الثالث عشر : الخلوص ، فلو ضمّ إليه الرِّياء بطل ، سواء كانت القربة مستقلّة والرِّياء تبعاً أو بالعكس أو كان كلاهما مستقلا (١)

______________________________________________________

حرمة الرِّياء في الشريعة المقدّسة

(١) لا ينبغي الإشكال في حرمة الرِّياء في الشريعة المقدّسة ، ويكفي في حرمته الأخبار المستفيضة ، بل البالغة حدّ التواتر (١) وفي بعضها « إن كل رياء شرك » (٢) مضافاً إلى الآيات الكتابيّة التي ذمّ الله تعالى فيها المرائي في عمله ، فقد قال تعالى ( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ ) (٣) وقال ( وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النّاسِ ) (٤) وقال ( كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ ) (٥) وقال ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النّاسِ ) (٦) إلى غير ذلك مما ورد في ذمّ الرِّياء ، بل حرمة الرِّياء من جملة‌

__________________

(١) وهي كثيرة جدّاً البالغة نحواً من أربعين رواية ، راجع الوسائل ١ : ٥٩ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٨ ، ١١ ، ١٢ وغيرها من الموارد.

(٢) كرواية يزيد بن خليفة. الوسائل ١ : ٧٠ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١٢ ح ٢ ، والروايات المذكورة فيها هذه الجملة وإن كانت متعدِّدة إلاّ أنّ كلّها ضعيفة ، نعم ورد في موثقة مسعدة بن زياد : « فاتّقوا الله في الرِّياء فإنّه الشِّرك بالله ... » الوسائل ١ : ٦٩ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١١ ح ١٦.

(٣) الماعون ١٠٧ : ٤ ٧.

(٤) النساء ٤ : ٣٨.

(٥) البقرة ٢ : ٢٦٤.

(٦) الأنفال ٨ : ٤٧.


الضروريات وممّا لا ينبغي الإشكال فيه.

إلاّ أن الكلام في موضوعه وأن المحرّم من الرِّياء أي شي‌ء فنقول : إن الرِّياء وإن كان بمفهومه اللغوي يعمّ العبادات وغيرها لأنه بمعنى إتيان العمل بداعي إراءته لغيره إلاّ أنه لا دليل على حرمته في غير العبادات ، فاذا أتى بعمل بداعي أن يعرف الناس كماله وقوّته كما إذا رفع حجراً ثقيلاً ليعرف الناس قوّة بدنه وعضلاته لم يرتكب محرماً بوجه ، وذلك لأنّ المستفاد من الأخبار الواردة في حرمة الرِّياء أن حرمته من جهة أنه شرك وإشراك ، والشرك إنّما يتحقق في العبادات ، وأمّا إذا أتى بعمل لأن يرى الناس كمال صنعه ومعرفته فهو لا يكون مشركاً بالله بوجه ، وكيف كان فلا شك في عدم حرمة الإتيان بالعمل غير العبادي رياء ، نعم لا إشكال في حسن ترك الرِّياء في جميع الأفعال الصادرة من المكلّف حتى في غير العبادات بأن يأتي بجميع أعماله لله ، إلاّ أنه على تقدير تحققه في غير المعصومين قليل غايته ، وإنما المحرّم هو أن يعبد المكلّف الله سبحانه ليريه للناس.

ثمّ إنّ المحرّم إنّما هو الرِّياء في العبادة بما أنّها عبادة ، وأما إذا أتى بالعبادة لله سبحانه إلاّ أنه قصد فيها الرِّياء لا من حيث العبادة بل من جهة أُخرى ، كما إذا أجهر فيها بداعي إعلامه للغير أنه في الدار ، أو قصد ذلك في قيامه في الصلاة ليراه غيره في الدار لئلاّ يتوحّش عن الانفراد ، لأنه أيضاً إتيان للعمل بداعي أن يريه غيره إلاّ أنه ليس رياء في العبادة حقيقة ، وإنما هو رياء في شي‌ء آخر مقارن للعبادة ، فلا إشكال في عدم بطلان العبادة بذلك لأنه لم يشرك في عبادته بل أتى بها خالصاً لوجهه الكريم ، فالرياء المحرّم هو الإتيان بالعبادة بداعي أن يري عبادته للغير.

ثمّ إنّه إذا أتى بالعبادة امتثالاً لأمر الله سبحانه من غير أن يكون لرؤية غيره مدخلية في عبادته ولو بتأكد داعيه إلاّ أنه يعلم أن غيره يرى عبادته وهو يسره فالظاهر صحّة عبادته ، وذلك لفرض عدم مدخلية رؤية الغير في عبادته وإنما محركه نحو العمل هو الامتثال وطاعة ربّه ، ورؤية الغير من الآثار المترتبة على عمله العبادي قهراً من غير أن يكون لها مدخلية فيه ولو بالتأكّد ، كما هو الحال في الصلاة في أماكن‌


الاجتماع كالمساجد ، أو في مكان مكشوف وإن كان ذلك موجباً لسروره وفرحه ، ومجرّد السرور برؤية الغير وحبّه ظهور عمله لدى الغير أمر اتفاقي غير مبطل للعبادة ، لعدم صدورها إلاّ بالداعي الإلهي ، فإن مثله خارج عن الرِّياء خروجاً تخصّصيّاً موضوعياً لأنّ الرِّياء بمفهومه اللّغوي والعرفي لا يشمل مثله حيث يعتبر في مفهومه أن تكون لرؤية الغير مدخلية في عمله ، ومع فرض عدم دخالتها في العمل لا يصدق عليه الرِّياء.

ثمّ لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا صدق الرِّياء عليه فهو خارج عن الرِّياء المبغوض المحرّم قطعاً ، وذلك بقرينة ما حمل عليه أي على الرِّياء في رواياته ، حيث حمل عليه عنوان الشرك ، وورد أن كل رياء شرك ، وهذا المحمول قرينة على أن الرِّياء المحرّم المبغوض إنّما هو الرِّياء الذي يكون شركاً ، وبما أنّ مفروض المسألة عدم الإشراك في العبادة بوجه لعدم مدخلية رؤية الغير فيها على الفرض ، فهو من الرِّياء غير المحرّم شرعاً ، هذا كلّه.

مضافاً إلى صحيحة زرارة أو حسنته باعتبار إبراهيم بن هاشم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : « سألته عن الرجل يعمل الشي‌ء من الخير فيراه إنسان فيسره ذلك ، قال : لا بأس ، ما من أحد إلاّ وهو يحب أن يظهر له في الناس الخير ، إذا لم يكن صنع ذلك لذلك » (١) ، وقوله : « ما من أحد » محمول على الغالب في عامّة الناس.

وأمّا ما ورد في موثقة النوفلي عن السكوني وكذا في غيرها من أنّ للمرائي علامات ثلاث : ينشط إذا رأى الناس ، ويكسل إذا كان وحده ، ويحب أن يحمد في جميع أُموره (٢) فهو غير معارض للصحيحة أو الحسنة بوجه ، وذلك لا لأجل ضعفها‌

__________________

(١) المروية في الوسائل ١ : ٧٥ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١٥ ح ١.

(٢) المروية في الوسائل ١ : ٧٣ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١٣ ح ١. وهذه الرواية وإن عبر عنها في كلام غير واحد بالخبر ، الدال على ضعفها لوجود النوفلي وهو حسين بن يزيد في سندها ولم يرد فيه توثيق في كتب الرجال ، إلاّ أنه بناء على ما أفاده سيِّدنا الأُستاذ ( دام ظله ) من وثاقة كل من وقع في أسانيد كتاب كامل الزيارات أو تفسير القمي ، وكان السند الواقع فيه متصلاً بالمعصوم


من جهة حسين بن زياد النوفلي ، لما قرّرنا في محلِّه من أن الرجل موثق (١) ، بل لأجل أنها قاصرة الدلالة على بطلان العبادة بمجرّد السرور بظهور العمل لدى الغير ، وذلك لأنّ النشاط عند رؤية الناس يستلزم التغير في كيفية العمل لا محالة بتحسين تجويده أو بإطالة ركوعه وسجوده ونحوهما ، ولا إشكال في أنه رياء وإتيان بالعبادة بداعي غيره تعالى ، وهذا بخلاف مفروض الكلام من أنه يأتي بالعبادة بداعي أمر الله فحسب إلاّ أنه يسره رؤية الغير لعمله من غير أن تكون لرؤية الغير مدخلية في عبادته ، نعم هذا غير مناسب للمتقين إلاّ أنه مطلب آخر. على أن سرور العامل بمشاهدة غيره عمله أمر جبلي طبعي في غير المعصومين عليهم‌السلام وجماعة قليلين ، فكيف يمكن الحكم بحرمته وأن الغالب بل الجميع يرتكبون المحرّم في عباداتهم. فالمتحصل أن الرِّياء المحرّم إنما هو مختص بالعبادة فيما إذا كان لرؤية الغير مدخلية فيها بما هي عبادة.

الأنحاء المتصوّرة في الرّياء‌

والرِّياء على هذا النحو يتصور على وجوه : أحدها : أن يأتي بالعبادة خالصة لغير الله سبحانه ، بأن يكون محركه نحوها إراءة عبادته للغير من غير أن تكون مستندة إلى امتثال أمر الله سبحانه ولو على نحو التشريك. وثانيهما : أن يأتي بها بداعي كل من امتثال أمره تعالى ورؤية غيره ، بأن يكون كل من الرِّياء والامتثال له مدخلية في عمله ، فالمحرك والداعي هو مجموع طاعة الخالق والمخلوق بحيث لو كان كل منهما منفكّاً عن غيره لم تصدر منه العبادة بوجه. والحكم ببطلان العبادة في هاتين الصورتين على طبق القاعدة قلنا بحرمة الرِّياء أم لم نقل ، حتى لو فرضنا أن تلك الروايات المستفيضة بل المتواترة لم تكن أيضاً كنا حكمنا ببطلان العبادة في الصورتين المذكورتين ، وذلك لأنه يشترط في صحّة العمل العبادي استناده إلى الله سبحانه بأن يكون الداعي الإلهي مستقلا في الداعوية والمحركية ، بحيث لو كان وحده كفى في‌

__________________

عليه‌السلام لشهادة ابن قولويه وعلي بن إبراهيم ( رضوان الله عليهما ) بذلك فالرواية موثقة لوجود النوفلي في أسناد الكتابين.

(١) معجم رجال الحديث ٧ : ١٢٢.


التحرّك نحوه وإصدار العبادة وأن يأتي بنيّة التقرب إليه ، فإذا أتى به لا بنيّة القربة كما في الصورة الأُولى أو بنيّة القربة ونيّة أمر آخر على نحو الاشتراك ولو كان من الأُمور المباحة كالتبريد في الوضوء ، فلا محالة وقعت العبادة باطلة ، والحكم ببطلانها حينئذ على طبق القاعدة.

فما عن السيِّد المرتضى قدس‌سره من إفتائه بصحّة العبادة المراءى فيها وأن المنفي هو القبول وترتّب الثواب عليها (١) ممّا لا يحتمل عادة إرادته هاتين الصورتين بل من المظنون قويّاً بل المطمأن به أنه أراد غيرهما كما نبيِّنه إن شاء الله تعالى (٢) ، لأن بطلان العبادة حينئذ مستند إلى فقدانها النيّة المعتبرة وإن لم يكن فيها رياء ، وعليه :

فمحل الكلام في الحكم ببطلان العبادة من جهة الرِّياء هو ما إذا كان له داعيان مستقلاّن للعبادة أحدهما : داعي الامتثال ، وثانيهما : داعي الرِّياء وإراءته العمل للغير بحيث كان كل منهما في نفسه وإن لم ينضم إليه الآخر صالحاً للداعوية والمحركية نحو العبادة على تقدير انفراده ، ولكنهما اجتمعا معاً في عبادته وانتسب العمل إليهما من جهة استحالة صدور المعلول الواحد عن علّتين مستقلتين ، فلا محالة يستند إليهما على نحو الاشتراك في التأثير وحينئذ يستند بطلانها إلى الرِّياء لتمامية شرائطها في نفسها لأنها منتسبة إلى الله سبحانه حيث صدرت عن داع قربي ، ولكنّها لما كانت على نحو الاشتراك بينه تعالى وبين غيره حكمنا ببطلانها.

أو كان داعي الامتثال مستقلا في المحركية والانبعاث بحيث لو كان وحده كفى في إصدار العبادات ، وكان داعي الرِّياء غير مستقل في الداعوية بأن لم يكن مؤثراً في البعث والعمل في نفسه إلاّ إذا ضم إليه داع آخر ، وهذا هو مراد الماتن قدس‌سره من كون داعي القربة مستقلا والرِّياء تبعاً. وهاتان الصورتان هما محل البحث في المقام ، وقد ذهب المشهور فيهما إلى بطلان العبادة بالرياء ، وخالفهم في ذلك السيِّد المرتضى قدس‌سره والتزم بصحتها وسقوط الثواب عنها وعدم قبولها للرياء.

__________________

(١) الانتصار : ١٠٠ / المسألة ٩.

(٢) في ص ١٧ ١٨.


والكلام في ذلك يقع من جهتين ، إحداهما : صحّة العبادة المراءى فيها وبطلانها من جهة ما تقتضيه القاعدة في نفسها ، وثانيتهما صحتها وفسادها بالنظر إلى الأخبار الواردة في المقام.

أمّا الكلام من الجهة الأُولى فالصحيح صحّة العبادة في مفروض الصورتين حيث صدرت عن داعٍ إلهي مستقل في داعويته ، بحيث لو كان وحده كفى في الداعوية نحو العمل ، بلا فرق في ذلك بين أن ينضم إليه داع آخر غير داعي الامتثال مستقل في داعويته على تقدير وحدته ، أو تبعي لا يستقل في الداعوية في نفسه حتى ينضم إليه داع آخر ، وذلك لأن المعتبر في صحّة العبادة أن تكون صادرة عن الداعي القربي الإلهي المستقل ، وأما انحصار الداعي في ذلك وأن لا يكون معه داع آخر فهو غير معتبر في صحّتها كما يأتي تفصيله عند تعرض الماتن قدس‌سره في نفس المسألة كما إذا أتى بالعبادة بداع إلهي مستقل منضماً إلى داع آخر مباح أيضاً مستقل في داعويته أو تبعي كقصد التبريد بالوضوء ، حيث يأتي منا هناك أن العبادة إذا كانت صادرة عن داع قربي مستقل في داعويته صحت سواء كان هناك داع آخر أم لم يكن ، لعدم اعتبار انحصار الداعي بالداعي الإلهي ، فلو توضّأ بداعيين أحدهما قربي مستقل والآخر أمر آخر كالتبريد ونحوه ، يحكم بصحة وضوئه لا محالة. فالعبادة المراءى فيها محكومة بالصحة بمقتضى القاعدة.

وأمّا الكلام من الجهة الثانية فقد عرفت أن حرمة الرِّياء مما لا ينبغي الإشكال فيه بمقتضى الأخبار المستفيضة وما ورد في ذمّه من الآيات (١) بل هو في مرتبة شديدة من الحرمة حتى عبر عنه بالشرك في جملة من رواياته ، كما أن الرِّياء وجه من وجوه العمل والعبادة وليس من وجوه القصد النفساني ، لأن العمل بنفسه رياء كما في قوله تعالى ( وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النّاسِ ) أو ( كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ ) وقوله تعالى ( الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ ) ، وعليه فالأخبار الواردة في حرمة الرِّياء منطبقة‌

__________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى مواضع الآيات في صدر المسألة فلاحظ.


على حرمة العبادة التي أتى بها بداعي إرائتها للناس وإراءة أنه خيّر من الأخيار ، ومع حرمة العمل ومبغوضيته كيف يمكن التقرّب به ، لأن المبغوض لا يكون مقرباً والمحرّم لا يكون مصداقاً للواجب ، فلا محالة تبطل العبادة بذلك هذا.

على أن في الأخبار الواردة في الرِّياء مضافاً إلى دلالتها على حرمته دلالة واضحة على بطلان العمل المأتي به رياءً ، وأنه مردود إلى من عمل له وغير مقبول ، وفي بعضها أن الله سبحانه يأمر به ليجعل في سجين ، إلى غير ذلك من الأخبار ، وهذه الأخبار وإن كان أغلبها ضعيفة إلاّ أن استفاضتها بل الاطمئنان بصدور بعضها لو لم ندع العلم كافية في الحكم باعتبارها ، على أن بعضها معتبرة في نفسه.

فقد روى البرقي في المحاسن عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « يقول الله عزّ وجلّ : أنا خير شريك فمن عمل لي ولغيري فهو لمن عمله غيري » (١) هكذا في نسخة الوسائل المطبوعة جديداً وقديماً ، والظاهر أنها غلط. وفي نسختنا المصححة من الوسائل « فهو كمن عمله غيري » والظاهر سقوط اللاّم عن قوله « غيري » وعليه فالرواية هكذا : « من عمل لي ولغيري فهو كمن عمله لغيري » وعليه فهي كالصريح في بطلان العبادة بالرياء حيث نزلها سبحانه منزلة العمل الذي أتى به خالصاً لغيره تعالى ، ومن الظاهر أن العمل لغيره مما لا يحسب من العمل لله في ديوانه بل يحسب لمن أتى له لأنه خير شريك ، فكأنه مما لم يأت به (٢) وأي شي‌ء أصرح في بطلان العمل من هذا التعبير؟

والرواية لا بأس بها من حيث سندها إلاّ من جهة والد البرقي ، حيث ذكر‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٧٢ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١٢ ح ٧. المحاسن ١ : ٣٩٢ / ٨٧٥.

(٢) بل في موثقة مسعدة بن زياد « ... إن المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء : يا كافر يا فاجر يا غادر يا خاسر ، حبط عملك وبطل أجرك فلا خلاص لك اليوم ... » الوسائل ١ : ٦٩ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١١ ح ١٦. وفي موثقة السكوني « ... إن الملك ليصعد بعمل العبد ... يقول الله عزّ وجلّ : اجعلوها في سجين ، إنه ليس إياي أراد به » الوسائل ١ : ٧١ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١٢ ح ٣.


النجاشي في حقه أنه ضعيف في حديثه (١) وعن ابن الغضائري : أن حديثه يعرف وينكر (٢) ، إلاّ أن الشيخ قدس‌سره وثقه صريحاً (٣) وعليه فالرواية معتبرة ، بل لا معارضة بين توثيق الشيخ إياه وبين ما حكي عن النجاشي وابن الغضائري أصلاً لأن الظاهر أن كلام النجاشي ( ضعيف في حديثه ) لا تعرض له إلى نفي وثاقة الرجل بل هو بمعنى ضعف رواياته لأنه يروي عن الضعفاء ، ومن هنا قد يقبل حديثه وقد ينكر كما في كلام ابن الغضائري ، فلا تنافي بين كلامهما وكلام الشيخ قدس‌سره.

هذا ولكن السيِّد المرتضى قدس‌سره ذهب إلى صحّة عبادة المرائي وإسقاطها الإعادة والقضاء ، وغاية الأمر أنها غير مقبولة وأن عاملها لا يثاب ، بدعوى أن الأخبار الواردة في حرمة الرِّياء إنّما تدلّ على نفي قبول العبادة المراءى فيها ، ونفي القبول أعم من البطلان حيث قد يكون العمل صحيحاً ولكنه غير مقبول ، وقد قال الله سبحانه ( إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) (٤) لأن من الظاهر أن عمل غير المتقين أيضاً صحيح إلاّ أنه غير مقبول عنده تعالى (٥).

والجواب عن ذلك بوجوه :

الأوّل : أن الأخبار الواردة في المقام غير منحصرة بما اشتمل على نفي القبول ، لأن منها ما هو كالصريح في بطلان العبادة بالرياء كما قدّمناه عن البرقي في المحاسن عن أبيه.

الثاني : هب أن الأخبار منحصرة بما ينفي القبول ، إلاّ أنه ليس بأعم من البطلان بل هو هو بعينه ، وذلك لأن النفي إنما هو نفي القبول في مقام المولوية والآمرية لا في‌

__________________

(١) رجال النجاشي : ٣٣٥ / ٨٩٨.

(٢) مجمع الرجال ٥ : ٢٠٥.

(٣) وثقه في كتاب الرجال في أصحاب الرضا عليه‌السلام ، ٣٦٣ / باب الميم رقم : ٤ ، مضافاً إلى أنه واقع في أسانيد كامل الزيارات أيضا.

(٤) المائدة ٥ : ٢٧.

(٥) الانتصار : ١٠٠ / المسألة ٩.


مقام نفي الثواب ، ومع صحّة العمل لا معنى لعدم القبول ، فنفيه عين بطلان العمل وعدم صحّته وهو بمعنى عدم احتسابه عملاً. وبهذا المعنى أيضاً يستعمل في عرفنا اليوم فيقال لا أقبل ذلك منك ، بمعنى لا أحسبه عملاً لك فهو كالعدم ، نعم قد يرد أن العمل الفلاني لا يثاب عليه ، ولا إشكال أنه أعم من البطلان ، إلاّ أنه أمر آخر غير نفي القبول.

وأمّا الآية المباركة الواردة في قضيّة ابني آدم ( إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) (١) فهي أجنبية عمّا نحن بصدده ، لأن المتقين في الآية المباركة بمعنى المؤمنين ، أي من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر ، والقاتل في الآية المباركة لم يكن مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر ، ولذا كان مخلداً في النار في التابوت ، ويؤيده تفسيره بالشيعة في زماننا بمعنى المؤمن في كل عصر. ومن الظاهر أن غير المؤمن لا يتقبّل عمله لبطلانه وعدم إيمان فاعله ، فالآية المباركة غير راجعة إلى ما نحن فيه.

ثمّ لو فسرنا المتقين بمن اجتنب عن المحرمات وأتى بالواجبات فلا مناص من التأويل في ظاهر الآية المباركة بحملها على عدم الثواب بمرتبته الراقية وعدم القبول الكامل الحسن ، وذلك لضرورة أنّ أعمال غير المتقين أعني الفسقة أيضاً مقبولة وهي ممّا يثاب عليه ، وكيف يمكن أن يدعى أن من ارتكب شيئاً من الفسق لا يقبل عمله ولا يثاب عليه مع صراحة الكتاب العزيز في أنه مما يثاب عليه ويعاقب لقوله تعالى ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (٢) وعليه لا بدّ من حمل نفي القبول في الآية المباركة على أن عمل غير المتقين بالمعنى الأخير ممّا لا يثاب عليه بثواب كامل ولا يقبل بقبول حسن.

الثالث : أن دلالة الأخبار الواردة في المقام على حرمة العبادة المراءى فيها كافية‌

__________________

(١) المائدة ٥ : ٢٧.

(٢) الزّلزلة ٩٩ : ٧ ، ٨.


وسواء كان الرِّياء في أصل العمل (١) أو في كيفيّاته (٢)

______________________________________________________

في الحكم بالفساد وإن لم نفرض لها دلالة على البطلان ، لما مرّ من أن الرِّياء وجه من وجوه العمل ، ومع حرمة العمل ومبغوضيته كيف يمكن التقرب به ، وكيف يمكن أن يكون المحرّم مصداقاً للواجب.

فالمتحصل إلى هنا أن الصحيح هو ما ذهب إليه المشهور من بطلان العبادة بالرياء. هذا تمام الكلام في أصل حرمة الرِّياء وفي بطلان العبادة به. ويقع الكلام بعد ذلك في خصوصياته ، لأن الرِّياء قد يتحقق في أصل العمل وأُخرى في كيفياته وثالثة في جزء من أجزائه ، وهو قد يكون جزءاً وجوبياً وأُخرى استحبابيا.

(١) كما إذا أتى بالصلاة أو بالوضوء أو بغيرهما من العبادات بداعي إراءتها للناس على تفصيل قد عرفت ، وعرفت الوجه في بطلانها.

الرِّياء في كيفيّات العمل‌

(٢) الرِّياء في الكيفية مع إتيان أصل العمل بداعي الله سبحانه على قسمين ، لأن الكيفية المراءى فيها قد تكون متحدة الوجود مع العبادة خارجاً ، كما إذا صلّى في المسجد رياء وإن كان أصل الصلاة مستنداً إلى الداعي الإلهي ، إلاّ أن الحصّة الخاصّة من الصلاة أعني الصلاة في المسجد صادرة بداعي الرِّياء ، ونظيره ما إذا صلّى بوقار وإطالة رياء للنشاط الحاصل له عند رؤية الناس. وأُخرى تكون موجوداً عليحدة ولا تتحد مع العبادة في الوجود ، وهذا كما إذا صام لله إلاّ أنه قرأ الأدعية في صيامه بداعي الرِّياء ، أو صلّى لله وتحنك رياء ، لأن التحنّك وقراءة الأدعية أمران آخران غير الصيام والصلاة.

أمّا الرِّياء في الكيفيّة المتحدة مع العمل في الوجود فهو موجب لبطلان العبادة لا محالة ، لأن الحصّة الخاصّة من العبادة أعني الموجود الخارجي قد صدرت عن داع‌


أو في أجزائه (*) (١)

______________________________________________________

غير إلهي أعني داعي الرِّياء فهي محرمة ومبغوضة ، والمبغوض كيف يقع مقرّباً والمحرّم لا يمكن أن يقع مصداقاً للواجب فتبطل.

وأما الرِّياء في الكيفية المنحازة عن أصل العمل فلا موجب لكونه مبطلاً للعبادة لأن المبغوض والمحرّم شي‌ء والعبادة شي‌ء آخر ، ولا تسرى حرمة أحدهما إلى الآخر ، ولا يمكن أن يقال إنه أمر قد أشرك فيه غيره سبحانه معه ، بل هما أمران أحدهما أتى به لله والآخر أتى به لغيره ولعله ظاهر.

الرِّياء في أجزاء العمل‌

(١) إذا أتى بجزء من أجزاء العمل العبادي بداعي الرِّياء فان اقتصر عليه فلا إشكال في بطلان عبادته ، لأن الجزء المأتي به رياء محكوم بالحرمة والبطلان فهو كالعدم وكأنه لم يأت به أصلاً ، والعبادة تقع باطلة فيما إذا نقص عنها جزؤها ، وأما إذا لم يقتصر عليه بل ندم ثمّ أتى به عن داع قربي إلهي فان كان العمل مما يبطل بزيادة جزئه عمداً كالصلاة فأيضاً يحكم ببطلان العبادة ، لأن السجدة المأتي بها رياء مثلاً أمر زائد أتى به عمداً ، والمفروض أن الزيادة العمدية موجبة لبطلان الصلاة ، وأما إذا لم يبطل العمل بالزيادة العمدية كما في الوضوء فان استلزم الإتيان بالجزء مرّة ثانية على وجه صحيح كغسل اليد اليمنى مثلاً البطلان من شي‌ء من النواحي كما إذا أوجب الإخلال بالموالاة المعتبرة في الوضوء بأن كان موجباً لجفاف الأعضاء المتقدِّمة فأيضاً لا بدّ من الحكم ببطلان العبادة.

وأمّا إذا لم يقتصر على الجزء المأتي به رياءً بل أتى به ثانياً بقصد امتثال أمر الله سبحانه ، ولم يكن العمل كالصلاة مما يبطل بالزيادة عمداً ، ولم يستلزم البطلان من‌

__________________

(*) في إطلاقه إشكال بل منع ، وكذلك الأجزاء المستحبّة.


ناحية أُخرى كالإخلال بالموالاة في الوضوء ، فهل يكون الرِّياء المتحقق في جزء منه كغسل اليد اليمنى مثلاً موجباً لبطلانه وإن ندم وأتى به مرّة أُخرى بداعٍ قربي لأن الشي‌ء لا ينقلب عما وقع عليه ، فالوضوء ممّا تحقق الرِّياء في أثنائه سواء ندم بعد ذلك وأتى بالجزء ثانياً أم لم يندم عليه ، أو أنه لا يوجب البطلان؟ وجهان بل قولان.

قد يقال ببطلان العمل بذلك تمسكاً بإطلاقات الأخبار الواردة في المقام ، لأنه يصدق أنه عمل لله ولغيره فهو لغيره ، أو كمن عمله لغيره (١) وهو مما أدخل فيه رضا أحد من الناس (٢) إلى غير ذلك من الإطلاقات.

إلاّ أنّ الصحيح عدم بطلان العبادة بذلك ، والوجه فيه أن الشركة إنما تتحقّق فيما إذا كان العمل واحداً وأتى به لله ولغيره ، فمثله يحسب من شريكه في العبادة ولا يحسب من الله لأنه خير شريك ، وأما مع التعدّد والإتيان ببعضه لله والاشتراك في بعضه فلا معنى للشركة فيما أتى به لله ، وإنما الشركة في ذلك الجزء الذي أتى به أوّلاً بداعي غيره تعالى فهو محسوب لذلك الغير ، فإذا لم يقتصر عليه بل أتى به ثانياً بداع قربي إلهي فيصدق حقيقة أنه عمل أتى به بأجمعه لله وبالداعي الإلهي القربي ، فحيث إن ما أتى به بداعي الله سبحانه من غسل الوجه والمسح وغسل اليد اليمنى ثانياً مثلاً مما لا اشتراك فيه فلا موجب لاحتسابه للغير الذي هو مضمون رواية البرقي (٣) وهي العمدة في المقام ، وكذلك الحال في بقيّة الأخبار ، لأنّ إتيان العمل له ولغيره إنما يتحقق مع وحدة العمل حتى يقع فيه الاشتراك ، وأمّا مع التعدّد وكون بعضه خالصاً له تعالى فلا معنى للاشتراك في ذلك البعض فلا موجب لبطلانه ، وإنما الباطل هو الجزء الذي أتى به اشتراكا.

__________________

(١) هذا مضمون صحيحة هشام بن سالم التي رواها البرقي وتقدّمت في ص ٧.

(٢) هذه الجملة وردت في رواية زرارة وحمران عن أبي جعفر عليه‌السلام ، الوسائل ١ : ٦٧ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١١ ح ١١.

(٣) المتقدّمة في ص ٧.


وأمّا ما في بعض الروايات من قوله عليه‌السلام : « لو أن عبداً عمل عملاً يطلب به وجه الله والدار الآخرة وأدخل فيه رضا أحد من الناس كان مشركاً » (١) فليس معناه أن الرِّياء إذا تحقق في أثناء العمل وفي جزء منه يحكم ببطلانه لإشراك فاعله ، وبعبارة أُخرى إذا كانت العبادة ظرفاً للرياء يحكم ببطلانها ، بل معناه أن العمل بتمامه إذا صدر عن داع ريائي يحكم ببطلانه ، وذلك لأنه لا معنى لإدخال رضا الغير في عمل نفسه ، إذ الرضا من الأفعال القلبية القائمة بالغير فكيف يدخل ذلك في عمل شخص آخر ، فلا معنى له إلاّ كون رضا الغير مما له مدخلية في عمله وهو عبارة أُخرى عن إتيان العبادة بداعي رضا الغير ، وقد عرفت أن العمل إذا صدر بداعي إراءته للغير أو رضائه يحكم ببطلانه وفساده. وأين هذا عما نحن فيه ، أعني ما إذا أتى بجميع أجزاء العمل بداعي الله سبحانه إلاّ في جزء من أجزائه ثمّ ندم وأتى به مرّة أُخرى على وجه صحيح ، فالرواية لا دلالة لها على البطلان في مفروض المسألة ، هذا كلّه.

ثمّ لو تنزّلنا عن ذلك وبنينا على المسامحة العرفية بأن قلنا إنّ الوضوء عمل مركّب فهو شي‌ء واحد عرفاً ، وقد تحقق الرِّياء في ذلك الأمر الواحد مع أن العرف لا يراه شيئاً واحداً أيضاً لا نحكم ببطلانه ، وذلك لأن الباطل أو المحرّم إنما هو مجموع العمل بما هو مجموع ، وأما إذا قسمناه وأخذنا بالمقدار الذي صدر منه عن الداعي الإلهي فهو ليس شيئاً وقع الرِّياء في أثنائه.

وبالجملة : العرف لا يحكم إلاّ بوقوع الرِّياء في مجموع العمل لا في جميع أجزائه ، فما صدر من المجموع بالداعي الصحيح مما لا إشكال في صحّته. هذا كله في الجزء الوجوبي ، ومنه يظهر الحال في الجزء المستحب.

__________________

(١) وهو ما رواه الحلبي عن زرارة وحمران عن أبي جعفر عليه‌السلام المروي في الوسائل ١ : ٦٧ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١١ ح ١١.


بل ولو كان جزءاً مستحبّاً على الأقوى (١)

______________________________________________________

الرِّياء في الجزء المستحب‌

(١) قد ظهر الحال في ذلك مما بيّناه في الرِّياء في الجزء الوجوبي ، لأن الرِّياء في مثل القنوت إنما يوجب بطلان ذلك الجزء المستحب وهو الذي أشرك فيه مع الله تعالى غيره فيحكم ببطلانه دون مجموع العمل كما مرّ في الجزء الوجوبي. وبالجملة : إنه إذا قلنا بعدم بطلان العبادة بإتيان الجزء الوجوبي رياء فلا نقول ببطلانها عند إتيان الجزء الاستحبابي بداعي الرِّياء كما عرفت.

وهل يحكم ببطلان العبادة بإتيان الجزء المستحب بداعي الرِّياء فيما إذا قلنا بذلك في الجزء الوجوبي ، أو لا نقول ببطلانها من جهة الرِّياء في الجزء المستحب؟ الصحيح هو الثاني ، وأن الرِّياء في الجزء المستحب لا يوجب بطلان العبادة وإن قلنا ببطلانها بالرياء في الجزء الواجب. والسر في ذلك ما ذكرناه في بحث الأُصول من أنه لا معنى متحصل للجزء المستحب ، حيث إن وجوب شي‌ء مع كون جزئه مستحباً أمران متنافيان (١) ، ولا يمكن أن يكون المستحب جزءاً من ماهية الواجب ، لاستحالة تقوم الماهية الواجبة بالأمر المستحب الذي له أن يأتي به وله أن يتركه ، كما أنه لا يمكن أن يكون جزءاً من فردها ، حيث إن الواجب إذا كان مركباً من أُمور متعدِّدة وأتى بها المكلّف خارجاً كان ذلك فرداً من الماهية الواجبة ، ومع عدم كون المستحب أو غيره جزءاً من الماهية كيف يعقل أن يكون جزءاً من فردها ومصداقها ، فلا معنى للجزء المستحب إلاّ أحد أمرين :

أحدهما : أن يكون الأمر المستحب عبادة مستقلّة في نفسها إلاّ أن ظرفها هو العبادة الواجبة ، فكما قد يستحب إتيان بعض الأُمور قبل العبادة أو بعدها كذلك لا مانع من استحباب بعض الأُمور في أثنائها على أن يكون ظرف ذلك المستحب هو العبادة الواجبة ، فهما عبادتان إحداهما ظرف والأُخرى مظروف ، ومن الظاهر أن‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٣٠٠.


وسواء نوى الرِّياء من أوّل العمل أو نوى في الأثناء (١)

______________________________________________________

العبادة المظروفة إذا بطلت للرياء لا يقتضي ذلك بطلان ظرفها لأنهما عبادتان ، ولا وجه لإسراء البطلان من أحدهما إلى الآخر ، وقد أسلفنا أن ما ورد في بعض الروايات من حرمة إدخال رضا أحد في العبادة ليس معناه حرمة جعل العبادة ظرفاً للرِّياء ، بل معناه حرمة الإتيان بالعبادة بداعي رضا غير الله على أن يكون لرضا غيره مدخلية في عبادته.

وثانيهما : أن يكون ما نسميه بالجزء المستحب موجباً لحدوث خصوصية في العبادة ، بها تصير أرجح الأفراد وأفضلها ويكون ثوابها أكثر من بقيّة الأفراد من غير أن يكون عبادة في نفسها ، كما هو الحال في الجماعة في الصلاة ، حيث إنها أي الجماعة ليست مستحبّة في نفسها ، وإنما هي توجب حدوث مزيّة في ذلك الفرد بها تكون أرجح من غيره ويكون ثوابه أكثر من بقيّة الأفراد الواجبة ، ولا يبعد أن يكون القنوت أيضاً من هذا القبيل ، وهذا يرجع في الحقيقة إلى التقييد وأن الصلاة المتقيّدة بالقنوت في أثنائها أو بأمر آخر قبلها أو بعدها أرجح من غيرها ، وثوابها أزيد من ثواب بقيّة الأفراد.

فإذا فرضنا أن التقييد حصل على وجه محرّم مبغوض فكأن التقييد المستحب لم يكن ، فلا يترتب على العبادة مزيّة راجحة إلاّ أنها تقع صحيحة في نفسها.

(١) وذلك للإطلاق ، حيث إن ما دلّ على بطلان العبادة التي أشرك فيها مع الله غيره غير مختص بما إذا كان الإشراك من أوّل العمل ، بل إذا تحقق في أثنائه أيضاً يصدق عليه عنوان الرِّياء ويقال إنه أشرك في عمله مع الله غيره فيبطل ، نعم إذا حدث ذلك في أثناء العبادة إلاّ أنه لم يقتصر على ذلك الجزء الصادر بداعي غير الله بل أتى به ثانياً بداعي امتثال أمر الله سبحانه دخل ذلك في المسألة المتقدِّمة أعني الرِّياء في جزء العمل ، ويأتي فيه التفصيل المتقدِّم بعينه.


وسواء تاب منه أم لا (١) ، فالرِّياء في العمل بأي وجه كان مبطل له لقوله تعالى على ما في الأخبار (*) : « أنا خير شريك ، من عمل لي ولغيري تركته لغيري » (٢) هذا ولكن إبطاله إنّما هو إذا كان جزءاً من الداعي على العمل ولو على وجه التبعيّة ، وأمّا إذا لم يكن كذلك بل كان مجرّد خطور في القلب من دون أن يكون جزءاً من الداعي فلا يكون مبطلاً (٣) وإذا شكّ حين العمل (٤) في أنّ داعيه محض القربة أو مركّب منها ومن الرِّياء فالعمل باطل (**) لعدم إحراز الخلوص الذي هو الشرط في الصحّة (٥).

______________________________________________________

التوبة من الرِّياء‌

(١) حيث إن الندم على ما ارتكبه من الرِّياء وعبادته لفقير مثله عند التوجه إلى عظمة الربّ الجليل إنما يوجب إسقاط العقاب ، لأن التائب من ذنب كمن لا ذنب له إلاّ أنه لا يوجب انقلاب الشي‌ء عما وقع عليه فإنه أمر مستحيل ، والمفروض أن العمل قد صدر عن داع ريائي باطل فلا ينقلب إلى الصحّة بتوبته وندمه.

(٢) قدمنا نسخة الوسائل المصحّحة (٣) وأن الرواية فيها هكذا : « فهو كمن عمله غيري ».

(٣) وقد عرفت تفصيل الكلام في ذلك في أوّل المسألة فلا نعيد.

الشكّ في الداعي وأنه الرِّياء أو غيره‌

(٤) ولم يتعرض لما إذا شك في ذلك بعد العمل ، لوضوحه حيث إنه محكوم بالصحّة حينئذ لقاعدة الفراغ.

(٥) لا يبعد أن يكون المفروض في المسألة مستحيلاً في غير الوسواسي ، وذلك لما‌

__________________

(*) الوارد في الأخبار قوله عزّ من قائل : فهو لمن عمل له أو فهو لمن عمله غيري.

(**) هذا الشك يناسب الوسواسي ، وعلى تقدير تحققه في غيره فالحكم بالبطلان ليس على إطلاقه.

(١) في ص ٧.


مرّ غير مرّة من أن الأُمور النفسانية مما لا واقع لها غير وجودها في النفس ، وعلم النفس بها حضوري وغير حصولي ، وما هذا شأنه كيف يقبل الشك والترديد؟ وكيف يعقل أن يشك الإنسان في أني قاطع أو لست بقاطع ، أو أني قاصد لأمر الله محضاً أو غير قاصد له ، وقاصد للرياء أو غير قاصد له وهكذا ، فالشك في القصد والداعي أمر غير معقول.

ثمّ على تقدير معقوليته فالصحيح أن يفصل في المسألة : لأن الشك في أن داعيه هو الرِّياء إن كان من جهة احتماله الرِّياء على الكيفية المتقدّمة في الصورتين الأُوليين اللّتين حكمنا ببطلان العبادة فيهما على طبق القاعدة ، وهما ما إذا أتى بالعبادة بداعي كل من الامتثال والرِّياء من غير أن يكون شي‌ء منهما مستقلا في داعويته وإنما يكون داعياً عند انضمامه إلى الآخر ، وما إذا كان داعي الرِّياء مستقلا في داعويته وكان قصد الامتثال غير مستقل بحيث لا يقتضي إصدار العمل إلاّ إذا ضمّ إلى غيره ، فلو احتمل أن داعيه للعبادة هو مجموع قصد الامتثال والرِّياء أو أنه هو الرِّياء وقصد الامتثال تبعي غير مستقل ، فالأمر حينئذ كما أفاده في المتن ، حيث إن إتيان العبادة بالداعي القربي المستقل في داعويته شرط في صحّتها وهو غير محرز فالعبادة باطلة.

وأمّا إذا احتمل الرِّياء في غير الصورتين المذكورتين ، كما إذا علم بأن له داعياً قربياً مستقلا في داعويته ويحتمل أن يكون له أيضاً داعٍ آخر ريائي مستقل ، أو على وجه غير الاستقلال ، فلا مجال حينئذ للحكم بالبطلان بوجه ، حيث إنّ شرط صحّة العبادة وهو صدورها عن داع إلهي مستقل محرز عنده ، واحتمال أن يكون هناك داع آخر ريائي يندفع بالأصل لأنه أمر حادث مسبوق بالعدم.

وبعبارة واضحة : لا يعتبر في صحّة العبادة أن تكون خالصة من غير الداعي الإلهي المستقل ، ومن هنا لو كان الداعي الآخر المستقل أو غير المستقل أمراً آخر غير الرِّياء من قصد التبريد أو غيره لقلنا بصحّة العبادة ، لاشتمالها على شرطها وهو صدورها عن داع قربي مستقل في داعويته. فالخلوص غير معتبر ، وإنما البذرة الفاسدة بل المفسدة هو وجود الداعي الريائي المستقل أو غير المستقل ، وحيث إنها‌


وأمّا العجب (١)

______________________________________________________

أمر حادث مسبوق بالعدم فيمكن إحراز عدمها بالاستصحاب وبه نحكم بصحّة العبادة لا محالة.

فالمتحصل : أن الشك في وجود داعي الرِّياء على تقدير معقوليته لا يوجب البطلان إلاّ في الصورتين المذكورتين ، ومن هنا ينفتح باب عظيم الفائدة للوسواسيين ومن يحذو حذوهم ، حيث إنهم محرزين للداعي الإلهي المستقل ، ولكنهم يحتملون وجود داع ريائي آخر أيضاً في عملهم وهو مندفع بالأصل. فالصحيح هو التفصيل في المسألة ، بل هذا ليس بتفصيل في الحقيقة ، لأن بطلان العبادة في تلك الصورتين غير مستند إلى الرِّياء ، بل لو كان جزء الداعي هو أمراً آخر مباح كقصد التبريد أو غيره أيضاً لقلنا ببطلان العبادة لفقدها للشرط وهو صدورها عن داع قربي مستقل في الداعوية. ومن هنا قلنا إن ما نسب إلى السيِّد المرتضى قدس‌سره من عدم بطلان العبادة بالرياء مما لا نحتمل عادة إرادته لهاتين الصورتين ، لأن بطلان العبادة حينئذ غير مستند إلى الرِّياء كما عرفت.

العُجب وأحكامه‌

(١) الكلام في ذلك يقع في جهات :

الاولى : في بيان مفهوم العجب لغة. الثانية : في بيان منشئه وسببه. الثالثة : في حكمه الشرعي من الحرمة والإباحة. الرابعة : في أن العجب المتأخر يوجب بطلان العبادة أو لا. الخامسة : في بطلان العبادة بالعجب المقارن وعدمه. وهذه هي جهات البحث يترتب بعضها على بعض.

أمّا الجهة الأُولى : فالعجب على ما يظهر من أهل اللغة معناه إعظام العمل واعتقاد أنه عظيم إما لكيفيته كما إذا كانت صلاته مع البكاء من أوّلها إلى آخرها. وإمّا لكميّته كما إذا أطال في صلاته أو سجدته ونحوهما ، كما حكى بعض مشايخنا ( قدس الله‌


أسرارهم ) عن بعضهم أنه سجد بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر ، ولأجل هذا وذلك اعتقد أن عمله عظيم. وإما من جهة عمله وكونه صادراً منه وأنه عظيم إذا صدر منه دون ما إذا صدر من غيره كما إذا كان ملكاً من الملوك فسجد وتخضع وتذلل ، حيث إن الخضوع من الملك عظيم لأن فعل العظيم عظيم ، فيرى أنه على عظمته يصلّي ويصوم ولا يصلِّي من دونه بمراحل فلذا يعظم عمله ويعتقده عظيماً. هذا كلّه في مفهوم العجب.

وأمّا الجهة الثانية : فالعجب إنما ينشأ عن انضمام أمر صحيح مباح إلى أمر باطل غير صحيح ، لأنه ينشأ عن ملاحظة عمله وعبادته حيث وعد الله سبحانه لها الجنّة والحور والثواب ، وأن فاعلها ولي من أولياء الله سبحانه وأن نوره يظهر لأهل السماء كما يظهر نور الكواكب لأهل الأرض ، إلى غير ذلك من الآثار التي نطقت بها الأخبار والآيات. وهذا في نفسه أمر صحيح مباح ، فإذا انضم إليه الجهل والغفلة عن عظمة الله سبحانه ونعمه فيحصل له العجب ويعظم عمله وعبادته ، لأنه لو كان عالماً بعظمة الله جلّت آلاؤه وبنعمته التي أنعمها عليه ، ليرى أن عبادته هذه لا تسوى ولا تقابل بجزء من ملايين جزء من تلك النعم ، وأنها هي بجنب عظمته تعالى كالعدم.

فإذا زاد عليه علمه بأن العبادة التي تعجبها لم تصدر منه باستقلاله وإنما صدرت عنه بتوفيق الله وإفاضته لم يبق له عجب في عمله بوجه ، ومن هنا نرى أن العبّاد والزهّاد يتخضّعون في عباداتهم بأكثر ممن يتخضع لله غيرهم ، لالتفاتهم إلى صغر عملهم بجنب آلائه وعظمته ، وعلمهم بأن العمل إنما يصدر منهم بإفاضة الله تعالى لا باستقلالهم ومعه لا يرون عملاً يعجب به ، حيث ليست نسبة أعمالهم إلى نعمه تعالى كنسبة ما يبذله الفقير بالإضافة إلى ما يعطيه الملك ، مثلاً يبذل ألف دينار والفقير يعطي باقة من الكراث ، فيقابل ما أعطاه الفقير لما أعطاه الملك بنسبة الواحد أو الأقل إلى ألف أو الأكثر ، حيث يصدر العمل من كل منهما باستقلاله ، وهذا بخلاف عمل العبيد بالإضافة إلى نعمه جلت عظمته ، حيث إن عملهم لا يصدر منهم باستقلالهم حتى يقابل بتلك النعم ولو بنسبة الواحد إلى الملايين وإنما يصدر عنهم بإفاضته ، ومن‌


هنا ورد في بعض الأخبار (١) إنِّي أولى بحسناتك منك.

فالمتحصل : أن المنشأ للعجب إنما هو الجهل ، بل قد يبلغ مرتبة يرى أن الله لا يستحق ما أتى به من العبادة ولذا يمنّ بها عليه ، نعوذ بالله منه ومن أمثاله ، وذلك لأنه لا يعلم بأنعمه ويرى أن نعمته تعالى لا تقضي إلاّ الإتيان بالفرائض فحسب ولم يعط ما يستحق به أكثر من الفرائض ، فيأتي بصلاة الليل ويمن بها على الله ، لاعتقاده عدم استحقاقه تعالى لها ، وأنها تفضل من العبد المسكين في حق الله جلّت عظمته فقد يتعجب عن عدم قضاء حاجته مع أنه أتى بما فوق ما يستحقه الله تعالى على عقيدته ، وهذا يسمّى بالإدلال ، وهو أعظم من المرتبة المتقدمة من العجب. وعن بعض علماء الأخلاق أن العجب نبات حبه الكفر. ولو أبدل الكفر بالجهل لكان أصح. ويؤيد ما ذكرناه ما يأتي من الكلام المحكي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام فانتظره.

الجهة الثالثة : قد اتضح مما ذكرناه في المقام أن العجب من الأوصاف النفسانية الخبيثة كالحسد وغيره من الأوصاف النفسانية التي تترتب عليها أفعال قبيحة ، وهي خارجة عن الأفعال التي تصدر عن المكلفين فلا حكم لها بوجه ، فهي غير محرمة ولا مباحة كالحسد ونحوه ، وما يعقل أن يتعلق به حكم شرعي أحد أمرين :

أحدهما : أن يجب شرعاً إعمال عمل يمنع عن حدوث تلك الصفة في النفس ، وهو التفكّر في عظمة الله ونعمه وفيما يصدر منه من العمل وأنه لا يصدر منه باستقلاله.

وثانيهما : أن يجب إعمال عمل يزيل تلك الصفة على تقدير حصولها في النفس ، كما إذا كبر وبلغ وهو معجب بعمله ، فيجب عليه أن يتفكر فيما ذكرناه حتى يزيل عن نفسه هذه الصفة.

وهذان قابلان للوجوب شرعاً ، إلاّ أن الأخبار الواردة في المقام مما لا يستفاد منه وجوب التفكّر في الشريعة المقدّسة قبل حصول هذه الصفة أو بعده ، ليمنع عن حدوثها أو يزيلها بعد تحققها. ويؤيد ما ذكرناه ما حكي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في‌

__________________

(١) كما في الحديث القدسي ، أُصول الكافي ١ : ١٥٢ / ٦.


فالمتأخِّر منه لا يبطل العمل (١)

______________________________________________________

نهج البلاغة من أن إعجاب المرء بعمله أو بنفسه دليل على ضعف عقله (١) ، فهو أمر حاصل في النفس من قلّة العقل والجهل وغير قابل لأن يتعلّق به حكم شرعي بوجه.

(١) هذه هي الجهة الرابعة من الكلام في العجب وحاصلها : أن العجب المتأخِّر هل يوجب بطلان العمل وإن قلنا بعدم حرمته ، وذلك لإمكان أن يكون حدوث هذا الأمر والصفة موجباً لبطلان العمل شرعاً ، أو لا يوجبه وإن أوجب حبط ثوابها؟ وهي التي تعرض لها الماتن قدس‌سره وحكم بعدم بطلان العمل بالعجب المتأخر وهذا هو المشهور بين الأصحاب ( قدس الله أسرارهم ) بل ادعي عليه الإجماع.

إلاّ أن المحقق الهمداني قدس‌سره نقل عن السيِّد المعاصر قدس‌سره والظاهر أنه السيِّد علي في كتابه البرهان بطلان العبادة بالعجب المتأخر فضلاً عن مقارنة مستدلاًّ عليه بظواهر الأخبار الواردة في الباب ، وقد أورد عليه باستحالة الشرط المتأخِّر وأن العمل بعد ما وقع مطابقاً للأمر وبعد ما حكم الشارع عليه بالصحّة يستحيل أن ينقلب عمّا وقع عليه بحدوث ذلك الأمر المتأخِّر ، وأمّا الإجازة في البيع الفضولي فلا نلتزم بكونها شرطاً متأخِّراً وإنما نلتزم هناك بالكشف الحكمي (٢).

هذا ولكنّا ذكرنا في محلِّه أن الشرط المتأخِّر ممّا لا استحالة فيه ولا مانع من اشتراط العمل بأمر متأخِّر ، لأنّ مرجعه إلى تقيد العمل بأن يأتي بعده بأمر كذا فالواجب هو الحصّة الخاصة من العمل وهو الذي يتعقب بالشرط (٣) ، فإذا أتى‌

__________________

(١) رواها الكليني رحمهالله أيضاً في الأُصول [ الكافي ١ : ٢٧ / ٣١ ] بسنده عن أمير المؤمنين عليه‌السلام وفيه : إعجاب المرء بنفسه. الوسائل ١ : ١٠٠ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٦.

(٢) مصباح الفقيه ( الطهارة ) ١٢١ : السطر ٢٢.

(٣) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٣٠٨.


بالعبادة ولم يتحقّق بعدها ذلك الشرط كشف هذا عن أن ما تحقّق لم تكن هي الحصّة الخاصّة المأمور بها فلا محالة تقع باطلة ، فالشرط المتأخر أمر ممكن.

وإنّما الكلام في دلالة الدليل عليه في مقام الإثبات ، والصحيح أنه لا دليل على اشتراط العبادة بعدم العجب المتأخِّر ، لأن أكثر الأخبار الواردة في المقام كما تأتي في الجهة الخامسة إن شاء الله تعالى ضعيفة سنداً. على أنها قاصرة الدلالة على بطلان العبادة بالعجب ، فلا يمكن الاعتماد عليها في الأحكام الشرعية. على أنا لو فرضناها صحيحة من حيث الدلالة والسند أيضاً لم نكن نلتزم ببطلان العبادة بالعجب المتأخِّر وذلك للقطع بعدم كونه مبطلاً لها ، فلا مناص من تأويل تلك الأخبار وحملها على نفي الثواب ، وذلك لأن العجب ليس بأعظم من الكفر المتأخِّر ، فلو أنّ المكلّف كفر ثمّ أسلم لم تجب عليه إعادة أعماله السابقة فضلاً عن قضائها ، لأنه لا يوجب بطلان الأعمال المتقدِّمة فكيف بالعجب المتأخِّر ، ولا نحتمل أن يجب على من عمره سبعون سنة مثلاً وقد أتاه العجب في ذلك السن قضاء جميع أعماله السابقة شرعاً ، فلا بدّ من تأويل ما دلّ على بطلانها بالعجب لو فرضنا دلالة الأخبار الآتية عليه وتماميتها سنداً ودلالة.

وأمّا ما ورد من أن سيّئة تسوءك خير عند الله من حسنة تعجبك (١) فمعناه أن السيّئة بعد الندم عليها الذي هو المراد من قوله تسوءك تتبدّل بالحسنة ، لأن التائب من ذنب كمن لا ذنب له ، والتوبة عبادة موجبة للتقرّب من الله تعالى. وأظن أن قوله تعالى ( فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ) (٢) إنما فسرت بالتوبة بعد المعصية لأنها عبادة ونتيجتها حسنة ، وهذا بخلاف العبادة التي توجب العجب ، لأنه يذهب بثواب العبادة فلا يبقى فيها حسنة كما يبقى في التوبة بعد السيّئة ، ولا يستلزم‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٠٥ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٢٢ ، وبمضمونها روايات أُخرى في نفس الباب.

(٢) الفرقان ٢٥ : ٧٠.


وكذا المقارن (١) وإن كان الأحوط فيه الإعادة.

______________________________________________________

كون السيّئة المتعقبة بالندم خيراً من العبادة المتعقبة بالعجب بطلانَ تلك العبادة بوجه. فالمتحصل أن العجب المتأخر لا يقلب العبادة الواقعة مطابقة للأمر عما وقعت عليه من الصحّة.

وهذا بناء على ما سلكناه في محلِّه من أن الأجر والثواب ليسا من جهة استحقاق المكلّف أو الأُجرة وإنما هما من باب التفضل ، لأن الامتثال والطاعة التي أتى بها المكلّف من وظائف العبودية ، والإتيان بوظيفة العبودية لا يوجب الثواب لأنه عبد عمل بوظيفته (١) ، فالثواب تفضل منه سبحانه وقد قال عزّ من قائل ( وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ) (٢) أمر ظاهر ، لأن التفضّل بالثواب إنما هو فيما إذا لم يتعقب العمل بالعجب الذي هو من الملكات القبيحة والأخلاق السيّئة وإن لم يكن محرماً تكليفا.

(١) هذه هي الجهة الخامسة من الكلام في العجب ، وأن العبادة هل تبطل بالعجب المقارن؟ وحاصل الكلام فيها أنه كالعجب المتأخر غير موجب لبطلان العبادة ، وإن نقل المحقِّق الهمداني عن السيِّد المعاصر قدس‌سره بطلانها بكل من العجب المقارن والمتأخِّر (٣) ، إلاّ أن المشهور عدم البطلان مطلقاً وهو الصحيح ، وذلك لعدم دلالة الدليل على البطلان بالعجب ، نعم العجب يوجب بطلان العبادة في مقام إعطاء الثواب فلا يثاب بها عاملها ، لا في مقام الامتثال حتى تجب إعادتها فضلاً عن قضائها والأخبار الواردة في المقام أيضاً لا دلالة لها على بطلان العبادة بالعجب المقارن فضلاً من المتأخِّر ، وهي جملة من الأخبار :

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٣٩٥.

(٢) النور ٢٤ : ٢١.

(٣) مصباح الفقيه ( الطهارة ) ١٢١ : السطر ٢١.


منها : ما عن الخصال عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « قال إبليس : إذا استمكنت من ابن آدم في ثلاث لم أُبال ما عمل ، فإنه غير مقبول منه ، إذا استكثر عمله ، ونسي ذنبه ، ودخله العجب » (١) ، والرواية لا بأس بها سنداً ، لأن والد البرقي وهو محمّد بن خالد وإن كان فيه كلام إلاّ أنا قدمنا وثاقته ، ولكن موردها هو العجب المقارن دون المتأخِّر لأن إبليس إنما لا يبالي بما عمله ابن آدم بعد استمكانه منه لا قبله ، فالأعمال المتقدمة منه السابقة على استمكان اللعين مما يبالي بها لصحّتها وعدم بطلانها بالعجب المتأخر ، وإنما لا يبالي بما عمله بعد استمكانه بتحقّق أحد الأُمور المذكورة في الحديث ، فموردها العجب المقارن لا محالة.

ولكنّها لا دلالة لها على بطلان العمل بالعجب المقارن ، لأن عدم المبالاة إنما يصح إطلاقه في العمل المقتضي للمبالاة في نفسه ، فقوله « لا أُبالي » يدلّ على صحّة العمل المقارن بالعجب ، وإلاّ فلو كانت العبادة باطلة به لما صح إطلاق عدم المبالاة حينئذ لأنها ممّا يسرّ الشيطان حيث إنها إذا كانت باطلة فالإتيان بها يكون محرماً للتشريع وحيث أن همّه إدخال العباد في الجحيم وإبعادهم عن الله جلّت عظمته فيفرح بارتكابهم للمحرم المبعد عنه سبحانه ، ولا معنى لعدم المبالاة إلاّ في العمل الصحيح إلاّ أنه لا يعتني به ولا يتوحّش لطرو العجب المزيل لثوابه والمانع عن حصول التقرب به وإن كان صحيحاً في مقام الامتثال.

ومنها : ما عن أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال الله تعالى : إن من عبادي المؤمنين لمن يجتهد في عبادتي فيقوم من رقاده ولذيذ وساده فيجتهد لي الليالي فيتعب نفسه في عبادتي ، فأضربه بالنعاس الليلة والليلتين نظراً مني له وإبقاء عليه فينام حتى يصبح فيقوم وهو ماقت زارئ لنفسه عليها ، ولو اخلي بينه وبين ما يريد من عبادتي لدخله العجب من ذلك ، فيصيره العجب إلى الفتنة بأعماله فيأتيه من ذلك ما فيه هلاكه لعجبه بأعماله ورضاه‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٩٨ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٢ ح ٧.


عن نفسه حتى يظن أنه قد فاق العابدين وجاز في عبادته حدّ التقصير ، فيتباعد مني عند ذلك وهو يظن أنه يتقرّب إليّ » الحديث (١).

وهي أيضاً مما لا بأس بسندها ، وقد وردت مؤكدة لأحد التفسيرين الواردين في قوله تعالى ( كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ ) (٢) حيث فسّر تارة بكل جزء من أجزاء الليلة الواحدة ، والمعنى أنه قليل من كل ليلة من الليالي ما يهجعون ويستريحون ، لأنهم يشتغلون في أكثر ساعات الليلة بالعبادة وصلاة الليل ولا ينامون إلاّ قليلاً ، وأُخرى بكل فرد من أفراد الليل بمعنى أنهم في بعض أفراد الليل أي في بعض الليالي ينامون ويهجعون ولا يشغلونها بالعبادة والصلاة. والرواية مؤكدة للتفسير الثاني كما عرفت.

إلاّ أنها كسابقتها في عدم الدلالة على بطلان العبادة بالعجب ، وغاية ما هناك دلالتها على أن العجب من المهلكات والأوصاف القبيحة وقد ينتهي به الأمر إلى أنه يرى نفسه أوّل العابدين ، وبه يناله الحرمان عما يصله لولاه ، وهذا مما لا كلام فيه لما مرّ من أن منشأ العجب الجهل ، وهو قد يبلغ بالإنسان مرتبة يمن بعمله على الله سبحانه حيث لا يرى استحقاقه في العبادة إلاّ بمقدار الإتيان بالفرائض ، ويعتقد أن المستحبات التي يأتي بها كلها زائدة عن حدّ استحقاقه تعالى فيمنّ بها عليه ، بل قد يفضل نفسه على أكثر العباد والمقربين. وقد حكي عن بعضهم أنه كان يفضل نفسه على العباس ( سلام الله عليه ) لجهله ، وحسبان أنه قد أشغل سنه بالعبادة والبحث وأتعب نفسه خمسين سنة أو أقل أو أكثر في سبيل رضا الله سبحانه ، وهو ( سلام الله عليه ) إنما اشتغل بالحرب ساعتين أو أكثر فيفضل نفسه عليه عليه‌السلام ، وبذلك قد يناله الحرمان عن شفاعة الأئمة الأطهار فيتباعد عن الله سبحانه. إلاّ أن العجب يوجب بطلان العبادة فهو مما لا يستفاد من الرواية بوجه.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٩٨ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ١.

(٢) الذاريات ٥١ : ١٧.


ومنها : ما عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يعمل العمل وهو خائف مشفق ثمّ يعمل شيئاً من البرّ فيدخله شبه العجب به ، فقال : هو في حاله الاولى وهو خائف أحسن حالاً منه في حال عجبه » (١) وربّما يتوهم أن في سند الرواية إشكالاً ، لأن فيه محمّد بن عيسى عن يونس ، وقد تكلّم بعضهم فيما رواها محمّد هذا عن يونس ، وهو توهم فاسد ، وقد ذكرنا في محلِّه أنّ الرّجل في نفسه ممّا لا كلام عليه كما أن روايته عن يونس كذلك (٢) فليراجع.

وأما دلالتها فهي أيضاً قاصرة حيث لم يقل عليه‌السلام : إن عمله الأوّل أي القبيح الذي يستكشف بقرينة المقابلة أحسن من عبادته التي فيها عجب ، بل قال : إن حالته في ذلك العمل أعني الخوف الذي هو عبادة أُخرى عند الندم والتوبة لأن حقيقتها الخوف والندم أحسن من حالته الثانية وهي العجب وهو مما لا كلام فيه وإنما البحث في بطلان العبادة بالعجب وهو لا يكاد يستفاد من الحديث.

ومنها : ما عن يونس عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث قال موسى بن عمران عليه‌السلام لإبليس : أخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه ، قال : إذا أعجبته نفسه ، واستكثر عمله ، وصغر في عينه ذنبه. وقال قال الله عزّ وجلّ لداود : يا داود بشر المذنبين وأنذر الصديقين ، قال : كيف أُبشر المذنبين وأُنذر الصديقين؟ قال : يا داود بشر المذنبين أني أقبل التوبة وأعفو عن الذنب ، وأنذر الصديقين أن لا يعجبوا بأعمالهم فإنه ليس عبد أنصبه للحساب إلاّ هلك » (٣).

وهي ضعيفة السند بالإرسال ، وعادمة الدلالة على بطلان العمل بالإعجاب ، لأن‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٩٩ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٢.

(٢) معجم رجال الحديث ١٨ : ٩١.

(٣) الوسائل ١ : ٩٩ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٣.


البشارة إنّما هي لقبول التوبة بعد الذنب ، لا للذنب في مقابل العبادة التي فيها عجب والرواية إنّما تدل على ما قدمناه من أن الثواب والأجر تفضل منه سبحانه وليس باستحقاق منهم للثواب ، كيف وقال سبحانه ( وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ) (١) لأنه إذا أعجبته عبادته فحاسبه الله سبحانه على أعماله لم يخلص أحد من حسابه جلت عظمته وهلك ، فان الإعجاب قد يبلغ بالإنسان إلى تلك المرتبة فيمنّ بعمله على الله ويحاسبه الله سبحانه على ما عمل وتصبح نتيجته الخسران والهلاكة.

ومنها : ما عن سعد الإسكاف عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « ثلاث قاصمات الظهر رجل استكثر عمله ، ونسي ذنوبه ، وأعجب برأيه » (٢) وهي على تقدير تمامية سندها أجنبية عما نحن بصدده رأساً ، لأن الكلام في إعجاب المرء بعمله ، وأما الإعجاب برأيه وعقله وحسبان إنه أعقل الناس فهو أمر آخر لا كلام لنا فيه ، ولا إشكال في أنه من المهلكات لأنه إذا رأى نفسه أعقل الناس وترك مشاورتهم واستقلّ في أعماله برأيه فلا محالة يقع في المهلكة والخسران. ثمّ على تقدير إرادة العمل من الرأي لا دلالة لها على بطلان العبادة بالعجب ، لأنها إنما دلّت على أن العجب قاصم للظهر لما يترتب عليه من المفاسد والمخاطر من تحقير عمل غيره والغرور والكبر ، بل وتحقير الله سبحانه بالمن بعبادته ، وأما أنه يوجب بطلان العمل المقارن به أيضاً فلا يستفاد منها بوجه.

ومنها : ما عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إن الرجل ليذنب الذنب فيندم عليه ويعمل العمل فيسره ذلك فيتراخى عن حاله تلك فلإن يكون على حاله تلك خير له ممّا دخل فيه » (٣) ، ولا بأس بها سنداً ، وأما من حيث الدلالة فلا يستفاد منها بطلان العبادة بالعجب ، وأما كون حالة التندم خيراً من‌

__________________

(١) النور ٢٤ : ٢١.

(٢) الوسائل ١ : ٩٧ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٢ ح ٦.

(٣) الوسائل ١ : ٩٩ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٤.


حالة العجب والسرور فهو من جهة أنه بالتندم تتبدل السيّئة حسنة ، حيث وردت الآية المباركة ( فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ) (١) في حق التائبين من الذنوب ، وهذا بخلاف العجب بالعبادة لأنه يذهب بثوابها كما مرّ غير مرّة.

ومنها : ما عن علي بن سويد عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : « سألته عن العجب الذي يفسد العمل ، فقال : العجب درجات منها أن يزين للعبد سوء عمله فيراه حسناً كما يتفق ذلك لكثير فيفتخر العامل بعمله القبيح ، وأني شربت الخمر أو ضربت فلاناً أو سببته أو أهنته ، حيث يرى عمله القبيح حسناً ويفتخر به فيعجبه ويحسب أنه يحسن صنعاً ، ومنها أن يؤمن العبد بربّه فيمن على الله عزّ وجلّ ولله عليه فيه المن » (٢) حيث دلّت على أن فساد العمل بالعجب كان مفروغاً عنه عنده ، وقد سأله عن أنه أي شي‌ء. وفي سندها علي بن سويد ، وقد يتوهم أنه مردد بين الموثق وغيره فلا يمكن الاعتماد على روايته ، والصحيح أنه هو علي بن سويد السائي الذي هو من أصحاب الرضا عليه‌السلام ويروي عنه أحمد بن عمر الحلال وهو ثقة وقد نقل في جامع الرواة أيضاً هذه الرواية عنه (٣) ، ولكن دلالتها قاصرة ، لأن إفساد العبادة بالعجب وكونه مبطلاً لها إن لوحظ بالإضافة إلى نفس ذلك العمل السوء الذي يحسبه حسناً ، ففيه أن المفروض فساد العمل بنفسه ولا معنى لفساده بالعجب المقارن له ، وإن لوحظ بالإضافة إلى الأعمال المتقدِّمة فقد عرفت أن مجرد العجب المتأخر لا يوجب انقلاب الأعمال المتقدمة عما وقعت عليه من الصحّة والتمام ، كما أن العجب في إيمانه لا معنى لكونه مبطلاً للإيمان ، حيث إن الإيمان غير قابل للاتصاف بالصحّة والفساد ، فلا بدّ من توجيه الرواية بأن للعجب درجات ، والدرجة الكاملة منه وهي التي توجب حسبان العمل السوء حسناً أو ما يقتضي الامتنان على الله تعالى مع أنه له سبحانه المنّة عليه ، كما ورد في الآية المباركة ( قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ

__________________

(١) الفرقان ٢٥ : ٧٠.

(٢) الوسائل ١ : ١٠٠ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٥.

(٣) جامع الرّواة ١ : ٥٨٥.


عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ ) (١) توجب فساد الأعمال المتقدِّمة ، والالتزام بذلك ممّا لا يضرنا فيما نحن بصدده ، لأنه أخص من المدعى وهو بطلان العمل بمطلق العجب. على أنّ الإفساد يمكن أن يكون بمعنى إذهاب الثواب ، لا بمعنى جعل العمل باطلاً يجب إعادته أو قضاؤه.

ومنها : ما عن ميمون بن علي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله » (٢) ، وهي مضافاً إلى ضعف سندها أجنبية عن بطلان العبادة بالعجب ، وإنّما تدل على أنّ المعجب قليل العقل.

ومنها : ما عن علي بن أسباط عن رجل يرفعه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إن الله علم أن الذنب خير للمؤمن من العجب ولو لا ذلك ما ابتلي مؤمن بذنب أبداً » (٣) وهي مرفوعة كالمرسلة من حيث السند ، ولا دلالة لها على المدعى أيضاً لأنها لو دلّت فإنما تدلّ على أن العجب محرم من حيث مقدمته أو من حيث إزالته كالذنب ، وأما بطلان العمل به فلا يستفاد منه بوجه. على أنها لا تدلّ على حرمته أيضاً وإلاّ لم يكن لجعله في مقابل الذنب وجه ، بل لا بدّ أن يقول إن هذا الذنب خير من ذلك الذنب.

ومع الإغماض عن جميع ذلك أيضاً لا دلالة لها على البطلان ، لأن وجه كون الذنب خيراً أن المكلّف غالباً يدور أمره بين العجب بعمله ، كما إذا عمل طيلة حياته بأعمال حسنة ولم يصدر منه ذنب لأنه حينئذ يعجب بنفسه حيث يرى صدور المعاصي عن غيره وهو لم يعمل إلاّ خيراً ، وبين أن يذنب ذنباً ويعقبه الندم لأن مفروض كلامه عليه‌السلام هو المؤمن ، ومن الظاهر أن الذنب المتعقب بالندامة‌

__________________

(١) الحجرات ٤٩ : ١٧.

(٢) الوسائل ١ : ١٠٠ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٦.

(٣) الوسائل ١ : ١٠٠ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٧.


والتوبة خير من العبادة الموجبة للعجب ، لأن العجب يذهب بآثار العبادة ، بل قد يبلغ الإنسان مرتبة يمقتها الربّ الجليل لمنَّته على الله سبحانه وتحقيره ، وأما الذنب المتعقب بالندامة فهو يتبدل إلى الحسنة ، لأن التائب عن ذنب كمن لا ذنب له ، وقد عرفت أن الآية المباركة واردة في حق التائبين ، وأما أن العبادة مع العجب باطلة فهو مما لا يستفاد منها بوجه.

ومنها : ما عن أبي عامر عن رجل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « من دخله العجب هلك » (١). وهي مضافاً إلى إرسالها لا تدل على بطلان العبادة بالعجب ، وكونه موجباً للهلاك من جهة أنه قد يستلزم الكفر وتحقير الله سبحانه والمنّة عليه وغير ذلك من المهالك.

ومنها : ما عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « أتى عالم عابداً فقال له : كيف صلاتك؟ فقال : مثلي يسأل عن صلاته وأنا أعبد الله منذ كذا وكذا؟ قال : فكيف بكاؤك؟ فقال : أبكي حتى تجري دموعي ، فقال له العالم : فإن ضحكك وأنت خائف أفضل من بكائك وأنت مُدِلّ ، إن المدِلّ لا يصعد من عمله شي‌ء » (٢).

وهي ضعيفة سنداً بوجهين : من جهة محمّد بن سنان لعدم ثبوت وثاقته ، ومن جهة نظر بن قرواش لأنه مجهول. وكذلك دلالة لأن عدم صعود العمل أعم من البطلان ، وإلاّ للزم الحكم ببطلان عبادة عاق الوالدين وآكل الرِّبا ونحوهما ممّا ورد أن العمل معه لا يصعد.

ومنها : ما عن أحمد بن أبي داود عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « دخل رجلان المسجد أحدهما عابد والآخر فاسق ، فخرجا من المسجد والفاسق صدّيق والعابد فاسق ، وذلك أنه يدخل العابد المسجد مُدِلاًّ بعبادته ، يُدِلّ بها‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٠١ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٨.

(٢) الوسائل ١ : ١٠١ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٩.


فتكون فكرته في ذلك ؛ وتكون فكرة الفاسق في التندم على فسقه ويستغفر الله عزّ وجلّ مما صنع من الذنوب » (١).

وضعف سندها بالإرسال ظاهر. وأما دلالتها فهي أيضاً كذلك ، لأن صيرورة العابد فاسقاً من جهة العجب لا دلالة له على إبطاله لأعماله ، وإنما وجهه أن العجب قد يبلغ بالإنسان مرتبة يمنّ بعمله على الله ويحقره ، أو يعتقد أنه في مرتبة الإمامة والنبوّة وينتظر نزول جبرئيل ، وقد يبكي ويتعجّب من تأخير نزوله وغير ذلك ممّا يوجب فسقه بل كفره. وأما صيرورة الفاسق صدّيقاً فهو من جهة تندمه وتوبته ، وقد عرفت أن بالتوبة تتبدل السيّئة حسنة.

ومنها : ما رواه البرقي في المحاسن عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إن الله فوّض الأمر إلى ملك من الملائكة فخلق سبع سماوات وسبع أرضين ، فلما أن رأى أن الأشياء قد انقادت له قال : من مثلي؟ فأرسل الله إليه نويرة من النار ، قلت : وما النويرة؟ قال : نار مثل الأنملة ، فاستقبلها بجميع ما خلق ، فتخيّل لذلك حتى وصلت إلى نفسه لما دخله العجب » (٢). وهي ضعيفة من جهة جهالة خالد الصيقل الواقع في سندها ، بل بابن سنان أيضاً ، لأنه وإن ذكر في سندها مطلقاً إلاّ أن رواية الصدوق مثلها في عقاب الأعمال عن محمّد بن سنان عن العلاء عن أبي خالد الصيقل (٣) ، قرينة على أن المراد به هو محمّد بن سنان دون عبد الله بن سنان. على أنه لا دلالة لها على بطلان العمل بالعجب ، بل تدلّ على أن العجب صفة مذمومة موجبة للهلاكة.

ومنها : ما عن أبي حمزة الثمالي عن أبي عبد الله أو علي بن الحسين عليهما‌السلام قال « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث : ثلاث مهلكات شحّ مطاع وهوى متّبع ، وإعجاب المرء بنفسه » (٤) وقد عرفت في نظائرها أن إهلاك العجب‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٠١ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ١٠.

(٢) الوسائل ١ : ١٠٢ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ١١. المحاسن ١ : ٢١٤ / ٣٩١.

(٣) عقاب الأعمال : ٢٩٩ / ١.

(٤) الوسائل ١ : ١٠٢ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ١٢.


بمعنى استلزامه لمثل التحقير لعبادة الغير أو التكبّر أو تحقير الله سبحانه أو غيرها ، ولا دلالة لها على إبطاله العمل والعبادة.

ومثلها رواية سعد بن طريف عن أبي جعفر عليه‌السلام (١) مضافاً إلى ضعف سندها بأبي جميلة مفضل بن صالح.

ومنها : ما عن السري بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن آبائه في وصيّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « لا مال أعود من العقل ، ولا وحدة أوحش من العجب » (٢). وهي مضافاً إلى ضعف سندها أجنبية عن المدعى. والوجه في كون العجب أوحش من الوحدة أن العجب بنفسه أو بعمله يوجب تحقير الناس أو التكبر ونحوهما مما يوجب الرغبة عنه فيبقى وحيدا.

ومنها : ما عن أنس بن محمّد عن أبيه جميعاً عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم‌السلام في وصيّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام قال : « يا علي ثلاث مهلكات شحّ مطاع ، وهوى متّبع ، وإعجاب المرء بنفسه » (٣) وهي مضافاً إلى ضعف سندها قد تقدّم الكلام في نظيرها فليراجع.

ومنها : ما عن أبان بن عثمان عن الصادق عليه‌السلام في حديث قال : « وإن كان الممر على الصراط حقاً فالعجب لماذا » (٤)؟ ولا دلالة لها على بطلان العمل بالعجب ولا على حرمته بوجه ، لأنها نظير ما ورد من أن الموت إذا كان حقاً فالحرص على جمع المال لماذا ، أو ما هو بمضمونه. وظاهر أن الحرص على جمع المال لا حرمة فيه وإنما تدلّ على أن الحساب إذا كان حقاً ووصول كل أحد إلى ما عمله وقدمه حقاً فالعجب أي أثر له.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٠٣ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ١٣. لكن ورد فيها : « ثلاث موبقات » بدل « ثلاث مهلكات ».

(٢) الوسائل ١ : ١٠٣ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ١٤.

(٣) الوسائل ١ : ١٠٣ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ١٥. والسند في الوسائل هكذا : بإسناده عن حماد بن عمرو وأنس بن محمّد عن أبيه جميعاً ....

(٤) الوسائل ١ : ١٠٣ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ١٦.


ومنها : ما عن العلل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن جبرئيل في حديث قال « قال الله تبارك وتعالى : ما يتقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ، وإن من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة فأكفّه عنه لئلا يدخله العجب فيفسده » (١). ولا دلالة لها على بطلان العمل بالعجب ، لأنه أُسند الإفساد إلى نفس العامل بمعنى هلاكه لا إلى العمل والعبادة. مضافاً إلى أنها مروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بطريق لا يمكن الاعتماد عليه.

ومنها : ما عن عبد العظيم الحسني عن علي بن محمّد الهادي عن آبائه عليهم‌السلام قال « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : من دخله العجب هلك » (٢). وقصورها من حيث الدلالة نظير ما تقدمها ، حيث أُسند الهلاك إلى المعجب من حيث تعقبه بمثل الكبر والتحقير والكفر ونحوها ، مضافاً إلى ضعف سندها بمحمّد بن هارون وعلي بن أحمد بن موسى.

ومنها : ما عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام قال « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لولا أن الذنب خير للمؤمن من العجب ما خلا الله بين عبده المؤمن وبين ذنب أبداً » (٣). وقد تقدّم الكلام في نظيرها (٤) فلا نعيد.

ومنها : ما عن الثمالي عن أحدهما عليه‌السلام ، قال : « إنّ الله تعالى يقول : إنّ من عبادي لمن يسألني الشي‌ء من طاعتي لأُحبه ، فأصرف ذلك عنه كيلا يعجبه عمله » (٥). وقد مرّ الكلام في نظائرها فليراجع.

ومنها : ما عن الثمالي أيضاً عن علي بن الحسين عليه‌السلام قال « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ثلاث منجيات خوف الله في السرّ والعلانية ، والعدل في‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٠٤ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ١٧. علل الشرائع ١٢ : ٧.

(٢) الوسائل ١ : ١٠٤ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ١٨.

(٣) الوسائل ١ : ١٠٤ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ١٩.

(٤) في ص ٢٩.

(٥) الوسائل ١ : ١٠٥ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٢٠.


الرضا والغضب ، والقصد في الغنى والفقر ، وثلاث مهلكات هوى متبع ، وشحّ مطاع وإعجاب المرء بنفسه » (١) ، وقد عرفت الحال في نظائرها.

ومنها : ما عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في نهج البلاغة قال : « سيّئة تسوءك خير عند الله من حسنة تعجبك » (٢) وقد أسلفنا الكلام فيها وقلنا : إن خيرية السيّئة المتعقبة بالتوبة من جهة تبدلها إلى الحسنة ، بخلاف العبادة مع العجب لأنه يذهب بثوابها ولا تتبدّل إلى حسنة ، ولا دلالة لها على إبطال العجب للعمل (٣).

ومنها : ما عنه عليه‌السلام في النهج : « الإعجاب يمنع الازدياد » (٤). لأنّ المعجب لا يرى حاجة إلى تكثير العبادة والعمل.

ومنها : ما عنه عليه‌السلام أيضاً : « عجب المرء بنفسه أحد حساد عقله » (٥). ولا دلالة في شي‌ء منها على حرمة العجب ولا على إبطاله العبادة.

ومنها : ما عن داود بن سليمان عن الرضا عن آبائه عليهم‌السلام عن علي عليه‌السلام قال : « الملوك حكام على الناس ، والعلم حاكم عليهم ، وحسبك من العلم أن تخشى الله ، وحسبك من الجهل أن تعجب بعلمك » (٦) وهي مضافاً إلى ضعف سندها لا دلالة لها على فساد العمل بالعجب ، وإنما تدل على أنه ناشئ عن الجهل كما مرّ.

فالمتحصل أنه لا دلالة في شي‌ء من تلك الأخبار على حرمة العجب بالمعنى المتقدِّم من حيث مقدمته أو إزالته ، ولا على بطلان العمل به مقارناً كان أو متأخِّراً ، وإنما تدلّ على أنه من الصفات الخبيثة المهلكة البالغة بالإنسان إلى ما لا يرضى به الله سبحانه كما أسلفنا.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٠٥ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٢١.

(٢) الوسائل ١ : ١٠٥ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٢٢. نهج البلاغة : ٤٧٧ / ٤٦.

(٣) في ص ٢٢.

(٤) الوسائل ١ : ١٠٥ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٢٣. نهج البلاغة ٥٠٠ : ١٦٧.

(٥) الوسائل ١ : ١٠٥ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٢٤. نهج البلاغة : ٥٠٧ / ٢١٢.

(٦) الوسائل ١ : ١٠٥ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٢٥.


بقي من الأخبار رواية واحدة وهي ما رواه يونس بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال « قيل له وأنا حاضر : الرجل يكون في صلاته خالياً فيدخله العجب فقال إذا كان أوّل صلاته بنيّة يريد بها ربّه فلا يضره ما دخله بعد ذلك فليمض في صلاته وليخسأ الشيطان » (١) حيث قد يتوهم دلالتها على بطلان العبادة بالعجب المقارن إذا كان في أوّلها ، لقوله عليه‌السلام : « إذا كان أوّل صلاته » إلاّ أنها كسابقتها قاصرة الدلالة.

أمّا من حيث سندها فربّما يتوهم أن علي بن إبراهيم إنما يروي عن محمّد بن عيسى بواسطة أبيه إبراهيم بن هاشم كما في جامع الرواة (٢) وغيره ولم تثبت روايته عن محمّد بن عيسى بلا واسطة ، والواسطة لم تذكر في السند ، مضافاً إلى أن في نفس محمّد ابن عيسى كلاماً ، وفي روايته عن يونس كلاماً آخر ، على أنها ضعيفة بيونس بن عمار لعدم توثيقه في الرجال. ويدفعه ما قرّرناه في محلِّه من رواية علي بن إبراهيم عن الرّجل بلا واسطة ، وأن محمّد بن عيسى في نفسه قابل للاعتماد عليه ، كما لا بأس برواياته عن يونس فلاحظ (٣). نعم يونس بن عمار لم يوثق في الرجال ولكنّه حيث وقع في أسانيد كامل الزيارات فلا بدّ من الحكم بوثاقته.

وأما من حيث دلالتها فلأنه لا بدّ من حمل الرواية على معنى آخر ، لعدم إمكان حملها على ظاهرها من جهة القرينة العقلية واللفظية. أما العقلية فللقطع بأن العجب لو كان مبطلاً للعمل فلا يفرق فيه بين تحققه أوّل العبادة وبين حدوثه في أثنائها أو في آخرها. وأما القرينة اللفظية فهي قوله عليه‌السلام : « وليمض في صلاته وليخسأ الشيطان » حيث إن العجب إذا تحقق وقلنا بكونه مبطلاً للعمل فلا معنى للمضي فيه لإخساء الشيطان ، لأنه باطل على الفرض ، وعليه فلا بدّ من حملها على الوسوسة الطارئة على الإنسان بعد دخوله في العبادة ، لأن الشيطان عدو عجيب للإنسان ، فقد‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٠٧ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٤ ح ٣.

(٢) لم نعثر على ذلك فيه.

(٣) معجم رجال الحديث ١٨ : ١٠٣ ١١٣.


وأمّا السمعة (١) فإن كانت داعية على العمل أو كانت جزءاً من الداعي بطل وإلاّ فلا كما في الرِّياء ، فإذا كان الداعي له على العمل هو القربة إلاّ أنه يفرح إذا‌

______________________________________________________

يجي‌ء من قبل الوسوسة في أن العمل مقرون بالعجب فهو باطل أو لا ثواب له ، وقد أمر عليه‌السلام بالمضي في العمل وعدم الاعتناء به ليخسأ الشيطان. هذا كله في العجب.

الكلام في السّمعة‌

(١) فلئن قلنا إنها مغايرة للرِّياء بحسب الموضوع والمعنى لأنه من الرؤية وهي غير السماع ، فلا إشكال في دخولها فيه بحسب حكمه ، وذلك لأن ما دلّ من الأخبار المعتبرة على حرمة الرِّياء وإبطاله العبادة بعينه تدلّ على إبطال السمعة لها ، كما ورد أن من عمل لي ولغيري فقد جعلته لغيري ، أو هو كمن عمل لغيري ، أو ما يشبهه من الألفاظ على ما تقدّم في رواية البرقي (١). هذا مضافاً إلى ورود السمعة في روايتين معطوفة على الرِّياء :

إحداهما : رواية محمّد بن عرفة قال « قال لي الرضا عليه‌السلام : ويحك يا ابن عرفة اعملوا لغير رياء ولا سمعة فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل ، ويحك ما عمل أحد عملاً إلاّ رداه الله به إن خيراً فخيراً وإن شرّاً فشرّاً » (٢) لكن هذه الرواية ضعيفة.

ثانيتهما : معتبرة ابن القداح عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما‌السلام قال « قال علي عليه‌السلام : اخشوا الله خشية ليست بتعذير ، واعملوا لله في غير رياء ولا سمعة فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى عمله يوم القيامة » (٣). فالمتحصل : أن السمعة‌

__________________

(١) ص ٧.

(٢) الوسائل ١ : ٦٦ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١١ ح ٨.

(٣) الوسائل ١ : ٦٦ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١١ ح ١٠.


اطّلع عليه الناس من غير أن يكون داخلاً في قصده لا يكون باطلاً (١) لكن ينبغي للإنسان أن يكون ملتفتاً فإن الشيطان غرور وعدو مبين. وأمّا سائر الضمائم (٢) فإن كانت راجحة كما إذا كان قصده في الوضوء القربة وتعليم الغير ، فإن كان‌

______________________________________________________

كالرِّياء موجبة لبطلان العبادة.

(١) نعم إذا كان آتياً بالعمل بداعي الأمر والقربة إلاّ أنه يسره سماع الغير عمله من غير أن يكون ذلك دخيلاً في عبادته ولو على نحو التأكيد بل مجرد التبعية القهرية غير أنه يفرح به ويدخله السرور بذلك ، فهو غير موجب لبطلان العبادة ، لأنها صدرت عن داع إلهي على الفرض وهو مستقل في داعويته ، وسماع الغير أو رؤيته إنما هو على نحو التبع ، وإن كان هذا أيضاً منافياً للعبادة أخلاقاً ، لأن الإنسان ينبغي أن يكون قاصداً بعمله لله من غير أن يكون نظره إلى غير الداعي الإلهي ولو على وجه التبع.

الضّمائم وأقسامها وأحكامها‌

(٢) الضميمة ثلاثة أقسام ، لأنها تارة مباحة بالمعنى الأعم من الكراهة والإباحة المصطلح عليها ، وأُخرى راجحة بالمعنى الأعم من الوجوب والاستحباب ، وثالثة محرمة غير الرِّياء ، كما إذا قصد بصلاته في مكانٍ الإيذاء والهتك لإمام الجماعة خلفه أو غيره.

أما إذا كانت مباحة أو راجحة فهي على أقسام أربعة : لأن الداعي للعبادة تارة يكون هو الداعي الإلهي القربي المستقل في دعوته وتكون الضميمة المباحة كالتبريد أو الراجحة كتعليم الغير الوضوء أو الصلاة تبعاً ، بمعنى عدم كونها دخيلة في العبادة ولو على وجه التأكيد ، فكما أنها غير مستقلّة في الداعوية كذلك ليست بجزء من الداعي ولا مؤكد له وإنما العبادة نشأت عن داع إلهي مستقل في الداعوية والضميمة مقصودة بالتبع ، ولا إشكال في صحّة العبادة في هذه الصورة لصدور العبادة عن‌


داعي القربة مستقلا والضميمة تبعاً أو كانا مستقلين صحّ ، وإن كانت القربة تبعاً أو كان الداعي هو المجموع منهما بطل ، وإن كانت مباحة فالأقوى أنها أيضاً كذلك كضم التبرّد إلى القربة ، لكن الأحوط في صورة استقلالهما أيضاً الإعادة.

______________________________________________________

الداعي المستقل في داعويته ، والضميمة المباحة أو الراجحة تبع ولا دخالة لها في صدور العبادة بوجه.

وأُخرى : ينعكس الأمر ويكون الداعي إلى العبادة هو الضميمة الأعم من المباحة والراجحة ولا يكون للداعي القربي مدخلية في صدورها إلاّ تبعاً. وهذه الصورة أيضاً مما لا إشكال في حكمها وهو بطلان العبادة ، لفقدها القربة المستقلة في الداعوية المعتبرة في صحّة العمل.

وثالثة : يكون الداعي هو المجموع المركب من القربة والضميمة بحيث لو كانت إحداهما وحدها لم يأت بالعبادة وإنما أتى بها لاجتماعهما. والحكم في هذه الصورة هو البطلان ، لما قدمناه من أن العبادة يعتبر أن تكون صادرة عن داع قربي إلهي مستقل في داعويته وهو غير متحقق في المقام فالعبادة باطلة.

ورابعة : يكون كل من القربة والضميمة داعياً مستقلا في دعوته بحيث لو كانت هذه وحدها لأتى بالعبادة ، ولو كان الآخر وحده أيضاً لأتى بها ولكنهما اجتمعا معاً فالمتأخرون فصّلوا في هذه الصورة بين كون الضميمة راجحة كتعليم الوضوء أو الصلاة للغير فحكموا بصحّة العبادة حينئذ ، وبين كونها مباحة كما إذا قصد التبريد بالوضوء فذهبوا إلى بطلانها. ولا نرى نحن للتفرقة بينهما وجهاً محصلاً ، بل الصحيح صحّة العبادة في كلتا الصورتين بلا فرق في ذلك بين رجحان الضميمة وإباحتها.

أما إذا كانت الضميمة راجحة فلأنا أن أخذنا اعتبار قصد التقرب في العبادة من الأدلّة الشرعيّة فهي لا دلالة لها على أزيد من اعتبار صدور العبادة عن الداعي القربي المستقل في داعويته ، والمفروض تحققه في المقام ، ولا يستفاد منها عدم اقترانه‌


بداع آخر مباح أو راجح. وإن أخذنا اعتباره من بناء العقلاء فالأمر أوضح وذلك لأن العقلاء إنما بنوا على أن يكون العمل صادراً بتحريك أمر المولى وإطاعته ولا بناء منهم على أن لا يكون معه أمر آخر يوجب الدعوة والبعث نحو العمل ، فلو أمر المولى عبده بأن يأتي له بالماء والعبد أتى به بدعوة من أمر سيِّده وكان له داع آخر مستقل أيضاً في هذا العمل وهو رفع وجع رأس المولى لعلمه بأنه لو شرب الماء ارتفع وجعه ، فهل ترى أن العقلاء يحكمون ببطلان طاعته ، ويمنعونه عن أن يضم إلى داعي إطاعته داعياً آخر وهو رفع الوجع مع أنه أيضاً أمر محبوب للمولى وقد صدرت إطاعته عن أمره الأوّل بالاستقلال.

وأمّا إذا كانت الضميمة مباحة فلعين ما قدمناه ، من أن اعتبار قصد التقرب في العبادة إن كان من جهة أخذه من الأدلّة الشرعية فلا يستفاد منها إلاّ اعتبار أن يكون أمر المولى مستقلا في داعويته نحو العمل ، ولا يستفاد منها اعتبار عدم انضمامه إلى أمر آخر مما له أيضاً داعوية مستقلّة نحو العمل. وكذا الحال فيما إذا أخذنا اعتباره من بناء العقلاء حيث لم يتحقق منهم البناء على أزيد من صدور العمل عن الداعي القربي المستقل في داعويته ، ولا بناء منهم على عدم حصول القربة فيما إذا انضمّ إليه أمر آخر مباح أيضاً مستقل في داعويته ، كما إذا قصد العبد في إطاعته لأمر المولى بإتيانه بالماء تقوية بدنه من جهة أن الحركة مقوّية لعضلاته ، فعليه لا فرق في صحّة العبادة عند صدورها عن الداعي القربي المستقل في داعويته بين أن ينضم إليه داع آخر مستقل في داعويته راجح أم مباح ، وإنما يعتبر فيها أن تكون صادرة عن الداعي القربي المستقل وهو مفروض التحقق في المقام هذا.

بل ذكرنا عدم تحقق جملة من العبادات الشرعية من الأشخاص المتعارفين غير الأوحدي منهم إلاّ مقترنة بداع آخر مباح أو راجح أيضاً مستقل في داعويته فترى أن المكلّف يصوم ولا يفطر في الشوارع والأسواق لداعي الأمر الإلهي الذي له استقلال في داعويته ، ومن هنا يترك الإفطار عند الخلوة ونزوله إلى السرداب أو دخوله داره مثلاً ، إلاّ أن لتركه الإفطار في تلك الأمكنة داعياً آخر أيضاً مستقلا في‌


وإن كانت محرّمة غير الرِّياء والسمعة فهي في الإبطال مثل الرِّياء ، لأنّ الفعل يصير محرّماً (*) فيكون باطلاً ، نعم الفرق بينها وبين الرِّياء أنه لو لم يكن داعيه في ابتداء العمل إلاّ القربة لكن حصل له في الأثناء في جزء من الأجزاء يختص البطلان بذلك الجزء ، فلو عدل عن قصده وأعاده من دون فوات الموالاة صحّ ، وكذا لو كان ذلك الجزء مستحباً وإن لم يتداركه ، بخلاف الرِّياء على ما عرفت (**) ، فإن حاله حال الحدث في الإبطال (١).

______________________________________________________

دعوته وهو الخوف من الناس ، حيث قد يترتّب عليه الضرب أو الإهانة والهتك أو سقوطه عن أنظارهم ، فلو اشترطنا في صحّة العبادة عدم انضمام الداعي الآخر المستقل في دعوته إلى الداعي القربي الإلهي الذي هو أيضاً مستقل في داعويته للزم الحكم ببطلان أكثر العبادات الصادرة عن الأشخاص المتعارفة وهو مما لا يمكن الالتزام به. هذا تمام الكلام في الضميمة المباحة والراجحة.

الضّميمة المحرّمة‌

(١) قد ذهب الماتن قدس‌سره إلى أن الضميمة المحرمة غير الرِّياء والسمعة في الإبطال كالرياء ، وإنما الفرق بينهما هو أن الرِّياء إذا تحقق في العبادة ولو في جزئها بل ولو كان جزءاً استحبابياً لاقتضى بطلانها ، حيث إنه كالحدث ، ولا ينفع معه إعادة الجزء بداعي القربة ، لأنه إذا تحقق في جزء من العمل لأبطل الكل والمركب كما هو الحال في الحدث ، وهذا بخلاف الضميمة المحرمة كالهتك على ما مثلنا به لأنها إذا تحققت في جزء من العبادة اختص البطلان بذلك الجزء فحسب ، فلو عدل عن قصده للضميمة المحرّمة وأتى به ثانياً بقصد القربة والامتثال وقعت العبادة صحيحة فيما إذا لم‌

__________________

(*) ليس هذا على إطلاقه بل يختلف باختلاف الموارد.

(**) قد عرفت ما فيه.


تكن باطلة بمطلق الزيادة العمدية كالصلاة ، ولم يستلزم الإعادة فوات الموالاة المعتبرة في العبادة.

وهذا الذي أفاده قدس‌سره إنما يتمّ على مسلكه ، لأن العمل عند قصد الضميمة المحرمة يتصف بالحرمة لا محالة ، حيث إنه هتك أو غيره من المحرمات ، والمحرّم لا يمكن أن يقع مصداقاً للواجب ، وحيث لا فرق عنده قدس‌سره بين الرِّياء في مجموع العبادة والرِّياء في جزئها ولو كان استحبابياً فيتمّ بذلك ما أفاده من الفرق ، وأمّا بناءً على ما قدّمناه من عدم دلالة شي‌ء من الأدلّة على بطلان العمل المركّب بالرِّياء في جزئه وعدم سراية الحرمة والبطلان من الجزء إلى المركّب والكل (١) ، فلا يتمّ ما أفاده قدس‌سره من الفرق ، بل الحرمة والبطلان يختصان بالجزء في كل من الرِّياء والضميمة المحرّمة ، فلو أعاده ولم يكن ذلك مستلزماً لفوات الموالاة المعتبرة ولم تكن الزيادة موجبة لبطلان العمل فلا محالة تقع العبادة صحيحة في كل من الرِّياء والضميمة المحرّمة.

فالصحيح في الفرق بينهما أن يقال : إن قصد الرِّياء إذا كان على وجه التبع بحيث لم يكن له مدخلية في صدور العبادة لا على نحو يكون جزء الداعي ولا على نحو الداعوية المستقلة ولا على نحو التأكيد ، وإنما يسره رؤية الغير لعمله مع صدوره عن الداعي الإلهي المستقل في الداعوية لم يكن ذلك موجباً لبطلان العبادة كما مر ، لعدم كونه رياء في الحقيقة ، وعلى تقدير التنزل قلنا إن مثله ليس بمحرم ولا بمبطل للعمل والنتيجة أن الرِّياء إذا كان تبعياً بالمعنى الذي عرفت لم يكن موجباً لبطلان العمل بوجه.

وهذا بخلاف الضميمة المحرمة لأنها إذا قصدت ولو تبعاً ، كما إذا صلّى عن الداعي الإلهي المستقل في الداعوية ولم يكن هتك الغير جزءاً من داعي العمل ولا داعياً مستقلا ، بل ولا موجباً للتأكد بوجه وإنما قصده على وجه التبعية القهرية ، استتبعت‌

__________________

(١) في ص ١٢.


[٥٦٨] مسألة ٢٩ : الرِّياء بعد العمل ليس بمبطل (١).

______________________________________________________

بطلان العبادة لا محالة لأنها هتك محرم والمحرّم لا يقع مصداقاً للواجب ، بل وكذلك الأمر فيما إذا لم يكن قاصداً له وإنما التفت إلى أنه هتك لأنه أيضاً يكفي في الحرمة والبطلان.

نعم إذا فرضنا أن المحرّم لم ينطبق على العمل كما في المثال ، بأن كان عمله هذا مقدمة قصد بها التوصّل إلى الحرام ولم يكن عمله محرماً في نفسه فيبتني الحكم بحرمته على ما حررناه في بحث الأُصول من أن مقدّمة الحرام إذا قصد بها التوصل إلى الحرام هل يحكم بحرمتها شرعاً أو لا؟ وقد ذكرنا هناك أن المحرّم إنما هو ذات الحرام والمقدّمة وإن قصد بها التوصّل إلى المحرّم لا تتصف بالحرمة شرعاً وإن كانت طغياناً وتجرياً على المولى (١) ، فإذا لم يكن العمل المقصود به التوصّل إلى الحرام محرماً اندرج بذلك في كبرى الضميمة المباحة لا محالة وأتى فيه التفصيل المتقدم آنفاً ، فإن كان قصد ذلك الأمر المباح جزءاً من داعي العمل ، أو كان داعياً مستقلا مع عدم كون الداعي الإلهي مستقلا في الداعوية يحكم ببطلان العمل ، وهذا لا لأنه محرم حيث قصد به التوصل إلى الحرام ، إذ قدمنا عدم حرمة المقدمة بذلك ، بل لأن العبادة لم تصدر عن داع قربي مستقل في داعويته وإن كان ما قصده مباحاً كما مرّ ، وأما إذا صدرت العبادة عن الداعي الإلهي المستقل ولم يكن ذلك الأمر المباح موجباً للدعوة أصلاً أو كان داعياً مستقلا ، فلا محالة يحكم بصحّة العبادة كما عرفت.

الرِّياء بعد العمل‌

(١) لا يتحقق الرِّياء بعد العمل على وجه الحقيقة ، لأنه بمعنى أدائه العمل للغير ومع انقضاء العبادة وانصرافها كيف يمكن إراءتها للغير ، نعم لا مانع من تحقق ما هو‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٤٣٩.


[٥٦٩] مسألة ٣٠ : إذا توضأت المرأة في مكان يراها الأجنبي لا يبطل وضوءها (*) وإن كان من قصدها ذلك (١).

______________________________________________________

نتيجة الرِّياء باعلام الغير بالعمل بعده كما إذا نشر عمله في الصحف والمجلات ، إلاّ أنه لا ينبغي الإشكال في عدم كونه موجباً لبطلان العمل ، لأنه بعد ما وقع مطابقاً للأمر وعلى وجه الصحّة والتمام لم ينقلب عمّا وقع عليه ، نعم هو مناف لكمال العبادة حيث ينبغي أن تصدر من غير شائبة الرِّياء ولو متأخراً عن العمل ، بمعنى أن العبادة الراقية بحسب الحدوث والبقاء سواء ، فكما أنها بحسب الحدوث لا بدّ أن لا تقترن بالرِّياء فكذلك بقاء بالمعنى المتقدِّم آنفاً حسبما يستفاد من الروايات ، وذلك لأنّا استفدنا من الأخبار أنّ الله يحبّ العبادة سرّاً في غير الفرائض ، حيث لا مانع من أن يؤتى بها جهراً بمرأى من الناس وحضورهم ، لما ورد في أنها الفارقة بين الكفر والإسلام. وأما غيرها فالأحب منها ما يقع في السر ، فإعلانها لا يبعد أن يكون موجباً لقلّة ثوابها بل لإذهابه وإحباطه ، وعلى هذا يحمل ما ورد من أنه « يصل الرجل بصلة وينفق نفقة لله وحده لا شريك له فكتبت له سرّاً ، ثمّ يذكرها فتمحى فتكتب له علانية ، ثمّ يذكرها فتمحى وتكتب له رياء » (٢) ولا يمكن الأخذ بظاهرها من الحكم ببطلان العبادة السابقة بذكرها بعد ذلك لما عرفت ، نعم لا مانع من الالتزام بمحو كتابة السرّ وكتابة العلانية. على أنها مرسلة ولا يمكن الاعتماد عليها في شي‌ء ولو قلنا بانجبار ضعف الرواية بعمل المشهور على طبقها ، لعدم عملهم على طبق المرسلة كما هو ظاهر.

توضّؤ المرأة في موضع يراها الأجنبي‌

(١) وذلك لأن الوضوء عبارة عن الغسلتين والمسحتين ، وهو ليس مقدّمة لرؤية‌

__________________

(*) لكن إذا انحصر مكان الوضوء به تعين التيمم في مكان لا يراها الأجنبي ، نعم إذا توضأت والحال هذه صحّ وضوءها.

(١) المروية في الوسائل ١ : ٧٥ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١٤ ح ٢.


[٥٧٠] مسألة ٣١ : لا إشكال في إمكان اجتماع الغايات المتعدِّدة للوضوء كما إذا كان بعد الوقت وعليه القضاء أيضاً وكان ناذراً لمس المصحف وأراد قراءة القرآن وزيارة المشاهد ، كما لا إشكال في أنه إذا نوى الجميع وتوضأ وضوءاً واحداً لها كفى وحصل امتثال الأمر بالنسبة إلى الجميع (١)

______________________________________________________

الأجنبي حتى يدخل بذلك في الكبرى المتقدّمة ، أعني المقدّمة التي قصد بها التوصل إلى الحرام ، حيث يجب على المرأة أن تتحفظ على نفسها ولا تري وجهها أو يديها أو غيرهما من أعضائها إلى الرجال الأجانب ، بل المقدّمة هي وقوفها في هذا المكان. وعليه فوضوءها محكوم بالصحّة لا محالة ، نعم إذا انحصر المكان بما إذا أرادت أن تتوضأ فيه وقع عليها نظر الأجنبي فلا إشكال في تبدّل وظيفتها إلى التيمّم ، لعدم أمرها بالوضوء وقتئذ ، لأنه يستلزم الحرام فيجب عليها التيمم لا محالة ، إلاّ أنها إذا عصت وتركت التيمّم وتوضّأت في ذلك المكان أمكن الحكم بصحّة وضوئها أيضاً بالترتّب على ما مرّ الكلام عليه في بعض الأبحاث المتقدِّمة (١).

نيّة جميع الغايات المترتبة على الوضوء‌

(١) إذا نوى جميع الغايات المترتبة على الوضوء ، فقد تكون كل واحدة من تلك الغايات داعية مستقلّة نحو الوضوء بحيث لو كانت وحدها لأتى المكلّف لأجلها بالوضوء ، ولا إشكال حينئذ في أنه يقع امتثالاً للجميع.

وأُخرى لا تكون كل واحدة منها داعياً باستقلاله ، بل الداعي المستقل إحداها المعيّنة وغيرها تبع ، فحينئذ يقع الوضوء امتثالاً لهذه الغاية المعيّنة لا لغيرها وإن جاز أن يأتي بسائر الغايات المتوقفة على الطّهارة لوضوئه ذلك أيضاً ، لعدم مدخلية‌

__________________

(١) تقدّم ذلك عند التكلّم على التوضّؤ من الماء الموجود في أواني الذهب والفضة أو الآنية المغصوبة مع فرض الانحصار فليلاحظ شرح العروة ٤ : ٣٠٢ ، ٢٦٥.


قصد تلك الغايات في صحّته.

وثالثة يكون كل واحدة من الغايات جزءاً من الداعي للوضوء ، بحيث لا استقلال في الداعوية لشي‌ء منها في نفسها ، وإنما الداعي له هو مجموع هذه الغايات الواجبة أو المستحبّة على نحو الاجتماع ، فهل يقع الوضوء حينئذ امتثالاً للجميع في نفسها؟ قد يستشكل في ذلك نظراً إلى أن مجموع هذه الغايات المتكثرة ليس متعلقاً للأمر بالوضوء ، إذ لا وجود خارجي له حقيقة وإنما هو أمر ينتزع عن وجود كل واحدة منها في الخارج ، وحيث إن الأمر المتعلق بكل واحدة منها بالخصوص لم يكن داعياً للمكلف على الفرض لأنه لم يأت بالوضوء بداعي التوصل إلى غاية معيّنة ، فلم يأت به المكلّف بداعي الأمر الشرعي المتعلق به ومعه لا مناص من الحكم ببطلانه.

إلاّ أن الصحيح أن الوضوء في مفروض المسألة يقع امتثالاً للجميع ، وذلك لأن عبادية الوضوء غير ناشئة عن الأمر الغيري المتعلق به ولا من جهة قصد شي‌ء من غاياته ، بل إنما عباديته تنشأ عن الأمر النفسي المترتب عليه نظير بقيّة العبادات فهو عبادة وقعت مقدّمة لعبادة اخرى ، وعليه فلا يعتبر في صحّته قصد أمره الغيري ولا قصد شي‌ء من غاياته ، نعم لا يعتبر في صحّته أيضاً أن يؤتى به بقصد الأمر النفسي المتعلق به ، بل إن أكثر العوام لا يلتفت إلى أن له أمراً نفسياً بوجه ، بل يقع صحيحاً فيما إذا أتى به مضافاً إلى الله سبحانه نحو إضافة ، وهذا يتحقق بقصد التوصل به إلى شي‌ء من غاياته ، لأنه أيضاً نحو إضافة له إلى الله سبحانه ، فعلى هذا إذا أتى بالوضوء بداعي مجموع غاياته حكم بصحّته ، لأنه أتى بذات العمل وأضافه إلى الله تعالى حيث قصد به التوصل إلى مجموع الغايات المترتبة عليه وهو نحو إضافة له إلى الله فلا محالة يحكم بصحّته.

ولا يقاس المقام بالضمائم الراجحة ، حيث قدّمنا أنّ العبادة إذا صدرت بداعي مجموع الأمر الإلهي والضميمة الراجحة ولم يكن كل واحد منهما أو خصوص الأمر الإلهي داعياً مستقلا في دعوته وقعت باطلة ، من جهة عدم صدورها عن الداعي‌


وأنّه إذا نوى واحداً منها أيضاً كفى عن الجميع (١) وكان أداء بالنسبة إليها وإن‌

______________________________________________________

الإلهي المستقل في داعويته ، وانضمام الضميمة الراجحة إليه غير كاف في القربية.

والذي يشهد لما ذكرناه أنه لو أتى بالعبادة بداعي الضميمة الراجحة فقط بأن تكون مستقلّة في داعويتها لم يمكن القول بوقوع العبادة امتثالاً لأمرها وإن كانت واقعة امتثالاً لتلك الضميمة الراجحة كتعليم الوضوء أو الصلاة للغير ، لأنها أيضاً عبادة مستحبة إلاّ أنها لا توجب وقوع العبادة امتثالاً لأمرها ، فإذا لم تكن الضميمة الراجحة مقرّبة من ناحية الأمر المتعلق بالعبادة في نفسها فلا يكون المجموع منها ومن الأمر المتعلق بالعبادة مقرباً أيضاً ، لأن المركب من غير المقرب والمقرب لا يكون مقرّباً ، وهذا بخلاف المقام وذلك لأنه لو كان قصد بوضوئه ذلك التوصل إلى أية غاية من غاياته كفى ذلك في مقربية الوضوء ووقوعه امتثالاً لأمره ، لما مرّ من أن عبادية الوضوء لم تنشأ عن الأمر الغيري المتعلق به ، ولا عن قصد شي‌ء من غاياته حتى يقال إن المكلّف في مفروض الكلام لما لم يقصد التوصّل إلى خصوص غاية من غاياته ولا قصد بذلك امتثال أمره الغيري وقع باطلاً لا محالة ، بل عباديته ناشئة عن الأمر النفسي المتعلق به ، فهو عبادة في نفسه والعبادة يكفي في صحّتها الإتيان بذاتها مضافة بها إلى الله سبحانه نحو إضافة ، والإضافة تحصل بقصد التوصّل به إلى شي‌ء من غاياته أو إلى مجموع تلك الغايات فلا محالة يقع صحيحاً وامتثالاً للجميع ، ويمكن إدخال ذلك تحت عبارة الماتن قدس‌سره في قوله : كما لا إشكال في أنه إذا نوى الجميع وتوضّأ وضوءاً واحداً لها كفى وحصل امتثال الأمر بالنسبة إلى الجميع.

إذا نوى واحداً من الغايات‌

(١) وذلك لتحقق الوضوء بإتيانه بقصد غاية معيّنة من غاياته حيث لا يعتبر في صحّته ووقوعه قصد بقيّة الغايات أيضاً ، ومع تحققه له أن يدخل في أية غاية متوقفة على الطهارة سواء قلنا إن الطّهارة هي نفس الوضوء أعني الغسلتين والمسحتين كما‌


لم يكن امتثالاً إلاّ بالنسبة إلى ما نواه ، ولا ينبغي (*) الإشكال في أن الأمر متعدِّد حينئذ وإن قيل إنه لا يتعدّد وإنما المتعدِّد جهاته ، وإنما الإشكال في أنه هل يكون المأمور به متعدِّداً أيضاً وأن كفاية الوضوء الواحد من باب التداخل أو لا بل يتعدّد (**) ذهب بعض العلماء إلى الأوّل وقال : إنه حينئذ يجب عليه أن يعيّن أحدها وإلاّ بطل ، لأن التعيين شرط عند تعدّد المأمور به. وذهب بعضهم إلى الثاني وأن التعدّد إنما هو في الأمر أو في جهاته.

______________________________________________________

قوّيناه ، أم قلنا إن الطّهارة أمر يترتب على تلك الأفعال ، وذلك لتحقق الطّهارة على الفرض. نعم يقع حينئذ امتثالاً من جهة الأمر المتوجه إلى ما قصده من الغايات وأداء بالإضافة إلى بقيّة غاياته التي لم يقصد التوصل به إليها هذا.

ثمّ إن في هذه المسألة جهة أُخرى للكلام ، وهي أنه إذا توضأ بنيّة شي‌ء من غايات الوضوء وبعد ذلك بدا له وأراد أن يأتي بغاية أُخرى أيضاً من غاياته فقد عرفت أنه لا يجب عليه حينئذ أن يتوضأ ثانياً ، بل الوضوء الذي أتى به للتوصل به إلى صلاة الفريضة مثلاً كاف في صحّة بقيّة غاياته ، إلاّ أن الكلام في أن هذا من باب التداخل أو من جهة وحدة المأمور به.

والكلام في ذلك تارة في تعدّد الأمر وأُخرى في تعدّد المأمور به ، وقد نفى الماتن‌

__________________

(*) التحقيق أنه إذا بنينا على عدم اتصاف المقدّمة بالوجوب أو الاستحباب الغيري كما قوّيناه في محله فلا موضوع لهذا البحث من جهة تعدّد الغايات ، ولو قلنا باتصافها به فان لم نعتبر الإيصال في اتصاف المقدّمة بالمطلوبية فلا إشكال في وحدة الأمر والمأمور به وأن التعدّد إنما هو في الجهات ، والوجه فيه ظاهر ، وإن اعتبرنا الإيصال فيه فالظاهر أن كلاًّ من الأمر والمأمور به متعدِّد وأن الاكتفاء بالوضوء الواحد من باب التداخل في المسببات ، وأما الوضوء الواجب بالنذر فتعدّد المأمور به فيه يتوقف على جعل الناذر وقصده ، فان قصد التعدّد تعدّد ، وإلاّ فلا.

(**) الظاهر أن جملة ( بل يتعدد ) زائدة وهي من سهو القلم.


الإشكال في تعدّد الأمر حينئذ وذكر أن الإشكال في أن المأمور به أيضاً متعدِّد أو أن التعدّد في جهاته ، ونسب إلى بعض العلماء القول بتعدّد المأمور به كالأمر وفرع عليه لزوم تعيين أحدها ، لأنه لو لم يعيّن المأمور به عند تعدّده بطل ، وقد اختار هو قدس‌سره عدم تعدّد المأمور به ، ثمّ تعرض إلى مسألة النّذر وقال : إنه يتعدّد المأمور به فيها تارة ولا يتعدّد اخرى.

وتوضيح الكلام في هذا المقام : أنه إذا قلنا بأن المقدّمة لا تتصف بالأمر الغيري المقدمي لا بالوجوب ولا بالاستحباب كما قوّيناه في محلِّه وقلنا إنّ الوجوب أو الاستحباب لا يتعدّى ولا يسري من ذي المقدّمة إلى مقدّماته ، نعم هي واجبة عقلاً (١) فلا يبقى مجال للبحث في هذه المسألة ، حيث لا أمر غيري في الوضوء حينئذ ليقال إنه واحد أو متعدِّد وأن المأمور به أيضاً متعدِّد أو واحد. فالنزاع يبتني على القول باتصاف المقدّمة بالأمر الغيري المترشح من ذيها شرعا.

وحينئذ إن قلنا بما سلكه صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) من أن الأمر الغيري إنما يتعلّق بذات المقدّمة كالغسلتين والمسحتين لا بهما مقيّداً بعنوان المقدمية أو الإيصال لأن المقدمية جهة تعليلية لا تقييدية ، فالصلاة واجبة لعلة ما فيها من المصلحة ومقدماتها واجبة لعلة كونها مقدّمة لها فالمتصف بالأمر الغيري هو ذات المقدّمة لا هي بوصف كونها مقدّمة أو مع قيد الإيصال ، فلا مناص من الالتزام بوحدة الأمر لأن طبيعي الوضوء وذاته شي‌ء واحد لا يعقل الحكم بوجوبه أو باستحبابه مرتين لوضوح أنه من أظهر أنحاء اجتماع المثلين أو الأمثال وهو أمر مستحيل حتى بناء على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي ، فلا بدّ من الالتزام بوحدة وجوبه غاية الأمر أنه متأكد وهو آكد من بقيّة أفراد الوجوبات الغيرية المتعدِّدة متعلقاتها.

وأمّا إذا قلنا حينئذ أي على تقدير الالتزام باتصاف المقدّمة بالأمر الغيري بأن‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٤٣٨.

(٢) كفاية الأُصول : ١١٤.


متعلقه ليس هو طبيعي المقدّمة ، بل هو حصّة خاصّة منه وهي التي تقع في سلسلة علّة ذي المقدّمة أعني المقدّمة الموصلة في الخارج إلى ذيها كما ذهب إليه صاحب الفصول قدس‌سره (١) وقوّيناه في محلِّه (٢) وقلنا أن المقدّمة على تقدير الالتزام بوجوبها أو باستحبابها الغيريين لا موجب للالتزام بوجوب طبيعي المقدّمة أو استحبابها وإن لم توصل إلى ذيها خارجاً ، فلا مناص وقتئذ من الالتزام بتعدد الأمر وذلك لأن هناك حينئذ حصصاً كثيرة متعدِّدة ، فالوضوء المقيّد بكونه موصلاً إلى صلاة الفريضة واجب بوجوب ناشئ من وجوب الفريضة ، والوضوء المقيّد بكونه موصلاً إلى قراءة القرآن مستحب باستحباب القراءة ، كما أن الوضوء المقيّد بكونه موصلاً إلى صلاة القضاء واجب بوجوب ناشئ من وجوب القضاء وهكذا ، ولا يمكن أن يقال حينئذ إن الوضوء المقيّد بكونه موصلاً إلى صلاة القضاء مستحب باستحباب القراءة أو واجب بوجوب صلاة الفريضة وهكذا ، وعليه فكما يتعدد الأمر كذلك يتعدّد المأمور به كما عرفت.

فمن هنا يظهر أن ما أفاده الماتن من نفي الإشكال في تعدّد الأمر وجعل الإشكال في تعدّد المأمور به ممّا لا وجه له ولا نعرف له وجهاً صحيحاً ، لأن الجهتين متلازمتان ، ففي كل مورد التزمنا بوحدة الأمر كما بناء على مسلك صاحب الكفاية قدس‌سره فلا مناص من الالتزام بوحدة المأمور به أيضاً ، كما أنه إذا قلنا بتعدد الأمر كما على المختار لا بدّ من الالتزام بتعدّد المأمور به كما مرّ ، وعليه فاذا جمع تلك الحصص في مورد واحد بأن توضأ بقصد التوصّل إلى غاية واحدة أو مجموعها وكان موصلاً إلى المجموع خارجاً ، فيكون عدم الحاجة إلى الوضوء مرّة ثانية للغاية الأُخرى من جهة التداخل لا محالة.

وعلى الجملة قد عرفت أن هذه المسألة تبتني على ما هو المعروف بينهم من‌

__________________

(١) الفصول : ٨٦ / ١٢.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٤٢٠.


اتصاف المقدّمة بالأمر الغيري شرعاً ، كما أن تعدّد المأمور به أو وحدته يبتنيان على ما هو الصحيح من اختصاص الأمر الغيري بالمقدّمة الموصلة ، لأن الحصص حينئذ متعدِّدة فإن الوضوء الموصل إلى الفريضة حصّة منه واجبة بوجوب الفريضة ، والوضوء الموصل إلى النافلة حصّة أُخرى منه مستحبة باستحباب ناشئ من استحباب النافلة أو القراءة أو غيرهما ، فالحصص متعدِّدة كما أن الأمر متعدِّد ، إلاّ أن هذه الحصص قد تجتمع في مورد واحد وتوجد بوجود فأرد ، كما إذا أوصل وضوءه إلى جميع غاياته الواجبة والمستحبة ، وعليه فعدم لزوم التعدّد في الوضوء وكفاية الوضوء مرّة واحدة يكون من باب التداخل لا محالة ، ولعل هذا كله ظاهر ولا كلام فيه ، وإنما الكلام فيما فرعه ورتبه على هذا القول من لزوم تعيين أحد الواجبات أعني المأمور به المتعدِّد فيحكم ببطلانه عند عدم تعيينه مع تعدّده لعدم الترجيح من غير مرجح.

الصحيح عدم اعتبار التعيين حينئذ ، وذلك لما مرّ غير مرّة من أن عبادية الوضوء لم تنشأ عن الأمر الغيري المتعلق به ، لأنا نلتزم بعباديته حتى على القول بعدم وجوب المقدّمة وإنكار الأمر الغيري رأساً ، وإنما عباديته نشأت عن الأمر النفسي المتعلق به وعليه فلو أتى بالوضوء قاصداً به أمره النفسي فقد وقع وضوءه صحيحاً مقرّباً ويصح معه الدخول في غاياته وإن لم يقصد أمره الغيري أصلاً أو قصده على وجه الترديد ، بأن لم يدر أنه يصلّي بعد وضوئه هذا أو يقرأ القرآن أو يزور الإمام عليه‌السلام لأن الترديد حينئذ إنما هو في قصد أمره الغيري ولا ترديد في قصد أمره النفسي ، وقد ذكرنا أن الأمر الغيري لا يعتبر قصده في عبادية الوضوء. ولا يقاس المقام بسائر العبادات النفسية كصلاتي القضاء والأداء حيث يجب تعيين أحدهما في صلاته وإلاّ بطلت صلاته لا محالة ، لأن عباديتها إنما هي من جهة أمرها النفسي فلا مناص من قصد أمرها النفسي في وقوعها صحيحة ، فإما أن يقصد الأمر بالأداء أو الأمر بالقضاء ، وأما في المقام فقد عرفت أنه قصد أمره النفسي ولم يقصد أمره الغيري‌


وقد مرّ أن قصد الأمر الغيري غير معتبر في صحّة الوضوء ، لعدم استناد عباديته إلى الأمر الغيري هذا.

بل لو قلنا بأن عبادية الوضوء نشأت من أمره الغيري أيضاً لا يجب تعيين المأمور به عند اجتماع غايات متعدِّدة ، وذلك لأن تعيين المأمور به لم يدل على اعتباره دليل وإنما نقول باعتباره في الموارد التي لا يتعيّن المأمور به ولا يتحقق إلاّ بتعيينه وقصده وهذا كما إذا صلّى ركعتين بعد طلوع الفجر ، لأنه لا بدّ من تعيين أنهما فريضة أو نافلة فلو لم يعين إحداهما بطلت ، لتقوم كل من الفريضة والنافلة بقصدها وبتعيينها.

وهذا بخلاف المقام ، لأن الواجب متعيّن في نفسه ولا حاجة فيه إلى التعيين ، وذلك لأن الحصّة الموصلة من الوضوء إلى صلاة الفريضة ممتازة عن الحصّة الموصلة إلى قراءة القرآن ، وهي غير الحصّة الموصلة منه إلى زيارة الإمام عليه‌السلام فالحصص في أنفسها ممتازة كما أن ما يأتي به متعين في علم الله ، لعلمه تعالى بأنه موصل للقراءة أو للزيارة ، فبناء على أن عبادية الوضوء ناشئة عن أمره الغيري لا مناص من قصد أمره الغيري في صحّة الوضوء ، إلاّ أنه لا يجب عليه تعيين ذلك الأمر الغيري وأنه يأتي بالوضوء بغاية كذا ، بل لو أتى به للتوصل به إلى شي‌ء من غاياته من دون علمه بأنه يأتي بالفريضة بعد ذلك أو بالزيارة أو بغيرهما صح ، لأنه أتى به وأضافه إلى الله سبحانه بقصد أمره الغيري وهو متعيّن في علم الله سبحانه ، لعلمه تعالى بأن هذا الوضوء هو الذي يوصله إلى الفريضة أو إلى النافلة أو إلى الزيارة وإن لم يعلم به المتوضي ، لأنه إنما يعلم به بعد الإتيان بالغاية. ومع تعيّن المأمور به في نفسه وفي علم الله سبحانه لا حاجة إلى تعيينه في مقام الامتثال ، لأنه مما لم يدلّ دليل على اعتباره في الواجبات وإنما نعتبره فيما إذا توقف تحقق الواجب وتعيينه إلى التعيين كما في مثل النافلة والفريضة أو القضاء والأداء ، هذا كله في غير النّذر.


وبعضهم إلى أنه يتعدّد بالنذر ولا يتعدّد بغيره (١) وفي النّذر أيضاً لا مطلقاً بل في بعض الصور (٢) مثلاً إذا نذر أن يتوضأ لقراءة القرآن ونذر أن يتوضأ لدخول المسجد فحينئذ يتعدّد ولا يغني أحدهما عن الآخر ، فإذا لم ينو شيئاً منهما لم يقع امتثال لأحدهما ولا أداؤه ، وإن نوى أحدهما المعيّن حصل امتثاله وأداؤه ولا يكفي عن الآخر ، وعلى أي حال وضوءه صحيح بمعنى أنه موجب لرفع الحدث

______________________________________________________

مسألة النّذر‌

(١) الذي يظهر من عبارة الماتن قدس‌سره أن هذا تفصيل في المسألة بمعنى أن الأمر متعدِّد والمأمور به واحد إلاّ في موارد النّذر ، لأن المأمور به قد يتعدّد فيها وقد لا يتعدّد ، إلاّ أنه من قصور العبارة ، لأن النّذر خارج عن محل الكلام رأساً حيث إن تعدّد الوضوء ووحدته فيه تابعان لقصد الناذر ونيّته وهو مما لا كلام فيه ، وإنما البحث فيما إذا كان المأمور به متعدِّداً في نفسه لا من ناحية النّذر.

(٢) وتفصيل الكلام في نذر الوضوء أن الناذر قد ينذر قراءة القرآن مثلاً متوضئاً وأيضاً ينذر زيارة الإمام عليه‌السلام متوضئاً وهكذا. ولا إشكال في عدم وجوب الوضوء متعدِّداً في هذه الصورة ، لأنه لم ينذر الوضوء متعدِّداً وإنما نذر القراءة أو الزيارة ونحوهما ، فإذا توضأ لأي غاية كان ثمّ قرأ القرآن وزار الإمام عليه‌السلام صحّ وضوءه وحصل الوفاء به ، لأنه أتى بهما في حال كونه متطهراً فضلاً عمّا إذا توضأ للقراءة ثمّ أتى بالزيارة أو بالعكس وهذا ظاهر.

وأُخرى ينذر الوضوء للقراءة وأيضاً ينذر الوضوء للزيارة إلاّ أنه لم ينذر تعدّد وجودهما ، بمعنى أنه نذر الإتيان بالطبيعي الموصل من الوضوء إلى القراءة وأيضاً نذر الإتيان بطبيعة أُخرى منه موصلة إلى الزيارة ، وأما أن يكون وجود كل من هاتين الطبيعتين منحازاً عن الآخر فلم ينذره ، فحينئذ يحكم بتخيره بين أن يتوضأ وضوءاً واحداً ويوجد الطبيعتين في مصداق واحد ، وبين أن يوجد كل واحد منهما بوجود‌


وإذا نذر أن يقرأ القرآن متوضئاً ونذر أيضاً أن يدخل المسجد متوضئاً فلا يتعدّد حينئذ ويجزئ وضوء واحد عنهما وإن لم ينو شيئاً منهما ولم يمتثل أحدهما ، ولو نوى الوضوء لأحدهما كان امتثالاً بالنسبة إليه وأداء بالنسبة إلى الآخر ، وهذا القول قريب.

______________________________________________________

مستقل ، وهذا كما إذا نذر إكرام عالم ونذر أيضاً إكرام هاشمي من غير أن ينذر تغايرهما في الوجود ، فإنه إذا أكرم عالماً هاشمياً فقد وفى بنذره ، وهذا مما لا إشكال فيه.

وثالثة ينذر أن يوجد وضوءاً يوصله إلى القراءة ، وينذر أيضاً أن يوجد وضوءاً ثانياً يوصله إلى الزيارة ، وحينئذ لا مناص من التعدّد في الوضوء ، وهذا لا من جهة تعدّد الوضوء في نفسه من قبل غاياته ، بل قد عرفت أن الوضوء لا يحتاج إلى التعدّد من ناحيتها ، فإن له أن يتوضأ بوضوء واحد ويأتي بجميع غاياته ، وإنما التعدّد من جهة نذره التعدّد بحيث لو أتى به مرّة واحدة يجوز له أن يدخل معه في الصلاة ويأتي بغيرها من غاياته ، إلاّ أنه لا يكون وفاء لنذره لأنه قد نذر التعدّد هذا.

وقد يقال في هذه الصورة إنّ نذر التعدّد حينئذ لا يخلو عن إشكال ، لأن الوضوء من قبل غاياته إذا لم يكن متعدِّداً في الشريعة المقدّسة لكفاية الوضوء الواحد في الإتيان بجميع غاياته ، فإن الطبيعة واحدة ولا يتعدّد من قبل غاياتها ، فكيف يكون النّذر موجباً للتعدّد؟ لأن النّذر لا يصلح أن يكون مشرعاً للتعدّد فيما لا تعدّد فيه شرعاً ، لوجوب مشروعيّة المنذور مع قطع النظر عن النّذر.

ولكن الصحيح أنه لا مانع من نذر التعدّد ، وذلك لأن كلامنا في أن المأمور به متعدِّد أو واحد في قول الماتن : ( إنه لا إشكال في تعدّد الأمر ، وإنما الكلام في تعدّد المأمور به وعدمه ) إنما هو في أن المأمور به طبيعة واحدة ولا يتعدّد من قبل غاياتها أو أنها طبائع متعدِّدة بتعدّد غايات الوضوء ، كما قالوا بذلك في الغسل من ناحية‌


[٥٧١] مسألة ٣٢ : إذا شرع في الوضوء قبل دخول الوقت وفي أثنائه دخل لا إشكال في صحّته (١) وأنّه متّصف بالوجوب (*) باعتبار ما كان بعد الوقت من‌

______________________________________________________

أسبابه لا من ناحية غاياته ، حيث قالوا إن الغسل من جهة الحيض طبيعة ومن ناحية الجنابة طبيعة أُخرى وهكذا ، وإن كانت هذه الطبائع تتداخل فيما إذا أتى بالغسل الواحد ناوياً للجميع ، وقد ذكرنا أن التعدّد في طبيعة الوضوء من حيث الغايات لم يثبت فقلنا بكونه طبيعة واحدة وماهيّة فأرده ، فتعدّد الماهية والطبيعة غير مشروع إلاّ أن النّذر إنما تعلق بالفرد لا بالماهية والطبيعة ، فقد نذر أن يأتي بفرد من الوضوء لغاية كذا ، وأيضاً نذر أن يأتي بفرد آخر منه لغاية أُخرى ، والتعدّد في الفرد أمر سائغ شرعاً لبداهة أنه يجوز للمكلّف أن يتوضأ لصلاة الفريضة ثمّ يأتي بوضوء آخر لها ثانياً ، فان التجديد للفريضة مستحب حيث إن الوضوء على الوضوء نور على نور فلا مانع من نذر التعدّد في الوضوء هذا أوّلاً.

وثانياً : أنا لو سلمنا فرضاً عدم مشروعية تجديد الوضوء للفريضة أيضاً ، أو قلنا بأن التجديد إنما يسوغ فيما إذا أتى به ثانياً بعنوان التجديد لا بعنوان كونه مقدّمة لغاية أُخرى أيضاً ، لا مانع من صحّة نذر التعدّد في الوضوء ، وذلك لأنه متمكن من أن يأتي بفرد من الوضوء أوّلاً ثمّ ينقضه ثانياً بالحدث ثمّ يأتي بفرد آخر من الوضوء وفاء لنذره ، فإنه مع التمكن من إبطال وضوئه الأوّل لا مانع من أن ينذر التعدّد ، لأنه لم ينذر أن يأتي بوضوءين متعاقبين بل له أن يحدث بينهما ، ومعه لا إشكال في مشروعية الفرد الثاني من الوضوء ، فنذر التعدّد في الوضوء مما لا إشكال فيه.

إذا دخل الوقت في أثناء الوضوء‌

(١) نسب إلى العلاّمة قدس‌سره الحكم ببطلان الوضوء حينئذ والحكم‌

__________________

(*) هذا مبني على اتصاف المقدّمة بالوجوب الغيري ، وقد مرّ ما فيه.


