بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
المقصد
الخامس
(
في القرض ) بكسر القاف وفتحها
وهو معروف أثبته الشارع متاعا للمحتاجين مع رد عوضه في غير المجلس غالبا وإن كان
من النقدين رخصة ، وقد تظافرت النصوص ، بل تواترت بتأكيده في المؤمن ، حتى قال رسول الله 6 « من أقرض مؤمنا قرضا ينظر به ميسوره كان ماله في زكاة
وكان هو في صلاة من الملائكة حتى يؤديه » و « من أقرض أخاه
المسلم كان له بكل درهم أقرضه وزن جبل أحد من جبال رضوى وطور سيناء حسنات وإن رفق
به في طلبه تعدى على الصراط كالبرق الخاطف اللامع بغير حساب ولا عذاب ، ومن شكا
إليه أخوه المسلم فلم يقرضه حرم الله عز وجل عليه الجنة يوم يجزى المحسنين » والصادق
7 « لأن أقرض قرضا أحب إلى من أن أتصدق بمثله ، ومن أقرض قرضا وضرب له أجلا ولم
يؤت به عند ذلك الأجل كان له من الثواب في كل يوم يتأخر عن ذلك الأجل بمثل صدقة
دينار واحد في كل يوم » و « القرض الواحد
بثمانية عشر وإن مات حسبتها من الزكاة » و « ما من مسلم
أقرض مسلما قرضا حسنا يريد به وجه الله إلا حسب له أجره كأجر الصدقة حتى يرجع
إليه. »
وكيف كان فتمام
النظر فيه يستدعي النظر في أمور ثلاثة الأول في حقيقته وهو عقد بلا خلاف أجده فيه
، نعم في المسالك لا شبهة في اشتراط الإيجاب والقبول
__________________
فيه بالنسبة إلى
تحقق الملك إن قلنا أنه يملك بهما وبالقبض ، فلو قلنا بتوقف الملك على التصرف وكان
قبله بمنزلة الإباحة فينبغي أن لا يتوقف على العقد.
قلت : الظاهر من
القائل بذلك كون التصرف كاشفا عن الملك ، فلا بد من حصول السبب له قبله وإن كان
مشروطا تأثيره على جهة الكشف وليس إلا العقد والقبض ، كما أن الظاهر كونه من تمام
السبب عنده بناء على عدم الكشف ، فالملك حينئذ حاصل منه ومن العقد والقبض فهو حينئذ
غير الإباحة ، بل من الواضح تغايرهما في عرف المتشرعة موضوعا وأحكاما.
وكيف كان فالظاهر
دخول المعاطاة فيه بناء على دخولها في غيره ، بل هو أولى من البيع وغيره بذلك ،
والسيرة فيه أتم. والفرق بينها وبين العقد بناء على عدم جواز رجوع المقرض بالعين
بعد القبض واضح ، إذ من المعلوم عدم ذلك في المعاطاة وإن قلنا بحصول الملك معا ،
إلا أنه متزلزل كما في البيع فلكل منهما الرجوع حينئذ إذا كان القرض بها ، وأما
إذا قلنا بعدم الملك بالقبض بل لا بد من التصرف ، فلعل الفرق بين العقد والمعاطاة
حينئذ التزام كون التصرف في الأول كاشفا أو متمما ، بخلافه في المعاطاة التي يمكن
كونه فيها حينئذ كالإباحة بالعوض.
نعم قد يشكل الفرق
بين معاطاته وعقده بناء على جواز فسخه الموجب لرجوع العين ، وعلى أن المعاطاة تفيد
الملك المتزلزل ، ولعله لا بأس بالتزام عدم الفرق بينهما حينئذ ، فإنه لا دليل
يقتضي لزوم الفرق بين المعاطاة والعقد هذا كله بناء على أن المعاطاة تقتضي الملك
المتزلزل ، وإلا فالفرق بينهما حينئذ واضح ، بناء على حصول الملك بالقبض ، بل وعلى
القول بالتصرف ، لما عرفت من الفرق بين التصرف المسبوق بالعقد والقبض ، وبين
التصرف المسبوق بالمعاطاة ، ولو سلم تساويهما كما في بعض الاحتمالات أمكن الالتزام
بما عرفت من عدم الفرق بينهما حينئذ ، لعدم ما يقتضي وجوبه ، والأمر سهل خصوصا بعد
ما ستسمع من ضعف القول بكون القرض من العقود الجائزة الموجب فسخها لرد العين ،
والقول بتوقف الملك فيه على التصرف ، والله أعلم.
وحيث قد عرفت أنه
عقد فهو يشتمل على إيجاب كقوله أقرضتك أو ما يؤدي معناه وضعا وأما مثل تصرف فيه أو
انتفع به ، وعليك رد عوضه ونحوهما مما يفيد معناه بالقرينة فالبحث فيه كما في غيره
من العقود اللازمة ، بناء على كونه منها على الأصح ، لكن في المسالك تبعا للدروس أن
من المؤدى معناه : خذ هذا أو اصرفه أو تملكه أو ملكتك أو استلفتك ونحوه ، وعليك رد
عوضه أو مثله أو نحو ذلك ، والحاصل أن صيغته لا تنحصر في لفظ كالعقود الجائزة ، بل
كل لفظ دل عليه كفى ، إلا أن لفظ أقرضتك صريح في معناه ، فلا يحتاج إلى ضميمة :
وعليك رد عوضه ونحوه وغيره يحتاج.
وفيه أولا أنك
ستعرف كونه من العقود اللازمة عنده ، حتى أنه أول قولهم بالجواز إلى ما ستسمع ،
وثانيا أنه قد يمنع دلالة ذلك على القرض بعد فرض مشروعية الإباحة بالعوض أو الهبة
به ، فالواجب حينئذ والأحوط الاقتصار علي المتيقن في لفظه. ثم إنه بناء على ما
ذكره لو ترك الضميمة المزبورة فلم يقصد إلا مع معنى المنضم إليه ، فإن كان بلفظ
التمليك أفاد الهبة ، لأنه صريح فيها ، وإن كان بلفظ السلم ونحوه كان فاسدا لا
يترتب عليه حكم عقد ، لأنه حقيقة في السلم ولم يجمع شرائطه ، وإن كان بغيره من تلك
الألفاظ الدالة على الإباحة فهو هبة مع قصد الموجب لها لا بدونه كما سيأتي إنشاء
الله.
فلو اختلفا في
القصد فالقول قوله لأنه أبصر به ، أما لو اختلفا في قصد الهبة مع تلفظه بالتمليك
فقد قطع في التذكرة بتقديم قول صاحب المال ، لأنه أعرف بلفظه ولأصالة عصمة المال
وعدم التبرع به ، ووجوب الرد على الآخذ لعموم « على اليد » وفيه أن ظاهر اللفظ الدال على القصد يقطع ذلك كله كما في
سائر العقود ، إذ الأصل إرادة الحقيقة ، والمجاز لا يصار إليه إلا بقرينة ، فلا
يسمع دعواه مع عدمها في مقابلة الغير كما هو واضح.
ويشتمل أيضا على
القبول والبحث فيه كالإيجاب لكن قال المصنف إنه هو
__________________
اللفظ الدال على
الرضا بالإيجاب ولا ينحصر في عبارة بل في الدروس والأقرب الاكتفاء بالقبض ، لأن
مرجعه إلى الإذن في التصرف ، بل حكاه في المسالك عن قطع جماعة لكن قال : إنه كذالك
بالنسبة إلى إباحة التصرف وفي الاكتفاء به في تمام الملك نظر.
قلت : إنما الكلام
في تتمة العقد به ، وأنه يكون كالقبول القولي ، ولا ريب في أن الأحوط عدم الاكتفاء
بذلك ، بل هو الأقوى بناء على كون القرض من العقود اللازمة ، بل عليه لا ينبغي الاكتفاء
بكل لفظ ولو مجازا بعيدا ، ولتحقيق ذلك مقام آخر ، وكان تسامحهم في عقد القرض بناء
على أنه من العقود الجائزة إلا أنك ستعرف ما فيه كما أنك عرفت عدم البأس بذلك كله
في معاطاة القرض فتأمل جيدا والله أعلم.
وكيف كان ففي
القرض أجر عظيم ينشأ من معونة المحتاج تطوعا وكشف كربة المسلم حتى روي « أن درهم الصدقة
بعشر ، والقرض بثمانية عشر » ، وقول النبي 6 « ألف درهم أقرضها مرتين أحب الي من أن أتصدق بها مرة » ،
لا دلالة فيه على رجحان الصدقة عليه ، حتى يحتاج إلى الجمع بحمل ما دل على رجحان
الصدقة على الصدقة الخاصة كالصدقة على الأرحام والعلماء ونحوهم ، وما دل على رجحان
القرض على غيرها من الصدقة العامة ، بل المراد بذلك الإشارة إلى ما استفيد من غيره
من النصوص من كون وجه رجحان القرض على الصدقة ، أن القرض يعود فيقرض ، بخلاف
الصدقة كما هو واضح ، إذ من المعلوم الترجيح بين طبيعتيهما ، وإلا فكل منهما قد
يقترن بما يتضاعف ثوابه إلى ما لا يحصيه إلا الله ، ودعوى أن القرض على كل حال لا
يزيد على الثمانية عشر واضحة البطلان.
والحاصل أن المراد
من الخبر المزبور بيان كون قرض الشيء أفضل من الصدقة به ، كما رواه القماط وغيره « قال : سمعت
أبا عبد الله 7 يقول لأن أقرض قرضا أحب إلى من أن أتصدق بمثله » ، ولعله
إلى ذلك أشار الشيخ وغيره بما رووه مرسلا
__________________
القرض أفضل من الصدقة بمثله في الثواب ، وإلا
فلم نجد هذا اللفظ في شيء من نصوصنا ، لكن ظاهر الشهيدين وجودها بهذا اللفظ ،
ولذا احتملا فيها احتمالين : أحدهما ما يراد من الخبر المزبور فلا يكون فيه دلالة
على مقدار الثواب ، وثانيهما تعليق بمثله بأفضل لا بالصدقة فيكون المعنى ان القدر
المقترض أفضل من المتصدق به ، بمقدار مثله في الثواب ، والصدقة لما كان المعروف من
ثوابها والمشترك بين جميع أفرادها عشرة ، فدرهم القرض حينئذ بعشرين ، إلا أنه لما
كان يعود بخلاف درهم الصدقة حصل له ثمانية عشر ، إذ الصدقة إنما صار درهمها بعشرة
باعتبار عدم عوده ، فالذي استفاده حقيقة تسعة ، فهي مع مثلها ثمانية عشر ، تحصل
لدرهم القرض الذي عاد لصاحبه ، وهذا وإن كان ألطف من الأول وأوفق بمناسبة خبر
الثمانية عشر ، ومشتمل على سر لطيف ، وبلاغة في الكلام ، مناسبة للمعروف من كلامهم
: ، إلا أن الذي ذكرناه أولا أظهر خصوصا مع معلومية عدم كون عادتهم مراعاة نحو
ذلك في كلامهم الصادر لبيان الأحكام التي يتساوى فيها الخاص والعام.
وأما قوله في
الثواب ، فهو على الوجهين متعلق بأفضل ، لبيان الواقع كقوله (
يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ) ، و ( يَطِيرُ
بِجَناحَيْهِ ) ، أو لغير ذلك كما أنه قد يحتمل تعلقه بغير أفضل على الأول
، والأمر في ذلك كله سهل ، ثم إن الظاهر من قول المصنف « تطوعا » الإشارة إلى
اعتبار النية في حصول الثواب كغيره من الأعمال وهو كذلك إذ احتمال حصوله مطلقا
ضعيف وعلى كل حال فشرط القرض الاقتصار على ذكر (رد العوض ف ) قط على معنى أنه لو
شرط النفع حرم الشرط بلا خلاف فيه ، بل الإجماع منا بقسميه عليه ، بل ربما قيل :
إنه إجماع المسلمين ، لأنه ربا قال على بن جعفر في المروي عن قرب الإسناد « سألت أخي موسى 7 عن رجل اعطى رجلا
مائة درهم على أن يعطيه خمسة دراهم أو أقل أو أكثر فقال : هذا الربا المحض » وقال
خالد بن الحجاج : « سألته عن رجل كانت لي عليه مائة درهم عددا
__________________
فقضاها مائة وزنا
قال : لا بأس ما لم يشترط قال : وقال : جاء الربا من قبل الشروط ، إنما يفسده
الشروط » ومنه يعلم أن المراد بالبأس في مفهوم غيره المنع ، كموثق إسحاق بن عمار « قلت لأبي
إبراهيم 7 الرجل يكون له عند الرجل المال قرضا ، فيطول مكثه عند الرجل لا يدخل على
صاحبه منه منفعة ، فينيله الرجل كراهة أن يأخذ ماله ، حيث لا يصيب منه منفعة ، يحل
ذلك له؟ قال : لا بأس إذا لم يكونا شرطاه » وحسن الحلبي « سألت أبا عبد
الله 7 عن الرجل يستقرض الدراهم البيض عددا ثم يعطي سودا وزنا ، وقد عرف أنها أثقل مما
أخذ ، وتطيب نفسه أن يجعل له فضلها ، فقال : لا بأس إذا لم يكن فيه شرط ، ولو
وهبها كملا كان أصلح » وصحيحه الآخر عنه أيضا « إذا أقرضت الدراهم ثم جاءك بخير منها فلا بأس
إذا لم يكن بينكما شرط » بل منه يعلم فساد القرض بهذا الشرط لا الشرط خاصة ، فيكون
الشرط في صحة القرص عدم هذا الشرط كما هو ظاهر صحيح محمد بن قيس عن أبى جعفر 7 « من أقرض رجلا
ورقا فلا يشترط إلا مثلها فإن جوزي بأجود منها فليقبل ، ولا يأخذ أحد منكم ركوب
دابة أو عارية متاع يشترطه من أجل قرض ورقه » ضرورة ظهور النهي فيه في الشرطية كما
في نظائره ، مضافا إلى النبوي « كل قرض يجر منفعة فهو حرام » المراد منه بقرينة غيره
صورة الشرط المنجبر بكلام الأصحاب ، بل قيل : إنه إجماع بل في المختلف الإجماع على
أنه إذا أقرضه وشرط عليه أن يرد خيرا مما اقترض كان حراما ، وبطل القرض ، فحرمة
القرض منه حينئذ ظاهرة في فساده وانه لم يفد الملك فيحرم على المستقرض التصرف فيه
وهو مضمون عليه لكونه مقبوضا على ذلك ولأن ما يضمن
__________________
بصحيحه يضمن
بفاسده » فما عن أبي حمزة من أنه أمانة ضعيف ، وأضعف منه توقف المحدث البحراني في
ذلك مدعيا أنه ليس في شيء من نصوصنا ما يدل على فساد العقد بذلك ، بل أقصاها
النهي عن اشتراط الزيادة ، والخبر النبوي ليس من طرقنا. نعم يبنى فساد العقد على المسألة السابقة
وهي اقتضاء فساد الشرط فساد العقد ، وقد عرفت الخلاف ، وإن كان ظاهرهم هنا عدم كون
البطلان هنا مبنيا على ذلك ، ولذا ادعى شيخنا في المسالك الإجماع عليه ومما قدمنا
يظهر لك ما فيه ، كما أنه يظهر الوجه فيما دل من النصوص على أن خير القرض ما جر
نفعا كخبر محمد بن مسلم وغيره « قال : سألت أبا عبد الله 7 عن الرجل يستقرض
من الرجل قرضا ويعطيه الرهن إما خادما وإما آنية وإما ثيابا فيحتاج إلى شيء من
منفعة فيستأذنه فيه فيأذن له فقال : إذا طابت نفسه فلا بأس ، فقلت :إن من عندنا
يرون : كل قرض يجر منفعة فهو فاسد ، قال : أوليس خير القرض ما ـ جر منفعة؟ » ومرسل
مسلم عن أبى جعفر 7 « خير القرض ما جر منفعة » وخبر على بن محمد « قال : كتبت
إليه القرض يجر المنفعة ، هل يجوز أم لا فكتب 7 يجوز ذلك عن تراض منهما إنشاء الله » إذ من الواضح إرادة
صورة عدم الشرط التي صرح المصنف وغيره بها بقوله نعم لو تبرع المقترض بزيادة في
العين أو الصفة جاز بل لا أجد فيها خلافا بيننا للنصوص المتقدمة ، مضافا إلى خبر
إسحاق بن عمار عن أبى الحسن 7 « سألته عن الرجل يكون له مع الرجل مال قرضا فيعطيه الشيء
من ربحه مخافة أن يقطع ذلك عنه فيأخذ ماله من غير أن يكون شرط عليه؟ قال : لا بأس
» وخبر الربيع « قال : سئل أبو عبد الله 7 عن رجل أقرض رجلا دراهم فرد عليه أجود منها بطيب نفسه ،
وقد علم المستقرض والقارض أنه إنما أقرضه ليعطيه أجود منها ، قال : لا بأس إذا
طابت نفس المستقرض » وقول النبي 6 لما اقترض بكر أفرد بازلا رباعيا « إن خير الناس أحسنهم
قضاء » وصحيح عبد الرحمن بن الحجاج « سألت أبا عبد الله 7 عن الرجل يستقرض
__________________
من الرجل الدراهم
فيرد عليه المثقال أو يستقرض المثقال فيرد عليه الدراهم. فقال :إذا لم يكن شرط فلا
بأس ، وذلك هو الفضل كان أبى 7 يستقرض الدراهم المفسولة فيدخل عليه الدراهم الجلال فيقول
يا بنى ردها على الذي استقرضتها منه فأقول : إن دراهمه كانت مفسولة وهذه خير منها
فيقول يا بنى هذا هو الفضل فأعطه إياها » وكأنه 7 أشار إلى قوله تعالى ( وَلا تَنْسَوُا
الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ) فتكون هي حينئذ دليلا آخر على المطلوب ، بل وموثق أبي بصير
عن أبى جعفر 7 « قلت له : الرجل
يأتيه النبط بأحمالهم فيبيعها بالأجر فيقولون له : أقرضنا دنانير فانا نجد من يبيع
لنا غيرك ، ولكنا نخصك بأحمالنا من أجل أنك تقرضنا قال لا بأس به إنما يأخذ دنانير
مثل دنانيره ، وليس بثوب إن لبس كسر ثمنه ، ولا دابة إن ركبها كسرها وانما هو
معروف يصنعه إليهم ، » ومرسل جميل « قلت لأبي عبد الله 7 : أصلحك الله إنا نخالط نفرا من أهل السواد فنقرضهم القرض
ويصرفون إلينا غلاتهم فنبيعها لهم بأجر ، ولنا في ذلك منفعة قال لا بأس ، ولا أعلم
إلا قال : ولولا ما يصرفون إلينا من غلاتهم لم نقرضهم ، فقال : لا بأس » وإن كان
قد يقال : إن مثله جائز حتى مع الشرط ، كما أومأ إليه التعليل المزبور ، لعدم كونه
منفعة محضة ، بل هو في مقابلة عمل كشرط البيع بالقيمة في القرض ومثله يقوى جوازه
للأصل وإطلاق بعض النصوص مع الشك في شمول أدلة المنع له.
وعلى كل حال فالنفع
وان كان محضا جائز أخذه مع عدم الشرط. نعم قد يقال :بأولوية تركه للمقروض إذا كان
من نيته ذلك ، لموثق إسحاق بن عمار « سألت العبد الصالح عن الرجل يرهن الثوب أو العبد أو
الحلي أو المتاع من متاع البيت قال :فيقول : صاحب الرهن للمرتهن : أنت في حل من
لبس هذا الثوب ، فالبس الثوب ، وانتفع بالمتاع ، واستخدم الخادم ، قال : هو له
حلال إذا أحله ، وما أحب له أن يفعل » وصحيح يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله 7 « سألته عن الرجل
يسلم في بيع أو عشرين دينارا ويقرض صاحب السلم عشرة دنانير أو عشرين دينارا ، قال
: لا يصلح
__________________
إذا كان قرضا يجر
شيئا فلا يصلح ، وسألته عن الرجل يأتي حريفه وخليطه فيستقرضه الدنانير فيقرضه ،
ولو لا أن يخالطه ويحارفه ويصيب عليه لم يقرضه ، فقال : ان كان معروفا بينهما فلا
بأس ، وان كان انما يقرضه من أجل أنه يصيب عليه فلا يصلح » بناء على إرادة الكراهة
منه لعدم الشرط كما أنه يمكن خروج صدر الخبر عما نحن فيه ، بناء على عدم قدح مثله
ولو بصورة الشرط ، لرجوعه الى القرض بشرط السلم ، وهو مع عدم المحاباة فيه ، يمكن
منع حرمته.
بل الظاهر عدم
الكراهة فيما نحن فيه ، إذا لم يكن للقرض مدخلية في النفع بل كان من مقارناته كما
يشير اليه خبر هذيل « قلت : لأبي عبد الله 7 اني دفعت الى أخي جعفر مالا فهو يعطيني ما أنفقه وأحج به
وأتصدق ، وقد سألت من عندنا فذكروا أن ذلك فاسد ، وأنا أحب أن انتهى الى قولك ،
فقال : أكان يصلك قبل أن تدفع اليه مالك ، قلت : نعم قال : خذ ما يعطيك فكل منه واشرب
وحج وتصدق فإذا قدمت العراق فقل جعفر بن محمد أفتاني بهذا » بل قد يقال : بعدم
الكراهة أصلا ، إذا لم يكن من نيتهما ذلك ، بل إذا لم يكن من نية المقرض خاصة.
ومن هنا خصها في
الدروس بما إذا كان ذلك من نيتهما ، ولم يذكراه لفظا ، فحينئذ لا تنافي بين هذه
النصوص ، وبين النصوص السابقة الدالة على أن خير القرض ما جر نفعا ، الظاهرة في
عدم الكراهة بعد حملها على ما إذا لم يكن من نيتهما كما أنه لا تنافي بين ما دل
على رجحان دفع الزيادة تحصيلا لحسن القضاء ، وبين ما دل على كراهة قبول المقرض لها
، إذا كان من نيته ذلك ، وأنه انما أقرضه له ، ونفي البأس في خبر أبي الربيع غير مناف لها بعد
ارادة الجواز منه.
بل قد يقال
باستحباب احتساب الهدية من الدين ، وان لم يكن من نية المقرض ، لخبر غياث بن
إبراهيم « عن أبي عبد الله 7 أن رجلا أتى عليا 7
__________________
فقال له : ان لي
على رجل دينا فاهدى الي هدية ، قال : احسبه من دينك عليه » هذا!
والذي دعانا الى
ذلك كله ظهور بعض النصوص بعدم الكراهة فيه ، كالأخبار الدالة على أن خير القرض ما
جر نفعا ، وغيرها ، وظهور آخر في تحققها فيه ، ومن هنا احتملنا التنزيل المزبور ،
وقد يحتمل تفاوتها شدة وضعفا ، وعلى كل حال فالأمر في ذلك كله سهل بعد معلومية
التسامح في السنن ، وبعد ما عرفت من أن الممنوع اشتراط المنفعة صريحا ، أو إضمارا
قد بنى العقد عليه ، من غير فرق بين كون المنفعة عينا أو وصفا.
ومنه يعلم الحكم
فيما لو شرط الدراهم الصحاح كالطازجية عوض المكسرة كالغلة لكن قيل : والقائل الشيخ
وأبو الصلاح وابنا البراج وحمزة يجوز فيه لصحيح يعقوب بن شعيب سألت أبا عبد
الله 7 عن الرجل يقرض الرجل الدراهم الغلة ويأخذ منه الدراهم الطازجية طيبة بها نفسه
، قال لا بأس وذكر ذلك عن علي 7 » الذي لا ظهور فيه بصورة الشرط ، بل قيل : انه ظاهر في
عدمها ولو سلم فبينه وبين غيره مما أطلق فيه المنع تعارض العموم من وجه ، ومن الواضح
رجحانه عليه من وجوه.
كل ذلك مضافا الى
خصوص بعض النصوص السابقة كصحيح محمد بن قيس وغيره فلا ريب حينئذ في أن الوجه بل الأصح المنع فيه ، وفي
المحكي عن أبي الصلاح خاصة من جواز قرض المصوغ من الذهب مع الإعطاء عينا ، ومن
الفضة درة والنقد المخصوص من خالص الذهب والفضة بشرط إعطاء العتيق من نقد غيره ،
إذا كان مراده الجواز مع فرض كون المشروط نفعا للمقرض ، إذ لا دليل عليه معتد به ،
فضلا عن أن يصلح معارضا.
وخبر عبد الملك بن
عقبة عن عبد صالح « قلت له : الرجل يأتيني يستقرض
__________________
مني الدراهم فأوطن
نفسي على أن أؤخره بها شهر الذي يتجاوز به عني ، فإنه يأخذ مني فضة تبر على أن
يعطيني مضروبة وزنا بوزن سواء ، هل يستقيم هذا إلا أني لا أسمي له تأخيرا إنما
أشهد لها عليه فرضي قال : لا أحبه » لا دلالة فيه على ذلك بل لعله لم يشترط عليه
المضروبة.
وكيف كان فالتحقيق
ما عرفت ، ومنه يعلم غرابة ما عن الأردبيلي من الميل الى عدم البأس في اشتراط
الزيادة الحكمية مطلقا حاكيا له عن الجماعة المزبورة ، للأصل وإطلاق الأدلة ،
خصوصا نصوص خير القرض ما جر نفعا ، بعد عدم الإجماع وعدم ظهور تناول
دليل الربا له ، بل دلالة أكثر أخبار المنع انما هي بمفهوم البأس الذي هو أعم من
الحرمة.
وفيه ما عرفت من
ظهور الأدلة منطوقا ك صحيح محمد بن قيس وغيره ، ومفهوما ولو بقرينة غيره في المنع من اشتراط النفع
عينا أو منفعة أو صفة كما هو واضح. نعم قد يستثنى من ذلك اشتراط التسليم في بلد
آخر ، وان كان فيه نفع لخبر الكناني عن الصادق 7 « في الرجل يبعث بمال إلى أرض فقال للذي يريد أن يبعث له :
أقرضنيه وأنا أوفيك إذا قدمت الأرض؟ قال : لا بأس بهذا ».
وأوضح منه خبر
يعقوب بن شعيب « قلت : لأبي عبد الله 7 يسلف الرجل الرجل الورق على أن ينقده إياه بأرض أخرى ،
ويشترط عليه ذلك؟ قال : لا بأس » وإسماعيل بن جابر « قلت : لأبي
جعفر أدفع الى الرجل الدراهم فاشترط عليه ان يدفعها بأرض أخرى سودا بوزنها واشترط
ذلك عليه قال لا بأس » إلى غير ذلك من النصوص.
ولذلك صرح به في
القواعد وغيرها بعد التصريح بانصراف الإطلاق إلى بلد القرض ، بل قال فيها : سواء
كان في حمله مؤنة أولا ، لكن في جامع المقاصد احتمال الفساد مع كون المصلحة للمقرض
، لجر النفع ناسبا له إلى تصريح الشهيد به في بعض فوائده ، ثم رده بأن الممنوع منه
الزيادة في مال القرض عينا أو صفة ، وليس هذا وأحدا منهما ،
__________________
ومثله الحلي في
السرائر.
قلت : يمكن أن
يكون مبنى الجواز النصوص المزبورة التي إن لم يسلم ظهورها في خصوص الفرض ، فلا ريب
في شمولها له ، فالتعارض حينئذ بينهما وإن كان من وجه إلا أنه لا إشكال في رجحانها
عليه ، من حيث الدلالة وغيرها ، خصوصا بعد اعتضادها بفتوى من تعرض له من الأصحاب ،
نعم قال في القواعد : « لو طالبه المقرض من غير شرط في غير البلد أو فيه مع شرط
غيره ، وجب الدفع مع مصلحة المقترض ، ولو دفع في غير بلد الإطلاق أو الشرط وجب
القبول مع مصلحة المقرض ».
وفيه ـ بعد إرادة
الضرر من عدم المصلحة الذي لا يوجب على المقترض الدفع ، ولا على المقرض القبول ـ أنه
مناف لعموم ما دل على أن المؤمنين عند شروطهم ومع فرض عدم لزوم
هذا الشرط وأنه كالوعد بناء على أنه شرط في عقد القرض الذي هو عندهم من العقود
الجائزة لا ينبغي مراعاة المصلحة أيضا ، ومن هنا قال في الدروس : ولو دفع إليه في
غير مكانه مع الإطلاق أو في غير المكان المشترط لم يجب القبول وإن كان الصلاح
للقابض ، ولو طالبه في غيرهما لم يجب الدفع وإن كان الصلاح للدافع.
نعم لو تراضيا جاز
، ولتمام تحقيق ذلك مقام آخر ، وقد سبق منا بعض الكلام فيه ، وتسمع في اشتراط
الأجل بعضه أيضا ، وعلى كل حال فليس من جر النفع اشتراط المقرض رهنا على ما أقرضه
، أو كفيلا أو إشهادا ونحو ذلك مما لا يندرج في إطلاق المنع السابق ، فيبقى ما دل
على الجواز من عموم أدلة الشرط وغيره بلا معارض ، بل في القواعد وجامع المقاصد :
أن الأقرب جواز اشتراط ذلك على دين آخر ، محتجا عليه في الأخير بأن ذلك ليس زيادة
في مال القرض ، وإنما هو شرط خارج عنه ، وإن كان زيادة بحسب الواقع ، فإن المنهي
عنه هو الزيادة في مال القرض.
وإن كان قد يناقش
فيه بأن المستفاد من النصوص السابقة فضلا عن الخبر العامي الذي تلقاه الأصحاب هنا
بالقبول « وهو كل قرض جر نفعا فهو حرام » المنع عن كل
__________________
نفع للمقرض ،
كركوب دابة أو عارية متاع أو انتفاع برهن أو نحو ذلك ، ك صحيح محمد بن قيس وغيره ، وإن لم
يكن بزيادة في نفس المال المقترض ، ومن هنا استجود المنع في الدروس.
ومنه يظهر وجه
المنع في القرض بشرط البيع مثلا محاباة ، لوضوح جر النفع ، خلافا لهما فلم يفرقا
بينه وبين البيع بثمن المثل ، وهو كما ترى ، ضرورة عدم صدق جر النفع في الثاني دون
الأول ، وإن اتفق احتياجه إليه كوضوح الفرق بين القرض وبين البيع محاباة بشرط
القرض ، إذ لا يصدق على القرض أنه اشترط فيه ما يجر منفعة ، وإن كانت المنفعة هي
السبب في وقوعه ، إلا أنه لا يخلو من كراهة ، لصحيح يعقوب بن شعيب المتقدم آنفا في
قرض صاحب السلم ، مع أنه لا دلالة فيه على اشتراط ذلك في عقد السلم ولا على
التحابي فيه فلاحظ وتأمل.
ولو كان الشرط
نفعا للمستقرض دون المقرض كما إذا اشترط إعطاء الغلة عوض الضحاح ، أو اشترط عليه
أن يقرضه شيئا آخر ونحو ذلك جاز بلا خلاف ولا إشكال ، نعم احتمل في الدروس المنع
في الثاني مع فرض النفع له ، كما إذا كان الزمان زمان نهب أو غرق ، وفيه أن مثله
غير قادح لا أقل من الشك في اندراج مثله تحت أدلة المنع والله أعلم ، هذا.
وليعلم أنه إن
كانت الزيادة التي ردها المقترض من غير شرط حكمية كالجيد بدل الردي والكبير بدل
الصغير كما صنعه النبي 6 ملكه المقرض ملكا مستقرا بقبضه ، وكان بأجمعه استيفاء ،
وإن كانت عينية كما لو دفع اثنى عشر ، من عليه عشرة ، ففي كون المجموع وفاء
كالحكمي بناء على أنه معاوضة عما في الذمة ، غايته كونه متفاضلا وهو جائز بالشرط
وهو عدم الشرط ، أو يكون الزائد بمنزلة الهبة ـ فيلزم حكمها من جواز الرجوع فيه ،
على بعض الوجوه الآتية ، التفاتا إلى أن الثابت في الذمة إنما هو مقدار الحق ،
فالزائد تبرع خالص ، وإحسان محض ، وعطية منفردة ـ احتمالان ، قد
__________________
اعترف في المسالك
بأنه لم يقف فيه على شيء ، لكن قال : لعل الثاني أوجه خصوصا مع حصول الشك في
انتقال الملك ، قلت : لكن يشكل مع عدم تعيين الوفاء منها ، كما أنه يشكل جعله من
المعاوضة عما في الذمة ، بناء على عموم الربا ، فلا ريب في أن الأحوط في الربوي
تعيين الوفاء ، ثم هبة الزائد والأمر سهل.
إنما الكلام في
وجوب القبول على المقترض ، صرح في التذكرة بذلك مع كون الزيادة حكمية ، وتبعه
الأردبيلي فيما حكي عنه ، لأصالة براءة ذمة المقترض ، ولانه يندرج تحت مثل المال
وإن تضمن زيادة ولظهور النصوص في كون ذلك وفاء وإن كان هو أحسن أفراده.
وقد يناقش بأنه
ليس في النصوص إلا عدم البأس بالأخذ ، وهو أعم من الوجوب الذي هو حكم شرعي يحتاج
إلى دليل واضح ، على أنه قد عرفت كراهة أخذ المقرض الزيادة وإن كانت وصفية ، فكيف
يجامع الوجوب.
ومنه يعلم وضوح
عدم وجوب القبول في الزيادة العينية التي لا تخلو من المنة التي من المعلوم عدم
وجوب قبولها ، بل ربما تتحقق في الزيادة الوصفية ، لكن الإنصاف عدم خلو القول
بالوجوب في الزيادة الوصفية التي لا تخرج المدفوع عن الجنس من قوة ، نحو ما سمعته
في السلم ، ولظهور النصوص في أن ذلك أحسن أنواع الوفاء ، إما العينية فالمتجه عدم
وجوب قبولها والله أعلم.
الثاني مما يقع
النظر فيه ما يصح إقراضه وهو عند المصنف كل ما ـ يضبط وصفه الذي تختلف القيمة
باختلافه وقدره إن كان من شأنه التقدير ، ولو لتوقف الضبط عليه ، ولا ريب في طرده
، بمعنى صحة قرض مضبوط الوصف والقدر بل لا خلاف فيه لإطلاق الأدلة ، إنما الكلام
في عكسه وهو أن كلما لا يضبط وصفه ولا قدره لا يجوز قرضه ، إذ يمكن منعه للإطلاق
المزبور خصوصا على المختار من أن الثابت في قرض القيمي قيمته التي لا مدخلية في
ثبوتها في الذمة ، لضبط الوصف الذي يراد منه دفع المثل وفاء.
__________________
كما أنه قد يمنع
وجوب اعتبار ضبط الوصف سابقا على القرض في صحته ، على وجه لا يجدي اعتباره بعد
القرض والقبض ، لعدم الدليل الصالح لتقييد الإطلاق المعتضد بإطلاق جملة من الأصحاب
الذين لم يذكروا هذا الشرط كبني زهرة وحمزة وإدريس وغيرهم ، والتعليل بأن ذلك
مقدمة للوفاء لا يقضي بالاشتراط المزبور ، بل قد يقال :بعدم فساد القرض بالإخلال
به أصلا ، إذ أقصاه ثبوت مثله أو قيمته في الذمة ، فإن علما ببينة ونحوها وجب
تأديتهما ، وإلا رجع إلى الصلح.
وكذلك الكلام في
القدر ، خصوصا مع إرادة المعتاد منه ، كما صرح به بعضهم ويقتضيه ظاهر الإطلاق ،
فلا يجدي المكيال المجهول والصنجة المجهولة ، وخصوصا مع إرادة اعتبار ذلك حتى فيما
يكفي في بيعه المشاهدة ، كالتبن والحطب ونحوهما ، لتوقف إثبات عوضه في الذمة على
الاعتبار المزبور ، فهو كالسلم فيه.
ولذا قال في
المسالك : الضابط في قرض المثلي اعتبار ما يعتبر في السلم من الكيل والوزن والعدد
، إلى أن قال : وحينئذ فلو أقرض المقدر غير معتبر لم يفد الملك ، ولم يجز التصرف
فيه ، وإن اعتبره بعد ذلك ، ولو تصرف فيه قبل الاعتبار ضمنه ، وتخلص منه بالصلح
كما هو وارد في كل ما يجهل قدره وقال في التذكرة « تارة يجب في المال أن يكون
معلوم القدر ليتمكن من قضائه ، وأخرى قد بينا أنه لا يجوز إقراض المجهول ، لتعذر
الرد ، فلو أقرضه دراهم أو دنانير غير معلومة الوزن أو قبة من طعام غير معلومة
الكيل ولا الوزن ، أو قدرها بمكيال معين أو صنجة معينة غير معروفين عند الناس لم
يصح ، وقال في التحرير « لا يجوز اقتراض المكيل والموزون جزافا ، وكذا لو قدره
بمكيال بعينه أو صنجة معينة غير معروفين عند العامة ، ولو كانت الدراهم مما يتعامل
بها عددا اشترط تعيين العدد ، ويرد عددا وإن استقرض وزنا رد وزنا ، وكذا كل معدود
يجب معرفة عدده وقت الإقراض » وقال في الإرشاد « وكل مضبوط بما يرفع الجهالة من
الأوصاف يصح إقراضه ، فإن كان مثليا ثبت في الذمة مثله ، وإلا القيمة وقت التسليم
» وفي الدروس « إنما يصح القرض مع الملك أو إجازة المالك ، وعلم العين بالمشاهدة
فيما يكفي فيه ، وبالاعتبار كيلا ووزنا أو عددا فيما شأنه ذلك ، ويجوز إقراض الخبز
وزنا وعددا ، إلا
أن يعلم التفاوت ، فيعتبر الوزن ، ويجوز إقراض المثلي إجماعا ، وكذا القيمي الذي
يمكن السلف فيه. وفيما لا يضبطه الوصف كالجوهر واللحم والجلد قولان ، مع اتفاقهم
على جواز إقراض الخبز عملا بالعرف العام ، ولا يجوز السلم فيه ، والمنع للمبسوط ،
والجواز للسرائر » قلت : الموجود في السرائر قال الشيخ في مبسوطه « لا يجوز إقراض
ما لا يضبط بالصفة ، والصحيح أن ذلك يجوز ، لأنه لا خلاف بين أصحابنا في جواز
إقراض الخبز ، وإن كان لا يضبط بالصفة ، لأنهم أجمعوا أن السلم لا يجوز في الخبز ،
لأن السلف لا يجوز فيما لا يمكن ضبطه بالصفة ، والخبز لا يضبط بالصفة. وقال شيخنا
في مبسوطه « يجوز استقراض الخبز إنشاء وزنا وإنشاء عددا ، لأن أحدا من المسلمين لم
ينكره ، ومن أنكره من الفقهاء خالف الإجماع ، وظاهره خروج ذلك عما ذكره من الضابط
، كما أن ظاهر السرائر جواز قرض كل ما لا يضبطه الوصف ، لا خصوص الخبز.
وعلى كل حال
فالشرط المزبور على الوجه المذكور إن كان مستنده إجماعا مؤيدا بالتعليل السابق
الذي مرجعه إلى أن الشارع لم يشرع معاملة موقوفة على التراضي مؤدية إلى التنازع ،
ضرورة أن الأصل في مشروعية العقود قطع النزاع ، وإلا كان محلا للنظر والتأمل ،
سيما بعد أن كان القرض قسما من الضمانات ، وإن توقف على التراضي ، وهي لا فرق فيها
بين المجهول والمعلوم.
ومن هنا صح قرض
القيمي بقيمته وإن لم تعرف القيمة حال القرض على الأقوى بل في المسالك نسبته إلى
إطلاق كلام الأصحاب قال : « وهل يعتبر في صحة القرض العلم بقيمته عنده لينضبط حالة
العقد ، فإن ذلك بمنزلة تقدير ما يقدر بالكيل والوزن أم يكفي في جواز إقراضه
مشاهدته على حد ما يعتبر في جواز بيعه ، ويبقى اعتبار القيمة بعد ذلك امرا وراء
الصحة ، يجب على المقترض مراعاته لبراءة ذمته ، حتى لو اختلفا في القيمة فالقول
قوله ـ وجهان ، وإطلاق كلام الأصحاب يدل على الثاني ، وللاول وجه وربما كان به
قائل.
اللهم إلا أن يقال
: إن القرض وان كان له شبه في الضمانات إلا أنه من المعاوضات
أيضا ، إذ هو كما
عرفت دفع الشيء بقصد ثبوت عوضه في الذمة ، فوجب الضبط لمعرفة العوض ، فبناء على
ضمانه بالمثل مطلقا حتى أن ما لا مثل له لا يصح قرضه ـ وجب ضبط أوصاف المال المقرض
حتى يكون الثابت في الذمة عوضه ، ويتمكن المقترض من وفائه وبناء على ضمان القيمي
منه بالقيمة مطلقا ، أو في خصوص ما لا يضبطه الوصف منه كالجواهر ، وجب ضبط أوصافه
لمعرفة القيمة الثابتة في الذمة ـ عوضا عنه ، والله أعلم.
وكيف كان فيجوز
اقتراض الذهب والفضة وغيرهما مما يضبطه الوزن وزنا بعد ضبط الصفات والحنطة والشعير
ونحوهما مما يضبطه الكيل نظرا إلى المتعارف كيلا ووزنا وأما الخبز فيجوز وزنا بلا
خلاف بل الإجماع بقسميه عليه لكن بعد ضبط الوصف وكذا يجوز عددا عندنا نظرا إلى
المتعارف بل الظاهر إمكان تحصيل الإجماع عليه فضلا عن المحكي.
مضافا إلى خبر
الصباح بن سيابة « قال : قلت لأبي عبد الله 7 : إن عبد الله بن أبي يعفور أمرني أن أسألك قال : إنا
نستقرض الخبز من الجيران فنرد أصغر منه أو أكبر منه؟ فقال 7 : نحن نستقرض
الجوز الستين والسبعين عددا فيه الصغير والكبير لا بأس » وخبر إسحاق بن عمار « قلت لأبي عبد
الله 7 :استقرض الرغيف من
الجيران ونأخذ الكبير ونعطي صغيرا أو نأخذ صغيرا ونعطي كبيرا؟ قال : لا بأس » وخبر
غياث « عن جعفر عن أبيه 8 لا بأس باستقراض الخبز » بل الخبران الأولان صريحان في
الجواز مع التفاوت ، فوجب حمل التفاوت في عبارة الدروس السابقة على غير اليسير
الذي يتسامح فيه ، كما أنه يجب حمل ذلك على التفاوت من حيث الصغر والكبر ، أما
الأوصاف فيجب المحافظة عليها ما لم يعلم التسامح فيها.
__________________
وعلى كل حال فما
عن أبي حنيفة من عدم جواز قرض الخبز ، واضح الضعف كضعف ما عن أبي يوسف من وجوب
الرد وزنا لا عددا وأحد قولي الشافعي من وجوب رد القيمة إلا إذا شرط المثل في وجه.
وعلى كل حال ف كل
مثلي وهو عند المصنف وجماعة ما تتساوى أجزاؤه في القيمة والمنفعة وتتقارب صفاته ،
بمعنى أن قيمة نصفه تساوى قيمة النصف الآخر ويقوم مقامها في المنفعة وتقاربها في
الوصف ، وهكذا كل جزء بالنسبة إلى نظيره لا مطلقا يجوز قرضه بلا خلاف بل النصوص
والإجماع بقسميه عليه وعلى أنه يثبت في الذمة مثله وذلك كالحنطة والشعير والذهب
والفضة ونحوها.
نعم هو كذلك مع
وجوده ، ومع التعذر ينتقل إلى القيمة ، وفي اعتبار يوم القرض أو التعذر ، أو
المطالبة ، أو الدفع ، أوجه ، أقواها الأخيران اللذان اختار ثانيهما في المختلف
بعد أن حكى أولهما عن السرائر إذ سبق علم الله تعالى بتعذر المثل وقت الأداء لا
يوجب الانتقال إلى القيمة ، إذ لا منافاة بين ضمان المثل وقت القرض ، طردا للقاعدة
الإجماعية ، والانتقال إلى القيمة عند المطالبة ، أو الدفع ، كما أن التعذر بمجرده
لا يوجب الانتقال إلى القيمة ، لعدم وجوب الدفع حينئذ ، فتشخص ضمان المثلي الذي هو
حكم وضعي لا ينافيه التعذر إلى أن يجب دفعه بالمطالبة ، فحيث لم يوجد الآن ينتقل
إلى قيمته ، ومنه يعلم قوة أول الأخيرين.
لكن قد يقال : إن
المطالبة لا تشخص القيمة في ذلك الوقت على كل حال ، بل أقصاها وجوب دفع القيمة ،
وإن اتفق كونها وقتها مقدارا مخصوصا ثم تغير إلى زيادة أو نقصان ، فالبدل عن المثل
حينئذ لا يتشخص إلا بالدفع ، إذ هو كالمعاملة عليه بها.
ومن هنا يمكن دعوى
عدم وجوب قبولها مع عدم الطلب ، لأن المضمون إنما هو المثل كما يومي إليه ما تقدم
في السلف ، فينتظر حينئذ حتى يحصل ، ومنه ينقدح احتمال عدم وجوب الدفع مع المطالبة
أيضا ، لأنه غير الحق وظهور ضعفه يوجب قوة احتمال وجوب القبول مع الدفع ، لانقلاب
الدين إلى القيمة بالتعذر ، سيما مع
شدة حاجة الناس
إلى براءة الذمة.
لكن قد يدعى ظهور
كلمات الأصحاب في وجوب الدفع مع المطالبة ، وعدم وجوب القبول مع عدمها وإن دفع ،
وهو لا يخلو من وجه ، بل قوة وإن لم يكن ذلك محرزا في كلامهم ، كما أنه لم يحرز
فيه جواز قرض المثلي مشترطا عوضه القيمة ، كما سمعته عن الشافعي في الخبز ، وكذا
قرض القيمي مشترطا مثله الصوري بناء على ضمانه بالقيمة مع الإطلاق ، وعلى العكس
العكس ، ولعل إطلاق أدلة القرض وعموم « المؤمنون عند
شروطهم » يقضي بجوازه ما لم يندرج تحت جر النفع ، كما إذا اشترط الزيادة في قيمته.
وعلى كل حال ف ما
ليس كذلك بل كانت أجزاؤه مختلفة في القيمة والمنفعة ، يجوز قرضه عندنا ، إذا كان
مما يضبطه الوصف ، بل لا خلاف أجده فيه لإطلاق الأدلة ، ولخصوص فعل النبي 6 المتمم بعدم
القول بالفصل ، والمشهور نقلا وتحصيلا أنه يثبت في الذمة قيمته وقت التسليم الذي
هو أول أوقات ملك المقترض ، وهو المراد من تعبي بعضهم وقت القرض ، لغلبة اتصاله به
، بل الغالب وقوع القبول به أو مقارنا له ، ولا اعتبار هنا بوقت المطالبة أو
الأداء قطعا كما هو واضح.
والوجه في ثبوت
القيمة أن القرض قسم من الضمانات وإن توقف على التراضي ولا ريب في أن ضمان القيمي
بالتلف وغيره بالقيمة لا المثل ، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه هناك وإن كان يظهر من
الشهيد في الدروس أن ميل المصنف هنا إلى أن الضمان بالمثل جار فيها أيضا ، لكن هو
وغيره صرح في باب الغصب بأن ضمان القيمي بالقيمة فلاحظ وتدبر ، ولعلها لأنها البدل
عن العين عرفا في الغرامات ، باعتبار عدم تساوي جزئيات العين المضمونة ، واختلاف
صفاتها ، فالقيمة حينئذ أعدل خصوصا في مثل الحيوان الذي لم يعرف الباطن منه ، ولا
كثير من صفاته.
__________________
لكن قال المصنف
هنا ولو قيل يثبت مثله في الذمة أيضا كالمثلي كان حسنا لأنه أقرب إلى الحقيقة من
القيمة ، ول ما روي عن النبي 6 « أنه أخذ قصعة امرأة كسرت قصعة أخرى » و « حكم بضمان عائشة إناء حفصة وطعامها بمثلهما » وأنه استقرض بكرا ورد بازلا تارة ، وأخرى استقرض بكرا فأمر
برد مثله.
وفي الدروس
والمسالك نسبة المصنف إلى الميل إليه ، بل في الثاني أنه لعله أفتى به إلا أنه لا
يعلم به قائل من أصحابنا ، كما يشعر به قوله ، ولو قيل ، كما أنه في الأول وتظهر
الفائدة فيما إذا وجد مثله من كل الوجوه التي لها مدخل في القيمة ودفعه الغريم ،
فعلى الثاني يجب القبول ، وعلى المشهور لا يجب ، وفيما إذا تغيرت أسعار القيمي
فعلى المشهور المعتبر قيمته يوم القبض ، وعلى الأخر يوم دفع العوض ، وهو ظاهر
الخلاف.
قلت : ومنه يعلم
موافقته للمصنف ، كما أن ظاهر التذكرة ذلك أيضا وإن كان لم يطلق كإطلاق المصنف ،
قال : « مال القرض إن كان مثليا وجب رد مثله إجماعا وإن لم يكن مثليا فإن كان مما
ينضبط بالوصف وهو ما يصح السلف فيه كالحيوان أو الثياب فالأقرب أنه يضمن بمثله من
حيث الصورة ، لأن النبي 6 استقرض بكرا إلى آخر ما سمعت ، وهو قول أكثر الشافعية ،
وقال بعضهم إنه يعتبر في القرض بقيمته ، لأنه لا مثل له فإذا استقرضه ضمنه بقيمته
كالإتلاف. إلى أن قال بعد أن فرق بين القرض والإتلاف : وأما ما لا يضبط بالوصف
كالجواهر والقسي وما لا يجوز السلف فيه تثبت قيمته ، وهو أحد قولي الشافعية.
نعم قد يظهر من
المصنف فيما يأتي عدم جواز قرض مثل ذلك ، وبه يحصل الفرق بينهما ، وعلى كل حال فقد
يناقش فيه بأنه إن كان المنشأ في ضمان المثل قصد المتعاقدين فمع أنه ممنوع يمكن
خروج ذلك عن النزاع ، إذ قد عرفت احتمال جوازه
__________________
مع الشرط كاشتراط
القيمة في المثل ، والبحث مع عدم قصد المتعاقدين سوى كونه مضمونا ، ومن المعلوم
ضمان القيمة في مثله شرعا في غير القرض من أنواع الغرامات ، كما اعترف به الفاضل
المزبور في الإتلاف.
ودعوى الأقربية
إلى العين المضمونة ـ بعد عدم معرفة كثير من الصفات ولذا أطلق عليه الفاضل مثل
الصوري ـ في حيز المنع ، وفرض وجود مثل له من كل وجه تتفاوت القيمة به لا تبنى على
مثله الأحكام الشرعية ، مع أنه قد يقال على تقدير وجوده بعدم وجوبه ، لأن المعاوضة
قد وقعت بالقيمة ، وليس هو مخاطبا برد العين حتى يتحرى الأقرب إليها ، كما في تلف
المغصوب ، مع أنك قد عرفت تسليم الخصم فيه الضمان بالقيمة فتأمل.
والخبر ان الأولان
ـ مع أنهما عاميان ، وواردان في الضمان الذي لا يقول به الخصم ، ومعارضان بما ورد
من تضمين معتق الشقص للقيمة ، وأنهما حكاية فعل لا عموم فيه ، يمكن التزام مثلية
ما تضمناه ، وأما الأخيران فيجري فيهما أكثر ما سمعت وأنه يمكن كون رد البازل ، بل
والمثل منه 7 لرضا المقرض به ، باعتبار زيادته خيرا كل ذلك.
لكن الإنصاف عدم
خلو القول به من قوة ، باعتبار معهودية كون قرض الشيء بمثله ، بل مبنى القرض على
ذلك ، بل قد يدعى انصراف إطلاق القرض إليه ، وربما يؤيده نصوص الخبز الذي يقوى
كونه قيميا ، ولذا تجب قيمته في إتلافه بأكل ونحوه ، فالاحتياط فيه لا ينبغي تركه.
وكيف كان ف يجوز
إقراض الجواري بلا خلاف فيه بيننا كما في المسالك. وما عن المبسوط والخلاف لا نص
لنا ولا فتيا في إقراض الجواري وقضية الأصل الجواز ليس خلافا ، ضرورة إرادة النص
بالخصوص ، بل ظاهره أو صريحه الجواز كما هو كذلك ، لإطلاق الأدلة وصحة السلف فيها
كالعبيد ، فتضمن حينئذ بالمثل أو القيمة ، على اختلاف القولين خلافا لبعض العامة ،
فمنع من قرض الجواري التي يحل للمقترض وطؤها بعد الإطباق منهم على قرض العبيد
والجوار التي لا يحل
للمقترض وطؤها ،
معللا ذلك بما هو أوضح من الدعوى فسادا ، فتدخل في ملك المقترض بالقبض بناء عليه ،
وله حينئذ الانتفاع فيها بالوطي وغيره.
أما على القول
بالتصرف فليس له الوطي كما في المسالك ، إلا أنه احتمل فيما يأتي جوازه أيضا
كالأمة المشتراة بالمعاطاة.
وفيه أنه ممنوع
فيها بناء على عدم الملك ، إذ لا مستند له إلا الإباحة من المالك التي لا تجدي في
جواز الوطي المتوقف على عقد ، والكشف به عن الملك لو قلنا به لا يؤثر في جواز
الأقدام ، كالملك الضمني المقدر في نحو أعتق عبدك عني ، فهو من جملة ما يرد على
اعتبار التصرف في الملك كما ستعرف.
ويجب قبولها لو
أرجعها بعد الوطي إذا لم تتعيب به أو تحمل ، بناء على ضمان القيمي بمثله ، ضرورة
كون رد نفس العين وفاء عما في ذمته ، لأنها أحد أفراد الكلي الذي فيها ، بل قد
يقال بوجوب قبولها على الضمان بالقيمة التي وضعت بدلا عن العين ، فإذا أمكنت ببذل
المقترض كانت أقرب إلى الحق من القيمة ، أو لأن القرض من العقود الجائزة ولو من
جهة المقترض ، فله الفسخ حينئذ ، ورجوع كل من العوضين إلى ملك صاحبه ، أو لدعوى
ظهور القرض في قصد المتعاقدين قبول العين لو ردها ، لأنه إحسان محض ، أو لغير ذلك
مما ستعرفه ، وإن كان لا يخلو من اشكال والله أعلم.
وعلى كل ف هل يجوز
اقتراض اللآلي ونحوها مما لا يضبطها الوصف قيل والقائل الشيخ فيما حكي عنه لا يجوز
وفي المسالك أنه يتم على القول بوجوب رد المثل في مثل ذلك ، وهو الذي أشار إليه
المصنف بقوله وعلى القول بضمان القيمة فيه أو مطلقا ينبغي الجواز ضرورة ظهوره في
أنه لا ينبغي الجواز بناء على غيره ، لكن قد يقال : بصحة قرضه لإطلاق الأدلة
والرجوع في الوفاء إلى الصلح ، كما أنه قد يقال بصحة قرض ما لا يصح السلم فيه لعزة
وجوده وإن ضبطه الوصف ، فيكلف بالمثل حينئذ مع الوجوب عليه. وإلا انتقل إلى القيمة
فتأمل جيدا والله أعلم.
( الثالث )
من الأمور التي
يقع فيها النظر في أحكامه وهي مسائل الأولى : القرض أي المال المقترض يملك بالقبض
عندنا كما في التذكرة ، وبلا خلاف فيه بيننا في السرائر ، بل قيل : إن جملة من
العبادات تشعر بالإجماع عليه ، بل عن بعضهم دعواه صريحا عليه لا قبله بعقد القرض
إجماعا بقسميه ولا بالتصرف بعده ، لأصالة عدم شرط آخر في حصول الملك بالعقد الذي
لولا الإجماع السابق لاتجه القول بحصوله بتمامه من دون قبض ، على حسب غيره من
العقود التي لا ريب في ظهور الأدلة في اقتضائها التمليك ، ضرورة صدق مسماها بها.
اللهم إلا أن يمنع
خصوص عقد القرض منها ، بدعوى ظهور الأدلة في توقف مسماه على حصول القبض ، وعليه
فالمتجه حصول الملك به حينئذ من غير حاجة إلى أمر آخر من التصرف وغيره.
ودعوى أنه هو
الشرط ، لا أنه شرط آخر بعد القبض ، يدفعها معلومية عدمها عند الخصم ، ومقتضاها
جواز التصرف به من البيع ونحوه قبل القبض ، وهو معلوم العدم ، بل لا بد من القبض
بإذن المالك في جواز التصرف ، وحينئذ فعدم البأس بسائر أنواع التصرفات فيه التي
منها المعلوم توقفه على الملك كالوطي ، أقوى شاهد على حصول الملك قبله.
كما أشار إليه
المصنف بقوله ولانه فرع الملك فلا يكون مشروطا به وأومأ إليه ابن زهرة في الغنية
حيث قال : « وهو مملوك بالقبض ، لأنه لا خلاف في جواز التصرف بعد قبضه ، ولو لم
يكن مملوكا لما جاز ذلك » كالفاضل في التذكرة حيث استدل عليه بأنه قبض لا يجب أن
يتعلق به جواز التصرف فوجب أن يتعلق به الملك كالقبض في الهبة ، ولأنه إذا قبضه
ملك التصرف فيه من جميع الوجوه ، ولو لم يملكه لما ملك التصرف ، ولانه يحصل بالقبض
في الهبة ففي القرض أولى لأن للعوض مدخلا
فيه إلى آخره.
بل لعله إليه يرجع
ما في المتن والدروس وغيرهما من التعليل لنفي اشتراطه بأنه فرع الملك ، فلا يكون
مشروطا به ، وإلا لزم كون الشيء الواحد سابقا وغير سابق كرجوع الوجه الآخر إليه
وهو أن التصرف فيه لا يجوز حتى يصير ملكا لقبح التصرف في مال الغير ، ولا يصير
ملكا له حتى يتصرف فيه ، فيلزم توقف التصرف على الملك ، والملك على التصرف.
وناقش فيه في
المسالك بمنع تبعية التصرف للملك مطلقا ، وتوقفه عليه ، بل يكفي في جواز التصرف
إذن المالك فيه كما في غيره من المأذونات ، ولا شك أن الإذن للمقترض حاصل من
المالك بالإيجاب المقترن بالقبول ، فيكون ذلك سببا تاما في جواز التصرف ، وناقصا
في إفادة الملك ، وبالتصرف يحصل تمام سبب الملك ثم إن كان التصرف غير ناقل للملك ،
واكتفينا به فالأمر واضح ، وإن كان ناقلا أفاد الملك الضمني قبل التصرف بلحظة
يسيرة كما في العبد المأمور بعتقه عن الآمر غير المالك.
بل نقل في الدروس
أن هذا القائل يجعل التصرف كاشفا عن سبق الملك قطعا وعلى هذا فلا اشكال من هذا
الوجه ، ويؤيد هذا القول أصالة بقاء الملك إلى أن يثبت المزيل ، وأن هذا العقد ليس
تبرعا محضا إذ يجب فيه البدل ، وليس على طريق المعاوضات ، فيكون كالإباحة بشرط
العوض لا يتحقق الملك معه إلا مع استقرار بدله وكالمعاطاة.
وكأنه أخذ ذلك مما
في الدروس قال : « وقيل : يملك بالتصرف بمعنى الكشف عن سبق الملك ، لأنه ليس عقدا
محققا ، ولهذا اغتفر فيه ما في الصرف ، بل هو راجع إلى الإذن في الإتلاف المضمون ،
والإتلاف يحصل بإزالة الملك أو العين ، فهو كالمعاطاة.
وعلى كل حال
يدفعها أولا أن التصرف وإن كان كثير من أفراده في حد ذاته غير موقوف على الملك ،
إلا أنه في المقام كذلك لعدم إذن من المالك ، غير الإذن التي
في ضمن العقد
المعلوم اشتراطها بحصول مضمون العقد ، وهو هنا التمليك بعوض فالتصرفات مع فرض عدم
حصول الملك لا إذن فيها.
