بسم الله الرحمن الرحيم.

( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ )

قران كريم : ١٠٦ النحل.

( إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ).

قران كريم : ٢٨ ال عمران.

( وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ )

قرآن كريم : ٢٨ غافر.

التقية في كل ضرورة وصاحبها اعلم بها حين تنزل به

الامام الصادق .ع.

التقية من ديني ودين آبائي.

الامام الصادق .ع.

التقية الى يوم القيامة.

صحيح البخاري : الحسن البصري.



الاهداء

الى من بذلوا أنفسهم ونفيسهم ... اليّ ...

الى كل من ساعد في تكويني ...

الى اساتذتي الافاضل ...

أهدي هذه الثمرة ... التي هي من ثمرات جهودهم ....

علي الشملاوي



اشراقة

قرون مضت وسنون تصرمت ولازال هناك كثير من الميادين تخاض ... ولكن بلا جدوى ، مع انها في بعض الاحيان يكثر خواضها ... بحوث ومناظرات واحتجاجات .. ملئت الكتب وسطرت في الصحف .. ولكن ... هل وجدت كل هذه وتلك اذناً صاغية ... أو نفساً واعية هذا مالايمكن القطع بوجوده.

لماذا كل هذا ... ولماذا التباعد والتمانع ...؟!!. لماذا نبقى هكذا ، الكل في فلك يدور ... خطان متوازيان لا يلتقي احدهما بالآخر. الى متى ؟!!

هل خلقنا لنكون هكذا ... ام فرضنا على أنفسنا ذلك ام فرض علينا ...؟؟!!..

ألا يمكن ان ننتقل من ميدان الحلقات المفرغة الى خارج هذه الحلقات ...؟.

اظن ان هذه الاسئلة من الصعب الاجابة عليها ... إذ انها اصبحت من الذاتيات للأمة الاسلامية.

كتب الآباء والاجداد .. شرحوا وبسطوا وبينوا ... فهل نفعهم .. أو نفع الاجيال التي بعدهم ...؟ كلا ... ان ذلك لعسير ... فما هي إلا صرخة في وادٍ ...
طرقوا كل الميادين ... حتى اننا نفتش في زوايا أحد الميادين لنطرقه فلا نجد لنا مجالاً ...

عندما اسرح نظري في قائمة كتب موضوع منها أجد نفسي متعبا قبل ان اصل الى نهايتها .. فلماذا لانقف على ما أثمروا ولا نتجاوزه ؟..

وهذا مايُطرح كثيراً مشكلاً نظرة الجمود.

لكن الحياة والفكر والابداع في حركة مستمرة وان كانت في بعض الاحيان حول نتيجة واحدة إلا أن الطرق مختلفة .. وهكذا سنة الحياة ...

طرق الأولون. ـ ولهم الفضل ـ الميادين بسلاحهم الفكري الخاص بهم ـ بتفكير زمانهم وبمستويات أهل زمانهم ... ومع ذلك لا نقول ان ماكتبوا هو حصر على اهل زمانهم ... اذ في بعض الاحيان يحمل في طياته اصالتنا وذاتنا وفكرنا ، وكذلك طريقنا الموصل اليه ...

الا أننا نقول ان الطريقة لهم والمحتوى لنا ... فعلينا بتجديد الطرق والاساليب بحيث يوافق هذا العصر الذي نعيش فيه ...

وعلى هذا لا مانع ان نطرق كل موضوع طرقوه اذا كان فيه مايملك النفوذ لأهل هذا العصر ... والذي يتناسب مع تفكيرهم ومستوى إدراكهم حتى ولو كان اقل مستوى من السابق ، بل ذلك مما ينبغي ...

هذا الشعور اخذ يراودني عندما اردت ان أشرع في كتابة موضوع له من الاهمية بين المسلمين ـ ولطالما فكرت في
طرقه ... ذلك هو التقية ... ، وذلك انه كتب فيه ما شاء الله من المباحث ... وأُلِفَ فيه الرسائل والكتب.

فعندما اردت ان اعنون ـ البحث ـ بهذا العنوان ... ماهي التقية ؟ .. اعتراني ذلك.

حيث ... هل من المعقول انه بعد هذا الزمن المديد والبحث فيها يأتي انسان ليقول .. ماهي التقية ...؟! إن هذا ليعد من التهاتر.

كلا ليس الامر كذلك ... فاني اعتقد ان هذا التساؤل ـ ماهي التقية ؟ ـ لازالت الاجابة عليه ناقصة وانه يفتقد جوانب عدة ينبغي ان يحوم حولها كل من يجيب على هذا التساؤل ....

ومن هذا المنطلق احسست باني غير مبتعد كثيرا عن الواقع حينما اطرح هذا التساؤل في مثل هذا العصر.

وشرعت. في جواب هذا التساؤل بما سنح لي من فكر واطلاع والمام ، منبها الى موضعها الذي هو المركز الاساس في الإجابة على هذا التساؤل ، معنوناً بحثي هذا به حيث عنونته : ... التقية في اطارها الفقهي .. متدرجا في الوصول الى هذا الاساس بقدر الامكان ، مبيناً ان هذا ـ المبدأ من المبادئ المشتركة بين المسلمين جميعاً ، معتمداً في ذلك على مايراه كل مسلم .. متتبعاً كتب المسلمين عامة ـ ليتضح ما رمينا اليه وهو القول به من جميع المسلمين.

وهدفنا ـ دائما ـ هو بيان المبادىء واضحة جلية مشتركة بين افراد الامة الاسلامية ، حتى لا يظلم احدنا الآخر في رميه
بما لا يحق له.

والله نسأل ان يسدد خطانا انه ولي التوفيق والسداد.

علي الشملاوي

دمشق في ١٣ / ١٠ / ١٤١١ ه‍




ما هي التقية ؟

ذكرنا في اشراقة البحث ان هذا البحث يرتكز أساساً على هذا التساؤل ... وعند الاجابة على هذا التساؤل ينتهي في تصوري خيط الخلاف ..

وقد حاولنا ان نجيب على هذا التساؤل بالاجابة على عدة تساؤلات أخرى .. ومن خلال مباحث نتعرض لها على التدريج.

واول هذه المباحث : هو ان التقية تعد في اي مضمار .. هل هي اصولية ام فرعية ؟ وهذا من أهم مرتكزات الاجابة.

ويتضح هذا من خلال هذا الطرح في عدة نقاط.



|١|

تعريف التقية

تعرض كثير من الفقهاء لتعريف التقية اصطلاحاً. وقبل ان نأتي على تعريفهم لابدّ من بيان معناها اللغوي.

التقية لغة :

التقية اسم مصدر من تقي يَتقِي ، ام اتقى يتَّقِي ، وهو من اللف المفروق ـ الفاء واللام حرفا علة ـ واصله : وقى ـ كما في تجاه وتراث.

واصل التقية : وِقْيَةَ. وهي مرادفة للاتقاء في المعنى ، ولا فرق بينهما الامن حيث ان التقية اسم مصدر والاتقاء مصدر ، واذا اعتبرنا التقية مصدراً آخر لا تقى يَتَّقِي فلا فرق اصلاً بين الاتقاء والتقية. (١)

التقية اصطلاحاً :

يقول استاذ المحقيقين المجدد الاصولي الشيخ مرتضى الانصاري في هذا المورد :

التقية هي : [ التحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول او فعل مخالف للحق ] .. (٢)

__________________

(١) البجنورَدي : القواعد الفقهية ص ٤٣ ج ٥.

(٢) الانصاري : رسالة في التقية مطبوعة ضمن المكاسب الحجري ص ٣٢٠.


وقال المدقق الاصولي الميرزا حسن البجنوردي في تعريف التقية :

[ اظهار الموافقة مع الغير في قول او فعل أمر او ترك فعل يجب عليه حذراً من شره الذي يحتمل صدوره بالنسبة اليه او بالنسبة الى من يحبه مع ثبوت كون ذلك القول او ذلك الفعل او ذلك الترك مخالفاً للحق عنده .. ] (٣)

ولا اظن أن هناك فرقاً بين التعريفين الا بالاسهاب في زيادة التقييدات في الثاني بخلاف الأول.

وكذلك لااظن انهما يحتاجان الى توضيح حيث. ان التعريفيين تناولا تعريف التقية بالعبارة السلسة الواضحة.

ولكن ـ وضمن هذا التعريف للتقية ـ وحتى نتوصل الى هدفنا يجب ان نبحث في عدة نقاط على ضوء التعريف.

والمباحث التي نتعرض لها هي كالتالي :

١ ـ ما هو المناط في تشريع التقية ـ وهو محتوى بعض فقرات التعريفيين ـ التحرز عن ضرر الغير ... وحذراً من شره .....

__________________

(٣) البجنوردي : القواعد الفقهية ص ٤٣ ج ٥.

وهذا التعريفان من التعاريف الحديثة للتقية. واذا رجعنا للقدماء وجدنا التعريف المشهور عندهم كما يلي : فالتقية الاظهار باللسان خلاف ما ينطوي عليه القلب للخوف على النفس اذا كان ما يُبطنه هو الحق ، فان كان يبطنه باطلا كان ذلك نفاقا.

الطوسي : التبيان في تفسير القرآن ص ٤٣٤ ج ٢.

والطبرسي : مجمع البيان في تفسير القرآن ج ٢ ص ٧٢٩.


٢ ـ هل التقية نفاق ... وهو محتوى ... اظهار الموافقة ...

نتعرض هنا لبيان هذين الامرين على نحو الاجمال لاننا سوف نتناولهما على نحو موسع خصوصاً الاول في مصادر تسريع التقية. وذلك باعتبار اشتمال التعريف عليهما ...

فالاول ....

من المعلوم ان الاحكام الشرعية على نوعين ...

أولية : وهي الاحكام المشرعة لكافة الناس طبقاً لشروط عامة او خاصة ، اذا توفرت وجب الاتيان بها.

وثانوية : وهي التي جاءت تسهيلاً على المسلم وذلك في حالة عدم تمكن الإنسان من الحكم الاول.

وهي طبق قواعد عامة جعلها الشارع للانسان عند فقدان التمكن من الحكم الاول.

ولهذا الامر ـ الثاني ـ هناك قواعد كثيرة ـ كقاعدة نفي الضرر ـ المعروفة ـ ، وقاعدة ـ نفي العسر والحرج ، وغيرهما من القواعد.

فمثلاً ... شرع للانسان ان يتوضأ لكل صلاة على نحو الوجوب ، فاذا حصل للانسان مانع لايستطيع معه من الاتيان بالوضوء ـ كالجرح ـ مثلاً ـ فقد اوجد قاعدة الحرج والعسر والضرر للانتقال الى حكم آخر يشرعه نفس الشارع طبقاً لهذه القواعد ، فاذا لزم من الوضوء بالماء ضرر أمره الشارع ـ بحكم هذه القواعد ـ بالانتقال الى التيمم الذي ليس


فيه ضرر بالنسبة الى مثل هذا الموقف ...

ومثال آخر ... حرم على المكلف اكل لحم الميتة لما فيه من الضرر على الانسان عند تناوله ...

لكن في حالة وجود الضرر على الانسان اذا ترك اكل الميتة ـ كهلاكه ـ وتوقف حياته على الأكل منه ... فان الشارع أباح له ذلك لحفظ نفسه حيث قال .. [ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ]. وقال : [ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ ] ... وهذا مااشتهر على السن الخاصة والعامة من ان ـ الضرورات تبيح المحذورات ...

ومثال ... مما نحن فيه ...

لو ان انسانا فرض على آخر بالقوة ان يسب شخصاً آخر بحيث لو لم يفعل لقتله او هتك عرضه ... ومعناه أنه لو لم يفعل لتضرر بذلك ـ هنا يأمره الشارع ـ ايضاً ـ بان يسب الشخص .. ويتخلص من الضرر لقاعدة نفي الضرر.

وهذا المثال هو ما يطبق هنا في مورد التقية فانه أُخذ في تعريفها التحفظ عن ضرر الغير .. او حذراً من شره ....

ولم يفرق الشارع بين كون الضرر الذي يعترض له الانسان حاصلاً بنفس فعل الانسان ـ كما في المثالين الاولين ـ ، وبين الحاصل من غيره وهو ما يحصل للانسان بواسطة فعل الغير ـ كما في المثال الثالث .. اذ مناطهما واحد وهو حصول الضرر.

فملخص الأمر الاول ـ المحتوي عليه التعريف : أنه يجوز للإنسان أن يفعل فعلاً مخالفاً للمطلوب منه شرعاً ، او

يترك الفعل رأسا للضرر المتوجه اليه من الآخرين ـ وبالتالي ومن ذلك كله ـ :

يتضح الأمر الأهم الذي أشير اليه في التعريف اللغوي .... بان التقية ـ اسم مصدر ـ للاتقاء ، حيث نعلم بان التقية هي عين الحدث التحفظ عن ضرر الغير ، وهي نفس اظهار الموافقة التي بواسطتها يدفع عن نفسه الضرر.

فالتقية هي إعمال الاتقاء او إعمال الوقاية من الضرر.

ويتضح ذلك ـ اكثر عندما نقارن التقية ـ بهذا المعنى ـ بالوصية حيث ان الوصية ... هي نفس عملية الايصاء التي يقوم بها الانسان ... وهذا ما يذكره العلماء من أنها اسم مصدر ...

فهنا كذلك فان التقية هي نفس عملية الإتقاء من الضرر ، ويتحقق بفعل ما طلب منه او ترك ما هدد لتركه.

وبهذا ... يظهر أن المعنى الاصطلاحي قريب جدا من المعنى اللغوي ... كما يتضح بملاحظة التعريفين ، وملاحظة ما ذكرنا ...

اما الامر الثاني الذي وعدنا بالبحث حوله فسيأتي في نهاية البحث في التقية ليتبين انها نفاق ام إيمان ؟.



|٢|

مصادر تشريع التقية

لقد استدل العلماء على مشروعية التقية من طرق عدة ـ كما هي العادة في اي حكم فرعي ، اولها الكتاب ، ثم السنة ، والاجماع ، والقواعد العامة ...

فلنعرض هذه المصادر بالتفصيل :

١ ـ القرآن الكريم :

يمكن الاستدلال على مشروعية التقية من الكتاب العزيز بعدة آيات :

١ ـ الآية الاولى :

قوله تعالى : [ مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ] (١).

ان هذه الآية من الآيات الواضحة في هذا الموضوع ، وقد استدل جمع من الفقهاء بها على مشروعية التقية وجوازها وذلك بالإضافة الى ماذكره المفسرون من سبب النزول .. فلنذكر ثلة ممن ذكر هذه الآية :

__________________

(١) الآية : ١٠٦ النحل.


١ ـ المقداد السيوري :

ذكر في « كنز العرفان في فقه القرآن » مايلي :

[ ( من ) مبتدأ ، و ( فعليهم غضب ) خبره ، وقوله « الا من أكره » مستثنى من قوله « فعليهم غضب من الله » ، وقوله « ولكن من شرح بالكفر صدراً » في المعنى بيان للكفر اي الذين كفروا بالله وهم الذين تطيب به قلوبهم لابإكراه ].

ثم ذكر سبب النزول ـ كما يذكره المفسرون من قصة عمار وابويه ، وقول رسول الله (ص) له ـ فان عادوا فعد لهم بما قلت ...

وبعد ذلك ذكر فوائد ....

وذكر تحت عنوان الفائدة الأولى :

[ دلت الآية الكريمة على جواز التقية في الجملة ] .. (٢)

٢ ـ الحر العاملي :

ذكر في وسائل الشيعة حول هذه الآية في حديث مطول ....

[ فقال له السائل : أرأيت إن اختار القتل دون البراءة ؟ فقال والله ذلك عليه ، وماله الا مامضى عليه عمار بن ياسر حيث اكرهه اهل مكة وقلبه مطمئن بالايمان ، فأنزل الله عز وجل فيه « إلا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان » ، فقال له النبي (ص) عندها : ياعمار ان عادوا فعد ، فقد انزل الله عذرك وأمرك ان تعود إن عادوا ]. (٣)

__________________

(٢) كنز العرفان في فقه القرآن ج ١ ، ص ٣٩٣.

(٣) الحر العاملي ـ وسائل الشيعة ـ ص٤٧٦ ج١١ ح٢، ابواب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.


وفيه حديث آخر عن الصادق عليه السلام :

[ ما منع ميثم رحمه الله من التقية فوالله فقد علم ان هذه الآية نزلت في عمار واصحابه « الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان » ] (٤).

٣ ـ العلامة الطباطبائي :

ذكر في تفسيره « الميزان في تفسير القرآن » ....

وفيها تعرض لحكم التقية.

ثم اضاف ....

[ وقوله : « الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان » استثناء من عموم الشرط ، والمراد بالاكراه الاجبار على كلمة الكفر والتظاهر به ، فان القلب الاكراه ، والمراد : استثني من أكره على الكفر بعد الايمان فكفر في الظاهر وقلبه مطمئن بالايمان ] (٥).

ثم نقل عن الدر المنثور عدة روايات في مناسبة النزول وفي قصة عمار وجماعة ، وفيها الفاظ واضحة دالة على انها نزلت لمورد التقية ...

الى ان قال : .... [ وأما عمار فقال لهم كلمة اعجبتهم تقية ... ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار فلحقوا برسول الله (ص) فاخبروه بالذي ( كان ) من امرهم ، واشتد على الذي كان تكلم به ، فقال رسول الله (ص) كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت ؟!.... أكان منشرحاً بالذي قلت ام

__________________

(٤) المصدر السابق ح ٣.

(٢) الطباطبائي : ص ٣٥٤ ج ١٢.


لا ؟ ... قال لا ... قال : وانزل الله « الا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان » ] (٦).

وفي حديث آخر ....

[ فقال قوم : كفر عمار ، فقال (ص) كلا ان عمار ملأ ايمانا من قرنه الى قدمه واختلط الايمان بحلمه ودمه ... ] (٧).

وهكذا يجمع المفسرون على انها انما نزلت للتقية ، وسيأتي كثير من الاحاديث في المصدر الثاني ـ السنة ـ.

ب ـ الآية الثانية :

قوله تعالى : [ لاَّ يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ المَصِيرُ ] (٨)

١ ـ قال الطباطبائي :

[ واذا قويت الولاية ـ كما اذا كان من دون المؤمنين ، أوجب ذلك فساد خواص الايمان ، ثم فساد أصله ، ولذلك عقبه بقوله « ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء » ، ثم عقبه ايضا بقوله .. « إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً » فاستثنى التقية ، فان التقية انما توجب صورة الولاية في الظاهر دون حقيقتها ...

ثم قال :

قوله تعالى : إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ... الاتقاء في الاصل : اخذ الوقاية للخوف ، ثم ربما استعمل بمعنى الخوف

__________________

(٦) المصدر السابق ص ٣٥٧.

(٧) المصدر السابق. والطوسي : التبيان في تفسير القرآن ص ٤٢٨ ج ٦ ، والطبرسي ، مجمع البيان ج ٦ ص ٥٩٧.

(٨) الآية ٢٨ آل عمران.


استعمالاً للمسبب في مورد السبب ، ولعل التقية في المورد من هذا القبيل ...

الى ان قال ...

وفي الآية دلالة ظاهرة على الرخصة في التقية على ما روي عن أئمة اهل البيت :.

ثم يؤكد هذا المعنى فيقول :

وبالجملة الكتاب والسنة متطابقان في جوازها في الجملة ، والاعتبار العقلي يؤكده ، اذ لابغية للدين ولاهم لشارعه الاظهور الحق وحياته ، وربما يترتب على التقية والمجاراة مع أعداء الدين ومخالفي الحق من حفظ مصلحة الدين وحياة الحق مالايترتب على تركها ] (٩).

وقال في البحث الروائي :

[ الأخبار في مشروعية التقية من طرق أئمة اهل البيت (ع) كثيرة جداً ربما بلغت حد التواتر ، وقد عرفت دلالة الآية عليها دلالة غير قابلة للدفع .. ] (١٠)

٢ ـ المقداد السيوري :

ذكر في كنز العرفان حول هذه الآية وسابقتها مايلي ...

[ دلت الآية الكريمة على جواز التقية في الجملة ، وكذا قوله

__________________

(٩) الطباطبائي ج ٣ ص ١٥٣. ويراجع في ذلك : الطبرسي : مجمع البيان في تفسير القرآن ج ٢ ص ٧٣٠ حيث اكد هنا على دلالة الآية على جواز التقية ، ثم بيّن حكمها. وعقب ذلك بخضوعها للاحكام الخمسة.

(١٠) المصدر السابق ص ١٦٣. والطوسي : التبيان في تفسير القرآن ص ٤٣٤ ج ٢ حيث ذكر تعريف التقية وحكمها فقال : والتقية عندنا واجبة عند الخوف على النفس.


تعالى : لاَّ يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ ..... الخ الآية ]. (١١)

٣ ـ البجنوردي :

ذكر في القواعد الفقهية حول هذه الآية وسابقتها مستدلاً بهما ..... واما الكتاب فقوله تعالى ...... فذكر هذه الآية والآية السابقة ... (١٢)

ج ـ الآية الثالثة قوله تعالى :

[ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ ] (١٣)

ذكر الطبأطبائي في تفسير هذه الآية :

[ ظاهر السياق : ان « كم آل فرعون » صفة لرجل ، و « يكتم ايمانه » صفة اخرى ، فكان الرجل من القبط من خاصة فرعون وهم لايعلمون بايمانه لكتمانه اياهم ذلك تقية ] (١٤).

وقال في مبحث روائي :

[ وفي المجمع : قال ابو عبدالله (ع) : التقية ديني ودين آبائي ، ولادين لمن لاتقية له ، والتقية ترس الله في الارض ، لان مؤمن آل فرعون لو اظهر الاسلام ـ الايمان ـ لقتل.

ثم علق على ذلك صاحب الميزان فقال :

__________________

(١١) كنز العرفان ج ١ ص ٣٩٣.

(١٢) البجنوردي ج ٥ ص ٤٤.

(١٣) الآية ٢٨ غافر.

(١٤) الطباطبائي ص ٣٢٨ ج ١٧. والطبرسي : مجمع البيان في تفسير القرآن ج ٨ ص ٨١٠.


اقول : الروايات من طرق الشيعة فيها كثيرة ، والآيات تؤيدها ـ ثم ذكر الآيتين السابقتين (١٥).

وورد الحديث عن العسكري (ع) قال : ان ابا طالب كمؤمن آل فرعون يكتم إيمانه ] (١٦).

د ـ الآية الرابعة :

قوله تعالى : [ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى المَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ، إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ] (١٧).

١ ـ الميزان في تفسي القرآن :

قال :

[ وقوله تعالى : « وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ... » التلطف إعمال اللطف والرفق واظهاره ، فقوله : ولا يشعرن بكم احداً .. عطف تفسيري له ، والمراد على ما يعطيه السياق : ليتكلف اللطف مع اهل المدينة في ذهابه ومجيئه ومعاملته لهم كي لا يقع خصومة او منازعة لتؤدي الى معرفتهم بحالكم واشعارهم بكم ] .. (١٨).

وقال بعد توضيح ـ الظهور ـ في الآية اللاحقة :

__________________

(١٥) المصدر السابق ص ٣٣٨. والطبرسي : مجمع البيان ج ٨ ص ٨١٠.

(١٦) الحر العاملي وسائل الشيعة ص ٤٨١ ج ١١ ح ١٩ ابواب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(١٧) الآيتين ١٩ ـ ٢٠ الكهف.

(١٨) الطباطبائي ص ٢٦٠ ج ١٣. والطوسي : التبيان في تفسير القرآن ص ٢٤ ج ٧.


[ وظاهر السياق ان يكون « يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ » بمعنى يطلعوا عليكم ويعلموا بمكانكم ، فانه اجمع المعاني ، لان القوم كانوا ذوي أيد وقوة وقد هربوا واستخفوا منهم فلو اطلعوا عليهم ظفروا بهم وغلبوا على ما ارادوا ... وقال بعد بيان المراد من « يعيدوكم » :

وكان لازم دخولهم في ملتهم عادة ـ وقد تجاهروا برفضها وسموها شططا من القول وافتراءاً على الله بالكذب ـ ان لايقنع القوم بمجرد اعترافهم بحقية الملة صورة دون ان يثقوا بصدقهم في الاعتراف ويراقبوهم في أعمالهم ، فيشاركوا الناس في عباد الاوثان ، والاتيان بجميع الوظائف الدينية التي لهم والحرمان عن العمل بشيء من شرائع الدين الالهي والتفوه بكلمة الحق ] .. (١٩).

ثم ربط هه الآية بالتقية وبمدلول الآيات الاخرى ، فقال :

[ وهذا كله لابأس به على من اضطر على الاقامة في بلاد الكفر والانحصار بين أهله كالاسير المستضعف بحكم العقل والنقل ، وقد قال تعالى : « إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ » ، وقال تعالى : « إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ... » فله ان يؤمن بقلبه وينكر بلسانه ] .. (٢٠).

٢ ـ وقد ذكر في الوسائل عدة أحاديث في تفسير هذه الآية ، وكونها من التقية.

__________________

(١٩) المصدر السابق ص ٢٦١ ج ١٣. والطبرسي : مجمع البيان في تفسير القرآن ج ٦ ص ٧٠٦.

(٢٠) المصدر السابق ص ٢٦٢ ج ١٣.


هذا وان كان موردها المبحث الآتي « السنة » الا انها لما كانت حول تفسير الآية ـ التي نحن بصددها ـ فمن الافضل ان نذكر طرفاً منها :

١ ـ [ عن ابي عبدالله (ع) : ان اصحاب الكهف أسرّوُا الايمان واظهروا الكفر ، وكانوا على اجهار الكفر اعظم اجراً منهم على اسرار الإيمان ] (٢١).

٢ ـ [ عن ابي عبدالله (ع) : مابلغت تقية احد ما بلغت تقية اصحاب الكهف ، انهم كانوا يشدون الزنانير ويشهدون الأعياد فآتاهم الله اجرهم مرتين ] .. (٢٢).

٣ ـ [ عن ابي عبد الله (ع) : ان جبرائيل نزل على النبي (ص) فقال : يامحمد ان ربك يقرؤك السلام ويقول لك ان اصحاب الكهف أسرّوُا الايمان واظهروا الشرك فآتاهم الله اجرهم مرتين ، وان ابا طالب أسرّ الايمان واظهر الشرك فآتاه الله اجره مرتين ، وما خرج من الدنيا حتى أتته البشارة من الله بالجنة ] .. (٢٣).

هذه الآيات التي يمكن أن يستدل بها على تشريع التقية من الكتاب العزيز ... وأرى ان اختم هذه النقطة بكلمة العالم المجدد المدقق الشيخ محمد رضا المظفر ( قدس ) مستدلاً ببعض هذه الآيات على تشريع التقية حيث يقول :

[ قد ورد تشريعها في نفس القرآن الكريم ، ذلك قوله

__________________

(٢١) الحر العاملي ج ١١ ص ٤٨٠ ح ١٦.

(٢٢) المصدر السابق ح ١٥.

(٢٣) المصدر السابق ح ١٧.


تعالى ... « الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان » وقد نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر الذي التجأ الى التظاهر بالكفر خوفاً من اعداء الاسلام ، وقوله تعالى « إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً » ، وقوله تعالى : « وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ » ] (٢٤).

٢ ـ السنة :

ذكرت في طيات البحث السابق عدة احاديث ، وهي التي وردت ضمن تفسير الآيات السابقة.

وهناك كثير من الأحاديث تنص على هذا المعنى ، بالاضافة الى انها محور استدلال العلماء على جواز التقية ، وهي كما وصفها العلامة الطباطبائي .. بلغت الى حد التواتر.

وهذه نبذة منها :

ا ـ [ عن ابي عمر الاعجمي : قال : قال لي ابو عبد الله (ع) : يا ابا عمر ان تسعة اعشار الدين في التقية ، ولا دين لمن لا تقية له ] ... (١)

ب ـ [ عن معمر بن خلاد قال : سألت ابا الحسن (ع) عن القيام للولاة ، فقال : قال ابوجعفر (ع) : التقية من ديني ودين آبائي ولاايمان لمن لا تقية له ]. (٢)

ج ـ [ عن عبد الله بن ابي يعفور قال : سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : التقية ترس المؤمن ، والتقية حرز المؤمن ،

__________________

(٢٤) المظفر : عقائد الأمامة ص ٤٣٠.

(١) الحر العاملي : وسائل الشيعة : ج ١١ ص ٤٦٠ ح ٢ باب ٢٤.

(٢) المصدر السابق : ح ٣.


ولاايمان لمن لاتقية له ] ... (٣)

د ـ [ عن عبد الله ابن ابي يعفور عن ابي عبدالله (ع) قال : اتقوا على دينكم واحجبوه بالتقية فانه لا ايمان لمن لاتقية له ] ... (٤)

ه‍ ـ [ عن زرارة عن ابي جعفر (ع) قال : التقية في كل ضرورة ، وصاحبها اعلم بها حين تنزل به ]. (٥)

وبلفظه حديث آخر برقم ـ ٨ ـ وليس فيه المقطع الاخير من الحديث السابق.

و ـ [ عن محمد بن مسلم وزرارة قالوا : سمعنا ابا جعفر (ع) يقول : التقية في كل شيء يضطر اليه ابن آدم فقد احله الله له ] ... (٦)

ونكتفي بهذا القدر ونحيل القارىء على مصادر الشيعة ، فانا لو اردنا سرد الاحاديث لطال بنا المقام.

ويراجع في ذلك. وسائل الشيعة الابواب : ٢٤ الى ٣٠ ، وغيرها من الابواب الجزء ١١. من ابواب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقد استدل جملة من العلماء بهذه الاحاديث على تشريع التقية ، وعلى بعض تفريعاتها كالاجزاء في المأتي به تقية كما سيأتي ـ وغيره من التفريعات. (٧)

__________________

(٣) المصدر السابق : ح ٦.

(٤) المصدر السابق : ص ٤٦١ ح ٧.

(٥) المصدر السابق : ص ٤٦٨ ح ١ باب ٢٥.

(٦) المصدر السابق : ص ٤٦٠ باب ٢٤ ح ٣.

(٧) البجنوردي القواعد الفقهية ص ٤٤ ج ٥ والغروي : التنقيح في شرح العروة : ج ٤ ص ٢٤٦ ، ص ٢٥٥.


٣ ـ الأجماع .....

لايحتاج الباحث المراجع لمثل هذا البحث ان يتعب نفسه ويتجشم عناء البحث والتنقيب ليحصل على الاجماع ... اذ هي من المسلمات التي لم يقع الاجماع فقط عليها بل قامت السيرة العملية على ذلك.

وممن نص على قيام الاجماع على ذلك صاحب القواعد الفقهية حيث يقول في مورد جوازها ....

[ اقول : لاشك في جوازه بل وجوبه في بعض الاحيان ، وجوازه من القطعيات واليقينيات ... اجماعاً وكتاباً وسنة ]. (٨)

فلا نحتاج على هذا النقل كلمات العلماء الحاكية الاجماع على تشريع هذه المسألة.

٤ ـ القواعد الثانوية :

لقد ذكرنا في تعريف التقية اصطلاحاً تقسيم الحكم الموجه للأنسان الى قسمين بأحد أوجه التقاسيم.

١ ـ احكام اولية :

وهو الحكم المتوجه للأنسان من الشريعة المنصوص عليه بخصوصه ، فاذا توفرت الشروط المعتبرة في هذا القسم من التكليف يتنجز على الانسان.

__________________

(٨) المصدر السابق : وقد ناقش في انطباق الاجماع على المعنى الاصطلاحي. ثم انه نقل غير واحد الاجماع بقوله في جميع الاقوال .. او عند اصحابنا .. كالمفيد : أوائل المقالات ص ١٣٩.


٢ ـ واحكام ثانوية :

ويمكن تقسيمها الى قسمين :

ا ـ احكام ثانوية ظاهرية : وهي الاحكام الواردة لحالة الشك عند الانسان ، سواء كان في نفس الحكم او الموضوع ، وهي موارد الاصول العملية ـ كالبراءة والاحتياط والتخيير ، وموارد القواعد الفقهية ـ وموردها الموضوعات الخارجية ، كقاعدة « كل شيء حلال حتى تعلم انه حرام » وكل شيء لك طاهر « وقاعدة التجاوز » ، وغيرها من القواعد ـ كما هو موضح في الكتب الاصولية موسعاً ـ.

ب ـ واحكام ثانوية اضطرارية :

وهي الاحكام الواردة في مقام عجز المكلف عن القيام بالحكم الاولي ، بمعنى عدم تمكنه من الحكم الاولي ، كمن لايستطيع الطهارة بالماء ، او كمن اضطر الى اكل لحم الميتة ، فانه في كلتا الصورتين لايستطيع القيام بالحكم الأولي المتوجه له ، وهو الطهارة المائية او الالتزام بالحرمة.

فتأتي الاحكام الثانوية الاضطرارية لتبين له وظيفته في مثل هذه الحالة. وهذه الاحكام الثانوية ـ الاضطرارية ـ جاءت من باب التوسيع على المكلف.

وقد ذكر العلماء ـ كما نص عليه الكتاب والسنة ـ عدة قواعد استفادوا منها ذلك الحكم الثانوي الاضطراري. كما في قوله تعالى :

[ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ] (١)

__________________

(١) الآية : ٧٨ الحج.


وقوله تعالى : [ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ] (٢) وقوله تعالى : [ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ] (٣).

وقوله تعالى : [ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ] (٤).

وكقول الرسول (ص) [ لا ضرر ولا ضرار في الاسلام ].

وكقوله في الحديث المشهور بحديث الرفع ـ [ رفع عن امتي .... مالايطيقون ... وما اضطروا اليه وما استكرهوا عليه ... ] (٥).

الى غيرها من الروايات ...

فاستخرج العلماء من هذه النصوص عدة قواعد ، وأسموها بقاعدة نفس الضرر .. وقاعدة نفي العسر والحرج ...