أجزائه وبالاستحباب بالنسبة إلى ما كان قبل الوقت ، فلو أراد نيّة الوجوب والندب نوى الأوّل بعد الوقت والثاني قبله.

______________________________________________________

بالاستئناف ، نظراً إلى أن ما قصده المكلّف قبل دخول الوقت من الاستحباب لا واقع له ، لعدم تمكنه في الواقع من إتيان العمل المستحب وإنهائه لفرض دخول الوقت في أثنائه وتبدّل استحبابه بالوجوب. ولا يتمكّن من قصد الوجوب إذ لا وجوب قبل دخول الوقت فلا محالة يبطل وضوءه ويجب استئنافه (١) هذا.

ولكن الصحيح وفاقاً للماتن صحّة هذا الوضوء وعدم وجوب الاستئناف فيه. والوجه في حكمنا بصحّته أنه لا يتوجه إشكال في صحّة الوضوء على جميع المحتملات في المسألة ، حيث إن فيها احتمالات : لأنا إن قلنا بعدم اتصاف المقدّمة بالوجوب الغيري أصلاً كما بنينا عليه وقلنا إنه الصحيح (٢) فلا إشكال في المسألة ، لأن الوضوء حينئذ باق على استحبابه بعد الوقت أيضاً ولم يتبدل ولم ينقلب إلى الوجوب فهو متمكن من إتيان العمل المستحب من أوّله إلى آخره.

وأمّا إذا قلنا بوجوب المقدّمة وخصصنا وجوبها بالمقدّمة الموصلة كما هو المختار على تقدير القول بالوجوب الغيري في المقدّمة فكذلك لا إشكال في المسألة فيما إذا لم يوصله هذا الوضوء إلى الفريضة ، كما إذا قرأ القرآن بعد ذلك ثمّ أحدث ثمّ توضأ للفريضة. وكذلك الحال فيما إذا خصصنا وجوبها بما إذا قصد به التوصل إلى ذيها كما ذهب إليه شيخنا الأنصاري قدس‌سره (٣) إذا لم يقصد المكلّف من وضوئه هذا التوصّل إلى الفريضة ، فإن الوضوء حينئذ باق على استحبابه بعد الوقت ولم يتبدل إلى الوجوب ، فالمكلف يتمكن من إتيان العمل المستحب الذي قصده قبل دخول الوقت من مبدئه إلى منتهاه.

__________________

(١) النهاية ١ : ٣٣.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٤٣٨.

(٣) مطارح الأنظار : ٧٢ / ٨.


وأمّا إذا قلنا بوجوب المقدّمة مطلقاً ، أو خصصناه بالموصلة مع فرض كون الوضوء موصلاً له إلى الواجب ، أو خصصناه بما قصد به التوصل إلى ذيها وفرضنا أن المكلّف قصد به التوصل إليه ، فأيضاً لا إشكال في المسألة فيما إذا قلنا إن متعلق الأمر الغيري ليس هو متعلق الأمر الاستحبابي ليكونا في عرض واحد ، وإنما متعلق الأمر الغيري هو إتيان العمل امتثالاً لأمره الاستحبابي لا ذات العمل فهما طوليان ، نظير ما إذا نذر صلاة الليل أو استؤجر للصلاة عن الغير أو حلف بإتيان الفريضة ، حيث إن متعلق الأمر النّذري أو الحلفي أو الإجاري ليس هو ذات العمل كالغسلتين والمسحتين في الوضوء حتى يكون في عرض الأمر المتعلق به نفساً ، وذلك لأن ذات العمل غير مفيدة في حق الحي والميت وإنما المفيد هو الإتيان بالذات امتثالاً لأمرها وهو متعلق للأمر النّذري وشقيقيه. وعليه أيضاً لا إشكال في المسألة لعدم ارتفاع الاستحباب عن الوضوء بعد دخول وقته ، بل هو باق على استحبابه وغاية الأمر طرأ عليه الأمر الغيري بعد الوقت ، فالمكلّف متمكن من إتيان العمل المستحب من مبدئه إلى منتهاه.

وأما إذا قلنا إن متعلق الأمر الغيري هو الذات وأنه مع الأمر الاستحبابي في عرض واحد فعليه أيضاً لا إشكال في المسألة ، لأن المرتفع حينئذ بعد دخول الوقت هو حدّ الاستحباب ومرتبته لا ملاكه وذاته لأنه باق على محبوبيّته ، وغاية الأمر قد تأكد طلبه فصار الاستحباب بحدّه مندكاً في الوجوب ، وأما بذاته وملاكه فهو باق فهو متمكن من إتيان العمل المستحب بذاته لا بحدّه فلا إشكال في المسألة. هذا كلّه على أنه لا محذور في اتصاف عمل واحد بالاستحباب بحسب الحدوث وبالوجوب بحسب البقاء حتى في الوجوب النفسي فضلاً عن الوجوب الغيري. ولقد وقع ذلك في غير مورد في الشريعة المقدّسة وهذا كما في الحج المندوب ، لأنه بعد الدخول والشروع فيه يجب إتمامه ، وكذا في نذر إتمام المستحب بعد الدخول فيه ، وفي عبادات الصبي إذا بلغ في أثنائها ، لأنها حين دخوله فيها مستحبة وفي الأثناء تتصف بالوجوب ، فهل يمكن الإشكال في صحّة هذه الأُمور حينئذ؟ كلاّ.


[٥٧٢] مسألة ٣٣ : إذا كان عليه صلاة واجبة أداء أو قضاء ولم يكن عازماً على إتيانها فعلاً فتوضّأ لقراءة القرآن فهذا الوضوء متّصف بالوجوب (*) (١) وإن‌

______________________________________________________

والسرّ في ذلك أن الاستحباب والوجوب بعد اتحاد الطبيعة المتعلقة بهما لضرورة أن الوضوء الذي يؤتى به لقراءة القرآن أو قبل الوقت هو الذي يؤتى به للفريضة أو بعد دخول وقتها إما أن يكونا مرتبتين من الطلب ، فالاستحباب مرتبة ضعيفة منه والوجوب مرتبة قويّة ، وعليه فالطلب الداعي للمكلف إلى الإتيان بالوضوء قبل الوقت طلب واحد شخصي باق إلى المنتهي ، لأن الاختلاف في المرتبة لا ينافي التشخص والوحدة ، كالبياض الضعيف والقوي لأنه شي‌ء واحد لا متعدِّد. وإما أنهما اعتبار واحد وإنما يختلفان بانضمام الترخيص إليه وعدمه فإن انضم إليه الترخيص في الترك فيعبر عنه بالاستحباب ، وإن لم ينضم يعبر عنه بالوجوب ، وعليه فالأمر أوضح لأنهما شي‌ء واحد وقد أتى المكلّف العمل بداعي هذا الاعتبار وإن انضم إليه الترخيص في الترك قبل دخول الوقت ولم ينضم إليه بعده ، نعم لا بدّ من فرض وحدة الطبيعة وعدم تعدّدها كما بيّناه.

فإذا كان هذا حال الاستحباب والوجوب النفسي فما ظنّك بالاستحباب والوجوب الغيري الذي لا نقول به أوّلاً ، وعلى تقدير القول به نخصصه بالموصلة أو بقصد التوصل ، وعلى تقدير التعميم أو فرض كونه موصلاً أو مقصوداً به التوصل نرى أن متعلقه هو الوضوء المأتي به امتثالاً لأمره الاستحبابي ، وعلى تقدير أن متعلقه هو الذات لا نراه منافياً لذات الاستحباب وملاكه وإن كان منافياً لحدّه ومرتبته. فكيف كان ، لا إشكال في المسألة.

(١) بناء على وجوب مقدّمة الواجب مطلقا.

__________________

(*) هذا مبني على عدم اعتبار الإيصال في اتصاف المقدّمة بالمطلوبية الغيرية على القول به ، وهو خلاف التحقيق.


لم يكن الداعي عليه الأمر الوجوبي ، فلو أراد قصد الوجوب والندب لا بدّ أن يقصد الوجوب الوصفي والندب الغائي بأن يقول : أتوضأ الوضوء الواجب امتثالاً للأمر به لقراءة القرآن (١) ، هذا ولكن الأقوى أن هذا الوضوء متصف بالوجوب والاستحباب معاً ولا مانع من اجتماعهما (٢).

______________________________________________________

(١) ولا يتمكن من أن يقصد الاستحباب الوصفي ، لعدم كون الوضوء مستحباً حيث فرضنا أن مقدّمة الواجب واجبة.

(٢) ما أفاده في هذه المسألة من أوّلها إلى آخرها يبتني على أُمور :

الأوّل : أن نقول بوجوب مقدّمة الواجب ، إذ لو أنكرنا وجوبها فالوضوء مستحب لا وجوب فيه حتى يأتي به بوصف كونه واجباً ويجتمع مع الاستحباب أو لا يجتمع.

الثاني : أن نعمم وجوب المقدّمة إلى مطلقها ولا نخصصها بالموصلة أو بما قصد منه التوصل به إلى الواجب ، وإلاّ لم يكن الوضوء واجباً في مفروض الكلام لعدم كونه موصلاً إلى الواجب ، لأنه يأتي بعده بغاية مندوبة على الفرض ولا يأتي بغاية واجبة كما أنه قصد به التوصل إلى الغاية المندوبة لا إلى الواجبة.

الثالث : أن يكون المقام من صغريات كبرى جواز اجتماع الأمر والنهي ، لأن الماتن قدس‌سره إنما نفى المانع من اجتماع الوجوب والاستحباب في المسألة بحسبان أنها من تلك الكبرى التي ألف فيها رسالة مستقلّة وهي مطبوعة وبنى على جواز اجتماعهما ، حيث إن الأصحاب ( قدس الله أسرارهم ) وإن عنونوها بعنوان اجتماع الأمر والنهي إلاّ أن المصرح به في محله عدم خصوصية للوجوب والحرمة في ذلك ، بل المبحوث عنه هناك هو جواز اجتماع كل حكمين متنافيين في شي‌ء واحد بعنوانين كالكراهة والوجوب ، أو الاستحباب والكراهة وهكذا (١) ، وإنما عنونوها بذلك العنوان‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٤ : ٣٠٦.


[٥٧٣] مسألة ٣٤ : إذا كان استعمال الماء بأقل ما يجزئ من الغسل غير مضر واستعمال الأزيد مضراً يجب عليه الوضوء كذلك ولو زاد عليه بطل (*) (١) إلاّ أن يكون استعمال الزيادة بعد تحقّق الغسل بأقل المجزي ، وإذا زاد عليه جهلاً أو‌

______________________________________________________

لشدّة التضاد بين الحرمة والوجوب ، وحيث إن للوضوء في المقام عنوانين فلا مانع من أن يحكم باستحبابه بعنوان وبوجوبه بعنوان آخر.

هذا ولكنك قد عرفت سابقاً أن المقدّمة لا تتصف بالأمر الغيري بوجه ، ثمّ على تقدير التنزل فالواجب إنما هو حصّة خاصّة وهي التي تقع في سلسلة علّة ذي المقدّمة أعني المقدّمة الموصلة ، ثمّ على تقدير الالتزام بوجوب مطلق المقدّمة لا يمكن المساعدة على إدراج المقام في كبرى مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي ، وذلك لأنه يعتبر في تلك المسألة أن يكون العنوانان والجهتان من العناوين التقييدية ، بأن يكون مركز اجتماعهما أمران وموجودان مستقلان وكان التركب منهما تركباً انضمامياً ، فقد قال بعضهم فيه بالجواز ، واختار آخر الامتناع ، وأما إذا كانت الجهة أو العنوان تعليلية وواسطة في الثبوت وكان المتعلق شيئاً واحداً والتركب اتحادياً فهو خارج عن تلك المسألة رأساً لاستحالة اجتماع حكمين متنافيين في مورد ولو بعلتين.

وحيث إن المقام من هذا القبيل ، لأن الأمر الغيري من الوجوب والاستحباب إنما يتعلق بذات المقدّمة ، وعنوان المقدمية عنوان تعليلي ومن الواسطة في الثبوت فيقال إن الوضوء واجب لأنه مقدّمة للواجب ، وأنه مستحب لأنه مقدّمة للمستحب فلا محالة كان خارجاً عن كبرى مسألة الاجتماع ، ولا مناص في مثله من الالتزام بالاندكاك أعني اندكاك الاستحباب في الوجوب والحكم بوجوب الوضوء فحسب ، ولا مجال للحكم باستحبابه ووجوبه معا.

استعمال الماء بأزيد ممّا يجزئ عند الضرر‌

(١) في هذه المسألة عدّة فروع :

__________________

(*) في إطلاقه نظر كما مر.


نسياناً لم يبطل (*) بخلاف ما لو كان أصل الاستعمال مضرّاً وتوضأ جهلاً أو نسياناً فإنّه يمكن الحكم ببطلانه (**) (١)

______________________________________________________

منها : أن استعمال الماء زائداً على أقل ما يجزئ من الغسل في الوضوء إذا كان مضراً في حق المكلّف ، وقد توضأ على نحو تعدّد الوجود بأن غسل كلا من مواضع الوضوء أوّلاً بأقل ما يجزئ في غسله ، وبعده صب عليه الماء زائداً وهو الذي فرضناه مضرّاً في حقِّه فلا إشكال في صحّة وضوئه ، لأن الاستعمال المضر إنما هو خارج عن المأمور به فلا يكون موجباً لبطلانه ، بلا فرق في ذلك بين علمه وجهله ونسيانه.

ومنها : ما إذا توضأ والحال هذه على نحو وحدة الوجود ، بأن صبّ الماء مرّة واحدة زائداً على أقل ما يجزئ في وضوئه ، والحكم ببطلان الوضوء في هذه الصورة يبتني على القول بحرمة الإضرار بالنفس مطلقاً ، لأنه حينئذ محرم ومبغوض للشارع والمبغوض لا يمكن أن يكون مصداقاً للواجب ومقرباً للمولى بوجه. وأما إذا أنكرنا حرمته على وجه الإطلاق وإن كان بعض مراتبه محرماً بلا كلام فلا يبقى موجب للحكم ببطلان الوضوء ، لأنه مأمور بالوضوء على الفرض لتمكّنه من الوضوء بأقل ما يجزئ وهو غير مضر في حقه ، فإذا لم يكن الفرد محرماً فلا محالة تنطبق عليه الطبيعة المأمور بها ويكون الإتيان به مجزياً في مقام الامتثال ، بلا فرق حينئذ بين علمه بالضرر وبين جهله ونسيانه.

ومنها : ما إذا توضأ بصب الماء مرّة واحدة زائداً على أقل ما يجزئ في غسله ومع فرض الضرر من القسم المحرّم أو مع البناء على حرمة مطلق الإضرار ، ولا بدّ من التفصيل حينئذ بين صورة العلم بالضرر وصورة نسيانه.

(١) أمّا إذا كان عالماً بالحال فلا إشكال في الحكم ببطلان ذلك الوضوء ، لأنه محرم‌

__________________

(*) الظاهر عدم الفارق بين صورتي الجهل والعلم.

(**) لا يمكن ذلك في فرض النسيان ، ويختص البطلان في فرض الجهل بما إذا كان الضرر مما يحرم إيجاده.


لأنّه مأمور واقعاً بالتيمّم هناك بخلاف ما نحن فيه.

______________________________________________________

مبغوض والمبغوض لا يمكن التقرب به ولا يقع مصداقاً للواجب.

وأما إذا كان ناسياً فيحكم على وضوئه بالصحّة ، لأن حديث رفع النسيان حاكم على أدلّة الأحكام وموجب لارتفاعها عند النسيان ، فالوضوء حينئذ غير محرم في حق الناسي واقعاً وليس رفعه رفعاً ظاهرياً كما في « ما لا يعلمون » ، وحيث إن المفروض أنه مكلف بالوضوء لقدرته على التوضؤ بأقل ما يجزئ في غسله ، وهو كما إذا فرضنا ماءين أحدهما مضر في حقه لشدّة حرارته أو برودته والآخر غير مضر وقد توضأ ممّا يضرّه فهو مكلّف بالوضوء ، ولا مانع في الفرد المأتي به لعدم حرمته واقعاً فلا محالة تنطبق عليه الطبيعة المأمور بها ويكون الإتيان به مجزياً في مقام الامتثال. وتوهم أن حديث نفي الضرر يوجب تقييد الطبيعة المأمور بها بغير ذلك الفرد المضر ، مندفع بأن شأن قاعدة نفي الضرر هو رفع الأحكام لا إثباتها ولو مقيّدة ، ولا مورد للنفي في المقام ، حيث إن الفرد غير محكوم بحكم حتى ترفعه القاعدة ، لأنّ الحكم مترتب على الطبيعة دون الفرد. هذا كله في موارد النسيان.

وأمّا إذا كان جاهلاً بالضرر فلا يمكن الحكم بصحّة الوضوء حينئذ ، لما ذكرناه غير مرّة من أن الجهل بالحرمة والمبغوضية لا يرفع الحرمة ولا يجعل ما ليس بمقرّب مقرّباً ، وبعبارة اخرى : أن النهي في العبادة يوجب الفساد مطلقاً كان عالماً بالحرمة أم جاهلاً بها ، نعم الجهل عذر في ارتكابه الحرام ؛ وأما الصحّة فلا ، لأنه مبغوض واقعي والمبغوض لا يكون مقرّبا.

ومن جملة فروع المسألة : ما إذا كان أصل استعمال الماء مضراً في حقه ولو بأقل مما يجزئ في الوضوء ، فقد حكم في المتن ببطلان الوضوء حينئذ في صورة العلم وقال : إنه يمكن الحكم ببطلانه في صورة الجهل والنسيان أيضاً نظراً إلى أنه غير مكلف بالوضوء واقعاً وإنما هو مأمور بالتيمم ، فلو توضأ وقع وضوءه باطلاً لا محالة‌


هذا وقد تقدّمت هذه المسألة في شرائط الوضوء وحكم قدس‌سره هناك بصحّة الوضوء في صورة الجهل والنسيان (١) ، إلاّ أنه في المقام ذكر أنه يمكن الحكم ببطلانه في كلتا الصورتين ، والصحيح هو ما أفاده هناك.

وذلك أمّا في صورة النسيان فلما مرّ من أن النسيان يرفع الحرمة الواقعية ، ومع إباحة الفرد وعدم حرمته لا مانع من أن تنطبق عليه الطبيعة المأمور بها. ودعوى أنه غير مأمور بالوضوء حينئذ بل مأمور بالتيمم فاسدة ، لأنه مأمور بالوضوء لتمكنه من استعمال الماء عقلاً وهو ظاهر وشرعاً ، لعدم حرمته عليه واقعاً لأجل نسيانه. ودعوى أنه وإن لم يكن محرماً عليه إلاّ أن مقتضى حديث نفي الضرر تقيد الأمر بالوضوء بغير ما كان موجباً للضرر ، فالوضوء المضر مما لا يتعلق به أمر ، غير مسموعة لأنه إنما يجري مع الامتنان ، وأي امتنان في الحكم بفساد الوضوء الذي أتى به الناسي بعد نسيانه.

نعم يجري الحديث في صورة العلم بالضرر وإن قلنا بعدم حرمته ويوجب تقييد الأمر بالوضوء بغير صورة الضرر لأنه على وفق الامتنان ، لوضوح أن رفع الإلزام والتكليف والحكم بأنك غير مكلف بالوضوء موافق مع الامتنان ، ومع شمول الحديث والحكم بعدم وجوب الوضوء لو أتى به يقع فاسداً ، إذ لا مسوغ في عمله ولا أمر له فهو فاسد.

وأمّا في صورة الجهل فإن كان الضرر من القسم المحرّم فلا إشكال في الحكم ببطلان الوضوء ، لأنه عمل محرم مبغوض واقعاً والمبغوض لا يقع مقرباً ومصداقاً للواجب فيفسد. وقد عرفت أن الجهل عذر وغير رافع للحرمة والمبغوضية الواقعية وأمّا إذا لم يكن من القسم المحرّم فإن قلنا بمقالة المشهور وحكمنا بحرمة مطلق الضرر فأيضاً لا بدّ من الحكم بالفساد ، لأنه مبغوض واقعي والمحرّم والمبغوض لا يكون مقرّباً ولا يقع مصداقاً للواجب ، ومن هنا قلنا إن النهي في العبادة يقتضي الفساد‌

__________________

(١) السابع من شرائط الوضوء. بعد المسألة [٥٥٩].


[٥٧٤] مسألة ٣٥ : إذا توضأ ثمّ ارتدّ لا يبطل وضوءه (١) فإذا عاد إلى الإسلام لا يجب عليه الإعادة ، وإن ارتد في أثنائه ثمّ تاب قبل فوات الموالاة لا يجب عليه الاستئناف ، نعم الأحوط أن يغسل بدنه من جهة الرطوبة التي كانت عليه حين الكفر ، وعلى هذا إذا كان ارتداده بعد غسل اليسرى وقبل المسح ثمّ تاب يشكل المسح لنجاسة الرطوبة التي على يديه.

______________________________________________________

مطلقاً علم بحرمته أم جهل بها. وأما إذا أنكرنا حرمته كما هو الصحيح فلا بدّ من الحكم بصحّته لأنه عمل مباح ، والمكلّف متمكن من الوضوء شرعاً وعقلاً فتنطبق عليه الطبيعة المأمور بها فيصح ، ومن هنا يظهر أنه لا فرق بين كون أصل الاستعمال مضراً وبين ما إذا كان الزائد على أقل ما يجزئ في الوضوء مضرّاً ، لأنه في صورة النسيان محكوم بالصحّة في كلتا الصورتين ، وفي صورة الجهل مبني على الخلاف من حرمته وعدمها ، وفي صورة العلم محكوم بالفساد لحديث نفي الضرر في الصورة الأخيرة ولحرمة الفرد ومبغوضيّته في الصورة الأُولى بناءً على مسلك المشهور من حرمة الإضرار مطلقاً ، وأمّا على ما ذكرناه من عدم حرمة الإضرار على وجه الإطلاق فلا مانع من الحكم بالصحّة في صورة العلم عند كون الزائد مضرّا.

عدم مبطليّة الارتداد‌

(١) لعدم الدليل على مبطليّة الارتداد ، بل الدليل على عدم المبطليّة موجود وهو إطلاقات أوامر الغسل والمسح ، سواء تحقق الكفر والارتداد في أثنائها أم لم يتحقق مضافاً إلى أن النواقض محصورة وليس منها الارتداد. وأما استمرار النيّة فالمرتد وإن انصرف عن نيّته في أثناء الوضوء لا محالة إلاّ أنك عرفت أن الاستمرار إنما يعتبر في الأجزاء دون الآنات المتخللة بينها فلا يبطل وضوءه من حيث الارتداد ، فلو تاب بعد ذلك بحيث لم تفته الموالاة صحّ وضوءه ، فيشرع من الأجزاء الباقية ولا يجب عليه الاستئناف.

نعم إذا قلنا بعدم كون رطوبة ماء الوضوء في أعضائه من الرطوبات التبعيّة كريق‌


[٥٧٥] مسألة ٣٦ : إذا نهى المولى عبده عن الوضوء في سعة الوقت إذا كان مفوّتاً لحقه فتوضأ يشكل الحكم بصحّته (١)

______________________________________________________

فم الكافر والمرتد أو عرقه ونحوهما ، وحكمنا بنجاستها لنجاسة بدنه بالارتداد فلا بدّ من أن يطهر أعضاءه السابقة بماء آخر ثمّ يشرع في الباقي من أجزاء وضوئه إذا لم تفته الموالاة بذلك ، لئلاّ تتنجّس يده اليسرى باليمنى لتنجّس ماء الوضوء فيبطل. ومن هنا يظهر أنه إذا ارتد بعد غسل يده اليسرى قبل مسحه ثمّ تاب لا طريق إلى أن يصحح وضوءه ، لأنه حينئذ لا بدّ من أن يطهر جميع أعضائه ليكون مسحه بالماء الطاهر ومع إزالة البلّة الوضوئية بغسلها لا يتمكّن من المسح الصحيح لأنه يعتبر أن يكون بالبلة الباقية في اليد من ماء الوضوء ولا يجوز بالماء الجديد ، إلاّ أن البطلان حينئذ من جهة فقد شرط المسح لا من جهة ناقضية الارتداد.

التوضؤ مع نهي المولى أو الزوج ونحوهما‌

(١) أما في العبد وسيِّده فالأمر كما أفاده ، وهذا لا لأن الأمر بإطاعة السيِّد يقتضي النهي عن ضدّه وهو الوضوء ، لأنا ذكرنا في محلِّه أن الأمر بالشي‌ء لا يقتضي النهي عن ضدّه (١) بل صحّحنا ضدّه العبادي بالترتب على ما قررناه في محلِّه (٢) ، بل من جهة أن جميع أفعال العبد ومنافعه كنفسه مملوكة لسيِّده ، فإذا وقع الوضوء الذي هو من جملة أفعاله بغير رضاه حيث إنه أمره بشي‌ء آخر ، فقد وقع محرّماً لأنه تصرّف في سلطان الغير بغير إذنه ، والمحرّم لا يقرب ولا محالة يقع فاسداً. نعم الحركات والأفعال اليسيرة كحك البدن وغسل اليدين والوجه ونحوهما لا يتوقف على إذن السيِّد للسيرة المستمرة الجارية على عدم استئذان العبد سيِّده في حكّ بدنه بحيث لولاه وقع محرماً ، إلاّ أن السيرة مختصّة بما إذا لم ينه عنه المولى وأما مع نهيه فلا بدّ من الحكم‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٣ : ٨ وما بعدها.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٣ : ١٠٢ ١٣٣.


وكذا الزوجة (*) إذا كان وضوءها مفوتاً لحق الزوج والأجير مع منع المستأجر وأمثال ذلك (١).

[٥٧٦] مسألة ٣٧ : إذا شكّ في الحدث بعد الوضوء (٢) بنى على بقاء الوضوء‌

______________________________________________________

بحرمته ومبغوضيته ولا سيرة فيه على الجواز ، ومع الحرمة يقع فاسدا.

(١) وأما في الزوج والزوجة فالصحيح الحكم بالصحّة لأن المحرّم على الزوجة حينئذ تفويت حق زوجها ، وأما عملها فهو مملوك لها ولا يحرم من جهة استلزامه التفويت ، لأن الأمر بالشي‌ء لا يقتضي النهي عن ضدّه ، بل هذه العبادة ضد عبادي محكوم بالصحّة بالترتب كما سبق.

وأمّا الأجير والمستأجر فالحق فيه التفصيل ، لأنه إن استأجره في أفعال خاصّة وأشغال مشخّصة كخياطة ثوب وكنس دار ونحوهما ، فالمملوك للمستأجر إنما هو هذا العمل فيجب على الأجير تسليم ملك المالك إليه ، فإذا اشتغل بشغل آخر في أثناء الخياطة فهو مملوك لنفسه وإن كان موجباً للعصيان لعدم تسليم مال المالك إليه ، فإذا كان ملك نفسه فهو حلال لأن الأمر بالشي‌ء لا يقتضي النهي عن ضدّه فيحكم بصحّته كما عرفت في الزوج والزوجة. وأما إذا كان أجيراً مطلقاً له فجميع أعماله ومنافعه مملوكة للمستأجر فالوضوء الذي هو من أحد أفعاله مملوك للمستأجر ، ومع عدم إذنه يقع محرماً لأنه تصرف في سلطان الغير من غير إذنه فيحرم ، ومعه يحكم ببطلانه لا محالة.

صور الشك في الحدث بعد الوضوء الصورة الأُولى :

(٢) قد يشك في الحدث بسبب خروج رطوبة مشتبهة بين البول والمذي ونحوه‌

__________________

(*) الظاهر صحّة وضوئها وإن أثمت بتفويتها حق الزوج ، وكذلك الحال في الأجير الخاص.


إلاّ إذا كان سبب شكّه خروج رطوبة مشتبهة بالبول ولم يكن مستبرئاً فإنّه حينئذ يبني على أنّها بول وأنّه محدث ، وإذا شكّ في الوضوء بعد الحدث يبني على بقاء الحدث ، والظن غير المعتبر كالشك في المقامين. وإن علم الأمرين وشكّ في‌

______________________________________________________

قبل الاستبراء ، فلا بدّ حينئذ من أن يبني على أنه بول وأنه محدث فيجب عليه الوضوء ، وهذا للروايات الواردة في البلل المردد قبل الاستبراء (١).

الصورة الثانية :

وأُخرى يشك في الحدث من جهة تحقق الحدث وعدمه ، أو من جهة أن الموجود حدث أو لا بعد الاستبراء كما في البلل المشتبه ، فحينئذ يبني على طهارته وبقاء وضوئه. وهذه المسألة مضافاً إلى أنها متسالم عليها بين أصحابنا بل بين المسلمين قاطبة ولم ينسب الخلاف فيها إلاّ لبعض العامّة وهم المالكية فحسب (٢) مما يدل عليها صحيحة زرارة في « الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والأُذن فإذا نامت العين والأُذن والقلب وجب الوضوء ، قلت : فإن حرك على جنبه شي‌ء ولم يعلم به؟ قال عليه‌السلام : لا ، حتى يستيقن أنه قد نام ، حتى يجي‌ء من ذلك أمر بيِّن ، وإلاّ فإنه على يقين من وضوئه ، ولا تنقض اليقين أبداً بالشك » (٣) لأنها وإن كانت واردة في الشك في النوم إلاّ أن ذيلها يدلّ على أن اليقين لا ينقض بالشك مطلقاً ، بلا فرق في ذلك بين‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٨٢ / أبواب نواقض الوضوء ب ١٣.

(٢) ففي الفقه على المذاهب الأربعة ١ : ٨٧ عند قولهم : ولا ينتقض بالشك في الحدث. المالكية قالوا ينتقض الوضوء بالشك في الحدث أو سببه ، كأن يشك بعد تحقق الوضوء هل خرج منه ريح أو مسّ ذكره مثلاً أو لا ، أو شك بعد تحقق الناقض هل توضأ أو لا ، أو شك بعد تحقق الناقض والوضوء هل السابق الناقض أو الوضوء ، فكل ذلك ينقض الوضوء لأن الذمّة لا تبرأ إلاّ باليقين ، والشاك لا يقين عنده.

(٣) الوسائل ١ : ٢٤٥ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١.


المتأخِّر منهما بنى على أنه محدث إذا جهل تأريخهما أو جهل تأريخ الوضوء ، وأمّا إذا جهل تأريخ الحدث وعلم تأريخ الوضوء بنى على بقائه (*) ، ولا يجري استصحاب الحدث حينئذ حتى يعارضه ، لعدم اتصال الشكّ باليقين به حتى يحكم ببقائه‌

______________________________________________________

الشك من جهة النوم أو البول أو غيرهما من الأحداث.

وموثقة بكير : « إذا استيقنت أنك قد أحدثت فتوضأ ، وإياك أن تحدث وضوءاً أبداً حتى تستيقن أنك قد أحدثت » (٢) حيث نهت عن الوضوء مع الشك في الحدث وأنه ما دام لم يتيقن بالحدث لا يجوز له الوضوء ، اللهمّ إلاّ أن يتوضأ بنيّة التجديد لأنه خارج عن الموثقة بدليله ، وبه تحمل الموثقة على الوضوء الواجب ، لأنّ الإتيان به بنيّة الوجوب مع عدم العلم بالحدث تشريع محرم.

وصحيحة عبد الرحمن « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أجد الريح في بطني حتى أظن أنها قد خرجت ، فقال عليه‌السلام : ليس عليك وضوء حتى تسمع الصوت أو تجد الريح » (٣) نعم هي تختص بالشك من جهة الريح ، وإنما يتعدى عنها إلى غيرها بالقطع بعدم الفرق. وعلى الجملة إذا شك في الحدث يبني على طهارته السابقة حتى يقطع بحدثه ، وهذا مما لا إشكال فيه هذا.

وقد نقل صاحب الحدائق قدس‌سره في هذه المسألة قولين وتفصيلين آخرين.

تفصيلان نقلهما في الحدائق (٤)

أحدهما : ما نسبه إلى بعض المحقِّقين من المتأخِّرين من اختصاص جريان الاستصحاب‌

__________________

(*) بل بنى على الحدث ، فيجب عليه تحصيل الطهارة لما هو مشروط بها كما في الصورتين الأُوليين.

(١) الوسائل ١ : ٢٤٧ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ٧.

(٢) الوسائل ١ : ٢٤٦ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ٥.

(٣) الحدائق ٢ : ٣٩٨ ٣٩٩.


والأمر في صورة جهلهما أو جهل تأريخ الوضوء (*) وإن كان كذلك إلاّ أن مقتضى شرطية الوضوء وجوب إحرازه ، ولكن الأحوط الوضوء في هذه الصورة أيضاً.

______________________________________________________

بما إذا لم يظن بالخلاف وأنه لا يجري معه ، وهذه الدعوى مبنيّة على حمل الشك في روايات الاستصحاب على معناه المصطلح عليه ، أعني تساوي الطرفين المقابل للظن والوهم واليقين كما هو اصطلاح الفلاسفة ، وعليه يختص الاستصحاب بصورة الشك المصطلح عليه وتعم صورة الظن بالوفاق ، لأنه إذا جرى عند الشك يجري عند الظن ببقاء الحالة السابقة بطريق أولى ، فلا يجري مع الظن بالخلاف.

إلاّ أنه ممّا لا وجه له ، وذلك لأن الشك مضافاً إلى أنه في اللغة بمعنى عدم العلم وخلاف اليقين ظنا كان أو غيره ، لأن تخصيصه بما يقابل الظن والوهم واليقين اصطلاح جديد بمعنى خلاف اليقين في أخبار الاستصحاب ، وذلك لقرينتين في نفس صحيحة زرارة :

الأُولى : قوله عليه‌السلام : « لا ، حتى يستيقن أنه قد نام ، ويجي‌ء من ذلك أمر بين ، وإلاّ فإنه على يقين من وضوئه » إلخ وفي ذيل هذه الصحيحة « وإنما تنقضه بيقين آخر » حيث حكم ببقاء الوضوء حتى يتيقن بالنوم وما دام لم يتيقن به فهو محكوم بالطّهارة ، سواء ظنّ بالنوم أم شكّ فيه.

والثانية : قول السائل : « فإن حرك على جنبه شي‌ء ولم يعلم به ، قال : لا » لأنّ التحريك في جنبه مع عدم علمه به ولو لم يكن ملازماً دائماً مع الظن بالنوم فلا أقل من أنه يلازمه كثيراً ، ولا أقل من أن استلزامه الظن بالنوم ليس من الأفراد النادرة ومع كونه كذلك يكون ترك تفصيل الإمام عليه‌السلام في الجواب دليلاً على جريان استصحاب الطّهارة مطلقاً ، سواء ظنّ بالنوم أم شكّ فيه. وهاتان القرينتان تدلاّن على‌

__________________

(*) لا يبعد أن يكون هذا من سهو القلم.


أنّ الشك المأخوذ في روايات الاستصحاب إنما هو بمعنى عدم اليقين على وفق معناه لغة هذا.

مضافاً إلى إطلاق الموثقة والصحيحة الأخيرة حيث لم يستفصلا في الحكم بعدم جواز الوضوء بين الظنّ بالحدث وبين الشك فيه ، بل الأخيرة صريحة في جريان الاستصحاب مع الظن بالحدث ، إلاّ أنها مختصة بخصوص الشك في الطّهارة من جهة الريح ، وإنما نتعدى عنها إلى غيرها بالقطع بعدم الفرق ، فما نسب إلى بعض المحققين من المتأخرين مما لا دليل عليه.

وثانيهما : ما حكاه عن شيخنا البهائي قدس‌سره في الحبل المتين من أن المكلّف تختلف حالاته ببعده عن زمان اليقين وقربه منه ، لأنه أوّلاً يظنّ ببقاء الحالة السابقة ثمّ بمرور الزمان يضعف ظنّه هذا حتى يتبدل بالشك ، بل إلى الظن بالخلاف والاعتبار بالظن بالوفاق وببقاء الحالة السابقة وإن ضعف (١) ، ثمّ نقل عن العلاّمة عدم الفرق في الاستصحاب بين الظنّ بالبقاء وعدمه وردّه.

وهذا الذي ذهب إليه شيخنا البهائي مما لا دليل عليه أصلاً ، بل هو أضعف من التفصيل الأوّل ، لأن له وجهاً لا محالة وإن أبطلناه كما مر ، وأما هذا التفصيل فهو مما لا وجه لو بوجه ، وذلك لأن الشك مأخوذ في روايات الاستصحاب بلا ريب ، وهو إما بمعنى الشك المصطلح عليه وإما بمعنى خلاف اليقين ، وعلى أي حال يشمل الشك المصطلح عليه قطعاً ، وكيف يمكن تخصيصه بالظن بالبقاء فقط هذا. مضافاً إلى إطلاق الموثقة وصحيحة عبد الرحمن المتقدِّمتين ، لأنهما مطلقتان ولم تقيدا الاستصحاب إلاّ باليقين بالخلاف فتشملان صورة الظن بالبقاء والشك والظن بالخلاف والارتفاع ، هذا كله فيما إذا شك في الحدث بعد العلم بالطّهارة.

ومنه يظهر الحال في عكسه وهو ما إذا شك في الطهارة بعد علمه بالحدث ، لأنه يبني على بقاء حدثه ، وذلك لأنه وإن لم يكن منصوصاً كما في الصورة الأُولى إلاّ أنا‌

__________________

(١) حبل المتين : ٣٧.


بيّنا في محلِّه عدم اختصاص روايات الاستصحاب بمورد دون مورد ، وأنه قاعدة كبروية تجري مع الشك في البقاء بلا فرق في ذلك بين الطّهارة والحدث (١) هذا. على أنه يكفينا في الحكم بوجوب الوضوء في هذه المسألة أصالة الاشتغال لعدم علمه بالوضوء ، وهذا أيضاً من دون فرق بين الظن بالطّهارة وعدمه والظن بالحدث وعدمه كما عرفت. هذا كلّه في الصورة الثانية.

الصورة الثالثة :

وهي ما إذا علم بكل من الطّهارة والحدث إلاّ أنه شك في المتقدّم والمتأخّر منهما. وهي على قسمين ، لأنه قد يكون التأريخ مجهولاً في كل منهما ، وأُخرى يكون أحدهما معلوم التأريخ دون الآخر ، والكلام فعلاً فيما إذا جهل التأريخان معاً. والمشهور المعروف بين أصحابنا هو الحكم بوجوب الوضوء حينئذ وذلك لقاعدة الاشتغال لأنه عالم باشتغال ذمّته بالصلاة مع الوضوء ، ولا علم له بالطّهارة والوضوء على الفرض فلا بدّ من أن يتوضأ تحصيلاً لليقين بالفراغ. وقاعدة الاشتغال في المقام مما لم يقع فيها خلاف ، وذلك لأنه ليس من الاحتياط في الشبهات الحكمية الذي وقع فيه الخلاف بين الأُصوليين والمحدّثين ، وإنما هو شبهة موضوعية مع العلم بالاشتغال ولا كلام في وجوب الاحتياط حينئذ ، وهو الذي يعبر عنه بأن العلم بالاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

ويؤيد القاعدة رواية الفقه الرضوي الواردة في مسألتنا هذه بعينها وأنه إذا توضأت وأحدثت ولم تدر أيهما أسبق فتوضأ (٢) لأنا وإن لا نعتمد على ذلك الكتاب إلاّ أنه لا بأس بكونه مؤيداً.

وأمّا الاستصحاب فهو غير جار في المقام أصلاً ، وذلك أما بناء على ما سلكه‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ١٨.

(٢) مستدرك الوسائل ١ : ٣٤٢ أبواب الوضوء ب ٣٨ ح ١. وإليك نصّها : ... وإن كنت على يقين من الوضوء والحدث ولا تدري أيّهما أسبق فتوضأ ... ، فقه الرضا : ٦٧.


صاحب الكفاية قدس‌سره من اعتبار إحراز اتصال زمان الشك باليقين فلأجل عدم المقتضي لجريانه حينئذ أصلاً لعدم إحراز الاتصال ، لا أنه يجري في كل من الطّهارة والحدث ويسقط بالمعارضة (١). وأمّا بناء على ما بنينا عليه وفاقاً للمشهور من عدم اعتبار إحراز الاتصال (٢) فلأنّ استصحاب كل من الطّهارة والحدث يجري في نفسه ولكنّه يسقط بالمعارضة ، فعلى أي حال لا مجال للاستصحاب في المقام فتصل النوبة معه إلى قاعدة الاشتغال هذا.

وقد نسب إلى العلاّمة قدس‌سره في قواعده والمحقق الثاني في جامع المقاصد تفصيلان في المسألة.

تفصيلان في محل النزاع :

أحدهما : ما حكي عن العلاّمة قدس‌سره من التفصيل بين صورة الجهل بالحالة السابقة فكالمشهور وصورة العلم بها فيؤخذ بطبق الحالة السابقة المعلومة معلّلاً بالاستصحاب (٣) هذا. والمراجعة إلى كتابه قدس‌سره تبيّن أن مقصوده من التمسّك على طبق الحالة السابقة والاستصحاب إنما هو ما إذا علم المكلّف بأن ما أتى به من الوضوء كان وضوءاً رافعاً وكذلك الحدث حدث ناقض ، وليس من الوضوء بعد الوضوء ولا الحدث بعد الحدث ، وذلك لأنه عقد الكلام في مسألة الاتحاد والتعاقب بأن علم أنه أتى بوضوء واحد وحدث واحد ولكن وقع الحدث بعد الطّهارة أو الطّهارة بعد الحدث ، ولم يقع الحدث بعد الحدث ولا الوضوء بعد الوضوء.

وعليه فإذا كان محدثاً فعلم بوضوئه وحدثه فلا محالة يعلم بحدثه وأن وضوءه قد وقع قبل حدثه ، وإلاّ لوقع الحدث بعد الحدث ، والمفروض أنه عالم بأن حدثه إنما وقع بعد الطّهارة لا بعد الحدث ، وكذا الحال فيما إذا كان متطهراً فعلم بحدث ووضوء ، لأنه‌

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٢٠.

(٢) مصباح الأُصول ٣ : ١٨٥.

(٣) القواعد ١ : ٢٠٥.


يعلم أنه متطهر فعلاً وأن حدثه وقع قبل طهارته وإلاّ لوقعت الطّهارة بعد الطّهارة وهو خلاف المفروض. ففي هاتين الصورتين إذا شك في حدث آخر أو طهارة أُخرى غير الحادثين ، يرجع إلى استصحاب الحدث في الأوّل وإلى استصحاب الطّهارة في الثاني.

وهذا وإن كان توضيحاً للواضح وخارجاً عما نحن بصدده ، إذ لا شك في التقدّم والتأخّر حينئذ فليس هذا تفصيلاً في محل الكلام ، إلاّ أن تعليله بالاستصحاب وملاحظة كتابه لا يرخصان الحمل على غيره ، إذ كيف يمكن التمسّك باستصحاب الحالة السابقة قبل الحادثين مع العلم بارتفاعها ، لأنه لا يمكن إسناده إلى من هو دونه قدس‌سره بمراتب كثيرة فضلاً عن آية الله العلامة قدس‌سره فمراده ما ذكرناه وهو ليس بتفصيل في محل الكلام حقيقة وهو أمر واضح ، ثمّ على تقدير تسليم أنه ناظر إلى ما نحن فيه من غير علمه بالتعاقب لا يمكن المساعدة عليه للقطع بارتفاع الحالة السابقة.

وثانيهما : ما ذهب إليه المحقق الثاني قدس‌سره في جامع المقاصد من التفصيل بين صورة الجهل بالحالة السابقة فكالمشهور ، وبين صورة العلم بها فيؤخذ بضدّها (١). وهذا التفصيل وإن كان له وجه لأنه إذا كان متطهراً أوّلاً فقد علم بارتفاع تلك الطّهارة قطعاً بالحدث المعلوم تحققه ، وأما هذا الحدث فلا علم له بارتفاع أثره لاحتمال أن يكون هو المتأخر عن الحادثين وقد وقعت الطّهارة بعد الطّهارة فيستصحب حدثه. كما أنه إذا كان محدثاً أوّلاً فقد علم بارتفاع ذلك الحدث بالطّهارة المتحققة قطعاً ، وأما تلك الطّهارة فلا علم له بارتفاع أثرها لاحتمال أن تكون هي المتأخرة ويقع الحدث بعد الحدث ، فيستصحب طهارته.

إلاّ أن هذا أيضاً مما لا يمكن المساعدة عليه ، لمعارضته باستصحاب الطّهارة في الصورة الأُولى واستصحاب الحدث في الصورة الثانية ، وذلك لأنه في الصورة الأُولى‌

__________________

(١) جامع المقاصد ١ : ٢٣٥.


عالم بطهارته حين توضئه ، وغاية الأمر لا يدري زمان حدوث تلك الطّهارة وأنها كانت من الأوّل كما إذا كان الحادث الأوّل هو الطّهارة ، أو حدثت بالفعل كما إذا كان الحادث الأوّل هو الحدث ، فيستصحب تلك الطّهارة وهو يعارض استصحاب حدثه فيتساقطان. كما أنه في الصورة الثانية عالم بحدثه حين ما أحدث وإن لم يعلم بزمانه وأنه كان من الابتداء كما لو كان المحقق أوّلاً هو الحدث ، أم تحقق هذا الزمان كما لو كان المحقق الأوّل هو الطّهارة ، فيستصحب ذلك الحدث. وعليه فالصحيح ما ذهب إليه المشهور من وجوب الوضوء على وجه الإطلاق من جهة قاعدة الاشتغال المؤيدة برواية الفقه الرضوي (١). هذا كلّه في الصورة الاولى أعني ما إذا جهل تأريخهما.

وأولى من ذلك الصورة الثانية وهي ما إذا علم تأريخ الحدث وكان تأريخ الوضوء مجهولاً ، وذلك لأنا إن قلنا بما ذهب إليه الماتن قدس‌سره من عدم جريان الاستصحاب فيما جهل تأريخه فالاستصحاب جار في الحدث من غير معارض ، فيجب عليه الوضوء لا محالة. وإن لم نقل به وقلنا بجريانه في كل من المجهول والمعلوم تأريخه فاستصحاب كل منهما يجري ويسقط بالمعارضة فلا بدّ أيضاً من التمسّك بقاعدة الاشتغال كما في الصورة الأُولى ، ولعلّه ظاهر.

وأمّا الصورة الثالثة وهي ما إذا علم تأريخ الوضوء وجهل تأريخ الحدث فقد ذكر الماتن قدس‌سره أن الاستصحاب يجري في الوضوء حينئذ من غير معارض ولا يجري في مجهول التأريخ ، معللاً بعدم اتصال الشك باليقين حتى يحكم ببقائه ، ومعه لا بدّ من الحكم بطهارته وإن كان الأحوط الاستحبابي أن يتوضأ في هذه الصورة أيضاً.

ثمّ ذكر أن الأمر في الصورتين المتقدمتين وإن كان كذلك أيضاً أي لم يكن الشك متصلاً فيهما باليقين حتى يجري فيهما الاستصحاب إلاّ أن مقتضى قاعدة الاشتغال فيهما وجوب إحراز الطّهارة والشرط ، ولأجلها حكمنا بوجوب الوضوء فيهما. وأما‌

__________________

(١) التي تقدّمت في ص ٧٠.


في الصورة الثالثة فاستصحاب بقاء طهارته يقضي بعدم وجوب الوضوء. هذا ما أفاده في المتن. إلاّ أن في عبارته قدس‌سره سهواً من قلمه الشريف كما نبّه عليه سيِّدنا الأُستاذ ( مدّ ظله ) في تعليقته ، وذلك لأن عدم اتصال الشك باليقين إنما هو في مجهولي التأريخ وهو الصورة الاولى من الصور المتقدّمة ، وأما في الصورة الثانية أعني ما إذا علم تأريخ الحدث وجهل تأريخ الوضوء فالشك فيه متصل باليقين بالحدث ويجري فيه الاستصحاب كما بنى عليه هو قدس‌سره وإنما عدم الاتصال بالإضافة إلى ما جهل تأريخه دون ما علم تأريخه ، ففي عبارته سهو من القلم الشريف. والصحيح أن يقول : والأمر وإن كان كذلك فيما جهل تأريخهما إلاّ أن إلخ.

وإذا عرفت ذلك فلنتكلم في حكم الصورة الثالثة أعني ما إذا علم تأريخ الوضوء وجهل تأريخ الحدث ، فهل يجري الاستصحاب في كل من الحادثين ويتساقطان بالمعارضة ، أو يجري الاستصحاب فيما علم تأريخه دون ما جهل تأريخه؟ فقد عرفت أن الماتن ذهب إلى جريانه فيما علم تأريخه ومنع عنه في المجهول تأريخه معلّلاً بعدم اتصال الشك باليقين ، وذلك لأنّا إذا فرضنا الساعة الاولى من الزوال ظرف اليقين بالطّهارة وعلمنا أن الحدث أيضاً قد تحقق ، فإن كان ظرف الحدث ما قبل الزوال أي ما قبل الساعة الاولى من الزوال فقد تخلل بين اليقين بالحدث وبين الشك فيه اليقين بالطّهارة وهو رافع للحدث ، وإن كان ظرف الحدث هو الساعة الثانية من الزوال والمفروض أن الشك في الساعة الثالثة من الزوال فهما متصلان ، وحيث إنا لم نحرز الاتصال فالمقام شبهة مصداقية للاستصحاب ، ومعه لا يمكن التمسّك بعموم أدلّة اعتباره.

وليعلم أوّلاً أن الشك في المقام إنما هو في بقاء ما علمنا بحدوثه ، وجامعه أن نعلم بحدوث ضدين ونشك في المتقدّم والمتأخّر منهما ، لأن ما حدث متأخراً هو الباقي الرافع لما حدث أوّلاً ، وهذا غير ما إذا علمنا بحدوث مطلق حادثين وشككنا في المتقدّم والمتأخّر منهما من غير شك في بقاء أحدهما وارتفاع الآخر الذي يجري فيه أصالة تأخر الحادث فلا تذهل.


ثمّ إن المنع عن جريان الاستصحاب فيما جهل تأريخه في أمثال المقام معللاً بعدم اتصال الشك باليقين إنما هو من الشيخ راضي وهو استاد الماتن ( قدس الله أسرارهم ) ويقال إنه أوّل من تنبه إلى هذه المناقشة في أمثال هذه الموارد وادعى أنا استفدنا من روايات الاستصحاب أن الشك لا بدّ وأن يكون متصلاً باليقين ، وذلك لقوله عليه‌السلام : « لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت » (١) ، فلا بدّ من اتصال أحدهما بالآخر. وقد يعبر عنه باعتبار إحراز الاتصال كما في كلام صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) وعليه فلا بدّ من التكلم فيما أُريد من اتصال الشك باليقين. وقد قيل في بيان المراد منه وجوه أحسنها ما أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره كما سيتضح :

الأوّل : أن المراد بذلك أن لا يتخلل يقين آخر بين اليقين والشك في البقاء والأمر ليس كذلك فيما جهل تأريخه ، لأن الساعة الاولى من الزوال إذا فرضناها ظرفاً لليقين بالطهارة وشككنا في بقاء الحدث في الساعة الثالثة من الزوال ، فإن كان ظرف الحدث المتيقن هو الساعة الثانية من الزوال بعد الطّهارة فاليقين بالحدث متصل بالشك به وأما إذا كان ظرفه ما قبل الساعة الاولى من الزوال فقد تخلل بين اليقين بالحدث والشك فيه يقين آخر وهو اليقين بالطّهارة ، وحيث إنا لم نحرز أن ظرف الحدث ما قبل زمان اليقين بالطّهارة أو ما بعده فلا محالة يكون المقام شبهة مصداقية للاستصحاب فلا يمكن التمسّك به حينئذ هذا.

__________________

(١) الواقعة في صحيحة زرارة ، الوسائل ٣ : ٤٧٧ / أبواب النجاسات ب ٤١ ح ١ ، وفيه : « ... قلت : لم ذلك؟ قال : لأنك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً ... » نعم ورد في رواية محمّد بن مسلم في حديث الأربعمائة المذكورة في الخصال : ٦١٩ « من كان على يقين فشك فليمض على يقينه فإن الشك لا ينقض اليقين ». والرواية موثقة فان القاسم بن يحيى الواقع في سندها موجود في أسناد كامل الزيارات. هذه الرواية رواها في الخصال : باب حديث الأربعمائة ، ونقلها في جامع الأحاديث ٢ : ٤٦٤ / ٢٥٦٣ وصاحب الوسائل نقل قطعات الحديث المناسبة للوضوء وذكر فيها : من كان على يقين ثمّ شك فليمض على يقينه إلخ. الوسائل ١ : ٢٤٦ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ٦.

(٢) كفاية الأُصول : ٤٢٠.


ولا يخفى أن هذا الوجه مقطوع الفساد ، وذلك لما بيناه في بحث الاستصحاب من أن المدار في جريانه إنما هو على اجتماع اليقين والشك الفعليين في زمان واحد (١) ، بأن يكون للمكلف يقين بالفعل من حدوث الشي‌ء ويكون له شك فعلي في بقائه ، فهما لا بدّ أن يكونا متّحدا الزمان ، نعم قد يتحقق اليقين قبل تحقق الشك أو بعده إلاّ أن المناط والاعتبار في جريان الاستصحاب إنما هو باجتماعهما في زمان واحد كما عرفت فلا اعتبار باليقين السابق على زمان الشك في البقاء ، كان على وفق اليقين المتحد مع الشك بحسب الزمان أم على خلافه.

فإذا كان الاعتبار في جريانه باجتماع اليقين والشك في البقاء في زمان فلا معنى لاعتبار اتصال أحدهما بالآخر ، لأن الاتصال إنما يتعقل بين المتغايرين وقد عرفت أن اليقين والشك في الاستصحاب متحدان بحسب الزمان ، وإذا راجعنا وجداننا في المقام نجد أنا على يقين من الحدث كما أنا على شك في بقائه في الساعة الثالثة من الزوال وقد مرّ أنه لا اعتبار باليقين السابق مخالفاً كان أم موافقاً وإنما الناقض لليقين في الاستصحاب هو اليقين البديل للشك في البقاء أعني اليقين بالارتفاع المجتمع مع اليقين بالحدوث في الزمان هذا.

والذي يدلنا على ما ذكرناه أنا لو قلنا باعتبار الاتصال بهذا المعنى في الاستصحاب للزم المنع عن استصحاب الحدث على وجه الإطلاق في جميع الموارد حتى مع العلم بتأريخه ، وكذا كل أمر يعتبر العلم وعدم الغفلة في الإتيان بمنافيه ، وذلك لأنا إذا علمنا بالحدث في أوّل ساعة من الزوال ثمّ شككنا في بقائه وارتفاعه باحتمال أنا توضأنا أو اغتسلنا ، فقد احتملنا طروء اليقين بالطّهارة وتخلله بين اليقين بالحدث والشك في بقائه ، حيث لا بدّ من العلم والالتفات بالوضوء والغسل في صحّتهما فهو حالهما كان متيقناً من طهارته لا محالة ، ومع احتمال تخلل يقين آخر بين اليقين والشك لا يجري الاستصحاب لأنه شبهة مصداقية له حينئذ ، وهذا مما لا يلتزم به السيِّد ولا غيره من الأعلام ( قدس الله أسرارهم ).

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٩١ ٢٤٥.


ودعوى أنّا كما نستصحب بقاء الحدث نستصحب عدم اليقين بالطّهارة وعدم الوضوء والغسل ، مندفعة بأنه لا يثبت الاتصال المعتبر في جريانه على الفرض ، فلو قلنا بهذه المقالة فلا مناص من سدّ باب الاستصحاب في أمثال الحدث في جميع الموارد مع أنهم يتمسكون به في تلك المقامات من غير خلاف ، وسرّه ما عرفت من أن الاستصحاب يتقوم باليقين والشك الفعليين المتحققين في زمان واحد ولا اعتبار باليقين السابق ، وهما موجودان في المقام وغيره ، ولا معنى لاشتراط الاتصال في المتحدين فلا يكون المقام شبهة مصداقية للاستصحاب باحتمال تخلل يقين آخر بينهما وإنما تكون الشبهة مصداقية فيما إذا شك في أنه متيقن من الأمر الفلاني أو ليس له يقين ، إلاّ أنا أسلفنا في محلِّه أنه لا يعقل الشك والتردّد في مثل اليقين والشك ونحوهما من الأوصاف النفسانية ، لدوران أمرها بين العلم بوجودها والعلم بعدمها (١).

الثاني : أن الاعتبار في الاستصحاب وإن كان باجتماع اليقين الفعلي مع الشك الفعلي في زمان واحد إلاّ أنه يعتبر في الاستصحاب أن لا يكون ذلك اليقين يقيناً بأمر مرتفع ولو على نحو الاحتمال ، وأما إذا احتملنا أن يكون ذلك اليقين الفعلي الموجود بعينه يقيناً بالارتفاع وبما هو مرتفع في نفسه ، فلا محالة يكون المورد شبهة مصداقية فلا يمكن التمسّك فيه بالاستصحاب ، والأمر في المقام كذلك ، لأن المفروض أن لنا يقيناً بالطّهارة في أوّل ساعة من الزوال ، فيقيننا بالحدث إن كان متعلقاً بالحدث قبل الساعة الاولى من الزوال فهو عين اليقين بارتفاع الحدث أي يقين بأمر مرتفع للعلم بالطّهارة بعده ، نعم إذا كان متعلقاً بالحدث بعد الساعة الأُولى فهو ليس يقيناً بالارتفاع فيجري الاستصحاب في بقائه ، وحيث إنا نحتمل أن يكون اليقين بالحدث بعينه يقيناً بالارتفاع فلا يمكن التمسّك بالاستصحاب في مثله هذا.

ولا يخفى أن هذا الوجه أيضاً كسابقه مقطوع الفساد ، وذلك لأنا لا نحتمل اليقين بالحدث المقيّد بكونه قبل الساعة الاولى من الزوال ، لما بيناه في بحث العلم الإجمالي من أن العلم الإجمالي إنما يتعلّق بالجامع بين الطرفين أو الأطراف ، غاية الأمر الجامع‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ١٨٥.


المتخصص بإحدى الخصوصيتين ولا يتعلّق بشي‌ء من خصوصيات الأطراف ولا يحتمل تعلّقه بها أصلاً ، فإذا علمنا بنجاسة أحد المائعين الأحمر أو الأصفر فقد علمنا بنجاسة الجامع المتخصص دون شي‌ء من المائعين ، ولا نحتمل أن يكون لنا يقين بنجاسة خصوص الأحمر أو الأصفر بوجه.

وعليه ففي المقام إنما علمنا بحدوث بول أو حدث مردّد بين كونه ما قبل الزوال وبين كونه في الساعة الثانية من الزوال ، فالعلم قد تعلّق بالجامع بينهما ولا نحتمل أن يكون لنا يقين بالحدث الواقع فيما قبل الزوال ، وحيث إنا نشك في بقائه فنستصحبه لا محالة ، واليقين بالطّهارة في أوّل الزوال لا يمكن أن يكون ناقضاً لليقين بالحدث ، لأن اليقين بالفرد لا يكون ناقضاً لليقين بالكلي بالبداهة ، فإذا علمنا بوجود كلي الإنسان في الحياة وعلمنا بموت زيد مثلاً ، فلا يتوهم أن يكون اليقين بانعدام فرد ناقضاً لليقين بوجود الكلي بوجه كما ذكرناه في القسم الثاني من أقسام الاستصحاب الكلي.

الثالث : ما قد يقال إنه ظاهر كلام صاحب الكفاية قدس‌سره وحاصله : أنه يعتبر في الاستصحاب اليقين والشك الفعليان ، ويتعلق اليقين بشي‌ء معيّن ويتعلق الشك بوجوده في الأزمنة التفصيلية المتأخرة ، بحيث لو رجعنا قهقرى لوجدنا الشك في كل من الأزمنة التفصيلية المتقدّمة إلى أن ننتهي إلى زمان هو زمان المتيقن لا محالة ، لأنه المستفاد من قوله عليه‌السلام : « لا تنقض اليقين بالشك » وقوله عليه‌السلام : « لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت » وغيرهما ، والمتحصل أن تكون أزمنة الشك منتهية إلى زمان معيّن هو زمان المتيقن على وجه التفصيل.

وهذا التقريب لو كان بهذا المقدار فهو مقطوع الفساد ، لضرورة عدم توقف جريان الاستصحاب على أن يكون المتيقن معلوم التحقق في زمان على وجه التفصيل ، لأنه يجري في موارد العلم بتحققه على وجه الإجمال أيضاً ، كمن علم بحدثه قبل طلوع الشمس ثمّ قطع بطهارته وارتفاع حدثه فيما بين الطلوع والزوال ، وعند الزوال شك في حدثه وأنه فيما بين المبدأ والمنتهى بعد ما توضأ قطعاً فهل أحدث أيضاً أم لم يحدث‌


فإنه ممّا لا إشكال في جريان استصحاب طهارته لأنه من غير معارض ، مع أنا لو رجعنا قهقرى لرأينا أن الأزمنة بأجمعها زمان الشك ولا تنتهي إلى زمان معيّن نقطع فيه بتحقق الطّهارة في ذلك الزمان إلى أن ننتهي إلى ما قبل الطلوع وهو ظرف اليقين بالحدث ، فهذا الوجه ساقط كسابقيه.

والرابع : وهو العمدة ، بل الظاهر أنه مراد صاحب الكفاية قدس‌سره ، وهو الذي يظهر من عبارته. وحاصله : أن الاستصحاب يعتبر فيه أن يتعلق اليقين بشي‌ء ويتعلق الشك بوجوده في الأزمنة التفصيلية المتأخرة ، بأن يكون وجوده فيها مشكوكاً فيه حتى تنتهي إلى زمان اليقين بوجوده إما تفصيلاً وإما على وجه الإجمال كما عرفت ، وهذا غير متحقق في أمثال المقام ، وذلك لأن الحدث المستصحب غير محتمل أن يكون هو الحدث قبل الزوال للقطع بارتفاعهِ بالطّهارة في الساعة الاولى من الزوال ، والحدث بعد الزوال إذا لاحظنا لَنرى أنه مشكوك في جميع الأزمنة المتأخرة التفصيلية ولا ننتهي إلى زمان نعلم فيه بالحدث تفصيلاً أو على نحو الإجمال ، فإذا لاحظت الساعة الثالثة من الزوال فوجدت الحدث مشكوكاً فيه في تلك الساعة وهكذا في الساعة الثانية ، والساعة الاولى ظرف اليقين بالطّهارة فلا تقف على زمان تقطع فيه بوجود الحدث تفصيلاً ولا على نحو الإجمال ، ومع عدم اتصال أزمنة الشك إلى اليقين بهذا المعنى أي عدم الانتهاء إلى متيقن بوجه فماذا يقع مورد الاستصحاب حينئذ؟ وهذا هو الذي يظهر من عبارته حيث قال : لم يحرز اتصال زمان الشك بزمان اليقين فلاحظ.

من هنا بنى هو والماتن وغيرهما ممّن يعتبر في الاستصحاب اتصال زمان الشك باليقين على عدم جريان الاستصحاب فيما جهل تأريخه من أمثال المقام.

وما أفادوه من الكبرى بالتقريب المتقدّم ممّا لا إشكال فيه ، كما أن تطبيقها على أمثال المقام ممّا لا يقبل المناقشة لو أُريد من الاستصحاب فيما جهل تأريخه الاستصحاب الشخصي ، حيث إن الحدث قبل الزوال مقطوع الارتفاع ، والحدث بعد الزوال ممّا لم‌


يتعلّق يقين بوجوده التفصيلي ولا على نحو الإجمال. وأمّا إذا أُريد منه الاستصحاب الكلي بإجرائه في الجامع بين الحدث فيما قبل الزوال وبين الحدث فيما بعد الزوال ، فلا ينطبق عليه الكبرى المتقدّمة.

حيث إنّ لنا يقيناً بوجود الحدث الجامع ونشك في بقائه ، لأنه إن كان متحققاً فيما قبل الزوال فهو مقطوع الارتفاع ، وإن كان متحققاً فيما بعده فهو مقطوع البقاء ولتردده بينهما شككنا في بقاء الحدث الجامع ، والشك في بقائه في الأزمنة المتأخرة متصل إلى زمان اليقين بوجوده على نحو الإجمال. وعليه فحال المقام حال القسم الثاني من أقسام الكلي بعينه ، والفرق بينهما أن الجامع هناك إنما كان بين فردين عرضيين ، وأما في المقام فالحدث الجامع إنما هو بين فردين طوليين أعني الحدث فيما قبل الزوال والحدث فيما بعده ، فيأتي فيه جميع ما أوردوه على جريان الاستصحاب في القسم الثاني من الكلي ، من أن أحد الفردين أعني الفرد القصير كالحدث الأصغر فيما إذا تردد الحدث الصادر بين أن يكون هو الأصغر أو الأكبر معلوم الارتفاع والآخر أعني الفرد الطويل كالحدث الأكبر مشكوك الحدوث من الابتداء والأصل عدمه فأين يجري فيه الاستصحاب.

والجواب عنه هو الجواب ، وهو أنه إنما يتمّ لو قلنا بجريانه في الشخص ، وأما إذا أجريناه في الجامع بين الباقي والزائل فلا إشكال في أنا علمنا بتحققه ونشك الآن في بقائه فيجري فيه الاستصحاب ، فإن العلم بارتفاع الفرد لا ينافي العلم بوجود الكلي وحيث إن العلم بالطّهارة علم بفرد وهو الطّهارة الواقعة في أوّل الزوال فهو لا ينافي العلم بجامع الحدث بين الفرد المرتفع والفرد الباقي ، فإذا أجرينا فيه الاستصحاب فلا محالة تقع المعارضة بينه وبين استصحاب الطّهارة فيسقطان بالمعارضة. فالإنصاف أنه لا فرق بين هذه الصورة وبين صورة الجهل بتأريخ كل من الحدث والوضوء. وأمّا بقيّة الوجوه التي ذكروها في تقريب الكبرى المتقدّمة فهي غير قابلة للتعرّض.


بقي في المقام شي‌ء‌

وهو ما نسب إلى السيِّد بحر العلوم قدس‌سره من ذهابه في هذه الصورة أعني ما إذا علم تأريخ الوضوء وكان الحدث مجهول التأريخ إلى الحكم بالحدث دون الطّهارة على عكس الماتن قدس‌سره تمسّكاً بأصالة تأخّر الحادث حيث لا ندري أن الحدث هل تحقق قبل الزوال أم بعده ، فالأصل أنه حدث بعده (١).

ويدفعه أن أصالة تأخر الحادث مما لا أساس له كما نبّه عليه شيخنا الأنصاري قدس‌سره (٢) ، حيث إنه إن أُريد منها ما إذا علمنا بوجود شي‌ء فعلاً وشككنا في أنه هل كان متحققاً قبل ذلك أم تحقق في هذا الزمان وكان لعدم تحققه من السابق أثر فهو وإن كان صحيحاً ، لأن ذلك الأمر الموجود بالفعل حادث مسبوق بالعدم فيستصحب عدمه المتيقن إلى هذا الزمان ونرتب عليه آثاره ، كما إذا علمنا بفسق زيد فعلاً ، وشككنا في أنه هل كان ذلك سابقاً كقبل سنتين أو أكثر حتى نحكم ببطلان الطلاق الذي قد وقع بشهادته ، أو أنه صار كذلك فعلاً ولم يكن فاسقاً سابقاً فالطلاق عنده قد وقع صحيحاً ، فنستصحب عدم فسقه إلى يومنا هذا ونحكم بصحّة الطلاق. إلاّ أن هذا غير مفيد في المقام ، لأنّ الشك في التقدّم والتأخّر بعد العلم بحدوث أمرين.

وإن أُريد منها ما إذا علمنا بحادثين وكان لتأخّر كل منهما أثر كما في المقام ، ففيه أن الحكم بتأخّر أحدهما المعيّن عن الآخر بلا مرجح ، فتتعارض أصالة تأخّر الحدث عن الطّهارة مع أصالة تأخّر الطّهارة عن الحدث. وكيف كان ، فلم يقم على حجية الأصالة المذكورة دليل ، لأنّ بناء العقلاء لم يجر على ذلك ، وأدلّة الاستصحاب إنما تشمل استصحاب العدم فيما إذا لم يكن مبتلى بالمعارض. على أنه لا يثبت عنوان الحدوث للآخر كما هو واضح ، نعم لهذا الكلام وجه بناء على حجية الأصل المثبت باستصحاب عدمه إلى زمان العلم بتحقّق الطّهارة الملازم لحدوثه بعدها.

__________________

(١) الدرة النجفية : ٢٣.

(٢) فرائد الأُصول ٢ : ٦٦٦.


[٥٧٧] مسألة ٣٨ : من كان مأموراً بالوضوء من جهة الشك فيه بعد الحدث (١) إذا نسي وصلّى فلا إشكال في بطلان صلاته بحسب الظاهر فيجب عليه الإعادة إن تذكر في الوقت والقضاء إن تذكر بعد الوقت ، وأما إذا كان مأموراً به من جهة الجهل بالحالة السابقة فنسيه وصلّى يمكن أن يُقال (*) بصحّة صلاته من باب قاعدة الفراغ ، لكنه مشكل فالأحوط الإعادة أو القضاء في هذه الصورة أيضاً. وكذا الحال إذا كان من جهة تعاقب الحالتين والشك في المتقدّم منهما (٢).

______________________________________________________

المأمور بالوضوء إذا نسيه وصلّى‌

(١) بأن علم بحدثه سابقاً ثمّ شك في بقائه فحكم عليه بالحدث ووجوب الوضوء بالاستصحاب ، إلاّ أنه نسي أو غفل فدخل في الصلاة ثمّ بعد الصلاة التفت إلى أنه كان يشك في بقاء حدثه المتيقن قبل الصلاة وقد حكم عليه بالحدث ووجوب الوضوء بالاستصحاب قبل الصلاة. وهذه الصورة لم يتأمل فيها الماتن في الحكم ببطلان الصلاة فيه ووجوب الإعادة أو القضاء.

(٢) الأمر بالوضوء من جهة الجهل بالحالة السابقة أي من غير جهة الاستصحاب له موردان :

أحدهما : صورة تعاقب الحالتين ، لأن من علم بحدث ووضوء فشك في حدثه أو طهارته من جهة الجهل بالمتقدّم والمتأخر منهما يحكم عليه بوجوب الوضوء بقاعدة الاشتغال دون الاستصحاب ، للجهل بالحالة السابقة.

وثانيهما : ما إذا علم بحدثه أوّل الصبح مثلاً ثمّ علم إجمالاً بأنه إما توضأ أو ترك ركوعاً في صلاته الواجبة بأن كان كلا طرفي العلم ذا أثر ملزم فإنه بعد ذلك يشك طبعاً في حدثه وطهارته ويحكم عليه بوجوب الوضوء أيضاً بقاعدة الاشتغال دون‌

__________________

(*) لكنّه خلاف التحقيق فيه وفيما بعده.


الاستصحاب للجهل بحالته السابقة ، حيث إن الاستصحاب لا يجري في حدثه المعلوم في أوّل الصبح لعدم جريانه في أطراف العلم الإجمالي ، ولا في طهارته للجهل بحالته السابقة. فلا تنحصر صورة وجوب الوضوء مع الجهل بالحالة السابقة بمورد تعاقب الحالتين.

بل لو فرضنا الكلام في الغسل لوجدنا له مورداً ثالثاً أيضاً ، وهو ما إذا علم بحدثه الأصغر تفصيلاً ثمّ علم إجمالاً بأنه إما توضأ وإما جامع ، فحصل له العلم التفصيلي بارتفاع حدثه الأصغر أما بالوضوء وإما بالجنابة ووجب عليه الغسل بقاعدة الاشتغال ، فإنه إذا شك في طهارته حينئذ لا يجري في حقه الاستصحاب للجهل بحالته السابقة وأنها هي الوضوء أو الجماع ، فالجامع في جميع الموارد هو الجهل بالحالة السابقة والحكم بالوضوء بقاعدة الاشتغال فهناك صورتان للبحث :

إحداهما : ما إذا حكم عليه بالوضوء بالاستصحاب للعلم بالحالة السابقة وهي الحدث إلاّ أنه نسي أو غفل فصلّى والتفت بعد الصلاة إلى حدثه الاستصحابي قبلها فقد عرفت أن الماتن لم يتأمل فيها في الحكم بوجوب الإعادة أو القضاء.

وثانيتهما : ما إذا حكم عليه بالوضوء بقاعدة الاشتغال للجهل بالحالة السابقة ولكنه غفل أو نسي فدخل في الصلاة ثمّ بعدها التفت إلى أنه كان محكوماً عليه بالوضوء بقاعدة الاشتغال ، فقد ذكر الماتن في هذه الصورة أنه يمكن أن يقال بصحّة صلاته بقاعدة الفراغ ، لكنّه مشكل فالأحوط الإعادة أو القضاء في هذه الصورة أيضاً.

فالكلام في أنه في الصورة الثانية هل تجب عليه الإعادة أو القضاء أو يحكم بصحّة صلاته بقاعدة الفراغ. ولا بدّ في توضيح ذلك من ملاحظة أن حكمهم بوجوب الإعادة أو القضاء في الصورة الأُولى بأي ملاك ، فلقد ذكروا أن الوجه في وجوبها حينئذ أن قاعدة الفراغ إنما تكون حاكمة على الاستصحاب الجاري بعد العمل لأنها واردة في مورده دائماً أو غالباً ، إلاّ أنها غير حاكمة على الاستصحاب الجاري قبل‌


العمل بل الاستصحاب حاكم على القاعدة ، لأنه إذا جرى قبل العمل وحكم الشارع على المكلّف بالحدث فلا يبقى شك في بطلان الصلاة والحال هذه حتى تجري قاعدة الفراغ في صحّتها بعد إتمامها ، فالاستصحاب الجاري قبل العمل رافع لموضوع قاعدة الفراغ بعد العمل وهو الشك ، ومن ثمّ إذا علم المكلّف بحدثه قبل الصلاة ثمّ شك في بقائه وجرى الاستصحاب في حقه وحكم الشارع عليه بالحدث ووجوب الوضوء ولكنه نسي أو غفل فدخل في الصلاة والتفت إلى شكّه السابق بعدها يكون الاستصحاب الجاري في حقه قبلها معدماً ورافعاً لموضوع القاعدة تعبداً ، فلا يبقى شك في صحّتها حتى يحكم بصحّتها بقاعدة الفراغ.

فلو كان هذا هو الملاك في الحكم بوجوب الإعادة والقضاء في الصورة الاولى أعني ما إذا حكم بالوضوء في حقه من قبل الاستصحاب إلاّ أنه نسي ودخل في الصلاة ، فمن الظاهر أنه لا يأتي في الصورة الثانية أعني ما إذا حكم عليه بالوضوء بقاعدة الاشتغال لا بالاستصحاب لجهالة الحالة السابقة ، فلو نسيه أو غفل ودخل في الصلاة والتفت إلى شكّه وحكمه السابق بعد الصلاة تجري في حقه قاعدة الفراغ ، لأن الشارع لم يحكم عليه بالحدث ووجوب الوضوء في أي وقت ، وإنما حكمنا عليه بالوضوء قبل الصلاة بقاعدة الاشتغال ، ومع عدم الحكم شرعاً بحدثه ووجوب الوضوء لا مانع من جريان القاعدة بعد العمل ، لوجود موضوعها وهو الشك وجداناً ولا رافع له بوجه فيحكم بها بصحّة الصلاة ، فلا يجب إعادتها فضلاً عن قضائها.

إلاّ أنا ذكرنا قريباً في بحث الاستصحاب أن الاستصحاب لا مجال له في الصورة الأُولى ، لأنه متقوم بموضوعه وهو اليقين والشك الفعليان ، ومع الغفلة والنسيان لا يقين ولا شك ، وارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه من البديهيات فلا مورد للاستصحاب حينئذٍ ، فعدم جريان قاعدة الفراغ غير مستند إلى الاستصحاب الجاري في حقه قبل الصلاة حيث لا استصحاب ، فلا مانع عن القاعدة من هذه الجهة.

نعم لا تجري القاعدة أيضاً من جهة أن الظاهر المستفاد من أخبارها اختصاص‌


[٥٧٨] مسألة ٣٩ : إذا كان متوضئاً وتوضأ للتجديد وصلّى ثمّ تيقن بطلان‌

______________________________________________________

جريانها بما إذا كان الشك في صحّة العمل وفساده حادثاً بعد العمل ، والأمر في المقام ليس كذلك ، لأنه كان شاكاً في وضوئه وصحّة صلاته والحال هذه قبل الصلاة ، وإنما غفل عنه ثمّ عاد بعد العمل ، نعم هو مغاير مع الشك الزائل بالغفلة عقلاً ، لأن المعدوم والزائل غير الفرد الحادث بعد العمل وإنما هما متماثلان ولكنه هو هو بعينه بالنظر العرفي ، ومن هنا يقال إنه عاد ، فكأن الشك قد خفي في خزانته ثمّ برز بعد العمل ، فإذا كان الشك بعد العمل هو بعينه الشك قبله لا تجري فيه قاعدة الفراغ (١) هذا.

على أنا ذكرنا في بحث قاعدة الفراغ أن القاعدة إنما تجري فيما إذا شك بعد العمل في كيفيته ، وأنه أتى به ملتفتاً إلى شرائطه وأجزائه ومراعياً لهما أو أتى به فاقداً لبعض ما يعتبر فيه ، وأما إذا علم بغفلته حال العمل وعدم مراعاته الشروط والأجزاء وإنما يحتمل انطباق المأمور به عليه من باب الصدفة والاتفاق فهو ليس بمورد للقاعدة لعدم كونه أذكر حال العمل منه حين يشك ، ولا كان أقرب إلى الحق منه بعده ، وهو الذي عبرنا عنه بانحفاظ صورة العمل (٢) تبعاً لشيخنا الأُستاذ قدس‌سره (٣) وعليه فالقاعدة لا مجال لها كما أن الاستصحاب لا يجري.

فانحصر الحكم ببطلان الصلاة ووجوب الإعادة والقضاء في الصورة الأُولى بقاعدة الاشتغال وعدم إحراز الامتثال بإتيان الوظيفة في وقتها فتجب عليه الإعادة والقضاء ، إذن لا فرق بين الصورة الأُولى والثانية في وجوب الإعادة والقضاء ، فإنه في كلتا الصورتين بملاك واحد وهو كونه مأموراً بالامتثال بقاعدة الاشتغال ، ولم يحرز إتيانه بالوظيفة في وقتها فيجب عليه إعادتها في الوقت أو قضاؤها خارجه ، لعدم إتيانه بالوظيفة في وقتها.

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٩٣.

(٢) مصباح الأُصول ٣ : ٣٠٩.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٦٥١.


أحد الوضوءين (١) ولم يعلم أيهما ، لا إشكال في صحّة صلاته ، ولا يجب عليه الوضوء للصلاة الآتية أيضاً بناء على ما هو الحق من أن التجديدي إذا صادف الحدث صحّ (٢) ،

______________________________________________________

المتوضئ لو جدّد وضوءه وصلّى ثمّ علم ببطلان أحد الوضوءين‌

(١) أي بطلانه في نفسه لفقده شيئاً من أجزائه أو شرائطه ، لا بانتقاضه بعد علمه بتحقق كل منهما صحيحاً في نفسه.

(٢) وقد تعرض قدس‌سره في هذه المسألة والمسائل الآتية لعدّة فروع يقرب بعضها من بعض.

المسألة الأُولى : ما إذا صلّى ثمّ علم ببطلان أحد وضوءيه من الأوّل والتجديدي بأن ظهر له بطلان أحدهما في نفسه لفقده شيئاً من شرائطه وأجزائه ، لا أنه علم بانتقاضه بعد وقوعه صحيحاً. والوجه فيما أفاده في هذه المسألة بناء على ما هو الحق الصحيح من أن الوضوء التجديدي يرفع الحدث إذا صادفه في الواقع ظاهر وهو العلم بطهارته ووضوئه الرافع للحدث ، وغاية الأمر لا يدري أن سببه هو الوضوء الأوّل أو الثاني وهو غير مضرّ في الحكم بطهارته فتصح صلاته ، كما أن له الدخول بذلك الوضوء في كل أمر مشروط بالطّهارة. ثمّ إنه قدس‌سره لم يتعرض لما هو خلاف الحق والمشهور من عدم كون الوضوء التجديدي رافعاً للحدث على تقدير مصادفته الواقع فهل يحكم حينئذ بصحّة صلاته ووضوئه أو لا يحكم بصحّة شي‌ء منهما أو فيه تفصيل؟.

لا إشكال في أن استصحاب الحدث السابق على كلا الوضوءين جار في نفسه ومقتضاه الحكم ببطلانهما وبطلان الصلاة ، وذلك لليقين به قبلهما ولا يقين بالوجدان بارتفاعه ، لاحتمال أن يكون الباطل الوضوء الأوّل والصحيح هو التجديدي الذي لا يترتب عليه ارتفاع الحدث على تقدير المصادفة فمقتضاه البطلان ، وإنما الكلام في‌


أن قاعدة الفراغ هل تجري في الوضوء الأوّل أو الصلاة في نفسها حتى تتقدم على استصحاب الحدث أو أنها لا تجري فللكلام جهتان :

الجهة الاولى : في أن قاعدة الفراغ هل تجري في نفس الصلاة؟ والجهة الثانية : في جريانها في الوضوء الأوّل وعدمه.

أمّا الجهة الأُولى فالتحقيق أن القاعدة غير جارية في نفس الصلاة سواء قلنا بجريانها في الوضوء أم لم نقل. أما إذا قلنا بجريانها في الوضوء فلأجل أنه لا يبقى معه شك في صحّة الصلاة حتى تجري فيها القاعدة ، لأن الشك فيها مسبب عن الشك في الوضوء ومع الحكم بصحّته بالقاعدة لا يبقى شك في صحّة الصلاة ، إذ الأصل الجاري في السبب حاكم على الأصل الجاري في المسبب. وأما إذا لم نقل بجريانها في الوضوء ولو بدعوى أنه طرف للعلم الإجمالي ببطلانه أو بطلان الوضوء التجديدي كما يأتي فلأن قاعدة الفراغ كما ذكرناه غير مرّة إنما تجري فيما إذا كانت صورة العمل غير محفوظة حين الشك في صحّته ، بأن يشك في أنه هل أتى به مطابقاً للمأمور به أم فاقداً لبعض شرائطه أو أجزائه. وأما إذا كانت صورة العمل محفوظة كما إذا علم أنه توضأ من هذا المائع الموجود بين يديه وهو مشكوك الإطلاق والإضافة مثلاً أو صلّى إلى تلك الجهة وهي مشكوك كونها قبلة ولكنه احتمل صحّته لأجل مجرد المصادفة الاتفاقية فهي ليست مورداً للقاعدة ، لاعتبار أن يكون المكلّف أذكر حال العمل منه حينما يشك (١) وأن يكون أقرب إلى الحق منه بعده (٢) كما في رواياتها ، وهو غير متحقق عند كون صورة العمل محفوظة ، والأمر في المقام كذلك ، لأن صلاته هذه إنما وقعت بذلك الوضوء الأوّل الذي يشك في صحّته وفساده ، فالصلاة خارجة عن موارد القاعدة.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٧١ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٧. وهي مضمرة بكير بن أعين ، قال : الرجل يشك بعد ما يتوضأ ، قال : هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك.

(٢) الوسائل ٨ : ٢٤٦ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٧ ح ٣. وفيه : وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك.


ولا يُقاس هذا بملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي وغيره من موارد الشك السببي والمسببي حيث يجري الأصل فيها في المسبب إذا لم يجر في السبب ، وذلك لأنه وإن كان صحيحاً بكبرويته ، لوضوح أن الأصل إذا لم يجر في السبب لمانع فلا محالة تنتهي النوبة إلى الأصل المسببي ، إلاّ أنه فيما إذا كان الأصل في المسبب جارياً في نفسه لاشتماله على شرائطه ، لا في مثل الصلاة في مفروض الكلام الذي لا تجري فيه القاعدة في نفسها لعدم وجدانها الشرط المعتبر في جريانها.

وأمّا الجهة الثانية أعني جريان قاعدة الفراغ في الوضوء الأوّل فالصحيح أنها جارية في الوضوء الأوّل ، للشك في صحّته وفساده وبها يحكم بصحّته وصحّة الصلاة ، ويجوز له أن يدخل في كل ما هو مشروط بالطّهارة. والذي يتوهم أن يكون مانعاً عن جريانها في ذلك الوضوء إنما هو وجود العلم الإجمالي ببطلانه أو بطلان الوضوء التجديدي ، كما إذا علم بأنه قد ترك مسح رأسه في أحد الوضوءين ومعه لا تجري القاعدة في شي‌ء منهما ، لأن جريانها في كليهما تعبد بخلاف المعلوم ، وجريانها في بعض دون بعض ترجيح من غير مرجح. إلاّ أن العلم الإجمالي المفروض غير مانع عن جريان القاعدة في الوضوء الأوّل بوجه ، لأنا إن قلنا بما ربّما يظهر من بعض كلمات شيخنا الأنصاري قدس‌سره من أن تأثير العلم الإجمالي وتنجيزه متوقف على أن يكون متعلقه حكماً إلزامياً في جميع أطرافه وإذا كان متعلقه في بعضها حكماً غير إلزامي فهو غير منجز للتكليف ، كما إذا علم إجمالاً ببطلان إحدى صلاتية من الفريضة أو النافلة فلا تجب عليه إعادة الفريضة لعدم كون الحكم في طرف النافلة إلزامياً ، فالأمر واضح ، لأن الحكم في أحد طرفي العلم الإجمالي في المقام أيضاً غير إلزامي وهو الوضوء التجديدي لأن إعادته غير واجبة ، فالعلم الإجمالي غير مؤثر في تنجز متعلقه فلا مانع من إجراء القاعدة في كل من الوضوء الأوّل والتجديدي بوجه.

وأمّا إذا قلنا بما قوّيناه أخيراً وقلنا بأن العلم الإجمالي منجز لمتعلقه عند تعارض الأُصول في أطرافه سواء كان متعلقه حكماً إلزامياً في جميعها أم كان حكماً غير‌


إلزامي في بعضها وإلزامياً في الآخر ، فأيضاً لا مجال للمنع عن جريان القاعدة في الوضوء الأوّل ، وذلك لعدم المعارض وعدم جريان القاعدة في الوضوء التجديدي بناء على ما اخترناه وفاقاً للماتن قدس‌سره من عدم انحصار استحباب التجديد بالفرد الأوّل ، بل الفرد التجديدي الثاني والثالث والرابع وهكذا أيضاً مستحب.

والسرّ في عدم جريان القاعدة في التجديدي حينئذ هو أن القاعدة إنما تجري فيما أمكن فيه التدارك إما على نحو اللزوم وإما على نحو الاستحباب فبها ترفع كلفة تدارك العمل السابق ، وهذا كما في مثال ما إذا علم ببطلان الفريضة أو النافلة ، حيث إن كلا منهما إذا كانت باطلة يمكن تداركها فيجب إعادتها أو تستحب ، فالقاعدة إذا جرت في شي‌ء منهما تقتضي عدم لزوم تداركها أو عدم استحباب التدارك ، فتتعارض القاعدة في الفريضة معها في النافلة فلا يمكن إجراؤها في كليهما لأنه تعبد بخلاف المعلوم ولا في بعضها دون بعض لأنه بلا مرجح.

وأما إذا لم يمكن التدارك بوجه فلا معنى لجريان قاعدة الفراغ في مثله ، وهذا كما في الصلاة المبتدأة ، لأنه إذا شك بعدها في صحّتها وفسادها لا تجري فيها القاعدة ، لأنها سواء صحّت أم فسدت فقد مضت ولا أثر لبطلانها ، حيث إن الصلاة خير موضوع ومستحبة في جميع الأوقات ، فالصلاة بعد الصلاة التي يشك في صحّتها مستحبة في نفسها صحّت الصلاة السابقة أم فسدت ، فلا أثر لبطلانها أي لا يمكن تداركها حتى تجري فيها القاعدة وبها يحكم بعدم كلفة المكلّف في تداركها وإعادتها لزوماً أو استحباباً. وهذا من غير فرق بين كونها طرفاً للعلم الإجمالي وكونها مشكوكة بالشك البدوي ، لأنها في نفسها ليست مورداً للقاعدة كما مر.

والأمر في المقام بناء على ما اخترناه كذلك حيث لا أثر للوضوء التجديدي صحّة وفساداً ، لأن المفروض أنه لا يرفع الحدث الواقعي على تقدير المصادفة ، حيث إن كلامنا على هذا الفرض ، كما أن بطلانه لا يوجب الإعادة لعدم إمكان تداركه حيث إن الفرد التجديدي الثاني مستحب في نفسه صح الفرد الأوّل أم لم يصح ، كان‌


وأمّا إذا صلّى بعد كل من الوضوءين ثمّ تيقّن بطلان أحدهما فالصلاة الثانية صحيحة (١) وأما الاولى فالأحوط (*) إعادتها ، وإن كان لا يبعد جريان قاعدة الفراغ فيها (٢).

______________________________________________________

مورداً وطرفاً للعلم الإجمالي أم كان مشكوكاً بدوياً ، لأن القاعدة غير جارية فيه في نفسه لا من جهة المعارضة ، فإذا لم يترتب على جريان القاعدة في الوضوء التجديدي أثر فلا مانع من جريانها في الوضوء الأوّل ، لأنه مشمول لإطلاق أدلّتها ولقوله عليه‌السلام : كل ما مضى من صلاتك وطهورك فأمضه كما هو (٢).

والعلم الإجمالي بترك المسح في ذلك الوضوء الأوّل أو بتركه في أمر آخر أجنبي لا أثر له لا يورث غير الشك في صحّة الوضوء الأوّل ولا يمنع عن جريان القاعدة لأنه ليس علماً بالنقصان فيه ، فإذا جرت فيه القاعدة نحكم بصحّته كما نحكم بصحّة الصلاة وبجواز دخوله في كل ما يشترط فيه الطّهارة.

ومن هنا يظهر أنه لا فرق في الحكم بصحّة الوضوء والصلاة بين القول بأن الوضوء التجديدي يرفع الحدث على تقدير المصادفة ، والقول بعدم كونه رافعاً فإنهما محكومان بالصحّة على كلا التقديرين.

(١) للعلم بطهارته حين الصلاة الثانية بناء على أن الوضوء التجديدي يرفع الحدث على تقدير المصادفة واقعاً ، وإنما لا يدري سببه وأن الطّهارة حصلت بالوضوء الأوّل أو الثاني.

(٢) وقد اتضح مما بيّناه سابقاً عدم جريان القاعدة في نفس الصلاة ، لما استظهرناه‌

__________________

(*) والأظهر عدم وجوب الإعادة لا لما ذكره بل لجريان قاعدة الفراغ في الوضوء الأوّل بلا معارض.

(١) الوسائل ١ : ٤٧١ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٦. وإليك نصها « ... كل ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكراً فأمضه ولا إعادة عليك فيه ». وورد في موثقة محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « كل ما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو » الوسائل ٨ : ٢٣٧ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٣ ح ٣.


[٥٧٩] مسألة ٤٠ : إذا توضأ وضوءين وصلّى بعدهما ثمّ علم بحدوث حدث بعد أحدهما (١) يجب الوضوء للصلاة الآتية (٢) لأنه يرجع إلى العلم بوضوء وحدث والشك في المتأخر منهما ، وأما صلاته فيمكن الحكم بصحّتها من باب قاعدة الفراغ بل هو الأظهر.

______________________________________________________

من رواياتها من اختصاصها بما إذا لم تكن صورة العمل محفوظة حال الشك في صحّة العمل ، بأن يحتمل كونه حال العمل ملتفتاً إلى جميع أجزائه وشرائطه وآتياً بهما في محلهما ، كما يحتمل غفلته ونسيانه عن بعضهما فقد نقص شيئاً منهما.

وأمّا إذا علم بحاله حال العمل وأنه كان غافلاً أو شاكاً فلا تشمله القاعدة كما مر والأمر في المقام كذلك لعلمه بأنه صلّى مع ذلك الوضوء الذي يحتمل بطلانه فلا مجرى للقاعدة في نفس الصلاة ، نعم لا بأس بإجرائها في الوضوء الأوّل لما مرّ من عدم معارضة القاعدة فيه مع القاعدة في الوضوء التجديدي ، إذ لا أثر بصحّته وفساده لعدم كونه قابلاً للتدارك كما مر ، فإذا جرت القاعدة في الوضوء فبه نحكم بصحّة الصلاة الأُولى كما يجوز له الدخول في كل ما هو مشروط بالطّهارة ، وقد عرفت أن العلم الإجمالي ببطلان أحدهما مما لا أثر له.

إذا توضّأ مرّتين وصلّى بعدهما ثمّ علم بتحقّق حدث بعد أحدهما‌

(١) أي علم بانتقاض أحدهما بعد وقوعهما صحيحين وتامّين ، لا أنه علم ببطلان أحدهما بترك جزء أو شرط منه كما في المسألة المتقدّمة.

(٢) أما وضوءه الأوّل فهو مقطوع الانتقاض سواء وقع الحدث بعده أم بعد الوضوء الثاني ، وأما الوضوء الثاني فهو محتمل الانتقاض لاحتمال أن يكون الحدث واقعاً قبله وبعد الوضوء الأوّل فالوضوء الثاني غير مرتفع ، كما يحتمل ارتفاعه لاحتمال وقوع الحدث بعد الوضوء الثاني. وعليه فهو حينئذ عالم بحدوث حدث وطهارة لا يعلم المتقدّم والمتأخّر منهما فيدخل الوضوء الثاني في الكبرى المتقدِّمة من‌


[٥٨٠] مسألة ٤١ : إذا توضأ وضوءين وصلّى بعد كل واحد صلاة ثمّ علم حدوث حدث بعد أحدهما يجب الوضوء للصلاة الآتية وإعادة الصلاتين (*) السابقتين إن كانا مختلفتين في العدد (١)

______________________________________________________

العلم بحدوث الطّهارة والحدث والشك في المتقدّم والمتأخّر منهما ، وقد عرفت أن استصحاب الطّهارة غير جار حينئذ ، ولا يمكن الرجوع إلى البراءة ، لأن المورد من موارد الاشتغال فيحكم بوجوب الوضوء عليه لأجل الصلوات الآتية.

وهل يمكن التمسّك بقاعدة الفراغ بالنسبة إلى ما أتى به من الصلاة؟ الظاهر ذلك وذلك لأنه يحتمل أن يكون حال صلاته قد أحرز طهارته وأنها بعد الحدث فصلّى مع الطّهارة وإنما حصل له التردد في التقدّم والتأخّر بعد الصلاة ، ومع احتمال التفاته إلى وجدان الشرط حال الصلاة يحكم بصحّتها بمقتضى القاعدة ، كما هو الحال فيما إذا شك في أصل وضوئه بعد الصلاة ، لأنه إذا احتمل التفاته إلى شرائطها قبل الصلاة وإحرازها حينئذ يحكم بصحّة صلاته بقاعدة الفراغ.

(١) نظراً إلى أن قاعدة الفراغ في كل من الصلاتين معارضة بجريانها في الآخر فيتساقطان ، ولا يمكن الرجوع إلى البراءة لأن المورد مورد للاشتغال هذا. وهل يمكن التفصيل في هذه المسألة بالحكم بصحّة الصلاة الأُولى دون الثانية؟

التحقيق يقتضي ذلك ، وهذا لأن قاعدة الفراغ في كل من الطرفين وإن كانت معارضة بجريانها في الآخر كما عرفت ، إلاّ أنه لا مانع من الرجوع إلى استصحاب بقاء الطّهارة الاولى إلى زمان الصلاة الأُولى بوجه ، ووجهه أن تأريخ الصلاة الأُولى معلوم وهو ما بين الوضوءين ، والمفروض أنا نقطع بتحقق الطّهارة بالوضوء الأوّل للعلم بوقوعه صحيحاً وإنما نشك في استمرار تلك الطّهارة إلى زمان الصلاة الأُولى أو‌

__________________

(*) بل تجب إعادة الثانية فقط ، لأن استصحاب الطّهارة في الأُولى بلا معارض بخلاف الثانية فإنها مسبوقة بالحالتين ، وبذلك يظهر الحال في المسألة الآتية.


إلى زمان الوضوء الثاني وعدمه ، لاحتمال تخلل الحدث بينه وبين الصلاة الأُولى فنستصحب بقاءها إلى زمان الطّهارة الثانية وعدم حدوث الحدث إلى ذلك الزمان وبه يحكم بصحّة الصلاة الاولى لا محالة. ولا يعارضه الاستصحاب في الوضوء الثاني ، لأن لنا في زمان ذلك الوضوء أي الثاني علماً إجمالياً بتحقق حدث ووضوء واستصحاب بقاء الطّهارة الثانية إلى حال الصلاة معارض باستصحاب بقاء الحدث إلى ذلك الزمان.

وما ذكرناه من الحكم بصحّة الصلاة الاولى في هذه المسألة وإن لم يذهب إليه أحد فيما نعلمه ، لأنهم على ما نسب إليهم تسالموا على وجوب إعادة كلتا الصلاتين ، إلاّ أن من الظاهر أنها ليست من المسائل التعبدية ، وإنما ذهبوا إلى بطلانهما من جهة تطبيق الكبريات على مصاديقها فلا مانع في مثله من الانفراد هذا.

وقد يورد على ما ذكرناه من جريان استصحاب بقاء الطّهارة إلى زمان الوضوء الثاني الموجب للحكم بوقوع الصلاة الاولى مع الطّهارة بأنه لا وجه للحكم بجريان الاستصحاب المذكور ، لأنه معارض باستصحاب بقاء الطّهارة الثانية ، وإن كان له أي لاستصحاب بقاء الطّهارة الثانية إلى زمان الفراغ عن الصلاة الثانية معارض آخر وهو استصحاب بقاء الحدث إلى زمان الفراغ عن الصلاة الثانية إلاّ أنه قد يكون أصل واحد معارضاً بأصلين ، كما في علمين إجماليين اشتركا في طرف واحد كالعلم الإجمالي بنجاسة الإناء الشرقي أو الغربي لوقوع قطرة دم في أحدهما ثمّ العلم إجمالاً ثانياً بوقوع نجس في الإناء الشرقي أو الشمالي ، لأن أصالة الطّهارة أو استصحابها في الإناء الشرقي حينئذ معارض بأصلين الجاري أحدهما في الشمالي والآخر في الإناء الغربي ، ومع المعارضة يحكم بتساقط الأُصول بأجمعها ، ولا موجب للحكم بسقوط المتعارضين منها أوّلاً والحكم ببقاء الآخر بلا معارض.

والأمر في المقام كذلك ، وهذا لا لوجود علمين إجماليين بل من جهة أن استصحاب بقاء الطّهارة إلى زمان الفراغ عن الصلاة الثانية كما مرّ معارض باستصحاب بقاء الحدث إلى ذلك الزمان. ثمّ إنا لو أغمضنا النظر عن جريان‌


استصحاب الحدث إلى زمان الفراغ عن الصلاة الثانية أيضاً لا مجال لاستصحاب الطّهارة إلى زمان الفراغ عن الصلاة الثانية ، وذلك للعلم الإجمالي بانتقاض أحد الوضوءين ووقوع إحدى الصلاتين مع الحدث ، فاستصحاب بقاء الطّهارة إلى زمان الفراغ عن الثانية معارض باستصحاب بقائها إلى زمان الفراغ عن الصلاة الأُولى.

أذن استصحاب بقاء الطّهارة إلى زمان الفراغ عن الثانية معارض بأصلين أحدهما استصحاب بقاء الحدث إلى ذلك الزمان والآخر استصحاب بقاء الطّهارة إلى زمان الفراغ عن الصلاة الأُولى ، ومعه لا مناص من الحكم بسقوط الجميع ، ولا وجه للحكم بسقوط استصحاب الطّهارة إلى زمان الفراغ عن الصلاة الثانية مع استصحاب بقاء الحدث إلى ذلك الزمان وإبقاء استصحاب الطّهارة إلى زمان الفراغ عن الاولى غير معارض ، فلا بدّ من الحكم بإعادة كلتا الصلاتين.

هكذا قيل ، وهو وإن كان وجيهاً بظاهره إلاّ أنه مما لا يمكن المساعدة عليه. وتوضيح الجواب عن ذلك يتوقف على تمهيد مقدّمة ينبغي أن يؤخر ذكرها إلى فروع العلم الإجمالي ، غير أنا ننبّه عليها في المقام دفعاً للمناقشة ولأجل أنها قد تنفع في غير واحد من المقامات والمسائل. وهي أن المانع عن شمول الدليل لمورد قد يكون من الأُمور الداخلية والقرائن المتّصلة وقد يكون من الأُمور الخارجية والقرائن المنفصلة والأوّل يمنع عن أصل انعقاد الظهور للدليل في شموله لمورده من الابتداء ، وهذا نظير تخصيص العموم بالمخصص المتصل المجمل ، كما إذا خصص العام متصلاً بزيد وتردد زيد الخارج بين ابن بكر وابن عمرو ، فإن العام لا ينعقد له ظهور حينئذ في الشمول لشي‌ء من المحتملين من الابتداء. والثاني إنما يمنع عن حجيّة الظهور بعد انقعاده في الدليل ولا يمنع عن أصل انعقاد الظهور ، فإذا تبيّنت ذلك فنقول :

إن عدم جريان الأُصول في المقام ليس بملاك واحد بل بملاكين ، وذلك لأن عدم جريان الاستصحاب في الحدث والطّهارة إلى زمان الفراغ عن الصلاة الثانية إنما هو من جهة القرينة المانعة المتصلة ، وهي استحالة التعبد بالمتناقضين ، حيث إن هناك شكّاً واحداً وهو مسبوق بيقينين متنافيين ، وإجراء الاستصحاب فيهما يستلزم التعبد‌


بالمتناقضين ، واستحالة ذلك من القرائن المتّصلة بالكلام ، لأنها من الأُمور البديهية التي يعرفها كل عاقل ، لأنه إذا التفت يرى عدم إمكان التعبد بأمرين يستحيل اجتماعهما ، فعدم شمول أدلّة الاستصحاب لهذين الاستصحابين إنما هو من جهة المانع الداخلي وغير مستند إلى العلم الإجمالي بوجه ، لأنه سواء كان أم لم يكن لا يتردد العاقل في استحالة التعبد بالمتناقضين ، وقد عرف أن المانع إذا كان من قبيل القرائن المتّصلة فهو يمنع عن أصل انعقاد ظهور الدليل في شموله لمورده.

وأمّا عدم جريانه في استصحابي بقاء الطّهارة إلى زمان الفراغ عن الصلاة الأُولى والثانية فهو من جهة القرينة الخارجية ، وهي العلم الإجمالي بانتقاض أحد اليقينين إلاّ أن مانعية العلم الإجمالي عن جريان الأُصول في أطرافه ليست من الأُمور البديهية وإنما هي أمر نظري ، ومن هنا جوّز جماعة جريان الأُصول في كلا طرفي العلم الإجمالي ، بل تكرّر في كلمات صاحب الكفاية أن مرتبة الحكم الظاهري محفوظة مع العلم الإجمالي (١). ودعوى احتمال مناقضته أي الحكم الظاهري حينئذ مع الحكم الواقعي غير مختصة بأطراف العلم الإجمالي ، لأنها متحققة في جميع الشبهات البدوية وعليه فالمانعية في العلم الإجمالي من قبيل القرائن المنفصلة الخارجية ، وقد عرفت أن المانع المنفصل لا يمنع عن أصل الظهور في الدليل وإنما يمنع عن حجيته ، فإذا كان الأمر كذلك ولم ينعقد لأدلّة حجية الاستصحاب ظهور في شمولها لاستصحابي الحدث والطّهارة إلى زمان الفراغ عن الصلاة الثانية ، والجامع كل شك مسبوق بيقينين متنافيين ، فلا محالة يبقى ظهورها المنعقد في الشمول لمثل استصحاب بقاء الطّهارة إلى زمان الفراغ عن الصلاة الأُولى بلا مزاحم ولا مانع ، لأن مانعه ورافع حجيّته هو العلم الإجمالي وقد عرفت عدم تأثيره في محل الكلام. فلا يقاس المقام بعلمين إجماليين اشتركا في مورد وطرف واحد ، لأن عدم جريان الأصلين فيهما بملاك واحد لا بملاكين كما في المقام وأنحائه.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٥٨ ٣٥٩.


وإلاّ (١) يكفي صلاة واحدة‌

______________________________________________________

وعليه ففي موارد اختلاف الصلاتين بحسب العدد لا وجه لإعادة كلتيهما وإنما تجب إعادة الثانية فقط هذا. على أنا لو سلمنا عدم جريان قاعدة الفراغ في الطرفين للمعارضة وعدم جريان الاستصحاب في الصلاة الأُولى لوجه لا ندري به ، فلنا أن نرجع إلى البراءة في إحدى الصلاتين ، وذلك فيما إذا خرج وقت إحدى الصلاتين دون الأُخرى ، كما إذا توضأ فأتى بصلاة العصر ثمّ توضأ وأتى بصلاة المغرب وقبل انقضاء وقت صلاة المغرب علم إجمالاً بحدوث حدث بعد أحد الوضوءين ، فلا مانع في مثله من الرجوع إلى البراءة عن وجوب قضاء العصر ، لأنه بأمر جديد ونشك في توجه التكليف بقضائها فندفعه بالبراءة ، وبها ينحل العلم الإجمالي لما ذكرناه في محلِّه من أن العلم الإجمالي إنما ينجز متعلقه فيما إذا كانت الأُصول الجارية في أطرافه نافية بأجمعها وأمّا إذا كان بعضها مثبتاً للتكليف في أحد الطرفين وكان الجاري في الآخر نافياً فالعلم الإجمالي ينحل لا محالة (١).

والأمر في المقام كذلك لأن الجاري في طرف الصلاة التي لم يخرج وقتها هو أصالة الاشتغال ، للعلم باشتغال الذمّة بها ويشك في سقوطها ، وهذا بخلاف الجاري في ناحية الصلاة الخارج وقتها لأنه هو البراءة حيث إن القضاء بأمر جديد. نعم لو توضّأ وأتى بصلاة قضائية ثمّ توضأ وأتى بصلاة أدائية وبعده علم بحدوث الحدث بعد أحدهما لا بدّ من إعادة كلتا الصلاتين ، لعدم خروج الوقت في شي‌ء منهما والمفروض تعارض قاعدة الفراغ في الطرفين وعدم جريان الاستصحاب في الصلاة الأُولى ، هذا كلّه فيما إذا كانت الصلاتان مختلفتين من حيث العدد.

(١) أي وإن لم تكن الصلاتان مختلفتين في العدد بأن كانتا متحدتين بحسبه كما إذا توضّأ وأتى بصلاة الظهر ثمّ توضّأ وأتى بصلاة العصر أو العشاء.

__________________

(١) أشار إلى ذلك في مصباح الأُصول ٢ : ٣٥٦.


بقصد ما في الذِّمّة جهراً إذا كانتا جهريتين وإخفاتاً إذا كانتا إخفاتيتين (١) ومخيّراً بين الجهر والإخفات إذا كانتا مختلفتين (٢) ، والأحوط في هذه الصورة إعادة كلتيهما‌

______________________________________________________

(١) كما إذا توضأ وأتى بصلاة الظهر ثمّ توضأ وأتى بصلاة العصر ، لأنه إذا أتى بصلاة رباعية واحدة إخفاتاً فقد علم بحصول الواجب لأنه إنما علم ببطلان إحدى الصلاتين لا كلتيهما ، هذا بناء على مسلك المشهور. وأما على ما ذكرناه من جريان الاستصحاب في الصلاة الأُولى فالأمر ظاهر ، لأنه إنما يأتي بالصلاة الثانية فحسب.

(٢) كما إذا توضأ وأتى بصلاة العصر ثمّ توضأ وأتى بصلاة العشاء ، فعلى ما بيّناه لا بدّ من إعادة خصوص الثانية جهراً إن كانت جهرية كما في المثال ، وإخفاتية إذا كانت إخفاتية. وأما على مسلك المشهور فقد ذكروا بأن المكلّف متخير بين أن يأتي بصلاة واحدة جهرية أو إخفاتية. والكلام في هذا التخيير وأنه لماذا لم يجب عليه الاحتياط بتكرار الصلاة جهراً تارة وإخفاتاً اخرى عملاً بمقتضى العلم الإجمالي بوجوب إحداهما ، ولم يجب مراعاتهما مع أنهما من أحد الأُمور المعتبرة في الصلاة فنقول :

إن مقتضى قانون العلم الإجمالي وجوب تكرار الصلاة جهراً مرّة وإخفاتاً اخرى تحصيلاً للعلم بوجود شرط الصلاة ، إلاّ أن الأصحاب قدس‌سرهم اختلفوا في ذلك فذهب جماعة منهم إلى ذلك ، ولكن المشهور منهم ذهبوا إلى عدم وجوب تكرار الصلاة ، بل المكلّف يأتي بها مرّة واحدة مخيّراً بين الإجهار والإخفات ، مستندين في ذلك إلى الأخبار الواردة في من فاتته فريضة لا يدري أيتها ، وهي روايات ثلاث :

ثنتان منها رواهما الشيخ قدس‌سره بسندين عن علي بن أسباط من أنه يصلّي ثلاثية ورباعية وثنائية (١) نظراً إلى أنه عليه‌السلام لم يوجب التكرار في الرباعية‌

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٧٥ / أبواب قضاء الصلوات ب ١١ ح ١. رواها الشيخ قدس‌سره بسندين : أحدهما بسنده عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن الحسن بن علي الوشاء عن علي ابن أسباط عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « من نسي من


مع احتمال أن تكون الفائتة جهرية وأن تكون إخفاتية ، وهو معنى التخيير عند دوران الأمر بينهما. والروايتان معتبرتان من حيث السند وإن عبروا عنهما بالمرسلة في كلماتهم ، ولكنا ذكرنا غير مرّة أن المراد بالمرسلة ما إذا كان الراوي غير المذكور في السند واحداً أو اثنين ، وأما إذا روى الراوي عن غير واحد فهو كاشف عن كون الرواية معروفة متواترة أو ما يقرب منها عند الرواة ، كما أن هذا التعبير بعينه دارج اليوم فتراهم أن القضيّة إذا كانت معروفة يقولون إنها مما نقله غير واحد ، فمثله خارج عن الإرسال ، فالروايتان لا بأس بهما من حيث سنديهما ، لأن علي بن أسباط ينقلهما عن غير واحد عن الصادق عليه‌السلام ، نعم هما من حيث الدلالة قابلتان للمناقشة ، لاختصاصهما بمورد فوات الفريضة المرددة بين الثلاث فلا يمكن التعدي عنها إلى غيره كأمثال المقام.

والرواية الثالثة ما رواه البرقي في محاسنه « سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل نسي صلاة من الصلوات لا يدري أيتها هي ، قال عليه‌السلام : يصلّي ثلاثاً وأربعاً وركعتين فإن كانت الظهر أو العصر أو العشاء فقد صلّى أربعاً ، وإن كانت المغرب أو الغداة فقد صلّى » (١) وهي بعينها الروايتان المتقدمتان إلاّ أنها مشتملة على ذيل وهو قوله عليه‌السلام : « فإن كانت الظهر أو العصر أو العشاء فقد صلّى أربعاً » وكأن الذيل تعليل فتعدوا به عن مورد الرواية وهو فوات الفريضة المردّدة بين الصلوات الثلاث إلى كل مورد دار أمر الفريضة فيه بين الجهر والإخفات مع الاتحاد في العدد ، فإنه يأتي بها مخيّراً بين الإجهار والإخفات لأنه عليه‌السلام لم يوجب التكرار مع الإجهار والإخفات.

__________________

صلاة يومه واحدة ولم يدر أي صلاة هي صلّى ركعتين وثلاثاً وأربعاً ». ثانيهما : رواها بسنده عن محمّد بن أحمد بن يحيى عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطاب عن علي بن أسباط مثله.

(١) الوسائل ٨ : ٢٧٦ / أبواب قضاء الصلوات ب ١١ ح ٢. ورواها البرقي [ المحاسن ٢ : ٤٧ / ١١٣٩ ] في الصحيح عن الحسين بن سعيد ، يرفع الحديث قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام إلخ.


[٥٨١] مسألة ٤٢ : إذا صلّى بعد كل من الوضوءين نافلة (١) ثمّ علم حدوث‌

______________________________________________________

ولا يخفى عدم إمكان المساعدة عليه بوجه ، لأن الرواية واردة في خصوص من فاتته فريضة ودارت بين الصلوات الثلاث ، فكيف يمكننا التعدِّي عنه إلى أمثال المقام ممّا قد لا يكون فيه قضاء أصلاً ، كما إذا حصل له العلم الإجمالي بالحدث قبل خروج وقت الصلاتين ، والذيل لا عليّة له وإنما هو بيان لذلك الحكم الخاص الوارد في مورده.

فالصحيح في الحكم بالتخيير في المقام أن يقال : إن أدلّة اعتبار الإجهار والإخفات قاصرة الشمول في نفسها للمقام ، لأنها مختصّة بموارد العلم والتعمد ولا وجوب لشي‌ء منهما مع الجهل والنسيان والغفلة ، وهذا لصحيحة زرارة المصرحة بأن الإجهار والإخفات إنما هما مع الالتفات والعمد لا مع الجهل والنسيان والغفلة ، عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : « في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه وأخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه ، فقال : أي ذلك فعل متعمداً فقد نقض صلاته وعليه الإعادة ، فإن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شي‌ء عليه وقد تمّت صلاته » (١) وحيث إن المكلّف جاهل بوجوبها في المقام لأنه لا يدري أن الباطل من صلاته أيهما وأنها هي الجهرية أو الإخفاتية فلا يجب عليه شي‌ء من الجهر والإخفات أصلاً ، لا أنهما واجبان عليه ولكنه مخيّر بينهما في أمثال المقام ، فإذا لم يجب عليه شي‌ء منهما فلا محالة يتخيّر بين الإجهار في صلاته وبين الإخفات فيها ، وهذا هو معنى تخيّره بينهما.

النافلة كالفريضة في محل الكلام‌

(١) وتوضيح الكلام في هذه المسألة أن النافلتين إن كانتا مبتدأتين فلا تجري قاعدة الفراغ في شي‌ء منهما ، لما مرّ وعرفت من أن القاعدة إنما تجري لرفع وجوب‌

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٨٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٦ ح ١.


حدث بعد أحدهما فالحال على منوال الواجبين ، لكن هنا يستحب الإعادة إذ الفرض كونهما نافلة ، وأما إذا كان في الصورة المفروضة إحدى الصلاتين واجبة والأُخرى نافلة فيمكن أن يقال بجريان قاعدة الفراغ في الواجبة وعدم معارضتها بجريانها في النافلة أيضاً ، لأنه لا يلزم من إجرائهما فيهما طرح تكليف منجز ، إلاّ أن الأقوى عدم جريانها للعلم الإجمالي فيجب إعادة الواجبة ويستحبّ إعادة النافلة.

______________________________________________________

إعادة العمل وتداركه ، ومع فرض أن العمل غير قابل للتدارك والإعادة سواء صح أم بطل وإن كانت النافلة بنفسها مستحبة في كل وقت لا معنى لجريان القاعدة في مثله ، فلا تجري فيهما القاعدة في نفسها ، لا أنها تجري وتتعارض ، كما لا يستحب إعادتهما. وأما إذا كانتا غير مبتدأتين كما في نافلة الليل أو الصبح ونحوهما تجري القاعدة في كل من الصلاتين وتتساقط بالمعارضة ، لأن جريانها في كلتيهما يستلزم المخالفة القطعيّة وإن لم تكن محرّمة ، وهو قبيح لأن مآله إلى التعبد على خلاف المعلوم بالوجدان ، لفرض العلم ببطلان إحداهما ومعه كيف يتعبد بصحّة كل منهما ، فلا محالة تتعارض القاعدة في كل منهما بجريانها في الأُخرى فلا بدّ من إعادتهما على وجه الاستحباب ، نعم لو تمّ ما سلكناه من جريان الاستصحاب أعني استصحاب بقاء الطّهارة إلى زمان الفراغ عن الصلاة الأُولى يحكم بصحّة النافلة الاولى ويستحب إعادة خصوص الثانية.

ومنه يظهر الحال فيما إذا كانت إحداهما فريضة والأُخرى نافلة غير مبتدأة ، لأن القاعدة تتعارض فيهما ، لأن جريانها فيهما معاً يستلزم التعبد بخلاف المعلوم بالوجدان فلا بدّ من إعادتهما معاً. وأما إذا كانت إحداهما نافلة غير مبتدأة أو فريضة والأُخرى مبتدأة فالقاعدة تجري في غير المبتدأة أو الفريضة لعدم معارضتها بجريانها في النافلة المبتدأة فلا إعادة لشي‌ء من الصلاتين حينئذ.


فتلخّص من جميع ما ذكرناه : أن العلم الإجمالي إذا تعلق ببطلان إحدى الصلاتين النافلتين ، أو الفريضة والنافلة غير المبتدأة والجامع العمل الإلزامي وغير الإلزامي في مقام الامتثال لا تجري الأُصول في أطرافه بالمعارضة ، أعني قاعدة الفراغ. وجريان الاستصحاب قد مرّ الكلام فيه (١).

وأمّا إذا تعلّق العلم الإجمالي بجامع الحكم الإلزامي وغير الإلزامي في مرحلة الجعل والتشريع ، كما إذا علمنا بوجوب أحد الفعلين أو باستحباب الآخر ، أو بحرمة أحدهما أو بكراهة الآخر أو إباحته أو استحبابه ، والجامع هو الحكم الإلزامي وغير الإلزامي ، فهل حاله حال العلم الإجمالي المتعلق بالحكم الإلزامي وغير الإلزامي في مقام الامتثال فلا تجري الأُصول في أطرافه كالبراءة ، كما لا تجري قاعدة الفراغ في أطراف العلم الإجمالي المتعلق بالحكم في مرحلة الامتثال ، أو أنه لا مانع من جريان البراءة في أطرافه؟

قد يقال بالأوّل وأن العلم الإجمالي المتعلق بالحكم الإلزامي وغيره في مرحلة الجعل والتشريع حاله حال العلم الإجمالي المتعلق بهما في مرحلة الامتثال ، وأنه منجز ومانع عن جريان البراءة الشرعية في أطرافه ، كما أن البراءة العقلية لا تجري في أطرافه لأن العلم الإجمالي بيان مصحح للعقاب هذا. ولكنه مما لا يمكن المساعدة عليه ، ولا يمكن قياس أحد العلمين الإجماليين بالآخر. وسره أنه لا معنى لوضع الحكم الواقعي في مرحلة الظاهر وحال الجهل والشك فيه إلاّ جعل وجوب الاحتياط وإيجاب التحفظ على الواقع ، كما أنه لا معنى لرفع الحكم الواقعي في تلك المرحلة إلاّ رفع إيجاب الاحتياط والتحفظ على الواقع ، وعليه فالبراءة تجري في ناحية الحكم الإلزامي وتوجب الترخيص في العمل برفع إيجاب الاحتياط والتحفظ حينئذ ، بلا فرق في ذلك بين الشبهات الحكمية والموضوعية على خلاف في الشبهات الحكمية التحريمية فقط دون الوجوبية والموضوعية مطلقاً بيننا وبين المحدّثين.

__________________

(١) في ص ٩٢.


ولا تعارضها البراءة في ناحية الحكم غير الإلزامي ، لعدم جريانها في الأحكام غير الإلزامية على ما أسلفناه في بحث حديث الرفع وقلنا إنها لا تجري في الأحكام غير الإلزامية ، وذلك لأن إجراءها لأجل رفع إيجاب الاحتياط غير ممكن لعدم كونه مورداً للحديث ، للقطع بارتفاعه بعدم وجوبه في الأحكام غير الإلزامية ولا شك في وجوبه لتجري فيه البراءة ، كما أن إجراءها لأجل رفع استحباب الاحتياط كذلك للقطع بوضعه ، إذ لا شك في حسن الاحتياط حتى يدفع بأصالة البراءة (١). فالبراءة الشرعية في طرف الحكم الإلزامي غير معارضة بجريانها في طرف الحكم غير الإلزامي. وأما البراءة العقلية فالأمر فيها أوضح ، لأنها تجري في ناحية الحكم الإلزامي ، حيث يحتمل في تركه أو في فعله العقاب ، وحيث إنه بلا بيان فيحكم بعدم العقاب فيه ، ولا يكون العلم الإجمالي بجامع الإلزام وغير الإلزام بياناً ، لما قدمناه في محلِّه من أن العلم الإجمالي إنما يتعلق بالجامع بين الأطراف ولا يتعلق بشي‌ء من خصوصيات الأطراف ، وإنما هي مجهولة ، والجامع بين الإلزام وغير الإلزام مما لا عقاب فيه ، ولا تعارض بجريانها في طرف الحكم غير الإلزامي لأنه لا يحتمل عقاب من ناحيته حتى يدفع بالبراءة.

والنتيجة أن البراءة شرعية كانت أو عقلية تجري في رفع الحكم المحتمل الإلزامي من غير معارض ، ومعه لا يترتب على العلم الإجمالي أثر لما بيّناه في محلِّه من أن العلم الإجمالي إنما ينجز متعلقه فيما إذا جرت الأُصول في أطرافه وتساقطت بالمعارضة (٢) ، وإلاّ فالعلم الإجمالي إنما يتعلّق بالجامع بين الأطراف كالجامع بين الإلزام وغير الإلزام ولا يتعلّق بشي‌ء من خصوصيات الأطراف ، ومعه لا يترتب عليه تنجّز إلاّ بتساقط الأُصول في أطرافه ، وقد عرفت أن الأُصول في مثل محل الكلام غير معارضة ولا ساقطة ، وهذا بخلاف العلم الإجمالي بالإلزام وغير الإلزام في مرحلة الامتثال ، فإن الأُصول كانت متعارضة في أطرافه ، ومن ثمة حكمنا بتساقط قاعدة الفراغ في كلتا‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٢٧٠.

(٢) مصباح الأُصول ٢ : ٣٤٥ ٣٥٥.


[٥٨٢] مسألة ٤٣ : إذا كان متوضئاً وحدث منه بعده صلاة وحدث ولا يعلم أيهما المقدّم وأن المقدّم هي الصلاة حتى تكون صحيحة أو الحدث حتى تكون باطلة ، الأقوى صحّة الصلاة لقاعدة الفراغ ، خصوصاً إذا كان تأريخ (*) الصلاة معلوماً لجريان استصحاب بقاء الطّهارة أيضاً إلى ما بعد الصلاة (١).

______________________________________________________

الصلاتين وإعادتهما استحباباً أو لزوماً ، إلاّ بناء على جريان الاستصحاب في الصلاة الأُولى ، فإن الإعادة تختص حينئذ بالثانية أيضاً لزوماً أو استحباباً. فالمتحصل أن قياس أحد العلمين الإجماليين بالآخر مما لا وجه له.

المتوضئ إذا صلّى وصدر منه حدث وتردّد في المتقدِّم منهما‌

(١) لا وجه لما صنعه قدس‌سره من الجمع في المسألة بين قاعدة الفراغ واستصحاب بقاء الطّهارة إلى زمان الصلاة ، لأن القاعدة حاكمة على الاستصحاب كما لا يخفى.

ثمّ إن تفصيل الكلام في هذه المسألة أن مقتضى قاعدة الفراغ هو الحكم بصحّة الصلاة مطلقاً ، سواء علم تأريخ الصلاة وجهل تأريخ الحدث والطّهارة ، أم انعكس وعلم تأريخهما دون تأريخ الصلاة ، أم جهل تأريخ كل من الطّهارة والحدث والصلاة إلاّ أنها تختص بما إذا احتمل من نفسه إحراز شرط الصلاة قبل الدخول فيها ، دون ما إذا علم أنه كان غافلاً عن طهارته التي هي شرط الصلاة أو قد صلاّها مع التردّد في طهارته ، وذلك لما أشرنا إليه غير مرّة من أنه يعتبر في جريان القاعدة أن يكون المكلّف أذكر حال العمل وأن لا تكون صورة العمل محفوظة عنده حين شكّه ، فإذا احتمل من نفسه إحراز الطّهارة قبل الصلاة فقد عرفت أنها مورد لقاعدة الفراغ في جميع الصور الثلاث ، وأمّا إذا علم بغفلته عن الشرط وكانت صورة العمل محفوظة‌

__________________

(*) لا خصوصية لذلك.


عنده فلا تجري القاعدة حينئذ وتصل النوبة إلى الاستصحاب ، وله صور ثلاث كما مرّ.

الصورة الاولى :

أن يعلم تأريخ الصلاة دون تأريخ حدثه وانقضاء طهارته. مقتضى استصحاب بقاء طهارته إلى زمان الفراغ عن الصلاة الحكم بوقوع الصلاة مع الطّهارة فتصح ، ولا يعارضه استصحاب عدم وقوع الصلاة إلى زمان انقضاء الطّهارة على مسلك الماتن وصاحب الكفاية قدس‌سرهما (١) لأن تأريخ الصلاة معلوم فلا شك في وقوعها بحسب الأزمنة التفصيلية ، فلا يجري الاستصحاب فيها بحسب عمود الزمان للعلم بتأريخها ، وأما إجراء الاستصحاب فيها بالإضافة إلى الحادث الآخر وهو انقضاء الطّهارة وتحقق الحدث بأن يقال : الأصل عدم وقوع الصلاة إلى آخر زمان الطّهارة فهو أيضاً غير جار ، لعدم إحراز اتصال زمان الشك باليقين ، لاحتمال تخلل اليقين بالصلاة بين زماني اليقين بعدم تحقق الصلاة مع الطّهارة والشك فيه ، ومن هنا قال الماتن : خصوصاً إذا كان تأريخ الصلاة معلوماً.

وأمّا على ما سلكناه من جريان الاستصحاب في كل من الحادثين معلوم التأريخ منهما ومجهوله فلا مانع من استصحاب عدم تحقق الصلاة إلى آخر زمان انقضاء الطّهارة الذي هو زمان الحدث ، وذلك لأن تأريخ الصلاة وإن كان معلوماً ولا شك فيها بحسب الأزمنة التفصيلية وعمود الزمان ، إلاّ أن العلم بتأريخها في تلك الأزمنة التفصيلية غير مناف للشك في تأريخها بحسب الأزمنة الإجمالية ، وهي ما بين زماني الطّهارة والحدث ، لأنا إذا راجعنا وجداننا مع العلم بتأريخها بحسب الأزمنة التفصيلية نرى أنا نشك في وقوعها فيما بين الطّهارة والحدث ، وحيث إنا كنا على يقين من عدمها في تلك الأزمنة الإجمالية فنستصحبه ونقول : الأصل عدم وقوع الصلاة فيما بينهما أي‌

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٢١‌


إلى زمان انقضاء الطّهارة ، وليس هذا من الشبهة المصداقيّة للاستصحاب بوجه ، لأننا لا نحتمل يقيننا بوقوع الصلاة فيما بين الحدث والطّهارة في شي‌ء من الأزمنة.

وعلى الجملة لا ينبغي الإشكال في جريان الاستصحاب فيما علم تأريخه ، وهو نظير ما إذا علمنا بحياة شخصين أحدهما مقلدنا في الأحكام ثمّ علمنا بموت أحدهما تفصيلاً فلم نتمكن من إجراء الاستصحاب في حياة ذلك المسجّى للقطع بموته ، فهل يكون هذا مانعاً عن إجراء الاستصحاب في حياة أحدهما المعلومة إجمالاً من حيث تردده بين الميت والحي فلا نتمكن من إجراء الاستصحاب في بقاء حياة مقلدنا مع أنا شاكين في بقائه بالوجدان؟ كلا ثمّ كلا ، فلنا أن نشير إلى مقلدنا الذي لا نميزه ونقول كنا على يقين من حياته فنشك فهو حي بمقتضى الاستصحاب. فتحصل أن العلم بتأريخ أحدهما في الأزمنة التفصيلية غير مانع عن الشك في تأريخها من حيث الأزمنة الإجمالية.

ثمّ إنه إذا بنينا على جريان الاستصحاب فيما علم تأريخه فهل يحكم بتساقط الأصلين ويرجع إلى قاعدة الاشتغال المقتضية لإعادة الصلاة ، أو أن الحكم هو استصحاب بقاء الطّهارة إلى زمان الفراغ من الصلاة فلا تجب إعادتها؟

التحقيق هو الثاني ، وذلك لعدم معارضته باستصحاب عدم وقوع الصلاة إلى زمان انقضاء الطّهارة ، وهذا لا لأن الأصل لا يجري فيما علم تأريخه من الحادثين ، لأنه يجري فيه كما يجري في مجهوله ، بل لما أشرنا إليه في بحث استصحاب الزمان وقلنا إن الأفعال المقيّدة بقيود إن أُخذ فيها زائداً على اعتبار وجود هذا ووجود ذاك بأن يكون المقيّد موجوداً في زمان يكون القيد فيه موجوداً أمر آخر بسيط ولو كان هو عنوان الظرفية بأن يعتبر كون القيد ظرفاً للمقيّد ، فلا يمكن إجراء الاستصحاب في قيده وإحراز الواجب المعتبر بالأصل أو بضمّ الوجدان إليه (١) ، فلو علمنا بطهارتنا ثمّ شككنا في الحدث من غير وجود العلم الإجمالي أصلاً فلا يمكننا استصحابها‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ١٢٣ ١٢٥.


والحكم بوقوع صلاتنا مع الطّهارة ، لأن استصحاب وجود الطّهارة لا يثبت وقوع الصلاة فيها أعني عنوان الظرفية إلاّ على القول بالأصل المثبت ، فلا أثر للاستصحاب في الطّهارة ، كما قلنا إنه عليه لا يمكن إجراء الاستصحاب في وجود الزمان على نحو مفاد كان التامّة لإثبات أن الفعل المقيّد به كالصوم والصلاة وقعا في النهار أعني ظرفية الزمان لهما ، مع أن جريان الاستصحاب في بقاء الطّهارة مورد للنص الصحيح وهو صحيحة زرارة (١).

فمن ذلك وغيره مما ذكرناه في بحث الأُصول نستكشف أن المعتبر في الأفعال المقيّدة بقيود ليس إلاّ وجود هذا في زمان يكون الآخر فيه موجوداً من دون أن يعتبر فيها شي‌ء آخر ولو عنوان الظرفية ، وعليه فلو استصحبنا الزمان كالنهار وأحرزنا الصوم أو الصلاة بالوجدان فنضم الوجدان إلى الأصل وبه نحرز المأمور به وهو وجود المقيّد ووجود قيده ونقطع بتحققه وتسليمه إلى المولى لا محالة. وكذلك الحال في مثل الصلاة والطّهارة ، فإذا أثبتنا وجود الطّهارة بالاستصحاب وعلمنا بوجود الصلاة بالوجدان فقد تحقّق وجود كل منهما في زمان كان الآخر فيه موجوداً والمفروض أنه هو المأمور به ، فبضم الوجدان إلى الأصل أحرزنا تحقّق المأمور به وتسليمه إلى المولى في مقام الامتثال.

ولا يعارض استصحاب الطّهارة حينئذ استصحاب عدم تحقق المركب من الجزأين بأن نقول كنّا على يقين من عدم المركب من الجزأين خارجاً والأصل عدمه ، وذلك لأنه لا وجود للمركب غير وجود أجزائه والمفروض أن أحد جزأيه محرز بالوجدان والآخر محرز بحكم الشارع فلا شك لنا في تحقّق المركّب.

ودعوى أن المتيقن حينئذ إنما هو وجود أصل الصلاة وأما وجودها في زمان الطّهارة فهو مشكوك فيه والأصل عدم تحقّق الصلاة في زمان قيدها ، يدفعها أنه لا أثر لوجود الصلاة في زمان الطّهارة ، لما عرفت من عدم اعتبار الظرفية ولا‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٨٢ / أبواب النجاسات ب ٤٤ ح ١.


غيرها من العناوين في الأفعال المقيّدة بقيود ، بل المعتبر ليس إلاّ وجود هذا ووجود ذاك والمفروض أنا علمنا بوجود كل منهما ، أحدهما بالوجدان والآخر بالاستصحاب.

