هذا علم؟. فقال كعب : نعم يا أمير المؤمنين! نجد في الأصل الحكيم
أن الله تبارك وتعالى كان قديما قبل خلق العرش ، وكان على صخرة بيت المقدس في
الهواء ، فلما أراد أن يخلق عرشه تفل تفلة كانت منها البحار الغامرة واللجج
الدائرة ، فهناك خلق عرشه من بعض الصخرة التي كانت تحته ، وآخر ما بقي منها لمسجد
قدسه.
قال ابن عباس :
وكان علي بن أبي طالب عليهالسلام حاضرا .. فعظم ربه وقام على قدميه ، ونفض ثيابه ، فأقسم عليه عمر لما عاد إلى
مجلسه ، ففعل ، قال عمر : غص عليها يا غواص ، ما يقول أبو حسن فما
علمتك إلا مفرجا للغم؟. فالتفت علي عليهالسلام إلى كعب فقال : غلط أصحابك وحرفوا كتب الله ، وقبحوا الفرية عليه ، يا
كعب! ويحك! إن الصخرة التي زعمت لا تحوي جلاله ، ولا تسع عظمته ، والهواء الذي
ذكرت لا يجوز أقطاره ، ولو كانت الصخرة والهواء قديمين معه لكانت لهما
قدمته ، وعز الله وجل أن يقال له مكان يومى إليه ، والله ليس كما يقول الملحدون ، ولا
كما يظن الجاهلون ، ولكن كان ولا مكان بحيث لا تبلغه الأذهان ، وقولي : ( كان )
لتعريف كونه ، وهو مما علم من البيان ، يقول الله عز وجل : ( خَلَقَ
الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ ) ، فقولي له
__________________
كان مما علمني
البيان لأنطق بحجة عظمة المنان ، ولم يزل ربنا مقتدرا على ما يشاء
، محيطا بكل الأشياء ، ثم كون ما أراد بلا فكرة حادثة له أصاب ، ولا بشبهة
دخلت عليه فيما أراد ، وإنه عز وجل خلق نورا ابتدعه من غير شيء ، ثم خلق منه
ظلمة وكان قديرا أن يخلق الظلمة لا من شيء ، كما خلق النور من غير شيء ، ثم خلق من
الظلمة نورا وخلق من النور ياقوتة غلظها كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين ، ثم زجر
الياقوتة فماعت لهيبته فصارت ماء مرتعدا ، ولا يزال مرتعدا إلى يوم
القيامة ، ثم خلق عرشه من نوره ، وجعله على الماء ، وللعرش عشرة آلاف لسان يسبح
الله كل لسان منها بعشرة آلاف ، ليس فيها لغة تشبه الأخرى ، وكان العرش على الماء من
دونه حجب الضباب ، وذلك قوله : ( وَكانَ عَرْشُهُ
عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ .. ) ، يا كعب! ويحك! إن من كانت البحار تفلته على قولك ـ كان
أعظم من أن تحويه صخرة بيت المقدس ، أو يحويه الهواء الذي أشرت إليه أنه حل فيه .. فضحك عمر بن الخطاب ،
وقال : هذا هو الأمر ، وهكذا يكون العلم لا كعلمك يا كعب ، لا عشت إلى زمان لا أرى فيه أبا حسن.
٧
ـ كا : العدة ، عن
البرقي ، عن أبيه ، عن عبد الله بن القاسم ، عن
__________________
حنان بن السراج ، عن داود بن
سليمان الكسائي ، عن أبي الطفيل ، قال : شهدت جنازة أبي بكر يوم مات ،
وشهدت عمر حين بويع وعلي عليهالسلام جالس ناحية ، فأقبل غلام يهودي جميل الوجه ، بهي ، عليه
ثياب حسان ـ وهو من ولد هارون ـ حتى قام على رأس عمر ، فقال : يا أمير المؤمنين!
أنت أعلم هذه الأمة بكتابهم وأمر نبيهم؟. قال : فطأطأ عمر رأسه ، فقال : إياك أعني
.. وأعاد عليه القول ، فقال له عمر : لم ذاك؟. قال : إني جئتك مرتادا لنفسي ، شاكا
في ديني. فقال : دونك هذا الشاب. قال : ومن هذا الشاب؟. قال : هذا علي بن أبي طالب
ابن عم رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وهذا أبو الحسن والحسين ابني رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وهذا زوج فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فأقبل اليهودي على علي عليهالسلام فقال : أكذلك أنت؟!. فقال :نعم.
قال : إني أريد أن
أسألك عن ثلاث وثلاث وواحدة.
قال : فتبسم أمير
المؤمنين عليهالسلام من غير تبسم ، فقال يا هاروني! ما منعك أن تقول سبعا؟. قال : أسألك عن ثلاث ،
فإن أجبتني سألت عما بعدهن ، وإن لم تعلمهن علمت أنه ليس فيكم عالم.
قال علي عليهالسلام : فإني أسألك بالإله الذي تعبده لئن أنا أجبتك في كل ما تريد لتدعن دينك
ولتدخلن في ديني؟.
قال : ما جئت إلا
لذاك.
قال : فسل؟.
__________________
قال : أخبرني عن
أول قطرة دم قطرت على وجه الأرض ، أي قطرة هي؟و أول عين فاضت على وجه الأرض ، أي
عين هي؟ وأول شيء اهتز على وجه الأرض ، أي شيء هو؟.
فأجابه أمير
المؤمنين عليهالسلام فقال : أخبرني عن الثلاث الأخر ، أخبرني عن محمد ، كم له من
إمام عادل؟. وفي أي جنة يكون؟ ومن يساكنه معه في جنته ؟.
قال : يا هاروني!
إن لمحمد صلىاللهعليهوآله اثني عشر إمام عدل لا يضرهم خذلان من خذلهم ، ولا يستوحشون
بخلاف من خالفهم ، وإنهم في الدين أرسب من الجبال الرواسي في الأرض ، ومسكن محمد
في جنته ، معه أولئك الاثنا عشر الإمام العدل.
فقال : صدقت والله
الذي لا إله إلا هو ، إني لأجدها في كتب أبي هارون ، كتبه بيده وأملاه موسى
عمي عليهالسلام.
قال : فأخبرني عن
الواحدة؟ أخبرني عن وصي محمد كم يعيش من بعده؟و هل يموت أو يقتل؟.
قال : يا هاروني!
يعيش بعده ثلاثين سنة لا يزيد يوما ولا ينقص يوما ، ثم يضرب ضربة هاهنا ـ يعني على
قرنه ـ فيخضب هذه من هذا.
قال : فصاح
الهاروني وقطع كستيجه ، وهو يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلىاللهعليهوآله ، وأنك
__________________
وصيه ، ينبغي أن
تفوق ولا تفاق ، وأن تعظم ولا تستضعف.
قال : ثم مضى به علي عليهالسلام إلى منزله فعلمه معالم الدين.
بيان :
في القاموس : جبل راسب .. أي
ثابت ، وكذا الراسي بمعنى الثابت .
٨
ـ كا : محمد بن يحيى ،
عن محمد بن الحسين ، عن مسعدة بن زياد ، عن أبي عبد الله عليهالسلام.
ومحمد بن الحسين ،
عن إبراهيم ، عن ابن أبي يحيى المديني ، عن أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد
الخدري ، قال : كنت حاضرا لما هلك أبو بكر واستخلف عمر ، أقبل يهودي من عظماء يهود يثرب ،
ويزعم يهود المدينة أنه أعلم أهل زمانه حتى رفع إلى عمر ، فقال له : يا عمر! إني
جئتك أريد الإسلام فإن أخبرتني عما أسألك عنه فأنت أعلم أصحاب محمد بالكتاب والسنة
وجميع ما أريد أن أسأل عنه.
قال : فقال له عمر
: إني لست هناك ، لكني أرشدك إلى من هو أعلم أمتنا بالكتاب والسنة وجميع ما قد
تسأل عنه ، وهو ذاك ، فأومى إلى علي عليهالسلام.
فقال له اليهودي :
يا عمر! إن كان هذا كما تقول فما لك ولبيعة الناس ، وإنما
__________________
ذاك أعلمكم ،
فزبره عمر.
ثم إن اليهودي قام
إلى علي عليهالسلام فقال : أنت كما ذكر عمر؟.
فقال : وما قال عمر؟.
فأخبره.
قال : فإن كنت كما
قال ، سألتك عن أشياء أريد أن أعلم هل يعلمه أحد منكم فأعلم أنكم في دعواكم خير
الأمم وأعلمها صادقين ، ومع ذلك أدخل في دينكم الإسلام.
فقال أمير
المؤمنين عليهالسلام : نعم ، أنا كما ذكر لك عمر ، سل عما بدا لك أخبرك به إن
شاء الله تعالى .
قال : أخبرني عن
ثلاث وثلاث وواحدة.
فقال له علي عليهالسلام : يا يهودي! و لم لم تقل أخبرني عن سبع؟.
فقال له اليهودي :
إنك إن أخبرتني بالثلاث ، سألتك عن البقية وإلا كففت ، فإن أنت أجبتني في هذه
السبع فأنت أعلم أهل الأرض وأفضلهم وأولى الناس بالناس.
فقال له : سل عما
بدا لك أخبرك به إن شاء الله تعالى .
قال : أخبرني عن
أول حجر وضع على وجه الأرض؟ وأول شجرة غرست على وجه الأرض؟ وأول عين نبعت على وجه
الأرض؟.
فأخبره أمير
المؤمنين عليهالسلام.
ثم قال له اليهودي
: أخبرني عن هذه الأمة كم لها من إمام هدى؟ وأخبرني عن نبيكم محمد أين منزله في
الجنة؟ وأخبرني من معه في الجنة؟.
فقال له أمير
المؤمنين عليهالسلام : إن لهذه الأمة اثني عشر إمام هدى من
__________________
ذرية نبيها وهم
مني. وأما منزل نبينا في الجنة ففي أفضلها وأشرفها : جنة عدن ، وأما من معه في
منزله فيها فهؤلاء الاثنا عشر من ذريته ، وأمهم وجدتهم أم أمهم وذراريهم لا
يشركهم فيها أحد ..
٩
ـ كا : محمد بن يحيى ،
عن محمد بن الحسين ، عن الحسن بن علي ، عن زكريا المؤمن ، عن ابن مسكان ، عن بعض
أصحابنا ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : إن رجلا أتى بامرأته إلى عمر ، فقال : إن امرأتي
هذه سوداء وأنا أسود وإنها ولدت غلاما أبيض. فقال لمن بحضرته : ما ترون؟.
قالوا : نرى أن
ترجمها فإنها سوداء وزوجها أسود وولدها أبيض.
قال : فجاء أمير
المؤمنين عليهالسلام وقد وجه بها لترجم ، فقال : ما حالكما؟. فحدثاه.
فقال للأسود : أتتهم
امرأتك؟!.
فقال : لا.
قال : فأتيتها وهي
طامث؟.
قالت : نعم ، سله
، قد حرجت عليه وأبيت.
قال : فانطلقا
فإنه ابنكما ، وإنما غلب الدم النطفة فابيض ، ولو قد تحرك اسود. فلما أيفع اسود.
بيان :
التحريج : التضييق
، ذكره الجوهري ، وقال : أيفع الغلام .. أي
__________________
ارتفع .
١٠
ـ مشارق الأنوار : قال : إن رجلا حضر مجلس أبي بكر فادعى أنه لا يخاف الله ، ولا يرجو الجنة ،
ولا يخشى النار ، ولا يركع ولا يسجد ، ويأكل الميتة والدم ، ويشهد بما لا يرى ، ويحب الفتنة ،
ويكره الحق ، ويصدق اليهود والنصارى ، وأن عنده ما ليس عند الله ، وله ما ليس لله
، وأني أحمد النبي ، وأني علي وأنا ربكم ، فقال له عمر : ازددت كفرا على كفرك؟!.
فقال له أمير
المؤمنين عليهالسلام : هون عليك يا عمر! فإن هذا رجل من أولياء الله لا يرجو
الجنة ولكن يرجو الله ، ولا يخاف النار ولكن يخاف ربه ، ولا يخاف الله من ظلم ولكن
يخاف عدله ، لأنه حكم عدل ، ولا يركع ولا يسجد في صلاة الجنازة ، ويأكل الجراد
والسمك ، ويحب الأهل والولد ، ويشهد بالجنة والنار ولم يرهما ، ويكره الموت وهو الحق
، ويصدق اليهود والنصارى في تكذيب بعضهما بعضا ، وله ما ليس لله ، لأن له ولدا وليس لله ولد ، وعنده
ما ليس عند الله ، فإنه يظلم نفسه وليس عند الله ظلم ، وقوله أنا أحمد النبي صلىاللهعليهوآله .. أي أنا أحمده على تبليغ الرسالة عن ربه ، وقوله : أنا علي .. يعني علي في قولي ،
وقوله : أنا ربكم .. أي رب كم بمعنى لي كم أرفعها وأضعها ، ففرح عمر ،
__________________
و قام وقبل رأس
أمير المؤمنين ، وقال : لا بقيت بعدك يا أبا الحسن.
بيان :
هون عليك .. أي
سهل على نفسك بالسؤال أو بالانتظار ليتبين الحق ، أو المعنى ما أهون عليك .. أي
ليس فيه إشكال ، ولعل المراد بالدم دم السمك ، أو مطلق الدم المتخلف ، وتركه عليهالسلام للظهور ، والمراد بالميتة ما لم يذبح ، كما ورد : في البحر تحل ميتته .
١١
ـ كنز : محمد بن العباس
، عن أحمد بن هوزة ، عن النهاوندي ، عن عبد الله بن حماد ، عن نصر بن يحيى ،
عن المقتبس بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن جده ، قال : كان رجل من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله مع عمر بن الخطاب فأرسله في جيش فغاب ستة أشهر ثم قدم ، وكان مع أهله ستة
أشهر فعلقت منه فجاءت بولد لستة أشهر فأنكره ، فجاء بها إلى عمر فقال : يا أمير
المؤمنين! كنت في البعث الذي وجهتني فيه ، وتعلم أني قدمت ستة أشهر ، وكنت
مع أهلي وقد جاءت بغلام وهو ذا ، وتزعم أنه مني؟. فقال لها عمر : ما ذا تقولين
أيتها المرأة؟. فقالت : والله ما غشيني رجل غيره ، وما فجرت ، وإنه لابنه ، وكان
اسم الرجل : الهيثم.
فقال لها عمر : أحق
ما يقول زوجك؟.
قالت : قد صدق يا
أمير المؤمنين! فأمر بها عمر أن ترجم ، فحفر لها حفيرة
__________________
ثم أدخلها فيه ،
فبلغ ذلك عليا عليهالسلام ، فجاء مسرعا حتى أدركها وأخذ بيديها فسلها من الحفيرة.
ثم قال لعمر :
اربع على نفسك إنها قد صدقت ، إن الله عز وجل يقول في كتابه : ( حَمْلُهُ
وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) ، وقال في الرضاع : ( وَالْوالِداتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ) ، فالحمل والرضاع
ثلاثون شهرا ، وهذا الحسين ولد لستة أشهر.
فعندها قال عمر :
لو لا علي لهلك عمر .
١٢
ـ ما المفيد ، عن علي
بن خالد ، عن محمد بن الحسين بن صالح ، عن محمد بن علي بن زيد ، عن محمد بن تسنيم
، عن جعفر بن محمد الخثعمي ، عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن رقية بن مصقلة بن عبد
الله بن جؤية العبدي ، عن أبيه ، عن جده ، قال : أتى عمر
بن الخطاب رجلان يسألان عن طلاق الأمة ، فالتفت إلى خلفه فنظر إلى علي بن أبي طالب
عليهالسلام ، فقال : يا أصلع! ما ترى في طلاق الأمة؟.
فقال بإصبعيه ..
هكذا ، وأشار بالسبابة والتي تليها ، فالتفت إليهما عمر وقال : ثنتان.
__________________
فقال : سبحان الله!
جئناك وأنت أمير المؤمنين فسألناك فجئت إلى رجل سألته ، والله ما كلمك.
فقال عمر : تدريان من هذا؟.
قالا : لا.
قال : هذا علي بن
أبي طالب ، سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول :
لو أن السماوات السبع والأرضين السبع وضعتا في كفة ووضع إيمان علي في كفة لرجح
إيمان علي (ع).
١٣
ـ عدة : روى الحكم بن
مروان ، عن جبير بن حبيب ، قال : نزل بعمر بن الخطاب نازلة قام لها وقعد ، وترنح
لها وتقطر. ثم قال : يا معشر المهاجرين! ما عندكم فيها؟.
قالوا : يا أمير
المؤمنين! أنت المفزع والمنزع ، فغضب ، ثم قال : ( يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) أما والله أنا
وإياكم لنعرف ابن بجدتها ، والخبير بها.
قالوا : كأنك أردت
ابن أبي طالب؟.
قال : وأنى يعدل
بي عنه ، وهل طفحت حرة بمثله.
قالوا : فلو بعثت
إليه.
قال : هيهات! هناك
شمخ من هاشم ولحمة من الرسول (ص) ، وأثرة من
__________________
علم يؤتى لها ولا
يأتي ، امضوا إليه فاقصفوا نحوه ، وأفضوا إليه ، وهو في حائط له و عليه تبان يتركل
على مسحاته وهو يقول : ( أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ
أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ
عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ) ودموعه تهمي على خديه ، فأجهش القوم لبكائه ، ثم سكن وسكنوا ، وسأله عمر عن مسألته فأصدر
إليه جوابها ، فلوى عمر يديه.
ثم قال : أما والله
لقد أرادك الحق ولكن أبى قومك!.
فقال عليهالسلام له : يا أبا حفص! خفض عليك من هنا ومن هنا ( إِنَّ يَوْمَ
الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً ) .
فانصرف وقد أظلم
وجهه وكأنما ينظر من ليل.
بيان :
قال الجوهري :
ترنح : تمايل من السكر وغيره ، ورنح عليه ترنيحا ـ على بناء ما لم يسم فاعله ـ ..
أي غشي عليه ، أو اعتراه وهن في عظامه فتمايل ، وهو مرنح .
__________________
وفي القاموس :
تقطر : تهيأ للقتال ، ورمى بنفسه من علو ، والجذع .. انجعف .. أي انقلع .
وقال : هو ابن بجدتها
: للعالم بالشيء ، وللدليل الهادي ، ولمن لا يبرح عن قوله ، وعنده بجدة ذلك .. أي
علمه.
وقال : طفحت ـ كمنع ـ بالولد
: ولدته لتمام.
وقال : شمخ الجبل :
علا وطال ، والرجل بأنفه : تكبر .. ونية شمخ محركة ـ : بعيدة .. ، والشامخ :
الرافع أنفه عزا.
والأثرة : البقية
من العلم يؤثر .
وقال : في الحديث
: أنا والنبيون فراط القاصفين : هم المزدحمون كأن بعضهم يقصف بعضا لفرط الزحام ،
وتزاحمهم بدارا إلى الجنة .. أي نحن متقدمون في الشفاعة لقوم كثيرين
متدافعين .. ، والقصفة من القوم : تدافعهم وتزاحمهم ، ورقة الأرطى وقد أقصف .
وقال : التبان ـ كرمان
ـ : سراويل صغير يستر العورة المغلظة .
وقال : تركل
بمسحاته : ضربها برجله لتدخل في الأرض .
__________________
وقال : سحا الطين
يسحيه ويسحوه ويسحاه سحيا : قشره وجرفه ، والمسحاة ـ بالكسر ـ ما سحي به .
وقال : خفض القول
يا فلان : لينه ، والأمر : هونه .
قوله : من هنا ومن
هنا .. أي من أول الأمر حيث منعتني الخلافة ومن هذا الوقت حيث تقر لي بالفضل ،
ويمكن أن يقرأ ( من ) بالفتح فيهما .. أي من كان المانع في أول الأمر ومن القائل
في هذا الوقت ، أي لا تناسب بينهما ، وعلى الأول يحتمل أن يكون أحدهما إشارة إلى
الدنيا والآخر إلى العقبى .
__________________
__________________
__________________
__________________
بسم الله الرحمن الرحيم
__________________
__________________
[١٩] باب
ما أظهر
أبو بكر وعمر من الندامة
على غصب
الخلافة عند الموت
١
ـ قال أبو الصلاح قدس الله روحه في تقريب المعارف : لما طعن عمر جمع بني عبد المطلب وقال : يا بني عبد
المطلب! أراضون أنتم عني؟.
فقال رجل من
أصحابه : ومن ذا الذي يسخط عليك؟ .. فأعاد الكلام ثلاث مرات ، فأجابه رجل بمثل
جوابه ، فانتهره عمر وقال : نحن أعلم بما أشعرنا قلوبنا ، إنا والله أشعرنا قلوبنا
ما .. نسأل الله أن يكفينا شره ، وإن بيعة أبي بكر كانت فلتة نسأل الله أن يكفينا
شرها.
وقال لابنه عبد
الله ـ وهو مسنده إلى صدره ـ : ويحك! ضع رأسي بالأرض ، فأخذته الغشية ، قال :
فوجدت من ذلك ، فقال : ويحك! ضع رأسي بالأرض ، فأخذته الغشية ، قال : فوجدت من ذلك
، فقال : ويحك! ضع رأسي بالأرض ، فوضعت رأسه بالأرض فعفر بالتراب ، ثم قال : ويل
لعمر! وويل لأمه! إن لم يغفر الله له.
وقال ـ أيضا ـ حين
حضره الموت : أتوب إلى الله من ثلاث : من اغتصابي هذا الأمر أنا وأبو بكر من دون
الناس ، ومن استخلافي عليهم ، ومن تفضيلي
__________________
المسلمين بعضهم
على بعض.
وقال ـ أيضا ـ :
أتوب إلى الله من ثلاث : من ردي رقيق اليمن ، ومن رجوعي عن جيش أسامة بعد أن أمره رسول الله
صلى الله عليه [ وآله ] علينا ، ومن تعاقدنا على أهل البيت إن قبض رسول الله أن لا
نولي منهم أحدا.
ورووا عن عبد الله
بن شداد بن الهاد ، قال : كنت عند عمر ـ وهو يموت فجعل يجزع ، فقلت : يا أمير
المؤمنين! أبشر بروح الله وكرامته ، فجعلت كلما رأيت جزعه قلت هذا ، فنظر إلي فقال
: ويحك! فكيف بالممالأة على أهل بيت محمد صلى الله عليه [ وآله ]. انتهى ما أخرجناه من
التقريب .
وقال الزمخشري في
ربيع الأبرار : لما حضرت عمر بن الخطاب الوفاة قال لبنيه ومن حوله : لو
أن لي ملء الأرض من صفراء أو بيضاء لافتديت به من أهوال ما أرى.
٢
ـ ل : المظفر العلوي
، عن ابن العياشي ، عن أبيه ، عن محمد بن
__________________
حاتم ، عن عبد
الله بن حماد وسليمان بن معبد ، هما عن عبد الله بن صالح ، عن الليث بن سعد ، عن
علوان بن داود بن صالح ، عن صالح بن كيسان ، عن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن
بن عوف ، عن أبيه ، قال : قال أبو بكر في مرضه الذي قبض فيه : أما إني لا آسى من
الدنيا إلا على ثلاث فعلتها ، ووددت أني تركتها ، وثلاث تركتها وددت أني فعلتها ،
وثلاث وددت أني كنت سألت عنهن رسول الله صلىاللهعليهوآله ، أما التي وددت أني تركتها ، فوددت أني لم أكن كشفت بيت
فاطمة وإن كان علق على الحرب ، ووددت أني لم أكن حرقت الفجاءة وأني
قتلته سريحا أو أطلقته نجيحا ، ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق
أحد الرجلين ـ عمر أو أبي عبيدة ـ فكان أميرا وكنت وزيرا.
وأما التي تركتها : فوددت أني يوم
أتيت بالأشعث أسيرا كنت ضربت عنقه ، فإنه يخيل إلي أنه لم ير صاحب شر إلا أعانه ،
ووددت أني حين سيرت خالدا إلى أهل الردة كنت قدمت إلى قربه فإن ظفر المسلمون
ظفروا وإن هزموا كنت بصدد لقاء أو مدد ، ووددت أني كنت إذ وجهت خالدا إلى
الشام قذفت المشرق
__________________
بعمر بن الخطاب ،
فكنت بسطت يدي ـ يميني وشمالي ـ في سبيل الله.
وأما التي وددت
أني كنت سألت عنهن رسول الله صلىاللهعليهوآله :فوددت أني كنت سألته فيمن هذا الأمر فلم ننازعه أهله ،
ووددت أني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب ، ووددت أني كنت سألته عن ميراث
الأخ والعم ، فإن في نفسي منها حاجة .
قال الصدوق رضياللهعنه : إن يوم غدير خم لم يدع لأحد عذرا ، هكذا قالت سيدة النسوان فاطمة عليهاالسلام لما منعت من فدك وخاطبت الأنصار فقالوا : يا بنت محمد! لو سمعنا هذا الكلام
منك قبل بيعتنا لأبي بكر ما عدلنا بعلي أحدا. فقالت : وهل ترك أبي يوم غدير خم
لأحد عذرا؟!.
٣
ـ ل : أبي ، عن
المؤدب ، عن أحمد الأصبهاني ، عن الثقفي ، عن يحيى بن الحسن بن الفرات ، عن هارون
بن عبيدة ، عن يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهماالسلام قال : قال عمر حين حضره الموت : أتوب إلى الله من ثلاث :
اغتصابي هذا الأمر أنا وأبو بكر من دون الناس ، واستخلافي عليهم ، وتفضيلي
المسلمين بعضهم على بعض.
٤
ـ ل : بالإسناد إلى
الثقفي ، عن المسعودي ، عن الحسن بن حماد
__________________
الطائي ، عن زياد
بن المنذر ، عن عطية ـ فيما يظن ـ ، عن جابر بن عبد الله ، قال : شهدت عمر عند
موته يقول : أتوب إلى الله من ثلاث : من ردي رقيق اليمن ، ومن رجوعي عن جيش أسامة
بعد أن أمره رسول الله صلىاللهعليهوآله علينا ، ومن تعاقدنا على أهل هذا البيت إن قبض الله رسوله
لا نولي منهم أحدا.
٥
ـ ل : بالإسناد إلى
الثقفي ، عن محمد بن علي ، عن الحسين بن سفيان ، عن أبيه ، عن فضل بن الزبير ، عن
أبي عبيدة الحذاء ، قال : سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : لما حضر عمر الموت قال : أتوب إلى الله من رجوعي من
جيش أسامة ، وأتوب إلى الله من عتقي سبي اليمن ، وأتوب إلى الله من شيء كنا
أشعرناه قلوبنا نسأل الله أن يكفينا ضره ، وأن بيعة أبي بكر كانت فلتة.
بيان :
قال في النهاية في
حديث عمر : « إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها ».، أراد بالفلتة : الفجأة
، ومثل هذه البيعة جدير بأن تكون مهيجة للشر والفتنة ، فعصم الله عن ذلك ووقى ،
والفلتة : كل شيء فعل من غير روية وإنما يورد بها خوف انتشار الأمر ، وقيل : أراد بالفلتة : الخلسة ..
أي إن الإمامة يوم السقيفة مالت إلى توليها الأنفس ولذلك كثر فيها التشاجر ،
فما قلدها أبو بكر إلا انتزاعا من الأيدي واختلاسا ، وقيل : الفلتة آخر ليلة من
الأشهر الحرم ، فيختلفون أمن الحل هي أم من الحرام ؟ فيتسارع الموتود
إلى درك الثار
__________________
فيكثر الفساد
ويسفك الدماء ، فشبه أيام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بالأشهر الحرم ويوم موته بالفلتة في وقوع الشر من
ارتداد العرب وتخلف الأنصار عن الطاعة ، ومنع من منع الزكاة ، والجري على عادة
العرب في أن لا يسود القبيلة إلا رجل منها . انتهى.
ولا يخفى ضعف تلك
التأويلات على عاقل ، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى .
٦
ـ جا : الجعابي ، عن
العباس بن المغيرة ، عن أحمد بن منصور ، عن سليمان بن حرب ، عن حماد بن بريد ، عن يحيى بن
سعيد ، عن عاصم ، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان ، عن أبيه ، عن عثمان بن عفان
، قال : كنت آخر الناس عهدا بعمر بن الخطاب ، دخلت عليه ورأسه في حجر ابنه
عبد الله وهو يولول ، فقال له : ضع خدي بالأرض ، فأبى عبد الله ، فقال له : ضع
خدي بالأرض لا أم لك ، فوضع خده على الأرض ، فجعل يقول :
__________________
ويل أمي! ويل أمي!
إن لم تغفر لي .. فلم يزل يقولها حتى خرجت نفسه.
٧
ـ إرشاد القلوب : ـ بحذف الإسناد ـ مرفوعا إلى عبد الرحمن بن غنم الأزدي ـ ختن معاذ بن جبل ـ وحين مات كانت ابنته تحت معاذ بن جبل
، وكان أفقه أهل الشام وأشدهم اجتهادا ، قال : مات معاذ بن جبل
بالطاعون ، فشهدت يوم مات ـ والناس متشاغلون بالطاعون ـ ، قال : وسمعته حين احتضر
وليس في البيت غيري ـ وذلك في خلافة عمر بن الخطاب ـ ، فسمعته يقول :
ويل لي! ويل لي !. فقلت في نفسي : أصحاب الطاعون يهذون ويقولون الأعاجيب.
فقلت له : أتهذي؟. قال : لا ، رحمك الله . قلت : فلم تدعو بالويل والثبور؟. قال : لموالاتي عدو الله
على ولي الله. فقلت له : من هم ؟. قال :موالاتي عتيقا و [ رمع ] على خليفة رسول الله ووصيه
علي بن أبي طالب عليهالسلام. فقلت : إنك لتهجر!. فقال : يا ابن غنم! والله ما أهجر ،
هذان ، رسول الله صلىاللهعليهوآله وعلي بن أبي طالب عليهالسلام يقولان لي : يا معاذ! أبشر بالنار
__________________
أنت وأصحابك. أفليس
قلتم إن مات رسول الله صلىاللهعليهوآله أو قتل زوينا الخلافة عن علي بن أبي طالب (ع) فلن تصل إليه ،
فاجتمعت أنا و [ عتيق ورمع ] وأبو عبيدة وسالم ، قال : قلت : متى يا معاذ؟. قال : في حجة الوداع ، قلنا :
نتظاهر على علي (ع) فلا ينال الخلافة ما حيينا ، فلما قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله قلت لهم : أنا أكفيكم قومي الأنصار فاكفوني قريشا ، ثم دعوت على عهد رسول
الله صلىاللهعليهوآله إلى هذا الذي تعاهدنا عليه بشر بن سعيد وأسيد بن حصين فبايعاني
على ذلك ، فقلت : يا معاذ! إنك لتهجر ، فألصق خده بالأرض فلما زال يدعو بالويل
والثبور حتى مات.
فقال ابن غنم : ما
حدثت بهذا الحديث يا ابن قيس بن هلال أحدا إلا ابنتي امرأة معاذ ورجلا آخر ، فإني فزعت مما
رأيت وسمعت من معاذ.
قال : فحججت ولقيت
الذي غمض أبا عبيدة وسالما فأخبراني أنه حصل لهما ذلك عند موتهما ، لم يزد فيه حرفا ولم ينقص حرفا ، كأنهما قالا
مثل ما قال معاذ بن جبل ، فقلت : أولم يقتل سالم يوم التهامة؟. قال : بلى ، ولكنا
احتملناه وبه رمق .
قال سليم : فحدثت
بحديث ابن غنم هذا كله محمد بن أبي بكر ، فقال
__________________
لي : اكتم علي
واشهد أن أبي قد قال عند موته مثل مقالتهم ، فقالت عائشة : إن أبي يهجر .
قال محمد : فلقيت
عبد الله بن عمر في خلافة عثمان وحدثته بما سمعت من أبي عند موته فأخذت عليه العهد
والميثاق ألا يكتم علي. فقال لي ابن عمر : اكتم علي ، فو الله لقد قال أبي
مثل ما قال أبوك وما زاد ولا نقص ، ثم تداركها ابن عمر بعد وتخوف أن أخبر بذلك علي
بن أبي طالب عليهالسلام لما علم من حبي له وانقطاعي إليه ، فقال : إنما كان يهجر.
فأتيت أمير المؤمنين عليهالسلام فأخبرته بما سمعته من أبي وما حدثني به ابن عمر.
فقال علي (ع) : قد حدثني بذلك
عن أبيك وعن أبيه وعن أبي عبيدة وسالم وعن معاذ من هو أصدق منك ومن ابن عمر. فقلت
: ومن ذاك يا أمير المؤمنين؟.
فقال : بعض من حدثني. فعرفت
ما عنى ، فقلت : صدقت ، إنما ظننت إنسانا حدثك ، وما شهد أبي ـ وهو يقول ذلك ـ غيري.
قال سليم : قلت
لابن غنم : مات معاذ بالطاعون فبما مات أبو عبيدة؟.
قال : مات بالدبيلة ، فلقيت محمد بن أبي بكر فقلت : هل شهد موت أبيك غيرك
وأخيك عبد الرحمن وعائشة وعمر؟. قال : لا. قلت : وهل سمعوا منه ما
__________________
سمعت؟. قال :
سمعوا منه طرفا فبكوا. وقال [ قالوا ] : هو يهجر ، فأما كل ما سمعت أنا فلا ، قلت
: فالذي سمعوا ما هو؟. قال : دعا بالويل والثبور ، فقال له عمر : يا خليفة رسول
الله! لم تدعو بالويل والثبور؟!. قال : هذا رسول الله صلىاللهعليهوآله ومعه علي بن أبي طالب يبشراني بالنار ، ومعه الصحيفة التي تعاهدنا عليها في
الكعبة ، وهو يقول : قد وفيت بها وظاهرت على ولي الله فأبشر أنت وصاحبك
بالنار في أسفل السافلين ، فلما سمعها عمر خرج وهو يقول : إنه ليهجر! قال : لا
والله لا أهجر أين تذهب؟. قال عمر : كيف لا تهجر وأنت ( ثانِيَ
اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ ) ؟! قال : الآن أيضا! أولم أحدثك أن محمدا ـ ولم يقل رسول
الله صلىاللهعليهوآله ـ قال لي وأنا معه في الغار : إني أرى سفينة جعفر وأصحابه تعوم في البحر ، فقلت
: أرنيها ، فمسح يده على وجهه فنظرت إليها ، وأضمرت عند ذلك أنه ساحر ، وذكرت لك ذلك
بالمدينة ، فأجمع رأيي ورأيك أنه ساحر ، فقال عمر : يا هؤلاء! إن أباكم يهجر فاكتموا ما
تسمعون عنه لئلا يشمت بكم أهل هذا البيت ، ثم خرج وخرج أخي وخرجت
عائشة ليتوضئوا للصلاة ، فأسمعني من قوله ما لم يسمعوا ، فقلت له ـ لما خلوت به :
يا أبت! قل : لا إله إلا
__________________
الله ، قال : لا
أقولها ولا أقدر عليها أبدا حتى أرد النار فأدخل التابوت ، فلما
ذكر التابوت ظننت أنه يهجر ، فقلت له : أي تابوت؟. فقال : تابوت من نار مقفل بقفل
من نار فيه اثنا عشر رجلا ، أنا وصاحبي هذا ، قلت : عمر؟. قال : نعم ، وعشرة في جب
من جهنم عليه صخرة إذا أراد الله أن يسعر جهنم رفع الصخرة.
قلت : أتهذي؟. قال : لا والله ما أهذي ، ولعن الله ابن صهاك هو الذي (
أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) ، ألصق خدي
بالأرض ، فألصقت خده بالأرض ، فما زال يدعو بالويل والثبور حتى غمضته ، ثم دخل عمر علي
، فقال : هل قال بعدنا شيئا ؟ فحدثته .
فقال : يرحم الله
خليفة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، اكتم! هذا كله هذيان ، وأنتم أهل بيت يعرف لكم الهذيان
في موتكم؟. قالت عائشة : صدقت ، ثم قال لي عمر : إياك أن يخرج منك شيء مما سمعت به إلى علي بن أبي طالب (ع) وأهل بيته.
قال : قال سليم : قلت لمحمد : من
تراه حدث أمير المؤمنين عليهالسلام عن هؤلاء الخمسة بما قالوا ، فقال : رسول الله صلىاللهعليهوآله ، إنه يراه في
__________________
كل ليلة في المنام
وحديثه إياه في المنام مثل حديثه إياه في اليقظة والحياة ، وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي في نوم ولا يقظة ولا بأحد من
أوصيائي إلى يوم القيامة.
قال سليم : فقلت لمحمد :
فمن حدثك بهذا؟. قال : علي . فقلت :
قد سمعت أنا أيضا منه كما سمعت أنت ، قلت لمحمد : فلعل ملكا من الملائكة حدثه. قال
: أو ذاك؟ قلت : فهل تحدث الملائكة إلا الأنبياء؟!. قال : أما تقرأ كتاب الله :
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث.
قلت أنا : أمير
المؤمنين محدث. قال : نعم ، وفاطمة محدثة ، ولم تكن نبية ، ومريم
محدثة ولم تكن نبية ، وأم موسى محدثة ولم تكن نبية ، وسارة امرأة إبراهيم قد عاينت الملائكة
ولم تكن نبية ، فبشروها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ
إِسْحاقَ يَعْقُوبَ.
قال سليم : فلما
قتل محمد بن أبي بكر بمصر وعزينا أمير المؤمنين ، جئت إلى أمير المؤمنين عليهالسلام وخلوت به فحدثته بما أخبرني به محمد بن أبي بكر وبما حدثني به ابن غنم.
__________________
قال : صدق محمد رحمهالله ، أما إنه شهيد حي مرزوق ، يا سليم! إني وأوصيائي أحد عشر رجلا من ولدي أئمة
هدى مهديون محدثون.
قلت : يا أمير
المؤمنين! ومن هم؟ .
قال : ابني [
ابناي ] الحسن والحسين ، ثم ابني هذا ـ وأخذ بيد علي بن الحسين عليهمالسلام وهو رضيع ـ ثم ثمانية من ولده واحدا بعد واحد ، وهم الذين أقسم الله بهم فقال : ( وَوالِدٍ
وَما وَلَدَ ) ، فالوالد رسول الله صلىاللهعليهوآله وأنا ، وما ولد يعني هؤلاء الأحد عشر وصيا صلوات الله
عليهم .
قلت : يا أمير
المؤمنين! يجتمع إمامان؟.
قال : لا ، إلا و أحدهما صامت لا
ينطق حتى يهلك الأول.
٨
ـ أقول : وجدت الخبر في
كتاب سليم عن أبان عن سليم عن عبد الرحمن بن غنم .. وذكر الحديث مثله
سواء.
بيان :
هذا الخبر أحد
الأمور التي صارت سببا للقدح في كتاب سليم ، لأن محمدا ولد في حجة الوداع ـ كما
ورد في أخبار الخاصة والعامة ـ فكان له عند موت أبيه سنتان وأشهر ، فكيف كان يمكنه
التكلم بتلك الكلمات ، وتذكر تلك الحكايات؟.
ولعله مما صحف فيه
النساخ أو الرواة ، أو يقال إن ذلك كان من معجزات
__________________
أمير المؤمنين عليهالسلام ظهر فيه.
وقال بعض الأفاضل
: رأيت فيما وصل إلي من نسخة هذا الكتاب أن عبد الله بن عمر وعظ أباه عند موته.
والحق أن بمثل هذا
لا يمكن القدح في كتاب معروف بين المحدثين اعتمد عليه الكليني والصدوق وغيرهما من
القدماء ، وأكثر أخباره مطابقة لما روي بالأسانيد الصحيحة في الأصول المعتبرة ،
وقل كتاب من الأصول المتداولة يخلو عن مثل ذلك.
قال النعماني في
كتاب الغيبة ـ بعد ما أورد من كتاب سليم أخبارا كثيرة ما هذا لفظه ـ :
.. كتابه أصل من الأصول التي رواها أهل العلم وحملة حديث أهل البيت عليهمالسلام وأقدمها ، لأن جميع ما اشتمل عليه هذا الكتاب إنما هو عن رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأمير المؤمنين عليهالسلام والمقداد وسلمان الفارسي وأبي ذر ومن جرى مجراهم ممن شهد
رسول الله وأمير المؤمنين عليهماالسلام وسمع منهما ، وهو من الأصول التي ترجع الشيعة إليها وتعول
عليها. انتهى .
٩ ـ وقال ابن أبي
الحديد في شرح نهج البلاغة : المبرد في الكامل ، عن عبد الرحمن بن عوف ، قال : دخلت على أبي بكر أعوده في
مرضه الذي مات فيه ، فسلمت وسألته فاستوى جالسا ، فقلت : لقد أصبحت بحمد الله بارئا. فقال :
__________________
أما إني على ما
ترى لوجع ، وجعلتم لي ـ معشر المهاجرين ـ شغلا مع وجعي ، جعلت لكم عهدا من بعدي ،
واخترت لكم خيركم في نفسي ، فكلكم ورم لذلك أنفه رجاء أن يكون الأمر له ، ورأيتم
الدنيا قد أقبلت ، والله لتتخذن ستور الحرير ونضائد الديباج ، وتألمون ضجائع الصوف
الأزدري ، كأن أحدكم على حسك السعدان ، والله لأن يقدم أحدكم فيضرب
عنقه في غير حد لخير له من أن يسبح في غمرة الدنيا ، وإنكم غدا لأول صال بالنار ، تجودون عن الطريق يمينا
وشمالا ، يا هادي الطريق جرت ، إنما هو البحر أو الفجر. فقال له عبد الرحمن :لا تكثر على ما بك فيهيضك ،
والله ما أردت إلا الخير ، وأنا صاحبك لذو خير ، وما الناس إلا رجلان ، رجل رأى ما رأيت
فلا خلاف عليك منه ، ورجل رأى غير ذلك ، وإنما يشير عليك برأيه ، فسكن وسكت
هنيئة ، فقال عبد الرحمن :ما أرى بك بأسا ، والحمد لله ، فلا تأس على الدنيا ، فو
الله إن علمناك إلا صالحا مصلحا.
فقال : أما إني لا
آسى إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني لم أفعلهن ، وثلاث لم أفعلهن وددت أني فعلتهن ،
وثلاث وددت أني سألت رسول الله صلىاللهعليهوآله عنهن.
__________________
فأما الثلاث التي
فعلتها ووددت أني لم أكن فعلتها ، فوددت أني لم أكن كشفت عن بيت فاطمة (ع) وتركته
ولو أغلق على حرب ، ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد
الرجلين ، عمر أو أبي عبيدة ، فكان أميرا وكنت وزيرا ، ووددت أني إذ أتيت بالفجاءة
لم أكن أحرقته .
وأما الثلاث التي
لم أفعلها ووددت أني فعلتها ، فوددت أني يوم أتيت بالأشعث أسيرا كنت ضربت عنقه ،
فإنه يخيل إلي أنه لا يرى شرا إلا أعان عليه ، ووددت أني حيث وجهت خالدا إلى أهل
الردة أقمت بذي القصة ، فإن ظفر المسلمون وإلا كنت ردءا لهم ، ووددت حيث وجهت خالدا إلى الشام كنت وجهت عمر إلى العراق
، فأكون قد بسطت كلتا يدي ـ اليمين والشمال ـ في سبيل الله.
وأما الثلاث
اللواتي وددت أني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] عنهن ، فوددت أني
سألته فيمن هذا الأمر ، فكنا لا ننازعه أهله؟ ووددت أني سألته هل للأنصار في هذا
الأمر نصيب؟ ووددت أني سألته عن ميراث العمة وابنة
__________________
الأخ فإن في نفسي
منهما حاجة.
توضيح :
قوله : ورم أنفه .. أي امتلأ
وانتفخ من ذلك غضبا ، وخص الأنف بالذكر لأنه موضع الأنفة والكبر ، كما يقال : شمخ
بأنفه ، ومنه قول الشاعر : ولا يهاج إذا ما أنفه ورما ...
وفي النهاية ، في
حديث أبي بكر : لتتخذن نضائد الديباج .. أي الوسائد ، واحدتهما نضيدة .
والآزري : نسبة
إلى آزر ، وهي ـ كهاجر ـ : ناحية بين الأهواز ورامهرمز .
وفي النهاية :
الأزربي ، قال : في حديث أبي بكر : لتأملن النوم على الصوف
الأزربي كما يألم أحدكم النوم على حسك السعدان .. الأزربي منسوب إلى أذربيجان ـ على
غير قياس ـ هكذا تقوله العرب ، والقياس أن تقول أزري ـ بغير باء ـ كما يقال في
النسب إلى رامهرمز : وامي وهو مطرد في النسب إلى الأسماء
__________________
المركبة ، والسعدان : نبت
ذو شوك يشبه حلمة الثدي ، والحسك جمع الحسكة ـ بتحريكهما ـ : وهي شوكة صلبة .
والجور : الميل عن
الطريق .
وقال ابن الأثير ـ
في حديث أبي بكر ـ : « إنما هو الفجر أو البجر » البجر ـ بالفتح والضم ـ : الداهية
والأمر العظيم .. أي إن انتظرت حتى يضيء الفجر أبصرت الطريق ، وإن خبطت الظلماء أفضت بك
إلى المكروه ، ويروى البحر ـ بالحاء ـ يريد غمرات الدنيا ، شبهها بالبحر لتبحر
أهلها فيها .
والهيض ـ بالفتح ـ
: الكسر بعد الجبر وهو أشد ما يكون من الكسر ، يقال هاضه الأمر يهيضه .
ولا تأس .. أي لا
تحزن .
تذييل :
اعلم أن ما اشتمل
عليه هذا الخبر أحد المطاعن المشهورة لأبي بكر ذكره الأصحاب ، قالوا : إن قوله :
ليتني كنت سألت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم هل للأنصار في هذا الأمر حق؟ يدل على شكه في صحة بيعته ،
وقوله : ليتني تركت بيت فاطمة عليهاالسلام لم أكشفه ، وليتني في ظلة بني ساعدة كنت ضربت على يد أحد
الرجلين .. يدل على ما روي من إقدامه على بيت فاطمة عليها
__________________
السلام عند اجتماع
علي عليهالسلام والزبير وغيرهما فيه ، وعلى أنه كان يرى الفضل لغيره لا
لنفسه.
وقوله : وددت أني
سألت فيمن هذا الأمر فكنا لا ننازعه أهله .. كالصريح في أنه لم يكن أهلا للإمامة.
وقوله : وددت أني
سألت عن ميراث العمة والخالة .. اعتراف بجهله بأحكام الدين.
وأجاب عنه قاضي
القضاة في المغني بأن قوله : ليتني .. لا يدل على الشك فيما تمناه ، وقول إبراهيم عليهالسلام : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ
أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) أقوى في الشبهة
من ذلك ، ثم حمل تمنيه على أنه أراد سماع شيء مفصل ، أو أراد ليتني سألته
عند الموت لقرب العهد ، لأن ما قرب عهده لا ينسى ، ويكون أردع للأنصار عما حاولوه .
ثم قال : على أنه
ليس في ظاهره أنه تمنى أن يسأل هل له حق للإمامة أم لا؟ لأن الإمامة قد يتعلق بها حقوق
سواها ، ثم دفع الرواية المتعلقة ببيت فاطمة عليهاالسلام ، وقال : فأما تمنيه أن يبايع غيره ، فلو ثبت لم يكن ذما ، لأن من اشتد
التكليف عليه فهو يتمنى خلافه .
__________________
وذكر شارح المقاصد
الطعن بأنه شك عند موته في استحقاقه للإمامة ، حيث قال : وددت أني سألت رسول
الله صلى الله عليه [ وآله ] عن هذا الأمر فيمن هو وكنا لا ننازع أهله؟ ثم أجاب :
بأن هذا على تقدير صحته لا يدل على الشك ، بل على عدم النص ، وبأن إمامته كانت
بالبيعة والاختيار ، وأنه في طلب الحق بحيث يحاول أن لا يكتفي بذلك ، بل يريد
اتباع النص خاصة.
وبنحو ذلك أجاب
الفخر الرازي في نهاية العقول عن الطعن بقوله :
ليتني سألت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم هل للأنصار فيه حق؟ .. إلا أنه لم يمنع صحة الرواية.
وأورد السيد الأجل
رضياللهعنه في الشافي على كلام صاحب المغني بأنه ليس يجوز أن يقول أبو بكر :
ليتني سألت عن .. كذا إلا مع الشك والشبهة ، لأن مع العلم واليقين لا يجوز مثل هذا
القول ، هكذا يقتضي الظاهر ، فأما قول إبراهيم عليهالسلام فإنما ساغ أن يعدل عن ظاهره ، لأن الشك لا يجوز على الأنبياء عليهمالسلام ويجوز على غيرهم ، على أنه عليهالسلام قد نفى عن نفسه الشك بقوله : ( بَلى وَلكِنْ
لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) ، وقد قيل : إن نمرود قال له : إذا كنت تزعم أن لك ربا
يحيي الموتى فاسأله أن يحيي لنا ميتا إن كان على ذلك قادرا ، فإن لم يفعل ذلك
قتلتك ، فأراد بقوله : ( وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ
قَلْبِي ) .. أي لآمن
__________________
من توعد عدوك ، وقد
يجوز أن يكون طلب ذلك لقومه وقد سألوه أن يرغب إلى الله فيه ، فقال ليطمئن قلبي
إلى إجابتك لي وإلى إزاحة علة قومي ، ولم يرد ليطمئن قلبي إلى أنك تقدر أن تحيي
الموتى ، لأن قلبه قد كان بذلك مطمئنا ، وأي شيء يريد أبو بكر من التفصيل أكثر من قوله :
إن هذا الأمر لا يصلح إلا لهذا الحي من قريش ، وأي فرق بين ما يقال عند الموت وبين
ما يقال قبله إذا كان محفوظا معلوما لم يرفع حكمه ولم ينسخ.
وبعد ، فظاهر
الكلام لا يقتضي هذا التخصيص ونحن مع الإطلاق والظاهر ، وأي حق يجوز أن يكون
للأنصار في الإمامة غير أن يتولاها رجل منهم حتى يجوز أن يكون الحق الذي تمنى أن
يسأل عنه غير الإمامة؟ وهل هذا إلا تعسف وتكلف؟! وأي شبهة تبقى بعد قول أبي بكر :
ليتني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر حق فكنا لا ننازعه أهله؟ ومعلوم أن
التنازع بينهم لم يقع إلا في الإمامة نفسها لا في حق آخر من حقوقها.
فأما قوله : إنا
قد بينا أنه لم يكن منه في بيت فاطمة عليهاالسلام ما يوجب أن يتمنى أنه لم يفعله ، فقد بينا فساد ظنه فيما تقدم .
فأما قوله : إن من
اشتد التكليف عليه قد يتمنى خلافه .. فليس بصحيح ، لأن ولاية أبي بكر إذا كانت هي
التي اقتضاها الدين والنظر للمسلمين في تلك الحال ، وما عداها كان مفسدة ومؤديا
إلى الفتنة ، فالتمني بخلافها لا يكون إلا قبيحا.
__________________
١٠
ـ كتاب الاستدراك : قال : ذكر عيسى بن مهران في كتاب الوفاة ، بإسناده عن الحسن بن الحسين
العرني ، قال : حدثنا مصبح العجلي ، عن أبي عوانة ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن
عمر ، قال : : لما ثقل أبي أرسلني إلى علي عليهالسلام فدعوته ، فأتاه ، فقال : يا أبا الحسن! إني كنت ممن شغب
عليك ، وأنا كنت أولهم ، وأنا صاحبك ، فأحب أن تجعلني في حل.
فقال : نعم ، على
أن تدخل عليك رجلين فتشهدهما على ذلك. قال :
فحول وجهه إلى الحائط ، فمكث طويلا ثم قال : يا أبا الحسن! ما تقول؟.
قال : هو ما أقول
لك. قال : فحول وجهه .. فمكث طويلا ثم قام فخرج.
قال : قلت : يا
أبت! قد أنصفك ، ما عليك لو أشهدت له رجلين!.
قال : يا بني إنما
أراد أن لا يستغفر لي رجلان من بعدي ..
بيان
: يقال شغب عليه ـ كمنع
وفرح ـ : هيج الشر عليه .
١١
ـ الكافية في إبطال توبة الخاطئة : عن سليم ، عن محمد بن أبي بكر ، قال : لما حضر أبا بكر
أمره جعل يدعو بالويل والثبور ، وكان عمر عنده ، فقال لنا : اكتموا هذا الأمر على
أبيكم ، فإنه يهذي ، وأنتم قوم معروفون لكم عند
__________________
الوجع الهذيان.
فقالت عائشة : صدقت ، فخرج عمر فقبض أبو بكر.
١٢ ـ وعن هشام بن عروة ،
عن عبد الله بن عمر ، قال : قيل لعمر : ألا تستخلف؟. فقال : إن أستخلف فقد استخلف
من هو خير مني ، أبو بكر ، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني أبو بكر ، وإن أترك فقد
ترك من هو خير مني رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فأثنوا عليه ، فقال ـ راغبا راهبا ـ : وددت أني كفافا لا علي
ولا لي.
١٣ ـ وعن شعبة ، عن عاصم
بن عبد الله بن عباس بن ربيعة ، قال : رأيت عمر بن الخطاب أخذ تبنة من الأرض ، فقال
: ليتني ( كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا ) ، ليت أمي لم
تلدني.
١٤ ـ وعن سفيان ، عن عاصم
، قال : حدثني أبان بن عثمان ، قال : آخر كلمة قالها عمر حتى قضى : ويل أمي إن لم
يغفر لي ربي! ويل أمي إن لم يغفر لي ربي!.
١٥ ـ وعن عمرو بن دينار ، عن
يحيى بن جعدة ، قال : قال عمر
__________________
حين حضره الموت ـ :
لو أن لي الدنيا وما فيها لافتديت بها من النار.
١٦ ـ وعن شعبة ، عن سماك
اليماني ، عن ابن عباس ، قال : أتيت على عمر فقال : وددت أني أنجو منها
كفافا لا أجر ولا وزر.
١٧ ـ وعن حصين بن عبد
الرحمن ، عن عمر بن ميمون ، قال : جاء شاب إلى عمر فقال : أبشر يا أمير المؤمنين
ببشرى الله لك من القدم في الإسلام وصحبة رسول الله صلىاللهعليهوآله ما قد علمت ، ثم وليت فعدلت ، ثم شهادة. فقال : يا ابن أخي!
وددت أن ذلك كفافا لا علي ولا لي.
١٨ ـ وعن ابن أبي إياس ،
عن سليمان بن حنان ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن ابن عباس ، قال :
دخلت على عمر ـ حين طعن ـ ، فقلت : أبشر يا أمير المؤمنين! أسلمت حين كفر الناس ،
وقبض صلىاللهعليهوآله وهو عنك راض ، ولم يختلف في خلافتك ، وقتلت شهيدا.
فقال عمر : أعد
علي قولك .. فأعدته عليه.
فقال : إن المغرور
من غررتموه ، والذي لا إله غيره لو كان لي ما على الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت
به من هول المطلع .
__________________
[٢٠] باب
كفر
الثلاثة ونفاقهم وفضائح أعمالهم وقبائح آثارهم
وفضل
التبري منهم ولعنهم
١
ـ ير : أحمد بن محمد ،
عن عمر بن عبد العزيز ، عن محمد بن الفضيل ، عن الثمالي ، عن علي بن الحسين عليهماالسلام ، قال : قلت له : أسألك عن فلان وفلان؟. قال : فعليهما لعنة الله بلعناته كلها ،
ماتا ـ والله كافرين مشركين بالله العظيم ..
٢
ـ فس : أبي ، عن حنان
بن سدير ، عن أبيه ، عن أبي جعفر عليهالسلام : إن صفية بنت عبد المطلب مات ابن لها فأقبلت ، فقال لها
عمر : غطي
__________________
قرطك ، فإن قرابتك
من رسول الله صلىاللهعليهوآله لا تنفعك شيئا ، فقالت له : هل رأيت لي قرطا يا ابن
اللخناء؟!. ثم دخلت على رسول الله صلىاللهعليهوآله فأخبرته بذلك فبكت ، فخرج رسول الله صلىاللهعليهوآله فنادى الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس.
فقال : ما بال
أقوام يزعمون أن قرابتي لا تنفع؟! لو قد قمت المقام المحمود لشفعت في علوجكم ، لا يسألني
اليوم أحد من أبواه .. إلا أخبرته ، فقام إليه رجل فقال : من أبي يا رسول الله ؟. فقال : أبوك
غير الذي تدعى له ، أبوك فلان بن فلان ، فقام آخر فقال : من أبي يا رسول الله؟.
قال : أبوك الذي تدعى له.
ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : ما بال الذي يزعم أن قرابتي لا تنفع ، لا يسألني عن أبيه؟!. فقام إليه عمر
فقال : أعوذ بالله يا رسول الله من غضب الله وغضب رسوله ، اعف عني عفا الله عنك ، فأنزل
الله : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا
عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) ... ـ إلى قوله ـ
( ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ ) .
__________________
بيان :
قوله : غطي قرطك
.. في بعض النسخ ، قطي ـ بالقاف ـ .. أي اقطعي وبالغين أظهر ، والقرط ـ بالضم ـ الذي يعلق في شحمة الأذن .
وفي النهاية : فيه
: يا ابن اللخناء! .. هي التي لم تختن ، وقيل : اللخن :
النتن من لخن السقاء يلخن .
ولعل المراد
بالعلوج عبيدهم الذين أسلموا من كفار العجم ، وفيه بعض التصحيفات لا يعرف لها معنى
، ولا يبعد أن يكون في حاء وحكم.
قال في النهاية : فيه شفاعتي
لأهل الكبائر من أمتي حتى حكم وحاء ..
هما قبيلتان جافيتان من وراء رمل يبرين.
وقال في موضع آخر : هما حيان من
اليمن من وراء الرمل يبرين ..
قال أبو موسى : يجوز أن يكون حا من الحوة ، وقد حذفت لامه ، ويجوز أن يكون من حوى
يحوي ، ويجوز أن يكون مقصورا غير ممدود.
وقال الجوهري : يبرين اسم موضع
.. يقال : رمل يبرين .
__________________
٣
ـ فس : (
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ) . قال علي بن
إبراهيم : إنها نزلت لما رجع رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى المدينة ومرض عبد الله بن أبي ـ وكان ابنه عبد الله بن
عبد الله مؤمنا فجاء إلى النبي صلىاللهعليهوآله ـ وأبوه يجود بنفسه ـ فقال : يا رسول الله! بأبي أنت وأمي
إنك إن لم تأت أبي كان ذلك عارا علينا ، فدخل عليه رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ والمنافقون عنده ـ فقال ابنه عبد الله بن عبد الله : يا رسول الله! استغفر
له ، فاستغفر له ، فقال عمر : ألم ينهك الله يا رسول الله أن تصلي عليهم أو تستغفر لهم؟!
فأعرض عنه رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وأعاد عليه.
فقال له : ويلك!
إني خيرت فاخترت ، إن الله يقول : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ
أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ
يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ) فلما مات عبد الله جاء ابنه إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله! إن رأيت أن تحضر جنازته ، فحضره
رسول الله صلىاللهعليهوآله وقام على قبره ، فقال له عمر : يا رسول الله!
ألم ينهك الله أن تصلي ( عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ
ماتَ أَبَداً )؟!
__________________
وأن تقوم على قبره؟.
فقال له رسول الله
صلىاللهعليهوآله : ويلك! وهل تدري ما قلت! إنما قلت : اللهم احش قبره نارا
، وجوفه نارا ، وأصله النار ، فبدا من رسول الله صلىاللهعليهوآله ما لم يكن يحب.
٤
ـ فس : قال علي بن
إبراهيم في قوله : ( لِيَحْمِلُوا
أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ
يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) قال : ـ يعني يحملون آثامهم يعني الذين غصبوا أمير المؤمنين عليهالسلام وآثام كل من اقتدى بهم ، وهو قول الصادق صلوات الله عليه : والله ما أهريقت
محجمة من دم ، ولا قرعت عصا بعصا ، ولا غصب فرج حرام ، ولا أخذ مال من غير حله ،
إلا ووزر ذلك في أعناقهما من غير أن ينقص من أوزار العالمين شيء ..
٥
ـ فس : ( وَيَوْمَ
يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ ). قال : الأول ( يَقُولُ يا لَيْتَنِي
اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ) . قال أبو جعفر عليهالسلام يقول : يا ليتني اتخذت مع الرسول عليا : ( يا
وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً ) يعني الثاني : ( لَقَدْ
أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي ) يعني الولاية
__________________
( وَكانَ الشَّيْطانُ ) وهو الثاني (
لِلْإِنْسانِ خَذُولاً ) .
٦
ـ فس : الحسين بن محمد
، عن المعلى ، عن بسطام بن مرة ، عن إسحاق بن حسان ، عن الهيثم بن واقد ، عن علي بن
الحسين العبدي ، عن سعد الإسكاف ، عن الأصبغ بن نباتة ، أنه سأل أمير المؤمنين عليهالسلام عن قول الله : ( أَنِ اشْكُرْ لِي
وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) ، فقال : الوالدان اللذان أوجب الله لهما الشكر هما اللذان
ولدا العلم ، وورثا الحكم ، وأمرا [ أمر ] الناس بطاعتهما.
ثم قال : « ( إِلَيَّ
الْمَصِيرُ ) » ، فمصير العباد إلى الله ، والدليل على ذلك الوالدان ،
ثم عطف القول على ابن حنتمة وصاحبه ، فقال في الخاص : ( وَإِنْ جاهَداكَ عَلى
أَنْ تُشْرِكَ بِي ). يقول في الوصية وتعدل عمن أمرت بطاعته ( فَلا
تُطِعْهُما ) ولا تسمع قولهما ، ثم عطف القول على الوالدين وقال : (
وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ) يقول : عرف الناس فضلهما وادع إلى سبيلهما ، وذلك قوله : (
وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ) فقال : إلى الله
ثم إلينا ، فاتقوا الله ولا تعصوا الوالدين ، فإن رضاهما رضا الله ، وسخطهما سخط
الله ..
__________________
بيان :
قوله عليهالسلام : والدليل على ذلك الوالدان .. إذ الظاهر ذكوريتهما ، لكون التغليب مجازا ،
والحقيقة أولى مع الإمكان. ويحتمل أن يكون الغرض عدم بعد التأويل ، فإن التجوز في
الوالدية يعارضه عدم التجوز في الذكورية ، ويحتمل أن يكون ( ذلك ) راجعا إلى كون
مصير العباد إلى الله أو كيفيته ، لكنه بعيد .
وابن حنتمة : عمر
، لأن أمه حنتمة بنت ذي الرمحين ، كما ذكر في القاموس .
قوله عليهالسلام : فقال في الخاص .. أي الخطاب مخصوص بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأما خطاب ( صاحبهما ) فإن كان إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم ففي المصاحبة توسع ، وإن كان إلى غيره كخطاب ( اشكر ) فلا توسع.
وفي الكافي : فقال
في الخاص والعام .. أي مخاطبا للرسول وسائر الناس ، أو بحسب ظهر الآية
الخطاب عام وبحسب بطنها خاص ، أو المعنى أن بحسب بطنهما أيضا الخطاب إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بمعنى عدم الاشتراك في الوصية ، وإلى الناس بمعنى عدم العدول عمن أمروا
بطاعته ، فيكون ما ذكره بعد على اللف والنشر المرتب.
وأما تطبيق المعنى
على سابق الآية وهو قوله تعالى : ( وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ
__________________
بِوالِدَيْهِ
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ ) فيحتمل وجوها :
الأول : أن يكون (
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ ) معترضة لبيان أشدية حق الوالدين في العلم على حق الوالدين
في النسب.
الثاني : أن يكون
المراد بالوالدين أو للمعنى الحقيقي وبهما ثانيا المعنى المجازي بتقدير عطف أو فعل ثانيا.
الثالث : أن يكون
ظهر الآية للوالدين حقيقة وبطنها للوالدين مجازا بتوسط أن العلة للحياة الحقيقية
أولى بالرعاية من العلة للحياة الظاهرية ، والله يعلم.
٧
ـ فس : قال علي بن
إبراهيم في قوله : ( يَوْمَ تُقَلَّبُ
وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ) فإنها كناية عن الذين غصبوا آل محمد حقهم : (
يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ) يعني في أمير
المؤمنين عليهالسلام : ( وَقالُوا رَبَّنا
إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ). وهما رجلان ،
والسادة والكبراء هما أول من بدأ بظلمهم وغصبهم. قوله : (
فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ). أي طريق الجنة ، والسبيل : أمير المؤمنين عليهالسلام. ثم يقولون : ( رَبَّنا آتِهِمْ
ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً ) .
أقول :
قد مر في باب أن
الإمامة المعروضة هي الولاية بأسانيد جمة أن الإنسان
__________________
في قوله تعالى : (
وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) هو أبو بكر.
٨
ـ فس : أحمد بن إدريس
، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن سيف بن عميرة ، عن حسان ، عن هاشم بن عمار
يرفعه في قوله : ( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ
حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ
نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ ) قال : نزلت في
زريق وحبتر.
بيان :
زريق وحبتر : كنايتان
، والعرب تتشاءم بزرقة العين ، والحبتر : الثعلب ، والثاني بالأول
أنسب.
٩
ـ فس : (
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ ) يعني فلانا وفلانا ، ( قالُوا بَلْ لَمْ
تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) .
١٠
ـ فس : ( وَإِنَّ
لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ) وهم الأولان وبنو أمية ..
ثم ذكر من كان من
بعدهم ممن غصب آل محمد صلىاللهعليهوآله حقهم ، فقال :
__________________
( وَآخَرُ مِنْ
شَكْلِهِ أَزْواجٌ هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ) وهم بنو السباع
فيقولون بنو أمية : ( لا مَرْحَباً بِهِمْ
إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ ) فيقولون بنو فلان : ( بَلْ أَنْتُمْ لا
مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا ) وبدأتم بظلم آل
محمد ( فَبِئْسَ الْقَرارُ ) ثم يقول بنو أمية
: ( رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ
عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ ) يعنون الأولين ، ثم يقول أعداء آل محمد في النار : ( ما لَنا
لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ ) في الدنيا ، وهم
شيعة أمير المؤمنين عليهالسلام ( أَتَّخَذْناهُمْ
سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ ) ثم قال : ( إِنَّ
ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) فيما بينهم ، وذلك قول الصادق عليهالسلام : والله إنكم لفي الجنة تحبرون ، وفي النار تطلبون.
بيان :
بنو السباع ..
كناية عن بني العباس.
وقال الطبرسي رحمهالله : ( وَآخَرُ ) أي وضرب آخر .. من شكل
هذا العذاب وجنسه. ( أَزْواجٌ ). أي ألوان وأنواع
متشابهة في الشدة .. ( هذا فَوْجٌ ). هاهنا حذف ، أي
يقال : هذا فوج ، وهم قادة الضلال إذا دخلوا
__________________
النار ، ثم يدخل
الأتباع فتقول الخزنة للقادة : هذا فوج .. أي قطعة من الناس ، وهم
الأتباع. ( مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ) في النار دخلوها
كما دخلتم.
( لا مَرْحَباً بِهِمْ
.. ) قال البيضاوي : دعاء من المتبوعين على أتباعهم ، أو صفة لفوج ، أو حال
.. أي مقولا فيهم لا مرحبا .. أي ما أتوا رحبا وسعة.
( أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ
الْأَبْصارُ ) ... أي مالت ، فلا تراهم .
والحبرة ـ بالفتح
ـ : النعمة وسعة العيش .
١١
ـ فس : ( قُلْ
تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ ) نزلت في أبي
فلان.
١٢
ـ فس : ( إِذا ذُكِرَ
اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ) نزلت في فلان
وفلان.
١٣
ـ فس : ( وَقالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ ) قال العالم عليهالسلام : من الجن ، إبليس الذي أشار على قتل رسول
الله صلىاللهعليهوآله في دار الندوة ، وأضل الناس بالمعاصي ، وجاء بعد
__________________
وفاة رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى أبي بكر فبايعه ، ومن الإنس ، فلان (
نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ) .
بيان :
لا يبعد أن يكون
المعنى أن مصداق الآية في تلك المادة إبليس وفلان ، لأن قوله تعالى : ( الَّذِينَ
كَفَرُوا ) ... شامل للمخالفين ، والآية تدل على أن كل صنف من الكفار لهم
مضل من الجن ومضل من الإنس ، والمضل من الجن مشترك ، والمضل من الإنس في المخالفين
هو الثاني ، لأنه كان أقوى وأدخل في ذلك من غيره ، وهذا الكلام يجري في أكثر
أخبار هذا الباب وغيره ، ومعه لا نحتاج إلى تخصيص الآيات وصرفها عن ظواهرها ،
والله يعلم.
١٤
ـ فس : جعفر بن أحمد ،
عن عبد الكريم بن عبد الرحيم ، عن محمد بن علي ، عن محمد بن الفضيل ، عن أبي حمزة
الثمالي ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال : نزلت هاتان الآيتان هكذا ، قول الله : حتى إذا
جاءانا ـ يعني فلانا وفلانا ـ يقول أحدهما لصاحبه حين يراه : ( يا لَيْتَ
بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) فقال الله لنبيه
: قل لفلان وفلان وأتباعهما : ( لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ
إِذْ ظَلَمْتُمْ ) آل محمد حقهم ( أَنَّكُمْ فِي
الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) ، ثم قال الله لنبيه : ( أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ
الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فَإِمَّا
نَذْهَبَنَّ بِكَ
__________________
فَإِنَّا
مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ) يعني من فلان وفلان ، ثم أوحى الله إلى نبيه صلىاللهعليهوآله : ( فَاسْتَمْسِكْ
بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ ) في علي ( إِنَّكَ عَلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ ) يعني إنك على ولاية علي ، وعلي هو الصراط المستقيم.
توضيح :
قرأ عليهالسلام : جاءانا ـ على التثنية ـ كما هو قراءة عاصم برواية أبي بكر وغيره ، وفسرهما [
بفلان وفلان ] ، وفسرهما المفسرون بالشيطان ومن أغواه.
والمشرقان :
المشرق والمغرب على التغليب.
( فَبِئْسَ الْقَرِينُ ). أي أنت إلي
اليوم ،و روى ابن عباس أنهما يكونان مشدودين في سلسلة واحدة لزيادة العقوبة، فيقول
الله تعالى لهم : ( لَنْ يَنْفَعَكُمُ ) .. أي لا يخفف
الاشتراك عنكم شيئا من العذاب لأن لكل من الكفار والشياطين الحظ الأوفر من العذاب .
١٥
ـ فس : ( وَلا
يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ ) يعني الثاني عن أمير المؤمنين عليهالسلام ( إِنَّهُ لَكُمْ
عَدُوٌّ مُبِينٌ ) .
__________________
١٦
ـ فس : ( الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ) نزلت في أصحاب
رسول الله صلىاللهعليهوآله الذين ارتدوا بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله وغصبوا أهل بيته حقهم وصدوا عن أمير المؤمنين عليهالسلام ولاية الأئمة ( أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ
) .. أي أبطل ما كان تقدم منهم مع رسول الله صلىاللهعليهوآله من الجهاد والنصرة.
١٧
ـ فس : ( وَقالَ
قَرِينُهُ ) أي شيطانه وهو الثاني ( هذا ما لَدَيَّ
عَتِيدٌ ) .
١٨
ـ فس : ( مَنَّاعٍ
لِلْخَيْرِ ) : قال : المناع : الثاني ، والخير : ولاية أمير المؤمنين عليهالسلام وحقوق آل محمد عليهمالسلام ، ولما كتب الأول كتاب فدك يردها على فاطمة عليهاالسلام منعه الثاني ، فهو ( مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ) ، ( الَّذِي
جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) قال : هو ما قالوا نحن كافرون بمن جعل لكم الإمامة والخمس.
__________________
قوله : ( قالَ
قَرِينُهُ ) .. أي شيطانه وهو الثاني : ( رَبَّنا
ما أَطْغَيْتُهُ ) يعني الأول ( وَلكِنْ كانَ فِي
ضَلالٍ بَعِيدٍ ) فيقول الله لهما : ( لا تَخْتَصِمُوا
لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ ) .. أي ما فعلتم
لا تبدل حسنات ، ما وعدته لا أخلفه.
بيان :
ما وعدته ..
استئناف ، والمعنى لا تبدل سيئاتكم حسنات كما تبدل للذين يستحقون ذلك من الشيعة ،
بل توفون جزاء سيئاتكم ، والوعد بمعنى الإيعاد.
وقال الطبرسي رحمهالله : المعنى أن الذي قدمته لكم في دار الدنيا من أني أعاقب من جحدني وكذب رسلي
وخالف أمري لا يبدل بغيره ، ولا يكون خلافه.
١٩
ـ فس : قال علي بن
إبراهيم في قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ
__________________
تَوَلَّوْا
قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) قال : نزلت في الثاني ، لأنه مر به رسول الله صلىاللهعليهوآله وهو جالس عند رجل من اليهود يكتب خبر رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فأنزل الله جل ثناؤه : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا
مِنْهُمْ ) فجاء الثاني إلى النبي صلىاللهعليهوآله فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآله : رأيتك تكتب عن اليهود ، وقد نهى الله عن ذلك؟. فقال : يا
رسول الله! كتبت عنه ما في التوراة من صفتك ، وأقبل يقرأ ذلك على رسول الله صلىاللهعليهوآله وهو غضبان ، فقال له رجل من الأنصار : ويلك! أما ترى غضب النبي عليك. فقال :
أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله ، إني إنما كتبت ذلك لما وجدت فيه من خبرك!.
فقال له رسول الله
صلىاللهعليهوآله : يا فلان! لو أن موسى بن عمران فيهم قائما ثم أتيته رغبة
عما جئت به لكنت كافرا بما جئت به ، وهو قوله : ( اتَّخَذُوا
أَيْمانَهُمْ جُنَّةً ) .. أي حجابا بينهم وبين الكفار ، وأيمانهم إقرارا باللسان فزعا من السيف ودفع الجزية.
بيان :
لعله عليهالسلام قرأ إيمانهم ـ بالكسر ـ.
__________________
قال الطبرسي : وفي الشواذ قراءة الحسن :
اتخذوا إيمانهم ـ بكسر الهمزة قال : حذف المضاف .. أي اتخذوا إظهار إيمانهم جنة.
٢٠
ـ فس : محمد بن جعفر ،
عن عبد الله بن محمد بن خالد ، عن الحسن بن علي الخزاز ، عن أبان بن عثمان ، عن
عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، عن أبي العباس المكي ، قال : سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : إن عمر لقي عليا عليهالسلام فقال : أنت الذي تقرأ هذه الآية : (
بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ) تعرض بي وبصاحبي ، قال : أفلا أخبرك بآية نزلت في بني أمية
( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ
تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ ) فقال عمر : بنو أمية أوصل
للرحم منك! ، ولكنك أبيت إلا عداوة لبني أمية وبني عدي وبني تيم! ..
٢١
ـ كا : الحسين بن محمد
، عن المعلى ، عن الوشاء ، عن أبان .. مثله.
بيان :
( بِأَيِّكُمُ
الْمَفْتُونُ ) قال الطبرسي رحمهالله : .. أي أيكم الذي فتن بالجنون ، أأنت أم هم؟ وقيل : بأيكم
الفتنة وهو الجنون ، يريد أنهم يعلمون عند العذاب أن الجنون كان بهم حين كذبوك
وتركوا دينك لا بك. وقيل : معناه ، في
__________________
أي الفريقين
المجنون الذي فتنه الشيطان.
وقال رحمهالله : ( إِنْ تَوَلَّيْتُمْ ). أي الأحكام وجعلتم
ولاة ( أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ) بأخذ الرشا وسفك
الدم الحرام فيقتل بعضكم بعضا ، ويقطع بعضكم رحم بعض ، كما قتلت قريش بني هاشم
وقتل بعضهم بعضا. وقيل : ( إِنْ تَوَلَّيْتُمْ ) معناه إن أعرضتم
عن كتاب الله والعمل بما فيه أن تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية فتفسدوا بقتل
بعضكم بعضا.
٢٢
ـ فس : محمد بن القاسم
بن عبيد الكندي ، عن عبد الله بن عبد الفارس ، عن محمد بن علي ، عن أبي عبد الله عليهالسلام في قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ
) عن الإيمان بتركهم ولاية أمير المؤمنين عليهالسلام : ( الشَّيْطانُ سَوَّلَ
لَهُمْ ) يعني الثاني. وقوله : ( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ ) هو ما افترض الله
على خلقه من ولاية أمير المؤمنين عليهالسلام : ( سَنُطِيعُكُمْ فِي
بَعْضِ الْأَمْرِ ) قال : دعوا بني أمية إلى ميثاقهم أن لا يصيروا لنا الأمر
بعد النبي صلىاللهعليهوآله ولا يعطونا من الخمس شيئا ، وقالوا : إن أعطيناهم الخمس
استغنوا به ، فقالوا : ( سَنُطِيعُكُمْ فِي
بَعْضِ الْأَمْرِ ) لا
__________________
تعطوهم من الخمس شيئا ،
فأنزل الله على نبيه : ( أَمْ أَبْرَمُوا
أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ
وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) .
وقال علي بن
إبراهيم في قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ
ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ) نزلت في الذين
نقضوا عهد الله في أمير المؤمنين عليهالسلام ( الشَّيْطانُ سَوَّلَ
لَهُمْ ) .. أي هين لهم ، وهو فلان ، ( وَأَمْلى لَهُمْ ) .. أي بسط لهم أن
لا يكون مما قال محمد شيئا ( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ ) يعني في أمير المؤمنين
عليهالسلام : ( سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ
الْأَمْرِ ) يعني في الخمس أن لا يردوه في بني هاشم : ( وَاللهُ
يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ ) قال الله : ( فَكَيْفَ إِذا
تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ ) بنكثهم وبغيهم
وإمساكهم الأمر بعد أن أبرم عليهم إبراما ، يقول : إذا ماتوا ساقتهم الملائكة
إلى النار فيضربونهم من خلفهم ومن قدامهم ( ذلِكَ بِأَنَّهُمُ
اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ ) يعني موالاة فلان وفلان و ظالمي أمير
المؤمنين عليهالسلام ( فَأَحْبَطَ
أَعْمالَهُمْ ) يعني الذي عملوها من الخير : ( إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ
__________________
سَبِيلِ
اللهِ ) ، قال : عن أمير المؤمنين عليهالسلام : ( وَشَاقُّوا
الرَّسُولَ ) .. أي قطعوه في أهل بيته بعد أخذه الميثاق عليهم له ..
بيان :
( سَوَّلَ لَهُمْ ). أي زين لهم ، ( وَأَمْلى
لَهُمْ ). أي طول لهم أملهم فاغتروا به.
( قالُوا لِلَّذِينَ
كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ ) .
قال الطبرسي قدسسره : المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهماالسلام أنهم بنو أمية كرهوا ما نزل الله في ولاية علي بن أبي طالب
عليهالسلام.
قوله : يعني في
الخمس .. لعلهم أولا لم يوافقوهم إلا في واحد من الأمرين ، ثم وافقوهم فيهما ، ( فَكَيْفَ
إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ ) .. أي عند قبض أرواحهم.
والمشاقة :
المعاندة والمعاداة .
ثم اعلم أن ظاهر
الروايات أن الذين ( كَرِهُوا ما نَزَّلَ
اللهُ ) غير بني أمية ، وهم الذين دعوا بني أمية ، وظاهر الطبرسي رحمهالله أنه فسر الموصول ببني أمية ،
__________________
ولعله أخذ من خبر
آخر ، ويحتمل أن يكون مراده تفسير فاعل ( قالُوا
) بهم ، ويكون ضمير ( ( كَرِهُوا ) ) راجعا إلى
الموصول ، ويكون الغرض تفسير ( ما نَزَّلَ اللهُ ).
٢٣
ـ فس : ( فَسَتُبْصِرُ
وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ) بأيكم تفتنون .. هكذا نزلت في بني أمية بأيكم بأبي حفر
وزفر وغفل .
وقال الصادق عليهالسلام : لقي عمر أمير المؤمنين عليهالسلام ، فقال :يا علي! بلغني أنك تتأول هذه الآية في وفي صاحبي (
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ) .
قال أمير المؤمنين
: أفلا أخبرك يا أبا حفص! ما نزل في بني أمية ( وَالشَّجَرَةَ
الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) ؟. قال عمر : كذبت يا علي! بنو أمية خير منك وأوصل للرحم.
قوله : ( فَلا
تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ) قال : في علي عليهالسلام : ( وَدُّوا لَوْ
تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ) .. أي أحبوا أن تغش في علي عليهالسلام فيغشون معك ( وَلا تُطِعْ كُلَّ
حَلاَّفٍ مَهِينٍ ) .
قال : الحلاف
الثاني ، حلف لرسول الله صلىاللهعليهوآله أنه لا ينكث
__________________
عهدا.
( هَمَّازٍ مَشَّاءٍ
بِنَمِيمٍ ) قال : كان ينم رسول الله صلىاللهعليهوآله ويهمز بين أصحابه.
قوله : ( مَنَّاعٍ
لِلْخَيْرِ ) قال : الخير أمير المؤمنين عليهالسلام.
( مُعْتَدٍ ) .. أي قال ، اعتدى عليه.
قوله : ( عُتُلٍّ
بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ ) قال : العتل : عظيم الكفر ، والزنيم : الدعي.
وقال الشاعر :
زنيم تداعاه
الرجال تداعيا
|
|
كما زيد في عرض
الأديم الأكارع
|
قوله : ( إِذا
تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا ) قال : كنى عن الثاني ، آياتنا ( قالَ
أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) .. أي : أكاذيب الأولين : ( سَنَسِمُهُ عَلَى
الْخُرْطُومِ ) قال : في الرجعة إذا رجع أمير المؤمنين عليهالسلام ويرجع أعداؤه فيسمهم بميسم معه كما توسم البهائم على الخراطيم
الأنف والشفتان .
__________________
بيان :
لعل التعبير بأبي
حفر لمحض الوزن ، أو بالخاء المعجمة لأنه خفر الذمة والعهد في أمير المؤمنين عليهالسلام. وفي بعض النسخ : ب :حبتر ، والتعبير عن زفر ظاهر ، لاشتراكهما في الوزن ،
وتقدير العدل ، وغفل كناية ، وقال في القاموس : الغفل ـ بالضم
ـ : من لا يرجى خيره ولا يخشى شره وما لا علامة فيه من القداح ... وما لا عمارة
فيه من الأرضين ... ومن لا نصيب له ولا غرم عليه من القداح ، ومن لا حسب له ...
والغفل محركة ـ الكبير الرفيع. انتهى.
ولا يخفى أنه على
بعض المعاني يحتمل أن يكون كناية عن أمير المؤمنين عليهالسلام بأن يكون ذكره لبيان الطرف الآخر من الترديد ، ويؤيده أن
في بعض النسخ : وعلي ، وعلى الاحتمال الأول يكون الطرف الآخر غير مذكور.
والمهين : الحقير
الرأي.
والهماز : العياب.
والمشاء : نميم ،
النقال للحديث على وجه السعاية ، ذكرها البيضاوي .
وقال : ( عُتُلٍ ) : جاف غليظ .. من
عتله إذا قاده بعنف وغلظة.
( بَعْدَ ذلِكَ ). أي بعد ما عد من
مثالبه .
والكراع في البقر
والغنم بمنزلة الوظيف في الفرس والبعير ، وهو
__________________
مستدق الصاق ، ... والجمع
أكرع ثم أكارع ، ذكره الجوهري ، وكأنه شبه الرجال الذين يدعون هذا الزنيم بالأكارع التي
تكون في أطراف النطع لعدم مجانسة الأكارع للنطع ، والأكارع قائم مقام فاعل زيد.
وقال البيضاوي : (
سَنَسِمُهُ ). أي بالكي ( عَلَى الْخُرْطُومِ ). أي على الأنف ،
وقيل : هو عبارة عن أن يذله غاية الإذلال.
٢٤
ـ فس : أبو العباس ،
عن يحيى بن زكريا ، عن علي بن حسان ، عن عمه عبد الرحمن بن كثير ، عن أبي عبد الله
عليهالسلام في قوله : ( ذَرْنِي وَمَنْ
خَلَقْتُ وَحِيداً ) ، قال : الوحيد : ولد الزنا ، وهو زفر ، (
وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً ) قال : أجلا إلى مدة ( وَبَنِينَ شُهُوداً ) قال : أصحابه
الذين شهدوا أن رسول الله صلىاللهعليهوآله لا يورث ( وَمَهَّدْتُ لَهُ
تَمْهِيداً ) ملكه الذي ملك مهدت له ( ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ
أَزِيدَ ) ( كَلاَّ إِنَّهُ كانَ
لِآياتِنا عَنِيداً ) قال :لولاية أمير المؤمنين عليهالسلام جاحدا ، عاندا لرسول الله صلىاللهعليهوآله فيها ( سَأُرْهِقُهُ
صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ) فكر فيما أمر به من الولاية ، وقدر إن مضى رسول الله صلىاللهعليهوآله أن لا يسلم لأمير المؤمنين (ع) البيعة التي بايعه بها
__________________
على عهد رسول الله
صلىاللهعليهوآله ( فَقُتِلَ كَيْفَ
قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) قال : عذاب بعد عذاب يعذبه القائم عليهالسلام ، ( ثُمَّ نَظَرَ ) إلى النبي صلىاللهعليهوآله وأمير المؤمنين صلوات الله عليه فـ ( عَبَسَ وَبَسَرَ ) مما أمر به ( ثُمَّ
أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ) قال زفر : إن
النبي سحر الناس لعلي ، ( إِنْ هذا إِلاَّ
قَوْلُ الْبَشَرِ ) .. أي ليس هو وحي من الله عز وجل (
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ). ... إلى آخر الآية نزلت فيه.
بيان :
قال الطبرسي قدسسره في قوله تعالى : « ( وَحِيداً ) ... أي دعني
وإياه فإني كاف في عقابه .. وقد خلقته متوحدا بخلقه ، أو حال عن المخلوق .. أي من خلقته في بطن أمه
لا مال له ولا ولد. و قال مقاتل معناه : خل بيني وبينه فإني أنفرد بهلكته ، وقال
ابن عباس : كان الوليد بن المغيرة يسمى الوحيد في قومه.
وروى العياشي ، بإسناده عن
زرارة وحمران ، عن محمد بن مسلم ،
__________________
عن أبي جعفر وأبي
عبد الله عليهماالسلام أن الوحيد ولد الزنا ، قال زرارة ذكر لأبي جعفر عليهالسلام عن أحد بني هاشم أنه قال في خطبته : أنا ابن الوحيد. فقال : ويله! لو علم
ما الوحيد ما فخر بها. فقلنا له : وما هو؟ قال : من لا يعرف له أب ..
وقال رحمهالله : ( سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ) .. أي سأكلفه
مشقة من العذاب لا راحة فيه ، وقيل : صعودا جبل في جهنم من نار .. ( فَقُتِلَ ) .. أي لعن وعذب
.. ( ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ) .. أي كلح وكره
وجهه ونظر بكراهة شديدة كالمهتم المتفكر في الشيء ، ( ثُمَّ أَدْبَرَ ) عن الإيمان (
وَاسْتَكْبَرَ ) حين دعي إليه .. ( إِلاَّ سِحْرٌ
يُؤْثَرُ ) .. أي يروى عن السحرة ، أو هو من الإيثار ..
أي تؤثره النفوس وتختاره .. ( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ) أي سأدخله جهنم
وألزمه إياها ، وقيل : سقر دركة من دركات جهنم ، وقيل : باب من أبوابها. انتهى.
وتأويل المال
والبنين بما ذكر عليهالسلام على المجاز ، وبابه واسع.
__________________
٢٥
ـ فس : (
فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ ) قال : هو الثاني .
٢٦
ـ فس : ( إِنَّ
اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ
الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ) : قال : العدل : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول
الله صلىاللهعليهوآله ، والإحسان ، أمير المؤمنين عليهالسلام ، والفحشاء والمنكر والبغي ، فلان وفلان
وفلان.
٢٧
ـ فس : ( فَتِلْكَ
بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا ) قال : لا تكون الخلافة في آل فلان ولا آل فلان ولا آل فلان
ولا آل طلحة ولا آل الزبير .
٢٨
ـ فس : محمد بن جعفر ،
عن يحيى بن زكريا ، عن علي بن حسان ، عن عبد الرحمن بن كثير ، عن أبي عبد الله عليهالسلام في قوله : ( حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ
فِي قُلُوبِكُمْ ) يعني أمير المؤمنين عليهالسلام ( وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ
الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ ) الأول والثاني والثالث .
__________________
بيان :
تفسير الإيمان
بأمير المؤمنين عليهالسلام لكون ولايته من أصوله وكماله فيه ، وكونه مروجه ومؤسسه
ومبينه غير بعيد ، وكذا التعبير عن الثلاثة ب : الثلاث لكونهم أصلها ومنشأها
ومنبتها وكمالها فيهم ، وكونهم سببا لصدورها عن الناس إلى يوم القيامة ، لعنة الله
عليهم وعلى أشياعهم ـ غير غريب ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك في مواضعه.
٢٩
ـ فس : أبي ، عن ابن أبي
عمير ، عن ابن سنان ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ـ في قوله تعالى : ( إِذا دُعُوا إِلَى
اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ) ـ قال :نزلت هذه الآية في أمير المؤمنين صلوات الله عليه
وعثمان ، وذلك أنه كان بينهما منازعة في حديقة ، فقال أمير
المؤمنين صلوات الله عليه : ترضى برسول الله صلىاللهعليهوآله؟. فقال عبد الرحمن بن عوف لعثمان : لا تحاكمه إلى
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فإنه يحكم له عليك!! ولكن حاكمه إلى ابن شيبة اليهودي. فقال
عثمان لأمير المؤمنين عليهالسلام : لا أرضى إلا بابن شيبة اليهودي. فقال ابن شيبة لعثمان : تأتمنون محمدا
على وحي السماء وتتهمونه في الأحكام؟!. فأنزل الله على رسوله : ( وَإِذا
دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ
__________________
بَيْنَهُمْ
) ... إلى قوله : ( بَلْ أُولئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ ) .
٣٠
ـ فس : (
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ) نزلت في عثمان يوم الخندق ، وذلك أنه مر بعمار بن ياسر يحفر الخندق ـ وقد
ارتفع الغبار من الحفر فوضع عثمان كمه على أنفه ومر ، فقال عمار :
لا يستوي من
يعمر المساجدا
|
|
يظل فيها راكعا وساجدا
|
كمن يمر بالغبار
حائدا
|
|
يعرض عنه جاحدا
معاندا
|
فالتفت إليه عثمان
فقال : يا ابن السوداء! إياي تعني ، ثم أتى رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال له : لم ندخل معك في الإسلام لتسب أعراضنا ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآله : قد أقلتك إسلامك فاذهب ، فأنزل الله عز وجل : ( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ
أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ
عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .. أي ليس هم
صادقين ( إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ
غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) ..
__________________
٣١
ـ فس : ( عَبَسَ
وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ) قال : نزلت في عثمان وابن أم مكتوم ، وكان ابن أم مكتوم مؤذن رسول الله صلىاللهعليهوآله وكان أعمى ، وجاء إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله وعنده أصحابه وعثمان عنده ، فقدمه رسول الله صلىاللهعليهوآله على عثمان ، فعبس عثمان وجهه وتولى عنه ،
فأنزل الله : ( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) يعني عثمان ( أَنْ
جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ) .. أي يكون طاهرا
أزكى ( أَوْ يَذَّكَّرُ ) ، قال : يذكره
رسول الله صلىاللهعليهوآله ( فَتَنْفَعَهُ
الذِّكْرى ) ثم خاطب عثمان فقال : ( أَمَّا مَنِ
اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ) قال : أنت إذا جاءك غني تصدى له وترفعه : ( وَما
عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى ) .. أي لا تبالي زكيا كان أو غير زكي إذا كان غنيا ( وَأَمَّا
مَنْ جاءَكَ يَسْعى ) يعني ابن أم مكتوم ( وَهُوَ يَخْشى
فَأَنْتَ عَنْهُ
__________________
تَلَهَّى
) .. أي تلهو ولا تلتفت إليه ..
بيان :
قال السيد رضياللهعنه في كتاب تنزيه الأنبياء في سياق تأويل تلك الآيات : وقد روي عن الصادق عليهالسلام أنها نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي صلىاللهعليهوآله ، فجاء ابن أم مكتوم ، فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه وعبس
وأعرض بوجهه عنه ، فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه، وقد مر الكلام فيها.
٣٢
ـ ب : محمد بن عيسى ،
عن إبراهيم بن عبد الحميد ... قال : دخلت على أبي عبد الله عليهالسلام فأخرج إلي مصحفا ، قال : فتصحفته فوقع بصري على موضع منه فإذا فيه مكتوب : هذه جهنم التي كنتما
بها تكذبان فاصليا فيها لا تموتان فيها ولا تحييان .. يعني الأولين.
٣٣
ـ فس : وقرأ أبو عبد الله عليهالسلام : هذه جهنم التي كنتما بها تكذبان ، تصليانها لا تموتان فيها ولا تحييان
، يعني الأولين .
وقوله : (
يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) قال : لهما أنين في شدة
__________________
حرها.
٣٤
ـ ل : ابن الوليد ،
عن الصفار ، عن ابن معروف ، عن ابن محبوب ، عن حنان بن سدير ، قال : حدثني رجل من أصحاب
أبي عبد الله عليهالسلام قال : سمعته يقول : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة لسبعة نفر ، أولهم ابن
آدم الذي قتل أخاه ، ونمرود ( الَّذِي حَاجَّ
إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ ) ، واثنان في بني إسرائيل هودا قومهم
ونصراهم ، وفرعون الذي قال : ( أَنَا رَبُّكُمُ
الْأَعْلى ) ، واثنان في هذه الأمة.
٣٥
ـ فس : (
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ) فإنه حدثني أبي
عن ابن فضال عن علي بن عقبة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : : نزلت في القرآن زعلان تاب حيث لم تنفعه
التوبة ولم تقبل منه.
بيان :
زعلان : كناية ،
كما قد يعبر عنه بفعلان.
٣٦
ـ ب السندي بن محمد ،
عن صفوان الجمال ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : كانت امرأة من الأنصار تدعى : حسرة تغشى آل محمد
وتحن ، وإن زفر وحبتر لقياها ذات يوم فقالا : أين تذهبين يا حسرة؟. فقالت : أذهب
إلى آل
__________________
محمد فأقضي من
حقهم وأحدث بهم عهدا ، فقالا : ويلك إنه ليس لهم حق ، إنما كان هذا على عهد رسول
الله صلىاللهعليهوآله ، فانصرفت حسرة ولبثت أياما ، ثم جاءت ، فقالت لها أم سلمة ـ زوجة النبي صلىاللهعليهوآله ـ : ما أبطأ بك عنا يا حسرة؟!. فقالت : استقبلني زفر وحبتر فقالا : أين تذهبين
يا حسرة؟! فقلت : أذهب إلى آل محمد فأقضي من حقهم الواجب. فقالا : إنه ليس لهم حق
، إنما كان هذا على عهد النبي صلىاللهعليهوآله. فقالت : أم سلمة :كذبا ، لعنهما الله ، لا يزال حقهم
واجب [ واجبا ] على المسلمين إلى يوم القيامة.
٣٧
ـ ما : الفحام ، عن
المنصوري ، عن عم أبيه ، عن أبي الحسن الثالث ، عن آبائه ، عن الباقر عليهمالسلام ، عن جابر.
وأيضا : الفحام ،
عن عمه عمير بن يحيى ، عن إبراهيم بن عبد الله البلخي ، عن أبي عاصم الضحاك بن
مخلد ، عن الصادق ، عن أبيه عليهماالسلام ، عن جابر بن عبد الله ، قال : كنت عند النبي صلىاللهعليهوآله ـ أنا من جانب وعلي أمير المؤمنين صلوات الله عليه من جانب ـ إذ أقبل عمر بن
الخطاب ومعه رجل قد تلبب به ، فقال : ما باله؟. قال : حكى عنك يا رسول الله (ص)
أنك قلت : من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله دخل الجنة ، وهذا إذا سمعته الناس فرطوا في الأعمال ، أفأنت قلت ذلك يا رسول الله (ص)؟.
قال : نعم ، إذا
__________________
تمسك بمحبة هذا
وولايته.
٣٨
ـ شي ، تفسير العياشي : عن محمد بن
سالم ، عن أبي بصير ، قال : قال جعفر بن محمد عليهماالسلام : خرج عبد الله بن عمرو بن العاص من عند عثمان فلقي أمير
المؤمنين عليهالسلام ، فقال له : يا علي! بتنا الليلة في أمر
نرجو أن يثبت الله هذه الأمة ، فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : لن يخفى علي ما بيتم فيه ، حرفتم وغيرتم وبدلتم تسعمائة
حرف ، ثلاثمائة حرفتم ، وثلاثمائة غيرتم ، وثلاثمائة بدلتم : ( فَوَيْلٌ
لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ
اللهِ ) .. إلى آخر الآية ..
أقول :
سيأتي في باب حج
التمتع إنكار عمر للنص ، وقول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم له : إنك لن تؤمن بهذا أبدا .. في أخبار كثيرة ، وكذا
سيأتي في باب ( المقام ) نقل عمر المقام عن الموضع الذي نقله إليه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى موضع الجاهلية خلافا للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
٣٩
ـ مع : محمد بن هارون
الزنجاني ، عن علي بن عبد العزيز ، عن أبي عبيد القاسم بن سلام رفعه إلى النبي صلىاللهعليهوآله قال : أتى عمر رسول
__________________
الله صلىاللهعليهوآله فقال : إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا ، فترى أن نكتب بعضها؟. فقال : أمتهوكون
أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟! لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، ولو كان موسى حيا ما
وسعه إلا اتباعي ..
قوله : متهوكون ..
أي متحيرون ، يقول : أمتحيرون أنتم في الإسلام لا تعرفون دينكم حتى تأخذوه من
اليهود والنصارى؟ ومعناه أنه كره أخذ العلم من أهل الكتاب ، وأما قوله : لقد جئتكم
بها بيضاء نقية .. فإنه أراد الملة الحنيفية ، فلذلك جاء التأنيث كقول الله عز وجل
: ( وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) إنما هي الملة
الحنيفية.
بيان :
روى هذا الخبر ابن
الأثير في النهاية ، ثم قال : التهوك : كالتهور ، وهو الوقوع في الأمر بغير روية ،
والمتهوك : الذي يقع في كل أمر ، وقيل : هو المتحير . ثم قال : وفي
حديث آخر : إن عمر أتاه بصحيفة أخذها من بعض أهل الكتاب ، فغضب ، فقال : أمتهوكون
فيها يا ابن الخطاب؟!
٤٠
ـ مع : المكتب ، عن
الأسدي ، عن البرمكي ، عن جعفر بن عبد الله المروزي ، عن أبيه ، عن إسماعيل بن
الفضل ، عن أبيه ، عن ابن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : إذا ظلمت العيون العين كان قتل العين على يد الرابع من العيون ، فإذا كان
ذلك استحق الخاذل له ( لَعْنَةُ اللهِ
__________________
وَالْمَلائِكَةِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) فقيل له : يا رسول الله! ما العين والعيون؟. فقال : أما
العين ، فأخي علي بن أبي طالب عليهالسلام ، وأما العيون فأعداؤه ، رابعهم قاتله ظلما وعدوانا ..
تنبيه :
المراد بالعيون ،
من ابتداء اسمه العين ، والرابع القاتل عبد الرحمن بن ملجم لعنهم الله.
٤١
ـ مع : ابن موسى ، عن
الأسدي ، عن سهل ، عن عبد العظيم الحسني ، عن أبي جعفر الثاني ، عن آبائه ، عن
الحسين بن علي عليهمالسلام ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : إن أبا بكر مني بمنزلة السمع ، وإن عمر مني بمنزلة البصر
، وإن عثمان مني بمنزلة الفؤاد. قال : فلما كان من الغد دخلت إليه وعنده أمير المؤمنين عليهالسلام وأبو بكر وعمر وعثمان ، فقلت له : يا أبت ! سمعتك تقول في أصحابك هؤلاء قولا ، فما هو؟. فقال عليه
وآله السلام : نعم ، ثم أشار بيده إليهم ، فقال : هم السمع والبصر والفؤاد ،
وسيسألون عن ولاية وصيي هذا ـ وأشار إلى علي بن أبي طالب عليهالسلام ـ ، ثم قال : إن الله تبارك وتعالى يقول : ( إِنَّ السَّمْعَ
وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) ، ثم قال عليه
وآله السلام : وعزة ربي إن جميع أمتي لموقوفون يوم
__________________
القيامة ومسئولون
عن ولايته ، وذلك قول الله عز وجل : ( وَقِفُوهُمْ
إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ )
بيان :
لعل التعبير عنهم
بتلك الأسماء التي تدل على الاختصاص والامتياز على التهكم ، أو على زعم قوم
يحسبونهم كذلك ، أو للاختصاص الظاهري مع قطع النظر عن النفاق الباطني.
٤٢
ـ مع : ابن موسى ، عن
الأسدي ، عن النخعي ، عن النوفلي ، عن علي بن أبي حمزة ، عن أبي بصير ، قال : سألته
عما روي عن النبي صلىاللهعليهوآله أنه قال : إن ولد الزنا شر الثلاثة ، ما معناه؟. قال : عنى
به الأوسط ، أنه شر ممن تقدمه وممن تلاه ..
٤٣
ـ ير : أحمد بن محمد ،
عن علي بن الحكم ، عن ربيع بن محمد ، عن عبد الله بن سليمان ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال : قال أمير المؤمنين عليهالسلام لأبي بكر : نسيت تسليمك لعلي بإمرة المؤمنين
بأمر من الله ورسوله؟. فقال له : قد كان ذاك.
فقال له أمير
المؤمنين عليهالسلام : أترضى برسول الله صلىاللهعليهوآله
__________________
بيني وبينك؟. قال
: وأين هو؟. قال : فأخذ بيده ثم انطلق إلى مسجد قبا ، فدخلا ، فوجدا رسول الله صلىاللهعليهوآله يصلي ، فجلسا حتى فرغ.
فقال : يا أبا بكر
سلم لعلي عليهالسلام ما توكدته من الله ومن رسوله.
قال : فرجع أبو
بكر فصعد المنبر فقال : من يأخذها بما فيها.
فقال علي عليهالسلام : من جدع أنفه. قال له عمر ـ وخلا به ـ : وما دعاك إلى هذا ؟. قال : إن عليا
ذهب إلى مسجد قبا فإذا رسول الله صلىاللهعليهوآله قائم يصلي فأمرني أن أسلم الأمر إليه.
فقال : سبحان الله
يا أبا بكر! أما تعرف سحر بني هاشم!.
بيان :
قوله عليهالسلام : من جدع أنفه ـ على بناء المجهول ـ .. أي من أذل وقهر على غصب الخلافة
منه ، يعني نفسه عليهالسلام.
أقول :
قد مر كثير من تلك
الأخبار في الأبواب السابقة .
٤٤
ـ ج : سعد بن عبد
الله القمي الأشعري ، قال : بليت بأشد النواصب منازعة ، فقال لي يوما ـ بعد ما
ناظرته ـ : تبا لك ولأصحابك ، أنتم معاشر الروافض تقصدون المهاجرين والأنصار
بالطعن عليهم والجحود لمحبة النبي صلىاللهعليهوآله لهم ، فالصديق هو فوق الصحابة بسبب سبق الإسلام ،
__________________
ألا تعلمون أن
رسول الله صلىاللهعليهوآله إنما ذهب به ليلة الغار لأنه خاف عليه كما خاف على نفسه ، ولما
علم أنه يكون الخليفة في أمته أراد أن يصون نفسه كما يصون عليهالسلام خاصة نفسه ، كيلا يختل حال الدين من بعده ، ويكون الإسلام
منتظما ، وقد أقام عليا على فراشه لما كان في علمه أنه لو قتل لا يختل الإسلام
بقتله ، لأنه يكون من الصحابة من يقوم مقامه ، لا جرم لم يبال من قتله.
قال سعد : إني قد قلت على ذلك
أجوبة لكنها غير مسكتة .
ثم قال : معاشر
الروافض تقولون : إن الأول والثاني كانا ينافقان ، وتستدلون على ذلك بليلة العقبة؟
ثم قال لي : أخبرني عن إسلامهما كان عن طوع ورغبة أو كان عن
إكراه وإجبار؟. فاحترزت عن جواب ذلك وقلت مع نفسي إن كنت أجيبه بأنه كان عن طوع
فيقول : لا يكون على هذا الوجه إيمانهما عن نفاق ، وإن قلت كان على إكراه وإجبار
لم يكن في ذلك الوقت للإسلام قوة حتى يكون إسلامهما بإكراه وقهر ، فرجعت عن هذا
الخصم على حال يقطع كبدي ، فأخذت طومارا وكتبت بضعا وأربعين مسألة من المسائل الغامضة التي لم
يكن عندي جوابها ، وقلت : أدفعها إلى صاحب مولاي أبي محمد الحسن
__________________
بن علي عليهماالسلام الذي كان في قم ، أحمد بن إسحاق ، فلما طلبته كان هو قد ذهب ، فمشيت على أثره
فأدركته ، وقلت الحال معه ، فقال لي : تجيء معي إلى سر من رأى حتى تسأل عن هذه المسائل
مولانا الحسن بن علي عليهماالسلام ، فذهبت معه إلى سر من رأى ، ثم جئنا إلى باب دار مولانا عليهالسلام ، فاستأذنا بالدخول عليه فأذن لنا ، فدخلنا الدار وكان مع أحمد بن إسحاق جراب
قد ستره بكساء طبري ، وكان فيه مائة وستون صرة من الذهب والورق ، على كل واحدة
منها خاتم صاحبها الذي دفعها إليه ، ولما دخلنا ووقع أعيننا على وجه أبي محمد الحسن
بن علي عليهماالسلام كان وجهه كالقمر ليلة البدر ، وقد رأينا على فخذه غلاما
يشبه المشتري في الحسن والجمال ... .
فأردت أن أسأله عن
مسائل فقال : سل قرة عيني ـ وأومأ إلى الغلام ـ عما بدا لك ، فسألته عن
مسائل فأجابني .. ثم قال مبتدئا : يا سعد ! إن من ادعى أن
النبي صلىاللهعليهوآله ـ وهو خصمك ـ ذهب بمختار هذه الأمة مع نفسه إلى الغار ،
فإنه خاف عليه كما خاف على نفسه ، لما علم أنه الخليفة من بعده على أمته ، لأنه لم
يكن من حكم الاختفاء أن يذهب بغيره معه ، وإنما أنام عليا
__________________
عليهالسلام على مبيته لأنه علم أنه إن قتل لا يكون من الخلل بقتله ما
يكون بقتل أبي بكر ، لأنه يكون لعلي من يقوم مقامه في الأمور ، ألم تنقض عليه بقولك : أولستم
تقولون إن النبي عليهالسلام قال : إن الخلافة من بعدي ثلاثون سنة؟! وصيرها موقوفة على
أعمار هذه الأربعة ، أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي .. فإنهم كانوا
على مذهبكم خلفاء رسول الله صلىاللهعليهوآله؟ فإن خصمك لم يجد بدا من قوله : بلى. ثم قلت : : فإذا كان الأمر
كذلك فلما كان أبو بكر الخليفة من بعده كان هذه الثلاثة خلفاء أمته
من بعده؟ فلم ذهب بخليفة وحده ـ وهو أبو بكر ـ إلى الغار ولم يذهب بهذه الثلاثة ، فعلى
هذا الأساس يكون النبي صلىاللهعليهوآله مستخفا بهم دون أبي بكر ، فإنه يجب عليه أن يفعل ما فعل بأبي بكر
، فلما لم يفعل ذلك بهم يكون متهاونا بحقوقهم ، وتاركا للشفقة عليهم بعد أن كان
يجب عليه أن يفعل بهم جميعا على ترتيب خلافتهم ما فعل بأبي بكر.