ومجرى هذه القواعد في كل مورد لايستطيع الانسان فيه الاتيان بالحكم الاول لعد توفر شرط التكليف فيه ، فينتقل للمرتبة الثانية ـ التكليف الثانوي الاضطراري ـ وهو في رتبة الاول في كون كل منهما تكليفا واقعيا للانسان ـ الا انه في رتبة متأخرة عن الاول ـ بحيث اذا انتفى التمكن من الاول جاء دور الثاني ...

ومقصودنا من هذا كله هو الوصول الى ان التقية داخلة

__________________

(٢) الآية : ١٨٥ البقرة.

(٣) الآية ١١٩ الأنعام.

(٤) الآية ١٧٣ البقرة.

(٥) الحر العاملي : وسائل الشيعة : ج ٥ ص ٣٤٥ الباب ٣٠ ح ٢.

وج ١٦ ص ١٧٣ ـ ١٧٤ ، ح ٦ باب ١٦.


في مفهوم الحكم الإضطراري ، ومما ينطبق عليه الحكم الثانوي الاضطراري ...

ولأثبات ذلك نستعين بعدة من الأحاديث في هذا الباب ، وكلمات العلماء في شتى مباحثهم حول التقية ليتضح بذلك الصورة المراد اعطائها للتقية.

مشروعية التقية :

لقد ذكر عدة من العلماء ـ بل كل من تعرض للتقية وبيان حكمها ـ أن المناط في التقية هو حصول الضرر ، وأن الضرر مأخوذ في موضوع التقية.

وقد ذكرت لذلك ايضاً عدة احاديث نذكر جملة منها ، ثم نعقب بكلمات العلماء.

١ ـ الأحاديث :

١ ـ بسنده عن ابي جعفر (ع) قال : [ التقية في كل ضرورة وصاحبها اعلم بها حين تنزل به ] (٦).

٢ ـ بسنده ايضا عن ابي جعفر (ع) قال : [ التقية في كل شيء يضطر اليه ابن آدم فقد احله الله ]. (٧)

٣ ـ بسنده عن ابي عبد الله (ع) في حديث : [ إن المؤمن اذا اظهر الأيمان ثم ظهر منه مايدل على نقضه خرج مما وصَفَ وأظْهَر ، وكان له ناقصاً إلا ان يدعي انه عمل ذلك تقية ، ومع ذلك يُنظر فيه فان كان ليس مما يمكن ان تكون تقية في مثله

__________________

(٦) المصدر السابق : ج ١١ ص ٤٦٨ باب ٢٥ ح ١. ابواب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(٧) المصدر السابق : ح ٢.


لم يقبل منه ذلك ، لان للتقية مواضع من ازالها عن مواضعها لم تستقم ، وتفسير ما يتقي : مثل ان يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق وفعله ، فكل شيء يعمل الانسان المؤمن لمكان التقية مما لا يؤدي الى الفساد في الدين فانه جائز ] .. (٨)

٢ ـ كلمات العلماء :

ا ـ [ اما التقية بالمعنى الأعم فهي في الأصل محكومة بالجواز والحلية ، وذلك لقاعدة « نفي الضرر » ، ورفع ما اضطروا اليه ، وما ورد من انه : ما من محرم إلا وقد احله الله في مورد الاضطرار .. ] (٩).

ب ـ [ لأن الدليل على مشروعية التقية :

اما قاعدة الضرر او الحرج ... ومعلوم ان كون امتثال الواجب موجباً للضرر او الحرج لافرق بين ان يكون الضرر من ناحية المخالفين .. ] (١٠).

ج ـ [ نعم لابد في صدق التقية في الأمر بها ، وهو ان يكون اتيان الواجب الواقعي الاولي مظنة للضرر ... بحيث يخاف على نفسه او ماله او عرضه ، وذلك لعدم تحقق موضوع الامر بها بدونه .. ] (١١).

د ـ [ نعم تختص مشروعية التقية بصورة خوف الضرر

__________________

(٨) المصدر السابق : ص ٤٦٩ ، ح ٦.

(٩) الغروي : التنقيح في شرح العروة : ج ٤ ص ٢٥٤.

(١٠) البجنوردي : القواعد الفقهية : ج ٥ ص ٦٤.

(١١) المصدر السابق : ص ٥٩.


على نفسه او ماله او نفس غيره او ماله .... ] (١٢).

ه‍ ـ [ ثم الواجب منها يبيح كل محضور من فعل الحرام وترك الواجب ، والاصل في ذلك ادلة نفي الضرر ، وحديث : رفع عن امتي تسعة اشياء ومنها ـ ما اضطروا اليه ] (١٣).

و ـ [ وقد أخذ في موضوعها خوف الضرر ، ومع العلم بعدم ترتب الضرر على تركها لايتحقق موضوع للتقية .... ] (١٤).

هذه جملة من كلمات فطاحل العلماء ، ولو اردنا تتبع ذلك لخرجنا عن هذا الموضوع ...

__________________

(١٢) الحكيم : مستمسك العروة الثقى ج ٢ ص ٤٠٦. والمفيد : أوائل المقالات ص : ١٣٧ ، ١٣٩. والطوسي التبيان ح ٢ ص ٤٣٤ ، ٤٣٥.

(١٣) الانصاري : رسالة في التقية مطبوعة ضمن كتاب المكاسب حجري ص ٣٢٠.

(١٤) الغروي : التنقيح في شرح العروة الوثقى ج ٤ ص ٢٥٧.

ثم ان التفصيل الذي جاء به فيما سبق ص ٢٥٤. بين التقية بالمعنى الاعم = التقية من الكفار وغيرهم ، وبين التقية بالمعنى الاخص = تقية الشيعة من غيرهم من المسلمين ، والتفريق بينهما في الحكم ، ولا اظنه الا تنويعا في البحث ، لوحدة المناط في تشريعهما وكذلك ما نراه من نصوص الائمة التي استدل فيها بالمشابهة او المقارنة .. كما في ما منع ميثم ..


|٣|

بحوث متفرقة

هذا وقد كان من المناسب هنا ـ باعتبار اننا نبحث عن ـ ادلة مشروعية التقية ـ باعتبار خضوعها للقواعد الثانوية ـ كان من المناسب ان نقف عند هذا الحد لاثبات ذلك ، ولكن لما كان هناك بحوث أُخرى قد بحثوها وهي تؤيد مانحن بصدد اثباته ـ من ان المناط فيها هو ـ الضرر ـ ، وأنها من مصاديق القواعد الثانوية ـ رأينا ان نستطرد الموارد الاخرى المبحوث عندهم الدالة على ذلك ..... وهذه بعضها :

١ ـ هل يجزىء العمل ـ تقية ـ ام لا ؟

لقد بحث العلماء تحت هذا العنوان ـ كما هي عادتهم ـ بحثاً موسعاً خاضعا لطرقهم في الاستدلال ، ونحن هنا نورد مقدمة في معنى الاجزاء ، ثم ننقل بعض كلماتهم في ذلك ...

معنى الاجزاء :

ان الانسان اذا اتى بما أُمر به ـ على الوجه المطلوب منه ، وبصورته التي أمر بها ـ كالصلاة مثلا ـ بجميع اجزائها فان المولى الآمر لا يطلب غيره ، ومعناه ان هذا العمل قد أجزأ فلا يطلب منه عملاً آخر.

وهذا المعنى في جميع العبادات المأمور بها من الشارع ... وهو أمر عقلي ـ كما يقولون ـ اذ ان مراد الآمر هو

امتثال أمره فاذا امتله سقط الأمر ولا يطلب شيئا اخر ...

هذا هو معنى الاجزاء عند الفقهاء.

وهم بعد ذلك يسلمون هذا المعنى في الاحكام الاولية ، ويختلفون اختلافاً بسيطاً في الاحكام الثانوية ـ الظاهرية والاضطرارية ...

وهذا الموضوع من هذا القبيل ـ أي من الحكم الثانوي الاضطراري ـ كما مر ـ.

وبعد هذا البيان ننتقل الى نقل كلماتهم في الاكتفاء به وعدمه ، ومرادنا هو استدلالهم بأنها من الاحكام الضرورية الاضطرارية ...

ا ـ [ اما القسم الأول ـ اي ترتب الأثر عليه من حيث الأجزاء وسقوط الاعادة والقضاء ...

فالتحقيق فيه : ان كل فعل واجب من الواجبات اذا أُتي به موافقاً لمن يتقيه وكان مخالفاً للحق في بعض اجزاءه وشرائطه بل في ايجاد بعض موانعه ، فان كان مأذونا من قبل الشارع في ايجاد ذلك الواجب ـ بعنوان أنه واجب تقية ـ فهو مجز عن الواقع ، ولايجب عليه الاعادة اذا ارتفع الاضطرار في الوقت ولا القضاء اذا ارتفع خارج الوقت ، وذلك ان الأتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الثانوي مجز عن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي الأولى ـ سواء رفع الاضطرار في الوقت او خارج الوقت .. ]. (١٥)

__________________

(١٥) البجنوردي : القواعد الفقهية : ج ٥ ص ٤٨.


ب ـ [ المقام الثاني في حكم الاعادة اذا كان المأتي به تقية من العبادات ، فنقول :

ان الشارع اذا اذن في إتيان واجب موسع على وجه التقية ـ اما بالخصوص كما لو اذن في الصلاة متكتفا ـ حال التقية ـ ، وأما بالعموم كأن ياذن بامتثاله أوامر الصلاة او مطلق العبادات على وجه التقية ـ كما هو الظاهر من امتثال قوله (ع) ـ التقية في كل شيء .. ـ ، ثم ارتفعت التقية قبل خروج الوقت فلا ينبغي الاشكال في إجزاء المأتي به وإسقاط للأمر ـ كما تقرر في محله ـ من ان الأمر بالكلي « كالصلاة مثلاً » كما يسقط بفرده الاختياري « كالصلاة في حال الأمان والاتيان بها بجميع اجزائها وشرائطها » كذلك يسقط بفرده الاضطراري « كما اذا صلى في حال الخوف متكتفاً » اذا تحقق الاضطرار الموجب للأمر به ... ] (١٦)

ج ـ [ والتحقيق : أنه بعد البناء على عدم إعتبار عدم المندوحة في صحة الوضوء الاضطراري فالظاهر من دليل مشروعيته كونه فرداً للماهية كالفرد التام ، غاية الأمر ان فرديته انما تكون في حال العذر كما ان التام انما تكون فرديته في حال عدمه ـ العذر ـ ، وعليه يكون كل منهما في عرض الآخر ـ ومساويا له ـ ، فيترتب على كل منهما مايترتب على الآخر من غير فرق بينهما .. ] (١٧)

__________________

(١٦) الانصاري : رسالة في التقية : ص ٣٢٠.

(١٧) الحكيم : مستمسك العروة الوثقى : ج ٢ ص ٤١٤.


فان العمل المتقى به بعد ما كان بدلاً عن الواقع ووافياً بتمام مصلحته كان مجزياً عنه ولو مع ارتفاع التقية ، لان الأتيان به امتثال للأمر بالواقع كالاتيان بالواقع نفسه ، فلا موجب للاعادة بعد ارتفاع العذر .. ] (١٨)

هذا وفي مثل هذا المبحث بالنسبة لكل مقلد يرجع لمرجعه في ذلك ، والاجزاء وعدمه في موارد التقية قد ذكرها العلماء في رسائلهم العملية عند تعرضهم لكل مسألة من هذا القبيل ، فلا حاجة لذكر الاجزاء وعدمه من نفس الرسائل العملية ذلك ان المراد هو بيان خضوعها لقاعدة الضرر وحصول العذر عند الانسان ، وليس في الرسائل العملية اسنادها لذلك ، اذ ان هذا من خصوصيات المباحث الاستدلالية وان كانت تشتمل على ذكر العذر وغيره من الفاظ المورد.

وبهذا القدر من كلمات العلماء يتضح ما رمينا اليه ، اذ ان كلماتهم اشتملت على ارجاع اجزاء العمل تقية وعدم اجزائه لقاعدة الضرر كما في ـ ا ـ ان الأتيان بالمأمور به بالامر الواقعي الثانوي مجزٍ ... سواءاً رفع الاضطرار في الوقت ...

وفي ـ ب ـ كما يسقط بفرده الاختياري كذلك يسقط بفرده الاضطراري اذا تحقق الاضطرار الوجب للأمر به ...

وفي ـ ج ـ غاية الأمر ان فرديته انما تكون في حال العذر ...

وهكذا نجد ـ كما ذكرنا ـ عند تفحص كلمات العلماء في هذا المبحث ـ اثبات خضوع هذا الفرع ـ للقواعد الثانوية ... نفي الضرر والعسر والحرج ....

__________________

(١٨) المصدر السابق ص ٤١٥.


٢ ـ المورد الثاني :

المندوحة وعدمها ...

وقبل بيان تعويلهم على الاضطرار وعدمه لا بد من بيان معنى المندوحة ...

المندوحة في اللغة :

من الفعل ـ نَدَح ـ المصدر ـ النُدْح ـ بالضم ـ : الارض الواسعة ، والجمع : أنداح ، والمناديح : المفاوز والمنتدح : المكان الواسع.

( ويقال ) لي عن هذا الأمر مندوحة ومنتدح اي سعة ... (١٩)

المندوحة في الاصطلاح :

هي تمكن المكلف من الاتيان ـ بالواجب التام الشرائط والاجزاء وذلك بان يأتي به في وقت آخر او مكان آخر ... (٢٠)

وملخص كلام العلماء هنا أنه :

إن أخذ في موضوع التقية والعمل بها تحقق الضرر ، فينبغي القول بعدم المندوحة لانه في حال ارتفاع الضرر وتمكن المكلف من رفع الضرر بأي طريقة كانت ـ يكون قد حصل على التخلص من الضرر ، وبذلك يرتفع موضوع التقية لان التقية في حال الضرر الذي لا يمكن للمكلف التخلص منه ـ فلا يكون

__________________

(١٩) الجوهري : الصحاح ص ٥٥٢ تجديد الصحاح م ٢.

(٢٠) المظفر : اصول الفقه : ج ٢ ص ٣٢٠.


له مندوحة ـ ، وعلى هذا فيعتبر في التقية ـ عدم المندوحة ـ أي لا يستطيع المكلف التخلص مما هو فيه الى غيره فهنا يجوز له العمل بالتقية ، وعلى هذا فلا بد من اعتبار ـ عدم امكان التخلص ـ كغيرها من موارد الضرر ، واما اذا امكن التخلص فلا يصج له العمل بالتقية.

ومن يقول بان الدليل على التقية والأذن فيها هو الاخبار ، ويلتزم بالاخبار ـ تشريعاً وتفريعاً ـ فلا يقول بعدم المندوحة بل يقول بان التقية متى ما حصلت صح العمل بالتقية ـ عدم امكان التخلص منها لغيرها ، ويستدل على ذلك بعدة روايات.

ويهمنا ان ننقل كلمات من يقول بشرط عدم المندوحة ـ التخلص والسعة ـ في العمل بالتقية ...

١ ـ [ ويؤيده ـ القول باشتراط عدم المندوحة في العمل بالتقية ـ العمومات الدالة على ان التقية في كل شيء يضطر اليه ابن آدم ، فان ظاهرها حصر التقية في حال الاضطرار ، ولا يصدق الاضطرار مع التمكن من تبديل موضوع التقية ـ المندوحة ـ التخلص ـ بالذهاب الى موضوع الامن ـ مع التمكن ـ من الذهاب ـ وعدم الحرج ـ في الذهاب ـ ]. (٢١)

٢ ـ [ ان مقتضى الاخبار الواردة في المقام هو اختصاص التقية بصورة الضرورة والاضطرار ، وعدم مشروعيتها في غير مواد الضرورة ..

__________________

(٢١) الانصاري : رسالة في التقية ـ مع المكاسب ص ٣٢٣.


الى ان يقول :

واما في حال التقية والعمل فلم يقم دليل على عدم اعتبار الضرورة والاضطرار فيبقى ظواهر الروايات بالنسبة الى حال التقية ... ] (٢٢).

ويذكر في موضع آخر ـ دليلا للمستدل على اشتراط ـ عدم المندوحة :

[ ان التقية أُخذ في مفهومها خوف الضرر ـ كما تقدم غير مرة ـ ومع تمكن المكلف من الاتيان بالوظيفة الواقعية لايحتمل الضرر في ترك التقية ، اذاً ... لا مناص من اعتبار عدم المندوحة حال العمل تحقيقاً لمفهوم التقية ، فانه مع وجود المندوحة لاتحقق للتقية ... ] (٢٣)

٣ ـ [ وهل يشترط في التقية عدم المندوحة أولا ... وجهان بل قولان ... اختار أولهما ـ اي اشتراط عدم المندوحة ـ في المدارك لانتفاء الضرر مع وجودها ـ المندوحة ـ فيزول المقتضي ـ وهو الضرر الموجب للتقية ... والاقتصار على المتيقن فيبقى مادل على التكليف الاول سالماً ولايخرج عن العهدة إلا به ... ] (٢٤).

هذا ... واخذ الضرر واضح من تعابير العلماء هنا في هذه النقطة ايضاً. كما هو صريح في النقطة ـ ١ ـ ٢ ـ من هذه النقاط.

__________________

(٢٢) الغروي : التنقيح في شرط العروة الوثقى ج ٤ ص ٣٠٩.

(٢٣) المصدر السابق : ص ٣١٠.

(٢٤) النجفي : الجواهر ج ٢ ص ٢٣٨.


تنبيه :

بعد تتبع يسير لكلمات العلماء يظهر ان الجميع يجعلون المناط في التقية هو الضرر وقواعده الثانوية ، ولازمه اعتبار عدم المندوحة ـ عدم امكان التخلص ـ لانه عند امكان التخلص مما هو فيه لا ضرر ، وهكذا يتساوى ـ بناءاً على ذلك ـ موارد التقية وغيرها من الموارد الضررية ..

الا ان القول الآخر ـ الذي لا يشترط عدم المندوحة في العمل بالتقية ـ بل يقول بجواز العمل بالتقية حتى مع وجود المندوحة ـ والذي ربما يلوح من البعض ـ ليس بناؤه هو عدم كون اخذ الضرر في موضوع التقية ، وانما هو التوسع في امر التقية الوارد في روايات اهل البيت (ع) ، فهذه الروايات ـ التي اعتبرها العلماء ـ مفادها عدم اشتراط عدم المندوحة ... فسواء امكنه التخلص ام لا ، فيجوز له العمل بالتقية وتشرع في حقه حتى ولو امكنه التخلص منها لغيرها ، كالتورية او الانتقال الى مكان آخر او تأخير العمل ـ.

اذاً : الأصل فيها القواعد الثانوية طبقاً لهذا المبحث من العلماء .. والحكم بانه لا يحتاج الى اشتراط عدم المندوحة انما هو لروايات اهل البيت (ع) ـ كما في الفقه الاستدلالي ـ في مثل هذا المبحث. (٢٥)

__________________

(٢٥) يراجع : ا ـ الانصاري : رسالة في التقية مطبوعة مع المكاسب حجري : ص ٣٢١.

ب ـ الغروي : التنقيح في شرح العروة الوثقى ج ٤ ص ٣٠٤ فما فوق.


٣ ـ هل الضرر ـ في التقية ـ نوعي ام شخصي ؟ :

من الموارد التي يمكن ان تدل ـ وبوضوح ـ على خضوع التقية للقواعد الثانوية وأنها أحد مصاديقها .. بحثهم في الضرر الموجب للتقية هل هو نوعي ام شخصي وهل هو ـ بالفعل ام بالقوة .... ؟ ...

ومعنى الضرر النوعي : ان يكون بحيث يتضرر امثاله منه عادة .. وان لم يتضرر منه هو ...

ومعنى الضرر الشخصي : ان يكون بحيث يتضرر منه وان كان الناس عادة لا يتضررون منه ...

وهذه الجملة من كلمات العلماء في ذلك :

آ : [ الثاني : انه لا ريب في تحقق التقية مع الخوف الشخصي ـ بان يخاف على نفسه او غيره في ترك التقية في خصوص ذلك العمل ـ ، ولا يبغد ان يكتفي بالخوف من بنائه على ترك التقية في سائر اعماله ، او بناء سائر الشيعة على تركها في العمل الخاص ، او مطلق العمل النوعي في بلاد المخالفين وان لم يحصل للشخص بالخصوص خوف ، وهو الذي يفهم من اطلاق او امر التقية ، وما ورد من الاهتمام فيها ، ويؤيده بل يدل عليه اطلاق قوله (ع) : ليس منا من لم يجعل التقية شعاره ودثاره مع من يأمنه ليكون سجية له مع من يحذره ..

نعم في حديث ابي الحسن ـ صلوات الله عليه ـ معاتباً لبعض أصحابه الذين حجهم : انكم تتقون حيث لايجب التقية وتتركون حيث لا بد من التقية ... ويحمل على بعض
مالا ينافي القواعد ... ] (٢٦)

ب ـ [ الجهة الثامنة : في المراد بالضرر الذي يعتبر احتماله في مفهوم التقية وفي الحكم بجوازها او وجوبها.

اما في التقية بالمعنى الأعم او بالمعنى الأخص في موارد ترك الواجب أو فعل الحرام تقية فالضرر المتيقن من الضرر المسوغ احتماله للارتكاب انما هو الضرر المتوجه الى نفس الفاعل ـ سواء كان بدنياً او مالياً ام عرضياً ـ ، ويلحق بذلك الضرر المتوجه الى الاخ المؤمن لعدة من الروايات ... ] (٢٧)

[ واما اذا لم يترتب على ترك التقية ضرر على نفسه ولاعلى غيره بل كانت التقية لمحض جلب النفع ـ من المودة والتحابب والمجاملة معهم في الحياة ـ فلا تكون مسوغة لارتكاب العمل المحرم ولا ترك العمل الواجب .... لعدم تحقق مفهوم التقية حينئذٍ حيث لاضرر يترتب على تركها ]. (٢٨)

ج ـ [ نعم يختص مشروعية التقية بصورة خوف الضرر على نفسه او ماله او نفس غيره او ماله ]. (٢٩)

د ـ [ الثالث : أنه لاشك في ثبوت موضوع التقية ـ مع الخوف الشخصي ، بمعنى أنه يخاف على نفسه او عرضه او ماله لو ترك الموافقة معهم ... اذ هذا هو القدر المتيقن من ادلة التقية ...

__________________

(٢٦) الانصاري : رسالة في التقية مع المكاسب ص ٣٢٤.

(٢٧) الغروي : التنقيح في شرح العروة الوثقى ج ٤ ص ٣١٤.

(٢٨) المصدر السابق : ص ٣١٥.

(٢٩) الحكيم : مستمسك العروة الوثقى : ج ٢ ص ٤٠٦.


واما لو لم يعلم ان مِن تركه التقية والموافقة معهم لا يترتب عليه ضرر على نفسه او ماله او عرضه ولكن يوجب فعله المخالف للتقية معرفة المخالفين مذهب الشيعة وانهم يطعنون بعد ذلك بأن مذهبهم كذا وكذا ... والظاهر ان هذا ايضاً يجب فيه التقية ، لان هذا ربما يكون موجباً لورود الضرر على نفس الامام أو على طائفة جميعاً ، والظاهر انه يفهم من الاخبار الكثيرة انه ليس امر التقية دائراً مدار الخوف الفعلي ... ] (٣٠)

الخلاصة :

١ ـ لو لم يكن الضرر مأخوذاً في موضوع التقية فلا معنى للبحث في انه ضرر نوعي او شخصي.

٢ ـ الاتفاق على ان الضرر الشخصي يبيح التقية قطعاً ، والحكم من الفقهاء بان الضرر العام النوعي يمكن ان يكون مبيحاً للتقية.

٣ ـ هناك خلاف في الضرر الفعلي والضرر الآجل ...

فقال العلماء بان الضرر الفعلي ـ سواء كان لنفسه او لماله او عرضه ـ يقتضي تشريع التقية ويوجب العمل بها.

واما اذا كان محتملاً ـ آجلاً ـ بالقوة ـ فقد اختلفوا فيه ، والاكثر قد حكموا بحسب الظاهر بامكان تأثيره في موضوع التقية وتأثيره في وجوب العمل بها ...

__________________

(٣٠) البجنوردي : القواعد الفقهية ج ٥ ص ٦٦.


٤ ـ يلوح من البعض ان الضرر الشخصي هو المتوجه له بنفسه او عرضه او ماله.

والنوعي هو المتوجه للنوع او الطائفة ، وهذا استعمال للنوعي والشخصي في غير ما اصطلحوا عليه في عدة موارد.

وبهذا يتضح ان هذا المبحث عند علمائنا من اوضح المطالب الدالة على اخذ الضرر في موضوع التقية ....

٤ ـ التقية والأحكام الخمسة :

ومن الموارد التي تدل على خضوع التقية لعنوان الضرر تقسيمهم التقية للاحكام الخمسة طبقاً للضرر المتوجه للانسان ـ وان كان هناك خلاف في هذا التقسيم ـ (٣١).

وهناك عدة من العلماء قسموها لهذه الأحكام الخمسة ، وفيما يلي بعضهم :

١ ـ [ فالواجب منها : ما كان لدفع الضرر الواجب فعلاً ، وأمثلته كثيرة.

والمستحب : ما كان فيه التحرز عن معارض الضرر ، بأن يكون تركه مقتضياً تدريجياً الى حصول الضرر ، كذلك المداراة مع العامة وهجرهم في المعاشرة في بلادهم ، فانه ينجر غالباً لحصول المباينة الموجب لتضرره منهم.

والمباح : ما كان التحرز عن الضرر وتحمله مساوياً في نظر الشارع ، كالتقية في اظهار كلمة الكفر ـ على ماذكره جمع من الاصحاب ـ.

__________________

(٣١) الغروي : التنقيح في شرح العروة الوثقى ج ٤ ص ٢٥٥ وما فوق.


والمكروه : ماكان تركها وتحمل الضرر اولى من فعله ـ كما ذكر ذلك بعضهم في اظهار كلمة الكفر ـ وان الأولى تركها ممن يقتدى بفعله الناس اعلاءاً لكلمة الإسلام.

والمراد بالمكروه حينئذٍ مايكون ضده أفضل.

والمحرم : ما كان في الدماء ]. (٣٢)

وبمناط آخر قسم الشهيد الأول ـ في قواعده ـ التقية الى هذه الاحكام الخمسة :

٢ ـ [ المستحب : اذا كان لا يخاف ضراراً عاجلاً ، ويتوهم ضرراً آجلاً سهلاً ، او كان التقية في المستحب ـ كالترتيب في تسبيح الزهراء ـ ( صلوات الله عليها ) وترتيب بعض فصول الاذان ..

والمكروه : التقية في المستحب حيث لا ضرر عاجلاً ولا آجلاً ، ويخاف منه الالتباس على عوام المذهب.

والحرام : التقية حيث يؤمن الضرر عاجلاً وآجلاً ، وفي قتل المسلم.

والمباح : التقية في بعض المباحات التي ترجحها العامة ولا يصل بتركها ضرر ]. (٣٣)

٣ ـ [ ثم ان التقية بالمعنى الجامع ... قد يتصف بالوجوب كما اذا ترتب على تركها مفسدة لا يرضى الشارع بوقوع المكلف فيها كالقتل.

__________________

(٣٢) الانصاري : رسالة في التقية ص ٨٣٢٠ ، والمفيد : أوائل المقالات : ص ١٣٩.

(٣٣) المصدر السابق ، والبجنوردي : القواعد الفقهية ج ٥ ص ٤٦.


وأما التقية بالمعنى الاخص فقد عرفت انها واجبة وان لم يترتب عليها الاضرر يسير (٣٤) ...

وثالثة : تتصف التقية ـ بالمعنى الجامع ـ بالحرمة الذاتية ، وهذا كما اذا اجبره الجائر بقتل النفس المحترمة فانه لا يجوز ان يقتلها تقية.

ورابعة : تتصف التقية بالمعنى المتقدم بالاستحباب وهذا كشدة المواظبة على مراعاتها حتى في موارد توهم الضرر ... فضلاً عن احتماله ...

ولااشكال في استحباب ذلك مع تحقق موضوع التقية وهو إحتمال الضرر ولو ضعيفاً.

وقد تتصف التقية ـ بالمعنى المتقدم ـ بالكراهة ومرادنا بها :

ما اذا كان ترك التقية أرجح من فعلها ، وهذا كما اذا اكره على اظهار البراءة من امير المؤمنين ( عليه السلام ) وقلنا ان ترك التقية حينئذٍ وتعريض النفس للقتل ارجح من فعلها ، واظهار البراءة منه ـ كما احتمله بعضهم ... وكما اذا ترتب ضرر على امر مستحب كزيارة الحسين (ع) فيما اذا كانت ضررية ، فان ترك التقية حينئذٍ بأتيان المستحب الضرري

__________________

(٣٤) على نطاق البحث الاستدلالي ـ يرى فخر الشيعة وكعبة علمائها الأمام الخوئي ـ دام ظله الوارف ـ وكما يكشف عنه تقرير تلميذه الغروي. يرى ان التقية حسب الروايات العامة الواردة فيها اوجبت العمل طبق التقية ـ بعنوان الحفظ العام للشيعة فتجب على كل حال ـ، وهي كما ترى لم تخرج بهذا عن عنوان الضرر ـ وان خرجت عن عنوان الضرر الشخصي ـ فانها داخلة تحت عنوان الضرر النوعي بالمعنى الثاني. يراجع في ذلك : الغروي : التنقيح في شرح العروة الوثقى. ح ٤ ص ٣١١ ـ فان فيه بحثاً موسعاً يدل على ذلك.


ارجح من فعلها وترك العمل الاستحبابي ]. (٣٥)

هذا ... ولا نطيل في نقل كلمات العلماء في ذلك وانما نشير الى الخلاصة من ذلك :

ا ـ المناط في تقسيم التقية الى الأحكام الخمسة التكليفية هو الضرر وعدمه.

ب ـ الضرر الفعلي هو مناط الوجوب ، والآجل عند البعض مناط للاستحباب.

ج ـ عند انتفاء الضرر تكون التقية حراماً ، فان موضوع التقية مأخوذ فيه الضرر فاذا انتفى الضرر فتحرم التقية اذ لا موضوع لها ، وانتفائه يكون على نحو ان لا يكون هناك ضرر عاجلاً ولا آجلاً ؟.

د ـ والمستحب ترجيح احتمال وقوع الضرر على عدم وقوعه .. والمكروه ترجيح احتمال عدم وقوع الضرر على وقوعه .. والمباح المتساوي كما اشار لذلك الانصاري ... وغيره.

ه‍ ـ وقوع الاختلاف اليسير بين العلماء في ضرب الامثلة لكل من المستحب والمكروه ، وهذا لا يشكل اختلافاً بينهم بعد الاتفاق على المناط في ذلك.

اذاً موضوع التقية هو الضرر ولا تقية حيث لا ضرر ...

هذا مايؤكده لنا بحث العلماء في تقسيم التقية للاحكام الخمسة.

__________________

(٣٥) الغروي : التنقيح في شرح العروة الوثقى : ج ٤ ص ٢٥٥ ، ٢٥٦ ، ٢٥٨ ، ٢٥٩ ـ على التوالي.


خلاصة البحث

لقد توصلنا بهذا البحث الموسع في تشريع التقية الى ان اساس تشريع التقية يعتمد على :

١ ـ القرآن الكريم : وذلك بعدة آيات :

ا ـ ( مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) الآية : ١٠٦ النحل.

ب ـ ( لاَّ يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ المَصِيرُ ) الاية : ٢٨ آل عمران.

ج ـ ( وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ ) الآية ٢٨ غافر.

د ـ ( فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى المَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ) الآيتين : ١٩ ـ ٢٠ الكهف.

٢ ـ السنة النبوية وسنة اهل البيت (ع) كما في بحث السنة فليراجع ....

٣ ـ الأجماع كما حكاه البعض ، بل سيرة اهل
البيت (ع) ، والعلماء قائمة على ذلك ايضاً.

٤ ـ القواعد الثانوية : التي هي المناط في تشريع التقية ـ كما تلوح من الآيات والروايات .. حيث جعلت المناط ذلك ـ

وهي موضوع قاعدة نفي الضرر والحرج والعسر في الدين ...

ويستفاد ذلك من طيات بحوث العلماء في :

١ ـ تشريع التقية.

٢ ـ الاجزاء وعدمه.

٣ ـ المندوحة وعدمها.

٤ ـ الضرر شخصي ام نوعي وهل هو بالفعل ام بالقوة على الفاعل ام على الفرقة.

٥ ـ مصداقية التقية للاحكام الخمسة التكليفية ... التي كان المناط في تقسيمها الضرر.

وبهذا يظهر ان التقية ليست الا فرداً ومصداقاً لقاعدة عامة وقواعد اوجدها المشرع الاسلامي للحالات الخاصة التي تعتري بعض الافراد بحيث تحول هذه الظروف بينه وبين الاتيان بالفعل المكلف به الاولي.

وبما ان الشارع المقدس اهتم بالانسان وجعل دينه دين يسر وسهولة فلا يُلزم الانسان بعمل المشاق ويحيله على ما هو مخلص له مما هو فيه.

والقواعد التي جاء بها هي عامة في مناطها وهو حصول الضرر ...

فلا يفرق بين حصول الضرر ـ كما تقدم ـ من طبيعة ،

او من الانسان نفسه ، او من الاخرين وهو موضوع التقية .. ففي كل هذه الصور يدفع الاسلام الضرر عن الانسان بقواعده التي جاء بها ناصة على ذلك الآيات التالية :

١ ـ قوله تعالى : لا يكلف الله نفساً الا وسعها .....

٢ ـ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ....

٣ ـ ما جعل عليكم في الدين من حرج ....

٤ ـ الا ما اضطررتم اليه ...

٥ ـ فمن اضطر غير باغٍ ولا عاد فلا اثم عليه ...

والروايات ....

لا ضرر ولا ضرار في الاسلام.

رفع عن امتي تسعة ... ما اضطروا اليه ... وما لايطيقون ... وما استكرهوا عليه ...

ثم جاءت الآيات والروايات لتبين ان التقية احد مصاديق هذه القواعد ...

[ الا من اكره ... ]

حيث ان موضوع الاكراه هو تحقق الضرر عند المخالفة ...