فتحصل : أن استصحاب عدم وقوع الصلاة في زمان الطّهارة غير جار لأنه ممّا لا أثر له ، فاستصحاب بقاء الطّهارة إلى زمان الفراغ عن الصلاة بلا معارض ومقتضاه الحكم بصحّة الصلاة. هذا كله في الصورة الأُولى.

الصورة الثانية :

ما إذا علم تأريخ انقضاء الطّهارة أي الحدث وجهل تأريخ الصلاة مع عدم جريان قاعدة الفراغ للعلم بغفلته عن الشرط حال الصلاة. فعلى مسلكهما قدس‌سرهما لا مجال للاستصحاب فيما علم تأريخه وهو انقضاء الطّهارة أي الحدث بالإضافة إلى الأزمنة التفصيلية وعمود الزمان بأن يجري الأصل في عدمه ، وأن يقال الأصل عدم انقضاء الطّهارة وعدم الحدث إلى زمان الصلاة ، أو يقال الأصل عدم انقضائها وعدم الحدث في هذه الساعة أو الساعة الثانية أو الثالثة للعلم بتأريخه ، ولا بالإضافة إلى الحادث الآخر وهو الصلاة لعدم إحراز الاتصال ، لاحتمال تخلل اليقين بوجود الحدث فيما بين زماني اليقين من عدمه والشك فيه ، كما لا يجري الأصل فيما جهل تأريخه فلا بدّ من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال وإعادة الصلاة.

وأما على ما سلكناه فلا مانع من جريان الأصل في كل مما علم تأريخه وما جهل في نفسهما ، إلاّ أنك عرفت أنه في المقام لا يمكن استصحاب عدم وقوع الصلاة إلى آخر زمان الطّهارة لأنه لا أثر له ، فاستصحاب بقاء الطّهارة إلى زمان الفراغ عن الصلاة بلا معارض وهو يقتضي الحكم بصحّة الصلاة كما في الصورة الأُولى.


[٥٨٣] مسألة ٤٤ : إذا تيقن بعد الفراغ من الوضوء أنه ترك جزءاً منه ولا يدري أنه الجزء الوجوبي أو الجزء الاستحبابي فالظاهر الحكم بصحّة وضوئه لقاعدة الفراغ ولا تعارض بجريانها في الجزء الاستحبابي لأنّه لا أثر لها (*) بالنسبة إليه (١) ، ونظير ذلك ما إذا توضّأ وضوءاً لقراءة القرآن وتوضّأ في وقت آخر‌

______________________________________________________

الصورة الثالثة :

وهي ما إذا جهل تأريخ كل من الصلاة والحدث ولم تجر قاعدة الفراغ للعلم بالغفلة ، فعلى مسلكهما لا يجري شي‌ء من استصحابي عدم وقوع الصلاة إلى آخر زمان الطّهارة وعدم انقضاء الطّهارة إلى زمان الفراغ من الصلاة ، لعدم إحراز اتصال زمان الشكّ باليقين. وأما على ما سلكناه فاستصحاب بقاء الطّهارة وعدم انقضائها إلى زمان الفراغ من الصلاة هو المحكم في المسألة ، ولا يعارضه استصحاب عدم وقوع الصلاة إلى آخر زمان الطّهارة فإنه لا أثر له.

فالمتحصل : أن الاستصحاب المذكور يجري في جميع الصور الثلاث. ومنه يظهر أنه لا خصوصية بصورة العلم بتأريخ الصلاة كما ذكرها في المتن ، بحسبان أنها هي التي يجري فيها الاستصحاب المذكور دون غيرها.

إذا تردّد الجزء المتروك بين الواجب والمستحب‌

(١) فقد تقدّمت كبرى هذه المسألة وقلنا : إن العلم الإجمالي إنما ينجز التكليف فيما إذا جرت الأُصول في كل من أطرافه في نفسه وتساقطت بالمعارضة ، لأنه بعد سقوطها وقتئذ يحتمل التكليف في كل واحد من الأطراف بالوجدان ، وحيث إنه لا مؤمن له فنفس الاحتمال يقتضي الاحتياط لقاعدة الاشتغال ، وهذا معنى تنجيز العلم الإجمالي كما مرّ.

__________________

(*) بل لا موضوع لقاعدة الفراغ ، لأن موضوعها الشك في الصحّة.


وضوءاً للصلاة الواجبة ثمّ علم ببطلان أحد الوضوءين فإن مقتضى قاعدة الفراغ صحّة الصلاة‌

______________________________________________________

وأمّا إذا لم تتعارض الأُصول في أطرافه أو لم يجر في بعضها في نفسه فلا يكون العلم الإجمالي منجزاً لا محالة ، لأنه إنما يتعلق بالجامع دون الخصوصيات والمفروض جريان الأصل في بعضها وهو مؤمن عن احتمال التكليف فلا موجب للاحتياط. وهذا من غير فرق بين أن تكون الأطراف إلزاميّة أو غير إلزاميّة ، أم كان بعضها إلزاميّاً وبعضها الآخر غير إلزامي ، فلو علم إجمالاً ببطلان أحد واجبين لا أثر لبطلان أحدهما كما إذا علم ببطلان فريضة أو بطلان ردّ السلام لأنه واجب فوري يعتبر فيه الإسماع مثلاً إلاّ أنه أمر غير قابل للإعادة والقضاء ، لأنه يجب ردّاً للتحيّة فإذا مضى زمان الردّ فلا وجوب لتداركه سواء وقع صحيحاً أم على وجه البطلان ، جرت القاعدة بالإضافة إلى الواجب الذي له تدارك دون ما لا يقبل التدارك.

وكذلك الحال في وجوب صلاة الزلزال على قول ، حيث قالوا بأنها فورية ، فإذا لم يأت بها فوراً فلا يمكن تداركها. ومنه وجوب أداء الفطرة لأن وقته إذا خرج لم يجب تداركها بعنوان الفطرة ، وأما ردّها بعنوان الصدقة فهو أمر آخر. ولا تكون قاعدة الفراغ في هذه المقامات في طرف الواجب الذي يمكن تداركه معارضة بجريانها في الواجب غير القابل للتدارك ، وذلك لأن قاعدة الفراغ إنما هي لأجل إسقاط الإعادة والقضاء ، والجامع التدارك ، فإذا كان العمل غير قابل للتدارك فلا معنى للقاعدة والمفروض أن الواجب كذلك ، لأنه مع القطع ببطلانه لا يترتب عليه أثر فضلاً عن صورة الشك فيه ، فإذا كان الأمر في الواجب كما سمعت ففي المستحب بطريق أولى.

فإذا علم أنه ترك جزءاً أو شرطاً في وضوئه ودار أمره بين الواجب والمستحب فلا محالة تجري قاعدة الفراغ في الجزء الوجوبي ، لأن له أثراً وهو وجوب إعادة الوضوء للفريضة لو لم يأت بها ، أو إعادته وإعادة الفريضة ، أو قضائها لو أتى بها بعد الوضوء. ولا تعارضها قاعدة الفراغ في الجزء المستحب ، حيث لا أثر لبطلانه‌


ولا تعارض بجريانها في القراءة (١) أيضاً لعدم أثر لها بالنسبة إليها.

______________________________________________________

وصحّته ولو مع القطع بفساده أو عدم الإتيان به فضلاً عما إذا شك في فساده أو تركه كما إذا ترك المضمضة أو الغسلة الثانية في وضوئه ، وذلك لأنه قد خرج وقته ، وهو إنما يستحب في الوضوء وقد تحقق فلا محل له بعد ذلك ، ولعلّه ظاهر.

(١) وذلك لأنها أمر غير قابل للتدارك سواء وقعت كاملة أم غير كاملة ، والقراءة مع الطّهارة مستحبّة في كل وقت كالنوافل المبتدأة ، لا أن إتيانها مع الطّهارة بعد ذلك إعادة وتدارك للقراءة المشكوكة طهارتها هذا.

ثمّ إن الماتن قدس‌سره قد أجرى القاعدة في نفسي القراءة والصلاة ، وقد اتضح مما أسلفناه سابقاً عدم إمكان المساعدة عليه لأن القاعدة لا تجري في شي‌ء منهما ، أما في القراءة فلمّا مرّ. وأمّا في الصلاة فلمّا تقدّم من أن القاعدة إنما تجري فيما إذا احتمل المكلّف إحرازه الشرائط والأجزاء حال الامتثال كما أنه يحتمل عدم إحرازه ، وأمّا إذا كانت صورة العمل محفوظة عنده بعد العمل وكان عالماً بغفلته حين الإتيان به كما هو الحال في المقام لأنه لا يشك في صلاته إلاّ من جهة وضوئه فهو عالم بأنه صلّى مع ذلك الوضوء المشكوك صحّته وفساده فهو خارج عن مورد قاعدة الفراغ ، وقد عرفت أنها تختص بما إذا كان المكلّف حال العمل أذكر ، نعم لو شك في صلاته من ناحية أُخرى لا مانع من جريانها في الصلاة. وعليه فالصحيح أن تجري القاعدة في الوضوءين.

وللعلم الإجمالي ببطلان أحدهما صورتان :

إحداهما : ما إذا توضأ وضوءاً للصلاة الواجبة ثمّ قبل خروج وقت الصلاة توضأ وضوءاً آخر للقراءة ، ثمّ بعد ذلك أحدث وبعد الحدث علم إجمالاً بفساد أحد الوضوءين وأنه إما أفسد وضوءه للفريضة أو أبطل وضوءه للقراءة ، وحينئذ تجري قاعدة الفراغ في وضوء الصلاة ، حيث إن لصحّته وفساده أثراً ظاهراً وهو وجوب‌


[٥٨٤] مسألة ٤٥ : إذا تيقّن ترك جزء أو شرط من أجزاء أو شرائط الوضوء (١) فإن لم تفت الموالاة رجع وتدارك وأتى بما بعده وأمّا إن شكّ في ذلك‌

______________________________________________________

الإتيان به ثانياً ، بل وإعادة الفريضة إذا كان قد أتى بها بعد الوضوء. ولا تعارضها القاعدة في وضوء القراءة لأن صحّته وفساده مما لا أثر له ، فإن القراءة مع الطّهارة مستحبّة في كل وقت ، لا أنها مع الوضوء بعد ذلك تدارك للقراءة السابقة مع الحدث.

ومن ذلك يظهر أنه لا يفرق فيما ذكرناه بين فرض وقوع حدث بين الوضوءين وعدمه ، لأن القاعدة في الصورة التي ذكرناها غير جارية في وضوء القراءة كما عرفت ، أحدث بين الوضوءين أم لم يحدث.

والصورة الثانية : ما إذا توضأ مرّة للصلاة الواجبة ثمّ قبل أن يخرج وقتها توضأ مرّة أُخرى للقراءة ولم يحدث بعده ، فحصل له علم إجمالي ببطلان أحد الوضوءين. ففي هذه الصورة تكون قاعدة الفراغ في وضوء الفريضة معارضة بقاعدة الفراغ في وضوء القراءة ، لأن صحّته وفساده في مفروض المسألة مما يترتب له أثر ، حيث إنه لو صحّ لم يستحب الوضوء للقراءة بعد ذلك لأنه مع الطّهارة ، وإن كان باطلاً يستحب له الوضوء وتحصيل الطّهارة للقراءة لاستحباب القراءة مع الطّهارة ، وقد مرّ أن الأُصول إذا تعارضت في أطراف العلم الإجمالي وتساقطت كان احتمال التكليف بنفسه في كل من الطرفين موجباً للاحتياط لقاعدة الاشتغال ، لأنه من غير مؤمن لتساقط الأُصول ، سواء كان الحكم في أطرافه إلزامياً أم غير إلزامي. ولعل هذه الصورة خارجة عن إطلاق كلام الماتن وإلاّ فإطلاق عبارته مورد للمناقشة.

(١) فإن فاتت الموالاة يحكم ببطلان وضوئه لفقده شرطاً من شروط صحّته وهو الموالاة ، وأما إذا لم تفت فيعود إلى الجزء المتروك ويأتي به وببقيّة أجزائه تحصيلاً للترتيب المعتبر بأدلّته. هذا على أن المسألة منصوصة كما في صحيحة زرارة الآتية « وإن تيقنت أنك لم تتم وضوءك فأعد على ما تركت يقيناً حتى تأتي على الوضوء » (١).

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٦٩ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ١.


فإمّا أن يكون بعد الفراغ أو في الأثناء فإن كان في الأثناء رجع وأتى به وبما بعده (١) وإن كان الشكّ قبل مسح الرِّجل اليسرى في غسل الوجه مثلاً أو في جزء منه.

______________________________________________________

(١) وذلك للنص ، وهو صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام « إذا كنت قاعداً على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أنك لم تغسله أو تمسحه ممّا سمّى الله ما دمت في حال الوضوء ، فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أُخرى في الصلاة أو في غيرها فشككت في بعض ما سمّى الله مما أوجب الله عليك فيه وضوءه لا شي‌ء عليك فيه » الحديث (١) حيث دلّت على وجوب العود إلى الجزء المشكوك فيه في الوضوء ما دام لم يفرغ عنه. ولعل هذه الصحيحة هي مستند المجمعين في المقام ، وذلك لأن المسألة وإن كانت اتفاقية ولم ينقل فيها خلاف إلاّ أنا نطمئن أو نظن قويّاً ولا أقل أنا نحتمل ولو في جملة منهم أنهم قد اعتمدوا على هذه الصحيحة في المقام ، ومعه لا يكون الإجماع تعبدياً بوجه. وهذا كله ظاهر لا كلام فيه.

وإنما الكلام في معارضة هذه الصحيحة بموثقة ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « إذا شككت في شي‌ء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشي‌ء إنما الشك إذا كنت في شي‌ء لم تجزه » (٢) حيث قالوا بدلالتها على أنه إذا شك في جزء من الوضوء وقد دخل في غيره من الأجزاء فليس شكه بشي‌ء ، وعليه فتتعارض هذه الموثقة مع الصحيحة المتقدِّمة ، ومقتضى الجمع العرفي حمل الصحيحة على‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٦٩ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ١.

(٢) الوسائل ١ : ٤٦٩ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٢. وهذه الرواية معتبرة وإن كان في سندها أحمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد وهو من الذين لم يرد فيهم توثيق في كتب الرِّجال ، وذلك لأن للشيخ أبي جعفر الطوسي قدس‌سره [ في الفهرست : ١٥٦ ] طريقاً صحيحاً آخر إلى جميع روايات محمّد بن الحسن بن الوليد والد أحمد ، فكل ما يروي الشيخ قدس‌سره عن ابن الوليد بواسطة ابنه أحمد تصبح معتبرة.


استحباب العود والإتيان بالمشكوك فيه إلاّ أن الإجماع المتقدِّم ذكره مانع عن ذلك ولأجله تحمل الموثقة على التجاوز عن الوضوء أو على محمل آخر ، فالأخذ بالصحيحة إنما هو لأجل الإجماع لا لأنها على طبق القاعدة هذا.

ولكن هذا الكلام مما لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأن الإجماع المتقدّم ذكره إجماع مدركي وليس إجماعاً تعبديّاً كما مر ، والصحيحة وردت على طبق القاعدة لا على خلافها ، بيان ذلك : أن الضمير في الموثقة في قوله عليه‌السلام : « في غيره » إما ظاهر في الرجوع إلى الوضوء وإما أنه مجمل ، لأن الوضوء أقرب إلى الضمير من كلمة « شي‌ء » ، ومعناه أنه إذا شككت في أمر من أُمور الوضوء بعد ما خرجت عن الوضوء ودخلت في غيره من الصلاة أو غيرها فشكك ليس بشي‌ء. فالموثقة غير منافية للصحيحة ولم تدل على عدم الاعتناء بالشك في أثناء الوضوء.

ودعوى ان كلمة « شي‌ء » أصل و « من الوضوء » تابع لأنه جار ومجرور والضمير يرجع إلى الأصل والمتبوع لا إلى التابع ، ممّا لا أساس له في شي‌ء من قواعد اللغة العربية ، لأن المعتبر هو الظهور العرفي ، ولا ينبغي الإشكال في أن رجوعه إلى الأقرب أظهر ولو كان تابعاً ، وعليه فلا موجب لحمل الصحيحة على الاستحباب وإنما هي على طبق القاعدة.

وأما إذا تنازلنا عنه ولم ندع ظهور الضمير في رجوعه إلى الوضوء فلا أقل من إجماله ، ومعه أيضاً لا موجب لرفع اليد عن ظهور الصحيحة لأنه حجّة ، والحجّة لا يرفع اليد عنها إلاّ بما هو أظهر منها لا بالمجمل كما لا يخفى ، بل ظهور تلك الصحيحة يرفع الإبهام والإجمال عن مرجع الضمير في الموثقة ، لما قدمناه في مباحث العموم والخصوص من أن العام إذا خصص بمنفصل مجمل ودار الأمر بين التخصيص والتخصّص كان العام بظهوره مفسِّراً لإجمال الدليل المنفصل وموجباً لحملة على التخصّص (١) ، كما إذا ورد « أكرم العلماء » ثمّ ورد منفصلاً « لا تكرم زيداً » ودار الأمر‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ٢٤٢.


فيه بين زيد العالم وزيد الجاهل ، فإن ظهور العام في العموم لما كان حجّة ولم تقم على خلافه حجّة أقوى يكون متبعاً ، ولازمه حمل الدليل المنفصل على التخصيص « لزيد الجاهل » لأن الأدلّة اللفظية كما أنها تعتبر في مداليلها المطابقية كذلك تعتبر في مداليلها الالتزامية لا محالة.

وعليه فظهور الصحيحة في عدم جريان قاعدة التجاوز عند الشكّ في أثناء الوضوء حيث لم يزاحمه مانع أقوى يتبع ، ولازمه رجوع الضمير في قوله عليه‌السلام : « في غيره » في الموثقة إلى الوضوء لا إلى كلمة « شي‌ء » هذا كله. على أن في نفس الموثقة قرينة على رجوع الضمير إلى الوضوء ، وهو ذيلها أعني قوله عليه‌السلام : « وإنما الشك إذا كنت في شي‌ء لم تجزه » فإن هذا التعبير أعني الكون في شي‌ء وعدم التجاوز عنه حين الشك فيه إنما يصح إطلاقه فيما إذا كان شي‌ء مركب قد شك في جزء منه ولم يتجاوز عن ذلك المركب وهو ظاهره العرفي ، نعم لو كان عبر بقوله : إنما الشك في شي‌ء لم يجزه ، لم يكن له هذا الظهور ، ولكن تعبيره بالكون في شي‌ء مع عدم التجاوز عنه مع الشك مما لا إشكال في ظهوره في إرادة الشي‌ء المركب من عدّة أجزاء قد شك في جزء منه قبل الفراغ عن المركب.

فالمتحصل : أن مقتضى القرينة الخارجية أعني كون ظهور العام مفسراً للإجمال في الدليل المنفصل عنه والقرينة الداخلية وهي أقربية الوضوء إلى الضمير من كلمة « شي‌ء » وذيل الموثقة يقتضيان رجوع الضمير إلى الوضوء ، ومعه لا موجب لحمل الصحيحة على خلاف ظاهرها لعدم التنافي بينها وبين الموثقة ، كما أن الصحيحة واردة على طبق القاعدة لا أن العمل بها على خلاف القاعدة وإنما ثبت بالإجماع.

بقي هنا شي‌ء‌

وهو أنّا إن خصّصنا جريان قاعدة التجاوز بخصوص الصلاة دون غيرها من المركّبات ، فلا إشكال حينئذ في الأخذ بإطلاق ذيل الموثقة الذي دلّ على عدم جريان قاعدة التجاوز مع عدم التجاوز عن المركب ، حيث قال : « وإنما الشك في شي‌ء لم‌


تجزه » فمع التجاوز عنه لا يعتني بالشك لا قبل التجاوز عن المركب ، إلاّ أنا خرجنا عنه في مورد واحد وهو باب الصلاة لما ورد فيها من أنه لا يعتني بالشك في التكبيرة أو القراءة بعد ما دخل في الركوع ، ولا فيه بعد ما دخل في السجود وهكذا (١) فإطلاق الموثقة متبع في غير باب الصلاة.

وأمّا إذا عمّمنا القاعدة لجميع المركبات صلاة كانت أو غيرها لمثل قوله عليه‌السلام في بعض رواياتها : « إذا خرجت من شي‌ء ودخلت في غيره فشكك ليس بشي‌ء » (٢) وكل شي‌ء ممّا قد مضى وشككت فيه فأمضه كما هو (٣) فيشكل الأمر في إطلاق ذيل الموثقة وأنه ما معنى لقوله عليه‌السلام : وإنما الشك في شي‌ء لم تجزه. مع الالتزام بجريان قاعدة التجاوز في جميع الموارد عند الشك في جزء بعد الدخول في جزء آخر ، لأنه لا مورد له حينئذ إلاّ الوضوء فلا معنى لإطلاق الذيل بلحاظ مورد واحد وهو الوضوء ، وأما في غيره فتتعارض الموثقة مع ما دل على جريان القاعدة في غير الوضوء.

فهذه قرينة على رجوع الضمير في قوله : « دخلت في غيره » إلى الشي‌ء لا إلى الوضوء ، ومقتضاه جريان القاعدة في الوضوء أيضاً ، فإن المراد بالشي‌ء هو الجزء ويصح إطلاق الذيل إلاّ أن الموثقة حينئذ معارضة مع صحيحة زرارة المتقدّمة ومقتضى الجمع العرفي بينهما حمل الصحيحة على الاستحباب ، إلاّ أنا ارتكبنا خلاف القاعدة بحمل الصحيحة على الوجوب بقرينة الإجماع.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٣٧ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٣ ح ١.

(٢) الواردة في صحيحة زرارة قال في ذيلها : « يا زرارة إذا خرجت من شي‌ء ثمّ دخلت في غيره فشكك ليس بشي‌ء » الوسائل ٨ : ٢٣٧ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٣ ح ١.

(٣) وهي موثقة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « كل ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو » الوسائل ٨ : ٢٣٧ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٣ ح ٣. ونحوها صحيحة إسماعيل بن جابر ، قال أبو جعفر عليه‌السلام : « إن شك في الركوع بعد ما سجد فليمض ، إلى أن قال : كل شي‌ء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه ». الوسائل ٦ : ٣١٧ / أبواب الركوع ب ١٣ ح ٤.


ولكن هذه الشبهة تندفع بان الذيل إما لا إطلاق له أصلاً وإما أن إطلاقه مقيّد وتوضيح ذلك : أن الرواية إنما سيقت لبيان عدم اعتبار الشك في الوضوء بعد الدخول في غير الوضوء على ما بيّناه آنفاً ، ومفهومه وإن كان هو لزوم الاعتناء بالشك إذا كان قبل التجاوز والفراغ عن الوضوء إلاّ أنه خارج عن محطّ نظره عليه‌السلام لأنها سيقت لبيان عدم الاعتناء بالشك بعد الوضوء ، والذيل تصريح بالمفهوم المستفاد من الصدر ، وقد ذكرنا أن المفهوم ممّا ليس الإمام عليه‌السلام بصدد بيانه ، فالتصريح به أيضاً خارج عما هو عليه‌السلام بصدد بيانه فلا إطلاق له ، لعدم كون المتكلم بصدد البيان من تلك الجهة ، وعليه فالذيل كالصدر مختص بالوضوء ولا منافاة في البين.

ثمّ على تقدير تسليم أن الإمام عليه‌السلام كما أنه بصدد البيان من ناحية منطوق الرواية وهو عدم الاعتناء بالشك بعد الفراغ عن الوضوء ، كذلك بصدد البيان من ناحية المفهوم المصرح به في الذيل وهو لزوم الاعتناء به أي بالشك إذا كان قبل التجاوز عن الشي‌ء فلا مناص من تقييده ، وهذا لأن مقتضى هذا الإطلاق لزوم الاعتناء بالشك ما دام لم يتجاوز عن المشكوك فيه ، سواء تجاوز عن محل المشكوك بالدخول في غيره أم لم يتجاوز عن محله ولم يدخل في شي‌ء آخر ، حيث إن التجاوز قد يكون تجاوزاً عن الشي‌ء كالوضوء الذي يشك في جزئه أو شرطه من غير الدخول في غيره أي مع بقاء محله ، وأُخرى يتحقق التجاوز بالدخول في الغير أي بتجاوز محله وحينئذ يقيّد إطلاق الذيل بما دلّ على اعتبار الدخول في الغير في عدم الاعتناء بالشك في غير الوضوء من المقامات ، كما في صدر الموثقة وغيره ، وبهذا ترتفع المعارضة بين قوله عليه‌السلام : « وإنما الشك » إلخ ، وبين ما دلّ على جريان القاعدة في غير الوضوء.

والنتيجة أن الشك إذا كان بعد الفراغ عن العمل فلا كلام في عدم الاعتناء به ، وأما إذا شك في أثناء العمل فيعتنى به في الوضوء مطلقاً بمقتضى صحيحة زرارة وغيرها وأما في غير الوضوء فأيضاً يعتنى به إذا لم يتحقق التجاوز بالدخول في الغير بمقتضى ذيل الموثقة ، وأما إذا تجاوز عن محله بالدخول في غيره فلا يعتنى به أيضاً بمقتضى ما‌


وإن كان بعد الفراغ في غير الجزء الأخير بنى على الصحّة لقاعدة الفراغ ، وكذا إن كان الشك في الجزء الأخير إن كان بعد الدخول في عمل آخر أو كان بعد ما جلس طويلاً (*) أو كان بعد القيام عن محل الوضوء ، وإن كان قبل ذلك أتى به إن لم تفت الموالاة وإلاّ استأنف (**) (١).

______________________________________________________

دلّ على عدم لزوم الاعتناء بالشك بعد المضي عنه. وعلى الجملة يختص الذيل بما إذا شك في شي‌ء وتجاوز عنه.

الشكّ في الفراغ وصوره‌

(١) صور الشك بعد الفراغ ثلاث :

الصورة الأُولى :

ما إذا شك بعد الفراغ في صحّة عمله وفساده مع عدم إمكان التدارك لفوات الموالاة.

والصحيح جريان القاعدة حينئذ لتحقق الفراغ الحقيقي المعتبر في جريانها ، حيث إن المراد من الفراغ أو المضي أو التجاوز عن العمل ليس هو الفراغ أو التجاوز أو المضي عن العمل الصحيح ، إذ مع إحراز صحّة العمل المفروغ عنه لا يعقل الشك في صحّته ، فالمراد من تلك العناوين المضي عن ذات العمل الجامع بين الصحيح والفاسد أو الفراغ أو التجاوز عنه ، وحيث إن المفروض أنه فرغ عن العمل ومضى ذلك العمل وقد تجاوز عنه لعدم إمكان التدارك وهو موجب لتحقق الفراغ بحسب الصدق العرفي ويشك في صحّته وفساده فلا محالة تجري فيه القاعدة. ومقتضاها الحكم‌

__________________

(*) بمقدار تفوت به الموالاة فيه وفيما قبله وبعده إلاّ إذا دخل في عمل مترتب عليه كالصلاة ونحوها.

(**) لا يبعد عدم وجوبه.


بصحّته ، والأخبار الواردة في اعتبارها مطبقة الانطباق على المقام ، لما عرفته من أن المراد بالتجاوز والمضي والفراغ وغيرها من العناوين الواردة في الروايات إنما هو التجاوز والمضي والفراغ عن ذات العمل لا عن العمل الصحيح ، وحيث إنه لا يتمكن من تداركه فيصدق أنه في حالة اخرى غير حالة الوضوء وأنه شك بعد ما يتوضأ وأنه شك بعد التجاوز عن المركّب وهكذا ، وهو المورد المتيقن من موارد قاعدة الفراغ لأنه يشكّ في صحّة ما مضى من عمله لفرض عدم إمكان تدارك الجزء المشكوك فيه لفوات الموالاة.

وهذا من غير فرق بين أن يشك في شي‌ء من الأجزاء السابقة على الجزء الأخير وبين أن يشك في إتيانه بالعمل الصحيح من جهة الشك في جزئه الأخير ، لأن المدار إنما هو على صدق الفراغ وقد عرفت تحققه بعد عدم إمكان التدارك بفوات الموالاة ، وإن ذكر في المتن أنه إذا شك في الجزء الأخير وفاتت الموالاة استأنف العمل ، وذكرنا في التعليقة أن عدم وجوب الاستئناف غير بعيد ، إلاّ أنه إنما هو بلحاظ المتن ، وأما الظاهر المستفاد من أخبار القاعدة فهو جريانها في المقام كما مر.

الصورة الثانية :

ما إذا شك بعد العمل في شي‌ء من أجزائه غير الجزء الأخير مع عدم فوات الموالاة وإمكان التدارك ، فالمعروف المشهور بين أصحابنا جريان القاعدة في هذه الصورة أيضاً.

والظاهر أنه هو الصحيح ، وذلك لمعتبرة بكير بن أعين الدالّة على عدم اعتبار شكّه فيما إذا شك بعد ما يتوضأ ، لأنه حينما يتوضأ أذكر منه حينما يشك (١) حيث إن « يتوضّأ » فعل مضارع ، وظاهر المضارع هو الاشتغال والتلبس بالفعل ما دام لم يدخل عليه « سين » أو « سوف » وعليه فظاهر المعتبرة أنه إذا شك بعد ما يتوضّأ أي‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٧١ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٧.


بعد اشتغاله بالوضوء وبعد فراغه عنه لم يعتن بشكه ، والمفروض في هذه الصورة أنه يشك بعد ما يتوضأ أي بعد فراغه واشتغاله فهو مورد للقاعدة وذلك لتحقق الفراغ المعتبر في جريانها. وهذا لا لمجرّد البناء على الفراغ كما ربّما يتوهم في المقام ، بل لتحقق الفراغ بالنظر العرفي كما تقدّم ، فإن الإتيان بالجزء الأخير محقّق عرفي لصدق التجاوز والفراغ ومعه لا مجال للتأمّل في جريان القاعدة كما لا يخفى.

وأمّا ما ورد في صدر موثقة ابن أبي يعفور من قوله عليه‌السلام : « وقد دخلت في غيره » (١) فظاهره وإن كان هو اعتبار الدخول في غير الوضوء في جريان القاعدة لأنّا ذكرنا أن الضمير في « غيره » يرجع إلى الوضوء إلاّ أنه غير مناف للمعتبرة المتقدّمة الدالّة على جريان القاعدة إذا شك بعد ما يتوضأ من دون اعتبار الدخول في الغير.

والوجه في عدم منافاتهما أن المراد من غيره في هذه الموثقة بقرينة معتبرة بكير هو اعتبار الفراغ عن الوضوء وكون شكّه بعد ما يتوضأ بأن يدخل في حالة هي غير حالة الاشتغال بالوضوء ، لا أن المراد به هو الغير المترتب على الوضوء شرعاً ، وذلك فإن الغير الذي يعتبر الدخول فيه في جريان القاعدة في الوضوء ليس هو الغير الذي اعتبر الدخول فيه في جريان القاعدة في باب الصلاة ، لأن المراد به في باب الصلاة هناك هو الغير المرتب على المشكوك فيه شرعاً كما مثل به هو عليه‌السلام من الشك في الركوع بعد ما سجد وهكذا.

وأمّا في المقام فالمراد به هو الدخول في حالة اخرى غير حالة الوضوء ، فإن به تحقّق عنوان التجاوز ويصدق عنوان الشك بعد ما يتوضأ ، وذلك لمعتبرة بكير والقطع الخارجي بعدم اعتبار الدخول في مثل الصلاة في جريان القاعدة في الوضوء ، لأنها تجري فيما إذا شك في وضوئه بعد الفراغ منه ولو كان داخلاً في عمل آخر من الكتابة والأكل ونحوهما هذا كلّه. مضافاً إلى ما صرح به عليه‌السلام في ذيل موثقة ابن‌

__________________

(١) تقدّمت في صدر المسألة ص ١١٢.


أبي يعفور من حصره الشك المعتبر بما إذا كان في شي‌ء لم تجزه ، وقد أسلفنا أن ظاهره إرادة الشك في شي‌ء من المركب قبل إتمامه والخروج عنه ، فإذا خرج عنه فلا يعتني بشكه بمقتضى الحصر ، فإن الظاهر أن هذه الجملة لم ترد لبيان حكم جديد وإنما وردت لبيان المراد بالجملة الأُولى المذكورة في صدر الموثقة ، أعني قوله عليه‌السلام : « إذا شككت في شي‌ء من الوضوء وقد دخلت في غيره ... » فالمتحصل منها أن الشك لا يعتبر بعد الخروج عن الاشتغال بالعمل وعدم صدق أنه يتوضأ ، فالموثقة غير منافية لمعتبرة بكير.

وأما ما ورد في صحيحة زرارة من قوله عليه‌السلام : « فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أُخرى في الصلاة أو في غيرها ... » (١) فهو أيضاً كالموثقة غير مناف للمعتبرة ، لأن الظاهر أن تلك الجملة إنما وردت لبيان المفهوم المستفاد من صدر الصحيحة ومعناها أنه ما دام مشتغلاً بالوضوء يعتني بشكّه وإذا صدق أنه شكّ بعد ما يتوضأ تجري فيه قاعدة الفراغ ، فقد ادي معنى واحد بعبارات مختلفة فتارة عبر عنه بالدخول في غيره ، وثانياً بالقيام منه ، وثالثاً بالدخول في صلاة ونحوها. والجامع أن يدخل في حالة اخرى غير حالة الاشتغال بالوضوء ، لأنه المحقق لصدق عنوان الشك بعد ما يتوضأ ، فلا تنافي بين الأخبار.

الصورة الثالثة :

ما إذا شك في صحّة وضوئه وفساده من جهة الشك في أنه أتى بالجزء الأخير أم لم يأت به مع إمكان التدارك وعدم فوات الموالاة. والتحقيق أنه يعتني بالشك حينئذ ولا تجري فيها قاعدة الفراغ ، وذلك لأن جريان القاعدة في هذه الصور يبتني على أحد أُمور ثلاثة :

فإمّا أن يقال بأن اليقين بالفراغ حجّة بحدوثه وإن ارتفع بعد ذلك بالشك وهو‌

__________________

(١) تقدّمت في صدر المسألة ص ١١٢.


المعبر عنه بقاعدة اليقين ، وحيث إنه قد تيقن بفراغه عن العمل ولو آناً ما ثمّ شك في مطابقة يقينه للواقع وعدمها أي شك في إتيانه بالجزء الأخير وعدمه فهو متيقن من فراغه فتجري في حقه قاعدة الفراغ.

أو يقال بأن ظاهر حال المتيقن مطابقة يقينه للواقع ، فالظن النوعي حاصل بفراغه ومطابقة يقينه بالفراغ للواقع ، فيحكم بتحقق الفراغ من جهة قيام الأمارة عليه ، وهو الظن النوعي بمطابقة يقين المتيقن للواقع.

أو يقال إن المراد بالفراغ المعتبر في جريان القاعدة إنما هو الفراغ الاعتقادي البنائي ، لعدم إمكان إرادة الفراغ الحقيقي منه لعدم إمكان الشك في صحّة العمل وفساده مع تحقق الفراغ الحقيقي عن العمل ، ولا الفراغ الادعائي لأنه يتحقق بالإتيان بمعظم الأجزاء ولا دليل على كفاية الإتيان بمعظم الأجزاء في جريان القاعدة ، بل الدليل على عدم كفايته موجود وهو صحيحة زرارة المتقدّمة الدالّة على لزوم الاعتناء بالشك ما دام لم يقم عن وضوئه وإن أتى بمعظم أجزائه ، فيتعيّن إرادة الفراغ الاعتقادي والبنائي ، وهذا لا لحجيّة اليقين بحدوثه ولا للأمارة على تحقق الفراغ بل لقيام الدليل على كفاية الفراغ الاعتقادي في جريان القاعدة كما عرفت ، وحيث إن المكلّف معتقد بفراغه وكان بانياً عليه فتجري القاعدة في حقه لا محالة.

وشي‌ء من هذه الوجوه مما لا يمكن المساعدة عليه. أما الوجه الأوّل فلما أسلفناه في بحث الاستصحاب من أنه لا دلالة لشي‌ء من الأخبار على حجيّة قاعدة اليقين وأنها إنما تدلّ على حجيّة الاستصحاب فحسب (١) ، ولا يعتبر فيه تقدّم اليقين على الشك بل المدار على تقدّم المتيقن على المشكوك كانت صفة اليقين حاصلة قبل الشك أم بعده أم متقارنة معه.

وأمّا الوجه الثاني فلأن الظن النوعي وإن كان حاصلاً بمطابقة يقين المتيقن مع الواقع وهو أمارة على الفراغ إلاّ أن الكلام في الدليل على اعتباره ، ولا دليل على‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٢٤٥.


اعتبار الظن الشخصي بالفراغ والمطابقة فضلاً عن الظن النوعي بالفراغ.

وأمّا الوجه الثالث فلأنه مبني على إرادة الفراغ عن العمل الصحيح والأمر حينئذ كما أُفيد ، إلاّ أنه ظهر من مطاوي ما ذكرناه أن المراد بالفراغ هو الفراغ الحقيقي بحسب الصدق العرفي ولكن متعلقه ليس هو العمل الصحيح بل ذات العمل الأعم من الصحيح والفاسد ، إذ لا معنى للشك في الصحّة مع الفراغ عن العمل الصحيح ، وعليه فلا وجه لدعوى اعتبار الفراغ الاعتقادي ، بل المدار على تحقق الفراغ الحقيقي بحسب الصدق العرفي عن ذات العمل الذي لا يدري أنه وقع صحيحاً أم فاسداً.

فكلّما علم بأنه فرغ حقيقة عن ذات العمل ، كما إذا دخل في حالة اخرى غير حالة الوضوء وصدق عليه الفراغ والتجاوز عرفاً ، إما لأنه أتى بالجزء الأخير وشك في الأجزاء السابقة عليه ، لأنّ الإتيان بالجزء الأخير في مثل الوضوء والصلاة وغيرهما موجب لصدق المضي والتجاوز عن العمل ، وإما لعدم إمكان التدارك لفوات الموالاة لأنه أيضاً محقق لصدق المضي والتجاوز والفراغ عرفاً كما مرّ في الصورة الأُولى والثانية ، أمكن التمسّك بالقاعدة.

وأمّا إذا كان التدارك ممكناً لعدم فوات الموالاة ، ولم يحرز الإتيان بالجزء الأخير بل شك في أنه أتى به أم لا ، فلا يمكن إحراز الفراغ ، لأنه حال شكّه لا يدري أنه في حالة اخرى غير حالة الوضوء أو أنه في حالة الوضوء ، حيث إنه إذا لم يكن آتياً بالجزء الأخير فهو في حالة الوضوء لعدم فوات الموالاة وإن أتى به واقعاً فهو في حالة اخرى وقد تحقق الفراغ. ومع الشك في التجاوز والفراغ لا يمكن التمسّك بقاعدة الفراغ ، لأنه شبهة مصداقية للقاعدة ، ولا يمكن إجراؤها فيها ولو قلنا بجواز التمسّك بالعام في الشبهات المصداقيّة ، وذلك لأنه إنما هو في الشبهة المصداقية للمخصص المنفصل ، وأما الشبهة المصداقيّة للمخصص المتصل فلم يقل أحد بجواز التمسّك فيها بالعام والأمر في المقام كذلك ، لأن القاعدة مقيّدة بالتجاوز والفراغ من الابتداء وهما مشكوكان على الفرض ومعه لا مجرى للقاعدة كما مر ، بل مقتضى الاستصحاب حينئذ أنه لم ينتقل من حالته الأوليّة إلى غيرها وأنه لم يفرغ من عمله ، ومقتضى ذلك وجوب الاعتناء‌


[٥٨٥] مسألة ٤٦ : لا اعتبار بشكّ كثير الشكّ (*) سواء كان في الأجزاء أو في الشرائط أو الموانع (١).

______________________________________________________

بشكّه ، بل هذا مقتضى قاعدة الاشتغال ومجرد شكّه في أنه أتى بالواجب صحيحاً أو على وجه الفساد.

نعم لا مانع من التمسّك بالقاعدة فيما إذا قامت أمارة معتبرة على تحقق الفراغ حينئذ ، وهذا كما إذا قام من عمله ودخل في عمل آخر من صلاة أو مطالعة أو دخل في مكان آخر ونحوهما مما يصدق معه عرفاً أنه فرغ وتجاوز عن الوضوء والعمل. وأما إذا جلس بعد الوضوء طويلاً فإن كان مع فوات الموالاة فأيضاً يصدق معه الفراغ والتجاوز ، لما مرّ من أنه مع فوات الموالاة وعدم إمكان التدارك يصدق أن العمل مضى وتجاوز ، وأما مجرد الجلوس الطويل من غير فوات الموالاة فهو غير موجب لصدق الفراغ والمضي ، ومن هنا قيّدنا عبارة الماتن أو كان بعد ما جلس طويلاً بما إذا كان موجباً لفوات الموالاة.

كثير الشك وأحكامه‌

(١) كما هو المعروف ، وليس الوجه فيه لزوم العسر والحرج من الاعتناء بالشك في كثير الشك ، لأنه إن أُريد به لزوم العسر والحرج الشخصيين فهو مقطوع العدم ، لعدم لزومهما في جميع الموارد والأشخاص فلا وجه للحكم بارتفاع حكم الشك في من لا يلزم عليه عسر أو حرج ، وإن أُريد به لزوم الحرج والعسر النوعيين فهو أيضاً كذلك ، لعدم كون الاعتناء بالشك في كثير الشك موجباً للحرج النوعي ، على أنه لا دليل على ارتفاع الحكم بالحرج النوعي عمن لا يلزم في حقه حرج ، لأن ظاهر أدلّة نفي العسر والحرج إرادة العسر والحرج الشخصيين دون النوعيين ، كما أن الدليل على‌

__________________

(*) فيه إشكال ، والأظهر اختصاص هذه القاعدة بالصلاة وعدم جريانها في غيرها.


ذلك ليس هو كون الوضوء من توابع الصلاة ولا يعتنى بكثرة الشك في الصلاة ، وذلك لعدم الدليل على اشتراك التابع مع متبوعه في جميع الأحكام ، بل الدليل على ذلك صحيحة محمّد بن مسلم : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك ، فإنه يوشك أن يدعك ، إنما هو من الشيطان » (١) لأن الظاهر المستفاد بحسب الفهم العرفي أن الضمير في قوله « هو » يرجع إلى كثرة الشك لا إلى الشك في خصوص الصلاة ، وإن كان موردها هو الصلاة ، إلاّ أن الضمير راجع إلى كثرة الشك ، فالصحيحة تدلّنا على أن كثرة الشك من الشيطان ، وهو صغرى للكبرى المعلومة خارجاً وهي أن إطاعة الشيطان مذمومة قبيحة ولا ينبغي إطاعته ، بل يمضي في عمله ولا يعتني بشكّه.

وصحيحة ابن سنان « ذكرت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجلاً مبتلى بالوضوء والصلاة وقلت : هو رجل عاقل ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : وأي عقل له وهو يطيع الشيطان ، فقلت له : وكيف يطيع الشيطان؟ فقال عليه‌السلام : سله هذا الذي يأتيه من أي شي‌ء هو فإنه يقول لك : من عمل الشيطان » (٢) وهذه الصحيحة ذكر فيها الابتلاء بالوضوء والصلاة ، وقد حملها الأصحاب على الوسوسة التي هي أعلى مراتب كثرة الشك ، بل النسبة بينهما عموم من وجه ، لأن الوسوسة هي الاحتمالات التي يحتملها الوسواسي ولا منشأ عقلائي لها ، فترى مثلاً أنه يدخل الماء ويرتمس ويحتمل أن لا يحيط الماء برأسه ، أو يتوضأ وهو على سطح الطبقة الثانية مثلاً ويحتمل أن قطرة من القطرات الواقعة على الأرض طفرت على بدنه أو لباسه مع أن الفاصل بينهما خمسة أمتار أو أزيد ، إلى غير ذلك من الاحتمالات التي ليس لها منشأ عقلائي.

وأمّا كثرة الشك فاحتمالات كثير الشك عقلائية إلاّ أنها متكررة وكثيرة ، ومعه لا موجب لحملها على الوسوسة ، لأن الابتلاء بالوضوء والصلاة كما يشمل الوسوسة كذلك يشمل كثرة الشك فيهما وكلاهما من الشيطان ، فإن أدنى ما يستلزمه كثرة الشك‌

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٢٧ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ١٦ ح ١.

(٢) الوسائل ١ : ٦٣ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١٠ ح ١.


[٥٨٦] مسألة ٤٧ : التيمّم الذي هو بدل عن الوضوء لا يلحقه حكمه في الاعتناء بالشكّ إذا كان في الأثناء (١)

______________________________________________________

أن يكون المكلّف مواظباً لعمله لئلاّ ينقص أو يزيد شيئاً ، فيصرف توجهه إلى ذلك ولا يمكنه التوجه إلى عبادته توجهاً واقعياً وهذا من أهمّ ما يشتاق إليه الشيطان لوضوح أنه يمنع عن التوجه إلى العبادة حقيقة ويوجب الاكتفاء منها بظاهرها وحيث إن إطاعة الشيطان مذمومة فلا يلتفت إلى شكّه ذلك.

نعم ورد في خبر الواسطي : « أغسل وجهي ثمّ أغسل يدي فيشككني الشيطان أني لم أغسل ذراعي ويدي ، قال عليه‌السلام : إذا وجدت برد الماء على ذراعك فلا تعد » (١) فإن موردها من أظهر موارد الوسواس ، حيث إن الشيطان سلط عليه على وجه يشككه في غسل يديه مع أنه فرض أنه غسلها فمع علمه بعمله يشككه فيه ، مع أنها دلّت بمفهومها على أنه إذا لم يجد برد الماء على ذراعيه يعيد غسل وجهه ويديه فتكون معارضة للروايات المتقدّمة التي دلّت على عدم الاعتناء بالشك مع الوسوسة أو الكثرة ، إلاّ أنه لا بدّ من حملها على أنه عليه‌السلام بصدد علاج مرض السائل وهو الوسوسة وليس بصدد بيان الحكم الشرعي ، وإنما أراد أن يلفت نظره وتوجهه إلى أنه يجد برد الماء أو لا يجد حتى لا يوسوس ولا يشك ، فإنه لا يمكن أن يقال بوجوب الالتفات إلى الشك في حق الوسواسي بوجه ، على أن الرواية مرسلة ضعيفة غير قابلة للاعتماد عليها.

التيمّم البدل عن الوضوء‌

(١) لأنّ الدليل على لزوم الاعتناء بالشك قبل الفراغ عن المركب مختص بالوضوء ولا يمكننا التعدِّي عنه إلى غيره ، بل لا بدّ من الأخذ بعموم ما دلّ على عدم الاعتناء‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٧٠ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٤.


وكذا الغسل والتيمم بدله بل المناط فيها التجاوز عن محل المشكوك فيه وعدمه فمع التجاوز تجري قاعدة التجاوز وإن كان في الأثناء (١) مثلاً إذا شكّ بعد الشروع في مسح الجبهة في أنه ضرب بيديه على الأرض أم لا يبني على أنه ضرب بهما ، وكذا إذا شكّ بعد الشروع في الطرف الأيمن في الغسل أنه غسل رأسه أم لا لا يعتني به ، لكن الأحوط إلحاق المذكورات أيضاً بالوضوء.

______________________________________________________

بالشك بعد التجاوز كما يأتي تفصيله ، وكون التيمم بدلاً عن الوضوء لا يدل على تأتّي جميع أحكام الوضوء فيه.

(١) هذا يبتني على عدم اختصاص جريان قاعدة التجاوز بالصلاة وجريانها في كل واجب مركّب ، من الحج والغسل والتيمم وغيرها سوى الوضوء ، وهو الصحيح. إلاّ أن شيخنا الأُستاذ قدس‌سره ذهب إلى اختصاصها بباب الصلاة وأفاد أنّ عدم جريانها في الوضوء على طبق القاعدة (١) ، حتى أنه لولا الأخبار المانعة عن جريان القاعدة في الوضوء أيضاً لم نكن نجريها فيه لعدم المقتضي ، لأن أخبارها واردة في خصوص باب الصلاة. ولكن الصحيح عمومها لجميع المركّبات ، كما أن قاعدة الفراغ المعبّر عنها بأصالة الصحّة في عمل نفس المكلّف كذلك ، وذلك لإطلاق صحيحة زرارة : « يا زرارة إذا خرجت من شي‌ء ثمّ دخلت في غيره فشكك ليس بشي‌ء » (٢) وعموم صحيحة إسماعيل بن جابر : « كل شي‌ءٍ شكّ فيه ممّا جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » (٣) وعدم اختصاصهما بالصلاة ظاهر.

وأمّا كلمات الأصحاب فهي مختلفة في المسألة ، فقد ذكر صاحب الجواهر قدس‌سره (٤) أنه لم يجد قائلاً بإلحاق غير الوضوء من الطّهارات بالوضوء غير صاحب‌

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٢٦.

(٢) ، (٣) تقدّم ذكرهما في مسألة ٤٥ فراجع.

(٤) الجواهر ٢ : ٣٥٥.


[٥٨٧] مسألة ٤٨ : إذا علم بعد الفراغ من الوضوء أنه مسح على الحائل أو مسح في موضع الغسل أو غسل في موضع المسح ولكن شك في أنه هل كان هناك مسوغ لذلك من جبيرة أو ضرورة أو تقيّة أو لا بل فعل ذلك على غير الوجه الشرعي ، الظاهر الصحّة حملاً للفعل على الصحّة لقاعدة الفراغ أو غيرها (١) وكذا لو علم أنه مسح بالماء الجديد ولم يعلم أنه من جهة وجود المسوغ أو لا والأحوط الإعادة في الجميع (*).

______________________________________________________

الرياض ، وذكر شيخنا الأنصاري قدس‌سره في رسائله جملة من الفقهاء أنهم ذهبوا إلى عدم جريان القاعدة في الطّهارات الثلاث من غير اختصاص المنع بالوضوء (٢) ، إلاّ أنا لا يهمنا انعقاد الشهرة على الجريان وعدمه بعد دلالة الإطلاق أو العموم على عدم الاختصاص.

إذا شكّ في المسوغ للعمل بعد الفراغ‌

(١) بل الصحيح عدم جريان القاعدة في شي‌ء من هذه الموارد. الوجه في ذلك أن الشك قد يكون من جهة الشك في أصل أمر المولى كما إذا صلّى فشكّ في أنها وقعت بعد دخول الوقت أم قبله ، والقاعدة غير جارية في هذه الصورة لأن الظاهر المستفاد من قوله عليه‌السلام : كل ما مضى من صلاتك وطهورك فأمضه كما هو (٣) ، جريان القاعدة فيما إذا كان الشك راجعاً إلى فعل نفسه وأنه أتى به ناقصاً أو كاملاً كما في صلاته وطهوره دون ما إذا كان عالماً بفعله وإنما كان شكّه راجعاً إلى فعل المولى‌

__________________

(*) لا يترك ذلك بل وجوب الإعادة هو الأظهر.

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٧١٢.

(٢) وهي موثقة محمّد بن مسلم ، قال « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : كل ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكراً فأمضه ولا إعادة عليك فيه ». الوسائل ١ : ٤٧١ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٦.


وأمره وأنه أمر به أم لا.

وبإزاء هذه الصورة ما إذا علم بأمر المولى ومتعلقه وشك في صحّة ما أتى به من جهة احتمال أنه نقص أو زاد شيئاً غفلة أو نسياناً ، ولا إشكال في جريان القاعدة في هذه الصورة أيضاً للروايات ، بل هي القدر المتيقن من موارد جريان القاعدة.

وبين هاتين متوسط وهو ما إذا علم بأصل أمر المولى ولكن لم يكن شكّه في صحّة عمله مستنداً إلى فعله وأنه زاد أو نقص شيئاً في عمله سهواً أو غفلة ، بل كان مستنداً إلى الشك فيما تعلق به أمر المولى وأنه هل تعلّق بما أتى به أو بشي‌ء آخر ، وهذا كما إذا كان مسافراً فصلّى قصراً وشك في صحّته من أجل احتمال أنه قد قصد الإقامة قبلها فلم يدر أن الأمر بالصلاة هل كان متعلقاً بالتمام أم بالقصر ، أو أنه صلّى قصراً بعد ثمانية فراسخ وشك في أنه هل قصد الثمانية وكان مسافراً أم أنه قصد السير والتفرج إلى أن بلغ إلى ثمانية فراسخ فوظيفته التمام ، أو أنه توضأ بمسح ما يجب غسله أو بغسل ما يجب مسحه أو بغسل الحاجب وشك في أنه هل كان هناك مسوغ من تقيّة أو ضرورة لذلك أم كان الواجب أن يمسح ما يجب مسحه ويغسل ما يجب غسله ، أو أنه توضأ ثمّ شك في صحّته لاحتمال أنه خاف الضرر واحتمله حال الوضوء فكان الواجب عليه هو التيمم دون الوضوء.

ففي هذه الصورة لا فائدة في البحث عن جريان القاعدة وعدمه فيما إذا كان هناك أصل يقتضي صحّة ما أتى به وأنه هو المتعلق لأمر المولى ، وهذا كما في مثال الشك في صحّة صلاة القصر من جهة الشك في قصده الإقامة ، لأن الأصل عدم قصده الإقامة فوظيفته القصر. وكذا في مثال الشك في الوضوء من جهة الشك في احتماله خوف الضرر حال الوضوء ، لأن الأصل أنه لم يحتمل الضرر ولم يخف منه فالواجب عليه هو الوضوء. وكذا فيما إذا ذهب ثمانية فراسخ فصلّى تماماً ثمّ شك في صحّته من جهة احتمال أنه قصد السفر وثمانية فراسخ فالواجب في حقه القصر ، لأن الأصل أنه لم يقصد مسافرة ثمانية فراسخ. والجامع ما إذا أتى المكلّف بما هو المأمور به في حقّه بالعنوان الأوّلي وشك في صحّته وفساده من جهة احتمال تبدل أمره إلى فعل آخر‌


بعنوان ثانوي طارئ عليه ، لأن الأصل عدم تبدل تكليفه وعدم طروء العنوان الثانوي عليه ، ففي هذه الموارد يحكم بصحّة المأتي به لقاعدة الفراغ إن كانت جارية وبالاستصحاب إن لم تجر القاعدة ، فلا فائدة في جريان القاعدة وعدمه في هذه الصورة.

وإنما يترتب الأثر لجريانها وعدمه فيما إذا لم يكن هناك هذا الأصل بل كان مقتضاه بطلان المأتي به ، وهذا كما إذا توضأ بغسل الرجلين أو بمسح الحاجب فشك في صحّته وفساده من جهة أنه هل كان هناك مسوغ له من تقيّة أو غيرها أو لا ، لأن الأصل عدم طروء عنوان مسوغ له فهو باطل إلاّ أن تجري فيه القاعدة ويحكم بصحّته. أو أنه تيمم ثمّ شك في صحّته من جهة احتمال عدم كونه مريضاً أو غيره ممّن يضر به الماء ولم يكن تكليفه التيمم ، لأنه مقتضى الأصل وعدم طروء شي‌ء من مسوغات التيمم عليه فهو محكوم بالبطلان إلاّ أن تجري فيه القاعدة. والجامع أن يكون المأتي به غير المأمور به بالعنوان الأوّلي وشك في صحّته من جهة الشك في أنه هل كان هناك مسوغ لعمله ذلك أم لم يكن ، فقد بنى في المتن على جريان القاعدة في هذه الموارد إلاّ أنه احتاط بالإعادة من جهة احتمال عدم جريان القاعدة فيها.

والصحيح عدم جريان القاعدة في شي‌ء من تلك الموارد ، وذلك لأن جملة من روايات القاعدة وإن كانت مطلقة يمكن التمسّك بها في الحكم بصحّة الوضوء وغيره من الموارد المتقدّمة ، كما في قوله : « كل ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكراً فأمضه » (١) وقوله : « كل ما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو » (٢) لأن مقتضى إطلاقهما جريان القاعدة في الموارد المتقدّمة للشك فيما مضى من طهوره وصلاته ، إلاّ أن في بينها روايتين لا مناص من تقييد المطلقات بهما ، وهما معتبرة بكير المشتملة على قوله : « هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك » (٣) ورواية اخرى واردة في الصلاة‌

__________________

(١) تقدّم ذكره في المسألة السابقة.

(٢) تقدّم ذكرها في مسألة ٤٥ ص ١١٥.

(٣) تقدّم ذكرها في مسألة ٤٥ ص ١١٨.


[٥٨٨] مسألة ٤٩ : إذا تيقن أنه دخل في الوضوء وأتى ببعض أفعاله ولكن شك في أنه أتمه على الوجه الصحيح أو لا ، بل عدل عنه اختياراً أو اضطراراً الظاهر عدم جريان قاعدة الفراغ (١) فيجب الإتيان به ، لأنّ مورد القاعدة ما إذا‌

______________________________________________________

المتضمنة لقوله عليه‌السلام : لأنه حينما يصلّي كان أقرب إلى الحق منه بعدها (١) لدلالتهما على اختصاص القاعدة بما إذا شك المكلّف في صحّة عمله وفساده من جهة احتمال نقصانه أو زيادته غفلة أو نسياناً ، فلا يدري أن ما أتى به كان مطابقاً للمأمور به أو مخالفاً له فتجري القاعدة في حقه ، لأنه بطبعه أذكر حال العمل من حال شكّه وظاهر حاله أنه أتى به مطابقاً للمأمور به.

وأما إذا كانت صورة العمل محفوظة عنده وكان حاله بعد العمل حاله حال العمل بمعنى أنه لا يحتمل البطلان من ناحية عمله لعلمه بما أتى به وإنما كان شكّه من جهة فعل المولى وأمره قبل العمل وبعده ، فلا تجري القاعدة في حقه لأنها مختصة بما إذا احتمل البطلان من جهة غفلته أو نسيانه ، لقوله عليه‌السلام : هو حينما يتوضأ أذكر منه. ولا يأتي في موارد العلم بعدمهما واحتمال البطلان من جهة أمر الشارع وعدمه. وبهاتين الروايتين يقيد الإطلاقات فلا يمكن الحكم بجريان القاعدة في أمثال هذه الموارد. وممّا ذكرناه في هذه المسألة ظهر الحال في المسألة الآتية فلاحظ.

(١) وذلك لما مرّ من اختصاص القاعدة بما إذا احتمل الأذكرية في حقه حال العمل إلاّ أنه يحتمل الغفلة والنسيان أيضاً ، فيدفع احتمالهما بأن مقتضى الطبع الأوّلي كونه أذكر وملتفتاً إلى ما يأتي به فهو غير غافل ولا ناس ، وأما إذا علم بعدم غفلته أو نسيانه إلاّ أنه احتمل ترك شي‌ء من عمله متعمداً اختياراً أو بالاضطرار كما مثل به في المتن فكونه أذكر حال العمل لا يدفع احتمال تركه العمدي ، فلا تجري القاعدة في‌

__________________

(١) وهي رواية محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام وفيها : « ... وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك ». الوسائل ٨ : ٢٤٦ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٧ ح ٣.


علم كونه بانياً على إتمام العمل وعازماً عليه إلاّ أنه شاك في إتيان الجزء الفلاني أم لا وفي المفروض لا يعلم ذلك. وبعبارة اخرى مورد القاعدة صورة احتمال عروض النسيان لا احتمال العدول عن القصد.

[٥٨٩] مسألة ٥٠ : إذا شك في وجود الحاجب وعدمه (١) قبل الوضوء أو في الأثناء وجب الفحص حتى يحصل اليقين أو الظن بعدمه (*) إن لم يكن مسبوقاً بالوجود ، وإلاّ وجب تحصيل اليقين ولا يكفي الظن ،

______________________________________________________

حقِّه ، بل مقتضى الاستصحاب وأصالة الاشتغال وجوب الإعادة.

والعجب من الماتن قدس‌سره أنه كيف صرح بعدم جريان القاعدة في هذه الصورة وصرح بجريانها في المسألة السابقة ، مع أنه لا وجه للمنع عن جريانها في المقام إلاّ اختصاصها بموارد احتمل فيها الترك غفلة أو نسياناً ومعه لا بدّ من المنع في المسألة المتقدّمة أيضاً ، لعدم كون الشك فيها راجعاً إلى عمله غفلة أو نسياناً ، اللهمّ إلاّ أن يقال إنه قدس‌سره يرى اختصاص القاعدة بموارد احتمال الغفلة والنسيان إلاّ أنه أعم من احتمال نسيان جزء أو شرط أو نسيان الحكم.

الشكّ في وجود الحاجب‌

(١) تقدّمت هذه المسألة مفصّلاً وبيّنا أن الوجه في وجوب تحصيل اليقين أو الاطمئنان بعدم الحاجب هو عدم جريان الاستصحاب في نفي الحاجب وعدمه ، لأنه مما لا أثر شرعي له ، إذ الأثر مرتب على وصول الماء إلى البشرة ، كما أن دعوى السيرة على عدم الاعتناء بالشك في الحاجب غير مسموعة لعدم ثبوت السيرة على ذلك أوّلاً ، وعلى تقدير تسليمها لم نحرز اتصالها بزمانهم عليهم‌السلام لاحتمال أنها‌

__________________

(*) مرّ أنه لا اعتبار بالظن ما لم يصل إلى مرتبة الاطمئنان ، ومعه لا فرق في اعتباره بين كون الشي‌ء مسبوقاً بالوجود وعدمه.


نشأت عن فتوى بعض العلماء (١). إلاّ أنه قدس‌سره إنما كرّرها في المقام لما فيها من الخصوصية الزائدة ، وهي أنه فصّل بين ما إذا احتمل وجود الحاجب وكان له حالة سابقة وجودية فحكم حينئذ بوجوب تحصيل اليقين أو الاطمئنان بعدمه ، وما إذا احتمل وجوده ولم تكن له حالة سابقة وجودية كما إذا احتمل أصابه قطرة من القير لمواضع غسله أو وضوئه فحكم حينئذ بكفاية كل من اليقين والاطمئنان بالعدم والظن به.

وهذه التفرقة مبنيّة على دعوى تحقق السيرة المتشرعية على عدم الاعتناء باحتمال وجود الحاجب فيما إذا لم يكن مسبوقاً بالوجود وقد ظنّ عدمه ، ولا وجه لها غيرها لأن الاستصحاب غير معتبر عنده قدس‌سره وإلاّ لجرى استصحاب عدمه حتى فيما لم يظن بعدمه ، وحينئذ يتوجه عليه أن السيرة غير محرزة ، وعلى تقدير تسليمها لم نحرز اتصالها بزمان المعصومين عليهم‌السلام فالصورتان سواء فيما ذكرناه.

ويدلّ على ذلك مضافاً إلى الاستصحاب المقتضي للحكم بعدم وصول الماء إلى البشرة وقاعدة الاشتغال الحاكمة بعدم سقوط التكليف بالوضوء صحيحة علي بن جعفر الدالّة على أن المرأة لا بدّ من أن تحرك الدملج وأسوارها حتى تتيقن بوصول الماء تحتهما (٢) وإن كان موردها الشك في حاجبية الموجود دون الشك في وجود الحاجب إلاّ أنك عرفت عدم الفرق بين الصورتين.

وقد بيّنا سابقاً في مسائل الشك في الحاجب أن ما ورد في ذيل الصحيحة من السؤال عن حكم الخاتم الضيّق وقوله عليه‌السلام : إن علم بعدم وصول الماء تحته فلينزعه ، غير معارض لصدرها نظراً إلى أن مفهوم الذيل أنه إذا لم يعلم بالحاجبية وشك فيها لم يجب عليه النزع وتحصيل اليقين بالوصول ، وذلك لأن حكم الشك في الحاجبية قد ظهر من صدر الصحيحة ، حيث دلّ على وجوب تحصيل اليقين بوصول‌

__________________

(١) شرح العروة ٥ : ٧٢.

(٢) الوسائل ١ : ٤٦٧ / أبواب الوضوء ب ٤١ ح ١. وتقدّم ذكرها في مبحث الشك في الحاجب في مسائل الوضوء ، شرح العروة ٥ : ٧٠.


وإن شكّ بعد الفراغ في أنه كان موجوداً (١) أم لا بنى على عدمه (*) ويصح وضوءه ، وكذا إذا تيقّن أنه كان موجوداً وشكّ في أنه أزاله أو أوصل الماء تحته أم لا (٢) ، نعم الحاجب الذي قد يصل الماء تحته وقد لا يصل إذا علم أنه لم يكن ملتفتاً إليه حين الغسل ولكن شك في أنه وصل الماء تحته من باب الاتفاق أم لا يشكل جريان قاعدة الفراغ فيه ، فلا يترك الاحتياط بالإعادة (**)

______________________________________________________

الماء تحت الدملج والسوار علم حاجبيتهما أم كانت مشكوكة ، ومعه لا بدّ من حمل الذيل على إرادة علم المكلّف بعدم وصول الماء تحت الخاتم مع تحريكه لأنه ضيق كما في الرواية ، وحينئذ حكم بوجوب نزعه حتى يصل الماء تحته ، وذلك لئلا يلزم التكرار في الرواية ، فلا دلالة في ذيلها على عدم وجوب الفحص عند عدم العلم بالحاجبية. هذا كلّه فيما إذا شك في الحاجب في أثناء الوضوء.

الشكّ في الحاجب بعد الفراغ‌

(١) بنى على عدمه لقاعدة الفراغ فيما إذا احتمل من نفسه التفاته إلى شرائط الوضوء التي منها عدم الحاجب في أثناء وضوئه وإحرازه.

الشكّ في إزالة الحاجب‌

(٢) أيضاً لقاعدة الفراغ إذا احتمل من نفسه الالتفات وإحراز الشروط بلا فرق في ذلك بين كونه معلوم الحاجبية على تقدير عدم إزالته وكونه محتمل الحاجبية ، وأما إذا علم بغفلته عن اشتراط عدم الحاجب في الوضوء فجريان القاعدة حينئذ وعدمه مبنيان على النزاع في أن معتبرة بكير بن أعين المشتملة على قوله عليه‌السلام : لأنه حينما يتوضأ أذكر منه حينما يشك (٣) وما ورد في الصلاة من أنه حينما يصلّي كان أقرب‌

__________________

(*) هذا مع احتمال الالتفات حال العمل وإلاّ فلا تجري القاعدة.

(**) بل الظاهر وجوبها فيه وفي نظائره الآتية.

(١) الوسائل ١ : ٤٧١ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٧.


إلى الحق منه بعده (١) هل هما تعليلان ومقيّدتان لإطلاقات الأخبار حتى يختص جريان القاعدة بما إذا احتمل من نفسه الذكر والالتفات إلى الشرائط والأجزاء حال الوضوء ولكنه يشك ويحتمل غفلته عن بعضها أو نسيانها ، فلا تجري مع العلم بالغفلة حال الامتثال وانحفاظ صورة العمل عنده وإنما يحتمل صحّة عمله من باب المصادفة الاتفاقية.

أو أنهما كالحكمة للقاعدة نظير سائر الحِكَم المذكورة في الروايات ، نظير التحفّظ على عدم اختلاط المياه في تشريع العدّة مع أنها واجبة في مورد العلم بعدم اختلاط المياه ، وكنظافة البدن التي هي حكمة في استحباب غسل الجمعة مع ثبوت استحبابه حتى مع نظافة البدن. وعليه فيصح التمسّك بإطلاق الروايات في جميع موارد الشك في الصحّة حتى الشك في متعلق الأمر ولو مع العلم بالغفلة حال العمل إلاّ في صورة الشكّ في وجود الأمر كما إذا شك في دخول الوقت بعد الصلاة ، إذ مع عدم إحراز الأمر لا معنى للصحّة والفساد لأنهما عبارتان عن مطابقة المأتي به للمأمور به ومخالفته إذن الإطلاقات باقية بحالها فتجري القاعدة مع العلم بالغفلة أيضاً كما ذهب إليه بعضهم. وقد ذكرنا في محلِّه أنهما تعليلان ولا مناص من تقييدهما للمطلقات (٢) ، ومعه تختص القاعدة بما إذا احتمل الالتفات حال العمل.

وأمّا موثقة الحسين بن أبي العلاء المشتملة على أمره عليه‌السلام بتحويل الخاتم في الغسل وبإدارته في الوضوء وقوله عليه‌السلام : « فإن نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة » (٣) حيث يقال كما قيل من أنها تدل على جريان قاعدة الفراغ مع العلم بالغفلة والنسيان في حال العمل ، لقوله عليه‌السلام : فإن نسيت أي التحويل أو الإدارة في الغسل والوضوء لا آمرك بإعادة الصلاة. فيدفعه أن الاستدلال بالموثقة مبني على أن تكون ناظرة إلى صورة الشك في وصول الماء تحت‌

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٤٦ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٧ ح ٣.

(٢) مصباح الأُصول ٣ : ٣٠٦.

(٣) الوسائل ١ : ٤٦٨ / أبواب الوضوء ب ٤١ ح ٢.


وكذا إذا علم بوجود الحاجب المعلوم أو المشكوك حجبه وشكّ في كونه موجوداً حال الوضوء أو طرأ بعده (١) فإنه يبني على الصحّة إلاّ إذا علم أنه في حال الوضوء لم يكن ملتفتاً إليه فإن الأحوط الإعادة حينئذ.

______________________________________________________

الخاتم في الغسل والوضوء. وليس في الرواية سؤالاً وجواباً ما يدلّ على كونها ناظرة إلى ذلك بوجه ، فإن الظاهر أنها بصدد بيان استحباب تحويل الخاتم في الغسل وإدارته في الوضوء حتى مع العلم بوصول الماء تحته. ويدلّ عليه اختلاف البيان في الغسل والوضوء ، حيث أمر بالتحويل في الأوّل وبالإدارة في الثاني ، فلو لم يكن لشي‌ء منهما خصوصية بل كان الغرض مجرّد وصول الماء إلى البشرة وتحت الخاتم لم يكن للتعدد والاختلاف في البيان وجه صحيح ، بل كان يقول ( حوّله ) في كليهما أو ( تديره ) فيهما ولم يكن ينبغي التكلّم به للإمام عليه‌السلام ، فمنه يظهر أن لهما خصوصية وهي لا تكون إلاّ على وجه الاستحباب.

ويؤيد ما ذكرناه ما عن المحقق في المعتبر من أن مذهب فقهائنا استحباب تحويل الخاتم في الغسل والإدارة في الوضوء (١) ، وذلك للاطمئنان بأنهم استندوا إلى هذه الموثقة ، وإلاّ فأي دليل دلّهم على استحباب التحويل في أحدهما والإدارة في الآخر. فالموثقة إما ظاهرة فيما ادعيناه وإما أنها مجملة فلا ظهور لها في إرادة الشك في وصول الماء تحت الخاتم بوجه. فالصحيح كما هو ظاهر الروايتين أن الجملتين تعليلان وبهما يتقيد المطلقات ويختص جريان القاعدة بموارد احتمال الذكر والالتفات.

(١) بأن كان تأريخ وضوئه معلوماً وكان تأريخ الحاجب مجهولاً وشك في أنه هل طرأ الحاجب قبله أم بعده ، فإن احتمل الالتفات إلى ذلك حال وضوئه تجري القاعدة في وضوئه ويحكم بصحّته ، وأما إذا علم بغفلته فجريان القاعدة وعدمه مبنيان على الخلاف المتقدِّم آنفا.

__________________

(١) لاحظ المعتبر ١ : ١٦١.


[٥٩٠] مسألة ٥١ : إذا علم بوجود مانع وعلم زمان حدوثه وشكّ في أنّ الوضوء كان قبل حدوثه أو بعده (١) يبني على الصحّة لقاعدة الفراغ إلاّ إذا علم عدم الالتفات إليه حين الوضوء فالأحوط الإعادة حينئذ.

[٥٩١] مسألة ٥٢ : إذا كان محل وضوئه من بدنه نجساً فتوضأ وشك بعده في أنّه طهّره ثمّ توضأ أم لا بنى على بقاء النجاسة فيجب غسله لما يأتي من الأعمال ، وأما وضوءه فمحكوم بالصحّة عملاً بقاعدة الفراغ إلاّ مع علمه بعدم التفاته حين الوضوء إلى الطّهارة والنجاسة ، وكذا لو كان عالماً بنجاسة الماء الذي توضأ منه سابقاً على الوضوء ويشك في أنه طهّره بالاتصال بالكر أو بالمطر أم لا فإن وضوءه محكوم بالصحّة والماء محكوم بالنجاسة ويجب عليه غسل كل ما لاقاه ، وكذا في الفرض الأوّل يجب غسل جميع ما وصل إليه الماء حين التوضؤ أو لاقى محلّ الوضوء مع الرّطوبة (٢).

______________________________________________________

إذا شكّ في تقدّم الوضوء على حدوث الحاجب‌

(١) عكس المسألة المتقدّمة فقد علم بتأريخ المانع كالقير الذي علم بالتصاقه ببعض أعضائه أوّل الزوال وشك في أن وضوءه هل كان قبله أم بعده ، وحكمه حكم المسألة السابقة بعينها.

إذا توضّأ فشكَّ في أنّه هل طهّر المحل قبله؟

(٢) إذا احتمل الالتفات إلى اشتراط طهارة البدن أو الماء في صحّة الوضوء وإحرازها حال الوضوء فهل تثبت بها لوازماتها فيحكم بطهارة بدنه أو الماء وطهارة كل ما لاقاهما ، أو لا يثبت بالقاعدة إلاّ صحّة الوضوء فحسب ، وأما البدن والماء فهما باقيان على نجاستهما بالاستصحاب كما أن ملاقيهما ملاقي النجس؟

قد يقال : إن هذا النزاع مبني على أن القاعدة أمارة حتى تثبت بها لوازمها أو أنها‌


[٥٩٢] مسألة ٥٣ : إذا شك بعد الصلاة في الوضوء لها وعدمه بنى على صحّتها (١) لكنّه محكوم ببقاء حدثه (٢) فيجب عليه الوضوء للصلاة الآتية ، ولو كان الشكّ في أثناء الصلاة وجب الاستئناف بعد الوضوء (٣)

______________________________________________________

أصل فلا تكون حجّة في مثبتاتها. إلاّ أنا تعرضنا لذلك في بحث الأُصول وقلنا إن ذلك ممّا لا أساس له ، لأن الأصل والأمارة سيان في عدم حجيتهما في لوازماتهما إلاّ في خصوص الأمارات اللفظيّة وما يرجع إلى مقولة الحكاية والإخبار كما في الإقرار والبيّنة والخبر ، فإنها كما تكون حجّة في مداليلها المطابقية كذلك تكون حجّة في مداليلها الالتزامية ، التفت المخبر إلى الملازمة أم لم يلتفت ، كان مقراً بها أم منكراً للملازمة رأساً (١). وعليه فلا تثبت بقاعدة الفراغ في المقام غير صحّة الوضوء ، ومقتضى الاستصحاب بقاء البدن والماء على نجاستهما فيحكم بنجاسة كل ما لاقاهما.

الشك في الوضوء بعد الصلاة أو في أثنائها‌

(١) لقاعدة الفراغ في الصلاة.

(٢) لأن القاعدة لا تثبت لوازمها كالحكم بطهارة المكلّف في مفروض المسألة. وهل تجري قاعدة التجاوز في نفس الوضوء أو لا تجري؟ يظهر الحال في ذلك مما يأتي في المسألة الآتية إن شاء الله.

(٣) لأن مقتضى قاعدة الفراغ وإن كان هو الحكم بصحّة الأجزاء المتقدّمة من الصلاة لأنها ممّا قد تجاوز عنه وهي قد مضت ، إلاّ أنها لا تثبت الطّهارة حتى تصحّ الأجزاء الواقعة بعد شكّه ، فلا بدّ من أن يحصل الطّهارة لتلك الأجزاء الآتية وللكون الذي شكّ فيه في الطّهارة ، فإن الطّهارة كما أنها شرط في أجزاء الصلاة كذلك شرط في الأكوان المتخلّلة بين أجزائها ، وبما أن ذلك الكون مما لا يمكن تحصيل الطّهارة فيه‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٢٦٧.


والأحوط الإتمام مع تلك الحالة ثمّ الإعادة بعد الوضوء (١).

______________________________________________________

يحكم ببطلان صلاته واستئنافها بعد تحصيل الطّهارة ، ولا يمكن إحرازها بالقاعدة لعدم تحقق التجاوز على الفرض.

(١) ومنشأه احتمال جريان قاعدة التجاوز في نفس الوضوء ومعه يجب إتمام الفريضة فيحرم قطعها. والكلام في ذلك يقع في مقامين :

أحدهما : في أن هذا الاحتياط هل له منشأ صحيح؟

وثانيهما : في أن قاعدة التجاوز هل تجري في نفس الوضوء أو لا؟

أمّا المقام الأوّل : فالصحيح أنه لا منشأ صحيح لهذا الاحتياط ، لأن الدليل على حرمة قطع الفريضة لو كان فإنما هو الإجماع لو تمّ ، ومورده ما إذا كانت الفريضة مما يأتي به المكلّف في مقام الامتثال مكتفياً بها من غير إعادتها ، ففي مثله يمكن القول بحرمة القطع على تقدير تمامية الإجماع ، وأما إذا لم يكن المكلّف مكتفياً بها في مقام الامتثال بل بنى على استئنافها فأي دليل دلّ على لزوم إتمامها بعد عدم تحقق الإجماع إلاّ في العبادة المأتي بها في مقام الامتثال؟ فهذا الاحتياط لا منشأ له.

وأمّا المقام الثاني : فإن قلنا إن الشرط في الصلاة إنما هو الوضوء بحسب البقاء والاستمرار ، حيث قدمنا أن الطّهارة هي عين الوضوء وأن له بقاء واستمراراً في نظر الشارع واعتباره ، ومن هنا يسند إليه النقض في الروايات كما ورد في أن الوضوء لا ينقضه إلاّ ما خرج من طرفيك (١) وأنه مما لا ينتقض إلاّ بالنوم وغيره من النواقض بل قد صرّح ببقائه في بعض الأخبار كما في صحيحة زرارة حيث ورد أن الرجل ينام وهو على وضوء (٢). أو قلنا إن الشرط فيها الطّهارة المسببة عن الوضوء كما هو المعروف عندهم حيث يعدّون الطّهارة من مقارنات الصلاة كالاستقبال ، فلا ينبغي‌

__________________

(١) كما في صحيحة زرارة ، الوسائل ١ : ٢٤٨ / أبواب نواقض الوضوء ب ٢ ح ١.

(٢) الوسائل ١ : ٢٤٥ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١.


الإشكال في عدم جريان القاعدة في الوضوء لا في هذه المسألة وهي الشك فيه في أثناء الصلاة ولا في المسألة السابقة وهي ما إذا شك فيه بعد الصلاة.

وذلك لأن الشرط وهو الوضوء أو الطّهارة المقارنة للصلاة لم يتجاوز عنه المكلّف إذ التجاوز إما أن يكون تجاوزاً عن نفس الشي‌ء وهو إنما يعقل بعد إحراز وجوده ومع الشك في وجود الشي‌ء لا معنى للتجاوز عن نفسه ، وإما أن يكون التجاوز عن محلِّه وهو المعتبر في جريان القاعدة التجاوز ومحل الشرط المقارن إنما هو مجموع الصلاة ، فإذا شكّ فيه في أثنائها فلا يحكم بتجاوز محل الشرط فلا تجري فيه القاعدة كما لا تجري بالإضافة إلى الصلوات الآتية إذا شكّ في الوضوء بعد الصلاة كما في المسألة المتقدّمة ، لوضوح عدم تجاوز محل الشرط المقارن قبل الشروع فيه أو حينه.

وأما إذا قلنا إن شرط الصلاة هو الوضوء الحدوثي بشرط عدم تعقبه بالحدث ، فهل تجري قاعدة التجاوز في الوضوء حينئذ عند الشك فيه في أثناء الصلاة أو بعدها باعتبار أنه من الشرط المتقدّم وهو مما قد تجاوز محله أو لا تجري؟

التحقيق هو الثاني ، وذلك لأن الأمر الشرعي لا يتعلق بالشرط أبداً وإنما يتعلق بذات المشروط المتقيّد بالشرط كالصلاة المتقيّدة بالوضوء ولا يتعلق بنفسه ، وعليه فلا محل شرعي للشرط حتى يقال إن محله قد مضى. نعم للصلاة المقيّدة بالشرط محل شرعي دون شرطها ، لأنه ليس كالأجزاء المتعلّقة للأمر شرعاً كالركوع إذا شكّ فيه وهو ساجد مثلاً حتى يقال إن محله قد مضى وتجاوز ، نعم يجب إيجاد الوضوء قبل الصلاة عقلاً لتحصيل التقيد المأمور به في الصلاة إلاّ أنه لا محل شرعي له حتى لو قلنا بوجوب مقدّمة الواجب ، لأن الوجوب المقدمي لا أثر له وليس كالوجوب الضمني المتعلق بالأجزاء.

وهذا نظير ما ذكرناه في الشك في الإتيان بصلاة الظهر وهو في صلاة العصر ، حيث منعنا عن جريان قاعدة التجاوز في صلاة الظهر لأنها مما لا محل له شرعاً ، نعم تجب أن تكون صلاة العصر بعد صلاة الظهر وأما أن صلاة الظهر تجب أن تكون قبل‌


[٥٩٣] مسألة ٥٤ : إذا تيقن بعد الوضوء أنه ترك منه جزءاً أو شرطاً أو أوجد مانعاً ثمّ تبدل يقينه بالشك يبني على الصحّة عملاً بقاعدة الفراغ (١) ولا يضرّها اليقين بالبطلان بعد تبدّله بالشك ، ولو تيقّن بالصحّة ثمّ شكّ فيها فأولى بجريان القاعدة (٢).

______________________________________________________

العصر بأن يكون محلها قبل صلاة العصر فلا ، ومن هنا لو صلّى الظهر ولم يأت بصلاة العصر أصلاً وقعت الظهر صحيحة وإن لم تقع قبل العصر ، إذ لا عصر على الفرض (١). ونظير الدخول في التعقيبات المستحبّة ، حيث إن الدخول في المستحب إذا كان كافياً في صدق تجاوز المحل لا نلتزم بجريان القاعدة في الصلاة فيما إذا شكّ فيها وهو في التعقيبات ، وذلك لأن التعقيب وإن كان محله الشرعي بعد الصلاة إلاّ أن الصلاة ليس محلها قبل التعقيب حتى يقال إن محلها مما مضى وتجاوز حتى تجري القاعدة في الصلاة.

فتحصل أن قاعدة التجاوز لا مجرى لها في الوضوء قلنا بأنه شرط مقارن للصلاة أم أنه شرط متقدّم مشروطاً بأن لا يتعقبه حدث ، فعلى ما ذكرناه يرفع اليد عما بيده من الصلاة ويحصّل الوضوء ثمّ يستأنف الصلاة.

إذا تيقّن بالخلل بعد الوضوء ثمّ تبدّل يقينه بالشكّ‌

(١) للشكّ فعلاً في صحّة عمله الماضي وفساده وعدم اليقين بفساده بالفعل ، ولا دليل على حجيّة اليقين بحدوثه إذ لم يثبت اعتبار قاعدة اليقين ، ولا يقين بالفساد بحسب البقاء لتبدّله بالشك على الفرض.

(٢) ولعلّه أراد الأولوية بحسب مقام الثبوت ، لأن القاعدة لو جرت مع القطع بالفساد سابقاً لجرت مع القطع بالصحّة سابقاً بطريق أولى. وأما الأولوية بحسب مقام الإثبات فلا ، لأن شمول القاعدة لكلتا الصورتين بالإطلاق.

__________________

(١) يأتي في المسألة [٢٠٢٥] ، كذا ذكره في مصباح الأُصول ٣ : ٣١٦.


[٥٩٤] مسألة ٥٥ : إذا علم قبل تمام المسحات أنه ترك غسل اليد اليسرى أو شكّ في ذلك فأتى به وتمّم الوضوء ثمّ علم أنه كان غسله يحتمل الحكم ببطلان الوضوء (١) من جهة كون المسحات أو بعضها بالماء الجديد ، لكن الأقوى صحّته لأنّ الغسلة الثانية مستحبّة على الأقوى حتى في اليد اليسرى ، فهذه الغسلة كانت‌

______________________________________________________

لو علم بعدم غسل اليسرى وبعد الإتمام علم بغسلها

(١) الصحيح هو التفصيل في المسألة كما أفاده الماتن قدس‌سره حيث إنه لو كان قبل غسل يده اليسرى بعد الشك قد غسلها بالغسلة الوجوبية والغسلة الاستحبابية ، بحيث كان غسلها بعد الشك من الغسلة الثالثة التي هي محرمة وبدعة فلا مناص من الحكم ببطلان وضوئه ، وذلك لأنها وإن لم تحرم عليه تكليفاً حيث لم تصدر بالعمد والالتفات إلاّ أنها موجبة للبطلان لا محالة ، لما مرّ من أن المسح يعتبر أن يكون بالبلة الوضوئية الباقية في اليد ، والبلة التي مسح بها في مفروض المسألة ليست من بلة الوضوء بل بلة غسل خارجي محرم فيبطل وضوءه.

وأمّا إذا كان غسلها قبل غسلها بعد الشك غسلة واحدة وجوبية ، بحيث كان غسلها بعد الشك من الغسلة الثانية المستحبة في الوضوء فيحكم بصحّة وضوئه ، لأن البلة حينئذ من بلة الغسلة الوضوئية المستحبّة ، ولا يحتمل فيه البطلان إلاّ من جهتين :

إحداهما : أن ما أتى به من الغسلة كانت مستحبة وهو قد أتى بها بعنوان الوجوب. إلاّ أنك عرفت فيما سبق أن الوجوب والاستحباب لا يتميزان إلاّ بانضمام الترخيص في الترك إلى الأمر وعدمه ، وإلاّ فالمنشأ فيهما في نفسهما شي‌ء واحد فقد تخيّل وجوبه وكان مستحباً واقعاً فهو من الخطأ في التطبيق غير المضر في صحّة العمل. وقد أسلفنا سابقاً أن الأمر في هذه الموارد أمر واحد شخصي غير قابل للتقييد حتى يأتي به مقيّداً بالاستحباب أو الوجوب ، بل غاية ما هناك أنه أتى به بداعي الوجوب ثمّ تبيّن استحبابه فهو من تخلف الداعي غير المبطل للعبادة. وبعبارة اخرى : أن العبادة يعتبر‌


مأموراً بها في الواقع فهي محسوبة من الغسلة المستحبّة ، ولا يضرّها نيّة الوجوب ، لكن الأحوط إعادة الوضوء لاحتمال اعتبار قصد كونها ثانية في استحبابها ، هذا ولو كان آتياً بالغسلة الثانية المستحبّة وصارت هذه ثالثة تعيّن البطلان لما ذكر من لزوم المسح بالماء الجديد.

______________________________________________________

فيها إتيان ذات العمل وإضافتها إلى الله ، والمفروض أنه أتى بذات الغسلة الثانية وقد أضافها إلى الله سبحانه على الفرض ومعه يحكم بصحّتها.

وثانيتهما : أنا نحتمل أن يكون متعلق الأمر الاستحبابي خصوص الغسلة الثانية التي قصد بها عنوان الغسلة الثانية وأنه لم يتعلق بطبيعي الغسلة الثانية ، وحيث إنه لم ينو بها ولم يقصد بها الغسلة الثانية فلم تقع مصداقاً للمستحب كما أنها ليست مصداقاً للواجب فتقع باطلة ، والمسح بها مسح ببلة ماء خارجي فيحكم ببطلان الوضوء.

وهذا المعنى وإن كان محتملاً في نفسه إلاّ أنه مردود :

أوّلاً : بإطلاقات الأخبار الآمرة بالغسلة الثانية استحباباً ، لأن مقتضى إطلاقها أن كل غسلة كانت مصداقاً للغسلة الثانية في الخارج محكوم بالاستحباب قصد بها عنوانها أم لم يقصد.

وثانياً : لو أغمضنا النظر عن إطلاق الأدلّة فمقتضى البراءة عدم اعتبار قصد عنوان الثانية في الغسلة الثانية المستحبة في الوضوء ، وذلك لا بإجراء البراءة في المستحب ليقال إنكم منعتم عن جريانها في المستحبات حيث لا ضيق فيها ، بل بإجرائها عن تقيد متعلق الأمر الوجوبي وهو الوضوء بعدم غسلة ثانية لم يقصد بها عنوانها حتى توجب بطلانه ، فالغسلة الثانية غير مبطلة للوضوء قصد بها عنوانها أم لم يقصد ، فلا محالة تكون متصفة ومحكومة بالاستحباب والبلة بلة غسلة استحبابية فلا يكون موجباً لبطلان الوضوء ، وإن كان الأحوط إعادة الوضوء للاحتمال المذكور.


فصل

في أحكام الجبائر

وهي الألواح الموضوعة على الكسر والخرق والأدوية الموضوعة على الجروح

______________________________________________________

فصل في أحكام الجبائر‌

إن من كان على موضع من مواضع وضوئه كسر أو قرح أو جرح وقد وضع عليه جبيرة يجب أن يمسح على الجبيرة على تفصيل يأتي عليه الكلام إن شاء الله تعالى. وقبل الشروع في مسائل الجبيرة ننبه على أُمور.

تنبيهات المسألة :

الأوّل : أن مقتضى القاعدة الأولية وجوب التيمم على من لم يتمكن من الوضوء أو الغسل ، لثبوت بدليته عنهما بالكتاب والسنّة ، لأن التراب أحد الطهورين وقد قال الله سبحانه ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) (١) فلولا الأخبار الواردة في كفاية غسل الجبيرة أو مسحها لحكمنا بانتقال الفريضة حينئذ إلى التيمم لعجز المكلّف عن الوضوء أو الغسل ، وإنما رفعنا اليد عن ذلك بالأدلّة الدالّة على كفاية مسح الجبيرة ، وعليه فلا بدّ من الاقتصار على كل مورد ورد فيه الدليل بالخصوص على كفاية المسح على الجبيرة ، وفي غيره لا مناص من الحكم بوجوب التيمم كما عرفت.

نعم لو قلنا بتمامية قاعدة الميسور وأن الميسور من كل شي‌ء لا يسقط بمعسوره لانعكس الحال في المقام وكان مقتضى القاعدة الأولية تعيّن مسح الجبيرة من غير أن يجب عليه التيمم ، لأن الطّهارة المائية متقدّمة على الطّهارة الترابية ، وحيث إن المكلّف‌

__________________

(١) النساء ٤ : ٤٣ ، المائدة ٥ : ٦.


والقروح والدماميل ، فالجرح ونحوه إما مكشوف أو مجبور ، وعلى التقديرين إما في موضع الغسل أو في موضع المسح ، ثمّ إما على بعض العضو أو تمامه أو تمام الأعضاء ، ثمّ إمّا يمكن غسل المحل أو مسحه أو لا يمكن ، فإن أمكن ذلك‌

______________________________________________________

متمكن من الوضوء الناقص فلا يسقط وجوب الميسور منه بتعذر المعسور منه ، لأنّ المتعذر إنما هو مسح جميع الأعضاء وأما مسح بعضها فلا ، فالوضوء الناقص منزل منزلة الوضوء التامّ بتلك القاعدة. فمقتضى القاعدة الأولية في موارد الجبيرة هو الوضوء الناقص ومسح الجبيرة من غير أن تنتقل الفريضة إلى التيمم ، لتأخر الطّهارة الترابية عن الطّهارة المائية.

إلاّ أنا ذكرنا في محلِّه أن الأخبار الواردة في تلك القاعدة غير تامّة للمناقشة في سندها أو في دلالتها (١) ، نعم في العمومات الانحلالية لا مناص من الالتزام بتلك القاعدة إلاّ أنه لا من جهة ثبوتها تعبّداً بل من جهة ثبوتها عقلاً ، لاستقلال العقل بأن وجوب امتثال كل حكم إنما يتبع قدرة المكلّف لمتعلقه لا لقدرته على متعلق حكم آخر ، فإذا كان زيد مديوناً لعمرو خمسة دراهم ولم يتمكّن إلاّ من ردّ درهم واحد وجب ردّه لتمكّنه من امتثال الأمر بردّه وإن لم يتمكّن من امتثال الأمر برد غيره من الدراهم ، وهكذا في غيره من موارد الانحلال. وأمّا في المركّبات والمقيّدات فلم يقم دليل على وجوب مقدار منهما إذا تعذّر بعض أجزائها.

نعم لو تمّت رواية عبد الأعلى مولى آل سام في رجل عثر فوقع ظفره وجعل على إصبعه مرارة كيف يمسحها؟ قال : يعرف حكم هذا وأشباهه من كتاب الله سبحانه وهو قوله ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) امسح على المرارة (٢) ، لقلنا بثبوت قاعدة الميسور ولو في خصوص الوضوء ، وذلك لأنّ المتعذر إنما هو خصوصية المسح على البشرة وأمّا مطلق المسح فهو غير متعذر في مورد الرواية ، ومن هنا أمره بالمسح‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٤٧٧.

(٢) الوسائل ١ : ٤٦٤ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٥.


على المرارة وقال : إنه وأشباهه يعرف من كتاب الله. فتدلّ على أن الوظيفة في جميع هذه الموارد هو المسح على الجبيرة من دون أن ينتقل الأمر إلى التيمم. إلاّ أن الرواية ضعيفة السند كما أن دلالتها كذلك ، وذلك لأن المسح على المرارة مما لا يعرف من كتاب الله قطعاً ، لأن العرف لا يرى المسح على المرارة ميسوراً من المسح على البشرة بل يراهما متعدِّداً ، ومن هنا لو تعذّر المسح على الجبيرة والمرارة أيضاً لم يتوهّم أحد وجوب المسح على الحائط مثلاً بدعوى أن المتعذر إنما هو خصوصية المسح على المرارة وأمّا أصل المسح ولو بالمسح على الجدار فهو أمر ممكن ، ولعلّه ظاهر ، وإنما يعرف منه سقوط الأمر بمسح البشرة لتعذّره وأمّا أن المسح على المرارة واجب فممّا لا يمكن استفادته من الكتاب ، فقوله عليه‌السلام : امسح على المرارة. على تقدير صحّة الرواية حكم خاص أنشأه الإمام عليه‌السلام في مورده ، ولا دليل على التعدِّي منه إلى غيره.

فالمتحصل من ذلك : أن مقتضى القاعدة الأولية في موارد الجبيرة هو التيمم ، ففي كل مورد ثبت كفاية غسل الجبيرة أو المسح عليها فهو وإلاّ فلا بدّ من الحكم بوجوب التيمم بمقتضى الكتاب والسنّة.

الأمر الثاني : أن في موارد الجبيرة إذا أمكن غسل البشرة أو مسحها برفع الجبيرة من غير أن يكون في وصول الماء إليها ضرر ولا في رفع الجبيرة وشدّها حرج ومشقة ، فلا إشكال في وجوب غسل البشرة أو مسحها برفع الجبيرة بمقتضى أدلّة وجوبهما ، فإن الأخبار الواردة في الجبائر الآمرة بالمسح على الجبيرة إنما هي فيما إذا كان في وصول الماء إلى البشرة ضرر متوجه إلى المكلّف ، ومع عدمه فلا تشمله الأخبار فيتعيّن غسلها ولعله ظاهر.

وأما إذا كان في حل الجبيرة وشدّها مشقّة ولم يكن في وصول الماء إلى البشرة ضرر ، فهل يكفي جعل موضع الجبيرة في الماء وارتماسه فيه حتى يصل الماء إلى تحتها وهو البشرة أو لا بدّ من المسح على الجبيرة؟ أما إذا كانت الجبيرة في مواضع المسح فجعل موضع الجبيرة في الماء مما لا إشكال في عدم كفايته ، لأن الواجب هو المسح‌


بلا مشقّة ولو بتكرار الماء عليه حتى يصل إليه لو كان عليه جبيرة أو وضعه (*) في الماء حتى يصل إليه بشرط أن يكون المحل والجبيرة طاهرين أو أمكن تطهيرهما وجب ذلك ، وإن لم يمكن إما لضرر الماء أو للنجاسة وعدم إمكان التطهير (**)

______________________________________________________

ولا يتحقق المسح بوصول الماء إلى البشرة. وأما إذا كانت الجبيرة في مواضع الغسل وفرضنا تحققه برمس موضع الجبيرة في الماء بأن تحقق به مفهوم الغسل أعني جريان الماء على البشرة ولو بأدنى مرتبة منه ، فظاهر جماعة ومنهم الماتن قدس‌سره كفايته ووجوبه.

والتحقيق : أن غسل الموضع إذا كان ممكناً مع التحفظ على الترتيب المعتبر في الوضوء أعني غسل العضو من الأعلى إلى الأسفل كما إذا كان متمكناً من رفع الجبيرة ، فلا إشكال في تعينه ولزوم رفعها مقدّمة لتحقق الغسل المعتبر في الوضوء وكما إذا لم يكن عليه جبيرة أصلاً فإنّ الغسل وإيصال الماء إلى البشرة مترتباً معتبر في الوضوء ، كان على الموضع جبيرة أم لم يكن ، فعلى تقدير وجودها يتعيّن رفعها مقدّمة. وأمّا إذا لم يمكن غسله مع الترتيب ففي كفاية وضع الموضع على الماء ووصول الماء إلى البشرة ولو مع تحقق مفهوم الغسل إشكال ، لعدم حصول الترتيب المعتبر معه.

وأمّا ما قد يتوهّم في المقام من الاستدلال على كفاية وضع المحل في الماء وإن فاته الترتيب المعتبر في الوضوء بموثقة عمار أو إسحاق بن عمار ، حيث أسندها إلى كل منهما في الوسائل عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في الرجل ينكسر ساعده أو موضع من مواضع الوضوء فلا يقدر أن يحلّه لحال الجبر إذا جُبّر كيف يصنع؟ قال : إذا أراد أن يتوضأ فليضع إناء فيه ماء ويضع موضع الجبر في الماء حتى يصل الماء إلى جلده‌

__________________

(*) الاكتفاء به مع عدم حصول الترتيب محل إشكال ، بل الأظهر رعاية الترتيب حينئذ.

(**) الظاهر أنه لا يجري حكم الجبيرة عند عدم إمكان تطهير المحل النجس بلا ضرر في الغسل بل يتعين فيه التيمم.


وقد أجزأه ذلك من غير أن يحلّه » (١) حيث دلّت على كفاية جعل موضع الجبر في الماء مع فوات الترتيب المعتبر في الوضوء. فيدفعه : أن الرواية وإن نقلت على الكيفية المتقدّمة في الوسائل ، وقال بعد نقلها : إن الشيخ رواها بهذا الاسناد عن إسحاق بن عمار مثله. إلاّ أن صاحب الحدائق رواها في الحدائق على نحو آخر حيث بدل قوله : « فلا يقدر أن يحله » بقوله : فلا يقدر أن يمسح عليه (٢). والموجود في كتاب الشيخ في هذا الموضوع هو الثاني (٣) الذي نقله صاحب الحدائق قدس‌سره. ولعل الاختلاف من جهة تعدد الروايتين وكون إحداهما عن عمار والأُخرى عن إسحاق بن عمار وصاحب الوسائل قد عثر على ما نقله الشيخ قدس‌سره في مورد آخر.

وكيف كان ، فالموجود في الرواية ليس هو تعذر حل الجبيرة بل تعذر المسح على البشرة ، فعلى تقدير أن ما رواه صاحب الحدائق هو الأصح تدلّ الرواية على أن من لم يتمكّن من غسل مواضع الغسل بمسحها كما هو العادة لبداهة عدم وجوب المسح في اليد والساعد يجب أن يجعل موضع الجبر في الماء حتى يصل الماء إلى بشرته ، ولا تنظر الرواية إلى سقوط اعتبار الترتيب وقتئذ ، لأنه من الجائز أن يكون وصول الماء إلى البشرة مع مراعاة الترتيب أي بغسل الأعلى إلى الأسفل. هذا كله فيما إذا تمكن من جعل موضع الجبر في الماء ، وأما إذا لم يتمكن من ذلك أيضاً فلا إشكال في تعيّن غسل الجبيرة أو مسحها كما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى (٤).

الأمر الثالث : أن عدم التمكّن من إيصال الماء إلى البشرة يتسبب من أُمور :

أحدها : تضرّر المحل بوصول الماء إليه كما هو الحال في الكسر وفي أغلب الجروح والقروح. ولا إشكال حينئذ في انتقال الوظيفة إلى مسح الجبيرة ، وهو الغالب في الأسئلة والأجوبة في الروايات كما أنه مورد صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٦٥ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٧.

(٢) الحدائق ٢ : ٣٨١.

(٣) التهذيب ١ : ٤٢٦ / ١٣٥٤ ، الإستبصار ١ : ٧٨ / ٢٤٢.

(٤) في ص ١٥٤.


( عليه‌السلام ) الآمرة بمسح الخرقة الموضوعة على القرحة إذا كان يؤذيه الماء أي يضرّه (١).

وثانيها : تضرّره بتطهيره ومقدّمات غسله وإن لم يتضرر بمجرد وصول الماء إليه وبنفس غسله ، لأن تطهيره يتوقف على صب الماء الكثير لإزالة الدماء وغيرها من النجاسات الموجودة فيه وهو يستلزم نفوذ الماء فيه فيتضرّر به ، وهذا بخلاف مجرّد غسله حيث لا يتضرّر به لقلّة الماء وسرعة مروره عليه. وفي هذه الصورة أيضاً لا بدّ من مسح الجبيرة لأن القروح والجروح بحسب الغالب متنجسة بالدم ، وإزالته تستلزم الضرر وإن لم يكن مجرّد وصول الماء إليه موجباً للضرر ، ولا يوجد جرح من غير الدم إلاّ قليلاً هذا. على أنه مورد صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج حيث قال : « ويدع ما سوى ذلك مما لا يستطيع غسله ولا ينزع الجبائر ويعبث بجراحته » (٢) لأنه في مفروض المسألة لا يستطيع من غسل الجراحة ، فإن مقدماته وهي إزالة نجاستها ضررية وهي عبث ولعب بالجراحة.

وثالثها : نجاسة المحل من غير أن يكون غسل الجرح ولا مقدّمته وهو تطهير أطرافه ونفسه ضرريّاً في حقه. وهذا يتصور بوجوه ، فقد يستند ذلك إلى ضيق الوقت بحيث لا يسع لتطهيره وغسله للوضوء. وأُخرى يستند إلى قلّة الماء وإن كان الوقت متسعاً إلاّ أن الماء لا يسع لتطهيره ثمّ التوضؤ به ، لأنه لو طهره لم يبق له ماء للوضوء. وثالثة يستند إلى عدم القدرة على حل الجبيرة أو غيرها مما يمنع عن وصول الماء إلى تحته وإن كان لا يضره الماء على تقدير وصوله إليه كما في الكسير ، حيث لا يتمكن من حل جبيرته ونزعها حتى يصل الماء تحتها ، فهل يجب عليه أن يمسح الجبيرة في هذه الصورة أيضاً أو ينتقل أمره إلى التيمم؟

قد يقال بمسح الجبيرة حينئذ كما عن جماعة ومنهم الماتن قدس‌سره إلاّ أنه مما‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٦٣ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٢.

(٢) الوسائل ١ : ٤٦٣ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ١.


لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأن مورد الأخبار الواردة في مسح الجبائر بين ما كان وصول الماء إلى البشرة موجباً للضرر وبين ما كان مقدّمة غسلها ضررية كما في الصورتين المتقدمتين ، ولم يرد نص على مسح الجبيرة فيما إذا كانت البشرة نجسة من غير أن يكون في غسلها ولا في مقدّمته ضرر ، فلو صحّ المسح على الجبيرة حينئذ لصح المسح عليها في غير موارد الجرح أيضاً ولم يختص به ، كما إذا أصابت قطرة نجس على أحد مواضع وضوئه ولم يتمكّن من إزالتها من غير أن يكون الموضع كسيراً أو مجروحاً ، فهل يتوهّم أحد كفاية المسح على الجبيرة حينئذ؟! لوضوح أن الوظيفة هي التيمم وقتئذ لعدم تمكن المكلّف من الماء ولم يقل أحد بجواز المسح على الخرقة حينئذ ، وحيث إن المورد مما لم ينص على جواز المسح فيه على الجبيرة فلا مناص من الرجوع إلى الأصل الذي أسسناه في المسألة وهو وجوب التيمم فيما لم ينص على كفاية المسح فيه على الجبيرة هذا.

وقد يتوهّم استفادة كفاية المسح في المقام من صحيحة عبد الله بن سنان « عن الجرح كيف يصنع به صاحبه؟ قال عليه‌السلام : يغسل ما حوله » (١) نظراً إلى أن السؤال فيها عن الجرح وهو مشتمل على النجاسة غالباً ، ولأجل نجاسة المحل لم يأمره بغسله ولا بالتيمم بل أمر بغسل ما حوله.

ولا يخفى أن الرواية والسؤال فيها ناظران إلى نفس الجراحة بما هي ولا نظر فيها إلى عوارضها كالنجاسة بوجه وإنما سئل فيها عن نفس الجرح ، والمستفاد بحسب المتفاهم العرفي من السؤال عن الجرح إنما هو تضرره بالماء أو بغيره ، فقد دلّت الرواية على أن الجرح إذا كان غسله موجباً للضرر يجب غسل ما حوله ، ولا دلالة لها على كفاية المسح على الجبيرة عند نجاسة المحل بالجرح أو بغيره. فهذه الصورة لم ينص على مسح الجبيرة فيها فلا بدّ فيه من التيمم.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٦٤ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٣.


أو لعدم إمكان إيصال الماء تحت الجبيرة ولا رفعها فإن كان مكشوفاً (*) (١)

______________________________________________________

أحكام الجرح المكشوف‌

(١) شرع قدس‌سره في أحكام الجرح المكشوف وحكم بوجوب المسح على نفس الجرح إذا لم يكن فيه ضرر وإلاّ فيمسح على خرقة يضعها على الجرح ، فلو لم يمكن ذلك أيضاً لضرره حكم بوجوب غسل ما حوله ، ولكن الأحوط أن يضمّ إليه التيمم أيضاً.

أما ما أفاده قدس‌سره من مسح نفس الجرح وإلاّ فيمسح ما وضعه عليه من الخرقة فهو يبتني على أن مسح البشرة ميسور لغسلها المعسور بالنظر العرفي كما أن مسح الخرقة ميسور الغسل المتعذر حسب المتفاهم عندهم ، وحيث إن الميسور لا يسقط بالمعسور فيجب المسح على البشرة أوّلاً وإلاّ فمسح الخرقة ومع تعسرهما يغسل أطرافه ويضمّ إليه التيمم ، لذهابهم إلى أن الطّهارة لا تتبعض.

ولكن فيما أفاده من أوّله إلى آخره مجال للمناقشة ، وذلك لأن مسح البشرة ليس مرتبة ضعيفة عن غسلها فلا يعد ميسوراً للغسل بالنظر العرفي ، بل هما متقابلان وأحدهما غير الآخر ، اللهمّ إلاّ أن يجري الماء بمسحه من جزء إلى جزء آخر ، إلاّ أنه خارج عن مفروض الكلام لأنه غسل حقيقة وكلامنا في المسح هذا. ثمّ على تقدير تسليم ذلك لا ينبغي التردد في أن مسح جسم خارجي من جلد أو قرطاس أو خرقة ليس من المراتب النازلة لغسل البشرة فكيف يعد ميسوراً بالنظر العرفي من الغسل المتعسر؟! نعم إذا كانت الخرقة موضوعة من الابتداء وقبل الوضوء أعني بها الجبيرة فلا إشكال في كفاية مسحها للروايات. على أن الاعتبار أيضاً يساعد على ذلك ، لأن الخرقة المشدودة على البشرة معدودة من توابع الجسد وملحقاته فالمسح عليها كالمسح على الجسد ، هذا كله بحسب الصغرى.

__________________

(*) لا يبعد تعين التيمم حينئذ في الكسير.


وأمّا كبرى ما أفاده فقد مرّ غير مرّة أن قاعدة الميسور لم تتم لضعف رواياتها سنداً أو دلالة ، نعم لو تمّت رواية عبد الأعلى (١) سنداً ودلالة بأن قلنا إن المسح على المرارة ميسور من غسل البشرة المعسور على الفرض لحكمنا بجواز المسح على الخرقة في المقام أيضاً ، لدلالتها على أن ذلك حكم يستفاد من كتاب الله في مورد الرواية وأشباهه. إلاّ أنها ضعيفة السند والدلالة كما مرّ ، وعليه فالمتعيّن هو الأخذ بإطلاق صحيحة عبد الله بن سنان المتقدّمة الآمرة بغسل ما حول الجرح فحسب سواء تمكن من مسح الجرح أو الخرقة أم لم يتمكن ، إذ لو كان مسح الجرح أو الخرقة واجباً لتعرضت إليه لا محالة ، وحيث أنها مطلقة لترك الاستفصال فيها فلا مناص من الاكتفاء بغسل أطرافه فحسب.

وأمّا ما أفاده من ضمّ التيمم إلى الوضوء بغسل أطراف الجرح فالظاهر أن وجهه أن الأمر حينئذ يدور بين المتباينين ، لأنه إما أن يجب عليه الوضوء الناقص أعني غسل ما حول الجرح فقط ويسقط عنه غسل موضع الجرح ومسحه والمسح على الخرقة بالتعذر كما هو المفروض ، وإما أن يجب عليه التيمم لأنه فاقد للماء وغير متمكن من الوضوء التام ، ولأجل دوران الأمر بينهما وهما متباينان حكم بوجوب غسل ما حول الجرح وقال : الأحوط ضمّ التيمم إليه.

إلاّ أن الصحيح الاقتصار على وجوب غسل أطراف الجراحة فقط ، وذلك لأنا إن بنينا على أن الأخبار الآمرة بغسل ما حول الجرح أو القرحة مطلقة وأنها في مقام البيان كما هو الصحيح فلا محالة نحكم بمقتضى إطلاقها على أن صاحب القرحة أو الجراحة المكشوفة يغسل ما حولها فقط ، سواء كان متمكناً من مسح الجراحة أو مسح الخرقة أم لم يتمكن ، وذلك لإطلاق الأخبار وورودها في مقام البيان وعدم استفصالها بين التمكن من المسح وعدمه ، لأنها حينئذ كالتخصيص في أدلّة وجوب‌

__________________

(١) تقدّمت في ص ١٤٤.


يجب غسل أطرافه ووضع خرقة طاهرة (*) عليه والمسح عليها مع الرطوبة ، وإن أمكن المسح عليه بلا وضع خرقة تعين ذلك إن لم يمكن غسله كما هو المفروض وإن لم يمكن وضع الخرقة أيضاً اقتصر على غسل أطرافه ، لكن الأحوط ضمّ التيمّم إليه (**) ،

______________________________________________________

الغسل في الوضوء كما لا يخفى ، بل نلتزم حتى مع قطع النظر عن الأخبار الواردة في كفاية المسح على الجبيرة في المجبور ، لأنها إذا لم تكن موجودة أيضاً كنا نلتزم بذلك في الجرح المكشوف بمقتضى إطلاق الروايات.

وأمّا إذا بنينا على عدم الإطلاق فيها بدعوى أنها وردت لبيان وجوب غسل الأطراف في الجملة ، وأما أنه كذلك حتى مع التمكن من المسح فلا لعدم كونها بصدد البيان من تلك الجهة فهي مجملة ، فلا مناص من الحكم بوجوب التيمم في مفروض المسألة ، وذلك لأنا نحتمل اختصاص تلك الأخبار الآمرة بغسل ما حول الجراحة بمن كان متمكناً من مسح الجرح أو الخرقة دون من كان عاجزاً عنه كما هو مفروض الكلام ، وحيث لا إطلاق للأخبار على الفرض فلا نص على كفاية الوضوء الناقص في من به جرح مكشوف فوظيفته التيمم لأنه فاقد الماء.

فعلى ما ذكرناه يدور الأمر في أمثال المقام بين وجوب غسل الأطراف فقط مطلقاً ولو مع التمكّن من المسح وبين وجوب التيمم ، وحيث إنا بنينا على إطلاق الروايات الآمرة بغسل ما حول الجرح أو القرحة فلا محالة يتعين الحكم بكفاية الوضوء الناقص في من كان به جرح مشكوف مطلقاً ، سواء تمكن من المسح أم لم يتمكّن ، فلا وجه لضمّ التيمم إليه ، هذا كلّه فيما إذا كان المكشوف هو الجرح أو القرح.

__________________

(*) على الأحوط الأولى ، ومع التمكن من المسح على البشرة فالأولى الجمع بين المسحين.

(**) لا بأس بتركه.


أحكام الكسر المكشوف

وأمّا الكسر المكشوف فهل يأتي فيه ما ذكرناه في القرحة المكشوفة فيجب عليه غسل ما حوله فقط من غير مسح موضع الكسر ولا الخرقة ولا ضمّ التيمم إليه على ما ذكرناه ، أو هو مع مسح الموضع أو الخرقة أو ضمّ التيمم إليه على ما ذكره الماتن قدس‌سره أو أن الوظيفة حينئذ هي التيمم فحسب؟

ظاهر المتن كبعضهم أن حكمه حكم الجرح المكشوف فيمسح المحل إن تمكن وإلاّ فيمسح على الخرقة التي يجعلها عليه وإلاّ فيغسل أطرافه ويضم التيمم إليه ، بل ظاهر بعض الكلمات أن الأعذار المانعة عن وصول الماء إلى غيره من مواضع الوضوء مطلقاً كذلك وإن لم يكن هناك جرح أو كسر ، كما إذا كان جرحه بحيث يتألم من وصول الماء إلى موضع معيّن من وجهه أو الرمد المانع من وصول الماء إلى ظاهر عينه ، فإنه يمسح ذلك المحل أو الخرقة إن أمكن وإلاّ فيكتفي بغسل أطرافها ويضمّ التيمم إليه هذا.

ولكن الصحيح اختصاص ذلك الحكم بالجرح أو القرحة المكشوفتين ، وذلك لاختصاص الأخبار الآمرة بغسل ما حوله بهما أي بصاحب الجرح أو الفرح ولا نص على ذلك في الكسر المكشوف ، نعم ورد الأمر بغسل أطراف الكسر وأنه لا يعبث بجراحته (١) إلاّ أنه مختص بالمجبور دون المكشوف ، بل الوظيفة التيمم حينئذ لعدم تمكنه من الوضوء التام ، وقد عرفت أن الأصل الأوّلي في من عجز عن الوضوء التام هو التيمم إذا لم يرد فيه نص على كفاية الوضوء الناقص ، بل قد ورد الأمر بالتيمم في الكسر بدلاً عن الجنابة كما يأتي وإنّما خرجنا نحن عن مقتضاه في الكسر المجبور بالروايات على ما يأتي عليه الكلام إن شاء الله تعالى (٢). ومن ذلك يظهر الحال في بقيّة الأعذار التي يضرّها الماء ، فإن الفرض في مثلها التيمم لعدم تمكن المكلّف من الوضوء التام ، هذا كلّه إذا كان الجرح أو الكسر المكشوفين في مواضع الغسل.

__________________

(١) كما في ذيل صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج. الوسائل ١ : ٤٦٣ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ١.

(٢) في ص ١٩٦ ١٩٧.


وإن كان في موضع المسح ولم يمكن المسح عليه كذلك يجب وضع خرقة طاهرة (*) والمسح عليها بنداوة (١) ، وإن لم يمكن سقط وضمّ إليه التيمم (٢) وإن كان مجبوراً وجب غسل أطرافه مع مراعاة الشرائط والمسح على الجبيرة (٣) إن كانت طاهرة

______________________________________________________

الكسر في موضع المسح‌

(١) هذا أيضاً لا دليل عليه ، لأن المسح على الخرقة الأجنبية ليس ميسوراً للمسح على البشرة ، ولم يدلّ دليل على كفاية المسح عليها في المسح الواجب في الوضوء لو سلمنا أنه ميسور من المسح المعسور ، نعم إذا كانت الخرقة موجودة من الابتداء بأن كان الجرح مجبوراً لكفى المسح عليها من المسح الواجب بمقتضى الأخبار.

(٢) وفيه : أنه لا موجب لوجوب الوضوء الناقص وضمّ التيمم إليه ، بل الوظيفة حينئذ هو التيمم من الابتداء لذلك الأصل المؤسس في أوّل المسألة ، حيث قلنا إن لم يتمكن من الوضوء التام يجب عليه التيمم إلاّ أن يقوم دليل على كفاية الوضوء الناقص في حقّه وهو مفقود في المقام ، نعم إذا تمكن من المسح على نفس الجرح أو القرح تعيّن ، لأنه في موضع المسح الواجب ولأجل تمكنه منه يجب أن يمسح عليه.

الجبيرة وأقسامها وأحكامها‌

(٣) وتفصيل الكلام في المقام أن الجبيرة إما أن تكون في موضع الغسل كالوجه واليدين وإما أن تكون في موضع المسح كالناصية والرجلين.

أمّا إذا كانت في مواضع الغسل فمقتضى صحيحة الحلبي (٢) وغيرها من الأخبار الواردة في المقام أنه يغسل أطراف الجبيرة ويمسح عليها بدلاً عن غسل البشرة التي تحتها ، وفي ذيل بعضها أن لا ينزع الخرقة ولا يعبث بجراحته (٣). بلا فرق في ذلك بين‌

__________________

(*) على الأحوط الأولى ، والأقوى تعيّن التيمم عليه.

(١) الوسائل ١ : ٤٦٣ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٢.

(٢) وهي صحيحة عبد الرّحمن المتقدِّمة في ص ١٤٨.


أو أمكن تطهيرها وإن كان في موضع الغسل ، والظاهر عدم تعيّن المسح (*) حينئذ فيجوز الغسل أيضاً ، والأحوط إجراء الماء عليها مع الإمكان بإمرار اليد من‌

______________________________________________________

الجبيرة في مواضع الكسر وبين مواضع الجرح والقرح ، بل القرح لا تحتاج إلى دليل خاص لأن الجرح يشمله بعمومه ، لأن القرحة هي الجرح المشتمل على القيح كالجروح المسببة عن المواد المقتضية في البدن ، والجرح أعم مما فيه قيح وما لا قيح فيه كالجرح بالسكين ونحوه.

وأمّا إذا كانت في مواضع المسح ولا بدّ من فرضه فيما إذا كانت الجبيرة مستوعبة للعضو ، إذ لو كان بقي منه شي‌ء يتحقق به المسح الواجب وجب مسح نفس البشرة لتمكنه منه وهو خارج عن محل الكلام ، إذ البحث فيما إذا لم يتمكن من المسح الواجب على البشرة فأيضاً لا بدّ من مسح الجبيرة فإنه يجزئ عن مسح البشرة ، وهذا لا لرواية عبد الأعلى مولى آل سام حيث أمره عليه‌السلام بمسح المرارة الموضوعة على إصبعه وظفره (٢) وذلك لأنها ضعيفة السند ومخدوشة بحسب الدلالة ، بل للأولوية العرفية ، لأن العرف إذا القي إليه أن المسح على الجبيرة يكفي عن غسل البشرة فيستفيد منه أن المسح عليها يكفي عن مسح البشرة بطريق أولى. وعلى الجملة إن المسح إذا كان كافياً عن غسل البشرة فهو كاف عن مسحها أيضاً بالأولوية.

ويدلّنا على ذلك ما ورد في صحيحة الحلبي من قوله : « أو نحو ذلك من مواضع الوضوء » (٣) حيث عطفه على قوله : « في ذراعه » فإنه يشمل ما إذا كانت القرحة في مواضع المسح ، فقد دلّت على أنه في هذه الموارد يمسح على الخرقة. وأمّا ما في ذيلها من قوله عليه‌السلام : « وإن كان لا يؤذيه الماء فلينزع الخرقة ثمّ ليغسلها » ‌

__________________

(*) بل الظاهر تعينه وعدم إجزاء الغسل عنه.

(١) الوسائل ١ : ٤٦٤ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٥.

(٢) الوسائل ١ : ٤٦٣ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٢.


دون قصد الغسل أو المسح ، ولا يلزم أن يكون المسح بنداوة الوضوء إذا كان في‌

______________________________________________________

حيث إن الضمير في « ليغسلها » راجع إلى الذراع ، فهو غير مناف لما ذكرناه ، لأنه من جهة أن مورد الرواية هو القرحة في الذراع لا من جهة اختصاص الحكم بمسح الخرقة بمواضع الغسل.

وإن شئت قلت : إن الغسل فيها بالمعنى الأعم من المسح ، ومعناه أنه يغسلها أي الخرقة في مواضع الغسل ويمسح عليها في مواضع المسح كما يدلّ عليه صحيحة كليب الأسدي ، حيث ورد فيها أنه « إن كان يتخوف على نفسه فليمسح على جبائره » (١) لوضوح أنها كما تشمل الجبيرة في مواضع الغسل كذلك يشملها في مواضع المسح. على أنه لم ينقل خلاف في جواز المسح على الجبيرة إذا كانت في مواضع المسح عند عدم تمكّنه من إيصال الماء إلى البشرة.

جهات المسألة :

ثمّ إن في المسألة جهات من الكلام :

الاولى : أن المكلّف إذا لم يتمكن من مسح البشرة في الجبيرة في مواضع الغسل فلا كلام في تعيّن المسح على الجبيرة كما عرفت ، وأمّا إذا تمكن من مسح البشرة بنزع الجبيرة فهل يتعيّن عليه مسح البشرة بدلاً عن غسلها ولا يجزئ مسح الجبيرة حينئذ أو يجب عليه مسح الجبيرة كما إذا لم يتمكن من مسح البشرة؟ ذكر الماتن أن المسح على البشرة هو المتعيّن على الأحوط بل لا يخلو عن قوّة ثمّ احتاط بالجمع بين المسح على الجبيرة وعلى المحل.

إلاّ أن ما أفاده قدس‌سره خلاف ظواهر الأخبار ومما لا مساغ له ، لأن الأخبار الآمرة بالمسح على الخرقة والجبيرة مطلقة وغير مقيّدة بما إذا لم يتمكن من‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٦٥ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٨.


المسح على البشرة فلا يمكن المصير إليه ، فإنها ظاهرة في أن مسح الجبيرة واجب تعييني لا أنه مخيّر بين المسح على الجبيرة أو البشرة لا مع التمكن من مسح البشرة ولا مع عدمه. فما أفاده قدس‌سره مما لا يمكن المصير إليه ، فإنه لا يتم إلاّ على وجه اعتباري وهو أن المسح على نفس العضو أقرب إلى غسله من المسح على أمر خارجي وهو الجبيرة ، إلاّ أن الوجه الاعتباري لا يمكن الاعتماد عليه في قبال الروايات ، فالمتعيّن المسح على الجبيرة مطلقاً تمكّن من المسح على البشرة أم لم يتمكّن.

الجهة الثانية : أن المكلّف في مواضع المسح على الجبيرة مخيّر بين غسل الجبيرة بدلاً عن غسل البشرة وبين مسحها أو أن المسح واجب معيّن ولا يجزئه غسلها ، ذهب الماتن قدس‌سره إلى التخيير ثمّ احتاط بالجمع بينهما بإجراء الماء على الخرقة بإمرار اليد عليها من دون قصد الغسل أو المسح.

وهذا إمّا بدعوى أن المراد بالمسح المأمور به في الروايات هو الغسل ، لأنه قد يطلق ويراد منه الغسل فالمأمور به إنما هو غسل الجبيرة دون مسحها. وهذا ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، لأن المسح بحسب المتفاهم العرفي إنما هو في مقابل الغسل أعني إمرار اليد على العضو برطوبة لا أنه بمعنى الغسل ، ولا سيما في الوضوء الذي هو مركّب من المسح والغسل ، فالمسح المستعمل في الوضوء ظاهر في إرادة ما هو مقابل الغسل عرفاً. على أن مسح الخرقة مما لا إشكال في جوازه ولو مع التمكن من غسلها ومقتضى ما ذكره القائل تعيّن الغسل وعدم جواز مسحها مع التمكّن منه.

وإمّا من جهة أن الغسل قد ثبت جوازه على طبق القاعدة وهي قاعدة الميسور والمسح لا دليل على وجوبه ، لأن الأوامر الواردة في مسح الجبيرة إنما وردت في مقام دفع توهم الحظر ، حيث إن الإنسان يتخيّل في تلك الموارد أن الواجب غسل الجبيرة وقد دفعه بأن المسح أيضاً يكفي عن غسلها ، والأمر في مقام الحظر يفيد الإباحة دون الوجوب ، ولهذا يكون المكلّف مخيّراً بين مسح الجبيرة وغسلها.


موضع الغسل ، ويلزم أن تصل الرطوبة إلى تمام الجبيرة ، ولا يكفي مجرّد النداوة نعم لا يلزم المداقّة بإيصال الماء إلى الخلل والفُرَج بل يكفي صدق الاستيعاب عرفاً ، هذا كلّه إذا لم يمكن رفع الجبيرة والمسح على البشرة وإلاّ فالأحوط‌

______________________________________________________

ويندفع ذلك بأن الغسل لم يثبت جوازه على طبق القاعدة ، لعدم تمامية قاعدة الميسور في نفسها ، وعلى تقدير تماميتها غير منطبقة على المقام ، لأن غسل شي‌ء أجنبي عن البشرة كيف يكون ميسوراً من غسل البشرة ، لأنه في مقابله أمر مغاير معه لا أنه مرتبة نازلة منه ، فلو سلمنا أن الأخبار لا تدل على وجوب المسح يكفينا في نفي التخيير مجرد الشك في جواز غسل الجبيرة وكفايته عن مسحها وعدمه ، مضافاً إلى ما عرفت من أن الأخبار ظاهرة في وجوب مسح الجبيرة متعيّناً لا على نحو التخيير بينه وبين غسل الجبيرة. فالصحيح أن المسح هو المتعيّن في حقه ولا يجزئ عنه غسلها.

الجهة الثالثة : أن المسح لا بدّ وأن يكون مستوعباً للجبيرة ولا يجزئ مسح بعضها ، وذلك لأن مسح الجبيرة بدل من غسل ما تحتها من البشرة ، فكما أن البشرة يجب غسلها مستوعبة فكذلك مسح ما هو بدل عنه ، نعم لا يجب التدقيق في مسحها لأن المستفاد من الأخبار إنما هو وجوب ما يصدق عليه مسح الجبيرة عرفاً ، فلو مسحها على نحو صدق أنه مسح الخرقة بتمامها كفى ، فالتدقيق غير لازم والتبعيض غير جائز.

الجهة الرابعة : إذا لم يتمكن المكلّف من مسح الجبيرة لنجاستها وعدم تمكنه من تطهيرها أو لغير ذلك من الأُمور ، ذكر الماتن أنه يضع على الجبيرة خرقة طاهرة فيمسح على تلك الخرقة ، وإن لم يمكنه ذلك فالأحوط الجمع بين الوضوء بغسل أطراف الجبيرة وبين التيمم.

وتفصيل الكلام في هذه المسألة أن الجبيرة التي لا يمكن مسحها قد تكون بمقدار الجراحة وقد تكون زائدة عليها ، فإن كانت بقدرها فالظاهر أن المتعيّن حينئذ وجوب‌


تعيّنه (*) ، بل لا يخلو عن قوّة إذا لم يمكن غسله كما هو المفروض ، والأحوط الجمع بين المسح على الجبيرة وعلى المحل أيضاً بعد رفعها ، وإن لم يمكن المسح على الجبيرة لنجاستها أو لمانع آخر فإن أمكن وضع خرقة طاهرة عليها ومسحها يجب ذلك (**) ، وإن لم يمكن ذلك أيضاً فالأحوط الجمع بين الإتمام بالاقتصار على غسل الأطراف والتيمّم.

______________________________________________________

غسل أطراف الجراحة ولا يجب عليه ضمّ التيمم إليه ولا وضع خرقة طاهرة ليمسح عليها ، وذلك لأن المستفاد من صحيحة الحلبي (٣) وغيرها من الأخبار الواردة في المسألة أن الجريح إذا تمكن من المسح على جبيرته وجب كما إذا كان على جراحته جبيرة ، وإذا لم تكن عليها جبيرة يجب غسل أطرافها ويجزئه ذلك عن المأمور به ، فإذا فرضنا أن المكلّف لا يتمكن من مسح جبيرته الموضوعة على جرحه سقط الأمر بمسحها للتعذر فيكفي غسل أطراف الجرح كما في المكشوف ، وأما أنه يجب عليه إحداث خرقة ووضعها على المحل فلا يمكن استفادته من الأخبار ، لأنها كما عرفت إنما دلّت على كفاية مسحها عن الغسل المأمور به فيما إذا كانت موجودة على العضو في نفسها وأما إيجادها وإحداثها فلا دليل على وجوبه. ولا يقاس هذا بتطهير الجبيرة والخرقة إذا أمكن ، وذلك لأن تطهيرها مقدّمة وجودية للمأمور به وهو مسح الجبيرة بعد كونها موجودة في نفسها ، وأمّا أصل إيجاد الجبيرة فهو مقدّمة الوجوب دون الوجود فلا يجب إيجادها فيكفي حينئذ غسل أطراف الجبيرة التي هي بقدر الجراحة نعم وضع خرقة طاهرة والمسح عليها احتياط محض وهو حسن على كل حال.

__________________

(*) فيه منع ، والأظهر تعيّن المسح على الجبيرة.

(**) على الأحوط الأولى إذا كانت الجبيرة بمقدار الجرح ، وأما إذا كانت زائدة عليه فالأظهر تعيّن التيمم.

(١) تقدّم ذكرها في ص ١٤٧ ١٤٨.


[٥٩٥] مسألة ١ : إذا كانت الجبيرة في موضع المسح (١) ولم يمكن رفعها والمسح على البشرة لكن أمكن تكرار الماء إلى أن يصل إلى المحل هل يتعيّن ذلك‌

______________________________________________________

وأمّا إذا كانت الجبيرة أطول وأزيد من الجرح فالمتعيّن في حقه التيمم ، وذلك لعدم تمكّنه من الوضوء التام أو ما بحكمه لفرض عجزه عن مسح الجبيرة وعدم تمكّنه من غسل أطراف الجرح ، لأنّ مقداراً منها تحت الجبيرة التي لا يمكنه مسحها ، وقد أسسنا في أوائل المسألة أنّ كل من لم يتمكّن من الوضوء فهو مأمور بالتيمم. ولا يجب عليه وضع الخرقة الطاهرة عليها لما عرفت ، نعم وضع الخرقة الطاهرة والمسح عليها مع الضم إلى التيمّم مجرّد احتياط. فتحصل أنه مكلف بغسل أطراف الجراحة والجبيرة في الصورة الأُولى والتيمم في الصورة الثانية ، سواء تمكّن من وضع خرقة طاهرة والمسح عليها أم لم يتمكّن.

حكم الجبيرة في موضع المسح‌

(١) أمّا إذا لم يمكن إيصال الماء إلى البشرة بوجه فلا إشكال في أنّ المسح على الجبيرة يجزئ عن مسح البشرة وذلك لما قدّمناه آنفاً ، وإنما الكلام كلّه فيما إذا تمكّن من إيصال الماء إلى البشرة فهل يجب عليه إيصال الماء إلى البشرة بصب الماء على الجبيرة مكرّراً أو بوضع الموضع في الماء ، أو يتعيّن عليه المسح على الجبيرة ، أو يجب عليه الجمع بينهما ، أو أن وظيفته التيمم حينئذ؟ وجوه :

أمّا احتمال وجوب التيمم في حقّه فهو في غاية الضعف والسقوط ، لأن الأخبار المتقدّمة إذا تمّت دلالتها على أن المسح على الخرقة بدل عن المسح على البشرة فهو متمكن من الوضوء لا محالة ، ومعه كيف ينتقل أمره إلى التيمم.

وأمّا دعوى وجوب إيصال الماء إلى البشرة فهي تبتني على تمامية قاعدة الميسور نظراً إلى أن إيصال الماء إليها ميسور من المسح المأمور به المتعذر. ويدفعه ما أشرنا‌


إليه غير مرّة من عدم تمامية القاعدة كبرى ، على أنها غير منطبقة على المقام لعدم كونه من صغريات تلك الكبرى ، فإن إيصال الماء إلى البشرة المساوق مع الغسل كيف يكون ميسوراً من المسح المأمور به ، لأنه أمر وإيصال الماء أمر آخر هذا.

