مقدّمة المركز
الحمد
لله بما هو أهله ، وصلّى الله على نبيّنا محمد وآله ، وبعد..
بنت
الأديان السماوية كلّها معارفها الإلهيّة وحقائقها الدينية على ضوء ما جاء به
الوحي الإلٰهي وأبانته النبوّات ، وما التفاوت الحاصل في هذا البناء عند أهل الأديان إلّا بسببهم
؛ لتفاوتهم في درجة حفظ ذلك البناء والتفاني من أجل سلامته. إذ المعلوم الثابت أن يد البغي والتحريف
قد طالت الكثير من حقائق الوحي المبين وأقوال الأنبياء عليهمالسلام السابقين من خلال الافتراء عليهم بنسبة
الكذب المخترع إليهم ، وهم عليهمالسلام براء منه. وأما
الدين الخاتم الذي ارتضاه الله لعباده ، فقد بقي فيه الوحي الإلهي وسيبقى محافظاً على نفسه إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها : () بخلاف السنّة
القولية للنبيّ الأعظم صلىاللهعليهوآله التي هي من الوحي
غير القرآني الممضى في القرآن الكريم نفسه () ، حيث تعرّضت إلى الدسّ والتزوير في حياة النبيّ صلىاللهعليهوآله ، حتّى قام فيهم
خطيباً محذّراً من الكذب عليه ، قائلاً : ، وأما بعده صلىاللهعليهوآله ، فالحديث ذو شجون !
وبالرغم من ذلك فقد امتاز دين الإسلام بفضل الوحي والسنّة الصحيحة المعصومة برقي معارفه
ومتانة حقائقه.
وحيث
أن دين الله واحد منذ أن فطر الله الخلق وإلى يوم يبعثون ، فمردّ الاختلاف الحاصل
إذن في عقائد أهل الأديان ، ليس إلى الوحي والنبوات ، بل أساسه ، اختلاف طبائع الناس
وأمزجتهم تجاه الحقّ في كلّ دين ، وتلوّث فطرهم ، وإخلادهم إلى الأرض ، ولهذا كان فيهم المؤمن
والكافر ، والمنصف والعنيد ، فلا غرابة إذن فيما لو تعرّض الوحي وما دعا إليه كلّ نبي إلى الجحود
والإنكار من أصناف كثيرة في مسيرة الأديان ، يقودهم في عصرنا هذا المادّيون ، ومن تأثّر بما أنتجته
العلوم الطبيعية القائلة بأصالة المادّة المتحوّلة من حال إلى حال ! ومن فرط حماقاتهم أنّهم جعلوا
الإدراكات الإنسانية خواطر مادية مترشّحة من الدماغ ! وجعلوا الغايات الوجودية ، وجميع الكمالات
الحقيقية استكمالات فردية مادية ، بهدف القضاء على فكرة الدين والوحي ، فالنبوة عندهم نوع
من النبوغ الفكري ، والصفاء الذهني ، والنبيّ ـ بزعمهم ـ مفكّر نابغ يدعو قومه إلى ما فيه
صلاح محيطهم الاجتماعي ، والوحي بنظرهم يمثل انتقاش الأفكار الفاضلة في ذهن النبيّ ، والكتاب
السماوي الموحى به إلى ذلك النبيّ ، هو مجموع تلك الأفكار الفاضلة المنزّهة عن الهوس
والأغراض الشخصية ! وعلى هذا الطراز جاءوا بمعانٍ جديدة للملائكة والجنّة والنار والصراط
والميزان واللوح والكرسي والقلم وما شابه ذلك ، فأنكروا كلّ هذه الحقائق ووجوداتها المادية الخارجة
عن الحسّ ، وفسّروها بما يعيدها إلى الوجود المادّي المحسوس ، ليوافق بزعمهم الدين ما قطع به
العلم ، ويُستحفظ بذلك عن السقوط !!
ولا
شكّ أن الإذعان المطلق لما أنتجته العلوم الطبيعية سيّما بعد اتساع نطاقها وجريان
البحث فيها على أساس الحسّ والتجربة ، لا يعني أبداً ربط كلّ شيء بالمادة حتّىٰ
ولو لم يكن مادياً محسوساً ،
الأمر
الذي توهمه أولئك فأنكروا ما وراء الطبيعة ، وفسّروا الحقائق المتعالية بما يسلخها
عن شأنها ويعيدها إلى مادة عجماء جامدة. والبحث الصحيح يوجب تفسير بيانات الوحي اللفظية
الواردة في جميع الأديان السماوية على أساس ما يعطيه كلّ لفظ منها عرفاً ولغة ، ثمّ يعتمد في
أمر المصداق على ما يفسّر به بعض الكلام بعضاً ، ثمّ ينظر هل الأنظار العلمية تنافيها أو تبطلها ، ولو
ثبت فيها ـ من خلال ذلك ـ شيء خارج عن المادة وحكمها ، فالطريق إليه ـ نفياً أو إثباتاً ـ طور
آخر من البحث غير الذي عكفت عليه العلوم الطبيعية ، إذ لا يمكن بحث ما هو خارج عنها بكلّ مقايسها
فيها ، لا نفياً ولا إثباتاً.
وقد
أثبتت سائر العلوم المختصّة ببحث ما وراء الطبيعة ، أن حياة النوع الإنساني هي
حياة واسعة ممتدّة لا نهاية لها ، ولا تقتصر على الحياة الدنيا ، ولا تنتهي بالموت أبداً ، وأن
الإنسان سيعود حتماً إلى عالم آخر ليعيش هناك حياة أخرى دائمة لا موت فيها ، إمّا منعّماً أو معذّباً ، الأمر
الذي أكّدته الأديان السماوية بكلّ قوّة وعملت على ترسيخه ، وبيّنت برهانه ودليله ، وقد جعل الله عزّوجلّ
فطرة الإنسان دليلاً إضافياً عليه ، ولكن شمس الفطرة كما قد تشرّق على بعض النفوس فتصيّر فجرها
ناصعاً ، قد تغرب في نفوس أخرى بعد ضعف العوامل والمستلزمات الأساسية فيها المحافظة على الفطرة
وتناميها ، وتحيلها إلى ظلام دامس ، وكون الدين الإلٰهي فطرياً لا ينافي جهل
الماديين بحقائقه ، فقد جمع الله عزّوجلّ بين الفطرة وعدم العلم بالدين في قوله تعالى : ().
وتوقف
تصديق الماديين بحقائق الوحي على مشاهدته ، يذكرنا بموقف أبي سفيان وزبانيته من الجاهلية الأولى الذين طالبوا النبي الأعظم بمثل ذلك ، مع أن تبيين الحقائق
والمعارف لكلّ شخص من البشر أمر لا يحتمله أي نظام في هذا العالم ، وهكذا الحال في كل إعلام عمومي
وتبيين مطلق ، وهو إنما يكون باتصال الخبر إلى بعض الناس من غير واسطة وإلى بعض آخر بالواسطة بتبليغ
الحاضر الغائب ، والعالم الجهال ، لا فرق في ذلك بين الوحي وغيره ، وإلّا لصار الأمر فوضى
، هذا مع أن الوحي ـ الذي هو نوع من التكليم الإلٰهي ـ من مختصّات ولوازم النبوّة ، وتتوقّف
عليه نبوّة النبي ، وهو سنّة جارية في جميع الأنبياء ، وشرع إلهي فيه هداية الناس إلى سعادة حياتهم في الدين
والدنيا ، والله تعالى لا يهمل أمر هداية العباد ؛ لأنّه حكيم مُتقِن ، ومن إتقان الفعل أن يساق إلى
غايته. والقرآن الكريم قد بيّن حقيقة الوحي ، وتحدّث عن غاياته وآثاره ، وعصمته في إيصال ما يريده الله تعالى
بواسطته إلى أنبيائه ورسله عليهمالسلام ، وهناك الكثير من
الحقائق التي كانت غائبة تماماً عن المجتمع المكّي ، ولا يمكن تحصيلها بشيء كسبي ، ولم تكن معروفة لدى العالم بأسره لولا نزول الوحي بها على صدر
الحبيب المصطفى صلىاللهعليهوآله ، هذا فضلاً عمّا
جاء به من أنباء الغيب المستقبلية التي تحقّقت ـ وهي كثيرة ـ على طبق ما أخبر بها الوحي الإلهي. والكتاب الماثل بين يديك عزيزي القارئ بيّن لنا
حقيقة الوحي الإلهي ومصادره وأنواعه في القرآن الكريم بدراسة علمية بكر ، ليضيف بذلك لبنة
جديدة إلى صرح الثقافة القرآنية ، جديرة بالثناء والتقدير. والله الهادي إلى سواء السبيل.
مركز الرسالة
المُقدَّمةُ
ينتمي علم الظواهر النفسية الخارقة ( الباراسيكلوجي
) إلى العلوم النفسية الفلسفية ، ويرتبط من بعض زواياه بالعلوم الطبيعية البحتة ، ولا يزال هذا العلم في محيط الدراسات العربية وليداً يخطو خطواته الأُولى بخلاف ما هو عليه في محيط الدراسات العالمية حيث خطا هناك خطوات واسعة ، ومع هذا لم نكن ندري عنه أكثر مما نسمعه أحياناً من أخبار لبعض الظواهر الغريبة التي تقع ضمن مجال دراسته.
وموضوع بحثنا هذا وإن لم يتضمّن شيئاً
من مباحث علم البراسيكولوجي ، إلّا أن شكل الارتباط بينه وبين هذا العلم تمثل في توافر ظاهرة الوحي على العديد من العناصر التي يقوم هذا العلم بدراستها وتشبهُ بعض ظواهرِهِ ما في الوحي من مصاديقَ وأشكالٍ ، رغمَ خصوصيَّتِها وتميزها بالإطارِ القدسيِّ الإلٰهي الذي يتجلَّى في المعادلةِ الثلاثيةِ للوحي
المكونةِ من المُوحي ( الله تعالى ) والموحى إِليه ( البشر ، النبي ) والواسطةِ ( الملك ) أو
بعض الصورِ الأخرى التي انتفت فيها الواسطة.
وأهمُ عناصرِ ظاهرةِ الوحي التي تلتقي
معها ظواهرُ علمِ ( الباراسيكلوجي ) الإِلقاءَ الخفي وإِيصالَ المعرفةِ دونَ سلوكِ الطرُقِ
المحسوسةِ الماديَّةِ
وهي مظاهرُ مشابهةٌ لما يقومُ هذا العلمُ بمحاولاتٍ في التفسيرِ للوصولِ إِلى ماهيَّتِهِ وأشكالِهِ.
وهذه المظاهرُ بالذاتِ اتّخذَها العديدُ
من الباحثينَ والمفسّرينَ المحدثين أدلةً ومنافذَ في إثباتِ ظاهرة الوحي ، وإنّها تضمّنتْ اتصالاً خفياً خارجياً بينَ
النبي والموحي إليه ولم تكن ظاهرةً داخليةً تمثلُ معارفُها انعكاساً لحالةِ النبي النفسية الداخلية كما لم تكن نتيجة لتشنجات وحالات عصبية كالصرع والهستيريا وغيرَها كما حاولَ بعضُ المستشرقينَ تصويرَها.
فالوحيُّ الإلٰهي في حقيقتهِ ، قدّم
صورةً جليةً من الاتصالِ الخارقِ غيرَ المنظورِ بينَ ذاتين من عالمينِ مختلفينِ ، سمتْ فيه النفسُ النبويةُ الإنسانيةُ إلى الاتصال بالملأ الأعلى والتلقِّي منه ، فكانت ظاهرةٌ إعجازيةٌ قدمتْ نماذجَ من الاتصالِ الخفيْ عن غيرِ المتلقي لهُ.
وتجلّتْ عظمتُها في خصوصية معارفها التي
كانت أعظمُ ما فيها أنَّ كمّاً هائلاً من المعارف يُلقى في لحظةٍ خاطفةٍ لا يكادُ يكونُ للزمن فيها تقديرٌ أو وجودٌ ، وإنّما هو انتقالٌ لمعرفةٍ من ذاتٍ إلى ذاتٍ بحيث لا يمكنُ إطلاقاً تصوُّر
مدى للمقارنة مع العلوم والمعارفِ المكتسبةِ بالطرقِ النظريةِ الاستدلاليةِ والكسبيةِ.
وإني لأرجو أن يكون هذا البحث مقدمةً
للدخولِ إلى آفاقِ العلومِ الروحيةِ والنفسيةِ والدراسات الإسلاميةِ فيها وخصوصاً ظواهرُ ( الباراسيكلوجي ) التي تقدِّمُ دليلاً قاطعاً لا مجالَ للشَّكِ أو الاحتماليةِ
فيه لإثباتِ المفاهيم والعقائد الإسلامية ( القرآنية ) في عالَمِ الرُّوحِ والنفسِ الإنسانيةِ وقواها ، وإدراكاتِها وملكاتِها المتميِّزةِ.
ويَطيبُ ليَ من خلالِ هذه البحث أن
أقدّمَ دعوةً مخلِصةً إلى كلِّ مَن يَحمِلُ العلمَ ، ويشفعه بعقيدته الإسلامية ، أن يلتفت إلى هذا العلم الذي ينطلقُ بخطىً هائلةٍ ليحتلَّ مكانتَه المتميزةَ بينَ جميعِ العلومِ ، وقد بلغتْ فيه بعضُ
المراكزِ العلميةِ في الشّرقِ والغربِ مستوياتٍ متقدمةٍ جدّاً ، وتوصلَتْ في أبحاثها ودراساتِها النظريةِ والتطبيقيةِ إلى حقائقَ مذهلةٍ تجعلُنا أمام مسؤوليةٍ خطيرةٍ يُمثّلُ التهاونُ في تحمُّلها والتأخرُ عن القيام بما تُمليه تقصيراً بحقِّ
تراثِنا العلمي الإسلاميِّ الخالدِ وريادتِه في الإشارة والبحثِ لمثلِ هذه الظواهرِ ، إِذ وردت الكثيرُ من التحليلاتِ العلميةِ الدقيقةِ لتلك الظواهر ، وتَمثَّلَ ذلك خصوصاً في الفكرِ الصوفيِّ والفلسفيّ والكلاميّ الذي بَحث في النّفسِ وقِواها وإدراكاتِها وَصِلتِها بعالمِ الغيبِ ، كما مثّلتِ الكراماتُ مَجالاً للخَوضِ في
بعضِ العناصرِ الفكريةِ المرتبطةِ بهذه الظواهر ، الأمر الذي ينبغي إلفات أنظار الباحثين إليه وإن كُنتُ أتمنى أن أوفَّقَ شخصِياً لدراستِهِ.
هذه الاطلالة السريعة لابدّ منها ونحن
نتحدث عن ظاهرة الوحي في القرآن الكريم في بابين :
الأوّل :
( مصادر الوحي في القرآن الكريم ) ، وقد استقصيت في هذا الباب كل ما ورد في القرآن الكريم من نسبة الوحي إلى كونه يصدر عن عدة مصادر ، جمعتها في ثلاث فصول ، وهي : ( الوحي الإلٰهي ) ، و ( الوحي الشيطاني ) ، و ( الوحي من مصادر أخرى ).
الثاني :
( الوحي من حيث المتلقي ) ، واستقصيت في هذا الباب الموارد المتعددة التي وردت الإشارات القرآنية بأن الوحي قد ألقي إليها ، وقد تمت دراستها في ثلاثة فصول ، وهي ( الوحي النبوي العام ) ، و ( الوحي المحمدي ) ،
و ( الوحي إلى
الموجودات الأخرى ).
أرجو أن أكون قد وفقت لخدمة الكتاب
العزيز بدراسة ظاهرة الوحي فيه ، تلك الظاهرة التي لم تأخذ قبل ذلك حقّها من البحث الموضوعي الشامل ، فسبرت أغوارها ، وكشفت عن حقيقتها ، مع تغطيتها من جميع جهاتها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
الباب الأوّل مصادر الوحي في القرآن الكريم
يمكن للباحث في موضوع الوحي ، بتعدّد
صيغه الواردة في القرآن الكريم ، أن يميز مفهوماً عاماً مجملاً يتمثَّل في كون الوحي إلقاءً للمعارف والأفكار والخواطر ضمن إطار من الخفاء والسرعة ، وبطريقة تكاد تخفى علينا ، إذ في أحيان كثيرة عجز الباحثون ومفسرو القرآن الكريم عن إدراك كنه هذه الظاهرة التي ذكرها القرآن الكريم إجمالاً.
وعند استقصاء مادة الوحي في القرآن
الكريم نجد أن الإشارة إلى مصدر الوحي تتمثل في ثلاثة مصادر يُنسَب إليها ، فتكون أنواعه :
الأوّل ـ الوحي الإلٰهي :
الصادر عنه تعالى ، وسيتبيَّن لنا خلال البحث أن هذا الوحي فقط هو ما يمكن أن يجمع العناصر اللغوية والاصطلاحية والشرعية للوحي ويشتمل عليها.
كما سنجد أن أغلب الوحي الوارد ذكره في
القرآن الكريم هو من هذا النوع ، إذ يصدر عنه تعالى إلى أنبيائه ورسله أو باقي مخلوقاته.
الثاني ـ الوحي الشيطاني :
الذي يتمثل في ما يلقيه الشيطان ـ بمصاديقه المختلفة ـ إلى البشر من نحو الوسوسة والأز والنّزْغُ ... إلخ.
الثالث ـ الوحي من مصادر أخرى ،
فقد أشارت بعض الآيات إلى
كون بعض أنواع الوحي
صادرا من الملائكة والبشر ، ومظاهر الطبيعة وغيرها.
لذا فإنّ هذا الباب سينقسم ـ تبعاً
لمصادر الوحي المذكورة ـ إلى ثلاثة فصول ، ليتمّ تناولها جميعاً بحسب الترتيب.
الفصل الأوّل
الوحي الإلٰهي
أوّلاً ـ نسبته إليه تعالى :
يتأكّد لدينا من خلال البحث أن هذه
النسبة ضرورة لا بديل آخر عنها ، لأنّه بلا نسبة الوحي بكلّ ما يمثَّله ويحمله من خصائص إلى الله تعالى فإنّنا لا نجد أيّة جهة أُخرى يمكن أن تنهض صفاتها وتَتَلاءم إمكانياتها مع ما في الوحي من خرق لكلّ مستويات القدرة المحدودة ، لأنّه يُسْتَمَدُّ من قدرة مطلقة تتعالى على القدرات البشرية أو أية نسبة أُخرى ، فما يأتي به الوحي من معارف وأعمال لا يمكن أبداً تفسيره إلّا بإثبات أن الوحي ( كلام سماوي غير مادي ليس للحواس الظاهرية والعقل أن تصل إليه )
، وذلك لأنّ نوع ما يأتي به الوحي من تلك المعارف والعلوم لا يُعلم إلّا من أربعة أوجه .
إما بمشاهدة الحال ، أو قراءة الكتب ، أو
تعليم بعض العباد ، أو بِوَحْي من الله ، وقد بطلت الأوجه الثلاثة الأولى بأنّها لم تكن حاصلة ، فصحَّ أنّها بوحي إلٰهي ، قال تعالى : (
وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) .
________________
ونمعن النظر في هذا الوحي فنجد فيه
تميُّزاً عن كلّ ما يحيط بنا وبمعارفنا ، إنّنا ننجذب فيه إلى حقيقة عميقة تخاطب فينا مكنوناتٍ وخفايا لا تسبر غورها إلّا قوّة مطلعة على سرائرنا خارجة عن ذواتنا ومستويات عالمنا ، قوّة مهيمنة تحيط بأسرار الوجود كلّه.
لهذه المميزات فإنّ النبوات ، والوحي
أساسها ، كانت في مختلف فترات انطلاقها موضعا للجدل والخلاف ؛ لأنّها مثّلت حدثا غير عادي وارتبطت بما وراء هذا العالم من خلال اتصالها بقوى غير منظورة تنتمي إلى عالم مختلف ، ولم تكن مجرد دعوات تغييرية وتشريع جديد ينسخ ما قبله ، فثبت لدينا أن هؤلاء الأنبياء ( عرفوا ما لم يعرف بقية البشر بطاقة خفية لاتمت إلى المعارف السائدة بسبب وبالتالي لا سبيل إلى العقل البشري لإدراكها ) .
ثانياً ـ صلته بالغيب :
مثلما يمثّل الوحي بذاته ظاهرة خفية في
ماهيتها ، فإنّ معارفه التي جاء بها مما لم يكن للبشر سابق معرفة به.
والغيب : ذهاب الشيء عن الحس ، ومنه (
عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ )
، أي عالم بما غاب عن الحواس وبما حضرها .
ويضيف الراغب الأصفهاني إلى هذا التعريف بُعدا آخَر ، إذ الغيب عنده ( ما لا يقع تحت الحواس ، ولا تقتضيه بدائة العقول وإنّما يُعلم بخبر الأنبياء ) .
فمعارفه غائبة عن الحس
________________
البشري المحدود
المقيَّد ، فهو غيب بالنسبة إلى الإنسان إذ ( يقال للشيء غيبٌ وغائب باعتباره بالناس لا بالله تعالى فإنّه لا يغيب عنه شيء )
، قال تعالى : ( لَا يَعْزُبُ عَنْهُ
مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ )
، وقال تعالى : ( وَمَا مِنْ
غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ )
، وقال تعالى : ( وَلِلَّهِ غَيْبُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ) .
وأما ما يشتمل عليه إطلاق لفظ الغيب مما
لا يقع عليه الحس فهو ( الله سبحانه وتعالى وآياته الكبرى الغائبة عن حواسنا ومنها الوحي ) .
والإيمان بالوحي وإثباته معتمد أساساً
ومستلزم للإيمان بالغيب وإثباته ، لأنّ إنكار الغيب ( وبضمنه وجوده تعالى ) هدم لأهم أسس العقيدة ، وبه يقع على الإنسان اسم الإلحاد .
فالإيمان بالغيب أصل من أصول الإيمان ، وبإضافة
الإيمان بالوحي ( النبوة ) والإيقان بالآخرة يستجمع ( الإيمان بالله تعالى ليتم بذلك الإيمان بالأصول الثلاثة للدين ) .
ويتأكد ارتباط الوحي بالغيب وكونه وسيلة
المعرفة الرئيسية له في أن الوحي من خلال القرآن الكريم ( أخبر في عدة من آياته عن أمور مهمة تتعلّق
________________
بما يأتي من الأنباء
والحوادث ، وقد كان في جميع ما أخبر به صادقاً لم يخالف الواقع في شيء منها ، ولا شكَّ أن هذا من الإخبار بالغيب ولا سبيل إليه غير طريق الوحي والنبوة ) .
فمعارف الوحي الإلٰهي وحقائقه
التي يفيض بها هي في معظمها حقائق غيبية لم يستطع العقل البشري إدراكها وغابت عن البشر قبل ورود الوحي بها ، ونلاحظ في هذا الورود التأكيد بشدة على اختصاص علم هذ الغيب به تعالى فلا سبيل إليه إلّا منه سبحانه.
ولا شكَّ أن لهذا الاختصاص به تعالى
علّة ترتبط ارتباطاً قوياً بأبعاد الغيب نفسه ، إذ العلم به وبأبعاده تستلزم الإحاطة بمصاديقه ومبادئه وعلَّله ، وبما أن غيره تعالى أيّاً ما كان ( محدود الوجود لا سبيل له إلى الخارج منه الغائب عنه ، من حيث أنه غائب ، ولا شيء غير محدود ولا غير متناه محيط بكل شيء إلّا الله سبحانه )
، فلا تكون الإحاطة بالغيب إلّا لَهُ وحده تبارك وتعالى ، قال تعالى : (
وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ )
، و ( وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ )
، و (
قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ )
. وبربط هذه الآيات
الكريمة مع آيات أخرى تعرضت إلى ذكر الغيب ، كقوله تعالى : (
وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ
________________
وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ .. )
، ( وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ .. )
و (
قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ
وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ .. )
، نلاحظ أن هذه الآيات لا تنفي الإخبار بالغيب عن غيره تعالى مطلقا وإنّما هي مطلقة بلحاظ معنى الأصالة والتبعية في علم الغيب ( فهو تعالى يعلم الغيب لذاته وغيره يعلمه بتعليم الله )
أي : إن علم الغيب منفي عن البشر بمعنى أن يكون علمهم له طبيعة بشرية أعلى من طبيعة عموم البشر ، فالآيات نافية أن يكون علمهم للغيب بعلم ذاتي وليست بنافية للعلم الكسبي بمعنى ( انكشاف الغيب لهم بتعليم إلهي من طريق الوحي )
فهو عند الله سبحانه علم ، وهو من البشر إخبار بالكسب ، وهذا ما أكدته آيات أخرى كقوله تعالى : (
ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ .. )
، (
تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ .. ) .
إذ يتبيَّن لنا من ملاحظة ارتباط الآيات فيما ترمي إليه من مفهوم : ( أنّ الغيب
لله وعند الله ، وأنه لا طريق إلى معرفته بالتجربة ولا بالعقل ولا بأي شيء آخر إلّا بالوحي منه تعالى ) .
________________
وما يُلقى إلى البشر من الغيب الذي
جوَّزته الآيات الكريمة لا يشمل كل ما يقع تحت اسم الغيب ، فالغيب الإلٰهي أنواع لا يلقى إلى البشر إلّا النزر اليسير منها ، ... عن الفضيل عن أبي عبد الله الإمام جعفر الصادق عليهالسلام قال : «
إن لله علما لم يَعلَمهُ إلّا هو ، وعلما أعلَمهُ ملائكته وأنبياءَه ورسله ، وما
أعلمه ملائكته وأنبياءه ورسله فنحن نعلمه »
.
ويُقَسِّم محمد رشيد رضا الغيب على
قسمين : ( غيب حقيقي لا يعلمه إلّا الله ، وغيب إضافي يعلمه بعض الخلق دون بعض لأسباب تختلف باختلاف الاستعداد الفطري والعمل الكسبي ) .
وزاد الشيخ محمد جواد مغنية نوعاً ثالثاً
، فأنواع الغيب عنده ثلاثة
:
١ ـ
نوع يحجبه الله عن عباده لايُطلِعُ عليه أحداً كائناً من كان كقيام الساعة.
٢ ـ
نوع يُطلِعُ عليه من ارتضى من عباده ...
٣ ـ
نوع أخبر به كُلَّ الناس كالبعث والنشر والجنة والنار ... إلخ.
ومن خلال هذه الأنواع ومراتب معرفة
البشر واطّلاعهم عليها نستطيع أن نتبيَّن الاختلاف والتفريق بين علمه تعالى بالغيب وعلم البشر ممن ارتضاهم لاطّلاعهم عليه فيتمثل لنا الاختلاف في ( أن إخبار الرسول [ البشر ] لايكون علما بالغيب بل نقلاً عمن يعلم الغيب ) .
فعلمه تعالى هو الأصل ، وعلم غيره فرع
من ذلك الأصل ، كما يختلف
________________
التلقي للغيب في
مصدره.
فالأنبياء عليهمالسلام
ينقلون عن الأصل بالوحي الإلٰهي الذي يتلقونه عنه تعالى ، ويختلفون عن غيرهم كالكهنة والمنجمين الذين يصيبون في أخبارهم أحياناً ، ويفرق الطبري بين الإخبارين في : أن أنبياء الله ورسله يخبرون به ( أي الغيب ) من غير استخراج ولا طلب لمعرفته باحتيال ، ولكن ابتداءً بإعلام الله إياهم من غير أصل تقدم ذلك احتذوه أو بنوا عليه أو فزعوا إليه كما يفزع المنجم إلى حسابه والمتكهّن إلى رأيه .
وإخبار الملائكة والأنبياء عليهمالسلام بالغيب مرتبط بما
يعبر عنه تعالى بالارتضاء والاصطفاء ، بتخصيص من يلقى إليه علم الغيب باختياره من بين كل البشر.
فالاصطفاء : أخذ صفوة الشي وخالصته ، واصطفاء
الله تعالى من الملائكة رسلاً ومن الناس : اختياره من بينهم من يصفو لذلك ويصلح .
قال تعالى : ( اللَّهُ يَصْطَفِي
مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ .. )
، ( عَالِمُ الْغَيْبِ
فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا *
إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ .. )
، ( رَفِيعُ
الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ .. )
.
يفسر قتادة بن ربعي ( ت ١١٧ ه ، ٧٣٥ م )
ذلك بأنّه تعالى ( ربما أطلعه
________________
« أي المرتضى » على
ما غاب عن غيره من الخلائق ، بأن يوحي إليهم بما شاء من الغيب ) .
وتقييد إلقائه على المرتضين دون العامة
أتبعه تقييد آخر في الآية الأولى بالرسول ، إذ تشير إلى أنه تعالى ( لايطلع على الغيب إلّا المرتضى : الذي هو المصطفى للنبوة خاصة ، لا كل مرتضى ) .
ويستفيد الزمخشري جار الله محمود ( ت ٥٣٨
ه ، ١١٤٣ م ) من خلال هذا التقييد بخصوص المرتضى للرسالة ، إبطال الكرامات والكهانة والتنجيم ، لأنّ الذين تضاف إليهم الكرامات ، وإن كانوا أولياء فليسوا برسل ، ولأنّ أصحاب الكهانة والتنجيم أبعد شيء عن الارتضاء وأدخله في السخط .
وأكد الفخر الرازي في تفسيره هذا
الاختصاص بالاصطفاء للرسالة في الإطلاع على الغيب .
ولم يكتف الواحدي أبو الحسن علي بن أحمد
النيسابوري ( ت / ٤٦٨ ه ، ١٠٧٦ م ) في استناده على هذه الآية بإبطال الكهانة والتنجيم ، فقد استدل بها على تكفير المنجمين لأنّ ( من ادَّعى أن النجوم تدله على ما يكون من حياة أو معرفة أو غير ذلك فقد كفر بما في القرآن ) .
إلّا أنّه جوز الكرامات وإطْلاع
________________
الأولياء على بعض
الغيب بأن ( يلهم الله أولياءه وقوع بعض الوقائع في المستقبل ) .
وما ذُكِرَ بشأن الكِهانة والنجوم
والكرامات يحتاج إلى بيان فنقول :
أمّا الكِهانة
ـ بالكسر ـ : مصدر قولنا : كهن ـ بالضمّ ـ إذا صار كاهناً ، يُقال : كهن يكهن كهانة ، مثل : كتب يكتب كتابة ، إذا تكهّن ، والحِرفة : الكهانة ـ بالكسر ـ ، وهو عمل يوجب طاعة بعض الجانّ للمتكهّن بحيث تأتيه بالأخبار الغائبة وهو قريب من السحر .
وقد كان في أصحاب أمير المؤمنين عليهالسلام منافقون ، إذا سمعوا
إخباره بالغيب نسبوه عليه السلام إلى الكهانة ، أمثال المنافق عمرو بن حريث ونظرائه.
وقد وردت في تراث أهل البيت عليهمالسلام كثير من الدعوات في
التعوّذ من الكهانة والسحر .
وعرّف ابن ميثم البحراني الكهانة في شرح
قول أمير المؤمنين عليهالسلام
: «
ظن العاقل كهانة » فقال : « .. وأمّا
الكهانة فهي ضرب من الاطلاع على الأمور الغيبية غير أن الآثار الصادرة عن الكاهن ضعيفة قليلة بحسب ضعف استعداده وقلّته ، ولذلك لا يتمكّن ـ في الغالب ـ من الإخبار بشيء من غير سؤال ، بل يحتاج إلى سؤال باعث له على التلقّي والإعداد لنفسه بالحركة وغيرها مما يدهش الحس ويحير الخيال... كما أن الكاهن يكاد أن لا يكون
________________
تلقّيه للأُمور
الغيبية صادقاً ، ويختلف ذلك بحسب اختلاف الاستعدادات » .
والظاهر أنّ المراد بالكهانة في قول
أمير المؤمنين عليهالسلام
ما هو مقرون بالأمارة باعتبار العادة ، فلا يرد أنّه يتوهّم من ظاهره جواز تصديق الكاهن وهو كفر .
وفي حديث مساءلة الزنديق من الإمام
الصادق عليهالسلام
برواية هشام بن الحكم قال : « فمن أين أصل الكهانة ؟ ومن أين يخبر الناس بما يحدث ؟ ».
فأجاب الإمام عليهالسلام جواباً شافياً نذكره
بلفظه ، فقال : «
إنّ الكهانة كانت في الجاهلية في كل حين فترة من الرسل ، كان الكاهن بمنزلة الحاكم يحتكمون إليه فيما يشتبه عليهم من الأمور بينهم ، فيخبرهم عن أشياء تحدث ، وذلك من وجوه شتى : فراسة العين ، وذكاء القلب ، ووسوسة النفس ، وفتنة الروح ، مع قذف في قلبه ، لأن ما يحدث في الأرض من الحوادث الظاهرة فذلك يعلم الشيطان ويوءديه إلى الكاهن ، ويخبره بما يحدث في المنازل والأطراف ، وأما أخبار السماء فإن الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع إذ ذاك ، وهي لا تُحجَب ، ولا تُرجَم بالنجوم ، وإنما مُنِعت من استراق السمع لئلا يقع في الأرض سبب تشاكل الوحي من خبر السماء ، فيُلبس على أهل الأرض ما جاءهم عن الله ، لإثبات الحجّة ، ونفي الشبهة ، وكان الشيطان يسترق الكلمة الواحدة من خبر السماء بما يحدث من الله في خلقه فيختطفها ، ثم يهبط بها إلى الأرض ، فيقذفها إلى الكاهن ، فإذا قد زاد كلمات من عنده فيخلط الحق بالباطل ، فما أصاب الكاهن من
________________
خبر مما كان يخبر به ، فهو ما أدّاه
إليه الشيطان لما سمعه ، وما أخطأ فيه فهو من باطل ما زاد فيه ، فمنذ مُنِعت الشياطين عن استراق السمع انقطعت الكهانة ، واليوم إنّما تؤدي الشياطين إلى كهانها أخباراً للناس بما يتحدثون به وما يحدثونه ، والشياطين تؤدي إلى الشياطين ما يحدث في البعد من الحوادث : من سارق سرق ، ومن قاتل قتل ، ومن غائب غاب. وهم بمنزلة الناس أيضاً ، صدوق وكذوب .. »
.
ومن هنا يتبيّن الفرق بين علم الكاهن
وعلم النبي ، بأخذ الكاهن علمه من الشياطين مع عدم وضوح الرؤيا وامتزاج ذلك بالأوهام والخرافات والأكاذيب أحياناً ، بينما يأخذ النبي علمه من الله عزّوجلّ عن طريق الوحي الصادق ، الخالص من تلك الشوائب كما بيّنه تعالى في القرآن الكريم.
وقد حرّم فقهاء الشيعة الكهانة ، وأفرد
لها محدّثوهم أبواباً صريحة في تحريمها.
وأمّا النجوم
ويراد بذلك ( علم النجوم ) ، وهو : « العلم بآثار حلول الكواكب في البروج والدرجات وآثار مقارناتها وسائر أنظارها ونحوه ، والتنجيم : هو الحكم بمقتضى تلك الآثار » .
ويظهر من الكتاب والسنّة صحّة علم
النجوم في الجملة ، كقوله تعالى في قصّة إبراهيم عليهالسلام
: ( فَنَظَرَ نَظْرَةً
فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ )
، ولو كان هذا العلم كفراً لما نظر فيه إبراهيم عليهالسلام
، وقد ورد في أخبار كثيرة ذكرها غير
________________
واحد من علمائنا
كالسيد ابن طاوس وغيره أنّه علم الأنبياء والأولياء عليهمالسلام
، وأنّ أوّل من تكلّم به هو إدريس عليهالسلام
، وكان ذو القرنين به ماهراً ، وإنّ أمير المؤمنين عليّاً عليهالسلام
كان أعلم الناس بهذا العلم ، وأنّ أهل البيت عليهمالسلام
كانوا كذلك. وقد قرئ هذا العلم على أساطين العلماء من الفريقين.
وعلم النجوم أمارة تقتضي غالب الظن عند
كثير منهم ، وكما أنّ علوم الطب مبنيّة على الأمارات التي تقتضيها التجارب وغالب الظن ، فكذلك القول في علم النجوم.
وقد أفتى بجواز الإخبار عن الأمور
المستقبلية استناداً على هذا العلم بعض علمائنا.
قال الشيخ الأنصاري في المكاسب في حديثه
عن علم النجوم والتنجيم : « يجوز الإخبار بحدوث الأحكام عند الاتصالات والحركات المذكورة ـ أي في علم النجوم ـ بأن يُحكَم بوجود كذا في المستقبل عند الوضع المعين من القرب والبعد والمقابلة والاقتران بين الكوكبين إذا كان على وجه الظن المستند إلى تجربة محصلة أو منقولة في وقوع تلك الحادثة بإرادة الله عند الوضع الخاص حينئذٍ من دون اعتقاد ربط بينهما أصلاً ، بل الظاهر جواز الإخبار على وجه القطع إذا استند إلى تجربة قطعية » .
نعم إذا كان زعم المنجّم ارتباط بعض
الحوادث السفلية بالأجرام العلويّة أنّها هي العلّة المؤثّرة في تلك الحوادث بالاستقلال ، أو أنها شريكة في التأثير ،
فيكون هذا الزعم باطلاً ، والعلم المبتني على ذلك كفراً. وعلى هذا يحمل ما
________________
ورد من التحذير عن
علم النجوم والنهي عن اعتقاد صحّته ، ويحمل عليه أيضاً تحريم بعض الفقهاء له للمحظور من اعتقاد التأثير كما ذهب إلى ذلك الشهيد الأوّل .
وأما لو لم يكن الأمر كذلك فلا إشكال في تعاطيه أصلاً.
وأمّا الكرامات
فقد عرفها بعضهم بأنّها : « أمر خارق للعادة من قبل شخص غير مقارن لدعوى النبوة »
، وقد تسمّى بالمعاجز ؛ لأنّ المعجزة أمر خارق للعادة أيضاً ، والتفريق بينهما على أساس اختصاص المعجزة بالأنبياء عليهمالسلام تصديقاً لدعوتهم ، والكرامة بالأولياء ، غير صحيح ، لاشتهار بل تواتر اطلاق المعاجز على كرامات الأئمة عليهمالسلام.
قال الشيخ المفيد بشأن ظهور المعجزات
على الأئمة عليهمالسلام
: « فأمّا ظهور المعجزات والإعلام ، فإنّه من الممكن الذي ليس بواجب عقلاً ولا ممتنع قياساً ، وقد جاءت بكونه فيهم عليهمالسلام
الأخبار على التظاهر والانتشار ، فقطعت عليه من جهة السمع وصحيح الآثار ، ومعي في هذا الباب جمهور أهل الإمامة.
وبنو نوبخت تخالف فيه وتأباه.
وكثير من المنتمين إلى الإمامية يوجبونه
عقلاً كما يوجبونه للأنبياء.
والمعتزلة بأسرها على خلافنا جميعاً فيه
سوى ابن الأخشيد ، ومن اتبعه يذهبون فيه إلى الجواز.
وأصحاب الحديث كافة تجوزه لكل صالح من
أهل التقى والإيمان » .
________________
وتحت عنوان : ( القول في ظهور المعجزات
على المنصوبين والخاصة والسفراء والأبواب ) ، قال : « إنّ ذلك جائز لا يمتنع فيه عقل ولا سنّة ولا كتاب ، وهو مذهب جماعة من مشايخ الإمامية ، وإليه يذهب ابن الإخشيد من المعتزلة ، وأصحاب الحديث في الصالحين والأبرار.
وبنو نوبخت من الإمامية يمنعون ذلك
ويوافقون المعتزلة في الخلاف علينا فيه ، ويجامعهم على ذلك الزيدية والخوارج المارقة عن الإسلام » .
وقد بيّن الشيخان : فضل الله الزنجاني
والواعظ الجرندابي في تعليقاتهما على أوائل المقالات جواز ظهور الكرامات على الأولياء والأبرار عند أكثر الفرق ، كما جوزه من المعتزلة غير أبي بكر الأخشيد المذكور في كلام الشيخ المفيد ، أبو الحسين البصري المعتزلي.
وأكثر محققي الأشعرية كالجويني والغزالي
وفخر الدين الرازي وغيرهم على الجواز.
وأثبت الفلاسفة المسلمون ذلك أيضاً بحجج
عقلية كابن سينا في الشفاء والإشارات وغيرهما.
وأما الزيدية فالمذكور في كلام الشيخ
المفيد أنّهم يوافقون المعتزلة في نفي صدور الكرامات على الأولياء والصالحين ، وكأنّه كان في بعض متقدّميهم ذلك ، وإلّا ففي كلام المتأخرين منهم جوازه ، فقد نقل الشيخ فضل الله الزنجاني كلام السيد أبي الحسين يحيى بن حمزة بن علي الحسيني أحد أئمة الزيدية في كتابه الكبير في علم الكلام المسمى بـ ( الشامل ) أنّه قال بعد
________________
ذكره امتناع ظهور
الخوارق على الأولياء عند المعتزلة ، ووجوب ظهورها على الأئمة عليهمالسلام
عند الإمامية ما هذا لفظه : « وذهب الشيخ أبو الحسن والمحققون من الأشعرية كالغزالي والجويني وصاحب النهاية وغيرهم إلى جواز ظهورها عليهم ، وهو الذي ذهب إليه أئمة الزيدية ومن تابعهم من علماء الدين » .
وذكر ابن عابدين من العامة في حاشية ردّ
المحتار عن التفتازاني أنّه نقل عن النسفي حين سُئل عن ما يُحكى أنّ الكعبة كانت تزور واحداً من الأولياء ، هل يجوز القول به ؟ فقال : « نقض العادة على سبيل الكرامة لأهل الولاية جائز عند أهل السنّة » .
وقال ابن عابدين في مكان آخر : « والحاصل
أنّه لا خلاف عندنا في ثبوت الكرامة » .