[ والا ان تتقوا منهم تقاة ... ]

وكقولهم (ع) : التقية في كل ضرورة وصاحبها اعرف بها حين تنزل به.

وغيرها من الروايات ـ كما تقدم ـ.

بقي هنا أن نشير الى نقطة مهمة ـ تتضح من طيات ما تقدم ، وهي :


ان التقية موضوعها تحقق الضرر ، وهي انما تكون لدفع الضرر ، فسواء كان هذا الضرر ـ حاصلا بالاكراه الفعلي ـ الذي مقتضاه الضرر الفعلي ـ غالباً ـ ، او كان احتمال الضرر ـ مطلقاً ـ سواء كان آجلاً ام عاجلاً.

وبهذا يتضح ان الاكراه الفعلي احد الاسباب المحققة للضرر والمبيحة للعمل بالتقية ـ كما يتضح من موارد الاستدلال السابقة ـ.

وأسبابه الأخرى هي احتمال الضرر المتوجه اليه ـ وان لم يكن ضرر فعلي ـ كما تقدم في بحث ـ الضرر النوعي والشخصي ـ ، وكما تقدم بوضوح في تقسيم التقية للاحكام الخمسة ـ طبقا للضرر العاجل ام الآجل.

فعلى هذا .. فالضرر شامل لكل هذه الموارد.

وبهذا اردنا التنبيه : الى انه لا يُظن ان الاكراه خارج عن موضوع التقية ، بل ـ كما ذكرنا ـ هو اصل موضوعها الاساسي.

ويتبين ذلك من طيات الاستدلال بالآيات والروايات كقوله تعالى : [ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ] ، وذلك لان العلماء كافة جعلوا موردها هو نفس مورد [ إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ] ، وجعلوا موردها مطلق الضرورة ...

هذه هي صورة التقية في دائرة تشريعها عند الشيعة.

ولابأس ببيان امور اخرى ترتبط بايضاح صورة التقية اكثر فاكثر حتى ينكشف ما كان عليها من غشاء جعل اخواننا السنة يتصورونها كانها شبح مخيف ...


|٤|

مصاديق التقية

قد يعتقد البعض ان التقية هي من عقائد الشيعة التي يجب العمل بها عندهم بدون دواعي وأسباب ، وذلك لما وجدوهم يعملون بها في اكثر الاحيان وفي شتى الميادين.

وما هذه المحاولة ـ المشتمل عليها هذا الكتيب ـ الا لكشف هذا التصور الخاطىء.

وما نريد توضيحه هنا هو أنها مسألة فرعية ـ فقهية ـ الا ان موضوعها تارة يكون من الامور العقائدية ، واخرى يكون من الامور الفرعية.

وذلك بعد ان بينا ان المناط في تشريعها هو عنوان الضرر المترتب على ارتكاب هذا الشيء او تركه ...

ويمكن ان يصدق في عدة ميادين مادام قد تحقق هذا العنوان وصدق الضرر فيه ، ولا بأس ببيان هذا الامر تفصيلاً حتى يتجلى تماماً.

١ ـ الأصول :

يمكن ان تنطبق التقية ويكون موردها مسألة اصولية ـ عقائدية ـ كالاقرار بنبوة النبي محمد (ص) او بأمامة الأمام ـ او في نفس ـ الاعتراف بالنبوة والامامة او بالمعاد وغيره.

وتأتي نفس الاحكام الخمسة ـ التكليفية ـ فيها
فاذا توجه للانسان ضرر من الاقرار بهذا الأمر كنبوة محمد (ص) وجب عليه ان لايقر به او استحب له ذلك على الخلاف ...

وذلك ان الموضوع حينئذٍ يكون موضوع مسألة فرعية من المسائل التشريعية ... ولكن لابما ان نفس المسألة فرعية بل بما انها تعلقت بفعل هو من افعال المكلف التشريعية من لزوم الضرر وعدمه.

ويكفي ان نطوف ببعض الوقائع المروية في هذا الجانب ليعلم اباحة ذلك ووجوب عمله ...

١ ـ اوضح هذه الوقائع ـ التي تنص باقرار النبي (ص) والأئمة (ع) على هذا الجانب ـ هي قصة عمار بن ياسر التي مرت وستمر فلا نحتاج لسردها هنا.

٢ ـ وفي رواية عبدالله بن عطاء عن ابي جعفر « عليه السلام » في رجلين من اهل الكوفة اخذا وامرا بالبراءة من امير المؤمنين عليه السلام فتبرأ واحد منهما وأبى الآخر فخلى سبيل الذي تبرأ وقتل الآخر ، فقال : اما الذي تبرّأ فرجل فقيه في دينه وان الذي لم يتبرأ فرجل تعجل الجنة ... (١)

__________________

(١) الحر العاملي : وسائل الشيعة : ج ١١ ص ٤٧٦ ح ٤ باب ٢٩.

وقد اختلف العلماء في مفاد هذا الحديث وأمثاله في التقية في مثل هذا المورد فاختار البعض ان البراءة من الموارد المحرمة التقية فيها ، واختار آخرون انها من موارد الجواز.

وفي الواقع ان لسان الروايات لم يكن بلسان التقية في قول امير المؤمنين : « فلا تتبرأوا مني».

بل لسانها ـ التبرأ الواقعي ـ بعد تسليم هذه الرواية وامثالها سنداً.

فان التقية في البراءة ليس بأعظم من التقية في النبوة.


ب ـ الفروع :

ان الميدان الذي اتسعت فيه دائرة التقية والتي صارت مدار بحث العلماء فيه ـ وان كانت كما قلنا ـ من مصاديق الاصول ـ هو المسائل الفرعية التشريعية ـ التي هو عنوانها الاصلي.

فقد بحثها العلماء في هذا المصداق بصورتين.

تارة : على نطاق عام بحيث تجوز في كل مورد قد تحقق موضوعها فيه وهو الضرر.

وتارة : خصّوها بالمسألة المنصوص عليها ـ في جواز العمل بها ـ كما يتضح ذلك من بحث الاجزاء عندهم ...

وهذا من الامور المسلمة عندهم حيث أنهم ينطلقون من القواعد العامة التشريعية ـ القواعد الأولية او الثانوية ـ كما اوضحناه في تعريف التقية ...

وما يهمنا هنا هو ذكر بعض المسائل الفرعية التي نص العلماء على ان الحكم فيها يدور مدار التقية وما ذاك الا لنبين ان التقية موردها فعل المكلف ... المتعلق بعنوانها.

__________________

وما ذاك الا لأن البراءة التي تكون مورداً للتقية انما هي باللسان دون القلب ـ فهي ليست براءة في الواقع ـ وهذا لا مانع منه كما هو مورد مصاديق التقية.

اذاً الروايات غير ناظرة لمورد التقية ، وإنما هي متوجهة للتبروء في الواقع بأن لا ينعقد القلب من الانسان على البراءة من امير المؤمنين علي بن أبي طالب «ع». وهذا محرم قطعاً وحتى المخالف يقول به ..

فاذا كان كذلك فلا معنى للقول بأن الانسان يقدم القتل وايقاع نفسه في الهلكة ـ على مجرد اظهار البراءة او عدم الموالاة لعلي (ع). وقد اختار كثير من العلماء هذا المعنى ـ كما في : التنقيح في شرح العروة الوثقى ـ للغروي ج ٤ ص ٢٦٣.


وهذه بعض المسائل التي هي مورد التقية ، وهي تنقسم الى قسمين :

ا ـ التقيه في الاحكام.

١ ـ المسح على الحائل تقية :

حينما نرجع لكلام العلماء في هذه المسألة بجميع صورها سواء كان الحائل هو الخف او غيره نجدهم يختلفون في الحكم بالجواز تقية.

ذلك ان الحكم المتوجه للانسان بالاحكام الاولية هو المسح على البشرة من جلد او شعر في القسم الثاني من الوضوء ـ المسحتين ـ

فهل ان التقية تجيز الانتقال الى ترك هذا الحكم الى ما هو على خلافه .....

فقال العلماء :

١ ـ [ لا يجوز المسح على الحائل ـ كالخف لغير ضرورة او تقية .. بل في جوازه مع الضرورة والاجتزاء به مع التقية إشكال. ] (٢)

__________________

(٢) الخوئي : منهاج الصالحين ج ١ ص ٣٠ م ٩٧.

وقد ناقش بعض العلماء في جعل المسح على الخفين من موضوعات التقية حتى يجوز مخالفة الحكم المتوجه اليه ..

بدعوى ان التقية انما جوزت الاتيان بالفعل الناقص اذا كان في المخالفة توجه ضرر ـ لالزام المخالف له ـ وفي المسح على الخفين لا يأتي ذلك اذ ليس على نحو الوجوب عندهم فلو ان الانسان خلع ومسح على البشرة لم يكن هناك ضرر فلا تقية ..

والبعض الآخر ـ جعله من موضوعات التقية توسعاً في موضوعها ولو لرفع معرفة الشخص انه من الفئة الفلانية وهذا ما افتى به الاكثر.


ب ـ [ يجوز المسح على الحائل كالقناع والخف والجورب ونحوها في حال الضرورة من تقية او برد يخاف منه على رجله او لا يمكن معه نزع الخف مثلاً ... ] (٣)

ج ـ [ انما يجوز المسح على الحائل في الضرورات ماعدا التقية ـ اذا لم يمكن رفعها ـ الضرورة ـ ولم يكن بد من المسح على الحائل ولو بالتأخير الى آخر الوقت ... واما في التقية فالامر اوسع ، فلا يجب الذهاب الى مكان لا تقية فيه .. وان امكنه بلا مشقة.

نعم لو امكنه وهو في ذلك المكان ترك التقية وإرائتهم المسح على الخف مثلاً فالاحوط بل الاقوى ذلك ... ولايجب بذل المال لرفع التقية .. بخلاف ساير الضرورات ، والأحوط في التقية ايضاً الحلية في رفعها مطلقاً ... ] (٤)

د ـ [ يعتبر عدم المندوحة في مكان التقية على الاقوى ... فلو امكنه ترك التقية واراءة المخالف عدم مخالفة لم تشرع التقية ، ولايعتبر عدم المندوحة في الحضور في مكان التقية وزمانها ... كما لا يجب بذل المال لرفع التقية ... ] (٥)

٢ ـ المبادرة لصلاة تقية :

١ ـ [ يجوز تقديم الصلاة في اول الوقت لذوي الاعذار مع اليأس عن ارتفاع العذر بل مع رجائه ـ ايضاً ـ في غير المتيمم ، لكن اذا ارتفع العذر في الوقت وجب الاعادة ..

__________________

(٣) الحكيم : مستمسك العروة : ج ٢ م ٣٣ ، ص ٣٩٨.

(٤) المصدر السابق ص ٤٠٠ م ٣٥.

(٥) الخوئي : منهاج الصالحين : ج ١ ، ص ٣٠ ، م ٩٩.


نعم في التقية يجوز البدار ولو مع العلم بزوال العذر ولايجب الاعادة بعد زواله في الوقت ... ] (٦)

٣ ـ السجود على مالا يصح السجود عليه تقية :

ا ـ [ اذا لم يتمكن من السجود على ما يصح السجود عليه لتقية جاز له السجود على كل ما تقتضيه التقية ... (٧)

ب ـ لابأس بالسجود على غير الارض ونحوها ـ مثل الفراش ـ في حال التقية ، ولايجب التخلص منها بالذهاب الى مكان آخر ، نعم لو كان في ذلك المكان وسيلة لترك التقية بان يصلي على البارية او نحوها مما يصح السجود عليه وجب اختيارها. ]. (٨)

٤ ـ التكفير في الصلاة تقية :

[ نعم هو حرام حرمة تشريعية مطلقاً ، هذا اذا وقع التكفير عمداً وفي حال الاختيار ، اما اذا وقع سهواً او تقية فلا بأس .. ]. (٩)

٥ ـ قول « آمين » في الصلاة تقية :

[ واذا كان سهواً فلا بأس به ، وكذا اذا كان تقية ، بل قد يجب ، وإذا تركه حينئذٍ أثم وصحت صلاته على الأظهر .. ]. (١٠)

__________________

(٦) المصدر السابق : ص ١٤١ ، م ٥١٢ ، ج ١.

(٧) المصدر السابق : ص ١٥٣ ، م ٥٥٤.

(٨) المصدر السابق : ص ١٨٥ ، م ٦٥١.

(٩) المصدر السابق : ص ٢٠٣ ـ المبطل الثامن.

(١٠) المصدر السابق : ص ٢٠٣ ـ المبطل التاسع.


ب ـ التقية في الموضوعات :

مامر كان في مخالفة المكلف للحكم المتوجه اليه ...

وهنا صورة اخرى لتطبيق التقية في الفروع وهي ... الوضوعات.

وبيان ذلك ...

ان المكلف اذا توجه اليه حكم ما وجب عليه العمل به والقيام به في الخارج ، فاذا أوقعه في فرد من الأفراد الخارجية ـ والتي يصدق عليها هذا الحكم ـ يُسمى ـ هذا الفرد المنطبق عليه الحكم ـ موضوعاً للحكم ...

فمثلاً : يجب على الانسان اذا اراد ان يأتم بانسان ان يأتم بالانسان العادل .... فيجب عليه عند ذلك ان يفتش عن الرجل العادل ليصلي خلفه فاذا وجده فقد وجد موضوع الحكم.

وهذا الموضوع يجب على كل انسان تحصيله بنفسه والبحث والتنقيب عنه ولايجوز له الاعتماد على بحث الغير فيه الا باحد الطرق التي جعلها الشارع كالاخبار من عدلين او غير ذلك ...

فاذا لم يحصل له الاطمئنان بنفسه لايجوز له ان يجعل هذا الموضوع هو موضوع الحكم المتوجه اليه ... ولهذا يقول العلماء انه : لاتقليد في الموضوعات ...

بعد ان عرفنا المراد بالموضوع ، فما معنى التقية في الموضوعات وهل هي جائزة ......؟


اذا علم انسان ان الموضوع الكذائي هو مصداق الحكم وقال آخر بانه ليس مصداق الحكم فهل يجوز للانسان ان يتبع قول الآخر اذا خاف الضرر على نفسه تقية ام لا ؟

ناقش بعض العلماء في ذلك الا ان الاكثر على جوازه .... وقد ذكروا للموضوعات عدة مسائل منها :

١ ـ جواز الأفطار تقية :

ـ اذا علم المكلف ان يوم الصوم ينتهي بعد نصف ساعة فلا يجوز له الافطار الآن. و ـ شخص ـ آخر يرى ان الافطار الآن مع انه اذا لم يفطر يتوجه اليه ضرر .. فهل يجوز أن يفطر مع علمه بان هذا الانسان مخالف للواقع ولو انكشف له لعمل بنفس عمله ..؟

وبصورة اخرى ...

اذا علم ان اليوم ليس باول يوم من شوال فلا يجوز له الافطار وافتى المخالف بوجوب الافطار واذا لم يفطر يتوجه اليه ضرر من تركه الافطار فهل يجوز له الافطار ؟

ذكر العلماء في ذلك أنه يجوز له الافطار ويدفع الضرر عن نفسه ومع ذلك لا تبرء ذمته بل يجب عليه القضاء بعد ذلك.

[ اذا افطر مكرها بطل صومه ، وكذا اذا كان تقية سواء كانت التقية في ترك الصوم ـ كما اذا افطر في عيدهم تقية ـ ام كانت في أداء الصوم ـ كالأفطار قبل الغروب .. فانه يجب الافطار حينئذٍ ولكن يجب القضاء .. ]. (١١)

__________________

(١١) المصدر السابق : ص ٢٨١ ، م ١٠٠٥.


٢ ـ الوقوف بعرفة تقية :

اذا علم ان هذا اليوم هو اليوم الثامن وليس هو اليوم التاسع حتى يجوز له الوقوف بعرفة.

ولكنه عند المخالف ان هذا اليوم هو يوم الموقف ـ

وبمعنى آخر ليس اليوم هو موضوع الوقوف وانما هو غد ـ فهل يجوز له ان يقف اليوم ـ اذا توجه اليه ضرر من ترك الوقوف ـ تقية ـ ام لا ؟.

ا ـ [ ومن ذلك تعرف اجزاء الحج اذا وقف تقية مع مخالفين ، ولم يقف في اليوم التاسع من دون فرق بين صورتي العلم بالمخالفة للواقع وعدمه .. ]. (١٢)

ب ـ [ ولا يبعد القول بالإجزاء هنا إلحاقاً له بالحكم للحرج .... واحتمال مثله في القضاء .. ]. (١٣)

ج ـ [ فالعمل على وفق مذهبهم بالجري على طبق حكمهم للخوف من الضرر يكون كسائر موارد التقية التي اذن الشارع ورخص فيها بعنوان ترخيص التقية ، فلا فرق بين ان يأتي بالصلاة الناقصة تقية أو يأتي بالحج الناقص تقية ، فكما انه في الأول يكون ذلك العمل مجزئياً عن الإتيان بالواقع ثانياً بعد ارتفاع الخوف وحصول الأمن كذلك الأمر الثاني .. ]. (١٤)

هذه جملة من المسائل الفرعية التي خضعت في احكامها لعنوان التقية والتي لا حظنا نص العلماء فيها على عنوان الضرر وان المسألة تدور مدار الضرر المتوجه للإنسان ، إذ أن بحثهم

__________________

(١٢ ، ١٣ ، ١٤) الحكيم : مستمسك العروة ج ٢ ، ص ٤٠٧. والنجفي الجواهر : ج ٢ ، ص ٣٤. والبجنوردي : القواعد الفقهية : ج ٥ ، ص ٥٣ بالترتيب.


هنا في هذه المسائل الفرعية ـ كما يتضح ـ حول الاجزاء وعدمه ... اي هل يكفي عمله ام يجب عليه الاعادة. او حول جواز العمل ام وجوبه الذي يدور مدار الضرر ....

وهذه المسائل الفرعية ... كان الابتلاء بها اكثر ولهذا ظهرت على افعال اهل البيت واصحابهم ... وهناك وقائع قد اقرها اهل البيت او امروا بتنفيذها ومنها :

١ ـ قصة علي بن يقطين :

اختلف اصحاب الامام موسى الكاظم (ع) في مسح الرجلين أهو من الكعبين الى الاصابع ام بالعكس ؟

فكتب علي بن يقطين للامام يخبره بالاختلاف ويطلب منه الذي ينبغي له ان يفعله ...

فكتب اليه الإمام في جواب ذلك على خلاف ماتوقع ، اذ امره ان يتوضأ بوضوء اخواننا السنة وقال له : ولا تخالف ذلك الى غيره ....

وصَلَ الكتاب الى علي بن يقطين فتعجب من هذا الجواب اذ هو خلاف ما اجمع الأصحاب على صحته ... لكنه عمل به اعترافاً منه بعلم الامام وكونه الاعلم من غيره واعلم بالمصالح ...حتى مضت ايام فوقعت الحادثة المشهورة في كتب حياة الأئمة ـ من اختبار الرشيد له في الولاء والإخلاص ـ.

ثم كتب الامام الكاظم (ع) بدون سؤال وبدون مراجعة منه : ياعلي بن يقطين عند وصول كتابي اليك اعمل في وضوءك كما امر الله ... ـ الوضوء على طريقة اهل
البيت (ع) ... الى ان قال له : فقد زال ماكنا نخاف عليك منه والسلام ... (١٥)

وقد يكون من الاطالة بلا طائل سرد قصص الائمة او الشيعة .. لان ذلك مفروغ منه ومسلم عند جميع المسلمين ـ بأن هذه حالهم ـ حيث وجدت الحاجة ، فلا حاجة لذكر الوقائع والقصص لتدعيم التشريع او الوقوع العملي.

__________________

(١٥) الاربلي : كشف الغمة ج ٢ ، ص ٢٢٥ فما فوق ط المطبعة العلمية قم ١٣٨١ ه‍.


التقية في المعاملات

المعاملات : تتناول جانباً كبيراً من الفقه الاسلامي ـ وهو الأحكام المتعلقة بعلاقات المجتمع ـ بعضهم مع البعض الآخر ومعاملاتهم ، سواء كانت من الأحوال الشخصية ـ كالزواج والطلاق ... ام كانت عامة كالبيع والتجارة ـ عموماً ـ ... ، فهذه كلها يطلق عليها المعاملات ، وهي تشمل ما دون العبادات بشكل عام.

وكما للعبادات أحكام كذلك المعاملات لها احكام .. بما أنها تتعلق بفعل المكلف ، وفي ضمنها نظام المجتمع العام ...

ويتناولها قانون العبادات في الصحة والفساد .. الا ان الصحة والفساد يختلفان مفهوماً ـ في العبادات عن المعاملات ..

إذ أن مفهوم الفساد هو : بطلانها وعدم الاجزاء .. ، والصحة : هو تمام العمل طبق المأمور به والاجزاء ..

أما الصحة والفساد في المعاملات فمعناهما :

الصحة : ترتب آثار المعاملة على مجرد حصول العقد أو الايقاع .. بجميع شرائطه ..


والفساد : عدم ترتب الآثار عليه .. ، فمثلاً : البيع اذا وقع صحيحاً ـ فمعناه ترتب الآثار عليه من الملك للثمن والمثمن لكل من الطرفين ..

واذا وقع فاسداً فمعناه : فقدان ما يوجب تمامية المعاملة فلا يترتب عليه الملك وانتقال الثمن والمثمن لكل من الطرفين ...

بعد هذا البيان ... نطرح السؤال التالي ... هل يمكن ان تجري التقية في المعاملات ... كما جرت في العبادات ؟.

من المتفق عليه بل هو من البديهيات ان التقية تجري في المعاملات كما جرت في العبادات ... ذلك لتحقق موضوع التقية لتحقق شرطها وهو وجود الاكراه ... المتولد عنه الضرر ...

فكما يتحقق الضرر ـ بواسطة الاكراه في العبادات كذلك هنا ...

فقد يُكره الانسان على بيع لا يريده.

وفي مثل هذه الحالة يلزم على المكلف ان يأتي بفعل يدفع عن نفسه الضرر ، وهو نفس الفعل المكره عليه ..

فاذا اجبره او توعد على عدم فعله بالضرب او القتل او نهب مال الى غير ذلك ... وجب عليه فعله دفعاً لهذا الضرر ...

ويترتب على ذلك ... عدم اعتراف الشارع بهذه المعاملة ... لانها في نظرة ناقصة فلا يرتب عليها الآثار ...


اذاً ما فائدة التقية ...؟ تظهر الفائدة في جواز ارتكاب هذا الفعل لمجرد دفع الضرر المتوجه اليه ...

ففعل المكلف هنا كأنه استجابة لاكراه الغير فقط ...

وبهذا وردت روايات خاصة بباب المعاملات ...

عن ابي الحسن (ع) في الرجل يُستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق والصدقة وصدقة ما يملك هل يلزمه ذلك ..؟ فقال لا ... قال رسول الله (ص) وضع عن امتي ما أكرهوا عليه ... الخ (١).

وعن الصادق (ع) : ما صنعتم من شيء او حلفتم من يمين في تقية فانتم منه في سعة (٢).

وعلى هذا اجمع العلماء ، فالمراجع لبحوثهم في جميع ابواب المعاملات يلاحظ هذا ظاهراً منهم ...

سواء كانت على نطاق الكتب الاستدلالية الموسعة ... كما في هذا النص ..

[ لو أوقع نكاحاً أو طلاقاً على وفق مذهبهم تقية ـ مع بطلانها عندنا ـ فمع ارتفاع التقية وحصول الأمن لا وجه لاحتمال وجود آثار النكاح والطلاق الصحيحين ... وهل الحكم بوجود اثرهما مع عدم صحتهما إلا من قبيل وجود الاثر بدون المؤثر ....؟؟! ] (٣).

__________________

(١) الحر العاملي : وسائل الشيعة باب ١٢، كتاب الأيمان.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) البجنوردي : القواعد الفقهية ، ص ٥٧ ، ج ٥.


وهو اوضح في الجواز وعدم ترتيب الاثار عليها ..

او كانت في الرسائل العملية ـ الموضوعة للناس عامة .. والمنتشرة في كل مكان (٤).

أما عدم ترتيب الآثار عليه فهو كما يقال : باعتبار ان مفاد الاحاديث والايات الواردة في الاكراه والاضطرار هو التخفيف على الناس والرحمة بهم ...

فاذا كان هذا الانسان أُكره على البيع وهو لا يريد بيع ما عنده .. فالرحمة واللطف والمن عليه انما يتحقق بالحكم ببقاء ملكة لهذا الشيء وعدم انتقاله لغيره. وكذلك الطلاق والزواج وغيره ...

اما لو رتب الشارع المقدس الآثار ونقل البضاعة في البيع للطرف الآخر .. فانه يخالف اللطف بهذا الانسان البائع وكذلك الطلاق الذي لا يريده وغيره من المعاملات.

فالخلاصة : ان التقية جارية في المعاملات كما جرت في العبادات باعتبارها دفعا للضرر ، وكان في العبادات الفعل المأتي به مجزءاً ، اما هنا ـ فيحكم على المعاملة بالبطلان فلا يترتب عليها الاثر ... والتقية اذا تحقق موضوعها هنا ـ فانها تنقل الانسان الى حكم اخر وهو جواز ايقاع المعاملة.

__________________

(٤) الخوئي : منهاج الصالحين : بيع المكره ج ٢ ص ١٩ ، وطلاق المكره : ج ٢ ص ٣١٧. وباب النكاح : ج ٢ ص ٢٨٥ م ١٢٤٦ وغيره من الرسائل العملية.


التقية في الفتوى

من الموارد التي بحثها العلماء في مسألة التقية هو ما يكون نتيجة لهذا التساؤل : هل ان للمفتي أن يفتي خلاف ما يعلم أنه الحق طبقاً للتقية ام لا ؟

ويرى بعض العلماء ان مورد الفتوى لا يختلف ـ عن مورد الحكم التكليفي الفرعي المتقدم ...

فكما انه يجوز للانسان ان يخالف ما يعتقده من الحق في الاصول والفروع التكليفية كذلك يجوز لمن يتصدى للافتاء للناس ان يفتي للناس خلاف ما يراه اذا خاف على نفسه.

وذلك انه ـ وكما ذكر سابقا ... ـ يصبح هذا المورد مورداً للحكم الفرعي باعتبار انطباق عنوان الضرر عليه ..

وقد نصت الروايات على جواز ذلك كما اختار ذلك بعض العلماء ـ ممن بحث في مسألة التقية بحثاً موسعاً ـ

وكل ذلك اعتماداً على بعض الروايات الواردة عن الأئمة سواء كان بفعل اصحابهم او ما يحكى فعلهم (ع) ومن هذه الروايات :

١ ـ عن أبان بن تغلب قال : قلت لأبي عبدالله (ع) : اني اقعد في المسجد فيجيء الناس فيسألوني فان لم اجبهم لم يقبلوا مني واكره ان اجيبهم بقولكم وما جاء عنكم. فقال
لي : انظر ما عملت من قولهم فاخبرهم بذلك ... (١)

٢ ـ عن ابي عبدالله (ع) قال : بلغني انك تقعد في الجامع فتفتي الناس ؟ قلت نعم ، واردت ان اسألك عن ذلك قبل ان اخرج ..

اني اقعد في المسجد فيجىء الرجل فيسألني عن الشيء فاذا عرفته بالخلاف لكم اخبرته بما يفعلون ... ويجيء الرجل اعرفه بمودتكم فاخبره بما جاء عنكم ... ويجيء الرجل لا اعرفه ولا ادري من هو فأقول : جاء عن فلان كذا وجاء عن فلان كذا فأدخل قولكم فيما بين ذلك ، فقال لي : اصنع كذا فاني كذا اصنع .. (٢)

وكما هو واضح انما جاز الافتاء على غير مذهبه دفعاً للضرر الذي يتوجه اليه من الافتاء على مذهبه ..

وقد نوقش في دلالة هذه الروايات على جواز الافتاء بغير الحق ...

ووجهوا فعل الامام ـ هذا ـ في مثل هذه الروايات بان الامان كان يخبر اصحابه بعد ذلك بالقول الحق لئلا يلتبس عليهم الحق ..

والبعض الآخر فصل بين ما اذا كان الشخص له اهمية في اتباع قوله فلا يصح له الافتاء بغير الحق لأيهام الناس ان ما يقوله الحق.

ومن لا يكون له اهمية في اتباع الناس فلا مانع من الافتاء بغير الحق.

__________________

(١) الحر العاملي : وسائل الشيعة : ج ١١ ، ص ٤٨٢ ، ح ١.

(٢) المصدر السابق ح ٢.


بالاضافة الى انه منع الافتاء في صورة أداء هذه الفتوى ـ من اي شخص كانت ـ الى هتك الاعراض او نهب الاموال المحترمة ففي مثل ذلك لا يجوز له الافتاء بغير الحق.

ونستطيع القول بكلمة مختصرة :

انه ليس كل انسان يصح له ان يفتي بغير الحق ، وليس كل وقت وحالة يصح ان يفتى فيها بغير الحق ..

وفي بعض الحالات يجوز للمفتي ان يفتي بغير الحق. خصوصاً مع توجه الضرر اليه بحيث لا يؤدي الى ضرر الغير ...

كما انه ـ بقول مطلق ـ يجوز له الافتاء في مثل هذه الحالة اذا علم بأنه يتمكن من الاخبار بالحق .. فالايهام بالحق مدفوع بهذا .. (٣)

بالاضافة الى ما هو معلوم من حال الأئمة (ع) من استعمال التقية في الفتوى على نطاق واسع.

ويكشف لنا مدى سعة ذلك ما تسالم عليه فقهائنا الابرار في مورد قبول الرواية وحجيتها حيث أنهم اشترطوا ان لا يكون الامام قد قالها تقية.

ويظهر ذلك جلياً عند ملاحظة كثير من الاستدلالات في ابواب الفقه ، حيث أنهم يحملون كثيرا من الروايات على أنها قيلت للتقية ـ بقولهم : نحملها على التقية .. او انما قيلت تقية ، وبهذا يسقطون اعتبارها وحجيتها بمجرد احتمال التقية فيها.

__________________

(٣) البجنوردي : القواعد الفقهية ج ٥ ص ٦٧ ـ ٦٨.


وهذا يدلنا على جواز الفتوى تقية ، والا لما صح للفقهاء أن يحملوا روايات أهل البيت (ع) على التقية وهي في حد ذاتها فتاوى كما هو معلوم.

وهذا يكشف لنا ضعف المناقشة السابقة ..

التقية في الحكم

قد يطلق الحكم ويراد به عدة معاني ..

١ ـ حكم من الاحكام التكليفية ـ وقد تقدم جواز التقية فيه .. وليس هو المراد هنا.

٢ ـ الحكم بين الناس وله صورتان :

آ ـ القضاء والفصل بين الناس.

ب ـ ادارة شؤون الناس ، وهو مرادف للرئاسة العامة على الناس ... وهو اعم من الاول.

وهذان المعنيان يمكن ان يجريا هنا .. الا ان المعنى الاول .. هو المتبادر الاكثر هنا ..

فقد وردت الايات ـ الناهية عن الحكم بغير ما انزل الله ـ كما في عدة ايات من سورة المائدة :

[ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ].

[ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ].

[ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ].

فوصفت من لم يحكم بما انزل الله بالاوصاف الثلاثة الاخيرة ، ويمكن حملها في هذه الايات على المعنين الاخيرين الا انه بالرجوع للاية يمكن انصرافها الى الحكم بين الناس ـ القضاء والفصل .. لان في بعضها ... النص على
القصاص .. ولكن ايضا مع ذلك يمكن ان يكون كلاهما باعتبار الاعمية في الثاني ..

وعلى كل حال : فهل يجوز للقاضي ان يقضي بين الناس على خلاف الحكم الحق .. تقية عند توجه الضرر اليه ..

قد فصل بعض العلماء في ذلك .. فقال :

[ واما لو كان الحكم موجباً لقتل المسلم فلا يجوز قطعاً .. ففي الكافي .. انما جعلت التقية ليحقن بها الدم فاذا بلغ الدم فلا تقية ...

واما فيها عداه فان كان الضرر الذي يخاف منه هو انه يقتل لو لم يحكم فيكون حاله حال الفتوى بغير ما انزل الله ... وفيه صورة كثيرة من حيث اهمية ما يحكم به او ترتب الفساد عليه .. ففي بعضها لا يجوز قطعاً.

واما ان لم يكن الضرر الذي يخاف منه هو القتل ، فلا يجوز الحكم لعدم جواز دفع الضرر عن نفسه باضرار الغير ]. (٤)

ونستطيع القول : بأن الفتوى والحكم لا يجوز فيهما التقية في موارد ، ويجوز في موارد اخرى.

فاذا أدت الفتوى الى سفك دم أو أدى الحكم الى قتل المسلم لم تجز التقية فيهما كما سيأتي في مستثنيات التقية.

واما اذا لو يؤدي لذلك وكان الخطر المتوجه ـ للمفتي او القاضي .. هو القتل او غيره مما لا يحتمل فانه قد نقول بالجواز ـ

__________________

(٤) المصدر السابق : ص ٦٨.


خصوصاً في الفتوى ـ كما اذا افتى بأمر عادي ثم اخبر اهل الحق ـ بالواقع ـ كما سبق (٥).

__________________

(٥) ويراجع : الهاشمي : بحوث في علم الاصول : تعارض الادلة الشرعية ج ٧ ص ٣٤ فما فوق. فإن فيه بحثاً موسعاً عن تعارض فتاوى الائمة والجواب عنها من قبل الائمة (ع) ، وبيان وجه صدورها منهم.



|٥|

لا تقية في الدماء والاعراض

مما يدل على ان التقية من التشريعات السامية التي جاء بها الاسلام .. التفاصيل المشتملة عليها والاستثناءات الواردة في مصاديقها.

فانه وان قلنا ـ بأن ميدانها ميدان واسع وتصح في كل شيء الا انها اذا وصلت الى درجة تخرج عن الهدف المراد منها او لم يكن لها موضوع لم يصح استعمالها ... لذلك بحث العلماء في الموارد التي لا يصح استعمال التقية فيها ، واطلقوا عليها مستثنيات التقية وهذه بعضها :

١ ـ عند انتفاء الضرر :

فاننا ذكرنا ان مناط التقية وموردها اذا كان هناك ضرر ، فاذا انتفى الضرر ولم يتوجه للانسان بأي وجه من الوجوه فانه لا يجوز له استعمال التقية لعدم تحقق موضوعها ..