وقد يستدل على ذلك بموثقة عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « في الرجل ينكسر ساعده أو موضع من مواضع الوضوء فلا يقدر أن يحله لحال الجبر إذا جبر كيف يصنع؟ قال عليه‌السلام : إذا أراد أن يتوضأ فليضع إناء فيه ماء ويضع موضع الجبر في الماء حتى يصل الماء إلى جلده » (١). وفيه : أن الموثقة ظاهرة في أن السؤال إنما هو عن حل الجبيرة بتوهم وجوبه وأنه إذا لم يمكن حلها ماذا يصنع ، وقوله عليه‌السلام في ذيلها : « حتى يصل الماء إلى جلده » قرينة قطعية على أن الجبيرة إنما كانت في محل الغسل ، إذ لو كانت في موضع المسح لم يكن إيصال الماء إليه واجباً ولو مع التمكن من حل الجبيرة فضلاً عما إذا لم يمكنه ذلك ، لأن المسح غير إيصال الماء كما لعله ظاهر. ولا يقاس ما نحن فيه بكفاية الغسل عن المسح في الرجلين عند التقيّة ، وذلك لأنه أمر ثبت بدليله وهو مختص بموارد تعذر المسح للتقيّة ولا يشمل المقام مما لا يمكن المسح على البشرة للجبيرة ، فقياس أحدهما بالآخر مع الفارق ، والقياس لا نقول به. فالموثقة إنما تختص بمواضع الغسل وأنه إذا أمكنه إيصال الماء إلى البشرة وجب ، ولا دلالة لها على وجوب إيصال الماء إليها في مواضع المسح.

وأمّا احتمال وجوب المسح على الجبيرة وإيصال الماء إلى البشرة معاً فهو مستند إلى العلم الإجمالي بوجوب أحدهما بعد العلم خارجاً بعدم وجوب التيمم حينئذ ، إذ المكلّف يعلم في مفروض المسألة بوجوب أحد الأمرين في حقه. ويدفعه أنه إنما يتمّ إذا لم يكن للأخبار المتقدّمة إطلاق يشمل صورة تمكن المكلّف من إيصال الماء إلى البشرة مع أن إطلاقها مما لا ينبغي المناقشة فيه ، لأن صحيحة الحلبي وصحيحتي عبد الله بن سنان والأسدي كلّها مطلقة ولا يختص الأمر فيها بمسح الجبيرة بما إذا لم‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٦٥ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٧.


أو يتعين المسح على الجبيرة؟ (**) وجهان ، ولا يترك الاحتياط بالجمع.

[٥٩٦] مسألة ٢ : إذا كانت الجبيرة مستوعبة لعضو واحد من الأعضاء فالظاهر جريان الأحكام (**) المذكورة (١) وإن كانت مستوعبة لتمام الأعضاء فالإجزاء مشكل ، فلا يترك الاحتياط بالجمع بين الجبيرة والتيمم.

______________________________________________________

يتمكّن المكلّف من إيصال الماء إلى البشرة. فالمتعيّن هو المسح على الجبيرة مطلقاً تمكّن من إيصال الماء إلى البشرة أم لم يتمكن ، وإن كان الإيصال أحوط.

(١) وأمّا إذا كانت الجبيرة مستوعبة لجميع أعضاء الوضوء فلا ينبغي التردّد في أن وظيفته التيمم حينئذ ، لأن الوضوء غسلتان ومسحتان والمكلّف عاجز عن جميعها ، وقد عرفت أن الأصل الأوّلي في كل مورد لم يتمكن المكلّف من الوضوء المأمور به هو التيمم إلاّ أن يقوم دليل على كفاية المسح على الجبيرة عن الغسل أو المسح المأمور به ، ولم يقم دليل على كفاية مسح جميع أعضاء الوضوء عن غسل بعضها ومسح بعضها الآخر ولعله ظاهر ، نعم ضمّ المسح على الجبائر إلى التيمم أحوط.

وأمّا إذا كانت الجبيرة مستوعبة لعضو واحد كالوجه أو اليدين ونحوهما فالظاهر انتقال الأمر إلى التيمم أيضاً ، وذلك لعدم تمكنه من الوضوء لأنه غسلتان ومسحتان والمفروض عدم تمكنه من إحدى الغسلتين أو المسحتين لأن الجبيرة مستوعبة للعضو على الفرض ، وقد عرفت أن الأصل الأوّلي في كل من عجز عن الوضوء المأمور به هو التيمم إلاّ أن يقوم دليل على كفاية المسح على الجبيرة عن غسل البشرة أو مسحها ، ولم يقم دليل على كفاية مسح تمام العضو الواحد عن غسله أو مسحه ، وذلك لأن الظاهر المستفاد من الأخبار أن موردها ما إذا كانت الجبيرة على جزء من العضو‌

__________________

(*) هذا هو الأظهر.

(**) والأحوط ضمّ التيمم إلى الوضوء.


الواحد ، بحيث لا يتمكن من مسحه بتمامه أو من غسله كذلك وإنما يتمكّن من غسل بعضه أو مسح بعضه دون بعضه الآخر ، فدونك صحيحة الحلبي : « الرجل تكون به القرحة في ذراعه أو نحو ذلك من موضع الوضوء فيعصبها بالخرقة ويتوضأ ويمسح عليها » إلخ (١) ، فإن ظهورها في كون القرحة في جزء من ذراعه وهو الذي يعصبه بالخرقة ممّا لا يكاد يخفى.

وصحيحة ابن الحجاج « يغسل ما وصل إليه الغسل مما ظهر ممّا ليس عليه الجبائر ويدع ما سوى ذلك ممّا لا يستطيع غسله ، ولا ينزع الجبائر ويعبث بجراحته » (٢) فإن الظاهر إرادة أنه يغسل مقداراً من عضو واحد ويدع المقدار الآخر الذي فيه الجبيرة لا أنه يغسل إحدى يديه ويدع يده الأُخرى.

وكذلك موثقة عمار (٣) لظهورها في أن الجبيرة إنما كانت على خصوص ذراعه لا أنها كانت مستوعبة لتمام يده.

وصحيحة عبد الله بن سنان « عن الجرح كيف يصنع به؟ قال عليه‌السلام : يغسل ما حوله » (٤) وإن لم يذكر فيها المسح على الجبيرة إلاّ أنه ذكر في سائر الأخبار. فالروايات كما ترى إنما دلّت على كفاية مسح الجبيرة عن غسل البشرة أو مسحها فيما إذا كانت الجبيرة على بعض العضو ، وأمّا إذا كانت مستوعبة للعضو بتمامه فهو ممّا لم يدلّ شي‌ء من الأخبار على كفاية المسح على الجبيرة فيه عن غسل البشرة أو مسحها ، فقد عرفت أن مقتضى الأصل الذي أسّسناه في أوّل المسألة تعيّن التيمم حينئذ.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٦٣ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٢.

(٢) الوسائل ١ : ٤٦٣ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ١.

(٣) الوسائل ١ : ٤٦٥ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٧. وقد تقدّم ذكرها في ص ١٦١.

(٤) الوسائل ١ : ٤٦٤ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٣.


بقي الكلام في رواية كليب الأسدي (١) ، فإن قوله عليه‌السلام : « فليمسح على جبائره » قد يدعى شموله لما إذا كانت الجبيرة مستوعبة لتمام عضو واحد. ويندفع بعدم شمول إطلاقها لمثل المقام لندرته ، وإلاّ فيمكن أن يستدل بإطلاقها على كفاية مسح الجبائر فيما إذا كانت مستوعبة لجميع أعضاء الوضوء مع أنهم لا يلتزمون بكفايته في مثله. فالصحيح في هذه الصورة ما ذكرناه وإن كان ضمّ المسح على الجبيرة إلى التيمم أحوط.

فذلكة الكلام‌

إن الأخبار الواردة لا تشمل ما إذا كانت الجبيرة مستوعبة لعضو واحد فضلاً عن تمام الأعضاء وذلك أما صحيحة الحلبي فلأن قوله : « الرجل تكون به القرحة في ذراعه » (٢) ظاهره أن القرحة إنما كانت في بعض يده وأن الذراع ظرف تلك القرحة لا أنها كانت مستوعبة لتمام العضو ، حيث إن هذا التعبير أعني قوله : « القرحة في ذراعه » لا يستعمل في موارد استيعاب القرحة للعضو ، بل يختص بما إذا كانت في بعضه دون بعضه الآخر.

والذي يدلّنا على ذلك هو ما ورد في ذيلها من أمره عليه‌السلام بغسل ما حول القرح إذا كان مكشوفاً ، لأنه كالصريح في عدم كون القرحة مستوعبة لتمام العضو حيث إن مورد الرواية بصدرها وذيلها واحد وهو القرحة في العضو إلاّ أنها إذا كانت مجبورة يمسح على الجبيرة وإذا كانت مكشوفة يغسل ما حولها. فيدلّنا ذيل الصحيحة على عدم كون القرحة مستوعبة لتمام العضو. وأظهر منها الأخبار الآمرة بغسل ما وصل إليه الماء وترك ما سوى ذلك. وأما رواية كليب الأسدي فقد عرفت المناقشة في شمولها للمقام. فالصحيح أن التيمم هو المتعيّن في هذه الموارد وإن كان ضمّ التوضؤ بالمسح على الجبيرة أحوط.

__________________

(١) المتقدّمة في ص ١٥٦.

(٢) الوسائل ١ : ٤٦٣ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٢.


[٥٩٧] مسألة ٣ : إذا كانت الجبيرة في الماسح فمسح عليها بدلاً عن غسل المحل يجب أن يكون المسح به بتلك الرطوبة أي الحاصلة من المسح على جبيرته (١).

[٥٩٨] مسألة ٤ : إنما ينتقل إلى المسح على الجبيرة إذا كانت في موضع المسح بتمامه وإلاّ فلو كان بمقدار المسح بلا جبيرة (٢) يجب المسح على البشرة ، مثلاً لو كانت مستوعبة تمام ظهر القدم مسح عليها ، ولو كان من أحد الأصابع ولو الخِنصِر إلى المفصل مكشوفاً وجب المسح على ذلك ، وإذا كانت مستوعبة عرض القدم مسح على البشرة في الخط الطولي من الطرفين وعليها في محلّها.

[٥٩٩] مسألة ٥ : إذا كان في عضو واحد جبائر متعدِّدة يجب الغسل أو المسح‌

______________________________________________________

إذا كانت الجبيرة في الماسح

(١) لما دلّ على أن المسح يعتبر أن يكون بنداوة الوضوء في اليد ، كما في قوله عليه‌السلام : « وتمسح ببلة يمناك ناصيتك » (١) والأخبار الواردة في كفاية المسح على الجبائر إنما تدل على أن الجبيرة كالبشرة ، وأما أن المسح بها لا يعتبر فيه أن يكون بنداوة الوضوء فهو مما لا دليل عليه.

ما يشترط في الانتقال إلى مسح الجبيرة‌

(٢) كما إذا استوعبت الجبيرة تمام عرض الرجل إلاّ بمقدار مسمّى المسح أو أنها أشغلت مقداراً من طولها وبقي مقدار منه قبلها وبعدها ، فإنه يجب أن يمسح نفس البشرة بمقدار المسمّى عرضاً لأنه المأمور به وهو متمكن منه ، ويجب أن يمسح ما قبل الجبيرة وما بعدها لتمكنه من مسح البشرة المأمور بها بذلك المقدار ويمسح على الجبيرة في المقدار المتوسط.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٣٦ / أبواب الوضوء ب ٣١ ح ٢.


في فواصلها (١).

[٦٠٠] مسألة ٦ : إذا كان بعض الأطراف الصحيح تحت الجبيرة فإن كان بالمقدار المتعارف مسح عليها (٢) وإن كان أزيد من المقدار المتعارف فإن أمكن رفْعها رفَعها (٣) وغسل المقدار الصحيح ثمّ وضعها ومسح عليها ، وإن لم يمكن ذلك مسح عليها لكن الأحوط (*) ضمّ التيمم أيضاً خصوصاً إذا كان عدم إمكان الغسل من جهة تضرر القدر الصحيح أيضاً بالماء (٤).

______________________________________________________

الجبائر المتعدِّدة في محل واحد‌

(١) كما يجب المسح على الجبائر في غير الفواصل ، لشمول قوله عليه‌السلام حينئذ : « ولا ينزع الجبائر ويعبث بجراحته » (٢) للجبائر المتعددة لأنها جمع ، ويغسل المتوسطات أو يمسحها لتمكنه من المأمور به ، ولم يدلّ دليل على كفاية المسح على الجبائر عن مسح البشرة أو غسلها في غير مواضع الجبر.

إذا وقع بعض الأطراف الصحيح تحت الجبيرة‌

(٢) لأن كون الجبيرة بمقدار القرحة من غير زيادة ولا نقصان غير متحقق في الخارج ، وعلى تقدير تحققه فهو أمر نادر قليل ولا يمكن حمل الأخبار عليه ، بل يحمل على المتعارف الكثير وهو كون الجبيرة زائدة عن مقدار الجراحة بالمقدار المتعارف اليسير.

(٣) لتمكّنه من مسح البشرة أو غسلها المأمور به.

الصّور المتصوّرة للعجز في المقام‌

(٤) عدم التمكن من رفع المقدار الزائد من الجبيرة يتصور على وجوه : فتارة‌

__________________

(*) الأظهر فيه تعيّن التيمم بلا حاجة إلى المسح على الجبيرة.

(١) في صحيحة ابن الحجاج المتقدّمة في ص ١٦٣.


لا يتمكّن من رفعه لاستلزامه ضرراً خارجياً في حقه ، كما إذا فرضنا أنه غير متمكن من شدّ الجبيرة وإنما شدّها الطبيب على أُسلوب خاص ونمط مخصوص ، فلو رفعها لاحتاج إلى الحضور عند الطبيب ثانياً وهو غير ميسور في حقّه أو مستلزم لبذل مال ونحوه. والمتعيّن حينئذ التيمم في حقه ، لأن الأخبار الآمرة بالمسح على الجبائر مختصة بما إذا كان في غسل موضع الجرح أو القرح أو مسحه ضرر لتلك الجراحة أو القرحة. وأما إذا فرضنا أن المورد سليم لا جرح فيه ولكنه لو غسله أو مسحه يتوجه عليه ضرر خارجي فهو خارج عن الأخبار ، ومقتضى الأصل الأوّلي وجوب التيمم حينئذ.

وأُخرى لا يتمكّن من رفع المقدار الزائد وغسل ما تحته أو مسحه لا من جهة ضرر خارجي ، بل من جهة استلزامه الضرر في ذلك المورد السليم الذي هو تحت الزائد من الجبيرة ، كما إذا كان بحيث لو وصله الماء حدثت فيه جراحة أو قرحة ثانية من غير أن تستلزم ضرراً في القرحة الأُولى أبداً. وهذه الصورة أيضاً يجب فيها التيمم ، لأن أخبار الجبيرة مختصة بما إذا كانت هناك جراحة أو قرحة يضرها غسلها أو مسحها ، وأما الموضع السليم الذي لا جراحة ولا قرحة فيه إذا استلزم غسله أو مسحه ضرراً لتوليده الجراحة أو القرحة فهو مما لا تشمله الأخبار أبداً ، فمقتضى الأصل الأوّلي هو التيمم حينئذ وإن كان ضمّ الوضوء بمسح الجبيرة إليه أحوط كما يتعرّض له في المسألة التاسعة إن شاء الله تعالى ، وإن كان بين المقام وتلك المسألة فرق بسيط وهو أن مفروض تلك المسألة عدم قرح ولا جراحة في موضع الوضوء ولكنهما تتولدان بغسله أو يتوجه بغسله ضرر إلى غيرهما ، وأما في المقام فالمفروض وجود قرحة أو جراحة لا يضرها الماء وما لا قرحة فيه إنما هو أطراف تلك القرحة الواقعة تحت الزائد من الجبيرة.

وثالثة لا يتمكن من رفع المقدار الزائد وغسل ما تحته أو مسحه لاستلزامهما تضرّر القرحة أو الجراحة الاولى لا أنهما يولدان ضرراً غيرهما. والصحيح في هذه الصورة أيضاً هو التيمم ، لأن الأخبار الواردة في كفاية المسح على الجبائر مختصّة بما‌


[٦٠١] مسألة ٧ : في الجرح المكشوف إذا أراد وضع طاهر عليه ومسحه يجب أوّلاً أن يغسل ما يمكن من أطرافه ثمّ وضعه (١).

[٦٠٢] مسألة ٨ : إذا أضرّ الماء بأطراف الجرح أزيد من المقدار المتعارف (٢)

______________________________________________________

إذا كانت الجراحة بغسلها متضرِّرة فإذا لم يتضرّر بغسلها أي غسل نفس الجراحة يغسلها كما في صحيحة الحلبي : وإن كان لا يؤذيه الماء فلينزع الخرقة ثمّ يغسلها ، وإذا تضرّرت فليمسح على الجبيرة (١) ، وأما إذا فرضنا أن الجراحة تتضرّر بغسل غيرها كالمواضع السليمة تحت المقدار الزائد من الجبيرة فهي مما لا تستفاد كفاية المسح فيها على الجبائر من الروايات ، ومع عدم شمول الروايات لا مناص من الحكم بوجوب التيمم ، لأنه الأصل الأوّلي في كل مورد لم يقم فيه دليل على كفاية المسح على الجبيرة وإن كان ضمّ الوضوء إليه بمسح الجبيرة أحوط.

(١) تقدّم أن المستفاد من الأخبار وجوب غسل الأطراف في الجرح المكشوف ولا يعتبر أن يضع عليه خرقة طاهرة ليمسح عليها ، إلاّ أن الماتن قدس‌سره احتاط بذلك سابقاً ، وعليه فإذا أراد أحد العمل بذلك الاحتياط فيغسل جميع أطراف الجرح أوّلاً ثمّ يضع الخرقة عليه ويمسح عليها ، وذلك لأنه لو وضعها أوّلاً لسترت الخرقة مقداراً من الأطراف التي يجب غسلها. والغرض من قوله : يجب أوّلاً أن يغسل إلخ ليس هو الوجوب الشرطي الموجب لبطلان الوضوء على تقدير المخالفة ، بل المراد من ذلك تحصيل اليقين بغسل ما يجب غسله من الأطراف ، وعليه فلو فرضنا أنه وضع الخرقة أوّلاً ثمّ غسل الأطراف إلاّ أنه رفعها حين غسل ما حول الجرح بحيث تمكّن من غسل ما وجب غسله من الأطراف كفى.

إضرار الماء بأطراف الجرح‌

(٢) كما إذا كانت القرحة على إصبعه وكانت تتضرّر بغسل الساعد مثلا.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٦٣ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٢.


يشكل كفاية المسح على الجبيرة (١) التي عليها أو يريد أن يضعها عليها ، فالأحوط غسل القدر الممكن (*) والمسح على الجبيرة ثمّ التيمم‌

______________________________________________________

(١) وذلك لأن الأخبار الواردة في الجبيرة إنما دلّت على كفاية مسح الجبيرة فيما إذا كان هناك جرح أو قرح أو كسر في مواضع الوضوء بحيث يتضرر بوصول الماء إليه وأما إذا فرضنا موضعاً من بدنه لا قرح ولا جرح فيه ولكن الجرح في مكان آخر يتضرّر بوصول الماء إلى ذلك الموضع الذي لا قرح ولا جراحة فيه فلا إطلاق في شي‌ء من الأخبار يشمل ذلك ، ومع عدم شمول الروايات ينتقل فرضه إلى التيمم لا محالة هذا.

وقد يتوهّم أن قوله عليه‌السلام في صحيحة الحلبي : « إن كان يؤذيه الماء فليمسح على الخرقة » (٢) بإطلاقه يشمل المقام ، إذ يصدق أن وصول الماء إلى ساعده مثلاً يؤذيه وإن لم يكن عليه جراحة ، إذ المفروض أن بوصول الماء إلى ساعده يتضرّر الجرح الموجود في إصبعه ومعه يضع خرقة على ساعده ويمسح عليها.

ويدفعه ما قدمناه من أن المراد من إيذاء الماء فيها ليس هو مطلق الإيذاء بالماء بل المراد ما إذا كان وصول الماء إلى الجرح مؤذياً له لا وصوله إلى ما لا جرح فيه وذلك لقوله عليه‌السلام بعد ذلك : « وإن كان لا يؤذيه الماء فلينزع الخرقة ثمّ ليغسلها » فإن الضمير راجع إلى القرح ، ومعناه أن القرحة إن تضرّرت بوصول الماء إليها فليمسح على الخرقة وإن لم تتضرّر به فليغسل نفس القرحة. وأمّا إذا تضرّرت القرحة بوصول الماء إلى موضع لا قرح ولا جرح فيه فلم يدلّنا شي‌ء من الأخبار على كفاية المسح على الخرقة بدلاً عن غسل الموضع السليم أو مسحه ، بل وظيفته التيمم حينئذ وإن كان ضمّ الوضوء بالمسح على الخرقة في الموضع السليم إليه أحوط لمجرّد احتمال تكليفه بذلك واقعا.

__________________

(*) وإن كان الأظهر جواز الاكتفاء بالتيمم.

(١) الوسائل ١ : ٤٦٣ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٢.


وأمّا المقدار المتعارَف بحسب العادة فمغتفر (١).

[٦٠٣] مسألة ٩ : إذا لم يكن جرح ولا قرح ولا كسر بل كان يضره استعمال الماء لمرض آخر فالحكم هو التيمم لكن الأحوط ضمّ الوضوء مع وضع خرقة والمسح عليها أيضاً مع الإمكان أو مع الاقتصار على ما يمكن غسله (٢).

[٦٠٤] مسألة ١٠ : إذا كان الجرح أو نحوه في مكان آخر غير مواضع‌

______________________________________________________

(١) إذ العادة قاضية بأن في موارد الجرح والقرح لا يتيسّر غسل جميع أطرافهما بحيث لا يبقى منها شي‌ء ، فتضرّر الجرح بوصول الماء إلى أطرافه بالمقدار المتعارَف كتضرّره بوصول الماء إلى نفسه أمر عادي متعارف فحكمه حكمه.

إذا أضرّه الماء من دون جرح ونحوه‌

(٢) وهذه المسألة كالمسألة السابقة والأمر فيها أظهر من سابقتها. وما أفاده قدس‌سره فيها هو الصحيح ، لأن أخبار الجبيرة كما عرفت مختصة بالجريح والكسير والقريح ، وأما من ليس على مواضع وضوئه شي‌ء من ذلك إلاّ أنه لمرض قشري يتضرر بوصول الماء إلى موضع من بدنه فهو خارج عن موارد الأخبار ، والتكليف حينئذ التيمم ، لأن الوضوء غسلتان ومسحتان على الكيفيّة المستفادة من الأخبار والمفروض عجز المكلّف عنهما لتضرره بالماء في موضع من بدنه فيتعين التيمم في حقه ، وإن كان ضمّ الوضوء مع وضع الخرقة والمسح عليها إلى التيمم أحوط.

ودعوى أن الواجب في حقه هو الوضوء بالمسح على الخرقة لقاعدة الميسور ، مندفعة بما مرّ غير مرّة من عدم تمامية القاعدة بحسب الكبرى. على أنا لو سلمناها في محلها فلا يمكن الاعتماد عليها في المقام ونحوه من الواجبات التي لها بدل شرعي كالتيمم للوضوء ، لأن ربّ الماء ربّ الصعيد كما في الخبر (١) فلم يتعسّر الوضوء في‌

__________________

(١) كما في صحيحة الحلبي : « لأن ربّ الماء هو ربّ الأرض » ، وفي صحيحة ابن أبي يعفور : « إن ربّ الماء هو ربّ الصعيد » الوسائل ٣ : ٣٤٣ / أبواب التيمم ب ٣ ح ١ ، ٢.


الوضوء لكن كان بحيث يضر استعمال الماء في مواضعه أيضاً فالمتعيّن التيمم (١).

[٦٠٥] مسألة ١١ : في الرَّمَد يتعيّن التيمم إذا كان استعمال الماء مضرّاً مطلقاً (٢) أما إذا أمكن غسل أطراف العين من غير ضرر وإنما كان يضرّ العين فقط فالأحوط الجمع (*) بين الوضوء بغسل أطرافها ووضع خرقة عليها ومسحها وبين التيمم.

[٦٠٦] مسألة ١٢ : محل الفَصد داخل في الجروح (٣) فلو لم يمكن تطهيره (**)

______________________________________________________

حقه حتى يقتصر بالميسور منه لتمكنه من بدله.

(١) وقد اتضح حال هذه المسألة مما قدمناه في المسائل السابقة ، لما عرفت من أن أخبار الجبيرة مختصة بما إذا كانت الجراحة أو القرحة أو الكسر في شي‌ء من مواضع الوضوء بحيث كانت تتضرر بوصول الماء إليها. وأما إذا كانت مواضع الوضوء سليمة عنها بأجمعها إلاّ أن غسلها أو مسحها أوجب الضرر في الجراحة الموجودة في محل آخر فهو خارج عن موارد الأخبار ، ولمكان عدم تمكنه من الوضوء فينتقل فرضه إلى التيمم لا محالة.

المرمد يتيمّم

(٢) وكذا الحال فيما إذا كان مضراً لعينه فقط ، وذلك لأن من به الرّمد ليس بجريح ولا بكسير ولا بقريح فهو خارج عن موارد الأخبار ، وحيث إنّه عاجز عن الوضوء فتصل النوبة إلى التيمم في حقِّه.

محل الفصد من الجروح

(٣) فحكمه حكمها فلا نعيد.

__________________

(١) والأظهر جواز الاكتفاء بالتيمم.

(٢) مرّ أنه لا يوجب جواز المسح على الجبيرة.


أو كان مضرّاً يكفي المسح على الوُصلة التي عليه إن لم يكن أزيد من المتعارَف وإلاّ حلها وغسل المقدار الزائد ثمّ شدّها ، كما أنه إن كان مكشوفاً يضع عليه خرقة (*) ويمسح عليها بعد غسل ما حوله ، وإن كانت أطرافه نجسة طهرها ، وإن لم يمكن تطهيرها وكانت زائدة على القدر المتعارف جمع بين الجبيرة والتيمّم (**) (١).

[٦٠٧] مسألة ١٣ : لا فرق في حكم الجبيرة بين أن يكون الجرح أو نحوه حدث باختياره على وجه العصيان أم لا باختياره (٢).

______________________________________________________

(١) بل يتعيّن عليه التيمم ، لعدم شمول أخبار الجبيرة لما إذا لم يتمكّن من غسل الموضع أو مسحه لا لأجل القرح أو الجرح أو الكسر بل لأجل أمر آخر كتضرّره ، ومع عدم شمولها تصل النوبة إلى التيمم لأنه الأصل الأوّلي كما مرّ. وكذلك الحال فيما إذا لم يمكن تطهير أطراف المحل من جهة الجبيرة المشدودة عليه ، لأنه لو حلّها لم يتمكن من شدّها أو خرج منه الدم الكثير ونحو ذلك.

(٢) لإطلاق أدلّته ولعلّه ممّا لا إشكال فيه ، وإنما الكلام في حكم الجرح العمدي أو الكسر كذلك تكليفاً لا من ناحية حرمته في نفسه للإضرار ، بل من جهة أنه تفويت اختياري للواجب المنجز وهو حرام. وتوضيحه : أن الظاهر المستفاد من أخبار الجبائر كالمستفاد من أخبار التيمم أن المسح على الجبيرة كالتيمم طهارة عذرية والواجب الأوّلي في حق المكلفين هو الطّهارة المائية أعني الوضوء ، فكما أن المكلّف إذا دخل عليه وقت الصلاة وهو عالم ملتفت يحرم عليه إهراق ماء الوضوء ، لأنه تفويت للواجب المنجز في حقه وإن كان يجب عليه التيمم بعد ذلك ، فكذلك الحال في المقام ، لأنه إذا دخل عليه الوقت وهو متمكن من الوضوء من غير الجبيرة لا يجوز له تفويت ذلك الواجب المنجز في حقه بجرح عضوه أو بكسره ونحوهما ، نعم لو ارتكبه وعصاه يجب عليه الوضوء مع المسح على الجبيرة لا محالة.

__________________

(*) على الأحوط كما مر.

(**) على الأحوط ، والأظهر فيه جواز الاكتفاء بالتيمم.


[٦٠٨] مسألة ١٤ : إذا كان شي‌ء لاصقاً ببعض مواضع الوضوء مع عدم جرح أو نحوه ولم يمكن إزالته أو كان فيها حرج ومشقّة لا تتحمّل مثل القير ونحوه يجري عليه حكم الجبيرة (*) (١) والأحوط ضمّ التيمم أيضا.

______________________________________________________

اللاّصق ببعض المواضع

(١) لعلّ هذا هو المشهور بينهم. والكلام في مدرك ذلك ، لأنّ أخبار الجبائر مختصّة بالجراحة والقرحة والكسر ، وأما مع عدم شي‌ء من ذلك وكون الموضع سليماً فلا دليل على أن اللاّصق عليه حكمه حكم الجبيرة. واستدل على ذلك في كلام شيخنا الأنصاري قدس‌سره بتنقيح المناط (٢) وأن المناط في أحكام الجبائر ليس هو وجود الجرح والخرقة عليه ، وإنما المناط عدم تمكّن المتوضئ من إيصال الماء إلى بشرته وهذا متحقق في المقام أيضاً لتعذّر إزالة اللاصق أو تعسره.

وفيه : أن تنقيح المناط أشبه شي‌ء بالقياس ، بل هو هو بعينه ، وذلك لعدم علمنا بمناطات الأحكام وملاكاتها ، فترى أنا نحكم بكفاية غسل أطراف الجرح المشكوك في صحّة الوضوء مع عدم غسل تمام الأعضاء أو مسحه لعدم وجوب غسل الجرح ولا مسحه ولا نلتزم بكفاية الوضوء الناقص فيما إذا توضأ وأعضاؤه سليمة ولم يف الماء لتمام أعضائه بل بقي منها شي‌ء ولو بمقدار موضع الجرح أو أقل في الجريح ، كما أن شيخنا الأنصاري وغيره لا يلتزمون بكفاية الوضوء حينئذ وليس هذا إلاّ لعدم علمنا بالمناط فليكن الأمر في المقام أيضاً كذلك.

وأمّا ما أفاده صاحب الجواهر قدس‌سره من القطع بفساد القول بوجوب‌

__________________

(*) هذا إذا كان ما على محل الوضوء دواء ، وإلاّ فالأظهر تعيّن التيمم إذا لم يكن الشي‌ء اللاصق في مواضع التيمم ، وإلاّ جمع بين التيمم والوضوء.

(١) كتاب الطّهارة : ١٤٤ السطر ٣٤.


التيمم بدلاً عن الغسل والوضوء لمن كان في يده شي‌ء لاصق كالقير إذا لم يتمكن من إزالته ما دام الحياة (١) ، فهو أيضاً يلحق بكلام شيخنا الأنصاري قدس‌سره فإن دعوى القطع بالفساد بلا موجب ، فإنا نلتزم بكفاية التيمم ما دام الحياة في مثل الرمد وغيره من الأمراض إذا لم تبرأ ما دام الحياة فليكن المقام أيضاً كذلك. أفلم يرد أن التراب أحد الطّهورين (٢) وأنه يكفيك عشر سنين؟ (٣) فالقطع بالفساد من غير وجه.

وعليه فالصحيح أن يفصل في المقام بين ما إذا كان اللاصق دواء طلي به على شي‌ء من مواضع وضوئه وما إذا لم يكن دواء ، ففي الأوّل نلتزم بأحكام الجبائر لصحيحة الوشاء الدالّة على أن مثله يمسح على طلي الدواء (٤) هذا من غير فرق بين أن يكون تحته جريحاً أو كان سليماً وإنما وضع الدواء لمرض جلدي أو غيره.

وأمّا إذا كان اللاصق غير الدواء كالقير ونحوه فيفصّل فيه بين ما إذا كان في غير محال التيمم كما إذا لصق بذراعه فحينئذ يتعين في حقه التيمم ، لعدم تمكنه من الوضوء المأمور به ، وقد عرفت أن أخبار الجبيرة لا تشمله فالأصل هو التيمم حينئذ كما مر. وما إذا كان على محال التيمم كما إذا كان على يديه أو وجهه فيجب عليه الجمع بين التيمم والوضوء ، وذلك لأن الأمر حينئذ يدور بين احتمالين ، فإما أن نلتزم بسقوط الصلاة في حقه لأنها مشترطة بالطهور وهو غير متمكن منه فلا يجب في حقه الصلاة وإما أن نلتزم بعدم سقوطها.

والأوّل ممّا لا يمكننا الالتزام به ، لإطلاق ما دلّ على وجوب الصلاة وأنها لا تسقط بحال وأن الواجب على كل مكلف في كل يوم خمس وإطلاق ما دلّ على اشتراطها‌

__________________

(١) الجواهر ٢ : ٣٠٤.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٨٥ / أبواب التيمم / ب ٢٣ ح ١. وهي صحيحة محمّد بن حمران وجميل وفيها : « إنّ الله جعل التراب طهوراً كما جعل الماء طهورا ».

(٣) كما في رواية السكوني : الوسائل ٣ : ٣٦٩ / أبواب التيمم ب ١٤ ح ١٢.

(٤) الوسائل ١ : ٤٦٥ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٩.


[٦٠٩] مسألة ١٥ : إذا كان ظاهر الجبيرة طاهراً لا يضرّه نجاسة باطنه (١).

[٦١٠] مسألة ١٦ : إذا كان ما على الجرح من الجبيرة مغصوباً لا يجوز المسح عليه بل يجب رفعه وتبديله ، وإن كان ظاهرها مباحاً وباطنها مغصوباً فإن لم يعد مسح الظاهر تصرفاً فيه فلا يضر وإلاّ بطل ، وإن لم يمكن نزعه أو كان مضراً (*) فإن عدّ تالفاً (**) يجوز المسح عليه وعليه العوض لمالكه (٢) ، والأحوط استرضاء‌

______________________________________________________

بالطّهارة لأنه لا صلاة إلاّ بطهور ، وقد قدّمنا في أوّل الكتاب أن الطهور ما يتطهّر به وهو أعم من الماء والتراب لأنه أحد الطهورين (٣). ومقتضى هذين الإطلاقين أن الصلاة واجبة في حق المكلّف في مفروض المسألة وأنها أيضاً مشترطة بطهارة خاصة لا محالة ، وتلك الطّهارة إما هو الوضوء مع غسل القير أو مسحه وإما هو التيمم كذلك ، ومقتضى العلم الإجمالي بوجوب أحد الأمرين أن يجمع بين التيمم والوضوء مع وجود اللاصق على مواضع التيمم.

(١) لأن الدليل إنما دلّ على اعتبار الطّهارة في ماء الوضوء ، فإذا فرضنا نجاسة أعضاء الوضوء على نحو يوجب تنجس الماء فلا محالة يقتضي بطلانه ، وأما إذا كانت غير سارية إلى الماء فلا دليل على كونها موجبة لبطلان الوضوء ، سواء كانت الجبيرة واحدة وكان باطنها نجساً دون ظاهرها وما إذا كانت متعددة.

إذا كانت الجبيرة مغصوبة‌

(٢) لا إشكال في أن المسح على الجبيرة إذا لم يعدّ تصرفاً في المغصوب كما إذا كان ظاهرها مباحاً يجوز المسح عليها لعدم حرمته. كما لا كلام في أنه إذا عدّ تصرّفاً في المغصوب وأمكن نزعه ورده إلى مالكه من غير أن يتوجّه ضرر عليه‌

__________________

(*) لا يبعد وجوب النزع في بعض صور التضرر أيضا.

(**) لا يترك الاحتياط باسترضاء المالك في هذا الفرض أيضا.

(١) شرح العروة ٢ : ٦.


المالك أيضاً أوّلاً ، وإن لم يعد تالفاً وجب استرضاء المالك ولو بمثل شراء أو إجارة ، وإن لم يمكن فالأحوط الجمع بين الوضوء بالاقتصار على غسل أطرافه وبين التيمم.

______________________________________________________

يجب نزع الجبيرة المغصوبة وردها إلى مالكها ، لحرمة التصرف في مال الغير ووجوب ردّ المال إلى مالكه ، فبعد نزعها إما أن يجبر الموضع بشي‌ء مباح فيمسح عليه وإما أن يبقى الجرح مكشوفاً فيغسل ما حوله. وإنما الكلام في جهات :

الجهة الأُولى : إذا كان نزع الجبيرة المغصوبة مضراً في حقه فهل يجب عليه نزعها وردّها إلى مالكها أيضاً أو لا يجب؟ ذهب الماتن قدس‌سره إلى عدم وجوب الرد إلى مالكها فيما إذا عدّ تالفاً.

ولكن الصحيح وجوب نزعها وردها إلى مالكها في هذه الصورة أيضاً ، وذلك لأن الضرر على نحوين ، فقد يكون الضرر على نحو لا يرضى الشارع بتحققه في الخارج كما إذا كان نزعها مؤدياً إلى هلاكه فلا يجب النزع والرد إلى مالكها حينئذ ، لأن ما دلّ على حرمة التصرف في مال الغير مزاحم بما دلّ على حرمة إهلاك النفس المحترمة ووجوب حفظها ، فحيث إنه أهم فلا محالة يتقدّم على حرمة التصرف في مال الغير. وأُخرى يكون الضرر من غير ما لا يرضى الشارع بوقوعه كما إذا كان نزع الجبيرة موجباً لاشتداد مرضه أو بطء برئه أو إلى ضرر مالي أو إيلامه ، فمقتضى إطلاق ما دلّ على حرمة التصرّف في مال الغير في مثله وجوب نزعها وردها إلى مالكها ، ولا مانع عن ذلك إلاّ ما يتوهّم من شمول قاعدة نفي الضرر للمقام وهي توجب تخصيص ما دلّ على حرمة التصرّف في مال الغير. ولكنا ذكرنا في محلِّه أن القاعدة لا تشمل أمثال المقام لأنها امتنانية وإجراؤها في المقام على خلاف الامتنان (١) ، لأن معناها جواز التصرّف في مال الغير من غير إذنه ولا تثبت القاعدة ذلك بوجه. والظاهر أنهم‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٥٤٥ ٥٦٦.


لم يختلفوا في وجوب ردّ المال إلى مالكه فيما إذا كان ردّه موجباً للتضرر المالي في حقه فإذا لم تشمل القاعدة المقام فيكون حال الضرر النفسي كالمالي فلا يمنع عن وجوب ردّ المال المغصوب إلى مالكه.

الجهة الثانية : إذا كانت الجبيرة المغصوبة معدودة من التالف كما هو الغالب ، لأن الخرقة بعد فصلها عن ثوب الغير مثلاً لا مالية لها ، فهل يجوز المسح عليها أو لا بدّ من استرضاء المالك أو نزعها إذا أمكن؟ ذهب الماتن إلى جواز المسح عليها وقال : وعليه العوض لمالكه. وقيل : إن هذه المسألة مبتنية على أن الضمان بالتلف والإتلاف راجع إلى المعاوضة القهرية بين المال التالف والمال المضمون به ، أو أن الضمان محض غرامة ولا رجوع له إلى المعاوضة بوجه. فعلى الأوّل يجوز المسح على الجبيرة المعدودة من التالف ، لأنها بإتلاف الغاصب انتقلت إليه وقد ضمن عوضها بالمعاوضة القهرية ، فليس للمالك المطالبة بالمواد الباقية بعد إتلاف المال لانتقالها إلى ملك المتلف فيجوز له المسح على الجبيرة في المقام ، وهذا بخلاف ما إذا قلنا بالثاني ، لأن الجبيرة حينئذ باقية على ملك مالكها الأوّل فلا يجوز التصرف فيها بالمسح إلاّ برضاه هذا.

والصحيح عدم ابتناء المسألة على ذلك ، وذلك لأن انتقال المال التالف إلى المتلف بإتلافه مما لم يلتزم به أحد فيما نعلمه من أصحابنا ، لوضوح أن الإتلاف ليس من أحد الأسباب الموجبة للانتقال ، فلم يقل أحد بأن الثوب المملوك لأحد إذا أحرقه الغاصب فهو ملك للغاصب بالمعاوضة القهرية فيضمن له قيمته ، أو القطعات المنكسرة في الكوز ملك لمن أتلفه وهكذا.

نعم وقع الخلاف في أنه إذا أغرم المتلف وادي عوض ما أتلفه فهل يكون ذلك معاوضة بين ما أداه وما أتلفه ، فالقطعات المنكسرة للمتلف وهكذا غيرها مما أتلفه وأذهب ماليته وبقي مادته ، أو أن ما أداه غرامة محضة والمواد باقية على ملك مالك المال. وذكرنا في محلِّه أن العقلاء يرون ذلك معاوضة بين المال التالف والغرامة حيث ليس للمالك مال ومادّة ، ولم يكن مالكاً إلاّ لشي‌ء واحد وقد أخذ عوضه وبدله لا أنه كان مالكاً لشيئين أخذ عوض أحدهما وبقي الآخر على ملكه وهما المالية والمواد.


فأداء الغرامة معاوضة بالسيرة الثابتة عند العقلاء والمواد منتقلة إلى ملك المتلف بأداء الغرامة.

ومفروض كلام الماتن إنما هو ما إذا أتلف مال الغير وجعله جبيرة وأسقطه من قبل أن يؤدي عوضه فهل يجوز له المسح عليها أو لا يجوز ، لا أن محل كلامه في جواز المسح وعدمه بعد أداء الغرامة والعوض ، وذلك لقوله : ( يجوز المسح عليه وعليه العوض ) ولا معنى له مع أدائه فالكلام إنما هو قبل ردّ العوض ، وقد عرفت أن الإتلاف قبل ردّ العوض مما لم يلتزم أحد بكونه موجباً لانتقال المال إلى متلفه.

فالصحيح أن المسألة مبتنية على أمر آخر وهو أن الأدلّة الدالّة على حرمة التصرف في مال الغير مختصّة بما إذا كان مورد التصرف مالاً لغير المتصرف أو أنها تعمه وما إذا كان ملكاً أو مورد حق لغيره وإن لم يكن مالاً ، فإن المال إذا خرج بالتصرف عن المالية قد يكون ملكاً لمالكه كما في القطعات المكسورة في الكوز وقد لا يكون ملكاً أيضاً كما إذا قتل حيوان أحدٍ ، فإن الميتة ليست بملك وإنما تكون مورداً للحق أي لحق مالكه السابق ، فهل تشمل أدلّة حرمة التصرف لهاتين الصورتين أو تختص بما إذا كان مورد التصرّف مالاً فقط؟

ومقتضى فتوى الماتن أن الصحيح عنده الاختصاص وعدم شمول الأدلّة لما إذا كان مورد التصرّف ملكاً أو حقاً لغيره. وهذا هو الذي تقتضيه الروايتان المستدل بهما على حرمة التصرّف في مال الغير من غير إذنه ، أعني قوله عليه‌السلام : لا يحل مال امرئ مسلم إلاّ بطيبة نفسه (١) وقوله : لا يجوز التصرّف في مال الغير إلاّ بإذنه (٢)

__________________

(١) وهي صحيحة زيد الشحام عن أبي عبد الله عليه‌السلام إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقف بمنى ... : إلى أن قال : فإنه لا يحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلاّ بطيبة نفسه ... الوسائل ٢٩ : ١٠ / أبواب القصاص في النفس ب ١ ح ٣. وروى عنه في كتاب تحف العقول [ ص ٣٤ ] بدون لفظ دم بل فيه : مال امرئ مسلم.

(٢) الوسائل ٩ : ٥٤٠ / أبواب الأنفال وما يختص بالإمام عليه‌السلام ب ٣ ح ٧. فان فيه : فلا يحل لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه ، فكيف يحل ذلك في مالنا ، إلخ.


لاختصاصهما بالأموال فيرجع في غير المال إلى أصالة الحل ، وإنما يخرج عن تلك الأصالة في خصوص الأموال.

ولكن لا يبعد التفصيل في غير الأموال بين ما إذا كان تصرف الغير مزاحماً لتصرف المالك السابق وما إذا لم يكن مزاحماً له ، بالحكم بعدم جواز التصرف في الصورة الأُولى لأنه ظلم وتعد عند العقلاء فلا يجوز ، والحكم بالجواز في الثانية لأصالة الحل وعدم كون التصرف ظلماً وتعديا.

الجهة الثالثة : ما إذا لم يمكن نزع الجبيرة إما تكويناً وإما تشريعاً لأدائه إلى الهلاكة مثلاً ولم تسقط الجبيرة عن المالية أيضاً ، فماذا يصنع المكلّف؟ فإن مقتضى أدلّة حرمة التصرف في مال الغير حرمة المسح عليها ، ومقتضى ما دلّ على اشتراط الصلاة بالطّهارة ووجوب الصلاة في حقه وعدم سقوطها أن الصلاة واجبة في حقه مع الطّهارة.

احتاط الماتن بالجمع بين الوضوء بالاقتصار على غسل أطراف الجبيرة وبين التيمم. هذا ولكن المتعيّن هو التيمم في حقه ، وذلك لأن كفاية الوضوء الناقص أعني غسل أطراف الموضع مختصة بما إذا كان على بدن المتوضي جرح مكشوف ، وأما في غير المكشوف فلم يقم دليل على كفاية الغسل الناقص ، فإذا لم تشمل الأخبار للمقام فالأصل الأوّلي وهو التيمم الذي أسسناه في أوائل المسألة هو المحكّم في المقام ، نعم لا بأس بضمّه إلى الوضوء الناقص للاحتياط. هذا كله فيما إذا كانت الجبيرة المغصوبة على غير محال التيمم.

وأمّا إذا كانت في محاله كالوجه واليدين فلا وجه لاحتمال وجوب التيمم حينئذ وذلك لأنّا إنما نقول بانتقال الأمر إلى التيمم من جهة أن المكلّف لم يتمكّن من الوضوء شرعاً لاستلزامه التصرف في المال المغصوب والممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً ، فإذا فرضنا أن التيمم أيضاً كالوضوء مستلزم للتصرف في الجبيرة المغصوبة فلا موجب للانتقال إليه ، بل الأمر يدور بين أن تسقط عنه الصلاة رأساً لعدم تمكّنه من الطّهارة‌


[٦١١] مسألة ١٧ : لا يشترط في الجبيرة أن تكون ممّا يصحّ الصلاة فيه (١) فلو كانت حريراً أو ذهباً أو جزء حيوان غير مأكول لم يضرّ بوضوئه ، فالذي يضرّ هو نجاسة ظاهرها أو غصبيته.

______________________________________________________

وبين أن تسقط عنه حرمة التصرّف في المغصوب ، فالحكمان متزاحمان ولا يتمكّن المكلّف من امتثالهما ، وحيث إن وجوب الصلاة مع الطّهارة أهم من حرمة التصرّف في المغصوب ، لأن الصلاة عمود الدين ولا تترك بحال ، كما هو الحال في غير ذلك من المقامات ، إذ الأمر إذا دار بين الصلاة والغصب فلم يتمكن من إتيانها وترك الغصب كما إذا حبس في مكان مغصوب فلا محالة يتقدّم الأمر بالصلاة لأهميّتها ، فلا مناص من تقديم الأمر بالصلاة وسقوط النهي عن التصرف في مال الغير.

وهذا بخلاف المسألة المتقدّمة التي حكمنا فيها بوجوب التيمم ولم نقدّم الأمر بالوضوء على حرمة التصرّف ، وذلك لأن المزاحمة في تلك المسألة إنما كانت بين الأمر بالوضوء وحرمة التصرّف في مال الغير ، وحيث إنّ الوضوء له بدل دون حرمة التصرّف فمن هنا رجّحنا حرمة التصرّف على الوضوء وقلنا بوجوب التيمّم عليه. وأمّا في المقام فالمزاحمة بين أصل الصلاة وحرمة التصرّف ، ولا بدل للصلاة ، ولمكان أهميّتها قدمناها على حرمة التصرّف كما عرفت.

وبعد ذلك كله يدور الأمر بين الاقتصار بالوضوء الناقص بغسل أطراف الجبيرة وبين التوضّؤ على نحو الجبيرة أي بالمسح عليها ، وحيث إن الوضوء الناقص لا دليل على كفايته إلاّ في الجرح المكشوف ، لأنّ مقتضى ما دلّ على غسل الأعضاء ومسحها في الوضوء وما دلّ على لزوم مسح الجبيرة وكونه بدلاً عن العضو ، جزئية الجبيرة واعتبار مسحها مطلقاً وعدم سقوطها بحال ، وعليه فيتعيّن في حقه الوضوء بطريق الجبيرة والمسح عليها ، لعدم حرمة التصرّف في الجبيرة المغصوبة حينئذ كما عرفت.

(١) وذلك لإطلاق أدلّتها وعدم تقييدها الجبيرة بشي‌ء دون شي‌ء.


[٦١٢] مسألة ١٨ : ما دام خوف الضرر باقياً يجرى حكم الجبيرة وإن احتمل البرء (١) ولا يجب الإعادة إذا تبيّن برؤه سابقاً (٢) ، نعم لو ظنّ البرء وزال الخوف وجب رفعها.

______________________________________________________

دوران الحكم مدار خوف الضرر

(١) لاستصحاب بقاء جرحه أو كسره أو قرحه ، هكذا قيل. ويأتي في التعليقة الآتية أن ذلك حكم واقعي لا نحتاج فيه إلى الاستصحاب بوجه ، ومن ثمة لا نحكم عليه بوجوب الإعادة فيما إذا تبيّن برؤه قبل الوضوء.

(٢) وهذا لا لما قيل من أن الخوف له موضوعية في ترتب أحكام الجبائر كما يستفاد من رواية كليب الأسدي حيث قال : « إن كان يتخوّف على نفسه فليمسح على جبائره » (١) وذلك لأن الظاهر من أخذ الخوف في موضوع الحكم إنما هو طريقيته إلى الواقع ، ومعنى أنه « إن كان يتخوّف إلخ » أنه إن كان في بدنه جرح أو كسر يخاف من وصول الماء إليه فليمسح على جبائره لا أن الخوف له موضوعية ، بل الوجه فيما أفاده في المتن هو الإطلاق المستفاد من صحيحة ابن الحجاج حيث أمر عليه‌السلام فيها بغسل ما عدا الكسر أو الجرح المجبور قائلاً : إنه لا يعبث بجرحه (٢) ، فموضوع الحكم بالمسح على الجبيرة فيها هو الكسير أو الجريح الذي جبر كسره أو جرحه ، فلو كنّا نحن وهذا المقدار لحكمنا بوجوب إعادة الصلاة والوضوء فيما إذا توضأ على نحو الجبيرة ثمّ انكشف برؤه حال الوضوء ، وذلك لأن الموضوع في الصحيحة هو الكسير الذي جبر كسره ، والمفروض عدم كون المتوضئ كسيراً حال الوضوء فيحكم ببطلان وضوئه.

إلاّ أنه مضافاً إلى أنّ العادة قاضية على عدم حل الجبائر إلى أن يزول الخوف ويظن بالبرء قبل ذلك لا حين حلّها قد دلّتنا القرينة الخارجيّة على أن الموضوع‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٦٥ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٨.

(٢) الوسائل ١ : ٤٦٣ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ١.


[٦١٣] مسألة ١٩ : إذا أمكن رفع الجبيرة وغسل المحل لكن كان موجباً لفوات الوقت هل يجوز عمل الجبيرة؟ فيه إشكال بل الأظهر عدمه والعدول إلى التيمم (١).

______________________________________________________

لوجوب المسح على الجبيرة إنما هو من حدث به الكسر أو الجرح وقد كان مجبوراً حال الوضوء ، بلا فرق في ذلك بين بقاء كسره أو جرحه في حال الوضوء أيضاً وعدمه ، فلا أثر للبقاء وإنما المدار على حدوث الكسر وكونه مجبوراً حال الوضوء. وتلك القرينة هي عدم تحقق اليقين بالبرء في تلك الأزمنة مع جبر الموضع حال حله بأن يكون الجرح مثلاً قد برأ حال حل الجبيرة لا قبله ولا بعده ، أو لو كان متحققاً فهو أمر نادر قليل الاتفاق وإن أمكن استكشاف ذلك في أمثال زماننا هذا عن فوق الجبيرة ببعض الآلات والأدوات ، وأما في تلك الأزمنة فلم يكن للكشف عن ذلك طريق قطعي.

فإن حل الجبيرة قد يتفق أن يكون مقارناً لبرئه في ذلك الزمان أعني زمان حل الجبيرة ، وقد ينكشف أنه برأ قبل حلّها بزمان ، وثالثة ينكشف عدم برئه ويحتاج إلى الجبر ثانياً حتى يبرأ ، فاليقين بالبرء حين حل الجبيرة إما لا يتحقق وإما أنه نادر لا يمكن حمل الرواية عليه. فمقتضى إطلاقها بتلك القرينة أن كل من حدث به كسر ونحوه وكان مجبوراً حال الوضوء وجب عليه المسح على جبيرته سواء كان برأ في الواقع أم لم يكن ، بل ظاهر الصحيحة أن هذا حكم واقعي فإذا انكشف البرء حال وضوئه بعد الوضوء لم يجب عليه الإعادة بوجه ، فلا حاجة معه إلى الاستصحاب فيمن شك في برء كسره إلاّ إذا لم تتمّ دلالة الصحيحة على ما ذكرناه.

إذا كان رفع الجبيرة مفوتاً للوقت‌

(١) المتعيّن في حقه هو التيمم ، لأن روايات الجبائر كما مرّ غير مرّة تختص بما إذا لم يتمكّن من غسل البشرة أو مسحها من جهة الكسر أو الجرح أو القرح ، وأما من كان بدنه سليماً ولم يضره الماء إلاّ أنه لم يتمكن من غسله أو مسحه لضيق الوقت وعدم‌


[٦١٤] مسألة ٢٠ : الدواء الموضوع على الجرح ونحوه إذا اختلط مع الدم وصار كالشي‌ء الواحد ولم يمكن رفعه بعد البرء بأن كان مستلزماً لجرح المحل وخروج الدم فإن كان مستحيلاً بحيث لا يصدق عليه الدم بل صار كالجلد فما دام كذلك يجري عليه حكم الجبيرة (*) وإن لم يستحل كان كالجبيرة النجسة يضع عليه خرقة ويمسح عليه (١).

______________________________________________________

سعته لحل الجبيرة فهو خارج عن موارد الأخبار ، والأصل الأوّلى حينئذ هو التيمم كما سلف.

الدواء المختلط بالدم‌

(١) لا يمكن المساعدة على ما أفاده في شي‌ء من صورتي استحالة الدم وعدمها. أمّا إذا لم يستحل فلأن مفروض كلامه قدس‌سره إنما هو برء المحل ومع سلامة البدن وارتفاع الكسر أو الجراحة لا يجري في حقه حكم الجبيرة ، لاختصاص أخبارها بالجريح والكسير والقريح والمكلّف غير داخل في شي‌ء من ذلك. ومجرّد عدم تمكنه من رفع الدواء المخلوط به الدم لا يوجب جريان أحكام الجبيرة في حقه ، بل ينتقل أمره إلى التيمم لا محالة. على أن وضع خرقة طاهرة عليه أمر لا موجب له ولا دليل على لزومه.

وأمّا إذا استحال الدم فلعين ما قدّمناه في صورة عدم الاستحالة. على أنّ استحالة الدم إنما توجب ارتفاع أحكامه ، وأمّا أحكام الدواء المتنجس به فلا موجب لارتفاعها فهو دواء نجس لا يتمكّن من رفعه فيجب عليه التيمم لا محالة ، كما هو الحال في صورة عدم استحالة الدم فلا فرق بين الصورتين ، نعم إذا كان المحل مريضاً قد وضع عليه الدواء فحكمه حكم الجبيرة بمقتضى صحيحة الوشاء (٢) كما مرّ.

__________________

(*) بل ينتقل الأمر إلى التيمم ، سواء في ذلك الاستحالة وعدمها.

(١) الوسائل ١ : ٤٦٥ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٩.


[٦١٥] مسألة ٢١ : قد عرفت أنه يكفي في الغسل أقله بأن يجري الماء من جزء إلى جزء آخر ولو بإعانة اليد ، فلو وضع يده في الماء وأخرجها ومسح بما يبقى فيها من الرطوبة محل الغسل يكفي ، وفي كثير من الموارد هذا المقدار لا يضرّ خصوصاً إذا كان بالماء الحار وإذا أجرى الماء كثيراً يضر ، فيتعيّن هذا النحو من الغسل ولا يجوز الانتقال إلى حكم الجبيرة فاللاّزم أن يكون الإنسان ملتفتاً لهذه الدقّة (١).

______________________________________________________

هل المسح برطوبة اليد يجزئ عن الغسل؟

(١) أقل الغسل وهو انتقال جزء من الماء من جزء إلى جزء وإن كان مجزئاً لا محالة إلاّ أن الغسل على النحو المقرر في المتن لا يخلو من إشكال ومنع ، وذلك لما قدّمناه غير مرّة من أن الأمر بالغسل ظاهر في لزوم إحداث الغسل ، وأما الغسل بحسب البقاء فهو غير كاف في الامتثال ، والمكلّف إذا وضع يده في الماء وبذلك قد أحدث الغسل في يده ثمّ مسح برطوبتها وجهه أو غيره من مواضع الكسر مثلاً ، فلا محالة يكون المسح برطوبتها إبقاء للغسل الحادث في يده وإحداثاً للمسح في وجهه. ولا يطلق على إمرار يده على وجهه عنوان الغسل في شي‌ء من اللغات ، بل يقال إنه مسح وجهه ، مع أن المأمور به هو الغسل دون المسح.

وتوضيح ما ذكرناه : أنّا تعرّضنا تبعاً للماتن لأقل الغسل في بحث غسل الوجه من الوضوء وقلنا إنه عبارة عن جريان الماء من جزء إلى جزء إمّا بنفسه أو بواسطة اليد ونحوها (١). كما قلنا إن النسبة بينه وبين المسح عموم من وجه ، فإن المسح عبارة عن مرور الماسح على الممسوح برطوبة ونداوة ، وهما أمران متقابلان في الوضوء ومن هنا جعله الله سبحانه في مقابل الغسل في الآية المباركة ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...

__________________

(١) شرح العروة ٥ : ٤٨.


[٦١٦] مسألة ٢٢ : إذا كان على الجبيرة دسومة لا يضرّ بالمسح عليها إن كانت طاهرة (١).

[٦١٧] مسألة ٢٣ : إذا كان العضو صحيحاً لكن كان نجساً ولم يمكن تطهيره لا يجري عليه حكم الجرح بل يتعيّن التيمم (٢)

______________________________________________________

وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) (١) إلخ فلا يجزئ أحدهما عن الآخر بوجه.

وعليه فإذا أدخل يده في الماء ثمّ أخرجها فلا يكون المسح بها على وجهه غسلاً وذلك لأن مفروض كلام الماتن أنه يمسح برطوبة يده على وجهه ، والمسح مع النداوة والرطوبة مصداق للمسح ولا يطلق عليه الغسل في لغة العرب ولا في غيرها من اللّغات ، فإنّ المسح بالنداوة لا يكون إجراء للماء من جزء إلى جزء في شي‌ء من اللّغات ، وإذا كان المأمور به هو الغسل فلا يكون المسح بدلاً عنه كافياً في الامتثال كما ذكرنا نظيره عند تعرّض الماتن لجواز غسل الجبيرة الواقعة في مواضع الغسل ومسحها وقلنا إنّ المأمور به هو المسح والغسل لا يجزئ عنه بوجه (٢).

إذا كان على الجبيرة دسومة‌

(١) سواء كانت الدسومة قليلة ومعدودة من الأعراض أم كانت كثيرة ومعدودة من الجواهر ، وذلك لإطلاقات الأخبار الآمرة بالمسح على جبائره ، إلاّ أن تعرض الدسومة بفرض غير واقع على نحو لا يؤثر المسح فيها أبداً ، فإنّ المسح غير المؤثر لا يُكتفى به في مقام الامتثال ، حيث إنّ ظاهر المسح تأثر الممسوح بذلك.

العضو السّليم إذا لم يمكن تطهيره‌

(٢) والوجه فيه ظاهر ، لأنّ أخبار الجبائر مختصّة بالجريح والكسير والقريح ، وأما‌

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

(٢) في ص ١٥٧.


نعم لو كان عين النجاسة لاصقة به ولم يمكن إزالتها جرى حكم الجبيرة (*) (١) والأحوط ضم التيمم.

[٦١٨] مسألة ٢٤ : لا يلزم تخفيف ما على الجرح من الجبيرة إن كانت على المتعارَف (٢) كما أنه لا يجوز وضع شي‌ء آخر عليها مع عدم الحاجة إلاّ أن يحسب جزءاً منها بعد الوضع.

______________________________________________________

السّليم فهو خارج عن الأخبار وإن فرضنا عدم تمكنه من غسل بشرته أو مسحها لعدم تمكّنه من غسلها لقلّة الماء أو غيرها من الأسباب ، ومع عدم شمول الأخبار له ينتقل أمره إلى التيمم كما هو الأصل في كل من لم يتمكن من الوضوء.

(١) وفيه : أنّ اللاّصق بالبدن سواء كان من الأعيان النجسة أم من الأعيان الطاهرة لا يجري عليه أحكام الجبائر ، كما عرفته في القير اللاّصق بالبدن لاختصاصها بالكسير والجريح والقريح ، ومع سلامة العضو لا تشمله الأخبار فتنتقل وظيفته إلى التيمم لا محالة ، نعم خرجنا عن ذلك في الدواء اللاصق بالبدن بمقتضى صحيحة الوشّاء (٢) فإنّ حكمه حكم الجبيرة كما مرّ ، وأمّا غيره فلا دليل على التحاقه بالجبائر ، على أنّ وضع خرقة أُخرى طاهرة عليه أمر لا دليل على وجوبه.

تخفيف الجبيرة غير واجب‌

(٢) فلا يجب تخفيف الضخمة وجعلها رقيقة أو بتبديلها بالرقيق ، وذلك لإطلاقات الأخبار الآمرة بالمسح على الجبائر ، فكل ما صدق عرفاً أنه جبيرة كفى المسح عليها في مقام الامتثال إلاّ أن يخرج عن الجبيرة عند المتعارف ، كما إذا شدّ على جبيرته منديلاً ومسح على المنديل فإنّ المنديل لا يسمّى جبيرة حينئذ.

فالمراد من قوله : ( إن كانت على المتعارف ) هو كون الحائل جبيرة عند العرف‌

__________________

(*) بل ينتقل الأمر إلى التيمم.

(١) تقدّم ذكرها في مسألة ٢٠.


[٦١٩] مسألة ٢٥ : الوضوء مع الجبيرة رافع للحدث لا مبيح (١).

______________________________________________________

فكل ما صدق أنه جبيرة كفى مسحها عن غسل البشرة ومسحها ، ولم يرد بذلك كون الجبيرة متعارفة بحسب الغلظة والرقة ، لأنها تختلف باختلاف الأشخاص والموارد فقد يجبر بالكرباس وأُخرى بالفاسون وثالثة بشي‌ء آخر خفيف أو غليظ. ومن ذلك يظهر حكم ما إذا وضع على الجبيرة شيئاً وأراد المسح عليه فإنه إن عدّ عند العرف جزءاً من الجبيرة فلا محالة يكفي المسح عليه في مقام الامتثال ، وإذا عدّ شيئاً زائداً عليها فلا يكفي كما عرفت.

الوضوء مع الجبيرة رافع‌

(١) إن أراد القائل بكونه مبيحاً أن المتوضئ مع الجبيرة باق على حدثه وليس متطهراً بوجه إلاّ أنه جاز أن يدخل في الصلاة أو في غيرها مما يشترط فيه الطّهارة تخصيصاً فيما دلّ على اشتراط الصلاة أو غيرها من الأفعال بالطّهارة ، فهو ممّا لا يحتمل بوجه ، فإن الأخبار الواردة في الجبائر قد اشتملت على السؤال عن الوضوء والغسل وأنّ الجريح أو الكسير ما يصنع بوضوئه فأجابوا بأنه يمسح على الجبيرة ، وظاهرها أنّ السؤال إنما هو عن ذلك الوضوء أو الغسل الذي اشترطت الصلاة به وأنه هو الوضوء مع الجبيرة في حقه ، لا أنّ المراد منها أمر آخر غير ما هو الشرط في الصلاة فلا يمكن القول بأن المتوضي مع الجبيرة غير متطهر بوجه.

كما أنّ القائل بكونه رافعاً إن أراد أن الوضوء مع الجبيرة كالوضوء التام وهما فردان اختياريان من الطبيعي المأمور به وأحدهما في عرض الآخر ، فكما أنّ المكلّف يتمكّن من أن يأتي بالوضوء التام يتمكّن من الوضوء مع الجبيرة بإدخال نفسه في موضوعه بالاختيار ، نظير الصلاة المقصورة والتامّة حيث إنهما فردان اختياريان من طبيعي الصلاة المأمور بها وأحدهما في عرض الآخر ، وللمكلّف أن يختار أيّاً منهما شاء بإدخال نفسه في موضوع المسافر. فهو أيضاً غير محتمل بوجه ، لأنّ الأخبار الواردة في الجبائر كالأدلّة الدالّة على كفاية التيمم في حق فاقد الماء إنما تدلّنا على أنّ‌


الوضوء مع الجبيرة أو التيمم وظيفة المعذور عن الوضوء التام بحيث لا يتمكن من إتيانه ، وأما من كان متمكناً من الوضوء التام ثمّ أدخل نفسه في ذوي الأعذار فهو خارج عن مصب الأخبار رأساً. وعليه فالقول الوسط بين هذين القولين أن يقال : إن الوضوء مع الجبيرة كالتيمم طهارة حقيقية ولكنها في طول الطّهارة بالوضوء التام بمعنى أنهما في حق المعذور يقابلان الوضوء والوضوء التام في حق الواجد وغير المعذور ، فهما طهارتان في ظرف المعذورية لا في عرض الوضوء والوضوء التام.

ولا يرد على ذلك أن لازمه جواز التفويت الاختياري بإراقة الماء بعد الوقت وجعل نفسه فاقداً للماء بالاختيار أو بإيجاد كسر أو قرح في بدنه اختياراً ، فإنه بعد إدخال نفسه تحت عنوان الفاقد أو الجريح والكسير يكون التيمم أو الوضوء مع الجبيرة طهارة حقيقية في حقه ، ورافعة كالوضوء والوضوء التام في حق الواجد وغير الجريح والكسير.

والوجه في عدم ورود ذلك على ما ذكرناه هو أن مقتضى ما قدّمناه من اختصاص أدلّة التيمم والوضوء مع الجبيرة للمعذور غير المتمكن من الوضوء المأمور به عدم وجوب الصلاة على من فوّت على نفسه وأراق الماء أو جرح نفسه ، وذلك لعدم كونه معذوراً غير متمكن من الوضوء المأمور به ، لأنه كان متمكناً منه على الفرض وقد أدخل نفسه في موضع الفاقد أو العاجز بالاختيار ، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار فلا طهارة في حقّه والصلاة ساقطة بالإضافة إليه ويعاقب من جهة تفويته الاختياري ، ولكن الإجماع القطعي دلّنا على أن الصلاة لا تسقط بحال فمنه استكشفنا أن وظيفته بعد تفويته هي الصلاة مع التيمم أو الوضوء مع الجبيرة ، فهما طهارتان حقيقيتان في حقّه وليستا في عرض الوضوء التام بل في طوله. على أنهما في حق المعذور بالاختيار لا يقابلان الوضوء التام للصحيح ، بل يصح أن يقال إنهما طهارتان في مرتبة نازلة من الوضوء التام ، لعدم كونهما وافيين بالملاك مثل الوضوء التام ، كما أنه يعاقب من تلك الناحية أي من ناحية تفويته مقداراً من المصلحة حيث عجز نفسه عن الإتيان بالوضوء التام واستيفاء ملاكه ، ويحكم بصحّتهما للإجماع الكاشف عن اشتمالهما على مقدار من المصلحة لازم الاستيفاء حينئذ.


[٦٢٠] مسألة ٢٦ : الفرق بين الجبيرة التي على محل الغسل والتي على محل المسح من وجوه كما يستفاد مما تقدّم : أحدها : أن الاولى بدل الغسل ، والثانية بدل عن المسح (١). الثاني : أن في الثانية يتعيّن المسح ، وفي الاولى يجوز الغسل (*) أيضاً على الأقوى (٢).

______________________________________________________

فالمتحصل أنهما طهارتان في طول الوضوء التام ومرتبتهما دون مرتبة الوضوء التام ، والمفوِّت بالاختيار يعاقب على تفويته الملاك في ذلك الوضوء وإن كان يحكم بصحّة تيممه أو وضوئه الناقص من جهة الإجماع واشتمالهما على مقدار من المصلحة الملزمة.

الفوارق بين الجبيرتين‌

(١) إن كان نظره قدس‌سره إلى أن المسح في مواضع الغسل يجزئ عن الغسل وفي موارد المسح يجزئ عن المسح وأن الشارع يكتفي به بدلاً عن الغسل أو المسح فهو عين المسألة ومما لا إشكال فيه ، وإن كان نظره إلى أنه لا بدّ من قصد البدلية عن الغسل في مواضعه والبدلية عن المسح في مواضعه فهو مندفع بالإطلاقات ، حيث دلّت الروايات على أنه يمسح على جبائره من غير اعتبار قصد البدلية عن الغسل أو المسح ، نعم البدلية هي التي لاحظها الشارع في جعله وأمره به حيث لاحظ أنه بدل عن الغسل أو المسح فأمر به ، وأما أنها لا بدّ من ملاحظتها في مقام الامتثال فهو مما لم يقم عليه دليل.

(٢) تقدّم أن النسبة بين الغسل والمسح عموم من وجه وأن أحدهما غير الآخر (٢) والمأمور به في الأخبار إنما هو المسح على الجبائر ، وظاهرها أنه واجب متعيّن ولا دليل على كفاية غسل الجبيرة. وقاعدة الميسور غير منطبقة على المقام ، على أنها غير تامّة في نفسها كما مرّ غير مرّة.

__________________

(*) تقدّم عدم جوازه.

(١) في ص ١٨٤.


الثالث : أنه يتعيّن في الثانية كون المسح بالرطوبة الباقية في الكف وبالكف ، وفي الاولى يجوز المسح بأي شي‌ء كان وبأي ماء ولو بالماء الخارجي (١). الرابع : أنه يتعيّن في الأُولى استيعاب المحل (٢) إلاّ ما بين الخيوط والفُرَج ، وفي الثانية يكفي المسمّى (٣). الخامس : أن في الأُولى الأحسن أن يصير شبيهاً بالغسل في جريان الماء بخلاف الثانية فالأحسن فيها أن لا يصير شبيهاً بالغسل (٤).

______________________________________________________

(١) والوجه في ذلك أن المستفاد من الأخبار الواردة في المقام حسب الارتكاز العرفي أن الجبيرة بدل عن البشرة فحكمها حكمها ، وحيث إن المسح في مواضع المسح إذا كان بالبشرة لا بدّ وأن يكون بالنداوة الباقية في اليد كما في صحيحة زرارة « وتمسح ببلة يمناك ناصيتك » (١) فكذلك لا بدّ من ذلك في المسح على الجبيرة التي هي بدل عن البشرة ، وحكمها حكم المحل. وأمّا الغسل في مواضع الغسل فلا يعتبر فيه أن يكون بالبلة الباقية في اليد ، لجواز أن يكون بالماء الجديد كما مرّ تفصيله فكذلك الحال في الجبيرة التي هي في حكم المحل.

(٢) لما عرفت من أن حكم الجبيرة حكم المحل ، فكما أن في موارد الغسل لا بدّ من استيعاب الغسل فكذلك في الجبيرة الموجودة على مواضع الغسل ، نعم لا يعتبر في الاستيعاب في المسح التدقيق ، بل يكفي المقدار الذي يسمى مسحاً مستوعباً عند العرف.

(٣) كما هو الحال في المسح على نفس البشرة كما في مسح الرأس أو الرجل بحسب العرض ، وأما طولاً فيعتبر فيه أن يكون من الأصابع إلى الكعبين كما هو ظاهر.

(٤) الاحتياط وإن كان كما أفاده إلاّ أنه غير معتبر في صحّة الوضوء ، وذلك لأن الغسل غير المسح والنسبة بينهما عموم من وجه ، والمأمور به هو المسح في موارد الغسل والمسح ، ولا يعتبر أن يكون مجتمعاً مع الغسل أو شبيهاً به.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٨٧ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٢.


السادس : أن في الاولى لا يكفي (*) مجرّد إيصال النداوة بخلاف الثانية حيث إن المسح فيها بدل عن المسح الذي يكفي فيه هذا المقدار (١). السابع : أنه لو كان على الجبيرة رطوبة زائدة لا يجب تجفيفها في الأُولى بخلاف الثانية (٢). الثامن : أنه يجب مراعاة (**) الأعلى فالأعلى في الأُولى دون الثانية (٣). التاسع : أنه يتعيّن في الثانية إمرار الماسح على الممسوح بخلاف الأُولى فيكفي فيها بأي وجه كان (***) (٤).

______________________________________________________

(١) قد عرفت أن المأمور به في كل من موارد الغسل والمسح هو المسح على الجبيرة ، ولا فرق بينهما في ذلك ، وإن كان الأحوط المسح بالماء في مواضع الغسل.

(٢) لما تقدّم من أن حكم الجبيرة حكم المحل ، فكما أن الرطوبة في البشرة في مواضع الغسل غير مانعة عن صحّة الوضوء فكذلك الحال في الجبيرة في تلك المواضع ، وأما في مواضع المسح فحيث إن المعتبر أن يكون المسح بنداوة اليد فلا بدّ من اعتبار تجفيفها ، لأن النداوة لو اندكت في رطوبة المحل أو امتزجت معها وإن لم تكن مندكة لم يتحقق المسح بنداوة اليد ، بل المسح كان بالماء الخارجي أو الممتزج منه ومن نداوة اليد وهو غير كاف في صحّة الوضوء.

(٣) لأن الجبيرة كالمحل فإذا لم يعتبر في نفس البشرة أن يكون المسح أو الغسل من الأعلى إلى الأسفل فكذلك الحال في الجبيرة في ذلك المحل ، كما أنه إذا اعتبر فيه ذلك اعتبر في الجبيرة أيضاً ، وعليه فيعتبر في الجبيرة في مواضع الغسل وفي مسح الرأس أن يكون المسح من الأعلى فالأعلى ، وأما في مسح الرجلين فالأقوى عدم اعتباره كما هو الحال في نفس البشرة.

(٤) لما مرّ وعرفت من أنّ الجبيرة كالمحل ، وحيث إن المستفاد من الآية (٤)

__________________

(*) على الأحوط الأولى.

(**) تقدّم تفصيل ذلك [ في فصل أفعال الوضوء الفعل الأوّل والثاني والثالث والرابع ].

(***) فيه إشكال فلا يترك الاحتياط.

(١) ( ... وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ... ) المائدة ٥ : ٦.


[٦٢١] مسألة ٢٧ : لا فرق في أحكام الجبيرة بين الوضوءات الواجبة والمستحبة (١).

[٦٢٢] مسألة ٢٨ : حكم الجبائر في الغُسل كحكمها (*) في الوضوء واجبة ومندوبة (٢)

______________________________________________________

والأخبار (٢) أن المسح في مواضع المسح يعتبر أن يكون بإمرار الماسح على الممسوح فكذلك الحال في الجبيرة الموضوعة على محال المسح ، وأما في مواضع الغسل فلا يعتبر فيه شي‌ء من ذلك ، فيجوز إيقاف الماسح وإمرار الممسوح بالماسح ، وكذا الحال في الجبيرة الموضوعة على المحل.

عدم الفرق بين الوضوء الواجب والمندوب‌

(١) للإطلاقات (٣) حيث لم يقيّد شي‌ء من الأحكام الواردة في روايات الجبائر بما إذا كان الوضوء واجبا.

هل يفرق بين الغسل أو الوضوء في الجبائر؟

(٢) هذا يبتني على دعوى القطع بعدم الفرق بين الوضوء والغسل في شي‌ء من أحكام الجبائر ، وحيث إنها غير تامّة ولا قطع لنا بتساويهما بوجه فلا مناص من المراجعة في ذلك إلى الأخبار لنرى أن أي حكم من أحكام الجبائر في الوضوء قد‌

__________________

(*) الظاهر أن من كان به جرح أو قرح يتخير بين التيمم والغسل ، والأحوط على تقدير الاغتسال أن يضع خرقة على موضع القرح أو الجرح ويمسح عليها وإن كان جواز الاكتفاء بغسل الأطراف لا يخلو عن قوّة. وأما الكسير فان كان محل الكسر فيه مجبوراً تعيّن عليه الغسل والمسح على الجبيرة مع التمكن ، وإن كان المحل مكشوفاً أو لم يتمكن من المسح على الجبيرة تعيّن عليه التيمم.

(١) راجع الوسائل ١ : ٣٨٧ / أبواب الوضوء ب ١٥.

(٢) راجع الوسائل ١ : ٤٦٣ / أبواب الوضوء ب ٣٩.


ثبت في الغسل أيضاً فنأخذ به ، وفيما لم يقم عليه دليل في الغسل نرجع إلى الأصل الأوّلي أعني وجوب التيمم في حق من لم يتمكن من استعمال الماء في الوضوء أو لغسل.

ونتيجة إنكار القطع بتساويهما أن الجريح والقريح إذا أجنبا يتخيران بين التيمم والغسل مع الجبيرة ولا يتعيّن عليه خصوص الغسل مع الجبيرة ، ويساعده أن في غسل الجريح والقريح مع الجبيرة عسراً وحرجاً ، وهذا من أحد موارد التخيير بين التيمم والغسل مع الجبيرة.

وكيف كان ، المعروف بين الفقهاء ( قدس الله أسرارهم ) أن الغسل والوضوء متحدان من حيث الأحكام في الجبائر ، ولكن الصحيح أنهما مختلفان في ذلك وأن الجريح والقريح إذا أجنبا يتخيران بين الغسل مع الجبيرة والتيمم ، بلا فرق في ذلك بين كونهما مجبورين وبين كونهما مكشوفين. فلنتكلم أوّلاً في جواز الغسل في حقّه مع الجبيرة ليتضح منه جواز تيممه.

المجبور من الجريح والقريح‌

أمّا المجبور من الجريح والقريح فلصحيحة ابن الحجاج عن أبي الحسن عليه‌السلام : « عن الكسير تكون عليه الجبائر أو تكون به الجراحة كيف يصنع بالوضوء وعند غسل الجنابة وغسل الجمعة؟ فقال عليه‌السلام : يغسل ما وصل إليه الغسل مما ظهر مما ليس عليه الجبائر ويدع ما سوى ذلك مما لا يستطيع غسله ولا ينزع الجبائر ويعبث بجراحته » (١) لأنها كما ترى غير مختصّة بالوضوء ، وقد دلّت على أن الجريح المجبور بقرينة قوله : ولا ينزع الجبائر يغسل بقيّة المواضع الصحيحة ويدع الموضع المجبور بلا فرق في ذلك بين الغسل والوضوء. وهي وإن كانت ظاهرة في رجوع الضمير في قوله : « أو تكون به الجراحة » إلى الكسير إلاّ أنه غير مراد يقيناً وإنما يرجع إلى الرجل المقدر في قوله : « عن الكسير تكون عليه الجبائر » بمعنى أنه‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٦٣ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ١.


يرجع إلى ذات الكسير لا هو بوصف كونه كسيراً.

ثمّ إن الصحيحة وإن لم تتضمن الأمر بالمسح على الجبيرة إلاّ أنا استفدنا ذلك من بقيّة الأخبار الآمرة بالمسح على الجبائر (١). ثمّ إنها وإن كانت مختصّة بالوضوء إلاّ أنا نلحق الجبيرة في الغسل إلى الوضوء للقطع بعدم كفاية الغسل من دون غسل بعض المواضع ولا مسح ما هو كالمحل ، حيث إن الجبيرة غالباً بل دائماً تكون أوسع من الجراحة بمقدار فذلك المقدار الصحيح من أطراف الجراحة الذي تحت الجبيرة لا بدّ إما أن يغسل وإما أن يمسح الجبيرة الموضوعة عليه ، وحيث لا يجب عليه نزع الجبيرة وغسل ما تحته فلا مناص من أن يمسح على الجبيرة التي هي كالمحل.

فالمتحصل : أن الجرح أو القرح المجبور عند الاغتسال يغسل مع الجبيرة ويمسح عليها كما هو الحال في الوضوء. ويدلّ على ذلك صحيحة كليب الأسدي (٢) حيث دلّت على أن الكسير يمسح على جبائره ، لعدم اختصاصها بالوضوء.

الجرح المكشوف‌

وأمّا الجرح المكشوف عند الاغتسال فلصحيحة عبد الله بن سنان « عن الجرح كيف يصنع به صاحبه؟ قال عليه‌السلام : يغسل ما حوله » (٣) لأنها غير مختصّة بالوضوء بل مطلقة تشمل كلاًّ من الوضوء والغسل ، وعليه فهما متحدان في الجرح المكشوف حيث يجب غسل ما حوله في كليهما هذا. إلاّ أن في قبالهما (٤) عدّة كثيرة من الأخبار ، وقد دلّت على أن الجريح والقريح إذا أجنب يجب عليه التيمم فحسب.

منها : صحيحة محمّد بن مسلم قال : « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الرجل يكون به القرح والجراحة يجنب ، قال : لا بأس بأن لا يغتسل ، يتيمم » (٥).

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٦٣ / أبواب الوضوء ب ٣٩.

(٢) الوسائل ١ : ٤٦٥ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٨.

(٣) الوسائل ١ : ٤٦٤ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٣.

(٤) لم يتقدّم منه إلاّ صحيحة واحدة فليلحظ.

(٥) الوسائل ٣ : ٣٤٧ / أبواب التيمم ب ٥ ح ٥.


ومنها : صحيحة البزنطي عن الرضا عليه‌السلام : « في الرجل تصيبه الجنابة وبه قروح أو جروح أو يكون يخاف على نفسه من البرد ، فقال : لا يغتسل ويتيمم » (١).

ومنها : غير ذلك من الأخبار (٢) ، وهي معارضة مع الصحيحتين المتقدّمتين. وقد ذكر في الجمع بينهما وجوه لا بأس للتعرّض لبعضها :

فمنها : ما ذكره صاحب الحدائق قدس‌سره من حمل الصحيحتين المتقدّمتين على ما إذا كانت الجراحة واحدة وحمل الطائفة الثانية على صورة تعدّد الجراحة (٣) ولعلّه لأن في الاغتسال مع الجراحة المتعدِّدة مشقّة نوعية.

ويبعده أن أكثر الأخبار في الطائفة الثانية وإن اشتملت على لفظة القروح والجروح بصيغة الجمع إلاّ أن الظاهر أنها بمعنى الجنس ، حيث قد يستعمل الجمع ويراد منه الجنس كما في قوله عليه‌السلام : « عليه جبائر » مع أن وجود الجبيرة الواحدة كاف في إجراء حكم الجبيرة ، وإنما أتى بصيغة الجمع بلحاظ تعدد أفراد الجبائر أو القروح والجروح ، لأن الجبيرة قد تكون من الخشب وأُخرى من الخرقة وهكذا هذا. على أن بعض أخبار الطائفة الثانية قد ورد بصيغة المفرد وأن الرجل يكون به القرح أو الجراحة كما في صحيحة محمّد بن مسلم المتقدِّمة ، فهذا الجمع غير وجيه.

ومنها : ما ذكره شيخنا الأنصاري قدس‌سره واستحسنه جملة ممّن تأخّر عنه حيث حمل الطائفة الآمرة بالغسل مع الجبيرة على صورة عدم تضرّر المواضع الصحيحة من بدنه بالاغتسال والطائفة الثانية الدالّة على وجوب التيمم على صورة تضرر المواضع الصحيحة من بدنه بالماء ، للقطع بأن من تضرّر باستعمال الماء لا يجب عليه الاغتسال (٤) هذا.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٤٧ / أبواب التيمم ب ٥ ح ٧.

(٢) كصحيحة داود بن سرحان المروية في الوسائل ٣ : ٣٤٨ / أبواب التيمم ب ٥ ح ٨ وغيرها من روايات الباب المذكور.

(٣) الحدائق ٢ : ٣٨٦.

(٤) كتاب الطّهارة : ١٤٧ / السطر ٧.


ولا يمكن المساعدة على ذلك أيضاً ، لأنه ليس من الجمع العرفي بين المتعارضين وذلك لأن السؤال في الطائفة الآمرة بالتيمم إنما هو عن الجريح ومن به قرح أو جراحة لا عمن تضرر بدنه غير الجريح باستعمال الماء ، وظاهر الجواب حينئذٍ أن من لم يتمكن من استعمال الماء من جهة الجراحة في بدنه يتيمم لا أن من لم يتمكن من استعماله لأجل الحمى أو لتضرر المواضع السليمة من بدنه يجب عليه التيمم ، وهذا دقيق. ووجوب التيمم على من أضر به الماء وإن كان معلوماً عندنا إلاّ أنه لا يوجب تقييد الروايات بوجه ، لأنها ناظرة إلى بيان أن من تضرر لأجل الجرح وظيفته التيمّم ، ولا نظر لها إلى بيان حكم المتضرِّر من غير ناحية الجرح ، وحيث إن هذا الموضوع بعينه هو الذي دلّت الطائفة الأُولى على وجوب الغسل فيه فلا محالة تتعارضان ، ولا يكون حمل الثانية على صورة تضرر المواضع الصحيحة من الجمع العرفي في شي‌ء.

فالإنصاف أن الطائفتين متنافيتان لوحدة المورد فيهما ، ومقتضى الجمع العرفي بينهما رفع اليد عن ظاهر كل منهما بنص الآخر ، حيث إن الطائفة الآمرة بالاغتسال ظاهرة في تعين الغسل وناصة في جوازه والطائفة الآمرة بالتيمم ظاهرة في تعين التيمم وناصة في جوازه ، فبنص كل منهما ترفع اليد عن ظاهر الآخر وتكون النتيجة ما ذكرناه من جواز كل من الغسل والتيمم وكون المكلّف مخيراً بينهما هذا ، بل يمكن استفادة ذلك من صريح صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة حيث نفت البأس عن تركه الاغتسال وقال إنه يتيمم ، وهي كالصريح في جواز كلا الأمرين في حقه ، بل وكذلك صحيحة البزنطي بحمل النهي فيها عن الاغتسال على النهي في موارد توهم الأمر وهو يفيد الإباحة والجواز. هذا كله في حق الجريح والقريح عند الاغتسال.

وأمّا الكسير فقد وردت فيه روايات أربع :

منها : مرسلة ابن أبي عمير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « يتيمم المجدور والكسير بالتراب إذا أصابته جنابة » (١).

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٤٧ / أبواب التيمم ب ٥ ح ٤.


ومنها : مرسلة ثانية له عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « يؤمم المجدور والكسير إذا أصابتهما الجنابة » (١).

ومنها : مرسلة الصدوق ، قال وقال الصادق عليه‌السلام : « المبطون والكسير يؤممان ولا يغسلان » (٢).

ومنها : مرسلة الكافي ، قال : وروى ذلك في الكسير والمبطون يتيمم ولا يغتسل (٣).

وهذه الأخبار تدلّنا على أن الكسير يتيمم ولا يجوز في حقه الاغتسال. إلاّ أنها لإرسالها لا يمكننا الاعتماد عليها ، نعم يكفي في الحكم بوجوب التيمم في حقه المطلقات الآمرة بالتيمم لمن عجز من استعمال الماء ، وهو الأصل الأوّلي في كل من لم يتمكّن من استعمال الماء ، فإن مقتضاها أن الكسير المجنب يتيمم ولا يغتسل.

وأمّا الأخبار الواردة في الجبيرة فقد دلّت صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج على أن الكسير يغتسل أو يتوضأ حيث قال عليه‌السلام : « يغسل ما وصل إليه الغسل ويدع ما سوى ذلك » (٤) ومقتضاها أن الكسير لا يجوز أن يتيمم بل يغتسل مع الجبيرة ، وهي وإن لم تشتمل على الأمر بالمسح على الجبيرة إلاّ أنا علمنا من الخارج أن الشارع لم يرفع يده من غسل البشرة أو مسح ما هو بدل عن البشرة ، وبما أن الجبيرة تسع مقداراً من الأطراف الصحيحة ولا تكون بمقدار المحل ، بل لو وجدت بمقداره في الجراحة والقرحة فلا يتحقق في الكسر أبداً ، لأنه لا بدّ أن يشد بالأطراف الصحيحة أيضاً حتى ينجبر ، وهذا المقدار الصحيح الذي هو تحت الجبيرة لا يجب غسله لعدم وجوب نزع الجبيرة فلا مناص من أن يمسح على الجبيرة التي فوقه.

فبهذه الصحيحة نحكم بوجوب الاغتسال على الكسير مع المسح على الجبيرة‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٤٨ / أبواب التيمم ب ٥ ح ١٠.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٤٨ / أبواب التيمم ب ٥ ح ١٢ ، الفقيه ١ : ٥٩ / ٢١٧.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٤٦ / أبواب التيمم ب ٥ ح ٢ ، الكافي ٣ : ٦٨ / ٥.

(٤) الوسائل ١ : ٤٦٣ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ١ ، وقد تقدّمت بتمامها في ص ١٩٣.


وإنّما الكلام في أنه هل يتعين حينئذ الغسل ترتيباً أو يجوز الارتماسي أيضاً (*) ، وعلى الثاني هل يجب أن يمسح على الجبيرة تحت الماء أو لا يجب؟ (١)

______________________________________________________

كما في الوضوء إلاّ أنها مختصّة بالكسر المجبور ، ولأجل ذلك تكون الصحيحة أخص مطلقاً من المراسيل الدالّة على وجوب التيمم في حقّه والمطلقات الآمرة بالتيمم في حق من عجز من استعمال الماء ، لعدم اختصاصهما بالمجبور فتتقدّم الصحيحة عليهما وتخصصهما بما إذا كان الكسير مجبوراً ، فإن وظيفته الغسل مع الجبيرة ولا يتخيّر بين التيمم والاغتسال كما في الجريح والقريح ، فإن التخيير فيهما مستند إلى المعارضة الموجبة لرفع اليد عن ظاهر كل منهما بنص الآخر المنتج للتخيير ، ولا معارضة في المقام.

الكسر الكشوف‌

وأمّا الكسر المكشوف فيجب معه التيمم بمقتضى المراسيل المتقدّمة على تقدير الاعتماد عليها أو المطلقات الدالّة على أن الأصل الأوّلي في حق كل عاجز عن استعمال الماء هو التيمم.

(١) بقي الكلام في أن الجريح أو القريح أو الكسير إذا أراد الاغتسال فهل يجب أن يغتسل ترتيباً أو ارتماساً؟ وعلى الثاني يجب أن يمسح على الجبيرة تحت الماء أو لا يجب؟ ذكر الماتن أن الأقوى جواز الغسل ارتماساً وعدم وجوب المسح على الجبيرة تحت الماء.

ولكن الصحيح عدم جواز الارتماسي في حقّه ، إذ يشترط في الغسل ارتماساً إحاطة الماء للبدن دفعة واحدة ، والماء لا يحيط بدن الكسير ونحوه دفعة واحدة لمكان الجبيرة. وقد عرفت أن الواجب في حقّه المسح على الجبيرة دون غسلها ، لأنه ظاهر الأمر بالمسح من غير عدل ، فان مثله ظاهر في التعيين ، فلو أراد أن يرتمس ويمسح‌

__________________

(*) الأحوط بل الأظهر عدم جوازه.


الأقوى جوازه وعدم وجوب المسح وإن كان الأحوط اختيار الترتيب ، وعلى فرض اختيار الارتماس فالأحوط المسح تحت الماء ، لكن جواز الارتماسي مشروط بعدم وجود مانع آخر من نجاسة العضو وسرايتها إلى بقيّة الأعضاء أو كونه مضراً من جهة وصول الماء إلى المحل.

______________________________________________________

على الجبيرة حال الارتماس أيضاً لم يحكم بصحّة غسله لأن المسح تدريجي ، ولا محالة لا يتحقق مع انغماس الرأس في الماء دفعة واحدة ولا أقل في الجزء الأخير من المسح لأنه يتأخر عن انغماس الرأس يقيناً ، فالمتعيّن في حقّه الغسل ترتيبا.

ثمّ إن الكلام في كفاية الارتماس في حقّه وعدمها إنما هو فيما إذا لم يكن هناك مانع آخر من صحّته ، كما إذا كان وصول الماء إلى المحل على نحو الارتماس مضراً في حقّه أو أن المحل كان نجساً ووصول الماء إليه بالارتماس يوجب سراية النجاسة إلى المواضع الطاهرة من بدنه تحت الجبيرة فإن الارتماس غير جائز حينئذ ، وهذا لا لأن الغسل يعتبر فيه طهارة الأعضاء قبل الاغتسال ، بل لو لم يعتبر الطّهارة قبل الاغتسال أيضاً كما هو الصحيح نمنع عن الارتماس وإن لم يغتسل في الماء القليل أيضاً كما إذا ارتمس في الكثير. والوجه في المنع أنه لا يجوز له أن ينجس بدنه بأكثر من المقدار الضروري ، فلو ارتمس في الكثير فبمجرد إخراج يده أو غيرها من الماء تسري النجاسة من الموضع المتنجس إلى المواضع القريبة منه وتستلزم نجاستها تحت الجبيرة ولا يمكن تطهيرها بعد ذلك لمكان الجبيرة ، فيكون الغسل مرتمساً مفوّتاً لشرط الصلاة أعني طهارة البدن في غير موضع الجرح ، والغسل المفوت لشرط الصلاة مما لا أمر به شرعاً.

وليعلم أن محل كلامنا إنما هو الغسل مع الجبيرة لا الجرح أو الكسر المكشوف ، إذ يمكن معه تصحيح الارتماس بوضع شي‌ء على جرحه أو بدنه فيرتمس في الماء ، وعلى تقدير تنجس بعض الأطراف الطاهرة يغسله بعد الاغتسال.


[٦٢٣] مسألة ٢٩ : إذا كان على مواضع التيمم جرح أو قرح أو نحوهما فالحال فيه حال الوضوء في الماسح كان أو في الممسوح. (١)

______________________________________________________

إذا كان على مواضع التيمم جرح أو قرح

(١) لا إشكال في أن حكم الجبيرة في التيمم حكمها في الغسل والوضوء ، سواء كانت الجبيرة في الماسح أو الممسوح. ولعلّ المسألة متسالَم عليها من غير خلاف وإنما الكلام في مدرك ذلك ، فقد يستدل عليه بالإجماع والتسالم القطعيين ، وأُخرى يستدل عليه بحسنة الوشاء المتقدِّمة حيث اشتملت على السؤال عمن على يده أو يديه دواء يمسح عليه؟ قال : نعم (١) وذلك لإطلاقها ، فقد دلّت على أن من كان مأموراً بغسل البشرة أو بمسحها كما في التيمم ولم يتمكن عنه لمانع من الدواء ونحوه يمسح على ذلك الدواء.

وفيه : أنه مع الإغماض عن المناقشة في دلالتها بأنها مختصّة بالدواء ولا مرخص للتعدي عن موردها ، لأن كفاية المسح على الحائل من غسل البشرة أو مسحها على خلاف القاعدة ، فلو تمسكنا بذيل الإجماع وعدم القول بالفصل بين الدواء وغيره كان استدلالاً بالإجماع لا بالحسنة. يرد على الاستدلال بها أنها رُويت بطريقين بإسناد واحد وفي أحدهما الرواية كما قدمناه وهو طريق الشيخ قدس‌سره (٢) وفي الآخر الذي هو طريق الصدوق زيدت كلمة ( في الوضوء ) بعد قوله : « أيمسح عليه » (٣) فهما رواية واحدة لوحدة إسنادهما مردّدة بين النقيصة والزيادة ، فمع الإغماض عن أن الأمر إذا دار بين النقيصة والزيادة الأصل عدم الزيادة وأن الشيخ كثيراً ما ينقص شيئاً في الرواية أو يزيد عليه والصدوق أضبط ، ومقتضى هذين الأخذ برواية الصدوق وتخصيصها بالوضوء ، تصير الرواية مجملة فلا يمكننا الاعتماد عليها في الحكم بكفاية المسح على الحائل مطلقاً ولو في التيمم ، لاحتمال اختصاصها بالوضوء كما ورد‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٦٥ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٩ ، ١٠.

(٢) التهذيب ١ : ٣٦٤ / ١١٠٥.

(٣) عيون أخبار الرضا ٢ : ٢٢ / ٤٨.


[٦٢٤] مسألة ٣٠ : في جواز استئجار صاحب الجبيرة إشكال (*) بل لا يبعد انفساخ الإجارة إذا طرأ العذر في أثناء المدّة مع ضيق الوقت عن الإتمام واشتراط المباشرة ، بل إتيان قضاء الصلاة عن نفسه لا يخلو عن إشكال مع كون العذر مرجو الزوال ، وكذا يشكل كفاية تبرّعه عن الغير (١).

______________________________________________________

في طريق الصدوق. فالصحيح في الاستدلال أن يقال : إن الكسير والجريح والقريح في موارد التيمم لا إشكال في أنه مأمور بالصلاة ، حيث لا نحتمل سقوط التكليف عنه بالصلاة ما دام كونه كسيراً ولو إلى آخر عمره ، ولا صلاة إلاّ بطهور ، والطهور اسم للماء والتراب أعني ما به يتطهر ، وحيث إنه عاجز عن استعمال الماء على الفرض فيتعين أن يكون طهوره التراب ، وبما أن استعمال التراب لا نحتمل أن يكون على وجه آخر غير التيمم بأن يمسح بدنه به أو نحو ذلك مثلاً أو فبالسبر والتقسيم يظهر أن وظيفة مثله التيمم والمسح على بشرته وجبيرته والصلاة معه.

حكم استئجار صاحب الجبيرة.

(١) قد تقدّم أن الوضوء مع الجبائر تصح معه الصلاة الواجبة الفعلية ، وإنما الكلام في أنه هل يكفي الوضوء مع الجبائر في جواز الصلاة القضائية من قبل نفسه أو غيره مع الأُجرة أو تبرّعاً أو لا تشرع به القضاء مطلقا؟

إن بنينا على ما ذهب إليه بعضهم من أن الوضوء مع الجبيرة كالتيمم مبيحان للدخول في الصلاة وغير رافعين للحدث فلا يصحّ القضاء مع الوضوء جبيرة ، لعدم دلالة الدليل على إباحة الدخول معه في القضاء وإنما ثبت إباحة الفرائض الفعلية به فحسب ، فاذا لم يشرع القضاء به في نفسه فلا تجوز الإجارة عليه أيضاً ، لأنّ صحّة‌

__________________

(*) إذا توضّأ أو اغتسل صاحب الجبيرة لصلاة نفسه فالظاهر أنه يرفع الحدث كما تقدّم ، وعليه فيجوز استئجاره ويصحّ قضاؤه الصلاة عن نفسه وعن غيره ، بل لا يبعد صحّته فيما لو توضّأ أو اغتسل لصلاة غيره ، حيث إنّ الوضوء أو الغسل مع الجبيرة مستحب في نفسه ، وقد تقدّم انّه لا فرق فيه بين كونه واجباً أو ندبا.


الإجارة فرع مشروعية العمل في نفسه.

وأمّا إذا قلنا بأنهما رافعان كما بنينا عليه سابقاً (١) فإن توضأ لخصوص أن يأتي به القضاء فقط ، أيضاً يحكم ببطلانه ، وذلك لأن الوضوء مع الجبيرة وظيفة العاجز والأمر بالقضاء موسع فله أن يصبر حتى يبرأ جرحه أو كسره فيصلي مع الوضوء التام ، ومع التمكّن من التام لا يجوز له البدار والإتيان بالوضوء مع الجبيرة كما هو الحال في الأداء ، حيث إنه مع احتماله البرء إلى آخر وقت الفريضة لا يتمكن من البدار كما يأتي تفصيله (٢) ، فإذا لم يشرع في حقّه الوضوء مع الجبيرة لمحض القضاء فلا تصحّ الإجارة عليه أيضاً كما عرفت ، اللهمّ إلاّ أن يعلم بعدم ارتفاع عذره إلى الأبد فحينئذ يصح له إتيان القضاء مع الوضوء جبيرة ، إلاّ أنه خارج عن مفروض المسألة.

وأما إذا توضأ جبيرة لأداء فريضة فيما يصح له إتيانها مع الجبيرة إلاّ أنه بعد ذلك أراد أن يأتي به القضاء من قبل نفسه أو غيره مع الأُجرة أو بدونها كما أتى به الأداء ، فالظاهر أنه لا إشكال في صحّته وصحّة قضائه ، حيث إن القضاء عن نفسه أو عن غيره مأمور به في الشريعة المقدّسة ولا سيما عن الأب والأُم ، ولا صلاة إلاّ بطهور ، والمفروض أن المكلّف متطهر ومن هنا جاز له مس المصحف وغيره مما يشترط فيه الطّهارة كدخول المسجد مع الغسل جبيرة ، ومع الحكم بطهارته يصح منه القضاء كما صحّ منه الأداء. ولا يفرق فيها بين الناقصة والتامّة بعد فرض كونها طهارة مسوغة للغايات المشترطة بها ، فإذا جاز له القضاء في نفسه جازت الإجارة عليه أيضاً كما تقدّم.

إذا طرأ العذر في الأثناء‌

بقي الكلام في أنه إذا قلنا بعدم جواز الإجارة على القضاء مع الجبيرة وقد آجر نفسه للقضاء وهو سليم مأمور بالوضوء التام ولكن طرأ عليه العذر في أثناء المدّة ووجب عليه الوضوء مع الجبيرة ، فهل يحكم حينئذ بانفساخ العقد لانكشاف أن‌

__________________

(١) في ص ١٨٧.

(٢) في ص ٢٦٢ ٢٩٤.


المنفعة المستأجر عليها غير مملوكة للمؤجر وهو غير قادر على تسليمها فتبطل الإجارة بالإضافة إلى المقدار الباقي عن العمل ، نظير ما إذا خربت الدار في أثناء مدّة الإجارة ولم يمكن تعميرها ، أو آجر نفسه للبناء فوقع في أثناء العمل وانكسر رجله ولم يتمكّن من الوفاء بالعمل ، حيث تنفسخ الإجارة بالإضافة إلى المقدار الباقي من العمل لانكشاف عدم قدرة المؤجر لتسليم المنفعة وعدم كونها ملكاً له. أو أن الإجارة لا تنفسخ ، بل يثبت للمستأجر خيار تخلف الشرط وهو المباشرة فله أن يفسخ وله أن يرضى بالعمل منه مع التسبيب؟

إذا فرضنا أن المدّة موسعة يتمكن المكلّف من إتيان القضاء بالوضوء التامّ بعد برئه فلا كلام في صحّة الإجارة وعدم انفساخها ، لتمكنه من تسليم المنفعة على الفرض وأمّا إذا كانت المدّة مضيقة ولا يبرأ في تلك المدّة فإن وقعت الإجارة على العمل الكلي الجامع بين المباشرة والتسبيب أيضاً تصح الإجارة ، لتمكنه من العمل بالتسبيب فيستأجر غيره ويأتي بالعمل بسببه.

وأمّا إذا كانت المدّة مضيقة وكانت الإجارة واقعة على القضاء بالمباشرة فالصحيح ما ذهب إليه الماتن من انفساخ الإجارة. ولا وجه لصحّتها مع خيار تخلف الشرط كما قيل. والوجه في ذلك أن الإجارة بحسب البقاء كالإجارة بحسب الحدوث ، فكما أن الإجارة لو كانت واقعة في حال عجز المكلّف من الوضوء التام من الابتداء حكمنا ببطلانها على الفرض فكذلك الحال فيما إذا طرأ العجز في الأثناء ولم يتمكن من الوضوء التام في الوسط فلا بدّ من الحكم ببطلانها.

وأمّا عدم جريان خيار تخلف الشرط في المقام فهو لما حققناه في بحث الخيار وقلنا : إن الشرط في ضمن المعاملة قد يرجع إلى الأعيان الشخصية فيبيع كتاباً معيّناً على أن يكون طبعة كذا أو عبداً معيّناً على أن يكون كاتباً أو رومياً ونحو ذلك ، وقد يرجع إلى الكلي في الذمّة كما إذا باع مناً من الحنطة في ذمّته على أن تكون من مزرعة كذا أو استأجره للصلاة على أن تكون في مكان كذا أو للصيام على أن يكون في شهر كذا أو يبيع كتاب الجواهر الكلي على أن يكون طبعة كذا.

أمّا الشرط في العين الشخصيّة فقد ذكرنا أنه يرجع إلى جعل الخيار على تقدير‌


[٦٢٥] مسألة ٣١ : إذا ارتفع عذر صاحب الجبيرة لا يجب إعادة الصّلاة (*) (١) التي صلاّها مع وضوء الجبيرة وإن كان في الوقت بلا إشكال ، بل الأقوى جواز‌

______________________________________________________

التخلّف على الأغلب ، وإن كان قد يرجع إلى أمر آخر على ما ذكرناه في بحث الخيار. ومعناه أن التزامه بالبيع مشروط بوجود شرطه وربّما يصرح بذلك لدى العرف ، فتراه يقول إني أشتري هذا وإذا ظهر كذا فلا ألتزم بالمعاملة. فالشرط في الأعيان الشخصيّة مرجعه إلى جعل الخيار ولا يرجع إلى تعليق المعاملة ليوجب البطلان. ولا أنه لتضيق دائرة المبيع ، لأنه عين شخصيّة والجزئي متضيّق في نفسه ولا معنى لتضييقه فإذا ظهر أن العبد المبيع ليس بكاتب فيثبت للمشتري خيار تخلف الشرط.

وأمّا الشرط الراجع إلى الكلّي في الذمم فهو راجع إلى تضييق دائرة المبيع ولا يرجع إلى تعليق العقد ولا إلى جعل الخيار ، فإذا كان ما يدفعه البائع إلى المشتري حنطة مزرعة أُخرى أو صلّى المؤجر في غير المكان أو الزمان المشروط في ضمن المعاملة فليس للمشتري أن يفسخ المعاملة بالخيار ، بل له رده إلى البائع ومطالبته بالمبيع الذي هو الحصّة الخاصّة من الحنطة أو الصلاة ونحوهما.

فبهذا يظهر أنه إذا آجر نفسه للقضاء بشرط المباشرة ثمّ عجز عن المباشرة فقد عجز عن تسليم متعلق الإجارة إلى مستحقّه ، ومع عدم القدرة على ردِّه تبطل الإجارة لا محالة لا أن له الخيار ، لأن مرجع الشرط في الكلي في الذمم إلى تضييق دائرة المبيع أو المنفعة المستأجر عليها لا إلى جعل الخيار لنفسه. نعم لو آجر نفسه على أن يأتي بوضوء تام في الخارج بشرط المباشرة ثمّ عجز عن قيد المباشرة يثبت للمستأجر الخيار على ما بيّناه آنفاً. ثمّ لا يخفى أن هذا كله مبني على القول ببطلان إجارة العاجز عن الوضوء التام وقد عرفت أن الحق صحّته.

وضوء الجبيرة مجزئ عن الواقع‌

(١) أما إذا ارتفع عذره بعد خروج وقت الفريضة فلا ينبغي الإشكال في عدم‌

__________________

(*) فيه إشكال ، بل الأظهر وجوب الإعادة في الوقت.


الصّلاة الآتية بهذا الوضوء في الموارد التي علم كونه مكلفاً بالجبيرة. وأما في الموارد المشكوكة التي جمع فيها بين الجبيرة والتيمّم فلا بدّ من الوضوء للأعمال الآتية لعدم معلومية صحّة وضوئه. وإذا ارتفع العذر في أثناء الوضوء وجب الاستئناف أو العود إلى غسل البشرة التي مسح على جبيرتها إن لم تفت الموالاة.

______________________________________________________

وجوب الإعادة ، إذ لولا صحّة الصلاة المأتي بها مع الوضوء جبيرة في وقتها لم يكن معنى للأمر بها مع التوضي بالوضوء جبيرة وهذا ظاهر.

وأمّا إذا ارتفع عذره قبل خروج وقت الفريضة فقد يفرض الكلام فيما إذا توضّأ جبيرة وصلّى حتى خرج وقت الفريضة ثمّ دخل وقت فريضة أُخرى كالمغرب مثلاً فصلاها بذلك الوضوء الذي أتى به جبيرة لصلاتي الظهر والعصر وارتفع عذره قبل خروج وقت الفريضة الثانية ، فلا إشكال في صحّة صلاته في هذه الصورة لأنه صلّى المغرب وهو متطهر ، لما مرّ من أن الوضوء مع الجبيرة رافع للحدث وموجب للطهارة ، بل قد ذكرنا أنه لو توضأ مع الجبيرة وصلّى ثمّ انكشف برء كسره أو جرحه وقرحه حال الوضوء صحّت صلاته فضلاً عما إذا كان كسره أو جرحه باقيين حال الوضوء. إلاّ أن ذلك خارج عن مفروض كلام الماتن.

وأُخرى يفرض الكلام فيما إذا توضأ وضوء الجبيرة معتقداً بقاء عذره إلى آخر الوقت ، أو باستصحاب بقائه كذلك ، أو أنّا جوزنا البدار فصلّى ثمّ ارتفع عذره قبل خروج وقت الصلاة فالصحيح في هذه الصورة وجوب الإعادة ، وذلك لأن الاكتفاء بوضوء الجبيرة على خلاف القاعدة ، لأنها تقتضي وجوب التيمم في كل مورد عجز فيها المكلّف عن الوضوء ، فلا بدّ في الخروج عن مقتضى القاعدة من الاكتفاء بمورد النص وهو ما إذا لم يتمكن المكلّف من الوضوء التام في مجموع الوقت ، إذ المستفاد من أخبار الجبيرة أن الوضوء معها وضوء عذري ، وحيث إن المأمور به هو الطبيعي الجامع بين المبدأ والمنتهى فبارتفاع عذره في أثناء الوقت نستكشف تمكنه من الوضوء التام وعدم كونه معذوراً في الإتيان بالوضوء الناقص.

وأمّا حكم الماتن بعدم وجوب الإعادة حينئذ فلعله مستند إلى الإجماع الذي‌


[٦٢٦] مسألة ٣٢ : يجوز لصاحب الجبيرة الصلاة أوّل الوقت مع اليأس عن زوال العذر في آخره ومع عدم اليأس الأحوط التأخير (*) (١).

______________________________________________________

ادعاه بعضهم على عدم وجوب إعادة الصلاة المأتي بها مع الوضوء جبيرة. إلاّ أنه إجماع منقول لا يعتمد عليه فلا بدّ من الإعادة في الوقت احتياطاً ، نظراً إلى دعوى الإجماع على عدم الإعادة. هذا كلّه إذا كان مأموراً بالوضوء مع الجبيرة.

وأما إذا أتى به في موارد الجمع للعلم الإجمالي بوجوب الوضوء جبيرة أو التيمم فأتى بهما عملاً بعلمه الإجمالي ثمّ ارتفع عذره في أثناء الوقت فتجب عليه الإعادة يقيناً ، كما لا يجوز له أن يأتي به الصلوات الآتية بوجه لعدم علمه بطهارته ، لاحتمال أن يكون مأموراً بالتيمم وهو ينتقض بوجدان الماء والتمكّن من استعماله فلا بدّ من تحصيل الطّهارة للصلوات الآتية وفريضة الوقت.

(١) لا وجه لهذا الاحتياط وذلك لتمكن المكلّف من البدار باستصحاب بقاء عذره إلى آخر الوقت ، فإن اعتباره غير مختص بالأُمور المتقدّمة ، بل كما يعتبر فيها يعتبر في الأُمور الاستقبالية أيضاً على ما قدمناه في محلِّه (٢) ، وحيث إنه ذو عذر أوّل الزوال فيستصحب بقاءه إلى آخره فبذلك يكون كالمتيقن في نظر الشارع ببقاء عذره إلى آخر الوقت فيسوغ له البدار ، فإذا انكشف عدم بقاء عذره إلى آخر الوقت بعد ذلك تجب إعادته ، وهو مطلب آخر غير راجع إلى صحّة الوضوء مع البدار ، بل الأمر كذلك فيما إذا بادر إليه لاعتقاد بقاء عذره ويأسه عن البرء إلى آخر الوقت ، فإن مع ارتفاع عذره قبل خروج وقت الصلاة ينكشف أن اعتقاده كان مجرد خيال غير مطابق للواقع فتجب عليه الإعادة لا محالة.

__________________

(*) والأظهر جواز البدار لكنه يعيد الصلاة إذا زال العذر في الوقت ، بل الأظهر وجوب الإعادة مع الزوال ولو كان البدار من جهة اليأس.

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٨٩.


[٦٢٧] مسألة ٣٣ : إذا اعتقد الضرر (*) في غسل البشرة فعمل بالجبيرة ثمّ تبيّن عدم الضّرر في الواقع ، أو اعتقد عدم الضّرر فغسل العضو ثمّ تبيّن أنه كان مضرّاً (٢) وكانت وظيفته الجبيرة ، أو اعتقد الضرر ومع ذلك ترك الجبيرة ثمّ تبيّن عدم الضّرر وأن وظيفته غسل البشرة ، أو اعتقد عدم الضّرر ومع ذلك عمل بالجبيرة ثمّ تبيّن الضّرر صحّ وضوءه في الجميع بشرط حصول قصد القربة منه في الأخيرتين ، والأحوط الإعادة في الجميع (١).

______________________________________________________

إذا اعتقد الضّرر ثمّ تبيّن عدمه‌

(١) صور المسألة أربع لأن المكلّف قد يكون معتقداً للضرر ، وقد يكون معتقداً لعدم الضرر ، وعلى كلا التقديرين قد يعمل على اعتقاده وقد يعمل على خلافه.

أما إذا اعتقد الضرر أو عدمه فعمل على خلاف ما يعتقده كما إذا اعتقد الضرر وأن وظيفته الوضوء مع الجبيرة إلاّ أنه خالف اعتقاده فتوضأ الوضوء التام ، أو أنه اعتقد عدم الضّرر وأنه مأمور بالوضوء التام ولكنه توضأ جبيرة ، فلا إشكال في بطلان وضوئه لأن ما أتى به غير مأمور به باعتقاده ، ومع الاعتقاد بعدم تعلق الأمر به لا يتمشّى منه قصد الأمر فيقع فاسداً لعدم حصول قصد القربة. هذا في هاتين الصورتين.

وأمّا الصورة الثالثة وهي ما إذا اعتقد الضرر فتوضأ جبيرة ثمّ انكشف أنه لم يكن ضرر في الواقع فقد حكم الماتن بصحّة الوضوء حينئذ ، ولكن الصحيح أن نفصل بين ما إذا كان على بدنه كسر أو جرح أو قرح مجبور أو مكشوف فأحتمل بقاءها وتضرّرها بالماء فتوضأ مع الجبيرة أو غسل أطراف الجرح ثمّ انكشف برؤها‌

__________________

(*) الظاهر هو التفصيل في فرض اعتقاد الضرر بين تحقق الكسر ونحوه في الواقع وبين عدمه فيحكم بالصحّة في الأوّل دون الثاني.

(**) هذا إذا لم يبلغ الضرر مرتبة الحرمة وإلاّ فالوضوء غير صحيح.


[٦٢٨] مسألة ٣٤ : في كل مورد يشك في أن وظيفته الوضوء الجبيري أو التيمّم الأحوط الجمع بينهما (١).

______________________________________________________

حال الوضوء وعدم كون الماء مضراً في الواقع ، فيحكم بصحّة وضوئه لإطلاقات الأخبار الآمرة بالمسح على الجبيرة أو غسل الأطراف للكسير والجريح والقريح ، فإن الموضوع لجواز الوضوء مع الجبيرة هو الخوف دون الضرر الواقعي ، وحيث إنه اعتقد الضرر فيصح منه الجبيرة أو الوضوء بغسل الأطراف. وبين ما إذا لم يكن على بدنه شي‌ء من الجرح أو القرح أو الكسر قبل ذلك إلاّ أنه تخيّل كسر يده لعدم حركتها أو لوقوعه من علو فجبره بجبيرة أو لم يجبره وتوضأ مع الجبيرة أو بغسل أطرافه ثمّ انكشف عدم الكسر وعدم الضرر في الواقع ، فيحكم ببطلان وضوئه حينئذ لأن الموضوع لجواز الجبيرة أو غسل الأطراف هو الكسر الواقعي الموجود أو السابق الذي يضره الماء ، فإذا انكشف أنه لم يكن كسر لا فعلاً ولا سابقاً وإنما كان هناك تخيّل كسر فقط فهو خارج عن موارد الأخبار فوضوءه باطل تجب إعادته.

وأما الصورة الرابعة فهي ما إذا اعتقد عدم الضرر فتوضأ وضوء الصحيح ثمّ بان ضرره لكسر أو لجرح. والصحيح في هذه الصورة الحكم بصحّة الوضوء وذلك لعدم كونه مشمولاً لأخبار الجبائر ، لما مرّ من أن الموضوع فيها خوف الضرر واحتماله والمفروض اعتقاد المكلّف بعدم الضرر فيصح منه الوضوء الصحيح.

ودعوى أن مقتضى حديث لا ضرر عدم وجوبه وبطلانه ، مندفعة بما مرّ غير مرّة من أنه قاعدة امتنانية ولا تجري في موارد خلاف الامتنان ، والحكم ببطلان الوضوء الذي كان ضرريّاً في الواقع على خلاف الامتنان. فتلخص أن الحكم في الصورتين الأُوليين هو البطلان ، وفي الثالثة نوافق الماتن في صورة ونخالفه في صورة ، وفي الصورة الرابعة نوافقه كما عرفت.

(١) لعلمه الإجمالي بوجوب أحد الأمرين في حقه.


فصل

في حكم دائم الحدث

المسلوس والمبطون إمّا أن يكون لهما فترة تسع الصلاة والطّهارة ولو بالاقتصار على خصوص الواجبات وترك جميع المستحبّات أم لا ، وعلى الثاني إما أن يكون خروج الحدث في مقدار الصلاة مرّتين أو ثلاث مثلاً أو هو متّصل ففي الصورة الأُولى يجب إتيان الصلاة في تلك الفترة سواء كانت في أوّل الوقت أو وسطه أو آخره (١) ، وإن لم تسع إلاّ لإتيان الواجبات اقتصر عليها وترك جميع

______________________________________________________

فصل في حكم دائم الحدث

الصورة الأُولى :

(١) لأجل التحفظ على طائفتين من الأدلّة : إحداهما : الأدلّة الدالّة على اشتراط الصلاة بالطّهارة وأنه لا صلاة إلاّ بطهور. وثانيتهما : الأدلّة الدالّة على ناقضية البول والغائط ونحوهما للوضوء ، فلو صلّى في الفترة التي تسع الصلاة فقد جمع بين كلتا الطائفتين. وعن الأردبيلي قدس‌سره احتمال عدم الوجوب وجواز الصلاة في كل وقت أراده ولو مع الحدث (١).

وهذا يبتني على أحد أمرين : أحدهما : دعوى تخصيص ما دلّ على اشتراط الصّلاة بالطّهارة بالمسلوس والمبطون ولو في مفروض كلامنا ، فلا يعتبر في صلاتهما الطّهارة حتى يجب عليهما إيقاعها في وقت الفترة من البول والغائط. وثانيهما : التزام التخصيص في أدلّة ناقضية البول والغائط بالمسلوس والمبطون ولو في مفروض المسألة ، فالصلاة وإن كانت مشروطة بالطّهارة إلاّ أن طهارتهما باقية ولا ترتفع بالبول‌

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ١١٢.


والغائط تخصيصاً في أدلّة النواقض.

وكلا هذين الأمرين فاسد ولا يمكن الاعتماد على شي‌ء منهما ، وليس هناك أمر ثالث.

أما دعوى الالتزام بالتخصيص في أدلّة اشتراط الصلاة بالطّهارة فلأنا لو التزمنا بذلك فجوزنا الصلاة في حقهما من غير طهارة لجازت لهما الصلاة مع إحداث غيرهما من الأحداث بالاختيار كإخراج الريح مثلاً ، لأن المحدث لا يحدث ثانياً والمفروض عدم اشتراط الطّهارة في صلاتيهما ، مع أنه مما لا يمكن الالتزام بصحّتها فيهما مع إخراج الريح أو غيرهما من الأحداث هذا. على أن المسلوس والمبطون غالباً يصدر منهما الحدثان في أثناء وضوئهما أو بعده وقبل الصلاة ، فلو التزمنا بالتخصيص في أدلّة الاشتراط مع القول بناقضيتهما في حقهما فما الموجب لاشتراط الوضوء في حقهما من الابتداء؟ فلا يلزمهما الوضوء أصلاً. وهذا أيضاً كما ترى مما لا يمكن الالتزام به.

وأمّا الالتزام بالتخصيص في أدلّة الناقضية مع الالتزام ببقاء أدلّة الاشتراط بحالها فهو وإن كان أمراً معقولاً ، بل ونلتزم به في الصورتين الأخيرتين كما يأتي تفصيلهما إن شاء الله تعالى ، إلاّ أن الالتزام به في المقام وهو الصورة الاولى من الصور الأربعة للمسألة يحتاج إلى دليل ، ولا دليل عليه سوى دعوى شمول إطلاقات الأخبار الواردة في المسلوس والمبطون (١) للمقام ، وهي تدلّ على جواز إيقاع الصلاة لهما مع الحدث.

وفيه : أنه لا إطلاق لتلك الأخبار حسب الفهم العرفي ، لأن الصلاة مع الحدث في حقهما حسب ما نفهم من أدلّتها لدى العرف إنما هي صلاة عذريّة بدلاً عن الصلاة المأمور بها على وجه التمام ، نظير الوضوء مع الجبيرة لديه ، وهي إنما تصحّ مع معذوريّة المكلّف وعدم تمكّنه من الإتيان بالمأمور به الأوّلي فيقتصر على المأمور به الاضطراري ، وأمّا مع فرض تمكّنه من الواجب الأصلي فلا اضطرار له ، والصلاة مع الحدث ليست بعذريّة حينئذ فتبطل.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٩٧ / أبواب نواقض الوضوء ب ١٩.


المستحبّات ، فلو أتى بها في غير تلك الفترة بطلت (١) ، نعم لو اتفق عدم الخروج والسلامة إلى آخر الصلاة صحّت إذا حصل منه قصد القربة (٢). وإذا وجب المبادرة لكون الفترة في أوّل الوقت فأخر إلى الآخر عصى ، لكن صلاته صحيحة (٣). وأمّا الصورة الثانية (٤) وهي ما إذا لم تكن فترة واسعة إلاّ أنه‌

______________________________________________________

مضافاً إلى قوله عليه‌السلام في صحيحة منصور بن حازم من أنه « إذا لم يقدر على حبسه فالله أولى بالعذر » (١) لأنه كالصريح في أن صلاة المسلوس والمبطون عذرية ، ومع التمكّن من المأمور به كيف تكون صلاته مع الحدث عذرية ، فهي غير جائزة في حقه حتى تكون عذراً. وبالجملة : إن الأخبار لا إطلاق لها على نحو يشمل المقام ، فالصحيح ما أفاده الماتن كما عرفت وجهه.

(١) لعدم الأمر بها.

(٢) كما إذا كانت الفترة في آخر الوقت وقد أتى بها في أوّل وقتها رجاء عدم خروج شي‌ء من الحدثين ، أو باستصحاب عدم خروجهما إلى أن يتمّ الصلاة ، أو غفلة عن أنه يحدث. والوجه في صحّتها أن الصلاة لم يشترط فيها أن تقع في آخر الوقت مثلاً ، وإنما أوجبنا عليه إيقاعها في ذلك الوقت تحفظاً على شرطها وهو الطّهارة ، فإذا كانت حاصلة ولو في أوّل وقت الفريضة صحّت صلاته ، والمفروض حصول قصد القربة وغيره من شرائطها أيضاً.

(٣) القاعدة وإن كانت تقتضي سقوط الأمر بالصلاة عنه لعدم تمكنه من شرطها إلاّ أنا لما علمنا بعدم سقوط الصلاة في حال من الأحوال كما يقتضيه الإجماع القطعي في المسألة فلا جرم أوجبنا عليه الصلاة مع ما هو عليه من الحدث بمقتضى إطلاقات أخبار المسألة ، لأنه مسلوس أو مبطون عاجز عن الصلاة مع الطّهارة.

الصورة الثانية‌

(٤) وقد قسم الصورة الثانية وهي ما إذا لم يتمكن المكلّف من الصلاة مع الطّهارة‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٩٧ / أبواب نواقض الوضوء ب ١٩ ح ٢.


لا يزيد على مرّتين أو ثلاث أو أزيد بما لا مشقة في التوضؤ في الأثناء والبناء يتوضأ ويشتغل بالصلاة بعد أن يضع الماء إلى جنبه فاذا خرج منه شي‌ء توضأ بلا مهلة وبنى على صلاته (*) من غير فرق بين المسلوس والمبطون ، لكن الأحوط أن يصلّي صلاة أُخرى بوضوء واحد خصوصاً في المسلوس ، بل مهما أمكن لا يترك هذا الاحتياط فيه.

______________________________________________________

في شي‌ء من الوقت لعدم حصول فترة في البين تسع الطّهارة والصلاة إلى أقسام ثلاثة :

الأوّل : ما إذا خرج منه مرّة أو مرّتين أو أكثر على نحو لم يكن الوضوء بعد كل واحد منها موجباً للعسر والحرج. وقد حكم في هذا القسم بوجوب شروعه في الصلاة مع الطّهارة فإذا خرج منه بول أو غائط في الأثناء جدد الوضوء بعد أن يضع الماء بجنبه فإذا خرج منه شي‌ء توضأ بلا مهلة وبنى على صلاته. وحكمه هذا يغاير حكمه في القسمين الآتيين.

القسم الثاني : ما إذا كان الخارج كثيراً بحيث يكون الوضوء بعد كل منها موجباً للعسر والحرج ، كما إذا كان بحيث يقول إياك نعبد فيتوضأ ويقول وإياك نستعين فيتوضأ وهكذا. وقد أوجب عليه الوضوء لكل من صلواته.

والقسم الثالث : ما إذا لم ينقطع بوله أصلاً بل كان يخرج مستمرّاً. فقد حكم في حقه بكفاية الوضوء الواحد لجميع صلواته وأنّ له أن يصلِّي صلوات عديدة بوضوء واحد ، وأنه بحكم المتطهّر إلى أن يجيئه حدث آخر من نوم أو نحوه أو خرج منه البول أو الغائط على المتعارف.

القسم الأوّل من الأقسام الثلاثة‌

وما ذكره قدس‌سره في القسم الأوّل من الحكم بوجوب الوضوء لكل صلاة‌

__________________

(*) الأظهر عدم الحاجة إلى الوضوء في أثناء الصلاة ولا سيما في المسلوس ، ورعاية الاحتياط أولى.


وأنه إذا خرج شي‌ء منه في أثناء صلاته توضأ بلا مهلة فيما إذا لم يستلزم الفعل الكثير الماحي لصورة الصلاة ولا شيئاً من منافياتها وقواطعها كالاستدبار مثلاً ، على القاعدة أعني التحفظ على إطلاقات أدلّة اشتراط الصلاة بالطهور ، حيث إنها على قسمين :

قسم دلّ على أنه لا صلاة إلاّ بطهور (١). وهذا القسم إنما يستفاد منه اعتبار الطّهارة فيما هو صلاة ، فلا دلالة على اعتبار الطّهارة في الأكوان المتخلِّلة بين أجزاء الصلاة لأنها ليست بصلاة وإن كان المكلّف في الصلاة ما دام لم يسلم ، فله أن يحدث متعمداً فضلاً عمّا إذا لم يكن متعمداً في الأكوان المتخللات.

وقسم دلّ على اعتبار الطّهارة حتى في الأكوان المتخللة وهو أدلّة القواطع من الاستدبار والحدث ونحوهما (٢) فقد دلّت على أن وقوع الحدث في الصّلاة ولو في الأوقات المتخللة موجب لبطلانها وانقطاعها وعدم انضمام ما سبق منها بما لحق. وقد رفعنا اليد في المسلوس والمبطون عن القسم الثاني بمقتضى أخبارهما حيث دلّت على أن الحدث غير قاطع في حقهما ، إذ لو كان قاطعاً في حقهما أيضاً سقطت عنهما الصّلاة لعدم تمكّنهما من الصلاة المأمور بها. وأمّا إطلاق القسم الأوّل وأنه لا صلاة إلاّ بطهور فهو باق بحاله وهو يقتضي تحصيل الطّهارة للأجزاء الصلاتية إذا حدث في أثنائها.

ودعوى أن ذلك ينافي بطلان الصلاة بالفعل الكثير ولا وجه لتقديم أدلّة اشتراط الطّهارة في الصلاة على أدلّة بطلانها بالفعل الكثير ، مندفعة بأن مبطلية الفعل الكثير للصلاة ممّا لم يدل عليه أي دليل لفظي وإنما استفيدت من ارتكاز ذلك في أذهان المتشرِّعة ، والارتكاز إنما هو في الأفعال الأجنبية عن الصلاة ولا ارتكاز في مثل الوضوء لأجل الصلاة ، نعم ورد في بعض الأخبار المانعة عن التكفير في الصلاة أنه عمل ، ولا عمل في الصلاة (٣) إلاّ أن معناه أن التكفير في الصلاة إذا اتى به بما أنه عمل‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣١٥ / أبواب أحكام الخلوة ب ٩ ح ١ ، ٣٦٥ / أبواب الوضوء ب ١ ح ١ ، ب ٤ ح ١.

(٢) الوسائل ٧ : ٢٤٤ / أبواب قواطع الصلاة ب ٣ ، ١. وغيرهما من الأبواب المذكورة.

(٣) وهي صحيحة علي بن جعفر : الوسائل ٧ : ٢٦٦ / أبواب قواطع الصلاة ب ١٥ ح ٥.


من أعمالها موجب لبطلانها لأنه ليس من أعمالها ، ولا دلالة على أن مطلق العمل في الصلاة يبطلها ، فلو وضع مثلاً إحدى يديه على أحد جانبي وجهه ويده الأُخرى على جانبه الآخر لم تبطل صلاته. فالإنصاف أن ما أفاده قدس‌سره مطابق للقاعدة.

حكم المسألة بالنظر إلى الأخبار‌

وأمّا بالنظر إلى الأخبار الواردة في المقام فالصحيح أن حكم المسألة حكم المسألتين الآتيتين أعني حكم السلس والبطن. ونتكلم في السلس أوّلاً ثمّ في البطن.

حكم السّلس‌

وعمدة هذه الأخبار موثقة سماعة ، قال : « سألته عن رجل أخذه تقطير من فرجه إما دم وإما غيره ، قال : فليصنع خريطة وليتوضأ وليصل ، فإنما ذلك بلاء ابتلي به فلا يعيدن إلاّ من الحدث الذي يتوضأ منه » (١) حيث دلّت على أن المسلوس لا يعيد وضوءه ، وأن الحدث الاقتضائي منه ليس بحدث في حقه ، وأنه بلاء ابتلي به من قبل الله سبحانه وغير مستند إلى اختياره فلا يجب عليه إعادة الوضوء في أثناء صلاته هذا.

وقد يناقش في الرواية باضطراب متنها ، حيث إن في نسخة منها « قرحة » بدل « فرجه » وعليه فالموثقة أجنبية عما نحن بصدده. ويدفعه أن الوسائل إنما نقلها عن الشيخ ، والشيخ في تهذيبه رواها بلفظه « فرجه » (٢) كما أن الوافي (٣) والحدائق (٤) رويا عنه بتلك اللفظة وكذا في كتب الفقهاء ، فلفظة « قرحة » غلط من نساخ الوسائل هذا. بل في نفس متنها لقرينة ظاهرة على أن الكلمة « فرجه » لا « قرحة » وتلك القرينة عبارة عن أن الكلمة لو كانت هي قرحة لم يكن وجه للسؤال عن بطلان الصلاة بما‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٦٦ / أبواب نواقض الوضوء ب ٧ ح ٩.

(٢) التهذيب ١ : ٣٤٩ / ١٠٢٧.

(٣) الوافي ٦ : ١٤٤ / ٣٩٦٥.

(٤) الحدائق ٢ : ٣٨٨.


يخرج منه من دم أو غيره كالقيح ، لأن الخارج من القرح غير ناقض للوضوء أبداً فسؤاله عن وضوئه وغسله قرينة على أن اللفظة هي فرجه. على أن قوله : « فليصنع خريطة » كالصريح في أن الكلمة كلمة فرج ، لأن الخريطة بمعنى الكيس الذي يعلق على الفرج لئلاّ ينجس الفخذين ، ولا نتعاهد الخريطة في القرح ، فهذه المناقشة ساقطة.