وأما عن بني نوبخت فليس كلهم على المنع
من ذلك ، إذ بيّن الواعظ الجرندابي في تعليقاته على أوائل المقالات ما يدل أنّ بعض النوبختيين المتأخرين يوافقون في ظهور الإعلام والمعجزات على الأئمة عليهمالسلام ، إذ نقل عن الشيخ الجليل أبي إسحاق إبراهيم بن نوبخت قوله في كتابه ( الياقوت ) : « وظهور المعجزات على أيدي الأئمّة عليهمالسلام
جائز ، ودليله قصة مريم وآصف وغير ذلك ». ثم نقل عن العلّامة الحلي في شرحه لكتاب الياقوت قوله : « إنّه غير مستحيل ولا قبيح فجاز إظهاره. أما عدم قبحه ، فلأن جهة القبح هو الكذب ، وهو منتفٍ هاهنا ، إذ صاحب الكرامة لا يدّعي النبوة ، فانتفى وجه
________________
القبح » .
وفي عبارة العلامة الحلي رحمهالله : ( إذ صاحب الكرامة
لا يدّعي النبوة ) جواب لشبهة المعتزلة في أنّ الكرامة لغير النبي تبطل دلالة المعجزة على النبوة ، بمعنى
أنّه لو ظهرت الكرامة للولي لاشتبهت بمعجزة النبي ، وحينئذٍ لا يتميز النبي عن غيره !
ومن الواضح أنّ صاحب الكرامة من
الأولياء والصالحين لا يدّعي النبوة وإنّما هو رجل محقٌّ في أقواله وأفعاله ، ولن تظهر الكرامات على أحد إلّا وهو مستحق لها ، ومحق في دينه واتباعه لنبيه ، لامتناع ظهور الكرامات على الكذابين. ولا يُشتبه ذلك بالساحر الذي قد يوجد بعض الأشياء التي تترتب عليها آثار غريبة تشبه الكرامات من دون استناد إلى الأمور المحسوسة ولا إلى الشرعيات كالآيات والدعوات المأثورة ، لأنّه باطل في نفسه مع عدم تدين الساحر أصلاً ، وإمكان نقض سحره ، ولا يجوز فعله إلّا إذا توقّف عليه واجب أهم من السحر نفسه .
وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا )
، عن الإمام الباقر عليهالسلام
قال : «
فهي الكرامات » .
إنّ للروح الإنسانية منازلَ عديدة
أشرفها منزلة عين اليقين ومتى ما وصل الإنسان إلى تلك المنزلة كانت له قدرة من الله عزّوجلّ على أفعال غريبة وآثار
________________
عجيبة بإذن الله تبارك
وتعالى كمصافحة الملائكة والمشي على الماء وغير ذلك.
وأما من رفض حب الدنيا ، وطلقها ثلاثاً
لا رجعة له فيها ، وتمحص في عالم الغيب تمحيصاً دقيقاً بحيث لو انكشف له الغطاء لما ازداد يقيناً ، فهو الأولى من جميع الأولياء بأن تصافحه ملائكة السماء ويمشي على الماء ، وتظهر منه الكرامات الكثيرة والمعاجز الجليلة. الأمر الذي تواتر من طرق الفريقين بحق مولى المتقين أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ، وما ردّ الشمس بعد أن طفلت للمغيب عليه بغريب.
ونكتفي بهذا القدر لنعود إلى أصل
الموضوع فنقول : إنّ قَصْرُ تعليم الغيب للعباد على الاصطفاء من بينهم دال على أن هذا العلم مَنٌّ و ( لطف ) إلٰهي
خاص ، وليس واجباً أن ينعم به كل بشر فيكون منفياً إذا تحقق في أحدهم دون الجميع.
وما ينبئ به واقع الحال أن الخاصة الذين
اصطفاهم الله تعالى لعلم غيبه هم الأنبياء والأوصياء عليهمالسلام
، وقد وردت أحاديث كثيرة متواترة في عدم اختصاص قوله تعالى : (
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ .. )
بالأنبياء والرسل ، وإنما
تشمل أوصيائهم عليهمالسلام.
منها : ما ورد في الصحيح جدّاً عن حمران
بن أَعْيَن الثقة في سؤاله من الإمام الباقر عليهالسلام
: « أرأيت قوله تعالى : (
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا )
؟ فقال أبو جعفر عليهالسلام
( إِلَّا مَنِ
ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا )
وكان
ـ والله ـ محمد صلّى الله عليه وآله ممّن ارتضى ، وأمّا قوله : ( عالم الغيب.. ) فإن الله تبارك وتعالى عالم بما غاب عن
________________
خلقه ، فما يقدّر من شيء ويقضيه في علمه
قبل أن يخلقه وقبل أن يقبضه إلى الملائكة فذلك يا حمران علم موقوف عنده ، إليه فيه المشيئة فيقبضه إذا أراد.. فأمّا العلم الذي يقدّره الله ويمضيه فهو العلم الذي انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله ، ثمّ إلينا »
.
ومنها : ما ورد في الاحتجاج عن أمير
المؤمنين الإمام علي عليهالسلام
في حديث طويل جاء فيه : « .. وألزمهم الحجّة بأن خاطبهم خطاباً
يدلُّ على انفراده وتوحيده ، وبان لهم أولياءه تجري أفعالهم وأحكامهم مجرى فعله ، وعرّف الخلق اقتدارهم على علم الغيب بقوله : (
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ ).
قال السائل : من هؤلاء الحجج ؟
قال : هم رسول الله صلّى
الله عليه وآله ، ومن حلَّ محلِّه من أصفياء الله الذين قرنهم الله بنفسه ، وفرض على العباد طاعتهم مثل الذي فرض عليهم منها لنفسه.. » .
ومنها : حديث محمد بن الفضل الهاشمي ، عن
الرضا عليهالسلام
: « .. ثم نظر الرضا عليهالسلام
إلى عمرو بن هذّاب وقال : إن أنا أخبرتك بأنّك ستُبلى في هذه الأيام بدم ذي رحم لك ، كنت مصدّقاً لي ؟
قال : لا ، فإنّ الغيب لا يعلمه إلّا الله
!
________________
قال عليهالسلام
: أو
ليس الله يقول : (
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ )
فرسول
الله صلّى الله عليه وآله عنده مرتضىً ، ونحن ذرية ذلك الرسول الذي أطلعه الله على ما شاء من غيبه ، فعلمنا ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، وإنّ الذي أخبرتك به يابن هذّاب لكائن إلى خمسة أيام .. »
.
وقد تحقّق الخبر على طبق ما أخبر به عليهالسلام كما في تتمّة
الحديث.
وقد ورد في بعض الأخبار ما يدلّ على أنّ
الحرف ( من ) في قوله تعالى : ( مِن رَّسُولٍ ) ليست بيانية ، فيكون المعنى إلّا من
ارتضاه الرسول للوصاية والإمامة بأمر الله تعالى كما في تفسير القمّي .
ويؤيّده ما رواه فرات الكوفي عن الإمام
الباقر عليهالسلام
أنّه قال ـ مبيّناً أبرز مصاديق الآية ـ : « عليّاً المرتضى من الرسول صلّى الله
عليه وآله » .
وكذلك في حديث سلمان الفارسي رضياللهعنه ، عن أمير المؤمنين
الإمام علي عليهالسلام
، قال : « يا
سلمان أما قرأت قوله تعالى حيث يقول : (
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن
رَّسُولٍ )
؟
فقلت : بلى ياسيدي.
فقال عليهالسلام
: ياسلمان
أنا المرتضى من الرسول الذي أظهره الله على غيبه »
.
وكذلك ما ورد بسند صحيح جدّاً في قصّة
التوقيع الخارج من الناحية المقدّسة في إعلام الشيخ الجليل الثقة القاسم بن العلاء الأذربيجاني رضياللهعنه
________________
في قرب أجله وتحديد
موعده ، واعتراض عبد الرحمن بن محمد ـ صديق القاسم ـ حين اطلع على أصل التوقيع ، واحتجاجه بقوله تعالى : (
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا ) « فضحك القاسم وقال له : أتمّ الآية : (
إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ )
، ومولاي عليهالسلام
هو الرضا من الرسول » .
نعم اختصاص الوحي بالأنبياء دون
أوصيائهم لا إشكال فيه ، وأمّا الاصطفاء فهو للأنبياء والرسل والأوصياء ، وهذا الاصطفاء لنفر من البشر لابدّ له من علة اقتضت التخصيص بلطف إلٰهي لم يلتزم المساواة بين العباد ، بل فرق في إسباغه على هؤلاء النفر الذين تمثلت فيهم استعدادات خاصة سمت بها نفوسهم عن مستوى النفوس البشرية الأخرى في التنزه عن الأدران والعصمة عن الخطايا والأخطاء والنسيان والكذب والافتراء والهوى والزيغ ، فعاد علم الغيب أمراً إلهياً بالاختصاص ، لا دخل فيه للكسب والسعي في النظر والتعلم والاستدلال.
ولا سبيل إليه باجتهاد الفكر وإعمال
العقل وإنعام النظر ، ولا وصول إليه بالترقي الروحي أو الأخلاقي.
ومن هنا يثبت انتفاء علم الغيب عن غيره
تعالى إلّا بتعليمه هو عزّ وجلّ وهذا الاختصاص فيمن يُلقى إليه الغيب وحياً مرتبط إذن باستعداد فطري اختص به الأنبياء عليهمالسلام
يتمثّل في العصمة ، فهم ( يجب أن يكونوا معصومين أي : لا يخطئون في تلقي الوحي من العالم العلوي ، وفي إبقاء ما تعلموه وفي تبليغه .. )
لأنّ إطْلاعهم عليه خارج عن كل ما يدخله في إطار الكسب أو السعي.
________________
وهذا الاصطفاء لا يكون من أجل الإطْلاع
على ما يتضمنه الوحي من إلقاء لمعارف غيبية وحسب وإنّما الأمر مَنوط بتوافر معنى الرسالة والإرسال فالآيات الكريمة تَقْصُر طريق الاطْلاع على الغيب بالرسالات والتعاليم الموحاة إلى الأنبياء عليهمالسلام
بدلالة قوله تعالى : (
لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ .. )
، ويؤكد ذلك أيضا
قوله تعالى : ( رَفِيعُ
الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ .. )
.
فالآية تؤكّد اقتصار إلقاء الوحي ، وهو
معنى الروح المراد هنا ، على الرسالة وتعاليم الأنبياء عليهمالسلام
( من خلال شأنها المتمثِّل بالإنذار ) .
ثالثاً ـ حكمته وغاياته :
يحمل الوحي بين ثنايا ما يلقي به من
معارف ، بوصفه ظاهرة خارقة لحدود عالَمين مختلِفَين ورابطة بينهما ، حكمة كبيرة تمثل أساسا من أسس العلاقة بين الله سبحانه وعباده ، فمعارف الوحي الملقاة إلى الأنبياء عليهمالسلام لتبليغها إلى البشر تهدف إلى الإنذار والتبشير ، وهؤلاء الأنبياء هم المنذِرون المبشِّرون ، قال تعالى : (
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .
والإرسال لهؤلاء المصطفين إلى سائر
البشر لتبليغهم الأحكام والأوامر
________________
الإلهية إنّما هو لطف
إلٰهي وتحقيق لمفهوم العدالة الإلهية بل ( إن من لوازم الألوهية أن ينزل الوحي الإلٰهي على جماعة من البشر هم الأنبياء عليهمالسلام ) .
هكذا توالت النبوات ، مبشرة بالهداية
الإلهية وداعية الإنسان إلى صراط مستقيم ، لتنتشله من براثن المادية وأهواء النفس وغرائزها ، قال الإمام علي عليهمالسلام
: «
وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم منسي نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول »
. فوظيفة الرسل في حقيقتها استخراج مكنون الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، لأنّ غاية الوحي الإلٰهي في ختام الدعوة الدينية عموماً هي الدعوة إلى دين الفطرة الذي يتمثل بما هو ( مكنوز في فطرة الناس ، وإنّما حجبهم عنها ما ابتلوا به
من الشرك والمعصية مما يوجب عليهم غلبة الشقوة ونزول السخط الإلٰهي ) .
وهدف الوحي فيما يريد اثباته على الناس
هو الاحتجاج عليهم بوجود البشارة والإنذار والبيان والأحكام ، والمعارف والأوامر (
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ )
لجهلهم ما يجب عمله
من أصول الإيمان وما تصح به الأنفس وتتزكى من صالح الأعمال .
رابعاً ـ أهميته :
من خلال إحاطة الموحي بسنن الوجود
ونواميسه وتنظيمه لأسس
________________
الحياة البشرية في
علاقة الإنسان بالله وبأفراد نوعه تتجلى لنا أهمية الوحي في العقيدة الإنسانية الدينية ، وذلك أمر ظاهر من خلال توافر هذا الوحي على عناصر مؤكدة لضرورته يمكن إجمالها في الآتي :
١ ـ
إنّه أساس العقيدة عند الإنسان ، لأنّه يمثل ( جوهر الرسالة ، بما يوحي الله فيه من عقيدة وتشريع ، وما يكلف به النبي من دعوة الناس إلى الدين ) .
٢ ـ
إنّ الوحي هو الطريق الوحيد الذي بدونه لا تستطيع البشرية أن تتوصل إلى حقائق ما وراء المادة ، في قبال ( إمكاننا أن نتوصل إلى حقائق علوم الكون والحياة بالمنطق التجريبي والرياضي ) .
فالوحي هو الطريق إلى تعليم ما ليس في وسع الإنسان بحسب الطرق المألوفة عنده التي جهزه الله بها أن ينال علمه .
٣ ـ
إنّه ما من تفسير لما يظهر على أيدي الأنبياء عليهمالسلام
من ظواهر خارقة وما تحمله رسالاتهم من خصائص وأبعاد إلّا بالوحي ، فإننا ( لا نجد ديناً من الأديان يخلو من فكرة الوحي مهما اختلفت المنازع في تصويره ، فالتخلي عن فكرة الوحي تقويض للدين من أساسه لاسيما الأديان السماوية ) .
من مجمل هذه الأمور وما يرتبط بها من
مفاهيم ومصاديق متفرعة يأخذ
________________
الوحي بعده الديني
الواسع ليتمثّل أساساً لأي دين سماوي ، فإنّه ( ما من دين سماوي إلّا ويعتمد على الوحي والإلهام ، فمنهما صدر وبما لهما من إعجاز وعلى تعاليمهما تأسست قواعده وأركانه ) .
خامساً ـ طرق الوحي الإلٰهي وأنواع
متلقيه :
اعتماداً على نص الوحي الإلٰهي المعجز
، متمثلاً في القرآن الكريم بوصفه مصدقاً وحيداً موثوقاً لا يعتريه شك ، ومصدر بيَّن ـ بصورة جلية مجملة أحياناً ومفصلة أخرى ـ طُرُقَ إلقاء هذا الوحي وأنواع من يُلقى إليهم ، مع ملاحظة جهة العموم في لفظ الوحي هنا بشموله جميع أنواع الوحي الإلٰهي الوارد ذكره في القرآن الكريم على أنه ملقى منه تعالى إلى أنواع متعددة من المخلوقات بالإضافة إلى معنى الوحي الخاص بالوحي إلى الأنبياء والرسل عليهمالسلام
، اعتمادا على كل ذلك يمكن استشفاف طرقه وأنواع متلقيه ، ففي مورد طرق هذا الوحي تقدم الآية (٥١) من سورة الشورى أوضح تفصيل لطرق إلقاء الوحي فيما يخص البشر ، إذ هي تبيّن طرق تكليمه تعالى لعباده بنصها على أنه : ( وَمَا كَانَ
لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) .
فعبر تعالى في هذه الآية عن الوحي بالتكليم للتعميم في تناول مجمل أقسام الوحي إلى البشر لتتضمن :
١ ـ
الوحي المباشر دون وساطة بل بالإلهام والقذف في الرُوع.
________________
٢ ـ
الوحي بالتكليم من وراء حجاب.
٣ ـ
الوحي بواسطة ملك الوحي المرسل إلى الأنبياء.
وتندرج تحت كل من هذه الطرق والأقسام
أشكال متعدّدة ستتبيّن لنا خلال البحث.
أما في الوحي إلى غير البشر فلا نجد في
القرآن الكريم ما يبين على سبيل التفصيل الظاهر الدلالة طرق هذا الوحي ، كالوحي إلى الحيوانات ومظاهر الطبيعة ، إلّا أنّ المفسرين حاولوا أن يستفيدوا ذلك من خلال مقابلة الآيات وربطها ببعضها وتفسير بعضها بدلالة البعض الآخر ، فكانت الاحتمالات في الوحي إلى غير البشر تدور في إطار : التسخير والإلهام الغريزي وما يقع ضمن ذلك ، وسيمرُّ بنا في المباحث القادمة تفصيلها.
أما من حيث أنواع من يُلقى إليهم الوحي
الإلٰهي فإن آيات القرآن الكريم ناطقة بتعدّدهم واختلاف طرق وطبيعة نوع الوحي إلى كلّ منهم ، إذ يرد ذكر الوحي الإلٰهي في القرآن الكريم على أنّه يُلقى إلى الأنواع التالية :
١ ـ
الأنبياء والرسل عموماً ، قال تعالى : (
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ
وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ
عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا )
.
٢ ـ
الملائكة ، قال تعالى : (
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا
________________
الَّذِينَ آمَنُوا ... ) .
٣ ـ
الحواريين ، قال تعالى : (
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي )
.
٤ ـ
الأسباط من أنبياء بني إسرائيل كما اشارت الآية (١٦٣) من سورة النساء المذكورة في النوع الأوّل.
٥ ـ
البشر العاديين كأُمّ موسى عليهالسلام
، قال تعالى : ( وَأَوْحَيْنَا
إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ )
.
٦ ـ
الوحي إلى المخلوقات الأخرى ، كقوله تعالى : (
وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا
يَعْرِشُونَ )
.
٧ ـ
مظاهر الطبيعة من الجمادات وغيرها ، كقوله تعالى : (
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا .. ) .
وستكون لنا في المباحث القادمة في
الرسالة وقفة متأنية مع طرق الوحي الإلهي وأنواعه وأقسامه وأنواع المتلقين له وطبيعة نوع كل وحي من تلك الأنواع وعناصره المميزة.
________________
الفصل الثاني الوحي الشيطاني
أوّلاً ـ حقيقة الشيطان :
لا بدّ من فهم حقيقة الشيطان لتصوّر
الوحي الشيطاني والتعرّف على ما يحيط به من مفاهيم واستكناه كيفياته وأشكاله والاطّلاع على ما يمتلكه من قدرات عجيبة في التأثير في النفس الإنسانية ومسيرتها في الحياة.
هذا التأثير للشيطان يظهر جليّا في
العديد من النصوص القرآنية التي تقرن بين النفس والشيطان من خلال ما تشير إليه من أشكال إغوائه وتزيينه الذنوب ، ودعوته الإنسان إلى المعاصي ، وفي كلّ هذه الموارد تكون النفس هي محلّ تأثيره وإلقاءاته.
والملاحظ أنّ القرآن الكريم يعبّر عن
الشيطان بصيغ متعدّدة :
١ ـ
فمرة يعبّر عنه ب ( إبليس ) ( بمعنى اليائس في اللغة ) وقد ورد ذلك في نحو عشر آيات
، كان أغلبها يدور في إطار قصّة اختيار آدم عليهالسلام
للخلافة في الأرض واستكبار إبليس عن السجود له عصياناً للأمر الإلٰهي واستنانه بذلك الخطيئة الأولى بما استحقّ به الرجم واللعنة إلى يوم الدين ، ونلاحظ أيضاً أنّه يسمّى إبليس دائما في المواضع التي يراد التعريف به بذاته بما هو شخص معين بحيث لا ينصرف الذهن إلى غيره بالذات ، قال تعالى : (
وَإِذْ قُلْنَا
________________
لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ
فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ )
، وقال تعالى : (
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ... )
.
٢ ـ
ويعبر عنه أيضاً باسم الشيطان ( أي المتمرد لغة والأصل : الحبل الطويل ) وأحيانا بصيغة الجمع ( الشياطين ) وقد ورد ذلك في أكثر من سبعين موضعاً .
ونراه تعالى يسميه بالشيطان كلما أراد
بيان أن صفاته الإغواء والإغراء على المعاصي وإضلال الناس بإلقاء أحابيله عليهم لصرفهم عن الحق ، ثم نجده تعالى يحذِّر العباد من الوقوع في فتنته : قال تعالى : (
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ .. )
، وقال تعالى : ( وَيُرِيدُ
الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ... )
، وقال تعالى بصيغة
الجمع : ( إِنَّا جَعَلْنَا
الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ... )
، فنلاحظ أن تسميته بالشيطان خرجت به عن التخصيص بإبليس بالذات ، كما أن استعمال صيغة الجمع خرجت به عن مثل هذا التخصيص إضافة إلى شمولها أتباعه وجنوده ومن هم من ذريته وكذلك أولياءه ممن هم من غير جنسه كشياطين الإنس ، قال تعالى : (
وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا
________________
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ
الْإِنسِ وَالْجِنِّ ... )
.
هذا فيما يتعلق بذكر الشيطان في القرآن
الكريم وصيغ تسميته والتعريف به ، أما حقيقته فإنّ القرآن الكريم لا يتركها خافية علينا ، فيقرر أن جنسه هو الجن ، قال تعالى : (
... إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) .
وفي آية أخرى نتعرف على ماخُلِقَ منه ، فإذا هو مثل الجن عموماً مخلوق من النار ، قال تعالى : ( وَالْجَانَّ
خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ) .
ويتأكد هذا فيما احتج به إبليس نفسه على الله سبحانه بأفضليته على آدم ، قال تعالى : (
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ
خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ )
ورغم وضوح دلالة
ظاهرالآية على أنه من الجن فقد اختلف المفسرون في حقيقة انتسابه على عدة آراء لا داعي للخوض فيها لخروجها عن موضوعنا.
ثانياً ـ طبيعة الوحي الشيطاني :
يمكن إجمال ما تصفه الآيات القرآنية
الكريمة العديدة من طبيعة عامة للوحي الشيطاني بما لخصه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام حين سئل عن الوحي في القرآن الكريم فعدد مصاديقه المختلفة ثمّ قال عن وحي الشيطان : ومنه وحي كذب
واستشهد بالآية الكريمة قوله تعالى : ( ... شَيَاطِينَ
الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ
________________
غُرُورًا ... ) .
وبالعودة إلى الآيات الكريمة نجدها
غالباً تصف وحي الشيطان بهذا الطابع الذي تتلبّس به مصاديقه المختلفة من وسوسة أو تزيين أو وعد أو تأميل .. إلخ.
والقرآن الكريم يميّز الوحي الشيطاني
بخصائص ينفرد بها تمثل ما يمكن أن يكون تصوراً لطبيعته ، وهذه الخصائص يمكن استجلاؤها من آيات الذكر الحكيم التي تناولت ذكر الشيطان وما يحيط به ويمكن إجمالها في :
١ ـ
تلبس الشيطان بطبيعته العاصية فلا ينتسب وحيه إلى غيره ، ولا تكون له أية صلة بالله تعالى ، لأنّه يقف في مقابل الوحي الإلٰهي
ويتناقض معه ، بل يمكن أن يقال إن وحيه تزييف للوحي الإلٰهي وخداع للإنسان ، لأنّ الوحي الإلٰهي إنّما هو كلامه تعالى المنزَّل على عباده من أنبياء أو غيرهم
، قال تعالى : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ... )
، ومن ينزل به إليهم هو رسول منه تعالى ارتضاه لِيُبلِّغ وحيَه ، وهذا الرسول ملك كريم ، فما ينزل به من وحي هو : (
قَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ )
، فهذا الوحي بعيد عن متناول الشيطان ولا توجد له أية صلة بالشيطان ، قال تعالى : (
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ )
، وما كان للشيطان
أن يكون لهم من سبيل إلى أن يتنزلوا بشيء منه تعالى ، قال تعالى : (
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ *
وَمَا يَنبَغِي
________________
لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ) .
وهم لايستطيعون لأنّ الوحي الإلٰهي محروس محفوظ من وصولهم إليه ، إذ يُرجَمون لو حاولوا ، قال تعالى : (
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ
الْكَوَاكِبِ
* وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ * لَّا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَىٰ
وَيُقْذَفُونَ
مِن كُلِّ جَانِبٍ )
. وما دام الوحي
محروساً فلا سبيل للشيطان إليه إلّا ما استثني من استراقه السمع ، فالشياطين تصعد إلى السماء محاولة استراق السمع لما يدور في الملأ الأعلى وهو عالم الملائكة ، إذ يقتربون منه ( للاطلاع على أسرار الخلقة والحوادث المستقبلة ) .
وهؤلاء ممن يسترقون السمع يجدون بانتظارهم حفظة الوحي وحراسه الذين يقذفون تلك الشياطين بالشهب ، قال تعالى : (
... إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ ) .
وإذا كانت الصفة المطلقة لهذا الوحي
الشيطاني أنّه كذب فإنّ هناك من الأخبار ما يتضمن مغيبات وأسرارا يصدق أخبارهم فيها وهي مما لا مصدر له إلّا بوحي إلٰهي : وقد قال المفسرون في ذلك : إن بعض هؤلاء الشياطين ممن يسترقون السمع فيُقذَفون بالشهب يأتي أصحابه فيبلّغهم ما استرقه من أخبار قبل أن يهلك ... عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضياللهعنه
قال : « تصعد الشياطين أفواجاً تسترق السمع فينفرد المارد منها ، قال تعالى : (
وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ )
فيعلو فيرمى بالشهاب
فيصيب جبهته أو جبينه أو حيث شاء الله
________________
منه ، فيلتهب فيأتي
أصحابه وهو يلتهب فيقول : إنه كان الأمر كذا وكذا ، قال : فيذهب أولئك [ أي : أصحابه الشياطين ] إلى إخوانهم من الكهنة فيزيدون عليه أضعافه من الكذب فيخبرونهم به ... » .
فلا صلة لما يلقي به الشيطان إلى
أوليائه بالله تعالى ، إن هي إلّا أكاذيب يدس بينها ما يسترقه بالسمع ويُزيِّف به الوحي الإلٰهي.
أما ما ورد في القرآن الكريم مما يدور
مدار المناظرات بين الله تعالى وإبليس وذلك من نحو قوله تعالى : (
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ .. )
، وقوله تعالى على لسان إبليس : (
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ .. )
، فإنّ مثل هذه المناظرات مع ما فيها من تكليم بغير واسطة لا يمكن اعتبارها وحياً من الله تعالى له .
٢ ـ
إنّ ميدان نشاط الشيطان في إغوائه وصدّه عن سبيل الله هو النفس الإنسانية من خلال مدركاتها وأفعالها وقواها المختلفة ، ومن نشاطاته وتأثيراته فيها :
أ ـ
النجوى : وذلك في قوله تعالى : (
... إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ... )
.
ب ـ
العمل على نسيان الإنسان ذكر ربّه وذلك في قوله تعالى : (
وَإِمَّا
________________
يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا
تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .
ج ـ
حثّه الإنسان ودفعه إلى المعصية وتزيينها له ، قال تعالى : (
.. وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ) .
وغيرها من الآيات الكريمة التي نجد من
خلالها أن تأثير الشيطان وإلقاءه إنّما يستهدف دائما مدركات النفس الإنسانية وقواها ، وليس أدَلّ على ذلك من قوله تعالى في وصفه بأنّه : (
يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ )
.
إذ أنّ المراد بالصدور هنا هي النفس ( لأنّ
متعلّق الوسوسة هو مبدأ الإدراك من الإنسان وهو نفسه ) .
.. عن ابن عباس : « إنّ الله تعالى
جعلهم [ أي الشياطين ] يجرون من بني آدم مجرى الدم ، وصدور بني آدم مساكن لهم .. » .
ولا شكّ أنّ لهذا السلطان الذي أعطاه
تعالى للشيطان في إبقائه إلى يوم القيامة حكمة وسرّاً من أسراره تعالى لما فيه من امتحان للبشر ، وهذا ما تشير إليه الآيات الكريمة ، قال تعالى : (
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ *
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ *
قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا
________________
عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) .
وعبرت روايات أُخرى عن النفس الإنسانية
التي يسعى الشيطان بوحيه إليها بالقلب ، فعن ابن عباس : « ما من مولود يولد إلّا على قلبه الوسواس ، فإذا عقل فذكر الله خنس ... » .
وما في تفسير العياشي .. عن سليمان بن
خالد قال : ( سمعت أبا عبد الله : الإمام الصادق عليهالسلام
) يقول : «
إنّ الله إذا أراد بعبد خيراً نكت في قلبه نكتة بيضاء وفتح مسامع قلبه ووكل به ملكا يسدّده ، وإن أراد بعبد سوءاً نكت في قلبه نكتة سوداء وسدّ عليه مسامع قلبه ووكل به شيطاناً يضلّه .. »
.
وعبر الشيخ المفيد عن محلّ إلقاءات
الشيطان ( بأقصى أسماع الإنسان ) فالشياطين يوسوسون إلى أوليائهم بما يلقونه من الكلام في أقصى أسماعهم فيُخَصُّون بعلمهم دون سواهم .
ويتبين من هذا عمق ما للشياطين من قدرات
وقوى ( يتوصلون بها إلى تغيير النفوس والقذف فيها بما يستدعونها ) .
وهذه الصلة الوثيقة للوحي الشيطاني بالنفس الإنسانية ومحاولاته إلقاء أحابيله إليها جعلت بعض المفسرين يقول بأن الشيطان الحقيقي هو النفس ، فالفخر الرازي يرى أن ما يأتي به الشيطان هو الوسوسة والتزيين والدعوة ، ولا سلطان له إلّا في ذلك
________________
( فلولا الميل الحاصل
بسبب الشهوة والغضب والوهم والخيال [ وهي مدركات وقوى للنفس ] لم يكن لوسوسته تأثير البتة ، فدل هذا عنده على أن الشيطان الحقيقي هو النفس ) .
٣ ـ
من خلال هذا الارتباط للوحي الشيطاني بالنفس نلتمس له التقاء مع الوحي عموماً في توافر معنى الإلقاء الخفي ، وهو ما نجد الإشارة واضحة إلى تأكيده من خلال ما يلي :
أ ـ
وصف الشيطان وهو متلبس بوحيه : بالوسواس والخناس ، قال تعالى : ( مِن شَرِّ
الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ *
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ )
.
فالوسواس من الوسوسة وهي الصوت الخفي .
والوسوسة : الكلام الخفي الذي يصل
قلوبهم من غير سماع .
والخناس : الكثير الاختفاء بعد الظهور .
وقد قيل : الخناس الكثير الاختفاء ..
وهو المستتر المخفي من أعين الناس ، لأنّه يوسوس من حيث لا يُرى بالعين .
كما وصف ما يلقيه أيضاً بالوحي في آيتين قال تعالى : (
... شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ .. )
، وقال تعالى : (
... وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ
________________
أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ .. )
وقد مرت بنا معاني الوحي وتعريفاته التي
استفدنا من خلالها أن الإلقاء في خفاء أصل من أصول الوحي وأهم المعاني التي وردت فيه لغة وشرعاً.
وقد قال الشيخ الطوسي في وحي الشيطان
إلى الإنسان أنه ( يلقي إليه بكلام خفي وهو الدعاء والوسوسة ) .
وأكد الطبرسي هذا المعنى فقال فيه : « الكلام
الخفي الذي يصل مفهومه إلى قلوبهم من غير سماع » .
وملخص ما يتحصل لدينا في ذلك أن جميع ما
ينسب إلى الشيطان من المعاني الملقاة في النفوس ( القلوب ، الصدور .. إلخ ) وإن عبر عنها بالقول والأمر والوسوسة والوحي والتزيين والوعد .. إلخ ، فهي جميعاً ( قول وكلام ولكن لا يخرج عن شق فم ولا تحريك لسان )
، فهو كلام مجرد عما يحيط بالكلام من التعبير بالألفاظ والأصوات ، وإنّما هو كلام خفي طريقه الوسوسة والأز والنزغ ... إلخ.
ب ـ
تأكيد القرآن الكريم أن الشيطان غير مرئي للإنسان وإن كان هو يرى الإنسان ويعايشه كظلّه ، فمن الآيات الدالة على ذلك :
١ ـ
قوله تعالى : ( .. إِنَّهُ
يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ .. ) .
________________
كما أن سياق الآيات التي تتحدث عن
الشيطان وأفعاله وآثاره في العالم الإنساني من وحي ووسوسة وتزيين وإزلال وفتنة .. إلخ ، يدل على أن هذه الآثار تتم دون معاينة ومباشرة رؤية أو حتى إدراك أن مصدرها هو الشيطان إلّا ماكان من ذلك مع الأنبياء عليهمالسلام
فإنّ لهم حالاً مختلفة عن عامة البشر كما سنبيّنه.
قال ابن عباس .. ( هم يرون بني آدم وبنو
آدم لا يرونهم ) .
وقد قيل تفريقاً عن شيطان الإنس ، إن
شيطان الجن يوسوس ولا تراه معاينة .
بخلاف شيطان الإنس الذي هو من الناس ، وعليه يحمل قول بعض الصحابة : ( إنّ لي شيطاناً يعتريني )
، إذ كيف علم بأنه يعتريه لو لم يره عياناً ويصحبه ؟!
وعن قتادة أنه قال : « والله إن عدوا
يراك ولا تراه لشديد المؤونة إلّا من عصم الله » .
ثالثاً ـ الوحي ودعاوى إلقاء الشيطان :
ترد هنا نقطة مهمة لابد من جلائها وهي
أن حال الأنبياء عليهمالسلام
في تأثير الشيطان وإلقائه مختلف عن حال سائر البشر في مدى قوة هذا التأثير ونوعه
________________
ومجاله الذي يبرز
فيه.
فالأنبياء عليهمالسلام
معصومون تجاه تأثير الشيطان في وحيه ووسوسته لأنّ نفوسهم الطاهرة لاسبيل لنجاح إلقاءات الشيطان إليها ، لأنّه تعالى يهديهم ويلطف بهم فيدفع عنهم تلك الإلقاءات.
وإن تمكينهم من رؤية الشيطان من
المصاديق المهمة على عصمتهم هذه ، فإنّ الله تعالى تحدَّى الشيطان في أن يكون له سلطان على عباده المخلصين ، قال تعالى : (
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ )
، ولا شك أن
الأنبياء أولى من سائر العباد في انتفاء سلطان الشيطان عليهم ، سواء كان ذلك السلطان على ما يلقى إليهم من وحي لتبليغه للعباد ، أو السلطان في توجيه أفعالهم وإزلالهم وصدِّهم عن السبيل ، ولا يمكن القول غير هذا في حق من أرسلهم تعالى لهداية البشر وليكون ما يبلّغوه عن الله إلى العباد في مقابل ما يلقيه الشيطان ويدعوهم إليه.
فإذا جُوِّز أن يلقي الشيطان حتى إلى
هؤلاء الرسل ، بل ويعبث في الرسالات التي يبلغونها ويفسد فيها بما يلقيه ، أصبحت الرسالة كلها مهددة والثقة بصدورها عنه تعالى احتمالية وهو ما يتناقض مع أسس العقيدة والتشريع.
ومن هنا تصبح الروايات التي ترد بما
يشير إلى إلقاء الشيطان وتدخله في الوحي أخباراً ضعيفة وباطلة لا أساس متين لها من نقل أو عقل حتىٰ يمكن الاعتقاد بصحتها ، والاعتقاد بتلك الروايات يُعَدُّ طعنا في النبوة والوحي.
________________
وأهم هذه الروايات ما نقل من إلقاء
الشيطان في الوحي النازل على رسول الله صلىاللهعليهوآله
وذلك في سورة النجم حسب زعمهم ، ودليل هؤلاء فيما ذهبوا إليه الآية الكريمة قوله تعالى : (
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا
يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )
، فهم حين يأتون إلى
سبب نزولها يقولون إنها نزلت تسلية لرسول الله صلىاللهعليهوآله
بعد أن كان الشيطان ( ألقى على لسانه صلىاللهعليهوآله
في بعض ما يتلوه مما أنزل الله عليه من القرآن ما لم ينزله الله عليه فاشتدّ ذلك على رسول الله صلىاللهعليهوآله
واغتم به فسلّاه الله به من ذلك بهذه الآية ) .
أما الحادثة نفسها فقد نقلت تفاصيلها
العديد من كتب التفسير والحديث العاميّة ، وتتلخص الروايات في : أن رسول الله صلىاللهعليهوآله
جلس في نادٍ من أندية قريش كثير أهله ، فتمنى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه ، فأنزل الله عليه : ( وَالنَّجْمِ إِذَا
هَوَىٰ )
حتى إذا بلغ : ( أَفَرَأَيْتُمُ
اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ ... )
ألقى عليه الشيطان كلمتين : ( تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهن لترتجى ) ، ففرح المشركون وسجدوا جميعاً ، أما خاتمة القصة فإنّهم يقولون إن جبريل عليهالسلام جاء الرسول صلىاللهعليهوآله
وطلب منه أن يعرض عليه سورة النجم ، فلما عرض وصف اللات والعزى بالغرانيق العلى قال جبريل .. ( أما هذا فلم آتِكَ به هذا من الشيطان ) .
________________
وقد زاد مفسرون آخرون ما أساء أكثر إلى
الذات النبوية المعصومة كما روى أبوبكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام من أنه صلىاللهعليهوآله لما بلغ ( أَفَرَأَيْتُمُ
اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ ... )
الآية سها فقال : تلك الغرانيق
________________
العلى .. .
وتمشّيا مع مذهب المعتزلة في تجويز
الخطأ والسهو على الأنبياء يفسر الزمخشري قوله تعالى : (
أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ )
بأنه ( وسوس إليه
بما شيعها به فسبق لسانه على سبيل السهو والغلط إلى أن قال : تلك الغرانيق .. كذا ، قال الزمخشري : ولم يفطن حتى أدركته العصمة فتنبه عليه ... ) .
وتابع الفخر الرازي رأي الزمخشري في
تجويز السهو على النبي صلىاللهعليهوآله
ولكنه لم يقل بجواز الغلط ، إذ يفهم من غرض الآية أنها تُبَيِّن ( أن الرسل الذين أرسلهم الله تعالى وإن عصمهم عن الخطأ مع العلم فلم يعصمهم من جواز السهو ، ووسوسة الشيطان بل حالهم في جواز ذلك كحال سائر البشر ... ) .
وأصل هذه الأكذوبة في صحيح البخاري باب
سجود المسلمين مع المشركين ، قال : ( حدّثنا مسدد ، قال : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدّثنا أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن النبي صلىاللهعليهوآله
سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجنّ والإنس ) .
وقال في باب فاسجدوا لله واعبدوا : ( حدّثنا
معمر ، حدّثنا عبد الوارث ، حدّثنا أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : سجد النبي صلىاللهعليهوآله بالنجم
________________
وسجد معه المسلمون والمشركون
والجنّ والإنس )
، وزاد الطبراني : ( أنّ النبي صلىاللهعليهوآله
سجد وهو بمكة بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجنّ والإنس ) .
وعبارة ( وسجد معه المسلمون والمشركون )
في لفظ البخاري موجودة بعينها في أكذوبة الغرانيق ، ولهذا صرح ابن كثير بأن اصل قصة الغرانيق في صحيح البخاري
فالبخاري إذن يرى صحّة تلك الفرية التي ليس بها مرية.
وقد تصدّى علماء الإمامية قديماً
وحديثاً لهذه الفرية العظيمة على رسول الله صلىاللهعليهوآله
وردوها بأبلغ الردود العلمية الشافية ، واستهجنوا روايتها والتصديق بها.
فقد وصفها السيد المرتضى بأنها خرافة .
وقال العلّامة الحلي بعد ذكر خبر
الغرانيق : ( وهذا في الحقيقة كفرٌ ) .
وقال الشهيد الثالث القاضي نور الله التستري
: ( وهذا عين الكفر ) .
وقال المحقّق الداماد في خبر الغرانيق :
( ولا يستريب ذو بصيرة في أنّه باطل مردود ولا يستصحّه العقل ولا النقل ، والبرهان قائم بالقسط على كذبه
________________
وبطلانه ) .
وقال العلّامة المجلسي : ( حديث
الغرانيق من الخرافات التي روتها العامّة ، وهو موضوع مما لا أصل له ، والعجب من علماء أهل السنّة كيف رووه في كتبهم وفيه إزراء شنيع للرسول المطهّر صلىاللهعليهوآله
، وهتك لقداسته وحرمته ، فكيف يجوز لمسلم آمن بالله وعرف رسوله وصدقه أن يتفوّه بمثل هذا الكلام في حقّ النبي صلىاللهعليهوآله
الذي لا ينطق إلّا عن الوحي ، ولا يفعل إلّا ما فيه رضا الربّ ـ إلى أن قال ـ نعوذ بالله من الضلال والخذلان واتباع وساوس الشيطان ) .
وقال السيد الطباطبائي في الميزان : ( الأدلّة
القطعية على عصمته صلىاللهعليهوآله
تكذب متنها وإن فرضت صحّة سندها ، فمن الواجب تنزيه ساحته المقدّسة عن مثل هذه الخطيئة ) .
وخصص السيد مرتضى العسكري في كتابه
أحاديث عائشة مساحة واسعة لمناقشة تلك الخرافة بل السخافة التي صارت مدعاة لهجوم المستشرقين على نبينا صلىاللهعليهوآله
.
________________
وخصص أيضاً السيد جعفر مرتضى العاملي في
كتابه الصحيح من السيرة مساحة واسعة استوعبت الكثير من الأدلّة العقلية والنقلية في ردّ تلك الأكذوبة .
وللعلّامة السيد عبد الحسين شرف الدين
كلام حول هذه المزعومة أحببت إيراده بلفظه ، قال قدسسره
في بيان معنى الآية الشريفة : (
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى
الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ )
: ( فإنّه لا يراد بها أن الشيطان يُلقي في نفس الرسول أو النبي شيئاً والعياذ بالله ، ليشكل الأمر فنحتاج إلى تخريج الآية على خلاف ظاهرها ، وإنّما المراد ما نصّت الآية عليه من أنّ الشيطان يلقي في الأُمنية نفسها ، أي : يُلقي فيما يتمنّاه الرسول أو النبي من الخير والسعادة شيئاً من التشويه في نظر رعاع الشيطان والناعقين معه ، ليصدّهم بسبب ذلك عمّا تمنّاه الرسول لهم ، ويحول بين الأُمنية وتحقّقها في الخارج ، فتكون الآية الحكيمة على حدّ قول القائل : ما كل ما يتمنّى المرء يدركه.