وقد مر في ـ‌موارد تشريع التقية‌ـ كثير من كلمات العلماء التي تدل على ذلك ، وذلك في تقسيم التقية للاحكام الخمسة.

٢ ـ الدماء والاعراض :

وردت روايات كثيرة تنص على انه لا تقية في الدماء ، وبهذا افتى العلماء اعتماداً على ما وردت به الروايات ، واعتماداً على أن رفع الضرر انما يكون اذا لم يتسبب في ضرر الغير اما اذا توصل لاضرار الغير فلا يجوز رفعه على حساب الاخرين.


ذلك : ان الضررين حينئذ يصبحان في رتبة واحدة .. فلا يصبح ان يقدم الاضرار للغير تقية. ويدفع الضرر عن نفسه .. بل في مثل هذا المورد يتحمل الضرر بنفسه.

وكل ذلك يتضح حينما نصغي لما تقوله الرواية معللة ذلك ..

عن ابي جعفر (ع) : [ إنما جعل التقية ليحقن بها الدم فاذا بلغ الدم فليس تقية ] .. (١)

وبلفظ آخر ـ عن ابي حمزة الثمالي ـ عن ابي جعفر (ع) ..

[ إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم فاذا بلغت الدم فلا تقية ]. (٢)

وبهذا يتضح لنا قيمة هذه المسألة الفرعية ومدى اهتمامها بالخفاظ على الانسان ـ فانه اذا وصلت لضياع الانسان فلا معنى لتطبيقها واستعمالها ..

ويمكن ان تنطبق بهذه الصورة المحرمة التي لا تجوز فيها ـ على ثلاثة مصاديق :

١ ـ أن يحكم القاضي او يفتي المفتي .. بحكم او فتوى ـ تقية ـ فتؤدي الفتوى الى سفك دم انسان او يؤدي الحكم الى قتل المسلم المحقون دمه فانها عند ذلك لا تجوز ـ كما تقدم كثيرا ـ

٢ ـ أن يأمره من هو اقوى منه بقتل نفس محترمة ـ ويتوعده بالقتل ان لم يفعل ، وهنا لا يجوز له ان يقدم على قتل

__________________

(٢،١) الحر العاملي : وسائل الشيعة : ج ١١ ص ٤٨٣ ، باب ٣١ ، ح ١ ، ٢.


هذه النفس المحترمة ـ تقية ـ بل هو يحتمل ذلك ـ ولا مورد للتقية هنا بالمرة اذ يرتفع موضوعها ..

٣ ـ ان تشهد البينة الكاملة على ان فلاناً قتل فلاناً وهو لم يقتله وانما شهدوا خوفاً وتقية ـ او شهدوا على الزنا مع علمهم بانه لم يزن ـ وانما شهدوا تقية ـ فانه هنا لا يجوز لهم هذه الشهادة لما فيه من قتل المسلم وهتك العرض وتعريض الآخرين للضرر المماثل للضرر المتوجه لهم.

وبهذا نعلم : اننا اذا جعلنا الاعراض في رتبة الدماء لا فرق بين الدم والعرض في عدم جواز التقية ... اذ يكون المناط واحداً في توجيه الضرر المساوي للغير.

تنبه :

قد الحق البعض ـ البراءة من علي بن ابي طالب واهل بيته ـ بالمستثنيات وقد اوضحنا ذلك في حاشية على روايات ـ التقية في الاصول.

وكذلك ـ ألحق أيضاً ـ المسح على الخفين وقد شرحناه في التعليق على التقية في الفروع في نفس المسألة. فليراجع.


|٥|

متى نعمل بالتقية ؟

من كلمة للامام الصادق (ع) ـ والتي تقدمت في مبحث تشريع التقية ـ القواعد الثانوية ـ يقول فيها :

ومع ذلك ينظر فيه ، فان كان ليس مما يمكن أن تكون تقية في مثله لم يقبل منه ...

وهذه أجلى صورة تدلنا على أن التقية لها معاييرها الخاصة وشروطها المحددة ، فمن تعداها لم يقبل منه وإن ادعاها.

ونستطيع من خلال هذا البحث الموسع ـ بالاضافة الى خصوص بحث مستثنيات التقية ـ أن نستخلص عدة شروط يتوقف العمل بالتقية على توفرها.

وهي :

١ ـ تحقق موضوع التقية وهو الضرر المتوجه للانسان.

حيث مع عدم تحقق الضرر ينتفي موضوع التقية فينتفي جواز العمل بها لانتفاء موضوعه.

٢ ـ غلبة الظن ـ من المكلف ـ بان هذا الفعل يتوجه من فعله ضرر ، او غلبة الظن ـ إن لم يكن هناك علم ـ بان المتوعد على الفعل يستطيع القيام بما توعد به ـ في مورد الاكراه ـ اذ بدونه لا يصدق اكراه ـ فلا ضرر.


٣ ـ ان يكون الضر المتوجه للانسان ضررا معتدا به بحيث لا يتحمل عادة ـ كما تقدم في بحث الضرر النوعي والشخصي.

٤ ـ أن يتوجه الضرر ـ للمتقي ـ للمكره ـ بنفسه أو بماله او بعرضه او يتوجه لاحد اقاربه ومن يحسب عليه ـ بالانحاء الثلاثة السابقة.

حتى عُدي الى عموم الطائفة ... وهذا هو المنطبق على المعنى الثاني الذي ذكرناه للضرر النوعي ـ في البحث المخصوص بهما ـ.

٥ ـ ان لا يمكنه التخلص مما اكره عليه او مما اضطر اليه بحيث يتخلص من الضرر ـ باي وسيلة كانت ـ كالتورية او تاخير الفعل ـ او الانتقال لمكان آخر ـ على الاختلاف المتقدم ـ في بحث المندوحة ـ وهذا الشرط بناءاً على قول من يشترط عدم المندوحة.

٦ ـ ان لا يكون الفعل الذي اكره عليه في مورد الاكراه الفعلي مساوياً ـ للضرر الذي يتوجه اليه ، فمثلا : لو اكرهه شخص على قتل فان لم يقتل قتله فهنا تساوى الضرر المتوجه اليه والفعل المكره عليه.

ولا يجوز للانسان في مثل هذه الصورة الاقدام على قتل الغير ليدفع القتل عن نفسه ن فمن باب اولى لو كان الضرر المتوجه اليه غير القتل مع اكراهه على القتل. وذلك لما تقدم من ان التقية انما جعلت ليحقن بها الدم فاذا وصلت له فلا تقية.


هذه جملة من الشروط من البحوث المتقدمة ، ويمكن ان يستفيد الباحث شروطاً اخرى عند التعمق والتدقيق.


|٦|

هل أن التقية نفاق ؟

أعتقد انني اسهبت في توضيح هذه المسألة الفرعية ـ مبنىً وتفريعاً وتوابعاً ... وما دعى الى ذلك الا الاهتمام بتوضيح الصورة جلية ، وكشف الستار عن هذه المسألة الفرعية ليتضح ان هذه المسألة لا تستحق الا الاعظام والاكبار ..

وقد حز في نفسي ما قرأته وما زلت أقرأه عن هذه المسألة من تشنيعات توجه لها وللعاملين بها ، وما ذاك الا لأن الصورة ـ لهذه المسألة ـ لم تتضح لهذا الانسان الموجه هذه التشنيعات. والذي في اعتقادي ـ قد تسرع في الحكم عليها وعلى اهلها دون ان يرجع الى واقعها.

ومن جملة ما يعتمد عليه في التشنيع على هذه المسألة ـ عدم التفريق بينها وبين النفاق. اذ حكموا بأنها نفاق .. وحكموا على من يعمل بها انه منافق .. وبالتالي فهو خارج عن صفات المؤمنين.

وما نريده هنا هو الاشارة الى نقطة الافتراق ـ الجوهرية ـ بينهما. وما ربما تسبق للفهم بمجرد الالتفات الى حقيقة كل منهما ..

فان النفاق الذي ذمه الله سبحانه وتعالى انما هو نقيض للتقية تماماً.


ذلك ان الله لم يذم الاضمار والاظهار مطلقاً بل ذم اظهار الحق مع اضمار الباطل ، بأن يظهر الانسان الحق وانه من معتقديه مع ان قلبه ينطوي على الباطل وعدم الاعتراف بالحق ..

[ إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ] (١)

ثم يعقب :

[ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ] (٢)

ثم يوضح انهم يدخلون تحت قائمة اهل الباطل ..

[ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ .. ] (٣).

ويقرر واقعهم المذموم بقوله :

[ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ] (٤)

ويضيف في اية اخرى ـ موضحاً ما تنطوي عليه نفوسهم من خوف الكشف لواقعهم وفضحهم ..

[ يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ] (٥)

فأوضح القرآن الكريم هذه الحقيقة في المنافق ـ وهي

__________________

(١) الآية : ١ المنافقون.

(٢) الآية : ٢ المنافقون.

(٣) الآية : ٣ المنافقون.

(٤) الآية : ١٤٢ النساء.

(٥) الآية : ٦٤ التوبة.


اظهار الايمان ـ لاجل المخادعة والغرر بالمؤمنين واخفاء الكفر والالحاد ..

هذه هي صورة النفاق والمنافق.

اما التقية فهي بعيدة عن هذه الصورة تماماً بل نقيضة لها ..

ذلك ان التقية هي :

اظهار خلاف الحق وكتمان الحق .. كما يتضح من هذا المبحث.

فالمتقي ـ العامل بالتقية ـ يظهر ما لا يعتقده حقاً ـ خلاصاً من الاذى ويخفي ويضمر في نفسه الحق.

كما وصفها الله سبحانه وتعالى ...

[ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ]

[ إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ] ...

فالتقية انما يعمل بها معتقد الحق المطمئن قلبه بالايمان والحق ، ولكن يظهر خلاف الحق ...

هذا بالنسبة الى حقيقتهما.

اما من حيث الدواعي .. فأيضا هناك فروق واضحة في دواعي كل منهما.

اذ دواعي ـ المنافق ـ كثيرة ، منها ..

مخادعة المسلمين واظهار أنه منهم ليؤمن منهم ثم يكيد لهم ما يضعفهم ... فهدفه من اخفاء هويته الواقعية هو هدم الحق واضعافه ..

أما الداعي للمتقي ...


فهو حفظ نفسه ودفع الضرر عنها ، فالداعي لإخفاء هويته ، هي دفع الضرر عن نفسه والحفاظ عليها الذي هو مطلوب شرعاً ، بل قد أوجبه الشارع في بعض الحالات .. ـ كما تقدم في طيات هذا البحث.

بالاضافة الى أنه بواسطة التقية نكون قد حفظنا شخصاً يُعز به الاسلام ...

فشتان بين التقية والنفاق وبين المتقي والمنافق ..

فهما خطان متوازيان لا يلتقيان في نقطة ابداً.

فهل ـ بعد هذا ـ يمكن لعاقل ان يتصور انهما من ميدان واحد ويحكم عليهما بحكم واحد ...

هذا ما لا اتصوره ولا يتصوره كل باحث عن الحقيقة الكاشف لواقعها.


|٧|

تقية الشيعة

وبنهاية هذا المبحث نكون قد اعطينا التقية صورتها الواقعية التي لا يشوبها أدنى تشويه ..

التقية التي تعمل بها الشيعة.

التقية التي تعظمها الشيعة بما هي حكم من احكام الله التكليفية.

التقية التي يعتبرها الامام الصادق من الدين.

التقية من ديني ودين آبائي ..

وماذاك الا انها حكم من احكام الشريعة ، وله الشأن العظيم ، فالعمل به يكون عملاً بالدين .. عملاً بالحق ... وبالتالي من يستهتر بهذا الحكم ولا يعمل به يكون قد استهتر بالدين. ولذلك اصبح ـ من لا تقية له لا دين له ... ويكون قد اهدر دمه بنفسه.

ولذلك اعطيت هذه الاهمية.

هذه هي التقية بصورتها الواضحة عند الشيعة الامامية ..

انها مبدأ تحيى بواسطته نفوس ... وتدوم انفاس ... وتحفظ اديان وعقائد واحكام.

هذه هي تقية الشيعة.





استشراف

|١|

ليس من الغريب أن يوجد الخلاف بين فرقتين ، ولا بين عدة فرق إذ هو دليل على قوة إرادة رائدي كل فرقة من هذه الفرق ، بل هو دليل على الإستقلال الفكري لكل عنصر من عناصر المجموعة وجميع أفرادها.

كما أنه في حد ذاته مرتكز أساسي لتطور علوم الإنسانية.

ولكن الغريب أن لا يكون هذا الخلاف في إطاره الواقعي ، وان يخلو ـ هذا الخلاف ـ من دواعيه واسبابه ... والذي هو اغرب من هذا وذاك ... هو أن يسمى الاتفاق خلافاً ... دون معرفة الواقع لأيهما هو ... وخصوصاً ممن يكون له قدرة معرفة مثل ذلك ... او ممن يعرف الواقع ومع ذلك يصفه ـ وهو خلال من الخلاف ـ بالخلاف.

إذ ربما كان الخلاف مما يزول بأدنى تأمل ... وقليل إمعان ممن يتصوره ليتبين له أن ذلك إنما كان تصوراً خاطئاً.

والأمر الأهم في ذلك ... أننا نعلم المعايير في ذلك ... ونعرف الاسباب ... ومع ذلك نتركها جانباً معولين على مرتكزاتنا الأولية ، والتي لم يبنها كل واحد منا على ما ينبغي أن يبنى عليه العلم والحقيقة.


وفي مثل هذا الخلاف ـ المتصور بيننا الشيعة واهل السنة والجماعة ... والذي يتصوره البعض أنه كالقضبان الحديدية ـ لا يمكن تجاوزه ـ ... هو في الواقع هباء منثور ، ذلك أنه لو بحث قليلاً عن دواعي الإختلاف .. وعن واقع كل واحد منا. لرأى أن هذه القضبان الحديدية ـ التي نسجها خياله ـ ما هي إلا ورقة شفافة لا يكلف الإستشفاف لما خلفها اكثر من لمحة بيسطة أو نظرة خاطفة.

وفي الواقع .. أن الإنسان ـ الباحث ـ يجد أن الكتابة في بيان الواقع بات مملاً ، ذلك لكثرة ما يتوصل اليه وما قد توصل اليه .. في كشف الواقع ـ أي واقع كان ـ ..

لكن ـ مع ذلك ـ يجد الباحث لزاما عليه ـ زيادة في الإيضاح .. وامعاناً في كشف الواقع المجهول ـ أن يخوض في مثل هذه الأمور.

ومن خلال البحث في هذه المسألة ... أو المسائل الأخرى الخلافية التي تجلت واضحة على مر العصور ـ وجدت أن جدار الخلاف قد تهدم ـ « كما تهدم جدار برلين » ـ بسبب كثرة المعاول الكاسحة لرثاثه .. وطبعاً ... لمن يريد الواقع لا لمن يُغمض عينيه عنه ... فاذا كان كذلك ... فلماذا كلما أراد أن ينقض أقمناه .. أفي هذا مأرب لنا نقضيه من ذلك ... ام هو لأعدائنا السلاح الفتاك الذي طالما حصن نفسه به ... كما قيل ...؟!

وفي هذه المسألة ـ بالخصوص ـ مسألة التقية ـ لا أقول أنني توصلت الى شيء من خلال دراستي لأساسيات هذه
المسألة ـ لم يكن مطروحاً ... وإنما هو مخزون مودع استخرجته من كنوزه.

|٢|

اوضحنا في هذه الدراسة السريعة ـ السابقة ـ صورة التقية عند الشيعة ...

ومن خلال هذا البحث الذي نسوقه ـ الآن ـ نحاول ان نتوصل لإثبات هذه الصورة ـ التي باتت ممزقة عدة قرون ـ نفسها عند اهل السنة عامة ... وأن التمزيق الذي مزق صورتها ... دون واقعها ـ مزق فرعا عاما مشتركاً بيننا ـ فلماذا هذا التمزيق ..؟!..

ومن الواضح أن الطريق الأنجع لاثبات ذلك .. هو ان نطوف عبر الأدلة التي يعتمد عليها ـ أهل السنة ـ في استدلالاتهم على الأحكام الفرعية التشريعية.

وقد حاولنا ـ قدر الإمكان ـ أن نتتبع جميع ذلك من التفاسير وكتب الحديث ونصوص الفقهاء ..

وأيضا ... قد اتبعنا في ذلك ـ نفس الطريقة التي اعتمدناها في البحث السابق ـ التقية عند الشيعة .. لتتجلى المطابقة التامة بين الفئتين ـ إن صح التعبير ـ حتى في مستند التقية .. راسمين ذلك في عدة نقاط ..



|١|

تعريف التقية

أ ـ لغة:

[ ( إتقيت الشيء ، وتقيته أتَّقيه ، واتقيه تُقى ) كهُدىً ( وتقية ) كغنية ، ( و تِقَاءاً ككساء ) ـ وهذه عن اللحياني ـ اي ( حذرته ) ] (١).

[ وأصل تُقاة : وُقَيَة على وزن فُعَلَة مثل تُؤَدَة وتُهَمَة .. قلبت الواو تاءاً والتاء الفاً .. ] (٢).

و [ تقيته ... تُقَاة وتُقَىً وتَقيِّة وتقوى ، فإذا قلت اتقيت كان مصدره الاتقاء ... وانما قال تتقوا ولم يقل إتقاء .. اسم وضع موضع المصدر ] (٣).

ب ـ اصطلاحاً :

أود ان اشير هنا ـ قبل تعريف التقية اصطلاحاً ـ الى الدهشة التي اعترتني عندما لاحظت أن تعريف التقية ـ

__________________

(١) الزبيدي : تاج العروس ج ١ ص ٣٦٩ ط مصر.

(٢) القرطبي : الجامع لاحكام القرآن ج ٤ ص ٣٨.

(٣) الرازي : التفسير ج ٨ ص ١٢.

ويراجع : الجوهري : الصحاح : ج ٦ ص ٢٥٢٦.

ط دار الكتاب العربي مصر. ومعجم مقاييس اللغة ج ٦ ص ١٣١. ط مصر ١٣٧١ ه‍ دار إحياء الكتب العربية ..


اصطلاحاً ـ عند الفقهاء والمفسرين كان من المسلمات التي طالما خاض فيها .. الفقهاء والمفسرون وشراح كتب الحديث ...

ذلك أن من يسمع ويقرأ ما يكتب عن التقية ـ عند الشيعة ـ يقطع بأنها من مخترعات الإمامية ، ولا يمكن أن يحصل عنده ادنى شك بأنها لم تكن لِتُطرح في كتاب ولا سنة ولا مؤلف ... بل يقطع بأنها لم تخطر على قلب مفكر من مفكري اهل السنة والجماعة ...

لكنه عندما يراجع أدنى كتاب في موضوع الاكراه ـ الذي تبانت كتب الحديث والفقه على جعله أحد العناوين التي تطرق فيها ... فإنه يصاب بدهشة وينقلب رأساً على عقب ... فكيف بمن سبر غور الكُتب وطاف بأبوابها ...؟!!

وعلى كل حال ... فلا غرابة في ذلك إذ اصبح هذا النحو من التعمية والإخفاء وقلب الموازين من البديهيات لنا ـ نحن المسلمين ـ :

وبعد هذا كله ...

هذه نبذة من تعريفات التقية في الاحاديث وفي كتب العلماء ـ من أهل السنة والحديث ـ والتي استفادوها من صريح الآيات والروايات .. والتي تُمثل ـ في اعتقادي الصورة الواضحة التي تكشف عن ـ ان تعريف التقية ـ عند الشيعة إنما أخذ من مصادر أخواننا السنة على جميع تشعباتهم واهوائهم.

ذلك أنني وجدت ان تعريف التقية من أوضح التعاريف التي اتفق فيها الفريقان وإن اختلفت تعابيرهم في ذلك ، سواء
كان اختلاف التعبير عندنا ـ كما لاحظنا ذلك سابقا ـ ام عندهم ـ كما سيتضح من طيات هذا البحث ـ إلا ان المراد واحد جلي وواضح ، بل هو متحد حتى في الالفاظ ـ كما تقدم ضمن التعريف القديم (٤).

ولقد اشار الى تعريف التقية اكثر من تطرق لتفسير الآيات النازلة في ذلك ومن تناول موضوع لإكراه فقهيا ، وكذلك شرّاح كتب الحديث.

فقد عرفوها بانها :

[ ما يقال أو يفعل مخالفاً للحق لأجل توقي الضرر ] (٥).

وبعبارة أوضح :

[ بأن يفعل الإنسان ما يخالف الحق لاجل توقي ضرر من الأعداء يعود الى النفس او العرض أو المال ] (٦).

ويضيف ثالث :

[ التقية : الحذر من إظهار ما في النفس ـ من معتقد وغيره ـ للغير ] (٧).

ويشير رابع صريحاً :

[ التقية : هي أن يقي الإنسان نفسه من التلف والأذى بما يُظهره وان كان يبطن خلافه ] (٨).

__________________

(٤) كما تقدم في تعريف الطوسي والمفيد والطبرسي للتقية ..

(٥) محمد رشيد رضا : تفسير المنار ج ٣ ص ٢٨٠.

(٦) المراغي : التفسير : ج ١ ص ١٣٦.

(٧) العسقلاني : فتح الباري ج ١٢ ص ١٣٦.

(٨) عبد الكريم زيدان : مجموعة بحوث فقهية ص ٢١٢ وبهذا المعنى : مصطفى الشكعة : تفسير سورة آل عمران ص ٣٢.


ويؤكد خامس :

[ بأنها المحافظة على النفس والمال من شر الأعداء ، فيقيهم الإنسان باظهار الوالاة من غير اعتقاد لها ] (٩).

ورجوعاً لتفسير الصحابة للتقية نجد أنها :

[ التقية : باللسان والقلب مطمئن بالايمان ولا يبسط يده للقتل ] (١٠).

ولا اتصور أن هناك فارقاً بين التعاريف الشيعية والتعاريف السنية ، إذ ان الجميع اخذ في التعريف ما يلي :

١ ـ الحذر او التحفظ او التوقي ... عن ضرر الغير.

٢ ـ باظهار الموافقة لمن يخاف شره بقول او فعل مخالف للحق.

٣ ـ مطلق الضرر سواء كان متوجها للنفس او المال او العرض.

٤ ـ شمول الأفعال ـ للافعال الاعتقادية والفرعية.

٥ ـ اخذ عنوان الضرر في تعريف التقية ، ولا موضوع لها بدون تحقق الضرر.

ونكون بهذا قد تجاوزنا اول نقطة من النقاط الأساسية التي اردنا رسمها لاظهار التوافق المطموس.

__________________

(٩) الصابوني : تفسير آيات الاحكام ج ١ ص ٤٠٢.

(١٠) العسقلاني : فتح الباري ج ١٢ ص ٢٦٤. ويراجع في ذلك التفاسير حول آية التقية.


ـ ٢ ـ

مصادر تشريع التقية

عند أهل السنة

١ ـ القرآن الكريم :

إن الآيات التي بُحث حولها ـ للدلالة على تشريع التقية ـ بشكل واضح آيتان ، وهما المهمتان في الاستدلال وإن استشف من غير واحد ـ امكان الإستدلال على جوازها وتشريعها بغيرهما من الآيات ـ التي سقناها للإستدلال على تشريعها عند الشيعة ـ كما سنشير ـ.

وعند ملاحظتي للتفاسير التي تشير الى دلالة الآيات على تشريع التقية وجدت أنها قد تطابقت على ذلك ، وان دلالة الآيات على التقية من الأمور المفروغ منها.

وأحببت أن أسهب في بيان ذلك بنقل اكثر اقوال المفسرين وكلمات القهاء تبعاً لها. ولذلك اعتذر ـ سلفاً ـ للقارىء الكريم عن الاطالة ، ذلك ان الموضوع يتطلب إيقاف القارىء على النص المقطوع صدوره ، وتقديمه بين يديه باعثاً لليقين ليتضح ما رمينا اليه كمال الوضوح. وهذه الآيات ـ التي هي المصدر الأول من مصادر التشريع ـ التي استدل بها :

١ ـ قوله تعالى :

[ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن
يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه والى الله المصير ] (١).

كلمات المفسرين والفقهاء والبحاث :

١ ـ القرطبي :

قد طرحها في مسائل فقال من ضمن ذلك بعد توضيح التقية لغة :

[ الثانية : فقال « إلا ان تتقوا منهم تقاة » قال معاذ بن جبل ومجاهد : كانت التقية في جدة الاسلام قبل قوة المسلمين ، فاما اليوم فقد اعز الله الاسلام ان يتقوا من عدوهم ].

ثم يشير الى تعريف ابن عباس للتقية :

[ قال ابن عباس : هو ان يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان ولا يقتل ولا يأتي مأثماً ].

وعقب بكلمة الحسن البصري :

[ التقية جائزة للانسان الى يوم القيامة ، ولا تقية في القتل ].

وأنهى كلامه بوجوه القراءات في « تُقاة » وسبب نزول الآية. وهل هي نزلت في عبادة بن الصامت ام في عمار بن ياسر (٢).

٢ ـ البروسوي:

[ ( إلا أن تتقوا منهم تقاة ) ، استثناء من أعم الأحوال ،

__________________

(١) الآية ٢٨ آل عمران.

(٢) الجامع لاحكام القرآن. له : ج ٤ ، ص ٢٨.


كانه قيل : لا تتخذوهم أولياء ظاهراً وباطناً في حال من الأحوال إلا حال اتقائكم ( منهم ) اي من جهتهم ( تقاة ) اي اتقاءاً ، بأن تغلب الكفار أو يكون المؤمن بينهم ، فان اظهار الموالاة حينئذٍ مع اطمئنان النفس بالعدوة والبغضاء وانتظار زوال المانع من شق العصا واظهار ما في الضمير ، كما قال موسى (ع) : [ كن وسطاً وامش جانباً ] أي كن فيما بينهم صورة وتجنب عنهم سيرة ، [ ولا تخالطهم مخالطة الألداء ولا تتيسر بسيرتهم ].

ويعقب بالحكم ...

[ وهذه رخصة ، فلو صبر حتى قتل كان أجره عظيماً ] (٣).

٣ ـ المراغي

[ ( إلا أن تتقوا منهم تقاة ) أي إنّ تَرْك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال من الاحوال إلا في حال الخوف من شيء تتقونه منهم ، فلكم حينئذ أن تتقوهم بقدر ما يتقى ذلك الشيء ].

ثم يؤكد دلالة الآية على التقية ـ حيث استفاد ذلك العلماء فيقول :

[ وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقية ].

وبعد تعريف التقية يعقب رابطاً هذه الآية بآية ـ ١٠٦ ـ النحل

__________________

(٣) تفسير روح البيان ـ له : ج١ ـ ص ٢٠.


[ فمن نطق بكلمة الكفر مكرهاً وقاية لنفسه من الهلاك وقلبه مطمئن بالايمان لا يكون كافراً ، بل يعذر كما فعل عمار بن ياسر حين اكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرهاً وقلبه مطمئن بالإيمان، فيه نزلت الآية .. ] (٤) ثم ذكر آية ١٠٦ النحل. وعقب بقصة الصحابيين مع مسيلمة الكذاب.

٤ ـ محمد رشيد رضا :

ذكر ـ أولاً ـ ما ذكره المراغي حول الآية. ثم بيّن ان [ هذه الموالاة تكون صورية لانها للمؤمنين لا عليهم ].

ويشير بعد ذلك الى المعنى فيقول :

[ والمعنى : ليس لكم أن توالوهم على المؤمنين ، ولكن لكم أن تتقوا ضررهم بموالاتهم ].

ثم يُضيف مخصصاً بحثاً في التقية :

[ اقول : وقد استدل بعضهم بالآية على جواز التقية ].

وبعد تعريف التقية يؤكد ان :

[ لهم فيها تعريفات وشروط واحكام :

فقيل : أنها مشروعة للمخافظة على النفس والعرض والمال.

وقيل : لا تجوز التقية لأجل المحافظة على المال.

وقيل : انها خاصة بحال الضعف. وقيل : بل عامة ].

ويذكر ـ بعيد هذا ـ ما ذكر المراغي في جواز النطق بكلمة الكفر ـ كما سيأتي ـ

__________________

(٤) تفسير المراغي له : ج ٥ ، ص ١٣٦ ، ١٣٧.


ويشير الى التغمة القديمة :

[ وينقل عن الشيعة : أن التقية عندهم اصل من أصول الدين جرى عليه الانبياء والأئمة ... ، وينقل في ذلك أمور متناقضة مضطربة ... وخرافات مستغربة ... ]

ثم يضعف ذلك بقوله : [ وقلما يسلم نقل المخالف من الظنة سيما اذا كان نقله بالمعنى ... ] ولم يكلف نفسه بمراجعة تفسير أو كتاب فقهي من مصادر الشيعة.

ويستنتج قائلا :

[ وقصارى ما تدل عليه هذه الآية : أن للمسلم أن يَتقى ما يُتقى من مضرة الكافرين ] (٥).

٥ ـ الفخر الرازي :

بعد ان ذكر القراءات ومعنى التقية في ضمن مسائل ، ذكر في المسألة الرابعة : [ اعلم أن للتقية أحكاماً كثيرة ، ونحن نذكر بعضها :

الحكم الأول : أن التقية إنما تكون اذا كان الرجل في قوم كفار ويخاف منهم على نفسه وما له فيداريهم باللسان ، وذلك بان لا يظهر العداوة باللسان بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة ، ولكن بشرط أن يضمر خلافه ، وأن يُعَرَّض في كل ما يقول ، فان التقية في الظاهر لا في أحوال القلب ].

وفي طيات بحثه يذكر عدة احكام. يأتي ذكرها في

__________________

(٥) تفسير المنار ـ له : ج ٥ ، ص ٢٨٠ ـ وبنفس المعنى السرخسي : المبسوط ج ٢٤ ص ٤٥.


موضعها من البحوث (٦).

٦ ـ الجصاص :

[ وقوله تعالى : « إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً » .. يعني إن تخافوا تلف النفس او بعض الأعضاء فتتقوهم بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها ، وهذا هو ظاهر ما يقتضيه اللفظ ، وعليه الجمهور من اهل العلم.

وقد حدثنا عبد الله بن محمد بن اسحاق المروزي قال : « وساق السند ». عن قتادة في قوله تعالى : ( لاَّ يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ ) قال : لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافراً ولياً في دينه.

وقوله تعالى : ( إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) ... إلا ان تكون بينه وبينه قرابة فيصله لذلك ..

فجعل التقية صلة لقرابة الكافر.

وقد اقتضت الآية جواز اظهار الكفر عند التقية ، وهو نظير قوله تعالى : [ مَن كَفَرَ ... ] ـ وساق الآية ـ ١٠٦ النحل.

وإعطاء التقية في مثل ذلك إنما هو رخصة من الله تعالى وليس بواجب ، بل ترك التقية افضل.

قال أصحابنا : فيمن أكره على الكفر فلم يفعل حتى قتل : أنه افضل ممن أظهر.

وقد أخذ المشركون ـ خبيب بن عدي ـ فلم يعط التقية حتى قتل ... فكان عند المسلمين افضل من عمار بن ياسر

__________________

(٦) التفسير الكبير ـ له : ج ٨ ص ١٣.


حين اعطى التقية واظهر الكفر فسأل النبي « ص » عن ذلك ] .. ويذكر القصة الآتية في سبب نزول الآية الثانية.

ثم عقب بقصة الصحابيين مع مسيلمة ورتب على ذلك ...

[ وفي هذا دليل على أن إعطاء التقية رخصة وان الافضل ترك اظهارها ] ـ اي اظهار ما تقتضيه التقية.

[ وكذلك قال اصحابنا في كل أمر كان فيه إعزاز الدين فالإقدام عليه حتى يقتل أفضل من الأخذ بالرخصة في العدول عنه ـ عن الاقدام ـ الا ترى أن من بذل نفسه لجهاد العدو فقتل كان افضل ممن انحاز ... وقد وصف الله أحوال الشهداء بعد القتل وجعلهم أحياء مرزوقين ... فكذلك بذل النفس في إظهار دين الله تعالى ... وترك اظهار الكفر أفضل من إعطاء التقية فيه ... ] (٧).

٧ ـ ابن كثير :

نص على دلالة الآية على تشريع التقية على منوال غيره (٨).

٨ ـ الإمام الشوكاني :

وتناول الآية ـ شرحاً ودلالة ـ كما تناولها غيره ، ثم أكد ان :

[ في ذلك دليل على جواز موالاتهم مع الخوف منهم ، ولكنها تكون ظاهراً لا باطناً ...

__________________

(٧) احكام القرآن ـ له : ج ٢ ، ص ٢٨٩ ، ٢٩٠.

(٨) تفسير القرآن العظيم ـ له : ج ١ ص ٣٨٣.


وخالف في ذلك قوم من السلف ، فقالوا : لا تقية بعد أن اعز الله الاسلام ]

وبعد تفسير الفقرات الاخرى للآية يذكر عدة روايات حول تفسير هذه الآية. وينقل عن عدة من العلماء كلمات دالة على ذلك.

ثم يربط هذه الآية بآية ـ ١٠٦ ـ النحل ـ فيقول :

[ ويدل على جواز التقية قوله تعالى : « إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ ... ] (٩) الخ الآية ..

٩ ـ العسقلاني :

[ ومعنى الآية : لا يتخذ المؤمن الكافر ولياً في الباطن ولا في الظاهر إلا التقية في الظاهر فيجوز أن يوالي اذا خافه ويعاديه باطناً ].

وبعد أن ذكر الحكمة في العدول في الخطاب ـ الالتفات ـ فيختار أحدها في ذلك فيقول في ضمنها :

[ فنزلت هذه الآية رخصة في ذلك وهو كالآيات الصريحة في الزجر عن الكفر بعد الإيمان ثم رخص فيه لمن اكره على ذلك ] (١٠).