وأما ما قال لك
الخصم : بأنهما أسلما طوعا أو كرها لم لم تقل بل إنهما أسلما طمعا ، وذلك أنهما يخالطان مع
اليهود ويخبران بخروج محمد صلىاللهعليهوآله واستيلائه على العرب من التوراة والكتب المتقدمة وملاحم قصة محمد
عليه وآله
__________________
السلام ، ويقولون
لهما : يكون استيلاؤه على العرب كاستيلاء بختنصر على بني إسرائيل إلا أنه يدعي
النبوة ولا يكون من النبوة في شيء ، فلما ظهر أمر رسول الله صلىاللهعليهوآله تساعدا معه على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلىاللهعليهوآله طمعا أن يجدا من جهة رسول الله صلىاللهعليهوآله ولاية بلد إذا انتظم أمره وحسن حاله ، واستقامت
ولايته ، فلما أيسا من ذلك وافقا مع أمثالهما ليلة العقبة ، وتلثما مثل من تلثم منهم ،
ونفروا بدابة رسول الله صلىاللهعليهوآله لتسقطه ويسير هالكا بسقوطه بعد أن صعدا العقبة فيمن صعد ، فحفظ الله
تعالى نبيه من كيدهم ولم يقدروا أن يفعلوا شيئا ، وكان حالهما كحال طلحة والزبير
إذ جاءا عليا عليهالسلام وبايعا طمعا أن يكون لكل واحد منهما ولاية ، فلما لم يكن وأيسا من الولاية
نكثا بيعته وخرجا عليه حتى آل أمر كل واحد منهما إلى ما يئول أمر من ينكث العهود
والمواثيق.
أقول :
سيأتي الخبر
بتمامه في أبواب من رأى القائم عليهالسلام .
٤٥
ـ فس : أبي ، عن
الحسين بن سعيد ، عن علي بن أبي حمزة ، عن
__________________
أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : ما بعث الله رسولا إلا وفي وقته شيطانان يؤذيانه ويفتنانه ويضلان
الناس بعده ، فأما الخمسة ( أُولُوا الْعَزْمِ
مِنَ الرُّسُلِ ) ، نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد صلى الله عليهم ، وأما صاحبا نوح
، فقيطيفوس وخرام ، وأما صاحبا إبراهيم ، فمكيل ورذام ، وأما صاحبا
موسى ، فالسامري ومرعقيبا ، وأما صاحبا عيسى ، فمولس ومريسان ، وأما صاحبا
محمد صلىاللهعليهوآله ، فحبتر وزريق.
ورواه في موضع آخر
عن أبيه ، عن الحسين ، عن بعض رجاله ، عنه عليهالسلام مثله.
٤٦
ـ ير : ابن يزيد ، عن
ابن أبي عمير ، عن ابن أذينة ، عن بريد العجلي ، عن أبي جعفر عليهالسلام في قول الله تبارك وتعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ
) فلان وفلان ، ( وَيَقُولُونَ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً ) لأئمة الضلال
والدعاة
__________________
إلى النار ، هؤلاء
أهدى من آل محمد وأوليائهم سبيلا ، ( أُولئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً أَمْ لَهُمْ
نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ ) ـ يعني الإمامة والخلافة ـ ( فَإِذاً لا يُؤْتُونَ
النَّاسَ نَقِيراً ) نحن الناس الذي عنى الله .
٤٧
ـ ثو : أبي ، عن سعد ،
عن أبي عيسى ، عن الوشاء ، عن أحمد بن عائذ ، عن أبي خديجة ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : يؤتى يوم القيامة بإبليس لعنه الله مع مضل هذه الأمة في زمامين غلظهما مثل جبل أحد فيسحبان على
وجوههما فيسد بهما باب من أبواب النار.
٤٨
ـ ثو : أبي ، عن سعد ،
عن محمد بن عيسى ، عن محمد بن عبد الرحمن ومحمد بن سنان ، عن أبي الجارود ، قال :
قلت لأبي جعفر عليهالسلام : أخبرني بأول من يدخل النار؟. قال : إبليس ورجل عن يمينه
ورجل عن يساره ..
٤٩
ـ ثو : ابن المتوكل ،
عن محمد العطار ، عن الأشعري ، عن أحمد بن محمد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن
المغيرة ، عن عبد الله بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن بكر الأرجاني ، قال : صحبت
أبا عبد الله عليهالسلام في طريق مكة من المدينة ، فنزل منزلا يقال له : عسفان ثم مررنا بجبل
أسود ـ على يسار
__________________
الطريق ـ وحش ،
فقلت : يا ابن رسول الله (ص)! ما أوحش هذا الجبل؟! ما رأيت في الطريق جبلا مثله؟!.
فقال : يا ابن بكر! أتدري أي جبل هذا؟ هذا جبل يقال له : الكمد ، وهو على واد من
أودية جهنم ، فيه قتلة أبي الحسين صلوات الله عليه ، استودعهم الله فيه ، تجري من تحته مياه
جهنم من الغسلين والصديد والحميم الآن ، وما يخرج من جهنم ، وما يخرج من طينة خبال ، وما يخرج من
لظى ، وما يخرج من الحطمة ، وما يخرج من سقر ، وما يخرج من الجحيم ، وما يخرج من
الهاوية ، وما يخرج من السعير ، وما مررت بهذا الجبل في مسيري فوقفت إلا رأيتهما
يستغيثان ويتضرعان ، وإني لأنظر إلى قتلة أبي فأقول لهما : إن هؤلاء إنما فعلوا
لما أسستما لم ترحمونا إذ وليتم وقتلتمونا وحرمتمونا ووثبتم على حقنا
واستبددتم بالأمر دوننا ، فلا رحم الله من رحمكما ، ذوقا وبال ما
صنعتما وما الله ( بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ).
٥٠
ـ مل : محمد الحميري ،
عن أبيه ، عن علي بن محمد بن سليمان ، عن محمد بن خالد ، عن عبد الله بن حماد ، عن
عبد الله الأصم ، عن الأرجاني مثله .. وزاد في آخره :
وأشدهما تضرعا
واستكانة الثاني ، فربما وقفت عليهما ليسألا عن بعض ما في قلبي ،
وربما طويت الجبل الذي هما فيه ـ وهو جبل الكمد ـ.
قال : قلت : جعلت فداك ،
فإذا طويت الجبل فما تسمع؟.
__________________
قال : أسمع
أصواتهما يناديان : عرج علينا نكلمك فإنا نتوب ، وأسمع من الجبل صارخا يصرخ بي
أجبهما وقل لهما : ( اخْسَؤُا فِيها وَلا
تُكَلِّمُونِ ) .
قال : قلت له :
جعلت فداك ، ومن معهم؟.
قال : كل فرعون
عتا على الله وحكى الله عنه فعاله ، وكل من علم العباد الكفر.
قلت : من هم؟.
قال : نحو بولس الذي علم اليهود
أن يد الله مغلولة ، ونحو نسطور الذي علم النصارى أن المسيح ابن الله ، وقال لهم : هم
ثلاثة ، ونحو فرعون موسى الذي قال : ( أَنَا رَبُّكُمُ
الْأَعْلى ) ، ونحو نمرود الذي قال :قهرت أهل الأرض وقتلت من في السماء
، وقاتل أمير المؤمنين عليهالسلام ، وقاتل فاطمة ومحسن ، وقاتل الحسن والحسين عليهمالسلام ، وأما معاوية ورمع فما يطمعان في الخلاص ، معهما من نصب لنا العداوة
وأعان علينا بلسانه ويده وماله.
قلت له : جعلت
فداك ، فأنت تسمع ذا كله ولا تفزع؟.
__________________
قال : يا ابن بكر!
إن قلوبنا غير قلوب الناس ، إنا مصفون مصطفون نرى ما لا يرى الناس ونسمع ما لا يسمعون .
أقول :
تمامه في باب
غرائب أحوالهم عليهمالسلام من كتاب الإمامة .
٥١
ـ ثو : أحمد بن الصقر ، عن محمد بن
العباس ، عن بسام ، عن محمد بن يزداد ، عن نصر بن سيار ، عن محمد بن عبد ربه
وعبد الله بن خالد السلولي ، عن نجيح المزني ، عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرطي وعمارة بن غزية وسعيد بن أبي معد
المقري وعبد الله بن أبي مليكة وغيرهم من مشيخة أهل المدينة ،
قالوا : لما قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله أقبل عمر بن الخطاب يقول : والله ما مات محمد وإنما غاب
كغيبة موسى عن قومه ، وإنه سيظهر بعد غيبته ، فما زال يردد هذا القول ويكرره حتى
ظن الناس أن عقله قد ذهب ، فأتاه أبو بكر ـ وقد اجتمع الناس عليه يتعجبون من قوله
ـ فقال : اربع على نفسك ـ يا عمر! ـ من يمينك التي تحلف بها ، فقد أخبرنا الله عز
وجل في كتابه ، فقال :يا محمد! ( إِنَّكَ مَيِّتٌ
وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) فقال عمر : وإن هذه الآية في كتاب الله
__________________
يا أبا بكر؟! فقال
: نعم. فقال : الحمد لله ، أشهد بالله لقد ذاق محمد الموت ولم يكن عمر جمع القرآن.
٥٢
ـ ير : أحمد بن محمد ،
عن الحسن بن علي ، عن أبي الصخر ، عن الحسن بن علي ، قال : دخلت أنا ورجل من أصحابي على ابن عيسى بن عبد الله بن
أبي طاهر العلوي ، قال أبو الصخر : فأظنه من ولد عمر بن علي ، قال : وكان أبو طاهر
في دار الصيديين نازلا ، قال : فدخلنا عليه عند العصر وبين يديه ركوة من ماء وهو
يتمسح ، فسلمت عليه ، فرد علينا السلام ، ثم ابتدأنا فقال : معكم أحد؟. فقلنا :
لا. ثم التفت يمينا وشمالا هل يرى أحدا ، ثم قال : أخبرني أبي عن جدي أنه كان مع أبي جعفر
محمد بن علي بمنى ـ وهو يرمي الجمرات ـ وإن أبا جعفر عليهالسلام رمى الجمرات قال : فاستتمها ثم بقي في يده بعد خمس حصيات ، فرمى
اثنتين في ناحية وثلاثة في ناحية ، فقال له جدي : جعلت فداك ، لقد رأيتك صنعت شيئا
ما صنعه أحد قط ، رأيتك رميت الجمرات ثم رميت بخمسة بعد ذلك ، ثلاثة في ناحية ،
واثنتين في ناحية.
قال : نعم إذا كان
كل موسم أخرج الفاسقان الغاصبان ثم يفرق بينهما هاهنا لا يراهما
إلا إمام عدل ، فرميت الأول اثنتين والآخر ثلاثة ، لأن الآخر أخبث
__________________
من الأول .
٥٣
ـ ختص : أحمد بن محمد
بن عيسى ، عن الوشاء ، عن أبي الصخر أحمد بن عبد الرحيم ، عن الحسن بن علي رجل كان
يكون في جباية مأمون قال : : دخلت ... وذكر مثله ، وفيه : أخرجا الفاسقان
غضين طريين فصلبا هاهنا لا يراهما إلا إمام عدل.
٥٤
ـ ير : ابن عيسى وابن
أبي الخطاب معا ، عن ابن محبوب ، عن ابن رئاب ، عن الكناسي ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال : لما كان رسول الله صلىاللهعليهوآله في الغار ومعه أبو الفصيل ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : إني لأنظر الآن إلى جعفر وأصحابه الساعة تعوم بينهم [ بهم ]
سفينتهم في البحر ، وإني لأنظر إلى رهط من الأنصار في مجالسهم محتبين بأفنيتهم ، فقال
له أبو الفصيل : أتراهم يا رسول الله الساعة؟!. قال : نعم. قال : فأرنيهم. قال :
فمسح رسول الله صلىاللهعليهوآله على عينيه ثم قال : انظر. فنظر فرآهم ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : أرأيتهم؟. قال : نعم. وأسر في نفسه أنه ساحر.
__________________
بيان :
الفصيل : ولد
الناقة إذا فصل عن أمه ، ويكنى عن أبي بكر ب : أبي الفصيل لقرب معنى البكر وهو
الفتى من الابل والفصل.
٥٥
ـ ير : موسى بن عمر ،
عن عثمان بن عيسى ، عن خالد بن نجيح ، قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : جعلت فداك ، سمى رسول الله صلىاللهعليهوآله أبا بكر : الصديق؟. قال : نعم. قلت : فكيف؟. قال : حين كان معه في الغار
، قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : إني لأرى سفينة جعفر بن أبي طالب عليهالسلام تضطرب في البحر ضالة. قال : يا رسول الله (ص)! وإنك لتراها؟! قال : نعم. قال
: فتقدر أن ترينيها؟. قال : ادن مني. قال : فدنا منه ، فمسح على عينيه ، ثم قال : انظر ، فنظر أبو
بكر فرأى السفينة وهي تضطرب في البحر ، ثم نظر إلى قصور أهل المدينة فقال في نفسه :
الآن صدقت أنك ساحر. فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : الصديق أنت.
٥٦
ـ خص : سعد ، عن موسى
بن عمر مثله ، وزاد في آخره : فقلت لم سمى عمر : الفاروق؟. قال : نعم ، ألا ترى أنه قد فرق
بين الحق والباطل وأخذ الناس بالباطل. فقلت : فلم سمى سالما : الأمين؟. قال : لما
كتبوا الكتب وضعوها على يد سالم فصار الأمين. قلت : فقال : اتقوا دعوة سعد. قال :
نعم ، قلت : وكيف ذلك؟. قال : إن سعدا يكر فيقاتل عليا عليهالسلام ..
__________________
بيان :
قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : الصديق أنت .. على التهكم ، أو على الاستفهام الإنكاري.
٥٧
ـ ير : محمد بن عبد
الجبار ، عن عبد الله بن الحجال ، عن أبي عبد الله المكي الحذاء ، عن سوادة أبي
علي ، عن بعض رجاله ، قال : قال أمير المؤمنين عليهالسلام للحارث الأعور ـ وهو عنده ـ : هل ترى ما أرى؟. فقال :كيف
أرى ما ترى وقد نور الله لك وأعطاك ما لم يعط أحدا؟.
قال : هذا فلان ـ الأول
ـ على ترعة من ترع النار يقول : يا أبا الحسن! استغفر لي ، لا غفر
الله له. قال : فمكث هنيئة ثم قال : يا حارث! هل ترى ما أرى؟. فقال :
وكيف أرى ما ترى وقد نور الله لك وأعطاك ما لم يعط أحدا .
قال : هذا فلان ـ الثاني
ـ على ترعة من ترع النار يقول : يا أبا الحسن! استغفر لي ، لا غفر الله له ..
٥٨
ـ ير : محمد بن الحسين
، عن صفوان بن يحيى ، عن بعض رجاله ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ، عن أبيه ، عن الحسين ، عن أمير المؤمنين صلوات الله عليهم قال : إن لله
بلدة خلف المغرب يقال لها : جابلقا ، وفي جابلقا سبعون
__________________
ألف أمة ليس منها أمة إلا مثل هذه
الأمة ، فما عصوا الله طرفة عين ، فما يعملون عملا ولا يقولون قولا إلا الدعاء على
الأولين والبراءة منهما ، والولاية لأهل بيت رسول الله صلىاللهعليهوآله.
٥٩
ـ ير : يعقوب بن إسحاق
بن إبراهيم الحميري ، عن أبي عمران الأرمني عن الحسين بن
الجارود ، عمن حدثه ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : إن من وراء أرضكم هذه أرضا بيضاء ضوؤها منها ،
فيها خلق الله يعبدون الله و لا يشركون به شيئا ، يتبرءون من فلان وفلان.
٦٠
ـ ير : أحمد بن موسى ،
عن الحسين بن موسى الخشاب ، عن علي بن حسان ، عن عبد الرحمن بن كثير ، عن أبي عبد
الله عليهالسلام ، قال : إن من وراء عين شمسكم هذه أربعين عين شمس فيها خلق
كثير ، وإن من وراء قمركم أربعين قمرا فيها خلق كثير ، لا يدرون أن الله خلق آدم
أم لم يخلقه ، ألهموا إلهاما لعنة .. فلان وفلان.
٦١
ـ ير : سلمة ، عن أحمد
بن عبد الرحمن ، عن محمد بن سليمان ، عن يقطين الجواليقي ، عن قلقلة ، عن أبي جعفر
عليهالسلام ، قال : إن الله خلق جبلا محيطا بالدنيا من زبرجد أخضر ، وإنما خضرة
السماء من خضرة ذلك
__________________
الجبل ، وخلق خلفه
خلقا لم يفرض عليهم شيئا مما افترض على خلقه من صلاة وزكاة ، وكلهم يلعن
رجلين من هذه الأمة .. وسماهما.
٦٢
ـ ير : أحمد بن الحسين
، عن علي بن رئاب عن عبيد الله الدهقان ، عن أبي الحسن عليهالسلام .. مثله.
أقول :
روى الحسن بن سليمان في
كتاب المختصر من بصائر سعد .. مثله .
وروى أيضا عنه ،
عن أحمد بن الحسين ، عن علي بن الريان ، عن عبيد الله الدهقان ، عن الرضا عليهالسلام ، قال : سمعته يقول : إن لله خلف هذا النطاق زبرجدة خضراء ، فبالخضرة منها خضرت السماء ، قلت : وما
النطاق؟. قال : الحجاب ، ولله عز وجل وراء ذلك سبعون ألف عالم أكثر من عدد
__________________
الجن والإنس ، وكل
يلعن .. فلانا وفلانا ..
بيان :
النطاق ـ ككتاب ـ :
شقة تلبسها المرأة وتشد وسطها ، وأطلق على الحجاب مجازا.
٦٣
ـ ير : أحمد بن محمد ،
عن أبي يحيى الواسطي ، عن درست ، عن عجلان أبي صالح ، قال : دخل رجل على أبي عبد
الله عليهالسلام ، فقال له :جعلت فداك هذه قبة آدم؟. قال : نعم ، وفيه قباب
كثيرة ، إن خلف مغربكم هذه تسعة وثلاثين مغربا أرضا بيضاء مملوءة خلقا يستضيئون
بنورها لم يعصوا الله طرفة عين ، ما يدرون أن الله خلق آدم أم لم يخلقه ، يتبرءون
من .. فلان وفلان لعنهما الله ..
٦٤
ـ ير : محمد بن هارون
، عن أبي يحيى الواسطي ، عن سهل بن زياد ، عن عجلان أبي صالح ، قال : سألت أبا عبد
الله عليهالسلام عن قبة آدم ، فقلت : هذه قبة آدم ؟. فقال : نعم ، ولله قباب كثيرة ، أما إن خلف مغربكم هذه تسعة وثلاثين
مغربا أرضا بيضاء و مملوة خلقا يستضيئون بنورها لم
__________________
يعصوا الله طرفة
عين ، لا يدرون أخلق الله آدم أم لم يخلقه ، يتبرءون من .. فلان وفلان
، قيل له : كيف هذا يتبرءون من .. فلان وفلان وهم لا يدرون أخلق الله آدم أم لم
يخلقه؟. فقال ـ للسائل عنه ـ : أتعرف إبليس؟. قال : لا ، إلا بالخبر. قال : فأمرت
باللعنة والبراءة منه؟. قال : نعم. قال : فكذلك أمر هؤلاء ..
أقول :
رواه الحسن بن
سليمان من بصائر سعد بن عبد الله مثله .
٦٥
ـ ير : محمد بن عيسى ،
عن يونس ، عن عبد الصمد ، عن جابر عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال سمعت يقول : إن من وراء هذه أربعين عين شمس ما بين شمس إلى شمس
أربعون عاما فيها خلق كثير ما يعلمون أن الله خلق آدم أو لم يخلقه ، وإن من وراء
قمركم هذا أربعين قمرا ما بين قمر إلى قمر مسيرة أربعين يوما فيها خلق كثير ما
يعلمون أن الله خلق آدم أو لم يخلقه ، قد ألهموا كما ألهمت النحل لعنة الأول
والثاني في كل وقت من الأوقات ، وقد وكل بهم ملائكة متى ما لم يلعنوهما عذبوا.
٦٦
ـ يج : روى عن محمد بن
عبد الحميد ، عن عاصم بن حميد ، عن يزيد بن خليفة ، قال : كنت عند أبي عبد الله عليهالسلام قاعدا فسأله رجل من القميين : أتصلي النساء على الجنائز؟. فقال : إن المغيرة بن أبي
العاص ادعى
__________________
أنه رمى رسول الله
صلىاللهعليهوآله فكسرت رباعيته وشق شفتيه وكذب ، وادعى أنه قتل حمزة وكذب ، فلما
كان يوم الخندق ضرب على أذنيه فنام فلم يستيقظ حتى أصبح فخشي أن يؤخذ ، فتنكر وتقنع
بثوبه وجاء إلى منزل عثمان يطلبه ، وتسمى باسم رجل من بني سليم كان يجلب إلى عثمان
الخيل والغنم والسمن ، فجاء عثمان فأدخله ، منزله وقال : ويحك! ما صنعت؟ ادعيت أنك
رميت رسول الله (ص) ، وادعيت أنك شققت شفتيه وكسرت رباعيته ، وادعيت أنك قتلت
حمزة. فأخبره بما لقي وأنه ضرب على أذنه ، فلما سمعت ابنة النبي (ص) بما
صنع بأبيها وعمها صاحت ، فأسكتها عثمان ، ثم خرج عثمان إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ وهو جالس في المسجد ـ فاستقبله بوجهه وقال : يا رسول الله! إنك آمنت عمي
المغيرة فكذب ، فصرف عنه رسول الله صلىاللهعليهوآله وجهه ، ثم استقبله من الجانب الآخر فقال : يا رسول الله! إنك
آمنت عمي المغيرة ، فكذب ، فصرف رسول الله صلىاللهعليهوآله وجهه عنه ، ثم قال : آمناه وأجلناه ثلاثا ،
فلعن الله من أعطاه راحلة أو رحلا أو قتبا أو سقاء أو قربة أو دلوا أو خفا أو نعلا
أو زادا أو ماء.
قال عاصم : هذه
عشرة أشياء فأعطاها كلها عثمان فخرج فسار على ناقته
__________________
فنقبت ، ثم مشى في
خفيه فنقبا ، ثم مشى في نعليه فنقبتا ، ثم حبا على رجليه فنقبتا ، ثم مشى على ركبتيه فنقبتا ،
فأتى شجرة فجلس تحتها ، فجاء الملك فأخبر رسول الله صلىاللهعليهوآله بمكانه ، فبعث إليه رسول الله صلىاللهعليهوآله زيدا والزبير فقال لهما : ايتياه فهو بمكان .. كذا وكذا فاقتلاه ، فلما
أتياه قال زيد للزبير : إنه ادعى أنه قتل أخي ـ وقد كان رسول الله صلىاللهعليهوآله آخى بين حمزة وزيدا [ زيد ] ـ فاتركني أقتله ، فتركه الزبير فقتله ، فرجع
عثمان من عند النبي صلىاللهعليهوآله فقال لمرأته ، إنك أرسلتي إلى أبيك فأعلمتيه بمكان عمي ،
فحلفت له بالله ما فعلت ، فلم يصدقها ، فأخذ خشبة القتب فضربها ضربا
مبرحا ، فأرسلت إلى أبيها تشكوا ذلك وتخبره بما صنع ، فأرسل إليها : إني لأستحي
للمرأة أن لا تزال تجر ذيولها تشكو زوجها ، فأرسلت إليه أنه : قد قتلني ، فقال
لعلي : خذ السيف ثم ائت بنت عمك فخذ بيدها ، فمن حال بينك وبينها فاضربه بالسيف ،
فدخل علي ، فأخذ بيدها فجاء بها إلى النبي صلىاللهعليهوآله فأرته ظهرها ، فقال أبوها : قتلها قتله الله ، فمكثت يوما
وماتت في الثاني ، واجتمع الناس للصلاة عليها ، فخرج رسول الله صلىاللهعليهوآله من بيته ـ وعثمان جالس مع القوم ـ ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : من ألم جاريته الليلة فلا تشهد جنازتها؟ قالها مرتين ، وهو ساكت ، فقال : يا رسول الله
صلى الله عليه
__________________
وآله ليقومن أو
لأسمينه باسمه واسم أبيه ، فقام يتوكأ على مولى له.
قال : فخرجت فاطمة
عليهاالسلام في نسائها فصلت على أختها .
بيان :
قال الجوهري : نقب
البعير ـ بالكسر ـ إذا ألقت أخفافه .. ونقب الخف الملبوس : تخرق .
وقال : حبا الصبي
على استه حبوا .. إذا زحف .
والبراح : المشقة
والشدة .
أقول :
قد مر هذا الخبر
برواية الكليني أبسط من هذا في باب أحوال أولاد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم .
__________________
٦٧
ـ شف : أحمد بن محمد
بن الطبري من كتابه ... ، عن محمد بن الحسين بن حفص وعلي بن أحمد بن حاتم وعلي
بن العباس وعلي بن الحسين العجلي وجعفر بن محمد بن مالك والحسن بن السكن جميعا ، عن عباد
بن يعقوب ، عن علي بن هاشم بن زيد ، عن أبي الجارود زياد بن المنذر ، عن عمران بن ميثم
الكيال ، عن مالك بن زمرد الرواسي ، عن أبي ذر الغفاري ، قال : لما نزلت هذه الآية
على رسول الله صلىاللهعليهوآله : ( يَوْمَ تَبْيَضُّ
وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ) قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : ترد أمتي يوم القيامة علي خمس رايات ، فأولها مع عجل هذه
الأمة فآخذ بيده فترجف قدماه ويسود وجهه ووجوه أصحابه ، فأقول : ما فعلتم بالثقلين؟.
فيقولون : أما الأكبر فخرقنا ومزقنا ، وأما الأصغر فعادينا وأبغضنا ، فأقول : ردوا
ظماء مظمئين مسودة وجوهكم فيؤخذ بهم ذات الشمال لا يسقون قطرة.
ثم يرد علي راية فرعون
هذه الأمة فأقوم فآخذ بيده ثم ترجف قدماه ويسود وجهه ووجوه أصحابه ، فأقول : ما فعلتم بالثقلين؟.
فيقولون : أما الأكبر
__________________
فمزقنا منه ، وأما
الأصغر فبرئنا منه ولعناه ،
فأقول : ردوا ظماء مظمئين مسودة وجوهكم ، فيؤخذ بهم ذات الشمال لا يسقون قطرة.
ثم يرد علي راية ذي
الثدية معها أول خارجة وآخرها ، فأقوم فآخذ بيده فترجف قدماه وتسود وجهه ووجوه
أصحابه ، فأقول : ما فعلتم بالثقلين بعدي؟ فيقولون : أما الأكبر فمزقنا منه ، وأما
الأصغر فبرئنا منه ولعناه. فأقول : ردوا ظماء مظمئين مسودة وجوهكم ، فيؤخذ بهم ذات الشمال
لا يسقون قطرة.
ثم ترد علي راية
أمير المؤمنين وسيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين ، فأقوم فآخذ بيده
فتبيض وجهه ووجوه أصحابه ، فأقول : ما فعلتم بالثقلين بعدي؟. فيقولون : أما الأكبر
فاتبعناه وأطعناه ، وأما الأصغر فقاتلنا معه حتى قتلنا.
فأقول : ردوا رواء
مرويين مبيضة وجوهكم ، فيؤخذ بهم ذات اليمين ، وهو قول الله عز وجل : ( يَوْمَ
تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ
أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها
خالِدُونَ ) .
بيان :
أقول : سقط من هذا
الخبر راية قارون هذه الأمة ، وقد أوردنا في باب
__________________
الرايات برواية ابن عقدة
وغيره ، عن أبي ذر هذه الرواية ، وفيها : إن شرار الآخرين ، العجل ، وفرعون ،
وهامان ، وقارون ، والسامري ، والأبتر ... ثم ذكر راية العجل ، وراية فرعون ،
وراية فلان .. أمام خمسين ألفا من أمتي ، وراية فلان .. أمام سبعين ألفا ، ثم راية
أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، وقد أوردنا فيه أخبارا أخر بأسانيد تركناها هنا
حذرا من التكرار.
٦٨
ـ شف : من كتاب
المناقب لأحمد بن مردويه ... ، عن إسماعيل بن علي الواسطي ، عن الهيثم بن عدي
الطائي ، عن حماد بن عيسى ، عن علي بن هاشم ، عن أبيه وابن أذينة ، عن أبان بن
تغلب ، عن مسلم ، قال : سمعت أبا ذر والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي رضوان الله عليهم
، قالوا : كنا قعودا عند رسول الله صلىاللهعليهوآله ما معنا غيرنا ، إذ أقبل ثلاثة رهط من المهاجرين البدريين
، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : تفترق أمتي بعدي ثلاث فرق ، فرقة أهل حق لا يشوبونه بباطل ، مثلهم كمثل
الذهب كلما فتنته النار ازداد طيبا ، وإمامهم هذا ـ لأحد الثلاثة ـ ، وهو
الذي أمر الله به في كتابه إماما
__________________
ورحمة ، وفرقة أهل الباطل
لا يشوبونه بحق ، مثلهم كمثل خبث الحديد ، كلما فتنته بالنار ازداد خبثا ونتنا ، إمامهم هذا
ـ لأحد الثلاثة ـ ، وفرقة أهل الضلالة مذبذبين ( لا إِلى هؤُلاءِ وَلا
إِلى هؤُلاءِ ) ، إمامهم أحد الثلاثة.
قال : فسألته عن
أهل الحق وإمامهم.
فقال : علي بن أبي
طالب (ع) إمام المتقين ، وأمسك عن الاثنين ، فجهدت أن يفعل فلم يفعل ..
٦٩
ـ شف : من كتاب عتيق
من أصول المخالفين ، عن محمد بن عبد الله بن الحسين الجعفي ، عن الحسين بن محمد بن
الفرزدق القطيعي ، عن الحسين بن علي بن بزيع ، عن يحيى بن حسن بن فرات ، عن
أبي عبد الرحمن المسعودي ، عن عبد الله بن عبد المالك ، عن الحرث بن حصيرة ، عن صخر بن
الحكم الفزازي ، عن حيان بن الحرث الأزدي ـ يكنى أبا عقيل ـ ، عن الربيع
بن جميل الضبي ، عن مالك بن ضمرة الرواسي ، عن أبي ذر الغفاري : اجتمع هو وعلي بن أبي طالب
وعبد الله بن مسعود والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان ، قال :
فقال أبو ذر : حدثونا حديثا نذكر به رسول الله صلىاللهعليهوآله فنشهد له وندعو له ونصدقه ، فقالوا : حدثنا .. يا علي!.
__________________
قال : فقال علي عليهالسلام : لقد علمتم ما هذا زمان حديثي ، قالوا : صدقت. قال : فقالوا : حدثنا .. يا
حذيفة!. قال : لقد علمتم أني سئلت عن المعضلات فحذرتهن. قالوا : صدقت. قال :
فقالوا : حدثنا .. يا ابن مسعود! قال : لقد علمتم أني قرأت القرآن لم أسأل عن
غيره. قالوا : صدقت. قال : فقالوا : حدثنا .. يا مقداد!. قال : لقد علمتم إنما كنت
فارسا بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوآله أقاتل ، ولكن أنتم أصحاب الحديث. فقالوا :صدقت. قال :
فقالوا : حدثنا .. يا عمار!. قال : فقال : لقد علمتم أني إنسان نساء إلا أن أذكر
فأذكر. قالوا : صدقت.
قال : فقال أبو ذر
رحمة الله عليه : إنما أحدثكم بحديث سمعتموه أو من سمعه منكم بلغ ، ألستم تشهدون
أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، ( وَأَنَّ السَّاعَةَ
آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها ، وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) ، وأن البعث حق ،
وأن الجنة حق ، وأن النار حق؟. قالوا : نشهد. قال : وأنا من الشاهدين.
قال : ألستم
تشهدون أن رسول الله صلىاللهعليهوآله حدثنا أن شر الأولين والآخرين اثنا عشر : ستة من الأولين وستة من
الآخرين ، ثم سمى من الأولين ابن آدم الذي قتل أخاه ، وفرعون ، وهامان ، وقارون ، والسامري ،
والدجال اسمه في الأولين ويخرج في الآخرين ، وسمى من الآخرين ستة : العجل
__________________
ـ وهو ... وفرعون
ـ وهو ... ـ ، وهامان ـ وهو زياد بن أبي سفيان ـ ، وقارون ـ وهو سعد بن أبي وقاص ـ
، والسامري ـ وهو عبد الله بن قيس أبو موسى ـ ، قيل : وما السامري؟. قال : قال
السامري : ( لا مِساسَ ) ، وهو يقول : لا
قتال ، والأبتر ـ وهو عمرو بن العاص ـ ، قالوا : وما أبترها ؟. قال : لا دين
له ولا نسب. قال : فقالوا : نشهد على ذلك. قال : وأنا على ذلك من الشاهدين.
ثم قال : ألستم
تشهدون أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : إن من أمتي من يرد علي الحوض على خمس رايات : أولهن
راية العجل فأقوم فإذا أخذت بيده اسود وجهه ، ورجفت قدماه ، وخفقت أحشاؤه ،
وفعل ذلك تبعه ، فأقول :ما خلفتموني في الثقلين بعدي؟ فيقولون : كذبنا
الأكبر ومزقناه واضطهدناه ، والأصغر أبترناه حقه ، فأقول : اسلكوا
ذات الشمال ، فينصرفون ظماء مظمئين مسودة وجوههم لا يطعمون منه قطرة.
ثم يرد علي راية فرعون
أمتي ـ وهم أكثر الناس البهرجيون ـ ، فقلت : يا رسول الله (ص)! وما البهرجيون؟ أبهرجوا
الطريق؟. قال : لا ، ولكن بهرجوا دينهم ، وهم الذين يغضبون للدنيا ولها يرضون ،
ولها يسخطون ، ولها ينصبون ، فأقوم فآخذ بيد صاحبهم فإذا أخذت بيده اسود وجهه
ورجفت قدماه وخفقت
__________________
أحشاؤه ، وفعل ذلك
تبعه ، فأقول : ما خلفتموني في الثقلين بعدي؟ فيقولون :كذبنا الأكبر ومزقناه ،
وقاتلنا الأصغر وقتلناه ، فأقول : اسلكوا طريق أصحابكم ، فينصرفون ظماء مظمئين
مسودة وجوههم لا يطعمون منه قطرة.
ثم ترد علي راية عبد
الله بن قيس ـ وهو إمام خمسين ألفا من أمتي ـ ، فأقوم فآخذ بيده ، فإذا أخذت بيده
اسود وجهه ورجفت قدماه وخفقت أحشاؤه ، وفعل ذلك تبعه ، فأقول : ما
خلفتموني في الثقلين بعدي؟ فيقولون : كذبنا الأكبر وعصيناه وخذلنا الأصغر وخذلنا
منه ، فأقول : اسلكوا طريق أصحابكم ، فينصرفون ظماء مظمئين مسودة وجوههم لا يطعمون منه قطرة.
ثم ترد علي راية
المخدج ـ وهو إمام سبعين ألفا من الناس ـ فأقوم فآخذ بيده ، فإذا أخذت بيده اسود
وجهه ورجفت قدماه وخفقت أحشاؤه ، وفعل ذلك تبعه ، فأقول : ما
خلفتموني في الثقلين بعدي؟ ، فيقولون : كذبنا الأكبر وعصيناه ، وقاتلنا الأصغر
وقتلناه . فأقول : اسلكوا سبيل أصحابكم ، فينصرفون ظماء مظمئين
مسودة وجوههم لا يطعمون منه قطرة.
ثم ترد علي راية
علي بن أبي طالب (ع) أمير المؤمنين وإمام الغر المحجلين ، فأقوم فآخذ بيده فيبيض
وجهه ووجوه أصحابه ، فأقول : ما خلفتموني في الثقلين
__________________
بعدي؟. فيقولون
تبعنا الأكبر وصدقناه ، ووازرنا الأصغر ونصرناه وقاتلنا معه ، فأقول : ردوا رواء
مرويين ، فيشربون شربة لا يظمئون بعدها أبدا ، وجه إمامهم كالشمس الطالعة ووجوههم كالقمر ليلة البدر ،
أو كأضوإ نجم في السماء.
ثم قال : ألستم
تشهدون على ذلك؟. قالوا : بلى ، وإنا على ذلك من الشاهدين.
قال لنا القاضي
محمد بن عبد الله : اشهدوا علي عند الله أن الحسين بن محمد بن الفرزدق حدثني
بهذا ، وقال الحسين بن محمد : اشهدوا علي بهذا عند الله أن الحسين بن علي بن بزيع
حدثني بهذا ، وقال الحسين بن علي بن بزيع : اشهدوا علي بهذا عند الله أن يحيى بن الحسن
حدثني بهذا ، وقال يحيى بن الحسن : اشهدوا علي عند الله أن أبا عبد الرحمن حدثني
بهذا عن الحارث بن حصيرة ، وقال أبو عبد الرحمن : اشهدوا علي بهذا عند الله أن الحارث بن حصيرة حدثني بهذا عن
صخر بن الحكم ، وقال الحارث بن حصيرة : اشهدوا علي عند الله أن صخر بن الحكم حدثني بهذا عن حيان
بن الحرث ، وقال صخر بن الحكم : اشهدوا علي بهذا عند الله أن حيان بن الحرث حدثني
بهذا عن الربيع بن جميل الضبي ، وقال حيان بن الحرث : اشهدوا علي بهذا عند الله أن
الربيع بن
__________________
جميل الضبي حدثني
بهذا عن مالك بن ضمرة الرواسي ، وقال الربيع بن جميل : اشهدوا علي بهذا عند الله أن مالك بن ضمرة حدثني
بهذا عن أبي ذر الغفاري ، وقال مالك بن ضمرة : اشهدوا علي بهذا عند الله أن أبا ذر
الغفاري حدثني بهذا عن رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وقال أبو ذر : اشهدوا علي بهذا عند الله أن رسول الله صلىاللهعليهوآله حدثني بهذا عن جبرئيل ، وقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : اشهدوا علي بهذا عن الله أن جبرئيل حدثني
بهذا عن الله جل وجهه وتقدست أسماؤه.
وقال يوسف بن كليب
ومحمد بن حنبل : إن أبا عبد الرحمن حدثه بهذا الحديث بهذا الإسناد و بهذا الكلام ،
قال الحسن بن علي بن بزيع : وزعم إسماعيل بن أبان أنه سمع هذا الحديث ـ حديث
الرايات ـ من أبي عبد الرحمن المسعودي.
بيان :
لعله عمل بعض
الرواة في تفسير العجل وفرعون وهامان نوع تقية ، لرسوخ حب صنمي قريش في قلوب
الناس.
وقال الجوهري :
خفقت الراية تخفق وتخفق خفقا وخفقانا وكذلك القلب والسراب إذا اضطربا .
وقال الفيروزآبادي
: البهرج : الباطل والرديء والمباح ، والبهرجة : أن
__________________
تعدل بالشيء عن الجادة
القاصدة إلى غيرها ، والمبهرج من المياه : المهمل الذي لا يمنع عنه ، ومن الدماء :
المهدر .
٧٠
ـ شف : من كتاب
المناقب لأحمد بن مردويه ، عن أحمد بن إبراهيم بن يوسف ، عن عمران بن
عبد الرحيم ، عن يحيى الحماني ، عن الحكم بن ظهير ، عن عبد الله بن محمد بن علي ،
عن أبيه ، عن ابن عباس رضياللهعنه ، قال : كنت أسير مع عمر بن الخطاب في ليلة ـ وعمر على بغل
وأنا على فرس ـ فقرأ آية فيها ذكر علي بن أبي طالب عليهالسلام ، فقال : أم والله ـ يا بني عبد المطلب لقد كان صاحبكم
أولى بهذا الأمر مني ومن أبي بكر ، فقلت في نفسي : لا أقالني الله إن أقلتك ، فقلت : أنت
تقول ذلك يا أمير المؤمنين؟! ، وأنت وصاحبك اللذان وثبتما وانتزعتم منا الأمر دون
الناس؟. فقال : إليكم يا بني عبد المطلب ، أما إنكم أصحاب عمر بن الخطاب ،
فتأخرت وتقدم هنيئة ، فقال :سر .. لا سرت ، فقال : أعد علي كلامك. فقلت : إنما
ذكرت شيئا فرددت جوابه ، ولو سكت سكتنا.
فقال : والله إنا
ما فعلنا ما فعلنا عداوة ، ولكن استصغرناه وخشينا أن لا تجتمع عليه العرب
وقريش لما قد وترها ، فأردت أن أقول : كان رسول الله صلى
__________________
الله عليه وآله
يبعثه في الكتيبة فينطح كبشها فلم يستصغره فتستصغره أنت وصاحبك؟ ، فقام لا جرم ، فكيف
ترى والله ما نقطع أمرا دونه ، و لا نعمل شيئا حتى نستأذنه ..
بيان :
قوله : أما إنكم
.. لعله قال ذلك على سبيل التهديد .. أي إنكم تخاصموني ، إما إخبارا ، وإما
استفهاما إنكاريا.
٧١
ـ شف : أحمد بن مردويه
في كتاب المناقب ، عن أحمد بن إبراهيم بن يوسف ، عن عمران بن عبد الرحيم ، عن محمد
بن علي بن حكيم ، عن محمد بن سعد ، عن الحسن بن عمارة ، عن الحكيم بن عتبة ، عن عيسى بن
طلحة بن عبيد الله ، قال : خرج عمر بن الخطاب إلى الشام وأخرج معه العباس بن عبد
المطلب ، قال : فجعل الناس يتلقون ويقولون : السلام عليك يا أمير المؤمنين! ، وكان العباس
رجلا جميلا فيقول : هذا صاحبكم ، فلما كثر عليه التفت إلى عمر ، فقال : ترى أنا
والله أحق بهذا الأمر منك ، فقال عمر : اسكت ، أولى ـ والله ـ بهذا
الأمر مني ومنك رجل خلفته أنا وأنت بالمدينة ، علي بن أبي طالب (ع)!!!.
٧٢
ـ سر : موسى بن بكر ،
عن زرارة ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال : ما حرم الله شيئا إلا وقد عصي فيه ، لأنهم تزوجوا
أزواج رسول الله صلى الله
__________________
عليه وآله من بعده
فخيرهن أبو بكر بين الحجاب ولا يتزوجن أو يتزوجن ، فاخترن التزويج فتزوجن.
قال زرارة : ولو
سألت بعضهم أرأيت لو أن أباك تزوج امرأة ولم يدخل بها حتى مات ، أتحل لك إذن؟.
لقال : لا ، وهم قد استحلوا أن يتزوجوا أمهاتهم إن كانوا مؤمنين ، فإن أزواج رسول
الله صلىاللهعليهوآله مثل أمهاتهم ..
٧٣
ـ شي : المفضل بن صالح
، عن بعض أصحابه ، عن جعفر بن محمد وأبي جعفر عليهماالسلام في قول الله : ( يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ). إلى آخر الآية ،
قال : نزلت في عثمان ، وجرت في معاوية وأتباعهما .
٧٤
ـ شي : عن سلام بن
المستنير ، عن أبي جعفر عليهالسلام في قوله :
( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا
صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ). لمحمد وآل محمد عليهم الصلاة والسلام ، هذا تأويل ، قال : أنزلت في عثمان
.
٧٥
ـ شي : عن أبي بصير ،
عن أبي عبد الله في قوله : ( يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) ... إلى قوله : ( لا
يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا
__________________
كَسَبُوا
) قال صفوان : أي حجر ( وَالَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ ) ؟. قال : فلان
وفلان وفلان ومعاوية وأشياعهم ..
٧٦
ـ شي : عن سعدان ، عن
رجل ، عن أبي عبد الله عليهالسلام في قوله : ( وَإِنْ تُبْدُوا ما
فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ
يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ) قال : حقيق على الله أن لا يدخل الجنة من كان في قلبه
مثقال حبة من خردل من حبهما .
٧٧
ـ سر : أبو عبد الله
السياري ، عن الرضا عليهالسلام ، قال : كان عثمان إذا أتي بشيء من الفيء فيه ذهب عزله ،
وقال : هذا لطوق عمرو ، فلما كثر ذلك قيل له : كبر عمرو عن الطوق ، فجرى
به المثل .
بيان :
ذكر أصحاب كتب
الأمثال مورد المثل على وجه آخر تعصبا ، مع أنه لا تنافي بينهما.
قال الزمخشري في
المستقصى : هو عمرو بن عدي ابن أخت جذيمة قد
__________________
طوق كثيرا صغيرا ثم استهوته
الجن مدة ، فلما عاد همت أمه بإعادة الطوق إليه ، فقال جذيمة : .. ذلك ، وقيل إنها
نطقته وطوقته وأمرته بزيارة خاله ، فلما رأى لحيته والطوق قال : .. ذلك. ويروى شب
عمرو عن الطوق وجل عمرو ، يضرب في ارتفاع الكبير عن هيئة الصغير وما يستهجن من
تحليته بحليته . ونحوه قال الميداني لكنه طول القصة الغريبة.
٧٨
ـ شي : علي بن ميمون
الصائغ ، عن ابن أبي يعفور ، قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : ثلاثة ( لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) : من ادعى إمامة
من الله ليست له ، ومن جحد إماما من الله ، ومن قال إن لفلان وفلان في الإسلام
نصيبا .
٧٩
ـ شي : عن الثمالي ،
عن علي بن الحسين عليهالسلام .. مثله .
٨٠ـ
شي : عن عامر بن
كثير السراج ، عن عطاء الهمداني ، عن أبي جعفر عليهالسلام في قوله : ( إِذْ يُبَيِّتُونَ ما
لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ ) قال : فلان وفلان وفلان وأبو عبيدة بن الجراح.
وفي رواية عمرو بن
سعيد ، عن أبي الحسن عليهالسلام ، قال : هما وأبو عبيدة بن الجراح.
__________________
وفي رواية عمر بن
صالح ، قال : الأول والثاني وأبو عبيدة بن الجراح .
٨١
ـ شي : عن جابر ، قال
: قلت لمحمد بن علي عليهماالسلام قوله تعالى في كتابه : ( الَّذِينَ آمَنُوا
ثُمَّ كَفَرُوا ) ، قال : هما والثالث والرابع وعبد الرحمن وطلحة وكانوا
سبعة عشر رجلا.
قال : لما وجه
النبي صلىاللهعليهوآله علي بن أبي طالب عليهالسلام وعمار بن ياسر رحمهالله إلى أهل مكة ، قالوا : بعث هذا الصبي ولو بعث غيره ـ يا
حذيفة إلى أهل مكة ، وفي مكة صناديدها ، وكانوا يسمون عليا : الصبي ،
لأنه كان اسمه في كتاب الله الصبي ، لقول الله : ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وهو صبي وقال
إنني من المسلمين ، والله الكفر بنا أولى مما نحن فيه ، فساروا فقالوا لهما وخوفوهما
بأهل مكة فعرضوا لهما وغلظوا عليهما الأمر ، فقال علي صلوات الله عليه : ( حَسْبُنَا
اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) ، ومضى ، فلما دخلا مكة أخبر الله نبيه صلىاللهعليهوآله بقولهم لعلي عليهالسلام وبقول علي لهم ، فأنزل الله بأسمائهم في كتابه ، وذلك قول
الله ألم تر إلى الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم
إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل .. إلى قوله : ( وَاللهُ ذُو فَضْلٍ
عَظِيمٍ ) ، وإنما نزلت « ألم تر إلى .. »
__________________
فلان وفلان لقوا
عليا وعمارا فقالا : إن أبا سفيان وعبد الله بن عامر وأهل مكة قد جمعوا لكم
فاخشوهم ، فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، وهما اللذان قال الله :
( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ) ... إلى آخر
الآية فهذا أول كفرهم.
والكفر الثاني قول
النبي عليه وآله السلام : يطلع عليكم من هذا الشعب رجل فيطلع عليكم بوجهه ، فمثله
عند الله كمثل عيسى لم يبق منهم أحد إلا تمنى أن يكون بعض أهله ، فإذا بعلي عليهالسلام قد خرج وطلع بوجهه ، قال : هو هذا ، فخرجوا غضابا وقالوا : ما بقي إلا أن يجعله
نبيا ، والله الرجوع إلى آلهتنا خير مما نسمع منه في ابن عمه! وليصدنا علي إن دام
هذا ، فأنزل الله : ( وَلَمَّا ضُرِبَ
ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) ... إلى آخر
الآية ، فهذا الكفر الثاني.
وزيادة الكفر حين قال الله : ( إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ، وقال النبي صلىاللهعليهوآله : يا علي! أصبحت وأمسيت خير البرية ، فقال له الناس : هو خير من آدم ونوح ومن
إبراهيم ومن الأنبياء .. فأنزل الله : ( إِنَّ اللهَ اصْطَفى
آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ ) ... إلى ( سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) قالوا : فهو خير
منك يا محمد .. قال الله : ( قُلْ ... إِنِّي رَسُولُ
اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) ولكنه خير منكم وذريته خير من ذريتكم ، ومن اتبعه خير ممن
اتبعكم ، فقاموا غضابا ، وقالوا زيادة : الرجوع إلى الكفر أهون علينا مما
__________________
يقول في ابن عمه!
وذلك قول الله : ( ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً ) .
بيان :
( يَصِدُّونَ ). بمعنى يضجون ، وقوله وليصدنا
.. ليس لبيان هذا الصدود ، بل هو بمعنى المنع عما هو مرادهم.
قوله عليهالسلام : وقالوا زيادة .. بالنصب ، أو الرفع بالإضافة.
٨٢
ـ شي : عن زرارة
وحمران ومحمد بن مسلم ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهماالسلام عن قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ) ... ( ثُمَّ ازْدادُوا
كُفْراً ) قال : نزلت في أبي عبد الله بن أبي سرح الذي بعثه عثمان إلى مصر ، قال : و ( ازْدادُوا
كُفْراً ) حين لم يبق فيه من الإيمان شيء .
٨٣
ـ شي : عن عبد الله بن كثير الهاشمي
، عن أبي عبد الله عليهالسلام في قول الله : ( إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً ) قال : نزلت في
فلان وفلان ( آمَنُوا ) برسول الله صلىاللهعليهوآله في أول
__________________
الأمر ( ثُمَّ
كَفَرُوا ) حين عرضت عليهم الولاية ، حيث قال : من كنت مولاه فعلي
مولاه ، ( ثُمَّ آمَنُوا ) بالبيعة لأمير
المؤمنين عليهالسلام حيث قالوا له : بأمر الله وأمر رسوله .. فبايعوه ، ( ثُمَّ
كَفَرُوا ) حيث مضى رسول الله صلىاللهعليهوآله فلم يقروا بالبيعة ، ( ثُمَّ ازْدادُوا
كُفْراً ) بأخذهم من بايعوه بالبيعة لهم ، فهؤلاء لم يبق فيهم من
الإيمان شيء .
٨٤
ـ كا : الحسين بن محمد
، عن المعلى ، عن محمد بن أورمة وعلي بن عبد الله ، عن علي بن حسان ، عن عبد
الرحمن بن كثير .. مثله.
بيان :
المراد بمن بايعوه
: أمير المؤمنين صلوات الله عليه.
٨٥
ـ شي : عن جابر ، قال
: سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن قول الله : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ ) ، قال :فقال : هم
أولياء فلان وفلان وفلان اتخذوهم أئمة دون الإمام الذي جعله الله للناس إماما ، فلذلك قال الله تبارك
وتعالى : ( وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ
يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ
الْعَذابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ) ... إلى قوله : ( مِنَ
النَّارِ ) ، قال : ثم قال أبو جعفر عليهالسلام :
__________________
هم والله ـ يا
جابر ـ أئمة الظلم وأشياعهم ..
٨٦
ـ شي : عن زرارة
وحمران ومحمد بن مسلم ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهماالسلام قوله : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ) قال : هم آل محمد صلىاللهعليهوآله .
٨٧
ـ شي : عن منصور بن
حازم ، قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : ( وَما هُمْ
بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) ؟. قال : أعداء علي عليهالسلام هم المخلدون في النار أبد الآبدين ودهر الداهرين ..
٨٨
ـ شي : عن الحسين بن
بشار ، قال : سألت أبا الحسن عليهالسلام عن قول الله : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) ؟. قال :فلان
وفلان. ( وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ) ، النسل : هم
الذرية ، والحرث : الزرع ..
__________________
٨٩
ـ شي : عن بعض أصحابه
، قال : سمعت عمارا يقول ـ على منبر الكوفة ـ : ثلاثة يشهدون على [ فلان ] أنه
كافر وأنا الرابع ، وأنا أتم الأربعة ، ثم قرأ هؤلاء الآيات في المائدة : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) و (
الظَّالِمُونَ ) و (
الْفاسِقُونَ ) .
٩٠
ـ شي : عن أبي جميلة ، عن بعض أصحابه ، عن أحدهما عليهماالسلام ، قال : قد فرض الله في الخمس نصيبا لآل محمد صلىاللهعليهوآله فأبى أبو بكر أن يعطيهم نصيبهم حسدا وعداوة ، وقد قال الله
: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ
فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) ، وكان أبو بكر أول من منع آل محمد عليهمالسلام حقهم وظلمهم ، وحمل الناس على رقابهم ، ولما قبض أبو بكر استخلف عمر على غير
شورى من المسلمين ولا رضى من آل محمد ، فعاش عمر بذلك لم يعط آل محمد عليهمالسلام حقهم وصنع ما صنع أبو بكر .
٩١
ـ شي : عن زرارة ، عن
أبي عبد الله عليهالسلام : ( مَنْ جاءَ
__________________
بِالْحَسَنَةِ
فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) قال : من ذكرهما فلعنهما كل غداة كتب الله له سبعين حسنة ،
ومحا عنه عشر سيئات ، ورفع له عشر درجات .
٩٢
ـ م : قوله عز وجل : ( وَإِذا
لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ
قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ
وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ؟. قال موسى بن
جعفر عليهماالسلام : وإذا لقي هؤلاء الناكثون لبيعته المواطئون على مخالفة علي عليهالسلام ودفع الأمر عنه ، الذين آمنوا قالوا آمنا كإيمانكم ، إذا
لقوا سلمان والمقداد وأبا ذر وعمارا قالوا لهم : آمنا بمحمد (ص) وسلمنا له بيعة
علي عليهالسلام وفضله وأنفذنا لأمره كما آمنتهم [ آمنتم ] إن كان أولهم وثانيهم
وثالثهم إلى تاسعهم ، ربما كانوا يلتقون في بعض طرقهم مع سلمان وأصحابه ، فإذا
لقوهم اشمأزوا منهم وقالوا : هؤلاء أصحاب الساحر والأهوج ـ يعنون محمدا وعليا عليهماالسلام ـ ، ثم يقول بعضهم لبعض : احترزوا منهم لا يقفون من فلتات كلامكم على كفر
محمد فيما قاله في علي فينموا عليكم ، فيكون فيه هلاككم ، فيقول أولهم : انظروا
إلي كيف أسخر منهم وأكف عاديتهم عنكم؟. فإذا لقوا قال أولهم :
مرحبا بسلمان ابن الإسلام الذي
__________________
قال فيه محمد سيد
الأنام : لو كان الدين متعلقا بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس ، هذا أفضلهم ، يعنيك.
وقال فيه : سلمان منا أهل البيت ، فقرنه بجبرئيل الذي قال له يوم العباء لما قال
لرسول الله صلىاللهعليهوآله : وأنا منكم ، فقال : وأنت منا حتى ارتقى جبرئيل إلى
الملكوت الأعلى يفتخر على أهله يقول : من مثلي؟! بخ بخ وأنا من أهل بيت محمد صلىاللهعليهوآله.
ثم يقول للمقداد :
مرحبا بك يا مقداد! أنت الذي قال فيك رسول الله صلىاللهعليهوآله لعلي عليهالسلام : يا علي! المقداد أخوك في الدين وقد قدمك فكأنه بعضك ، حبا
لك وتعصبا على أعدائك ، وموالاة لأوليائك ، ومعاداة لأعدائك ، لكن ملائكة
السماوات والحجب أكثر حبا لك منك لعلي عليهالسلام ، وأكثر تعصبا على أعدائك منك على أعداء
علي عليهالسلام ، فطوباك ثم طوباك.
ثم يقول لأبي ذر :
مرحبا بك يا أبا ذر! أنت الذي قال فيك رسول الله صلىاللهعليهوآله : ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من
أبي ذر ، و قيل : بما ذا فضله الله وشرفه ؟ قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لأنه كان بفضل علي ـ أخي رسول الله صلوات الله عليهما وآلهما ـ قوالا ، وله
في كل الأحوال مداحا ، ولشانئيه وأعدائه شانئا ، ولأوليائه وأحبائه مواليا ، وسوف
يجعله
__________________
الله في الجنان من
أفضل ساكنيها ، ويخدمه ما لا يعرف عدده إلا الله من وصائفها وغلمانها
وولدانها.
ثم يقول لعمار بن
ياسر : أهلا وسهلا ومرحبا بك يا عمار! نلت بموالاة أخي رسول الله صلىاللهعليهوآله مع أنك وادع رافه لا تزيد على المكتوبات والمسنونات من سائر العبادات ما لا
يناله الكاد بدنه ليلا ونهارا ـ يعني الليل قياما والنهار صياما ـ ، والباذل
أمواله وإن كانت جميع أموال الدنيا له ، مرحبا بك ، قد رضيك رسول الله صلىاللهعليهوآله لعلي ـ أخيه ـ مصافيا ، وعنه مناوئا ، حتى أخبر أنك ستقتل في محبته ، وتحشر
يوم القيامة في خيار زمرته ، وفقني الله تعالى لمثل عملك وعمل أصحابك ، حتى توفر على خدمة
محمد رسول الله (ص) وأخي محمد علي ولي الله ـ ومعاداة أعدائهما بالعداوة ، ومصافاة
أوليائهما بالموالاة والمتابعة ، سوف يسعدنا الله يومنا إذا التقينا بكم
، فيقول سلمان وأصحابه ظاهرهم كما أمرهم الله ، ويجوزون عنهم ،
فيقول الأول لأصحابه : كيف رأيتم سخريتي لهؤلاء ؟و كيف كففت
عاديتهم عني وعنكم؟. فيقولون له : لا تزال بخير ما عشت لنا. فيقول لهم : فهكذا فلتكن
معاملتكم لهم إلى أن تنتهزوا الفرصة فيهم مثل هذا ، فإن اللبيب العاقل من تجرع على
الغصة حتى ينال الفرصة ، ثم يعودون إلى أخدانهم من المنافقين المتمردين المشاركين
لهم في تكذيب رسول الله صلىاللهعليهوآله فيما أداه إليهم عن الله عز وجل من ذكر تفضيل أمير
المؤمنين عليهالسلام
__________________
ونصبه إماما على
كافة المكلفين. قالوا لهم : ( إِنَّا مَعَكُمْ ). على ما واطأناكم
عليه من دفع علي عن هذا الأمر إن كانت لمحمد كائنة ، فلا يغرنكم ولا يهولنكم ما
تستمعونه منا من تقريظهم ، وتروننا نجترئ عليه من مداراتهم فإنا ( نَحْنُ
مُسْتَهْزِؤُنَ ) بهم ، فقال الله عز وجل يا محمد (ص)! : ( اللهُ
يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) يجازيهم جزاء استهزائهم في الدنيا والآخرة : ( وَيَمُدُّهُمْ
فِي طُغْيانِهِمْ ) يمهلهم ويتأتى بهم برفقه ويدعوهم إلى التوبة ، ويعدهم إذا أنابوا المغفرة (
يَعْمَهُونَ ) وهم يعمهون ولا يرعوون .
قال العالم صلوات
الله عليه : فأما استهزاء الله بهم في الدنيا فإنه مع إجرائه إياهم على ظاهر أحكام
المسلمين لإظهارهم ما يظهرونه من السمع والطاعة والموافقة ، يأمر رسول الله صلىاللهعليهوآله بالتعريض لهم حتى لا يخفى على المخلصين من المراد بذلك التعريض ، ويأمر
بلعنهم.
وأما استهزاؤه بهم
في الآخرة ، فهو أن الله عز وجل إذا أقرهم في دار اللعنة والهوان وعذبهم بتلك
الألوان العجيبة من العذاب ، وأقر هؤلاء المؤمنين في الجنان
__________________
بحضرة محمد صلىاللهعليهوآله صفي الملك الديان ، أطلعهم على هؤلاء المستهزءين بهم في الدنيا حتى
يروا ما هم فيهم من عجائب اللعائن ، وبدائع النقمات ، فيكون لذتهم وسرورهم
بشماتتهم كما لذتهم وسرورهم بنعيمهم في جنان ربهم ، فالمؤمنون
يعرفون أولئك الكافرين المنافقين بأسمائهم وصفاتهم ، وهم على أصناف :
منهم : من هو بين
أنياب أفاعيها تمضغه.
ومنهم : من هو بين
مخاليب سباعها تعبث به وتفترسه.
ومنهم : من هو تحت
سياط زبانيتها وأعمدتها ومرزباتها يقع من أيديهم عليه [ ما ] تشدد في عذابه ، وتعظم
خزيه ونكاله.
ومنهم : من هو في
بحار حميمها يغرق ويسحب فيها.
ومنهم : من هو في غسلينها
وغساقها تزجره زبانيتها.
ومنهم : من هو في
سائر أصناف عذابها ، والكافرون و المنافقون ينظرون فيرون هؤلاء المؤمنين الذين كانوا بهم في
الدنيا يسخرون لما كانوا من موالاة محمد
__________________
وعلي وآلهما صلوات
الله عليهم يعتقدون ، فيرونهم منهم من هو على فرشها يتقلب ، ومنهم من هو على فواكهها يرتع ،
ومنهم من هو على غرفاتها أو في بساتينها ومتنزهاتها يتبحبح ، والحور العين
والوصفاء والولدان والجواري والغلمان قائمون بحضرتهم وطائفون بالخدمة حواليهم ،
وملائكة الله عز وجل يأتونهم من عند ربهم بالحباء والكرامات وعجائب التحف والهدايا
والمبرات ، يقولون : ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ
بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) ، فيقول هؤلاء
المؤمنون المشرفون على هؤلاء الكافرين المنافقين : يا أبا فلان! ويا فلان! ويا
فلان! .. حتى ينادونهم بأسمائهم : ما بالكم في مواقف خزيكم ماكثون؟! هلموا إلينا
نفتح لكم أبواب الجنان لتخلصوا من عذابكم ، وتلحقوا بنا في نعيمها ، فيقولون : يا
ويلنا! أنى لنا هذا؟. يقول المؤمنون : انظروا إلى هذه الأبواب ، فينظرون إلى أبواب
من الجنان مفتحة يخيل إليهم أنها إلى جهنم التي فيها يعذبون ، ويقدرون أنهم
ممكنون أن يتخلصوا إليها ، فيأخذون في
__________________
السباحة في بحار حميمها
وعدوا من بين أيدي زبانيتها وهم يلحقونهم ويضربونهم بأعمدتهم
ومرزباتهم وسياطهم ، فلا يزالون هكذا يسيرون هناك ، وهذه الأصناف من العذاب تمسهم
حتى إذا قدروا أنهم قد بلغوا تلك الأبواب وجدوها مردومة عنهم ، وتدهدههم الزبانية
بأعمدتها فتنكسهم إلى سواء الجحيم ، ويستلقي أولئك المؤمنون على فرشهم في مجالسهم
يضحكون منهم مستهزءين بهم ، فذلك قول الله عز وجل : ( اللهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ ) ، وقوله عز وجل : ( فَالْيَوْمَ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ ) .
بيان :
قال الفيروزآبادي
: الهوج ـ محركة ـ طول في حمق وطيش وتسرع .
والوادع : الساكن
الخافض في العيش .
ورجل رافه .. أي
وادع ، وهو في رفاهة من العيش .. أي سعة .
وقال الجوهري :
الإرزبة ـ بالكسر ـ التي يكسر بها المدر ، فإن قلتها بالميم
__________________
خففت ، قلت : المرزبة .
وقال : سحبت ذيلي
فانسحب : جررته فانجرر .
وقال : التبحبح :
التمكن في الحلول والمقام .
والردم : السد .
ودهدهت الحجر
فتدهده : دحرجته فتدحرج .
٩٣
ـ شي : عن جابر ، عن
أبي جعفر عليهالسلام ، قال : سألته عن هذه الآية في قول الله تعالى : ( يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ ) ... إلى قوله : (
الْفاسِقِينَ ) فأما ( لا تَتَّخِذُوا
آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى
الْإِيمانِ ) فإن الكفر في الباطن في هذه الآية ولاية الأول والثاني وهو
كفر ، وقوله : على الإيمان ، فالإيمان ولاية علي بن أبي طالب عليهالسلام.
قال : ( وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ..
٩٤
ـ شي : عن عجلان ، عن
أبي عبد الله عليهالسلام في قول الله
__________________
تعالى : ( وَيَوْمَ
حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ) ... إلى : ( ثُمَّ
وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ) ؟. فقال : أبو فلان .
٩٥
ـ سر : عبد الله بن
بكير ، عن حمزة بن حمران ، قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام في احتجاج الناس علينا في الغار ، فقال عليهالسلام :حسبك بذلك عارا ـ أو قال : شرا ـ إن الله لم يذكر رسول الله صلىاللهعليهوآله مع المؤمنين إلا أنزل الله السكينة عليهم جميعا ، وإنه
أنزل السكينة على رسوله وأخرجه منها و خص رسول الله صلىاللهعليهوآله دونه ..
٩٦
ـ سر : من كتاب أبي
القاسم بن قولويه ، عن عيسى بن عبد الله الهاشمي ، قال : خطب الناس عمر بن الخطاب
ـ وذلك قبل أن يتزوج أم كلثوم بيومين ـ ، فقال : أيها الناس! لا تغالوا بصدقات
النساء فإنه لو كان الفضل فيها لكان رسول الله صلىاللهعليهوآله يفعل ، كان نبيكم عليهالسلام يصدق المرأة من نسائه المحشوة وفراش الليف والخاتم والقدح
وما أشبهها ، ثم نزل عن المنبر ، وما أقام يومين أو ثلاثة حتى
أرسل صداق بنت علي عليهالسلام بأربعين ألفا ..
__________________
٩٧
ـ شي : عن أبي بصير ،
قال : يؤتى بجهنم ( لَها سَبْعَةُ
أَبْوابٍ ) ، بابها الأول : للظالم وهو زريق ، وبابها الثاني : لحبتر
، والباب الثالث : للثالث ، والرابع : لمعاوية ، والباب الخامس : لعبد الملك ،
والباب السادس : لعسكر بن هوسر ، والباب السابع : لأبي سلامة ، فهم أبواب لمن
اتبعهم .
بيان :
سيأتي أن عسكر [ عسكرا
] اسم جمل عائشة ، ويحتمل أن يكون كناية عن بعض ولاة بني أمية كأبي سلامة ، ويحتمل
أن يكون أبو سلامة كناية عن أبي مسلم إشارة إلى من سلطهم من بني العباس.
٩٨
ـ شي : عن حريز ، عمن
ذكره ، عن أبي جعفر عليهالسلام في قول الله : ( وَقالَ الشَّيْطانُ
لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ ) ، قال : هو الثاني ، وليس في القرآن شيء ( وَقالَ
الشَّيْطانُ ) إلا وهو الثاني .
٩٩
ـ شي : عن أبي بصير ،
عن أبي عبد الله عليهالسلام ، أنه : إذا كان يوم القيامة يؤتى بإبليس في سبعين غلا
وسبعين كبلا ، فينظر الأول إلى زفر في
__________________
عشرين ومائة كبل
وعشرين ومائة غل ، فينظر إبليس فيقول : من هذا الذي أضعفه الله العذاب وأنا أغويت هذا
الخلق جميعا. فيقال : هذا زفر. فيقول : بما جدر له هذا العذاب؟!.
فيقال : ببغيه على علي عليهالسلام. فيقول له إبليس : ويل لك أو ثبور لك! ، أما علمت أن الله
أمرني بالسجود لآدم فعصيته وسألته أن يجعل لي سلطانا على محمد وأهل بيته وشيعته
فلم يجبني إلى ذلك ، وقال : ( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) وما عرفتهم حين
استثناهم إذ قلت : ( وَلا تَجِدُ
أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ ) فمنيت به نفسك غرورا ، فيوقف بين يدي الخلائق فيقال له : ما الذي كان
منك إلى علي وإلى الخلق الذين اتبعوك على الخلاف؟!. فيقول الشيطان ـ وهو زفر ـ لإبليس
: أنت أمرتني بذلك. فيقول له إبليس : فلم عصيت ربك وأطعتني؟. فيرد زفر عليه ما قال الله : ( إِنَّ
اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ) ... إلى آخر الآية .
بيان :
قوله عليهالسلام : فيرد زفر عليه .. ظاهر السياق أن يكون قوله : ( إِنَّ اللهَ
وَعَدَكُمْ ) كلام إبليس ، فيكون كلام زفر ما ذكر قبل تلك الآية من قوله
: ( إِنَّا كُنَّا
__________________
لَكُمْ
تَبَعاً ) وترك اختصارا ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما يجري بين [
فلان ] وبين أتباعه ، فيكون المراد بالرد عليه الرد على أتباعه ، أو يكون ( عليهم
) فصحف ، ولعله سقط من الكلام شيء ، وفي بعض النسخ لم تكن كلمة ( ما ) في ( ما ) قال الله ، ولعله
أقرب ، وعلى تقديره يمكن أن يقرأ فيرد ـ على بناء المجهول ـ والظرف بدل من زفر ،
فتكون الجملة بيان للجملة السابقة.
١٠٠
ـ شي : عن محمد بن
مروان ، عن أبي جعفر عليهالسلام في قوله : ( ما أَشْهَدْتُهُمْ
خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ
الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) ؟. قال : إن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : اللهم أعز الدين بعمر بن الخطاب! أو بأبي جهل بن
هشام! ، فأنزل الله : ( وَما كُنْتُ
مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) يعنيهما .
١٠١
ـ شي : عن محمد بن
مروان ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : قلت له : جعلت فداك ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : أعز الإسلام بأبي جهل بن هشام أو بعمر بن الخطاب. فقال : يا محمد! قد والله
قال ذلك ، وكان علي أشد من ضرب العنق ، ثم أقبل علي فقال : هل تدري ما أنزل الله
يا
__________________
محمد؟!. قلت : أنت
أعلم جعلت فداك. قال : إن رسول الله صلىاللهعليهوآله كان في دار الأرقم فقال : اللهم أعز الإسلام بأبي جهل بن هشام
أو بعمر بن الخطاب ، فأنزل الله : ( ما أَشْهَدْتُهُمْ
خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ
الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) يعنيهما ..
١٠٢
ـ شي : عن عبد الله بن
عثمان البجلي ، عن رجل : أن النبي صلىاللهعليهوآله اجتمعا عنده فتكلما في علي وكان من النبي صلىاللهعليهوآله أن لين لهما في بعض القول ، فأنزل الله : ( لَقَدْ
كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ
وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) ثم لا يجدا بعدك مثل علي
وليا .
بيان :
قال البيضاوي : ( ضِعْفَ
الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ). أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، ضعف ما يعذب به في الدارين
بمثل هذا العمل غيرك ، لأن خطأ الخطير أخطر.
وقيل : الضعف من
أسماء العذاب.
وقيل : المراد
بضعف الحياة عذاب الآخرة وبضعف الممات عذاب القبر.
__________________
انتهى.
وفي تفسير علي بن
إبراهيم : وضعف الممات من يوم الموت إلى أن تقوم الساعة .
ولعل قوله : ثم لا
يجدا بعدك .. من تتمة الآية في قراءة أهل البيت عليهمالسلام.
١٠٣
ـ جا : عمر بن محمد ،
عن جعفر بن محمد الحسني ، عن عيسى بن مهران ، عن مخول ، عن الربيع بن المنذر ، عن
أبيه ، قال : سمعت الحسن بن علي عليهماالسلام يقول : إن أبا بكر وعمر عمدا إلى هذا الأمر وهو لنا كله
فأخذاه دوننا ، وجعلا لنا فيه سهما كسهم الجد ، أما والله لتهمنهما أنفسهما يوم يطلب الناس فيه شفاعتنا.
بيان :
التشبيه بسهم الجد
إما من جهة القلة ، أو عدم اللزوم مع وجود الوالدين ، أو إشارة إلى الشورى ، فإن
عمر جعل أمير المؤمنين عليهالسلام أحد الستة و سهم الجد السدس.
١٠٤
ـ قب : حدث أبو عبد
الله محمد بن أحمد الديلمي البصري ، عن محمد بن أبي كثير الكوفي ، قال : كنت لا أختم صلاتي ولا أستفتحها إلا
__________________
بلعنهما ، فرأيت
في منامي طائرا معه تور من الجوهر فيه شيء أحمر شبه الخلوق ، فنزل إلى البيت المحيط برسول
الله صلىاللهعليهوآله ، ثم أخرج شخصين من الضريح فخلقهما بذلك الخلوق في
عوارضهما ، ثم ردهما إلى الضريح وعاد مرتفعا ، فسألت من حولي من هذا الطائر؟ وما
هذا الخلوق؟. فقال : هذا ملك يجيء في كل ليلة جمعة يخلقهما ، فأزعجني ما رأيت
فأصبحت لا تطيب نفسي بلعنهما ، فدخلت على الصادق عليهالسلام ، فلما رآني ضحك وقال : رأيت الطائر؟. فقلت : نعم يا سيدي.
فقال : اقرأ : ( إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ ) فإذا رأيت شيئا
تكره فاقرأها ، والله ما هو بملك موكل بهما لإكرامهما ، بل هو ملك موكل بمشارق
الأرض ومغاربها ، إذا قتل قتيل ظلما أخذ من دمه فطوقهما به في رقابهما ، لأنهما
سبب كل ظلم مذ كانا ..
بيان :
التور إناء يشرب
فيه .
١٠٥
ـ كش : العياشي ، عن
جعفر بن أحمد ، عن حمدان بن سليمان والعمركي ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن
الحجال ، عن علي بن عقبة ، عن رجل ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوآله وعلي وعمار يعملون مسجدا ، فمر عثمان في بزة له يخطر ،
فقال أمير المؤمنين عليه
__________________
السلام : ارجز به.
فقال عمار :
لا يستوي من
يعمر المساجدا
|
|
يظل فيها راكعا
وساجدا
|
ومن تراه عاندا
معاندا
|
|
عن الغبار لا
يزال حائدا
|
قال : فأتى النبي صلىاللهعليهوآله ، فقال : ما أسلمنا لتشتم أعراضنا وأنفسنا!.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : أفتحب أن تقال بذلك؟ ، فنزلت آيتان : ( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ
أَنْ أَسْلَمُوا ) ... الآية ، ثم قال النبي صلىاللهعليهوآله لعلي عليهالسلام : اكتب هذا في صاحبك ، ثم قال النبي صلىاللهعليهوآله : اكتب هذه الآية : ( إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ) ... .
بيان :
البزة ـ بالكسر ـ :
الهيئة ، والبزة أيضا السلاح ، ذكره الجوهري ، وقال :خطران الرجل .. اهتزازه في المشي وتبختره .
قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أن تقال بذلك .. أي أقيل إسلامك وأرجع عن بيعتك بذلك الأمر الذي وقع ، فهو
إما على الاستفهام الإنكاري ، أو لأنه كان يعلم من باطنه أنه لم يؤمن.
١٠٦
ـ كش : جعفر بن معروف
، قال : حدثنا الحسن بن علي بن نعمان ، عن أبيه ، عن صالح الحذاء ، قال : لما أمر
النبي صلىاللهعليهوآله ببناء المسجد قسم عليهم المواضع ، وضم إلى كل رجل رجلا ،
فضم عمارا إلى علي عليه
__________________
السلام ، قال :
فبينا هم في علاج البناء إذ خرج عثمان عن داره وارتفع
الغبار فتمنع بثوبه وأعرض بوجهه ، قال : فقال علي عليهالسلام لعمار : إذا قلت شيئا فرد علي ، قال : فقال علي عليهالسلام :
لا يستوي من
يعمر المساجدا
|
|
يظل فيها راكعا
وساجدا
|
كمن ترى عن الطريق حائدا و عائدا
|
قال : فأجابه عمار
كما قال ، فغضب عثمان من ذلك فلم يستطع أن يقول لعلي شيئا ، فقال لعمار : يا عبد! يا لكع! ومضى ،
فقال علي عليهالسلام لعمار :رضيت بما قال؟. ألا تأتي النبي صلىاللهعليهوآله فتخبره؟. قال : فأتاه فأخبره ، فقال : يا نبي الله (ص)! إن عثمان قال لي : يا
لكع! .
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : من يعلم ذلك؟. قال : علي. قال :فدعاه وسأله ، فقال له كما قال عمار ، فقال
لعلي عليهالسلام : اذهب فقل له حيث ما كان : يا عبد! يا لكع! أنت القائل
لعمار يا عبد! يا لكع! ، فذهب علي عليهالسلام فقال له ذلك فانصرف .
بيان :
فتمنع .. أي امتنع
من الغبار ، وفي بعض النسخ بالياء المثناة التحتانية
__________________
أي جرى على الأرض ومضى ، والأول
أظهر.
واللكع ـ بضم
اللام وفتح الكاف ـ : اللئيم والذليل النفس .
١٠٧
ـ كش : حمدويه
وإبراهيم معا ، عن محمد بن عبد الحميد ، عن أبي جميلة ، عن الحارث بن
المغيرة ، عن الورد بن زيد ، قال : قلت لأبي جعفر عليهالسلام : جعلني الله فداك قدم الكميت. فقال : أدخله. فسأله الكميت
عن الشيخين؟ ، فقال له أبو جعفر عليهالسلام : ما أهريق دم ولا حكم بحكم غير موافق لحكم
الله وحكم رسوله صلىاللهعليهوآله وحكم علي عليهالسلام إلا وهو في أعناقهما. فقال الكميت : الله أكبر الله أكبر
حسبي حسبي ..
١٠٨
ـ كا : حميد بن زياد ،
عن أبي العباس عبيد الله بن أحمد الدهقان ، عن علي بن الحسن الطاطري ، عن
محمد بن زياد ، عن أبان ، عن الفضيل بن يسار ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال : إن عثمان قال للمقداد : أما والله لتنتهين أو لأردنك إلى ربك الأول ،
قال : فلما حضرت مقداد الوفاة قال لعمار : أبلغ عثمان عني أني قد رددت إلى ربي
الأول.
بيان :
[ لعله ] أراد
بالرب الأول الصنم أو المالك ، وأراد مقداد رضياللهعنه به الرب تعالى.
__________________
١٠٩
ـ كتاب سليم بن قيس : عن أبان بن أبي عياش ، عن سليم ، قال : سمعت سلمان الفارسي يقول : إذا كان
يوم القيامة يؤتى بإبليس مزموما بزمام من نار ، ويؤتى بزفر مزموما بزمامين من نار ،
فينطلق إليه إبليس فيصرخ ويقول : ثكلتك أمك ، من أنت؟ أنا الذي فتنت الأولين
والآخرين وأنا مزموم بزمام واحد وأنت مزموم بزمامين. فيقول : أنا الذي أمرت فأطعت
وأمر الله فعصي.
١١٠
ـ كش : محمد بن مسعود
، عن علي بن الحسن بن فضال ، عن العباس بن عامر وجعفر بن محمد بن حكيم ، عن أبان
بن عثمان الأحمر ، عن أبي بصير ، قال : كنت جالسا عند أبي عبد الله عليهالسلام إذ جاءت أم خالد ـ التي كان قطعها يوسف ـ يستأذن عليه ، قال :
فقال أبو عبد الله عليهالسلام : أيسرك أن تشهد كلامها؟. قال : فقلت : نعم ، جعلت فداك.
فقال : إما لا فادن. قال : فأجلسني على عقبة الطنفسة ثم دخلت
فتكلمت ، فإذا هي امرأة بليغة ، فسألته عن فلان وفلان ، فقال لها : توليهما. فقالت : فأقول
لربي إذا لقيته إنك أمرتني بولايتهما. قال : نعم. قالت : فإن هذا الذي معك على
الطنفسة يأمرني بالبراءة منهما ، وكثير النواء يأمرني بولايتهما ، فأيهما أحب إليك؟.
قال : هذا والله وأصحابه أحب إلي من كثير النواء وأصحابه ، إن هذا يخاصم فيقول : ( مَنْ لَمْ
يَحْكُمْ
__________________
بِما
أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) ( وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ( وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) . فلما خرجت ، قال
: إني خشيت أن تذهب فتخبر كثير النواء فتشهرني بالكوفة ، اللهم إني إليك من كثير النواء بريء في الدنيا
والآخرة ..
بيان :
قوله عليهالسلام : أما لا .. لعله على الاكتفاء ببعض الكلام لظهور المراد ، أي أما إذا كان لا
بد من سماعك فادن. وفي بعض النسخ : أما الآن فادن. وفي روضة الكافي قال : فأذن لها ، وأجلسني.
وفي القاموس :
الطنفسة ـ مثلثة الطاء والفاء وبكسر الطاء وفتح الفاء وبالعكس ـ : واحدة الطنافس
للبسط والثياب وكحصير من سعف عرضه ذراع .
قوله عليهالسلام : إن هذا يخاصم .. أي أبو بصير يخاصم في شأن كثير وذمه أو الرجلين وكفرهما
بالآيات المذكورة ، فأبهم عليهالسلام تقية مع أنه لو كان المراد به كثيرا لدل على كفرهما بل كفر
جميع خلفاء الجور لاشتراك الدليل ، فبين عليهالسلام الحق مع نوع من التقية.
__________________
أقول :
قال ابن أبي
الحديد في شرح نهج البلاغة ، نقلت من كتاب تاريخ بغداد لأبي أحمد بن أبي طاهر ، بسنده
عن ابن عباس ، قال : دخلت على عمر بن الخطاب في أول خلافته ـ وقد ألقي له صاع من
تمر على حصفة ـ فدعاني للأكل ، فأكلت تمرة واحدة ، وأقبل يأكل حتى أتى
عليه ، ثم شرب من جر كان عنده واستلقى على مرفقة له ، وطفق يحمد الله
يكرر ذلك ، ثم قال : من أين جئت يا عبد الله؟. قلت : من المسجد. قال : كيف خلفت
بني عمك ؟. فظننته يعني عبد الله بن جعفر ، فقلت : خلفته يلعب مع
أترابه. قال : لم أعن ذا ، وإنما عنيت عظيمكم أهل البيت؟. قلت : خلفته يمتح بالغرب على نخلات له وهو يقرأ القرآن.
فقال : يا عبد الله! عليك دماء البدن إن كتمتنيها ، أبقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟.
قلت : نعم. قال : أيزعم أن رسول الله صلىاللهعليهوآله جعلها له ؟ قلت : نعم ، وأزيدك ، سألت أبي عما يدعيه ، فقال :
__________________
صدق ، قال عمر :
لقد كان عن رسول الله صلىاللهعليهوآله في أمره ذرو من قول لا يثبت حجة ولا يقطع عذرا ، وقد كان يزيغ في أمره وقتا ما
، ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقا وحفظة على الإسلام ، لا
ورب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبدا ، ولو وليها لانتقضت عليه العرب
من أقطارها ، فعلم رسول الله (ص) أني علمت ما في نفسه فأمسك ، وأبى الله إلا إمضاء
ما حتم.
توضيح :
قال الجوهري :
الماتح : المستسقي ، .. يقال : متح الماء يمتحه متحا .. إذا نزعه ، المتح أن يدخل
البئر فيملأ لقلة مائها .
والغرب ـ بالفتح ـ :
الدلو العظيمة . وقال في النهاية : فيه بلغني عن
__________________
علي ذروة من قول .. الذرو
من الحديث : ما ارتفع إليك وترامى من حواشيه وأطرافه ، من قولهم ذرأ إلي فلان .. أي
ارتفع وقصد .
١١١
ـ كنز : روي عن محمد بن
إسماعيل بإسناده عن جعفر بن الطيار ، عن أبي الخطاب ، عن أبي عبد الله عليهالسلام أنه قال : والله ما كنى الله في كتابه حتى قال : ( يا
وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً ) وإنما هي في مصحف
فاطمة يا ويلتي ليتني لم أتخذ الثاني خليلا. وسيظهر يوما، فمعنى هذا التأويل أن
الظالم العاض على يديه الأول ، والحال بين لا يحتاج إلى بيان .
١١٢ ـ ويؤيده ما
رواه محمد بن جمهور ، عن حماد بن عيسى ، عن حريز ، عن رجل ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، أنه قال : ( يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ
يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يا وَيْلَتى لَيْتَنِي
لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً ) قال :يقول الأول للثاني .
__________________
١١٣
ـ كتاب الإستدراك : بإسناده ، أن المتوكل قيل له إن أبا الحسن يعني علي بن محمد بن علي الرضا ـ
يفسر قول الله عز وجل : ( وَيَوْمَ يَعَضُّ
الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ ) ... الآيتين ، في الأول والثاني. قال : فكيف الوجه في أمره ؟. قالوا : تجمع
له الناس وتسأله بحضرتهم ، فإن فسرها بهذا كفاك الحاضرون أمره ، وإن فسرها بخلاف
ذلك افتضح عند أصحابه ، قال : فوجه إلى القضاة وبني هاشم والأولياء ، وسئل عليهالسلام ، فقال : هذان رجلان كنى الله عنهما ومن بالستر عليهما ، أفيحب أمير المؤمنين
أن يكشف ما ستره الله؟. فقال : لا أحب ..
أقول :
١١٤ ـ رأيت في بعض
كتب المناقب ، عن المفضل ، قال الصادق عليهالسلام : إن أمير المؤمنين صلوات الله عليه بلغه عن بعض شيء ، فأرسل إليه
سلمان الفارسي فقال : إنه بلغني عنك كيت وكيت وكرهت أن أفضحك ، وجعلت كفارة ذلك فك
رقبتك من المال الذي حمل إليك من خراسان الذي خنت فيه الله والمؤمنين.
قال سلمان : فلما
قلت ذلك له تغير وجهه وارتعدت فرائصه وأسقط في يديه ، ثم قال بلسان كليل : يا أبا
عبد الله! أما الكلام فلعمري قد جرى بيني وبين أهلي وولدي وما كانوا بالذي يفشون علي ، فمن أين
علم ابن أبي طالب؟ وأما المال الذي ورد علي فو الله ما علم به إلا الرسول الذي أتى
به ، وإنما هو هدية ، فمن أين علم؟ يا أبا عبد الله : والله ثم والله .. ـ ثلاثا ـ
إن ابن أبي طالب ساحر عليم.
__________________
قال سلمان : قلت :
بئس ما قلت يا عبد الله؟. فقال : ويحك! اقبل مني ما أقوله فو الله ما علم أحد بهذا
الكلام ولا أحد عرف خبر هذا المال غيري ، فمن أين علم؟ وما علم هو إلا من السحر ،
وقد ظهر لي من سحره غير هذا؟. قال سلمان : فتجاهلت عليه ، فقلت : بالله ظهر لك منه
غير هذا؟. قال : إي والله يا أبا عبد الله؟. قلت : فأخبرني ببعضه. قال : إذا والله
أصدقك ولا أحرف قليلا ولا كثيرا مما رأيته منه ، لأني أحب أن أطلعك على سحر صاحبك
حتى تجتنبه وتفارقه ، فو الله ما في شرقها وغربها أحد أسحر منه ، ثم احمرت عيناه
وقام وقعد ، وقال : يا أبا عبد الله! إني لمشفق عليك ومحب لك ، على أنك قد
اعتزلتنا ولزمت ابن أبي طالب ، فلو ملت إلينا وكنت في جماعتنا لآثرناك وشاركناك في
هذه الأموال ، فاحذر ابن أبي طالب ولا يغرنك ما ترى من سحره! فقلت : فأخبرني ببعضه.
قال : نعم ، خلوت ذات يوم أنا وابن أبي طالب (ع) في شيء من أمر الخمس ، فقطع حديثي
وقال لي : مكانك حتى أعود إليك ، فقد عرضت لي حاجة ، فخرج ، فما كان بأسرع أن
انصرف وعلى عمامته وثيابه غبار كثيرة ، فقلت : ما شأنك يا أمير المؤمنين؟. قال :
أقبلت على عساكر من الملائكة وفيهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يريدون بالمشرق مدينة يقال لها : صحور ، فخرجت لأسلم عليه
، فهذه الغبرة من ذلك ، فضحكت تعجبا من قوله ، وقلت : يا أبا الحسن! رجل قد بلي في
قبره وأنت تزعم أنك لقيته الساعة وسلمت عليه ، هذا ما لا يكون أبدا. فغضب من قولي
، ثم نظر إلي فقال : أتكذبني؟!. قلت : لا تغضب فإن هذا ما لا يكون. قال : فإن
عرضته عليك حتى لا تنكر منه شيئا تحدث لله توبة مما أنت عليه؟. قلت : لعمر الله.
فاعرضه علي ، فقال : قم ، فخرجت معه إلى طرف المدينة ، فقال لي : يا شاك غمض عينيك
، فغمضتها فمسحهما ثم قال : يا غافل افتحهما ، ففتحتهما فإذا أنا والله ـ يا أبا
عبد الله ـ برسول
__________________
الله (ص) مع
الملائكة لم أنكر منه شيئا ، فبقيت والله متعجبا أنظر في وجهه ، فلما أطلت النظر
إليه فعض الأنامل بالأسنان وقال لي : يا فلان بن فلان! ( أَكَفَرْتَ
بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ) ، قال : فسقطت
مغشيا على الأرض ، فلما أفقت قال لي : هل رأيته وسمعت كلامه؟. قلت : نعم. قال : انظر
إلى النبي (ص) ، فنظرت فإذا لا عين ولا أثر ولا خبر من الرسول صلىاللهعليهوآله ولا من تلك الخيول. فقال لي : يا مسكين فأحدث توبة من ساعتك هذه. فاستقر عندي
في ذلك اليوم أنه أسحر أهل الأرض ، وبالله لقد خفته في ذلك اليوم وهالني أمره ،
ولو لا أني وقفت ـ يا سلمان ـ على أنك تفارقه ما أخبرتك ، فاكتم هذا وكن معنا
لتكون منا وإلينا حتى أوليك المدائن وفارس ، فصر إليهما ولا تخبر ابن أبي طالب (ع)
بشيء مما جرى بيننا ، فإني لا آمنه أن يفعل لي من كيده شيئا. قال : فضحكت وقلت : إنك
لتخافه؟.
قال : إي والله
خوفا لا أخاف شيئا مثله. قال سلمان : فنشطت متجاهلا بما حدثني وقلت : يا عبد الله!
أخبرني عن غيره فو الله إنك أخبرتني عن أعجوبة؟.
قال : إذا أخبرك
بأعجب من هذا مما عاينته أنا بعيني. قلت : فأخبرني.
قال : نعم ، إنه
أتاني يوما مغضبا وفي يده قوسه فقال لي : يا فلان! عليك بشيعتك الطغاة ولا تتعرض
لشيعتي ، فإني خليق أن أنكل بك. فغضبت أنا أيضا ـ ولم أكن وقفت على سحره قبل ذلك ـ
، فقلت : يا ابن أبي طالب! مه ، ما هذا الغضب والسلطنة؟. أتعرفني حق المعرفة؟. قال
: نعم ، فو الله لأعرفن قدرك ، ثم رمى بقوسه الأرض ، وقال : خذيه ، فصارت ثعبانا
عظيما مثل ثعبان موسى بن عمران ففغر فاه فأقبل نحوي ليبلعني ، فلما رأيت ذلك طار روحي فرقا وخوفا
__________________
وصحت وقلت : الله!
الله! الأمان الأمان يا أمير المؤمنين ، اذكر ما كان في خلافة الأول مني حين وثب
إليك ، وبعد فاذكر ما كان مني إلى خالد بن الوليد الفاسق بن الفاسق حين أمره
الخليفة بقتلك ، وبالله ما شاورني في ذلك فكان مني ما كان حتى شكاني ووقع بيننا
العداوة ، واذكر ـ يا أمير المؤمنين ـ ما كان مني في مقامي حين قلت : إن بيعة أبي
بكر كانت فلتة فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ، فارتاب الناس وصاحوا وقالوا : طعن على
صاحبه ، قد عرفت هذا كله ، وبالله إن شيعتك يؤذونني ويشنعون علي ، ولو لا مكانك ـ يا
أمير المؤمنين ـ لكنت نكلت بهم ، وأنت تعلم أني لم أتعرض لهم من أجلك وكرامتك ،
فاكفف عني هذا الثعبان فإنه يبلعني. فلما سمع هذا المقال مني قال : أيها المسكين
لطفت في الكلام ، وإنا أهل بيت نشكر القليل ، ثم ضرب بيده إلى الثعبان وقال : ما تقول؟.
قلت : الأمان! الأمان! قد علمت أني لم أقل إلا حقا ، فإذا قوسه في يده وليس هناك
ثعبان ولا شيء ، فلم أزل أحذره وأخافه إلى يومي هذا.
قال سلمان : فضحكت
وقلت : والله ما سمعت بمثل هذه الأعجوبات.
قال : يا أبا عبد
الله! هذا ما رأيته أنا بعيني هاتين ، ولو لا أني قد رفعت الحشمة فيما بيني وبينك
ما كنت بالذي أخبرك بهذا.
قال سلمان :
فتجاهلت عليه ، فقلت : هل رأيت منه سحرا غير ما أخبرتني به؟. قال : نعم ، لو حدثتك
لبقيت منه متحيرا ، ولا تقل ـ يا أبا عبد الله ـ إن هذا السحر هو الذي أظهره ، لا
والله ولكن هو وراثة يرثونها. قلت : كيف؟.
قال : أخبرني أبي
أنه رأى من أبيه أبي طالب ومن عبد الله سحرا لم يسمع بمثله ، وذكر أبي أن أباه
نفيلا أخبره أنه رأى من عبد المطلب سحرا لم يسمع بمثله.
قال سلمان : فقلت
: : حدثني بما أخبرك به أبوك؟.
قال : نعم ،
أخبرني أبي أنه خرج مع أبي طالب (ع) في سفر يريدون الشام
__________________
مع تجار قريش تخرج
من السنة إلى السنة مرة واحدة فيجمعون أموالا كثيرة ، ولم يكن في العرب أتجر من
قريش ، فلما كانوا ببعض الطرق إذا قوم من الأعراب قطاع شاكون في السلاح لا يرى
منهم إلا الحدق ، فلما ظهروا لنا هالنا أمرهم وفزعنا ووقع الصياح في القافلة ،
واشتغل كل إنسان بنفسه يريد أن ينجو بنفسه فقط ، ودهمنا أمر جليل ، واجتمعنا
وعزمنا على الهرب ، فمررنا بأبي طالب وهو جالس ، فقلنا : يا أبا طالب! ما لك؟ ألا
ترى ما قد دهمنا فانج بنفسك معنا؟. فقال : إلى أين نهرب في هذه البراري؟. قلنا :
فما الحيلة؟. قال : الحيلة أن ندخل هذه الجزيرة فنقيم فيها ونجمع أمتعتنا ودوابنا
وأموالنا فيها.
قال : فبقينا
متعجبين ، وقلنا : لعله جن وفزع مما نزل به ، فقلنا : ويحك! ولنا هنا جزيرة؟! قال
: نعم. قلنا : أين هي؟. قال : انظروا أمامكم. قال :فنظرنا إذا والله جزيرة عظيمة
لم ير الناس أعظم منها ولا أحصن منها ، فارتحلنا وحملنا أمتعتنا ، فلما قربنا منها
إذا بيننا وبينها واد عظيم من ماء لا يمكن أحدا أن يسلكه ، فقال : ويحكم! ألا ترون
هذا الطريق اليابس الذي في وسطه قلنا : لا. قال : فانظروا أمامكم وعن يمينكم ،
فنظرنا فإذا والله طريق يابس سهل المسلك ففرحنا ، وقلنا : لقد من الله علينا بأبي
طالب ، فسلك وسلكنا خلفه حتى دخلنا الجزيرة فحططنا ، فقام أبو طالب فخط خطا على
جميع القافلة ، ثم قال : يا قوم! أبشروا فإن القوم لن يصلوا إليكم ولا أحد منهم
بسوء.
قال : وأقبلت
الأعراب يتراكضون خلفنا ، فلما انتهوا إلى الوادي إذا بحر عظيم قد حال بينهم وبيننا
فبقوا متعجبين ، فنظر بعضهم إلى بعض ، وقالوا : يا قوم! هل رأيتم قط هاهنا جزيرة
أو بحرا؟. قالوا : لا. فلما كثر تعجبهم قال شيخ منهم ـ قد مرت عليه التجارب ـ : يا
قوم! أنا أطلعكم على بيان هذا الأمر الساعة. قالوا : هات ـ يا شيخ ـ فإنك أقدمنا
وأكبرنا سنا وأكثرنا تجاربا [ تجارب ]. قال :
__________________
نادوا القوم ،
فنادوهم ، فقالوا : ما تريدون؟. قال الشيخ : قولوا لهم : أفيكم أحد من ولد عبد
المطلب؟ فنادوهم ، فقالوا : نعم ، فينا أبو طالب بن عبد المطلب. قال الشيخ : يا
قوم! ، قالوا : لبيك. قال : لا يمكننا أن نصل إليهم بسوء أصلا ، فانصرفوا ولا
تشتغلوا بهم ، فو الله ما في أيديكم منهم قليل ولا كثير ، فقالوا : قد خرفت أيها
الشيخ ، أتنصرف عنهم وتترك هذه الأموال الكثيرة والأمتعة النفيسة معهم؟! ، لا
والله ولكن نحاصرهم أو يخرجون إلينا فنسلبهم. قال الشيخ : قد ( نَصَحْتُ
لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ) ، فاتركوا نصحكم
وذروا. قالوا : اسكت يا جاهل! فحطوا رواحلهم ليحاصروهم فلما حطوا أبصر بعضهم
بالطريق اليابس ، فصاح : يا قوم! هاهنا طريق يابس ، فأبصر القوم كلهم الطريق
اليابس ، وفرحوا وقالوا : نستريح ساعة ونعلف دوابنا ثم نرتحل إليهم فإنهم لا
يمكنهم أن يتخلصوا ، ففعلوا ، فلما أرادوا الارتحال تقدمت طائفة منهم إلى الطريق
اليابس فلما توسطوا غرقوا وبقي الآخرون ينظرون إليهم فأمسكوا وندموا فاجتمعوا إلى
الشيخ ، وقالوا : ويحك يا شيخ! ألا أخبرتنا أمر هذا الطريق فإنه قد أغرق فيه خلق
كثير. قال الشيخ : قد أخبرتكم ونصحت لكم فخالفتموني وعصيتم أمري حتى هلك منكم من
هلك. قالوا له : ومن أين علمت ذاك يا شيخ؟. قال : ويحكم! إنا خرجنا مرة قبل هذا
نريد الغارة على تجارة قريش ، فوقعنا على القافلة فإذا فيها من الأموال والأمتعة
ما لا يحصى كثرة ، فقلنا قد جاء الغنى آخر الأبد ، فلما أحسوا بنا ـ ولم يكن بيننا
وبينهم إلا قدر ميل ـ قام رجل من ولد عبد المطلب يقال له : عبد الله ، فقال : يا
أهل القافلة! ما ترون؟. قالوا : ما ترى ، قد دهمنا هذا الخيل الكثير ، فسلوهم أن
يأخذوا منا أموالنا ويخلوا سربنا فإنا إن نجونا بأنفسنا فقد فزنا. فقال عبد الله :
قوموا وارتحلوا فلا بأس عليكم. فقلنا : ويحك! وقد قرب القوم وإن ارتحلنا وضعوا
علينا السيوف. فقال : ويحكم! إنا [ إن ] لنا ربا يمنعنا منهم ،
__________________
وهو رب البيت
الحرام والركن والمقام ، وما استجرنا به قط إلا أجارنا ، فقوموا وبادروا. قال :
فقام القوم وارتحلوا ، فجعلوا يسيرون سيرا رويدا ، ونحن نتبعهم بالركض الحثيث والسير
الشديد فلا نلحقهم ، وكثر تعجبنا من ذلك ، ونظر بعضنا إلى بعض وقلنا : يا قوم! هل
رأيتم أعجب من هذا؟! إنهم يسيرون سيرا رويدا ونحن نتراكض فلا يمكننا أن نلحقهم ،
فما زال ذلك دأبنا ودأبهم ثلاثة أيام ولياليها ، كل يوم يخطون فيقوم عبد الله فيخط
خطا حول القافلة ويقول لأصحابه :لا تخرجوا من الخط فإنهم لا يصلون إليكم فننتهي
إلى الخط فلا يمكننا أن نتجاوزه ، فلما كان بعد ثلاثة أيام ـ كل يوم يسيرون سيرا
رويدا ونحن نتراكض أشرفنا على هلاك أنفسنا وعطبت دوابنا وبقينا لا حركة بنا ولا
نهوض ، فقلنا : يا قوم! هذا والله العطب والهلاك ، فما ترون؟. قالوا : الرأي
الانصراف عنهم ، فإنهم قوم سحرة. فقال بعضهم لبعض : إن كانوا سحرة فالرأي
أن نغيب عن أبصارهم ونوهمهم أنا قد انصرفنا عنهم ، فإذا ارتحلوا كررنا عليهم كرة
وهجمنا عليهم في مضيق. قالوا : نعم الرأي هذا ، فانصرفنا عنهم وأوهمناهم أنا قد
يئسنا ، فلما كان من الغد ارتحلوا ومضوا فتركناهم حتى استبطنوا واديا فقمنا
فأسرجنا وركبنا حتى لحقناهم ، فلما أحسوا بنا فزعوا إلى عبد الله بن عبد المطلب ،
وقالوا : قد لحقونا. فقال : لا بأس عليكم ، امضوا رويدا. قال : فجعلوا يسيرون سيرا
رويدا ، ونحن نتراكض ونقتل أنفسنا ودوابنا حتى أشرفنا على الموت مع دوابنا ، فلما
كان في آخر النهار قال عبد الله لأصحابه : حطوا رواحلكم ، وقام فخط خطا وقال : لا
تخرجوا من الخط فإنهم لن يصلوا إليكم بمكروه ، فانتهينا إلى الخط فو الله ما
أمكننا أن نتجاوزه ، فقال بعضنا لبعض : والله ما بقي إلا الهلاك أو الانصراف عنهم
على أن لا نعود إليهم. قال : فانصرفنا عنهم فقد عطبت دوابنا وهلكت ، وكانت سفرة
مشومة علينا ، فلما سمعوا ذلك من الشيخ قالوا : ألا أخبرتنا بهذا
__________________
الحديث فكنا ننصرف
عنهم ولم يغرق منا من غرق؟.
قال الشيخ : قد
أخبرتكم ونصحت لكم ، وقلت لكم : انصرفوا عنهم فليس لكم الوصول إليهم ، وفيهم رجل
من ولد عبد المطلب ، وقلتم : إني قد خرفت وذهب عقلي ، فلما سمع أبي هذا الكلام من
الشيخ وهو يحدث أصحابه على رأس الخطة نظر إلى أبي طالب فقال : ويحك! أما تسمع ما
يقول الشيخ؟ قال : بلى يا خطاب! أنا والله في ذلك اليوم مع عبد الله في القافلة
وأنا غلام صغير ، وكان هذا الشيخ على قعود له ، وكان شائكا لا يرى منه إلا حدقته ،
وكانت له جمة قد أرخاها عن يمينه وشماله.
فقال الشيخ : صدق
والله كنت يومئذ على قعود علي ذؤابتان قد أرسلتهما عن يميني وشمالي. قال الخطاب :
فانصرفوا عنا.
فقال أبو طالب :
ارتحلوا. فارتحلنا ، فإذا لا جزيرة ولا بحر ولا ماء ، وإذا نحن على الجادة والطريق
الذي لم نزل نسلكه فسرنا وتخلصنا بسحر أبي طالب حتى وردنا الشام فرحين مستبشرين ،
وحلف الخطاب أنه مر بعد بذلك الموضع بعينه أكثر من عشرين مرة إلى الشام فلم ير
جزيرة ولا بحرا ولا ماء ، وحلفت قريش على ذلك ، فهل هذا ـ يا سلمان ـ إلا ( سِحْرٌ
مُسْتَمِرٌّ )؟.
قال سلمان : قلت :
والله ما أدري ما أقول لك إلا أنك تورد علي عجائب من أمر بني هاشم.
قال : نعم ، يا
أبا عبد الله! هم أهل بيت يتوارثون السحر كابرا عن كابر!.
قال سلمان : فقلت
ـ وأنا أريد أن أقطع الحديث ـ : ما أرى أن هذا سحر.
قال : سبحان الله!
يا أبا عبد الله! ترى كذب الخطاب وأصحابه ، أتراك ما حدثتك به مما عايتنه [ عاينته
] أنا بعيني كذب [ كذبا ]؟.
قال سلمان : فضحكت
، فقلت : ويلك! إنك لم تكذب ولا كذب الخطاب
__________________
وأصحابه ، وهذا
كله صدق وحق.
فقال : والله لا
تفلح أبدا ، وكيف تفلح وقد سحرك ابن أبي طالب؟.
قلت : فاترك هذا
.. ما تقول في فك الرقبة والمال الذي وافاك من خراسان؟.
قال : ويحك!
يمكنني أن أعصي هذا الساحر في شيء يأمرني به؟ نعم أفكها على رغم مني وأوجه بالمال
إليه.
قال سلمان :
فانصرفت من عنده ، فلما بصر بي أمير المؤمنين عليهالسلام قال : يا سلمان! طال حديثكما. قلت : يا أمير المؤمنين
حدثني بالعجائب من أمر الخطاب وأبي طالب. قال : نعم ـ يا سلمان ـ قد علمت ذلك
وسمعت جميع ما جرى بينكما ، وما قال لك أيضا إنك لا تفلح.
قال سلمان : والله
الذي لا إله إلا هو ما حضر الكلام غيري وغيره ، فأخبرني مولاي أمير المؤمنين عليهالسلام بجميع ما جرى بيني وبينه.
ثم قال : يا سلمان!
عد إليه فخذ منه المال وأحضر فقراء المهاجرين والأنصار في مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآله وفرقه إليهم.
بيان :
القعود ـ بالفتح ـ
من البعير الذي يقتعده الراعي في كل حاجة ، وهذا الخبر وإن كان غريبا غير مذكور في
الكتب المعتبرة ، لكن لما وجدناه في أصل عتيق أخرجناه.
١١٥
ـ كنز : روي عن محمد بن
جمهور ، عن فضالة ، عن أيوب ، عن عبد الرحمن ، عن ميسر ، عن بعض آل محمد صلوات الله
عليهم في قوله : ( وَلَقَدْ
__________________
خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ) ، قال : هو
الأول.
و ( قالَ
قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) ، قال : هو زفر ،
وهذه الآيات إلى قوله : ( يَوْمَ نَقُولُ
لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) فيهما وفي
أتباعهما ، ( وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها ) .
١١٦
ـ كنز : روى بحذف
الإسناد مرفوعا إلى أبي حمزة الثمالي ، قال : قلت لمولاي علي بن الحسين عليهماالسلام : أسألك عن شيء تنفي به عني ما خامر نفسي؟. قال : ذاك إليك. قلت : أسألك عن
الأول والثاني؟.
فقال : عليهما
لعائن الله ، كلاهما مضيا والله مشركين كافرين بالله العظيم. قلت : يا مولاي
والأئمة منكم يحيون الموتى؟ ويبرءون الأكمه والأبرص؟و يمشون على الماء؟.
فقال عليهالسلام : ما أعطى الله نبيا شيئا إلا أعطى محمدا صلىاللهعليهوآله مثله ، وأعطاه ما لم يعطهم وما لم يكن عندهم ، وكل ما كان
عند رسول الله صلىاللهعليهوآله فقد أعطاه أمير المؤمنين عليهالسلام ثم الحسن ثم الحسين عليهماالسلام ثم إماما بعد إمام إلى يوم القيامة ، مع الزيادة التي تحدث في كل
سنة ، وفي كل شهر ، وفي كل يوم ..
__________________
١١٧
ـ كنز : محمد بن العباس
، عن جعفر بن محمد بن مالك ، عن الحسن بن علي بن مهران ، عن سعيد بن عثمان ، عن
داود الرقي ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن قوله تعالى : ( الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ ) ؟. قال : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره ، ثم
إن الله ضرب ذلك مثلا لمن وثب علينا وهتك حرمتنا وظلمنا حقنا ، فقال : هما بحسبان
، قال :هما في عذابي ..
إيضاح :
( بِحُسْبانٍ ). قال المفسرون :
أي يجريان بحساب مقدر معلوم في بروجهما ومنازلهما .
وقال في القاموس :
الحسبان ـ بالضم ـ جمع الحساب والعذاب والبلاء والشر ، فالتعبير عنهما
بالشمس والقمر على زعم أتباعهما أو على التهكم.