ومن هنا قالوا إن
المعاوضات على تقدير بطلانها لا يجوز التصرف بالإذن الحاصل في العقد ، ضرورة عدم
بقاء المطلق بدون المقيد ، ولا يرد نحو ذلك على شرطية القبض ، إذ لا بد عندنا من
الإذن فيه بعد العقد ، فإذا وقع بعنوان عقد القرض حصل الملك ، فيقع التصرف حينئذ
في ملك على حسب ما استفيد من العقد ، وثانيا أن جملة من التصرفات لا تجدي معها
الاذن المزبورة كالوطي المتوقف على الملك أو العقد ، وكالبيع الذي لا يجوز لغير
مالكه إلا بالوكالة أو فضولا ومعلوم انتفاؤهما.
وثالثا أنه من
الواضح الفرق بين القرض والإباحة بعوض ، على فرض تسليم مشروعيتها مستقلة ، إذ هو
عقد قد قصد منه التمليك بالعوض ، بخلافها ، ومضمون على القابض ولو بالتلف السماوي
، بخلافها ، ولو كان القرض راجعا إليها لم يكن لعقده ثمرة أصلا ، على أنه كيف يمكن
رجوعه إليها ولم تكن من قصد أحد المتعاقدين بل مقصودهما معا خلافها ، وهو التمليك
بعوض في الذمة.
وأيضا مرجع
الإباحة بعوض في الإتلاف بغير نقل إلى الضمان ، وإن كان التلف لملك المبيح ، وأما
في التصرف الناقل كالبيع ونحوه إلى إرادة إثبات عوضه في الذمة ثم التصرف فيه ، فمع
فرض وقوع ذلك منه كان في إثبات عوضه في ذمته موجبا قابلا فيكون ملكا له قبل
الانتقال إلى المشتري مثلا بآن ما ، بل ربما كان التقدم الذاتي كافيا.
لكن ذلك كله موقوف
على دليل صحة هذا القسم من الإباحة ، حتى يتجه التزام نحوه مراعاة للجمع بينه وبين
ما دل على اشتراط الملك في البيع ، وليس ، فضلا عن رجوع القرض إليها ، بل قد يدعى
ـ بعد الدليل ـ صحة البيع من دون ملك في نحو ذلك ، بل ربما ادعي نحوه في أعتق عبدك
عني.
وعلى كل حال
فالتزام كون القرض من ذلك كما ترى ، ومعلومية الصحة فيه شاهدة على حصول الملك
بالقبض ، لا أنها مبنية على هذه الخرافات ، وأوضح من ذلك
فسادا دعوى حصول
الكشف بالتصرف عن الملك من حين القبض ، ضرورة توقف صحتها على ما يدل على اشتراط
تأثير العقد والقبض بالتصرف حتى يكون كالرضا في عقد الفضولي ونحوه من الشرائط
المتأخرة عن الأسباب المقتضية للملك التي يرجع اشتراطها إلى توقف تأثير السبب
مقتضاه على حصولها ، فمعه يحصل الأثر من حين وقوع السبب ، وهذا معنى الكشف ،
فالمؤثر للملك حينئذ غيره كما صرح به في التذكرة في المقام ، فإنه بعد أن حكى
القول بالملك بالتصرف مصرحا بأنه على معنى إذا تصرف تبين ثبوت الملك قال : « وهذا
يدل على أن الملك لم يحصل بالتصرف ، بل بسبب آخر قبله ، وإن كان قد يدفع بصدق حصول
الملك به على المعنى الذي ذكرناه ، إذ الفرض أنه شرط للسبب كما هو واضح.
كل ذلك مضافا إلى
ظهور النصوص المتضمنة لكون الزكاة على المقترض في المختار خصوصا صحيح زرارة منها « قلت :
لأبي جعفر 7 : رجل دفع إلى رجل مالا قرضا على من زكوته على المقرض أو المقترض؟ قال : بل
زكاته إن كانت موضوعة عنده حولا على المقترض ، قال : قلت : فليس على المقرض زكاته؟
قال : لا يزكى المال من وجهين في عام واحد وليس على الدافع شيء ، لأنه ليس في يده
شيء إنما المال في يد الآخذ ، فمن كان المال في يده كانت الزكاة عليه ، قال قلت :
أفيزكي مال غيره من ماله؟ قال : إنه ماله ما دام في يده ، وليس ذلك المال لأحد
غيره ، ثم قال :يا زرارة أرأيت وضيعة ذلك المال أو ربحه لمن هو وعلى من هو؟ قلت :
للمقترض ، قال :فله الفضل وعليه النقصان ، وله أن ينكح ويلبس منه ، ويأكل منه ،
ولا ينبغي له أن يزكيه ، فإنه عليه جميعا ».
بل هو دال على
المطلوب من وجوه ، والموثق « رجل استودع رجلا ألف درهم فضاعت ، فقال الرجل : كانت
عندي وديعة ، وقال الآخر : إنما كانت عليك قرضا ، قال : المال لازم له ، إلا أن
يقيم البينة أنها كانت وديعة » اللهم إلا أن يقال
__________________
بتوقف الملك على
التصرف ، لا الضمان ، وفيه بحث ، وبعد التسليم ففيما تقدم كفاية.
فمن الغريب ميل
ثاني الشهيدين إليه وان قال بعد ذلك : إن العمل على المشهور ، خصوصا بعد عدم
معروفية الخلاف فيه بيننا ، وإن نسبه في التنقيح إلى المبسوط والخلاف ، إلا أنه لم
نتحققه ، بل في الدروس نسبة المشهور إلى الشيخ ، بل المحكي عنه في مسئلة ارتجاع
المقرض العين ما هو كالصريح في حصول الملك بالقبض ، لكنه كالهبة يجوز فسخه ،
وستعرف تحقيق الحال في ذلك ، وخصوصا بعد إجمال المراد من التصرف ، إذ من المحتمل
مطلق التصرف كما عن الشهيد في بعض تحقيقاته ، وعليه يعود النزاع لفظيا كما في
الرياض ، فإن القبض نوع منه أو التصرف الناقل للملك لزوما ، أو المتلف للعين ، وهو
الذي استظهره في التذكرة ، بل في المسالك أنه الظاهر من كلماتهم ، وفي الناقل عن
الملك جوازا وجهان وجيهان.
لكن يشكل حينئذ
انعتاق الوالد الذي استقرضه ولده بناء على الكشف بالتصرف ، ضرورة اقتضائه حينئذ
فساد التصرف بالانعتاق ، فلا يكون التصرف كاشفا لبطلانه ، فيلزم حينئذ من وجوده
عدمه ، فلا يؤثر ، أو التصرف المتوقف على الملك كالبيع والهبة ونحوهما ، لا الرهن
ونحوه مما لا يتوقف على الملكية ، ضرورة جواز الاستعارة للرهن بخلاف البيع مثلا ،
على أنه له ولا دليل على شيء منها ، ولا على ما عن بعضهم من أن الضابط فيه ما
يقطع به رجوع الواهب والبائع عند إفلاس المشتري ، وأما ثمرة الخلاف فقد قيل : إنها
تظهر في الرجوع بالعين قبله ، وعدمه.
وفيه ما ستعرف من
إمكان بناء الخلاف في ذلك على جواز عقد القرض ولزومه ، فعلى القول بأنه يملك
بالقبض يمكن القول بالرجوع في العين ، لجواز العقد فهو كالهبة ، نعم تظهر في
النماء إذا حصل الملك بنفس التصرف ، أو كان الملك فيه ضمنيا ، وأما على الكشف من
حين القبض فلا ، وكذا النفقة وغيرها بل الثمرة كثيرة
إلا أنه لا ينبغي
تطويل الكلام بعد معلومية فساد الأصل والله أعلم.
وكيف كان ف هل
للمقرض ارتجاعه أى المال المقترض بعد القبض وإن قلنا يملك به قيل : والقائل الشيخ
نعم ولو كره المقترض لأنه لا يزيد على الهبة ، وللإجماع على كونه من العقود
الجائزة التي من المعلوم كون المراد بجوازها فسخها ورجوع ما انتقل بها إلى مالكه ،
ولأن المثل والقيمة إنما وجبت بدلا عن العين ، لغلبة خروجها عن يد المقترض ، ولأنه
إذا استحق المطالبة بالمثل أو القيمة فبالعين بطريق أولى.
وقيل : لا وهو
الأشبه والأشهر بل المشهور بل لعله إجماع بين المتأخرين لأن فائدة الملك التسلط
على المملوك فالأصل فيه عدم خروجه عنه إلا برضاه كما أن استصحاب ملك المقترض للعين
والمقرض للمثل أو القيمة قاض بذلك أيضا ، وخروج الهبة بالدليل لا يقضى به هنا ،
خصوصا بعد الفرق بينهما بالمعاوضة في المقام دونها ، والإجماع على الجواز بالمعنى
المعروف ممنوع بعد ما عرفت من شهرة عدم رجوع المقرض بالعين ، واحتمال تنزيل ذلك
على ما إذا لم يفسخ ـ فيرجع النزاع حينئذ إلى جواز الرجوع وعدمه من دون فسخ للقرض
ـ كما ترى ، إذ هو مع خلوه عن الفائدة ومخالفته لظاهر كلماتهم وصريح البعض محل
للنظر ، بإمكان كون الرجوع بالعين نفسه فسخا وإن لم يصرح به بلفظه.
فظهر أن مراد
المشهور عدم رجوع المقرض بالعين على كل حال ، وأنه ليس له الفسخ القاضي بذلك ،
ومنه يعلم كون المراد بالجواز الذي ادعي الإجماع عليه أن لكل منهما فسخ المقصد
المهم من القرض ، وهو الأنظار الذي هو مبنى القرض عرفا غالبا ، ومن هنا قال مالك :
« إنه لا يجوز للمقرض مطالبة المقترض قبل قضاء وطره من العين ، أو مضي مدة يمكن
فيه ذلك » فذكر الأصحاب الجواز بالمعنى المزبور بقصد الرد عليه ، ضرورة أنه وإن
كان مبنى القرض ذلك ، إلا أنه ليس على وجه يلتزم به شرعا ، والعوض قد ثبت في الذمة
حالا ، فله المطالبة في المجلس وغيره ، كما أن للمقترض دفع ذلك متى شاء ، فالمراد
حينئذ من الجواز ذلك ، لا المعنى الموجب لرد العين
لعدم الدليل
الصالح لمعارضة ما سمعت ، بل مقتضاه الفسخ وإن حصل التصرف المغير للعين الموجب
نقصها ، لعدم الدليل على لزومه بذلك على تقدير جوازه ، فيرد العين جابرا لها
بالأرش ، وهو معلوم البطلان ، فتعين إرادتهم ما ذكرنا من الجواز.
ولعله إليه يرجع
ما في المسالك وإن لم ينقحه كما ذكرنا ، قال ما حاصله :إن الأصل والاستصحاب يدل
على المشهور ، ولا معارض لهما إلا كون العقد جائزا يوجب فسخه ذلك ، وفيه منع ثبوت
جوازه بالمعنى المزبور ، إذ لا دليل عليه ، وما أطلقوه من كونه جائزا لا يعنون به
ذلك ، لأنه قد عبر به من ينكر هذا المعنى ، وهو الأكثر ، وإنما يريدون بجوازه تسلط
المقرض على أخذ البدل إذا طالب به متى شاء وإذا أرادوا بالجواز هذا المعنى فلا
مشاحة في الاصطلاح ، وإن كان مغايرا لغيره من العقود الجائزة من هذا الوجه ،
وحينئذ فلا اتفاق على جوازه بمعنى يثبت به المدعى ، ولا دليل صالح على ثبوت الجواز
له بذلك المعنى المشهور ، فيبقى الملك وما في الذمة على حكمهما إلى أن يثبت خلافه
، وهذا هو الوجه ، وإلا كان ما ذكرناه أولى ، وكون الحكمة في وجوب المثل أو القيمة
ذلك ، لا يقضي بجواز الرجوع بالعين بعد أن ثبت ملك المقترض للعين ، وثبت في ذمته
المثل أو القيمة وهو واضح ، كوضوح منع الأولوية المزبورة ، فظهر حينئذ أنه لا مناص
عن المشهور.
نعم يتجه القول
بوجوب قبول المقرض للعين لو دفعها المقترض في المثلي إذا فرض عدم تغيرها ، سواء
نقص السعر أولا ، ضرورة كونها أحد أفراد الكلي الذي في ذمته ، بل هي أولى من غيرها
، وكذا القيمي بناء على ضمانه بالمثل ، إذ هو كالمثلي في الحكم.
أما على القول
بالقيمة فالمتجه عدم وجوب القبول لأنها غير الحق الثابت في الذمة ، فلا يجب قبوله
، وليس الواجب أولا دفع العين فإذا تعذر انتقل إلى القيمة إذ قد عرفت أن الثابت
ابتداء القيمة بالعقد والقبض ، لكن احتمل بعضهم كالفاضل وغيره وجوب القبول ، بل في
الدروس أنه الأصح ، ونقل فيه الشيخ الإجماع ، بدعوى كون مبنى القرض المشروع
للإرفاق على ذلك ، ولأولوية العين ـ من القيمة والمثل
اللذين كان القصد
من إثباتهما في الذمة بدل العين ـ لغلبة خروجها من يد المقترض ولأن ثبوت القيمة في
القيمي لتعذر مثله ، فمع فرض رد العين نفسها يتعين القبول إلا أن الجميع كما ترى.
وأضعف منه ما احتمله
في الدروس من وجوب القبول في المثلي والقيمي إن تساوت القيمة أو زادت وقت الرد ،
وإن نقصت فلا ، لعدم الدليل له سوى اعتبار لا يصلح لتأسيس حكم شرعي ، فتأمل ، كما
أنه قد يتوقف فيما ذكره أيضا من أنه لو ظهر في العين المقترضة عيب فله ردها ولا
أرش ، فإن أمسكها فعليه مثلها أو قيمتها معيبة ، وهل يجب عليه إعلام المقترض
الجاهل بالعيب؟ عندي نظر من اختلاف الأغراض ، وحسم مادة النزاع ، ومن قضية الأصل.
نعم لو اختلفا في العيب حلف المقترض مع عدم البينة ، ولو تجدد عنده عيب آخر منع من
الرد ، إلا أن يرضى به المقرض مجانا أو بالأرش.
فإنه وإن كان جيدا
إلا أن الحكم الأول لم أعثر على ما يدل عليه ، اللهم إلا أن يدعى أن بناء المعاوضة
على أصل الصحة ، فالخيار هنا كالخيار في الرد بالعيب في البيع ، وإن زاد عليه هناك
بالأرش للنصوص ، والأمر سهل. والله أعلم.
المسألة الثانية
لو شرط التأجيل للقرض في عقد القرض لم يلزم على المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة ،
بل لا خلاف أجده فيه قبل الكاشاني ، نعم احتمله في المسالك بناء على ما ذكره سابقا
من لزوم هذا العقد ، وعدم كونه من العقود الجائزة بدليل عدم وجوب رد العين إذا
أراده المقرض ، فيشمله حينئذ قوله 7 « المؤمنون عند شروطهم » وغيره مما دل على لزوم ما شرط في
العقد اللازم ، ودعوى أن هذا العقد ليس على حد الجائزة ليقطع فيه بعدم لزوم الشرط
، ولا على حد اللازمة ليلحقه حكمها ، يدفعها أن المتجه بعد التسليم الرجوع حينئذ
إلى عموم الأدلة الدالة على الالتزام بالشرط والوفاء بالعقد.
وبذلك اغتر جماعة
من متأخرين المتأخرين الذين لا يبالون باتفاق الأصحاب ، فضلا
__________________
عن شهرتهم حتى
جزموا باللزوم ، وشددوا النكير على دعوى كونه من العقود الجائزة ، وقد عرفت البحث
في ذلك سابقا ، وأن مرادهم من الجواز عدم الالتزام بما يفهم من القرض من التأجيل
في مقابلة المحكي عن مالك ، وجوازه بهذا المعنى مسلم لا يكاد ينكره أحد من الشيعة
، والنصوص واضحة الدلالة عليه ، ضرورة ظهورها في رجحان التأخير والإمهال والإنظار
، والترغيب في ذلك على وجه صريح أو ظاهر في الندب.
خصوصا مثل قوله 6 « من أقرض أخاه
المسلم كان له بكل درهم وزن جبل أحد من جبال رضوى وطور سيناء من حسنات ، وإن أرفق
به في طلبه تعدى به على الصراط كالبرق الخاطف اللامع بغير حساب ولا عذاب » وقوله 6 « من أقرض مؤمنا
قرضا حسنا ينظر ميسوره كان ماله في زكاة ، وكان هو في صلاة من الملائكة حتى يؤديه
» وغيرهما مما هو كالصريح في جواز رجوعه ومطالبته أي وقت شاء ، وأنه محسن لا سبيل
عليه.
وحينئذ مقتضى
إطلاق هذه الأدلة جواز ذلك حتى مع اشتراط الأجل الذي هو في الحقيقة التصريح بما
بنى عليه القرض والمتعارف منه ، والذي ندب إليه وحث عليه ، بل قيل : إنه إذا لم
يجب الوفاء بالأجل المدلول عليه بنفس العقد ضمنا مع أن الأصل لزوم الوفاء به ،
فعدم الوجوب إذا كان مدلولا عليه بالشرط أولى ، على أن التعارض بين ما دل على لزوم
الشرط ، وبين ما دل على استحباب القرض ، وأن لكل منهما الرجوع متى شاءا ، وإن لم
يكن بمعنى فسخ ملك العين المقترضة من وجه ، ولا ريب في أن الترجيح للثاني ، ولو
للشهرة العظيمة ، بل الإجماع المحكي الذي يشهد له التتبع.
والمناقشة ـ بمنع
تعلق الاستحباب بخصوص المدلول ، بل بسببه الذي هو إجراء الصيغة ، وإن كان الوجه في
تعلقه به هو رجحان العمل بمسببه ، فيرجع حاصل
__________________
الأدلة إلى
استحباب الإقدام على القرض ، وإيجاد سببه ، ولا ينافيه وجوب المسبب بعده ، وإن هو
إلا كالتجارة ، فقد تظافرت الأدلة باستحبابها مع وجوب العمل بمقتضيات أسبابها كدفع
المبيوع ونحوها ، وككثير من العبادات المستحبة الواجبة بالشروع فيها ، وبالجملة
استحباب الشيء ابتداء غير وجوبه استدامة ، فاستحباب الاقتراض ابتداء لا ينافي
وجوب العمل بمقتضى عقده بعد إيجاده ـ يدفعها ظهور النصوص التي منها ما ذكرناه في
استحبابه استدامة ، وفي أن للمقترض الوفاء متى شاء كما لا يخفى على من تأملها أدنى
تأمل.
نعم لو ادعي
تقييدها بما إذا لم يشترط الأجل ، كان الجواب عنه ما عرفت من أنه ليس بأولى من تقييد
أدلة الشرط بما إذا لم يكن مقتضيا لتأخير القرض ، بل هو أولى من وجوه ، بل مقتضاه
عدم لزوم هذا الشرط ولو كان في عقد لازم غير القرض إلا أن شهرة الأصحاب فيه على
اللزوم ، فترجح أدلة الشرط حينئذ عليه ، خصوصا بعد معروفية عدم الخلاف فيه.
نعم في الدروس ولو
شرط تأجيله في عقد لازم ، قال الفاضل : يلزم تبعا للازم ويشكل بأن الشرط في اللازم
يجعله جائزا فكيف ينعكس ، وعن الحواشي أن في ذلك إشكالا ، لأنه إن أريد بلزومه
توقف العقد المشروط عليه فممنوع ، لكنه خلاف المتبادر من كونه لازما ، ولا يقتضيه
أيضا كما هو ظاهر ، إذا العقود المشروط فيها شروط لا يقتضي لزومها ، بل فائدتها
تسلط من يتعلق غرضه بها على الفسخ بالإخلال بها ، وإن أريد لزوم ذلك الشرط في نفسه
: بمعنى أنه لا سبيل إلى الإخلال به لم يطرد ، إلا أن يفرق بين اشتراط ما سيقع وما
هو واقع ، ويجعل التأجيل من قبيل الواقع فيتم بهذا.
وفيه أن المراد
بكون الشرط لازما وجوب الوفاء به ، كما وجب الوفاء بالعقد اللازم ، لأنه من جملة
مقتضياته ، وتسلط من تعلق به غرضه على الفسخ بدونه لا ينافي هذا المقدار من اللزوم
من طرف العاقد الآخر ، فيكون الشرط والعقد لازما من طرف المشترط له عليه ، ومن طرف
من تعلق به غرضه يكون العقد لازما مع الإتيان
بالشرط لا بدونه ،
وهذا معنى واضح صحيح مستقيم.
كما أن ما ذكروه
من أن الأجل من الشرط الواقع لا بأس به أيضا ، فإن اشتراط تأجيل الحال من قبيل
العوض الواقع في ذلك العقد ، فيلزم بهذا الاشتراط ، وهذا هو المفهوم من إطلاق
الأصحاب تأجيل الحال في عقد لازم ، وليس هو كاشتراط أن يفعل الفعل الفلاني ، بل هو
كاشتراط سكنى الدار سنة في البيع فإن ذلك يصير حقا له كاستحقاق العوض ، كل ذلك
مضافا إلى ما تسمع من النصوص بالخصوص في تأجيل الحال وإلى ما عرفته سابقا في بحث
الشروط.
وكيف كان فقد بان
لك أنه لا محيص عما عليه الأصحاب من اللزوم في الشرط بعقد لازم ، وعدم اللزوم في
عقد القرض وإن قلنا بكونه من العقود اللازمة لما عرفت ولا يعارض الأخير قوله تعالى
( إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ
مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) بعد عدم ظهوره في القرض المشترط فيه الأجل ، وأنه يجب
الوفاء به إذا كان بعقد القرض بل ظاهره عدم إرادة بيان ذلك كما هو واضح ، ولا المروي
عن ثواب الأعمال « من أقرض قرضا وضرب له أجلا ولم يؤت به عند ذلك الأجل كان
له من الثواب في كل يوم يتأخر عن ذلك الأجل مثل صدقة دينار كل يوم » ونحوه الرضوي إذ أقصاهما
الدلالة على صحة التأجيل ولا كلام فيه ، وثمرتها إنما هو جواز تأخير الدفع إلى
الأجل ووجوبه بعده ، وهو غير لزومه الذي هو عبارة عن وجوب التأخير إليه ، وإنما
الكلام فيه مضافا إلى قصور الخبرين ولا جابر ، بل قد عرفت تحقق الموهن الذي لأجله
أطرح مضمر الحسين بن سعيد « عن رجل أقرض رجلا دراهم إلى أجل مسمى ثم مات المستقرض أيحل
مال القارض بعد موت المستقرض منه ، أم لورثته من الأجل ما للمستقرض في حياته؟ فقال
: إذا مات فقد حل مال القارض »
__________________
بناء على إشعاره
بلزوم التأجيل في القرض ، كالدين من حيث التقدير والمفهوم ، وليس هو كالخبرين
السابقين خصوصا بعد لفظ يحل فيه ، الظاهر في عدم استحقاق المطالبة قبل انقضاء
المدة المضروبة حال حيوة المستقرض.
نعم قد يقال : إن
سؤاله لم يكن عن لزوم الأجل في عقد القرض ، بل إنما هو عن الحلول بالموت وعدمه ،
فأجابه 7 على طبق سؤاله ، فيمكن أن يريد من القرض الدين ، أو القرض المشترط أجله بعقد
لازم ، أو غير ذلك فلا يكون منافيا للمطلوب الذي هو عدم لزوم شرط الأجل في عقد
القرض.
وكذا لو أجله بعد
العقد أو أجل غيره من الدين الحال بأن يقول مثلا أجلتك إلى شهر لم يتأجل للأصل
وغيره بل هو أولى في عدم اللزوم من الأجل في عقد القرض ، ولكن يستحب الوفاء به ،
لأنه وعد وكيف كان فقد بان لك أنه لا دليل معتد به على اللزوم بل ليس فيه إلا
إشعار رواية الحسين بن سعيد المتقدمة وهي رواية مضمرة مهجورة تحمل على الاستحباب
خصوصا بعد ما عرفت من ضعف إشعارها من الوجه الذي ذكرناه.
وعلى كل حال ف لا
فرق عندنا في عدم لزوم تأجيل الحال بالتأجيل المزبور بين أن يكون مهرا أو ثمن مبيع
أو غير ذلك لاشتراك الجميع في أصالة عدم اللزوم وغيرها مما يدل على ذلك ، خلافا
لبعض العامة فذهب إلى لزومه في ثمن المبيع والأجرة والصداق أو عوض الخلع دون القرض
، وبدل المتلف وأخر فالزمه في الجميع وهما معا كما ترى ، ضرورة أن المراد من قوله 7 « المؤمنون عند
شروطهم » ونحوه العقود المشتملة على الشرائط لا الشرائط وإن لم تكن في عقود التي
يمكن منع تسميتها شروطا كما هو واضح.
وكذا لو أخره أي
الدين الحال بزيادة فيه لم تثبت الزيادة ولا الأجل بل هو الربا المحرم بلا خلاف
ولا إشكال. نعم قد يحتال لذلك بجعل الزيادة في ثمن مبيع مثلا وإن لم يساوه قد
اشترط في عقده تأجيل الحال خاصة أو هو مع ثمن المبيع
__________________
كما نطقت به
النصوص ففي موثق ابن عمار « قلت للرضا 7 الرجل يكون له المال فدخل على صاحبه يبيعه لؤلؤة تساوي
ماءة درهم بألف درهم ويؤخر عليه المال إلى وقت قال : لا بأس قد أمرني أبي ففعلت
ذلك ، وزعم أنه سأل أبا الحسن 7 عنها فقال له مثل ذلك ».
وفي موثقه الآخر « قلت لأبي الحسن
7 : يكون لي على الرجل دراهم فيقول أخرني وأنا أربحك فأبيعه جبة تقوم علي بألف
درهم بعشرة آلاف درهم أو قال بعشرين وأؤخره بالمال ، قال : لا بأس » وفي مضمر عبد
الملك ابن عتبة « سألته عن الرجل يريد أن أعينه المال أو يكون لي عليه مال
قبل ذلك فيطلب مني مالا أزيده على مالي الذي لي عليه أيستقيم أن أزيده مالا وأبيعه
لؤلؤة تساوي ماءة درهم بألف درهم فأقول أبيعك هذه اللؤلؤة بألف درهم على أن أؤخر
ثمنها ومالي عليك كذا وكذا شهرا؟ قال : لا بأس به » إلى غير ذلك من النصوص المفتي
بها بين الأصحاب وإن كان حيلة وفرارا ، لكن نعم الفرار من الباطل إلى الحق ومنه
ينتقل إلى غير ذلك من الحيل الشرعية المنطبقة على أصول المذهب وقواعده.
ولا يعارضه خبر
الشيباني « قلت لأبي عبد الله 7 : الرجل يبيع المبيع والبائع يعلم أنه لا يسوى والمشتري
يعلم أنه لا يسوى إلا أنه يعلم سيرجع فيه ويشتريه منه فقال : يا يونس إن رسول الله
6 قال لجابر بن عبد الله : كيف أنت إذا ظهر الجور وأورثتم الذل قال : فقال له
جابر : لا بقيت إلى ذلك الزمان. ومتى يكون ذلك بأبي أنت وأمي قال : إذا ظهر الربا
يا يونس ، وهذا الربا فإن لم تشتره منه رده عليك؟ قال : فقلت : نعم قال فقال : لا
تقربنه ولا تقربنه » بعد قصوره عن المقاومة من وجوه خصوصا بعد قوة احتمال إرادة
حال عدم قصد البيع منه وأنهما لم يوجباه كاحتمال التقية لما حكى عن العامة من
تشديد المنع في هذه الصورة ، وربما حمل على الكراهة أو غير ذلك.
__________________
وعلى كل حال فقد
ظهر من هذا كله أن تأجيله بزيادة من دون حيلة شرعية غير جائز. نعم يصح تعجيله لو
كان مؤجلا بإسقاط بعضه مع التراضي بلا خلاف ولا إشكال ، كما تقدم في بحث النقد
والنسيئة ، للنصوص المستفيضة ، بل ربما استظهر منها الإكتفاء بالتراضي من غير حاجة
إلى الإبراء أو الصلح ، ف في مرسل أبان عن أبى عبد الله 7 « سألته عن الرجل يكون له على الرجل الدين فيقول له قبل أن
يحل الأجل عجل النصف من حقي على أن أضع عنك النصف أيحل ذلك لواحد منهما؟ قال : نعم
».
وصحيح ابن أبي
عمير عن الصادق 7 أيضا « أنه سأل عن الرجل يكون له دين إلى أجل مسمى فيأتيه
غريمه فيقول له : انقدني كذا وكذا وأضع عنك بقيمته أو يقول : انقدني بعضه وأمد لك
في الأجل فيما بقي عليك؟ قال : لا أرى بأسا ، إنه لم يزد على رأس ماله قال الله عز
وجل شأنه ( فَلَكُمْ رُؤُسُ
أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) واللام في السؤال بمعنى على ، كما رواه محمد بن مسلم في الصحيح مغيرا
للسؤال « الرجل يكون عليه الدين إلى أجل مسمى » إلى آخره.
لكن قد يقال : إن
بناء هذه النصوص على الإكتفاء بمعاطاة الصلح ، أو على إرادة بيان أصل الصحة ، وإن
كان عند الوقوع لا بد من صيغة ، إذ المتعارف في النصوص عدم التعرض للصيغ
لمعلوميتها أو لغير ذلك ، فلا ريب أن الأولى الإتيان بصيغة الصلح أو التصريح
بالبراءة أو الإسقاط والعفو ، وإن كان الأقوى الاكتفاء بمعاطاة الصلح.
وكيف كان فيدل على
المطلوب مضافا إلى النصوص السابقة وخبر زرارة عن أبي عبد الله 7 « سألته عن رجل اشترى جارية بثمن مسمى ثم باعها فربح فيها
فأتاه صاحبها يتقاضاه ولم ينقد ماله ، فقال صاحب الجارية للذين باعهم : اكفوني
غريمي هذا والذي ربحت عليكم فهو لكم؟ قال : لا بأس » الذي هو ك صحيح الحلبي بناء
__________________
على أنه قد باعهم
مؤجلا وإن كان لا مانع أيضا من بيعهم حالا ، والصلح معهم بإسقاط البعض ، إذ هو صلح
الحطيطة الذي يقوم مقام الإبراء ، ولا ربا فيه وإن قلنا بعمومه للمعاوضات.
ومن هنا أطلق
الأصحاب جوازه بتعجيل البعض بإسقاط الباقي من غير فرق بين المجانس والمخالف ، بل
ظاهر الجميع كونه بالمجانس ، على أنه يمكن أن لا يكون إبراء محضا ، لأن الوضع في
مقابلة الأجل ، بل يمكن خروجه بذلك عن المجانس ، وإن كان ذلك كله لا يخلو من نظر.
والأولى الاستناد
للنص المعتضد بفتوى الأصحاب ، بل لم أجد أحدا منهم أومأ إلى احتمال الربا فيه سوى
الفاضل في القواعد وغيرها ، بل ظاهره في صلح الأولى البطلان على تقدير عموم الربا
للمعاوضات ، قال : ولو صالح على عين بأخرى في الربويات ففي إلحاقه بالبيع نظر ،
وكذا في الدين بمثله ، فإن ألحقناه فسد ، كما لو صالح في ألف بخمسمائة حال ، ولو
صالح من ألف حال بخمسمائة مؤجل فهو إبراء على إشكال ويلزم التأجيل.
وسوى الشهيد في
الدروس حيث قال : « ولو صالح على المؤجل بإسقاط بعضه حالا صح إذا كان بغير جنسه ،
وأطلق الأصحاب الجواز ، إما لأن الصلح هنا ليس معاوضة له ، أو لأن الربا يختص البيع
، أو لأن النقيصة في مقابلة الحلول ، فلو ظهر استحقاق العوض أو تعيبه فرده فالأقرب
أن الأجل بحاله » وقال ابن الجنيد سقط.
قلت : أقواها
الأول إذ الثاني منظور فيه بأن الأصح عموم الربا ، وقد صدر ذلك ممن يقول بعمومه ،
وأما الثالث ففيه أولا أنه لا يكفي في سقوط الربا ، وثانيا قد عرفت أن الأقوى
الصحة في الحالين أيضا فله أن يصالح عن الزائد الحال بالناقص كذلك ، لقيامه مقام
الإبراء بخلاف البيع ، فإنه لا يقوم مقامه ، قال في الدروس أيضا ولو صالح عن غير
الربوي بنقيصة صح ولو كان ربويا وصالح بجنسه روعي أحكام الربا ، لأنها عامة في
المعاوضات على الأقوى ، إلا أن نقول الصلح هنا ليس معاوضة ،
بل هو في معنى
الإبراء وهو الأصح ، لأن النبي 6 قال لكعب بن مالك : « أترك الشطر واتبعه ببقيته » وروي ذلك
عن الصادق 7 وينبغي أن يكون صورته صالحتك على ألف بخمسمائة ، فلو قال بهذه الخمسمائة ظهرت
المعاوضة ، والأقوى جوازه أيضا لاشتراكهما في الغاية.
قلت : قد يشكل
الأخير بأنه لو صح لصح في المعنيين مع التفاوت ، على أن يكون الصلح بمعنى هبة
الزائد ، ولا ريب في عدم جوازه لكونه معاوضة حينئذ ، اللهم إلا أن يفرق بينهما وهو
غير بعيد كما ستعرف ، ولو صالح عن ألف حال بخمسمائة مؤجلة ففي التحرير أن الوجه
الجواز ، ولعله لأنه كالعكس ، لكن فيه أنه يمكن الفرق بينهما فتأمل ، ويأتي في
الصلح تمام الكلام إن شاء الله.
هذا وفي المسالك
أنه كما يعتبر التراضي في إسقاط البعض ، يعتبر في تعجيله بغير إسقاط ، لأن الأجل
أيضا حق لهما ، لتعلق غرض كل منهما به ، فإن التعجيل قد لا يرضى به صاحب الحق ،
لحصول ضرر لخوف ونحوه ، وبالنسبة إلى الآخر واضح لكن إسقاط الأجل يكفي فيه مجرد
الرضا ، أما إسقاط بعض الحق فيحتمل كونه كذلك ، كما يقتضيه ظاهر إطلاقهم ، ويكون
الرضا بالبعض قائما مقام الإبراء ، فإنه كما يظهر من تضاعيف كلامهم أنه لا يختص
بلفظ ، وفي كتاب الجنايات يقع بلفظ العفو ونحوه فيكون هذا منه ، ويحتمل قويا توقف
البراءة على لفظ يدل عليه صريحا كالبراءة والإسقاط والعفو والصلح ، لا مطلق الرضا
لأصالة بقاء الملك إلى أن يتحقق المزيل شرعا.
وفيه أن مثله يأتي
في إسقاط الأجل ، نعم يسقط به مع قبض المال من المستحق وحينئذ فالمتجه إسقاط بعض
الحق معه ، إذا وقع بعنوان المعاوضة عن الجميع ، ضرورة كونه حينئذ من معاطاة الصلح
، لكن يأتي فيه حينئذ إشكال الربا ، إذ هو كالصلح عن الزائد بالأقل المعين ، وقد
عرفت قوة احتمال المعاوضة ، خلافا للدروس فألحقه بالأقل غير المعين الذي لا يكون
إلا إبراء اللهم إلا أن يقال بصحة ذلك في المقام من
__________________
جهة إطلاق النصوص.
ومنه يظهر لك قوة
ما سمعته من الدروس ، والاحتياط لا ينبغي تركه ، ولقد طال بنا الكلام ، وكان أصل
المقصد بيان عدم لزوم الأجل المشترط في عقد القرض ، وقد ظهر لك الوجه فيه ، بل منه
يعلم عدم لزوم كل شرط اقتضى تأخير القرض من غير فرق بين الزمان والمكان وغيرهما.
لكن قد سمعت فيما
تقدم أن الشهيد في الدروس صرح بلزومه بالنسبة إلى المكان ، خلافا للفاضل فجعله
دائرا مدار المصلحة ، اللهم إلا أن يقال باللزوم فيه هناك للنصوص التي يدعي
دلالتها على ذلك ، أما الشرط الذي لا يقتضي تأخير القرض فالمتجه بحسب الضوابط
لزومه ، ووجوب الوفاء به ،
لعموم « المؤمنون » وغيره
مما يدل على وجوب الوفاء بالعقود اللازمة التي لا ريب في أن عقد القرض منها ، بعد
ما عرفت من أنه ليس لأحدهما فسخه بحيث يرد العين إلى مالكها ، فالأصل لزوم الشرائط
فيه.
ولعل منه شرطية الصحاح
بدل المكسرة عند من جوزه ، بل الظاهر لزوم الشرط في عقد القرض وإن كان تأخير قرض
آخر ، وإن كان لم يفرق في المسالك بينه وبين أجل القرض المشترط في عقده في عدم
لزوم الجميع ، إلا أنك قد عرفت أن الأصل يقتضي اللزوم ، خرج عنه في خصوص الثاني ،
لما عرفت من الدليل ، فيبقى غيره على الأصل ، ولا ينافي لزوم الشرط في عقد القرض
جواز مطالبة المقرض في كل وقت ، وفاء المقترض كذلك ، إذ ليس ذلك فسخا لعقد القرض
الذي يجب الوفاء به وبما تضمنه من الشرائط التي لا تقتضي وجوب إبقائه ، بل هو
مطالبة بالمثل أو بالقيمة اللذين جبا بعقد القرض ، فالاستناد في دعوى عدم لزوم
الشرط في عقد القرض بأنه من العقود الجائزة بالمعنى المزبور واضح الفساد ، ضرورة
أن المثمر في عدم لزوم الشرط الجواز بمعنى فسخ العقد ، لا هو بالمعنى المزبور هذا.
وفي جامع المقاصد « وههنا فائدة : وهي
أن الشروط الواقعة في عقد القرض
__________________
أقسام الأول ـ ما
يفسده ، وهو اشتراط الزيادة للمقرض في نفس مال القرض لمحض الإحسان ، الثاني ـ ما
يكون لغوا أو وعدا : وهو الزيادة للمقترض من غير أن يكون للمقرض زيادة. الثالث ـ ما
يكون مؤكدا كاشتراط رهن به ، وهو صحيح قطعا. الرابع ـ ما يكون زيادة للمقرض لكن في
غير مال القرض وفي صحته تردد ، والأصح الصحة. الخامس ـ ما يكون وعدا محضا كما لو
أقرضه وشرط له أن يفرضه شيئا آخر.
إذا عرفت هذا فلا
بد من الفرق بين هذه الشروط في الأحكام ، ففي الأول معلوم بقاء مال القرض في ملك
المقرض ، وفي الثاني إن كان الشرط لغوا فلا بحث ، وإن كان وعدا فمعناه إن وفي به
كان حسنا وإلا لم يأثم ، ووجهه أن القرض إحسان إلى المقترض بالقرض ، وشرط في ذلك
الإحسان إحسان آخر لنفعه فقط ، فلا يجب عليه ، لانتفاء المقابلة المقتضية للوجوب.
وفي الثالث
والرابع يجب عليه الوفاء ، لأن المقرض لم يرض بالقرض إلا على ذلك التقدير المشترط
، وقد رضي المقترض على ذلك الوجه ، فيجب الوفاء ، فان لم يفعل أثم ، ولم يكن له
إجباره قطعا ، لأن القرض عقد جائز من الطرفين ، لكل منهما فسخه ، فإن لم يفسخه
حالا فهل يتوقف وجوب الدفع على المطالبة بمال القرض ، أم يجب دفعه بمجرد المطالبة
بالشرط مع عدم الوفاء ، وجهان ، وفي الأول قوة.
وهو كما ترى لا
يرجع إلى ضابطة ، بل هو عند التأمل مخالف للضوابط الشرعية التي قد عرفت اقتضائها
اللزوم في كل شرط في عقد القرض ، إلا ما جر نفعا للمقرض وما اقتضى عدم جواز
المطالبة من المقرض والوفاء من المقترض إلا في اشتراط المكان ، للنصوص السابقة فيه
من غير فرق بين ما يرجع إلى القرض من الشرائط ، كالرهن والإشهاد والكتابة ونحوها ،
وما لا يرجع إليه من الأمور الملتزمة في عقده ، بل الظاهر أن فائدة الشرط في عقد
القرض كفائدته في غيره من العقود اللازمة ، يجب إجبار من عليه الشرط ، فإن تعذر
تسلط من له الشرط على فسخ العقد نفسه ، فيرجع المال
حينئذ ملكا إلى
مالكه ، وهذا غير مطالبة المقترض بعوض المال في كل وقت ، حتى يقال إنه كان حاصلا
بدون الشرط.
ومن ذلك يظهر لك
النظر فيما في الدروس من أن اشتراط الخيار في عقد القرض لغو ، ضرورة أن اشتراطه
يفيد التسلط على فسخ العقد نفسه ، بحيث يرجع عين المال إلى مالكه ، وهو أمر غير
مطالبة المقرض بالقيمة أو المثل فتأمل جيدا.
فإن المسألة قد
وقع فيها اشتباه عظيم وخلط وخبط نشأ من تخيل كون القرض من العقود الجائزة باعتبار
أن المقرض له المطالبة متى شاء ، والمقترض له الوفاء كذلك وأن الشرائط في العقود
الجائزة غير لازمة ، لتسلط كل منهما على فسخ أصل العقد فلا يلزم الشرط فيه ، وهذا
كله وهم في وهم. بل قد يومئ ما دل على بطلان ما جر نفعا من الشرائط في عقد القرض
إلى لزوم الشرائط فيه ، وإلا كان الشرط فيه وعدا لا يجب الوفاء به ، فلا يتحقق به
الربا ، لما عرفت فتأمل.
كما أن ذكرهم
الصحة في كثير من الشرائط التي لا تجر نفعا للمقرض ظاهر في اللزوم ، لا أن المراد
منها عدم البطلان وإ كان لا يلزم المشروط عليه ، إذ صحة كل شيء بحسب حاله فصحة
الشرط لزومه ، بل قد يشكل صحة القرض مع اشتراط الأجل الذي قلنا بعدم لزومه إذا كان
المقترض قد علق رضاه على تخيل لزوم الأجل ولو جهلا منه ، ضرورة كونه حينئذ
كالشرائط الفاسدة التي يبطل العقد معها ، باعتبار تعلق الرضا عليها في قول ، والله
أعلم.
المسألة الثالثة :
من كان عليه دين وغاب صاحبه غيبة منقطعة الخبر يجب على المديون البقاء على أن ينوي
قضاءه إجماعا محكيا إن لم يكن محصلا ، للأصل وللمنساق من صحيح زرارة « سألت أبا جعفر 7 عن الرجل يكون
عليه الدين لا يقدر على صاحبه ، ولا على ولي له ، ولا يدرى بأي أرض هو قال : لا
جناح عليه بعد أن يعلم الله منه أن نيته الأداء » وللنصوص الدالة على أن
__________________
« من استدان دينا
فلم ينو قضاءه كان بمنزلة السارق » الشاملة للغائب وغيره ، ولحالي الابتداء
والاستدامة.
بل قد يتم الوجوب
من الترغيب في الخبر على نية القضاء قال فيه : « من كان عليه دين ينوى قضاءه
كان معه من الله عز وجل حافظان يعينانه على الأداء ، فإن قصرت نيته عن الأداء قصر
عنه المعونة بقدر ما قصر من نيته » ولا ينافي الوجوب ما في الخبر الآخر « أحب الرجل يكون
عليه دين ينوي قضاءه » ، فإن محبته 7 للرجل إذا كان ناويا قضاءه لا تقضي بجواز عدم النية ، بل
قد يقال : ـ بناء على إشعاره ببغض غير الناوي أو بعدم محبته ، بأنه دال على الوجوب.
هذا كله إن لم نقل
بوجوب العزم بدلا عن التعجيل في الواجب الموسع ، لأنه من أحكام الإيمان ، بمعنى
توقف صدق التبعية عرفا على العزم على امتثال أوامر المتبوع ونواهيه ، وإلا كان ذلك
كافيا في الوجوب هنا.
نعم يستفاد من
نصوص السرقة أن عدم نية القضاء حال القرض مفسدة لعقده ، فيحرم على المقترض التصرف
بالمال حينئذ ، خصوصا خبر أبي خديجة عن أبي عبد الله 7 « أيما رجل أتى رجلا واستقرض منه مالا وفي نيته أن لا
يؤديه فذلك اللص العادي » لكن لم أجده محررا في كلامهم ، بل ربما كان فيه ما
ينافيه ، كعدم ذكرهم له في الشرائط وجعلهم وجوب العزم هنا كالواجب الموسع وغير ذلك
، وعليه فينبغي الاقتصار فيه على خصوص القرض ، أما الابتياع مع عدم نية الوفاء فلا
يقضي بفساد البيع.
وكيف كان ففي المتن وغيره أنه يجب أيضا
أن يعزل ذلك عند وفاته بل قد تشعر عبارة المختلف بعدم الخلاف فيه ، كما اعترف به
في المسالك فقال : « واما العزل عند الوفاة فظاهر كلامهم ، خصوصا على ما يظهر من
المختلف أنه لا خلاف فيه وإلا لأمكن تطرق القول بعدم الوجوب ، لأصالة البراءة مع
عدم النص » وظاهره
__________________
تحصيل الإجماع
عليه. وفي جامع المقاصد ظاهرهم أن وجوب العزل عند الوفاة إجماعي ووجهه ظاهر ، فإنه
أبعد عن تصرف الورثة فيه وأنفى ، للتعليل في أدائه.
قلت : وربما يشعر
به خبر هشام بن سالم « قال سأل خطاب الأعور أبا إبراهيم 7 وأنا جالس ، فقال
: إنه كان عند أبي أجير يعمل عنده بالأجر ، ففقدناه وبقي له من أجره شيء ولا نعرف
له وارثا؟ قال : فاطلبه قال : قد طلبناه ولم نجده ، فقال مساكين وحرك يديه ، قال :
فأعاد عليه قال : اطلب واجهد فإن قدرت عليه وإلا فكسبيل مالك حتى يجيء له طالب ،
فإن حدث بك حدث فأوص به إن جاء له طالب أن يدفع إليه » بناء على أن المراد بقاء شيء
من أجره في الذمة ، ضرورة اقتضاء الوصية به حينئذ بل وجعله كسبيل المال عزله ،
وكذا خبراه الآخران المرويان في الفقيه والتهذيب.
لكن ومع ذلك كله
في الرياض بعد أن حكى عن المسالك وجامع المقاصد ما سمعت قال : وهو كما ترى ، مع أن
في السرائر ادعى إجماع المسلمين على العدم وهو أقوى للأصل وإن كان الأول أحوط
وأولى ، وأحوط منه العزل مطلقا ، فقد حكى في المسالك قولا ، ولكنه لا يلزم منه
انتقال الضمان بالعزل ، بل عليه الضمان مع التلف على الإطلاق لعدم الدليل على
الانتقال.
وفيه أولا أن
الموجود في السرائر نفي الخلاف بين المسلمين عن عدم العزل قبل الوفاة الذي يظهر من
نهاية الشيخ ، فإنه بعد أن حكى عن الشيخ فيها من وجب عليه دين وغاب عنه صاحبه غيبة
لم يقدر عليه معها وجب أن ينوي قضاءه ويعزل ماله عن ملكه ، قال : هذا غير واجب ،
أعني عزل المال بغير خلاف بين المسلمين ، فضلا عن طائفتنا ، ومن هنا نزل في
المختلف ما في النهاية على حال الوفاة.
وثانيا أن المحكي
في المسالك القول بالعزل مع اليأس لا مطلقا وثالثا أنك قد عرفت الدليل على العزل
الظاهر في تشخص كونه مالا للمديون ، ومقتضاه حينئذ عدم
__________________
الضمان لو تلف
بغير تفريط ، اللهم إلا أن يدعى أنه وإن انعزل بالعزل إلا أنه مضمون على المديون
حتى يصل إلى المالك ، لكنه كما ترى محتاج إلى الدليل. نعم ينبغي الاقتصار فيما
خالف الأصل من العزل على المتيقن من النص والفتوى ، وهو في حال الوفاة والله أعلم.
وكيف كان فقد أطلق
المصنف وغيره أنه يجب على المديون أن يوصى به ليوصل إلى ربه أو إلى وارثه إن ثبت
موته بل عن الصيمري نفى الخلاف فيه ، بل في النهاية أوصى به إلى من يثق به ، بل في
الروضة يجب الوصاية به إلى ثقة ، لأنه تسليط على مال الغير ، وإن قلنا بجواز
الوصاية إلى غيره في الجملة لكن في الدروس أبدل الوصية بالإشهاد.
والنصوص التي قد
سمعت بعضها وتسمع الأخر قد تضمنت الأول ، اللهم إلا أن يحمل على المثال ، إذ
الظاهر أنه بعد العزل يصير كباقي الأمانات ، فالواجب إظهارها بحيث لا يخشى عليها
التلف ، ولو بدعوى الورثة الملكية ، تمسكا بظاهر يد الميت ، خصوصا في مثل القرض
الذي لم يعلم غير المتوفى بحاله ، فمع ترك الوصية ربما ذهب المال ، بل في جملة من
الأخبار الآتية إن شاء الله في باب الوصية وجوب الوصية بماله وما عليه.
وكيف كان ف لو لم
يعرفه أي الوارث اجتهد في طلبه ومع اليأس يتصدق به عنه على قول للشيخ في النهاية
ومن تبعه ، قال فيها : « ومن وجب عليه دين وغاب عنه صاحبه غيبة لم يقدر عليه معها
وجب عليه أن ينوي قضاءه ويعزل ماله من ملكه ، فإن حضرته الوفاة أوصى به إلى من يثق
به ، فإن مات من له الدين سلمه إلى ورثته ، فإن لم يعرف له وارثا اجتهد في طلبه ،
فإن لم يطفر به تصدق به عنه ، وليس عليه شيء ».
وهو صريح في كون
الصدقة بعد موت المالك وعدم معرفة وارثه بعد الاجتهاد في الطلب ، ووجه الصدقة
حينئذ واضح ، لكونه مالا مجهول المالك وحكمه ذلك نصا وفتوى ، واحتمال تعين كونه
للإمام لأصالة عدم الوارث يدفعه ، مع أنه لا يجري
بالنسبة إلى بعض
الورثة ، ويمكن فرضه فيمن علم أن له وارثا إلا أنه لم يعرف أن الشرط في كونه
للإمام العلم بعدم الوارث غيره ، لا عدم العلم ، ومن ذلك كله يظهر لك ما في
السرائر قال : « ومن وجب عليه دين وغاب صاحبه غيبة لم يقدر عليه معها وجب عليه أن
ينوي على حسب ما قدمنا ، فإن حضرته الوفاة سلمه إلى من يثق بديانته ، وجعله وصيه
في تسليمه إلى صاحبه ، فان مات من له الدين سلمه إلى ورثته ، فان لم يعلم وارثا
اجتهد في طلبه ، فان لم يجد سلمه إلى الحاكم ، فإن قطع أن لا وارث له كان لإمام
المسلمين ، وقد روي « أنه إذا لم يظفر له بوارث تصدق به عنه ، وليس عليه شيء » أورد
ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته من طريق الخبر إيرادا لا اعتقادا ، لأن الصدقة لا
دليل عليها في كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، بل الإجماع والأصول مقررة
لمذهبنا ، تشهد بأن الإمام مستحق ميراث من لا وارث له.
إذ فيه أن الشيخ
لا ينكر انتقاله إلى الإمام 7 بعد العلم بعدم الوارث له ، وإنما أمر بالصدقة مع الجهل ،
لأنه من مجهول المالك الذي من المعلوم حكمه ذلك ، فضلا عما أرسله من الخبر ، وإن
كنا لم نجده في خصوص المقام. نعم في الفقيه بعد أن روى في صحيح معاوية عن أبي عبد الله
ـ « في رجل كان له على رجل حق ففقده ، ولا يدرى أين يطلبه ، ولا يدرى أحي هو أم
ميت ، ولا يعرف له وارثا ولا نسبا ولا ولدا ، قال : اطلب قال : إن ذلك قد طال ،
فأتصدق به؟ قال : اطلب » ـ قال : وقد روي في هذا خبر آخر « إن لم تجد له
وارثا وعلم الله منك الجهد فتصدق به » وليس فيه العلم بموت ذي الحق ، وليس في
اشتراط عدم الوارث دلالة عليه ، إذ يمكن اشتراط الصدقة بذلك ، وإلا وجب إبقاؤه حتى
يعلم موته ، ولو بمضي مدة لا يعيش فيها مثله ، ثم يسلم إلى الوارث بعد ذلك ، وأما خبر
هشام بن سالم « سأل حفص الأعور أبا عبد الله 7 ، وأنا عنده جالس
، فقال له : « كان لأبي أجير كان يقوم
__________________
في رحاه وله عنده
دراهم ، وليس له وارث ، فقال أبو عبد الله 7 : تدفع إلى المساكين ثم قال : رأيك فيها ثم أعاد المسألة
فقال له : مثل ذلك فأعاد عليه المسألة فقال أبو ـ عبد الله 7 تطلب له وارثا
فإن وجدت له وارثا وإلا فهو كسبيل مالك ، ثم قال :ما عسى أن تصنع بها ، ثم قال
توصي بها فإن جاء طالبها وإلا فهي كسبيل مالك » وخبر نصر بن حبيب صاحب الخان « قال كتبت إلى
العبد الصالح قد وقعت عندي مأتا درهم وأربعة دراهم ، وأنا صاحب فندق فمات صاحبها
ولم أعرف له ورثة فرأيك في إعلامي حالها ، وما اصنع بها فقد ضقت بها ذرعا. فكتب
اعمل فيها وأخرجها صدقة قليلا قليلا حتى يخرج » فليس في أولهما تصريح بالموت ، ولا
في ثانيهما الدين مع اشتماله على العمل بها والصدقة قليلا قليلا ولم أجد من أفتى
بهما.
وعلى كل حال
فالمتجه بحسب الضوابط أنه إن لم يعلم موته وجب الإبقاء إلى المدة التي يعيش فيها
مثله ، فتسلم حينئذ إلى الوارث إن علم ومع اليأس فالصدقة ، ومثله ما لو علم موته
وجهل وارثه ، ويمكن جواز الإبقاء أمانة لخبر هشام بن سالم المروي في الفقيه « سأل حفص الأعور
أبا عبد الله 7 وأنا حاضر فقال : كان لأبي أجير وكان له عنده شيء ، فهلك
الأجير ولم يدع وارثا ولا قرابة وقد ضقت بذلك فكيف أصنع ، فقال : رأيك المساكين
رأيك المساكين ، فقلت : جعلت فداك! أنى ضقت بذلك فكيف أصنع فقال : هو كسبيل مالك
فإن جاء طالب أعطيته ».
ولعل ذلك في خصوص
هذا القسم من مجهول المالك باعتبار عدم الجهل به من كل وجه ، لكون الفرض أن صاحب
الدين معروف ، وإن كان قد مات ، أو يقال بجواز ذلك في جميع أفراد المجهول ، واما
التسليم إلى الحاكم فلا ينبغي التأمل في جوازه بعد اليأس ، وأما وجوبه فمحل منع
للأصل وظاهر النصوص هذا.
ولكن الذي يظهر من
بعض الأصحاب أنه يكفى في الصدقة به اليأس من صاحب الدين ، وهو مع وجوب تقييده بعدم
معرفة الوارث ، وإن كان لا يسلمه إليه
__________________
إلا بعد معرفة موت
مالكه ـ لا يخلو من بحث ، لأصالة البقاء ، اللهم إلا أن يقال إن بقاءه مع الياس من
رجوعه غير مجد ، بل هو كمجهول المالك المأيوس من معرفته ، لاشتراكهما معا في عدم
التمكن من الوصول إلى المالك ، والصدقة مع الضمان إحسان محض ، بل فيها إخراج المال
عن التعطيل ، بل ربما كان المديون محتاجا إلى فراغ ذمته ، ولا سبيل غير الصدقة ،
ولعل الأولى من ذلك تسليمه إلى الحاكم ، لأنه ولي الغالب ، بل الأولى مراعاة ذلك
في تشخيصه من الذمة.
وقد ظهر بذلك كله
الخلل في جملة من عبارات الأصحاب في النقل وغيره ، ففي النافع « ولو غاب صاحب
الدين غيبة منقطعة نوى المستدين قضاءه وعزله عند وفاته موصيا به ، ولو لم يعرفه
اجتهد في طلبه ، ومع اليأس قيل يتصدق به عنه » وفي اللمعة « ويجب نية القضاء وعزله
عند وفاته والإيصاء به لو كان صاحبه غالبا ولو يئس منه تصدق به عنه » وفي الرياض
نسبة هذا القول إلى الشيخ والقاضي وجماعة وقد سمعت عبارة النهاية.
وفي القواعد « ولو
غاب المدين وجب على المديون نية القضاء والعزل عند وفاته والوصية به ليوصل إلى
مالكه أو وارثه ، ولو جهله اجتهد في طلبه فإن أيس منه قيل يتصدق به عنه وفي اللمعة
ويجب نية القضاء وعزله عند وفاته والإيصاء به لو كان صاحبه غائبا ولو يئس منه قيل
يتصدق به عنه » وفي الدروس « ولو غاب المدين وجب نية القضاء والعزل عند أمارة
الموت.
وأطلق الشيخ وجوب
العزل ، وابن إدريس عدم وجوبه والأشهاد ولو يئس منه تصدق به عنه وقال ابن إدريس :
« يدفعه إلى الحاكم ، وإن قطع على موته وانتفاء الوارث كان للإمام ، والحكم الثاني
لا شك فيه ، أما الأول فالحق التخيير بينه وبين إبقائه في يده ، والصدقة مع الضمان
، إلى غير ذلك من كلماتهم التي يعرف ما فيها من التأمل فيما ذكرنا.
وأحسنها ما في
التنقيح ، فإنه بعد أن حكي ما في السرائر من كونه للإمام قال : وهو الحق ، لكن على
تقدير العلم بموته وعدم وارثه أما إذا انتفى العلم بذلك
فحفظه أولى ، حتى
يظهر خبره أو خبر وارثه وأما النصوص فقد عرفت تشويشها خصوصا متن خبر هشام بن سالم منها ، وأجودها
صحيح معاوية الذي أمر فيه بالطلب ، بعد طلب السائل الصدقة لطول الطلب
فتأمل جيدا والله أعلم بحقيقة الحال.
المسئلة الرابعة
الأصل في الدين أن لا يتعين ملكا لصاحبه إلا بقبضه أو قبض من يقوم مقامه شرعا ،
بعد دفع المديون ، أو من يقوم مقامه ، بل الظاهر اعتبار نية كونه عن الدين في
الدفع ، فلا يجزى الدفع المطلق فضلا عن المقصود به غير الدين ، بل قد يقال :
باعتبارها في القبض أيضا في أحد الوجهين ، كل ذلك لأصلي عدم حصوله بدون ذلك ، وعدم
توقفه على غيره بعد الإجماع والسيرة القطعية ، وما يستفاد من تدبر النصوص مضافا
إلى صدق تشخص الحق بذلك عرفا ، وإن كان هو مشتركا بين المديون والديان ، ولذا
اعتبر الدفع والقبض منهما ، ولتفصيل هذه الجملة محل آخر.
وإنما المراد هنا
أنه لو جعل مضاربة قبل قبضه لم يصح بلا خلاف أجده فيه ، بل في ظاهر المختلف وصريح
السرائر وعن ظاهر التذكرة الإجماع عليه ، لا لعدم ملكه والا لم يجز بيعه مثلا بل
لعدم تعيينه المعتبر فيها ، كما تعرفه إن شاء الله في بابها ، ول ما رواه الباقر 7 « عن أمير
المؤمنين 7 في الرجل يكون له مال على رجل يتقاضاه ، فلا يكون عنده ما يقضيه ، فيقول له
هو عندك مضاربة فقال : لا يصلح حتى يقبضه منه » المنجبر سندا ودلالة بما عرفت ،
المتمم بالنسبة للمضاربة به إلى غير المديون بالاتفاق على عدم الفرق بينهما في
البطلان.