ويناقش فيها اخرى بعدم صراحتها في البول ، لأن لفظة « وإما غيره » غير صريح في ذلك فيحتمل أن يراد به غير البول. وتندفع هذه المناقشة بما عرفت من أن المراد منه أي من كلمة ( إمّا غيره ) لو كان غير البول لم يكن وجه للسؤال عن كونه حدثاً ناقضاً للوضوء والصلاة ، ولم يناسبه الجواب بعدم كونه حدثاً وأنه لا يعاد منه الوضوء ، بل المناسب في الجواب على تقدير السؤال عنه أن يقال إنه طاهر أو نجس. وأما الجواب بأنه بلاء وأنه لا يوجب الوضوء إلاّ الحدث المتعارف من البول والغائط المتعارفين أو النوم المتعارف فهو قرينة على أن المراد به هو البول.

وعلى ذلك فقد دلّتنا الموثقة على أن بول المسلوس غير ناقض لوضوئه فلا يجب عليه الوضوء في أثناء صلاته. ويؤيد ذلك أن الأخبار الواردة في أحكام المبطون والمسلوس كلها خالية عن التعرض لحكم ما إذا أخذه البول أو الغائط في أثناء وضوئه مع أنه أمر عادي محتمل في حقهما بل لا يقصر عن زمان الصلاة ، فلو كان بوله حدثاً ناقضاً لبطل وضوءه من الابتداء ولم يقدر على الطّهارة أصلاً هذا.

وقد تعارض الموثقة بصحيحة حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام الدالّة على أن صاحب السلس يأخذ كيساً ويدخل فيه ذكره ثمّ يصلِّي يجمع بين الصلاتين الظهر والعصر ، يؤخر الظهر ويعجل العصر بأذان وإقامتين ، ويؤخر المغرب ويعجل العشاء بأذان وإقامتين ويفعل ذلك في الصبح (١) حيث أوجبت عليه الوضوء لكل صلاتين يجمع بينهما ، فهي تنافي الموثقة المتقدّمة الدالّة على أن بول المسلوس غير موجب للحدث والانتقاض.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٩٧ / أبواب نواقض الوضوء ب ١٩ ح ١.


وفيه : أن الصحيحة لو لم تؤيد الموثقة لم تكن منافية لها ، وذلك لأن في الصحيحة جهتين :

إحداهما : أنه يجمع بين الصلاتين بوضوء واحد. وهذه الجملة مؤيدة للموثقة حيث دلّت على أن البول الخارج في زمان الصلاتين ليس بحدث وإلاّ لأوجب عليه الوضوء في أثنائهما.

وثانيتهما : أن المسلوس لا يتمكن من الشروع في صلاة أُخرى غيرهما إلاّ أن الصحيحة غير مشتملة على أن ذلك من جهة ناقضية بوله لوضوئه ، بل لعله من جهة نجاسة محل بوله ، حيث إنه يخرج من المسلوس ويوجب نجاسته وإنما عفي عنها في الصلاتين ، وأما في الزائد عليهما فهي باقية على مانعيتها في الصلاة. ويؤيده أن السؤال كلّه متوجه إلى الصلاة في الصحيحة ولم يسأل فيها عن الوضوء ، وعليه فالمسلوس لا يبطل وضوءه ببوله ، نعم ليس له الدخول في غير الصلاتين من النوافل أو غيرها إلاّ بعد غسل الموضع وتطهيره. هذا كله في المسلوس.

وأما المبطون فالظاهر أن حكمه حكم المسلوس ، وذلك لأن موثقة سماعة وإن كانت واردة في سلس البول إلاّ أن قوله عليه‌السلام في ذيلها : « فإنما ذلك بلاء ابتلي به فلا يعيدن إلاّ من الحدث الذي يتوضأ منه » أي من الأحداث المتعارفة التي يتعارف الوضوء منها كالبول الاختياري أو غيره من الأحداث المعتادة ، ظاهر في التعليل ، والعلّة تعمم الحكم إلى غير مورد الرواية أيضاً ، لأنها تدلّ على أن كل حدث غير اختياري الذي هو بلاء من قبل الله سبحانه لا يعاد منه الوضوء وإنما يعاد من الحدث الاختياري المتعارف ، وهو كما يشمل السلس يشمل البطن.

ومن هنا ألحق الفقهاء بهما صاحب الريح الغالبة مع عدم ورود رواية فيه فانّ العلّة ظاهرة في التعميم ، وإن أمكن أن يكون لهم وجه آخر زائد على ذلك أيضاً. فالصحيح أن المسلوس والمبطون لا يجب عليهما الوضوء في أثناء صلاتهما بل يتوضآن مرّة واحدة للصلاتين بل لجميع الصلوات ، ويتمكّنان من الدخول في صلاة أُخرى غير الصلاتين اللّتين جمع بينهما ، نعم لا بدّ من تطهير الموضع من النجاسة لأنها إنما عفيت بقدر الصلاتين لا أزيد.


حكم البطن‌

وأمّا الأخبار الواردة في البطن فهي ثلاثة كلها عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام ، روى ثنتين منها صاحب الوسائل قدس‌سره وهما اللتان رواهما عنه عبد الله بن بكير ، وترك الثالثة وهي التي رواها عنه علاء بن رزين اشتباهاً ونقلها الصدوق في الفقيه.

إحداها : موثقة ابن بكير عن محمّد بن مسلم ، قال : « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن المبطون ، فقال : يبني على صلاته » (١) وقوله : « يبني على صلاته » يحتمل أن يراد منه أنه إذا خرج منه الغائط في أثناء صلاته يتوضأ ثمّ يبني على صلاته ، كما يحتمل أن يراد به أنه لا يعتني بما خرج منه بل يبني على صلاته ويمضي فيها. وهذا لو لم يكن متعيناً فلا أقل من أنه الأظهر من الاحتمال السابق.

وثانيها : رواية علاء بن رزين عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام : « صاحب البطن الغالب يتوضأ ويبني على صلاته » (٢) وهي أظهر فيما ذكرناه من الموثقة المتقدّمة ، فإن ظاهرها أن صاحب البطن يتوضأ أوّلاً فيدخل في الصلاة ولا يعتني بما خرج منه بل يبني على صلاته.

وثالثها : رواية ابن بكير عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « صاحب البطن الغالب يتوضأ ثمّ يرجع في صلاته فيتمّ ما بقي » (٣). وقد سقطت كلمة « الغالب » في كلام الحدائق قدس‌سره (٤) وكلمة « ثمّ يرجع » غير منقولة في الوافي (٥).

وكيف كان ، فظاهر الأخيرة أن المبطون إذا خرج منه الغائط في أثناء صلاته يتوضأ ثمّ يتمّ ما بقي من صلاته فتعارض الرواية المتقدّمة ، بل الموثقة أيضاً على ما‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٩٧ / أبواب نواقض الوضوء ب ١٩ ح ٣.

(٢) الفقيه ١ : ٢٣٧ / ١٠٤٣.

(٣) الوسائل ١ : ٢٩٨ / أبواب نواقض الوضوء ب ١٩ ح ٤.

(٤) الحدائق ٢ : ٣٩٠.

(٥) الوافي ٨ : ١٠٤٧ / ٧٧٠٢.


قوّيناه من كونها ظاهرة في أنه لا يعتني بما يخرج منه هذا. ولكن الظاهر عدم إمكان الاعتماد عليها. أمّا أوّلاً : فلضعف سندها ، لأن طريق الشيخ إلى العياشي ضعيف. وأما ثانياً : فلأنه من البعيد عادة أن يسأل رأو واحد من إمام واحد مسألة واحدة ثلاث مرات ويجيبه الإمام عليه‌السلام في كل مرّة بعبارة غير العبارة الأُخرى ، فالمظنون بل المطمأن به أنها بأجمعها أو ببعضها منقولة بالمعنى إما من محمّد بن مسلم أو من غيره ، وحيث إنا لا ندري أن الألفاظ الصادرة عنه عليه‌السلام أية لفظة فلا محالة نتوقف عن الاعتماد عليها فلا يمكن الحكم بوجوب الوضوء على المبطون في أثناء صلاته هذا.

على أنا لو أغمضنا عن ذلك وبنينا عل أنها منقولات بألفاظها أيضاً لا يمكننا العمل بمقتضى الأخيرة ، بل لا بدّ من حملها على الاستحباب ، لأن ظهور التعليل في العموم في قوله في موثقة سماعة (١) : إنه بلاء ابتلي به ولا يعيدن حيث يدلّ على عدم وجوب الوضوء في شي‌ء من الأحداث غير الاختيارية أقوى من ظهور الأمر في الوجوب في قوله في الأخيرة : « يتوضأ ثمّ يرجع » فلا مناص من حملها على الاستحباب. بل يمكن أن يقال : إن البطن بمعنى صاحب مرض البطن فتوصيفه بالغالب كاشف عن إرادة ما إذا لم ينقطع عنه الغائط بوجه بل يخرج مستمراً ، ويأتي أن الحكم حينئذ كفاية وضوء واحد لجميع صلواته فكيف يمكن الحكم في مثله بوجوب الوضوء عند خروج الغائط في أثناء الصلاة ، وهذا أيضاً شاهد على حملها على الاستحباب.

فتلخص : أن المسلوس والمبطون لا يجب عليهما الوضوء في أثناء صلاتهما وإن خرج عنهما البول والغائط من غير اختيار ، وذلك تخصيصاً في أدلّة ناقضية البول والغائط بالأخبار المتقدّمة الواردة في السلس والبطن ، فلهما أن يصليا صلاة أُخرى غير الصلاتين اللّتين جمعاهما في زمان ، نعم لا بدّ من أن يطهرا بدنهما ولباسهما لغيرهما‌

__________________

(١) المتقدّمة في ص ٢١٤.


وأمّا الصورة الثالثة (١) وهي أن يكون الحدث متصلاً بلا فترة أو فترات يسيرة بحيث لو توضأ بعد كل حدث وبنى لزم الحرج يكفي أن يتوضأ لكل صلاة (*) ولا يجوز أن يصلِّي صلاتين بوضوء واحد نافلة كانتا أو فريضة أو مختلفة ، هذا إن أمكن إتيان بعض كل صلاة بذلك الوضوء.

______________________________________________________

من الصلوات ، فإن مانعية نجاسة البدن والثياب إنما رفعنا عنها اليد بمقدار الصلاتين بمقتضى صحيحة حريز المتقدِّمة (٢) لا أزيد منه.

ويؤيد ما ذكرناه أنه لم يرد في شي‌ء من روايات السلس والبطن حكم ما إذا خرج عنهما البول أو الغائط في أثناء وضوئهما مع أنه أمر عادي ، ولا يقصر وقته عن الصلاة بكثير ، فلو كان حدثهما غير الاختياري مبطلاً لوضوئهما لوجب عليهما استئناف الوضوء لو حصلا في أثنائه مع أن الأخبار لم تدل على بطلان وضوئه بخروجهما في أثنائه ، نعم إنما يرتفع حدثه بما يتعارف منه الوضوء كالبول والغائط الاختياريين أو الريح والنوم العاديين وهكذا. فما ذهب إليه الشيخ في مبسوطه من أن صاحب السلس والبطن يتوضآن مرّة واحدة لجميع صلواتهما ولا يعيدان الوضوء إلاّ مما تعارف الوضوء منه بعد ذلك (٣) هو الصحيح.

القسم الثاني من الأقسام الثلاثة‌

(١) أعني الصورة الثانية من الصور الثلاث الباقية ، فإن بنينا في الصورة الاولى أعني ما إذا خرج البول أو الغائط مرّة أو مرّتين أو ثلاث مرّات من غير استلزام التوضؤ بعد كل واحدة من الأحداث عسراً أو حرجاً على ما بنينا عليه من أن الوضوء في المسلوس والمبطون لا ينتقض بالبول والغائط بوجه ، وإنما يتوضآن مرّة‌

__________________

(*) بل يكفي وضوء واحد لجميع الصلوات ما لم يصدر منه غير ما ابتلي به من الأحداث.

(١) في ص ٢١٥.

(٢) لاحظ المبسوط ١ : ١٣٠.


واحدة وهو يكفي لجميع صلواتهما ولا يجب عليهما الوضوء في أثناء صلاتهما وأنه يبقى إلى الأبد ما دام لم يصدر منه حدث اختياري فالحكم في هذه المسألة ظاهر ، لأنه أيضاً يتوضأ مرّة واحدة ويصلّي به أي صلاة شاءها ، ولا ينتقض إلاّ بالحدث الاختياري ، ولا يجب عليه أن يتوضأ لكل صلاة بطريق أولى ، لأن الوظيفة كانت كذلك عند عدم لزوم العسر والحرج فكيف بما إذا كان الوضوء مستلزماً لهما.

وأمّا إذا لم نقل بذلك وبنينا على ناقضيّة البول والغائط من المبطون والمسلوس لوضوئهما وحكمنا في الصورة الأُولى بوجوب الوضوء في أثناء الصلاة كما بنى عليه الماتن قدس‌سره فما حكم به الماتن من أنه يتوضأ لكل صلاة ولا يجوز أن يصلّي صلاتين بوضوء واحد هو الصحيح ، وذلك لأن المسلوس والمبطون في فرض المسألة وإن كان لا يجب عليهما الوضوء في أثناء صلاتهما لاستلزامه العسر والحرج المنفيين في الشريعة المقدّسة إلاّ أن دليل نفي الحرج إنما ينفي التكليف والإلزام بالوضوء في الأثناء ولا يستفاد منه الحكم الوضعي من بطلان وضوئهما وصلاتهما أو صحّتهما بوجه فلا بدّ في تعيين الوظيفة حينئذ من الرجوع إلى دليل آخر.

فقد يقال : إنه يجب أن يتوضأ حينئذ في أثناء الصلاة إلى أن يبلغ مرتبة توجب العسر والحرج في الوضوء فإذا بلغ إلى تلك المرتبة سقط عن الوجوب. وفيه : أن دليل نفي العسر والحرج كما عرفت إنما ينفي الإلزام بإيجاد الصلاة المشروطة بالطّهارة في الخارج لأنه عسر وحرجي ، وأما أصل اشتراط الصلاة بالطّهارة فهو ليس أمراً موجباً للعسر والحرج لينفى بدليل نفيهما ، فلا دليل على أن صلاتهما في مفروض المسألة بعد بلوغ الوضوء مرتبة العسر والحرج غير مشترطة بالطّهارة فتصح مع الحدث أيضاً ، فلا بدّ في تعيين الوظيفة حينئذ من الرجوع إلى روايات الباب.

فإذا نظرنا إلى رواية محمّد بن مسلم الدالّة على أن صاحب البطن الغالب يتوضأ ثمّ يرجع في صلاته فيتم ما بقي (١) ، وقطعنا النظر عن ضعف سندها وبنينا على أنها مطلقة شاملة لكل من صورتي التمكّن من الوضوء في الأثناء وعدم التمكّن منه ، فإنّها‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٩٨ / أبواب نواقض الوضوء ب ١٩ ح ٤.


فرضت الحدث في الأثناء ودلّت بظاهرها على وجوبه في الأثناء ثمّ الرجوع إلى صلاته فمع فرض إطلاقها لكل من صورتي التمكّن من الوضوء وعدمه لا بدّ من الحكم بسقوط الصلاة عن المكلّف في مفروض المسألة ، وذلك لأنّ المفروض أن صلاته مشروطة بالطّهارة حتى إذا لم يتمكّن من الطّهارة ، ولازمه تعذر الصلاة في حقه لتعذّر شرطها لعجز المكلّف عن الوضوء في الأثناء واستلزامه العسر والحرج.

وتوهم عدم إمكان الإطلاق فيها على نحو يشمل كلا من حالتي التمكن من الوضوء وعدمه ، لأنها مشتملة على الأمر بالوضوء ، والتكليف مع عدم القدرة غير ممكن. مندفع بأن الأمر وإن كان كذلك إلاّ أنه يختص بالتكاليف المولوية ، وأما الأوامر الإرشادية إلى الاشتراط كما في المقام أو غيره فلا مانع من أن تشمل موارد عدم التمكّن أيضاً ، فتدلّ على اشتراط الصلاة بالطّهارة مطلقاً حتى مع عدم التمكّن من شرطها وهذا مما لا محذور فيه. نعم إنا نعلم علماً خارجياً أن الصلاة لا تسقط عن المبطون ونحوه طيلة حياته كأربعين أو ثلاثين سنة ، وبهذا نستكشف أنها لا إطلاق لها بحيث يشمل صورة عدم التمكّن أيضا.

وعليه فيتمسك بموثقة ابن بكير عن محمّد بن مسلم المتقدِّمة (١) بناء على ما استظهرناه من دلالتها على وجوب الوضوء قبل الصلاة والبناء عليها المؤيدة بما رواه محمّد بن مسلم في الفقيه من أنّ صاحب البطن الغالب يتوضّأ ويبني على صلاته (٢) ومقتضاهما وجوب الوضوء على المبطون مرّة واحدة لصلاته من دون أن يجب عليه في أثنائها ، وحيث إنا تحفظنا على دليل الناقضية فلا بدّ من إعادة الوضوء لكل صلاة لأنّ الأوّل ينتقض بما يخرج منه بعد ذلك لا أنه يتوضأ إلى أن يلزم الحرج فإذا لزم لم يجب عليه الوضوء ، لأنه كما مرّ مما لا دليل عليه.

وقياس ناقضية الحدث قبل لزوم الحرج وعدم ناقضيته بعد الحرج بناقضية الحدث قبل الصلاة وعدمها بعد الدخول في الصلاة كما ذهب إليه الماتن ( قدس‌سره )

__________________

(١) في ص ٢١٧.

(٢) الفقيه ١ : ٢٣٧ / ١٠٤٣.


وأمّا إن لم يكن كذلك بل كان الحدث مستمرّاً بلا فترة يمكن إتيان شي‌ء من الصّلاة مع الطّهارة (١) فيجوز أن يصلّي بوضوء واحد صلوات عديدة ، وهو بحكم المتطهِّر إلى أن يجيئه حدث آخر من نوم أو نحوه أو خرج منه البول أو الغائط على المتعارف ، لكن الأحوط في هذه الصورة أيضاً الوضوء لكل صلاة.

______________________________________________________

حيث حكم بوجوب الوضوء قبل الصلاة ولم يوجبه في أثنائها ، لأن معناه أن الأحداث السابقة على الصلاة ناقضة فلذا وجب التوضؤ لرفعها بخلاف الأحداث الواقعة في أثنائها لأنها ليست بناقضة ، ومن هنا لم يجب الوضوء في أثناء الصلاة ، فإذا أمكن التفكيك في الناقضية بين ما قبل الصلاة وما بعدها فيمكن التفكيك في الناقضية بين ما قبل لزوم الحرج وما بعده أيضاً. قياس مع الفارق ، لأنا إنما قلنا بعدم ناقضية الحدث أثناء الصلاة بموثقة ابن بكير المؤيدة برواية محمّد بن مسلم المتقدِّمتين الدالّتين على أنه يتوضّأ قبل الصلاة ويبني على صلاته ، وأمّا التفكيك بين ما قبل الحرج وبعده فهو ممّا لم يقم عليه دليل.

القسم الثالث من الأقسام الثلاثة‌

(١) هذه هي الصورة الباقية من الصور الثلاث الباقية ، فإن بنينا على ما ذكرناه في الصورة الاولى من أن البول والغائط من المسلوس والمبطون غير ناقضين لوضوئهما ويكفي له الوضوء مرّة لجميع صلواته ، ولا ينتقض إلاّ بالحدث الاختياري فنقول به في هذه المسألة أيضاً بطريق أولى. وأما إذا لم نبن عليه وقلنا بناقضية أحدهما فالوجوه في المسألة أربعة.

الوجوه المتصوّرة في المسألة‌

الأوّل : أن لا يجب عليهما الصلاة في هذه الصورة أصلاً لتعذّر شرطها وهو الطّهارة.


والظّاهر أنّ صاحب سلس الرِّيح أيضاً كذلك (١).

______________________________________________________

الثاني : أن تجب عليهما الصلاة من غير وضوء لتعذره.

الثالث : أن يجب عليهما الوضوء لكل صلاة ، وهو الذي احتاط به الماتن في المسألة.

الرابع : ما بنى عليه الماتن من وجوب الوضوء عليهما مرّة واحدة لجميع صلواتهما وأنه لا ينتقض إلاّ بالحدث الاختياري.

أما الوجه الأوّل فهو باطل يقيناً ، للقطع بعدم سقوط الصلاة عن المسلوس والمبطون طيلة حياتهما. وكذلك الوجه الثاني ، إذ لا صلاة إلاّ بطهور فكيف تجب الصلاة من دون وضوء؟ على أن لازمه جواز إحداث المسلوس والمبطون في الصلاة متعمداً ولو بالبول ونحوه وهو مقطوع الخلاف.

أما الوجه الثالث فهو أيضاً باطل لعدم الدليل على وجوب الوضوء لكل صلاة لأن الدليل عليه منحصر بموثقة ابن بكير ورواية محمّد بن مسلم المتقدّمتين (١) الآمرتين بالوضوء والبناء على صلاته ، وهي غير شاملة للمقام ، لأن الظاهر من الوضوء في قوله عليه‌السلام : « يتوضأ » هو الوضوء الصحيح ، وهو الذي يجب إتيانه قبل الصلاة دون الوضوء الباطل ، لأنه لم يقل : ويبني على وضوئه ، بل قال : « ويبني على صلاته » والمكلّف في هذه الصورة غير متمكن من الوضوء الصحيح لأنه محدث على وجه الدوام ، فإذا بطلت الوجوه بأجمعها يتعيّن الوجه الرابع وهو الذي بنى عليه الماتن قدس‌سره.

حكم سلس الرِّيح‌

(١) والأمر كما أفاده ، وذلك لعدم اختصاص الأخبار الواردة في السلس والبطن بموردها ، لاشتمال بعضها على التعليل كما في صحيحة منصور بن حازم « إذا لم يقدر‌

__________________

(١) في ص ٢١٧.


[٦٢٩] مسألة ١ : يجب عليه المبادرة (*) إلى الصلاة بعد الوضوء بلا مهلة (١).

______________________________________________________

على حبسه فالله أولى بالعذر » (٢) فإن ظاهره أن الحدث الصادر عن غير إرادة واختيار أعني حدث ذوي الأعذار غير ناقض للطّهارة ، والعلة تعمم كما قد تخصص. وموثقة سماعة « فإنما ذلك بلاء ابتلي به فلا يعيدن إلاّ من الحدث الذي يتوضأ منه » (٣) فالحدث غير الاختياري ليس بناقض للطّهارة. وعليه فحكم صاحب سلس الريح حكم سلس البول والغائط على التفصيل المتقدّم فيهما فراجع.

وجوب المبادرة بلا مهلة‌

(١) هذه الجملة وإن كانت مطلقة إلاّ أنها مختصّة بالصورة الثالثة ولا يأتي في الرابعة ولا في الأُولى والثانية. وتوضيحه : أنه على ما سلكناه في المسألة من التخصيص في ناقضية الحدث في حق المسلوس والمبطون وما يلحق بهما وعدم كون البول والغائط والريح ناقضاً لطهارتهم ، وبقائها في حقّهم إلى أن يخرج منهم حدث اختياري ، فلا إشكال في عدم وجوب المبادرة ، لأن ما يخرج منهم ليس بحدث ناقض للطّهارة.

وأمّا على ما سلكه الماتن قدس‌سره فلا معنى لإيجاب المبادرة في الصورة الاولى من الصور المتقدّمة ، لأن المكلّف يجب عليه حينئذ إيقاع الصلاة مع الطّهارة في الوقت الذي يتمكّن منهما فيه ، فلا مجال لإيجاب المبادرة معه.

وكذا لا وجه لاشتراطها في الصورة الثانية ، لأنه وإن وجب عليه الوضوء قبل الصلاة وفي أثنائها إذا حدثَ حدثٌ إلاّ أنه إذا توضأ قبل الصلاة لا تجب عليه المبادرة إليها حيث لا دليل عليه ، نعم إذا أحدث قبل الصلاة وجب عليه إعادة الوضوء.

__________________

(*) الظاهر عدم وجوبها.

(١) الوسائل ١ : ٢٩٧ / أبواب نواقض الوضوء ب ١٩ ح ٢.

(٢) الوسائل ١ : ٢٦٦ / أبواب نواقض الوضوء ب ٧ ح ٩.


[٦٣٠] مسألة ٢ : لا يجب على المسلوس والمبطون أن يتوضئا لقضاء التشهد والسجدة المنسيين بل يكفيهما وضوء الصلاة التي نسيا فيها (١) ، بل وكذا صلاة‌

______________________________________________________

فحال الحدث قبل الصلاة حاله في أثنائها ، فكما أنه في الأثناء إذا حدث يوجب الوضوء كذلك فيما إذا حدث قبل الصلاة ، وأما المبادرة فلا وجوب لها بوجه.

وأما الصورة الرابعة فعدم وجوب المبادرة فيها أظهر ، لأن المفروض أنا رفعنا اليد فيها عن دليل الاشتراط والقاطعيّة والانتقاض فلا يكون حدثه موجباً للطّهارة حينئذ ، أو أن حدثه ليس بحدث ناقض ، أو لا يجب عليه الوضوء ، ومعه كيف تجب عليه المبادرة إلى الصلاة؟

فيختص وجوب المبادرة بالصورة الثالثة ، وذلك لأن المفروض فيها أن الواجب على المكلّف هو تحصيل الطّهارة في أوّل الصلاة من دون أن يجب عليه تجديدها في أثنائها ، فالمكلف يتمكن فيها من إيقاع أوّل جزء من صلاته مع الطّهارة فيجب عليه ذلك بالمبادرة إليها ، ولا يسوغ له تفويت التمكّن من هذا المقدار من الصلاة.

لا يجب عليهما التوضؤ لغير الصلاة‌

(١) أمّا على ما سلكناه فلظهور أن الحدث منهما ليس بحدث ناقض للطّهارة فله أن يأتي بالصلاة أو بغيرها مما يشترط فيه الطّهارة بعد ذلك ، وأما على ما سلكه الماتن فأيضاً تختص هذه المسألة بالصورة الثالثة ولا تأتي في غيرها.

أمّا في الصورة الأُولى فلأجل أنه متمكِّن من الصلاة مع الطّهارة في جزء من الوقت فيتعيّن عليه الإتيان بالصلاة وأجزائها المنسية وغيرها في ذلك الزمان الذي يتمكن فيه من الطّهارة.

وأمّا في الصورة الثانية فأيضاً يجب أن يتوضأ للأجزاء التي أراد قضاءها ، لأن المفروض أن حدوث الحدث في الأثناء يوجب الوضوء بعده ، أي تحفظنا فيها على دليل الناقضية ، فإذا حدث بين وضوئه وصلاته أو أجزائها المتأخرة حدث وجب‌


الاحتياط يكفيها وضوء الصلاة التي شكّ فيها (١) ، وإن كان الأحوط الوضوء لها مع مراعاة عدم الفصل الطويل وعدم الاستدبار ، وأما النوافل فلا يكفيها وضوء‌

______________________________________________________

الوضوء بعده ، لارتفاع طهارته السابقة بحدثه.

وأما في الصورة الرابعة فقد ظهر أن الطّهارة فيها لا تنتقض بحدثهما غير الاختياري فهي باقية مع عدم حدث اختياري ، وله أن يصلّي أو يأتي بالأجزاء المنسية من غير طهارة ، فتختص المسألة بالصورة الثالثة وهي التي حكم فيها الماتن بوجوب الوضوء لكل صلاة وعدم وجوبه في الأثناء ، فهل تجب الطّهارة للأجزاء المنسية فيها عند القضاء أو لا تجب؟ الثاني هو الصحيح ، لأن الأجزاء المقضية بعينها هي الأجزاء الصلاتية غاية الأمر أتى بها مع مخالفة الترتيب والمحل ، فإذا بنينا على أن الحدث في الأجزاء وأثناء الصلاة لا يكون ناقضاً للطهارة فلا يكون ناقضاً لها في الأجزاء المنسية أيضاً فيما إذا طرأ بينها وبين الصلاة ، وليست الأجزاء المنسية واجبة مستقلة ليعتبر فيها الطّهارة أو عدم الحدث وإن لم يعتبر في الصلاة. والمراد من أنها تقضى أنها يؤتى بها بعد الصلاة لا أنها واجب مستقل عليحدة الذي هو المعنى المصطلح عليه في القضاء.

(١) لأن المأتي به إن كان ناقصاً في الواقع وكانت صلاة الاحتياط جابرة لذلك النقص فحالها حال أجزاء نفس الصلاة غاية الأمر أنها كانت متصلة وهذه منفصلة إلاّ أنها هي أجزاء الصلاة بعينها ، فإذا لم يجب الوضوء في الأجزاء الصلاتية إذا حدث في أثنائها حدث فلا يجب في صلاة الاحتياط أيضاً لأنها هي أجزاء الصلاة بعينها. وأمّا إذا كان المأتي به تاماً في الواقع ولم تكن صلاة الاحتياط جابرة فهي واجبة مستقلة إلاّ أنه إذا لم يتوضأ لها وأتى بها فاسدة لم يكن ذلك مضرّاً بصحّة صلاته المأتي بها ، ولأجل ذلك بنى قدس‌سره على عدم وجوب الوضوء لصلاة الاحتياط هذا.

وللمناقشة في ذلك مجال ، وذلك لأن كفاية الأجزاء المنفصلة عن المتّصلة على خلاف القاعدة وهي محتاجة إلى الدليل ، والدليل إنما قام على كفاية صلاة الاحتياط‌


فريضتها (*) ، بل يشترط الوضوء لكل ركعتين منها (١).

[٦٣١] مسألة ٣ : يجب على المسلوس التحفّظ من تعدِّي بوله (٢) بكيس فيه قطن أو نحوه والأحوط غسل الحشفة قبل كل صلاة (٣)

______________________________________________________

وكونها مجزئة فيما إذا كانت صحيحة على كل تقدير ، مع تقدير نقصان المأتي به وعدمه. وأمّا صورة صحّتها على تقدير دون تقدير فلم يقم دليل على إجزائها وكفايتها ، بل مع الشك في صحّتها يشكل الشروع فيها أيضاً إذ لا مرخص له ، نعم بناء على ما ذكرناه من عدم بطلان وضوء المسلوس والمبطون بحدثهما وبقائه إلى أن يحدث حدثاً اختيارياً لا يجب عليه الوضوء لصلاة الاحتياط ولا لغيرها من الصلوات.

اشتراط الوضوء للنوافل في حقهما‌

(١) أمّا على ما سلكناه فلا كلام في عدم وجوب الوضوء لها ، لعدم انتقاض طهارتهما بالحدث غير الاختياري ، وأمّا على مسلك الماتن فلا بدّ من تحصيل الوضوء لها ، لأنّ عدم انتقاض الوضوء بالحدث إنما كان مخصوصاً بأثناء الصلاة الواحدة ، وأمّا بعده فمقتضى دليل الانتقاض بطلانه بالحدث فيجب عليهما الوضوء لبقيّة الصّلوات المستحبّة أو الفرائض كما عرفت.

وجوب التحفظ عليهما عن النجاسة‌

(٢) لاشتراط الصلاة بطهارة البدن والثياب.

(٣) لا ينبغي الإشكال في عدم مانعية النجاسة الطارئة في أثناء الصلاة من البول والغائط حينئذ ، وذلك لأمرهم عليهم‌السلام باتخاذ خريطة في الصلاة وأن الله أولى بالعذر فيما لم يقدر على حبسه ، حيث ورد أنه « إذا لم يقدر على حبسه فالله أولى بالعذر يجعل خريطة » (٢) حيث تدلّ على أن ما كان لعذرٍ غيرَ مانع عن الصلاة ، فلا يجب إزالة‌

__________________

(*) مرّ آنفاً كفايته.

(١) كما تقدّم في صحيحة منصور بن حازم. الوسائل ١ : ٢٩٧ / أبواب نواقض الوضوء ب ١٩ ح ٢.


وأمّا الكيس فلا يلزم تطهيره (١) وإن كان أحوط.

______________________________________________________

نجاسة البول أو الغائط في أثناء الصلاة.

وأمّا النجاسة قبل الصلاة فمقتضى إطلاقات ما دلّ على اشتراط الطّهارة في الثوب والبدن وجوب إزالتها ، ولم يثبت العفو عنها قبل الصلاة كما ثبتت في النجاسة في الأثناء. وكون النجاسة غالبية في المسلوس والمبطون اللذين حكمنا بعدم انتقاض طهارتهما بالحدث من البول والغائط لا يستتبع العفو عن النجاسة ، لأنها شي‌ء وعدم ناقضيتها للوضوء شي‌ء آخر ، والثابت إنما هو الثاني وأما النجاسة فلا.

ودعوى أن الأخبار الواردة فيهما مع أنها في مقام البيان ساكتة عن لزوم تطهير الموضع من النجاسة قبل الصلاة وأن هذا يدل على العفو عنها حينئذ ، مندفعة بأن الأخبار إنما وردت لبيان عدم انتقاض طهارة المسلوس والمبطون ببولهما أو غائطهما ولا نظر لها إلى مانعية النجاسة وعدمها ، فمقتضى إطلاق أدلّة اشتراط الصلاة بطهارة البدن لزوم تطهير النجاسة الطارئة قبل الصلاة فيجب تطهير مخرج البول لكل صلاة.

نعم ثبت العفو عنها أيضاً بصحيحة حريز المتقدِّمة (١) الدالّة على أنه يؤخر صلاة ويقدم اخرى ويجمع بينهما بوضوء واحد ، حيث ذكرنا أنها ناظرة إلى جهة عدم مانعية النجاسة بمقدار الصلاتين لعدم ذكر الوضوء في الصحيحة ، وهي قد دلّت على عدم مانعية النجاسة قبل الصلاة لدلالتها على صحّة الثانية وإن خرج منه البول فيما بين الصلاتين أو في أثناء الصلاة الأُولى ، وعليه فالنجاسة قبل الصلاة وفي أثنائها معفو عنها إلى مقدار صلاتين ، وأمّا في الزائد عنها فقد عرفت أن مقتضى القاعدة وجوب إزالة النجاسة قبل الصلاة. هذا كله في السلس ، ويأتي حكم البطن عن قريب إن شاء الله تعالى.

(١) لأنه إما من قبيل المحمول المتنجس وهو غير موجب لبطلان الصلاة وإما أنه‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٩٧ / أبواب نواقض الوضوء ب ١٩ ح ١. وقد تقدّمت في ص ٢١٥.


والمبطون أيضاً (١) إن أمكن تحفظه بما يناسب يجب ، كما أن الأحوط تطهير المحل أيضاً إن أمكن من غير حرج.

[٦٣٢] مسألة ٤ : في لزوم معالجة السلَس والبَطَن إشكال (*) (٢) والأحوط‌

______________________________________________________

من الملبوس باعتبار وضع الذكر فيه ، وقد مرّ أنّ ما لا يتمّ فيه الصلاة من الثياب عفي نجاسته في الصلاة كما في الجورب والقلنسوة ونحوهما.

(١) أمّا النجاسة في أثناء الصلاة فقد عرفت أنها مورد العفو بمقتضى قوله عليه‌السلام : « إذا لم يقدر على حبسه فالله أولى بالعذر يجعل خريطة » (٢) لأنه كالتعليل وأن كل ما كان مستنداً إلى غير الاختيار فهو معذور فيه وأن الله أولى بالعذر فلا يجب إزالته.

وأمّا النجاسة قبل الصلاة فقد عرفت أن مقتضى القاعدة وجوب إزالتها إن أمكن. ولا تأتي في المقام صحيحة حريز ، لاختصاصها بالبول وعدم اشتمالها على ما هو كالعلّة حتى يتعدى عنه إلى الغائط ، ومعه يجب إزالة نجاسة الغائط قبل الصلاة ، اللهمّ إلاّ أن يدعى القطع بعدم الفرق بين البول والغائط ، ودونه خرط القتاد لاحتمال أن تكون للبول خصوصية في ذلك.

لا دليل على وجوب المعالجة عليهما‌

(٢) لا دليل على وجوب المعالجة بعد البناء على أن وظيفة المسلوس والمبطون هي الصلاة مع الوضوء في أوّلها أو فيه وفي أثنائها ، فلا موجب للحكم بوجوب إخراج نفسهما من موضوعهما وإدخالها في موضوع المختار.

__________________

(*) أظهره عدم اللزوم.

(١) تقدّم في صحيحة منصور بن حازم في ص ٢٢٧.


المعالجة مع الإمكان بسهولة ، نعم لو أمكن التحفظ بكيفية خاصّة (١) مقدار أداء الصلاة وجب (*) وإن كان محتاجاً إلى بذل مال (٢).

[٦٣٣] مسألة ٥ : في جواز مس كتابة القرآن للمسلوس والمبطون بعد الوضوء للصّلاة مع فرض دوام الحدث وخروجه بعده إشكال حتى حال الصّلاة (٣) (**)

______________________________________________________

(١) كشد حبل على ذكره أو إدخال القطن في دبره لئلا يخرج منه البول أو الغائط كما في الميت.

(٢) وكأنه استفاد ذلك مما دلّ على وجوب بذل المال لشراء المال في الوضوء (٣). والصحيح عدم وجوب التحفظ فيما إذا لم يكن محتاجاً إلى بذل مال فضلاً عما إذا كان محتاجاً إليه ، وذلك للبناء على أن وظيفة السلس والبطن هو الصلاة مع الوضوء الواحد في أوّلها أو معه في الأثناء ، لعدم ناقضية البول والغائط منهما أو لوجه آخر كما مرّ وعدم مانعية النجاسة فيهما عن الصلوات ، ومعه لا موجب للتحفظ أبداً ، هذا فيما إذا لم يتوقف التحفّظ على بذل مال فضلاً عما إذا توقف عليه. وقياس المقام بوجوب بذل المال لشراء ماء الوضوء مع الفارق ، لأن الثاني قد ثبت بدليل خاص.

حكم مسهما كتابة القرآن‌

(٣) لا إشكال في جواز مسهما كتابة القرآن فيما إذا بنينا على التخصيص في أدلّة النواقض وقلنا إنهما متطهران غير أن طهارتهما لا ترتفع ببولهما أو غائطهما ما دام لم يصدر منهما حدث اختياراً كما بنينا عليه ، وذلك لأنهما متطهران حقيقة فيجوز لهما مس كتابة القرآن في غير حال الصلاة فضلاً عما إذا كان في الصلاة. وأمّا إذا بنينا فيهما على‌

__________________

(*) على الأحوط ، والأظهر عدم الوجوب وإن لم يكن محتاجاً إلى بذل المال.

(**) الظاهر جوازه حتى في غير حال الصلاة.

(١) راجع الوسائل ٣ : ٣٨٩ / أبواب التيمم ب ٢٦.


إلاّ أن يكون المس واجباً (١).

[٦٣٤] مسألة ٦ : مع احتمال الفترة الواسعة الأحوط الصبر (٢) بل الأحوط‌

______________________________________________________

تخصيص أدلّة اشتراط الصلاة بالطّهارة وقلنا إن وجوب الصلاة في حقهما غير مشروط بالطهور فلا يجوز لهما مس كتابة القرآن مطلقاً ولو كانا في حالة الصلاة لعدم كونهما متطهرين ، وهذا بخلاف ما إذا التزمنا بالتخصيص في أدلّة الناقضية مع الالتزام بالاشتراط.

نعم لو اعتمدنا في الحكم بوجوب الوضوء في حقهما أوّل الصلاة وعدم وجوبه في أثنائها على موثقة ابن بكير عن محمّد بن مسلم من أنه يبني على صلاته (١) يمكننا الحكم باختصاص طهارته بالصلاة وعدم جواز ترتيب سائر الآثار عليه كمس كتابة القرآن ونحوه ، إلاّ أنك عرفت أنا نلتزم بأدلّة الاشتراط في حقهما ، فإنه لا صلاة إلاّ بطهور (٢) ، ولأنه يلزمه جواز الإحداث لهما في الصلاة عمداً ، وإنما نخصص أدلّة النواقض. كما أنا إنما نعتمد على موثقة سماعة الدالّة على أنه بلاء ابتلي به ولا يعيدن الوضوء إلاّ من الحدث الذي يتوضّأ منه (٣) لا على موثقة ابن بكير ، ومقتضى موثقة سماعة ما قدمناه من عدم انتقاض طهارتهما ببولهما وغائطهما وأن الناقض هو الحدث المتعارف الذي يتوضأ منه.

(١) كما إذا وقع المصحف في بالوعة وكان وجوب تطهيره أهم ، فإن مس المسلوس والمبطون واجب حينئذ سواء كانا متطهرين أم محدثين ، لفرض أهميّة وجوب تطهيره من حرمة المس من غير وضوء.

الأحوط الصبر مع احتمال التمكن‌

(٢) قد عرفت أنه إذا علم بالفترة الواسعة وتمكنه من الصلاة مع الطّهارة وجب‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٩٧ / أبواب نواقض الوضوء ب ١٩ ح ٣.

(٢) الوسائل ١ : ٣٦٥ / أبواب الوضوء ب ١ ح ١ وغيرها من الأبواب.

(٣) الوسائل ١ : ٢٦٦ / أبواب نواقض الوضوء ب ٧ ح ٩.


الصبر إلى الفترة التي هي أخف مع العلم بها بل مع احتمالها (١) لكن الأقوى عدم وجوبه (٢).

______________________________________________________

عليه إيقاعها في ذلك الوقت. وأما مع احتمالها فلا يجب الصبر مع احتمال الفترة الواسعة ، بل يجوز له تقديم صلاته عملاً باستصحاب بقاء عذره إلى آخر الوقت ، ثمّ إذا تبيّن قدرته على الصلاة مع الطّهارة للفترة الواسعة يعيدها ، لعدم إجزاء الحكم الظاهري عن المأمور به الواقعي. وكذلك الحال في غيره من ذوي الأعذار سوى المتيمم حيث يجب عليه تأخير صلاته إلى أن يحصل له اليأس من الماء ، وذلك لدليله الآتي في محلِّه إن شاء الله تعالى (١).

(١) لا يجب الصبر مع العلم بالفترة التي هي أخف فضلاً عما إذا احتملها ، فإذا علم بخفة بوله في ساعة كذا وأنه يقل فيها عن بقيّة الساعات لم يجب عليه تأخير صلاته إلى تلك الساعة ، وذلك للبناء على أن وظيفة المسلوس والمبطون الإتيان بصلاتهما بوضوء واحد في أوّلها أو في أثنائها أيضاً لعدم ناقضية حدثيهما أو لأمر آخر كما مر وعدم مانعية النجاسة فيهما عن الصلاة ، ومعه لماذا يجب التأخير إلى ساعة الخفة فإنه مما لا دليل عليه. هذا فيما إذا علم بالفترة التي هي أخف فضلاً عما إذا احتملها.

(٢) هذا راجع إلى المسألة الثانية أي الأقوى عدم وجوب الصبر عند العلم بالفترة التي هي أخف فضلاً عن احتمالها ، وقد مرّ أنه الصحيح. ولا يرجع إلى صدر الكلام أعني المسألة الأُولى وهي وجوب الصبر مع احتمال الفترة الواسعة ، وذلك لأن مبنى الماتن على وجوب التأخير في ذوي الأعذار مطلقاً سوى فاقد الماء ، بدعوى استفادة جواز التقديم في المتيمم من الأخبار كما يصرح بذلك في أوائل الصلاة (٢) لا أنه يلتزم بعدم وجوب التأخير فيهم. ونحن قد عكسنا الأمر وقلنا بجواز التقديم في ذوي الأعذار مطلقاً غير المتيمم ، لأنه يجب عليه الصبر كما مر. ومنشأ الخلاف بيننا وبينه في المتيمم هو اختلاف الاستفادة من الأخبار.

__________________

(١) في المسألة [١١٤١].

(٢) في المسألة [١٢٠٣].


[٦٣٥] مسألة ٧ : إذا اشتغل بالصلاة مع الحدث باعتقاد عدم الفترة الواسعة وفي الأثناء تبيّن وجودها قطع الصلاة ولو تبيّن بعد الصلاة أعادها (١).

[٦٣٦] مسألة ٨ : ذكر بعضهم أنه لو أمكنهما إتيان الصلاة الاضطرارية ولو بأن يقتصرا في كل ركعة على تسبيحة ويومئا للركوع والسجود مثل صلاة الغريق فالأحوط الجمع بينها وبين الكيفية السابقة وهذا وإن كان حسناً لكن وجوبه محل منع ، بل تكفي الكيفية السابقة (٢).

______________________________________________________

إذا شرع في الصّلاة باعتقاد عدم الفترة فتبيّن وجودها‌

(١) لعدم إجزاء المأمور به الظاهري أو الخيالي الاعتقادي عن المأمور به الواقعي كما مرّ.

إذا تمكّنا من الصّلاة الاضطرارية‌

(٢) لو كنّا نحن وصلاة المسلوس أو المبطون لحكمنا بتعيّن الصلاة الاضطرارية في حقهما مع الطّهارة ، لتمكنهما من الطّهارة على تقدير اقتصارهما على الأجزاء الاضطرارية ، كما هو الحال في غيرهما من المكلفين إذا دار أمره بين أن يحصّل الطّهارة ويأتي بصلاة الاضطرار فيبدل القراءة بالتسبيحة الواحدة والركوع والسجود بالإيماء وترك التشهّد إذا لم يسعه الوقت ، وبين أن يأتي بصلاة المختار من غير أن يحصّل الطّهارة المأمور بها ، وذلك لأن ما لا بدل له وهو الطّهارة متقدّم على ماله البدل وهو القراءة والركوع والسجود وغيرهما من أجزاء صلاة المختار. إلاّ أن الأخبار الواردة في المقام (١) دلّتنا على أن وظيفة المسلوس والمبطون هي الصلاة على الكيفية المتقدّمة ومعه لا وجه للاحتياط والجمع بينها وبين الصلاة الاضطرارية وإن نسب إلى شيخنا الأنصاري قدس‌سره الاحتياط بالجمع بينهما (٢).

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٩٧ / أبواب نواقض الوضوء ب ١٩.

(٢) صراط النجاة : ٦٢ / مسألة ١٥٣.


[٦٣٧] مسألة ٩ : من أفراد دائم الحدث المستحاضة وسيجي‌ء حكمها.

[٦٣٨] مسألة ١٠ : لا يجب على المسلوس والمبطون بعد برئهما قضاء ما مضى من الصلوات (١) نعم إذا كان في الوقت وجبت الإعادة (٢).

[٦٣٩] مسألة ١١ : من نذر أن يكون على الوضوء دائماً إذا صار مسلوساً أو مبطوناً الأحوط تكرار الوضوء (*) بمقدار لا يستلزم الحرج ، ويمكن القول بانحلال النذر ، وهو الأظهر (٣).

______________________________________________________

عدم وجوب القضاء عليهما

(١) لأن القضاء تابع لصدق عنوان الفوت ، ولا فوت مع الإتيان بوظيفة الوقت كما هو ظاهر.

(٢) لعدم إجزاء المأمور به الظاهري أو الاعتقادي الخيالي عن المأمور به الواقعي.

لو نذر الدوام على الوضوء فطرأت إحدى الحالتين‌

(٣) إذا بنينا على أن طهارة المسلوس والمبطون لا تنتقض ببولهما وغائطهما كما بنينا عليه فلا ينحل نذره ، لأنه على الطّهارة على الفرض. وأما إذا بنينا على انتقاض طهارتهما ببولهما وغائطهما فيجب عليهما الوضوء بعد كل حدث فيما إذا لم يستلزم الحرج فلا ينحل نذره أيضاً ، وأما إذا كان مستلزماً للعسر والحرج فإن كان نذره على نحو الانحلال والعموم الأفرادي بأن نذر الطّهارة في كل فرد من أفراد الزمان فيجب عليه الوضوء إلى أن يبلغ مرتبة العسر والحرج فلا ينحل ، وإذا كان حرجياً سقط عنه لعجزه وتعذره. وأمّا إذا كان نذره على نحو العموم المجموعي فبعدم تمكنه من الطّهارة في فرد من الزمان أعني ما بعد بلوغه مرتبة العسر والحرج ينحل نذره لعجزه عن متعلقه. وأما بناء على ما ذكرناه من عدم ناقضية طهارتهما ببولهما وغائطهما فنذره‌

__________________

(*) والأظهر عدم لزومه وعدم انحلال النذر ، لأن وضوء المسلوس والمبطون لا يبطل ما لم يصدر منهما غير ما ابتليا به من الأحداث.


فصل

في الأغسال‌

والواجب منها سبعة (١) غسل الجنابة والحيض والنفاس والاستحاضة ومس الميت وغسل الأموات والغسل الذي وجب بنذر ونحوه ، كأن نذر غسل الجمعة أو غسل الزيارة أو الزيارة مع الغسل. والفرق بينهما (*) (٢) أن في الأوّل إذا أراد الزيارة يجب أن يكون مع الغسل ولكن يجوز أن لا يزور أصلاً وفي الثاني يجب الزيارة فلا يجوز تركها ، وكذا إذا نذر الغسل لسائر الأعمال التي يستحب الغسل لها.

______________________________________________________

صحيح غير منحل بلا فرق بين صورتي انحلال نذره وكونه على نحو العموم الأفرادي أو كونه على نحو العموم المجموعي ، هذا تمام الكلام في دائم الحدث.

فصل في الأغسال‌

(١) وهناك غسل آخر وقع الكلام في أنه واجب مستقل في نفسه وهو غسل الجمعة ويأتي تحقيق الحال فيه في محلِّه عند التعرّض لوجوبه وعدمه إن شاء الله (٢).

(٢) هاتان العبارتان غسل الزيارة ، الزيارة مع الغسل لا تكونان فارقتين في المقام لأن النذر يتبع القصد ، فقد يقصد الإتيان بالغسل عند إرادة الزيارة فلا يجب عليه الإتيان بالزيارة حينئذ ليجب عليه غسلها ، بل له أن لا يزور أصلاً. وأُخرى يقصد الإتيان بالزيارة مطلقاً مع الغسل فتجب عليه الزيارة حينئذ ، لأنها متعلِّقة‌

__________________

(*) الفرق غير ظاهر والنذور تابعة للقصود.

(١) بعد المسألة [١٠٣٠] فصل في الأغسال المندوبة.


[٦٤٠] مسألة ١ : النذر المتعلق بغسل الزيارة ونحوها يتصور على وجوه (١) : الأوّل : أن ينذر الزيارة مع الغسل ، فيجب عليه الغسل والزيارة ، وإذا ترك أحدهما وجبت الكفّارة. الثاني : أن ينذر الغسل للزيارة بمعنى أنه إذا أراد أن يزور لا يزور إلاّ مع الغسل ، فإذا ترك الزيارة لا كفارة عليه ، وإذا زار بلا غسل وجبت عليه.

______________________________________________________

لنذره على وجه الإطلاق. وليس معناه أنه نذر أن لا يزور من غير غسل حتى يستشكل في عدم انعقاده لعدم رجحان متعلقه ، فإن الزيارة مطلقاً راجحة فلا رجحان في تركها مع عدم الاغتسال ، بل معناه الإثبات وهو نذر إتيان الفرد الراجح من الزيارة أعني الزيارة مع الاغتسال لا أنه ينفي الإتيان بغيره ، بلا فرق في ذلك بين الإتيان بالعبارة الأُولى أو الثانية.

الصور المتصورة في نذر غسل الزيارة‌

(١) الصور غير حاصرة لإمكان صورة أُخرى غيرها بحيث تختلف الكفّارة باختلافها. فالصحيح أن يقال : إن الصور المتصورة في المقام تسع ، لأن النذر قد يتعلق بالغسل على نحو الواجب المشروط بأن ينذر أن يغتسل فيما إذا أراد أن يزور ، وعليه فلا يجب عليه شي‌ء من الغسل والزيارة. أما الغسل فلعدم تحقق شرطه ، وأما الزيارة فلعدم تعلق النذر بها. هذه الصورة الاولى في المقام.

وقد يتعلق بالغسل على نحو الإطلاق ، وحينئذ قد ينذر الغسل الذي يقصد به الزيارة فلا يجب حينئذ في حقّه سوى الغسل ، نعم لا بدّ من أن يكون ناوياً وقاصداً للزيارة حال الاغتسال وإلاّ لا يكون الغسل غسلاً للزيارة ، إلاّ أنه إذا نوى الزيارة حاله لم يجب عليه الإتيان بها بعد الاغتسال لعدم كونها متعلقة لنذره ، فإنه لم ينذر سوى الغسل المقصود به الزيارة والمفروض أنه أتى به. وإذا ترك الغسل وجبت عليه كفّارة واحدة وهو ظاهر. وهي الصورة الثانية كما لا يخفى.


الثالث : أن ينذر غسل الزيارة منجزاً ، وحينئذ يجب عليه الزيارة أيضاً وإن لم يكن منذوراً مستقلا بل وجوبها من باب المقدّمة ، فلو تركهما وجبت كفّارة واحدة ، وكذا لو ترك أحدهما ، ولا يكفي في سقوطها الغسل فقط وإن كان من عزمه حينه أن يزور ، فلو تركها وجبت لأنه إذا لم تقع الزيارة بعده لم يكن غسل الزيارة. الرابع : أن ينذر الغسل والزيارة ، فلو تركهما وجب عليه كفّارتان‌

______________________________________________________

الثالثة : أن ينذر الغسل المتعقب بالزيارة. والواجب حينئذ أن يأتي بالزيارة بعد غسله لا لأنها متعلقة لنذره ، بل من أجل أنها قيد مأخوذ في متعلق نذره ، فمع عدم الإتيان به لا يتحقق متعلق النذر ، فلو ترك الغسل أو اغتسل وترك الزيارة لزمته كفارة واحدة وهذا بخلاف الصورة المتقدّمة ، إذ لا يجب عليه الزيارة فيها بعد الاغتسال لعدم تعلّق النذر بها ولا أنها قيد له كما مر.

الرابعة : ما إذا نذر الزيارة المسبوقة بالغسل. وهذه الصورة وإن كانت خارجة عن محل الكلام بظاهرها ، لأن البحث إنما هو في نذر الغسل لا في نذر الزيارة إلاّ أنها لما كانت مقيّدة بسبق الغسل كان الغسل قيداً لمتعلق النذر ، ومن هنا كانت الصورة داخلة في المقام لتعلق النّذر به على وجه التقييد ، فلو ترك الزيارة رأساً أو أتى بها من غير سبق الغسل وجبت عليه كفّارة واحدة ، لعدم إتيانه بما تعلّق به نذره أو بما هو قيد لمتعلقه.

الخامسة : ما إذا تعلق نذره بالمجموع المركب من الغسل والزيارة على نحو العام المجموعي فيجب في هذه الصورة الإتيان بهما معاً ، لأن كلا منهما متعلق لنذره لفرض تعلقه بالمجموع ، فلو تركهما معاً أو ترك أحدهما وجبت عليه كفارة واحدة لعدم إتيانه بما تعلق به نذره ، وهذا بخلاف الصورة الثالثة ، فإن الزيارة فيها لم تكن متعلقة للنذر وإنما كانت قيداً في متعلقه. هذا إذا تعلّق النّذر بمجموع الأمرين معا.

وقد يتعلق بكل واحد منهما باستقلاله بأن يكون نذره منحلا إلى الالتزام بأمرين ونذرين وإن كان قد أداهما بكلام واحد في مقام الإثبات. وهذا يتصور على أربعة أوجه :


لأنّ النذر قد يتعلّق بكل واحد منهما على وجه الإطلاق فهناك نذران ومنذوران مستقلاّن ، فلو تركهما وجبت عليه كفارتان لتركه الواجبين المنذورين ، كما أنه إذا أتى بأحدهما دون الآخر وجبت عليه كفّارة واحدة. وهذه هي الصورة السادسة في المقام.

وأُخرى ينذر كل واحد منهما مقيداً بالآخر بأن ينذر الغسل المتعقب بالزيارة والزيارة المسبوقة بالغسل ، وبذلك ينحل نذره إلى نذرين وهما واجبان إلاّ أن كلا منهما مقيد بالآخر. فان أتى بهما فهو ، وأمّا إذا تركهما أو ترك أحدهما فلا محالة تجب عليه كفّارتان. أما عند تركهما معاً فواضح ، وأمّا إذا ترك أحدهما وأتى بالآخر فلأنّ الواجب المنذور ليس هو الغسل أو الزيارة على إطلاقهما ، بل الغسل المقيّد بتعقب الزيارة أو الزيارة المتقيدة بالسبق بالغسل ، والمفروض أنه أتى بذات المنذور وترك قيده فاغتسل ولم يزر أو زار ولم يغتسل ، فلا محالة تجب عليه كفارتان لترك أحد الواجبين بذاته وترك الآخر بقيده. وهذه هي الصورة السابعة من الصور المتصورة في محل الكلام.

وثالثة : ينذر أحدهما على وجه الإطلاق وينذر الآخر مقيداً بغيره. وهذا على قسمين ، لأنه تارة ينذر الغسل على وجه الإطلاق والزيارة مقيدة بأن تكون مسبوقة بالغسل وحينئذ إذا أتى بهما فهو ، وأمّا إذا أتى بالغسل وترك الزيارة فقد وجبت عليه كفارة واحدة لمخالفته أحد المنذورين وإتيانه بالآخر ، وأمّا إذا تركهما معاً أو ترك الغسل فلا محالة يستحق به كفّارتين. أما عند تركهما معاً فواضح ، وأما إذا أتى بالزيارة وترك الغسل فلأنه ترك أحد الواجبين بذاته وهو الغسل وترك الواجب الآخر بقيده وهو الزيارة ، لأن الواجب ليس هو طبيعي الزيارة بل الزيارة المسبوقة بالغسل وقد ترك الغسل على الفرض. وهذه هي الصورة الثامنة.

وأُخرى ينذر الزيارة على وجه الإطلاق والغسل مقيداً بأن يكون متعقباً بالزيارة ، وبهذا تترقى الصور إلى التسع. وحكم هذه الصورة حكم الصورة المتقدِّمة بعينها ، لأنه إذا تركهما معاً أو ترك الزيارة وجبت عليه كفّارتان. أما عند تركهما معاً‌


ولو ترك أحدهما فعليه كفارة واحدة. الخامس : أن ينذر الغسل الذي بعده الزيارة والزيارة مع الغسل ، وعليه لو تركهما وجبت كفّارتان ، ولو ترك أحدهما فكذلك لأنّ المفروض تقيد كل بالآخر. وكذا الحال في نذر الغسل لسائر الأعمال.

فصل

في غسل الجنابة‌

وهي تحصل بأمرين : الأوّل : خروج المني ولو في حال النوم (١) أو الاضطرار‌

______________________________________________________

فظاهر ، وأما عند تركه الزيارة فلأجل تركه أحد المنذورين بذاته وهو الزيارة وتركه الآخر بقيده وهو الغسل ، لأنّ الواجب هو الغسل المقيد بتعقبه بالزيارة والمفروض أنه لم يأت بالزيارة. فتحصل : أن الصور المتصورة غير مختصّة بالصور الخمسة المذكورة في المتن ، بل الصور المتصورة بالغة إلى التسع ، ويختلف الحكم بوجوب الكفارة باختلافها. ولا وجه للإشكال في صحّة النذر المتعلق بالزيارة مع الغسل لعدم رجوعه إلى النفي وعدم الإتيان بالأفراد الأُخر ، وإنما معناه نذر خصوص الفرد الراجح ولا مانع من صحّة نذره كما مرّ

فصل في غسل الجنابة‌

(١) ما أفاده قدس‌سره مما لا إشكال فيه ، وذلك لإطلاقات الأخبار (١) وتصريح بعضها بعدم الفرق بين اليقظة والمنام. وإنما الكلام كله في أن وجوب غسل الجنابة بالإنزال هل هو خاص بالرجال أو أنه لا فرق في ذلك بين الرجال والنساء؟ مقتضى جملة من الأخبار عدم الفرق في ذلك بين المرأة والرجل وأن خروج الماء المعبر عنه بالإنزال والإمناء يوجب الغسل مطلقا.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٧٣ / أبواب الجنابة ب ١ ، ٧.


فمنها : ما رواه في الكافي عن إسماعيل بن سعد الأشعري ، قال : « سألت الرضا عليه‌السلام عن الرجل يلمس فرج جاريته حتى تُنِزلَ الماء من غير أن يباشر يعبث بها بيده حتى تنزل ، قال : إذا أنزلت من شهوة فعليها الغسل » (١).

ومنها : صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، قال : « سألت الرضا عليه‌السلام عن الرجل يجامع المرأة فيما دون الفرج وتنزل المرأة هل عليها الغسل؟ قال : نعم » (٢).

ومنها : صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن المرأة ترى في المنام ما يرى الرّجل ، قال : إن أنزلت فعليها الغسل » (٣) إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على عدم الفرق بين المرأة والرّجل وأن المرأة أيضاً إذا أنزلت وجب عليها الغسل.

وفي قبالها عدّة كثيرة من الأخبار وفيها الصحاح وغيرها قد دلّت على أن المرأة لا يجب عليها الغسل بإنزالها.

فمنها : ما عن عبيد بن زرارة ، قال « قلت له : هل على المرأة غسل من جنابتها إذا لم يأتها الرجل؟ قال : لا ، وأيّكم يرضى أن يرى أو يصبر على ذلك أن يرى ابنته أو أُخته أو امه أو زوجته أو أحداً من قرابته قائمة تغتسل فيقول مالك؟ فتقول احتلمت وليس لها بعل ، ثمّ قال : لا ، ليس عليهن ذلك ، وقد وضع الله ذلك عليكم وقال ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) ولم يقل ذلك لهنّ » (٤).

ومنها : صحيحة عمر بن يزيد ، قال : « اغتسلت يوم الجمعة بالمدينة ولبست ثيابي وتطيبت فمرت بي وصيفة لي ففخذت لها فأمذيت أنا وأمنت هي فدخلني من ذاك ضيق ، فسألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن ذلك ، فقال : ليس عليك وضوء وليس‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٨٦ / أبواب الجنابة ب ٧ ح ٢.

(٢) الوسائل ٢ : ١٨٦ / أبواب الجنابة ب ٧ ح ٣.

(٣) الوسائل ٢ : ١٨٧ / أبواب الجنابة ب ٧ ح ٥.

(٤) الوسائل ٢ : ١٩٢ / أبواب الجنابة ب ٧ ح ٢٢.


عليها غسل » (١).

ومنها : صحيحة عمر بن أُذينة ، قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : المرأة تحتلم في المنام فتهريق الماء الأعظم ، قال : ليس عليها غسل » (٢).

ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم ، قال « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : كيف جعل على المرأة إذا رأت في النوم أن الرجل يجامعها في فرجها الغسل ، ولم يجعل عليها الغسل إذا جامعها دون الفرج في اليقظة فأمنت؟ قال : لأنها رأت في منامها أن الرجل يجامعها في فرجها فوجب عليها الغسل والآخر إنما جامعها دون الفرج فلم يجب عليها الغسل لأنه لم يدخله ، ولو كان أدخله في اليقظة وجب عليها الغسل ، أمنت أو لم تمن » (٣). وملخص هذه الرواية أن محمّد بن مسلم قد سلم الحكمين أعني الحكم بوجوب الغسل على المرأة فيما إذا رأت في المنام أن الرجل يواقعها وإن لم تنزل والحكم بعدم وجوب الغسل عليها فيما إذا أمنت في اليقظة من غير المجامعة وسأل عن وجهه وقد أجابه عليه‌السلام بما حاصله أن وجوب الغسل حكم مترتب على المواقعة والجماع من غير فرق بين تحققهما في الخارج وبين تحققهما في المنام ولم يترتب على الإنزال لا في اليقظة ولا في المنام ، فقد جعلت المناط مجرّد المواقعة دون الإنزال. إلى غير ذلك من الأخبار (٤).

وهذه الطائفة معارضة مع الطائفة المتقدّمة. والكلام في وجه المعالجة بينهما ، فان بنينا على ما بنى عليه المشهور من أن الرواية بلغت من الصحّة ما بلغت إذا أعرض عنها المشهور سقطت عن الاعتبار ، فلا مناص من الأخذ بالطائفة الأُولى الدالّة على عدم الفرق في وجوب الغسل بالإنزال بين المرأة والرجل ، وذلك لإعراض الأصحاب عن الطائفة الثانية ، ولم ينسب العمل بها إلى أحد من أصحابنا ، وحيث إن الإعراض‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٩١ / أبواب الجنابة ب ٧ ح ٢٠.

(٢) الوسائل ٢ : ١٩١ / أبواب الجنابة ب ٧ ح ٢١.

(٣) الوسائل ٢ : ١٩١ / أبواب الجنابة ب ٧ ح ١٩.

(٤) كصحيحة عمر بن يزيد : الوسائل ٢ : ١٩٠ / أبواب الجنابة ب ٧ ح ١٨.


يوجب سقوط الرواية عن الاعتبار فتبقى الطائفة الاولى من غير معارض.

وأمّا إذا بنينا على ما سلكناه من أن إعراض المشهور عن رواية صحيحة لا يوجب سقوطها عن الاعتبار فأيضاً لا بدّ من تقديم الطائفة الأُولى على الثانية وذلك إمّا لأن الطائفة الثانية موافقة للعامة على ما نسبه إليهم في الوسائل ولو في زمان صدور الرواية ، لاحتمال أن يكون العامّة في تلك الأزمنة قائلين بعدم وجوب الغسل على المرأة بالإنزال. وإما لأنها أشبه بفتاواهم ، فإن قوله عليه‌السلام في رواية عبيد ابن زرارة : إن الله وضع الاغتسال من الجنابة على الرجال ، وقال ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) ، ولم يقل ذلك لهنّ. ممّا لا يمكن إسناده إلى الإمام ، كيف وجميع الأحكام والخطابات الواردة في الكتاب أو أغلبها متوجهة إلى الرِّجال ، ولازم ذلك عدم تكليفهنّ بشي‌ء مما كلف به الرجال.

على أنها فرضت أن المرأة تجنب بالإمناء حيث قال : « على المرأة غسل من جنابتها » وإنما دلّت على عدم وجوب الغسل في حقها ، وهو كما ترى مما لا يمكن التفوه به ، إذ كيف تكون المرأة جنباً ولا يجب عليها الغسل؟ وكذلك تعليله عليه‌السلام في صحيحة محمّد بن مسلم من أن الغسل إنما يجب بالمواقعة سواء كانت في الخارج أم في المنام ، فان الغسل وإن كان يجب بالمواقعة إلاّ أنها إنما تسببه فيما إذا تحققت في الخارج ، وأمّا تخيّل المواقعة في المنام فلا تكون موجبة للغسل أبداً. وهل ترى أن من رأى في المنام أنه قتل أحداً يجب أن يعطي الدية ويقتص منه؟ وكذا إذا رأت في المنام أنها حاضت حيث لا يجب عليها الغسل بذلك ، فهذا أشبه بفتاوى الناس ، وما أشبه بأحكامهم فهو مردود وغير مقبول ، لأن ما أشبه قول الناس ففيه التقيّة كما في الخبر (١).

ثمّ لو أغمضنا عن ذلك فالطائفتان متعارضتان ، لمنافاة وجوب الغسل على المرأة مع عدم وجوبه عليها فلا بدّ من الحكم بتساقطها والرجوع إلى المطلقات ، وهي تدلّ‌

__________________

(١) راجع ما رواه عبيد بن زرارة ، الوسائل ٢٧ : ١٢٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤٦.


وإن كان بمقدار رأس أبرة (١)

______________________________________________________

على أنّ غسل الجنابة إنما يجب بخروج الماء الأكبر أو الأعظم (١) ومقتضى إطلاقه عدم الفرق في ذلك بين الرجال والنساء.

ودعوى أن الطائفة الثانية صريحة في عدم وجوب غسل الجنابة على المرأة بالإنزال وظاهرة في حرمته عليها كما أن الطائفة الأُولى صريحة في استحباب الغسل عليها بالإنزال وظاهرة في وجوبه عليها فترفع اليد عن ظهور كل منهما بصريح الآخر ونتيجته الحكم باستحباب الغسل عليها بإنزالها فلا تصل النوبة إلى التساقط والرجوع إلى الإطلاقات. مندفعة : بأن الجمع بين المتعارضين بذلك مخصوص بالأحكام التكليفية ولا يأتي في الأوامر والنواهي الإرشاديتين والأمر في المقام كذلك ، لأن الأمر بغسلها إرشاد إلى مانعية جنابتها عن الصلاة كما أن النهي عنه إرشاد إلى عدم مانعية جنابتها عن الصلاة ، ومن الظاهر أن كون الجنابة مانعة وغير مانعة أمران متنافيان ومعه لا بدّ من الحكم بتساقطهما والرجوع إلى المطلقات كما ذكرناه.

عدم الفرق في خروج المني بين قلّته وكثرته‌

(١) لا فرق في خروج المني الموجب لغسل الجنابة بين قلّته وكثرته ، وذلك لإطلاقات الأخبار حيث دلّت على أن المدار في وجوب غسل الجنابة على خروج الماء الأكبر أو الأعظم أو الإنزال أو الإمناء ، فكلّما صدق شي‌ء من هذه العناوين وجب الغسل قليلاً كان الخارج أم كثيرا.

__________________

(١) كما في موثقتي عنبسة الوسائل ٢ : ١٨٧ / أبواب الجنابة ب ٧ ح ٦ ، ١١. وموثقة الحسين بن أبي العلاء الوسائل ٢ / ١٩٦ ب ٩ ح ١ ففيها ورد : الماء الأكبر. وتقدّمت قريباً صحيحة عمر بن أُذينة الدالّة على عدم وجوب الغسل على المرأة وفيها ورد : الماء الأعظم.


سواء كان بالوطء أو بغيره (١)

______________________________________________________

وقد يقال : إن صحيحة معاوية بن عمّار تدلّ على عدم وجوب الغسل عند قلّة الخارج من المني حيث قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل احتلم فلما انتبه وجد بللاً قليلاً ، قال عليه‌السلام : ليس بشي‌ء إلاّ أن يكون مريضاً فإنه يضعف فعليه الغسل » (١) وهي كالصريح في أن البلل القليل الذي وجده المحتلم ليس بشي‌ء موجب للغسل.

وفيه : أنّ الصحيحة لا دلالة لها على المدعى ، لأن الحلم بمعنى النوم ، فالمراد من أنه احتلم أنه رأى في منامه شيئاً بأن رأى أنه يواقع زوجته أو امرأة أُخرى ، وليس بالمعنى المصطلح عليه عندنا أعني خروج المني منه وهو في المنام أو غيره ، وعليه فليس في الصحيحة ما يدلّ على أن المني القليل غير موجب لشي‌ء وإنما هي واردة في البلل المشتبه ، وقد دلّت على أن البلل المشتبه إذا كان قليلاً لا يوجب الاغتسال لأن قلّته كالقرينة على عدم كونه منياً ، حيث إنه لو كان منياً لخرج على النمط المتعارف لا على وجه القلّة إلاّ في المريض ، لأنه لضعفه قد يخرج منه شي‌ء قليل من المني فيجب عليه الاغتسال. ولو لا ذكر أن المريض يضعف لم يكن يحتمل التفصيل في خروج البلل القليل بين السليم والمريض بالحكم بعدم وجوب الغسل في الأوّل ووجوبه في الثاني إلاّ أن ذكر الضعف قرينة على المراد وأن المريض لمكان ضعفه قد يخرج عنه المني القليل وأنه ليس كالسليم. فالمتحصل أنه لا فرق في وجوب الغسل بخروج المني بين قلّته وكثرته.

خروج المني بالوطء أو بغيره سيّان‌

(١) لأنّ المدار على صدق الإنزال والإمناء وخروج الماء الأكبر فيجب الغسل عند صدق أحد هذه العناوين كما عرفت ، سواء كان بالوطء أو بغيره.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٩٤ / أبواب الجنابة ب ٨ ح ٢.


مع الشهوة أو بدونها (*) (١)

______________________________________________________

كان الخروج مع الشهوة أم بدونها‌

(١) الكلام في اعتبار الشهوة في وجوب الغسل بخروج المني تارة يقع في الرجال وأُخرى في النساء. أما بالإضافة إلى الرجال فقد ورد في صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام على ما رواه الشيخ قدس‌سره أنه « سأله عن الرجل يلعب مع المرأة ويقبِّلها فيخرج منه المني فما عليه؟ قال : إذا جاءت الشهوة ودفع وفتر لخروجه فعليه الغسل ، وإن كان إنما هو شي‌ء لم يجد له فترة ولا شهوة فلا بأس » (٢) وهي كما ترى قيّدت وجوب الغسل على الرجل بما إذا خرج منه المني عن شهوة. وقد حملها صاحب الحدائق (٣) وكذا صاحب الوسائل قدس‌سرهما على التقيّة لموافقتهما لمذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد (٤) وهم من أشهر فقهائهم.

وفيه : أن الحمل على التقيّة يتوقف على وجود المعارض للرواية حيث إن مخالفة العامّة من المرجحات ، وأما الرواية المعتبرة من غير أن يكون لها معارض فمما لا يمكن رفع اليد عنها بحملها على التقيّة والأمر في المقام كذلك ، لأن الصحيحة غير معارضة بشي‌ء ، حيث لم يرد في شي‌ء من رواياتنا أن الرجل إذا خرج منه المني عن غير شهوة أيضاً يوجب الجنابة وغسلها ، وليس في البين سوى الإطلاقات وأن الغسل من الماء الأكبر (٥) ومقتضى القاعدة تخصيص المطلقات بالصحيحة ولا موجب لحملها على التقيّة أبدا.

وعن صاحب المنتقى أن المني في الصحيحة إنما أُطلق على البلل المشتبه الذي ظنّه السائل منياً فأطلق المني على ما ظنّ أنه مني ، فهو استعمال على طبق خياله وعقيدته‌

__________________

(*) في تحقق الجنابة بخروج المني من المرأة بغير شهوة إشكال ، فالاحتياط لا يترك.

(١) الوسائل ٢ : ١٩٤ / أبواب الجنابة ب ٨ ح ١.

(٢) الحدائق ٣ : ٢٠.

(٣) المبسوط ١ : ٦٧ ، بدائع الصنائع ١ : ٣٧ ، المغني لابن قدامة ١ : ٢٣١.

(٤) مرّ في ذيل ص ٢٤٣.


لا أن الخارج كان منياً يقيناً (١) ، وعليه فالصحيحة خارجة عن محل الكلام وناظرة إلى أن البلل المشتبه إنما يوجب الغسل ، ويحمل على كونه منياً فيما إذا خرج عن شهوة ، فهو كالقرينة على أن البلل مني لا أن ما علمنا بكونه منياً لا يوجب الغسل إلاّ إذا خرج عن شهوة.

ويدفعه : أن حمل لفظة المني على خلاف ظاهرها يحتاج إلى دليل ، ولا دليل عليه فلا مناص من حملها على ما هو ظاهرها أعني المني دون البلل ، وعليه فمقتضى القاعدة الالتزام بمفاد الصحيحة وتخصيص المطلقات بها. والذي يسهل الخطب أن الموجود في الصحيحة على رواية قرب الإسناد (٢) وكتاب علي بن جعفر (٣) على ما رواه صاحب الوسائل قدس‌سره كلمة « الشي‌ء » بدل « المني » وعليه فالصحيحة واردة في البلل المشتبه دون المني ، ورواية قرب الإسناد وكتاب علي بن جعفر لو لم تكن هي الصحيحة لأجل وقوع الاشتباه في روايات الشيخ على ما شاهدنا كثيراً فلا أقل من عدم ثبوت رواية الشيخ ، وعليه فمقتضى الإطلاقات وجوب الغسل بخروج الماء الأكبر مطلقاً سواء خرج مع الشهوة أم بدونها. هذا كله في الرجال.

وأمّا في النساء فقد ورد في جملة من الأخبار تقييد وجوب الغسل عليها بالإنزال والإمناء بما إذا خرج عن شهوة ، ففي صحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري قال : « سألت الرضا عليه‌السلام عن الرجل يلمس فرج جاريته حتى تنزل الماء من غير أن يباشر ، يعبث بها بيده حتى تنزل ، قال : إذا أنزلت من شهوة فعليها الغسل » (٤) وبمضمونها رواية محمّد بن الفضيل (٥) وغيرها (٦) حيث اعتبر في الإنزال الموجب‌

__________________

(١) منتقى الجمان ١ : ١٧٢.

(٢) قرب الاسناد : ١٨١ / ٦٧٠.

(٣) مسائل علي بن جعفر : ١٥٧ / ٢٣٠.

(٤) الوسائل ٢ : ١٨٦ / أبواب الجنابة ب ٧ ح ٢.

(٥) الوسائل ٢ : ١٨٧ / أبواب الجنابة ب ٧ ح ٤.

(٦) كصحيحة معاوية بن حكيم ورواية يحيى بن أبي طلحة ، الوسائل ٢ : ١٨٩ / أبواب الجنابة ب ٧ ح ١٤ ، ١٥.


جامعاً للصفات أو فاقداً لها مع العلم بكونه منياً (١) ، وفي حكمه الرطوبة المشتبهة الخارجة بعد الغسل مع عدم الاستبراء بالبول (٢) ، ولا فرق بين خروجه من المخرج المعتاد أو غيره (٣).

______________________________________________________

للغسل أن يكون عن شهوة.

ومقتضى القاعدة تخصيص المطلقات بهذه الأخبار والحكم باعتبار الشهوة في وجوب الغسل على المرأة بخروج المني دون الرجال ، إلاّ أنه يشكل من جهة مخالفة المشهور ، لعدم التزامهم باعتبار الشهوة في خصوص المرأة دون الرجال ، ولو لا ذلك لكان المتعين تخصيص المطلقات بهذه الأخبار في خصوص النساء دون الرجال.

(١) وذلك لأن الصفات الواردة في الأخبار من الخروج بالدفع أو الفتور أو الخروج عن شهوة إنما تعتبر في تميز المني وتشخيصه عند الاشتباه كما في البلل المشتبه وأمّا مع العلم بأن الخارج مني فلا يعتبر فيه شي‌ء من الصفات لصدق الماء الأكبر أو الإنزال والإمناء عليه.

البلل المشتبه بحكم المني‌

(٢) كما يأتي في محلِّه (١) ونبيّن هناك أن الشارع جعل الغلبة فيها أمارة على كون الخارج منياً ، لأنه إذا خرج منه البلل بعد خروج المني منه وقبل أن يبول فغالب الظن أنه من بقايا المني في المجرى.

الخروج من المخرج المعتاد وغيره سيان‌

(٣) كما لا فرق في غير المعتاد بين أن يكون عاديا له وبين ما إذا لم يكن ، وذلك لأن المدار في الحكم بوجوب الاغتسال إنما هو صدق أحد عناوين الإنزال والإمناء وخروج الماء الأكبر ونحوها ، سواء كان الإنزال من المخرج العادي أو من غيره ، وسواء كان معتاداً له أم لم يكن وهذا كما إذا كانت على بدنه ثقبة يخرج منها المني ، نعم إذا لم‌

__________________

(١) في المسألة [٦٨٦].


والمعتبر خروجه إلى خارج البدن ، فلو تحرّك من محلِّه ولم يخرج لم يوجب الجنابة (١) ، وأن يكون منه فلو خرج من المرأة مني الرجل لا يوجب جنابتها (٢) إلاّ مع العلم باختلاطه بمنيها ،

______________________________________________________

يصدق عليه الإنزال أو الإمناء بحسب المتفاهم العرفي لم يجب عليه الاغتسال ، كما إذا استخرج منيه بشي‌ء من الآلات الطبيّة فإنه لا يقال إنه أنزل وأمنى ، وأما في غير ذلك من الموارد فمقتضى الإطلاق وجوب الاغتسال كما عرفت.

(١) حيث لا يصدق عليه الإمناء والإنزال أو خروج الماء الأكبر ، وقد عرفت أن هذه العناوين هي الموضوع للحكم بوجوب غسل الجنابة.

حكم خروج مني الرّجل من المرأة‌

(٢) وذلك مضافاً إلى عدم المقتضي لوجوب الغسل حينئذ لعدم صدق الإنزال والإمناء بخروج المني الداخل إلى فرجها من الخارج فان ظاهر الإمناء هو إخراج مني نفسه لا مني غيره ، تدلّ عليه جملة من الأخبار.

منها : صحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن رجل أجنب فاغتسل قبل أن يبول فخرج منه شي‌ء ، قال : يعيد الغسل ، قلت : فالمرأة يخرج منها شي‌ء بعد الغسل ، قال : لا تعيد ، قلت : فما الفرق بينهما؟ قال : لأن ما يخرج من المرأة إنما هو من ماء الرجل » (١).

ومنها : صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المرأة تغتسل من الجنابة ثمّ ترى نطفة الرجل بعد ذلك هل عليها غسل؟ فقال : لا » (٢) ومنها غير ذلك من الأخبار (٣).

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٠١ / أبواب الجنابة ب ١٣ ح ١.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٠٢ / أبواب الجنابة ب ١٣ ح ٣.

(٣) كالروايات الدالّة على أن موجب الغسل هو الماء الأكبر ، وتقدّم ذكر جملة منها في تعليقة ص ٢٤٣.


وإذا شكّ في خارج أنه مني أم لا اختبر بالصفات من الدّفق والفتور والشّهوة (١) ، فمع اجتماع هذه الصفات يحكم بكونه منياً وإن لم يعلم بذلك ، ومع عدم اجتماعها

______________________________________________________

عند الشك يختبر الخارج بالصفات‌

(١) في هذه المسألة جهات من الكلام :

الجهة الاولى : في أنه إذا شك في أن الخارج مني أو غيره هل يجب الفحص والاختبار أو يبني على العدم من غير فحص؟ الصحيح هو الثاني ، لأن الشبهة موضوعية ولا يجب الفحص في الشبهات الموضوعية على ما تقدّم في محلِّه (١) فلا مانع من استصحاب عدم خروج المني أو استصحاب بقاء طهارته. هذا إذا دار أمر الخارج بين المني والوذي وكان متطهراً قبل خروجه فإنه لا مانع حينئذ من استصحاب بقاء طهارته.

وأما إذا دار أمره بين المني والبول فلا يجري فيه الاستصحاب ، للعلم الإجمالي بانتقاض طهارته إما بالحدث الأكبر أو الأصغر ، وحينئذ تبتني المسألة على أن الامتثال الإجمالي والاحتياط هل هو في مرتبة متأخرة من الامتثال التفصيلي فمع التمكن منه لا مساغ للاحتياط ، أو أنهما في مرتبة واحدة ولا مانع من الاحتياط مع التمكن من الامتثال التفصيلي ، فعلى الأوّل يجب عليه الاختبار ليعلم أنه بول أو مني وأمّا على الثاني فله أن يحتاط من غير أن يجب عليه الفحص والاختبار.

الجهة الثانية : إذا قلنا بوجوب الاختبار عند الشك في أن الخارج مني أو غيره فلا بدّ من أن يختبر بالصفات الواردة في الأخبار من الدفق والفتور والشهوة كما في صحيحة علي بن جعفر المتقدّمة ، حيث قال : « إذا جاءت الشهوة ودفع وفتر لخروجه فعليه الغسل » (٢).

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٥١٠.

(٢) تقدّم ذكرها في ص ٢٤٥.


ولو بفقد واحد منها لا يحكم به إلاّ إذا حصل العلم. وفي المرأة والمريض يكفي اجتماع (*) صفتين وهما الشّهوة والفتور.

______________________________________________________

والظاهر أن الشارع إنما اعتبر هذه الصفات في الاختبار من جهة أنها صفات غالبية لا تنفك عن المني ، فهي أمارات كون الخارج منياً لا أن الطريق منحصر بها فلو علم أو اطمأن بالمني من سائر الأوصاف كاللون والرائحة الكريهة ونحوهما أيضاً وجب عليه الغسل كما ذهب إليه جماعة من الفقهاء ، وكذا فيما إذا حصل له العلم بذلك عن اجتماع صفتين من الأوصاف الثلاثة. وعلى الجملة المدار على العلم بكون الخارج منياً ، وإذا لم يكن فالمتبع هو الصفات الغالبية وهي الدفق والشهوة والفتور.

ثمّ إن الكلام في ذلك قد يقع في الرجل السليم وأُخرى في المريض وثالثة في المرأة.

أما بالإضافة إلى الرجل الصحيح فقد عرفت أن مقتضى صحيحة علي بن جعفر المتقدّمة الحكم بالاغتسال عند اجتماع الأوصاف الثلاثة ، والظاهر أن الفترة والشهوة متلازمتان كما يدلّ عليه ذيل الصحيحة ، حيث قال : « وإن كان إنما هو شي‌ء لم يجد له فترة ولا شهوة فلا بأس » مع أن انتفاء أحد الأوصاف الثلاثة يكفي في الحكم بعدم وجوب الاغتسال ، لأنه إنما ترتب على وجود الأوصاف الثلاثة فلا حاجة إلى انتفاء كليهما ، فنفيهما معاً يكشف عن تلازمهما كما هو كذلك خارجاً. وعليه فالمدار في الرجل الصحيح على الدفق والشهوة. ويدلُّ على ذلك أيضاً صحيحة ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « قلت له : الرجل يرى في المنام ويجد الشهوة فيستيقظ فينظر فلا يجد شيئاً ثمّ يمكث الهون بعد فيخرج ، قال : إن كان مريضاً فليغتسل وإن لم يكن مريضاً فلا شي‌ء عليه ، قلت : فما فرق بينهما؟ قال : لأن الرجل إذا كان صحيحاً جاء الماء بدفقة قويّة وإن كان مريضاً لم يجي‌ء إلاّ بعد » (٢) وفي رواية‌

__________________

(*) كفايته في خصوص المرأة لا تخلو من إشكال ، فالاحتياط لا يترك.

(١) الوسائل ٢ : ١٩٥ / أبواب الجنابة ب ٨ ح ٣.


الثاني : الجماع وإن لم ينزل ولو بإدخال الحشفة أو مقدارها من مقطوعها (*) (١)

______________________________________________________

الكليني يدفقه بقوّة (٢). وهي تدلّنا على أن الرجل الصحيح كما هو محل كلامنا إنما يخرج ماؤه بدفق وقوّة ، كما أنه يخرج بشهوة كما في الصحيحة المتقدّمة. فأمارة المني في الرجل الصحيح هي الدفق والخروج بشهوة.

وأمّا المرأة فلم يرد في اعتبار الدفق في منيها رواية ، وإنما الأخبار دلّت على أن ما يخرج من فرجها إذا كان خارجاً بشهوة يجب عليها الغسل ، ففي صحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري قال : « سألت الرضا عليه‌السلام عن الرجل يلمس فرج جاريته حتى تنزل الماء من غير أن يباشر ، يعبث بها بيده حتى تنزل ، قال : إذا أنزلت من شهوة فعليها الغسل » (٣) وهكذا في غيرها (٤) بل لم يعتبر الدفق في المرأة ولو اتفاقاً. وعليه فالصفة التي يختبر بها مني المرأة إنما هي خروجه بشهوة ، ولا يعتبر فيها صفة أُخرى غيرها.

وأمّا الرجل المريض فهو أيضاً لا يعتبر فيه الخروج عن دفق كما دلّت عليه صحيحة ابن أبي يعفور المتقدِّمة ، فلا يعتبر في الرجل المريض والمرأة إلاّ الشهوة الملازمة مع الفتور ، ولا يعتبر فيهما الدفق ، وإنما يختص ذلك بالرجل الصحيح كما مر.

السبب الثاني للجنابة وهو الجماع‌

(١) وجوب الغسل بالجماع في الجملة مما لا ريب فيه بين المسلمين ، وإنما الكلام في جهات :

الجهة الاولى : أن الجماع المعبّر عنه بالتقاء الختانين أو الإدخال والإيلاج بنفسه‌

__________________

(*) لا يترك الاحتياط مع صدق الإدخال عرفاً ولو كان الداخل دون ذلك.

(١) الكافي ٣ : ٤٨ / ٤. إلاّ أنّ فيه بدل يدفقه بقوّة « بدفقة وقوّة ».

(٢) الوسائل ٢ : ١٨٦ / أبواب الجنابة ب ٧ ح ٢.

(٣) الوسائل ٢ : ١٨٧ / أبواب الجنابة ب ٧ ح ٤ ، ١٣ ، ١٤ ، ١٥.


مسبب للجنابة ووجوب الغسل وإن لم ينزل بوجه ، وذلك بمقتضى الأخبار الكثيرة الصحاح فضلاً عن غيرها ، ففي صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « سألته متى يجب الغسل على الرجل والمرأة؟ فقال : إذا أدخل وجب الغسل ... » (١) وفي رواية ابن أبي نصر البزنطي صاحب الرضا عليه‌السلام قال : « سألته ما يوجب الغسل على الرجل والمرأة؟ فقال : إذا أولجه وجب الغسل ... » (٢) ومنها صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : ما تقولون في الرجل يأتي أهله فيخالطها ولا ينزل؟ فقالت الأنصار : الماء من الماء ، وقال المهاجرون : إذا التقى الختانان فقد وجب عليه الغسل ، فقال عمر لعلي عليه‌السلام : ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال علي عليه‌السلام : أتوجبون عليه الحد والرجم ولا توجبون عليه صاعاً من الماء؟ إذا التقى الختانان فقد وجب عليه الغسل ، فقال عمر : القول ما قال المهاجرون ودعوا ما قالت الأنصار » (٣) ومنها غير ذلك من الأخبار المشتمل بعضها على تلازم الغسل مع الحد والمهر فراجع ، إلى غير ذلك من الأخبار. مضافاً إلى إطلاق الكتاب ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) (٤).

وأما ما ورد من أن علياً عليه‌السلام كان لا يرى الغسل إلاّ في الماء الأكبر (٥) فهو لا ينافي وجوب الغسل بالجماع ، وذلك لأن الحصر فيه إنما هو بالإضافة إلى ما يخرج من الإحليل ، فكأنه عليه‌السلام قال : المائع الذي يخرج من الإحليل لا يوجب الغسل إلاّ إذا كان من الماء الأكبر ، وذلك لقرينتين :

إحداهما : سبق ذلك في رواية عنبسة بالمذي حيث قال : « سمعت أبا عبد الله ( عليه‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٨٢ / أبواب الجنابة ب ٦ ح ١.

(٢) الوسائل ٢ : ١٨٥ / أبواب الجنابة ب ٦ ح ٨.

(٣) الوسائل ٢ : ١٨٤ / أبواب الجنابة ب ٦ ح ٥.

(٤) المائدة ٥ : ٦.

(٥) الوسائل ٢ : ١٨٧ / أبواب الجنابة ب ٧ ح ٦.


السلام ) يقول : كان علي لا يرى في المذي وضوءاً ولا غسلاً ما أصاب الثوب منه إلاّ في الماء الأكبر » (١) فإن ذكر المذي قرينة واضحة على أن الحصر إنما هو بالإضافة إلى ما يخرج من الإحليل لا بالإضافة إلى كل ما هو سبب للجنابة والغسل.

وثانيتهما : إتيانه بالصفة والموصوف حيث قيد الماء بكونه أكبر ، فمنه يظهر أنه في قبال الماء الأصغر الذي هو كل مائع غير المني ، إذ لو كان مراده حصر سبب الجنابة والغسل بالمني فقط لكان من الأولى والأخصر أن يقول : إلاّ في المني. فلا موجب للإطالة والإتيان بالصفة وموصوفها إلاّ التنبيه على أن الحصر إضافي وبالنسبة إلى المائعات الخارجة من الإحليل الذي هو الماء غير الأكبر.

الجهة الثانية من جهات البحث‌

الجهة الثانية : أنه لو كنا والصحاح الواردة في وجوب الغسل بالإدخال والإيلاج لكنا قلنا بوجوب الغسل إما من مطلق الإدخال والإيلاج ولو كان أقل من مقدار الحشفة ، وإما من خصوص الإدخال المتعارف أعني إدخال جميع الآلة كما هو المناسب مع الإيلاج ولم نكتف في وجوبه بإدخال الحشفة ، إلاّ أن هناك أخباراً قد وردت في تحديد الإدخال والإيلاج وبينت أن المراد بهما إدخال الحشفة وغيبوبتها فقط فالإدخال زائداً على ذلك غير واجب والإدخال دون غيبوبة الحشفة غير موجب له وهي جملة من الأخبار المتضمنة على أن الغسل إنما يجب بغيبوبة الحشفة ، أصرحها صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، قال : « سألت الرضا عليه‌السلام عن الرجل يجامع المرأة قريباً من الفرج فلا ينزلان متى يجب الغسل؟ فقال : إذا التقى ، الختانان فقد وجب الغسل ، فقلت : التقاء الختانين هو غيبوبة الحشفة؟ قال : نعم » (٢) ومقتضى هذه الأخبار أن الغسل إنما يجب بغيبوبة الحشفة ولا يجب في الأقل منه ، كما لا يعتبر إدخال الأكثر منه.

__________________

(١) المصدر المتقدِّم.

(٢) الوسائل ٢ : ١٨٣ / أبواب الجنابة ب ٦ ح ٢.


وفي قبال ذلك رواية محمّد بن عذافر ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام متى يجب على الرجل والمرأة الغسل؟ فقال : يجب عليهما الغسل حين يدخله ، وإذا التقى الختانان فيغسلان فرجهما » (١) وقد رواها في الوسائل عن محمّد بن إدريس في آخر السرائر عن كتاب محمّد بن علي بن محبوب (٢). ومقتضاها أن الغسل إنما يجب بالإنزال ، وأمّا الجماع المعبر عنه بالتقاء الختانين فهو إنما يوجب غسل الفرجين ولا يوجب الاغتسال.

ولكن الظاهر عدم معارضتها مع الصحاح المتقدِّمة لأنها مطلقة ، حيث نفت وجوب الاغتسال ودلّت على وجوب الغَسل بالالتقاء الأعم من الالتقاء الخارجي والداخلي ، والصحاح المتقدّمة مقيّدة وقد دلّت على وجوب الاغتسال بالالتقاء الداخلي المفسر بغيبوبة الحشفة كما في صحيحة ابن بزيع المتقدِّمة ، فتحمل هذه الرواية على ما إذا كان الالتقاء خارجياً بغير الغيبوبة. هذا أوّلاً.

وثانياً : لو سلمنا أنهما متعارضتان فلا يمكننا رفع اليد عن الصحاح المتقدّمة بهذه الرواية لأنها نادرة وتلك مشهورة ، بل لا يبعد دعوى تواترها الإجمالي والقطع بصدور بعضها عنهم عليهم‌السلام ، وعند المعارضة يترك الشاذ النادر ويؤخذ بالمجمع عليه بين الأصحاب ، وهذا لا للرواية الآمرة بالأخذ بالمجمع عليها وأنه مما لا ريب فيه (٣) لأنها ضعيفة ، بل لما حقّقناه في محلِّه من أن الرواية إذا كانت مقطوعة السند لا يمكن رفع اليد عنها بالرواية النادرة (٤).

وثالثاً : لو أغمضنا عن ذلك أيضاً فالصحاح المتقدّمة موافقة للكتاب الذي أمرنا بالتيمم بدلاً عن الغسل فيما إذا تحققت الملامسة ولم يوجد الماء ، والرواية غير موافقة‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٨٥ / أبواب الجنابة ب ٦ ح ٩.

(٢) السرائر ٣ : ٦٠٩.

(٣) ورد ذلك في روايتين وهما : مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة ، الوسائل ٢٧ : ١٠٦ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١. والمستدرك ١٧ : ٣٠٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢.

(٤) مصباح الأُصول ٣ : ٤١٣ ٤٢١.


للكتاب حيث نفت الغسل عند الملامسة ، وموافقة الكتاب من المرجحات السندية فلا بدّ من الأخذ بالصحاح وطرح تلك الرواية.

وأمّا ما في الحدائق نقلاً عن بعضهم من عدم المعارضة بينهما بجعل قوله : « وإذا التقى الختانان » جملة معطوفة على « يدخله » وكون العطف عطف تفسير وكأنها هكذا : يجب عليهما الغسل حين يدخله أي إذا التقى الختانان. وقوله : « فيغسلان فرجهما » حكم آخر متفرع على الإدخال والالتقاء (١). ففيه ما لا يخفى كما ذكره في الحدائق ، لأن الظاهر أن الجملة شرطية وقوله : « فيغسلان » جملة جزائية.

وأمّا ما عن بعضهم من أن جملة « فيغسلان ... » لا يمكن أن تكون جزائية ، إذ لا وجه لدخول الفاء في الجزاء فيتعين حملها على أنه حكم متفرع على الإدخال والتقاء الختانين ، وكون جملة « وإذا التقى » عطفاً تفسيرياً لقوله : « حين يدخله ». فيدفعه أن الفاء إنما لا يدخل في الجزاء فيما إذا لم يكن الجزاء من الأفعال المضارعية ، وأمّا في المضارع فلا بأس بدخوله في الجزاء كما لا يخفى على الممارس الفطن ، و « يغسلان » فعل مضارع. فالصحيح في رفع المعارضة ما ذكرناه.

والذي يسهل الخطب أن الرواية ضعيفة ، لأن محمّد بن إدريس قدس‌سره وإن نقلها عن كتاب محمّد بن علي بن محبوب وذكر أن ذلك الكتاب بخط الشيخ أبي جعفر الطوسي قدس‌سره موجود عنده (٢) فالطريق إلى نفس الكتاب معتبر وغير قابل للمناقشة إلاّ أن في سند الرواية محمّد بن عمر بن يزيد ، وهو لم يوثق في الرجال. والنتيجة أن الرواية ضعيفة وغير قابلة للمعارضة مع الصحاح.

الجهة الثالثة من جهات البحث‌

الجهة الثالثة : من قطع حشفته إذا بقي من حشفته مقدار وكان على نحو يصدق أنه‌

__________________

(١) الحدائق ٣ : ٤.

(٢) السرائر ٣ : ٦٠١.


أدخل حشفته أو أولجها فلا إشكال في أنه يجب عليه الاغتسال ، وأمّا إذا قطعت بتمامها فالمحتملات فيه أُمور :

الأوّل من محتملات المسألة

الأوّل : أن الجنابة ووجوب الاغتسال إنما يتحققان بإدخال مقدار الحشفة لا بإدخال نفس الحشفة فقط ، سواء كانت هناك حشفة أم لم تكن ، فمقطوع الحشفة إذا أولج بمقدار الحشفة وجب عليه الاغتسال ، ويلاحظ في مقدار الحشفة حشفة كل شخص بحسبها ، وهذا الاحتمال منسوب إلى الأشهر أو المشهور إلاّ أنه مما لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأن ظاهر الأخبار الواردة في وجوب الاغتسال بغيبوبة الحشفة (١) أن إدخال الحشفة بنفسه موضوع للحكم بوجوب الاغتسال ، فحمله على التقدير وجعل الموضوع عبارة عن مقدار الحشفة خلاف ظاهر الأخبار ودون إثباته خرط القتاد.

ولا مجال لمقايسة المقام مع ما ورد في أن المسافر إنما يجب عليه القصر فيما إذا توارى عن البلد ، المعبّر عنه في كلمات الفقهاء بخفاء الجدران ، حيث ذكر المحقق الهمداني قدس‌سره أن المستفاد منه في المتفاهم العرفي أن وجوب القصر مشروط بالبعد عن بلد المسافرة بمقدار خفاء الجدران ، سواء أكان هناك جدران أم لم يكن كما إذا سافر من القرى والبوادي. وكذلك الحال في المقام ، فإن المستفاد من الأخبار الواردة في أن الغسل يجب بإيلاج الحشفة أن المناط إنما هو الإدخال بقدر الحشفة سواء أكان له حشفة أم لم تكن ، فمقطوع الحشفة إذا أدخل من إحليله بقدر الحشفة يجب عليه الاغتسال (٢).

والوجه في عدم جواز المقايسة أن ما ورد في وجوب القصر فيما إذا توارى عن البلد بحسب المتفاهم العرفي ظاهر في إرادة المقدار ، وأين هذا من الأخبار الواردة في‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٨٢ / أبواب الجنابة ب ٦.

(٢) مصباح الفقيه ( الطّهارة ) : ٢٢٤ / السطر ١٦.


أن الغسل إنما يجب بإدخال الحشفة ، فإن استفادة كفاية إدخال غير الحشفة بقدرها منها دونه خرط القتاد. فارادة المقدار من الحشفة يحتاج إلى دلالة الدليل ولا دليل على إرادته فهذا الاحتمال ساقط.

الثاني من المحتملات‌

الثاني : أن مقطوع الحشفة لا يجب عليه الغسل بالجماع وإنما ينحصر سبب الغسل في حقه بالإنزال ، لأن الغسل بالجماع مقيد بإدخال الحشفة ولا حشفة له على الفرض.

ورد ذلك بأن الأخبار الواردة في أن الغسل يجب بالإدخال والإيلاج مطلقة ومقتضى إطلاقها وجوب الغسل بإدخال مقطوع الحشفة أيضاً. وهذا منسوب إلى صاحب المدارك قدس‌سره (١).

وقد أُورد على ذلك بأن المطلقات كما مر مقيّدة بغيبوبة الحشفة ، وتلك المقيدات أيضاً مطلقة لعدم اختصاصها بواجد الحشفة بل يعمه ومن قطعت حشفته ، ومقتضى إطلاق المقيّدات أن الغسل إنما يجب في حق مقطوع الحشفة وغيره بالجماع فيما إذا غابت الحشفة ، وحيث إنّ مقطوع الحشفة لا يتحقق في حقه الجماع بغيبوبة الحشفة فلا يجب عليه الغسل بالجماع ، وينحصر سببه بالإنزال فحسب لولا كون الحكم المزبور أعني وجوب الغسل على مقطوع الحشفة بالجماع مظنّة الإجماع هذا.

ولا يخفى أن هذا الاحتمال أيضاً مردود كسابقه ، وذلك لصحيحتين : إحداهما : صحيحة الحلبي ، قال : « سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يصيب المرأة فلا ينزل أعليه غسل؟ قال : كان علي عليه‌السلام يقول : إذا مس الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل ، قال : وكان علي عليه‌السلام يقول : كيف لا يوجب الغسل والحد يجب فيه؟ وقال : يجب عليه المهر والغسل » (٢). فإن مقتضى صريح هذه الصحيحة أن وجوب الحد والمهر وغسل الجنابة أُمور متلازمة ومتى وجب أحدها وجب الآخران‌

__________________

(١) المدارك ١ : ٢٧٢.

(٢) الوسائل ٢ : ١٨٣ / أبواب الجنابة ب ٦ ح ٤.


وحيث لا إشكال في أنّ مقطوع الحشفة إذا جامع أجنبية يصدق أنه زنى ويجب بذلك عليه الحد ، كما إذا جامع زوجته يجب بذلك عليه المهر أيضاً ، فمنه يستكشف أنه إذا جامع امرأة وجب عليه غسل الجنابة أيضاً لملازمته مع وجوب الحد والمهر. فالقول بعدم وجوب الغسل في حقه ساقط.

وثانيتهما : صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : ما تقولون في الرجل يأتي أهله فيخالطها ولا ينزل؟ فقالت الأنصار : الماء من الماء ، وقال المهاجرون : إذا التقى الختانان فقد وجب عليه الغسل ، فقال عمر لعلي عليه‌السلام : ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال علي عليه‌السلام : أتوجبون عليه الحد والرجم ولا توجبون عليه صاعاً من الماء؟ إذا التقى الختانان فقد وجب عليه الغسل ، فقال عمر : القول ما قال المهاجرون ودعوا ما قالت الأنصار » (١). وهذه الصحيحة أيضاً ظاهرة الدلالة على أن الحد والغسل متلازمان في الوجوب فمتى وجب أحدهما وجب الآخر ، وحيث إن الأوّل يتحقق في حق مقطوع الحشفة بالإدخال فكذلك الثاني يجب عليه بإدخاله. فاحتمال أن لا يجب على مقطوع الحشفة الغسل بالجماع ساقط ، حيث يستفاد منهما أن الموضوع لوجوب الغسل في حق مقطوع الحشفة مطلق الإدخال والإيلاج. ومنه نستكشف أن المقيّدات مختصّة بواجد الحشفة دون فاقدها.

فدعوى أن عدم وجوب الغسل على مقطوع الحشفة بالإدخال هو الصحيح والأوفق بالقواعد لولا كون وجوب الغسل عليه بالإدخال مظنّة الإجماع ، ساقطة. هذا كله في الاستدلال بالصحيحتين.

وأمّا فقههما فقد نقل في الحدائق عن الكاشاني قدس‌سره أن الوجه في استدلال علي عليه‌السلام هو القياس وذلك للمجادلة بالتي هي أحسن ، لأنّ المخالفين يرون صحّة القياس (٢) ، ومن هنا قاس عليه‌السلام الغسل بالحد والمهر وإلاّ فلا تلازم بين‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٨٤ / أبواب الجنابة ب ٦ ح ٥.

(٢) الحدائق ٣ : ٧.


الأُمور الثلاثة. وكيف يكون وجوب الغسل والحد والمهر متلازماً مع أن الحد له أسباب متعددة ولا يجب الغسل إلاّ في سبب واحد وهو الزنا ولا يجب مع غيره من أسباب الحد المبيّنة في كتاب الحدود ، كما أن ثبوت المهر كذلك ، فإنه قد يثبت بإزالة البكارة بالإصبع مع عدم وجوب الغسل معه هذا.

ولكن الصحيح أن استدلال الإمام عليه‌السلام تام غير مبتن على القياس. وغرضه أن الموضوع لهذه الأحكام الثلاثة شي‌ء واحد وهو الإتيان والإدخال والمماسة واللّمس وغيرها من العناوين ، حيث قال سبحانه ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) (١) وورد أن في المس المهر كلاًّ ، كما ورد أن الإدخال والإيلاج يوجب الغسل كما أنه موجب للحد والزنا ، وليس هذا من القياس في شي‌ء. هذا كله في الاحتمال الثاني.

الثالث من المحتملات‌

الثالث : أن إدخال مقطوع الحشفة وإن كان موجباً للغسل كما مر إلاّ أن الموجب له هو مسمّى الإدخال ومطلقه ، ولا يعتبر دخول الباقي بتمامه.

الرّابع من المحتملات‌

الرّابع : أن الموجب إنما هو إدخال تمام الباقي ولا يكفي مسماه. والصحيح من هذين الاحتمالين هو الأوّل أعني كفاية مسمى الإدخال والإيلاج ، وذلك لما عرفت من تلازم الغسل مع الحد والمهر ، ولا إشكال في أن الموضوع للحد والمهر هو مسمى الإدخال وكذلك الحال في الغسل. على أنا استفدنا من الصحيحتين أن الموضوع لوجوب الغسل في مقطوع الحشفة هو الإدخال والإيلاج ، وذكرنا أن المقيّدات مختصّة بواجد الحشفة ، ولا إشكال في أن الإدخال والإيلاج لا يتوقّف صدقهما على دخول تمام الباقي ، بل يكفي في صدقهما المسمّى ولعلّه ظاهر.

__________________

(١) النساء ٤ : ٤٣. المائدة ٥ : ٦.


في القُبُل أو الدُّبُر (١)

______________________________________________________

هل سيّان في المسألة قبل المرأة ودبرها؟

(١) المسألة ذات قولين : أحدهما : عدم الفرق في وجوب الغسل بين الإدخال في قبل المرأة ودبرها ، وهذا هو المشهور بينهم بل ادعى بعضهم الإجماع عليه. وثانيهما : عدم وجوبه بالوطء في دبر المرأة كما ذهب إليه بعضهم ومال إليه صاحب الحدائق قدس‌سره واستدل على كلا القولين بالأخبار (١). إلاّ أن أكثرها في كلا الجانبين ضعاف لضعف أسنادها ، مضافاً إلى ضعف الدلالة في بعضها.

منها : مرسلة حفص بن سوقة عمن أخبره ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يأتي أهله من خلفها ، قال : هو أحد المأتيين فيه الغسل » (٢) وقد استدلّ بها على المشهور ، إلاّ أنها ضعيفة سنداً لإرسالها ، مضافاً إلى إمكان المناقشة في دلالتها ، حيث يحتمل أن يراد من إتيان أهله من خلفها أنه يولج في قبلها من خلفها كبقيّة الحيوانات حيث يأتون من الخلف لا أنه يدخل في دبرها ، ويرشد إلى ذلك قوله : « يأتي أهله من خلفها » ولم يقل يأتي خلف أهله. وبين العبارتين فرق واضح فكأن المدخل واحد وله طريقان فقد يؤتى من الخلف وأُخرى من القدّام.

ومنها : مرفوعة البرقي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا أتى الرجل المرأة في دبرها فلم ينزلا فلا غسل عليهما ، وإن أنزل فعليه الغسل ولا غسل عليها » (٣) استدلّ بها على القول الثاني ، ودلالتها ظاهرة إلاّ أنها ضعيفة بحسب السند لمكان رفعها ، وإن عبّر عنها في الحدائق بالصحيحة باعتبار صحّة سندها إلى البرقي.

ومنها : مرسلة أحمد بن محمّد عن بعض الكوفيين يرفعه إلى أبي عبد الله عليه‌السلام : « في الرجل يأتي المرأة في دبرها وهي صائمة ، قال : لا ينقض صومها وليس‌

__________________

(١) الحدائق ٣ : ٩.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٠٠ / أبواب الجنابة ب ١٢ ح ١.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٠٠ / أبواب الجنابة ب ١٢ ح ٢.


عليها غسل » (١) وهي أيضاً ضعيفة بإرسالها.

ومنها : صحيحة الحلبي ، قال : « سُئل الصادق عليه‌السلام عن الرجل يصيب المرأة فيما دون الفرج أعليها الغسل إذا أنزل هو ولم تنزل هي؟ قال عليه‌السلام : ليس عليها غسل ، وإن لم ينزل هو فليس عليه غسل » (٢) وهذه الرواية وإن كانت صحيحة بحسب السند إلاّ أن دلالتها مورد للمناقشة :

أمّا أوّلاً : فلأن ظاهر كلمة « ما دون الفرج » هو ما كان تحت الفرج وليس ما تحته إلاّ الفخذان ، ومعنى أنه يصيبها أي أنه يفخّذ فحسب ، وعليه فالصحيحة خارجة عمّا نحن فيه أعني الوطء في دبر المرأة.

وأمّا ثانياً : فلأنا لو سلمنا أن المراد بما دون الفرج ما سوى الفرج لا أنه بمعنى ما هو تحته وأسفله كما قد يستعمل بهذا المعنى أي بمعنى عدا وسوى أيضاً لا يمكننا الاستدلال بها من جهة أن للفرج إطلاقات ، فقد يطلق ويراد منه خصوص القبل في مقابل الدبر ، وقد يطلق ويراد منه الأعم من القبل والدبر والذكر كما قد استعمل بهذا المعنى الأخير أعني الآلة الرجولية في قوله تعالى ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ ) (٣).

والاستدلال بالصحيحة إنما يتمّ إذا أحرزنا أن الفرج فيها قد استعمل بالمعنى الأوّل ، وأما إذا كان المراد به هو المعنى الثاني فلا محالة يتعين في التفخيذ أيضاً ، لأنه الذي سوى الأُمور المذكورة ، وحيث إنا لم نحرز أن المراد منه أي المعنيين فلا محالة تسقط الصحيحة عن قابلية الاعتماد عليها في المسألة.

والأخبار المستدلّ بها على وجوب الاغتسال بالوطء في دبر المرأة من غير إنزال كالأخبار المستدلّ بها على عدم وجوبه ضعيفة السند أو الدلالة ، كما أن الإجماع المدعى في المسألة غير قابل للاعتماد عليه ، لأنه من الإجماع المنقول ولا اعتبار به.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٠٠ / أبواب الجنابة ب ١٢ ح ٣.

(٢) الوسائل ٢ : ١٩٩ / أبواب الجنابة ب ١١ ح ١.

(٣) المؤمنون ٢٣ : ٥ ، ٦.


فالصحيح أن نستدل على وجوب الغسل بوطء المرأة في دبرها بإطلاق الكتاب والسنّة. أما الكتاب فلقوله تعالى ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ) إلخ (١) لأنّ الملامسة كما تصدق بوطئها في قبلها كذلك تصدق بوطئها في دبرها.

وأمّا ما ورد في تفسير الملامسة بالمواقعة في فرج المرأة أعني صحيحة أبي مريم الأنصاري ، قال « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : ما تقول في الرجل يتوضأ ثمّ يدعو جاريته فتأخذ بيده حتى ينتهي إلى المسجد؟ فإنّ من عندنا يعني السنّة يزعمون أنّها الملامسة ، فقال : لا والله ما بذلك بأس وربّما فعلته وما يعني بهذا أو لامستم النساء إلاّ المواقعة في الفرج » (٢) حيث استدلّ بها على أن سبب الجنابة ووجوب الغسل منحصر بالمواقعة في فرج المرأة فلا يكون وطؤها في دبرها موجباً وسبباً للجنابة. ففيه أن الصحيحة لا دلالة لها على عدم وجوب الغسل بالوطء في دبر المرأة ، وذلك لأن الفرج لم يثبت في لغة العرب أنه بمعنى القبل ، بل الصحيح أنه يستعمل في المعنى الجامع بين القبل والدبر ، بل بينهما وبين الذكر كما في قوله تعالى ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ ) (٣) لأنه بمعنى الذكر فقط هذا.

بل قد ورد في بعض الروايات بمعنى خصوص الدبر كما في موثقة سماعة ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يمس ذكره أو فرجه أو أسفل من ذلك وهو قائم يصلّي يعيد وضوءه؟ فقال : لا بأس بذلك ، إنما هو من جسده » (٤) فإن الفرج فيها بمعنى الدبر ، إذ لا قبل للرجل ، والذكر مذكور بنفسه كما هو واضح. وعليه فلفظة الفرج إما أنها بالمعنى الأعم من القبل والدبر أو لا أقل من إجمالها ومعه لا يمكن الاعتماد على الرواية في تقييد الآية المباركة. وأما الأخبار فهي كالرواية المشتملة على أن إتيان الزوجة يوجب انتقاض الصيام ، فإن الإتيان كما يشمل الوطء في القبل كذلك يشمل الإتيان في الدبر ، هذا كله في وطء المرأة في دبرها.

__________________

(١) النساء ٤ : ٤٣ ، المائدة ٥ : ٦.

(٢) الوسائل ١ : ٢٧١ / أبواب نواقض الوضوء ب ٩ ح ٤.

(٣) المؤمنون ٢٣ : ٥ ٦.

(٤) الوسائل ١ : ٢٧٢ / أبواب نواقض الوضوء ب ٩ ح ٨.


حكم وطء الغلام

وأمّا وطء الغلام في دبره فهل يلحقه حكم وطء المرأة فيجب عليه الاغتسال؟ ذهب المشهور إلى ذلك ، بل عن المرتضى دعوى الإجماع على عدم الفرق في وجوب الغسل بالوطء بين وطء المرأة والغلام (١). وخالفهم في تلك المحقق في المعتبر حيث ذهب فيه إلى العدم (٢) ومال إليه في شرائعه وتردّد (٣).

واستدلّ على وجوب الغسل بوطء الغلام بالإجماع تارة ، وأُخرى بالروايتين المتقدّمتين الواردتين في ملازمة وجوب الحد مع وجوب الغسل (٤) ، وحيث إنّ وطء الغلام موجب الحد فلا محالة يكون موجباً للاغتسال. وثالثة بإطلاق الأخبار الواردة في أنّ الغسل يجب مع الإدخال أو الإيلاج ونحوهما (٥) ، لأنّ الإدخال يصدق على الإدخال في دبر الغلام أيضاً. ورابعة بحسنة الحضرمي أو صحيحه المروية عن الكافي عن الصادق عليه‌السلام : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من جامع غلاماً جاء جنباً يوم القيامة لا يُنقيه ماء الدنيا » (٦) نظراً إلى دلالتها على أن الجنابة كما تتحقق بوطء المرأة كذلك تتحقق بوطء الغلام ، بل الجنابة الحاصلة بوطئه أقوى وآكد من غيرها ، حيث إنها لا ترتفع بماء الدنيا وإنما ترتفع بنار الجحيم أو ماء الحميم.

ولا يمكن المساعدة على شي‌ء من هذه الوجوه. أما الإجماع فلأنه من المنقول ولا اعتبار عندنا بالإجماعات المنقولة ، ولا سيما إجماعات السيِّد المرتضى قدس‌سره.

وأمّا الاستدلال بالروايتين الواردتين في وجوب الغسل عند وجوب الحد فلما‌

__________________

(١) كما حكاه عنه في المختلف ١ : ١٦٦.

(٢) المعتبر ١ : ١٨١.

(٣) الشرائع ١ : ٢٦.

(٤) تقدّم ذكرهما في ص ٢٥٧ ٢٥٨.

(٥) الوسائل ٢ : ١٨٢ / أبواب الجنابة ب ٦ ، ٧.

(٦) الوسائل ٢٠ : ٣٢٩ / أبواب النكاح المحرّم ب ١٧ ح ١. الكافي ٥ : ٥٤٤ / ٢.


من غير فرق بين الواطئ والموطوء (١)

______________________________________________________

أسلفنا من أنهما غير ناظرتين إلى أن الحد إذا وجب وجب معه الغسل ، كيف فإن الحد له أسباب كثيرة لا يجب معها الغسل في غير الزنا أو اللواط على الكلام ، وإلاّ فقذف المرأة يوجب الحد ولا يوجب الغسل وكذلك غيره من الأسباب الموجبة للحد ، بل نظرهما إلى أنّ موضوع وجوب الغسل ووجوب الحد في خصوص وطء المرأة أمر واحد ، فهما متلازمان في وطء المرأة لا مطلقاً فلا يمكن الاستدلال على وجوبه بوجوب مطلق الحد كما لا يخفى.

وأمّا الاستدلال بالمطلقات الدالّة على أن الغسل إنما يجب مع الإدخال والإيلاج ففيه : أن تلك الأخبار إنما وردت لبيان الكميّة أو الكيفية الموجبة للجنابة ، وقد دلّت على أنها تتحقق بمطلق الإدخال دون التفخيذ وغيره ، وأما أن متعلق الإدخال أي شي‌ء مرأة أو غلام فهي غير ناظرة إليه حتى يتمسك بإطلاقها.

وأمّا رواية الكافي فهي أيضاً كسابقتها ، لأن الجنابة التي لا ترتفع بالاغتسال بماء الدنيا خارجة عن الجنابة المصطلح عليها التي رتبت عليها أحكام من وجوب الغسل وحرمة المكث في المساجد ونحوهما ، فهي جنابة واقعية وأمر مغاير مع الجنابة المصطلح عليها ، للقطع بأن واطئ الغلام إذا اغتسل لصحت منه الصلاة وغيرها مما يشترط فيه الطّهارة من الحدث ، فلا دلالة للرواية على أن الجنابة المصطلح عليها تتحقق في حق واطئ الغلام. فالإنصاف أنه لا دليل على وجوب الغسل عند وطء الغلام ، ومن هنا ذهب المحقق إلى نفيه في المعتبر ، ومعه لا مناص من الاحتياط والجمع بين المحتملات ، مثلاً إذا كان متطهراً قبل وطء الغلام فوطئه فيكتفي بالاغتسال ، وأما إذا كان محدثاً قبله فبعد الوطء يجمع بين الوضوء والغسل للاحتياط.

(١) وذلك للارتكاز العرفي ، فإن الجنابة أمر واحد ونسبته إلى الواطئ والموطوء متساوية بحسب الارتكاز.


والرّجل والامرأة (*) (١) والصّغير والكبير (٢) والحيّ والميِّت (٣) والاختيار والاضطرار (٤) في النوم أو اليقظة حتى لو أدخلت حشفة طفل رضيع فإنّهما يجنبان ، وكذا لو أدخلت ذكر ميت أو أدخل في ميت ، والأحوط في وطء البهائم من غير إنزال الجمع بين الغسل والوضوء (٥) إن كان سابقاً محدثاً بالأصغر‌

______________________________________________________

(١) كما عرفت تفصيله.

(٢) الأخبار الواردة في المسألة وإن كانت مشتملة على لفظة المرأة غالباً وهي لا تشمل غير البالغة إلاّ أنه يوجد في بينها ما يكون بإطلاقه شاملاً لغير البالغة أيضاً ، وذلك كما ورد من أنه إذا مس أو أتى بكراً فقد وجب عليه الغسل (٢) ، فإنّ البكر كما يصدق على البالغة كذلك يصدق على غير البالغة.

(٣) وذلك لأن الميت يصدق عليه المرأة عند العرف ، فلو جامع امرأة ميتة يصدق عرفاً أنه جامع امرأة ، وإن كانت الامرأة بحسب العقل مختصّة بغير الميت ، لأن الميت جماد ، ومع ذلك لا حاجة لنا إلى الاستصحاب كما عن الجواهر (٣) حتى يستشكل فيه بأنه من الاستصحاب التعليقي‌

(٤) كل ذلك للإطلاق.

حكم وطء البهائم في فرجها‌

(٥) هل الوطء في فرج البهيمة يلحق بالوطء في الآدمي فيوجب الغسل والجنابة؟ قد يقال بذلك ، نظراً إلى ما ربّما يلوح من كلام السيِّد المرتضى قدس‌سره من أن وجوب الغسل في وطء البهيمة إجماعي بيننا ، حيث حكي عنه أن الأصحاب يوجبون الغسل بالإيلاج في فرج البهيمة (٤). ولما ورد من ملازمة وجوب الحدّ مع‌

__________________

(*) فيه إشكال ، فلا يترك الاحتياط للواطئ والموطوء فيما إذا كان الموطوء ذكراً بالجمع بين الوضوء والغسل فيما إذا كانا محدثين بالحدث الأصغر.

(١) كما في موثقة ابن يقطين ، الوسائل ٢ : ١٨٣ / أبواب الجنابة ب ٦ ح ٣.

(٢) الجواهر ٣ : ٢٧.

(٣) المختلف ١ : ١٦٨.


والوطء في دبر الخنثى موجب للجنابة (*) دون قبلها (١) إلاّ مع الانزال فيجب الغسل عليه دونها إلاّ أن تنزل هي أيضاً.

______________________________________________________

مع وجوب الغسل.

وفيه : أن الإجماع لا يمكن الاعتماد عليه لعدم العلم بتحققه ، لأن المشهور بينهم كما في الحدائق عدم وجوب الغسل بوطء البهيمة (٢) ، ومعه كيف يكون وجوب الغسل إجماعياً عندهم. وأما حديث الملازمة بين وجوب الحد ووجوب الغسل فقد عرفت أن المراد بها خصوص التلازم بين حدّ الزنا ووجوب الاغتسال ، لاتحاد موضوعهما الذي هو المس أو الإدخال والإتيان ، ولا تلازم بين مطلق الحد ووجوب الاغتسال كما مر.

وأما المطلقات الآمرة بالغسل عند الإدخال والإيلاج فقد عرفت أن المراد بها بيان الكميّة المسببة لوجوب الغسل وأنه إنما يجب مع الإدخال لا بالتفخيذ والملامسة والمس ، وأما متعلق الإدخال فلا تعرض له في المطلقات حتى يتمسك بإطلاقاتها. وبالجملة : إن المتبع هو الدليل ولا دليل على وجوب الغسل بوطء البهائم ، فالاحتياط أن يغتسل بوطئها ويتوضأ كما قدمناه في وطء دبر الغلام.

وطء الخنثى في دبرها‌

(١) بناء على وجوب الغسل بالإدخال في الدبر ، فإنه عليه يجب الغسل بوطء الخنثى في دبرها لأنه إما امرأة وإما رجل ، وعلى كلا التقديرين يجب الغسل بالوطء في دبرها. وأما قبلها فلا لاحتمال أن يكون مذكراً والقبل عضو زائد كالثقبة الخارجية ، والإدخال في مطلق الثقبة غير موجب للغسل كما هو ظاهر. هذا إذا قلنا بوجوب‌

__________________

(*) بناءً على ما تقدّم الأحوط الجمع بين الوضوء والغسل فيما إذا كان محدثاً بالأصغر سابقا.

(١) الحدائق ٣ : ١٢.


ولو أدخلت الخنثى في الرجل أو الأُنثى مع عدم الإنزال لا يجب الغسل على الواطئ ولا على الموطوء (١) وإذا دخل الرجل بالخنثى والخنثى بالأُنثى وجب الغسل على الخنثى دون الرجل والأُنثى (٢).

[٦٤١] مسألة ١ : إذا رأى في ثوبه منياً وعلم أنه منه ولم يغتسل بعده وجب عليه الغسل (٣) وقضاء ما تيقن من الصلوات التي صلاها بعد خروجه وأمّا الصلوات التي يحتمل سبق الخروج عليها فلا يجب قضاؤها (٤)

______________________________________________________

الغسل في الدبر حتى في الذكر.

(١) لاحتمال أن تكون أُنثى وآلته الرجولية عضو زائد لا يجب الغسل بايلاجه.

(٢) أما وجوب الغسل على الخنثى فلأنها إما رجل فقد وطئ الأُنثى فوجب عليها الغسل ، وإمّا أنها أُنثى فقد وطئها الرجل. وأما عدم وجوب الغسل على الرجل والأُنثى فلاحتمال أن تكون الخنثى في الأوّل مذكراً وآلته الأُنوثية عضو زائد ، وفي الثاني مؤنثاً وآلتها الرجولية عضو زائد.

(٣) لفرض علمه بجنابته.

(٤) لاستصحاب عدم خروج المني حين تلك الصلوات ، وهو المعبر عنه بأصالة تأخر الحادث ، ومع الغض عن الاستصحاب مقتضى أصالة البراءة عدم وجوب القضاء أيضاً ، لأنه بأمر جديد ومع الشك في توجهه إليه أصالة البراءة تقضي بعدم الوجوب.

وأما دعوى الحكم بصحّة تلك الصلوات وعدم وجوب قضائها لقاعدة الفراغ الحاكمة بصحّتها ، ففيه ما ذكرناه غير مرّة من أن القاعدة أمارة أو شبهها ، ويعتبر في كونها أمارة احتمال الالتفات إلى أجزاء العمل وشرائطه حال الامتثال حتى يكون إتيانه بتمامه لأجل أنه أذكر. وأما مع العلم بغفلته حال العمل واحتمال الصحّة لمجرد احتمال الصدفة الاتفاقية فلا تجري فيه القاعدة ولا تكون لها أمارية حينئذ ، والأمر في‌


وإذا شكّ في أنّ هذا المني منه أو من غيره لا يجب عليه الغسل (*) (١) وإن كان أحوط خصوصاً إذا كان الثوب مختصّاً به.

______________________________________________________

المقام كذلك ، لأن المفروض عدم التفات المصلي إلى جنابته حال الصلاة وإنما التفت إليها بعدها فهي خارجة عن موارد قاعدة الفراغ.

(١) لعدم علمه بجنابته. والعلم الإجمالي بجنابته أو بجنابة غيره غير مؤثر في حقه إذ لا أثر لجنابة الغير بالإضافة إليه ، اللهمّ إلاّ أن تكون جنابة الغير مورداً لابتلائه بأن أمكن ابتلاؤه به ، كما إذا أمكن استئجاره لكنس المسجد ، فان الاستئجار له كما يأتي يشترط فيه عدم جنابة الأجير ، واستئجار الجنب للكنس تسبيب لدخول الجنب ومكثه في المسجد وهو حرام ، فإذا كان الأمر كذلك فله علم إجمالي بتوجه أحد التكليفين إليه فإما أنه يجب الغسل عليه وإما أنه يحرم أن يستأجر غيره.

بقي الكلام في شي‌ء‌

وهو أن صاحب الحدائق قدس‌سره تعرض للمسألة المتقدّمة وعنونها بما إذا نام أحد ولم ير في منامه أنه احتلم ثمّ وجد بعد الانتباه في ثوبه أو على بدنه منياً وقال : الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب ( رضوان الله عليهم ) في أنه يجب عليه الغسل للعلم بتحقق الجنابة بذلك. وذكر أن كثيراً من الأصحاب عبروا في هذا المقام بأن واجد المني على جسده أو ثوبه المختص به يغتسل ، ومن الظاهر بُعده عن مورد الأخبار المتعلقة بهذه المسألة. ونقل من الروايات موثقتين لسماعة ففي إحداهما : « سألته عن الرجل يرى في ثوبه المني بعد ما يصبح ولم يكن رأى في منامه أنه قد احتلم ، قال : فليغتسل وليغسل ثوبه ويعيد صلاته ». وفي ثانيتهما : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل ينام ولم ير في نومه أنه احتلم فيجد في ثوبه أو على فخذه الماء هل عليه غسل؟ قال : نعم » (٢).

__________________

(*) فيه تفصيل نذكره في المسألة الثالثة.

(١) الوسائل ٢ : ١٩٨ / أبواب الجنابة ب ١٠ ح ٢ ، ١.


ثمّ نقل عن الشيخ قدس‌سره (١) أنه في مقام الجمع بين هاتين الموثقتين وبين ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « عن الرجل يصيب في ثوبه منياً ولم يعلم أنه احتلم ، قال : ليغسل ما وجد بثوبه وليتوضأ » (٢) حمل الأخيرة على ما إذا شاركه في الثوب غيره جمعاً بين الروايات ، وعقبه بأن الأقرب في الجمع بين الموثقتين وهذه الرواية حمل الموثقتين على من وجد المني بعد النوم بغير فصل مدّة بحيث يحصل له العلم أو الظن الغالب باستناد المني إليه لا إلى غيره ، وحمل الرواية على وجدانه المني في الثوب في الجملة من غير تعقبه للنوم على الوجه المتقدِّم (٣).

ولا يخفى أن واجد المني في ثوبه بحسب الأغلب عالم بأنه منه ، ومعه يجب عليه الغسل وقضاء الصلوات التي علم بإتيانها بعد خروجه كما ذكره الماتن قدس‌سره وأما إذا لم يحصل له القطع بذلك واحتمل أنه من غيره فلا موجب وقتئذ للحكم عليه بوجوب الاغتسال ، والأصل يقتضي عدم خروج المني منه. والعلم الإجمالي بجنابته أو غيره غير منجز إلاّ أن يكون الطرف الآخر مورداً لابتلائه كما عرفت ، وأما مع عدم كونه مورداً للابتلاء فلا موجب عليه للاغتسال.

والاستدلال على وجوب الغسل في تلك الصورة بالموثقتين بمكان من الغرابة ، لأن السؤال فيهما ليس عن وجدان المني في الثوب مع احتمال كونه مستنداً إلى الغير ، وإنما السؤال فيهما عن أن خروج المني باستقلاله موجب للغسل أو لا بدّ من أن يرى النائم في منامه أنه قد احتلم حتى يجب عليه الغسل. وبعبارة اخرى : أن سماعة احتمل أن يكون للرؤية في المنام موضوعية في وجوب الغسل وأجابه الإمام بأن الموضوع في ذلك مجرد خروج المني رأى في المنام احتلامه أو لم يره ، وبذلك يرتفع التنافي بينهما وبين ما رواه أبو بصير فلا حاجة إلى ما ذكره الشيخ أو صاحب الحدائق قدس‌سره فإنه ليس من الجمع العرفي بينهما ، بل الصحيح في الجمع بينهما ما ذكرناه من أن‌

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٦٨.

(٢) الوسائل ٢ : ١٩٨ / أبواب الجنابة ب ١٠ ح ٣.

(٣) الحدائق ٣ : ٢٢ / المسألة الرابعة.


وإذا علم أنه منه ولكن لم يعلم أنه من جنابة سابقة اغتسل منها أو جنابة أُخرى لم يغتسل لها لا يجب عليه الغسل أيضاً (*) ، لكنّه أحوط (١).

______________________________________________________

الموثقتين إنما وردتا في صورة العلم بأن المني منه لا في صورة التردد والشك ، إذ لا مناسبة لوجود مني الغير على فخذه إلاّ أنه سأل عن وجوب الغسل حينئذ لاحتمال أن يكون لرؤية الاحتلام موضوعية في وجوبه. وأما ما رواه أبو بصير فهي واردة فيما نحن فيه أعني الشك في أن المني منه أو من غيره ، وقد حكم عليه‌السلام بعدم وجوب الغسل حينئذ كما هو مقتضى الأصل. فالصحيح ما أفاده الماتن قدس‌سره من عدم وجوب الغسل في المسألة.