هذا هو المراد من الآية قطعاً وهو
المتبادر منها إلى الأذهان .. والعجب من غفلتهم عنه على وضوحه وكونه هو اللائق بالذكر الحكيم والنبي العظيم وسائر الرسل والأنبياء عليهمالسلام.
فلا يجوز حمل الآية على ما سواه أبداً.
أما حديث الغرانقة فإنّه من مختلقات
الزنادقة كما أوضحناه على سبيل التفصيل في رسالة أفردناها لهذا الحديث ولكل ما كان حوله متناً وسنداً أسميناها «
خرافة الزنادقة أو سخافة الغرانقة »
والله المسؤول أن يوفّقنا
________________
لنشرها فإنّها في
بابها مما لا نظير له ، والحمد لله على هدايته وعظيم عنايته ) .
جدير بالذكر أنّ المأمون العباسي قد
عيّر بعض أصحاب الحديث من الحشوية على روايتهم لأكذوبة الغرانيق فقال لهم في جملة كلامه : ( .. وكما رويتم أنّ الشيطان يفرّ من ظلّ عمر ، وألقىٰ على لسان نبي الله صلىاللهعليهوآله : وأنّهنّ الغرانيق العلى ! ففرّ ـ يعني الشيطان ـ من عمر ، وألقىٰ على لسان النبي
بزعمكم الكفر ) !
ولهذا نرى بعض علماء العامّة قد نفى
قصّة الغرانيق وحكم بكذبها واختلاقها ، وانها من الموضوعات التي لا أصل لها ، وانها من وضع الزنادقة وإن قال الهيثمي بأنّ رجالها رجال الصحيح ، إذ لا صحيح البتة في قبال النيل من قداسة النبي الأعظم صلىاللهعليهوآله.
والخلاصة من كل ذلك ، أن هذه القصة
مردودة بكل ما تضمّنته وأشارت إليه من وقائع ، وما يرتبط بها من مظاهر التشكيك والدس والإساءة إلى الرسول صلىاللهعليهوآله
، بل إلى شريعته ، وسواء قصد ذلك عمداً أم كان دون قصد فإنّ قبول القصة وتصديقها يعد هدما لمفاهيم وأسس عديدة يقوم عليها التشريع الإسلامي عموماً.
________________
وبالإضافة إلى ما مرّ من موارد إبطال
القصة يستفيد الباحث موارد أخرى لردها وإبطالها ، والاستناد في ذلك إلى أدلة عقلية ونقلية مرت الإشارة إلى بعضها ويمكن إجمال ذلك في الآتي :
١ ـ
إنّ الله تعالى بيَّن أن الشياطين لا سبيل لهم إلى الوحي والتدخل فيه لأنهم معزولون مرجومون بالشهب ، وإنّما لم يكن لهم ذلك حراسة للمعجزة من أن تتموّه بالباطل ، لأنّ الله تعالى إذا أراد أن يدل بها على صدق الصادق أخلصها بمثل هذه الحراسة .
قال تعالى : ( عَالِمُ الْغَيْبِ
فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن
بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا )
، فالشياطين لاسبيل
لهم إلى الوحي ، وما استرقوه منه ممن خطف الخطفة منهم فإنهم إنّما ينزلون به (
عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ )
. وإن تجويز مثل هذه الروايات والخرافات فيه نسبة الإفك والإثم إلى الرسول صلىاللهعليهوآله.
٢ ـ
إن هذه الروايات تضمنت ما قد نزهت الرسل عنه من تأثير فعل الشيطان ، ومدح الأصنام ، وترجّي شفاعتها بما فيه من إشراك بالله تعالى يتنزّه الرسول صلىاللهعليهوآله
عنه وهو الذي أرسله الله تعالى لمحاربة الشرك والأوثان وهو الذي ( نزهه تعالى عن الأمور الخارجة عن باب المعاصي كالغلظة والفظاظة وقول الشعر مما هو دون مدح الأصنام المعبودة دون الله ) .
٣ ـ
إن الله تعالى بيَّن في كتابه الكريم أن السبيل إلى التخلص من إلقاءات
________________
الشيطان وآثاره
ووساوسه هو بالاستعاذة بالله منه ، لأنّ الشيطان خنّاس إذا ذُكِر الله خنس.
وهو تعالى قد عصم عباده المؤمنين ـ بذكرهم
له والاستعاذة به ـ من مس الشيطان قال تعالى : (
الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا
فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ )
. وهو تعالى أوصى
رسوله وأمره بالاستعاذة به من الشيطان حين قراءته القرآن قال تعالى : (
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ )
. وقد كان الرسول صلىاللهعليهوآله كما يؤكد رواة هذه
الأخبار يقرأ القرآن خلالها ، فهل عصم الله سبحانه عباده وترك نبيه نهباً لإلقاءات الشيطان ، وهل كان العباد أجدر بإطاعة أمر الاستعاذة من الرسول الكريم صلىاللهعليهوآله ؟
٤ ـ
إن لسان النبي صلىاللهعليهوآله
ـ الذي يدَّعي هؤلاء أن الشيطان ألقى عليه ـ هو : ( بيان الله وترجمانه )
الذي لاينطق إلّا عنه قال تعالى : (
وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ )
، فما يبلّغه هذا الرسول إلى الناس ويتلوه عليهم هو ذكر من الله تعالى قد تعهد بحفظه فقال : (
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )
، والقول بإمكان
الشيطان التدخل والإلقاء في هذا الذكر ( الوحي ) النازل منه تعالى هدم لأساس الرسالة ، وطعن للثقة في صحة صدور الوحي عنه تعالى ، فإذا كان الشيطان يستطيع أن يفسد ويلقي في بعض
________________
الوحي ( القرآن ) فما
يمنعه أن يلقي في بعضه الآخر ، ونحن نعلم بقطع أن حفظ الوحي يعني أن يكون ( حفظاً من كل تخليط وتغيير بالزيادة والنقصان يقع من ناحية الشياطين بلا واسطة أو معها ) .
٥ ـ ما مرّ بيانه من إطباق علماء
الإمامية قديماً وحديثاً على ردّ هذه الفرية ، وكذلك نخبة من علماء العامة ضعفوا هذه الروايات ووصفوها بالكذب والافتراء والوضع والخرافة والنقص حتى نسبها بعضهم إلى الزنادقة ، الأمر الذي يجعلها من صنف الأساطير والخرافات التي لا أصل لها على رغم أنف من احتج بها أو صححها.
وقد كان من أسباب هذا الخلاف في القول
بإلقاء الشيطان وإمكان ذلك ما يحتمله لفظ التمني في قوله تعالى : (
... إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ... )
من معان منها :
أ ـ
أن يكون التمني هنا بمعنى التلاوة. كقول حسان بن ثابت :
تَمنَّى كتابَ الله أَول لَيلَةٍ
|
|
وآخره لاقى حِمامَ المَقادِرِ
|
فيكون معنى الآية كما يفسرها السيد
المرتضى : ( إن من أرسِلَ قبلك من الرسل كان إذا تلا ما يؤدّيه إلى قومه حرَّفوا عليه وزادوا فيما يقوله ونقصوا ) .
أو أن يكون الملقي هو الشيطان يلقي شبها
متصلة على الناس ليجادلوا
________________
النبي بها ويفسدوا
على المؤمنين إيمانهم .
ب ـ
أن يكون تمنّى بمعنى حَدَّثَ وهو ما روي عن ابن عباس قال : (
إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ )
أي : إلّا إذا حدَّث و (
أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ )
أي في حديثه ويُعَدُّ هذا الرأي لابن عباس من أحسن الوجوه في تفسير الآية .
وقد أورد المفسرون المنكرون لرواية
الإلقاء الشيطاني في الوحي عدّة آراء واحتمالات فيما زعم من أمر هذا الإلقاء بوصف اللّات والعُزّى بأنّهن ( الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ) ومن ذلك :
١ ـ
أن المراد بالغرانيق العلى الملائكة ، وقد جاءت بعض الروايات بمثل ذلك فتوهم المشركون أنه أراد اللّات والعُزّى .
٢ ـ
ما قيل أنه صلىاللهعليهوآله
كان إذا تلا القرآن على قريش توقف في فصول الآيات وأتى بكلام على سبيل المحاججة ، فلما تلا (
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ ... ) الآية. قال صلىاللهعليهوآله
: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ؟! على سبيل الإنكار عليهم وإن الأمر بخلاف ما ظنوه في ذلك .
٣ ـ
ما قيل من أن بعض الكفار من الذين حضروا مجلس الرسول صلىاللهعليهوآله
وقد غص بهم قد قال ذلك في وصف آلهة قريش طلباً لتغليظ الرسول صلىاللهعليهوآله لأنّهم يعلمون أن من عادته صلىاللهعليهوآله
أن يعيبها ويسفهها ، وأن من حضر لما سمعوا ذلك تصوروا أن الرسول صلىاللهعليهوآله
هو القائل
________________
رابعاً ـ علامات الوحي الشيطاني :
يصور القرآن الكريم الشيطان في مواقف
كثيرة ، ويحدد معالم وعلائم وحيه وإلقاءاته الخبيثة ، ويلاحقه في كل مواقفه وتأثيراته في النفس الإنسانية. ويُستَشَفُّ من ذلك العلائم التالية :
١ ـ
إن الشيطان يلازم النوع الإنساني منذ الولادة وحتى الممات في كل تفاصيل الحياة صغيرها وكبيرها ، وتنبني على تأثيراته في النفس الإنسانية مقاييس وأسس هدايتها وضلالها وسعادتها وشقاوتها ؛ ويدلّ عليه المحاور والتي حكاها القرآن الكريم بقوله تعالى : (
قَالَ أَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ *
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ
وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ )
.
٢ ـ
إن الله سبحانه وضع لسلطانه وقدراته حدوداً ، إذ لا سبيل له إلّا على أوليائه أما عباد الله المخلصين فهم في أمان منه إن هم اعتصموا بالله تعالى واستعاذوا به : ( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *
إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ )
، وقال تعالى : (
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ )
.
٣ ـ
إنه يعد ويمني ويزيِّن بالغرور ويسعى إلى تلبس الإنسان بالمعصية
________________
لإضلاله قال تعالى : (
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا )
، فوعده الفقر وأمرُه بالفاحشة.
عن عبد الله بن عباس قال : « اثنان من الله
واثنان من الشيطان ، فاللذان من الشيطان الوعد بالفقر والأمر بالفحشاء ، واللذان من الله المغفرة على المعاصي والفضل في الرزق » .
وعن عبد الله بن مسعود : أن للملك لمة
وللشيطان لمة ، فلمة الملك : إيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجدها فليحمدالله ، ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب الحق فمن وجدها فليستعذ بالله .. .
٤ ـ
إن ما يلقيه كيدٌ ضعيفٌ وزخرفٌ زيَّنه لإيقاع من يقبل غوايته ، قال تعالى : ( شَيَاطِينَ الْإِنسِ
وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا )
. والزخرف من القول
هو المزَيَّن ، يقال زخرفه إذا زَيَّنه .
قال الزمخشري هو : ما يُزَيِّنه من
القول والوسوسة والإغراء على المعاصي ، وغروراً : خَدْعاً وأخذاً على غِرة
، وهو المَمَوَّهُ المزيَّن الذي يستحسن ظاهره ولا حقيقة له ولا أصل .
________________
٥ ـ
إن ما ينزل به الشيطان قسمان
:
إما بأن يفسد أمر الهداية الإلهية فيضع
سبيلاً باطلاً مكان سبيل الحق.
أو أن يخلط فيدخل شيئاً من الباطل في
الوحي الإلٰهي الحق فيختلط الأمر ، والقسم الثاني ممتنع ومنفي بما سبق بيانه في موضوع إلقاءات الشيطان ولقوله تعالى : ( يَسْلُكُ مِن بَيْنِ
يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا )
. وهم حراس الوحي يحرسونه من وساوس شياطين الجن وتخاليطهم حتى يبلِّغ ( الرسول ) ما أوحي به إليه ... .
٦ ـ
إن ما يتركه من أثر في النفس يلازمه تضيق الصدر وشحّ النفس ، ويدل على شيطانيته ما يرافقه من اضطراب وقلق وما يلحقه من الخفة والجزع والعجلة .
٧ ـ
إذا كان الوحي الإلٰهي يبني في النفس الإنسانية أساس الإيمان ويختم مسيرتها بالهداية إلى الصراط المستقيم ، فإنّ وحي الشيطان ووعيده ينتهي بالإنسان إلى الخسران والخذلان وتخليه عن أوليائه بعدما يكون قد أسلمهم إلى الضلال ووضعهم على شفا النار ، قال تعالى : ( وَقَالَ
الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ
وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم
بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي
________________
كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن
قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .
خامساً ـ أنواع الوحي الشيطاني :
تتعدّد أنواع الوحي والإلقاء الشيطاني
التي يصوّرها القرآن الكريم ، وتتداخل فيما بينها ، ويكون بعضها شكلاً من أشكال بعضها الآخر ، وتكاد تكون أهمّ صورها : ١ ـ
الوسوسة.
٢ ـ
النزغ.
٣ ـ
الأز.
٤ ـ
الهمز.
٥ ـ
المسّ.
أمّا الصور الأخرى المذكورة في القرآن :
كالوعد والتمنية والتزيين والإزلال والنجوى وغيرها فهي تمثّل مصاديق لتلك الصور المهمة وتدخل تحتها ، لذلك سيقتصر البحث في هذا الموضوع على الوسوسة والنزغ والأز والهمز والمسّ.
١ ـ الوسوسة :
قال تعالى : (
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا .. )
، وقال تعالى : (
مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ *
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ )
. قال الخليل أبو
عبدالرحمن بن أحمد
________________
الفراهيدي ( ت / ١٧٥
هـ ، ٧٨٦م ) الوسوسة : حديث النفس ، والوسواس الصوت الخفي وبه يشبه صوت الحلي
قال الأعشى :
تسمعُ لِلحُلي وَسواسا إذا انصَرَفَتْ
|
|
كما استعانَ بِريحٍ عَشْرَقٍ زجل
|
والوسوسة : الخَطِرة الرديئة
وأصله من الوسواس .
أمّا الطبرسي فيميزها بالخفاء بما لا
يكون فيه سماع صوت ، فالوسوسة : الكلام الخفي الذي يصل مفهومه إلى قلوبهم من غير سماع صوت .
واستفاد الفخر الرازي من قوله تعالى : (
الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ )
أن معناه التكرار للكلام الخفي ، فوسوس : إذا تكلم كلاماً خفياً يكرره
إذ أن الخناس مأخوذ من خَنَسَ إذا تأخر ، فالشيطان يوسوس إلى الإنسان فإذا ذكر العبد ربّه خنس أي تأخّر وتوقّف عن وسوسته.
وفي الحديث النبوي الشريف : «
إنّ الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله سبحانه خَنَس ، وإذا نسي التَقَمَ قلبه بذلك الوسواس الخناس » .
وعن ابن عباس قال : هو الشيطان يأمر
فإذا أُطيعَ خَنَس .
وما عن مجاهد وقتادة : أنّه يخنس إذا
ذكر العبد ربّه
________________
وقيل الخَنّاس الكثير الاختفاء بعد
الظهور وهو المستتر المختفي من أعين الناس لأنّه يوسوس من حيث لا يرى بالعين .
والوسوسة يرد ذكرها في القرآن منسوبة
إلى مصدرين :
١ ـ
وسوسة الشيطان وقد مرَّ بيانها.
٢ ـ
وسوسة النفس الإنسانية ، قال تعالى : (
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) .
٢ ـ النزغ :
قال تعالى : (
وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ )
. وقال تعالى على
لسان يوسف عليهالسلام
: ( ... نَّزَغَ
الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي )
.
والنَزْغُ : أدنى الحركة ، يقال نزغه : حَرَّكَهُ
أدنى حركة .
ونَزَغَ بينهم نَزْغاً أي : حَمَلَ بعضهم على بعض بفساد ذاتِ بينهم. قال رؤبة بن العجاج
:
وحذر أقاويل العداة النزّغ
قال ابن عباس إن المراد من الآية : « إن
عَرَضَ لك من الشيطان
________________
عارض » .
أي : ينالك منه أدنى حركة من معاندة أو سوء عشرة .
ويرى الزمخشري أن النزغ والنخس بمعنى
واحد ، فالمراد بقوله تعالى : ( يَنزَغَنَّكَ مِنَ
الشَّيْطَانِ نَزْغٌ )
: يَنخَسنَّكَ منه نخس بأن يحملك بوسوسته على خلاف ما أُمِرتَ به ، فَنَزْغُ الشيطان بين الناس إلقاءَه الفساد وإغراءَه بعضهم على بعض ليقع بينهم المشارة والمشاقة .
٣ ـ المس :
المَسُّ في اللغة يعني اللمس ، تقول : مَسسْتُهُ
: أمِسّه مَسّاً ومَسيساً : لمستهُ ، وقد استعير ذلك المعنى للجنون كأن الجن مَسّته ، فيقال : به مسّ من جنون. فالمَسُّ : الجنون .
وقد ورد ذكر مسّ الشيطان بمعنى الوحي في
القرآن الكريم على أنّه يكون بالمسّ بالطائف.
قال تعالى : (
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ
تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ )
وقرئ أيضاً ( طيف ).
وأصابه طوف من الشيطان وطائفٌ وطيْفٌ وطَيِّف .. أي مَسٌّ
________________
قال بعض المفسرين : إنّ طيف الشيطان هنا
: وسوسته ، فعن ابن عباس في تفسيره للآية قوله تعالى : (
إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ .. )
الآية قال : إذا وسوس إليهم الشيطان ، وبذلك أيضاً قال السدي والحسن وأبو عمرو بن العلاء .
وقال مجاهد وسعيد بن جبير : الطيف هو
الغضب ، فالممسوس بالطائف عندهما هو : الرجل الذي يغضب الغضبة فيتذكّر الله فيكظم غيظه .
يتحصّل لنا مما مرّ أن من الطيف : الوسوسة
والجنون والغضب ، ويسمّى طيفاً لأنّه ( لمة من الشيطان تُشَبَّهُ بلمّة الخيال وهذا من معاني الطيف في اللغة ) .
أمّا محلّ المسّ بالطيف فهو كالوسوسة
يستهدف القلب [ أي النفس ] ، فالطائف من الشيطان ما يطوف حول القلب ليلقي إليه الوسوسة ، أو هو وسوسته التي تطوف حول القلب لتقع فيه وتستقرّ عليه .
والواقع عليهم المسُّ هم المؤمنون
فإنّهم إذا حصل لهم من الشيطان دفع ووسوسة تذكّروا الله ـ وهذا طريق دفع المسّ ـ فيزول عنهم أثره.
٤ ـ الهمز :
قال تعالى : (
وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ )
، الهمز : العصر ، تقول هَمْزتُ رأسه وهمزت الجوزة بكفي. وهَمَزَ الشيطان الإنسان
________________
هَمزاً : هَمَس في
قلبه وسواساً ، وهمزات الشيطان : خَطراتُه التي يخطرها بقلب الإنسان
، أو ( ما يقع في القلب من وسوسة الشيطان ) .
قال العلّامة المجلسي في بحار الأنوار :
« همزات الشياطين : وساوسهم ، وأصل الهمز : النخس ، شبّه حثّهم الناس على المعاصي بهمز الراضّة الدواب على المشي ، والجمع للمرّات أو لتنوّع الوساوس ، أو لتعدّد المضاف إليه » .
روى عن النبي صلىاللهعليهوآله أنه كان يقول في
دعاء له : «
.. اللهمّ إني أعوذ بك من همزات الشياطين همزه ونفثه ونفحه .. »
فقيل : يا رسول الله صلىاللهعليهوآله
: وما همزه ؟ قال : « الموتة التي تأخذ ابن آدم » أي الجنون .
٥ ـ الأزّ :
قال تعالى : (
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ
أَزًّا )
، والأزّ : الحثّ وأزّه : حَثَّه ، فأزه يؤزه أزّا : أَغراه وهَيَّيجه
، وفي قوله تعالى : ( تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ) قال ابن عباس : ( أي : تزعجهم إزعاجاً
من الطاعة إلى المعصية ).
وعن سعيد بن جبير : ( تغريهم إغراء
بالشر ) .
والأز والهمز والاستفزاز
________________
واحد ، وتشترك في
معنى التهييج وشِدة الإزعاج.
قال الشيخ الطوسي : « (
تَؤُزُّهُمْ أَزًّا )
، أي : تزعجهم ازعاجاً ، والأزّ : الازعاج إلى الأمر » .
سادساً ـ مراتب التأثير الشيطاني :
من خلال ظواهر الآيات التي صورت صور
الوحي الشيطاني التي سبق بحثها نجد أن كل شكل منها اختص بطائفة من العباد ، وأن بعضها كان عاماً سُلِّط على العباد عموماً ، فالوسوسة لم يُخَصَّص تأثير الشيطان فيها على طائفة دون أخرى من العباد ، وإنّما هي أمر يقع للجميع حتى للأنبياء عليهمالسلام ، قال تعالى : ( فَوَسْوَسَ لَهُمَا
الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا )
.
أمّا النّزْغُ فإنّه يكون في الأنبياء عليهمالسلام ، وإنّ الشيطان لا
يتجاوزه إلى أشدّ وأكثر منه ، قال تعالى : (
إِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ... )
وقوله تعالى في يوسف وإخوته : (
بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي .. )
.
وأمّا المسّ بالطائف فيكون في المؤمنين
من الناس ، قال تعالى : ( .. الَّذِينَ
اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم
________________
مُّبْصِرُونَ ) .
وأمّا الأزّ فقد أشارت الآية الكريمة
أنّه يصيب الكافرين قال تعالى : (
أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا .
________________
الفصل الثالث
الوحي من مصادر أُخرى
ينسب الوحي في القرآن الكريم إلى مصادر
أُخرى وذلك في حالات نادرة كان ظاهر الآيات يسميها وحياً ، وفي حالات أخرى كان المفسرون يؤولون ويستنتجون دلالة الآيات عليها ، ويمكن تلخيص تلك الحالات من الوحي بـ :
١ ـ الوحي البشري.
٢ ـ الوحي الملائكي.
٣ ـ وحي مظاهر الطبيعة.
أولاً ـ الوحي البشري :
وردت الإشارة الصريحة عن وحي بشري من
البشر إلى بعضهم في القرآن الكريم مرتين اختلفت طبيعة كل منهما عن الأخرى اختلافاً كلياً ، وهاتان الحالتان هما :
أ ـ
وحي زكريا عليهالسلام
إلى قومه ، قال تعالى : (
فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) .
ويكاد يجمع أغلب علماء اللغة وأصحاب
المعاجم كالأزهري وأبوعبيدة
________________
والفراء ، والزجاج
وقدامة بن جعفر
وغيرهم على أن الوحي هنا بمعنى الإشارة.
والإشارة السريعة أصل من أصول الوحي في
العربية كما يقرر الراغب الأصبهاني إذ أن من أنواع الوحي الإشارة ببعض الجوارح. فإنّ معنى وحي زكريا عليهالسلام
لقومه عنه هو : رمز أو اعتبار أو كتابة .
ولا يبتعد المفسرون في بيانهم لهذا
الوحي عن هذا الإطار إذ أنهم حين يأتون إلى آية وحي زكريا عليهالسلام
يستحضرون غالباً المعاني اللغوية للوحي وخصوصاً معنى الإيماء والإشارة أو الكتابة كما قال بعضهم ، فأمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليهالسلام
حين يعدد أنواع الوحي الوارد في الكتاب الكريم يَعدُ منها وحي الإشارة
، ويستشهد عليه بالآية من قوله تعالى : (
فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن
سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا )
.
وموضع البحث الذي تناوله المفسرون من
الآية هو ما وصفه القرآن نفسه من طبيعة الوحي الذي ينسب إلى زكريا عليهالسلام
والذي تمثل في ( الآية ) التي طلبها زكريا عليهالسلام
دلالة على استجابته تعالى لدعائه فكانت ( الآية ) امتناعه عن الكلام ثلاثة أيام ، وبما أنه لابد له عليهالسلام
من أن يفسر لقومه ما حدث له تمهيداً لظهور أثر استجابة الدعاء بولادة يحيى عليهالسلام
وأنه لابدّ لكلامه من بديل فقد بَيَّن تعالى له
________________
بأن يكون كلامه رمزاً
قال تعالى : ( قَالَ آيَتُكَ
أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا )
، أما تفسير هذا
الرمز فهو ما كان زكريا عليهالسلام
قد فهمه منه وما ألهمه الله من تطبيق له فجاء ذلك تطبيقاً متكاملاً للأمر بعدم الكلام ، فكان طريق تفاهمه مع قومه هو الوحي وما يتضمنه هنا من أصول لغوية أسسها الخفاء وامتناع ظهور الصوت ، وتوافر الإعلام والتفهيم للمقصود إلقاؤه إليهم ، فالآية الكريمة ( فَأَوْحَىٰ
إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا .. )
بيَّنت أن طريقة كلامه عليهالسلام
بالرمز كانت : أنه كلمهم وحياً.
ومن هذا المدخل تناول المفسرون الآية
للبحث في طريقة هذا الوحي ، لأنّ الوحي له مصاديق متعددة يشكل وحي زكريا عليهالسلام
لقومه أحدها.
وقد كان اختيار أغلب المفسرين والعلماء
لطريقة وحيه عليهالسلام
أنها كانت الإشارة والإيماء ، ومن هؤلاء جَمْعٌ من أعلام علماء الأمة كابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، والحسن ، والربيع ، والسدي ، وابن زيد ، وابن إسحاق ، وابن جريج ، والكلبي ، وابن منبه وغيرهم .
ويؤيد ذلك ما ورد في تفسير العياشي عن
الإمام الصادق عليهالسلام
: ( لما سأل زكريا ربه أن يهب له ذكرا فوهب الله له يحيى فدخله من ذلك فقال عليهالسلام : (
رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
إِلَّا رَمْزًا )
فكان يومئ برأسه وهو الرمز ) .
وقد استفاد الشيخ المفيد أن معنى الخفاء
في الوحي هو ما جعله يُشَبَّه
________________
بطريقة الكلام بالرمز
الذي تكلم به زكريا عليهالسلام
بالإشارة ، فمعنى قوله تعالى : ( أَوْحَىٰ
إِلَيْهِمْ ... )
أنه عليهالسلام
( أشار إليهم من غير إفصاح الكلام شُبِّه ذلك بالوحي لخفائه عَمَّن سوى المخاطبين ولسره عمن سواه ) .
وهذا هو ما قال به أغلب المفسّرين
كالشيخ الطوسي ، والزمخشري ، والطبرسي ، والفخر الرازي ، والقرطبي وغيرهم .
وعرفوا ما كان من زكريا عليهالسلام بالإيحاء ، وهو ما
كان : إلقاء المعنى إلى النفس في خفى بسرعة من الأمر .
وفسر آخرون معنى الرمز في الآية
بالكتابة ففي رواية عن ابن عباس قال : ( أَوْحَىٰ
إِلَيْهِمْ )
: كتب لهم على الأرض .
وبذلك أيضا وردت رواية عن مجاهد
وعن الضحّاك .
وقد استفاد من قال بأن المراد من الوحي
في الآية الكتابة من أن من أصول الوحي في اللغة أنه بمعنى الكتابة.
وقال آخرون إن معنى الرمز الذي قصد به
في الآية هو تحريك الشفتين كما في رواية عن مجاهد وغيره .
وقد استحسن الفخر الرازي هذا الوجه
وفَضّله على غيره من الوجوه
________________
فقال : إنه أوْلى
وسبب ذلك ( أن الإشارة بالشفتين يمكن وقوعها بحيث تكون حركات الشفتين وقت الرمز مطابقة لحركاتهما عند النطق فيكون الاستدلال بتلك الحركات على المعاني الذهنية أسهل ) .
ولكن هذا التعليل بسهولة تطابق حركات
الشفتين مع حركات النطق يمكن توافر ما هو أسهل منه لو اخترنا معنى الإشارة بأن زكريا عليهالسلام أشار إليهم بيديه إذ يكفي أن يرفع يديه بالدعاء إلى السماء مشيراً إليهم ليفعلوا مثل ذلك فيفهم أن المراد : سبحوا الله وادعوه ، والملاحظ أن كل الوجوه السابقة في تفسير معنى وحي زكريا عليهالسلام
لقومه بكلامه رمزاً إنّما تدور في إطار المعاني اللغوية للوحي وكَأنّ في ذلك إشارة إلى حقيقة أن ما يكون مصدره غير الله من الوحي لا يتعدّى إطار المعاني اللغوية لايتجاوزها إلى ما تحمله المعاني الاصطلاحية للوحي المختص بما يلقيه تعالى إلى أنبيائه.
والمختار من المعاني المتقدّمة ما تقدّم
برواية العيّاشي عن الصادق عليهالسلام
، أي : كان زكريا عليهالسلام
يشير برأسه.
وهو ما أكّده ابن دريد فقال : ( الوحي
من الله ـ عزّ وجلّ ثناؤه ـ نبأ وإلهام ، ومن الناس إشارة ) .
ب ـ وحي شياطين الإنس
:
قال تعالى : (
وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ
وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا .. ) .
فالآية تقسم من يوحي
________________
من الشياطين على
قسمين :
١ ـ
شياطين الجن وقد سبق بحث ذلك في الفصل الثاني من هذا الباب.
٢ ـ
شياطين الإنس.
فالآية تشير إلى أن من الإنس من يوحي
بعضهم إلى بعض وهم شياطين الإنس.
وفي رسالة الإمام الصادق عليهالسلام إلى شيعته : « ..
فإن من لم يجعل الله من أهل صفة الحق فأولئك هم شياطين الإنس والجنّ ، وإن لشياطين الإنس حيلة ومكراً وخدائع ووسوسة بعضهم إلى بعض ، يريدون إن استطاعوا أن يردّوا أهل الحق عما أكرمهم الله به من النظر [ النصرة ] في دين الله الذي لم يجعل الله شياطين الإنس من أهله .. » .
وقد أكّد المفسرون صدور نسبة الوحي إلى
الإنس في ذلك عن دلالة ظاهر الآية ، ففي تفسيره لقوله تعالى : (
وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ .. )
.
فالمراد بالشياطين هنا هم شياطين الإنس
، من مردة الكفّار أو اليهود ونحوهم .
ولايمنع هذا من دخول علماء السوء ، ورؤساء
الضلالة بصدّهم الناس عن طريق الحقّ في جملة شياطين الإنس الذين ورد التحذير من وساوسهم لعنهم الله .
والوحي المنسوب إلى شياطين الإنس بعضهم
إلى بعض لا ينطبع
________________
بطابع الإسرار ، كما
ذهب إليه بعضهم ، قال أبو عبيدة في الآية : ( شَيَاطِينَ الْإِنسِ
وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ .. )
إنّ هذا الوحي وحي إسرار ، والصحيح ما ذكره
الشيخ الطبرسي في تفسيره الآية ، وهو أن شيطان الجن يوسوس في خفاء ، وهو لا يُرى وأما شيطان الإنس « يأتي علانية ويُرِي أنه ينصح وقصده الشر » .
ثانياً ـ الوحي الملائكي :
تدل العديد من الآيات الكريمة على وساطة
الملائكة بين الله تعالى وأنبيائه ، وحملهم مسؤولية تبليغ الرسالات إلى الأنبياء عليهمالسلام ، أو إبلاغهم بالبشارات أو النّذر الصادرة إلى أممهم ، أو تحذيرهم بنزول العقاب على تلك الأمم ، أو تبليغ الله تعالى لبعض عباده باختيارهم واصطفائهم أو لطفه بهم وتصبيره لهم على ما ينالون ، وما تحمله هذه البلاغات من دلالات على وجود محاورات وتبادل للكلام ، فقد عُبِّر عن ذلك كله بصيغ عديدة ، منها ما هو مع الأنبياء عليهمالسلام
، ومنها ما هو مع غيرهم ، ومن ذلك التبشير بالمنن والنعم الإلهية كتبشير إبراهيم عليهالسلام
، وزكريا عليهالسلام
بالولد بعد الكبر قال تعالى : ( قَالُوا لَا
تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ )
، وقال تعالى : ( فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ
يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا .. )
، وقال تعالى : (
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ
________________
بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ) .
والنزول على الأنبياء بالوحي والتبيلغ
عن الله ، قال تعالى : (
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
... )
.
والاصطفاء للرسالة والوساطة بينه وبين
أنبيائه قال تعالى : (
جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا )
، (
اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا ) .
ولا شك أن الوحي الخفي كان قاسماً
مشتركاً في أكثر حالات التخاطب الموصوفة في القرآن بين الملائكة والأنبياء عليهمالسلام
أو غيرهم من البشر المخاطبين كَأُمِّ موسى عليهاالسلام
ومريم والحواريين .. إلخ ، ولكن هذه الحالات لم يُعَبِّر عنها القرآن الكريم بصيغة الوحي دائماً وإنّما كان يعبر عنها ـ كما مر ـ بالقول والمناداة والإنزال والبشارة .. إلخ.
ولم يرد ذكر الوحي منسوباً إلى الملائكة
وصادراً عنهم إلّا في ما يلي :
١ ـ
آية الشورى المبينة لطرق تكليمه تعالى ، فكان الوحي بوساطتهم أحد تلك الطرق. قال تعالى : (
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ .. ) .
والترديد الحاصل في وجوه تكليم الله تعالى
لعباده من البشر يدلُّ على أنّ هذا البشر المقصود في الآية ( يسمع كلام الملك وحياً وهو يحكي كلام
________________
الله ) .
وخلاصة ما نستفيده من ظاهر الآية هو
وساطة الملك في التلقّي عنه تعالى ما يشاء إبلاغه إلى عباده ، فيقوم هذا الملك بوحي ما أمِر به ناقلاً كلام الله
تعالى ، وهذه الطريقة في الوحي هي أشهر وجوه الوحي الإلٰهي وأكثرها وروداً في القرآن الكريم بل إن القرآن الكريم نفسه أوحِيَ بهذه الطريقة ، قال تعالى : ( نَزَلَ بِهِ
الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ) .
وعلى هذا فطريقة قيام الملك بتبليغ ما
أمره الله تعالى به بما يظهر كونه مصدراً ينسب إليه قيامه بعملية الوحي ، أما ما تدل عليه الآية من دلالات أخرى وأهمها أن تكون هذه الطريقة من وساطة الملائكة هي أحد وجوه الوحي الإلٰهي المتعددة فستكون للبحث معها وقفة في المباحث التالية ضمن مواضيع صور وأشكال الوحي النبوي والمحمدي.
٢ ـ
قال تعالى في سورة النجم : (
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ *
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ * فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ ) .
وقد اختلف المفسرون في الفاعل المقصود بالفعل أوحى الأولى فقال بعضهم : إن الفاعل هو الله أوحى إلى عبده محمد صلىاللهعليهوآله
أو جبريل ، ومن هؤلاء ابن عباس والربيع والحسن وقتادة .
عن ابن عباس قال : ... عبده محمد صلىاللهعليهوآله
________________
وعن الربيع ... قال : ... على لسان
جبريل .
وعن قتادة والحسن أنهما قالا أوحى إلى
عبده : جبريل .
وقال آخرون : إن فاعل أوحى الأولى في
الآية هو جبريل عليهالسلام
، فالمعنى أوحى جبريل إلى عبده محمد صلىاللهعليهوآله
ما أوحى.
وقد نقل الطبري في تفسيره الآية عن ابن
زيد وغيره هذا الوجه فيها ، واعتبره أولى الأقوال بالصواب ، وقد استدل على ذلك بدلالة افتتاح السورة بالخبر عن جبريل عليهالسلام
والرسول محمد صلىاللهعليهوآله
، وقد جاء قوله تعالى : (
فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ ) في سياق ذلك ، ولم يأت ما يدل على
انصراف الخبر عنهما لكي يوجه ذلك إلى ما صرف إليه .
وأشار الزمخشري إلى أن المقصود بفاعل
أوحى هو جبريل عليهالسلام
، ولكنه أكد أن الضمير في عبده يعود إلى الله تعالى وإن لم يجر لاسمه ذكر لأنّه لا يَلبِس .
وللآية عند الفخر الرازي وجهان محتملان
في فاعل أوحى :
أحدهما :
أوحى الله تعالى إلى محمد صلىاللهعليهوآله
ما أوحاه إلى جبريل.
ثانيهما :
أوحى إلى جبريل ما أوحى إلى محمد صلىاللهعليهوآله
دليله الذي به يعرف أنه وحي .
والوجه الأوّل هو الصحيح ، ويدل عليه ـ
زيادة على ما سيأتي في صفة
________________
الوحي المحمدي ـ ما
رواه الصفّار في الصحيح عن عبد الصمد بن بشير قال : « ذكر عند أبي عبد الله عليهالسلام
بدو الأذان وقصة الأذان في إسراء النبي صلىاللهعليهوآله
حتىٰ انتهىٰ إلى السدرة ، فقالت سدرة المنتهىٰ : ما جاوزني
مخلوق قبلك ، قال : ثم دنىٰ فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى قال : فدفع إليه كتاب أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ـ إلى أن قال ـ فلما فرغ من مناجاة ربّه رُدّ إلى البيت المعمور ثمّ قصّ قصّة البيت والصلوات فيه ثمّ نزل ومعه الصحيفتان فدفعهما إلى علي بن أبي طالب عليهما السّلام » .
وفي حديث أبي بصير عن الصادق عليهالسلام بعدما سأله عن الآية
فقال عليهالسلام
في حديثه : « .. فقال الله تبارك وتعالى : يا محمد ، قال : لبيك ربّي ، قال : من
لأُمتك من بعدك ؟ فقال : الله أعلم ، قال : علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وسيد المسلمين وقائد الغرّ المحجّلين.
قال : ثم قال أبو عبد الله عليهالسلام : يا
أبا محمد والله ما جاءت ولاية عليّ عليهالسلام
من الأرض ولكن جاءت من السماء »
وغيرها من الأحاديث
الكثيرة الأُخرى التي لا تدع مجالاً للشك في أن من أوحى هو الله عزّوجلّ وأن الموحَى إليه في سورة النجم هو الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله
وبلا واسطة.
ثالثاً ـ وحي مظاهر الطبيعة :
ينطلق المفسرون في إثباتهم أن من الوحي
ما هو منسوب إلى بعض مظاهر الطبيعة من آية الشورى التي بيَّنت طرق تكليمه تعالى للبشر ، وما
________________
اعتمدوه من تلك الطرق
هو ما ورد في قوله تعالى منها : (
أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ )
، واتّفقوا أنه
تعالى كَلَّم عباده من وراء حجاب فيما قصه من تكليمه موسى عليهالسلام
في طور سيناء ، وقد فهم المفسرون الحجاب على أنه النار التي تجلى منها تعالى ، أو الشجرة التي سمع موسى الكلام من جهتها. إذ قال تعالى : ( فَلَمَّا
قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ
نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ
أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي
الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) .
ونسبة الكلام ( الوحي ) إلى الشجرة أو
النار بكونهما حجابا احتجب تعالى به عن عبده قول يستبعد أية إشارة أو فهم خاطئ يوحي بالحلول أو التجسيم أو تحيُّزه تعالى في مكان ، فليس المقصود بوجود الحجاب أنه حجاب له تعالى ، أو لمحلِّ كلامه أو لمن كلَّمه ، ويرى الشريف المرتضى أن ما أريد بالحجاب في الآية ( أنه تعالى ربما يفعل كلاما في جسم محتجب عن المكلم غير معلوم على سبيل التفصيل ، فيسمع المخاطب الكلام ولا يعرف محله على طريق التفصيل ) .
ويؤكد الشيخ الطوسي هذا المعنى وأن
الكلام فُعِلَ في الشجرة ، وهذا وجه كونها حجاباً ولذلك قيل : إن الكلام والنداء سمعه موسى عليهالسلام من ناحية الشجرة ، واستُبعدَ أي احتمال للتجسيم ، فليس المقصود أنه تعالى كان
________________
في الشجرة ، لأنّه لا
يحويه مكان ولا يَحِلّ في جسم فتعالى الله عن ذلك .
ويتفق الزمخشري مع المرتضى ، والشيخ
الطوسي في فهمهما للحجاب الذي يكلم العبد من ورائه ، فالحجاب ـ الذي كان في حالة تكليم موسى عليهالسلام هو الشجرة ـ كان بديلاً عن أية واسطة بين الله تعالى وعبده ، فكان وجود الحجاب استبعاداً للواسطة في التكليم من خلال جعله تكليماً مباشراً يسمع العبد فيه الكلام ويعيه.
وهذا الكلام يخلقه تعالى في بعض الأجرام
فيسمعه المُكَلَّم دون أن ينظر إلى المُكَلِّم ، وكان تكليمه تعالى لموسى من ذلك النوع إذ كلَّمه ( من غير واسطة كما يُكلَّم الملك ، وتكليمه أن يخلق الكلام منطوقاً به في بعض الأجرام كما خلقه محفوظاً في اللَّوح ) .
وقد استنكر السيد محمد حسين الطباطبائي
قول من قال بأن الشجرة كانت محلاً للكلام بدلالة أن الكلام عَرَض يحتاج إلى محلِّ يقوم به ، فالشجرة رغم أنها كانت مبدأ للتكليم والنداء إلّا أن الكلام كان كلامه تعالى ، وهو [ أي الكلام ] ( لم يكن قائماً بها كقيام الكلام بالمتكلم منا ، فلم تكن إلّا حجاباً احتجب سبحانه به فكلّمه من ورائه بما يليق بساحة قدسه ) .