١٠ ـ الصابوني :

بعد أن عرف التقية وارجعها لاصلها اللغوي ... قال :

[ والمعنى : إلا ان تخافوا منهم خوفاً فلا بأس بأظهار

__________________

(٩) فتح القدير. له : ج ١ ص ٣٣١ ، ٣٣٢.

(١٠) فتح الباري. له : ج ١٢ ، ص ٢٦٣.


مودتهم باللسان تقية ومداراتهم دفعاً لشرهم وأذاهم من غير اعتقاد بالقلب ] (١١).

وتحت عنوان ـ المعنى الاجمالي ـ يذكر :

[ فالآية الكريمة تحذر من موالاة الكافرين إلا في حال الضرورة ـ وهو حال اتقاء شرهم وتجنب ضررهم ، او الخوف منهم فيجوز موالاتهم بشرط أن يقتصر ذلك على الظاهر مع اضمار الكراهية والبغض لهم في الباطن .. ] (١٢)

وفي عنوان ـ الاحكام الشرعية ـ المستفادة من هذه الآية ـ يذكر احكاماً :

[ الحكم الثاني : ما معنى التقية وما حكمها ...؟..

قال ابن عباس : التقية أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان ، ولا يقتل ولا يأتي مأثماً ].

وبعد تعريف التقية اصطلاحاً يضيف ناقلاً عن الجصاص ما تقدم فلا نكرر.

ثم يذكر التفاضل بين العمل بالتقية وتركه (١٣).

وتحت عنوان ( ما ترشد اليه الآية ) يشير الى أن :

[ ٢ ـ التقية عند الخوف على النفس أو المال او التعرض للاذى الشديد.

٣ ـ الإكراه يُبيح للإنسان التلفظ بكلمة الكفر بشرط أن يبقى القلب مطمئناً بالإيمان ] (١٤).

__________________

(١١) تفسير آيات الاحكام. له : ج ١ ص ٣٩٨.

(١٢) المصدر السابق : ص ٣٩٩.

(١٣) المصدر السابق : ص ٤٠٢ ، ٤٠٣.

(١٤) المصدر السابق : ص ٤٠٤.


١١ ـ السرخسي :

[ وقد كان بعض الناس يأبي ذلك ـ التقية ـ ، ويقول أنه من النفاق ، والصحيح أن ذلك جائز لقوله تعالى : إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً .. ] (١٥).

١٢ ـ عبد الكريم زيدان :

[ وقد استدل على جوازها بقوله تعالى : « لاَّ يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً » ] (١٦).

٢ ـ الآية الثانية :

قوله تعالى :

[ مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ] (١٧).

كثير من المفسرين قد ربط بين مدلول الآية السابقة ومدلول هذه الآية في البحث والدلالة على تشريع التقية. فلذلك قل من أطال حول هذه الآية .. كالقرطبي والرازي ... وإلا فجل المفسرين قد اطنبوا في البحث حول الآية السابقة وربطها مع هذه الآية كما مر ، ومع ذلك نفرد لها بحثاً نورد فيه بعض نصوصهم.

__________________

(١٥) المبسوط ـ له : ج ٢٤ ص ٤٥.

(١٦) مجموعة بحوث فقهية ، له : ص ٢١٢.

(١٧) الآية : ١٠٦ النحل.


١ ـ القرطبي :

كما ذكرنا ـ سابقا ـ ان المفسر الكبير القرطبي ممن أطال حول تفسير هذه الآية ، فطرحها في احدى وعشرين مسألة ، وحاولنا اختصارها :

الاولى : في ربط الآية بما قبلها.

والثانية : في سبب النزول :

[ هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر ـ في قول أهل التفسير ـ لانه قارب بعض ما ندبوه اليه.

قال ابن عباس : أخذ المشركون واخذوا أباه وامّه سمية وصهيباً وبلالاً وخباباً وسالماً فعذبوهم. وربطت سُمية بين بعيرين ووجىء ـ قلبها ـ قبلها ـ بحربة .... وأما عمّار فأعطاهم ما ارادوا بلسانه مُكرهاً. فشكا ذلك الى رسول الله « ص » فقال له رسول الله (ص) ( كيف تجد قلبك ) ؟ .. قال : مطمئن بالايمان. فقال رسول الله (ص) : ( فان عادوا فعُد ) ]

الثالثة : في دلالة هذه الآية على ما نحن فيه حيث قال :

[ لما سمح الله عز وجل بالكفر به ـ [ ظاهراً ] ـ وهو اصل الاكراه ولم يؤاخذ به حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها ، فاذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يرتب عليه حكم وبه جاء الأثر المشهور عن النبي (ص) :

« رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ... » ]


الرابعة : في إجماع العلماء على جواز قول الكفر مع عدم الأثم :

[ أجمع اهل العلم على أنه من اكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنه لا إثم عليه ان كفر وقلبه مطمئن بالايمان ]

وذكر ـ ايضا ـ عدم ترتب الأثر في بعض الفروع كالبيع والطلاق. وعدم ترتيب آثار الكفر عليه.

الخامسة : في عموم التقية للقول والفعل ـ كما سيأتي ـ في البحث الخاص بذلك ... ويرد من خلال هذه النقطة على من يرتب احكاماً على الاكراه الذي هو موضوع التقية بهذه الآية وآية التقية ، وهذا يكشف عن ان موضوعهما واحدكما سيأتي.

السادسة : في مستثنيات التقية. وأحد مصاديقه القتل. كما سيأتي.

وفي ضمن المسائل ٧ الى ١٦. يذكر مصاديق التقية من الفروع في موارد الاكراه.

ويعقب بمسألة في وجوب التورية وستأتي في بحث المندوحة كما هو مفاد المسألة ـ ١٧ و ٢٠ ـ.

وفي مسألة ـ ١٩ ـ يحدد معيار الإكراه المبيح معه ارتكاب التقية والاقدام على المخالفة للمأمور به. (١٨).

٢ ـ الإمام الشوكاني :

[ وإما صح إستثناء المكره من الكافر مع أنه ليس بكافر لأنه ظهر منه بعد الإيمان مالا يظهر إلا من الكافر لولا الإكراه ].

__________________

(١٨) الجامع لاحكام القرآن ـ له : ج ١٠ ص ١١٨ الى ١٢٠.


ثم نقل كلام القرطبي في المسألة الرابعة من اجماع العلماء على عدم الإثم لمن كفر ظاهراً ..

ثم أكد على شمول التقية للقول والفعل ، بعد حكايته القول بعدم الشمول عن الحسن البصري والأوزاعي والشافعي وسُحنون ... ، ويضيف رداً على هؤلاء : [ ويدفعه ظاهر الآية فانها عامة فيمن اكره من غير فرق بين القول والفعل .. ]

ولا دليل لهولاء ـ القاصرين الآية على القول ـ ، وخصوص السبب لا إعتبار به مع عموم اللفظ كما تقرر في علم الاصول.

وجملة ( وقلبه مطمئن بالإيمان ) في محل نصب على الحال من المستثنى ، أي إلا من كفر بإكراه والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان لم تتغير عقيدته ] (١٩).

٣ ـ ابن كثير :

بعد ان ذكر سبب النزول. وأنهار نزلت في عمار ، رتب على ذلك قائلا :

[ ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يُوالي إبقاءاً لمهجته.

ويجوز أن يأبي كما كان بلال (رض) يأبي عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل .. ]. (٢٠)

٤ ـ الفخر الرازي :

قد اطنب ـ كما هو شأنه ـ في بيان الآية تحت اطار

__________________

(١٩) فتح القدير ـ له : ج ٣ ص ١٩٧.

(٢٠) تفسير القرآن العظيم ـ له : ج ٢ ص ٦٤٨.


المسائل ، إذ طرح ما تحوم حوله الآية في عشر مسائل.

الأولى : في اعرابها والإختلاف فيه.

[ الثانية : اجمعوا على أنه لا يجب عليه التكلم بالكفر ، يدل عليه وجوه :

أحدها : أنا روينا أن بلالاً صبر على ذلك العذاب وكان يقول أحد أحد ].

وهذا هو المؤيد لعدم التكلم بالكفر ، واما المؤيد لجواز التكلم بالكفر فهو :

[ رُوي أن أناساً من أهل مكة فُتنوا فارتدوا عن الاسلام بعد دخولهم فيه .. وكان فيهم من اكره فاجرى كلمة الكفر على لسانه مع أنه كان بقلبه مصراً على الإيمان ... منهم عمار وأبوه ياسر ... واما عمار فقد اعطاهم ما ارادوا بلسانه مكرهاً ، فقيل يا رسول الله (ص) .... ] (٢١) الخ سبب النزول.

الثالثة : حول الاستثناء في الآية ، حيث ذكر أنه ليس باستثناء ، واظن ان مراده أنه ليس باستثناء متصل ـ كما اشار اليه غير واحد وكما يشير اليه فيما بعد من وجه المناسبة (٢٢).

الرابعة : في بيان الإكراه. وسيأتي ذلك في شروطه.

الخامسة : في وجوب التورية في التلفظ بالكفر وخلوص القلب عن ذلك.

السادسة : نفس مدلول الثانية ـ حسب اعتقادي ـ.

__________________

(٢١) التفسير الكبير. له : ج ٢٠ ص ١٢٢ ، ١٢٣.

(٢٢) نفس المصدر السابق.


السابعة : حول مراتب الإكراه. وهو ذاته بيان لحكم التقية كما سيأتي.

الثامنة : في مستثنيات التقية. وسيأتي ذلك.

التاسعة : في مسألة فرعية وهي طلاق المكره.

العاشرة : اشار فيها الى ان قوله تعالى : ( وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) يدل على أن الايمان محله القلب (٢٣).

٥ ـ العسقلاني :

[ هو وعيد شديد لمن إرتد مختاراً ، وأما من اكره على ذلك فهو معذور بالآية ، لأن الاستثناء من الإثبات نفي فيقتضي أن لا يدخل الذي اكره على الكفر تحت الوعيد ... ] (٢٤). ثم يسوق سبب النزول.

٦ ـ السرخسي :

بعد أن ذكر سبب النزول اضاف :

[ فيه دليل أنه لا بأس للمسلم أن يجري كلمة الشرك على اللسان بعد أن يكون مطمئن القلب بالايمان ، وأن ذلك لا يخرجه عن الإيمان لأنه لم يترك اعتقاده بما اجراه على لسانه ].

وفي مكان آخر يربط الآية بالتقية فيقول :

[ وإجراء كلمة الشرك على اللسان مكرها مع طمأنينة القلب بالايمان من باب التقية ، وقد بينا ان رسول الله (ص) رخص فيه لعمار بن ياسر ] (٢٥).

__________________

(٢٣) المصدر السابق : ص ١٢٣ ، ١٢٤ ، ١٢٥.

(٢٤) فتح الباري ـ له : ج ١٢ ص ٢٦٢.

(٢٥) المبسوط : ج ٢٤ ص ٤٣.


٧ ـ محمد رشيد رضا :

[ وينقل عن الخوارج أنهم منعوا التقية في الدين مطلقاً وإن اكره المؤمن وخاف القتل ، لأن الدين لا يُقدَّم عليه شيء ....

ويرد عليهم قوله تعالى : ( مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا ...).

فمن نطق بكلمة الكفر مكرهاً وقاية لنفسه من الهلاك لا شارحاً بالكفر صدرا ولا مستحباً للحياة الدنيا على الآخرة لا يكون كافراً ، بل يُعذركما عذر عمار بن ياسر ، وفيه نزلت الآبة ... ] (٢٦) وساق الآية السابقة.

وفي موضع آخر يربط الآيتين بمورد واحد ، فيقول :

[ وقصارى ما تدل عليه آية سورة النحل ما تقدم آنفاُ ] (٢٧). في دلالتها.

٨ ـ عبد الكريم زيدان :

[ وهذه الآية [ السابقة ] نظير قوله تعالى : ( مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) ، فقد أجازت هذه الآية الكريمة النطق بكلمة الكفر دفعاً للهلاك عن النفس على وجه التقية ].

[ ولكن عند الضرورة يجوز للمسلم النطق بما هو كفر ، كما لو اكره اكراها ملجئاً عليه. والأصل في جواز ذلك قول الله

__________________

(٢٦) تفسير المنار. له : ج ٣ ص ٢٨٠ : وتفسير المراغي ج ١ ص ١٣٦ ، ١٣٧.

(٢٧) نفس المصدر السابق.


تبارك وتعالى ( مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ ) ... ] (٢٨) الخ الآية ..

٩ ـ الجصاص :

بعد أن ذكر سبب النزول ـ كغيره ـ قال :

[ قال أبو بكر : هذا أصل في جواز اظهار كلمة الكفر في حال الإكراه.

والإكراه المبيح لذلك هو أن يخاف على نفسه أو بعض أعضائه التلف إن لم يفعل ما أمره به ، فابيح له في هذه الحال أن يظهر كلمة الكفر ، ويعارض بها غيره إذا خطر ذلك بباله ، فإن لم يفعل ذلك مع خطوره بباله كان كافراً.

قال محمد بن الحسن : اذا اكرهه الكفار على أن يشتم محمداً (ص) فخطر بباله أن يشتم محمداً آخر غيره فلم يفعل وقد شتم النبي (ص) كان كافراً ، وكذلك لو قبل له : لتسجدن لهذا الصليب فخطر بباله أن يجعل السجود لله فلم يفعل وسجد للصليب كان كافراً ، فإن أعجلوه عن الروية ولم يخطر بباله شيء وقال ما اكره عليه او فعل لم يكن كافراً إذا كان قلبه مطمئناً بالايمان.

قال أبو بكر : وذلك لانه إذا خطر بباله ما ذكرنا ، فقد أمكنه أن يفعل الشتيمة لغير النبي (ص) إذا ـ إذ ـ لم يكن مكرهاً على الضمير ، وإنما كان مكرهاً على القول ، وقد امكنه صرف الضمير الى غيره ، فمتى لم يفعله فقد اختار اظهار الكفر

__________________

(٢٨) مجموعة بحوث فقهية : ص ٢٠٨ ، ٢١٣.


من غير اكراه ، فلزمه حكم الكفر. ] (٢٩). وهذا ـ الاخير ـ سيأتي في مبحث « المندوحة ».

ثم نقل ـ مكرراً ـ ما ذكره في آية التقية سابقاً حكاية عن الاصحاب في افضلية الصبر وعدم التلفظ بالكفر.

إكراه أم تقية ..؟!

قد يسبق الى ذهن القارىء ـ المتبصر ـ التساؤل الآتي :

كيف يستدل بالآية على التقية مع أن موردها الإكراه ، اذ عبّر القرآن الكريم ـ بالاكراه ـ فهذه الآية بعيدة كل البعد عن مورد التقية ...؟

ومع ان هذا التساؤل سيتضح بعد قليل ـ وكما هو واضح ـ عند البحث حول القاعد الثانوية ـ عوارض الاهلية والترخيص ـ الا أنه .. ولربط ذهن القارىء بنفس الفكرة الثابتة ـ المستوحاة من هذه الآية ـ نحاول أن نعرض بعض المقتطفات من النصوص ـ السابقة ـ الرابطة للآية بموضع التقية لنكون قد مكنّاها في ذهن القارىء صافية خالصة.

١ ـ [ وقد اقتضت الآية ـ « آية التقية » ـ جواز إظهار الكفر عند التقية ، وهو نظير قوله تعالى. « مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ » ] (٣٠).

٢ ـ [ وهذه الآية ـ آية التقية ـ نظير قوله تعالى : « مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ » ، فقد اجازت هذه الآية الكريمة النطق بكلمة الكفر عند

__________________

(٢٩) احكام القرآن ـ له : ج ٥ ص ١٣.

(٣٠) المصدر السابق : ج ٢ ص ٢٩٠.


الاكراه .. دفعاً للهلاك عن النفس على وجه التقية ] (٣١)

٣ ـ [ عذب المشركون عماراً حتى قال لهم كلاماً تقية ... فاشتد عليه ... ] (٣٢)

٤ ـ [ وأعلم ان نظير هذه الآية قوله تعالى : « إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ » ] (٣٣).

٥ ـ [ ويرد عليهم « منكري التقية » قوله تعالى : « مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ ... » ] (٣٤) وساق الآية.

٦ ـ [ واجراء كلمة الشرك على اللِّسان مكرهاً مع طمأنينة القلب بالإيمان من باب التقية. وقد بينا ان رسول الله (ص) رخص فيه لعمار بن ياسر ] (٣٥).

هذا .. وارجو من القاريء الكريم أن يعيد الكرة على النصوص المتقدمة ليتأكد مما ذكرنا .. وليعلم انه لا احد من العلماء يشك في دلالة هذه الآية على التقية. واتخاذها مصدراً تشريعياً لجوازها.

٣ ـ الآية الثالثة :

قوله تعالى : [ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ] (٣٦).

__________________

(٣١) زيدان : مجموعة بحوث فقهية ص ٢١٣.

(٣٢) العسقلاني : فتح الباري : ج ١٢ ص ٢٦٣.

(٣٣) الرازي ـ التفسير الكبير ج ٨ ص ١٣.

(٣٤) محمد رشيد رضا : تفسير المنار ج ٣ ، ص ٢٨١.

(٣٥) السرخسي : المبسوط ج ٢٤ ص ٤٥.

(٣٦) الآية : ٢٨ غافر.


في الواقع أنني لم أكن لارغب في الإستدلال ـ بهذه الآية والآية اللاحقة ـ على تشريع التقية من طريق إخواننا السنة ، لأنني كنت اتصور أن اذهانهم بعيدة عن حملها على مورد التقية ، إلا أنني ـ بعد مراجعة التفاسير ـ وجدت ان بعض المفسرين قد استوحى منهما ـ كما هو واضح من الفاظهما ـ دلالتهما على التقية. فعزمت على إضافتهما لهذا المصدر التشريعي ـ الأول ـ ، وحاولت الإختصار فيهما.

١ ـ القرطبي :

لقد أطنب في البحث حول هذه الآية واوضحها في ضمن أربع مسائل.

الأولى: في اسم الرجل المؤمن من آل فرعون.

الثانية : في بيان أوجه اعرابها ووجوهها البيانية ، وارجاع فقرات الآية بعضها الى بعض.

[ الثالثة : قوله تعالى « يَكْتُمُ إِيمَانَهُ » ... قال القاضي أبو بكر العربي :

ظن بعضهم أن المكلف اذا كتم إيمانه ولم يتلفظ بلسانه لا يكون مؤمناً باعتقاده ..

وقد قال مالك : إن الرجل اذا نوى بقلبه طلاق زوجته ... أنه يلزمه كما يكون مؤمناً بقلبه وكافراً بقلبه ..

فجعل مدار الإيمان على القلب ، وأنه كذلك ، لكنه ليس على الإطلاق وقد بيناه في اصول الفقه بما لبابه ..

أن المكلف اذا نوى الكفر بقلبه كان كافراً وإن تلفظ بلسانه ، وأما إذا نوى الإيمان بقلبه فلا يكون مؤمناً بحال حتى
يتلفظ بلسانه ولا يمنعه التقية والخوف من أن يتلفظ بلسانه فيما بينه وبين الله ، إنما تمنعه التقية من أن يسمعه غيره ، وليس من شرط الايمان أن يسمعه الغير في صحته من التكليف ، وانما يشترط سماع الغير له ليكف عن نفسه وماله.

الرابعة : روي البخاري ومسلم عن عروة بن الزبير قال : قلت بينا رسول الله (ص) بفناء الكعبة اذ اقبل عقبة بن أبي معيط فاخذ بمنكب رسول الله (ص) ، ولوى ثوبه في عنقه فخنقه به خنقاً شديداً ، فأقبل ابو بكر فاخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله (ص). وقال :

أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم.

وفي لفظ الترمذي : الى أن يقول ... فقال علي : والله ليوم أبي بكر خير من مؤمن آل فرعون. إن ذلك رجل كتم ايمانه فأثنى الله عليه في كتابه ، وهذا ابو بكر اظهر ايمانه وبذل ماله دونه لله عز وجل ..

ـ ويعلق القرطبي ـ :

قلت : قول علي (ع) أن ذلك رجل كتم إيمانه ... يريد في أول أمره. بخلاف الصديق فإنه أظهر إيمانه ولم يكتمه ، وإلا فالقرآن يصرح بأن مؤمن آل فرعون أظهر إيمانه لما ارادوا قتل موسى على ما يأتي بيانه ... ] (٣٧).

٢ ـ ابن كثير الدمشقي :

[ وقد كان هذا الرجل يكتم إيمانه عن قومه ـ القبط ـ فلم

__________________

(٣٧) الجامع لاحكام القرآن ـ له : ج ١٥ ص ٢٠٠ ، ٢٠١.


يظهر إلا هذا اليوم حين قال فرعون : « ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى » فاخذت الرجل غضبة الله عز وجل .. ].

ثم روى ما ذكره القرطبي من قصة أبي بكر مع الرسول (ص) (٣٨).

٣ ـ الإمام الشوكاني :

ذكر الخلاف في اسم الرجل ، وهل هو من آل فرعون ام أنه يكتم إيمانه عن آل فرعون ... وكان من القبط.

قال : [ ( مؤمن ) صفة لرجل ، و ( من آل فرعون ) صفة أخرى ، و ( يكتم إيمانه ) صفة ثالثة ] ..

وبعد بيان بعض الفقرات المشتملة عليها الآية ... ذكر الواقعة التي سبقت عن البخاري ... (٣٩)

٤ ـ الآية الرابعة :

[ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ] (٤٠)

وهذه كسابقتها لم ينص على دلالالتها ـ على ما نحن فيه ـ الا القليل ، وإن كان الاستدلال يظهر من سياق الكلام وتبادر الآية.

ونستطيع أن نوصل هذا المعنى ببعض النصوص من المفسرين ...

__________________

(٣٨) تفسير القرآن العظيم ـ له : ج ٤ ص ٨١ ، ٨٢.

(٣٩) فتح القدير. له : ج ٤ ص ٤٩٠.

(٤٠) الآية : ١٩ ، ٢٠ الكهف.


١ ـ القرطبي :

« وَلْيَتَلَطَّفْ » أي في دخول المدينة وشراء الطعام ، « وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا » أي لا يخبرن ، وقيل : إن ظهر عليه فلا يوقعن إخوانه فيما وقع فيه ، « إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ » قال الزجاج : معناه بالحجارة ، وهو أخبث القتل ، وقيل : يرموكم بالسب والشتم ، والاول اصح لانه كان عازماً على قتلهم ـ كما تقدم في قصصهم .... (٤١)

وبعد ذكر الوكالة التي يتصور المفسر ان الآية تشعر بها ، وانها وقعت في الجاهلية يعقب في ضمن المسألة السادسة :

[ في هذه الآية نكتة بديعة .. وهي : انما كانت ـ الوكالة ـ مع التقية خوفاً أن يشعر بهم أحد لما كانوا عليه من الخوف على أنفسهم ، وجواز توكيل ذوي العذر .. متفق عليه ، فاما من لا عذر له فالجمهور على جوازها ...

وقال ابو حنيفة وسُحنون : لا يجوز.

قال ابن العربي : وكان سُحنون تلقفه من اسد بن الفرات فحكم به أيام قضائه ، ولعله كان يفعل ذلك باهل الظلم والجبروت انصافاً منهم واذلالاً لهم. وهو الحق ، فان الوكالة معونة ولا تكون لاهل الباطل ] (٤٢).

٢ ـ ابن كثير :

[ ( وَلْيَتَلَطَّفْ ) أي في خروجه وذهابه وشرائه وإيابه ، يقولون : وليختف كل ما يقدر عليه ، « وَلا يُشْعِرَنَّ » اي ولا

__________________

(٤١) الجامع لاحكام القرآن ـ له : ج ١٠ ص ٢٤٤.

(٤٢) المصدر السابق ص ٢٤٥.


يعلمن « بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ » أي ان يعلموا بمكانكم يرجموكم ، « أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ » يعنون اصحاب دقيانوس يخافون منهم أن يطلعوا على مكانكم ، فلا يزالون يعذبوكم بانواع العذاب الى أن يعيدوكم في ملتهم التي هم عليها او يموتوا ... ، وان توافقوهم على العودة في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الآخرة ... ولهذا قال ( وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ) ] (٤٣).

٣ ـ الإمام الشوكاني :

[ « وَلْيَتَلَطَّفْ » أي يدقق النظر حتى لا يُعرف أو لا يغبن.

والأول أولى ، ويؤيده .. « وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا » أي لا يفعلن ما يؤدي الى الشعور ويتسبب له ، فهذا النهي يتضمن التأكيد للأمر بالتلطف ، ثم علل ما سبق من الأمر والنهي فقال : « إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ » اي يطلعوا عليكم ويعلموا بمكانكم ـ يعني أهل المدينة « يَرْجُمُوكُمْ » يقتلوكم بالرجم ، وهذه القتلة هي أخبث قتلة ، وكأن ذلك كان عادة لهم ، ولهذا خصه من بين أنواع ما يقع به القتل .. ، « أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ » أي يردوكم الى ملتهم التي كنتم عليها قبل أن يهديكم الله .. ] (٤٤).

٢ ـ السنة النبوية وسنة الصحابة والتابعين :

١ ـ الحديث المشهور الذي اطبق المفسرون على روايته

__________________

(٤٣) تفسير القرآن العظيم. له : ج ٣ ص ٨٦.

(٤٤) فتح القدير ـ له : ج ٣ ص ٢٧٦.


وإن اختلفت ألفاظه ، وذلك في سبب نزول الآية ـ ١٠٦ النحل ـ ، وذلك بعدة طرق ، وهذه بعضها :

أ ـ عن ابن عباس .. فيه :

قال : [ لما أراد رسول الله (ص) أن يهاجر الى المدينة .. قال لأصحابه : تفرقوا فمن كانت له قوة فليتأخر الى آخر الليل ... الى أن يقول : فاصبح بلال المؤذن وخباب وعمار وجارية من قريش كانت أسلمت ، فأخذهم المشركون وأبو جهل فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى ... وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية ، ... ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار فلحقوا برسول الله (ص) فاخبروه بالذي كان من امرهم واشتد على عمار الذي كان تكلم به ، فقال رسول الله (ص) : كيف كان قلبك حين قلت ... أكان منشرحاً بالذي قلت ام لا ..؟ ، قال : لا ، فانزل الله : الآية (٤٥) ... ] الخ الحديث ..

ب ـ [ واخرج عبد الرزاق وأبن سعد وإبن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر .. من طريق ابي عبيدة بن محمد بن عمار عن أبيه ، قال :

أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي (ص) وذكر آلهتهم فتركوه ، فلما أتى النبي (ص) قال : ما وراءك ؟ ، قال : ما تُركت حتى نلتُ منك وذكرت

__________________

(٤٥) الشوكاني : فتح القدير : ج ٣ ص ١٩٨ ، وفتح الباري : ج ١٢ ص ٢٦٢.


آلهتهم بخير. فقال : كيف تجد قلبك ؟. قال مطمئن بالإيمان ، فقال : فإن عادوا فعد ... فنزلت الآية ... ، قال الراوي ـ ذلك عمار بن ياسر ] (٤٦).

ج ـ [ عن مجاهد عن ابن عباس قال : عذب المشركون عماراً حتى قال لهم كلاماً تقية .. فاشتد عليه .. الحديث ] (٤٧). وبهذا عدة روايات ، ويراجع جميع المصادر التفسيرية التي نقلنا عنها تفسير الآية.

٢ ـ الحديث المشهور بين الخاص والعام ، والذي استغني بشهرته عن سنده والمسمى بحديث الرفع.

[ عن النبي (ص) قال : رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] (٤٨) ...

٣ ـ ما رواه البخاري عن قتادة عن الحسن البصري قال : [ التقية الى يوم القيامة ] (٤٩).

وبرواية أخرى :

[ وصله حميد وابن ابي شيبة من رواية عوف الأعرابي عن الحسن البصري قال :

التقية جائزة للمؤمن الى يوم القيامة .. إلا أنه كان لا يجعل في القتل تقيه ] (٥٠).

ولفظ .. عبد بن حميد « الا في قتل النفس التي حرم

__________________

(٤٦) المصادر السابقة.

(٤٧) العسقلاني : فتح الباري ج ١٢ ص ٢٦٣.

(٤٨) الجصاص : احكام القرآن : ج ٥ ص ١٤.

(٤٩) صحيح البخاري : ج ٦ ص ٢٥٣٥. كتاب الاكراه. تحقيق الدكتور البغا.

(٥٠) العسقلاني : فتح الباري ج ١٢ ص ٢٦٤.


الله » بمعنى لا يعذر من اكره على قتل غيره ، ويكون يؤثر نفسه على غيره.

وبرواية القرطبي :

[ وقال الحسن : التقية جائزة للانسان الى يوم القيامة ولا تقية في القتل ] (٥١).

٤ ـ عن ابن مسعود أنه قال : ما كلام يدرأ عني سوطين إلا كنت متكلما به ] (٥٢).

٥ ـ [ عن ابن عباس قال : هو ان يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان ولا يقتل ولا يأتي مأثماً ] (٥٢).

٦ ـ في كتاب احكام القرآن : [ عن قتادة في قوله تعالى : ( لاَّ يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ ) قال : لا يحل للمؤمن ان يتخذ الكافر ولياً في دينه. وقوله ( إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) الا ان تكون بينه وبينه قرابة فيصله لذلك. ـ ثم يعقب ـ ... فجعل التقية صلة لقرابة الكافر ] (٥٤).

٧ ـ الرواية المشهورة في قصة مسيلمة الكذاب مع الصحابيين حيث قال الرسول (ص) بعد وصول خبرهما اليه : أما هذا المقتول فمضى على صدقه ويقينه واخذ بفضيلة فهنيئاً له ، واما الآخر فقبل رخصة الله .. فلا تبعة عليه.

__________________

(٥١) الجامع لاحكام القرآن. له : ج ٤ ص ٣٨.

(٥٢) المصدر السابق ج ١٠ ص ١٢٥.

(٥٣) القرطبي : الجامع لاحكام القرآن : ج ٤ ص ٣٨.

(٥٤) الجصاص : احكام القرآن ج ٢ ص ٢٩٠.


ويعلق عليها الجصاص كما علق على سابقتها بقوله : وفي هذا دليل على أن اعطاء التقية رخصة وان الأفضل ترك اظهارها. (٥٥)

وفي اعتقادي أن هذا القدر كاف في الإستدلال بالسنة النبوية وسنة الصحابة والتابعين ـ كما هو طرق الاستدلال بهذا الدليل عند إخواننا السنة ـ.

وهناك روايات كثيرة مورده الإكراه ـ بحسب لفظها ـ والذي نحن نبحث فيه ـ بما أنه محصل لموضوع التقية ـ كما سيتضح ذلك في باب ـ القواعد الثانوية ـ او عوارض الأهلية والترخيص.

ولا يبقى في هذا المبحث الا التنبيه على رفع الشك في الاستدلال بهذه الروايات ـ على تشريع التقية ..

ولا اظن أنني احتاج لسرد بعض الأدلة ـ أو الوجوه المنبهة ولو قليلا. ذلك لأنني تعمدت أن انقل عن المواضع التي استدل بها على ذلك. او اشتملت على لفظ التقية في منطوقها ـ كما في الروايات الاولى ... في قصة عمار ومن معه ..

بالاضافة الى ان مصادر النقل ـ كما هو الملاحظ ـ كانت من المصادر التفسيرية ـ وهي تستدل بهذه الروايات على تفسير الآية بهذا المورد ـ كما تقدم في آية الإكراه والتقية. وهذا أقوى دليل على التدليل على ما رمينا اليه.

٣ ـ الإجماع :

اذا عُدت التقية من الضرورات الواقعة طبق قواعد

__________________

(٥٥) المصدر السابق.


خاصة للشريعة فهي ـ حسب اعتباري ـ تدخل في الضروريات الإسلامية ، ولا يحتاج الاستدلال على جوازها أو وجوبها بالإجماع ، اذ أن الاجماع ناتج عن التواتر المسلم او القواعد العامة. وهو حاصل هنا ..

إلا أن الإجماع هنا ربما يطلب ... ليتبين الأتفاق على كون الموضوع الفلاني هو مما ينطبق عليه الكلي ـ وهو هنا ـ تطبيق التقية على الضرورة وجعلها احد مصاديقها ...

وبعد ذلك .. بعد تنقيح .. وتحصيل الإجماع ... يتبين أنه سيرة لجميع المسلمين عامة ... وقد يبحث بعد ذلك فيه بعنوان السيرة العملية التي ربما حصل الاتفاق على حجيتها ـ كما تقدم في بحث الإجماع عند الشيعة ـ.

وبأي شكل كان فهذه شذرات من كلمات العلماء الناصة على حصول الاجماع على ذلك ... والتي يتضح من خلالها الوجه التشريعي الأكمل لهذه المسألة بانضمام الإجماع الى المصادر التشريعية الأخرى.

١ ـ [ أجمع اهل العلم على أن من اكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالايمان ] (٥٦).

٢ ـ [ وانعقد إجماع العلماء على جواز اظهار الكفر لمن اكره عليه ... ابقاءا لنفسه بشرط اطمئنان القلب بالايمان.

مستنداً ـ هذا الإجماع ـ على هذه الآية الكريمة ـ ١٠٦ ـ

__________________

(٥٦) القرطبي : الجامع لاحكام القرآن ج ١٠ ص ١٨٠.


النجل ـ ، ومستنداً كذلك الى تقرير الرسول لعمّار على تلفظه بالكفر مكرها مع عدم الحكم عليه بالردة ] (٥٧).

٣ ـ [ قال ابن بطال ـ تبعاً لابن المنذر ـ : أجمعوا على ان من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل فكفر وقلبه مطمئن بالايمان انه لا يحكم عليه بالكفر ] (٥٨).

٤ ـ [ ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له ان يوالي ابقاءا لمهجته ] (٥٩).