إذا علم بالجنابة ولم يعلم أنها ممّا اغتسل منه‌

(١) قد تعرضنا لهذه المسألة في بحث الأُصول (٢) وسمّيناها بالقسم الرابع من أقسام الاستصحاب الكلي ، وقلنا إنه يغاير القسم الثالث منها بأن في القسم الثالث يعلم بزوال ما حدث قطعاً ويشك في قيام فرد آخر مقامه مقارناً لارتفاع الفرد الأوّل أو بعده ، وأمّا في هذا القسم فلا علم له بارتفاع ما حدث ، لأنه يحتمل أن تكون الجنابة التي علم بتحققها حين خروج المني المشاهد في ثوبه باقية بأن تكون الجنابة جنابة اخرى غير الجنابة التي اغتسل منها ، كما يحتمل ارتفاعها لاحتمال أنها هي الجنابة التي اغتسل منها. كما أنه يغاير القسم الثاني من حيث إنه ليس هناك شك في بقاء ما حدث لأن أحد الفردين المحتملين مشكوك الحدوث من الابتداء وأحدهما الآخر مقطوع الارتفاع ، وهذا بخلاف المقام حيث إن ما علمنا بحدوثه أعني طبيعي الجنابة الحاصلة بخروج المني المشاهد نحتمل بقاءه ولا علم بارتفاعه فهو قسم مستقل ، ولا‌

__________________

(*) الظاهر وجوبه لمعارضة الاستصحابين ، ولا بدّ من ضمّ الوضوء إليه إذا أحدث بالأصغر بعد الغسل.

(١) مصباح الأُصول ٣ : ١٠٤ ١١٨.


[٦٤٢] مسألة ٢ : إذا علم بجنابة وغسل ولم يعلم السابق منهما وجب عليه الغسل (*) إلاّ إذا علم زمان الغسل دون الجنابة فيمكن استصحاب الطّهارة (**) حينئذ (١).

______________________________________________________

مانع من الرجوع فيه إلى استصحاب بقاء الطبيعي المحتمل انطباقه على ما اغتسل منه وما لم يغتسل فيجب عليه غسل الجنابة حينئذ.

إذا لم يعلم السابق من الغسل والجنابة‌

(١) هذا يبتني على ما سلكه جملة من الأعلام ومنهم الماتن قدس‌سره من عدم جريان الاستصحاب فيما جهل تأريخه من الحادثين ، فان الاستصحاب حينئذ يجري في بقاء الغسل والطّهارة من غير معارض فلا يجب عليه الغسل ولا الوضوء ، لكونه محكوماً بالطّهارة بالاستصحاب.

وأمّا بناء على ما سلكناه من عدم الفرق بين ما علم تأريخه وما جهل تأريخه من الحادثين فإما أن لا يجري الاستصحاب في شي‌ء من الجنابة والطّهارة كما على مسلك صاحب الكفاية قدس‌سره (٣) وإما أن يجريا ويتساقطا بالمعارضة ومعه لا بدّ من الرجوع إلى أصل آخر وهو أصالة الاشتغال ، حيث يحتمل جنابته ولا يقطع بفراغ ذمّته إذا صلّى والحال هذه إلاّ أن يغتسل ، إلاّ أن غسله هذا لا يغني عن الوضوء لعدم العلم بكونه غسل جنابة ، لاحتمال عدم جنابته ومعه يضمّ إليه الوضوء أيضاً من باب الاحتياط فيما إذا لم يكن متوضئاً سابقاً ، وأما مع طهارته السابقة فلا حاجة إلى ضمّ الوضوء إلى الاغتسال.

__________________

(*) هذا فيما إذا لم يصدر منه حدث أصغر ، وإلاّ وجب عليه الجمع بين الوضوء والغسل.

(**) لا يمكن ذلك لمعارضته باستصحاب الجنابة المجهول تاريخها على ما حققناه في محله.

(١) كفاية الأُصول : ٤٢١ وما بعدها.


[٦٤٣] مسألة ٣ : في الجنابة الدائرة بين شخصين لا يجب الغسل على واحد (*) منهما (١)

______________________________________________________

وأمّا إذا كان تأريخ الجنابة معلوماً دون تأريخ الطّهارة والغسل فإنه بناء على مسلك الماتن ومن حذا حذوه يجري استصحاب الجنابة من غير معارض ، لعدم جريان الأصل فيما جهل تأريخه ، ومعه يجب عليه الغسل وهو يغني عن الوضوء لأنه غسل جنابة بمقتضى استصحاب بقاء الجنابة. وأما على مسلكنا فحكمه حكم صورة الجهل بتأريخ كلا الحادثين ، فإمّا أن يجري الاستصحابان ويتساقطا بالمعارضة ، وإمّا أن لا يجري شي‌ء منهما في نفسه فيرجع إلى أصالة الاشتغال ويجب عليه الغسل ويضمّ إليه الوضوء أيضاً احتياطا.

الجنابة الدائرة بين شخصين‌

(١) لعدم العلم بجنابته ، واستصحاب طهارته يقضي بعدمها. والعلم الإجمالي بجنابة نفسه أو غيره غير منجز ، إذ يشترط في تنجيزه أن يكون العلم الإجمالي متعلقاً بتكليف نفس المكلّف ، وأما المتعلق بتكليفه أو تكليف غيره فلا يترتب عليه أي أثر اللهمّ إلاّ أن تكون جنابة الغير ممّا ينتهي إليه ابتلاؤه كما إذا كان ذلك الغير قابلاً للاستئجار لكنس المسجد لأنه حمال مثلاً ، فإنه يعلم حينئذ بتوجه أحد التكليفين إليه ، لأنه إما أن يجب عليه غسل الجنابة إذا كان هو الجنب وإما أن يحرم عليه استئجار الطرف الآخر لكنس المسجد إذا كان الجنب هو الغير ، وذلك لحرمة التسبيب إلى دخول الجنب في المسجد واستئجاره تسبيب كما تأتي الإشارة إليه.

__________________

(*) إذا كانت جنابة أحدهما موضوعاً لحكم متوجه إلى الآخر كعدم جواز استئجاره لدخول المسجد ونحوه فمقتضى العلم الإجمالي وجوب الغسل عليه ، فلا بدّ من الجمع بين الطهارتين.


والظنّ كالشكّ (١) وإن كان الأحوط فيه (*) مراعاة الاحتياط (٢) ، فلو ظنّ أحدهما أنه الجنب دون الآخر اغتسل وتوضأ إن كان مسبوقاً بالأصغر.

[٦٤٤] مسألة ٤ : إذا دارت الجنابة بين شخصين لا يجوز لأحدهما الاقتداء بالآخر للعلم الإجمالي بجنابته أو جنابة إمامه (٣)

______________________________________________________

(١) لعدم اعتباره.

(٢) لم يعلم لهذا الاحتياط وجه صحيح ، حيث إنه إن كان مستنداً إلى احتمال حجيّة الظن واعتباره فنحن نقطع بعدم حجيّته ولا نحتمل اعتباره ليجب الاحتياط وإن كان الاحتياط من جهة احتمال جنابته في الواقع فهو وإن كان في محلِّه لأنّ إدراك الواقع حسن إلاّ أنه لا يختص بالظن بالجنابة ، لأن الشاك في جنابته أيضاً مورد للاحتياط حتى يدرك الواقع ، فتخصيص الاحتياط بخصوص الظان بالجنابة بلا وجه.

عند دوران الجنابة بين شخصين لا يجوز ائتمام أحدهما بالآخر‌

(٣) إن بنينا على أن المدار في صحّة الاقتداء على كون صلاة الإمام صحيحة عند نفسه فلا إشكال في جواز اقتداء أحد الشخصين اللذين علم جنابة أحدهما بالآخر وذلك لاستصحاب طهارة نفسه ، بل يجوز الاقتداء مع العلم التفصيلي ببطلان صلاة الإمام فيما إذا كانت صلاته صحيحة عند نفسه.

وأما إذا لم نبن عليه وقلنا بعدم كفاية الصحّة عند الإمام كما هو الصحيح ، حيث لم يدلّ دليل على جواز الاقتداء بالصلاة الباطلة ، ولا إطلاق في دليل جواز الاقتداء ليشمل المقام ، فلا يجوز لمن علم ببطلان صلاة أحد أن يقتدي به ، كما لا فرق في العلم ببطلان الصلاة بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي به كما في المقام ، وذلك لعلمه ببطلان صلاة نفسه أو صلاة إمامه ، وهذا العلم الإجمالي يولد العلم التفصيلي ببطلان صلاة‌

__________________

(*) لا يختص حسن الاحتياط بصورة حصول الظن بل يجري مع الشك أيضا.


نفسه إمّا لبطلانها في نفسها وإمّا لبطلان صلاة إمامه.

نعم هناك مسألة أُخرى نتعرض إليها في أحكام الجماعة إن شاء الله تعالى ، وهي ما إذا اعتقد المأموم صحّة صلاة أحد فائتم به في الصلاة وبعد الفراغ عنها ظهر أن الإمام نسي جنابته أو النجاسة في ثوبه أو بدنه فانكشف بطلان صلاته لأن النسيان ليس بعذر. هذا في الشبهات الموضوعية ، وكذا الحال في الشبهات الحكمية كما إذا رأى الامام وجوب الانحناء بالمقدار الميسور لمن لا يتمكّن من الرّكوع والمأموم رأى كفاية الإيماء إليه من غير انحناء وعمل كل بوظيفته وعلم بذلك المأموم بعد الصلاة وهكذا ، فهل يجب على المأموم أن يعيد صلاته؟ لا يجب عليه الإعادة قطعاً إذا لم يخل بوظيفة المنفرد. وعدم اشتمال صلاته على القراءة لا يوجب البطلان لعدم تركها متعمداً ، وإنما تركها بحسبان صحّة صلاة الجماعة و « لا تُعاد الصلاة إلاّ من خمسة » (١) وليست القراءة منها. وأما إذا أخل بوظيفة المنفرد كما إذا رفع رأسه من الركوع باعتقاد أن الإمام رفع رأسه ورأى أن الإمام بعد راكع فتابعه وركع ثانياً فهل تجب عليه الإعادة أو لا تجب؟ يأتي عليه الكلام في أحكام الجماعة إن شاء الله (٢).

كما نتكلّم هناك في أن النص الوارد في عدم وجوب القضاء على من ائتم بإمام مدّة أو في صلاة واحدة ثمّ علم أنه كان يهودياً وقد جامل المسلمين ، حيث ورد عدم وجوب القضاء على المأموم حينئذ ، هل يمكن التعدِّي عنه إلى ما إذا اعتقد المأموم صحّة صلاة إمامه وانكشف كونها باطلة في الواقع من دون أن يكون الإمام يهودياً أو لا يمكن التعدِّي؟

والغرض أن صحّة الاقتداء وعدمها عند علم المأموم واعتقاده بصحّة صلاة الإمام وانكشاف بطلانها بعد الصلاة مسألة ، وصحّة الاقتداء مع علم المأموم أو اعتقاده ببطلان صلاة الإمام فيما إذا كانت صحيحة في حق نفس الإمام أو عنده مسألة أُخرى فلا تشتبه ، والكلام في المقام في المسألة الثانية دون الاولى.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٧١ / أبواب الوضوء ب ٣ ح ٨. وغيرها من الموارد.

(٢) في المسألة [١٩٥٦].


ولو دارت بين ثلاثة يجوز لواحد أو الاثنين (*) منهم الاقتداء (١) بالثالث لعدم العلم حينئذ. ولا يجوز لثالث علم إجمالاً بجنابة أحد الاثنين (٢)

______________________________________________________

حكم الائتمام عند دوران الجنابة بين ثلاثة‌

(١) بناء على عدم صحّة الاقتداء مع العلم ببطلان صلاة الإمام تفصيلاً أو إجمالاً لا يمكن الحكم بجواز اقتداء أحد الثلاثة المرددة بينهم الجنابة بالاثنين الآخرين ، أو أحدهم أو الاثنين منهم بالثالث ، لعلمه الإجمالي إما ببطلان صلاته أو بطلان صلاة أحد الإمامين المولد للعلم التفصيلي ببطلان صلاة نفسه أو ببطلان صلاة أحد الثلاثة فالصلاة خلف كل منهم في نفسه صلاة مع العلم الإجمالي ببطلان صلاة الإمام. والعجب من الماتن قدس‌سره حيث إنه مع التفاته إلى وجود العلم الإجمالي بالبطلان ولذا حكم في ذيل المسألة بعدم جواز اقتداء الثالث الذي علم إجمالاً بجنابة أحد الاثنين أو أحد الثلاثة بواحد منهما أو منهم حكم بجواز الاقتداء في المقام وغفل عن العلم الإجمالي بالبطلان.

ائتمام العالم بجنابة أحد الاثنين بأحدهما‌

(٢) تقدّم أنّ الإمام إذا علم ببطلان صلاة نفسه تفصيلاً أو علم ببطلانها على نحو الإجمال ، وكان العلم الإجمالي منجزاً في حقه بأن كانت جنابة الآخر موضوعاً لأثر شرعي بالنسبة إليه كما إذا أمكن استئجاره لكنس المسجد ، فإن الإمام يعلم حينئذ بتوجه أحد التكليفين إليه ، فإمّا أن يجب عليه الغسل إذا كان هو الجنب وإمّا أن يحرم عليه استئجار الآخر لكنس المسجد إذا كان الجنب هو الآخر لم يجز للمأموم أن يقتدي به لبطلان صلاة الإمام تفصيلاً أو إجمالاً وإن لم يكن علم تفصيلي للمأموم بذلك ولا علم إجمالي له.

__________________

(*) لا يجوز ذلك لعلم كل منهم بعدم جواز الاقتداء بواحد من الآخرين.


أو أحد الثلاثة الاقتداء بواحد منهما أو منهم إذا كانا أو كانوا محل الابتلاء له (١) وكانوا عدولاً عنده (٢) ، وإلاّ فلا مانع. والمناط علم المقتدي بجنابة أحدهما لا علمهما ، فلو اعتقد كل منهما عدم جنابته وكون الجنب هو الآخر أو لا جنابة لواحد منهما وكان المقتدي عالماً كفى في عدم الجواز ، كما أنه لو لم يعلم المقتدي إجمالاً بجنابة أحدهما وكانا عالمين بذلك لا يضر باقتدائه (٣).

[٦٤٥] مسألة ٥ : إذا خرج المني بصورة الدم وجب الغسل أيضاً بعد العلم بكونه منيا (٤).

______________________________________________________

وكذا لا يجوز للمأموم أن يقتدي بالإمام فيما إذا كان للمأموم علم تفصيلي ببطلان صلاة الإمام أو علم إجمالي ببطلانها كما إذا علم بجنابة أحد شخصين عادلين ، فإنه لا يجوز أن يقتدي بواحد منهما للعلم الإجمالي ببطلان صلاتهما ، فصلاة كل منهما باطلة عنده بقاعدة الاشتغال. وإن لم يكن للإمام علم تفصيلي ببطلان صلاته ولا علم إجمالي له ، أو كان ولكنه لم يكن منجزاً ، كما إذا لم تكن جنابة الآخر موضوعاً لأثر شرعي بالإضافة إليه ، فصحّة الاقتداء موقوفة على أن تكون صلاة الإمام صحيحة عند نفسه وعند المأموم ، ومع بطلانها عندهما أو عند أحدهما لا يجوز الاقتداء لعدم جواز الاقتداء في الصلاة الباطلة.

(١) بأن تكون جنابتهما موضوعاً لأثر شرعي بالإضافة إليه.

(٢) وأما مع الفسق فلا تمس جنابتهما إليه ولا يكونان مورداً لابتلائه.

(٣) فيما إذا لم يكن علمهما الإجمالي منجزاً كما إذا لم تكن جنابتهما موضوعاً لأثر بالإضافة إلى المأموم ، لعدم كون العلم منجزاً وقتئذ ، وإلاّ فلا يجوز الاقتداء بهما كما قدّمنا.

إذا خرج المني بصورة الدم‌

(٤) لأن الحكم بوجوب الغسل إنما علق على خروج المني ، وأمّا اللّون فلا عبرة به‌


[٦٤٦] مسألة ٦ : المرأة تحتلم كالرجل (١) ولو خرج منها المني حينئذ وجب عليها الغسل ، والقول بعدم احتلامهن ضعيف.

[٦٤٧] مسألة ٧ : إذا تحرك المني في النوم عن محله بالاحتلام ولم يخرج إلى خارج لا يجب الغسل (٢) كما مرّ ، فاذا كان بعد دخول الوقت ولم يكن عنده ماء للغسل هل يجب عليه حبسه عن الخروج أو لا (٣)

______________________________________________________

بوجه ، وقد عرفت أن الأوصاف المشخصة للمنيّ هي الخروج بدفق وشهوة وفتور وأمّا اللّون فلا موضوعية له في شي‌ء ، فقد يتفق خروجه بصورة الدم كما في من كثر إنزاله فيجب عليه الغسل إذا صدق عليه المني. ولا يضره صدق عنوان الدم عليه أيضاً ، إذ لا يعتبر في وجوب الغسل عدم صدق غير المني عليه ، بل اللاّزم أن يصدق عليه المني صدق عليه عنوان آخر أم لم يصدق.

المرأة تحتلم‌

(١) دلّت على ذلك الأخبار المتقدِّمة ، كما دلّت على أنها إذا أنزلت وجب عليها الغسل ، فليراجع (١).

تحرّك المني عن محلِّه من دون الخروج‌

(٢) لأن وجوب الغسل يترتب على الإمناء والإنزال ، وتوقف صدقهما على الخروج ظاهر. ويتفرع على ذلك ما أشار إليه بقوله : فإذا كان بعد دخول الوقت.

(٣) تبتني هذه المسألة على المسألة الآتية في حكم إجناب النفس بالاختيار مع عدم التمكّن من الاغتسال ، ونبين هناك أن وجوب الحبس هو المتعيّن فيما إذا لم يكن موجباً للإضرار.

__________________

(١) ص ٢٤٠.


الأقوى عدم الوجوب (*) وإن لم يتضرّر به ، بل مع التضرّر يحرم ذلك (**) ، فبعد خروجه يتيمم للصلاة. نعم لو توقّف إتيان الصلاة في الوقت على حبسه بأن لم يتمكّن من الغسل ولم يكن عنده ما يتيمم به وكان على وضوء ، بأن كان تحرّك المني في حال اليقظة ولم يكن في حبسه ضرر عليه لا يبعد وجوبه فإنه على التقادير المفروضة لو لم يحبسه لم يتمكن من الصلاة في الوقت ولو حبسه يكون متمكنا (١).

[٦٤٨] مسألة ٨ : يجوز للشخص إجناب نفسه ولو لم يقدر على الغسل وكان بعد دخول الوقت (٢)

______________________________________________________

(١) إذا توقفت صلاته في الوقت مع الطّهارة على حبسه خروج المني لأنه لو خرج لم يتمكّن من الغسل ولا من التيمم كما إذا كان في بادية لا يوجد فيها التراب لوجود الثلج مثلاً يجب عليه حبسه ، لأن تركه تفويت للواجب في وقته اختياراً وهو حرام ، اللهمّ إلاّ أن يكون في الحبس ضرر عليه فلا يجب الحبس حينئذ فيقضي صلاته خارج الوقت.

إجناب النفس بالاختيار مع العجز عن الاغتسال‌

(٢) مقتضى القاعدة عدم جواز الإجناب بالاختيار بعد الوقت إذا كان عاجزاً من الغسل ، وذلك لأن التيمم وظيفة العاجز من الماء في مجموع الوقت ، والمفروض في المقام أن المكلّف متمكن من الصلاة مع الطّهارة بعد الوقت فلا يشرع له التيمم والحال هذه ، وإجناب نفسه تفويت للواجب بالاختيار وهو غير جائز. ومن هنا ذكر الماتن أن من كان متوضئاً لا يجوز له أن يبطل وضوءه بعد الوقت إذا لم يكن متمكناً من‌

__________________

(*) لا يبعد الوجوب مع الأمن من الضرر.

(**) هذا فيما إذا كان الضرر معتداً به ، وإلاّ فلا يحرم الحبس وإن كان لا يجب أيضا.


الوضوء على تقدير الحدث ، وكذا لا يجوز له الإهراق بعد الوقت إذا لم يكن له ماء آخر يتوضأ به.

فالمتحصل : أن القاعدة تقتضي عدم جواز الإجناب مع العجز عن الغسل ، لأنه تفويت اختياري للواجب إلاّ أن يقوم دليل على الجواز ، والدليل إنما قام على الجواز في خصوص إتيان الأهل دون بقية أسباب الجنابة ، وهو موثقة أو صحيحة إسحاق ابن عمار عن الصادق عليه‌السلام : « عن الرجل يكون معه أهله في السفر لا يجد الماء أيأتي أهله؟ قال عليه‌السلام : ما أُحب أن يفعل إلاّ أن يخاف على نفسه ، قال قلت : فيطلب بذلك اللذة أو يكون شبقاً إلى النساء ، فقال عليه‌السلام : إن الشبق الذي لا يتمكّن من حفظ نفسه إلاّ بصعوبة يخاف على نفسه ، قال قلت : طلب بذلك اللّذّة ، قال عليه‌السلام : هو حلال ... » (١) حيث دلّت على جواز إتيان الأهل في السفر وإن كان عاجزاً عن الغسل عند الخوف على النفس أو إرادة اللذة. ولا مسوغ للتعدي عن موردها إلى بقية أسباب الجنابة بوجه ، لأن النص إنما ورد في مورد خاص ، فمن كان عالماً باحتلامه على تقدير المنام مع العجز عن الغسل على تقدير جنابته لا يجوز له المنام إلاّ أن يكون تركه ضرريّاً في حقه.

نعم لا يحتمل موضوعية في ذلك للسفر بأن يكون الحكم مختصاً بالسفر دون الحضر ، ولعل تقييد الموضوع بالسفر من جهة أن الغالب في السفر عدم التمكن من الماء ، فلا موضوعية للسفر. كما أنه يمكن أن يقال : إن الأهل أيضاً لا موضوعية له وأن المملوكة أيضاً كالزوجة ، وأما التعدي عن الجماع إلى غيره من أسباب الجنابة فهو ممّا لا مسوغ له. فتحصل أن إجناب النفس بالاختيار غير جائز بعد دخول الوقت إلاّ في مورد النص. من هذا يظهر الحال في المسألة المتقدّمة ، فإن ترك حبس المني بعد دخول الوقت بالاختيار تفويت للواجب وهو حرام فلا مناص من حبس المني إلاّ أن يكون المكلّف متضرراً بذلك.

__________________

(١) الوسائل ٢٠ : ١٠٩ / أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب ٥٠ ح ١.


نعم إذا لم يتمكّن من التيمم أيضاً لا يجوز ذلك ، وأما في الوضوء فلا يجوز لمن كان متوضئاً ولم يتمكّن من الوضوء لو أحدث أن يبطل وضوءه إذا كان بعد دخول الوقت ، ففرق في ذلك بين الجنابة والحدث الأصغر ، والفارق النص (*) (١).

[٦٤٩] مسألة ٩ : إذا شكّ في أنه هل حصل الدخول أم لا لم يجب عليه الغسل (٢) وكذا لو شكّ في أنّ المدخول فيه فرج أو دبر أو غيرهما فإنّه لا يجب عليه الغسل.

[٦٥٠] مسألة ١٠ : لا فرق في كون إدخال تمام الذكر أو الحشفة موجباً للجنابة بين أن يكون مجرّداً أو ملفوفاً بوصلة أو غيرها إلاّ أن يكون بمقدار لا يصدق عليه الجماع (٣).

______________________________________________________

(١) النص لم يرد في عدم جواز التفويت في الوضوء وإنما ورد في جوازه في الجماع مع الزوجة أو المملوكة فحسب ، فلا دليل على جواز الإجناب في غير مورده ، فحال الغسل حال الوضوء.

إذا شكّ في الدخول‌

(٢) للشك في تحقق الجنابة والأصل عدمها. وكذلك الحال فيما إذا شكّ في أن المدخول به فرج أو دبر أو غيرهما.

لا فرق بين كون الآلة مجردة أو ملفوفة‌

(٣) في المسألة عدّة احتمالات :

الأوّل : أن يقال بعدم وجوب الغسل حينئذ مطلقاً ، نظراً إلى أن موضوع وجوب‌

__________________

(*) النص مختص بإتيان الأهل ، ومقتضى القاعدة في غيره من أسباب الجنابة عدم الجواز.


الغسل إنما هو التقاء الختانين ، ومع اللف في الداخل أو المدخول فيه لا يتحقق الالتقاء فلا يجب الغسل مع اللف.

والجواب عن ذلك : أن الالتقاء ليس بموضوع لوجوب الغسل والجنابة ، وإنما هو بيان للحدّ الذي يجب معه الغسل أعني الدخول بمقدار يلتقي معه الختانان ، وأما نفس الالتقاء فهو مما لا موضوعية له. ويدلّ على ذلك صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع حيث ورد فيها : « إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ، فقلت : التقاء الختانين هو غيبوبة الحشفة؟ قال عليه‌السلام : نعم » (١) فإنها تدل بصراحتها على أن التقاء الختانين ممّا لا موضوعية له في الحكم ، وإنما المدار على الدخول بقدر الحشفة فإذا غابت وتحقّق الإدخال بقدرها وجب الغسل ، حصل الالتقاء أيضاً أم لم يحصل.

الثاني : أن يقال بوجوب الغسل مع اللّف مطلقاً حتى مع عدم صدق الجماع فضلاً عن عدم صدق الالتقاء ، وذلك بدعوى أن الموضوع لوجوب الغسل ليس هو مجرد الجماع والالتقاء ، بل قد رتّب في بعضها على الإدخال والإيلاج ، ومع تحققهما يجب الغسل سواء أصدق معه الجماع أيضاً أم لم يصدق.

والجواب عن ذلك : أن الإدخال والإيلاج لم يذكرا موضوعاً مستقلا لوجوب الغسل في قبال الجماع واللّمس ، وإنما ذكرا توضيحاً وشرحاً لهما ، والموضوع للحكم ليس إلاّ المواقعة في الفرج. وقد دلّت على ذلك صحيحة أبي مريم الأنصاري (٢) المفسرة للملامسة والحاصرة لسبب الغسل بالمواقعة في الفرج ، وإذا لم يصدق المواقعة في الفرج أعني الجماع فيه لم يجب الغسل لا محالة.

الثالث : أن يقال بوجوب الغسل مع اللف في أحد العضوين إلاّ إذا كان على نحو لا يصدق عليه الجماع كما أفاده في المتن. وهذا هو الصحيح ، فإن الموضوع لوجوب‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٨٣ / أبواب الجنابة ب ٦ ح ٢.

(٢) الوسائل ١ : ٢٧١ / أبواب نواقض الوضوء ب ٩ ح ٤.


[٦٥١] مسألة ١١ : في الموارد التي يكون الاحتياط في الجمع بين الغسل والوضوء الأولى أن ينقض الغسل بناقض من مثل البول ونحوه ثمّ يتوضّأ ، لأنّ الوضوء مع غسل الجنابة (*) غير جائز (١) والمفروض احتمال كون غسله غسل الجنابة.

______________________________________________________

الاغتسال هو الجماع والمواقعة ، ومع صدقهما يجب الغسل ومع عدمه لا موجب للحكم بوجه.

ما هو الأولى في موارد الاحتياط بالجمع‌

(١) هذا التعليل عليل ، لأن الوضوء قبل غسل الجنابة وبعده وإن لم يكن جائزاً إلاّ أنه ليس محرّماً ذاتياً ، وإنما لا يجوز لعدم تشريعه. ومن الواضح أن الوضوء في أطراف العلم الإجمالي إنما يؤتى به من باب الاحتياط لا التشريع ، نعم المدعى صحيح بمعنى أن الأولى أن ينقض غسله ويتوضأ بعد ذلك وهذا للتمكن من الجزم بالنيّة فإنه لو لم يحدث بعد غسله لا يتمكن من أن يجزم في نيّة الوجوب ، لاحتمال أن يكون جنباً في الواقع وقد اغتسل فلا يجب عليه الوضوء.

وأمّا إذا أحدث بعد الغسل فلا محالة يكون مقطوع الحدث إما من السابق لو لم يكن جنباً وإما بالفعل إذا كان جنباً في الواقع ، ومعه يتمكن من الجزم بالنيّة في الوضوء ، والجزم بها وإن لم يكن واجباً كما أسلفناه في محلِّه (٢) إلاّ أن جماعة من الأعلام قد ذهبوا إلى اعتباره ، فخروجاً عن خلافهم الاحتياط يقتضي تحصيل الجزم بالنيّة.

__________________

(*) لا يخفى ما فيه ، بل الأولوية إنما هي لأجل تحصيل الجزم بالنيّة في الوضوء.

(١) في شرح العروة ١ : ٥١.


فصل

فيما يتوقّف على الغسل من الجنابة

وهي أُمور : الأوّل : الصلاة واجبة أو مستحبة أداء وقضاء لها (١) ولأجزائها المنسية (٢)

______________________________________________________

فصل فيما يتوقّف على الغسل من الجنابة

الأوّل ممّا يتوقّف على الغسل : الصّلاة

(١) وذلك مضافاً إلى ضرورة الدين لأنه أمر واضح مجمع عليه بين المسلمين يستفاد من الكتاب بقوله تعالى بعد قوله ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ... وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ... أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) (١) كما تدلّ عليه نصوص كثيرة واردة في أبواب متفرِّقة (٢) ، بلا فرق في ذلك بين الواجبة منها والمستحبّة والأدائية والقضائية.

(٢) من السجدة أو التشهد بناء على أن للتشهد كالسجدة قضاء. والوجه في توقّفها على الغسل أن القضاء فيها ليس بمعناه المصطلح عليه ، أعني الإتيان بالمأمور به في غير وقته ، بل بمعنى نفس الإتيان غاية الأمر مع التبدّل في المكان ، وعليه فالأجزاء المأتي بها قضاء هي بعينها الأجزاء المعتبرة في المأمور به ، وحيث إن حكم المركب والكل يسري إلى أجزائه فلا محالة يعتبر في الأجزاء المأتي بها متأخرة الطّهارة من الحدث كالصلاة.

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

(٢) راجع الوسائل ٢ : ٢٠٣ / أبواب الجنابة ب ١٤ ، ٣٩. الوسائل ٨ : ٢٥٣ / أبواب قضاء الصلوات ب ١ وغيرها.


وصلاة الاحتياط (١) ، بل وكذا سجدتا السهو على الأحوط (*) (٢)

______________________________________________________

(١) والسرّ فيه ظاهر ، وذلك لأنها إمّا صلاة مستقلة وقد مرّ أنّ الصلاة يعتبر فيها الطّهارة من الحدث ، وإمّا أنها جزء من المأتي به على تقدير نقيصته وقد عرفت أن أحكام الكل تسري إلى أجزائه لا محالة.

(٢) التحقيق عدم اعتبار الطّهارة فيهما ، وذلك لعدم كونهما من أجزاء الصلاة وإنما وجبتا مرغمتين للشيطان ، حيث إن النسيان من الشيطان ، وأبغض الأشياء عنده السجود لأنه لم يطرد إلاّ بالسجود ، فيأتي بهما الإنسان رغماً عليه حتى لا يعود في وسوسته. ولم يرد في شي‌ء من الأدلّة كونهما جزءاً من الصلاة ، ومن هنا إذا تركهما متعمداً لم تبطل صلاته ، فهما واجبتان مستقلتان لا دليل على اشتراطهما بالطّهارة.

نعم في بعض الأخبار المعتبرة أن السجدتين يؤتى بهما بعد الصلاة قبل الكلام (٢) وظاهره يعطي أنهما من الصلاة ، ومن هنا يؤتى بهما قبل الإتيان بما ينافي الصلاة من التكلّم ونحوه. إلاّ أنه لا مناص من حمله على الاستحباب لموثقة عمار الساباطي الواردة في أن من وجب عليه سجدتا السهو في صلاة الفجر يؤخرهما إلى أن تطلع الشمس ويشع شعاعها (٣) ، حيث إنّ السجدة عند طلوع الشمس من آداب عَبَدَة الشمس ، وأنّ من الواضح أنّ الانتظار من الفجر إلى أن يشع شعاع الشمس وعدم الإتيان في تلك المدّة التي تزيد على ساعة واحدة بما ينافي الصلاة من استدبار القبلة أو التكلّم أو غيرهما بعيد ، ولو كان واجباً لأُشير إليه في نفس الموثقة ، فمنها يظهر عدم كونهما من الصلاة وعدم اعتبار الأُمور المنافية للصلاة فيهما ، ومعه يكون الأمر بإتيانهما قبل الكلام محمولاً على الاستحباب من جهة استحباب الاستباق إلى الخيرات.

__________________

(*) لا بأس بترك هذا الاحتياط.

(١) الوسائل ٨ : ٢٠٧ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٥. ٦ : ٤٠١ / أبواب التشهّد ب ٧ ، ٩.

(٢) الوسائل ٨ : ٢٥٠ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٣٢ ح ٢.


نعم لا يجب في صلاة الأموات (١) ولا في سجدة الشكر والتلاوة (٢).

الثاني : الطواف الواجب دون المندوب (٣) لكن يحرم على الجنب دخول مسجد الحرام فتظهر الثمرة فيما لو دخله سهواً وطاف ، فإن طوافه محكوم بالصحّة. نعم يشترط في صلاة الطواف الغسل ولو كان الطواف مندوبا.

______________________________________________________

(١) للنصوص (١) وقد علل في بعض أخبارها بأنها ليست بصلاة ذات ركوع وسجود وإنما هو دعاء (٢) ، ولا تعتبر الطّهارة في الأدعية.

(٢) لإطلاق أدلّتهما وعدم تقييدهما بالطّهارة ، مضافاً إلى الأخبار حيث نص على عدم اعتبار الطّهارة في سجدة التلاوة (٣) ومع الغض عنه فالمقام من دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين والمرجع فيه هو البراءة عن التقييد بالزائد.

الثاني ممّا يتوقف على الغسل : الطّواف‌

(٣) فإنّ الطّواف منه واجب بالأصالة أو بالعرض ، أعني ما وجب لأجل وجوب الإتمام في الحج ومنه مندوب ، لأن الطواف عبادة في نفسه وللمكلف أن يأتي به وحده من دون ضمّه إلى بقيّة النسك وهو أمر مندوب شرعاً. وهل تعتبر الطّهارة من الحدث الأكبر في كلا القسمين من الطواف أو لا يعتبر؟ للكلام في ذلك جهات :

الجهة الاولى : في اعتبار عدم الجنابة في الطواف الواجب. وتدلّ على ذلك نصوص :

منها : صحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه أبي الحسن عليه‌السلام قال : « سألته عن رجل طاف بالبيت وهو جنب فذكر وهو في الطواف ، قال : يقطع الطواف‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٨٨ / أبواب صلاة الجنازة ب ٧ ، ٨ ، ٢١ ، ٢٢.

(٢) الوسائل ٣ : ٨٨ / أبواب صلاة الجنازة ب ٧.

(٣) الوسائل ٦ : ٢٣٩ / أبواب قراءة القرآن ب ٤٢.


ولا يعتد بشي‌ء ممّا طاف » (١).

ومنها : صحيحة علاء عن محمّد بن مسلم ، قال : « سألت أحدهما عليه‌السلام عن رجل طاف طواف الفريضة وهو على غير طهور ، قال : يتوضأ ويعيد طوافه ، وإن كان تطوعاً توضأ وصلّى ركعتين » (٢). فإن الجواب في هذه الصحيحة وإن كان مختصّاً بالوضوء إلاّ أن السؤال عن الطواف من غير طهور الأعم من الغسل والوضوء قرينة واضحة على أن الطواف يعتبر فيه الطّهارة عن كل من الحدث الأكبر والأصغر ، وهو عليه‌السلام إنما تعرض لخصوص الوضوء لأنه الأمر الغالبي ، فإن الطواف من غير غسل لا يتحقق إلاّ نادراً ، لحرمة الدخول في المسجد الحرام على الجنب ، ولا يتصور ذلك إلاّ في موارد النسيان والغفلة أو الإجبار ، وهذا نادر بخلاف الطواف من غير وضوء. على أن الاشتراط بالوضوء يستدعي الاشتراط بالغسل أيضاً ، لما يأتي من أن الجنب لا وضوء له (٣) وهذا ظاهر.

ومنها : صحيحة معاوية بن عمار ، قال « قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لا بأس أن يقضي المناسك كلّها على غير وضوء إلاّ الطواف بالبيت ، والوضوء أفضل » (٤) أي في غير الطواف ، حيث دلّتنا على بطلان الطواف من غير وضوء ، ومن البديهي أن الجنب ليس له وضوء ، فيعتبر في الطواف عدم الجنابة مضافاً إلى اعتبار الوضوء فيه ، نعم علمنا خارجاً أن الغسل من الجنابة يغني عن الوضوء وهو أمر آخر.

ومنها : صحيحة جميل عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أنه سئل أينسك المناسك وهو على غير وضوء؟ فقال : نعم إلاّ الطواف بالبيت فإن فيه صلاة » (٥). وهي مروية بطريقين أحدهما ضعيف ، والذي فيه جميل صحيح. وقد دلّتنا على اعتبار الوضوء في‌

__________________

(١) الوسائل ١٣ : ٣٧٥ / أبواب الطواف ب ٣٨ ح ٤.

(٢) الوسائل ١٣ : ٣٧٤ / أبواب الطواف ب ٣٨ ح ٣.

(٣) في ص ٣٩٤.

(٤) الوسائل ١٣ : ٣٧٤ / أبواب الطواف ب ٣٨ ح ١.

(٥) الوسائل ١٣ : ٣٧٦ / أبواب الطواف ب ٣٨ ح ٦ ، الطريق الأوّل فيه سهل والثاني فيه إبراهيم بن هاشم فهي صحيحة.


الطواف الملازم لاعتبار عدم الجنابة ، إذ لا وضوء للجنب لأجل اعتباره في جزء الطواف الذي هو صلاته ، فدلّتنا على سراية حكم الجزء إلى كلّه. ومنها : غير ذلك من الأخبار (١).

الجهة الثانية : في اعتبار عدم الجنابة في الطواف المندوب وعدمه إذا دخل المسجد الحرام نسياناً وغفلة أو أنه أُجبر على الدخول فيه بحيث لم يتمكن من الخروج عنه ، وبالجملة لم يكن الدخول فيه ممنوعاً في حقّه فهل يشترط في طوافه المندوب عدم الجنابة؟ المشهور بينهم عدم اشتراط الطّهارة من الحدث الأكبر في الطواف المندوب. وقد يستدلّ عليه بأن الأصل عدم الاشتراط. وفيه ما ذكرناه غير مرّة من أن البراءة غير جارية في المستحبات ، وإنما تجري في الأحكام الإلزامية فحسب ، وذلك لأن الرفع في مقابل الوضع أعني وضع إيجاب التحفظ والاحتياط ، والمستحبات لا يجب فيها التحفظ والاحتياط بالبداهة حتى ترفع بالبراءة هذا. مضافاً إلى أنه لا معنى للتمسك بالأصل العملي مع وجود الدليل الاجتهادي في المسألة ، فإن الإطلاق في صحيحة علي بن جعفر المتقدِّمة يكفي في الحكم باعتبار عدم الجنابة في الطواف المندوب لعدم قرينة فيها على الاختصاص بالطواف الواجب.

فالصحيح في الحكم بعدم اشتراط الطواف المندوب بالطّهارة من الحدث الأكبر أن يستدلّ بما قدّمناه من صحيحة علاء عن محمّد بن مسلم (٢) لأنها فصّلت بين الطواف الواجب والتطوّع ، حيث أوجب الإعادة في الأوّل إذا كان لا عن وضوء ولم يوجب ذلك في التطوّع ، بل أوجب فيه الوضوء للصلاة فقط ، وقد أسلفنا أن المراد من اشتراط الطواف الواجب بالوضوء هو اشتراطه بكل من الغسل والوضوء بقرينة عمومية السؤال ، وإنما خص الجواب بالوضوء لأنه الفرد الغالبي. على أن الاشتراط بالوضوء يستدعي الاشتراط بالغسل أيضاً. وكيف كان ، فقد دلّتنا الصحيحة على أنّ‌

__________________

(١) الوسائل ١٣ : ٣٧٤ / أبواب الطواف ب ٣٨ ح ٢ ، ٥ ، ٦ ، ٨ ، ١١.

(٢) تقدّم ذكرها في ص ٢٨٦.


الثالث : صوم شهر رمضان وقضائه (١) بمعنى أنه لا يصحّ إذا أصبح جنباً متعمداً أو ناسياً للجنابة ، وأما سائر الصيام ما عدا رمضان وقضائه فلا يبطل بالإصباح جنباً وإن كانت واجبة ، نعم الأحوط في الواجبة منها ترك تعمد الإصباح جنباً. نعم الجنابة العمدية في أثناء النهار تبطل جميع الصيام حتى المندوبة منها. وأمّا الاحتلام فلا يضرّ بشي‌ء منها حتى صوم رمضان.

______________________________________________________

الطواف المندوب لا يعتبر فيه الطّهارة وإنما تعتبر في صلاته.

وبالأخبار المتقدِّمة المعللة لاعتبار الطّهارة في الطواف بأن فيه صلاة (١) ، حيث قلنا إنّها تدلّ على أن حكم الجزء يسري إلى كلّه في الطواف الفريضة ، وأمّا في الطّواف المندوب فقد علمنا خارجاً ببركة الروايات أن السراية فيه من الجزء إلى كلّه غير ثابتة ، وإنما هي معتبرة في الطواف الواجب دون المندوب ، فهي معتبرة في صلاته دونه بنفسه.

الجهة الثالثة : في اعتبار الطّهارة من الحدث الأكبر في صلاة الطوافين الواجب والمندوب. ولا إشكال في اعتبارها ، وذلك لإطلاق أدلّة اعتبارها في الصلاة من الكتاب والسنّة مضافاً إلى النصوص الخاصّة الواردة في المقام (٢).

الثالث ممّا يتوقف على الغسل : الصّوم‌

(١) في المقام أربع مسائل :

اعتبار عدم البقاء على الجنابة لدى الفجر

المسألة الاولى : في اعتبار عدم الجنابة عند طلوع الفجر في صوم شهر رمضان‌

__________________

(١) تقدّم ذكرها في ص ٢٨٦.

(٢) الوسائل ١٣ : ٣٧٤ / أبواب الطواف ب ٣٨.


وعدمه. اعتبار الطّهارة من الحدث الأكبر وعدم البقاء على الجنابة عند طلوع الفجر في صوم شهر رمضان هو المشهور بين الأصحاب ، بل ادعي عليه الإجماع في كلمات جماعة منهم العلاّمة في التذكرة (١) والمنتهى (٢) وابن إدريس في سرائره (٣) والشيخ في الخلاف (٤) وغيره في غيره. ولم ينقل الخلاف في المسألة من المتقدّمين إلاّ الصدوق حيث إنه أورد رواية في المقنع (٥) وتوهم دلالتها على عدم اعتبار الطّهارة من الحدث الأكبر في صوم شهر رمضان ، فإن طريقته رحمهالله في ذلك الكتاب الإفتاء بمضمون الأخبار التي ينقلها فيه.

وعن المحقِّق الأردبيلي قدس‌سره في شرح الإرشاد التردّد في المسألة والميل إلى عدم الاعتبار (٦). وفي الحدائق عن المحقق الداماد في رسالته الموضوعة في مسائل التنزيل اختيار عدم اعتبار الطّهارة من الحدث الأكبر في صحّة الصوم صريحا (٧).

والصحيح : أن المخالف في المسألة منحصر بالأخيرين ، وأما الصدوق فيأتي أن الرواية التي أوردها في مقنعه لا دلالة لها على عدم الاعتبار. والأخبار في اعتبار الطّهارة وعدم البقاء على الجنابة متعمداً عند طلوع الفجر في صوم شهر رمضان كثيرة متفرقة في الأبواب الفقهية.

منها : ما ورد في من نسي غسل الجنابة حتى مضى شهر رمضان أو شي‌ء منه ، كما في رواية إبراهيم بن ميمون ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يجنب باللّيل في شهر رمضان فنسي أن يغتسل حتى تمضي بذلك جمعة أو يخرج شهر‌

__________________

(١) التذكرة ٦ : ٢٦.

(٢) المنتهي ٢ : ٥٦٥ / المسألة العاشرة.

(٣) السرائر ١ : ٣٧٧.

(٤) الخلاف ٢ : ١٧٤ / مسألة ١٣.

(٥) المقنع : ١٨٩.

(٦) مجمع الفائدة والبرهان ٥ : ٤٥.

(٧) الحدائق ٣ : ٥٧.


رمضان ، قال : عليه قضاء الصلاة والصوم » (١). وصحيحة الحلبي قال : « سُئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل أجنب في شهر رمضان فنسي أن يغتسل حتى خرج شهر رمضان ، قال : عليه أن يقضي الصّلاة والصيام » (٢). وقد دلّتا على أن الصوم يبطل بنسيان الجنابة ، فمنها يستفاد حكم ما إذا تعمد البقاء على الجنابة ، فإنه يوجب البطلان بالأولوية.

ومنها : ما ورد في من كان جنباً وقد نام حتى طلع عليه الفجر ، كصحيحة معاوية ابن عمّار ، قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يجنب في أوّل الليل ثمّ ينام حتى يصبح في شهر رمضان ، قال : ليس عليه شي‌ء ، قلت : فإنه استيقظ ثمّ نام حتى أصبح ، قال : فليقض ذلك اليوم عقوبة » (٣) وقد دلّت على أن النوم بعد الانتباه والبقاء على الجنابة بسببه يوجب البطلان ، ومنه يظهر بطلان الصوم بالتعمد بالبقاء على الجنابة بالأولوية.

ومنها : ما ورد في خصوص المتعمد في البقاء على الجنابة ، كموثقة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « في رجل أجنب في شهر رمضان بالليل ثمّ ترك الغسل متعمداً حتى أصبح ، قال : يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكيناً وقال : إنه حقيق أن لا أراه يدركه أبداً » (٤). وهذه الموثقة مضافاً إلى كونها موثقة معتمد عليها عندهم ، وهي مدرك القول بالكفّارة في المسألة زائداً على وجوب القضاء.

ومنها : غير ذلك من الأخبار (٥).

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢٣٧ / أبواب من يصحّ منه الصوم ب ٣٠ ح ١.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢٣٨ / أبواب من يصحّ منه الصوم ب ٣٠ ح ٣.

(٣) الوسائل ١٠ : ٦١ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ب ١٥ ح ١.

(٤) الوسائل ١٠ : ٦٣ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ب ١٦ ح ٢.

(٥) الوسائل ١٠ : ٦٣ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ب ١٦ ح ٣ ، ٤.


وأمّا الأخبار الواردة في قبالها فهي عدّة كثيرة من الأخبار فيها الصحاح وغيرها وهي التي أوجبت التردد للمحقق الأردبيلي قدس‌سره وميله إلى عدم الاشتراط. إلاّ أنها غير قابلة للاعتماد عليها إما لضعف سندها أو لعدم دلالتها على المدعى.

منها : صحيحة أبي سعيد القماط « سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عمن أجنب في شهر رمضان في أوّل الليل فنام حتى أصبح ، قال : لا شي‌ء عليه ، وذلك أن جنابته كانت في وقت حلال » (١) وهذه الصحيحة غير معارضة مع الأخبار المتقدِّمة ، من جهة أنها مطلقة من حيث النومة الثانية وعدمها فنقيدها بما إذا لم تكن النومة ثانية بمقتضى الأخبار المتقدّمة ، وأما مع النومة الثانية فيجب عليه القضاء ، بل الكفارة أيضاً بمقتضى موثقة أبي بصير.

ومنها : صحيحة العيص بن القاسم « أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل ينام في شهر رمضان فيحتلم ثمّ يستيقظ ثمّ ينام قبل أن يغتسل ، قال : لا بأس » (٢) وهذه الصحيحة وإن كانت مقيّدة بالنومة الثانية إلاّ أنها مطلقة من حيث كون النومتين في الليل أو في النهار ، والأخبار المتقدّمة إنما دلّت على وجوب الكفارة والقضاء فيما إذا كانتا في الليل ولا محذور في الاحتلام في النهار فلنقيدها بالأخبار السابقة لتختص بالنهار.

ومنها : صحيحة عيص بن القاسم أيضاً ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أجنب في شهر رمضان في أوّل الليل فأخر الغسل حتى طلع الفجر ، فقال : يتمّ صومه ولا قضاء عليه » (٣) والجواب عنها أنها كصحيحة أبي سعيد القماط مطلقة من حيث النومة الأُولى والثانية ، بل من حيث النومة وعدمها فلنقيِّدها بمقتضى الأخبار المتقدِّمة بالنومة الأُولى دون الثانية.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٥٧ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ب ١٣ ح ١.

(٢) الوسائل ١٠ : ٥٧ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ب ١٣ ح ٢.

(٣) الوسائل ١٠ : ٥٨ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ب ١٣ ح ٤.


ومنها : ما رواه الصدوق في المقنع عن حماد بن عثمان « أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أجنب في شهر رمضان من أوّل الليل وأخر الغسل حتى يطلع الفجر ، فقال : كان ( قد كان ، نسخة ) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يجامع نساءه من أوّل اللّيل ثمّ يؤخِّر الغسل حتى يطلع الفجر ، ولا أقول كما يقول هؤلاء الأقشاب يقضي يوماً مكانه » (١).

وهذه هي التي قد أسند الأصحاب قدس‌سرهم لأجل إيرادها إلى الصدوق القول بعدم اعتبار الطّهارة من الجنابة في صحّة الصوم ، حيث إن ظاهرها أن من تعمد البقاء على الجنابة إلى طلوع الفجر لا يبطل صومه ، وذلك لأن قوله : « أخّر الغسل حتى يطلع ... » ظاهره أنّه يتعمد في التأخير إلى أن يطلع الفجر لا أنّه بقي كذلك إلى الطلوع من باب الصدفة والاتفاق ، وقد حكي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يجنب في أوّل الليل ويؤخر غسله إلى طلوع الفجر ، فلا يجب معه القضاء ولا يكون صومه باطلا.

ولكن الصحيح أنها لا دلالة لها على المدعى ، وذلك للقطع بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يصلّي صلاة الليل دائماً ، لوجوبها في حقّه وأنه من خصائصه صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي مشروطة بالطّهارة لا محالة ولا يمكنه والحال هذه أن يبقى جنباً إلى طلوع الفجر. على أن ظاهر الرواية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت عادته ذلك حيث عبّر فيها بأنّه كان النبي يجامع ... لا أنّ ذلك اتفق في حقه صدفة ، ومن المقطوع به عندنا خلاف ذلك ، لأنّ البقاء على الجنابة إلى طلوع الفجر في شهر رمضان لو لم يكن محرماً مبطلاً للصوم فلا أقل أنه مكروه ، وكيف يصدر المكروه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله طيلة حياته.

وثالثاً : أن الرواية تضمنت أن القول بحرمة ذلك ووجوب القضاء به من قول الأقشاب ، وليت شعري من المراد بالأقشاب؟! فهل هم الأئمة الباقون العياذ بالله ـ

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٥٧ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ب ١٣ ح ٣ ، المقنع : ١٨٩.


حيث صدرت منهم الأخبار في حرمة البقاء على الجنابة في شهر رمضان ووجوب قضاء الصوم حينئذ ، أو المراد بهم جميع الشيعة القائلين بحرمة البقاء ووجوب القضاء معه ، لما مرّ من أنه أمر متفق عليه بينهم ولم ينقل الخلاف في ذلك عن أحد من أصحاب الأئمة ، بل العلماء الأقدمين سوى الصدوق قدس‌سره ، ولا ندري قائلاً بذلك غير الأئمة الباقين وأصحابهم يعني الشيعة ، فكيف وصفهم الإمام عليه‌السلام ، بالأقشاب.

وهذه الوجوه الثلاثة تفيد القطع بعدم صدور الرواية لداعي بيان الحكم الواقعي فلا مناص معه من حملها على التقيّة لذهابهم إلى ذلك ، أو قراءتها بلهجة اخرى غير ما هو ظاهرها ، وهي أن يحمل قوله عليه‌السلام : « كان رسول الله ... » على الاستفهام الإنكاري ، وكأنه قال : هكذا قد كان رسول الله يجامع نساءه من أوّل اللّيل ثمّ يؤخِّر الغسل حتى يطلع الفجر؟! ولا أقول كما يقول هؤلاء الأقشاب مريداً بهم المخالفين القائلين بعدم حرمة ذلك وعدم وجوب القضاء معه يقضي يوماً مكانه ، بأن تكون هذه الجملة مقولاً لقول الإمام عليه‌السلام فتدلّ الصحيحة حينئذ على حرمة البقاء على الجنابة إلى طلوع الفجر في شهر رمضان وعلى وجوب قضاء الصوم مكانه.

ومنها : رواية إسماعيل بن عيسى ، قال : « سألت الرضا عليه‌السلام عن رجل أصابته جنابة في شهر رمضان فنام عمداً حتى يصبح أي شي‌ء عليه؟ قال : لا يضره هذا ولا يفطر ولا يبالي ، فإن أبي عليه‌السلام قال قالت عائشة : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أصبح جنباً من جماع غير احتلام ، قال : لا يفطر ولا يبالي ... » الحديث (١) وهي مع الغض عن سندها أيضاً محمولة على التقيّة ، وذلك لأنها إذا كانت صادرة لبيان حكم الله الواقعي لم يكن وجه لنقل الإمام عليه‌السلام ذلك عن عائشة ، ولأجل ذلك ولما مرّ في صحيحة حماد بن عثمان نحمل هذه الرواية على التقيّة.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٥٩ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ب ١٣ ح ٦.


ومنها : صحيحة حبيب الخثعمي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي صلاة اللّيل في شهر رمضان ثمّ يجنب ثمّ يؤخر الغسل متعمداً حتى يطلع الفجر » (١) ولا يرد على هذه الصحيحة ما أوردناه على صحيحة حمّاد بن عثمان المروية عن المقنع من منافاتها لما علمناه من وجوب صلاة اللّيل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنها فرضت جنابته صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد منتصف اللّيل وإتيانه بصلاته.

إلاّ أنّ منافاتها لما نقطع به من أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن يستمر على أمر مكروه باقية بحالها ، لأنها أيضاً ظاهرة في أن ذلك كانت عادته حيث قال : « كان رسول الله » فلا مناص من حملها على التقيّة لذهاب العامّة إلى ذلك ، ومع ذلك لا وجه للتردد في المسألة أو الميل إلى عدم الاشتراط ، لانحصار المعارض بصحيح حمّاد بن عثمان وحبيب الخثعمي ، ولأجل موافقتهما للعامّة (٢) ومخالفتهما لما نقطع به من دأبه صلى‌الله‌عليه‌وآله نحملهما على التقيّة كما مرّ. على أنهما روايتان شاذّتان ولا يمكن الأخذ بالشاذ في مقابل الرواية المشهورة وهي الطائفة الأُولى المتقدّمة.

هذا وعن بعضهم وأظنّه السبزواري قدس‌سره الجمع بين هاتين الطائفتين بحمل الطائفة الأُولى على استحباب القضاء وأفضلية ترك البقاء على الجنابة إلى طلوع الفجر (٣). وفيه : أن ظاهر تلك الطائفة بطلان الصوم بالبقاء على الجنابة لا مجرّد حرمته ، كما أن الطائفة الثانية ظاهرة في صحّته فهما متنافيتان ، ولا يمكن الجمع بين البطلان والصحّة وإنما كان يمكن ذلك فيما إذا كانت الطائفة الأُولى مشتملة على مجرّد الحرمة الشرعية. فالصحيح ما ذكرناه من حمل الطائفة الثانية على التقيّة هذا.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٦٤ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ب ١٦ ح ٥.

(٢) المغني لابن قدامة ٣ : ٧٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٥٤ ، الموطأ ١ : ٢٨٩ ، المجموع ٦ : ٣٠٧.

(٣) الذخيرة : ٤٩٨ / السطر ١.


ثمّ إنّ المحقِّق في شرائعه أسند وجوب الإمساك عن البقاء على الجنابة عامداً حتى يطلع الفجر إلى الأشهر حيث قال : عن البقاء عامداً حتى يطلع الفجر من غير ضرورة على الأشهر (١). وظاهره أن القول المقابل أعني عدم وجوب الاغتسال إلى طلوع الفجر مشهور. وهذا على خلاف الواقع ، حيث عرفت أنه ممّا لا قائل به من المتقدِّمين إلى زمان المحقِّق سوى الصدوق قدس‌سره. والأردبيلي والداماد متأخران عن المحقق قدس‌سرهم ، إلاّ أن يحمل الأشهر على الأشهر من حيث الرواية ، وعليه يصحّ كلام المحقِّق لأن الطائفة الأُولى كما عرفت أشهر من حيث الرواية والثانية مشهورة ، ولكنّك عرفت عدم دلالتها ، نعم الصحيحتان المشتملتان على حكاية فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الروايات النادرة كما مرّ. فتحصل أن الطّهارة من الحدث الأكبر شرط في صحّة صوم رمضان هذا ، ولكن بعد المراجعة إلى الشرائع ظهر أن نسخها مختلفة ، ففي متن الجواهر (٢) ومصباح الفقيه للمحقِّق الهمداني (٣) على الأشهر ، وفي نفس الشرائع المطبوعة عندنا : على الأظهر ، وأما متن المسالك (٤) والمدارك (٥) فهو غير مشتمل لا على كلمة الأشهر ولا الأظهر. والظاهر المناسب أن تكون على الأظهر دون الأشهر ، ولعلّ نسخة صاحب الجواهر والمصباح كانت مغلوطة هذا.

ما استدلّوا به على جواز البقاء على الجنابة‌

ثمّ إنهم استدلوا على جواز البقاء على الجنابة إلى طلوع الفجر في شهر رمضان بقوله عزّ من قائل : ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ

__________________

(١) الشرائع ١ : ١٨٩.

(٢) الجواهر ١٦ : ٢٣٦.

(٣) مصباح الفقيه ( الصوم ) ١٤ : ٤٠١.

(٤) المسالك ٢ : ١٧. إلاّ أنّ متنه مشتمل على كلمة الأشهر.

(٥) المدارك ٦ : ٥٣. إلاّ أنّ متنه مشتمل على كلمة الأشهر.


لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ... ) (١) وذلك بموردين منها :

أحدهما : ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ ) بدعوى أن إطلاق حل الرفث ليلة الصيام يشمل الجزء الأخير منها أيضاً ، فإذا جاز الرفث في ذلك الجزء الأخير فلا يحرم البقاء على الجنابة إلى طلوع الفجر لا محالة ولا تكون الطّهارة في طلوع الفجر شرطاً في صحّة الصيام.

وفيه : أن حل الرفث في ليلة الصيام إنما هو في قبال حرمته في الشرائع السابقة ومن هنا خصّت الحليّة بتلك الأُمّة حيث قال ( أُحِلَّ لَكُمْ ) فلا نظر للآية المباركة إلاّ إلى الترخيص في الرفث في قبال المنع ، وأما الترخيص إلى الجزء الأخير وأن البقاء على الجنابة جائز أو غير جائز فلا نظر في الآية إليه وليست بصدد بيانه فلا إطلاق لها من هذه الجهة.

ثانيهما : قوله ( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ ) بدعوى أن جواز المباشرة مغيا بطلوع الفجر وثابت إلى الجزء الأخير من اللّيل ومعه لا معنى لحرمة البقاء على الجنابة إلى طلوع الفجر. ويدفعه : أن قوله ( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ ) كحلية الرفث إنما هو بصدد إثبات الجواز فقط ، وليس قوله ( حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ ... ) غاية له وإنما هو غاية لجواز الأكل والشرب ، لانفصال قوله ( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ ) عن قوله ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ) بجملة ( وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ).

والغرض من التعرّض للاستدلال بالآية المباركة أن لا يتوهم أن الطائفتين من الأخبار بعد تساقطهما بالتعارض يرجع إلى إطلاق الآية المباركة ، لما عرفت من أنها ليست مطلقة ، هذا كله في المسألة الأُولى.

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٨٧.


اعتبار الطّهارة في قضاء صوم رمضان‌

المسألة الثانية : في اشتراط الطّهارة من الحدث الأكبر في قضاء صوم رمضان. وهذا هو المشهور بين الأصحاب قدس‌سرهم. وتدلّ عليه جملة من النصوص.

منها : صحيحة عبد الله بن سنان « أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يقضي شهر رمضان فيجنب من أوّل الليل ولا يغتسل حتى يجي‌ء آخر الليل وهو يرى أن الفجر قد طلع ، قال : لا يصوم ذلك اليوم ويصوم غيره » (١).

ومنها : صحيحته الأُخرى ، قال : « كتب أبي إلى أبي عبد الله عليه‌السلام وكان يقضي شهر رمضان وقال : إني أصبحت بالغسل وأصابتني جنابة فلم اغتسل حتى طلع الفجر ، فأجابه عليه‌السلام : لا تصم هذا اليوم وصم غدا » (٢).

ومنها : موثقة سماعة بن مهران ، قال : « سألته عن رجل أصابته جنابة في جوف اللّيل في رمضان فنام وقد علم بها ولم يستيقظ حتى أدركه الفجر ، فقال عليه‌السلام : عليه أن يتمّ صومه ويقضي يوماً آخر ، فقلت : إذا كان ذلك من الرجل وهو يقضي رمضان ، قال : فليأكل يومه ذلك وليقض فإنه لا يشبه رمضان شي‌ء من الشهور » (٣). والاحتمالات في قوله : « فإنه لا يشبه ... » وإن كانت متعددة ولكن الأظهر أن المراد به أن في شهر رمضان لو بطل الصوم لجهة ككونه باقياً على الجنابة مثلاً وجب عليه قضاء ذلك اليوم والإمساك في ذلك اليوم الذي بطل فيه صومه ، وهذا بخلاف الصوم في غير رمضان لأنه لو بطل وجب إتيانه في يوم آخر ولا يجب الإمساك في ذلك اليوم فلا يشبه رمضان شي‌ء من الشهور الأُخر.

عدم اعتبار الطّهارة في الصوم المندوب‌

المسألة الثالثة : في اعتبار الطّهارة من الحدث الأكبر في الصوم المندوب وعدمه.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٦٧ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ب ١٩ ح ١.

(٢) الوسائل ١٠ : ٦٧ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ب ١٩ ح ٢.

(٣) الوسائل ١٠ : ٦٧ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ب ١٩ ح ٣.


الصحيح عدم اعتبارها من الحدث الأكبر في الصوم المستحب ولا يكون البقاء على الجنابة مفطراً في المندوب من الصوم. ولا استبعاد في اختلاف الواجب والمندوب في بعض الشرائط والخصوصيات ، كما في الصلاة فإن الاستقبال شرط في الفريضة دون المندوبة منها. والوجه في عدم اشتراط الصوم المندوب بالطّهارة دلالة الأخبار عليه.

ففي موثقة ابن بكير قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يجنب ثمّ ينام حتى يصبح أيصوم ذلك اليوم تطوعاً؟ فقال : أليس هو بالخيار ما بينه ونصف النهار » (١) وفيما رواه الصدوق في الصحيح بإسناده عن عبد الله بن المغيرة عن حبيب الخثعمي ، « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أخبِرْني عن التطوّع وعن صوم هذه الثلاثة الأيام إذا أنا أجنبت من أوّل الليل فأعلم أني أجنبت فأنام متعمداً حتى ينفجر الفجر أصوم أو لا أصوم؟ قال : صم » (٢) وفي رواية ابن بكير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سئل عن رجل طلعت عليه الشمس وهو جنب ثمّ أراد الصيام بعد ما اغتسل ومضى ما مضى من النهار ، قال : يصوم إن شاء وهو بالخيار إلى نصف النهار » (٣).

عدم اعتبار الطّهارة في الصوم الواجب بالعرض‌

المسألة الرابعة : في اعتبار الطّهارة من الحدث الأكبر في الصوم الواجب غير صوم رمضان الأدائي منه والقضاء ، فهل يعتبر فيه الطّهارة من الحدث الأكبر كما ذهب إليه صاحب الجواهر (٤) والمحقِّق الهمداني (٥) وغيرهما من المحققين أو لا يعتبر؟ الصحيح أنّ‌

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٦٨ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ب ٢٠ ح ٢. الفقيه ٢ : ٤٩ / ٢١٢.

(٢) الوسائل ١٠ : ٦٨ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ب ٢٠ ح ١.

(٣) الوسائل ١٠ : ٦٨ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ب ٢٠ ح ٣.

(٤) الجواهر ١٦ : ٢٤٠.

(٥) مصباح الفقيه ( الصوم ) ١٤ : ٤١١.


الصوم الواجب غير صوم رمضان أدائه وقضائه كالصوم المندوب لا يعتبر فيه الطّهارة من الحدث الأكبر ، وذلك لعدم الدليل على اعتبارها ، وهو يكفي في الحكم بعدم الاشتراط وجواز البقاء على الجنابة فيه.

وأمّا ما عن المحقِّق الهمداني قدس‌سره من أنّ شيئاً إذا أُثبتت شرطيته لفرد من أفراد الواجب مثلاً ثبتت لغيره من أفراد الطبيعة الواجبة لاتحادهما بحسب الماهيّة والحقيقة ، ومع شرطية شي‌ء للماهية لا يختص الشرطية بفرد دون فرد ، وعلى ذلك جرت عادة الفقهاء قدس‌سرهم فإن الصلاة مثلاً إذا قلنا إنها متقوِّمة بسجدتين وركوع واحد ثمّ أطلقنا لفظة الصلاة في مورد آخر وقلنا إنها مستحبّة مثلاً يتبادر منها إلى الأذهان تلك الصلاة التي اشترطنا فيها السجدتين والركوع. وفي المقام حيث اشترطنا في الصوم الواجب في شهر رمضان عدم البقاء على الجنابة إلى طلوع الفجر فلا محالة تثبت شرطية ذلك لسائر الأفراد الواجبة أيضاً لاتحادها بحسب الماهية والحقيقة.

ففيه : أن ما أفاده وإن كان متيناً في نفسه إلاّ أنه إنما يتمّ فيما إذا لم يثبت عدم اشتراط الماهية بذلك الشرط ، وفي المقام قد ثبت بمقتضى الإطلاقات عدم اشتراط ماهية الصوم بالاجتناب عن البقاء على الجنابة ، وذلك لما ورد من أنّ الصائم لا يضرّه أي ما صنع إذا اجتنب خصالاً ثلاثة أو أربعاً : الأكل والشرب ، والنساء والارتماس (١) باعتبار عد الأكل والشرب واحداً أو اثنين فمنه يستفاد أن الاجتناب عن البقاء على الجنابة أو الكذب على الله ورسوله ونحوهما من الأُمور المشترطة في محلها إنما هي من الأوصاف والشرائط المعتبرة في شخص الصوم الواجب في رمضان وفي قضائه وليست وصفاً للماهية لتسري إلى جميع أفرادها.

هذا كلّه في الصوم الواجب المعيّن ، وأما غير المعيّن فالأمر فيه أظهر ، لأنا لو كنا اشترطنا الطّهارة في الواجب المعيّن لم نكن نشرطها في غير المعيّن ، وذلك للتعليل الوارد في عدم اشتراط الطّهارة في الصوم المستحب أعني قوله عليه‌السلام : « أليس‌

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٣١ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ب ١ ح ١.


هو بالخيار ما بينه ونصف النهار » (١) فان مقتضاه حسب المتفاهم العرفي أن كل صوم كان المكلّف مخيّراً فيه إلى نصف النهار لا يعتبر فيه الطّهارة من الحدث الأكبر.

نسيان غسل الجنابة في رمضان‌

وأمّا نسيان غسل الجنابة في شهر رمضان فقد عرفت وجوب القضاء فيه بمقتضى رواية إبراهيم بن ميمون المتقدِّمة (٢) وهي مروية بثلاثة طرق كلها ضعاف ، أما طريق الشيخ والصدوق ( رحمهما الله ) فهما ضعيفان بإبراهيم بن ميمون لعدم ثبوت وثاقته وأمّا طريق الكليني فهو ضعيف به وبسهل بن زياد. وبمقتضى صحيحة الحلبي المتقدِّمة (٣) وهي العمدة في المقام ، وإن كان مقتضى القاعدة مع قطع النظر عن النص عدم وجوب القضاء في نسيان غسل الجنابة ، حيث إن نواقض الصوم أُمور محصورة وليس منها نسيان غسل الجنابة ، وإنما الناقض تعمد البقاء على الجنابة إلى الفجر وليس النسيان من التعمد كما هو واضح ، إلاّ أن مقتضى النص وجوب القضاء كما مرّ.

نسيان الجنابة أو الجهل بها‌

وهل نسيان نفس الجنابة أو نسيان أن غداً من شهر رمضان كنسيان غسل الجنابة موجب للقضاء أو لا؟

الظاهر أن الأصحاب لم يتعرضوا إلى ذلك في كلماتهم. والصحيح أن نسيان الجنابة أو نسيان أن غداً من رمضان لا يوجبان القضاء ، وذلك لما مرّ من أن نواقض الصوم أُمور محصورة ولم يذكر منها النسيان ، فلو كنا نحن وأنفسنا لم نحكم بوجوب القضاء في نسيان غسل الجنابة أيضاً ، فإن الناقض تعمد البقاء على الجنابة دون النسيان ، وقد خرجنا عن ذلك في نسيان الغسل بالنص ويبقى نسيان نفس الجنابة ونسيان أن اليوم‌

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٦٨ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ب ٢٠ ح ٢.

(٢) الوسائل ١٠ : ٦٥ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ب ١٧ ح ١. تقدّم ذكرها في ص ٢٨٩.

(٣) الوسائل ١٠ : ٢٣٨ / أبواب من يصحّ منه الصوم ب ٣٠ ح ٣. تقدّم ذكرها في ص ٢٩٠.


من رمضان محكوماً بعدم كونهما موجبين للقضاء. وكذلك الحال في الجاهل بالجنابة كمن أجنب ولم يعلم به إلاّ بعد مدّة ، فإن مقتضى ما ذكرناه عدم وجوب القضاء عليه لعدم كونه من التعمد في البقاء على الجنابة ولا من غيره من النواقض. هذا كله في صوم شهر رمضان.

وهل الأمر كذلك في قضائه أيضاً بمعنى أن نسيان غسل الجنابة مانع عن صحّته ونسيان نفس الجنابة أو الجهل بها غير موجب للبطلان؟ التحقيق أن قضاء صوم رمضان لأضيق دائرة من نفس صوم رمضان ، فإن المستفاد من صحيحتي عبد الله بن سنان المتقدِّمتين أن الإصباح جنباً متعمداً أو غير متعمد مانع عن صحّة قضائه ولعلّ صاحب الوسائل قدس‌سره أيضاً استفاد ذلك منهما ، ومن هنا عنون الباب بأن من أصبح جنباً لم يجز له أن يصوم ذلك اليوم قضاء عن شهر رمضان.

ففي إحدى الصحيحتين « أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يقضي شهر رمضان فيجنب من أوّل الليل ولا يغتسل حتى يجي‌ء آخر الليل وهو يرى أن الفجر قد طلع ، قال : لا يصوم ذلك اليوم ويصوم غيره » (١). وفي الثانية قال : « كتب أبي إلى أبي عبد الله عليه‌السلام وكان يقضي شهر رمضان وقال : إني أصبحت بالغسل أي مكلّفاً به وأصابتني جنابة فلم اغتسل حتى طلع الفجر ، فأجابه عليه‌السلام : لا تصم هذا اليوم وصم غداً » (٢). فإن المستفاد منهما أن في فرض الإصباح جنباً وإن لم يكن اختياريّاً لا يصحّ منه قضاء صوم رمضان ، فلا يفرق في بطلانه بين كونه جاهلاً بجنابته أم ناسياً لها أو ناسياً لغسلها.

بقي الكلام في مسألتين :

إحداهما : أن الجنابة العمدية في النهار تبطل الصيام ولو كان مندوباً ، وهذا مما لم يقع فيه خلاف ، فان من النواقض النساء أي جماعهن فيبطل به الصوم وتجب الكفارة‌

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٦٧ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ب ١٩ ح ١.

(٢) الوسائل ١٠ : ٦٧ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ب ١٩ ح ٢.


بلا كلام ، والاستمناء ملحق بالجماع ، ففي صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يعبث بأهله في شهر رمضان حتى يمني قال : عليه من الكفّارة مثل ما على الذي يجامع » (١) وهكذا في غيرها من الأخبار.

هذا إذا كان خروج المني منه باستمنائه ، وأمّا إذا تحرّك لأجله المني من مكانه أو رأى في المنام ما هيّج شهوته إلاّ أنه لم يخرج المني منه بعد ذلك وكان متمكناً من أن يمنع عن خروجه ، فهل يجب عليه ذلك إذا لم يكن ضرريّاً في حقه لأن ترك منعه أمناء بالاختيار أو لا يجب عليه المنع من خروج المني؟ فهي مسألة طويلة الذيل ، ويقع الكلام عليها في صحّة الصوم إن شاء الله (٢).

ثانيتهما : أن الاحتلام في نهار رمضان غير مبطل للصوم ، وذلك مضافاً إلى أن النواقض محصورة وليس الاحتلام من الجماع ولا من غيره من النواقض ، قد دلّت عليه جملة من النصوص ، ففي صحيحة العيص بن القاسم أنه « سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل ينام في شهر رمضان فيحتلم ثمّ يستيقظ ثمّ ينام قبل أن يغتسل قال : لا بأس » (٣). وفي رواية أُخرى عن عمر بن يزيد قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : لأي علّة لا يفطر الاحتلام الصائم والنِّكاح يفطر الصائم؟ قال : لأن النِّكاح فعله والاحتلام مفعول به » (٤) إلى غير ذلك من الأخبار.

وهل تجب على الصائم المحتلم المبادرة إلى الاغتسال؟ وهل إذا احتلم في النهار يجب عليه المبادرة إلى الغسل لئلا يبقى على الجنابة متعمداً في النهار أو لا يجب؟ ذهب بعض من قارب عصرنا إلى ذلك وأن البقاء على الجنابة في النهار غير جائز متعمداً فان البقاء عليها كذلك في اللّيل إلى طلوع الفجر محرم كما مرّ وكذلك الحال في النهار.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٣٩ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ب ٤ ح ١.

(٢) في المسألة [٢٣٩٨].

(٣) الوسائل ١٠ : ١٠٣ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ، ب ٣٥ ح ٣.

(٤) الوسائل ١٠ : ١٠٤ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ب ٣٥ ح ٤.


فصل

فيما يحرم على الجنب وهي أيضاً أُمور :

الأوّل : مس خط المصحف على التفصيل الذي مرّ في الوضوء (١)

______________________________________________________

وفيه : أن ذلك من القياس ، وحرمة البقاء على الجنابة في النهار وكونه ناقضاً للصوم يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه في المقام ، نعم ورد في رواية إبراهيم بن عبد الحميد النهي عن النوم في النهار بعد الاحتلام حتى يغتسل حيث قال : « سألته عن احتلام الصائم ، قال فقال : إذا احتلم نهاراً في شهر رمضان فلا ينام حتى يغتسل » الحديث (١) فانّ المتفاهم من المنع عن النومة الثانية في الرواية هو وجوب المبادرة إلى الاغتسال إلاّ أنه لا مناص من حمل ذلك على استحباب المبادرة إلى الغسل أو على كراهة التأخير في الاغتسال ، لأن الرواية مرسلة وإبراهيم بن عبد الحميد يرويها عن بعض مواليه وهو مجهول ، ولم يظهر أنه أي شخص.

ثمّ على تقدير وثاقة الرواية فهي معارضة بما دلّ على جواز النوم ثانياً ، كما في صحيحة العيص بن القاسم المتقدِّمة ، ومعه لا يثبت بها وجوب المبادرة إلى الاغتسال. ويمكن أن يقال : إنّ الصحيحة مطلقة من حيث النوم في اللّيل والنهار ، ورواية إبراهيم ابن عبد الحميد مختصّة بالمنع عن النوم في النهار فلا محالة يقيد الصحيحة فلا تبقى أية معارضة بينهما. فالجواب الصحيح هو إرسال الرواية فلا تغفل.

فصل فيما يحرم على الجنب‌

الأوّل من المحرّمات : مسّ المصحف‌

(١) لم يرد حرمة مسّ الجنب كتابة المصحف في شي‌ء من الأخبار ، إلاّ أن ما ورد‌

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٠٤ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ب ٣٥ ح ٥. ٦٤ / ب ١٦ ح ٤.


في عدم جواز مسّ الكتاب من غير وضوء يكفينا في الحكم بحرمة مسّ الجنب كما يأتي تقريبه ، وهذا لا لرواية إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : المصحف لا تمسّه على غير طهر ، ولا جنباً ، ولا تمسّ خطه ولا تعلقه ، إن الله تعالى يقول ( لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) (١) لأنّ الآية المباركة لا دلالة لها على المدعى فانّ المطهر غير المتطهر ، لوضوح أن الثاني ظاهر في التطهر من الحدث الأصغر أو الأكبر والمطهر من طهره الله من الزلل والخطأ ، والمذكور في الآية المباركة هو الثاني دون الأوّل ، ففيها إشارة إلى قوله سبحانه ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٢). ومعنى أنه لا يمسّه إلاّ من طهره الله أنه لا يدركه بما له من البواطن غير المعصومين عليهم‌السلام فالآية إخبار وليست بإنشاء ، فان غيرهم لا يدرك من الكتاب إلاّ ظاهره ، فتحمل الرواية على إرادة البواطن أيضاً ويقال إن استفادة حرمة مسّ المحدث الكتاب من البواطن التي لا يدركها غيرهم عليهم‌السلام وقد استفادها الإمام لوجه لا نعرفه.

بل الوجه فيما ذكرناه موثقة أبي بصير ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عمن قرأ في المصحف وهو على غير وضوء ، قال : لا بأس ولا يمس الكتاب » (٣) فإذا ثبت حرمة مسّ من لا وضوء له الكتاب نتعدّى منه إلى الجنب لا محالة.

وهذا لا للأولوية القطعيّة كما في كلمات بعضهم نظراً إلى أن المحدث بالحدث الأصغر إذا حرم مسّه الكتاب فالمحدث بالحدث الأكبر يحرم مسّه الكتاب أيضاً بطريق أولى ، حتى يقال بأن الملاك في حرمة مسّ المحدث بالأصغر لعله غير متحقق في المحدث بالحدث الأكبر ، ولا علم لنا بتلازمهما ولا بالملاكات الواقعية. بل التعدِّي من جهة إطلاق نفس الموثقة ، حيث إن الجنب بنفسه من مصاديق من لا وضوء له لأنّ سبب الجنابة أمران كلاهما ناقض للوضوء وهما الجماع والإنزال ، فمس الجنب‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٨٤ / أبواب الوضوء ب ١٢ ح ٣.

(٢) الأحزاب ٣٣ : ٣٣.

(٣) الوسائل ١ : ٣٨٣ / أبواب الوضوء ب ١٢ ح ١.


وكذا مسّ اسم الله تعالى (١)

______________________________________________________

محرّم بما أنه لا وضوء له ، نعم إذا اغتسل عن الجنابة يجوز له المس لا لأنه ليس بجنب بل لأنه على وضوء ، حيث إن غسل الجنابة يغني عن الوضوء.

مسّ الجنب لأسماء الله تعالى‌

(١) لا إشكال في المسألة ، بل قالوا إنها متفق عليها بينهم ، بل ادعي عليها الإجماع ، بل ضرورة المسلمين حتى من أهل الخلاف في كلمات القدماء ، وإن ورد أنه مكروه إلاّ أنهم ادعوا أن الكراهة في اصطلاحهم تطلق على الحرمة. وقد مرّ في الوضوء أن المنع عن مسّ المحدث بالحدث الأصغر اسم الله تعالى لم يرد في رواية وإنما كان مستنداً إلى كونه هتكاً له ومنافياً لتعظيمه ، وأمّا في مسّ الجنب لاسم الله تعالى فقد وردت في حرمته موثقة عمار بن موسى عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا يمسّ الجنب درهماً ولا ديناراً عليه اسم الله » (١) وبإزائها جملة من الأخبار دلّت على جوازه عمدتها موثقة إسحاق بن عمار والباقي ضعيفة بحسب السند عن أبي إبراهيم عليه‌السلام قال : « سألته عن الجنب والطامث يمسان أيديهما الدراهم البيض؟ قال : لا بأس » (٢).

وقد يجمع بينهما بحمل المنع على الكراهة بدعوى أنه مقتضى الجمع العرفي بينهما إلاّ أن الصحيح عدم تعارضهما بحسب مناسبات الحكم والموضوع المؤيدة بما في نفس الروايتين مما يحتمل أن يكون قرينة على ذلك.

أمّا المناسبة بين الحكم وموضوعه فهو أنّ النهي في موثقة عمار إذا القي إلى العرف لم يشك أحد في أن متعلقه هو مسّ لفظة الجلالة بمناسبة النهي ومسّ لفظة الجلالة‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢١٤ / أبواب الجنابة ب ١٨ ح ١.

(٢) الوسائل ٢ : ٢١٤ / أبواب الجنابة ب ١٨ ح ٢.


نفسها ، ولا يرونه مطلقاً حتى يشمل مسّ الموضع الخالي عن اللفظة من الدرهم أو الدينار ، فإذا كانت الموثقة ظاهرة في حرمة مسّ نفس اللفظة لا بقيّة المواضع فلا محالة تخصّص موثقة إسحاق بن عمار الدالّة على الترخيص ، لأن الترخيص فيها مطلق يعم الموضع المشتمل من الدراهم على لفظة الجلالة والموضع الخالي عنها فنخصصها بمسه الدرهم والدينار في الموضع الخالي من اللفظة فيهما ، فكأن السؤال عن مسّ الموضع الخالي من اللفظة المباركة في الدرهم والدينار من جهة عظمتهما وتشرفهما بوجود اللفظة في شي‌ء من مواضعهما فأحتمل أن مسّ الموضع الخالي منهما خلاف التعظيم والاحترام ، نظير الجلوس على الصندوق المشتمل على المصحف لأنه لا إشكال في كونه هتكاً لدى العرف ، وعليه فلا تعارض بينهما.

وأمّا القرينة على ذلك مما في نفس الروايتين فهو اختلاف التعبير في الموثقتين حيث عبّر في الموثقة المانعة بكلمة « على » الظاهرة في الاستيلاء وقال : « لا يمسّ الجنب درهماً ولا ديناراً عليه اسم الله » ، فكأنه قد استولى على الدينار بأجمعه فمسه كان مستلزماً لمس اسم الله ، وفي بعض الأخبار المرخصة لم يعبر بتلك الكلمة ، بل بكلمة « في » الظاهرة في الاشتمال وأن مسّ الدرهم المشتمل بعضه على لفظة الجلالة لا بأس به ، وهاتان الكلمتان يحتمل قرينيّتهما على ما ادعيناه.

ويؤيِّده أيضاً ما اشتمل عليه بعض الأخبار الضعيفة من الأخبار المرخصة حيث اشتمل على قوله عليه‌السلام : « لا بأس به ، ربّما فعلت ذلك » (١) لبعد أن يمسّ الإمام عليه‌السلام لفظة الجلالة وهو جنب ، لأنه لو قلنا بعدم حرمته فلا أقل من أنه خلاف التعظيم والاحترام ، فنحمل الرخصة على مسّ غير الموضع المشتمل على لفظة الجلالة.

وتوضيح الكلام في المسألة‌

أنّ الأصحاب قدس‌سرهم قد تسالموا على حرمة مسّ الجنب اسم الله سبحانه‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢١٥ / أبواب الجنابة ب ١٨ ح ٤.


وإن خالفهم في ذلك بعض المتأخرين حيث ذهب إلى الكراهة. وتدلّ على حرمته موثقة عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا يمس الجنب درهماً ولا ديناراً عليه اسم الله » (١). وبإزاء هذه الموثقة روايات تدلّ على جوازه.

منها : رواية أبي الربيع عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « في الجنب يمس الدرهم وفيها اسم الله واسم رسوله؟ قال : لا بأس ، وربّما فعلت ذلك » (٢) وهي مضافاً إلى ضعف سندها بأبي الربيع وخالد حيث لم يوثقا في الرجال. ودعوى أن حسن بن محبوب الواقع في سندها من أصحاب الإجماع فلا ينظر إلى من كان بعده في سلسلة السند ، مندفعة بما مرّ غير مرّة من أنه مما لا دليل عليه ، فلو روى مثله عن مجهول أو ضعيف لم يعتمد على روايته لا تعارض الموثقة المتقدّمة ، لأنها ظاهرة في إرادة مسّ نفس الاسم ولو بمناسبة الحكم والموضوع وبقرينة الإتيان بكلمة « على » الظاهرة في الاستيلاء كما قدّمناه.

وأمّا رواية أبي الربيع فلم يقيد المس فيها بخصوص الموضع المشتمل على الاسم ، نعم هي مطلقة فنقيدها بمس الموضع الخالي عن الاسم بالموثقة وبقرينة الإتيان فيها بكلمة « في » الظاهرة في الاشتمال. والوجه في السؤال عن مسّ الموضع الخالي عن الدراهم من الاسم إنما هو اكتساب الدرهم شرافة وعظمة بسبب وجود اللفظة في‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢١٤ / أبواب الجنابة ب ١٨ ح ١.

(٢) الوسائل ٢ : ٢١٥ / أبواب الجنابة ب ١٨ ح ٤. ثمّ إن المناقشة في سند هذه الرواية كانت في نظر سيِّدنا الأُستاذ ( دام ظلّه ) في الأزمنة السالفة ، ولكن حديثاً بدل رأيه الشريف في المعجم ٨ : ١٦ ، وحاصله : أن خالداً وهو ابن جرير قد مدحه علي بن الحسن وقال : إنه كان صالحاً. وبهذه يعتمد على روايته. وأن أبا الربيع وهو الشامي قد ورد في أسناد تفسير علي ابن إبراهيم فهذا يكون موثقاً. وأمّا طريق المحقق قدس‌سره إلى كتاب الحسن بن محبوب فأيضاً معتبر ، لأن له طرقاً متعددة معتبرة إلى جميع ما اشتمل عليه كتاب الفهرست للشيخ أبي جعفر الطوسي قدس‌سره كما يظهر من المراجعة إلى الطرق والإجازات ، ومن جملة ما في الفهرست [ ٧١ / ١٦٢ ] هو كتاب الحسن بن محبوب ، وطريق الشيخ إليه صحيح فتصبح الرواية معتبرة ويبقى الإشكال فيها من جهة الدلالة فقط.


قطعة منه ، وقد أجابه الإمام بعدم البأس بذلك.

ومنها : ما رواه المحقق (١) عن كتاب جامع البزنطي عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « سألته هل يمس الرجل الدرهم الأبيض وهو جنب؟ فقال : إي ، إني والله لأُوتى بالدرهم فآخذه وإني لجنب » (٢) وإلى هنا نقله في الوسائل وترك ذيلها : وما سمعت أحداً يكره من ذلك شيئاً إلاّ أن عبد الله بن محمّد كان يعيبهم عيباً شديداً يقول : جعلوا سورة من القرآن في الدراهم فيعطى الزانية وفي الخمر ويوضع على لحم الخنزير.

ومنها : موثقة إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم عليه‌السلام قال : « سألته عن الجنب والطامث يمسّان أيديهما الدراهم البيض؟ قال : لا بأس » (٣) ولم يذكر في هاتين الروايتين سبب السؤال عن مسّ الجنب الدراهم البيض فيحتمل أن يكون وجهه اشتمالها على القرآن ، كما تضمّنه ذيل رواية المحقق عن جامع البزنطي. وعلى هذا الاحتمال الروايتان خارجتان عمّا نحن فيه ، لأنّ الكلام في حرمة مسّ الجنب اسم الله وعدم حرمته لا في مسّ المصحف وعدمه فلا تعارضان الموثقة المتقدّمة. وقد مرّ أن مسّ الجنب كتابة القرآن محرّم ، فلا محالة تحمل هاتان الروايتان على مسّ غير الموضع المشتمل على القرآن أو غير ذلك من المحامل.

كما يحتمل أن يكون الوجه في السؤال هو اشتمال الدراهم على لفظة الجلالة ، فقد ذهب بعضهم إلى أنهما تعارضان الموثقة حينئذ فيجمع بينهما بحمل الموثقة على الكراهة كما هو الحال في جميع موارد الجمع الدلالي ، حيث يرفع اليد عن ظاهر كل من المتعارضين بنص الآخر ، وحيث إن « لا بأس » ظاهر في الإباحة ونص في الجواز والنهي في الموثقة ظاهر في الحرمة ونص في عدم المحبوبية والمبغوضية فنرفع اليد عن ظاهر الحرمة بنص « لا بأس » فتكون النتيجة هي الكراهة هذا.

__________________

(١) المعتبر ١ : ١٨٨.

(٢) الوسائل ٢ : ٢١٤ / أبواب الجنابة ب ١٨ ح ٣.

(٣) تقدّمت ص ٣٠٥.


وسائر أسمائه وصفاته المختصّة (١)

______________________________________________________

ولكن الظاهر أنه لا معارضة بينهما ، حيث إن الموثقة ظاهرة بمناسبة الحكم وموضوعه وبقرينة اشتمالها على لفظة « على » الظاهرة في الاستيلاء في إرادة مسّ نفس لفظة الجلالة ، ولا يفهم منها عند إلقائها إلى العرف إرادة مسّ الدرهم من غير مسّ الاسم ، وهاتان الروايتان ظاهرتان في إرادة مسّ نفس الدرهم الأعم من اشتماله على الاسم وعدمه ، كما إذا مسّ الموضع الخالي من الكتابة ، فنقيد إطلاقهما بالموثقة ونحملهما على إرادة مسّ الدرهم في غير الموضع المشتمل على الكتابة. مضافاً إلى أن رواية المحقق ضعيفة ، لأنه نقلها عن كتاب البزنطي وهو رواها عن محمّد بن مسلم مع أن بينهما واسطة ، فإن البزنطي ، لا يروي عن محمّد بن مسلم بلا واسطة والواسطة غير مذكورة في السند.

مسّ سائر أسماء الله‌

(١) إذا كانت اللفظة مشتركة بالاشتراك المعنوي بينه وبين غيره كالعالم مثلاً لأنه قد يطلق على الله سبحانه وقد يطلق على غيره ولم تكن معه قرائن تخصصه بالذات المقدّسة كما إذا قيل : العالم بكل شي‌ء ويا عالماً لا يخفى عليه شي‌ء ، فلا إشكال في جواز مسها جنباً ، سواء قصد منه الكاتب نفس الذات المقدّسة أم لم يقصد ، وذلك لأن القصد لا يجعل اللفظة اسماً له سبحانه ، إذ المفروض أنه عام وموضوع على الطبيعة الجامعة فقصد فرد ومصداق من مصاديق الطبيعة لا يجعل اسم الطبيعة اسماً له ، لبداهة أن قصد زيد من لفظة الكاتب لا يجعل لفظة الكاتب اسماً لزيد ، ولعلّه ظاهر.

وأمّا إذا احتفت بقرائن تخصصها بالذات المقدّسة كما إذا قال : العالم بكل شي‌ء ويا من لا تشتبه عليه الأصوات ، حيث إنهما مختصتان بالذات المقدّسة ، فلا يبعد جواز مسها أيضاً ، وذلك لأن الظاهر المستفاد من اسم الله هو كون اللفظة علماً موضوعاً له كما هو الحال في غيره ، فان الاسم ظاهر في العلمية والوضع ، ولا يراد منه مطلق ما أنبأ عن الذات المقدّسة.


وكذا مسّ أسماء الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام على الأحوط (١).

______________________________________________________

ومن البديهي أن تقييد اللفظة المطلقة بقيود منبئة عن الذات المقدّسة لا يجعلها علماً موضوعاً في حقه ، مثلاً إذا قلنا الولد الأكبر لزيد ، فإنّه يختص بخصوص ولده الأكبر وينبئ عنه لا محالة ، إلاّ أن الولد الأكبر لا يكون بذلك علماً لولده حتى يعد من أسمائه الولد الأكبر. وكذا إطلاق صاحب الدار على مالكها ، لأنه وإن كان مختصّاً به ومنبئاً عنه إلاّ أن صاحب الدار لا يكون بذلك علماً لمالكه واسماً من أسمائه ، ولعلّه ظاهر.

وأما إذا كانت اللفظة مشتركة بينه وبين غيره اشتراكاً لفظياً بأن يجعل له بوضع ويجعل لغيره بوضع عليحدة ، كما إذا جعل أحد اسم ولده ( الله ) ولو عناداً ، فالظاهر إناطة حرمة مسّه بما إذا قصد الكاتب منها الذات المقدّسة ، لأن المشترك اللفظي بالقصد يتعين في العلمية لا محالة كما هو الحال في غيره من الأعلام المشتركة كلفظة ( أحمد ) لاشتراكها بين آلاف ، ولكن إذا قصد منها ابن زيد فهو علمه واسمه المختص به ومعه لا يحكم بحرمة مسّه.

ثمّ إن مقتضى إطلاق موثقة عمار عدم الفرق بين كون اسم الله عربيا وكونه من سائر اللغات ، لأن حرمة المس مرتبة على كون الاسم اسم الله وتقييده بالعربية بلا دليل ، نعم لا بدّ وأن يكون الاسم من قبيل العلم الموضوع له لا مطلق ما دلّ على الذات المقدّسة ولو بالقرائن كما مر.

مسّ الجنب لأسماء الأنبياء أو الأئمة ( عليهم‌السلام )

(١) ذهب جملة من الأصحاب إلى إلحاق أسماء الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام باسمه سبحانه ، ولكن الدليل على إلحاقها غير ظاهر. والذي يمكن أن يستدلّ به على حرمة مسّها أُمور :

الأوّل : الشهرة الفتوائية القائمة على حرمة مسها. وفيه : أن الشهرة الفتوائية غير معتبرة عند المتأخرين فلا حجية لها بوجه.


الثاني : دخول مسجد الحرام ومسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كان بنحو المرور (١).

______________________________________________________

الثاني : الإجماع على حرمته كما عن ابن زهرة قدس‌سره (١) ويدفعه : أن الإجماع المنقول مما لا اعتبار به ولا سيما إجماعات ابن زهرة ، حيث لا نعلم ابتناءها على المبنى الذي يستكشف به قول الإمام عند المتأخرين.

الثالث : أن مسها جنباً خلاف تعظيم شعائر الله سبحانه وقد وصف عزّ من قائل تعظيمها بأنه ( مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ). ويدفعه : أن مقتضى الاستدلال بذلك هو استحباب ترك مسها لا وجوبه ، فان التعظيم له مراتب عديدة ، وليس التعظيم واجباً بجميع مراتبه ، وإلاّ لم يجز اجتياز الجنب من الصحن الشريف ولا مسّه حائط الصحن لأنه خلاف تعظيم الشعائر. فالصحيح عدم حرمة مسّ أسماء الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام جنباً إلاّ أن يستلزم هتكها فان المس محكوم بالحرمة حينئذ ، إلاّ أنه غير مختص بمس أسماء الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام فانّ مسّ أسماء العلماء والعبّاد وغيرهم أيضاً إذا كان مهانة وهتكاً يحكم بحرمته لا محالة.

الثاني من المحرّمات : دخول المسجدين‌

(١) المسجدان يشتركان مع بقيّة المساجد في حرمة المكث فيها جنباً ويمتازان عن بقيّة المساجد في حرمة مرور الجنب فيهما واجتيازه ، حيث إنه محرّم فيهما دون بقيّة المساجد. والمسألة متسالم عليها بين الأصحاب. ويدلّ على ذلك صحيحة جميل قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الجنب يجلس في المساجد ، قال : لا ، ولكن يمرّ فيها كلها إلاّ المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٢) وصحيحة محمّد بن مسلم قال : « قال أبو جعفر عليه‌السلام في حديث الجنب والحائض ـ :

__________________

(١) الغنية : ٣٧.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٠٥ / أبواب الجنابة ب ١٥ ح ٢.


ويدخلان المسجد مجتازين ، ولا يقعدان فيه ، ولا يقربان المسجدين الحرمين » (١) وغيرهما من الأخبار (٢) وهذا لعله مما لا إشكال فيه.

وإنما الكلام فيما إذا احتلم المكلّف في أحد المسجدين ، فقد ورد في صحيحة أبي حمزة قال « قال أبو جعفر عليه‌السلام : إذا كان الرجل نائماً في المسجد الحرام أو مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فاحتلم فأصابته جنابة فليتيمم ولا يمرّ في المسجد إلاّ متيمماً ، ولا بأس أن يمرّ في سائر المساجد ، ولا يجلس في شي‌ء من المساجد » (٣) وذلك لحرمة المرور عليه في المسجدين كحرمة بقائه فيهما جنباً ، فهو جنب فاقد للماء فلا بدّ أن يتيمم خروجاً عن عهدة النهي عن مروره وبقائه فيهما جنباً ، ومن هنا يظهر أن الصحيحة ناظرة إلى ما هو المتعارف العادي من كون زمان الخروج عن المسجد أو الاغتسال فيه أكثر زماناً من التيمم فيه ، وإلاّ فلو فرضنا أن التيمم أكثر زماناً من الخروج لأنه مثلاً كان خلف باب المسجدين ولا يحتاج خروجه عنهما إلاّ إلى خطوة واحدة أو أمكنه الاغتسال في المسجد في زمان أقل من زمان التيمم لأن مقدّماته تحتاج إلى زمان ، فلا نظر للصحيحة إليه ، ولا مناص حينئذ من خروجه أو اغتساله فيهما إذا لم يستلزم تنجيسهما أو هتكهما أو غيرهما من المحاذير. وعليه فلا نقتصر على مورد الصحيحة ، بل لو فرضنا أنه أُجبر على الدخول فيهما جنباً أيضاً يجب عليه التيمم إذا كان زمانه أقصر من زمان الخروج أو الاغتسال. هذا كلّه بالإضافة إلى حرمة الدخول في المسجدين ولو اجتيازاً ومشياً ، وأمّا حرمة المكث فيهما جنباً فهما مشتركان في ذلك مع المساجد الأُخر ، ويأتي الاستدلال على حرمته فيها في المسألة الآتية إن شاء الله.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٠٩ / أبواب الجنابة ب ١٥ ح ١٧.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٠٥ / أبواب الجنابة ب ١٥ ح ٣ ، ٤ ، ٥.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٠٦ / أبواب الجنابة ب ١٥ ح ٦.


الثالث : المكث في سائر المساجد بل مطلق الدخول فيها على غير وجه المرور (١)

______________________________________________________

الثالث من المحرّمات : حرمة مكث الجنب في المساجد‌

(١) أما حرمة المكث في المساجد جنباً فلا كلام فيها بينهم. ويدلّ عليه قوله تعالى ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ ) (١) بقرينة الأخبار المفسرة له بمكان الصلاة ، وذلك بقرينة قوله ( عابِرِي سَبِيلٍ ) لأن المرور من الصلاة مما لا معنى له وإنما المرور والعبور من مكانها وهو المساجد. وصحيحة محمّد بن مسلم وزرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قالا قلنا : الحائض والجنب يدخلان المسجد أم لا؟ قال : الحائض والجنب لا يدخلان المسجد إلاّ مجتازين ، إن الله تبارك وتعالى يقول ( وَلا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ ) (٢) والصحيحتان المتقدِّمتان.

ولا خلاف في ذلك إلاّ ما ينسب إلى سلار حيث ذهب إلى كراهة دخول الجنب في المسجد (٣) ، ولعله استند إلى ما ورد في جملة من الأخبار من كراهة الدخول في المساجد جنباً ، كما ورد في وصيّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام : « أنّ الله كره لأُمّتي العبث في الصلاة إلى أن قال : وإتيان المساجد جنباً » (٤) وفي المحاسن عن أبيه عن محمّد بن سليمان الديلمي عن أبيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ستّة كرهها الله لي فكرهتها للأئمة من ذريتي وليكرهها الأئمة لأتباعهم : العبث في الصلاة ، والمن بعد الصّدقة ، والرفث في الصوم والضحك بين القبور ، والتطلّع في الدور ، وإتيان المساجد جنباً » (٥).

__________________

(١) النساء ٤ : ٤٣.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٠٧ / أبواب الجنابة ب ١٥ ح ١٠.

(٣) المراسم : ٤٢.

(٤) الوسائل ٢ : ٢٠٦ / أبواب الجنابة ب ١٥ ح ٧.

(٥) الوسائل ٢ : ٢٠٩ / أبواب الجنابة ب ١٥ ح ١٦ ، المحاسن ١ : ٧٣ / ٣١.


وفيه : أن الكراهة المستعملة في لسان الأئمة إنما هي بمعناها اللغوي أعني المبغوض والحرام ، وليست هي بمعنى الكراهة المصطلح عليها عند الفقهاء. ويؤيده أن جملة من المذكورات في الرواية من المحرّمات ، كالتطلّع على الدور والرفث في الصوم في غير اللّيالي والمن بعد الصّدقة لأنه إيذاء.

وعن الصدوق قدس‌سره جواز النوم في المساجد جنباً حيث حكي عنه : لا بأس أن يختضب الجنب ، إلى أن قال : وينام في المسجد ويمرّ فيه (١). ولم نقف على مستنده قدس‌سره ، نعم ورد في صحيحة محمّد بن القاسم قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الجنب ينام في المسجد؟ فقال : يتوضأ ولا بأس أن ينام في المسجد ويمرّ فيه » (٢) إلاّ أن الصدوق لم يقيد حكمه بجواز نوم الجنب في المسجد بما إذا توضأ ، فلو كان اعتمد عليها وحكم بجوازه مع الوضوء لقلنا إن ذلك من تخصيص هذه الصحيحة للآية المباركة وغيرها ممّا دلّ على حرمة مكث الجنب في المسجد ، لأنّ النسبة بينهما عموم مطلق ، حيث إنها مطلقة ، ولا مانع من تخصيصها بما إذا توضأ ونام كما خصّصت بالإضافة إلى المرور ، حيث إنه لو كنا وهذه الصحيحة قدمناها على أدلّة حرمة مكث الجنب في المسجد لأنّ النسبة بينهما عموم مطلق.

ودعوى أن حرمة المكث والدخول مغياة بالاغتسال كما في قوله تعالى : ( حَتَّى

__________________

(١) المقنع : ٤٥.

(٢) الوسائل ٢ : ٢١٠ / أبواب الجنابة ب ١٥ ح ١٨. قد يقال بأن محمّد بن القاسم مشترك بين جماعة وليس كلّهم ثقات ، والمذكور في السند يحتمل الانطباق على غير الثقة أيضاً فلا تكون الرواية صحيحة. والجواب : أن المطلق ينطبق على من يكون قابلاً للانطباق من جهة الطبقة ويكون معروفاً من جهة الرواية أو من جهة أنه صاحب كتاب ، وعلى ذلك فمحمّد بن القاسم هذا مردد بين محمّد بن القاسم بن الفضيل ومحمّد بن القاسم بن المثنى ، وكلاهما ثقتان وثقهما النجاشي [ رجال النجاشي ٣٦٢ : ٩٧٣ ، ٣٧١ ، ١٠١٢ ] بناء على اتحاد محمّد بن القاسم بن المثنى مع محمّد بن المثنى بن القاسم كما استظهره سيِّدنا الأُستاد ( مدّ ظلّه العالي ) أيضاً [ معجم رجال الحديث ١٨ : ١٦٩ / ١١٦٢٨ ] وإن كان من القريب جدّاً أنه هو ابن الفضيل ، لوجود عدّة روايات عنه في الكتب الأربعة دون ابن المثنى فلم ترد عنه ولا رواية واحدة بهذا العنوان.


وأمّا المرور فيها بأن يدخل من باب ويخرج من آخر فلا بأس به (١)

______________________________________________________

تَغْتَسِلُوا ) ومعه تكون النسبة بين أدلّة حرمة المكث والدخول وبين هذه الصحيحة هي التباين ، حيث إنها دلّت على حرمة مكث الجنب ودخوله المسجد إلاّ أن يغتسل والصحيحة تدلّ على حرمة دخوله ومكثه فيه إلاّ أن يتوضأ وهما متباينان ، كما عن المحقِّق الهمداني قدس‌سره (١). مندفعة بأن الاغتسال ليس قيداً وغاية للحكم بحرمة المكث أو الدخول ، بل هو رافع لموضوع الجنابة ، فكأن الآية اشتملت على أن دخول الجنب ومكثه حرام في المسجد إلاّ أن يخرج عن الجنابة بالاغتسال ، فالحرمة فيها مطلقة ، ولا تعارض بينها وبين هذه الصحيحة النافية للحرمة على تقدير التوضؤ فلا تعارض بينهما.

وعن المحدّث الكاشاني حمل التوضؤ على معناه اللغوي وهو الاغتسال (٢). وفيه : أنه بعيد غايته ، فان ظاهر الصحيحة جواز النوم وهو جنب كجواز المرور في حالة الجنابة لا جوازه مع انتفاء الجنابة بالاغتسال ، وعليه فمقتضى القاعدة ما ذكرناه ، وإنما يمنعنا عن ذلك أن الصحيحة متروكة العمل عند الأصحاب على ما صرح به المحقق في معتبرة (٣) ، ولا عامل بها ولو واحداً من الأصحاب حتى الصدوق لعدم تقييده الحكم بالتوضؤ فلا تعارض بها الأخبار الدالّة على الحرمة ، بل نحملها على التقيّة لموافقتها مذهب الحنابلة وإسحاق حيث ذهبوا إلى جواز النوم في المسجد جنباً إذا توضأ كما في هامش الحدائق (٤) ، هذا كله في حرمة المكث في المساجد جنباً. بقي الكلام في جواز اجتيازه من المسجد فقد أشار إليه بقوله : وأما المرور إلخ.

مرور الجنب في المساجد‌

(١) قد استثني من حرمة دخول الجنب المسجد في صحيحة زرارة ومحمّد بن‌

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الطّهارة ) : ٢٣٣ / السطر ١.

(٢) الوافي ٦ : ٤٢٢.

(٣) المعتبر ١ : ١٨٩.

(٤) الحدائق ٣ : ٥١.


مسلم دخوله المسجد اجتيازاً ، بأن يدخل من باب ويخرج من باب آخر على وجه يصدق أنه جعل المسجد طريقاً ، فلا يجوز أن يدخل من باب واحد ويخرج منه بعينه أو يخرج من باب آخر على يمينه أو شماله حيث لا يصدق معه الاجتياز وجعل المسجد طريقاً ، قالا قلنا له : الحائض والجنب يدخلان المسجد أم لا؟ قال : الحائض والجنب لا يدخلان المسجد إلاّ مجتازين إن الله تبارك وتعالى يقول ( وَلا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) (١).

وفي جملة من الروايات الواردة استثني عنوان المرور كما في صحيحة جميل ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الجنب يجلس في المساجد؟ قال : لا ، ولكن يمرّ فيها كلها إلاّ المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٢) حيث استثنت مرور الجنب في مقابل الجلوس في المسجد ، وكذا في غيرها من الأخبار (٣) الواردة في المسألة.

ولا يبعد أن يكون المرور متحداً مع الاجتياز فلا يصدق المرور من المسجد إلاّ بجعله طريقاً ودخوله من باب وخروجه من باب آخر في مقابله ، وأما إذا دخل من باب واحد وخرج منه أو مما بيمينه أو يساره فلا يصدق عليه المرور والاجتياز.

وفي رواية واحدة استثني عنوان المشي في المسجد في مقابل الجلوس فيه وهي رواية جميل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « للجنب أن يمشي في المساجد كلّها ولا يجلس فيها إلاّ المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٤) والمشي غير الاجتياز والمرور ، فهذه الرواية معارضة للأخبار المتقدّمة إلاّ أنها ضعيفة السند بسهل بن زياد لعدم ثبوت وثاقته. على أنها لو كانت تامّة سنداً أيضاً لم تنهض في مقابل الأخبار المستثنية بعنوان الاجتياز والمرور ، وذلك لأن النسبة بين الروايتين المتعارضتين عموم من وجه ، وذلك لأن إحداهما تدلّ على حرمة الدخول بغير‌

__________________

(١) تقدّم ذكرها في ص ٣١٣.

(٢) ، (٣) تقدّم ذكرهما في ص ٣١١ ٣١٢.

(٤) الوسائل ٢ : ٢٠٦ / أبواب الجنابة ب ١٥ ح ٤.


وكذا الدخول بقصد أخذ شي‌ء منها فإنه لا بأس به (*) (١)

______________________________________________________

الاجتياز سواء كان هناك مشي أم لم يكن والأُخرى تدلّ على حرمته من غير مشي كان معه اجتياز أم لم يكن ، وتتعارضان فيما إذا كان دخله بالمشي ، فإنّ الأُولى تدلّ على حرمته والثانية على جوازه ، وفي موارد التعارض لا بدّ من الرجوع إلى المرجحات والترجيح مع الصحيحة لموافقتها الكتاب ، لأنه سبحانه استثنى عنوان العبور من المسجد بقوله ( إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ ) وهو عين الاجتياز والمرور ، ولم يستثن عنوان المشي في المساجد كما لعله ظاهر هذا.

ثمّ إن المرور لو كان صادقاً مع المشي وكان أمراً آخر وراء الاجتياز فالكلام فيه أيضاً هو الكلام في المشي ، لأن النسبة بين الاجتياز والمرور المتحد مع المشي عموم من وجه ، والترجيح مع الصحيحة لموافقتها الكتاب ، فانّ المستثنى فيه هو العبور الذي هو غير المشي والمرور المتّحد معه.

دخول المسجد جنباً بنيّة الأخذ‌

(١) لا إشكال في جواز أخذ الجنب وتناوله شيئاً من المسجد ، كما لا كلام في حرمة وضعه شيئاً فيه ، وذلك لصحيحة عبد الله بن سنان ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الجنب والحائض يتناولان من المسجد المتاع يكون فيه؟ قال : نعم ولكن لا يضعان في المسجد شيئاً » (٢) وصحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم المتقدّمة حيث ورد في ذيلها : « ويأخذان من المسجد ولا يضعان فيه شيئاً ، قال زرارة قلت : فما بالهما يأخذان منه ولا يضعان فيه؟ قال : لأنهما لا يقدران على أخذ ما فيه إلاّ منه ويقدران على وضع ما بيدهما في غيره » (٣) وحاصله : التعليل بالأمر المتعارف الغالبي وبيان‌

__________________

(*) فيه إشكال بل منع.

(١) الوسائل ٢ : ٢١٣ / أبواب الجنابة ب ١٧ ح ١.

(٢) الوسائل ٢ : ٢١٣ / أبواب الجنابة ب ١٧ ح ٢.


حكمة التفصيل بين الوضع والأخذ ، فان الجنب أو غيره لا يتمكن من أخذ متاعه الذي في المسجد إلاّ بالدخول فيه غالباً ، كما أنه وغيره متمكن غالباً من وضع متاعه في مكان آخر غير المسجد فلا يضطر إلى الدخول فيه. وكيف كان ، فهذان الحكمان ممّا لا كلام فيه.

وإنما البحث في أن الأخذ جائز في نفسه والوضع محرم كذلك أو أن الأخذ جائز لجواز الدخول بغاية الأخذ والوضع محرم لحرمة الدخول لغاية الوضع ، فالمحتمل أمران لا ثالث لهما ، فإما أن يكون الأخذ والوضع جائزاً ومحرماً في نفسه وذاته وإما أن يكون جائزاً ومحرماً من جهة استلزامهما الدخول.

فان قلنا إن حرمة الوضع وجواز الأخذ مستندان إلى أنفسهما فكما لا يجوز حينئذ الوضع في المسجد من غير الدخول فيه كذلك يحرم الأخذ بالدخول فيه للأخذ ، فإن جواز الأخذ لا يستلزم جواز الدخول ، وهما أمران فليس له أن يدخله لأخذ شي‌ء. وإذا قلنا إن حرمة الوضع وجواز الأخذ مستندان إلى استلزامهما الدخول فحينئذ يجوز الدخول في المسجد للأخذ والتناول كما يجوز وضع شي‌ء فيه من الخارج لا بالدخول ، لأن المحرّم هو الوضع بالدخول دون الوضع من غير الدخول.

مناقشة مع الماتن‌

ومن هنا تعرف أن ما ذكره الماتن قدس‌سره في هذه المسألة والمسألة الآتية من الحكم بجواز الدخول فيه بقصد أخذ شي‌ء والحكم بحرمة الوضع فيه ولو من غير الدخول فيه ، أمران متنافيان ، فان جواز الأخذ لو كان مستنداً إلى جواز الدخول بهذه الغاية فلا بدّ أن تستند حرمة الوضع أيضاً إلى حرمة الدخول بتلك الغاية من دون أن تكون حرمة أحدهما وجواز الآخر مستنداً إلى ذاتهما ونفسهما ، ومعه يجوز الوضع في نفسه وإنما يحرم بالدخول في المسجد. وإذا بنينا على أن حكمهما مستندين إلى ذاتيهما فالوضع في ذاته محرم والأخذ في نفسه مباح فحينئذ وإن صحّ الحكم بحرمة مطلق الوضع في المسجد إلاّ أنه لا يلائم الحكم بجواز الدخول لأخذ شي‌ء ، فان جواز‌


الأخذ حكم مترتب عليه في نفسه وهو غير مستلزم لجواز الدخول فيه ، فليأخذ الشي‌ء من غير دخول.

وعلى الجملة : الحكم بجواز الدخول لغاية الأخذ والحكم بحرمة الوضع أمران متنافيان ، فإما أن يحرم الوضع في نفسه ويجوز الأخذ أيضاً كذلك فلا وجه معه لجواز الدخول من جهة جواز الأخذ ، وإمّا أن يحرم الوضع لأجل الدخول ويجوز الأخذ أيضاً لأجله ، فحينئذ يجوز الدخول من جهة جواز الأخذ إلاّ أن الوضع لا يكون محرماً مطلقاً بل مع الدخول في المسجد فقط. هذا كله فيما يرد على الماتن قدس‌سره.

تحقيق في أصل المسألة‌

وأمّا تحقيق أصل المطلب فالصحيح أن حرمة الوضع وجواز الأخذ مستندان إلى ذاتيهما ، وذلك لأنه الظاهر من صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم (١) ، لأنه عليه‌السلام قد بيّن حكم الدخول قبل ذلك وأنه محرم إلاّ على نحو الاجتياز ثمّ بيّن جواز الأخذ وحرمة الوضع ، فمنه يظهر أن جواز الأخذ ليس من جهة جواز الدخول وكذا حرمة الوضع ليست مستندة إلى حرمة الدخول ، لتقدّم حكم الدخول حرمة وجوازاً فلا وجه لإعادته ، فليس حرمة أحدهما وجواز الآخر إلاّ مستندين إلى أنفسهما ، وبه يصح الحكم بحرمة الوضع مطلقاً وإن كان من غير دخول ، ولكن لا بدّ أيضاً من الحكم بحرمة الدخول وعدم جوازه لأجل الأخذ ، لأن جوازه غير مستند إلى جواز الدخول هذا.

ثمّ إن في رواية علي بن إبراهيم القمي عن الصادق عليه‌السلام أن « الحائض والجنب يضعان فيه الشي‌ء ولا يأخذان منه ، فقلت : ما بالهما يضعان فيه ولا يأخذان منه؟ فقال : لأنهما يقدران على وضع الشي‌ء فيه من غير دخول ولا يقدران على أخذ‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢١٣ / أبواب الجنابة ب ١٧ ح ٢.


والمشاهد كالمساجد (*) في حرمة المكث فيها (١).

______________________________________________________

ما فيه حتى يدخلا » (٢) وهي كما ترى عكس الأخبار المجوزة للأخذ والمحرمة للوضع في المسجد ، حيث دلّت على جواز الوضع وحرمة الأخذ معللة بأن الوضع في المسجد لا يستلزم الدخول فيه فلا يكون حراماً ، لأن المحرّم هو الدخول ، فليضع الشي‌ء فيه من الخارج ، إلاّ أنّ الأخذ منه لا يمكن بغير الدخول فيحرم لحرمة الدخول. وهي وإن كانت مؤكدة لما ذكرناه من أن جواز الأخذ لا يستلزم جواز الدخول في المسجد إلاّ أنها من جهة حكمها بجواز الوضع مخالفة لما قدّمناه. والذي يسهل الخطب أن الرواية مرسلة ولا ندري أن الواسطة أي شخص فلا تنهض حجّة في مقابل الأخبار المتقدِّمة.

إلحاق المشاهد بالمساجد‌

(١) هل المشاهد المشرفة تلحق بالمسجدين فيحرم المكث والمرور فيها ولو بعنوان الاجتياز ، أو أنها ملحقة بسائر المساجد فيحرم فيها المكث دون الاجتياز ، أو لا تلحق بهما ولا بسائر المساجد فلا مانع من المكث والاجتياز فيها؟ ذهب جماعة إلى إلحاقها بالمساجد لوجوه :

منها : أن روح المسجدية وحقيقتها التي هي شرافة المكان وكونه محلا للعبادة والتقرب إلى الله سبحانه متحققة في المشاهد على نحو أتم ، فيأتي فيها أحكام المسجد من حرمة المكث وغيرها لا محالة. وفيه : أن حرمة المكث والدخول تترتب في ظواهر الأدلّة على عنوان المسجد لا على معنى المسجد وروحه ، فتسرية أحكام المسجد إلى ما فيه روحه وحقيقته يحتاج إلى دليل.

ومنها : أن ترك مكث الجنب ودخوله فيها من تعظيم شعائر الله وقد قال الله‌

__________________

(*) على المشهور الموافق للاحتياط.

(١) الوسائل ٢ : ٢١٣ / أبواب الجنابة ب ١٧ ح ٣.


سبحانه إن تعظيمها من تقوى القلوب (١). ويدفعه : أن التعظيم بما له من المراتب المختلفة مما لا دليل على وجوبه ، نعم هو مستحب ، وإنما يحرم الهتك فقط ، فإذا لزم من دخول الجنب ومكثه في المشاهد هتك فنلتزم بحرمته وبذلك يتصف تعظيمها بالوجوب ولكن بالعرض والمجاز ، فإن الحرمة متعلقة بالهتك وتركه يستلزم التعظيم والهتك قد يكون وقد لا يكون ، بل ربّما يكون دخول الجنب المشاهد مصداقاً للتعظيم والإجلال ، كما إذا كان الوقت ضيقاً ولم يتمكن المسافر من الاغتسال لخروج القافلة ونحوه فدخل للزيارة وهو جنب ، فإنه في الحقيقة تعظيم وليس من الهتك في شي‌ء.

ومنها : الأخبار الناهية عن دخول الجنب بيوت الأنبياء ، منها : ما عن جابر الجعفي عن علي بن الحسين عليه‌السلام أنه « قال : أقبل أعرابي إلى المدينة فلما قرب المدينة خضخض ودخل على الحسين عليه‌السلام وهو جنب ، فقال له : يا أعرابي أما تستحيي الله تدخل على إمامك وأنت جنب ، ثمّ قال : أنتم معاشر العرب إذا خلوتم خضخضتم ... » الحديث (٢) وغيره من الروايات الضعاف والمرسلة (٣). والعمدة فيها روايتان :

إحداهما : صحيحة محمّد بن الحسن الصفار في بصائر الدرجات عن أبي طالب يعني عبد الله بن الصلت عن بكر بن محمّد ، قال : « خرجنا من المدينة نريد منزل أبي عبد الله عليه‌السلام فلحقنا أبو بصير خارجاً من زقاق وهو جنب ونحن لا نعلم حتى دخلنا على أبي عبد الله عليه‌السلام قال : فرفع رأسه إلى أبي بصير فقال : يا أبا محمّد أما تعلم أنه لا ينبغي لجنب أن يدخل بيوت الأنبياء؟ قال : فرجع أبو بصير ودخلنا » (٤).

الثانية : هي هذه الرواية التي رواها الحميري في قرب الإسناد عن أحمد بن‌

__________________

(١) هذا مضمون ما في سورة الحج ٢٢ : ٣٢.

(٢) الوسائل ٢ : ١٩٣ / أبواب الجنابة ب ٧ ح ٢٤ ، ٢١٢ / أبواب الجنابة ب ١٦ ح ٤.

(٣) الوسائل ٢ : ٢١١ / أبواب الجنابة ب ١٦ ، فان جميعها مذكورة فيها.

(٤) الوسائل ٢ : ٢١١ / أبواب الجنابة ب ١٦ ح ١. بصائر الدرجات : ٢٦١.


إسحاق عن بكر بن محمّد الأزدي (١). فقد دلّتنا هذه الأخبار على أن دخول الجنب المشاهد محرّم ، إذ لا فرق بين أحيائهم وأمواتهم.

ويتوجّه على الاستدلال بهذه الأخبار أن ما كانت دلالته منها تامّة على المدعى ضعيفة السند كرواية الجعفي والمفيد وعلي بن عيسى في ( كشف الغمة ) والكشي في رجاله (٢) ، فإنّ النهي فيها عن دخول الجنب على الإمام عليه‌السلام أو بيوت الأنبياء أو غضبه عليهم‌السلام وإن كان ظاهراً في حرمة دخول الجنب على الإمام عليه‌السلام إلاّ أنها ضعاف بالإرسال. وما كان بحسب السند معتبراً كالروايتين المتقدّمتين غير تامّة بحسب الدلالة ، وذلك لأنه بناءً على أن كلمة « لا ينبغي » ظاهرة في الكراهة كما هو المعروف بينهم فعدم دلالتهما على الحرمة في غاية الوضوح ، وأما بناءً على ما استظهرناه من أنها بمعنى لا يتيسر ولا يتمكن وأن معنى لا ينبغي لك أي لا تتمكن منه ، وحيث إنه متمكن منه تكويناً فتكون ظاهرة في عدم التمكن شرعاً وتشريعاً وهو معنى الحرمة. فالروايتان في نفسيهما وإن كانتا ظاهرتين في الحرمة إلاّ أن هناك قرينتين على عدم إرادة ظاهر تلك اللفظة في خصوص الروايتين :

إحداهما : أن أبا بصير إنما كان بصدد الاختبار كما شهد به بعض الأخبار الواردة في المسألة أعني رواية كشف الغمة ، حيث صرح فيها أبو بصير بكونه بصدد الامتحان والاختبار ، وكان الإمام عليه‌السلام في مقام الإعجاز والإخبار عن أمر واقعي ولم يكن بصدد بيان الحرمة والحلية ، فقوله : « لا ينبغي » وهو في هذا المقام لا يلائم أدنى مرتبة الكراهة فضلاً عن الكراهة التامّة فلا نستفيد منها الحرمة بتلك القرينة ، حيث يحتمل إرادة الكراهة منها حينئذ لعدم منافاتها مع كلمة لا ينبغي.

وثانيتهما : أنا نقطع بدخول الجنب على الأئمة عليهم‌السلام في أسفارهم ومجالسهم العامّة كجلوسهم في الأعياد وغيرها ، للعلم الوجداني بعدم خلو جميعهم‌

__________________

(١) المصدر المتقدّم ، كذا قرب الاسناد : ٤٣ / ١٤٠.

(٢) راجع الوسائل ٢ : ٢١١ / أبواب الجنابة ب ١٦ ، فان جميعها مذكورة فيها ، الإرشاد ٢ : ١٨٥ ، كشف الغمّة ٢ : ١٨٨ ، رجال الكشي : ١٧٠ / ٢٨٨.


عن الجنابة ، لعدم مبالاة أكثر الناس بالدين أو من باب المصادفة ونحوها ، ومع هذا كلّه لم يرد في شي‌ء من الأخبار ولا سمعنا أحداً يقول إن الإمام أمر بخروج أحد أو منع أحداً عن الدخول لأنه جنب ، ولم يرد ذلك إلاّ فيما رووه عن أبي بصير. ومن الواضح أن ذلك لو كان محرماً لشاع وذاع وانتشر ووصلنا بالتواتر وشبهه لكثرة ابتلاء الناس بذلك ، ولما انحصرت الرواية بأبي بصير ، وهذه أيضاً قرينة على عدم حرمة الدخول على الأئمة جنباً وبذلك تحمل الرواية على الكراهة.

نعم لو قلنا بحرمته وتمّت دلالة الأخبار وسندها لم يمكن المناقشة في ذلك بالنقض بأزواجهم وأولادهم وجواريهم وخدمهم ، حيث إنهم في بيوت الأئمة عليهم‌السلام وكانوا يحتلمون أو يجنبون يقيناً ولم يرد في رواية أمرهم بإخراج الجنب منهم عن البيت ومنعه عن الدخول فيه. والوجه في عدم ورود النقض بذلك أن المحرّم على ما يستفاد من الروايات دخول الجنب من الخارج عليهم أو في بيوتهم ، وأما من صار جنباً في بيتهم عليهم‌السلام فهو ممن لا تشمله هذه الأخبار قطعاً. ولكنك عرفت أن الأخبار غير تامّة أمّا سنداً وإمّا بحسب الدلالة فلا دليل على حرمة دخول الجنب المشاهد المشرفة هذا كلّه.

مضافاً إلى أن المحرّم إنما هو الدخول في بيت الأنبياء وأولادهم من الأئمة الأطهار عليهم‌السلام فإنهم أولاد النبي فبيتهم بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فانّ هذا هو المستفاد من الأخبار الواردة في المسألة ، وظاهر هذا العنوان إرادة ما هو بيت مضاف إلى النبي أو الأئمة بالفعل ، ونعني بذلك أن يكون البيت مضافاً إليهم إضافة ظرفية بأن يكون البيت ظرفاً لوجودهم بالفعل ، لوضوح عدم كفاية الإضافة الملكية في ذلك حيث إن الإمام إذا كان له بيت استأجره أحد لا يمكن منع المستأجر عن دخوله الدار المستأجرة من جهة أنها دار الصادق عليه‌السلام مثلاً ، فلا محيص من إرادة الإضافة الظرفية وأن البيت الذي هو ظرف لوجوده عليه‌السلام يحرم أن يدخل فيه الجنب وذلك من جهة وجوده لا لأجل البيت ، ومن هنا ورد في قضية الأعرابي : « تدخل على إمامك وأنت جنب ». فإذا كان الأمر كذلك فلا تشمل الأخبار المشاهد‌


المشرفة بوجه ، وذلك لعدم كونها ظرفاً لوجودهم بل ظرفاً لزيارتهم والعبادة فيها ولا يُقال إنها بيت فيه الإمام بل هي بيت دفن فيه الإمام. وكون أمواتهم كاحيائهم مرزوقون عند ربّهم وإن كان صحيحاً إلاّ أن الحكم مترتب على عنوان لا يشمل ذلك العنوان البيوت التي دفنوا فيها ، حيث لا تضاف البيوت إليهم إضافة ظرفية لوجودهم ولا يُقال إنها بيت فيه الإمام بل إنها بيت فيه قبره عليه‌السلام.

فتحصل : أن الأخبار أيضاً كالوجهين السابقين ولا دلالة فيها على حرمة دخول الجنب المشاهد ، ولا سيما أن الجنب في بعضها كان جنباً عن الحرام والاستمناء ، كما في رواية جابر الجعفي المشتملة على قضية الأعرابي ، ويحتمل أن يكون منعه عليه‌السلام ناظراً إلى تلك الجهة لا إلى جهة حرمة دخول مطلق الجنب. هذا ولكنه مع ذلك لا يمكن الجزم بالجواز ، لذهاب جماعة إلى الحرمة ، ولكن الحرمة لو تمّت وثبتت تختص بالحرم ولا تعمّ الرواق ، لعدم كونه بيتاً فيه الإمام أو فيه قبره وإنما هو بيت محيط بذلك البيت.

ثمّ إن ظواهر الأخبار على تقدير تماميتها أن طبيعي دخول الجنب بيوت الأنبياء مبغوض محرم بلا فرق في ذلك بين المكث والاجتياز ، فيكون حالها حال المسجدين لا كسائر المساجد ، فلو كانت الأخبار تامّة لزمنا الحكم بحرمة مطلق الدخول ولو كان على نحو الاجتياز ، فما عن صاحب الحدائق قدس‌سره من أن منعه عليه‌السلام لعله كان مستنداً إلى علمه بلبث أبي بصير ومكثه عنده (١) ممّا لا وجه له ، حيث إن علمه الخارجي بلبث أحد لا يقتضي الحكم بالحرمة على نحو الإطلاق.

كما أنّ دخول الجنب المشاهد المشرفة لو كان مستلزماً للهتك لحرم بلا كلام ، سواء تمّت الأخبار المتقدّمة دلالة وسنداً أم لم تتم ، بل الهتك في المشاهد أعظم من الهتك في‌

__________________

(١) الحدائق ٣ : ٥٤.


الرّابع : الدخول في المساجد بقصد وضع شي‌ء فيها بل مطلق الوضع فيها وإن كان من الخارج أو في حال العبور (١). الخامس : قراءة سور العزائم وهي سورة اقرأ والنّجم والم تنزيل وحم السجدة ، وإن كان بعض واحدة منها (٢) ، بل البسملة أو‌

______________________________________________________

المساجد ، لأن الهتك في المشاهد إنما هو بعنوان كونها مزاراً ومعبداً فيوجب هتكها هتك المعابد كلّها حتى المساجد لأنها مما ينطبق عليه عنوان المعابد.

الرّابع من المحرّمات : دخول المسجد بقصد الوضع‌

(١) قدّمنا أن الوضع محرّم في نفسه لا من جهة حرمة الدخول (١) ، فلو وضع فيه شيئاً من الخارج ارتكب محرماً ، كما لا محالة أنه لو وضعه فيه بالدخول ارتكب محرّمين ، ولكن الأخذ جائز. والفارق ما ورد في النصوص من أن الجنب لا يتمكّن من أخذ ما في المسجد إلاّ من المسجد ولكنه يتمكّن من الوضع في غير المسجد (٢). وقد نقل العلاّمة (٣) وصاحب مفتاح الكرامة (٤) عن سلاّر القول بكراهة الوضع في المساجد ، والظاهر أن مخالفته إنما هي في حرمة الوضع ، وما تقدّم نقله من بعضهم عن سلاّر من ذهابه إلى كراهة مكث الجنب في المساجد لعلّه اشتباه.

الخامس من المحرّمات : قراءة العزائم‌

(٢) هل يحرم على الجنب قراءة آية السجدة فحسب ولا مانع من قراءته لغيرها من الآيات أو يحرم عليه كل بعض من السور حتى البسملة بقصد إحداها بل بعض البسملة أيضا؟

__________________

(١) في ص ٣١٩.

(٢) راجع الوسائل ٢ : ٢١٣ / أبواب الجنابة ب ١٧.

(٣) المختلف ١ : ١٧١ / ١١٧.

(٤) مفتاح الكرامة ١ : ٣٢٤.


بعضها بقصد إحداها على الأحوط ، لكن الأقوى اختصاص الحرمة بقراءة آيات السّجدة منها.

______________________________________________________

قد ورد في جملة من الأخبار أن الجنب والحائض والنفساء يقرءون القرآن إلاّ السّجدة (١). والسجدة إمّا أن نقول بظهورها في كونها اسماً للآية فحسب بقرينة ما ورد من : الحائض تسمع السجدة أو المصلِّي لا يقرأ السّجدة ، حيث أُريد بهما نفس الآية المباركة ، فعليه فالأمر واضح ، حيث تختص الحرمة بقراءة الآية فقط ولا تعم قراءة البسملة أو غيرها من أجزاء السور الأربع. وإما أن نقول بأنها على معناها اللغوي وحيث لا معنى لاستثناء السجدة عن القراءة لأنها فعل من الأفعال وأمر غير قابل للقراءة فلا مناص من أن يقدر فيها شي‌ء ، وهو إما أن تكون كلمة السورة أي إلاّ سورة السجدة وإما أن تكون كلمة الآية أي إلاّ آية السجدة ، وحيث إنه لا قرينة على تعينها فتصبح الرواية مجملة ، ولا مناص من الأخذ بالمقدار المتيقن منها وهو خصوص الآية ، ويرجع في غيرها إلى إطلاق ما دلّ على أن الجنب يقرأ القرآن أو إلى الأصل ، والنتيجة اختصاص حرمة القراءة على الجنب بخصوص الآية دون غيرها من أجزاء سور العزائم هذا.

ولكن المحقق (٢) روى عن البزنطي في كتابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه يجوز للجنب والحائض أن يقرءا ما شاءا من القرآن إلاّ سور العزائم الأربع وهي اقرأ باسم ربّك والنجم وتنزيل السجدة وحم السجدة ، وقال بعد ذلك : روى ذلك البزنطي في جامعه عن المثنى عن الحسن الصّيقل (٣). وهذه الرواية لو تمّت سنداً ودلالة لكانت مبيّنة لإجمال الروايات المتقدّمة ودالّة على أن المراد بالسجدة هو سورة السّجدة ، إلاّ أنها غير تامّة سنداً ، لأنّ المثنّى بن الوليد وإن أمكن أن يقال بحسنه وإدراجه في‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢١٥ / أبواب الجنابة ب ١٩ ح ٤ ، ٧ ، ١١.