وهذا الفهم لكون الشجرة حجابا ينطبق
أيضا على ما قال به مفسرون آخرون من نسبة الوحي إلى النار مستدلين بقوله تعالى : (
فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ
________________
أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ
حَوْلَهَا .. )
.
فقد قيل فيما روي عن ابن عباس ، وقتادة
، وسعيد بن جبير ، والحسن أنه تعالى ظهر لموسى بآياته وكلامه من النار .
جدير بالذكر أنه في حديث المفضل ، عن
الإمام الصادق عليهالسلام
، وحديث مخرمة بن ربعي ، عن الإمام الصادق عليهالسلام
أيضاً ، انّ ( البقعة المباركة ) هي كربلاء ، ومثلهما حديث أُمّ سلمة ، عن رسول الله صلىاللهعليهوآله .
________________
الباب الثاني
الوحي مِنْ حَيث المتلقِّي
توطئة :
يرد ذكر الوحي في القرآن الكريم على أنه
يلقى ـ إلى عدة أنواع من المتلقين تجمعها ثلاثة محاور رئيسية تتمثل بـ : ـ
١ ـ
الوحي إلى الأنبياء والرسل عليهمالسلام.
٢ ـ
الوحي إلى الملائكة.
٣ ـ
الوحي إلى الموجودات الأخرى ويدخل ضمنه :
|
أ ـ البشر العاديون.
ب ـ الحيوانات.
ج ـ الجمادات.
|
من هنا فإنّ هذا الباب سيعتمد هذه
التقسيمات في عرض فصوله.
ولتميز الوحي إلى الرسول محمد صلىاللهعليهوآله وخصوصيته من بين
عموم الوحي الإلٰهي بما يتضمنه من استجماعه لكل صور الوحي ، واتحاد معجزته ووحيه في القرآن الكريم ، وعموم شريعته صلىاللهعليهوآله
للعاملين كافة ، وغيرها من وجوه اختصاصه ، فقد أفردنا له فصلاً خاصّاً به ، ومن هنا كانت لدينا ـ في هذا
الباب ـ ثلاثة فصول ،
وهي :
الفصل الأوّل :
الوحي النبوي العام.
الفصل الثاني :
الوحي المحمدي.
الفصل الثالث :
الوحي إلى الموجودات الأخرى.
الفصل الأوّل
الوحي النبويّ العام
الوحي إلى الأنبياء والرسل عليهمالسلام
قبل الخوض في تفاصيل الوحي إلى الأنبياء
ـ وسيصطلح عليه في أثناء البحث بالوحي النبوي ـ لابدَّ من التعرض باختصار للمعاني اللغوية للنبي والرسول وما يتبعه من بيان الفرق بينهما باختلاف الآراء.
أوّلاً ـ معنى النبي والرسول لغة واصطلاحاً :
١ ـ المعنى اللغوي :
أ ـ النبي :
قيل : إن أصله في العربية بالهمز : نَبِيء ، ولا يشترط في النبيء أن يكون نبيّاً ، إذ يطلق النبيء على مدّعي النبوة كذباً ، وهو إمّا من الإنباء ، وهو
الإخبار المفيد لما له شأن مهم
وإمّا من النَبْوة والنَبَاوَة وهي : الارتفاع ، فسمّي نبيّاً لرفعة محلِّه عن سائر الناس .
وقال القاضي المعتزلي عبد الجبّار بن
أحمد ( ت / ٤١٥ هـ ، ١٠٢٤م ) : وإذا كان مهموزاً فهو من الإنباء والإخبار .
________________
والنبيّ بالتشديد قراءة الجميع وهو أبلغ
من النبيء بالهمز ، لأنّه ليس كلّ منبَّأ فهو نبيّ ، ويبدو أنّ الاستعمال اللغوي للمهموز يميل إلى الاختصاص بالمدّعين للنبوة والمتنبئين بالغيب ، ولقولهم « مسيلمة نبيء سوء » شيء من الدلالة على ذلك.
ويدلّ خبر حمران بن أعين على اختصاص
النبيء بمدّعي النبوة ، فقد روى حمزة الزيات أحد القراء المشهورين ، عن حمران بن أعين قال : « جاء رجل إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله
فقال : السلام عليك يا نبي الله فهمز ، فقال النبيّ صلىاللهعليهوآله
: لست
بنبيء الله ولكنّي نبيّ الله »
.
ب ـ الرسول :
على وزن فعول بمعنى مفعول أي مُرسَل ، فرسول الله : الذي أرسله الله
فهو لفظ متعدٍّ ، فلابدَّ فيه من مُرسِلٌ ومُرسَلٌ إليه ، وجمعه رسل ، ورسل الله تعالى نوعان :
فمرّة يُراد بها الملائكة ، كقوله تعالى
: ( .. إِنَّا رُسُلُ
رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ .. )
، وقوله تعالى : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ
رَسُولٍ كَرِيمٍ )
، ومرّة يراد بها
الأنبياء ( الرسل ) من البشر كقوله تعالى : (
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ )
، وقوله تعالى : ( مَّا يُقَالُ لَكَ
________________
إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن
قَبْلِكَ ... )
، فالرسول هو الذي
أرسله الله إلّا أنّه حين الإطلاق لا يحمل إلّا على رسول الله محمد صلىاللهعليهوآله
.
٢ ـ المعنى الاصطلاحي
:
أمّا في الاصطلاح فقد اختلفوا في الفرق
بين الرسول والنبي على قولين ، وهما :
أحدهما :
عدم الفرق بينهما.
وهو ما اختاره القاضي عبد الجبار
المعتزلي
، ونقل الفخر الرازي اتّفاق عموم المعتزلة على ذلك
، وسيأتي أن بعض أقطاب المعتزلة المتأخرين ممن قال بالقول الآخر.
والآخر :
إثبات الفرق بينهما :
واختلفوا هنا في تسمية الفرق على ثلاثة
أقوال ، وهي :
أ ـ
إن كل من نزل عليه الوحي من الله تعالى على لسان ملك من الملائكة وكان مؤيّداً بنوع من الكرامات الناقضة للعادات فهو نبي ، ومن حصلت له هذه الصفة ، وخص ـ إضافة إليها ـ بشرع جديد أو بنسخ بعض أحكام شريعة كانت قبله فهو رسول ، وهذا هو قول العامة .
ب ـ
إنّ الرسول هو من كان يجمع إلى المعجزات الكتاب المنزل عليه ،
________________
والنبي هو من لم ينزل
عليه كتاب ، وإنما أُمِر بدعوة الناس إلى شريعة من قبله ، وهو ما ذهب إليه الزمخشري المعتزلي .
ووافقه عليه محمد بن أبي بكر الرازي .
ج ـ
وقالت الإمامية بالفرق بين الرسول والنبي على أساس آخر غير ما ذُكر وأصله الاعتماد على الطريقة التي يُتلقى بها وحي الله عزّوجلّ ، وهذا القول مأخوذ عن أهل البيت عليهمالسلام
بروايات كثيرة ، نذكر بعضها اختصاراً.
عن زرارة ، عن الإمام الصادق عليهالسلام في حديث جاء فيه : «
.. الرسول الذي يأتيه جبرئيل قبلاً فيكلمه ، فيراه كما يرى الرجل صاحبه ، وأما النبي فهو الذي يؤتى في منامه نحو رؤيا إبراهيم عليهالسلام
ونحو ما كان يرى محمد صلىاللهعليهوآله
، ومنهم من يجتمع له الرسالة والنبوة ، وكان محمد صلىاللهعليهوآله
ممن جمعت له الرسالة والنبوة »
.
وعن بريد العجلي ، عن الإمام الباقر عليهالسلام : «
الرسول تأتيه الملائكة ظاهرين وتبلغه الأمر والنهي عن الله تعالى ، والنبي الذي يوحى إليه في منامه ليلاً أو نهاراً ، فما رأى فهو كما رأى.. »
.
وهناك روايات أخرى كلها بهذا المعنى
كروايتي زرارة عن الإمام الباقر عليهالسلام
ورواية الحسن بن
العباس بن معروف عن الإمـام
________________
الرضا عليهالسلام
وغيرها كثير .
قال الشيخ المفيد : « واتفقت الإمامية
على أن كل رسول فهو نبي ، وليس كل نبي رسولاً ، وقد كان من أنبياء الله عزّوجلّ حفظة لشرائع الرسل وخلفائهم في المقام » .
ويؤكّد السيد الطباطبائي الفرق بين
الرسول والنبي مستدلّاً بالروايات السابقة إلّا أنه يعارض الآراء التي فرقت بينهما من حيث الأمر بالتبليغ أو اتِّباع
الشريعة السابقة أو الاستقلال بشريعة ، وذلك لأنّه ثبت ( أن الشرائع الإلهية لا تزيد على خمس هي شرائع : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسىٰ ، ومحمد صلّى الله عليه وآله ، وقد صرّح القرآن برسالات جمع كثير من غير هؤلاء .. )
ويقرر أن وجه الاختلاف بينهما متمثل في أن ( للرسول شرف الوساطة بين الله سبحانه وبين خلقه فهو مرسل برسالة خاصة زائدة على أصل النبوة ، وللنبي شرف العلم بالله وبما عنده ، فهو قد بعث لينبئ الناس بما عنده من الغيب ) .
ومن هنا يتبين بطلان قول الحشوية
والمعتزلة في بيانهم نوع الفرق ، فضلاً عن بطلان القول بعدم الفرق بين المصطلحين ، لتوافر الدلائل المتعددة في
________________
الكتاب الكريم على
وجود التفاضل والاختلاف بين المرتبتين ، كما أن دلائل عديدة تشير إلى الاختلاف من وجوه متعددة من ضمنها عموم شريعة الرسول وخصوص نبوة النبي ، ومن ضمنها أيضاً أن الرسول من له شرع خاص به مستقل عمن سبقه أو مكمِّل له. والنبي قد لا يأتي بشرع جديد أصلاً بل يتبع شريعة من قبله كأنبياء بني إسرائيل ، كما أن التبليغ وعدمه يشكلان فرقاً آخراً مهماً بين المرتبتين. ومما يستدل به على هذا التفريق ، وثبوته ما رواه عبد الرحمن بن كثير الهجري ، عن إمامنا الباقر عليهالسلام
في أن عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي ، خمسة منهم أولو العزم
، وما رواه أبو ذر الغفاري رضياللهعنه
، عن رسول الله صلىاللهعليهوآله
، قال : « .. قلت : يا رسول الله كم النبيون ؟ قال : «
مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي
، قلت : كم المرسلون منهم ؟ قال صلىاللهعليهوآله
: ثلاثمائة
وثلاثة عشر جمّاء غفيراء »
.
وهذه الوجوه وغيرها من اعتبارات أخرى ، مما
يتميز بها بعض الأنبياء دون بعض كما يتميز بها بعض الرسل دون سائر الأنبياء عليهمالسلام.
والتفاضل بين الأنبياء أمر أيدته الآيات
الكريمة في ظواهرها كما دلّت عليه آيات أخرى بصورة غير مباشرة ، قال تعالى : (
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ .. )
.
________________
واستجماعاً لصورة هذا التفاضل نجده
ظاهراً من حيث عدة اعتبارات :
فإننا نجد تفاضلاً باعتبار طريقة الوحي
كأفضلية موسى عليهالسلام
باختصاصه بالتكليم المباشر من وراء حجاب ، قال تعالى : (
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ )
، وقال تعالى : ( ... وَكَلَّمَ اللهُ
مُوسَىٰ تَكْلِيمًا )
، وأفضلية الرسول صلىاللهعليهوآله بالتكليم المباشر
دون حجاب وذلك في قوله تعالى : ( فَأَوْحَىٰ
إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ ) .
وهناك التفاضل باعتبار عموم الرسالة
والشريعة ففضل محمد صلىاللهعليهوآله
بالرسالة إلى عموم البشر ، قال تعالى : (
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا .. )
، وأرسل أغلب
الأنبياء عليهمالسلام
إلى أممهم خاصة أو شعوبهم أو مدنهم ، قال تعالى : (
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا .. )
، ( كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ )
.
ومنها التفاضل من حيث الإتيان بالتشريع
، فمن الرسل من يأتي بشريعة جديدة متكاملة تنسخ شريعة من قبله أو تكملها كموسى وعيسىٰ ومحمد صلىاللهعليهوآله الذي جاء بخاتمة الشرائع وأكملها ، ومنهم من لا يأتي بشريعة بل يتبع شريعة
________________
من سبقه أو كان في
عصره ، وهذا كسائر الأنبياء عليهمالسلام
مثل لوط الذي كان في عهد إبراهيم عليهالسلام.
وهكذا يفترقون من حيث هذا الاعتبار فإنّ منهم من شرع ، ومنهم من لم يشرع .
ومنها أيضاً التفاضل من حيث المعجزات
والكرامات المصاحبة للاصطفاء والنبوة ، فمنهم من انفرد بمعجزة واحدة على قدر ما يستوعبه عصره من وجوه خرق القوانين والعادات الطبيعية تكون وقتية محدّدة باستمرار نبوته كموسى وعيسىٰ عليهماالسلام
، ومنهم من كانت معجزته مستمرة وباقية حتى بعد نبوته كمعجزة نبيّنا صلىاللهعليهوآله
الخالدة إلى يوم القيامة وهي القرآن الكريم.
من مجمل هذه الوجوه في التفاضل وغيرها
نستشف أن النبوة في ذاتها مرتبة واحدة مستوية ، وخصلة مشتركة في جميع هؤلاء البشر المخصوصين. فالنبوة هي فضيلة الجميع ، وأنهم إنّما يتفاوتون في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات المتباينة ، وهذا ما دل عليه ظاهر آية التفضيل نفسها فقد جاء الخصوص فيها بقوله تعالى : (
مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ )
وقال تعالى : ( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ
دَرَجَاتٍ ).
فالآية نبّهت أولاً إلى أنهم مشتركون جميعاً في مرتبة الإرسال بالنبوة ثم خصّ بعضهم بالتكليم والرفع درجات :
فإذا كان موسى كلّم فإنّ الأنبياء جميعا
كلّموا أيضاً إلّا أنّ موسى خصَّ من
________________
بينهم بالكلام من
وراء حجاب ، وكلّم الآخرون بالوحي إلهاما أو بواسطة الرسول الملكي.
وأمّا الرفع درجات فقد ذهب المفسرون إلى
أنّها مرتبة مخصوصة بنبيّنا صلىاللهعليهوآله
إذ رفعه الله تعالى بذلك على سائر الأنبياء والرسل فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم بدرجات كثيرة لما اختصّه تعالى بمعاجز كثيرة تسع عدّة مجلّدات فضلاً عن معجزته صلىاللهعليهوآله
الخالدة إلى يوم القيامة وهي القرآن الكريم.
من خلال هذا الافتراق بين الرسل
والأنبياء نستشفّ أنّ في القرآن تفريقاً بين طائفين من الأنبياء عليهمالسلام
هما :
١ ـ الأنبياء عموماً ممن بعث إلى الأُمم
والشعوب والبلدان والقبائل.. إلخ :
وهؤلاء غالبية الأنبياء عليهمالسلام إذ اختصت نبواتهم
بحدود تلك الأُمم والشعوب وقد عدّوا بعشرات الآلاف وهو مدلول ما تقدّم برواية عبد الرحمن ابن كثير الهجري ورواية أبي ذرّ الغفاري ، ولا شكّ أنّ القرآن الكريم لم يرد فيه ذكر لمثل هذا العدد الهائل أو تحديد حتّى لما يقرب منه ، إلّا أنّه من السهل تصوّر مثل هذا العدد إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أمرين تقرّهما الآيات :
أوّلهما :
أنّه ما من أُمّة إلّا ولها رسول يدعوها إلى شريعته تعالى ، قال تعالى : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ
رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ .. )
.
________________
ثانيهما :
أنّ القرآن صرَّح أنّ من الأنبياء من لم يرد ذكره وقصصه فيه ، قال تعالى : ( وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم
مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ )
.
٢ ـ الرسل ذوو الشرائع الكبرى :
وهؤلاء تميَّزوا عن سائر الأنبياء عليهمالسلام بأنّ لكلّ منهم
شريعة إلهيّة عامّة بعث بها فتعدّت رسالته حدود أُمّته وزمانه ، ومن المفسّرين من يرى اختصاص هؤلاء بوصفه تعالى بـ ( الرسل أولي العزم ) ، إذ قال تعالى : (
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ .. ) .
ومن ذهب إلى اختصاصهم بهذا الوصف دون
غيرهم استدلّ بأنَّ ( من ) في الآية جاءت للتبعيض ، وقد اختلفوا في عددهم فقيل خمسة ، وقيل ستة ، وقيل تسعة واثني عشر وثمانية عشر .
وهناك رأي آخر قال : بأن المقصود بأولي
العزم هم الأنبياء جميعاً فلم يبعث الله رسولاً إلّا إذا كان ذا عزم وحزم .. وأولو ( من ) هنا بأنها جاءت للتبيين ، وليست للتبعيض ، ومن هؤلاء المفسرين ابن عباس .
والصحيح في هذا ما ورد عن أهل البيت عليهمالسلام كما تقدّم برواية عبد الرحمن بن كثير الهجري من أن أُولي العزم خمسة ، وكذلك رواية سماعة ابن مهران قال : « قلت لأبي عبد الله عليهالسلام
: قول الله ( فَاصْبِرْ كَمَا
صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ
________________
مِنَ الرُّسُلِ ) ؟ قال : نوح ، وإبراهيم ، وموسىٰ
، وعيسىٰ ومحمد صلى الله عليه وآله وعلى جميع أنبيائه ورسله.
قلت : كيف صاروا أُولي العزم ؟ قال : لأن نوحاً بعث بكتاب وشريعة فكل من جاء بعد نوح عليهالسلام أخذ بكتابه وشريعته ومنهاجه ، حتىٰ جاء إبراهيم عليهالسلام
بالصحف وبعزيمة ترك كتاب نوح لا كفراً به ، وكل نبي جاء بعد إبراهيم جاء بشريعة إبراهيم ومنهاجه بالصحف ، حتّىٰ جاء موسى عليهالسلام
بالتوراة وشريعته ومنهاجه وبعزيمة ترك الصحف فكل نبي جاء بعد موسى أخذ بالتوراة وشريعته ومنهاجه ، حتىٰ جاء المسيح عليهالسلام بالإنجيل وبعزيمة ترك شريعة موسى ومنهاجه ، حتّىٰ جاء محمد صلّى الله عليه وآله فجاء بالقرآن وشريعته ومنهاجه ، فحلاله حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، فهؤلاء أولو العزم من الرسل »
.
وفي حديث ابن أبي يعفور ، عن الإمام
الصادق عليهالسلام
: «
سادة النبيّين والمرسلين خمسة وهم أولو العزم من الرسل وعليهم دارت الرحا : نوح وإبراهيم وموسىٰ وعيسىٰ ومحمد صلىاللهعليهوآله وعلى جميع الأنبياء »
.
ويؤيّد ذلك بقوّة ويعاضده ان لكلّ من
هؤلاء الخمسة عليهمالسلام
خصوصية بين سائر الأنبياء عليهمالسلام
من جميع وجوه التفاضل السابق ذكرها. فنوح عليهالسلام
هو صاحب أوّل شريعة متكاملة على الأرض ، وإبراهيم هو أبو الأنبياء عليهمالسلام ، ومن شريعته ظهرت ملامح أصول الشرائع السماوية بعده ، وموسى وعيسىٰ
________________
ومحمد صلىاللهعليهوآله هم أصحاب الديانات
السماوية الثلاثة الكبرى وهي أسس التشريع الذي تدين به معظم البشرية اليوم.
وقد عبَّر القرآن الكريم عن الوسائل
التي ورد فيها التشريع المنسوب إلى الأنبياء بعدة صيغ ، منها :
أوّلاً ـ الكتب :
وقد نسبت في القرآن الكريم إلى عدة أنبياء وذكرت بأسمائها أحياناً كالتوراة والإنجيل والزبور ، وعم ذكرها أحيانا أخرى بالكتب وهؤلاء الأنبياء هم :
أ ـ
نوح عليهالسلام
وهو أول من جاء بكتاب كما تقدّم برواية سماعة بن مهران عن أبي عبد الله الصادق عليهالسلام
آنفاً ولها شاهد من القرآن الكريم قال تعالى : ( كَانَ النَّاسُ
أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ
وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ )
.
ب ـ
إبراهيم عليهالسلام
قال تعالى : ( .. فَقَدْ آتَيْنَا
آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ .. )
.
ج ـ
داود عليهالسلام
نسب إليه الزبور ، قال تعالى : (
وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا )
.
د ـ
موسى عليهالسلام
وقد وردت نسبة الكتاب له في نحو من عشر آيات
، وكتابه هو التوراة الذي خص بالذكر أيضاً في آيات عدة
، ومنها قوله تعالى :
________________
(
إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ .. ) .
هـ ـ
عيسى عليهالسلام
حيث نسب الكتاب إليه في آيات عديدة
، من ذلك قوله تعالى : ( .. إِنِّي عَبْدُ
اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا )
، وكتابه هو الإنجيل الذي ورد ذكره في القرآن الكريم كما في قوله تعالى : (
.. وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ .. )
.
و ـ
الرسول محمد صلىاللهعليهوآله
وقد عبر عن كتابه بعدة صيغ :
كالكتاب : قال تعالى : (
إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ )
، وقد ورد ذكره بهذه
الصيغة في عشرات الآيات ، والفرقان : قال تعالى : ( تَبَارَكَ الَّذِي
نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا )
، والقرآن : قال تعالى
: ( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ
سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ )
.
ثانياً ـ الصحف :
وقد نسبت إلى إبراهيم وموسى عليهماالسلام
، وذلك في قوله تعالى : ( صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَىٰ )
. ونسبت إلى نبينا صلىاللهعليهوآله بقوله تعالى :
________________
(
رَسُولٌ مِّنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً ) .
ثالثاً ـ الألواح :
وهي ما أُوتيه موسى عليهالسلام
وتضمنت الشرائع مفصلة ، وهي نفسها التوراة كتاب موسى عليهالسلام
حيث أعطاه إياه تعالى على شكل ألواح على الطور ، قال تعالى : (
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا .. )
.
رابعاً ـ البينات :
وقد نسبت إلى الرسل عموماً كما نسبت إلى بعضهم بالإسم ، قال تعالى : (
جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ )
، وقال تعالى : (
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقَانِ ) .
ثانياً ـ خصائص النفس النبوية ( المتلقية
للوحي ) :
من خلال ما تم بحثه في الاصطفاء فيمن
يظهره تعالى على غيبه نتلمس في النفس النبوية المصطفاة لتلقي الوحي قدرات وخصائص تميزها ـ بعد تلبسها بصفة النبوة ـ عن سائر النفوس البشرية.
فالنفس النبوية لكي تكون لها ملكة
الاتصال بعالم غريب عن عالمها وهو الأفق الأعلى لتستمد منه الوحي لابدَّ لها من استعداد فطري محض ليس للكسب فيه أثر بحيث تكون في ذروة الإنسانية ، قادرة على احتمال انكشاف
________________
حجاب هذا العالم
الغريب حيث : ( تشهد من أمر الله شهود العيان ما لم يصل غيرها إلى تعقله أو تحسسه بعصي الدليل والبرهان ) .
ومن خلال فهمنا لخصوصية اصطفاء من
يختاره تعالى لإطلاعه على الغيب يتبيَّن لنا بوضوح أن النبي لايمكنه إقامة نبوة بوظيفتها في الهداية وطريقها بالإنذار بما تأتي به إلّا بتوافر ثلاث خصائص تتميز بها الروح النبوية عن سائر الأرواح وهي
:
١ ـ
أنها تتصرف في الطبيعة وأنظمتها الخفية بالمعجزة التي تكون الطاقة التي تقوم بها فوق حدود القوى والطاقات البشرية.
٢ ـ
أنها تمتلك ملكة العصمة.
٣ ـ
أنها ترتبط بعالم الغيب .. إذ هو المادة الأولى لكيان النبوة حيث تتوقّف عليه المادتان السابقتان ، ولأنّ الاتصال به روح المعجزة وحياة العصمة.
وعلى هذا النبي أن يمتلك تنبهاً خاصاً
يؤهله لوظيفة الإرشاد بدلالة الوحي وهذا التنبه ( لا يكون إلّا فيمن بلغ الغاية في الصفاء والاستقامة ، وهو نادر يتحقق في الأوحدي من الناس ) .
وبهذا التنبه الخاص يدرك النبي ـ بواسطة
قوى ربانية اصطفي لمنحها إيّاه ـ ( الأوامر الإلهية والدستور الغيبي غير المحسوس بالعقل أو
________________
الحواس وهذه الحالة
هي من حالات النبوة وبها يتلقّى النبيّ الشريعة الإلهيّة ) .
وتميّز النبي خصيصة أخرى يختلف بها عن
سائر البشر ، إذ الإنسان في حالة الاتصال بعالم الغيب لابد له من الخروج عن القيود التي تربطه بعالمه المحدود المادي ، أما النبي فهو لا يحتاج إلى الخروج من عالم الجسد المادي إلى عالم الروح الغيبي من أجل إدراك الغيب والإطلاع عليه من خلال تلقي الوحي .
ويحدد الفخر الرازي الخصائص المميزة
لقوى النبي بثلاث :
أحدها :
في قوته العاقلة وهو أن يكون كثير المقدمات ، سريع الانتقال منها إلى المطالب من غير غلط يقع له فيها.
ثانيها :
في قوته المتخيلة وهو أن يرى في حال يقظته ملائكة الله تعالى ، ويسمع كلام الله ، ويكون مخبراً عن المغيبات الكائنة والماضية والتي ستكون.
ثالثها :
أن تكون نفسه متصرفة في مادة هذا العالم فيقلب العصا ثعباناً والماء دماً ، ويبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله ... إلخ .
وبهذه القدرات والقوى والملكات تكاملت
النفوس النبوية وصارت أوعية نقية مهيأة لتلقي الفيض الإلٰهي وللاختصاص بنعم وألطاف لم يكن لغيرهم إليها من سبيل تمثّلت بـ ( الوحي والتكليم ونزول الروح والملائكة
________________
ومشاهدة الآيات
الكبرى ، وما أخبرهم به كالملك والشيطان واللوح والقلم وسائر الآيات الخفيّة على حواس الناس ) .
ثالثاً ـ صور الوحي النبوي العام :
الوحي إلى الأنبياء عليهمالسلام هو أهم وجوه الوحي
الإلٰهي إلى البشر بل أساس الوحي كله فلا يراد بالوحي إذا أطلق إلّا النبوي دون سواه.
وقد بيّن تعالى صور تكليمه ( وحيه )
تعالى لعباده بقوله تعالى : (
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ
يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ )
. وقد خاض المفسرون
في هذه الآية طويلاً ، وأدرجوا تحت كل من هذه الصور الثلاث تفصيلات ، وأنواعاً ترتبط بها وتخضع لمقاييسها.
وقد أجمل الإمام علي عليهالسلام هذه الوجوه المتعددة
لتكليمه تعالى بوصفه لكلام الله تعالى بأنه ليس على نحو واحد فإنّ : ( منه ما كلّم به
الرسل ، ومنه ما قذفه الله في قلوبهم ، ومنه رؤيا يريها الرسل ، ومنه وحي وتنزيل يتلى ويقرأ فهو كلام الله ) .
والصور الثلاث التي حددتها الآية
واعتمدها المفسرون هي :
الصورة الأولى للوحي ـ الإلهام وصيغه :
يلاحظ على هذه الآية أنها جعلت للوحي
معنىً خاصاً بكونه قسماً من
________________
أقسام التكليم
الإلٰهي للبشر ، بينما تضمنت آيات أخرى جعله قسيماً للتكليم ، كقوله تعالى فيما وصف فيه الوحي للأنبياء عليهمالسلام
: ( إِنَّا أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ) إلى قوله : (
وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا )
، فالوحي هنا قسيم
للتكليم الخاص ، فالوحي هنا قسيم للتكليم الخاص الذي هو بلا واسطة ، وهو قسم من التكليم العام الذي هو إيصال المعنى بطرق متعدّدة ، وبهذا يكون الجعل للوحي بالمعنيين بلحاظين مختلفين.
وقد اختلف المفسرون في التعبير وتسمية
هذا النوع من الوحي بمعناه الخاص ضمن صور تكليمه تعالى للأنبياء ، فقد عبروا عنه بعدة صيغ وأدخلوا تحته عدة تقسيمات ، ومن الآراء في ذلك :
١ ـ
ما ذهب إليه بعض المفسرين من أنّ الوحي في قوله تعالى : (
إِلَّا وَحْيًا )
هو الإلهام وأدخلوا ضمنه ما كان يقظة أو مناماً ، قال السدي : ... (
إِلَّا وَحْيًا )
بمعنى : إلّا إلهاماً بخاطر أو في منام أونحوه من معنى الكلام في خفاء .
وأيّد الجبائي هذا التحديد ، فعنده أن
هذا الوحي ليس كلاماً على سبيل الإفصاح كما يكون من إفصاح الرجل لصاحبه وإنّما هو ( خاطر وتنبيه ) .
ويقصر البيهقي معنى الوحي هنا على ما
يريه تعالى الأنبياء في المنام من الرؤيا وذلك ( كما أمر إبراهيم عليهالسلام
في منامه بذبح ابنه ) .
________________
وأدرج الفخر الرازي تحت هذه الصورة عدّة
أنواع من الوحي ، إذ أنّه يرى أنّ قوله ( إِلَّا وَحْيًا ) معناه ( بالإلهام والقذف في القلب أو
المنام كما أوحي إلى أُم موسى وإبراهيم عليهمالسلام
) .
وقصر الشيخ مغنية من المحدّثين المراد
بهذا الوحي على الإلهام بمعنى : إلقاء المعنى مباشرة في قلب النبيّ دون واسطة .
٢ ـ
ما عبّر عنه بعضهم ؛ بالقذف والنفث في القلب والروح ، فقد وحّد مجاهد بين هذا القذف والإلهام ، فقوله تعالى : (
إِلَّا وَحْيًا )
معناه : نفث ينفث في قلبه فيكون إلهاماً .
فكأنه يشير إلى أن العلم المتحصّل من طريق هذا القذف هو الإلهام ، وإن الوسيلة له هو القذف في الروع ، وعن مجاهد أيضاً أن المقصود بهذه الآية هو داود عليهالسلام
: ( أوحي في صدره فزبر الزبور ) .
وقد روي عن الإمام علي الهادي ( عاشر
أئمة أهل البيت عليهمالسلام
) الإشارة إلى الربط بين معنى الإلهام والقذف في الروع. فحين سئل عن قوله تعالى : ( إِلَّا وَحْيًا ) قال : وحي مشافهة ، ووحي
إلهام ، وهو الذي يقع في القلب
.
ومعنى الروع الذي يعبر عن الإلقاء بأنه
يكون فيه هو القلب والعقل كما
________________
يرى محمد بن أبي بكر الرازي
.
٣ ـ
يرى السيد المرتضى أن هذا النوع من الوحي يلقى بطريقتين : فإما بأن يخطر في قلوب البشر ، وإما أن يكون بالدلالة على المراد ، بحيث يكون تعالى من حيث نصبه الدلالة على ما يريد ، والإرشاد إليه مخاطباً ومكلّماً للعباد بما يدل عليه .
ويذهب الباقلاني القاضي أبوبكر بن الطيب
البصري ( ت ٤٠٣ هـ ، ١٠١٢ م ) إلى أن المقصود بهذا الوحي هو ما كان من وحي مباشر بين الله تعالى والرسول صلىاللهعليهوآله
انعدمت فيه الوسائط ، حيث ( أسمعه الله كلامه ليلة المعراج من غير واسطة ولا حجاب ) ، لأنّه تعالى في تلك الليلة قال : (
فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ ).
وانفرد الشيخ الطوسي بذهابه إلى أن
المراد بهذا النوع من الوحي هو تبليغ الأنبياء للبشر ، فقوله تعالى (
وَحْيًا )
معناه عنده : بتأدية الرسول أوامره تعالى إلى المكلفين من الناس .
ويكاد السيد الطباطبائي أن يجمع بين هذه
الوجوه العديدة في التعبير عن الوحي بهذه الصورة مع تفريقها عن الصور الأخرى في الآية ، وهو الرأي الذي
________________
يميل إليه الباحث من
أن المراد بهذا النوع من التكليم هو : التكليم الخفي من دون أن تتوسط بينه تعالى وبين النبي أصلاً .
والواضح من خلال هذه الوجوه المتعددة في
التعبير عن هذه الصورة أن كون الوحي بهذا المعنى من الإلهام والقذف في القلب أو الروع وكونه مناماً ـ كما سيأتي ـ يخرجه عن الاختصاص بالأنبياء عليهمالسلام
وحدهم ، إذ وردت الإشارة إلى أنه أوحي إلى أم موسى عليهالسلام
والحواريين وغيرهم.
الأنبياء الموحى إليهم بهذه الصورة :
انطلاقاً من اتفاق المفسرين تقريباً على
أن هذه الصورة من الوحي يدخل تحتها الإلهام والقذف في القلب أو الروع وما يكون في المنام ، فإننا نجد أن جميع الأنبياء قد أوحي إليهم بواحدة من هذه الطرق وبضمنهم موسى عليهالسلام ونبينا صلىاللهعليهوآله
وإن عُبّر عن موسى بأنه كلم الله فهذا التكليم كان ما أوحي فيه حالات محددة تختلف عنها تلك التي ذكر فيها الوحي إليه بصيغة ( الوحي ) المطلقة وليس بالتكليم ، أو إرسال الرسول ، وهذا ينطبق أيضاً على نبيّنا صلىاللهعليهوآله.
وخلاصة القول أن المفسرين يدخلون تحت
الصورة الأولى من صور تكليمه تعالى في آية الشورى كل الطرق التي لا تدخل ضمن حدود التكليم من وراء حجاب وإرسال الرسول الملكي ، فكان الإلهام والقذف في القلب والرؤيا والوحي المباشر دون واسطة أو حجاب ـ كما كان للرسول صلىاللهعليهوآله ليلة المعراج ـ داخلاً ضمن هذه الصورة ، وإن عدّ بعض المفسرين الرؤيا في المنام
________________
مندرجة ضمن التكليم
من وراء حجاب .
والآية في ظاهرها دالة على هذا الشمول ،
إذ تضمنت تحديداً وحصراً لصور تكليمه تعالى للبشر بهذه الصور الثلاث لا غيرها ، ومن ذلك يستنتج ملاحظات هامة حول هذا الوحي مرت من قبل ويمكن إجمالها في الآتي :
١ ـ
إن جميع الأنبياء والمرسلين قد أوحي إليهم بأحد أشكال هذه الصورة من الوحي بلا واسطة ، ومما يدل على ذلك قوله تعالى : (
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ
وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ
وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا
لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا ) .
وقد دلّ ظاهر الآية على شمول الوحي بهذه الصورة لرسل لم يذكروا في الآية ورسلاً آخرين لم يسبق أن قصهم القرآن على الرسول صلىاللهعليهوآله.
٢ ـ
إن هذا الوحي وبالتحديد الذي له يخرج عن التخصيص بالأنبياء عليهمالسلام إلى ما ذكر من الوحي لغيرهم كلم موسى والحواريين.
٣ ـ
إن كون الأنبياء عليهمالسلام
ألقي إليهم بهذه الصورة لايلزم منه عدم الوحي إليهم بأحد الصور الأخرى للوحي كإرسال الرسول الملكي ، وهي صورة تلقّى بواسطتها الوحي كثير من الأنبياء عليهمالسلام
، حيث جمع بعض الرسل بين أكثر من صورة من صور الوحي.
٤ ـ
إن هذا الوحي بالطرق الواقعة ضمنه خرج عن الانتساب إلى
________________
الصورتين الأخريين من
التكليم وإرسال الرسول ، لأنّ الأولى خصت بموسى عليهالسلام
، والثانية قيدت بوساطة الرسول الملكي.
والقرآن الكريم يذكر الوحي الحاصل في
هذه الصورة والذي تنعدم فيه الوسائط بعدة صيغ كالوحي ، والمناداة ، والقول ، والتفهيم .. إلخ. وهي صيغ اتفق المفسرون على إدخالها ضمن الصورة الأولى من صور الوحي المنصوص عليها في الآية الثانية والأربعين من سورة الشورى.
الصيغة الأولى ـ الوحي :
وقد عُبّر بها عن الإلقاء إلى الأنبياء عليهمالسلام ، ومنهم حسب التسلسل
التاريخي :
١ ـ
نوح عليهالسلام
: وقد ورد ذكر الوحي صريحاً إليه في عدة آيات ، أشارت بعضها إلى حالات وحي خاص بيّنته ، كالوحي إليه بصنع السفينة قال تعالى : ( فَأَوْحَيْنَا
إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا )
، وقد فسر الطبري قوله تعالى : ( فَأَوْحَيْنَا
إِلَيْهِ )
( بالقول ) دون بيان كيفيته فمعنى الآية عنده ( فقلنا له حين استنصرنا على كفرة قومه : اصنع الفلك ... )
، ويبدو أن الطبري يشير هنا إلى وقوع هذا الوحي بلا واسطة حين عبر عنه بالقول الذي يتضمن معنى المباشرة.
وقد أيد الشيخ الطوسي والعلّامة الطبرسي
والزمخشري وغيرهم كون الوحي هنا بمعنى تعليمه عليهالسلام
كيفية صنع السفينة .
________________
وذهب الفخر الرازي إلى القول بأن هذا
التعليم كان بواسطة جبريل واستحسن قول من قال به ، إذ أن جبريل عليهالسلام
علّمه عمل السفينة ووصف له كيفية اتخاذها
، وهو يميل هنا إلى تفسير قوله تعالى : (
أَعْيُنِنَا )
أن معناه : الوسائل التي ألقى بها تعالى علم صنع السفينة إلى نوح عليهالسلام وهو جبريل عليهالسلام.
وهذا ما أيده السيد الطباطبائي من
المحدثين ، فقد استفاد من الأعيُن في الآية قرينة على أن معنى الوحي المذكور فيها هو وحي في مقام العمل وهو تسديد وهداية عملية بتأييده بروح القدس الذي يشير عليه أن أفعل كذا ولا تفعل كذا
وهذا أمر يختلف عن تبليغ الرسالة.
وهناك ما يؤيد ما ذهب إليه الرازي
والطباطبائي فيما استفاده الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن الحسين ( ت / ٤٠٦ هـ ، ١٠١٥م ) من استعمال الأعين في الآية بأنّه استعارة بلاغية ، فلا يراد بها حقيقة الأعيُن ، وهو كما في الآية الأخرى قوله تعالى : (
... وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي )
، ( فليس هناك عيناً
تلحظ وإنّما ذلك كقول القائل : « إنا بعين الله » أي بمكان من حفظ الله ) .
وفسر الشريف الرضي أيضاً ـ وأيده الشيخ
الطوسي والعلّامة الطبرسي والزمخشري ـ هذا الحفظ بأنه يكون عن طريق الملائكة الذي يحفظونه
________________
ويمنعون من يريد
إفساد الأمر عليه .
وقد ذهب مفسرون آخرون إلى أن الوحي إلى
نوح في قوله تعالى : ( بِوَحيِنا ) معناه : بالأمر والتعاليم .
ومن الوحي الخاص بنوح عليهالسلام في حالة معينة ما
ورد في قوله تعالى : ( وَأُوحِيَ
إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ
فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )
. وقد فسّر الوحي هنا
بالإعلام ، فيكون معنى الآية أنه تعالى : ( أعلم نوحاً عليهالسلام
أنه لن يؤمن به أحد من قومه في المستقبل ) .
ونوح عليهالسلام
هو أول الأنبياء أولي العزم من أصحاب الشرائع
بعد إدريس عليهالسلام
، وهو صاحب أول شريعة متكاملة كما تقدّم في بعض الأحاديث المروية عن أهل البيت عليهمالسلام.
ومما يدل على عموم شريعته وسبقها دلالة
الآية التي جمعت التشريع بما عنده عليهالسلام
وما كان من الوحي للرسل الأربعة أصحاب الشرائع وذلك في قوله تعالى : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ
الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا
وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا
تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ... )
.
________________
٢ ـ
الأنبياء بعد نوح عليهالسلام
، ولم يرد ذكر تفصيلي لهم في نطاق الآية (١٦٣) من النساء بل اكتفي بعموم من هم بعده ، قال تعالى : (
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ) .
٣ ـ
إبراهيم عليهالسلام
: ورد ذكر الوحي بصيغته الصريحة له عليهالسلام
في عدّة آيات كقوله تعالى : ( .. وَأَوْحَيْنَا
إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ .. )
، وهو أحد الأنبياء
الخمسة أصحاب الشرائع الإلٰهيّة.
٤ ـ
إسماعيل وإسحاق عليهماالسلام
ولدا إبراهيم الخليل عليهالسلام
قال تعالى : ( .. وَأَوْحَيْنَا
إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ .. ).
٥ ـ
يعقوب عليهالسلام
: قال تعالى : ( .. وَيَعْقُوبَ .. ).
٦ ـ
الأسباط : قيل : إنهم في ولد إسحاق كالقبائل في ولد يعقوب ، وقد بعث منهم عدة رسل كيوسف وداود وسليمان وموسى وعيسىٰ. ويجوز أن يراد بالوحي إليهم هنا الوحي إلى الأنبياء منهم
دون الكل.
٧ ـ
عيسى عليهالسلام
: قال تعالى : ( .. وَعِيسَىٰ
.. )
، وهذه هي المرة
الوحيدة التي يرد فيها ذكر الوحي صريحاً إلى عيسىٰ عليهالسلام
في القرآن الكريم ، إذ كان ذلك يعبر عنه بصيغ أخرى كالتأييد بروح القدس وغيرها مما سنقف عنده في بحث الصور الأخرى للوحي.
٨ ـ
أيّوب ويونس عليهماالسلام
: قال تعالى : ( .. وَأَيُّوبَ
وَيُونُسَ .. )
.