نعم قد يفرق
بينهما بكون الربح جميعه للمديون إن ميزه واتجر به ، لأن المال لم يتعين للمالك
بتعيينه ، إذ لم يجعله وكيلا في التعيين ، وإنما جعله مضاربة
__________________
فاسدة ، بخلاف ما
لو كانت المضاربة به لغيره ، فإن الربح جميعه للمالك ، إذا أجاز لأنه وكيل عنه في
قبض الدين ، فيتعين بتعيين المديون ، وقبض الوكيل.
ولا يرد أن فساد
المضاربة يستلزم فساد القبض ، لأنه تابع لها لمنع الملازمة ، فإن فساد المضاربة
إنما يقتضي فساد لوازمها ، وقبض المال من المديون أمر آخر وراء المضاربة وأحكامها
، فيكون بمنزلة الوكيل بالنسبة إلى قبض المال ، والمضاربة بالنسبة إلى العمل ، فيبطل
متعلق المضاربة خاصة ، كما لو جمع في عقد واحد بين شيئين ويفسد أحدهما ، فإنه لا
يقتضي فساد الآخر ، فيكون للعامل أجرة المثل ، كما هو مقتضى المضاربة الفاسدة مع
جهله ، والربح للمالك مع إجازته الشراء بالعين ، ولو كان الشراء في الذمة فالربح
للعامل ، إن نوى الشراء لنفسه ، وإلا فلا ، كما صرح بذلك كله في جامع المقاصد.
نعم ظاهره أن
العامل يستحق الأجرة إذا حصل الربح للمالك ، وإلا فلا ، ولعله لعدم ضمان عمله على
تقدير صحة المضاربة ، ومالا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ، لكنه لا يخلو من إشكال ،
ويأتي تحقيقه إن شاء الله في باب المضاربة ، كما أن ظاهر إرادة الشهيد في الدروس
من إطلاق كون الربح للعامل مع الشراء في الذمة ، ما إذا نوى الشراء لنفسه لا
المالك ، وإلا كان فضوليا في الواقع ، وإن لزم بالثمن ظاهرا إذا لم يصرح بالغير ،
ضرورة كون الفرق بين العين والذمة ذلك ، فالشراء بالأولى يقع لمالكها على الأصح
وإن نوى به غيره ، بخلاف الذمة كما هو محرر في محله.
فلا بد من تنزيل
إطلاق الدروس على ذلك ، قال فيها : ولا تصح المضاربة بالدين لا للمديون ولا لغيره
لعدم تعينه ، فلو ضارب وربح فالربح لصاحب المال ، اما المديون إن كان هو العامل ،
أو المديون إن كان غير العامل ، إلا أن يشترى في الذمة فيكون الربح له وعليه الإثم
والضمان.
وكيف كان فالفرق
بينهما بما عرفت ، لم أجد فيه خلافا بين من تعرض له من الفاضل وغيره ، في القواعد
« لا تصح المضاربة بالدين قبل قبضه ، فإن فعل فالربح بأجمعه للمديون إن كان هو العامل
، وإلا فللمالك وعليه الأجرة وإن كان محتاجا إلى التقييد
بالنسبة إلى بعض
ما عرفت.
نعم توقف فيه في
المسالك فقال : « إن المضاربة الفاسدة إن اقتضت وكالة في القبض خارجة عن حقيقتها
فليكن في المديون كذلك ، فإن الصيغة إنما اقتضت المعاملة على الدين الذي في الذمة
، وكما لا يمكن للأجنبي العمل به ما دام في الذمة ، لأنه حينئذ أمر كلي لا وجود له
في الخارج ، فاقتضى ذلك الإذن له في قبضه الذي زعموا كونه وكالة كذلك ، نقول في
المديون فإنه لا يمكنه العمل بنفس دين المالك الذي في ذمته ، بل لا بد من إفرازه
والشراء به ، كما سيأتي من أن العامل لا يصح له أن يشترى له إلا بالعين ، وحينئذ
فالمضاربة الفاسدة إن كانت مجامعة للوكالة في تعيين المال ، فهي واقعة في الموضعين
، وإلا فلا.
وقد يدفع بظهور
الفرق بينهما عرفا في استفادة الإذن من المالك في التمييز إذا كان المضارب غير
المديون ، لأن المتعارف فيه العمل بعين المضارب فيه ، أما إذا كان المديون فلا
ظهور فيه بالإذن في التمييز ، لكونه في الحقيقة مقبوضا له ، فربما يعامل به وهو في
ذمته ، بل لعل ذلك هو المتعارف فلا يستفاد منه الإذن في التمييز.
نعم قد يتوقف في
ذلك من جهة أخرى وهي منع كون ذلك خارجا عن مقتضيات المضاربة ، بل هو بعض لوازمها
وتوابعها ، فينبغي أن يتبعها في الفساد ، إذ الظاهر تقييد الأذن بالقبض ، بصحة
المضاربة لا مطلقا ، فمع فرض فسادها سيما إذا كان العامل عالما بذلك لا اذن ،
اللهم إلا أن يدعى أن ذلك من الدواعي لا الشرائط ، لأن الاذن في القبض خارج عن
حقيقة المضاربة ، إذ يمكن قبض المالك أو غيره ثم يسلم العامل فالإذن على تقدير
استفادتها من عبارة المضاربة غير مقيدة بصحتها فتأمل جيدا والله أعلم.
المسألة الخامسة
لا خلاف في أن الذمي إذا باع من مثله مالا يصح للمسلم تملكه كالخمر والخنزير مع مراعاة
شرائط الذمة كالتستر ونحوه جاز دفع الثمن لهذه المحرمات إلى المسلم عوضا عن حق له
في ذمة الذمي بلا خلاف أجده ، بل الإجماع بقسميه عليه لإقرار شريعتنا له خاصة على
ما عنده.
ومن هنا لو كان
البائع لها مسلما أو حربيا أو ذميا متظاهرا لم
يجز قبض أثمانها
لفساد البيع ، فيبقى المال على ملك صاحبه ، فلا يجوز تناوله عن الحق وغيره بلا
خلاف معتد به أجده في شيء من ذلك ، بل ولا إشكال فيه بعد معلومية ذلك من الشريعة
، مضافا إلى ٢٢٤٠٩ الصحيحين عن أبي جعفر وأبى عبد الله 8 « في رجل كان له على رجل دراهم فباع خمرا أو خنازير وهو
ينظر إليهم فقضاه؟ فقال : لا بأس به أما للمقتضي فحلال وأما للبائع فحرام ».
وصحيح زرارة عن أبى عبد الله 7 « في الرجل يكون
لي عليه الدراهم فيبيع بها خمرا أو خنزيرا ثم يقضيني منها فقال : لا بأس ، أو قال
: خذها » وخبر الخثعمي « سألت أبا عبد الله 7 عن الرجل يكون لنا عليه الدين ، فيبيع الخمر والخنازير
فيقضيانه؟ فقال : لا بأس به ليس عليك من ذلك شيء » وخبر أبى بصير عن أبى عبد الله 7 « عن الرجل يكون
له على الرجل مال فيبيع بين يديه خمرا أو خنازير يأخذ ثمنه ، قال : لا بأس ».
ومن المعلوم إرادة
الذمي من إطلاق هذه الأخبار ، لمعلومية البطلان بالنسبة إلى غيره ، وأن أثمانها
سحت ولأنه المتبادر المعهود بيع ذلك في بلاد الإسلام ، ولذا صرح به في السؤال منصور
بن حازم « فقال : قلت لأبي عبد الله 7 لي على رجل ذمي دراهم فيبيع الخمر والخنزير وأنا حاضر فيحل
لي أخذها؟ فقال : إنما لك عليه دراهم فقضاك دراهمك » ومن التعليل يظهر عدم إرادة
الفرض من إطلاق ما دل على المنع « من أكل ثمن الخمر ولعنه وحرمته ».
ومن الغريب ما عن
صاحب الكفاية من أن التقييد بما إذا لم يكن البائع مسلما مناف لإطلاق أخبار كثيرة
، فالحكم به مشكل ، إلا أن يكون المقصود المنع بالنسبة إلى البائع ، وأيده في
الحدائق بقوله 7 « أما للمقتضي فحلال. وأما للبائع فحرام ».
__________________
وفيه أن المراد من
البائع الذمي الذي أقره الشارع على ما عنده بالنسبة إلى الأحكام الظاهرية وإن كان
معاقبا باعتبار تكليفه بالفروع ، وب صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر 7 « في رجل ترك
غلاما له في كرم له يبيعه عنبا أو عصيرا ، فانطلق الغلام فعصر خمرا ثم باعه قال :
لا يصلح ثمنه ، ثم قال : إن رجلا من ثقيف أهدى إلى رسول الله 6 راويتين من خمر
بعد ما حرمت ، فأمر بها رسول الله 6 فأهريقتا ، وقال : إن الذي حرم شربها حرم ثمنها ، ثم قال
أبو عبد الله 7 : إن أفضل خصال هذه التي باعها الغلام أن يتصدق بثمنها » ومثله
في الصدقة خبر أبي أيوب .
وفيه أن المتجه
حمل الخبرين على عدم معرفة المشتري فيكون الثمن مجهول المالك ، فيتصدق به ، لا أن
الثمن ملك للبائع لأنه قد أعطاه المشتري إياه باختياره ، وإن فعلا حراما ، كما عن
بعض المحدثين الذين لا يبالون بما وقع منهم ، وإلا فلا ينبغي التأمل في ذلك بعد
استقامة الطريقة خصوصا بعد مرسلة ابن أبي نجران الصحيحة إليه عن
الرضا 7 « عن نصراني أسلم وعنده خمر وخنازير وعليه دين هل يبيع خمره وخنازيره ويقضى
دينه؟ قال : لا » الدال على حكم المسلم الأصلي بطريق أولى ، ومنه يعلم الحال فيما
لو أسلم الذمي قبل بيعه ما لا يملكه حال إسلامه ، فإنه يخرج بذلك عن ملكه ، كما
صرح به المشهور.
خلافا للمحكي عن
النهاية فقال يتولى بيعها له غيره ، للخبر « وان أسلم رجل وله خمر وخنازير ثم مات وهي في ملكه وعليه
دين؟ قال : يبيع ديانه أو ولي له غير مسلم خنازيره فيقضى دينه ، وليس له أن يبيعه
وهو حي ولا يمسكه » وهو ـ مع كونه مقطوعا وفي سنده جهالة يمكن حمله على أن له ورثة
كفارا يبيعون ذلك ويقضون ديونه ، فلا يخرج به عما دل على أن المسلم لا يملك ذلك ،
ولا يجوز بيعه مباشرة ولا تسبيبا كما هو واضح.
__________________
وكذا لا ينبغي
التوقف أيضا في التقييد بالاستتار الذي هو شرط الإقرار ، ولا ينافيه ما في هذه
النصوص من اطلاع المسلم عليه إذ يمكن فرضه على وجه لا ينافي الشرط المذكور ، فتوقف
المحدث البحراني فيه بل قال : الأقرب عدم اشتراطه في غير محله ، كما عرفته في
شرائط الذمة ، وإطلاق الشيخ حل تناول ثمن الخمر مثلا من الذمي محمول على ذلك ، كما
اعترف به في الدروس.
على أنه قد يقال :
ان إطلاق الأدلة أو عمومها قاض بحرمة تناول أثمان هذه المحرمات ، وعدم ملكها مطلقا
، فينبغي الاقتصار في الخروج عنها على المتيقن ، وهو الأخذ من الذمي المستتر دون
المتجاهر ، ومنه يعلم الوجه في عدم إلحاق الحربي به خصوصا بعد عدم عموم في النصوص
السابقة يشمله ، بل قد يدعى انسياق خلافه منها باعتبار عدم معهودية بيعه في بلاد
الإسلام فتأمل جيدا.
بل قد يقال انه
ينبغي الاقتصار في الذمي أيضا على ما إذا باع من مثله ، أما إذا باع الخمر من مسلم
أو حربي فيحرم تناول الثمن منه ومن هنا قيده بذلك في التذكرة ولعله مراد من أطلق
كالمصنف وغيره ، للأصل المتقدم ، اللهم إلا أن يقال : إن إقراره على مذهبه يقتضي
جواز تناوله منه أيضا بعد أن كان مذهبه الجواز ، والحرمة على المسلم والحربي ، بل
الفساد بالنسبة إليهما لا ينافي ذلك ، إذ هو حكم آخر ضرورة تحقق الفساد واقعا ،
حتى في بيعه من مثله ، لإطلاق ما دل على « أن ثمن الخمر سحت » الشامل للجميع.
وجواز التناول منه
لا ينافي كونه كذلك بالنسبة إليه ، كما أومأ إليه الخبر السابق بقوله 7 « انه للمقتضي
حلال وعليه حرام » وهو جيد جدا ، بل له مؤيدات كثيرة تظهر بأدنى تأمل ، وان كان
انطباق كلمات الأصحاب عليه لا يخلو من اشكال فتأمل جيدا فإن من ذلك يعلم الحكم في
الجملة فيما لو اقترض ذمي من ذمي خمرا وأسلم أحدهما ، فإن الظاهر سقوط القرض كما
جزم به الفاضل والمحقق الثاني ، لكن في الدروس الأقرب لزوم القيمة بإسلام الغريم.
__________________
وفيه أنه مناف
للأصل وغيره مما عرفت ، وان كان قد يشهد له ما احتملوه فيما لو أسلم ذمي إلى ذمي
في خمر فأسلم أحدهما قبل القبض من لزوم القيمة عند مستحليه ، إلا أنه غير مختص
بإسلام الغريم ، مع أن الذي اختاره الفاضل والمحقق الثاني هو بطلان السلم ، وأن
للمشتري أخذ دراهمه ، واحتملا أيضا السقوط لا الى بدل ولا ريب في أن الأقوى
البطلان ، وان للمشترى أخذ دراهمه أما الأول فلعدم ملك المسلم الخمر وعدم مملوكيته
عليه ، وأما الثاني فواضح.
وفي القواعد في
باب الكفالة « إذا كان لذمي خمر على ذمي ، وكفله آخر مثله ، وأسلم أحد الغريمين
برأ الكفيل والمكفول له على إشكال فيهما لكن في جامع المقاصد « إن أسلم صاحب الحق
بطلت الكفالة وحصلت البراءة ، وإن أسلم من عليه الحق بقيت الكفالة ، ولعله يخالف
ما سمعته منه سابقا ، والأقوى البراءة لما عرفت ، هذا كله إذا اقترض خمرا ، أما
إذا اقترض خنزيرا فالقيمة لازمة مطلقا ، إلا إذا قلنا بأنه يضمن بمثله ، فيأتي فيه
حينئذ ما تقدم في الخمر والله أعلم.
المسئلة السادسة :
إذا كان لاثنين فصاعدا مال في ذمة أو ذمم ثم تقاسما بما في الذمة أو الذمم بأن
تراضيا على أن ما في ذمة زيد لأحدهما ، وما في ذمة عمرو لآخر لم يصح عند المشهور
نقلا وتحصيلا ، بل عن الشيخ وابن حمزة الإجماع عليه ، وحينئذ فكل ما يحصل من
أحدهما لهما معا وما يتوى بالتاء المثناة من فوق منهما للأصل السالم عن معارضة
إطلاق القسمة بعد انصرافه إلى غيره ، ولو للشهرة والإجماع السابق ، مضافا إلى صحيح
سليمان بن خالد « سألت أبا عبد الله 7 عن رجلين كان لهما مال بأيديهما ، ومنه متفرق عنهما ،
فاقتسما بالسوية ما كان بأيديهما وما كان غائبا عنهما ، فهلك نصيب أحدهما مما كان
غائبا ، واستوفى الآخر ، عليه أن يرد على صاحبه؟ قال : نعم ما يذهب بماله ».
وموثق ابن سنان « سألت أبا عبد
الله 7 أيضا عن رجلين بينهما مال
__________________
منه دين ، ومنه
عين ، فاقتسما العين والدين ، فتوى الذي كان لأحدهما من الدين أو بعضه ، وخرج الذي
للآخر ، يرد على صاحبه؟ قال : نعم ما يذهب بماله » ومرسل أبي حمزة قال : « سئل أبو
جعفر 7 عن رجلين بينهما مال ، منه بأيديهما ومنه غائب ، فاقتسما الذي بأيديهما وأحال
كل واحد منهما بنصيبه من الغائب ، فاقتضى أحدهما ، ولم يقتض الأخر ، قال : ما
اقتضى أحدهما فهو بينهما ما يذهب بماله » ومثله الموثق عن محمد بن مسلم بل وخبر غياث عن جعفر عن أبيه
عن علي 8 مع زيادة و « ما يذهب بينهما » في الأخير.
فمن الغريب ما عن
الأردبيلي من اقتصاره على خبر غياث دليلا للمشهور ، ثم قال : والشهرة ليست بحجة ،
وابن إدريس مخالف ، ونقل عنه أن لكل واحد ما اقتضى كما هو مقتضى القسمة ، والمستند
غير معتبر لوجود غياث ، كأنه ابن إبراهيم العنبري ، وأدلة لزوم الشرط تقتضيه ،
وكذا التسلط على مال نفسه ، وجواز الأكل مع التراضي والتعيين التام ليس بمعتبر في
القسمة ، بل يكفي في الجملة كما في المعاوضات ، فإنه يجوز البيع ونحوه ، ولأن
الدين المشترك بمنزلة دينين لشخصين وللمالك أن يخص أحدهما دون الأخر ، فلو كان
بتخصيص كل واحد قبل القسمة لأمكن ذلك أيضا فإن الثابت في الذمة أمر كلي قابل
للقسمة ، وإنما يتعين بتعيين المالك ، فله أن يعين ، ولكن الظاهر أنه لا قائل به
قبل القسمة ».
قلت : قد يظهر من
ابن إدريس ذلك ، فإنه بعد أن حكى عن خلاف الشيخ ونهايته أنه إذا كان بين اثنين شيء
فباعاه بثمن معلوم كان لكل واحد منهما أن يطالب المشتري بحقه فإذا سلمه حقه شاركه
فيه صاحبه على ما قدمناه ، لأن المال الذي في ذمة المشتري غير مميز ، فكل ما يحصل
من جهته فهو شركة بينهما.
قال : « الذي
يقتضيه أصول مذهبنا أن لكل واحد من الشريكين على المديون قدرا مخصوصا ، وحقا غير
حق شريكه ، وله هبة الغريم وإبراؤه منه فمتى أبرأه أحدهما
__________________
من حقه برء منه
فقط ، وبقي حق الأخر لم يبرء منه بلا خلاف ، وإذا استوفاه وتقاضاه منه لم يشارك
شريكه الذي وهب أو أبرأ أو صالح منه على شيء بلا خلاف ، فلو كان شريكه بعد في
المال الذي في ذمة الغريم ، لكان في هذه الصور كلها يشارك من لم يهب ولم يبرأ فيما
يستوفيه منه ويقبضه ، ثم عين المال الذي كان شركة بينهما ذهبت ولم يستحقا في ذمة
الغريم الذي هو المدين عينا لهما معينة ، بل دينا في ذمته ، لكل واحد منهما
مطالبته بنصيبه ، وإبراؤه منه وهبته ، وإذا أخذه منه وتقاضاه ، فما أخذ عينا من
أعيان الشركة حتى يقاسمه شريكه فيهما.
ولم يذهب إلى ذلك
سوى شيخنا أبي جعفر الطوسي في نهايته ، وو من قلده وتابعه بل شيخنا المفيد محمد بن
محمد بن النعمان لم يذكر ذلك في كتاب له ، ولا تصنيف ، وكذلك السيد المرتضى ولا
تعرضا للمسألة ، ولا وضعها أحد من القميين ، وانما ذكر ذلك شيخنا في نهايته من
طريق أخبار الآحاد ، ورد بذلك ثلاثة أخبار أحدها مرسل ، وعند من يعمل بأخبار
الآحاد لا يعمل عليه.
ولو سلم الخبران
تسليم جدل لكان لهما وجه صحيح مستمر على أصول المذهب والاعتبار ، وهو أن المال
الذي هو الدين كان على رجلين ، فأخذ أحد الشريكين وتقاضى جميع ما على أحد الغريمين
، فالواجب عليه هيهنا أن يقاسم شريكه على نصف ما أخذه منه ، لأنه أخذ ما يستحقه
عليه وما يستحقه شريكه أيضا عليه ، لأن جميع ما على أحد المدينين لا يستحقه أحد
الشريكين بانفراده دون شريكه الآخر ، فهذا وجه صحيح ، فيحمل الخبران على ذلك إذا
أحسنا الظن براويهما. فليتأمل ذلك وينظر بعين الفكر الصافي ففيه غموض ».
وهو كما ترى صريح
في استقلال الشريك بأخذ حقه من غير حاجة إلى إذن الشريك الآخر ، وأنه لا يشاركه
فيما أخذه ، لأن كلا منهما ديان مستقل ، كما إذا باعا صفقتين ، بل قد يقال : لا
دلالة في كلامه على صحة قسمة الدين ولزومها ، بحيث لو قبض أحد الشريكين جميع ما
على المديون اختص به للقسمة ، بل لعل كلامه الأخير الذي حمل عليه الخبرين صريح في
خلافه ، ومن هنا لم يشر المصنف وغيره إلى خلافه
في المقام ، وإنما
ذكروا كلامه في باب الشركة.
نعم قد وقع ذلك من
بعض متأخري المتأخرين كالأردبيلي والمحدث البحراني وفاضل الرياض ، وإن كان التحقيق
خلافه أيضا في ذلك المقام ، لما سمعته من النصوص التي لم تفرق في اشتراك الغريمين
بما قبضه أحدهما بين كونه زائدا على حقه ، ومساويا بترك الاستفصال فيها ، ولفظ ما
الواقع في جوابها.
بل في المختلف «
أن الاعتبار يقضي بذلك ، لأنه بعد أن حكى القولين قال : وقول الشيخ ليس بعيدا من
الصواب ، وقياس ابن إدريس القبض على الهبة والإبراء غلط ، لأن ذلك إسقاط للحق
بالكلية ، فينتفى حق الشريك ضرورة ، أما في صورة القبض فليس كذلك ، إذ المال مشترك
، فإذا دفع إلى أحدهما فإنما دفع عما في ذمته ، والدفع إنما هو للمال المشترك ،
فلا يختص به القابض ، قلت : بل قد يقال إن المتجه بعد أن وقع البيع صفقة ، اشتراك
الثمن المعين بينهما على حسب اشتراك العين الخارجية وكليته لا ينافي ذلك ، فكل
منهما له نصف منه ، لا يمكن إفرازه بالقسمة وهو في الذمة ، بل لا يتعين الثمن ملكا
لهما إلا بقبضهما معا ، فهما معا حينئذ بمنزلة الديان الواحد ، فقبض كل منهما نصف
قبض ، لا أنه قبض للنصف ، لعدم إمكان تعيين النصف من الدافع والمدفوع إليه إذا كان
أحدهما.
فالأصل حينئذ
يقتضي بقاء المدفوع على ملك الدافع حتى يقبضه الآخر ، أو يجيز قبض الأول فيكون
حينئذ مشتركا بينهما لا أنه بقبض أحدهما يملك نصفه ، ويبقى النصف الآخر موقوفا على
إجازة الشريك ، فله اختياره فيكون شريكا مع شريكه ، وله مطالبة المديون بنصفه ،
ضرورة كون ذلك مناف لكون الثمن مشتركا ، وكيف يتعين للقابض نصف مع عدم تعين كون
المدفوع ثمنا لعدم القبض منهما ، إلا أن النصوص السابقة صريحة أو كالصريحة في ملك
القابض نصفه ، وأنه يشاركه الآخر ، ولعل حكم المشهور بذلك من جهتها ، لا للقاعدة ،
وهي وإن كان موردها القسمة وكلام الأصحاب أعم ، لكن لما كانت القسمة باطلة فهي
كعدمها ، فيبقى حينئذ قبض أحد الشريكين من غير إذن صاحبه ، وقد حكم فيها بالشركة
فيما اقتضاه أحدهما.
نعم قد يشكل ذلك
بأن الموجود فيها الحكم بالاشتراك ، لا أنه موقوف ، وليس حينئذ إلا للاذن الحاصل
من القسمة التي بطلانها لا ينافي وجود الإذن بالقبض ، فيكون الحكم بكونه ملكا
بينهما متجها ، بل قد يقال : إن هذه القسمة غير باطلة ، وإنما هي غير لازمة فالإذن
الحاصل منها غير باطل.
ومن هنا حملوا خبر
على بن جعفر 7 عن أخيه 7 المروي عن قرب الإسناد « سألته عن رجلين اشتركا في سلم أيصلح
لهما أن يقتسما قبل أن يقبضا قال : لا بأس » على إرادة بيان الجواز ، بل قد يقال :
إن الإذن بالقبض الحاصل من القسمة ليس من لوازمها وتوابعها حتى يبطل ببطلانها ، بل
هو كالإذن الحاصل بالمضاربة بالدين كما عرفته سابقا أو يقال : إن ما في النصوص
مبنى على الغالب من حصول رضا الشريك بقبض شريكه ، بعد فرض هلاك الباقي وعدم إمكان
تحصيله من المديون أو يقال غير ذلك.
لكن على بعض هذه
الوجوه في النصوص ، يشكل حينئذ الدليل على ما عند الأصحاب من أن أحد الشريكين إذا
قبض مقدار حقه مضى في النصف مثلا ويبقى الباقي موقوفا على رضى الشريك ، فإن أجازه
كان له ، وإلا كان الجميع من حق القابض ، إذ المتجه بعد فرض عدم النصوص ما عرفت من
توقف دخوله في ملكهما على رضاهما معا ، وإلا بقي على ملك الدافع ، وان كان هو
مضمونا على القابض مع فرض جهل الدافع ، باعتبار كون يده يد ضمان ، ولا ينافي إجازة
الشريك نية الدافع والقابض أنه لخصوص المدفوع إليه بعد أن كانت لغوا ، فيكفي حينئذ
في صحة الإجازة نية الدفع عن الدين والقبض كذلك.
وبالجملة افراز
حصة الشريك من العين المشتركة بالقبض لا يكون إلا بالقسمة من الشريكين والرضا
منهما ، ومن هنا ينقدح الإشكال في صحة ضمان حصة أحدهما دون الآخر ضرورة اقتضائه
افرازها عن حصة الآخر ، ولذا قال في جامع المقاصد مؤيدا لكلام ابن إدريس : « إن صحة
الضمان من الدلائل على التمكن من أخذ الحصة
__________________
منفردة عن الأخرى
، وكذا جواز تأجيل أحدهما حصته بعقد لازم ، بل أطال ; في تأييده حتى مال إليه ، كما أن الفاضل في المختلف في آخر
كلامه قد اعترف بقوته عكس ثاني الشهيدين في المسالك ، فإنه لم يأل جهدا في تصحيح
كلام المشهور وتقريبه للضوابط ، إلا أنه لم يأت بشيء بعد التأمل.
فالتحقيق مع قطع
النظر عن النصوص عدم تعين ما قبضه أحدهما لأحدهما بل هو على ملك الدافع لأن
المشترك بينهما كلى لا يتعين إلا بقبضهما معا ضرورة تلازم ملك كل منهما بالقبض على
ملك الأخر ، فليس لكل منهما نصف مستقل عن الأخر وإلا لاتجه كلام ابن إدريس.
نعم لو تشاحا في
توكيل أحدهما عن الأخر في القبض ، ولا أمكن قبضهما معا أقام الحاكم مقامهما شخصا
آخر ، أو كفى التخلية لهما أو غير ذلك ، ولتحقيق المسئلة مقام آخر ، وإنما هذا
كلام جاء في البين منشؤه نسبة جواز قسمة الدين إلى ابن إدريس وقد عرفت فساده ، وأن
بحثه في مقام آخر مذكور في باب الشركة ، بل المشهور الذين ذهبوا إلى تعيين حصة
القابض بما قبضه إن لم يشاركه الأخر ، وإلا فبنسبة شركته أقرب منه إلى القول بقسمة
الدين فتأمل جيدا.
وكيف كان فقد ذكر
غير واحد للاحتيال في قسمة الدين الحوالة ، وذلك بأن يحيل كل منهما صاحبه بنصيبه
الذي في ذمة أحد المديونين وفيه أن ذلك وكالة لا حوالة لأنها من البري ، بل لم أجد
فيها خلافا سوى ما حكاه الشهيد في الحواشي المنسوبة إليه من توقف الفاضل في
التذكرة في ذلك ، ولا ريب في ضعفه.
نعم لو أحال كل
منهما بنصيبه لدين سابق عليه صح ، كما أنه يصح الصلح منهما بجعل أحدهما نصيبه في
ذمة أحد المديونين في مقابلة نصيب شريكه في ذمة الآخر.
وفي الدروس الأقرب
الصحة وفي جامع المقاصد أنه محتمل قلت : لم أجد وجها للعدم سوى دعوى شمول نصوص عدم
قسمة الدين لذلك ، إذ لو صح الصلح لكان المتجه حمل ما يقع منهما من دون عقده على
معاطاته ، مع أن النصوص قد أطلقت عدم تأثيرها مع أن في أسألة بعضها ما يقضى بحمل
فعل المسلم على الوجه الصحيح ، على أن القسمة من أصلها
هي قريبة من الصلح
إن لم تكن نوعا منه ، فمع ظهور النصوص في عدم قسمة الدين قد يستفاد منه عدمها أيضا
ولو بالصلح ، إلا أن ذلك كله كما ترى.
ولو قلنا بصحة
ضمان حصة كل منهما أمكن القسمة أيضا بأن يضمن كل منهما حصة صاحبه التي في ذمة أحد
المديونين بإذنه ، فيتهاترا ، ويبقى كل من الدينين لكل منهما بلا شركة ، ولو كان
الدين المشترك في ذمة واحدة وأراد أحدهما الاختصاص بحصته من غير إشكال صالح
المديون عنها ، بما يدفعه إليه من مقدارها ، أو وهبها له بعوضها ، أو أحال بها
لدين عليه أو نحو ذلك والله أعلم
المسئلة السابعة
قال الشيخ ومن تبعه إذا باع الدين بأقل منه لم يلزم المدين أن يدفع إلى المشتري
أكثر مما بذله اعتمادا على رواية محمد بن الفضيل « قلت للرضا 7 : رجل اشترى دينا
على رجل ، ثم ذهب إلى صاحب الدين فقال له : ادفع إلى ما لفلان عليك ، فقد اشتريته
منه ، فقال : يدفع إليه قيمة ما دفع إلى صاحب الدين ، وبرء الذي عليه المال من
جميع ما بقي عليه » ورواية أبي حمزة عن الباقر 7 « سئل عن رجل كان له على رجل دين فجاءه رجل فاشترى منه
بعرض ثم انطلق إلى الذي عليه الدين ، فقال : أعطني ما لفلان عليك ، فانى قد
اشتريته فكيف يكون القضاء في ذلك؟ فقال أبو جعفر 7 : يرد الرجل الذي عليه الدين ماله الذي اشترى به من الرجل
الذي له الدين ».
وظاهر الدروس
العمل بهما ، إلا أنهما كما ترى ضعيفتان ولا جابر لهما ، بل شهرة الأصحاب بقسميها
على خلافهما مخالفتان لأصول المذهب وقواعده ، وليس في ثانيهما أن الثمن أقل ، فيمكن
حمله على المساوي ، وإلا فإطلاقه مما لا يقول به أحد كإطلاق سؤال الأول ، فالواجب
حينئذ طرحهما أو حملهما ، وكلام الشيخ كما قيل على الضمان وإن كان فيه عدم معهودية
استعمال لفظ الشراء فيه ولو مجازا وأنهما ظاهران في عدم علم المديون بذلك فلا رجوع
عليه ، وليس في الثاني تصريح بأنه أدى إلى صاحب
__________________
الدين كي يستحق
الرجوع على المديون ، بل فيه أنه اشترى بعرض ، فكيف يجامع الضمان ، بل دفع القيمة
في الأول ظاهر في العرض اللهم إلا أن يراد منها المقدار.
أو يقال بكون
المراد على هذا التقدير تأدية الضمان عروضا ضمنه ، فكان له المطابقة بالقبضة ، لكن
على كل حال لا ريب بع الحمل المزبور ، وأبعد منه حملهما على الشراء الفاسد ، وأن
صاحب الدين قد أذن للمشتري أن يقبض من المديون مقدار ما أدى ، ويبقى الباقي لصاحب
الدين ، فيكون المراد من البراءة في الأول بالنسبة إلى المشتري ، إذ هو كما ترى.
ولعل الأقرب منهما
حملهما على الشراء للمديون نفسه ، ولو بصيغة الصلح باذن من المديون أو بإجازة
لاحقة ، فيكون من صلح الحطيطة إذا فرض كون العوض من الجنس.
هذا وقد أساء
الأدب في السرائر في المقام مع الشيخ حتى قال : إن كلامه تضحك منه الثكلى ، حيث
أنه فهم من إطلاق كلامه جواز البيع بالأقل وإن كان ربويا وعدم التقابض في المجلس
وإن كان الثمن والمثمن من النقدين.
وفيه أن إطلاق
الشيخ منزل على إحراز شرائط البيع ، وليس في قوله أقل شهادة على ذلك ، إذ يمكن
فرضه في المتجانسين في غير الربويين ، بعد تسليم عدم صدق الأقل بالنسبة إلى قيمة
المدفوع ، على أنك قد سمعت أن مستنده الخبر ان الظاهر أولهما والصريح ثانيهما في
كون الثمن من العروض ، ومن هنا قد انتصر الفاضل في المختلف للشيخ حتى استوفى له
حقه ، ولا بأس فإن المؤمن له ناصر والله بعد ذلك هو الغافر ، خصوصا بعد أن كان هذا
كله لإظهار الحق وتدمير الباطل ، بزعم القائل. والله أعلم.
المسألة الثامنة
الأقوى حرمة القرض بشرط البيع محاباة أو الإجارة أو غيرها من العقود ، فضلا عن الهبة
ونحوها ، وفاقا للأستاد الأكبر الشيخ جعفر ، وشيخه الفاضل المتبحر الآقا محمد باقر
على ما حكاه عنهما شيخنا في مفتاح الكرامة ، قال : وخالفهما في ذلك أستادنا الإمام
العلامة أستاد الكل في عصره السيد محمد مهدي ، بل
حكي فيه أيضا أن
الأستاد الآقا المزبور قد صنف رسالة في تحريم ذلك ، مدعيا اتفاق الأصحاب وتظافر
الروايات ، وهو وإن كان قد يظهر من المختلف ذلك أيضا ، حيث قال في مسألة البيع
بشرط القرض المتنازع فيه : إباحة البيع بالمحاباة مع اشتراط القرض ، لا العكس ، بل
عن الصيمري حكاية ذلك عنه ساكتا.
لكن الإنصاف عدم كون
المسألة من الإجماعيات ، إذ في القواعد « يجوز لو أقرضه بشرط أن يقترض منه ، أو
يقرضه أو يبيعه بثمن المثل أو بدونه أو يسلفه أو يستسلف منه ، ونحوه في التذكرة ،
اللهم إلا أن يريد بيع المقرض لا المقترض ، فيكون خارجا عما نحن فيه ، إذ هو بدون
ثمن المثل نفع للمقترض لا المقرض ، كما أن قوله في التذكرة يجوز أن يقترض الزائد
ثم يستقرض الأخر منه الناقص ، ثم يتباريان ، سواء شرط في إقراضه ما يفعله الأخر أو
لا ، خلافا للشافعي » يمكن أن يكون المراد منه اشتراط نفس القرض ، لا الإبراء ، مع
أنه غير ما نحن فيه ، بل ما في الغنية من جواز أن يقرض غيره ما لا على أن يعامله
في بيع أو إجارة أو غيرهما ، بدليل إجماع الطائفة ، يحتمل كون المراد غير ما نحن
فيه من المحاباة ، كالنهاية والسرائر وجامع الشرائع التي عبر فيها بمثل العبارة
المزبورة ، من دون دعوى الإجماع كما قيل.
بل لعل ما حكاه في
كشف الرموز كما قيل عن الشيخ من الإجماع على أنه يجوز لمن يقرض ما لا أن يبتاع منه
شيئا بأقل من ثمن المثل لا على وجه التبرع ، بل بسبب الإقراض ، وأنه لا يعرف له
مخالفا كذلك أيضا ، وأنه لم يأخذه شرطا في عقد القرض وإن كان هو السبب فيه ، مع أن
المحكي عن خلافه أنه قال : إذا باع دارا على أن يقرض المشتري ألف درهم ، أو يقرضه
البائع ألف درهم فإنه سائغ ، وليس بمحظور دليلنا إجماع الفرقة ، إلا أنه ومع ذلك
كله فلا يقطع بحصول الإجماع على الحرمة.
نعم نص عليها
الفاضل في التحرير فقال : « لو شرط في القرض أن يؤجره داره أو يبيعه شيئا أو يقرضه
مرة أخرى جاز ، أما لو شرط أن يؤجره داره بأقل أو يستأجر منه بأكثر ، فالوجه
التحريم ، وعن كشف الرموز أنه حكاه عن بعض الأصحاب وتردد هو فيه ، وقيل انه يلوح
من صاحب التنقيح وعن الأستاد أنه حكاه عن المصنف وعن
أبى طالب الحسيني
في رسالته الفارسية.
وكيف كان فلا ريب
في أنه الأقوى لصدق جر النفع به ، المحرم فتوى وسنة ، ولا يعارضه ما دل على « أن
خير القرض ما جر نفعا » ، المحمول كما عرفت على عدم الشرط ، ونحو ذلك مما تقدم ،
كما أنك قد عرفت الكلام في اشتراط الرهن والكفيل على هذا الدين أو دين آخر ، وفي
اشتراط الصحيح بدل الغلة ، وفي اشتراط الإعطاء في بلد آخر أو غير ذلك ، مما هو غير
مناف لذلك ، أو أنه دل عليه الدليل ، أو أنه لا نقول به ، فلاحظ وتأمل.
بل قد عرفت ما في
دعوى المحقق الثاني من أن الممنوع اشتراط الزيادة في نفس مال القرض ، أو صفته ،
وما في تأمل الأردبيلي في حرمة اشتراط زيادة الصفة ، والعبارات السابقة التي بعضها
معقد صريح الإجماع أو ظاهره قد عرفت الحال فيها ، وعلى تقدير إطلاقها فالتعارض
بينها وبين ذلك من وجه ، ولعل الترجيح للمقام ، فلا وجه لدعوى تقيد هذا الإطلاق
بها ، كما أنه لا وجه لمعارضته بالإجماعات المحكية على جواز البيع بشرط القرض ،
وبغيرها من الأدلة المذكورة لذلك ، فإنه قد أنهاها في المختلف إلى خمسة وعشرين ،
وإن كان في بعضها ما فيه ، بعد وضوح الفرق بين المسألتين وأنهما ليسا من سنخ وأحد
، ضرورة عدم الاشتراط في عقد القرض ، وإنما هو شرط في عقد البيع فلا بأس به ، وإن
كان محاباة ، وكون ذلك هو السبب في فعل القرض ، وإلا لم يقع من المقترض ، لا يدرجه
تحت أدلة المنع كما هو واضح ، ودعوى أن ما دل على حرمة جر النفع من الأخبار
المرسلة بل قيل العامية في غاية الفساد ، بعد ما عرفت من اتفاق الفتاوى على مضمونه
، وأن في نصوصنا المعتبرة ما هو مثله في الدلالة ك صحيح محمد بن قيس وغيره المتقدمة
سابقا التي هي دليل آخر للمطلوب ، خصوصا صحيح محمد بن قيس منها ضرورة أنه مع
اشتراط محاباة في قرض الورق مثلا قد اشترط زائدا على رد مثلها ، وقد نهى عنه ، ولا
ينافيه خروج اشتراط ما لا نفع فيه عنه ، بعد معلومية
__________________
كون المراد منه
عدم اشتراط الزائد على ذلك مما يكون نفعا للمقرض لا مطلقا ، ولو بقرينة ذيله ،
والورق فيه لا ريب في إرادة المثال منه لكل قرض ، وبالجملة لا ينبغي التأمل في
دلالة جميع النصوص السابقة أو أكثرها على حرمة القرض ، ولو أن كون الشرط للنفع في
عقد آخر مسوغا لذلك ، لجاز اشتراط الهبة والعارية ونحوهما مما هو معلوم العدم نصا
وفتوى ، ولعل المسألة من الوضوح لا تحتاج إلى إطناب ، بل الداعي إلى هذا القدر من
الكلام هو أني قد عثرت على تحرير لبعض مشايخنا في هذه المسألة قد ذكر فيه أن هذه
المسألة من أمهات المسائل بل مهماتها ، وأنه قد كتب هو وغيره فيها رسالة ، وقد
أطنب في المقال مختارا للحل فيها ، بل شدد النكير على القول بالحرمة ، مستندا إلى
نصوص :خير القرض ما جر نفعا ، ونصوص سلسبيل التي قدمنا شطرا صالحا منها في تأجيل المعجل ، وإلى إطلاق
العبارات السابقة التي بعضها معاقد الإجماع ، مضافا إلى العمومات ، وإلى ما أورده
على ما يقتضي المنع ، مما يعرف جوابه بأدنى تأمل فيما ذكرنا.
كما أنه يعرف عدم
الدلالة في شيء مما ذكره من النصوص المزبورة وإن أكثر منها ، ضرورة خلوها عن
الاشتراط في عقد القرض ، ولا ريب في أنه لا بأس به مع عدمه ، والإجماعات السابقة
قد عرفت حالها ، والعمومات يجب الخروج عنها ، فليس للجواز حينئذ شيء يعتد به.
كما أنه ليس للمنع
في شرط القرض بعقد البيع محاباة شيء يعتد به ، وإن حكى في المختلف عن بعض من
عاصره التوقف فيه ، بعد أن قال : المشهور بين علمائنا الماضين ومن عاصرناه إلا من
شذ أنه يجوز بيع الشيء اليسير بأضعاف قيمته بشرط أن يقرض البائع المشتري شيئا ،
ولعله أراد بمن عاصره المصنف ، فإن المحكي عنه التردد في ذلك وأن له كلاما
واحتجاجا.
وكان ذلك هو الذي
دعى الفاضل في المختلف إلى الإطناب في المسألة حتى ذكر
__________________
للجواز خمسة
وعشرين دليلا ، وإن كان جملة منها تكريرا للدليل ، أو لا يرجع إلى حاصل ، وقد
اعترف هو بأن بعضها ذكرناه للإلزام ، لا للاحتجاج ، والعمدة العمومات في الشرط
والبيع ، وإطلاق نصوص الحيلة الواردة في حكاية سلسبيل وغيرها ، واتفاق الأصحاب
ظاهرا على الجواز ، فإن المفيد والمرتضى والشيخ وغيرهم قد نصوا على ذلك ، وجعلوا
الخلاف فيه للعامة ، وأنه ليس لهم دليلا على ذلك ، بل نص المرتضى والشيخ على
الإجماع عليه ، بل في المختلف « اتفاق علماء الإمامية السابقون على الجواز ، فإنهم
قالوا : لا بأس ان يبتاع الإنسان من غيره متاعا أو حيوانا أو غير ذلك ، بالنقد
والنسيئة ، ويشترط أن يسلفه البائع شيئا في مبيع ، أو يقرضه شيئا معلوما إلى أجل
أو يستقرض منه » فيكون حجة ، لما ثبت من أن إجماع الإمامية حجة ، وبالجملة كان
الإطناب في ذكر كلمات الأصحاب ومعاقد إجماعاتهم وذكر ما يقتضي الجواز من ذلك وغيره
خال عن الفائدة ، لمعلوميته بأدنى ملاحظة ، خصوصا مع عدم ما يقتضي المنع سوى ما
ذكره الفاضل في المختلف من صحيح يعقوب بن شعيب المتقدم سابقا في مسألة اشتراط النفع في القرض ، الذي هو
مع خلوه عن النص على المحاباة وعن اشتراط ذلك في العقد بلفظ « لا يصح » المشعر
بالكراهة وصحيح محمد بن قيس المتقدم أيضا الذي هو مع التأمل دال على المطلوب لا عكسه ،
فلا أقل من أن يكون خارجا عنهما ، وخبر خالد بن حجاج « جاء الربا من
قبل الشروط » وإنما يفسده الشروط الذي هو من القضايا المجملة المفسرة بغيره من
النصوص التي ذكرت في الربا في اشتراط النفع في القرض واشتراط الزيادة في بيع
المتساويين ونحو ذلك ، وكون البيع محاباة نفعا وهو مشترط في القرض ، فيجب أن يكون
حراما ، الواضح فساده بأنه غير محل النزاع ، إذ الكلام في اشتراط القرض فيه ، لا
العكس ، ودعوى التلازم بينهما ممنوعة كوضوح فساد الاستدلال أيضا بأنه لو جاز
اشتراط المحاباة في القرض لجاز اشتراط الهبة والعارية ، لأن كل واحد منهما عقد لو
انفرد لأفاد الحل ، ومع اشتراطه في القرض يحرم ، إذ هو أيضا خارج عن
__________________
محل البحث وغير
ذلك مما لا ينبغي صدوره ممن له أدنى نصيب في العلم.
فمن الغريب سطر الفاضل لها في
المختلف ، وأغرب منها جوابه عن الأخير منها بمنع الملازمة أولا ، وبعدم استحالة
الثاني ثانيا ، وخبر محمد بن قيس بعد اشتراك راويه بين الثقة وغيره لا يعول عليه ،
ضرورة وضوح فساده إن كان المراد التزام جواز ذلك في عقد القرض ، وإلا كان خارجا
عما نحن فيه ، فالتحقيق في الجواب ما عرفت والله أعلم.
المسألة التاسعة :
لو اقترض دراهم ثم أسقطها السلطان وجاء بدراهم غيرها لم يكن عليه إلا الدراهم
الأولى ، وفاقا لصريح جماعة وظاهر آخرين ، لإطلاق الأدلة ، وخصوص الصحيحين ، وخلافا للصدوق
في المقنع ، فأوجب التي تجوز بين الناس ،
للصحيح أيضا « لك أن
تأخذ منه ما ينفق بين الناس ، كما أعطيته ما ينفق بين الناس » القاصر عن مقاومة
السابقين من وجوه ، فيحمل على أخذ ذلك بالتراضي بينهما ، ولم يكن فيه ربا. بل قد
يرجح للمستقرض الدفع للإحسان ، أو على إرادة قيمة الأولى إذا فرض تعذرها ، وربما
حمل على مهر الزوجة أو ثمن المبيع ، وفيه مع خروجه عن الظاهر أن حكمهما حكم القرض.
نعم يمكن ثبوت
الخيار في المعاملة بها مع عدم العلم ، لأنه كالعيب بالنسبة إلى ذلك ، والا فلا
فرق بينهما وبينه ، بل وبين المضاربة على الأقوى ، فرأس المال الدراهم الساقطة دون
الثانية. وقد يحتمل جبر النقص بالربح ، إلا أنه ضعيف ، لعدم كونه نقصا في رأس
المال ، وإنما هو نقص في قيمته بسبب من غير التجارة. وكيف كان فلو تعذرت فالقيمة
وقت التعذر ، أو القرض أو المطالبة أو الأداء أو الأعلى ، بوجوهه على حسب ما تقدم
سابقا في تعذر المثلي ، لكن ينبغي إعطاء القيمة من غير الجنس حذرا من الربا بناء
على عموم جريانه لمثله ، كما هو واضح. والله أعلم.
المسألة العاشرة :
قال الفاضل وغيره : لو قال المقرض للمقترض مثلا إذا مت فأنت في حل ، كان وصية ولو
قال : إن مت ، كان إبراء باطلا ، لتعلقه على الشرط ،
__________________
ووافقه على الأولى
في الدروس ، ونسب الثاني إلى القيل ؛ وقال : الأقرب العمل بقصده ولعل وجه الفرق
بين إن وإذا ، أن إذا ظرف في الأصل ، وإن عرض لها معنى الشرط فكأنه قال : وقت موتي
أنت في حل ، وذلك مجزوم به غير مشكوك فيه ، فلا تعليق فيصح ، وان حرف شرط مقتض
للشك في كونه إبراء ، ومتى كان المعلق عليه مشكوكا فالمعلق أولى ، ولا يضر كون
الموت بحسب الواقع مقطوعا ، لأن الاعتبار في عدمه بالصيغة الواقعة إبراء ، فمتى لم
تكن واقعة على وجه الجزم ، لم تكن صحيحة.
لكن قد يناقش أولا
: بأن الوصية قد تقع بلفظ إن ، كما صرح به الفاضل في وصايا الكتاب ، فمع قصد
الوصية من الفرض لم يكن به بأس ، ودعوى أن الشارع وضع إذا في إنشاء الوصايا ، دون
إن كما عن حواشي الشهيد غير ثابتة ، وثانيا : ان المتجه البطلان مع قصد الإبراء
دون الوصية ولو بلفظ إذا ، للتعليق الممنوع ودعوى ـ أنه مع الجهل بالقصد يحمل
الأول على الوصية ، والثاني على الإبراء المعلق أما لو علم إرادة الوصية منهما صح
فيهما ، كما أنه لو علم إرادة الإبراء المعلق فسد فيها ـ يمكن منع شهادة العرف
بذلك ، وأنه لا فرق بينهما كما لا يخفى فتأمل والله أعلم.
المسئلة الحادية
عشر : الظاهر من النصوص والفتاوى جواز الاقتراض وإن لم يكن له مقابل وقدرة على
القضاء لو طولب ، خلافا للمحكي عن أبي الصلاح فحرمه ولعله لموثق سماعة « قلت لأبي عبد
الله 7 : الرجل منا يكون عنده الشيء يتبلغ به ، وعليه دين أيطعم عياله حتى يأتي
الله عز وجل بميسرة فيقضي دينه أو يستقرض على ظهره في خبث الزمان وشدة المكاسب ،
أو يقبل الصدقة؟ قال : يقضي بما عنده دينه ، ولا يأكل من أموال الناس إلا وعنده ما
يؤدى إليهم حقوقهم ، إن الله عز وجل يقول ( لا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ
مِنْكُمْ ) ولا يستقرض على ظهره إلا وعنده وفاء ، ولو طاف على أبواب
الناس فردوه باللقمة و
__________________
اللقمتين والتمرة
والتمرتين ، إلا أن يكون له ولي يقضى دينه من بعده ، ليس منا من ميت يموت إلا جعل
الله له وليا يقوم في عدته ، فيقضي عدته ودينه » ولكنه مع شهادة ذيله بخلاف قوله
في الجملة غير مقاوم للإطلاقات المعتضدة بإطلاق الفتاوي.
مضافا إلى خبر
موسى بن بكر « قال : قال لي أبو الحسن 7 : من طلب هذا الرزق من حله ليعود به على نفسه وعياله ، كان
كالمجاهد في سبيل الله عز وجل ، وإن غلب عليه فليستدن على الله عز وجل وعلى رسوله
ما يقوت به عياله ، فإن مات ولم يقضه كان على الإمام قضاؤه فان لم يقضه كان عليه
وزره ، إن الله عز وجل يقول : « ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ
لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ) ـ إلى قوله ـ ( وَالْغارِمِينَ ) » وهو فقير مسكين
مغرم » ،
ونحوه غيره ، بل روي
أيضا « أن من استقرض في حق أجل سنة ، فإن اتسع وإلا قضى عنه الإمام 7 » وخبر أيوب بن
عطية الحذاء قال : سمعت أبا عبد الله يقول : « كان رسول الله يقول : أنا أولى بكل
مؤمن من نفسه ، وإن ترك مالا فللوارث وإن ترك دينا أو ضياعا فإلى وعلى » والضياع
بالفتح العيال ، ونحوه غيره.
وخبر أبي موسى « قلت : لأبي عبد
الله 7 جعلت فداك يستقرض الرجل ويحج؟ قال : نعم قلت : يستقرض ويتزوج ؛ قال : نعم إنه
ينتظر رزق الله غدوة وعشية » إلى غير ذلك مما هو دال بإطلاقه وغيره على الجواز. بل
ينبغي القطع به مع علم المقرض بذلك ، فلا بأس حينئذ بحمل الخبر المزبور على نوع من
الكراهة ، أو على الاقتراض مع العزم على عدم الوفاء ، أو غير ذلك.
وعلى كل حال فهو
دال على الاكتفاء بالولي ، وإن لم يكن يجب عليه الوفاء كما أفتى به الشيخ في
النهاية ، ومن الغريب مناقشة ابن إدريس له بعدم وجوبه عليه مع عدم قوله به ، اللهم
إلا أن يريد عدم جواز الاقتراض اعتمادا على الولي الذي لا يجب عليه
__________________
الوفاء ، وحينئذ
يكون اجتهادا في مقابلة النص ، كقوله بعدم جواز الاستدانة لغير الواجب من الحج
الذي قد عرفت تصريح الخبر به ، قال في السرائر : « لا يجوز للإنسان أن يستدين ما
يصرفه في نفقة الحج إلا بعد أن يكون الحج قد وجب عليه لوجود شرائطه ، ويكون له مال
إذا رجع اليه قضى منه دينه ، وما ورد من الأخبار في جواز الاستدانة للنفقة في الحج
محمول على ما ذكرناه وحررناه ، لا على من لا يكون الحج قد وجب عليه ولا يكون له
مال إذا رجع إليه قضى منه دينه ، لأن هذا لا يجب عليه الحج وهو على هذه الصفة ،
وإذا كان كذلك لا يجب عليه ، فلا يجوز أن يستدين ليفعل ما لا يجب عليه ».
ويمكن أن يريد
بعدم الجواز الكراهة ، خصوصا مع ذكره قبل ذلك « أن الاولى للمختار أن لا يستدين
إلا إذا كان له ما يرجع إليه فيقتضي به دينه ، فإن لم يكن له ما يرجع اليه فقد روي
أنه إن كان له ولي يعلم أنه إن مات قضى عنه قام ذلك مقام ما يملك » إلى أن قال : «
فإذا خلا من الوجهين فإنه يكره له الاستدانة وليس ذلك بمحظور إذا كان عازما على
القضاء منفقا له في الطاعات والمباحات » وهو صريح فيما قلنا ، فمن الواجب حمل
كلامه على ما ذكرناه والله أعلم.
المقصد السادس
من المقاصد التي
استدعاها النظر في السلف في دين المملوك
لكن ينبغي أن يعلم
أولا : أنه لا يجوز للمملوك فضلا عن غيره أن يتصرف في نفسه بإجارة ، ولا استدانة ،
ولا غير ذلك من العقود ، ولا بما في يده ببيع ولا هبة إلا بإذن سيده ولو حكم له
بملكه لما عرفته سابقا من كونه محجورا عليه ، وأنه لا يقدر على شيء. بل لا يبعد
عدم جواز التصرف له في نفسه لنفسه بما يزيد على ضروريات تعيشه ، وما علم من السيرة
وغيرها عدم تسلط المولى على منعه منها من بعض حركات بدنه ونحوها ، كالعلم بعدم
توقف الرخصة في بعض الأفعال له على
إذن السيد ، بل
الظاهر أنها رخصة شرعية حتى ينهاه السيد عنها ، فيجب امتثاله حينئذ.
لكن المراد بعدم
جواز ما في المتن إذا كان الواقع العقد خاصة عدم ترتب الأثر عليه ، فهو فضولي حتى
لو قلنا بحرمة مباشرته العقد من دون إذن سيده ، باعتبار أنه تصرف في لسانه المملوك
للسيد من غير إذنه ، إلا أن ذلك لا يمنع من صلاحية العقد للتأثير مع الإجازة ،
ومنه ينقدح صحة عقد العبد للغير حتى مع نهي السيد له ، فضلا عن الوقوع بغير إذن ،
إذ أقصاه الإثم في التلفظ بذلك ، وهو لا يقتضي الفساد بالنسبة إلى ترتب الأثر. لكن
لا يخلو من تأمل.
وعلى تقديره لا
تثمر في صحته الإجازة كما هو واضح ، بل لا يخلو المنع في المتن وغيره من تأمل أيضا
لابتنائه على الحجر عليه حتى في الذمة التي يتبع بها بعد العتق وإلا لم يتجه منعه
من الضمان التبرعي ونحوه الذي لم يتوقف على ملك أو تمليك غير صالح للعبد ، وفي
ثبوت دليل له غير الآية التي قد سمعت البحث فيها سابقا لا يخلو من بحث ، ولعله لذا
كان خيرة الفاضل في التذكرة جواز الضمان من دون إذن السيد لكن يقوى في النظر المنع
لظاهر الفتاوى وغيره.
نعم قد يقال بصحة
عقد الصلح الذي يقوم مقام العارية له ، بناء على صحتها له من دون إذنه ، كما هو
الظاهر ، بل قد يقال بجواز الإباحة المضمونة بالتلف له ، للأصل السلام بلا معارض
وليس ذلك قدرة للعبد ، بل قدرة للحر على ما له ، فتأمل جيدا. والله أعلم.
وكذا لا يجوز له
التصرف إذا أذن له المالك أن يشتري لنفسه لما عرفته سابقا من استحالة ملكه شرعا ،
فإذنه له فيه كعدمها ، فيقع الشراء له باطلا ، بل الظاهر بطلانه للسيد أيضا ، لعدم
إذنه بالشراء له ، ودعوى ـ أن الشراء لنفسه قد تضمن أمرين : الاذن في الشراء
وتقييده بكونه لنفسه ، فإذا بطل المقيد بقي المطلق ، لأن المطلق جزء المقيد فيقع
للمولى ، لأنه إذن في الابتياع في الجملة
__________________
واضحة البطلان لأن
الإذن إنما تعلق بأمر واحد ، وهو المقيد المخصوص بالعبد فحيث لم يصح كان الابتياع
باطلا ، لأنه غير مأذون فلا يثمر ملكا للمولى. لأنه يأذن فيه على هذا الوجه.
نعم قد يقال : ليس
المراد من ذلك تقييد الشراء بكونه للعبد ، بل هو أشبه شيء بالمقارنات الاتفاقية ،
وإنما المراد الشراء ، فنيته حينئذ لنفسه لاغية ، والفرض أن الشراء مأذون فيه ،
وليس غير السيد يقع له ، فهو كما لو قال السيد لعبده : اشتر لي فاشترى العبد لنفسه
، فإن الظاهر عدم تأثير نيته ، وكقول القائل لوكيله : اشتر لي بعين هذا المال
فاشترى به الوكيل ناويا نفسه ، فإن الظاهر صحة الشراء ولغو النية.
فنية العبد هنا
لنفسه بعد أن كان غير قابل للتمليك من قبيل نية الوكيل نفسه مع كون الشراء بعين
المال ، بل من قبيل نية العبد الشراء للدابة ، بل ما نحن فيه أشبه شيء بما لو قال
القائل : اشتر بعين مالي لزيد كذا ، فإنه لا ريب في صحة الشراء لصاحب المال وإن
نوى المشتري أنه لزيد ، إلا أنه بعد أن كان المالك للمال المجعول ثمنا غيره كانت
النية لاغية ، فكذا المقام فتأمل جيدا.
وعلى ذلك فالتردد
حينئذ في جواز تصرف العبد ينشأ من اقتضاء الإذن في الشراء لنفسه الإذن في التصرفات
وإن بطل الأول بتعذر ملكية العبد ، ومن أن الإذن له في التصرف إنما كانت تبعية
لشرائه لنفسه ، أما إذا كان غير مالك فلا إذن ، إذ يمكن أن لا يرضى المولى بالتصرف
مع فرض كونه المالك ، ولا ريب في أنه الأقوى ، بل قد يمنع حصول الإذن في التصرف
بالإذن بالشراء لنفسه ، وإن قلنا بملكيته التي لا يسوغ له التصرف معها باعتبار
كونه محجورا عليه هذا.