١١٨ ـ ويؤيده ما
رواه علي بن إبراهيم في تفسيره ، عن أبيه ، عن الحسين بن خالد ، عن الرضا عليهالسلام في قوله تعالى : ( الرَّحْمنُ عَلَّمَ
الْقُرْآنَ ) قال : الله علم محمدا القرآن. قلت : ( خَلَقَ
الْإِنْسانَ ) ؟. قال : ذلك أمير
__________________
المؤمنين عليهالسلام. قلت : ( عَلَّمَهُ الْبَيانَ ) ؟. قال : علمه
بيان كل شيء يحتاج الناس إليه. قلت : ( الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ ) ؟. قال : هما بعذاب الله. قلت : الشمس والقمر يعذبان؟. قال
: سألت عن شيء فأيقنه ، إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره مطيعان
له ، ضوؤهما من نور عرشه وحرهما من جهنم ، فإذا كانت القيامة عادا [ عاد ] إلى
العرش نورهما وعاد إلى النار حرهما ، فلا يكون شمس ولا قمر ، وإنما عناهما ، أوليس
قد روى الناس أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : إن الشمس والقمر نوران في النار؟! قلت : بلى. قال :
أما سمعت قول الناس : .. فلان وفلان شمس هذه الأمة ونورها ؟! فهما في النار.
قلت : بلى. قال : والله ما عنى غيرهما .. إلى آخر الخبر كما سيأتي ..
١١٩
ـ كنز : في رواية محمد
بن علي بن الحكم ، عن ابن عميرة ، عن ابن فرقد ، عن أبي عبد الله عليهالسلام في قوله تعالى : ( وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً
__________________
لِلَّذِينَ
آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ ) ... الآية؟. فقال : هذا مثل ضربه الله لرقية بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله التي تزوجها عثمان بن عفان. قال : وقوله : ( وَنَجِّنِي مِنْ
فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ ) ؟. يعني من الثالث وعمله. وقوله : (
وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ؟. يعني بني أمية .
١٢٠
ـ كنز : روي عن محمد بن
جمهور ، عن حماد بن عيسى ، عن الحسين بن مختار ، عنهم عليهمالسلام في قوله تعالى : ( وَلا تُطِعْ كُلَّ
حَلاَّفٍ مَهِينٍ ) ؟ ، الثاني. ( هَمَّازٍ مَشَّاءٍ
بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ ) ، قال : العتل :
الكافر العظيم الكفر ، والزنيم : ولد الزنا .
١٢١
ـ كنز : محمد بن البرقي
، عن الأحمسي ، عن أبي عبد الله عليهالسلام .. مثله ، إلا أنه زاد فيه : وكان أمير المؤمنين عليهالسلام يقرأ : ( فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ
الْمَفْتُونُ ) ، فلقيه الثاني ، فقال له : تعرض بي وبصاحبي؟!.
فقال له أمير المؤمنين عليهالسلام ـ ولم يعتذر إليه ـ : ألا أخبرك بما
__________________
نزل في بني أمية؟
نزل فيهم : ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ ) ... الآية ، قال :
فكذبه ، وقال : هم خير منكم ، وأوصل للرحم .
١٢٢
ـ كنز : محمد بن العباس
، عن الحسن بن أحمد المالكي ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن عبد
الله بن سنان ، عن الحسين الجمال ، قال : حملت أبا عبد الله عليهالسلام من المدينة إلى مكة ، فلما بلغ غدير خم نظر إلي وقال : هذا
موضع قدم رسول الله صلىاللهعليهوآله حين أخذ بيد علي عليهالسلام ، وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، وكان عن يمين الفسطاط
أربعة نفر من قريش سماهم لي ، فلما نظروا إليه وقد رفع يده حتى بان بياض إبتيه ، قال : انظروا
إلى عينيه قد انقلبتا كأنهما عينا مجنون ، فأتاه جبرئيل عليهالسلام فقال : اقرأ : ( وَإِنْ يَكادُ
الَّذِينَ كَفَرُوا ) ... الآية ، والذكر : علي بن أبي طالب عليهالسلام. فقلت : الحمد لله الذي أسمعني هذا منك. فقال : لو لا أنك جمالي لما حدثتك
بهذا ، لأنك لا تصدق إذا رويت عني .
بيان :
أي لا يصدقك الناس لأنهم لا
يعتمدون على كلام الجمالين ، أو لأنه
__________________
كثيرا ما يقع بين
الجمال وراكبه نزاع ، ويؤيد الأول أن في بعض النسخ : جمال بدون الياء ـ.
١٢٣
ـ كنز : محمد ، عن البرقي ، عن سيف
بن عميرة ، عن أخيه ، عن منصور بن حازم ، عن حمران ، قال : سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقرأ هذه الآية : ( وَجاءَ فِرْعَوْنُ ) يعني الثالث ، ( وَمَنْ
قَبْلَهُ ) الأوليين [ الأولان ] ، ( وَالْمُؤْتَفِكاتُ ) أهل البصرة ، (
بِالْخاطِئَةِ ) الحميراء .
١٢٤ ـ وبالإسناد ، عن أبي عبد
الله عليهالسلام مثله ، قال : ( وَجاءَ فِرْعَوْنُ ) ـ يعني الثالث ـ ( وَمَنْ
قَبْلَهُ ) ـ يعني الأولين ـ ( بِالْخاطِئَةِ ) يعني عائشة ـ.
بيان :
قال المؤلف رحمهالله : فمعنى قوله : ( وَجاءَ فِرْعَوْنُ
وَمَنْ قَبْلَهُ
__________________
وَالْمُؤْتَفِكاتُ
بِالْخاطِئَةِ ) في أقوالها وأفعالها ، وفي كل خطإ وقع فإنه
منسوب إليها ، وكيف جاءا بها ، بمعنى أنهم وثبوها وسنوا لها الخلاف
لمولاها ووزر ذلك عليهم وفعل من تابعها إلى يوم القيامة.
قوله : (
وَالْمُؤْتَفِكاتِ ) : أهل البصرة ،فقد جاء في كلام أمير المؤمنين عليهالسلام لأهل البصرة : يا أهل المؤتفكة! ائتفكت بأهلها ثلاث مرات ، وعلى الله
تمام الرابعة.
ومعنى ائتفكت
بأهلها .. أي خسفت بهم .
١٢٥
ـ كنز : في تفسير أهل
البيت عليهمالسلام في قوله تعالى : ( فَالْمُلْقِياتِ
ذِكْراً ) قال : هي الملائكة تلقي الذكر على الرسول والإمام عليهماالسلام ، و في قوله عز وجل : ( أَلَمْ نُهْلِكِ
الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ ) قال : ( نُهْلِكِ
الْأَوَّلِينَ ). أي الأمم الماضية قبل النبي صلى الله عليه
__________________
وآله ، ( ثُمَّ
نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ ) الذين خالفوا رسول الله صلىاللهعليهوآله : ( كَذلِكَ نَفْعَلُ
بِالْمُجْرِمِينَ ) يعني بني أمية وبني فلان .
١٢٦ ـ وروى بحذف الإسناد
مرفوعا إلى العباس بن إسماعيل ، عن أبي الحسن الرضا عليهالسلام في هذه الآية قال : يعني الأول والثاني ، ( ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ
الْآخِرِينَ ) قال : الثالث والرابع والخامس ، ( كَذلِكَ
نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ) من بني أمية ، وقوله : ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ ) بأمير المؤمنين والأئمة عليهمالسلام .
١٢٧
ـ كنز : محمد بن العباس
، عن محمد بن القاسم بن سيار ، عن بعض أصحابنا مرفوعا إلى أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : إذا لاذ الناس من العطش قيل لهم : ( انْطَلِقُوا إِلى ما
كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) ـ يعني أمير المؤمنين عليهالسلام ـ فيقول لهم : ( انْطَلِقُوا إِلى
ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ) ، قال : يعني الثلاثة ، فلان .. وفلان .. وفلان .
__________________
قال المؤلف رحمهالله : معنى هذا التأويل أن أعداء آل محمد صلوات الله عليهم يوم القيامة يأخذهم
العطش فيطلبون منه الماء ، فيقول لهم : ( انْطَلِقُوا إِلى
ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ) ، ويعني بالظل هنا ظلم أهل البيت عليهمالسلام ، ولهذا الظل ثلاث شعب ، لكل شعبة منها راية ، وهم أصحاب
الرايات الثلاث ، وهم أئمة الضلال ، ولكل راية منهن ظل يستظل به أهله
، ثم أوضح لهم الحال ، فقال : إن هذا الظل المشار إليه ( لا
ظَلِيلٍ ) يظلكم ولا يغنيكم ( مِنَ اللهَبِ ). أي العطش ، بل
يزيدكم عطشا ، وإنما يقال لهم هذا استهزاء بهم وإهانة لهم ، ( وَكانُوا
أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها )
١٢٨
ـ كا : الحسين بن محمد
، عن معلى بن محمد ، عن محمد بن أورمة وعلي بن عبد الله ، عن علي بن حسان ، عن عبد
الرحمن بن كثير ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ، في قول الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ
ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ) فلان .. وفلان ..
وفلان ارتدوا عن الإيمان في ترك ولاية أمير المؤمنين عليهالسلام.
قلت : قوله تعالى
: ( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا
ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ
__________________
فِي
بَعْضِ الْأَمْرِ ) قال : نزلت والله فيهما وفي أتباعهما ، وهو قول الله عز
وجل الذي نزل به جبرئيل عليهالسلام على محمد صلىاللهعليهوآله : ( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ ) في علي (
سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ) قال :دعوا بني أمية إلى ميثاقهم ألا يصيروا الأمر فينا بعد
النبي صلىاللهعليهوآله ولا يعطونا من الخمس شيئا ، وقالوا : إن أعطيناهم إياه لم
يحتاجوا إلى شيء ، ولم يبالوا أن لا يكون الأمر فيهم ، فقالوا : (
سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ) الذي دعوتمونا إليه ـ وهو الخمس ـ أن لا نعطيهم منه شيئا ،
وقوله : ( كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ ) والذي نزل الله
ما افترض على خلقه من ولاية أمير المؤمنين عليهالسلام ، وكان معهم أبو عبيدة وكان كاتبهم ، فأنزل الله : ( أَمْ
أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ
سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ) ... الآية.
بيان :
ظاهر السياق أن
فاعل قالوا الضمير الراجع إلى الذين ارتدوا ، فلو فسرنا الكنايات الثلاث الأول
بأبي بكر وعمر وعثمان ـ كما هو ظاهر ـ لا يستقيم النظام ، ويمكن توجيهه بوجهين :
الأول : أن يكون
المراد بالكنايات بعض بني أمية كعثمان وأبي سفيان ومعاوية ، فالمراد بـ ( الذين ( كَرِهُوا
ما نَزَّلَ اللهُ ) ) أبو بكر وأخواه.
الثاني : أن يكون
المراد بالكنايات أبا بكر وعمر وأبا عبيدة ، وضمير ( ( قالُوا ) ) راجعا إلى بني
أمية ، والمراد بـ ( الذين كرهوا ) الذين ارتدوا ، فيكون من قبيل وضع المظهر موضع
المضمر ، ويؤيد هذا عدم وجود الكناية الثالثة في بعض النسخ.
١٢٩
ـ كا بالإسناد المتقدم
، عن أبي عبد الله عليهالسلام :
__________________
( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ
بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ ) قال : نزلت فيهم ، حيث دخلوا الكعبة فتعاهدوا وتعاقدوا على كفرهم
وجحودهم بما نزل في أمير المؤمنين عليهالسلام ، فألحدوا في البيت بظلمهم الرسول ووليه ( فَبُعْداً
لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .
١٣٠
ـ يب : الحسين بن سعيد
، عن النضر ، عن ابن سنان ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : أخر رسول الله صلىاللهعليهوآله ليلة من الليالي العشاء الآخرة ما شاء الله ، فجاء عمر فدق
الباب ، فقال : يا رسول الله (ص) نام النساء ، نام الصبيان ، فخرج رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقال : ليس لكم أن تؤذوني ولا تأمروني ، إنما عليكم أن تسمعوا وتطيعوا.
١٣١
ـ كا : الحسين بن محمد
، عن المعلى ، عن الوشاء ، عن أبان بن عثمان ، عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله ،
قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : إن الله عز ذكره من علينا بأن عرفنا توحيده ، ثم من علينا بأن أقررنا بمحمد
صلىاللهعليهوآله بالرسالة ، ثم اختصنا بحبكم أهل البيت (ع) نتولاكم ونتبرأ
من عدوكم ، وإنما يريد الله بذلك خلاص أنفسنا من النار. قال : ورققت وبكيت.
فقال أبو عبد الله
عليهالسلام : سلني ، فو الله لا تسألني عن شيء إلا أخبرتك به. قال :
فقال له عبد الملك بن أعين : ما سمعته قالها لمخلوق قبلك ، قال : قلت : خبرني عن الرجلين؟.
__________________
قال : فقال ظلمانا حقنا في
كتاب الله عز وجل ومنعا فاطمة عليهاالسلام ميراثها من أبيها ، وجرى ظلمهما إلى اليوم ، قال : ـ وأشار
إلى خلفه ـ ونبذا كتاب الله وراء ظهورهما.
١٣٢
ـ كا : وبهذا الإسناد
، عن أبان ، عن عقبة بن بشير الأسدي ، عن الكميت بن زيد الأسدي ، قال : دخلت على
أبي جعفر عليهالسلام ، فقال : والله يا كميت! لو كان عندنا مال لأعطيناك منه ،
ولكن لك ما قال رسول الله صلىاللهعليهوآله لحسان بن ثابت : لن يزال معك روح القدس ما
ذببت عنا ، قال : قلت : خبرني عن الرجلين؟. قال : فأخذ الوسادة فكسرها
في صدره ثم قال : والله يا كميت! ما أهريق محجمة من دم ، ولا أخذ مال من غير حله ،
ولا قلب حجر عن حجر إلا ذاك في أعناقهما.
١٣٣
ـ كا : وبهذا الإسناد
، عن أبان بن عثمان ، عن الحارث النضري ، قال عليهمالسلام : سألت أبا جعفر عليهالسلام : عن قول الله عز وجل : ( الَّذِينَ بَدَّلُوا
نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً ) قال : ما تقولون في ذلك؟. قلت : نقول : هم الأفجران من
قريش ، بنو أمية وبنو المغيرة. قال : ثم قال : هي والله قريش قاطبة ، إن الله
تبارك وتعالى خاطب نبيه صلىاللهعليهوآله فقال : إني فضلت قريشا على
__________________
العرب ، وأتممت
عليهم نعمتي ، وبعثت إليهم رسولي فبدلوا نعمتي كفرا ( وَأَحَلُّوا
قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ ) ..
١٣٤
ـ كا : علي ، عن أبيه
، عن ابن محبوب ، عن عبد الله بن سنان ، قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : كانت امرأة من الأنصار تودنا أهل البيت وتكثر التعاهد لنا ، وإن عمر
بن الخطاب لقيها ذات يوم وهي تريدنا ، فقال لها : أين تذهبين يا عجوز الأنصار؟.
فقالت : أذهب إلى آل محمد صلىاللهعليهوآله أسلم عليهم وأجدد بهم عهدا ، وأقضي حقهم. فقال لها عمر : ويلك ليس لهم اليوم
حق عليك ولا علينا ، إنما كان لهم حق على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فأما اليوم فليس لهم حق ، فانصرفي . فانصرفت حتى أتت أم سلمة ، فقالت لها أم سلمة : ما ذا
أبطأ بك عنا؟. فقالت : إني لقيت عمر بن الخطاب .. فأخبرتها بما قالت لعمر
وما قال لها عمر ، فقالت لها أم سلمة :كذب ، لا يزال حق آل
محمد واجبا على المسلمين إلى يوم القيامة.
١٣٥
ـ كا : حميد ، عن ابن
سماعة ، عن غير واحد ، عن أبان ، عن الفضيل بن الزبير ، عن فروة ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال : ذاكرته شيئا
__________________
من أمرهما ، فقال
: ضربوكم على دم عثمان ثمانين سنة وهم يعلمون أنه كان ظالما ، فكيف ـ يا فروة ـ إذا
ذكرتم صنميهم؟ ..
١٣٦
ـ كا : محمد بن يحيى ،
عن ابن عيسى ، عن ابن محبوب ، عن هشام بن سالم ، عن عمار الساباطي ، قال : سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن قول الله عز وجل : ( وَإِذا مَسَّ
الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ) قال : نزلت في
أبي الفصيل ، إنه كان رسول الله صلىاللهعليهوآله عنده ساحرا ، فكان إذا مسه الضر ـ يعني السقم ـ ( دَعا
رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ) ـ يعني تائبا إليه من قوله في رسول الله صلىاللهعليهوآله ما يقول ـ ( ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ ) يعني العافية ( نَسِيَ ما
كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ ) يعني نسي التوبة إلى الله عز وجل مما كان يقول في رسول
الله صلىاللهعليهوآله إنه ساحر ، ولذلك قال الله عز وجل : ( قُلْ
تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ ) يعني إمرتك على
الناس بغير حق من الله عز وجل ومن رسوله صلىاللهعليهوآله. قال : ثم قال أبو عبد الله عليهالسلام : ثم عطف القول من الله عز وجل في علي عليهالسلام يخبر بحاله وفضله عند الله تبارك وتعالى ، فقال : ( أَمَّنْ
هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا
رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ) أن محمدا رسول
الله صلىاللهعليهوآله ( وَالَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ ) أن محمدا رسول الله صلىاللهعليهوآله ، و [ بل يقولون ] إنه ساحر كذاب ( إِنَّما
يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) قال : ثم قال أبو عبد الله عليهالسلام :هذا تأويله يا عمار!.
__________________
١٣٧
ـ كا : علي ، عن أبيه
، عن حنان ، عن أبيه ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال : .. إن الشيخين فارقا الدنيا ولم يتوبا ، ولم يذكرا ما صنعا بأمير
المؤمنين عليهالسلام ، فعليهما ( لَعْنَةُ اللهِ
وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ).
١٣٨ ـ وبهذا
الإسناد ، قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام عنهما ، فقال : يا أبا الفضل! ما تسألني عنهما؟! فو الله
ما مات منا ميت قط إلا ساخطا عليهما ، وما منا اليوم إلا ساخطا عليهما يوصي بذلك
الكبير منا الصغير ، أنهما ظلمانا حقنا ، ومنعانا فيئنا ، وكانا أول من ركب
أعناقنا ، وبثقا علينا بثقا في الإسلام لا يسكر أبدا حتى يقوم
قائمنا أو يتكلم متكلمنا.
ثم قال : أما
والله لو قد قام قائمنا وتكلم متكلمنا لأبدى من أمورهما ما كان يكتم ، ولكتم من
أمورهما ما كان يظهر ، والله ما أسست من بلية ولا قضية تجري علينا أهل البيت إلا
هما أسسا أولها ، فعليهما ( لَعْنَةُ اللهِ
وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ).
__________________
بيان :
وثبق [ بثق ] السيل موضع كذا ـ
كنصر ـ ثبقا [ بثقا ] ـ بالفتح والكسر ـ .. أي خرقه وشقه ، فانبثق .. أي انفجر .
وسكرت النهر سكرا
سددته .
١٣٩
ـ كا : محمد بن أحمد
القمي ، عن عمه عبد الله بن الصلت ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن سنان
، عن حسين الجمال ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ، في قول الله تبارك وتعالى : ( رَبَّنا
أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ
أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ) قال : هما ، ثم
قال : وكان فلان شيطانا.
بيان :
إن المراد بفلان :
عمر .. أي الجن المذكور في الآية عمر ، وإنما كنى به عنه لأنه كان شيطانا ، إما
لأنه كان شرك شيطان لكونه ولد زنا ، أو لأنه كان في المكر والخديعة كالشيطان ،
وعلى الأخير يحتمل العكس بأن يكون المراد بفلان : أبا بكر.
١٤٠
ـ كا : بالإسناد ، عن
يونس ، عن سورة بن كليب ، عن أبي عبد الله عليهالسلام في قول الله تبارك وتعالى : ( رَبَّنا أَرِنَا
الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِ
__________________
وَالْإِنْسِ
نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ) قال : يا سورة!
هما والله هما .. ثلاثا ، والله يا سورة! إنا لخزان علم الله في السماء وإنا لخزان
علم الله في الأرض.
١٤١
ـ كا : محمد بن يحيى ،
عن ابن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن سليمان الجعفري ، قال : سمعت أبا الحسن عليهالسلام يقول في قول الله تبارك : ( إِذْ يُبَيِّتُونَ ما
لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ ) قال : يعني فلانا وفلانا وأبا عبيدة بن الجراح.
بيان :
بيت أمرا .. أي
دبره ليلا .
١٤٢
ـ كا : علي ، عن أبيه
، عن محمد بن إسماعيل وغيره ، عن منصور بن يونس ، عن ابن أذينة ، عن
عبد الله بن النجاشي ، قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول في قول الله عز وجل : ( أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ
اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي
أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ) يعني والله فلانا وفلانا ، ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ
رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ
لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) يعني والله
__________________
النبي صلىاللهعليهوآله وعليا عليهالسلام ، مما صنعوا ، يعني لو جاءوك بها يا علي (
فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ ) مما صنعوا ( وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ
الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) ، ( فَلا
وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) فقال أبو عبد
الله عليهالسلام : هو ـ والله ـ علي بعينه ( ثُمَّ لا يَجِدُوا
فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ) على لسانك يا
رسول الله ، يعني به من ولاية علي عليهالسلام ، ( وَيُسَلِّمُوا
تَسْلِيماً ) لعلي عليهالسلام.
تبيان :
قوله تعالى : (
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ) .. أي عن عقابهم لمصلحة في استبقائهم ، أو عن قبول معذرتهم
، وفي بعض النسخ : وما أرسلناك رسولا إلا لتطاع .. فتكون قراءتهم عليهمالسلام هكذا.
قوله عليهالسلام : يعني والله النبي (ص) .. أي المراد بالرسول في قوله تعالى : (
وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ) النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والمخاطب في قوله ( جاؤُكَ ) ، علي عليهالسلام ، ولو كان المخاطب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لكان الأظهر أن يقول : واستغفرت لهم ، وفي بعض نسخ تفسير
العياشي : يعني والله عليا عليهالسلام ، وهو أظهر.
قوله عليهالسلام : هو والله علي .. أي المخاطب ، أو المعنى أن المراد بما شجر بينهم ما شجر
بينهم في أمر علي عليهالسلام وخلافته ، والأول أظهر.
__________________
قوله عليهالسلام : مما قضيت على لسانك .. ظاهره أن قراءتهم عليهمالسلام به على صيغة التكلم ، ويحتمل أن يكون بيانا لحاصل المعنى ، أي
المراد بقضاء الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ما يقضي الله على لسانه.
١٤٣
ـ ختص : محمد بن عيسى ،
عن علي بن أسباط ، عن الحكم بن مروان ، عن يونس بن صهيب ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال : نظر رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى أبي بكر ـ وقد ذهب به إلى الغار ـ فقال : ما لك؟ أليس
الله معنا؟! تريد أن أريك أصحابي من الأنصار في مجالسهم يتحدثون ، وأريك جعفر بن
أبي طالب وأصحابه في سفينة يغوصون؟. فقال : نعم ، أرنيهم. فمسح رسول الله صلىاللهعليهوآله على وجهه وعينيه ، فنظر إليهم ، فأضمر في نفسه أنه ساحر.
١٤٤
ـ كنز : الشيخ أبو جعفر
الطوسي رحمهالله في مصباح الأنوار بإسناده عن جابر بن عبد الله ، قال : كنت عند رسول الله صلىاللهعليهوآله في حفر الخندق ـ وقد حفر الناس وحفر علي عليهالسلام ـ فقال له النبي صلىاللهعليهوآله : بأبي من يحفر وجبرئيل يكنس التراب بين يديه ، ويعينه
ميكائيل ، ولم يكن يعين أحدا قبله من الخلق ، ثم قال النبي صلىاللهعليهوآله لعثمان بن
__________________
عفان : احفر! ،
فغضب عثمان وقال : لا يرضى محمد أن أسلمنا على يده حتى أمرنا بالكد ، فأنزل
الله على نبيه صلىاللهعليهوآله : ( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ
أَنْ أَسْلَمُوا ) ... الآية.
١٤٥
ـ ختص : القاسم بن محمد
الهمداني ، عن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الكوفي ، عن أبي الحسين يحيى بن محمد
الفارسي ، عن أبيه ، عن أبي عبد الله ، عن أبيه عليهماالسلام ، عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، قال : خرجت ذات يوم
إلى ظهر الكوفة وبين يدي قنبر ، فقلت : يا قنبر! ترى ما أرى؟. فقال : قد ضوأ الله لك ـ يا أمير
المؤمنين! ـ عما عمي عنه بصري. فقلت : يا أصحابنا! ترون ما أرى؟. فقالوا : لا ، قد
ضوأ الله لك يا أمير المؤمنين (ع) عما عمي عنه أبصارنا.
فقلت : والذي فلق
الحبة وبرأ النسمة لترونه كما أراه ، ولتسمعن كلامه كما أسمع ، فما لبثنا أن طلع
شيخ عظيم الهامة له عينان بالطول ، فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين
ورحمة الله وبركاته ، فقلت : من أين أقبلت يا لعين؟. قال :من الآثام . فقلت : وأين
تريد؟. قال : الآثام . فقلت : بئس الشيخ أنت. فقال : لم تقول هذا يا أمير
المؤمنين (ع) ، فو الله لأحدثنك بحديث عني عن الله عز وجل ما بيننا ثالث. فقلت :
يا لعين ! عنك عن الله عز وجل ما بينكما ثالث؟!.
__________________
قال : نعم ، إنه لما هبطت
بخطيئتي إلى السماء الرابعة ناديت : إلهي وسيدي ما أحسبك خلقت من هو أشقى مني ،
فأوحى الله تبارك وتعالى إلي : بلى ، قد خلقت من هو أشقى منك ، فانطلق إلى مالك يريكه ،
فانطلقت إلى مالك ، فقلت : السلام يقرأ عليك السلام ويقول : أرني من هو أشقى مني ،
فانطلق بي مالك إلى النار فرفع الطبق الأعلى فخرجت نار سوداء ظننت أنها قد أكلتني
وأكلت مالكا ، فقال لها : إهدائي [ اهدئي ] فهدأت ، ثم انطلق بي إلى الطبق الثاني فخرجت نار هي أشد من
تلك سوادا وأشد حمى ، فقال لها : اخمدي! فخمدت إلى أن انطلق بي إلى السابع ، وكل نار تخرج
من طبق هي أشد من الأولى ، فخرجت نار ظننت أنها قد أكلتني وأكلت مالكا وجميع ما
خلقه الله عز وجل ، فوضعت يدي على عيني وقلت : مرها يا مالك تخمد وإلا خمدت ، فقال
: أنت لم تخمد إلى الوقت المعلوم فأمرها فخمدت ، فرأيت رجلين في أعناقهما
سلاسل النيران معلقين بها إلى فوق ، وعلى رءوسهما قوم معهم مقامع النيران
يقمعونهما بها ، فقلت : يا مالك! من هذان؟. فقال : أوما قرأت في ساق العرش ، وكنت قبل
قرأته قبل أن يخلق الله الدنيا بألفي عام : لا إله إلا الله محمد رسول الله صلىاللهعليهوآله أيدته ونصرته بعلي ، فقال : هذان عدوا أولئك وظالماهم .
__________________
١٤٦
ـ ختص : روي عن حكم بن
جبير ، قال : قلت لأبي جعفر محمد بن علي عليهماالسلام : إن الشعبي يروي عندنا بالكوفة أن عليا (ع) قال : خير هذه
الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر ، فقال : إن الرجل يفضل على نفسه من ليس هو مثله حبا
وكرامة ، ثم أتيت علي بن الحسين عليهماالسلام فأخبرته ذلك ، فضرب على فخذي وقال : هو أفضل منهما كما بين
السماء والأرض.
١٤٧
ـ ختص : روي عن ابن
كدينة الأودي ، قال : قام رجل إلى أمير المؤمنين عليهالسلام فسأله عن قول الله عز وجل : ( يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ ) ... فيمن نزلت؟. قال
: في رجلين من قريش ..
١٤٨
ـ البرسي ، في مشارق الأنوار : عن محمد بن سنان ، قال : قال أمير المؤمنين عليهالسلام لعمر : يا مغرور! إني أراك في الدنيا قتيلا بجراحة من عبد أم
معمر تحكم عليه جورا فيقتلك توفيقا ، يدخل بذلك الجنة على رغم منك ، وإن لك
ولصاحبك الذي قمت مقامه صلبا وهتكا تخرجان عن جوار رسول الله صلىاللهعليهوآله فتصلبان على أغصان جذعة يابسة فتورق فيفتتن بذلك من والاك. فقال
عمر : ومن يفعل ذلك يا أبا الحسن (ع)؟. فقال : قوم
__________________
قد فرقوا بين
السيوف وأغمادها ، فيؤتى بالنار التي أضرمت لإبراهيم عليهالسلام ويأتي جرجيس ودانيال وكل نبي وصديق ، ثم يأتي ريح فينسفكما
( فِي الْيَمِّ نَسْفاً ).
وقال عليهالسلام يوما للحسن : يا أبا محمد! أما ترى عندي تابوت من نار يقول : يا
علي! استغفر لي ، لا غفر الله له.
وروي في تفسير
قوله تعالى : ( إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ
الْحَمِيرِ ) قال : سأل رجل أمير المؤمنين عليهالسلام ما معنى هذه الحمير؟. فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : الله أكرم من أن يخلق شيئا ثم ينكره ، إنما هو زريق وصاحبه في تابوت من نار
في صورة حمارين ، إذا شهقا في النار انزعج أهل النار من شدة صراخهما ..
١٤٩
ـ كنز : محمد بن العباس
، عن محمد بن القاسم ، بإسناده عن الثمالي ، عن علي بن الحسين عليهماالسلام ، قال : إذا كان يوم القيامة أخرجت أريكتان من الجنة فبسطتا على شفير جهنم ،
ثم يجيء علي عليهالسلام حتى يقعد عليهما ، فإذا قعد ضحك ، وإذا ضحك انقلبت جهنم
فصار عاليها سافلها ، ثم يخرجان فيوقفان بين يديه فيقولان : يا أمير المؤمنين! يا
وصي رسول الله ! ألا ترحمنا؟! ألا تشفع لنا عند ربك؟!. قال : فيضحك منهما
، ثم يقوم فيدخل
__________________
الأريكتان ويعادان إلى
موضعهما ، وذلك قوله عز وجل : ( فَالْيَوْمَ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ
هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ) .
أقول :
روى البخاري في
صحيحه في كتاب المغازي بعد باب وفد بني تميم ، وفي تفسير سورة الحجرات ، والترمذي والنسائي في صحيحهما ،
وأورده في كتاب جامع الأصول في كتاب تفسير القرآن من حرف الطاء ، عن عبد الله بن الزبير ، قال
: قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه [ وآله ] ، فقال أبو بكر : أمر
القعقاع بن معبد بن زرارة ، وقال عمر : أمر الأقرع بن حابس ، فقال أبو بكر :
ما أردت إلا خلافي ، وقال عمر : ما أردت خلافك. قال :فتماريا حتى
ارتفعت أصواتهما ، فنزلت في ذلك : ( يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا
__________________
تُقَدِّمُوا
بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ .. ) حتى انقضت .
قال في جامع
الأصول : وفي رواية قال ابن أبي مليكة : كاد الخيران يهلكا أن يهلكا أبو بكر وعمر ،
لما قدم على النبي صلى الله عليه [ وآله ] وفد بني تميم أشار أحدهما بالأقرع بن
حابس الحنظلي وأشار الآخر بغيره .. ثم ذكر نحوه ونزول الآية ، ثم قال ابن
الزبير : فكان عمر بعد إذا حدث بحديث كأخي السرار لم يسمعه
حتى يستفهمه ، ولم يذكر ذلك عن أبيه .
قال : أخرجه البخاري ، وأخرج النسائي الرواية الأولى
،و أخرج الترمذي قال : إن الأقرع بن حابس قدم على رسول الله صلى الله عليه [
وآله ] ، فقال أبو بكر : يا رسول الله! استعمله على قومه .. فقال عمر : لا
__________________
تستعمله يا رسول
الله ، فتكلما عند النبي صلى الله عليه [ وآله ] حتى علت أصواتهما ، فقال
أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي. فقال : ما أردت خلافك. قال : فنزلت هذه الآية :
( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا
أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ ) ... قال : فكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبي صلىاللهعليهوآله لم يسمع كلامه حتى يستفهمه ، وما ذكر ابن الزبير جده ـ يعني أبا بكر ـ.
وقال الترمذي : وقد رواه بعضهم
عن ابن أبي مليكة مرسلا ، ولم يذكر ابن الزبير ، وقال : حديث غريب حسن ، انتهى حكاية رواياتهم.
ومن تأمل فيها وفي
الآيات النازلة في تلك الحال بعين الاعتبار علم أنهما بلغا في سوء الأدب وكشف
جلباب الحياء الغاية القصوى ، حتى لم يقنعا في الجفاء وترك الاحتشام بأن يروا آراءهما الفاسدة
متقدمة على ما يراه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بل زعماها متقدمة على حكم الله سبحانه ، كما نطق به نهيه
تعالى إياهما بقوله : ( لا تُقَدِّمُوا
بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ ) ... ثم أمرهما بالتقوى والخشية من الله معللا نهيه وأمره بأن
الله سميع عليم ، تعريضا بأنهما لسوء الأدب والإقدام على التقدم بين يدي الله
ورسوله في كلامهما كأنهما لم يذعنا بأن الله سميع عليم ، ثم حذرهما في رفع
أصواتهما فوق صوت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والجهر له بالقول
__________________
كما كان دأب أجلاف
العرب وطغامهم في مخاطبة بعضهم بعضا عن حبط الأعمال من حيث لا يشعران ،
وفيه دلالة على أنهما لم يقتصرا على رفع الصوت عند النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في مخاطبة أحدهما للآخر بل خاطباه بصوت رفيع من دون احترام وتوقير ، ثم حصر
الممتحنين قلوبهم للتقوى في ( الَّذِينَ يَغُضُّونَ
أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ) صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقال : ( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) تنبيها على خروجهما عن زمرة هؤلاء.
وقد ظهر لذي فطرة
سليمة أن ترك ابن الزبير ذكر أبي بكر ـ عند حكايته عن عمر بن الخطاب انتهاؤه عن
هذه الوقاحة الشنيعة ، مع أن أبا بكر كان جدا له ، واهتمامه بتزكيته كان أشد من
اعتنائه بشأن عمر بن الخطاب ـ ، دليل على عدم ظهور آثار المتابعة والانقياد عنه
كما ظهر عن عمر ، فكان أغلظ منه و ... وليس في الذم والتقبيح أفحش من هذا. ولنعم
ما قاله ابن أبي مليكة : من أنه كاد الخيران أن يهلكا ، فو الله
لقد هلكا وكان الرجل غريقا في نومة الجهل خائضا في غمرات البهت والغفلة ، وليت
شعري ما حملها على شدة الاهتمام وبذل الجهد في تأمير الأقرع أو القعقاع بحضرة
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أكان ذلك تشييدا لأركان الدين ومراعاة لمصالح المسلمين؟! ،
فتقدما بين يدي الله ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم لظنهما أنهما أعلم من الله ومن رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم بما يصلح شأن الأمة ، فخافا من أن يلحقهم ضرر بتأمير من يؤمره الرسول أو لزعمهما
أنهما أبر وأرأف بهم من الله ومن رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ،
__________________
فلم يرضيا بالسكوت
شفقة عليهم ورأفة بهم ، أم كان ذلك لأمر دنيوي ، يعود نفعه إليهما ، فمن رأى نفسه أعلم وأرأف من رب
العالمين ومن رسوله الأمين صلىاللهعليهوآلهوسلم الطاهرين ، أو رد على الله وعلى رسوله ، ولم يرض بقضائهما
لغرض فاسد دنيوي ، كيف يصلح أن يكون قائدا للأمة طرا وهاديا لهم إلى الرشاد؟! وقد
قال سبحانه : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً
مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) ولعل الناصرين
لأبي بكر وعمر يرون رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مجتهدا في كثير من الأحكام كما يرونهما مجتهدين ، ويجوزون
مخالفته سيما فيما يتعلق بأمر الجيش وترتيب العسكر ولا يلتفتون إلى خلاف الله
تعالى في ذلك ، حيث جعل التقدم بين يدي رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم تقدما عليه. فقال : ( لا تُقَدِّمُوا
بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ ) ... .
فانظر بعين
الإنصاف في تعصب طائفة من علماء الجمهور وأئمتهم كالرازي والبيضاوي وغيرهما وبذل
جهدهم في إخفاء الحق وستر عورات مشايخهم ، فقد ذكر الرازي في تفسيره في شأن نزول
الآيات عدة وجوه لم يسندها إلى رواية صحيحة أو كتاب معروف ، ولم يذكر نزولها في
أبي بكر وعمر مع وجوده في صحيح البخاري ـ الذي يجعلونه تاليا لكتاب الله سبحانه ،
ويرون مؤلفه أوثق الناس وأعدلهم ـ ، وكذا في غيره من صحاحهم كما سبق ، فذلك إما
لعدم الاطلاع على ما في هذه الكتب ، وكفى به شاهدا على جهلهم وقلة إحاطتهم
بأخبارهم وأمور دينهم ، أو لأن سنتهم إخفاء الحق وإطفاء نور الله بأفواههم فتعمدوا
في ستر ما لا يوافق آراءهم ويستلزم القدح في مشايخهم وأسلافهم ، وقد
__________________
اعترف في تفسيره
بأن رفع الصوت عند أحد والتقدم بين يديه يدل على أنه لا يرى المتكلم للمخاطب وزنا
ولا مقدارا ، بل جعل لنفسه اعتبارا زائدا وعظمة.
وقال : إن الآية تدل
على أنه لا ينبغي أن يتكلم المؤمن عند النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كما يتكلم العبد عند سيده ، لأن العبد داخل في قوله تعالى : ( كَجَهْرِ
بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ) ... ، واستدل عليه أيضا بقوله تعالى : (
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) قال : والسيد ليس
أولى عند عبده من نفسه ، فلو كانا في مخمصة ووجد العبد ما لو لم يأكله لمات لا يجب عليه بذله
لسيده ، ويجب البذل للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولو علم العبد أن بموته ينجو سيده لا يلزمه أن يلقي نفسه
في المهلكة لإنجاء سيده ، ويجب لإنجاء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وذلك كما أن العضو الرئيس أولى بالرعاية من غيره ، لأن عند خلل
القلب لا يبقى لليدين والرجلين استقامة ، فلو حفظ الإنسان نفسه وترك النبي لهلك هو أيضا
بخلاف العبد والسيد. انتهى.
فأين هذا من سيرة
الشيخين وترك احترامهما للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
__________________
وتخطئتهما إياه ،
وتسفيههما رأيه ، وتنازعهما بحضرته فيما حسباه أصلح من اختياره؟!.
وأما البيضاوي فقد
دلس في هذا المقام تدليسا غريبا ، فسكت في تفسير قوله تعالى : ( يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا ) ... إلى قوله
سبحانه ( وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) عن ذكر أبي بكر
وعمر ، ونزول الآيات فيهما ، ثم ذكر في تفسير قوله سبحانه : ( إِنَّ
الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ
امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى ) أنه قيل : كان أبو بكر وعمر بعد ذلك يسرانه حتى يستفهمهما .
فانظر كيف صور
المنقصة بصورة المنقبة؟! ولبس الحال على الجهال ، حتى يتوهموا أنهما مما وصفهم
الله في كتابه بامتحان قلوبهم للتقوى ، ونزلت الآية فيهم ، فقد عرفت ـ لو أنصفت ـ من
ترك ابن الزبير ذكر أبي بكر ـ مع القرابة الخصيصة عند حكاية الإسرار في الحديث عن
عمر أن ما رواه البيضاوي عن قائل مجهول افتراء على أبي بكر ، وأما عمر ، فهو وإن
روى فيه ابن الزبير ذلك إلا أن في حكاية التنازع عند رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في مرضه ، ورفع الأصوات عنده ، والرد عليه بقوله : حسبنا كتاب الله ، ما يفهم منه
عدم انتهائه عن التقدم بين يدي الله ورسوله ، والجهر بالقول ، ولا يشتبه على ذي
فطرة سليمة أن المراد حين نزول الآية بـ ( الَّذِينَ يَغُضُّونَ
أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ) من كان دأبهم ذلك قبل نزولها ، كما أن المراد بالذين
ينادونه من وراء الحجرات من ناداه قبل نزول الآية ، ولا يخفى أن في قول البيضاوي :
كانا بعد ذلك يسرانه .. اعترافا لطيفا بأنه كان
__________________
داؤهما قبل ذلك سوء
الأدب ، وسيرتهما الوقاحة ، وقد كان وفود بني تميم والأقرع والقعقاع في أواخر سنة
تسع من الهجرة ، وكان وفاته صلىاللهعليهوآلهوسلم في صفر سنة إحدى عشرة ـ على ما ذكره أرباب السير ـ ، فكانا
ـ على تقدير صحة ما ذكره مصرين على الجفاء وقلة الحياء في مدة مقامه صلىاللهعليهوآلهوسلم بمكة ، وقريبا من تسع سنين بعد الهجرة ، ولم ينتهيا عنه إلا في سنة وبضع
شهور بعد أن وبخهما الله تعالى ورغم أنفهما ، مع أن رعاية الأدب في خدمة السيد
المطاع القادر على القتل فما دونه ، المرجو منه الشفاعة والنجاة في الآخرة ـ لو
كان الإيمان به صادقا ـ أمر لا يخرج عن ربقته إلا رقبة من جبل على طينة السباع من
البهائم ، فمن كان هذا شأنه كيف يصلح لأن يكون مطاعا للأمة
كافة؟! وكيف تكون سيرته مع رعيته ومن لا يقدر على الخروج عن طاعته؟! وهل يزجر نفسه
ويملكه عند الغضب ، وتنقلات الأحوال بحيث يرتكب لا أقل ما ينافي
العدالة؟! ولعمري لا يقول به إلا مباهت مبهوت ، ولم ينشأ تعبير عمر لأمير
المؤمنين عليهالسلام بالدعابة إلا لما يرى من نفسه ومن شيخه من سوء الخلق
والزعارة ، فظن حسن خلقه عليهالسلام ، وبشره عند لقاء الناس ، ورفقه بهم من قبيل اللهو
والدعابة ، ثم نسج على منواله عمرو بن العاص كما صرح به عليهالسلام في قوله :عجبا لابن النابغة يزعم لأهل الشام أن في دعابة وأني امرؤ تلعابة.
__________________
١٥٠
ـ كتاب نفحات اللاهوت : نقلا من كتاب المثالب لابن شهرآشوب ، أن الصادق عليهالسلام سئل [ عنهما ] ، فقال : كانا إمامين قاسطين عادلين ، كانا
على الحق وماتا عليه ، فرحمة الله عليهما يوم القيامة ، فلما خلا المجلس ، قال له
بعض أصحابه : كيف قلت يا ابن
رسول الله؟! فقال : نعم ، أما قولي : كانا إمامين ، فهو مأخوذ من قوله تعالى : (
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) ، وأما قولي
قاسطين ، فهو من قوله تعالى : ( وَأَمَّا
الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً ) ، وأما قولي
عادلين ، فهو مأخوذ من قوله تعالى : ( الَّذِينَ كَفَرُوا
بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) ، وأما قولي كانا على الحق ، فالحق علي عليهالسلام ، وقولي : ماتا عليه ، المراد أنه لم يتوبا عن تظاهرهما عليه ، بل ماتا على ظلمهما إياه ،
وأما قولي : فرحمة الله عليهما يوم القيامة ، فالمراد به أن رسول الله صلىاللهعليهوآله ينتصف له منهما ، آخذا من قوله تعالى : ( وَما أَرْسَلْناكَ
إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) ..
أقول :
أجاز لي بعض
الأفاضل في مكة ـ زاد الله شرفها ـ رواية هذا الخبر ، وأخبرني أنه أخرجه من الجزء
الثاني من كتاب دلائل الإمامة ، وهذه صورته :
__________________
١٥١ ـ حدثنا أبو
الحسين محمد بن هارون بن موسى التلعكبري ، قال :حدثنا أبي رضياللهعنه ، قال : حدثنا أبو علي محمد بن همام ، قال : حدثنا جعفر بن محمد بن مالك
الفزاري الكوفي ، قال : حدثني عبد الرحمن بن سنان الصيرفي ، عن جعفر بن علي الحوار
، عن الحسن بن مسكان ، عن المفضل بن عمر الجعفي ، عن جابر الجعفي ، عن سعيد بن
المسيب ، قال :
لما قتل الحسين بن
علي صلوات الله عليهما وورد نعيه إلى المدينة ، وورد الأخبار بجز رأسه وحمله إلى
يزيد بن معاوية ، وقتل ثمانية عشر من أهل بيته ، وثلاث وخمسين رجلا من شيعته ،
وقتل علي ابنه بين يديه وهو طفل بنشابة ، وسبي ذراريه أقيمت المآتم عند
أزواج النبي صلىاللهعليهوآله في منزل أم سلمة رضي الله عنها ، وفي دور المهاجرين
والأنصار ، قال : فخرج عبد الله بن عمر بن الخطاب صارخا من داره لاطما وجهه شاقا
جيبه يقول : يا معشر بني هاشم وقريش والمهاجرين والأنصار! يستحل هذا من رسول الله (ص)
في أهله وذريته وأنتم أحياء ترزقون؟! لا قرار دون يزيد ، وخرج من المدينة تحت ليله
، لا يرد مدينة إلا صرخ فيها واستنفر أهلها على يزيد ، وأخباره يكتب بها إلى يزيد
، فلم يمر بملإ من الناس إلا لعنه وسمع كلامه ، وقالوا هذا عبد الله بن عمر ابن خليفة رسول الله (ص)
وهو ينكر فعل يزيد بأهل بيت رسول الله صلىاللهعليهوآله ويستنفر الناس على يزيد ، وإن من لم يجبه لا دين له ولا
إسلام ، واضطرب الشام بمن فيه ، وورد دمشق وأتى باب اللعين يزيد في خلق من الناس
يتلونه ، فدخل آذن
__________________
يزيد إليه فأخبره
بوروده ويده على أم رأسه والناس يهرعون إليه قدامه ووراءه ، فقال
يزيد : فورة من فورات أبي محمد ، وعن قليل يفيق منها ، فأذن له وحده فدخل صارخا
يقول : لا أدخل يا أمير المؤمنين! وقد فعلت بأهل بيت محمد صلىاللهعليهوآله ما لو تمكنت الترك والروم ما استحلوا ما استحللت ، ولا فعلوا ما فعلت ، قم عن
هذا البساط حتى يختار المسلمون من هو أحق به منك ، فرحب به يزيد وتطاول له وضمه
إليه وقال له : يا أبا محمد! اسكن من فورتك ، واعقل ، وانظر بعينك واسمع بأذنك ،
ما تقول في أبيك عمر بن الخطاب أكان هاديا مهديا خليفة رسول الله (ص) وناصره
ومصاهره بأختك حفصة ، والذي قال : لا يعبد الله سرا؟!.
فقال عبد الله :
هو كما وصفت ، فأي شيء تقول فيه؟.
قال : أبوك قلد
أبي أمر الشام أم أبي قلد أباك خلافة رسول الله (ص)؟.
فقال : أبي قلد
أباك الشام.
قال : يا أبا محمد!
أفترضى به وبعهده إلى أبي أو ما ترضاه؟.
قال : بل أرضى.
قال : أفترضى
بأبيك؟.
قال : نعم ، فضرب
يزيد بيده على يد عبد الله بن عمر وقال له : قم ـ يا أبا محمد ـ حتى تقرأ ، فقام
معه حتى ورد خزانة من خزائنه ، فدخلها ودعا بصندوق ففتحه واستخرج منه تابوتا مقفلا
مختوما فاستخرج منه طومارا لطيفا في خرقة حرير سوداء ، فأخذ الطومار بيده ونشره ،
ثم قال : يا أبا محمد! هذا خط أبيك؟. قال : إي والله .. فأخذه من يده فقبله ، فقال
له : اقرأ ، فقرأه ابن عمر ، فإذا فيه :
( بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) إن الذي أكرهنا بالسيف على الإقرار به فأقررنا ، والصدور
وغرة ، والأنفس واجفة ، والنيات والبصائر شائكة مما كانت عليه من
__________________
جحدنا ما دعانا
إليه وأطعناه فيه رفعا لسيوفه عنا ، وتكاثره بالحي علينا من اليمن ، وتعاضد من سمع
به ممن ترك دينه وما كان عليه آباؤه في قريش ، فبهبل أقسم والأصنام والأوثان
واللات والعزى ما جحدها عمر مذ عبدها! ولا عبد للكعبة ربا! ولا صدق لمحمد صلىاللهعليهوآله قولا ، ولا ألقى السلام إلا للحيلة عليه وإيقاع البطش به ، فإنه قد أتانا
بسحر عظيم ، وزاد في سحره على سحر بني إسرائيل مع موسى وهارون وداود وسليمان وابن
أمه عيسى ، ولقد أتانا بكل ما أتوا به من السحر وزاد عليهم ما لو أنهم شهدوه
لأقروا له بأنه سيد السحرة ، فخذ يا ابن أبي سفيان ـ سنة قومك واتباع ملتك والوفاء
بما كان عليه سلفك من جحد هذه البنية التي يقولون إن لها ربا أمرهم بإتيانها
والسعي حولها وجعلها لهم قبلة فأقروا بالصلاة والحج الذي جعلوه ركنا ، وزعموا أنه
لله اختلقوا ، فكان ممن أعان محمدا منهم هذا الفارسي الطمطاني [
الطمطماني ] : روزبه ، وقالوا إنه أوحي إليه : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ
وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ ) ، وقولهم : ( قَدْ نَرى
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) ، وجعلوا صلاتهم للحجارة ، فما الذي أنكره علينا لو لا
سحره من عبادتنا للأصنام والأوثان واللات والعزى وهي من الحجارة والخشب والنحاس
والفضة والذهب ، لا ـ واللات والعزى ما وجدنا سببا للخروج عما عندنا وإن سحروا
وموهوا ، فانظر بعين مبصرة ، واسمع بأذن واعية ، وتأمل بقلبك وعقلك ما هم فيه ،
واشكر اللات والعزى واستخلاف السيد الرشيد عتيق بن عبد العزى على أمة محمد وتحكمه
في أموالهم ودمائهم وشريعتهم وأنفسهم وحلالهم وحرامهم ، وجبايات الحقوق التي زعموا
أنهم
__________________
يجبونها لربهم ليقيموا
بها أنصارهم وأعوانهم ، فعاش شديدا رشيدا يخضع جهرا ويشتد سرا ، ولا يجد حيلة غير
معاشرة القوم ، ولقد وثبت وثبة على شهاب بني هاشم الثاقب ، وقرنها الزاهر ، وعلمها
الناصر ، وعدتها وعددها المسمى بحيدرة المصاهر لمحمد على المرأة التي جعلوها سيدة
نساء العالمين يسمونها : فاطمة ، حتى أتيت دار علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين
وابنتيهما زينب وأم كلثوم ، والأمة المدعوة بفضة ، ومعي خالد بن وليد وقنفذ مولى
أبي بكر ومن صحب من خواصنا ، فقرعت الباب عليهم قرعا شديدا ، فأجابتني الأمة ،
فقلت لها : قولي لعلي : دع الأباطيل ولا تلج نفسك إلى طمع الخلافة ، فليس الأمر لك
، الأمر لمن اختاره المسلمون واجتمعوا عليه ، ورب اللات والعزى لو كان الأمر
والرأي لأبي بكر لفشل عن الوصول إلى ما وصل إليه من خلافة ابن أبي كبشة ، لكني
أبديت لها صفحتي ، وأظهرت لها بصري ، وقلت للحيين ـ نزار وقحطان ـ بعد أن قلت لهم
ليس الخلافة إلا في قريش ، فأطيعوهم ما أطاعوا الله ، وإنما قلت ذلك لما سبق من
ابن أبي طالب من وثوبه واستيثاره بالدماء التي سفكها في غزوات محمد وقضاء ديونه ،
وهي ـ ثمانون ألف درهم ـ وإنجاز عداته ، وجمع القرآن ، فقضاها على تليده وطارفه ، وقول المهاجرين
والأنصار ـ لما قلت إن الإمامة في قريش قالوا : هو الأصلع البطين أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب الذي أخذ رسول الله (ص) البيعة له على أهل ملته ، وسلمنا له بإمرة
المؤمنين في أربعة مواطن ، فإن كنتم نسيتموها ـ معشر قريش ـ فما نسيناها وليست
البيعة ولا الإمامة والخلافة والوصية إلا حقا مفروضا ، وأمرا صحيحا ، لا تبرعا ولا
ادعاء فكذبناهم ، وأقمت أربعين رجلا شهدوا على محمد أن الإمامة بالاختيار.
فعند ذلك قال
الأنصار : نحن أحق من قريش ، لأنا آوينا ونصرنا وهاجر
__________________
الناس إلينا ،
فإذا كان دفع من كان الأمر له فليس هذا الأمر لكم دوننا ، وقال قوم : منا أمير
ومنكم أمير. قلنا لهم : قد شهدوا أربعون رجلا أن الأئمة من قريش ، فقبل قوم وأنكر
آخرون وتنازعوا ، فقلت ـ والجمع يسمعون ـ : ألا أكبرنا سنا وأكثرنا لينا. قالوا :
فمن تقول؟. قلت : أبو بكر الذي قدمه رسول الله (ص) في الصلاة ، وجلس معه في العريش
يوم بدر يشاوره ويأخذ برأيه ، وكان صاحبه في الغار ، وزوج ابنته عائشة التي سماها
: أم المؤمنين ، فأقبل بنو هاشم يتميزون غيظا ، وعاضدهم الزبير وسيفه مشهور وقال :
لا يبايع إلا علي أو لا أملك رقبة قائمة سيفي هذا ، فقلت : يا زبير! صرختك سكن من بني هاشم ،
أمك صفية بنت عبد المطلب ، فقال : ذلك ـ والله ـ الشرف الباذخ والفخر الفاخر ، يا
ابن حنتمة و يا ابن صهاك! اسكت لا أم لك ، فقال قولا فوثب أربعون رجلا
ممن حضر سقيفة بني ساعدة على الزبير ، فو الله ما قدرنا على أخذ سيفه من يده حتى
وسدناه الأرض ، ولم نر له علينا ناصرا ، فوثبت إلى أبي بكر فصافحته وعاقدته البيعة
وتلاني عثمان بن عفان وسائر من حضر غير الزبير ، وقلنا له : بايع أو نقتلك ، ثم
كففت عنه الناس ، فقلت له : أمهلوه ، فما غضب إلا نخوة لبني هاشم ، وأخذت أبا بكر
بيده فأقمته ـ وهو يرتعد ـ قد اختلط عقله ، فأزعجته إلى منبر محمد إزعاجا ، فقال لي
: يا أبا حفص! أخاف وثبة علي. فقلت له : إن عليا عنك مشغول ، وأعانني على ذلك أبو
عبيدة بن الجراح كان يمده بيده إلى المنبر وأنا أزعجه من ورائه كالتيس إلى شفار الجاذر ، متهونا
، فقام عليه
__________________
مدهوشا ، فقلت له : اخطب!
فأغلق عليه وتثبت فدهش ، وتلجلج وغمض ، فعضضت على كفي غيظا ، وقلت له : قل ما سنح لك ،
فلم يأت خيرا ولا معروفا ، فأردت أن أحطه عن المنبر وأقوم مقامه ، فكرهت تكذيب الناس لي بما
قلت فيه ، وقد سألني الجمهور منهم : كيف قلت من فضله ما قلت؟ ما الذي سمعته من
رسول الله (ص) في أبي بكر؟ فقلت : لهم : قد قلت :سمعت من فضله على لسان
رسول الله ما لو وددت [ لوددت ] أني شعرة في صدره ولي حكاية ، فقلت : قل وإلا
فانزل ، فتبينها والله في وجهي وعلم أنه لو نزل لرقيت ، وقلت ما لا يهتدي
إلى قوله ، فقال بصوت ضعيف عليل : وليتكم ولست بخيركم وعلي فيكم ، واعلموا أن لي
شيطانا يعتريني ـ وما أراد به سواي ـ فإذا زللت فقوموني لا أقع في شعوركم وأبشاركم
، وأستغفر الله لي ولكم ، ونزل فأخذت بيده ـ وأعين الناس ترمقه ـ وغمزت يده غمزا ،
ثم أجلسته وقدمت الناس إلى بيعته وصحبته لأرهبه ، وكل من ينكر بيعته ويقول : ما
فعل علي بن أبي طالب؟ فأقول : خلعها من عنقه وجعلها طاعة المسلمين قلة خلاف عليهم
في اختيارهم ، فصار جليس بيته ، فبايعوا وهم كارهون ، فلما فشت بيعته علمنا أن
عليا يحمل فاطمة والحسن والحسين إلى دور المهاجرين والأنصار يذكرهم بيعته علينا في
أربعة مواطن ،
__________________
ويستنفرهم فيعدونه
النصرة ليلا ويقعدون عنه نهارا ، فأتيت داره مستيشرا لإخراجه منها ،
فقالت الأمة فضة ـ وقد قلت لها قولي لعلي : يخرج إلى بيعة أبي بكر فقد اجتمع عليه
المسلمون فقالت ـ إن أمير المؤمنين (ع) مشغول ، فقلت : خلي عنك هذا وقولي له يخرج
وإلا دخلنا عليه وأخرجناه كرها ، فخرجت فاطمة فوقفت من وراء الباب ، فقالت : أيها
الضالون المكذبون! ما ذا تقولون؟ وأي شيء تريدون؟. فقلت : يا فاطمة!. فقالت فاطمة
: ما تشاء يا عمر؟!. فقلت : ما بال ابن عمك قد أوردك للجواب وجلس من وراء الحجاب؟.
فقالت لي :طغيانك ـ يا شقي ـ أخرجني وألزمك الحجة ، وكل ضال غوي. فقلت : دعي عنك
الأباطيل وأساطير النساء وقولي لعلي يخرج. فقالت : لا حب ولا كرامة أبحزب الشيطان
تخوفني يا عمر؟! وكان حزب الشيطان ضعيفا. فقلت : إن لم يخرج جئت بالحطب الجزل
وأضرمتها نارا على أهل هذا البيت وأحرق من فيه ، أو يقاد علي إلى البيعة ، وأخذت
سوط قنفذ فضربت وقلت لخالد بن الوليد : أنت ورجالنا هلموا في جمع الحطب ،
فقلت : إني مضرمها.
فقالت : يا عدو
الله وعدو رسوله وعدو أمير المؤمنين ، فضربت فاطمة يديها من الباب تمنعني
من فتحه فرمته فتصعب علي فضربت كفيها بالسوط فألمها ، فسمعت لها زفيرا وبكاء ،
فكدت أن ألين وأنقلب عن الباب فذكرت أحقاد
__________________
علي وولوعه في
دماء صناديد العرب ، وكيد محمد وسحره ، فركلت الباب وقد ألصقت أحشاءها بالباب تترسه ، وسمعتها وقد صرخت
صرخة حسبتها قد جعلت أعلى المدينة أسفلها ، وقالت : يا أبتاه! يا رسول الله! هكذا
كان يفعل بحبيبتك وابنتك ، آه يا فضة! إليك فخذيني فقد والله قتل ما في أحشائي من
حمل ، وسمعتها تمخض وهي مستندة إلى الجدار ، فدفعت الباب ودخلت فأقبلت إلي
بوجه أغشى بصري ، فصفقت صفقة على خديها من ظاهر الخمار فانقطع قرطها وتناثرت إلى الأرض
، وخرج علي ، فلما أحسست به أسرعت إلى خارج الدار وقلت لخالد وقنفذ ومن معهما :
نجوت من أمر عظيم.
وفي رواية أخرى :
قد جنيت جناية عظيمة لا آمن على نفسي. وهذا علي قد برز من البيت وما لي ولكم جميعا
به طاقة. فخرج علي وقد ضربت يديها إلى ناصيتها لتكشف عنها وتستغيث بالله العظيم ما
نزل بها ، فأسبل علي عليها ملاءتها وقال لها : يا بنت رسول الله! إن الله بعث أباك ( رَحْمَةً
لِلْعالَمِينَ ) ، وايم الله لئن كشفت عن ناصيتك سائلة إلى ربك ليهلك هذا
الخلق لأجابك حتى لا يبقي على الأرض منهم بشرا ، لأنك وأباك أعظم عند الله من نوح (ع)
الذي غرق من أجله بالطوفان جميع من على وجه الأرض وتحت السماء إلا من كان في
السفينة ، وأهلك قوم هود بتكذيبهم له ، وأهلك عادا ( بِرِيحٍ صَرْصَرٍ ) ، وأنت وأبوك
أعظم قدرا من هود ، وعذب ثمود ـ وهي اثنا عشر ألفا ـ بعقر الناقة والفصيل ، فكوني
يا سيدة النساء ـ رحمة على هذا الخلق المنكوس ولا تكوني عذابا ، واشتد بها المخاض
ودخلت البيت فأسقطت سقطا سماه علي : محسنا ، وجمعت جمعا كثيرا ، لا مكاثرة لعلي ولكن
ليشد بهم قلبي وجئت ـ وهو محاصر ـ فاستخرجته من داره
__________________
مكرها مغصوبا
وسقته إلى البيعة سوقا ، وإني لأعلم علما يقينا لا شك فيه لو اجتهدت أنا وجميع من
على الأرض جميعا على قهره ما قهرناه ، ولكن لهنات كانت في نفسه
أعلمها ولا أقولها ، فلما انتهيت إلى سقيفة بني ساعدة قام أبو بكر ومن بحضرته
يستهزءون بعلي ، فقال علي : يا عمر! أتحب أن أعجل لك ما أخرته سواء
عنك ؟ فقلت : لا ، يا أمير المؤمنين! فسمعني والله خالد بن الوليد ، فأسرع إلى أبي
بكر ، فقال له أبو بكر : ما لي ولعمر .. ثلاثا ، والناس يسمعون ، ولما دخل السقيفة
صبا أبو بكر إليه ، فقلت له : قد بايعت يا أبا الحسن! فانصرف ، فأشهد ما بايعه
ولا مد يده إليه ، وكرهت أن أطالبه بالبيعة فيعجل لي ما أخره عني ، وود أبو بكر
أنه لم ير عليا في ذلك المكان جزعا وخوفا منه ، ورجع علي من السقيفة وسألنا عنه ، فقالوا : مضى
إلى قبر محمد فجلس إليه ، فقمت أنا وأبو بكر إليه ، وجئنا نسعى وأبو بكر يقول :
ويلك يا عمر! ما الذي صنعت بفاطمة ، هذا والله الخسران المبين ، فقلت : إن أعظم ما
عليك أنه ما بايعنا ولا أثق أن تتثاقل المسلمون عنه. فقال : فما تصنع؟. فقلت :
تظهر أنه قد بايعك عند قبر محمد ، فأتيناه وقد جعل القبر قبلة ، مسندا كفه على
تربته وحوله سلمان وأبو ذر والمقداد وعمار وحذيفة بن اليمان ، فجلسنا بإزائه
وأوعزت إلى أبي بكر أن يضع يده على مثل ما وضع علي يده ويقربها من يده ، ففعل ذلك
وأخذت بيد أبي بكر لأمسحها على يده ، وأقول قد بايع ، فقبض علي يده فقمت أنا وأبو بكر موليا ،
وأنا أقول : جزى الله عليا خيرا فإنه لم يمنعك البيعة لما حضرت قبر رسول الله
__________________
(ص) ، فوثب من دون
الجماعة أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري وهو يصيح ويقول : والله ـ يا عدو الله ـ ما بايع علي عتيقا ،
ولم يزل كلما لقينا قوما وأقبلنا على قوم نخبرهم ببيعته وأبو ذر يكذبنا ، والله ما
بايعنا في خلافة أبي بكر ولا في خلافتي ولا يبايع لمن بعدي ولا بايع من أصحابه
اثنا عشر رجلا لا لأبي بكر ولا لي ، فمن فعل ـ يا معاوية ـ فعلي واستشار أحقاده
السالفة غيري؟!.
وأما أنت وأبوك
أبو سفيان وأخوك عتبة فأعرف ما كان منكم في تكذيب محمد (ص) وكيده ، وإدارة الدوائر
بمكة وطلبته في جبل حرى لقتله ، وتألف الأحزاب وجمعهم عليه ، وركوب أبيك الجمل وقد
قاد الأحزاب ، وقول محمد :لعن الله الراكب والقائد والسائق ، وكان أبوك الراكب
وأخوك عتبة القائد وأنت السائق ، ولم أنس أمك هندا وقد بذلت لوحشي ما بذلت حتى
تكمن لحمزة الذي دعوه أسد الرحمن في أرضه ـ وطعنه بالحربة ، ففلق فؤاده وشق عنه
وأخذ كبده فحمله إلى أمك ، فزعم محمد بسحره أنه لما أدخلته فاها
لتأكله صار جلمودا فلفظته من فيها ، فسماها محمد وأصحابه : آكلة الأكباد ، وقولها في
شعرها لاعتداء محمد ومقاتليه :
نحن بنات طارق
|
|
نمشي على
النمارق
|
كالدر في
المخانق
|
|
والمسك في
المفارق
|
__________________
إن يقبلوا نعانق
|
|
أو يدبروا نفارق
|
فراق غير وامق
|
ونسوتها في الثياب
الصفر المرئية مبديات وجوههن ومعاصمهن ورءوسهن يحرصن على قتال محمد ،
إنكم لم تسلموا طوعا وإنما أسلمتم كرها يوم فتح مكة فجعلكم طلقاء ، وجعل أخي زيدا
وعقيلا أخا علي بن أبي طالب والعباس عمهم مثلهم ، وكان من أبيك في نفسه ، فقال :
والله يا ابن أبي كبشة! لأملأنها عليك خيلا ورجلا وأحول بينك وبين هذه الأعداء.
فقال محمد : ويؤذن للناس أنه علم ما في نفسه أو يكفي الله شرك يا أبا سفيان! وهو
يري الناس أن لا يعلوها أحد غيري ، وعلي ومن يليه من أهل بيته فبطل سحره وخاب سعيه
، وعلاها أبو بكر وعلوتها بعده وأرجو أن تكونوا معاشر بني أمية عيدان أطنابها ،
فمن ذلك قد وليتك وقلدتك إباحة ملكها وعرفتك فيها وخالفت قوله فيكم ، وما أبالي من
تأليف شعره ونثره ، أنه قال : يوحى إلي منزل من ربي في قوله : (
وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) فزعم أنها أنتم
يا بني أمية ، فبين عداوته حيث ملك كما لم يزل هاشم وبنوه أعداء بني عبد شمس ،
وأنا ـ مع تذكيري إياك يا معاوية! وشرحي لك ما قد شرحته ـ ناصح لك ومشفق عليك من
ضيق عطنك وحرج صدرك ، وقلة حلمك ، أن تعجل فيما وصيتك به ومكنتك منه
من شريعة محمد (ص) وأمته أن تبدي لهم مطالبته بطعن أو شماتة بموت أو ردا عليه فيما
أتى به ، أو استصغارا لما أتى به فتكون من الهالكين ، فتخفض ما رفعت وتهدم ما بنيت
، واحذر كل
__________________
الحذر حيث دخلت
على محمد مسجده ومنبره وصدق محمدا في كل ما أتى به وأورده ظاهرا ، وأظهر التحرز
والواقعة في رعيتك ، وأوسعهم حلما ، وأعمهم بروائح العطايا ، وعليك بإقامة الحدود
فيهم وتضعيف الجناية منهم لسببا [ لسبب ] محمد من مالك ورزقك ولا ترهم أنك تدع لله حقا ولا تنقض فرضا ولا تغير لمحمد
سنة فتفسد علينا الأمة ، بل خذهم من مأمنهم ، واقتلهم بأيديهم ، وأبدهم بسيوفهم وتطاولهم
ولا تناجزهم ، ولن لهم ولا تبخس عليهم ، وافسح لهم في مجلسك ، وشرفهم في مقعدك ،
وتوصل إلى قتلهم برئيسهم ، وأظهر البشر والبشاشة بل اكظم غيظك واعف عنهم يحبوك
ويطيعوك ، فما آمن علينا وعليك ثورة علي وشبليه الحسن والحسين ، فإن أمكنك في عدة
من الأمة فبادر ولا تقنع بصغار الأمور ، واقصد بعظيمها واحفظ وصيتي إليك وعهدي
وأخفه ولا تبده ، وامتثل أمري ونهيي وانهض بطاعتي ، وإياك والخلاف علي ، واسلك
طريق أسلافك ، واطلب بثارك ، واقتص آثارهم ، فقد أخرجت إليك بسري وجهري ، وشفعت
هذا بقولي :
معاوي إن القوم جلت أمورهم
|
|
بدعوة من عم
البرية بالوتري
|
صبوت إلى دين لهم فأرابني
|
|
فأبعد بدين قد
قصمت به ظهري
|
وإن أنس لا أنس
الوليد وشيبة
|
|
وعتبة والعاص
السريع لدى بدر
|
وتحت شغاف القلب لدغ لفقدهم
|
|
أبو حكم أعني
الضئيل من الفقري
|
__________________
أولئك فاطلب ـ يا
معاوي ـ ثارهم
|
|
بنصل سيوف الهند
والأسل السمري
|
وصل برجال الشام
في معشرهم
|
|
هم الأسد
والباقون في أكم الوعري
|
توسل إلى
التخليط في الملة التي
|
|
أتانا به الماضي
المسموه بالسحري
|
وطالب بأحقاد
مضت لك مظهرا
|
|
لعلة دين عم كل
بني النضر
|
فلست تنال الثار
إلا بدينهم
|
|
فتقتل بسيف
القوم جيد بني عمري
|
لهذا لقد وليتك
الشام راجيا
|
|
وأنت جدير أن
تئول إلى صخري
|
قال : فلما قرأ
عبد الله بن عمر هذا العهد ، قام إلى يزيد فقبل رأسه ، وقال : الحمد لله ـ يا أمير
المؤمنين! ـ على قتلك الشاري ابن الشاري ، والله ما أخرج أبي إلي بما أخرج إلى
أبيك ، والله لا رآني أحد من رهط محمد بحيث يحب ويرضى ، فأحسن جائزته وبره ، ورده مكرما.
فخرج عبد الله بن
عمر من عنده ضاحكا ، فقال له الناس : ما قال لك؟. قال : قولا صادقا لوددت أني كنت
مشاركه فيه ، وسار راجعا إلى المدينة ، وكان جوابه لمن يلقاه هذا الجواب.
ويروى أنه أخرج
يزيد لعنه الله إلى عبد الله بن عمر كتابا فيه عهد عثمان بن عفان فيه أغلظ من هذا
وأدهى وأعظم من العهد الذي كتبه عمر لمعاوية ، فلما
__________________
قرأ عبد الله
العهد الآخر قام فقبل رأس يزيد لعنهما الله ، وقال : الحمد لله على قتلك الشاري
ابن الشاري ، واعلم أن والدي عمر أخرج إلي من سره بمثل هذا الذي أخرجه
إلى أبيك معاوية ، ولا أرى أحدا من رهط محمد وأهله وشيعته بعد يومي هذا إلا غير
منطو لهم على خير أبدا. فقال يزيد : أفيه شرح الخفا يا ابن عمر؟.
والحمد لله وحده
وصلى الله على محمد وآله ، قال ابن عباس : أظهروا الإيمان وأسروا الكفر ، فلما
وجدوا عليه أعوانا أظهروه.
بيان :
لم أجد الرواية
بغير هذا السند ، وفيها غرائب.
والشائكة من الشوك
.. يقال : شجرة شائكة .. أي ذات شوك ، أي كانت البصائر والنيات غير خالصة مما يختلج بالبال من
الشكوك والشبهات.
ورجل طمطماني ـ بالضم
ـ في لسانه عجمة .
وقال الجوهري : فلان واسع
العطن والبلد : إذا كان رحب الذراع.
١٥٢
ـ كتاب سليم بن قيس : عن أبان ، قال : قال سليم : كتب أبو المختار بن أبي الصعق إلى عمر هذه
الأبيات :
__________________
أبلغ أمير المؤمنين رسالة
|
|
فأنت أمير الله في المال والأمر
|
وأنت أمين الله
فينا ومن يكن
|
|
أمينا لرب الناس يسلم له صدري
|
فلا تدعن أهل
الرساتيق والقرى
|
|
يخونون مال الله
في الأدم والخمر
|
وأرسل إلى
النعمان وابن معقل
|
|
وأرسل إلى حزم
وأرسل إلى بشر
|
وأرسل إلى
الحجاج واعلم حسابه
|
|
وذاك الذي في
السوق مولى بني بدر
|
ولا تنسين
التابعين كليهما
|
|
وصهر بني غذوان في القوم ذا وفر
|
وما عاصم
فيها بصفر عيابه
|
|
ولا ابن غلاب
من رماة بني نصر
|
واستل ذاك
المال دون ابن محرز
|
|
وقد كان منه
في الرساتيق ذا وفر
|
فأرسل إليهم
يخبروك ويصدقوا
|
|
أحاديث هذا
المال من كان ذا فكر
|
وقاسمهم ـ
أهلي فداؤك ـ إنهم
|
|
سيرضون إن
قاسمتهم منك بالشطر
|
ولا تدعوني
للشهادة إنني
|
|
أغيب ولكني
أرى عجب الدهر
|
إراء الخيل كالجدران والبيض كالدمى
|
|
وخطية في عدة
النمل والقطر
|
ومن ريطة
مطوية في قرابها
|
|
ومن طي أبراد
مضاعفة صفر
|
__________________
إذا التاجر
الداري جاء بفأرة
|
|
من المسك راحت
في مفارقهم تجري
|
فقال ابن غلاب المصري
:
ألا أبلغ أبا
المختار أني أتيته
|
|
ولم أك ذا قربى
لديه ولا صهر
|
وما كان عندي من
تراث ورثته
|
|
ولا صدقات من سبي ولا غدر
|
ولكن دراك الركض
في كل غارة
|
|
وصبري إذا ما
لموت كان ورا السمري
|
بسابغة يغشى
اللبان فضولها
|
|
أكفكفها عني بأبيض ذي وقر
|
قال سليم : فأغرم عمر بن الخطاب
تلك السنة جميع عماله أنصاف أموالهم لشعر أبي المختار ، ولم يغرم قنفذ العدوي شيئا
ـ وقد كان من عماله ـ ورد عليه ما أخذ منه ـ وهو عشرون ألف درهم ـ ولم يأخذ منه
عشره ولا نصف عشره ، وكان من عماله الذين أغرموا أبو هريرة على البحرين فأحصى
ماله فبلغ أربعة وعشرين ألفا ، فأغرمه اثني عشر ألفا.
فقال أبان : قال سليم
: فلقيت عليا صلوات الله عليه وآله فسألته عما صنع عمر؟ فقال : هل تدري لم كف عن
قنفذ ولم يغرمه شيئا؟!. قلت : لا. قال : لأنه هو الذي ضرب فاطمة صلوات الله عليها
بالسوط حين جاءت لتحول
__________________
بيني وبينهم فماتت
صلوات الله عليها ، وإن أثر السوط لفي عضدها مثل الدملج.
قال أبان : قال سليم : انتهيت
إلى حلقة في مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآله ليس فيها إلا هاشمي غير سلمان وأبي ذر والمقداد ومحمد بن
أبي بكر وعمر بن أبي سلمة وقيس بن سعد بن عبادة ، فقال العباس
لعلي عليهالسلام : ما ترى عمر منعه من أن يغرم قنفذا كما غرم جميع عماله؟.
فنظر علي عليهالسلام إلى من حوله ، ثم اغرورقت عيناه ، ثم قال : شكر له ضربة
ضربها فاطمة عليهاالسلام بالسوط فماتت وفي عضدها أثره كأنه الدملج.
ثم قال (ع) :
العجب مما أشربت قلوب هذه الأمة من حب هذا الرجل وصاحبه من قبله ، والتسليم له في
كل شيء أحدثه.
لئن كان عماله
خونة وكان هذا المال في أيديهم خيانة ما كان حل له تركه؟! ، وكان له أن يأخذه كله
، فإنه فيء للمسلمين ، فما باله يأخذ نصفه ويترك نصفه.
ولئن كانوا غير
خونة فما حل له أن يأخذ أموالهم ولا شيئا منها قليلا ولا كثيرا وإنما أخذ أنصافها.
ولو كانت في
أيديهم خيانة ، ثم لم يقروا بها ولم تقم عليهم البينة ما حل له أن يأخذ منهم قليلا
ولا كثيرا.
وأعجب من ذلك
إعادته إياهم إلى أعمالهم ، لئن كانوا خونة ما حل له أن يستعملهم ، ولئن كانوا غير
خونة ما حلت له أموالهم ، ثم أقبل علي (ع) على القوم فقال : العجب لقوم يرون سنة
نبيهم تتبدل وتتغير شيئا شيئا وبابا بابا ثم يرضون ولا ينكرون ، بل يغضبون له ويعتبون على من عاب عليه
وأنكره ، ثم يجيء قوم
__________________
بعدنا فيتبعون
بدعته وجوره وأحداثه ويتخذون أحداثه سنة ودينا يتقربون بهما إلى الله في مثل
تحويله مقام إبراهيم من الموضع الذي وضعه فيه رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى الموضع الذي كان فيه في الجاهلية الذي حوله منه رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وفي تغييره صاع رسول الله صلىاللهعليهوآله ومده ، وفيهما فريضة وسنة ، فما كان زيادته إلا سوء ، لأن
المساكين في كفارة اليمين والظهار بهما يعطون وما يجب في الزرع ،
وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : اللهم بارك لنا في مدنا وصاعنا ، لا يحولون بينه وبين
ذلك ، لكنهم رضوا وقبلوا ما صنع ، وقبضه وصاحبه فدك ـ وهي في يدي فاطمة عليهاالسلام مقبوضة ، قد أكلت غلتها على عهد النبي صلىاللهعليهوآله ـ فسألها البينة على ما في يدها ، ولم يصدقها ولا صدق أم
أيمن ، وهو يعلم يقينا ـ كما نعلم ـ أنها في يدها ، ولم يحل له أن يسألها
البينة على ما في يدها ، ولا أن يتهمها ، ثم استحسن الناس ذلك وحمدوه وقالوا : إنما
حمله على ذلك الورع والفضل ، ثم حسن قبح فعلهما أن عدلا عنها فقالا بالظن ـ : إن فاطمة لن
تقول إلا حقا ، وإن عليا لم يشهد إلا بحق ، ولو كانت مع أم أيمن امرأة أخرى أمضينا
لها ، فخطبا بذلك عند الجهال ، و ما لهما ومن أمرهما أن يكونا حاكمين فيعطيان أو يمنعان ، ولكن
الأمة ابتلوا بهما فأدخلا
__________________
نفسهما فيما لا حق
لهما فيه ولا علم لهما فيه ، وقد قالت فاطمة عليهاالسلام حين أراد انتزاعها منها ، وهي في يدها ـ :
أليست في يدي وفيها وكيلي ، وقد أكلت غلتها ورسول الله صلىاللهعليهوآله حي؟!. قالا : بلى. قالت : فلم تسألاني البينة على ما في يدي؟.
قالا : لأنها فيء للمسلمين ، فإن قامت بينة وإلا لم نمضها. فقالت لهما ـ والناس
حولهما يسمعون ـ : أفتريدان أن تردا ما صنع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وتحكما فينا خاصة بما لم تحكما في سائر المسلمين؟! أيها
الناس! اسمعوا ما ركباها . قلت : أرأيتما إن ادعيت ما في أيدي المسلمين من أموالهم
تسألوني البينة أم تسألونهم؟. قالا : لا ، بل نسألك. قلت : فإن ادعى جميع
المسلمين ما في يدي تسألونهم البينة أم تسألوني ؟. فغضب عمر ،
وقال : إن هذا فيء للمسلمين وأرضهم وهي في يدي فاطمة (ع) تأكل غلتها ، فإن أقامت
بينة على ما ادعت أن رسول الله صلىاللهعليهوآله وهبها لها من بين المسلمين وهي فيئهم وحقهم نظرنا في ذلك.
فقال : أنشدكم بالله أما سمعتم رسول
الله صلىاللهعليهوآله يقول :
__________________
إن ابنتي سيدة
نساء أهل الجنة؟. قالوا : اللهم نعم ، قد سمعناها من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
قالت : أفسيدة
نساء أهل الجنة تدعي الباطل وتأخذ ما ليس لها؟! أرأيتم لو أن أربعة شهدوا علي
بفاحشة أو رجلان بسرقة أكنتم مصدقين علي؟!. فأما أبو بكر فسكت ، وأما عمر فقال : ونوقع عليك
الحد. فقالت : كذبت ولؤمت ، إلا أن تقر أنك لست على دين محمد صلىاللهعليهوآله ، إن الذي يجيز على سيدة نساء أهل الجنة شهادة أو يقيم عليها حدا لملعون كافر
بما أنزل الله على محمد صلىاللهعليهوآله ، إن من أذهب الله عنهم الرجس أهل البيت وطهرهم تطهيرا ،
لا يجوز عليهم شهادة ، لأنهم معصومون من كل سوء ، مطهرون من كل فاحشة ، حدثني عن
أهل هذه الآية ، لو أن قوما شهدوا عليهم أو على أحد منهم بشرك أو كفر أو فاحشة
كان المسلمون يتبرءون منهم ويحدونهم؟. قال : نعم ، وما هم وسائر الناس في ذلك إلا
سواء. قالت : كذبت وكفرت ، لأن الله عصمهم وأنزل عصمتهم وتطهيرهم وأذهب عنهم الرجس
، فمن صدق عليهم يكذب الله ورسوله.
فقال أبو بكر :
أقسمت عليك ـ يا عمر ـ لما سكت ، فلما أن كان الليل أرسل إلى خالد بن
الوليد ، فقال إنا نريد أن نسر إليك أمرا ونحملك
__________________
عليه . فقال : احملاني
على ما شئتما فإني طوع أيديكما. فقالا له : إنه لا ينفعنا ما نحن فيه من الملك
والسلطان ما دام علي حيا ، أما سمعت ما قال لنا وما استقبلنا به ، ونحن لا نأمنه
أن يدعو في السر فيستجيب له قوم فيناهضنا فإنه أشجع العرب ، وقد ارتكبنا منهم ما رأيت وغلبناه على ملك ابن عمه
ولا حق لنا فيه ، وانتزعنا فدك من امرأته ، فإذا صليت بالناس الغداة ، فقم إلى جانبه
وليكن سيفك معك ، فإذا صليت وسلمت فاضرب عنقه.
فقال : صلى خالد بن الوليد
بجنبي متقلد السيف ، فقام أبو بكر في الصلاة فجعل يؤامر نفسه وندم
وأسقط في يده حتى كادت الشمس أن تطلع ، ثم قال : ـ قبل أن يسلم ـ لا تفعل يا خالد
ما أمرتك ، ثم سلم ، فقلت لخالد :ما ذاك؟. قال : قد كان أمرني إذا سلم أضرب عنقك. قلت : أوكنت
فاعلا؟!. قال : إي وربي إذا لفعلت.
قال سليم : ثم
أقبل (ع) على العباس ومن حوله ثم قال : ألا تعجبون من حبسه وحبس صاحبه عنا سهم ذي
القربى الذي فرضه الله لنا في القرآن ، وقد علم الله أنهم سيظلمونا وينتزعونه منا
، فقال : ( إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما
أَنْزَلْنا
__________________
عَلى
عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ ) ؟!.
والعجب لهدمه منزل
أخي جعفر وإلحاقه في المسجد ، ولم يعط بنيه من ثمنه قليلا ولا كثيرا ، ثم لم يعب
ذلك عليه الناس ولم يغيروه ، فكأنما أخذ منزل رجل من الديلم ـ وفي رواية أخرى :
دار رجل من ترك كابل ـ.
والعجب لجهله وجهل
الأمة أنه كتب إلى جميع عماله : أن الجنب إذا لم يجد الماء فليس له أن يصلي وليس له أن يتيمم بالصعيد حتى يجد
الماء ، وإن لم يجده حتى يلقى الله ـ وفي رواية أخرى : وإن لم يجده سنة ـ ثم قبل
الناس منه ورضوا به ، وقد علم وعلم الناس أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قد أمر عمارا وأمر أبا ذر أن يتيمما من الجنابة ويصليا وشهدا به عنده وغيرهما فلم يقبل
ذلك ولم يرفع به رأسا.
والعجب لما قد خلط
قضايا مختلفة في الجد بغير علم تعسفا وجهلا ، وادعائهما ما لم يعلما جرأة
على الله وقلة ورع ، ادعيا أن رسول الله صلىاللهعليهوآله مات ولم يقض في الجد شيئا منه ، ولم يدع أحدا يعلم ما للجد
من الميراث ، ثم تابعوهما على ذلك وصدقوهما.
__________________
وعتقه أمهات
الأولاد ، فأخذ الناس بقوله وتركوا أمر الله وأمر رسول الله صلىاللهعليهوآله.
وما صنع بنصر بن
حجاج وبجعد بن سليم وبابن وتره [ وبرة ] .
وأعجب من ذلك أن
أبا كيف العبدي أتاه ، فقال : إني طلقت امرأتي وأنا غائب ـ فوصل
إليها الطلاق ثم راجعتها وهي في عدتها ، وكتبت إليها فلم يصل الكتاب إليها حتى
تزوجت ، فكتب له : إن كان هذا الذي تزوجها دخل بها فهي امرأته وإن كان لم يدخل بها فهي امرأتك ، وكتب له
ذلك وأنا شاهد ، ولم يشاورني ولم يسألني ، يرى استغناءه بعلمه عني ، فأردت أن أنهاه ثم
قلت : ما أبالي أن يفضحه الله ثم لم تعبه الناس بل استحسنوه واتخذوه سنة وقبلوه عنه ، ورأوه صوابا ،
وذلك قضاء ولا يقضي به مجنون .
ثم تركه من الأذان
( حي على خير العمل ) فاتخذوه سنة وتابعوه على ذلك.
وقضيته في المفقود
أن أجل امرأته أربع سنين ثم تتزوج فإن جاء زوجها خير بين امرأته وبين الصداق ،
فاستحسنه الناس واتخذوه سنة وقبلوه عنه جهلا وقلة علم بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وإخراجه من
المدينة كل أعمى ، وإرساله إلى عماله بالبصرة بحبل خمسة
__________________
أشبار ، وقوله من
أخذتموه من الأعاجم فبلغ طول هذا الحبل فاضربوا عنقه!.
ورده سبايا تستر ،
وهن حبالى.
وإرساله بحبل من صبيان سرقوا
بالبصرة ، وقوله من بلغ طول هذا الحبل فاقطعوه.
وأعجب من ذلك أن
كذابا رجم بكذابة فقبلها وقبلها الجهال ، فزعموا أن الملك ينطق على لسانه ويلقنه.
وإعتاقه سبايا أهل
اليمن.
وتخلفه وصاحبه عن
جيش أسامة بن زيد مع تسليمهما عليه بالإمرة.
ثم أعجب من ذلك
أنه قد علم وعلمه الناس أنه الذي صد رسول الله صلىاللهعليهوآله عن الكتف الذي دعا به ثم لم يضره ذلك عندهم ولم ينقصه.
وأنه صاحب صفية
حين قال لها ما قال ، فغضب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى قال ما قال.
وأنه الذي مررت به
يوما فقال : ما مثل محمد في أهل بيته إلا كنخلة نبتت في كناسة! ، فبلغ ذلك رسول
الله صلىاللهعليهوآله فغضب وخرج فأتى المنبر ، وفزعت الأنصار فجاءت شائكة في السلاح لما
رأت من غضب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال عليهالسلام : ما بال أقوام يعيروني بقرابتي ، وقد سمعوا مني ما قلت في
فضلهم وتفضيل الله إياهم ، وما خصهم به من إذهاب
__________________
الرجس عنهم وتطهير
الله إياهم ، وقد سمعتم ما قلت في أفضل أهل بيتي وخيرهم مما خصه الله به وأكرمه
وفضله على من سبقه إلى الإسلام وتدينه فيه وقرابته مني ، وأنه مني بمنزلة هارون من
موسى ، ثم تزعمون أن مثلي في أهل بيتي كمثل نخلة في كناسة! ، ألا إن الله خلق خلقه
ففرقه فرقتين فجعلني في خير الفرقتين ، ثم فرق الفرقة ثلاث فرق ، شعوبا ، وقبائل ،
وبيوتا ، فجعلني في خيرها شعبا وخيرها قبيلة ، ثم جعلهم بيوتا ، فجعلني في خيرها
بيتا ، فذلك قوله : ( إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً
) ، فحصلت في أهل بيتي وعترتي ، و أنا وأخي علي بن أبي طالب (ع) ، ألا وإن الله نظر إلى أهل
الأرض نظرة فاختارني منهم ، ثم نظر نظرة فاختار عليا أخي ووزيري ووارثي ووصيي وخليفتي في
أمتي وولي كل مؤمن بعدي ، فبعثني رسولا ونبيا ودليلا ، وأوحى إلي أن أتخذ عليا
أخا ووليا ووصيا وخليفة في أمتي بعدي ، ألا وإنه ولي كل مؤمن بعدي ، من والاه
والاه الله ، ومن عاداه عاداه الله ، ومن أحبه أحبه الله ، ومن أبغضه أبغضه الله ،
لا يحبه إلا مؤمن ، ولا يبغضه إلا كافر ، هو رب الأرض بعدي وسكنها ـ وفي نسخة : هو زر الأرض بعدي وسكنها ـ وهو
كلمة التقوى ، وعروة الله الوثقى أتريدون أن تطفئوا نور الله بأفواهكم ( وَاللهُ
مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ
__________________
الْمُشْرِكُونَ
)؟! ـ وفي رواية أخرى : ( وَلَوْ كَرِهَ
الْكافِرُونَ ) ـ ويريد أعداء الله أن يطفئوا نور أخي ( وَيَأْبَى
اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ )
يا أيها الناس!
ليبلغ مقالتي شاهدهكم غائبكم ، اللهم اشهد عليهم.
أيها الناس! إن الله
نظر نظرة ثالثة فاختار منهم بعدي اثنا عشر وصيا من أهل بيتي ، وهم خيار أمتي ـ وفي نسخة أخرى :
فجعلهم خيار أمتي ـ منهم أحد عشر إماما بعد أخي ، واحدا بعد واحد ، كلما هلك
واحد قام واحد به ، مثلهم كمثل النجوم في السماء كلما غاب نجم طلع نجم ، لأنهم
أئمة هداة مهتدون ، لا يضرهم كيد من كادهم ولا خذلان من خذلهم ، بل يضر الله بذلك
من كادهم وخذلهم ، فهم حجة الله في أرضه وشهداؤه على خلقه ، من أطاعهم أطاع الله
ومن عصاهم عصى الله ، هم مع القرآن والقرآن معهم لا يفارقونه ولا يفارقهم حتى
يردوا علي حوضي ، أول الأئمة علي خيرهم ، ثم ابني الحسن ثم ابني الحسين (ع) ثم
تسعة من ولد الحسين ، وأمهم ابنتي فاطمة صلوات الله عليهم. ثم من بعدهم جعفر بن
أبي طالب ابن عمي وأخو أخي ، وعمي حمزة بن عبد المطلب.
أنا خير المرسلين
والنبيين ، وفاطمة ابنتي سيدة نساء أهل الجنة ، وعلي و بنوه الأوصياء
خير الوصيين ، وأهل بيتي خير أهل بيوتات النبيين ، وابناي سيدي شباب أهل الجنة.
أيها الناس! إن
شفاعتي تنال علوجكم ، أفتعجز عنها أهل بيتي ، ما
__________________
أحد ولده جدي عبد
المطلب يلقى الله موحدا لا يشرك به شيئا إلا أدخله الجنة ، ولو كان فيه من الذنوب
عدد الحصى وزبد البحر.
أيها الناس! عظموا
أهل بيتي في حياتي ومن بعدي وأكرموهم وفضلوهم ، فإنه لا يحل لأحد أن يقوم من مجلسه
لأحد إلا لأهل بيتي ـ وفي نسخة أخرى : أيها الناس! عظموا أهل بيتي
في حياتي وبعد موتي ـ ، إني لو قد أخذت بحلقة باب الجنة ثم تجلى لي ربي فسجدت وأذن لي
بالشفاعة لم أوثر على أهل بيتي أحدا.
أيها الناس!
انسبوني من أنا؟. فقام رجل من الأنصار ، فقال ـ وفي رواية أخرى : فقامت الأنصار ،
فقالت ـ : نعوذ بالله من غضب الله ومن غضب رسوله ، أخبرنا ـ يا رسول الله ـ من
الذي آذاك في أهل بيتك حتى نضرب عنقه؟ ـ وفي رواية أخرى : حتى نقتله ونبير عترته ـ.
فقال : انسبوني!
أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم .. ـ حتى انتسب إلى نزار ، ثم مضى في
نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم خليل الله ـ.
ثم قال : إني وأهل
بيتي لطينة من تحت العرش ، إلى آدم نكاح غير سفاح لم يخالطنا نكاح الجاهلية ،
فاسألوني ، فو الله لا يسألني رجل عن أبيه وعن أمه وعن نسبه إلا أخبرته به.
فقام رجل ، فقال :
من أبي؟. فقال : أبوك فلان الذي تدعى إليه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :
والله لو نسبتني إلى غيره لرضيت وسلمت. ثم قام رجل آخر ، فقال : من
أبي؟. فقال : أبوك فلان ـ لغير أبيه الذي يدعى إليه ـ فارتد عن الإسلام ، ثم قام
رجل آخر ، فقال : أمن أهل الجنة أنا أم من أهل النار؟.
__________________
فقال : من أهل
الجنة ، ثم قام رجل آخر ، فقال : أمن أهل الجنة أنا أم من أهل النار؟. فقال : من
أهل النار.
ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ وهو مغضب ـ : ما يمنع الذي عير أهل بيتي وأخي ووزيري ووصيي وخليفتي في أمتي
وولي كل مؤمن بعدي أن يقوم فيسألني من أبوه ، وأين هو في الجنة أم في النار؟.
فقام عمر بن
الخطاب ، فقال : أعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله ، أعف عنا يا رسول الله عفا
الله عنك ، أقلنا أقالك الله ، استرنا سترك الله ، اصفح عنا صلى الله عليك ..
فاستحى رسول الله صلىاللهعليهوآله وكف.
وهو صاحب العباس الذي
بعثه رسول الله صلىاللهعليهوآله ساعيا فرجع وقال : إن العباس قد منع صدقة ماله ، فغضب رسول
الله صلىاللهعليهوآله ، وقال : الحمد لله الذي عافانا أهل البيت من شر ما
يلطخونا به ، إن العباس لم يمنع صدقة ماله ولكنك عجلت عليه ، وقد عجل زكاة سنين ثم
أتاني بعد يطلب أن أمشي معه إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله ليرضى عنه ، ففعلت.
وهو صاحب عبد الله
بن أبي سلول حين تقدم رسول الله صلىاللهعليهوآله ليصلي عليه فأخذ بثوبه من ورائه ، وقال : لقد نهاك الله أن
تصلي عليه ولا يحل لك أن تصلي عليه ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآله : إنما صليت عليه كرامة لابنه ، وإني لأرجو أن يسلم به
سبعون رجلا من بني أبيه وأهل بيته ، وما يدريك ما قلت ، إنما دعوت الله عليه.
وهو صاحب رسول
الله صلىاللهعليهوآله يوم الحديبية حين كتب القضية إذ قال : أنعطي الدنية في
ديننا .. ثم جعل يطوف في عسكر رسول الله صلى الله
__________________
عليه وآله يحرضهم ويقول : أنعطي
الدنية في ديننا؟! فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : أفرجوا عني ، أتريدون أن أغدر بذمتي؟! ـ وفي رواية أخرى
: أخرجوه عني ، أتريد أن أخفر ذمتي ولا أفي لهم بما كتبت لهم ـ ، خذ ـ يا سهيل! ـ ابنك
جندلا ، فأخذه فشده وثاقا في الحديد ، ثم جعل الله عاقبة رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى الخير والرشد والهدى والعزة والفضل.
وهو صاحب يوم غدير
خم إذ قال هو وصاحبه حين نصبني رسول الله صلىاللهعليهوآله لولايتي ، فقال : ما يألو أن ترفع خسيسته ، وقال
الآخر : ما يألو رفعا بضبع ابن عمه ، وقال لصاحبه ـ وأنا منصوب ـ : إن هذه لهي
الكرامة ، فقطب صاحبه في وجهه ، وقال : لا والله ، ما أسمع ولا أطيع أبدا ، ثم
اتكأ عليه ثم تمطى وانصرفا ، فأنزل الله فيه : ( فَلا صَدَّقَ وَلا
صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أَوْلى
لَكَ فَأَوْلى ) وعيدا من الله له .
وهو الذي دخل علي
مع رسول الله صلىاللهعليهوآله يعودني في رهط من أصحابه حين غمزه صاحبه ، فقال : يا رسول
الله (ص) إنك قد كنت عهدت إلينا في علي عهدا وإني لأراه لما به ، فإن هلك فإلى من؟.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : اجلس ... فأعادها ثلاث مرات ، فأقبل عليهما رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال : إنه لا يموت في مرضه هذا ، ولا يموت حتى تملياه غيظا وتوسعاه غدرا
وظلما ، ثم تجداه صابرا قواما ، ولا يموت حتى يلقى منكما هنات وهنات ، ولا يموت
إلا شهيدا مقتولا.
وأعظم من ذلك كله
أن رسول الله صلىاللهعليهوآله جمع ثمانين رجلا ،
__________________
أربعين من العرب
وأربعين من العجم ـ وهما فيهم ـ فسلموا علي بإمرة المؤمنين ، ثم قال : أشهدكم أن عليا أخي ووزيري
ووارثي وخليفتي في أمتي ووصيي وولي كل مؤمن من بعدي ، فاسمعوا له وأطيعوا ، وفيهم أبو بكر وعمر وعثمان
وطلحة والزبير وسعد وابن عوف وأبو عبيدة وسالم ومعاذ بن جبل ورهط من الأنصار ، ثم
قال : إني أشهد الله عليكم.
ثم أقبل على القوم ، فقال :
سبحان الله! ما أشربت قلوب هذه الأمة من بليتها وفتنتها من عجلها وسامريها ، إنهم
أقروا وادعوا أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : لا يجمع الله لنا أهل البيت النبوة والخلافة ، وقد
قال لأولئك الثمانين رجلا : سلموا على علي بإمرة المؤمنين ، وأشهدكم على ما أشهدهم
عليه أنهم أقروا أن رسول الله صلىاللهعليهوآله لم يستخلف أحدا ، وأنهم أقروا بالشورى ، ثم أقروا أنهم لم
يشاوروا وأن بيعته كانت فلتة ، وأي ذنب أعظم من الفلتة ، ثم استخلف أبو بكر عمر
ولم يقتد برسول الله صلىاللهعليهوآله فيدعهم بغير استخلاف ، طعنا منه على رسول الله صلىاللهعليهوآله ورغبة عن رأيه ، ثم صنع عمر شيئا ثالثا لم يدعهم على ما
ادعى أن رسول الله صلىاللهعليهوآله لم يستخلف ، ولم يستخلف كما استخلف أبو
بكر ، وجاء بشيء ثالث
__________________
جعلها شورى بين
ستة نفر ، وأخرج منها جميع العرب ، ثم حطني بذلك عند العامة فجعلهم مع ما أشربت قلوبهم من الفتنة
والضلالة أقراني ، ثم بايع ابن عوف عثمان فبايعوه ، وقد سمعوا من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في عثمان ما سمعوا من لعنه إياه في غير موطن ، فعثمان ـ على ما كان عليه ـ خير
منهما ، ولقد قال منذ أيام قولا رققت له وأعجبتني مقالته ، بينما أنا قاعد عنده في بيته إذ أتته
عائشة وحفصة تطلبان ميراثهما من ضياع أموال رسول الله صلىاللهعليهوآله التي في يديه ، فقال : ولا كرامة ، لكن أجيز شهادتكما على أنفسكما ، فإنكما شهدتما عند
أبويكما أنكما سمعتما من رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : إن النبي (ص) لا يورث ما ترك فهو صدقة ، ثم لقنتما أعرابيا جلفا يبول
على عقبيه يتطهر ببوله ـ مالك بن الحرث بن الحدثان ـ فشهد معكما ، لا من أصحاب
رسول الله صلىاللهعليهوآله ولا من الأنصار أحد شهد بذلك غير أعرابي ، أما والله ما
أشك في أنه قد كذب على رسول الله صلىاللهعليهوآله وكذبتما عليه معه ، فانصرفتا من عنده تبكيان وتشتمانه ،
فقال : ارجعا ، ثم قال : أشهدتما بذلك عند أبي بكر؟!. قالتا : نعم. قال : فإن شهدتما بحق فلا حق
لكما ، وإن كنتما شهدتما بباطل فعليكما وعلى من أجاز شهادتكما على أهل هذا البيت ( لَعْنَةُ
اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) قال : ثم نظر إلي
فتبسم وقال : يا أبا الحسن! شفيتك منهما؟. قلت : نعم والله وأبلغت ، وقلت حقا ،
فلا يرغم الله إلا بأنفيهما ، فرققت لعثمان
__________________
وعلمت أنه أراد
بذلك رضاي ، وأنه أقرب منهما رحما وإن كان لا عذر له ولا حجة بتأمره علينا وادعائه حقنا.
توضيح :
قال الجوهري :
الأدمة في الإبل : البياض الشديد ، يقال : بعير آدم وناقة أدماء ، والجمع أدم ..
ويقال : هو الأبيض الأسود المقلتين .. ، والأدم : الألفة والاتفاق ، وفي بعض النسخ
: الأدم الحمر ـ بالحاء المهملة بدون الواو ـ.
قوله : بصفر عيابه
.. العياب : جمع العيبة .. أي ليست صناديقه خالية من تلك الأموال.
والبيض : جمع
الأبيض ، والبيضة من الحديد وغيره .
والدمى : جمع
الدمية بضمها ، وهو الصنم والصورة من العاج ونحوه .
والرماح الخطية :
مشهورة .
والريطة : الثوب
الناعم اللين .
وذكر القراب لأنها
لجودتها يجعل في مثل القراب ، وفي بعض النسخ :جرابها.
والأبراد جمع
البرد .. أي برود صفر طويلة.
__________________
والداري : العطار .
والدراك ـ بكسر
الدال ـ : المداركة .. أي مداركة إسراع الخيل والإبل في الغارات.
والسمر : ـ جمع
الأسمر ـ : وهو الرمح .
ودرع سابغة : تامة
طويلة .
واللبان ـ بالفتح
ـ : الصدر أو وسطه أو ما بين الثديين .. أي حال كوني لابسا درعا طويلة تستر صدر الفرس الذي أنا
راكبه فضول تلك الدرع وزوائدها.
وفي بعض النسخ :
اللباد : ـ جمع لبدة السرج ـ.
ويقال : كفكفه عنه
.. أي صرفه ودفعه ، والضمير راجع إلى السمر.
قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : علوجكم .. أي من أسلم من كفار العجم ، وفيه نسخ أخرى : مشتبهة ، وقد مر أن في النهاية : حاوكم
، وهو الصواب.
قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما يلطخونا به. اللطخ : التسويد وإفساد الكتابة واللطخ بالعذرة .
__________________
قوله : ما يألو ..
أي ما يقصر ، يقال : آلى الرجل وألى : إذا قصر وترك الجهد ، قال تعالى : ( لا
يَأْلُونَكُمْ خَبالاً ) .
والخسيسة والخساسة
: الحالة التي يكون عليها الخسيس ، يقال : رفعت خسيسته ، ومن خسيسته : إذا فعلت به
فعلا يكون فيه رفعته ، ذكره في النهاية .
وقال : الضبع ـ بسكون
الباء ـ : وسط العضد ، وقيل هو ما تحت الإبط .
وقال البيضاوي : (
يَتَمَطَّى ) .. أي يتبختر افتخارا بذلك ـ من المط ـ ، فإن المتبختر يمد
خطاه فيكون أصله يتمطط ، أو من المطا وهو الظهر ، فإنه يلويه.
( أَوْلى لَكَ فَأَوْلى
). ويل لك ـ من الولي ـ وأصله : أولاك الله ما تكرهه ، واللام مزيدة كما في ( رَدِفَ
لَكُمْ ) ، أو أولى لك الهلاك ، وقيل : أفعل من الويل بعد القلب
كأدنى ـ من دون ـ ، أو فعل من آل يئول بمعنى عقباك النار.
قوله عليهالسلام : على ما أشهدهم .. أي على نحو ما أشهدهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وفي بعض النسخ : وأشهدهم على ما أشهدهم عليه .. أي كيف يدعون على الرسول
أنه بعد ما أمر ثمانين رجلا بالتسليم عليه بإمرة المؤمنين قال : ما ادعوا أنه
أشهدهم عليه وهما متناقضان؟! ، فيكون قوله : إنهم أقروا .. استئناف كلام آخر لبيان
التناقض في أقوالهم وأفعالهم.
__________________
أقول
: سيأتي تفاصيل
البدع المذكورة في الخبر.
ثم إن ظاهر صدر
الخبر كون هذا الكلام في خلافة عمر ، وقوله : ثم صنع عمر شيئا ثالثا .. إلى آخره
يدل على أنه كان في خلافة عثمان أو بعده ، ولعل سليما سمع هذا الكلام منه عليهالسلام في مقام آخر فألحقه بهذا الكلام.
١٥٣
ـ كتاب سليم بن قيس : عن أبان ، عن سليم ، قال : سمعت علي بن أبي طالب عليهالسلام يقول ـ قبل وقعة صفين ـ : إن هؤلاء القوم لن ينيبوا إلى الحق ولا إلى كلمة
سواء بيننا وبينهم حتى يرامونا بالعساكر تتبعها العساكر ، وحتى يردفونا بالكتائب تتبعها
الكتائب ، وحتى يجر ببلادهم الخميس تتبعها الخميس ، وحتى ترعى الخيول بنواحي
أرضهم وتنزل عن مسالحهم ، وحتى يشن الغارات عليهم من كل فج ، وحتى يلقاهم قوم صدق صبر لا
يزيدهم هلاك من هلك من قتلاهم وموتاهم في سبيل الله إلا جدا في طاعة الله ، والله لقد رأيتنا مع
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم نقتل آباءنا وأبناءنا وأخوالنا وأعمامنا وأهل بيوتنا ثم لا يزيدنا ذلك
إلا إيمانا وتسليما وجدا في طاعة الله ، واستقلالا بمبارزة الأقران ، وإن كان
الرجل منا والرجل من عدونا ليتصاولان تصاول الفحلين يتخالسان أنفسهما أيهما يسقي
صاحبه كأس الموت ، فمرة لنا من عدونا ، ومرة لعدونا منا ، فلما رأى الله منا صدقا
وصبرا أنزل الكتاب بحسن الثناء علينا والرضا عنا ، وأنزل علينا النصر ، ولست أقول
إن كل من كان مع رسول الله
__________________
صلىاللهعليهوآله كذلك ، ولقد كانت معنا بطانة لا يألونا خبالا ، قال الله عز
وجل : ( قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ
وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ) ولقد كان منهم بعض من تفضله أنت وأصحابك ـ يا ابن قيس ـ ،
فارين ، فلا رمى بسهم ، ولا ضرب بسيف ، ولا طعن برمح ، إذا كان الموت والنزال
توارى واعتل ولاذ كما تلوذ النعجة العوراء لا يدفع يد لامس ، وإذا
ألقى العدو فر ومنح العدو دبره جبنا ولؤما ، وإذا كان عند الرخاء والغنيمة تكلم
كما قال الله : ( سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً
عَلَى الْخَيْرِ ) فلا يزال قد استأذن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في ضرب عنق الرجل الذي ليس يريد رسول الله صلىاللهعليهوآله قتله ، فأبى عليه ، ولقد نظر رسول الله صلىاللهعليهوآله يوما وعليه السلاح تام ، فضحك رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ثم قال يكنيه : أبا فلان اليوم يومك؟.
فقال الأشعث : ما
أعلمني من تعني! إن ذلك يفر منه الشيطان.
قال : يا ابن قيس!
لا آمن الله روعة الشيطان إذا قال.