(٢) المعتبر ١ : ١٨٧.

(٣) الوسائل ٢ : ٢١٨ / أبواب الجنابة ب ١٩ ح ١١.


[٦٥٢] مسألة ١ : من نام في أحد المسجدين واحتلم أو أجنب فيهما (١) أو في‌

______________________________________________________

الحسان ، لما حكاه الكشي عن علي بن الحسن بن فضال من أنه لا بأس به (١) إلاّ أن حسن الصيقل ممّن لم يرد توثيقه في شي‌ء من الكتب فالرواية ضعيفة لا محالة.

ودعوى أن البزنطي من أصحاب الإجماع حيث أجمعوا على تصحيح ما يصحّ عنه فلا ينظر إلى من وقع بعده في سلسلة السند ، من الدعاوي لا مثبت لها ، وغاية الأمر أن يقال إنّ رواية البزنطي عن المثنى تدلّ على توثيقه وأما أن الحسن الصيقل أيضاً تعتبر روايته فهو ممّا لا دليل عليه ، هذا كلّه.

مضافاً إلى أنّ دلالتها أيضاً قابلة للمناقشة ، وذلك لأنّ السورة ليست كالقرآن فإنه كلفظة الماء له إطلاقان ، فقد يطلق ويراده به الجميع وأُخرى يطلق ويراد به البعض فان كل قطعة من كل آية قرآن ، فهو اسم للطبيعي النازل من الله سبحانه يطلق على كل جزء. وأمّا السورة فهي اسم لمجموع الآيات ولا يطلق على البعض. فالرواية على تقدير اعتبارها إنما تدلّ على حرمة قراءة المجموع وأما حرمة قراءة البعض منها فلا ، ومعه يصح استثناء قراءة خصوص الآية ، حيث يمكن أن تكون حرمة قراءة السورة مستندة إلى حرمة قراءة خصوص تلك الآية ، كما هو الحال فيما ورد من نهي قراءة المصلِّي العزائم لما فيها من السجدة ، لأن الحرمة في قراءة المصلِّي مستندة إلى خصوص تلك الآية لا أن المحرّم هو المجموع.

فالمتحصل : أن ما أفاده الماتن قدس‌سره من حرمة قراءة خصوص الآية على الجنب وفاقاً لغيره من الفقهاء هو الصحيح.

من احتلم أو أجنب في أحد المسجدين‌

(١) إذا نام في أحد المسجدين واحتلم وجب عليه التيمم للخروج. وهذا متسالم عليه بين الأصحاب قدس‌سرهم ولم ينقل فيه خلاف إلاّ عن ابن حمزة في‌

__________________

(١) رجال الكشي : ٣٣٨ / ٦٢٣.


الخارج ودخل فيهما عمداً أو سهواً أو جهلاً وجب عليه التيمم للخروج ، إلاّ أن يكون زمان الخروج أقصر من المكث للتيمم فيخرج من غير تيمم أو كان زمان الغسل فيهما مساوياً أو أقل من زمان التيمم فيغتسل حينئذ.

______________________________________________________

الوسيلة حيث جعل التيمم حينئذ ندبا (١). ويدلّ على وجوب التيمم صحيحة أبي حمزة قال « قال أبو جعفر عليه‌السلام : إذا كان الرجل نائماً في المسجد الحرام أو مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فاحتلم فأصابته جنابة فليتيمم ولا يمرّ في المسجد إلاّ متيمماً ، ولا بأس أن يمرّ في سائر المساجد ، ولا يجلس في شي‌ء من المساجد » (٢) ورواه الشيخ بإسناد صحيح (٣). ولم يظهر الوجه فيما نسب إلى ابن حمزة قدس‌سره في وسيلته مع دلالة النص الصحيح على وجوب التيمم. وكيف كان ، فالمسألة مما لا إشكال فيه وإنما الكلام في خصوصيات المسألة وجهاتها.

عدم اختصاص الحكم بالنوم والاحتلام في المسجدين‌

الجهة الأُولى : هل يختص وجوب التيمم بمن نام في المسجدين واحتلم أو يعمّ كل من كان جنباً في المسجدين ولو بغير النوم والاحتلام ، كما إذا أجنب نفسه في المسجدين أو كان جنباً فدخلهما عصياناً أو غفلة ونسياناً؟ الظاهر المستفاد من الصحيحة بحسب المتفاهم العرفي ولو بمناسبة الحكم والموضوع أن وجوب التيمم حكم لطبيعي الجنابة في المسجدين من دون اختصاصه بالنوم والاحتلام. ويؤيده ما في ذيل الصحيحة « ولا يمرّ في المسجد إلاّ متيمماً ، ولا بأس أن يمرّ في سائر المساجد ولا يجلس في شي‌ء من المساجد » لأنها من أحكام مطلق الجنب دون خصوص المحتلم بالنوم.

__________________

(١) الوسيلة : ٧٠.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٠٦ / أبواب الجنابة ب ١٥ ح ٦.

(٣) التهذيب ١ : ٤٠٧ / ١٢٨٠.


هل الحكم تعبّدي في المسجدين؟

الجهة الثانية : هل وجوب التيمم حكم تعبدي ثبت للجنب في المسجدين سواء كان متمكناً من الاغتسال فيهما من دون استلزامه تلويث المسجدين وتنجيسهما أم لم يكن ، أو أنه حكم ثابت له على القاعدة فلا محالة يختص بمن لم يتمكن من الاغتسال فيهما من غير تنجيسهما؟ والتحقيق هو الثاني ، وذلك لأن التيمم حكم المضطر ، ولا اضطرار للجنب مع التمكن من الغسل في المسجدين من دون أن يستلزم ذلك تنجيس المسجدين وتلويثهما ، ولا سيما إذا كان زمان الاغتسال مساوياً مع زمان التيمم أو أقصر. وإنما حكم في الصحيحة بوجوب التيمم مطلقاً من جهة أن الغالب في تلك الأزمنة عدم تمكن المكلّف من الغسل في المسجدين من غير استلزامه تنجيسهما وتلويثهما ، إذ لم يكن فيهما حوض ولا الأنابيب الدارجة اليوم ، فمع التمكّن من الغسل لا يجب عليه التيمم بل لا يسوغ.

هل الحكم يتمّ ما إذا كان زمان التيمم أكثر؟

الجهة الثالثة : هل الحكم بوجوب التيمم يعمّ ما إذا كان زمان التيمم أكثر من زمان الخروج ، كما إذا كان نائماً خلف باب المسجدين ، فإنه يتمكن من الخروج عنهما في دقيقة واحدة ولكنّه لو تيمم طال ذلك دقيقتين أو أكثر ، أو يختص بما إذا كان زمان التيمم أقصر من زمان الخروج وإلاّ فلا يجب عليه التيمم بل لا يسوغ؟

مقتضى الجمود على ظاهر الصحيحة عدم الفرق بين الصورتين ، إلاّ أن الصحيح عدم جوازه عند كون زمانه أكثر من زمان الخروج ، وذلك لأنّا إذا فرضنا زمان الخروج دقيقة واحدة مثلاً وزمان التيمم دقيقتين ، فالمكلف بالإضافة إلى الدقيقة الواحدة المشتركة بين التيمم والخروج مضطر إلى البقاء في المسجدين جنباً فلا إشكال في جواز بقائه فيها كذلك للاضطرار ، وأمّا الدقيقة الثانية التي يستلزمها التيمم فلا اضطرار له إلى البقاء فيها في المسجدين ، إذ له أن يخرج جنباً ، وهو لا يستلزم غير الكون فيهما دقيقة واحدة فما المسوغ لبقائه فيهما في الدقيقة الثانية جنبا.


اللهمّ إلاّ أن يدعى أن حرمة الخروج والاجتياز جنباً أهم عند الشارع من حرمة المكث فيهما جنباً ، فمن هذا جاز له المكث فيهما جنباً في الدقيقة الثانية لئلا يرتكب المحرّم الأهم أعني الاجتياز والخروج عنهما وهو جنب. ولكن يرده أنّا لو لم ندع أهميّة حرمة المكث فيهما جنباً من حرمة الاجتياز والخروج عنهما في حالة الجنابة بملاحظة حال سائر المساجد ، إذ نرى أن مكث الجنب فيها محرم واجتيازه عنها غير محرم وهذا كاشف عن أهميّة حرمة المكث من حرمة الخروج والاجتياز فلا أقل يمكننا أن لا ندعي أهميّة حرمة الاجتياز من حرمة المكث جنباً ، وعليه فلا يجب عليه التيمم حينئذ ، بل لا يجوز لأنه مكث في المسجدين جنباً من غير ضرورة إليه.

إذا كان زمان التيمم والخروج متساويين‌

الجهة الرابعة : إذا كان زمان التيمم والخروج متساويين من حيث الطول والقصر فهل يجب عليه التيمم حينئذ للخروج ، أو أنه يتخير بينه وبين الخروج من غير تيمم؟ قد يقال بوجوب التيمم أخذاً بظاهر الصحيحة وجموداً على ظاهرها ، وقد يقال بالتخيير لأنه مضطر إلى البقاء في المسجدين بمقدار دقيقة واحدة مثلاً ، سواء خرج من غير تيمم أو تيمم فيهما لتساوي زمانهما ، وحيث أن طرفي الاضطرار على حدّ سواء فيحكم بتخيير المكلّف بينهما.

والصحيح لا هذا ولا ذاك ، بل يتعين عليه الخروج من غير تيمم ، وذلك لأنه وإن كان مضطراً إلى البقاء دقيقة واحدة إلاّ أنه إذا خرج في تلك الدقيقة فهو ، وأما إذا لم يخرج وتيمم في تلك الدقيقة فهو بعدها يحتاج إلى دقيقة ثانية حتى يخرج فيها عن المسجدين ، وهو مكث أو اجتياز في المسجدين جنباً وهو حرام. والتيمم غير مسوغ في حقه لأنه وظيفة المضطر ولا اضطرار له إلى التيمم ليكفيه في الدقيقة الثانية ، إذ له أن يخرج في الدقيقة الأُولى عن المسجدين من غير حاجة إلى التيمم في ذلك ، والتيمم من غير ضرورة غير مسوغ للاجتياز ، ومن هنا لو كان جنباً في خارج المسجد لم يكن له أن يتيمم ويجتاز عنهما ، إذ لا ضرورة له إلى الاجتياز ، والأمر في المقام أيضاً‌


وكذا حال الحائض والنفساء (*) (١).

______________________________________________________

كذلك فإنه لا اضطرار له إلى التيمم حتى يكفيه في الدقيقة الثانية ، نعم لو تيمم اضطر في الدقيقة الثانية إلاّ أنه اضطرار حاصل بسوء الاختيار ، إذ كان له أن يخرج في الدقيقة الاولى. وتعجيز النفس متعمداً أمر غير سائغ بل مفوت للغرض ، نظير اضطرار من توسط في الدار المغصوبة إلى الخروج عنها فإنه اضطرار نشأ من سوء اختياره.

فالمتحصل : أن الخروج جنباً هو المتعيّن في المسألة هذا كلّه. مضافاً إلى ما قدّمناه من عدم احتمال أهميّة حرمة الخروج والاجتياز جنباً من حرمة المكث فيهما جنباً ، بل الثانية أهم ، ولا أقل من تساويهما ومعه لا يبقى مجال للتخيير ، فان تيممه معجز ومفوت للغرض ، وليست حرمة الخروج جنباً أهم من حرمة المكث كذلك فيتعيّن عليه الخروج جنبا.

حكم الحائض والنفساء‌

(١) قد يقع الكلام في من له حدث الحيض أو النفاس مع انقطاع دمها بالفعل ، كما إذا حاضت وبعد انقطاع دمها دخلت المسجدين أو طرأ عليها النفاس في دقيقة واحدة فإن أقل النفاس لا حدّ له وارتفع أي انقطع دمها ، وأُخرى يتكلّم في الحائض والنفساء مع جريان دمهما من غير انقطاع.

أمّا إذا انقطع دمهما فلا ينبغي الإشكال في أن حكمهما حكم الجنب فيجب عليهما التيمم والخروج عن المسجدين. ويدلّ عليه صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قالا قلنا له : الحائض والجنب يدخلان المسجد أم لا؟ قال : الحائض والجنب لا يدخلان المسجد إلاّ مجتازين ، إن الله تبارك وتعالى يقول : ( وَلا

__________________

(١) هذا بعد انقطاع الحيض والنفاس ، وأمّا قبله فيجب عليهما الخروج فوراً بلا تيمم ، وأمّا المرفوعة الآمرة بتيمم من حاضت في المسجد فهي لضعف سندها لا تصلح لإفادة الاستحباب أيضاً حتى بناء على قاعدة التسامح.


جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) (١) حيث استشهد بالآية الواردة في الجنب على حرمة مكث الحائض ودخولها في المسجد ، فمنه يظهر أن الجنابة لا اختصاص لها في الأحكام المتقدِّمة ، وإلاّ لم يكن وجه للاستشهاد بالآية على حرمة دخول الحائض المسجد ، فيجب عليها التيمم والخروج من المسجدين على التفصيل المتقدّم في الجنب. هذا كلّه في الحائض.

وأما النفساء فلم يرد في حرمة دخولها المسجد أو في وجوب تيممها للخروج إذا نفست في المسجدين رواية ، إلاّ أن الإجماع القطعي قام على أن النفساء حكمها حكم الحائض فيجب عليها ما يجب على الحائض ، فيجب أن تتيمم في المسجدين للخروج إذا نفست في المسجدين. ويمكن الاستئناس لوحدة حكمهما بما ورد من أن النفاس حيض محتبس وخرج بعد احتباسه (٢) وهذا ليس برواية في نفسه ، وإنما استفيد ممّا ورد في حيض الحامل من أن حيضها يحبس لرزق ولدها (٣) كما ذكره الهمداني قدس‌سره (٤) ، وما ورد في أن حكم الحائض حكم النفساء (٥) ، وما ورد في قصة أسماء بنت عميس حيث نفست في سفرها وأمرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن تعمل عمل الحائض. ومورد الاستدلال روايتان :

إحداهما : موثقة إسحاق قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحائض تسعى بين الصفا والمروة ، فقال : إي لعمري قد أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أسماء بنت عميس فاغتسلت واستثفرت وطافت بين الصفا والمروة » (٦) إذ لو لم يكن‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٠٧ / أبواب الجنابة ب ١٥ ح ١٠.

(٢) ما وجدنا رواية بعين هذه الألفاظ. ويمكن استفادة مضمونها من الوسائل ٢ : ٣٣٣ / أبواب الحيض ب ٣٠ ح ١٢ ، ١٣. وذكرت الأخيرة أيضاً في المستدرك عن الجعفريات ٢ : ٢٥ / أبواب الحيض ب ٢٥ ح ٧ ، ٢ : ٤٨ / أبواب النفاس ب ٢ ح ١.

(٣) الوسائل ٢ : ٣٣٣ / أبواب الحيض ب ٣٠ ح ١٣ ، ١٤.

(٤) مصباح الفقيه ( الطّهارة ) : ٣٤٣ / السطر ٢٢.

(٥) الوسائل ٢ : ٣٧٣ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٥.

(٦) الوسائل ١٣ : ٤٦٠ / أبواب الطواف ب ٨٩ ح ٣.


حكم الحائض متحداً مع حكم النفساء لم يكن وجه للجواب بجواز السعي على النفساء عند السؤال عن جوازه للحائض ، فإنّ أسماء إنما كانت نفساء لا حائضا.

ثانيتهما : صحيحة عيص بن القاسم ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المستحاضة تحرم ، فذكر أسماء بنت عميس فقال : إن أسماء بنت عميس ولدت محمّداً ابنها بالبيداء وكان في ولادتها بركة للنساء لمن ولدت منهنّ ، أن طمثت فأمرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاستثفرت وتمنطقت بمنطق وأحرمت » (١). فلو لم يكن حكم المستحاضة والحائض هو حكم النفساء بعينه لم يكن لبيان حكم النفساء عند السؤال عن حكم المستحاضة ولا لكون ولادة أسماء التي هي النفساء بركة على من طمثت أي حاضت من النساء وجه صحيح.

وأمّا إذا لم ينقطع دمهما فقد ورد في رواية أبي حمزة المروية بطريق الكليني في الكافي : « وكذلك الحائض إذا أصابها الحيض تفعل ذلك » (٢) بعد الحكم بأن من نام في المسجدين واحتلم يتيمم لخروجه. إلاّ أنها مرفوعة حيث رفعها محمّد بن يحيى إلى أبي حمزة. وأمّا روايته الصحيحة التي رواها الشيخ قدس‌سره فهي غير مشتملة على جملة « وكذلك الحائض إذا أصابها الحيض » على ما قدّمنا نقلها في أوّل المسألة فليراجع (٣) ، ومن هنا لا يمكن الاعتماد عليها في المقام ، وبما أن عمل الأصحاب لم يجر على إلحاق الحائض بالجنب في ذلك فلا مجال لدعوى انجبار ضعفها بعملهم. والتيمم وإن كان رافعاً للحدث عند الاضطرار إلاّ أنّ المورد ممّا لا يرتفع فيه الحدث بالاغتسال فضلاً عن التيمم ، وذلك لأن المفروض جريان دمها وعدم انقطاعه ومعه لا فائدة في الغسل فضلاً عن التيمم ، فاللاّزم حينئذ وجوب الخروج عليهما في الفور ولا مرخص لابطائهما بقدر التيمم في المسجدين هذا.

وذهب بعضهم إلى استحباب التيمم عليهما بقاعدة التسامح في أدلّة السنن فحكموا‌

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٤٠٢ / أبواب الإحرام ب ٤٩ ح ٢.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٠٥ / أبواب الجنابة ب ١٥ ح ٣. الكافي ٣ : ٧٣ / ١٤.

(٣) ص ٣٢٨.


[٦٥٣] مسألة ٢ : لا فرق في حرمة دخول الجنب في المساجد بين المعمور منها والخراب وإن لم يصلّ فيه أحد ولم يبق آثار مسجديته (١) ، نعم في مساجد الأراضي المفتوحة عنوة إذا ذهب آثار المسجديّة بالمرّة يمكن القول (*) بخروجها عنها ، لأنها تابعة لآثارها وبنائها (٢).

______________________________________________________

باستحبابه في حقهما. ولا يخفى فساده ، فإن قاعدة التسامح مما لم يثبت بدليل صحيح مضافاً إلى أنّا لو قلنا به فالمورد غير قابل له ، فان المكث للمحدث في المسجدين محرم في نفسه ولو بمقدار زمان التيمم ، فلو ورد في مثله رواية ضعيفة باستحبابه ساعة معيّنة مثلاً لم يمكننا رفع اليد عن دليل الحرمة بتلك الرواية الضعيفة ، إذ لا يمكن الخروج عن الحكم الإلزامي إلاّ بدليل معتبر ، فلو ورد في رواية ضعيفة أن شرب الخمر في وقت كذا محلل سائغ مثلاً ، لم يسعنا تصديقها والحكم باستحباب شربها تسامحاً في أدلّة السنن. فالصحيح أنهما لا بدّ أن يخرجا من المسجد من غير تيمم.

التسوية في المساجد بين المعمور منها والخراب‌

(١) لأن الحكم إنما يترتب على عنوان المسجد ولم يترتب على عنوان المعمور أو غيره ، فالعمارة وغيرها مما لا مدخلية له في الحكم بحرمة الدخول ، نعم ذكرنا في أحكام تنجيس المساجد أن عنوان المسجد إذا زال وتبدل عنواناً آخر بحيث لم يصدق أن المكان مسجد بالفعل لأنه بالفعل جادة أو نهر أو بحر أو حانوت مثلاً وإنما يقال إنه كان مسجداً سابقاً لم يترتب عليه شي‌ء من أحكام المساجد ، لعدم بقاء موضوعه وعنوانه ، والأحكام إنما تترتب على عنوان المسجد وهو غير متحقق على الفرض ، فترتفع أحكامه أيضاً لأنها تابعة لتحقق موضوعاتها.

حكم المساجد في الأراضي المفتوحة عنوة‌

(٢) ما أفاده قدس‌سره إنما يتمّ في الأملاك الشخصيّة في الأراضي المفتوحة‌

__________________

(*) لكنه ضعيف جدّاً.


[٦٥٤] مسألة ٣ : إذا عين الشخص في بيته مكاناً للصلاة وجعله مصلّى له لا يجري عليه حكم المسجد (١).

[٦٥٥] مسألة ٤ : كل ما شك في كونه جزءاً من المسجد من صحنه والحجرات التي فيه ومنارته وحيطانه ونحو ذلك لا يجري عليه الحكم (٢) وإن كان الأحوط الإجراء إلاّ إذا علم خروجه منه.

[٦٥٦] مسألة ٥ : الجنب إذا قرأ دعاء كميل الأولى والأحوط أن لا يقرأ منه ( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) لأنه جزء من سورة حم السّجدة (١) ، وكذا الحائض ، والأقوى جوازه (٣) لما مرّ من أن المحرّم قراءة آيات‌

______________________________________________________

عنوة ، لأن الحكم بالملكيّة فيها إنما هو يتبع آثارها فان نفس الأرض ملك للمسلمين فإذا زالت الآثار والبناء ارتفعت الملكيّة لا محالة ، ولا يتمّ في المساجد بوجه ، لأن وقف المسجد تحرير الأرض وإخراج لها عن علاقة المالكيّة ، كتحرير العبد وإزالة العلقة الملكيّة عنه ، فإذا فرضنا أن وقف المسجد صحيح في نفسه في الأراضي المفتوحة عنوة بأن كان فيها آثارها ووقفها بآثارها مسجداً فلا تعود الأرض الحرّة رقاً ومملوكة للمسلمين أو لغيرهم وإن زالت عنها آثارها.

(١) لما مرّ من أن الأحكام مترتبة على عنوان المسجد ولم تترتب على عنوان المصلّى.

(٢) وذلك للبراءة أو لاستصحاب عدم صيرورته مسجداً ، لأنه كان في زمان ولم يكن مسجداً والأصل بقاؤه على حالته السابقة ، اللهمّ إلاّ أن تكون هناك أمارة على المسجدية كمعاملة المسلمين معه معاملة المساجد فإنها تكفي في الحكم بالمسجدية ومعها تترتب عليها أحكامها.

(٣) لما مرّ منه قدس‌سره أن الأقوى اختصاص حرمة قراءة الجنب بآية‌

__________________

(*) هذا من سهو القلم ، والآية إنما هي في سورة الم السجدة.


السجدة لا بقيّة السورة.

[٦٥٧] مسألة ٦ : الأحوط عدم إدخال الجنب في المسجد وإن كان صبياً أو مجنوناً (*) أو جاهلاً بجنابة نفسه (١).

______________________________________________________

السجدة ، وفي غيرها من بقيّة الآيات الأحوط ترك قراءتها كما أفاده.

إدخال الجنب غير المكلّف في المسجد‌

(١) إذا فرضنا حرمة العمل على جميع أفراد المكلفين وكان الفاعل بالمباشرة أيضاً محرماً في حقِّه فنستفيد من إطلاق تحريمه بالارتكاز أن الحرمة غير مختصّة باصداره بالمباشرة ، بل المبغوض مطلق الانتساب تسبيبياً كان أم مباشرياً ، فلو قال لا يدخل عليَّ أحد ، فيستفاد من إطلاقه بالارتكاز أن انتساب الدخول إلى أحد مبغوض عنده بلا فرق بين انتسابه إليه بالمباشرة وانتسابه بالتسبيب.

وأمّا إذا فرضنا أنّ العامل بالمباشرة لا حرمة في حقه لجهله أو لعدم بلوغه أو لجنونه ، فان استفدنا من الخارج أن العمل المحرّم مما اهتم به الشارع ولا يرضى بتحقّقه في الخارج على أية كيفية كان كما في مثل القتل واللواط والزنا وشرب الخمر ونحوهما ، فلا يفرق أيضاً في حرمته بين إيجاده المباشري والتسبيبي ، بل قد يجب الردع عنه كما في الأمثلة المذكورة ، بل قد ثبت التعزير في بعض الموارد. وأما إذا لم يكن العمل صادراً من المباشر على الوجه المبغوض والحرام لصغره أو لجنونه أو لجهله ولم يكن العمل ممّا اهتم الشارع بعدم تحققه في الخارج ، فلا دليل في مثله على حرمة التسبيب ، لأنه من التسبيب إلى المباح ولو بحسب الظاهر وليس من التسبيب إلى الحرام ، وهذا كما في شرب الماء النجس ، فإنه لا مانع من تسبيب البالغ إلى شربه ممّن لا يحرم في حقه كما في المجنون والصغير ونحوه ، والأمر في المقام أيضاً كذلك‌

__________________

(*) لا بأس به في الصبي والمجنون.


[٦٥٨] مسألة ٧ : لا يجوز أن يستأجر الجنب لكنس المسجد في حال جنابته (١) بل الإجارة فاسدة ولا يستحق اجرة ، نعم لو استأجره مطلقاً ، لكنّه كنس في حال جنابته وكان جاهلاً بأنه جنب أو ناسياً استحقّ الأُجرة ، بخلاف ما إذا‌

______________________________________________________

بالإضافة إلى الصبي والمجنون والجاهل ، لأن الدخول يصدر منهم على وجه حلال وليس حرمته ممّا اهتم به الشارع فلا دليل على حرمة التسبيب في مثله.

صور استئجار الجنب لكنس المسجد‌

(١) صور المسألة ثلاث :

الاولى : ما إذا وقعت الإجارة على أمر مباح في نفسه ولكن مقدّمته كانت محرمة كما إذا استأجر الجنب لكنس المسجد حال جنابته ، فانّ الكنس مباح في نفسه إلاّ إن مقدّمته وهي دخوله المسجد محرمة ولا يحصل إلاّ به.

الثانية : ما إذا وقعت الإجارة على أمر جامع بين الفرد المتوقف على مقدّمة محرمة وفرد آخر غير متوقف على مقدّمة محرّمة ، كما إذا استأجر الجنب لكنس المسجد ساعة من غير تقييده بحالة الجنابة ، ومن الظاهر أن لكنسه فردين ، فانّ كنسه في حالة الجنابة لا محالة يتوقف على المقدّمة المحرّمة وأن كنسه في غير حالة الجنابة لا يتوقف على الحرام.

الثالثة : ما إذا وقعت الإجارة على أمر محرم في نفسه كما إذا استأجر الجنب للمكث في المسجد جنبا.

الاولى من صور المسألة‌

أمّا الصورة الأُولى فإن كان الأجير جاهلاً بجنابته وحرمة دخوله المسجد فلا إشكال في صحّة إجارته ، لأنها وقعت على أمر مباح في نفسه ، كما أن مقدّمته مباحة‌


ظاهراً لجهل الأجير بجنابته فتصح إجارته ويستحق بذلك الأُجرة. وأما إذا كان عالماً بجنابته وحرمة دخوله المسجد فلا ينبغي الإشكال في بطلان الإجارة ، لأنها وإن وقعت على أمر مباح إلاّ أنه غير متمكن من تسليمه للمستأجر لتوقفه على أمر محرم شرعاً ، ولا يجتمع النهي عنه مع الأمر بإتيانه من جهة الإجارة فتفسد.

وذكر الماتن أن الأجير في هذه الصورة لا يستحق اجرة. والظاهر أنه أراد بها الأُجرة المسمّاة ، لأن الإجارة إذا بطلت لم يستحق الأجير أُجره المسمى قطعاً لفساد الإجارة ، وأما اجرة المثل فلا ، حيث إن العمل صدر بأمر من المستأجر فيضمن اجرة مثله ، كما هو الحال في بقيّة موارد الإجارة الفاسدة.

الثانية من الصور‌

وأما الصورة الثانية فقد فصل فيها الماتن بين ما إذا كنس المسجد في حال جنابته وكان جاهلاً بأنه جنب أو ناسياً فيستحق الأُجرة ، لعين ما مرّ في الصورة الأُولى عند جهل الأجير بجنابته ، وبين ما إذا كنسه في حال الجنابة مع العلم بجنابته فحكم بعدم استحقاقه الأُجرة ، لأنها اجرة على العمل المحرّم لحرمة مقدّمته ، ولا يجوز أخذ الأُجرة على العمل المحرّم. ولا يمكن المساعدة عليه ، لأن الأجير استحق الأُجرة بمجرد عقد الإجارة حيث وقعت على أمر جامع بين الفرد المحلل وغيره ، ولا إشكال في صحّة الإجارة عليه ، لأن الكنس بما هو أمر حلال ، والأُجرة إنما وقعت بإزاء الحلال دون الحرام. فلا فرق في صحّة الإجارة حينئذ بين صورتي العلم بالجنابة والجهل بها وبها يستحق الأُجرة ، وعمله الخارجي أجنبي عن الإجارة كما هو ظاهر.

الثالثة من الصور‌

أمّا الصورة الثالثة أعني ما إذا وقعت الإجارة على أمر محرم في نفسه كما إذا استأجر الجنب للمكث في المسجد أو لوضع شي‌ء فيه ، لما قدّمناه من أنه حرام في‌


نفسه أو استأجره للطواف أو لغير ذلك من المحرمات ، فهل يحكم ببطلان الإجارة حينئذ مطلقاً ، أو يحكم بصحّتها كذلك ، أو يفصل بين صورتي الجهل والعلم؟ ذهب الماتن إلى بطلان الإجارة مطلقاً وحكم بعدم استحقاق الأجير الأُجرة لأنها من الأُجرة على الحرام هذا.

ولكن الصحيح أن يفصل بين صورتي العلم بالجنابة والجهل بها ، وذلك لأن المحرّم قد يلغي الشارع ماليته كما في التغني ونحوه من الأفعال المحرمة لما ورد من أن اجرة المغنية سحت (١). ففي مثل تلك المحرمات تقع الإجارة باطلة بلا فرق بين صورتي العلم والجهل بها ، وذلك لعدم ماليتها وملكيّتها. ويستكشف ذلك من ملاحظة ما إذا اضطر أو أُكره أحد على التغني ساعة مثلاً ، لأنه مع عدم حرمته حينئذ في حقّه لا يستحق أخذه الأُجرة على عمله ، وليس هذا إلاّ من جهة أن العمل مما لا مالية له فأخذه الأُجرة على مثله أمر غير جائز لا محالة.

ولا ينتقض علينا بافتضاض البكر بالأصابع أو بالإدخال وبالدخول على الثيب إكراهاً فإنهما يوجبان ثبوت مهر المثل على المشهور وإن خالف الشيخ في ذلك ، لأنا لو قلنا بثبوت مهر المثل بذلك مع الغض من دليله لأنه قابل للمناقشة فهو أمر آخر ليس بأُجرة للعمل بوجه ، وكم فرق بين اجرة المثل لوطء امرأة والاستفادة منها ساعة وبين مهر مثلها ، لأنه مهرٌ مثل الزوجة الدائمية وإنما ثبت بالدليل ، وهذا لا يدلّ على عدم إلغاء الشارع مالية العمل.

وأُخرى لا يلغي الشارع مالية المحرّم وإنما يمنع عن ارتكابه ، وفي مثله لا مانع من صحّة الإجارة إذا أمكنه تسليم العمل إلى المستأجر ، وذلك لأن الحرمة بما هي هي أعني الأمر الاعتباري غير منافية للملكيّة بوجه ، فإذا أُكره أحد على فعله كما إذا أُكره الجنب على قراءة سور العزائم مدّة معيّنة فلا مانع من أن يأخذ عليها الأُجرة مع‌

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٣٠٧ / أبواب ما يكتسب به ب ٩٩ ح ١٧. ويدلّ على ذلك أيضاً أكثر الروايات المذكورة في باب ١٥.


كنس عالماً فإنّه لا يستحق لكونه حراماً (*) ولا يجوز أخذ الأُجرة على العمل المحرّم ، وكذا الكلام في الحائض والنفساء. ولو كان الأجير جاهلاً أو كلاهما جاهلين في الصورة الأُولى أيضاً يستحق الأُجرة ، لأن متعلق الإجارة وهو الكنس لا يكون حراماً ، وإنّما الحرام الدخول والمكث ، فلا يكون من باب أخذ الأُجرة على المحرّم ، نعم لو استأجره على الدّخول أو المكث كانت الإجارة فاسدة ولا يستحق الأُجرة ولو كانا جاهلين (**) ، لأنّهما محرّمان ولا يستحق الأُجرة على الحرام. ومن ذلك ظهر أنّه لو استأجر الجنب أو الحائض أو النفساء للطواف المستحب كانت الإجارة فاسدة ولو مع الجهل ، وكذا لو استأجره لقراءة العزائم فإنّ المتعلق فيهما هو نفس الفعل المحرّم ، بخلاف الإجارة للكنس فإنّه ليس حراماً وإنّما المحرّم شي‌ء آخر وهو الدخول والمكث ، فليس نفس المتعلق حراما.

______________________________________________________

تمكنه من تسليم العمل إلى المستأجر. وبما أن المكلّف متمكن من تسليم العمل لجهله بجنابته وذكرنا أن الحرمة بما هي غير منافية لأخذ الأُجرة فلا مانع من الحكم بصحّة الإجارة واستحقاق الأُجرة المسماة حينئذ.

نعم المستأجر العالم بجنابة الأجير لا يمكنه أن يستأجره وإن كان الأجير جاهلاً بجنابته ، وذلك لما مرّ من أن الحرمة المطلقة تقتضي بإطلاقها عدم الفرق بين إصدار العمل بالمباشرة وبين إصداره بالتسبيب لحرمته على الجميع ، إلاّ أن حرمة ذلك غير مستلزمة لبطلان الإجارة وعدم استحقاق الأجير الجاهل بجنابته الأُجرة المسمّاة.

__________________

(*) الظاهر استحقاقه الأُجرة ، فإنّ الكنس بما هو ليس بحرام وإنما الحرام مقدّمته.

(**) لا تبعد الصحّة واستحقاق الأُجرة مع جهل الأجير ، فإنّ الحرمة إذا لم تكن منجزة لا تنافي اعتبار الملكيّة ، والمفروض تحقق القدرة على التسليم من جهة الإباحة الظاهرية ، نعم لا يجوز الاستئجار تكليفاً للمستأجر العالم بالحال لأنه تسبيب إلى الحرام الواقعي ، ومن ذلك يظهر الحال في الاستئجار للطواف المستحب أو لقراءة العزائم.


[٦٥٩] مسألة ٨ : إذا كان جنباً وكان الماء في المسجد يجب عليه أن يتيمم (*) ويدخل المسجد لأخذ الماء (١) أو الاغتسال فيه ، ولا يبطل تيممه لوجدان هذا الماء‌

______________________________________________________

وهذا بخلاف العالم بجنابته ، فإن حرمة العمل وإن كانت بما هي غير منافية للملكيّة ولكن بما أنها مانعة عن تسليم العمل إلى المستأجر وموجبة لسلب القدرة عليه تقتضي بطلان الإجارة وعدم استحقاق الأُجرة على عمله ، لعدم إمكان الجمع بين الأمر بالوفاء بالإجارة وتسليم العمل إلى المستأجر وبين النهي عن تسليمه لحرمته. وهذا هو الوجه في بطلان الإجارة في المحرّمات دون قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه لعدم ثبوته (٢) ، ولا رواية تحف العقول (٣) لضعفها.

حكم دخول الجنب المسجد لأخذ الماء‌

(١) هذا كأنه للغفلة عمّا بنى قدس‌سره عليه في المسائل المتقدّمة من جواز دخول الجنب للمسجد لأخذ شي‌ء ، فإنه يجوز حينئذ أن يدخل الجنب المسجد لأخذ الماء من غير أن يمكث فيه ، نعم ناقشنا في ذلك سابقاً وقلنا إن حكمه بجواز دخول الجنب في المسجد للأخذ لا يلائم حكمه بحرمة الوضع في المسجد ولو من غير دخول لأنهما إمّا أن يلاحظا بأنفسهما فيحكم بجواز الأوّل وحرمة الثاني في نفسهما ، وحينئذ يتمّ حكمه بحرمة الوضع ولو من غير دخول ولا يتمّ حكمه بجواز دخول المسجد‌

__________________

(*) تقدّم منه قدس‌سره جواز دخول الجنب المسجد لأخذ شي‌ء منه ، وعليه فلا مانع من دخوله لأخذ الماء بغير مكث بلا تيمم ، وأما على ما ذكرناه من عدم جواز ذلك أو فرض أن الأخذ يتوقف على المكث فالظاهر أنه لا يشرع التيمم لذلك ، بل هو من فاقد الماء فيجب عليه التيمم للصلاة.

(١) نعم ذكر الشيخ في الخلاف ٣ : ١٨٥ / مسألة ٣١٠ من كتاب البيوع ما هذا نصّه : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : إنّ الله تعالى إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه.

(٢) الوسائل ١٧ : ٨٣ / أبواب ما يكتسب به ب ٢ ح ١ ، تحف العقول : ٣٣١.


إلاّ بعد الخروج أو بعد الاغتسال ، ولكن لا يباح بهذا التيمم إلاّ دخول المسجد واللّبث فيه بمقدار الحاجة ، فلا يجوز له مسّ كتابة القرآن ولا قراءة العزائم إلاّ إذا كانا واجبين فورا.

______________________________________________________

للأخذ ، فإن جواز الأخذ في نفسه لا يلازم جواز الدخول في المسجد. وإما أن يلاحظا باعتبار مقدّمتهما أعني الدخول فيجوز الأوّل ويحرم الثاني ، وحينئذ يتمّ حكمه بجواز الدخول فيه من جهة الأخذ ولا يتمّ حكمه بحرمة الوضع في نفسه ، إلاّ أنه أمر آخر.

هذا إذا كان التيمم لدخول المسجد وأخذ الماء فقط ، وأمّا إذا أراد أن يمكث فيه للاغتسال أو أراد الأخذ من المسجدين وقلنا بحرمته فيهما فهل يجب التيمم حينئذ مقدّمة لجواز الدخول في المسجد لأخذ الماء أو لا يجب؟

ذكر الماتن قدس‌سره أنه يجب أن يتيمم حينئذ ولا يباح به إلاّ دخول المسجد واللبث فيه بمقدار الحاجة ، ولا يبطل تيممه إلاّ بعد الاغتسال في المسجد أو بعد الخروج منه للاغتسال في خارجه. والوجه فيما أفاده أن التيمم حينئذ إنما هو للاضطرار إلى الدخول في المسجد ، والضرورات تتقدّر بقدرها فلا يترتب على تيممه هذا غير إباحة الدخول ، وأما سائر الغايات فحيث لا اضطرار له إليها لا يترتب على تيممه.

ولا يمكن المساعدة على ما أفاده بوجه ، وذلك لأن التيمم إما أن تكون غايته الصلاة مع الطّهارة المائية أي الغسل بمعنى أنه مأمور بالاغتسال من جهة الأمر بالصلاة ولا يتحقق الغسل إلاّ بالتيمم وجواز الدخول في المسجد ، فالتيمم حينئذ مقدّمة لمقدّمة الواجب وإنما وجب لوجوب الصلاة مع الغسل ، فهذا أمر مستحيل لأنّ الغسل والصلاة مع الطّهارة المائية واجب مشروط بالتمكن من الماء ومع حرمة الدخول في المسجد لا قدرة له على الماء ، فان الممنوع شرعاً كالممتنع عقلاً ، ولأن النهي عن الدخول فيه معجز مولوي عن استعماله الماء ، وعليه يتوقف وجوب الغسل‌


أي وجوب الصلاة مع الطّهارة المائية على جواز دخوله المسجد فلو توقف جواز دخوله المسجد على وجوب الصلاة مع الغسل لدار ، فلا يمكن أن يسوغ التيمم بغاية وجوب الغسل ووجوب الصلاة مع الطّهارة المائية.

وإما أن تكون غايته نفس الكون في المسجد وهو أيضاً غير صحيح ، لعدم كونه غاية مشرعة للتيمم ، وإلاّ لم يجب عليه المبادرة إلى الخروج أي لم يحرم عليه المكث زائداً على مقدار الحاجة في المسجد كما التزم به قدس‌سره فإنه محكوم بالطّهارة وله أن يبقى في المسجد ما شاء ، ولجاز أن يبادر إلى الدخول في المسجد مع التيمم في أوّل الوقت مع القطع بأنه بعد ساعة متمكن من الاغتسال ، إذ المفروض أن التيمم لغاية الكون في المسجد موجب للطّهارة ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به ، وعليه فالصحيح أنه فاقد للماء ووظيفته أن يتيمم لصلاته.

فرعان :

الجنب المتيمم لكون الماء في المسجد ليس له أن يدخل المسجد‌

الأوّل : ما إذا تيمم للصلاة خارج المسجد من جهة كون الماء في المسجد وحكم بطهارته فهل يجوز أن يدخل المسجد حينئذ لأنه متطهر أو لا يجوز؟ الصحيح أنه لا يترتب على تيممه للصلاة جواز دخوله المسجد ، وذلك لأنه يلزم من جواز دخوله المسجد عدمه ، وما استلزم وجوده عدمه فهو مستحيل. وتقريب ذلك : أن المكلّف إذا تيمم بغاية الصلاة حكم عليه بالطّهارة شرعاً ، لأنه كان فاقداً وجاز التيمم في حقه فإذا تيمم لأجلها صار محكوماً بالطّهارة ، والمتطهر يجوز له جميع الغايات المتوقفة على الطّهارة التي منها دخوله المسجد ، فبمجرّد تيممه جاز له الدخول في المسجد فإذا جاز له الدخول تمكن من استعمال الماء وإذا تمكن منه انتقض تيممه لا محالة وإذا انتقض تيممه لم يجز له الدخول في المسجد ، فيلزم من القول بجواز دخوله المسجد عدم جواز دخوله وهو مستحيل ، ولذا قلنا إن تيممه لا يترتب عليه جواز الدخول في المسجد.


ويدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى ( وَلا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) (١) حيث جعل الغاية الاغتسال ولم يقل حتى تيمموا ، لأنه بإطلاقه يدلّ على أن وظيفته الغسل تيمم أم لم يتيمم. وعلى الجملة لا يجوز الدخول في المسجد بالتيمم إلاّ أن يضطر إليه اضطراراً شرعياً كتوقف إنقاذ نفس محترمة على الدخول ونحوه.

الجنب المتيمم لبعض المسوغات ليس له أن يدخل المسجد‌

الثاني : ما إذا كان جنباً ووجب عليه التيمم لا لأجل كون الماء في المسجد ، بل لأجل مرض له أو قرحة وجراحة وتيمم لأجل الصلاة فهل يجوز أن يدخل المسجد حينئذ أو لا يجوز؟ ظاهر كلماتهم جواز ذلك بل لم نر ولم نسمع خلافاً في ذلك ، ولكن للمناقشة فيما تسالموا عليه مجال واسع.

وذلك لأنّ الحكم قد يترتب على عنوان الحدث وعدم الطّهارة كما في حرمة مسّ كتابة القرآن ، حيث إنها مترتبة على عنوان الحدث وعدم الطّهارة على ما ورد في بعض الأخبار من استشهاده عليه‌السلام على عدم جواز مسّ المحدث الكتاب بقوله تعالى ( لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) (٢) فجواز المس مترتب على الطّهارة وعدم الحدث ، وكوجوب الصلاة فإنه متوقف على الطّهارة لما ورد من أنه لا صلاة إلاّ بطهور (٣) ، ففي أمثال ذلك إذا لم يتمكن المكلّف من الوضوء أو الغسل وتيمم به بدلاً عن الطّهارة المائية فلا محالة ترتفع عنه الأحكام المترتبة على الحدث وعدم الطّهارة ، لأن التيمم يرفع الحدث ويوجب الطّهارة حقيقة غاية الأمر ما دام معذوراً عن الماء. والقول بالإباحة كلام محض بل لعله لا قائل بها واقعاً ، وذلك لعدم إمكان الالتزام بأن المتيمم محدث ويجوز له الصلاة وغيرها تخصيصاً في أدلّة اشتراط الطّهارة في الصلاة.

__________________

(١) النساء ٤ : ٤٣.

(٢) كما في موثقة إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن عليه‌السلام الوسائل ١ : ٣٨٤ / أبواب الوضوء ب ١٢ ح ٣.

(٣) الوسائل ١ : ٣٦٥ / أبواب الوضوء ب ١ ح ١ ، وغيرها من الموارد.


وقد يكون الحكم مترتباً على عنوان الجنابة لا على عنوان الحدث وهذا كما في المقام ، لأن دخول المسجد محرم على الجنب لا على المحدث بحدث الجنابة وقد قال الله سبحانه ( وَلا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ ) ولم يقل ولا محدثاً ، وفي مثل ذلك لا ترتفع الأحكام المترتبة على عنوان الجنابة بالتيمم ، لأنه إنما يرفع الحدث ويوجب الطّهارة لا أنه يرفع الجنابة ، حيث لم يرد في شي‌ء من الأخبار والآيات ما يدلّنا على ارتفاع الجنابة بالتيمم ، بل هو جنب متطهر وجنب غير محدث لا أنه ليس بجنب ، لقصور المقتضي أي عدم الدليل ولوجود المانع وهو لزوم أن يكون وجدان الماء سبباً للجنابة حيث إنها ارتفعت بالتيمم ، وبما أن التيمم ينتقض بوجدان الماء فتعود عليه الجنابة بالوجدان ، مع أن سببها أمران : الجماع والإنزال ، وليس وجدان الماء من أسبابها وعليه فلا يجوز للمتيمم بدلاً عن الجنابة أن يدخل المسجد لأنه جنب ولم ترتفع جنابته بتيممه. ويدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى ( وَلا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) (١) حيث جعل غاية حرمة القرب من المسجد للجنب الاغتسال ، فلو كان له غاية أُخرى وهو التيمم لذكره ولما حصرها في الاغتسال مع أنه قال ( حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) ولم يقل تغتسلوا أو تيمموا ، فيدلّ بإطلاقه على أن وظيفته الغسل سواء تيمم أم لم يتيمم.

ونظير المقام ما إذا يمم الميت لعدم الماء أو لجراحة في الميت ولم يغسل فان مسّه موجب لغسل المس ، لأن وجوب الغسل عن المس إنما يترتب على عنوان الميت الذي برد ولم يغسل ولم يترتب على عنوان الميت المحدث بحدث الموت ، والتيمم إنما يرفع الحدث ولا يرفع الموضوع بأن يجعل الميت مغسلاً ، فلو مسّه أحد بعد تيممه لوجب عليه غسل المس أيضاً. وتظهر ثمرة ما ذكرناه في غير هذين الموردين أيضاً كما في البقاء على الجنابة في شهر رمضان ، فان الحكم فيه أيضاً مترتب على الجنابة لا على الحدث.

__________________

(١) النساء ٤ : ٤٣.


[٦٦٠] مسألة ٩ : إذا علم إجمالاً جنابة أحد الشخصين لا يجوز له استئجارهما ولا استئجار أحدهما لقراءة العزائم أو دخول المساجد أو نحو ذلك ممّا يحرم على الجنب (١).

______________________________________________________

استئجار من علم جنابته إجمالاً لما يحرم على الجنب

(١) قد يعلم الثالث بجنابة أحد شخصين من غير تعيين من دون أن يعلم أحد منهما بجنابة نفسه ، وقد يعلم الثالث بجنابة أحدهما مع علم أحدهما بجنابة نفسه. أما في الصورة الاولى فلا مانع من صحّة إجارة أحدهما أو كليهما ، لما مرّ من أن الإجارة إنما وقعت على أمر مباح في نفسه وهو الكنس مثلاً ، فلا مانع من صحّة الإجارة سوى عدم تمكنه من تسليم العمل للمستأجر لحرمة مقدّمته أعني الدخول في المسجد ، فإذا فرضنا جهله فلا محالة يجوز له الدخول ويتمكن من تسليم العمل لمالكه.

هذا كلّه بالإضافة إلى حرمة إجارتهما أو جوازها وضعاً. أما من حيث جوازها وحرمتها التكليفيين فالأمر كما أفاده الماتن قدس‌سره من حرمتها مطلقاً ، وذلك لما مرّ من أن مقتضى إطلاق دليل الحرمة عدم جواز إيجاد المحرّم بالمباشرة أو بالتسبيب فان المبغوض الواقعي لا يجوز إيجاده في الخارج مطلقاً بلا فرق في ذلك بين التسبيب والمباشرة ، فإذا استأجرهما معاً فقد قطع بالمخالفة لأنه أوجد دخول الجنب في المسجد بالتسبيب ، وإذا استأجر أحدهما فهو مخالفة احتمالية لاحتمال أن يكون هو الجنب واستئجاره تسبيب لدخول الجنب في المسجد. فما ذكره شيخنا الأُستاذ قدس‌سره في تعليقته من أن الظاهر جواز استئجارهما معاً فضلاً عن أحدهما ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، بل الصحيح هو ما أفاده في المتن من حرمة إجارة أحدهما فضلاً عن كليهما للثالث العالم بجنابة أحدهما.


[٦٦١] مسألة ١٠ : مع الشك في الجنابة لا يحرم شي‌ء من المحرمات المذكورة إلاّ إذا كانت حالته السابقة هي الجنابة (١).

فصل

فيما يُكره على الجنب

وهي أُمور : الأوّل : الأكل والشرب ويرتفع كراهتهما بالوضوء أو غسل اليدين والمضمضة والاستنشاق أو غسل اليدين فقط. الثاني : قراءة ما زاد على سبع آيات من القرآن ما عدا العزائم ، وقراءة ما زاد على السبعين أشدّ كراهة. الثالث : مسّ ما عدا خط المصحف من الجلد والأوراق والحواشي وما بين السطور. الرابع : النوم إلاّ أن يتوضأ أو يتيمم إن لم يكن له الماء بدلاً عن الغسل. الخامس : الخضاب ، رجلاً كان أو امرأة ، وكذا يكره للمختضب قبل أن يأخذ اللون إجناب نفسه. السادس : التدهين. السابع : الجماع إذا كان جنابته بالاحتلام.

______________________________________________________

وأمّا في الصورة الثانية فلا إشكال في عدم جواز استئجار أحدهما فضلاً عن كليهما ولا في بطلان الإجارة ، لعدم قدرة أحدهما على الدخول في المسجد لحرمته ، لفرض أن أحدهما عالم بجنابة نفسه فيعلم الثالث إجمالاً أن إجارة أحدهما باطلة وأن دخوله المسجد حرام.

صور الشكّ في الجنابة‌

(١) صور المسألة ثلاث ، لأنه قد يعلم بعدم جنابته سابقاً ، وقد يعلم بجنابته السابقة ، وثالثة لا يعلم حالته السابقة لتوارد الحالتين عليه.

إذا علم بحالته السابقة من جنابته أو عدم جنابته فلا إشكال في المسألة ، لجريان استصحابها وبه يحرز جنابته أو طهارته.


الثامن : حمل المصحف. التاسع : تعليق المصحف.

فصل

[ في كيفية الغسل وأحكامه ]

غسل الجنابة مستحب نفسي وواجب غيري للغايات الواجبة ومستحب غيري للغايات المستحبة. والقول بوجوبه النفسي ضعيف (١).

______________________________________________________

وأمّا إذا لم يعلم الحالة السابقة فلا يجري فيها شي‌ء من استصحابي الطّهارة والحدث في نفسهما أو يجريان ويتساقطان بالمعارضة ومعه لا بدّ من الرجوع إلى ما هو الأصل في المسألة ، وهو في مقامنا هذا البراءة عن حرمة دخول المسجد أو غيره ممّا يحرم على الجنب.

فصل غسل الجنابة ليس بواجب نفسي‌

(١) لا إشكال ولا كلام في محبوبية غسل الجنابة شرعاً لقوله تعالى ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) (١) فإن الغسل من الجنابة طهارة والمغتسل منها متطهر وإنما الخلاف في أن محبوبيته نفسيّة أو غيريّة؟ المعروف المشهور بينهم أنه واجب غيري ، وخالف في ذلك من القدماء ابن حمزة (٢) ومن المتوسطين العلاّمة (٣) ومن المتأخِّرين الأردبيلي (٤) وصاحبا المدارك (٥) والذخيرة (٦). ولا تكاد تظهر ثمرة‌

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٢٢.

(٢) الوسيلة : ٥٤.

(٣) المختلف ١ : ١٥٩ / ١٠٧.

(٤) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ١٣٦.

(٥) المدارك ١ : ٢٦٥.

(٦) الذخيرة : ٥٥ / السطر ٣٠.


عمليّة لهذا النزاع بعد العلم باشتراط الصلاة والصوم بالطّهارة وعدم الجنابة أعني توقفهما على غسل الجنابة إلاّ في موارد نادرة كمن أجنب قبل الوقت وعلم بأنه يقتل بعد ساعة وقبل دخول الوقت ، فإنه بناءٌ على أنه واجب نفسي يجب الإتيان به بخلاف ما إذا كان واجباً شرطياً ، وهذا من الندرة بمكان. نعم تظهر الثمرة غير العمليّة في استحقاق العقاب ، لأنه إذا تركه وترك الصلاة مثلاً فعلى القول بوجوبه النفسي يعاقب بعقابين بخلاف ما إذا قلنا بوجوبه الغيري فإنه لا يعاقب حينئذ إلاّ عقاباً واحداً لتركه الصلاة فحسب ، فالمسألة عادمة الثمرة عملا.

وكيف كان ، استدلّ للقول بوجوبه النفسي بوجوه : منها : قوله سبحانه ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) (١) بدعوى أن ظاهر الأمر بالاغتسال وإطلاقه أنه واجب نفسي. ويدفعه أن صدر الآية المباركة وذيلها أقوى قرينة على أن المراد به هو الوجوب الغيري ، أعني كونه إرشاداً إلى شرطية الطّهارة من الحدث في الصلاة. أما صدرها فلقوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) لأنه قرينة ظاهرة على أن الأمر بكل من الغسل والوضوء غيري وإرشاد إلى الشرطية. وأمّا ذيلها فلقوله تعالى ( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) حيث أُقيم التيمم بدلاً عن الغسل ، فلو كان الغسل واجباً نفسياً فلا بدّ من الالتزام بأن التيمم أيضاً واجب نفسي وهو ممّا لا يلتزمون به فالآية لا دلالة لها على المدّعى.

وأمّا الأخبار ، فأظهر ما استدلّ به على هذا المدعى من الأخبار ما ورد في أن الدين الذي لا يقبل الله تعالى من العباد غيره ولا يعذرهم على جهله شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمّداً رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والصلوات الخمس وصوم شهر‌

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.


رمضان والغسل من الجنابة (١).

وربّما يقال : إنّ دلالتها على المدّعى ظاهرة ، حيث عدّ غسل الجنابة من دعائم الدِّين ، ويبعد جدّاً أن يراد به الوجوب الغيري لمكان أنه مقدّمة للصلاة ، إذ للصلاة شرائط ومقدّمات أُخر لا وجه لتخصيصه بالذكر حينئذ من بينها. وهذه الرواية وإن كانت معتبرة بحسب السند لوجود الحسين بن سيف في أسانيد كامل الزيارات ، ولكنه يمكن المناقشة في دلالتها بأنا لا نحتمل أن يكون غسل الجنابة من الأركان دون الجهاد والزكاة وأمثالهما مع أنها عدته من الأركان وتركت أمثال الجهاد والأمر بالمعروف وغيرهما مما هو أعظم من غسل الجنابة بمرات كثيرة ، وليس هو بتلك المثابة من الأهميّة قطعا.

وأمّا الاستدلال بغيرها من الأخبار فيدفعه أنها ممّا لا دلالة له على المدّعى كالاستدلال بما ورد من قولهم : « إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل » (٢) وقولهم : « أتوجبون عليه الحدّ والرجم ولا توجبون عليه صاعاً من ماء » (٣) وذلك لأنها إنما هي بصدد بيان ما هو الحد لموضوع تلك الأحكام وأنّ حدّه هو الالتقاء ، وليست في مقام بيان أنها واجبة نفسيّة أو غيريّة ، بل تحد الموضوع لتلك الأحكام الأعم من النفسيّة والغيريّة وتدلّ على أن حدّ وجوب الغسل على ما هو عليه من النفسيّة أو الغيريّة هو الالتقاء ، ولا دلالة لها على وجوبها النفسي أبدا.

وعلى الجملة : إنّها إنما سيقت لبيان أن الموضوع لتلك الأحكام أي شي‌ء من غير‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٨ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١ ح ٣٨. رواها البرقي في المحاسن [ ١ : ٤٤٩ / ١٠٣٧ ]. هكذا : أنه سئل عن الدين الذي لا يقبل الله من العباد غيره ، ولا يعذرهم على جهله ، فقال : شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمّداً رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والصلاة الخمس وصيام شهر رمضان والغسل من الجنابة وحج البيت والإقرار بما جاء من عند الله جملة والائتمام بأئمة الحق من آل محمّد ، الحديث.

(٢) الوسائل ٢ : ١٨٣ / أبواب الجنابة ب ٦ ح ٢ ، ٥.

(٣) الوسائل ٢ : ١٨٤ / أبواب الجنابة ب ٦ ح ٥.


أن يكون لها نظر إلى أن الوجوب المرتب عليه نفسي أو غيري ، بل لا نظر لها إلى الحكم أصلاً ، وإنما تدلّ على أن ما هو الموضوع لتلك الأحكام المستفادة من أدلّتها لا من تلك الروايات أي شي‌ء.

على أنا لو سلمنا ظهورها في أن غسل الجنابة واجب نفسي فحالها حال بقيّة الأوامر الواردة في غسل الثياب عن الأبوال أو غيرها من النجاسات ، حيث ورد « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » (١) والأوامر الواردة في غسل الحيض والاستحاضة والنفاس وأنها إذا طهرت فلتغتسل ، والأوامر الواردة في الوضوء والتيمم فإنها في حدّ أنفسها ظاهرة في الوجوب النفسي ، ولكن العلم القطعي الخارجي بل الضرورة القائمة على أن الصلاة مشروطة بالطّهارة من الحدث والخبث يوجب انصرافها إلى الأوامر الغيرية الإرشادية إلى شرطية الطّهارة للصلاة ، فالحال في تلك الروايات أيضاً كذلك فتكون منصرفة إلى الوجوب الغيري الإرشادي دون الوجوب النفسي.

وعمدة ما اعتمدوا عليه في هذا المدعى أن غسل الجنابة لو لم يكن واجباً نفسياً للزم جواز تفويت الواجب بالاختيار ، وذلك لأن المكلّف إذا أجنب في ليالي شهر رمضان فإما أن نقول إن غسل الجنابة قبل طلوع الفجر واجب نفسي في حقّه ، وإما أن نقول واجب غيري ، وإمّا أن نقول بعدم وجوبه أصلاً. والأوّل هو المدّعى ، وأما على الآخرين فيلزم المحذور ، وذلك لأنّ الواجب الغيري يستحيل أن يتصف بالوجوب قبل وجوب ذي المقدّمة ، فإن المعلول لا يتقدّم على علّته ، فلو كان الغسل مقدّمة فهو غير واجب قبل الفجر ، فإذا جاز ترك الغسل قبل الفجر لم يجب عليه الصوم غداً لاشتراطه بالطّهارة عند الصبح وقد فرضنا جواز تركها فجاز له تفويت الواجب بالاختيار ، ومعه لا مناص من الالتزام بوجوبه النفسي لئلا يرد هذا المحذور.

والجواب عن ذلك :

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٠٥ / أبواب النجاسات ب ٨ ح ٢ ، ٣.


أوّلاً : أن ذلك غير مختص بغسل الجنابة ، بل الأمر كذلك في كل مقدّمة لا يمكن الإتيان بها بعد دخول وقت الواجب كغسل الحيض والنفاس والاستحاضة فيما إذا طهرت قبل طلوع الفجر ، فلازم ذلك الالتزام بالوجوب النفسي في الجميع.

وثانياً : أن الحصر غير حاصر ، فان لنا أن نلتزم بوجوب الغسل للغير لا بوجوبه النفسي ولا الغيري ، وهذا لا بملاك مستقل غير ملاك الواجب ليرد محذور تعدّد العقاب عند ترك الواجب لترك مقدّمته ، بل بملاك نفس ذي المقدّمة لا بوجوبه النفسي ولا الغيري. وقد بيّنا في محلِّه أن الواجب للغير غير الواجب الغيري (١) فنلتزم بأن غسل الجنابة وغيره من المقدّمات غير المقدورة في ظرف الواجب واجب للغير ، فلا يتعيّن القول بالوجوب النفسي حينئذٍ للفرار عن المحذور.

وثالثاً : يمكننا القول بوجوبه الغيري ، لأن الصوم إنما وجب من أوّل اللّيل بل من أوّل الشهر ، لقوله تعالى ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) (٢) بناء على أنّ المراد بالشهادة هو الرؤية ، فالوجوب قبل طلوع الفجر فعلي والواجب استقبالي وظرفه متأخر كما التزمنا بذلك في جميع الواجبات المعلّقة ، ومع فعلية الوجوب تجب المقدّمة ولا يشترط في وجوبها فعليّة ظرف الواجب أيضا.

ورابعاً : يمكننا إنكار وجوب الغسل حينئذ رأساً ولا نلتزم بوجوبه ولو مقدّمة لأنا لا نلتزم بوجوب مقدّمة الواجب عند فعلية وجوب ذي المقدّمة شرعاً فضلاً عما إذا لم يجب ، وإنما تجب المقدّمة عقلاً تحصيلاً للغرض الملزم ، فان ترك المقدّمة تفويت اختياري للواجب ، بلا فرق في ذلك قبل الوقت وبعده ، لأنّ العقل هو الحاكم بالاستقلال في باب الإطاعة والعصيان ، وحيث إن الإتيان بالواجب موقوف على إتيان مقدّمته ولو قبل الوقت فالعقل مستقل بلزوم إتيانه كذلك ، لأن تركه ترك للغرض الملزم بالاختيار.

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٣٥٥.

(٢) البقرة ٢ : ١٨٥.


ولا يجب فيه قصد الوجوب والندب ، بل لو قصد الخلاف (١) لا يبطل إذا كان مع الجهل بل مع العلم إذا لم يكن بقصد التشريع (*) وتحقق منه قصد القربة ، فلو كان‌

______________________________________________________

وما عن أبي الحسن من أن المقدّمة لو لم تجب شرعاً جاز تركها ، فلو جاز تركها جاز ترك الواجب وذي المقدّمة (٢) ، مندفع بأن عدم وجوب المقدّمة شرعاً غير ملازم لجواز تركها عند العقل ، لأنه مستقل بلزوم إتيانها كما مرّ هذا.

على أن لنا أن نقلب الدعوى بأن نقول : هب أنّا التزمنا بالوجوب النفسي في جميع تلك المقدّمات التي لا يمكن الإتيان بها في وقت الواجب فهل تلتزمون بوجوبها الغيري ولو مندكاً في وجوبها النفسي ، أو لا تلتزمون به وإنما هو واجب نفسي فقط فان أنكرتم وجوبها الغيري فليزمكم القول بتعدد العقاب عند ترك الواجب لترك مقدّمته ، ولا يمكن الالتزام به. وإن اعترفتم بوجوبها الغيري فتعود المناقشة السابقة وأنه كيف وجبت المقدّمة قبل وجوب ذيها. فما هو الجواب عن المحذور حينئذ هو الجواب عن محذور وجوب غسل الجنابة قبل الفجر.

فتحصل : أن غسل الجنابة ليس بواجب نفسي ، ولا قائل به أخيراً ، كما لا دليل عليه وإن كانت له رنة في تلك الأزمنة من جهة عدم تصويرهم الواجب المعلق.

هل يعتبر قصد الوجوب أو الندب في صحّة الغسل؟

(١) قدّمنا أن غسل الجنابة ليس بواجب نفسي ، كما أنه غير متّصف بالوجوب الغيري على ما ذكرناه في محلِّه من عدم وجوب مقدّمة الواجب شرعاً (٣) ، وعليه فهو مستحب نفسي فقط وغير متصف بالوجوب أبداً. وبما أنه أمر عبادي كما هو المتسالَم عليه بين المسلمين فضلاً عن الإمامية فلا بدّ من أن يؤتى به بقصد القربة والامتثال‌

__________________

(*) كيف لا يكون تشريعاً والمفروض أنه قصد الخلاف عالما.

(١) كما حكاه عنه في كفاية الأُصول : ١٢٧.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٤٣٨.


قبل الوقت واعتقد دخوله فقصد الوجوب لا يكون باطلاً ، وكذا العكس ، ومع الشك في دخوله يكفي الإتيان به بقصد القربة للاستحباب النفسي أو بقصد إحدى غاياته المندوبة أو بقصد ما في الواقع من الأمر الوجوبي أو الندبي.

______________________________________________________

وهذا يتحقّق في الغسل بوجهين :

أحدهما : أن يأتي به بداعي استحبابه النفسي ، بلا فرق في ذلك بين ما قبل الوقت وبعده.

وثانيهما : أن يأتي به بداعي أنه مقدّمة للعبادة وواقع في سلسلتها ، فإنه أيضاً نحو امتثال وإضافة للعمل إلى الله. وهذا يختص بما بعد دخول الوقت.

وأمّا بناء على أن مقدّمة الواجب واجبة فلا محالة يتصف الغسل بالوجوب الغيري بعد دخول وقت العمل وبه يرتفع استحبابه ، لتنافي الوجوب مع الاستحباب ، وعليه فلا بدّ في صحّته إذا اتي به بعد دخول الوقت من أن يؤتى به بداعي الوجوب الغيري ولا يكفي الإتيان به بداعي استحبابه النفسي حيث لا استحباب حينئذ ، نعم يكفي ذلك عند الإتيان به قبل دخول الوقت.

فلو أتى به بقصد استحبابه النفسي بعد دخول الوقت أو بداعي وجوبه الغيري قبل الوقت ، فان كان ذلك مستنداً إلى اعتقاده وحسبان أن الوقت غير داخل فقصد استحبابه النفسي أو أنه داخل فقصد وجوبه الغيري فلا إشكال في صحّته ، لأنه قد قصد أمره الفعلي وغاية الأمر أنه أخطأ في تطبيقه على الاستحباب النفسي أو على وجوبه الغيري ، ومثله غير مضر في صحّة العبادة بعد كون الطبيعة المستحبة نفساً أو الواجبة مقدّمة طبيعة واحدة. وأما إذا كان عالماً بالحال فأتى به قبل الوقت بداعي وجوبه الغيري متعمداً أو بعد الوقت بداعي استحبابه النفسي متعمداً فهل يحكم بصحّته أو أنه فاسد؟ فقد فصّل فيه الماتن قدس‌سره بين ما إذا لم يكن بقصد التشريع وتحقّق منه قصد التقرّب وما إذا لم يكن كذلك. والكلام في ذلك يقع من جهتين :


إحداهما : أنه مع العلم بعدم استحبابه النفسي لو أتى به بداعي استحبابه أو مع العلم بعدم وجوبه الغيري إذا أتى به بداعي وجوبه الغيري هل يعقل أن لا يكون تشريعاً محرماً ، أو أنه قد يكون كذلك وقد لا يكون؟

ثانيتهما : أن حرمة التشريع توجب بطلان العمل أو لا توجبه؟

أمّا الجهة الاولى : فلا نتعقل انفكاك مثله عن التشريع ، لأنه عبارة عن إدخال ما علم أنه ليس من الدين أو لم يعلم أنه من الدِّين في الدِّين ، ومع العلم بعدم استحباب شي‌ء ، إذا أتى به بعنوان أنه مستحب لا محالة كان من إدخال ما علم أنه ليس من الدِّين في الدِّين.

وأمّا الجهة الثانية : فقد يقال بأن حرمة التشريع لا تستلزم بطلان العبادة مطلقاً بل إنما توجبه فيما إذا كان التشريع في مقام الأمر والتكليف ، كما إذا علم بوجوب شي‌ء فبنى على استحبابه وأتى به بداعي أنه مستحب فإنه محكوم ببطلانه ، إذ لا يتمشى معه قصد القربة والامتثال. وأمّا التشريع في مقام الامتثال والتطبيق كما إذا سمع أن المولى أمره بشي‌ء ولم يعلم أنه أوجبه أو ندب إليه ولكنّه بنى على أنه أوجبه وأن الأمر هو الوجوبي ، فلا يوجب هذا بطلان عمله ولا ينافي ذلك قصد القربة والامتثال كما فصّل بذلك صاحب الكفاية قدس‌سره والتزم بأن التشريع لا يستلزم بطلان العمل مطلقاً ، بل فيما إذا كان راجعاً إلى الأمر والتكليف (١).

ولا يمكن المساعدة على ذلك ، لعدم انحصار الوجه في بطلان العبادة مع التشريع بعدم التمكّن عن قصد التقرب والامتثال ليفصل بين الصورتين ، بل له وجه آخر يقتضي بطلان العبادة مع التشريع في كلتا الصورتين وهو مبغوضية العمل وحرمته المانعة عن كونه مقرباً ، لأن حرمة البناء والتشريع تسري إلى العمل المأتي به في الخارج وبه يحكم بحرمته ومبغوضيته ، ومعهما كيف يكون العمل مقرّباً به ليحكم بصحّته.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٦٨ ٣٦٩.


والواجب فيه بعد النيّة غسل ظاهر تمام البدن (١)

______________________________________________________

وجوب غسل ظاهر تمام البدن في الغسل‌

(١) لصحيحة زرارة ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن غسل الجنابة فقال : تبدأ فتغسل ، إلى أن قال : ثمّ تغسل جسدك من لدن قرنك إلى قدميك » الحديث (١) وصحيحة البزنطي عن الرضا عليه‌السلام في حديث « ثمّ أفض على رأسك وسائر جسدك » (٢) وغيرهما من الأخبار الآمرة بغسل تمام الجسد (٣). وفي موثقة سماعة « يفيض الماء على جسده كلّه » ، وفي بعضها أنها « تمرّ يدها على جسدها كلّه » (٤). وفي بعضها : « من ترك شعرة من الجنابة متعمداً فهو في النار » (٥). والمراد بالشعرة إما أنه معناها الحقيقي فتدلّ على وجوب غسل الشعر الذي هو من توابع البدن ، فلو وجب غسل ما هو من توابع البدن بتمامه فلا محالة يجب غسل نفسه بتمامه بطريق أولى ، وإما بمعناها المجازي أي بمقدار جزئي وحينئذ تدلّ على وجوب غسل تمام البدن على نحو بليغ هذا.

وقد ذهب المحقِّق الخونساري (٦) إلى عدم وجوب الاعتداد ببقاء شي‌ء يسير غير مخل بصدق غسل البدن عرفاً ، وذلك لصحيحة إبراهيم بن أبي محمود ، قال « قلت للرضا عليه‌السلام : الرجل يجنب فيصيب جسده ورأسه الخلوق والطيب والشي‌ء اللكد مثل علك الروم والظرب وما أشبهه فيغتسل فإذا فرغ وجد شيئاً قد بقي في‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٥.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٣٣ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ١٦.

(٣) كما يستفاد من غير واحد من الأحاديث المذكورة في الباب المتقدّم.

(٤) الوسائل ٢ : ٢٣١ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٨ ، ب ٣٨ ح ٦.

(٥) الوسائل ٢ : ١٧٥ / أبواب الجنابة ب ١ ح ٥ ، ٢ ، ب ٣٨ ح ٧.

(٦) مشارق الشموس : ١٧٠ / السطر ١٢.


جسده من أثر الخلوق والطيب وغيره ، قال : لا بأس » (١).

وفي رواية الكليني عن محمّد بن يحيى « الطراز » بدل « الظرب » (٢) وفي الوافي « الطرار ». قال في البيان الذي عقب به الحديث : الخلوق بالفتح ضرب من الطيب وهو الذي يستثني للمحرم من أنواع العطر فيه تركيب. واللكد بالمهملة اللزج اللصيق ، وفي التهذيب (٣) : اللزق والطرار بالمهملات ما يطين به ويزين (٤).

ولم يظهر لتلك الكلمة معنى مناسب للرواية ، لأن الطرار هو ما يزين به ولو بالتعليق وليس ممّا يلصق البدن ، والطراز بمعنى الطرز والنمط أي الأُسلوب ، ولا يناسب الرواية لأنها في مقام التمثيل للكد. والظرب بمعنى ما يلصق ، وهو أيضاً غير مناسب للرواية ، لأنها في مقام التمثيل للكد الذي هو بمعنى ما يلصق فكيف يمثل له بما يلصق فلم يظهر معنى هذه الكلمة ، ولعلّها كانت في تلك الأزمنة بمعنى مناسب للرواية. وعلى الجملة : إن لهذه الكلمة الواردة في صحيحة إبراهيم بن أبي محمود احتمالات لا يتناسب شي‌ء منها للرواية.

نعم المنقول في نسخ الوسائل « الظرب ». وعن الكليني « الطراز » ، ولكن النسخ مغلوطة قطعاً ، فإن الكلمة ليست بالظاء بل بالضاد ، والضرب بمعنى العسل الأبيض الغليظ كما في اللّغة ، وفي مجمع البحرين ذكر الحديث نفسه في مادة « الضّرب » (٥) وهذا أمر يناسب الرواية كما لا يخفى بخلاف الظرب الذي هو بمعنى اللاصق فإنه كما ترى لا يناسبها بوجه. وأما الطرار فهو جمع الطرة ولم نر استعماله مفرداً ، وقد جعله في‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٣٩ / أبواب الجنابة ب ٣٠ ح ١.

(٢) الكافي ٣ : ٥١ / ٧.

(٣) راجع التهذيب ١ : ١٣٠ / باب حكم الجنابة وصفة الطّهارة منها ، ح ٣٥٦ ، مع تعليقه.

(٤) الوافي ٦ : ٥١٠ / ٤٨١٢.

(٥) مجمع البحرين ٢ : ١٠٦.


مجمع البحرين مفرداً وفسّره بالطين ونقل الحديث واستشهد به (١). وأمّا ما ذكره في الوافي تفسيراً للكلمة من أنها بمعنى ما يطين به ويزين فمما لم نقف عليه في الأخبار ولا في شي‌ء من اللغات ، وعليه فالمحتمل في الصحيحة أمران : أحدهما الضرب بمعنى العسل الأبيض الغليظ ، وثانيهما : الطرار بمعنى الطين.

وكيف كان ، استدلّ بالصحيحة على عدم وجوب غسل اليسير من البدن الذي لا يكون مخلًّا بصدق غسل البدن عرفا.

ويدفعه : أن الصحيحة إنما دلّت على جواز الغسل وصحّته مع بقاء أثر الخلوق والطيب والعلك لا مع بقاء عينها ، وكم فرق بينهما ، فإن أثرها من الرائحة اللطيفة أو لون الصفرة غير مانع من وصول الماء للبشرة ، وهذا بخلاف عينها والعين غير مذكورة في الصحيحة. على أنها دلّت على صحّته مع بقاء أثرها ، أعم من أن يكون يسيراً أم كان كثيراً كما إذا دهن بالخلوق جميع رأسه مثلاً ، ولا دلالة فيها على جوازه وصحّته مع شي‌ء يسير في البدن ، فلو كان الأثر بمعنى العين فلازمها صحّة الغسل ولو مع وجود العين في تمام الرأس ، وهو كما ترى.

وبمضمونها روايات أُخرى أيضاً ظاهرة في إرادة الأثر دون العين منها : ما رواه إسماعيل بن أبي زياد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا اغتسلن من الجنابة يبقين صفرة الطيب على أجسادهن وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمرهنّ أن يصببن الماء صبّاً على أجسادهنّ » (٢). وفي موثقة عمار عن أبي عبد الله « في الحائض تغتسل وعلى جسدها الزعفران لم يذهب به الماء قال : لا بأس » (٣) إذ من المعلوم أن المراد بالزعفران أثره فإنه بنفسه لا يلصق بالبدن.

__________________

(١) مجمع البحرين ٣ : ٣٧٦.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٣٩ / أبواب الجنابة ب ٣٠ ح ٢.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٤٠ / أبواب الجنابة ب ٣٠ ح ٣.


دون البواطن منه ، فلا يجب غسل باطن العين والأنف والأُذن والفم ونحوها (١).

______________________________________________________

البواطن لا يجب غسلها في الاغتسال‌

(١) ويدلّ عليه ما ورد في أنّ الغسل الارتماسي يجزئ في مقام الامتثال ، فان الماء في الارتماسي لا يصل إلى البواطن كباطن العين والأنف ونحوهما عادة ، فإنها قاضية بفحص العينين في الارتماس ومع ذلك دلّ الدليل على كفايته ، فمنه نستكشف عدم اعتبار غسل البواطن في الغسل.

ودعوى أن الارتماسي إنما هو مجزئ عن الترتيبي كما اشتملت عليه أخباره ، حيث دلّت على أنه إذا ارتمس ارتماسة واحدة أجزأته (١) ، ويمكن أن يكون غسل البواطن معتبراً في المأمور به وإن لم يكن معتبراً فيما يجزئ عنه. مندفعة بأنّ الظاهر المستفاد من رواياته أن الارتماسي إنما يجزئ عن الترتيبي من جهة الترتيب فقط ، حيث إنه معتبر في الاغتسال فيجب أن يغسل الرأس أوّلاً ثمّ البدن وهذا لا يتحقق في الارتماسي ، لأن الرجلين فيه تغسلان قبل البدن والبدن قبل الرأس ، وبهذه الجهة كان الارتماس مجزئاً عن الترتيبي المشتمل على الترتيب المعتبر. وأما أن مقدار الغسل في الارتماسي أقل منه في الترتيبي فهو مما لا يستفاد من الروايات ، بل الظاهر أن مقداره فيهما غير متفاوت ، ومعه إذا دلّ الدليل على كفاية الارتماسي في مقام الامتثال فنستكشف أن البواطن غير واجبة الغسل في الغسل هذا.

مضافاً إلى الأخبار الواردة في الوضوء من تعليل عدم وجوب غسل داخل الأنف والعين في روايات المضمضة والاستنشاق بأنهما من الجوف (٢) حيث يدلّ على أنّ الجوف ممّا لا يجب غسله وأنّ الواجب إنّما هو غسل ما ظهر ، ويؤيِّده بعض الروايات الضِّعاف الواردة في المسألة (٣).

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٥ ، ١٢.

(٢) الوسائل ١ : ٤٣١ / أبواب الوضوء ب ٢٩ ح ٦ ، ٩ ، ١٠ ، ١٢.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٢٦ / أبواب الجنابة ب ٢٤ ح ٦ ، ٧ ، ٨ ، ٥.


ولا يجب غسل الشّعر مثل اللِّحية ، بل يجب غسل ما تحته من البشرة ، ولا يجزئ غسله عن غسلها ، نعم يجب غسل الشّعور الدقاق الصغار المحسوبة جزءاً من البدن مع البشرة (١).

______________________________________________________

الشّعر لا يجب غسله في الغسل‌

(١) الكلام في ذلك يقع في مقامين :

أحدهما : في أن غسل الشعر يجزئ عن غسل البشرة أو لا يجزئ.

وثانيهما : في أنه على تقدير عدم إجزائه هل يجب غسله مستقلا أو لا يجب؟

أمّا المقام الأوّل فلا ينبغي الإشكال في أن الواجب إنما هو غسل البشرة لصحيحة زرارة المتقدِّمة الآمرة بغسل البدن من القرن إلى القدم ، لأنّ القرن بمعنى منبت الشّعر وظاهره وجوب إيصال الماء إلى جميع أجزاء البشرة ولا يكفي إيصاله إلى الشعر دون البشرة. وفي صحيحة أُخرى « ثمّ أفض على رأسك وجسدك » (١) وفي موثقة سماعة « يفيض الماء على جسده كلّه » (٢) وفي بعضها : « إذا مسّ جلدك الماء فحسبك » (٣) وفي آخر : « الجنب ما جرى عليه الماء من جسده قليله وكثيره فقد أجزأه » (٤) ومن الظاهر أن الجسد غير الشعر ، وهو ليس من البدن ، وإنما الشّعر من توابعه لا من الجسد. ويؤكِّد ذلك بل يدلّ عليه ما ورد من أن النِّساء يبالغن في غسل مواضع الشعر من جسدهنّ (٥) ولا وجه له إلاّ إيصال الماء إلى البشرة.

وأمّا ما ورد في صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام من قوله : أرأيت ما‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٦.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٣١ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٨.

(٣) الوسائل ١ : ٤٨٥ / أبواب الوضوء ب ٥٢ ح ٣.

(٤) الوسائل ٢ : ٢٤٠ / أبواب الجنابة ب ٣١ ح ٣.

(٥) الوسائل ٢ : ٢٥٥ / أبواب الجنابة ب ٣٨ ح ١ ، ٢. في الثانية : يبالغن في الغسل. وفي الاولى : فقد ينبغي ان يبالغن في الماء.


أحاط به الشعر ، قال عليه‌السلام : كل ما أحاط به الشعر فليس للعباد أن يطلبوه أو أن يغسلوه الحديث (١) ، فلا يمكن الاستدلال به على كفاية غسل الشعر عن غسل البشرة في المقام ، حيث إن قوله : « أرأيت ما أحاط به الشعر » مسبوقة بجملة أو حال معيّن للمراد ، وقد سئل فيها عن شي‌ء ، وهذه الجملة ملحقة به ، وإلاّ فلا معنى للابتداء بتلك الجملة كما لا يخفى ، فهي مسبوقة بشي‌ء قطعاً بمعنى أنها منقطعة الصدر ، لعدم إمكان الابتداء بقوله : أرأيت ... إلخ.

ومن المحتمل قويّاً أن تكون الجملة الساقطة واردة في السؤال عن غسل ما أحاط به الشعر في الوضوء لكثرة الابتلاء به كما في النساء وكذا الرجال ، لأنهم كثيراً ما كانوا ملتحين ولا سيما في الأزمنة القديمة ، ومع هذا الاحتمال لا يمكننا التعدي عنه والأخذ بعمومها وإطلاقها في جميع الموارد حتى في الغسل ، لأن التمسك بالإطلاق يتوقف على جريان مقدّمات الحكمة لا محالة ، ولا مجال لها مع احتمال وجود ما يحتمل قرينته على الاختصاص.

ودعوى أنها عامّة ، لمكان قوله : كل ما ... ، وليست مطلقة تحتاج إلى مقدّمات الحكمة ، ساقطة ، لأن عمومها بحسب أفراد ما أحاط به الشعر خارج عن محل الكلام وإنما المقصود التمسك بإطلاق نفي وجوب الغسل في قوله : « ليس ... أن يغسلوه » وأنه يختص بموارد الوضوء أو يعمها وموارد الغسل وموارد الطّهارة الخبثية أيضاً هذا. مضافاً إلى ما قدّمناه في مبحث الوضوء من أن الرواية على إطلاقها غير قابلة للتصديق (٢) ، فان لازمها الحكم بكفاية غسل الشعر في طهارة ما أحاط به إذا كان نجساً.

فالمتحصل : أن الواجب إنما هو غسل البشرة ولا يكون غسل الشعر مجزئاً عنه.

وعن الأردبيلي قدس‌سره التأمل في عدم إجزاء غسل الشعر عن غسل البشرة استبعاداً من كفاية إجزاء غرفتين أو ثلاث لغسل الرأس كما نطق به غير واحد من‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٧٦ / أبواب الوضوء ب ٤٦ ح ٣ ، ٢.

(٢) لاحظ شرح العروة ٥ : ٥٩ وما بعدها.


الأخبار ، وذلك لأن غرفتين أو ثلاث لا يصل إلى البشرة في مثل رأس النساء أو غيرهن ممن على رأسه شعر كثير ، وهذا يدلّنا على إجزاء غسل الشعر عن غسل البشرة (١).

ولكن الظاهر أن استبعاده في غير محلّه ، لأنّ ما وقفنا عليه في الأخبار إنما هو غسل الرأس بثلاث غرفات أو حفنات ولم نظفر بما اشتمل على غرفتين ، وإليك بعضها منها : صحيحة زرارة قال « قلت : كيف يغتسل الجنب؟ فقال : إن لم يكن أصاب كفه شي‌ء غمسها في الماء ثمّ بدأ بفرجه فأنقاه بثلاث غرف ، ثمّ صبّ على رأسه ثلاث أكف ثمّ صب على منكبه الأيمن مرّتين وعلى منكبه الأيسر مرّتين ، فما جرى عليه الماء فقد أجزأه » (٢). ومنها صحيحة ربعي بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « يفيض الجنب على رأسه الماء ثلاثاً لا يجزئه أقل من ذلك » (٣) ودلالتها على ثلاث أكف بالإطلاق ، لأنّ « ثلاثاً » أعم من الأكف. وفي موثقة سماعة « ثمّ ليصب على رأسه ثلاث مرات مل‌ء كفّيه » (٤) ولا استبعاد في وصول ثلاث أكف إلى البشرة ، فإنّ الشعر ليس كالصوف والقطن مما يجذب الماء ، بل إنما الماء يجري عليه ولا سيما بملاحظة أن الغسل يكفي فيه التدهين وإيصال البلل. على أنّ كفّين من الماء يكفي في الطرف الأيمن أو الأيسر كما عرفته في الأخبار ، فلو كان كفّان من الماء كافياً في غسل أحد الطرفين فكيف لا يكفي ثلاث منها في غسل الرأس وإيصال الماء إلى البشرة به مع أن الرأس لأصغر من أحد الطرفين مرات ، نعم هو مشتمل على الشعر الكثير دون الطرفين هذا.

بل قد ورد في بعض الروايات ما يدلّ على عدم إجزاء غسل الشعر عن غسل البشرة ، وهو ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « الحائض ما‌

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ١٣٧.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٢٩ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٢.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٤.

(٤) الوسائل ٢ : ٢٣١ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٨.


بلغ بلل الماء من شعرها أجزأها » (١) فانّ كلمة « من » للابتداء ، وإذا صبّ الماء على شعرها وابتدأ منه البلل إلى أن وصل إلى الرأس أجزأها. وأمّا صحيحة زرارة المتقدِّمة من قوله : « أرأيت ما أحاط به الشعر » (٢) المتوهمة دلالتها على كفاية غسل الشعر عن غسل البشرة فقد تقدّم الجواب عنها فلا نعيد.

ويؤيد ما ذكرناه ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أن تحت كل شعرة جنابة (٣) فإنه يدلّ على لزوم غسل تحت الشعرات لترتفع الجنابة الكائنة تحتها.

وأمّا المقام الثاني وأن غسل الشعر أيضاً واجب أو غير واجب فقد يكون الشعر خفيفاً كما لا يخلو عنه الغالب فيوجد في مواضع غسله أو وضوئه شعور خفيفة ، ولا إشكال في وجوب غسلها حينئذ لأنها من توابع البدن ، فقوله : تغسل من قرنك إلى قدمك ، أو تفيض الماء على جسدك. يشمل الشعور الخفيفة أيضا.

وقد يكون الشعر كثيفاً كما في شعور النساء أو لحى الرجال فهل يجب غسلها أو لا يجب؟ فلو كان على شعره قير مانع من وصول الماء إلى نفس الشعور ومانع عن غسلها وقد غسل نفس البشرة أفيكفي ذلك في صحّته لأن الشعر غير واجب الغسل؟ المعروف بينهم عدم وجوب غسل الشعر في الغسل وإن قلنا بوجوبه في الوضوء ، لما ورد من تحديد مواضع الغَسل بما بين القصاص والذقن أو من الذراع إلى الأصابع (٤) فإنه يشمل الشعر والجسد ، وأمّا في الغسل فلم يلتزموا بذلك.

وخالفهم فيه صاحب الحدائق قدس‌سره ومالَ إلى أن الشعر كالبشرة ممّا يجب غسله. واستدلّ على ذلك بأن الشعر غير خارج عن الجسد ولو مجازاً فيدلّ على وجوب غسله ما دلّ على وجوب غسل الجسد ، كيف وقد حكموا بوجوب غسل الشعر في الوضوء معللين ذلك تارة بدخوله في محل الفرض وأُخرى بأنه من توابع‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٤١ / أبواب الجنابة ب ٣١ ح ٤ ، ٣١١ / أبواب الحيض ب ٢٠ ح ٢.

(٢) تقدّمت في ص ٣٦٠.

(٣) مستدرك الوسائل ١ : ٤٧٩ / أبواب الجنابة ب ٢٩ ح ٣. وفيه : ... فبلغ الماء تحتها في أُصول الشعر كلّها ...

(٤) الوسائل ١ : ٣٨٧ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٢ ، ١١. ب ١٧.


اليد ، وإذا كان الشعر داخلاً في اليد بأحد الوجهين المذكورين واليد داخلة في الجسد كان الشعر داخلاً في الجسد لا محالة. على أنّا لو سلمنا خروجه عن الجسد فهو غير خارج عن الرأس والجانب الأيمن والأيسر ، وقد ورد الأمر بغسل الرأس ثلاثاً وصب الماء على كل من جانبي الأيسر والأيمن مرّتين وهو يشمل الشعر أيضاً هذا كله. مضافاً إلى صحيحة حجر بن زائدة عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : « من ترك شعرة من الجنابة متعمداً فهو في النار » (١) فإن تأويلها بالحمل على إرادة مقدار الشعرة من الجسد خلاف الأصل ، لا يصار إليه إلاّ بدليل (٢). هذه خلاصة ما أفاده في المقام.

ولكن الصحيح هو ما ذهب إليه المشهور من عدم وجوب غسل الشعر في الغسل ، ويكفينا في ذلك عدم الدليل على وجوبه. ولا دلالة في شي‌ء مما ذكره في المسألة على وجوبه ، وذلك لأن الشعر خارج عن الجسد وإنما هو أمر ثابت عليه ، نعم لا بأس بإطلاق الجسد وإرادة الأعم منه ومن الشعر النابت عليه مجازاً إلاّ أن إرادته تحتاج إلى قرينة تدلّ عليه ، ولا يمكن حمل الجسد عليه إلاّ بدليل ولا دليل عليه. نعم إطلاق الرأس والطرف الأيمن أو الأيسر يشمل الشعر كما أفاده ، إلاّ أن الأخبار الآمرة بصب الماء على الرأس ثلاثاً والطرفين مرّتين إنما وردت لبيان الترتيب في غسل الأعضاء ولم ترد لبيان أن الغسل واجب في أي شي‌ء ، وإنما يدلّ على وجوبه الأخبار الآمرة بغسل الجسد أو من قرنه إلى قدمه وغيرها مما لا يشمل الشعر كما مر.

وصحيحة حجر بن زائدة أيضاً لا دلالة لها على وجوب غسل الشعر لا بحمل الشعرة على معناها المجازي ، بل مع إبقائها على معناها الحقيقي وأن الشعرة واجبة الغسل لا تدلّ إلاّ على لزوم غسلها من أصلها إلى آخرها ، وأصل الشعر من الجسد فيكون في الأمر بغسلها دلالة على لزوم إيصال الماء إلى الجسد. نعم لو كانت دالّة على وجوب غسل بعض الشعر لا من أصله إلى آخره أمكن الاستدلال بها على مدعاه إلاّ‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٧٥ / أبواب الجنابة ب ١ ح ٥.

(٢) الحدائق ٣ : ٨٨.


والثقبة التي في الاذن أو الأنف للحلقة إن كانت ضيقة لا يرى باطنها لا يجب غسلها ، وإن كانت واسعة بحيث تعدّ من الظاهر وجب غسلها (١).

______________________________________________________

أنّ الصحيحة لا دلالة لها عليه.

فتحصل : أن وجوب غسل الشعر في الغسل مما لا دليل عليه ، بل الدليل على عدم وجوبه موجود وهو موثقة عمار بن موسى الساباطي « أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن المرأة تغتسل وقد امتشطت بقرامل ولم تنقض شعرها كم يجزئها من الماء؟ قال : مثل الذي يشرب شعرها وهو ثلاث حفنات على رأسها » الحديث (١) لأنّ إطلاقها يشمل ما إذا كان شعر المرأة مفتولاً شديداً بحيث لا يدخل الماء جوفه ولا يصل إلى جميع أجزاء الشعر ، فلو كان غسل الشعر أيضاً واجباً لوجب عليها النقض ، والأخبار صريحة الدلالة على عدم وجوبه.

وأجاب عنها في الحدائق بأن عدم نقض الشعر لا يلزمه عدم وجوب غسله لإمكان إضافة الماء وزيادته إلى أن يصل إلى جميع أجزائه (٢). وفيه : أن إيصال الماء إلى جوف الشعور المفتولة وإلى جميع أجزائها وإن كان ممكناً كما أفاده بإضافة الماء حتى يروي ، إلاّ أن الكلام في الملازمة بينهما وأن غسل الشعر ملازم لوصول الماء إلى جوف المفتول منه بحيث يصل إلى تمام أجزائه ، ومن الظاهر أنه لا تلازم بينهما ، نعم قد يكون لإضافة الماء وكثرته وقد لا يكون ، مع ملاحظة ما ورد من كفاية صب ثلاث غرفات في غسل الرأس.

فتحصل : أن غسل الشعر غير واجب كما ذهب إليه المشهور إلاّ إذا كان خفيفاً ومعدوداً من توابع الجسد كما قدّمناه.

حكم الثّقبة في الأنف ونحوه‌

(١) قد مرّ وعرفت أن الواجب إنما هو غسل ظواهر البدن دون بواطنه ، فالحكم‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٥٧ / أبواب الجنابة ب ٣٨ ح ٦.

(٢) الحدائق ٣ : ٨٩.


وله كيفيتان : الاولى الترتيب (*) وهو أن يغسل الرأس والرقبة أوّلاً ثمّ الطرف الأيمن من البدن ثمّ الطرف الأيسر (١)

______________________________________________________

يدور مدار صدقهما ، ولا مدخلية للثقبة فيه إثباتاً ونفياً ، ولا بدّ حينئذ من ملاحظة أنّ الثقبة من الظاهر أو الباطن ، فإذا كانت وسيعة بحيث يرى باطنها فهي محسوبة من الظاهر ، وإذا كانت ضيقة ولا يرى باطنها فهي من البواطن ولا يجب غسلها.

كيفية الغسل الترتيبي‌

(١) الكلام في ذلك يقع من جهات :

اعتبار غسل الرأس أوّلاً

الجهة الاولى : في أن الغسل ترتيباً يعتبر فيه غسل الرأس قبل غسل البدن بحيث لو غسله بعد غسل البدن أو مقارناً لغسله بطل. ويدلّ عليه مضافاً إلى الشهرة المحققة في المسألة بل الإجماع على اعتبار الترتيب بين الرأس والبدن ، ولا يعتد بما هو ظاهر المحكي من عبارة الصدوقين حيث عطف البدن على الرأس بالواو (٢) ، لأنه نقل عنهما التصريح في آخر المسألة بوجوب إعادة الغسل لو بدأ بغير الرأس ، ومع التصريح بذلك لا يمكن الاعتماد على ظاهر العطف في صدر المسألة الأخبار المعتبرة من الصحيح والحسنة والموثقة وإليك جملة منها :

فمنها : صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « سألته عن غسل الجنابة أي عن كيفيته بقرينة الجواب ، لا عن حكمه فقال : تبدأ بكفيك فتغسلهما ثمّ تغسل فرجك ، ثمّ تصبّ على رأسك ثلاثاً ، ثمّ تصبّ على سائر جسدك‌

__________________

(*) لا يبعد عدم اعتباره بين الجانبين ، والاحتياط لا ينبغي تركه.

(١) الفقيه ١ : ٤٦.


مرّتين فما جرى عليه الماء فقد طهر » أو ( طهّر ) (١) ، لدلالتها على لزوم تقديم الرأس على البدن في الغسل لكلمة « ثمّ » الظاهرة في التراخي. واشتمالها على بعض المستحبات كغسل الفرج لعدم اعتبار الاستنجاء في صحّة الغسل على ما يأتي في محلِّه (٢) ، وغسل الكفين وكذلك الغسل ثلاثاً أو مرّتين لقيام القرينة الخارجية على عدم وجوبها لا ينافي دلالتها على الوجوب فيما لم يقم على خلاف ظاهره الدليل.

ومنها : صحيحة زرارة قال « قلت : كيف يغتسل الجنب؟ فقال : إن لم يكن أصاب كفه شي‌ء غمسها في الماء ، ثمّ بدأ بفرجه فأنقاه بثلاث غرف ، ثمّ صب على رأسه ثلاث أكف ثمّ صب على منكبه الأيمن مرّتين وعلى منكبه الأيسر مرّتين فما جرى عليه الماء فقد أجزأه » (٣). وذلك لوقوع كلمة « ثمّ » عند عطف غسل البدن على غسل الرأس كما في الصحيحة المتقدّمة ، وقد عرفت أن اشتمالها على بعض المستحبات لا ينافي دلالتها على الوجوب فيما لم يقم قرينة على استحبابه.

نعم الرواية مضمرة إلاّ أنا ذكرنا غير مرّة أن مضمرات زرارة كمسنداته ، لأنه لا يسأل من غير الإمام عليه‌السلام ، على أن المحقق رواها في المعتبر عن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٤) ، ولعلّه كما في الحدائق نقلها عن بعض الأُصول القديمة التي كانت عنده (٥).

ومنها : موثقة سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا أصاب الرجل جنابة فأراد الغسل فليفرغ على كفيه وليغسلهما دون المرفق ، ثمّ يدخل يده في إنائه ثمّ يغسل فرجه ، ثمّ ليصب على رأسه ثلاث مرات مل‌ء كفّيه ، ثمّ يضرب بكف من ماء على صدره وكفّ بين كتفيه ... » (٦).

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٢٩ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ١.

(٢) في ص ٣٩٩ ٤٠٠.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٢٩ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٢.

(٤) المعتبر ١ : ١٨٣.

(٥) الحدائق ٣ : ٧٠.

(٦) تقدّم ذكر مصدرها في ص ٣٦٢.


ومنها : صحيحة زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « من اغتسل من جنابة فلم يغسل رأسه ثمّ بدا له أن يغسل رأسه لم يجد بداً من إعادة الغسل » (١) نعم لا دلالة لها على بطلانه فيما إذا غسل رأسه مقارناً لغسل بدنه ، لأنها إنما تدلّ على بطلانه فيما إذا غسل بدنه قبل غسل رأسه فحسب. ولكن يمكن أن يقال بدلالتها على بطلانه في صورة المقارنة بعدم القول بالفصل ، لأن من قال بالترتيب بين الرأس والبدن والتزم ببطلانه عند تأخيره عن غسل البدن التزم ببطلانه عند مقارنة غسله لغسله أيضا.

ومنها : ما رواه حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « من اغتسل من جنابة ولم يغسل رأسه ثمّ بدا له أن يغسل رأسه لجهله بلزومه مثلاً لم يجد بدّاً من إعادة الغسل » (٢) وهي كسابقتها.

ومنها : صحيحته أي حريز المعبّر عنها بمقطوعة حريز في كلماتهم ، في الوضوء يجف ، قال « قلت : فان جفّ الأوّل قبل أن أغسل الذي يليه ، قال : جفّ أو لم يجف اغسل ما بقي ، قلت : وكذلك غسل الجنابة ، قال : هو بتلك المنزلة ، وابدأ بالرأس ثمّ أفض على سائر جسدك ، قلت : وإن كان بعض يوم ، قال : نعم » (٣) ودلالتها على اعتبار تقديم غسل الرأس على غسل البدن ظاهرة ، وإنما الكلام في أنها مضمرة حيث لم يسندها حريز إلى الإمام عليه‌السلام ، إلاّ أنّ إضمار حريز كإضمار زرارة وأضرابه لأنّ حريزاً من أجلاء أصحاب الصادق عليه‌السلام وليس من شأنه السؤال عن غير الإمام ودرجه في الأخبار.

وقد يُقال : إنّها مقطوعة وتوصف بها ، ولعلّه من جهة إرجاع الضمير في « قال قلت : فان جفّ ... » إلى عبد الله بن المغيرة الذي يروي عن حريز ليكون هو السائل دون حريز ، وإرجاع الضمير في « قال : جف أم لم يجف » إلى حريز ليكون هو المجيب دون الإمام. إلاّ أنه بعيد غايته ، لأن الظاهر أن ابن المغيرة إنما يروي عن حريز ، نعم‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٣٥ / أبواب الجنابة ب ٢٨ ح ١.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٣٥ / أبواب الجنابة ب ٢٨ ح ٣.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٣٧ / أبواب الجنابة ب ٢٩ ح ٢.


هي مضمرة وقد عرفت أن الإضمار غير مضر من أمثال حريز وزرارة هذا.

على أنّ الصدوق رواها في ( مدينة العلم ) عن حريز مسنداً إلى أبي عبد الله عليه‌السلام ، والراوي عن الصدوق هو الشهيد في الذكرى على ما في الوسائل (١) والشهيد ثقة عدل تُتبع روايته عن كتاب ( مدينة العلم ) وإن كان هذا الكتاب غير موجود في عصرنا لأنه مسروق ولكن الشهيد حسب روايته ينقل عن نفس الكتاب ، وطريقه إلى الكتاب معتبر كما يظهر من المراجعة إلى الطرق والإجازات ، وبه تكون الرواية مسندة وتخرج عن الإضمار والقطع.

ومنها : غير ذلك من الأخبار.

وبإزاء هذه الأخبار أخبار أُخرى تدلّ على عدم لزوم الترتيب بين غسل الرأس والبدن إمّا بإطلاقها وإمّا بتصريحها ونصّها.

أمّا ما دلّ على عدمه بالنص فهو ما ورد في قضية الجارية أعني صحيحة هشام قال : « كان أبو عبد الله عليه‌السلام فيما بين مكّة والمدينة ومعه أُم إسماعيل فأصاب من جارية له فأمرها فغسلت جسدها وتركت رأسها ، وقال لها : إذا أردت أن تركبي فاغسلي رأسك ، ففعلت ذلك فعلمت بذلك أُم إسماعيل فحلقت رأسها ، فلما كان من قابل انتهى أبو عبد الله عليه‌السلام إلى ذلك المكان فقالت له أُم إسماعيل : أي موضع هذا؟ قال لها : هذا الموضع الذي أحبط الله فيه حجّك عام أوّل » (٢).

حيث دلّت على عدم لزوم غسل الرأس قبل غسل البدن. إلاّ أنها ممّا لا يمكن الاعتماد عليه وإن كانت صحيحة السند وصريحة الدلالة على المدعى ، وذلك لأنّ راوي هذا الحديث أعني هشام بن سالم بعينه روى تلك القضية في صحيحة محمّد بن مسلم على عكس ما رواها في هذه الرواية ، حيث روى هشام عن محمّد بن مسلم قال : « دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فسطاطه وهو يكلم امرأة فأبطأت عليه‌

__________________

(١) المصدر المتقدّم. كذا الذكرى : ٩١ / السطر ١٢.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٣٦ / أبواب الجنابة ب ٢٨ ح ٤.


فقال : ادنه هذه أُمّ إسماعيل جاءت وأنا أزعم أن هذا المكان الذي أحبط الله فيه حجّها عام أوّل ، كنت أردت الإحرام فقلت : ضعوا إليّ الماء في الخباء فذهبت الجارية بالماء فوضعته فاستخففتها فأصبت منها فقلت : اغسلي رأسك وامسحيه مسحاً شديداً لا تعلم به مولاتك ، فإذا أردت الإحرام فاغسلي جسدك ولا تغسلي رأسك فتستريب مولاتك ، فدخلت فسطاط مولاتها فذهبت تتناول شيئاً فمست مولاتها رأسها فإذا لزوجة الماء فحلقت رأسها وضربتها ، فقلت لها : هذا المكان الذي أحبط الله فيه حجّك » (١).

وهي على عكس الصحيحة التي رواها هشام عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، ومن هنا قال الشيخ : هذا الحديث قد وهم الراوي فيه واشتبه عليه فرواه بالعكس ، لأن هشام بن سالم روى ما قلنا بعينه ، يعني لزوم غسل الرأس قبل غسل البدن (٢).

والصحيح ما أفاده قدس‌سره وأنّ الاشتباه إنما هو من راوي الحديث عن هشام ، لأنه بنفسه نقل عكسه كما عرفت.

وأمّا ما دلّ على عدم لزوم الترتيب بإطلاقها فعدة روايات.

منها : صحيحة زرارة المشتملة على قوله : « ثمّ تغسل جسدك من لدن قرنك إلى قدميك » (٣).

ومنها صحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال : « سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن غسل الجنابة ، فقال : تغسل يدك اليمنى من المرفقين ( المرفق ) إلى أصابعك وتبول إن قدرت على البول ، ثمّ تدخل يدك في الإناء ثمّ اغسل ما أصابك منه ، ثمّ أفض على رأسك وجسدك ولا وضوء فيه » (٤).

ومنها : صحيحة يعقوب بن يقطين عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : « سألته عن‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٣٧ / أبواب الجنابة ب ٢٩ ح ١.

(٢) التهذيب ١ : ١٣٤.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٥.

(٤) الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٦.


غسل الجنابة فيه وضوء أم لا فيما نزل به جبرئيل؟ قال : الجنب يغتسل يبدأ فيغسل يديه إلى المرفقين قبل أن يغمسهما في الماء ، ثمّ يغسل ما أصابه من أذى ، ثمّ يصب على رأسه وعلى وجهه وعلى جسده كلّه ، ثمّ قد قضى الغسل ولا وضوء عليه » (١).

والكلام في تقييد المطلقات بالمقيّدات المتقدّمة وعدمه ، وذلك لأن هذه المطلقات ليست بأقوى من سائر المطلقات الواردة في الفقه ، حيث إنّها بناء على كونها في مقام البيان من تلك الجهة أعني جهة الترتيب وإن كان لها ظهور في الإطلاق إلاّ أن ظهور المقيّد في التقييد حاكم على ظهوره ومانع عن حجيّته إذا كان منفصلاً ، ومانع عن أصل انعقاده لو كان متصلا.

على أنّه يمكن أن يقال بعدم كونها في مقام بيان أن الواجب في الغسل أي شي‌ء لأنها إنما وردت لبيان آدابه وكيفياته لا لبيان الأُمور الواجبة فيه ، ومن هنا تعرض لجملة من المستحبات ولم يتعرّض لاعتبار الترتيب ، فلو لم يكن الترتيب بين الرأس والبدن واجباً فلا أقل من أنه مستحب ، للأمر به في الأخبار من قوله : « صبّ على رأسه ثلاث أكف ثمّ صبّ على منكبه الأيمن مرّتين » (٢) ... وقوله : « ثمّ ليصب على رأسه ثلاث مرّات ... » (٣). وقوله : « تبدأ بكفّيك ... » (٤) فإنّ الأمر لو لم يفد الوجوب فلا أقل من إفادته الاستحباب ، وللتأسِّي به عليه‌السلام حيث إنه كما في صحيحة زرارة بدأ بفرجه فأنقاه بثلاث غرف ثمّ صبّ على رأسه ثلاث أكف ثمّ صب على منكبه الأيمن مرّتين ... (٥) ومع ذلك لم يتعرض لبيانه ولم يدلّ على استحبابه ، وهذا أيضاً قرينة على وجوبه ، وإنما لم يتعرّض له لعدم كونها في مقام البيان من تلك الجهة. فالإنصاف أن المناقشة في دلالة الروايات على اعتبار الترتيب بين الرأس والبدن في غير محلّها. هذا كلّه في الجهة الأُولى.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٤٦ / أبواب الجنابة ب ٣٤ ح ١.

(٢) تقدّم ذكرهما في ص ٣٦٧.

(٣) تقدّم ذكرهما في ص ٣٦٧.

(٤) المتقدِّم في ص ٣٦٦.

(٥) تقدّم ذكرها في ص ٣٦٧. ومضمونها ليس فعلاً صادراً منه عليه‌السلام.


هل الرّقبة داخلة في الرأس؟

الجهة الثانية : هل الرقبة داخلة في الرأس فيجب غسلها قبل غسل البدن أو داخلة في البدن ، فان قلنا بالترتيب بين الطرف الأيمن والأيسر فلا بدّ من غسل نصف الرقبة مع الطرف الأيمن ونصفها الآخر مع الطرف الأيسر ، وإن لم نلتزم بالترتيب بينهما فيغسلها مع الطرفين بأية كيفية شاءها؟

المعروف بينهم أنها داخلة في الرأس ، وهذا هو الصحيح لا لدعوى أن الرأس يطلق على الرقبة وما فوقها ليقال إنها غير ثابتة وأن الرأس اسم لما نبت عليه الشعر فوق الأُذنين مع أن إطلاقه وإرادة الرقبة وما فوقها ليس إطلاقاً غريباً ، بل قد يستعمل كذلك فيقال قطع رأسه أو ذبح ولا يراد بذلك أنه قطع عمّا فوق الأُذنين ، نعم ليس إطلاقاً متعارفاً كثيراً بل من جهة أن حكم الرقبة حكم الرأس فيجب غسلها مقدّماً على غسل البدن ، لقيام القرينة على ذلك أي على أن حكمها حكمه. والذي يدلّ على ذلك أمران :

أحدهما : صحيحة زرارة الآمرة بصب ثلاث أكف على رأسه وصبّ الماء مرّتين على منكبه الأيمن ومرّتين على منكبه الأيسر (١) ، فإنّ الرقبة لو لم تغسل مع الرأس وكانت الأكف الثلاث لأجل غسل الرأس فحسب فأين تغسل الرقبة بعد غسله؟ فان صبّ الماء على المنكبين لا يوجب غسل الرقبة لوضوح أنها فوق المنكبين ، ولا أمر بالغسل غير غسل الرأس والمنكبين إلى آخر البدن فتبقى الرقبة غير مغسولة.

وثانيهما : موثقة سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام الآمرة بعد صبّ الماء على رأسه ثلاثاً بضرب كف من الماء على صدره وكف بين كتفيه (٢) ، فان ضرب الكف منه على صدره وكف بين كتفيه إما أن يكونا هما تمام الغسل الواجب في الغسل وإما أن يكونا مقدّمة لوصول الماء في الغسل الواجب إلى تمام البدن بسهولة ، لأن الماء في‌

__________________

(١) تقدّمت في ص ٣٦٧.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٣١ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٨.


المبلول سريع الجريان. وعلى كلا التقديرين لو لم تكن الرقبة داخلة تحت الرأس في الغسل لتبقى غير مغسولة ، وذلك لأن صبّ الماء على الصدر والكتف لا يوجب غسل الرقبة لأنها فوقهما هذا.

وقد يقال : إنّ الرقبة داخلة في البدن ، ويستدلّ عليه بصحيحة أبي بصير حيث ورد فيها « وتصب الماء على رأسك ثلاث مرات وتغسل وجهك ... » (١) ، ونظيرها صحيحة يعقوب بن يقطين ، لما ورد فيها من قوله عليه‌السلام : « ثمّ يصب على رأسه وعلى وجهه وعلى جسده كلِّه » (٢) فان غسل الرأس إذا لم يشمل غسل الوجه فلا يشمل غسل الرقبة بطريق أولى. وهذا القول هو الذي نقله في الحدائق عن بعض معاصريه الشيخ عبد الله بن صالح البحراني قدس‌سره (٣).

وفيه : أنّه إن أُريد بذلك أن الوجه والرقبة خارجان عن مفهوم الرأس لغة لأنه اسم لمنبت الشعر من فوق الاذن فهو مما لا كلام فيه ، وإن أراد أن الرقبة والوجه لا يغسلان مع غسل الرأس مقدّماً على غسل البدن فلا دلالة عليه في شي‌ء من الروايتين ، بل هما يغسلان بغسله ، وإنما أمره بغسل الوجه إما لاستحبابه في نفسه ولو مع غسله بغسل الرأس وإما لأجل الاهتمام به. وقد احتاط الماتن بغسل نصف الرقبة ثانياً مع الجانب الأيسر ونصفها كذلك مع الجانب الأيمن ، وهو احتياط استحبابي لا بأس به.

هل يعتبر الترتيب بين الجانب الأيمن والأيسر؟

الجهة الثالثة : في أن الترتيب كما يعتبر في الرأس والبدن هل يعتبر بين الجانب الأيمن والأيسر؟ المعروف هو اعتباره بينهم مستدلاًّ على ذلك بما ورد في صحيحة زرارة من صبّ الماء على رأسه ثلاثاً ثمّ صبّه على المنكب الأيمن مرّتين وعلى المنكب‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٣١ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٩.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٤٦ / أبواب الجنابة ب ٣٤ ح ١.

(٣) الحدائق ٣ : ٦٥.


الأيسر مرّتين فما جرى عليه الماء فقد أجزأه (١) ، بدعوى أن الظاهر منها ومن غيرها ممّا هو بهذا المضمون أن الغسل ثلاثة أجزاء غسل الرأس وغسل الجانب الأيمن وغسل الجانب الأيسر ، فلو لم يعتبر الترتيب بين الجانبين لما كان له أجزاء ثلاثة ، بل كان له جزءان غسل الرأس وغسل البدن. وعلى ما ببالي أنّ الفرّاء يرى مجي‌ء واو العاطفة للترتيب الذكري (٢) ، ومعه يكون عطف الجانب الأيسر على الأيمن بكلمة « واو » دالاًّ على لزوم الترتيب بينهما. وللإجماع على اعتبار الترتيب بين الجانبين كما يعتبر بين الرأس والبدن.

ولكن الصحيح عدم اعتبار ذلك ، لأن الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام غير حاصل في المسألة مع ذهاب جملة من أكابر الفقهاء كالبهائي (٣) والأردبيلي (٤) وصاحب المدارك (٥) والذخيرة (٦) إلى عدم الاعتبار ، وأما أن واو العاطفة تدلّ على الترتيب فهو خلاف المتسالم عليه بين الأُدباء لأنها إنما تدلّ على مطلق الجمع دون الترتيب.

وأمّا الصحيحة وغيرها ممّا هو بمضمونها فيدفعه أنه لا دلالة لها على أنّ الغسل له أجزاء ثلاثة بل له جزءان ، وإنما عبّر بغسل الرأس ثمّ الجانب الأيمن والجانب الأيسر لأن الماء في مفروض الروايات هو الماء القليل ، والكيفية المتعارفة العاديّة في غسل البدن بالماء القليل إنما هو غسل الرأس ثمّ أحد الجانبين ثمّ الجانب الآخر ، وليس ذكره كذلك لكونه واجباً معتبراً في الغسل.

بل يمكن القول بدلالتها على عدم لزوم الترتيب بين الجانبين ، وذلك لأنّ معنى الترتيب أنّ النصف الأيمن لا بدّ أن يغسل بتمامه قبل النصف الأيسر ، والروايات دلّت‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٢٩ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٢.

(٢) مغني اللّبيب : ٤٦٤.

(٣) حبل المتين : ٤١.

(٤) لم نعثر على رأيه.

(٥) المدارك ١ : ٢٩٥.

(٦) الذخيرة : ٥٦ / السطر ١٨.


على أنه بعد صبّ الماء حفنتين على أحد الجانبين يصب الماء حفنتين على الجانب الآخر ، وهل يمكن أن يغسل بحفنتين من الماء تمام الجانب الأيمن حتى تكون الكفّان بعد ذلك لغسل النصف الأيسر؟ بل يستحيل ذلك عادة.

ثمّ لو فرضنا أنّ كفين من الماء يكفي في غسل تمام النصف أو أخذنا بما دلّ على صبّ الماء على الجانبين مرّتين ولو بمقدار يكفي في غسل الطرفين ، إلاّ أن في صبّ الماء مرّتين على النصف الأيمن لا محالة يغسل شي‌ء من النصف الأيسر أيضاً ، إذ لم يجعل خط فاصل بين نصفي البدن نصفاً حقيقياً يمنع عن وصول الماء من جانب إلى جانب ، فإذا غسل شي‌ء من الجانب الأيسر بغسل الجانب الأيمن فهو كاف في غسل الجانب الأيسر ولا يلزم غسل ذلك المقدار منه ثانياً ، بدلالة الصحيحة نفسها على أن ما جرى عليه الماء فقد أجزأه ، فهي بنفسها دالّة على عدم اعتبار الترتيب بين الطرفين. هذا كلّه فيما استدلّ به على اعتبار الترتيب بين الطرفين أوّلا.

واستدلّ على اعتباره ثانياً بما يتألف من مقدمتين :

إحداهما : ما ورد في جملة من الأخبار (١) فيها المعتبرة وغير المعتبرة من اعتبار الترتيب بين غسل الجانب الأيمن والجانب الأيسر في غسل الميت ، وأنه يغسل رأسه أوّلاً ثمّ يغسل طرفه الأيمن ثمّ الأيسر.

وثانيتهما : ما ورد من أن غسل الميت كغسل الجنابة (٢) ، حيث استفيد منها أنهما على حدّ سواء. وحيث أنّ المقدّمة الأُولى تثبت اعتبار الترتيب في غسل الميت فلا محالة يعتبر ذلك في غسل الجنابة أيضاً بحكم المقدّمة الثانية.

ويدفعه : أنّ الترتيب وإن كان معتبراً في غسل الميت إلاّ أن المقدّمة الثانية ممنوعة وذلك لأن الرواية لم تشتمل على أن غسل الجنابة كغسل الميت حتى يدلّ على أنّ ما يعتبر في المشبه به يعتبر في المشبّه لا محالة ، وإنّما اشتملت على أنّ غسل الميت كغسل‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٤٧٩ / أبواب غسل الميت ب ٢.

(٢) الوسائل ٢ : ٤٨٦ / أبواب غسل الميت ب ٣ ح ١ ، وهي صحيحة محمّد بن مسلم.


الجنابة ، ولا دلالة له على أن ما يعتبر في غسل الميت يعتبر في غسل الجنابة ، وإلاّ فيعتبر في غسل الميت تعدد الغسلات والمزج بشي‌ء من السدر والكافور ولا يعتبر شي‌ء من ذلك في غسل الجنابة ، وإنما شبّه بغسل الجنابة فيما يعتبر فيه ، أعني لزوم إصابة الماء ووصوله إلى تمام البدن بحيث لا تبقى منه ولو بمقدار شعرة واحدة ، فهو يعتبر في غسل الميت أيضاً بهذه الرواية.

على أنّ القاعدة أيضاً تقتضي تشبيه غسل الميت بغسل الجنابة دون العكس ، وذلك لأنّ الجنابة أمر تعمّ به البلوى ويبتلى به عامّة الناس إلاّ نادراً فحكمها أمر يعرفه الجميع وهذا بخلاف غسل الميت ، لأنه لعله مما لا يبتلي به واحد في المائة فيشبه بغسل الجنابة تشبيهاً للمجهول بالمعلوم والضعيف بالقوي فهذا الاستدلال غير تام.

وأمّا ما ورد من أنّ غسل الميت بعينه غسل الجنابة ، لأنّ الميت يجنب حال موته بخروج النطفة التي خلق منها فغسل الميت بعينه غسل الجنابة ، فيندفع بأن أكثرها ضعيفة السند ولا يمكن الاعتماد عليها في الاستدلال. على أن منها ما اشتمل على أن النطفة إنما تخرج منه من ثقبة في بدنه كعينه أو أنفه وأُذنيه ، ولا إشكال في أن خروج النطفة من غير الموضع المعيّن لا يوجب الجنابة فلا يكون الميت جنباً بذلك ولا يكون غسله غسل الجنابة. ثمّ لو سلمنا أنه يجنب بذلك لدلالة الدليل مثلاً على أن الميت يجنب بذلك فلا دليل على أن غسل الجنابة في الأحياء يعتبر فيه ما يعتبر في غسل الجنابة في الأموات.

ثمّ إنّ ممّا يدلّنا على عدم الترتيب بين الطرفين ما ورد في ذيل صحيحة محمّد بن مسلم « فما جرى عليه الماء فقد طهر » (١) وفي ذيل صحيحة زرارة « فما جرى عليه الماء فقد أجزأه » (٢) لما مرّ من أن صب الماء على أحد الطرفين لا يمكن عادة أن يغسل به أحدهما من دون أن يصل منه الماء إلى شي‌ء من الطرف الآخر وهو أمر ظاهر ، فإنه‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٢٩ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ١.

(٢) تقدّم ذكرها في ص ٣٧٣.


يجري الماء منه إلى شي‌ء من الجانب الأيسر لا محالة ، والذيلان المتقدّمان يدلاّن على كفاية ذلك في الغسل وعدم وجوب غسله ثانياً مع أن غسل ذلك المقدار من الجانب الأيسر وقع قبل غسل تمام الطرف الأيمن ، فهما تدلاّن على عدم اعتبار الترتيب بين الطرفين.

ويدلّ على ذلك من الأخبار الخاصّة مضافاً إلى المطلقات المتقدّمة ما ورد في ذيل صحيحة زرارة الواردة في من شك في غسل بعض جسده في الغسل ، حيث قال : « فان دخله الشك وقد دخل في صلاته فليمض في صلاته ولا شي‌ء عليه ، وإن استيقن رجع فأعاد عليه الماء ، وإن رآه وبه بلّة مسح عليه وأعاد الصلاة باستيقان ... » (١) حيث فصّلت بين صورتي الشك واليقين ، ودلّت على وجوب إعادة الماء على الموضع غير المغسول أو مسحه بالبلة الموجودة في بدنه وعلى إعادة الصلاة في صورة اليقين وهذا إنما يتمّ بناء على عدم الترتيب بين الجانبين ، لأن الترتيب لو كان معتبراً بينهما لوجب التفصيل بين ما إذا كان المحل المنسي غسله في الطرف الأيسر فيعود عليه بالماء أو يمسحه بالرطوبة الموجودة في بدنه كما في الرواية ، وبين ما إذا كان في الطرف الأيمن فإنه يعود عليه الماء أو يمسحه ويعيد غسل طرفه الأيسر ليحصل به الترتيب المأمور به ، فكونها ساكتة عن التفصيل بين الصورتين مع أنها في مقام البيان يدلّنا على عدم اعتبار الترتيب بين الجانبين.

ومنها : موثقة سماعة المتقدِّمة حيث ورد فيها « ثمّ يضرب بكف من ماء على صدره وكف بين كتفيه ... » (٢) فان الظاهر أن الصبتين بنفسهما الغسل المأمور به لا أنهما مقدّمتان للغسل بأن يبلل بهما البدن ويصل الماء في الغسل إلى جميع أطرافه بسرعة. وهي كما ترى تدلّ على لزوم غسل الصدر والكتف من دون تقديم أحد الجانبين على الآخر ، إذ لو اعتبر الترتيب بينهما للزم الأمر بصبهما على الجانب الأيمن من الصدر والكتف أوّلاً ثمّ صبهما على الجانب الأيسر منهما.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٦٠ / أبواب الجنابة ب ٤١ ح ٢.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٣١ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٨.


ومنها : صحيحة حكم بن حكيم ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن غسل الجنابة ، فقال : أفض على كفك اليمنى من الماء فاغسلها ثمّ اغسل ما أصاب جسدك من أذى ثمّ اغسل فرجك وأفض على رأسك وجسدك فاغتسل ، فان كنت في مكان نظيف فلا يضرك أن لا تغسل رجليك ، وإن كنت في مكان ليس بنظيف فاغسل رجليك » (١).

حيث إنه عليه‌السلام فرّع على صب الماء على الرأس والجسد بقوله : « فإن كنت ... » إلخ أنه إن كان في مكان نظيف فالماء الذي صبه على الرأس والجسد يكفي في غسل رجليه فلا يجب غسلهما بعد ذلك ، وأما إذا كان المكان قذراً وتنجس به رجلاه فيجب أن يغسلهما بعد صبه الماء على رأسه وجسده إتماماً للغسل ، وهذا لا يتم إلاّ بناء على عدم اعتبار الترتيب بين الطرفين ، إذ لو كان معتبراً لوجب أن يأمره بغسل رجله اليمنى أوّلاً ثمّ غسل رجله اليسرى وجميع طرفه الأيسر ثانياً تحصيلاً للترتيب المعتبر بين الجانبين.

وممّا يدلّنا على ما ادعيناه ولعله أظهر ما في الباب من الروايات ما رواه الصدوق في الموثق عن عمار بن موسى الساباطي « أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن المرأة تغتسل وقد امتشطت بقرامل ولم تنقض شعرها كم يجزئها من الماء؟ قال : مثل الذي يشرب شعرها وهو ثلاث حفنات على رأسها وحفنتان على اليمين وحفنتان على اليسار ثمّ تمرّ يدها على جسدها كلِّه » (٢) وهي صريحة في المدعى ، فان قوله عليه‌السلام : « ثمّ تمرّ يدها » تدلّ على تراخي إمرار اليد عن صبّ الحفنتين على اليمين واليسار ، ولا وجه للإمرار بعد ذلك إلاّ عدم وصول الحفنتين في كل من الطرفين إلى جميع البدن ، وإلاّ الإمرار مما لا وجه له ، ولم تدلّ الموثقة على أنها تمر بيدها على الجانب الأيمن أوّلاً ثمّ تصب الحفنتين على الأيسر وتمرّ يدها عليه ، بل هي مطلقة‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٧ ، ٢٣٣ / ب ٢٧ ح ١.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٥٧ / أبواب الجنابة ب ٣٨ ح ٦. الفقيه ١ : ٥٥ / ٢٠٨.


فقد يكون الموضع الذي لم يصله الماء في الطرف الأيمن مع أنها قد صبت الحفنتين على الأيسر فإنها دلّت على أنها لو مسحت بيدها ذلك الموضع كفى في غسلها ، ولا يتم هذا إلاّ مع عدم لزوم الترتيب بين الجانبين. فالموثقة ظاهرة بل كادت أن تكون صريحة في عدم اعتبار الترتيب بينهما.

وممّا يشهد على ذلك بل يعادل جميع ما أسلفناه أن غسل الجنابة مسألة كثيرة الابتلاء لكل أحد إلاّ ما ندر ، والحكم في مثلها لو كان لشاع بين الرواة ولم يخف على أحد مع أنه لم يرد اعتبار الترتيب بين الطرفين ولا في رواية ، إذ لو كان معتبراً لورد في الأخبار وانتشر بين الرّواة ، فإنه قد ذكر الترتيب بين الرأس والبدن كما ذكر اعتباره بين الجانبين أيضاً في غسل الميت مع قلّة الابتلاء به فلو كان معتبراً في غسل الجنابة أيضاً لورد في الروايات ، فنفس عدم الاشتهار في مثله يدلّنا على العدم ، فإن الأعراب لا يمكنهم فهم اعتبار الترتيب بين الجانبين من قوله : « ثمّ صبّ على منكبه الأيمن مرّتين وعلى منكبه الأيسر مرّتين فما جرى عليه الماء فقد أجزأه » فلو كان معتبراً لوجب عليه التنبيه والبيان.

فتحصل : أن الترتيب بين الجانبين مما لا دليل عليه سوى الإجماعات المنقولة والشهرة المحققة ، والشهرة لا نقول بحجيتها وكذا الإجماعات المنقولة ، لأنها إخبارات حدسية لا تشملها أدلّة اعتبار الخبر الواحد ، ومع القول بذلك في الأُصول لا وجه للاعتماد عليها في الفروع حتى يشمله ما قاله بعض العلماء على ما نقله الشيخ قدس‌سره في بحث الإجماع المنقول من أنهم إذا وردوا الفقه نسوا ما ذكروه في الأُصول (١). والإجماع المحصل غير حاصل لنا ولا سيما مع مخالفة الصدوقين حيث راجعنا عبارته ولم نرها دالّة على اعتبار الترتيب بين الطرفين (٢). فالصحيح عدم اعتباره بين الجانبين ولكن الاحتياط مع ذلك في محلِّه.

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ : ٩٣.

(٢) الفقيه ١ : ٤٦ ٤٩.


والأحوط أن يغسل النصف الأيمن من الرقبة (١) ثانياً مع الأيمن والنصف الأيسر مع الأيسر ، والسرة والعورة (٢) يغسل نصفهما الأيمن مع الأيمن ونصفهما الأيسر مع الأيسر ، والأولى أن يغسل تمامهما مع كل من الطرفين. والترتيب المذكور شرط واقعي ، فلو عكس ولو جهلاً أو سهواً بطل.

______________________________________________________

حكم الأجزاء المشتركة‌

(١) الكلام في الأجزاء المشتركة. منها الرقبة : قدمنا أن الرقبة داخلة في الرأس لا من جهة أن الرأس بمفهومه يشمل الرقبة ، بل من جهة أن الرقبة كالرأس في الغسل ولا بدّ أن تغسل قبل غسل البدن ، ولكن الحد المشترك بينها وبين الجسد لا بدّ من غسله مع الرقبة تارة ومع البدن اخرى لقاعدة الاشتغال ، حتى يحصل القطع بغسل الرقبة بتمامها قبل البدن وغسل البدن بعد الرقبة ، كما هو الحال في الوضوء حيث لا بدّ من إدخال مقدار من الأطراف في الغسل تحصيلاً للقطع بتحقق الغسل الواجب. ثمّ إن قلنا بالترتيب بين الجانب الأيمن والأيسر وجب غسل النصف الأيمن من الحدّ الفاصل من الرقبة مع الجانب الأيمن ثانياً ونصفها الأيسر مع الجانب الأيسر ثانياً ، وأما إذا أنكرنا الترتيب بينهما فلا بدّ من غسله مع البدن كيفما اتفق. ومنها السرة والعورة.

(٢) هل يجب غسلهما مع الأيمن فقط ، أو يجب غسلهما مع الأيسر كذلك ، أو ينصفان فيغسل نصفهما الأيمن مع الأيمن ونصفهما الأيسر مع الجانب الأيسر ، أو لا بدّ من غسلهما بتمامهما مع الجانب الأيمن تارة ومع الجانب الأيسر اخرى؟ وهذا الأخير هو الذي جعله الماتن أولى.

والظاهر أنه لا أولوية ملزمة لذلك ، وذلك لأنه مبني على احتمال أن تكون السرة والعورة تابعتين للأيمن أو للأيسر ومن هنا تغسلان بتمامهما مع كل من الطرفين عملاً بكلا الاحتمالين ، ولكنّه احتمال لا منشأ له ، إذ لا وجه لتبعيتهما للأيمن أو الأيسر ، لأن نسبتهما إلى كل من الجانبين على حد سواء بحيث لو نصفتا وقع نصفهما في أحد الجانبين ونصفهما الآخر مع الآخر ، ومع تساوي النسبتين لا موجب لاحتمال تبعيتهما‌


ولا يجب البدأة بالأعلى في كل عضو ولا الأعلى فالأعلى (١)

______________________________________________________

لأحد الطرفين ، فهما عضوان مستقلان كبقيّة الأعضاء المستقلة كالأنف وغيره. وهل يجب غسل نصفهما الأيمن مع الأيمن ونصفهما الأيسر مع الأيسر؟ الصحيح عدم وجوب ذلك أيضاً. أمّا بناء على عدم الترتيب بين الجانبين فظاهر ، فإنه يتمكن من غسلهما كيفما اتفق ، وأمّا بناء على القول بالترتيب بين الطرفين فلأنه لم يثبت بدليل لفظي ليحكم بالترتيب في كل عضو ، وإنّما ثبت لو قلنا به بالإجماع كما مر ، وهو دليل لبِّي يقتصر فيه على المقدار المتيقن وهو غير الأعضاء المشتركة من السرة والعورة ، فالمطلقات فيهما محكمة. وله أن يغسلهما كيفما اتفق ، نعم غسلهما بتمامهما مع كل من الجانبين احتياط محض لا بأس به.

عدم وجوب البدأة بالأعلى فالأعلى‌

(١) هذا هو المعروف بينهم ، بل لا خلاف فيه إلاّ ما نسب إلى بعضهم. وما ذهبوا إليه هو الصحيح. وقد يجعل صحيحة زرارة « ثمّ تغسل جسدك من لدن قرنك إلى قدميك » (١) وصحيحته الأُخرى « ثمّ صب على رأسه ثلاث أكف ثمّ صب على منكبه الأيمن مرّتين وعلى منكبه الأيسر مرّتين » (٢) دليلاً على لزوم البدأة بالأعلى فالأعلى.

وفيه : أنّ القرن ليس بمعنى أعلى الرأس وإنما معناه موضع القرن من الحيوانات نعم يكنى به عن الاستغراق ، فالأمر بغسل البدن من القرن إلى القدم معناه وجوب غسل الجسد بتمامه ولا دلالة له على لزوم كون ذلك من الأعلى إلى الأسفل. على أنها إنما وردت لتحديد المغسول وأنه هو ما بين القرن والقدم ، وأمّا أنه كيف يغسل فلا تعرض له في الرواية بوجه كما ذكرنا نظيره في الوضوء ، هذا بالإضافة إلى الصحيحة الأُولى.