ولكن في المتن فيه
تردد. لأنه يملك وطئ الأمة المبتاعة. مع سقوط التحليل في حقه ولا يخفى عليك أن ما
ذكره وجها لأحد شقي التردد لا ينطبق على ذلك ، ولو حمل على كون ذلك من السيد ولو
بقرينة عدم ملكية العبد لإرادة انتفاع العبد بما يشتريه له لم يتجه التردد حينئذ ،
ضرورة وضوح الجواز.
اللهم إلا أن يكون
وجه المنع فيه ان الأذن قد وقعت سابقه على الملك فلا
تأثير لها ، كما
أن وجه الجواز فيه أنه يملك وطى الأمة المبتاعة بالإذن المزبورة مع سقوط التحليل
في حقه ، بناء على اقتضائه التمليك الممتنع بالنسبة إليه ، مع أنه لا معنى لتحليله
أمة الغير ، إذ الفرض عدم وقوع غير الإذن السابقة ، فلم يبق مستندا لجواز الوطء
إلا الإذن السابقة ، فإذا أثرت فيه ففي غيره بالأولى.
لكن هذا مبني على
كون جواز الوطي أوضح من غيره ، حتى يصح جعله دليلا بالأولوية ، وعلى كل حال
فالعبارة كما ترى. لكن ما في التذكرة قد يومي إلى ما ذكرنا في الجملة ، قال : « لو
أذن المولى لعبده في الشراء للعبد صح ، والأقرب أنه لا يملكه العبد ، فحينئذ يملكه
المولى لاستحالة ملك لا مالك له ، ولكن للعبد استباحة التصرف والوطء لو كان أمة ،
لا من حيث الملك بل لاستلزامه الأذن » هذا وفي المسالك جعل منشأ التردد ، كون
العبد يملك وطئ الأمة المبتاعة ، يحتمل أمرين ، معترفا بوضوح فسادهما معا ، وفي
شرح الترددات لأحد تلامذة المصنف على الظاهر « إذا أذن المولى لمملوكه في الشراء
لنفسه ، هل يملك بذلك؟ تردد فيه المصنف ومنشأ النظر إلى عموم قوله تعالى ( ضَرَبَ
اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ ) وقد عرفت فيما
مضى أن النكرة في سياق النفي تعم. وفي الاستدلال بهذه الآية تعسف إلى أن قال :
وإلى الالتفات إلى أنه يستبيح وطئ الأمة المأذون له في ابتياعها لنفسه ، ولا شيء
من الأسباب المبيحة للوطء موجودة هنا إلا التملك ، فيلزم القول به ، اما الأولى
فلان الأسباب المقتضية للاستباحة العقد وهو منتف هنا ، والتحليل ، وهو منتف أيضا
لافتقاره الى اللفظ الدال عليه ، فلم يبق سوى الملك.
وأما الثانية ،
فظاهرة لاستحالة وجود الملزوم من حيث هو ملزوم بدون لازمه ، ولو قيل بالمنع من
الوطء أصلا إلا مع صريح اللفظ كان وجها ، ولقائل أن يمنع انتفاء التحليل هنا ، إذا
الإذن في الشراء مستلزم للإذن في الوطء وهذا
__________________
إنما يتأتى على
قول من لم يجعل للتحليل لفظا معينا » وهو كما ترى. من غرائب الكلام. وما كنا لنؤثر
أن يقع ذلك ممن له أدنى نصيب في العلم. وفي القواعد : « ولو أذن له المولى في
الشراء لنفسه ففي تملكه أي المولى إشكال ، وهل يستبيح العبد البضع الأقرب ذلك ، لا
من حيث الملك بل لاستلزامه الإذن » ، وفيه : تأييد لما قلناه سابقا في الجملة
والله أعلم
وكيف كان فإذا أذن
له المالك في الاستدانة لنفسه على حسب إذنه في الشراء له ، جرى فيه البحث السابق
الذي منشأه عدم ملكية العبد المشترك بين المقامين ، بعد فرض إرادة الإذن له بأن
يملك بالاستدانة ، واحتمال أن له شغل ذمته بالإذن وإن كان الذي استدانه ملكا
للمولى ، فإذا رضي المقرض يكون العوض في ذمة العبد المأذون ، ستعرف ما فيه.
نعم إن أذن له في
الاستدانة له كان الدين لازما للمولى قولا واحدا كما في المسالك ، وبلا خلاف كما
في غيرها ، بل ولا إشكال ضرورة كونه كالوكيل ، بل هو أولى باعتبار عدم مال للعبد ،
يؤدي منه ، إذ هو لا يقدر على شيء ، ولا فرق بين أن يقصد المقرض العبد أو سيده ،
ولا بين أن يقصد العبد نفسه أو سيده ، ولو صرح المولى للعبد بأن المراد شغل ذمته
أي العبد للمولى على معنى كون المال المقرض للسيد ، والشغل لذمة العبد ، كان قرضا
فاسدا يتبع به من استولت يده ، ويستقر على المباشر لإتلافه ، وإن كان قد يشكل فيما
إذا علم المقرض بالحال ، وأقدم على ذلك ، وكان المتلف المولى ، لأنه هو الذي ضيع
ماله ، فيتبع به العبد بعد عتقه ، لعموم « على اليد » .
ويدفع بأنه يلتزم
بذلك إذا كان صحيحا ، فمع فرض الفساد يتجه الرجوع على المولى حتى مع العلم بالفساد
، كما في غيره من العقود الفاسدة ، وكذا إن كان أذن له في الاستدانة لنفقته
الواجبة على المولى بل وغيرها إن استبقاه أو باعه بلا خلاف أجده في شيء من ذلك ،
بل عن المهذب الإجماع عليه ، للتعليل السابق الذي لا فرق فيه بين كون المنتفع
العبد أو السيد ، بعد أن كان هو الآذن للعبد الذي
__________________
لا يقدر على شيء
، ولصحيح أبي بصير وغيره الظاهر في أن مدار كون دين العبد على المولى إذنه له
فيه ، قال : « قلت لأبي جعفر 7 : رجل يأذن لمملوكه في التجارة فيصير عليه دينا ، فقال :
إن كان أذن له أن يستدين فالدين على مولاه ، وإن لم يكن أذن له أن يستدين فلا شيء
على المولى ، ويستسعى العبد في الدين » وفي خبر شريح « قال أمير
المؤمنين 7 : في عبد بيع وعليه دين؟ فقال : دينه على من أذن له في التجارة ، وأكل ثمنه »
وفي الموثق « سألت أبا جعفر 7 عن رجل مات وترك دينا وترك عبدا له مال في التجارة وولدا
وفي يد العبد مال ومتاع ، وعليه دين استدانه العبد في حياة سيده في تجارته ، فإن
الورثة وغرماء الميت اختصموا فيما في يد العبد من المال والمتاع وفي رقبة العبد؟
فقال : أرى أن ليس للورثة سبيل على رقبة العبد ، ولا على ما في يده من المتاع
والمال إلا أن يضمنوا دين الغرماء جميعا فيكون العبد وما في يده من المال للورثة ،
فإن أبو أكان العبد وما في يده للغرماء يقوم وما في يده من المال ، ثم يقسم ذلك
بينهم بالحصص ، فإن عجز قيمة العبد عن أموال الغرماء رجعوا على الورثة فيما بقي
لهم إن كان الميت ترك شيئا وإن فضل من قيمة العبد وما كان في يده عن دين الغرماء
ردوه على الورثة ».
وفي خبر أشعث عن الحسن 7 « في رجل يموت
وعليه دين قد أذن لعبده في التجارة ، وعلى العبد دين؟ قال : يبدأ بدين السيد » ومن
الإجماع على عدم وجوب البدأة يعلم عدم إرادة ذلك من الأمر ، وفي الرياض الاستدلال
عليه بخبر طريف بياع الأكفان ـ « سألت أبا عبد الله 7 عن غلام لي كنت
أذنت له في الشراء والبيع ، فوقع عليه مال للناس ، وقد أعطيت به مالا كثيرا؟ فقال
أبو عبد الله 7 إن بعته لزمك ما عليه وإن أعتقته فالمال على الغلام ـ وهو
مولاك ».
__________________
وفي آخر ان طريف الأكفاني
كان أذن لغلام له في البيع والشراء فأفلس ولزمه دين ، فأخذ بذلك الدين الذي عليه ،
وليس يساوي ثمنه ما عليه من الدين ، فسأل أبا عبد الله 7 ، « فقال : إن
بعته لزمك الدين ، وإن أعتقته لم يلزمك الدين فأعتقه ولم يلزمه شيء » ، ولا يقدح
ما فيهما من اشتراط البيع بعد عدم القائل بالفرق بينه وبين الإبقاء بل قيل إنه
أولى ، كما أن قصور السند فيهما وغيرهما منجبر بما سمعت من الإجماع المعتضد بعدم
الخلاف.
نعم هما مع خبر
عجلان عن الصادق 7 « في رجل أعتق عبدا وعليه دين قال : دينه عليه ولم يزده
العتق إلا خيرا » حجة القول الذي أشار إليه المصنف بقوله وإن أعتقه قيل : يبقى
الدين في ذمة العيد والقائل به الشيخ في النهاية والقاضي وجماعة على ما حكي ، بل
لعله ظاهر التذكرة.
وقيل : بل يكون
باقيا في ذمة المولى ، وهو أشهر الروايتين والقولين ، بل هو المشهور بين الأصحاب
نقدا وتحصيلا : لصحيح أبي بصير السابق وغيره ، القاصر غيره عن معارضته سندا ولا جابر ، بل
ودلالة إذ الأولان وإن صرح فيهما بالتفصيل بين العتق وغيره مما هو قابل لتخصيص
صحيح أبى بصير وغيره ، إلا أنها لا تصريح فيها بالتفصيل بالاذن وعدمه الذي صرح به
في صحيح أبى بصير ، والأذن بالبيع والشراء فيهما أعم من الإذن بما تضمناه من الدين
الذي لزم العبد ، فتخصيصهما بالصحيح المزبور أولى للشهرة بقسميها ، ولقاعدة كون
العبد بالإذن في الاستدانة باقيا في ذمة المولى كالوكيل ، وإن أنفقها على نفسه ،
ولاستصحاب ضمان المولى ، بناء على أن المشغول مع الإذن ذمة المولى ، لا أن العبد
المشغول ، والمولى يجب تأديته عنه ، وإلا كان الأصل بالعكس ، ومنه ينقدح ضعف آخر
للدعوى : وهو أنه لم يتجدد سبب صالح للشغل حال العتق ، فهو مرجح آخر أيضا ، مضافا
إلى غير ذلك.
__________________
ولا ينافي ما
فيهما من كون الدين على المولى ، إن باع ، إذ يمكن كما في الحدائق والرياض كون ذلك
للحيلولة بينه وبين أصحاب الدين بالبيع ، لا من حيث أن المال لازم بأصل الاذن في
التجارة ، والحال أن الاذن لم يحصل في الاستدانة وفيه أنه لا حيلولة بعد فرض عدم
الاذن في الاستدانة ، ضرورة كونه يتبع به العتق ، فلا يمنع المالك من بيعه كما هو
واضح على أن هذا الكلام مناف للاستدلال بهما سابقا على المسألة الأولى المبني على
وقوع ذلك من المولى ، فلا بد حينئذ من طرحهما في مقابلة ما عرفت أو حملهما على ما
ستسمع ، من حمل نصوص الاستسعاء عليه في مسألة الإذن له في التجارة ، دون
الاستدانة. وأما خبر عجلان فهو مع ضعف سنده ولا جابر ـ واحتمال كون مرجع الضمير
المجرور بعلى فيه إلى المولى ، ولا ينافيه الذيل ـ مطلق يقيده صحيح أبى بصير ، ولو
سلم كون التعارض بينهما من وجه أيضا كان الترجيح له بما عرفت سابقا فتأمل جيدا.
وكيف كان فقد ظهر
لك أن دين العبد إذا كان بإذن مولاه كان لازما وحينئذ ف لو مات المولى كان الدين
في تركته ، ولو كان له غرماء كان غريم العبد كأحدهم كما دل عليه الموثق السابق ،
بل في المسالك « إطلاق غرماء العبد بطريق المجاز لوقوع الاستدانة منه ، وإلا
فالجميع غرماء المولى ، وإن كان لا يخلو من بحث ، إلا أن الحكم لا إشكال فيه ».
وخبر البدأة مع قصور
سنده جدا مطرح أو محمول على ما ذكرناه ، وربما أول بتعميم دين السيد لدين عبده ،
والبدأة بالنسبة إلى الإرث والوصايا ، وبالحمل على صورة الأذن في التجارة دون الاستدانة
، فيخص حينئذ دين السيد بدين نفسه دون عبده ، ويجعل الأمر بأداء دين العبد المفهوم
بالابتداء بدين السيد للاستحباب فلا منافاة ولا بأس به ، وإن كان ما ذكرناه سابقا
أولى والله أعلم.
وإذا أذن له في
التجارة ، اقتصر على موضع الإذن. فلو أذن له بقدر معين أو زمان أو مكان أو جنس
كذلك لم يزدد عليه كما في كل محجور عليه ؛ وفي التذكرة نسبته إلى علمائنا. وما عن
القاضي ـ من أنه « إذا أذن له يوما فهو مأذون أبدا حتى
__________________
يحجر عليه » ـ في
غاية الضعف ، كقول أبي حنيفة بحصول الإذن من السيد بمجرد عدم نهيه ، بل قال : « لو
أذن له في القصارة أو الصبغ صار مأذونا في كل تجارة » إذ لم نعرف له مستندا في شيء
من ذلك ، بل أصول المذهب تقضي بخلافه ، ضرورة عدم استفادة الإذن من السكوت فيما
سكت عنه ولا في غيره ولو أطلق له التجارة اقتصر على ما يستفاد منها ، ولعله مختلف
باختلاف الأزمنة والأمكنة نعم لا يدخل التزويج فيها قطعا ، ولا الصدقة ؛ بل في
الدروس ولا إجارة نفسه ، وأما إجارة رقيقه ودوابه ففي دخولها نظر ، من عدم انصراف
لفظ التجارة إليها ، ومن أن التاجر ربما فعلها ، واستقربه في الدروس. وفي القواعد
« الأقرب أن له أن يؤجر أموال التجارة » وعن القاضي أنه يؤجر نفسه ويستأجر غيره
ويزارع ويستأجر الأرض ، والمرجع في ذلك كله إلى العرف.
ولا يثبت كونه
مأذونا بقوله ، بل بالسماع أو البينة ، وفي الدروس أو الشياع. وفي القواعد أنه
الأقرب ، لكن قد يشكل ـ إذا كان المراد منه ما يفيد الظن المتاخم وأنه يحكم به على
المولى ، إن أنكر ـ بعدم الدليل ، بل قيل : إنه لضعفه لا يثبت به الملك الذي بيد
شخص ، فكيف يحكم به على المولى ، نعم لا بأس بجواز الأقدام به على المعاملة ، وإن
كانت الدعوى ـ لو أنكر السيد ـ باقية ، بل في جامع المقاصد « لا يبعد الإكتفاء
بخبر العدل ، إذ الأصل في خبر المسلم الصحة ، وقد تأكد بالعدالة بل لو أخبر من
أثمر خبره أمكن القبول ، إذ ليس ذلك بأقل من خبر مدعى الوكالة عن الغير في بيع
ماله ، وليس بأقل من خبر الصبي بالهدية ، ولو أظفر بموافق على هذا لم اعدل عنه »
قلت : بل مقتضى ما ذكره الاكتفاء بدعوى العبد التي لا معارض لها لكن لا يخفى عليك
أن الاحتياط يقضى بخلاف ذلك ، وإن كانت السيرة بما ذكره ، وفي التذكرة الأقرب عندي
عدم قبول الشياع.
وكيف كان فيجوز أن
يحجر عليه وان لم يشهد ، وعن القاضي أنه « لا بد من إشاعته في سوقه ، وعلم الأكثر
، ولا يكفى علم الواحد ، بل للواحد السامع الحجر معاملته ، لعدم تمام الحجر » ولا
ريب في بعده ، إنما الكلام في الحجر عليه بذلك ،
أو إلى أن يبلغ
كالوكيل ، ولو اختلف المولى والمعامل في تقدم الحجر على المعاملة وتأخره عنها كان
القول قول المعامل ، إذا كان صورة الدعوى أن الحجر قد وقع في غد ، والمعامل أنكر
ذلك ، ولتمام الكلام في ذلك محل آخر ، ولو قال : حجر على السيد لم يعامل. بل في
الدروس وإن أنكر السيد ، لأنه المتعاطي للعقد ، واحتمله في القواعد. وفيه نظر لأن
الحجر فعل السيد وحق له ، والشرط في صحة العقد إليه ، لا القصد إليه من حيث كونه
صحيحا ، ولذا جاز المتعة بالمرأة المخالفة وشراء الغائب ممن لا يرى جوازه من
العامة ، وغير ذلك ، ومن هنا قال في التذكرة : مذهبنا الجواز بعد أن حكى عن أحد
وجهي الشافعية خلافه.
ويقبل إقرار
المأذون في الدين مطلقا أو للتجارة إذا أقربه لها وإن كان لأبيه أو ابنه ، خلافا
لأبي حنيفة فلم يقبله لهما ، وما في التذكرة « من أن المعتمد عدم قبول إقراره
بديون المعاملة » يمكن أن يريد مع عدم الأذن ، وإلا كان واضح الضعف نعم هو كذلك لو
كان بغير المأذون فيه ، إذ هو كغير المأذون الذي لا يقبل إقراره على سيده بمال أو
قصاص أو غيرهما بل في القواعد هل يتعلق بذمته نظر ، وإن كان ضعيفا لعموم جواز
إقرار العقلاء ، فالأقوى تبعيته به بعد العتق ، كما أن الأقوى قبول إقراره
بالجناية الموجبة قصاصا أو مالا لو صدقه المولى ، بل ينبغي القطع به للعموم
المزبور ، ومانعية السيد قد ارتفعت بتصديقه.
ولو أذن السيد
لعبده في المعاملة بمقدار كذا ودفع إليه ما لا ليتجر به فعاد وبيده أعراض يدعى أنه
شراها في ذمته ، وأن دينها باق ، وأنه قد تلف ما كان بيده ، وأنكر السيد ذلك ، ففي
جامع المقاصد ، أن قبوله مستبعد جدا وفيه أنه يمكن القبول بعد فرض الإذن بالشراء
بالذمة.
ولو أذن له السيد
في التجارة بمقدار كذا ولم يدفع إليه شيئا ، فعاد ، وبيده أعراض يدعي شراءها في
ذمته وبقاء الثمن ، وأنكر السيد فالأقوى قبول إقراره ، نظرا إلى كونه أمينا وإلى
شهادة الحال ، ومقتضى الإذن ، ولتضرر معامليه إن لم يقبل ، واحتمل في جامع المقاصد
العدم لعدم حجية شهادة الحال ، والضرر يدفع
بالإشهاد ، قال :
وليس إقرار العبد بأولى من إقرار الوكيل. وفيه : منع عدم قبول إقرار الوكيل في مثل
ذلك.
نعم لو أقر العبد
المأذون بأن ما في يده ملك لفلان وديعة أو غصبا ونحوهما ، ففي القبول إشكال كما في
جامع المقاصد أيضا من أنه كالوكيل ، ومن أن ما بيده لمولاه ، ولعل الثاني لا يخلو
من قوة ، ولو اشترى المأذون للتجارة ففي الدروس طولب بالثمن وإن علم البائع كونه
مأذونا بخلاف الوكيل ، فإنه عرضة للزوال يعزل نفسه وفيه بحث بناء على ما سمعته
سابقا من المسالك وغيره نعم لو طولب السيد جاز قطعا.
ولو أذن له السيد
في الابتياع انصرف إلى النقد وإن كان الأمر بالكلي ليس أمرا بجزئي معين ، بل
مقتضاه التخيير إلا أن النسيئة لما كانت أمرا زائدا على الابتياع ـ إذ هي إنما
تكون بالشرط ـ لم يكن الإذن فيه إذنا بذلك ، كغيره من الشرائط بخلاف النقد ، فإنه
ليس زائدا على طبيعة الابتياع ، ولعل هذا أولى مما أجاب به الفاضل ، لما أورد عليه
قطب الدين الرازي بما سمعت من اقتضاء الأمر بالكلي التخيير ، من أن البيع أعم ،
فلا يدل على النسيئة بإحدى الدلالات الثلاث.
إذ فيه أولا : أنه
معارض بالنقد ، وثانيا : بأن عدم دلالته على النسيئة بالخصوص لا ينافي التخيير
المزبور ، كما في سائر ألفاظ الكلي ، وثالثا : ما أورد عليه القطب من أنه لا يلزم
من نفي الدلالة نفي الاستلزام ، لجواز كون اللزوم غير بين ، اللهم إلا أن يريد ما
ذكرناه سابقا ، لكن المحكي عنه أنه عدل عن هذا الجواب إلى جواب آخر وهو أنه اختص
النقد بواسطة قرائن خارجية عينية وهي الإضرار بالمولى في النسيئة بثبوت شيء في
ذمته بخلاف النقد ، لجواز أن لا يقدر المولى على غير ما دفعه إلى العبد من المال ،
أو لا غرض له فيه ـ وفيه منع الإضرار في سائر الأحوال وربما يكون له غرض وصلاح ،
على أن محل البحث مع التجرد عن القرائن ، وإلا فهي لا ينضبط ، وقد يكون الإذن في
الابتياع من دون أن يدفع إليه شيء.
وبالجملة لا محيص
عما ذكرناه سابقا الذي يؤيده في الجملة موثق الساباطي
__________________
المروي في كتاب
النكاح « عن أبي عبد الله 7 في رجل اشترى من آخر جارية بثمن مسمى ، ثم افترقا ، قال :
وجب البيع ، وليس له أن يطأها وهي عند صاحبها حتى يقبضها أو يعلم صاحبها ، والثمن
إذا لم يكونا اشترطا فهو نقد » فتأمل ، والبحث في البيع كالبحث في الابتياع.
ولو أطلق له
النسيئة كان الثمن في ذمة المولى لأنه كالوكيل عنه ولهذا لو تلف الثمن الذي دفعه
إليه لزم المولى عوضه لأن تلفه بيد العبد كتلفه بيد السيد ، وليس المراد الثمن
المعين ، لأن تلفه يبطل البيع ، فلا يلزم المولى عوضه من غير فرق بين تلفه بتفريط
وغيره هذا. وفي المسالك « لو لم يكن السيد أذن بالشراء في الذمة فاشترى بها ، ثم
تلف الثمن الذي دفعه إليه لم يلزم السيد بدله ، وحينئذ فإن تبرع السيد ودفع ثانيا
صح العقد له ، لأن العبد حينئذ كالفضولي للسيد ، والبيع وقع له ، فإذا دفع الثمن
صح له ، وإلا فسخ البائع العقد ».
وقد يشكل بأنه إن
أجاز المولى لم يكن للبائع الفسخ ، وإلا انفسخ البيع لنفسه وليس للبائع إبقاء
العقد راضيا بكون الثمن في ذمة العبد يتبعه به بعد العتق ، إذ ليس للعبد ذمة
يشغلها اختيارا بمعاوضة من دون إذن السيد ، بل ومع إذنه لا لأن المعاملة سفهية ،
إذ يمكن اقترانها بما يخرجها عن السفه بل لاقتضاء ذلك كون المبيع ملكا للسيد ، لأن
العبد لا يملك على الأصح ، والثمن على العبد فيملك المثمن حينئذ من لا يملك عليه
الثمن ، وذلك في المعاوضات غير جائز ، اللهم إلا أن يدعى خروج الفرض عن هذه
القاعدة ، باعتبار عرضية عدم ملك العبد ، وأن ذمة العبد للسيد باعتبار تسلطه على
الحجر عليها.
لكن ظاهر أصحابنا
عدم ذلك من غير فرق بين العبد وغيره. نعم ستسمع ما في التذكرة في خصوص الضمان.
ويمكن أن يكون ما سمعته من المسالك مأخوذا مما في التذكرة ، قال : « لو أسلم إلى
عبده ألفا للتجارة ، فاشترى في الذمة على عزم صرف الألف في الثمن ، فالأقرب أنه لا
يجب على المولى دفع البدل ، لأنه أذن بالمعاملة بما دفعه ، وهو ينصرف بالشراء
بالعين.
لكن السيد إن دفع
ألفا آخر مضى العقد ، وإلا فللبائع فسخ العقد ، وهو أحد الأقوال الشافعية ،
والثاني : أنه ينفسخ العقد كما لو اشترى بألفين ، لأن المولى حصر إذنه في التصرف
في ذلك الألف ، وقد فات محل الإذن ، فبطل البيع ، والثالث : أنه يجب على السيد ألف
آخر ، لأن العقد وقع له ، والثمن غير متعين ، فعليه الوفاء بإتمامه ولا بأس به إن
كان السيد قد أطلق له ذلك ، بل هو المتعين حينئذ ، وإلا فالوجه ما قلناه » ولعل
مرادهما بقرينة مقابلة وجوه الشافعية الفضولي لا أن له الفسخ وعدمه مع فرض عدم
إجازة السيد والله اعلم.
وكيف كان ف إذا
أذن له في التجارة ، لم يكن ذلك إذنا لمملوك المأذون بناء على أنه يملك ، أو أن
المراد من هو في خدمته من عبيد السيد مجازا باعتبار صدق الإضافة بأدنى ملابسة ،
وعلى التقديرين فليس الأذن له في التجارة إذنا له لافتقار التصرف في مال الغير إلى
صريح الإذن أو كالصريح ، وليس هذا منه لغة ولا شرعا ولا عرفا ، بل ليس للمأذون
استنابته كما انه ليس له استنابة غيره ، لأن الإذن في التجارة إنما وقعت له ، وهي
لا تقتضي إذنا في التوكيل الذي لا يدخل تحت اسم التجارة فما عن أبي حنيفة ـ من أن
للمأذون أن يأذن لعبده في التجارة ـ واضح الضعف.
نعم قد تقضى
القرائن في بعض الأحوال أن المراد من الإذن في التجارة ما يشمل الحاصل منها
بالوكالة ، خصوصا إذا كان الوكيل أحسن نظرا من المأذون ، وربما يؤدي نظر المأذون
إلى الاعتماد على نظر بعض الأشخاص ، ومباشرة الشراء له كما هو واضح والله أعلم.
ولو أذن له في
التجارة دون الاستدانة ناصا على ذلك أو مقتصرا في الأذن على ما يشملها فاستدان
وتلف المال في يده كان لازما لذمة العبد يتبع به بعد العتق الذي هو حال التمكن من
الأداء على المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا بل عن الخلاف الإجماع على ذلك ،
لوجود سبب الضمان بالنسبة إليه دون سيده ، فيبقى الباقي على أصالة براءة ذمته ، بل
الظاهر الإجماع على عدم اشتغالها.
وإن كان قد قيل
والقائل الشيخ في النهاية أنه يستسعى العبد
فيه معجلا للغرور
بالإذن بالتجارة الذي من الواضح منعه بحيث يستلزم الرجوع ول صحيح أبى بصير المتقدم آنفا
المحمول ـ كما في الرياض ـ على علم المولى باستدانته مع عدم منعه عنه ، الظاهر في
حصول الإذن منه له بالفحوى ولا كلام فيه ، أو على الاستسعاء برضا المولى كما أفصح
عنه خبر روح بن عبد الرحيم عن الصادق 7 « في رجل مملوك استتجره مولاه فاستهلك مالا كثيرا ، فقال :
ليس على مولاه شيء ، ولكنه على العبد ، وليس لهم أن يبيعوه ، ولكن يستسعى ، وإن
حجر عليه مولاه فليس على مولاه شيء ولا على العبد » ونحوه خبر أبي بصير لكن سؤاله « رجل
استأجر مملوكا » وفي ذيله « وإن عجز عنه فليس على مولاه شيء ولا على العبد شيء »
بدل قوله في هذا الخبر « وإن حجر عليه » إلى آخره ، بل في الوافي أنه يشبه أن يكون
الخبران واحدا وقع في أحدهما تصحيف ، والأمر سهل ، أو على تقييد الاستسعاء بعد
العتق وإن كان قد يخدش الأول : بأنه مناف لإطلاق الصحيح المزبور أولا ، وبأنه لا
دليل غير الصحيح على أن حكم إذن الفحوى ذلك واستفادته منه بعد عدم الشاهد وعدم ظهوره
فيه كما ترى ، وموثق وهب عن أبي جعفر 7 « سألته عن مملوك يشتري ويبيع قد علم بذلك مولاه حتى صار
عليه مثل ثمنه ، قال : يستسعي فيما عليه » إنما هو فيما كان في أصل التجارة ولعله
لا يقول به الخصم ، فالمتجه حينئذ إلحاقها أى الفحوى بالإذن الفعلية ، أو العدم ،
بل الظاهر الإلحاق فيما فرضه منها من علم المولى وعدم المنع ، ضرورة كونه رضا
فعليا بعد تسليم أنه فحوى ، فلم يفقد إل التصريح المعلوم عدم دوران الحكم مداره ،
والثالث : بأنه لا يجب الاستسعاء بعد العتق ، إذ هو حينئذ كغيره من أفراد المعسر
الذي ينتظر إيساره ، والثاني : بإمكان كون المراد من قوله وإن حجر إلى آخره أنه لا
شيء لهم عليه ولا على مولاه إن كان قد أدانوه مع تحجير مولاه عليه ، اللهم إلا أن
يدعى أن الظاهر الأول ، ولا ينافيه الاحتمال وفيه منع بل
__________________
لعل الظاهر ما
ذكرناه وإن جزم بالأول في الحدائق ، وقيد الصحيح المزبور به حينئذ.
لكن في المسالك
حمل الصحيح المذكور على الاستدانة للتجارة ، قال : « ويشكل بأن ذلك يلزم المولى من
سعي العبد وغيره ، والأقوى أن استدانته لضرورة التجارة إنما يلزم مما في يده ، فإن
قصر استسعى في الثاني ، ولا يلزم المولى من غير ما في يده ، وعليه تحمل الرواية.
وفيه أولا : أن
الرواية لا تقبل ذلك بعد تعليق السعي فيها على عدم الإذن ، وثانيا : أنه لا دليل
على تقييد ضمان المولى بما في يد العبد مع فرض الإذن ، بل ظاهر الأدلة خلافه ،
خصوصا موثق زرارة منها ، فلا ريب في أن المتجه مع الإذن ضمان السيد مطلقا.
ولعل الأولى من ذلك كله حمل خصوص الاستسعاء على المأذون إذنا لا يراد منها إلا رفع
الحجر عنه والإثم عليه ، لا أن المراد منها الإذن التي تشبه الوكالة فتأمل جيدا.
ثم إن ظاهر إطلاق
المشهور عدم الفرق بين علم المدين بحاله وعدمه ، خلافا لابن حمزة فيتبع به بعد
العتق في الأول ، ويستسعى في الثاني ، قال في الوسيلة : المملوك إذا استدان لم يخل
من ثلاثة أوجه : مأذون في الاستدانة ، أو في التجارة دون الاستدانة أو غير مأذون ،
فالأول : حكم دينه حكم دين مولاه ، والثاني ضربان : فإن علم المدين أنه غير مأذون
فيها بقي في ذمته إلى أن يعتق ، فإن لم يعلم استسعى فيه إذا تلف المال ، والثالث :
يكون المال ضائعا إلا إذا بقي المال في يده ، أو كان قد دفع إلى سيده.
وهو ـ مع غرابته
بالفرق بين الثالث والأول من الثاني ـ واضح الضعف ، إذ لا دليل له في الثاني الذي
هو محل الخلاف بينه وبين المشهور إلا ما سمعته دليلا للنهاية الذي قد عرفت قصوره
عن إفادة ذلك ، ولو أنه قال في الأول بالضياع كالثالث لكان له وجه ، باعتبار أن
المالك هو الذي قد أقدم على إتلاف ماله ، وإن كان قد يدفعه منع ذلك بعد فرض أن
العبد له ذمة يتبع بها بعد العتق ، فأدلة الضمان بحالها.
__________________
نعم لو مات العبد
قبل العتق اتجه الضياع ، مع أن الظاهر بقاء حكم المديونية عليه ، فللتبرع بالوفاء
عنه وللاحتساب من الزكاة أو غيرها من الحقوق وجه فتأمل جيدا. وأما ما يحكى عن أبى
الصلاح من التفصيل بين المأذون في الاستدانة وعدمه ، فالأول على المولى والثاني
يتبع به بعد العتق من غير تعرض للتجارة فمرجعه إلى المشهور ، كما هو واضح ، وكذا
ما في المختلف ، والقواعد ، وجامع المقاصد من أنه إن استدان لضرورة التجارة كان
على المولى ، وإلا يتبع به بعد العتق ، ضرورة كون المنشأ في ذلك حصول الإذن في
الأول ولو لأن الإذن في الشيء إذن في لوازمه وعدمه في الثاني ، ومراد المصنف ـ وغيره
ممن أطلق التبعية به بعد العتق ـ الاستدانة فيما لا اذن للمولى فيه ، كغير الضروري
للتجارة ، أو الأعم منهما ، بناء على أن وجوده ضروري للتجارة لا الاستدانة له.
وعلى كل حال فهو
نزاع في موضوع خاص ، لا أصل المسألة ، فإن الجميع متفقون على أن استدانه المأذون
في التجارة على المولى إن كان قد أذن له فيها ، وإلا فعلى العبد يتبع بها بعد
العتق.
نعم ما سمعته من
المسالك ظاهر في مخالفة إطلاق المتن وغيره ، بل لم أجد له موافقا عدا ما في الدروس
في الجملة ، فإنه قال تارة : « ولو اجتمع إذن السيد ورضا المستحق فإن كان نكاحا
فسيأتي إنشاء الله ، وإن كان غيره ، فإن كان بيده مال التجارة تعلق بها ، لأن موجب
الإذن في الالتزام الرضا بالأداء. وأقرب ذلك ما في يده ، وهل يتعلق بكسبه من
احتطاب واحتشاش والتقاط ، اشكال ، لعدم تناول الإذن في التجارة إياه ، وأنه بالإذن
صار الجزء المؤدى من كسبه » وأخرى « ولو ركبه أي المأذون الديون ، لم يزل ملك
السيد عما في يده فيصرف في الديون ، فإن فضل عنه شيء استسعي على قول الشيخ في
النهاية. لصحيحة أبي بصير وفي المبسوط يتبع به إذا تحرر ، وفي رواية عجلان « إن باعه السيد
فعليه ، وإن أعتقه فعلى المأذون ، »
__________________
وقال الفاضل. يلزم
المولى ».
وهي كما ترى فيها
اضطراب من وجوه ، والتحقيق ما أومأنا إليه ، من حمل نصوص الاستسعاء على ما سمعت ،
وما دل على التزام المولى على ما عرفت ، وربما كان في خبري طريف إيماء في
الجملة إلى ما ذكرنا ، ضرورة أن وجه التزام المولى لو باعه أي المأذون إذنا يراد
منها رفع الحجر الحيلولة بين أرباب الدين وبينه ، بخلاف ما لو أعتقه فتأمل جيدا.
والله أعلم.
ومن ذلك ظهر لك
الحال فيما لو لم يأذن له في التجارة ولا الاستدانة والحال أنه استدان فتلف المال
في يده ، إذ لا إشكال في كونه إذا كان كذلك لازما لذمته يتبع به لعموم أدلة الضمان
دون المولى للأصل وغيره بل ولا خلاف فيه ، وإن قال الشيخ : « انه يذهب ضياعا » لكن
فسره في السرائر بما في المتن.
نعم ربما يظهر غير
ذلك من الضياع في عبارة الوسيلة السابقة ، مع أنه يمكن حمله عليه ، فيرتفع الخلاف
حينئذ ، وعلى تقديره فهو في غاية الضعف لمنافاته أدلة الضمان السالمة عن المعارض
هذا.
ولكن في الرياض «
أنه لو بادر إلى الاستدانة من دون إذن بالمرة ، لزم في ذمته ويتبع به إذا أعتق ،
ولا يلزم المولى شيء بلا خلاف. للأصل وصحيح أبى بصير وموثق وهب » ثم قال بعد
نقلهما : « إن ظاهرهما أنه يتبع به حال الرق بالاستسعاء ، وبه أفتى ظاهرا بعض
الأصحاب ، ويشكل برجوعه إلى ضمان المولى في الجملة ، فإن كسبه له بالضرورة ».
ويمكن دفعه بجواز
التزامه في صورة علم المولى باستدانته مع عدم منعه عنها الراجع إلى الأذن بالفحوى
، كما هو ظاهر الموثقة والصحيحة ، وإن كانت الإضافة إلى إذن الفحوى مطلقة أو عامة
إلا أنها محتمله للتقييد بالصورة المزبورة جمعا بين الأدلة ، ويفرق حينئذ بين
الأذن الصريح والفحوى ، باستلزام الأول الضمان على السيد مطلقا مع عجز المملوك عن
السعي أصلا وعدمه ، واختصاص الضمان عليه بصورة
__________________
قدرة العبد على
السعي وعدمه مطلقا مع العجز ، على الثاني ، هذا.
وفي الصحيح « في الرجل
يستأجر مملوكا فيستهلك مالا كثيرا؟ فقال : ليس على مولاه وليس لهم أن يبيعوه ،
ولكن يستسعى وإن عجز عنه فليس على مولاه شيء ولا على العبد شيء » ونحوه الخبر ، لكن تبديل عجزه
عنه ـ ، حجر عليه مولاه وعليه يمكن حمل الخبرين الآمرين بالسعي على صورة رضا السيد
، وإلا فيتبع به بعد العتق ، وهو غير بعيد لو لم يكن في السند قصور. وفي المتن
تصحيف ، هذا وربما يحمل الاستسعاء على ما بعد العتق ، فيندفع الأشكال ، ولكن يلزم
آخر ، وهو : عدم استسعاء الحر فيما عليه ، إلا أن يكون هذا مستثنى ، لكنه فرع ظهور
الخبرين في الحمل ، وهو محل نظر ، بل لعلهما في الاحتمال الأول ظاهران كما لا
يخفى.
قلت : إذا أحطت
خبرا بجميع ما ذكرنا تعرف أن كلامه محل للنظر من وجوه منها ـ ما قد عرفت من أنه لا
إشكال نصا ولا فتوى في أن غير المأذون في التجارة والاستدانة دينه عليه ، يتبع به
بعد العتق ، وموضوع خبر أبي بصير ، المأذون في التجارة دون الاستدانة الذي قد عرفت
البحث فيه. نعم ما ذكره من الوجه في توجيه النصوص جيد إن كان يرجع إلى ما ذكرناه
سابقا ، وإلا فهو محل للنظر أيضا ، وبالجملة كلامه في غاية التشويش ، وكان المسألة
غير محررة عنده ، ولا غرو بعد ما سمعت من كلام غيره كالشهيد في الدروس وغيره.
والله أعلم.
فرعان
قد تقدم حكم الأول منهما : وهو ما إذا
اقترض العبد أو اشترى بغير إذن سيده أو إجازته كان باطلا وحينئذ ف تستعاد العين مع
بقائها ان شاء المالك ، ضرورة أن له إباحتها له ، مضمونة عليه ، إذ ليس هو كالطفل
لا تصح الإباحة له بعوض ، وأنه متى سلطه المالك لم يكن له ضمان عليه ، والسفه
بالرضا
__________________
بالضمان ـ الذي قد
يذهب المال معه ضياعا ـ يمكن فرض ارتفاعه ، ودعوى ـ امتناع كل معاملة مع العبد وإن
لم تفد تمليكا ـ لا دليل عليها ، إلا نفي القدرة في الآية المستفاد منه
الحجر مطلقا من غير فرق بين ذمته وغيرها ، وفيه بحث قد تقدم سابقا ، وقد صرح في
ضمان التذكرة ، بصحة ضمان العبد من دون إذن سيده لكونه تصرفا في ذمته ولا ضرر فيه
على السيد.
وعلى كل حال فإن
تلفت العين في يد العبد يتبع بها إذا أعتق وأيسر ولا يلزم المولى شيء بلا خلاف ،
إلا إذا كان العبد مأذونا بالتجارة ، ففيه البحث السابق وكأن المصنف أعاد هذا
الفرع مع ذكره سابقا للنص على بطلان الشراء والقرض ، خلافا لبعض الشافعية ، فصححه
مع القول بأن العبد لا يملك ، لأنه تصرف في ذمته على وجه لا يضر السيد ، فالعين
المشتراة حينئذ ملك للسيد ، وكذا المقترضة مع قبضها وإن كان العوض في ذمة العبد ،
إلا أن المحكي عنه جواز رجوع البائع والمقرض بالعين ، لإعسار العبد.
وفيه : أنه لا يتم
مع العلم بحاله ، وقبض السيد للعين المقترضة فأراد المصنف التنبيه على فساد قوله
بالتصريح ببطلان الشراء والقرض ، للحجر عليه ، ولعدم أهلية العبد للملك ، وأنه لا
معنى لملك المولى بغير عوض أصلا كما أنه لا معنى له بعوض في ذمته مع عدم رضاه ، بل
ولا معنى له والعوض في ذمة العبد ، لامتناع حصول ملك المعاوضة لمن لم يكن العوض
منه ، وإن كانت المقدمة الأخيرة لا تخلو من بحث ، كما أن دعوى الحجر عليه حتى
بالنسبة إلى ذلك كذلك. والله أعلم.
الفرع الثاني :
إذا اقترض مالا فأخذه المولى فتلف في يده ، كان المقرض بالخيار بين مطالبة المولى
، وبين اتباع المملوك إذا أعتق وأيسر لثبوت يد كل منهما على المال بغير حق ، فإن رجع
على المولى قبل أن يعتق العبد ، لم يرجع المولى على العبد بشيء وإن كان غار إله
كما قيل ، بل ظاهرهم أنه مفروغ منه ، من عدم تعلق ضمان العبد لمولاه ، وثبوت المال
له على ماله ، ولا دليل على تجدده بعد العتق.
__________________
نعم لو كان الرجوع
عليه بعد عتق العبد ، والفرض أنه كان مغرورا له ، اتجه رجوعه عليه للغرور ، كما
أنه لو رجع على العبد بعد عتقه ، اتجه له الرجوع على سيده إذا لم يكن قد غره ،
لاستقرار التلف في يده.
وإشكال الأخير بأن
الرجوع وإن كان حال الحرية إلا أن ابتداء الثبوت في ذمة السيد بالتلف في حال
الرقية التي لم يكن العبد يستحق معها كاشكال سابقه بأن رجوع السيد على العبد وإن
كان في حال حريته ، إلا أن ابتداء الثبوت في حال الرقية التي لا يتصور ملك السيد
لها على مملوكه.
ـ يدفعهما معا منع
الثبوت قبل الرجوع ، وإن كان لتمام تحقيق ذلك ـ وتحقيق الضمان في الأيدي المتعاقبة
على معنى مشغول الذمة بحيث يكون دينا عليه هل هو من كان القرار عليه ، وغيره انما
يستحق الرجوع عليه ، لا أنه مشغول الذمة ، أو أن الجميع قد اشتغلت ذممهم وان برأت
بدفع البعض ، أو أن الخيار بيد صاحب المال ، أو غير ذلك ـ محل آخر والله أعلم.
خاتمة
لا خلاف في وجوب
أجرة الكيال ووزان المتاع والعداد والذراع مع توقف التسليم عليها على البائع سواء
كان المبيع كليا في الذمة أو جزئيا معلوما من صبرة مشتملة عليه ، أو غير ذلك ، وفي
وجوب أجرة ناقد الثمن ووزانه وكياله وعداده على المبتاع للمقدمة ، لكن قد يستشكل
في النقد ، بعدم وجوبه اعتمادا على أصالة الصحة ، ويدفع بأنه يجوز القبض لها لا
أنه يجب ذلك ، للأصل ، ولأن الواجب تسليم الصحيح ، ولانه قد يمتنع على القابض
إثباته أن المعيب من المقبوض.
وكذا لا خلاف في
وجوب أجرة بائع الأمتعة الناصب نفسه لذلك على البائع مع أمره له ، بل إذنه فيه ،
وعدم قصد التبرع من العامل ، لاحترام عمل المسلم الموجب لذلك شرعا ، وان لم يكن قد
استحضر الآمر العوض بل ولا
المأمور ، بل
مقتضى ذلك وان لم يكن ناصبا نفسه لذلك مع كون العمل مما له أجرة في العادة ، وكذا
الحال في أجرة مشتريها أي الأمتعة فإنها على المشتري مع أمره أو إذنه على نحو ما
تقدم في البائع وإطلاق المقنعة والوسيلة كون أجرة الدلال على المبتاع والمنادي على
البائع منزل على ما ذكرنا قطعا.
ولو تبرع الدلال
أو غيره بأن فعل لا بقصد الأجرة لم يستحق اجرة قطعا للأصل ولو أجاز المالك بيعه ،
نعم قد يتجه استحقاق الأجرة إذا كان قد فعل بقصدها فضولا عن المالك وقد أجازه ، إذ
هو كغيره من أفراد الفضولي الذي تؤثر فيه الإجازة اللاحقة ، بل قد يحتمل تأثير
الإجازة في الفعل الذي لم يقصد به التبرع ، بناء على جريانها في العقود والأفعال.
لكن على كل حال لا تلازم مع هذا القصد اجازة نفس البيع واجازة الجعل ، فله
الاقتصار على الأول دون الثاني.
وقد ظهر من ذلك
كله أنه إذا باع الدلال أمتعة شخص على حسب ما قدمنا واشترى أمتعة أخرى لآخر فأجرة
ما بيع على الآمر بالبيع وأجرة الشراء على الآمر بالشراء إذ لا مانع من تعدد
الدلالتين بالجعل في السلعتين وإن كان الدلال وأحدا. نعم لا يتولاهما الواحد في
السلعة الواحدة ، بأن يكون سمسيرا لبائعها ، وسمسيرا لمشتريها ، لاقتضاء سمسرة كل منهما
مراعاة مصلحته المنافية لمصلحة الآخر ، ضرورة ابتناء البيع على المغالبة والمماكسة
، فمصلحة كل منهما بغير الأخرى ، فلا يكون اجتماعهما حتى يصح أخذ الجعل للواحد
عليهما.
وربما أشكل ذلك
بإمكان كون السعر منضبطا في العادة على وجه لا يزيد ولا ينقص ، فيكون المراد من
الدلالة للبائع مثلا وجود المشتري ، ومن الشراء وجود البائع ، أو أنهما اتفقا على
سعر مخصوص ، فيكون المراد إيقاع العقد.
وقد يدفع ـ مع أن
ذلك خلاف الغالب ، بل يمكن منع السمسرة فيه ، بل
__________________
يمكن القطع بعدمها
في الثاني ـ أنه ينبغي أن يعلم أنه لا تأمل في جواز أخذ الأجرتين على الإيجاب
والقبول ، بناء على صحة الاستيجار على مثله ، خلافا للمحكي عن عميد الدين ، فمنع
الإجارة عليه لعدم كونه مما يستأجر عليه عادة ، وضعفه واضح.
فليس المراد حينئذ
بعدم توليتهما الواحد أنه لا يجوز أخذ الجعلين لواحد على الإيجاب من البائع وعلى
القبول من المشتري.
ودعوى ـ أن ذلك
عمل واحد فهي إجارة واحدة موزعة عليها ـ يدفعها أن ذلك تغيير لفظي ، لا يليق حمل
عبارات أعيان الأصحاب عليه ، مع أنه يمكن منع كونه إجارة واحدة ، بل هما عملان
مستقلان قد يختلفان في الجعل ، وقد يتفقان ، وقد يجعل لأحدهما دون الآخر ، بل
المراد أنه لا يتولى الجعل على البيع وعلى الشراء ، الواحد ، ضرورة اقتضاء الجعل
على البيع كونه جعلا على الأثر الحاصل من تمام الإيجاب والقبول ، وهو متحد بالنسبة
إلى البائع والمشتري ، فتحصيل قبول المشتري مستحق على الدلال بالجعل على البيع ،
فليس له أن يأخذ جعلا منه عليه ، وكذلك العكس ، بل هو كما لو جعل له جعلا على بيعه
من زيد الذي من الواضح عدم جواز أخذ جعل من زيد على شرائه له ، والفرق بينه وبين
ما يمكن فيه بالخصوصية وعدمها غير مجد ، بعد اشتراك علة المنع.
فمن هنا قال
الأصحاب : لا يتولاهما الواحد ، أي لا يتولى الواحد الجعل على تمام البيع من
البائع والمشتري ، ولكن لا بأس بتولي الاثنين ذلك ، على أن يأخذ كل منهما الجعل من
كل منهما على تمام البيع ، فيكون فعل كل منهما مقدمة لتحصيل الأثر للآخر الذي
يستحق به الجعل على من جعل له فتأمل جيدا. فإنه دقيق نافع في عموم المنع لأفراد
المسألة مضافا إلى ما يشعر به مرسل ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا «
قال : اشتريت لأبي عبد الله 7 جارية فناولني أربعة دنانير فأبيت قال : اما لتأخذنها
فأخذتها ، فقال : لا تأخذ من البائع ».
__________________
ولو فرض أن كلا من
البائع والمشتري قد جعلا له جعلا فإن كان المراد الإيجاب والقبول لم يكن إشكال في
جواز أخذ الجعلين منهما تقارن أمرهما أو تلاحق ، وإن كان المراد الجعل على تمام
البيع فليس له الرجوع إلا على من قصد العمل له ، والرجوع عليه ، كما يومي إليه ما
في التحرير وليس له أن يأخذ عن سلعة واحدة أجرتين من البائع والمشتري ، بل يأخذ
ممن يكون عاقدا له ووكيلا فتأمل.
ومع فرض قصدهما
معا احتمل سقوط الأجرة من رأس ، وتوزيعها عليهما وتقديم السابق. وقد يحتمل
استحقاقهما معا إذا كان المقصود الجعل من كل منهما على تمام العمل ، على معنى أنه
لم يرض بإيقاع العمل إلا بالجعلين ، فهو كالجعالة الواحدة من شخصين على عمل واحد ،
ولا ينافي ذلك ما قلناه سابقا المبني على فرض رضاه بكل من الجعالتين على تمام
العمل من دون علم الآخر ، لا أنها جعالة واحدة منهما معا على العمل ، فتأمل جيدا.
وقد ظهر من ذلك
النظر في جملة من عبارات الأصحاب ، ففي التنقيح « في بعض نسخ الكتاب : أي النافع «
ولا يجمع بينهما الواحد : أي لا يجمع بين الشراء والبيع الشخص الواحد ، فيكون
موجبا قابلا ، والمشهور ـ لواحد ـ بغير ألف ، وله حينئذ تفسيران ، أحدهما : أنه لا
يجمع بين الأجرتين الشخص الواحد ، بمعنى أنه لا يأخذ أجرة البيع من الإذن فيه كلها
، ولا أجرة الشراء من الإذن فيه كلها ، بل يأخذ من كل واحد أجرة ما فعل له ، فيأخذ
أجرة الإيجاب من الإذن في البيع ، وأجرة القبول من الإذن في الشراء ، وثانيهما :
إذا أمراه بالبيع والابتياع ، فالأجرة على السابق ، وإن اقترنا وكان الغرض تولية
طرفي العقد ، فالأجرة عليهما ، وكذا إن تلاحقا وكان الغرض مجرد العقد ، وإن لم يكن
الغرض مجرد العقد بل السمسرة لكل منهما ، فللواسطة أجرتان على قدر العملين ».
وفيه نظر من وجوه
، وإن كان قد أخذ كثيرا من ذلك من الدروس ، فإنه قال : « وأجرة الدلال على آمره ،
ولو امراه فالسابق ، فإن اقترنا وكان الغرض تولية طرفي العقد فعليهما ، وكذا لو
تلاحقا وكان مرادهما مجرد العقد ، ولو منعنا من تولية
الطرفين امتنع أخذ
أجرتين ، وعليه يحمل كلام الأصحاب أنه لا يجمع بينهما لواحد ».
لكنه كما ترى
خصوصا وقد عبر بذلك من يرى جواز تولي الطرفين. على أن الكلام في الدلال الذي هو
السمسير لا مجرد متولي العقد ، والأصل في تعرض متأخري الأصحاب لذلك ما في المقنعة
والنهاية ، « ومن نصب نفسه لبيع الأمتعة كان له أجرة البيع على البائع ، دون
المبتاع ، ومن نصب نفسه للشراء كان أجر ذلك على المبتاع فإن كان وسيطا يبتاع للناس
ويبيع لهم ، كان له أجرة على ما يبيع من جهة البائع ، وأجرة على ما يشتري من جهة
المبتاع ».
وفي السرائر « ليس
قصد شيخنا في ذلك أن يكون في عقد واحد بائعا مشتريا ، بل يكون تارة يبيع ، وتارة
يشتري في عقدين ، لأن العقد لا يكون إلا بين اثنين ». وفي المختلف بعد أن حكى ذلك
عنه قال : « ليس بجيد ، لأنا نجوز كون الشخص الواحد وكيلا للمتعاقدين ، كالأب يبيع
على ولده من ولده الأخر وحينئذ يستحق أجرة البيع على ما أمره وأجرة الشراء على ما
أمره ، وقوله : العقد لا يكون إلا بين اثنين ، قلنا : مسلم : وهو هنا كذلك لتعدد
المسبب كالأب العاقد عن ولديه ».
قلت : لا ريب في
أن مراد الشيخ ما ذكره ابن إدريس ، كقوله في الوسيلة : ومن نصب نفسه للأمرين ،
فأجرته على من عمل له ، وإن لم يكن لما ذكره من العلة السابقة ، بناء على أن مراده
منها ما فهمه منها في المختلف ، كما أنه لا ريب في ضعف ما في المختلف ، بناء على
إرادته استحقاق الأجرتين في الفرض الذي قد أوضحنا منعه سابقا ، ويمكن إرادته
الأجرة على الإيجاب ، والأجرة على القبول ولا بحث فيها.
لكن في الرياض قد
حكى عنه صريحا والمحكي عن المحقق الثاني ، وظاهر النهاية القول باستحقاق الأجرتين
على تمام البيع ، نظرا إلى أن الأمر بالعمل اقدام منه على التزام تمام الأجر بحصول
المأمور به ، ورضائه بذلك ، ولا مدخل لاتحاد العمل ، وكأنه مال إليه فقال : ولعله
غير بعيد سيما مع كون متعلق الأمرين طرفي الإيجاب والقبول ، وجهل أحدهما بأمر
الآخر.
وفيه ما عرفته
سابقا ، بل ليس في جامع المقاصد ما أرسله عنه ، بل ظاهره
أو صريحه ما قلناه
، كما أنك قد عرفت كون مراد النهاية ذلك أيضا ، بل هو محتمل المختلف إلى غير ذلك
من كلماتهم التي يعرف ما فيها من الإحاطة بما ذكرنا والله أعلم.
وكيف كان ف إذا
هلك المتاع في يد الدلال من غير تفريط لم يضمنه بلا خلاف ولا إشكال لأنه أمين نعم
لو فرط ضمن ولكن لو اختلفا في التفريط وعدمه كان القول قول الدلال مع يمينه كما في
كل أمين ما لم يكن بالتفريط بينة فتقدم حينئذ على قوله كما هو واضح وكذا لو ثبت
التفريط واختلفا في القيمة كان القول قوله أيضا لأصالة براءة ذمته من الزائد ما لم
يكن بينة ، فتقدم على قوله.
وبالجملة حكمه حكم
غيره من الأمناء وغيرهم ، لكن في المقنعة والنهاية أنه إن قال له المالك : بعه
نسيئة بدراهم مسماة فباعه نقدا بدون ذلك كان مخيرا بين أن يفسخ البيع ، وبين أن
يمضيه ، ويطالب الواسطة بتمام المال ؛ وفيه : أنه ليس له سبيل على الواسطة بالتمام
بعد الإجازة ، اللهم إلا أن يريدا به تمام ما باعه به وكان الواسطة قابضا وقد أجاز
البيع والقبض ؛ وفيهما أيضا أنه إن قال : بع هذا المتاع ولم يسم له ثمنا ، فباعه
بفضل من قيمته ، كان البيع ماضيا ، وإن باعه بأقل من قيمته كان ضامنا لتمام العقد
حتى يسلمها إلى صاحب المتاع على الكمال ، وهو كما ترى.
ولذا نسبه في
التحرير إلى الرداءة ويمكن تأويلها إلى الضوابط ، وفيهما أيضا « أنه إن اختلف
الواسطة وصاحب المتاع في القول بالبيع بكذا ، كان القول قول صاحب المتاع بيمينه ،
وله أن يأخذ المتاع إن وجده بعينه ، فإن كان قد أحدث فيه ما ينقصه أو يستهلكه ضمن
الواسطة من الثمن ما حلف عليه صاحب المتاع » وفيه : أنه لا وجه لضمان الواسطة ذلك
، لما عرفت إلى غير ذلك مما في المقنعة والنهاية مما لا يوافق الضوابط ، وكذا
الوسيلة فلاحظ وتأمل. والله أعلم بحقيقة الحال.
كتاب الرهن
الذي هو مصدر رهن
أو اسم للشيء المرهون الذي يجمع على رهان. كسهم وسهام ، وربما قيل : ورهن لكن عن
الأخفش أنه قبيح ، لعدم جمع فعل على فعل إلا قليلا :كسقف وسقف ، بل هو جمع الجمع.
وعلى كل حال فتمام
النظر فيه يستدعي فصولا
الأول : في الرهن
وهو لغة الثبات والدوام وفي المسالك « وعن المصباح المنير : أو الحبس بأي سبب كان
، قال الله تعالى ( كُلُّ نَفْسٍ بِما
كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) وأخذ الرهن الشرعي من هذا المعنى أنسب إن افتقر إلى
المناسبة » قلت : ليس له معنى شرعي جديد يحمل عليه لفظه في الكتاب والسنة كما حرر
في محله ، وإن طفحت عباراتهم بأنه شرعا وثيقة لدين المرتهن لكن لا يريدون بذلك أنه
حقيقة شرعية بل المراد حقيقة عند المتشرعة.
ولذا نسبه في
المحكي عن مجمع البحرين إلى عرف الفقهاء ، وتسامحوا في تعريفه ، المقصود منه مجرد
التصوير والتمييز ولو بذكر الشرائط فيه ، فلا يناسب الإيراد عليه بلزوم الدور فيه
، بذكر المرتهن فيه الذي يمكن تغييره بصاحب الدين أو من له الوثيقة ، وبأنه غير
شامل للرهن على الدرك والأعيان المضمونة مما ليس دينا الذي تسمع البحث في صحة
الرهن عليهما وعدمه ، وبنحو ذلك.
بل نوقش في لفظه
بعدم المطابقة فيه بين المبتدإ الذي هو لفظ مذكر ، والخبر الذي هو لفظ الوثيقة المؤنث
، مع أنه قد يدفع بأن لفظ الوثيقة يستوي فيه التذكير والتأنيث في الاستعمال ، كما
صرح به بعضهم ، فخرجت التاء عن التأنيث ، بل قيل :إن التاء فيها للنقل من الوصفية
إلى الاسمية.
وعلى كل حال فلا
ينبغي الالتفات إلى هذه المناقشات بعد أن كان الرهن باقيا
__________________
على معناه اللغوي
، وإنما اعتبر الشارع فيه شرائط للصحيح منه ، فهو حينئذ هنا حبس العين باللفظ
المخصوص ، أو الانحباس ، أو اللفظ الدال على ذلك على حسب ما سمعته في البيع ، لا
نفس الوثيقة التي هي معنى اسمي له ، خارج عما نحن فيه من البحث عن العقود ، فلا بد
من حمل عبارة المصنف على إرادة جنس الوثيقة ، أو نحو ذلك مما ينطبق على العقود.
والمراد كما ستعرف
فيما يأتي من الوثيقة للدين ما يستوفى منها ، لا أن المراد يستوفى بسبب حبسها ،
وإن لم يصلح الاستيفاء منها ، كأم الولد ، والعين الموقوفة ونحوهما ، ولا إشكال في
ثبوته : أي الرهن في الجملة ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل لعله من ضروريات المذهب
أو الدين.