٥ ـ [ فاذا أخذ المضطر بالرخصة ونطق بالكفر فلا إثم عليه بإجماع الفقهاء لان الآية صريحة بذلك ، وجاءت السنة النبوية وأكدت ما نطقت به الآية الكريمة ] (٦٠).

٤ ـ عوارض الأهلية والترخيص :

لا أظن أن أحداً ـ من المسلمين ـ بغض النظر عن علمائهم ـ يشك في وجود عوامل ثانوية تبدل الحكم الأولي المتوجه للانسان ـ في الحالات الاستثنائية ـ ، الا ان العلماء ربما اختلفوا في تسميتها ، لكن مفاد الجميع هو : أن عنوان الضرر العام موجب للانتقال الى الحكم الآخر ـ الذي أوجده المشرع الإسلامي. وإن اسميناه سابقا ب‍ ـ القواعد الثانوية ـ وعلماء السنة أسموه بعنوان آخر ، إلا ان السبب ـ كما قلنا هو العنوان الضرري وقاعدة رفع الحرج.

__________________

(٥٧) عيسى شقره : الاكراه واثره في التصرفات ص ١١٤.

(٥٨) العسقلاني : فتح الباري ج ١٢ ص ٢٦٤.

(٥٩) ابن كثير تفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٦٤٨.

(٦٠) زيدان : مجموعة بحوث فقهية ص ٢٠٨.


فعندما نراجع كلمات فقهاء اهل السنة والجماعة في عنوان هذه القواعد نجده لا يختلف عن مفاد ـ القواعد الثانوية عند الشيعة ـ وان افرد لها علماء السنة عنواناً خاصاً مفاده شمول القواعد للضرر وغيره ، وعلماء الشيعة جعلوا موضوع القواعد الثانوية ـ موارد الضرر وغيره ـ من لواحقه ـ ، لان لارتفاع التكليف ـ في غير باب الضرر ـ عناوين أخرى تنطوي تحتها الحالة الخاصة.

والعنوان الذي جعله علماء السنة والجماعة لرفع الحكم الاول والانتقال للحكم الاستثنائي .. الثانوي ـ هو :

عوارض الاهلية ....

وعرفوها بأنها :

[ ما يطرأ على الإنسان مما يؤثر في أهليته ـ بالازالة او النقصان ـ للأهلية ـ ومما يؤثر ـ في الأحكام الشرعية المترتبة عليها ـ الأهلية ـ بالتغيير او النقص ] (٦١).

[ وسميت هذه الأمور ـ التي تؤثر في تغيير الاحكام ... عوارض : لمنعها الأحكام ـ التي تتعلق باهلية الوجوب ، واهلية الاداء ـ عن الثبوت ] (٦٢).

وقد رُبط هذا الأصل بأصل آخر وهو : الرخصة في الحكم ، والترخيص بعد ثبوته.

وعرفت الرخصة التي مفادها ـ الترخيص ـ كما ذكرنا ـ بأنها :

__________________

(٦١) عيسى شقره : الاكراه واثره في التصرفات ص ٢٧.

(٦٢) المصدر السابق ص ٢٦. عن كشف الاسرار ج ٤ ص ٢٦٢.


[ ما شرع لعذر شاق استثناءا من اصل كلي يقتضي المنع مع الاقتصار على مواضع الحاجة ] (٦٣).

وأدلة عوارض الأهلية والرخصة متحدة ، وهي نفس الآيات والروايات التي اعتمدنا عليها في مستند القواعد ـ في بحث القواعد الثانوية ...

ف‍ [ لقد قامت احكام الشريعة على اصل عام هو اصل رفع الحرج ـ عن المكلفين ، تشهد بذلك عمومات الكتاب والسنة وجميع احكام الشريعة ، فمن نصوص الكتاب قوله تعالى :

« وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ » (٦٤).

وقوله تعالى :

« يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ » (٦٥).

ومن السنة قوله (ص) :

« إن هذا الدين يسر ، ولن يشاد الدين احد إلا غلبه »

وقوله (ص) : « بعثت بالحنيفة السمحة » (٦٦)

وجاء تشريع الرخص موافقا لهذا الأصل ومؤكدا له ، فان الغرض الذي من اجله شرعت : هو رفع الحرج عن المكلف المعذور ، وذلك بتغيير الحكم من الحرمة الى الإباحة لما في بقاء الحكم بالحرمة مع قيام العذر من مشقة وعسر ] (٦٧).

__________________

(٦٣) المصدر السابق ص ٢٩ عن موافقات الشاطبي ج ١ ص ٢٠٥.

(٦٤) الآية ٧٨ الحج.

(٦٥) الآية ١٨٥ البقرة.

(٦٦) البحاري ج ١ ، ص ٢٣ وعيسى شقره الاكراه ص ٣٠.

(٦٧) عيسى شقره ـ الاكراه ص ٣٠.


وهذه القواعد الثانوية أو الموجبة للعوارض لرفع الاهلية والترخيص ... تعم الأمثلة المتقدمة في هذا المضمار في البحث الموسع السابق ـ ، فان هذه القواعد ـ قواعد العسر والحرج ـ ترفع ـ الحكم ـ وترخص في الانتقال الى الاحكام الثانوية ..

سواء كانت موجبة للضرر بدون اكراه كما في التيمم واكل الميتة (٦٨) .... أو كانت في مورد توجه الاكراه والاضرار من الغير ... إذ

[ لا شك أن حالتي الضرورة والاكراه تعتبران من الاعذار التي تكون سببا للتخفيف عن المضطر او المكره دفعا للمشقة البالغة عنهما.

ـ فحالة الضرورة ـ [ هي : بلوغ الانسان حدا إن لم يتناول الممنوع هلك او قارب ، أو ـ هي ـ الحالة الملجئة لتناول الممنوع شرعا ] (٦٩).

ـ وحالة الاكراه هي :

[ اسم لِفعل يفعله المرء بغيره فينتفي به رضاه او يفسد به اختياره ] (٧٠).

[ فإن المكره المهدد بإلحاق الضرر به .. بقتله او بقطع عضو من اعضائه أو بحبسه مدة طويلة أو بضربه ضربا شديدا او بإتلاف ماله ... ، هذا المكره وهو تحت طائلة الخوف من أن يوقع به المكرِه ما هدد به إن لم يمتثل أمره وهو مع ذلك لا

__________________

(٦٨) المصدر السابق ص ٣٢.

(٦٩) عبد الكريم زيدان : مجموعة بحوث فقيهة ص ٢٤٦.

(٧٠) السرخسي : المبسوط ج ٢٤ ص ٣٨.


يجد فسحة للتخلص وإنقاذ نفسه إلا بان يرتكب المحرم المأمور بارتكابه فيشق عليه الصبر واحتمال الاذى ... فلا شك ان من هذه حالة يعتبر من اصحاب الاعذار الشديدة الشاقة التي تكون سبباً للترخيص اله او التخفيف عنه ، ولقد اعتبر الشارع الاكراه سبباً للرخصة في قوله : « إلا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان » ... وجاء في السنة قوله : « رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه .. ».

الا أن الفرق بين الضرورة والاكراه أنه : تعتبر حالة الضرورة أعم من حالة الاكراه.

فالاكراه صورة من صور الضرورة.

إن الاضطرار الى فعل المحرم نتيجة للخوف أو الهلاك أو وقوع الضرر الشديد بالمضطر قد يكون يتهديد الغير للمضطر ـ كما في الإكراه ، وقد يكون ناتجا عن ظرف طارىء قهري ، او عارض شديد .. كالمخمصة وشدة الحاجة والعطش .. وهذا اعم من تهديد الغير ..

إلا ان تهديد الغير بايقاع الضرر لا يعتبر ضرورة إلا إذا بلغ الضرر حد الهلاك أو قطع الأطراف او تفويت منافع الأعضاء ، إذ الضرر اذا لم يصل الى هذا الحد لا يكون ضرورة ملجئة ـ كما في حالة المخمصة والعطش الشديدين ـ ، ولذلك ينفرد الإكراه عن الضرورة في صور كالضرب الشديد الذي لا يفضي الى الهلاك أو إهانة ذوي المروءة ممن تعتبر الإهانة في حقهم ضرراً بالغاً. فهي صور اعتبرت في الإكراه إلا أنها لم
تعتبر في الضرورة ] (٧١).

وهذه الأمثلة ـ المتأخرة ـ كما هو واضح ـ مما نحن فيه ـ كما أسلفنا في مثل هذا البحث.

والخلاصة : أن هذه القواعد اباحت للانسان الانتقال عن الحكم المشرع ابتداءا ـ كما هو مفاد العزيمة (٧٢) ـ الى الحكم الثانوي ـ الاستثنائي ـ المرخص فيه ، وذلك بعنوان ما ارتكزت عليه وهو حصول الضرر وطروء الرافع للأهلية السابقة.

وبعد هذا البيان الموسع ـ والذي أطلنا فيه مع كونه اوضح من أن يخفى ـ خصوصا بعد البيان السابق ـ في نفس المبحث ـ وذلك إمعاناً لإظهار صور الاتفاق واتحاد الإستدلال بهذه القواعد ..

بعد هذا كله نحاول أن ننقل كلمات الفقهاء والبحاث من طرف اهل السنة والجماعة ـ التي توضح خضوع هذا الفرع الفقهي لقواعد الضرر ـ الثانوية ـ وقواعد الرخصة ـ الاستثنائية ـ.

والعبارات التي اطلعت عليها كانت أوضح من كلمات الشيعة في ذلك ..

وهذه جملة منها :

١ ـ [ التقية جائزة لصون النفس ـ وهل هي جائزة لصون المال ؟ .. يحتمل أن يحكم فيها بالجواز ].

٢ ـ [ وهذا القول أولى ـ وهو عموم التقية لجميع

__________________

(٧١) عيسى شقره : الإكراه واثره في التصرفات ص ٣٥ ، ٣٦.

(٧٢) المصدر الساق ص ٣١. عن اصول السرخسي ج ١ ص ١١٧.


الأزمان ـ لان رفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان ] (٧٣).

٣ ـ [ وهي ـ التقية ـ من الرخص لأجل الضرورات العارضة. لا من أصول الدين المتبعة دائما ] (٧٤).

٤ ـ [ وكل ذلك من باب الرخص لأجل الضرورات العارضة ـ لا من اصول الدين المتبعة دائما ].

٥ ـ [ أنها مشروعة لاجل المحافظة على النفس والعرض والمال ] (٧٥).

٦ ـ [ التقية عند الخوف على النفس أو المال أو التعرض للأذى الشديد ] (٧٦).

٧ ـ [ والتقية لا تحل إلا مع خوف التقل او القطع او الايذاء العظيم ] (٧٧).

٨ ـ [ لا بأس باستعمال التقية ، وأنه يرخص له في ترك بعض ما هو فرض عند خوف التلف على نفسه ] (٧٨).

٩ ـ [ يعني أن تخافوا تلف النفس أو بعض الأعضاء فتتقوهم بإظهار الوالاة من غير اعتقاد ] (٧٩).

١٠ ـ [ وقيد الفقهاء جواز إظهار الكفر بالاكراه

__________________

(٧٣) الفخر الرازي : التفسير ج ٨ ص ١٤.

(٧٤) المراغي : التفسير : ج ١ ص ١٣٧.

(٧٥) محمد رشيد رضا : تفسير المنار ج ٣ ص ٢٨٠.

(٧٦) الصابوني : تفسير آيات الاحكام ج ١ ص ٤٠٤.

(٧٧) القرطبي : الجامع لاحكام القرآن ج ٤ ص ٣٨.

(٧٨) السرخسي : المبسوط ج ٢٤. ص ٤٧.

(٧٩) الجصاص : احكام القرآن ج ٢ ص ٩.


عليه ... قيدوه بحالة الضرورة بأن يضطر المكره الى إظهار الكفر لوقوعه تحت طائلة الخوف مما يتهدد حياته بالقتل او أحد أعضائه بالتلف والقطع ] (٨٠).

__________________

(٨٠) عيسى شقره : الاكراه .. ص ١١٨.



٥ ـ هل أن التقية في القول فقط ؟!

لقد اتضح من طيات ما تقدم في مصادر تشريع التقية أن اصل تشريع التقية من المسلمات التي لا أحد يشك فيها.

وهذا القدر ـ في الواقع ـ كاف في وضوح صورة الإشتراك ـ في واقعها وفي كونها شاملة لكل ما يسمى ـ للإنسان ـ فعلا ـ من قول أو فعل ـ.

الا انه ربما توحي بعض النصوص الى ان التقية إنما تكون في القول خاصة ، ولا يصح اجرائها في الأفعال بل يعتبر فيها ـ على ما وردت به الآية ـ « وقلبه مطمئن بالإيمان » مقابل القول ... أن تكون في القول دون الفعل ، وهكذا تفسير بعض الصحابة كتفسير ابن عباس .. إنما التقية باللسان والقلب مطمئن بالإيمان ... او كقول ابن مسعود ... ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان الا كانت متكلماً به.

إلا أن الواقع خلاف ذلك تماماً ... بل لابد من القول بشمول التقية للقول والفعل ... وذلك لعدة أمور :

١ ـ التعليل الذي اعتمد عليه في إجازة العمل بالتقية ـ طبقا للترخيص ـ وهو الضرورة.

فاذا كان المناط هو الضرر ، وكان هو احد اصول تشريعها. فلا معنى لحصرها على القول فقط ... إذ ان
الفعل مما يحصل معه ـ موضوعها ـ وهو تحقق الضرر ..

ونحن نعلم ان من المسلمات ـ بين المسلمين قاطبة ـ ان المناط والملاك عند الشيعة ـ او العلة في القياس عند السنة موجب لتعدية الحكم الى جميع ما يشمله انطباق الملاك عليه او وجود العلة فيه ، وهنا لا يعدو ان يكون كذلك ، فان الملاك او المناط ـ والعلة. متوفرة هنا ـ في الفعل ـ وهو حصول الضرر فلا بد من شموله.

٢ ـ ذكر في تعريف التقية ـ على بعض التعريفات ـ كما أوضحنا في الخلاصة ـ أن التقية : هي ما يقال أو يفعل ... مخالفا للحق .. أو بأن يفعل الانسان ما يخالف الحق ..

وكما هو الظاهر من هذه التعاريف ـ عمومها للقول والفعل ..

٣ ـ نصوص بعض المفسرين وغيرهم من علماء السنة ـ بل اكثر مفكريهم ـ على شمول التقية للقول والفعل ، واكثر من هذا فقد اتبع اكثرهم طريق الاستدلال على الشمول والرد على من يخالف ذلك ... وهذه مقتطفات من اقوالهم :

١ ـ [ ولا فرق بين الاكراه على القول والفعل عند الجمهور ] (٨١).

ويشير الى هذا الخلاف ـ في موضع آخر :

[ وقال قوم : محل الرخصة في القول دون الفعل ... كأن يسجد للصنم ، او يقتل مسلما ، أو يأكل الخنزير أو يزني ... وهو قول الأوزاعي وسُحنون.

__________________

(٨١) العسقلاني : فتح الباري ج ١٢ ص ٢٦٢.


وأخرج اسماعيل القاضي بسند صحيح عن الحسن أنه : لا يجعل التقية في قتل النفس المحرمة.

وقالت طائفة : الاكراه في القول والفعل سواء ] (٨٢).

وفي موضع آخر يوجه ذكر البخاري لحديث ـ الأعمال بالنيات ـ هنا في باب الإكراه فيقول :

[ وكأن البخاري أشار ـ بإيراده هنا ـ الى الرد على من فرق في الإكراه بين القول والفعل ... لإن العمل فعل ..

وإذا كان لا يعتبر الا بالنية ـ كما دل عليه الحديث ـ فالمكره لا نية له بل نيته عدم الفعل الذي اكره عليه ... ]

ويؤيد هذا بعد قليل بنقله عن ابن المنير ... [ بأنهم اكرهوا على النطق بالكفر وعلى مخالطة المشركين ومعاونتهم ... وترك ما يخالف ذلك ... والتروك افعال ـ على الصحيح ـ .... ولم يؤاخذ بشيء من ذلك ] (٨٣).

٢ ـ [ الخامسة : ذهبت طائفة من العلماء الى أن الرخصة إنما جاءت في القول ، واما الفعل فلا رخصة فيه .. مثل ان يكرهوا على السجود لغير الله والصلاة لغير القبلة ، أو قتل مسلم أو ضربه أو أكل ماله ، أو الزنى وشرب الخمر وأكل الربا ... يروى هذا عن الحسن البصري ، وهو قول الأوزاعي وسُحنون من علمائنا ..

وقال محمد بن الحسن : اذا قيل للأسير ... اسجد لهذا الصنم والا قتلتك. فقال : إن كان الصنم مقابل القبلة

__________________

(٨٢) المصدر السابق ص ٢٦٤.

(٨٣) المصدر السابق ص ٢٦٥.


فليسجد لله وتكون نيته لله تعالى ، وان كان لغير القبلة فلا يسجد وإن قتلوه ..

والصحيح أنه يسجد وان كان لغير القبلة ، وما احراه بالسجود حينئذ ].

وهذا ظاهر في شمولها للافعال ...

ويعقب بذكر بعض إدلة المانعين لشمولها للقول والفعل ... فيقول :

واحتج من قصر الرخصة على القول ... بقول ابن مسعود ... ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان الا كنت متكلما به ... فقصر الرخصة على القول ولم يذكر الفعل ..

ويرده بقوله : وهذا لا حجة فيه ، لانه يحتمل أن يجعل للكلام مثالا وهو يريد أن الفعل في حكمه ....

وقالت طائفة : الاكراه في الفعل والقول سواء إذا أسر الايمان .... روي ذلك عن عمر بن الخطاب ومكحول ... وهو قول مالك وطائفة من اهل العراق ...

روي ابن القاسم عن مالك : ان من اكره على شرب الخمر وترك الصلاة أو الإفطار في رمضان أن الاثم عنه مرفوع ] (٨٤).

٣ ـ [ وذهب الحسن البصري والأوزاعي والشافعي وسُحنون الى ان هذه الرخصة المذكورة في الآية إنما جاءت في

__________________

(٨٤) القرطبي : الجامع لاحكام القرآن ج ١٠ ص ١٢٠.


القول ، واما في الفعل فلا رخصة مثل ان يكره على السجود لغير الله ...

ـ ثم يورد على هؤلاء ...

ويدفعه ظاهر الآية ، فإنها عامة فيمن اكره من غير فرق بين القول والفعل ...

ولا دليل لهؤلاء ـ القاصرين للآية على القول ، وخصوص السبب ـ الموجب هنا للرخصة ـ وهو القول ـ لا اعتبار به مع عموم اللفظ ـ لفظ الآية ـ كما تقرر في علم الاصول ] (٨٥).

٤ ـ [ واذا اكرهه انسان على الإتيان بما هو كفر قولا أو فعلا ... كالسجود لصنم مع طمأنينة القلب بالايمان وكراهية الكفر ... ] (٨٦).

٥ ـ [ ولقد اجازت الشريعة السمحاء اظهار الكفر قولا وعملا عند الإكراه عليه ] (٨٧).

٦ ـ ما سيأتي ـ في مباحث التقية في الفروع ـ كما اشار اليه القرطبي قبل قليل ، وكذلك استثناؤهم القتل والزنا من موارد التقية ـ وهي قطعا من الافعال ـ ، ولو كانت التقية منحصرة في الأقوال لما كان معنى لاستثناء الافعال ... لانها خارجة تخصصا ....

__________________

(٨٥) الشوكاني : فتح القدير ج ٣ ص ١٩٧.

(٨٦) الجزيري : الفقه على المذاهب الاربعة ج ٥ ص ٢٨٩.

(٨٧) عيسى شقرة : الإكراه واثره في التصرفات ص ١١٨.



٦ ـ التقية جائزة الى يوم القيامة ...!!

عندما يخضع الحكم لدليل عام فلا يمكن ان يقيد بحال من الأحوال ولا بزمن من الازمنة ـ خارج دليله ـ بل لابد أن يكون طبقا لدليله .. في العموم والخصوص ... ليعم الحالات التي توجد فيها ... عته وسببه ... ودليله ومناطه ...

فاذا كان حكم الشرع خاضعا للقواعد العامة ، وخاضعا لعنوان الضرر فلا فرق في موضع انطباقه بين حالة وأخرى ...

وقد مضى أن التقية خاضعة لعنوان الضرر ، وهو يُوجِد حكمه اينما وجد ... وعلى هذا.

فلا فرق ـ في حكم جواز التقية بين ... ضعف الإسلام ولا شدته ، ولا بين اول الاسلام ولا عزته ... فكما تصح التقية في ضعف الاسلام كذلك عند قوته ... اذا وجد الظرف الموجب لذلك ...

فعلى هذا قول :

[ مجاهد : هذا الحكم كان ثابتا في أول الاسلام لاجل ضعف المؤمنين فأما بعد قوة الاسلام فلا ... ] فيرده. ما [ روى عوف عن الحسن انه قال : التقية جائزة للمؤمنين الى
يوم القيامة. وهذا القول ـ الذي يقوله الحسن البصري ـ اولى ، لان دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الامكان ] (٨٨).

فلابد من القول بعموم التقية لكل الأزمان ... ذلك لوجود السبب الموجب لها وهو دفع الضرر ..

وهذه ناحية من نواحي شمولها ... والاخرى شمولها لجميع الاحوال وهي المسألة الأهم ... المراد اثباتها هنا ...

ذلك انه أدُعي أن ...

[ ظاهر الآية يدل على أن التقية انما تحل مع الكفار الغالبين ] (٨٩). ولا يجوز استعمالها مع المسلمين.

وفي تصوري أن المانع هو ... عدم تصور موضوع للتقية ، ذلك أن القاعدة الاساسية للمسلمين أنهم ابناء اسرة واحدة وابناء دستور واحد ، فلا يمكن أن يوجد بينهم من يجبر الآخر على العمل المخالف للحق ، او خلاف ما يراه المكره ...

وهذا التصور خاطىء في حد ذاته وإن كان ينبغي ان يكون عليه واقع المسلمين إلا انه لم يحصل .... وذلك لما يأتي بعد قليل ـ في بحث [ كيف نشأت الحاجة للتقية بين المسلمين ] المضمن بالشواهد التاريخية الواقعة بين المسلمين.

فلذلك قيل ـ

[ أن مذهب الشافعي (رض) : أن الحالة بين المسلمين

__________________

(٨٨) الرازي : التفسير ج ٨ ص ١٤.

(٨٩) نفس المصدر السابق.


اذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة للنفس ] (٩٠).

وذلك تحت إطار ما اوضحناه .. من عموم المناط وشموله لهذه الحالة.

ف‍ [ التقية كما تجوز مع الكفار تجوز مع غيرهم اذا وجد الاضطرار دفعا لتلف النفس بغير حق ـ من قبل ظالم باغ ينتسب للاسلام.

قال الإمام السرخسي في مبسوطه : لا بأس باستعمال التقية وأنه يرخص له في ترك بعض ما هو فرض عند خوف التلف على نفسه.

ولم يشترط السرخسي لجواز استعمالها ـ مع الكفار ـ وانما جعل مناط استعمالها خوف التلف على النفس.

وقال الامام الجصاص ـ وهو يتكلم عن النطق بالكفر عند الاكراه ـ

واعطاء التقية في مثل ذلك انما هو رخصة من الله تعالى ..

وهذا ـ أيضا ـ يدل على ما دل عليه كلام السرخسي ، وهو جواز استعمالها حيث وجد الاضطرار اليها ] (٩١).

__________________

(٩٠) نفس المصدر السابق.

(٩١) عبد الكريم زيدان : مجموعة بحوث فقهية ص ٢١٣.

وانما نقلنا هذا المقطع عنه ـ مع وجود المصدرين عندنا ـ لنبين وجه الاستفادة من كلامهما



ـ ٣ ـ

خلاصة البحث التشريعي

بعد أن قطعنا هذا الشوط الطويل في البحث التشريعي للتقية .. نقف على النتائج الحتمية لهذا البحث :

١ ـ التقية فرع من فروع الدين شُرع لحالات خاصة.

٢ ـ دلالة المصادر التشريعية الاسلامية ـ المسلمة عند المسلمين ـ على تشريعها :

أ ـ الكتاب العزيز ... باربع آيات حسب نص علماء السنة عليها.

ب ـ السنة النبوية وسنة الصحابة والتابعين حسب تسليم علماء السنة لحجية ذلك ـ كما في البحث نفسه ـ بالاضافة الى عموم السنة ـ من قول النبي (ص) وتقريره.

ج ـ الإجماع الذي تقدم نقله عن العلماء ، بل ـ كما يستضح من طيات البحوث الآتية ـ اجماع العلماء القولي والعملي على ذلك.

٣ ـ خضوع التقية للضرر ... اذ لا تقية عند انتفاء الضرر.

٤ ـ إنما شرعت التقية لأجل دفع الضرر عن الإنسان بواسطة أي فعل يطلب منه.


٥ ـ عموم التقية للقول والفعل ... على اي كيفية يطلب منه.

٦ ـ عموم التقية لكل الازمان والأحوال ... بين الكفار ... ام بين المسلمين ـ كما سيؤكد ذلك البحوث الآتية.

٧ ـ الاكراه هو الموجد لموضوع التقية ، وهو يحقق الضرر والخوف على النفس فتأتي التقية ...

وبالتالي .. نحصل على النقطة الأهم لتكون نتيجة حتمية لذلك وهي :

أن التقية تساوي الإكراه الفعلي ، حيث أنها لدفع الضرر المتوجه اليه بالإكراه ، فالاكراه سابق على التقية ... لانه موجد لموضوعها ..

فاينما وجدت التقية وجد الاكراه ..

والمكره .. الذي يتحقق فيه الاكراه ... ويجوز له العمل بالتقية طبقا للاكراه المتحصل ... هو من ينجو مما هدد به بالاقدام على ما طلب منه ... (٩٢).

وللتلازم القائم بين الاكراه والضرر فكل موضوع يكون فيه اكراه ويكون فيه ضرر ... فهو موضوع للتقية.

وبالتالي ... اي مورد يكون فيه اكراه فيمكن ان يكون موضوعا للتقية وذلك حسب اختلاف موارد العمل بها.

وبهذا نحصل على نتيجة أُخرى وهي :

__________________

(٩٢) السرخسي : المبسوط ج ٢٤ ص ٦٨.


أن بين الإكره ـ من جهة صحة العمل طبق التقية ، وعدم صحة العمل ـ وبين التقية عموم مطلق :

فكل تقية لا بد فيها من إكراه ...

وليس كل إكراه يجب فيه التقية ... (٩٣).

حيث أن من الإكراه مالا يجوز الإقدام عليه ... اي يحرم العمل بالتقية فيه ـ كما سيأتي في مبحث ـ التقية والأحكام الخمسة ..

وبهذا ... فكل مورد فيه إكراه وجاز فيه الاقدام على دفع الإكراه فهو ... تقية ...

ومن الآن فلنعتبر .. الإكراه مساوقاً للتقية في موارد جواز دفع الإكراه ...

ولوضوح ذلك اكثر ... نلتمس من القارىء مراجعة المبحث الذي عقبنا به آية الاكراه ... « اكراه ام تقية ؟ » ..

__________________

(٩٣) الجصاص : احكام القرآن ج ٥ ص ١٦. والزحيلي نظرية الضرورة الشرعية ص ٢٨٣.



ـ ٤ ـ

بحوث متفرقة

١ ـ ما مقدار الضرر في التقية ؟

مما يكشف عن كون التقية خاضعة لعنوان الضرر ، وأنها تدور مداره ... بحثهم في مقدار الضرر ...

فكما بحثنا هناك في ـ التقية عند الشيعة ـ في الضرر النوعي والضرر الشخصي وما هو المبيح للتقية، وهل يجعلان مبيحان للعمل بالتقية ...

فقد بحث علماء السنة هنا في مقدار الضرر الذي يبيح العمل بالتقية والتلفظ بالكفر وغيره بعد تحقق الاكراه ...

والبحث هنا قد عنونه بعضهم ... والبعض الآخر لم يعنونه ...

إلا أنهم اختلفوا ـ اولا ـ في مقدار الضرر ... وثانيا في فعلية الضرر ...

فأما أولا ...

فقد اختلفوا فيما يُهدد به ، فاتفقوا على ان القتل وإتلاف الأعضاء والضرب الشديد ، والحبس الطويل ... مبيح للعمل بالتقية ... واختلفوا في الضرب اليسير والحبس كيوم أو يومين ... (١)

__________________

(١) العسقلاني : فتح الباري ج ١٢ ص ٢٦٢.


و [ بسند صحيح عن عمر : قال : ليس الرجل بآمن على نفسه اذا سجن او أوثق او عذب ...

ومن طريق شريح نحوه وزيادة ... ولفظه

اربع كلهن كره ... السجن والضرب والوعيد والقيد ...

وعن ابن مسعود قال : ما كلام يدرأ عني سوطين الا كنت متكلما به ...

وهو قول الجمهور ..... ] (٢)

فالاكراه الذي يجوز عنده عمل المحظور ..

[ هو ان يعذبه بعذاب لا طاقة له به .. مثل التخويف بالقتل ومثل الضرب الشديد والايلامات القوية ... ] (٣)

وفي العبارة السابقة معيار للضرر النوعي ، وربما يستشف من هذه العبارة الاشارة للضررين عند قوله ... لا طاقة له به ... وفي تعقيبه بالتمثيل ... اشارة للنوعي .. ، وهذا ما يمكن ان يستفاد من كثير من العبائر ... فقد :

[ قال النخعي : القيد إكراه والسجن اكراه ..

وهذا قول مالك ، الا أنه قال : والوعيد المخيف إكراه ... وإن لم يقع اذا تحقق ظلم ذلك المعتدي وانفاذه لما يتوعد به ..

وليس عند مالك واصحابه في الضرب والسجن توقيت ، إنما هو ما كان يؤلم من الضرب ... ، وما كان من

__________________

(٢) المصدر السابق ص ٢٦٥.

(٣) الرازي : التفسير ج ٢٠ ص ١٢٣.


السجن مدخل من الضيق على المكره ، وإكراه السلطان وغيره عند مالك إكراه ... ] (٤).

واما في البحث الثاني وهو اشتراط فورية الضرر ... فقد ذكر البعض أنه انما يشترط على نحو :

[ أن يحصل في الواقع خوف الهلاك ، او التلف على النفس او المال ، وذلك بغلبة الظن حسب التجارب ... ، او يتحقق من وجود خطر حقيقي على احد الضرورات الخمسة التي ذكرناها ، والتي صانتها جميع الديانات والشرائع السماوية ، وهي الدين والنفس ، والعرض والعقل والمال ... فيجوز حينئذ الاخذ بالاحكام الاستثنائية لدفع الخطر ، ولو أدى ذلك الى اضرار الآخرين ... عملا بقاعدة .. ( اذا تعارض مفسدتان روعي اعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما ) ].

فاذا لم يخف الانسان على شيء مما ذكر لم يبيح له مخالفة الحكم الأصلي العام من تحريم أو إيجاب ... ] (٥).

وبهذا يتضح لنا ان المعيار ليس هو فعلية الضرر ... كما يراه البعض كالسيوطي (٦). بل المعيار هو ... خوف الضرر وغلبة الظن بحصوله ... ولو بعد سنة ... ولا معيار للفعلية او التأجيل ـ كما تقدم في قول مالك ـ اذا تحقق ظلم المعتدي ...

ونستنتج من ذلك ...

__________________

(٤) القرطبي : التفسير ج ١٠ ص ١٢٥.

(٥) وهبة الزحيلي : نضرية الضرورة الشرعية ص ٦٩.

(٦) الاشباه والنظائر له : ص ٢٣٠.


١ ـ ان الاكراه الموجب للعمل بالتقية ... انما هو الضرر المعتد به ... كالقتل والقطع وغيره.

بالاضافة الى أنه هناك اختلاف في مقداره بحسب الموارد ... (٧)

٢ ـ ان المعيار هو حصول الظن او اليقين بحصول الضرر ...

٣ ـ أن فعلية الضرر غير معتبرة ، بل مجرد العلم بوقوعه ولو بعد فترة طويلة ، والمهم أن يكون ظن معتبر بوقوع الضرر ... (٨).

٢ ـ لا تقية عند التورية والتخلُّص :

لقد مر بما لا مزيد عليه الاستدلال على أن التقية إنما تباح عند الضرر المقطوع او المتوقع الحاصل من الإكراه ...

فعلى هذا يدور الحكم مدار وجود الضرر وتحققه ، فاذا أمكن المكلف التخلص من هذا الضرر ـ بإي وسيلة كانت ـ فلا يصح له العمل بالتقية ، لان التقية إنما تكون لدفع الضرر المتوجه اليه ، واذا امكنه التخلص من الضرر بطريقة أخرى فلا تباح له التقية ... لان رتبة التقية متأخرة عن نفاذ جميع الطرق الاخرى للتخلص من الضرر.

وهذه هي المسماة ... بالمندوحة ...

__________________

(٧) السيوطي : الاشباه والنظائر ص ٢٢٩.

(٨) وهبة الزحيلي : نظرية الضرورة الشرعية ص ٦٩.

وفيه بيان لمعنى كون الضرورة فعلية وقائمة حيث اعتبر فعليتها .. حصول العلم او الظن بحصول الضرر. والسيوطي : والأشباه والنظائر ص ٢٢٩.


ولهذه المندوحة ... عدة طرق ..

فتارة تحصل بواسطة التورية ، فيدفع الضرر بالتورية ، فيكون له مندوحة عن الوقوع في الضرر بالإتيان بالحكم الاول بواسطة التورية.

وتارة تكون المندوحة بواسطة التخلص بغير التورية.

وهذا القسم ـ الثاني ـ أوضح في التنصيص على المندوحة من الأول.

وقد اشترط كثير من علماء السنة امكان التخلص في العمل بالتقية.

والجم الغفير ـ منهم ـ نص على اشتراط التورية.

فمن الاول :

١ ـ [ ألا توجد أمام المكرَه وسيلة إلا ارتكاب الجريمة ـ المحرمة ـ ، فان كان هناك وسيلة أخرى فعلية ان يتوسل بها ] (٩).