وأمّا الصحيحة الثانية فهي أيضاً لا تدلّ على لزوم الغسل من الأعلى إلى الأسفل‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٥.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٢٩ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٢.


لأنّ الأمر بصب الماء على المنكبين ليس أمراً مولوياً وإنما هو إرشاد إلى إيصال الماء إلى جميع أجزاء البدن ، وذلك للقرينة الخارجية والداخلية.

أمّا الخارجية فهي موثقة سماعة الآمرة بصب كف من الماء على الصدر وكف منه على الكتف (١) فانّ الصدر والكتف ليسا من أعلى البدن فمنه يظهر أن الغرض إيصال الماء إلى أجزاء البدن ، وهذا قد يكون بصب الماء من اليمين واليسار وقد يكون من القدام والخلف ، فليس الأمر بصب الماء من المنكبين إلاّ لذلك لا لأجل لزوم الغسل من الأعلى إلى الأسفل.

وأمّا القرينة الداخلية فلقوله عليه‌السلام في ذيلها : « فما جرى عليه الماء فقد أجزأه » لأنه تفريع على صب الماء من المنكبين ، ومعناه أنّ الصب إنما هو لجريان الماء على البدن ، ومن الواضح أن الجريان إنما يكون بصب الماء من الأعلى والمنكب ولذا أمر به لا لأن الغسل لا بدّ أن يقع من الأعلى إلى الأسفل ، هذا كله.

على أنا لو سلمنا كونه مولوياً فهو متعلق بالصب على المنكبين مقيّداً بالمرّتين وليس أمراً مطلقاً بالصب على المنكبين ، وقد علمنا خارجاً أن القيد مستحب ، إذ لا يعتبر في الصب مرّتان ، فيكون الأمر بالمقيد أمراً استحبابيا.

وتوهّم أنّ العلم بالاستحباب إنما يوجب رفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب في القيد وأما ذات المقيّد فالأمر باق على ظهوره فيه ، فأصل الصب على المنكبين واجب مندفع بأن ذلك إنما يتم في العموم والإطلاق ، فإن الأمر إذا تعلق بإكرام عشرة وعلمنا بعدم وجوب إكرام واحد منهم فهو لا يوجب رفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب في الجميع ، وإنما نرفع اليد عنه في خصوص الواحد المعلوم استحبابه ، وهذا بخلاف الأمر بالمقيّد لأنّه شي‌ء واحد لا ينحل إلى أمرين أمر بالذات وأمر بالقيد ، فإذا علمنا أنّ القيد مستحب فلا بدّ من رفع اليد عن ظهور الأمر بالمقيّد من الوجوب.

ويؤيِّد ما ذكرناه من عدم لزوم الغسل من الأعلى إلى الأسفل صحيحة زرارة‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٣١ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٨.


ولا الموالاة العرفية بمعنى التتابع ولا بمعنى عدم الجفاف (١) ، فلو غسل رأسه ورقبته في أوّل النّهار والأيمن في وسطه والأيسر في آخره صح ، وكذا لا يجب الموالاة في أجزاء عضو واحد‌

______________________________________________________

المتقدِّمة الواردة في نسيان بعض الأعضاء (١) ، حيث دلّت على أنه يغسل ذلك الموضع أو يمسح بيده عليه ، فان الغسل من الأعلى إلى الأسفل لو كان واجباً للزم أن يفصّل بين ما إذا كان المنسي أسفل الجزء وما إذا كان من الأجزاء العالية ، فإنه في الصورة الثانية لا بدّ من غسله وما بقي إلى آخر العضو حتى يتحقق الغسل من الأعلى إلى الأسفل. وهي وإن كانت واردة في النسيان إلاّ أنه يدلّنا على عدم لزوم الترتيب بين الأعلى والأسفل بإطلاقها.

عدم اعتبار الموالاة في الغسل‌

(١) وذلك مضافاً إلى المطلقات كقوله في صحيحة زرارة : « ثمّ تغسل جسدك من لدن قرنك إلى قدميك » (٢) لعدم تقييدها بكون الغسل متوالياً بل له أن يغسل عضواً أوّل الصبح وعضوه الآخر عند الزوال ، تدلّ عليه جملة من الأخبار.

منها : صحيحة محمّد بن مسلم الواردة في قضية الجارية حيث أمر عليه‌السلام الجارية بأن تغسل رأسها وتمسحه مسحاً شديداً وتغسل جسدها عند إرادة الإحرام (٣).

ومنها : ما ورد في مضمرة حريز من قوله عليه‌السلام : « وابدأ بالرأس ثمّ أفض على سائر جسدك ، قلت : وإن كان بعض يوم؟ قال : نعم » (٤).

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٦٠ / أبواب الجنابة ب ٤١ ح ٢. وقد تقدّمت في ص ٣٧٧.

(٢) تقدّم ذكرها في ص ٣٨١.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٣٧ / أبواب الجنابة ب ٢٩ ح ١.

(٤) الوسائل ٢ : ٢٣٧ / أبواب الجنابة ب ٢٩ ح ٢.


ولو تذكر بعد الغسل ترك جزء من أحد الأعضاء رجع وغسل ذلك الجزء فإن كان في الأيسر كفاه ذلك ، وإن كان في الرأس أو الأيمن وجب غسل الباقي على الترتيب (١) ، ولو اشتبه ذلك الجزء وجب غسل تمام المحتملات (*) مع مراعاة الترتيب (٢).

______________________________________________________

ومنها : صحيحة إبراهيم بن عمر اليماني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إن عليّاً عليه‌السلام لم ير بأساً أن يغسل الجنب رأسه غدوة ويغسل سائر جسده عند الصلاة » (٢).

(١) ما أفاده قدس‌سره على طبق القاعدة ليحصل الترتيب المعتبر بين الرأس والبدن ، وأمّا بين الجانب الأيمن والأيسر فقد عرفت أنه لا يعتبر الترتيب بينهما ، نعم لو قلنا به لصحّ ما أفاده من وجوب غسل الموضع الباقي في الجانب الأيمن ثمّ إعادة غسل الأيسر ليحصل الترتيب بينهما.

(٢) وذلك للعلم الإجمالي بوجوب غسل موضع من مواضع الغسل ، وحيث إنه غير معيّن فيجب غسل الجميع تحصيلاً للقطع بالفراغ ، ولكن هذا إنما يتم فيما إذا كان الموضع غير المغسول في عضو واحد كما إذا علم بأنه ترك غسل جزء من أجزاء رأسه فيجب غسل جميع الرأس لما مر ، أو علم بأنه ترك غسل جزء من أجزاء بدنه فيجب غسل الجميع بناء على عدم الترتيب بين الجانبين. وأمّا بناء على الترتيب بينهما فكما إذا علم ببقاء جزء من طرفه الأيمن فقط فيغسل جميع ذلك الطرف وهكذا.

وأمّا إذا كان المعلوم بالإجمال مردّداً بين عضوين مترتبين كما إذا علم بأنه ترك جزءاً من رأسه أو من بدنه بناء على عدم الترتيب بين الجانبين ، وأمّا بناء عليه فكما إذا علم بترك جزء من رأسه أو من جانبه الأيمن ، فمقتضى إطلاق عبارة الماتن أيضاً وجوب الاحتياط حينئذ. إلاّ أن الصحيح أنه لا يجب عليه الجمع بين الأطراف‌

__________________

(*) بل يكتفي بغسل الجزء المحتمل تركه من العضو اللاحق لانحلال العلم الإجمالي ، فتجري قاعدة التجاوز بالإضافة إلى الجزء المحتمل تركه من العضو السابق.

(١) الوسائل ٢ : ٢٣٨ / أبواب الجنابة ب ٢٩ ح ٣.


الثانية : الارتماس وهو غمس تمام البدن في الماء (١)

______________________________________________________

وقتئذ ، وذلك لانحلال العلم الإجمالي إلى القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها بالشك البدوي ، وذلك للقطع حينئذ بفساد غسل البدن أو الطرف الأيمن إما لأنه بقي منه جزء لم يغسله وإما لبطلان غسل الرأس لبقاء جزء منه ، فان مع بطلان غسله يبطل غسل البدن أو الطرف الأيمن للإخلال بالترتيب فلا مناص من إعادة غسله. وأما الرأس فهو مشكوك الغسل وعدمه ومقتضى قاعدة التجاوز صحّته ، إذ بنينا وبنى الماتن قدس‌سره على جريانها في الغسل.

وهكذا الحال فيما إذا علم إجمالاً ببقاء جزء من طرفه الأيمن أو الأيسر بناء على اعتبار الترتيب بينهما ، لأنه يعلم حينئذ ببطلان غسل الأيسر إمّا لعدم غسل شي‌ء من أجزائه وإما لبطلان غسل الأيمن لبقاء جزء من أجزائه ويشكّ في صحّة غسل الجانب الأيمن شكّاً بدويّاً تجري فيه قاعدة التجاوز. وهكذا الحال في كل أمرين مترتبين ، كما إذا علم إجمالاً ببطلان وضوئه أو بنقصان ركوع من صلاته ، فإنّه يعلم ببطلان صلاته تفصيلاً إما لنقصان ركوعها وإما لبطلان الوضوء ، مع أنّ مقتضى إطلاق عبارته قدس‌سره وجوب الاحتياط في هذه الصورة أيضا.

الغسل الارتماسي وكيفيته‌

(١) لا خلاف بين الفقهاء قدس‌سرهم في أن الغسل ترتيباً إنما يجب فيما إذا كان غسل البدن تدريجياً ، وأما إذا كان دفعة فلا يعتبر فيه الترتيب من غير خلاف ، وإن قالوا بعدم تعرض القدماء لذلك إلاّ أنه لعله من جهة وضوحه. ويدلّ على ذلك ما ورد في صحيحة زرارة « ولو أن رجلاً جنباً ارتمس في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك وإن لم يدلك جسده » (١) وفي صحيحة الحلبي قال : « سمعت أبا عبد الله ( عليه‌السلام )

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٥.


دفعة واحدة عرفيّة (*) (١)

______________________________________________________

يقول : إذا ارتمس الجنب في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك من غسله » (٢) وفي موثقة النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « قلت له : الرجل يجنب فيرتمس في الماء ارتماسة واحدة ويخرج يجزئه ذلك من غسله؟ قال : نعم » (٣).

(١) وأمّا إذا لم يكن كذلك بل كان تدريجياً فهو على قسمين ، لأنه قد يرمس أعضاءه في الماء متدرجاً فيدخل رجله ثمّ يخرجها فيرمس رجله الأُخرى ثمّ يخرجها فيرمس عضوه الآخر إلى أن تنتهي أعضاؤه. ولا إشكال في عدم كفاية ذلك بوجه ، لعدم صدق أن الرجل ارتمس ارتماسة واحدة وإنما يصدق أنه رمس رجله أو عضوه الآخر ، والمعتبر في الغسل هو صدق أن الرجل ارتمس.

وقد يرتمس الرجل ولكنه متدرجاً كما إذا فرضنا حوضاً له درج متعددة فدخل الدرجة الأُولى وصبر مقداراً ثمّ دخل الثانية فصبر عشرة دقائق ، وهكذا إلى أن أحاط الماء بدنه ، مقتضى ما أفاده الماتن قدس‌سره بطلان ذلك لعدم انغماس البدن في الماء دفعة واحدة عرفية هذا ، ولكنه قدس‌سره ذكر في المسألة الرابعة الآتية أن الغسل الارتماسي يتصور على وجهين :

أحدهما : أن ينوي الغسل حين إحاطة الماء بدنه لا عند دخوله في الماء ، وحينئذ يكون الغسل آنياً ومتحققاً دفعة واحدة حقيقية ، ودخول الماء والتدرّج في المقدّمات لا فيه نفسه.

وثانيهما : ما إذا نوى الغسل من أوّل دخوله الماء ليكون غسله تدريجياً ومستمراً إلى أن يدخل تمام بدنه الماء. وعلى الأوّل لا يتصور وقوع الحدث في أثناء الغسل لأنه آني وهذا بخلاف الثاني ، وعليه فيعتبر في الارتماس الدفعة الواحدة الحقيقية دون‌

__________________

(*) هذا بالإضافة إلى الغسل الارتماسي التدريجي ، وأما الدفعي منه فتعتبر فيه الوحدة الحقيقية.

(١) الوسائل ٢ : ٢٣٢ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ١٢.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٣٢ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ١٣.


واللاّزم أن يكون تمام البدن تحت الماء (١) في آن واحد وإن كان غمسه على التدريج ، فلو خرج بعض بدنه قبل أن ينغمس البعض الآخر لم يكف (٢) ، كما إذا خرجت رجله أو دخلت في الطين قبل أن يدخل رأسه في الماء ، أو بالعكس بأن خرج رأسه من الماء قبل أن تدخل رجله.

______________________________________________________

العرفية كما ذكره في المقام ، ولعل نظره في ذلك إلى الصورة الثانية التي يحصل الغسل فيه متدرجاً ، فان الدفعة فيها لا بدّ وأن تكون دفعة عرفية كما أفاده قدس‌سره وهو ظاهر قوله عليه‌السلام : « إذا ارتمس ارتماسة واحدة فقد أجزأه ». وأما في الصورة الأُولى فقد عرفت أن الغسل الارتماسي فيه آني وتعتبر فيه الوحدة العقلية لا محالة.

اعتبار كون البدن بتمامه تحت الماء‌

(١) وذلك لأن الأخبار الواردة في أجزاء الارتماسة الواحدة إنما ناظرة إلى إلغاء اعتبار الترتيب في الغسل الترتيبي حيث يعتبر فيه غسل الرأس أوّلاً ثمّ البدن ، ولكن في الارتماس يكفي الغسل من طرف الرجل ، فهو مجزئ عن الغسل الواجب بهذا الاعتبار. وأما أن المغسول في الارتماس أقل منه في الترتيبي فلا دلالة لها على ذلك بوجه ، بل مقدار الغسل على حاله وإنما ألغت الأخبار كيفية الترتيب فحسب. وعلى الجملة لا اختلاف بينهما بحسب الكميّة وإنما يفترقان في الكيفية ، وحيث إن الدليل دلّ على وجوب غسل جميع أجزاء البدن في الغسل ترتيباً بحيث لو تعمد في إبقاء مقدار شعرة واحدة فيه دخل النار وأبطل عبادته كذلك الحال في الارتماس ، ومن هنا يأتي في كلامه أن وصول الماء إلى البدن لو احتاج إلى تخليل الشعر وجب.

(٢) لأن الارتماس عبارة عن إحاطة الماء لتمام أجزاء البدن دفعة على ما يأتي تفصيله في ذيل المسألة الرابعة إن شاء الله ، فإذا خرج بعض أعضائه عن الماء عند دخول الجزء الآخر فيه فهو رمس للجزء لا رمس للبدن تحت الماء ، وعليه يتفرّع بطلان الارتماس فيما إذا دخلت رجله في الطين أو خرجت عن الماء قبل أن يدخل‌


ولا يلزم أن يكون تمام بدنه أو معظمه خارج الماء بل لو كان بعضه خارجاً فارتمس كفى (١) ، بل لو كان تمام بدنه تحت الماء فنوى الغسل وحرك بدنه كفى (*) على الأقوى (٢)

______________________________________________________

رأسه في الماء أو بالعكس ، كما إذا دخل الماء كالسمك بأن يدخل فيه برأسه حتى يخرج رأسه من الماء قبل أن تدخل رجله.

(١) لأن المأمور به هو الارتماس في الماء وهو يتحقق بإحاطة الماء للبدن دفعة ، بلا فرق في ذلك بين كون مقدار من بدنه في الماء أم لم يكن ، بل المتعارف في الارتماس في البحار والأنهار وأمثالهما هو الأوّل ، حيث يرتمس بعد كون نصف بدنه أو الأزيد من النصف في الماء. وأما الخروج عنه والطفرة في الارتماس فهما إنما يناسبان اللعب والعبث وغير معتبرين في تحققه بوجه.

نيّة الغسل وتحريك البدن تحت الماء‌

(٢) بناء على كفاية الارتماس بقاء في الامتثال ، وأما بناء على ما أسلفناه من أن الأوامر ظاهرة في الإحداث مطلقاً ما دام لم تقم قرينة على كفاية الإبقاء فلا. ومن هنا لو كان في السجدة فتليت عليه آية التلاوة فبقي في السجدة مقداراً بداعي امتثال الأمر بالسجدة لم يكف ذلك في الامتثال ، لأن ظاهر الأمر طلب الإيجاد والإحداث ، فلا دليل إذن على كفاية قصد الغسل وتحريك بدنه وهو تحت الماء لأنه ارتماس بقائي فلا بدّ من أن يكون شي‌ء من بدنه خارج الماء ويقصد الغسل بإدخاله حتى يكون ارتماس بدنه بتمامه ارتماساً إحداثيّاً. نعم لا يعتبر في ذلك أن يكون رأسه خارج الماء بل الرأس وغيره من أعضاء بدنه على حد سواء ، فان المدار على عدم كون بدنه بتمامه تحت الماء ليصدق إحداث الارتماس بإدخاله ، فما عن المستند من اعتبار كون رأسه‌

__________________

(*) فيه إشكال والاحتياط لا يترك ، وكذا الحال في تحريك الأعضاء تحت الماء في الغسل الترتيبي.


خارج الماء (١) فممّا لا دليل عليه في المقام ، نعم له خصوصية في المفطرية في شهر رمضان فإن الإفطار إنما يتحقّق بإدخال رأسه ورمسه للدليل ، وأمّا في تحقّق الارتماس فلا خصوصية لإدخال رأسه بوجه حال كون سائر بدنه في الماء هذا.

ثمّ لو أغمضنا عن ذلك ولم نعتبر الأحداث في الارتماس نظراً إلى أن الإبقاء أيضاً فعل اختياري له وهو كاف في صحّة الغسل ، فلا موجب لاعتبار تحريك البدن تحت الماء ، فإن إحاطة الماء بدنه بقاءً غسل ارتماسي فما الموجب لاعتبار تحريك البدن تحته؟

ودعوى أنه لأجل جريان الماء على بدنه لقوله عليه‌السلام : « كل ما جرى عليه الماء فقد أجزأه » (٢) أو « ما جرى عليه الماء فقط طهر » (٣) مندفعة بأن الجريان معتبر في الغسل الترتيبي دون الارتماسي ، إذ لا يعتبر فيه إلاّ إحاطة الماء للبدن هذا.

بل لو لم نعتبر الأحداث في ذلك وقلنا بكفاية الإبقاء في الامتثال للزم الالتزام في الغسل الترتيبي أيضاً ، كما إذا صبّ الماء على رأسه بداع من الدواعي وقصد الغسل بالرطوبات الباقية على بدنه ، لأنه غسل بقائي إذ لا يعتبر فيه جريان الماء على البدن فلو وضع إناء الماء على صدره فلصق الماء على بدنه وهكذا إلى آخر أجزاء بدنه كفى ذلك في تحقق الغسل المأمور به وإن لم يكن للماء جريان. ودعوى أن الجريان معتبر في الغسل لقوله عليه‌السلام : « كل ما جرى عليه الماء فقد أجزأه » مندفعة بأن قوله هذا إذا لوحظ مع قوله : « كل شي‌ء أمسسته الماء فقد أنقيته » (٤) لا مناص من حمله على مجرّد كفاية وصول الماء وإن لم يكن فيه جريان. مع أنّ كفاية الرطوبات الباقية على البدن في الغسل ممّا لا نحتمل التزامهم به بوجه إلاّ بعض من عاصرناهم ( قدس الله أسرارهم ) فإنه كان ملتزماً بذلك.

__________________

(١) المستند ٢ : ٣٣٣.

(٢) ، (٣) الواردين في ذيل صحيحتي زرارة ومحمّد بن مسلم. الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ١.

(٤) المذكور في ذيل صحيحة زرارة الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٥.


ولو تيقّن بعد الغسل عدم انغسال جزء من بدنه وجبت الإعادة (١) ولا يكفي غسل ذلك الجزء فقط.

______________________________________________________

وجوب الإعادة عند العلم بعدم انغسال جزء‌

(١) فقد يقال كما عن العلاّمة في القواعد (١) وصاحب المستند (٢) قدس‌سرهما بكفاية غسل ذلك الموضع الباقي فحسب من دون حاجة إلى إعادة تمام الغسل ، أخذاً بصحيحة زرارة المتقدِّمة الدالّة على كفاية غسل الموضع الباقي فقط عند يقينه ببقاء جزء من بدنه (٣) بدعوى أنّ الغسل الارتماسي كالترتيبي حيث لم تقيد الصحيحة الحكم بالترتيبي هذا.

ويدفعه : أن هذه الجملة من صحيحة زرارة المشار إليها ليست رواية مستقلّة وإنما وردت في ذيل صحيحته الواردة في الوضوء ، حيث روى عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : « إذا كنت قاعداً على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أنك لم تغسله أو تمسحه مما سمى الله ما دمت في حال الوضوء ، إلى أن قال قلت له : رجل ترك بعض ذراعه أو بعض جسده من غسل الجنابة ، فقال : إذا شك وكانت به بلّة وهو في صلاته مسح بها عليه ، وإن كان استيقن رجع فأعاد عليهما ما لم يصب بلّة ، فإن دخله الشك وقد دخل في صلاته فليمض في صلاته ولا شي‌ء عليه ، وإن استيقن رجع فأعاد عليه الماء ، وإن رآه وبه بلّة مسح عليه وأعاد الصلاة باستيقان ... » (٤) ومقتضى صدرها أن المراد بالغسل هو الترتيبي كما هو الحال في الوضوء لأن الغسل فيه أيضاً ترتيبي ، فكأنه سئل عن حكم الغسل المتحقق في كل من الوضوء والغسل وأنه إذا لم يستوعب الأعضاء حكمه أي‌

__________________

(١) القواعد ١ : ٢١١.

(٢) المستند ٢ : ٣٣٤.

(٣) تقدّم ذكرها في ص ٣٧٧.

(٤) ذكر صاحب الوسائل صدرها في الوسائل ١ : ٤٦٩ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ١ وذيلها في ٢ : ٢٦٠ / أبواب الجنابة ب ٤١ ح ٢.


شي‌ء. ومع قرينية صدر الصحيحة على إرادة الغسل الترتيبي كيف يبقى لذيلها إطلاق حتى يشمل الارتماسي أيضاً ، هذا أوّلا.

وثانياً : لو سلمنا أن صدرها ليس قرينة على الذيل أيضاً لا يمكننا الاستدلال بها على ذلك المدعى ، حيث إنها ناظرة إلى السؤال عن الموالاة وأنه إذا غسل مقداراً من بدنه ولم يغسل بعضه نسياناً أو غفلة هل يصح غسله أو لا يصح ، حيث إنه لو غسله بعد التفاته إليه تخلل في غسل أجزائه زمان لا محالة فأجابه عليه‌السلام بأنّ الموالاة غير معتبرة في الغسل. ومن الظاهر أن الموالاة إنما تعتبر أو لا تعتبر في الغسل الترتيبي ، وأما الارتماسي فهو أمر وحداني إما أن يوجد وإما أن لا يوجد ، لأن المراد به إحاطة الماء للبدن وأمره يدور بين الوجود والعدم ، ولا معنى فيه لغسل شي‌ء من البدن تارة وغسل بعضه اخرى ليعتبر بينهما الموالاة أو لا تعتبر. وعليه فالصحيحة مختصّة بالغسل الترتيبي ولا تعم الارتماسي بوجه.

نعم هناك شي‌ء وهو أن الغسل الارتماسي هل هو أمر أجنبي عن الغسل رأساً إلاّ أنه يوجب سقوطه ، كما في عدلي الواجب التخييري ، حيث إن كل واحد منهما أمر مغاير للآخر بحسب الطبيعة إلاّ أنه مسقط للآخر ، وكما في الإتمام حيث ذكروا أنه مسقط للواجب من غير أن يكون عدلاً للواجب التخييري أصلاً. أو أن الارتماسي أيضاً غسل ولكنّه طبيعة والترتيبي طبيعة أُخرى من الغسل فهما طبيعتان متغايرتان أو لا هذا ولا ذاك بل هما طبيعة واحدة ولها كيفيّتان ، فقد يؤتى بكيفية الارتماس وأُخرى بكيفية الترتيب ، نظير ما ذكرناه في صلاتي القصر والتمام حيث قلنا إنهما طبيعة واحدة لها كيفيتان وفردان ، فقد تجب كيفية القصر وأُخرى تجب الإتمام وثالثة يتخير بينهما كما في مواضع التخيير؟

أمّا احتمال أن يكون الارتماسي أمراً أجنبياً مغايراً مع الغسل الترتيبي ومسقطاً له فيدفعه ظهور قوله عليه‌السلام : « إذا ارتمس الجنب في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك » (١) فان ظاهره أن الارتماس من طبيعة الغسل وهو مجزئ عن الترتيبي لا أنه‌

__________________

(١) تقدّم ذكرها في ص ٣٨٥ ٣٨٦.


ويجب تخليل الشّعر إذا شكّ في وصول الماء إلى البشرة التي تحته (١).

______________________________________________________

أمر أجنبي عنه ومجزئ ، كما أن ظاهره أن الارتماس هي الطبيعة المأمور بها وغاية الأمر أن المتعيّن الأوّلي كيفية اخرى وتلك الكيفية مجزية عن الواجب لا أنه طبيعة أُخرى مغايرة للطبيعة الواجبة ، وعليه فالمتعين أنهما طبيعة واحدة وإنما تختلفان بحسب الكيفية.

ويترتب على ذلك أنّ المكلّف إذا نوى الترتيبي فغسل رأسه ولكنه عند غسل بدنه بدا له وأراد الارتماس فارتمس ثمّ انكشف بقاء لمعة على بدنه لم يصلها الماء ، فعلى الاحتمالين الأوّلين لا بدّ من أن يرجع ويغتسل من الابتداء ، لأنه في غسل بدنه لم يقصد الترتيب حتى يتحقق بغسل الموضع غير المغسول بعد غسله ، وإنما قصد الارتماس وهو لم يتحقق لبقاء شي‌ء من بدنه فيبطل ، وهذا بخلاف الاحتمال الثالث ، لأن الواجب حينئذ ليس إلاّ غسل الجنابة ولا يجب على المكلّف أن ينوي الترتيبي أو غيره ، وحيث إنه نوى غسل الجنابة وصب الماء على بدنه ولم يحطه الماء فلا محالة يكون هذا ترتيبياً وإن لم يقصده ، إلاّ أنّ الترتيبي والارتماسي لما كانا طبيعة واحدة كان قصد أحدهما قصداً للآخر لا محالة ، بل كفى قصد غسل الجنابة في صحّته وإن لم يقصد الترتيب أو الارتماس ، وبما أنّ الماء لم يصل تمام بدنه فهو يكون ترتيبياً لا محالة فان لم نقل بالترتيب بين الجانبين فيغسل ذلك الموضع فقط سواء كان في الجانب الأيمن أو الأيسر ، وأمّا بناء على الترتيب بينهما فان كان الموضع في الجانب الأيسر فأيضاً يغسله فقط ، وأما إذا كان في الجانب الأيمن فيغسل ذلك الموضع منه ويعود إلى غسل الجانب الأيسر من الابتداء تحصيلاً للترتيب المعتبر بينهما.

وجوب تخليل الشعر لو شك في مانعيته‌

(١) لما مرّ من أن المستفاد من قوله عليه‌السلام : « إذا ارتمس ارتماسة » أن الارتماس مأمور به ومجزئ عن الواجب ، وهو والترتيبي طبيعة واحدة لا أنه أمر أجنبي مسقط للواجب ، كما في الإتمام حيث ذكروا أنه مسقط للمأمور به ، وعليه فكل‌


ولا فرق في كيفية الغسل بأحد النحوين بين غسل الجنابة وغيره (١) من سائر الأغسال (*) الواجبة والمندوبة‌

______________________________________________________

ما يعتبر في الترتيبي يعتبر في الارتماسي أيضاً ، فكما أنه لا بدّ من إيصال الماء إلى جميع أجزاء البدن في الترتيبي فلو ترك بمقدار شعرة واحدة متعمداً دخل النار ، على ما في الخبر (٢) كذلك الحال في الارتماسي بعينه ، لأنه هو هو بعينه سوى أنه لا يعتبر فيه الترتيب. وعليه فلو كان شعره كثيفاً مانعاً عن وصول الماء تحته أو احتمل مانعيته يجب تخليله وإزالة المانع عن وصول الماء إلى البشرة كبقية الموانع ، وذلك تحصيلاً للقطع بالامتثال أو لحكم العقل بإفراغ الذمة عما اشتغلت به.

(١) هذا بناء على ما قدمناه من أن الارتماسي والترتيبي طبيعة واحدة وإنما يختلفان بحسب الكيفية فقط ، فإن سائر الأغسال وإن لم ترد كيفيتها في رواية إلاّ أن العرف يستفيد مما ورد في كيفية غسل الجنابة أن الكيفية الواردة فيه غير مختصّة به ، لأن الأغسال طبيعة واحدة وإنما الاختلاف في أسبابها. وإنما تصدوا عليهم‌السلام لبيان الكيفية في الجنابة دون غيرها لأن الابتلاء بها أكثر من الابتلاء بغيرها من الأسباب فتصدوا لبيان كيفيته حتى يظهر الحال في غيرها من ذلك البيان ، فبما أن غسل الجنابة له فردان من طبيعة واحدة أعني الترتيبي والارتماسي وهما يكفيان عنه فلا محالة يكفيان عن بقية الأغسال الواجبة أيضا.

ويؤيِّد ما ذكرناه ما رواه في الفقيه من أنّ غسل الحيض والجنابة سواء (٣) ، وما ورد في أنّ الجنب إذا ابتلي بالحيض لا يغتسل بل يصبر إلى أن تنقضي أيام حيضها وبعده تغتسل غسلاً واحداً عن الجميع (٤) ، وما دلّ على أنّ الغسل الواحد يجزئ عن الحقوق المتعدِّدة (٥) حيث تدلّ على أن الأغسال طبيعة واحدة وإنما الاختلاف في الأسباب.

__________________

(*) هذا في غير غسل الميت ، حيث لا يشرع فيه الارتماس.

(١) وهي صحيحة حجر بن زائدة. الوسائل ٢ : ١٧٥ / أبواب الجنابة ب ١ ح ٥.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٦٥ / أبواب الجنابة ب ٤٣ ح ٩ ، الفقيه ١ : ٤٤ / ١٧٣.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٦٣ / أبواب الجنابة ب ٤٣ ح ٥ ، ٦ وغيرهما.

(٤) الوسائل ٢ : ٢٦١ / أبواب الجنابة ب ٤٣ ح ١.


نعم في غسل الجنابة لا يجب الوضوء بل لا يشرع (١) بخلاف سائر الأغسال (٢) كما سيأتي (*) إن شاء الله.

______________________________________________________

وأمّا إذا قلنا بأن الارتماسي أمر أجنبي مسقط عن المأمور به فلا وجه للحكم بكفايته في بقية الأغسال ، لأنّ مورد الأخبار الدالّة على إجزائه وكفايته إنما هو غسل الجنابة ، ولا دليل على كفايته عن بقيّة الأغسال ، كما نسب إلى العلاّمة التوقف في ذلك في بعض كتبه.

لا يشرع الوضوء مع غسل الجنابة‌

(١) وذلك لقوله سبحانه ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) إلى قوله ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) (٢) فإن التفصيل قاطع للشركة فيستفاد من الآية المباركة أن وظيفة غير الجنب هي غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين ، وأما وظيفة الجنب فهي الاغتسال ، فكما أن غير الجنب لا يشرع في حقه الاغتسال فكذلك الجنب لا يشرع في حقه الوضوء. وقد ورد في الأخبار أن غسل الجنابة ليس قبله ولا بعده وضوء (٣) فالكتاب والسنّة متطابقان على عدم مشروعية الوضوء مع غسل الجنابة.

(٢) أي يشرع فيها الوضوء ، وذلك لإطلاقات الأمر به وعدم دلالة دليل على نفي مشروعيته كما في غسل الجنابة. نعم هناك بحث آخر يتعرض له الماتن بعد الأغسال وهو وجوب الوضوء مع بقيّة الأغسال وعدم وجوبه ، حيث ورد أنه « أي وضوء أنقى من الغسل » (٤) وغيره مما يدلّ على عدم وجوبه ، ونحن أيضاً لنتعرّض له هناك. وهما‌

__________________

(*) ويأتي الكلام على ذلك [ في المسألة ١٠٥٥ ].

(١) المائدة ٥ : ٦.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٤٦ / أبواب الجنابة ب ٣٤.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٤٧ / أبواب الجنابة ب ٣٤ ح ٤.


[٦٦٢] مسألة ١ : الغسل الترتيبي أفضل من الارتماسي (١).

[٦٦٣] مسألة ٢ : قد يتعين الارتماسي كما إذا ضاق الوقت عن الترتيبي وقد يتعيّن الترتيبي كما في يوم الصوم الواجب (*) وحال الإحرام (٢) وكذا إذا كان الماء للغير ولم يرض بالارتماس فيه.

______________________________________________________

بحثان ، لا بدّ للتعرض إلى مشروعية الوضوء مع بقيّة الأغسال في المقام وإلى وجوبه أو جوازه في البحث الآتي في محلِّه إن شاء الله تعالى (٢) ، فإنّ القول بعدم وجوبه معها لا تستلزم نفي مشروعية الوضوء كما لا يخفى.

أفضليّة الترتيبي من الارتماسي‌

(١) لأنّ الأخبار الواردة في المقام (٣) إنما أمرت بالغسل ترتيباً وأنه يغسل رأسه أوّلاً ثمّ بدنه ويصب الماء على رأسه ثلاثاً ثمّ على منكبه الأيمن مرّتين وعلى منكبه الأيسر مرّتين ، فلو كنا نحن وهذه الأخبار لقلنا بتعين الترتيبي لا محالة ولكنّه ورد أن الارتماسي مجزئ عن ذلك الواجب الأوّلى (٤) ، فإذا ضمّ أحدهما إلى الآخر ينتج أن المأمور به هو الترتيبي وإن كان يمكنه الاكتفاء بالارتماس ، ومعه يكون الترتيبي هو الأفضل لأنه المأمور به الأوّلي. وهذا نظير ما إذا أمره المولى بشي‌ء ثمّ قال : لو أتيت بشي‌ء آخر كذا أيضاً أجزأك وكفاك ، فإنّ الإتيان بالشي‌ء الأوّل أفضل حينئذ لأنه المأمور به.

تعين كل من الكيفيتين بالخصوص أحيانا‌

(٢) لحرمة تغطية الرأس على المحرم ولو بالماء ، ولأنّ الارتماس من المفطرات في‌

__________________

(*) أي ما لا يجوز إبطال الصوم فيه.

(١) في المسألة [٧٦٨].

(٢) الوسائل ٢ : ٢٢٩ / أبواب الجنابة ب ٢٦.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٥ ، ١٢ ، ١٣ ، ١٥.


[٦٦٤] مسألة ٣ : يجوز في الترتيبي أن يغسل كل عضو من أعضائه الثلاثة بنحو الارتماس بل لو ارتمس في الماء ثلاث مرات : مرّة بقصد غسل الرأس ومرّة بقصد غسل الأيمن ومرّة بقصد الأيسر كفى (١) وكذا لو حرّك بدنه تحت الماء (*)

______________________________________________________

الصوم ، نعم لو كان الصوم مستحباً أو واجباً موسعاً غير مضيق جاز الارتماس ، لجواز إبطال الصوم غير الواجب ، ومعه يبقى التخيير بحاله بخلاف الصوم الواجب كصوم شهر رمضان أو المضيق والمعيّن كقضائه بناء على المضايقة أو نذر صوم يوم معيّن.

ثمّ إن هناك فرقاً بين تعين الارتماسي لضيق الوقت عن الترتيبي وبين تعين الترتيبي لحرمة الارتماسي ، فان في الثاني قد تعلّق النهي بالارتماس ومعه تكون العبادة باطلة لأنّ المحرّم لا يكون مصداقاً للواجب ولا يمكن التقرب به وهذا بخلاف الأوّل ، فإن الترتيبي لم يتعلّق به النهي حينئذ ، وإنما تعين الارتماس لجهة واجب آخر مقدّمة للصلاة في وقتها ، فلو عصى ولم يأت بالصلاة أداء وأتى بالغسل الترتيبي صح غسله ولا دليل على بطلانه حينئذ. نعم فيما إذا تعيّن الارتماسي لأن مالك الماء لم يرض بالترتيبي لاستلزامه صرف الماء زائداً مثلاً كان الترتيبي محرماً في نفسه وغير مجزئ وإن عصى ولم يأت بالصلاة.

غسل كل عضو بالارتماس في الترتيبي‌

(١) لأن الصب الوارد في الأخبار إنما هو مقدّمة لجريان الماء على البدن كما ورد في ذيل بعضها (٢) ، ولا خصوصية له ، فلو جرى الماء على بدنه بغير الصب كالارتماس أيضاً كفى في صحّته.

__________________

(*) مرّ الكلام فيه [ في صدر هذا الفصل الكيفية الثانية للغسل ].

(١) كما في صحيحتي محمّد بن مسلم وزرارة. الوسائل ٢ : ٢٢٩ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ١ ، ٢.


ثلاث مرّات (١) ، أو قصد بالارتماس غسل الرأس وحرك بدنه تحت الماء بقصد الأيمن وخرج بقصد الأيسر ، ويجوز غسل واحد من الأعضاء بالارتماس والبقيّة بالترتيب ، بل يجوز غسل بعض كل عضو بالارتماس وبعضه الآخر بإمرار اليد.

[٦٦٥] مسألة ٤ : الغسل الارتماسي يتصور على وجهين (١) أحدهما : أن يقصد الغسل بأوّل جزء دخل في الماء (٢) وهكذا إلى الآخر فيكون حاصلاً على وجه التدريج. والثاني : أن يقصد الغسل حين استيعاب الماء تمام بدنه (٣) وحينئذ يكون آنياً ، وكلاهما صحيح ، ويختلف باعتبار القصد‌

______________________________________________________

(١) قد مرّ أن ظواهر الأوامر هي طلب الإيجاد والإحداث ، والوجود البقائي خارج عن المأمور به ومعه لا يكفي تحريك بدنه تحت الماء بدلاً عن الغسل المأمور به.

للارتماسي صورتان‌

(٢) ليكون الغسل الارتماسي تدريجياً يشرع فيه من أوّل دخوله في الماء إلى أن يحيط الماء بتمام بدنه ، وهو حينئذ نظير الصلاة وغيرها من المركبات ، فكما أنه يشرع في الصلاة من حين دخوله فيها إلى أن ينتهي إلى آخرها كذلك الحال في الغسل الارتماسي حينئذ ، ومعه يمكن أن يتحقق الحدث في أثنائه كما يمكن أن يتحقق في أثناء الترتيبي على ما يأتي حكمه إن شاء الله تعالى (٢).

(٣) فيكون الغسل الارتماسي أمراً وحدانياً دفعي الحصول ولا يعقل تخلل الحدث في أثنائه. ولا يخفى أن الجمع بين القسمين المذكورين في الارتماسي والقول بأنه قد يتحقق بهذا وقد يتحقق بذاك أمر غير صحيح ، بل الصحيح أن يقال : إن الارتماسي إما أن يتحقق على نحو التدريج فحسب وإما أنه دفعي ووحداني ، فهو من قبيل أحدهما لا أنه قد يكون تدريجياً وقد يكون دفعيا.

__________________

(*) الأحوط الاقتصار على الوجه الثاني ، وأحوط منه قصد ما في الذمّة بلا تعيين.

(١) في المسألة [٦٩١].


بيان ذلك : أن الأخبار الواردة في الغسل الارتماسي على قسمين : فقسم اشتمل على لفظة الارتماس وأنه إذا ارتمس ارتماسة واحدة أجزأه ، وهذا أي الارتماس ورد في روايتين معتبرتين (١). والارتماس معناه الستر والتغطية ، فيقال رمس خبره أي كتمه وستره ورمسه في التراب أي غطاه به. وقسم اشتمل على لفظة الاغتماس كما ورد في مرسلة الفقيه (٢) ، وهو أيضاً بمعنى الارتماس ، وإن قيل إن بينهما فرقاً وهو أن التستر والتغطي بالماء إذا كان كثيراً بأن مكث تحته فهو اغتماس ، وأما إذا لم يمكث تحته فهو ارتماس ، إلاّ أنه لم يثبت. وكيف كان ، فسواء ثبت أم لم يثبت فهما بمعنى واحد ، ومن الظاهر أن التغطي والتستر بالماء لا يتحقق إلاّ بإحاطة الماء تمام البدن بحيث لو بقي منه شي‌ء خارج الماء لم يصدق الاغتماس والتغطي.

وعليه فالارتماس أمر وحداني دفعي لا أنه تدريجي ، إذ ليس هو بمعنى إحاطة الماء ليقال إنه أمر تدريجي الحصول ، بل معناه التستر والتغطي وهما أمران دفعيان وعلى هذا فلا بدّ من أن يقال إن الارتماس إن كان بمعنى إحاطة الماء للبدن فهو أمر تدريجي لا بدّ من أن ينوي الغسل من أوّل جزء دخل في الماء ، وإذا كان معناه التغطِّي والتستّر فهو دفعي وحداني لا بدّ أن يقصد الغسل حين استيعاب الماء تمام بدنه. فهو إمّا هذا أو ذاك لا أنه قد يتحقق بهذا وقد يتحقق بذاك ، وبما أن اللغة قد فسرته بالتستّر والتغطِّي وبيّنت موارد استعمالاته فهي أصدق شاهد على أنه بمعنى الستر والتغطي فهو أمر دفعي وحداني ومعه ينوي الغسل حال استيعاب الماء تمام بدنه. والأحوط أن لا ينوي شيئاً لاحتمال أن يكون الارتماس بمعنى إحاطة الماء وهو تدريجي ، والأولى من ذلك أن يقصد ما في الذمّة لأنه مبرئ على كل حال.

__________________

(١) وهما صحيحة زرارة وصحيحة الحلبي. الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٥ ، ١٢. وكذلك ورد لفظ الارتماس في موثقة السكوني ، نفس الباب ح ١٣.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٣٣ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ١٥. الفقيه ١ : ٤٨ / ١٩١.


ولو لم يقصد أحد الوجهين صحّ أيضاً وانصرف إلى التدريجي (١).

[٦٦٦] مسألة ٥ : يشترط في كل عضو أن يكون طاهراً حين غسله فلو كان نجساً طهره أوّلاً ، ولا يكفي غسل واحد (*) لرفع الخبث والحدث كما مرّ في الوضوء ، ولا يلزم طهارة جميع الأعضاء قبل الشروع في الغسل وإن كان أحوط (٢).

______________________________________________________

(١) لأنه أسبق في الوجود من الاستيعاب التام.

اشتراط الطّهارة في كل عضو حين غسله‌

(٢) في المقام بحثان : أحدهما : أنه هل يعتبر في صحّة الغسل طهارة جميع الأعضاء قبله بحيث لو كانت رجله مثلاً متنجسة لم يصح غسل رأسه أو لا يعتبر ذلك في صحّة الغسل ، فان قلنا باشتراط الطّهارة في جميع الأعضاء قبل الغسل فلا تصل النوبة إلى البحث الثاني ، وأما إذا لم نقل بهذا الاشتراط فيقع الكلام في أن الغسل يشترط فيه طهارة كل عضو قبل غسله وإن لم تعتبر طهارة المجموع قبل الغسل أو يكفي صبّ الماء مرّة واحدة لإزالة الخبث والحدث معاً ، وهذا هو البحث الثاني في المقام. وهذا بخلاف الوضوء فان البحث السابق لا يأتي فيه ، إذ لم يقل أحد باعتبار طهارة مجموع أعضاء الوضوء قبل الشروع فيه ، بل يكفي تطهير كل عضو قبل غسله وإن كانت الأعضاء الباقية نجسة.

أمّا المقام الأوّل فقد ذهب جماعة إلى اشتراط طهارة مجموع الأعضاء قبل الغسل في صحّته مستدلين عليه بالأخبار المتضمنة للأمر بغسل الفرج قبل صبّ الماء على الرأس والبدن (٢) وبما دلّ على غسل ما في البدن من الأذى أي النجاسة قبل غسل‌

__________________

(*) الأظهر كفايته على تفصيل مرّ في باب الوضوء [ فصل شرائط الوضوء الشرط الثاني ].

(١) راجع الوسائل ٢ : ٢٢٩ / أبواب الجنابة ب ٢٦.


الرأس والبدن (١) بدعوى أنها ظاهرة في شرطية تطهير البدن قبل الغسل في صحّته.

ولكن الصحيح عدم دلالتها على الاشتراط ، وذلك لأنا وإن قلنا إن ظاهر الأمر هو الوجوب النفسي وأن هذا الظهور الأوّلي انقلب إلى ظهور ثانوي في المركبات والمقيّدات ، حيث إن ظهور الأمر فيهما في الإرشاد إلى الشرطية أو الجزئية كما أن النهي فيهما ظاهر في الإرشاد إلى المانعية إلاّ أن هذا إنما هو فيما إذا كان المولى بصدد المولوية ، بأن يكون الأمر مولوياً ، فان الإرشاد إلى الشرطية والجزئية أو المانعية أيضاً من وظائف المولى. وأما إذا لم يكن المولى بهذا الصدد وإنما كان بصدد بيان أمر عادي طبيعي فلا ظهور لأمره في الإرشاد إلى أي شي‌ء ، والأمر في المقام كذلك ، لأن الغالب نجاسة الفرج بالمني في موارد غسل الجنابة ، والمني ليس كالبول ليزول بصب الماء عليه لأنه ماء كما في الخبر (٢) والمني لزج في نفسه وتحتاج إزالته إلى دلك أو صابون وإعمال عناية ، وهذا بحسب الطبع والمتعارف إنما يتحقق في الكنيف أو موضع آخر ثمّ يغتسل في موضع آخر لا أنه يزال في أثناء الغسل ، لأن غسله في أثناء الغسل صعب حيث إن الماء عند صبه على الرأس يصيبه لا محالة وهو نجس فيتنجس ما يلاقيه ، كما تتنجس الأرض حيث يقطر منه الماء على الأرض ويحتاج إلى تطهير ذلك كلّه ، والإمام عليه‌السلام بأمره بانقاء الفرج ناظر إلى بيان أمر طبيعي عادي ومعه لا ينعقد له ظهور في الإرشاد إلى الشرطية بوجه.

ويدلّ على ما ذكرناه صحيحة حكم بن حكيم المتقدّمة (٣) الآمرة بغسل الرجلين بعد غسل الرأس والبدن إذا كان الموضع قذراً ، لتنجسهما بوصول الماء إليهما ومعه لم يحكم ببطلان غسل رأسه وبدنه ، بل أمره بغسلهما بعد ذلك حتى يطهرا ويصح غسلهما‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٧.

(٢) الوسائل ١ : ٣٤٣ / أبواب أحكام الخلوة ب ٢٦ ح ٣. ٣ : ٣٩٥ / أبواب النجاسات ب ١ ح ٤ ، ٧.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٣٣ / أبواب الجنابة ب ٢٧ ح ١ وورد صدرها في ٢٣٠ / ب ٢٦ ح ٧. وقد تقدّم ذكرها في ص ٣٧٨.


وهذا بخلاف ما إذا كان المحل نظيفاً ، إذ لا حاجة حينئذ إلى غسلهما ، لأن الماء بطبعه يصل إلى تحت القدمين عند صبه على الرأس والمنكبين ، وعليه فلا يشترط تطهير جميع أعضاء الغسل قبله.

وأمّا المقام الثاني أعني اشتراط تطهير كل عضو قبل غسله فقد ذهب إليه المشهور. والمستند لهم في ذلك أحد أمرين :

أحدهما : أن العضو لو كان متنجساً تنجس به الماء عند وصوله إليه ولا يصح الغسل مع الماء المتنجس ، إذ لا بدّ في إزالة الحدث من أن يكون الماء طاهراً ، بل وكذلك الحال في إزالة الخبث ، إذ الماء المتنجس بوصوله إلى العضو لا يكفي في تطهيره وإزالة الخبث ، فلا يحصل به إزالة الخبث ولا الحدث.

نعم لا بدّ في إزالة الخبث من أن نعتبر طهارة الماء قبل أن يصل إلى المحل المتنجس فالنجاسة الحاصلة بنفس الغسل أي بوصول الماء إلى المحل غير مانعة عن حصول الطّهارة به ، وذلك للضرورة الملجئة إلى ذلك ، حيث إن الماء القليل لو اشترطنا طهارته حتى بعد وصوله إلى المحل مع القول بنجاسة الغسالة مطلقاً لزم عدم إمكان تطهير شي‌ء من المتنجسات به ، وهو خلاف الأخبار والضرورة. وأما في إزالة الحدث فلا ضرورة ملجئة إلى تخصيص اشتراط الطّهارة بما قبل وصول الماء إلى العضو ، بل نلتزم فيه باشتراط الطّهارة في الماء مطلقاً قبل وصوله إليه وبعده ، وغاية ما يلزمه بطلان الغسل به قبل تطهير العضو المتنجس وهو مما لا محذور في الالتزام به ، ومن هنا نعتبر في صحّة الغسل بالماء القليل تطهير كل عضو قبل غسله.

ولا يخفى أنه لا تترتب النتيجة على هذا الاستدلال إلاّ على نحو الموجبة الجزئية أي فيما إذا اغتسل بالماء القليل مع القول بنجاسة الغسالة مطلقاً ، وأما إذا اغتسل في الكر أو الجاري أو غيرهما من المياه المعتصمة فلا يتنجس الماء بوصوله إلى العضو المتنجس حتى يشترط في صحّة الغسل به طهارة العضو قبل غسله ، وكذا إذا اغتسل بالماء القليل مع القول بطهارة الغسالة مطلقاً كما التزم به بعضهم أو فيما إذا كانت متعقبة بطهارة المحل ، فان الماء لا يتنجس في هذه الصورة فلا يبطل به غسله.


ثانيهما : أن غسل البدن يتعلق للأمر من جهتين : من جهة إزالة الخبث كما في موثقة عمار : « فعليه أن يغسل ثيابه ، ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء » (١) وغيره من الأوامر الواردة في غسل البدن أو صبّ الماء عليه لتطهيره (٢) ، ومن جهة إزالة الحدث كما في صحيحة زرارة الآمرة بغسل البدن من القرن إلى القدم (٣) ، وحيث إنّ الأصل عدم التداخل فلا بدّ من أن نلتزم بتعدد غسل البدن فتارة من جهة الأمر بغسله لإزالة الخبث وأُخرى من جهة الأمر بإزالة الحدث ، لاستحالة تعلق أمرين أو أزيد على طبيعة واحدة فلا محالة يقيد متعلق كل منهما بما هو غير متعلق الآخر هذا.

ولا يخفى أن الطبيعة الواحدة إذا تعلق بها أمران فصاعداً وإن كان مقتضى الأصل عدم التداخل فيه ، لأن كل شرط وسبب يستدعي مسبباً عليحدة ، ويستحيل أن يبعث نحو الشي‌ء الواحد ببعثين ويطلب مرّتين ، كما إذا ورد إن أفطرت فكفّر وإن ظاهرت فكفّر ، فيقيد متعلق كل منهما بفرد دون الفرد الآخر الذي تعلق عليه الطلب الآخر. إلاّ أن ذلك فيما إذا كان الأمران مولويين تكليفيين كما في المثال ، وأما إذا كانا إرشاديين فلا مانع من تداخلهما ، وليس الأصل فيهما عدم التداخل.

والأمر في المقام كذلك ، لأن الأمر بغسل البدن من جهة إزالة الأخباث إرشاد إلى نجاسة البدن بإصابة الماء المتنجس أو غيره له كما أنه إرشاد إلى أن نجاسته لا ترتفع بغير الغسل ، وكذا الأمر بغسل البدن من جهة إزالة الحدث لأنه إرشاد إلى شرطية غسل تمام البدن في الغسل. وأي محذور في اجتماعهما على طبيعة واحدة؟ بل لا مناص عنه أخذاً بإطلاقهما ، فنلتزم أن الغسل مما يزال به نجاسة البدن كما أنه شرط في صحّة الغسل فلا موجب لتقييد كل منهما بفرد غير ما تعلّق به الآخر ، فانّ الموجب للقول بعدم التداخل إنما هو استحالة طلب الشي‌ء مرّتين وعدم معقولية البعث نحو الشي‌ء ببعثين الذي هو نظير محذور اجتماع المثلين في شي‌ء واحد ، وهذا كما ترى مختص‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٢ / أبواب الماء المطلق ب ٤ ح ١.

(٢) الوسائل ١ : ٣٤٣ / أبواب أحكام الخلوة ب ٢٦ وغيره من الأبواب.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٥.


[٦٦٧] مسألة ٦ : يجب اليقين بوصول الماء إلى جميع الأعضاء فلو كان حائل وجب رفعه (١) ، ويجب اليقين بزواله مع سبق وجوده (٢) ومع عدم سبق وجوده يكفي الاطمئنان بعدمه (*) بعد الفحص.

[٦٦٨] مسألة ٧ : إذا شكّ في شي‌ء أنه من الظاهر أو الباطن يجب‌

______________________________________________________

بالأمرين التكليفيين ولا يأتي في الإرشاديين بوجه ، إذ لا طلب ولا بعث فيهما فلا محذور في اجتماعهما في شي‌ء واحد فالأصل فيهما التداخل لا عدم التداخل ، فان بالغسل مرّة يرتفع الخبث كما يحصل به شرط صحّة الغسل.

وعليه فالصحيح عدم اعتبار طهارة كل عضو قبل غسله وتطهيره إلاّ أن الأحوط ذلك ، بل الأولى أن يطهر جميع أعضائه قبل أن يشرع في الغسل لوجود المخالف في المسألة والقول بالاشتراط.

(١) لقاعدة الاشتغال حتى يقطع بالفراغ.

كفاية الاطمئنان بالعدم‌

(٢) لاستصحاب بقائه ولا ينقض اليقين إلاّ بيقين مثله. ولكن الصحيح كفاية الاطمئنان بالزوال لأنه يقين عقلائي ويطلق عليه اليقين في لسان أهل المحاورة والعامّة ، كما أنه يقين بحسب اللغة ، لأن اليقين من يقن بمعنى سكن وثبت كما أن الاطمئنان بمعنى سكن واستقر فهو يقين لغة وعرفاً وإن كان بحسب الاصطلاح لا يطلق عليه اليقين ، فمع حصوله يرفع اليد عن اليقين السابق لا محالة ، وعليه فلا وجه للفرق بين صورة سبق وجود الحائل وصورة عدم سبقه ، بل يكفي الاطمئنان في كليهما.

__________________

(*) لا فرق في كفايته بين سبق الوجود وعدمه.


غسله (*) (١) على خلاف ما مرّ في غسل النجاسات (**) حيث قلنا بعدم وجوب غسله. والفرق أن هناك الشك يرجع إلى الشك في تنجسه بخلافه هنا حيث إن التكليف بالغسل معلوم فيجب تحصيل اليقين بالفراغ ، نعم لو كان ذلك الشي‌ء باطناً سابقاً وشك في أنه صار ظاهراً أم لا فلسبقه بعدم الوجوب لا يجب غسله عملاً بالاستصحاب (٢).

______________________________________________________

الشك في كون الشي‌ء من الباطن‌

(١) قدّمنا تفاصيل الشك في أن الشي‌ء من الباطن أو الظاهر من دون العلم بحالته السابقة في مبحث الوضوء وقلنا إن الشك فيه قد يكون من قبيل الشبهة الحكمية المفهومية وأُخرى من قبيل الشبهة الموضوعية (٣) ، وبيّنا أحكامهما مفصلاً وحيث إن الغسل والوضوء في ذلك سواء فلا نطيل بذكره في المقام.

(٢) وليس هذا الأصل من المثبت في شي‌ء ، لأن عدم وجوب غسل الموضع من الآثار المترتبة على كونه باطناً شرعاً ، وليس استصحاب الموضوع للأثر الشرعي لأجل ترتيبه من المثبت في شي‌ء ، فان المثبت هو استصحاب الشي‌ء لأجل ترتيب آثار لوازمه أو ملزوماته أو ملازماته. وقد بينا في محلِّه أن أدلّة اعتبار الاستصحاب لا تشمل إلاّ الآثار المترتبة على نفس المستصحب لا على لوازمه (٤) ، فإذا جرى استصحاب كون الشي‌ء من الباطن وتعبّدنا بعدم وجوب غسله وغسلنا سائر المواضع الظاهرة بالوجدان فبضم الوجدان إلى الأصل نحرز أنا غسلنا بدننا من القرن إلى القدم مما يعد ظاهراً ، والطّهارة اسم لذلك.

__________________

(*) على الأحوط ، ولا يبعد عدم الوجوب كما مرّ في باب الوضوء.

(**) تقدّم الكلام فيه [ في المسألة ٣٨٦ ].

(١) شرح العروة ٥ : ١٠٥.

(٢) مصباح الأُصول ٣ : ١٦١.


[٦٦٩] مسألة ٨ : ما مرّ من أنه لا يعتبر الموالاة في الغسل الترتيبي إنما هو فيما عدا غسل المستحاضة والمسلوس والمبطون فإنه يجب فيه المبادرة إليه وإلى الصلاة بعده من جهة خوف خروج الحدث (١).

______________________________________________________

(١) ظاهر كلامه بل صريحه أن كلامه إنما هو فيما إذا كانت هناك فترة تسع الصلاة مع الطّهارة ، ولا إشكال في أن المسلوس والمبطون كما تقدّم (١) كذلك المستحاضة كما يأتي (٢) تجب عليهم المبادرة إلى الغسل والصلاة حينئذ والإتيان بإجزائهما متوالية متتابعة ، وإنما الكلام في أن هذا استثناء مما تقدّم من عدم اعتبار الموالاة في الغسل كما هو ظاهر عبارة المتن أو أنه حكم آخر لا ربط له بالحكم السابق بوجه؟

المتعين هو الأخير ، لأنّ ما قدّمناه من عدم اعتبار الموالاة في الغسل (٣) حكم وضعي بمعنى عدم اشتراط التتابع في الغسل ، وأما وجوبه في المسلوس وأخويه فإنما هو وجوب تكليفي ليس بمعنى الاشتراط ، لوضوح أن المسلوس أو أخويه إذا اغتسل لا مع الموالاة ولم يخرج منه حدث من باب الاتفاق حكم بصحّة غسله ، وعليه فالغسل لا يشترط فيه الموالاة مطلقاً حتى المسلوس والمبطون والمستحاضة. نعم تجب المبادرة والمسارعة في حق هؤلاء تحفظاً على صلاتهم مع الطّهارة لئلاّ يخرج منهم الحدث قبل إتمامها بمقدماتها وهو وجوب تكليفي ، بل المبادرة والموالاة في حقّهم أضيق دائرة من الموالاة المعتبرة في الوضوء أعني عدم جفاف الأعضاء السابقة وصدق التتابع العرفي ، بحيث لو فرضنا أن الموالاة العرفية وبقاء الأعضاء السابقة على رطوبتها يتحقّقان ويستمران إلى خمس دقائق مثلاً ولكنه متمكن من الغسل في دقيقة واحدة وجب الإتيان به في دقيقة واحدة تحفّظاً على صلاته مع الطّهارة. فالموالاة ثابتة في حق هؤلاء ، وما أفاده ليس استثناء ممّا تقدّم ، بل المناسب أن يذكر ذلك في‌

__________________

(١) في ص ٢٠٩.

(٢) في المسألة [٧٩٩].

(٣) في ص ٣٨٣.


[٦٧٠] مسألة ٩ : يجوز الغسل تحت المطر وتحت الميزاب ترتيباً لا ارتماساً نعم إذا كان نهر كبير جارياً من فوق على نحو الميزاب لا يبعد جواز الارتماس تحته أيضاً (١) إذا استوعب الماء جميع بدنه على نحو كونه تحت الماء.

______________________________________________________

بحث السلس والبطن والاستحاضة ويقال إنهم يجب أن يبادروا إلى الغسل والصلاة ويسارعوا إليه بالإتيان متتابعاً ، ولا يناسب ذكره في المقام.

وأمّا إذا لم تكن فترة في البين تسع الصلاة فقد ذكرنا في المسلوس والمبطون (١) ويأتي في المستحاضة أيضاً (٢) أن ما ابتلوا به من الحدث ليس حدثاً في حقهم ولا ينتقض به وضوءهم وغسلهم.

جواز الغسل تحت المطر ونحوه‌

(١) إذا صدق معه الارتماس والتغطية والتستّر في الماء لا إشكال في صحّة غسله كما في النهر الكبير الجاري من الفوق ، إذ لا يعتبر في الارتماس الدخول في الماء من طرف الرجلين كما هو الحال في المياه المتعارفة من الحوض والنهر والبحر ونحوها ، بل لو دخله من طرف رأسه أيضاً لكفى ذلك في صحّته إذ المناط فيه صدق التغطية والتستّر بالماء.

وأمّا إذا لم يصدق معه الارتماس بالمعنى المذكور كما إذا وقع تحت المطر حيث إن قطراته غير متّصلة فتقع منه قطرة ثمّ قطرة اخرى من غير اتصال فلا يكون معه البدن متستراً بالماء ومتغطياً به في آن واحد ، فلا كلام في عدم كونه من الارتماس حقيقة إلاّ أن الكلام في أنه ملحق بالارتماس في عدم اعتبار الترتيب فيه أو أنه غير ملحق به فيعتبر فيه الترتيب لا محالة. قد يقال بإلحاقه بالارتماس تمسكاً بإطلاق ما دلّ على كفاية الغسل تحت المطر ، حيث لم يقيد الإجزاء فيه بما إذا كان مع الترتيب. والعمدة‌

__________________

(١) في ص ٢١٢ ٢١٩ ٢٢٢.

(٢) في المسألة [٧٨٧].


فيما دلّ على كفاية الغسل تحت المطر روايتان صحيحتان لعلي بن جعفر رواهما في كتابه ، كما رواهما الحميري والشيخ وغيرهما.

إحداهما : « عن الرجل يجنب هل يجزئه من غسل الجنابة أن يقوم في المطر حتى يغسل رأسه وجسده وهو يقدر على ما سوى ذلك؟ فقال : إن كان يغسله اغتساله بالماء أجزأه ذلك » (١).

ثانيتهما : « عن الرجل تصيبه الجنابة ولا يقدر على الماء فيصيبه المطر أيجزئه ذلك أو عليه التيمم؟ فقال : إن غسله أجزأه وإلاّ تيمّم » (٢) بدعوى دلالتهما على أن ماء المطر إذا كان بقدر سائر المياه مما يكفي في غسل بدنه أجزأه ذلك عن الغسل من دون اعتبار الترتيب في صحّته. ومقتضى إطلاقهما أن الغسل تحت المطر ملحق بالارتماسي في عدم اعتبار الترتيب فيه وإن لم يكن ارتماساً حقيقة.

وفيه : أن الصحيحتين لا إطلاق لهما ، حيث إن نظرهما إلى أن ماء المطر كبقية المياه ، فكأن السائل احتمل أن لا يكون ماء المطر كافياً في الغسل فسأله عمن أصابته الجنابة وهو لا يقدر على غير المطر من المياه فهل إصابة المطر كافية في حقه أو أن وظيفته التيمم ، ثمّ سأله عن حكمه عند تمكنه من سائر المياه فأجابه عليه‌السلام بأنه إن غسله اغتساله بالماء كفى. فالصحيحتان ناظرتان إلى كفاية ماء المطر كغيره وليستا ناظرتين إلى غير ذلك فلا إطلاق فيهما. على أن قوله : « إن كان يغسله اغتساله بالماء أجزأه ... » ظاهر في أنّ الاغتسال بالمطر لو كان كالاغتسال بالماء من حيث الكم والكيف أجزأه ، بأن يكون ماء المطر بمقدار يمكن به الاغتسال كبقيّة المياه وأن يغسل به رأسه أوّلاً ثمّ جسده كما هو الحال في الغسل بغير ماء المطر. ويشهد له قول علي بن جعفر : حتى يغسل رأسه وجسده. لأنه قرينة على التفاته إلى اعتبار الترتيب‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٣١ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ١٠ ، مسائل علي بن جعفر : ١٨٣ / ٣٥٤ ، قرب الاسناد : ١٨٢ / ٦٧٢ ، التهذيب ١ : ١٤٩ / ٤٢٤.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٣٢ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ١١ ، مسائل علي بن جعفر : ١٨٣ / ٣٥٥ ، قرب الاسناد : ١٨١ / ٦٦٨.


[٦٧١] مسألة ١٠ : يجوز العدول عن الترتيب إلى الارتماس في الأثناء (١) وبالعكس (٢) لكن بمعنى رفع اليد عنه والاستئناف على النحو الآخر.

[٦٧٢] مسألة ١١ : إذا كان حوض أقل من الكر يجوز الاغتسال فيه بالارتماس (٣) مع طهارة البدن‌

______________________________________________________

في الغسل بالمطر ويسأله عن أن تلك الكيفية في المطر كافية أو غير كافية ، وأجابه عليه‌السلام بأنّ الغسل به إذا كان كالغسل بغيره كماً وكيفاً أجزأه. فهاتان الصحيحتان ممّا لا دلالة له على ذلك المدعى.

نعم هناك رواية ثالثة لا يبعد ظهورها في الإطلاق بل هو قريب ، وهي رواية ابن أبي حمزة : « في رجل أصابته جنابة فقام في المطر حتى سال على جسده أيجزئه ذلك من الغسل؟ قال : نعم » (١). لدلالتها على أن القيام تحت المطر كاف في صحّة الغسل من دون اشتراط الترتيب فيه. إلاّ أنها مرسلة ، ولأجله لا يمكننا الاعتماد عليه. فالصحيح أن في الغسل في المطر لا بدّ من ملاحظة الترتيب.

جواز العدول عن إحدى كيفيتي الاغتسال إلى الأُخرى‌

(١) إذ لا دليل على حرمة رفع اليد عن الترتيبي ، فلو كان غسل رأسه بقصد الغسل الترتيبي ثمّ بدا له في الغسل الارتماسي وارتمس يشمله قوله : « إذا ارتمس في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك ».

(٢) هذا إنما يتصور على مسلكه من إمكان كون الارتماس تدريجياً ، وأمّا بناء على ما ذكرناه من أن الارتماس أمر آني دفعي الحصول فأمره دائر بين الوجود والعدم ولا يعقل فيه العدول والبداء في أثنائه.

إذا اغتسل في أقل من الكر‌

(٣) لعدم الدليل على اشتراط الكثرة فيما يغتسل فيه بالارتماس ، ولإطلاق قوله‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٣٢ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ١٤.


لكن بعده يكون من المستعمل في رفع الحدث الأكبر ، فبناءً على الإشكال فيه يشكل الوضوء والغسل منه بعد ذلك (١) وكذا إذا قام فيه واغتسل بنحو الترتيب (٢) بحيث رجع ماء الغسل فيه (*)

______________________________________________________

( عليه‌السلام ) : « إذا ارتمس في الماء ارتماسة واحدة أجزأه » (٢).

(١) لأنه ماء قليل مستعمل في إزالة الحدث الأكبر وهو لا يجوز استعماله في رفع الحدث الأكبر أو الأصغر ثانياً ، لما في موثقة ابن سنان من أن « الماء الذي يغسل به الثوب أو يغتسل به الرجل من الجنابة لا يجوز أن يتوضأ منه وأشباهه » (٣).

(٢) لا يمكن المساعدة على ما أفاده قدس‌سره بوجه ، لأن الموضوع للنهي عن الاغتسال أو التوضؤ بالماء المستعمل هو الماء الذي اغتسل به الرجل لا ما امتزج به الماء المستعمل في الاغتسال.

وتوضيح ذلك : أن الماء الراجع إلى الماء القليل قد يكون مستهلكاً في ضمنه لكثرته بالإضافة إلى الماء المستعمل الراجع إليه ولا إشكال حينئذ في جواز الاغتسال به ، لعدم صدق الماء المستعمل عليه ، بل هو ماء غير مستعمل في الاغتسال. وقد ينعكس الأمر ويكون الماء القليل مستهلكاً فيما يرجع إليه من الماء المستعمل لكثرته وقلّة الماء القليل ، ومعه أيضاً لا إشكال في المسألة إذ لا يجوز الغسل منه ، لأنه ماء مستعمل في إزالة الحدث. وثالثة : يمتزج الماء المستعمل الراجع إلى الماء القليل معه من دون أن يستهلك أحدهما في الآخر وهذا أيضاً لا مانع من استعماله في رفع الحدث ، لما عرفت من أن الموضوع للمنع عن الاستعمال هو الماء الذي اغتسل به لا الماء الممتزج به الماء المستعمل في الاغتسال. ومن هنا لا بأس بالماء المنتضح من الماء المستعمل في‌

__________________

(*) موضوع الحكم هو الماء الذي يغتسل به من الجنابة ، وأما الممتزج منه ومن غيره فلا بأس به ما لم يستهلك غيره فيه.

(١) الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٥ ، ١٢.

(٢) الوسائل ١ : ٢١٥ / أبواب الماء المضاف والمستعمل ب ٩ ح ١٣.


وأمّا إذا كان كراً أو أزيد فليس كذلك ، نعم لا يبعد (*) صدق المستعمل عليه إذا كان بقدر الكر لا أزيد واغتسل فيه مراراً عديدة (١) لكن الأقوى كما مرّ جواز الاغتسال والوضوء من المستعمل.

______________________________________________________

الإناء كما ورد في صحيحة الفضيل (١).

(١) وهذا لا لأنه إذا كان بمقدار الكر واغتسل فيه نقص عن الكر ومعه يكون من الماء القليل المستعمل في إزالة الحدث ، إذ لو كان نظر الماتن إلى ذلك لم يكن وجه للتقييد بالمرار العديدة ، إذ لو كان الماء بمقدار الكر فحسب من دون أن يزيد عليه لنقص عنه ولو بالغسل فيه مرّة واحدة كما لعله ظاهر. بل من جهة حسبان أن الماء إذا اغتسل فيه مراراً متعددة وكان بقدر الكر لا زائداً عليه بكثير كما في البحار والأنهار الكبيرة صدق عليه أنه ماء مستعمل في إزالة الحدث الأكبر ، فإنه لو قسّم إلى كل واحد واحد من اغتسالاته لوقع بإزاء كل واحد منها من الماء مقدار يسير غير بالغ حدّ الكر ، والماء القليل المستعمل في إزالة الحدث الأكبر غير رافع للحدث ثانياً فلا يصحّ استعماله في رفع الحدث ثانيا.

وفيه : أن الموضوع لعدم جواز استعمال الماء في رفع الحدث ثانياً ليس هو الماء المستعمل في إزالة الحدث الأكبر ، وإلاّ لصدق ذلك فيما هو زائد عن الكر ، ولم يكن للتقييد بقوله : لا أزيد ، وجه صحيح ، لأنا لو فرضنا الماء زائداً على الكر ولكن كان المغتسل فيه زائداً عن الواحد كما في خزانات الحمامات حتى الدارجة في يومنا هذا أيضاً يأتي فيه الكلام المتقدّم ، فإنه لو قسّم إلى كل واحد واحد من آحاد المغتسلين لم يقع بإزاء كل واحد منهم إلاّ أقل قليل ولعله لا يكفي في غسل بدنه ، ومعه لو كان صدق عنوان المستعمل كافياً في عدم ارتفاع الحدث بالماء المستعمل بلا فرق في ذلك بين الماء القليل والكثير للزم الحكم بعدم صحّة الغسل والوضوء في خزانات‌

__________________

(*) لا يضرّ صدقه عليه بعد ورود النص بجواز الاغتسال منه.

(١) الوسائل ١ : ٢١١ / أبواب الماء المضاف والمستعمل ب ٩ ح ١ ، ٥.


[٦٧٣] مسألة ١٢ : يشترط في صحّة الغسل ما مرّ من الشرائط في الوضوء (*) في‌

______________________________________________________

الحمّامات لما عرفت ، مع أنه مما لا يلتزم به هو قدس‌سره ولا غيره.

والسر في ذلك أن الموضوع لعدم ارتفاع الحدث بالماء المستعمل هو الماء المستعمل القليل ، لأنّ الكر ممّا نعلم بعدم انفعاله وتأثره من الخبث ولا الحدث ، وقد ورد في صحيحة محمّد بن مسلم السؤال عن « الغدير فيه ماء مجتمع تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب ، قال : إذا كان قدر كر لم ينجسه شي‌ء » (٢) ، وكذلك في صحيحته الأُخرى (٣). وفي صحيحة صفوان بن مهران الجمال قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحياض التي ما بين مكّة إلى المدينة تردها السباع وتلغ فيها الكلاب وتشرب منها الحمير ويغتسل فيها الجنب ويتوضأ منها ، قال : وكم قدر الماء؟ قال : إلى نصف الساق وإلى الركبة ، فقال : توضأ منه » (٤) حيث إن ظاهرها بل صريحها السؤال عن حكم الماء المستعمل ، وقد دلّت على عدم البأس به إذا كان كرّاً وإليه يشير تفصيله بين ما إذا كان إلى نصف الساق وغيره ، حيث إن الماء في الحياض الموجودة في الصحاري لو كان بالغاً إلى نصف الساق فهو زائد عن الكر بكثير ، ولا تقاس تلك الأحواض بالحياض الموجودة في الدور والحمامات.

فالمتحصل : أن الماء المستعمل الكثير لا يتأثر بشي‌ء ، وإنما لا يجوز استعماله في رفع الحدث ثانياً فيما إذا كان قليلاً ، ومع كونه كراً لا يمنع عن استعماله في رفع الحدث ثانياً وثالثاً وإن صدق عليه عنوان المستعمل في إزالة الحدث.

__________________

(*) مرّ تفصيلها في الوضوء ، وتلحق حرمة الارتماس بحرمة استعمال الماء في الأثر ، نعم يفترق الغسل عن الوضوء بأمرين : الأوّل : جواز المضي مع الشك بعد التجاوز وإن كان في الأثناء. الثاني : عدم اعتبار الموالاة فيه في الترتيبي.

(١) الوسائل ١ : ١٥٩ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ٥.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١.

(٣) الوسائل ١ : ١٦٢ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١٢.


الوضوء (١) من النيّة واستدامتها إلى الفراغ وإطلاق الماء وطهارته وعدم كونه ماء الغسالة وعدم الضّرر في استعماله وإباحته وإباحة ظرفه وعدم كونه من الذّهب والفضّة وإباحة مكان الغسل ومصب مائه وطهارة البدن وعدم ضيق الوقت والترتيب في الترتيبي وعدم حرمة الارتماس في الارتماسي منه كيوم الصوم وفي حال الإحرام والمباشرة في حال الاختيار ، وما عدا الإباحة وعدم كون الظرف من الذّهب والفضّة وعدم حرمة الارتماس من الشرائط (٢) واقعي لا فرق فيها بين العمد والعلم والجهل والنسيان ، بخلاف المذكورات فإن شرطيتها مقصورة على حال العمد والعلم.

______________________________________________________

الشرائط المعتبرة في صحّة الغسل‌

(١) وقد مرّ توضيح الكلام في جميع تلك الشرائط في الوضوء ، ولا وجه لإعادته غير اشتراط عدم حرمة الارتماس لاختصاصه بالغسل. والوجه في اشتراطه ظاهر إذ مع حرمة الارتماس يقع الغسل فاسداً منهياً عنه لعدم إمكان التقرب بالمبغوض والحرام لا محالة ، كما إذا ارتمس في نهار شهر رمضان أو في الإحرام أو في نهار الصوم الواجب المعيّن ولو غير شهر رمضان.

(٢) أراد بذلك التفرقة بين الشروط المتقدّمة وبين اشتراط عدم حرمة الارتماس نظراً إلى أن الأخير من الشرائط الواقعية فلا فرق في بطلان الغسل عند حرمته بين صورتي العلم والجهل لعدم اشتماله على شرطه ، وهذا بخلاف بقيّة الشروط كاشتراط حليّة الماء وإباحة ظرفه أو عدم كون الظرف من الذهب أو الفضّة ، لأن شرطيتها مقصورة بحال الذكر والعلم والاختيار (١) ، فإذا جهل بحرمتها فلا مانع عن صحّة الغسل لتمشي قصد التقرب منه عند الجهل بحرمة الماء أو ظرفه أو بكونه من الذهب أو الفضّة.

__________________

(١) لا يخفى التهافت بين المتن والشرح.


[٦٧٤] مسألة ١٣ : إذا خرج من بيته بقصد الحمام والغسل فيه فاغتسل بالداعي الأوّل لكن كان بحيث لو قيل له حين الغمس في الماء : ما تفعل؟ يقول : اغتسل ، فغسله صحيح وأمّا إذا كان غافلاً بالمرّة بحيث لو قيل له : ما تفعل ، يبقى متحيِّراً فغسله ليس بصحيح (١).

______________________________________________________

ولكنّا قدّمنا في بحث الوضوء (١) أن التفرقة بين صورتي العلم والجهل في الأفعال المحرمة إنما يتمّ في موارد اجتماع الأمر والنهي أعني موارد التزاحم ، بأن يتعلق الأمر بشي‌ء والنهي بشي‌ء آخر وتزاحما في موارد الاجتماع فإنه مع العلم بالحرمة لا يقع العمل صحيحاً لتزاحم الحكمين ، وأمّا إذا جهل بالحرمة فلا مانع من الحكم بصحّة المجمع لعدم تزاحم الحرمة المجهولة مع الوجوب. وأما في موارد التعارض كما في المقام بأن يكون شي‌ء واحد متعلقاً للحرمة والوجوب فان العمل محكوم بالبطلان حينئذ فلا فرق بين صورتي العلم بالحرمة والجهل بها ، وذلك لا لعدم تمكنه من قصد التقرب مع الجهل بحرمته لوضوح إمكانه مع الجهل ، بل من جهة أن المبغوض والمحرّم الواقعي لا يقع مصداقاً للواجب ولا يمكن أن يكون مقرباً بوجه إلاّ أن يكون الجهل مركباً كما في موارد النسيان والغفلة ، فإن الحرمة الواقعية ساقطة حينئذ لحديث رفع النسيان وهو رفع واقعي ، ومع عدم حرمة العمل بحسب الواقع لا مانع من أن يقع مصداقاً للواجب ويكون مقرباً إلى الله.

(١) ما أفاده قدس‌سره من الأمارات الغالبية الكاشفة عن وجود النيّة في خزانة النفس لا أنه هو المدار في صحّة الغسل وبطلانه ، فان المدار على أن تكون حركته نحو العمل منبعثة عن الداعي إلى ذلك العمل ونيّته ، فان كانت النيّة الداعية إلى العمل متحققة في خزانة نفسه وإن لم يلتفت إليها بالفعل إلاّ أنه يأتي به بارتكازه فالعمل صحيح. وهذا أمر كثير التحقق خارجاً فترى أنه خرج من منزله بداعي‌

__________________

(١) في شرح العروة ٥ : ٣١٩.


[٦٧٥] مسألة ١٤ : إذا ذهب إلى الحمام ليغتسل وبعد ما خرج شك في أنه اغتسل أم لا يبني على العدم (١) ولو علم أنه اغتسل لكن شك في أنه على الوجه الصحيح أم لا يبني على الصحّة (٢).

______________________________________________________

التشرّف إلى الحضرة الشريفة وقد غفل عن ذلك في أثناء مشيه وطريقه إلاّ أنه بالأخرة يصل الحرم بارتكازه ونيّته الكائنة في خزانة نفسه وإن لم يكن ملتفتاً إليها لتوجه النفس إلى أمر آخر دنيوي أو أُخروي.

وأما إذا لم يكن عمله بتحريك نيّة ذلك العمل ولو بارتكازه في خزانة النفس فلا محالة يحكم ببطلانه ، لعدم صدوره منه بالنيّة المعتبرة في صحّته. وما أفاده قدس‌سره من عدم تحيره في الجواب على تقدير السؤال عنه فهو أمارة غالبية على وجود النيّة في الخزانة وعدمها لا أنه المدار في الحكم بالصحّة والفساد كما قدّمنا تفصيله في بحث الوضوء (١).

إذا شكّ في اغتساله‌

(١) لاستصحاب عدم الإتيان به ، اللهمّ إلاّ أن نقول بجريان قاعدة التجاوز عند التجاوز عن المحل العادي وكانت عادته الاغتسال في وقت تجاوز عنه ، ولكنه احتمال ضعيف ، لعدم ترتب أثر شرعي على التجاوز عن المحل العادي على ما فصّلنا القول فيه في محلِّه (٢).

(٢) لقاعدة الفراغ ، لأن غسله مما مضى وكل شي‌ء قد مضى يمضى كما هو.

__________________

(١) في شرح العروة ٥ : ٤١٨.

(٢) في مصباح الأُصول ٣ : ٣١٥.


[٦٧٦] مسألة ١٥ : إذا اغتسل باعتقاد سعة الوقت فتبين ضيقه وأن وظيفته كانت هو التيمم فإن كان على وجه الدّاعي يكون صحيحاً وإن كان على وجه التقييد (*) يكون باطلاً (١). ولو تيمم باعتقاد الضيق فتبين سعته ففي صحّته وصحّة صلاته إشكال (**) (٢).

______________________________________________________

التفصيل بين الدّاعي والتقييد‌

(١) هذا هو التفصيل الذي فصل به في الوضوء وحاصله : أنه إن أتى بالوضوء أو الغسل حينئذ بداعي الأمر الفعلي المتوجه إليهما الناشئ باعتقاده من الأمر بالصلاة أو بغيرها من المؤقتات فوضوءه وغسله صحيحان ، حيث أتى بهما بداعي الأمر الفعلي المتعلق بهما ، وغاية الأمر أنه أخطأ في التطبيق وحسب أن أمرهما الفعلي هو الوجوب الناشئ من الأمر بذي المقدّمة وكان أمرهما الفعلي هو الاستحباب ، وهو غير مضر في صحّتهما بعد إتيانهما بداعي أمرهما الفعلي. وأما إذا أتى بهما مقيّداً بأن يكونا مقدّمتين للصلاة أي مقيّداً بكونهما واجبين غيريين فيحكم ببطلانهما ، لعدم مقدّمتيهما وعدم وجوبهما الغيري حينئذ (٣).

هذا ولكنا ذكرنا هناك أن طبيعة الوضوء أو الغسل طبيعة واحدة غير قابلة للتقييد بشي‌ء ، والعبادية فيهما لم تنشأ عن مقدّميتهما للصلاة أو غيرها من العبادات وإنما نشأت عن استحبابهما الذاتيين ، فلا مانع من الحكم بصحّتهما لإتيانهما بداعي أمرهما الفعلي ، والخطأ في التطبيق غير مانع عن صحّتهما (٤).

(٢) قد تعرّض قدس‌سره للمسألة في التكلّم على مسوغات التيمم (٥) حيث عدّ‌

__________________

(*) لا يبعد أن لا يكون للتقييد أثر في أمثال المقام.

(**) لا ينبغي الإشكال في بطلانه وبطلان صلاته.

(١) الثامن من شرائط الوضوء ، قبل المسألة [٥٦٠].

(٢) شرح العروة ٥ : ٣٦١.

(٣) في المسألة [١٠٩٢].


[٦٧٧] مسألة ١٦ : إذا كان من قصده عدم إعطاء الأُجرة للحمامي فغسله باطل وكذا إذا كان بناؤه على النسيئة من غير إحراز رضا الحمامي بذلك وإن استرضاه بعد الغسل ، ولو كان بناؤهما على النسيئة ولكن كان بانياً على عدم إعطاء الأُجرة أو على إعطاء الفلوس الحرام ففي صحّته إشكال (*) (١).

______________________________________________________

منها ضيق الوقت ، وعندئذ تعرض لما إذا اعتقد المكلّف الضيق ثمّ تبين السعة وحكم هناك ببطلان التيمم جازماً به. وما أفاده هناك هو الصحيح ، إذ لا وجه لصحّة التيمم حينئذ ، لأن المفروض أنه كان واجداً للماء وكان الوقت وسيعاً وغاية الأمر أنه تخيل الضيق وتخيل وجوب التيمم ثمّ تبين خطأ اعتقاده وهو في الوقت ، نعم لو لم يتبين ذلك في الوقت إلى أن خرج فهو باعتقاده عاجز عن الماء واعتقاده لا يترتب عليه شي‌ء.

وأمّا لو كان معتقداً عدم الماء في مجموع الوقت فيمكننا الحكم بصحّة تيممه وإن كان في الواقع متمكناً منه ، وذلك لأنه باعتقاده عدم التمكن يعجز عن استعماله ولا يتمكن منه ما دام معتقداً لعدم الماء فهو غير متمكن من استعمال الماء حقيقة لاعتقاده ، فوظيفته التيمم ولو كان الماء موجوداً عنده واقعاً. وكيف كان ، فلا وجه للإشكال في بطلان التيمم في مفروض المسألة ، بل لا بدّ من الحكم ببطلانه جزماً كما صنعه هناك.

إذا اغتسل قاصداً عدم إعطاء الأُجرة‌

(١) التزم الماتن قدس‌سره ببطلان الاغتسال فيما إذا كان من قصده عدم إعطاء الأُجرة أو إعطاؤها من المال الحرام أو على إعطائها نسيئة فيما إذا كان بناء الحمامي على النقد ، واستشكل في صحّته فيما إذا كان بناؤهما أي الحمامي والمغتسل على النسيئة وصار بناء المغتسل على عدم إعطاء الأُجرة للحمّامي.

__________________

(*) أظهره عدم الصحّة مع عدم إحراز الرضا.


وتفصيل الكلام في هذه المسألة أن الاغتسال في الحمام قد يكون من باب الإجارة كما إذا أوقعاها بالصيغة على أن يدخل المغتسل الحمام مدّة متعارفة كساعة أو أقل أو أكثر لينتفع فيه بالتصرف في مائه وغيره في مقابلة أُجرة معيّنة ، وعليه فيكون المغتسل مالكاً بإجارته هذه التصرف في الحمام مدّة متعارفة كما أن الحمامي يملك بها الأُجرة المسمّاة على ذمّة المغتسل ، بلا فرق في ذلك بين أن يستوفي المغتسل تلك المنفعة المملوكة له أم لم يستوفها بل اشتغل مع أصحابه بشي‌ء آخر كالتكلم أو نحوه ، لأنه لا بدّ أن يدفع الأُجرة المسماة مطلقاً وإن فوت المنفعة على نفسه. كما لا فرق في ذلك بين أن يبني على عدم إعطاء الأُجرة للحمامي أو بنى على إعطائها ولكنه لم يعطها بعد ذلك أو إعطائها من المال الحرام ، لأن المعاملة صحيحة على كل حال وذمّة المغتسل مشغولة بالأُجرة المسمّاة ، والفعل الخارجي أعني إعطاء الأُجرة من المال الحرام أو عدم إعطائها أجنبيان عن المعاملة وصحّتها. ولا يختص ذلك بالإجارة بل يأتي في كل معاملة كان فيها العوض أمراً ذميّاً كما إذا اشترى شيئاً بقيمة معيّنة في ذمّته ، فإن المعاملة صحيحة سواء دفع القيمة أم لم يدفعها ، بنى على إعطائها أم لم يبن عليه. هذا إذا كان الدخول في الحمام للاغتسال أو لغيره من باب الإجارة.

وأمّا إذا كان من باب إباحة التصرّف في الحمّام بعوض لأنه من المعاملات المتداولة في الخارج من دون أن يكون هناك تمليك أو تملك ، فان المغتسل يدخل الحمام ويغتسل من غير أن يعلم بأُجرته وأنها أي مقدار ولا سيما في الغرباء كأهل مملكة أُخرى ، بل وكذلك في أهل مملكة واحدة كالنجفي إذا دخل الحمام في بغداد ، لأن الأسعار تختلف باختلاف البلدان والأمكنة ولا يدري أن الأُجرة أي مقدار ، كما أن الحمّامي لا يدري أنه يصرف من الماء بمقدار الاغتسال ارتماساً أو ترتيباً أو يصرفه مقداراً زائداً لتنظيف بدنه ، كما لا يعلم أنه يتصرف في الحمام بمقدار الاغتسال أو يريد تنظيف بدنه بالصابون والنورة ونحوهما ، ومع هذا كله لا يستشكل أحد في صحّة غسله ، فلو كان ذلك من باب الإجارة للزم تعيين الأُجرة والمنفعة والعلم بهما قبل الدخول لاعتبار العلم بمقدار العوضين في الإجارة.


وعليه فهو من باب إباحة التصرف بعوض ، فكأن الحمامي أعلن بالكتابة أو بغيرها على أنه يرضى للدخول في حمامه بشرط إعطاء العوض عند الخروج ، وحيث إن الشرط بعنوان الموضوع فيكون الرضا متعلقاً بدخول كل من يعطي العوض عند الخروج ، فإعطاء العوض عند الخروج من الشرط المتأخر لرضا الحمامي في الدخول والاغتسال في الحمام أو غيره من التصرّفات ، ومعه لا بدّ من أن يبني المغتسل على إعطاء الأُجرة حين الدخول والاغتسال كما لا بدّ من أن يعطيها عند الخروج.

فلو فرضنا أنه بنى على إعطائها إلاّ أنه عند الخروج لم يعط الأُجرة يحكم ببطلان غسله ، لأن عدم إعطاء الأُجرة كاشف عن عدم رضا الحمّامي بتصرّفاته من الابتداء كما أنّ إعطاءها كاشف عن رضاه بذلك على ما هو الحال في جميع موارد الشرط المتأخِّر. كما أنه لو انعكس الأمر فلم يبن على إعطاء الأُجرة عند دخوله واغتساله إلاّ أنه دفعها عند الخروج أيضاً يبطل غسله ، وذلك لأن إعطاءه الأُجرة وإن كان كاشفاً عن رضا الحمامي بدخوله واغتساله إلاّ أن المغتسل إما أن يكون حال غسله عالماً بعدم رضا الحمامي باغتساله لأنه بانٍ على عدم إعطائه الأُجرة ، وإما أن يكون شاكاً في ذلك لتردده في أنه يعطي الأُجرة أو لا يعطيها. فعلى الأوّل فهو عالم بحرمة التصرف في الماء وغيره ، ومعه كيف يتمشى منه قصد التقرّب عند الاغتسال وإن كان الحمامي راضياً واقعاً. وأما على الثاني فأيضاً الأمر كذلك ، لاستصحاب عدم رضا الحمامي وعدم إعطائه الأُجرة بعد الخروج ، فالتصرّفات الصادرة منه محكومة بالحرمة الظاهرية بالاستصحاب وإن كان في الواقع حلالاً لرضا الحمّامي بتصرّفاته ومع العلم بالحرمة أو ثبوتها بالتعبد كيف يتمشى منه قصد التقرّب ليصحّ غسله.

ومعه لا بدّ في صحّة اغتساله من بنائه على إعطاء العوض عند الخروج ومن إعطائه كذلك ، ومع انتفائهما أو انتفاء أحدهما يحكم ببطلان غسله. ولا فرق في ذلك بين النقد والنسيئة ، فلو فرضنا أن الحمامي يرضى بإعطاء العوض بعد مدّة معيّنة ولكنه بان على عدم إعطائها بعد تلك المدّة أو لم يعطها بعدها أيضاً يحكم ببطلان غسله لما مرّ بعينه ، فالتفصيل بين النقد والنسيئة ممّا لا وجه له.


[٦٧٨] مسألة ١٧ : إذا كان ماء الحمام مباحاً لكن سخن بالحطب المغصوب لا مانع من الغسل فيه (١) لأنّ صاحب الحطب يستحق عوض حطبه ولا يصير شريكاً في الماء ولا صاحب حق فيه.

[٦٧٩] مسألة ١٨ : الغسل في حوض المدرسة لغير أهله (٢) مشكل بل غير

______________________________________________________

إذا كان تسخين الماء بشي‌ء مغصوب‌

(١) أو أحماه بالكهرباء أو النفط المغصوبين. والوجه في صحّة غسله حينئذ ما ذكرناه في بحث المكاسب من أن الأعراض مطلقاً سواء كانت من أعراض الجسم أم النفس لا تقابل بالمال وإنما هي توجب زيادة قيمة الجسم ومعروضها ، فالصوف المنسوج كالألبسة ونحوها وإن كانت قيمته أضعاف قيمة الصوف غير المنسوج إلاّ أن زيادة القيمة إنما هي قيمة لذات الصوف لا أنها قيمة النسج ، وكذلك الجسم الأبيض مع غيره أو الجسم العريض والطويل مع الجسم غير العريض ، فان نسج الثوب أو بياض الجسم أو عرضه وطوله ليست أُموراً قابلة للتمليك لأحد بإزاء مال أو بغيره ولا معنى لأن يكون نسج الصوف ملكاً لأحد ونفس الصوف ملكاً لآخر ، وهكذا بياض الجسم أو عرضه وطوله وكذلك الحال في اعراض النفس ككتابة العبد ، إذ لا معنى لأن تكون كتابة العبد لأحد ونفس العبد لأحد. وعليه فالحرارة المتحققة في الماء المباح لا معنى لأن تقابل بالمال وتكون ملكاً لصاحب الحطب أو الكهرباء أو النفط حتى يكون شريكاً مع صاحب الماء في الماء ، لأنها ممّا لا يقابل بشي‌ء ، نعم يكون المتصرِّف في الحطب ضامناً لمالكه فلا بدّ من أن يخرج عن عهدته بدفع قيمته إلى مالكه ، وأما الماء المتصف بالحرارة فهو ملك صاحب الماء فيصح غسله فيه ووضوءه وغيرهما من التصرفات.

(٢) هذه المسألة تبتني على بحث كبروي وهو أن الوقف إذا شك في سعته وضيقه إمّا من جهة الموقوف عليه وأنه جميع المسلمين أو خصوص أهل العلم مثلاً ، وإما من‌


جهة كيفية التصرّف مع العلم بالموقوف عليه كما إذا شكّ في أن الوقف وقف للانتفاع به في جهة معيّنة أو في جميع الجهات ، فهل يجوز التصرّف فيه في غير المقدار المتيقن أو لا يجوز؟ فنقول :

إنّ الإطلاق والتقييد المعبر عنهما بالسعة والضيق بحسب مقام الدلالة والإثبات من قبيل العدم والملكة ، حيث إن الإطلاق ليس إلاّ عدم التقييد بخصوصية في مقام البيان ، وعليه فلو شك في أن الواقف هل جعله وقفاً موسعاً أو مضيقاً وكان في مقام البيان ولم يأت بقيد يدلّ على كونه وقفاً لجهة معيّنة ، فيمكننا التمسك بإطلاق كلامه بمقدّمات الحكمة والحكم بأن الوقف مطلق حتى في مقام الثبوت لاستكشافه من الإطلاق في مقام الإثبات. وأما إذا لم يكن هناك إطلاق ليتمسك به وشكّ في سعة الوقف وضيقه فلا مناص من الاقتصار على المقدار المتيقن ، وذلك لأن التقابل بين الإطلاق والتقييد في مقام الثبوت تقابل التضاد ، لأن الإطلاق عبارة عن لحاظ العموم والسريان وعدم مدخلية شي‌ء من الخصوصيات في الموضوع ، والتقييد هو لحاظ الخصوصية ومدخليتها في الموضوع ، فإذا شككنا في أن الواقف لاحظ السريان في وقفه أو لاحظ الخصوصية المعيّنة فأصالة عدم لحاظه العموم والسريان يمنع عن الحكم بعموم الوقف وشموله للجميع.

ولا يعارضه أصالة عدم لحاظ الخصوصية إذ لا أثر لها ، حيث إن عموم الوقف مترتب على لحاظ السريان لا على عدم لحاظ الخصوصية ، فاستصحاب عدم لحاظ الخصوصية لإثبات أنه لاحظ العموم والسريان إثبات لأحد الضدين بنفي الضد الآخر وهو من أظهر أنحاء الأُصول المثبتة.

وعليه فلو لم يكن هناك إطلاق أو أمارة على جواز التصرف في الوقف في غير المقدار المتيقن لا يحكم بجوازه ، كما إذا شك غير أهل المدرسة في جواز تصرّفاته في ماء حوضها بالاغتسال فان مقتضى أصالة عدم لحاظ العموم والسريان في وقفه عدم كون الوقف عاما شاملاً له ، بل مقتضى أصالة الاشتغال أو استصحابه بطلان وضوئه. ومن ذلك القبيل ما إذا علمنا بوقفية لحاف مثلاً وشككنا في أنه وقف للتصرّف فيه في جهة معيّنة كالتغطية به لبرد ونحو برد أو أنه موقوف لمطلق التصرّفات حتى جعله‌


صحيح بل وكذا لأهله (*) (١) إلاّ إذا علم عموم الوقفية أو الإباحة.

[٦٨٠] مسألة ١٩ : الماء الذي يسبلونه يشكل الوضوء والغسل منه إلاّ مع العلم بعموم الإذن (٢).

[٦٨١] مسألة ٢٠ : الغسل بالمئزر الغصبي باطل (**) (٣).

______________________________________________________

فراشاً ينام عليه ، أو علمنا بوقفية كتاب لأهل العلم وشككنا في أن الوقف فيه خاص بمطالعته وتدريسه ودراسته أو يعمّ غيرها أيضاً كجعل الخبز عليه عند أكله أو جعله متكئاً عند المنام ، فان مقتضى أصالة عدم لحاظ العموم والسريان عدم عموميّة الوقف حينئذ فتكون التصرفات الزائدة على المقدار المتيقن متوقفة على مرخص.

(١) فيه : أن التصرف في ماء الحوض للاغتسال به في الدور والأماكن الصالحة للسكنى أمر متعارف في البلاد الحارة كالنجف وما شابهها. ومعنى وقف المدرسة لأهلها أن المدرسة كالدور وأهل المدرسة كأرباب الدور ، فكما أن ربّ الدار يتصرّف فيها بما يحتاج إلى التصرّف فيه من الأُمور المتعارفة من غسل بدنه وتنظيفه ومنامه ونحوها فكذلك أهل المدرسة ، فيتصرّفون فيها تصرف الملاك في أملاكهم.

(٢) وقد ظهر حال الماء المسبل ممّا قدّمناه في المسألة السابقة ، لأنّ التسبيل بمعنى إباحة التصرّف ، ومع الشك في عمومها وتقيّدها تجري أصالة عدم لحاظ العموم فلا يمكن التصرّف فيه في غير المقدار المتيقن منه وهو شربه ، وأمّا التوضؤ أو الاغتسال أو غسل الثياب به فلا مسوغ له إلاّ أن يكون هناك إطلاق أو أمارة قائمة على الجواز.

الاغتسال بالمئزر الغصبي‌

(٣) فيه : أن الغسل إنما يكون باطلاً فيما إذا كان الاغتسال تصرفاً في المئزر‌

__________________

(*) إذا كانت المدرسة وقفاً وكان الاغتسال لأهلها في حوضها من التصرفات المتعارفة فالظاهر أنه لا بأس به.

(**) فيه إشكال والصحّة أظهر.


[٦٨٢] مسألة ٢١ : ماء غسل المرأة من الجنابة والحيض والنفاس وكذا اجرة تسخينه إذا احتاج إليه على زوجها على الأظهر (*) لأنه يُعد جزءاً من نفقتها (١).

______________________________________________________

المغصوب ليكون محرّماً فيكون باطلاً. إلاّ أن صبّ الماء للاغتسال الذي هو بمعنى جريه على البدن أو مسّه به أمر وصبّه على المئزر وجريه عليه أمر آخر وهما أمران أحدهما أجنبي عن الآخر ، لأن الغسل بمعنى جريان الماء على البدن ، وهو أمر آخر أجنبي عن جريان الماء على المئزر وإن كانا متحققين بفعل واحد وبصب الماء مرّة واحدة ، ومع التعدّد لا وجه لسراية الحرمة من أحدهما إلى الآخر كما لا يسري الوجوب من أحدهما إلى ثانيهما.

مئونة اغتسال الزوجة ليست على الزوج‌

(١) النفقة الواجبة على الزوج على ما دلّت عليه الآية المباركة ( وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللهُ ) (١) والروايات المتضمّنة على أن عليه النّفقة (٢) وإن لم تفسر في نفس الآية والأخبار الآمرة بها إلاّ أن هناك جملة من الروايات قد حددت النفقة الواجبة على الزوج بما يقيم صلبها أو ظهرها ويكسو عورتها أو جثتها وغير ذلك مما يؤدي هذا المعنى ، وفي بعضها أنه ليس لها عليه شي‌ء غير هذا؟ قال : لا (٣).

وقد دلّت جملة من الأخبار الأُخر على وجوب السكنى أيضاً على الزّوج (٤) وعليه فالواجب على الزّوج السكنى وما يقيم صلب زوجته وكسوتها. وقد دلّ على ذلك أيضاً ما ورد في تفسير قوله تعالى ( فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) (٥)

__________________

(*) فيه إشكال بل منع.

(١) الطّلاق ٦٥ : ٧.

(٢) الوسائل ٢١ : ٥٠٩ / أبواب النفقات ب ١ ح ١ ، ب ١١ ح ٣ ، ٥ وغيرها من الموارد.

(٣) الوسائل ٢١ : ٥٠٩ / أبواب النفقات ب ١.

(٤) الوسائل ٢١ : ٥١٩ / أبواب النفقات ب ٨ ح ١ ، ٤ ، ١١.

(٥) البقرة ٢ : ٢٢٨.


[٦٨٣] مسألة ٢٢ : إذا اغتسل المجنب في شهر رمضان أو صوم غيره (١) أو‌

______________________________________________________

وإن كانت الرواية ضعيفة (١) ، فيجب عليه كل ما تحتاج إليه المرأة في معاشها وحياتها حتى الماء لتنظيف بدنها والصابون بل الصبغ والدهن كما اشتملت عليه بعض الأخبار لأنها راجعة إلى معاش المرأة وبها يُقام صلبها ، حيث إنها لو لم تنظف بدنها ولم تستحم فربّما ابتليت بالمرض وصارت مورداً للتنفّر والانزعاج. وأما ما كان خارجاً عن معاشها وإقامة صلبها وكسوتها كالامور الواجبة عليها شرعاً بأسبابها من الكفارة أو الدية إذا قتلت شبهة أو عمداً وأُجرة الماء للاغتسال أو تسخينه أو غير ذلك مما هو خارج عن معاشها فلا دليل على وجوبها على الزوج ، بل الزّوجة إن كانت متمكِّنة منها فهو وإلاّ فينتقل الأمر إلى بدلها في حقّها كالتيمم بدلاً عن الغسل ، وهي معذورة فإن التيمم أحد الطهورين (٢) ويكفيك عشر سنين (٣).

نعم لولا تلك الأخبار المحدِّدة للنفقة الواجبة بالأمرين : ما يقيم صلب المرأة ويكسو عورتها ، وتصريحه عليه‌السلام بعدم وجوب غيرهما على الزوج لكان مقتضى إطلاق النفقة في الأخبار المطلقة والأمر بالإنفاق في الآية المباركة هو وجوب تمام نفقتها الأعم مما يرجع إلى معاشها ومعادها ، إلاّ أن الأخبار المحددة تخصص النفقة الواجبة بما يرجع إلى معاش المرأة ، ومعه فلا يبعد عدم كون ماء الغسل ومقدّماته على الزّوج.

ارتماس الصائم نسياناً‌

(١) الكلام في ذلك يقع من جهات :

الجهة الاولى : أن الصائم في شهر رمضان أو في الواجب المعيّن قضاء أو نذراً ولو في غير رمضان أو المحرّم إذا ارتمس في الماء للاغتسال فان كان ذلك عن علم وعمد‌

__________________

(١) وهي مرسلة العياشي المذكورة في الوسائل ٢١ : ٥١٢ / أبواب النفقات ب ١ ح ١٣.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٨٦ / أبواب التيمم ب ٢٣ ح ٥.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٨٦ / أبواب التيمم ب ٢٣ ح ٤.


في حال الإحرام ارتماساً نسياناً لا يبطل صومه ولا غسله ، وإن كان متعمداً بطلا معاً (*) ، ولكن لا يبطل إحرامه وإن كان آثماً. وربّما يقال : لو نوى الغسل حال الخروج من الماء صحّ غسله. وهو في صوم رمضان مشكل ، لحرمة إتيان المفطر فيه بعد البطلان أيضاً فخروجه من الماء أيضاً حرام كمكثه تحت الماء ، بل يمكن أن يقال : إنّ الارتماس فعل واحد مركب من الغمس والخروج فكلّه حرام ، وعليه يشكل في غير شهر رمضان أيضاً ، نعم لو تاب ثمّ خرج بقصد الغسل صحّ (**).

______________________________________________________

فلا إشكال في بطلان غسله وصومه ، لأن الارتماس مفطر وهو حرام في نهار شهر رمضان ومع حرمته يقع على وجه الفساد ، كما أنه يوجب بطلان الصيام ، فهناك تلازم بين حرمة الارتماس وبطلان الغسل وبطلان الصيام. وأما في الإحرام فالارتماس متعمداً محرم في نفسه وموجب لبطلان الغسل دون الإحرام.

وأمّا إذا كان الارتماس سهواً وغفلة فلا يحرم ارتماسه فيصح غسله كما يصحّ صومه ، فان ارتكاب المفطر سهواً وغفلة غير محرم ولا موجب لبطلان الصيام حينئذ ، كما أنه غير محرم في الإحرام لصدوره سهواً وغفلة. فتحصل : أن الصوم في شهر رمضان أو الواجب المعيّن إذا كان الارتماس متعمداً بطلا معاً وإذا كان نسياناً صحّا معا.

الجهة الثانية : أن الصوم غير الواجب المعيّن وغير صوم رمضان أيضاً يبطل بالارتماس في الماء إلاّ أن الغسل يقع صحيحاً ولا حرمة فيه ، لعدم حرمة الإفطار في الصوم المندوب أو الواجب غير المعيّن قبل الزوال ، فلا ملازمة بين بطلان الصوم وبطلان الاغتسال. هذا إذا وقع عن علم وعمد ، وأما إذا وقع سهواً وغفلة فلا إشكال في صحّة صومه وغسله ، لعدم بطلان الصوم بالمفطر عن غفلة ونسيان. هذا كلّه إذا نوى الغسل حال دخوله في الماء.

__________________

(*) هذا إذا كان الصوم واجباً معيّناً ، وإلاّ بطل الصوم خاصّة.

(**) تقدّم الإشكال فيه.


الجهة الثالثة : فيما إذا نوى الغسل حال خروجه من الماء فعلى ما قدّمناه من أن ظواهر الأدلّة طلب الإحداث والإيجاد فالواجب هو الارتماس إحداثاً وإيجاداً وأما الارتماس بقاء فهو غير مأمور به فلا يكفي في الاغتسال لا إشكال في عدم صحّة غسله ، فلو كان إيجاده عن تعمد واختيار بطل صومه ، بل ارتكب المعصية أيضاً فيما إذا كان الصوم واجباً معيّناً أو كان في نهار شهر رمضان بخلاف ما إذا لم يكن عن اختيار ، فان صومه لا يبطل بذلك ولا يرتكب المعصية مطلقا.

وأمّا إذا قلنا بكفاية الإبقاء كالإحداث ولو بدعوى أن قوله : إذا ارتمس في الماء ارتماسة واحدة (١) مطلق يشمل كلاًّ منهما فنوى الغسل حال الخروج ففيه تفصيل وحاصله : أن إدخال بدنه في الماء إذا لم يكن عن عمد واختيار كما إذا زلق فوقع في الماء في شهر رمضان أو نسي حتى أحاط الماء على تمام بدنه فلا كلام في صحّة صومه وغسله أو صحّة إحرامه وغسله من دون أن يرتكب الحرام ، وذلك لعدم حرمة خروجه من الماء حينئذ ، فالارتماس بحسب البقاء غير محرّم في حقه لعدم استناده إلى الاختيار ، وهو نظير الخروج من الدار المغصوبة إذا توسطها من غير اختياره. وأما إذا كان ارتماسه بسوء اختياره فلا إشكال في بطلان صومه المعيّن وكذلك في صوم شهر رمضان.

وهل يصحّ غسله إذا نوى الغسل حال الخروج نظراً إلى أنّ المفطر الحرام إنّما هو حدوث الارتماس وأما بحسب البقاء فلا حرمة فيه لعدم كونه مفطراً؟ أمّا في صوم شهر رمضان فقد استشكل الماتن في صحّته ، وهو كما أفاده ، وذلك لأن الارتماس بحسب البقاء وإن لم يكن مفطراً إلاّ أن الإتيان بالمفطر محرم في شهر رمضان ولو بعد إبطال الصوم أو الإفطار ، فإذا أفطر بالأكل أو بغيره فيحرم عليه الأكل أو غيره ثانياً وثالثاً في نفسه لا بعنوان أنه مفطر ، ومع حرمته ومبغوضيته لا يقع مصداقاً للواجب. وأمّا في غير صوم شهر رمضان فأيضاً استشكل فيه الماتن من جهة أن الارتماس من أوّله وهو غمس بدنه في الماء وإحاطته إلى آخره وهو خروجه من الماء شي‌ء واحد‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٥ ، ١٢.


وموجود بوجود فأرد ، والمفروض أن هذا الوجود الواحد محكوم بحرمته وهو مبغوض ، ومع مبغوضيته وحرمته كيف يقع مصداقاً للواجب ومقرّباً إلى الله ، وإن كان ذلك الوجود أمراً مستمرّاً؟ هذا.

ولا يخفى أن الارتماس وإن كان له وجود واحد مستمر إلاّ أنه بما أنه ارتماس وتغطية غير محرم في الصوم وإنما حرم فيه لأنه مفطر ، ومن هنا لو ارتمس غافلاً أو ناسياً أو لا باختياره صحّ صومه ، فليس الصوم مشروطاً بعدم الارتماس وإنما هو مشروط بعدم المفطر. نعم الارتماس بما أنه ارتماس وتغطية محرم في الإحرام وأما في الصوم فلا. وإذا كان الأمر كذلك فلا إشكال في أن المفطر إنما هو حدوث ذلك الوجود الواحد المستمر وأمّا بعده وهو تحت الماء فهو ليس بمفطر ، إذ لا صوم ليكون بقاء الارتماس مفطراً له. ولا مانع من أن يكون شي‌ء واحد محكوماً بحكم بحدوثه وبحكم آخر بحسب البقاء ، وهذا كما في السجدة ، لأنّ الواجب منها هو ما كان بقدر الذكر وأمّا الزائد عليه أي إبقاء السجدة فهو أمر مستحب أي إطالتها.

وحيث إنّ الصوم صوم غير رمضان فلا دليل على حرمته ثانياً وثالثاً فلا محالة يكون الارتماس بحسب البقاء غير مفطر ولا محرّم كما عرفت ، فلا مانع من أن ينوي به الغسل فإنّه يقع صحيحاً حينئذ ، وهذا بخلاف صوم رمضان فانّ الارتماس بحسب البقاء أيضاً محرم فيه ثانياً وثالثاً وإن لم يكن مفطراً ، اللهمّ إلاّ أن يندم وهو تحت الماء ويتوب ، فانّ التوبة تجعل الذنب كالعدم فكأنه تحت الماء لم يرتكب الارتماس على وجه حرام ، وحينئذ لا مانع من أن ينوي الغسل عند الخروج وبه يحكم بصحّة غسله لا محالة. إلاّ أن ما ذكرناه في المقام يبتني على القول بكفاية الغسل والارتماس بقاء وهو ممّا لا نلتزم به كما مرّ.

هذا تمام كلامنا في هذا الجزء من الكتاب

ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السادس وأوّله

فصل في مستحبّات غسل الجنابة. ولله الحمد أوّلاً وآخرا‌


فهرس الموضوعات



فهرس الموضوعات

الطهارة

الشرط الثالث عشر : الخلوص................................................ ١

الرياء..................................................................... ١

حرمة الرياء في العبادة....................................................... ١

الأنحاء المتصورة في الرياء.................................................... ٤

مقتضى القاعدة والأخبار في مبطلية الرياء للعبادة............................... ٦

دليل السيد المرتضى على صحة العبادة المرائي فيها والجواب عنه................. ٨

الرياء في كيفية الإتيان بالعبادة.............................................. ١٠

بطلان العبادة بالرياء في جزء من أجزائها.................................... ١١

بطلان العبادة بالرياء في جزئها المستحب.................................... ١٤

حكم الرياء في أثناء العبادة................................................. ١٥

بطلان العبادة بالرياء وإن تاب بعده......................................... ١٦

الشك في تحقق الرياء...................................................... ١٦

العجب.................................................................. ١٨

مناشئ العجب وأسبابه.................................................... ١٩


حرمة العجب في العبادة................................................... ٢٠

بطلان العبادة بالعجب المتأخر.............................................. ٢١

بطلان العبادة بالعجب المقارن.............................................. ٢٣

الروايات الواردة في ذم العجب............................................. ٢٤

السمعة وبطلان العبادة بها................................................. ٣٦

الضمائم الراجحة والمباحة في العبادة......................................... ٣٧

الضمائم المحرمة غير الرياء في العبادة......................................... ٤٠

عدم بطلان العبادة بالرياء بعدها............................................ ٤٢

وضوء المرأة في مكان يراها الأجنبي.......................................... ٤٣

اجتماع غايات الوضوء.................................................... ٤٤

كفاية قصد غاية واحدة عند اجتماع غايات متعددة.......................... ٤٦

إذا توضأ بنية غاية ثم أراد أن يأتي بغاية أخرى............................... ٤٧

كفاية وضوء واحد لو نذر الوضوء لغاية ثم نذر الوضوء لأخرى................ ٥٢

صحة الوضوء إذا دخل الوقت في أثنائه...................................... ٥٤

قصد الغاية المستحبة دون الواجبة إذا اجتمعتا................................ ٥٧

وجوب الوضوء مع التضرر بالغسل الزائد على المسمى........................ ٥٩

بطلان الوضوء الضرري مع العلم والجهل بالضرر دون النسيان................. ٦١

هل يبطل الوضوء بالارتداد بعده............................................ ٦٣

حكم الوضوء مع نهي المولى والزوج ونحوهما.................................. ٦٤

عدم وجوب الوضوء إذا شك في الحدث بعده................................ ٦٥

تفصيلات في جريان استصحاب الوضوء لو شك في الحدث بعده وما يرد عليهما. ٦٧

تعاقب الوضوء والحدث مع الجهل بتأريخهما معا.............................. ٧٠

تفصيل العلامة في مورد تعاقب الوضوء والحدث مجهولي التأريخ................ ٧١

تفصيل المحقق الثاني في مورد تعاقب الوضوء والحدث مجهولي التأريخ............ ٧٢


صورة العلم بتأريخ الحدث فقط............................................ ٧٣

صورة العلم بتأريخ الوضوء دون الحدث..................................... ٧٤

الوجه المحتملة في مراد الآخوند من اعتبار احراز اتصال زمان الشك باليقين...... ٧٥

كلام السيد بحر العلوم في صورة العلم بتأريخ الوضوء دون الحدث وما يرد عليه.. ٨١

إذا كان مأمورا بالوضوء للجهل بالحالة السابقة فنسيه وصلى.................. ٨٢

العلم الإجمالي ببطلان الوضوء الأول أو التجديدي وحكم الصلاة المأتي بها بعد كل منهما ٩٠

إذا توضأ وضوءين وصلى بعدهما ثم علم بالحدث بعد أحدهما................... ٩١

إذا توضأ وضوءين وصلى بعد كل منهما نافلة ثم علم بالحدث بعد أحدهما....... ٩٩

العلم بصدور حدث وصلاة بعد الوضوء والشك في المتقدم منهما............. ١٠٣

العلم إجمالا بترك جزء واجب أو مستحب من الوضوء...................... ١٠٨

إذا توضأ وضوءا لقراءة القرآن وآخر لفريضة ثم علم ببطلان أحدهما.......... ١١٠

العلم التفصيلي بترك جزء أو شرط من أجزاء وشرائط الوضوء............... ١١١

الشك أثناء الوضوء بعد الفراغ منه وفوات الموالاة........................... ١١٧

الشك في صحة الوضوء من جهة الشك في الإتيان بالجزء الأخير منه.......... ١٢٠

حكم كثير الشك في الوضوء............................................. ١٢٣

الشك أثناء التيمم في جزء أو شرط من أجزائه وشرائطه..................... ١٢٥

إذا مسح في موضع الغسل أو على الحائل وشك في وجوى المسوغ شرعا...... ١٢٧

إذا شك بعد الوضوء في أنه أتمة صحيحا أو عدل عنه اختيارا أو اضطرارا...... ١٣٠


الشك في وجود الحاجب قبل الوضوء أو في أثنائه........................... ١٣١

الشك في إزالة الحاجب أو إيصال الماء تحته................................. ١٣٣

إذا علم بالحاجب فعلا وشك في كونه موجودا حال الوضوء أو أنه طرأ بعده... ١٣٥

الشك في الوضوء في تطهير الأعضاء النجسة قبله........................... ١٣٦

إذا تيقن بعد الوضوء من ترك جزء ونحوه ثم تبدل يقينه بالشك............... ١٤٠

إذا شك قبل إتمام الوضوء في غسل اليد اليسرى فغسلها ثم علم بغسلها........ ١٤١

فصل في أحكام الجبيرة.................................................... ١٤٣

مقتضى القاعدة الأولية في موارد الجبيرة.................................... ١٤٣

وضوء الجبيرة في موارد استلزام حل الجبيرة للحرج.......................... ١٤٥

وضوء الجبيرة في مورد تضرر العضو بنفس الوضوء.......................... ١٤٧

وضوء الجبيرة في مورد تضرر العضو النجس بتطهيره وعدم تضرره بالوضوء.... ١٤٨

حكم الجرح المكشوف في مواضع الغسل من الوضوء........................ ١٥٠

حكم الكسر المكشوف في مواضع الغسل من الوضوء....................... ١٥٣

حكم الجرح والكسر المكشوفين في مواضع المسح........................... ١٥٤

كفاية المسح على الجبيرة في الجرح والكسر المجبورين........................ ١٥٤

المسح على الجبيرة في مواضع الغسل حتى مع التمكن من مسح البشرة......... ١٥٦

المسح على الجبيرة في مواضع الغسل وعدم إجزاء غسلها..................... ١٥٧

كيفية الوضوء إذا لم يمكن المسح على الجبيرة لنجاسة وغيرها................. ١٥٨

تعين مسح الجبيرة في مواضع المسح وإن أمكن إيصال الماء إلى البشرة.......... ١٦٠

استيعاب الجبيرة لأعضاء الوضوء أو أحدهما................................ ١٦٢


لزوم المسح برطوبة الجبيرة إذا كانت على العضو الماسح..................... ١٦٥

كفاية مسح الجبيرة مع زيادتها عن الجرح بمقدار متعارف..................... ١٦٦

حكم الجبيرة الزائدة بمقدار غير متعارف................................... ١٦٦

اعتبار غسل أطراف الجرح المكشوف لو أراد وضع خرقة والمسح عليها....... ١٦٨

تضرر أطراف الجرح بأزيد من المتعارف................................... ١٦٩

التضرر باستعمال الماء من دون جرح أو كسر.............................. ١٧٠

تضرر الجرح الحادث في غير مواضع الوضوء باستعمال الماء في مواضعه........ ١٧١

جريان أحكام الجبيرة في مورد حدوث الجرح ونحوه اختيارا وعصيانا.......... ١٧٢

لزوم التيمم في موارد التصاق القير ونحوه ببعض أعضاء الوضوء.............. ١٧٣

أحكام الجبيرة المغصوبة................................................... ١٧٥

عدم اشتراط كون الجبيرة مما تصح الصلاة فيه.............................. ١٨٠

جواز البدار لذي الجبيرة وإن احتمل البرء وعدم وجوب الإعادة مع تبين البرء.. ١٨١

ما هو الحكم إذا استلزم رفع الجبيرة خروج الوقت.......................... ١٨٢

حكم الدواء المختلط بالدم................................................ ١٨٣

هل يتحقق الغسل بالمسح برطوبة اليد...................................... ١٨٤

المسح على الجبيرة الضخمة إذا كانت متعارفة.............................. ١٨٦

كون وضوء الجبيرة رافعا للحدث لا مبيحا................................. ١٨٧

الفوارق بين جبيرتي محل الغسل والمسح.................................... ١٨٩

غسل الجبيرة............................................................ ١٩٢

حكم الجرح والقرح المجبورين في مواضع الغسل............................. ١٩٣

حكم الجرح المكشوف في مواضع الغسل................................... ١٩٤

حكم الكسر المجبور في مواضع الغسل...................................... ١٩٦

تعين الغسل الترتيبي في موارد غسل الجبيرة................................. ١٩٨

مساواة التيمم للوضوء في أحكام الجبيرة.................................... ٢٠٠


هل يجوز قضاء الصلاة لصاحب الجبيرة عن نفسه وغيره..................... ٢٠١

ارتفاع عذر صاحب الجبيرة بعد الوضوء وقبل خروج الوقت................. ٢٠٤

صور اعتقاد الضرر باستعمال الماء وعدمه.................................. ٢٠٧

الجمع بين وضوء الجبيرة والتيمم عند الشك في الوظيفة...................... ٢٠٨

فصل في المسلوس والمبطون................................................ ٢٠٩

حالات المسلوس والمبطون بلحاظ دوام الحدث وعدمه....................... ٢٠٩

الحالة الأولى : وجود فترة تسع الطهارة والصلاة بلا حدث.................. ٢٠٩

الحالة الثانية : خروج الحدث أثناء الصلاة مرة أو أكثر بحيث لا يلزم الحرج من تجديد الوضوء ٢١٢

الروايات الواردة في المسلوس.............................................. ٢١٤

الروايات الواردة في المبطون............................................... ٢١٧

الحالة الثالثة : خروج الحدث أثناء الصلاة كثيرا بحيث يلزم الحرج من تجديد الوضوء كل مرة ٢١٩

الحالة الرابعة : خروج الحدث بدون انقطاع................................ ٢٢٢

حكم سلس الريح....................................................... ٢٢٣

هل تجب على المسلوس والمبطون المبادرة إلى الصلاة بعد الوضوء.............. ٢٢٤

كفاية وضوئهما الصلاتي لقضاء الأجزاء المنسية............................. ٢٢٥

كفاية وضوئهما الصلاتي لصلاة الاحتياط.................................. ٢٢٦

هل يجب عليهما الوضوء لكل نافلة........................................ ٢٢٧

وجوب التحفظ عليهما عن تعدي النجاسة................................. ٢٢٧

تطهير الكيس الذي تجتمع فيه النجاسة..................................... ٢٢٨

تطهير المبطون موضع الغائط قبل كل صلاة................................. ٢٢٩

هل تجب عليهما المعالجة من مرضهما...................................... ٢٢٩

مس المسلوس والمبطون كتابة القرآن....................................... ٢٣٠

وجوب تأخير الصلاة مع احتمال الفترة الواسعة............................. ٢٣١


وجوب الصلاة الاختيارية عليهما وإن تمكنا من الاضطرارية بلا خروج حدث أثناءها ٢٣٣

حكم ما لو نذر شخص الكون على وضوء دائما ثم صار مسلوسا مثلا........ ٢٣٤

فصل في الأغسال......................................................... ٢٣٥

الأغسال الواجبة........................................................ ٢٣٥

صور نذر الغسل والزيارة................................................ ٢٣٦

غسل الجنابة............................................................ ٢٣٩

موجبات الجنابة......................................................... ٢٣٩

الموجب الأول : الإنزال.................................................. ٢٣٩

جنابة المرأة بالإمناء...................................................... ٢٣٩

تحقق الجنابة ولو كان المني الخارج قليلا.................................... ٢٤٣

اعتبار الشهوة في وجوب الغسل........................................... ٢٤٥

خروج المني من غير المخرج المعتاد......................................... ٢٤٧

خروج المني الرجل من المرأة.............................................. ٢٤٨

وجوب الفحص عند الشك في كون الخارج منيا............................ ٢٤٩

اختبار الخارج بالصفات الواردة في الأخبار................................. ٢٤٩

الموجب الثاني : الجماع.................................................. ٢٥١

وجوب الغسل بالجماع ولو بدون إنزال.................................... ٢٥١

كفاية إدخال الحشفة في وجوب الغسل.................................... ٢٥٣

كفاية مسمى الإدخال في مقطوع الحشفة.................................. ٢٥٥

تحقق الجنابة بوطء دبر المرأة.............................................. ٢٦٠

تحقق الجنابة بوطء دبر الغلام............................................. ٢٦٣

الجنابة بوطء البهائم..................................................... ٢٦٥

الجنابة بوطء الخنثى...................................................... ٢٦٦


هل يجب الغسل وقضاء الصلاة لو وجد في ثوبه منيا......................... ٢٦٧

هل يجب الغسل لو وجد المني في الثوب المشترك............................. ٢٦٨

كلام صاحب الحدائق في صورة وجدان المني في ثوبه......................... ٢٦٨

الشك في كون المني الموجود جنابة جدية أو مما اغتسل منه.................... ٢٧٠

العلم بصدور جنابة وغسل والشك في السابق منهما......................... ٢٧١

العلم الإجمالي بجنابة نفسه أو غيره......................................... ٢٧٢

ائتمام العالم بجنابة أحد شخصين بأحدهما.................................. ٢٧٥

خروج المني بصورة الدم.................................................. ٢٧٦

حبس المني بعد دخول الوقت لو تحرم ولم يخرج............................. ٢٧٧

إجناب النفس اختيارا مع العجز عن الاغتسال.............................. ٢٧٨

الجماع بالعضو الملفوف.................................................. ٢٨٠

تقديم الوضوء على الغسل لو كانت الوظيفة الجمع بينهما.................... ٢٨٢

فصل : غايات غسل الجنابة................................................ ٢٨٣

الأولى : الصلاة وتوابعها................................................. ٢٨٣

الثانية : الطواف........................................................ ٢٨٥

الثالثة : الصوم.......................................................... ٢٨٨

اعتبار عدم الجنابة عند الفجر في صوم رمضان.............................. ٢٨٨

أدلة القائلين بجواز البقاء على الجنابة في صوم رمضان........................ ٢٩٥

اعتبار عدم الجنابة في قضاء صوم رمضان................................... ٢٩٧

اعتبار عدم الجنابة في الصوم المندوب...................................... ٢٩٧

اعتبار عدم الجنابة في الصوم الواجب غير رمضان وقضائه.................... ٢٩٨

دليل المحقق الهمداني على اعتبار الطهارة من الجنابة في الصوم الواجب.......... ٢٩٩

نسيان الجنابة أو غسلها أو الجهل بها في شهر رمضان........................ ٣٠٠

أحكام الاحتلام في نهار شهر رمضان...................................... ٣٠٢


فصل : فيما يحرم على الجنب.............................................. ٣٠٣

الأول : مس المصحف................................................... ٣٠٣

مس الجنب اسم الله..................................................... ٣٠٥

مس الجنب سائر أسمائه ( تع )............................................ ٣٠٩

مس الجنب أسماء الأنبياء أو الأئمة (ع).................................... ٣١٠

الثاني : دخول المسجدين ولو اجتيازا...................................... ٣١١

الثالث : المكث في المساجد............................................... ٣١٣

مرور الجنب في المساجد.................................................. ٣١٥

دخول الجنب المسجد لأخذ شيء منه...................................... ٣١٧

دخول الجنب المشاهد المشرفة............................................. ٣٢٠

الرابع : دخول المسجد بنية وضع شيء فيه................................. ٣٢٥

الخامس : قراءة العزائم................................................... ٣٢٥

الاحتلام في أحد المسجدين والتيمم للخروج منهما.......................... ٣٢٧

الجنابة بغير الاحتلام في أحد المسجدين..................................... ٣٢٨

اختصاص وجوب التيمم للخروج من المسجدين بمن لم يتمكن من الغسل فيهما. ٣٢٩

اختصاص التيمم بما إذا كان زمان التيمم أقصر من زمان الخروج............. ٣٢٩

جريان أحكام الجنابة في المسجد الخراب................................... ٣٣٤

جريان الاحكام في مساجد الأرض المفتوحة عنوة............................ ٣٣٤

الشك في مسجدية بعض المواضع.......................................... ٣٣٥

ادخال الجنب غير المكلف في المسجد...................................... ٣٣٦

استئجار الجنب لكنس المسجد............................................ ٣٣٧

التيمم لدخول المسجد وأخذ الماء منه...................................... ٣٤١


دخول الجنب المتيمم المسجد لأخذ الماء منه................................. ٣٤٣

هل يجوز للجنب المتيمم لغاية أن يدخل المسجد............................. ٣٤٤

استئجار من علمت جنابته إجمالا لما يحرم على الجنب........................ ٣٤٦

ما يكره على الجنب..................................................... ٣٤٧

فصل : أحكام غسل الجنابة وكيفيته........................................ ٣٤٨

هل غسل الجنابة مستحب أو واجب...................................... ٣٤٨

أدلة القائلين بالوجوب النفسي لغسل الجنابة................................ ٣٤٩

اعتبار نية الوجه في صحة الغسل.......................................... ٣٥٣

رأي الخونساري في صحة الغسل مع بقاء شيء يسير غير مغسول............. ٣٥٦

هل يجب غسل البواطن في غسل الجنابة.................................... ٣٥٩

هل يجزئ غسل الشعر عن غسل البشرة................................... ٣٦٠

دليل المقدس الأردبيلي على إجزاء غسل الشعر............................. ٣٦١

لزوم غسل الشعر مع البشرة في غسل الجنابة............................... ٣٦٣

الغسل الترتيبي وكيفيته................................................... ٣٦٦

تقديم غسل الرأس على غسل البدن....................................... ٣٦٦

دخول الرقبة في الرأس................................................... ٣٧٢

الترتيب بين الجانبين الأيمن والأيسر....................................... ٣٧٣

حكم العورة والسرة في الغسل............................................ ٣٨٠

هل يعتبر غسل الأعلى فالأعلى في الغسل.................................. ٣٨١

اعتبار الموالاة في الغسل.................................................. ٣٨٣

نسيان الترتيب بين الأعضاء.............................................. ٣٨٤

الغسل الارتماسي وكيفيته................................................ ٣٨٥

كون تمام البدن تحت الماء في الغسل الارتماسي.............................. ٣٨٧


اعتبار كون البدن أو بعضه خارج الماء قبل الارتماس......................... ٣٨٨

إعادة الغسل إذا علم عدم انغسال جزء حال الارتماس....................... ٣٩٠

الغسل الترتيبي والارتماسي كيفيتان لطبيعة واحدة........................... ٣٩١

تخليل الشعر مع الشك في مانعيته عن وصول الماء............................ ٣٩٢

اتحاد سائر الأغسال مع غسل الجنابة في الكيفية............................. ٣٩٣

هل يشرع الوضوء بعد الغسل............................................ ٣٩٤

تعين الغسل الترتيبي أو الارتماسي أحيانا.................................... ٣٩٥

تحقق الغسل الترتيبي برمس الأعضاء الثلاثة بنحو الترتيب.................... ٣٩٦

هل يجزئ الغسل الارتماسي التدريجي...................................... ٣٩٧

اشتراط طهارة الأعضاء حين الاغتسال.................................... ٣٩٩

الشك في كون الشيء من الباطن أو الظاهر................................ ٤٠٤

هل تجب الموالاة على المسلوس والمبطون والمستحاضة في الغسل الترتيبي......... ٤٠٥

الترتيب بين الأعضاء عند الغسل تحت المطر................................ ٤٠٦

العدول من الترتيبي إلى الارتماسي وبالعكس................................ ٤٠٨

الاغتسال ارتماسيا في الماء القليل........................................... ٤٠٨

هل يصح الاغتسال ترتيبا في الماء القليل.................................... ٤٠٩

شرائط صحة الغسل..................................................... ٤١٢

نية الغسل وكفاية الداعي إليه............................................ ٤١٣

لزوم الاغتسال لو شك فيه بعد الخروج من الحمام.......................... ٤١٤

الاغتسال قاصدا عدم إعطاء الأجرة أو إعطاءها من الحرام................... ٤١٦

حكم الغسل إذا سخن الماء بالمغصوب..................................... ٤١٩

الاغتسال في الأحواض الموقوفة............................................ ٤١٩

هل يصح الغسل بالمئزر المغصوب......................................... ٤٢١


أُجرة اغتسال الزوجة على الزوج......................................... ٤٢١

ارتماس المحرم والصائم في صوم رمضان وغيره من الواجب المعين............... ٤٢٣

ارتماس الصائم في الصوم المندوب والواجب غير المعين....................... ٤٢٤

ارتماس المحرم والصائم مع نية الغسل حال الخروج من الماء.................... ٤٢٥

التّنقيح في شرح العروة الوثقى - ٦

المؤلف:
الصفحات: 440