كما لا ريب في أنه
يفتقر عقده إلى الإيجاب والقبول بل قد يظهر من المتن ومن عبر كعبارته توقف صدقه أو
صحته على ذلك ، بل صرح بعضهم بذلك ، ومقتضاه عدم جريان المعاطاة فيه لكن صرح في
التذكرة بأن الخلاف فيها فيه كالخلاف في البيع.
وأشكله في جامع
المقاصد بأن البيع ثبت فيه حكم المعاطاة بالإجماع ، بخلاف ما هنا.
وفيه أنه يمكن
دعوى السيرة عليه هنا أيضا كالبيع ، بل لا بأس بالتزام الفرق بينها وبين العقد ،
بجواز الرهن الحاصل بها بخلافه ، وإن كان لا يخلو من تأمل ، ضرورة صدق الرهن على
الحاصل بها ، فيشمله أدلة اللزوم الذي هو مقتضى السيرة أيضا ولعلهم تركوا التعرض
لها هنا لعدم الفرق بينها وبين العقد في الحكم.
لكن قد عرفت سابقا
أن التحقيق عدم كون المعاطاة في البيع وغيره فردا من مسمياتها ، وعلى تسليمه فهي
ليست من الصحيح منه ، ضرورة اعتبار العقدية في تحقق مفهومه ، كما هو المنساق من
نحو المتن ، في صحته ، فلا يجري حينئذ شيء من أحكامه عليها ، وإلا لزم تعدد مفهوم
البيع ولو من جهة الأحكام ، وهو مقطوع بعدمه ، بملاحظة الأدلة ، الظاهرة في أنه
وحداني كما هو واضح.
وكيف كان ف
الإيجاب : كل لفظ دل على الارتهان ، كقوله : رهنتك أو هذه وثيقة عندك ، أو ما أدى
هذا المعنى كوثقتك ، وهذا رهن عندك ، بل وأرهنت ، بناء على ما في المسالك والتنقيح
من أنها لغة قليلة ، وزاد في المسالك : « أنه لا يبلغ شذوذها حد المنع ، وأنها
أوضح دلالة من كثير مما عدوه ».
وعن الصحاح
والمصباح والقاموس : رهن وأرهن بمعنى ، فما عن المهذب البارع من أنه لا يقال :
أرهن ـ اجتهاد في مقابلة النص ، ونفي لا يعارض الإثبات ، مضافا إلى ما تعرفه من
التسامح في عقد الرهن في الجملة ، حتى استقرب في التذكرة ، عدم اشتراط اللفظ
العربي فيه ، ووافقه في الدروس : فلا شك حينئذ في تناول العقود. للعقد بها.
بل في الدروس « لو
قال : خذه على مالك ، أو بمالك ، فهو رهن ، ولو قال :أمسكه حتى أعطيك مالك فأراد
الرهن جاز ، ولو أراد الوديعة أو اشتبه فليس برهن » ولعل ذلك كله ـ كما في المسالك
ـ لأن الرهن ليس على حد العقود اللازمة ، لأنه وإن كان لازما من طرف الراهن ، لكنه
جائز من طرف المرتهن ، فترجيح جانب اللزوم ، ولزوم ما يعتبر في اللازم ترجيح من
غير مرجح ، خصوصا مع البحث في اعتبار ما ذكروه في اللازم ، فيبقى حينئذ على مقتضى
عموم الوفاء بالعقود ، الشامل لكل ما قصد به عقد الرهن من الألفاظ من غير اعتبار
لفظ مخصوص ، ولا صيغة خاصة.
لكن فيه أن ترجيح
جانب الجواز أيضا ترجيح من غير مرجح ، والأصول تقتضي عدم لحقوق أحكام الرهن ،
والمراد من العقود المأمور به بالوفاء بها المتعارفة نوعا وصنفا ، فالمعلوم منها
ولو بمعونة كلام الأصحاب يجب الوفاء به ، وما لم يعلم فضلا عن المعلوم عدمه لا يجب
الوفاء به ، اللهم إلا أن يمنع ذلك ، ويقال : إنه إن سلم إرادة المتعارف منها ،
فالمراد المتعارف نوعها : أي البيع والإجارة والصلح ونحوها ، وأما بالنسبة إلى ما
ينعقد به كل واحد منها فاللفظ شامل لكل ما قصد به العقد من الألفاظ إلا ما علم
خروجه ، أو حصل الشك في تناول العام له من شهرة عظيمة ونحوها ، كما ادعوه فيما عدا
الصيغ الخاصة للعقود اللازمة.
وبالجملة مدار
المسألة على ذلك ، ولا ريب في أن الاحتياط يقتضي الأول ، والظن يقوي في الثاني ،
إلا أن الظاهر اعتبار العربية فيه على القولين لانصراف الإطلاق إليه ، بل في جامع
المقاصد « تمنع صدق العقد على ما كان باللفظ العجمي مع القدرة على العربي » أما
الماضوية فقد اعتبرها في التذكرة ، بل ربما استظهر ذلك والمقارنة وتقديم الإيجاب
على القبول ، والعربية ، من المبسوط ، وفقه الراوندي ، والوسيلة والغنية ،
والسرائر ، وجامع الشرائع ، والنافع ، والإرشاد ، والتبصرة ، وغيرها ، مما اقتصر
فيه على اعتبار الإيجاب والقبول ، بدعوى انصرافهما إلى ذلك كله ، وإن كان فيه ما
فيه.
بل ما في التذكرة
لا ينطبق على ما صرح بجوازه فيها ، من هذا رهن ، أو وثيقة عندك ، ولو قيل : إنهما
بمعناه أو أدل منه ـ من حيث دلالة الاسمية على الثبوت ـ رد بأنه قد شرط لفظ الماضي
لا معناه ، وبأن ذلك يستلزم جواز البيع بها ، بأن يقول هذا مبيع لك بكذا ، وهو لا
يقول به نعم ، يمكن أن يقال : إنه احترز بالماضي عن المستقبل خاصة ، كما يشعر به
قوله بعده بلا فصل ، فلو قال : أرهنك كذا أو أنا أقبل لم يعتد به أو هو مع الأمر ،
وإن كان قد سمعت من الشهيد جوازه ، كما أنك سمعت مدار الأمر في المسألة.
وكيف كان ف لو عجز
عن النطق بالإيجاب ، ولو لخرس عارضي كفت الإشارة المفهمة للمقصود بأي عضو كان بلا
خلاف أجده فيه ، لقيامها حينئذ مقام اللفظ كما يفهم ذلك مما ورد في تلبية الأخرس
وتشهده.
ولو كتب بيده
والحال هذه وعرف ذلك من قصده جاز أيضا ، لأنه من الإشارة أو أولى منها أو مساو لها
، ولا يجزى شيء منهما مع عدم العجز قطعا ، لحصر الشارع ، المحلل والمحرم ، في
الكلام ودليل البدلية خاص
بحال العجز ، فمن الغريب دعوى بعض متأخري المتأخرين الجواز فيه أيضا مدعيا عدم
الدليل بالخصوص
__________________
على حال العجز ،
فليس إلا الاكتفاء بكل ما يدل على الرضا ، وهو عام للحالين وفيه ما لا يخفى.
وأما القبول ف هو
كل لفظ دل على الرضا بذلك الإيجاب والكلام فيه كما في الإيجاب ، بل قد يظهر من
المتن وغيره توسعة الأمر فيه أزيد من الإيجاب ، حيث جعله هو الرضا من دون اعتبار
لفظ دال عليه ، فضلا عن أن يكون مخصوصا ، ولعل الفارق بينه وبين الإيجاب أن الرهن
لازم من قبل الراهن ، لأنه يتعلق بحق غيره ، فيجوز أن يعتبر في حقه مالا يعتبر في
حق المرتهن ، حيث أنه من قبله جائز ، لأنه يتعلق بحقه ، فيكفي فيه ما يكفي في
العقود الجائزة المحضة لكن ظاهر الأصحاب اعتبار القبول القولي.
نعم قد احتمل
الفاضل في التذكرة ، والقواعد ، الاكتفاء بالاشتراط في عقد البيع عنه ، فلو قال :
بعتك هذا الكتاب واشترطت عليك أن ترهنني دارك ، فقال المشتري : قبلت وأرهنتك صح
حينئذ ، مع أن التحقيق خلافه أيضا بعد الإغضاء عن جواز تقديمه على الإيجاب ، ضرورة
عدم حصول إنشاء الرضا بالإيجاب بذلك ، وإنما دل الشرط على أنه يرضى بالارتهان حاله
، كما هو واضح بأدنى تأمل في نظائره وربما يأتي لذلك تتمة إن شاء الله.
وعلى كل حال فلا
ريب في أنه يصح الارتهان سفرا وحضرا بلا خلاف فيه بيننا بل الإجماع بقسميه عليه ،
كما أن السنة شاملة بإطلاقها للحالين ، والشرط في الآية مبنى على الغالب
فإن عدم الكاتب عادة لا يكون إلا في السفر ، فهو نحو قوله « ( وَإِنْ
كُنْتُمْ ). ( عَلى سَفَرٍ ) إلى قوله ، ( فَلَمْ
تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ) » فإن عدم الماء يكون في السفر غالبا فما عن بعض العامة من
عدم جوازه في الحضر للآية في غاية الضعف ، خصوصا بعد اشتمالها على اشتراط عدم
الكاتب ، وهو غير شرط بموافقة الخصم ، وبعد
__________________
ما ورد عن النبي 6 « انه رهن درعه
عند يهودي وهو حاضر بالمدينة » والله أعلم.
وكيف كان ف هل
القبض من المرتهن شرط في صحة الرهن وترتب آثاره عليه قيل : والقائل الشيخ في أحد
قوليه ، وابن إدريس ، والفاضل وولده ، والمحقق الثاني والشهيد الثاني ، وغيرهم لا
يشترط بل حكي أيضا عن البشرى ، والجواهر ، وتخليص التلخيص ، والمقتصر ، وغاية
المرام ، وإيضاح النافع ، وغيرها. بل في السرائر نسبته إلى الأكثر من المحصلين ،
وفي كنز العرفان إلى المحققين ، فيكفي في الصحة حينئذ الإيجاب والقبول مع اجتماع
باقي الشرائط ويتبعها اللزوم ، بل في الغنية والسرائر لا خلاف في حصول الصحة بدونه
، وإن الخلاف إنما هو في لزومه بدونه.
بل وكذا التذكرة
والتحرير ، والتنقيح ، والمسالك ، والروضة ، وغيرها ، حيث أنهم قد جعلوا الخلاف في
ذلك دون الصحة ، واحتمال إرادتها من اللزوم الذي هو محل الخلاف في كلامهم يأباه
ظاهر كلماتهم ، وصريح الغنية والسرائر والمسالك وغيرها ، بل لعل احتمال العكس في
كلام من جعل الصحة موردا للنزاع كما هو ظاهر كثير بل الأكثر أولى. خصوصا بعد عدم
الثمرة المعتد بها لها قبل اللزوم ، بل عن إيضاح النافع الجزم به ، لكن الإنصاف
عدم خلوه من البعد كما ستعرف فلاحظ وتأمل.
وقيل والقائل
المفيد والشيخ في القول الآخر وبنو الجنيد ، وحمزة ، والبراج ، والطبرسي ، وغيرهم
، على ما حكي عن بعضهم نعم يشترط ذلك في صحة الرهن ، بل عن الطبرسي الإجماع عليه ،
بل ربما ظهر من بعضهم ما هو المحكي عن بعض أهل اللغة من عدم تحقق مسمى الرهن بدونه
، وإن كان هو واضح الضعف ضرورة كون لفظ الرهن كباقي ألفاظ العقود المعلوم عدم توقف
صدقها على غير العقد من قبض ونحوه ، وان اعتبر في ترتب الأثر ، كالتقابض والقبض
قبل التفرق في الصرف
__________________
والسلم ، والقبض
في الهبة ونحو ذلك ، بل لعل وصف الرهان بالمقبوضة في الآية مما يشهد لذلك ،
وحمله على الوصف الكاشف ، خلاف الأصل في الوصف بلا مقتض ، بل المقتضى على خلافه
متحقق.
نعم لا بأس بجعل
الصحة موقوفة عليه وإن تحقق الاسم بدونه ، وهو الأصح عند المصنف ، والشهيد ،
وغيرهما تبعا لمن عرفت ممن ظاهر كلامه اعتباره في الصحة دون اللزوم :
ففي المقنعة « ولا
يصح الارتهان الا بالقبض » وفي النهاية « لا يدخل الشيء في أن يكون رهنا إلا بعد
قبض المرتهن له وتمكنه منه » وفي الوسيلة « الرهن إنما يصح بثلاثة شروط : الإيجاب
، والقبول ، والقبض برضا الراهن إلا إذا اشترط في العقد » لكن قد عرفت أن محل
النزاع في الغنية اللزوم ، فيمكن أن يكون قد حمل عبارة الشيخين عليه ، قال فيها :
شروط صحته ستة ، إلى أن قال بعد ذكرها : « وإذا تكامل هذه الشروط صح الرهن بلا
خلاف ، وليس على صحته مع اختلال بعضها دليل ، وأما القبض فهو شرط في لزومه من جهة
الراهن دون المرتهن ، ومن أصحابنا من قال يلزم بالإيجاب والقبول ، لقوله تعالى ( أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ ) والقول الأول هو الظاهر من المذهب الذي عليه الإجماع ،
وإذا تعين المخالف باسمه ونسبه لم يؤثر خلافه ».
وأصرح منها ما في
السرائر ، فإنه أيضا ذكر أن شروط صحته ستة ثم قال : « وإذا تكامل هذه الشروط صح
الرهن بلا خلاف ، وليس على صحته مع اختلال بعضها دليل ، فأما القبض فقد اختلف قول
أصحابنا فيه ، هل هو شرط في لزومه أم لا؟ فقال بعضهم : إنه شرط في لزومه من جهة
الراهن دون المرتهن ، وقال الأكثرون المحصلون منهم : يلزم بالإيجاب والقبول ، وهذا
هو الصحيح إلى أن قال :
__________________
والأول مذهب شيخنا
أبي جعفر في نهايته ، وشيخنا في مقنعته ، والثاني : مذهب لشيخنا في مسائل خلافه ،
فإنه رجع عما ذهب إليه في نهايته » إذ هو كما ترى صريح في فهمه اللزوم من عبارتي
المقنعة والنهاية ، وقد ظهر من ذلك الاضطراب في كلمات الأصحاب المحررين للنزاع.
وعلى كل حال
فالمحصل أن الأقوال في المسألة ثلاثة ، وإن كان مقتضي جميع المحررين للنزاع أو
أكثرهم أن المسألة ثنائية الأقوال ، إلا أن التتبع يقضي بما ذكرنا ، الأول : عدم
المدخلية له في الصحة واللزوم ، وهو خيرة الخلاف والسرائر وغيرهما ممن عرفت.
والثاني : توقف الصحة عليه وهو ظاهر المقنعة ، والنهاية ، والوسيلة وغيرهم ، بل هو
صريح المحكي عن الطبرسي. والثالث : توقف اللزوم عليه دون الصحة ، وهو خيرة
المقنعة.
وأما الاحتمالات :
فهي أكثر من ذلك ، إذ منها أنه ـ شرط للصحة على جهة الكشف ، بل هو مقتضى إطلاقهم
الشرطية عليه ضرورة عدم كون المراد منها في المتأخر غير الكشف ، ومن هنا وجب حمله
مع فرض عدم إرادة ذلك على جزء سبب الصحة ، فإطلاق الشرطية عليه حينئذ على ضرب من
المجاز ، كما جزم به في جامع المقاصد.
ومنها أنه شرط
للزوم كذلك ، بناء على أن السبب في تأثيره : أي اللزوم العقد ، فشرطه المتأخر
حينئذ لا يكون إلا على جهة الكشف ، ومن هنا وجب حمله مع فرض عدم إرادة ذلك على جزء
السبب في اللزوم ؛ كما جزم به في المسالك ، وأن إطلاق الشرط عليه مجاز ، لكن قد
يمنع تسبيب العقد اللزوم ، لانفكاكه عنه كبيع خيار المجلس وغيره ، بخلاف الصحة ،
فيمكن أن يكون هو السبب في اللزوم ، وتقدم العقد حينئذ شرطه.
ومنه ينقدح احتمال
ثالث : وإن كان الفرق بينه وبين القول بأنه جزء سبب في اللزوم في الثمرة غير ظاهر.
وكيف كان فقد
كفينا مؤنة هذه الاحتمالات وغيرها بإمكان تحصيل الإجماع المركب على نفيها ، لما
عرفت من انحصار الخلاف قديما وحديثا في الأقوال الثلاثة التي يقوى في النظر فيها
الأول ، للاية ، وغيرها مما دل على لزوم العقود ، حتى جعلوه الأصل فيها ، وإليه
يرجع أصالة عدم الاشتراط الراجعة إلى ظهور الأدلة في كون العقود هي الأسباب
لمدلولاتها من غير حاجة إلى شيء آخر.
ولظهور النصوص في
ترتب الأحكام على صدق الرهن الذي لا ريب في عدم توقف صدقه على القبض ، بل لا يخفى
على من تصفحها على كثرتها ظهور ترتب أحكام الرهن المقبوض على ما تحقق مسماه فيه من
غير تعرض للقبض وعدمه ، ولو كان معتبرا في صحة أو لزوم وجب التفصيل ، وإلا لزم
الإغراء بالجهل ، بل لعل ترك الاستفصال فيه دليل العموم.
نعم يستفاد منها
على وجه لا يسع الفقيه إنكاره استحقاق المرتهن على الراهن قبضه ، لأن الأصل في
مشروعيته التوثق ، ولا يتم غالبا إلا به ، بل لا يخفى ظهور النصوص في المفروغية من
ذلك ، كما يومي إليه ذكر أحكام المقبوض بمجرد ما قيل في السؤال أنه رهن ، وكأن هذا
هو الذي غر القائل بالشرطية ، لكنك خبير في أنه أعم منها ، إذ الأقوى وجوب الإقباض
على الراهن إذا طلبه المرتهن ، وإن لم يكن شرطا في صحة أو لزوم كما جزم به في
التحرير ، ولعله لما ذكرنا بل ولما ستسمعه مما ذكروه دليلا للشرطية ، بل لعل مبنى
الرهانة على ذلك.
لكن توقف فيه في
القواعد ، فقال : « ليس القبض شرطا على رأى ، وهل له المطالبة به إشكال » إذ
الظاهر أن مراده على تقدير عدم الشرطية كما اعترف به في جامع المقاصد موجها
للإشكال بنحو ما ذكرنا ، وبانتفاء المقتضي ، إذ العقد لا يقتضيه ، ولا سبب غيره ،
والإرشاد التوثق بالقبض في الآية لا يدل على كون ذلك مستحقا للمرتهن على الراهن بمجرد العقد
، ومما ذكرنا يظهر لك أن الترجيح للأول.
هذا. ولكن في
القواعد بعد ذلك أنه لا يجبر الراهن على الإقباض ، فلو رهن و
__________________
لم يسلم لم يجبر
عليه ، وقد قيل : إنه جزم بعد التردد ، ولعل الأولى جعل ذلك منه على تقدير
الاشتراط ، كما يشهد به التأمل لكلامه أولا وآخرا فلاحظ وتأمل.
وقال أيضا فيها في
الفصل السادس : « وإذا لزم الرهن استحق المرتهن إدامة اليد » كما أن ما عن المبسوط
ـ من أنه « إذا جن الراهن أو أغمي عليه ، أو رجع قبل القبض ، قبض المرتهن ، لأن
العقد أوجب القبض » ـ ينبغي حمله على ما قلناه ، ضرورة أنه لا وجه له معتد به على
تقدير الشرطية ، وإن سمعت في الصرف دعوى مثل ذلك من بعضهم في التقابض ، فأوجبه
بالعقد مع توقف الصحة عليه ، لكنه مع أنه لم يدعه أحد هنا ، فيه ما عرفت ، على أن
المحكي عنه في المبسوط أنه قال : « والاولى أن نقول أنه يلزم بالإيجاب والقبول »
فيقوى بناء كلامه هذا على ذلك.
وعلى كل حال فلا
تنافي بين وجوب الإقباض وبين القول بعدم الشرطية الذي قد عرفت قوته ، ويزيده قوة ،
ضعف دليل المخالف ، إذ ليس إلا الأصل ، الذي ليس بأصيل بعد العقد وما دل على لزومه
وصدق الرهن ، والآية التي ادعى الخصم دلالتها بمفهوم الوصف الممنوع حجيته في
المقام ، خصوصا بعد ظهور التقييد فيه في تمام الإرشاد ، أو أنها إنما دلت على
مشروعية الرهن المقبوض ، فينفى غيره بالأصل المقطوع بالإطلاقات.
وبالجملة دعوى ـ دلالة
الآية على الشرطية في الرهن بعد ظهورها في إرادة الإرشاد ، كما يومي إليه التعليق
على السفر ، وعدم الكاتب ، وأنه لا قائل بوجوب أخذ لرهن كما يستفاد من الجملة ـ في
غاية الفساد كما هو واضح.
وخبر محمد بن قيس عن أبى جعفر 7 كما في كتب
الأصول وكثير من كتب الفروع ، أو الصادق 7 كما في قليل من الأخيرة « لا رهن إلا مقبوضا » المعتضد بما
رواه العياشي عن محمد بن عيسى عن الباقر 7 كذلك ، الذي هو بعد الإغضاء عن سنده ، وأنه من قسم الموثق
، وإن قال الشهيد وغيره : أنه مردود ، لاشتراكه
__________________
بين الثقة والضعيف
، لأن المراد منه هنا البجلي الثقة ، بقرينة رواية عاصم عنه ، بناء على أنه ابن
حميد ، وأن ابن سماعة فيه ، الحسن بن محمد بن سماعة ، وأن طريق الشيخ إليه قوي ،
والإغضاء عن كونه موافقا لجمهور العامة ، ومنهم أبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، في
إحدى الروايتين ، خصوصا مع شدة التقية في زمانه 7 ، والإغضاء عن احتمال إرادة بيان اعتبار كون الرهن مما
يقبض كما يومي إليه عدم تخصيص القبض للمرتهن.
محتمل لإرادة بيان
نفي الاعتداد به في الاستيثاق والطمأنينة ، لا الشرطية ، بل لعل الظاهر منه ذلك ،
بعد أن كان المنفي فيه ، العين المرهونة ، لا العقد الذي يوصف بالصحة والبطلان ،
وبعد أن كان الظاهر منه استدامة القبض للعين المرهونة ، باعتبار نفي الرهن بدونها
، الظاهر في لزوم اتصافها بذلك لصفة الرهن ، والإجماع بقسميه كما ستعرف على عدم
اعتبار الاستدامة ، وبذلك يضعف دلالة الآية أيضا ، ويقوى إرادة الإرشاد منها ، بل
قد يستفاد منها ومن الخبر مشروعية الرهن بغير قبض ، كما هو المختار ، وإن كان لا
يحصل به تمام الاستيثاق في بعض الأحوال.
والإجماع المحكي
عن الطبرسي المعارض بنفي الخلاف من ابني زهرة وإدريس عن الصحة بدونه كما أن إجماع
ابن زهرة على اعتباره في اللزوم معارض بما سمعته من ابن إدريس والمقداد ، بل دعوى
تبين خلافه ، لعدم المصرح باعتباره في اللزوم دون الصحة غيره ، على أنه قد اعترف
بوجود المخالف إلا أنه غير قادح ، لمعروفيته باسمه ونسبه ، ولا ريب في قدحه وإن
كان كذلك ، على طريقتنا في الإجماع كما بين في الأصول محررا ، فقد بان من ذلك فساد
دعوى الشرطية على كل حال ، وإن كانت هي في اللزوم أوضح فسادا ، ضرورة عدم دليل
للصحة حينئذ على وجه يفصلها عن اللزوم غير نفى الخلاف المزبور المعارض بما سمعت ،
فلا ريب حينئذ في قوة القول بالعدم مطلقا فتسقط حينئذ جميع الفروع التي ذكروها في
المقام وأطنبوا فيها لكن لا بأس بالتعرض إلى جملة منها بناء على الشرطية.
فمنها أنه لو قبضه
من غير إذن الراهن لم ينعقد عقد الرهن ، ولم يصح
بناء على اعتباره
في الصحة بلا خلاف أجده فيه ، لكونه قبضا غير مأذون فيه أو منهيا عنه ، لما عرفت
من وجوب الإقباض عليه بالعقد ، فلا يسقط حق الرجوع المستصحب بقاؤه ، بل لا يقطعه
إلا حصول المقطوع به من الشرط وهو القبض المأذون فيه.
فدعوى إطلاق دليل
الشرطية الذي لا ينكر انسياقه إلى المأذون فيه ، خصوصا بعد استقراء نظائر المقام
مما كان القبض فيه تتمة السبب ، وخصوصا بعد معارضة قاعدة عدم سقوط حق الغير إلا
برضاه ، وخصوصا بعد عدم الخلاف فيه لا يصغى إليها ، كدعوى وجوب الإقباض عليه
بالعقد الذي لم يكن سببا تاما في حصول مدلوله ، لأن الفرض توقف الصحة على الإقباض
، بل الظاهر أنه كذلك لو قلنا بأنه شرط للزوم ، ضرورة عدم اقتضاء العقد الجائز
وجوب إلزامه.
نعم قد يقال :
بجواز قبضه للمرتهن ، باعتبار تعلق حق الرهانة فيه المقتضية للقبض باعتبار بنائها
على التوثق الذي لا يتم غالبا الا به ، فهو وإن كان باقيا على ملك المالك ، إلا
أنه لا يمنع ذلك من قبضه للمرتهن ، بعد اقتضاء حق الرهانة ذلك شرعا ، لكن لا يؤثر
هذا القبض لزوما في حق الراهن ، للأصل وغيره ، مع احتماله لإطلاق ما دل على اللزوم
به ، فهو كالتصرف في الهبة والمعاطاة المقتضي للزوم من الجانبين ، وعدم وجوب
الإقباض غير اللزوم بالقبض ولعله لذا حكي عن الكفاية الإشكال في اعتبار الإذن ،
بناء على كون القبض شرطا في الصحة دون اللزوم ، وإن كان الظاهر ما ذكرنا أولا.
وأما على المختار
من عدم الاشتراط وأنه يجب على الراهن الإقباض ، فليس للمالك منع المرتهن من قبضه ،
بل ولا يتوقف على إذنه ، لتعلق حق الرهانة المقتضي لذلك شرعا ، فهو كما لو شرط
الرهانة المشتملة على القبض بعقد لازم ، أو نذرها مثلا واحتمال وجوب مراعاة الأذن
ـ لكونه باقيا على ملكه ، وإن كان إذا امتنع أجبره الحاكم ، فإن لم يمكن قام مقامه
في التسليم ـ لا يخلو من وجه ، إلا أن الأقوى ما ذكرنا.
فما عن الكفاية ـ من
الجزم بوجوب إذن الراهن على القول بعدم الاشتراط في اللزوم فضلا عن الصحة ،
واختاره بعض مشايخنا. بل زاد عليه الجزم باحتياجه
على تقدير اشتراطه
في اللزوم دون الصحة ـ واضح الضعف ، ولعلهما بنيا الأول على عدم وجوب القبض وإن
قلنا بعدم شرطيته ، لكنك قد عرفت ضعفه سابقا فلاحظ وتأمل.
ومنه تعلم الحال
فيما لو اشترط الرهن في عقد لازم ، فإنه على المختار لا بد من الرهن والقبض ، إلا
أن الظاهر كون وجوب القبض من مقتضى الرهانة كما عرفت ، لا من جهة الشرطية التي
ليست هي إلا الرهانة المحققة بدونه ، نعم يتجه ذلك على القول بأنه شرط في الصحة ،
ضرورة عدم تعلق حق الرهانة بالعين المشترط رهنها بدونه ، فلا يجدي مجرد العقد الذي
لم يتعقبه قبض ، إذ هو كالرهن الفاسد ، وصحة إطلاق الرهن على العقد كما ذكرناه
سابقا لا ينافي كون المراد هنا الرهن المخصوص.
أما لو قلنا بأنه
شرط للزوم ففي المسالك « ينبغي أن يتحقق الوفاء بالشرط بدون القبض وإن لم يلزم من
قبل الراهن ، لأن ما يجب الوفاء به الرهن الصحيح ، وهو أعم من اللازم » لكن فيه
أنه لا تحصل الفائدة المطلوبة من اشتراطه ، فينبغي التقييد في الاشتراط برهن مقبوض
، اللهم إلا أن يدعى دلالة القرائن على ذلك ، بناء على الاكتفاء بمثلها أو يقال :
إن الرهن المشروط في العقد اللازم يستحق القبض وإن قلنا بكونه شرطا في اللزوم كما حكاه
في المسالك عن الشهيد ، ولعله راجع إلى ما ذكرنا من دلالة القرائن على ذلك ، والا
فليس ما يقتضي استحقاقه بمجرد اشتراطه غيره ، هذا كله إذا اشترط الرهن خاصة.
أما إذا اشترط
القبض معه فالمتجه بناء على ما ذكرنا سابقا في الشرائط وجوبها على المشترط عليه ،
وإجباره عليه ، فإن لم يمكن تسلط على الخيار. نعم على ما تقدم من الشهيد ، يتجه ما
صرح به هنا من عدم وجوب ذلك عليه ، بل أقصاه تسلط ذي الشرط على الخيار ، وهو خيرة
الفاضل في المقام ، لكن فيه ما عرفت سابقا والله أعلم.
وقد ظهر من ذلك
كله عدم صحة الرهن بالقبض من غير اذن بناء على اعتباره في صحته وكذا لو أذن في
قبضه ثم رجع بإذنه قبل قبضه إذ هو كغير المأذون فيه ، ضرورة عدم اللزوم عليه
بالإذن الذي له الرجوع فيها ، للأصل وغيره ، فيتجه حينئذ جميع ما ذكرنا فيه سابقا
، ولا يقال : إن الإذن هنا قد أسقطت حقه
من الرجوع ، بناء
على الشرطية في اللزوم ، إذ قد عرفت أن المسقط له شرعا إنما هو القبض ، لا الإذن
فيه ، بل لو صرح بالإسقاط ثم رجع قبل القبض لم يؤثر ذلك الإسقاط ، لعدم كون الجواز
هنا كالخيار ، بل هو من الأحكام الشرعية لا الحقوق المالكية التي يتسلط عليها
الإسقاط كل ذلك مع عدم الخلاف فيه ، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه ممن اعتبر الإذن
في القبض ، سواء قلنا إنه شرط في اللزوم أو الصحة.
وكذا لا يصح الرهن
لو نطق بالعقد ثم جن ، أو أغمي عليه ، أو مات قبل القبض مثلا بناء على اعتباره في
الصحة بلا خلاف أجده ، لظهور ما دل على شرطية الاختيار إلى تمام سبب الصحة إنما
الكلام في البطلان بذلك على تقدير اعتباره في اللزوم ، فربما قيل به ، لأنه حينئذ
من العقود الجائزة المعلوم بطلانها بعروض ذلك.
وفيه : أنه لا
دليل على عموم ذلك فيها بحيث يشمل المقام الذي هو يؤوله إلى اللزوم بالقبض ليشبه
بيع الخيار ، ويصلح لقطع الاستصحاب وتقييد إطلاق دليل الصحة فيقوم حينئذ من انتقل
إليه ولاية التصرف مقامه ، مراعيا للمصلحة حيث يجب عليه ذلك ، ولا منافاة بين
انتقال عين المال إلى الوارث أو ولايته إلى الولي ، وبين تعلق حق الرهانة ، بل
أقصاها أنها جائزة كما كانت للأصل وبذلك يفرق بين المقام وغيره من العقود الجائزة
، كالوكالة والعارية والوديعة ، إذ ليس هو مثلها قطعا ، بل هو كبيع الخيار ،
وكالهبة بعد القبض قبل التصرف التي يجوز الرجوع فيها للمالك قبله ، ولا مجال
لاحتمال البطلان فيهما.
ولعله لذا جزم في
التذكرة بعدم البطلان في الأولين ، بل كان عليه ذلك بالنسبة إلى الأخير أيضا ، إلا
أنه لم يرجح فيه فيها ، بل المتجه عدم الفرق في ذلك بين الراهن والمرتهن على كل من
قولي الصحة واللزوم.
لكن في الدروس ،
اختار البطلان في الثلاثة بالنسبة إلى الراهن ، ثم قال : « ولو مات المرتهن انتقل
حق القبض إلى وارثه ، والفرق تعلق حق الورثة والديان بعد موت الراهن به ، فلا
يستأثر به أحد ، بخلاف موت المرتهن ، فإن الدين باق ،
فيبقى وثيقة » ،
وقال أيضا « ولو جن المرتهن أو أغمي عليه قام وليه مقامه ».
وفيه ما لا يخفى
بناء على أنه شرط في الصحة ، كما هو ظاهر كلامه في أصل المسألة ، بل وعلى تقدير
كونه شرطا في اللزوم ، ضرورة كون المتجه عليه البطلان مطلقا ، أو الصحة كذلك ،
لاتحاد المدرك والفرق الذي ذكره بالنسبة إلى الموت غير مجد ، بعد أن كان للورثة
والديانة الفسخ ، إذ لا يلزم عليهم القبض المقتضى للزوم ، فتجدد تعلق حق الديانة والوراثة
لا يبطل الحق المتعلق سابقا كما هو واضح.
نعم احتمال الصحة
مع موت المرتهن أوضح منه مع موت الراهن ، وبذلك كله تعرف الاضطراب في جملة من
كلمات الأصحاب في المقام ، واحتمالاتهم التي منها ما يقضي بكونه معتبرا عندهم في
الصحة ، ومنها ما يقضي باعتباره في اللزوم ، وقد أشكل على ثاني الشهيدين الذي جعل
النزاع في الأخير المراد من نحو المتن ، ولا ريب في ظهوره في الاعتبار في الصحة ،
فلا إشكال فيه من هذه الجهة.
كما أنه لا إشكال
في عدم البطلان بعروض شيء من ذلك للراهن أو المرتهن ، بناء على المختار ، كما صرح
به جماعة ممن خيرته ذلك ، بل حكاه في الدروس عن المبسوط معترفا بإشعاره بعدم
الشرطية ، وإن كان للمرتهن طلبه للتوثق به ، وهو مما يرشد إلى موافقته للمختار ،
كما حكيناه سابقا ، ثم إنه لا يخفى عليك الحال بعد الإحاطة بما ذكرنا فيما لو كان
الرهن مشترطا في عقد لازم ، ثم عرض نحو الأمور الثلاثة قبل الرهن أو بعده قبل
الإقباض ، والله أعلم.
وكيف كان ف ليس
استدامة القبض شرطا بل يكفي تحققه في الصحة أو اللزوم بلا خلاف أجده فيه ، بل
الإجماع بقسميه عليه ، بل لعل المحكي منهما مستفيض أو متواتر ، وهو الحجة بعد
العمومات التي يمكن إرادتها للشيخ في الاستدلال عليه بأخبار الفرقة ، إذ لم نجد
المتحد منها الدال على ذلك صريحا ، فضلا عن المتعدد.
نعم ربما تجشم
دلالة النصوص الواردة في منفعة الرهن وعلته المعلوم كونها للراهن التي تتوقف غالبا
على قبضه الرهن ، والأمر سهل بعد ما عرفت الذي منه
يظهر ضعف ما عن
أبي حنيفة ، وأحمد ، ومالك ، من اشتراط الاستدامة كالابتداء ، للآية التي قد تقدم
البحث فيها. بل عن الأردبيلي ان ظاهر التذكرة ذلك في مسألة منع المرتهن من التصرف
قلت : الموجود فيها هناك « الرهن وثيقة لدين المرتهن ، فإن جعلنا القبض شرطا أو
كان لازما استحق المرتهن إدامة اليد ، ولا يزال يده إلا للانتفاع ، على خلاف قد
سبق » ويمكن أن يريد ولو بقرينة أنه ممن حكى الإجماع على عدم اشتراط الاستدامة قبل
ذلك ، الاستحقاق لا على جهة الشرطية ، ولعله كذلك لما عرفت من اقتضاء حق الرهانة
ذلك.
فلو عاد إلى
الراهن وإن لم يكن بعنوان الوكالة عن المرتهن أو تصرف فيه تصرفا لا ينافي كونه
رهنا لم يخرج عن حق الرهانة سواء كان ذلك باذن المرتهن أولا ، وإن كان الظاهر تحقق
الإثم عليه مع عدم الإذن في بعض الأحوال والله أعلم.
ومنها : أنه لو
رهن ما هو في يد المرتهن لزم الرهن على القولين من غير حاجة إلى إذن بالقبض ، ولا
مضى زمان يمكن فيه تجديد القبض ، ولو كان استيلاء يد المرتهن عليه غصبا وفاقا
لإطلاق الأكثر ، لا لتحقق القبض الذي هو شرط ، لوضوح بطلانه في الأخير المنهي عنه
، فيكون فاسدا لذلك ، إذ النهي وإن كان لا يقتضي الفساد في غير العبادة ، إلا أن القبض
على تقدير اعتباره ركن ، وعدم اقتضاء الفساد إنما هو بعد تمام الأركان ، وإلا
لاجتزي بالقبض بغير إذن لو لم يكن مقبوضا ، وقد عرفت بطلانه وليس الإرهان إذنا
باستدامة القبض قطعا ، مع أنه لا يتم في التصريح بحرمة استدامة القبض الأول ، بل
لعله باطل في الأول أيضا ضرورة ظهور أدلة الشرطية في اعتبار القبض للرهن ، فلا
يجزي قبض العارية والوديعة مثلا ، والفرض أنه لم يتجدد إذن في استدامة القبض
للرهن.
ـ بل لعدم تناول
دليل الشرطية لمثل الفرض ، ضرورة ظهوره في غير المقبوض ،
اما هو فيبقى على
أصالة اللزوم في العقد ، فيتحقق رهنه حينئذ ، وهو على القبض الأول حتى انه لو كان
مضمونا بغصب ، أو بيع فاسد ، أو سوم ، أو عارية مضمونة أو نحو ذلك بقي عليه ، كما
هو خيرة الأكثر ، بل لا خلاف أجده إلا من الفاضل في القواعد ، والمحكي عن يحيى بن
سعيد ، ولا تنافي بين رهنيته وضمانه بعد أن كان الضمان بسبب آخر غير الرهنية ،
كالتعدي في المرهون.
نعم يقوى ارتفاع
الضمان بالإذن من الراهن في استدامة القبض للرهن ، وفاقا لجماعة ، بل عن حواشي
الشهيد نفي الخلاف عنه ، لانتقاض الحال الأول ، بل هو شبه الوكالة في القبض عنه ،
ودعوى ـ ظهور دليل الضمان في مثل الغصب في عدم ارتفاعه إلا بالتأدية المعلوم
انتفاؤها في المقام وإن اذن ، فسبب الضمان الأول لم يرتفع ، وإن اذن في الاستدامة
وارتفع الإثم بذلك ، بل لو صرح المالك بإسقاط الضمان الذي هو مقتضى السبب الأول لم
يسقط كما صرح به في القواعد ، وجامع الشرائع والإيضاح ، وحواشي الشهيد ، وغاية
المرام ، وجامع المقاصد ، على ما حكى عن بعضها ، إذ هو ترتب شرعي والإسقاط
كالإبراء إنما يجدي في الحق الثابت في الذمة مثلا ، وليس المقام منه قطعا ، إذ لا
شيء في الذمة حينئذ ، لكون المراد من الضمان فيه انه لو تلفت العين ضمن مثلها ،
ولا معنى لإسقاطه قبل حصوله ، كما انه لا معنى لإسقاط سببية السبب الذي جعل الشارع
غاية ارتفاعه التأدية المعلوم انتفاؤها في المقام ـ
يدفعها أولا : منع
عدم صدق التأدية على نحو ذلك ، مع استناد اليد فيه إلى إذن المالك ، وانه من تصرفه
فيه ، فهو كما لو تاب الغاصب وطلب من المالك قبض ماله فقال له : ليبق عندك وديعة ،
وكما لو أرهن المالك مغصوبا عند غير الغاصب ، وقد اذن للراهن في قبضه منه وقبضه ،
ودعوى ـ التزام الضمان في ذلك ونحوه ـ أيضا كما ترى يمكن ان يقطع بعدمه ، وانه ظلم
واضح ، فلعل المراد من التأدية في خبر الضمان ما يشمل مثل ذلك ، لا انه القبض
الفعلي خاصة.
وثانيا ظهور كون
المراد من الخبر ما إذا بقيت يد الضمان على حالها ، لا ما إذا تغيرت وصارت يد
امانة مثلا ، فيبقى حينئذ على أصالة البراءة التي لا يعارضها
استصحاب الضمان ،
بعد ما عرفت من ظهور دليله في غير الفرض ، ومن معلومية كون السبب في الضمان
العدوان ، والفرض زواله بالائتمان ، فلا وجه للاستصحاب.
وعدم ارتفاع
الضمان بالإسقاط ـ مع أن فيه بحثا. بل عن الشيخ السقوط لحصول سبب الوجوب ، فليس
إبراء مما لم يجب ، وتبعه المصنف فيما يأتي ، والفاضل في التحرير ـ لا مدخلية له
فيما نحن فيه الذي فرض حصول الإذن من الغاصب باستدامة القبض ، على أنه رهن ، أو
وديعة ، أو عارية مثلا ، وأنه بذلك صار أمانة في يده ، ودعوى الفرق ـ بين المقام ،
والوديعة التي هي استنابة عن المالك في الحفظ والقبض لمصلحة ، بخلاف ما نحن فيه ،
بل والعارية والتوكيل على البيع والإعتاق على إشكال ـ غير مسموعة ، فإن دقيق النظر
يقضى بعدم الفرق بين الجميع.
كما أنه يقضى بعدم
الفرق بين المغصوب وبين غيره ـ مما هو مضمون كالعارية المضمونة ، والمقبوض بالسوم
، أو الشراء الفاسد أو نحو ذلك ـ فيما ذكرنا من الحكم ، ومن ذلك تعرف النظر فيما
في القواعد ، وجامع المقاصد ، وغيرهما ، وقد يأتي إن شاء الله لذلك تتمة فتأمل
جيدا.
وعلى كل حال فقد
ظهر لك أن السبب في لزوم الرهن في مفروض المتن ما قلناه ، لا ما سمعت الذي قد عرفت
أنه لا يتم في الغصب ، ولذلك فصل في المسالك ، والروضة بين المغصوب وغيره ، فاعتبر
الإذن ومضي الزمان في الأول ، دون الثاني ، ولا ريب في ضعفه ، بل لم اعرف هذا
التفصيل لغيره عدا الفاضل في ظاهر التذكرة ، وإن حكاه في الروضة عن بعض ، ولعله هو
مراده.
كما أنه لم اعرف
وجها معتدا به لاعتبار مضي الزمان وإن قيل في توجيهه :أن الإذن في القبض يستدعي
تحصيله ، ومن ضرورياته مضي زمان ، فهو دال على القبض الفعلي بالمطابقة ، وعلى
الزمان بالالتزام ، ولما لزم من القبض الفعلي تحصيل الحاصل أو اجتماع الأمثال
المحالان حمل اللفظ على المعنى الالتزامي ، لتعذر المطابقي ، وهو كما ترى ، ضرورة
أن اعتبار الزمان من باب المقدمة لحصول القبض ، فلا يعقل اعتباره مع حصول ذي
المقدمة كما هو واضح.
ولو علل بأن
المنساق من القبض في مثله بعد فرض شمول دليل الشرطية له ذلك ، لكان أولى ، وإن كان
فيه منع واضح أيضا ، خصوصا بعد عدم تعذر الحقيقة ، بأن يرجعه إلى صاحبه ثم يقبضه
منه ، أو يتوكل عنه في قبضه وإقباضه ، فيكون كالموجب والقابل.
وأما الإذن فبناء
على عدم اعتبار القبض السابق لكون الفرض أنه غصب ، وعلى أنه شرط في مثل الفرض
فالمتجه اعتبارها ليكون استدامة القبض مستندة إليها ، فيتحقق القبض المأذون فيه
بعد الرهانة ضرورة صدقه على الاستدامة لكن قد عرفت أن التحقيق عدم اعتبار القبض في
مثل الفرض ، ومن هنا اتجه القول باللزوم وإن لم يحصل اذن في الاستدامة ، كما هو
مقتضى إطلاق الأكثر الذين لم يفرقوا بين الوديعة والعارية ، والمغصوب ، في عدم
اعتبار الاذن ومضى الزمان ، بل لا خلاف محقق أجده في ذلك في الأولين.
نعم حكي في الدروس
من الشيخ الحكم بأنه لا بد من مضى زمان يمكن فيه القبض منهما ، ولعله يلزم ذلك في
الثالث ، الا أنه لم نتحقق ما حكاه عنه ، إذ المحكي عنه في المبسوط ، والخلاف انه
قال : « إذا كان له في يد رجل مال وديعة ، أو عارية ، أو إجارة ، أو غصبا فجعله
رهنا عنده بدين له ، كان الرهن صحيحا ويكون ذلك قبضا إذا أذن له الراهن في قبض عين
الرهن » وزاد في الثاني « وإذا لم يأذن له لم يكن على كونه قبضا دليل » كما أنه
حكى عن الأول في مسألة ما إذا أذن له وجن تم القبض وصح ، وقد قيل : أنه لا يصح إلا
بعد أن يأتي عليه زمان يمكن قبضه فيه.
والجميع كما ترى
ليس فيه اشتراط مضى الزمان المعروف نقله عن الشافعي وإنما اقتصر على الإذن خاصة ،
من غير فرق بين المغصوب وغيره ، ولعله لتحقق القبض المعتبر بها ، إذ الاستدامة
كالابتداء ولا يجدي القبض الأول اما في المغصوب فواضح ، وأما في غيره فلأنه ليس قبض
رهانة وان كنا لم نشترط تعقب القبض للرهانة وهو جيد ، بناء على اعتبار القبض في
مثل الفرض لعدم تيقن حصول الشرط بغير ذلك.
نعم فيه ما ذكرنا
سابقا من عدم الدليل على اشتراطه في هذا الحال. فيلزم بدونه
على تقدير الشرطية
، وإلا فعلى المختار من عدم الشرطية أصلا فلا بحث في اللزوم ، وسقوط هذا الكلام من
أصله والله أعلم.
ومنها : أنه لو
رهن ما هو غائب عن مجلس العقد منقولا كان أو غيره غيبة لا يصدق معها القبض لو خلى
بينه وبينه فيما يكفى فيه ذلك لو لا الغيبة لم يصر رهنا صحيحا ، بناء على الاعتبار
في الصحة ، أو لازما على اعتباره في اللزوم حتى يحضر المرتهن أو القائم مقامه عند
الرهن ، ويقبضه بما يصدق معه من تخلية ، أو نقل بلا خلاف أجده فيه ، بل في جامع
المقاصد ، نسبته إلى نص الأصحاب وغيرهم ، لعدم حصول الشرط بدون ذلك ، ولا يكفي
الإذن مع مضي زمان يمكن فيه القبض وإن كان المرهون غير منقول ، لمنع حصول التخلية
بذلك ، فضلا عن حصولها بالاذن خاصة.
نعم قد يقال : لا
حاجة إلى الإذن فضلا عن مضي الزمان لو كان المرهون مقبوضا للمرتهن سابقا وإن كان
غائبا عنه حال العقد استصحابا لحكم القبض السابق. مع احتمال العدم أيضا كما عن أحد
وجهي الشافعية حتى مع مضي الزمان ، بل لا بد من الحضور فعلا ، بل عن أحد الوجهين
عنهم أيضا أنه لا بد من النقل فعلا للمنقول مثلا وإن كان فيه ما لا يخفى.
ولعل ذلك لا ينافي
ما تقدم سابقا المفروض فيه وقوع الرهن على المقبوض عنده لكن بهذا النوع من القبض ،
لا أنه رهنها وهو أى الغاصب ونحوه غائب عنها ، إلا أن استدلال بعضهم هناك باستصحاب
حكم القبض ينافي ذلك ، وحينئذ فيكون كلامهم شاهدا لما فلنا أولا الذي الحيلة بناء
عليه في رهن الغائب إذا لم يكن مقبوضا للمرتهن ، وكان مقبوضا للراهن بأن يوكله في
القبض عنه ، فيجعل استدامة قبضه للرهن ، فيصح حينئذ ، اللهم إن أن يمنع صحة
الوكالة فيما هو في حكم القبض ، ولا يخفى عليك سقوط هذا البحث من أصله على
المختار.
وكيف كان ف لو أقر
الراهن بالإقباض قضي به عليه لعموم
__________________
« إقرار العقلاء على
أنفسهم جائز » لكن إذا لم يعلم كذبه فإنه لا عبرة بإقراره قطعا ، فلا يشمله الجواز
المزبور ولو رجع عن إقراره السابق لم يقبل رجوعه كما في كل إنكار بعد إقرار ، وإلا
لم يكن الإقرار جائزا عليه على كل حال ، كما هو مقتضى الخبر السابق ، وما عن
المبسوط ـ من أنه قوى القبول في آخر كلامه ، لجريان العادة بوقوع الشهادة في
الوثائق قبل تحقق ما فيها ، بل استقر به في التذكرة ـ واضح الضعف ، بل كأنه اجتهاد
في مقابلة النص ومخالف لأصالة الصحة في قول المسلم وفعله.
نعم قد تسمع دعواه
لو ادعى المواطاة على الإقرار والاشهاد عليه إقامة لرسم الوثيقة ، حذرا من تعذر
ذلك إذا تأخر إلى أن يتحقق القبض ويتوجه له اليمين حينئذ على المرتهن كما صرح به
جماعة ، لجريان العادة بذلك ولعموم « البينة على
المدعي واليمين على من أنكر » واختاره المصنف بقوله على الأشبه مشعرا بوقوع الخلاف
فيه ، بل صرح به في شرح الترددات ، وان لم يحضرني الآن نسخته ، إلا أنه لا يخلو من
وجه ، لتكذيب دعواه بظاهر إقراره السابق.
وكذا لو ادعى
الغلط في إقراره وأظهر تأويلا ممكنا ، كأن قال : اني أقبضته بالقول : فظننت
الاكتفاء به حيث يمكن في حقه توهم ذلك ، أو قال : استندت فيه إلى ما كتبه وكيلي ،
فظهر مزورا ونحو ذلك ، وإن صرح بالسماع فيه في التذكرة ، والدروس ، والمسالك ،
والروضة ، ومحكي المبسوط ، ولعله لأنه لم يكذب إقراره في الحقيقة ، فيشمله العموم
المزبور الذي يعارضه عموم الإقرار من وجه فيرجح عليه بفتوى من عرفت ، ولا دليل على
عدم قبول الدعوى المكذبة والبينة كذلك على كل حال بحيث يشمل المقام الذي قد عرفت
فتوى لجملة من الأساطين بالسماع فيه ، بل ربما نقل أن الأشبه سماع التأويل الممكن
وإن كان الإقرار في مجلس الحكم لكن في
__________________
التذكرة نظر فيه
ولم يرجح بل كأنه مال إلى عدم السماع ، وقد تقدم في أول بيع الحيوان ماله نفع في
المقام فلاحظ وتأمل.
هذا كله إذا شهد
الشاهدان بإقراره أو اعترف هو به ، أما لو شهدا بنفس الإقباض ومشاهدته لم تسمع
دعواه ، ولم يتوجه له اليمين ، بل في التذكرة « وكذا لو شهدا على إقراره بالإقباض
بعد إنكاره الإقرار » فتأمل.
ثم إنه لا يخفى
عليك تصوير المسألة بالنسبة إلى المرتهن ، وفيما إذا كانت العين في يد الراهن أو
المرتهن أو ثالث موجودة أو تالفة ، بأن قال : تواطأنا على الإقرار ، ثم أخذه من
دون إذن فتلف ، كما أنه لا يخفى عليك جريانها على القول باعتبار القبض في الصحة
واللزوم وعدمه والله أعلم.
وكيف كان فعلى
الشرطية وعدمها لا يجوز تسليم المتاع الا برضا شريكه ، سواء كان مما ينقل أو لا
ينقل ، على الأشبه وفاقا لصريح التحرير ، والدروس ، وظاهر القواعد ، واللمعة ،
لاستلزامه التصرف في مال الغير بغير إذنه ، والمانع الشرعي كالمانع العقلي خلافا
للمحكي عن المبسوط فيما قبضه التخلية ، لعدم اقتضائها التصرف ، واستجوده في
المسالك وغيرها.
لكن قد يناقش بمنع
تحقق التخلية التي يصدق القبض معها بدونه ، ضرورة أنه سلطنة عرفية زائدة على
السلطنة الشرعية المتحققة بالعقد في نحو البيع ، وكونه كالمالك لا يحقق القبض ، إذ
يمكن منعه بالنسبة إليه أيضا لتوقف دخوله ونحوه من التصرفات على إذن الشريك ، فليس
مقبوضا له ، والتخلية التي يتحقق معها القبض :هي ما يحصل بها السلطنة على القبض
الفعلي ، بحيث لو أراده لأوقعه ، فمع فرض المانع عنه كما في المقام ولو شرعيا لم
تحصل السلطنة المزبورة.
وعلى كل حال فلو
سلمه إياه عدوانا ففي القواعد « في الاكتفاء به ـ أي على الشرطية نظر » ـ أقربه
ذلك ، للقبض وإن تعدى في غير الرهن ، ووافقه عليه ولده كما قيل ، وثاني المحققين ،
والشهيدين وغيرهم ، لأن النهي انما هو لحق الشريك خاصة ، إذ الفرض حصول الاذن من
قبل الراهن الذي هو المعتبر شرعا ، وكونه قبضا
واحدا لا ينافي
الحكم بالوقوع ، لاختلاف الجهة وقد يشكل بمنافاته لما حكى من كلامهم في باب الهبة
من التصريح بعدم الاكتفاء ، للنهي المانع ، كما لو وقع بدون إذن الراهن ، وقد تقدم
التحقيق في باب القبض.
ولو وكل المرتهن
الشريك على القبض ، وقد أذن له الراهن جاز بلا خلاف ولا إشكال ، بل في جامع
المقاصد قوة الاكتفاء باذن الراهن للشريك والمرتهن في القبض من دون أن يأذن
للمرتهن في توكيل الشريك ، بل جزم به في المسالك.
نعم لو شرط عليه
القبض بنفسه لم يكف ، ولو أذن الراهن للمرتهن في القبض فنازعه الشريك نصب الحاكم
عدلا يكون في يده لهما ، فيكون قبضا عن المرتهن ، كما أنه لو تنازعا في الاستدامة
وكان مما يؤجر ولم يتهايئا ، جعله الحاكم على يد عدل يؤجره ويقسم الأجرة على
الشريكين ، وفي الدروس ويتعلق الرهن بحصة الراهن من الأجرة وليكن مدة الإجارة لا
تزيد عن أجل الحق ، فلو زاد بطل الزائد وتخير المستأجر الجاهل ، إلا أن يجيز
المرتهن ويأتي تمام الكلام في ذلك إنشاء الله والله أعلم.
الفصل
الثاني في : شرائط الرهن
اي المرهون صحة أو
لزوما وقد ذكر المصنف بعضا منها فقال ومن شرائطه :أن يكون عينا مملوكا يمكن قبضه
ويصح بيعه ، سواء كان مشاعا أو منفردا وتفصيل البحث فيها أنه لا خلاف أجده في
الأول منها ، بل ربما استشعر من عبارتي الغنية والسرائر ذلك أيضا ، سوى ما تسمعه
من الخلاف في خدمة المدبر ، وهو الذي حكاه في المختلف ، وإلا ـ فلم نجد خلافا في
غيرها لأحد من العامة فضلا عن الخاصة.
وعلى كل حال فلو
رهن دينا ، لم ينعقد الرهن على المشهور نقلا وتحصيلا بل ربما استشعر من عبارتي
السرائر ، والغنية ، الإجماع عليه ، وهو الحجة إن تم أو دعوى ظهور الأدلة ولو
بمعونة الشهرة في اعتبار العينية بهذا المعنى في صحة عقده أو مفهومه ، بل لعل الشك
في الأخير كاف ، ـ لا لأن القبض معتبر في الرهن ،
وهو غير ممكن في
الدين الذي هو أمر كلي لا وجود له في الخارج يمكن قبضه ؛ وما يدفعه المديون ليس
عين الدين ، بل هو أحد أفراده ، فإن فساده واضح.
أما أولا :
فلاقتضائه الصحة ممن لم يقل بالشرطية ، مع أنه صرح بالمنع في السرائر ، والقواعد ،
وغيرهما ممن لا يقول بالشرطية.
وثانيا : لا يتم
على تقدير اشتراطه في اللزوم ، فإن أقصاه عدم اللزوم ، لا الصحة ، مع أنه صرح في
الغنية بالمنع مع أنه ممن يقول بكونه شرطا للزوم دون الصحة.
وثالثا : معلومية
عدم الفرق بين قبض الدين في البيع في الصرف فيه وغيره ، والهبة وغيرها ، وبين
الرهن ، ولا ريب في صحة قبضه بتعيين المديون ، وصدق قبض الدين على ذلك المدفوع ،
وإن كان هو أحد الأفراد التي يوجد فيها الكلي.
ورابعا : أنه لا
يتم لو كان الدين المرهون على المرتهن ، لكونه مقبوضا له ، ولذلك صح التصارف بما
في الذمم ، وكان ذلك تقابضا منهما قبل التفرق ، ولا لان الرهن ليس إلا من حيث عدم
الوثوق باستيفاء ما في الذمة ، فكيف يستوثق في استيفائه بمثله ، إذ فيه مع كونه
غير تام فيما لو قبضه وأبقاه رهنا عنده ، بل وغير تام فيما لو كان الدين على
المرتهن ، إذ من الواضح اختلاف الناس في سهولة القضاء وعسره ، فكم من ديون متعينة
الحصول يصلح الاستيثاق بها دون غيرها مما يئس من تحصيلها كما لا يخفى.
بل ولا لما في
الرياض صريحا وغيره ظاهرا من الشك في حصول الذي هو شرط في الرهن بذلك ، بدعوى ظهور
النصوص في كون المقبوض الرهن نفسه الذي جرى عليه العقد ، لافرده ، وصدق القبض عرفا
لا يستلزم تحقق القبض المتبادر من الأدلة هنا ، بل هو قبض لا يتناول ما عليه في
الذمة.
بل قد يمنع صدق
القبض عليه عرفا مع بقائه على ملك الديان ، وإن أجرينا عليه حكم المقبوض لو انتقل
إلى المديون نفسه ، فالأصول حينئذ بحالها بعد صرف الإطلاقات إلى ما عرفت من القبض
، بل عموم الوفاء بالعقود منصرف إلى إطلاق النصوص في الرهون ، فإنه بملاحظتها
والنظر فيما ورد في بعضها ـ مما هو كالتعليل
لشرعية الرهن بأنه
للوثوق الغير الحاصل في أغلب أفراد المفروض ـ يحصل الظن القوي بل المتاخم للعلم
بأن عقد الرهن لا يصح إلا فيما يمكن قبضه بنفسه قبضا حسيا ، فينزل عموم الوفاء على
ذلك ، إذ هو الصحيح لا غيره كما ستسمع ذلك في نظائر المقام مما لا يمكن قبضه وبيعه
كالحر وشبهه.
ومن ذلك تعرف عدم
بناء المنع في رهن الدين على شرطية القبض ، وإن حكم به الفاضل في التذكرة ، ضرورة
كون الحاصل منه اشتراط كون الرهن مما يقبض قبضا حسيا ، سواء قلنا باشتراط القبض في
الصحة أو اللزوم أو لم نقل ، كما أن منه يعلم دفع العجب عن العلامة في القواعد ،
حيث حكم بعدم صحة رهن الدين مع قوله بعدم الاشتراط ، كالحلي في السرائر ، وتصريحه
بالبناء في التذكرة لا يقضي بكونه كذلك في القواعد ، إذ ذلك كله بعد ما عرفت دعوى
بل دعاوي خالية عن الشواهد ، بل هي بخلافها متحققة ، ضرورة عدم الفرق بين قبض
الرهن وغيره ، خصوصا بعد رهن المشاع الذي هو راجع إلى الكلية أيضا ، بل ورهن الكلي
الخارجي ولو بوصية ونحوها قبل قبضه ، كضرورة حصول الوثوق برهنه بالطريق الذي
ذكرناه.