________________
٩ ـ
هارون عليهالسلام
: ذكر الوحي إليه في القرآن الكريم منفرداً ، قال تعالى : ( وَهَارُونَ )
، كما ذكر الوحي له مع موسى عليهالسلام
، قال تعالى : ( وَأَوْحَيْنَا
إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا )
، وعن طريقـة هذا الوحي المزدوج لهما عليهماالسلام
سئل الإمـام الباقـر محمد بن علي بن الحسين عليهالسلام
( ت / ١١٤ هـ ، ٧٣٢م ) عن الوحي أكان ينزل عليهما جميعاً ؟ فقال عليهالسلام : الوحي
ينزل على موسى ، وموسى يوحيه إلى هارون
.
١٠ ـ
موسى عليهالسلام
: ذكر موسى عليهالسلام
في عشرات الآيات من الكتاب ، وذكر الوحي إليه بصيغته الصريحة ، كالقول (
أَوْحَيْنَا )
و ( أُوحِيَ ) بما يدخل ضمن الوحي بلا واسطة ولا حجاب ، إذ يلاحظ أن الوحي حين يذكر لموسى على أنه يلقى إليه دائماً بشيء تحدده الآية ، ولا يكتفي بذكر أنه أوحي إليه فقط كما هو حاصل مع باقي الأنبياء عليهمالسلام
، ويبدو أن هذا التفريق يراد منه التفهيم بافتراق هذا الوحي عما كان تكليماً له من وراء حجاب في الصورة الثانية من صور الوحي ، لأنّ الإشارة إلى ذلك التكليم وما أوحي فيه ترد غالباً بصيغة العموم فتوصف بالكتاب والألواح والصحف ، بينما كان الوحي الصريح المنسوب على أنه بلا واسطة يفصل في أحداث ووقائع أوحي إليه فيها ولم تكن ضمن ما كلم به على الطور ومن هذه الحوادث :
أ ـ
وحيه تعالى إليه بإظهار معجزة العصا ، وأمره بإلقائها وهو وسط جمع من البشر من أهل مصر ، وحضور فرعون وملئه والسحرة. قال تعالى :
________________
(
وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ
تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ )
.
ب ـ
وحيه تعالى إليه حين استسقاه قومه فأخرج على يديه آية أخرى لبني إسرائيل ، قال تعالى : (
.. وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ
اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا .. ) .
ج ـ
قوله تعالى : ( وَأَوْحَيْنَا
إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا .. )
.
د ـ
قوله تعالى : ( وَلَقَدْ
أَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ .. )
.
هـ ـ
قوله تعالى : ( فَأَوْحَيْنَا
إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) .
فهذه الحوادث تثبت أن الوحي فيها كان
آنياً وألقي بلا واسطة ، فليس تكليماً من وراء حجاب مما اختص به موسى عليهالسلام
فهو وحي تنبيه وخاطر وإلهام
ليس فيه إفصاح كما يكون في التكليم.
١١ ـ
سليمان عليهالسلام
قال تعالى : ( وَسُلَيْمَانَ .. ) .
١٢ ـ
داود عليهالسلام
: لم يعبر عن الوحي له بصيغته الصريحة وإنّما أفرد من بين
________________
الأنبياء الآخرين
بأنه أوتي الزبور وذلك بقوله تعالى : (
وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا )
، وقد فسر مجاهد ـ كما
مر سابقاً ـ الوحي في الصورة الأولى بأنه ما كان إتيان داود عليهالسلام
الزبور وهو كتابه ، فعرف الوحي بأنه كان لداود زبر في قلبه الزبور .
وقد اختلف في معنى الزبور الوارد ذكره
هنا وفي آيات أخرى كقوله تعالى : ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا
فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ ... )
، وذلك على عدة آراء
منها : عن ابن عباس
ومجاهد أنها : الكتب المنزلة بعد التوراة التي هي الذكر الوارد في الآية. وعن سعيد بن جبير ومجاهد الزبور والزبر هي الكتب المنزلة. وعن الشعبي : أنه زبور داود والذكر توراة موسى عليهالسلام.
١٣ ـ
يوسف عليهالسلام
: وقد ورد ذكر الوحي له مرة واحدة أشير إلى أنها كانت في صغره ، قال تعالى : (
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا
يَشْعُرُونَ )
، وقد اختلف في هذا الوحي الذي كان في الصغر إلى رأيين :
الأوّل :
عن الحسن ومجاهد وقتادة : ( إن الله أعطاه النبوة وهو في الجب والبشارة بالنجاة والملك ) .
وأيد الزمخشري ذلك وأثبته ، وعلل كونه وحياً
________________
رغم صغر سنه بأنه : كان
إذ ذاك مدركاً ، واستدل عليه بما كان ليحيى وعيسىٰ عليهماالسلام
من الوحي في الصغر .
وأكد الطبرسي أن وحيه عليهالسلام كان وحي الرسالة
والنبوة كالوحي الذي كان لسائر الأنبياء عليهمالسلام
.
وأورد الفخر الرازي قولين في الوحي
ليوسف عليهالسلام
: فقيل : إن المراد منه الوحي والنبوة والرسالة ، وهو ما عليه طائفة عظيمة من المحققين ، وقيل : إن المراد منه الإلهام لا وحي النبوة. وأيد الرأي الأوّل واستحسنه ، وأول الوحي له مع صغر سنه بأنه : ( لا يمتنع أن يشرفه الله بالوحي والتنزيل ويأمره بتبليغ الرسالة بعد أوقات ، ويكون فائدة تقديم الوحي تأنيسه وتسكين نفسه وإزالة الغم والوحشة عن قلبه ) .
وأيد بعض المفسرين المحدثين ما عليه
الغالبية من العلماء أن هذا الوحي كان من وحي النبوة .
أما الرأي الثاني : فهو قول من ذهب إلى
أنه لم يكن وحي نبوة ولا رسالة وإنّما كان على سبيل الإلهام ، وهذا قول أبي بكر الرازي ، وسبب ذلك عنده صغر سن يوسف عليهالسلام
( ووحي النبوة مخصوص لايكون إلّا بعد الأربعين ) .
وهو قول شاذّ لا يعتد به.
________________
الصيغة الثانية : من الصيغ التي عبَّر بها
القرآن الكريم عن الوحي هي : التلقّي.
قال تعالى : (
فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )
.
« أي : استقبلها بالأخذ والقبول حين
علمها بالوحي أو الإلهام » .
ويؤيّد أنّه عليهالسلام علمها بالوحي ، ما
جاء في حديث أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، عن رسول الله صلىاللهعليهوآله
في أنّ آدم لما بكى على خطيئته بعث الله إليه جبرئيل عليهالسلام
فقال : يا آدم الربّ عزّوجلّ يقرؤك السلام... الحديث .
وكذلك حديث ابن عباس عن رسول الله صلىاللهعليهوآله «
.. أتاه جبرئيل فقال : يا آدم ادعُ ربك ، قال : يا حبيبي جبرئيل وبما ادعوه ؟ قال : قل يا ربّ أسألك بحقّ الخمسة الذين تخرجهم من صلبي آخر الزمان إلّا تبت عليَّ ورحمتني ، فقال : حبيبي جبرئيل سمّهم لي ، قال : محمد النبيّ ، وعليّ الوصيّ ، وفاطمة بنت النبيّ ، والحسن والحسين سبطي النبيّ. فدعا بهم آدم فتاب الله عليه ، وذلك قوله :
( فَتَلَقَّىٰ
آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ )
.. » .
وفي الصحيح عن أبان بن عثمان ، عن
الصادق عليهالسلام
ان جبرئيل عليهالسلام
نزل إلى آدم وعلمه الكلمات التي تلقاها من ربّه وهي : « سبحانك اللّهمّ
وبحمدك ، لا إله إلّا أنت ، عملت سوءاً ، وظلمت نفسي ، واعترفت بذنبي ، فاغفر لي ،
________________
إنّك أنت الغفور الرحيم...
الحديث » .
ونحوه ما رواه الكليني بسنده ، عن كثير
بن كلثمة ، عن أحدهما ـ الباقر أو الصادق عليهماالسلام
ـ ، ثم قال الكليني
: « وفي رواية أخرى في قوله عزّوجلّ ( فَتَلَقَّىٰ
آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ )
قال : سأله بحقّ
محمد وعليّ والحسن والحسين وفاطمة صلوات الله عليهم » ..
ورواية التوسل بالخمسة أصحاب الكساء عليهمالسلام رواها الصدوق بسنده
عن أبي سعيد المدائني يرفعها إلى الرسول صلىاللهعليهوآله
.
ولا منافاة بين الروايتين لجواز تعدّد
السبب لشيء واحد ، كما لو كان توسل آدم عليهالسلام
بالخمسة الأطهار صلوات الله عليهم سبباً لاستجابة الدعاء المذكور. وعليه يكون الوحي والإلهام قد اجتمعا معاً في كيفية توبة آدم عليهالسلام وقبولها.
ويؤيد أنه عليهالسلام
علمها بالإلهام حديث صفوان الجمال ، قال : « دخلت على أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهالسلام
وهو يقرأ هذه الآية (
فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )
ثمّ التفت إليَّ فقال : يا صفوان إن الله تعالى ألهم آدم أن يرمي بطرفه نحو العرش فإذا هو بخمسة أشباح
________________
من نور يسبّحون الله ويقدّسونه »
وذكر أصحاب الكساء عليهمالسلام
.
الصيغة الثالثة ـ المناداة :
وقد وردت في القرآن الكريم بطريقتين : فإما
بورود فعل النداء تعبيراً عن الحال مع النبي ، وذلك كقوله تعالى : (
وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ *
قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ... )
، فهذا النداء لم
يكن ضمن الرؤيا نفسها ، بل حدث بالإلقاء الخفي إليه عليهالسلام
بدليل أنه كان إخباراً له عليهالسلام
بأنه قد صدق الرؤيا ، وكقوله تعالى : ( وَإِذْ
نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )
، أو باستخدام حرف النداء ( يا ) ، ويكون المنادى هو النبي المخاطب المتلقي للوحي ، وكان ذلك لعدة أنبياء ، كقوله تعالى : (
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ ... )
، و ( يَا يَحْيَىٰ
خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا )
، و ( يَا دَاوُودُ إِنَّا
جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ )
، وقوله تعالى : ( .. يَا ذَا
الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ) .
الصيغة الرابعة ـ الرؤيا في المنام :
والبحث يتعرض إليها هنا كطريقة من طرق
الوحي المباشر بلا واسطة تمشياً مع من ذهب إلى ذلك. وقد قيل إن رؤيا الأنبياء وحي ، واستدلوا على
________________
ذلك بجواب إسماعيل
لأبيه حين أخبره أنه رأى في المنام أنه يذبحه ، وقد ورد ذكر الرؤيا في القرآن ، وأنها استخدمت طريقة للوحي النبوي منسوبة إلى عدّة أنبياء وهم
:
١ ـ
إبراهيم عليهالسلام
: قال تعالى : ( فَلَمَّا بَلَغَ
مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ
افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ )
.
٢ ـ
يوسف عليهالسلام
: قال تعالى : ( إِذْ قَالَ يُوسُفُ
لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) .
٣ ـ
الرسول محمد صلىاللهعليهوآله
: وذلك كقوله تعالى : (
لَّقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ )
، وسيكون لنا مع الرؤيا للرسول صلىاللهعليهوآله
وقفة في مبحث الوحي المحمدي ، بوصفها من سور الوحي إليه صلىاللهعليهوآله.
الصيغة الخامسة : كلمة « قل » وتصريفاتها
المنسوبة إلى الله تعالى
موجّهة إلى الأنبياء ، وهذا قد ورد مع أغلب الأنبياء عليهمالسلام
، قال تعالى في شأن آدم عليهالسلام
( فَقُلْنَا يَا آدَمُ
إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ .. ) .
وقال تعالى في نوح عليهالسلام
: ( قُلْنَا احْمِلْ
فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ .. )
، ولعيسى عليهالسلام
: ( .. قَالَ اللهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ .. ) .
________________
الصيغة السادسة ـ العهد :
ونوردها هنا باعتبار ما تحمله من
الإشارة غير الظاهرة إلى حصول نوع من الوحي الخفي ، وقد جاءت الآيات بكون هذا العهد من الله مع عدة أنبياء ، وذلك كقوله تعالى : (
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا )
. قال ابن عباس : معناه
أمرناه وأوحينا إليه أن لا يقرب الشجرة ولا يأكل منها فترك الأمر .
وكقوله تعالى : ( وَعَهِدْنَا
إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) .
وكقوله تعالى : ( وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ
عِندَكَ .. )
. نقل الشيخ الطوسي في تفسير العهد هنا قولين
:
أ ـ
إن معناه ما تقدم إليك به وعلمك أن تدعوه به.
ب ـ
ما عهد عندك من العهد على معنى القسم.
وإجمال القول في العهد أنه مستجمع
للتفسيرات الواردة فيه من أمر وإلزام وإعلام ووصية ، إذ تدخل جميعا ضمن وظيفة النبوة ، ويكون تبليغها بلا شك بطريقة من طرق الوحي الخفي.
الصيغة السابعة ـ التفهيم :
لم يرد ذكر التفهيم بوصفه من أشكال
الوحي للأنبياء عليهمالسلام
إلّا إلى
________________
سليمان عليهالسلام ، وذلك في قضية
الحرث ، قال تعالى : (
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا
لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا .. ) .
والفهم : هيئة في الإنسان بها يتحقق
معاني ما يحسن ، وأفهمته إذا قلت له حتى تصوره .
واستبعد الجبائي ما ذهب إليه بعض
المفسرين من أن حكم سليمان عليهالسلام
كان عن اجتهاد ، وأنه اجتهد في حكمه في القضية ، وجزم أن ذلك الحكم كان ( وحياً نسخ به حكم داود الذي كان يحكم به ولم يكن اجتهاداً ) .
وقد أيّد الشيخ الطوسي ما قاله الجبائي
مستدلّاً على صحّة ذلك بأن الأنبياء عليهمالسلام
( يُوحَى إليهم ولهم طريق إلى العلم بالحكم ، فكيف يجوز أن يعملوا بالظن )
وهو ما يحتمل من الاجتهاد.
ويذهب الراغب الأصفهاني إلى ما يؤكد كون
ذلك التفهيم وحياً ، إذ يرى فيه وجوهاً محتملة من التفسير : فإما أنه تعالى جعل له من فضل قوة الفهم ما أدرك به ذلك ، وإما بأن ألقى ذلك في روعه [ وهو شكل من أشكال الوحي دون واسطة ] وإما بأن أوحى إليه وخصه به .
وإجمال القول في هذا التفهيم أنه لايخرج
عن نطاق الوحي الإلٰهي وذلك
________________
بدليلين :
١ ـ
أنه لا طريق لأن يكون ذلك اجتهاداً من سليمان ناسخاً لحكم داود ، لأنّه لاطريق للاجتهاد والظن إلى نسخ الوحي الإلٰهي ، إذ لا ينسخ الوحي إلّا
بمثله.
٢ ـ
أنه تعالى أكد أن حكم سليمان مثلما هو حكم داود عليهالسلام
، كلاهما واقع ضمن الحكم والعلم الإلهيين ، فهما بوحي نبوي لقوله تعالى : (
وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا )
.
الصورة الثانية للوحي ـ التكليم من وراء حجاب
:
كانت هذه الصورة من صور تكليمه تعالى
للبشر مثاراً للكثير من الجدل والخلاف بين العلماء والمفسرين لتضمنها ـ فيما يفسره المشبهة من ظاهرها ـ إشارات إلى التجسيم والحلول والرؤية !! ... إلخ.
ولا مجال في هذا البحث للخوض في تلك
الاختلافات والمذاهب سيّما وأن المشبهة من الحشوية التي تميّزت بسطحية أفكارها وعدم تعمّقها في مقولاتها ، وما يهمّنا هنا هو بيان خصوصية هذا النوع من الوحي ومميزاته التي يفترق بها عن سائر صور الوحي الأخرى ، لذلك اقتصر البحث على ثلاثة محاور هي :
أوّلاً ـ معنى التكليم والحجاب :
التكليم والكلام من الكَلمْ. قال الراغب
: الكَلْمُ : التأثير المدرك بإحدى الحاستين فالكلام مدرك بحاسة السمع والكلم بحاسة البصر .
________________
وإذا أنعمنا النظر في نص الآية المبينة
للتكليم في قوله تعالى : (
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ... )
مع الاستعانة بالآيات الأخرى التي يرد فيها ذكر هذا التكليم الخاص ، تتبلور أمامنا ملاحظتان يمكن من خلالها فهم خصوصيته وهما :
١ ـ
إن هذه الصورة من التكليم مباينة لجميع الصور والصيغ الأخرى ، فالتكليم من وراء حجاب ، هو وحي أيضاً إلّا أنه أخص من مطلق الوحي ، بدلالة تمييزه تعالى له بالذكر مخصوصاً في مقام بيان بعض من أوحي إليه من الأنبياء في سورة النساء قوله تعالى : (
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ )
إلى قوله تعالى : ( وَرُسُلًا لَّمْ
نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا )
، فخصّ التكليم من
سائر الوحي لمن ذكر ، وأما من لم يذكر في القرآن من الأنبياء ، فهم وإن كانوا جميعاً قد ( كلمهم الله تعالى بواسطة الوحي ) .
إلّا أن هذا التكليم تضمن استماع الصوت بلا واسطة الوحي.
٢ ـ
يتأكد من خلال الآيات أنَّ هذا الكلام المكلّم به من وراء حجاب والذي كان لموسى عليهالسلام
هو كلام حقيقي تنتفي عنه أية نسبة إلى الصور البلاغية من استعارة أو تشبيه أو مجاز ... إلخ ، وما يؤكد هذا المعنى الإتيان بالمصدر ( تكليماً ) وهو توكيد لفظي مؤكد لحدوث الفعل ، إضافة إلى أنه مفيد لتحقيق النسبة ورفع توهم المجاز.
كما أن هذا التحديد والتوكيد مبعد
لاحتمالات أن يكون الكلام بالإلهام
________________
أو الإشارة أو القذف
في الروع أو أي شيء غير التكليم ، فنص الآية واضح الدلالة على أن المراد ( أن هذا الكلام هو من جنس الكلام المعقول لدينا الذي يشتق من التكلم ، على خلاف ما قال به بعض المفسرين والمتكلمين
، وكون التكليم من وراء حجاب من جنس الكلام المعقول لدينا ، لايقصد به أنه من نوع كلامنا ، وإنّما هو تكليم على نحو خاص ، لأنّ الكلام لايصدر عنه تعالى عن حد ما يصدر منا ، بخروج الصوت من الحنجرة واعتماده على مقاطع النفس مع ما ينظم إليه من دلالة اعتبارية وضعية متعارف عليها ، وذلك لأنّه تعالى غني عن ذلك ، فهو أجلُّ شأنا وأنزه ساحة من أن يتجهز بالتجهيزات الجسمانية أو يستكمل بالدعاوى الوهمية الاعتبارية ) .
قال تعالى : ( .. لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ .. )
.
وقد أكد أمير المؤمنين الإمام علي عليهالسلام هذا المعنى في قوله
: «
لا يشبه شيء من كلامه تعالى كلام البشر ، فكلام الله تبارك وتعالى صفته ، وكلام البشر أفعالهم ، فلا تشبه كلام الله بكلام البشر فتهلك وتضل »
.
أما الحجاب الذي يكون التكليم من ورائه
، فيكاد يكون أهم أسباب الخلاف في مسائل التجسيم والرؤية ، وتكاد الآراء فيه تتبلور في ما يلي :
١ ـ
من المفسرين من ذهب إلى أن المراد بالحجاب في الآية أن يكون الكلام مخصوصاً بالمكلم وحده ، ومحجوباً عن غيره.
________________
قال السدي : ( من وراء حجاب ) ، أن
يحجبه عن إدراك جميع الخلق ، إلّا عن المكلّم الذي يسمعه .
وأيد الجبائي ذلك ، واستدل عليه بتكليم موسى عليهالسلام
، فهو تعالى ( حجب ذلك عن جميع الخلق إلّا موسى عليهالسلام
وحده في كلامه إياه أولاً ، فأما كلامه في المرة الثانية ، فإنّه إنّما سمع ذلك موسى والسبعين الذين كانوا معه ، وحجب عن جميع الخلق سواهم ) .
ويتوصل الجبائي من ذلك إلى أن الحجاب هنا كان للكلام الذي هو ما حجب عن الناس.
٢ ـ
وذهب مفسرون آخرون كالقاضي أبي بكر الباقلاني وغيره إلى أن الحجاب في الآية يراد به حجب المتكلم عن النظر إلى الباري تعالى ، فالمكلّم يسمع الكلام ولا يرى المتكلّم .
وهذا الرأي والذي سبقه ليسا بشيء ، لانطلاقهما
من أصول فاسدة كما لا يخفى.
٣ ـ
وقال السيد الشريف المرتضى أن الحجاب جائز أن يصرف إلى غيره تعالى ممن يجوز عليه ، وينزّه الباري عن مثل ذلك فيجوز أن يكون المراد هنا أنه تعالى يفعل الكلام في جسم محتجب عن المكلم غير معلوم له على التفصيل ( فيسمع المخاطب الكلام ولايعرف محله على طريق التفصيل ) .
٤ ـ
ورأي آخر قال به السيد الشريف المرتضى أيضا بأن الحجاب جائز أن يراد به البعد والخفاء ونفي الظهور وعبارة عما تدل عليه الدلالة ، فكأن
________________
المراد في الآيه
بالتكليم من وراء الحجاب أن يكون بأن ينصب لهم تعالى أدلة تدلّهم على ما يريده أو يكرهه منهم فيكون من حيث نصب الدلالة على ذلك مخاطباً ومكلّماً .
٥ ـ
ما ذهب إليه الشيخ الطوسي ونقله عن غيره بأن الحجاب هنا لا يراد به الحجاب بالذات وإنّما المراد أن التكليم الواقع هو بمنزلة المسموع من وراء حجاب .
٦ ـ
ومن المفسرين من فهم من الحجاب أنه واسطة بين المتكلم والمكلَّم ، فيكون الوحي من وراء حجاب هو الوحي بواسطة ، إلّا أن الواسطة هنا لا توحي ولا يكون الكلام قائماً بها كقيام الكلام بالمتكلم وإنّما هي ( حجاب احتجب سبحانه به فكلمه من ورائه بما يليق بساحة قدسه من معنى الاحتجاب ) .
٧ ـ
اكتفى بعض المفسرين ببيان أن الحجاب في الآية إنّما يرجع إلى الخلق ( المكلّم ) دون الخالق ، مدفوعاً بذلك إلى تنزيهه تعالى عن الجسميات .
فالصحيح إذن هو أن ( الحجاب ) في الآية
الشريفة دليل صارخ على عدم الرؤية ، وأنه لا يمكن إدراكه تعالى بأية صورة حسية تؤدي إلى تجسيمه وتشبيهه بشيء من خلقه. خلافاً لمن لم يقدّروا الله حقّ قدره فشبّهوه تعالى
________________
ووصفوه بصفات
المخلوقين ! وأما ما يسمعه المُكَلّم من الكلام فيكون بفعله تعالى الكلام في جسم محتجب على المكلم فهو يسمع الكلام ولا يعرف محله على طريق التفصيل ، فيقال : إنه كلم من وراء حجاب فهو تعالى لا يحجبه حجاب ولا يستر بستر مادي ، ... عن محمد بن زيد ، عن الإمام الرضا عليهالسلام قال : «
... احتجب بغير حجاب محجوب ، واستتر بغير ستر مستور ، عرف بغير رؤية ، ووصف بغير صورة »
وأحاديث أهل البيت عليهمالسلام في هذا المعنى كثيرة
جداً.
ثانياً ـ المخصوص بالتكليم والحجاب :
تبين لنا مما سبق أن التكليم من وراء
حجاب هو وحي خاص تميز عن مطلق الوحي للأنبياء عليهمالسلام
، أما من خص بهذه المرتبة من الوحي فإنّ الآيات الكريمة ظاهرة باختصاص موسى عليهالسلام
بذلك ، قال تعالى : (
... وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا ... )
، وقال تعالى : (
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ... )
.
فالتكليم من وراء حجاب كان ـ في تلك
الآيات الشريفة ـ لموسى عليهالسلام
بلا خلاف ، ولا يمنع هذا من أن يختص غيره بذلك ، كما هو الحال في تكليم نبينا الأعظم صلىاللهعليهوآله.
عن الإمام علي الهادي عليهالسلام أنه سئل عن الآية (
أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ )
فقال : «
كما كلّم الله نبيه صلىاللهعليهوآله
، وكما كلّم موسى عليهالسلام
من النار »
، وكذلك التكليم
________________
الواقع منه تعالى
للملائكة كما في قوله تعالى : (
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً )
، فالملائكة
يُكَلَّمون بمثل ما كلّم موسى على الطور ، وكما كلّم نبينا صلىاللهعليهوآله
عند سدرة المنتهى .
وفي الرواية عن الرسول صلىاللهعليهوآله أنه سئل عن آدم عليهالسلام : أنبيٌّ مرسل هو ؟ فأجاب صلىاللهعليهوآله
: «
نعم نبي مكلَّم ». وقد تأول بعض
المفسرين هذا الحديث فقالوا إن خصوصية التكليم تبقى لموسى عليهالسلام
، ( لأن تكليم آدم كان في الجنّة ) .
ويبدو أن ما يدفع المفسرين إلى القول
بحصول التكليم لغير موسى دلالة الآيتين الكريمتين :
١ ـ قوله تعالى : (
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن
كَلَّمَ اللهُ )
. فيستدلون بالعموم
في قوله : ( مِّنْهُم مَّن
كَلَّمَ اللهُ )
وإن موسى لم يذكر وحده.
٢ ـ
قوله تعالى : ( ثُمَّ دَنَا
فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ * فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ ) .
إذ يستدل المفسرون بهذه الآية على أنه تعالى كلّم نبينا محمداً صلىاللهعليهوآله
عند سدرة المنتهى ، وتكليمه تعالى لنبينا صلىاللهعليهوآله
ليلة المعراج أخص وأعلى مرتبة من تكليمه لموسى عليهالسلام.
لأنّ تكليم موسى تمثل فيه الحجاب الذي
يمثل نوعاً من أنواع الواسطة
________________
في التكليم ، إذ يسمع
موسى الكلام من وراء ذلك الحجاب ، بينما انعدمت الوسائط بين الله تعالى ورسوله في تكليمه له ليلة المعراج.
وهنا تبقى خصوصية التكليم من وراء حجاب
لموسى كما تثبت خصوصية التكليم دون حجاب ولا واسطة لنبينا صلىاللهعليهوآله.
وهذا ما يقودنا إلى البحث في خصائص التكليم لموسى عليهالسلام
، وهو ما سنعبِّر عنه ( بالوحي الموسوي ) ونحاول استشفاف أهم خصائص هذا الوحي أما تكليم نبينا ليلة المعراج فسيكون البحث فيه ضمن المبحث الثاني من هذا الفصل وهو ( الوحي المحمدي ).
خصائص الوحي الموسوي ( التكليم ) :
تتأكّد من خلال الآيات الكريمة ، وما
أدلى به المفسرون حولها جملة خصائص تميز الوحي الموسوي يمكن تلخيصها في الآتي :
١ ـ
إنّ هذا التكليم من أعلى مراتب الوحي الإلٰهي للبشر ، فقد ذكره تعالى في مقام التفاضل بين الأنبياء عليهمالسلام
، فكان نعمة أنعم بها تعالى على موسى فكلمه وعلمه الحكمة من غير واسطة ، وهذا سبب كونه من أعلى مراتب الوحي ، ( لأنّ من أخذ العلم من العالم المعظم كان أجل رتبة ممن أخذه ممن دونه ) .
٢ ـ
إنّ هذا التكليم ( الوحي ) كان طريق وحي الشريعة الموسوية المتكاملة دون باقي أشكال الوحي التي أوحي بها إلى موسى كالإلهام والقذف في الروع والتي كانت حالات وحي بأمور مخصوصة بظرف وقوعها ، وقد عبر
________________
تعالى عن هذه الشريعة
ومستودعها بعدة صيغ مثل :
الكتاب : قال تعالى : (
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )
.
التوراة : قال تعالى : (
إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ .. ) .
الألواح : قال تعالى : (
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ )
.
الصحف : قال تعالى : (
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ ) .
وقال تعالى : (
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ )
.
٣ ـ
يقين موسى عليهالسلام
بأن ما يسمع من الكلام هو كلام الله تعالى ، فالثابت من ظاهر الآيات الواردة في ذكر هذا التكليم أننا لم نجد موسى عليهالسلام وهو يُكَلَّم حين سمع النداء قد سأل ربه إن كان ما يسمعه هو كلامه ، بل تيقّن أنّه كلامه تعالى ، وقد أعلمه بذلك ، فقال تعالى : (
.. يَا مُوسَىٰ * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى )
، فلم يسأل موسى عن مصدر ما يسمع بل امتثل للأمر بتقديس الموضع مما يشير إلى أن النداء نفسه بقوله تعالى : ( إِنِّي أَنَا
رَبُّكَ )
وفي آية أخرى : ( إِنِّي أَنَا اللهُ
رَبُّ الْعَالَمِينَ )
فهم منه
________________
موسى أن الموقف موقف
الحضور ومقام المشافهة .
ولكن المفسرين اختلفوا في مصدر هذا
اليقين الموسوي بأن ما سمعه هو كلام الله تعالى ونداؤه ، فالشيخ الطوسي يذهب إلى أن يقين موسى متأتٍّ من معجزة أظهرها الله تعالى .
واستعان الزمخشري بالرواية فيما نقل عن
موسى عليهالسلام
في فهم سبب يقينه بذلك ، فقد روي أن موسى قال : « أنا عرفت أنّه كلام الله بأنّي أسمعه من جميع الجهات الستّ ، وأسمعه بجميع أعضائي » .
إلّا أن من المفسرين من يرى أن اليقين
بمصدر الوحي أنّه من الله هو قاسم مشترك في جميع الأنبياء عليهمالسلام
، وأنّهم عموماً في أول ما يوحى إليهم بالنبوة ، ويكلفون بالرسالة ، لا يخالجهم شكّ في أن الذي يوحى إليهم هو من الله سبحانه وتعالى : ( من غير حاجة إلى إعمال نظر أو التماس دليل أو إقامة حجّة ) .
أو يخلق فيهم علماً ضرورياً أنّه ربّهم يوحي إليهم أو يكلمهم.
٤ ـ
إنّ حالة التكليم من وراء حجاب لم تكن حالة مستمرة من الوحي طيلة نبوة موسى عليهالسلام
وتبليغه شريعته ، بل حصل بحدود ما بيَّنه القرآن الكريم مرّتين ، وهما :
المرّة الأولى :
كانت دون مواعدة سابقة معه ، إذ فوجئ موسى بها حين آنس النار فيما قصة تعالى بقوله : (
إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ
________________
نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا
بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ *
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى
)
. وفي هذه المرة أعطي موسى بينات ونعما عديدة :
فمنها :
أنه تعالى بلغه اصطفاءه له للاستماع للوحي والكلام ، قال تعالى : ( وَأَنَا اخْتَرْتُكَ
فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ )
.
ومنها :
أنه تعالى وهبه معجزة العصا ، واليد البيضاء ، قال تعالى : (
... قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ *
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ )
، وقال تعالى : ( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً
أُخْرَىٰ )
.
ومنها :
أنه تعالى أرسله إلى فرعون ، وكلفه بالنبوة قال تعالى : (
اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ )
.
ومنها :
أنه تعالى شدَّ أزره بأخيه هارون يحمل معه عبء التبليغ قال تعالى : ( وَاجْعَل لِّي
وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي )
إلى قوله تعالى : ( قَالَ قَدْ أُوتِيتَ
سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ )
.
ومنها :
تذكيره بحفظه تعالى له واصطفائه منذ ولادته قال تعالى : (
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ *
إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ
________________
فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ ) .
المرّة الثانية :
كانت عن مواعدة مع موسى ، وكانت في الوضع نفسه الذي تقدس بكونه موضع التكليم والتجلي ، قال تعالى : (
وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ
لَيْلَةً )
إلى قوله تعالى : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ... ) .
وفي هذه المرة سأل موسى ربه الرؤية ، وأثبت
له تعالى استحالتها وشاهد تجليه تعالى للجبل ، قال تعالى : (
قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ
تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ... ) .
وفيها أخبر بتفضيله على الناس في زمانه
جميعاً بالرسالة ، وباستماعه كلامه تعالى مما لم يكن لأحد من البشر قبله ، قال تعالى : (
قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي .. ) .
وفيها أعطي الألواح التي فيها شريعته ، وكلف
تبليغها إلى بني إسرائيل قال تعالى : ( وَكَتَبْنَا لَهُ
فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ
دَارَ الْفَاسِقِينَ )
.
٥ ـ
إن هذا التكليم مرتبة من مراتب القرب من الله تعالى عبر عن كيفيتها
________________
بصورتين إضافة إلى
صيغة التكليم هما :
أ ـ النداء : كقوله تعالى : (
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ ) .
ب ـ المناجاة : كقوله تعالى : (
وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا )
. وفي قوله تعالى ( نَجِيّاً
) قيل : إن معناه أنه تعالى اختصه بكلامه بحيث لم يسمعه غيره ، إذ يقال ناجاه مناجاة : إذا اختصه بإلقاء كلامه إليه .
إلّا أن من المفسرين من يفهم المناجاة
هنا فهماً مادياً مرتبطاً بالمكانية فكأنّه تعالى قربه منه مكاناً ، فعن ابن عباس وسعيد بن جبير : أنه قرب حتى سمع صريف القلم .
واعتمد مجاهد في فهمه للمناجاة والقرب
بهذه الحدود المادية على المعنى الذي يراه للحجاب الذي يكلّم من ورائه كما تشير آية الشورى ، فإنّ معنى قوله تعالى : (
وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا )
عنده : أنه تعالى قربه إلى ما ( بين السماء الرابعة أو قال السابعة ) سبعون ألف حجاب ، حجاب نور وحجاب ظلمة .. فما زال يقرب موسى حتى [ بَقيَ ] بينه وبينه حجاب وسمع صريف القلم قال : ( رَبِّ أَرِنِي
أَنظُرْ إِلَيْكَ ).
ولا شك أن قيام الحجاب في هذا التكليم
مانع من صرف المناجاة
________________
والقرب إلى المعاني
المادية وجعلهما مرتبطين بمكان بين السماوات واستماع لصريف القلم ، والمناجاة والقرب في حقيقة الأمر هنا تعبير عن الاختصاص الذي أنعم به على موسى عليهالسلام
فقُرِّب ونُوجِيَ بأن خُصَّ من دون البشر باستماع الكلام. وإلّا فلو كان الأمر صعوداً إلى سماوات واستماع لصريف قلم لكان ذلك معراجاً إلى السماء وليس في الآيات ظاهرها ولا باطنها ما يدل على مثل ذلك ، فلزم أن يكون ذلك مفهوماً منه معنى الاختصاص بسماع الكلام.
الصورة الثالثة ـ الوحي بواسطة الملك :
وهذه الصورة هي التي عبّرت عنها آية
الشورى بقوله تعالى : (
.. أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) .
تفترق هذه الصورة إذن عن سابقتيها
بوساطة الرسول الذي يوحي بإذنه تعالى بما يكلم به عباده. هذا هو المدلول العام للآية فهي لم تتطرق إلى حقيقة هذا الرسول ، إن كان يراد به الرسول البشري ، أم الرسول الملكي.
وفي حدود الآية المذكورة اختار الشيخ
الطوسي : أنه الرسول البشري الذي يكون الواسطة بينه تعالى وبين المكلّفين ، فإضافة إلى الوحي بالكلام من وراء حجاب والوحي الذي يأتي به الملك قال الشيخ الطوسي : إنَّ منه ما يكون ( بتأدية الرسول إلى المكلّفين من الناس )
، واختاره القرطبي المالكي والزمخشري أيضاً .
ومما يجب أن يقال هنا : إن كل رسول ونبي
أُرسل إلى أمة من الأمم يمكن
________________
أن ينقل إليهم ما
يوحيه تعالى إليه بإذنه ، ولكن من التأويل البعيد أن يكون المراد تحديداً بالرسول في قوله تعالى : (
أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا )
هو الرسول البشري المبعوث إلى أمة معينة. ومما يستدل به على كون ذلك بعيداً :
إنّ هذه الآية في سورة الشورى في مقام
بيان طرق التكليم ( الوحي ) الإلٰهي للبشر على سبيل الحصر والتحديد الحاسم ، بدليل استخدام أداة الحصر ( إلّا ) مما يعني أنه لايمكن أن يكون هناك وحي إلهي إلّا وهو واقع ضمن أحد هذه الصور.
فإذا كان المراد بالصورة الأولى بالوحي
هو الإلهام والقذف في الروع .. إلخ ، وبالصورة الثانية خصوص التكليم من وراء حجاب مما كان لموسى عليهالسلام ونبينا صلىاللهعليهوآله
فيما انتفى فيه الحجاب ، فإن القول بأن المراد بالرسول في قوله عن الصورة الثالثة ( أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولًا )
بأنه مخاطبة الأنبياء لأممهم أو قراءة قراء الوحي على الناس يخرج من طرق الوحي ـ لأنّ الآية في مقام الحصر ـ أهم تلك الصور على الإطلاق وأكثرها وروداً في الوحي الإلٰهي إلى الأنبياء عليهمالسلام وهي الوحي بنزول الملك والتي لايمكن أن تضرب الآية عنها صفحاً ولا تشملها بالتحديد ، وهي الطريقة التي نزل بها أساس ما وصل إلينا من وحي الهي على الإطلاق ، وهو القرآن الكريم.
إلّا أن من الممكن أن يكون احتمال شمول
الآية لكلا النوعين من الرسل وارداً ، خصوصاً إذا علمنا أن هناك من يقرأ ( فيوحى ) على صيغة المبني للمجهول فيدخل حينئذٍ كلا الاحتمالين بحيث يصبح المراد بالرسول
رسولان
: رسول ملكي يأخذ الوحي منه تعالى ويؤديه إلى الرسول الإنساني ، والرسول الإنساني الذي لايوحي وإنّما يبلّغ بكلام واضح.
وهذه الحالة من الوحي بإرسال الرسول
الملكي لا تكون إلّا للأنبياء عليهمالسلام
فهي مخصوصة بهم لا تكون لغيرهم ولم يرد في القرآن الكريم ما يدل على حدوث المواجهة بين النبي البشري والملائكة إلّا في حالات معدودة بالنسبة إلى الأنبياء ـ ما عدا الرسول محمد صلىاللهعليهوآله
ـ ومن هذه الحالات نجد :
١ ـ
نزول الملائكة على إبراهيم عليهالسلام
قال تعالى : ( وَلَقَدْ جَاءَتْ
رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ .. )
، وقال تعالى : ( وَنَبِّئْهُمْ عَن
ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ )
.
٢ ـ
مواجهتهم لوطاً عليهالسلام
قال تعالى : ( وَلَمَّا جَاءَتْ
رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ) .
٣ ـ
نزولهم على زكريا عليهالسلام
قال تعالى : ( فَنَادَتْهُ
الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ
مِّنَ اللهِ .. )
.
٤ ـ
ما كان مع غير الأنبياء وذلك في حالة مريم عليهاالسلام
، حيث تمثل لها الملك المعبر عنه بالروح في صورة بشرية في قوله تعالى : (
.. فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا
________________
رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا
سَوِيًّا )
، وكذلك قوله تعالى
: ( وَإِذْ قَالَتِ
الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ
نِسَاءِ الْعَالَمِينَ )
.
وهذه الإشارات التي تضمنت ذكر مواجهة
الملائكة للأنبياء أو غيرهم لم تخصص أو تبين المراد بالملائكة بل اكتفت بالتعميم غالباً إلّا ماكان من التعبير بالروح القدس المؤيد به عيسى عليهالسلام
بقوله تعالى : ( وَآتَيْنَا عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ... )
والذي أشارت آيات أخرى إلى أنه نزل بالقرآن الكريم على النبي صلىاللهعليهوآله.
والمراد به جبرئيل عليهالسلام ، وقال به الشيخ
الطوسي والطبرسي وعلّلا تسميته تعالى له بالروح أنه كان بتكوين الله له روحاً من عنده من غير ولادة والد له فسماه بذلك روحاً ... .
رابعاً ـ المبادئ العامة للوحي النبوي العام :
من كل ما مرّ من البحث في الوحي
الإلٰهي إلى الأنبياء عموماً يمكن استخلاص جملة نقاط تمثل مبادئ عامة تطبع الوحي النبوي بطابعها ومنها :
١ ـ
أنه لا وحي ولا نبوة بدون الغيب الإلٰهي المصدر ، فلا علم لنبي بالغيب قبل نبوته ولابعدها إلّا من خلال الوحي. وإن علم النبي يكون باصطفائه من بين الناس عموماً ليطلع عليه قال تعالى : (
عَالِمُ الْغَيْبِ
________________
فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ
أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ .. ) .
٢ ـ
إنّ أعلم الأنبياء والمرسلين بالغيب نبيّنا محمد صلىاللهعليهوآله
، حيث أطلعه الله عزّوجلّ على علم ما كان وما هو كائن في زمانه وما سيكون إلى يوم القيامة.
وقد ورث عنه صلىاللهعليهوآله ذلك كلّه أمير
المؤمنين الإمام عليّ صلوات الله وسلامه عليه ، ومن ثمّ أولاده المعصومين عليهمالسلام
وكذلك الزهراء البتول عليهاالسلام.
وبهذا يكون أهل البيت عليهمالسلام أعلم بالغيب من جميع
الأنبياء والمرسلين سوى رسول الله صلىاللهعليهوآله.
٣ ـ
إنّ الأنبياء عليهمالسلام
عموماً من البشر ولكنّهم اصطفوا لتبليغ الوحي إلى عموم الناس ، وإن هذا الاصطفاء مرتكز أساساً على قوله تعالى : (
.. الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ..