ويظهر ان هذا الاشتراط صريح عند الشافعية حيث بنص اكثر من واحد على ذلك. كما في هذا النص :

٢ ـ [ عجز المكرَه عن رفعه بهرب أو استغاثة او مقاومة ] (١٠).

ومن الثاني وهو النص على التورية والتخلص بها ... ما يلي :

١ ـ [ فابيح له ـ في هذه الحال ـ أن يظهر كلمة الكفر

__________________

(٩) محمد القيعي : نظرة القرآن الى الجريمة والعقاب ص ١٨٥.

(١٠) السيوطي : الاشباه والنظائر ص ٢٢٩.


ويعارض بها غيره ... إذا خطر ذلك بباله ، فان لم يفعل ذلك مع خطوره بباله كان كافرا.

قال محمد بن الحسن :

اذا اكرهه الكفار على أن يشتم محمداً (ص) ، فخطر بباله ان يشتم محمداً آخر غيره فلم يفعل ... وقد شتم النبي (ص) كان كافراً ، وكذلك لو قيل له لتسجدن لهذا الصليب ، فخطر بباله أن يجعل السجود لله فلم يفعل وسجد للصليب كان كافراً.

فإن أعجلوه عن الرويّة ولم يخطر بباله شيء وقال ما اكره عليه أو فعل لم يكن كافراً ... اذا كان قلبه مطمئناً بالإيمان ..

قال أبوبكر ـ معللاً ـ :

وذلك ... لانه اذا خطر بباله ما ذكرنا ... فقد أمكنه أن يفعل الشتيمة لغير النبي (ص) « اذا » إذ لم يكن مكرها على الضمير.

وإنما كان مكرها على القول وقد أمكنه صرف ضمير الى غيره ، فمتى لم يفعل فقد اختار اظهار الكفر من غير اكراه ... فلزمه حكم الكفر ] (١١).

وبعبارة أوصح :

٢ ـ [ أجمعوا على : أن عند ذكر كلمة الكفر يجب عليه ... وأن يقتصر على التعريضات ...

وههنا بحثان :

البحث الاول : أنه اذا اعجله من اكرهه عن إحضار

__________________

(١١) الجصاص : احكام القرآن ج ٥ ص ١٣.


هذه النية ، أو لأنه لما عظم خوفه زال عن قلبه ذكر هذه النية ... كان ملوما ، ... وعفو الله متوقع.

البحث الثاني : لو ضيق المكره عليه ، وشرح له أقسام التعريضات ، وطلب منه أن يصرح بان ما اراد شيئا منها ، وما اراد إلا ذلك المعنى فههنا يتعين ...

اما التزام الكذب واما تعريض النفس للقتل ، فمن الناس من قال يباح له الكذب هنا ، ومنهم من يقول : ليس له ذلك ، وهو الذي اختاره القاضي ] (١٢).

ويظهر من هذه النصوص اشتراط التورية ... او التخلص من الضرر مع امكانهما.

فانه عند امكان التورية يستطيع أن يدفع الضرر بواسطة التورية ، واما عند عدم إمكان التورية ... والذي ينتفي بها المندوحة. اذ ليس له طريق لدفع الضرر إلا التقية.

وعدم امكان التورية على أنحاء :

اما لعدم خطور ما يوري به بباله.

او لعدم إمهال المكرِه له.

او لسد ابواب التورية عليه ... فلا يبقى له طريق إلا العمل بالتقية.

او لعدم امكان التورية ... لانتفاء موضوعها. فان ..

[ هناك صورة لا تحتمل التورية كالاكراه على إلقاء

__________________

(١٢) الرازي : التفسير ج ٢٠ ص ١٢٤.


المصحف في القذر والنجاسة فلا يمكن للمكرَه على ذلك أن يوري بشيء ] (١٣).

والخلاصة من ذلك :

١ ـ لا يجوز العمل بالتقية اذا أمكن رفع الضرر بغيرها.

٢ ـ التخلص والتورية طريقان يدفع بواسطتهما الضرر ، فهما مقدمان على التقية.

٣ ـ اذا انغلق عليه باب التورية ، وانسد عليه كل الطرق التي يتخلص بها ـ كما في ما لا تورية فيه ـ جاز له العمل بالتقية لعدم وجود المندوحة من ارتكاب نفس الحكم المحرم.

وبالتالي يتضح ...

أنه عند الإكراه هناك طريقان لدفع الضرر الحاصل من الاكراه.

١ ـ ان يوري أو يتخلص بطريقة أخرى.

٢ ـ أن يأتي بالتقية حيث أنها الطريق الاخير لرفع الضرر وعند العمل بها لا ضرر ولا إكراه ، لانها ترفع موضوع الاكراه. إذ ...

[ لا ضرورة في حال إمكان الإتقاء ، لأن الغرض أن الضرورة تتنافى مع الإمكان ] (١٤).

٣ ـ التقية والأحكام الخمسة :

لقد نص الفقهاء والمفسرون على أن التقية خاضعة

__________________

(١٣) عيسى شقره : الاكراه ... ص ١١٧.

(١٤) محمد القيعي : نظرة القرآن الى الجريمة والعقاب ص ١٨٩.


للاحكام الخمسة التشريعية ... ويستفاد ان ذلك اجماع منهم ... وإن اختلفوا في مصاديق كل حكم من الأحكام ... واي مثال ينطبق عليه الحكم المعين ..

[ فأحكام الإكراه مختلفة على الوجوه التي ذكرنا :

١ ـ منها : ما هو واجب فيه اعطاء التقية ، وهو الإكراه على شرب الخمر واكل الميتة ، ونحو ذلك مما طريق حظره السمع.

٢ ـ ومنها : مالا يجوز فيه إعطاء التقية ، وهو الاكراه على قتل من لا يستحق القتل ، ونحوه الزنا ، ونحو ذلك مما فيه مظلمة لآدمي ولا يمكن استدراكه.

٣ ـ ومنها : ما هو جائز له فعل ما اكره عليه ، والافضل تركه ، كالاكراه على الكفر وشبهه ] (١٥).

فهنا خضعت ـ التقية ـ لاربعة أحكام ... الأول الواجب .. والثاني المحرم والثالي الإباحة. والرابع .. الكراهة ـ اذ الافضل تركها ...

وبعضهم جعل هذا الحكم تبعاً لمراتب الإكراه ..

فالأولى : ان يجب الفعل عليه ... كالمثال السابق.

والثانية : أن يصير الفعل مباحاً ولا يصير واجباً ـ كسابقه.

والثالثة : لا يجب ولا يباح بل يحرم .. كالقتل (١٦).

وآخرون جعلوا من مواضع تحريم التقية .. فيما اذا

__________________

(١٥) الجصاص : احكام القرآن ج ٥ ص ١٦.

(١٦) الرازي : التفسير ج ٢٠ ص ١٢٤.


كان ـ المهدد ـ المكرَه من تكون منزلته مهمة كالانبياء ومن يقتدي بهم الناس ... حيث قيل :

[ والأنبياء لا يجوز لهم استعمال التقية فيها يخص الدعوة ] (١٧).

وهذا القيد الأخير يُفيدنا في تعدي الحكم عن موضعه حيث أنه في غير ما يخص الدعوة يجوز له ذلك ـ كما في اختفاء النبي (ص) عن قريش تقية .. وفي قصة موسى ... فخرج منها خائفاً يترقب.

واما في الحكم الخامس وهو استحباب العمل بالتقية .. فقد

[ قيل الأفضل التلفظ بالكفر صيانة لنفسه.

وقيل ... إن كان ممن يتوقع منه النكاية في العدو والقيام باحكام الشرع فالافضل التلفظ لمصلحة بقاءه ] (١٨).

ويوضح ـ آخر ـ هذا المورد :

[ قيل : إن كان من العلماء المقتدى بهم فالافضل الثبات على الإيمان مهما كان التخويف ، فإن قتل مات شهيداً ـ كما قال رسول الله (ص) « من قتل دون دينه فهو شهيد » ، وحتى يكون قدوة لغيره من الناس ] (١٩).

والنتيجة من ذلك كله :

أن التقية تخضع للاحكام الخمسة التشريعية بحسب موارد الضرر ..

__________________

(١٧) السرخسي : المبسوط ج ٢٤ ص ٤٥.

(١٨) السيوطي : الاشباه والنظائر ص ٢٢٧.

(١٩) الجزيري : الفقه على المذاهب الأربعة ج ٥ ص ٢٨٩.


هذا من جهة ..

ومن جهة أخرى :

إذا كان المورد الذي اكره عليه سمعياً وجبت فيه التقية ـ مع تحقق الضرر ـ

وإذا كان وجوبه عقليا ـ استحب له ـ صونا للنفس ـ العمل بالتقية .. وقيل يكره ..

واذا كان له أهمية في اوساط المسلمين ... في مقابلة العدو ـ استحب له العمل بالتقية.

وإذا كان له أهمية في إقتداء المسلمين به .. فالتقية مع الضرر .. مكروهة له ... والأفضل تحمل الضرر ليكون قدوة للناس ـ كما سيأتي في فعل الإمام أحمد بن حنبل في ـ محنة خلق القرآن ـ.

٤ ـ لا تقية في الدماء :

كما استثنت الشيعة موارد خاصة من التقية كذلك استثنت علماء السنة موارد خاصة نصوا على عدم جريان التقية فيها ..

١ ـ لا تقية في القتل .. فلو اكرهه ظالم على قتل شخص لم يجز له العمل بالتقية وقتل هذا الشخص ... (٢٠).

٢ ـ شهادة الزور ، وقد فصل العلماء فيها فان كانت تقتضي قتلا أو قطعا ... الحقت بالقتل فلا تأتي فيها

__________________

(٢٠) الجصاص : احكام القرآن ج ٥ ص ١٦. والسيوطي : الاشباه والنظائر ص ٢٢٥. ووهبة الزحيلي : نظرية الضرورة الشرعية ص ٩٢. وعيسى شقره : الاكراه وأثره في التصرفات ص ٢٠٥ فما فوق.


التقية ... (٢١)

٣ ـ الزنا ... وقد اختلف في إمكان الإكراه حتى تأتي التقية اولا ... على اختلاف في سبب المنع ... فقد قيل ان مفسدة الزنا أفحش من الصبر على القتل ... (٢٢) ، وقيل لعدم امكان الانتشار للآلة والإدخال مع الاكراه الموجب للخوف الشديد ... (٢٣)

٤ ـ الاكراه على افعال القلوب ... معللين بأن الإكراه لا سلطان له على الضمائر ... (٢٤)

وقد اختلف في موارد أخرى بحسب ما يُكره عليه ...

٥ ـ اذا كان المهدد به لا يعتد به عرفاً بحيث لا يسبب ضررا (٢٥).

__________________

(٢١) السيوطي : الاشباه والنظائر ص ٢٢٧.

(٢٢) نفس المصدر السابق.

(٢٣) المصدر السابق ص ٢٢٨. والرازي : التفسير ج ٢٠ ص ١٢٥. والقرطبي ج ١٠ ص ١٢٠.

(٢٤) السيوطي : الأشباه والنظائر ص ٢٢٨.

والجصاص : احكام القرآن ج ٥ ص ١٢.

(٢٥) كما مر في مقدار الضرر.


ـ ٥ ـ

مصاديق التقية

لا فرق في العمل طبق التقية .. بين أن يكون موردها اصول الدين ـ العقيدة ـ ، او فروع الدين ـ كما تقدم ذلك واضحاً في ـ مصاديق التقية عند الشيعة ـ ..

ومن التمثيل الذي نص عليه علماء السنة يتضح أنه لا فرق بين الميدانين في جواز جريان التقية ـ وان كان على خلاف بينهم في بعض الموارد ـ في الإباحة او الوجوب. كما تقدم في التقية والأحكام الخمسة.

فأما الأصول :

١ ـ ففي اجراء كلمة الكفر الذي هو اكبر شرك على اللسان. كما في قصة عمار.

٢ ـ السجود لغير الله من صنم أو صليب. وقد تقدم في عموم التقية للقول والفعل.

٣ ـ اخفاء اصل الاسلام وعدم اظهار الشهادتين ..

ولهذا عدة شواهد يذكرها المؤرخون لحياة الصحابة ...

١ ـ قصة مسيلمة الكذاب مع الصحابيين :

[ حدثنا شريح بن يونس عن اسماعيل بن ابراهيم عن يونس بن عبيد عن الحسن : أن عيوناً لمسيلمة اخذوا رجلين من اصحاب النبي (ص) فذهبوا بهما الى مسيلمة ، فقال
لاحدهما : اتشهد أن محمداً رسول الله ؟. قال : نعم. قال : اتشهد أني رسول الله ؟. قال : نعم. فخلى عنه. وقال للآخر : اتشهد أن محمداً رسول الله ؟. قال : نعم. قال : وتشهد أني رسول الله ؟ .. قال : انا اصمّ لا اسمع ، فقدمه وضرب عنقه ..

فجاء هذا الى النبي (ص) فقال : هلكت ، قال ـ ص ـ : وما أهلكك ؟. فذكر الحديث. قال : اما صاحبك فاخذ بالثقة ، واما انت فاخذت بالرخصة ـ على ما انت عليه الساعة. قال : اشهد أنك رسول الله. قال ـ ص ـ انت على ما انت عليه ] (١).

٢ ـ يروي العقاد عن عمرو ابن العاص في قصة إسلامه أنه عمل بالتقية :

[ وكان لاعتداده بأبيه دخل في تعويق اسلامه وتأخير شهادته للدين الجديد الى بعد موته ، وقد كان يعلم ـ هذا ـ من نفسه ويجهر به اذا فوتح فيه.

فسأله رجل : ما أبطأك عن الإسلام وانت انت في عقلك ؟ .. فقال : كنا مع قوم لهم علينا تقدم ... ] (٢).

وأما الفروع :

فانه لا شك أن التقية اذا جازت في الاصول ـ التي هي عمود الدين ـ فلابد ان تجوز في الفروع ...

__________________

(١) القرطبي : الجامع لاحكام القرآن ج ١٠ ص ١٢٤.

والجصاص : احكام القرآن ج ٢ ص ٢٩٠.

(٢) عباس محمود العقاد : عمرو بن العاص. ص ١٩.


وقد اكثر علماء السنة في تعداد الموارد ـ من الفروع ـ التي تجوز فيها والتي لا تجوز وقد قسموها :

١ ـ للعبادات :

١ ـ في إفساد الصلاة ـ على خلاف في إجزاء الصلاة المكره عليها ..

٢ ـ الصوم .. على خلاف.

٣ ـ في إبدال التيمم مكان الوضوء ..

٤ ـ في الاتيان بما يفسد الحج.

وكل هذه الموارد اجازوا العمل بالتقية فيها ... الا انهم اختلفوا في الإجزاء وعدمه .... وبمعنى آخر هل أن العمل المأتي به الفاسد ... هل يكفي المكلف فلا يعيد ام لا ؟ ... (٣)

٢ ـ والمعاملات :

وقد توسعوا في البحث تحت هذا العنوان ... واكثروا من مصاديقه.

١ ـ التقية عند الإكراه على النكاح ـ اجراء العقد ـ.

٢ ـ التقية عند الإكراه على الطلاق ...

٣ ـ التقية عند الإكراه على البيع ...

٤ ـ التقية عند الإكراه على الإقرار .. (٤)

__________________

(٣) السيوطي : الاشياء والنظائر ص ٢٢٣ فما فوق.

والاكراه واثره في التصرفات ص ١٢٥ فما فوق

(٤) نفس المصادر السابقة ، ووهبة الزحيلي : نظرية الضرورة الشرعية ص ٩٩.

والقرطبي : الجامع لاحكام القرآن ج ١٠ ص ١٢١. فما فوق.

وعيسى شقره : الاكراه واثره في التصرفات ص ١٤٩. فما فوق.


٥ ـ التقية عند الإكراه على الحلف ـ اليمين ـ ويذكر لهذا المورد بالخصوص عدة شواهد .. ويتبين أنه اكثر الموارد إبتلاءاً واكثر من غيره في دوران التقية.

ف‍ [ الرخصة فيمن حلّفه سلطان ظالم على نفسه أو على أن يدله على رجل أو مال رجل ...

وذكر موسى بن معاوية أن ابا سعيد بن أشرس ـ صاحب مالك ـ أستحلفه السلطان ـ بتونس ـ على رجل اراد السلطان قتله أنه ما آواه ولا يعلم له موضعاً. قال : فحلف له ابن اشرس ... وابن اشرس يومئذ قد علم موضعه وآواه ... ] (٥). الى آخر القصة التي ستأتي ..

وكذلك ... حلف رجاء بن حيوة على مثل ذلك ـ كما سيأتي ... (٦)

وقد رأى الحسن البصري ان لا أثر لهذه اليمين ... لانها لدفع الضرر وبالتالي لا يحنث بمخالفتها ولا يكفر .. (٧)

وكذلك نقل في هذا المورد بالخصوص عن أنس بن مالك عند ما سُأل عن ذلك واجازه ... قال :

[ ولأن أحلف سبعين يميناً وأحنث أحب الي أن أدل على مسلم ] (٨)

وكأنه يرى ترتيب الآثار على هذه اليمين ..

__________________

(٥) القرطبي : الجامع لاحكام القرآن ج ١٠ ص ١٢٤.

(٦) نفس المصدر السابق.

(٧) نفس المصدر السابق ، وعيسى شقره الاكراه واثره في التصرفات ص ١٨٥ فما فوق.

(٨) نفس المصدر السابق.


وقد اختلفوا في الجملة في ترتيب الآثار على هذه المعاملات المكره فقال قوم ..

العقود في ذلك صحيحة ... إنما لا يُرتب عليها اثر ... كالعقد الفضولي ... فاذا رضي بعد ذلك بهذا العقد رتب عليه اثره ... (٩) وقال آخرون : يرتب عليها ، ولا يرى الاكراه مانعاً عن صحة العقد اساسا (١٠)

ومما يلحق بذلك الاستحلاف على عدم نصرة الرسول .. كما فُعل بحديفة ..

ف‍ [ قد ابتلى ببعض ذلك في زمن الرسول (ص) على ما روي أن المشركين اخذوه واستحلفوه على أن لا ينصر رسول الله (ص) في غزوة ، فلما تخلص منهم جاء الى رسول الله (ص) واخبره بذلك ... فقال عليه الصلاة والسلام : أوف لهم بعهدهم ونحن نستعين بالله عليهم ] (١١).

وقد طبق التقية في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ مسروق بن عكي الفقيه كما سيأتي قصته في الحاجة للتقية بين المسلمين ..

٣ ـ المأكل والمشرب :

قد اجمع علماء السنة على أن من اكره على الأكل المحرم ـ كأكل الميتة وشرب الخمر ... وغيره ... وجب عليه العمل

__________________

(٩) وهبة الزحيلي : نظرية الضرورة الشرعية ص ٩٨. وعيسى شقره : الاكراه واثره في التصرفات ص ١٤٩ فما فوق. والقرطبي : التفسير ج ١٠ ص ١٢١.

(١٠) المصدر السابق.

(١١) السرخسي المبسوط ج ٢٤ ص ٤٦.


طبق التقية فيه ... وقد علل البعض : أن طريق حرمته السمع فترفعه الضرورة ... (١٢)

ومن اراد التوسع فليراجع بحوث الضرورة والإكراه ... في جميع كتب الفقه وكتب التفسير المتقدمة.

__________________

(١٢) الجصاص : احكام القرآن ج ٥ ص ١٦. ووهبة الزحيلي : نظرية الضرورة الشرعية ص ٩٠. وعيسى شقره : الاكراه : ص ١٩٠ فما فوق.


ـ ٦ ـ

شروط التقية

لقد اشترطوا ـ للتقية ـ شروطاً تختلف باختلاف الموارد ... وذلك تحت اطار البحث في شروط تحقق الاكراه الذي يوجب التقية ويوجد موضوعها ـ كما مر ... كثيراً.

وهي كالتالي :

١ ـ قدرة المكرِه على ما هَدّدَ به ... وذلك اما بولاية ـ كالسلطان ـ او تغلب ... او فرط هجوم.

٢ ـ عجز المكرَه عن دفع ما هُدد به بواسطة هرب أو استغاثة أو مقاومة ..

٣ ـ ظن المكرَه بانه إن امتنع مما اكره عليه وقع عليه الضرر المتوعد به ..

٤ ـ احتمال الضرر ـ عند المتوقع له ـ في غير الاكراه الفعلي ـ كما مر في بحث مقدار الضرر.

٥ ـ أن يكون الفعل موضوع ـ التقية ـ الاكراه ـ من المحضورات الشرعية.

٦ ـ اشترط البعض أن يكون الإكراه من السلطان فقط .. كابي حنيفة ..

اما اكراه غير السلطان فلا يوجب التقية .. بادعاء ان اكراه السلطان لا يمكن رفعه واكراه غيره يمكن رفعه .. فلا موضوع للاكراه مع اكراه غير السلطان.


وغيره من الفقهاء ـ بل الأكثر ـ لم يفرق بينهما .. كصاحبي ابي حنيفة ومالك.

٧ ـ اشترط البعض ان يكون الأكراه على غير المال .. وعمم آخرون .. لكون المال في رتبة النفس والعرض .. فالجميع يوجب التقية ..

٨ ـ ان لا يكون الفعل المكره عليه مساويا للضرر وموجبا لظلم الآدمي كالسرقة وغصب الأموال ... ومنه موارد الدماء كقتل الانسان فانه لا تجوز فيه التقية .. بالاجماع ... وقد اختلفوا عند الاقدام عليه ... من يتحمل الحد ـ المُكرِه او المكره. (١٣)

__________________

(١٣) يراجع لهذا البحث ما يلي :

١ ـ السيوطي : الاشباه والنظائر ص ٢٢٩ ، وص ٢٣٠.

٢ ـ القرطبي : الجامع لاحكام القرآن : ج ١٠ ص ١٢٠ وص ١٢٥.

٣ ـ السرخسي : المبسوط ج ٢٤ ص ٨٨ فما فوق.

٤ ـ عيسى شقره : الاكراه واثره في التصرفات ص ٢٤ الى ص ٦١.

٥ ـ الفخر الرازي : التفسير ج٨ ص١٤ وج ٢٠ ص ١٢٣ وص ١٢٤. وغيره من التفاسير.


ـ ٧ ـ

هل أن التقية نفاق ..؟

عندما نراجع مصادر علماء السنة حول موضوع التقية نجدهم يتطرقون لنفس الموضوع الذي تطرق له علماء الشيعة من التفريق بين التقية والنفاق ...

فقد نص كثير من العلماء على ذلك اشارة وتلويحاً ... وهذا يدل على عمق الفهم لهذه المسألة وتشعباتها من قبل علماء السنة ... كما يحدد لنا نقطة الاشتراك في فهم واقعها ..

واوضح عبارة على ذلك ما ذكره الامام السرخسي الحنفي ... حيث عرف التقية ... ثم أكد على نفي ذلك بقوله :

[ وقد كان بعض الناس يأبى ذلك ويقول أنه من النفاق ... والصحيح أن ذلك جائز لقوله تعالى : « إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً » ..

ثو يؤكد ان التقية عكس النفاق تماماً :

[ واجراء كلمة الشرك على اللسان تكرهاً مع طمأنينة القلب بالايمان من باب التقية ].

وعلى هذا فهو ليس بنفاق ..

ويتأكد هذا المعنى من تفريق حذيفة بينهما .. فانه عندما كان يستعمل التقية كان يقال له : انك تنافق .. فقال :


[ لا ولكني اشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله ] (١٤).

فقد سمى هذا العمل ـ التقية ـ من الدين ، بحيث يحافظ على دينه الآخر به ..

ومعلوم أن النفاق من الكفر وليس من الدين ..

وبعبارة اوضح: [ إن التقية : اتخاذ ما يقي من شر العدو دون نفاق او باطل ] (١٥).

فهي مباينة تماما مع الباطل ... والنفاق ..

وهذا المعنى أكد عليه الرسول (ص) عندما نفى كفر عمار .. في قوله عندما قال المسلمون كفر عمار ... ان عماراً ملأ ايمانا من قرنه الى قدمه ..

ولو كانت نفاقاً ... لانعكس الأمر ... ولما صح مدحه من الرسول (ص) ..

__________________

(١٤) السرخسي : المبسوط ج ٢٤ ص ٤٥ ، ٤٦.

(١٥) الدكتور البُغا : تعليقة على البخاري ج ٦ ص ٢٥٤٥.


ـ ٨ ـ

متى شرعت التقية

لما كانت التقية لدفع الضرر المتوجه للانسان في الحالات الخاصة ـ الاستثنائية ـ ... التي يتعرض لها الإنسان المسلم ... كان لابد من تشريع يخفظهم في بدء الاسلام ، ذلك لان المسلمين كانوا يعيشون في اوساط الاعداء ... وكان لابد من زرع البذرة ورعايتها ... ليقوى عودها ... في بدء بزوعها ... وهذا لا بتحقق الا بالحفاظ ...

فكان لابد من وجود طريقة يصدرها المشرع للحفاظ على الافراد القليلة التي تعتنق الاسلام.

والطريق الوحيد ـ الذي يمكن معه الحفاظ على المسلمين القلائل في بلاد الشرك ـ هي طريقة التقية ، حيث انهم يمكنهم معايشة الكفار دون أن يعلموا بانهم اعتنقوا الاسلام ... فينشؤون محافظين على كيانهم حتى تقوى شوكتهم.

فلذلك ... قد شرعت التقية في بدء الإسلام ، وسايرة الظروف القاسية التي عاشها المسلمون.

وبهذا .. حاول الإسلام الحفاظ على وجود افراده حتى قويت شوكته بهم.

وهذه الصورة التشريعية ابتدأت مع الصحابي العظيم عمار بن ياسر مع أصحابه من المسلمين في مكة ... كما حدثتنا الآية النازلة في قصته.


بل نستطيع أن نقول أن هذا كان مرتكزا عند العقل الانساني يستعملها في مثل هذه الحالة. وربما يكون نص بعض العلماء على أن العقل يؤيد التقية اشارة الى هذا المعنى ـ وهذا ... كما سلف في قصة مؤمن آل فرعون ... وكذلك ما تحكيه الآية عن موسى. « فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ » ، وقد تقدم صور أخرى عن الصحابة.

فعلى هذا ... نستطيع ان نقول : أن بدء تشريع التقية وتطبيقها في بدء الاسلام.

بل ... مارسها المسلمون على نطاق البحث الفقهي. وحاولوا أن يأتوا يصورة منهجية لدراسة التقية في صورتها التشريعية ... بشروطها وفروعها ..

ويتضح ذلك .. من كلام ابن عباس في تفسير التقية ـ كما تقدم ـ.

وكذلك ما اتى به بعد ذلك الحسن البصري من شمولها للازمان.

وكثير من نصوص الصحابة والتابعين المتقدمة كتفريق حذيفة بينها وبين النفاق ، وكلام ابن مسعود.

هذه هي التقية في ظروف المسلمين مع الكفار ، والتي عرفنا تسليم وجوب العمل بالتقية في بعض الاحيان فيها.


ـ ٩ ـ

كيف نشأت الحاجة للتقية بين المسلمين ..؟

من خلال هذا البحث الموسع ـ والذي اوجزناه في الخلاصة ـ اتضح أساس تشريع التقية وعموم تشريعها ... وتبين من ذلك أنه لا ريب ولا شك لاحد في جعلها أساساً عند المسلمين.

والأهم من ذلك كله هو اثبات استمرارها الموضوعي العملي عند جميع المسلمين ، وانعكاس ذلك على الساحة العملية عند جميع الفرق الإسلامية.

إذ أن التقية كانت في الصورة العملية المسلمة أول بعثة الرسول (ص) ـ كما مر في بحث ـ متى شرعت التقية ـ.

وقد تطرأ عدة عوامل تجعل البعض يناقش في وجودها وجوازها العملي في الساحة الإسلامية فيما بينهم.

وذلك لعدة امور :

١ ـ أن الفاظ التشريع والوقائع ـ التي ساعدت على كشف تشريعها ـ كانت في اطار المشركين مع المسلمين.

وقد أجيب على هذا الأمر في مبحث عموم التقية لكل الازمان والأحوال.

٢ ـ لا يمكن أن يتصور أن للتقية موضوعاً بين المسلمين.


فمن يقول بها وهو في أحضان المسلمين ويعيش تحت حكمهم ... يُعد قوله من التهاتر.

وهذا الأمر ... هو ما نريد كشفه هنا .. لتشكل الإجابة عليه ... استمرارية السيرة العملية بالتقية بين المسلمين عامة ، وليس للشيعة فقط.

وان كنت أعلم أن هذا المبحث ليس هو من المباحث الفقهية الإستدلالية .. إلا أنه .. ليس المراد منه هو الإستدلال على تشريعها ، وإنما المراد اثبات وقوعها العملي والحاجة اليها بين المسلمين.

هذا .. ومن المفترض ـ في هذا البحث ـ أن يثير عدة جوانب من غير المستحسن إثارتها .. إلا أنه لاثبات الواقع لابد لنا من ذلك.

ولا أظن أن أحداً يشك في أن الاجابة على ذلك واضحة جلية.

إذ .. أن نشوء الحاجة للتقية بين المسلمين أنفسهم لا تختلف عن نشوء الحاجة لها ... اذا كانوا بين الكفار ..

وكما سبق ان ذكرنا .. أن التقية تخضع لعنوان الاضطرار والإكراه على الفعل مع الكفار ، وذلك عند نصوص العلماء على شمولها لكل الأحوال والأزمان.

وما يهمنا هنا أمران :

الأول : اثبات ان الحالة بين المسلمين تشبه الحالة بين الكفار والمسلمين.

الثاني : وقوع العمل بالتقية في الساحة الإسلامية وبين المسلمين أنفسهم.


أما الأول :

فمن سبر غور التاريخ الإسلامي ـ المضمن في كتب التاريخ ... التي لا يسعنا رفضها اجمع .. إذ فيها من التواتر المقطوع ـ ... وجد الجواب الشافي على ذلك. وإن شكل ـ في بعض الاوقات ـ نقطة سوداء في وجودنا لن تزول أبداً ، مهما نقحنا تاريخنا وشذبناه ..

بل في بعض الأوقات نجد تاريخنا قد رسم ـ مسبقاً ـ لنا ـ كما في أخبار الفتن الغيبية التي نؤمن بها ، والتي اهتم العلماء قاطبة بها ـ سواءاً كانوا اصحاب صحاح أم مسانيد أم غيرهم (١) .... ولا يكلف ذلك اكثر من نظرة خاطفة لاي كتاب تاريخي أو حتى حديثي ليجد ذلك واضحاً جلياً .. بل يمكن أن يجده حتى في الكتاب الفقهي ـ الذي ما كان ينبغي أن يشكل جزءاً في صورة الصراع السياسي ... إلا أنه أبي إلا أن يشارك ـ الخلاف الفقهي ـ في الصراع السياسي ..

لو فرض أننا تجاوزنا القرن الأول .. الذي كان ينبغي ان يشكل صورة واضحة لاستمرار الوحدة والانفاق بين المسلمين ... ولكن مع تمام الأسف لم يكن ... فقد ساعد في رسم تاريخ مليء بالخلافات ..

وقد يقال .. وماذاك .. فانه ليس هناك أمة إلا ولها جذور في الخلاف ـ كما ذكر في اطلالة هذا البحث ... نعم ..

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٦ ص ٢٥٨٧ الى ٢٦٠٩ كتاب الفتن. تعليق د. البغا.


ولكن لا ينبغي ان يكون لهدم الأمة .. بل ينبغي أن يكون لبنائها.

وما حصل بالفعل .. عكسه.

فمن القرن الأول .. جاء وصف البغاة من المسلمين (٢) ... ومنه كان إخافة الناس ... ومنه جاء وصف الظلمة لحكام المسلمين .. ومن بداية عقوده المتأخرة .. بدأ التحول التاريخي .. كما اخبر بذلك الرسول الكريم في الحديث المتواتر ... معنىً .. : ثم يكون ملك عضوض .. مع ذلك كله تجاوزناه ..

ولا يهمنا ان نطوف بالحوادث الشاهدة على ذلك .. انما نريد أن نشير الى حدوث مثل هذه الصورة في الجملة ..

ونؤكد على استمرار هذه الحالة بعد تشكل المذاهب الإسلامية .. ومواقفهم من بعضهم البعض ..

اذ لا احد ينكر صور النزاع التي كانت بين المذاهب الإسلامية .. بحيث كان المسلم ... من اي مذهب كان ـ يخاف ان يذكر أنه ينتمي الى المذهب الذي يرى العمل طبقه (٣) ...

والذي ساعد في ذلك هو :

ـ بعد نشوء الخلافات الفقهية ـ اتخاذ بعض الخلفاء والولاة مذهباً خاصاً لا يجوز العمل بغيره من المذاهب .. كما

__________________

(٢) الجصاص : احكام القرآن ج ٥ ص ٢٨٠.

(٣) اسد حيدر : الامام الصادق والمذاهب الاربعة ج ١ ص ١٨٧


نودي في المدينة : أن لا يفتى الناس إلا مالك (٤) ... وكما يحدثنا ابن حزم عن هذه الصورة :

[ مذهبان انتشرا في بدء امرهما بالرئاسة والسلطان مذهب ابي حنيفة ... ومذهب مالك عندنا بالأندلس ... ] (٥).

وكذلك غيرها من الاقطار .. التي كانت بيد الخلفاء العباسيين وغيرهم ..

ونتيجة ذلك النماذج التالية :

١ ـ حبس الامام احمد بن حنبل ـ امام المذهب عند عدم قوله بخلق القرآن ايام المعتصم ، وضربه ... الى أن رفع المتوكل محنة خلق القرآن (٦).

٢ ـ قتل الامام الشافعي شر قتلة على ايدي المالكية في مصر عندما انتشر مذهبه (٧).

٣ ـ ضرب وسجن ابي حنيفة عدة مرات في محنة القول بخلق القرآن .. بل قيل أنه استتيب من الكفر ـ حسب اعتقاد البعض ـ عدة مرات (٨) ...