فلا ريب في كون
المتجه الصحة ، كما احتمله في الدروس بناء على اشتراط القبض في الصحة ، فضلا عن
اللزوم ، وفضلا عن المختار من عدم الشرطية أصلا بل كون الرهن مما يقبض لو سلمنا
اشتراطه متحقق ، كما عرفت ، ولعله لذا احتمل في الدروس ، والروضة الصحة كهبة ما في
الذمم ، بل جزم به في المسالك والمحكي عن مجمع البرهان.
نعم قد يحتمل كون
المراد من الدين في كلام المصنف وغيره خصوص المؤجل منه الذي لا يستحق الديان قبضه
، فإنه قد يتجه المنع فيه ، بناء على شرطية استحقاق القبض فعلا ، لعدم التمكن من
الإقباض ، والانتظار الى حلول الأجل لا يجدي في حصول شرط صحة الرهن ، وهو المنفي ،
لا ذاك ولا ما إذا رضي المديون بتعجيل الحق ونحو ذلك مما يتصور فيه الصحة.
لكن قد عرفت انه
لا دليل على الشرطية المزبورة على وجه لا يكفى فيها استحقاق القبض المتأخر عند
حلول الأجل ، فالعمدة حينئذ ما سمعته من الإجماع ، وان كان دون
تحصيله خرط القتاد
ـ ودعوى ظهور النصوص ـ ولو بمعونة فتوى المشهور ـ في اعتبار كون الرهن عينا لا
دينا في صحته ، أو مفهومه ، على نحو اعتبار العين والمنفعة مثلا في البيع ،
والإجارة ، ولا ينافيه إطلاق الشرطية في كلامهم بعد تعارف إطلاقها عندهم على
المقوم ، بل يكفي الشك في الأخير ولو للشهرة وغيرها لعدم إطلاق يحتج به حينئذ
للنفي والأصل الفساد.
وكذا الكلام لو
أرهنه منفعة كسكنى الدار وخدمة العبد غير المدبر الذي لا أجد فيه خلافا ، بل في
المسالك أنه موضع وفاق ، بل قيل : إنه قد يظهر من جماعة ، ولعله الحجة وإن علل مع
ذلك بأن الدين إن كان مؤجلا فالمنافع تتلف إلى حلول الأجل فلا تحصل فائدة الرهن ،
وإن كان حالا فيقدر ما يتأخر قضاء الدين بتلف جزء من المرهون ، فلا يحصل الاستيثاق
، ولأن المنافع لا يصح إقباضها إلا بإتلافها ، فكان عدم الصحة متجها على القول
باشتراط الإقباض ، وبدونه ، بل في المسالك « ان الأمر على ما اختاره المصنف من الاشتراط
واضح » وتبعه في الرياض.
لكن تأمل فيه في
حاشيته على الروضة ، فقال : « إن استيفاء الدين من عين الرهن ليس بشرط ، بل منه أو
عوضه ، ولو ببيعه قبل الاستيفاء ، كما لو رهن ما يتسارع إليه الفساد قبله ،
والمنفعة يمكن جواز ذلك فيها ، بأن يؤجر العين ويجعل الأجرة رهنا ، وقريب منه
القبض لإمكانه بتسليم العين ليستوفي منها المنفعة ، ويكون عوضها رهنا ، إلا أن
يقال : إن ذلك خروج عن المتنازع ، إذ رهن الأجرة جائز ، إنما الكلام في المنفعة
نفسها ، والفرق بينها وبين ما يتسارع إليه الفساد ، إمكان رهنه ، والمانع عارض ».
وفيه أنه ليس
خروجا بعد أن كان مورد العقد المنفعة ، لا الأجرة التي لا كلام في جواز رهنها ،
والفرق بعروض المانع غير مجد ، فالعمدة حينئذ الإجماع المؤيد بدعوى ظهور النصوص في
كون الرهن عينا لا منفعة ، ولو على الوجه الذي سمعته سابقا ، وإلا كان المتجه
الجواز وإن قلنا بالاشتراط ضرورة اجراء الشارع قبض الأعيان ذوات المنافع مجرى قبض
المنافع في الإجارة وغيرها.
ودعوى ـ اختصاص
ذلك بالإجارة لمكان الحاجة إلى المنافع ، والا فقبض العين ليس قبضا تاما في
الإجارة ، بخلاف رهن المنافع ، فإنه لا حاجة تمس إليها ـ واضحة المنع وعدم تمامية
القبض لا ينافي إجراؤه مجراه ، فلا ريب حينئذ في أن العمدة ما قلناه ، كما يومي
إليه التصريح بالمنع من القائلين بالشرطية وعدمها ، وتلف بعض المنافع إلى حلول
الأجل أو إلى الاستيفاء غير قادح ، بعد أن كان الاستيثاق في المجموع الذي هو كاف
في صحة الرهن ، سيما مع التصريح بذلك ، فلا دليل حينئذ إلا ما عرفت في دعوى
الإجماع هنا أقرب منها في الأول والله أعلم بحقيقة الحال.
نعم لهم كلام في
خصوص رهن خدمة المدبر ستسمعه إنشاء الله ولكن قبل الكلام في ذلك ينبغي أن يعلم أن
في رهن المدبر نفسه تردد أو خلاف ، والوجه عند المصنف وغيره من المتأخرين بل في
المسالك نسبته إلى الأكثر أن رهن رقبته إبطال لتدبيره كبيعه وهبته ونحوهما من
العقود التي يكون الغرض منها ملك من انتقل إليه ، أو استيفاء الدين من قيمته ، إذ
لا يتم ذلك إلا بالرجوع في التدبير الذي هو من العقود الجائزة ، كغيره ، من الوصية
، فيكون حينئذ قصد شيء منها كافيا في الرجوع ، للتنافي بينه وبين القصد السابق
للتدبير ، خلافا للمحكي عن الشيخ من الصحة ، لأن الرهن لا يستلزم نقله عن ملك
الراهن ، ويجوز فكه ، فلا يتحقق التنافي بين الرهن والتدبير بمجرد الرهن ، بل
بالتصرف فيه.
لكن الموجود في
المحكي عن مبسوطة كالذي في السرائر إذا دبر عبده ورهنه بطل التدبير ، لأن التدبير
وصية ، ورهنه رجوع فيها ، وإن قلنا إن الرهن صحيح والتدبير بحاله كان قويا ، لانه
لا دليل على بطلانه.
نعم زاد « فعلى
هذا إذا حل الأجل في الدين وقضاه المدين من غير الرهن كان جائزا ، وإن باعه كان له
ذلك ، وعن خلافه إذا دبر عبده ثم رهنه بطل التدبير ، وصح الرهن ، إن قصد بذلك فسخ
التدبير ، وإن لم يقصد بذلك الفسخ لم يصح الرهن ، واستدل بعدم الخلاف والإجماع على
أن التدبير بمنزلة الوصية ، والوصية له الرجوع فيها ، فكذا التدبير ، فأما إذا لم
يقصد الرجوع فلا دلالة على بطلانه ـ إلى
أن قال ـ : وإن
قلنا : إن الرهن صحيح والتدبير بحاله كان قويا » وهما معا كما ترى ، لا تصريح
فيهما بذلك ، بل ظاهرهما عدم القول به.
نعم يحكى عن
الأردبيلي التصريح به مدعيا عدم المنافاة بينهما ، وكأنه توقف فيه في المسالك :
وفي تدبير التحرير « الأقوى أن رهن المدبر ليس إبطالا له ، وعتق بعد الموت ، ويؤخذ
من التركة قيمته تكون رهنا ».
وعن الكفاية « أن
في المسألة أقوالا ثلاثة ـ القول بصحة الرهن ، وأن رهن رقبته إبطال لتدبيره ، ـ والقول
بعدم الصحة ، والقول بأن التدبير مراعى بفكه فيستقر ، أو يأخذه في الدين فيبطل ».
وأنكر عليه في
الحدائق وغيرها ، القول الثاني : وفي التذكرة يصح رهن المدبر عند علمائنا ، لكن
لعله فهمه من عبارة الخلاف السابقة المقيد ذلك بعدم قصد الفسخ أو أخذه من الدروس ،
فإنه حكاه عن النهاية قال ، « ورهن المدبر إبطال لتدبيره عند الفاضلين ، وعلى
القول بجواز بيع الخدمة يصح في خدمته » وفي النهاية « يبطل رهن المدبر » وفي
المبسوط والخلاف « يصح ويبطل تدبيره » ثم قوى صحتهما فإن بيع بطل التدبير ، وإلا
فهو بحاله ، وتبعه ابن إدريس وهو حسن.
وكيف كان
فالاحتمالات ـ التي بعضها أقوال ـ ستة ، أو سبعة ، وإن أمكن في بعضها إرجاعه إلى
آخر أحدها : صحة الرهن وإبطال التدبير ، ثانيها : الصحة ومراعاة التدبير ، ثالثها
: ما سمعته من التحرير ، رابعها : ما سمعته من الخلاف ، خامسها صحتهما معا على أن
يكون رهنا إلى موت السيد فينعتق ، وتبطل الرهنية ، فيكون كرهن المال الذي فيه
الخيار لغير الراهن ، وكرهن العبد المشروط حريته بناء على صحته ، أو المنذور كذلك
في مدة مخصوصة ، أو العبد الجاني عمدا أو خطأ ، والمرتد عن فطرة ، والمريض المأيوس
منه ، وكبيع المدبر على رأى المفيد ، القائل بأنه إذا مات سيده تحرر ، وليس للمشترى
عليه سبيل ، ولعل هذا هو الذي قواه في السرائر ، بل لعله المحكي عن الأردبيلي.
سادسها ـ ما حكاه
في الكفاية من عدم صحة الرهن ، سابعها : عدم الصحة إذا
كان المقصود رهنه
بحيث يستوفى منه الدين ، مع قصد عدم الرجوع بالتدبير ، أما إذا كان مقصوده رهنا
باقيا على صفة التدبير فيصحان معا ، والإطلاق منصرف إلى الثاني.
ولعل الأقوى الأول
إذا كان التدبير مما يجوز له الرجوع فيه ، لإطلاق أدلة الرهن ، واجتماع الشرائط
حال العقد ، ولأن الرهن للتوثق الذي ينافيه ذلك ، فإن لم يكن كذلك بأن كان واجبا
عليه بنذر ونحوه فليس حينئذ إلا الخامس أو السادس ، وكأن الأول منهما لا يخلو من
قوة ، خصوصا إذا قلنا بجواز بيعه منزلا على الخدمة أولا إلى موت السيد الذي ربما
يرجع إليه ما سمعته من المفيد ، بل هو الذي يقضى به التدبير في كلام الدروس أولا.
وقد تلخص من ذلك
أنه حيث يكون التدبير مما يجوز الرجوع فيه الأقوى الأول ، سواء صرح بكونه يستوفى
منه المال على كل حال إذا لم يؤد الدين ، أو أطلق ، أما صحة الرهن فلوجود المقتضى
وارتفاع المانع ، وأما بطلان التدبير فللمنافاة وإلا لصح تدبيره وهو رهن.
وكون التدبير عتقا
بصفة ، فينبغي بطلان الرهن لا بطلانه ، ليس من مذهبنا ، للإجماع على جواز الرجوع
به كالوصية ، ولا يحتاج إلى سبق فسخ التدبير ، بل ولا إلى قصده على أقوى الوجهين ،
أو القولين ، كما تعرفه إن شاء الله في محله ، وتقدم له نظائر في الخيار وغيره ،
ويأتي في الوصايا وغيرها ، فهو حينئذ كبيعه وهبته ونحوهما بل كبيع المال الموصى به
لشخص أو هبته أو رهنه مما يحصل به الرجوع قهرا لا قصدا.
نعم لو صرح بكونه
رهنا باقيا على تدبيره جاء فيه الوجهان السابقان اللذان قد تقدم قوة أولهما ، وأنه
يكون كرهن الجاني والمنذور عتقه ، والمريض المأيوس من برئه هذا كله مع إرادة رهن
رقبته.
أما لو صرح برهن
خدمته ، مع بقاء التدبير ففي المتن قيل : يصح ، التفاتا إلى الرواية المتضمنة
لجواز بيع خدمته ، وقيل لا ، لتعذر بيع المنفعة منفردة وهو أشبه لكن لم نعرف
القائل بالأول ، وإن حكاه غيره أيضا. نعم ربما نسب
إلى الشيخ في
النهاية ، إلا أني لم أجده فيها ، لا في الرهن ولا في التدبير ، ولكن قال : « لا
يجوز بيعه قبل نقض تدبيره ، إلا أن يعلم المشتري أن البيع للخدمة ، وأنه متى مات
هو كان حرا لا سبيل له عليه ».
وفي الدروس «
وتبعه على ذلك جماعة » فيمكن أن يكون وجه النسبة إليه القاعدة التي ذكرها غير واحد
، وهي ـ كل ما جاز بيعه جاز رهنه ـ إلا أن ذلك يقتضي القول به لغيره أيضا ، ولعله
لذا قال في الدروس : « ولا يجوز رهن المنفعة لعدم إمكان بيعها ، ولأن المنافع لا
بقاء لها ، فلا ينتفع بها المرتهن إلا خدمة المدبر ، وفاقا لجماعة وقد سلف » والذي
سلف له في كتاب التدبير جواز البيع ، قال : « وصريح الرجوع رجعت في تدبيره ، أو
نقضت ، أو أبطلت وشبهه ، دون إنكار التدبير ، أما لو باعه أو وهبه ولما ينقض
التدبير ، فأكثر القدماء على أنه لا ينقض التدبير ، فقال الحسن : « يبيع خدمته ،
أو يشترط عتقه على المشتري ، فيكون الولاء له » وقال الصدوق : « لا يصح بيعه إلا
أن يشترط على المشتري إعتاقه عند موته ». وقال ابن الجنيد : « تباع خدمته مدة حياة
السيد ». وقال المفيد : « إذا باعه ومات تحرر ولا سبيل للمشترى عليه ». وقال الشيخ
في النهاية : « لا يجوز بيعه قبل نقض تدبيره ، إلا أن يعلم المشتري بأن البيع
للخدمة ». وتبعه جماعه والحليون إلا الشيخ يحيى ، على بطلان التدبير بمجرد البيع ،
وحمل ابن إدريس بيع الخدمة على الصلح مدة حياته ، والفاضل على الإجارة مدة فمدة
حتى يموت ، وقطع المحقق ببطلان بيع الخدمة ، لأنها منفعة مجهولة ، والروايات مصرحة
بها ، وأن رسول الله 6 باع خدمة المدبر ، ولم يبع رقبة ، وعورضت برواية محمد بن
مسلم ، « هو مملوكه ، إن شاء باعه ، وإن شاء أعتقه » وأجيب بجعل البيع على الرجوع
قبله ، توقيفا ، والجهالة في الخدمة غير قادحة ، لجواز استثناء هذا ، على أن
المقصود في البيع في جميع الأعيان هو الانتفاع ولا تقدير لأمده ، فالعمل على
المشهور ، وتخريجه ـ علي تناول البيع الرقبة ، ويكون
__________________
كمشروط العتق ـ باطل
بتصريح الخبر ، والفتوى بتناول الخدمة دون الرقبة ».
قلت : قد يظهر من
المفيد خلافه ، بل يمكن تنزيل بعض عبارات غيره عليه ، على أن يكون إطلاقهم بيع
الخدمة منزلا على أنه لا ثمرة معتدا بها لهذا البيع إلا الخدمة ، بل يمكن تنزيل
الروايات على ذلك ، محافظة على قاعدة عدم وقوع البيع على المنافع ، واحتمال
تخصيصها بذلك موقوف على قابليتها ، إذ هي
خبر السكوني عن جعفر عن أبيه
عن علي : قال : « باع رسول الله 6 خدمة المدبر ولم يبع رقبة ».
وخبر أبي مريم « سئل أبو عبد
الله 7 عن الرجل يعتق جارية عن دبر أيطأها إنشاء أو ينكحها أو يبيع خدمتها مدة حيوته؟
فقال : نعم أي ذلك شاء فعل ».
وخبر على « سألت أبا عبد
الله 7 عن رجل أعتق جارية له عن دبر في حياته قال : إن أراد بيعها باع خدمتها في
حياته فإذا مات أعتقت الجارية ، وإن ولدت أولادا فهم بمنزلتها ».
وخبر أبى بصير « سألت أبا عبد
الله 7 عن العبد والأمة يعتقان عن دبر فقال : لمولاه أن يكاتبه إن شاء ، وليس له أن
يبيعه إلا أن يشاء العبد أن يبيعه قدر حياته ، وله أن يأخذ ماله إن كان له مال ».
والجميع لا صراحة
فيها ، بل هي قابلة للتنزيل على ما ذكرنا ، بل خبر أبى بصير منها كالصريح فيه ،
وإن كان لا قائل بما فيه من اشتراط مشيئة العبد ، بل نوقش في أسانيدها جميعا
بالسكوني ، وأبان ، والقاسم بن محمد ، واشتراك أبي بصير. وإن كان يدفعها عمل من
عرفت بها ، وسكون الأصحاب الى اخبار السكوني ، وعدم قدح اشتراك أبي بصير بعد عدالة
الجميع ، كما حرر في محله ، بل لعل رواية عاصم عنه هنا يعين أنه « ليث » ، مضافا
إلى رواية الجميع في التهذيب والاستبصار ؛ بل خبر أبي مريم
__________________
وأبي بصير منها قد
رواه في الفقيه أيضا ، بل الأول منهما قد أرسله الصدوق في الهداية أيضا.
ومن الغريب ما في
الحدائق في المقام من أني لم أقف بعد التتبع على رواية جواز بيع الخدمة ، والموجود
في كلام جملة منهم إنما هو بهذا العنوان من غير نقل مضمونها ومنه يظهر قوة القول
بالعدم ، لما عرفت فيما تقدم من تعليل عدم صحة بيع المنفعة ، مع عدم وجود ما
يعارضه ويوجب الخروج عنه ، والرواية المذكورة غير معلومة ، لعلها من روايات
العامة.
وأغرب منه ما في
مفتاح الكرامة حيث رده بأن هذه الرواية قد اعترف بها المحقق والعلامة وغيرهما ، بل
قال الشهيد : والروايات مصرحة بها ، فكان هناك روايات وليس ما يحكونه إلا كما
يروونه ، وقد روى في الهداية عن الصادق 7 إلى آخر خبر أبى مريم ، ثم قال فلا تصغ إلى ما في الحدائق
من احتمال كونها من روايات العامة ، حيث لم يقف عليها بعد التتبع ، إذ هما معا كما
ترى.
وكيف كان فبناء
على أن ما جاز بيعه جاز رهنه ، لا مناص عن العمل بها ، إن لم يكن المراد منها ما
ذكرنا ، المؤيد بموافقة بيعه مدبرا للضوابط في الجملة ، ضرورة عدم خروجه بالتدبير
عن الملك المقتضى لجواز سائر التصرفات ، وهذا الذي يعبر عنه ببيع الخدمة ، ويمكن
تنزيل تلك العبارات أو أكثرها عليه ، ويبقى قاعدة عدم جواز بيع المنافع على حالها
الذي لم يخصصها أحد منهم في كتاب البيع وغيره والله أعلم.
وأما الثاني : وهو
اعتبار الملك فلا أجد خلافا في اشتراط كونه مما يملك ، فلا يصح رهن غير المملوك
كالحشرات والخمر والخنزير للمسلم ، كما ستعرف ، لعدم إمكان استيفاء الدين منه ،
كما أنه لا أجد خلافا في اشتراط كونه مملوكا للراهن أو مأذونا فيه ، لعدم التمكن
من استيفاء الدين منه بدون ذلك.
وحينئذ ف لو رهن
ما لا يملك لم يمض ووقف على اجازة المالك لأن الظاهر جريان الفضولي فيه ، بناء على
موافقته للضوابط ، أو أنه أولى من النكاح الوارد فيه ذلك ، أو لأنه ثابت في البيع
ولم يفرق أحد فيه وبين غيره من العقود
فتوقف بعض متأخري
المتأخرين فيه هنا ـ وإن قلنا به في البيع ـ في غير محله.
واحتمال ـ أنه على
غير قياس الفضولي ، لأنه ليس رهنا على دين المالك له بغير إذنه ـ واضح الضعف ،
ضرورة عدم الفرق بينهما بعد فرض تأثير الأذن السابقة فيهما معا ، فليس إلا تأخيرها
وهو غير قادح فيهما معا ، فهو إن لم يكن على قياس الفضولي فحكمه حكمه بلا خلاف
أجده بين من تعرض له ، فلا ينبغي التوقف في القسمين معا.
بل لا يبعد صحة
رهن التبرع كالوفاء والضمان ، فلو رهن مال نفسه على دين رجل آخر من غير إذنه بل مع
نهيه صح ، كما نص عليه في التذكرة ، لإطلاق الأدلة.
نعم يتوقف على إذن
المديون لو رهنه عنه بعنوان الوكالة مثلا ، ولو رهنه متبرعا في أصل الرهنية ، لكن
قصده مع ذلك الرجوع على المديون لو بيع بالدين فإن أجاز الديان ذلك احتمل الإلزام
به ، وإلا كان رهنا ولا رجوع له عليه ، ولعل مثله يجري في وفاء الدين.
وكذا في التوقف
على الإجازة لو رهن ما يملك وما لا يملك في عقد واحد لكن إذا فعل ذلك مضى في ملكه
، ووقف في حصة شريكه إن كان مشتركا بينهما على إجازته وكذا إذا لم يكن مشتركا ،
والإشكال في تبعض الصفقة هنا كالبيع واضح الدفع ، كما حرر في محله ، كالإشكال في
أصل رهن المشاع من أبى حنيفة محتجا بعدم إمكان قبضه وهو خطأ محض ، وبأنه قد يصير
جميع ما رهن بعضه في حصته الشريك ، وهو ـ مع أنه أخص من الدعوى ، إذ لا يجري إلا
في رهن الحصة المشاعة من بعض معين في الدار المشتركة مثلا ـ يمكن أن يكون الحكم
فيه بناء على صحة إلزام الراهن بالقيمة لأنه كإتلافه ، ويمكن أن يكون كالتلف من
الله سبحانه فلا يلزم بشيء ، ويحتمل بناء الحكم فيه على الاختيار والإجبار فالأول
كالإتلاف ، والثاني كالتلف ، ولعل القول بالالتزام على كل حال أولى ، لأنه قد حصل
له في ذلك الجانب مثل ما رهنه.
إلا أنه قد يقال
يكون الرهن ما قابله من حصة الراهن لا القيمة ، كما أن الظاهر توقف صحة القسمة على
إذن المرتهن كباقي التصرفات ، لكنه أطلق في الدروس فقال : « لو رهن نصيبه في بيت
معين من جملة دار مشتركة صح ، لأن رهن المشاع عندنا جائز ، فإن استقسم الشريك
وظهرت القرعة له على ذلك البيت ، فهو كإتلاف الراهن يلزمه قيمته ، ولا يلحق بالتلف
من قبل الله تعالى » ونحوه عن التذكرة.
وعلى كل حال فرهن
المشاع لا اشكال فيه عندنا ، بل ولا خلاف ، بل قد عرفت أن ظاهر الدروس الإجماع
عليه ، بل عن صريح الغنية ذلك ، بل في التذكرة يصح رهن المشاع سواء رهن من شريكه ،
أو من غير شريكه ، وسواء كان ذلك مما يقبل القسمة أو لا يقبلها ، وسواء كان الباقي
للراهن أو لغيره ، مثل أن يرهن نصف داره أو نصف عبده ، أو حصة من الدار المشتركة
بينه وبين غيره عند علمائنا أجمع ، فذلك كله مع إطلاق الأدلة الحجة على أبى حنيفة.
نعم يعتبر في
الرهن أصل الملكية كما عرفت وحينئذ ف لو رهن المسلم خمرا أو خنزيرا أو نحوهما مما
لا يملكه المسلم لم يصح بلا خلاف أجده فيه ، ولو كان عند ذمي لعدم ملكية الراهن
لها وعدم سلطنة على بيعها ووفاء دينه منها.
ولو رهنها الذمي
عند المسلم ، لم يصح أيضا ، ولو وضعها على يد ذمي ، على الأشبه الأشهر بل المشهور
شهرة عظيمة ، بل لا خلاف أجده فيه إلا من المحكي عن المبسوط والخلاف في خصوص ما لو
وضعه على يد ذمي ، قال : « إذا استقرض ذمي من مسلم مالا ، ورهن بذلك خمرا يكون على
يد ذمي آخر يبيعها عند محل الحق فباعها وأتى بثمنها جاز له أخذه ، ولا يجبر عليه »
وزاد في الأخير أن له أن يطالب بما لا يكون ثمن محرم ، وقد يقال : بعدم صراحته في
الخلاف ، خصوصا الأخير ، بل مراده جواز أخذ الثمن مما جعله الذمي رهنا عند ذمي آخر
على هذا الدين ، وإن كان رهنا فاسدا.
والتعليل ـ بأن
الحق في وفاء الدين للذمي ، فيصح الرهن كما لو باعها ووفاه
ثمنها ، لأن الرهن
لا يملك للمرتهن ، وإنما يصير محبوسا عن تصرف الوارث ـ لم نجده له ، وكأنه لغيره ،
ذكره له ، ورده بأن يد الذمي الودعي كيد المسلم الذي لا بد من اعتبار تسلطه على
البيع ، والاستيفاء من الرهن ، وهو هنا ممتنع ، وإن كان قد يناقش فيه بمنع كون يده
، يده ، ضرورة عدم لزوم كونه وكيلا عنه ، لعدم اشتراط استدامة القبض.
نعم المانع ما
أشرنا إليه ، من عدم صحة تعلق حق المسلم في الخمر على الوجه المزبور ، وهو معتبر
في المرتهن.
وعلى كل حال
فخلافه غير متحقق ، وعلى تقديره فلا ريب في ضعفه ، لعدم صحة تعلق حق المسلم في
الخمر المنهي عن قربها على وجه يسلط هو أو الحاكم على بيعها والاستيفاء منها ، بل
لعله كذلك فيما لو مات الذمي المديون لمسلم ، أو فلس ولم يكن عنده إلا خمر أو
خنزير ، ولا ينافي ذلك جواز أخذ ثمنها منه لو باعها ، إذ ليس هو تعلق بها ، ولذلك
ليس له جبره على بيعها ، ولا اشتراط ذلك في عقد لازم ، بل ليس له أن يأمره بذلك ،
لكونه محرما على الذمي ، إذ هو مخاطب بالفروع ، وكذا لا ريب في ضعف ما سمعته منه
من جواز الامتناع عن قبض ثمنه ، وفاء مع فرض كونه مثل الحق ، ضرورة عدم الفرق بينه
وبين غيره بعد جواز تناوله منه كما هو واضح.
ولو رهن أرض
الخراج كالمفتوحة عنوة والتي صولح أهلها علي أن تكون ملكا للمسلمين وضرب عليهم
الخراج لم يصح عند المصنف والجماعة ، لأنها لم نتعين لواحد من المسلمين نعم يصح
رهن ما بها من أبنية وآلات وشجر لكونها مملوكة لصاحبها ، بخلافها هي كما أنه يصح
رهنها مع الآثار ، بناء على أنها تملك تبعا لآثار التصرف ، بل لا يبعد حينئذ صحة
رهنها نفسها دون الآثار ، لكونها مملوكة ما دامت الآثار ، كما عساه يظهر من الدروس
، خلافا للمسالك فقال : « وإلا صح جواز رهنها تبعا لآثار التصرف من بناء وشجر
ونحوهما لا منفردة » إلا أن الأمر سهل.
انما الكلام مع
العلامة وغيره ممن جوز بيعها تبعا للآثار ، ومنع من
رهنها كذلك ،
ضرورة أن المتجه له جواز رهنها تبعا للآثار ، لعدم الفرق ، واحتماله ـ باعتبار أن
الآثار قد تزول قبل حلول أجل الدين ، فلا يصح بيع الأرض ، أو باعتبار أن الأخبار
هناك دلت بظاهرها على جواز بيعها مطلقا ، فنزلت على ما إذا تصرف فيها بهما ، ولم
يرد هنا شيء ـ كما ترى ، خصوصا بناء على قاعدة ما جاز بيعه جاز رهنه ، هذا. وقد
قيد جماعة البناء بما إذا لم يكن معمولا من ترابها ، وإلا كان حكمه حكمها ويمكن
دعوى كون السيرة في الآجر والأواني وغيرها على خلاف ذلك.
وأما الثالث : فلا
ريب في اعتباره بناء على اشتراط القبض في الصحة ف لو لو رهن ما لا يصح ولا يمكن
إقباضه كالطير في الهواء غير معتاد العود والسمك في غير المحصور من الماء بحيث
يتعذر قبضه عادة لم يصح رهنه ، بل وعلى عدمه لعدم الاستيثاق بمثل ذلك.
لكن في المسالك «
أنه يمكن القول بالصحة ، لعدم المانع » وتخيل تعذر استيفاء الحق من ثمنه ، لعدم
صحة بيعه ، يندفع بإمكان الصلح عليه ، وكلية ـ ما صح بيعه صح رهنه ، ـ ليست منعكسة
عكسا لغويا وقد تقدم مثله في الدين وهو لا يخلو من وجه ، مع فرض إمكان الاستيفاء
بصلح ونحوه مما لا يكون نادرا ، وإلا لم يخل من نظر ، كما في الرياض ، فإن مجرد
الإمكان مع الندرة غاية غير محصل للمقصود الذاتي بالرهن ، وهو الاستيثاق ومعه لا
يحصل ظن بتناول ما دل على لزو العقود لمثله ، ولعله لذا اشترط الشرطين من لم يشترط
القبض.
وكيف كان فإذا كان
معتاد العود والماء محصورا فالصحة متجهة على التقديرين كما صرح به بعضهم ، وهل
العبرة بإمكان الإقباض عند التسليم؟ أو عند العقد؟ فلو رهن ما لا يمكن إقباضه عند
العقد فاتفق القدرة عليه فأقبضه ، صح على الأول ، وبطل على الثاني.
ولو رهن ممكن
الإقباض عند العقد ، فاتفق تعذره بعده ، صح الرهن إذا تمكن من إقباضه بعد ذلك على
التقديرين ، ولعل الأمر في المقام على حسب ما تقدم في البيع
بالنسبة إلى
اشتراط القدرة على التسليم ، التي هي في المقام أولى بالاعتبار ، بناء على اشتراط
القبض فيه ، وإن كان مقتضى الأصل المستفاد من إطلاق الأدلة عدم شرطية كل ما شك فيه
، فتأمل جيدا فإنه يمكن الفرق بين البيع وبين المقام باعتبار عدم الغرر في الأول ،
دون الثاني ، الذي لا سفه أيضا في إيقاع عقد الرهن عليه مراعى بالقبض ، بخلاف
المعاوضة ، ومن هنا ينقدح الشك في أصل الشرطية إن لم يكن إجماع حتى على القول باعتبار
القبض ، والله العالم.
وكذا لو كان مما
يصح إقباضه ولكن لم يسلمه بناء على اعتباره في الصحة ، ولم يلزم بناء على اعتباره
في اللزوم ، وصح بدون التسليم ، بناء على عدم اعتباره في صحة ، ولا لزوم ، إلا أنه
ينبغي أن يعلم أن المراد من الأول ، بقاء الصحة مراعاة ، إلى أن يحصل ما يقتضي
الفسخ من قول أو فعل ، وإلا فعدم التسليم أعم من ذلك ، ضرورة عدم اشتراط مقارنة
التسليم للعقد كما هو واضح.
وكذا لو رهن عند
الكافر عبدا مسلما أو مصحفا لنفى السبيل في الكتاب العزيز وقيل : والقائل الشيخ في
المحكي عن مبسوطة يصح رهنه ويوضع على يد مسلم ، وهو أولى عند المصنف ، والفاضل
والشهيدين وغيرهم لمنع تحقق السبيل بذلك ، لأنه إذا لم يكن تحت يده لم يستحق
الاستيفاء من قيمته إلا ببيع المالك ، أو من يأمره بذلك ، ومع التعذر يرفع أمره
إلى الحاكم ليبيع ويوفيه ، ومثل هذا لا يعد سبيلا ، لأن مثله يتحقق بالموت
والتفليس ونحوهما.
وفيه : أن ذلك
يقتضي جوازه وإن وضع في يده إذ لا تسليط له ، وإن كان في يده إلا بالطريق المزبور
، والفرض أنه غير سبيل ، ولو سلم وكالته عن الراهن أمكن منع كونها سبيلا للكافر ،
بل هي من سبيل المؤمن كإيداعه ونحوه ، بل يد المسلم هنا نحو يد الذمي التي قالوا
هناك أنها لا تجدي في ارتهان المسلم الخمر ، لكونها يد المرتهن ، فالمتجه بناء
المسألة على صحة تعلق حق الرهانة للكافر في المسلم والمصحف ، وعدمها ، من غير فرق
بين الوضع على يد المسلم وعدمه ، ولعله لذا أطلق
المنع في التذكرة
وغيرها ، بل ربما ادعي أنه معقد محكي الإجماع.
لكن الإنصاف عدم
خلو القول بالصحة مطلقا من قوة ، إن لم يثبت إجماع على خلافها لمنع كونه سبيلا ،
بل هو أسهل من إجارة المسلم نفسه للكافر ، ولا بأس بتعلق حق الكافر بهما كما في
الموت والتفليس ، وبه يفرق بينه وبين تعلق حق المسلم في الخمر ، والخنزير ، إلا
أنه يمكن دعوى تحقق الإجماع مع الوضع في يد الكافر بخلاف الوضع على يد المسلم
والله أعلم.
وأما الرابع : فلا
ريب فيه لعدم التمكن من استيفاء الدين منه بدونه ف لو رهن وقفا لم يصح إذ لا يجوز
بيعه ، وإن كان مملوكا كالموقوف عليه ، وعلى تقدير جوازه على بعض الوجوه يجب أن
يشترى بثمنه ملكا يكون وقفا ، فلا يتجه الاستيفاء منه مطلقا ، وما يبايع للحاجة قد
يتطرق إليه في وقت الاحتياج إلى بيعه عدمها ، فلا يكون مقصود الراهن حاصلا ، ولعله
لذلك أطلق من تعرض له ، لكن قد يمنع منافاة هذا الاحتمال للرهن ، كما في الجاني
والمرتد هذا.
وفي المسالك « لو
قيل بعدم وجوب إقامة بدله أمكن رهنه حيث يجوز بيعه » ونحوه في غيرها أيضا ، وحينئذ
فإطلاق من تعرض هنا ، لعدم جواز ذلك عنده ، أو لعدم وثوق الراهن ، إذ يمكن انتقاله
قبل بيعه إلى غير الراهن بموت ونحوه مثلا ، بناء على قدح مثل هذا الإجمال في الرهن
، وتحرير المسألة قد تقدم في كتاب البيع ونماؤه إنما يكون رهنا تبعا ، لا أن عقد
الرهن يكون عليه قبل تحققه.
وكذا لا يصح رهن
منذور العتق مطلقا أو مقيدا بالتعجيل ، أو بوصف كمجيء وقت ، أو شرط كعافية مريض ،
بناء على عدم جواز بيعه. ومن الغريب أن الفاضل في التذكرة مع اشتراطه في الرهن ذلك
، جوز رهن المعلق على الوقت ، أو الوصف ، ثم قال : « وهل يباع لو حل الدين قبل
الوصف؟ الأولى المنع ، لأنه وان لم يخرج عن ملكه بنذر ، إلا أنه قد تعلق به حق لله
تعالى ، وبيعه مبطل لذلك الحق » ولعله لا يخلو من وجه في الوصف ؛ أي الشرط لأصالة
عدم حصوله ، ولذا خص التردد فيه في
القواعد ، والدروس
ثم قال في الأخير : « وعلى الصحة لو وقع الشرط ، أعتق وخرج عن الرهن ، ولا يجب
اقامة بدله إذا كان المرتهن عالما بحاله ، وإلا فالأقرب الوجوب هنا ».
وفيه : منع كون
ذلك الأقرب ، كما أن الوجه عدم الصحة في أصل المسألة ، لأن ذلك لا يسوغ البيع
للمالك. فلا يجدي الراهن ، بخلاف احتمال قتل العبد بالجناية ونحوها ، فان ذلك لا
يمنع البيع للمالك ، واحتمال صحة البيع لعدم حصول الشرط غير كاف في صحة الرهانة
كما هو واضح ، فتأمل جيدا.
ثم إنه ينبغي أن
يكون المراد من البيع مطلق النقل ولو بالصلح ، فلو اجتمع فيه الشرائط المزبورة إلا
انه لا يصح خصوص بيعه ، وإن صح الصلح عليه صح رهنه ، ضرورة عدم اختصاص البيع بذلك
بعد إمكان الاستيفاء منه ، وحينئذ فلا يجوز رهن كل ما لا يجوز للمالك نقله ، وإن
كان عينا مملوكة له يمكن قبضها ، ومنه المكاتب ولو مشروطا ، لأن الكتابة عقد لازم
لا يمكن استيفاء الدين معها ، واحتمال العجز في المشروط غير مجد ، وأما أم الولد
فتسمع الكلام فيها في آخر المبحث إنشاء الله.
وكيف كان ف يصح
الرهن للمشتري في زمن الخيار ، سواء كان للبائع ، أو للمشتري ، أولهما ، لانتقال
المبيع بنفس البيع على الأشبه خلافا للشيخ حيث حكم بعدم الانتقال ، لو كان الخيار
للبائع أو لهما إلا بعد مضي زمن الخيار ، وقد تقدم ما فيه سابقا ، لكنه أشكل في
المسالك الرهن على الأول أيضا ، فيما إذا كان الخيار للبائع أولهما بما فيه من التعرض
لإبطال البائع ومثله بيعه ، وما أشبهه من الأمور الناقلة للملك ، قال : « وتحرير
المسألة يحتاج إلى تطويل. نعم لو كان الخيار له خاصة فلا إشكال ، ويكون الرهن
مبطلا للخيار ، وكذا يجوز للبائع رهنه لو كان الخيار له ، أولهما ، ويكون فسخا
للبيع ».
قلت : قد تقدم منا
في باب الخيار ما يعلم منه تحرير المسألة ، ونزيد هنا أن الصور ستة ، إذ الخيار
إما للبائع ، أو للمشتري ، أولهما ، والراهن البائع ، أو المشتري ، فإن كان الأول
: وقد رهنه هو كان فسخا ، ولا يشكل صحة الرهن بعدم
الملك قبله ، إذ
الظاهر حصوله في مثله في آن ما قبله ، بل لعل القصد المتعقب للرهانة كاف في الفسخ.
وإن كان المشتري ، فقد عرفت سابقا أن الاحتمالات في بيعه ثلاثة ، نفوذ البيع
ومطالبة ذي الخيار لو فسخ بالمثل أو القيمة ، وبطلان البيع وصحته متزلزلا ، فعلى
الأول لا ينبغي التوقف في صحة الرهانة ، كما أنه لا ينبغي التأمل في البطلان على
الثاني ، أما الثالث : ففي الصحة وعدمها عليه احتمالان ، أقواهما الصحة.
وإن كان الثاني :
والراهن البائع ، فإن أجاز المشتري الخيار والرهانة صح ، وان أجازه دونها بطلت ،
وإن فسخ الخيار ففي صحة الرهانة وجهان ، ينشئان من وقوع الرهانة في غير ملك ، ومن
أولويته من إجازة المالك ، وأما إذا كان الراهن المشتري فلا ريب في أنه إجازة ،
ولا يأتي فيه الإشكال السابق ، ومن ذلك يعلم الحال في باقي الصور.
ورهن الواهب
الموهوب الذي يصح له الرجوع فيه فسخ للهبة ، كرهن البائع ذي الخيار المبيع ، بل
وكذا رهن غريم المفلس عينه التي له الرجوع فيها ، والإشكال المتقدم سابقا قد عرفت
دفعه.
نعم يحتمل جعل
المدار على ما دل على جواز تصرف ذي الحق فما ثبت كونه كذلك وجب القول بتقدير الفسخ
في آن ما ، وإلا لم يجز حتى يفسخ محافظة علي الضوابط هذا. وفي الدروس « ولو رهن
غريم المفلس عينه التي له الرجوع فيها قبله ، فالأجود المنع ، وأولى منه لو رهن
الزوج نصف الصداق قبل طلاق غير الممسوسة ، ورهن الموهوب في موضع يصح فيه الرجوع
كرهن ذي الخيار » وقد يريد في الأول قبل الفلس ، وإلا لم نجد فرقا بينه وبين رهن
الموهوب والله أعلم.
ويصح رهن العبد المرتد
لا عن فطرة والأمة والخنثى مطلقا ، بلا خلاف صريح أجده فيه ، للأصل والعمومات في
البيع والرهن وغيرهما ، واحتمال عدم التوبة غير مناف لماليته ، كاحتمال عدم برء
المريض ، بل قد يقوى الجواز ولو كان عن
فطرة لذلك أيضا ،
وفاقا للشيخ ، ويحيى بن سعيد والفاضلين والفخر في شرح الإرشاد ، والشهيدين ،
وغيرهم على ما حكي عن بعضهم ، للأصل والعموم السابقين ، بل ربما ظهر من بعضهم
المفروغية من بيعه ، فينبغي أن يكون رهنه كذلك ، لوجود المقتضى وارتفاع المانع.
ودعوى ـ انه
بمنزلة ما لا نفع فيه ، أو غير المملوك ، أو المستحق للغير ، أو نحو ذلك مما يمنع
جواز بيعه أيضا ـ واضحة البطلان ، كدعوى الفرق بين البيع والرهن بإمكان الانتفاع
به في الأول منفعة حالية ، بخلاف الثاني ، الذي يراد منه الوثوق المفقود في المقام
، لاحتمال قتله ، إذ نمنع اعتبار الوثوق في الرهن بحيث يقدح فيه مثل ذلك ، خصوصا
في مثل هذه الأزمنة المتعذر إقامة الحد فيها ، بناء على أنه وظيفة الإمام ، وان
منه حد المرتد ، بل لو قلنا بوجوب قتله على سائر المكلفين الذين منهم الراهن
والمرتهن ، لم يمنع ذلك تعلق حق الرهانة فيه ما دام غير مقتول.
والحاصل لا ينبغي
التأمل في الجواز بناء على جواز بيعه ، كما أنه لا ينبغي التأمل في العدم ، على
تقدير العدم ، ولعل الأقوى جوازهما معا ، لإطلاق الأدلة وعمومها ، فما عن أبي على
ـ من عدم جواز رهن المرتد ، بل مقتضى إطلاقه وإن لم يكن فطريا ، للخروج عن الملك
واضح الضعف خصوصا في غير الفطري ، وإن وافقه الفاضل في التذكرة في الفطري ،
واستشكل فيه في القواعد ، قيل : وربما مال إليه في الإيضاح ، ولعله لعدم قبول
توبته ظاهرا وباطنا ، فيكون من الأعيان التي لم تقبل التطهير ، فلا يجوز بيعه فلا
يجوز رهنه ، وإن كان قد يمنع العموم للأعيان النجسة بحيث يشمل ذلك المسبوق بالملك
، وليس نفعه بمباشرته ، فتأمل جيدا والله أعلم.
وكذا رهن الجاني
خطأ على المشهور ، بل ظاهر تخصيص المصنف التردد في العمد عدم الخلاف فيه. وهو كذلك
من غير المحكي عن المبسوط ، لكنه أبطل الرهن فيه ، وفي العمد ، فلا جهة لاختصاصه
بالعمد حيث قال وفي العمد تردد بناء على أن المنشأ ذلك.
وكيف كان ف الأشبه
بأصول المذهب الجواز فيهما لحصول المقتضي الذي هو استجماع شرائط الرهن حال الرهانة
، وعدم المانع ، إذ لم يثبت مانعية حق الجناية عن البيع ونحوه ، فضلا عن الرهانة ،
واحتمال القصاص والاسترقاق للكل أو البعض غير قادح ، كما إذا جنى وهو رهن ، إذ لا
يعتبر في الاستيثاق نفي سائر الاحتمالات ، بل قد يقال في مثل الجاني خطأ انه إذا
رهنه المولى التزم بفكة لأن الخيار بيده ، فيكون ذلك منه اختيارا للفك ، فلا إشكال
حينئذ في الصحة ، ومنه ينقدح وجه اختصاص المصنف التردد في العمد الذي يكون الخيار
فيه لغير المولى.
وعلى كل حال فحق
الجناية مقدم على حق الرهانة ، تقدم أو تأخر بلا خلاف بل ولا إشكال ، لتعلق حق
الجناية بالرقبة ، بحيث يذهب بذهابها ، بخلاف حق الدين الذي وضع الرهن بسببه ، فإن
فك منها حيث يمكن الفك بقي حق الرهانة ثابتا وإلا بقي الفاضل عن حق الجناية رهنا
إن لم يكن مستوعبا تمام الرقبة.
ولو أقر المرهون
بالجناية وصدقه الراهن والمرتهن فكالجاني ، بخلاف ما إذا صدقه الراهن خاصة ، أما
لو كان المصدق المرتهن ففي الدروس بطل الرهن ، إلا أن يعفو المجني عليه أو يفديه
أحد ، أو يفضل منه فضل عن الجناية ، ويحتمل بقاء الرهن ، لعدم صحة إقرار المرتهن ،
واعتراف الراهن بالصحة.
قلت : لا ريب في
ضعف الاحتمال حيث يكون للجاني الاسترقاق وقد استرق إذ صحة احتمال الرهن مع علم
المرتهن بكونه مال الغير في غاية الضعف ، كضعف احتمال رجوع المجني عليه على الراهن
لو بيع الرهن لتكذيب المرتهن ، وإن كان قد أخذ ثمنه عن دين الراهن الذي لم يقصر في
الإقرار ، وإن كان لم ينفذ على المرتهن.
نعم له دفعه إليه
على جهة المقاصة ، ولو قال الراهن : أعتقته أو غصبته أو جنى على فلان قبل أن أرهنه
، حلف المرتهن على نفي العلم ، وغرم الراهن للمقر له ، للحيلولة ، ولو نكل فالأقرب
إحلاف المقر له ، لأن الحق له ، لا للراهن ، لعدم
جواز الحلف لإثبات
مال الغير ، فإذا حلف المجني عليه ، بيع منه ما قابل الجناية وبقي الفاضل رهنا ،
وإن حلف العبد حكم بحريته ، ولو نكل المقر له ، احتمل ضمان المولى للحيلولة ،
والعدم للتقصير بالنكول ، والمراد من الضمان للعبد أن يفكه من الرهن ، فإن لم يفعل
وقد بيع وجب فكه من المشتري ولو بأضعاف قيمته بل الظاهر ضمانه منافعه التي
استوفاها المشتري ، فضلا عما استوفاها هو قبل الرهانة.
نعم لا يضمن ما
فات منها لعدم ضمان منافع الحر بالفوات ، ولو جنى العبد بعد الرهانة ، ففكه
المرتهن على أن يبقى العبد رهنا على مال الفك والدين جاز مع رضا المولى لأن الحق
لا يعدوهما وقد اتفقا عليه ، بل في الدروس « انه لو شرط في الرهن على الدين الثاني
فسخ الأول ، ففي اشتراطه هنا بعد ، لأن المشرف على الزوال إذا استدرك كالزائل
العائد ، فالزوال ملحوظ فيه ، فيصح الرهن عليه ، وعلى الدين السالف ، ويحتمل
المساواة ، لأنه لما لم يزل فهو كالدائم ، والأصحاب لم يشترطوا الفسخ ».
وإن كان لا يخفى
عليك ضعف الوجه الأول ، إلا أن الذي يسهل الخطب ما ستعرفه فيما يأتي من أنه لا
يشترط في الرهن على الثاني فسخ الأول بلا خلاف ، ولو كانت الجناية على المولى فان
كانت عمدا اقتص منه ، وإن كانت خطأ أو عمدا ولم يرد القصاص ، لم يكن له أخذ المال
من المرتهن ، لعدم ثبوت مال له على ماله ، وإلا لزم تحصيل الحاصل ، فيبقى الرهن
بحاله حينئذ.
نعم لو دفع
المرتهن له مالا من نفسه لإسقاط حق القصاص ، محافظة على إبقاء الرهن جاز ، إذ ليس
هو إثبات مال على ماله ، لكن أطلق في الدروس فقال : « لا يجوز أخذ المال من
المرتهن في الخطأ والعمد ، ولا افتكاكه ».
ولعله لا يريد ما
ذكرنا ، فإن المتجه فيه الجواز ، كما أن المتجه فيما لو جنى على مورث مولاه ثبوت
ما كان للمورث من القصاص والافتكاك للمولى ، على ما صرح به في الدروس ، لأنه
باسترقاقه يكون بحكم مال المورث الذي يتعلق به وصاياه وديونه
ومنه ينتقل إلى
الوارث ، أما لو جنى على عبد مولاه فله القصاص قطعا إلا أن يكون أبا للمقتول ، وفي
الدروس « وليس له العفو على مال إلا أن يكون مرهونا عند غير المرتهن المجني عليه ،
أو عنده واختلف الدينان ، فيجوز نقل ما قابل الجناية بدلا من المجني عليه ، إلى
مرتهنه » ولا يخلو من نظر ، وتسمع إنشاء الله تمام الكلام في هذه الأحكام عند تعرض
المصنف لها.
وكيف كان فان كان
المرتهن غير عالم بردة العبد ، أو جنايته وقد اشترط رهنه في بيع تخير في فسخ البيع
، لان الشرط اقتضاه سليما. نعم لو كان عالما بهما لم يكن له خيار ، وكذا لو تاب أو
فداء مولاه ثم علم ، وإن اختار الإمساك في الأول فليس له المطالبة بأرش يكون رهنا
، للأصل كما لو قتل قبل علمه. والله أعلم.
ولو رهن ما يسرع
اليه الفساد قبل الأجل ولكن كان يمكن إصلاحه بتجفيف ونحوه صح بلا خلاف ، بل في
المسالك قولا واحدا ، بل ولا إشكال ، ضرورة وجود المقتضي وارتفاع المانع ، ف يجب
حينئذ على الراهن الإصلاح ، لأن ذلك من مؤنة حفظه ، كنفقة الحيوان.
وكذا إن شرط بيعه
، جاز وإن لم يمكن إصلاحه بلا خلاف ولا إشكال لحصول المقصود بالرهن بهذا الشرط ،
فيبيعه الراهن حينئذ ، ويجعل ثمنه رهنا ، فإن امتنع جبره الحاكم ، فان تعذر باعه
المرتهن ، أو الحاكم دفعا للضرر ، وجمعا بين الحقين.
وكذا لو كان مما
لا يفسد إلا بعد الأجل ، بحيث يمكن بيعه قبله ، أو كان الدين حالا لحصول المقصود
بالرهن مع ذلك كله وأما إن لا يمكن شيء من ذلك ، وقد شرط الراهن فيما يفسد قبل
الأجل عدم البيع قبل الأجل بطل الرهن كما صرح به جماعة ، بل لا أجد فيه خلافا
لمنافاته مقصود الرهن حينئذ ، بل المراد من الشرط الرابع إمكان الاستيفاء من الرهن
عند ارادته.
لكن في المسالك
احتمال الصحة ، كما لو أطلق قال : « وشرط عدم البيع لا يمنع صحة الرهن ، لأن
الشارع يحكم عليه به بعد ذلك صيانة للمال » وفيه أنه
لا معنى لحكم
الشارع مع صحة الشرط ، وإن كان باطلا بطل الرهن المشترط فيه ، بناء على بطلان
العقد بمثله.
نعم لو أطلق اتجه
القول بالصحة ، وفاقا للفاضل ، والشهيدين ، والمحقق الثاني ، والمحكي عن غيرهم
فيبيعه المالك عند خوف الفساد ، ويجعل ثمنه رهنا ، فإن امتنع جبره الحاكم جمعا بين
الحقين ، ولتوقف صحة الرهانة المحمول عليها فعل المسلم على ذلك ، وخلافا للمحكي عن
الشيخ ، وظاهر ابني زهرة ، وإدريس ، لعدم اقتضاء عقد الرهن بيع الرهن قبل حلول
الأجل ، فلا يجبر عليه الراهن ، وحينئذ فلا يملك المرتهن استيفاء الدين منه عند
حلول الأجل ، بل يكون كرهن المقطوع بعدم بقائه إلى الأجل ، وفيه منع عدم اقتضاء
عقد الرهن ذلك في مثل الفرض كما هو واضح.
ومن ذلك ظهر لك
قوة ما أشار إليه المصنف بقوله وقيل : يصح ويجبر مالكه على بيعه في صورة الإطلاق
التي هي محل هذا القول بحسب الظاهر ، كما عن المبسوط حكايته كذلك ، لا الأعم منها
ومن صورة الشرط التي قد عرفت قوة البطلان فيها ، هذا كله في المعلوم فساده قبل
الأجل حال الرهانة ، أما إذا طرء ما يقتضي فساده قبل الأجل بعدها ، فلا ينبغي
التأمل في بقاء الصحة حينئذ والبيع وجعل الثمن رهنا جمعا بين الحقين.
والفرق بينه وبين
ما سبق واضح ، بل الظاهر كون الحكم هنا كذلك ، وإن قلنا بالبطلان مع الإطلاق ومن
هنا قال في الدروس : « وإن طرء الفساد بعد القبض لم ينفسخ العقد ، ولو قلنا ببطلان
رهنه مع عدم شرط البيع ، لأن الطاري لا يساوى المقارن » ومن ثم يتعلق الرهن
بالقيمة لو أتلف الرهن متلف وهي دين ، ولا يجوز رهن الدين ابتداء فحينئذ يباع ويتعلق
بثمنه ، بل هو كذلك أيضا وإن كان قد اشترط عليه عدم البيع قبل الأجل على جهة
التأكيد ، إذ لم يكن المقصود من الشرط ما ينافي الرهانة نعم لو فرض تصريح المشترط
بعدم البيع حتى مع طرو المفسد ، أمكن القول بالبطلان فتأمل جيدا. ثم ان الظن
بالفساد الذي ينافي الوثوق عرفا كالعلم ، بخلاف الاحتمال
بل والشك ، بل
وبعض أفراد الظن.
وكيف كان فما
يتفرع على الشرط الرابع مما تركه المصنف عدم جواز رهن أم الولد ، فإنها وإن كانت
عينا مملوكة يمكن قبضها ، لكن لا يجوز بيعها ، ومن هنا نسب المنع في المحكي عن
الإيضاح. وحواشي الشهيد إلى الأصحاب.
لكن فيه أن المحكي
عن أبي على الجواز ، بل لم يستبعده في المختلف ، وفي جامع المقاصد فيه قوة ، بل
قيل : إنه قد يظهر من موضعين من المبسوط ، وكذا الغنية ، بل هو الأقوى إذا كان في
ثمن رقبتها مع إعسار مولاها ، وفاقا للتحرير ، والدروس ، لوجود المقتضي وارتفاع
المانع ، واحتمال ـ يسار المولى قبل حلول الأجل فلا يجوز بيعها ، فينتفى المقصود
من الرهن ـ غير قادح بعد أن كان الإعسار مستصحبا مع أنه يمكن القول بأن له الحبس
حينئذ ، حتى يفيه المولى ، بل قد يتجدد إعساره فلا تنتفي فائدة الرهانة أصلا.
قال في الدروس : «
لو رهنها فتجدد له اليسار انفسخ الرهن ، ووجب الوفاء ويحتمل بقاؤه حتى يوفي ،
لجواز تجدد إعساره قبل الإيفاء ، ولعله أقرب » فظهر من ذلك أن الإشكال في رهنها في
الفرض كما في القواعد ضعيف ، نعم يتجه المنع مع اليسار إذ احتمال كفاية حبس المال
عن المالك في صحة الرهن وإن لم يجز بيعه خلاف المفهوم من الأدلة ، وإلا لجاز رهن
الوقف ونحوه ، كاحتمال الاكتفاء باحتمال تجدد الإعسار المجوز للبيع ، بعد فرض
اقتضاء الأصل عدمه ، وفقد الشرط حال العقد ، فما في القواعد عن احتمال الجواز فيه
في غاية الضعف ، وأضعف منه احتماله في غير ثمن رقبتها ، اكتفاء في الرهن بالحبس
المزبور الذي قد عرفت ضعفه.
نعم قد يقال بجواز
رهنها في بعض المواضع المستثناة من حرمة بيعها ، إذا تصور إمكان رهنها فيه ، لكونه
حينئذ رهنا فيما يجوز بيعها فيه.
ثم إنه لا يتوهم
اقتضاء الشرط الرابع عدم جواز رهن الجارية بدون ولدها الصغير ، بناء على حرمة
التفرقة بينها وبينه ، لعدم كون الرهن تفرقة ، ولذا ادعى الإجماع على جوازه في
محكي التذكرة والإيضاح.
وعن السرائر «
يجوز رهن الجارية وإن كان لها ولد صغير إجماعا » بل الظاهر ذلك وإن قلنا بجواز
بيعها منفردة في الرهن ، لعدم لزوم الرهن للتفرقة فلا يحرم ، مع أن الأقوى وجوب
بيع الولد معها لو أريد بيعها في الرهن ، لتوقف صحة البيع الذي اقتضاه الرهن على
بيعه معها ، فيجب حينئذ مقدمة.
وما في القواعد ـ من
احتمال جواز بيعها منفردة ، ويقال : إنها تفرقة اضطرارية ـ واضح الضعف ، ضرورة عدم
اقتضاء عقد الرهن بيعها منفردة ، وإن كانت قد رهنت كذلك ، فيضم ولدها حينئذ معها ،
سواء باعها المالك أو بيعت جبرا عليه ، ولذا ترك الاحتمال في الدروس وغيرها ،
فيباعان حينئذ ، ثم يختص المرتهن بقيمة الأم وان نقصت بضمه إليها ، أما لو زادت
فقيل : تقسم الزيادة على نسبة ثمن الجارية والولد فيختص المرتهن على النسبة فلو
قومت مع ولدها بمأة وعشرين ، ومفردة بمأة ، وولدها مفردا بعشرة ، كان الزائد
بالاجتماع عشرة ، فيقسم أحد عشر حصة ، يختص المرتهن منها بعشرة ، والمالك بواحدة.
وقد يشكل ـ بعدم
استحقاق المرتهن هذه الزيادة الحاصلة بانضمام غير المرهون من مال المالك ، فينبغي
اختصاصه بها أجمع ، ولم يكن للمرتهن إلا قيمة الجارية منفردة ـ ويدفع بإمكان دعوى
استحقاق المرتهن الاجتماع بعد فرض تعلق الرهانة بها وهي ذات ولد ، بل قد يحتمل
اختصاصه بها ، وأنه ليس للمالك إلا قيمة الولد منفردا ، لكن العدل ، ملاحظة
تتساويهما في الزيادة.
وفي القواعد «
تقوم منفردة ، ومنضمة ، ثم ملاحظة النسبة ، فلو قومت منفردة مثلا بماءة ومنضمة
بماءة وعشرين ، كان قيمة الولد السدس ، قال : ويحتمل تقدير قيمة الولد منفردا حتى
تقل قيمته ، فإذا قيل عشرة فهو جزء من أحد عشر لو كانت قيمة الأم مائة ».
وفي الدروس « إما
أن يقوما جميعا ثم يقوم الولد وحده ، أو يقوم الأم وحدها ، ومع الولد ، أو كل
منهما وحده ، لأن الأم تنقص قيمتها إذا ضمت إليه لمكان اشتغالها بالحضانة ، والولد
تنقص قيمته منفردا لضياعه ، ووجه تقويم الأم وحدها أن الرهن
ورد عليها منفردة
، وهو قول الشيخ ، وكذا لو حملت بعد الارتهان وقلنا : بعدم دخول النماء المتجدد ،
أو كان قد شرطا عدم دخوله ».