)
.
٤ ـ
إنّ أساس دعوة كل وحي كان لنبي من الأنبياء هو التوحيد ، فلم يبعث نبي إلّا والتوحيد على رأس دعوته ، قال تعالى : (
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا
فَاعْبُدُونِ )
.
٥ ـ
إنّ اليقين النبوي بمصدر الوحي كان لازماً دائماً للوحي ، حيث يعلم كل نبي يقيناً بأن مصدر ما يلقى إليه هو الله وحده ، وأنّه ليس تحديثاً داخلياً نفسياً أو إلقاءً شيطانياً ، وأن يعلم أيضاً أنّه بهذا الإلقاء للوحي إليه فإنّه
يكلف بالنبوة من الله تعالى ، فلا يعتري النبي شك في أن ما يوحى إليه من الله تعالى وأن ذلك أمر يعلمه دون الحاجة إلى إعمال النظر والبحث عن الأدلّة والحاجة
________________
إلى البراهين.
الأمر الذي يؤكّد كذب جميع الأحاديث
المروية في الصحاح وغيرها في قصّة بدء نزول الوحي والتي تصور أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد صلىاللهعليهوآله بصورة الخائف الوجل الذي لم يعرف الوحي إلّا من طريق ورقة بن نوفل ! وغير ذلك من السخافات التي لا تليق بجلال الأنبياء عليهمالسلام
فضلاً عن أشرفهم وسيّدهم صلىاللهعليهوآله.
٦ ـ
أنه لم تخلُ أُمّة من رسول يرسل لدعوتها ، وأن من لوازم مبدأ الثواب والعقاب الإلٰهي أن تكون الحجة قد ألقيت والتعاليم قد بلّغت. قال تعالى : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ
رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ )
.
٧ ـ
لم يرسل نبي ولا رسول إلى أمة إلّا بلسانها فيلقي عليهم الحجة ويدعوهم إليها بلغتهم ، قال تعالى : (
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ .. )
. ولا يراد بقوله تعالى
: ( .. بِلِسَانِ
قَوْمِهِ )
القوم الذين هو منهم نسبا وإنّما القوم الذين يعيش بينهم ويخالطهم ويبعث إليهم بالنبوة ، وإلّا فإنّ العديد من الأنبياء أرسلوا إلى غير قومهم نسباً وكانوا يدعونهم بلسانهم. فإبراهيم عليهالسلام
دعا عرب الحجاز إلى الحج وأرسل موسى إلى فرعون وأهل مصر وغيرهم.
٨ ـ
إنّ الدين الموحى إلى جميع الأنبياء والرسل عليهمالسلام
هو دين واحد ، فلا تناقض بين شريعة وأخرى وإنّما تكمل شريعة ما قبلها ويتّبع بعض الأنبياء
________________
بعضاً أو تنسخ شريعة
ما كان في شريعة قبلها كما نسخ الإسلام ماقبله من شرائع.
٩ ـ
إنّ مبدأ الوعد والوعيد الإلهيين للبشر كان قاسماً مشتركاً في جميع الرسالات ، وعد بالثواب على الطاعات ، ووعيد بالعقاب على المعاصي فكان الرسل دوماً كما قال تعالى : (
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ )
.
١٠ ـ
إنّ الأنبياء عليهمالسلام
يبعثون تَحُفُّ بهم العناية الإلهية ، ويسايرهم التسديد الإلٰهي ، لطفاً بهم وتأييداً لهم في تبليغ رسالاتهم وأماناً لهم من
المبطلين والمنكرين للإرادة الإلهية ، فلا يتركون وحدهم في مواجهة بطش الطواغيت من الأُمم ، فإذا ما ضلّت أُممهم وأبت طريق الهداية استنقذوا مع مؤيديهم من العقاب الإلٰهي النازل بالعاصين.
١١ ـ
إن كل من ذكر من أنبياء في القرآن الكريم كانوا من الرجال ، وقد دلت ظواهر بعض الآيات على أنه تعالى لم يبعث إلّا رجالاً ، قال تعالى : (
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ
الْقُرَىٰ ... )
، وقال تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا
مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ...
)
.
إلّا أن بعض المفسرين قالوا بنبوة
النساء أيضاً ومثلوا لذلك بمريم عليهاالسلام
وأولوا قوله تعالى : (
إِلَّا رِجَالًا )
بأن المراد منه إلّا بشراً من جنسكم وليسوا أناساً بقدرات خارقة خارجة عن البشرية.
________________
الفصل الثاني
الوحي المحمدي
يحمل الوحي المحمدي بين ثناياه ملامح
أعظم معجزة عرفها التاريخ الديني الإنساني صوّرت لنا مراحل ومواقف تاريخية لم يكن لبشر أن يجمع بينها ، أو يتوصل إلى ماهيتها إلّا بوحي إلٰهي مخصوص متميّز عن كل وحي سابق عليه. فالوحي المحمدي جمع بين كل صور الوحي للأنبياء ، ونقل ـ وهو بنفسه وحي إلهي ـ ما كان قبله من وحي ، وقص ما كان من قصص الأنبياء مع أممهم وشعوبهم ، وبين مراحل دعواتهم ، بل نقل حواراتهم ومخاطباتهم مع قطبي نبواتهم : الله تعالى في تلقيهم الوحي عنه ، والناس الذين نقلوا إليهم الوحي الإلٰهي.
فبالإضافة إلى كون القرآن الكريم بوصفه
بناءاً متكاملاً بكل ما فيه هو وحي محمدي أوحِيَ حرفاً حرفاً إلى الرسول صلىاللهعليهوآله
، وما تحمله هذه الميزة من خصوصية فإنّ الوحي المحمدي نفسه يحتل من القرآن الكريم موقع الصدارة كمّاً ومرتبةً وأفضلية بخصائصه وأشكاله. والأكثر من هذا أن ذكر القرآن الكريم لأي وحي إلى الأنبياء الآخرين يرد دائماً إما مدخلاً للوحي المحمدي ، أو خاتمة للدلالة عليه ، قال تعالى : (
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا
إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن
بَعْدِهِ ... )
، فالوحي المحمدي
إذن يتمثل بهذه الوحدة الإعجازية المتكاملة : القرآن الكريم ، وهذا الفصل الذي خصص للوحي المحمدي ينقسم إلى ثلاثة مباحث رئيسية ، وهي :
وحي القرآن.
صور الوحي المحمدي وأقسامه.
خصائص الوحي المحمدي.
المبحث الأوّل
وحي القرآن
من الملاحظ في القرآن الكريم أنه يربط
غالباً بين وحي القرآن والتنزيل بصيغ ومصاديق متعددة ، يجمع بينها ( النزول ) في التعبير اللغوي القرآني وإن اختلفت في مفاهيمها ، وهذه الأنواع من التنزيل تندرج تحت ثلاثة مصاديق هي :
الصيغة الأولى ـ نزول الملك به :
يعبّر القرآن الكريم عن حالة الالتقاء
بين الرسول الملكي والنبي صلىاللهعليهوآله
باختلاف أشكالها بالنزول ، والنزول في العربية من : نزل. يقال : نزل فلان عن الدابة ، أو من علو إلى أسفل .
________________
وواضح أن الإشارة إلى هذه الحالة بين
الملك والرسول تحمل بين طياتها إشارة إلى مرتبتين مختلفتين يتنزل من إحداهما إلى الأخرى ، وهذا المعنى يفهم منه الشيخ مصطفى عبد الرزاق أن فيه دلالة من خلال ظاهر لفظه على : أنه يمثل صورة مادية للملك ونزوله .
ويكاد هذا المعنى يتأكد في الوصف القرآني لهذه العملية مرتبطاً بالمصدر المؤكد لفظياً ، قال تعالى : (
... وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا )
. وقد عبر عن إرسال
الملائكة إلى البشر بإنزالهم في مواضع عديدة مما يتأكد معه اقتران هذا المعنى بما يكون من صلة الإلقاء والتلقي بين الملك والنبي ، قال تعالى : (
... يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ... )
، وقال تعالى : ( وَلَوْ أَنَّنَا
نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىٰ ... )
. فظاهر الآيات دال
على مرتبتين مختلفتين عليا وسفلى ، يتم النزول من الأولى إلى الثانية ، وفي مرتبة العلو نكاد نرصد احتمالات عديدة تمثل معنى الإنزال من خلال الآيات في ذلك وهذه الاحتمالات هي :
١ ـ
أن يكون النزول من الله تعالى ، وهو العالي العلي المطلق ، ينزل الوحي والتشريع إلى أنبيائه كما ينزل الملائكة ، قال تعالى : (
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )
، وقال تعالى : (
مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا
________________
بِالْحَقِّ ) .
٢ ـ
أن يكون النزول اختراقاً للحجب بين العالمين عالم الملأ الأعلى : وهو عالم الملائكة
، وعالم البشر السفلي. قال تعالى : (
... وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ ... )
، وقال تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ
لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ ... ) .
٣ ـ
ارتباط معنى النزول بالعلو والسفل الماديين ، إذ يرتبط النزول بالسماء كما يرتبط نزول أشياء أخرى من السماء ، قال تعالى : (
... أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ
مُنزَلِينَ ... )
.
وعموماً فإنّ نزول القرآن الكريم كان
يرد دائماً منسوباً إلى ملك الوحي والذي يعبر عنه القرآن بعدة صيغ تتمثل بالآتي :
١ ـ
جبريل عليهالسلام
كما قال تعالى : ( قُلْ مَن كَانَ
عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ ... )
.
٢ ـ
الروح الأمين قال تعالى : (
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ *
عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ )
. وقد أجمع المفسرون
تقريباً على أن المراد بالروح الأمين هنا هو جبريل عليهالسلام
، ومنهم جمع من أوائل المفسرين كابن عباس والحسن
________________
وقتادة والضحاك وابن
جريج وغيرهم .
وقال المفسرون في وصفه بالأمين : إنه أمين الله لا يغيره ( الوحي ) ولا يبدله .
٣ ـ
الرسول الكريم : قال تعالى : (
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ *
ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ *
مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ )
. ويلاحظ هنا ما يتسق
مع الآية الأولى في وصف الملك ( بالأمين ).
٤ ـ
الروح القدس : قال تعالى : (
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا )
. والقدس هنا يقصد به
الطهارة والنزاهة ، فالمقصود بوصفه بالروح القدس أنه روح طاهرة عن قذارات المادة ، نزيهة عن الخطأ والغلط والضلال .
ومما يلاحظ أيضاً في القرآن الكريم أنه
في حالة الوحي يرد ذكر الروح بمصداقين هما :
الأوّل :
وصف الملك الذي يلقي الوحي إلى النبي صلىاللهعليهوآله
بذلك ، ودل عليه ما سبق من وصفه بالروح الأمين والروح القدس ، وفي هذا الوصف بالروح عدة آراء : فإما أنه تحيا به الأرواح بما ينزل من البركات ، أو لأنّ جسمه روحاني ، أو أن الحياة أغلب عليه فكأنه روح كله ، أو أنه يحيا به الدين .
________________
الثاني :
وصف ما نزل به على النبي صلىاللهعليهوآله
وألقاه عليه : بالروح ، قال تعالى : ( يُنَزِّلُ
الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
... )
. وقال تعالى : ( رَفِيعُ
الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ )
. وقد اختلف في معنىٰ
الروح الوارد في الآيتين وفي غيرهما ، فمنهم من يرى أن المراد بالروح هنا هو الوحي وهو ما اختاره الشريف الرضي
، وقيل : إنّ المراد النبوة. وهو ما نقله الشيخ الطوسي عن بعض المفسرين .
وذهب مفسرون آخرون إلى أن المراد بالروح
هو الروح المصاحبة للأنبياء فهي روح تتنزل مع الملائكة
، والأقرب إلى المراد بالروح في الآيتين هو الوحي ، لأنه خص بمن اصطفاه الله تعالى ، وعلق نزوله على بعض الناس دون بعض بمشيئته تعالى ، ومما قيل في سبب وصفه بالروح عدة معان كقولهم : إن السبب أن الناس يحيون به من موت الضلالة ، وينشرون من مدامن الغفلة ، أو لأنّه تحيى به القلوب الميتة بالجهل ، أو أنه يقوم في الدين مقام الروح من الجسد .
وفي الروح معانٍ أخرى مختلفة باختلاف
ورودها في القرآن الكريم
________________
لا نطيل البحث بذكرها
يمكن الرجوع إليها في مظانها .
الصيغة الثانية ـ النزول على القلب :
يذكر القرآن الكريم في أكثر من موضع أن
محل نزول الوحي على النبي من قبل الملك هو القلب ، قال تعالى : (
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ *
عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ )
.
وقال تعالى : (
... مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ
بِإِذْنِ اللهِ )
.
وقد اختلف المفسرون في فهمهم للمراد
بالقلب في الآيات التي اقترنت بلفظ النزول عليه ، وذلك في رأيين :
الأوّل :
من المفسرين من يرى أن المراد هنا هو القلب هذا العضو البدني ، وإن من خواصه أن يكون مدركاً وحافظاً ، فالزمخشري يرى أن المراد هو القلب في كونه منشأ الفهم ، وأداة الإدراك ، فإنزاله على القلب يراد به تحفيظه وتفهيمه فيثبت فيه بحيث لا ينساه ، وهو يستدل بكونه نازلاً بالعربية ـ كما أشارت إليه الآيات ـ على إرادة هذا المعنى ، فتنزيله بالعربية دليل تنزيله على قلبه بهذا المعنى ( لأنك تَفهَمه وتُفَهِّمه قومك ، ولو كان أعجمياً لكان نازلاً
على سمعك ) .
________________
وأكد الطبرسي هذا المعنى بذهابه إلى أن
استعمال القلب هنا تم على سبيل التوسع والبلاغة ، فالمراد بالنزول على القلب عنده : ( إن الله تعالى يسمعه جبريل عليهالسلام
فيحفظه ، وينزل به على الرسول صلىاللهعليهوآله
ويقرأه عليه فيعيه ويحفظه بقلبه فكأنه نزل به على قلبه ) .
وهذا ما فهمه مفسرون آخرون ، فالمراد
بالقلب هو القلب الحقيقي من حيث أنّه جعله وعاء للوحي فإنّ الله تعالى ( لقنه حتى تلقنه ، وثبته على قلبه ) .
ومن المفسرين من ربط بين القلب بهذا
المعنى وكونه المرتبة الأدنى بعد الروح في عملية التلقي ، فاستعمال القلب في الآيات يراد به التنزل عليه من حيث هو موضع تتنزل عليه المعاني الروحية التي تنتقل إليه بعد تنزلها على الروح لما بينهما من تعلق .
الثاني :
إن استخدام القلب هنا لا يراد به هذا العضو الجسماني ، وإنّما يمثل إدراكات النبي النفسية المتلقية للوحي ، بمعنىٰ استبعاد أي دور للحواس الظاهرة في عملية تلقي النبي صلىاللهعليهوآله
للوحي عن الملك ، لقوله تعالى : (
عَلَىٰ قَلْبِكَ )
ولم يقل ( عليك ) ، وفيه دلالة على أن المتلقي الحقيقي من النبي للوحي هو ( نفسه الشريفة من غير مشاركة الحواس الظاهرة التي هي الأدوات المستعملة في إدراك الأمور الجزئية ) .
والحقيقة أن استخدام القلب هنا فيه
دلالة مهمة ، تتمثل في أن الوحي
________________
يجمل بين طياته معاني
الخفاء ، والإلقاء السريع بما يعز على إدراك غير الموحى إليه ، والمعاني الملقاة بهذه الصورة من الوحي لا يمكن للأعضاء الحسية مجاراة السرعة التي تلقى بها ، كما أن تلك الحواس أمر مشترك بين النبي وغيره فإذا كانت ذات دور في تلقي الوحي فلم لم يدركها غيره وفي هذا النطاق من الخفاء يدخل كل ما له صلة بالوحي.
فهنا يمكن الجمع بين عناصر الرأيين
بالقول : إن القلب هنا بمعنى الأداة المدركة التي يعبر عنها في القرآن أحياناً باللب ، قال تعالى : (
... وَمَا يَذَّكَّرُ إلّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ )
، وقال تعالى : ( ... أُولَٰئِكَ
الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ )
، فكأن القلب المدرك
لما ينزل عليه من الوحي هو النفس النبوية القدسية الصقيلة بالفطرة والاصطفاء والاستعداد الخاص لتنعكس عليها نصوص الوحي مكثفة تحتمل معاني وعلوماً ليس للأدوات الحسية أن تدركها بكثافتها المرادة ، وهي تحمل شرائع وتعاليم متكاملة تنظم حياة مجتمعات كاملة.
كما أن هذا النزول نزول بالمعاني لا
بالألفاظ ، بدلالة الآية : (
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ) .
الصيغة الثالثة ـ نزول الوحي مفرقاً :
مما يتميز به الوحي المحمدي عن جميع ما
سبقه من وحي إلى الأنبياء عموماً ميزة النزول المتدرج المتفرق في وحي استمر مدة ثلاثة وعشرين عاماً
________________
تفصل بين أول ما نزل
من الوحي وآخر ما نزل منه.
فالقرآن الكريم وهو نص الوحي
الإلٰهي إلى النبي صلىاللهعليهوآله
طيلة هذه المدة تميَّز عن جميع كتب الأنبياء السابقين ، فافترقت شريعته عن شرائعهم بهذه الميزة الفريدة إذ جاءت متدرجة متفرقة طيلة مدة التشريع.
فما وصل إلينا من ذكر شرائع من سبق من
الأنبياء مستفاداً من القرآن الكريم والأخبار يصوّر لنا بما لا يقبل الشك والجدل أن كلاً منها نزلت على صاحبها ، وحده متكاملة في وقت واحد وأحياناً في موقف واحد ، وهذا الحال ينطبق على شريعة نوح التي عبَّر عنها القرآن الكريم بما أوصى به ، وكذلك على ما كان من شرائع إبراهيم المعبّر عنها بالكتاب ، والصحف وشريعة موسى النازلة دفعة واحدة وعبّر عنها بالتوراة ، والألواح والكتاب والنازلة دفعة واحدة في موقف التكليم على طور سيناء ، كما ينطبق على شريعة عيسى المعبّر عنها بالإنجيل .
قال تعالى : (
شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ) .
ومما يؤكّد هذا التفريق الواقع في الوحي المحمدي ويثبته ويعلّله هو طعن بعض الكفار من قريش أو اليهود خاصّة في الوحي المحمدي ( القرآن ) بسبب هذا النزول المتفرق مما يرونه دليلاً على عدم صدوره عنه تعالى ، فهم يرون أن ما يدل على إلهية شريعة ما هو نزولها وحدة واحدة متكاملة ، قال تعالى : (
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً
كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ
________________
فُؤَادَكَ ... ) .
وما يُستفاد من القرآن الكريم أن نزوله
ثم في شكلين :
الشكل الأوّل ـ النزول المتفرّق :
قال تعالى : (
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ
وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا )
، ودلالة ظاهر هذه
الآية مع ما يوضحها ويعاضدها من روايات تؤكد أن القرآن الكريم نزل منجماً متفرقاً في سنين طويلة تمثل مدة بعثته صلىاللهعليهوآله
، وكونه نزل مفرقاً أنه نزل آية آية وسورة سورة ، حيث كان يوحى إليه في كل مرة من مرات الوحي بعدد من الآيات أو سورة متكاملة أو بعدّة سور وذلك في مدّة ثلاث وعشرين سنة
، وقيل غير ذلك.
ويبدو أن الخلاف في مدّة رسالته صلىاللهعليهوآله هو سبب هذا الخلاف
في مدة نزول الوحي عليه صلىاللهعليهوآله.
وهذا ما أكده بعض الباحثين
وهو يرتبط بعمر الرسول صلىاللهعليهوآله
حين بعث وهو ما اختلفوا فيه أيضاً ، والصحيح أنّه صلىاللهعليهوآله
بُعث لأربعين سنة ، فمكث بمكّة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه ، ثم أُمِر بالهجرة فهاجر عشر سنين ، ومات نبي الله صلىاللهعليهوآله
وهو ابن ثلاث وستون سنة .
والحق أن الدلائل متعددة في القرآن
الكريم على هذا النزول المتفرق له
________________
فيلاحظ أن الآية
السابقة قوله تعالى : (
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا )
. مشفوعة بآيات أخرى
دالّة على التفريق ومن ذلك :
١ ـ
تعهده تعالى بحفظ الوحي ( القرآن ) وجمعه قال تعالى : (
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ )
، ولا شك أن التعهد
بجمعه إشارة تؤكّد كونه نزل منجماً متفرّقاً.
٢ ـ
رده تعالى على الطاعنين في هذا التفريق بقولهم فيما حكاه تعالى عنهم ( لَوْلَا نُزِّلَ
عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً )
فأثبت تعالى أنه أنزله على غير هذه الحال بتنزيله مفرقاً للحكمة المذكورة في آخر الآية وذلك قوله تعالى : ( ... كَذَٰلِكَ
لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا )
، أي كذلك أُنزل متفرّقاً .
٣ ـ
ما يستفاد من لفظ التعبير عن النزول بصيغتين هما :
أ ـ
التنزيل : الذي يدل على نزوله متفرقاً كما استفاده جمع من المفسرين .
وهو ما يؤكده القرآن الكريم في أنه لا
يعبر بصيغة التنزيل إذا كان الحديث في مقام البيان عن القرآن كوحدة متكاملة بمعنى الكتاب كاملاً دفعة واحدة ، قال تعالى : ( هُوَ الَّذِي
أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ... )
، وقال
________________
تعالى : (
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .
ب ـ
الإنزال : بما يدل على كون المقصود إنزاله دفعة واحدة يشمل الكتاب كله ، ومما يؤكد هذا قوله تعالى : (
كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ )
، وقوله تعالى : (
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) .
ومما لا شك فيه أن في هذا النزول
المتفرق طيلة ثلاث وعشرين سنة حِكَما وأسرارا دلّت على بعضها آيات الكتاب واستفاد المفسرون بعضاً آخر منها ، كأن يتسنّى للرسول من قراءته وتلاوته وبيان ما فيه من أحكام وتشريع وعقائد شيئاً فشيئاً ، وهو ما عبَّر عنه قوله تعالى : (
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا ) .
وفي هذا المجال فإنّ الله تعالى في هذه الحكمة إنّما ينظر إلى الناس باعتبارهم الهدف الرئيسي من تنزيل القرآن بقصد هدايتهم ... .
ومما استفاده المفسرون من وجوه في نزوله
متفرّقاً نواحٍ متعدّدة يمكن إجمالها فيما يأتي
:
١ ـ
إنّ هذا النزول نجوماً وجه من أوجه إعجازه ، فلو كان في مقدور البشر لاستطاعوا أن يأتوا بمثله متفرقاً.
________________
٢ ـ
إن الوحي كان ينزل بحسب الوقائع والأحداث كجواب على أسئلة المسلمين أحياناً ، كما ينزل أحياناً أخرى حين يستشكل على الرسول مسائل لم ينزل بها سابق وحي.
٣ ـ
ضرورة التدرّج في نزول الأحكام والتعاليم من الأسهل إلى السهل ومن السهل إلى الأصعب ، مجاراة لرسوخ تعاليم الدين الجديد في قلوب المؤمنين شيئاً فشيئاً ، ولما في الأحكام من ناسخ ومنسوخ يقتضي النزول مفرقاً لبيان كل منهما ، حيث ينزل بحسب الوقائع المقتضية ثم ينسخ الحكم أو الآية لانتفاء ضرورتها ، أو لأنّ ما أريد من نزولها قد تحقّق أو تسهيلاً على المكلّفين.
الشكل الثاني ـ النزول جملة واحدة :
وذلك بنزوله بالشكل الذي هو عليه بين
الدفتين بمجموع ما فيه من سور وآيات تمثّل النص الموحى الملقى من قبل جبريل عليهالسلام
على النبي صلىاللهعليهوآله
طيلة فترة نزوله. وفي الكتاب الكريم ما يدلّ على نزوله بهذه الصورة جملة واحدة ، قال تعالى : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ )
، وقال تعالى : (
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ )
.
ومن المفسرين من يرى أن هذا النزول
المقصود في هذه الآيات وأمثالها يقصد به نزوله قبل أن يلقى إلى النبي صلىاللهعليهوآله
بمصاديق مختلفة في ذلك : فعن ابن عباس أنه قال : ( أُنزِل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ، ثم كان ينزله جبريل على
________________
محمد صلىاللهعليهوآله ... )
، إلّا أن الظاهر من دلالة الآية السابقة التي عبرت بلفظ الإنزال وما يشير إلى نزوله دفعة واحدة أن القرآن أنزل حقيقة وهو جملة واحدة بكل ما يضمه من نصوص الآيات.
المبحث الثاني
صور الوحي المحمدي وأقسامه
من المميزات الهامّة التي تطبع الوحي
المحمدي أن جميع ما وصف من صور تكليمه تعالى ووحيه الملقّى إلى نبي من أنبيائه قد كان لرسول الله صلىاللهعليهوآله مثله إن لم يكن بمرتبة أعلى منه.
فالوحي المحمدي اشتمل على كلّ صور الوحي
التي تعرّض لها القرآن وذكرها إجمالاً أو تفصيلاً ظاهرا أو بحاجة إلى تأويل.
وإذا كان لنا أن نجمل ذكر الصور التي
أوحي بها إلى النبي صلىاللهعليهوآله
فيمكن أن يكون ذلك بالصور الآتية :
الصورة الأولى ـ الرؤيا الصادقة :
تمثّل الرؤيا الصادقة جانباً مهماً من
جوانب التلقّي الغيبي في نبوات الأنبياء عليهمالسلام
، إذ كان تلقّي الوحي عن طريق المنامات وجهاً من وجوه الوحي التي كانت للعديد من الأنبياء عليهمالسلام
وترد هنا أشهر رؤيتين يتعرّض لهما القرآن.
تتمثّل الرؤيا الأولى برؤيا إبراهيم عليهالسلام ، وهي أساس مهمّ في
نبوته ونبوة
________________
ابنه إسماعيل ، وهو
موضوع الرؤيا. والثانية رؤيا يوسف عليهالسلام
التي مهّدت لتفاصيل مهمّة في حياته النبوية التي ارتبطت بتلك الرؤيا ليس في بدايتها فحسب بل في مراحل حياته في أغلبها بما أُوتي من نعمة أسبغها عليه تعالى في تأويله الرؤيا والأحلام.
ولا يختلف نبيّنا صلىاللهعليهوآله في هذا الجانب عن
غيره من الأنبياء عليهمالسلام
، وقد ثبتت الرؤيا النبويّة الصادقة لنبينا صلىاللهعليهوآله
في حالات عديدة ذكرها القرآن ، وأشهر تلك الرؤى ما كان من رؤياه في فتح مكّة ودخول المسلمين إليها ، قال تعالى : ( لَّقَدْ صَدَقَ
اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن
شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ... ) .
فهذه الرؤيا جعلها تعالى مقياساً لموقف مهمّ من مصاديق نبوّته صلىاللهعليهوآله
، إذ جعل تصديقها تثبيتاً وترسيخاً لمبادئ هذه النبوّة ، قال تعالى : (
وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) .
فقد روى الفريقين ان النبي صلىاللهعليهوآله رأى في منامه بني
أُميّة وهم ينزون على منبره الشريف نزو القردة فساءه ذلك ، فما استجمع ضاحكاً حتّىٰ فارق الحياة ، وأنزل الله تعالى في ذلك (
وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) أي : بنو أُميّة .
________________
وهكذا كانت تلك الرؤيا صادقة كفلق الصبح
، حيث كشفت له صلىاللهعليهوآله
عن مصير هذه الأُمّة بعده ، وإن من سمّاهم النبي الأعظم صلىاللهعليهوآله بنفسه طلقاءَ ، وميّزهم بسهم المؤلّفة قلوبهم ، لكي لا تضعهم الأُمّة إلّا بالموضع الذي وضعهم فيه النبيّ صلىاللهعليهوآله
ولا تمنحهم اسماً آخر غير ( الطلقاء ) .. سيصبحوا وشيكاً على طبق تلك الرؤيا ( أُمراء المؤمنين ) !! ليردّوا الناس على أعقابهم القهقرىٰ.
وفي هذه الرؤيا والتي سبقتها دلالة
أُخرىٰ على أنّ الرؤيا النبوية جزء من الوحي ، خصوصاً وانّهما كانتا من جملة نصوص الوحي المنزل عليه صلىاللهعليهوآله.
ويذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الأحاديث
الواردة بالقطع على صحّة رؤيا الأنبياء عليهمالسلام
لا تكفي وحدها للقطع بأنها من الوحي. فالشريف المرتضى والشيخ الطوسي يشترطان لذلك أن تكون الرؤيا مسبوقة بوحي في اليقظة بالأمر باتباع ما سيرد في الرؤيا ، واستدلا على ذلك في الحديث عن رؤيا إبراهيم عليهالسلام
أنّه سيذبح ولده بأنّه لو لم يأمره الله تعالى في اليقظة بواسطة الملك مثلاً لما جاز لإبراهيم عليهالسلام
أن يعمل بما كان في الرؤيا التي رآها .
الصورة الثانية ـ الوحي بواسطة المَلَك :
يُستفاد من مجموعة الآيات الكريمة التي
تتطرق إلى نزول القرآن الكريم كقوله تعالى : ( نَزَلَ بِهِ
الرُّوحُ الْأَمِينُ ... )
، وقوله تعالى : (
... مَن كَانَ عَدُوًّا
________________
لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ
عَلَىٰ قَلْبِكَ ... )
وقوله تعالى : (
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ )
يستفاد أن القرآن الكريم أوحي جميعه بهذه الصورة المُعبّر عنها بإرسال الرسول الملكي جبريل عليهالسلام إليه ونزوله عليه بالوحي ، مما يؤكد أن هذا الوحي تمثلت فيه خصوصية الإيحاء من طريق التكليم والخطاب الشفوي من قِبَل الملَك إلى النبي صلىاللهعليهوآله
ناقلاً إليه كلام الله تعالى ، فدور الملك في هذه الصورة من الوحي متمثل في أنه يحمل التكليم الإلٰهي ويَبلَغه إلى النبي ، فيسمع النبي كلام الملك وحياً ، وهو يحكي كلام
الله تعالى .
وكما سبقت الإشارة ـ في موضوع الوحي إلى
الأنبياء بإرسال الرسول الملكي ـ فإنّ هذا النوع من الوحي الذي أُوحي القرآن من خلاله سمي بالوحي الجلي لما تتوافر فيه من عناصر رؤية الملك وسماعه ودرجة اليقين المصاحبة وغيرها من الأمور التي ستتضح من خلال البحث في هذه الصورة.
كما سبقت الإشارة أيضاً إلى أن القرآن
الكريم يعبر عن ملك الوحي بعدة صيغ تتمثّل في : جبريل عليهالسلام
والروح القدس والروح الأمين والرسول الكريم ... .
أوّلاً ـ أشكال الوحي بواسطة الملك :
ويتّخذ الوحي عن طريق المَلَك إلى
الرسول صلىاللهعليهوآله
عدّة أشكال تبعاً للصورة التي يأتيه بها ويُلَقِّنهُ الوحي الإلٰهي ، ويمكن إجمال هذه الأشكال في
الآتي :
________________
١ ـ
مواجهة جبريل عليهالسلام
للنبي صلىاللهعليهوآله
في صورته الملكية الحقيقية التي خلقه الله عليها ، وقد أشار القرآن الكريم إلى حصول ذلك مرّتين.
الأُولى :
في قوله تعالى : ( وَلَقَدْ رَآهُ
بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ... )
فقد ذكر الطبرسي ما روي عن مجاهد وقتادة والحسن أنّهم قالوا : رأى محمد صلىاللهعليهوآله جبريل على صورته التي خلقه الله عليها حيث تطلع الشمس وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق .
والأُخرى :
في ليلة المعراج ، قال تعالى : (
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ ) إلى قوله تعالى : (
لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ )
.
وعن الإمام جعفر الصادق عليهالسلام ( ت ١٤٨ هـ ، ٧٦٥م )
وصف ما رآه صلىاللهعليهوآله
بالآيات الكبرى يعود إلى رؤيته صلىاللهعليهوآله
لجبريل في صورته الملكية ، ففي تفسيره للآية يقول الإمام عليهالسلام
: «
رأى جبريل على ساقه الدُرّ مثل القطر على البقل ، له ستمائة جناح قد ملأ بين السماء والأرض ... »
.
وقد نقل القُمي أبو الحسن علي بن
إبراهيم ( ت بعد ٣٠٧ هـ ، ٩١٩م ) ذلك في تفسيره أيضاً .
________________
٢ ـ تمثّل المَلَك في
صورة بشرية :
ويستفاد من الروايات الكثيرة الصريحة
بذلك أن تَمثُّل الملك للنبي صلىاللهعليهوآله
في صورة بشرية كان على حالتين :
الأولى ـ تمثّله في صورة شخص معروف للنبيّ
والصحابة :
وقد حدّدته الروايات بأنّه دحية الكلبي
( ت نحو ٤٥ هـ ، ٦٦٥م ) وهو رسول النبي صلىاللهعليهوآله
إلى قيصر الروم. فقد قيل أنّه كان من أحسن الناس صورة ، وأن جبريل كان يتمثّل في صورته للنبيّ صلىاللهعليهوآله
وأنّ النبيّ كان
يراه عليها وكذلك الصحابة ، قال العلّامة الطبرسي : « وإن جبرئيل عليهالسلام ظهر لأصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله
في صورة دحية الكلبي »
، وروى ذلك عليّ بن إبراهيم القمّي في تفسيره وحدّده في مسير النبيّ صلىاللهعليهوآله
إلى بني قريضة
، إلّا أن الصحابة لا يعلمون أنّه جبريل. وقد رآه أمير المؤمنين الإمام عليّ صلوات الله وسلامه عليه في تلك الصورة في مرض النبيّ صلىاللهعليهوآله
وكذلك في غزوة الأحزاب .
وهذه الصورة يستفاد أنها تكرّرت كثيراً في نزول جبريل على النبي صلىاللهعليهوآله
اعتماداً على أنّ الصورة الأولى وهي نزوله في صورته الحقيقية لم تحدث إلّا مرّتين.
________________
الثانية ـ تمثّله في صورة بشرية غير معروفة :
ويفهم ذلك من خلال الروايات الواردة عن
( فترة الوحي ) التي تأخّر فيها عن الرسول صلىاللهعليهوآله
بعد إخباره له باختياره للنبوة. فقد روى ابن هشام في السيرة أن هذه الرؤية كانت بعد نزول آية ( اقْرَأْ ) من سورة العلق في غار حراء بينما كان الرسول صلىاللهعليهوآله
نائماً. يروي ابن هشام أنّه صلىاللهعليهوآله
قال : «
... فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. قال صلىاللهعليهوآله : فرفعت
رأسي إلى السماء أنظر فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل قال صلىاللهعليهوآله : فوقفت
أنظر إليه فما أتقدم أو أتأخر وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء ... فلا أنظر في ناحية منها إلّا رأيته كذلك ... »
.
وقد نقل الطبرسي هذه الرواية بنفس
الصيغة ولكنها خلت من الإشارة إلى كونه في صورة رجل .
٣ ـ
أن يَنفُثَ المَلَك جبريل عليهالسلام
الوحي في رُوع النبي ( وعَبَّر عن ذلك بقلبه أيضاً ) نفْثاً ، وفي هذه الحالة فإنّ الرسول صلىاللهعليهوآله
يحُسّ أن معنى جديداً لم يسبق حدوثه له قد وعاه قلبه وعقله ، وهذه الحالة تنعدم فيها المواجهة بين الملك والرسول فهو صلىاللهعليهوآله
لا يرى الملك ولا يسمع صوت الوحي وإنّما يجد تلك المعارف في نفسه ، ويعلم أن الملك نفثها في رُوعِه ، قد عبر بعض الباحثين عن هذه الحالة بأن الرسول صلىاللهعليهوآله
فيها ( يتلقى عِرفاناً يقينياً بغير صوت ) .
________________
وما يؤكّد ويفصل هذه الحالة من الوحي ما
رواه ثقة الإسلام الكليني في الصحيح عن أبي حمزة الثمالي الثقة ، عن الإمام أبي جعفر الباقر عليهالسلام قال : «
خطب رسول الله صلىاللهعليهوآله
في حجّة الوداع فقال : يا أيّها الناس والله ما من شيء يقربكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلّا وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنّة إلّا وقد نهيتكم عنه ، ألا وأنّ الروح الأمين نفث في رُوعي أنّه لن تموت نفس حتّى تستكمل رزقها ، فاتّقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولا يحمل أحدكم استبطاء شيء من الرزق أن يطلبه بغير حلّه ، فإنّه لا يدرك ما عند الله إلّا بطاعته »
.
من خلال هذه الرواية وربطها مع معاني
الآيات التي أشارت إلى نزول المَلَك بالوحي على قلبه صلىاللهعليهوآله
يمكن أن نفهم أن الوحي النازل على قلبه هنا نوعان :
ـ فمنه ما هو نص يبلغ كما هو لا تغيير
فيه ، وهو ما يكون ضمن النص القرآني.
________________
ـ ومنه ما يمكن التصرف فيه بالتعبير عنه
مما لا يدخل ضمن النص القرآني الكريم كهذه الحالة التي رواها الرسول صلىاللهعليهوآله
في الرواية السابقة.
هذا .. وهناك روايات أُخرى في اشكال وحي
الملك ، وقد أعرضنا عنها لعدم وجودها في تراث أهل البيت عليهمالسلام
، مع اختصاص العامة بروايتها ، فضلاً عمّا فيها من تساؤلات وإشكالات.
ثانياً ـ ملامح الوحي الملكي إلى النبي صلىاللهعليهوآله :
بإنعام النظر في ما يحيط بالوحي المحمدي
وما يحمله من خصوصية متعددة العناصر نستشف ملامح علاقة خاصة بين المُوحي وهو الله تعالى والمُوحىٰ إليه وهو النبي صلىاللهعليهوآله
وواسطةُ الوحي جبريل عليهالسلام.
هذه الملامح المتعددة تشكل سمات مميزة تطبع الوحي المحمدي القرآني بطابع خاص يميزه عن كل وحي سابق عليه ، وهذه الملامح الرئيسية يمكن إجمالها في الآتي :
١ ـ
تأكيد القرآن غالباً إجمالاً أو تفصيلاً على هذه الأبعاد الثلاثة المكونة لمعادلة الوحي : المُوحي ، والمُوحىٰ إليه ، والواسطة. وهذه الأبعاد لاتزيد ولكنها قابلة لفقدان أحد أطرافها وهو في كل الحالات الواسطة فقط وذلك حين يكون الوحي بطريق الإلهام والقذف في القلب مباشرة منه تعالى إلى النبي صلىاللهعليهوآله.
فنحن في الوحي المُلقى بواسطة جبريل
نلمس دائما دلائل مُبَيِّنة لمصدر الوحي ، حيث أن الملك يتلقى الوحي من الله تعالى ـ بالوحي إليه أيضاً أو
________________
بتَسَلُّم من اللوح
المحفوظ كما ترد الإشارات إلى ذلك ـ ويلقيه إلى النبي الذي يؤدّيه بدوره إلى المكلفين من الناس.
٢ ـ
إنّ هذا الوحي بكلّ ما يتعلّق به من أحوال تُميّزه كظاهرة ، أمر خارجي يطرأ على النبيّ لم يسبق له أن تَلَمَّسَه ، فهو بعيد عن إدراكاته النفسية وليس بأمر داخلي أحسّه النبيّ في نفسه باعتبارها مصدر أفرز تلك التعاليم والمعارف.
فهذا الوحي كان ( حقيقة خارجية مستقلّة
عن كيان النبي النفسي )
وليس كما يحاول بعض المبطلين أن يصوره عرفاناً داخلياً صادراً عن نفسه ومعارف أفضى بها صفاؤه النفسي وانفعالاته الداخلية التي سمت فوق مستوى عصره.
فهذه الظاهرة لم يكن للنبي تَحَكُّم في
عناصرها ولا قدرة على إيجادها فكان الوحي ينقطع عنه أحياناً حتى يطول انقطاعه ويترى أحياناً في دفق مستمر حتى كان يأتيه في أحوال وظروف مختلفة يَقِظاً ونائماً ليلاً أو نهاراً منفرداً أو مع أصحابه.
٣ ـ
إنّنا نجد الرسول صلىاللهعليهوآله
وهو يتلقّى الوحي متحفّزاً بكلّ وجوده لعملية التلقي نجده مخاطباً مأموراً مُطيعاً يتلقى دون أن يكون له دور في تغيير ما يُلقى إليه ، ولا في تحديد لطريقة الإلقاء ، ولا يصدر عنه أي تصرف في عناصر هذا الوحي. فكل ما له من دور هو أن يَتَلقى. والمُوحي هنا قوة مسيطرة مهيمنة على مدرِكات النبي وأحواله النفسية ، والنبي شخصية متلقية ليس
________________
عليها سوى تبليغ ما
أُلقي إليها.
٤ ـ
ما لوحظ على ظاهرة الوحي من أحوال ظاهرية جسدية مصاحبة تظهر على الرسول صلىاللهعليهوآله
عبر عنها المفسرون والمؤرخون بالشدة التي يعانيها صلىاللهعليهوآله
من التنزيل كتفصده صلىاللهعليهوآله
عرقاً ونحو ذلك من أحوال مصاحبة لعملية الوحي يرى فيها بعض المفسرين توضيحاً وشرحاً لما ورد في قوله تعالى : ( إِنَّا سَنُلْقِي
عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا )
، حيث أرجعوا هذا
الثقل إلى ما يلاقيه النبي صلىاللهعليهوآله
من عناءٍ جرّاء تلقّيه الوحي من الملك.
وذهب مفسرون آخرون إلى آراء أخرى عديدة
في تفسير هذا الثقل تضمنتها كتب التفسير
لا مجال للخوض فيها في هذا البحث.