ثم قال : ولو كنا
حين كنا مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقضينا الشدائد والأذى والبأس فعلنا كما تفعلون اليوم لما قام لله
دين ، ولا أعز الله
__________________
الإسلام ، وايم
الله لتحلبنها دما وندما وحيرة ، فاحفظوا ما أقول لكم واذكروه ، فليسلطن عليكم شراركم
والأدعياء منكم والطلقاء والطرداء والمنافقون فليقتلنكم ، ثم لتدعن الله فلا
يستجيب لكم ، ولا يدفع البلاء عنكم حتى تتوبوا وترجعوا ، فإن تتوبوا وترجعوا
فيستنقذكم الله من فتنتهم وضلالتهم كما استنقذكم من شرككم وجهالتكم ، إن
العجب كل العجب من جهال هذه الأمة وضلالها وقادتها وساقتها إلى النار ، إنهم قد
سمعوا رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول ـ عودا وبدءا ـ : ما ولت أمة رجلا قط أمرها وفيهم
أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا إلى ما تركوا ، فولوا أمرهم قبلي
ثلاثة رهط ما منهم رجل جمع القرآن ، ولا يدعي أن له علما بكتاب الله ولا سنة نبيه (ص)
، وقد علموا أني أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه صلىاللهعليهوآله وأفقههم وأقرؤهم بكتاب الله وأقضاهم بحكم الله ، وأنه ليس رجل من الثلاثة له
سابقة مع رسول الله صلىاللهعليهوآله ولا عناء معه في جميع مشاهده ، فرمى بسهم ، ولا طعن برمح ،
ولا ضرب بسيف جبنا ولؤما ورغبة في البقاء ، وقد علموا أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قد قاتل بنفسه فقتل أبي بن خلف ، وقتل مسجع بن عوف ـ وكان من أشجع الناس
وأشدهم لقاء ، وأحقهم بذلك ـ وقد علموا يقينا أنه لم يكن فيهم أحد يقوم مقامي ولا
يبارز الأبطال ويفتح الحصون غيري ، ولا نزلت برسول الله صلىاللهعليهوآله شديدة قط ولا كربه أمر ولا ضيق ولا مستضعف [ مستصعب ] من الأمر إلا قال
: أين أخي علي؟ أين سيفي؟ أين رمحي؟ أين المفرج عني عن وجهي؟
__________________
فيقدمني فأتقدم
فأقيه بنفسي ويكشف الله بيدي الكرب عن وجهه ، ولله عز وجل ولرسوله صلىاللهعليهوآله بذلك المن والطول حيث خصني بذلك ووفقني له ، وإن بعض من قد سميت ما كان له
بلاء ولا سابقة ولا مبارزة قرن ، ولا فتح ولا نصر غير مرة واحدة ثم فر ومنح عدوه
دبره ورجع يجبن أصحابه ويجبنونه ، وقد فر مرارا ، فإذا كان عند الرخاء والغنيمة
تكلم وأمر ونهى ، ولقد ناداه ابن عبد ود يوم الخندق باسمه فحاد عنه ولاذ بأصحابه حتى
تبسم رسول الله صلىاللهعليهوآله لما رأى به من الرعب ، وقال : أين حبيبي علي؟ تقدم يا حبيبي يا علي
، ولقد قال لأصحابه الأربعة ـ أصحاب الكتاب ـ : الرأي ـ والله ـ أن
يدفع [ ندفع ] محمدا برمته ونسلم من ذلك حين جاء العدو من فوقنا ومن تحتنا كما قال
الله تعالى : ( وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً ) (
وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ) ( وَإِذْ يَقُولُ
الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ
إِلاَّ غُرُوراً ) ، فقال صاحبه : لا ،
__________________
ولكن نتخذ صنما
عظيما نعبده ، لأنا لا نأمن أن يظفر ابن أبي كبشة فيكون هلاكنا ، ولكن يكون هذا الصنم
لنا زخرا ، فإن ظفرت قريش أظهرنا عبادة هذا الصنم وأعلمناهم أنا لن
نفارق ديننا ، وإن رجعت دولة ابن أبي كبشة كنا مقيمين على عبادة هذا الصنم سرا ،
فنزل جبرئيل عليهالسلام فأخبر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بذلك ، ثم خبرني به رسول الله صلىاللهعليهوآله بعد قتلي ابن عبد ود ، فدعاهما ، فقال : كم صنما عبدتما في الجاهلية؟.
فقالا : يا محمد!
لا تعيرنا بما مضى في الجاهلية.
فقال : فكم صنم تعبدان وقتكما
هذا ؟.
فقالا : والذي
بعثك بالحق نبيا ما نعبد إلا الله منذ أظهرنا لك من دينك ما
أظهرنا.
فقال : يا علي! خذ
هذا السيف ، فانطلق إلى موضع كذا .. وكذا فاستخرج الصنم الذي يعبدانه فاهشمه ، فإن حال بينك
وبينه أحد فاضرب عنقه ، فانكبا على رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقالا : استرنا سترك الله.
فقلت أنا لهما :
اضمنا لله ولرسوله ألا تعبدا إلا الله ولا تشركا به شيئا. فعاهدا رسول الله صلىاللهعليهوآله على ذلك ، وانطلقت حتى استخرجت الصنم من موضعه وكسرت وجهه ويديه
وجزمت رجليه ، ثم انصرفت إلى رسول
__________________
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فو الله لقد عرفت ذلك في وجههما حتى ماتا ، ثم انطلق هو وأصحابه حين قبض
رسول الله صلىاللهعليهوآله فخاصموا الأنصار بحقي ، فإن كانوا صدقوا واحتجوا بحق أنهم
أولى من الأنصار لأنهم من قريش ورسول الله صلىاللهعليهوآله من قريش ، فمن كان أولى برسول الله (ص) كان أولى بالأمر؟!
وإنما ظلموني حقي.
وإن كانوا احتجوا
بباطل فقد ظلموا الأنصار حقهم ، والله يحكم بيننا وبين من ظلمنا وحمل الناس على
رقابنا.
والعجب لما قد
أشربت قلوب هذه الأمة من حبهم وحب من صدقهم وصدهم عن سبيل ربهم وردهم عن دينهم ، والله لو أن هذه
الأمة قامت على أرجلها على التراب ، والرماد واضعة على رءوسها ، وتضرعت ودعت إلى يوم
القيامة على من أضلهم ، وصدهم عن سبيل الله ، ودعاهم إلى النار ، وعرضهم لسخط ربهم
، وأوجب عليهم عذابه بما أجرموا إليهم لكانوا مقصرين في ذلك ، وذلك أن المحق
الصادق والعالم بالله ورسوله يتخوفان إن غيرا شيئا من بدعهم وسننهم وأحداثهم عادية العامة ، ومتى
فعل شاقوه وخالفوه وتبرءوا منه وخذلوه وتفرقوا عن حقه ، وإن أخذ ببدعهم وأقر بها
وزينها ودان بها أحبته وشرفته وفضلته ، والله لو ناديت في عسكري
هذا بالحق الذي أنزل الله على نبيه وأظهرته ودعوت إليه وشرحته وفسرته على ما سمعت
من نبي الله عليه وآله السلام فيه ، ما
__________________
بقي فيه إلا أقله
وأذله وأرذله ، ولاستوحشوا منه ، ولتفرقوا مني ، ولو لا ما عاهد رسول الله صلىاللهعليهوآله إلي وسمعته منه ، وتقدم إلي فيه لفعلت ، ولكن رسول الله صلىاللهعليهوآله قد قال : كل ما اضطر إليه العبد فقد أحله الله له وأباحه إياه ،
وسمعته يقول : إن التقية من دين الله ، ولا دين لمن لا تقية له ، ثم أقبل علي ،
فقال : أدفعهم بالراح دفعا عني ، ثلثان من حي وثلث مني ، فإن عوضني ربي فأعذرني.
إيضاح :
أقول
: روى ابن ميثم بعض الخطبة ،
وفيه : حتى يرموا بالمناسر تتبعها العساكر ، وحتى يرجموا بالكتائب تقفوها الجلائب ، وحتى يجر
ببلادهم الخميس يتلوه الخميس ، وحتى تدعق الخيول في نواحي أرضهم وبأحناء
مشاربهم ومسارحهم ، وبعد قوله : في طاعة الله : وحرصا على لقاء
الله.
وروى في النهج
أيضا بأدنى اختلاف .
قوله عليهالسلام : ( إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ ). أي عادلة أو مشتركة
بيننا وبينهم.
__________________
والمنسر : خيل من
المائة إلى المائتين ، ويقال : هو الجيش ما يمر بشيء إلا اقتلعه .
والجلائب : الإبل
التي تجلب إلى الرجل النازل على الماء ليس له ما يحمل عليه فيحملونه عليها ، ولا يبعد أن
يكون بالنون .
والخميس : الجيش .
وقال الجوهري : دعق الطريق فهو
مدعوق .. أي كثر عليه الوطء ، ودعقته الدواب : أثرت فيه.
والأحناء :
الجوانب .
والمسارح : مواضع
سرح الدواب ، والمسالح : الثغور والمراقب .
قوله عليهالسلام : لقد رأيتنا .. في النهج : ولقد كنا مع رسول الله صلىاللهعليهوآله نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا ، ما يزيدنا ذلك
إلا إيمانا وتسليما ومضيا على اللقم ، وصبرا على مضض الألم ، وجدا في جهاد العدو ،
ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين ، يتخالسان أنفسهما
أيهما يسقي صاحبه كأس المنون ، فمرة لنا من عدونا ، ومرة لعدونا منا ، فلما رأى
الله صدقنا
__________________
أنزل بعدونا الكبت
، وأنزل علينا النصر ، حتى استقر الإسلام ملقيا جرانه ، ومتبوئا أوطانه ، ولعمري
لو كنا نأتي ما أتيتم ما قام للدين عمود ، ولا اخضر للإيمان عود ، وايم الله
لتحتلبنها دما ولتتبعنها ندما.
والشن : الصب
والتفريق ، وشن الغارات : تفريقها عليهم من كل ناحية .
واللقم : منهج
الطريق .
والمضض : حرقة
الألم .
والتصاول : أن يحمل
كل من القرينين على صاحبه .
والتخالس :
التسالب .. أي ينتهز كل منهما فرصة صاحبه .
والمنون : الموت .
والكبت : الإذلال
والصرف .
والجران : مقدم
عنق البعير من منخره إلى مذبحه ، كناية عن استقراره في قلوب عباد الله كالبعير الذي أخذ
مكانه واستقر فيه.
ويقال : تبوأ وطنه
.. أي سكن فيه ، شبه عليهالسلام الإسلام بالرجل
__________________
الخائف المتزلزل
الذي استقر في وطنه بعد خوفه.
قوله عليهالسلام : لتحتلبنها .. الضمير مبهم يرجع إلى أفعالهم ، شبهها بالناقة التي أصيب
ضرعها بآفة من تفريط صاحبها فيها ، ولعل المقصود عدم انتفاعهم بتلك الأفعال عاجلا
وآجلا.
والبطانة :
الوليجة : وهو الذي يعرفه الرجل أسراره ثقة به .
لا يألونا خبالا
.. أي لا يقصرون لنا في الفساد ، والألو : التقصير .
( قَدْ بَدَتِ
الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ ). أي في كلامهم ، لأنهم لا يملكون من أنفسهم لفرط بغضهم ، ( وَما
تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ) مما بدا ، لأن بدوه ليس عن روية واختيار.
قوله عليهالسلام : ( سَلَقُوكُمْ ). أي ضربوكم
وآذوكم « ( بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ ) » :ذربة يطلبون الغنيمة.
والسلق : البسط
بقهر باليد أو باللسان.
قوله عليهالسلام : يكنيه .. أي ناداه بالكنية ، فقال : يا أبا حفص ، فقال الأشعث : أنا أعرف
أنك تعني عمر ، وهو الذي قال فيه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : إن الشيطان يفر منه ، فقال عليهالسلام استهزاء وتكذيبا للخبر الموضوع : ما آمن الله روعة الشيطان
إذا كان يفر من مثل عمر.
__________________
ويقال : كربه الغم
.. أي اشتد عليه .
والجذم : القطع .
قوله عليهالسلام : لقد عرفت ذلك .. أي أثر البغض والعداوة لذلك الأمر.
١٥٤
ـ كنز : قوله تعالى : ( عَلِمَتْ
نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ) قال علي بن إبراهيم : نزلت في الثاني ، يعني
ما قدمت من ولاية أبي فلان ومن ولاية نفسه وما أخرت من ولاة الأمر من بعده ... إلى قوله : ( بَلْ
تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ) ، قال : الولاية .
١٥٥
ـ كنز : روي عن عمر بن
أذينة ، عن معروف بن خربوذ ، قال : قال لي أبو جعفر عليهالسلام : يا ابن خربوذ ! أتدري ما تأويل هذه الآية : ( فَيَوْمَئِذٍ لا
يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ ) ؟!. قلت : لا. قال : ذلك الثاني ،
__________________
لا يعذب الله يوم
القيامة عذابه أحدا ..
١٥٦
ـ كتاب المحتضر : عن أبان بن أبي عياش ، عن سليم بن قيس الهلالي ، عن أمير المؤمنين عليهالسلام ـ في حديث طويل ـ : ولقد قال لأصحابه الأربعة ـ أصحاب الكتاب ـ : الرأي ـ والله
ـ أن ندفع محمدا برمته ونسلم ، وذلك حين جاء العدو من فوقنا ومن تحتنا ، كما قال
الله تعالى : ( وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً وَتَظُنُّونَ
بِاللهِ الظُّنُونَا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً ) . فقال صاحبه :
ولكن نتخذ صنما عظيما فنعبده لأنا لا نأمن من أن يظفر ابن أبي كبشة فيكون هلاكنا ،
ولكن يكون هذا الصنم لنا زخرا فإن ظفرت قريش أظهرنا عبادة هذا الصنم وأعلمناهم أنا كنا لم نفارق
ديننا ، وإن رجعت دولة ابن أبي كبشة كنا مقيمين على عبادة هذا الصنم سرا ، فنزل
جبرئيل عليهالسلام فأخبر النبي صلىاللهعليهوآله ، ثم خبرني رسول الله صلىاللهعليهوآله به بعد قتلي ابن عبد ود ، فدعاهما ، وقال : كم صنما عبدتما
في الجاهلية؟!.
فقالا : يا محمد!
لا تعيرنا بما مضى في الجاهلية.
فقال : كم صنما
تعبدان يومكما هذا؟.
فقالا : والذي
بعثك بالحق نبيا ما نعبد إلا الله منذ أظهرنا لك من دينك ما أظهرنا.
__________________
فقال : يا علي! خذ هذا
السيف فانطلق إلى موضع كذا .. وكذا فاستخرج الصنم الذي يعبدانه فاهشمه ، فإن حال
بينك وبينه أحد فاضرب عنقه ، فانكبا على رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقالا : استرنا سترك الله.
فقلت أنا لهما :
اضمنا لله ولرسوله أن لا تعبدا إلا الله ولا تشركا به شيئا.
فعاهدا رسول الله صلىاللهعليهوآله على ذلك ، وانطلقت حتى استخرجت الصنم فكسرت وجهه ويديه وجزمت رجليه ، ثم
انصرفت إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فو الله لقد عرف ذلك في وجوههما علي حتى ماتا .. وساق الحديث
إلى آخره.
١٥٧ ـ قال : وذكر بعض
العلماء في كتابه ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : إن أمير المؤمنين عليهالسلام كان يخرج في كل جمعة إلى ظاهر المدينة ولا يعلم أحدا أين يمضي ، قال :
فبقي على ذلك برهة من الزمان ، فلما كان في بعض الليالي ، قال عمر بن الخطاب :
لا بد من أن أخرج وأبصر أين يمضي علي بن أبي طالب (ع) ، قال : فقعد له عند باب
المدينة حتى خرج ومضى على عادته ، فتبعه عمر ـ وكان كلما وضع علي عليهالسلام قدمه في موضع وضع عمر رجله مكانها ـ فما كان إلا قليلا حتى وصل إلى بلدة
عظيمة ذات نخل وشجر ومياه غزيرة ، ثم إن أمير المؤمنين عليهالسلام دخل إلى حديقة بها ماء جار فتوضأ ووقف بين النخل يصلي إلى أن مضى من الليل
أكثره ، وأما عمر فإنه نام فلما قضى
__________________
أمير المؤمنين عليهالسلام وطره من الصلاة عاد ورجع إلى المدينة حتى وقف خلف رسول الله صلىاللهعليهوآله وصلى معه الفجر ، فانتبه عمر فلم يجد أمير المؤمنين عليهالسلام في موضعه ، فلما أصبح رأى موضعا لا يعرفه وقوما لا يعرفهم ولا يعرفونه ، فوقف
على رجل منهم ، فقال له الرجل : من أين أنت ؟ ومن أين أتيت؟.
فقال عمر : من يثرب مدينة
رسول الله (ص).
فقال الرجل : يا
شيخ ! تأمل أمرك وأبصر ما تقول؟.
فقال : هذا الذي
أقوله لك.
قال الرجل : متى
خرجت من المدينة؟.
قال : البارحة.
قال له : اسكت ،
لا يسمع الناس منك هذا فتقتل أو يقولون هذا مجنون.
فقال : الذي أقول
حق.
فقال له الرجل :
حدثني كيف حالك ومجيئك إلى هاهنا؟!.
فقال عمر : كان
علي بن أبي طالب في كل ليلة جمعة يخرج من المدينة ولا نعلم أين يمضي ، فلما كان في
هذه الليلة تبعته وقلت أريد أن أبصر أين يمضي ، فوصلنا إلى هاهنا ، فوقف يصلي ونمت
ولا أدري ما صنع؟.
فقال له الرجل :
ادخل هذه المدينة وأبصر الناس واقطع أيامك إلى ليلة الجمعة فما لك من يحملك إلى
موضع الذي جئت منه إلا الرجل الذي جاء
__________________
بك ، فبيننا وبين
المدينة أزيد من مسيرة سنتين ، فإذا رأينا من يرى المدينة ورأى رسول الله صلىاللهعليهوآله نتبرك به ونزوره ، وفي الأحيان نرى من أتى بك فنقول أنت قد جئت في بعض ليلة من المدينة ، فدخل
عمر إلى المدينة فرأى الناس كلهم يلعنون ظالمي أهل بيت محمد صلىاللهعليهوآله ويسموهم [ يسمونهم ] بأسمائهم واحدا واحدا ، وكل صاحب صناعة يقول كذلك وهو
على صناعته ، فلما سمع عمر ذلك ضاقت عليه الأرض بما رحبت وطالت عليه الأيام حتى
جاء ليلة الجمعة ، فمضى إلى ذلك المكان فوصل أمير المؤمنين عليهالسلام إليه عادته ، فكان عمر يترقبه حتى مضى معظم الليل وفرغ من صلاته
وهم بالرجوع فتبعه عمر حتى وصلا الفجر المدينة ، فدخل أمير المؤمنين عليهالسلام المسجد وصلى خلف رسول الله صلىاللهعليهوآله وصلى عمر أيضا ، ثم التفت النبي صلىاللهعليهوآله إلى عمر ، فقال : يا عمر! أين كنت أسبوعا لا نراك عندنا؟! فقال عمر : يا رسول
الله (ص)! كان من شأني .. كذا وكذا ، وقص عليه ما جرى له ، فقال النبي صلىاللهعليهوآله : لا تنس ما شاهدت بنظرك ، فلما سأله من سأله عن ذلك ، فقال : نفذ في سحر بني
هاشم.
أقول: هذا حديث غريب لم أره إلا في الكتاب المذكور.
١٥٨
ـ كشف الحق للعلامة الحلي رحمهالله : روى الحافظ محمد بن
__________________
موسى الشيرازي في
كتابه الذي استخرجه من التفاسير الاثني عشر : تفسير أبي يوسف يعقوب
بن سفيان ، وتفسير ابن جريح ، وتفسير مقاتل بن سليمان ، وتفسير وكيع بن جراح ،
وتفسير يوسف بن موسى القطان ، وتفسير قتادة ، وتفسير أبي عبيدة القاسم بن سلام ،
وتفسير علي بن حرب الطائي ، وتفسير السدي ، وتفسير مجاهد ، وتفسير مقاتل بن حيان ،
وتفسير أبي صالح ، وكلهم من الجماهرة ، عن أنس بن مالك ، قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلىاللهعليهوآله فتذاكرنا رجلا يصلي ويصوم ويتصدق ويزكي ، فقال لنا رسول الله صلىاللهعليهوآله : لا أعرفه .. فقلنا : يا رسول الله! إنه عبد الله ويسبحه ويقدسه
ويوحده.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لا أعرفه ، فبينا نحن في ذكر الرجل إذ قد طلع علينا ،
فقلنا : هو ذا ، فنظر إليه رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقال لأبي بكر : خذ سيفي هذا وامض إلى هذا الرجل فاضرب عنقه ، فإنه أول
من يأتيه من حزب الشيطان ..
فدخل أبو بكر
المسجد فرآه راكعا ، فقال : والله لا أقتله ، فإن رسول الله (ص) نهانا عن قتل المصلين ، فرجع
إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقال :يا رسول الله! إني رأيته يصلي.
__________________
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : اجلس ، فلست بصاحبه ، قم يا عمر! و خذ سيفي من يد أبي بكر وادخل المسجد فاضرب عنقه ، قال عمر :فأخذت
السيف من أبي بكر ودخلت المسجد فرأيت الرجل ساجدا ، فقلت : والله لا أقتله فقد
استأمنه من هو خير مني ، فرجعت إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقلت : يا رسول الله إني رأيت الرجل ساجدا.
فقال : يا عمر!
اجلس فلست بصاحبه ، قم يا علي فإنك أنت قاتله ، إن وجدته فاقتله ، فإنك إن قتلته
لم يقع بين أمتي اختلاف أبدا.
قال علي عليهالسلام : فأخذت السيف ودخلت المسجد فلم أره ، فرجعت إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقلت : يا رسول الله (ص)! ما رأيته.
فقال : يا أبا
الحسن! إن أمة موسى افترقت إحدى وسبعين فرقة ، فرقة ناجية والباقون في النار ، وإن
أمة عيسى (ع) افترقت اثنتين وسبعين فرقة ، فرقة ناجية والباقون في النار ، وإن
أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة ناجية والباقون في النار. فقلت : يا رسول
الله (ص)! وما الناجية؟.
فقال : المتمسك
بما أنت عليه وأصحابك ، فأنزل الله تعالى في ذلك الرجل : ( ثانِيَ
عِطْفِهِ ) . يقول : هذا أول من يظهر من أصحاب البدع والضلالات.
قال ابن عباس :
والله ما قتل ذلك الرجل إلا أمير المؤمنين (ع) يوم صفين ،
__________________
ثم قال : ( لَهُ فِي
الدُّنْيا خِزْيٌ ) قال القتل : ( وَنُذِيقُهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ ) بقتاله علي بن أبي طالب عليهالسلام يوم صفين .
قال العلامة رحمهالله : تضمن الحديث أن أبا بكر وعمر لم يقبلا أمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم يقبلا قوله ، واعتذرا بأنه يصلي ويسجد ، ولم يعلما أن
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أعرف بما هو عليه منهما ، ولو لم يكن مستحقا للقتل لم يأمر
الله تعالى نبيه بذلك ، وكيف ظهر إنكار النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على أبي بكر بقوله : لست بصاحبه ، وامتنع عمر من فعله ، ومع ذلك فإن
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حكم بأنه لو قتل لم يقع بين أمتي اختلاف أبدا ، وكرر الأمر
بقتله ثلاث مرات عقيب الإنكار على الشيخين ، وحكم صلىاللهعليهوآلهوسلم بأن أمته ستفترق ثلاثا وسبعين فرقة ، اثنتان وسبعون منها
في النار ، وأصل هذا بقاء ذلك الرجل الذي أمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الشيخين بقتله فلم يقتلاه ، فكيف يجوز للعامي تقليد من
يخالف أمر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
١٥٩ ـ وقال رحمهالله في الكتاب المذكور : وقد روى عبد الله بن عباس ، وجابر ، وسهل بن حنيف ، وأبو
وائل ، والقاضي عبد الجبار ، وأبو علي الجبائي ،
__________________
وأبو مسلم
الأصفهاني ، ويوسف الثعلبي ، والطبري ، والواقدي ، والزهري ، والبخاري ، والحميدي في
الجمع بين الصحيحين في مسند المسور بن مخرمة في حديث الصلح بين سهيل بن عمرو
وبين النبي صلىاللهعليهوآله بالحديبية ، يقول فيه :
فقال عمر بن الخطاب :
فأتيت النبي صلى الله عليه [ وآله ] ، فقلت له : ألست نبي الله حقا؟!. قال : بلى.
قلت : ألسنا على
الحق وعدونا على الباطل؟. قال : بلى.
قلت : فلم نعطي
الدنية في ديننا إذا .
قال : إني رسول
الله ولست أعصيه وهو ناصري .. قلت : أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت
فنطوف به . قال عمر : فأتيت أبا بكر ، فقلت : يا أبا بكر! أليس هذا
نبي الله حقا؟. قال : بلى. قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟!. قال : بلى.
قلت : فلم نعطي هذه الدنية في ديننا إذا.
قال : أيها الرجل!
إنه رسول الله ، ولا يعصي لربه وهو ناصره ، فاستمسك بعذره فو الله إنه على
الحق.
__________________
قلت : أليس كان
يحدثنا أنه سيأتي البيت ويطوف به ؟!. قال : فأخبرك أنه يأتيه العام؟ قلت : لا.
قال : فإنك آتيه
وتطوف به .
وزاد الثعلبي في
تفسيره عند ذكر سورة الفتح وغيره من الرواة : أن عمر بن الخطاب قال : ما شككت منذ
أسلمت إلا يومئذ .
ثم قال رحمهالله : فهذا الحديث يدل على تشكيك عمر والإنكار على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فيما فعله بأمر الله ، ثم رجوعه إلى أبي بكر حتى أجابه بالصحيح ، وكيف استجاز
عمر أن يوبخ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ويقول له ـ عقيب قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إني رسول الله ولست أعصيه ، وهو ناصري أليس كنت تحدثنا أنا
سنأتي البيت ونطوف به؟!.
١٦٠ ـ ثم قال قدسسره : في الجمع بين الصحيحين في مسند عائشة
__________________
من المتفق على
صحته أن رسول الله صلىاللهعليهوآله أعتم بالعشاء حتى ناداه عمر : الصلاة ! نام النساء
والصبيان ، فخرج ! وقال : ما كان لكم أن تبرزوا رسول الله صلىاللهعليهوآله على الصلاة ، وذلك حين صاح عمر بن الخطاب . وقد قال الله تعالى : ( لا تَرْفَعُوا
أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ
بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) فجعل ذلك محبطا
للعمل ، وقال : ( إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ
الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى
تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ) .
١٦١ ـ وقال رحمهالله : وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي في مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب : أنه لما توفي عبد
الله بن أبي سلول جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله فقام رسول الله صلىاللهعليهوآله
__________________
ليصلي عليه ، فقام
عمر فأخذ بثوب رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقال : يا رسول الله (ص)! أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن
تصلي عليه؟!. فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : إنما خيرني الله تعالى قال : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ
أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً ) ... وسأزيد على
السبعين. قال : إنه منافق .. فصلى عليه رسول الله صلىاللهعليهوآله. وهذا رد على النبي صلىاللهعليهوآله .
١٦٢ ـ وقال رحمهالله : وفي الجمع في الصحيحين من مسند عائشة ، قالت : كانت أزواج رسول الله صلىاللهعليهوآله تخرجن [ يخرجن ] ليلا إلى ليل قبل المصانع ، فخرجت سودة بنت زمعة فرآها عمر وهو في
المجلس ، فقال : عرفتك يا سودة! فنزل آية الحجاب عقيب ذلك .
وهو يدل على سوء
أدب عمر حيث كشف ستر زوجة النبي صلىاللهعليهوآله ودل عليها أعين الناس وأخجلها ، وما قصدت بخروجها ليلا إلا
الاستتار عن الناس وصيانة نفسها ، وأي ضرورة له إلى تخجيلها حتى
أوجب ذلك نزول
__________________
آية الحجاب.
أقول
: أورد قدس الله
روحه كثيرا من مطاعنهم تركناها اختصارا وسنعيد الكلام بذكر تفاصيل مثالبهم
وإثباتها بما هو متداول بينهم اليوم من كتبهم التي لا يمكنهم القدح في رواياتها
وبسط القول فيها اعتراضا وجوابا ليتم الحجة على المخالفين ولا يبقى لهم عذر في
الدنيا ولا في يوم الدين. ونرجو من فضله تعالى أن لا يحرمني أجر ذلك ، فإنه لا
يضيع عنده أجر المحسنين.
١٦٣
ـ يل : البراء بن عازب
، قال : بينا رسول الله صلىاللهعليهوآله جالسا في أصحابه إذ أتاه وفد من بني تميم ، منهم مالك بن نويرة ،
فقال : يا رسول الله صلىاللهعليهوآله! علمني الإيمان؟.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله ، وتصلي الخمس ،
وتصوم شهر رمضان ، وتؤدي الزكاة ، وتحج البيت ، وتوالي وصيي هذا من
بعدي ـ وأشار إلى علي (ع) بيده ـ ولا تسفك دما ، ولا تسرق ، ولا تخون ، ولا تأكل
مال اليتيم ، ولا تشرب الخمر ، وتوفي بشرائعي ، وتحلل حلالي وتحرم حرامي ، وتعطي
الحق من نفسك للضعيف والقوي والكبير والصغير .. حتى عد عليه شرائع الإسلام.
فقال : يا رسول
الله صلىاللهعليهوآله! أعد علي فإني رجل نساء ، فأعادها عليه فعقدها بيده ، وقام
وهو يجر إزاره وهو يقول : تعلمت الإيمان ورب الكعبة ، فلما بعد عن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال صلىاللهعليهوآله : من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا
الرجل.
فقال أبو بكر وعمر
: إلى من تشير يا رسول الله (ص)؟!. فأطرق إلى الأرض
__________________
فاتخذا في السير فلحقاه
، فقالا له : البشارة من الله ورسوله بالجنة ، فقال : أحسن الله تعالى
بشارتكما إن كنتما ممن يشهد بما شهدت به ، فقد علمتما ما علمني النبي صلىاللهعليهوآله ، وإن لم تكونا كذلك فلا أحسن الله بشارتكما.
فقال أبو بكر : لا
تقل ذلك فأنا أبو عائشة زوجة النبي صلىاللهعليهوآله.
قال : قلت : ذلك
فما حاجتكما؟.
قالا : إنك من
أصحاب الجنة فاستغفر لنا.
فقال : لا غفر
الله لكما ، أنتما نديمان لرسول الله صلىاللهعليهوآله صاحب الشفاعة وتسألاني أستغفر لكما؟! فرجعا والكآبة لائحة في
وجهيهما ، فلما رآهما رسول الله صلىاللهعليهوآله تبسم ، وقال : في الحق مغضبة؟!.
فلما توفي رسول
الله صلىاللهعليهوآله ورجع بنو تميم إلى المدينة ومعهم مالك بن نويرة ، فخرج
لينظر من قام مقام رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فدخل يوم الجمعة ـ وأبو بكر على المنبر يخطب الناس ـ فنظر
إليه وقالوا : أخو تيم؟. قالوا : نعم. قال : ما فعل وصي رسول الله صلىاللهعليهوآله الذي أمرني بموالاته؟. قالوا : يا أعرابي! الأمر يحدث بعد
الأمر الآخر.
__________________
قال : تالله ما حدث شيء وإنكم
لخنتم الله ورسوله ، ثم تقدم إلى أبي بكر وقال له : من أرقاك هذا
المنبر ووصي رسول الله صلىاللهعليهوآله جالس؟!. فقال أبو بكر : أخرجوا الأعرابي البوال على عقبيه
من مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآله!.
فقام إليه قنفذ بن
عمير وخالد بن الوليد فلم يزالا يكذان [ يلكزان ] عنقه حتى أخرجاه
، فركب راحلته وأنشأ يقول شعرا :
أطعنا رسول الله
ما كان بيننا
|
|
فيا قوم ما شأني
وشأن أبي بكر
|
إذا مات بكر قام
عمرو أمامه
|
|
فتلك ـ وبيت
الله ـ قاصمة الظهر
|
يذب ويغشاه العشار كأنما
|
|
يجاهد جما أو يقوم على قبر
|
فلو طاف فينا من قريش عصابة
|
|
أقمنا ولو كان القيام على جمر
|
قال : فلما استتم
الأمر لأبي بكر وجه خالد بن الوليد وقال له : قد علمت
__________________
ما قال على رءوس
الأشهاد ، لست آمن أن يفتق علينا فتقا لا يلتام ، فاقتله ، فحين أتاه
خالد ركب جواده وكان فارسا يعد بألف فارس ، فخاف خالد منه فآمنه وأعطاه المواثيق ثم غدر به بعد أن ألقى
سلاحه فقتله ، وعرس بامرأته في ليلته وجعل رأسه في قدر فيها لحم جزور لوليمة
عرسه لامرأته ينزو عليها نزو الحمار .. والحديث طويل.
بيان :
العشار ـ بالكسر ـ
: جمع العشراء ، وهي الناقة التي مضى لحملها عشرة أشهر .
والجم ـ جمع
الجماء ـ : وهي الشاة التي لا قرن لها .
والأجم : الرجل
بلا رمح ، ولعل تشبيه القوم بالعشار لما أكلوا من الأموال المحرمة وطعموا
من الولايات الباطلة ، ونفي كونها جما تهديد بأنه وقومه كاملوا الإرادة والسلاح.
__________________
١٦٤
ـ إرشاد القلوب : من مثالبهم ـ لما ـ ما تضمنه خبر وفاة الزهراء عليهاالسلام قرة عين الرسول وأحب الناس إليه مريم الكبرى والحوراء التي
أفرغت من ماء الجنة من صلب رسول الله صلىاللهعليهوآله ، التي قال في حقها رسول الله صلىاللهعليهوآله : إن الله يرضى لرضاك ويغضب لغضبك. وقال عليه وآله السلام : فاطمة بضعة مني
من آذاها فقد آذاني.
وروي أنه لما
حضرتها الوفاة قالت لأسماء بنت عميس : إذا أنا مت فانظري إلى الدار فإذا رأيت سجفا
من سندس من الجنة قد ضرب فسطاطا في جانب الدار فاحمليني وزينب وأم كلثوم
فاجعلوني من وراء السجف وخلوا بيني وبين نفسي ، فلما توفيت عليهاالسلام وظهر السجف حملناها وجعلناها وراءه ، فغسلت
__________________
وكفنت وحنطت
بالحنوط ، وكان كافور أنزله جبرئيل عليهالسلام من الجنة في ثلاث صرر ، فقال : يا رسول الله! ربك يقرئك
السلام ويقول لك : هذا حنوطك وحنوط ابنتك وحنوط أخيك علي مقسوم أثلاثا ، وإن
أكفانها وماءها وأوانيها من الجنة.
وروي أنها توفيت عليهاالسلام بعد غسلها وتكفينها وحنوطها ، لأنها طاهرة لا دنس فيها ، وأنها أكرم على الله
تعالى أن يتولى ذلك منها غيرها ، وأنه لم يحضرها إلا أمير المؤمنين والحسن والحسين
وزينب وأم كلثوم وفضة جاريتها وأسماء بنت عميس ، وأن أمير المؤمنين عليهالسلام أخرجها ومعه الحسن والحسين في الليل وصلوا عليها ، ولم يعلم بها أحد ، ولا
حضروا وفاتها ولا صلى عليها أحد من سائر الناس غيرهم ، لأنها عليهاالسلام أوصت بذلك ، وقال [ قالت ] : لا تصل علي أمة نقضت عهد الله وعهد أبي رسول
الله صلىاللهعليهوآله في أمير المؤمنين علي عليهالسلام ، وظلموني حقي ، وأخذوا إرثي ، وخرقوا صحيفتي التي كتبها
لي أبي بملك فدك ، وكذبوا شهودي وهم ـ والله ـ جبرئيل وميكائيل وأمير المؤمنين عليهالسلام وأم أيمن ، وطفت عليهم في بيوتهم وأمير المؤمنين عليهالسلام يحملني ومعي الحسن والحسين ليلا ونهارا إلى منازلهم أذكرهم بالله وبرسوله ألا
تظلمونا ولا تغصبونا حقنا الذي جعله الله لنا ، فيجيبونا ليلا ويقعدون عن نصرتنا
نهارا ، ثم ينفذون إلى دارنا قنفذا ومعه عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد ليخرجوا
ابن عمي عليا إلى سقيفة بني ساعدة لبيعتهم الخاسرة ، فلا يخرج إليهم متشاغلا بما
أوصاه به رسول الله صلىاللهعليهوآله وبأزواجه وبتأليف القرآن وقضاء ثمانين ألف درهم وصاه
بقضائها عنه عدات ودينا ، فجمعوا الحطب الجزل على بابنا وأتوا بالنار ليحرقوه ويحرقونا ، فوقفت بعضادة
الباب وناشدتهم بالله وبأبي أن يكفوا عنا وينصرونا ، فأخذ عمر السوط من يد قنفذ ـ مولى
أبي بكر ـ فضرب به عضدي
__________________
فالتوى السوط على
عضدي حتى صار كالدملج ، وركل الباب برجله فرده علي وأنا حامل فسقطت لوجهي والنار تسعر
وتسفع وجهي ، فضربني بيده حتى انتثر قرطي من أذني ، وجاءني المخاض فأسقطت محسنا
قتيلا بغير جرم ، فهذه أمة تصلي علي؟! وقد تبرأ الله ورسوله منهم ، وتبرأت منهم.
فعمل أمير المؤمنين (ع) بوصيتها ولم يعلم أحدا بها فأصنع في البقيع ليلة
دفنت فاطمة عليهاالسلام أربعون قبرا جددا.
ثم إن المسلمين
لما علموا بوفاة فاطمة ودفنها جاءوا إلى أمير المؤمنين عليهالسلام يعزونه بها ، فقالوا : يا أخا رسول الله (ص)! لو أمرت بتجهيزها وحفر تربتها.
فقال عليهالسلام : قد وريت ولحقت بأبيها صلىاللهعليهوآلهوسلم .
فقالوا : ( إِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) ، تموت ابنة نبينا محمد صلىاللهعليهوآله ولم يخلف فينا ولدا غيرها ، ولا نصلي عليها! إن هذا لشيء
عظيم.
فقال عليهالسلام : حسبكم ما جنيتم على الله وعلى رسوله صلىاللهعليهوآله وعلى أهل بيته ولم أكن ـ والله ـ لأعصيها في وصيتها التي
أوصت بها في أن لا يصلي عليها أحد منكم ، ولا بعد العهد فأعذر ، فنفض القوم
أثوابهم ، وقالوا :لا بد لنا من الصلاة على ابنة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ومضوا من فورهم إلى البقيع فوجدوا فيه أربعين قبرا جددا ، فاشتبه عليهم
قبرها عليهاالسلام بين تلك القبور فصح [ فضج ] الناس ولام بعضهم بعضا ،
وقالوا : لم تحضروا وفاة بنت نبيكم ولا
__________________
الصلاة عليها ولا
تعرفون قبرها فتزورونه؟.
فقال أبو بكر :
هاتوا من ثقات المسلمين من ينبش هذه القبور حتى تجدوا قبرها فنصلي عليها ونزورها ،
فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليهالسلام ، فخرج من داره مغضبا وقد احمر وجهه وقامت عيناه ودرت
أوداجه ، وعلى يده قباه الأصفر الذي لم يكن يلبسه إلا في يوم كريهة ـ يتوكأ على
سيفه ذي الفقار حتى ورد البقيع ، فسبق الناس النذير ، فقال لهم : هذا علي قد أقبل
كما ترون يقسم بالله لئن بحث من هذه القبور حجر واحد لأضعن السيف على غائر هذه الأمة ، فولى
القوم هاربين قطعا قطعا.
ومنها
: ما فعله الأول من
التآمر على الأمة من غير أن أباح الله له ذلك ولا رسوله ، ومطالبة جميعهم بالبيعة
له والانقياد إلى طاعته طوعا وكرها ، وكان ذلك أول ظلم ظهر في الإسلام بعد وفاة
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، إذ كان هو وأولياؤه جميعا مقرين بأن الله عز وجل ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يولياه ذلك ولا أوجبا طاعته ولا أمرا ببيعته.
وطالب الناس
بالخروج إليه مما كان يأخذه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من الأخماس والصدقات والحقوق الواجبات.
ثم تسمى بخلافة
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقد علم هو ومن معه من الخاص والعام أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يستخلفه ، فقد جمع بين الظلم والمعصية والكذب على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقد قال صلىاللهعليهوآله : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ،. ولما امتنع
طائفة من الناس في دفع الزكاة إليه وقالوا : إن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يأمرنا بدفع ذلك إليك ، فسماهم : أهل الردة ، وبعث إليهم خالد بن الوليد
رئيس القوم في جيش ،
__________________
فقتل مقاتلهم ،
وسبى ذراريهم ، واستباح أموالهم ، وجعل ذلك فيئا للمسلمين ، وقتل خالد بن الوليد
رئيس القوم : مالك بن نويرة ، وأخذ امرأته فوطأها من ليلته تلك واستحل الباقون
فروج نسائهم من غير استبراء.
وقد روى أهل
الحديث جميعا بغير خلاف عن القوم الذين كانوا مع خالد أنهم قالوا : أذن مؤذننا
وأذن مؤذنهم ، وصلينا وصلوا ، وتشهدنا وتشهدوا ، فأي ردة هاهنا؟! مع ما رووه أن
عمر قال لأبي بكر : كيف نقاتل قوما يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقد سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله
وأني رسول الله (ص) ، فإذا قالوها حقنوا دماءهم وأموالهم؟!
فقال : لو منعوني
عقالا مما كانوا يدفعونه إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لقاتلتهم ـ أو قال : لجاهدتهم ـ ، وكان هذا فعلا فظيعا في
الإسلام وظلما عظيما ، فكفى بذلك خزيا وكفرا وجهلا ، وإنما أخذ عليه عمر بسبب قتل
مالك بن نويرة ، لأنه كان بين عمر وبين مالك خلة أوجبت المعصية له من عمر.
ثم رووا جميعا أن
عمر لما ولي جمع من بقي من عشيرة مالك واسترجع ما وجد عند المسلمين من أموالهم
وأولادهم ونسائهم ، ورد ذلك جميعا عليهم.
فإن كان فعل أبي
بكر بهن خطأ فقد أطعم المسلمين الحرام من أموالهم وملكهم العبيد الأحرار من
أبنائهم ، وأوطأهم فروجا حراما من نسائهم ، وإن كان ما فعله حقا
فقد أخذ عمر نساء قوم ملكوهن بحق فانتزعهن من أيديهم غصبا وظلما وردهن إلى قوم لا
يستحقونهن بوطئهن حراما من غير مباينة وقعت ولا أثمان دفعت إلى من كن عنده في
تملكه ، فعلى كلا الحالين قد أخطئا جميعا أو أحدهما ،
__________________
لأنهما أباحا
للمسلمين فروجا حراما ، وأطعماهم طعاما حراما من أموال المقتولين على دفع الزكاة
إليه ، وليس له ذلك على ما تقدم ذكره.
ومنها
: تكذيبه لفاطمة عليهاالسلام في دعواها فدك ، ورد شهادة أم أيمن ، مع أنهم رووا جميعا أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : أم أيمن امرأة من أهل الجنة ، ورد شهادة أمير المؤمنين عليهالسلامو قد رووا جميعا أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار،
وأخبرهم أيضا بتطهير علي وفاطمة من الرجس عن الله تعالى ، فمن توهم
أن عليا وفاطمة يدخلان ـ بعد هذه الأخبار من الله عز وجل ـ في شيء من الكذب
والباطل فقد كذب الله ، ومن كذب الله كفر بغير خلاف.
ومنها
: قوله في الصلاة :
لا تفعل خالد ما أمره ، فهذه بدعة يقارنها كفر ، وذلك أنه أمر خالد
بقتل أمير المؤمنين عليهالسلام إذا هو سلم من صلاة الفجر ، فلما قام في الصلاة ندم على
ذلك وخشي إن فعل ما أمر به من قتل أمير المؤمنين عليهالسلام أن تهيج عليه فتنة لا يقومون لها. فقال : لا يفعلن خالد ما
أمر .. قبل أن يسلم ، والكلام في الصلاة بدعة ، والأمر بقتل علي كفر.
ومنها
: أنهم رووا ـ بغير
خلاف ـ أنه قال ـ وقت وفاته ـ : ثلاث فعلتها وددت أني لم أفعلها ، وثلاث لم أفعلها
ووددت أني أفعلها ، وثلاث غفلت عنها ووددت أني أسأل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عنها ، أما الثلاث التي وددت أني لم أفعلها ، فبعث خالد بن الوليد إلى مالك بن نويرة وقومه
المسمين بأهل الردة ، وكشف بيت فاطمة (ع) وإن كان أغلق على حرب .. واختلف أولياؤه
في باقي الخصال فأهملنا ذكرها وذكرنا ما اجتمعوا عليه.
فقد دل قوله : أني
لم أكشف بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه
__________________
وآله .. أنه أغضب
فاطمة ، وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك ، فقد أوجب بفعله هذا
غضب الله عليه بغضب فاطمة. وقال صلىاللهعليهوآله : فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى
الله.، فقد لزمه أن يكون قد آذى الله ورسوله بما لحق فاطمة عليهاالسلام من الأذى بكشف بيتها ، وقد قال الله عز وجل : ( إِنَّ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) ، وأما الثلاثة
التي ود أن يسأل رسول الله عنها فهي : الكلالة ما هي؟ وعن الجد ما له من الميراث؟
وعن الأمر لمن بعده؟ومن صاحبه؟.
وكفى بهذا الإقرار
على نفسه خزيا وفضيحة ، لأنه شهر نفسه بالجهل بأحكام الشريعة ، ومن كان هذه حاله
كان ظالما فيما دخل فيه من الحكومة بين المسلمين بما لا يعلمه : (
وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) .
وقوله : ووددت أني
أسأل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لمن الأمر بعده؟ومن صاحبه؟ فقد أقر وأشهد على نفسه بأن
الأمر لغيره ، وأنه لا حق له فيه ، لأنه لو كان له حق لكان قد علمه من الله عز وجل
ومن رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلما لم يكن له فيه حق لم يعلم لمن هو بزعمه ، وإذا لم
يكن فيه حق ولم يعلم لمن هو فقد دخل فيما لم يكن له ، وأخذ حقا هو لغيره ، وهذا
يوجب الظلم والتعدي ، وقال الله تعالى : ( أَلا لَعْنَةُ اللهِ
عَلَى الظَّالِمِينَ ) .
وأما ما وافقه عليه
صاحبه الثاني :
فمنها
: أنه لما أمر أن يجمع ما تهيأ له من القرآن أمر مناديا
ينادي في
__________________
المدينة : من كان
عنده شيء من القرآن فليأتنا به ، ثم قال : لا تقبل من أحد شيئا إلا بشاهدي عدل.
وهذا منه مخالف
لكتاب الله عز وجل إذ يقول : ( لَئِنِ اجْتَمَعَتِ
الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ ) فذلك غاية الجهل وقلة الفهم ، وهذا الوجه أحسن أحوالهما ،
ومن حل هذا المحل لم يجز أن يكون حاكما بين المسلمين فضلا عن منزلة الإمامة ، وإن
كانا قد علما ذلك من كتاب الله ، ولم يصدقا إخبار الله فيه ، ولم يثقا بحكمه في
ذلك ، كانت هذه حالا توجب عليهما ما لا خفاء به على كل ذي فهم ، ولكن الأئمة من
أهل البيت عليهمالسلام قالوا : إنهما قصدا بذلك عليا عليهالسلام فجعلا هذا سببا لترك قبول ما كان علي عليهالسلام جمعه وألفه من القرآن في مصحفه بتمام ما أنزل الله عز وجل
على رسوله منه ، وخشيا أن يقبلا ذلك منه ، فيظهر ما يفسد عليهما عند الناس ما
ارتكباه من الاستيلاء على أمورهم ، ويظهر فيه فضائح المذمومين بأسمائهم وطهارة
الفاضلين المحمودين بذكرهم ، فلذلك قالا : لا نقبل القرآن من أحد إلا بشاهدي عدل ،
هذا مع ما يلزم من يتولاهما أنهما لم يكونا عالمين بتنزيل القرآن ، لأنهما لو كانا
يعلمانه لما احتاجا أن يطلباه من غيرهما ببينة عادلة ، وإذا لم يعلما التنزيل كان
محالا أن يعلما التأويل ، ومن لم يعلم التنزيل ولا التأويل كان جاهلا بأحكام الدين
وبحدود ما أنزل الله على رسوله ، ومن كان بهذه الصفة خرج عن حدود من
يصلح أن يكون حاكما بين المسلمين أو إماما لهم ، ومن لم يصلح لذلك ثم دخل فيه فقد
استوجب
__________________
المقت من الله عز
وجل ، لأن من لا يعلم حدود الله يكون حاكما بغير ما أنزل الله ، وقال سبحانه وتعالى
: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ
فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) .
ومنها
: أن الأمة مجتمعة على أن رسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم ضمه وصاحبه مع جماعة من المهاجرين والأنصار إلى أسامة بن
زيد وولاه عليهما ، وأمره بالمسير فيهم ، وأمرهم بالمسير تحت رايته ، وهو أمير
عليهم إلى بلاد من الشام ، ولم يزل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : لينفذوا جيش أسامة .. حتى توفي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في مرضه ذلك ، وأنهما لم ينفذا وتأخرا عن أسامة في طلب ما استوليا عليه من
أمور الأمة ، فبايع الناس لأبي بكر ـ وأسامة معسكر في مكانه على حاله خارج المدينة
ـ والأمة مجتمعة على أن من عصى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وخالفه فقد عصى الله ، ومن أطاع (
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) ، بنص الكتاب العزيز ، والأمة أيضا مجمعة على أن معصية الرسول بعد وفاته
كمعصيته في حياته ، وأن طاعته بعد وفاته كطاعته في حياته ، وأنهما لم يطيعاه في
الحالتين ، وتركا أمره لهما بالخروج ، ومن ترك أمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم متعمدا وخالفه وجب الحكم بارتداده.
ومنها
: أنه لما حضرته
الوفاة جعل ما كان اغتصبه وظلم في الاستيلاء عليه لعمر من بعده ، وطالب الناس
بالبيعة له والرضا به كره في ذلك من كره ورغب من رغب ، وقد أجمعوا في روايتهم أن
الغالب كان من الناس يومئذ الكراهية ، فلم يفكر في ذلك وجعله الوالي عليهم على كره
منهم ، وخوفوه من الله عز وجل في توليته ، فقال : أبالله تخوفوني؟! إذا أنا لقيته
قلت له : استخلفت عليهم خير أهلك!. فكان هذا القول جامعا لعجائب من المنكرات
القطعيات ، أرأيت لو
__________________
أجابه الله تعالى
، فقال : ومن جعل إليك ذلك؟ ومن ولاك أنت حتى تستخلف عليهم غيرك؟! فقد تقلد الظلم في حياته وبعد
وفاته.
ثم إن قوله :
تخوفوني بالله ..! إما هو دليل على استهانته بملاقاة الله تعالى ، أو يزعم أنه زكي
عند الله بريء من كل ذلة وهفوة ، وهذا مخالفة لقوله تعالى ، فإنه قال : ( فَلا
تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى ) .
ثم إنه لم يكتف
بذلك حتى شهد لعمر أنه خير القوم ، وهذا مما لا يصل إليه مثله ولا يعرفه.
ثم إنه ختم ذلك
بالطامة الكبرى أنه أمر وقت وفاته بالدفن مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في بيته وموضع قبره وجعل ـ أيضا ـ بذلك سبيلا لعمر عليه ، فإنه فعل كما فعله
، وصيرت العامة ذلك منقبة لهما بقولهم : ضجيعا رسول الله (ص) ، ومن عقل وميز وفهم
علم أنهما قد جنيا على أنفسهما جناية لا يستقيلانها أبدا ، وأوجبا على أنفسهما
المعصية لله ولرسوله والظلم الظاهر الواضح ، لأن الله سبحانه قد نهى عن الدخول إلى
بيوت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلا بإذنه ، حيث يقول : ( يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ) والحال في ذلك
بعد وفاته كالحال في حياته ، إلا أن يخص الله عز وجل ذلك أو رسوله ، فإن كان البيت
الذي فيه قبر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم للرسول خاصة فقد عصيا الله بدخولهما إليه بغير إذن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وختما أعمالهما بمعصية الله تعالى في ذلك ، وإن كان البيت من جملة التركة ،
فإما أن يكون كما زعموا أنه صدقة أو يكون للورثة ، فإن كان صدقة فحينئذ يكون لسائر
المسلمين لا يجوز أن يختص واحد دون واحد ، ولا يجوز أيضا شراؤه من المسلمين ولا
__________________
استيهابه ، وإن
كان ميراثا ، فلم يكونا ممن يرث الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم. وإن ادعى جاهل ميراث ابنتهما من الرسول (ص) فإن نصيبهما
تسعا الثمن لأن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم مات عن تسع نسوة وعن ولد للصلب ، فلكل واحدة منهما تسع
الثمن ، وهذا القدر لا يبلغ مفحص قطاة.
وبالجملة ، فإنهما
غصبا الموضع حتى تقع القسمة على تركة الرسول ولا قسمة مع زعمهم أن ما تركه صدقة.
وأما صاحبه الثاني
فقد حذا حذوه ، وزاد عليه فيما غير من حدود الله تعالى في الوضوء ، والأذان
والإقامة .. وسائر أحكام الدين.
أما الوضوء ، فقد
قال عز من قائل : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ
إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ
وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فقد جعل سبحانه
للوضوء حدودا أربعة ، حدان منها غسل ، وحدان منها مسح ، فلما قدم الثاني بعد الأول
جعل المسح على الرجلين غسلا وأمر الناس بذلك ، فاتبعوه إلا الفرقة المحقة ،
وأفسدوا على من اتبعه وضوءه وصلاته لفساد الوضوء ، لأنه على غير ما أنزل الله به
من حدود الوضوء ، وأجاز أيضا المسح على الخفين من غير أمر من الله تعالى ورسوله.
وأما الأذان
والإقامة ، فأسقط منهما وزاد فيهما ، أما الأذان فإنه كان فيه على عهد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : ( حي على خير العمل ) بإجماع العلماء وأهل المعرفة بالأثر والخبر ، فقال
الثاني : ينبغي لنا أن نسقط : ( حي على خير العمل ) ، في الأذان والإقامة
لئلا يتكل الناس على الصلاة فيتركوا الجهاد ، فأسقط ذلك من
__________________
الأذان والإقامة
جميعا لهذه العلة بزعمه ، فقبلوا ذلك منه وتابعوه عليه ، ويلزمهم أن يكون عمر قد
أبصر من الرشد ما لم يعلمه الله عز وجل ولا رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لأن الله ورسوله قد أثبتا ذلك في الأذان والإقامة ولم
يخافا على الناس ما خشيه عليهم عمر وقدره فيهم ، ومن ظن ذلك وجهله لزمه الكفر ،
فأفسد عليهم الأذان بذلك أيضا ، لأنه من تعمد الزيادة والنقيصة في فريضة أو سنة
فقد أفسدها.
ثم إنه بعد إسقاط
ما أسقط من الأذان والإقامة من ( حي على خير العمل ) ، أثبت في بعض الأذان زيادة
من عنده ، وذلك أنه زاد في أذان صلاة الفجر : الصلاة خير من النوم ، فصارت هذه
البدعة ـ عند من اتبعه ـ من السنن الواجبة لا يستحلون تركها ، فبدعة الرجل عندهم
معمورة متبعة معمول بها يطالب من تركها بالقهر عليها ، وسنة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عندهم مهجورة مطرحة [ مطروحة ] يضرب من استعملها ويقتل من أقامها.
وجعل أيضا الإقامة
فرادى ، فقال : ينبغي لنا أن نجعل بين الأذان والإقامة فرقا بينا ، وكانت الإقامة
على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سبيلها كسبيل الأذان مثنى مثنى ، وكان فيها : ( حي على خير
العمل ) مثنى ، وكانت أنقص من الأذان بحرف واحد ، لأن في آخر الأذان : ( لا إله
إلا الله ) مرتين ، وفي آخر الإقامة مرة واحدة ، وكان هذا هو الفرق فغيره الرجل
وجعل بينهما فرقا من عنده ، فقد خالف الله ورسوله ، وزعم أنه قد أبصر من الرشد في
ذلك وأصاب من الحق ما لم يعلمه الله تعالى ورسوله ،و قد قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ولا شك أنه كل من ابتدع
بدعة كان عليه وزرها ووزر العامل بها إلى يوم القيامة.
وأما الصلاة ،
فأفسد من حدودها ما فيه الفضيحة والهتك لمذهبهم ، وهو إنهم رووا أن : تحريم الصلاة
التكبير وتحليلها التسليم ، وأن الصلاة المفروضة على
__________________
الحاضرين الظهر
أربعا ، والعصر أربعا ، والمغرب ثلاثا ، والعشاء الآخرة أربعا ، لا سلام إلا في
آخر التشهد في الرابعة ، وأجمعوا على أنه من سلم قبل التشهد عامدا متعمدا فلا صلاة
له ، وقد لزمه الإعادة ، وأنه من سلم في كل ركعتين من هذه الصلوات الأربع عامدا
غير ناس فقد أفسد صلاته وعليه الإعادة ، فاستن الرجل لهم في التشهد الأول والثاني
ما أفسد صلاتهم وأبطل عليهم تشهدهم ، فليس منهم أحد يتشهد في صلاته قط ولا يصلي من
هذه الصلوات الأربع التي ذكرناها ، وذلك أنهم يصلون ركعتين ثم يقعدون للتشهد الأول
فيقولون عوضا عن التشهد : التحيات لله ، الصلوات الطيبات ، السلام عليك أيها النبي
ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فإذا قالوا ذلك فقد
سلموا أتم السلام و أكمله ، لأنه إذا سلم المصلي على النبي وعلى نفسه وعلى
عباد الله الصالحين لم يبق من هؤلاء من يجوز صرف التسليم إليه ، فإن عباد الله
الصالحين يدخل في جملتهم الأولون والآخرون والجن والإنس والملائكة وأهل السماوات
والأرضين والأنبياء والأوصياء وجميع المرسلين من الأحياء والأموات ومن قد مضى ومن
هو آت ، فحينئذ يكون المصلي منهم قد قطع صلاته الأربع ركعات بسلامه هذا ، ثم يقول
بعد : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، والتشهد هو
الشهادتان ، فالمصلي منهم يأتي بالشهادتين بعد التسليم الذي ذكرناه منهم ، فلزمهم
أنه ليس منهم أحد يتشهد في الصلاة إذا كان التسليم موجبا للخروج من الصلاة ، ولا
عبرة بالتشهد بعد الصلاة.
ثم أتبع ذلك بقوله
: آمين ، عند الفراغ من قراءة سورة الحمد ، فصارت عند أوليائه سنة واجبة ، حتى أن
من يتلقن القرآن من الأعاجم وغيرهم وعوامهم وجهالهم يلعنونهم من بعد قول ( وَلَا
الضَّالِّينَ ) : آمين ، فقد زادوا آية في أم
__________________
الكتاب ، وصار
عندهم من لم يأت بها في صلاته وغير صلاته كأنه قد ترك آية في كتاب الله.
وقد أجمع أهل
النقل عن الأئمة عليهمالسلام من أهل البيت أنهم قالوا : من قال : آمين في صلاته فقد
أفسد صلاته وعليه الإعادة، لأنها عندهم كلمة سريانية معناها بالعربية : افعل ،
كسبيل من يدعو بدعاء فيقول في آخره : اللهم افعل ، ثم استن أولياؤه وأنصاره
رواية متخرصة عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه كان يقول ذلك بأعلى صوته في الصلاة ، فأنكر أهل البيت ذلك
، ولما رأينا أهل البيت عليهمالسلام مجتمعين على إنكارها صح عندنا فساد أخبارهم فيها ، لأن
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم حكم ـ بالإجماع ـ أن لا نضل ما تمسكنا بأهل بيته عليهمالسلام ، فتعين ضلالة من تمسك بغيرهم.
وأما الدليل على
خرص روايتهم أنهم مختلفون في الرواية :
فمنهم من روى :
إذا أمن الإمام فأمنوا.
ومنهم من يروي :
إذا قال الإمام « وَلَا الضَّالِّينَ
» فقولوا : آمين.
ومنهم من يروي :
ندب رفع الصوت بها.
ومنهم من يروي :
الإخفات بها. فكان هذا اختلافهم فيما وصفناه من هذه المعاني دليلا واضحا ـ لمن فهم
ـ على تخرص روايتهم.
ثم أتبع ذلك بفعل
من أفعال اليهود ، وذلك عقد اليدين في الصدر إذا قاموا في الصلاة ، لأن اليهود
تفعل في صلاتها ذلك ، فلما رآهم الرجل يستعملون ذلك استعمله هو أيضا اقتداء بهم
وأمر الناس بفعل ذلك ، وقال : إن هذا تأويل قوله
__________________
تعالى : ( وَقُومُوا
لِلَّهِ قانِتِينَ ) يريد بزعمه التذلل والتواضع ،و مما روي عنه بالخلاف أنه
قال للرسول صلىاللهعليهوآله يوما : إنا نسمع من اليهود أشياء نستحسنها منهم ، فنكتب
ذلك منهم؟. فغضب النبي صلىاللهعليهوآله وقال : أمتهوكون أنتم يا ابن الخطاب! ، لو كان موسى حيا لم يسعه إلا
اتباعي.
ومن استحسن ذلك في
حياة الرسول من قول اليهود فاستحسانه بعد فقد النبي أولى ، وقد أنكر أهل البيت عليهمالسلام ونهوا عنه نهيا مؤكدا ، وحال أهل البيت ما شرحناه من شهادة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لهم بإزالة الضلالة عنهم وعمن تمسك بهم ، فليس من بدعة ابتدعها هذا الرجل إلا أولياؤه متحفظون
بها مواظبون عليها وعلى العمل بها ، طاعنون على تاركها ، وكل تأديب الرسول الذي قد
خالفه الرجل ببدعة فهو عندهم مطروح متروك مهجور ويطعن على من استعمله ، وينسب
عندهم إلى الأمور المنكرات ،و لقد رووا جميعا أن الرسول قال : لا تبركوا في الصلاة
كبرك البعير ، ولا تنقروا كنقر الديك ، ولا تقعوا كإقعاء الكلب ، ولا تلتفتوا كالتفات القرود ،
فهم لأكثر ذلك فاعلون ، ولقول الرسول مخالفون ، فإذا أرادوا السجود بدءوا بركبهم
فيطرحونها إلى الأرض قبل أيديهم ، وذلك منهم كبرك البعير على ركبتيه ، ويعلمون ذلك
جهالهم خلافا على تأديب
__________________
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهذا شأنهم في سائر أحكام الدين فلا نطول الكلام بذكرها الكتاب.
ولما أمر الله
سبحانه نبيه صلوات الله عليه وآله بسد أبواب الناس من مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآله شريفا [ تشريفا ] له وصونا له عن النجاسة سوى باب النبي صلىاللهعليهوآله وباب علي بن أبي طالب عليهالسلام ، وأمره أن ينادي في الناس بذلك ، فمن أطاعه فاز وغنم ومن
عصاه هلك وندم ، فأمر النبي صلىاللهعليهوآله المنادي فنادى في الناس : الصلاة جامعة ، فأقبل الناس
يهرعون ، فلما تكاملوا صعد النبي المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها
الناس! إن الله سبحانه و تعالى قد أمرني بسد أبوابكم المفتوحة إلى المسجد بعد يومي
، وأن لا يدخله جنب ولا نجس ، بذلك أمرني ربي جل جلاله ، فلا يكون في نفس أحد منكم أمر ، ولا
تقولوا : لم؟ وكيف؟ وأنى ذلك؟ فتحبط أعمالكم وتكونوا من الخاسرين ، وإياكم
والمخالفة والشقاق فإن الله تعالى أوحى إلي أن أجاهد من عصاني ، وأنه لا ذمة له في
الإسلام ، وقد جعلت مسجدي طاهرا من كل دنس ، محرما على كل من يدخل إليه مع هذه
الصفة التي ذكرتها غيري وأخي علي بن أبي طالب عليهالسلام وابنتي فاطمة وولدي الحسن والحسين كما كان مسجد هارون
وموسى ، فإن الله أوحى إليهما أن اجعلا بيوتكما قبلة لقومكما ، وإني قد أبلغتكم ما
أمرني به ربي وأمرتكم بذلك ، ألا فاحذروا الحسد والنفاق وأطيعوا الله يوافق بينكم
سركم علانيتكم ، فـ ( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ
تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) .
فقال الناس
بأجمعهم : سمعنا وأطعنا الله ورسوله ولا نخالف ما أمرنا به ،
__________________
ثم خرجوا أبوابهم
جميعا غير باب النبي صلىاللهعليهوآله وعلي عليهالسلام ، فأظهر الناس الحسد والكلام ، فقال عمر : ما بال رسول
الله (ص) يؤثر ابن عمه علي بن أبي طالب ويقول على الله الكذب ، ويخبر عن الله بما
لم يقل في علي؟! وإنما سأل محمد صلىاللهعليهوآله لعلي بن أبي طالب وأجابه إلى ما يريد ، فلو سأل الله ذلك
لنا لأجابه ، وأراد عمر أن يكون له باب مفتوح إلى المسجد ، ولما بلغ رسول الله صلىاللهعليهوآله قول عمر وخوض الناس والقوم في الكلام ، أمر المنادي بالنداء إلى : الصلاة
جامعة ، فلما اجتمعوا قال لهم النبي صلىاللهعليهوآله : معاشر الناس! قد بلغني ما خضتم فيه وما قال قائلكم ، وإني
أقسم بالله العظيم أني لم أقل على الله الكذب ولا كذبت فيما قلت ، ولا أنا سددت
أبوابكم ، ولا أنا فتحت باب علي بن أبي طالب (ع) ، ولا أمرني في ذلك إلا الله عز
وجل الذي خلقني وخلقكم أجمعين ، فلا تحاسدوا فتهلكوا ، ولا تحسدوا ( النَّاسَ
عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) ، فإنه يقول في محكم كتابه : ( تِلْكَ الرُّسُلُ
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ) فاتقوا الله وكونوا من الصابرين ، ثم صدق الله رسوله بنزول
الكوكب من السماء على دار علي بن أبي طالب عليهالسلام ، وأنزل الله سبحانه قرآنا ، وأقسم بالنجم تصديقا لرسوله صلىاللهعليهوآله ، فقال : ( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ
وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى ) ... الآيات كلها ،
وتلاها النبي صلىاللهعليهوآله فلم يزدادوا إلا غضبا وحسدا ونفاقا وعتوا واستكبارا ، ثم
تفرقوا و في قلوبهم من الحسد والنفاق ما لا يعلمه إلا الله سبحانه.
فلما كان بعد أيام
دخل عليه عمه العباس وقال : يا رسول الله! قد علمت ما بيني وبينك من القرابة
والرحم الماسة ، وأنا ممن يدين الله بطاعتك ، فاسأل الله
__________________
تعالى أن يجعل لي
بابا إلى المسجد أتشرف بها على من سواي؟. فقال له عليه وآله السلام : يا عم! ليس
إلى ذلك سبيل. فقال : فميزابا يكون من داري إلى المسجد أتشرف به على القريب
والبعيد. فسكت النبي صلىاللهعليهوآله ـ وكان كثير الحياء ـ لا يدري ما يعيد من الجواب خوفا من
الله تعالى وحياء من عمه العباس ، فهبط جبرئيل عليهالسلام في الحال على النبي صلىاللهعليهوآله ـ وقد علم الله سبحانه ما في نفسه صلىاللهعليهوآله من ذلك ـ ، فقال : يا محمد (ص)! إن الله يأمرك أن تجيب سؤال عمك ، وأمرك أن
تنصب له ميزابا إلى المسجد كما أراد ، فقد علمت ما في نفسك وقد أجبتك إلى ذلك
كرامة لك ونعمة مني عليك وعلى عمك العباس ، فكبر النبي صلىاللهعليهوآله وقال : أبى الله إلا إكرامكم يا بني هاشم وتفضيلكم على الخلق أجمعين ، ثم قام
ومعه جماعة من الصحابة والعباس بين يديه حتى صار على سطح العباس ، فنصب له ميزابا
إلى المسجد وقال : معاشر المسلمين! إن الله قد شرف عمي العباس بهذا الميزاب فلا
تؤذوني في عمي ، فإنه بقية الآباء والأجداد ، فلعن الله من آذاني في عمي وبخسه حقه
أو أعان عليه.
ولم يزل الميزاب
على حاله مدة أيام النبي صلىاللهعليهوآله وخلافة أبي بكر وثلاث سنين من خلافة عمر بن الخطاب ، فلما
كان في بعض الأيام وعك العباس ومرض مرضا شديدا وصعدت الجارية تغسل قميصه فجرى
الماء من الميزاب إلى صحن المسجد ، فنال بعض الماء ثوب الرجل ، فغضب غضبا شديدا
وقال لغلامه : اصعد واقلع الميزاب ، فصعد الغلام فقلعه ورمى به إلى سطح العباس ،
وقال : والله لئن رده أحد إلى مكانه لأضربن عنقه ، فشق ذلك على العباس ودعا بولديه
عبد الله وعبيد الله ونهض يمشي متوكئا عليهما ـ وهو يرتعد من شدة المرض ـ وسار حتى
دخل على أمير المؤمنين عليهالسلام ، فلما نظر إليه أمير المؤمنين عليهالسلام انزعج لذلك ، وقال : يا عم! ما جاء بك وأنت على هذه
__________________
الحالة؟!. فقص
عليه القصة وما فعل معه عمر من قلع الميزاب وتهدده من يعيده إلى
مكانه ، وقال له : يا ابن أخي! إنه كان لي عينان أنظر بهما ، فمضت إحداهما وهي
رسول الله صلىاللهعليهوآله وبقيت الأخرى وهي أنت يا علي ، وما أظن أن أظلم ويزول ما
شرفني به رسول الله صلىاللهعليهوآله وأنت لي ، فانظر في أمري ، فقال له : يا عم! ارجع إلى بيتك
، فسترى مني ما يسرك إن شاء الله تعالى.
ثم نادى : يا قنبر!
علي بذي الفقار ، فتقلده ثم خرج إلى المسجد والناس حوله وقال : يا قنبر! اصعد فرد
الميزاب إلى مكانه ، فصعد قنبر فرده إلى موضعه ، وقال علي عليهالسلام : وحق صاحب هذا القبر والمنبر لئن قلعه قالع لأضربن عنقه وعنق الآمر له بذلك
، ولأصلبنهما في الشمس حتى يتقددا ، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب ، فنهض ودخل المسجد ونظر إلى
الميزاب ، فقال : لا يغضب أحدا [ أحد ] أبا الحسن فيما فعله ، ونكفر عن اليمين ، فلما
كان من الغداة مضى أمير المؤمنين إلى عمه العباس ، فقال له : كيف أصبحت يا عم؟.
قال : بأفضل النعم ما دمت لي يا ابن أخي. فقال له : يا عم! طب نفسا وقر عينا ، فو
الله لو خاصمني أهل الأرض في الميزاب لخصمتهم ، ثم لقتلتهم بحول الله وقوته ، ولا
ينالك ضيم يا عم ، فقام العباس فقبل ما بين عينيه ، وقال : يا ابن
أخي! ما خاب من أنت ناصره.
فكان هذا فعل عمر
بالعباس عم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. وقد قال في غير موطن وصية منه في عمه العباس : إن عمي
العباس بقية الآباء والأجداد
__________________
فاحفظوني فيه ، كل
في كنفي ، وأنا في كنف عمي العباس ، فمن آذاه فقد آذاني ، ومن عاداه فقد عاداني ،
سلمه سلمي ، وحربه حربي.
وقد آذاه عمر في
ثلاثة مواطن ظاهرة غير خفية :
منها
: قصة الميزاب ،
ولو لا خوفه من علي (ع) لم يتركه على حاله.
ومنها : أن النبي صلىاللهعليهوآله قبل الهجرة خرج يوما إلى خارج مكة ورجع طالبا منزله فاجتاز
بمناد ينادي من بني تميم ـ وكان لهم سيد يسمى عبد الله بن جذعان ، وكان يعد من
سادات قريش وأشياخهم ، وكان له منادية ينادون في شعاب مكة وأوديتها : من أراد الضيافة
والقرى فليأت مائدة عبد الله بن جذعان ، وكان مناديه : أبو قحافة ، وأجرته أربعة
دوانيق ، وله مناد آخر فوق سطح داره ، فأخبر عبد الله بن جذعان بجواز النبي صلىاللهعليهوآله على بابه ، فخرج يسعى حتى لحق به وقال : يا محمد! بالبيت الحرام إلا ما
شرفتني بدخولك إلى منزلي وتحرمك بزادي ، وأقسم عليه برب البيت والبطحاء وبشيبة بن
عبد المطلب ، فأجابه النبي صلىاللهعليهوآله إلى ذلك ودخل منزله وتحرم بزاده ، فلما خرج النبي صلىاللهعليهوآله خرج معه ابن جذعان مشيعا له ، فلما أراد الرجوع عنه قال له النبي صلىاللهعليهوآله : إني أحب أن تكون غدا في ضيافتي أنت وتيم وأتباعها وحلفاؤها عند طلوع الغزالة
، ثم افترقا ومضى النبي إلى دار عمه أبي طالب وجلس متفكرا فيما وعده لعبد
الله بن جذعان ، إذ دخلت عليه فاطمة بنت أسد صلوات الله عليها زوجة عمه أبي طالب ـ
وكانت هي مربيته ، وكان يسميها الأم فلما رأته مهموما قالت : فداك أبي وأمي ، ما
لي أراك مهموما؟ أعارضك أحد من
__________________
أهل مكة؟. فقال :
لا. قالت : فبحقي عليك إلا ما أخبرتني بحالك .. فقص عليها قصته مع ابن جذعان وما
قاله وما وعده من الضيافة ، فقالت : يا ولدي! لا تضيقن صدرك ، معي مشار عسل يقوم لك بكل
ما تريد ، فبينما هما في الحديث إذ دخل أبو طالب رضياللهعنه ، فقال لزوجته : فيما أنتما؟. فأعلمته بذلك كله ، وبما قال
النبي صلىاللهعليهوآله لابن جذعان ، فضمه إلى صدره وقبل ما بين عينيه ، وقال : يا
ولدي! بالله عليك لا تضيقن صدرك من ذلك ، وفي نهار غد أقوم لك بجميع ما تحتاج إليه
إن شاء الله تعالى ، وأصنع وليمة تتحدث بها الركبان في سائر البلدان ، وعزم على
وليمة تعم سائر القبائل ، وقصد نحو أخيه العباس ليقترض من ماله شيئا يضمه إلى ماله
، فوجد بني عبد المطلب في الطريق فأقرضوه من الجمال والذهب ما يكفيه ، فرجع عن
القصد إلى أخيه العباس ، وآثر التخفيف عنه ، فبلغ أخاه العباس ذلك فعظم عليه رجوعه
، فأقبل إلى أخيه أبي طالب وهو مغموم كئيب حزين ـ فسلم عليه ، فقال له أبو طالب :
ما لي أراك حزينا كئيبا؟. قال : بلغني أنك قصدتني في حاجة ثم بدا لك عنها فرجعت من
الطريق ، فما هذه الحال؟. فقص عليه القصة .. إلى آخرها ، فقال له العباس : الأمر
إليك ، وإنك لم تزل أهلا لكل مكرمة وموئلا لكل نائبة ، ثم جلس عنده ساعة وقد أخذ أبو طالب فيما يحتاج
إليه من آلة الطبخ وغير ذلك ، فقال له العباس : يا أخي! لي إليك حاجة؟. فقال له
أبو طالب : هي مقضية ، فاذكرها ، فقال العباس : أقسمت عليك بحق البيت وشيبة الحمد إلا ما قضيتها ، فقال :
__________________
لك ذلك ولو سألت
في النفس والولد ، فقال : تهب لي هذه المكرمة تشرفني بها. فقال : قد أجبتك إلى ذلك
مع ما أصنعه أنا .. فنحر العباس الجزر ونصب القدور ، وعقد الحلاوات ، وشوى المشوي ، وأكثر من الزاد
فوق ما يراد ، ونادى سائر الناس ، فاجتمع أهل مكة وبطون قريش وسائر العرب على
اختلاف طبقاتها يهرعون من كل مكان حتى كأنه عيد الله الأكبر ، ونصب للنبي صلىاللهعليهوآله منصبا عاليا ، وزينه بالدر والياقوت والثياب الفاخرة ، وبقي الناس من حسن
النبي صلىاللهعليهوآله ووقاره وعقله وكماله متحيرين ، وضوؤه يعلو نور الشمس ،
وتفرق الناس مسرورين وقد أخذوا في الخطب والأشعار ومدح النبي صلىاللهعليهوآله وعشيرته على حسن ضيافتهم.
فلما بلغ النبي صلىاللهعليهوآله أشده وتزوج خديجة وأوحى الله إليه ونبأه وأرسله إلى سائر العرب والعجم ،
وأظهره على المشركين ، وفتح مكة ودخلها مؤيدا منصورا ، وقتل من قتل ، وبغى من بغى
، أوحى الله إليه : يا محمد! إن عمك العباس له عليك يد سابقة وجميل متقدم ، وهو ما
أنفق عليك في وليمة عبد الله بن جذعان ، وهو ستون ألف دينار مع ما له عليك في سائر
الأزمان ، وفي نفسه شهوة من سوق عكاظ ، فامنحه إياه في مدة حياته ولولده بعد وفاته
، فأعطاه ذلك ، ثم قال صلىاللهعليهوآله : ألا لعنة الله على من عارض عمي في سوق عكاظ و نازعه فيه ، ومن
أخذه منه فأنا بريء منه وعليه ( لَعْنَةُ اللهِ
وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) ، فلم يكترث عمر بذلك وحسد العباس على دخل سوق عكاظ ، وغصبه منه ،
__________________
ولم يزل العباس
متظلما إلى حين وفاته.
ومنها : أن النبي صلىاللهعليهوآله كان جالسا في مسجده يوما ـ وحوله جماعة من الصحابة ـ إذ
دخل عليه عمه العباس ـ وكان رجلا صبيحا حسنا حلو الشمائل ـ فلما رآه النبي صلىاللهعليهوآله قام إليه واستقبله وقبل ما بين عينيه ورحب به وأجلسه إلى جانبه ، فأنشد
العباس أبياتا في مدحه (ص) ، فقال النبي صلىاللهعليهوآله : جزاك الله ـ يا عم ـ خيرا ومكافأتك على الله تعالى.
ثم قال : معاشر
الناس! احفظوني في عمي العباس وانصروه ولا تخذلوه.
ثم قال : يا عم!
اطلب مني شيئا أتحفك به على سبيل الهدية. فقال : يا ابن أخي! أريد من الشام الملعب
، ومن العراق الحيرة ، ومن هجر الخط ، وكانت هذه المواضع كثيرة العمارة ، فقال له
النبي صلىاللهعليهوآله : حبا وكرامة ، ثم دعا عليا عليهالسلام ، فقال : اكتب لعمك العباس هذه المواضع ، فكتب له أمير
المؤمنين كتابا بذلك ، وأملى رسول الله صلىاللهعليهوآله وأشهد الجماعة الحاضرين ، وختم النبي صلىاللهعليهوآله بخاتمه وقال : يا عم! إن يفتح الله تعالى هذه المواضع فهي لك هبة
من الله تعالى ورسوله ، وإن فتحت بعد موتي فإني أوصي الذي ينظر بعدي في الأمة
بتسليم هذه المواضع إليك.
ثم قال : معاشر
المسلمين! إن هذه المواضع المذكورة لعمي العباس ، فعلى من يغير عليه أو يبدله أو
يمنعه أو يظلمه لعنة الله ولعنة اللاعنين ، ثم ناوله الكتاب ، فلما ولي عمر وفتح
هذه المواضع المذكورة أقبل عليه العباس بالكتاب ، فلما نظر فيه دعا رجلا من أهل
الشام وسأله عن الملعب ، فقال : يزيد ارتفاعه على عشرين ألف درهم ، ثم سأل عن
الآخرين ، فذكر له أن ارتفاعهما تقوم بمال كثير. فقال : يا أبا الفضل! إن هذا
المال كثير لا يجوز لك أخذه من دون المسلمين. فقال العباس : هذا كتاب رسول الله صلىاللهعليهوآله يشهد لي بذلك قليلا كان أو
__________________
كثيرا ، فقال عمر
: والله إن كنت تساوي المسلمين في ذلك وإلا فارجع من حيث أتيت ، فجرى بينهما كلام
كثير غليظ ، فغضب عمر ـ وكان سريع الغضب ـ فأخذ الكتاب من العباس ومزقه وتفل فيه
ورمى به في وجه العباس ، وقال : والله! لو طلبت منه حبة واحدة ما أعطيتك ، فأخذ
العباس بقية الكتاب وعاد إلى منزله حزينا باكيا شاكيا إلى الله تعالى وإلى رسوله ،
فصاح العباس بالمهاجرين والأنصار ، فغضبوا لذلك وقالوا : يا عمر! تخرق كتاب رسول
الله وتلقي به في الأرض ، هذا شيء لا نصبر عليه. فخاف عمر أن ينخرم عليه الأمر ،
فقال : قوموا بنا إلى العباس نسترضيه ونفعل معه ما يصلحه ، فنهضوا بأجمعهم إلى دار
العباس فوجدوه موعوكا لشدة ما لحقه من الفتن والألم والظلم ، فقال : نحن في
الغداة عائدوه إن شاء الله تعالى ومعتذرون إليه من فعلنا ، فمضى غد وبعد غد ولم
يعد إليه ولا اعتذر منه ، ثم فرق الأموال على المهاجرين والأنصار وبقي كذلك إلى أن
مات.
ولو أخذنا في ذكر
أفعاله لطال الكتاب ، وهذا القدر فيه عبرة لأولي الألباب.
وأما صاحبهما
الثالث ، فقد استبد بأخذ الأموال ظلما على ما تقدم به الشرح في صاحبيه ، واختص بها
مع أهل بيته من بني أمية دون المسلمين ، فهل يستحق هذا أو يستجيزه مسلم؟.
ثم إنه ابتدع
أشياء أخر :
منها
: منع المراعي من
الجبال والأودية وحماها حتى أخذ عليها مالا باعها به من المسلمين.
ومنها : أن رسول الله صلىاللهعليهوآله نفى الحكم بن العاص ـ عم عثمان عن المدينة ، وطرده عن
جواره فلم يزل طريدا من المدينة ومعه ابنه مروان أيام رسول الله صلىاللهعليهوآله وأيام أبي بكر وأيام عمر يسمى : طريد رسول الله
__________________
صلىاللهعليهوآله ، حتى استولى عثمان فرده إلى المدينة وآواه ، وجعل ابنه
مروان كاتبه وصاحب تدبيره في داره ، فهل هذا منه إلا خلافا على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ومضادة لفعله؟ وهل يستجيز هذا الخلاف على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم والمضادة لأفعاله إلا خارج عن الدين بريء من المسلمين؟ وهل يظن ذو فهم أن
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم طرد الحكم ولعنه وهو مؤمن؟ وإذا لم يكن مؤمنا فما الحال
التي دعت عثمان إلى رده والإحسان إليه ـ وهو رجل كافر ـ لو لا أنه تعصب لرحمه ولم يفكر في دينه ، فحقت
عليه الآية ، قوله تعالى : ( لا تَجِدُ قَوْماً
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ
وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ
عَشِيرَتَهُمْ ) .
ومنها
: أنه جمع ما كان
عند المسلمين من صحف القرآن وطبخها بالماء على النار وغسلها ورمى بها إلا ما كان
عند ابن مسعود ، فإنه امتنع من الدفع إليه ، فأتى إليه فضربه حتى كسر له ضلعين
وحمل من موضعه ذلك فبقي عليلا حتى مات ، وهذه بدعة عظيمة ، لأن تلك الصحف إن كان
فيها زيادة عما في أيدي الناس ، وقصد لذهابه ومنع الناس منه ، فقد حق عليه قوله
تعالى : ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ
وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ
وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) .
هذا ، مع ما يلزم
أنه لم يترك ذلك ويطرحه تعمدا إلا وفيه ما قد كرهه ، ومن كره ما أنزل الله في
كتابه حبط جميع عمله ، كما قال الله تعالى : ( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ ) ، وإن لم تكن في
تلك الصحف زيادة عما في أيدي
__________________
الناس فلا معنى
لما فعله.
ومنها
: أن عمار بن ياسر
قام يوما في مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ وعثمان يخطب على المنبر ـ فوبخ عثمان بشيء من أفعاله ،
فنزل عثمان فركله برجله وألقاه على قفاه ، وجعل يدوس في بطنه ويأمر
أعوانه بذلك حتى غشي على عمار ، وهو يفتري على عمار ويشتمه ، وقد رووا جميعا أن
النبي صلىاللهعليهوآله قال : الحق مع عمار يدور معه حيثما دار.
وقال صلىاللهعليهوآله : إذا افترق الناس يمينا وشمالا فانظروا الفرقة التي فيها عمار فاتبعوه ،
فإنه يدور الحق معه حيثما دار. فلا يخلو حال ضربه لعمار من أمرين : أحدهما ، أنه
يزعم أن ما قال عمار وما فعله باطل ، وفيه تكذيب لقول النبي صلىاللهعليهوآله حيث يقول : الحق مع عمار. فثبت أن يكون ما قاله عمار حقا
كرهه عثمان فضربه عليه.
ومنها : ما فعل
بأبي ذر حين نفاه عن المدينة إلى الربذة ، مع إجماع الأمة في الرواية
أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : : ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر.،
ورووا أنه قال : : إن الله عز وجل أوحى إلي أنه يحب أربعة من أصحابي وأمرني بحبهم
، فقيل : من هم يا رسول الله (ص)؟ قال : علي سيدهم ، وسلمان ، والمقداد ، وأبو ذر.
فحينئذ ثبت أن أبا
ذر حبه الله وحبه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ومحال عند ذوي الفهم أن يكون الله ورسوله يحبان رجلا وهو
يجوز أن يفعل فعلا يستوجب به النفي عن حرم الله ورسوله ، ومحال أيضا أن يشهد رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لرجل أنه ما على وجه الأرض ولا تحت السماء أصدق منه ، ثم
يقول
__________________
باطلا ، فتعين أن
يكون ما فعله وما قاله حقا كرهه عثمان فنفاه عن الحرمين ، ومن كره الحق ولم يحب
الصدق فقد كره ما أنزل الله في كتابه ، لأنه أمر بالكون مع الصادقين ، فقال : ( يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) .
ومنها : أن عبيد الله بن عمر بن الخطاب لما ضرب أبو لؤلؤة عمر الضربة
التي مات فيها سمع ابن عمر قوما يقولون : قتل العلج أمير المؤمنين ، فقدر أنهم
يعنون الهرمزان ـ رئيس فارس ـ وكان قد أسلم على يد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام ثم أعتقه من قسمته من الفيء ، فبادر إليه عبيد الله بن عمر فقتله قبل أن يموت
أبوه ، فقيل لعمر : إن عبيد الله بن عمر قد قتل الهرمزان ، فقال : أخطأ ، فإن الذي
ضربني أبو لؤلؤة ، وما كان للهرمزان في أمري صنع ، وإن عشت احتجت أن أقيده به ، فإن علي بن أبي
طالب لا يقبل منا الدية ، وهو مولاه ، فمات عمر واستولى عثمان على الناس بعده ،
فقال علي عليهالسلام لعثمان : إن عبيد الله بن عمر قتل مولاي الهرمزان بغير حق
، وأنا وليه والطالب بدمه ، سلمه إلي لأقيده به؟. فقال عثمان : بالأمس قتل عمر
وأنا أقتل ابنه أورد على آل عمر ما لا قوام لهم به ، فامتنع من تسليمه إلى علي عليهالسلام شفقة منه ـ بزعمه ـ على آل عمر ، فلما رجع الأمر إلى علي عليهالسلام هرب منه عبيد الله بن عمر إلى الشام فصار مع معاوية ، وحضر يوم صفين مع
معاوية محاربا لأمير المؤمنين فقتل في معركة الحرب ووجد متقلد السيفين يومئذ.
فانظروا ـ يا أهل
الفهم ـ في أمر عثمان كيف عطل حدا من حدود الله تعالى لا شبهة فيه شفقة منه ـ بزعمه
ـ على آل عمر ولم يشفق على نفسه من عقوبة تعطيل حدود الله تعالى ومخالفته ، وأشفق
على آل عمر في قتل من أوجب الله قتله وأمر به رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
__________________
ومنها
: أنه عمد إلى صلاة
الفجر فنقلها من أول وقتها حين طلوع الفجر فجعلها بعد الإسفار وظهور ضياء النهار ،
واتبعه أكثر الناس إلى يومنا هذا ، وزعم أنه إنما فعل ذلك إشفاقا منه على نفسه في
خروجه إلى المسجد خوفا أن يقتل في غلس الفجر كما قتل عمر ، وذلك أن عمر قد جعل
لنفسه سربا تحت الأرض من بيته إلى المسجد ، فقعد أبو لؤلؤة في السرب فضربه بخنجر
في بطنه ، فلما ولي عثمان أخر صلاة الفجر إلى الإسفار ، فعطل وقت فريضة الله وحمل
الناس على صلاتها في غير وقتها ، لأن الله سبحانه قال : ( أَقِمِ
الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) يعني ظلمته ، ثم
قال : ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ
كانَ مَشْهُوداً ) ، والفجر هو أول ما يبدو من المشرق في الظلمة ، وعنده تجب
الصلاة ، فإذا علا في الأفق وانبسط الضياء وزالت الظلمة صار صبحا ، وزال عن أن
يكون فجرا ، ودرج على هذه البدعة أولياؤه ، ثم تخرص بنو أمية بعده أحاديث أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم غلس بالفجر وأسفر بها ، وقال للناس : أسفروا بها أعظم
لأجركم ، فصار المصلي
للفجر في وقتها من طلوع الفجر عند كثير من أوليائهم مبتدعا ، ومن اتبع بدعة عثمان
فهو على السنة.
فما أعجب أحوالهم
وأشنعها!.
ثم ختم بدعه بأن
أهل مصر شكوا من عامله وسألوه أن يصرفه عنهم ، أو يبعث رجلا ناظرا بينهم وبينه ،
فوقع الاختيار على محمد بن أبي بكر ناظرا ـ وكان محمد ممن يشير بالحق وينهى عن
مخالفته ـ فثقل أمره على عثمان وكادوه ، وبقي حريصا على قتله بحيلة ، فلما وقع الاختيار عليه أن
يكون ناظرا بين أهل مصر وبين عامله خرج معهم ، وكتب عثمان بعد خروجه إلى عامله
بمصر يأمره بقتل
__________________
محمد بن أبي بكر
إذا صار إليه ، ودفع الكتاب إلى عبد من عبيده ، فركب العبد راحلته وسار نحو مصر
بالكتاب مسرعا ليدخل مصر قبل دخول محمد بن أبي بكر ، فقيل إن العبد مر يركض فنظر
إليه القوم الذين مع محمد فأخبروا محمدا بذلك ، فبعث خلفه خيلا فأخذوه وارتاب به
محمد ، فلما ردوه إليه وجد الكتاب معه ، فقرأه وانصرف راجعا مع القوم والعبد
والراحلة معهم ، فثاروا على عثمان في ذلك ، فقال : أما العبد فعبدي والراحلة
راحلتي وختم الكتاب ختمي ، وليس الكتاب كتابي ولا أمرت به ، وكان الكتاب بخط مروان
، فقيل له : إن كنت صادقا فادفع إلينا مروان فهذا خطه وهو كاتبك ، فامتنع عليهم ،
فحاصروه وكان ذلك سبب قتله ، فسحقاً وبعداً لهم جميعاً فأنهم
كانوا كافرين.
بيان :
السجف ـ بالفتح
والكسر ـ الستر .
والجزل ـ بالفتح ـ
الكثير .
وقال الجوهري : سفعته النار
والسموم : إذا لفحته لفحا يسيرا فغيرت لون البشرة .
والخرص والتخرص :
الكذب .
والغزالة : الشمس .
ومشار عسل ـ بضم
الميم ـ من إضافة الصفة إلى الموصوف أو بفتحها بتقدير اللام ، يقال : شرت العسل ..
أي اجتنيتها ، والمشار ـ بالفتح ـ الخلية
__________________
يشتار منها .
وفي القاموس : الخط .. سيف
البحرين أو كل سيف ، وموضع باليمامة ، ومرقى السفن بالبحرين ، ويكسر وإليه نسبت الرماح لأنها تباع به.
أقول :
إنما أوردت هذا
الكلام لاشتماله على بعض الأخبار الغريبة ، وإن كان في بعض ما احتج به وهن أو
مخالفة للمشهور ، فسيتضح لك حقيقة الأمر في الأبواب الآتية ، والله الموفق.
١٦٥ ـ وقال أبو
الصلاح رحمهالله في تقريب المعارف : ومما يقدح في عدالة الثلاثة ، قصدهم أهل بيت نبيهم عليهمالسلام بالتخفيف والأذى ، والوضع من أقدارهم ، واجتناب ما يستحقونه من
التعظيم ، فمن ذلك : أمان كل معتزل بيعتهم ضررهم ، وقصدهم عليا عليهالسلام بالأذى لتخلفه عنهم ، والإغلاظ له في الخطاب والمبالغة في الوعيد ، وإحضار
الحطب لتحريق منزله ، والهجوم عليه بالرجال من غير إذنه ، والإتيان به ملببا ،
واضطرارهم بذلك زوجته وبناته ونساءه وحامته من بنات هاشم وغيرهم إلى الخروج عن
بيوتهم ، وتجريد السيوف من حوله ، وتوعده بالقتل إن امتنع من بيعتهم ، ولم يفعلوا
شيئا من ذلك لسعد بن عبادة ولا بالخباب بن المنذر .. وغيرهما ممن تأخر عن بيعتهم
حتى مات أو طويل الزمان.
ومن ذلك ردهم دعوى
فاطمة عليهاالسلام وشهادة علي والحسنين عليهم
__________________
السلام وقبول
شهادة جابر بن عبد الله في الخبيثات ، وعائشة في الحجرة والقميص والنعل ، وغيرهما.
ومنها
: تفضيل الناس في
العطاء والاقتصار بهم على أدنى المنازل.
ومنها
: عقد الرايات
والولايات لمسلمية الفتح والمؤلفة قلوبهم ومكيدي الإسلام من بني أمية ، وبني مخزوم
، وغيرهما ، والإعراض عنهم واجتناب تأهيلهم لشيء من ذلك .
ومنهم : موالاة المعروفين ببغضهم وحسدهم وتقديمهم على رقاب
العالم كمعاوية ، وخالد ، وأبي عبيدة ، والمغيرة ، وأبي موسى ، ومروان ، وعبد الله
بن أبي سرح ، وابن كريز .. ومن ضارعهم في عداوتهم ، والغض من المعروفين
بولايتهم وقصدهم بالأذى كعمار ، وسلمان ، وأبي ذر ، والمقداد ، وأبي بن كعب ، وابن
مسعود .. ومن شاركهم في التخصص بولايتهم عليهم الصلاة والسلام.
ومنها
: قبض أيديهم عن
فدك مع ثبوت استحقاقهم لها على ما بيناه.
وإباحة معاوية
الشام ، وأبي موسى العراق ، وابن كريز البصرة ، وابن أبي صرح [ كذا ] مصر والمغرب
.. وأمثالهم من المشهورين بكيد الإسلام وأهله.
وتأمل هذا بعين
إنصاف يكشف لك عن شديد عداوتهم وتحاملهم عليهم كأمثاله من الأفعال الدالة على تميز
العدو من الولي ، ولا وجه لذلك إلا تخصصهم بصاحب الشريعة صلوات الله عليه وعلى آله
في النسب ، وتقدمهم لديه في
__________________
الدين ، وبذل الجهد في طاعته ،
والمبالغة في نصيحته ونصرة ملته بما لا يشاركون فيه ، وفي هذا ما لا يخفى ما
فيه على متأمل.
ثم قال : ومما يقدح في
عدالتهم ما حفظ عن وجوه الصحابة وفضلاء السابقين والتابعين من الطعن عليهم وذم
أفعالهم والتصريح بذمهم وتصريحهم بذلك عند الوفاة ، وتحسرهم على ما فرط منهم ،
فأما أقوال الصحابة والتابعين ما حفظ عن أمير المؤمنين عليهالسلام من التظلم منهم والتصريح والتلويح بتقدمهم عليه بغير حق في مقام بعد مقام
،كقوله ـ حين أرادوه بالبيعة لأبي بكر ـ : والله أنا لا أبايعكم وأنتم أحق بالبيعة
لي. وقوله عليهالسلام : يا ( ابْنَ أُمَّ! إِنَّ
الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي ). ثم ذكر ما مر من
تظلماته وشكاياته صلوات الله عليه.
ثم قال : ومنه ما
روي عن الأصبغ بن نباتة ورشيد الهجري وأبي كديبة الأسدي [ كذا ] وغيرهم من أصحاب
علي عليهالسلام بأسانيد مختلفة ـ قالوا : كنا جلوسا في المسجد إذ خرج
علينا أمير المؤمنين عليهالسلام من الباب الصغير يهوي بيده عن يمينه يقول : أما ترون ما
أرى؟!. قلنا : يا أمير المؤمنين! وما الذي ترى؟. قال : أرى [ أبا زريق ] في سدف
النار يشير إلي بيده يقول : استغفر لي ، لا غفر الله له ، وزاد أبو كديبة [ كذا ]
: إن الله لا يرضى عنهما حتى يرضياني ، وايم الله لا يرضياني أبدا.
وسئل عن السدف؟
فقال : الوهدة العظيمة.
__________________
قال : ورووا عن
الحارث الأعور ، قال : دخلت على علي عليهالسلام ـ في بعض الليل ـ ، فقال لي : ما جاء بك في هذه الساعة؟.
قلت : حبك يا أمير المؤمنين. قال : الله ..؟. قلت : الله. قال : ألا أحدثك بأشد
الناس عداوة لنا وأشدهم عداوة لمن أحبنا؟. قلت : بلى يا أمير المؤمنين ، أما والله
لقد ظننت ظنا. قال : هات ظنك. قلت : [ فلان وفلان ]. قال : ادن مني يا أعور ،
فدنوت منه ، فقال : ابرأ منهما .. برئ الله منهما.
وفي رواية أخرى :
إني لأتوهم توهما فأكره أن أرمي به بريئا ، [ فلان وفلان ]. فقال : إي والذي فلق
الحبة وبرأ النسمة إنهما لهما ظلماني حقي ونغصاني ريقي وحسداني وآذياني ، وإنه ليوذي أهل النار ضجيجهما ورفع
أصواتهما وتعيير رسول الله صلىاللهعليهوآله إياهما ..
قال : ورووا عن
عمارة ، قال : كنت جالسا عند أمير المؤمنين (ع) و هو في ميمنة مسجد
الكوفة وعنده الناس ، إذ أقبل رجل فسلم عليه ثم قال : يا أمير المؤمنين! والله إني
لأحبك. فقال : لكني والله ما أحبك ، كيف حبك لأبي بكر وعمر؟. فقال : والله إني
لأحبهما حبا شديدا. قال : كيف حبك لعثمان؟. قال :قد رسخ حبه في السويداء من قلبي.
فقال علي عليهالسلام : أنا أبو الحسن ... الحديث .
قال : ورووا عن
سفيان ، عن فضيل بن الزبير ، عن نقيع ، عن أبي كديبة الأزدي ، قال :
قام رجل إلى أمير المؤمنين عليهالسلام فسأله عن قول الله
__________________
تعالى : ( يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ ) فيمن نزلت؟ فقال
: ما تريد؟ أتريد أن تغري بي الناس؟. قال : لا يا أمير المؤمنين ، ولكن أحب أن
أعلم. قال : اجلس ، فجلس ، فقال : اكتب عامرا اكتب معمرا اكتب عمر اكتب عمارا اكتب
معتمرا .. في أحد الخمسة نزلت. قال سفيان : قلت لفضيل : أتراه عمر؟. قال : فمن هو
غيره ..
قال : ورووا عن
المنذر الثوري ، قال : سمعت الحسين بن علي عليهماالسلام يقول : إن أبا بكر وعمر عمدا إلى الأمر ـ وهو لنا كله ـ فجعلا
لنا فيه سهما كسهم الجدة ، أما والله ليهم بهما أنفسهما يوم يطلب الناس فيه
شفاعتنا.
قال : ورووا عنه عليهالسلام ـ وسأله رجل عن أبي بكر وعمر ـ ، فقال : والله لقد ضيعانا ، وذهبا بحقنا ،
وجلسا مجلسا كنا أحق به منهما ، ووطئا على أعناقنا ، وحملا الناس على رقابنا ..
قال : ورووا عن
أبي الجارود زياد بن المنذر ، قال : سئل علي بن الحسين عليهماالسلام عن أبي بكر وعمر؟. فقال : أضغنا بآبائنا ، واضطجعا بسبيلنا ، وحملا
الناس على رقابنا ..
وعن أبي إسحاق ،
أنه قال : صحبت علي بن الحسين عليهماالسلام بين مكة والمدينة ، فسألته عن أبي بكر وعمر ما تقول فيهما؟.
قال : ما عسى أن أقول فيهما .. لا رحمهما الله ولا غفرلهما.
وعن القاسم بن
مسلم ، قال : كنت مع علي بن الحسين عليهماالسلام بينبع يدي في يده ، فقلت : ما تقول في هذين الرجلين؟ أتبرأ
من عدوهما؟. فغضب ورمى بيده من يدي ، ثم قال عليهالسلام : ويحك! يا قاسم! هما أول من أضغنا بآبائنا ، واضطجعا
بسبيلنا ، وحملا الناس على رقابنا ، وجلسا مجلسا كنا
__________________
أحق به منهما ..
وعن حكيم بن جبير
، عنه عليهالسلام مثله ، وزاد : فلا غفر الله لهما.
وعن أبي علي
الخراساني ، عن مولى لعلي بن الحسين عليهماالسلام ، قال : كنت معه عليهالسلام في بعض خلواته ، فقلت : إن لي عليك حقا ، ألا تخبرني عن
هذين الرجلين ، فقال : كافران ، كافر من أحبهما.
وعن أبي حمزة
الثمالي ، قال : قلت لعلي بن الحسين عليهماالسلام ـ وقد خلا ـ : أخبرني عن هذين الرجلين؟. قال : هما أول من
ظلمنا حقنا وأخذا ميراثنا ، وجلسا مجلسا كنا أحق به منهما ، لا غفر الله لهما ولا
رحمهما ، كافران ، كافر من تولاهما.
وعن حكيم بن جبير
، قال : قال علي بن الحسين عليهماالسلام : أنتم تقتلون في عثمان منذ ستين سنة ، فكيف لو تبرأتم من
صنمي قريش؟!.
قال : ورووا عن
سورة بن كليب ، قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام [ عنهما ]. قال : هما أول من ظلمنا حقنا وحمل الناس على
رقابنا ، فأعدت عليه ، فأعاد علي ثلاثا ، فأعدت عليه الرابعة ، فقال :
لذي الحلم قبل
اليوم ما تقرع العصا
|
|
وما علم الإنسان
إلا ليعلما
|
وعن كثير النواء ،
عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال : سألته [ عنهما ] فقال : هما أول من انتزى على حقنا
وحملا الناس على أعناقنا وأكنافنا ، وأدخلا الذل بيوتنا ..
وعنه ، عن أبي
جعفر عليهالسلام ، قال : والله لو وجد عليهما أعوانا لجاهدهما .
وعن بشير ، قال :
سألت أبا جعفر عليهالسلام [ عنهما ] فلم يجبني ، ثم سألته فلم يجبني ، فلما كان في
الثالثة قلت : جعلت فداك ، أخبرني
__________________
عنهما؟. فقال : ما
قطرت قطرة من دمائنا ولا من دماء أحد من المسلمين إلا وهي في أعناقهما إلى يوم القيامة ..
ورووا أن ابن بشير
قال : قلت لأبي جعفر عليهالسلام : إن الناس يزعمون أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : اللهم أعز الإسلام بأبي جهل أو [ برمع ]. فقال أبو جعفر : والله ما قال
هذا رسول الله صلىاللهعليهوآله قط ، إنما أعز الله الدين بمحمد صلىاللهعليهوآله ، ما كان الله ليعز الدين بشرار خلقه.
ورووا عن قدامة بن
سعد الثقفي ، قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام [ عنهما ] فقال : أدركت أهل بيتي وهم يعيبونهما.
وعن أبي الجارود ،
قال : كنت أنا وكثير النواء عند أبي جعفر عليهالسلام ، فقال كثير : يا أبا جعفر! رحمك الله ، هذا أبو الجارود
يبرأ من [ فلان وفلان ] ، فقلت لأبي جعفر عليهالسلام : كذب والله الذي لا إله إلا هو ما سمع ذلك مني قط ، وعنده
عبد الله بن علي أخو أبي جعفر عليهالسلام ، فقال : هلم إلي ، أقبل إلي يا كثير ، كانا والله أول من
ظلمنا حقنا وأضغنا بآبائنا ، وحملا الناس على رقابنا ، فلا غفر الله لهما ،
ولا غفر لك معهما يا كثير.
وعن أبي الجارود ،
قال : : سئل أبو جعفر عليهالسلام عنهما وأنا جالس؟فقال : هما أول من ظلمنا حقنا ، وحملا
الناس على رقابنا ، وأخذا من فاطمة عليهاالسلام عطية رسول الله صلىاللهعليهوآله فدك بنواضحها. فقام ميسر ، فقال : الله ورسوله منهما
بريئان. فقال أبو جعفر عليهالسلام :
لذي الحلم قبل
اليوم ما تقرع العصا
|
|
وما علم الإنسان
إلا ليعلما
|
ورووا عن بشير بن
أراكة النبال ، قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام [ عنهما ] فقال ـ كهيئة المنتهر ـ : ما تريد من صنمي العرب؟!
أنتم تقتلون
__________________
على دم عثمان بن
عفان ، فكيف لو أظهرتم البراءة منهما ، إذا لما ناظروكم طرفة عين؟!.
وعن حجر البجلي ،
قال : : شككت في أمر الرجلين ، فأتيت المدينة ، فسمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : [ إنهما ] أول من ظلمنا وذهب بحقنا وحمل الناس على رقابنا أبو بكر
وعمر.
وعنه عليهالسلام ، قال : لو وجد علي أعوانا لضرب أعناقهما.
وعن سلام بن سعيد
المخزومي ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال : ثلاثة لا يصعد عملهم إلى السماء ولا يقبل منهم عمل
: من مات ولنا أهل البيت في قلبه بغض ، ومن تولى عدونا ، ومن تولى أبابكر وعمر.
وعن ورد بن زيد ـ أخي
الكميت ـ ، قال : سألنا محمد بن علي عليهماالسلام؟ فقال : من كان يعلم أن الله حكم عدل برئ منهما ، وما من
محجمة دم يهراق إلا وهي في رقابهما.
وعنه عليهالسلام ، ـ وسئل [ عنهما ] فقال ـ : هما أول من ظلمنا ، وقبض حقنا ، وتوثب على
رقابنا ، وفتح علينا بابا لا يسده شيء إلى يوم القيامة ، فلا غفر الله لهما ظلمهما
إيانا.
وعن سالم بن أبي
حفصة ، قال : دخلت على أبي جعفر عليهالسلام ، فقلت : أئمتنا وسادتنا نوالي من واليتم ، ونعادي من
عاديتم ، ونبرأ من عدوكم.
فقال : بخ بخ يا
شيخ! إن كان لقولك حقيقة. قلت : جعلت فداك ، إن له حقيقة. قال : ما تقول [ فيهما ]؟.
قال : إماما عدل رحمهما الله؟. قال :يا شيخ! والله لقد أشركت في هذا الأمر من لم
يجعل الله له فيه نصيبا.
وعن فضيل الرسان ،
عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال : مثل [ فلان ] وشيعته مثل فرعون وشيعته ، ومثل علي
وشيعته مثل موسى وشيعته.
ورووا عن أبي جعفر
عليهالسلام في قوله عز وجل : ( وَإِذْ أَسَرَّ
النَّبِيُّ إِلى
بَعْضِ
أَزْواجِهِ حَدِيثاً ) ... ، قال : أسر إليهما أمر القبطية ، وأسر إليهما [ أنهما ]
يليان أمر الأمة من بعده ظالمين فاجرين غادرين.
ورووا عن عبيد بن
سليمان النخعي ، عن محمد بن الحسين بن علي بن الحسين ، عن ابن أخيه الأرقط ، قال :
قلت لجعفر بن محمد : يا عماه! إني أتخوف علي وعليك الفوت أو الموت ، ولم يفرش لي
أمر هذين الرجلين؟. فقال لي جعفر. عليهالسلام : ابرأ منهما ، برئ الله ورسوله منهما.
وعن عبد الله بن
سنان ، عن جعفر بن محمد عليهماالسلام ، قال : قال لي :
صنما قريش اللذان يعبدونهما.
وعن إسماعيل بن
يسار ، عن غير واحد ، عن جعفر بن محمد عليهماالسلام ، قال : كان إذا ذكر [ رمع ] زناه ، وإذا ذكر أبا جعفر
الدوانيق زناه ، ولا يزني غيرهما.