قلت : ما ذكره
أخيرا يقتضي أن الزيادة كلها للمالك ، لأنها في قيمة الولد ، والنقصان الذي حصل في
الجارية بالضم مستحق على المرتهن ، لعدم صحة بيعها بدونه وقد رضي بها رهنا وهو على
هذا التقدير جيد ، كما أنه لو فرض زيادة قيمة الجارية به دون قيمة الولد ، يتجه
اختصاص المرتهن بها ، إنما الكلام لو حصلت الزيادة لهما بالضم ، أو النقصان ، وقد
عرفت الحال فيه فتأمل جيدا.
ثم إن ظاهر المصنف
وغيره ممن اقتصر كاقتصاره على الشروط الأربعة ، عدم اشتراط أمر آخر غيرها ، لكن في
القواعد « لا يصح رهن المجهول » ، وفي المحكي عن مواضع من المبسوط ، بل عن الخلاف
، نفي الخلاف عن عدم صحة الرهن فيما في الحق. بل قيل : ظاهره نفيه بين المسلمين ،
وفي التذكرة « لو كان ما في الحق مجهولا لم يصح الرهن قطعا في المظروف خاصة ،
للجهالة على اشكال ، ويصح الرهن في الحق عندنا ، وإن تفرقت الصفقة إذا كان له قيمة
مقصودة ».
وفي الدروس « لا
يصح رهن أحد العبدين أو العبيد لا بعينه ، للغرر ، بل قال : والظاهر أنه يعتبر علم
الراهن والمرتهن بالمرهون مشاهدة أو وصفا » وهو ظاهر الشيخ حيث منع من رهن الحق
بما فيه للجهالة ، وجوزه الفاضل ، واكتفى بتمييزه عن غيره ، والشيخ نقل الإجماع
على بطلان رهن ما فيه ، ويصح رهن الحق عنده.
قلت : إن تم هذا
الإجماع كان حجة على خصوص معتقده ، وما شابهه من المجهول من جميع الوجوه ، وإلا
فالإطلاقات تقتضي الجواز ، ونفي الغرر إنما هو في العقود المبنية على المغابنة ،
لا في مثل الرهن المبني على غبن الراهن للمرتهن ، كالواهب بالنسبة إلى المتهب.
قال في التذكرة في
باب بيع الغائب : « الأقرب جواز هبة الغائب غير المرئي ولا الموصوف ورهنه ، لأنهما
ليسا من عقود المغابنات بل الراهن والواهب مغبونان والمرتهن والمتهب مرتفقان ، ولا
خيار لهما عند الرؤية ، كما إذا أرهنه المال الغائب ،
أو وهبه له ،
لانتفاء الحاجة اليه ، ومعلوم أنه لا خيار لهما باعتبار هذين العقدين ، أما لو شرط
في كل من الهبة والرهن موصوفين في عقد البيع مثلا فظهر بخلاف الوصف ثبت الخيار
بالعارض » وهو جيد جدا.
نعم قد يتجه
البطلان في غير المعين كأحد العبدين أو العبيد ، كما جزم به في المختلف ، وفي
حواشي الشهيد ، وجامع المقاصد « المراد بالمجهول الذي لا يصح رهنه المجهول من جميع
الوجوه ، أو من بعضها بحيث يمنع من توجه القصد إليه ، وما في الحق كالشاة من
القطيع لا يتوجه القصد إليها ، وأما المجهول لا كذلك ، كهذه الصبرة ، إذا لم يعلم
قدرها فلا بأس به ».
قلت : يمكن منع
عدم توجه القصد إلى ما في الحق ، بعد القطع بكونه مما يرهن ، وإن لم يعلم جنسه ولا
نوعه ، ومن هنا كان ظاهر المختلف جوازه. نعم هو كذلك في الشاة من القطيع بعد إرادة
الإيهام الذي تنتفي معه الشرائط الأربعة ، بل لا يصح رهنها مع إرادة الإطلاق ، لا
لأن المطلق لا يمكن قبضه إلا بقبض الفرد الذي هو غير مرهون ، إذ هو مع أنه غير تام
ـ بناء على عدم اعتبار القبض إلا إذا قلنا باعتبار كونه مما يقبض عليه أيضا ـ واضح
المنع ، ضرورة صدق قبض الكلي يقبض فرده ، بل لعدم جواز بيعه لو بقي على إطلاقه ،
لعدم اشتراط القبض ، أو لأنه قبض الجميع مقدمة لقبض الواحد ، واحتمال استحقاق
المرتهن على الراهن تعينه عند ارادة البيع فيصح حينئذ لذلك ، يمكن منعه للأصل
وغيره ، وإن كان ذلك كله لا يخلو من نظر بل منع ، ولو فرض أنه أرهنه شاة ، ثم
عينها له وقبضها المرتهن لم يبعد الصحة ، وكذا لو أرهنه صاعا من صبرة ، وإن لم
يقبضه بعينه ، وفي تنزيله على الإشاعة وعدمها الوجهان ، ولعل الأقوى الأول ، فتأمل
جيدا.
فظهر من ذلك كله
أن ما لا يجوز رهنه من المجهول ، لا ينفك عن فقد أحد الشرائط الأربعة ، وغيره لم
يثبت عدم جواز رهنه ، بل إطلاق الأدلة يقضي بخلافه ، وعدم معرفة مقابلته للحق في
بعض أحوال الجهل غير قادح ، إذ لا يعتبر في الرهن إمكان استيفاء تمام الحق منه ،
بل يكفي فيه الوثوق باستيفاء بعضه ، والله أعلم.
الفصل الثالث
في : الحق
الذي يجوز أخذ
الرهن عليه وهو كل دين ثابت في الذمة قبل الرهانة أو مقارنا لها في وجه تسمعه
إنشاء الله يمكن استيفاؤه من الرهن كالقرض ، وثمن المبيع والأجرة وحينئذ ف لا يصح
الرهن فيما لم يحصل سبب وجوبه أي ليس بثابت حال الرهن ك ما في القواعد نحو الرهن
على ما يستدينه منه أو على ثمن ما يشتريه فلو دفعه إلى المرتهن ثم اقترض لم يصر
بذلك رهنا بلا خلاف أجده بيننا ، بل في التذكرة ، وجامع المقاصد ، الإجماع عليه ،
بل ولا إشكال ، ضرورة ظهور أدلة المقام في كون الرهن وثيقة على مال المرتهن ، ولا
يتصور الاستيثاق قبل حصول مال له عنده ، فلا يشمله عموم الوفاء بالعقود ، بعد فرض
عدم صدق الرهن عليه ، كما هو واضح.
وما عن أبي حنيفة
، وبعض وجوه الشافعية ـ من الجواز ، وأنه يصير رهنا بالقرض ـ في غاية الضعف ،
كدليله الذي مقتضاه حينئذ تأخر أثر الإنشاء عن سببه الذي هو العقد ، وهو معلوم
الفساد عندنا ، بل لا يصح الرهن على الأعيان التي ليست بمضمونة على من في يده ،
كالوديعة والعارية غير المضمونة ونحوها بلا خلاف أجده ، بل الإجماع بقسميه عليه ،
بل لعل المحكي منهما مستفيض ، وبه يخرج عن عموم الوفاء بالعقود ، لو كان مشمولا
لها باعتبار صدق الرهن عليه عرفا.
أما المضمونة
كالمغصوبة والعارية المضمونة والمقبوض بالسوم ونحوها ، ففي الرياض أن الأكثر على
عدم صحة الرهن بها ، ولعله للأصل بعد عدم دليل للصحة ، لعدم الإجماع بعد استقرار
فتوى الأكثر على الخلاف ، واختصاص الآية وجملة من النصوص بالدين ، وعدم انصراف
إطلاق باقيها بحكم التبادر إلى محل الفرض
والمراد بالعقود
المأمور بالوفاء بها المتداولة في زمن الشرع ، وفي كون محل الفرض منها نوع شك
وغموض. وان علم تداول جنس الرهن ، وتسميته رهنا حقيقة في اللغة والعرف غير معلوم ،
فلم يبق إلا الأصل المقتضي للفساد.
مضافا إلى اقتضاء
صحة الرهن بها صحته في غير المضمونة ، ضرورة عدم الفرق بينهما ، إذ المراد من
ضمانها ، الالتزام بالمثل أو القيمة عند التلف الذي هو غير معلوم الحصول ، فضمانها
حينئذ متعلق على شرط ، كتعليق ضمان غيرها على التلف بالتفريط الذي لم يعلم حصوله ،
فهما بالنسبة إلى ذلك سواء ، بل كل منهما مضمون عند العقد في الجملة ، وإن كان في
الأولى بمجرد التلف ، وفي الثانية به مع التفريط ، وهو غير مجد.
لكن قد يناقش في
ذلك كله ، بانقطاع الأصل بإطلاق أدلة الرهن الذي لا ينافيه اختصاص مورد بعضها
بالدين ، لصدق اسم الرهن الذي هو للأعم من الصحيح والفاسد عليه في عرف المتشرعة ،
فضلا عن اللغة الذي هو بمعنى الحبس ، فيشمله حينئذ إطلاق الأدلة ، ويحكم بصحته مع
عدم العلم بالفساد.
كما أنه يحكم
باندراجه في عموم الوفاء بالعقود ، وإن سلم إرادة المتداول منها في ذلك الزمن ،
إلا أنه يكفي في إثباته معلومية تداول الجنس مع معلومية صدق ذلك الجنس على فرده
الذي لم يعلم فساده ، وخروج الرهن على غير المضمون بالإجماع غير قادح ، على أنه قد
يفرق بينهما بتعلق العهدة فيها بأحد الأمرين عينها أو بدلها بخلاف تلك ، فإنه لا
عهدة فيها لإمكان تلفها بغير تفريط ، فلا حق للمرتهن في بعض أحوالها.
وأما إشكال أصل
الرهن عليها ـ بأن المقصود من الرهن استيفاء الحق المرهون عليه منه ، ولا يعقل
استيفاء الأعيان الموجودة من الرهن ـ فواضح الدفع ، بأنه يكفي فيه التوثق به ،
لأخذ العوض عند الحيلولة ، أو التلف الذي هو محل الحاجة ، ولذا جاز أخذ مال الغاصب
المساوي لما غصبه أو المخالف مع الامتناع عن رد العين وتعذر جبره.
على أن إرادة
استيفاء نفس الحق من المرهون لا يتم في الدين المجمع على جواز الرهن عليه ، ضرورة
عدم كون الثمن عين الدين الكلي الذي اشتغل به الذمة إذ لا ريب في مغايرته لجزئياته
، ولو في الجملة ، سيما على القول بأن وجوده في الخارج في ضمن الفرد ، لا عينه ،
على أن ذلك كله في الرهن على الدين ، لا مطلق الرهن المفروض شموله للرهن على العين
الذي معناه ما ذكرناه.
وعلى كل حال
فالإشكال من هذه الجهة واضح الفساد ، كل ذلك مضافا إلى المعتبرة المستفيضة
المتضمنة لنفي البأس عن الاستيثاق للمال ، كصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما 8 « سألته عن السلم
في الحيوان والطعام ويؤخذ الرهن؟ فقال : نعم استوثق من مالك ما استطعت » ونحوه
غيره الشاملة بإطلاقها لمحل الفرض ، ضرورة صدق المالية عليه فلا بأس بالاستيثاق
له.
والمناقشة ـ بأن
الاستيثاق بهذا الرهن أول الكلام ، فإنه لا استيثاق إلا بعد صحته وعدم جواز رجوع
الراهن فيه ـ واضحة الفساد ، ضرورة إرادة نفس الرهن من الاستيثاق فيها ، فالمراد
أنه لا بأس بأخذ الرهن لمالك ، وهو شامل للدين والعين ، فيدل على الصحة ، ويجري
عليه جميع أحكام الرهن.
فمن الغريب وقوعها
من بعض الأساطين كالمناقشة بكون الخارج عن ذلك من الرهون الفاسدة أضعاف الداخل ،
فيخرج عن الحجية ، ضرورة فسادها بمنع كونه مما يخرج به عن الحجية بعد ملاحظة
الأصناف ، خصوصا إذا كان المعيار الوصول إلى حد الاستهجان ، فلا ريب حينئذ بعد ذلك
كله في أن الأقوى صحة الرهن عليها ، وفاقا للفاضل ، والشهيدين ، والمحقق الثاني ،
وغيرهم ، بل قد يقال :بصحته للمضمون بحكم العقد كالثمن والمبيع ونحوها ، بل ظاهر
الدروس وغيرها تلازم الحكم بالصحة فيه ، للحكم بالصحة في الأعيان المضمونة ، قال :
« ويجوز على عهدة الثمن لو خرج مستحقا ، وكذا المبيع والأجرة وعوض الصلح إن جوزنا
الرهن على الأعيان والضرر بحبس الرهن دائما مستند إلى الراهن ، ولعلهما إذا أمنا
الاستحقاق يتفاسخان ». وفي جامع المقاصد بعد أن فرغ من البحث في ضمان
__________________
الأعيان ، قال : «
ومثله أخذ الرهن على الثمن للمشتري ، أو المبيع للبائع على تقدير ظهور فساد المبيع
، وقد صرح باستوائهما بالحكم المصنف في السرائر ، وشيخنا في الدروس ، وإن كان
المصنف في التذكرة ـ مع قوله بصحة الرهن على الأعيان المضمونة ـ منع من الرهن
بعهدة البيع ، وليس بواضح ، وما علل به منعه الارتفاق مردود ، لورود مثله في الرهن
على ثمن المبيع مؤجلا ، والظاهر أن أخذ الرهن على الصحة حذرا من نقصانها كالرهن
على المبيع ».
قلت : الموجود
فيما حضرني من التذكرة في المقام « وأما الأعيان المضمونة في يد الغير إما بحكم
العقد كالمبيع ، أو بحكم ضمان اليد كالمغصوب ، والمستعار المضمون والمأخوذ على جهة
السوم ، وكل أمانة فرط فيها وبقيت بعينها ، فالأقوى جواز الرهن عليها » وظاهره
أنها مسألة واحدة ، اللهم إلا أن يريد بالمضمون بحكم العقد غير درك المبيع.
نعم كلامه في باب
الضمان منها كالصريح في جواز الرهن على الدرك ، محتجا عليه بخبر داود بن سرحان عن الصادق 7 « سألته عن
الكفيل والرهن في بيع النسيئة؟ قال : لا بأس » وإن كان في استدلاله ما فيه.
لكن في باب الرهن
أيضا في مسألة عدم جواز أخذ الرهن على ما لا يستوفي منه قال : « كلما جاز أخذ
الرهن به جاز أخذ الضمين به ، وما لم يجز أخذ الرهن به لم يجز أخذ الضمين به ، إلا
ثلاثة أشياء عهدة البيع يصح ضمانها ، ولا يصح الرهن بها ، والكتابة لا يصح الرهن
بها على إشكال سبق ، والأقرب صحة الضمان فيها ، وما لا يجب لا يصح أخذ الرهن به ،
ويصح ضمانه ، لأن الرهن بهذه الأشياء يبطل الإرفاق ، فإنه إذا باع عبده بألف ودفع
رهنا يساوي ألفا ، فكأنه ما قبض الثمن ولا ارتفق به ، والمكاتب إذا دفع ما يساوي
كتابته ، فما ارتفق بالأجل ، لأنه كان يمكنه بيع الرهن وإمضاء الكتابة ، ويستريح
من تعطيل منافع عبده ، بخلاف الضمان ، ولأن ضرر الرهن يعم ، لأنه يدوم بقاؤه عند
المشتري فيمنع البائع التصرف فيه ، بخلاف
__________________
الضمان » فظهر من
ذلك كله أن كلامه فيه مختلف.
وكيف كان فقد يقال
بالفرق بينهما باعتبار عدم علم الاستحقاق في عهدة الثمن والمبيع ، واحتماله غير
كاف في صحة الرهن ، وان كان لو تحقق لظهر انكشافه من أول الأمر ، بخلاف الأعيان
المضمونة ، فإن الاستحقاق لردها عينا أو بدلا معلوم الثبوت ، بل لا يخفى على
السارد ، للنصوص الواردة في الرهن أنه لا تناول في شيء منها لذلك ، حتى النصوص
التي ذكرناها آنفا ، ضرورة عدم مآل له ظاهرا عند غيره حتى يستوثق له ، ومنه ينقدح
الشك في صدق الرهن عليه ، بحيث يندرج في عموم الوفاء بالعقود والإطلاق العامي
المبني على ضرب من المسامحة لا عبرة به ولا وثوق ، فالقول بالمنع فيه وإن قلنا
بالجواز هناك لا يخلو من قوة ، خصوصا مع ملاحظة عدم أمد له ينتظر غالبا ، والرهن
على غير المعلوم من الدين حال الرهن ثم علم إن جوزناه لعدم شرطية العلم به ، كما
في سائر ما يعتبر في المعاملة لا يقضي باجزاء حكم الرهانة عليه حال عدم العلم ،
كما هو المفروض في محل البحث ، وبذلك يفرق بينه وبين الضمان الذي ليس فيه سوى شغل
الذمة الذي يعلم بعد حصول الدرك كما أومى إليه فيما سمعته من التذكرة.
نعم لا مانع من
التزام صحته لو بان بعد ذلك كون العين في العهدة لفساد البيع على نحو صحته في
الدين المحتمل ، وكيف كان فقد عرفت أنه لا بد من الثبوت حال الرهن ، لعدم تصوره
حقيقة بدونه ، بل لا بد من سبق ثبوته على تمام الرهن ، لأن الشرط للسبب شرط
لاجزائه كما في سائر شروط العقود ، فلو شرك بين السبب والرهن في عقد كما لو قال المشتري
: صالحتك عن هذا العبد بألف ورهنت الدار بها ، فقال :قبلت أو قال : قبلت الصلح ثم
قال : قبلت الرهانة لم يصح ، وفاقا لصريح الكركي وظاهر غيره ، بل في الرياض حكايته
عن الأكثر ، فضلا عن رهن العبد نفسه ، لوقوع إيجاب الرهن على التقديرين الذي معناه
التوثيق قبل ثبوت الحق ، بل قيل : إنه غير معقول ، وحصوله بعد ذلك لو كان مجزيا في
صحته التي هي بحسب حاله ، لا جزء لو تأخر عن الإيجاب والقبول ، خصوصا إذا كان قبل
القبض بناء على أنه من تمام
السبب فتأمل.
ودعوى ـ كون
المعتبر في عقد الرهن أن لا يسبق بتمامه الحق ، لا بعضه ـ لا شاهد لها ، بل
الشواهد بخلافها ، ضرورة ظهور الآية والنصوص ، بتعقب الرهن بتمامه للحق ، حتى يصدق أنه استوثق على ماله ،
وليس الاستيثاق الذي هو بمعنى الرهن الجزء الأخير من القبول ، حتى يكون قد تأخر عن
ثبوت الحق ، أو قارنه ، بل هو عبارة عن تمام عقد الرهن ، كما أنه ليس في عقد الرهن
ما يقضي بالفرق بينه وبين غيره من العقود ، المعلوم تأخر تمام عقودها عما يعتبر في
صحتها ، فلو أوجب البيع مثلا على ما لا يصح بيعه ، ثم انتقل إلى الصحة قبل تمام
القبول أو قبل الشروع فيه لم يصح قطعا.
بل حكي عمن جوز ما
نحن فيه من العامة الاعتراف ببطلان قول المولى لعبده كاتبتك على ألف ، وبعتك هذا
الثوب بكذا ، فقال العبد : قبلتهما ، أو قال : قبلت الكتابة والبيع ، والفرق بين
المقامين صعب ، وأطرف شيء اشتراط الشافعية في الجواز تقدم إيجاب البيع على إيجاب
الرهن ، إذ تقدمه بعد عدم تأثيره الحق في الذمة غير مجد ، فلا فرق بين تقدم إيجاب
البيع عن إيجاب الرهن وتأخره ، كما هو واضح.
وبالجملة جواز ذلك
غير متجه على أصولنا ، فما يحكى عن مالك ، والشافعي وأحمد ، وأصحاب الرأي من
الجواز في غاية الضعف ، ومن الغريب تردد بعض الأساطين من أصحابنا فيه ، ففي القواعد
« لو شرك بين الرهن وسبب الدين في عقد ففي الجواز إشكال ، ينشأ من جواز اشتراطه في
العقد ، فتشريكه في متنه آكد ، أي في الالتزام ، لاحتمال عدم الوفاء بالشرط ، ومن
توقف الرهن على تمامية الملك ، لكن يقدم السبب فيقول : بعتك هذا العبد بألف
وارتهنت الدار بها ، فيقول : اشتريت ورهنت ، ولو قدم الارتهان لم يصح » وفي الدروس
« وهل يجوز مقارنة الرهن للدين؟ فيه وجهان ، فيقول : بعتك الدار بمأة وارتهنت
العبد ، فيقول قبلتهما أو
__________________
اشتريت ورهنت ،
ولو قدم الرهن لم يجز ».
بل في التذكرة «
لو امتزج الرهن بسبب ثبوت الدين مثل أن يقول بعتك هذا العبد بألف وارتهنت هذا
الثوب به ، فقال المشتري : اشتريت ورهنت ، أو قال :أقرضتك هذه الدراهم وارتهنت بها
دارك ، فالأقرب الجواز ، لأن الحاجة تدعو إليه ، فإنه لو لم ينعقد لم يتمكن من
إلزام المشتري بعقده ، ولأن شرط الرهن في البيع والقرض جائز لحاجة الوثيقة ، فكذا
مزجه بهما ، بل هو أولى ، لأن الوثيقة هنا ـ آكد ، فإن الشرط قد لا يفي به ».
لكن الجميع كما
ترى بعد الإغضاء عما في الأمثلة من تقديم قبول الرهن على إيجابه ، إذ الحاجة مع
عدم رجوعها إلى الحرج لا تكون دليلا مثبتا لحكم شرعي واشتراط الرهن لا يشترط فيه
شرائط عقد الرهن من ثبوت الحق ونحوه ، فجوازه لا يستلزم جواز ذلك ، بل الظاهر كما
قدمنا في بحث الشرائط من البيع صحة اشتراط رهن المبيع نفسه على معنى رهنه بعقد جديد
بعد انتقاله.
بل لو جوزنا
اشتراط نتيجة العقد بدونه ، وقلنا : إن الشرط يقوم مقامه كقيام الصلح مقام بعض
العقود ، وان لم يلحقه حكم ذلك العقد ، اتجهت الصحة حينئذ ، لعموم أدلة الشرط
السالم عن معارضة ما دل على اشتراط ذلك مثلا في الرهن ، لأن المفروض عدم كونه من الرهن
، وإن حصلت نتيجته بالشرط ، بل لو قلنا بصحة اشتراط النتيجة على وجه يلحقه أحكام
الرهن ، على معنى أن للرهن سببين العقد والشرط ، أمكن جواز اشتراط كونه رهنا على
دين سابق ، فضلا عن اشتراط رهن غيره مما هو مملوك للراهن سابقا ، فينتقل حينئذ
مقارنا لتعلق حق الرهانة به أو مقدما عليه ، كما هو مقتضى الاشتراط الذي يراد منه
الرهن بعد ثبوت الحق كما قيل.
وعلى كل حال لا
يستلزم الصحة في محل البحث ، بل لو قلنا بصحة اشتراط رهنه على الثمن في العقد على
المعنى المزبور ، لم يستلزم الصحة أيضا ، لإمكان دعوى اشتراط سبق الحق على عقد
الرهن ، لا على اشتراطه المقتضي للاقتران ، أو سبق الحق عليه باعتبار بساطته ،
بخلاف عقد الرهن الذي هو مركب من الإيجاب والقبول ، ولا يتصور
مقارنتهما لثبوت
الحق ، بل أقصاها المقارنة للسبب بالطريق المذكور في كلامهم ، وهو مقتض لوقوع
الإيجاب قبل حصول الحق الذي هو شرط فيه ، لكونه شرطا للعقد بتمامه فتأمل جيدا فإنه
دقيق والله العالم.
وكيف كان فليس
المراد من الثابت في المتن وغيره اللازم لصحة الرهن على الثمن في مدة الخيار ،
بناء على حصول الشغل بالعقد والرهن على غيره مما هو متزلزل بلا خلاف أجده فيه ،
لإطلاق الأدلة. نعم في التذكرة « لا شك في أنه لا يباع الرهن في الثمن ما لم يمض
مدة الخيار » مع أنه لا يخلو من نظر ، بل منع فيما إذا حل الدين قبل أجل الخيار.
بل المراد من
الثابت ، الحاصل في الذمة وإن لم يكن لازما ، فلا يصح على ما لم يحصل سبب وجوبه بل
ولا على ما حصل سبب وجوبه في الجملة ولكن لم يثبت به في الذمة كالدية قبل استقرار
الجناية في الخطأ المحض ، وشبه العمد ، وقبل انتهاء حالها وان علم أنها تأتي على
النفس الذي هو سبب ثبوت الدية ، على المشهور نقلا وتحصيلا ، بل مقتضى الإطلاق عدم
الفرق في الجناية على ما فيه الدية وغيره ، ولعله لان الشارع لم يرتب عليها حكما
قبل انتهاء حالها ، فهو حينئذ تمام السبب فلا ثبوت قبله ، والقطع بأنه يحصل أحد
السببين لا يجدي في جواز أخذ الرهن ، لعدم ثبوت الحق حينئذ قبل حصول سببه.
لكن في المسالك «
ربما قيل : بجواز الرهن على الجناية التي قد استقر موجبها وإن لم تستقر هي ، كقطع
ما يوجب الدية ، فإن غايته الموت ولا يوجب أكثر منها ، بخلاف ما دون ذلك ، وليس
ببعيد » وتبعه غيره.
وفيه أنه على
احتمال سريان الجناية لم يكن لذلك القطع تأثير ، ولا سببية ، بل المؤثر حينئذ
الموت ، ولا معنى للرهن قبل ثبوت الحق. نعم لو كان المؤثر للدية القطع المزبور
والموت لا أثر له ، اتجه حينئذ الرهن لثبوت الحق ، لكن ظاهر النص والفتوى خلافه ،
فإطلاق المتن وغيره حينئذ متجه ، وقد عرفت أن القطع بحصول أحد السببين غير الحصول
فعلا ، وكان ذلك هو الذي أوهم القائل ، مع أنه لو تم
لجاز الرهن على
المتيقن ثبوته من الدية في الجناية على ما لا يوجبها ، كقطع اليد مثلا ، فإن النصف
متيقن في ضمن تمام الدية أو مستقلا ، ولا يلتزم به القائل المزبور والفرق بينهما
لا يخلو من تكلف ، ثم من المعلوم أن الدية في الخطأ على العاقلة ، وأنها مقسطة على
ثلاث سنين.
ولكن لا يجوز
الرهن على قسط كل حول إلا بعد حلوله لعدم تعين المستحق عليه منها قبله ، وإن
الجامع لشرائط العقل عند تمام الحول هو الذي يعقل ، وإن كان فاقدا لها قبله ، لا
غيره ، وإن كان جامعا لها سابقا ، واستصحاب الجامعية إلى مضي الحول غير مجد ، بعد
أن كان جزء سبب الثبوت مضي الحول ، فإذا مضى صح الرهن حينئذ من ذلك المتعين الذي
قد ثبت في ذمته.
أما الدية في شبيه
العمد فيصح الرهن عليها بمجرد حصول سبب ثبوتها ، لأنها على الجاني وإن كانت مؤجلة
إلى سنتين ، لكن كأجل الدين ، فلا يمنع من الرهن بها بعد أن كانت متعلقة بذمته ،
وإن مات في تركته.
اللهم إلا أن يقال
إن الأجل فيها كالأجل في دية الخطأ ، بمعنى أن مضيه جزء سبب الاستحقاق ، فيتجه
حينئذ عدم الرهن بها أيضا ، وستسمع إن شاء الله في كتاب الديات ما يؤكد ذلك ، وإن
كان في بعض العبارات هناك ما يوهم اشتغال الذمة بها قبل الحول ، ولكن غير مستقر
لاحتمال الموت والإعسار عند الحول ، إلا أنه محمول على ضرب من التوسع ، ضرورة
اقتضاء التدبر في كلامهم هنا وهناك كون المراد بالخطاب بها الحكم التكليفي ، لا
الديني الذي لا يسقط بالموت ، ولا بالإعسار ، فلاحظ وتأمل.
وقال في الدروس :
« ولا يصح الرهن على الدية قبل استقرار الجناية ، وإن حصل الجرح ، ويجوز بعد
الاستقرار في النفس والطرف ، فإن كانت مؤجلة فبعد الحلول على الجاني ، أو على
العاقلة في شبيه العمد والخطأ ، ويجوز على الدين المؤجل والفرق تعيين المستحق عليه
فيه ، بخلاف العاقلة ، فإنه لا يعلم المضروب عليه عند الحلول ، ويحتمل قويا جوازه
في الشبيه على الجاني لتعيينه ، ولو علل بأن الاستحقاق
لم يستقر إلا بعد
الحلول في الجناية ، شمل الجاني والعاقلة ، إلا أنه ينتقض بالرهن على الثمن في
الخيار ، فالظاهر جواز أخذ الرهن من الجاني كالدين المؤجل » ولعل بناء المسألة على
ما ذكرنا أولى بعد الإغضاء عما في بعض كلامه ، ونسأل الله التوفيق لتحقيق ذلك في
محله فتأمل.
وكذا لا يصح الرهن
على مال الجعالة قبل الرد لعدم استحقاق المجعول له قبل العمل ، بلا خلاف أجده فيه
، بل وقبل تمام العمل وإن شرع فيه ، خلافا للفاضل في التذكرة ، فجوزه بعد الشروع
قبل التمام ، لانتهاء الأمر فيه إلى اللزوم ، كالثمن في مدة الخيار ، وأشكله في
المسالك بعدم استحقاق شيء وإن عمل الأكثر ، قال : « والفرق بينها وبين الخيار
واضح ، لأن البيع متى أبقى على حاله انقضت مدة الخيار ، وثبت له اللزوم ، والأصل
فيه عدم الفسخ ، عكس الجعالة فإن العمل فيها لو ترك على حاله لم يستحق بسببه شيء
، والأصل عدم الإكمال ».
قلت : مدار الحكم
على الاستحقاق بالشروع وعدمه ، وظاهرهم في الجعالة الثاني ولعلها غير الأجرة على
العمل التي يملكها بالعقد ، كما هو مقتضى المعاوضة ، وإن كان لا يستحق تسليمها إلا
بالعمل ، بخلاف الجعالة التي مورد العقد فيها أنها عوض العمل ، لا ملكه على
المجعول له ، ولذا كانت جائزة بالنسبة إليه ، وتحقيق الحال في محله إنشاء الله.
وكيف كان فلا
إشكال في أنه يجوز الرهن على مال الجعالة بعده أي العمل ، بل ولا خلاف ، بل في
التذكرة الإجماع ، لحصول الاستحقاق به كما هو واضح ، ويجوز على مال الكتابة
المطلقة بلا خلاف على ما في المسالك ، بل ولا إشكال ، لثبوت الحق بها ولزومها من
الطرفين ، بل والمشروطة على الأقوى ، وفاقا للمشهور عند المتأخرين ، لأنها لازمة
للمكاتب مطلقا عندنا كما في المختلف ، بل لو قلنا : بالجواز بالنسبة إليه خاصة ،
أو إلى المولى معه اتجه الصحة أيضا ، لعدم منافاته لاستحقاق المولى كالثمن في مدة
الخيار كما أنه لا ينافيها تسلط المولى على رده في الرق ، إذ قد لا يريده.
ومن ذلك يظهر لك
ضعف القول بعدم الجواز ، كما عن الشيخ ، والقاضي ، والحلي ، وسبطه يحيى بن سعيد ،
للأمرين المزبورين اللذين قد عرفت عدم اقتضائهما ذلك ، بعد تسليم الأول منهما ، بل
وظهر لك ان تأدية المطلوب الذي قد عرفت الحال فيه بقول المصنف وكذا مال الكتابة ،
ولو قيل بالجواز فيه كان أشبه غير جيد إذا الخلاف كما عرفت مختص بالمشروطة ، بل
الخلاف فيها ضعيف جدا ، لضعف دليله والأمر سهل ف يبطل الرهن عند فسخ الكتابة
المشروطة ممن له فسخها ، لذهاب الاستحقاق به كالفسخ بالخيار كما هو واضح.
وكيف كان فقد عرفت
فيما مضى أنه يعتبر في الحق كونه عهدة ، أو دينا في الذمة يمكن استيفاؤه من الرهن
الذي هو بمعنى الوثيقة لصاحب الحق مع التعذر أولا معه ، وإلا لم يكن وثيقة ف لا
يصح على ما لم يمكن استيفاؤه من الرهن كالإجارة المتعلقة بعين المؤجر مثل خدمته
فإنه مع تعذرها بموت ونحوه ، بل بعصيان منه تنفسخ الإجارة فليس للمرتهن استيفاؤها
من الرهن ، وثبوت أجرة المثل عليه في بعض الأحوال الأجر الخاص ، كما لو انتفع
بنفسه في مدة الإجارة ، أو أجر نفسه لغيره ، ولم يجز المستأجر الأول ، واختار
الرجوع على الأجير ، لأنه هو المتلف لا تسوغ أخذ الرهن ، لعدم معلومية تحققها ،
فالرهن عليها حينئذ رهن على الحق قبل ثبوته ، بل على احتمال ثبوته ، بل كل معين من
ثمن أو أجرة أو نحوها لا يصح الرهن عليه ، لعدم إمكان استيفائه من الرهن ، ولذا
قال في التذكرة : « لا يجوز أخذ الرهن بعوض غير ثابت في الذمة ، كالثمن المعين ،
والأجرة المعينة في الإجارة ، والمعقود عليه في الإجارة إذا كان منافع معينة مثل
إجارة الدار ، والعبد المعين ، والحمل المعين مدة معلومة ، أو لحمل شيء معين إلى
مكان معلوم ، لأنه حق يتعلق بالعين ، لا بالذمة ، ولا يمك استيفاؤه من الرهن ، لأن
منفعة العين لا يمكن استيفاؤها من غيرها ، وتبطل الإجارة بتلف العين ».
لكن قد يشكل ذلك
كله بإطلاق أدلة الرهن والاستيثاق للمال التي يكفي فيها الاستيفاء من الرهن في بعض
الأحوال ، كما إذا استوفى المنفعة المؤجر مثلا ، أو
منعها في مثل
الدابة على الأقوى ، فإن قيمتها حينئذ تثبت في ذمته ، فيستوفي من الرهن نحو ما
سمعته في الأعيان المضمونة ، واحتمال الانفساخ ـ بموت ونحوه مع أن الأصل عدمه ـ غير
مناف ، كما لا ينافي احتمال الفسخ في الخيار.
بل لعل الضمان في
المقام أولى مما ذكره الشهيد في الدروس ، من أنه لو ارتهن المستأجر على مال
الإجارة خوفا من عدم العمل بموت أو شبهه فهو كالرهن على الأعيان المضمونة ، وهو
صريح في الجواز هنا بناء على الجواز هناك ، مع أن المال هنا قد انتقل بالعقد إلى
غيره ، فليست الأجرة حينئذ له ، حتى يستوثق لها ، بخلاف المنفعة والأجرة المعينة
والمبيع المعين ونحوها مما هي مملوكة له في الظاهر ، فله أن يستوثق على تسليمها
إليه ، وعلى احتمال ضمان من في يده لها ، وقد سمعت ما في التذكرة في الأعيان
المضمونة ، وأن منها المضمون بحكم العقد ، مع قوله بعدم صحة الرهن على الدرك ،
فيمكن أن يريد بالمضمون بحكم العقد ما نحن فيه فتأمل جيدا.
إلا أني لم أجد
خلافا بينهم في عدم جواز الرهن على ذلك ، فالجرأة على الجزم به لا تخلو من مخالفة
الجزم ، فالأولى التوقف في المسألة أو الحكم بالعدم ، ولعله لما أشرنا إليه سابقا
من عدم تحقق العهدة ، كي يتجه الرهن ، واحتمالها غير كاف في الحكم بالرهن ظاهرا
كالدين المحتمل فلاحظ وتأمل ، والله العالم.
وعلى كل فلا إشكال
كما لا خلاف في أنه يصح الرهن فيما هو ثابت في الذمة كالعمل المطلق في الذمة الذي
لا يبطل بالموت ، لعدم اشتراط المباشرة فيه ، فمع التعذر وشبهه يباع الرهن حينئذ
ويستوفى منه العمل كما هو واضح ولو رهن على مال رهنا ثم استدان آخر ممن له الدين
الأول مساويا له في الجنس والقدر أو مخالفا وجعل ذلك الرهن عليهما معا مصرحا بذلك
أو اتفقا معا على ارادته جاز بلا خلاف أجده فيه بيننا ، بل الإجماع بقسميه عليه ،
ومشغوليته بالدين الأول غير قادحة بعد أن لم تكن منافية للثانية ، فهو كما لو رهنه
عليهما من أول الأمر.
ومن هنا يعلم أنه
لا حاجة إلى إبطال الرهانة الاولى ، ثم التجديد لهما كما صرح
به غير واحد ، بل
يعلم أنه لا يحكم ببطلان الأولى لو أطلق رهانته على الدين الثاني من غير تعرض
للاول ، لما عرفت من عدم التنافي فالأصل بقاؤها حينئذ ، ودعوى ظهور الإطلاق في ذلك
ممنوعة ، فتردد الشهيد حينئذ في بطلان الاولى في صورة الإطلاق في غير محله.
نعم قد احتمله في
القواعد فيما إذا كان الدين المتجدد لأجنبي ، وقد أجاز المرتهن الأول رهانته عنده
، والبطلان في خصوص ما قابل دين الثاني لو فرض زيادته عليهما ، والعدم مطلقا من
غير ترجيح لأحد الثلاثة كالتحرير ، والدروس ، وغيرها.
مع أن الأقوى
الأخير منها فيه ، وفاقا للتذكرة ، وجامع المقاصد ، أيضا ، لعدم التنافي حتى لو
كان الرهن لا يفي إلا بدين الثاني ، لإطلاق الأدلة ووجوب الوفاء بالعقد ، ولا
يمتنع كون الشيء رهنا بمجموع لا يفي ثمنه بأدائه ، لأن الأداء ثمرة الرهن بعد
تحققه ، لا نفسه ، وإنما يثبت الأداء بحسب حال الثمن باعتبار كثرته وقلته.
وتقديم دين شخص في
الأداء على الآخر لا ينافي تعلق كل من الدينين بالرهن لما قلناه من أن ذلك ثمرة
الرهن ومقصوده ، ولا محذور في أن يكون المقصود في بعض أولى وأسبق من البعض الآخر ،
وإن استويا فيما له المقصود والثمرة.
ولأنه لو تضمن عقد
واحد رهنا بدينين وتقديم أحدهما على الآخر في الأداء ثم تأدية الآخر بعد أداء
الأول لم يكن ذلك باطلا ، ففي العقدين المستقلين أولى ، لوقوع الثاني بعد القطع
بصحة الأول ، فلا بد في طرو البطلان عليه من دليل أقوى من دليل الصحة.
ودعوى أن مقتضى
الرهن الاختصاص بمجموعه بالنسبة إلى الدين المرهون به ، ليقضى ذلك الدين من ثمنه ،
واختصاص كل من الدينين بمجموع الرهن متناف لأن اختصاص أحدهما بالمجموع على هذا
الحكم ينافي اختصاص الأخر ، وقد ثبت الرهن الثاني بالسبب الطاري وإجازة المرتهن
الأول فيبطل الأول ـ يدفعها منع المنافاة كما عرفته مفصلا واجازة المرتهن انما
توجب تقديمه عليه بناء على اقتضاء العقد ذلك لا بطلان الأول.
وأوضح منها منعا
دعوى كونها موجبة لفسخ رهنه فيما قابل الدين الثاني ، لأن المنافاة باعتبار مقصود
الراهن مختصة به ، بخلاف ما زاد ، إذ الرهن متعلق بالمجموع ، فان اقتضى الاختصاص
اقتضاه في المجموع ، وإلا لم يقتض في شيء منه ، ولأن الثمن على تقدير اعتبار
المقابلة والزيادة بالنسبة إليه لا تنضبط ، فقد يكون في وقت الرهانة كثيرا يبقى
منه بقية بعد الدين الثاني ، ثم يتجدد النقصان ، وبالعكس ، ويستحيل تجدد ثبوت الحق
بعد كون العقد حال وقوعه غير مقتض له.
وعلى كل حال
فيترتب على كل من الاحتمالات الثلاثة حكم إسقاط المرتهن الثاني حقه من الرهن ،
فعلى ما اخترناه يبقى رهنا عند الأول ، وعلى الثاني لا حق له ، وعلى الثالث لا حق
له فيما قابل الدين الثاني كما هو واضح ، ولو لم يعلم المرتهن الأول برهن الثاني
حتى مات الراهن ، وفك الرهن لم يبطل الرهن ، بناء على عدم اعتبار القبض ، لكونه
لازما من طرف الراهن ، فليس للورثة ولا للغرماء المنع لسبق التعلق ، فإن أجاز
الأول قبل الفك ففيه الاحتمالات.
نعم ان كان قد بيع
الرهن في دين الأول فقد يقوى بطلانه حينئذ ، وإن فضل منه شيء ، لعدم تناول
الرهانة للثمن فلم يبق له موضوع ، أما لو بقي من عين الرهن بقية وقد قضى دين الأول
، أو بقي تمام الرهن لقضاء دينه من غيره ، فقد يتجه نفوذ الرهن للثاني ، ويختص به
عن الغرماء ، وليس للأول المنع بعد فرض سقوط تعلقه من الرهن ، ولم يكن قد رد الرهن
في حال تعلقه ، لكون المفروض عدم علمه حتى فك الرهن منه ، كما أنه لا أثر لإجازته
، فلم يبق مانع من النفوذ ، لوجود المقتضي وارتفاع المانع ، واحتمال ـ عدم صحة أصل
الرهانة حال كونه رهنا عند الأول ـ يدفعه أنه لا إشكال في الصحة مع الإجازة التي
هي مقدمة لإسقاط مانعية حقه ، فعلم قابلية العقد للتأثير مع ارتفاع المانع
بالإجازة ، أو بالفك ، فإذا فرض عدم علم المرتهن الأول حتى فك منه ، اتجه نفوذ
الثاني.
ومن ذلك كله يظهر
لك ما في عبارة القواعد قال بعد ذكر الاحتمالات في المسألة السابقة : « ولو لم
يعلم الأول حتى مات الراهن ، ففي تخصيص الثاني بالفاضل عن
دين الأول من دون
الغرماء ، إشكال ، ولا حكم لإجازة الأول ولا فسخه بعد موت الراهن » بل فيها نظر من
وجوه أخر أيضا تظهر بأدنى تأمل ولكن الانصاف عدم خلو المسألة بعد من الإشكال ،
لإمكان الفرق بين الإجازة والفك ، باقتضاء الأول تعلق الرهانة من أول الأمر ،
لأنها كاشفة على الأصح ، بخلاف الثاني ، ويأتي إنشاء الله تمام الكلام في ذلك
والله العالم.
ولو زاد في الرهن
للدين الواحد جاز بلا خلاف ، حتى من أبي حنيفة ، ولا إشكال لإطلاق الأدلة من غير
حاجة إلى إبطال الأول ، واستيناف عقد جديد ، والظاهر كون الجميع حينئذ كالرهن
الواحد الذي حكمه بقاء الرهنية ما دام شيء من الدين باقيا إن كان قد صرح بكونه
رهنا على كل جزء من الدين ، أو اتفقا على ذلك ، بخلاف ما إذا صرحا بكونه على
التقسيط ، أو بكون مجموعه رهنا على المجموع ، أو اتفقا على ذلك ، فإنه ينفك من
الرهن في الأول بالنسبة ، وفي الثاني بأداء شيء من الحق وليس للديان الامتناع من
قبض البعض ، مخافة انفكاك الرهن بعد الشرط عليه والإقدام منه على ذلك ، وان تردد
فيه في الدروس مما سمعت ، ومن أدائه إلى الضرر بالانفساخ ، لكنه في غير محله.
كما ان تردده في
حمل الإطلاق على الأول كذلك أيضا ، ضرورة غلبة تعلق الأغراض باستيفاء الدين عن
آخره من الرهن ، مضافا إلى ما عن المبسوط من الإجماع والتقابل بين الأجزاء في
المبيع ونحوه من عقود المعاوضة ، لا يقضي بذلك في الرهن المراد به الاستيثاق
لمجموعة على جميع اجزاء الدين ، فلا ينفك حينئذ بتمامه ولا جزء منه بأداء البعض ،
إلا مع التصريح ، أو ما يقوم مقامه.
ومن الغريب ما في
الدروس حيث أنه بعد أن ذكر صحة اشتراط الرهانة على كل جزء جزء ، فيبقى مجموعه رهنا
ببقاء شيء من الدين ، واشتراط رهنه عليه لا على كل جزء منه ، وينفسخ حينئذ بأداء
شيء من الدين قال : « وإن أطلق ففي حمله على المعنى الثاني أو الأول نظر ، من
التقابل بين الاجزاء في المبيع فكذا في الرهن ، ومن النظر إلى غالب الوثائق فإن
الأغلب تعلق الأغراض باستيفاء الدين عن آخره
من الرهن وهذا قوى
» وقال في المبسوط : « إنه إجماع » وهو كما ترى مع أنه لا ينطبق تعليله الأول على
الوجه الثاني ، وإنما هو صالح للتوزيع الذي لم يذكره هو ، وتسمع فيما يأتي إن شاء
الله تمام الكلام في المسألة.
وعلى كل حال فقد
ظهر لك أن الرهن المضاف حكمه حكم المضاف إليه ، بعد ظهور كون المقصود منه رهانته
على حسب الأول وما عن أبي حنيفة ـ من أنه يكون رهنا بالنسبة على معنى قسمة الدين
على قيمة المضاف إليه الرهن يوم قبضه ، على المضاف يوم قبضه ، فلو كانت قيمة الأول
ألفا مثلا ، وقيمة الثاني خمسمائة ، والدين ألف مثلا قسم أثلاثا ثلثان في المضاف
إليه ، وثلث في المضاف ـ لا شاهد له ، بل الشواهد على خلافه.
وقد بان لك أن صور
الرهن ثلاثة وتسمع إن شاء الله تمام الكلام فيها الأولى :رهن المجموع على كل جزء
من الحق الثانية : الرهن عليه لا على كل جزء منه الثالثة :رهن الأجزاء المشاعة على
الاجزاء كذلك ، وفي الأخيرة ينفك بعضه بأداء بعض ، ويبقى الباقي ، كما أنه كذلك لو
استدان رجلان كل منهما دينا ثم رهنا مشتركا بينهما ، ولو بعقد واحد مطلق ، ثم قضى
أحدهما فإن حصته تكون طلقا ، لانصراف رهن كل منهما إلى ملكه على دينه إن لم يشترط
المرتهن رهنه على كل جزء من الدين ، وإلا اتبع الشرط الذي لا يقدح فيه عدم ملكية
كل منهما للجميع ، بعد فرض رضا كل منهما بذلك ، والمال غير خارج عنهما.
ولو تعدد المرتهن
واتحد العقد من الواحد فكل منهما مرتهن للنصف مع تساوى الدين وأما مع اختلافه
فربما احتمل ذلك أيضا ، لأنه الأصل في التشريك ، إلا أن الأظهر التقسيط على مقدار
الدين ، كما هو الأصل في اجتماع الأسباب المعتبر سببية كل منهما ، ولأن مقتضى
الرهن قضاء الدين كله من ثمن المرهون إذا وفي به فالزائد من أحد الدينين إن استحق
قضاؤه من الرهن اقتضى تعلق ذلك الزائد بالرهن فيكون تعلق مجموع الدين الزائد من
الرهن أكثر من تعلق الأخر ، وان لم يستحق قضاؤه منه امتنع كونه رهنا بالمجموع ،
وقد فرض كونه كذلك ، فظهر أن التقسيط
أولى ، فإن وفي
فلا بحث ، والا قسط عليهما بحسبهما كما هو واضح.
نعم هذا كله في
التعدد ابتداء دون التعدد في الأثناء ، فإنه لا عبرة به على الظاهر سواء كان في
الرهن أو المرتهن ، كما في ورثة كل منهما لو تعددوا ، فلو مات الراهن عن ولدين لم
ينفك نصيب أحدهما بأداء حصته من الدين ، كما أنه لو مات المرتهن عن ولدين فأعطى
أحدهما نصيبه من الدين ، لم ينفك بمقداره من الرهن ، وذلك لأنه قد تعلق الدين بكل
جزء منه في حيوة الموروث ، وقد انتقل إلى الورثة على هذا الحال ، فلا يتوهم أنه
كتعلق حق الغرماء بالتركة التي لا ريب في انفكاك نصيب أحد الورثة بمقدار ما يخصه
من الدين ، وإن قلنا ان التعلق كتعلق حق الرهانة ، لا كأرش الجناية ، لكن لما لم
يكن ذلك سابقا على الموت ، وإنما هو بعده كان تعدد الورثة بمنزلة تعدد الراهن ،
فتأمل جيدا والله اعلم.
الفصل
الرابع في الراهن
ويشترط فيه
بالنسبة إلى صحة الرهن له ولغيره كباقي العقود كمال العقل فلا يصح من الصبي ولا
المجنون ولو مع الإجازة لسلب العبارة وفي لزومه جواز التصرف فلا يلزم من السفيه
والمملوك ونحوهما إلا مع إذن الولي ، لكن ذلك بالنسبة إلى عقودهم ، أما لو عقدوا
للغير وكالة أو فضولا فكجائزي التصرف في اللزوم.
وكذا يعتبر في
لزومه أيضا الاختيار ف لا ينعقد مع الإكراه الذي لم يخرجه عن قصد اللفظ والمعنى ،
فإنه إذا تعقبه الرضا بعد ذلك لزم على الأقوى أما إذا كان إكراها مخرجا له عن
القصد المزبور فلا يصح ، وان تعقبه القصد والرضا بعد ذلك ، كما حرر في محله.
ويعتبر فيه أيضا
إذا كان الرهن لنفسه أن يكون مالكا ، أو بحكم المالك ، كالمستعير الذي يأتي تمام
الكلام فيه عند تعرض المصنف لبعض أحكامه.
وحينئذ ف يجوز
لولي الطفل مثلا وإن لم يكن اجباريا رهن
ماله إذا افتقر
إلى ذلك للاستدانة ونحوها بلا خلاف أجده فيما بيننا ، وإنما حكي عن بعض الشافعية ،
ولا ريب في فساده ، لكن مع مراعاة المصلحة التي هي الأحسن الذي « نهى الله عن القرب إلى
ماله بدونه » كأن يستهدم عقاره فيروم رمه وإصلاحه أو يكون له أموال يحتاج إلى
الإنفاق لحفظها من التلف ، أو الانتقاص ، فيرهن بذلك ما يراه من أمواله إذا كان
استبقاؤها أعود له أي للطفل من بيعها ، إذا لم يمكن البيع أو غير ذلك من المصالح
التي لا تنضبط لاختلافه باختلاف الأمكنة والأزمنة والأحوال.
فالضابط فيه
الميزان المزبور التي تقتضي أيضا غالبا وضع الرهن على يد عدل يجوز إيداعه منه ، أو
من يطمئن به عليه من التلف ونحوه ، بل قد تقتضي صحة رهن ماله فيما إذا اشترى له
بمأة نسيئة ما يساوي مائتين ، ورهن من ماله ما يساوي ماءة ، فإن لم يعرض التلف ففيه
الغبطة الظاهرة ، وإن عرض فلا ضرار ، أيضا.
بل قد يقال :
بالجواز فيما إذا لم يرض إلا برهن تزيد قيمته عن المأة إذا كان مما لا يخشى تلفه
كالعقار ونحوه ، بل عن التذكرة قوة جوازه إذا كان على يد من يجوز إيداعه ،
وبالجملة الأمر في ذلك غير منضبط ، ومع فرض تعدد أفراد المصلحة ولا ترجيح تخير ،
والطفل في المتن وغيره من باب المثال ، ضرورة الجواز أيضا لولي المجنون والسفيه
أيضا والمسألة غير مخصوصة بالرهن ، بل هو كغيره من التصرفات لهم المحرر جملة من
أحكامها في غير المقام والله أعلم.
الفصل
الخامس : في المرتهن
ويشترط فيه : ما
يشترط في الراهن من كمال العقل وجواز التصرف والاختيار على حسب ما سمعته في ذلك
كله ، لكن الظاهر أنه لا بأس بقبول السفيه والمفلس الارتهان الذي ليس بمستحق على
المديون بشرط ونحوه ، إذا كان الدين من غيره ، أو منه قبل الحجر ، لأنه ليس تصرفا
ماليا ، ولا مناف له ، بل فيه مصلحة
__________________
للمال ، ولعل
المراد من عبارة المصنف ونحوها ما لا يشمل هذا الفرد من الارتهان ، والأمر سهل.
وعلى كل حال فلا
ريب في أنه يجوز لولي اليتيم مثلا أخذ الرهن له على ذلك كما نص عليه غير واحد بلفظ
الجواز ، لإطلاق ولايته الشاملة لذلك ، وقبول الاتهاب والوقف له ونحوها ، بل قد
يجب عليه ذلك فيما لو توقف الأحسن المعتبر في الآية الكريمة في التصرف في
ماله عليه ، كما لو باع ماله نسيئة لغير ذي ملاءة وثاقة ، بل الظاهر كفاية الثاني
في لزوم أخذ الرهن قال في التذكرة : « لو كان المشتري موسرا لم يكتف الولي به ، بل
لا بد من الارتهان بالثمن » نعم قال أيضا : لو لم يحصل أو حسن الظن بيساره وأمانته
، أمكن البيع نسيئة بغير رهن ، كما يجوز إبضاع ماله.
وفيه : أن المتجه
عدم البيع مع عدم الحصول ، إذ الاكتفاء باليسار مع عدم الوثاقة لا يخلو من إشكال ،
بل منع خصوصا في الفاسق الذي لم يعرف منه الوفاء ، فضلا عن المعروف بعدمه ، ضرورة
كون إبقاء المال أو بيعه لغيره بدون ثمنه أحسن من ذلك ، ويمكن أن يريد معنى الواو
من ـ أو ـ أو أن ذلك من غلط النساخ ، فيكون الجواز بغير رهن مع حسن الظن بيساره
وأمانته كما ستعرف ذلك إن شاء الله.
أما لو كان ثقة
غير مليء فقد يقوى الجواز ، والأحوط أخذ الرهن ، وليس المراد من الأحسن في الآية
الفرد الأعلى الذي لا أحسن منه ، على معنى النهي عن التصرف بأموالهم إلا به ،
ضرورة اقتضاء ذلك تعطيل مال الطفل ، إذ ما من حسن إلا وهناك أحسن منه ، بل المراد
مطلق الأحسن من عدم القرب ، إلا أن مقتضاه حينئذ التخيير في الافراد وإن تفاوتت ،
مع أن في الاكتفاء بالفرد الأدنى مع تيسر الفرد الأعلى مطلقا إشكالا إن لم يكن
منعا ، خصوصا لو فرض أحسنية إقراض مال الطفل من إبقائه لغرق وحرق ونحوهما ، وفرض
وجود الطالب الثقة الملي والرهن والكفيل فإنه لا إشكال في وجوب إقراضه ، وحرمة
إقراضه من الفاسق المجرد عن الملاءة والرهن
__________________
والكفيل ونحوها ،
وإن كان إقراضه مع انحصار الأمر فيه أحسن من الإبقاء ، اللهم إلا أن يقال : إن
مثله لا يعد أحسن ، وإنما أوجبنا ، مع الانحصار ، لأنه أقل قبحا من الإبقاء المؤدي
لتلف المال وضياعه ، وإلا فهو لا حسن فيه مع اتفاق غيره ممن فرض.
وقد يقال : إن
المراد بالأحسن من غيره من الأفراد الموجودة ، فيجب حينئذ تقديم الفرد الأعلى مع
وجوده ، ولكن لا يجب تطلبه مع وجود الفرد الأدنى ، فيكفي حينئذ في نفيه أصالة عدم
حصوله ، كما أنه يصدق على الفرد المتيسر أنه أحسن من غيره ، لعدم وجود فرد آخر ،
إذ غيره مما هو أعلى منه لو حصل كان فردا ، فهو فرض فرد لا فرد فعلا ، فلا يقدح
كونه أحسن.
إلا أنه ومع ذلك فالأحوط
والاولى عدم المبادرة إلى المتيسر مع مظنة حصول فرد آخر أعلى منه ، أو الاحتمال
المعتد به ، اكتفاء بأصالة العدم ، إلا أن يكون في المبادرة صلاح يرجح على المصلحة
التي في الانتظار ، بل قد يقال برجوع ذلك إلى الأول ، ضرورة كون الأحسن في الفرض
المزبور الإبقاء منتظرا للفرد الأعلى المظنون أو المحتمل احتمالا معتدا به ، كما
أن الأحسن مع فرض كون المبادرة أصلح الفرد المتيسر ، وبالجملة الميزان ما ذكرناه
وهو جيد جدا.
أو يقال : إن
المراد به ما يعد حسنا عند العقلاء ، فلا يراد من الأحسن معنى التفضيل بل المقصود
الرخصة في القرب لأموالهم بما يعده أهل المعرفة حسنا ، وأن فاعله من المحسنين ،
لكن قد يقال : إنه بعد التأمل راجع إلى الأول ، أو الثاني في الثمرة ، كما أن
احتمال إرادة الإطلاق من الآية من دون تقدير مفضل عليه مخصوص من القرب ، أو الغير
بدعوى أن لها مصاديق ينقحها العرف ، نحو ما قيل في الوجدان المنفي في آية التيمم وأنه لا حاجة إلى
تقدير متعلقة من الأماكن القريبة أو غيرها كذلك أيضا.
وقد بان لك من ذلك
كله المدار في المسألة الذي على الفقيه تحريره ، وإلا فالخصوصيات غير منضبطة ،
تختلف باختلاف الأحوال ، فليس على الفقيه حصرها ،
__________________
ولا تعليق الحكم
عليها ، وإن وقع ذلك من بعض الأصحاب فالمراد به الغلبة.
كما أنه بان لك
أيضا أنه لا يجوز أن يسلف ماله إلا مع ظهور الغبطة له ، كأن يبيع بزيادة عن الثمن
إلى أجل وأنها ربما توقفت على كونه من ثقة مليء برهن أو كفيل ، بل أطلق في
المسالك أنه حيث يجوز يجب كون المديون ثقة مليا ، ويرتهن على الحق ما يفي بقيمته
مع الإمكان.
بل : قال سابقا :
« إنه يعتبر في الرهن كونه مساويا للحق أو زائدا عليه ، ليتمكن استيفاؤه منه ،
وكونه بيد الولي أو يد عدل ليتم التوثق والإشهاد ولو أخل ببعض هذه ضمن » وإن كان
فيه أن ذلك كله ينبغي تقييده بتوقف التي هي أحسن عليه ، وأن الإبقاء بدون شيء من
ذلك هو الأحسن كالمحكي عن حجر التذكرة من أنه يرتهن به رهنا وافيا ، فإن لم يفعل
ضمن.
وعلى ذلك بنى قول
المصنف لا يجوز له إقراض ماله إذ لا غبطة. نعم لو خشي على المال من غرق أو حرق أو
نهب وما شاكله جاز إقراضه وأخذ الرهن بل في المسالك هنا أيضا يقرضه من الثقة الملي
ويرهن عليه ويشهد كما مر ، وقال أيضا : « من مسوغات إقراض مال اليتيم خوف تلفه ،
بتسويس الحنطة وشبهها ، فيقرضها من الثقة الملي مع الإمكان بالرهن ، لإمكان جحوده
وتعذر الإيفاء ».