٥ ـ تجريد الإمام مالك بن أنس ـ امام الذهب ـ وضربه سبعين سوطاً ـ لعدم ايمانه ببيعة العباسيين ، أو لفتوى لم توافق غرض السلطان ... (٩)

__________________

(٤) ابن خلَكان : وفيات الاعيان ج ١ ص ٦٤.

(٥) الامام الصادق والمذاهب الاربعة ج ١ ص ١٦٧.

(٦) ابن خلكان : وفيات الاعيان ج ٦ ص ٦٤.

(٧) الامام الصادق والمذاهب الاربعة ج ١ ص ١٦٨.

(٨) الخطيب البغدادي : تاريخ بغداد ج ١٣ ص ٣٨٥. فما فوق.

(٩) ابن خلكان : وفيات الأعيان ج ٤ ص ١٣٥.


هذا شأن أئمة المذاهب مع الحكام .. فما بالك بغيرهم ...؟

ومن راجع .. كتاباً في تراجم العلماء وجد ما يبعث على الألم والأسى من الواقع الذي كان يعيشه العلماء والناس عامة مع الحكام .. والولاة ...

كما كانوا يتقلبون بين إرادة الأمراء والولاة .. كما حدث ذلك في أيام محنة خلق القرآن .. كما فرض المأمون على القضاة ذلك ..

فاذاً .. لا خلاف في وجود صورة مشاكلة ـ في أوساط المسلمين .. بين المذاهب الإسلامية متمثلة في معتنقيها ـ هذه الصورة نفسها ـ مشابهة تماماً للحالة التي بين المسلمين والمشركين ... بحيث يوجد موضوع التقية. متشكلة في مداراة اصحاب المذاهب لاصحاب المذهب المعلن من قبل الدولة .. كما في دولة العبيديين ـ الفاطميين ـ والأدراسة. كما سيأتي.

وبهذا نكون قد اعطينا صورة واضحة لا شك فيها. بوجود الصورة المقتضية للتقية.

وبالتالي : ان السبب الذي من اجله شرعت التقية ـ بين الكفار والمسلمين ـ هو الذي أثر في تشريعها بين المسلمين ـ كما كان مذهب الامام الشافعي. أن الحالة بين المسلمين اذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محامأة للنفس (١٠).

__________________

(١٠) الفخر الرازي : التفسير ج ٨ ص ١٤.


بعد هذا نأتي على الامر الآخر ... وهو اثبات وقوع التقية بالساحة ـ العملية ـ لافراد المسلمين (١١).

وقد اخترت بعض النماذج التي ينقلها التاريخ ، والتي تدل على وقوع العمل بالتقية بين المسلمين وهي كالتالي ..

١ ـ ابو حنيفة والتقية :

في تاريخ بغداد :

[ اخبرنا ابن الفضل وعلج بن احمد اخبرنا احمد بن علي الأبار اخبرنا سفيان بن وكيع ، قال جابر بن حماد بن ابي حنفية ..

فقال : سمعت ابي حماداً يقول :

بعث ابن ابي ليلى الى ابي حنيفة فسأله عن القرآن فقال مخلوق ، فقال : تتوب والا أقدمت عليك.

فقال : القرآن كلام الله ..

فقال : فدار به في الخلق يخبرهم أنه قد تاب من قوله .. القرآن مخلوق ..

فقال ابي :

فقلت لابي حنيفة : كيف صرت الى هذا وتابعته ؟.

قال : يا بني خفت ان يقدم علي فأعطيته التقية ... ] (١٢)

٢ ـ [ وفي الكشاف ... وكان ابو حنيفة يفتي ـ سراً ـ بوجوب نصرة زيد بن علي وحمل المال اليه ... والخروج على

__________________

(١١) اوضح هذا المعنى الباحث مصطفى الشكعة : تفسير سورة آل عمران ص ٣٣

(١٢) الخطيب البغدادي : تاريخ بغداد ج ١٣ ص ٣٨٧.


اللص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة .. كالدوانيقي واشباهه ] (١٣).

فاظهاره التأييد للحكام ما هو ..؟!

ب ـ مسروق الفقيه والتقية :

[ وذكر عن مسروق رحمه الله قال :

بعث معاوية بتماثيل من صفر تباع بأرض الهند ، فمر بها على مسروق قال :

والله لو اني أعلم أنه يقتلني لغرقتها .. ولكني اخاف أن يعذبني فيفتني ، والله لا ادري اي الرجلين معاوية ...؟!! رجل قد زين له سوء عمله او رجل قد نسي الآخرة ... الى ان يقول :

ثم كان في تغريق ذلك من الأمر بالمعروف عنده .. اي مسروق ـ وقد ترك ذلك مخافة على نفسه ..

وفيه تنبيه أنه لا بأس باستعمال التقية .. وأنه يرخص له في ترك بعض ما هو فرض عند خوف التلف على نفسه ... ] (١٤)

وقد بيّن أن فتنة السوط أشد من القتل ـ كما يراه القياسيون ـ فهو يوجب التقية ... (١٥)

ج ـ رجاء بن حيوة والتقية :

[ وقال ادريس ين يحيى : كان الوليد بن عبد الملك يأمر

__________________

(١٣) حسين الديار بكري تاريخ الخميس ج ٢ ص ٣٢٧.

(١٤) السرخسي : المبسوط ج ٢٤ ص ٤٦ ، ٤٧.

(١٥) نفس المصدر السابق.


جواسيس يتجسسون الخلق وياتون بالأخبار .. قال :

فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حيوة فسمع بعضهم يقع في الوليد فرفع ذلك اليه فقال :

يا رجاء أذكر بالسوء في مجلسك ولم تُغَيّر ؟ فقال ما كان ذلك يا امير المؤمنين ، فقال له الوليد : قل الله الذي لا إله إلا هو. قال : الله الذي لا إله الا هو.

فأمر الوليد بالجاسوس فضرب سبعين سوطاً ، فكان يلقى رجاء فيقول : يا رجاء بك يُستقى المطر وسبعين سوطاً في ظهري : فيقول رجاء : سبعون سوطاً في ظهرك خير لك من أن يقتل رجل مسلم ] (١٦).

د ـ أبو سعيد بن اشرس والتقية :

[ وذكر موسى بن معاوية أن ابا سعيد بن اشرس ـ صاحب مالك ـ استحلفه السلطان بتونس على رجل أراد السلطان قتله انه ما أواه ، ولا يعلم له موضعاً ، قال : فحلف له ابن الاشرس ـ وابن اشرس يومئذٍ قد علم موضعه وأواه ـ فحلّفه بالطلاق ثلاثاً .. فحلف له ابن الاشرس ، ثم قال لامرأته : اعتزلي فاعتزلته.

ثم ركب ابن أشرس حتى قدم البهلول بن راشد القيروان ، فاخبره الخبر ، فقال له البهلول : قال مالك انك

__________________

(١٦) القرطبي : الجامع لاحكام القرآن ج ١٠ ص ١٢٤ ، ١٢٥. وفي نفح الطيب لابن المقرى الاندلسي : حيوة ابن رجاء ج ١ ص ٢٨٨. وهو من العلماء المبرزين عند اهل السنة والجماعة ، كان يجالس عمر بن عبد العزيز توفي في ١١٢ ه‍ ـ ابن خلكان ج ٢ ص ٣٠٣.


حانث. فقال ابن اشرس : وانا سمعت مالكاً يقول ذلك ، وانما أردت الرخصة او كلام هذا معناه ، فقال له البهلول بن راشد : قال الحسن البصري إنه لا حنث عليك ، قال : فرجع ابن أشرس الى زوجته واخذ بقول الحسن ] (١٧).

ه‍ ـ حذيفة والتقية :

[ وقد كان حذيفة ممن يستعمل التقية ، على ما روي : أنه يداري رجلاً فقيل له إنك منافق ، فقال : لا ... ولكني اشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله ] (١٨).

هذا ويظهر من حذيفة هذا ـ هو حذيفة بن اليمان ،

وبذلك ربما يقال لا معنى لنقل ذلك عنه لانه من الشيعة .. فلا حجة فيه .. لهذا المورد ..

فنقول : انما نقلناه .. لنقل السرخسي الحنفي لذلك والاحتجاج به ..

وبعد هذا ...

ربما يعد من الإسهاب الممل .. نقل الحوادث التاريخية التي ربما ملئت الكتب ، فلا اطيل لآخذ وقتاً غير ممنوح لي من قبل قارئي ـ وإن كان ذلك من مسلمات الأساليب العلمية ـ.

وسوف اترك فكر القارىء يفتش في لوحة التاريخ ... ليقرأ من خلالها صوراً متراكمة تغطي خياله الواسع .. وسوف اقرب له هذه اللوحة برسم بعض خطوطها ..

__________________

(١٧) نفس المصدر السابق.

(١٨) السرخسي : المبسوط ج ٢٤ ص ٤٦.


اتسائل .. ـ وان كنت لم اقرأ صورة خاصة من هذه اللوحة ـ ..

ماذا كان يصنع المسلمون ـ عامة ـ العاملون بالمذاهب الأربعة في ظروف طغيان المذهب العاملة به الدولة ـ المسمى ـ بالمذهب الرسمي ـ كما يطالعنا التاريخ به ـ ، وكما قرأنا لابن حزم قوله : مذهبان انتشرا في بدء امرهما بالسلطان (١٩).

هل تركوا العمل على طبق مذاهبهم ورأوا من الحق العمل بالمذهب المعلن ـ كما فعل قوم ...؟ (٢٠)

ام أنهم استمروا على العمل وسايروا المذهب الرسمي ـ مسايرة ..؟

ومن المسلم أن الواقع يميل الى تأييد الصورة الثانية ..

إذ الملاحظ انه عندما ينشط انصار اي مذهب ينبرون بأجمعهم يمثلون الروحية ... الكاملة ـ صوتاً وصورة .. لذلك المذهب ..

فمثلاً ... عندما نشط القول بخلق القرآن انطفأت شمعة القائلين بقدمه .. إلا القليل كاحمد بن حنبل ـ الذي لم يعمل بالتقية ـ وبعض اصحابه (٢١) ...

ولما انعكس الامر ونشطت مدرسة القول بقدم القرآن انطفأت شمعة القائلين بخلقه ـ المتشكلة ببعض المذاهب الاسلامية ـ كالمعتزلة ـ.

__________________

(١٩) الامام الصادق والمذاهب الاربعة ج ١ ص ١٦٨.

(٢٠) الجاحظ : رسائله : ج ١ ص ٢٠٢.

(٢١) احمد شرباصي : الائمة الاربعة : ص ١٧٣.


وربما أضيف في وقفة سريعة : أن عمل احمد بن جنبل ـ امام المذهب ـ بمقاومة التيار والوقوف بوجهه ينطوي في ضمن ـ حسبما يراه البعض كما تقدم في التقية والاحكمام الخمسة ـ موارد حرمة العمل بالتقية اذا كان العامل بها ممن يقتدى به ، فرأى إمام المذهب أنه اذا لم يقف هذا الموقف ينزلق هذا الرأي في هاوية لا ينبز له رأس ابداً فوقف هذا الموقف .. او في ضمن ما يراه في الرأي الفقهي : أنه لا تقية في دار الاسلام.

وبهذا نستطيع ان نضيف صورة للتقية ممن وافق القول بخلق القرآن وذلك ..

[ أن اجابتهم كانت مصانعة لانهم كانوا يعزلون من لا يجيب عن وظائفه وان كان له رزق على بيت المال قُطع ، وإن كان مفتياً منع من الإفتاء ، وإن كان يسمع حديث ردع عن الإستماع ] (٢٢).

مع الأخذ بعين الإعتبار ـ بالصورة الأخرى المناقضة لذلك والتي تمثلت في الإمام ابي حنيفة ... كما تقدم ..

وصورة اخرى ..

عندما نشط المذهب المالكي في الأندلس ..

وثالثة ..

عندما أعلن المذهب الفاطمي ـ العبيدي ـ ماذا ... كان موقف الزعامات الأخرى للمذاهب الاخرى. هل تحولوا

__________________

(٢٢) الامام الصادق والمذاهب الاربعة ج ٤ ص ٤٥٦. ومحمد سرور : الدولة الفاطمية في مصر ص ٨٣.


لمذهب ـ الدولة ـ الرسمي ـ كما فعل القاضي النعمان (٢٣) ـ ام بقوا يدارون المذهب ، حتى نشطت مذاهبهم عندما اعلن صلاح الدين الغاء المذهب الفاطمي ـ الذي استمر شعاره الشيعي ـ والعمل طبق ثلاثة مذاهب اخرى معروفة ..؟

وهكذا نطالع في لوحة التاريخ صوراً كثيرة لا نستطيع الفرار من حملها على ذلك ..

فلذلك نقطع ..

بأن التقية كانت شعاراً ودثاراً استطاع المسلمون فيما بينهم أن يحفظوا كيانهم به .. ، فاصبح سيرة عملية على مر التاريخ الإسلامي لكل المذاهب الإسلامية ..

كما يطالعنا بهذا الواقع ـ وبوضوح ـ الجاحظ في رسائله لابي الوليد محمد بن ابي داود .. في نفي التشبيه .. حيث ذكر عز المشبهة ثم زواله .. الى ان يقول.

[ وحتى تحولت المحنة عليهم ، والتقية فيهم ] (٢٤).

وهذا ما يعكس واقع المشبهة ، والقائلين بقدم القرآن .. مع تزعم المعتزلة في حياة المأمون ..

ثم يذكر ان المعتزلة ... في هذا الظرف يجب عليهم نصرة الحق وترك التقية ..

[ فمتى اذاً .. تزول التقية ويجب إظهار الحق والنصرة

__________________

(٢٣) حيث كان مالكيا ثم تحول الى فاطمي. وفيات الاعيان ج ٥ ص ٤١٥. ومحمد سرور : الدولة الفاطمية في مصر ص ١٧٨ وص ١٧٩. وأكد هناك على صورة العمل بالتقية حيث قال : [ وكان فقهاء المذهب السني يستنكرون تعاليم الفاطميين ولكنهم لا يستطيعون الجهر بذلك .. ] ويراجع ص ٨٤.

(٢٤) الجاحظ : رسائله ج ١ ص ٢٠٢.


للدين ، والمباينة للمخالفين .. أحين يموت الخصم ويبيد أثره وعقبه ويقل ناصره ، ويزول جميع الخوف ويكون على يقين من السلامة ... فقد سقطت المحنة وزالت البلوى والمشقة ... ] (٢٥).

كما انه ربما يوحي بانهم يجب ان يقفوا مع الحق ويقفوا مع جميع من يرى الحق فلا يُهددوا أحداً ويرفعوا موضوع التقية ويتركوا الناس يعملون حسبما يرون ..

وبالتالي لا يبقى موضوع للتقية .. كما هو المفروض أن يكون بين أفراد المسلمين.

التقية في الفتوى والقضاء :

أعطف على ذلك ـ تتمة لما توصلنا اليه من قيام علماء الإسلام بالعمل بالتقية في الأوضاع الخاصة ... وإن كنت لم اطلع على نماذج واسعة النطاق لتغطي هذا العنوان ـ ..

بان التقية كانت تطبق في الفتاوى والقضاء ـ طبقاً للمذهب الرسمي ـ مع كون المفتي والقاضي لا يرى الفتوى طبق ذلك .. ولا القضاء به ... وانما يعمله تقية ، ذلك لما يتسبب ـ لو عمل برأيه من عزله عن القضاء ـ إن كان قاضياً ـ أو منعه من بيت المال إن كان يرد اليه شيء منه .. أو يضرب ويسجن ... كما يذكر ابن الجوزي : أن مالكاً ـ امام المذهب ـ ضُرب سبعين سوطاً لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان ، فعندها يأتي دور التقية ..

__________________

(٢٥) المصدر السابق ص ٢٠٣.


كما لاحظنا فعل ذلك جلياً عند ابي حنفية عندما أفتى سراً بنصرة ودعم زيد أبن علي ـ كما تقدم ـ (٢٦).

وبالتالي لا يبقى شك ... في تمكن الصورة العملية للتقية المستمرة ـ في واقع المسلمين ـ ، وأنها كانت ضرورة ملحة اقتضتها الظروف .. بين المذاهب الاسلامية ..

__________________

(٢٦) احمد شرباصي : الائمة الاربعة ص ٤١.



ـ ١٠ ـ

انوار لامعة من الطرفين

مهما حاولت أن اصور ... واقع الاتفاق بين علماء ومفكري المسلمين على اختلاف مذاهبهم ـ وبالتالي بين عامة المسلمين .. فلن استطيع ان اصوره باوضح مما رسموه بواقعهم وبكلماتهم .. التي تعطينا أفضل واوضح صورة في تعمق روح الواقع الوحدوي ـ الفكري والإستنباطي وبالتالي ..

حينما يكون هناك وحدة في التفكير في فهم القرآن والعمل به وفي فهم الخطوط التشريعية الأخرى .. لابد ان يكون هناك اتفاق على النطاق العملي لجميع المسلمين .. وهذا ما اتضح لنا قبل قليل ..

وما سيتصح اكثر تحت هذه المقتطفات المشرقة من كلمات علماء المسلمين ومفكريهم .. والتي حاولنا أن نجمعها لنكون قد جمعنا اجزاء الصورة المتناثرة لهذا الفرع .. الفقهي العملي .. ليدركها الخيال والعقل ويطمئن لها القلب ...

وقد حاولنا ان نجعلها مزدوجة ... كلمة من طرف الشيعة تتبعها كلمة من طرف السنة.

فهذه صورتها الواقعية :

١ ـ الامام الصادق (ع) : [ التقية في كل ضرورة
وصاحبها اعلم بها حين تنزل به ] (١)

٢ ـ الحسن البصري : [ التقية جائزة الى يوم القيامة ] (٢).

٣ ـ الشيخ المفيد : [ إن التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس ] (٣).

٤ ـ الإمام الشافعي : [ إن الحالة بين المسلمين اذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة للنفس ] (٤).

٥ ـ الشيخ الطوسي : [ والتقية عندنا واجبة عند الخوف على النفس ] (٥).

٦ ـ ابن حجر العسقلاني : [ التقية : الحذر من اظهار ما في النفس من معتقد وغيره للغير ] (٦).

٧ ـ المقداد السيوري : [ دلت الآية الكريمة ـ ١٠٦ النحل ـ على جواز التقية في الجملة ] (٧).

٨ ـ الجصاص : [ واعطاء التقية في مثل ذلك إنما هو رخصة من الله وليس بواجب ] (٨).

__________________

(١) الحر العاملي : وسائل الشيعة ج ١١ ص ٤٦٨ ح ١ باب ٢٥.

(٢) على اختلاف الروايات : صحيح البخاري ج ٦ ص ٢٥٤٥. كتاب الاكراه.

والقرطبي التفسير ج ٤ ص ٣٨. والعسقلاني ، فتح الباري ج ١٢ ص ٢٦٤.

(٣) المفيد : اوائل المقالات ص ١٣٧.

(٤) الفخر الرازي : التفسير ج ٨ ص ١٤. حكاية عن مذهبه.

(٥) التبيان في تفسير القرآن له : ج ٢ ص ٤٣٤.

(٦) فتح الباري. له. ج ١٢ ص ٢٣٦.

(٧) كنز العرفان. له. ج ١ ص ٣٩٣.

(٨) احكام القرآن. له. ج ٢ ص ٤٨٩.


٩ ـ الشيخ الأنصاري : [ التقية هي : التخفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحق ] (٩).

١٠ ـ شمس الدين السرخسي : [ وفيه تبيين : أنه لا بأس باستعمال التقية ، وأنه يرخص له في ترك بعض ما هو فرض عند خوف التلف على نفسه ] (١٠).

١١ ـ العلامة الطباطبائي : [ وبالجملة : الكتاب والسنة متطابقان في جوازها في الجملة والاعتبار العقلي يؤكده .. ] (١١).

١٢ ـ الفخر الرازي : [ وهذا القول ـ عموم التقية لكل الأزمان ـ الولى لان دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان .. ] (١٢).

١٣ ـ الشهرستاني [ المراد من التقية : اخفاء امر ديني لخوف الضرر من اظهاره ، والتقية بهذا المعنى شعار كل ضعيف مسلوب الحرية ] (١٣).

١٤ ـ الشوكاني : [ ويدل على جواز التقية قوله تعالى : « إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ .. ] (١٤).

١٥ ـ الإمام الحكيم : [ نعم تختص مشروعية التقية

__________________

(١٩) الانصاري : رسالة في التقية ص ٣٢٠.

(١٠) المبسوط. له. ج ٢٤ ص ٤٧.

(١١) الميزان في تفسير القرآن. له. ج ٣ ص ١٥٣.

(١٢) التفسير الكبير. له. ج ٨ ص ١٤.

(١٣) حاشية اوائل المقالات ص ١٣٧. عن مجلة المرشد ٢٥٢ ، ٢٥٣. ج ٣.

(١٤) فتح القدير. له. ج ١ ص ٣٣١.


بصورة خوف الضرر على نفسه أو ماله او نفس غيره او ماله .. ] (١٥)

١٦ ـ عبد الكريم زيدان : [ والتقية كما تجوز مع الكفار ، تجوز مع غيرهم إذا وجد الاضطرار اليها دفعاً لتلف النفس بغير وجه من قبل ظالم باغ منتسب للإسلام ] (١٦).

__________________

(١٥) مستمسك العروة الوثقى. ج ٢ ص ٤٠٦.

(١٦) مجموعة بحوث فقهية ص ٢١٣.


اخر المطاف

وفي آخر المطاف :

بعد هذه الكلمات المضيئة التي تكوِّن بمجموعها الصورة الواضحة للتقية بين جميع المسلمين ..

إنها انوار ساطعة كشفت لنا ما وراء الجدران من مجهول معتم ... ظل سنوات .. بل قرون ... مختبئاً تحت الظلام الدامس كلّف كثيراً من المسلمين عناءاً مريراً .. مع أنه في الواقع هباءاً منثوراً ..

وحتى ظلت فرقة واحدة من هذه الفرق الاسلامية مطوقة بهذا القيد الحديدي ..

وحتى قيل أنها الوحيدة التي تعمل بالتقية ـ على مر القرون الاسلامية ... وحتى قيل أنه من اصولها ..

وفي النهاية ..

اريد أن أشير ـ بعد وضوح ان التقية طريقة عملية مسلمة عند جميع المسلمين ... الا ما حكي عن الخوارج من القول بحرمتها مطلقاً .... اريد أن اشير ... الى ان :

من يقول : بأن التقية من اصول الدين عند الشيعة ..

من يقول ذلك .. لم يفرق بين اصول الاعتقاد ... أو
البنية الاعتقادية ... وبين البنية العملية ... التي يتحرك الشيعة وغيرهم من خلالها ..

فهي من البنى التحتية التي تسير عليها الشيعة. في وجودها كما لاحظنا ذلك عند غيرها. ايضا ـ لا أنها من اصول الدين والبنى الأساسية للاعتقاد ... اذ ليس من الإعتقادات ما يجب العمل به في محل دون محل .. وانما هذا شأن الفروع ـ الاحكام ـ.

فاذاً ... هي طريقة عملية ... كما اثبتنا ذلك ـ عند جميع المسلمين حاولوا ان يحفظوا بها وجودهم ... بين الكفار او بين انفسهم ...في اطار المتذهب ـ ان صح التعبير ـ

وبالتالي :

إن التقية قابلة لان تنتفي من الوجود بالمرة اذا أصبح كل انسان من المسلمين يعمل على طبق ما يراه دون معارض .. ودون ان يتعرض لاذىً ... وهذا ما ندعوا الله ليلا ونهاراً أن يحققه بيننا.

وفي نهاية هذا السفر السريع ـ الذي قطعناه في ربوع هذا الفرع ـ التقية ـ والذي لا ندعي أننا ألممنا بجميع اطرافه .. وإنما هي محاولة متواضعة تحتاج للكثير من البحث والتدقيق والتوسع ـ اودع القاريء الكريم لألتقي معه في سفر آخر.

واود قبل هذا ان اعتذر له .. من كثرة اشتمال هذه الدراسة على النصوص ... ذلك أنني وجدت من اللازم أن
يقف بنفسه على تعبيرات العلماء ليجد الدلالة بنفسه ... ويستخرجها بفهمه .. فعسى ان اوفق ـ بعد ذلك لما أردت ... وعسى ان تكون هذه المحاولة واقعة موقع القبول ..

ومن الله نستمد التوفيق والسداد إنه نعم المولى ونعم النصير ..

علي الشملاوي

دمشق : في ٤ / ١٠ / ١٤١٢ ه‍

٦ / ٤ / ١٩٩٢ م



المراجع والمصادر

اسم الكتاب

المؤلف

الطبعة وتاريخها

الطابع او الناشر

١ ـ التفسير الكبير

الرازي

٣ / ١٩٨٥ م

دار الفكر ـ بيروت

٢ ـ تفسير القرآن العظيم

ابن كثير الدمشقي

١ / ١٩٩٠ م

دار الخير ـ دمشق بيروت.

٣ ـ الجامع لاحكام القرآن

القرطبي

١ / ١٩٩٨ م

دار الكتب العلمية ـ بيروت.

٤ ـ تفسير المراغي

المراغي

بدون

دار الفكر ـ بيروت.

٥ ـ تفسير روح البيان

البروسوي

١٩٨٥ م

دارإحياء التراث العربي ـ بيروت

٦ ـ تفسير المنار

محمدرشيد رضا

بدون

دار المعرفة ـ بيروت.

٧ ـ فتح القدير

الشوكاني

بدون

دار احياء التراث العربي بيروت.

٨ ـ الدر المنثور

السيوطي

١٤٠٤ م

منشورات المرعشي ـ ايران.

٩ ـ احكام القرآن

الجصاص

١٩٨٥ م

دار احياء التراث العربي بيروت

١٠ ـ تفسير آيات الاحكام

الصابوني

١٩٧٢ م

دار القرآن الكريم

١١ ـ التبيان في تفسير القرآن

الطوسي

بدون

دار احياء التراث العربي

١٢ ـ مجمع البيان في تفسير القرآن

الطبرسي

١٩٨٨ م

دار المعرفة بيروت

١٣ ـ الميزان في تفسير القرآن

الطبأطبائي

٢ / ١٩٧١ م

بيروت

١٤ ـ كنز العرفان في فقه القرآن

المقداد السيوري

١٣٨٤ ه‍

المكتبة المرتضوية طهران

١٥ ـ الاشباه والنظائر

السيوطي

بدون

دار احياء الكتب العربية مصر


اسم الكتاب

المؤلف

الطبعة وتاريخها

الطابع او الناشر

١٦ ـ مجموعة بحوث فقهية

عبدالكريم زيدان

١٩٨٢ م

مؤسسة الرسالة ـ بيروت

١٧ ـ رسالة في التقية ـ مع المكاسب

الانصاري

١٤٠٨ ه‍

امير قم

١٨ ـ القواعد الفقهية

البجنوردي

٢ / ١٩٨٧ م

منشورات مكتبة بصيرتي ـ قم

١٩ ـ مستمسك الفقهية

الحكيم

٤ / ١٣٩١ه‍

مطبعة الآداب ـ النجف

٢٠ ـ نظرية الضرورة الشرعية

الزحيلي

٤ / ١٩٨٥ م

مؤسسة الرسالة ـ بيروت

٢١ ـ نظرة القرآن الى الجريمة والعقاب

القيعي

١ / ١٩٨٨ م

دار المنار ـ القاهرة

٢٢ ـ الاكراه واثره في التصرفات

عيسى‌شقره

٢ / ١٩٨٧ م

مؤسسة الرسالة ـ بيروت

٢٣ ـ المبسوط

السرخسي

١٣٣١ ه‍

مطبعة السعادة مصر

٢٤ ـ جواهر الكلام

النجفي

٧ / ١٩٨١ م

دار احياء التراث العربي بيروت

٢٥ ـ منهاج الصالحين

الخوئي

٨ / ١٤٠٨ ه‍

مطبعة النعمان ـ النجف

٢٦ ـ اصول الفقه

المظفر

٢ / ١٩٦٦ م

مطبعة النعمان ـ النجف

٢٧ ـ عقائد الإمامية

المظفر

١ / ١٩٩٢ م

دار الميزان بيروت

٢٨ ـ اوائل المقالات

المفيد

١٩٨٣ م

دار الكتاب الاسلامي ـ بيروت

٢٩ ـ الفقه على المذاهب الاربعة

الجزيري

٧ / ١٩٨٦ م

دار التراث الاسلامي ـ بيروت

٣٠ ـ التنقيح في شرح العروة

الغروي

١٩٨٧ م

مطبعة الآداب ـ النجف

٣١ ـ وسائل الشيعة

الحرالعاملي

بدون

دار إحياء التراث العربي ـ بيروت

٣٢ ـ صحيح البخاري

البخاري

تعليق الدكتور مصطفى البغا مطبعة الهندي


اسم الكتاب

المؤلف

الطبعة وتاريخها

الطابع او الناشر

٣٣ ـ فتح الباري

ابن حجر العسقلاني

٤ / ١٩٨٨ م

دار احياء التراث العربي بيروت

٣٤ ـ رسائل الجاحظ

الجاحظ

١ / ١٩٨٨ م

دار الحدااثة ـ بيروت

٣٥ ـ الامام الصادق والمذاهب الاربعة

اسد حيدر

٢ / ١٩٧١ م

دار الكتاب العربي بيروت

٣٦ ـ وفيات الأعيان

ابن خلكان

بدون

دار صادر بيروت

٣٧ ـ الائمة الاربعة

الشرباصي

بدون

دار الجيل ـ بيروت

٣٨ ـ تاريخ الخميس

حسين الدياربكري

١٢٨٣ ه‍ / مصر

نشر مؤسسة شعبان ـ بيروت

٣٩ ـ تاريخ بغداد

الخطيب البغدادي

بدون

دار الفكر

٤٠ ـ كشف الغمة

الأربلي

٣٩٨٦ ه‍ ش

المطبعة العلمية ـ قم.

٤١ ـ صحاح اللغة

الجوهري

بدون

دار الكتاب العربي ـ مصر

٤٢ ـ نفح الطيب

ابن المقري

١٩٦٨ م

دار صادر بيروت

٤٣ ـ عمرو بن العاص

العقاد

٢ / ١٩٦٩ م

بيروت

٤٤ ـ الدولة الفاطمية في مصر

محمد سرور

١٩٧٩

دار الفكر بيروت

٤٥ ـ تفسير سورة آل عمران

مصطفى الشكعة

ط ٢

دار العلم للملايين ـ بيروت

٤٦ ـ شرائع الاسلام

المحقق الحلي

١ / ١٩٦٩ م

مطبعة الآداب ـ النجف

٤٧ ـ تعارض الادلة الشرعيه

الهاشمي

١٤٠٥ ه‍

المجمع العلمي للشهيد الصدر ايران


المحتويات

الموضوع

الصفحة

الاهداء .................................................... ٥

اشراقة .................................................... ٧

القسم الأول :

التقية من الواقع الشيعي .............................. ١٣

ما هي التقية .............................................. ١٥

تعريف التقية ............................................. ١٧

مصادر تشريع التقية ...................................... ٢٣

١ ـ القرآن الكريم .................................. ٢٣

٢ ـ السنة ......................................... ٣٢

٣ ـ الإجماع ....................................... ٣٤

٤ ـ القواعد الثانوية ................................. ٣٤

بحوث متفرقة : ........................................... ٤٠

١ ـ هل يجزي العمل تقية ............................ ٤٠

٢ ـ المندوحة وعدمها ............................... ٤٤

٣ ـ هل الضرر نوعي أم شخصي ..................... ٤٨

٤ ـ التقية والأحكام الخمسة ......................... ٥١

خلاصة البحث التشريعي.................................... ٥٥


مصاديق التقية : ......................................... ٥٩

آ ـ الأصول ........................................ ٥٩

ب ـ الفروع : ..................................... ٦١

آ ـ التقيه في الأحكام ............................... ٦٢

ب ـ التقية في الموضوعات ........................... ٦٥

التقية في المعاملات ........................................ ٧٠

التقية في الفتوى ........................................... ٧٤

التقية في الحكم ........................................... ٧٧

لا تقية في الدماء والأعراض ................................. ٨١

متى نعمل بالتقية ......................................... ٨٤

هل أن التقية نفاق ........................................ ٨٧

تقية الشيعة .............................................. ٩١

القسم الثاني :

التقية من الواقع السني ............................... ٩٣

استشراف ................................................ ٩٥

تعريف التقية ............................................. ٩٩

مصادر تشريع التقية : .................................. ١٠٣

١ ـ القرآن الكريم ................................. ١٠٣

اكراه أم تقية ............................................ ١٢٠

٢ ـ السنة النبوية وسنة الصحابة .. .................. ١٢٦

٣ ـ الإجماع ...................................... ١٣٠

٤ ـ عوارض الأهلية والترخيص ..................... ١٣٢


هل أن التقية في القول فقط .. ............................. ١٤١

التقية جائزة الى يوم القيامة ................................ ١٤٧

خلاصة البحث التشريعي ................................. ١٥١

بحوث متفرقة ........................................... ١٥٥

١ ـ ما مقدار الضرر ............................... ١٥٥

٢ ـ لا تقية عند التورية ............................ ١٥٨

٣ ـ التقية والأحكام الخمسة ........................ ١٦٢

٤ ـ لا تقية في الدماء .............................. ١٦٥

مصاديق التقية :......................................... ١٦٧

الأصول ................................................ ١٦٧

الفروع : ............................................... ١٧٥

١ ـ للعبادات ..................................... ١٦٩

٢ ـ والمعاملات ................................... ١٦٩

٣ ـ المأكل والمشرب ............................... ١٧١

شروط التقية ........................................... ١٧٣

هل أن التقية نفاق ....................................... ١٧٥

متى شرعت التقية ........................................ ١٧٧

كيف نشأت الحاجة للتقية بين المسلمين ................... ١٧٩

انوار لامعة من الطرفين ................................... ١٩٥

آخر المطاف ............................................ ١٩٩

المراجع والمصادر ......................................... ٢٠٣

المحتويات ............................................... ٢٠٦

التقيّة في إطارها الفقهي

المؤلف: علي الشملاوي
الصفحات: 208