قال : وتناصر
الخبر عن علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد عليهمالسلام من طرق مختلفة أنهم قالوا ـ وكل منهم ـ : ثلاثة ( لا
يَنْظُرُ ) الله ( إِلَيْهِمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) ، من زعم أنه
إمام وليس بإمام ، ومن جحد إمامة إمام من الله ، ومن زعم أن لهما في الإسلام
نصيبا. ومن طرق أخر : أن للأولين ، ومن أخر : للأعرابيين في الإسلام نصيبا .. ـ.
.. إلى غير ذلك من الروايات عمن ذكرناه ، وعن
أبنائهم عليهمالسلام مقترنا بالمعلوم من دينهم لكل متأمل حالهم ، وأنهم يرون في
المتقدمين على أمير المؤمنين عليهالسلام ومن دان بدينهم أنهم ... ، وذلك كاف عن إيراد رواية ،
وإنما ذكرنا طرفا منها استظهارا.
وقد روت الخاصة
والعامة عن جماعة من وجوه الطالبيين ما يضاهي المروي من ذلك عن الأئمة عليهمالسلام :
__________________
فرووا عن معمر بن
خيثم ، قال : بعثني زيد بن علي داعية ، فقلت : جعلت فداك ، ما أجابتنا إليه الشيعة
، فإنها لا تجيبنا إلى ولاية. قال لي : ويحك! أحد أعلم بمظلمته منا ، والله لئن
قلت إنهما جارا في الحكم لتكذبن ، ولئن قلت إنهما استأثرا بالفيء لتكذبن ، ولكنهما
أول من ظلمنا حقنا وحمل الناس على رقابنا ، والله إني لأبغض أبناءهما من بغضي
آباءهما ولكن لو دعوت الناس إلى ما تقولون لرمونا بقوس واحد.
ورووا عن محمد بن
فرات الجرمي ، قال : سمعت زيد بن علي يقول : إنا لنلتقي وآل عمر في الحمام فيعلمون
أنا لا نحبهم ولا يحبونا ، والله إنا لنبغض الأبناء لبغض الآباء.
ورووا عن فضيل بن
الزبير ، قال : قلت لزيد بن علي (ع) : ما تقول في؟. قال : قل فيهما ما قال علي :
كف كما كف لا تجاوز قوله.
قلت : أخبرني عن
قلبي أنا خلقته؟. قال : لا.
قلت : فإني أشهد
على الذي خلقه أنه وضع في قلبي بغضهما ، فكيف لي بإخراج ذلك من قلبي؟. فجلس جالسا
وقال : أنا والله الذي لا إله إلا هو إني لأبغض بنيهما من بغضهما ، وذلك لأنهم إذا
سمعوا سب علي عليهالسلام فرحوا.
ورووا عن العباس
بن الوليد الأغداري ، قال : سئل زيد بن علي عن ، فلم يجب فيهما ، فلما أصابته
الرمية فنزع الرمح من وجهه استقبل الدم بيده حتى صار كأنه كبد ، فقال : أين السائل
عن؟ هما والله شركاء في هذا الدم ، ثم رمى به وراء ظهره.
وعن نافع الثقفي ـ
وكان قد أدرك زيد بن علي ـ ، قال : فسأله رجل عن ، فسكت فلم يجبه ، فلما رمي قال :
أين السائل عن؟هما أوقفاني هذا الموقف.
__________________
ورووا عن يعقوب بن
عدي ، قال : سئل يحيى بن زيد عنهما ـ ونحن بخراسان وقد التقى الصفان ـ ، فقال :
هما أقامانا هذا المقام ، والله لقد كانا لئيما جدهما ، ولقد هما بأمير المؤمنين عليهالسلام أن يقتلاه.
ورووا عن قليب بن
حماد ، عن موسى بن عبد الله بن الحسن ، قال : كنت مع أبي بمكة ، فلقيت رجلا من أهل
الطائف مولى لثقيف ، فنال ، فأوصاه أبي بتقوى الله ، فقال الرجل : يا أبا محمد!
أسألك برب هذه البنية ورب هذا البيت! هل صليا على فاطمة؟ قال : اللهم لا. قال : فلما مضى الرجل
قال موسى : سببته وكفرته. فقال : أي بني! لا تسبه ولا تكفره ، والله لقد فعلا فعلا
عظيما.
وفي رواية أخرى :
.. أي بني! لا تكفره ، فو الله ما صليا على رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ولقد مكث ثلاثا ما دفنوه ، إنه شغلهم ما كانا يبرمان.
ورووا ، أنه أتي
بزيد بن علي الثقفي إلى عبد الله بن الحسن ـ وهو بمكة ـ ، فقال : أنشدك الله! أتعلم أنهم منعوا
فاطمة عليهاالسلام بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله ميراثها؟. قال : نعم.
قال : فأنشدك الله!
أتعلم أن فاطمة ماتت وهي لا تكلمهما ـ وأوصت أن لا يصليا عليها؟. قال : نعم.
قال : فأنشدك الله!
أتعلم أنهم بايعوا قبل أن يدفن رسول الله صلىاللهعليهوآله واغتنموا شغلهم؟. قال : نعم.
قال : وأسألك
بالله! أتعلم أن عليا عليهالسلام لم يبايع لهما حتى أكره؟ قال : نعم.
__________________
قال : فأشهدك أني
منهما بريء وأنا على رأي علي وفاطمة عليهماالسلام.
قال موسى : فأقبلت
عليه ، فقال أبي : أي بني! والله لقد أتيا أمرا عظيما.
ورووا عن مخول بن
إبراهيم ، قال : أخبرني موسى بن عبد الله بن الحسن وذكرهما ، فقال : قل لهؤلاء نحن
نأتم بفاطمة ، فقد جاء البيت عنها أنها ماتت وهي غضبى عليهما ، فنحن نغضب لغضبها ونرضى
لرضاها ، فقد جاء غضبها ، فإذا جاء رضاها رضينا.
قال مخول : وسألت
موسى بن عبد الله عن ، فقال لي : ما أكره ذكره. قلت لمخول : قال فيهما أشد من الظلم والفجور والغدر ؟!. قال :نعم.
قال مخول : وسألت
عنهما مرة ، فقال : أتحسبني تبريا ؟ ثم قال فيهما قولا سيئا.
وعن ابن مسعود ،
قال : سمعت موسى بن عبد الله يقول : هما أول من ظلمنا حقنا وميراثنا من رسول الله صلىاللهعليهوآله وغصبانا فغصب الناس.
ورووا عن يحيى بن
مساور ، قال : سألت يحيى بن عبد الله بن الحسن عن ؟. فقال لي : ابرأ
منهما.
ورووا عن عبد الله
بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عليهالسلام ، قال : شهدت أبي ، محمد بن عمر ، ومحمد بن عمر بن الحسن ـ وهو الذي كان
__________________
مع الحسين بكربلاء
، وكانت الشيعة تنزله بمنزلة أبي جعفر عليهالسلام يعرفون حقه وفضله ـ ، قال : فكلمه في أبي ، فقال محمد بن
عمر بن الحسن بن علي بن أبي طالب لأبي : اسكت! فإنك عاجز ، والله إنهما لشركاء في
دم الحسين عليهالسلام.
وفي رواية أخرى
عنه ، أنه قال : والله لقد أخرجهما رسول الله صلىاللهعليهوآله من مسجده وهما يتطهران وأدخلا وهما جيفة في بيته.
ورووا عن أبي
حذيفة ـ من أهل اليمن وكان فاضلا زاهدا ـ ، قال : سمعت عبد الله بن الحسن بن علي بن
الحسين عليهالسلام وهو يطوف بالبيت ، فقال : ورب هذا البيت ، ورب هذا الركن ،
ورب هذا الحجر ، ما قطرت منا قطرة دم ولا قطرت من دماء المسلمين قطرة إلا وهو في
أعناقهماـ يعني أبابكر وعمرـ.
ورووا عن إسحاق بن
أحمر ، قال : سألت محمد بن الحسن بن علي بن الحسين عليهماالسلام ، قلت : أصلي خلف من يتوالى؟. قال : لا ، ولا كرامة.
ورووا عن أبي
الجارود ، قال : سئل محمد بن عمر بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهالسلام عن؟. فقال : قتلتم منذ ستين سنة في أن ذكرتم عثمان ، فو الله لو ذكرتم لكانت
دماؤكم أحل عندهم من دماء السنانير.
ورووا عن أرطاة بن
حبيب الأسدي ، قال : سمعت الحسن بن علي بن الحسين الشهيد عليهالسلام بفخ يقول : هما والله أقامانا هذا المقام ، وزعما أن رسول الله صلىاللهعليهوآله لا يورث.
ورووا عن إبراهيم
بن ميمون ، عن الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي عليهماالسلام ، قال : ما رفعت امرأة منا طرفها إلى السماء فقطرت منها قطرة إلا كان في
أعناقهما.
ورووا عن قليب بن
حماد ، قال : سألت الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن
زيد بن الحسن ،
والحسين بن زيد بن علي عليهالسلام وعدة من أهل البيت عن رجل من أصحابنا لا يخالفنا في شيء إلا
إذا انتهى إلى أوقفهما وشك في أمرهما؟ فكلهم قالوا : من أوقفهما شكا في أمرهما فهو
ضال كافر.
ورووا عن محمد بن
الفرات ، قال : حدثتني فاطمة الحنفية ، عن فاطمة ابنة الحسين أنها كانت تبغض
وتسبهما.
ورووا عن عمر بن
ثابت ، قال : حدثني عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب ، قال : إن أبا بكر وعمر
عدلا في الناس وظلمانا ، فلم تغضب الناس لنا ، وإن عثمان ظلمنا وظلم الناس ، فغضبت
الناس لأنفسهم فمالوا إليه فقتلوه.
ورووا عن القاسم
بن جندب ، عن أنس بن مالك ، قال : مرض علي عليهالسلام فثقل ، فجلست عند رأسه ، فدخل رسول الله صلىاللهعليهوآله ومعه الناس فامتلأ البيت ، فقمت من مجلسي ، فجلس فيه رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فغمز أبو بكر عمر فقام ، فقال : يا رسول الله (ص) ، إنك كنت عهدت إلينا في
هذا عهدا وإنا لا نراه إلا لما به ، فإن كان شيء فإلى من؟. فسكت رسول الله صلىاللهعليهوآله فلم يجبه ، فغمزه الثانية فكذلك ، ثم الثالثة ، فرفع رسول الله صلىاللهعليهوآله رأسه ثم قال : إن هذا لا يموت من وجعه هذا ، ولا يموت حتى تملياه غيظا ،
وتوسعاه غدرا ، وتجداه صابرا.
ورووا عن يزيد بن
معاوية البكالي ، قالت [ كذا ] : سمعت حذيفة بن اليمان يقول : ولي أبو بكر فطعن في
الإسلام طعنة أوهنه ، ثم ولي عمر فطعن في الإسلام طعنة مرق منه.
وفي رواية أخرى
عنه رضياللهعنه ، قال : ولينا أبو بكر فطعن في الإسلام طعنة ، ثم ولينا
عمر فحل الأزرار ، ثم ولينا عثمان فخرج منه عريانا.
ورووا عن أبان بن
تغلب ، عن الحكم بن عيينة ، قال : كان إذا ذكر عمر
__________________
أمضه ، ثم قال : كان
يدعو ابن عباس فيستفتيه مغايظة لعلي عليهالسلام.
ورووا عن الأعمش ،
أنه كان يقول : قبض نبيهم صلىاللهعليهوآله فلم يكن لهم هم إلا أن يقولوا : منا أمير ومنكم أمير ، وما
أظنهم يفلحون.
ورووا عن معمر بن
زائدة الوشاء ، قال : أشهد على الأعمش أني سمعته يقول : إذا كان يوم القيامة يجاءكالثورين
العقيرين لهما في نار جهنم خوار .
ورووا عن سليمان
بن أبي الورد ، قال : قال الأعمش في مرضه الذي قبض فيه هو برية منهما وسماهما ،
قلت للمسعودي : سماهما؟!. قال : نعم.
ورووا عن عمر بن
زائدة ، قال : كنا عند حبيب بن أبي ثابت ، قال بعض القوم : أبو أفضل من علي ، فغضب
حبيب ثم قام قائما ، فقال : والله الذي لا إله إلا هو لفيهما : (
الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ
اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ ) ... الآية.
ورووا عن يحيى بن
المساور ، عن أبي الجارود ، قال : إن لله عز وجل مدينتين ، مدينة بالمشرق ومدينة
بالمغرب لا يفتران من لعن.
ورووا عن ابن عبد
الرحمن ، قال : سمعت شريكا يقول : ما لهم ولفاطمة عليهاالسلام؟ والله ما جهزت جيشا ولا جمعت جمعا ، والله لقد آذيا رسول
الله صلىاللهعليهوآله في قبره.
__________________
ورووا عن إبراهيم
بن يحيى الثوري ، قال : : سمعت شريكا وسأله رجل يا أبا عبد الله! : حب أبي بكر
وعمر سنة؟ ـ. فقال : يا معافا ، خذ بثوبه فأخرجه واعرف وجهه ولا تدخله علي ، يا
أحمق! لو كان حبهما سنة لكان واجبا عليك أن تذكرهما في صلاتك كما تصلي على محمد
وآل محمد.
ولنوضح بعض ما
يحتاج إلى الإيضاح :
قوله عليهالسلام : الوهدة العظيمة.
أقول
: لم أره بهذا
المعنى فيما عندنا من كتب اللغة ، ولعله أطلق عليه مجازا ، فإن
السدفة ـ بالفتح والضم ـ والسدف ـ بالتحريك ـ : الظلمة والضوء ضد ـ ، وبالضم :
الباب ، وسدته ، وسترة تكون بالباب تقيه من المطر ، وبالتحريك : سواد الليل ، ذكرها الفيروزآبادي .
قوله : أضغنا ،
لعل الباء زائدة أو ليست الألف للتعدية بل للإظهار .. أي أظهر الضغن بآبائنا ، وفي
بعض النسخ : اضطغنا بآبائنا ، وفي بعضها : بإنائنا.
قال في القاموس : اضطغنوا : انطووا على
الأحقاد واضطغنه : أخذه تحت حضنه.
وفي بعض النسخ : أصغيا بإنائنا
، وهو أصوب.
قال في النهاية في حديث الهرة :
أنه كان يصغي لها الإناء .. أي يميله
__________________
ليسهل عليه الشرب منه.
فالمعنى : أنهم سهلوا لغيرهم أخذ حقنا.
وقال الجوهري : أصغيت إلى فلان
: إذا ملت بسمعك نحوه ، وأصغيت الإناء : مثله يقال فلان مصغى إناؤه إذا نقص حقه ، انتهى. فالمعنى
: إنهم نقصوا حقنا ، ولعل التعبير عن نقص الحق بذلك لأنه إذا أميل الإناء لا
يمتلي.
قوله عليهالسلام : واضطجعا .. لعله كناية عن ترصدهما للإضرار حيلة وغيلة والانتهاز للفرصة في
ذلك.
قوله عليهالسلام : لذي الحلم .. قال الجوهري : وقول الشاعر :
وزعمت أنا لا
حلوم لنا
|
|
إن العصا قرعت
لذي الحلم
|
أي إن الحليم إذا
نبه انتبه ، وأصله أن حكما من حكام العرب عاش حتى أهتر ، فقال لابنته : إذا أنكرت
من فهمي شيئا عند الحكم فاقرعي لي المجن بالعصا لأرتدع ، قال المتلمس : لذي الحلم
... البيت .
قوله عليهالسلام : ما قال هذا .. يمكن حمله على أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يقل هذا على وجه السؤال والاعتقاد ، بل لتنزل الآية
ويظهر للناس حالهما ، أو لم يكن غرضه صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يعز الدين بهما مع كفرهما ونفاقهما ، بل مع إسلامهما
واقعا ، فأخبر الله تعالى بأنهما لا يسلمان أبدا ، فلا ينافي الأخبار السابقة.
__________________
قوله عليهالسلام : زناه .. أي قال إنه ولد زنا ، وإن كان يستعمل في المشهور فيمن نسب غيره إلى فعل الزنا.
١٦٦
ـ مهج الدعوات : عن الرضا عليهالسلام ، قال : من دعا بهذا الدعاء في سجدة الشكر كان كالرامي مع
النبي صلىاللهعليهوآله في بدر وأحد وحنين بألف ألف سهم.
١٦٧ ـ وحكاها
الكفعمي في الجنة :
الدعاء
اللهم العن الذين
بدلا دينك ، وغيرا نعمتك ، واتهما رسولك (ص) ، وخالفا ملتك ، وصدا عن سبيلك ،
وكفرا آلاءك ، وردا عليك كلامك ، واستهزءا برسولك ، وقتلا ابن نبيك ، وحرفا كتابك
، وجحدا آياتك ، واستكبرا عن عبادتك ، وقتلا أولياءك ، وجلسا في مجلس لم
يكن لهما بحق ، وحملا الناس على أكتاف آل محمد عليه وعليهم السلام ، اللهم العنهما
لعنا يتلو بعضه بعضا ، واحشرهما وأتباعهما إلى جهنم زرقا ، اللهم إنا
نتقرب إليك باللعنة لهما والبراءة منهما في الدنيا والآخرة ، اللهم العن قتلة أمير
المؤمنين وقتلة الحسين بن علي بن بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله ، اللهم زدهما عذابا فوق العذاب ، وهوانا
__________________
فوق هوان ، وذلا
فوق ذل ، وخزيا فوق خزي ، اللهم دعهما إلى النار دعا ، واركسهما في أليم عذابك ركسا ، اللهم احشرهما
وأتباعهما ( إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً ) ، اللهم فرق
جمعهم ، وشتت أمرهم ، وخالف بين كلمتهم ، وبدد جماعتهم ، والعن أئمتهم ، واقتل
قادتهم وسادتهم ، والعن رؤساءهم وكبراءهم ، واكسر رايتهم ، وألق البأس بينهم ، ولا تبق منهم ديارا ،
اللهم العن أبا جهل والوليد لعنا يتلو بعضه بعضا ، ويتبع بعضه بعضا ، اللهم
العنهما لعنا يلعنهما به كل ملك مقرب ، وكل نبي مرسل ، وكل مؤمن امتحنت قلبه
للإيمان ، اللهم العنهما لعنا يتعوذ منه أهل النار ، ومن عذابهما ، اللهم
العنهما لعنا لا يخطر لأحد ببال ، اللهم العنهما في مستسر سرك وظاهر علانيتك ،
وعذبهما عذابا في التقدير وفوق التقدير ، وشارك معهما ابنتيهما وأشياعهما ومحبيهما ومن شايعهما.
أقول
: ودعاء صنمي قريش
مشهور بين الشيعة ، ـ ورواه الكفعمي عن ابن عباس ، أن أمير المؤمنين عليهالسلام كان يقنت به في صلاته، وسيأتي في كتاب الصلاة إن شاء الله ،
وهو مشتمل على جميع بدعهما ، ووقع فيه الاهتمام والمبالغة في لعنهما بما لا مزيد
عليه.
١٦٨
ـ كا : عن العدة ، عن
أحمد البرقي ، عن عبد الرحمن بن حماد ،
__________________
عن عمرو بن مصعب ،
عن فرات بن الأحنف ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : مهما تركت من شيء فلا تترك أن تقول في كل صباح
ومساء : اللهم إني أصبحت .. إلى آخر الدعاء ، وفيه : اللهم العن الفرق المختلفة على
رسولك وولاة الأمر بعد رسولك والأئمة من بعده وشيعتهم ، وأسألك ... إلى آخر ما
سيجيء في كتاب الصلاة ، وكذا الشيخ رحمهالله وغيره في كتبهم مرسلا هذا الدعاء بتغيير يسير.
١٦٩
ـ مهج : بسنده الذي سيجيء في كتاب الصلاة ، عن أبي يحيى
المادئني [ المدائني ] عن أبي عبد الله عليهالسلام ، أنه قال : من حقنا على أوليائنا وأشياعنا أن لا ينصرف
الرجل من صلاته حتى يدعو بهذا الدعاء ، وهو :
اللهم إني أسألك
باسمك العظيم أن تصلي على محمد وآله الطاهرين .. إلى قوله عليهالسلام : اللهم وضاعف لعنتك وبأسك ونكالك وعذابك على اللذين كفرا نعمتك ، وخونا
رسولك ، واتهما نبيك وبايناه ، وحلا عقده في وصيته ، ونبذا عهده في
خليفته من بعده ، وادعيا مقامه ، وغيرا أحكامه ، وبدلا
__________________
سنته ، وقلبا دينه
، وصغرا قدر حججك ، وبدءا بظلمهم ، وطرقا طريق الغدر عليهم ، والخلاف عن أمرهم ،
والقتل لهم ، وإرهاج الحروب عليهم ، ومنع خليفتك من سد الثلم ، وتقويم العوج ،
وتثقيف الأود ، وإمضاء الأحكام ، وإظهار دين الإسلام ، وإقامة حدود القرآن.
اللهم العنهما
وابنتيهما وكل من مال ميلهم وحذا حذوهم ، وسلك طريقتهم ، وتصدر ببدعتهم لعنا لا
يخطر على بال ، ويستعيذ منه أهل النار ، والعن اللهم من دان بقولهم ، واتبع أمرهم
، ودعا إلى ولايتهم ، وشكك في كفرهم من الأولين والآخرين.
بيان :
في النهاية : التخون :
التنقص.
وقال الجوهري : رجل خائن ..
وخونه : نسبه إلى الخيانة.
وفي النهاية : نبذت الشيء أنبذه
نبذا فهو منبوذ إذا رميته وأبعدته.
وقلبا دينه .. أي
ردا ، أو بالتشديد ، يقال رجل مقلبا .. أي محتال .
إرهاج الغبار :
إثارته .
__________________
والثلمة : الخلل
في الحائط وغيره .
وتثقيف الرمح :
تسويتها .
وأود : اعوج .
١٧٠
ـ يب : بإسناده عن
الحسين بن ثوير وأبي سلمة السراج ، قالا : سمعنا أبا عبد الله عليهالسلام وهو يلعن في دبر كل مكتوبة أربعة من الرجال وأربعا من النساء : التيمي
والعدوي وفعلان ومعاوية .. ويسميهم ، وفلانة وفلانة وهند وأم الحكم أخت
معاوية.
١٧١
ـ كشف المحجة ، للسيد علي بن طاوس : قال ـ بعد ما حكى خبر سعد بن عبد الله المتقدم المشتمل
على سبب إسلامهما ـ : ووقفت أنا في كتاب دانيال المختصر من كتاب الملاحم ما يتضمن
أن [ فلانا وفلانا ] كانا عرفا من كتاب دانيال ـ وكان عند اليهود ـ حديث ملك
النبي صلىاللهعليهوآله وولاية رجل من تيم ورجل من عدي بعده دون وصيه ، ولما رأيا الصفة التي
كان في الكتاب في محمد صلىاللهعليهوآله تبعاه وأسلما معه طلبا للولاية التي ذكرها دانيال في
كتابه.
__________________
١٧٢
ـ يج : عن داود الرقي
، قال : كنت عند الصادق عليهالسلام والمفضل وأبو عبد الله البلخي إذ دخل علينا كثير النواء ، وقال :
إن أبا الخطاب يشتم [ فلانا وفلانا ] ويظهر البراءة منهما ، فالتفت الصادق عليهالسلام إلى أبي الخطاب وقال : يا محمد! ما تقول؟. قال : كذب والله ، ما قد سمع قط شتمهما
مني . فقال الصادق عليهالسلام : قد حلف ، ولا يحلف كاذبا. فقال : صدق ، لم أسمع أنا منه
، ولكن حدثني الثقة به عنه. قال الصادق عليهالسلام : إن الثقة لا يبلغ ذلك ، فلما خرج كثير النواء قال الصادق
عليهالسلام : أما والله لئن كان أبو الخطاب ذكر ما قال كثير لقد علم
من أمرهم ما لم يعلمه كثير ، والله لقد جلسا مجلس أمير المؤمنين عليهالسلام غصبا ، فلا غفر الله لهما ولا عفا عنهما. فبهت أبو عبد الله البلخي ، فنظر
إلى الصادق عليهالسلام متعجبا مما قال فيهما ، فقال الصادق عليهالسلام : أنكرت ما سمعت فيهما ؟! قال : كان ذلك. فقال : فهلا الإنكار منك ليلة دفع إليك فلان بن فلان
البلخي جارية فلانة لتبيعها ، فلما عبرت النهر افترشتها في أصل شجرة. فقال البلخي : قد مضى والله لهذا الحديث أكثر
من عشرين سنة ، ولقد تبت إلى الله من ذلك. فقال الصادق عليهالسلام : لقد تبت وما تاب الله عليك ، وقد غضب الله لصاحب الجارية .
__________________
١٧٣
ـ مصبا : بإسناده عن
عقبة بن خالد ، عن أبيه ، عن أبي جعفر عليهالسلام في زيارة عاشوراء : اللهم خص أنت أول ظالم باللعن مني
وابدأ به أولا ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع ، اللهم العن يزيد بن معاوية خامسا
.. إلى آخر الزيارة.
والزيارات مشحونة
بأمثال ذلك كما سيأتي في المجلد الثاني والعشرين .
أقول
: الأخبار الدالة
على كفر [ فلان وفلان ] وأضرابهما وثواب لعنهم والبراءة منهم ، وما يتضمن بدعهم
أكثر من أن يذكر في هذا المجلد أو في مجلدات شتى ، وفيما أوردنا كفاية لمن أراد
الله هدايته إلى الصراط المستقيم.
تذنيب وتتميم :
اعلم ، أن طائفة
من أهل الخلاف لما رأوا أن إنكار أهل البيت عليهمالسلام على أئمتهم ومشايخهم حجة قاطعة على بطلانهم ، ولم يقدروا
على القدح في أهل البيت صلوات الله عليهم ورد أخبارهم ـ لما تواتر بينهم من فضائلهم
وما نزل في الكتاب الكريم من تفضيلهم ومدحهم ، حتى صار وجوب مودتهم وفرض ولايتهم
من الضروريات في دين الإسلام ـ اضطروا إلى القول بأنهم عليهمالسلام لم يقدحوا في الخلفاء ولم يذكروهم إلا بحسن الثناء ـ كما ذكره التفتازاني في
شرح المقاصد ـ.
وربما تمسكوا بأخبار
شاذة موضوعة رووها عن النواصب ، ولا يخفى ـ على من له أدنى مسكة من العقل ـ أنه لا
يصلح أمثال تلك الروايات المعدودة الشاذة مع ظهور التقية فيها ـ لمعارضة ما تواتر
عنهم عليهمالسلام وروتها خواص أصحابهم وبطانتهم ، ولا يمكن صدور مثلها إلا
عن صميم القلب بدون الخوف
__________________
والتقية ، وأي
ضرورة في أن ينسبوا إلى أئمتهم في زمان الخوف والتقية ما يصير سببا لتضررهم من
المخالفين ، ولتضاعف خوفهم ، ووقوع الجرائم والقتل والنهب عليهم؟ ولم لم يمنعهم
أئمتهم من تدوين أمثال ذلك في كتبهم في مدة مديدة تزيد على ثلاثمائة سنة ، وأكثر
تلك الكتب قد دونت في زمانهم؟ ولم يتبروا منهم كما تبروا من الغلاة كأبي الخطاب
وأضرابه؟ وهل هذا مثل أن يقال لم ير أحد من أصحاب الأئمة الذين دونوا أسماءهم في
رجال الشيعة أحدا من الأئمة عليهمالسلام ولم يسمعوا منه شيئا بل كانوا يفترون عليهم؟ أو يقال لم
يكن جماعة موسومون بتلك الأسامي ، بل وضعت الشيعة تلك الأسامي من غير أصل؟ وتقول
اليهود والنصارى لم يبعث رجل مسمى بمحمد بأمثال تلك الخرافات؟.
وبالجملة ، لا ريب
في أن مذاهب الناس وعقائدهم إنما يؤخذ من خواصهم وأحبائهم دون المنحرفين عنهم
والمنخرطين في سلك أعدائهم ، وهذا من أجلى الواضحات.
ولعمري كيف لا
يكذبون أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأضرابهم فيما ينسبون إليهم ، ويكذبون أصحاب
أئمتنا عليهمالسلام في ذلك؟!.
وأعجب من ذلك أنهم
يعتمدون على أصولهم المشحونة بالأباطيل والأكاذيب المروية عن جماعة من المنافقين
ظهر على الناس فسقهم وكذبهم ، ولا يلتفتون إلى ما يرويه أفاضل الشيعة في أصولهم مع
كونهم معروفين بين الفريقين بالورع والزهد والصدق والديانة؟ وهل هذا إلا لمحض
العصبية والعناد؟!.
فقد روى مسلم في
صحيحه ، بإسناده عن عمرو بن العاص ، قال :سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ جهارا غير سر ـ يقول : ألا إن آل أبي طالب ليسوا لي أولياء ، وإنما وليي
الله ( وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) .
__________________
وقد حكى ابن أبي
الحديد ، عن أبي جعفر الإسكافي ـ وهو من مشايخ المعتزلة ـ كلاما
في المنحرفين عن علي عليهالسلام والمبغضين له. وعد منهم عمرو بن العاص ، فروى الحديث الذي
أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما مسندا متصلا بعمرو بن العاص ، وذكر الحديث ،
فيظهر من كلامه الاعتراف بوجود الخبر في صحيح البخاري أيضا .
ثم لما رأى بعض
العامة شناعة تلك الرواية غيروا في كثير من النسخ لفظ أبي طالب بلفظ أبي فلان.
وروى مسلم ، عن أبي سعيد
الخدري : أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : لا تكتبوا عني غير القرآن ومن كتب عني غير القرآن
فليمحه ، وحدثوا عني ولا حرج ، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.
ولا ريب في أن
تحريم الكتابة عن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم باطل باتفاق أهل الإسلام.
ونقل ابن أبي
الحديد أيضا ، عن الإسكافي : أن معاوية وضع قوما من الصحابة وقوما
من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي عليهالسلام ، يقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم جعلا يرغب في
مثله ، فاختلقوا ما أرضاه ، منهم : أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة
، ومن التابعين عروة بن الزبير.
__________________
روى الزهري ، عن
عروة بن الزبير ، عن عائشة ، قالت : كنت عند رسول الله إذ أقبل العباس وعلي ، فقال
: يا عائشة! إن هذين يموتان على غير ملتي ، أو قال : ديني.
وروى عبد الرزاق ،
عن معمر ، قال : كان عند الزهري حديثان عن عروة عن عائشة في علي عليهالسلام ، فسألته عنهما يوما ، فقال : ما تصنع بهما وبحديثهما؟! الله أعلم بهما ، إني
لأتهمهما في بني هاشم.
قال : أما الحديث
الأول فقد ذكرناه ، وأما الحديث الثاني فهو : أن عروة زعم أن عائشة حدثته ، قالت :
كنت عند النبي صلىاللهعليهوآله إذ أقبل العباس وعلي ، فقال : يا عائشة! إن سرك أن تنظري
إلى رجلين من أهل النار فانظري إلى هذين قد طلعا ، فنظرت فإذا العباس وعلي بن أبي
طالب. انتهى.
ومع وجود أمثال
تلك الروايات في أصولهم الفاسدة يعتمدون عليها اعتمادهم على القرآن ، ويفرون من
روايات الشيعة المتدينين البررة ( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ
مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ) ، وأي نص قاطع دل على انحصار المحدثين ورواة الأخبار في
البخاري ومسلم ومن يحذو حذوهما في التعصب وإخفاء الحق وطرح ما يخالف أهواءهم من
الأخبار ، كما يظهر للفطن البصير مما حكاه ابن الأثير ، قال :قال
البخاري : أخرجت كتابي الصحيح من زهاء ستمائة ألف حديث.
وقال مسلم : صنفت
المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة.
__________________
وقال أبو داود : كتبت عن رسول
الله صلى الله عليه [ وآله ] خمسمائة ألف حديث ، انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب
ـ يعني كتاب السنن ـ أربعة آلاف حديث وثمانمائة.
وإنما تأخذ الشيعة
أخبار دينهم عمن تعلق بالعروة الوثقى التي هي متابعة أهل بيت النبوة الذين شهد
الله لهم بالتطهير ، ونص عليهم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بأنهم سفينة النجاة ، ولا يأخذون شطر دينهم عن امرأة ناقصة
العقل والدين مبغضة لأمير المؤمنين عليهالسلام ، وشطره الآخر عن أبي هريرة الدوسي الكذاب المدني ، وأنس
بن مالك ـ الذي فضحه الله بكتمان الحق وضربه ببياض لا تغطيه العمامة ـ ومعاوية ،
وعمرو بن العاص ، وزياد المعروفين عند الفريقين بخبث المولد وبغض من أخبر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الأمين بأن بغضه آية النفاق .. وأضراب هؤلاء ، لكن التعصب أسدل أغطية الغي
والضلال على أبصارهم إلى يوم النشور ، ( وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ
اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ ) .
__________________
[٢٠] باب آخر
في ذكر أهل التابوت في النار
١
ـ ج : سليم بن قيس
الهلالي ، عن سلمان الفارسي ، قال : قال أمير المؤمنين عليهالسلام في يوم بيعة أبي بكر : لست بقائل غير شيء واحد أذكركم بالله أيها الأربعة ـ يعنيني
والزبير وأبا ذر والمقداد ـ أسمعتم رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : إن تابوتا من نار فيه اثنا عشر رجلا ، ستة من
الأولين وستة من الآخرين في جب في قعر جهنم في تابوت مقفل ، على ذلك الجب صخرة إذا
أراد الله أن يسعر جهنم كشف تلك الصخرة عن ذلك الجب فاستعاذت جهنم من وهج ذلك الجب ،
فسألناه عنهم وأنتم شهود ، فقال النبي صلىاللهعليهوآله : أما الأولون : فابن آدم الذي قتل أخاه ، وفرعون الفراعنة
، و ( الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ ) ، ورجلان من بني
إسرائيل بدلا كتابهما وغيرا سنتهما ، أما أحدهما فهود
__________________
اليهود ، والآخر
نصر النصارى ، وإبليس سادسهم ، والدجال في الآخرين ، وهؤلاء الخمسة أصحاب الصحيفة
الذين تعاهدوا وتعاقدوا على عداوتك يا أخي ، والتظاهر عليك بعدي هذا .. وهذا حتى عددهم وسماهم.
فقال سلمان :
فقلنا : صدقت نشهد أنا سمعنا ذلك من رسول الله صلىاللهعليهوآله ..
٢
ـ كتاب سليم : مثله ، وقد مر .
٣
ـ فس : ( قُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) ، قال : الفلق جب في جهنم يتعوذ أهل النار من شدة حره ،
سأل الله أن يأذن له أن يتنفس فأذن له ، فتنفس فأحرق جهنم. قال : وفي ذلك الجب
صندوق من نار يتعوذ أهل تلك الجب من حر ذلك الصندوق ، وهو التابوت ، وفي ذلك التابوت
ستة من الأولين وستة من الآخرين ، فأما الستة من الأولين : فابن
آدم الذي قتل أخاه ، وفرعون إبراهيم الذي ألقى إبراهيم في النار ، وفرعون موسى ،
والسامري الذي اتخذ العجل ، والذي هود اليهود ، والذي نصر النصارى ، وأما الستة من
الآخرين :
__________________
فهو الأول والثاني
والثالث والرابع وصاحب الخوارج وابن ملجم .
( وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ
إِذا وَقَبَ ) ، قال : الذي يلقى في الجب يقب فيه .
٤
ـ ثو : ابن الوليد ،
عن الصفار ، عن عباد بن سليمان ، عن محمد بن سليمان الديلمي ، عن أبيه ، عن إسحاق
بن عمار ، عن موسى بن جعفر عليهماالسلام ، قال : قلت : جعلت فداك ، حدثني فيهما بحديث ، فقد سمعت
من أبيك فيهما بأحاديث عدة. قال : فقال لي : يا إسحاق! الأول بمنزلة العجل ،
والثاني بمنزلة السامري.
قال : قلت : جعلت
فداك ، زدني فيهما؟. قال : هما والله نصرا وهودا ومجسا ، فلا غفر الله ذلك لهما.
قال : قلت : جعلت
فداك ، زدني فيهما. قال : ثلاثة لا ينظر الله إليهم ( وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ )
قال : قلت : جعلت
فداك ، فمن هم؟. قال : رجل ادعى إماما من غير الله ، وآخر طعن في إمام من الله ،
وآخر زعم أن لهما في الإسلام نصيبا.
قال : قلت : جعلت
فداك ، زدني فيهما؟. قال : ما أبالي ـ يا إسحاق محوت المحكم من كتاب الله أو جحدت
محمدا صلىاللهعليهوآلهوسلم النبوة أو
__________________
زعمت أن ليس في
السماء إله ، أو تقدمت على علي بن أبي طالب عليهالسلام.
قال : قلت : جعلت
فداك ، زدني؟. قال : فقال لي : يا إسحاق! إن في النار لواديا ـ يقال له : سقر ـ لم
يتنفس منذ خلقه الله ، لو أذن الله عز وجل له في التنفس بقدر مخيط لأحرق ما على وجه الأرض ،
وإن أهل النار ليتعوذون من حر ذلك الوادي ونتنه وقذره ، وما أعد الله فيه لأهله ، وإن في ذلك الوادي
لجبلا يتعوذ جميع أهل ذلك الوادي من حر ذلك الجبل ونتنه وقذره وما أعد الله فيه
لأهله من العذاب ، وإن في ذلك الجبل لشعبا يتعوذ جميع أهل ذلك الجبل من حر
ذلك الشعب ونتنه وقذره وما أعد الله فيه لأهله ، وإن في ذلك الشعب لقليب [ لقليبا
] يتعوذ جميع أهل ذلك الشعب من حر ذلك القليب ونتنه وقذره وما أعد الله فيه
لأهله ، وإن في ذلك القليب لحية يتعوذ أهل ذلك القليب من خبث تلك الحية ونتنها وقذرها وما أعد الله في أنيابها من
السم لأهلها ، وإن في جوف تلك الحية لسبعة صناديق فيها خمسة من الأمم السالفة ،
واثنان من هذه الأمة.
قال : قلت : جعلت
فداك ، ومن الخمسة؟ ومن الاثنان؟. قال : فأما الخمسة : فقابيل الذي قتل هابيل ، ونمرود ( الَّذِي
حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ ) ، فقال : ( أَنَا أُحْيِي
وَأُمِيتُ ) ، وفرعون الذي قال : ( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى
) ويهود الذي
__________________
هود اليهود ،
وبولس الذي نصر النصارى ، ومن هذه الأمة أعرابيان ..
٥
ـ ل : بهذا الإسناد
من قوله : يا إسحاق! إن في النار لواديا .. إلى آخر الخبر.
بيان :
الأعرابيان :
الأول والثاني اللذان لم يؤمنا بالله طرفة عين.
٦
ـ ل : أبي ، عن سعد ،
عن ابن أبي الخطاب ، عن الحكم بن مسكين ، عن عبد الرحمن بن سيابة ، عن جعيد همدان ، قال : قال
أمير المؤمنين عليهالسلام : إن في التابوت الأسفل من النار ستة من الأولين
وستة من الآخرين ، فأما الستة من الأولين : فابن آدم الذي قاتل أخيه ، وفرعون
الفراعنة ، والسامري ، والدجال ، ـ كتابه في الأولين ، ويخرج في الآخرين وهامان ،
وقارون ، والستة من الآخرين : فنعثل ، ومعاوية ، وعمرو بن العاص ، وأبو موسى
الأشعري .. ونسي المحدث اثنين.
بيان :
نعثل : عن عثمان كما سيأتي ، والمنسيان الأعرابيان الأولان بشهادة ما تقدم وما سيأتي.
__________________
٧
ـ ثو : ابن الوليد ،
عن الصفار ، عن ابن معروف ، عن ابن محبوب ، عن حنان بن سدير ، قال : حدثني رجل من
أصحاب أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : سمعته يقول : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة
لسبعة نفر : أولهم ابن آدم الذي قتل أخاه ، ونمرود ( الَّذِي حَاجَّ
إِبْراهِيمَ ) عليهالسلام ( فِي رَبِّهِ ) ، واثنان في بني
إسرائيل هودا قومهما ونصراهما ، وفرعون الذي قال : ( أَنَا رَبُّكُمُ
الْأَعْلى ) ، واثنان من هذه الأمة أحدهما شرهما في تابوت من قوارير تحت الفلق في
بحار من نار.
٨
ـ كتاب الإستدراك : بإسناده إلى الأعمش ، عن جعفر بن محمد ، عن آبائه عليهمالسلام ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لجهنم سبعة أبواب ـ وهي الأركان ـ لسبعة فراعنة : نمرود
بن كنعان فرعون الخليل ، ومصعب بن الوليد فرعون موسى ، وأبو جهل بن هشام ، والأول
، والثاني ، ويزيد قاتل ولدي ، ورجل من ولد العباس يلقب بالدوانيقي اسمه المنصور.
أقول :
سيأتي في احتجاج أمير
المؤمنين عليهالسلام على الزبير ما يناسب الباب.
__________________
[٢٢] باب
تفصيل مطاعن أبي بكر والاحتجاج
بها على المخالفين
بإيراد الأخبار من كتبهم
الطعن الأول :
ما ذكره أصحابنا
رضوان الله عليهم : أن النبي صلىاللهعليهوآله لم يول أبا بكر شيئا من الأعمال مع أنه كان يوليها غيره ،
ولما أنفذه لأداء سورة براءة إلى أهل مكة عزله وبعث عليا عليهالسلام ليأخذها منه ويقرأها على الناس ، ولما رجع أبو بكر إلى النبي صلىاللهعليهوآله قال له : لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني .
فمن لم يصلح لأداء
سورة واحدة إلى أهل بلدة كيف يصلح للرئاسة العامة المتضمنة لأداء جميع الأحكام إلى
عموم الرعايا في سائر البلاد؟! وسيأتي الروايات الواردة في ذلك مع الكلام فيها على
وجه يناسب الكتاب في المجلد التاسع في باب
__________________
مفرد .
وما أجابوا به من
أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم ولاه الصلاة بالناس ، فقد تقدم القول فيه مفصلا.
وما ذكره قاضي
القضاة في المغني من أنه لو سلم أنه لم يوله لما دل ذلك على نقص ولا على
أنه لا يصلح للإمارة والإمامة ، بل لو قيل إنه لم يوله لحاجته إليه بحضرته وإن ذلك رفعة
له لكان أقرب ، سيما وقد روي عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم ما يدل على أنهما وزيراه ، فكان عليهالسلام محتاجا إليهما وإلى رأيهما.
وأجاب السيد رضياللهعنه في الشافي بأن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يكن يستشير أحدا لحاجة منه إلى رأيه وفقر إلى تعليمه
وتوقيفه ، لأنه عليه وآله السلام ، الكامل الراجح المعصوم المؤيد بالملائكة ،
وإنما كانت مشاورته أصحابه ليعلمهم كيف يعملون في أمورهم ، وقد قيل يستخرج بذلك
دخائلهم وضمائرهم.
وبعد ، فكيف
استمرت هذه الحاجة واتصلت منه إليهما حتى لم يستغن في زمان من الأزمان عن حضورهما
فيوليهما؟! وهل هذا إلا قدح في رأي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ونسبة له إلى أنه كان ممن يحتاج إلى أن يلقن ويوقف على كل
شيء ، وقد نزهه الله تعالى عن ذلك.
__________________
فأما ادعاؤه أن
الرواية وردت بأنهما وزيراه ، فقد كان يجب أن يصحح ذلك قبل أن يعتمده ويحتج به ،
فإذا ندفعه عنه أشد دفع. انتهى كلامه قدسسره.
وأقول : الرواية التي أشار إليها القاضي هي ما رواها في المشكاة ، عن الترمذي ، عن أبي سعيد
الخدري : أن النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم قال : ما من نبي إلا وله وزيران من
أهل السماء ، ووزيران من أهل الأرض ، فأما وزيراي من أهل السماء فجبرئيل وميكائيل
، وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر!.
ولا يخفى أنه خبر
واحد من طريق الخصم لا حجة فيه ، ووضع الحديث عادة قديمة ، وقد قدمنا الأخبار في
ذلك .
وحكى في جامع الأصول أن بعض أهل
الضلال كان يقول ـ بعد ما رجع عن ضلالته ـ : انظروا إلى هذه الأحاديث عمن تأخذونها
، فإنا كنا إذ رأينا
__________________
رأيا وضعنا له
حديثا.
وقد صنف جماعة من
العلماء كتبا في الأحاديث الموضوعة.
وحكي عن الصغاني ـ من علماء
المخالفين ـ أنه قال في كتاب الدر الملتقط : ومن الموضوعات ما زعموا أن النبي صلى الله عليه [ وآله ]
وسلم قال : إن الله يتجلى للخلائق يوم القيامة عامة ، ويتجلى لك يا أبا بكر خاصة ،
وأنه قال :حدثني جبرئيل أن الله تعالى لما خلق الأرواح اختار روح أبي بكر من
الأرواح .
ثم قال الصنعاني:
وأنا أنتسب إلى عمر بن الخطاب وأقول فيه الحق لقول النبي صلى الله عليه [ وآله ]
وسلم : قولوا الحق وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ
الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ.
فمن الموضوعات ما روي
أن أول من يعطى كتابه بيمينه عمر بن الخطاب ، وله شعاع كشعاع الشمس. قيل : فأين
أبو بكر؟. قال : سرقته الملائكة .
ومنها : من سب أبا
بكر وعمر قتل ، ومن سب عثمان وعليا جلد الحد ... إلى غير ذلك من الأخبار المختلفة.
ومن الموضوعات :
زر غبا تزدد حبا .
__________________
النظر إلى الخضرة
تزيد في البصر .
من قاد أعمى
أربعين خطوة غفر الله له .
العلم علمان : علم
الأديان ، وعلم الأبدان . انتهى.
وعد من الأحاديث
الموضوعة :
الجنة دار
الأسخياء .
طاعة النساء ندامة
.
دفن البنات من
المكرمات .
اطلب الخير عند
حسان الوجوه .
لا هم إلا هم
الدين ولا وجع إلا وجع العين.
______________
الموت كفارة لكل
مسلم .
إن التجار هم
الفجار ... إلى غير ذلك مما يطول ذكره.
وبالجملة ، قد
عرفت مرارا أن الاحتجاج في مثل هذا إنما يكون بالأخبار المتواترة أو المتفق عليه
بين الفريقين لا ما ذكره آحاد أحد الجانبين.
ثم إن صاحب المغني
ادعى أن ولاية أبي بكر على الموسم والحج قد ثبت بلا خلاف بين أهل الأخبار ،
ولم يصح أنه عزله ، ولا يدل رجوع أبي بكر إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مستفهما عن القصة على العزل ، ثم جعل إنكار من أنكر حج أبي
بكر بالناس في هذه السنة كإنكار عباد بن سليمان وطبقته وأخذ أمير المؤمنين عليهالسلام سورة براءة من أبي بكر.
أقول
: روى ابن الأثير في
جامع الأصول بإسناده عن أنس ، قال : بعث النبي صلى الله عليه [ وآله ]
ببراءة مع أبي بكر ، ثم دعاه فقال : لا ينبغي أن يبلغ عني إلا رجل من أهل بيتي .
وزاد رزين : ثم اتفقا
فانطلقا.
وهذا يشعر بأنه لم
يثبت عنده مسير أبي بكر إلى مكة .
__________________
وروى الطبرسي رحمهالله في مجمع البيان ، عن عروة بن الزبير وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة : أن
النبي صلىاللهعليهوآله أخذها من أبي بكر قبل الخروج ودفعها إلى علي عليهالسلام ، وقال : لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل مني.
وقال : وروى
أصحابنا أن النبي صلىاللهعليهوآله ولاه أيضا الموسم ، وأنه حين أخذ البراءة من أبي بكر رجع
أبو بكر.
وستعرف أن أكثر
أخبارهم خالية عن ذكر حج أبي بكر وعوده إلى الموسم ، وكذا الأخبار الواردة من طرق
أهل البيت عليهمالسلام ، فاستعظامه ذلك مما لا وجه له ، بخلاف قول عباد بن سليمان
لظهور شناعته.
وقال السيد رضياللهعنه : لو سلمنا أن ولاية الموسم لم تنسخ لكان الكلام باقيا ، لأنه إذا كان ما ولي مع تطاول الأزمان
إلا هذه الولاية ثم سلب شطرها والأفخم الأعظم منها فليس ذلك إلا تنبيها على
ما ذكرنا.
__________________
ثم إن إمامهم
الرازي ترقى في التعصب في هذه [ هذا ] الباب حتى قال : قيل قرر أبا
بكر على الموسم وبعث عليا عليهالسلام خليفة لتبليغ هذه الرسالة حتى يصلي خلف أبي بكر
ويكون ذلك جاريا مجرى تنبيه على إمامة أبي بكر ، والله أعلم. قال : وقرر الجاحظ
هذا المعنى ، فقال : إن النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم بعث أبا بكر أميرا على
الحاج وولاه الموسم ، وبعث عليا يقرأ على الناس آيات من سورة براءة ، فكان أبو بكر
الإمام وعلي المؤتم ، وكان أبو بكر الخطيب وعلي المستمع ، وكان أبو بكر الرافع
بالموسم والسائق لهم ، والآمر لهم ولم يكن ذلك لعلي عليهالسلام . انتهى.
وأقول
: الطعن في هذا
الكلام من وجوه :
الأول
: أن بقاء أبي بكر
على إمارة الموسم ممنوع ، كما مر وسيأتي.
الثاني
: أن الإمارة على
من جعله الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم من أهل الموسم بنفسها لا يقتضي صلاتهم خلف الأمير ، فضلا
عن اقتضائه فيمن لم يكن من أهل الموسم وبعثه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أخيرا لتبليغ الآيات من الله سبحانه ومن رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وخلو الأخبار من الصلاة مما لا سترة فيه.
الثالث
: أن تقرير أبي بكر
على الموسم لو دل على الأمر بالصلاة خلفه لم يثبت له فضيلة على ما زعموه من جواز
الصلاة خلف كل بر وفاجر .
__________________
الرابع
: أن تفصيل إمارة الحاج على
قراءة الآيات على الناس ـ كما يشعر به كلام بعضهم ـ باطل ، إذ قراءة الآيات على
الناس من المناصب الخاصة بالرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أو من كان منه ، كما يدل عليه لفظ أخبار المخالف والمؤالف ، حيث قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني.
وأما إمارة الحاج
فيتولاها كل بر وفاجر ، وليس من شروطها إلا نوع من الاطلاع على ما هو الأصلح في
سوق الإبل والبهائم ومعرفة المياه والتجنب عن مواضع اللصوص .. ونحو ذلك ، والفرق
بين الأمرين غير خفي على عاقل لم يذهب التعصب به مذاهب التعسف.
الخامس
: أن قوله : فكان
أبو بكر الإمام وعلي المؤتم .. إن أراد به إمامة الصلاة فقد عرفت ما فيه ، وإن
أراد الإمامة في الحج ، فالحج بنفسه مما لا يجري فيه الإمامة ، وإن أراد كونه
إماما من حيث إمارته على الموسم فلا نسلم أن عليا عليهالسلام كان من المؤتمين به ، ومجرد الرفاقة لا إمامة فيها ، مع أن
عود أبي بكر إلى الحج بعد رجوعه في محل المنع ، وبقاءه على الإمارة ـ بعد تسليمه ـ
كذلك ، كما
__________________
عرفت.
السادس
: أن إمارة الحاج
لا تستلزم خطابة حتى يلزم استماع المأمورين فضلا عن استماع من بعث لقراءة الآيات
على مشركي مكة.
السابع
: لو كان غرض الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بيان فضل أبي بكر وعلو درجته ـ حيث جعله سائقا لأهل الموسم
ورافعا لهم ـ لكان الأنسب أن يجعل عليا عليهالسلام من المأمورين بأمره أولا ، أو يبعثه أخيرا ويأمره بإطاعة
أمره والانقياد له ، لا أن يقول له خذ البراءة منه حتى يفزع الأمير ويرجع إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم خائفا ذعرا من أن يكون نزل فيه ما يكون سببا لفضيحته و ... ، كما يدل
عليه قوله : أنزل في شيء؟! وجوابه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، كما لا يخفى على المتأمل.
الثامن
: أن ذلك لو كان
منبها على إمامة أبي بكر دالا على فضله لقال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ لما رجع جزعا فزعا ـ : يا لكع! أما علمت أني ما أردت بذلك إلا تنويها بذكرك
وتفضيلا لك على علي عليهالسلام وتنبيها على إمامتك؟! وكيف خفي ذلك على أبي بكر مع حضوره
الواقعة واطلاعه على القرائن الحالية والمقالية ، وكذا على أتباعه والقائلين
بإمامته ، ولم يفهمه أحد سوى الرازي وأشباهه.
وأما ما تشبث به
المخالفون في مقام الدفع والمنع :
فمنها : إنكار عزل
أبي بكر عن أداء الآيات كما فعل عباد بن سليمان والشارح الجديد للتجريد .. وأضرابهما.
وأيده بعضهم بأنه
لو عزل أبا بكر عن التأدية قبل الوصول إلى موضعها لزم فسخ الفعل قبل وقته وهو غير
جائز.
__________________
وأنت بعد الاطلاع
على ما سيأتي من أخبار الجانبين في ذلك لا ترتاب في أن ذلك الإنكار ليس إلا للجهل
الكامل بالآثار ، وللتعصب المفرط المنبئ عن خلع الغدار ، وقد اعترف قاضي
القضاة ببطلان ذلك الإنكار لإقرار الثقات من علمائهم بعزله وشهادة
الأخبار به.
وقال ابن أبي
الحديد : روى طائفة عظيمة من المحدثين أنه لم يدفعها إلى أبي بكر
، لكن الأظهر الأكثر أنه دفعها إليه ثم أتبعه بعلي عليهالسلام فانتزعها منه. انتهى.
ولم نظفر في شيء
من رواياتهم بما يدل على ما حكاه ، وكان الأنسب أن يصرح بالكتاب والراوي حتى لا
يظن به التعصب والكذب.
وأما حديث النسخ ،
فأول ما فيه إنا لا نسلم عدم جوازه ، وقد جوزه جمهور الأشاعرة وكثير من علماء
الأصول ، سلمناه لكن لا نسلم أمره صلوات الله عليه أبا بكر بتبليغ الآيات ، ولعله
أمره بحملها إلى ورود أمر ثان ، أو تبليغها لو لم يرد أمر بخلافه ، ولم يرد في
الروايات أمر صريح منه صلىاللهعليهوآلهوسلم بتبليغ أبي بكر إياها مطلقا ، وورود النهي عن التأدية لا
يدل على سبق الأمر بها ككثير [ من ] النواهي ، ولئن سلمنا ذلك لا نسلم كون الأمر
مطلقا ـ وإن لم يذكر الشرط ـ ، لجواز كونه منويا وإن لم تظهر الفائدة.
فإن
قيل : فأي فائدة في دفع
السورة إلى أبي بكر وهو لا يريد أن يؤديها ، ثم ارتجاعها؟ وهلا دفعها ابتداء إلى علي عليهالسلام؟.
قلنا
: الفائدة ظهور فضل
أمير المؤمنين عليهالسلام ومزيته ، وأن الرجل الذي نزعت منه السورة لا يصلح له ، وقد
وقع التصريح بذلك في بعض الأخبار
__________________
وإن كان يكفينا
الاحتمال.
ومنها
: ما اعتذر به
الجبائي ، قال : لما كانت عادة العرب أن سيدا من سادات قبائلهم إذا
عقد عهدا لقوم فإن ذلك العقد لا ينحل إلا أن يحله هو أو بعض سادات قومه ، فعدل
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن أبي بكر إلى أمير المؤمنين عليهالسلام حذرا من أن لا يعتبروا نبذ العهد من أبي بكر لبعده في النسب.
وتشبث به جل من
تأخر عنه ، كالفخر الرازي ، والزمخشري والبيضاوي وشارح التجريد .. وغيرهم .
ورد عليهم أصحابنا
بأن ذلك كذب صريح وافتراء على أصحاب الجاهلية والعرب ، ولم يعرف في زمان من
الأزمنة أن يكون الرسول ـ سيما لنبذ العهد ـ من سادات القوم وأقارب العاقد ، وإنما
المعتبر فيه أن يكون موثوقا به ، مقبول القول ولو بانضمام قرائن الأحوال ، ولم
ينقل هذه العادة من العرب أحد من أرباب السير ورواة الأخبار ، ولو كانت موجودة في
رواية أو كتاب لعينوا موضعها ، كما هو الشأن في مقام الاحتجاج.
وقد اعترف ابن أبي
الحديد بأن ذلك غير معروف عن عادة العرب ، وإنما
__________________
هو تأويل تأول به
متعصبو أبي بكر لانتزاع البراءة منه ، وليس بشيء. انتهى.
ومما يدل على
بطلانه ، أنه لو كان ذلك معروفا من عادة العرب لما خفي على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى بعث أبا بكر ، ولا على أبي بكر وعمر العارفين بسنن الجاهلية الذين يعتقد
المخالفون أنهما كانا وزيري رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأنه كان لا يصدر عن شيء ولا يقدم على أمر إلا بعد
مشاورتهما واستعلام رأيهما ، ولو كان بعث أمير المؤمنين عليهالسلام استدراكا لما صدر عنه على الجهل بالعادة المعروفة أو الغفلة عنها ، لقال الله
له : اعتذر إلى أبي بكر ، وذكره عادة الجاهلية حتى لا يرجع خائفا يترقب نزول شيء
فيه ، أو كان يعتذر إليه بنفسه صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد رجوعه ، بل لو كان كذلك فما غفل عنها الحاضرون من
المسلمين حين بعثه والمطلعون عليه ، ولا احتاج صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الاعتذار بنزول جبرئيل لذلك من عند الله تعالى.
وقال ابن أبي
الحديد ـ في مقام الاعتذار ، بعد رد اعتذار القوم بما عرفت ـ : لعل
السبب في ذلك أن عليا عليهالسلام من بني عبد مناف ، وهم جمرة قريش بمكة ، وعلي
أيضا شجاع لا يقام له ، وقد حصل في صدور قريش منه الهيبة الشديدة
والمخافة العظيمة ، فإذا حصل مثل هذا الشجاع البطل وحوله من بني عمه من هم أهل العز
والقوة والحمية ، كان أدعى إلى نجاته من قريش وسلامة نفسه ، وبلوغ الغرض من نبذ
العهد على يده.
ولا يخفى عليك أنه
تعليل عليل ، إذ لو كان بعث أمير المؤمنين عليهالسلام باجتهاد منه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وكان الغرض سلامة من أرسل لتبليغ
__________________
الآيات ونجاته كان
الأحرى أن يبعث عمه العباس أو عقيلا أو جعفرا أو غيرهم من بني هاشم ممن لم يلتهب
في صدور المشركين نائرة حقده لقتل آبائهم وأقاربهم ، لا من كانوا ينتهزون الفرصة
لقتله والانتقام منه بأي وجه كان ، وحديث الشجاعة لا ينفع في هذا المقام ، إذ كانت
آحاد قريش تجترئ عليه صلوات الله عليه في المعارك والحروب ، فكيف إذا دخل وحده بين
جم غفير من المشركين؟!.
وأما من جعله من
الدافعين الذابين عنه عليهالسلام من أهل مكة فهم كانوا أعاظم أعاديه وأكابر معانديه ، وأيضا
لو كان الغرض ذلك لكان الأنسب أن يجعله أميرا على الحاج كما ذهب إليه قوم من
أصحابنا ، لا كما زعموه من أنه لم يعزل أبا بكر عن الإمارة بل جعله مأمورا بأمره ،
كما مر.
بل نقول : الأليق
بهذا الغرض بعث رجل حقير النفس خامل الذكر في الشجاعة من غير الأقارب حتى لا يهموا
بقتله ، ولا يعدوا الظفر عليه انتقاما وثأرا لدماء من قتل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم من عشيرتهم وذوي قراباتهم ، مع أنه لم تجر العادة بقتل من بعث إلى قوم لأداء
رسالة ، لا سيما إذا كان ميتا في الأحياء ، غير معروف إلا بالجبن والهرب ، وكيف لم
يستشعر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بذلك الذي ذكره حتى أرسل أبا بكر ثم عزله؟! وكيف اجترأ أبو
بكر حتى عرض نفسه للهلكة مع شدة جبنه؟! وكيف غفل عنه عمر بن الخطاب ـ الوزير
بزعمهم المشير في عظائم الأمور ودقائقها ـ مع شدة حبه لأبي بكر؟ ولو كان الباعث
ذلك لأفصح عن ذلك رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أو غيره بعد رجوع أبي بكر أو قبله كما سبق التنبيه على
مثله ، هذا مع كون تلك التعليلات مخالفة لما صرح به الصادقون ، الذين هم أعرف بمراد
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم من ابن أبي الحديد والجبائي ومن اقتفى أثرهما.
__________________
وقد حكى في كتاب
الصراط المستقيم ، عن كتاب المفاضح أن جماعة قالوا لأبي بكر : أنت المعزول والمنسوخ من الله ورسوله
صلىاللهعليهوآلهوسلم عن أمانة واحدة ، وعن راية خيبر ، وعن جيش العاديات ، وعن
سكنى المسجد ، وعن الصلاة ، ولم ينقل أنه أجاب وعلل بمثل هذه التعليلات.
والعجب من هؤلاء
المتعصبين الذين يدفعون منقصة عن مثل أبي بكر بإثبات جهل أو غفلة عن عادة معروفة
أو مصلحة من المصالح التي لا يغفل عنها آحاد الناس للرسول المختار الذي لا ينطق عن
الهوى ، وليس كلامه إلا وحيا يوحى ، أو لا يجوز عليه السهو
والنسيان ، بل يثبتون ذلك له ولجميع أصحابه ، نعوذ بالله من التورط في ظلم الضلالة
والانهماك في لجج الجهالة.
وأعجب من ذلك أنهم
يجعلون تقديم أبي بكر للصلاة نصا صريحا لخلافته ـ مع ما قد عرفت مما فيه من وجوه
السخافة ـ ويتوقفون في أن يكون مثل هذا التخصيص والتنصيص والكرامة موجبا لفضيلة له
عليهالسلام ، مع أنهم رووا أن جبرئيل عليهالسلام قال : لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك .
فإما أن يراد به
الاختصاص التام الذي كان بين الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وبين أمير المؤمنين عليهالسلام كما يدل عليه ما سيأتي ومضى من الروايات
__________________
الواردة في أنهما
كانا من نور واحد ،و ما اتفقت عليه الخاصة والعامة من أنه لما وقع منه عليهالسلام ما وقع يوم أحد ، قال جبرئيل : يا محمد! إن هذه لهي المواساة. فقال صلىاللهعليهوآله : إنه مني وأنا منه. فقال جبرئيل : وأنا منكما . ولم يقل : وإنكما
مني .. رعاية للأدب وتنبيها على شرف منزلتهما ، وقوله تعالى : (
وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ) في آية المباهلة ، وقوله صلىاللهعليهوآله لبني وليعة : لأبعثن إليكم رجلا كنفسي. وغير ذلك مما سيأتي.
وإما أن يراد به
الاختصاص الذي نشأ من كونه عليهالسلام من أهل بيت الرسالة ، ويناسبه ماورد في بعض الروايات : لا
ينبغي أن يبلغ عني إلا رجل من أهل بيتي ، أو ما نشأ من
كثرة المتابعة وإطاعة الأوامر كما فهمه بعض الأصحاب وأيده بقوله تعالى : ( فَمَنْ
تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ) وعلى أي التقادير يدل على أن من لم يتصف بهذه الصفة لا
يصلح للأداء عن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وكلما كان هذا الاختصاص أبلغ في الشرف كان أكمل في إثبات
الفضيلة
__________________
لأمير المؤمنين عليهالسلام ، وكلما ضايق الخصم في كماله كان أتم في إثبات الرذيلة لأبي بكر ، فلا نتربص
في ذلك إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ، كما ذكره بعض الأفاضل.
ثم إن المفعول
المحذوف في هذا الكلام ، إما أن يكون أمرا عاما ـ كما يناسب حذفه ـ خرج ما خرج منه
بالدليل فبقي حجة في الباقي ، أو يكون أمرا خاصا هو تبليغ الأوامر المهمة ، أو يخص
بتبليغ تلك الآيات ، كما ادعى بعض العامة ، وعلى التقادير الثلاثة يدل على عدم استعداد أبي
بكر لأداء الأوامر عامة عن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أما على الأول فظاهر ، وكذا على الثاني ، لاشتمال
الخلافة على تبليغ الأوامر المهمة ، وأما على الثالث فلأن من لم يصلح لأداء آيات
خاصة وعزل عنه بالنص الإلهي كيف يصلح لنيابة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في تبليغ الأحكام عامة ، ودعوة الخلائق كافة؟!.
ولنكتف بذلك حذرا
من الإطناب ، وسيأتي تمام الكلام في ذلك في أبواب فضائله عليهالسلام إن شاء الله تعالى .
الطعن الثاني :
التخلف عن جيش أسامة.
قال أصحابنا رضوان
الله عليهم : كان أبو بكر وعمر وعثمان من جيش أسامة ، وقد كرر رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ لما اشتد مرضه ـ الأمر بتجهيز جيش أسامة ولعن المتخلف
عنه ، فتأخروا عنه واشتغلوا بعقد البيعة في سقيفة بني ساعدة ، وخالفوا أمره ،
وشملهم اللعن ، وظهر أنهم لا يصلحون للخلافة.
قالوا : ولو
تنزلنا عن هذا المقام وقلنا بما ادعاه بعضهم من عدم كون أبي بكر
__________________
من الجيش.
نقول : لا خلاف في
أن عمر منهم ، وقد منعه أبو بكر من النفوذ معهم ، وهذا كالأول في كونه معصية
ومخالفة للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
أما أنهم كانوا من
جيش أسامة ، فلما ذكره السيد الأجل رضياللهعنه في الشافي من : أن كون أبي بكر في جيش أسامة ، قد ذكره أصحاب السير والتواريخ : قال روى
البلاذري في تاريخه ـ وهو معروف ثقة كثير الضبط وبريء من ممالأة الشيعة
ـ : أن أبا بكر وعمر كانا معا في جيش أسامة.
وروى سعيد بن محمد
بن مسعود الكازراني ـ من متعصبي الجمهور ـ في تاريخه أن رسول الله صلىاللهعليهوآله أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة ، فلما
كان من الغد دعا أسامة بن زيد ، فقال له : سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم [ مد ] الخيل ، فقد
وليتك هذا الجيش ، فلما كان يوم الأربعاء بدأ رسول الله صلىاللهعليهوآله فحم وصدع ، فلما أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواء بيده ، ثم قال : أغز بسم
الله في سبيل الله ، فقاتل من كفر بالله. فخرج وعسكر بالجرف ، فلم يبق أحد من وجوه
المهاجرين والأنصار إلا
__________________
انتدب في تلك
الغزاة ، فيهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وأبو عبيدة وقتادة بن
النعمان ، فتكلم قوم وقالوا : يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين؟! فغضب
رسول الله صلىاللهعليهوآله غضبا شديدا ، فخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة ،
فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس! فما مقالة
بلغتني عن بعضكم في تأمير أسامة ، ولئن طعنتم في تأميري أسامة فقد طعنتم في تأميري
أباه من قبله ، وايم الله إنه كان للإمارة لخليقا ، وإن ابنه من بعده لخليق
للإمارة ، وإن كان لمن أحب الناس إلي فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم.
ثم نزل فدخل بيته
، وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول ، وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة
يودعون رسول الله صلىاللهعليهوآله ويمضون إلى العسكر بالجرف ، وثقل رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فلما كان يوم الأحد اشتد برسول الله صلىاللهعليهوآله وجعه ، فدخل أسامة من معسكره والنبي صلىاللهعليهوآله مغمى عليه ، وفي رواية : قد أصمت وهو لا يتكلم فطأطأ رأسه فقبله رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعهما على أسامة. قال : فعرفت أنه يدعو لي ،
ورجع أسامة إلى معسكره ، فأمر الناس بالرحيل ، فبينا هو يريد الركوب إذا رسول أمه
ـ أم أيمن ـ قد جاءه يقول : إن رسول الله صلىاللهعليهوآله يموت .. إلى آخر القصة.
وذكر ابن الأثير
في الكامل أن في المحرم من سنة إحدى عشرة ضرب رسول الله صلىاللهعليهوآله بعثا إلى الشام وأميرهم أسامة بن زيد .. وذكر بعض ما مر ، وصرح بأنه كان منهم
أبو بكر وعمر ، قال : وهما ثبتا الناس على الرضا
__________________
بإمارة أسامة.
وروى ابن أبي الحديد
في شرح النهج ، عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري ، عن أحمد بن سيار ، عن
سعيد بن كثير ، عن عبد الله بن عبد الله بن عبد الرحمن ، أن رسول الله صلىاللهعليهوآله في مرض موته أمر أسامة بن زيد بن حارثة على جيش فيه جلة
المهاجرين والأنصار ، منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف
وطلحة والزبير ، وأمره أن يغير على مؤتة حيث قتل أبوه زيد ، وأن يغزوا [ يغزو ]
وادي فلسطين ، فتثاقل أسامة وتثاقل الجيش بتثاقله ، وجعل رسول الله صلىاللهعليهوآله يثقل ويخف ويؤكد القول في تنفيذ ذلك البعث ، حتى قال له أسامة :
بأبي أنت وأمي! أتأذن لي أن أمكث أياما حتى يشفيك الله تعالى. فقال : اخرج وسر على
بركة الله تعالى. فقال : يا رسول الله (ص)! إني إن خرجت وأنت على هذه الحال خرجت
وفي قلبي قرحة منك. فقال :سر على النصر والعافية. فقال : يا رسول الله (ص)! إني
أكره أن أسأل عنك الركبان. فقال : أنفذ لما أمرتك به .. ثم أغمي على رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وقام أسامة فجهز للخروج ، فلما أفاق رسول الله صلىاللهعليهوآله سأل عن أسامة والبعث ، فأخبر أنهم يتجهزون ، فجعل يقول : أنفذوا جيش أسامة ،
__________________
لعن الله من تخلف
عنه .. ويكرر ذلك ، فخرج أسامة واللواء على رأسه والصحابة بين يديه ،
حتى إذا كان بالجرف نزل ومعه أبو بكر وعمر وأكثر المهاجرين ، ومن الأنصار : أسيد
بن حضير وبشر بن سعد .. وغيرهم من الوجوه ، فجاءه رسول أم أيمن يقول له
: ادخل فإن رسول الله (ص) يموت ، فقام من فوره فدخل المدينة واللواء معه ، فجاء به
حتى ركزه بباب رسول الله صلىاللهعليهوآله ورسول الله صلىاللهعليهوآله قد مات في تلك الساعة ، قال : فما كان أبو بكر وعمر
يخاطبان أسامة إلى أن مات إلا ب : الأمير.
وروى الطبري في
المسترشد ـ على ما حكاه في الصراط المستقيم ـ أن جماعة من
الصحابة كرهوا إمارة أسامة فبلغ النبي صلىاللهعليهوآله ذلك فخطب وأوصى ثم دخل بيته ، وجاء المسلمون يودعونه فيلحقون بأسامة ، وفيهم
أبو بكر وعمر ، والنبي صلىاللهعليهوآله يقول : أنفذوا جيش أسامة ، فلما بلغ الجرف بعثت أم أسامة ـ
وهي أم أيمن ـ أن النبي صلىاللهعليهوآله يموت ، فاضطرب القوم وامتنعوا عليه ولم ينفذوا لأمر رسول
الله صلىاللهعليهوآله ، ثم بايعوا لأبي بكر قبل دفنه.
وقال في الصراط
المستقيم ـ أيضا ـ أسند الجوهري في كتاب السقيفة أن أبا بكر وعمر
كانا فيه.
__________________
وقال : حدث الواقدي ،
عن ابن أبي الزياد ، عن هشام بن عروة أن أباه قال : كان فيهم أبو بكر.
قال : وحدث ـ أيضا
ـ مثله ، عن محمد بن عبد الله بن عمر.
وذكره البلاذري في
تاريخه ، والزهري ، وهلال بن عامر ، ومحمد بن إسحاق ، وجابر ، عن الباقر عليهالسلام. و ـ محمد بن أسامة ، عن أمية . ونقلت الرواة أنهما كانا في حال خلافتهما يسلمان على
أسامة بالإمرة.
وفي كتاب العقد : اختصم أسامة
وابن عثمان في حائط ، فافتخر ابن عثمان ، فقال أسامة : أنا أمير على أبيك وصاحبيه ، أفإياي تفاخر؟!
، ولما بعث أبو بكر إلى أسامة يخبره بخلافته ، قال : أنا ومن معي ما وليناك أمرنا ، ولم يعزلني رسول
الله صلىاللهعليهوآله عنكما ، وأنت وصاحبك بغير إذني رجعتما ، وما خفي على النبي
صلىاللهعليهوآله موضع ، وقد ولاني عليكما ولم يولكما ، فهم الأول أن يخلع
نفسه فنهاه الثاني ، فرجع أسامة ووقف بباب المسجد وصاح : يا معاشر المسلمين! عجبا
لرجل استعملني رسول الله صلىاللهعليهوآله فعزلني وتأمر علي ، انتهى كلامه.
وقال محمد بن عبد
الكريم الشهرستاني في كتاب الملل والنحل ـ عند ذكر الاختلافات الواقعة في مرض النبي صلىاللهعليهوآله ـ : الخلاف الثاني : أنه صلىاللهعليهوآله قال : جهزوا جيش أسامة ، لعن الله من تخلف عن جيش
__________________
أسامة . فقال : قوم يجب علينا امتثال
أمره ، وأسامة قد برز من المدينة. وقال قوم : قد اشتد مرض النبي صلىاللهعليهوآله فلا تسع قلوبنا لمفارقته والحال هذه ، فنصبر حتى نبصر أي شيء يكون من أمره؟ ، انتهى.
وصرح صاحب روضة
الأحباب ، بأن أبا بكر وعمر وعثمان كانوا من جيش أسامة.
وقال الشيخ المفيد
قدس الله روحه في كتاب الإرشاد : لما تحقق لرسول الله صلىاللهعليهوآله من دنو أجله ما كان قدم الذكر به لأمته ،
فجعل صلىاللهعليهوآله يقوم مقاما بعد مقام في المسلمين يحذرهم الفتنة بعده
والخلاف عليه ، ويؤكد وصاءتهم بالتمسك بسنته والإجماع عليها والوفاق ، ويحثهم على الاقتداء بعترته
والطاعة لهم والنصرة والحراسة والاعتصام بهم في الدين ، ويزجرهم
__________________
عن الاختلاف والارتداد ..
وساق الكلام إلى قوله : ثم إنه عقد لأسامة بن زيد الإمرة ، وأمره
وندبه أن يخرج بجمهور الأمة إلى حيث أصيب أبوه من بلاد الروم ، واجتمع رأيه صلىاللهعليهوآله على إخراج جماعة من مقدمي المهاجرين والأنصار في معسكره ـ حتى لا يبقى في
المدينة عند وفاته من يختلف في الرئاسة ، ويطمع في التقدم على الناس بالإمارة ـ ليستتب
الأمر بعده لمن استخلفه من بعده ، ولا ينازعه في حقه منازع ، فعقد له الإمرة
على ما ذكرناه ، وجد صلىاللهعليهوآله في إخراجهم ، وأمر أسامة بالبروز عن المدينة بعسكره إلى الجرف ، وحث
الناس على الخروج إليه ، والمسير معه وحذوهم [ حذرهم ] من التلوم
والإبطاء عنه ، فبينا هو في ذلك إذ عرضت له الشكاة التي توفي فيها .. وساق
الحديث إلى قوله : واستمر المرض به أياما وثقل ، فجاء بلال عند صلاة الصبح ـ ورسول
الله مغمور بالمرض ـ ، فنادى : الصلاة يرحمكم الله ، فأوذن رسول الله صلىاللهعليهوآله بندائه ، فقال : يصلي بالناس بعضهم فإني مشغول بنفسي ، فقالت عائشة :مروا أبا
بكر ، وقالت حفصة : مروا عمر ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ حين سمع كلامهما ، ورأى حرص كل واحدة منهما على التنويه بأبيها ،
وافتتانهما بذلك ، ورسول الله صلىاللهعليهوآله حي ـ : اكففن فإنكن كصويحبات يوسف ،
__________________
ثم قام صلىاللهعليهوآله مبادرا خوفا من تقدم أحد الرجلين ، وقد كان أمرهما بالخروج مع أسامة ولم يك
عنده أنهما قد تخلفا ، فلما سمع من عائشة وحفصة ما سمع علم أنهما متأخران عن أمره
، فبدر لكف الفتنة وإزالة الشبهة ، فقام صلىاللهعليهوآله ـ وإنه لا يستقل على الأرض من الضعف ـ فأخذ بيده علي بن أبي طالب عليهالسلام والفضل بن عباس ، فاعتمد عليهما ورجلاه يخطان الأرض من الضعف ،
فلما خرج إلى المسجد وجد أبا بكر و قد سبق إلى المحراب ، فأومأ إليه بيده أن تأخر عنه ، فتأخر
أبو بكر وقام رسول الله صلىاللهعليهوآله مقامه ، فقام وكبر وابتدأ الصلاة التي كان ابتدأها أبو بكر ، ولم يبن على ما
مضى من فعاله ، فلما سلم انصرف إلى منزله ، واستدعى أبا بكر وعمر وجماعة ممن حضر
المسجد من المسلمين ، ثم قال : ألم آمر أن تنفذوا جيش
أسامة؟!. فقالوا : بلى يا رسول الله (ص)!. قال : فلم تأخرتم عن أمري؟!. قال أبو
بكر : إني خرجت ثم رجعت لأجدد بك عهدا. وقال عمر : يا رسول الله (ص)
إني لم أخرج ، لأنني لم أحب أن أسأل عنك الركب. فقال النبي صلىاللهعليهوآله : نفذوا جيش أسامة .. يكررها ثلاثا .. إلى آخر ما مر في أبواب وفاة الرسول صلىاللهعليهوآله مع أخبار أخر أوردناها هناك ، وقد تقدم في هذا المجلد
خبر
__________________
الصحيفة المشتمل
على تلك القصة مفصلا.
هذا ما يتعلق
بكونهم في جيش أسامة وأمره (ص) بالخروج ولعنه المتخلف.
وأما عدم خروجهم
وتخلفهم فلا ينازع أحد فيه.
وأما أن في ذلك قادح في خلافتهم ،
فلأنهم كانوا مأمورين لأسامة ما دام لم يتم غرض الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في إنفاذ الجيش ، فلم يكن لأبي بكر الحكم على أسامة ، والخلافة رئاسة عامة
تتضمن الحكم على الأمة كافة بالاتفاق ، فبطل خلافة أبي بكر ، وإذا بطل خلافته ثبت
بطلان خلافة عمر لكونها بنص أبي بكر ، وخلافة عثمان لابتنائها على الشورى بأمر
عمر.
وأيضا لو لم تبطل
خلافة الأخيرين لزم خرق الإجماع المركب ، ولأن رد كلام الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في وجهه ـ كما سبق ـ من أبي بكر وعمر وعدم الانقياد لأمره بعد تكريره الأمر إيذاء له صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقد قال الله عز وجل : ( إِنَّ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) ، وقال : (
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) ، وذلك مع قطع
النظر عن اللعن الصريح في ذلك الأمر ـ كما اعترف به الشهرستاني ـ والمستحق للعن
من الله ومن رسوله لا يصلح للإمامة ، ولو جوزوا لعن خلفائهم صالحناهم على ذلك
واتسع الأمر علينا.
وأجاب قاضي القضاة
في المغني : بأنا لا نسلم أن أبا بكر كان في جيش
__________________
أسامة ، ولم يسند منعه
إلى رواية وخبر ، وذكر له بعض المتعصبين خبرا ضعيفا يدل بزعمه على أنه لم يكن فيه.
وقال ابن أبي
الحديد : كثير من المحدثين يقولون كان أبو بكر من الجيش ، والأمر
عندي في هذا الموضع مشتبه ، والتواريخ مختلفة .
والجواب أن وروده
في رواياتهم ـ سيما إذا كان جلهم قائلين به مع اتفاق رواياتنا عليه ـ يكفينا في
الاحتجاج ولا يضرنا خلاف بعضهم.
وأما استناد صاحب
المغني في عدم كونه من الجيش بما حكاه عن أبي علي من أنه لو كان
أبو بكر من الجيش لما ولاه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أمر الصلاة في مرضه مع تكريره أمر الجيش بالخروج والنفوذ ، فقد عرفت ما في
حكاية الصلاة من وجوه الفساد ، مع أنه لم يظهر من رواياتهم ترتيب بين الأمر
بالتجهيز والأمر بالصلاة ، فلعل الأمر بالصلاة كان قبل الأمر بالخروج ، أو كان في
أثناء تلك الحال ، فلم يدل على عدم كون أبي بكر من الجيش.
ويؤيده ما رواه
ابن أبي الحديد من أنه لم يجاوز آخر القوم الخندق حتى قبض رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ولو بني الكلام
على ما رويناه ، فبعد تسليم الدلالة على التأخر ينهدم به بنيان ما أسسه ، إذ يظهر
منها أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لما سمع صوت أبي بكر ، وعلم أنه تأخر عن أمره ولم يخرج ،
خرج متحاملا وأخره عن المحراب وابتدأ بالصلاة.
__________________
ثم أجاب صاحب
المغني ـ بعد تسليم أنه كان من الجيش ـ بأن الأمر لا يقتضي الفور
، فلا يلزم من تأخره أن يكون عاصيا .
ورد عليه السيد رضياللهعنه في الشافي : بأن المقصود بهذا الأمر الفور دون التراخي ، أما من حيث
مقتضى الأمر على مذهب من يرى ذلك لغة ، وأما شرعا ، من حيث وجدنا جميع الأمة من لدن الصحابة إلى هذا الوقت
يحملون أوامره صلىاللهعليهوآلهوسلم على الفور ، ويطلبون في تراخيها الأدلة.
قال : على أن في قول
أسامة : لم أكن لأسأل عنك الركب .. أوضح
__________________
دليل على أنه عقل
من الأمر الفور ، لأن سؤال الركب بعد الوفاة لا معنى له .
وأما قول صاحب
الكتاب أنه لم ينكر على أسامة تأخره فليس بشيء ، وأي إنكار أبلغ من تكراره الأمر ،
ويزداده القول في حال يشغل عن المهم ويقطع عن الفكر إلا فيها ، وقد ينكر الآمر على
المأمور تارة بتكرر الأمر ، وأخرى بغيره.
وأيده بما حكاه صاحب
المغني عن أبي علي من الاستدلال على عدم كون أبي بكر من الجيش بأمر الصلاة
وابتناؤه على كون الأمر للفور واضح. وقد ارتضى صاحب المغني استدلاله. فهذا المنع
مناقض له.
أقول
: ومن القرائن الواضحة على أنهم فهموا من هذا الأمر الفور
خروجهم عن المدينة ـ مع شدة مرضه صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ إذ العادة قاضية بأنه لو كان لهم سبيل إلى تأخير الخروج
حتى يستعلموا مصير الأمر في مرضه صلىاللهعليهوآلهوسلم لتوسلوا إليه بوسعهم ، لاشتغال قلوبهم وحرصهم على العلم
ببرئه ، واستعلام حال الخلافة ، ولخوفهم من وقوع الفتن في المدينة ، وفيكون ما
استخلفوه من الأموال والأولاد معرضا للهلكة والضياع ، وقد كانوا وتروا العرب وأورثوهم
الضغائن ، ولعمري إنهم ما خرجوا إلا وقد ضاق الخناق عليهم ، وبلغ أمره وحثه صلىاللهعليهوآلهوسلم لهم كل مبلغ ، ونال التقريع والتوبيخ منهم كل منال ، وما سبق من رواية
الجوهري واضح الدلالة على أن المراد هو الفور والتعجيل ، وقد اعترف ابن أبي الحديد
بأن الظاهر في هذا الموضع صحة ما ذكره السيد ، لأن قرائن
__________________
الأحوال عند من
يقرأ السير والتواريخ يدل على أن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يحثهم على الخروج والمسير ، انتهى.
على أن التراخي
إنما ينفع له إذا كان أبو بكر قد خرج في الجيش ولو بعد حين ، ولم يقل أحد بخروجه
مطلقا.
ثم أجاب صاحب
المغني ـ بعد تسليمه كون أبي بكر من الجيش ـ بأن خطابه (ص) بتنفيذ
الجيش يجب أن يكون متوجها إلى القائم بالأمر بعده ، لأنه من خطاب الأئمة ، وهذا
يقتضي أن لا يكون المخاطب بالتنفيذ في الجملة.
ثم قال : وهذا يدل
على أنه لم يكن هناك إمام منصوص عليه ، لأنه لو كان لأقبل بالخطاب عليه ، وخصه
بالأمر بالتنفيذ دون الجميع.
ويرد عليه : أن
المخاطب في هذا المقام إما الخليفة المنصوص عليه أو من يختاره الأمة ، وإما الجيش
المأمور بالخروج ، وإما جميع الحاضرين ـ الجيش وغيرهم ـ ، وإما الجماعة الخارجة من
الجيش بأمره صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وعلى أي حال فالمأمور به إما إنفاذ الجيش حال حياته صلىاللهعليهوآلهوسلم أو بعد وفاته ، أو مطلقا.
أما كون المخاطب
الخليفة ـ بقسميه ـ مع كون المأمور به تنفيذ الجيش حال الحياة فباطل ، لورود
الخطاب بلفظ الجمع ، ولأنه لا حكم للخليفة في حياته صلىاللهعليهوآلهوسلم من حيث الخلافة ، ولأنه لو كان المخاطب هو بعينه لأنكر
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم تأخر القوم عن الخروج عليه لا على القوم ، والمروي خلافه.
ويخص القسم الثاني
بأنه لا معنى لخطاب من يختاره الأمة بعد الوفاة بالأمر بتنفيذ الجيش حال الحياة ،
وهو واضح ، وكذا على الإطلاق ، ولو خوطب بالتنفيذ بعد الوفاة فبأمر من خرج الأصحاب
حال حياته صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ ولما ذا ينكر صلىاللهعليهوآلهوسلم تخلف من تخلف ويحثهم على الخروج؟! وكذا لو كان المخاطب
__________________
الإمام المنصوص.
ولو كان المخاطب
هو الجيش المأمور بالخروج فعلى الأقسام الثلاثة يكون الداخل فيهم عاصيا بالتخلف
حال الحياة أو بعدها أو مطلقا ، وقد ثبت باعتراف الثقات عندهم دخول أبي بكر في
الجيش ، فثبت عصيانه بالتخلف على أحد الوجوه ، على أن هذا الكلام من صاحب المغني ـ
بعد تسليم كون أبي بكر من الجيش ـ ولعله رجع عن ذلك التسليم معتمدا على دليله هذا
، وهو كما ترى ، وحينئذ يكون المراد بالتنفيذ ـ في كلامه صلىاللهعليهوآلهوسلم أو التجهيز على اختلاف الروايات ـ إتمام أمر الجيش في بلوغه إلى حيث أمر به ،
فكل واحد منهم مكلف بالخروج الذي هو شرط لتحقق المأمور به وحصول الامتثال ،
وباجتماعهم في ذلك يحصل الغرض.
ولا يذهب عليك أن
القسم الثاني من هذه الثلاثة وإن كان مثبتا للمطلوب إلا أنه باطل ، إذ لو كان
المأمور به خروجهم بعد وفاته صلىاللهعليهوآلهوسلم لما تركوه في شدة المرض مع تعلق القلوب باستعلام العاقبة
في أمره صلىاللهعليهوآلهوسلم وأمر الخلافة وما خلفوه كما سبق ، ولما أنكر صلىاللهعليهوآلهوسلم خروج من تخلف منهم.
ولو كان المخاطب
جميع من حضر فمعنى التنفيذ والتجهيز أن يبذل كل منهم جهده في حصول المأمور به ،
فالمطلوب من الجيش الخروج ، ومن غيرهم تهيئة أسبابهم وحثهم عليه ، وفعل كل ما هو
شرط فيه مما يدخل تحت طاقته ويعصي كل بترك ما أمر به ، فمن كان داخلا في الجيش
كالثلاثة بالتخلف ومن خرج بترك ما سبق.
ولو كان المخاطب
الجماعة التي لم تؤمر بالخروج فيهم ، كما هو الأظهر من لفظ التنفيذ مع صيغة الجمع
، فمع جريان بعض المفاسد السابقة فيه وبطلانه بأقسامه لا يغني صاحب المغني ، إذ هو
مخالف لما تعرض لإثباته من كون الخطاب متوجها إلى الأئمة ، ولا يلزم منه خروج أبي
بكر عن المأمورين أيضا ، وهو مما لم يقل به أحد.
ولو سلمنا توجه
هذا الخطاب إلى غير الجيش إما كان أو غيره ، نقول لا ريب في أنه متضمن لأمر الجيش
بالخروج ، فعصيان من تخلف من الداخلين فيه لازم على هذا الوجه ، فعلى أي تقدير ثبت
عصيان أبي بكر واندفع كلام المجيب.
وقوله : لأنه من
خطاب الأئمة .. إن أراد به أن الأمر بالتنفيذ لا يصلح لغير الأئمة فقد عرفت ضعفه ،
وإن أراد أن الخطاب بصيغة الجمع لا يتوجه إلى غيرهم ، فالظاهر أن الأمر بالعكس ،
على أنا لو ساعدناه على ذلك نقول : إذا ثبت كون من تزعمه إماما من الجيش فبعد توجه
الخطاب إليه كان مأمورا بالخروج ، عاصيا بتركه ، ويكون معنى التنفيذ والتجهيز ما
تقدم ، فإذا قلت بأن الخطاب على هذا الوجه لا يتوجه إلا إلى الأئمة ويستدعي بخروج
من توجه إليه الخطاب ، فبعد ثبوت أن أبا بكر كان من الجيش أو تسليمه كان ذلك دليلا
على أنه لا يصلح لأن يختاره الأمة للإمامة ، وأما توصله بذلك إلى عدم النص فيتوجه
عليه أن كون الخطاب بصيغة الجمع محمولا على ظاهره مع توجهه إلى الإمام يستلزم كون
الإمام جماعة ، ولم يقل به أحد ، ولو فتحت به باب التأويل وأولته إلى من يصير
خليفة باختياركم أولناه إلى من جعلته خليفة نبيكم ، مع أن توجه الخطاب إلى الخليفة
قد عرفت بطلانه بأقسامه.
أقول
: قد تكلم السيد رحمهالله في الشافي وغيره من الأفاضل في هذا الطعن سؤالا وجوابا ونقضا وإبراما بما لا مزيد عليه
، واكتفينا بما أوردنا لئلا نخرج عن الغرض المقصود من الكتاب ، وكفى ما ذكرنا
لأولي الألباب.
__________________
الطعن الثالث :
ما جرى منه في أمر
فدك ، وقد تقدم القول فيه مفصلا فلا نعيده .
الطعن الرابع :
أنه قال عمر بن
الخطاب ـ مع كونه وليا وناصرا لأبي بكر ـ : كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله
المسلمين شرها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ، ولا يتصور في
__________________
التخطئة والذم
أوكد من ذلك.
وأجاب عنه قاضي
القضاة في المغني : لا يجوز لقول محتمل ترك ما علم ضرورة ، ومعلوم من حال عمر إعظام
أبي بكر والقول بإمامته والرضا ببيعته ، وذلك يمنع مما ذكروه ، لأن المصوب للشيء
لا يجوز أن يكون مخطئا له.
قال : وقال أبو
علي : إن الفلتة ليست هي الزلة والخطيئة ، بل هي البغتة وما وقع
فجأة من غير روية ولا مشاورة ، واستشهد بقول الشاعر :
من يأمن الحدثان
مثل ضبيرة القرشي ماتا
|
|
سبقت منيته
المشيب وكان ميتته افتلاتا
|
يعني بغتة من غير مقدمة ، وحكى عن الرياضي إن العرب تسمي
آخر
__________________
يوم من شوال :
فلتة ، من حيث إن كل من لم يدرك ثاره وطلبته فيه فاته لأنهم كانوا إذا
دخلوا في الأشهر الحرم لا يطلبون الثار ، وذو القعدة من الأشهر الحرم ، فسموا ذلك
اليوم فلتة ، لأنهم إذا أدركوا فيه ثارهم فقد أدركوا ما كاد يفوتهم ، فأراد عمر على هذا
أن بيعة أبي بكر تداركها بعد ما كادت تفوت. وقوله : وقى الله شرها .. دليل على
تصويب البيعة ، لأن المراد بذلك أن الله تعالى دفع شر الاختلاف
فيها.
قال : فأما قوله : فمن
عاد إلى مثلها فاقتلوه ، فالمراد من عاد إلى أن يبايع من غير مشاورة ولا عدد
يثبت صحة البيعة به ولا ضرورة داعية إلى البيعة ثم بسط يده على
المسلمين ليدخلهم في البيعة قهرا فاقتلوه ، وإذا احتمل ذلك وجب حمله على المعنى الذي ذكرنا
ولم نتكلف ذلك ، لأن قول عمر يطعن في بيعة أبي بكر
__________________
ولا أن قوله حجة عند
المخالف ، ولكن تعلقوا به ليوهموا أن بيعته غير متفق عليه ، وأن أول من
ذمها من عقدها. انتهى ما ذكره أبو علي.
وبمثل هذا الجواب
أجاب الفخر الرازي في نهاية العقول ، ، وشارح المقاصد ، وشارح المواقف ومن يحذو حذوهم.
وأورد السيد الأجل
رضياللهعنه على صاحب المغني : بأن ما تعلقت به من العلم الضروري برضا
عمر ببيعة أبي بكر وإمامته .. فالمعلوم ضرورة بلا شبهة أنه كان راضيا بإمامته ،
وليس كل من رضي شيئا كان متدينا به معتقدا لصوابه ، فإن كثيرا من الناس يرضون
بأشياء من حيث كانت دافعة لما هو أضر منها وإن كانوا لا يرونها صوابا ، ولو ملكوا
الاختيار لاختاروا غيرها ، وقد علمنا أن معاوية كان راضيا ببيعة يزيد لعنه الله
وولايته العهد من بعده ، ولم يكن متدينا بذلك ومعتقدا صحته ، وإنما رضي عمر ببيعة
أبي بكر من حيث كانت حاجزة عن بيعة أمير المؤمنين عليهالسلام ، ولو ملك الاختيار لكان مصير الأمر إليه آثر في نفسه وأقر
لعينه. فإن ادعى أن المعلوم ضرورة تدين عمر ببيعة أبي بكر وأنه أولى بالإمامة منه
فهو مدفوع عن ذلك أشد دفع ، مع أنه قد كان يندر منه ـ أعني عمر ـ
في وقت بعد آخر ما يدل على ما ذكرناه.
وقد روى الهيثم بن
عدي ، عن عبد الله بن عباس الهمداني ، عن سعيد
__________________
بن جبير ، قال :
ذكر أبو بكر وعمر عند عبد الله بن عمر ، فقال رجل : كانا والله شمسي هذه الأمة
ونوريها. فقال له ابن عمر : وما يدريك؟. فقال له الرجل : أوليس قد ائتلفا؟. فقال
ابن عمر : بل اختلفا لو كنتم تعلمون ، وأشهد أني كنت عند أبي يوما وقد
أمرني أن أحبس الناس عنه ، فاستأذن عليه عبد الرحمن بن
أبي بكر ، فقال عمر : دويبة سوء ولهو خير من أبيه ، فأوجسني ذلك ، فقلت : يا أبت!
عبد الرحمن خير من أبيه؟!. فقال : ومن ليس خيرا من أبيه لا أم لك ، ائذن لعبد الرحمن ،
فدخل عليه فكلمه في الحطيئة الشاعر أن يرضى عنه ـ وكان عمر قد حبسه في شعر قاله ـ ،
فقال عمر : إن الحطيئة لبذي فدعني أقومه بطول الحبس ، فألح عليه عبد الرحمن وأبى
عمر ، وخرج عبد الرحمن فأقبل علي أبي ، فقال : أفي غفلة أنت إلى يومك هذا عما كان من تقدم
أحيمق بني تيم علي وظلمه لي؟!. فقلت : يا أبت! لا علم لي بما كان من ذلك. فقال :
يا بني! وما عسيت أن تعلم؟. فقلت : والله لهو أحب إلى الناس من ضياء أبصارهم. قال
: إن ذلك لكذلك على زعم أبيك وسخطه. فقلت : يا أبت! أفلا تحكي عن فعله بموقف في
الناس تبين ذلك لهم. قال : وكيف لي بذلك مع ما ذكرت أنه أحب إلى الناس من ضياء
أبصارهم؟ إذن يرضخ رأس أبيك بالجندل .
__________________
قال ابن عمر : ثم
تجاسر والله فجسر فما دارت الجمعة حتى قام خطيبا في الناس ، فقال : يا أيها الناس!
إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه.
وروى الهيثم بن
عدي ـ أيضا ـ ، عن مجالد بن سعيد ، قال : غدوت يوما إلى الشعبي ـ وإنما أريد أن
أسأله عن شيء بلغني عن ابن مسعود أنه كان يقول ـ ، فأتيته في مسجد حية ـ وفي
المسجد قوم ينتظرونه ـ فخرج ، فتقربت إليه ، وقلت : أصلحك الله! كان ابن مسعود يقول : ما كنت محدثا
قوما حديثا لا يبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة؟. قال : نعم ، قد كان ابن مسعود
يقول ذلك. وكان ابن عباس يقوله أيضا ، وكان عند ابن عباس دفائن علم يعطيها
أهلها ، ويصرفها عن غيرهم؟ فبينا نحن كذلك إذ أقبل رجل من الأزد فجلس إلينا فأخذنا
في ذكر أبي بكر وعمر ، فضحك الشعبي وقال : لقد كان في صدر عمر ضب على أبي بكر.
فقال الأزدي : والله ما رأينا ولا سمعنا برجل قط كان أسلس قيادا لرجل ولا أقول بالجميل فيه من
عمر في أبي بكر ، فأقبل علي الشعبي فقال : هذا مما سألت عنه ، ثم أقبل على الرجل فقال : يا
أخا الأزد! كيف تصنع بالفلتة التي وقى الله شرها؟! أترى عدوا يقول في عدو يريد أن يهدم ما بنى
لنفسه في الناس أكثر من قول عمر في أبي بكر. فقال الرجل : سبحان الله! يا أبا عمرو!
وأنت تقول ذلك؟!. فقال الشعبي : أنا أقوله ، قاله عمر بن الخطاب على رءوس الأشهاد
، فلمه أو دع! فنهض الرجل مغضبا وهو يهمهم بشيء لم أفهمه ، فقال مجالد :
__________________
فقلت للشعبي : ما
أحسب هذا الرجل إلا سينقل عنك هذا الكلام إلى الناس ويبثه فيهم .. قال : إذا والله
لا أحفل به ، وشيء لم يحفل به عمر بن الخطاب حين قام على رءوس المهاجرين
والأنصار أحفل به أنا؟! وأنتم أيضا فأذيعوه عني ما بدا لكم .
وروى شريك بن عبد الله
النخعي ، عن محمد بن عمرو بن مرة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن سلمة ، عن أبي موسى
الأشعري ، قال : حججت مع عمر بن الخطاب ، فلما نزلنا وعظم الناس ، خرجت من رحلي
أريد عمر فلقيني مغيرة بن شعبة فرافقني ، ثم قال : أين تريد؟. فقلت : أمير
المؤمنين عمر ، فهل لك؟. قال : نعم ، قال : فانطلقنا نريد رحل عمر ،
فإنا لفي طريقنا إذ ذكرنا تولي عمر ، و قيامه بما هو فيه ، وحياطته على الإسلام ، ونهوضه بما قبله
من ذلك ، ثم خرجنا إلى ذكر أبي بكر ، فقلت للمغيرة ، يا لك الخير ! لقد كان أبو بكر مسددا في عمر كأنه ينظر إلى قيامه من
بعده وجده واجتهاده وعنائه في الإسلام. فقال المغيرة : لقد كان ذلك ، وإن كان قوم
كرهوا ولاية عمر ليزووها عنه ، وما كان لهم في ذلك من حظ. فقلت له : لا أبا لك!
ومن القوم الذين كرهوا ذلك من
__________________
عمر؟. فقال لي
المغيرة : لله أنت كأنك في غفلة لا تعرف هذا الحي من قريش ، وما قد خصوا به من
الحسد؟. فو الله لو كان هذا الحسد يدرك بحساب لكان لقريش تسعة أعشار الحسد وللناس
كلهم عشر . فقلت : مه يا مغيرة! فإن قريشا بانت بفضلها على الناس
.. ولم نزل في مثل ذلك حتى انتهينا إلى رحل عمر بن الخطاب فلم نجده ، فسألنا عنه ،
فقيل : خرج آنفا ، فمضينا نقفوا [ نقفو ] أثره حتى دخلنا المسجد ، فإذا عمر يطوف
بالبيت ، فطفنا معه ، فلما فرغ دخل بيني وبين المغيرة فتوكأ على المغيرة ، وقال : من أين جئتما؟.
فقلنا : يا أمير المؤمنين! خرجنا نريدك فأتينا رحلك فقيل لنا خرج يريد المسجد
فاتبعناك. قال : تبعكما الخير ، ثم إن المغيرة نظر إلي وتبسم ، فنظر إليه عمر
فقال : مم تبسمت أيها العبد؟. فقال : من حديث كنت أنا وأبو موسى فيه آنفا في طريقنا إليك. فقال
: وما ذاك الحديث؟ .. فقصصنا عليه الخبر حتى بلغنا ذكر حسد قريش وذكر من أراد
صرف أبي بكر عن استخلافه ، فتنفس الصعداء ، ثم قال : ثكلتك أمك يا مغيرة ، وما تسعة
أعشار الحسد؟! إن فيها لتسعة أعشار الحسد كما ذكرت وتسعة أعشار
العشر ، وفي الناس عشر العشر ، وقريش شركاؤهم في عشر العشر أيضا ، ثم سكت مليا وهو
يتهادى بيننا ، ثم قال : ألا أخبركما بأحسد قريش
__________________
كلها؟!. قلنا :
بلى يا أمير المؤمنين. قال : أوعليكما ثيابكما؟. قلنا : نعم. قال : وكيف بذلك وأنتما ملبسان
ثيابكما؟!. قلنا له : يا أمير المؤمنين! وما بال الثياب؟. قال : خوف الإذاعة من
الثياب. فقلت له : أتخاف الإذاعة من الثياب ، فأنت والله من ملبسي الثياب أخوف ،
وما الثياب أردت!. قال : هو ذلك ، فانطلق وانطلقنا معه حتى انتهينا إلى رحله فخلى
أيدينا من يده ، ثم قال : لا تريما .. ثم دخل ، فقلت للمغيرة : لا أبا لك لقد عثرنا بكلامنا
معه وما كنا فيه وما رآه [ نراه ] حبسنا إلا ليذاكرنا إياها. قال : فإنا لكذلك إذ خرج إلينا آذنه ،
فقال : ادخلا ، فدخلنا ، فإذا عمر مستلق على برذعة الرحل ، فلما دخلنا أنشأ يتمثل
ببيت كعب بن زهير :
لا تفش سرك إلا
عند ذي ثقة
|
|
أولى وأفضل ما استودعت أسرارا
|
صدرا رحيبا
وقلبا واسعا ضمنا
|
|
لا تخش منه إذا
أودعت إظهارا
|
فعلمنا أنه يريد أن نضمن
له كتمان حديثه ، فقلت أنا له : يا أمير
__________________
المؤمنين! أكرمنا
وخصنا وصلنا . فقال : بما ذا يا أخا الأشعريين؟. قلت : بإفشاء سرك
إلينا وإشراكنا في همك ، فنعم المستسران نحن لك . فقال : إنكما
لكذلك ، فاسألا عما بدا لكما؟ ثم قال : فقام إلى الباب ليغلقه ، فإذا آذنه الذي أذن لنا
عليه في الحجرة ، فقال : امض عنا ـ لا أم لك ـ ، فخرج وأغلق الباب خلفه ثم جلس
وأقبل علينا ، وقال : سلا تخبرا. قلنا : نريد أن تخبرنا يا أمير المؤمنين بأحسد قريش الذي
لم تأمن ثيابنا على ذكره لنا . فقال : سألتما عن معضلة وسأخبركما ، فليكن عندكما في ذمة
منيعة وحرز ما بقيت ، فإذا مت فشأنكما وما أحببتما من إظهار أو كتمان. قلنا : فإن
لك عندنا ذلك. قال أبو موسى : وأنا أقول في نفسي ما أظنه يريد إلا الذين كرهوا
استخلاف أبي بكر له كطلحة وغيره ، فإنهم قالوا : لا يستخلف علينا فظا غليظا ، وإذا هو يذهب
إلى غير ما في نفسي.
فعاد إلى التنفس ،
فقال : من تريانه؟.
__________________
قلنا : والله ما
ندري إلا ظنا.
قال : ومن تظنان؟.
قلنا : عساك تريد القوم الذين
أرادوا أبا بكر على صرف هذا الأمر عنك.
قال : كلا والله ، بل كان أبو بكر
أعق وأظلم ، هو الذي سألتما عنه ، كان والله أحسد قريش كلها ، ثم أطرق طويلا فنظر
إلي المغيرة ونظرت إليه ، وأطرقنا مليا لإطراقه ، وطال السكوت
منا ومنه حتى ظننا أنه قد ندم على ما بدا منه ، ثم قال : وا لهفاه! على ضئيل بني
تميم بن مرة ، لقد تقدمني ظالما وخرج إلي منها آثما. فقال له المغيرة : أما تقدمه
عليك يا أمير المؤمنين ظالما فقد عرفناه ، فكيف خرج إليك منها آثما؟.
قال : ذلك لأنه لم
يخرج إلي منها إلا بعد يأس منها ، أما والله لو كنت أطعت زيد بن الخطاب وأصحابه لم
يتلمظ من حلاوتها بشيء أبدا ، ولكني قدمت وأخرت ، وصعدت وصوبت ، ونقضت وأبرمت ، فلم
أجد إلا الإغضاء على ما نشب به منها والتلهف على نفسي ، وأملت إنابته ورجوعه ، فو الله ما فعل حتى فرغ منها
بشيما .
__________________
قال المغيرة : فما
منعك منها يا أمير المؤمنين! وقد عرضها عليك يوم السقيفة بدعائك إليها؟!. ثم أنت الآن
تنقم وتتأسف . فقال : ثكلتك أمك يا مغيرة! إني كنت لأعدك من دهاة العرب
، كأنك كنت غائبا عما هناك ، إن الرجل كادني فكدته ، وماكرني فماكرته ، وألفاني
أحذر من قطاة ، إنه لما رأى شغف الناس به وإقبالهم بوجوههم عليه ، أيقن أنهم لا يريدون به بدلا ، فأحب
لما رأى من حرص الناس عليه وشغفهم به أن يعلم ما عندي ، وهل تنازعني نفسي إليها ، وأحب أن يبلوني
بإطماعي فيها والتعريض لي بها ، وقد علم وعلمت لو قبلت ما عرضه علي لم يجب الناس إلى ذلك ،
فألفاني قائما على أخمصي مستوفزا حذرا ولو أجبته
إلى قبولها لم يسلم الناس إلى ذلك ، واختبأها ضغنا علي في قلبه ، ولم
آمن غائلته ولو بعد حين ، مع ما بدا لي من كراهة الناس لي ، أما
سمعت نداءهم من كل ناحية عند عرضها علي : لا نريد سواك يا أبا بكر ، أنت لها ،
فرددتها إليه فعند ذلك رأيته وقد التمع وجهه لذلك سرورا ، ولقد عاتبني
__________________
مرة على كلام بلغه عني ، وذلك
لما قدم عليه بالأشعث أسيرا فمن عليه وأطلقه وزوجه أخته أم فروة بنت أبي
قحافة ، فقلت للأشعث ـ وهو قاعد بين يديه ـ : يا عدو الله!