والحقيقة أن هذه المظاهر الخارجية هي
العلائم الوحيدة التي تقع ضمن حدود الإحساس من قبل الصحابة إذ لم يكن لهم من دليل يحدّد الوقت الذي يأتي فيه الوحي إلى الرسول صلىاللهعليهوآله
إلّا ما كانوا يرونه عليه من تلك الآثار الخارجية الظاهرة. فلم يرد في كتب التاريخ أو التفسير أية شهادة لصحابي مطلقاً بأنه شاهد الملك أو سمع صوته وهو يوحي إلى النبي صلىاللهعليهوآله ، وليس هناك إلّا ما كانوا يرونه من تلك الآثار إلّا ما كان عن أمير المؤمنين الإمام عليّ عليهالسلام الذي شكل استثناء عن الصحابة في ذلك.
ورد في النهج الشريف من خطبة له عليهالسلام يقول فيها : «
ولقد علمتم موضعي من رسول الله صلىاللهعليهوآله
بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره
________________
وأنا وليد ، يضمّني إلى صدره ، ويكنفني
في فراشه ، ويمسّني جسده ، ويشمّني عرفه. ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أُمّه ، يرفع لي في كلّ يوم علماً من
أخلاقه ، ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري وغير
خديجة ، ولم يُجمع بين واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله صلىاللهعليهوآله وخديجة عليهاالسلام وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشمّ ريح النبوة ، ولقد سمعت رنّة
الشيطان حين نزول الوحي عليه صلىاللهعليهوآله
، فقلت : يا رسول الله ما هذه الرنّة ؟ فقال : هذه رنّة الشيطان ، قد آيس من عبادته. إنّك تسمع ما أسمع ، وترى ما أرى إلّا أنّك لست بنبيّ ، وإنّك لوزير وإنّك لعلى خير »
.
وقال عليهالسلام
: «
كنت أسمع الصوت ، وأبصر الضوء سنين سبعاً ، ورسول الله صلىاللهعليهوآله
صامت ما أذِن له في الإنذار والتبليغ »
.
وهذه الشدّة وما تفرزه من مظاهر خارجية
على ملامح النبي صلىاللهعليهوآله
إنّما هي من آثار اختراق الحجاب بين العالمين المختلفين اللّذَيْنِ التقيا في عملية الوحي : عالم الملائكة وعالم البشر. وهذه الحالة يرى فيها بعض الباحثين نوعاً من تلقي النبي صلىاللهعليهوآله
لموجات ذات طبيعة خاصّة .
إنّ هذه الطبيعة الخاصّة تتمثّل في ما
تتضمّنه ظاهرة الوحي من خصوصية الإلقاء في سرعة وخفاء.
فإذا تصورنا عملية إلقاء كَمٍّ هائل من
المعارف في لمح خاطف بطريقة
________________
خفية تختص بمن
يتلقاها وتتطلب وَعيا واستعدادا خاصا يختص به النبي ليجد كل تلك المعارف مائلة في إدراكه النفسي لَسَهُلَ علينا تصور مثل تلك الآثار الظاهرة عليه هذه الآثار يسميها بعض المفسرين ببَرْحاءُ الوحي
وهي من وجه آخر إنّما تنتج من حالة تلقي الرسول عن الملك بما يتطلب منه تجرداً عن حدود إدراكاته البشرية العادية ويُعَبّرون عن هذه الحالة باستغراق الرسول صلىاللهعليهوآله
في لقاء الملك الروحاني .
إذن فإنّ التغاير بين الطبيعَتَين
اللتَين ينتمي إليهما كل من المَلَك والنبي تُمثِّل سبباً رئيسياً في بروز تلك الآثار الخارجية على مظهر النبيّ البدني كتفصده عرقاً ونحو ذلك.
ولإتمام هذا اللقاء بين الطبيعتين
المتغايرتين فإنّ بعض الباحثين يرى أنه يُستوجَب أحد أمرين تتعلق بها تلك الظواهر الخارجية وهما
:
أ ـ
إمّا أن يتّصف النبي صلىاللهعليهوآله
بوصف ملك الوحي باستثارة الروحانية فيه وتقويتها وتغليبها على الأوصاف البشرية.
ب ـ
وإمّا أن يتّصف ملك الوحي بوصف النبيّ البشري ، فتتغلّب عليه الأوصاف البشرية ومجمل القول في هذه الآثار أن حالة الشدة في التلقي لا تتعدّى في تأثيرها أحوال النبي الجسدية ، فنحن نجده وهو يتلقى الوحي ( يتمتّع بحالة عادية وبحُرّية عقلية ملحوظة من الوجهة النفسية بحيث يستخدم ذاكرته استخداماً كاملاً خلال الظاهرة نفسها ... وهذا التلازم بين
________________
الحالة العضوية ( الشدّة
في التلقّي ) والوحي الذي هو ظاهرة نفسية يمثل الطابع الخارجي المميز للوحي ) .
فرغم ما في تلقّي الوحي من شدّة نجد
النبي صلىاللهعليهوآله
يتمتّع بِتَحفُّز نفسي وصفاء إدراكي متجرّد عن كلّ ما يخدش مرآة نفسه الصقيلة المستعدّة لتلقّي الوحي ، ونجده في النهاية وبعد أن تمرّ به الظاهرة صفحة بيضاء طُبِعَت فيها نصوص الوحي على أجلى صورة يقول صلىاللهعليهوآله
بعد حالة مواجهته الملك أثناء نومه في حراء «
... فهَبَبْتُ من نومي فكأنها كُتِبَت في قلبي كتاباً »
.
وختاماً لهذه المسألة وبملاحظتنا ما روي
من روايات تصور عملية بدء الوحي وتكرّر حالاته طوال مدّة نزوله لا نجد على الإطلاق أية إشارة إلى أن النبيّ صلىاللهعليهوآله
وَجَد أثناء تلقّيه للوحي حالة ضعف جسدي أو هبوط في مدركاته النفسية التي يتسلّح بها في تلقّيه للوحي تصل إلى الدرجة التي حاول بعض الباحثين وخصوصاً من المستشرقين تصويرها.
٥ ـ
إنّ مَلك الوحي بقي ملازماً للرسول صلىاللهعليهوآله
متابعاً لما أوحاه إليه يستعيده معه ويتدارسه ، وكانت عملية مراجعة النص المُوحى تتم مرّة كلّ سنة في شهر رمضان ، حيث يأتيه مرّة كلّ ليلة كما تشير الرواية الواردة عن ابن عباس إذ يقول : « كان رسول الله صلىاللهعليهوآله
أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقى جبريل ، وكان جبرئيل عليهالسلام
يلقاه في كلّ ليلة من رمضان فيُدارِسه القرآن » .
________________
وهذه المدارسة للوحي ومتابعة نزوله
وحفظه إنّما تتم ضمن إطار تعهده تعالى بحفظ هذا الوحي ( القرآن ) وإعانة الرسول صلىاللهعليهوآله
بتثبيته في قلبه وإعانته في جمعه بعد أن كان الرسول صلىاللهعليهوآله
يحاول أن يتابع هذه الحالة بأقصى اهتمام ممكن ظهر جلياً حتى في أثناء تلقيه للوحي بترديده نصوص الوحي النازل مع الملك ، وهو ما نزلت الآية مصداقاً له وتعهداً بحفظه آمرةً للنبي أن يتفرغ كلية لعملية التلقي ويترك ما سوى ذلك لتسديده وعونه تعالى لكي لا تتشتّت جهوده إلى غير عملية التلقي قال تعالى : (
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) .
وتأكد هذا الحفظ الإلٰهي لنصوص
الوحي المعجزة بتعهّده بحفظه إلى يوم يبعثون قال تعالى : (
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) .
٦ ـ
إنّ جميع ما يتّصل بظاهرة الوحي من حيث أهمّ عناصره اللغوية كالخفاء والسرعة والإشارة والرمز وغيرها. كان هو صلىاللهعليهوآله
شخصياً يَعي ما يُراد منها وعيا كاملاً. كلّ هذه الأُمور تدلّ دلالة واضحة على أن هذا الوحي إنّما كان كلاماً سماوياً غير مادي ، وليس للحواس الظاهرية والعقل أن تصل إليه ، وإن إدراك الرسول صلىاللهعليهوآله
له تمثل في قوى ربانية خاصة تتصل بالعصمة أمَّنَتْ له الاصطفاء من بين الناس وإدراك تلك الأوامر الإلهية والدستور الغيبي التي تلقى من خلالها شريعته التي كُلِّف بتبليغها.
فالرسول صلىاللهعليهوآله
كان يتلقّى الوحي من الملك ويدرك وجوده ويسمعه ويراه ولكن ذلك كلّه لم يكن بالأدوات الحسية الظاهرية كما هو الحال مع كل بشر
________________
يمتلك الأدوات نفسها
وإنّما كانت نفسه القدسية الشريفة تتلقى ذلك الوحي. ولو كانت حواسه المادية هي المتلقية لكان كلّ ذلك ( مُشترك بينه وبين غيره ولكان سائر الناس ممن معه يرون ما يراه ويسمعون ما يسمعه )
وقد سبق أن نتج لدينا أن مثل هذا لم يكن ولم يرد ما يُثْبِتُه بحقّ أحد من الصحابة سوى عليّ عليهالسلام.
فهذا التفاوت بين إدراك النبيّ وغيره
ممن يحضره عائد في الحقيقة إلى الاختلاف في القوة المُدرِكة نفسها وليس للأدوات الحسية التي تهيّئ لانعكاس المُدرَك في النفس ، فالنفس الإنسانية واحدة في الأصل والجوهر لكنها تختلف شفافية كما تختلف تخويلاً ( واصطفاء ) من قبل الله تعالى .
الصورة الثالثة ـ الوحي الإلهامي :
هذه الصورة من الوحي هي ما عبّرت عنها
الآية في سورة الشورى بقوله تعالى : ( وَمَا كَانَ
لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا ... ) .
وقد سبق بيان أنها من أعم وأكثر صور
الوحي الوارد إلى الأنبياء عليهمالسلام
، ويكون الوحي فيها كما يرى الجُبائي تنبيه خاطر وما أشبه ذلك على سبيل الوحي ، بمعنى ما جرى مجرى الإيماء والتنبيه على شيء ، فليس بكلام وإنّما هو على سبيل الإفصاح وليس إفصاحاً .
ويكاد المفسرون يُجمعون على أن الوحي
بهذا المعنى وحي إلهامي إذ فسروه بأنه ما يكون بالإلهام والقذف في القلب كما يعبر الزمخشري
________________
عنه .
وتحديده هنا بالقذف في القلب يستفيد معنى الخفاء في إلقائه ـ كسائر الوحي ـ مع خصيصة مميزة يختلف بها عن التكليم من وراء حجاب ووحي المَلك. فالوحي هنا عبارة عن : تكليم خفي من دون أن تتوسط واسطة بينه تعالى وبين النبي أصلاً .
ويتأتى اليقين بمصدر الوحي في هذا
الصورة بأنّه تعالى يخلق معه [ أي الوحي ] علم ضروري عند النبي صلىاللهعليهوآله
بأن هذا المعنى قد قذفه الله تعالى قطعاً .
وهذه الصورة شبيهة بما يقذفه المَلَك في
رُوع النبي صلىاللهعليهوآله
في ضوء وحيه إليه ، إلّا أنهما تختلفان في المصدر المُوحي ، ففي الأولى يوحي تعالى إلى النبي مباشرة وفي الثانية يقوم المَلَك ـ الذي عبر عنه صلىاللهعليهوآله بالروح القدس ـ في النفث في روع النبي ، فكان محل الاختلاف هو الواسطة وانتفاؤها.
فهذا الإلهام عنه تعالى يمثل عرفان
يتلقاه النبي مباشرة عن الله تعالى دون أن تكون للنبي وسيلة في دفعه أو التحكم فيه أو توجيهه. فالنبي ليس إلّا صفحة ينطبع فيها ما يوحى به إليه ، فهو يحسّه ويعيه ويعلم أنّه علم جديد ليس له سابق عنده ، ويعلم أنّه من الله تعالى بعلم ضروري.
الصورة الرابعة ـ الوحي المباشر :
وذلك بأنّه تعالى أوحى إليه صلىاللهعليهوآله دون أي شكل من
الوسائط.
ويستدلّ القائلون بهذه الصورة من الوحي
بما في سورة النجم من قوله تعالى : ( ثُمَّ دَنَا
فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ * فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا
________________
أَوْحَىٰ )
وسياق الآيات وما قبلها في السورة في مقام بيان ما كان للرسول صلىاللهعليهوآله
ليلة المعراج إلى السماوات ، فهؤلاء المفسرون يرون أنه تعالى كلم رسوله تلك الليلة فيما أشار إليه بقوله : (
فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ ) بأن قربه تقريباً سقطت به الوسائط جملة فكلمه بالوحي من غير واسطة .
والقائلون بهذا التفسير للآية من
المفسرين يستندون في قولهم إلى أن المذكور في الآية من دنو وتدل ووحي كان بينه تعالى وبين النبي صلىاللهعليهوآله بلا واسطة .
وأمّا طريقة هذا الوحي المباشر فقد قال
عليّ بن إبراهيم القمّي فيه : إنّه كان وحي مشافهة .
وهذه الصورة من الوحي بهذه الحدود التي
انعدمت فيها الحجب والوسائط تعتبر أعلى مراتب الوحي على الإطلاق فتتجاوز ما كان من التكليم لموسى عليهالسلام
من وراء حجاب وتعلوه في المرتبة.
أقسام الوحي
ثبت في الوحي الملقى إلى الرسل
والأنبياء عليهمالسلام
أنه كلام الله تعالى يوحي به إليهم ، وأن طريق ذلك هو تكليمه تعالى لهم بهذه الصور المختلفة المار ذكرها.
________________
وهذا الكلام الموحى به إلى الأنبياء عليهمالسلام ينقسم إلى عدة أنواع
من حيثيات مختلفة ، ويمكن إجمال ذلك في الآتي :
فالموحى به ينقسم من حيث ما يتعلّق
بصياغته وألفاظه على قسمين .
قسم يوحى به على أنه كلام الله تعالى ، فلفظه
ومعناه منه ، وما الملك والرسول إلّا واسطتين في تبليغه للناس ، ليس لهما أدنى تصرّف في زيادة أو نقصان أو تغيير وتبديل في ألفاظه. وهذا القسم يمثّله النصّ القرآني المجيد ، قال تعالى : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ
عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ *
لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ *
ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ )
.
وقسم يوحى به على أنه تعليمات عليه
تبليغها للناس ، كمفاهيم يشيعها النبيّ فيهم ويعبّر عنها بلفظه هو ، وتبقى مفاهيمها كاملة لا يعتريها نقص أو زيادة وما على الرسول إلّا صياغتها في قالب ألفاظه هو صلىاللهعليهوآله. فهي وحي منه تعالى لا يأتي به الرسول من عنده كما قال تعالى : (
وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ )
ويتمثّل ذلك في الأثر النبويّ الشريف.
________________
المبحث الثالث
خصائص الوحي المحمدي ومبادئه
من خلال عرض القرآن للوحي المحمدي
إجمالاً وتفصيلاً ومسيرة هذا الوحي وما يمثّله في إطار الوحي الإلٰهي عموماً ، وما يتضمّنه من عناصر تخصّه كظاهرة أو تفيض عنه كمفاهيم راسخة في الفكر الديني والعقائد الإنسانية عموماً ، يمكن أن نتلمّس جملة من الأمور تشكّل خصائص ينفرد بها الوحي المحمدي عن غيره من الوحي يتعلّق بعضها بهذا الوحي كظاهرة من حيث إلقاؤه ويتعلّق بعضها الآخر بما جاء به من مفاهيم ومعارف وعقائد وشرائع.
وهذه الأُمور هناك ما يرتبط بها
ويُكمّلها مما سبق بيانه في موضوع ملامح الوحي بواسطة المَلَك.
ونورد هنا من تلك الخصائص والمبادئ ما
نجمله في :
١ ـ إنّ الوحي المحمدي استجمع كافّة
الصور التي أوحي بواسطتها إلى الأنبياء السابقين عليهمالسلام
، وتكرّرت فيه صور الوحي ، فلم ترد صورة فيه إلّا وكانت لنبيّنا صلىاللهعليهوآله
ما يماثلها أو يفوقها مرتبة فأوحي إليه إلهاماً وقذفاً في الروع ، كما أوحي إليه مناماً ، وكُلّم بواسطة الملك ، كما كُلّم دون وسائط ولا حجب وهي أعلى مراتب الوحي عموماً.
٢ ـ إنّ هذا الوحي متمثّلاً بالنصّ
القرآني تميز من بين سائر صور وحي الأنبياء عليهمالسلام
وكتبهم بميزة فريدة سامية وهي الثقة واليقين بصدوره عنه تعالى ، وأنّه كلامه الذي أوحاه نصاً دون أن يصيبه أي تحريف كما حدث لغيره
من وحي الأنبياء عليهمالسلام.
٣ ـ
إنّ ما أُلقي فيه يمثّل معرفة تلقائية بحتة واطّلاع على غيبيات ومعارف ومفاهيم لم تكن تشغل تفكير الرسول صلىاللهعليهوآله
بل لم تكن قابلة للتفكير في إطار عقل بشري وحده لولا أن يكون الوحي طريقاً لإدراكها.
٤ ـ يقين النبي صلىاللهعليهوآله بإلهية الظاهرة التي
يتعرّض لها. فمنذ اللحظة التي فاجأه فيها الوحي تمثّل هذا اليقين في ذهنه ، وأدرك أنّ كلّ ما يوحى إليه صادر عنه تعالى وأنّ الملك الذي يأتيه هو رسول من الله وجاء استمرار الوحي وتكراره مرّة بعد أُخرى مؤكّدا لهذا اليقين الذي رسّخ في نفسه الشريفة ، وكلّ ما خالف ذلك من روايات حول مبدأ الوحي لا سيما في صحيح البخاري فهو موضوع ومفترى على رسول الله صلىاللهعليهوآله.
٥ ـ بالإضافة إلى أن هذا الوحي هو في
ذاته معجزة في كونه ظاهرة تخرق نواميس الطبيعة من حيث الصلة الكاملة بالله تعالى في صور الوحي المختلفة ، فإنّه معجزة في نصه القرآني الذي تحدى به تعالى جبابرة العقول والبلغاء بالإتيان بمثل أي وجه من وجوه الإعجاز المتوافرة فيه من نظم وبلاغة وإخبار بالغيب ووجوه أُخرى للإعجاز.
٦ ـ إنّ الوحي المحمدي دعا إلى الإيمان
بما سبقه من وحي ـ فيما حكاه القرآن نفسه لا فيما يدّعيه أصحاب الديانات ـ والتصديق بالرسل والأنبياء السابقين ، وجعل لازم عدم التصديق بهم التلبّس بالكفر والعصيان. وهذه الميزة توافرت عليها كتب الديانات السابقة ، إلّا أن أيدي التحريف امتدت إليها وعبثت بها فعادت الرسالات السابقة رسالات دعوات قومية تدعو إلى تمجيد من أُنزِلت فيهم أكثر من دعوتها إلى الله تعالى والهداية إلى سبيله.
٧ ـ إنّه المصدر الوحيد الموثوق الذي
حفظ ذكر الوحي الإلٰهي وتواريخ الديانات السابقة بل ومفاصل مهمّة في التاريخ الإنساني ، وما كان للأنبياء السابقين مع شعوبهم وقدم للإنسانية صور من تاريخها لم يكن لها من طريق لولاه. بل إنّ نبوات كثيرة من الرسل والأنبياء لا تجد لها أساساً يثبت وقوعها لولا هذا الوحي.
٨ ـ إنّ الوحي المحمدي هو خاتم الوحي
الإلٰهي مثلما كان دين محمد صلىاللهعليهوآله
هو خاتم الأديان ، فلا وحي ولا نبوة بعده إلى قيام الساعة.
فهذا الوحي قَدَّم الصورة المتكاملة
للدين الإلٰهي العام الذي انصهرت فيه كل الرسالات والأديان السابقة وتناهت إليه ، فعاد صورة للدين الكامل الذي بُعِثَت الرسل منذ آدم عليهالسلام
وحتى محمد صلىاللهعليهوآله
من أجل الوصول إليه بهذا التدرج الذي انتهى عنده ، فختمت به الأديان وسيقف الناس ليحاسبوا بحسب ما جاء فيه من شرائع وموقفهم منها. قال تعالى : (
وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) .
________________
الفصل الثالث
الوحي إلى الموجودات الأخرى
لا يقتصر الوحي الصادر عنه تعالى على ما
ألقي إلى الأنبياء عليهمالسلام
وحدهم ، بل لا يقتصر على البشر وحدهم ، ففي الآيات الكريمة ما يشير بوضوح إلى أن الوحي ألقي إلى مخلوقات أخرى غير البشر.
فنحن إذا ما بحثنا في الآيات التي يذكر
فيها الوحي الإلٰهي نجده يلقى بالإضافة إلى الأنبياء عليهمالسلام
إلى بشر آخرين من غير الأنبياء كما نجده يلقى إلى مخلوقات أخرى كالملائكة والحيوانات والجمادات ، وذلك على أقسام تدخل ضمن بعضها مصاديق مختلفة وهذه الأقسام يمكن إجمالها في الآتي :
١ ـ
الوحي إلى الملائكة.
٢ ـ
الوحي إلى البشر العاديين ، وهذا ما نجد له مصاديق متعددة في القرآن الكريم ، فمنه الوحي إلى أم موسى عليهاالسلام
وما أشبهه إلى غيرها من النساء كمريم عليهاالسلام
ومنه الوحي إلى الحواريين.
٣ ـ
الوحي إلى الحيوانات ويدخل ضمن ذلك :
أ ـ
الوحي إلى النحل.
ب ـ
الحيوانات الأخرى.
٤ ـ
الوحي إلى مظاهر الطبيعة.
أ ـ
الأرض.
ب ـ
السماوات.
وفي هذا الفصل سنتناول هذه الأقسام
المختلفة وما يقع تحتها من مصاديق مع الاستفادة في ذلك من آراء المفسرين ومحاولاتهم في الوصول إلى المراد من هذا الوحي للموجودات المختلفة بما يحمله من عناصر خاصة تميّزه عن وحي الأنبياء عليهمالسلام.
أوّلاً ـ الوحي إلى الملائكة :
الملائكة جمع مفردة : المَلَك. وهو أشهر
في كلام العرب من الصيغة الأخرى بالهمز وذلك في قولهم عن الواحد منها الملاءك. وأصله الرسالة. قال عدي بن زيد :
أبلغ النعمان عنّي مَلاءَكاً
|
|
أنّه قد طال حبسي وانتظاري
|
فيستفاد من المعنى اللغوي للملائكة هنا
أنّهم سمّوا كذلك لأنّهم رسل الله تعالى بينه وبين عباده من الأنبياء.
وقد اختلف فيهم هل أنهم جميعاً من الرسل
أم بعضهم دون بعض ؟
فقال بعض المفسرين : إنّهم رسل جميعاً ،
وقال آخرون : إنّ بعضهم رسل وبعضهم الآخر ليسوا كذلك ، واستدلوا بقوله تعالى : (
... يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ... )
، فلو كانوا جميعاً
رسلاً لكانوا جميعا مصطفين ، لأنّ الرسول لا يكون إلّا بالاصطفاء .
ويمكن التوفيق بين الرأيين المختلفين
بالقول أنّ الخلاف منحصر في
________________
الخصوص والعموم في
معنى الرسالة. فالقائلون برسالة بعضهم دون بعض فهموا من الرسالة والإرسال معنى خاصاً ينحصر بما كان إرسالاً لهم بالوحي والتشريع إلى الأنبياء عليهمالسلام.
وفهم آخرون المعنى العام للرسالة في
كونهم وسائط بينه تعالى وبين خلقه عموماً في إجراء الأوامر التكوينية.
وهذا التوفيق بين الرأيين مستند إلى أن
الآيات الكريمة نفسها عبرت عنهم بلفظ الرسل في مواضع عديدة بغض النظر عن كون إرسالهم إلى الأنبياء أو في وظائف أخرى. قال تعالى : (
إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ) .
وقال تعالى : ( ... حَتَّىٰ
إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ... ) .
وما يهمنا في هذا المقام الطريق الذي
يتلقى به الملائكة الوحي ثم يقومون بإبلاغه إلى الأنبياء عليهمالسلام.
وسينحصر بحثنا في ذلك على ما دار حول قوله تعالى : ( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ
إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ... )
الآية. يظهر من محاولات المفسرين تفسير هذه الآية والكيفية التي يوحي بها تعالى إلى الملائكة أنهم يلجؤون إلى العموميات دون أن يدخلوا في التفاصيل المحتملة لذلك. ففي تفسيره للوحي إلى الملائكة نجد الشيخ الطوسي يعتمد على عنصر الخفاء في معنى الوحي عموماً ليتخذه أساساً في فهمه للوحي إليهم. فهذا الوحي للملائكة يشير إليه الشيخ الطوسي بأنه يكون من وجه يخفى كما يمكن أن يكون بأنه تعالى
________________
ينصب دليلاً يخفى
إلّا على من ألقي إليه من الملائكة .
وذهب مفسرون آخرون إلى أن هذا الوحي كان
بواسطة ملائكة آخرون من بين عموم الملائكة ، إذ اعتبروا أن هذه الطريقة هي طريقة عامة في خطابه تعالى للملائكة والتي من مصاديقها ما عبرت عنه بعض الآيات بصيغة ( القول ) وتصريفاتها المنسوبة إليه تعالى موجهة إلى الملائكة وذلك كقوله تعالى : ( ... وَإِذْ قُلْنَا
لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ... )
الآية.
فهؤلاء المفسرون يرون أن طريقة ذلك الخطاب
للملائكة هو أن الوحي كان منه تعالى إلى من بعثه إليهم من الرسل ـ من بينهم ـ لأنّ كلام الرسول كلام المرسل .
وهذا الرأي بلا شك لم يحدد أيضاً ماهية
وكيفية الوحي إلى الملائكة لأنّه لم يوضح كيف تَلقّى أولئك الرسل من بين الملائكة الوحي وطريقة ذلك.
ويورد الراغب الأصبهاني في تفسير آخر
يعتمد خصوصية عالم الملائكة وكونهم مطلعين على اللوح المحفوظ والقلم ، فيرى أن الوحي إليهم كان ( بواسطة اللوح والقلم ) .
وقد حاول تفسير آخر أن يكون أكثر
تفصيلاً وتحديداً في بيان كيفية هذا الوحي وذلك فيما نقله الطبرسي في معرض تفسيره لقوله تعالى : (
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ )
فما قيل في صفة هذا الأمر الإلٰهي للملائكة بالسجود
________________
قولان
:
الأوّل :
أنّه كان بخطاب من الله تعالى للملائكة ولإبليس.
الثاني :
أنّه تعالى أظهر فعلاً دلهم به على أنّه يأمرهم بالسجود.
والقول الثاني قريب مما أورده الشيخ
الطوسي في تفسيره للوحي إلى الملائكة.
ومن مجمل هذه الآراء لانعثر على تفسير
يوضح بجلاء كيفية هذا الوحي إذ يبقى ذلك خافياً علينا.
ويميل الباحث إلى أن القولين الأخيرين
يمكن أن يكونا أكثر قرباً إلى المعنى المراد من هذا الوحي ، وذلك بأن يكون بكلام مباشر منه تعالى إلى الملائكة يمكن تشبيهه بما كان لموسى عليهالسلام.
ومما يمكن الاستفادة منه في تقوية ترجيح هذا الرأي أن خصوصية هذا التكليم بموسى عليهالسلام
وحده كانت بالنسبة إلى الناس دون باقي أجناس الموجودات. إذ قال تعالى : (
... يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ... ) .
أو بأن هذا الخطاب ( الوحي ) كان بأن
أظهر تعالى فعلاً يدلهم من خلاله على أنه يأمرهم بالسجود وكان امتثالهم فهما لهذا الأمر. وهذا الفعل يبقي كيفية الوحي خافية ما لم يتم ترجيح أن يكون ذلك بالخطاب المباشر على سبيل تكليمه تعالى لهم.
ثانياً ـ الوحي إلى البشر العاديين :
يرد ذكر الوحي في القرآن الكريم على
أنّه ملقى إلى البشر من غير الأنبياء
________________
إلى عدّة مصاديق في
ذلك إجمالها فيما يلي :
١ ـ الوحي إلى
الحواريين :
قال تعالى : (
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا
آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ )
.
والحواريون مفرده حواري من الحَوْر ، والحَور
: ظهور قليل من البياض في العين من بين السواد ، والحواري : الأبيض .
وقيل : حَوَرتُ الشيء : بيَّضتُه
ودوّرتُه ومنه الخبزُ الحَوار .
والحواريون هم الأنصار ، وهذا مستفاد من
تأكيد الآية الكريمة له في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ
أَنصَارُ اللهِ ... )
. وقد اختلِف في سبب تسميتهم بالحواريين على أقوال :
أحدها :
أنّهم سمّوا بذلك لنقاء ثيابهم.
وثانيها :
أنّهم كانوا قصارين يبيّضون الثياب.
وثالثها :
أنّهم كانوا صيادين يصيدون السمك.
ورابعها :
أنّهم كانوا خاصة الأنبياء وانهم أصفياء عيسىٰ عليهالسلام
وكانوا اثني عشر رجلاً.
وخامسها :
أنّهم سمّوا بذلك لأنّهم كانوا نورانيين ، عليهم أثر العبادة
________________
ونورها وحسنها .
ورجح العلّامة المجلسي السبب الرابع ، وعلّله
بقوله : « لأنّهم مدحوا بهذا الاسم كأنّه ذهب إلى نقاء قلوبهم كنقاء الثوب الأبيض بالتحوير » .
وقيل : « حواري الرجل : ناصره وخاصّته
ومن أخلص له محبّته وصداقته » .
وينقسم المفسرون في الوحي إليهم على
فريقين :
الأوّل :
يجعل الوحي إليهم بالإلقاء مباشرة دون توسّط أحد.
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى ( ت / ٢١٠
ه ، ٨٢٥م ) : ( أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ )
أي ألقيت في قلوبهم وليس من وحي النبوة إنّما هو أمرتُ .
وأيّد ذلك آخرون فقالوا : أوحيتُ هنا : ألقيتُ
إليهم بالآيات التي أريتهم إيّاها .
وذهب جمع من المفسرين إلى تحديد هذا
الإلقاء أكثر فقالوا : إنّه كان على سبيل الإلهام والقذف. نقل ذلك الشيخ الطوسي عن بعض المفسرين وقال به آخرون كالطبرسي والفخر الرازي والقرطبي ... وغيرهم .
________________
ويبدو أن الإلهام هو الصورة التي تصل
إليها مجمل هذه الآراء المختلفة.
الفريق الثاني : القائلون بالواسطة
النبوية بين الله تعالى والحواريين في وحيه إليهم وهؤلاء بقولهم ذلك إنّما يهدفون إلى إبعاد صفة النبوة التي قد تضاف إلى الحواريين بسبب تعبير الآية عما ألقي إليهم بالوحي. ومن القائلين بذلك البلخي أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي ( ت / ٣١٩ هـ ، ٩٣١م ) الذي يرى أن في الوحي إليهم وجهين
:
فإما أن يراد أوحيت إليك أن تبلغهم.
أو أوحيت إلى رسول متقدّم. والوجه
الأوّل يصرف صفة الحواريين إلى أصحاب الرسول كما يصرف الخطاب إلى الرسول صلىاللهعليهوآله
نفسه. وبذلك قال الراغب الذي خصص النبي بأنه عيسى عليهالسلام
فقال عن الوحي إليهم ( إن ذلك وحي بوساطة عيسى عليهالسلام
) .
وهذا ما أكده بالإشارة الشيخ الطوسي
الذي قال : يعني : أوحَيتُ إلى الرسول الذي جاءهم .
وهو ما ذهب إليه الزمخشري الذي يرى أن
ذلك كان أمراً لهم على ألسِنة الرسل .
واكتفى بعض المفسرين من غير هذين
الفريقين بالقول : إن معنى
________________
( أوحَيْتُ ) : أمرتُهم
أو بيَّنتُ لهم نقل ذلك الزجاجي
والقرطبي .
ويكاد مالك بن نبي يتميز عمن سبق في
تفسيره للوحي الملقى إلى الحواريين ، إذ يرى أن ذلك ( يأخذ معنى كلام عادي موجه إليهم )
، وهو يستفيد ذلك من إجابتهم نفسها التي يرى أنها تجسم هذا القول بما تدل عليه من يقين إدراكي ناتج بأكمله عن الوحي.
ولا شك أنّ إجابتهم وامتثالهم للوحي
الذي وصل إليهم مباشرة أو عن طريق النبيّ تدلّ على هذا اليقين الذي يعبّر فيما يعبّر عن خصوصية في الوحي تجعله خارج أحوال النفس ، فكأنّه يشير إلى أنّ الوحي للحواريين هنا يأتي من خارج أنفسهم ، فهو وحي من الله تعالى ويستبعد أن يكون ألقي إليهم بواسطة الرسل.
ورغم أن جمعاً من المفسرين حاول أن ينزع
عن الوحي إلى الحواريين صفة الوحي بمعناه الاصطلاحي ، فإنّه ليس هناك ما يدل على كون صرف هذه الصفة عنهم مقبولاً ، إذ لا يمنع أن يكون هذا الوحي الصادر إليهم مما ينعم به تعالى على نبيه فيسدد له خطاه ويثبِّت الإيمان به وبشريعته في قلوب من حوله من أنصار.
فإذا كان واجب النبي البلاغ المبين فليس
منه ولا عليه أن يهدي الناس إنّما الهداية منه تعالى ولا يمنع مانع أن يوحي تعالى بطريقة ما من طرق الوحي ـ لعل الإلهام أقربها وأقواها ـ إلى من ينصر دينه ويعاضد رسله فَيُثَـبِّتهُم على
________________
الإيمان ، وهذا الأمر
يكاد يؤكد عموم آية الشورى المبينة لطرق تكليمه تعالى ، إذ لم يخصص هذا التكليم بالأنبياء وحدهم من دون البشر.
وهذه المعاني يكاد يستشفها الشيخ محمد
عبده في إثباته جواز اطّلاع غير الأنبياء على عالم الغيب فيقول : ( أما أرباب النفوس العالية والعقول السامية من العرفاء ممن لم تَدنُ مراتبهم من مراتب الأنبياء ، ولكنهم رضوا أن يكونوا لهم أولياء وعلى شرعهم ودعوتهم أمناء ، فكثير منهم نال حظه من الأُنس بما يقارب تلك الحال في النوع والجنس لهم مشارفة في بعض أحوالهم على شيء من عالم الغيب ولهم مشاهد صحيحة في عالم المثال لاتنكر عليهم لتحقق حقائقها في الواقع ... ) .
٢ ـ الوحي إلى النساء
:
ليس في القرآن الكريم ما يدلّ في ظاهره
على الوحي إلى النساء بصيغة الوحي الصريحة إلّا حالة واحدة هي الوحي إلى أُم موسى عليهالسلام ، إذ ذكر في القرآن الكريم في مواضع عدّة منه. إلّا أنّ من المفسرين من يذهب إلى أن نزول الملائكة على مريم عليهاالسلام
وما خصّت به من مواجهتهم ما يقترب من أن يكون وحياً كاملاً ألقي عليها إن لم يكن أعلى مرتبة مما كان لأُم موسى لتوافره على رؤيتهم وخطابهم مما لم يثبت يقينا لأُم موسى عليهالسلام.
وقياساً على ما كان لمريم عليهاالسلام يضيف بعض هؤلاء
المفسرين ما كان لسارة زوجة إبراهيم عليهالسلام
التي خاطبتها الملائكة بالبشارة بالولد.
وهذه الحالات المتعددة مما يرتبط مع
الوحي استلزمت التعرض إليها
________________
والبحث فيها ، وهو ما
جعل هذا الموضوع ( الوحي إلى النساء ) ينقسم على قسمين :
القسم الأوّل :
الوحي إلى أم موسى عليهالسلام
وخطاب الملائكه لمريم عليهاالسلام.
القسم الثاني :
نبوة النساء ومواقف المفسرين منها.
القسم الأوّل :
أوّلاً ـ الوحي إلى
أُمّ موسى عليهماالسلام
:
يرد ذكر الوحي إليها في القرآن الكريم
في موضعين ، وذلك قوله تعالى : ( وَلَقَدْ مَنَنَّا
عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ *
إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ )
، و (
وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ... ) .
والآيات مؤكدة أن هذا الوحي إليها واقع
بصورة من الصور ضمن الوحي المذكور لغيرها سواء كان ذلك من خلال مفاهيم الوحي في الاصطلاح أو في اللغة.
وقد اختلف المفسرون في بيان كيفية الوحي
إليها عليهاالسلام
على عدّة آراء المعتبر منها رأيان وهما :
الأوّل :
ان الوحي إلى أم موسى كان إلهاماً وقذفاً في القلب.
واختار هذا الوجه الشيخ الصدوق والشيخ
الطوسي والعلّامة الطبرسي
ووافقهم عليه جلُّ المتأخرين .
الثاني :
إنّ الوحي المذكور كان مناماً. قال الشيخ المفيد : « قال الله تعالى :
________________
(
وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ... الآية
)
، فاتّفق أهل الإسلام على أن الوحي كان رؤيا مناماً أو كلاماً سمعته أُم موسى في منامها على الاختصاص » .
وربما وجد الرأي الأوّل شاهداً له من
الحديث الشريف ، فقد روى الحرث بن المغيرة النصري ، عن الإمام الصادق عليهالسلام
قال : « قلت لأبي عبد الله عليهالسلام
: ما علم عالمكم جملة ، يقذف في قلبه وينكت في أذنه ؟ قال : فقال : وحي
كوحي أم موسى » .
وسئل الإمام الكاظم عليهالسلام عن علم عالمهم عليهمالسلام ، فقال : «
نقر في القلوب ونكت في الأسماع ، وقد يكونان معاً »
.
وبهذا يعلم ان قول الإمام الصادق عليهالسلام : «
وحي كوحي أم موسى » أنه أراد النقر في القلوب والنكت في الأسماع ، وكلاهما يجري في دائرة الإلهام.
وربما يقال بعدم معارضة الرأي الثاني
لذلك فيما لو تم النقر في القلوب والنكت في الأسماع في المنام.
وخلاصة القول في الوحي إلى أم موسى ، أن
هذا الوحي بلا شك يتضمن الإعلام في خفاء وهو من أهم عناصر الوحي كما تقدّم في محلّه.
ثانياً ـ خطاب
الملائكة لمريم عليهاالسلام
:
يرد ذكر الملائكة النازلين على مريم عليهاالسلام في القرآن الكريم
بصيغتين :
الأولى :
الجمع ، كقوله تعالى : (
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ
________________
اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ
عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ )
.
الثانية :
المفرد ، كقوله تعالى : (
... فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ
تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا )
.
ويرى بعض المفسرين ـ وهو ما يميل إليه الباحث
ـ أنّ التعبير عن الملائكة بصيغة الجمع يراد بها جبرئيل عليهالسلام
وحده ، وأنّ استعمال الجمع هنا للتعظيم .
وكون المراد بالملك هو جبرئيل استفاده
بعض المفسرين من وصفه بالروح حيث ذهب أغلبهم إلى أنّه جبرئيل عليهالسلام
.
وذهب السيّد الطباطبائي إلى أنّ المراد
في الآيتين واحد ، وأنّ من نزل عليها من الملائكة في الآيتين هو جبريل عليهالسلام
وحده ، والبشارة في الأولى قصد بها ما جاء في الثانية من اصطفائها لولادة عيسىٰ عليهالسلام .
وخلاصة القول من ذلك أنه يثبت لمريم عليهاالسلام معاينتها للملائكة ،
وخطابهم لها ، والطريقة التي ظهر بها الملك لمريم عليهاالسلام
تُعبِّر عنها الآية ( بالتمثل ) ، وتصف الآية ذلك بأنه ظهر لها بشراً سوياً. وهذه هي المرة الأولى وتكاد تكون الوحيدة التي يرد ذكر ( التَمثُّل ) في القرآن الكريم.
وأمّا حقيقة هذا التمثّل وظهور الملك
بصورة بشرية فإنّه لا يعني أنّ الملك
________________
تحول من حقيقته
الملكية إلى حقيقة بشرية ، وإنّما صورة ذلك أنّه ظهر لمريم في صورة بشر وليس ببشر بل ( كان في حال إدراكها على صورة بشر وهو في الخارج عن إدراكها خلاف ذلك ) .
القسم الثاني ـ نبوة النساء :
إذا كان الوحي بوصفه مصداق الصلة بالله تعالى
هو أحد الأدلّة على نبوة الأنبياء عليهمالسلام
فإنّ هذا الملحظ نفسه هو ما اعتمده القائلون بنبوة النساء ممن ورد ذكر الوحي وخطاب الملائكة لهن ، وينطبق ذلك عندهم على ما كان لسارة زوجة ابراهيم عليهماالسلام
، كما يضيف بعض المفسرين آسية زوجة فرعون من بعض الوجوه ومريم عليهاالسلام.
الأمر الذي اختاره بعض علماء العامة
كابن حزم الأندلسي ، والقرطبي المالكي الذي صرّح بنبوة مريم عليهاالسلام
والضابط عند من قال
بنبوة النساء هو أن كل من جاءه الملك عن الله عزّوجلّ بحكم من أراد نهي أو باعلام ما سيأتي فهو نبي.
وهذا خطأ جسيم وبيانه من وجوه :
الأوّل :
اتّفاق العامة على صحّة حديث أبي سلمة ، عن عائشة ، عن النبي صلىاللهعليهوآله
أنّه قال : «
قد كان يكون في الأُمّة مُحَدَّثون ، فإن يكن في أُمّتي أحد
________________
فعمر بن الخطاب »
. والمُحَدَّث هو من
يحدِّثه المَلَك. ولا اشكال في وجود مُحَدَّثين في هذه الأُمّة ـ كما سيأتي في الوجه الثاني ـ ، وإنّما الإشكال في من كان مشركاً في شطرٍ كبيرٍ من عمره وملئت سيرته بالتجرّي على مقام النبي صلىاللهعليهوآله
، مع تناقضاته الكثيرة أن يكون واحداً منهم ، مما يدلّ على أن ذكر عمر في هذا الحديث مقحم.