أكفرت بعد إسلامك ، وارتددت ناكصا على عقبيك ، فنظر إلي الأشعث نظرا شزرا علمت أنه يريد أن
يكلمني بكلام في نفسي ، ثم لقيني بعد ذلك في بعض سكك المدينة فرافقني ، ثم قال لي : أنت
صاحب الكلام يا ابن الخطاب؟!. فقلت : نعم يا عدو الله ، ولك عندي شر من ذلك. فقال
: بئس الجزاء هذا لي منك. فقلت : علام تريد مني حسن الجزاء؟. قال : لأنفتي لك من اتباع هذا الرجل
ـ يريد أبا بكر ـ ، والله ما جرأني على الخلاف عليه إلا تقدمه عليك ، ولو كنت صاحبها
لما رأيت مني خلافا عليك. قلت : ولقد كان ذلك فما تأمر الآن؟. قال : إنه ليس بوقت
أمر ، بل وقت صبر ، ومضى ومضيت ، ولقي الأشعث الزبرقان بن بدر السعدي فذكر
له ما جرى بيني وبينه ، فنقل الزبرقان ذلك إلى أبي بكر ، فأرسل إلي
فأتيته ، فذكر ذلك لي ، ثم قال : إنك لتشوق إليها يا ابن الخطاب. فقلت : وما يمنعني الشوق إلى ما كنت أحق
__________________
به ممن غلبني عليه؟
أما والله لتكفن أو لأكلمن كلمة بالغة بي وبك في الناس تحملها الركبان حيث ساروا ،
وإن شئت استدمنا ما نحن فيه عفوا. فقال : بل تستديمه وإنها لصائرة
إليك بعد أيام ، فما ظننت أنه يأتي عليه جمعة حتى يردها علي ، فتغافل والله ، فما
ذكرني بعد ذلك المجلس حرفا حتى هلك ، ولقد مد في أمدها عاضا على نواجذه حتى حضره
الموت ، فأيس منها فكان منه ما رأيتما ، فاكتما ما قلت لكما عن
الناس كافة وعن بني هاشم خاصة ، وليكن منكما بحيث أمرتكما إذا شئتما
على بركة الله ، فمضينا ونحن نعجب من قوله ، فو الله ما أفشينا سره حتى هلك.
ثم قال السيد رضياللهعنه : فكأني بهم عند سماع هذه الروايات يستغرقون ضحكا تعجبا واستبعادا وإنكارا ويقولون : كيف يصغى
إلى هذه الأخبار ، ومعلوم ضرورة تعظيم عمر لأبي بكر ووفاقه له وتصويبه
لإمامته؟وكيف يطعن عمر في إمامة أبي بكر وهي أصل لإمامته وقاعدة لولايته؟! وليس
هذا بمنكر ممن طمست العصبية على قلبه وعينيه ، فهو لا يرى ولا يسمع إلا ما يوافق
اعتقادات مبتدأة قد اعتقدها ، ومذاهب فاسدة قد انتحلها ، فما بال هذه الضرورة
تخصهم ولا تعم من خالفهم ، ونحن نقسم بالله على أنا لا نعلم ما يدعونه ، ونزيد على ذلك بأنا
نعتقد أن الأمر بخلافه ، وليس في طعن عمر على بيعة أبي
__________________
بكر ما يؤدي إلى
فساد إمامته ، لأنه يمكن أن يكون ذهب إلى أن إمامته نفسه لم تثبت بالنص عليه ،
وإنما تثبت بالإجماع من الأمة والرضا ، فقد ذهب إلى ذلك جماعة من الناس ، ويرى أن
إمامته أولى من حيث لم تقع بغتة ولا فجأة ، ولا اختلف الناس في أصلها ، وامتنع
كثير منهم من الدخول فيها حتى أكرهوا وتهددوا وخوفوا.
وأما الفلتة ، وإن
كانت محتملة للبغتة ـ على ما حكاه صاحب الكتاب والزلة ، والخطيئة ،
فالذي يخصصها بالمعنى الذي ذكرناه قوله : وقى الله شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه
، وهذا الكلام لا يليق بالمدح وهو بالذم أشبه ، فيجب أن يكون محمولا على معناه.
وقوله : إن المراد
بقوله : وقى الله شرها .. إنه دفع شر الاختلاف فيها عدول عن الظاهر ، لأن الشر في
ظاهر الكلام مضاف إليها دون غيرها.
وأبعد من هذا
التأويل قوله : إن المراد من عاد إلى مثلها من غير ضرورة وأكره المسلمين عليها
فاقتلوه ، لأن ما جرى هذا المجرى لا يكون مثلا لبيعة أبي بكر عندهم ، لأن كل ذلك
ما جرى فيها على مذاهبهم ، وقد كان يجب على هذا أن يقول من عاد إلى خلافها فاقتلوه
، وليس له أن يقول إنما أراد بالتمثيل وجها واحدا ، وهو وقوعها من غير مشاورة لأن
ذلك إنما تم في أبي بكر خاصة ، لظهور أمره واشتهار فضله ، ولأنهم بادروا إلى العقد
خوفا من الفتنة ، وذلك لأنه غير منكر أن يتفق من ظهور فضل غير أبي بكر واشتهار أمره ،
وخوف الفتنة ما اتفق
__________________
لأبي بكر ، فلا
يستحق قتلا ولا ذما ، على أن قوله : مثلها .. يقتضي وقوعها على الوجه الذي وقعت
عليه ، وكيف يكون ما وقع من غير مشاورة لضرورة داعية وأسباب موجبة مثلا لما وقع
بلا مشاورة ، ومن غير ضرورة ولا أسباب؟.
والذي رواه عن أهل
اللغة من أن آخر يوم من شوال يسمى : فلتة ، من حيث إن كل من لم يدرك فيه ثاره
فقد فاته .. فإنا لا نعرفه ، والذي نعرفه أنهم يسمون
الليلة التي ينقضي بها أحد الشهور الحرم ويتم : فلتة ، وهي آخر ليلة من ليالي
الشهر ، لأنه ربما رأى قوم الهلال لتسع وعشرين ولم يبصره الباقون فيغير هؤلاء على
أولئك وهم غارون ، فلهذا سميت هذه الليلة : فلتة ، على أنا قد بينا أن مجموع
الكلام يقتضي ما ذكرنا من المعنى ، ولو سلم له ما رواه عن أهل اللغة في احتمال
هذه اللفظة .
وقوله في أول
الكلام : ليست الفلتة : الزلة والخطيئة .. إن أراد أنها لا تختص بذلك فصحيح ، وإن
أراد أنها لا تحتمله فهو ظاهر الخطإ ، لأن صاحب العين قد ذكر في كتابه أن
الفلتة من الأمر الذي يقع على غير إحكام .
وبعد ، فلو كان
عمر لم يرد بقوله توهين بيعة أبي بكر بل أراد ما ظنه المخالفون ، لكان ذلك عائدا
عليه بالنقص ، لأنه وضع كلامه في غير موضعه ،
__________________
وأراد شيئا فعبر
عن خلافه ، فليس يخرج هذا الخبر من أن يكون طعنا على أبي بكر إلا بأن يكون طعنا
على عمر. انتهى .
ولنوضح بعض ما
تقدم في كلام السيد ، وما أورده من الروايات :
قوله : قد كان
يندر من عمر .. أي يسقط ويقع. قال في النهاية : في حديث عمر : « إن رجلا ندر في
مجلسه فأمر القوم كلهم بالتطهير لئلا يخجل الرجل ». قال : معناه أنه ضرط
كأنها ندرت منه من غير اختيار .
ودويبة سوء ـ بفتح
السين ـ بالإضافة ، وفيه دلالة على غباوة عبد الرحمن للتصغير وعلى حمقه لكون
اللفظة تصغير الدابة ، وعلى خبث طينته للإضافة إلى السوء.
والوجس ـ كالوعد ـ
: الفزع ، وأوجسني .. أي أفزعني.
والبذاء ـ بالمد ـ
: الفحش والكلام القبيح ، ويقال فلان : بذي ـ كغني وبذي اللسان .
ويرضح رأس أبيك ..
أي يكسر ويدق ، من الرضح ـ بالراء والضاد المعجمة والحاء المهملة أو بالخاء
المعجمة ـ .
والجندل ـ كجعفر ـ
: الحجارة .
__________________
وتجاسر فجسر .. أي
اجترأ فأقدم على إظهار ما كان في ضميره.
والضب ـ بالفتح ـ :
الحقد والغيظ ، ولا أحفل به .. أي لا أبالي .
وبالك الخير ـ بالباء
ـ .. أي قلبك وشأنك ، ويحتمل الياء ، حرف النداء بحذف المنادى أي : يا هذا لك
الخير أو يا من لك الخير ، وفي بعض النسخ : ما لك الخير.
والصعداء ـ بضم
الصاد وفتح العين والمد ـ : تنفس ممدود .
وسكت مليا .. أي
طائفة من الزمان .
ويتهادى بيننا ..
أي يمشي بيننا معتمدا علينا .
والإذاعة :
الإفشاء .
ولا تريما .. أي
لا تبرحا ، يقال رام يريم : إذا برح وزال عن مكانه.
والعثرة : الزلة ، وعثرنا بكلامنا
.. أي أخطأنا في حكاية كلامنا.
وبرذعة الرحل :
الكساء الذي يلقى تحت الرحل على رحل البعير.
ووا لهفاه : كلمة
يتحسر بها .
__________________
والضئيل : الحقير
السخيف .
وخرج إلي منها ..
أي تركها لي وسلمها إلي.
والتلمظ : تتبع
بقية الطعام في الفم باللسان ، والمعنى لم يذق من حلاوتها أبدا.
والتصوب : النزول ، والمراد : قلبت
هذا الأمر ظهرا لبطن ، وتفكرت في جميع شقوقه.
والإغضاء : ـ في
الأصل ـ : إدناء الجفون .
ونشب .. أي علق ، والمعنى لم أجد
بدا من الصبر على الشدة كما يصبر الإنسان على قذى في عينه أو شجا في حلقه.
قوله : حتى فرغ
منها .. في بعض النسخ : فغربها .. أي فتح فاه .
والبشم ـ بالباء
الموحدة والشين المعجمة ـ : التخمة. والسئام : .. أي لم يسلمها إلي إلا بعد استيفاء الحظ والسأم منها.
ونقم .. أي كره
كراهة بالغة حد السخط .
والدهاء : النكر
وجودة الرأي .
والشغف ـ بالغين
المعجمة والمهملة ـ : شدة الحب .
__________________
ويبلوني .. أي
يمتحنني ويختبرني .
والأخمص : ما لم
يصب الأرض من القدم .
والوفز : العجلة ،
والمستوفز : الذي يقعد قعودا منتصبا غير مطمئن .. أي أوجدني متهيئا للإقدام والنهوض منتظرا للفرصة غير
غافل.
واختباها .. أي
ادخرها .
والغائلة :
الداهية .
والنظر الشزر :
النظر بمؤخر العين .
والأنفة :
الاستنكاف وكراهة الشيء للحمية ولغيره .
وأمد الشيء غايته .
والنواجذ : أقاصي
الأسنان ، والعض عليها : كناية عن شدة التعلق والتمسك بالشيء .
ثم اعلم أن ابن
أبي الحديد ـ بعد ما ذكر كلام السيد رضياللهعنه
__________________
قال ـ ما حاصله ـ :
إنه لا يبعد أن يقال : إن الرضا والسخط والحب والبغض وما شاكل ذلك من الأخلاق
النفسانية وإن كانت أمورا باطنة فإنها قد تعلم وتضطر الحاضرون إلى حصولها بقرائن
أحوال يفيدهم العلم الضروري ، كما يعلم خوف الخائف وسرور المبتهج ... فغير منكر أن
يقول قاضي القضاة إن المعلوم ضرورة من حال عمر تعظيم أبي بكر ورضاه بخلافته وتدينه
بذلك ، فالذي اعترضه السيد به غير وارد عليه ، وأما الأخبار التي رواها عن عمر فأخبار غريبة ما
رأيناها في الكتب المدونة إلا في كتاب المرتضى وكتاب المستبشر لمحمد بن جرير
الطبري ـ الذي هو من رجال الشيعة ـ .. وأنت تعلم حال الأخبار الغريبة التي لا توجد
في الكتب المدونة ، كيف هي؟.
وأورد عليه أن
الأمور الباطنة والصفات النفسانية لا ريب في أنها قد تظهر أحيانا بظهور
آثارها وشهادة القرائن عليها ، لكن الاطلاع عليها ـ سيما على وجه العلم بها والجزم
بحصولها ـ أمر متعسر ، سيما إذا قامت الدواعي إلى إخفائها وتعلق الغرض بسترها ،
وأكثر ما يظن به العلم في هذا الباب فهو من قبيل الظن ، بل من قبيل
الوهم ، وجميعها ـ وإن اشتركت في تعسر العلم بها ـ إلا أنه في بعضها سيما في بعض
الأشخاص ، وفي بعض الأحوال أشد ـ وكثيرا ما يظن المخالطون لرجل وخواصه وبطانته في
دهر طويل أنه يتدين بدين أو يحب أحدا أو يبغضه ثم يظهر خلافه ، والدواعي إلى إخفاء
عمر بغض أبي بكر أو عدم التدين بخلافته أمر واضح لا سترة به ، فإنه كان أساسا
لخلافته واصلا لإمارته ، ومع ذلك كانت
__________________
خلافة أبي بكر
وسيلة إلى ما هو مقصدهم الأقصى ، وقرة عيونهم من دفع أهل البيت عليهمالسلام عن هذا المقام ، فكان قدح عمر في أبي بكر تخريبا لهذا الأساس ومناقضا لذلك
الغرض ، ولم يكن كارها لخلافة أبي بكر إلا لأنه كانت خلافة نفسه أحب إليه وأقر
لعينه ـ كما يظهر من كلام السيد رضياللهعنه ومن رواياته ـ.
ومن نظر بعين
الإنصاف علم أن تعظيم عمر لأبي بكر وإظهاره الرضا بإمارته ـ مع كونها وسيلة
لانتقال الأمر إليه وصرفه عن أهل البيت ـ لا دلالة فيه بوجه من الوجوه على تدينه
بإمامة أبي بكر ، وكونها أحب إليه من خلافة نفسه ، وإن ما ادعوا من العلم الضروري
في ذلك ليس إلا عتوا في التعصب وعلوا في التعسف.
لا
يقال : إذا كانت خلافة
أبي بكر أساسا لخلافة عمر وسببا لدفع علي عليهالسلام عنها فكيف كان عمر ـ مع شدة حيلته ودهائه ـ يقول على رءوس
الأشهاد :كانت بيعة أبي بكر فلتة ـ بالمعنى الذي زعمتموه؟ وكيف يظهر مكنون ضميره
لأبي موسى والمغيرة وغيرهما ـ كما يدل عليه الروايات المذكورة؟!.
لأنا
نقول : أما إفشاؤه ما
أسر في نفسه إلى أبي موسى والمغيرة وابن عمر فلم يكن مظنة للخوف على ذهاب الخلافة
، إذ كان يعرفهم بحبهم له وثيق بأنهم لا يظهرون ذلك إلا لأهله ، ولو أظهروه لأنكر عليهم
عامة الناس ، فلم يبال بإفشائه إليهم.
وأما حكاية الفلتة
، فكانت بعد استقرار خلافته وتمكن رعبه وهيبته في قلوب الناس ، وقد دعاه إليها أنه
سمع أن عمار بن ياسر كان يقول : لو قد مات عمر لبايعت عليا عليهالسلام ـ كما اعترف به الجاحظ ، وحكاه عنه ابن أبي
__________________
الحديد ـ قال : وقال
غيره .. : إن المعزوم على بيعته لو مات عمر كان طلحة ابن عبيد الله ، ويدل على أن قصة الفلتة كانت لمثل ذلك ما في رواية طويلة
رواها البخاري وغيره من قول عمر في خطبته أنه : بلغني أن قائلا منكم يقول : لو
مات أمير المؤمنين لبايعت فلانا ، فلا يغرن امرأ أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت
فلتة وتمت ، فلقد كان كذلك ، ولكن وقى الله شرها.
فخاف من بطلان ما
مهدوه وعقدوا عليه العهود والمواثيق من بذل الجهد واستفراغ الوسع في صرف الأمر عن
أمير المؤمنين عليهالسلام ومنعه عنه ، ومع ذلك هاج الضغن الكامن في صدره فلم يقدر
على إخفائه والصبر عليه ، فظهر منه مثل هذا الكلام.
وأما ما ذكره من
أن الأخبار التي رواها السيد رضياللهعنه غير موجودة في الكتب ، فليس غرضه من إيرادها إلا نوع تأييد
لما ذكره من أن ادعاءهم العلم الضروري من قبيل المجازفة ، ومن راعى جانب الإنصاف
وجانب الاعتساف علم أن الأمر كما ذكره.
ثم قال ابن أبي
الحديد : اعلم أن هذه اللفظة وأمثالها كان عمر يقولها بمقتضى ما
جبله الله تعالى عليه من غلظ الطينة وجفاء الطبيعة ، ولا حيلة له فيها ، لأنه
مجبول عليها لا يستطيع تغييرها. ولا ريب عندنا أنه كان يتعاطى أن
__________________
يتكلف وأن يخرج ألفاظه
مخارج حسنة لطيفة ، فينزع به الطبع الجاسي والغريزة الغليظة إلى أمثال هذه اللفظات
، ولا يقصد بها سوءا ولا يريد بها تخطئة ولا ذما ! ، كما قدمناه في
اللفظة التي قالها في مرض رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وكاللفظات التي قالها عام الحديبية .. وغير ذلك ، والله تعالى لا
يجازي المكلف إلا بما نواه ، ولقد كانت نيته من أظهر النيات وأخلصها
لله سبحانه والمسلمين ، ومن أنصف علم أن هذا الكلام حق.
ويرد عليه أن
اقتضاء الطبيعة واستدعاء الغريزة ـ التي جعله معذرة له ـ إن أراد أنه بلغ إلى حيث
لم يبق لعمر معه قدرة على إمساك لسانه عن التكلم بخلاف ما في
ضميره ، بل كان يصدر عنه الذم في مقام يريد المدح ، والشتم في موضع يريد الإكرام ،
ويخرج بذلك عن حد التكليف ، فلا مناقشة في ذلك ، لكن مثل هذا الرجل يعده العقلاء
في زمرة المجانين ، ولا خلاف في أن العقل من شروط الإمامة.
وإن أراد أنه يبقى
مع ذلك ما هو مناط التكليف فذلك مما ( لا يُسْمِنُ وَلا
يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ) ، فإن إبليس استكبر على آدم بمقتضى الجبلة النارية ومع ذلك
استحق النار وشملته اللعنة إلى يوم الدين ، والزاني إنما يزني بمقتضى الشهوة التي
جبله الله عليها ولا حيلة له فيها ، ومع ذلك يرجم ولا يرحم.
ونعم ما تمسك به
في إصلاح هذه الكلمة من قول عمر ـ في مرض رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إن الرجل ليهذو ، أو إن الرجل ليهجر ـ ، ورده على رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : حسبنا كتاب الله ، كما سيأتي في مطاعنه مفصلاً
__________________
إن شاء الله
تعالى.
وهذا في الحقيقة
تسليم لما ذكره السيد رضياللهعنه من أنه لا يخرج هذا الكلام من أن يكون طعنا على أبي بكر
إلا بأن يكون طعنا على عمر.
ثم قال ابن أبي
الحديد : وقول المرتضى : قد يتفق من ظهور فضل غير أبي بكر ، وخوف
الفتنة ما اتفق لأبي بكر فلا يستحق القتل ، فإن لقائل أن يقول : إن عمر لم يخاطب
بهذا إلا أهل عصره ، وكان يذهب إلى أنه ليس فيهم كأبي بكر ، ولا من يحتمل له أن
يبايع فلتة كما احتمل ذلك لأبي بكر ، فإن اتفق أن يكون في عصر آخر بعد عصره من
يظهر فضله ، ويكون في زمانه كأبي بكر في زمانه فهو غير داخل في نهي عمر وتحريمه.
ويرد عليه ظاهر مثل هذا الخطاب
عمومه لما بعد عصر الخطاب ، ولذلك لم يخصص أحد ما ورد في الأخبار من الأوامر
والنواهي بزمان دون آخر.
ولو فرضنا اختصاص
الحكم بأهل ذلك العصر نقول : من أين كان يعلم عمر أن مدة خلافته ـ والعياذ بالله ـ
لا يمتد حينا من الدهر يظهر للناس من فضل رجل من أهل ذلك العصر مثل ما ظهر لأبي
بكر حتى لا يستحق من دعا إلى بيعته القتل ، فإن ظهور الفضل الذي زعمه لأبي بكر لم
يكن ثابتا له في جميع عمره ، بل إنما توهمه فيه من توهم بعد حين وزمان ، ولم يكن
عمر خطب بهذه الخطبة عند علمه بموته حتى يعلم أنه ليس في أهل العصر من
تمد إليه الأعناق مثل أبي بكر فإنه خطب بها أول جمعة دخل المدينة بعد انصرافه من
الحج ، ولم يكن طعنه أبو لؤلؤة حتى يعلم أنه سيموت ولا يبقى زمانا يمكن فيه ظهور
فضل رجل من أهل العصر فكان اللائق أن يقيد كلامه ببعض القيود ولا يهمل ذكر الشروط.
__________________
ولا يخفى أن ما
جعله ابن أبي الحديد عذرا لعمر ـ من أنه ليس فيهم كأبي بكر ـ باطل على مذهبه ،
فإنه يرى أمير المؤمنين عليهالسلام أفضل من أبي بكر ، على أن اشتراط بلوغ الفضل إلى ما بلغه أبو بكر ـ لو سلم
له فضل ـ باطل من أصله ، إذ لا يشترط في الإمام ـ على رأي من شرط أفضلية الإمام ـ إلا
كونه أفضل أهل زمانه لا كونه مثل من كان إماما في زمان من الأزمان ، وبطلان القول
بأنه لم يكن في جملة المخاطبين حينئذ ـ وإن فرض تخصيص الخطاب بأهل ذلك العصر ـ من
سبق غيره إلى الخيرات ، أظهر من أن يخفى على أحد.
وقال في جامع
الأصول ـ في تفسير الفلتة ـ : الفجأة ، وذلك أنهم لم ينتظروا
ببيعة أبي بكر عامة الصحابة ، وإنما ابتدرها عمر ومن تابعه.
قال : وقيل الفلتة
آخر ليلة من الأشهر الحرم فيختلفون فيها أمن الحل هي أم من الحرام فيسارع الموتور إلى درك الثار فيكثر
الفساد ويسفك الدماء ، فشبه أيام رسول الله (ص) بالأشهر الحرم ، ويوم
موته بالفلتة في وقوع الشر من ارتداد العرب ، وتخلف الأنصار عن الطاعة ، ومنع من
منع الزكاة ، والجري على عادة العرب في أن لا يسود القبيلة إلا رجل منها.
ويجوز أن يريد
بالفلتة : الخلسة ، يعني أن الإمامة يوم السقيفة مالت إلى توليها الأنفس ولذلك كثر
فيها التشاجر ، فما قلدها أبو بكر إلا انتزاعا من الأيدي
__________________
واختلاسا ، ومثل
هذه البيعة جديرة أن تكون مهيجة للفتن ، فعصم الله من ذلك ووقى شرها
، وذكر مثل ذلك في النهاية .
وأقول : إن سلمنا
أن لفظة الفلتة لا تدل على الذم ، وأنه إنما أراد بها محض حقيقتها في اللغة ، وهو
الأمر الذي يعمل فجأة من غير تردد ولا تدبر وكان مظنة للشر والفساد ، ففي قوله : وقى الله شرها ،
وأمره بقتل من دعا إلى مثلها ، دلالة على أنه زلة قبيحة وخطيئة فاحشة ، فالمستفاد
من اللفظة بمجردها ـ وإن كان أعم من الزلة والخطيئة ـ إلا أنه حمل عليها ، بل على
أخص منها ، لما هو في قوة المخصصة له ، فليس كل زلة وخطيئة يستحق فاعلها القتل ،
ومن له أدنى معرفة بأساليب الكلام يعلم أنهم يكتفون في حمل اللفظ على أحد المعاني
في صورة الاشتراك بأقل مما في هذا الكلام ، وقول عمر : من دعاكم إلى مثلها فاقتلوه
.. ومن عاد إلى مثلها فاقتلوه .. .. وإن لم يكن موجودا فيما حكاه في جامع الأصول عن البخاري إلا أن كونه من
تتمة كلامه من المسلمات عند الفريقين ، واعترف به ابن أبي الحديد ، ولا يريب عاقل
في أنه لو وجد المتعصبون منهم ـ كقاضي القضاة والفخر الرازي وصاحب المواقف وشارحه
وصاحب المقاصد وشارحه وغيرهم ـ سبيلا إلى إنكاره لما فاتهم ذلك ، ولا احتاجوا إلى
التأويلات الركيكة
__________________
الباردة.
ومن تتبع كتاب
البخاري علم أن عادته في الروايات المشتملة على ما ينافي آراءهم الفاسدة إسقاطه من
الرواية أو التعبير بلفظ الكناية تلبيسا على الجاهلين ، بل يترك الروايات المنافية
لعقائدهم رأسا ، وقد قال ابن خلكان في ترجمة البخاري أنه قال : صنفت كتابي الصحيح من ستمائة
ألف حديث ، ونحوه قال في جامع الأصول ، وروى عن مسلم أنه أخرج صحيحه من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة ، وعن
أبي داود أنه انتخب ما أورده في كتابه من خمسمائة ألف حديث.
ومن سنة القوم
تسمية ما يخالف عقائدهم بغير الصحيح ، ولما كان اهتمام البخاري في هذا المعنى أكثر
من سائر من زعموا أن أخبارهم من صحاح الأخبار ، فلذلك رفض المخالفون أكثر كتبهم في
الأخبار ، وعظموا كتاب البخاري ـ مع رداءته في ترتيب الأبواب وركاكته في عنوانها ـ
غاية التعظيم ، وقدموه على باقي الكتب ، ومع ذلك بحمد الله لا يشتبه على من أمعن
النظر فيه وفي غيره من كتبهم أنها مملوة من الفضائح ، ومشحونة بالاعتراف بالقبائح.
وأما ما ذكره في
تفسير الفلتة بآخر الأشهر الحرم وتوجيهه في ذلك ، فقد عرفت ما فيه ، وما ذكره من
تفسيره بالخلسة فهو تفسير صحيح ، إلا أن الحق أنها خلسة وسرقة عن
ذي الحق لا عن النفوس التي مالت إلى تولي الإمامة ، فإنهم كانوا ـ أيضا ـ من
السارقين ، والأخذ من السارق لا يسمى اختلاسا ، وهو واضح.
__________________
الطعن الخامس :
أنه ترك إقامة
الحد والقود في خالد بن الوليد وقد قتل مالك بن نويرة وضاجع امرأته من ليلته ،
وأشار إليه عمر بقتله وعزله ، فقال : إنه سيف من سيوف الله سله الله على أعدائه . وقال عمر مخاطبا
لخالد : لئن وليت الأمر لأقيدنك له.
وقال القاضي في
المغني ـ ناقلا عن أبي علي ـ إن الردة قد ظهرت من
مالك ، لأن في الأخبار أنه رد صدقات قومه عليهم لما بلغه موت رسول الله صلى الله
عليه [ وآله ] كما فعله سائر أهل الردة ، فاستحق القتل .
قال أبو علي : و إنما قتله لأنه
ذكر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : صاحبك ، وأوهم بذلك أنه ليس بصاحب له ، وكان عنده
أن ذلك ردة ، وعلم
__________________
عند المشاهدة المقصد
ـ وهو أمير القوم ـ فجاز أن يقتله ، وإن كان الأولى أن لا يستعجل وأن يكشف الأمر
في ردته حتى يتضح ، فلهذا لم يقتله .
وبهذين الوجهين
أجاب الفخر الرازي في نهاية العقول وشارح المواقف وشارح المقاصد .
ثم قال قاضي
القضاة : فإن قال قائل : فقد كان مالك يصلي؟ قيل له : وكذلك سائر أهل الردة ، وإنما كفروا بالامتناع من الزكاة
واعتقادهم إسقاط وجوبها دون غيره.
فإن قيل : فلم
أنكر عمر؟.
قيل : كان الأمر إلى
أبي بكر فلا وجه لإنكار عمر ، وقد يجوز أن يعلم أبو بكر من الحال ما يخفى على عمر.
فإن قيل : فما
معنى ما روي عن أبي بكر من : أن خالدا تأول فأخطأ.
قيل : أراد تأول
في عجلته عليه بالقتل ، فكان الواجب عنده على خالد
__________________
أن يتوقف للشبهة .
واستدل أبو علي
على ردة مالك بأن أخاه متمم بن نويرة لما أنشد عمر مرثية أخيه قال له عمر :
وددت أني أقول الشعر فأرثي زيدا كما رثيت أخاك. فقال له متمم : لو قتل أخي على مثل
ما قتل عليه أخوك لما رثيته. فقال له عمر : ما عزاني أحد كتعزيتك ، فدل هذا على
أنه لم يقتل على الإسلام .
ثم أجاب عن تزويجه
بامرأته بأنه إذا قتل على الردة في دار الكفر جاز ذلك عند كثير من أهل العلم وإن
كان لا يجوز أن يطأها إلا بعد الاستبراء ، فأما وطئه لامرأته فلم يثبت عنده ،
ولا يجوز أن يجعل طعنا في هذا الباب.
واعترض عليه السيد
المرتضى رضياللهعنه في الشافي بقول : أما صنيع خالد ـ في قتل مالك بن نويرة واستباحة ماله وزوجته لنسبته
إلى الردة التي لم تظهر ، بل كان الظاهر خلافها من الإسلام ـ فعظيم ، ويجري مجراه
في العظم تغافل من تغافل عن أمره ولم يقم فيه حكم الله تعالى وأقره على الخطإ الذي
شهد هو به على نفسه ، ويجري مجراهما من أمكنه أن يعلم الحال فأهملها ولم يتصفح ما
__________________
روي من الأخبار في
هذا الباب ، وتعصب لأسلافه ومذهبه ، وكيف يجوز عند خصومنا على مالك وأصحابه جحد الزكاة مع
المقام على الصلاة ، وهما جميعا في قرن ؟! لأن العلم الضروري بأنهما من دينه صلىاللهعليهوآلهوسلم وشريعته على حد واحد ، وهل نسبة مالك إلى الردة ـ بعد ما ذكرناه ـ إلا
قدح في الأصول ونقض لما تضمنته من أن الزكاة معلومة ضرورة من دينه صلىاللهعليهوآلهوسلم؟.
وأعجب من كل عجيب
قوله : وكذلك سائر أهل الردة ـ يعني أنهم كانوا يصلون ويجحدون الزكاة ـ؟! لأنا قد
بينا أن ذلك مستحيل غير ممكن ، وكيف يصح ذلك وقد روى جميع أهل النقل أن أبا بكر
وصى الجيش الذين أنفذهم بأن يؤذنوا ويقيموا ، فإن أذن القوم بأذانهم وأقاموا كفوا عنهم ، وإن
لم يفعلوا أغاروا عليهم؟! فجعل إمارة الإسلام والبراءة من الردة الأذان والإقامة ،
وكيف يطلق في سائر أهل الردة ما يطلقه من أنهم كانوا يصلون؟! وقد علمنا أن أصحاب
مسيلمة وطليحة وغيرهما ممن ادعى النبوة وخلع الشريعة ما كانوا يصلون ولا شيئا مما
جاءت به شريعتنا ، وقصة مالك معروفة عند من تأملها من كتب النقل والسيرة ، وأنه قد
كان على صدقات قومه بني يربوع واليا من قبل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلما بلغته وفاة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أمسك عن أخذ
__________________
الصدقة من قومه ،
وقال لهم : تربصوا بها حتى يقوم قائم بعد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وننظر ما يكون من أمره ، وقد صرح بذلك في شعره حيث يقول :
وقالت رجال سدد
اليوم مالك
|
|
وقال رجال ،
مالك لم يسدد
|
فقلت دعوني لا
أبا لأبيكم
|
|
فلم أخط وأيا في المقال ولا اليد.
|
وقلت خذوا
أموالكم غير خائف
|
|
ولا ناظر فيما
يجيء به غدي
|
فدونكموها إنما
هي مالك
|
|
مصررة أخلافها لم تجدد
|
سأجعل نفسي دون
ما تحذرونه
|
|
وأرهنكم يوما
بما قلته يدي
|
فإن قام بالأمر المجدد قائم
|
|
أطعنا وقلنا
الدين دين محمد
|
فصرح ـ كما ترى ـ أنه
استبقى الصدقة في أيدي قومه رفقا بهم وتقربا إليهم إلى أن يقوم بالأمر من يدفع ذلك
إليه.
وقد روى جماعة من
أهل السير وذكره الطبري في تاريخه أن مالكا نهى
قومه عن الاجتماع على منع الصدقات وفرقهم ، وقال : يا بني يربوع! إن كنا قد عصينا
أمراءنا إذ دعونا إلى هذا الدين ، وبطأنا الناس عليه فلم نفلح ولم
ننجح ، وإني قد نظرت في هذا الأمر فوجدت الأمر يتأتى لهم بغير سياسة ، وإذ الأمر
لا يسوسه الناس فإياكم ومعاداة قوم يصنع لهم ، فتفرقوا على ذلك إلى أموالهم ،
__________________
ورجع مالك إلى
منزله ، فلما قدم خالد البطاح بث السرايا وأمرهم بداعية الإسلام ، وأن يأتوه بكل
من لم يجب ، وأمرهم إن امتنع أن يقاتلوه ، فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر
من بني يربوع ، واختلفت السرية في أمرهم ، وفي السرية أبو قتادة الحرث
بن ربعي ، فكان ممن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلوا ، فلما اختلفوا فيهم
أمر بهم خالد فحبسوا ، وكانت ليلة باردة لا يقوم لها شيء ، فأمر خالد مناديا ينادي
: أدفئوا أسراءكم ، فظنوا أنه أمرهم بقتلهم ، لأن هذه اللفظة تستعمل في لغة كنانة للقتل ، فقتل
ضرار بن الأزود مالكا ، وتزوج خالد زوجته أم تميم بنت المنهال.
وفي خبر آخر : أن السرية التي
بعث بها خالد لما غشيت القوم تحت الليل راعوهم فأخذ القوم السلاح
، قال : فقلنا : إنا لمسلمون. فقالوا : ونحن المسلمون. قلنا : فما بال السلاح؟.
قالوا لنا : فما بال السلاح معكم؟. قلنا : فضعوا السلاح. فلما وضعوا ربطوا أسارى ،
فأتوا بهم خالدا ، فحدث أبو قتادة خالد بن الوليد بأن القوم نادوا بالإسلام وأن لهم أمانا ،
فلم يلتفت خالد إلى
__________________
قوله وأمر بقتلهم
وقسم سبيهم ، فحلف أبو قتادة أن لا يسير تحت لواء خالد في جيش أبدا ، وركب فرسه
شادا إلى أبي بكر وأخبره بالقصة ، وقال له : إني نهيت خالدا عن قتله فلم يقبل قولي
، وأخذ بشهادة الأعراب الذين غرضهم الغنائم ، وأن عمر لما سمع ذلك تكلم فيه عند
أبي بكر فأكثر ، وقال : إن القصاص قد وجب عليه ، فلما أقبل خالد بن
الوليد قافلا دخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ الحديد ، معتجرا بعمامة له قد غرز في عمامته أسهما ، فلما دخل المسجد قام إليه
عمر فنزع الأسهم عن رأسه فحطمها ، ثم قال : يا عدي نفسه! أعدوت على امرئ مسلم
فقتلته ثم نزوت على امرأته ، والله لنرجمنك بأحجارك .. وخالد لا يكلمه ولا يظن إلا أن رأي أبي بكر مثل
ما رأى عمر فيه ، حتى دخل إلى أبي بكر واعتذر إليه فعذره وتجاوز عنه ، فخرج خالد ـ وعمر
جالس في المسجد فقال : هلم إلي يا ابن أم شملة ، فعرف عمر أن أبا
__________________
بكر قد رضي عنه
فلم يكلمه ودخل بيته.
وقد روى ـ أيضا ـ أن
عمر لما ولي جمع من عشيرة مالك بن نويرة ـ من وجده منهم ـ واسترجع ما وجد عند
المسلمين من أموالهم ونسائهم وأولادهم فرد ذلك جميعا عليهم مع نصيبه كان فيهم.
وقيل : إنه ارتجع
بعض نسائهم من نواحي دمشق ـ وبعضهن حوامل فردهن على أزواجهن.
فالأمر ظاهر في
خطإ خالد وخطإ من تجاوز عنه ، وقول صاحب المغني إنه يجوز أن يخفى
على عمر ما يظهر لأبي بكر ـ ليس بشيء ، لأن الأمر في قصة خالد لم يكن مشتبها ، بل
كان مشاهدا معلوما لكل من حضر ، وما تأول به في القتل لا يعذر لأجله ، وما رأينا
أبا بكر حكم فيه بحكم المتأول ولا غيره ، ولا تلافى خطأه وزلله ، وكونه :
سيفا من سيوف الله ـ على ما ادعاه ـ لا يسقط عنه الأحكام ، ولا يبرئه من الآثام.
فأما قول متمم :
لو قتل أخي على ما قتل عليه أخوك لما رثيته .. فإنه لا يدل على أنه كان مرتدا ، وكيف يظن عاقل أن متمما
يعترف بردة أخيه وهو
__________________
يطالب أبا بكر
بدمه والاقتصاص من قاتله ورد سبيه ، فإنما أراد في الجملة التقرب إلى عمر بتقريظ أخيه.
ثم لو كان ظاهر
القول كباطنه لكان إنما يفيد تفضيل قتلة زيد على قتلة مالك ،
والحال في ذلك أظهر ، لأن زيدا قتل في بعث المسلمين ذابا عن وجوههم ، ومالك قتل
على شبهة ، وبين الأمرين فرق.
فأما قوله في
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : صاحبك .. فقد قال أهل العلم إنه أراد القرشية ، لأن
خالدا قرشي ، وبعد فليس في ظاهر إضافته إليه دلالة على نفيه له عن
نفسه ، ولو كان علم من مقصده الاستخفاف والإهانة ـ على ما ادعاه صاحب المغني ـ لوجب أن يعتذر
خالد بذلك عند أبي بكر وعمر ، ويعتذر به أبو بكر لما طالبه عمر بقتله
، فإن عمر ما كان يمنع من قتل قادح في نبوة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإن كان الأمر على ذلك فأي معنى لقول أبي بكر : تأول
فأخطأ؟! ، وإنما تأول فأصاب ، إن كان الأمر على ما ذكر .
وأورد عليه ابن
أبي الحديد : بأنه لا ملازمة بين القول بوجوب الصلاة وبين القول بوجوب
الزكاة ، لأنه لا تلازم بين العبادتين في الوجود ، وكونهما متشاركين في العلم بهما
من الدين ضرورة لا يقتضي امتناع سقوط أحدهما بشبهة ، فإنهم قالوا
__________________
إن الله تعالى قال
لرسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ( خُذْ مِنْ
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ ) ... الآية. قالوا : فوصف الله الصدقة بأنها من شأنها أن يطهر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الناس ويزكيهم بأخذها منهم ، ثم عقب ذلك بأن فرض عليه ـ مع أخذ الزكاة منهم ـ
أن يصلي عليهم صلاة تكون سكنا لهم. قالوا : وهذه صفات لا تتحقق في غيره ، لأن غيره
لا يطهر الناس ولا يزكيهم بأخذ الصدقة ، ولا إذا صلى على الناس كان صلاته سكنا لهم
، فلم يجب علينا دفع الزكاة إلى غيره.
والجواب : إن كلام
قاضي القضاة صريح في أن مالكا وأصحابه كفروا بالامتناع من الزكاة ، واعتقادهم
إسقاط وجوبها ، ولو كان الحال كما ذكره من أنهم اعتقدوا سقوطها لشبهة ولم ينكروا
وجوبها مطلقا لم يلزم كفرهم لإنكار أمر معلوم من الدين ضرورة ، وفي كلام ابن أبي
الحديد اعتراف بذلك ، حيث قال : إنهم ما جحدوا وجوبها ، ولكنهم
قالوا : إنه وجوب مشروط ، وليس يعلم بالضرورة انتفاء كونها مشروطة ، وإنما يعلم
ذلك بنظر وتأويل.
فبطل جواب القاضي
ويتوجه إيراد السيد عليه.
وقد صرح غير ابن
أبي الحديد ـ من أهل الخلاف ـ بأن مالكا وأصحابه لم يكفروا بمنعهم الزكاة ، حكى
شارح صحيح مسلم في المنهاج في كتاب الإيمان
__________________
كلاما استحسنه عن
الخطابي ، وهذا لفظه ، قال ـ بعد تقسيم أهل الردة إلى ثلاثة أقسام ـ : فأما مانعو
الزكاة منهم المقيمون على أصل الدين فإنهم أهل بغي ، ولم يسموا على الانفراد منهم
كفارا وإن كانت الردة قد أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض ما منعوه من
حقوق الدين ، وذلك أن اسم الردة اسم لغوي ، وكل من انصرف عن أمر كان مقبلا عليه
فقد ارتد عنه ، وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الحق وانقطع عنهم
اسم الثناء والمدح بالدين ، وعلق بهم الاسم القبيح لمشاركتهم القوم الذين كان
ارتدادهم حقا.
ثم قال ـ بعد كلام
في تقسيم خطاب الله ـ فإن قيل : كيف تأولت أمر الطائفة التي منعت الزكاة على الوجه
الذي ذهبت إليه وجعلتهم أهل بغي؟! وهل إذا أنكرت طائفة من المسلمين في زماننا فرض
الصلاة والزكاة وامتنعوا من أدائها يكون حكمهم حكم أهل البغي؟!.
قلنا : لا ، فإن
من أنكر فرض الزكاة في هذا الزمان كان كافرا بإجماع المسلمين ، والفرق بين هؤلاء وأولئك أنهم
إنما عذروا لأسباب وأمور لا يحدث مثلها في هذا الزمان ، منها : قرب العهد بزمان
الشريعة الذي كان يقع فيه تبديل الأحكام بالنسخ ، ومنها : إن القوم كانوا جهالا
بأمور الدين وكان عهدهم بالإسلام قريبا فدخلتهم الشبهة فعذروا ، فأما اليوم وقد
شاع دين الإسلام
__________________
واستفاض في
المسلمين علم وجوب الزكاة حتى عرفها الخاص والعام واشترك فيهم العالم والجاهل ، فلا يعذر
أحد بتأويل يتأوله في إنكارها ، وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئا مما أجمعت الأمة عليه من
أمور الدين إذا كان علمه منتشرا كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان والاغتسال من
الجنابة وتحريم الزنا والخمر ونكاح ذوات المحارم ونحوها من
الأحكام ، إلا أن يكون رجلا حديث عهد بالإسلام ولا يعرف حدوده ، فإنه إذا أنكر
شيئا منها جهلا به لم يكفر وكان سبيله سبيل أولئك القوم في صدق اسم الدين عليه ،
فأما ما كان الإجماع فيه معلوما من طريق علم الخاصة كتحريم نكاح المرأة على عمتها
وخالتها ، وإن القاتل عمدا لا يرث ، وإن للجدة السدس .. وما أشبه ذلك من الأحكام ،
فإن من أنكرها لا يكفر بل يعذر فيها لعدم استفاضة علمها في العامة ونحوه.
قال في شرح الوجيز
في أول كتاب الجنايات : وأما التلازم بين العبادتين في الوجود فأمر لم يدعه
السيد ولا حاجة له إلى ادعائها ، وإنما ادعى الملازمة بين اعتقاد وجوب الصلاة وبين
التصديق بوجوب الزكاة على الوجه الذي علم من الدين ضرورة ، وخرج منكره عن الإسلام.
والظاهر إن غرضه
أن منكر الضروري إنما يحكم بكفره لكون إنكاره ذلك كاشفا عن تكذيب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وإنكار نبوته ، لا أن ذلك الإنكار في نفسه علة للحكم بالكفر ، ولذلك لا يحكم
بكفر من ادعى شبهة محتملة ، ولو دل دليل على كفر من أنكر ضروريا من الدين مخصوصا مطلقا لم
يحكم
__________________
بكفره ، لكون ذلك
الإنكار من أفراد هذا الأمر الكلي ، بل لقيام ذلك الدليل بخصوصه ، والظاهر أن من
أنكر ضروريا من الدين ـ لا لشبهة قادته إلى الإنكار لم ينفك إنكاره ذلك عن إنكار سائر
الضروريات ، وتكذيب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وما يشاهد في بعض
الناس من نفي بعض الضروريات كحدوث العالم والمعاد الجسماني ونحو ذلك مع الإقرار في
الظاهر بنبوة نبينا صلىاللهعليهوآلهوسلم واعترافهم بسائر الضروريات وما جاء به النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فذلك لأحد الأمرين : إما لكونهم ضالين لشبهة اعترتهم فيما زعموه كتوهمهم كون
أباطيل بعض الفلاسفة وسائر الزنادقة برهانا يوجب تأويل الأدلة السمعية ونحو ذلك ،
أو لكونهم منكرين للنبوة في الباطن ولكن لخوف القتل والمضار الدنيوية لا يتجرءون على إنكار غير ما
كشفوا عن إنكاره من الضروريات ، وأما إظهارهم إنكار ذلك البعض فلارتفاع الخوف في
إظهاره لاختلاط عقائد الفلاسفة وغيرهم بعقائد المسلمين بحيث لا تتميز إحداهما عن
الأخرى إلا عند من عصمه الله سبحانه ، فمن دخل منهم تحت القسم الأول يشكل الحكم
بخروجهم عن الإسلام ، لكون ما أنكروه غير ضروري في حقهم وإن صدق عليه عنوان
الضرورة بالنسبة إلى غيرهم ، ولا ينافي ذلك أن يكونوا من أهل الضلال معاقبين على
إنكارهم لاستناده إلى تقصير منهم في طلب الحق.
وأما القسم الثاني
فخروجهم عن الإسلام لإنكار النبوة ، فظهر أن إنكار أمر ضروري على وجه يوجب الكفر
لا ينفك عن إنكار النبوة المستلزم لإنكار سائر الضروريات.
فإن قيل : من أين
يعلم أن مالكا وأصحابه لم يكونوا من القسم الثاني ، فلعلهم لم ينكروا الصلاة في
الظاهر لأمر دنيوي.
__________________
قلنا : أولا : هذا
خلاف ما اعترف به ابن أبي الحديد وقاضي القضاة والخطابي .. وغيرهم .
وثانيا : إن مالكا
وأصحابه لو كانوا مشفقين من أهل الإسلام أو بقي لهم مطمع فيهم لما أعلنوا بالعداوة
، ولم يريدوا قتال المسلمين كما زعمه الجمهور ، على أنه لا نزاع في إسلامهم قبل
ذلك الامتناع ، فقد كان عاملا من قبل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على صدقات قومه ـ كما رواه أرباب السير منهم ـ ، وإذا ثبت
إسلامهم وأقروا في الظاهر بسائر الضروريات لم يحكم بكفرهم بمجرد ذلك الامتناع
المحتمل للأمرين ، بل لأمر ثالث : وهو أن يكون منعهم مستندا إلى الشح والبخل ، فلم
يلزم كفرهم كما ادعاه قاضي القضاة وغيرهم ، ولم يجز سبي ذراريهم
ونسائهم وأخذ أموالهم كما فعلوا وإن جاز قتالهم لأخذ الزكاة لو أصروا على منعها
على الوجه الأخير ، بعد أن يكون المتصدي للأخذ مستحقا له.
وأما إذا استند
المنع إلى الشبهة فكان الواجب على من تصدى للأخذ وأراد القتال أن
يبدأ بإزالة شبهتهم ، كما صرح به فقهاؤهم في جمهور أهل البغي.
قال في شرح الوجيز
في بحث البغاة من كتاب الجنايات : لا يبدءون بالقتال حتى يبدءوا وليبعث الإمام أمينا ناصحا
يسألهم ما ينقمون ، فإن عللوا امتناعهم بمظلمة أزالها ، وإن ذكروا شبهة كشفها لهم
، وإن لم يذكروا شيئا نصحهم ووعظهم وأمرهم بالعود إلى الطاعة ، فإن أصروا آذنهم
بالقتال .. إلى آخر ما قال.
__________________
فكان على خالد أن
يسألهم أولا عن شبهتهم ويبين لهم بطلانها ، ثم إن أصروا على الامتناع والخروج عن
الطاعة قاتلهم ، ولم ينقل أحد أن خالدا وأصحابه أزاح لهم علة أو أبطل لهم شبهة ،
ولا أنهم أصروا على العصيان ، بل قد سبق في القصة التي رواها السيد وصدقه ابن أبي الحديد أنهم قالوا : نحن
مسلمون ، فأمرهم أصحاب خالد بوضع السلاح ، ولما وضعوا أسلحتهم ربطوهم أسارى ، وكان
على أبي بكر أن ينكر على خالد ويوضح سوء صنيعه للناس ، لا أن يلقاه بوجه يخرج من
عنده ويستهزئ بعمر ويقول له : هلم إلي يا ابن أم شملة!.
وقد روى كثير من
مؤرخيهم ـ منهم صاحب روضة الأحباب ـ أنه قبض على قائمة سيفه وقال لعمر ذلك.
ولا يذهب على من
له نصيب من الفهم أنه لو شم من أبي بكر رائحة من الكراهة أو التهديد لما اجترأ على
عمر بالسخرية والاستهزاء ، والأمر في ذلك أوضح من أن يحتاج إلى الكشف والإفصاح ،
هذا مع أنه قد اعترف أبو بكر بخطإ خالد ـ كما رواه ابن أبي الحديد ـ حيث قال : لما
قتل خالد مالك بن نويرة ونكح امرأته كان في عسكره أبو قتادة الأنصاري ، فركب فرسه
والتحق بأبي بكر ، وحلف أن لا يسير في جيش تحت لواء خالد أبدا ، فقص على أبي بكر
القصة ، فقال أبو بكر : لقد فتنت الغنائم العرب ، وترك خالد ما أمرته . فقال عمر : إن
عليك أن تقيده بمالك ، فسكت أبو بكر ، وقدم خالد فدخل المسجد وعليه ثياب قد صدئت
من الحديد ، وفي عمامته ثلاثة أسهم ، فلما رآه عمر قال : أرياء! يا عدو الله؟ ،
عدوت على رجل من المسلمين فقتلته ونكحت امرأته ، أما والله إن أمكنني الله
__________________
لأرجمنك ، ثم
تناول الأسهم من عمامته فكسرها ، وخالد ساكت لا يرد عليه ظنا أن ذلك عن أمر أبي بكر
ورأيه ، فلما دخل على أبي بكر وحدثه صدقه فيما حكاه وقبل عذره ، فكان عمر يحرص أبا بكر على خالد
ويشير عليه أن يقتص منه بدم مالك ، فقال أبو بكر : إيها يا عمر! ما هو
بأول من أخطأ! فارفع لسانك عنه ! ثم ودى مالكا من بيت مال المسلمين ، انتهى.
فقوله ما هو بأول
من أخطأ! .. صريح في أنه كان مخطئا في زعمه أيضا ، وأما تصديقه وقبول عذره فكان
للأغراض الدنيوية ، وإلا فالتنافي بينه وبين قوله : ما هو بأول من أخطأ ، وأداء
دية مالك من بيت المال واضح.
وبالجملة ، لم
ينقل أحد من أرباب السير أن أبا بكر أنكر خطأ خالد ، وإنما ذكروا أنه قال : لا
أغمد سيفا سله الله على الكفار ، قيل : وذلك ـ على تقدير صحته ـ ليس إلا تمسكا بخبر موضوع
رووه مرسلا عن أبي هريرة الكذاب أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : نعم عبد الله ، خالد سيف من سيوف الله.
وروى ذلك في خبر
طويل يلوح من صدره إلى عجزه آثار الوضع ، والأظهر أنه ليس غرضه التمسك بالخبر ، بل إنما جعله سيفا
سله الله على الكفار لمعاونته له على التسلط على الأخيار.
__________________
وقد ذكر ابن الأثير
في الكامل تبرى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من صنيع خالد ، وأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم وبخه لكلامه لعبد الرحمن بن عوف ، وأن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أرسل أمير المؤمنين عليهالسلام لإصلاح ما أفسده. كما مر وسيأتي في أبواب
فضائل أمير المؤمنين عليهالسلام .
وقد اعترف ابن أبي
الحديد بأن خالدا : كان جبارا فاتكا لا يراقب الدين
فيما يحمله عليه غضبه وهوى نفسه.
وقال ابن عبد البر
في الإستيعاب في ترجمة مالك بن نويرة : قال الطبري : بعث النبي صلىاللهعليهوآله مالك بن نويرة على صدقة بني يربوع ـ وكان قد أسلم هو وأخوه : متمم الشاعر ـ فقتل خالد
مالكا بظن أنه ارتد ـ حين وجهه أبو بكر لقتال أهل الردة ـ ، وقد
اختلف فيه هل قتله مسلما أو
__________________
مرتدا؟ ـ والله ـ أعلم
قتله خطأ ، وأما متمم فلا شك في إسلامه ، انتهى .
ومما يدل على سوء
صنيع خالد أن عمر لما نزع
الأسهم من رأسه وقال ما قال ، لم يرد عليه ولم ينكره ، وظاهر للمصنف أنه لو كان له
عذر ، ولم يكن خائفا لخيانته لأبدى عذره ، ولما صبر على المذلة.
وقد روى أصحابنا أن مالكا إنما
منع أبا بكر الزكاة لأن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال له ـ لما سأل أن يعلمه الإيمان ـ : هذا وصيي من بعدي ـ
وأشار إلى علي بن أبي طالب عليهالسلام ـ فلما توفي رسول الله صلىاللهعليهوآله رجع في بني تميم إلى المدينة فرأى أبا بكر على منبر رسول
الله صلىاللهعليهوآله فتقدم إليه ، وقال : من أرقاك هذا المنبر وقد جعل رسول
الله صلىاللهعليهوآله عليا عليهالسلام وصيه ، وأمرني بموالاته؟!. فأمر أبو بكر بإخراجه من المسجد
، فأخرجه قنفذ بن عمير وخالد بن الوليد ، ثم وجه أبو بكر خالدا وقال له : لقد علمت
ما قال ، ولست آمن أن يفتق علينا فتقا لا يلتئم فاقتله ، فقتله خالد وتزوج بامرأته
في ليلته.
ولو تنزلنا عن ذلك
وفرضنا أن مالكا وأصحابه كفروا بمنع الزكاة ، فلا ريب في إسلام النساء والذراري ،
وليس ارتداد الرجال بمنعهم الزكاة موجبا لكفر النساء والذراري ( وَلا
تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) ، فما العذر في سبي خالد
__________________
وإغماض أبي بكر عن
غصب الفروج والزنا حتى رد عمر بن الخطاب الأموال والنساء الحوامل إلى أزواجهن؟.
وسيأتي في باب أحوال
أولاد أمير المؤمنين عليهالسلام أنه لما سبيت الحنفية ـ فيمن سبي ـ ونظرت إلى جمع الناس ،
عدلت إلى تربة رسول الله صلىاللهعليهوآله فرنت رنة ، وزفرت زفرة وأعلنت بالبكاء والنحيب ، ثم نادت : السلام عليك يا رسول
الله صلى الله عليك وعلى أهل بيتك من بعدك ، هؤلاء أمتك سبونا سبي النوب
والديلم ، والله ما كان لنا إليهم من ذنب إلا الميل إلى أهل بيتك ، فجعلت الحسنة
سيئة والسيئة حسنة ، فسبينا ، ثم انعطفت إلى الناس وقالت : لم سبيتمونا؟! وقد
أقررنا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (ص)؟!. قالوا : أمنعتمونا [
منعتمونا ] الزكاة. قالت : هؤلاء الرجال منعوكم ، فما بال
النساء؟. فسكت المتكلم كأنما ألقم حجرا .
وقد روي أن أمير المؤمنين
عليهالسلام لما أخذها بعثها إلى أسماء بنت عميس حتى جاء أخوها فتزوجها
، ويظهر بذلك بطلان ما تمسك به بعضهم من أنه لو كان السبي ظلما لما أخذ أمير
المؤمنين عليهالسلام من سبيهم ، ولو كان أمير
__________________
المؤمنين عليهالسلام تزوجها لكونها من السبي لردها عمر فيمن رد.
ومن نظر في القصة
حق النظر علم أن ما صنعه خالد لم يكن إلا لأخذ الغنيمة والطمع في النساء والذراري
وأحقاد الجاهلية.
وقد روى مؤلف روضة
الأحباب أنه لما أحضر مالك للقتل جاءت زوجته أم تميم بنت المنهال ـ
وكانت من أجمل نساء زمانها ـ فألقت نفسها عليه ، فقال لها : اعزبي عني ، فما قتلني
غيرك .
وقال الزمخشري في
أساس البلاغة : أقتله و عرضه للقتل كما قال مالك بن نويرة لامرأته حين رآه خالد بن الوليد :
أقتلتني بامرأة ؟ يعني سيقتلني خالد بن الوليد من أجلك.
وقال ابن الأثير
في النهاية في حديث خالد : إن مالك بن نويرة قال لامرأته يوم قتله
خالد : أقتلتني ..؟! أي عرضتني للقتل بوجوب الدفع عنك والمحاماة
عليك ـ وكانت جميلة تزوجها خالد بعد قتله.
ثم إن ابن أبي
الحديد روى عن الطبري عذرا لخالد ، وساق الرواية
__________________
إلى قوله : فلما
اختلفوا فيهم أمر بهم خالد فحبسوا ـ وكانت ليلة باردة لا يقوم لها شيء ـ فأمر خالد
مناديا ينادي : أدفئوا أسراءكم .. فظنوا أنه أمر بقتلهم ، لأن هذه اللفظة تستعمل في لغة كنانة في القتل
، فقتل ضرار بن الأزور مالكا ... وأن خالد لما سمع الواعية ، خرج وقد فرغوا منهم ، فقال : إذا
أراد الله أمرا أصابه .. ، وتزوج خالد زوجته ، وإن أبا قتادة فارقه وقال : هذا
عملك ، فغضب عليه أبو بكر ولم يرض إلا أن يرجع إلى خالد.
ويتوجه عليه أنه
يدل على بطلانه ما رواه الطبري وابن الأثير وغيرهما من أرباب السير : أن خالدا كان يعتذر عن قتل مالك بأنه كان
يقول ـ وهو يراجع الكلام ـ : ما أخال صاحبكم إلا قال : .. كذا.
وقد حكى قاضي
القضاة عن أبي علي أنه : قتل خالد مالكا لأنه أوهم بقوله ذلك أن
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ليس صاحبا له ، فلو كان قتله ضرار عن غير أمر خالد فأي
حاجة له إلى هذا الاعتذار ، فالتعارض بين الاعتذارين واضح ، فتساقطا.
ويدل على بطلانهما
أن عمر لما عاتبه وكسر أسهمه لم يعتذر بأني لم أقتل مالكا بل قتله ضرار عن غير
أمري ، أو بأنه ارتد عن الدين لقوله : صاحبك .. فلا موضع لإبداء العذر أليق من ذلك
، وهل يجوز عاقل أن يكون لخالد عذر يرى نفسه به بريئا من الإثم والخيانة ، ثم يصبر
مع جرأته وتهتكه على ما أصابه عن
__________________
عمر من الإهانة
والأذى؟!.
ويدل على أن القتل
كان بأمر خالد ، أو كان هو القاتل ، قول أبي بكر : تأول فأخطأ.
قال ابن الأثير في
الكامل ، قال عمر لأبي بكر : إن سيف خالد فيه رهق وأكثر عليه في
ذلك. فقال : يا عمر ! تأول فأخطأ ، فارفع لسانك عن خالد ، فإني لا أشيم سيفا سله الله
على الكافرين ، وودى مالكا وكتب إلى خالد أن يقدم عليه ففعل ، ودخل المسجد
وعليه قباء وقد غرز في عمامته أسهما ، فقام إليه عمر فانتزعها فحطمها ، وقال له : قتلت
امرأ مسلما ثم نزوت على امرأته ، والله لأرجمنك بأحجارك .. وخالد لا يكلمه يظن أن
رأي أبي بكر مثله ، ودخل على أبي بكر فأخبره الخبر واعتذر إليه فعذره وتجاوز عنه ،
وعنفه في التزويج للذي كانت عليه العرب من كراهة أيام الحرب ، فخرج خالد وعمر
جالس. فقال : هلم إلي يا ابن أم شملة ، فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه فلم يكلمه ، انتهى.
فلو كان القاتل
ضرارا لم يكن خالد متأولا ولا مخطئا ، بل كان ضرارا هو المتأول
المخطئ في فهم النداء الذي أمر به خالد من قوله : ادفئوا أسراءكم ، ولا يخفى أن
هذا الاعتذار لو كان صحيحا لصار الأمر في تزويج زوجة مالك أفحش ، إذ لو كان حبسه
لاختلاف الجيش في أنه وقوم يصلون أم لا ، ولم يثبت كفره ،
__________________
وقد كان إسلامه
سابقا مستصحبا إلى أن يتحقق ما يزيله ـ ولو كان قتله لخطإ ضرار في فهم نداء خالد ـ
فزوجته في حكم زوجات سائر المسلمين المتوفى عنهن أزواجهن ، ولا
يجوز تزوجها إلا بعد انقضاء عدتها ، فظهر شناعة الجواب الذي حكاه قاضي القضاة عن أبي علي أو
أجاب به من عند نفسه ، وهو أنه إذا قتل الرجل على الردة في دار الكفر جاز التزويج
بامرأته عند كثير من أهل العلم وإن كان لا يجوز وطؤها إلا بعد
الاستبراء.
على أن التزوج
بامرأته فجور على أي حال ، لكون المرأة مسلمة وارتداد الزوج لا يصير سببا لحل
التزوج بامرأته ، ولا لكون الدار دار الكفر ، سيما إذا كان ارتداده لما اعتذروا به
من قوله : صاحبك .. فإن ذلك ارتداد لا يسري إلى غيره من زوجته وأصحابه.
ومن الغرائب أن
الشارح الجديد للتجريد ادعى أن امرأة مالك كانت مطلقة منه وقد انقضت عدتها.
ولا عجب ممن غلب
عليه الشقاء ، وسلب الله منه الحياء أن يعتمد في رفع هذا الطعن الفاحش عن إمامه
الغوي وعن خالد الشقي بإبداء هذا الاحتمال الذي لم يذكره أحد ممن تقدمه ، ولم يذكر
في خبر ورواية ، ولم يعتذر به خالد في جواب تشنيع عمر وطعنه عليه بأنه نزا على
زوجة خالد وتهديده بالرجم للزنا.
ثم أعلن أن معاتبة عمر
وغيظه على خالد في قتل مالك لم يكن مراقبة
__________________
للدين ورعاية
لشريعة سيد المرسلين صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإنما تألم من قتله لأنه كان حليفا له في الجاهلية ، وقد
عفا عن خالد لما علم أنه هو قاتل سعد بن عبادة.
روي عن بعض
أصحابنا ، عن أهل البيت عليهمالسلام أن عمر استقبل في خلافته خالد بن الوليد يوما في بعض حيطان المدينة ،
فقال له : يا خالد! أنت الذي قتل مالكا؟. فقال : يا أمير المؤمنين! إن كنت قتلت
مالك بن نويرة لهنات كانت بيني وبينه فقد قتلت لكم سعد بن عبادة لهنات كانت بينكم
وبينه ، فأعجب عمر قوله وضمه إلى صدره ، وقال له : أنت سيف الله وسيف رسوله (ص)!.
وجملة القصة ، أن سعد بن
عبادة لما امتنع من بيعة أبي بكر يوم السقيفة وأراد المبايعون لأبي بكر أن يطالبوه
بالبيعة ، قال لهم قيس بن سعد : إني ناصح لكم فاقبلوا مني. قالوا : وما ذاك؟. قال
: إن سعدا قد حلف أن لا يبايعكم ، وهو إذا حلف فعل ، ولن يبايعكم حتى يقتل ، ولن
يقتل حتى يقتل معه ولده وأهل بيته ، ولن يقتلوا حتى يقتل الأوس كلها ، ولن يقتلوا
حتى يقتل الخزرج ، ولن يقتل الأوس والخزرج حتى يقتل اليمن ، فلا تفسدوا عليكم أمرا
قد كمل واستتم لكم ، فقبلوا منه ولم يتعرضوا لسعد.
ثم إن سعدا خرج من
المدينة إلى الشام ، فنزل في قرى غسان من بلاد دمشق ـ وكان غسان من عشيرته ، وكان
خالد يومئذ بالشام ، وكان ممن يعرف بجودة الرمي ، وكان معه رجل من قريش موصوف
بجودة الرمي ـ فاتفقا على قتل سعد بن عبادة لامتناعه من البيعة لقريش ، فاستترا
ليلة بين شجر وكرم ، فلما مر بهما في مسيره رمياه بسهمين ، وأنشدا بيتين من الشعر
ونسباهما إلى الجن :
__________________
نحن قتلنا
سيد الخزرج
|
|
سعد بن عباده
|
ورميناه
بسهمين
|
|
فلم نخط
فؤاده
|
فظنت العامة أن
الجن قتلوه ، فكان قول خالد لعمر كشفا لما استتر على الناس في تلك الواقعة ، ومثل
هذه الرواية ـ إن لم تنهض بانفرادها حجة على المخالفين لكونها من روايات أصحابنا ـ
إلا أن سكوت عمر عن خالد أيام خلافته وترك الاقتصاص منه مع قوله في خلافة أبي بكر
: لئن وليت الأمر لأقيدنك به ، قرينة واضحة على صحتها ، ومع قطع النظر عن تلك
الرواية فلا ريب في المناقضة بين هذا السكوت وذلك القول ، فظهر أن له أيضا من قداح
هذا القدح سهم ، ومن نصال هذا الطعن نصيب.
الطعن السادس :
إن أبا بكر قال ـ مخبرا
عن نفسه ـ : إن لي شيطانا يعتريني ، فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوموني .. .
__________________
ولا يصلح للإرشاد
من يطلب الرشاد.
وقال : أقيلوني
فلست بخيركم ..
ولا يحل للإمام
الاستقالة من البيعة.
وأجاب قاضي القضاة
في المغني ناقلا عن شيخه أبي علي أن إخباره عن نفسه بما أخبر لو كان
نقصا فيه لكان قوله تعالى في آدم وحواء : ( فَوَسْوَسَ لَهُمَا
الشَّيْطانُ ) ، وقوله : ( فَأَزَلَّهُمَا
الشَّيْطانُ ) ، وقوله تعالى : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ
__________________
قَبْلِكَ
مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى ) ... الآية ، يوجب
النقص في الأنبياء عليهمالسلام ، وإذا لم يجب ذلك فكذلك ما وصف به أبو
بكر نفسه ، وإنما أراد أن عند الغضب يشفق من المعصية ويحذر منها ، ويخاف أن يكون الشيطان
يعتريه في تلك الحال فيوسوس إليه ، وذلك منه على طريق الزجر لنفسه عن المعاصي.
وقد روي عن أمير
المؤمنين عليهالسلام أنه ترك مخاصمة الناس في حقوقه إشفاقا من المعصية ، وكان
يولي ذلك عقيلا ، فلما أسن عقيل كان يوليها عبد الله بن جعفر رحمهالله.
قال : فأما ما روي
في إقالة البيعة فهو خبر ضعيف ، وإن صح فالمراد به التنبيه على أنه لا يبالي لأمر
يرجع إليه أن يقيله الناس البيعة ، وإنما يضرون بذلك أنفسهم ، فكأنه نبه بذلك على
أنه غير مكره لهم ، وأنه قد خلاهم وما يريدون إلا أن يعرض ما يوجب خلافه ، وقد روي
أن أمير المؤمنين عليهالسلام أقال عبد الله بن عمر البيعة حين استقاله.، والمراد بذلك
على أنه تركه وما يختاره ولم يكرهه .
وأورد عليه السيد
المرتضى رضياللهعنه في الشافي بأن قول أبي بكر : وليتكم ولست بخيركم ، فإن استقمت
فاتبعوني ، وإن اعوججت فقوموني ، فإن
__________________
لي شيطانا يعتريني
عند غضبي ، فإذا رأيتموني مغضبا فاجتنبوني لا أوثر في أشعاركم ولا أبشاركم .. يدل على أنه لا يصلح
للإمامة من وجهين :
أحدهما : أن هذه
صفة من ليس بمعصوم ولا يأمن الغلط على نفسه ، ومن يحتاج إلى تقويم رعيته له إذا
واقع المعصية ، وقد بينا أن الإمام لا بد أن يكون معصوما مسددا موفقا.
والوجه الآخر : أن
هذه صفة من لا يملك نفسه ، ولا يضبط غضبه ، ومن هو في نهاية الطيش والحدة ، والخرق
والعجلة ، ولا خلاف في أن الإمام يجب أن يكون منزها عن هذه الأوصاف غير حاصل
عليها ، وليس يشبه قول أبي بكر ما تلاه من الآيات كلها ، لأن أبا بكر خبر عن نفسه
بطاعة الشيطان عند الغضب ، وأن عادته بذلك جارية ، وليس هذا بمنزلة من يوسوس له
الشيطان ولا يطيعه ، ويزين له القبيح فلا يأتيه ، وليس وسوسة الشيطان قبحا بعيب على الموسوس
له إذا لم يستزله ذلك عن الصواب ، بل هو زيادة في التكليف ووجه يتضاعف معه الثواب.
وقوله تعالى : ( أَلْقَى
الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) قيل معناه : في تلاوته ، وقيل :في فكرته على سبيل الخاطر ،
وأي الأمرين كان فلا عار في ذلك على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ولا نقص ، وإنما العار والنقص على من يطيع الشيطان ويتبع
ما يدعو
__________________
إليه ، وليس لأحد
أن يقول هذا ـ إن سلم لكم في جميع الآيات ـ لم يسلم لكم في قوله تعالى : ( فَأَزَلَّهُمَا
الشَّيْطانُ ) لأنه قد خبر عن تأثير غوايته ووسوسته بما كان منهما من
الفعل ، وذلك لأن المعنى الصحيح في هذه الآية أن آدم وحواء كانا مندوبين إلى
اجتناب الشجرة وترك التناول منها ، ولم يكن ذلك عليهما واجبا لازما ، لأن الأنبياء
عليهمالسلام لا يخلون بالواجب ، فوسوس لهما الشيطان حتى تناولا من
الشجرة فتركا مندوبا إليه ، وحرما بذلك أنفسهما الثواب وسماه : إزلالا ، لأنه
حط لهما عن درجة الثواب ، وفعل الأفضل.
وقوله تعالى في
موضع آخر : ( وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ) لا ينافي هذا
المعنى ، لأن المعصية قد يسمى بها من أخل بالواجب والندب ، وقوله : ( فَغَوى ) .. أي خاب من حيث
لم يستحق الثواب على ما ندب إليه ، على أن صاحب المغني يقول : إن هذه
المعصية من آدم كانت صغيرة لا يستحق بها عقابا ولا ذما ، فعلى مذهبه ـ أيضا ـ يكون
المفارقة بينه وبين أبي بكر ظاهرة ، لأن أبا بكر خبر عن نفسه أن الشيطان
يعتريه حتى يؤثر في الأشعار والأبشار ، ويأتي ما يستحق به التقويم ، فأين هذا من
ذنب صغير لا ذم و لا عقاب عليه؟ وهو يجري من وجه من الوجوه مجرى المباح ،
لأنه لا يؤثر في أحوال فاعله وحط رتبته ، وليس يجوز أن يكون ذلك منه على سبيل
الخشية والإشفاق على ما ظن ، لأن مفهوم خطابه يقتضي خلاف ذلك ، ألا ترى أنه قال :
إن لي شيطانا يعتريني ، وهذا قول من قد عرف عادته ، ولو كان على سبيل الإشفاق
والخوف لخرج غير هذا المخرج ، ولكان يقول
__________________
فإني لا آمن من
كذا .. وإني لمشفق منه.
فأما ترك أمير
المؤمنين عليهالسلام مخاصمة الناس ، فإنما كان تنزها وتكرما ، وأي شبه بين ذلك وبين من صرح
وشهد على نفسه بما لا يليق بالأئمة؟!.
وأما خبر استقالة
البيعة وتضعيف صاحب المغني له فهو ـ أبدا ـ يضعف ما لا يوافقه من غير حجة يعتمدها في
تضعيفه.
وقوله : إنه ما
استقالها على التحقيق وإنما نبه على أنه لا يبالي بخروج الأمر عنه ،
وإنه غير مكره لهم عليه .. فبعيد عن الصواب ، لأن ظاهر قوله : أقيلوني .. أمر بالإقالة ، وأقل أحواله
أن يكون عرضا لها أو بذلا ، وكلا الأمرين قبيح. ولو أراد ما ظنه لكان له في غير
هذا القول مندوحة ، ولكان يقول : إني ما أكرهتكم ولا حملتكم على مبايعتي ،
وما كنت أبالي أن لا يكون هذا الأمر في ، ولا إلي ، وإن مفارقته لتسرني لو لا ما ألزمنيه
الدخول فيه من التمسك به ، ومتى عدلنا عن ظواهر الكلام بلا دليل جر ذلك
علينا ما لا قبل لنا به.
فأما أمير
المؤمنين عليهالسلام فإنه لم يقل ابن عمر البيعة بعد دخوله فيها ، وإنما
استعفاه من أن يلزمه البيعة ابتداء فأعفاه ، علما بأن إمامته لا تثبت بمبايعة من يبايعه عليها ، فأين
هذا من استقالة بيعة قد تقدمت واستقرت ، انتهى كلامه رفع الله
مقامه.
__________________
وأورد عليه ابن
أبي الحديد : .. بأن أبا بكر كان حديدا ولكن لا يخل ذلك
بالإمامة ، لأن المخل بالإمامة من ذلك ما يخرج به الإنسان عن العقل ، فأما ما دون
ذلك فلا ، وقوله : فاجتنبوني لا أوثر في أشعاركم وأبشاركم .. محمول على البلاغة في وصف القوة
الغضبية لا على ظاهره ، لأنه لم ينقل أنه قام إلى رجل فضربه بيده ومزق شعره ...
وأما قول شيخنا
أبي علي إن كلام أبي بكر خرج مخرج الإشفاق والحذر .. فجيد.
واعتراض المرتضى
غير لازم ، لأن في هذه عادة العرب يعبرون عن الأمر بما هو منه بسبيل ، كقولهم : لا
تدن من الأسد فيأكلك ، ليس أنهم قطعوا على الأكل عند الدنو.
فأما الكلام في
قوله : أقيلوني .. فلو صح الخبر لم يكن فيه مطعن عليه ، لأنه إنما أراد في اليوم
الثاني اختبار حالهم في البيعة التي وقعت في اليوم الأول ليعلم وليه من عدوه منهم
.. على أنا لو سلمنا أنه استقالهم البيعة حقيقة ، فلم قال المرتضى : إن ذلك لا
يجوز؟. أليس يجوز للقاضي أن يستقيل من القضاء بعد توليه إياه ودخوله فيه؟ فكذلك
يجوز للإمام أن يستقيل من الإمامة إذا آنس من نفسه ضعفا عنها ، أو آنس من رعيته
نبوة عنه أو أحس بفساد ينشأ في الأرض من جهة ولايته على الناس ، ومن يذهب إلى أن الإمامة تكون
بالاختيار كيف
__________________
يمنع من جواز
استقالة الإمام وطلبه إلى الأمة أن يختاروا غيره لعذر يعلمه من حال نفسه؟! وإنما
يمتنع من ذلك المرتضى وأصحابه القائلون بأن الإمامة بالنص .. ، على أنه إذا جاز
عندهم ترك الإمام الإمامة في الظاهر ـ كما فعله الحسن عليهالسلام ، والأئمة بعد الحسين عليهمالسلام ـ جاز للإمام على مذهب أصحاب الاختيار أن يترك الإمامة ظاهرا
وباطنا لعذر يعلمه.
والجواب ، أن الكل
اتفقوا على اشتراط العدالة في الإمام ، ولا ريب في أنه يكون من الحدة والطيش ما لا
يضبط الإنسان نفسه عند هيجانه فيقدم على المعصية ، ولا يدخل بذلك عرفا في زمرة
المجانين ، ولا يخرج عن حد التكليف ، وقوله : فاجتنبوني لا أوثر في أشعاركم
وأبشاركم .. اعتراف باتصافه بفرد بالغ من هذا النوع ، ولا خلاف في كونه قادحا في
الإمامة ، وادعاؤه أنه لم ينقل أنه فعل ذلك برجل ، فقد روى نفسه ما يكذبه ، حيث روي
عن محمد بن جرير الطبري أن الأنصار بعثوا عمر إلى أبي بكر يسأله أن يولي أمرهم
رجلا أقدم سنا من أسامة ، فوثب أبو بكر ـ وكان جالسا ـ فأخذ بلحية عمر ، وقال :
ثكلتك أمك يا ابن الخطاب! استعمله رسول الله صلىاللهعليهوآله وتأمرني أن أنزعه؟!. فخرج عمر إلى الناس ، فقالوا : ما
صنعت؟. قال : امضوا ثكلتكم أمهاتكم ، ما لقيت في سببكم اليوم من خليفة رسول الله صلىاللهعليهوآله .. إلى آخر ما رواه.
و وثوبه على عمر بن
الخطاب وأخذه بلحيته وشتمه ـ مع كونه معظما مبجلا عنده في أول خلافته ، والمقام لم
يكن مقام الخفة والطيش ـ يدل على أن ذلك الصنيع لم يخرج منه مخرج الندرة والافتلات
، بل كان ذلك من الفعل المعتاد ، ومع الإغماض عنه نقول : إن ذلك الشهادة من قبيل
الرجم بالغيب ، ومن الذي
__________________
أحصى أفعال أبي
بكر حتى علم أنه لم يفعل ذلك بأحد من معاشريه وخواصه وأهل بيته؟ وبعد تسليم أنه لم
يقدم قط على جرح الأبشار ونتف الأشعار ، نقول : إذا بلغ الطيش والحدة في الشدة إلى
حد يخاف صاحبه على نفسه الوثوب على الناس فلا يشك في أنه يصدر عنه عند الغضب من
الشتم والبذاء وأصناف الأذى قولا وفعلا ما يخرجه عن حد العدالة المشترطة في
الإمامة ، ولو قصر الغضب عن القيام بما يخل بالعدالة ـ ولو بالإصرار على ما كان من
هذا النوع من قبيل الصغائر لم يعبر عنه بهذا النوع من الكلام.
وبالجملة ، حمل
كلام أبي بكر على المبالغة لا ينفعهم ولا يضرنا ، وكذا التمسك بقولهم : لا تدن من
الأسد .. لا ينفعهم ، إذ لا يقال ذلك إلا إذا جرت عادته بأكل من دنى منه ، فكذلك
لا موقع لكلام أبي بكر ما لم تجر عادته بأن يؤثر غضبه في أشعار الناس وأبشارهم ،
أو يؤذيهم بالشتم والبذاء .. ونحو ذلك مما كنى عنه بقوله : لا أوثر في أشعاركم
وأبشاركم ، ومثل هذا الطيش والحدة لا ريب في كونه مخرجا عن العدالة ، قادحا في
صلوح صاحبه للإمامة ، فخروج الكلام مخرج الإشفاق والحذر ـ على هذا الوجه ـ لا ينفع
في دفع الطعن.
وأما ما أشار إليه ـ تبعا
للقاضي ـ من منع صحة الخبر في استقالة أبي بكر فمما لا وقع له ، لاستفاضة الخبر
واشتهاره في كل عصر وزمان ، وكونه مسلما عند كثير من أهل الخلاف ، ولذا لمن يمنع
الرازي في نهاية العقول صحته مع ما علم من حاله من كثرة التشكيك والاهتمام بإيراد
الأجوبة العديدة ، وإن كانت سخيفة ضعيفة.
وقد رواه أبو عبيد
القاسم بن سلام ـ على ما حكاه بعض الثقات من الأصحاب ـ.
__________________
وقال مؤلف كتاب
الصراط المستقيم : ذكره الطبري في تاريخه ، والبلاذري في
أنساب الأشراف ، والسمعاني في الفضائل ، وأبو عبيدة : قول
أبي بكر على المنبر ـ بعد ما بويع ـ : أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم .
وقد أشار إليه
أمير المؤمنين عليهالسلام في الخطبة الشقشقية بقوله : فيا عجبا! بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها
لآخر بعد وفاته .. وصحة الخطبة مسلمة عند ابن أبي الحديد وقاضي القضاة وغيرهما كما عرفت.
وأما عدم رواية
أصحاب أصولهم قصة الاستقالة فلا حجة فيه ، لأنهم لا يروون ما لا تتعلق أغراضهم
بروايته ، بل تعلق غرضهم بانمحاء ذكره.
ويدل على بطلان ما
زعمه من أن أبا بكر أراد اختبار حال الناس في اليوم الثاني من بيعته ليعلم وليه من
عدوه ، قول أمير المؤمنين عليهالسلام : بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته ...
إذ لو كان المراد ما توهمه لم يكن عقده لآخر بعد الوفاة مع الاستقالة في الحياة
موضعا للعجب ، وإنما التعجب من صرفها عن أمير المؤمنين عليهالسلام عند الوفاة وعقدها لغيره مع الاستقالة منها
__________________
في الحياة ، لعلمه
بأنه كان حقا لأمير المؤمنين عليهالسلام وهو واضح ، ولعلهم لا ينكرون أن فهم أمير المؤمنين عليهالسلام مقدم على فهمهم.
وقد ظهر مما
ذكرناه ضعف ما أجاب به الفخر الرازي في نهاية العقول من أنه ذكر ذلك على سبيل
التواضع وهضم النفس ، كما قال عليهالسلام : لا تفضلوني على يونس بن متى .. والفرق بين استقالة أبي
بكر والخبر الذي رواه على تقدير صحته ـ واضح ، ولو أراد مجرد الاستشهاد على ورود
الكلام للتواضع وهضم النفس ـ وهو أمر لا ينازع فيه ـ لكن لا يلزم منه صحة حمل كل
كلام عليه.
وأما ما ذكره من
جواز الاستقالة تشبيها بالقضاء ، فيرد عليه ، أنه إذا جازت الاستقالة من الإمام
ولم يتعين عليه القيام بالأمر فلم لم يرض عثمان بالخلع مع أن القوم حصروه وتواعدوه
بالقتل ، فقال : لا أخلع قميصا قمصنيه الله عز وجل ، وأصر على ذلك
حتى قتل ، وقد جاز ـ بلا خلاف ـ إظهار كلمة الشرك وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير
عند الخوف على النفس ، فدل ذلك الإصرار منه على أن الخلع أعظم من إظهار كلمة الكفر
وغيره من الكبائر ، وأن ما أتى به أبو بكر كان أعظم مما ذكر على مذهب عثمان ، فما
دفع به الطعن عن أبي بكر يوجب قدحا شنيعا في عثمان ، فإن تعريض النفس للقتل لأمر
مباح لم يقل بجوازه أحد.
وقد أشار إلى ذلك
الشيخ المفيد قدس الله روحه ، حيث قال : على أن
__________________
الاختيار إن كان
للأمة وكان إليها الخلع والعزل لم يكن لدعائها عثمان
إلى أن يخلع نفسه معنى يعقل ، لأنه كان لها أن تخلعه وإن لم يجبها إلى ذلك ، وإن كان الخلع
إلى الإمام فلا معنى لقول أبي بكر : أقيلوني .. وقد كان يجب لما كره الأمر أن يخلع هو نفسه ... وهذا أيضا
تناقض آخر يبين عن بطلان الاختيار وتخليط القوم.
وأنت ـ أرشدك الله
ـ إذا تأملت قول أمير المؤمنين عليهالسلام : فيا عجبا! بينا هو يستقيلها .. إلى آخره ، وجدته عجبا ،
وعرفت من المغزى كان من الرجل في القوم وبان خلاف الباطن منه ، وتيقنت الحيلة
التي أوقعها والتلبيس ، وعثرت به على الضلال وقلة الدين ، والله نسأل التوفيق ،
انتهى.
وأما ما ذكره من
قياس خلع الخليفة نفسه اختيارا بما صدر عن أئمتنا عليهمالسلام تقية واضطرارا فهو أظهر فسادا من أن يفتقر إلى البيان ، مع
أنه يظهر مما مر جوابه وسيأتي بعض القول في ذلك
، وَاللهُ الْمُسْتَعانُ.
الطعن السابع :
أنه كان جاهلا
بكثير من أحكام الدين ، فقد قال في الكلالة : أقول فيها
__________________
برأيي ، فإن كان
صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ولم يعرف ميراث الجدة فقال : لجدة سألته عن إرثها؟ لا أجد لك شيئا في كتاب الله
وسنة نبيه
__________________
صلى الله عليه [
وآله ] ، فأخبره المغيرة ومحمد بن مسلمة أن الرسول صلىاللهعليهوآله أعطاها السدس ، وقال : أطعموا الجدات السدس .، وقطع يسار
السارق ، وأحرق فجاءة بالنار ، ولم يعرف ميراث العمة والخالة .. إلى غير ذلك.
__________________
وقصة فجاءة ـ على
ما ذكره ابن الأثير في الكامل ـ هي : أنه جاء فجاءة السلمي ـ واسمه : إياس بن عبد الله ياليل ـ إلى أبي بكر ،
فقال له : أعني بسلاح أقاتل أهل الردة ، فأعطاه سلاحا وأمره أمره فخالف إلى
المسلمين ، وخرج حتى نزل بالجواء ، وبعث نجية وأمره بالمسلمين ، فشن الغارة على كل مسلم في سليم وعامر
وهوازن ، فبلغ ذلك أبا بكر ، فأرسل إلى طريفة بن حاشي [ الحاشي ] فأمره أن يجمع له ويسير
إليه ، وبعث إليه عبد الله بن قيس الحاشي عونا ، فنهض إليه وطلباه ، فلاذ منهما ، ثم لقياه على
الجواء فاقتتلوا فقتل نجية وهرب الفجاءة ، فلحقه طريفة فأسره ، ثم بعث به إلى
أبي بكر ، فلما قدم أمر أبو بكر أن
__________________
يوقد له نار في مصلى
المدينة ، ثم رمى به فيها مقموطا ـ أي مشدود اليدين والرجلين ـ .
وقد روى القصة
كثير من أرباب السير .
وأجاب صاحب
المواقف وشارحه بأن الأصل ـ وهو كون الإمام عالما بجميع الأحكام ـ ممنوع ،
وإنما الواجب الاجتهاد ، ولا يقتضي كون جميع الأحكام حاضرة عنده بحيث لا يحتاج
المجتهد فيها إلى نظر وتأمل ، وأبو بكر مجتهد ، إذ ما من مسألة ـ في الغالب ـ إلا
وله فيه قول مشهور عند أهل العلم ، وإحراق فجاءة إنما كان لاجتهاده وعدم قبول
توبته لأنه زنديق ، ولا تقبل توبة الزنديق في الأصح.
وأما قطع يسار السارق
، فلعله من غلط الجلاد ، أو رآه في المرة الثالثة من السرقة ، وهو رأي الأكثر من
العلماء. ووقوفه في مسألة الجدة ورجوعه إلى الصحابة في ذلك لأنه غير بدع من
المجتهد البحث عن مدارك الأحكام ، انتهى.
وأجيب : بأنه قد
ثبت أن من شرائط الإمامة العلم بجميع الأحكام ، وقد ظهر من أبي بكر الاعتراف على
نفسه بأنه لم يعرف الحكم فيها ، وعدم تعرض من تصدى للجواب لمنع صحة ما ذكر اعتراف
بصحته .
ثم إن الكلالة ـ على
ما رواه الأصحاب عن أئمتنا عليهمالسلام ـ أولاد
__________________
الأب والأم ، وهم
الإخوة من الطرفين أو من أحدهما ، وقد دلت آية الميراث في أول سورة النساء على حكم من كان من قبل الأم منهم
، وفي آخر السورة على حكم من كان من قبل الأب والأم أو من قبل الأب ، سميت
كلالة لإحاطتها بالرجل كالإكليل بالرأس ـ وهو ما يزين بالجوهر ـ شبه العصابة ، أو
لأنها مأخوذة من الكل لكونها ثقلا على الرجل ، والذي رواه قوم من المفسرين عن أبي بكر و عمر وابن عباس ـ في
أحد الروايتين ـ عنه أنها من عدا الوالد والولد . وفي الرواية
الأخرى عن ابن عباس أنها من عدا الولد .
أقول
: يرد هنا آخر على
أبي بكر ، بل على صاحبه ، وهو أنهما فسرا القرآن برأيهم ـ كما صرح به أبو بكر ـ ورووا في صحاحهم المنع من ذلك ،
__________________
ومن فسر القرآن
برأيه فقد كفر ، وروى في المشكاة
والمصابيح ، عن الترمذي ، عن ابن عباس ، قال : من قال في القرآن برأيه فليتبوأ
مقعده من النار.
وفي رواية : من قال في
القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار.
وعن الترمذي وأبي داود ، عن جندب ، قال
: قال رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] : من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ.
وعن أحمد وابن ماجة بإسنادهما عن
عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : سمع النبي صلى الله عليه [ وآله ] قوما
يتدارءون في القرآن ، فقال :
__________________
إنما هلك من كان
قبلكم بهذا ، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا ،
فلا تكذبوا بعضه ببعض ، فما علمتم منه فقولوا ، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه. والأخبار في ذلك
كثيرة.
وقال الفخر الرازي
: اختار أبو بكر أن الكلالة عبارة عن سوى الوالدين والولد ، وهذا هو المختار ، وأما عمر فإنه
كان يقول : الكلالة ما سوى الولد ، وروي أنه لما طعن قال : كنت أرى الكلالة من لا ولد له
وأنا أستحيي أن أخالف أبا بكر .
وعن عمر فيه رواية
أخرى وهو التوقف ، وكان يقول : ثلاثة لأن يكون بينها الرسول ص لنا أحب إلي من
الدنيا وما فيها ، الكلالة ، والخلافة ، والربا. انتهى .
ولا يشتبه على
الفطن الناظر في مثل هذه الروايات أن آراءهم لم يتفرع عن أصل وليست إلا اتباعا
للأهواء وقولا في أحكام الله بغير علم ولا هدى من الله ، ولو كان ما رآه عمر في
الكلالة اجتهادا منه ـ كما زعموا ـ لما جاز له الحكم بخلافه استحياء من خلاف أبي
بكر ، والله ورسوله أحق بأن يستحي منهما ، ومن لا يستحي من أن يقول لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إن الرجل ليهجر ، فاللائق
__________________
بحاله أن لا يستحي
من أحد ، وتمنيه أن يكون الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بين لهم الخلافة دليل واضح على شكه في خلافة أبي بكر وفي
خلافته ، كما سبق ما يدل على الشك عن أبي بكر ، وما جعله دليلا على اجتهاد أبي بكر
ـ من أن له في المسائل أقوالا مشهورة عند أهل العلم ـ فأول ما فيه أنه افتراء على
أبي بكر ، وأين هذه الأقوال المشهورة التي لم يسمعها أحد؟! ومن لم يرو عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في مدة البعثة ، وقد كان ـ بزعمهم الفاسد ـ أول الناس إسلاما ، وكان من
بطانته وصاحبا له في الغار غير مفارق عنه في الأسفار ـ إلا مائة واثنين وأربعين
حديثا ، مع ما وضعه في ميراث الأنبياء لحرمان أهل البيت عليهمالسلام ودفنهم حيث يموتون لأن يدفن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في بيت عائشة ويسهل ما أوصى به من دفنه مع الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وغير ذلك لأغراض أخر ، فمبلغ علمه وكثرة أقواله ظاهر لأولي الألباب.
ثم لو سلمت كثرة
أقواله فليس مجرد القول دليلا على الاجتهاد والقوة في العلم ، ومن تتبع آثارهم
وأخبارهم علم أنه ليس فيها ما يدل على دقة النظر وجودة الاستنباط ، بل فيها ما
يستدل به على دناءة الفطرة وركاكة الفهم ، كما لا يخفى على المتتبع.
وأما قطع يسار
السارق في المرة الأولى فهو خلاف الإجماع ، وقد اعترف به الفخر الرازي في تفسير
آية السرقة ، ولو كان من غلط الجلاد لأنكره عليه أبو بكر وبحث عن
الحال ، هل كان عن تعمد من الجلاد فيقاصه بفعله أو على السهو والخطإ فيعمل بمقتضاه؟
وكون القطع في المرة الثالثة خلاف المنقول ، ولم يبد هذا الاحتمال أحد غير الفخر
الرازي وتبعه المتأخرون عنه.
__________________
وأما الاجتهاد في
إحراق فجاءة السلمي فهو من قبيل الاجتهاد في مقابلة النص ، وقد قامت الأدلة على
بطلانه ، وما ذكره من عدم قبول توبته لأنه زنديق فاسد ، إذ لم ينقل أحد عن فجاءة
إلا الإغارة على قوم من المسلمين ، ومجرد ذلك ليس زندقة حتى لا تقبل توبته ، وقد
ذكر في المواقف في الطعن أنه كان يقول : أنا مسلم .. ولم يمنعه في مقام
الجواب.
واعلم أن الرواية
الدالة على عدم التعذيب بالنار من الروايات الصحيحة عند العامة ، ورواه البخاري في باب
لا يعذب بعذاب الله من كتاب الجهاد عن أبي هريرة وعن ابن عباس.
ورواه ابن أبي
الحديد أيضا.
والذي رواه
أصحابنا ما روي في الفقيه وغيره ، عن النبي صلىاللهعليهوآله أنه نهى أن يحرق شيء من الحيوان بالنار ، لكن في بعض
أخبارنا ما ينافي هذا العموم ، وسيأتي الكلام فيه في كتاب المناهي إن شاء الله
تعالى ، ولا يضر ذلك في الطعن ، لأن بناءه على الإلزام لاعتراف العامة بصحتها.
وما روي من فعل
أمير المؤمنين عليهالسلام فهو عندنا استناد إلى نص خاص ورثه عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وعند العامة استناد إلى الاجتهاد ،
__________________
فلا مطعن فيه
بالاتفاق.
* * * * *
خاتمة
في ذكر
ولادة أبي بكر ووفاته وبعض أحواله
قال المخالفون :
كان مولده بمكة بعد الفيل بسنتين وأربعة أشهر إلا أياما ، واسمه : عبد الله بن
عثمان بن أبي قحافة بن عامر بن عمر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن
كعب بن لؤي بن غالب ، وقيل اسمه : عتيق ، وقيل : كان اسمه : عبد رب الكعبة ، فسماه
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : عبد الله ، وأمه أم الخير سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب .
غصب الخلافة ثاني يوم
مات فيه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ومات بالمدينة ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة
سنة ثلاث عشرة بين المغرب والعشاء وله ثلاث وستون سنة ، وقيل خمس وستون ، والأول
أشهر. وكانت مدة خلافته المغصوبة سنتين وأربعة أشهر .
__________________
وقال في الاختصاص : مات وهو ابن
ثلاث وستين سنة ، وولي الأمر سنتين وستة أشهر.
ثم اعلم أنه لم
يكن له نسب شريف ولا حسب منيف ، وكان في الإسلام خياطا ، وفي الجاهلية معلم
الصبيان ، ونعم ما قيل :
كفى للمرء نقصا
أن يقال بأنه
|
|
معلم أطفال وإن
كان فاضلا
|
وكان أبوه سيئ
الحال ضعيفا ، وكان كسبه أكثر عمره من صيد القماري والدباسي لا يقدر على غيره ، فلما عمي وعجز
ابنه عن القيام به التجأ إلى عبد الله ابن جدعان ـ من رؤساء مكة ـ فنصبه ينادي على
مائدته كل يوم لإحضار الأضياف ، وجعل له على ذلك ما يعونه من الطعام ، ذكر ذلك
جماعة منهم الكلبي في كتاب المثالب ـ على ما أورده في الصراط المستقيم ـ ولذا قال أبو
سفيان لعلي عليهالسلام ـ بعد ما غصب الخلافة ـ : ـ أرضيتم يا بني عبد مناف! ـ أن
يلي عليكم تيمي رذل؟! ، وقال أبو قحافة : ما رواه ابن حجر في صواعقه حيث قال : وأخرج
الحاكم أن أبا قحافة لما سمع بولاية ابنه قال : هل رضي بذلك بنو
عبد مناف وبنو المغيرة؟. قالوا : نعم. قال : اللهم لا واضع لما رفعت ولا رافع لما
وضعت .
__________________
وقالت فاطمة عليهاالسلام ـ في بعض كلماتها ـ : إنه من أعجاز قريش وأذنابها . وقال بعض
الظرفاء : بل من ذوي أذنابها.
وقال صاحب إلزام
النواصب : أجمع النسابون أن أبا قحافة كان حبرا لليهود يعلم
أولادهم .
والعجب أنهم مع
ذلك يدعون أن الله تعالى أغنى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بمال أبي بكر.
وعقد الخلافة عند
موته لعمر ، فحمل أثقاله مع أثقاله ، وأضاف وباله إلى وباله.
وقال ابن أبي
الحديد ـ في كيفية ذلك ـ أنه أحضر أبو بكر عثمان ـ وهو يجود بنفسه
ـ فأمر أن يكتب عهدا ، وقال : اكتب : ( بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ، هذا ما عهد به عبد الله بن عثمان إلى المسلمين أما بعد ، .. ثم أغمي عليه ، فكتب عثمان : قد
استخلفت عليكم ابن الخطاب ، وأفاق أبو بكر ، فقال : اقرأ فقرأه ، فكبر أبو بكر ،
وقال : أراك خفت أن يختلف الناس إن مت في غشيتي!
__________________
قال : نعم. قال :
جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله ، ثم أتم العهد وأمره أن يقرأ على الناس فقرأ ، ثم أوصى إلى
عمر بوصايا .
قال : وروى كثير
من الناس أن أبا بكر لما نزل به الموت دعا عبد الرحمن بن عوف ، فقال : أخبرني عن
عمر ، فقال : إنه أفضل من رأيته إلا أن فيه غلظة. فقال : ذاك لأنه يراني رفيقا ولو قد أفضى
الأمر إليه لترك كثيرا مما هو عليه ، وقد رمقته إذا أنا غضبت على
رجل أراني الرضا عنه ، وإذا لنت أراني الشدة عليه ، ثم دعا عثمان ، فقال : أخبرني
عن عمر. فقال : سريرته خير من علانيته ، وليس فينا مثله. فقال لهما : لا تذكرا مما
قلت لكما شيئا ، ولو تركت عمر ما عدوتك يا عثمان ، والخيرة لك أن لا تلي من أمورهم شيئا ،
ولوددت أني كنت من أموركم خلوا ، وكنت فيمن مضى من سلفكم.
ودخل طلحة على أبي بكر ،
فقال : إنه بلغني أنك ـ يا خليفة رسول الله (ص)! ـ استخلفت على الناس عمر ، وقد
رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه ، فكيف إذا خلا بهم؟! وأنت غدا لاق ربك فسائلك عن رعيتك!. فقال
أبو بكر : أجلسوني .. أجلسوني ، ثم قال : أبالله تخوفني؟! ، إذا لقيت ربي فساءلني ، قلت
: استخلفت عليهم خير أهلك. فقال طلحة : أعمر خير الناس
__________________
يا خليفة رسول
الله؟!. فاشتد غضبه وقال : إي والله ، هو خيرهم وأنت شرهم ، أما والله لو وليتك
لجعلت أنفك في قفاك ، ولرفعت نفسك فوق قدرها حتى يكون الله هو الذي يضعها ، أتيتني
وقد دلكت عينيك تريد أن تفتنني عن ديني ، وتزيلني عن رأيي ، قم لا أقام الله رجليك
، أما والله لئن عشت فواق ناقة وبلغني أنك غمضته فيها أو ذكرته
بسوء لألحقنك بخمصات قنة حيث كنتم تسقون ولا تروون ، وترعون ولا تشبعون ، وأنتم بذلك مبتهجون راضون!. فقام
طلحة فخرج.
قال : وتوفي ليلة
الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة من سنة ثلاث عشرة. انتهى.
وقال في الإستيعاب
: قول الأكثر أنه توفي عشية يوم الثلاثاء المذكور. وقيل : ليلته. وقيل : عشية
يوم الإثنين.
قال : ومكث في
خلافته سنتين وثلاثة أشهر إلا خمس ليال. وقيل : سنتين
__________________
وثلاثة أشهر وسبع
ليال .
وقال ابن إسحاق :
توفي على رأس اثنتين وثلاثة أشهر واثني عشر يوما من متوفى رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. وقيل : وعشرة أيام. وقيل : وعشرين يوما.
قال : واختلف في
السبب الذي مات منه ، فذكر الواقدي أنه اغتسل في يوم بارد فحم ومرض خمسة عشر يوما
، وقال الزبير بن بكار : كان به طرف من السل ، وروي عن سلام بن أبي مطيع : إنه سم.
قال : وأوصى بغسله
أسماء بنت أبي عميس زوجته فغسلته ، وصلى عليه عمر بن الخطاب ونزل في قبره عمر
وعثمان وطلحة وعبد الله بن أبي بكر ، ودفن ليلا في بيت عائشة.
أقول
: انظروا بعين
الإنصاف إلى الخلافة الكبرى ورئاسة الدين والدنيا كيف صارت لعبة للجهال وخلسة لأهل
الغي والضلال ، بحيث يلهم بها الفاسق الفاجر اللئيم عثمان ويكتبها برأيه بدون
مصلحة الخليفة الخوان ، ثم يمدحه هذا الشقي ويشكره ويجزيه خيرا عن الإسلام وأهله ،
ولا يقول له : لم اجترأت على هذا الأمر الكبير والخطب الخطير الذي
يترتب عليه عظائم الأمور بمحض رأيك وهواك ، مع أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان لا يجترئ أن يخبر بأدنى حكم بدون
__________________
الوحي الإلهي.
ويلزم ـ على زعمهم
ـ أن يكون أبو بكر وعثمان أشفق على أهل الإسلام والإيمان من الرسول الذي أرسله
الرحمن لهداية الإنس والجان ، لأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ بزعمهم ـ أهمل أمر الأمة ولم يوص لهم بشيء ، وهما أشفقا
على الأمة حذرا من ضلالتهم فعينا لهم جاهلا شقيا فظا غليظا ليدعو الناس إلى نصبهم
وغباوتهم ، ويصرفهم عن أهل بيت نبيهم صلوات الله عليه [ كذا ].
والعجب من عمر كيف
لم يقل لأبي بكر ـ في تلك الحالة التي يغمى عليه فيها ساعة ويفيق أخرى ـ إنه ليهجر
، ويمنعه من الوصية كما منع نبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم ونسبه إلى الهجر؟!.
وكيف اجترأ أبو
بكر على ربه في تلك الحالة التي كان يفارق الدنيا ويرد على ربه تعالى فحكم بكون
عمر أفضل الصحابة مع كون أمير المؤمنين عليهالسلام بينهم ، وقال فيه نبيهم : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك ...
وسائر ما رووه في صحاحهم فيه عليهالسلام ، وأنزله الله فيه صلوات الله عليه؟!.
وهل يريب لبيب في
أن تلك الأمور المتناقضة ، والحيل الفاضحة الواضحة لم تكن إلا لتتميم ما أسسوه في
الصحيفة الملعونة من منع أهل البيت عليهمالسلام عن الخلافة والإمامة ، وحطهم عن رتبة الرئاسة والزعامة ،
جزاهم الله عن الإسلام وأهله شر الجزاء ، وتواتر عليهم لعن ملائكة الأرض والسماء.
أقول
: وقد مر في باب ما
أظهر من الندامة عند الوفاة ما يناسب هذه الخاتمة
__________________
__________________
__________________
صلىاللهعليهوآلهوسلم
__________________
وأما افتخارهم
بدفنه في جوار النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فسيأتي فيه.
وروى في الصراط
المستقيم بإسناده عن عاصم بن حميد ، عن صفوان ، عن الصادق عليهالسلام : أنهما لم يبيتا معه إلا ليلة ثم نقلا إلى واد في جهنم يقال لها : واد [ وادي ]
الدود.
__________________
[٢٣] باب
تفصيل
مثالب عمر والاحتجاج بها على المخالفين بإيراد الأخبار
من صحاحهم
، وذكر بعض أحواله وبعض ما حدث في زمانه
الطعن الأول :
ما روته العامة
والخاصة أنه أراد النبي صلىاللهعليهوآله في مرضه أن يكتب لأمته كتابا لئلا يضلوا بعده ولا يختلفوا
، فطلب دواة وكتفا أو نحو ذلك ، فمنع عمر من إحضار ذلك وقال : إنه ليهجر ، أو ما
يؤدي هذا المعنى ، وقد وصفه الله سبحانه بأنه : لا ينطق عن الهوى ، وأن كلامه ليس
إلا وحيا يوحى ، وكثر اختلافهم وارتفعت أصواتهم حتى تسأم وتزجر. فقال
بعضهم : أحضروا ما طلب. وقال بعضهم : القول ما قال عمر ، وقد قال الله سبحانه : ( وَما كانَ
لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ
لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ
__________________
اللهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً ) ، وقال تعالى : ( فَلا
وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا
يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) ، وقد قدمنا في
باب وصية النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في ذلك أخبارا كثيرة من طرق الخاص والعام ولنذكر هنا زائدا
على ما تقدم ما يؤيد تلك الأخبار من الجانبين.
فأما الروايات
العامية : فروى البخاري في باب إخراج اليهود من جزيرة العرب من كتاب الجهاد والسير
، ومسلم في كتاب الوصايا ، عن سفيان ، عن سليمان الأحول ، عن سعيد بن جبير ، أنه سمع ابن عباس
يقول : يوم الخميس وما يوم الخميس! ثم بكى حتى بل دمعه الحصى ، قلت : يا ابن عباس!
ما يوم الخميس؟. قال : اشتد برسول الله صلىاللهعليهوآله وجعه ، فقال : ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده
أبدا ، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا : ما له أهجر؟! استفهموه؟ . فقال : ذروني
فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه.
فأمرهم بثلاث ،
قال : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ،
والثالثة : إما أن سكت عنها وإما أن قالها فنسيتها ،
__________________
قال : قال سفيان : هذا من قول
سليمان.
وفي باب جوائز
الوفد من الكتاب المذكور ، عن سليمان الأحول ، عن ابن جبير ، عن ابن عباس ، أنه قال
: يوم الخميس وما يوم الخميس؟! ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء ، فقال : اشتد
برسول الله صلىاللهعليهوآله وجعه يوم الخميس ، فقال : ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن
تضلوا بعده أبدا ، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا : هجر رسول الله صلىاللهعليهوآله؟! فقال : دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه ، وأوصى عند موته بثلاث :
أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ، ونسيت
الثالثة.
وروى البخاري في باب كتابة
العلم من كتاب العلم ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، قال : لما اشتد
بالنبي صلى الله عليه [ وآله ] وجعه ، قال : ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا
بعده. قال عمر : إن النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله .. حسبنا ، فاختلفوا وكثر
اللغط ، فقال : قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع ، فخرج ابن عباس يقول : إن الرزية
كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وبين كتابه.
__________________
وفي باب مرض النبي
صلىاللهعليهوآلهوسلم مثل الرواية الأولى.
وفي هذا الباب ، عن الزهري ، عن
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس ، قال : لما حضر رسول الله صلى الله
عليه [ وآله ] ـ وفي البيت رجال فقال النبي صلى الله عليه [ وآله ] : هلموا أكتب لكم كتابا
لا تضلوا بعده. فقال بعضهم : إن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] قد غلبه الوجع وعندكم
القرآن ، حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول : قربوا
يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ، ومنهم من يقول غير ذلك ، فلما أكثروا اللغو والاختلاف ، قال رسول الله
صلى الله عليه [ وآله ] : قوموا.
قال عبيد الله :
فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه [
وآله ] وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب ، لاختلافهم ولغطهم.
وروى البخاري أيضا في باب قول
المريض : قوموا عني ، من كتاب المرضى
__________________
ومسلم في كتاب الوصايا
، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، قال : لما حضر رسول الله
صلى الله عليه [ وآله ] ـ وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ـ ، قال النبي صلى
الله عليه [ وآله ] : هلم أكتب لكم كتابا .. وساق الحديث مثل ما مر آنفا.
وروى مسلم في الكتاب المذكور ، عن
سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أنه قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ، ثم جعل تسيل
دموعه حتى رأيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه [
وآله ] : ائتوني بالكتف والدواة ـ أو اللوح والدواة ـ أكتب كتابا لن تضلوا
بعده أبدا. فقالوا : إن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] يهجر.
وقد حكى في جامع
الأصول الأخبار في هذا المعنى ، عن البخاري ومسلم .
وروى السيد بن
طاوس قدس الله روحه في كتاب كشف اليقين من كتاب الجمع بين الصحيحين : جمع الحافظ محمد بن أبي نصر
بن عبد الله
__________________
الحميدي من نسخة ـ
عليها عدة سماعات وإجازات تاريخ بعضها سنة إحدى وأربعين وخمسمائة ما هذا لفظه ـ :
قال : قال ابن عباس : يوم الخميس وما يوم الخميس ـ في رواية : ثم
بكى حتى بل دمعه الحصى ـ ، فقلت : يا ابن عباس! وما يوم الخميس؟. قال : اشتد برسول
الله صلى الله عليه [ وآله ] وجعه ، فقال : ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تضلوا
بعده أبدا. فتنازعوا ـ ولا ينبغي عند نبي تنازع ـ . فقالوا : ما
شأنه ، هجر؟ استفهموه؟. فذهبوا يرددون عليه ، فقال : ذروني .. دعوني ، فالذي
أنا فيه خير مما تدعونني إليه.
وفي رواية من
الحديث الرابع من الصحيحين : فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين
رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وبين كتابه.
وروى حديث الكتاب
ـ الذي أراد أن يكتبه رسول الله صلىاللهعليهوآله لأمته لأمانهم من الضلالة عن رسالته ـ جابر بن عبد الله
الأنصاري ـ في المتفق عليه من صحيح مسلم ـ فقال في الحديث السادس والتسعين من
إفراد مسلم من مسند جابر بن عبد الله ما هذا لفظه : قال : ودعا رسول الله صلى الله
عليه [ وآله ] بصحيفة عند موته فأراد أن يكتب لهم كتابا لا يضلون بعده ، وكثر
اللغط وتكلم عمر ، فرفضها صلى الله عليه [ وآله ].
وقال رضياللهعنه في كتاب الطرائف : من أعظم طرائف المسلمين أنهم شهدوا جميعا أن نبيهم أراد
عند وفاته أن يكتب لهم كتابا لا يضلون بعده أبدا وأن
__________________
عمر بن الخطاب كان
سبب منعه من ذلك الكتاب وسبب ضلال من ضل من أمته ، وسبب اختلافهم وسفك الدماء
بينهم ، وتلف الأموال ، واختلاف الشريعة ، وهلاك اثنتين وسبعين فرقة من أصل فرق
الإسلام ، وسبب خلود من يخلد في النار منهم ، ومع هذا كله فإن أكثرهم أطاع عمر بن
الخطاب ، الذي قد شهدوا عليه بهذه الأحوال في الخلافة وعظموه وكفروا بعد ذلك من
يطعن فيه وهم من جملة الطاعنين ـ وضللوا من يذمه ـ وهم من جملة الذامين ـ وتبرءوا
ممن يقبح ذكره وهم من جملة المقبحين ..
فمن روايتهم في
ذلك ما ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين في الحديث الرابع من المتفق عليه في
صحته من مسند عبد الله بن عباس قال : لما احتضر النبي صلىاللهعليهوآله ـ وفي بيته رجال فيهم عمر بن الخطاب ـ ، فقال النبي صلىاللهعليهوآله : هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا. فقال عمر بن الخطاب : إن النبي صلىاللهعليهوآله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن ، حسبكم كتاب ربكم .
وفي رواية ابن عمر
ـ من غير كتاب الحميدي ـ ، قال عمر : إن الرجل ليهجر.
وفي كتاب الحميدي : قالوا : ما
شأنه ، هجر؟.
__________________
وفي المجلد الثاني
من صحيح مسلم : فقال : إن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] يهجر ... .
قال الحميدي :
فاختلف الحاضرون عند النبي صلىاللهعليهوآله ، فبعضهم يقول القول ما قاله النبي صلىاللهعليهوآله ، فقربوا إليه كتابا يكتب لكم ، ومنهم من يقول القول ما قاله عمر ، فلما
أكثروا اللغط والاختلاط ، قال النبي صلىاللهعليهوآله : قوموا عني فلا ينبغي عندي التنازع ، فكان ابن عباس يبكي
حتى تبل دموعه الحصى ، ويقول : يوم الخميس وما يوم الخميس. قال راوي الحديث : فقلت
: يا ابن عباس! وما يوم الخميس؟. فذكره عبد الله بن عباس يوم منع رسول الله صلىاللهعليهوآله من ذلك الكتاب ، وكان يقول : الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلىاللهعليهوآله وبين كتابه .
أقول
: الهجر :
الهذيان. قال في جامع الأصول في شرح غريب الميم : الهجر ـ بالفتح
ـ : الهذيان ، وهو النطق بما لا يفهم ، يقال : هجر فلان إذا هذى ، وأهجر : نطق بالفحش ، والهجر
ـ بالضم ـ : النطق بالفحش .
وفي القاموس : هجر في نومه
ومرضه هجرا ـ بالضم ـ .. : هذى ، وفي الصحاح : الهجر .. : الهذيان ، وقد هجر المريض يهجر هجرا فهو هاجر
__________________
والكلام مهجور.
قال أبو عبيد : يروى عن إبراهيم ما يثبت هذا القول في قوله تعالى : ( إِنَّ
قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً ) قال : قالوا فيه
غير الحق ، ألم تر إلى المريض إذا هجر قال غير الحق. وعن مجاهد نحوه.
فظهر أن إنكار
بعضهم كون الهجر بمعنى الهذيان من أفحش الهذيان.
وقد اعترف ابن حجر
ـ مع شدة تعصبه ـ بأنه بمعنى الهذيان ، في مقدمة شرحه لصحيح البخاري .
واللغط ـ بالتسكين
والتحريك ـ : الصوت والجلبة أو أصوات مبهمة لا تفهم .
والرزية : المصيبة
.
ثم اعلم أن قاضي
القضاة في المغني لم يتعرض لدفع هذا الطعن عن عمر بن الخطاب ، وكذلك كثير من
العامة كشارح المقاصد وغيره ، ولم يذكره السيد
__________________
الأجل رضياللهعنه في الشافي لكون نظره فيه مقصورا على دفع كلام صاحب المغني ، وقد تصدى القاضي
عياض المالكي في كتابه الموسوم ب : الشفاء لدفعه وتوجيه الاختلاف الصادر عن الأصحاب بوجوه نذكرها مع
ما يرد على كلامه ، قال :
أولا
: فإن قلت : قد
تقررت عصمة النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم في أقواله في جميع أحواله ، وأنه لا
يصح منه فيها خلف ولا اضطراب في عمد ولا سهو ، ولا صحة ولا مرض ، ولا جد ولا مزاح
، ولا رضى ولا غضب ، فما معنى الحديث في وصيته صلى الله عليه [ وآله ] وسلم الذي
حدثنا به القاضي أبو علي ، عن أبي الوليد ، عن أبي ذر ، عن أبي محمد وأبي الهيثم
وأبي إسحاق جميعا ، عن محمد بن يوسف ، عن محمد بن إسماعيل ، عن علي بن عبد الله ،
عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن
عباس ، قال : لما احتضر رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ـ وفي البيت رجال ـ
قال النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم : هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده.
فقال بعضهم : إن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم غلبه الوجع .. الحديث.
وفي رواية : ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي أبدا ، فتنازعوا ، فقالوا : ما
له؟ أهجر؟استفهموه. فقال : دعوني فإن الذي أنا فيه خير. وفي بعض طرقه أن النبي صلى
الله عليه [ وآله ] وسلم هجر ، وفي رواية : هجر ، ويروى : أهجر ، ويروى : أهجرا ، وفيه :
فقال عمر : إن النبي (ص) قد اشتد به الوجع ، وعندنا كتاب الله حسبنا ، وكثرت
اللغط. فقال : قوموا عني. وفي رواية : واختلف أهل البيت
__________________
واختصموا ، فمنهم
من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم كتابا ، ومنهم من
يقول القول ما قال عمر ، قال أئمتنا في هذا الحديث : النبي صلى الله عليه [ وآله ]
وسلم غير معصوم من الأمراض ، ما يكون من عوارضها من شدة وجع وغشي .. ونحوه مما يطرأ على
جسمه ، معصوم أن يكون منه من القول أثناء ذلك ما يطعن في معجزته ، ويؤدي إلى فساد
في شريعته من هذيان واختلال في كلام ، وعلى هذا لا يصح ظاهر رواية من روى في الحديث : هجرا إذ معناه هذى ،
يقال : هجر هجرا إذا هذى ، وأهجر هجرا إذا أفحش ، وأهجر تعدية هجر ، وإنما الأصح
والأولى : أهجر! على طريق الإنكار ، على من قال : لا يكتب ، وهكذا روايتنا فيه في
صحيح البخاري من رواية جميع الرواة ، و في حديث الزهري المتقدم وفي حديث محمد بن سلام ، عن ابن
عيينة وقد تحمل عليه رواية من رواه هجر ـ على حذف ألف الاستفهام ـ والتقدير : أهجرا
، وأن يحمل قول القائل هجرا وأهجر على دهشة من قائل ذلك وحيرة لعظم ما شاهد من حال
الرسول صلى الله عليه [ وآله ] وشدة وجعه ، وهول المقام الذي
اختلف فيه عليه ، والأمر الذي هم بالكتاب فيه حق لم يضبط هذا القائل لفظه ، وأجرى
الهجر مجرى شدة الوجع ، لا أنه اعتقد أنه يجوز عليه الهجر كما حملهم
__________________
الإشفاق على
حراسته ، والله تعالى يقول : ( وَاللهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ ) ونحو هذا ، وأما على رواية : أهجرا فقد يكون هذا راجعا
إلى المختلفين عنده صلىاللهعليهوآلهوسلم ومخاطبة لهم من بعضهم ، أي جئتم باختلافكم على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وبين يديه هجرا ومنكرا من القول ، والهجر ـ بضم الهاء ـ : الفحش في المنطق.
وقد اختلف العلماء
في معنى هذا الحديث ، وكيف اختلفوا بعد أمره لهم أن يأتوه بالكتاب
، فقال بعضهم : أوامر النبي صلى الله عليه [ وآله ] يفهم إيجابها من ندبها وندبها
من إباحتها بقرائن ، فلعله قد ظهر من قرائن قوله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم
لبعضهم ما فهموا أنه لم يكن منه عزمة بل رده إلى اختيارهم ، وبعضهم لم يفهم ذلك.
فقال : استفهموه؟ فلما اختلفوا كف عنه إذ لم يكن عزمة ، ولما رأوه من صواب رأي عمر
، ثم هؤلاء قالوا : ويكون امتناع عمر إما إشفاقا على النبي صلى الله عليه [ وآله ]
وسلم من تكلفه في تلك الحال إملاء الكتاب ، وأن تدخل عليه مشقة من ذلك
كما قال : إن النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم : اشتد به الوجع.
وقيل : خشي عمر أن
يكتب أمورا يعجزون عنها فيحصلون في الحرج و العصيان بالمخالفة ، ورأى أن الأوفق بالأمة في تلك الأمور سعة
الاجتهاد وحكم النظر ، وطلب الثواب ، فيكون المخطئ والمصيب مأجورا. وقد علم عمر تقرر
__________________
الشرع وتأسس الملة ، وأن الله
تعالى قال : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) ،و قوله صلى الله
عليه [ وآله ] وسلم : أوصيكم بكتاب الله وعترتي. وقول عمر :حسبنا كتاب الله ، رد
على من نازعه لا على أمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وقد قيل : إن عمر
قد خشي تطرق المنافقين ومن في قلبه مرض و لما كتب في ذلك الكتاب في الخلوة وأن يتقولوا في ذلك
الأقاويل ، كادعاء الرافضة الوصية وغير ذلك.
وقيل : إنه كان من
النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم على طريق المشورة والاختبار ، هل يتفقون على
ذلك أم يختلفون؟ فلما اختلفوا تركه.
وقالت طائفة أخرى
: إن معنى الحديث أن النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم كان مجيبا في هذا الكتاب
لما طلب منه لا أنه ابتداء بالأمر به بل اقتضاه منه بعض أصحابه فأجاب رغبتهم وكره ذلك غيرهم
للعلل التي ذكرناها ، واستدل في مثل هذه القصة بقول العباس لعلي (ع) : انطلق بنا
إلى رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم فإن كان الأمر فينا علمناه ، وكراهة
علي (ع) هذا ، وقوله : والله لا أفعل استدل بقوله (ص) : دعوني فالذي أنا فيه خير .. أي الذي أنا
فيه خير من إرسال الأمر وترككم كتاب الله وأن تدعوني من الذي طلبتم ، وذكر أن الذي
طلب كتابة أمر الخلافة بعده وتعيين ذلك. انتهى كلامه.
ويرد على ما ذكره
أولا ، وما نقله عن القوم ثانيا وجوه من الإيراد :
فأما ما اختاره في
تفسير الهجر وتوجيهه فهو هجر تبع فيه إمامه ، فإن ما رواه
__________________
البخاري في باب
العلم صريح في أن عمر نسب إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قد غلبه الوجع ، ولا يلزمنا إجابته في إحضار الكتاب ،
وظاهر أن قائل : ما له أهجر؟ استفهموه ، هو قائل : قد غلبه الوجع ، وإن مفاد
العبارتين واحد ، ومعلوم من سياق مجموع الأخبار أن اللغط والاختلاف لم يحصلا إلا
من قول عمر ، وأن ترك النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الكتابة لم يكن إلا من جهته ، وأنه آذاه وأغاظه.
وأما الاعتذار
بأنه صدر منه هذا الكلام من الدهشة فهو باطل ، لأنه لو كان كذلك لكان يلزمه أن
يتدارك ذلك بما يظهر للناس أنه لا يستخف بشأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وأيضا لو كان في
هذه الدرجة من المحبة له صلىاللهعليهوآلهوسلم بحيث يضطرب بسماع ما هو مظنة وفاته صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى حد يختل نظام كلامه لكان تلك الحالة أشد بعد تحقق الوفاة ، ولو كان كذلك
لم يبادر إلى السقيفة قبل تجهيزه صلىاللهعليهوآلهوسلم وغسله ودفنه ، ولو سلم ذلك فهو لا ينفعه ، لأن مناط الطعن
مخالفة أمر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وممانعته فيما يوجب صلاح عامة المسلمين إلى يوم القيامة ،
والسهو في خصوص عبارة لا ينفع في ذلك.
وأما ما نقله عن
القوم في ذلك فالاعتراض عليه من وجوه :
الأول
: أن ما ذكره أولا
ـ من أن فهم البعض أن أمره صلىاللهعليهوآلهوسلم بإحضار ما طلب كان مردودا إلى اختيارهم ـ ظاهر الفساد ،
فإن الأمر مع أنه ظاهر في الوجوب ـ كما حرر في محله ـ قد اقترن به في المقام ما
يمنع من أن يراد به الندب أو الإباحة ، فإن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم علل الكتاب بأن : لا يضلوا بعده ، وظاهر أن الأمر الذي
يكون في تركه ضلال الأمة لا يكون مباحا ولا مندوبا ، وليس مناط الوجوب إلا قوة
المصلحة وشدة المفسدة ، وقد علل من منع الإحضار بأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم يهجر ، كما صرحت به الرواية الثانية المتقدمة ، أو أنه قد
غلبه الوجع ، وظاهر أن هذا الكلام لا ارتباط له بفهم الإباحة أو الندب.
ويؤيده قول ابن
عباس ـ مع اعتراف الجمهور له بجودة الفهم وإصابة النظر ـ
أن الرزية كل
الرزية ما حال بين رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وبين الكتابة ، وهل يسمى فوت أمر مباح أو مندوب رزية كل
الرزية ، ويبكي عليه حتى يبل الدمع الحصى.
ولا ينكر من له
أدنى ألفة بكلام العرب أنهم يكتفون في فهم المعاني المجازية ونفي الحقائق بقرائن
أخفى من هذا ، فكيف بالمعنى الحقيقي إذا اقترن بمثل تلك القرينة؟ على أن اشتغال
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في حال المرض وشدة الوجع ، ودنو الرحيل ، وفراق الأمة التي
بعثه الله تعالى بشيرا ونذيرا لهم بكتابة ما كان نسبة الخير والشر إليه على حد
سواء ، حتى يكون رده وقبوله مفوضا إليهم ومرجوعا إلى اختيارهم ، مما لا يقول به
إلا من بلغ الغاية في السفه والنوك ، فبقي أن يكون من الأمور المستحسنة ، وإن كان على وجه
الندب فظاهر أن رد ما استحسنه له الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وحكم به ولو على وجه الندب وظن أن الصواب في خلافه ، وعده
من الهذيان تقبيح قبيح لرأي من لا ينطق عن الهوى ، وتجهيل وتضليل لمن لا يضل ولا
يغوى ، وليس كلامه إلا وحيا يوحى ، وهو في معنى الرد على الله سبحانه ، وعلى حد
الشرك بالله.
ولعل المجوزين
للاجتهاد في مقابلة النص ـ ولو على وجه الاستحباب ـ لا يقولون بجواز الرد عليه على
هذا الوجه المشتمل على إساءة الأدب وتسفيه الرأي.
فإن قيل : إذا كان
أمره صلىاللهعليهوآلهوسلم بإحضار ما طلب على وجه الإيجاب والإلزام للخوف في ترك
الكتابة من ترتب مفسدة عظيمة ـ هي ضلال الأمة ـ فكيف تركها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم يصر على المطلب؟ وهل هذا إلا تقصير في هداية الأمة واللطف بهم؟.
قلنا : لعله صلىاللهعليهوآلهوسلم لما رأى من حال الحاضرين أمارة العصيان ، وشاهد منهم إثارة الفتنة وتهييج
الشر خاف من أن يكون في الوصية وتأكيد
__________________
التنصيص على من
عينه للإمامة وجعله أولى بالناس من أنفسهم تعجيل للفتنة بين المسلمين وتفريق
كلمتهم ، فيتسلط بذلك الكفار وأهل الردة عليهم ، وينهدم أساس الإسلام ، وينقلع
دعائم الدين ، وذلك لأن الراغبين في الإمامة والطامعين في الملك والخلافة قد علموا
من مرضه صلىاللهعليهوآلهوسلم وإخباره تصريحا وتلويحا في غير موقف بأنه قد دنى أجله ولا
يبرأ من مرضه ، فوطنوا أنفسهم لإلقاء الشبهة بين المسلمين لو كتب الكتاب وأكد
الوصية ، بأنه كان على وجه الهجر والهذيان ، فيصدقهم الذين في قلوبهم مرض ،
ويكذبهم المؤمنون بأن كلامه ليس إلا وحيا يوحى ، فيقوم فيهم المحاربة
والقتال وينتهي الحال إلى استيصال أهل الإيمان وظهور أهل الشرك والطغيان ، فاكتفى صلىاللهعليهوآلهوسلم بنصه يوم الغدير وغيره ، وقد بلغ الحكم وأدى رسالة ربه كما أمره بقوله : ( يا
أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ
تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) فلم يكن في ترك الكتابة تقصير في التبليغ والرسالة ، وإنما
منعت الطائفة من الأمة لشقاوتهم ذلك الفعل ، وسدوا باب الرحمة ، فضلوا عن سواء
الصراط وأضلوا كثيرا : ( وَسَيَعْلَمُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ )
الثاني
: أن ما يظهر كلامه
ـ من أن استفهامهم كان لاستعلام أن الأمر على وجه العزم ، أو رد الأمر إلى
اختيارهم ـ مردود ، بأن قولهم ما شأنه : أهجر؟ استفهموه؟ لا يفهم منه من له أدنى
فطانة ، إلا أن هذا الاستفهام عبارة عن استعلام أن كلامه ذلك كان من الهجر وكلام
المرضى والهذيان ، أو هو كلام صحيح ، لا أن أمره كان على وجه العزم أو الرد إلى
الاختيار ، وهو واضح.
وأما ما علل به
الكف من صواب رأي عمر ، ففيه أنه ليس في الكلام ما يدل على تصويب رأي عمر ، فإن
قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في الرواية الثالثة من
__________________
روايات البخاري :
قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع .. صريح في الغيظ والتأذي بتلك المخالفة ، وهل
يجوز عاقل أن ينطق بمثل هذا الكلام في مقام تصويب الرأي من وصفه الله سبحانه
بالخلق العظيم ، وبعثه رحمة للعالمين؟! وكيف لم يأمر صلىاللهعليهوآلهوسلم من كان يؤذيه بطول الجلوس في بيته بالقيام والخروج ويستحي
من إظهار ذلك ، حتى نزل قوله : ( يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ
إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا
طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ
يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ ) ، فكيف استحيا من
الأمر بقيام من كان يؤذيه وأمر به من اهتدى إلى الصواب في مثل ذلك الأمر الذي يعم
نفعه الأمة طرا ويعظم بلواه ، ومع قطع النظر عن ذلك فسقم هذا الرأي مما لا ريب فيه
، فإن قوله : حسبنا كتاب الله .. يدل على أنه لا خوف على الأمة من الضلال بعد كتاب
الله في حكم من الأحكام ، وإلا لم يصح الاستناد إليه في منع كتابة ما أراده النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم يصرح بتعيينه ، والآيات التي يستنبط منها الأحكام ـ كما ذكروا ـ خمسمائة
آية أو قريب منها ، وظاهر أنها ليست في الظاهر مدركا لكثير من الأحكام ، وليس
دلالتها على وجه يقدر على استنباط الحكم منها كل أحد ، ولا يقع في فهمه اختلاف بين
الناس حتى ينسد باب الضلال ، ومن راجع كلام المفسرين أدنى مراجعة علم أنه ليس آية
إلا وقد اختلفوا في فهمها واستخراج الأحكام منها على أقوال متضادة ووجوه مختلفة ،
والكتاب الكريم مشتمل على ناسخ ومنسوخ ، ومحكم ومتشابه ، وظاهر ومؤول ، وعام وخاص
، ومطلق ومقيد .. وغير ذلك مما لا يصيب في فهمه إلا ( الرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ ) المعصومون من الزيغ والضلال ، ومن ذلك يعلم أنه لم يكن
غرضه صلىاللهعليهوآلهوسلم إلا تعيين الأوصياء إلى يوم القيامة ، لأنه إذا كان كتاب
الله عز وجل بطوله
__________________
وتفصيله لم يرفع
الاختلاف بين الأمة ، فكيف يتصور في مثل هذا الوقت منه صلىاللهعليهوآلهوسلم إملاء كتاب يشتمل على أسطر قلائل يرفع الاختلاف في جميع الأمور عن الأمة ،
إلا بأن يعين في كل عصر من يرجعون إليه عند الاختلاف ، ويرشدهم إلى جميع مصالح
الدين والدنيا ، ويفسر القرآن المجيد لهم بحيث لا يقع منهم اختلاف فيه؟!.
وينطق بما ذكرنا قول
أمير المؤمنين عليهالسلام : أنا كلام الله الناطق وهذا كلام الله الصامت .
وقد قيل : إن قوله
هذا كقول المريض : لا حاجة لنا إلى الطبيب لوجود كتب الطب بين أظهرنا ، وظاهر أنها
أشمل للفروع الطبية من الكتاب الكريم لتفاصيل الأحكام الشرعية ، فاتضح أن المنع عن
كتابة ما يمنع عن الضلال عين الضلال والإضلال ، وكثرة الخلاف بين الأمة وتشتت طرقه
ـ مع وجود كتاب الله بينهم دليل قاطع على ما ذكرنا.
الثالث
: أن ما ذكره ـ من
أن عمر أشفق على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم من تحمل مشقة الكتابة مع شدة الوجع ـ فاسد ، فإن رسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم لم تجر عادته في أيام صحته بأن يكتب الكتاب بيده ، وإنما
كان يملي على الكاتب ما يريد ، إما لكونه أميا لا يقرأ ولا يكتب ، أو لغير ذلك ،
ولم يكن ذلك مستورا على عمر ، فكيف أشفق عليه من الكتابة؟!.
وأما الإملاء ،
فمن أين علم أنه لا يمكن للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم التعبير عما يريد بلفظ مختصر وعبارة وجيزة لم يكن في
إلقائها إلى الكاتب مشقة لا يقدر على تحملها ، على أنه تحمله صلىاللهعليهوآلهوسلم للمشاق في هداية الأمة لم
__________________
تكن هذه الكتابة
مبدأه ، فكيف لم يشفق عمر في شيء من المواضع إلا فيما فهم فيه أن المراد تأكيد
النص في أمير المؤمنين عليهالسلام ـ كما سيجيء تصريحه بذلك إن شاء الله ـ؟!. ولا ريب في أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان أشفق على نفسه وأعلم بحاله من عمر بن الخطاب.
وبالجملة ، برودة
مثل هذا الاعتذار مما لا يرتاب فيه ذو فطنة.
وأما اشتداد الوجع
، فإنما استند إليه عمر لإثبات كلامه أن كلامه صلىاللهعليهوآلهوسلم ليس مما يجب الإصغاء إليه ، لكونه ناشئا من اختلال العقل لغلبة الوجع
وشدة المرض كما يظهر من قولهم في الروايات السابقة ما شأنه؟ هجر؟ أو إنه ليهجر! لا
لما زعمه هذا القائل ، وهو واضح.
الرابع
: أن ما ذكره من
الاعتلال ـ بأن عمر رأى أن الأوفق بالأمة ترك البيان ليكون المخطئ أيضا مأجورا ، وأنه
خاف من أن يكتب أمورا يعجزون عنها فيحصلون في الحرج والعصيان بالمخالفة ـ يرد عليه
، أنه لو صح الأول لجاز للناس منع الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم عن تبليغ الأحكام ، وكان الأخرى أن لا يبعث الله
الرسل إلى الخلق ويكلفهم المشاق واحتمال الأذى في تبليغ الأحكام ، ويترك الناس حتى
يجتهدوا ويصيبوا الأجر ، مصيبين أو مخطئين ، ولا يرى المصلحة في خلاف ما حكم
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بأن في تركه خوف الضلال على الأمة إلا من خرج عن ربقة
الإيمان ، وقد قال تعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا
__________________
تَسْلِيماً
) ، وقال سبحانه : ( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلالاً مُبِيناً ) .
وأما الخوف من أن
يكتب أمرا يعجز الناس عنه ، فلو أريد به الخوف من أن يكلفهم فوق الطاقة فقد بان له
ولغيره ـ بدلالة العقل ، وقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) وبغيره من الأدلة النقلية ـ أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يكلف أمته إلا دون طاقتهم ، ولو أريد الخوف من تكليفهم بما فيه مشقة فلم
لم يمنع عمر وغيره رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن فرض الحج والجهاد والنهي عن وطء امرأة جميلة
تأبى عن النكاح أو كان لها بعل مع شدة العزوبة وميل النفس ، وظاهر أن كثيرا من
الناس يعصون الله في الأوامر الشاقة ويخالفون الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وأما المشقة
البالغة التي تعد في العرف حرجا وضيقا ـ وإن كان دون الطاقة فقد نفاه الله تعالى
بقوله : ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ
بِكُمُ الْعُسْرَ ) ، وقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : بعثت إليكم بالحنفية السمحة السهلة البيضاء . وكيف فهم من قوله
: أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي ... إنه أراد أن يكتب لهم ما يعجزون عن القيام به
، وأي ارتباط لهذا الاعتذار بقوله : إنه قد غلبه الوجع ، أو إنه ليهجر.
وبالجملة ، لم يكن
عمر بن الخطاب ولا غيره أعلم بشأن الأمة وما يصلحهم
__________________
ممن تواتر عليه
الوحي الإلهي وأيده الله بروح القدس ، ولا أشفق عليهم وأرأف بهم ممن أرسله ( رَحْمَةً
لِلْعالَمِينَ )
الخامس
: أن ما ذكره ـ من
أن عمر علم تقرر الشرع والملة بقوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ ) ... ، وقوله صلىاللهعليهوآله : أوصيكم بكتاب الله وعترتي .. يرد عليه : أنه لو كان
المراد بكمال الدين ما فهمه لزم غناء الناس عن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وعدم احتياجهم إليه بعد نزول الآية في حكم من الأحكام ، وأما قوله صلىاللهعليهوآله : أوصيكم بكتاب الله وعترتي. فليس فيه دلالة على أنه لم يبق أمر مهم للأمة
أصلا حتى تكون الكتابة التي أراد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لغوا عبثا ، ويصح منعه عنها وقد كان المراد من الكتابة
تأكيد الأمر باتباع الكتاب والعترة الطاهرة الحافظة له والعالمة بما فيه على وجهه
خوفا من ترك الأمة الاعتصام بهما فيتورطوا في أودية الهلاك ، ويضلوا كما فعل كثير
منهم ( وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ ) ، ولو فرضنا أن
مراده صلىاللهعليهوآلهوسلم كان أمرا وراء ذلك ، فليس هذا الاعتذار إلا التزاما
للمفسدة وقولا بأن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حاول أن يكتب عبثا لا فائدة فيه أصلا ، وكان قوله : لا
تضلوا بعده .. هجرا من القول وهذيانا محضا ، ولو كان الغناء بهذه الوصية فلم لم
يتمسك عمر بعد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بالعترة المطهرة ولا رآهم أهلا للخلافة ولا للمشورة فيها؟!
فترك الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والعترة صلوات الله عليهم وسارع إلى السقيفة لعقد الخلافة
لحليفه وصديقه؟ ولم لم يرتدع ولم يرجع عما فعل بعد ما رأى من سيد العترة إنكاره
لخلافة أبي بكر وعدم الانقياد له؟! وقد مضى من صحاح أخبارهم ما يدل على أنه عليهالسلام وسائر بني هاشم لم يبايعوا ستة أشهر ، ولم لم يقل في مقام المنع عن إحضار ما
طلبه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : حسبنا كتاب الله وعترة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
__________________
ولا يذهب على ذي
البصيرة أن ذكر العترة في هذا المقام مما أجراه الله تعالى على لسان هذا المعتذر
تفظيعا لشأنه وإظهارا لضلال إمامه.
السادس
: أن قوله ، وقول
عمر : حسبنا كتاب الله .. رد على من نازعه لا على أمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم .. كلام ظاهر الفساد ، فإن الرواية التي رواها البخاري في باب كتابة العلم
صريحة في أنه رد على قول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأن الاختلاف من الحاضرين إنما وقع بعد قوله ذلك ، وكذلك روايته في باب قول
المريض : قوموا عني ..
ولو سلمنا أنه لم
يواجه بكلامه ذلك رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بل أحد المنازعين فالرواية الأخيرة للبخاري تضمنت أن أحد الفرقتين
المتخاصمتين كانوا يقولون : قربوا .. يكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده .. والآخرون
يقولون ما قال عمر ، فلم يبق إلا أن يكون كلامه ردا عليه صلىاللهعليهوآلهوسلم وإن واجه به المنازعين ، وهو مثل الأول في استلزام الإنكار والكفر ، وإن كانت
المواجهة أبلغ في سوء الأدب وترك الحياء.
السابع
: أن ما ذكره ـ من
أن عمر قد خشي تطرق المنافقين ومن في قلبه مرض لما كتب ذلك الكتاب في الخلوة وأن
يتقولوا في ذلك الأقاويل كادعاء الرفضة الوصية .. ـ يرد عليه :
أولا
: أن كون الكتابة
في الخلوة كذب مخالف للمشهور ، فإن المشهور اجتماع بني هاشم ووجوه المهاجرين
والأنصار عند النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يومئذ ، ويؤيده قول ابن عباس في الروايات السابقة : وفي
البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب .. وقوله : وكثر اللغط وأكثروا اللغو والاختلاف ..
وثانيا
: أنه لو كان عمر
خائفا من ذلك لما قال : حسبنا كتاب الله .. وأن
__________________
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد غلبه الوجع .. و إنه ليهجر .. وكان المناسب أن يعرض على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه ينبغي إحضار طائفة ممن يثق الناس بهم وتكون شهادتهم حجة عند العامة
ليشهدوا الكتابة ، ويقيموا الشهادة ، دفعا لاختلاف الناس.
وثالثا
: أن غاية ما يلزم
من تطرق المنافقين أن يقع فيها الاختلاف فلا يعمل بعض الناس بها ، وليس ذلك بأبلغ
في الضرر من منع الكتابة حتى لا يعمل بها أحد ، وأما الخوف من وقوع الفتنة بين
المسلمين فهو موجود في صورة ترك الكتابة والوصية ، بل هو أحرى وأقرب بوقوع الفتنة
وثوران الشرور.
ورابعا
: أنه لو أراد
بتطرق المنافقين مجرد قدحهم في الوصية من دون أن يلحق الإسلام والمسلمين ضرر
وتزلزل فليس به بأس ، ولا ينقطع به طعنهم وقدحهم بها ولا بعدمها.
ولو أراد به لحوق
الضرر .. ففساده ظاهر ، كيف ولو كانت جهة الفساد فيها أغلب لما أرادها من هو أعلم
بأمته وأرأف بهم من كل رءوف عليم ، ولما عللها بعدم ضلالهم.
وأما الاجتهاد
بخلاف قوله .. فقد تبين بطلانه في محله وسيأتي ، على أن دفع هذا الضرر الذي توهموه
ـ بنسبة الهجر والهذيان إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وتقبيح رأيه ، والرد عليه بأن كتاب الله حسبنا ـ دفع
للفاسد بمثله.
وخامسا
: أن تشبيهه ادعاء
الرافضة بتطرق المنافقين في غاية الركاكة والبرودة ، فإن الظاهر منهم أنه زعم أن
ادعاء الرافضة أعظم من الفساد من تطرق المنافقين وتقولهم الأقاويل أو مثله ، وظاهر
أن هذا الادعاء إنما لزم من منع الكتابة لا من كتابة ما أراده النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بزعمهم ، وقد رووا عن عائشة أنه
__________________
قال لها رسول الله
صلىاللهعليهوآله ـ في مرضه ـ : ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا ، وإني
أخاف أن يتمنى متمن ، ويقول قائل ..
فلولا منع عمر بن
الخطاب لانسد باب ادعاء الرافضة.
وبالجملة ، لا ريب
في أن ترك الوصية والكتابة أولى بتقول الأقاويل وادعاء الأباطيل ، والله لقد تطرق
المنافقون ومن في قلبه مرض في أول الأمر ، فقال أحدهم : إنه قد غلبه الوجع ..
وحسبنا كتاب الله .. وصدقه الآخرون ، وقالوا : القول ما قال عمر ، فثلموا في
الإسلام وهدموا الإيمان ، كما أفصح عن ذلك ابن عباس بقوله : إن الرزية كل الرزية
ما حال بين رسول الله صلىاللهعليهوآله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب.
الثامن
: أن ما حكاه ـ من
قول طائفة أخرى أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذا الكتاب كان مجيبا لما طلب عنه فأجاب رغبتهم
وكره ذلك غيرهم للعلل التي ذكرناها ـ يرد عليه أنه لا فرق باتفاق المسلمين فيما
حكم الله ورسوله به بين ما كان ابتداء وبين ما طلبه أحد فنص عليه وجرى الحكم به ،
وكما أن إنكار الأول ورده رد على الله ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم وفي حكم الشرك بالله كذلك الثاني ، وقد سبقت الدلالة على
أن الأمر لم يكن مردودا إلى اختيار القوم ، بل كان على وجه الحتم والإيجاب ، وأما
كراهة من كره الكتابة للعلل المذكورة ففسادها يظهر لك مما عرفت من فساد العلل.
التاسع
: أن ما استدل به
من كراهة علي عليهالسلام لسؤال الخلافة ورغبة العباس وطلبه.
يرد عليه : أنه لا
نزاع في وقوع الخلاف في كثير من الأمور بين الصحابة وغيرهم ، وذلك مما لا حاجة له
إلى شاهد ، بل لا نزاع في وقوع الخلاف فيما حكم
__________________
به الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أيضا ، ولكن الكلام في أن خلاف الرسول والرد عليه في معنى الكفر وهذا الدليل
لا تعلق له بنفي ذلك ، على أن الرواية في كلام علي عليهالسلام والعباس في طلب الخلافة والسؤال عنها مما وضعوه وتمسكوا به
في إبطال النص ، كما عرفت.
العاشر
: أن ما تمسك به في
إثبات كون النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مجيبا إلى ما سألوه من كتابة الوصية من قوله : دعوني فالذي
أنا فيه خير ..
يرد عليه : أن
المخاطب بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : دعوني .. إما جميع الحاضرين من الطالبين للكتابة
والمانعين عنها أو بعضهم.
فإن كان الأول ،
كان المراد بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما تدعونني إليه استماعه لمشاجرتهم ومنازعتهم ، ويؤيد
ذلك أمره صلىاللهعليهوآلهوسلم إياهم بأجمعهم بالخروج بقوله : قوموا عني .. وزجرهم بقوله
: لا ينبغي عندي التنازع .. على ما سبق في بعض الروايات السابقة ، وحينئذ فسقوط
الاحتجاج به واضح.
وإن كان الثاني ،
لم يجز أن يكون المخاطب من طلب الكتابة ، بل من منع عنها ، وإلا لناقض كلامه أخيرا
أمره بالإحضار ليكتب لهم ما لا يضلوا بعده ، وحيث تنقلب الحجة عليهم ويكون المراد
بما كانوا يدعون إليه ترك الكتابة ، ويكون الأفضلية المستفادة من قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : فالذي أنا فيه خير .. مثلها في قوله تعالى : ( قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ
أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ) .
ولو سلمنا أن
المراد بما تدعونني إليه طلب الكتاب ، نقول : يجب أن يحمل الردع عن الكتابة على
أنها صارت مكروهة له صلىاللهعليهوآلهوسلم لممانعة المانعين وظهور إثارة الفتنة من
المعاندين وإلا لزم التناقض في كلامه (ص) كما عرفت ،
__________________
فالتمسك بهذا
الكلام على أي وجه كان لا يجديهم نفعا.
وأما ما ذكره ـ من
أن المطلوب منه (ص) كان تعيين الخليفة وكتاب الوصية في ذلك ـ فهو وإن كان باطلا من
حيث إن إرادة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم للكتابة كان ابتداء منه ، لا إجابة لرغبة أحد ، كما هو
الظاهر من خلو الروايات بأجمعها عن ذلك الطلب ، إلا أنه لا شك في أن مراده صلىاللهعليهوآلهوسلم كان الوصية في أمر الخلافة وتأكيد النص في علي عليهالسلام.
ومما يدل على ذلك ما
رواه ابن أبي الحديد في الجزء الثاني عشر من شرحه على النهج في سلك الأخبار
التي رواها عن عمر ، قال :
روى ابن عباس ،
قال : خرجت مع عمر إلى الشام ، فانفرد يوما يسير على بعير فاتبعته ، فقال
لي : يا ابن عباس! أشكوا إليك ابن عمك ، سألته أن يخرج معي فلم يفعل ، ولا أزال أراه واجدا ،
فيما تظن موجدته؟ قلت : يا أمير المؤمنين! إنك لتعلم ، قال : أظنه لا يزال كئيبا
لفوت الخلافة؟ قلت : هو ذاك ، إنه يزعم أن رسول الله (ص) أراد الأمر له. فقال : يا
ابن عباس! وأراد رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] الأمر له فكان ما ذا إذا لم يرد
الله تعالى ذلك ، إن رسول الله (ص) أراد أمرا وأراد الله غيره ، فنفذ مراد الله ولم ينفذ مراد
رسول الله ، أوكلما أراد رسول الله صلىاللهعليهوآله كان؟! إنه أراد إسلام عمه ولم يرده الله تعالى فلم يسلم!.
__________________
قال : وقد روي معنى
هذا الخبر بغير هذا اللفظ ، وهو قوله : إن رسول الله صلىاللهعليهوآله أراد أن يذكره للأمر في مرضه ، فصددته عنه خوفا من الفتنة
وانتشار أمر الإسلام ، فعلم رسول الله (ص) ما في نفسي وأمسك ، وأبى الله إلا إمضاء
ما حتم.
وروى أيضا في الموضع
المذكور ، عن ابن عباس ، قال : دخلت على عمر في أول خلافته وقد ألقي له صاع من تمر
على خصفة ، فدعاني إلى الأكل ، فأكلت تمرة واحدة وأقبل يأكل حتى أتى عليه ، ثم شرب
من جرة كانت عنده ، واستلقى على مرفقة له وطفق يحمد الله .. يكرر
ذلك ، ثم قال : من أين جئت يا عبد الله؟. قلت : من المسجد. قال : كيف خلفت ابن عمك؟.
فظننته يعني عبد الله بن جعفر ، قلت : خلفته يلعب مع أترابه. قال : لم أعن ذلك ،
إنما عنيت عظيمكم أهل البيت. قلت : خلفته يمتح بالغرب على نخيلات من فلان ويقرأ القرآن.
قال : يا عبد الله!
عليك دماء البدن إن كتمتنيها ، هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟. قلت : نعم.
قال : أيزعم أن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] نص عليه؟. قلت : نعم ، وأزيدك ،
سألت أبي عما يدعيه ، فقال : صدق. فقال عمر : لقد كان من رسول الله صلى الله عليه
[ وآله ] في أمره ذرء من قول لا يثبت
__________________
حجة ولا يقطع عذرا
، ولقد كان يزيغ في أمره وقتا ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعته
من ذلك إشفاقا وحيطة على الإسلام ، لا ورب هذا [ هذه ] البنية لا تجتمع عليه
قريش أبدا ، ولو وليها لا انتقضت عليه العرب من أقطارها ، فعلم رسول الله صلى الله عليه [
وآله ] أني علمت ما في نفسه فأمسك ، وأبى الله إلا إمضاء ما حتم.
قال ابن أبي
الحديد : ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد
في كتابه مسندا.
قوله : على خصفة
هي ـ بالتحريك ـ : الجلة من الخوص تعمل للتمر .
وعليك دماء البدن
: قسم بوجوب نحر البدن لو كتم ما سأله من أمر الخلافة.
وذرء من قول .. أي
طرف منه ولم يتكامل ، والمراد القول غير الصريح ، وذرء من خير ـ بالهمزة ـ بمعنى
شيء منه .
والزيغ ـ بالزاي
والياء المثناة من تحت والغين المعجمة ـ : الجور والميل عن الحق ، والضمير في
أمره راجع إلى علي عليهالسلام ، أي كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يخرج عن الحق في أمر علي عليهالسلام لحبه إياه أو إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والمراد الاعتذار عن صرفه عما أراد بأنه كان يقع في
الباطل أحيانا.
__________________
والإشفاق : الخوف .
والحيطة : الحفظ
والصيانة .
قال الجوهري : مع فلان حيطة
لك ، ولا تقل عليك .. أي تحنن.
واستدل بعض
الأصحاب على ذلك بما سبق في رواياتهم من تحسر ابن عباس وتحزنه عند تذكر تلك
الواقعة وبكائه حتى بل دمعه الحصى ، إذ من الظاهر أنه لم يقع بعد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم رزية ومصيبة توجب هذا النوع من الحزن والأسف ، ولم تصب الأمة عامة وبني هاشم
خاصة آفة إلا خلافة ابن أبي قحافة.
ويؤيد ذلك أنه لا
شك في اقتضاء المقام والحال أن يكون مراده عليهالسلام كتابة الوصية في أمر الخلافة والإمامة ، إذ العادة قد جرت
ـ قديما وحديثا ـ في كل من ظهر له أمارة الارتحال من بين قومه وظن بدنو موته وحضور
أجله بأن يوصي فيهم ويفوض أمرهم إلى من يحميهم عن الفتن والآفات ، ويكون مرجعا لهم
في نوائبهم ، ويدفع عنهم شر الأعداء ، وكلما تكثرت جهات المنافع وتشتتت وجوه
المضار كانت الوصية أوجب وتركها أقبح ، ولا ريب في أن الأمة يخاف عليهم بتركهم سدى
من غير راع يقيمهم وهاد يهديهم أنواع الضرر في الدنيا والآخرة ، فهل يظن عاقل بمن
أرسله الله ( رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) أنه لا يهتم بأمر
الإسلام والمسلمين ولا يوصي فيهم ولا ينصب لهم واليا يدفع عنهم شر أعدائهم ويهديهم
إلى ما يصلحهم ، ويكون خيرا لهم في آخرتهم ودنياهم؟! مع أنه قد أمر أمته بالوصية
ورغبهم فيها.
وإذا ظهر أن مراده
صلىاللهعليهوآلهوسلم كان تعيين الخليفة ـ كما اعترف به هذا القائل أيضا ـ فإن
كان مقصوده صلىاللهعليهوآلهوسلم تأكيد نص الغدير وغيره في أمير المؤمنين عليهالسلام ، وتجديد ما عهد إلى الأمة فيه ، ثبت المدعى ، وتم الطعن.
__________________
وإن كان المراد
الوصية لأبي بكر ـ كما رووه عن عائشة ـ فكيف يتصور من عمر بن الخطاب الممانعة في
إحضار ما كان وسيلة إلى استخلافه مع شدة رغبته فيه؟!.
وقد قال شارح
المقاصد في قصة الفلتة : كيف يتصور من عمر القدح في إمامة أبي بكر
مع ما علم من مبالغته في تعظيمه وانعقاد البيعة له ، ومن صيرورته خليفة باستخلافه.
وروي أنه لما كتب
أبو بكر وصيته في عمر وأرسله بيد رجلين ليقرأه [ ليقرءاه ] على الناس ، قالا للناس
: هذا ما كتبه أبو بكر ، فإن قبلتموه نقرأه وإلا نرده؟!. فقال طلحة : اقرأه [
اقرءاه ] وإن كان فيه عمر. فقال له عمر : من أين عرفت ذكري فيه؟. فقال طلحة :
وليته بالأمس وولاك اليوم.
على أنه لا حاجة
في مقام الطعن إلى إثبات خصوص ما كان مرادا له صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإن الرد عليه وظن أن الصواب في خلاف ما قضى به في معنى
الشرك بالله ، ولو كان في استخلاف أبي بكر أو عمر.
لكن كان الغرض
التنبيه على فساد ما ذكره بعض المتعصبين من أن القول بأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أراد أن يؤكد النص على خلافة علي عليهالسلام من باب الإخبار بالغيب ، ولم لا يريد أن ينص بخلافة أبي
بكر؟ وقد وافق هذا ما روينا عن عائشة أنه قال : ادعي لي أبا بكر ـ أباك ـ حتى أكتب
له كتابا.
ومن تأمل بعين
البصيرة فيما سبق ـ مع ما سبق من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم الغدير وغيره ـ ظهر له أن المراد كان تأكيد النص
بالكتاب ، وليس الفهم من القرائن والدلائل من الإخبار بالغيب.
__________________
ثم إن ابن أبي
الحديد في شرح الخطبة الشقشقية تصدى للاعتذار عن قول عمر ، فقال :
قد كان في أخلاق عمر فظاظة وعنجهية ظاهرة بحسب السامع لكلماته إن أراد بها ما لم يكن قد
أراد ، ويتوهم من يحكى له أنه قصد بها ما لم يقصده ، فمنها : الكلمة التي قالها في
مرض رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] ، ومعاذ الله أن يقصد بها ظاهرها ، ولكنه
أرسلها على مقتضى خشونة غريزية ولم يتحفظ منها ، وكان الأحسن أن يقول : مغمور أو مغلوب
بالمرض ، وحاشاه أن يعني بها غير ذلك ، ولجفاة الأعراب من هذا الفن كثير ، سمع
سليمان بن عبد الملك أعرابيا يقول في سنة قحط :
رب العباد ما
لنا وما لكا
|
|
قد كنت تستقينا فما بدا لكا
|
أنزل علينا القطر لا أبا لكا
|
فقال سليمان :
أشهد أنه لا أب له ولا صاحبة ولا ولد ، فأخرجه أحسن مخرج
وعلى نحو هذا يحمل
كلامه في صلح الحديبية لما قال للنبي صلىاللهعليهوآله : ألم تقل لنا ستدخلونها ..؟ في ألفاظ نكره حكايتها ، حتى
شكاه النبي صلى
__________________
الله عليه وآله
إلى أبي بكر ، وحتى قال له أبو بكر : الزم بغرزه ، فو الله إنه
لرسول الله. انتهى.
ويرد عليه :
أولا
: أنه لا وجه لحمل
الكلام على المحامل البعيدة وإخراجه عن ظاهره من غير دليل ، وظاهر الكلام تقبيح
لرأي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ورد لقوله على أقبح وجه ، ولم يقم برهان على عدم جواز
الخطإ والارتداد على عمر بن الخطاب حتى يأول كلامه بالتأويلات البعيدة ، وما رووه
في فضله من الأخبار فمع أنه من موضوعاتهم ولا حجة فيها على الخصم لتفردهم بروايتها
ـ فأكثرها لا دلالة فيها على ما يجديهم في هذا المقام ، والعجب أنهم يثبتون أنواع
الخطايا والذنوب للأنبياء عليهمالسلام لظواهر الآيات الواردة فيهم وينكروه علينا حملها على ترك
الأولى وغيره من الوجوه ـ كما سبق ذكر كثير منها في المجلد الخامس مع قيام الأدلة
العقلية والنقلية على عصمتهم وجلالة قدرهم عما يظنون بهم ، ولا يرضون بمثله في عمر
بن الخطاب ـ مع عدم دليل على عصمته واشتمال كتبهم ورواياتهم على ما تسمع من مطاعنه
ـ ولو جانبوا الاعتساف لم يجعلوه أجل قدرا من أنبياء الله عليهمالسلام.
وثانيا
: أن الطعن ليس
مقصورا على سوء الأدب والتعبير بالعبارة الشنيعة ، بل به وبالرد لقول الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والإنكار عليه ، وهو في معنى الرد على الله عز وجل والشرك به ، وإن كان بأحسن
الألفاظ وأطيب العبارات ، وما
__________________
ذكره ـ لو تم ـ فإنما
ينفع في دفع الأول دون الثاني.
وأما قصة صلح
الحديبية ـ التي أشار إليها ـ فليس الطعن فيها بلفظ يشتمل على سوء الأدب حتى يجري
فيه تأويل ، بل بالإنكار لقول الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وعدم تصديقه بعد قوله : أنا رسول الله (ص) ، أفعل ما
يأمرني به .. وهو إما تكذيب صريح للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لو لم يصدقه في قوله ذلك ، أو تقبيح صريح لما قضى الله به
لو صدق الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم. ، وقد ذكر الموجه نفسه شرح هذه القصة في
الجزء الثاني عشر في سلك الأخبار التي رواها عن عمر ، قال : لما كتب النبي صلى
الله عليه [ وآله ] كتاب الصلح في الحديبية بينه وبين سهيل بن عمرو ، وكان في
الكتاب أن من خرج من المسلمين إلى قريش لا يرد ومن خرج من المشركين إلى النبي صلى
الله عليه [ وآله ] يرد إليهم ، غضب عمر وقال لأبي بكر : ما هذا يا أبا بكر؟ أيرد
المسلمون إلى المشركين؟! ، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] فجلس بين
يديه ، وقال : يا رسول الله! ألست رسول الله حقا؟!. قال : بلى. قال : ونحن
المسلمون حقا؟. قال : نعم. قال : وهم الكافرون ؟!. قال : نعم. قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا؟!. فقال
رسول الله صلىاللهعليهوآله : أنا رسول الله (ص) أفعل ما يأمرني به ولن يضيعني ، فقام
عمر مغضبا ، وقال : والله لو أجد أعوانا ما أعطيت الدنية أبدا! ، وجاء إلى أبي بكر
، فقال له : يا أبا بكر! ألم يكن وعدنا ، أنا سندخل مكة ، فأين ما وعدنا به؟!.
فقال أبو بكر : أقال لك إن العام ندخلها؟. قال : لا. قال : فسندخلها . قال : فما هذه
الصحيفة التي كتبت؟ وكيف نعطي الدنية في
__________________
أنفسنا؟. فقال :
يا هذا! الزم غرزه فو الله إنه لرسول الله ، إن الله لا يضيعه ، فلما كان يوم
الفتح وأخذ رسول الله صلىاللهعليهوآله مفتاح الكعبة ، قال : ادعوا لي عمر ، فجاء ، فقال : هذا
الذي كنت وعدت به .
وروى البخاري في صحيحه في باب
الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحروب ، عن الزهري ، عن عروة بن الزهير ، عن المسور بن
مخرمة ومروان ـ يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه ـ قالا : خرج رسول الله صلى الله
عليه [ وآله ] من الحديبية .. وساق الحديث .. إلى أن قال عمر بن الخطاب : فأتيت نبي الله صلى
الله عليه [ وآله ] ، فقلت : ألست نبي الله حقا؟. قال : بلى. قلت : ألسنا على الحق
، وعدونا على الباطل؟. قال : بلى. قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذا. قال : إني
رسول الله ولست أعصيه ، وهو ناصري. قلت : أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف
به؟!. قال : بلى ، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟. قلت : لا. قال : فإنك آتيه وتطوف به.
قال : فأتيت أبا بكر ، فقلت : يا أبا بكر! أليس هذا نبي الله حقا؟. قال : بلى. قلت
: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟. قال : بلى. قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا
إذا؟. قال : أيها الرجل إنه لرسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وليس يعصي ربه وهو
ناصره ، فاستمسك بغرزه ، فو الله إنه على الحق. قلت : أليس كان يحدثنا أنا سنأتي
البيت
__________________
ونطوف به؟!. قال :
بلى ، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟. قلت : لا. قال : فإنك آتيه وتطوف به. قال الزهري
: قال عمر : فعملت لذلك أعمالا.
وروى البخاري في تفسير سورة
الفتح من كتاب تفسير القرآن ، ومسلم في كتاب القضاء ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : أتيت أبا
وائل أسأله ، فقال : كنا بصفين ، فقال رجل : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ ) ... فقال علي [ عليهالسلام ] : نعم ، فقال سهل بن حنيف : اتهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم الحديبية ـ يعني
الصلح الذي كان بين النبي صلى الله عليه [ وآله ] والمشركين ـ ولو نرى قتالا
لقاتلنا ، فجاء عمر ، فقال : ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة
وقتلاهم في النار؟. قال : بلى. قال : ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم
الله بيننا؟!. فقال : يا ابن الخطاب! إني رسول الله (ص) ولن يضيعني الله أبدا.
فرجع متغيظا فلم يصبر حتى جاء إلى أبي بكر ، فقال : يا أبا بكر! ألسنا على الحق وهم على
الباطل؟. قال : يا ابن الخطاب! إنه رسول الله (ص) ولن يضيعه الله أبدا .. ، فنزلت سورة
الفتح ، كذا في رواية البخاري.
وفي رواية مسلم ـ بعد
قوله : ولن يضيعه الله أبدا ـ نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه [ وآله ]
بالفتح ، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه ، فقال : يا رسول الله
__________________
(ص)! أوفتح هو؟.
فقال : نعم. فطابت نفسه ورجع.
وقد ذكر الروايات
في جامع الأصول في كتاب الغزوات من حرف الغين. وروى الشيخ الطبرسي رضياللهعنه في مجمع البيان قصة الحديبية بنحو مما سبق ، وفيه : قال عمر بن الخطاب :
والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ ، فأتيت النبي صلىاللهعليهوآله ، فقلت : ألست نبي الله .. إلى آخر الخبر ..
ومن نظر في هذه
الأخبار لم يشك في أنه لم يرض بقول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وكان في صدره حرج مما قضى به الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقد قال الله عز وجل : ( فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) ، وظن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في وعده كاذبا ، وإلا فلا معنى لقيامه مغضبا متغيظا غير صابر حتى جاء إلى أبي
بكر ، وقوله : لو وجدت أعوانا ما أعطيت الدنية أبدا ، وإعادته كلامه في معرض
الإنكار لأبي بكر بعد قول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إني رسول الله (ص) ولست أعصيه ، أو : أنا رسول الله (ص)
أفعل ما يأمرني به .. على اختلاف ألفاظ الروايات السابقة ، وكذلك يدل على ظنه
الكذب برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قوله له : هذا الذي كنت وعدت به .. بعد أخذ مفتاح الكعبة
وإرساله إليه ليقرأ عليه آية الفتح.
ويدل على شدة غضبه
صلىاللهعليهوآلهوسلم وغيظه على عمر ما رواه البخاري ـ في باب غزوة
الحديبية من كتاب المغازي ـ ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه : أن رسول الله صلى الله
عليه [ وآله ] كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن
__________________
الخطاب يسير معه
ليلا ، فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] ،
ثم سأله فلم يجبه بشيء ، ثم سأله فلم يجبه ، فقال عمر بن الخطاب : ثكلتك أمك يا
عمر! نزرت رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك. قال عمر :
فحركت بعيري ثم تقدمت أمام المسلمين وخشيت أن ينزل في قرآن ، فما نسيت أن سمعت
صارخا يصرخ بي. قال : فقلت : لقد خشيت أن ينزل في قرآن وجئت رسول الله صلى الله
عليه [ وآله ] ، فسلمت عليه ، فقال : لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما
طلعت عليه الشمس ، ثم قرأ : ( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً ) .
وقال في النهاية : حديث عمر « أنه
سأل رسول الله (ص) عن شيء مرارا فلم يجبه فقال لنفسه : ثكلتك أمك إنك يا عمر نزرت رسول
الله (ص) مرارا لا يجيبك » ، .. أي ألححت عليه في المسألة إلحاحا أدبك بسكوته عن
جوابك ، يقال فلان لا يعطي حتى ينزر .. أي يلح عليه. انتهى.
ولا يخفى على ذي
بصيرة أن ما ظهر من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من الغضب والغيظ عليه ـ في الحديبية وفي مرضه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، حيث أمره بالخروج من البيت مع المتنازعين ـ لم يظهر بالنسبة إلى أحد من
الصحابة ، وكذلك ما ظهر عنه [ كذا ] من سوء الأدب لم يظهر عن غيره ، ولا شك أن
ظهور ذلك الغيظ منه صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ مع خلقه العظيم ، وعفوه الكريم ، وخوفه في الفظاظة
والغلظة من انفضاضهم ، كما قال سبحانه : ( وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا
غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) ـ لم يكن إلا
لشدة تفاحشه في ترك الأدب والوقاحة ،
__________________
وبلوغ تأذي رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الغاية ، وقد قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ
يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) ، وقال سبحانه
وتعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ
لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً ) وقد كان رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يصبر على كثير من الأذى ويستحي من زجرهم ، كما يدل عليه
قوله تعالى ـ مشيرا إلى دخولهم بيوت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من دون الإذن وغيره ـ : ( إِنَّ ذلِكُمْ كانَ
يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ ) كما سبق.
هذا مع أن أتباع
عمر بن الخطاب وحزبه قد ستروا كثيرا من كلماته الشنيعة وما قال فيه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، كما يظهر من قول ابن أبي الحديد : في ألفاظ نكره حكايتها حتى شكاه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى أبي بكر.
ويؤيد هذا المعنى
أن قصة منع الكتابة لم يروها أحد ممن حضرها إلا ابن عباس ، وقد صرحت الرواية بأنه
كان في البيت رجال ، وقالوا بعضهم : قربوا يكتب لكم ، وبعضه قال ما قال عمر ، وكثر
لغطهم وارتفعت أصواتهم.
وثالثا
: أن ما اعتذر به ـ
من أن عمر كان يرسل في تلك الألفاظ على مقتضى غريزته وخشونة جبلته ولم يكن يقصد
بها ظواهرها ـ فيه اعتراف بأنه كان لا يملك لسانه حتى يتكلم بما يحكم به عقله ،
وظاهر أن رجلا لم يقدر على ضبط لسانه في مخاطبة مثل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ في علو شأنه في الدنيا والآخرة معدود عند العقلاء في المجانين ، ومثله لا
يصلح للرئاسة العامة وخلافة من
__________________
اصطفاه الله على
العالمين ، ومن رضي بإمامة من يكره حكاية ألفاظه ـ كما مر من كلام الموجه ـ فقد
بلغ الغاية في السفاهة وفاز بالقدح المعلى من الحماقة.
وأما من استشهد
الشارح بشعره من الأعراب فهو ممن قال الله تعالى فيه : (
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما
أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ ) ، ومثله أحرى بأن يعد من البهائم ، ولم يقل أحد بأن مثله
يصلح للإمامة حتى يقاس بفعله فعل من ادعى الإمامة.
وما ذكره من أن
الأحسن كان أن يقول مغمور أو مغلوب بالمرض فهو هذيان كقول إمامه ، إذ الكلام في
أنه لا يجوز الرد على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وإنكار قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم مطلقا ، سواء كان في حال المرض أو غيره ، للآيات والأخبار
الدالة على وجوب الانقياد لأوامره ونواهيه ، وأنه لا ينطق عن الهوى ولا يقول إلا
حقا ، والهجر وغلبة المرض ـ وإن كان أمرا شائعا في أكثر البشر ـ إلا أنه لا
استبعاد في براءة من اصطفاه الله على العالمين عنه ، كما أن غلبة النوم يعم سائر الخلق.
وقد روى الخاص والعام أنه صلىاللهعليهوآله كان لا ينام قلبه إذا
__________________
نامت عيناه ، وقد
اعترف النووي ـ على ما نقله عنه الكرماني في شرح صحيح البخاري ـ بأن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان معصوما من الكذب ومن تغيير الأحكام الشرعية في حال الصحة والمرض.
ومن الغرائب أنهم
يستدلون على خلافة عمر بن الخطاب بما نص عليه أبو بكر في مرضه وكتب له ، ولم يجوز
أحد فيه أن يكون هجرا وناشئا من غلبة المرض ، مع أنه أغمي عليه في أثناء كتابته
العهد ـ كما رواه ابن أبي الحديد في كيفية عقده الخلافة لعمر من أنه كان يجود بنفسه فأمر
عثمان أن يكتب عهدا ، وقال : اكتب : ( بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ، هذا ما عهد به عبد الله بن عثمان إلى المسلمين ،
أما بعد .. ثم أغمي عليه ، فكتب عثمان : قد استخلفت عليكم ابن الخطاب .. وأفاق أبو
بكر ، فقال : اقرأ ، فقرأه ، فكبر أبو بكر وقال : أراك خفت أن يختلف الناس إن مت
في غشيتي. قال : نعم. قال : جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله ، ثم أتم العهد وأمره
أن يقرأ على الناس.
وجوزوا في رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يكون عهده هجرا وهذيانا ، وقد كان في كتاب أبي بكر
ووصيته ـ على ما ذكره شارح المقاصد وغيره ـ نوع من التردد في شأن عمر ، حيث قال : إني استخلفت عمر
بن الخطاب فإن عدل فذاك ظني به ورأيي فيه ، وإن بدل وجار فلكل امرئ ما اكتسب ،
والخير أردت ولا أعلم الغيب ، ( وَسَيَعْلَمُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) وكان قوله صلىاللهعليهوآله : ائتوني بكتاب [ كذا ] أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده .. خاليا من
__________________
التردد صريحا في
بعدهم عن الضلال بعد الكتاب ، فكتاب أبي بكر من حيث المتن أولى بالشك ، كما أن
احتمال الهجر وغلبة المرض في شأنه كان أظهر ، ولم يدل دليل من العقل والنقل على
براءته من الهذيان ، وكان كتاب الله بين أظهرهم ، فكان اللائق بديانة عمر بن
الخطاب أن لا يرضى بذلك الكتاب ويقول حسب الناس كتاب الله ، وكان الأنسب لأشياعه
الذين يجوزون الهذيان على سيد الأنام صلىاللهعليهوآلهوسلم تصحيحا لقول عمر بن الخطاب أن يترددوا في إمامته ولا
يستندوا إلى وصية أبي بكر في شأنه.
ثم إن في قول عمر بن
الخطاب في مقام الرد على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم : حسبنا كتاب الله
.. يدل على أنه لا حاجة إلى الخليفة مطلقا ، فكيف سارع إلى السقيفة لعقد البيعة
وجعله أهم من دفن سيد البرية عليه وآله أكمل الصلاة والتحية.
والحاصل ، أن من
لم يطبع الله على قلبه لم يشك في أنهم لم يهتموا إلا بنيل حطام الدنيا وزخارفها ،
وصرف الإمارة والخلافة عن أهاليها ومعادنها.
واعلم أنهم عدوا
من فضائل عمر بن الخطاب أنه كان يرد على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في كثير من المواطن ، وكان يرجع إلى قوله ويترك ما حكم به.
فمن ذلك ما رواه
ابن أبي الحديد في أخبار عمر في الجزء الثاني عشر ، ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان
، عن أبي هريرة ، قال : كنا قعودا حول النبي صلى الله عليه [ وآله ] ومعنا أبو بكر
وعمر في نفر ، فقام رسول الله صلى الله
__________________
عليه [ وآله ] من
بين أظهرنا فأبطأ علينا ، فخشينا أن يقطع دوننا وفزعنا وقمنا ، فكنت أول
من فزع ، فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] حتى أتيت حائطا للأنصار
لقوم من بني النجار فلم أجد له بابا ، فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من
بئر خارجة ـ والربيع : الجدول ـ فاحتفزت فدخلت على رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] ، فقال : أبو
هريرة؟. فقلت : نعم يا رسول الله ، قال : ما شأنك؟. قلت : كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت علينا ،
فخشينا أن تقطع دوننا ، ففزعنا ـ فكنت أول من فزع ـ فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما تحتفز الثعلب
وهؤلاء الناس ورائي ، فقال : يا أبا هريرة! ـ وأعطاني نعليه ، قال : اذهب بنعلي
هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه
فبشره بالجنة ، فكان أول من لقيت عمر ، فقال : ما هاتان النعلان يا أبا هريرة؟.
قلت : هاتان نعلا رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] بعثني بهما من لقيت يشهد أن لا
إله إلا الله مستيقنا بها قلبه بشرته بالجنة ، فضرب عمر بيده بين ثديي فخررت لاستي ، فقال :
ارجع يا أبا هريرة!. فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] فأجهشت ببكاء وركبني عمر ،
فإذا هو على أثري ، فقال رسول الله
__________________
صلى الله عليه [
وآله ] : ما لك يا أبا هريرة؟. قلت : لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به ، فضرب بين ثديي ضربة خررت لاستي
، قال : ارجع. فقال رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] : ما حملك على ما فعلت؟. فقال :
يا رسول الله ! بأبي أنت وأمي ، أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن
لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه بشره بالجنة؟. قال : نعم. قال : فلا تفعل ، فإني أخشى
أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون. قال رسول الله (ص) : فخلهم .
قوله : من بين
أظهرنا .. أي من بيننا .
ويقطع دوننا .. أي
يصاب بمكروه من عدو وغيره .
وبئر خارجة ـ على
التوصيف ـ .. أي قليب خارجة عن البستان ، وقيل :
البئر : هو البستان ، كقولهم : بئر أريس ، وبئر بضاعة ، وقيل : الخارجة
اسم رجل فيكون على الإضافة.
__________________
واحتفزت ـ بالزاي
ـ .. أي تضاممت ليسعني المدخل كما يفعل الثعلب ، وقيل بالراء.
وروى البخاري في تفسير سورة
براءة من كتاب تفسير القرآن ، ورواه مسلم في باب فضائل عمر بن الخطاب ، عن ابن عمر ، قال : لما توفي عبد
الله بن أبي جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه [ وآله ]
، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ، ثم سأله أن يصلي عليه ، فقام رسول
الله صلىاللهعليهوآله ليصلي عليه ، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه
[ وآله ] فقال : يا رسول الله! أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه ؟! فقال رسول الله
صلى الله عليه [ وآله ] : إنما خيرني الله ، فقال : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ
أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً ) ... وسأزيد على السبعين ،
فقال : إنه منافق. قال : فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] ، فأنزل الله
تعالى : ( وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً
وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ ) .
وفي رواية أخرى له عن عمر : أنه
قال رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] : أخر عني يا عمر! فلما أكثرت عليه قال :
إني خيرت فاخترت ، لو أعلم إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها ، قال : فصلى
عليه رسول الله صلى الله عليه
__________________
[ وآله ] ثم انصرف
، فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة ... قال : فعجبت بعد من جرأتي على
رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] والله ورسوله أعلم!.
وروى ابن أبي
الحديد في أخبار عمر قريبا من الرواية الأولى ، وفيها : فقام رسول
الله صلى الله عليه [ وآله ] بين يدي الصف ، فجاء عمر فجذبه من
خلفه ، وقال : ألم ينهك الله عن الصلاة على المنافقين؟! .. قال : فعجب الناس
من جرأة عمر على رسول الله صلى الله عليه [ وآله ].
ولا يذهب عليك أن
الرواية الأولى ـ مع أن راويها أبو هريرة الكذاب ينادي ببطلانها سخافة أسلوبها ،
وبعث أبي هريرة مبشرا للناس ، وجعل النعلين علامة لصدقه ، وقد أرسل الله تعالى
رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم مبشرا ونذيرا للناس ، وأمره بأن يبلغ ما أنزل
إليه من ربه ، ولم يجعل أبا هريرة نائبا له في ذلك ، ولم يكن القوم المبعوث إليهم
أبو هريرة غائبين عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى يتعذر عليه أن يبشرهم بنفسه ، وكان الأحرى تبليغ تلك
البشارة في المسجد وعند اجتماع الناس لا بعد قيامه من بين القوم وغيبته عنهم
واستتاره بالحائط ، ولم تكن هذه البشارة مما يفوت وقته بالتأخير إلى حضور الصلاة
واجتماع الناس ، أو رجوعه صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الحائط ، وكيف جعل النعلين علامة لصدق أبي هريرة مع أنه
يتوقف على العلم بأنهما نعلا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقد جاز أن لا يعلم ذلك من يلقاه أبو هريرة فيبشره ،
وإذا كان ممن يظن الكذب بأبي هريرة أمكن أن يظن أنه سرق نعلي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فلا يعتمد على قوله ، ولو فرضنا
__________________
صدق أول الخبر
أمكن أن يكون ما رواه أخيرا من رجوعه صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى قول عمر من أكاذيبه.
ويؤيده ما رواه
مسلم في الموضع المذكور ورواه غيره في عدة روايات أنه صلىاللهعليهوآله : بشر الناس بأنه من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة ، وقد روى
أبو هريرة نفسه ما يقرب من هذا المعنى .
ثم لو سلمنا صدق
الخبر إلى آخره فلا شك في أنه يتضمن أن عمر رد قول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على أخشن الوجوه وأقبحها ـ كما هو دأب الطغام والأجلاف ـ ، ومع قطع
النظر عما عرفت وستعرف من عدم جواز الاجتهاد في مقابلة النص ، وأن الرد عليه صلىاللهعليهوآلهوسلم رد على الله وعلى حد الشرك بالله ، كيف يجوز هذا النوع من سوء الأدب والغلظة
في مقام الرد على المجتهد ولو كان مخطئا؟! وهو مأجور في خطئه ، وقد أمكنه أن يرد
أبا هريرة برفق ويناظر برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ويوقفه على خطأه.
ثم من أين استحق
أبو هريرة أن يضرب على صدره حتى يقع على استه ولم يقدم على أمر سوى طاعة رسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم وطاعة الله ، وقد أمر الله تعالى بها في زهاء عشرين موضعا من
كتابه بقوله : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) .
__________________
وأما رجوعه صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الأمر بتبشير الناس ـ فعلى تقدير صحته لا دلالة فيه على اجتهاده صلىاللهعليهوآلهوسلم وخطئه في رأيه ، ولا ينفي الشناعة عن فعل عمر ، لجواز أن يكون الرجوع من قبيل
النسخ بالوحي لمصلحة يعلمها الله تعالى ، ويمكن أن تكون مصلحة تأليف قلب
هذا الفظ الغليظ ، كما أمر الله سبحانه بذلك في سائر المنافقين لئلا ينفضوا عن
رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم فيلحق الإسلام ضرر أعظم من فوت المصلحة بترك التبشير في
ذلك الوقت ، ولا يخفى أن الاجتهاد المذكور مما لم يجوزه كثير من العامة ، لكون
المسألة مما يتعلق بأمور الدين لا الحروب وأمور الدنيا ، و قد صرح بذلك شارح
صحيح مسلم في شرح هذا الخبر ، وقال : عدم جواز الخطإ عليه صلى الله عليه [ وآله ]
في الأمور الدينية مذهب المحققين ، وحكى عن شيخه أبي عمرو بن الصلاح توجيه النافين
للاجتهاد المذكور بأنه كان لوحي ناسخ للوحي السابق.
وأما الرواية
الثانية فسوء الأدب فيها بالأخذ بالثوب وجذبه صلىاللهعليهوآلهوسلم من خلفه واضح ، وكذلك الإنكار على قول الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم كما يظهر من قوله : إنه منافق ـ بعد قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إني خيرت ـ وقوله : فلما أكثرت عليه .. ـ بعد قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أخر عني ، ونزول الآية ، والنهي
__________________
عن الصلاة على
المنافقين لا يدل على تصويبه كما مر ، ويمكن أن تكون المصلحة في اختياره صلىاللهعليهوآلهوسلم الصلاة ونزول النهي أن يظهر للمنافقين أو غيرهم أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يتنفر عنهم لما يعود إلى البشرية والطبع بل لمحض الاتباع لما أمره الله
سبحانه ، وفي ذلك نوع من الاستمالة وتأليف القلوب.
ثم إنهم رووا في
أخبارهم من إنكاره ورده على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ما لا يتضمن الرجوع.
روى البخاري في
صحيحه في باب ما جاء في المتأولين من كتابه استتابة المرتدين عن سعيد بن عبيدة ،
قال : تنازع أبو عبد الرحمن وحبان بن عطية ، فقال أبو عبد الرحمن لحبان : لقد علمت ما الذي
جرأ صاحبك على الدماء ـ يعني عليا عليهالسلام ـ؟. قال : ما هو؟ لا أبا لك!. قال : شيء سمعته يقوله. قال
: ما هو؟. قال : بعثني رسول الله صلىاللهعليهوآله والزبير وأبا مرثد ـ وكلنا فارس ـ ، فقال : انطلقوا حتى
تأتوا روضة حاج ... ، فإن فيها امرأة معها صحيفة من حاطب بن أبي بلتعة إلى
المشركين فأتوني بها ، فانطلقنا على أفراسنا حتى أدركناها حيث قال لنا رسول الله صلىاللهعليهوآله تسير على بعير لها ، وكان كتب إلى أهل مكة بمسير رسول الله صلى الله عليه [
وآله ] إليهم ، فقلنا : أين الكتاب الذي معك؟. قالت : ما معي كتاب ، فأنخنا بها
بعيرها ، فابتغينا في رحلها فما وجدنا شيئا ، فقال صاحباي : ما نرى معها كتابا؟.
قال : فقلت : لقد علمنا ما كذب رسول الله صلى الله عليه [ وآله ]؟ ثم حلف علي :
والذي يحلف به لتخرجن الكتاب أو لأجردنك ، فأهوت إلى حجزتها ـ وهي محتجزة بكساء ـ فأخرجت
الصحيفة ، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] ، فقال عمر : يا رسول الله!
قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، دعني فأضرب عنقه ، فقال رسول الله صلى الله عليه
__________________
[ وآله ] : يا
حاطب! ما حملك على ما صنعت؟. قال : يا رسول الله! ما بي أن لا أكون مؤمنا بالله
ورسوله ، ولكني أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي ، وليس
من أصحابك أحد إلا وله هناك من قومه من يدفع الله به عن أهله وماله ، قال : صدق ،
لا تقولوا له إلا خيرا ، قال : فعاد عمر ، فقال : يا رسول الله! قد خان الله
ورسوله والمؤمنين ، دعني فلأضرب عنقه. قال : أوليس من أهل بدر ، وما يدريك لعل
الله اطلع عليهم ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد أوجبت لكم الجنة؟ ،
فاغرورقت عيناه ، فقال : الله ورسوله أعلم.
قال أبو عبد الله
: خاخ ـ يعني بخاءين معجمتين ـ أصح ، ولكن كذا قال أبو عوانة : حاج ـ بالحاء
المهملة ثم الجيم ـ وهو تصحيف ، وهو موضع .
ـ وروى البخاري في باب فضل من
شهد بدرا من كتاب المغازي ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي عليهالسلام مثله بتغيير في اللفظ.
قوله : فأهوت إلى
حجزتها .. الحجزة ـ بضم الحاء المهملة ثم الجيم الساكنة ثم الزاي ـ : معقد الإزار
، وحجزة السراويل : تكتها .
واغرورقت عيناه :
.. أي دمعتا .
وأبو عبد الله هو
: البخاري.
وقال الواقدي :
روضة خاخ ـ بالمعجمتين ـ قريب من ذي الحليفة على بريد
__________________
من المدينة .
أقول
: ما في هذه الرواية من
عود عمر إلى قوله : قد خان الله ورسوله .. دعني فلأضرب عنقه ، بعد اعتذار حاطب
وتصديق الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم إياه ، وقوله : لا تقولوا له إلا خيرا .. رد صريح لقول
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وارتكاب لنهيه.
واعتذار بعض
المتعصبين بأنه ظن أن صدقه في عذره لا يدفع عنه ما يجب عليه من القتل في غاية
السخافة ، فإن قوله (ص) : لا تقولوا له إلا خيرا ، بعد قوله : صدق ، يهدم أساس هذه
الأوهام ، ولا ريب في أن من رد على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في وجهه أحرى بضرب العنق ممن تلقى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم عذره بالقبول ، ونهى الناس عن تقريعه وتوبيخه.
ومما يدل على أن
عمر كان يخالف صريحا قول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ما حكاه في كتاب فتح الباري في شرح صحيح
البخاري في باب من ترك قتال الخوارج للتأليف قال : أخرج أحمد بسند جيد ، عن أبي
سعيد الخدري ، قال : جاء أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] ، فقال :
يا رسول الله! إني مررت بوادي .. كذا فإذا رجل حسن الهيئة متخشع يصلي فيه ، فقال :
اذهب إليه فاقتله ، قال : فذهب إليه أبو بكر فلما رآه يصلي كره أن يقتله ، فرجع.
فقال النبي صلى
الله عليه [ وآله ] وسلم لعمر : اذهب فاقتله ، فذهب فرآه
__________________
في تلك الحالة ، فرجع.
فقال : يا علي!
اذهب إليه فاقتله ، فذهب علي [ عليهالسلام ] فلم يره ، فقال النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم : إن
هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، لا يعودون فيه
، فاقتلوهم فهم شر البرية.
قال : وله شاهد من
حديث جابر أخرجه أبو يعلى ورجاله ثقات.
وروى ابن أبي
الحديد في الجزء الثاني في شرح خطبته عليهالسلام في تخويف أهل النهر. قال : في بعض الصحاح : إن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال لأبي بكر ، وقد غاب الرجل ـ يعني ذا الخويصرة ـ عن عينه : قم
إلى هذا فاقتله ، فقام ثم عاد ، وقال : وجدته يصلي ، فقال لعمر : مثل ذلك ، فعاد
وقال : وجدته يصلي ، فقال لعلي عليهالسلام مثل ذلك ، فعاد فقال : لم أجده. فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لو قتل هذا لكان أول الفتنة وآخرها ، أما إنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون
من الدين كما يمرق السهم من الرمية .. الحديث.
وقال الجزري ، في حديث
الخوارج : « يخرج من ضئضئ هذا قوم ...
يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية » ، الضئضئ : الأصل يقال :
__________________
ضئضئ صدق وضؤضؤ
صدق ، وحكى بعضهم : ضئضيء بوزن قنديل يريد أنه يخرج من نسله وعقبه ، ورواه بعضهم :
بالصاد المهملة وهو بمعناه .
يمرقون من الدين
.. أي يجوزونه ويخرقونه ويتعدونه كما يمرق السهم الشيء المرمي به ويخرج منه ، وستأتي الأخبار
في ذلك مشروحة في باب كفر الخوارج .
وقال في الصراط
المستقيم : ذكر الموصلي في مسنده ، وأبو نعيم في حليته ، وابن عبد
ربه في عقده ، وأبو حاتم في زينته ، والشيرازي في تفسيره المستخرج من الاثني عشر
تفسيرا : أن الصحابة مدحوا رجلا بكثرة العبادة فدفع النبي صلى الله عليه [ وآله ]
سيفه إلى أبي بكر وأمره بقتله ، فدخل فرآه يصلي فرجع ، فدفعه إلى عمر وأمره بقتله
، فدخل فرجع ، فدفعه إلى علي عليهالسلام فدخل فلم يجده ، فقال صلى الله عليه [ وآله ] : لو قتل لم
يقع بين أمتي اختلاف أبدا.
وفي رواية أخرى :
لكان أول الفتنة وآخرها.
فما أقدم عليه أبو
بكر من الرجوع من دون أن يقتله ـ لكونه يصلي ـ لا ريب في أنه مخالفة ظاهرة للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإن أمره بقتله كان بعد أن وصفه أبو بكر بالصلاة والخشوع ، فلم يكن صلاته
شبهة توهم دفع القتل ، بل هو تقبيح صريح لأمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بقتله ، وتكذيب لما يتضمنه ذلك من وجوب قتله ، وأفحش منه
رجوع عمر بن الخطاب معتذرا بعين ذلك الاعتذار الذي ظهر بطلانه ثانيا أيضا بأمره
بالقتل بعد رجوع أبي بكر ، واعتذاره ولزمهما بتلك المخالفة الشركة في آثام من خرج
من ضئضئ هذا الرجل من الخوارج إلى
__________________
يوم القيامة.
ومن أمعن النظر
فيما سبق من الأخبار وغيرها علم أن رد عمر على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وسلوكه مسلك الجفاء ، وخلعه جلباب الحياء لم يكن مخصوصا بما أقدم عليه في
مرضه (ص) ، ومنعه عن الوصية لم يكن بدعا منه ، بل كان ذلك عادة له ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يصفح عنه وعن غيره من المنافقين وغيرهم خوفا على الإسلام وإشفاقا من أن
ينفضوا عنه لو قابلهم بمقتضى خشونتهم ، وكافاهم بسوء صنيعهم .
__________________
وقد تبين من
تفاسيرهم وصحاحهم أن عمر كان داخلا فيمن أريد بقوله تعالى : ( وَلَوْ
كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) فيكون من الذين
قال الله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى
حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ
انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ
الْمُبِينُ ) ، وقد علم ـ أيضا مما سبق ـ أن الصحابة ـ إلا الأصفياء
منهم ـ لم يقدروا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حق قدره ، ولذلك مال طائفة إلى قول عمر وطائفة إلى قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وسووا بينه وبين عمر ، وجعلوه كواحد من المجتهدين والقائلين برأيهم ما
شاءوا فجوزوا رد ما قضى به والإنكار لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
الطعن الثاني :
التخلف عن جيش
أسامة.
ولا خلاف في أن
عمر بن الخطاب كان من الجيش ، وقد لعن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم المتخلف عنه.
وقد سبق في مطاعن
أبي بكر ما فيه كفاية في هذا المعنى ، ولا يجري هاهنا ما سبق من الأجوبة الباطلة
في منع الدخول في الجيش ، فتوجه الطعن على عمر أظهر.
الطعن الثالث :
أنه بلغ في الجهل
إلى حيث لم يعلم بأن كل نفس ( ذائِقَةُ الْمَوْتِ ) ، وأنه يجوز
الموت على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأنه أسوة الأنبياء في ذلك ، فقال : والله
__________________
ما مات حتى يقطع
أيدي رجال وأرجلهم! ، فقال له أبو بكر : أما سمعت قول الله عز وجل : ( إِنَّكَ
مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) ، وقوله تعالى : ( وَما مُحَمَّدٌ
إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) قال : فلما سمعت ذلك أيقنت بوفاته ، وسقطت إلى الأرض ،
وعلمت أنه قد مات .
أقول
: ويؤيد ذلك ما
ذكره ابن الأثير في النهاية حيث قال : أسن الماء يأسن فهو آسن : إذا تغيرت ريحه ، ومنه
حديث العباس في موت النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ، قال لعمر : خل بيننا وبين
صاحبنا ، فإنه يأسن كما يأسن الناس .. أي يتغير ، وذلك أن عمر
كان قد قال : إن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم لم يمت ولكنه صعق كما صعق
موسى ومنعهم عن دفنه.
وأجاب عنه قاضي
القضاة بأنه قد روي عن عمر أنه قال : كيف
__________________
يموت وقد قال الله
تعالى : ( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) ، وقال : (
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ) فلذلك نفى موته صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لأنه حمل الآية على أنه خبر عن ذلك في حال حياته حتى قال له أبو بكر : إن الله وعد
بذلك وسيفعله ، وتلا عليه فأيقن عند ذلك بموته ، وإنما ظن أن موته متأخر عن ذلك الوقت ،
لا أنه منع من موته.
ثم قال : فإن قيل
: فلم قال لأبي بكر ـ عند سماع الآية ـ : كأني لم أسمعها ، ووصف نفسه بأنه أيقن
بالوفاة.
قلنا
: : لما كان الوجه
في ظنه ما أزال الشبهة أبو بكر فيه جاز أن يتيقن.
ثم سأل نفسه عن سبب
يقينه في ما لا يعلم إلا بالمشاهدة ، وأجاب بأن قرينة الحال عند سماع الخبر أفادته
اليقين ، ولو لم يكن في ذلك إلا خبر أبي بكر وادعاؤه لذلك والناس
مجتمعون لحصل اليقين.
وقوله : كأني لم
أسمع بهذه الآية ولم أقرأها .. تنبيه على ذهابه عن
__________________
الاستدلال بها ،
لا أنه على الحقيقة لم يقرأها و لم يسمعها ، ولا يجب فيمن ذهب عن بعض أحكام الكتاب أن
يكون لا يعرف القرآن ، لأن ذلك لو دل لوجب أن لا يحفظ القرآن إلا من يعرف جميع أحكامه .
وأجاب بنحو ذلك
الرازي في نهاية العقول ، وبمثله أجاب صاحب المقاصد .
وأجاب السيد رضياللهعنه في الشافي عن جواب القاضي بأنه : ليس يخلو خلاف عمر في وفاة رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من أن يكون على سبيل الإنكار لموته (ص) على كل حال ،
والاعتقاد لأن الموت لا يجوز عليه أو يكون منكرا لموته في تلك الحال من حيث لم يظهر دينه على
الدين كله .. وما أشبه ذلك مما قال صاحب الكتاب أنها كانت شبهة في تأخر موته عن
تلك الحال.
فإن كان الوجه
الأول ، فهو مما لا يجوز خلاف العقلاء فيه ، والعلم بجواز الموت على سائر البشر لا يشك فيه عاقل ،
والعلم من دينه صلىاللهعليهوآلهوسلم بأنه
__________________
سيموت كما فات من قبله ضروري ،
ولا يحتاج في مثل هذا إلى الآيات التي تلاها أبو بكر من قوله تعالى : ( إِنَّكَ
مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) وما أشبهه.
وإن كان خلافه على
الوجه الثاني ، فأول ما فيه أن هذا الخلاف لا يليق بما احتج به أبو بكر من قوله
تعالى : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) لأنه لم ينكر على
هذا جواز الموت ، وإنما خالف في تقدمه وإن كان يجب أن يقول وأي حجة في هذه
الآيات على من جوز عليه صلىاللهعليهوآلهوسلم الموت في المستقبل وأنكره في هذه الحال.
وبعد ، فكيف دخلت
الشبهة البعيدة على عمر من بين سائر الخلق؟ ومن أين زعم أنه لا يموت حتى يقطع أيدي
رجال وأرجلهم؟ وكيف حمل معنى قوله تعالى : ( لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ ) ، وقوله تعالى : ( وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ
مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) ، على أن ذلك لا
يكون في المستقبل و بعد الوفاة ، وكيف لم يخطر هذا إلا لعمر وحده؟ ومعلوم أن
ضعف الشبهة إنما يكون من ضعف الفكرة وقلة التأمل والبصيرة ، وكيف لم يوقن بموته
لما رأى عليه أهل الإسلام من اعتقاد موته وما ركبهم من الحزن والكآبة لفقده؟ وهلا
دفع بهذا اليقين ذلك التأويل البعيد فلم يحتج إلى موقف ومعرف ، وقد كان يجب ـ إن
كانت هذه شبهة ـ أن يقول في حال مرض رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقد رأى جزع أهله وأصحابه وخوفهم عليه الوفاة ، حتى يقول
أسامة بن زيد ـ معتذرا من تباطئه عن
__________________
الخروج في الجيش
الذي كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يكرر ويردد الأمر بتنفيذه ـ : لم أكن لأسأل عنك الركب؟ ما هذا الجزع والهلع
وقد أمنكم الله من موته .. بكذا ، ومن وجه .. كذا ، وليس هذا من
أحكام الكتاب التي يعذر من لا يعرفها ـ على ما ظنه ـ صاحب الكتاب ، انتهى كلامه
قدس الله روحه.
وأقول : وأعجب من قول عمر قول من يتوجه لتوجيه كلامه! وأي أمر
أفحش من إنكار مثل هذا الأمر عن مثل عمر ـ مع اطلاعه على مرض النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم منذ حدث إلى أوان اشتداده ، وانتهاء حاله إلى حيث انتهى ـ وكانت ابنته زوجة
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ومن ممرضاته ، وقد رجع عن جيش أسامة بعد أمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم له بالخروج في الخارجين خوفا من أن يحضره الوفاة فينقل الأمر إلى من لا يطيب نفسه
به ، وكان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد بين للناس في مجالس عديدة دنو أجله وحضور موته ، وأوصى
للأنصار وأمر الناس باستيفاء حقوقهم كما هو دأب من حضره الموت ، كما روي مفصلا في
صحيح البخاري وصحيح مسلم وصحيح الترمذي وكتاب جامع الأصول وكامل ابن الأثير وغيرها من كتب السير والأخبار.
__________________
وقد روى مسلم في صحيحه عن زيد
بن أرقم أنه قال : قام رسول الله صلىاللهعليهوآله يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما ـ بين مكة
والمدينة ـ فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ، ثم قال : أما بعد ، ألا أيها الناس! إنما
أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم الثقلين ، أولهما كتاب
الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به .. فحث على كتاب الله ورغب
فيه ، ثم قال : وأهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي .. أذكركم الله في أهل بيتي
.. .
وقد روي متواترا
من الطريقين قوله لعلي عليهالسلام : ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين .
وروى في جامع
الأصول ، أنه صلىاللهعليهوآله قال : علي ولي كل مؤمن بعدي .
__________________
وقد رووا في
المفتريات : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر .
وقد كان كثير مما
ذكر مما خطب به صلىاللهعليهوآلهوسلم على رءوس الأشهاد ، فهل يجوز عاقل أن لا يقرع شيء من ذلك
سمع عمر ـ مع شدة ملازمته للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ ومن شك في مثل ذلك هل يجوز من شم رائحة من العقل أن يفوض
إليه أمر بهيمة فضلا عن أن يفوض إليه أمر جميع المسلمين ، ويرجع إليه في جميع
أحكام الدين.
وأما اعتذار ابن
أبي الحديد بأنه لم ينكر ذلك عمر على وجه الاعتقاد ، بل على الاستصلاح ، وللخوف من ثوران
الفتنة قبل مجيء أبي بكر ، فلما جاء أبو بكر قوي به جأشه فسكت عن هذا الدعوى ، لأنه قد
أمن بحضوره من خطب يحدث أو فساد يتجدد.
فيرد عليه :
أولا
: أنه لو كان
إنكاره ذلك إيقاعا للشبهة في قلوب الناس حتى يحضر أبو بكر لسكت عن دعواه عند
حضوره.
وقد روى ابن
الأثير في الكامل أن أبا بكر أمره بالسكوت فأبى ، وأقبل أبو بكر على الناس ،
فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر.
وثانيا
: أنه لو كان الأمر
كما ذكر لاقتصر على إنكار واحد بعد حضور أبي
__________________
بكر ، وقد اعترف
ابن أبي الحديد بتكرر الإنكار بعد الحضور أيضا.
وثالثا
: أنه قال ابن أبي
الحديد : روى جميع أرباب السيرة أن رسول الله صلىاللهعليهوآله لما توفي كان أبو بكر في منزله بالسنح ، فقام عمر بن
الخطاب فقال : ما مات رسول الله (ص) ولا يموت حتى يظهر دينه على الدين كله ،
وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم ممن أرجف بموته ، ولا أسمع رجلا يقول : مات رسول الله (ص) إلا ضربته
بسيفي ، فجاء أبو بكر وكشف عن وجه رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وقال : بأبي وأمي طبت حيا وميتا ، والله لا يذيقك الله
الموتتين أبدا ، ثم خرج والناس حول عمر وهو يقول لهم : إنه لم يمت ، ويحلف ، فقال
له : أيها الحالف! على رسلك ، ثم قال : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان
يعبد الله ، فإن الله حي لا يموت ، قال الله تعالى : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ
وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) ، وقال : ( أَفَإِنْ ماتَ أَوْ
قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) ، قال عمر : فو الله ما ملكت نفسي حيث سمعتها أن سقطت إلى
الأرض ، وقد علمت أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قد مات .
__________________
وقد روى البخاري في صحيحه ، عن
عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] مات وأبو بكر بالسنح ، قال : قال
إسماعيل : تعني بالعالية ، فقام عمر يقول : والله ما مات رسول الله (ص). قالت :
وقال عمر : والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك ، وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال
وأرجلهم ، فجاء أبو بكر فكشف عن وجه رسول الله (ص) فقبله ، وقال : بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا
، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدا ، ثم خرج فقال : أيها الحالف! على رسلك
، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر ، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه ، وقال : ألا من كان
يعبد محمدا ... الخبر .
فقوله : في رواية
عائشة : والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك .. صريح في نفي ما ذكره ، إذ ظاهر
أنه حكاية كلام عمر بعد تلك الواقعة مؤكدا بالحلف عليه ، بل لا يرتاب ذو فطنة في
أن قوله : فو الله ما ملكت نفسي حيث سمعتها أن سقطت إلى الأرض وعلمت أن رسول الله
قد مات .. مما قاله عمر بعد ذلك اليوم وحكاية لما جرى فيه ، فلو كان للمصلحة لا
على وجه الاعتقاد لبين ذلك للناس بعد مجيء أبي بكر ، أو بعد ذلك اليوم وزوال
الخوف ، ولم ينقل أحد من نقلة الأخبار ذلك ، بل رووا ما يدل على خلافه.
قال المفيد قدس
الله روحه في المجالس : روي عن محمد بن إسحاق ،
__________________
عن الزهري ، عن أنس أنه لما
بويع أبو بكر في السقيفة ـ وكان الغد ـ جلس أبو بكر على المنبر ، فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر ،
فحمد الله عز وجل وأثنى عليه وقال : يا أيها الناس! إني كنت قلت لكم
بالأمس مقالة ما كانت إلا عن رأي ، وما وجدتها في كتاب الله ، ولا كانت لعهد من
رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ولكن قد كنت أرى أن رسول الله صلىاللهعليهوآله مستدبر أمرنا حتى يكون آخرنا موتا.
قال : وروى عكرمة
، عن ابن عباس ، قال : والله إني لأمشي مع عمر في خلافته و ما معه غيري ،
وهو يحدث نفسه ويضرب قدميه بدرته إذ التفت إلي ، فقال : يا ابن عباس! هل تدري ما
حملني على مقالتي التي قلت حين توفي رسول الله صلىاللهعليهوآله؟. قال : قلت : لا أدري ، أنت أعلم يا أمير المؤمنين ، قال
: فإنه والله ما حملني على ذلك إلا أني كنت أقرأ هذه الآية : ( وَكَذلِكَ
جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ
الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) ، فكنت أظن أنه سيبقى بعد أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها ، فإنه
الذي حملني على أن قلت ما قلت.
والظاهر أنه جعل
المخاطب بقوله تعالى : ( وَكَذلِكَ
جَعَلْناكُمْ أُمَّةً .. )
__________________
جميع الأمة ،
فيلزم على ما فهم من دلالة الشهادة على البقاء وتأخر الموت أن يعتقد تأخر موت كل
واحد من الأمة عن الناس ، فكان عليه أن لا يذعن بموت أحد من الأمة ، ولو سامحنا في
كون المراد بعض الأمة لانهدم أساس إنكاره ، إذ لا شك في تأخر موته صلىاللهعليهوآلهوسلم عن بعض أمته ، وأنه قد مات قبله كثير من أمته ، ولو كان المراد بـ ( البعض )
الصحابة لزمه أن لا يذعن بموت أحد منهم ، ولم يتعين ذلك البعض بوجه آخر حتى يزعم
تأخر موته صلىاللهعليهوآلهوسلم عنهم.
وبالجملة ، سوء
الفهم وسخافة الرأي في مثل هذا الاستنباط مما لا يريب فيه عاقل ، والظاهر أن هذا
الاعتلال مما تفطن به بعد حال الإنكار فدفع به بزعمه شناعة إنكاره.
ثم إنه أجاب شارح
المقاصد بوجه آخر ، وهو : أن ذلك الاشتباه كان لتشوش البال ،
واضطراب الحال ، والذهول عن جليات الأحوال.
وحكى شارح كشف
الحق عن بعضهم أنه قال : كان هذا الحال من غلبة المحبة ، وشدة المصيبة ، وإن قلبه
كان لا يأذن له أن يحكم بموت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم .. وهذا أمر كان قد عم جميع المؤمنين بعد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى جن بعضهم ، وأغمي على بعضهم من كثرة الهم ، واختبل بعضهم ، فغلب عمر شدة
حال المصيبة ، فخرج عن حال العلم والمعرفة وتكلم بعدم موته وأنه ذهب إلى مناجاة
ربه .. وأمثال هذا لا يكون طعنا.
ويرد عليه أنه من
الضروريات العادية أن من عظمت عليه المصيبة وجلت الرزية بفقد حبيبه حتى اشتبهت
عليه الأمور الضرورية لا يترك تجهيزه وتكفينه والصلاة عليه ودفنه ، ولا يسرع إلى
السقيفة لعقد البيعة والطمع في الخلافة
__________________
والإمارة؟! ولم لم
يتكلم في ذلك المجلس من شدة الحزن والوجد ما ينافي غرضه ولا يلائم في تدبيره الميشوم ،
ولم يأت في أمر الرئاسة وغصب الخلافة بهجر ولا هذيان ، ولم يتخلل من الزمان ما يسع
لاندمال الجرح ونسيان المصيبة؟ وكيف لم يأذن قلبه في الحكم بموته صلىاللهعليهوآلهوسلم مع أنه لم يضق صدره بأن يقول في وجهه الكريم : إنه ليهجر ، ويمنعه من إحضار
ما طلب ، ويقول : حسبنا كتاب الله ، الذي هو في قوة قوله : لا حاجة لنا بعد موتك
إلى كتاب تكتبه لنا!! ومن بلغ به الحب إلى حيث يخرجه من حد العقل لا يجبه حبيبه
بمثل هذا القول الشنيع ، ولا يرفع صوته في الرد عليه ، ومنازعة المنازعين من حد
العقل إلى حد يخرجه الحبيب وإياهم عن البيت ويقول : اعزبوا عني ولا ينبغي التنازع
عندي ، ولا ينكر ذلك إلا متعنت لم يشم رائحة الإنصاف ، وما ذكره من جنون بعض
الصحابة ، وإغماء بعضهم ، وخبل الآخرين فشيء لم نسمعه إلى الآن ، نعم ، لو عد ما
أتوا به من ترك جسده المطهر والمسارعة إلى السقيفة طمعا في الرئاسة وشوقا إلى
الإمارة من فنون الجنون وضروب الخبل لكان له وجه.
الطعن الرابع :
أنه حرم المتعتين ، متعة الحج ومتعة النساء.
ولم يكن له أن
يشرع في الأحكام وينسخ ما أمر به سيد الأنام صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ويجعل اتباع نفسه أولى من اتباع من لا ينطق عن الهوى ،
وتفصيل القول
__________________
في ذلك : أن متعة النساء
لا خلاف بين الأمة قاطبة في أصل شرعيتها وإن اختلفوا في نسخها ودوام حكمها ، وفيها نزلت
قوله تعالى : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) على أكثر التفاسير وأصحها .
__________________
وقد أجمع أهل
البيت عليهمالسلام على دوام شرعيتها ، كما ورد في الأخبار المتواترة .
وقال الفخر الرازي
في التفسير : اتفقت الأمة على أنها كانت مباحة في ابتداء الإسلام ،
قال : و روي عن النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم أنه لما قدم مكة
في عمرته تزين نساء مكة ، فشكا أصحاب الرسول صلىاللهعليهوآله طول العزبة ، فقال : استمتعوا من هذه النساء .
وقد صرح بهذا
الاتفاق كثير من فقهاء الإسلام.
وروى مسلم في صحيحه
، وابن الأثير في جامع الأصول ، عن قيس ، قال : سمعت عبد الله يقول : كنا نغزو
مع رسول الله صلى الله عليه [ وآله ]
__________________
ليس لنا نساء ، فقلنا : ألا
نستخصي ؟! فنهانا عن ذلك ، ثم رخص لنا أن نستمتع ، فكان أحدنا
ينكح المرأة بالثوب إلى أجل ، ثم قرأ عبد الله : ( يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا
تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) .
وقد روى هذا الخبر
في المشكاة وعده من المتفق عليه.
وروى البخاري ومسلم في صحيحهما ،
وابن الأثير في جامع الأصول ، عن سلمة بن الأكوع وعن جابر ، قالا : خرج علينا منادي رسول
الله صلى الله عليه [ وآله ] فقال : إن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] قد أذن
لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا .. يعني متعة النساء.
وعنهما : أن رسول
الله صلى الله عليه [ وآله ] أتانا فأذن لنا في المتعة.
__________________
وروى مسلم في صحيحه عن عطاء
، قال : قدم جابر بن عبد الله معتمرا فجئناه في منزله ، فسأله القوم عن أشياء ثم
ذكروا المتعة ، فقال : نعم استمتعنا على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله وأبي بكر وعمر .
وروى مسلم ـ أيضا ـ وذكره
في جامع الأصول ، عن أبي الزبير ، قال :سمعت جابر بن عبد الله يقول : كنا
نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه [ وآله ]
وأبي بكر وعمر حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث .
وعن أبي نضرة قال : كنت عند
جابر بن عبد الله فأتاه آت ، فقال : إن ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين ،
فقال جابر : فعلناهما مع رسول الله صلى
__________________
الله عليه [ وآله
] ، ثم نهانا عمر عنهما فلم نعد لهما .
وروى مسلم ، عن قتادة ، عن
أبي نضرة ، قال : كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها ، قال :
فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله ، فقال : على يدي دار الحديث ، تمتعنا مع رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فلما قام عمر قال : إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء ، وإن القرآن قد
نزل منازله فـ ( أَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) كما أمركم الله
عز وجل واثبوا [ أبتوا ] نكاح هذه النساء فلن أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا
رجمته بالحجارة .
__________________
وروى الترمذي في
صحيحه ـ على ما حكاه الشهيد الثاني ، والعلامة رحمهما الله ـ أن رجلا من أهل الشام سأل ابن عمر عن متعة
النساء؟. فقال : هي حلال. فقال : إن أباك قد نهى عنها. فقال ابن عمر : أرأيت إن
كان أبي نهى عنها ، وضعها رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] ، أنترك السنة ونتبع قول
أبي؟! .
وروى شعبة ، عن
الحكم بن عتيبة ، قال : سألته عن هذه الآية : ( فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ ) ... أمنسوخة هي؟. فقال : لا ، ثم قال الحكم : قال علي
__________________
ابن أبي طالب عليهالسلام : لو لا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شفا ..
وقال ابن الأثير
في النهاية : في حديث ابن عباس : « ما كانت المتعة إلا رحمة رحم الله
بها أمة محمد صلى الله عليه [ وآله ] وسلم لو لا نهيه عنها ما احتاج إلى الزنا إلا
شفا » ... أي إلا قليل من الناس ، من قولهم : غابت الشمس إلا شفا .. أي إلا قليلا
من ضوئها عند غروبها. قال : وقال الأزهري : قوله : إلا شفا .. أي إلا أن يشفي ، يعني
يشرف على الزنا ولا يواقعه ، فأقام الاسم مقام المصدر الحقيقي ، وهو الإشفاء على الشيء ، وحرف كل
شيء شفاه.
وحكى الفخر الرازي
في تفسير آية المتعة ، عن محمد بن جرير الطبري ، قال : قال علي
بن أبي طالب عليهالسلام : لو لا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي .
__________________
وعن عمران بن
الحصين ، أنه قال : نزلت هذه المتعة في كتاب الله لم تنزل بعدها آية تنسخها ، وأمرنا
بها رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وتمتعنا بها ومات ولم ينهنا عنه ثم قال رجل
برأيه ما شاء .
وسيأتي في خبر
طويل رواه المفضل ، عن الصادق عليهالسلام أوردناه في المجلد الثالث عشر وهو مشتمل على
سبب تحريمه المتعة ، وأنه كان لمكان أخته عفراء.
__________________
وأما متعة الحج : فلا خلاف بين
المسلمين في شرعيتها وبقاء حكمها.
واختلف فقهاء
العامة في أنه هل هي أفضل أنواع الحج أم لا؟ فقال الشافعي ـ في
أحد قوليه ـ ومالك : إن التمتع أفضل ، وقال الشافعي في قوله الآخر : إن أفضلها
الإفراد ثم التمتع ثم القران.
ويدل على شرعيتها
قوله تعالى : ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى
الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) .
ومن الأخبار
الواردة فيها ما رواه مسلم في صحيحه بأربعة أسانيد ،
__________________
وأورده في جامع
الأصول أيضا ، قال : وأخرجه أبو داود بطوله ، وأخرج النسائي أطرافا متفرقة منه ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه عليهماالسلام ، قال : دخلت على جابر بن عبد الله الأنصاري فسأل عن القوم حتى انتهى
إلي ، فقلت : أنا محمد بن علي بن الحسين ، فأهوى بيده إلى رأسي ، فنزع زري الأعلى
، ثم نزع زري الأسفل ثم وضع كفه بين ثديي ـ وأنا يومئذ غلام شاب فقال : مرحبا بك يا ابن
أخي ، سل عما شئت؟. فسألته ـ وهو أعمى وقد حضر وقت الصلاة ، فقام في نساجه ملتحفا بها ، كلما وضعها
على منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها ، ورداؤه إلى جنبه على المشجب فصلى بنا ـ فقلت
: أخبرني عن حجة
__________________
رسول الله صلى
الله عليه [ وآله ].
فقال بيده فعقد
تسعا ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] مكث تسع سنين لم يحج ، ثم أذن
في الناس في العاشرة ، أن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] حاج فقدم المدينة بشر
كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه [ وآله ] ويعمل مثل عمله ،
فخرجنا معه حتى إذا أتينا ذا الحليفة ، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر
، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] كيف أصنع؟. قال : اغتسلي واستشفري بثوب وأحرمي ،
فصلى رسول الله (ص) في المسجد فركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته إلى البيداء ، نظرت إلى مد
بصري بين يديه من راكب وماش ، وعن يمينه مثل ذلك ، وعن يساره مثل ذلك ، ومن خلفه
مثل ذلك ، ورسول الله صلى الله عليه [ وآله ] بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو
يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به ، فأهل بالتوحيد : « لبيك اللهم
لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك » ، وأهل الناس
بهذا الذي يهل به ، فلم يزد رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] شيئا
__________________
منهم ولزم رسول الله
صلى الله عليه [ وآله ] تلبيته ، قال جابر : لسنا ننوي إلا الحج ، لسنا نعرف
العمرة حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا
، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم (ع) ، فقرأ : ( وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ) ، فجعل المقام بينه وبين البيت ، وكان أبي يقول ـ ولا
أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه [ وآله ] ـ كان يقرأ في الركعتين : ( قُلْ هُوَ
اللهُ أَحَدٌ ) و ( قُلْ يا أَيُّهَا
الْكافِرُونَ ) ، ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا ، فلما
دنا من الصفا قرأ : ( إِنَّ الصَّفا
وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ) ابدءوا بما بدأ الله به ، فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى
البيت فاستقبل القبلة ، فوحد الله وكبره ، وقال : « ( لا إِلهَ إِلاَّ
اللهُ ) وحده ( لا شَرِيكَ لَهُ ) ، ( لَهُ
الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ، لا إله إلا
الله وحده أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده » ، ثم دعا بين ذلك ، فقال
مثل هذا ثلاث مرات ، ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن
الوادي ، رمل حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة .. ففعل على المروة كما
فعل على الصفا ، حتى إذا كان آخر طوافه على
__________________
المروة قال : لو
أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه
هدي فليحل وليجعلها عمرة ، فقام سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال : يا رسول الله! ألعامنا
هذا أم للأبد؟. فشبك رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] أصابعه واحدة في الأخرى ،
وقال : دخلت العمرة في الحج هكذا .. مرتين ، لا ، بل لأبد أبد. وقدم علي عليهالسلام من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه [ وآله ] فوجد فاطمة عليهاالسلام ممن حل ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت ، فأنكر ذلك عليها ، فقالت : إن أبي أمرني
بهذا. قال : فكأن علي عليهالسلام يقول بالعراق : فذهبت إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ محرشا على فاطمة للذي صنعت مستفتيا لرسول الله صلى الله عليه [ وآله ] فيما
ذكرت عنه ـ فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها ، فقال : صدقت .. صدقت ، ما ذا قلت حين إذا فرضت الحج؟. قال
: قلت : اللهم إني أهل بما أهل به رسولك صلى الله عليه [ وآله ]. فقال : فإن معي
الهدي فلا تحل. قال : فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي عليهالسلام من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه [ وآله ] مائة ، قال : فحل الناس
كلهم وقصروا إلا رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] ومن كان معه هدي ، فلما كان يوم
التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج .. وساق الحديث بطوله إلى قوله : ثم انصرف
إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده ، ثم أعطى عليا فنحر ما بقي وأشركه في هديه ،
ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ، ثم
ركب رسول الله صلى الله عليه [ وآله ]
__________________
فأفاض إلى البيت
فصلى بمكة الظهر ، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم ، فقال : انزعوا بني عبد المطلب ، فلو لا أن
يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم ، فناولوه دلوا فشرب منه.