الثاني :
اتّفاق علماء الإمامية قاطبة مع كثير من محدِّثي العامّة على صحّة أحاديث كثيرة في كون أئمّة أهل البيت عليهمالسلام
مُحَدَّثين .
الثالث :
إنّه لم ترد أدنى إشارة أو تصريح في القرآن الكريم والسنّة المطهّرة وتاريخ الأديان على وجود امرأة نبيّة أو رسولة ، مع ورود الخبر لدى الفريقين عن النبي صلىاللهعليهوآله
في عدد الأنبياء ، وعدد الرسل عليهمالسلام
، ولم تكن فيهم امرأة ، كما ان القرآن الكريم وصف مريم عليهاالسلام
بأنّها كانت ( صدّيقة ) كما في قوله
________________
تعالى : (
وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ )
، ولو كانت نبيّة
لقال : ( صدّيقة نبيّة ) كما قال سبحانه في وصف كل من إبراهيم وإدريس عليهماالسلام
: ( إِنَّهُ كَانَ
صِدِّيقًا نَّبِيًّا )
.
الرابع :
إنكار علماء الإمامية ومعظم علماء العامة وجود امرأة نبيّة أو رسولة.
الخامس :
ورود بعض الأخبار والآثار الصريحة بنفي النبوة عمّن ادُّعيت لها ذلك كمريم بنت عمران عليهاالسلام
وغيرها من النساء.
ففي حديث لسليم بن قيس ، عن محمد بن أبي
بكر وعبد الرحمن بن غنم ، يقول سليم في آخره : « فقلت لمحمد بن أبي بكر : من حدَّثك بهذا ؟ قال : عليٌّ عليهالسلام
، فقلت : وأنا سمعته أيضاً منه كما سمعت أنت ، فقلت لمحمد : فلعلّ ملكاً من الملائكة حدثه ـ يعني عليّاً عليهالسلام
ـ قال : أو ذاك.. قال : قلت له : أمير المؤمنين عليهالسلام
مُحَدَّثٌ هو ؟ قال : نعم ، وكانت فاطمة عليهاالسلام
مُحَدَّثَةً ولم تكن نبيَّةً ، ومريم كانت مُحَدَّثَةً ولم تكن نبيَّةً ، وأم موسى ما كانت نبيَّةً وكانت
مُحَدَّثَةً ، وكانت سارة امرأة إبراهيم قد عاينت الملائكة فبشروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ولم تكن نبيَّةً.
قال سليم : فلما قُتِل محمد بن أبي بكر
ونُعي ، عزّيت به أمير المؤمنين عليهالسلام
وخلوت به فحدثته بما حدّثني به محمد بن أبي بكر ، وخبّرته بما خبّرني به عبدالرحمن بن غنم ، فقال : صدق محمد رحمه الله أما أنّه شهيد حيّ
يُرزق » .
________________
وقال الشيخ المفيد : « وأخبر سبحانه
أنّه أوحى إلى مريم : (
أَنْ أَرْضِعِيهِ .. )
الآية ، ولم تكن أم موسى نبيّة ولا رسولة ، بل كانت من عباد الله البررة الأتقياء » .
واستدلّ الشيخ الصدوق على نفي نبوة
النساء بقوله تعالى : « قد أخبر الله عزّوجلّ في كتابه بأنّه ما أرسل من النساء أحداً إلى الناس في قوله تبارك وتعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا
قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ )
، ولم يقل : نساءً ـ ثم قال ـ : المُحَدّثون ليسوا برسل ولا أنبياء » .
ونفى الشيخ الطوسي صفة النبوّة عن
النساء ، وأورد عن الحسن البصري أنّه قال : « ما أرسل الله امرأة ولا رسول من الجنّ ولا من أهل البادية » .
وخلاصة القول الذي نميل إليه في هذا
الموضوع أن لا دليل في القرآن الكريم ولا فيما روي عن الرسول صلىاللهعليهوآله
على نبوة النساء عموماً دون تخصيص.
بل إن في القرآن الكريم ما يدل ـ إذا
أخذ على ظاهره ـ على أنّه تعالى لم يرسل إلّا رجالاً بدليل قوله تعالى : (
مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ )
ولا يضعف هذا
الاستدلال ما قيل أن الآية في مقام الاحتجاج على أن من أرسل من قبل محمد صلىاللهعليهوآله
كانوا رجالاً وإنّها جاءت ردّاً
________________
على من طَعَن بأنّه
كيف يكون النبيّ بشراً وأنّ الآية نزلت ردّاً على هذه الشبهة.
كما لا يُضعف ذلك الاستدلال ما قيل أنّ
الآية لم تمنع النبوة في النساء وإنّما منعت الرسالة لأنّ منطوق الآية حصر في الرجال الرسالة وليس النبوة.
ويرد عليه : إن الرسالة شملت هنا معنى
النبوة والرسالة عموماً وهو ما عليه القرآن الكريم في مواضع عديدة كقوله تعالى : (
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إلّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ... )
، و ( وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ) .
وواضح أنّ الرسل في الآيتين أريد بهم عموم الأنبياء والرسل عليهمالسلام.
وأما ما كان من وحي إلى أم موسى فالأقرب
إلى الصواب أنّه كان على سبيل الإلهام والقذف في نفسها ، ولا دلالة في التعبير عنه بالوحي على النبوة ، لأنّه لم يرد في ظاهر الكتاب ما يحصر مصطلح الوحي ـ لفظياً ـ على ما كان للأنبياء فقط وإنّما العكس هو الصحيح ، إذ ورد ذكر الوحي ملقى إلى غير الأنبياء بل غير البشر كالحيوانات والجمادات ، فلو كان كل تعبير بـ ( الوحي ) يدل على النبوة لكانت للنحل والجمادات نبوة .. وما يجب بيانه بوضوح هنا تأكيد النعمة الإلهيّة التي خصت أولئك النسوة بهذه الميزة الجليلة في كونهن متلقيات للوحي أو مُخاطبات للملائكة وهو أمر لا يمكن تهوينه ، وأبلغه أن إثبات معاينة مريم عليهاالسلام
للملك ومخاطبتها له فيما دلّت عليه الآيات ( يثبت أنها مُحَدّثة )
أي قادرة على فهم ما يلقى في روعها من كلمات الإله
________________
لا غير ، وكذلك الحال
مع سيدتها وسيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليهاالسلام
، إذ ثبت أنّ أحد الملائكة كان يحدّثها ويسلّيها عمّا لحقها من فقد رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وعمّا تحمّلته من جفاء المنقلّبين على أعقابهم وغلظتهم عليها بعد رحيله صلىاللهعليهوآله.
عن حمّاد بن عثمان ، عن أبي عبد الله الصادق
عليهالسلام
في حديث جاء فيه : « .. إن الله تعالى لما قبض نبيه صلىاللهعليهوآله
دخل على فاطمة عليهاالسلام
من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلّا الله عزّوجلّ ، فأرسل إليها ملكاً يسلّي غمّها ويحدّثها ، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين
، فقال عليهالسلام
: إذا أحسستِ بذلك وسمعتِ الصوت قولي لي ، فأعلمته بذلك ، فجعل أمير المؤمنين عليهالسلام يكتب كل ما سمع حتىٰ أثبت من ذلك مصحفاً.
ثمّ قال عليهالسلام
: أما إنّه ليس فيه شيء من الحلال والحرام ، ولكن فيه علم ما يكون » .
وفي الصحيح عن أبي عبيدة الثقة ، عن أبي
عبد الله عليهالسلام
في حديث سُئل فيه عن مصحف فاطمة عليهاالسلام
، فقال : «
.. إنّكم لتبحثون عمّا تريدون وعمّا لا تريدون ، إنّ فاطمة مكثت بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله خمسة وسبعين يوماً چ
، وكان دخلها حزن شديد على أبيها صلىاللهعليهوآله
، وكان جبرئيل عليهالسلام
يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها صلىاللهعليهوآله
، ويطيّب نفسها ، ويخبرها عن أبيها ومكانه صلىاللهعليهوآله ، ويخبرها بما يكون
________________
بعدها في ذريّتها ، وكان عليّ عليهالسلام يكتب ذلك. فهذا مصحف فاطمة عليهاالسلام »
.
ثالثاً ـ الوحي إلى
الحيوانات :
قد يكون في هذا التعميم للوحي إلى
الحيوانات توسعاً عما ورد ذكره صريحاً في القرآن الكريم الذي لم يعبر عن الوحي إلى شيء من الحيوانات بصيغة الوحي إلّا ما كان للنحل وذلك في قوله تعالى : (
وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا
يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا
شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ ) .
ودفعنا إلى هذا التعميم أن ما يعبر عنه
الوحي إلى النحل من مفاهيم وما يحتويه من عناصر يكاد يتطابق مع ما يتوافر في أنواع أخرى من الحيوانات حيث نسب إليها أفعال وتصرفات فطرية لا تخلو في بعض وجوهها من تطابق مع ما ذكر للنحل من أفعال وتصرفات عبر عنها القرآن الكريم بأنها كانت عن وحي منه تعالى :
الوحي إلى النحل :
فأما الوحي إلى النحل فإنّ المفسرين
يرجعونه إلى عدّة معانٍ إجمالها فيما يلي :
أوّلاً ـ الإلهام :
فما عليه أغلب المفسّرين ، أن الوحي إلى النحل هو الإلهام وقد عبّروا عنه زيادة على تلك الصيغة بغيرها أيضاً كالآتي :
١ ـ الإلهام :
روي عن الإمام الباقر عليهالسلام أنّ المراد بالوحي
إلى النحل في قوله تعالى :
________________
(
وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) هو الإلهام
، وأورده الشيخ الطوسي عن عبد الله بن عباس من الصحابة ، ومجاهد من التابعين
، واختاره في تفسيره
ومثله الشيخ الطبرسي
، وأكده العلّامة المجلسي في بحار الأنوار .
ويوضّح الطبري المعنى المراد في هذا
الإلهام بقوله في تفسير الآية المذكورة : ( ألهَم ربّك يا محمد النحل إيحاءً إليها أن اتّخذي من الجبال بيوتاً ... ) .
ووافقهم عليه جمع من مفسِّري العامّة
كالقاضي عبد الجبّار والزمخشري والفخر الرازي والقرطبي وغيرهم .
كما أنّ أغلب أهل اللغة وعلى رأسهم
الخليل الفراهيدي على القول بالإلهام قال الخليل : أوحى ربّك إلى النحل ألهمها ، وأوحى لها معناه : أوحى إليها في معنى الأمر
وهو ما قال به أبو عبيدة أيضاً .
________________
٢ ـ الإلقاء في النفس :
ربط الطبري بين الإلهام والإلقاء في المعنى ، إذ يرى أن الوحي إلى النحل معناه : ألقَ إليها ذلك فألهمها .
فكأنّه يرى أن طريق إيصال ذلك الوحي هو الإلقاء وإن المعاني إذا انطبعت في نفس النحل واستحقت التعبير عنها بالوحي فهذه المعرفة هي الإلهام على درجات أولها الإلقاء في النفس.
ونقل الطبري ... قال أخبرنا معمر قال : بلغني
في قوله : ( وَأَوْحَىٰ
رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ )
: قذف في نفسها .
وعبّر الزمخشري عن الربط بين الصيغتين
وما تؤدّيان إليه من معنى هو حقيقتهما بأنّ هذا الوحي إلى النحل يعني : إلهامها والقذف في قلوبها وتعليمها على وجه هو أعلم به لا سبيل لأحد إلى الوقوف عليه .
وهذا بلا شك رأي يبيّن القول في كيفية هذا الوحي إلى النحل بأن يؤكّد خفاءَه وأن لا طريق إلى معرفته فهو سر من أسرار خلقتها.
٣ ـ الأمر :
حيث عبّروا عن هذا الوحي بأنّه كان بأمره تعالى لها دون بيان كيفية وصول هذا الأمر. عن ابن عباس قال في : (
وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) أمرها أن تأكل الثمرات وأمرها أن تتبع سبل ربها ذللاً .
وإجمالاً فإنّ هذه الصيغ عموماً تصب في معنى الإلهام.
ويحلل القاضي عبد الجبار حقيقة هذا
الإلهام بتعدد صيغه بأن ما عُبِّر عنه بالوحي إليها لا يدخل تحت مفهوم الوحي الذي يكون للأنبياء عليهمالسلام وإنّما هو
________________
الهام بمعنى أنه
تعالى ألهمها وخلق فيها العلم بهذه الأشياء ولأنّ العادة جرت في القرآن أن كل أمر يلقى إلى الغير على وجه الخفاء والاستسرار يوصف بأنّه وحي ( ولما كان ما ألهم تعالى النحل على هذا الحد جاز أن يقال أوحى لها ) .
وعبر الفخر الرازي عما في أفعال النحل
من عجيب التسخير الإلٰهي لها بأن كونه وحيا مُتَمثلٌ في أنه تعالى : قرر في أنفُسِها هذه الأعمال العجيبة التي تعجز عنها العقلاء من البشر .
ويُفَصِّل القرطبي معنى الإلهام المراد
هنا بأنه : ما يخلقه الله تعالى في القلب ابتداءً من غير سبب ظاهر ... فمن ذلك البهائم وما يخلقه الله سبحانه فيها من درك منافعها واجتناب مضارها وتدبير معاشها .
فهذا الوحي من خلال التفسيرات المتعدّدة
يتبين لنا بوصفه هداية فطرية تتناسب مع حاجات الحيوان ومستلزماته في الحياة طبعه الله عزّوجلّ عليها بالخلقة.
ثانياً ـ الغريزة :
يعبّر بعض المفسرين عن تصرفات النحل وما يلاحظ عليها من عجيب الأفعال في مختلف شؤون حياتها بالغريزة التي تخفى عن غيرها وبسبب هذا الخفاء المتمثل فيها عبر عنها في القرآن الكريم بالوحي. قال الحسن البصري : جعل ذلك غرائز بما يخفى مثله عن غيرها .
ويفهم بعض المفسرين المُحدَثين هذا
المعنى من خلال ربطه بالإلهام ، فهم يعبرون عما كان من الوحي للنحل وما شابهه في عجيب تصرف سائر
________________
الحيوان بـ ( الإلهام
الغريزي ) .
والغريزة بمفهومها العام الظاهر في سلوك
الحيوان يربط بها بعض الباحثين المُحدَثين كل ما يتصرف به الحيوان وتُسيَّر بهديه أفعاله المختلفة دون أن يكون له كسب فيه. فهي هنا : السلوك الذي لا يتعلّمه الحيوان ، فلا تتأتّى بالتعلّم والاكتساب أو المحاكاة والاختيار ، وهي أساس المحافظة على نفسها ووسيلة حصولها على غذائها ومحور أفعالها وبقاء نوعها .
وصلة أفعال النحل بهذا التحديد للغريزة
واضحة جلية ونص الآية يظهر أن فيها أمراً إلى النحل باتخاذ البيوت وسلوك السبل ... إلخ.
ومن هذا الملحظ ذهب المفسرون إلى أن
مخاطبته تعالى لها بالأمر من أحد وجهين
:
الأوّل :
أنه لا يبعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول ولا يبعد أن يتوجه عليها من الله تعالى نهي وأمر.
الثاني :
قال آخرون : ليس الأمر كذلك بل المراد منه أنه تعالى خلق فيها غرائز وطبائع توجب هذه الأحوال.
ثالثاً ـ التسخير :
يرى الراغب الأصبهاني أن من الوحي ما
يكون تسخيراً وهذا هو ما يراد من الوحي إلى النحل وهو يُعرِّف هذا التسخير بأنه : سياقة إلى الغرض المختص
________________
قهراً ...
فالمُسَخِّر هو المُقيِّض للفعل والسُخريّ هو الذي يُقهَر فيتسخَّر بإرادته .
وهذا المعنى يتأكد في القرآن الكريم في
قوله تعالى : ( وَسَخَّرَ لَكُم
مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ... )
، و ( وَسَخَّرَ لَكُمُ
اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ )
. وقال تعالى : (
لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ
التَّقْوَىٰ مِنكُمْ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَىٰ مَا
هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ )
.
وبالنظر في مجمل الآراء والتفسيرات
المختلفة للوحي إلى النحل نجدها جميعا تنطلق من معنى واحد يجمع بينها وهو أن ما يعبر عنه بالوحي في الآية إنّما يراد به هذه الجبلّة التي يتصرف بها هذا الحيوان العجيب بما أودعه الله فيه من فطرة يهتدي بها في شؤون مسكنه وغذائه ومختلف نواحي حياته. ولا شك أن هذا المعنى يمثل إلهاماً إلهياً ينعكس غريزة عند الحيوان تنطبع بها تصرفاته تتبين الحكمة منه في تسخيره تعالى لهذا الحيوان كما هو في سائر جنسه ليؤدي هذا الدور الذي يؤدّيه وهو الذي عبرت عنه الآيات الواردة بعد آية الوحي للنحل بالمنافع التي خُصّصَت بما تتضمن من شفاء للناس.
والحقيقة أنّ ما يصدر عن هذا الحيوان من
وجوه التصرف يلزم منه القول أنها لا يمكن أن تكون إلّا بوحي منه تعالى بالمعنى والتحديد الذي سبق بيانه.
قال الزمخشري : إن تيقنها في صنعتها
ولطفها في تدبير أمرها وإصابتها فيما يصلحها دلائل بيّنة شاهدة على أن الله تعالى أودعها علماً بذلك وفطَّنها
________________
كما أَولى أُولي
العقول عقولهم .
ومن عجائب تصرف النحل الدالة على أن ذلك
بوحي وعلم إلٰهي لها ما يلتفت إليه الفخر الرازي كبنائها البيوت المسدّسة من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض فالعقلاء لا يمكنهم بناء ذلك إلّا بآلات وأدوات هندسية وإنّ بناء تلك البيوت بغير هذا الشكل المسدّس يترك بينها فرجاً خالية ضائعة ، وغير ذلك من التصرفات تجعله يخلص إلى أن حصول هذه الأمور منها ( ليس إلّا على سبيل الإلهام وهي حالة شبيهة بالوحي لا جرم قال تعالى في حقّها : ( وَأَوْحَىٰ
رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ )
) .
ولا شك أن مما لا مجال للشك فيه أن ما
يصدر عن النحل من تصرفات عجيبة يعجز العقل البشري في كثير من حالاتها عن إيجاد التفسير العلمي لحقيقتها ويُسَلّم أنها إنما فطرت عليها بنوع من أنواع التعليم الإلٰهي المخصوص.
ومما يرد هنا أن العلماء حتى يومنا هذا
عاجزون تماما عن تفسير الطريقة التي يهتدي بها النحل إلى الخلية ، فبعد تجارب عديدة ووضع احتمالات أن يكون بواسطة قوة الإبصار أو العلامات الأرضية أو الرائحة توصل العلماء إلى أن النحل قادر على الاهتداء إلى خليته حين تحجب هذه الأمور عنه ويُغَيَّرُ مكان الخلية وكانوا يخلصون من تجاربهم دائماً إلى أن هذا الحيوان في تصرفاته العجيبة في حياته مبني على هذه الصورة بالخلقة مدفوع على ذلك بالطبع ... وأن ما يقوم به ليس بتصرف العقل وإنّما سلسلة مترابطة
________________
من الأعمال المتكررة
التي جبل عليها فهو غير مدرك بها فلو كان في وسعه أن يدرك لوقع في خطأ في عمله أو غَيَّر في منهج سلوكه .
وما ورد من ذكر للوحي إلى النحل تعبيراً
عن هذه التصرفات التي تصدر منه في مناحي حياته يمكن تعميمه على كثير مما يشابهها في حيوانات أخرى كالطيور والنمل وغيرها وقد امتنعنا عن الخوض في تفاصيل ذلك لعدم ورود صيغة الوحي في القرآن الكريم تعبيراً عن تلك التصرّفات.
هذا بحدود التفسير الظاهر للآية الكريمة
، وهو تفسير مقبول ومعقول لدى الفريقين ، وأمّا الباطن فقد اختصّ به أهل العصمة عليهمالسلام كما بيّنا ذلك في كتابنا تأسيس الأئمّة عليهاالسلام
لأُصول منهج فهم النص القرآني.
ولا بأس هنا بذكر ما يخصّ باطن الآية
الشريفة.
عن مسعدة بن صدقة ، عن الإمام الصادق عليهالسلام أنّه قال في قوله تعالى
: ( وَأَوْحَىٰ
رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ
الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ )
، قال : « فالنحل
: الأئمّة عليهمالسلام
، والجبال : العرب ، والشجر : الموالي.. الخ » .
وعن حريز بن عبد الله ، عن الإمام
الصادق عليهالسلام
في قوله تعالى : ( وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ )
، قال : «
نحن النحل الذي أوحى الله إليه (
أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا )
أمرنا
أن نتّخذ من العرب شيعة (
وَمِنَ الشَّجَرِ )
يقول
: من العجم (
وَمِمَّا يَعْرِشُونَ )
من الموالي. والشراب المختلف ألوانه العلم الذي
________________
يخرج منّا إليكم »
.
وعن أبي بصير ، عن الإمام الصادق عليهالسلام في قوله عزّوجلّ
وذكر الآية نفسها فقال عليهالسلام
: «
ما بلغ من النحل أن يُوحى إليها بل فينا نزلت ، فنحن النحل ونحن المقيمون لله في أرضه بأمره ، الجبال شيعتنا ، والشجر النساء المؤمنات » .
وعن محمد بن الفضيل ، عن أبي الحسن عليهالسلام في قوله تعالى : (
وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ )
قال : «
هم الأوصياء عليهمالسلام
» .
وفي بعض الزيارات لأهل البيت عليهمالسلام الجامعة : «
اللّهمّ صلِّ على الفئة الهاشمية والمشكاة الباهرة النبويّة ... الموحىٰ إليه بأكل الثمرات واتّخاذ البيوت من الجبال والشجر ومما يعرشون »
.
وتظافر هذه الأخبار يدلُّ على ان للمعنى
المذكور أصلاً في أحاديث أهل البيت عليهمالسلام.
رابعاً ـ الوحي إلى
مظاهر الطبيعة :
ينحصر ذكر الوحي إلى مظاهر الطبيعة في
القرآن الكريم في موردين هما : المورد الأوّل : الأرض. المورد الثاني : السماوات وترد إشارة غير مباشرة إلى ما يشترك مع هذا الوحي في بعض عناصره في مظاهر أخرى سيجمل القول فيها بعد هذين الموردين :
________________
المورد الأوّل ـ الوحي إلى الأرض :
يرد ذكر الوحي صريحاً إلى الأرض في قوله
تعالى : ( إِذَا زُلْزِلَتِ
الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا ) .
والحق أن في الآية مفهومين مهمين يستشف فَهمُ الوحي إلى الأرض من خلال الجمع بين عناصرهما وهما :
أ ـ تحديث الأرض :
تنسب الآية الكريمة إلى الأرض ـ وهي
الجماد ـ التحديث بالأخبار ، وهو أمر يرتبط في الأذهان بما يكون من العاقل ، من هنا فللمفسرين في هذا التحديث اتجاهان :
الاتجاه الأوّل :
يميل إلى أن نسبة التحديث إلى الأرض تعبير مجازي.
قال الشريف الرضي عنه : إنه استعارة ، فالمراد
: ما يظهر فيها من دلائل انقطاع أحوال الدنيا وإقبال أشراط الآخرة ، فيكون ما يظهره الله تعالى فيها من ذلك قائما مقام الإخبار ونائباً عن النطق باللسان .
وهذا ما أكده الزمخشري تحديداً ، إذ ذهب إلى أن ما يكون من تلك الأحوال يجعل القائل : ( مالها ) ينظر ( فيعلم لمَ زلزلت ) .
ويجد القائلون بمجازية هذا التحديث سنداً
لقولهم بما ذهب إليه سعيد ابن جبير في تفسيره للآية فيما رُوي عنه ، فعنده أن ( تُحدِّثُ ) بمعنى تُنبئ ،
________________
وإنباءُ الأرض
أخبارُها يعني : إخراجها أثقالها من بطنها إلى ظهرها
وهو التفسير الذي أيّده الطبري وبنى عليه تفسيره للآية بأن معناها : يومئذٍ تبين الأرض أخبارها بالزلزلة والرَجَّة وإخراج الموتى ... .
فكان مجمل ما يشتمل عليه هذا الاتجاه في
تفسيره لتحديث الأرض أن ما يكون من الأحوال المصاحبة للزلزلة من إخراج الأثقال والارتجاج وإخراج الموتى وغيرها أمور ناطقة بأن الآخرة قد أتت وأن هذه الأحوال ناتجة عن أمره تعالى واقعة بِوَحيه.
الاتجاه الثاني :
يرى أصحابه أن التعبير بتحديث الأرض استعمال حقيقي ، وأن المراد منه أن الأرض تتحدث بكلام حقيقي ، عن ابن عباس وابن مسعود : إن تحديث الأرض هو ( أن تتكلم وتقول : إن الله أمرني بهذا ، وأوحَى إليّ به ، وأذِن لي فيه ) .
وقد رُوي في الحديث عنه صلىاللهعليهوآله أنه قال : «
أتدرون ما أخبارها ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال صلىاللهعليهوآله
: أخبارها
أن تشهد على كل عبد وأَمَة بما عَمِلَ على ظهرها » .
أما كيفية هذا الكلام الحقيقي الذي قال
هؤلاء بأن الأرض تتحدث به فمجمل آرائهم أنه واقع بأحد الاحتمالات التالية
:
________________
١ ـ
فإما أنه تعالى يقلبها حيواناً قادراً على الكلام فتتكلم بذلك وتنطق بما عُمِل عليها.
٢ ـ
وإما أنه تعالى يُحدثُ فيها الكلام ، فهو كلامه ولكنه يُنسب إليها توسعاً ومجازاً.
٣ ـ
أو أن يكون منها بيان يقوم مقام الكلام.
إلّا أن السيد الطباطبائي يستفيد من كون
كلام الأرض ونطقها حقيقياً أن الأرض شاعرة بما يقع فيها من الأعمال خيرها وشرها ، متحملة لها يُؤذن لها يوم القيامة بالوحي أن تُحدّث بأخبارها ، وتشهد بما تَحمَّلَت ، وفي ذلك دلالة على سريان الحياة والشعور في الأشياء .
ب ـ الوحي إلى الأرض
:
قال رؤبة بن العَجّاج :
أوْحى لها القرارَ فاسْتقرَّتِ
|
|
وَشَدَّها بالراسِياتِ الثبَّتِ
|
يستفيد بعض المفسرين هنا من قوله تعالى
: ( أَوْحَىٰ
لَهَا )
بمعنى ( إليها ) دليل على أن الوحي يراد به معناه الحقيقي بأنه وحي صادر عنه تعالى مباشرة إلى الأرض بالذات وذلك لأنّ الإيحاء يتعدى بإلى .
وممن نبه إلى ذلك ابن عباس وأبو عبيدة
والشيخ الطوسي والزمخشري وغيرهم
وقد اختلف المفسرون في التعبير عن كيفية هذا الوحي
________________
الحقيقي منه تعالى
إلى الأرض : فقد ذهب مجاهد وعبدالله بن مسعود وتابعهما الخليل الفراهيدي إلى أن الوحي لها كان بالأمر
أي : أنه تعالى أمر الأرض بالزلزال أمراً مباشراً.
وعبر عنه ابن عباس بأنه تعالى أذِنَ لها
بالتحديث .
وقال سفيان الثوري : أعلَمَها بذلك .
وقال آخرون : بأن الوحي لها هنا تعبير عن التسخير ، فأوحى لها : سَخَّرها .
ويستفيد الشريف الرضي من كونه تعالى قال
: ( أَوْحَىٰ
لَهَا )
وليس ( إليها ) بأن هذا الوحي لم يكن مباشرة منه تعالى إلى الأرض وإنّما كان بواسطة يراها متمثلة في الملائكة ، فمعنى الآية عنده : أنه تعالى : ( أوحى إلى ملائكته بأن يُظهِروا فيها تلك الأشراط ويُحْدِثُوا فيها تلك الأعلام ) .
أما الزمخشري : فإنّه يرى أن ( الوحي )
في الآية تعبير مجازي ، وأنه تعالى إنما يُحدِثُ تلك الأحداث ( الزلزلة ) التي يستدل منها الرائي لها بأن ما يراه هو بِوَحي منه تعالى .
________________
وذهب مفسرون آخرون منهم العلّامة
الطبرسي إلى أن الوحي للأرض معناه الإلهام ، وذلك أنه تعالى ألهمها وعرفها .
ويفسر إبراهيم الحربي ( ٢٨٥ هـ ، ٨٩٨م )
فيما نقله القرطبي حقيقة هذا الإلهام بقوله : ( إن لله عزّ وجلّ في الموات قدرة لم يُدرَ ما هي ، لم يأتِها
رسول من عند الله ولكن الله تعالى عرفها ذلك : أي ألهمها ) .
إلّا أن الشريف الرضي يستبعد بشدة أن
يكون ذلك الوحي للأرض على سبيل الإلهام لأنه إذا كان ذلك جائزاً في الوحي للنحل لأنّها حيوان متصرف ألهمه الله تعالى ما أراد منها فإنّ الوحي إلى الأرض ليس بجار مجرى ذلك ، فلا يصح القول فيها بأنه إلهام لأنّها جماد خامد .
المورد الثاني ـ الوحي إلى السماء :
قال تعالى : (
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا )
. إضافة إلى ما قيل
من آراء وتفسيرات في معنى الوحي إلى الأرض مما ينطبق في كثير من جوانبه على الوحي إلى السماء فإنّ الراغب الأصبهاني يجمل الأقوال في الوحي إلى السماء في قولين هما
:
الأوّل :
إن المراد منه الوحي إلى أهل السماء خصوصاً وهم الملائكة لأنّهم أهل السماء ، فكان هذا الرأي يحاول أن يربط ذلك بقوله تعالى : (
إِذْ يُوحِي
________________
رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ ... ) .
الثاني :
إنّ الوحي إلى السماوات على الخصوص فيكون فيه رأيان :
إنه تسخير عند من قال إن السماء غير حيّ
( ليست حية ).
أو أنه نطق ، عند من جعلها حية.
ويرتبط بمعنى الوحي في الآية ما ينطبق
على تعبيره تعالى عن ذلك بـ ( القول ) وتصريفاته منسوباً إليه تعالى متوجهاً بالخطاب إلى السماء وكذلك إلى الأرض كما في قوله تعالى : (
ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) .
فقد ذهب بعض المفسرين فيما نقله ابن
دريد إلى أن القول هنا كان لأهل السماوات والأرض وليس لهما تخصيصاً .
وقال آخرون : إن القول هنا تعبير مجازي ، وأنه لا قول على الحقيقة وإنّما المراد دلالة ما جعل فيها. فعن السدي أنه قال : جعل فيها ما أراده من مُلك أو غيره .
ويرى الشريف الرضي أن مثل هذا ( القول )
في هذه الآية وأمثالها إنّما هو استعارة بلاغية ، لأنّه لا يصح في السماوات والأرض أن تؤمراً أو تخاطبا ، لأنّ ذلك لا يكون إلّا لمن يعقل فكان المراد من هذه الآيات ( الإخبار عن عظيم قدرة الله تعالى وسرعة مضي أمره ، ونفاذ تدبيره ، ووقوع أوامره سبحانه من غير معاناة ولا كلفة ولا لغوب ولا مشقة ).
________________
ويتطابق رأي كل من الشيخ الطوسي
والزمخشري
مع ما ذهب إليه الشريف الرضي في ذلك.
الوحي في مظاهر أخرى :
من نظائر الحالات التي عبر عنها بالوحي
والقول إلى السماء والأرض ترد حالات تقترب منها في بعض عناصرها مما يكون من أحوال مخصوصة في ظواهر كونية ومعجزات وخوارق ودلالات في مظاهر الطبيعة ، ومن ذلك ما يرد في مثل قوله تعالى : (
فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ
فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) .
فالآية في مقام بيان إحدى ظواهر معجزات موسى عليهالسلام
حين خروجه ببني إسرائيل من مصر ، ويستفيد بعض المفسرين هنا ـ في إشارة إلى الصلة بين الوحي والمعجزة ـ أن هذا الانفلاق للبحر كان بوحي إلٰهي فعن محمد بن إسحاق وآخرين : أوحى الله تعالى ـ فيما ذُكِر ـ إلى البحر : إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق .
وإذا ما أردنا أن نحصي أمثال هذه
الحالات فإنها كثيرة متناثرة هنا وهناك في نصوص الآيات مما يشتمل على أوجُه مشتركة مع عناصر الوحي المنسوب له تعالى إلى بعض مظاهر الطبيعة كالأوامر الإلهية المعبر عنها بألفاظ ( القول ) و ( الأمر ) و ( التسخير ) وتصريفاتها.
________________
وخلاصة القول في الوحي إلى مظاهر
الطبيعة أن التفسيرات غالباً ورغم تعددها تحاول الوصول إلى أن هذا الوحي يتمثل في التسخير لتلك المظاهر بمعنى تذليلها وجعل سيرها بمقتضى أوامره تعالى فيها.
وهذا بلا شك تفسير لا اعتراض عليه إلّا أنه
لا يكفي لتفسير الوحي الذي نصت عليه الآيات ، أنه كائن في أحوال ومظاهر مخصوصة بمحيط وزمان معين ، فَأن يكون سير نظام الكون على هذا الطريق والنظام المعروف بما يتحكم به من قوانين طبيعية فهذا تسخير لا شك فيه ولا نريد الخوض في ماهيته ، ولكن الوحي الموصوف في الآيات مراده ولا شك ما يقع في تلك الأحوال المخصوصة التي تذكرها الآيات كالوحي في زلزلة الأرض ، وإخبارها ، وانفلاق البحر لموسى عليهالسلام
... إلخ.
فالوحي هنا كما يرى الباحث يحمل معنى
الوحي حقيقة بكل ما يتوافر عليه من عناصر ومقومات الوحي في اللغة من معاني الإلقاء في خفاء والسرعة وهي متمثلة بوضوح في تلك الأحداث والمظاهر الكونية ، وهي في كل هذا تنبئ عن شعور يسري في هذه المظاهر الطبيعية تتلقى به الأمر الإلٰهي وحياً وتمتثل له بالطاعة.
المحتويات
مقدّمة المركز .................................................................. ٥
مقدّمة المؤلِّف ................................................................. ٧
الباب الأوّل
مصادر الوحي في القرآن
الكريم ...................... ١١
الفصل الأوّل
الوحي الإلهي ....................................... ١٣
أوّلاً : نسبته إليه
تعالى ........................................................ ١٣
ثانياً : صلته بالغيب ........................................................... ١٤
ثالثاً : حكمته
وغاياته ......................................................... ٣٣
رابعاً : أهميته ................................................................ ٣٤
خامساً : طرق الوحي
الإلٰهي وأنواع متلقيه ...................................... ٣٦
الفصل الثاني
الوحي الشيطاني .................................... ٣٩
أوّلاً : حقيقة
الشيطان ........................................................ ٣٩
ثانياً : طبيعة الوحي
الشيطاني .................................................. ٤١
ثالثاً : الوحي ودعاوى
إلقاء الشيطان ........................................... ٤٩
رابعاً : علامات الوحي
الشيطاني ............................................... ٦٢
خامساً : أنواع الوحي
الشيطاني ................................................ ٦٥
١ ـ الوسوسة ............................................................... ٦٥
٢ ـ النزغ ................................................................... ٦٧
٣ ـ المس ................................................................... ٦٨
٤ ـ الهمز ................................................................... ٦٩
٥ ـ الأزّ ................................................................... ٧٠
سادساً : مراتب
التأثير الشيطاني ............................................... ٧١
الفصل الثالث
الوحي من مصادر أُخرى ............................. ٧٣
أولاً ـ الوحي البشري ........................................................... ٧٣
أ ـ وحي زكريا عليهالسلام إلى قومه .................................................. ٧٣
ب ـ وحي شياطين الإنس .................................................... ٧٧
ثانياً : الوحي
الملائكي ....................................................... ٧٩
ثالثاً : وحي مظاهر
الطبيعة .................................................... ٨٣
الباب الثاني
الوحي مِنْ حَيث
المتلقِّي ............................. ٨٧
توطئة ....................................................................... ٨٧
الفصل الأوّل
الوحي النبويّ العام
الوحي إلى الأنبياء
والرسل عليهمالسلام
٨٩
أوّلاً ـ معنى النبي
والرسول لغة واصطلاحاً ....................................... ٨٩
١ ـ المعنى اللغوي ............................................................ ٨٩
٢ ـ المعنى الاصطلاحي ....................................................... ٩١
١ : الأنبياء عموماً
ممن بعث إلى الأُمم والشعوب والبلدان والقبائل ٩٧
٢ : الرسل ذوو الشرائع
الكبرى ............................................... ٩٨
ثانياً : خصائص النفس
النبوية ( المتلقية للوحي ) .............................. ١٠٢
ثالثاً : صور الوحي
النبوي العام .............................................. ١٠٥
الصورة الأولى للوحي :
الإلهام وصيغه ........................................ ١٠٥
الأنبياء الموحى إليهم
بهذه الصورة ........................................... ١٠٩
الصيغة الأولى : الوحي
..................................................... ١١١
الصيغة الثانية : من
الصيغ التي عبَّر بها القرآن الكريم هي : التلقّي ١١٩
الصيغة الثالثة :
المناداة ..................................................... ١٢١
الصيغة الرابعة : الرؤيا
في المنام ............................................. ١٢١
الصيغة الخامسة : كلمة
« قل » وتصريفاتها المنسوبة إلى الله تعالىٰ ١٢٢
الصيغة السادسة :
العهد .................................................... ١٢٣
الصيغة السابعة :
التفهيم .................................................... ١٢٣
الصورة الثانية للوحي
ـ التكليم من وراء حجاب ................................ ١٢٥
أوّلاً : معنى التكليم
والحجاب ............................................... ١٢٥
ثانياً : المخصوص
بالتكليم والحجاب ........................................ ١٣٠
خصائص الوحي الموسوي (
التكليم ) ........................................ ١٣٢
الصورة الثالثة ـ
الوحي بواسطة الملك ......................................... ١٣٨
رابعاً : المبادئ
العامة للوحي النبوي العام ..................................... ١٤١
الفصل الثاني
الوحي المحمدي .................................. ١٤٥
المبحث الأوّل : وحي
القرآن ............................................... ١٤٦
الصيغة الأولى : نزول
الملك به ............................................. ١٤٦
الصيغة الثانية :
النزول على القلب ........................................... ١٥١
الصيغة الثالثة : نزول
الوحي مفرقاً ............................................. ١٥٣
الشكل الأوّل : النزول
المتفرّق ............................................... ١٥٥
الشكل الثاني : النزول
جملة واحدة ........................................... ١٥٨
المبحث الثاني
صور الوحي المحمدي
وأقسامه ................................ ١٥٩
الصورة الأولى :
الرؤيا الصادقة .............................................. ١٥٩
الصورة الثانية :
الوحي بواسطة المَلَك ........................................ ١٦١
أوّلاً : أشكال الوحي
بواسطة الملك .......................................... ١٦٢
١ : مواجهة جبريل عليهالسلام للنبي صلىاللهعليهوآله في صورته الملكية
الحقيقية ................... ١٦٣
٢ : تمثّل الملك في صورة بشرية ............................................... ١٦٤
الأولى ـ تمثّله في
صورة شخص معروف للنبيّ والصحابة ........................ ١٦٤
الثانية ـ تمثّله في
صورة بشرية غير معروفة ...................................... ١٦٥
ثانياً : ملامح الوحي
الملكي إلى النبي صلىاللهعليهوآله .................................. ١٦٧
الصورة الثالثة :
الوحي الإلهامي .............................................. ١٧٤
الصورة الرابعة :
الوحي المباشر .............................................. ١٧٥
أقسام الوحي ............................................................... ١٧٦
المبحث الثالث : خصائص
الوحي المحمدي ومبادئه .......................... ١٧٨
الفصل الثالث
الوحي إلى الموجودات
الأخرى ..................... ١٨١
أوّلاً : الوحي إلى
الملائكة .................................................. ١٨٢
ثانياً ـ الوحي إلى
البشر العاديين .............................................. ١٨٥
١ : الوحي إلى
الحواريين .................................................... ١٨٦
٢ : الوحي إلى النساء ...................................................... ١٩٠
القسم الأوّل : ............................................................. ١٩١
أوّلاً : الوحي إلى
أُمّ موسى عليهماالسلام ............................................ ١٩١
ثانياً : خطاب
الملائكة لمريم عليهاالسلام ............................................ ١٩٢
القسم الثاني ـ نبوة
النساء ................................................... ١٩٤
ثالثاً : الوحي إلى
الحيوانات .................................................. ٢٠٠
الوحي إلى النحل ........................................................... ٢٠٠
أولاً : الإلهام .............................................................. ٢٠٠
١ ـ الإلهام ................................................................ ٢٠٠
٢ ـ الإلقاء في النفس ....................................................... ٢٠٢
٣ ـ الأمر ................................................................. ٢٠٢
ثانياً : الغريزة .............................................................. ٢٠٣
ثالثاً : التسخير ............................................................ ٢٠٤
رابعاً : الوحي إلى
مظاهر الطبيعة ............................................. ٢٠٨
المورد الأوّل : الوحي
إلى الأرض ............................................ ٢٠٩
أ ـ تحديث الأرض .......................................................... ٢٠٩
ب ـ الوحي إلى الأرض ...................................................... ٢١١
المورد الثاني : الوحي
إلى السماء ............................................ ٢١٣
الوحي في مظاهر أخرى ..................................................... ٢١٥
المحتويات ................................................................ ٢١٧
|