قال في النهاية في حديث جابر :
فقام في نساجة ملتحفا بها : هي ضرب من الملاحف منسوجة كأنها سميت بالمصدر ، يقال : نسجت
أنسج نسجا ونساجة.
وقال : في حديث جابر :
فقام وثوبه على المشجب : هو ـ بكسر الميم ـ : عيدان تضم رءوسها ويفرج بين قوائمها
وتوضع عليها الثياب ، وقد يعلق عليها الأسقية لتبريد الماء ، وهو من تشاجب الأمر : إذا
اختلط.
وروى البخاري في صحيحه ، عن
جابر : أن النبي صلى الله عليه [ وآله ] أهل وأصحابه بالحج وليس مع أحد منهم هدي
غير النبي صلى الله عليه [ وآله ] وطلحة ، وكان علي عليهالسلام قدم من اليمن ومعه الهدي ، فقال : أهللت بما أهل به رسول الله
صلى الله عليه [ وآله ] ، وأن النبي صلىاللهعليهوآله أذن لأصحابه أن يجعلوها عمرة يطوفوا بالبيت ثم يقصروا
ويحلوا إلا من معه الهدي ، فقالوا : أننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر ، فبلغ النبي
صلى الله عليه [ وآله ] ، فقال : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما هديت ، ولو لا أن معي
الهدي
__________________
لأحللت .. وساق
الحديث إلى قوله : وإن سراقة بن مالك بن جعثم لقي النبي صلى الله عليه [ وآله ] وهو بالعقبة وهو يرميها
، فقال : ألكم هذه خاصة يا رسول الله؟. فقال : للأبد .
وقد روى البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود قريبا من هذه
الرواية بأسانيد متكثرة وألفاظ متقاربة عن جابر ، وهي مذكورة في جامع الأصول .
وروى البخاري ، عن أبي موسى
الأشعري ، قال : قدمت على النبي صلى الله عليه [ وآله ] بالبطحاء ـ وهو منيح ـ فقال : أحججت؟.
قلت : نعم. قال : بما أهللت؟. قلت : لبيك بإهلال النبي صلى الله عليه [ وآله ].
قال : أحسنت ، طف بالبيت وبالصفا والمروة ثم أحل ، فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم
أتيت امرأة من قيس ، فقلت [ ففلت ] رأسي ، ثم أهللت بالحج ، فكنت أفتي به حتى كان
في خلافة عمر ، فقال : إن أخذنا بكتاب الله فإنه يأمرنا بالتمام ، وإن أخذنا بقول
النبي صلى الله عليه [ وآله ] فإنه لم يحل ( حَتَّى يَبْلُغَ
الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) .
__________________
ومثله روى في موضع
آخر بأدنى تغيير .
وروى في جامع
الأصول ، عن النسائي مثله.
وروى البخاري أيضا ، عن عائشة
، قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] لخمس بقين من ذي القعدة لا
نرى إلا الحج ، فلما دنونا من مكة أمر رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] من لم يكن
معه هدي إذا طاف وسعى بين الصفا والمروة أن يحل ، قال : فدخل علينا يوم النحر بلحم
بقر ، فقلت : ما هذا؟.
فقيل : ذبح رسول الله عن أزواجه.
وقد حكى في جامع
الأصول ، عن البخاري ومسلم وأبي داود والموطإ روايات كثيرة عن عائشة تؤدي مؤدى هذه الرواية.
__________________
وروى البخاري أيضا ، عن ابن
عباس ، أنه سئل عن متعة الحج ، فقال : أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى
الله عليه [ وآله ] في حجة الوداع وأهللنا ، فلما قدمنا مكة ، قال رسول الله صلى
الله عليه [ وآله ] : اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي ، طفنا بالبيت
وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب ، وقال : من قلد الهدي فإنه لا يحل ( حَتَّى
يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) ، ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج ، فإذا فرغنا من
المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعلينا
الهدي ، كما قال الله تعالى : ( فَمَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ ) إلى أمصاركم
الشاة تجزي ، فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة ، فإن الله أنزله في كتابه وسنة نبيه صلى
الله عليه [ وآله ] وأباحه ناس غير أهل مكة ، قال الله : ( ذلِكَ
لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) وأشهر الحج الذي ذكر الله عز وجل
: شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، فمن تمتع في هذه الأشهر فعليه دم أو صوم ، والرفث
: الجماع ، والفسوق : المعاصي ، والجدال : المراء .
وعن أبي حمزة ، قال : سألت ابن
عباس عن المتعة ، فأمرني بها ، وسألته
__________________
عن الهدي ، فقال :
جزور أو بقرة أو شاة أو شرك في دم ، قال : وكان ناس كرهوها ، فنمت فرأيت في المنام
كأن إنسانا ينادي : حج مبرور وعمرة متقبلة ، فأتيت ابن عباس فحدثته ، فقال : الله أكبر سنة أبي القاسم
صلى الله عليه [ وآله ] .
وروى مسلم قريبا
منها .
وروى في جامع
الأصول ، عن مسلم والنسائي ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه [ وآله
] : هذه عمرة استمتعنا بها ، فمن لم يكن معه الهدي فليحل الحل كله ، فإن العمرة قد
دخلت في الحج إلى يوم القيامة.
__________________
وروى البخاري ـ أيضا ـ ، عن
سعيد بن المسيب ، قال : اختلف علي وعثمان ـ وهم بعسفان ـ في المتعة ،
فقال علي عليهالسلام : ما تريد إلا أن تنهى عن أمر فعله النبي صلى الله عليه [
وآله ] فلما رأى علي عليهالسلام ذلك أهل بهما جميعا.
وروى البخاري ومسلم ، عن مروان بن
الحكم ، أنه شهد عليا وعثمان بين مكة والمدينة ، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع
بينهما ، فلما رأى ذلك علي أهل بهما : لبيك بعمرة وحجة ، فقال عثمان : تراني أنهى
الناس وأنت تفعله؟! فقال : ما كنت لأدع سنة رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] لقول
أحد.
وروى النسائي روايتين في هذا
المعنى .
وروى مسلم روايات في هذا
المعنى.
وروى البخاري ، عن عمران ، قال
: تمتعنا على عهد النبي صلى الله عليه [ وآله ] ونزل القرآن ، وقال رجل برأيه ما
شاء .
__________________
وروى مسلم ، عن مطرف ، قال
: قال لي عمران بن الحصين : إني لأحدثك بالحديث اليوم ينفعك الله به بعد اليوم ،
اعلم أن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] قد أعمر طائفة من أهله في العشر فلم
تنزل آية تنسخ ذلك ، ولم ينه عنه حتى مضى لوجهه ، ارتأى كل امرئ بعد ما شاء أن
يرتئي.
قال مسلم : وحدثنا إسحاق
بن إبراهيم ومحمد بن حاتم كلاهما ، عن وكيع ، عن سفيان ، عن الجريري بهذا الإسناد.
وقال ابن حاتم في روايته :
ارتأى رجل برأيه ما شاء ـ يعني عمر ـ ، وروى بستة أسانيد عن عمران ما يؤدي هذا
المعنى.
وحكى في جامع
الأصول ثلاث روايات في هذا المعنى عن عمران.
منها : أنه قال :
أنزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] ولم
ينزل قرآن يحرمه ولم ينه عنها حتى مات ، قال رجل برأيه ما شاء. ثم قال : قال
البخاري : يقال إنه عمر.
__________________
وحكى عن النسائي أيضا روايتين في
هذا المعنى.
وعن مسلم بإسناده عن ابن
عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] : هذه عمرة استمتعنا بها فمن لم يكن عنده الهدي فليحلل
الحل كله ، فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة .
وعن عبد الله بن
طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور
في الأرض ويجعلون المحرم صفرا ويقولون : إذا برأ الدبر ، وعفا الأثر ، وانسلخ
صفر حلت العمرة لمن اعتمر ،
__________________
قدم النبي صلى الله عليه [
وآله ] وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة
، فتعاظم ذلك عندهم ، فقالوا : يا رسول الله! أي الحل؟. قال : الحل كله .
وقد روى هذه
الرواية البخاري ، عن ابن عباس ، ورواها أبو داود والنسائي وأوردها في جامع
الأصول ، قال : وأخرج أبو داود في رواية أخرى ، أنه قال : والله ما أعمر
رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك
، فإن هذا الحي من قريش ومن دان بدينهم كانوا يقولون : إذا عفا الأثر ، وبرأ الدبر ،
ودخل صفر فقد حلت العمرة
__________________
لمن اعتمر ،
فكانوا يحرمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة والمحرم .
وروى مسلم ، عن إبراهيم ،
عن أبي موسى أنه كان يفتي بالمتعة ، فقال له رجل : رويدك بعض فتياك ، فإنك لا
تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعد حتى لقيه بعد فسأله ، فقال
عمر : قد علمت أن النبي صلى الله عليه [ وآله ] قد فعله هو وأصحابه ، ولكن
كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك يروحون في الحج يقطر رءوسهم .
وروى مسلم ، عن إبراهيم ،
عن أبي موسى هذا الخبر أبسط من ذلك وساقه .. إلى أن قال : فكنت أفتي الناس بذلك في إمارة أبي بكر
وإمارة عمر ، وإني لقائم بالموسم إذ جاء رجل فقال : إنك لا تدري ما أحدث أمير
المؤمنين في شأن النسك؟. فقلت : أيها الناس! من كنا أفتيناه بشيء فليتئد ، فهذا أمير
__________________
المؤمنين قادم
عليكم فيه فائتموا ، فلما قدم قلت : يا أمير المؤمنين! ما هذا الذي
أحدثت في شأن النسك؟. قال : أن نأخذ بكتاب الله ، فإن الله يقول : (
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) ، وأن تأخذ [
نأخذ ] بسنة نبينا فإن النبي صلى الله عليه [ وآله ] لم يحل حتى
نحر الهدي .
وعن عائشة ، قالت : قدم
النبي صلى الله عليه [ وآله ] لأربع مضين من ذي الحجة أو خمس ، فدخل علي ـ وهو
غضبان ـ ، فقلت ما أغضبك يا رسول الله؟! أدخله الله النار. قال : أوما شعرت
أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت
الهدي معي حتى أشتريه ، ثم أحل كما أحلوا ..
__________________
وروى ابن أبي
الحديد ، عن محمد بن جرير الطبري ، قال : روى عبد
الرحمن بن أبي زيد ، عن عمر بن زيد ، عن عمران بن سوادة الليثي ، قال : صليت الصبح مع عمر فقرأ « سبحان » وسورة
معها ، ثم انصرف ، فقمت معه ، فقال : أحاجة؟. قلت : حاجة. قال : فالحق. فلحقت ،
فلما دخل أذن ، فإذا هو على ومال [ رمال ] سرير ليس فوقه شيء ، فقلت : نصيحة!. قال : مرحبا بالناصح
غدوا وعشيا. قلت : عابت أمتك ـ أو قال : رعيتك ـ عليك أربعا ، فوضع عود الدرة
ثم ذقن عليها ـ هكذا روى ابن قتيبة ـ وقال أبو جعفر : فوضع رأس درته في ذقنه ،
ووضع أسفلها على فخذه ، وقال : هات. قال : ذكروا أنك حرمت المتعة في أشهر الحج ـ وزاد
أبو جعفر : وهي حلال ـ ولم يحرمها رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] ولا أبو بكر ،
فقال : أجل! إنكم إذا اعتمرتم في أشهر حجكم رأيتموها مجزئة من حجكم ، فقرع حجكم ، وكان قائبة قوب عامها ،
والحج بهاء من بهاء الله ،
__________________
وقد أصبت.
قال : وذكروا أنك
حرمت متعة النساء ، وقد كانت رخصة من الله يستمتع بقبضة ويفارق من ثلاث . قال : إن رسول
الله صلى الله عليه [ وآله ] أحلها في زمان ضرورة ، ورجع الناس إلى السعة ، ثم لم
أجد أحدا من المسلمين عاد إليها ولا عمل بها ، فالآن من شاء نكح بقبضة وفارقه عن
طلاق بثلاث ، وقد أصبت.
قال : و ذكروا أنك أعتقت
الأمة إن وضعت ذا بطنها بغير عتاقة سيدها. قال : ألحقت حرمته بحرمة
، وما أردت إلا الخير ، وأستغفر الله.
قال : وشكوا منك
عنف السياق ونهر الرعية . قال : فنزع الدرة ثم مسحها حتى أتى على سيورها ، وقال : و
أنا زميل رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] في غزاة قرقرة الكدر ، ثم فو الله
إني لأرتع فأشبع ، وأسقى فأروي ، وأضرب العروض ، وأزجر العجول ، وأؤدب قدري ، وأسوق خطوتي ، وأرد
__________________
اللفوت ، وأضم العنود ، وأكثر الزجر ، وأقل الضرب ،
وأشهر بالعصا ، وأدفع باليد ، ولو لا ذلك لأعذرت.
قال أبو جعفر :
وكان معاوية إذا حدث بهذا الحديث يقول : كان والله عالما برعيته.
قال ابن قتيبة :
رملت السرير وأرملته : إذا نسجته بشريط من خوص أو ليف.
وذقن عليها .. أي
وضع عليها ذقنه يستمع الحديث.
وقوله : فقرع حجكم
.. أي خلت أيام الحج من الناس ، وكانوا يتعوذون من قرع الفناء و ذلك ألا يكون فيه
أهل.
والقائبة : قشر البيضة إذا
خرج منها الفرخ.
والقوب : الفرخ ..
قوله : إني لأرتع
وأشبع وأسقي فأروي .. مثل مستعار من رعية الإبل ، .. أي إذا أرتعت الإبل .. أي
أرسلتها ترعى ، تركتها حتى تشبع ، وإذا سقيتها تركتها حتى تروى.
وقوله : أضرب
العروض .. فالعروض : الناقة تأخذ يمينا وشمالا ولا
__________________
تلزم الحجة يقول : أضربها
حتى يعود إلى الطريق ، ومثله قوله : وأضم العنود.
والعجول : البعير
يند عن الإبل و يركب رأسه عجلا ويستقبلها.
وقوله : وأؤدب
قدري .. أي قدر طاقتي.
وقوله : وأسوق
خطوتي .. أي قدر خطوتي.
واللفوت : البعير
يلتفت يمينا وشمالا ويروغ.
وقوله : وأكثر
الزجر وأقل الضرب .. أي إنه يقتصر من التأديب في السياسة على ما يكتفي به حتى يضطر
إلى ما هو أشد منه وأغلظ.
وقوله : وأشهر
بالعصا وأدفع باليد .. يريد أنه يرفع العصاء يرعب بها ولا يستعملها
ولكنه يدفع بيده.
و قوله : ولو لا
ذلك لأعذرت .. أي لو لا هذا التدبير والسياسة لخلفت بعض ما أسوق ، تقول : أعذر الراعي الشاة أو الناقة .. إذا تركها ،
والشاة العذيرة ، وعذرت هي .. إذا تخلفت عن الغنم ، انتهى.
وقد ذكر ابن
الأثير في النهاية كثيرا من ألفاظ هذه الرواية وفسرها.
قال : في حديث عمر :
إن عمران بن سوادة قال له : أربع خصال
__________________
عاتبتك عليها
رعيتك ، فوضع عود الدرة ثم ذقن عليها وقال : هات. يقال : ذقن على يده وعلى عصاه ـ بالتشديد
والتخفيف ـ : إذا وضعه تحت ذقنه واتكأ عليها.
وقال في قوب : منه ..
حديث عمر إن اعتمرتم في أشهر الحج رأيتموها مجزية من حجتكم فكانت قائبة قوب
عامها. ضرب هذا مثلا لخلو مكة من المعتمرين في باقي السنة ، يقال : قيبت البيضة إذا انفلقت عن
فرخها وإنما قيل لها : قائبة ، وهي مقوبة على تقدير : ذات قوب .. أي ذات فرخ ، والمعنى
أن الفرخ إذا فارق بيضته لم يعد إليها وكذا إذا اعتمروا في أشهر الحج لم يعودوا
إلى مكة.
وقال في العنود : وفي
حديث عمر ويذكر سيرته : « وأضم العنود » وهو من الإبل : الذي لا يخالطها ولا يزال منفردا عنها ،
وأراد : من خرج عن الجماعة أعدته إليها وعطفته عليها.
وقال ابن أبي
الحديد : وفي حديث عمر ، أنه قال ـ في متعة الحج ـ : قد علمت أن
رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] فعلها وأصحابه ولكن كرهت أن يظلوا بهن معرسين
تحت الأراك ، ثم يلبون بالحج يقطر رءوسهم ، قال : المعرس : الذي
__________________
يغشى امرأته. قال
: كره أن يحل الرجل من عمرته ثم يأتي النساء ، ثم يهل بالحج .
وقال في النهاية في الأعراس :
ومنه حديث عمر نهى عن متعة الحج ، وقال : قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه [
وآله ] وسلم فعله ولكن كرهت أن يظلوا بها معرسين ـ أي ملمين بنسائهم ـ.
وروى في جامع
الأصول ، عن الترمذي ، عن سالم بن عبد الله ، أنه سمع رجلا من أهل الشام وهو
يسأل عبد الله بن عمر عن التمتع بالعمرة إلى الحج ، فقال عبد الله بن عمر : أرأيت
إن كان أبي ينهى عنها وصنعها رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] ، أمر أبي يتبع أم أمر
رسول الله صلى الله عليه [ وآله ]؟!. فقال الرجل : بل أمر رسول الله (ص) ، فقال :
لقد صنعها رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] .
__________________
وروى مسلم ، عن سعد بن أبي
وقاص ، قال : لقد تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] ، وهذا ـ يعني
معاوية ـ كافر بالعرش ـ يعني بالعرش .. بيوت مكة في الجاهلية ـ.
قال في جامع
الأصول ـ بعد حكايتها عن مسلم ـ : وفي رواية الموطإ والترمذي والنسائي ، عن محمد بن عبد
الله بن الحارث ، أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية يذكران
التمتع بالعمرة إلى الحج ، فقال الضحاك : لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله. فقال
له سعد : بئسما قلت يا ابن أخي. فقال الضحاك : إن عمر قد نهى عن ذلك. فقال سعد :
قد صنعناها مع رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] بأمره ، وصنعها هو صلى الله عليه
[ وآله ] وسلم .
__________________
قال : ليس عند
الترمذي : عام حج معاوية.
وروى في صحيح مسلم
وفي جامع الأصول وفي المشكاة عن عطاء ، عن جابر بن عبد الله ، قال : أهللنا أصحاب محمد
صلى الله عليه [ وآله ] بالحج خالصا وحده ، فقدم النبي صلى الله عليه [ وآله ] صبح
رابعة مضت من ذي الحجة فأمرنا أن نحل ، قال عطا : قال : أحلوا
وأصيبوا النساء ، ولم يعزم عليهم ولكن أحلهن لهم. فقلنا : لما لم يكن بيننا وبين عرفة
إلا خمس أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة يقطر مذاكيرنا المني!. قال جابر بيده
ـ كأني أنظر إلى قوله بيده يحركها ـ .
قال : فقام النبي
صلى الله عليه [ وآله ] فينا فقال : قد علمتم أني أتقاكم لله عز وجل وأصدقكم
وأبركم ، ولو لا هدي لحللت كما تحلون ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق
الهدي ، فحلوا ، فحللنا وسمعنا وأطعنا .. إلى هنا
__________________
رواية البخاري .
وفي رواية مسلم ، قال جابر :
فقدم علي عليهالسلام من سعايته ، فقال : بما أهللت؟. قال : بما أهل به النبي صلى الله
عليه [ وآله ]. فقال له رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] : فأهد وامكث حراما ،
وأهدى له علي عليهالسلام هديا ، فقال سراقة بن مالك بن جعشم : يا رسول الله! لعامنا
هذا أم لأبد؟ قال : بل لأبد .
__________________
فهذه جملة من
الأخبار العامية.
وأخبار الخاصة في
ذلك أكثر من أن يمكن إيرادها هنا ، وسيأتي بعضها في كتاب الحج ، وكتب أخبارنا
مشحونة بها .
وأجاب المخالفون :
أما عن متعة النساء ، فبأنها كانت على عهد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ثم نسخت ، وعولوا في ذلك على روايات متناقضة أوردوها في
كتبهم تركناها مخافة الإطناب ، وأجيب عنها بوجوه :
الأول
: أن تناقض تلك
الروايات تدل على كونها موضوعة ، إذ بعضها يدل على أنها نسخت يوم خيبر ، وبعضها
يدل على أن الإباحة والتحريم كانا في مكة قبل الخروج منها بعد الفتح ، وبعضها يدل
على أنهم شكوا العزوبة في حجة الوداع فأذن لهم في المتعة ، وبعضها يدل أنها ما حلت
إلا في عمرة القضاء ، وكانت بعد فتح خيبر ، وقد دل بعض رواياتهم على أنها
نسخت يوم خيبر كما عرفت ، وبعضها على أنها نسخت في غزوة تبوك ،
وبعضها على أنها كانت مباحة في أول الإسلام حتى نسخت بقوله تعالى : ( إِلاَّ
عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ) .
ولا ريب في أنه لا
يعبر عن عام حجة الوداع والفتح وخيبر وتبوك بأول الإسلام ، على أن هذه الآية ـ التي
تدل روايتهم عن ابن عباس على نسخ المتعة
__________________
بها ـ تكررت في
سورتين : سورة المعارج ، وسورة المؤمنون ، وهما مكيتان كما ذكره المفسرون ، فكيف كان الإذن
بها والنهي عنها في حجة الوداع ، وعام الفتح ، وغيرهما؟! ولهذا الاختلاف الفاحش
التجئوا إلى التشبث بوجوه فاسدة سخيفة في الجمع بينها ، كالقول بتكرر الإباحة
والتحريم ، وحمل التحريم في بعضها على التأبيد ، وفي بعضها على التأكيد ، وذكروا وجوها سخيفة أخرى لا
نسود الكتاب بذكرها ، وما رووه عن الحسن أنه : ما حلت إلا في عمرة القضاء ظاهر المناقضة
لتلك الوجوه.
وبالجملة ، هذا
النوع من الاختلاف في الرواية دليل واضح على كذب الراوي.
الثاني
: أن ما سبق من
روايات جابر وغيرها صريح في أن العمل بإباحة المتعة كان مستمرا إلى منع عمر بن
الخطاب عنها. والقول بأن جابر أو غيره من الصحابة لم يبلغهم النسخ إلى زمان عمر ..
ظاهر الفساد ، وهل يجوز عاقل أن يبعث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مناديه ينادي بإباحة المتعة بين الناس ـ كما مر ـ ويبوح
بإباحتها ويتلو الآية الدالة على حلها ، ثم لما نسخ الحكم يخفيه
عن طائفة من أصحابه ولا يعلن به بحيث لم يبلغ نسخ الحكم مثل جابر ـ مع شدة ملازمته
__________________
للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في السفر والحضر ـ حتى كانوا يداومون على منكر شنيع يرى عمر رجم من ارتكبه ،
كما رواه مالك في الموطأ .
وبالجملة ، دعوى
كون الحكم في نسخ مثل هذا الحكم بحيث يخفى على مثل جابر وابن مسعود وابن عباس
وأضرابهم ، بل على أكثر الصحابة ـ على ما هو الظاهر من قول جابر : كنا نستمتع على
عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأبي بكر وعمر ـ دعوى واضح الفساد.
الثالث
: أن الرواية
المشهورة بين الفريقين من أنه قال في خطبته : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى
الله عليه [ وآله ] و أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما .. صريحة في دوام
الحكم بحلها إلى ذلك الزمان ، وكذلك يشهد بعدم
__________________
نسخها عدم اعتذار
عمر بالنسخ في الرواية السابقة ، واعتذاره بأن حلها كان في زمان ضرورة ، وهل يجوز
عاقل أنه كان عالما بنسخها ونهى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عنها ومع ذلك يعتذر بمثل هذا العذر الظاهر الفساد؟! فإن
إباحة حكم في زمان لا يقتضي تقييد الإباحة بها ، وترك عمل الصحابة بأمر مباح ـ على
تقدير تسليمه ـ لا يدل على عدم إباحته ، على أن ذلك شهادة نفي في أمر محصور ، ويكذبه قول جابر
وغيره : كنا نستمتع .. إلى زمن نهيه ، ولو كان مستنده عدم اطلاعه على عمل الصحابة
بها بعد زمان الضرورة فبطلانه أوضح.
الرابع
: أن المتعة لو
كانت منسوخة لما خفي ذلك على أهل بيته صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ وهم أعلم بما في البيت ـ وقد أجمعوا على حلها ، وإجماعهم
حجة ، وإنكار قولهم بذلك مكابرة واضحة.
وأما متعة الحج ،
فقد عولوا في دفع الطعن فيها على أنه نهى عنه عمر وكذلك عثمان ـ كما سبق ـ على وجه
التنزيه ، لكون الإفراد أفضل لا على وجه التحريم ، وفيه نظر من وجوه :
الأول
: أن قول عمر : أنا
أحرمهما .. ظاهر في التحريم ، ولو سلمنا كون بعض الروايات : أنا أنهى عنهما وأعاقب
عليهما .. فمع أن الظاهر من لفظ
__________________
النهي أيضا
التحريم ، قد قرن بالتحريم والنهي قوله : أعاقب عليهما ، ولا ريب في أن المعاقبة
تنافي التنزيه.
الثاني
: أنه لو كان نهيه
عن متعة الحج للتنزيه لكان نهيه عن متعة النساء أيضا كذلك ، للتعبير عنهما بلفظ
واحد ، ولم يقل أحد بأنه نهى عن متعة النساء تنزيها ، مع أنه قد مر أنه أوعد عليها
بالرجم ، وقد سبق في رواية عائشة أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم دخل عليها غضبان لذلك ، وكيف يغضب صلىاللهعليهوآلهوسلم لعدول الناس في عبادة ربهم إلى الأفضل أو لترددهم فيه ، بل لا يشك منصف في أن
ما تضافرت به الروايات من قوله صلىاللهعليهوآله : لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ، ولو لا
أن معي الهدي لأحللت .. دليل قاطع على بطلان أفضلية الإفراد كما زعموه.
وبالجملة ، القول
بأن أمره صلىاللهعليهوآلهوسلم بالإحلال والعدول إلى التمتع كان أمرا بالمرجوح لبيان
الجواز ، ظاهر الفساد.
الثالث
: أن رواية عمران
بن سوادة الليثي واضحة الدلالة على أن نهيه عنها كان على وجه التحريم ، كما لا
يخفى على من تأمل فيها ، ولو كان نهيه على وجه التنزيه لقال : إني ما حرمتها عليهم
ولكني أمرتهم بأفضل الأفراد ، وقد تقدم في رواية ابن حصين قوله : لم ينزل قرآن
يحرمه ولم ينه عنها حتى مات. قال رجل برأيه ما شاء .
وقال البخاري :
يقال إنه عمر ، ومن تأمل في الأخبار لا يشك في أنه لم يكن الكلام في
أفضلية التمتع أو الإفراد ، بل في جواز التمتع أو حرمته.
الرابع
: أنه لو كان نهي
عمر وعثمان عن المتعة أمرا بالأفضل فلما ذا كان أمير
__________________
المؤمنين عليهالسلام ينازع عثمان ، وعثمان ينازعه ، كما مر.
وروى في جامع
الأصول ، عن الموطإ بإسناده عن جعفر بن محمد ، عن أبيه [ عليهماالسلام ] أنه قال : إن المقداد بن الأسود دخل على علي بن أبي طالب [ عليهالسلام ] بالسقيا ، وهو ينجع بكرات له دقيقا وخبطا. فقال : هذا عثمان بن عفان ينهى
أن يقرن بين الحج والعمرة ، فخرج علي [ عليهالسلام ] وعلى يديه أثر الدقيق والخبط ، ـ فما أنسى الخبط والدقيق
على ذراعيه ـ حتى دخل على عثمان بن عفان ، فقال : أنت تنهى عن أن يقرن بين الحج
والعمرة؟. فقال عثمان : ذلك رأي. فخرج علي [ عليهالسلام ] مغضبا وهو يقول : لبيك اللهم بحجة وعمرة معا.
ومعلوم من سيرته عليهالسلام أنه كان لا يجاهر الخلفاء بالخلاف ولا يعارضهم إلا في عظائم الأمور ، بل كان
يداريهم ويتقي شرهم ما استطاع ، ولا يظهر الخلاف إلا في البدع الشنيعة ،
وهل يجوز عاقل أن يأمر عثمان بطاعة الله تعالى بما هو أرضى عنده ثم يقول أمير المؤمنين عليهالسلام : ما تريد إلا أن تنهى عن أمر فعله النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم؟. ويرفع صوته بين الناس بما نهى عنه مع علمه بأن ذلك يثمر
العداوة ويثير الفتنة.
والبكرة : الفتية
من الإبل .
__________________
والخبط ـ بالتحريك
ـ : الورق الساقط من الشجر ، وهو من علف الإبل .
وينجع .. أي
يعلفها النجوع ، والنجيع : وهو أن يخلط العلف من الخبط والدقيق بالماء ثم تسقى
الإبل .
والسقيا ـ بالضم ـ
: منزل بين مكة والمدينة .
تذييل :
اعلم ، أنه لا يشك
عاقل ـ بعد التأمل فيما روت الخاصة والعامة في تلك القصة ـ أن هذا الشقي جبه النبي
صلىاللهعليهوآله بالرد حين أدى عن الله تعالى حكم التمتع بالعمرة إلى الحج
، وواجهه صلىاللهعليهوآله بألفاظ ركيكة ، بعد قوله صلىاللهعليهوآله : هذا جبرئيل يأمرني أن آمر من لم يسق هديا أن يحل .. ولج
في ذلك حتى أغضبه وأحزنه ـ كما مر في خبر عائشة ـ وقال : إنك لم تؤمن بهذا أبدا ، كما
ورد في روايات أهل البيت عليهمالسلام .
ثم لما لم يمكنه
رفع هذا الخبر أضمر في نفسه الخبيثة ذلك إلى أن استولى على الأمر وتمكن ، فقام
خطيبا وصرح بأنه يحرم ما أحله النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وحث عليه ، وأحيا سنة أهل الشرك والجاهلية ، وشنع عليه صلىاللهعليهوآلهوسلم بالوجوه الركيكة التي ذكرها اعتذارا من ذلك ، فكيف يكون مثل هذا مؤمنا؟! وقد
قال عز وجل : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا
__________________
فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) .
تتميم :
أجاب الفخر الرازي
في تفسيره عن الطعن بنهيه عن متعة الحج بوجه آخر ، حيث قال : التمتع بالعمرة إلى الحج
هو أن يقدم مكة فيعتمر في أشهر الحج ثم يقيم حلالا بمكة حتى ينشئ منها الحج
فيحج في عامه ذلك .. ، وهذا صحيح و لا كراهة فيه ، وهاهنا نوع آخر مكروه ، وهو الذي خطب به عمر ، وهو أن يجمع
بين الإحرامين ثم يفسخ الحج إلى العمرة فيتمتع بها إلى الحج.
وروي أن رسول الله
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم أذن لأصحابه في ذلك ، ثم نسخ.
وهو باطل بوجوه :
الأول
: أن هذا المعنى لا
يفهم من التمتع عند الإطلاق ، وإنما يفهم منه المعنى المعروف عند فقهاء الفريقين ،
ولا ريب في أن الناس قديما وحديثا لم يفهموا
__________________
من المتعة ومنعها
غير المعنى المعروف ، وإنما ذلك معنى تكلفه المتعصبون لضيق الخناق.
الثاني
: أن روايات عمران
بن حصين في أن : ما نهى عنه الرجل وقال فيه برأيه ما شاء ، هو المعنى المعروف ،
وإيقاع العمرة في أشهر الحج ، وظاهر أن النهي عن المتعة والقول بالرأي فيها لم يكن
من غير عمر ، ولذا لم يصرح عمران به تقية .
الثالث
: أنه قد مر في
رواية أبي موسى ، أنه علل عمر ما أحدثه في شأن النسك بقوله ، كرهت أن يظلوا معرسين
.. وظاهر أن هذا التعليل يقتضي المنع عن المتعة بالمعنى المعروف ، والرواية صريحة في أن
أبا موسى كان يفتي بالمتعة فحذره الرجل عن مخالفة عمر.
الرابع
: أن رواية عمران
بن سوادة صريحة في اعتراف عمر بأنه حرم المتعة في أشهر الحج معللا بما ذكر فيها ،
وكذا رواية الترمذي عن ابن عمر صريحة في أنه نهى عن التمتع بالعمرة إلى الحج ،
وكذا غيرهما مما سبق من الروايات.
الخامس
: أنه لو كان ما
نهى عنه وحرمه عمر أمرا منسوخا في زمن الرسول (ص) لأنكر على عمران بن سوادة قوله :
لم يحرمهما رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولا أبو بكر ، وقد صدقه وعلل التحريم بما سبق.
وبالجملة ، لا
مجال للشك في أن ما حرمه عمر هو التمتع بالعمرة إلى الحج الذي صرحت روايات
الفريقين بأنه حكمه باق إلى يوم القيامة ، وأنه للأبد ،
__________________
وأبد الأبد ، بل
إنه نهى عن أعم منه وهو الاعتمار في أشهر الحج .
ولنعم ما حكى
الشهيد الثاني ، قال : وجدت في بعض كتب الجمهور أن رجلا كان يتمتع بالنساء ،
فقيل له : عمن أخذت حلها؟. قال : عن عمر. قيل له : كيف ذلك وعمر هو الذي نهى عنها
وعاقب عليها؟. فقال : لقوله : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله وأنا أحرمهما وأعاقب عليهما ، متعة
__________________
الحج ومتعة النساء
، فأنا أقبل روايته في شرعيتها على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولا أقبل نهيه من قبل نفسه .
__________________
الطعن الخامس :
إنه عطل حد الله
في المغيرة بن شعبة لما شهدوا عليه بالزنا ، ولقن الشاهد الرابع الامتناع من
الشهادة اتباعا لهواه ، فلما فعل ذلك عاد إلى الشهود وفضحهم وحدهم ، فتجنب أن يفضح
المغيرة ـ وهو واحد وكان آثما ـ وفضح الثلاثة ، وعطل حد الله ووضعه في غير موضعه.
قال ابن أبي
الحديد : ـ روى الطبري في تاريخه ، عن محمد بن
يعقوب بن عتبة ، عن أبيه ، قال : كان المغيرة يختلف إلى أم جميل ـ امرأة من بني
هلال بن عامر ـ وكان لها زوج من ثقيف هلك قبل ذلك يقال له : الحجاج بن عبيد ، وكان
المغيرة ـ وهو أمير البصرة ـ يختلف إليها سرا ، فبلغ ذلك أهل البصرة فأعظموا ،
فخرج المغيرة يوما من الأيام فدخل عليها ـ وقد وضعوا عليهما الرصد ـ فانطلق القوم الذين
شهدوا عند عمر فكشفوا الستر فرأوه قد واقعها ، فكتبوا بذلك إلى عمر ، وأوفدوا إليه
بالكتاب أبا بكرة ، فانتهى أبو بكرة إلى المدينة ، وجاء إلى باب عمر فسمع صوته
وبينه وبينه حجاب ، فقال : أبو بكرة؟. فقال : نعم. قال : لقد جئت لشر!. قال : إنما
جاء به المغيرة .. ثم قص عليه القصة وعرض عليه الكتاب ، فبعث أبا موسى عاملا
وأمره أن يبعث إليه المغيرة ، فلما دخل أبو موسى البصرة وقعد في الإمارة أهدى إليه
المغيرة عقيلة ، وقال : وإنني قد رضيتها
__________________
لك ، فبعث أبو
موسى بالمغيرة إلى عمر.
قال الطبري : وروى الواقدي ، عن مالك بن أوس
، قال : قدم المغيرة على عمر فتزوج في طريقه امرأة من بني مرة ، فقال له عمر
: إنك لفارغ القلب شديد الشبق ، طويل العزمول [ الغرمول ] . ثم سأل عن
المرأة فقيل له : يقال لها : الرقطاء ، كان زوجها من ثقيف ، وهي من بني هلال.
قال الطبري : وكتب إلي السري
، عن شعيب ، عن سيف : أن المغيرة كان يبغض أبا بكرة ، وكان أبو بكرة يبغضه ،
ويناغي كل واحد منهما صاحبه وينافره عند كل ما يكون منه ، وكانا
متجاورين بالبصرة بينهما طريق ، وهما في مشربتين متقابلتين ، فهما في داريهما في
كل واحدة منهما كوة مقابلة الأخرى ، فاجتمع إلى أبي بكرة نفر يتحدثون في مشربته ،
فهبت ريح ففتحت باب الكوة ، فقام أبو بكرة ليصفقه فبصر بالمغيرة وقد فتح الريح بالكوة
التي في مشربته ، وهو بين رجلي امرأة ، فقال للنفر : قوموا فانظروا ، فقاموا
فنظروا ، ثم قال : اشهدوا ، قالوا : ومن هذه؟. قال : أم جميل بنت الأفقم ، وكانت
أم جميل إحدى بني عامر
__________________
بن صعصعة ، فقالوا
: إنما رأينا أعجازا ولا ندري ما الوجوه ؟. فلما قامت صمموا ، وخرج المغيرة إلى الصلاة ، فحال أبو
بكرة بينه وبين الصلاة ، وقال : لا تصل بنا ، وكتبوا إلى عمر بذلك ، وكتب المغيرة
إليه أيضا ، فأرسل عمر إلى أبي موسى ، فقال : يا أبا موسى! إني مستعملك ، وإني
باعثك إلى أرض قد باض فيها الشيطان وفرخ ، فالزم ما تعرف ، ولا تستبدل
فيستبدل الله بك. فقال : يا أمير المؤمنين! أعني بعدة من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله من المهاجرين والأنصار ، فإني وجدتهم في هذه الأمة وهذه الأعمال كالملح لا
يصلح الطعام إلا به. قال : فاستعن بمن أحببت ، فاستعان بتسعة وعشرين رجلا منهم :
أنس بن مالك وعمار بن حصين وهشام بن عامر .. وخرج أبو موسى بهم حتى أناخ
بالبصرة في المربد ، وبلغ المغيرة أن أبا موسى قد أناخ بالمربد ، فقال :
والله ما جاء أبو موسى تاجرا ولا زائرا ولكنه جاء أميرا ، وإنهم لفي ذلك إذ جاء أبو موسى حتى دخل
عليهم ، فدفع إلى المغيرة كتابا من عمر ـ إنه لأزجر كتاب كتب به أحد
من الناس ـ أربع كلم عزل فيها وعاتب واستحث وأمر : أما بعد ، فإنه بلغني نبأ عظيم فبعثت أبا
موسى فسلم ما في يديك إليه والعجل. وكتب إلى
__________________
أهل البصرة : أما
بعد ، فإني قد بعثت أبا موسى أميرا عليكم ليأخذ لضعيفكم من قويكم ، وليقاتل بكم
عدوكم ، وليدفع عن ذمتكم ، وليجبي لكم فيئكم ، وليقسم فيكم ، وليحمي لكم
طرقكم .
فأهدى إليه
المغيرة وليدة من مولدات الطائف تدعى : عقيلة ، فقال : إني قد رضيتها لك ـ وكانت
فارهة ـ ، وارتحل المغيرة وأبو بكرة ونافع بن كلدة وزياد وشبل بن معبد البجلي حتى
قدموا على عمر ، فجمع بينهم وبين المغيرة ، فقال المغيرة : يا أمير المؤمنين! سل
هؤلاء الأعبد كيف رأوني مستقبلهم أم مستدبرهم؟ فكيف رأوا المرأة وعرفوها؟ فإن
كانوا مستقبلي فكيف لم أستتر! وإن كانوا مستدبري فبأي شيء استحلوا النظر إلي في
منزلي على امرأتي! والله ما أتيت إلا امرأتي ، فبدأ بأبي بكرة فشهد عليه أنه رآه
بين رجلي أم جميل ، وهو يدخله ويخرجه ، قال عمر : كيف رأيتهما؟. قال : مستدبرهما. قال : كيف
استبنت رأسها؟. قال : تخافيت . فدعا بشبل بن معبد فشهد مثل ذلك ، وقال : استقبلتهما
واستدبرتهما ، وشهد نافع بمثل شهادة أبي بكرة ، ولم يشهد زياد بمثل
شهادتهم ، قال : رأيته جالسا بين رجلي امرأة ، ورأيت قدمين مرفوعين يخفقان ، واستين
__________________
مكشوفين ، وسمعت
حفزا شديدا ، قال عمر : فهل رأيته فيها كالميل في المكحلة؟. قال : لا. قال : فهل
تعرف المرأة؟. قال : لا ، ولكن أشبهها .. فأمر عمر بالثلاثة الحد وقرأ : ( فَإِذْ
لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ ) ، فقال المغيرة :
الحمد لله الذي أخزاكم ، فصاح به عمر : اسكت .. أسكت الله نأمتك ، أما والله لو
تمت الشهادة لرجمتك بأحجارك ، فهذا ما ذكره الطبري
أقول
: ثم روى من كتاب الأغاني لأبي الفرج
الأصفهاني روايات مختلفة تؤدي مؤدى تلك الرواية .. إلى أن قال : قال أبو الفرج
: قال أبو زيد عمر بن شيبة : فجلس له عمر ودعا به وبالشهود ، فتقدم أبو بكرة ، فقال :
أرأيته بين فخذيها؟. قال : نعم ، والله لكأني أنظر إلى تشريم جدري بفخذيها.
__________________
فقال المغيرة :
لقد ألطفت النظر. قال : لم آل أن أثبت ما يخزيك الله به. فقال عمر : لا والله حتى
تشهد ، لقد رأيته يلج فيها كما يلج المرود في المكحلة. قال : نعم ، أشهد على ذلك.
فقال عمر : أذهب عنك ، مغيرة ذهب ربعك.
قال أبو الفرج :
ويقال : إن عليا عليهالسلام هو قائل هذا القول ، ثم دعا نافعا ، فقال : على ما تشهد؟.
قال : على مثل شهادة أبي بكرة. فقال عمر : لا ، حتى تشهد أنك رأيته يلج فيها ولوج
المرود في المكحلة. قال : نعم ، حتى بلغ قذذه . فقال : أذهب عنك ، مغيرة ذهب نصفك ، ثم دعا الثالث ـ وهو
شبل بن معبد ـ فقال : على ما ذا تشهد؟. قال : على مثل شهادة صاحبي؟. فقال : أذهب عنك ،
مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك. قال : فجعل المغيرة يبكي إلى المهاجرين فبكوا معه ، وبكى
إلى أمهات المؤمنين حتى بكين معه ، قال : ولم يكن زياد حضر ذلك المجلس ، فأمر عمر
أن ينحى الشهود الثلاثة وأن لا يجالسهم أحد من أهل المدينة ، وانتظر قدوم زياد ،
فلما قدم جلس له في المسجد واجتمع رءوس المهاجرين والأنصار ، قال المغيرة ـ وكنت
قد أعددت كلمة أقولها ـ فلما رأى عمر زيادا مقبلا قال : إني لأرى رجلا لن يخزي
الله على لسانه رجلا من المهاجرين .
__________________
قال أبو الفرج :
وفي حديث أبي زيد ، عن السري ، عن عبد الكريم بن رشيد ، عن أبي عثمان النهدي
أنه لما شهد الشاهد الأول عند عمر تغير لون عمر ، ثم جاء الثاني فشهد فانكسر لذلك انكسارا شديدا ،
ثم جاء الثالث فشهد فكأن الرماد نثر على وجه عمر ، فلما جاء زياد جاء شاب يخطر بيديه ، فرفع عمر
رأسه إليه وقال : ما عندك أنت يا سلح العقاب؟ وصاح أبو عثمان النهدي صيحة يحكي صيحة عمر ، قال
عبد الكريم : لقد كدت أن يغشى علي لصيحته.
قال أبو الفرج :
فكان المغيرة يحدث ، قال : فقمت إلى زياد ، فقلت : لا مخبأ لعطر بعد عروس ، يا زياد! أذكرك
الله وأذكرك موقف القيامة وكتابه ورسوله أن
__________________
تتجاوز إلى ما لم
تر ، ثم صحت يا أمير المؤمنين! إن هؤلاء قد احتقنوا دمي ، فالله الله
في دمي ، قال : فرتقت عينا زياد واحمر وجهه ، وقال : يا أمير المؤمنين! أما أن
أحق ما حق القوم فليس عندي ، ولكني رأيت مجلسا قبيحا ، وسمعت نفسا حثيثا وانتهارا
، ورأيته متبطنها. فقال عمر : رأيته يدخل في فرجها كالميل في المكحلة ؟. قال : لا.
قال أبو الفرج :
وروى كثير من الرواة أنه قال : رأيته رافعا رجليها ، ورأيت خصييه مترددين بين
فخذيها ، ورأيت حفزا شديدا ، وسمعت نفسا عاليا ، فقال عمر : رأيته يدخله ويخرجه
كالميل في المكحلة؟. قال : لا. قال عمر : الله أكبر ، قم يا مغيرة إليهم فاضربهم ،
فقام المغيرة إلى أبي بكرة فضربه ثمانين وضرب
__________________
الباقين.
وروى قوم أن
الضارب لهم الحد لم يكن المغيرة.
قال : وأعجب عمر قول
زياد : ودرأ الحد عن المغيرة ، فقال أبو بكرة بعد أن ضرب : أشهد أن المغيرة فعل
كذا .. وكذا ، فهم عمر بضربه ، فقال له علي عليهالسلام : إن ضربته رجمت صاحبك ، ونهاه عن ذلك .
قال أبو الفرج :
يعني إن ضربه يصير شهادته شهادتين فيوجب بذلك الرجم على المغيرة. قال : واستتاب عمر أبا بكرة ،
قال : إنما تستتيبني لتقبل شهادتي؟. قال : أجل. قال : فإني لا أشهد بين اثنين ما بقيت
في الدنيا.
قال : فلما ضربوا
الحد ، قال المغيرة : الله أكبر! الحمد لله الذي أخزاكم. فقال عمر : اسكت أخزى
الله مكانا رأوك فيه. قال : وقام أبو بكرة على قوله ، وكان يقول : والله ما أنسى
قط فخذيها ، وتاب الاثنان فقبل شهادتهما ، وكان أبو بكرة بعد ذلك إذا طلب إلى
شهادة يقول : اطلبوا غيري ، فإن زيادا أفسد علي شهادتي ..
قال أبو الفرج : وحج
عمر بعد ذلك مرة فوافق الرقطاء بالموسم ، فرآها وكانت المغيرة يومئذ
هناك ـ فقال عمر للمغيرة : ويحك! أتتجاهل علي ، والله ما أظن أبا بكرة كذب عليك ،
وما رأيتك إلا خفت أن أرمى بحجارة من السماء .
__________________
قال : وكان علي عليهالسلام ـ بعد ذلك ـ يقول : إن ظفرت بالمغيرة لأتبعته أحجاره .
قال ابن أبي
الحديد ـ بعد إيراد تلك الأخبار وغيرها ـ : فهذه الأخبار كما
تراها تدل متأملها على أن الرجل زنى بالمرأة لا محالة ، وكل كتب التواريخ والسير
يشهد بذلك ، وإنما اقتصرنا نحن منها على ما في هذين الكتابين.
وقد روى المدائني
أن المغيرة كان أزنى الناس في الجاهلية ، فلما دخل في الإسلام قيده الإسلام ،
وبقيت عنده منه بقية ظهرت في أيام ولايته بالبصرة ، ثم أورد في ذلك
روايات أخر تركناها اختصارا.
وقال الشيخ قدس
الله روحه في تلخيص الشافي : فإن قالوا : لم يعطل الحد وإنما لم يتكامل الشهادة ،
وإرادة الرابع لأن يشهد لا تكمل بها البينة وإنما تكمل بإقامتها ..
وقوله : أرى وجه
رجل لا يفضح الله على يده رجلا .. سائغ صحيح ، فجرى مجرى ما روي عنه (ص) من أنه
أتي بسارق فقال له : لا تقر. وقال لصفوان بن أمية ـ لما أتاه بالسارق وأمر
بقطعه ـ فقال : هي له ـ يعني ما سرق ـ هلا قبل أن تأتيني به ، فلا يمتنع أن يجب أن لا تكمل
الشهادة ، وينبه الشاهد على
__________________
أن لا يشهد ، وجلد
الثلاثة من حيث صاروا قذفة ، قالوا : ليس حالهم وقد شهدوا كحال من لم تتكامل الشهادة عليه ، لأن الحيلة في
إزالة الحد عنه ـ ولما تكاملت الشهادة ـ ممكنة بتلقين وتنبيه وغيره ، ولا حيلة
فيما قد وقع من الشهادة ، فلذلك حدهم ، وليس في إقامة الحد عليهم من الفضيحة ما في
تكامل الشهادة على المغيرة ، لأنه يتصور بأنه زان ويحكم بذلك فيه ، وليس كذلك حال
الشهود ، لأنهم لا يتصورون بذلك وإن وجب في الحكم أن يجعلوا في حكم القذفة ، على
أنه قيل إن القذف منهم كان تقدم بالبصرة ، لأنهم صاحوا به في نواحي المسجد بأنا نشهد
بأنك زان ، فلو لم يعيدوا الشهادة لكان يحدهم لا محالة ، فلم يمكن في إزالة الحد
عنهم ما أمكن في المغيرة ، وما روي من أن عمر إذا رآه كان يقول : لقد خفت أن
يرميني الله بحجارة من السماء .. ، غير صحيح ، ولو صح لكان تأويله التخويف وإظهار
قوة الظن بصدق القوم لما شهدوا عليه ردعا له ، وغير ممتنع أن يحب أن لا يفتضح لما
كان متوليا للبصرة من قبله ، وسكوت زياد عن إقامة الشهادة لا يوجب تفسيقه ، لأنا
علمنا بالشرع أن له السكوت ، ولو كان فسقا لما ولاه أمير المؤمنين عليهالسلام فارس ، ولما ائتمنه على أموال المسلمين ودمائهم.
قيل لهم : إنما نسب
عمر إلى تعطيل الحد من حيث كان في حكم
__________________
الثابت ، وإنما
بتلقينه لم تكمل الشهادة ، لأن زيادا ما حضر إلا ليشهد بما شهد به أصحابه ، وقد
صرح بذلك كما صرحوا قبل حضورهم ، ولو لم يكن هذا هكذا لما شهد القوم قبله وهم لا
يعلمون هل حال زياد في ذلك كحالهم ، لكنه أحجم في الشهادة لما
رأى كراهية متولي الأمر لكمالها ، وتصريحه بأنه لا يريد أن يعمل بموجبها.
ومن العجائب أن
يطلب الحيلة في دفع الحد عن واحد وهو لا يندفع إلا بانصرافه إلى ثلاثة ، فإن كان
درأ الحد والاحتيال في دفعه من السنن المتبعة ، فدرؤه عن ثلاثة أولى من درئه عن
واحد.
وقولهم : إن درء الحد عن المغيرة
ممكن ، ودرؤه عن الثلاثة ـ وقد شهدوا غير ممكن طريف ، لأنه لو لم يلقن
الشاهد الرابع الامتناع من الشهادة لاندفع عن الثلاثة الحد ، فكيف لا تكون الحيلة
ممكنة فيما ذكروه ، بل لو أمسك عن الاحتيال جملة لما لحق الثلاثة حد.
وقولهم : إن
المغيرة يتصور بصورة زان لو تكاملت الشهادة ، وفي هذا من الفضيحة ما ليس في حد
الثلاثة .. غير صحيح؟ لأن الحكم في الأمرين واحد ، لأن الثلاثة إذا حدوا يظن بهم
الكذب وإن جوز أن يكونوا صادقين ، والمغيرة لو كملت الشهادة عليه
بالزنا ظن ذلك به مع التجويز لأن يكون الشهود كذبة ، فليس في أحد الأمرين إلا ما في الآخر.
__________________
وما روي عن النبي صلىاللهعليهوآله من أنه أتي بسارق فقال له : لا تقر.
ـ إن كان صحيحا ـ لا يشبه ما نحن فيه ، لأنه ليس في دفع الحد عن السارق ، إيقاع
غيره في المكروه ، وقصة المغيرة تخالف ذلك ، لما ذكرناه.
وأما قوله صلىاللهعليهوآله لصفوان : هلا قبل أن تأتيني به .. فلا يشبه ما نحن فيه ، لأنه بين أن
ذلك القول كان يسقط الحد لو تقدم ، وليس فيه تلقين يوجب إسقاط الحدود.
وأما قولهم : إن
القذف منهم كان قد تقدم فغير معروف ، والمروي خلافه ، والظاهر أنه إنما حدهم
عند نكول زياد عن الشهادة ، وأن ذلك كان السبب في إيقاع الحد بهم. وتأويلهم لقول
عمر : لقد خفت أن يرميني الله بحجارة .. لا يليق بما قالوه ، لأنه يقتضي التندم والتأسف
على تفريط وقع ، ولم يخاف أن يرمى بالحجارة وهو لم يدرأ الحد عن مستحق له ،
ولو أراد الردع والتخويف لمغيرة لأتى بكلام يليق بذلك ولا يقتضي إضافة التفريط إلى
نفسه ، وكونه واليا من قبله لا يقتضي أن يدرأ الحد عنه ويعدل به إلى
غيره.
وأما قولهم : إنا ما كنا
نعلم أن زيادا كان يتمم الشهادة .. فقد بينا أن ذلك كان معلوما بالظاهر ،
ومن قرأ ما روي في هذه القصة علم ـ بلا شك ـ أن
__________________
حال زياد كحال
الثلاثة في أنه إنما حضر للشهادة ، وإنما عدل عنها لكلام عمر.
وقولهم : إن الشرع
يبيحه السكوت. ليس بصحيح ، لأن الشرع قد حظر كتمان الشهادة.
وقولهم : لم يفسق
زياد لأن أمير المؤمنين عليهالسلام ولاه فارس .. فليس بشيء يعتمد ، لأنه لا يمتنع أن يكون تاب
بعد ذلك وأظهر توبته له عليهالسلام ، فجاز أن يوليه.
وكان بعض أصحابنا
يقول في قصة المغيرة شيئا طيبا ـ وهو معتمد في باب الحجة ـ وهو أن زيادا إنما
امتنع من التصريح بالشهادة المطلوبة في الزنا ، وقد شهد بأنه شاهده بين شعبها
الأربع وسمع نفسا عاليا ، فقد صح على المغيرة بشهادة الأربعة جلوسه منها جلوس مجلس
الفاحشة .. إلى غير ذلك
من مقدمات الزنا وأسبابه ، فألا ضم إلى جلد الثلاثة تعزير هذا الذي صح عنده بشهادة
الأربعة ما صح من الفاحشة مثل تعريك أذنه أو ما جرى مجراه من خفيف التعزير ويسيره؟! ، وهل في
العدول عن ذلك حين عدل عن لومه وتوبيخه والاستخفاف به إلا ما ذكروه من السبب الذي
يشهد الحال به ، انتهى كلامه رفع الله مقامه.
وأقول : اعترض ابن
أبي الحديد وغيره على هذا الكلام بوجوه سخيفة لا طائل في التعرض لها لوهنها.
__________________
وقال ابن أبي
الحديد ـ في تضاعيف كلامه ـ : ورد في الخبر أن عمر قال للمغيرة :
ما أظن أبا بكرة كذب عليك .. وقال : تقديره أظنه لم يكذب عليك ، انتهى.
ولا يخفى أن هذا
إسناد معصيته إلى عمر ، إذ لو لم يكن ذلك قذفا صريحا يوجب الحد فلا أقل
يكون تعريضا يوجب التعزير ، بل كذلك قوله : ما رأيتك إلا خفت أن يرميني الله
بحجارة من السماء ؟! وهل يقال مثل ذلك لمن ندب الله إلى درء الحد عنه وسمى في
كتابه من رماه بالفجور كاذبا؟! ، ولو أراد عمر أن يعظ المغيرة أمكنه أن يذكره عذاب
الله ويأمره بالاجتناب عن ارتكاب مساخطه على وجه لا يوجب قذفا ، ولا
يتضمن تعريضا.
ثم إن ما ذكروه أن
سبب حبه للمغيرة أنه كان واليا من قبله فلا وجه له ، بل لا يخفى على من تتبع
أحوالهما أنه لم يكن الباعث على الحب وعلى جعله واليا إلا الاتفاق في النفاق والاشتراك
في بغض أمير المؤمنين عليهالسلام .
__________________
كما روي أنه كان
من أصحاب الصحيفة الملعونة التي كتبوها لإخراج الخلافة عن أهل البيت عليهمالسلام ، ولو لم يكن يحبه حبا شديدا فلم كان يتغير عند شهادة كل شاهد على الوجه
المتقدم؟! ، مع أن المغيرة لم يكن ذا سابقة في الإسلام ، ومن أهل الورع والاجتهاد
حتى يتوهم أنه كان مثل ذلك سببا لحبه ، وبغض المغيرة لأمير المؤمنين عليهالسلام كان أظهر من الشمس ، وقد اعترف ابن أبي الحديد بذلك حيث قال :
قال أصحابنا البغداديون : من كان إسلامه على هذا الوجه ـ أي على الخوف والمصلحة ـ وكانت
خاتمته ما تواتر الخبر به من لعن علي عليهالسلام على المنابر إلى أن مات على هذا الفعل ، وكان المتوسط من
عمره الزنا ، وإعطاء البطن والفرج سؤالهما ، وممالاة الفاسقين ، وصرف
الوقت إلى غير طاعة الله ، كيف نتولاه؟! وأي عذر لنا في الإمساك عنه؟ وأن لا نكشف
للناس فسقه ...
وذكر أخبارا كثيرة في
أنه ـ لعنه الله ـ كان يلعن عليا عليهالسلام على المنبر ويأمر بذلك ، وكذا اشتهاره بالزنا في الجاهلية
والإسلام مما اعترف به ابن أبي الحديد ، فكفى طعنا لعمر حبه لمثل هذا الرجل مثل هذا الحب ، وهل
يظن أحد بعمر أنه لم يكن يعلم بغضه لأمير المؤمنين عليهالسلام ، وقد كان سمع النبي صلىاللهعليهوآله يقول : لا يحب عليا إلا مؤمن ولا يبغضه إلا كافر منافق
__________________
الطعن السادس :
أنه منع من
المغالاة في صدقات النساء ، وقال : من غالى في مهر ابنته أجعله في بيت مال
المسلمين ، لشبهة أنه رأى النبي صلىاللهعليهوآله زوج فاطمة عليهاالسلام بخمسمائة درهم ، فقامت إليه امرأة ونبهته بقوله تعالى : (
وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً ) على جواز
المغالاة ، فقال : كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات في البيوت .
__________________
__________________
وأجيب بأنه لم ينه
نهي تحريم بل نهي تنزيه ، وقوله : كل الناس أفقه من عمر .. على طريق التواضع وكسر
النفس .
وأجاب السيد
المرتضى رضياللهعنه بأن : المروي أنه منع من ذلك وحظره حتى قالت له المرأة ما قالت
، ولو كان غير حاظر للمغالاة لما كان في الآية حجة عليه ، ولا كان لكلام المرأة موقع ، ولا
كان يعترف لها بأنها أفقه منه ،
__________________
بل كان الواجب
عليه أن يرد عليها ويوبخها ويعرفها أنه ما حظر ذلك وإنما تكون الآية حجة عليه لو كان حاظرا مانعا.
وأما التواضع فلا
يقتضي إظهار القبيح وتصويب الخطإ ، إذ لو كان الأمر على ما توهمه المجيب لكان هو المصيب
والمرأة مخطئة ، وكيف يتواضع بكلام يوهم أنه المخطئ وهي المصيبة؟ انتهى.
أقول
: ومما يدل على
بطلان كون هذا الأمر للاستحباب ما رواه ابن أبي الحديد في شرح نهج
البلاغة أنه خطب فقال : لا يبلغني أن امرأة تجاوز صداقها صداق زوجات رسول الله صلى الله عليه [
وآله ] إلا ارتجعت ذلك منها ، فقامت إليه امرأة فقالت : والله ما جعل الله ذلك لك ، إنه تعالى يقول
: ( وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا
تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً ) ... ، فقال عمر : لا تعجبون من إمام أخطأ
وامرأة أصابت ، ناضلت إمامكم فنضلته! .
والمناضلة :
المغالبة في الرمي ، ونضلته .. أي غلبته فيه ، فإن كراهة
__________________
المغالاة لا يقتضي
جواز الارتجاع ، بل استلزام الحرمة له أيضا محل تأمل.
وقال ابن أبي
الحديد ـ أيضا ـ في شرح غريب ألفاظ عمر في حديثه أنه خطب ، فقال :
ألا لا تغالوا في صداق النساء ، فإن الرجل يغالي بصداق المرأة حتى يكون ذلك لها في
قلبه عداوة ، يقول جشمت إليك عرق القربة .
قال أبو عبيدة :
معناه : تكلفت لك حتى عرقت عرق القربة ، وعرقها : سيلان مائها.
وقال الفخر الرازي
في تفسيره : روي أن عمر بن الخطاب قال على المنبر :
ألا لا تغالوا في مهور نسائكم ، فقامت امرأة فقالت : يا ابن الخطاب! الله يعطينا
وأنت تمنعنا ، وتلت قوله تعالى : ( وَآتَيْتُمْ
إِحْداهُنَّ قِنْطاراً ) ...
__________________
الآية ، فقال عمر
: كل الناس أفقه منك يا عمر! ، ورجع عن كراهة المغالاة.
ثم قال : وعندي أن الآية
لا دلالة فيها على جواز المغالاة ، لأنه لا يلزم من جعل الشيء شرطا لآخر كون ذلك الشرط
جائز الوقوع في نفسه ، كما يقول الرجل : لو كان الإله جسما لكان محدثا ، انتهى.
والظاهر أنه حذف
منها ارتجاع المهر دفعا للطعن بذلك ، وليتمكن من حملها على الكراهة ، إلا أنه مع قطع النظر
عنه لا يدفع الطعن ، فإن الآية ـ بعد تسليم دلالتها على جواز إيتاء القنطار ـ لا
شك في عدم دلالتها على نفي كراهة المغالاة ، فرجوع عمر عن القول بالكراهة ـ كما
اعترف به ـ واعترافه بالخطإ بما تلت عليه المرأة دليل واضح على جهله ، ولو حمل منعه على
التحريم لم يظهر جهله بتلك المثابة ، وإن كان أفحش في مخالفته الشرع ، فظهر أن
الحمل على الكراهة ( لا يُسْمِنُ وَلا
يُغْنِي مِنْ جُوعٍ )
والظاهر من رواية
ابن أبي الحديد أنه منع من المغالاة على سبيل الاجتهاد ، لظنه أنه مثمر للعداوة في
قلب الزوج ، فرجوعه عن ذلك القول ـ بعد سماع الآية كما دلت عليه الروايات ـ يدل
على جواز الاجتهاد في مقابلة النص ، وإلا لما اعترف بالخطإ ولم يرجع عن قوله ، ولو
جاز فرجوعه عن اجتهاده بسماع الآية دليل واضح على جهله ، فظهر توجه الطعن سواء
كانت المغالاة مباحة أو محرمة أو مكروهة.
__________________
الطعن السابع :
ما رواه ابن أبي
الحديد وغيره : أن عمر كان يعس ليلة فمر بدار سمع فيها صوتا فارتاب وتسور فوجد رجلا عنده
امرأة وزق خمر ، فقال : يا عدو الله! أظننت أن الله يسترك وأنت على
معصيته؟!. فقال : لا تعجل يا أمير المؤمنين! إن كنت أخطأت في واحدة فقد أخطأت في
ثلاث ، قال الله : ( وَلا تَجَسَّسُوا ) وتجسست ، وقال : ( وَأْتُوا
الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها ) وقد تسورت ،
__________________
وقال : ( فَإِذا
دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا ) وما سلمت. قال : فهل عندك من خير إن عفوت عنك؟. قال :
نعم ـ والله ـ لا أعود. فقال : اذهب فقد عفوت عنك.
وفي رواية أخرى : فلحقه الخجل.
وقد حكى تلك القصة في الصراط المستقيم ، عن الطبري ، والرازي ، والثعلبي ، والقزويني ، والبصري ، وعن الراغب
في محاضراته ، والغزالي في الإحياء ، والمالكي في قوت القلوب.
وقال الشيخ
الطبرسي رحمهالله في مجمع البيان : وروي عن أبي قلابة أن عمر بن الخطاب حدث أن أبا محجن الثقفي
يشرب الخمر في بيته هو وأصحابه ، فانطلق عمر حتى دخل عليه ، فإذا ليس عنده إلا رجل
، فقال أبو المحجن : يا أمير المؤمنين! إن هذا لا يحل لك ، قد نهاك الله عن التجسس!.
فقال عمر : ما يقول هذا؟. فقال زيد بن ثابت وعبد الله بن الأرقم : صدق يا أمير
المؤمنين!. قال : فخرج عمر وتركه ، وخرج مع عمر بن الخطاب أيضا عبد الرحمن بن عوف فتبينت لهما نار فأتيا واستأذنا ففتح الباب فدخلا ، فإذا
رجل وامرأة تغني وعلى يد الرجل قدح ، فقال عمر : من هذه منك؟. قال : امرأتي. قال :
وما في هذا القدح؟. قال : الماء ، فقال للمرأة ما الذي تغنين ، قالت : أقول :
__________________
تطاول هذا الليل
واسود جانبه
|
|
وأرقني إلا حبيب
ألاعبه
|
فو الله لو لا
خشية الله والتقى
|
|
لزعزع من هذا
السرير جوانبه
|
ولكن عقلي
والهواء يكفني
|
|
وأكرم بعلي أن
تنال مراكبه
|
فقال الرجل : ما بهذا
أمرنا يا أمير المؤمنين! قال الله تعالى : ( وَلا تَجَسَّسُوا ) ، فقال عمر :
صدقت ، وانصرف .
__________________
__________________
وأجيب بأن للإمام أن
يجتهد في إزالة المنكر بهذا الجنس من الفعل ، وإنما لحقه الخجل .. لأنه لم يصادف
الأمر على ما ألقي إليه في إقدامهم على المنكر.
وأجاب السيد
المرتضى رضوان الله عليه ب : أن التجسس محظور بالقرآن والسنة ،
وليس للإمام أن يجتهد فيما يؤدي إلى مخالفة الكتاب والسنة ، وقد كان يجب ـ إن كان
هذا عذرا صحيحا ـ أن يعتذر به إلى من خطأه في وجهه ، وقال له : إنك أخطأت السنة من
وجوه ، فإنه بمعاذير نفسه أعلم من غيره ، وتلك الحال حال تدعو إلى الاحتجاج وإقامة العذر ، وكل هذا تلزيق وتلفيق.
انتهى.
ولا يخفى أن قولهم
: إنما لحقه الخجل لعدم مصادفته الأمر على ما ألقي إليه .. مخالف لما رواه ابن أبي
الحديد وغيره كما عرفت.
__________________
ثم إنهم عدوا من
فضائل عمر أنه أول من عس في عمله نفسه ، لزعمهم أن ذلك أحرى بسياسة
الرعية ، وقد ظهر من مخالفته لصريح الآية أنه من جملة مطاعنه ، ولو كان خيرا لما
تركه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولكان الله تعالى يأمر بذلك ، فعدهم ذلك من فضائله ترجيح
لرأي عمر على ما قضى الله ورسوله به ، وهل هذا إلا كفر صريح؟!.
الطعن الثامن :
ما ورد في جميع
صحاحهم ـ وإن لم يتعرض له أكثر أصحابنا ، وهو عندي من أفحش مطاعنه وأثبتها ـ وهو
أنه ترك الصلاة لفقد الماء ، وأمر من أجنب ولم يجد الماء أن لا يصلي من غير استناد
إلى شبهة ، كما روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وصاحب جامع الأصول ، عن شقيق قال : كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى الأشعري
، فقال له أبو موسى : لو أن رجلا أجنب ولم يجد الماء شهرا أما كان يتيمم
ويصلي؟! و كيف تصنعون بهذه الآية في سورة
__________________
المائدة : ( فَلَمْ
تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) ، فقال عبد الله
: لو رخص لهم في هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا الصعيد . قلت : وإنما
كرهتم هذا لذا . قال : نعم. فقال له أبو موسى : ألم تسمع قول
عمار لعمر : بعثني رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء
فتمرغت في الصعيد كما يتمرغ الدابة ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه [ وآله ] ، فقال : إنما
كان يكفيك أن تصنع هكذا .. فضرب بكفه ضربة على الأرض ثم نفضها ثم مسح ظهر كفه بشماله ،
أو ظهر شماله بكفه ، ثم مسح بهما وجهه ، فقال عبد الله : ألم تر عمر لم يقنع
بقول عمار .
قال البخاري : وزاد يعلى ، عن
الأعمش ، عن شقيق ، قال : : كنت مع عبد الله وأبي موسى ، فقال له أبو موسى : ألم
تسمع قول عمار لعمر : إن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] بعثني أنا وأنت ،
فأجنبت ، فتمعكت في الصعيد فأتينا
__________________
رسول الله صلى
الله عليه [ وآله ] فأخبرناه ، فقال : إنما يكفيك هكذا .. ومسح وجهه وكفيه واحدة.
وروى البخاري ـ أيضا ـ في موضع
آخر ، عن شقيق بن سلمة ، قال : كنت عند عبد الله وأبي موسى ، فقال له أبو موسى : أرأيت
ـ يا أبا عبد الرحمن إذا أجنب فلم يجد ماء كيف يصنع؟. فقال عبد الله : لا يصلي حتى
يجد الماء. فقال أبو موسى : كيف تصنع بقول عمار حين قال له النبي صلى الله عليه [ وآله ] :
كان يكفيك .. قال : ألم تر عمر لم يقنع بذلك! فقال أبو موسى : فدعنا من قول عمار ، كيف تصنع
بهذه الآية؟ ، فما درى عبد الله ما يقول! ، فقال : إنا لو رخصنا لهم في هذا لأوشك
إذا برد على أحدهم الماء أن يدعه ويتيمم ، قال الأعمش : فقلت لشقيق : فإنها كره
عبد الله لهذا. قال : نعم .
وروى البخاري ـ أيضا ـ ، عن
أبي وابل ، قال : قال أبو موسى لعبد الله بن مسعود : إذا لم يجد الماء لا يصلي؟.
قال عبد الله : لو رخصت لهم في هذا كان إذا وجد أحدهم البرد قال هكذا ـ يعني تيمم
ـ وصلى ، قال : قلت : فأين قول عمار لعمر؟. قال : إني لم أر عمر قنع بقول عمار .
وروى أيضا ، عن سعيد
بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، قال : جاء رجل إلى
__________________
عمر بن الخطاب ،
فقال : إني أجنبت فلم أصب الماء؟. فقال عمر : لا تصل. فقال عمار بن ياسر لعمر بن
الخطاب : أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت ، فأما أنت فلم تصل ، وأما أنا فتمعكت
فصليت ، فذكرت للنبي صلى الله عليه [ وآله ] ، فقال النبي صلى الله عليه [ وآله ]
: إنما كان يكفيك هكذا .. فضرب النبي صلى الله عليه [ وآله ] بكفيه الأرض ونفخ
فيهما ، ثم مسح بهما وجهه وكفيه .
وروى مسلم بالإسناد المذكور
إلى قوله : ثم تمسح بهما وجهك وكفيك ، فقال عمر : اتق الله يا عمار!. فقال : إن
شئت لم أحدث به.
وفي رواية أخرى لمسلم ،
فقال عمر : نوليك ما توليت.
وفي رواية أخرى له
، قال عمار : يا أمير المؤمنين! إن شئت لما جعل الله علي من حقك ـ ألا أحدث
به أحدا .
__________________
وقال في جامع
الأصول ـ بعد حكاية رواية البخاري ومسلم : ـ وفي رواية أبي داود
أنه قال : كنت عند عمر فجاءه رجل ، فقال : إنا نكون بالمكان الشهر والشهرين ، فقال
عمر : أما أنا فلم أكن أصلي حتى أجد الماء. قال : فقال عمار :يا أمير المؤمنين! أما
تذكر إذ كنت أنا وأنت في الإبل فأصابتنا جنابة ، فأما أنا فتمعكت فأتيت النبي صلى
الله عليه [ وآله ] فذكرت ذلك ، فقال : إنما يكون يكفيك أن تقول هكذا .. وضرب بيديه الأرض ثم نفخهما ثم مسح
بهما وجهه ويديه إلى نصف الذراع. فقال عمر : يا عمار! اتق الله. فقال : يا أمير
المؤمنين! إن شئت والله لم أذكره أبدا. فقال عمر : كلا! والله لنولينك من ذلك ما
توليت .. ثم ذكر أربع روايات في ذلك عن أبي داود.
وروى عن النسائي أيضا
أخبار قريبة المضامين من الأخبار الأخيرة .
والتمعك : التمرغ .
__________________
وقال في جامع
الأصول في قوله : نوليك ما توليت .. أي نكلك إلى ما قلت ، ونرد إليك ما
وليته نفسك ورضيت لها به.
فإذا وقفت على هذه
الأخبار التي لا يتطرق للمخالفين فيها سبيل إلى الإنكار فنقول :
لا تخلو الحال من
أن يكون عمر حين أمر السائل بترك الصلاة لفقدان الماء وعدم إذعانه لقول عمار ،
وقوله : أما أنا فلم أكن أصلي حتى أجد الماء .. عالما بشرعية التيمم ووجوب الصلاة
على فاقد الماء ، متذكرا للآية وأمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أو جاهلا بذلك غير متذكر للكتاب والسنة.
فإن كان الأول ـ كما
هو الظاهر ـ كان إنكاره التيمم ردا صريحا على الله وعلى رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم وليس تخصيصا أو تقييدا للنص بالاجتهاد ، بل رفعا لحكمه رأسا لظن استلزامه
الفساد ، وهو إسناد للأمر بالقبيح إلى الله عز وجل وتجهيل له ، تعالى عن ذلك علوا
كبيرا ، وذلك كفر صريح.
وإن كان الثاني ،
كان ذلك دليلا واضحا على غاية جهله وعدم صلوحه للإمامة ، فإن من لم يعلم ـ في أزيد
من عشرين سنة ـ مثل هذا الحكم الذي تعم بلواه ولا يخفى على العوام ، وكان مصرحا به
في موضعين من كتاب الله عز وجل ، ولعله لعمله تعالى بإنكار هذا اللعين كرره في
الكتاب المبين وأمر به رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في غير موطن ، كما يظهر بالرجوع إلى رواياتهم المنقولة في
جامع الأصول وسائر كتبهم ، واستمر عليه عمل الأمة في تلك المدة مع تكرر وقوعه ،
كيف يكون أهلا للإمامة صالحا للرئاسة العامة؟! لا سيما وفي القوم صادق مصدق يقول :
سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق
__________________
الأرض.
__________________
ويقول : لو ثنيت
لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم ، وبين أهل الإنجيل
بإنجيلهم ، وبين أهل الفرقان بفرقانهم ، حتى يزهر كل إلى ربه ويقول إن عليا قضى
فينا بقضائك ، ويقول : علمني رسول الله صلىاللهعليهوآله ألف باب يفتح من كل باب ألف باب. ويشهد له الرسول الأمين صلىاللهعليهوآله بأنه : باب مدينة العلم ، وأقضى الأمة .
والعجب أنه ... لم
يكن يجوز خلافة عبد الله ابنه عند موته معتلا بأنه لم يعرف كيف يطلق امرأته ، ومن يجهل مثل
ذلك لا يصلح للإمامة! فكيف يجوز اتباعه و إمامته مع جهله مثل هذا الحكم البين المنصوص عليه بالكتاب
والسنة؟!
ولا يخفى على
المتأمل الفرق بين الأمرين من وجوه شتى :
__________________
منها : أن الطلاق
أمر نادر الوقوع ، والصلاة بالتيمم أكثر وقوعا.
ومنها : أن الصلاة
أدخل في الدين من النكاح والطلاق.
ومنها : أن بطلان
هذا النوع من الطلاق لم يظهر من الكتاب والسنة ظهور وجوب التيمم.
ومنها : أن فعل
ابنه كان في زمن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وبدو نزول الحكم ، وإنكاره كان بعد ظهور الإسلام وانتشار
الأحكام.
ومنها : أن جهل
ابنه ارتفع بالتنبيه ، وهو قد أصر بعد التذكير والإعلام.
وفي الفرق وجوه
أخر تركناها للمتدبر.
والحق أن ادعاء
الجهل منه في مثل تلك المسألة الضرورية المتكررة الوقوع ليس من ادعاء الشبهة
المحتملة ، بل يجب الحكم بكفره بمجرد ذلك الإنكار ، ويدل على أن إنكاره لم يكن
للجهل ، بل كان ردا على الله سبحانه وتعالى وتقبيحا لحكمه ، إنه لو كان للجهل لسأل
غيره من الصحابة حتى يظهر له صدق ما ذكره عمار أو كذبه ، فيحكم بعد ذلك بما كان
يظهر له ، فإن ترك الخوض في تحقيق الحكم ـ مع كون الخطب فيه جليلا لإفضائه إلى ترك
الصلاة التي هي أعظم أركان الدين ، مع قرب العهد وسهولة تحقيق الحال ـ ليس إلا
تخريبا للشريعة وإفسادا في الدين.
وقال بعض الأفاضل
: يمكن أن يستدل به [ عليه ] بوجه أخص ، وهو أنه لا خلاف في أن من استحل ترك
الصلاة فهو كافر ، ولا ريب في أن قوله : أما أنا فلم أكن أصلي حتى أجد الماء ، بعد
قول الرجل السائل : إنا نكون بالمكان الشهر والشهرين .. ونهيه السائل عن الصلاة ـ كما
في الروايات الأخر ـ استحلال لترك الصلاة مع فقد الماء ، وهو داخل في عموم قوله صلىاللهعليهوآله : من ترك
__________________
الصلاة متعمدا فقد
كفر .. ولم يخصصه أحدا إلا بالمستحل .
__________________
تنبيه :
اعلم أنه يظهر من
تلك الواقعة ضعف ما يتشبث به المخالفون في كثير من المواضع من ترك النكير ، فإن
بطلان هذا الحكم ومخالفته للإجماع أمر واضح ، ولم ينقل عن أحد من الصحابة إنكار
ذلك عليه ، وقد قال عمار ـ بعد تذكيره بأمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ : إن شئت لم أحدث به أحدا .. خوفا من أن يلحقه ضرر بالرد عليه والإنكار
لفتياه ، ولم يكن عمار في شك من روايته حتى يكون تركه الإنكار لفتياه ، ولم يكن
عمار في شك من روايته حتى يكون تركه الإنكار تصويبا لرأي عمر وتصديقا له ، وإذا
كان ترك الإنكار في أمر التيمم ـ مع عدم تعلق الأغراض الدنيوية به للخوف أو غير
ذلك ـ مما لا يدل على التصويب ، فأمور الخلافة والسلطنة أحرى بأن لا يكون ترك
الإنكار فيها حجة على صوابها ..
الطعن التاسع :
إنه أمر برجم حامل
حتى نبهه معاذ ، وقال : إن يكن لك سبيل عليها فلا سبيل لك على ما في بطنها ، فرجع
عن حكمه ، وقال : لو لا معاذ لهلك عمر .
__________________
ومن جهل هذا القدر
لا يجوز أن يكون إماما ، لأنه يجري مجرى أصول الشرائع ، بل العقل يدل عليه ، لأن الرجم عقوبة ،
ولا يجوز أن يعاقب من لا يستحق.
وأجاب عنه قاضي
القضاة بأنه ليس في الخبر أنه أمر برجمها مع علمه بأنها حامل ،
لأنه ليس ممن يخفى عليه هذا القدر ـ وهو أن الحامل لا ترجم حتى تضع وإنما ثبت عنده
زناها فأمر برجمها على الظاهر ، وإنما قال ما قال في معاذ لأنه
نبهه على أنها حامل.
قال : فإن قيل :
إذا لم يكن منه معصية فكيف يهلك لو لا معاذ؟!.
قلنا : لم يرد الهلك
من جهة العذاب ، وإنما أراد أن يجري بقوله : قتل من لا يستحق القتل ، كما يقال للرجل هلك من
الفقر ، وصار سبب القتل خطأ. ويجوز أن يريد بذلك تقصيره في تعرف حالها ، لأن ذلك لا
يمتنع أن
__________________
يكون خطيئة وإن
صغرت.
وأورد عليه السيد
المرتضى رضوان الله عليه بأنه : لو كان الأمر على ما ظنه لم يكن تنبيه
معاذ على هذا الوجه ، بل كان يجب أن ينبهه بأن يقول : هي حامل ، ولا
يقول له : إن كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها ، لأن ذلك قول من عنده أنه
يرجمها مع العلم بحالها ، وأقل ما يجب ـ لو كان الأمر كما ظنه ـ أن يقول لمعاذ
: ما ذهب علي أن الحامل لا ترجم ، وإنما أمرت برجمها لفقد علمي بحملها ،
فكان ينفي بهذا القول عن نفسه الشبهة. وفي إمساكه عنه ـ مع شدة الحاجة إليه ـ دليل
على صحة قولنا ، وقد كان يجب أيضا أن يسأل عن الحمل لأنه أحد الموانع من الرجم ،
فإذا علم انتفاؤه أمر بالرجم ، وصاحب الكتاب قد اعترف بأن ترك المسألة عن
ذلك تقصير وخطيئة ، وادعى أنهما صغيرة ، و من أين له ذلك ولا دليل عنده يدل في غير الأنبياء عليهمالسلام أن معصيته بعينها صغيرة.
__________________
فأما إقراره
بالهلاك لو لا تنبيه معاذ .. فهو يقتضي التفخيم والتعظيم لشأن الفعل ، ولا
يليق ذلك إلا بالتقصير الواقع ، إما في الأمر برجمها مع العلم بأنها حامل ، أو ترك
البحث عن ذلك والمسألة عنه ، وأي لوم في أن يجري بقوله قتل من لا يستحق القتل إذا لم يكن ذلك عن
تفريط ولا تقصير. انتهى كلامه رفع الله مقامه.
ومما يؤيده هذه القصة ، ما
رواه الشيخ المفيد رحمهالله في الإرشاد أنه أتي عمر بحامل قد زنت فأمر برجمها ، فقال له أمير
المؤمنين عليهالسلام : هب أن لك سبيلا عليها ، أي سبيل لك على ما في بطنها؟! والله
تعالى يقول : ( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) . فقال عمر : لا
عشت لمعضلة لا يكون لها أبو الحسن .
__________________
وحكى في كشف الغمة
من مناقب الخوارزمي أنه قال : أتي عمر في ولايته بامرأة حاملة فسألها عمر
فاعترفت بالفجور ، فأمر بها عمر أن ترجم ، فلقيها علي بن أبي طالب عليهالسلام ، فقال : ما بال هذه؟. فقالوا : أمر بها عمر أن ترجم ، فردها علي عليهالسلام ، فقال : أمرت بها أن ترجم؟!. فقال : نعم ، اعترفت عندي بالفجور. فقال : هذا
سلطانك عليها ، فما سلطانك على ما في بطنها؟. ثم قال له علي عليهالسلام : فلعلك انتهرتها أو أخفتها. فقال : قد كان ذاك. قال : أوما سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : لا حد على معترف بعد بلاء ، إنه من قيدت أو حبست أو تهددت فلا إقرار له. فخلى عمر
سبيلها ،. ثم قال : عجزت النساء أن يلدن مثل علي بن أبي طالب (ع) ، لو لا علي لهلك
عمر .
__________________
وستأتي الأخبار في
ذلك في باب قضاياه عليهالسلام.
الطعن العاشر :
أنه أمر برجم
المجنونة فنبه أمير المؤمنين عليهالسلام وقال : إن القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق. فقال : لو لا علي لهلك عمر .
__________________
وهذا يدل على أنه
لم يكن يعرف الظاهر من الشريعة.
وقد اعترف قاضي
القضاة وابن أبي الحديد وسائر من تصدى للجواب عنه بصحته.
وقد حكى في كشف
الغمة من مناقب الخوارزمي مرفوعا عن الحسن ، أن عمر بن الخطاب أتي بامرأة مجنونة قد زنت ، فأراد
أن يرجمها ، فقال له علي عليهالسلام : يا عمر ! أما سمعت ما قال رسول الله صلىاللهعليهوآله؟. قال : وما قال؟. قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : رفع القلم عن ثلاثة : عن المجنون حتى يبرأ ، وعن الغلام حتى يدرك ، وعن النائم حتى
يستيقظ. قال : فخلى عنها.
وحكى في الطرائف ، عن أحمد بن
حنبل في مسنده ، عن الحسن ، مثله.
قال : وذكر أحمد
في مسنده ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كان يتعوذ بالله
__________________
من معضلة لم يكن
لها أبو حسن .
وحكاه العلامة رحمهالله في كشف الحق من مسند أحمد .
وأجاب عنه قاضي
القضاة بأنه : ليس في الخبر أنه عرف جنونها ، فيجوز أن يكون الذي
نبه عليه أمير المؤمنين عليهالسلام هو جنونها دون الحكم ، لأنه كان يعلم أن الحد لا يقام في حال الجنون ، وإنما قال : لو
لا علي لهلك عمر ، لا من جهة المعصية والإثم ، لكن من جهة أن حكمه لو نفذ لعظم
غمه ، ويقال في شدة الغم أنه هلاك ، كما يقال في الفقر وغيره ، وذلك مبالغة منه
لما كان يلحقه من الغم الذي زال بهذا التنبيه ، على أن هذا الوجه مما لا يمتنع في
الشرع أن يكون صحيحا ، وأن يقال إذا كانت مستحقة للحد فإقامته عليها صحيحة وإن لم يكن لها
عقل ، لأنه لا يخرج الحد من أن يكون واقعا موقعه ، ويكون قوله عليهالسلام : رفع القلم عن ثلاثة .. يراد به زوال التكليف عنهم دون زوال
__________________
إجراء الحكم عليهم ،
وما هذه حاله لا يمتنع أن يكون مشتبها فيرجع فيه إلى غيره ، فلا
يكون الخطأ فيه مما يعظم فيمنع من صحة الإمامة.
وأورد عليه السيد
المرتضى رضوان الله عليه : بأنه لو كان أمر برجم المجنونة من غير
علم بجنونها لما قال له أمير المؤمنين عليهالسلام : أما علمت أن القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق؟! بل كان
يقول له بدلا عن ذلك : هي مجنونة ، وكان ينبغي أن يكون
عمر لما سمع من التنبيه له على ما يقتضي الاعتقاد فيه أنه أمر برجمها مع العلم
بجنونها ، يقول متبرئا من الشبهة : ما علمت بجنونها ، ولست ممن يذهب عليه أن المجنون
لا يرجم ، فلما رأيناه استعظم ما أمر به وقال : لو لا علي لهلك عمر .. دلنا على أنه كان تأثم
وتحرج بوقوع الأمر بالرجم ، وأنه مما لا يجوز ولا يحل ، وإلا فلا معنى
لهذا الكلام.
وأما ما ذكره من
الغم الذي كان يلحقه .. فأي غم يلحقه إذا فعل ما له أن يفعله ، ولم يكن منه تفريط ولا تقصير ؟. لأنه إذا كان
جنونها لم يعلم به ، وكانت المسألة عن حالها والبحث لا يجبان عليه ، فأي وجه
لتأمله وتوجعه
__________________
واستعظامه لما
فعله؟! وهل هذا إلا كرجم المشهود عليه بالزنا في أنه لو ظهر للإمام بعد ذلك براءة ساحته لم
يجب أن يندم على فعله ويستعظمه ، لأنه وقع صوابا مستحقا؟.
وأما قوله : إن كان لا يمتنع في
الشرع أن يقام الحد على المجنون وتأوله الخبر المروي على أنه يقتضي زوال
التكليف دون الأحكام .. فإن أراد أنه لا يمتنع في العقل أن يقام على المجنون ما هو
من جنس الحد بغير استخفاف ولا إهانة فذلك صحيح كما يقام على التأديب ، وأما الحد في
الحقيقة ـ وهو الذي يضامه الاستخفاف والإهانة فلا يقام إلا على المكلفين
ومستحقي العقاب ، وبالجنون قد زال التكليف فزال استحقاق العقاب
الذي يتبعه الحد.
وقوله : لا يمتنع
أن يرجع فيما هذا حاله من المشتبه إلى غيره .. فليس هذا من المشتبه الغامض ، بل
يجب أن يعرفه العوام فضلا عن العلماء ، على أنا قد بينا أنه لا يجوز أن يرجع
الإمام في جلي ولا مشتبه من أحكام الدين إلى غيره .
__________________
وقوله : إن الخطأ
في ذلك لا يعظم فيمنع من صحة الإمامة .. اقتراح بغير حجة ، لأنه
إذا اعترف بالخطإ فلا سبيل للقطع على أنه صغير. انتهى كلامه قدسسره.
أقول
: ويرد على ما ذكره
من أن الأمر في حد المجنون مقام الاشتباه فلا طعن في جهل عمر به ، وأن يرجع فيه
إلى غيره .. أنه لو كانت الشبهة لعمر ما ذكره ، لكانت القصة دليلا على جهله من وجه
آخر ، وهو أنه إذا زعم عمر أن رفع القلم إنما يستلزم زوال التكليف دون إجراء الحكم
ـ كما صرح به ـ كيف يكون تذكير أمير المؤمنين عليهالسلام إياه بالحديث النبوي دافعا للشبهة ، وإنما النزاع حينئذ في
دلالة الخبر على عدم جواز إجراء الحد عليه ، فرجوع عمر عند سماعه عما زعمه دليل
واضح على غاية جهله ، فإن ذكر الرواية حينئذ ليس إلا من قبيل إعادة المدعى.
ثم اعلم أن الظاهر
من كلام القاضي وغيره في هذا المقام عدم تجويز الخطإ الفاحش على الإمام وإن جوزوا
عليه الخطأ في الاجتهاد ، ولعلهم لم يجوزوا ذلك لكونه كاشفا عن عدم أهلية صاحبه للاجتهاد ، إذ
ليس أهلية الاجتهاد غالبا مما يقوم عليه دليل سوى الآثار الدالة عليها ، وظاهر أن
الأوهام الفاضحة كاشفة عن عدم تلك الأهلية ، فهي معارضة لما يستدل به عليها ، ولذا
تشبث القاضي في مقام الجواب بكون الأمر في رجم المجنونة مشتبها ، واستند إلى عدم
دلالة قوله عليهالسلام : رفع القلم عن المجنون .. على عدم إجراء الحكم ، إذ يمكن
أن يكون المراد به زوال التكليف فقط ، وقد عرفت أن ذلك لا يصلح منشأ للاشتباه ،
لكون
__________________
الخطأ حينئذ
بالانتهاء عند سماع الخبر من دون إقامة دليل على وجه الدلالة فيه أفحش ، فظهر أنه
لا يمكنهم الجواب في هذا المقام بأنه إنما كان خطأ عمر من قبيل خطإ المجتهد ، وليس
يلحقه بذلك ذنب صغيرا وكبيرا ، ولذلك طووا كشحا عما هو معقلهم الحصين ـ بزعمهم ـ من
حديث الاجتهاد ، وسلموا على تقدير علم عمر بجنونها كون الأمر بالرجم خطيئة.
فظهر ضعف ما أجاب
به شارح المقاصد عن الطعن برجم الحامل والمجنونة ومنع المغالاة في الصداق
من : أن الخطأ في مسألة وأكثر لا ينافي الاجتهاد ، ولا يقدح في الإمامة ،
والاعتراف بالنقصان هضم النفس ودليل على الكمال ..
وذلك لأنا لو
تنزلنا عن اشتراط العصمة في الإمام وجوزنا له الاجتهاد في الأحكام ، فلا ريب في أن
الخطأ الفاحش والغلط الفاضح مانع عن الإمامة ، وإنما لا يقدح ـ على فرض الجواز ـ ما
لا يدل على الغباوة الكاملة والبلادة البالغة ، وعدم استيهال صاحبه لفهم المسائل
واستنباط الأحكام ورد الفروع إلى الأصول ، فإذا تواتر الخبط وترادفت الزلة ـ لا
سيما في الأمور الظاهرة والأحكام الواضحة ـ فهل يبقى مجال للشك في منعه عن استيهال
الاجتهاد وصلوح الإمامة؟ وليت شعري ، من أين هذا اليقين الكامل والاعتقاد الجازم
لهؤلاء القوم باجتهاد إمامهم وبلوغه في العلم حد الكمال ، مع ما يرون ويروون
في كتبهم من خطبه وخطأه واعترافه بالزلة ، والعجز موطنا بعد موطن ، ومقاما بعد
مقام ، وقد بذلوا مجهودهم في
__________________
إظهار فضله فلم
يظفروا له على استنباط لطيف واستخراج دقيق في مسألة واحدة يدل على جودة قريحته
وذكاء فطرته ، وليس ما رووا عنه إلا من محاورات العوام ومحاضرات الأوغاد والطغام .
الطعن الحادي عشر :
ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما بعدة طرق ، عن
عبيد بن عمير وأبي موسى الأشعري ، قال : استأذن أبو موسى على عمر فكأنه وجده
مشغولا فرجع ، فقال عمر : ألم تسمع صوت عبد الله بن قيس؟ ، ائذنوا له ، فدعي له ، فقال : ما حملك
على ما صنعت؟. فقال : إنا كنا نؤمر بهذا. فقال : فائتني على هذا ببينة أو لأفعلن بك ! ، فانطلق إلى
مجلس من الأنصار ، فقالوا : لا يشهد لك إلا أصاغرنا ، فقام أبو سعيد
الخدري فقال : قد كنا نؤمر بهذا. فقال عمر :
__________________
خفي علي هذا من
أمر رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] ، ألهاني الصفق بالأسواق .
ولا خفاء في أن ما
خفي على عمر من ذلك أمر متكرر الوقوع من العادة والسنن التي كان يعلمها المعاشرون
له صلىاللهعليهوآله ، فكيف خفي على هذا الرجل الذي يدعون أنه صلىاللهعليهوآله كان يشاوره في الأمور ويستمد بتدبيره؟! ، فليس هذا إلا من فرط غباوته ، أو
قلة اعتنائه بأمور الدين ، أو إنكاره لأمور الشرع مخالفة لسيد المرسلين.
الطعن الثاني عشر :
ما رواه ابن أبي
الحديد ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : حججنا مع عمر أول حجة حجها
في خلافته ، فلما دخل المسجد الحرام ، دنا من الحجر الأسود فقبله واستلمه ، فقال :
إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولو لا أني رأيت
__________________
رسول الله صلى
الله عليه [ وآله ] قبلك واستلمك لما قبلتك ولا استلمتك.
فقال له علي عليهالسلام : بلى ـ يا أمير المؤمنين ـ إنه ليضر وينفع ، ولو علمت تأويل
ذلك من كتاب الله لعلمت أن الذي أقول لك كما أقول ، قال الله تعالى : ( وَإِذْ
أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ
عَلى أَنْفُسِهِمْ
__________________
أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ) ، فلما أشهدهم وأقروا له بأنه الرب عز وجل
وأنهم العبيد ، كتب ميثاقهم في رق ثم ألقمه هذا الحجر ، وإن له لـ (
عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ ) ، يشهد بالموافاة ، فهو أمين الله عز وجل في هذا المكان.
فقال عمر : لا
أبقاني الله بأرض لست بها يا أبا الحسن .
ورواه الغزالي في
كتاب إحياء العلوم .
وروى البخاري ومسلم في صحيحهما ولم
يذكرا تنبيه أمير المؤمنين عليهالسلام إياه.
واعتذر عنه في
المنهاج بأنه : إنما قال ذلك لئلا يغتر بعض قريبي العهد بالإسلام
الذي قد ألفوا عبادة الأحجار وتعظيمها رجاء نفعها وخوف
__________________
ضررها .
وما رواه ابن أبي
الحديد يبطل هذا الاعتذار ، إذ لو كان مراده ذلك لبين عذره ولم
يقل : لا أبقاني الله بأرض لست بها ، إذ ظاهر أن هذا كلام المقر بالجهل المعترف
بالخطإ ، وإنما حذفوا التتمة ليتمكنوا من مثل هذا الاعتذار.
الطعن الثالث عشر :
أشياء كثيرة
وأحكام غزيرة تحير فيها وهداه غيره إلى الصواب فيها .. وهذا يدل على غاية جهله
وعدم استئهاله للإمامة ، وسنورد أكثرها في أبواب علم أمير المؤمنين عليهالسلام وقضاياه في المجلد التاسع ، وبعضها في كتاب القضاء ، وكتاب الحدود .
ولنورد هاهنا
قليلا منها من كتب المخالفين :
فمنها
: ما رواه البخاري في صحيحه ، عن
أنس ، قال : كنا عند عمر ، فقال : نهانا عن التكلف.
وقال ابن حجر في
شرحه : ذكر الحميدي ، عن ثابت ، عن أنس : أن
__________________
عمر قرأ : (
وَفاكِهَةً وَأَبًّا ) ، فقال : ما الأب؟. ثم قال : ما كلفنا ـ أو قال : ما أمرنا
ـ بهذا. ثم قال ابن حجر : قلت : هو عند الإسماعيلي من رواية هشام ،
عن ثابت : أن رجلا سأل عمر بن الخطاب عن قوله : ( وَفاكِهَةً وَأَبًّا ) ، ما الأب؟. فقال
عمر : نهينا عن التعمق والتكلف .. وهذا أولى أن يكمل به الحديث الذي أخرجه البخاري
، وأولى منه ما أخرجه أبو نعيم .. ، عن أنس ، قال : كنا عند عمر وعليه
قميص في ظهره أربع رقاع يقرأ : ( وَفاكِهَةً وَأَبًّا ) ، فقال : هذه
الفاكهة قد عرفناها ، فما الأب؟. ثم قال : مه! نهينا عن التكلف .
وقد أخرجه عبد بن حميد في
تفسيره ، عن حماد بن سلمة ، وقال بعد قوله : فما الأب؟ ثم قال : يا ابن أم عمر! إن هذا هو التكلف ،
وما عليك أن
__________________
لا تدري ما الأب! .
وعن عبد الرحمن بن
يزيد : أن رجلا سأل عمر عن : ( فاكِهَةً وَأَبًّا ) ، فلما رآهم عمر
يقولون ، أقبل عليهم بالدرة .
ومن وجه آخر ، عن
إبراهيم النخعي ، قال : قرأ أبو بكر الصديق : ( وَفاكِهَةً وَأَبًّا ) ، فقيل : ما الأب؟.
فقيل : كذا .. وكذا ، فقال أبو بكر : إن هذا هو التكلف ، أي أرض تقلني؟ وأي سماء
تظلني؟ إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم!.
ومن طريق إبراهيم
التميمي نحوه. انتهى مختصر كلام ابن حجر.
وقد ظهر مما رواه أن تفسير « الأب
» كان عند الشيخين معضلة لم يوفقا للعلم به مع أنه يعرفها كل ، وقولهما : إن هذا
هو التكلف .. لا يخلوا عن منافرة لقوله تعالى : ( أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) ، وفي حذف
البخاري حكاية الجهل بالأب دلالة على تعصبه وأنه لا يذكر في أكثر المواضع ما فيه
فضيحة للخلفاء.
ومنها
: ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي
__________________
والنسائي وصاحب جامع
الأصول بأسانيدهم ، عن المغيرة بن شعبة ، قال : سئل عمر بن الخطاب
عن إملاص المرأة ـ وهي التي تضرب بطنها فيلقى جنينها ـ ، فقال
: أيكم سمع من النبي (ص) فيه شيئا؟. قال : فقلت : أنا. قال :ما هو؟. قلت : سمعت
النبي صلى الله عليه [ وآله ] يقول : فيه غرة عبد أو أمة ، قال : لا تبرح حتى
تجيئني بالمخرج مما قلت. فخرجت فوجدت محمد بن سلمة : فجئت به فشهد
معي أنه سمع النبي صلى الله عليه [ وآله ] يقول فيه :غرة عبد أو أمة.
هذه رواية البخاري
ومسلم ، وباقي الروايات على ما أورده في جامع الأصول قريبة منها.
ومنها
:ما رواه في نهج
البلاغة : أنه ذكر عند عمر بن الخطاب حلي الكعبة وكثرته ، فقال قوم
: لو أخذت فجهزت به جيوش المسلمين كان أعظم للأجر ، وما تصنع الكعبة بالحلي؟. فهم
عمر بذلك وسأل عنه أمير المؤمنين عليهالسلام ، فقال :
إن القرآن أنزل
على محمد صلىاللهعليهوآله والأموال الأربعة : أموال
__________________
المسلمين فقسمها
بين الورثة في الفريضة ، والفيء فقسمه على مستحقه ، والخمس فوضعه
الله حيث وضعه ، والصدقات فجعلها الله حيث جعلها ، وكان حلي الكعبة فيها يومئذ
فتركه الله على حاله ، ولم يتركه نسيانا ، ولم يخف عليه مكان ، فأقره حيث أقره
الله ورسوله. فقال عمر : لولاك لافتضحنا ، وترك الحلي بحاله.
وروى البخاري ، بإسناده عن أبي
وائل ، قال : جلست مع شيبة على الكرسي في الكعبة ، فقال : لقد جلس هذا المجلس عمر
، فقال : لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمته. قلت : إن صاحبيك لم
يفعلا. قال : هما المرءان أقتدي بهما.
وروى في جامع
الأصول ، عن شقيق ، قال : إن شيبة بن عثمان قال له :قعد عمر مقعدك
الذي أنت فيه. فقال : لا أخرج حتى أقسم مال الكعبة. قلت :ما أنت بفاعل. قال : بلى
، لأفعلن. قلت : ما أنت بفاعل. قال : لم؟. قلت : مضى النبي صلى الله عليه [ وآله ]
وأبو بكر وهما أحوج منك إلى المال فلم يخرجاه ، فقام وخرج. قال :
أخرجه أبو داود .
__________________
ومنها
: ما رواه ابن أبي
الحديد ، قال : مر عمر بشاب من الأنصار وهو ظمآن
فاستسقاه فماص له عسلا ، فرده ولم يشرب ، وقال : إني سمعت الله سبحانه يقول : (
أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها ) وقال الفتى : إنها والله ليست لك ، اقرأ يا أمير المؤمنين ما قبلها :
__________________
( ..
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ
فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا ) نحن منهم؟ فشرب ، وقال : كل الناس أفقه من عمر .
أقول
: لعله كان في
رجوعه أبين خطأ من ابتدائه ، فتدبر.
والأخبار في ذلك
كثيرة في كتبنا وكتبهم لا نطيل الكلام بإيرادها .
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
وسيأتي بعضها في
أبواب علم أمير المؤمنين عليهالسلام .
ومن أعجب العجب أن
أتباعه ـ مع نقلهم تلك الروايات ـ يدعون تقدمه في العلم والفضل ، مع أنه ليس أمرا
يمكن أن يدعى فيه البداهة ، ولم يقم دليل من العقل والنقل على أنه يجب أن يكون عمر
من العلماء ، وإنما يعلم علم مثله وجهله بما يؤثر عنه ويظهر من فتاواه وأحكامه
وسائر أخباره ، ولم يكن عمر في أيام كفره من المشتغلين بتحصيل العلوم ومدارسة
المسائل ، بل كان تارة من رعاة الإبل ، وتارة حطابا ، وأحيانا مبرطسا وأجيرا لوليد
بن المغيرة ونحوه في الأسفار لخدمة الإبل وغيرها ، ولم يكن من أحبار اليهود
وأساقفة النصارى وعلماء المشركين ، وفي الإسلام أيضا لم يكن من المشتغلين بمدارسة
المسائل ، وأكثر
__________________
اشتغاله كان
بالبرطسة والصفق بالأسواق ، وقد حصروا مروياته ـ مع طول صحبته ، واهتمام أتباعه
برواية ما يؤثر عنه ـ في خمسمائة وتسعة وثلاثين ، منها ستة وعشرون من المتفق عليه
، وأربعة وثلاثون من إفراد البخاري ، وأحد وعشرون من إفراد مسلم ، وقد رووا عن أبي
هريرة في أقل من السنتين من الصحبة خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثا ، وعن
ابن عمر ألفين وستمائة وثلاثين ، وعن عائشة وأنس قريبا من ذلك ، وليس في
مروياته مسألة دقيقة يستنبط منها علمه وفضله ، وكذلك ما حكي عنه من أخباره وسيره ،
ولم ينقلوا عنه مناظرة لعالم من
__________________
علماء الملل ولا
لعلماء الإسلام غلب عليهم فيها ، بل كتبهم مشحونة بعثراته وزلاته ، واعترافه
بالجهل ـ كما أفصح عنه قول أمير المؤمنين عليهالسلام ـ : ويكثر العثار والاعتذار منها
__________________
__________________
الفهرس
[ الجزء
٣٠ ]
باب [١٦] باب آخر فيما كتب عليهالسلام إلى أصحابه في ذلك تصريحا وتلويحا ............ ٧
باب [١٧] احتجاج
الحسين عليهالسلام على عمر وهو على المنبر........................ ٤٧
باب [١٨] في ذكر ما
كان من حيرة الناس بعد وفاة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وغصب الخلافة ، وظهور جهل الغاصبين وكفرهم ورجوعهم إلى أمير
المؤمنين عليهالسلام ............................................................. ٥٣
باب [١٩] ما أظهر أبو
بكر وعمر من الندامة على غصب الخلافة عند الموت...... ١٢١
باب [٢٠] كفر الثلاثة
ونفاقهم وفضائح أعمالهم وقبائح آثارهم وفضل التبري منهم ولعنهم...... ١٤٥
باب [٢١] باب آخر في
ذكر أهل التابوت في النار.............................. ٤٠٥
باب [٢٢] باب تفصيل
مطاعن أبي بكر والاحتجاج بها على المخالفين بإيراد الأخبار من كتبهم ٤١١
الطعن الأول : عدم
تولية النبي صلىاللهعليهوآله لأبي بكر شيئا من الأعمال وعزله عن تبليغ سورة براءة ٤١١
الطعن الثاني : التخلف
عن جيش أسامة........................................ ٤٢٧
الطعن الثالث : ما جرى
منه في أمر فدك ...................................... ٤٤٣
الطعن الرابع : كون
بيعة أبي بكر فلتة.......................................... ٤٤٣
الطعن الخامس ترك
الخليفة لإقامة الحد ......................................... ٤٧١
الطعن السادس : قوله :
أقيلوني إن لي شيطانا يعتريني............................ ٤٩٥
الطعن السابع : جهل
الخليفة بكثير من أحكام أحواله............................ ٥٠٦
خاتمة في ذكر ولادة
أبي بكر ووفاته وبعض أحواله.............................. ٥١٧
باب [٢٣] تفصيل مثالب
عمر والاحتجاج بها على المخالفين بإيراد الأخبار من صحاحهم ، وذكر بعض أحواله وبعض
ما حدث في زمانه........................................................................... ٥٢٩
الطعن الاول : قولته :
إنه ليهجر.............................................. ٥٢٩
الطعن الثاني : التخلف
عن جيش اسامه........................................ ٥٨٢
الطعن الثالث : جهله
بوفاة رسول الله (ص) .................................... ٥٨٢
الطعن الرابع : تحريمه
الخليفة للمتعتين.......................................... ٥٩٤
الطعن الخامس : تعطيل
الحدود الشرعية........................................ ٦٣٩
الطعن السادس : منعه
للمغالاة في صداق النساء ................................. ٦٥٥
الطعن السابع : تجسس
الخليفة وتسوره الدار.................................... ٦٦١
الطعن الثامن : تركه
الصلاة لفقد الماء.......................................... ٦٦٥
الطعن التاسع : أمره
برجم الحامل ............................................. ٦٧٥
الطعن العاشر : أمره
برجم الجنونة ............................................. ٦٨٠
الطعن الحادي عشر :
جهله بأبسط الأمر....................................... ٦٨٧
الطعن الثاني عشر :
جهله بحرمة الحجر الأسود.................................. ٦٨٨
الطعن الثالث عشر :
موارد من جهله وهداية الغيرله............................. ٦٩١
الفهرس .................................................................... ٧٠٧
|