وقال المصنف ولو
تعذر أي الرهن اقتصر على إقراضه من الثقة غالبا وظاهره كما في المسالك أن مع إمكان
الرهن لا يعتبر كون المقترض ثقة ولا مليا ، لانضباط الدين بالرهن ، كالمحكي عن
الإرشاد ، واللمعة ، ورهن التذكرة ، وحجر القواعد ، بل عن بعضهم التصريح بذلك ،
وفي التذكرة اعتبار الرهن والملاءة والثقة جميعا مع الإمكان ، وأسقط اعتبار الرهن
مع عدم إمكانه.
وعن المبسوط لا
يجوز القرض إلا في موضع الضرورة ، كالخوف من نهب أو حرق أو غرق ، فيجوز له حينئذ
أن يقرضه من ثقة ملي يقدر على قضائه ، إلى غير ذلك من كلماتهم التي لا بد من
إرجاعها إلى الميزان الذي ذكرناه سابقا ، الذي منه يعرف الحال فيما لو تعذر الثقة
والارتهان والملاءة ونحو ذلك ، وكان الخوف من الغرق ونحوه
حاصلا ، إذ لا ريب
في أنه في بعض الأحوال يكون الأحسن إقراضه ، ولو من الفاسق المعسر ، لأنه مرجو
الحصول في الدنيا والآخرة ، وفي بعضها الأحسن إبقاؤه باعتبار ضعف احتمال التلف
بالنسبة إلى الإقراض من الفاسق المعسر ، خصوصا بعد ملاحظة كون التالف ظلما يعوضه
الله جل شأنه على صاحبه في الدنيا والآخرة.
وعلى كل حال
فالأولى إيكال الأمر إلى الضابط المذكور الذي هو مختلف باختلاف الأحوال والأزمنة
والأمكنة ، بل معرفة الأولياء فيه مختلفة ، ومن ذلك يعلم عدم اعتبار العدالة
الشرعية ، فإنه ربما يكون السبيل الأحسن في غيرها ، لكن قد يظهر من جمع اللمعة ـ الثقة
والعدل ـ اعتبارها ، وفي المسالك « المراد بقولهم الثقة غالبا الثقة في ظاهر الحال
، يعنى الإكتفاء بظاهر أمره ، ولا يشترط العلم بذلك لتعذره ، فعبروا عن الظاهر
بالغالب ، نظرا إلى أن الظاهر يتحقق بكون الغالب على حاله كونه ثقة ، لا أن المراد
كونه في أغلب أحواله ثقة دون القليل ، لأن ذلك غير كاف ».
قلت : قد عرفت أن
المدار على غير ذلك ، ويمكن أن يكون المراد من الثقة غالبا من تطمئن به النفس
بالنسبة إلى الوفاء ، بل لا يعتبر في ذلك العلم للعسر ، بل يكفى فيه التتبع لأغلب
أحواله المفيد اطمينانا كما هو المعتاد والأمر في ذلك كله سهل بعد ما عرفت.
إنما الكلام في
أنه أي الضابط المزبور معتبر في تصرف المولى لنفسه ، أو يكفي فيه عدم الضرر على
الطفل ، فعن النهاية والوسيلة « أنه يجوز للولي اقتراض مال الطفل إذا كان متمكنا
من قضائه ، » وعن حجر التذكرة « لا يحتاج الأب إذا باع مال ولده عن نفسه نسيئة أن
يرتهن له من نفسه ، وكذا لو اشترى له سلما مع الغبطة بذلك » وعنه وعن جامع الشرائع
اشتراط الملاءة المصلحة للطفل ، بل عن السرائر « لا يجوز له بحال ، لأنه أمين
والأمين لا يجوز له أن يتصرف في أمانته » وإن كان هو واضح الضعف ، لمخالفته الآية
والرواية ف في صحيح أبى الربيع أنه « سئل الصادق 7 عن رجل ولي يتيم فاستقرض منه؟ فقال : إن على بن الحسين 8 قد كان
__________________
يستقرض من مال
أيتام كانوا في حجره ، فلا بأس بذلك » وفي خبر ابن أسباط « إن كان لأخيك
مال يحيط بمال اليتيم إن تلف فلا بأس به ، وإن لم يكن له مال فلا يعرض لمال اليتيم
» ونحوه خبره الآخر وخبر غيره مما تضمن العمل بمال اليتيم على سبيل القرض أو
القراض ، فلا ينبغي التأمل في جواز ذلك للولي في الجملة.
وإنما البحث في
اشتراط ذلك بما اشترط به التصرف بالنسبة إلى الغير من كونه الأحسن ، أولا ، مقتضى
إطلاق الآية الأول ، بل لعلها في تصرف الأولياء لأنفسهم أظهر ، كما أنها أقوى من
إطلاق بعض الأخبار ، وترجح عليه ، وإن كان التعارض بينها من وجه فالأحوط الاقتصار
في تصرفهم على ذلك ، خصوصا غير الأب والجد منهم ، فإنه قد يحتمل فيهما الاكتفاء بعدم
الضرر وتمام الكلام في ذلك في غير المقام والله أعلم.
وكيف كان ف إذا
اشترط المرتهن الوكالة في العقد لنفسه ، أو لغيره أو وضع الرهن في يد عدل معين صح
بلا خلاف ، بل عن الغنية الإجماع عليه ، لعموم « المؤمنون عند
شروطهم و ( أَوْفُوا ) وخصوص ما دل على الرهن
الشامل لهذا الفرد بل ولزم ولم يكن للراهن فسخ الوكالة وفاقا للمشهور بين الأصحاب
نقلا وتحصيلا بل عن السرائر نسبة الخلاف فيه إلى أهل الخلاف ، مشعرا بعدمه بيننا ،
ولعله كذلك ، فإني لم أجده إلا من الشهيد في اللمعة ، بناء منه على ما سمعته من
مذهبه من عدم اللزوم في نحوه من الشروط في العقود اللازمة ، وقد عرفت ضعفه.
نعم عن المبسوط أنه حكى الخلاف في ذلك
بلفظ القيل ، ويمكن أن يريد الشافعي كما يشهد له ما يظهر من السرائر ، فمن الغريب
قول المصنف فيه على تردد وإن ذكروا وجهه : كون الوكالة من العقود الجائزة التي من
شأنها تسلط كل منهما على الفسخ ، واشتراطها لا يقتضي لزومها ، وإلا لم تبطل بالموت
، أو عدم
__________________
لزوم الشرط وإن
كانت في عقد لازم ، وانما أقصاها التسليط على الفسخ ، أو أن الرهن وإن كان لازما
من طرف الراهن إلا أنه جائز من طرف المرتهن ، وترجيح أحدهما على الآخر ترجيح من
غير مرجح ، والأصل براءة الذمة من اللزوم ، فيكون كالشروط في العقود الجائزة.
والجميع كما ترى
إذ في الأول : أن الوكالة وإن كانت من العقود الجائزة بالذات ، لكن لا بأس بلزومها
من جهة العارض كالشرط ونحوه ، ودعوى أنه غير مقتض لذلك ـ يدفعها فرض كون المراد
منه البيع وكالة ، فهو كما لو صرح باشتراط عدم العزل ، لا أن المراد مطلق الوصف
بها وإن عزل بعد ذلك ، واحتمال أن التصريح بعدم العزل لا يقتضي عدم تريب الأثر لو
وقع ، بل أقصاه الإثم يدفعه أنه مناف لكون المؤمن عند شروطه ، والبطلان بالموت ـ لانتفاء
الموضوع ، ضرورة كونها استنابة تذهب بذهاب المنوب عنه ـ لا يقتضي جواز العزل.
وفي الثاني : ما
تقدم سابقا من منافاته لما دل على لزوم الشروط ، والوفاء بالعقود ، على أن التسلط
للفسخ هنا لا فائدة فيه ، بل يزيده ضررا ، إذ الفرض أنه شرط في عقد الرهن لنفسه ،
ففسخه يزيده ضررا ، ومن هنا جزم في الدروس في المقام باللزوم ، ولعله لما عرفت ،
وإن لم يقل به في غيره ، بل في المسالك « أن الوكالة هنا مما العقد كاف في تحققها
، فلا يحتاج بعده إلى صيغة أخرى لها ، لان الفرض منها مجرد الإذن بأي لفظ اتفق ،
وقد تقدم أنما العقد كاف في تحققه ، كجزء من الإيجاب والقبول ، فحيث يكون لازما
يلزم ، وإن قلنا بعدم وجوب الوفاء بشرط لا يكفي العقد في تحققه » وقد أشار بذلك
إلى تفصيل قد حكينا سابقا عن الشهيد في الشرائط بين ما تحتاج إلى أمر آخر غير
العقد المشترط فيه ، وبين ما لا يحتاج إلى ذلك ، بل كان العقد كافيا في لزومها ،
وهو وإن كان فيه ما فيه أيضا ، إلا أنه قد يناقش في كون الوكالة هنا من القسم
الثاني ، بل وفي حصول الإذن بعد أن كان المراد من الشرط إيقاع الوكالة بعد عقد
الرهن ، إذ لا معنى لإنشائها بلفظ الشرط المعلوم عدم صلاحيته لذلك ، فتأمل.
اللهم إلا أن يقال
: إن المراد من اشتراط الوكالة هو ما أشرنا إليه سابقا من
البيع عنه ، وليس
المراد نفس الوكالة وحينئذ لا يحتاج إلى أمر آخر غير الشرط ـ في العقد الذي قد
استحق به ، بمقتضى عموم « المؤمنون عند
شروطهم » ـ عليه البيع عنه ، وانحلال ذلك إلى الوكالة لا يقتضي كون المراد
اشتراطها على وجه تحتاج إلى صيغة بعد العقد ، أو أن المراد اشتراط أثر عقد الوكالة
، أو نحو ذلك ، فتأمل جيدا ، فإنه دقيق نافع في وجه إطلاق الأصحاب لزوم الوكالة
متى اشترط في عقد لازم والله اعلم.
وفي الثالث : أن
الشرط على الراهن فيكون لازما لأن الفرض لزوم العقد من جهته. نعم لو وقع شرط على
المرتهن أمكن عدم لزومه عليه باعتبار أن له فسخ العقد المشروط فيه.
وكيف كان فلا
اشكال بل ولا خلاف في أنها : أي الوكالة المشترط تبطل بموته أي الراهن كبطلانها
بموت الوكيل ، سواء كان المرتهن أو غيره لما عرفت من أن لزومها الحاصل من الاشتراط
ما دام محلها باقيا ، لا إذا خرج عن قابلية النيابة والاستنابة اللذينهما من
مقومات الوكالة.
نعم تبطل هي خاصة
دون الرهانة لعدم الارتباط بينهما ، ضرورة تبعية الرهانة للدين الذي لم يختلف في
حالي موت كل منهما ، وحياته. ومن هنا حكى الشهيد عن إملاء فخر الإسلام أنه نقل
الإجماع على انتقال حق الارتهان إلى المشتري لو باعه المرتهن ، وهو في ذمة الراهن
من شخص فتغير مالك الدين ـ كتغير مالك العين المرهونة بموت الراهن والمرتهن ـ غير
قادح في انتقال حق الرهانة ، فضلا عن تبين كون الدين لغير المرتهن بإقرار ، أو
بينة على أنه كان وكيلا في الدين والارتهان كما هو واضح.
وقد ظهر مما ذكرنا
أنه لو مات المرتهن المشروط وكالته لم تنقل إلى الوارث وكالته ، لكن ذكر المصنف
وغيره إلا أن يشترطه بل لم يعرف فيه خلاف بينهم وكذا إن كان الوكيل غيره أي
المرتهن.
__________________
وربما أشكل بأنه
لا معنى لاشتراط انتقال الوكالة التي تبطل بالموت ، وبأنه لا معنى لاشتراط وكالة
الوارث على معنى حصولها بنفس الشرط في العقد على حسب حال المورث وربما يكون غير
موجود حال الاشتراط ، فضلا عن كونه غير قابل.
ويدفع بأن المراد
بالاشتراط ما عرفت من البيع عنه للمرتهن ، أو لوارثه فالشرط عليه هو البيع عنه ،
وهو صحيح بالنسبة إلى المرتهن ووارثه والأجنبي ، والوكالة فيه تبعية لا أصلية ، أو
يراد اشتراط التوكيل عليه بصيغة جديدة للوارث ، إلا أن الأول أولى وأدق ، كما أن
اشتراطها على الراهن بعد موته لا بد من تنزيله على الوصية ، ضرورة عدم صحة الوكالة
بعد الموت والله أعلم.
وقد تلخص من ذلك
ومما ذكرناه في غير المقام أن المراد بقول الأصحاب تلزم الوكالة إذا اشترطت في عقد
لازم ، أحد أمرين :
الأول : إرادة
الوكالة العقدية ، وهذه لا ريب في عدم تحققها بالشرط الذي هو في الحقيقة معنى
مباين لإيجابها ، فلا يتحقق حينئذ عقدها بذلك ، ولا يقال : انهما عقدان بل هو عقد
واحد مشتمل على شرط مفيد للإلزام بحصولها ، فيحتاج في الوفاء به إلى إيجاد عقدها
ولزومها ، إما لكون المراد ولو من القرينة إرادة عدم العزل ، وإما لكون المراد
البيع وكيلا عنه من حين إيجاد صيغة التوكيل إلى حصولها البيع ، فلو عزله في
الأثناء لم يؤثر ، لكونه منافيا للشرط الذي هو البيع عنه وكيلا من حين التوكيل.
نعم لا ريب في
جريان باقي أحكام الوكالة عليها ، كالفسخ بالموت والجنون والإغماء ونحو ذلك ، مما
كان دليله شاملا للوكالة المشروطة في عقد لازم وغيرها لكون كل منهما وكالة ولم يفد
الشرط إلا كونها لازمة على المشروط عليه ، بمعنى عدم جواز فسخها منه باعتبار وجوب
الوفاء بالشرط لا غير ذلك ، من أحكام الوكالة ، ولعل هذا هو الموافق لكلمات
الأصحاب ، خصوصا مع ملاحظة ما ذكرناه في وجه الاستدلال على انفساخها بالموت ،
وخصوصا مع ملاحظة إطلاق اسم الوكالة عليها ، وهي عندهم عبارة عن العقد المخصوص ،
ولا ينافي ذلك قولهم أنها لا تنتقل بموت المرتهن مثلا
إلى وارثه الا مع
الشرط ، ضرورة صلاحية إلزام تحصيلها بعقدها على الراهن مثلا بالنسبة إلى وارث المرتهن
وغيره ، لعموم أدلة الشرط ، لا أن المراد انتقال الوكالة من دون عقدها إلى الوارث
بالشرط كما هو واضح.
والثاني : أن يراد
بالوكالة المصداق الموافق لمصداقها مع عدم التقييد بكونها وكالة ، نحو ملك العين
بعوض معلوم وإن لم يكن بيعا ، وقد ذكرنا سابقا صحة اشتراط ذلك بعد عدم دليل على
انحصار مفاده في عقد الوكالة التي أقصاها أنها تفيده ، لا أنه لا يكون إلا بها ،
فيبقى عموم الشرط حينئذ بحاله.
نعم لا يلحق ذلك
شيء من أحكام الوكالة الثابتة لها من حيث كونها وكالة ، لما عرفته من عدم كون
الحاصل بالشرط من أفرادها ، أما الانفساخ بالموت والجنون والإغماء فقد يقال :
بثبوتها باعتبار لحوقها لمعنى النيابة المفروض تحققها في المعنى الشرطي ، إذ لا
يعقل نيابته وهو ميت أو مجنون أو مغمى عليه ، كما لا يعقل نيابته عنهم.
وبالجملة كل حكم
ثبت للوكالة من حيث معنى النيابة يلحق المستفاد من الشرط ، ضرورة كونه نيابة ، وإن
لم يكن وكالة ، دون غيره من الأحكام الثابتة للوكالة باعتبار مفهومها المفروض عدمه
في المعنى الشرطي ، وأما اشتراط هذا المعنى بالنسبة إلى الوارث أو الأجنبي فلا بأس
به ، لعموم المؤمنون وغيرها ، وليس هو من الوكالة المحتاجة إلى عقد وهذا جيد
وينطبق عليه اللزوم مع الاشتراط في عقد لازم ، إلا أنه بعيد عن كلمات الأصحاب
والله العالم.
ولو مات المرتهن
ولم يعلم أن الرهن في تركته ، لم يحكم به في ذمته ، لأصالة البراءة ، ولعله تلف
منه بغير تفريط ، ولا في ماله لأصالة عدمه فيما هو في ملكه بمقتضى ظاهر يده
المحكوم شرعا بأنه لورثته ، بمقتضى عموم « ما تركه الميت »
وحينئذ فلو كان الرهن فيها في الواقع فهو كسبيل ماله في الظاهر ، كما في السرائر ،
والقواعد ، والتحرير ، وغيرها حتى يعلم بعينه بقيام بينة ونحوها ، وان اشتبه
بنظائره فيها ، فإن المرجع فيه حينئذ إلى الصلح ونحوه ، لا أن المراد حتى
__________________
يعلم بشخصه وخصوصه
، ضرورة عدم خروج المال عن ملك صاحبه بالاشتباه ، بل الظاهر تقديمه على الغرماء ،
لكونه كالشريك في الأعيان.
وإن كان قد يحتمل
مساواتهم باعتبار كون الاشتباه كالتلف في الرجوع إلى الضمان ، ولعله لذا قال
المصنف في باب الوديعة : « إذا اعترف بالوديعة ثم مات وجهلت عينها قيل : تخرج من
أصل تركته ، ولو كان له غرماء ، فضاقت التركة حاصهم المستودع ، على تردد » وإن كان
هو واضح الضعف.
وكيف كان فلا بد
من حمل العبارة على ما ذكرناه ، وان كانت لا تخلو من إبهام ولذا تركها في القواعد
وغيرها والأمر في ذلك سهل. نعم قد يشكل أصل الحكم بذلك وان كان ظاهرهم الجزم به
هنا ، كما اعترف به في المسالك ، بأن الأصل بقاؤه في المال الذي كان في زمن الحياة
ملك ورهن ، فلا قضاء لليد بالملك بعد العلم بأنها كانت أعم ، والأصل عدم التلف ،
كما أن الأصل عدم تركة له غير الموجود ، فينحصر الرهن حينئذ في التركة الموجودة
بمقتضى الأصل الشرعي الذي هو بعد فرض حجيته كالبينة ونحوها ، وأصالة عدم كونها من
التركة الموجودة لا أصل لها ، إذ ليس لها حالة سابقه كان خارجا عنها حتى تستصحب.
وما في المسالك ـ تبعا
لجامع المقاصد في الجملة من أنه يمكن أن يقال :لا تعارض بين الأصلين ، فأصالة بقاء
المال يمكن أن يجامع أصالة البراءة ، لأن المال بيد المرتهن غير مضمون ، بل هو
امانة يمكن تلفه بغير تفريط فلا يكون مضمونا ، وحديث « على اليد ما أخذت حتى تؤدى » لا بد من تخصيصه بالأمانات ،
ولم يعلم هنا ما يزيل الأمانة ، فيبقى أصالة براءة الذمة رافعة لاستحقاق الراهن في
المال والذمة ، لعدم التعارض ، فيتم ما أطلقوه حيث يشتبه الحال.
ـ واضح الضعف بعد
ما عرفت من اقتضاء أصالة بقاء المال ، وأصل عدم التلف ، وأصل عدم تركة له غير
الموجود ـ كونه في المال ، وليس هذا من ضمان المال حتى يقال : إن الأمانة خرجت من عموم
« على اليد » وفي مضاربة القواعد « ولو مات العامل
__________________
ولم يعرف بقاء مال
المضاربة بعينه صار أسوة الغرماء على إشكال » وستسمع ما فيها.
وفي التذكرة في
الوديعة « نعم قد يتجه ما ذكره فيما لو علم بالرهن ، ولم يوجد في التركة قطعا ،
كما إذا كان سيفا مثلا ولا سيف فيها ، مع أنه قد يقال : بالضمان فيه أيضا ، لأصالة
البقاء ، وعموم « على اليد » المسلم استثناء تلف الأمانة منه بغير تفريط ، الثابت
بالبينة أو بيمين لا سائر أحوال الأمانة ، فالتلف الذي لم يدع الأمين كونه بغير
تفريط ، ولا علم كونه كذلك على قاعدة الضمان.
بل لو سلم أن
المستثنى تلف الأمانة مطلقا ، حتى يكون الأصل في تلفها عدم الضمان إلا بأن يعلم
كونه بتفريط ، فهو بعد إحراز التلف ، أما إذا لم يكن معلوما بل الأصل يقتضي عدمه ،
فلا ، وعدم الوجود في التركة أعم منه قطعا ، إذ يمكن جعله في حرز لا يعلم به إلا
هو ، فعموم على اليد بحاله ، بل في الحقيقة ليس ذلك تضمينا بل هو رد للأمانة
المحكوم ببقائها بمقتضى الأصل الذي لا فرق بين الأمين وغيره في الخطاب به ».
قال في القواعد :
ولو مات المستودع ولم توجد الوديعة في تركته فهي والديون سواء على إشكال : أي في
كيفية الضمان لا في أصله ، هذا إن أقر أن عنده وديعة ، أو عليه وديعة أو ثبت أنه
مات وعنده وديعة ، أما لو كانت عنده في حياته ولم توجد بعينها ، ولم يعلم بقاؤها
ففي الضمان إشكال » وعن شرح الإرشاد « نسبة الضمان إلى نص الأصحاب » وفي التذكرة «
قد بينا الخلاف فيما إذا كان عنده وديعة ولم توجد في تركته ، فإن الذي يقتضيه
النظر عدم الضمان ، والذي عليه فتوى أكثر العلماء منا ومن الشافعية الضمان ».
وقد بان لك من ذلك
كله أن الصور ستة :الأولى : علم الرهن في جملة التركة.
الثانية : أن يعلم
أنه كان عند الميت ولم يعلم كونه في التركة أولا؟ تلف بغير تفريط أولا؟.
الثالثة : أن يعلم
كونه عنده كذلك ، ولكن ليس في التركة قطعا.
الرابعة : أن يعلم
تلفه في يده ولم يعلم كونه بتفريط أولا؟.
الخامسة : أن يعلم
كونه عنده إلى أن مات ، وأنه لم يتلف منه ، إلا أنه لم يوجد في التركة.
السادسة : كذلك ،
إلا أنها مع احتمال التلف بعد الموت ، كل ذلك مع عدم التقصير منه بترك الوصية
والإشهاد ، وحكم الأولى واضح ، كحكم ما لو علم الرهن بعينه ، أما ما عداها فقد
يقوى الضمان في غير الرابعة التي قد عرفت احتماله فيها ، إلا أن الأقوى خلافه ،
كما أن الأقوى في بعض صور الضمان التقديم على باقي الغرماء ، بل لعله محتمل في
جميعها ، لما عرفت من أنه في الحقيقة رد للأمانة نفسها ، لا ضمان لها.
أما إذا لم يعلم
أن في التركة رهنا ، لعدم العلم بأصل الرهانة فلا إشكال في كون الحكم في الجميع
كسبيل مال الميت ، عملا بظاهر اليد ، وأصالة عدم الرهن ، ويمكن حمل عبارة المصنف
وغيره عليه. بل لعله كذلك في العلم بأصل الرهانة في الجملة ، إلا أنه لم يعلم الفك
وعدمه ، وإن كان قد يحتمل الحكم بها لأصالتها ، خصوصا إذا كانت العين مشخصة ، وقد
علم أنها كانت رهنا عند الميت ، ثم لم يعلم أنها قد خرجت عنه ودخلت في ملك الميت ،
أو أنها باقية على الحال الأول ، فتأمل.
واحتمال ـ خروج
الرهن عن حكم الوديعة والمضاربة ، لخبر عمر بن رياح القلاء « سألت أبا الحسن
7 عن رجل هلك وترك صندوقا فيه رهون ، بعضها عليها أسماء أصحابها ، وبكم هو رهن
، وبعضها لا يدرى لمن هو ، ولا بكم هو رهن ، فما ترى في هذا الذي لا يعرف صاحبه؟
فقال : هو كماله. »
يدفعه معلومية عدم
العمل بظاهر الخبر فيما نحن بصدده ، بل يكون ذلك كمجهول المالك ، أو يحمل على عدم
معرفة كونه رهنا ، أو نحو ذلك مما لا يخالف الضوابط فتأمل جيدا. فإن المسألة غير
محررة في كلامهم ، بل لعل المغروس في الذهن عدم الضمان في كثير من صورها والله
أعلم.
__________________
ويجوز للمرتهن
ابتياع الرهن من الراهن أو من يقوم مقامه قطعا ، ومن نفسه إذا كان وكيلا عنه وكالة
شاملة له بالتصريح أو العموم الذي هو مثله ، بل ومع إطلاق الوكالة على المشهور ،
بل في المختلف « من غير كراهة لتحقق الموكل عليه بالبيع منه ، ضرورة صدقه عليه »
خصوصا مع اشعار عدم التعرض للخصوصية بالغائها ، وأن المراد بيعه بثمنه من أي
مشتركان ، ودعوى ـ ظهور الوكالة في عدم بيعه عليه ، أو في البيع على غيره من غير
تعرض له ، فحينئذ لا يجوز إلا بالإذن ، أو وجود قرينة تدل عليه ، كما اختاره في
جامع المقاصد هنا ـ لا شاهد لها ، ولو سلم الانسياق فهو انسياق أظهرية لبعض
الأفراد ، لا أن ذلك هو المراد.
وهذا البحث لا يخص
المقام ، بل هو جار في غيره ، وتمام الكلام فيه هناك ، إلا أن ظاهر المصنف فيما
تقدم عدم بيعه من نفسه في إطلاق الوكالة ، وعن أبى على : « لو وكل المرتهن في بيعه
لم اختر له بيع ذلك ، خاصة إذا كان الرهن مما يحتاج إلى استيفاء أو وزن ، أو أراد
المرتهن شراءه أو بيعه لولده وشريكه ، أو ما يجرى مجراهما » وظاهره الكراهة وإن
حكي عنه المنع ، والله أعلم.
والمرتهن أحق من
استيفاء دينه من الرهن من غيره من باقي الغرماء ، سواء كان الراهن حيا وقد حجر
عليه للفلس أو ميتا ، على الأشهر بل المشهور بل لا خلاف فيه في الأول ، بل والثاني
عدا ما عساه يظهر من الصدوق ، حيث أنه روى الرواية الدالة على الاشتراك التي رماها
في السرائر بالشذوذ ، وفي الدروس بالهجر ، وهو في معنى الإجماع ، بل في الأول
دعواه صريحا ولعله كذلك إذ خلاف الصدوق ـ مع أنه غير متحقق ، لعدوله عما ذكره في
أول كتابه من أنه لا يذكر فيه إلا ما يفتي به ـ غير قادح فهو الحجة حينئذ ، مضافا
إلى ما دل من النصوص وغيرها على كون الرهن وثيقة للدين ، وفائدتها شرعا وعرفا
استيفاء الدين منها.
__________________
وخبر عبد الله بن
الحكم ـ الضعيف المرتفع القول عن الصادق 7 « عن رجل أفلس وعليه الدين لقوم ، وعند بعضهم رهون ، وليس
عند بعضهم فمات ، ولا يحيط ماله بما عليه من الدين ، فقال : يقسم جميع ما خلف من
الرهون وغيرها على أرباب الدين بالحصص ».
ـ محمول على
الرهانة بعد الفلس ، أو مطرح كمكاتبة سليمان بن حفص ـ الذي لم ينص
علماء الرجال على توثيقه ، بل ولا مدحه ، ـ إلى أبي الحسن 7 « في رجل مات
وعليه الدين ولم يخلف شيئا إلا رهنا في يد بعضهم ، فلا يبلغ ثمنه أكثر من مال
المرتهن ، أيأخذه بماله ، أو هو وسائر الديان فيه شركاء فكتب جميع الديان في ذلك
سواء ، يتوزعونه بينهم بالحصص » فمن الغريب وسوسة بعض متأخري المتأخرين في الحكم
المزبور لهما ، ولا غرابة بعد اختلال الطريقة ، نعم لو زاد الرهن عن الدين اختص
الغرماء بالزائد.
وأما لو أعوز
الرهن عن وفاء الدين وقصر ضرب صاحب الدين مع الغرماء بالفاضل بلا خلاف ولا إشكال
لأن دينه في الذمة لا محصور بالرهن كما هو واضح وكيف كان ف الرهن أمانة في يده لا
يضمنه لو تلف عنده بغير تفريط ، بلا خلاف أجده فيه بيننا ، بل ظاهر كشف الحق وغيره
الإجماع عليه ، بل عن الخلاف ، والغنية ، والسرائر ، والتذكرة ، والمفاتيح ، دعواه
صريحا ، فمن الغريب نسبته في الدروس إلى الأشهر ، مشعرا بوجود الخلاف فيه بيننا ،
نعم هو معروف بين العامة.
فعن أبي حنيفة أنه
مضمون ، وعن شريح ، والنخعي ، والحسن البصري ، أنه مضمون بجميع الدين ، وإن كان
أكثر من قيمته ، لأن الرهانة تذهب بما فيها ، وربما حكي عنهم أنه مضمون بجميع
قيمته ، فيتراد ان الفضل حينئذ بينهما. وعن الثوري ، وأصحاب الرأي أنه يضمنه بأقل
الأمرين من قيمته أو قدر الدين ، فإن كان قيمته أقل سقط من الدين بقدر قيمته وإلا
سقط الدين ولا يضمن الزيادة.
__________________
وقال الصادق 7 في صحيح جميل « عن رجل رهن عند
رجل رهنا فضاع الرهن فهو من مال الراهن ، ويرتجع المرتهن بماله عليه » وفي صحيح
إسحاق بن عمار الصيرفي الثقة « قلت لأبي إبراهيم 7 : الرجل يرتهن العبد فيصيبه عورا وينقص من جسده شيء ، على
من يكون نقصان ذلك؟ قال : على مولاه ، قال : إن الناس يقولون إن رهنت العبد فمرض
أو انفقأت عينه فأصابه نقصان في جسده ينقص من مال الرجل بقدر ما ينقص من العبد ،
قال : أرأيت لو أن العبد قتل قتيلا على من تكون جنايته؟ قال : جنايته في عنقه ».
وفي خبره الآخر عنه أيضا « قلت
له : الرجل يرهن الغلام أو الدار ، فتصيبه الآفة على من يكون؟ قال : على مولاه ،
ثم قال : أرأيت لو قتل قتيلا على من كان يكون؟ قلت : هو في عنق العبد ، قال : ألا
ترى فلم يذهب عن مال هذا ، ثم قال :أرايت لو كان ثمنه ماءة دينار فزاد وبلغ مأتي
دينار لمن كان يكون؟ قلت : لمولاه ، قال : وكذلك يكون عليه ما يكون له » إلى غير
ذلك من الأخبار الدالة على المجمع عليه بين الأصحاب ، المشتملة على بيان الوجه ردا
على العامة العمياء ، المستفاد منها الدلالة بما دل من النصوص على أن منفعة الرهن
للمالك ، بضميمة قاعدة « أن من كان النفع له ، كان النقصان عليه ».
كما تضمنه الخبر
النبوي المشهور الذي استدل به هنا غير واحد من الأصحاب : « لا
يغلق الرهن من صاحبه ، له غنمه ، وعليه غرمه » أي لا يملكه المرتهن بالارتهان وفي
الآخر « الخراج بالضمان » فإذا كان خراجه للراهن بلا خلاف ، كان ضمانه عليه.
فمن الغريب وسوسة
بعض متأخري المتأخرين في الحكم المزبور ، لأخبار
__________________
معلومة الطرح بين
الأصحاب ، وأنها خرجت مخرج التقية ، أو محمولة على التفريط ، أو نحو ذلك.
ك خبر محمد بن قيس
عن الصادق 7 « عن أبي جعفر 7 قضى أمير المؤمنين 7 في الرهن إذا كان أكثر من مال المرتهن فهلك أن يؤدي الفضل
إلى صاحب الرهن ، وإن كان أقل من ماله فهلك الرهن أدى إلى صاحبه فضل ماله ، وإن
كان الرهن يسوى ما رهنه ، فليس عليه شيء ».
وموثق ابن بكير « سألت أبا عبد
الله 7 عن الرهن؟ فقال : إن كان أكثر من مال المرتهن فهلك أن يؤدى الفضل الى صاحب
الرهن وإن كان أقل من ماله فهلك الرهن ، أدى إلى صاحبه فضل ماله ، وإن كان سواء
فليس عليه شيء ».
وخبر أبي حمزة « سألت أبا جعفر 7 عن قول علي 7 في الرهن يترادان
الفضل؟ قال : كان علي 7 يقول : ذلك ، قلت : كيف يترادان الفضل؟ فقال : إذا كان
الرهن أفضل مما رهن به ، ثم عطب يرد المرتهن بالفضل على صاحبه ، وإن كان لا يسوى
رد الراهن ما نقص من حق المرتهن ، قال : وكذلك كان قول علي 7 في الحيوان وغير
ذلك ».
وخبر عبد الله بن
الحكم « سألت الصادق 7 عن رجل رهن عند رجل رهنا على ألف درهم ، والرهن يساوي
ألفين فضاع فقال يرجع عليه بفضل ما رهنه ، وإن كان أنقص مما رهنه عليه فالرهن بما
فيه ».
وخبر إسحاق بن
عمار « سألت أبا إبراهيم 7 عن الرجل يرهن الرهن بمأة درهم وهو يساوي ثلاثمائة درهم ،
فهلك ، أعلى الرجل أن يرد على صاحبه مأتي درهم؟ قال : نعم ، لأنه أخذ رهنا فيه فضل
وضيعة ، قلت : فهلك نصف الرهن فقال : على حساب ذلك ، قلت : فيترادان الفضل؟ قال :
نعم ».
إلى غير ذلك من
النصوص التي يمكن حملها على صورة التفريط ، كما يشعر به
__________________
قوله في الأخير
ضيعه ، بل أوضح منه مرسل أبان « عن أبي عبد الله 7 أنه قال في الرهن : إذا ضاع عند المرتهن من غير أن يستهلكه
رجع في حقه على الراهن فأخذه ، فإن استهلكه ترادا الفضل فيما بينهما » بل هو
كالصريح في أن مراد على مما رووه عنه 7 من تراد الفضل فيما بينهما في صورة الاستهلاك ، لا ما فهمه
بعض العامة.
وعلى كل حال
فالمسألة من الواضحات ، وحينئذ فهو أمانة يجري عليه حكمها الذي منه تصديقه في دعوى
التلف ، من غير فرق بين ذهابه وحده ، أو مع جملة من ماله.
لكن في مرسل أبان « عن أبي عبد
الله 7 سألته كيف يكون الرهن بما فيه؟ إن كان حيوانا ، أو دابة ، أو ذهبا ، أو فضة ،
أو متاعا ، فأصابته جائحة حريق أو لص ، فهلك ماله أو بعض متاعه ، وليس له على
مصيبته ببينة ، قال : إذا ذهب متاعه كله فلم يوجد له شيء فلا شيء عليه ، وإن قال
: ذهب من بين مالي وله مال فلا يصدق » وبه أفتى ابن الجنيد قال فيما حكي عنه :
والمرتهن يصدق في ضياع الرهن إذا كان جائحة ظاهرة ، أو إذا ذهب متاعه والمرهون ،
فإن ادعى ذهاب الرهن وحده ، لم يصدق ولم أجد له موافقا منا.
نعم حكي عن مالك
أنه إن كان تلفه أي الرهن بأمر ظاهر كان من ضمان الراهن ، وإن ادعى تلفه بأمر خفي
ضمنه المرتهن ، كما أنه لم أجد موافقا للصدوق فيما حكي عنه من عدم ضمان المرتهن لو
ترك تعاهد الرهن ونشره ، مع حاجته إليهما فتلف بذلك ، عملا بما أرسله في الفقيه « في رجل رهن عند
رجل مملوكا فجذم أو رهن عنده متاعا فلم ينشر ذلك المتاع ولم يتعاهده ولم يحركه
فأكل ـ يعني أكله السوس ـ ينقصه من ماله بقدر ذلك؟ قال : لا » ويمكن حمله على عدم
علم المرتهن باحتياجه ، أو على اشتراطه التعاهد على الراهن ، أو غير ذلك ، كما أنه
يمكن حمل الأول على
__________________
إرادة حصول التهمة
الموجبة لليمين عليه ، فلا ريب في أن العمل فيهما على المشهور.
وقد ظهر من ذلك
كله أنه لا يسقط من حقه أى المرتهن شيء ما لم يتلف في يده بتفريطه فأما إذا كان
بتفريط حصل التهاتر قهرا مع حصول شرائطه ، وإلا كان كل منهما مديونا للآخر ،
واحتمال التهاتر على كل حال ـ الظاهر ما سمعته من النصوص المحمولة على ذلك ، أو
الظاهرة فيه ، ـ بعيد لقصورها عن الجرأة بها على مخالفة الضوابط ، خصوصا بعد
احتمال جريانها على الغالب من المساواة ، واحتمال إرادة شبه التهاتر منها أو غير
ذلك ، فما عساه يوهمه عبارة المصنف وغيرها ، لا بد من تقييده بما ذكرنا.
وعلى كل حال
فالمشهور بين الأصحاب خصوصا المتأخرين عدم جواز تصرف المرتهن في الرهن من دون إذن
الراهن ف لو تصرف المرتهن حينئذ فيه اى في الرهن بركوب أو سكنى مثلا أو إجارة من
دون إذن الراهن أثم وضمن العين لو تلفت بقيمتها يوم الهلاك ، أو يوم التعدي ، أو
يوم المطالبة ، أو أعلى القيم على البحث السابق والآتي في الغاصب ونحوه.
ولزمه أجرة المثل
في الأولين على المشهور ، بل ربما ظهر من بعضهم الإجماع عليه ، لأنه انتفاع بمال
الغير بغير إذنه.
والحسن كالصحيح « عن أبي جعفر 7 أن أمير المؤمنين
7 قال في الأرض البور يرتهنها الرجل ليس فيها ثمرة ، فزرعها وأنفق عليها من
ماله ، أنه يحتسب له نفقته وعمله خالصا ، ثم ينظر نصيب الأرض فيحتسب من ماله الذي
ارتهن به الأرض حتى يستوفى ماله ، فإذا استوفى ماله فليدفع الأرض إلى صاحبها » ولغير
ذلك.
والأجرة المسماة
في الثالث ، إذا كان قد قبضها المستأجر ، وأجاز المالك عقد الإجارة والقبض ، فان
لم يجز القبض رجع بها على المستأجر إذا كانت في الذمة وإلا تخير بين الرجوع عليه
والرجوع على المرتهن ، وان لم يجز العقد ولم تمض مدة تصلح لاستيفاء ما يقابل بأجرة
عادة ، فضلا عن المنفعة المقصودة بالإجارة لم يكن
__________________
له شيء عندهما ،
أما إذا أسلمها وقد مضت إحدى المدتين كان له أجرة المثل على المستأجر بفوات
المستأجر منفعة ماله في يده التي هي يد ضمان ، بل قد يقال : بأن له الرجوع على
المرتهن لأنه بإجارته صار غاصبا ، فيتخير المالك في الرجوع على من شاء منهما.
ومنه ينقدح ضمانه :
أى المرتهن كل منفعة للرهن تفوت عنده ، إذ كان قد تعدى فيه وإن لم يستوفها ، بل
ينقدح ضمانه في الفرض ، وان لم يتسلم المستأجر العين ، بناء على أن عقده عليها ،
وبذلها للمستأجر تعد ، كما صرح به في المسالك ، وان لم يتسلمها منه ، نعم لو كان
مجرد عقد فضولا ولم يسلمها إياه ولا بذلها له لم يكن تعديا.
وكيف كان فلا فرق
في عدم جواز تصرف المرتهن بين كونه قد أنفق على الرهن بوجه شرعي أو لم ينفق ، لقبح
التصرف في مال الغير على كل حال ، وحينئذ ف إن كان للرهن مؤنة كالدابة ، أنفق
عليها ولو كان قد تصرف فيها بركوب ونحوه ظلما وتقاصا كما في النافع ، والقواعد ،
والتحرير ، والإرشاد ، والكتاب ، واللمعة ، وغيرها ، بل في الدروس عليه المتأخرون
: أي تهاترا قهرا مع اجتماع الشرائط من التساوي في النوع والصفة.
وقيل إن الشيخ في
نهايته والحلبي ، وابني حمزة ، وسعيد قالوا إذا أنفق عليها كان له ركوبها أو يرجع
على الراهن بما أنفق قال في النهاية : « إذا كان الرهن الدابة فركبها المرتهن كانت
نفقتها عليه ، وكذلك إذا كانت شاة وشرب لبنها كان عليه نفقتها ، وإذا كان عند
إنسان دابة ، أو حيوان ، أو رقيق رهنا ، فإن نفقتها على الراهن دون المرتهن ، فإن
أنفق المرتهن عليها كان له ركوبها ، والانتفاع بها ، أو الرجوع على الراهن بما
أنفق » ، وقال أبو الصلاح : « يجوز للمرتهن إذا كان الرهن حيوانا يتكفل مؤنته أن
ينتفع بظهره أو خدمته أو صوفه أو لبنه ، وإن لم يتراضيا ، ولا يحل شيء من ذلك من
غير تكفل مؤنة ولا مراضاة ، والأولى أن يصرف قيمة منافعه في مؤنته ».
وفي الوسيلة : وإن
رهن حيوانا كان نفقته على الراهن ، فإن أنفق عليه المرتهن كان له الرجوع على صاحبه
ما لم ينتفع به ، فإن انتفع به ولم ينفق رد قدر ما انتفع به ، نحو ما في جامع
الشرائع ، كما قيل ، إلا أن الأخيرين كما ترى لا صراحة فيهما بالخلاف ، بل يمكن
إرجاع كلامهما إلى ما عليه الأصحاب ، فانحصر الخلاف حينئذ في النهاية التي هي متون
أخبار ، وليست كتاب فتوى ، وفي أبي الصلاح الذي نقل لنا كلامه ، وليس النقل
كالعيان.
وعلي كل حال
فمستندهما في ذلك صحيح أبي ولاد « سألت أبا عبد الله 7 عن الرجل يأخذ الدابة أو البعير رهنا بماله إله أن يركبه؟
فقال : إن كان يعلفه فله أن يركبه ، وإن كان الذي رهنه عنده يعلفه ، فليس له أن
يركبه ، » وخبر السكوني « عن جعفر عن أبيه عن آبائه عن علي 7 قال : « قال رسول
الله 6 :الظهر يركب إذا كان
مرهونا ، وعلى الذي يركب نفقته ، والدر يشرب إذا كان مرهونا ، وعلى الذي يشرب
نفقته » اللذين يمكن حملهما على مساواة الحقين ، والإذن ولو للعادة ، أو لأن رهنه
مع عدم الإنفاق قرينة على ذلك ، ولا سيما إذا كان عدم الركوب والحلب مما يفسده ،
أو على غير ذلك.
بل لا بأس بطرحهما
، بعد اعراض معظم الأصحاب عنهما بل في التذكرة « ليس للمرتهن الانتفاع بالرهن بدون
إذن الراهن بلا خلاف ، » وفي السرائر « لا يجوز للمرتهن التصرف في الرهن على حال ،
للإجماع على أن الراهن والمرتهن ممنوعان من التصرف في الرهن » ومخالفتهما لقاعدة «
عدم التصرف في مال الغير بغير إذنه » وقاعدة الضمان لما يتلفه المتلف ، والرجوع
بما عرفه على الوجه الشرعي ، مضافا إلى عدم صراحتهما في المقابلة ، ولا في منع
المقاصة.
فمن الغريب بعد
ذلك كله ما في الدروس من أن المشهور جواز الانتفاع ، قال : « ونفقة الرهن على
الراهن لا على المرتهن ، فإن أنفق متبرعا فلا رجوع ، وإن كان بإذن الراهن ، أو
الحاكم عند تعذره أو أشهد عند تعذر الحاكم ، رجع بها على الراهن ،
__________________
ولو كان له منفعة
كالركوب والدر فالمشهور جواز الانتفاع بهما ، ويكون بإزاء النفقة ، وهو في رواية
أبي ولاد والسكوني وفي النهاية « إن انتفع ، وإلا رجع بالنفقة ».
ومنع ابن إدريس من
الانتفاع ، فإن انتفع تقاصا وعليه المتأخرون ، والروايتان ليستا بصريحتين في
المقابلة ، ولا مانعتين من المقاصة ، نعم تدلان على جواز ذلك وهو حسن ، لئلا تضيع
المنفعة على المالك نعم يجب استيذانه إن أمكن وإلا فالحاكم ».
وفيه مضافا إلى ما
عرفت أن ضياع المنفعة على المالك إن لم يستوفها لا يجوز الاستيفاء لأنه أعم من
الإذن من المالك والاستناد فيه إلى الخبرين يقضى بالعمل بما فيهما من المقابلة أو
المقاصة التي إن لم تكن صريحهما فهي ظاهرهما ، وهو حجة كالصريح ، فلا مناص حينئذ
عن طرح الخبرين بالنسبة إلى ذلك كله في مقابلة ما عرفت ، أو حملهما على الإذن
ونحوه أو على توقف الحفظ على الانتفاع المزبور ، فإن بعض الدواب يفسده عدم الركوب
، وعدم الحلب وشرب اللبن ، لانه مما يفسده البقاء ، فضمانه بالقيمة كبيعه من غيره
، من الإحسان في حفظ الأمانة ، والفرض أن حمل الخبرين على ذلك ونحوه أولى من العمل
بهما ، ومع فرض عدم قبولهما لشيء من ذلك فطرحهما متجه كما هو واضح.
ثم إن المصنف
وغيره قد أطلق جواز الإنفاق ، ولا بد من تقييده بعدم التمكن من إنفاق المالك
لامتناع وعدم إمكان جبر ، ولا توصل إلى ماله ، أو لغيبة كذلك ، ضرورة كون النفقة
عليه لا على المرتهن ، بل قد يظهر من جماعة تقييده أيضا بعدم التمكن من الحاكم ،
وإلا وجب الرجوع إليه والاستيذان منه ، وهو في محله ، لأنه ولي الممتنع والغائب في
نحو ذلك ، بل ربما ظهر من بعضهم اعتبار الإشهاد في الرجوع بما أنفقه عند تعذر
المالك والحاكم وإن كان واضح المنع ، ضرورة تعسره أو تعذره ، فهو مصدق بمقدار ما
أنفقه ، وفي دعوى نية الرجوع ، لأنه أمين شرعي على ذلك ، ومع التهمة عليه اليمين ،
بل ربما ظهر من بعض هنا عدم اعتبار الحاكم ، بل يشهد له بعض كلماتهم في باب
الوديعة واللقطة ، بل عن المهذب البارع ، أن من عدا الشهيد لم
يشترطه ، قال :
اشترط الشهيد في جواز الرجوع بالنفقة إذن المالك أو الحاكم ، فإن تعذر فالإشهاد ،
ولم يشترط الباقون إذن الحاكم ، وهو أولى ، وان كان فيه أنه اشترطه الفاضل في
التذكرة ، بل هو في معقد ما تسمعه من شهرة المسالك وغيرها.
وعلى كل حال فلعل
وجه عدم اشتراط الحاكم أن المرتهن باستيمان المالك قائم مقامه عند تعذره أو
امتناعه ، فلا حاجة إلى رجوعه إلى الحاكم ، خصوصا مع اندراجه في المحسنين ، وتعلق
غرضه بالإنفاق ، باعتبار توقف بقاء الرهن الموضوع وثيقة له على دينه عليه ، بل قد
يقال لذلك بالاكتفاء في جواز رجوعه بما أنفقه عدم إنفاق المالك ، لا امتناعه مع
عدم إمكان جبره أو غيبة ونحوهما ، وإن كان ينافيه ظاهر كلامهم ، وأصالة براءة
الذمة ، وأصالة عدم قيام الغير مقامه في شغل ذمته من غير اذنه. بل لا يبعد اندراجه
في هذا الحال في سلك المتبرعين الذين لا حرمة لأموالهم.
ولا يكفي نية
الرجوع بعد أن كان الخطاب بالإنفاق لغيره ، الذي يمكن أن يكون عدم بذله النفقة منه
لغفلة ، أو ظن وجودها أو نحو ذلك ، فلا بد من مطالبته بها أولا ، فإن بذل وإلا
أجبر ، فإن لم يمكن أنفق بإذن الحاكم أو بدونه على البحث السابق.
وفي المسالك
وغيرها أن المرتهن إن أمره الراهن بالنفقة رجع بما غرم ، وإلا استأذنه ، فإن امتنع
أو غاب رفع أمره إلى الحاكم ، فإن تعذر أنفق هو بنية الرجوع ، وأشهد عليه ليثبت له
استحقاقه. وكيف كان فلا بد من تقييد إطلاق المصنف الإنفاق بما عرفت ، كما أنه لا
بد من تقييده المقاصة باجتماع شرائطها ، ويمكن قراءة عبارة المصنف أو تقاضى بالضاد
المعجمة كما عن بعض النسخ ، إلا أنه يبعده وقوع هذه اللفظة في غيرها من عبارات
الأصحاب ، والأمر سهل بعد وضوح المقصود والله أعلم.
والمشهور بين
الأصحاب بل لم أجد فيه خلافا بينهم أنه يجوز للمرتهن أن يستوفي دينه مما في يده
وإن لم يكن وصيا عن الراهن على البيع إن علم وإن ظن بل وإن خاف جحود الوارث للدين
أو للرهانة وكانت التركة قاصرة مع اعترافه بالرهن ولم تكن عنده بينة مقبولة ، وفي
الرياض « قد صرح به
الأصحاب من غير
خلاف يعرف ». بل عن شرح الإرشاد « الإجماع على أن للمرتهن الاستيفاء من الرهن وإن
لم يكن وكيلا في البيع ، أو انفسخت وكالته بموت الراهن ، إن خاف جحود الراهن ، أو
الورثة للحق ، ولم يمكن إثباته عند الحاكم ، لعدم البينة ، أو غيره من العوارض »
وعن مجمع البرهان « الإجماع أيضا إن لم تكن له بينة مقبولة أو لم يمكن إثباته عند
الحاكم ».
والأصل في ذلك ـ مضافا
إلى الحرج ، والضرر ، وما دل على المقاصة ، وفائدة الرهن وغير ذلك مكاتبة المروزي لأبي الحسن 7 « في رجل مات وله
ورثة ، فجاء رجل فادعى عليه مالا ، وأن عنده رهنا ، فكتب 7 إن كان له على
الميت مال ، ولا بينة له ، فليأخذ ماله مما في يده ، ويرد الباقي على ورثته ، ومتى
أقر بما عنده ، أخذ به وطولب بالبينة على دعواه ، وأوفي حقه بعد اليمين ، ومتى لم
يقم البينة والورثة ينكرون ، فله عليهم يمين علم ، يحلفون بالله ما يعلمون له علي
ميتهم حقا » والمناقشة في سندها بعد الانجبار بما سمعت لا وجه لها.
كما أن منها يعلم
الوجه فيما ذكره المصنف بقوله أما لو اعترف بالرهن ، وادعى دينا ، لم يحكم له ،
وكلف البينة وله إحلاف الوارث إن ادعى عليه العلم بل لم يشترط في الخبر دعوى العلم
، بل ظاهره توجه اليمين عليهم بمجرد الدعوى بالدين ، وإن كان يمينهم على نفى العلم
، لأنه لنفي فعل الغير وعلى كل حال فالخبر ظاهر في الحكم المزبور ، وشموله لصورة
عدم خوف الجحود غير قادح ، بعد معلومية عدم ارادتها ، لوجوب الاقتصار فيما خالف
أصل عدم جواز التصرف في مال الغير بغير اذنه على المتيقن.
ومنه يعلم الوجه
في اعتبار عدم البينة كما ذكرناه ، ونص عليه في الخبر ، وفاقا لجماعة ، وإن أطلق
المصنف بل وغيره ، بل عن مجمع البرهان التصريح بأنه لا يشترط عدم البينة ، ولا عدم
إمكان الإثبات عند الحاكم ، بل قال : و « الرواية غير صريحة بالاشتراط ، وإنما
فيها إشعار يمكن أن يكون قد خرج مخرج الغالب »
__________________
وإن كان فيه ما لا
يخفى بعد ما عرفت الذي منه يعلم ضعف ما عن بعضهم من إلحاق الحاجة إلى اليمين بخوف
الجحود ، ولذا نفي الاعتماد عنه في المسالك وغيرها.
بل لولا ظهور
إلغاء الخصوصية ولو بضميمة ما سمعته من الإجماع من شرح الإرشاد لأمكن التوقف في
إلحاق خوف جحود الراهن ، لما عرفت من عدم كون الحكم على القاعدة ، ضرورة أنه ليس
من المقاصة المشروطة بامتناع من عليه الحق ، ولا يكفي فيها الخوف ، إلا أنه لا
مناص عن الحاقه بعد الإجماع المزبور ، المعتضد بتصريح جماعة ، وبظهور عدم الخصوصية
للوارث ، بل لا بأس بإلحاق خوف عدم قبول البينة أو جرحها أو نحو ذلك وعلى كل حال
فالمعتبر في الجواز الخوف ، لا طلاق الخبر المزبور ، وما في القواعد من اعتبار
العلم لا يخلو من نظر ، كاعتبار غيره الظن والله أعلم.
ولو وطئ المرتهن
الأمة مكرها لها على ذلك من غير إذن الراهن كان عليه عشر قيمتها أو نصف العشر ،
وقيل : عليه مهر أمثالها ، ولو طاوعته ، لم يكن عليه شيء كما تقدم تحقيق ذلك كله
وتحقيق أرش البكارة في بيع الحيوان فلاحظ وتأمل ، إذا المسألة من واد واحد ولا
خصوصية للمرتهن عن غيره ، هذا. وقد عرفت فيما تقدم صحة اشتراط وضع الرهن ابتداء
واستدامة أو استدامة خاصة على يد عدل فصاعدا مطلقا ، أو معين ، أو غيرهما مطلقا أو
معين ، وإن لم يكن عدلا أو نحو ذلك من الشرائط السائغة التي تلزم بعموم « المؤمنون
» و ( أَوْفُوا ) من غير خلاف أجده
فيه بيننا ، بل عن التذكرة نسبة اشتراط وضع الرهن على يد عدل إلى علمائنا ، بل عن
الخلاف دعوى الإجماع عليه صريحا ، بل قال : منا ومن جميع الفقهاء إلا ابن أبى
ليلى.
نعم في القواعد «
يشترط فيه كونه ممن يجوز توكيله ، وهو الجائز التصرف وإن كان كافرا ، أو فاسقا ،
أو مكاتبا لكن بجعل ، لا صبيا ولا عبدا إلا بإذن مولاه » ولعله لأنه وكيل عن
المرتهن نائبا عنه في القبض ، كما عن التذكرة ، وإن كان قد يناقش فيه بمنع الوكالة
، ثم إذا كان المشترط من الوضع استدامته التي لا مدخلية لها في
صحة الرهن ، ولا لزومه
، بل وفي الابتداء بناء على أنه كذلك فلا بأس حينئذ بتراضيهما على وضعه في يد صبي
، خصوصا إذا كان مأمونا رشيدا ، وكان اعتبار الجعل في المكاتب لحجر التصرف عليه في
منافعه بغير الاكتساب ، بل اعتبر بعضهم فيه كونه بأجرة المثل فصاعدا.
نعم ينبغي تقييده
بما إذا لم يأذن مولاه ، وإلا فلا يعتبر الجعل ، لأن الحق لهما ، فلا بأس إذا
أسقطاه ، والظاهر عدم اعتبار تعيين الموضوع عنده في صحة الشرط لعموم الدليل ، وعدم
إفضاء جهالته هنا إلى الجهالة فيما يشترط عدمها في صحته ، كالبيع والإجارة ، فإن
اتفقا حينئذ عليه فلا بأس ، والا قطع نزاعهما الحاكم بالتعيين كما إذا لم يشترطا ،
وليس لأحدهما ولا للحاكم عزله من دون داع بعد تعيينه في العقد أو الاتفاق عليه بعد
اشتراط كليه فيه ، الذي يكون بالاتفاق كمشترط الخصوصية.
نعم لو كان الشرط
العدل فخرج عن العدالة فطلب أحدهما نقله أجيب إليه ، فإن اتفقا على غيره ، وإلا
وضعه الحاكم عند ثقة ، وكذا لو تغير حاله بمرض ، أو كبر أو نحوهما بحيث لا يقدر
على الحفظ معه ، بل وكذا لو حدثت له عداوة دنيوية مع أحدهما وإن لم يخرج بها عن
العدالة ، إذ لا يؤمن أن يرتكب بعض الحيل التي يترتب عليها الضرر ، ولذا لم يأمن العدو
عدوه ، فهو حينئذ غير مراد من الشرط ، كما أنهما إذا اتفقا على عزله جاز أيضا ،
وإن لم يتغير حاله ، لأن الحق لهما ، ولو اختلفا في التغيير عمل الحاكم على ما
يظهر له بعد البحث ، ولو مات العدل نقلاه إلى من يتفقان عليه ، فان اختلفا نقله
الحاكم ، ولو كان الوضع على يد عدل بالاتفاق من دون الشرط فأراد أحدهما عزله دون
الآخر رجع الأمر إلى الحاكم في إقراره أو نقله ، هذا كله مع القول بعدم استحقاق
المرتهن استدامة القبض حال الإطلاق ، وإلا اتجه قبض المرتهن له في بعض هذه الأحوال
والله العالم.
وكيف كان ف إذا
وضعاه على يد عدل مثلا فللعدل المتطوع رده عليهما قطعا لعدم لزوم ذلك عليه ، أو
تسليمه إلى من يرتضيانه لما
عرفت من أن الحق
لهما ولا يجوز له تسليمه مع وجودهما وعدم معلومية امتناعهما إلى الحاكم الذي لا
ولاية له عليهما في هذا الحال ، للأصل وغيره ولا إلى أمين غير الحاكم وغيرهما من
غير إذنهما لعدم جواز الإيداع للودعي من غير إذن وحينئذ ف لو سلمه إلى من لا يجوز
تسليمه ضمن هو ومن تسلمه ، وإن كان له الرجوع على العدل مع الغرور.
وفي القواعد « لو
لم يمتنعا من القبض فدفعه إلى عدل بغير إذنهما ضمن ، ولو أذن له الحاكم ضمن أيضا ،
لانتفاء ولايته عن غير الممتنع ، ويضمن القابض » لكن ينبغي تقييد ضمان الحاكم إذا
كان مرادا من الضمير بما إذا كان عامدا ، والا كان من الخطأ فتأمل ، فإنه قد يمنع
ضمان الحاكم ابتداء ، وإن رجع عليه ، قال في جامع المقاصد : أي ضمن الدافع وإن
اغتر بإذن الحاكم ، لكن في هذه الحالة يرجع على الحاكم إن تعمد ، وإلا فهو من خطأ
الحاكم » انتهى وإن كان لا يخلو من بحث في الجملة والله العالم.
وكذا يضمن العدل
لو سلمه إلى أحدهما من دون إذن الآخر ، هو ، ومن تسلمه حتى لو كان الراهن على معنى
أنه لو تلف في يده تعلق الرهن بقيمته أو مثله ، وما عن الأردبيلي ـ من جواز تسليمه
إلى الراهن ، لأنه مالك ولاستصحاب جواز تسلمه ـ غريب ، ضرورة عدم اقتضائهما ذلك ،
بعد تعلق حق المرتهن الذي هو أولى منه في ذلك ، ولذا قيل : إنه لو احتمل جواز
التسليم إليه كان له وجه ، وإن كان فيه أنه لو سلم اقتضاء إطلاق الرهانة التسليم
إلى المرتهن ، إلا أن مفروض المقام اشتراط وضعه على يد عدل ، الظاهر في عدم ذلك.
نعم لو كان وضعه
على يده اتفاقا منهما من غير شرط اتجه ذلك ، بناء على الاقتضاء المزبور ، لكن الذي
يظهر من ثاني الشهيدين في المسالك عدم اقتضاء عقد الرهانة مع الإطلاق ذلك ، بل
يظهر منه انه مفروغ منه ، وهو إن لم يكن إجماعيا محل نظر ، وقد ذكرنا في مبحث
القبض ما يستفاد منه عدم الإجماع ، وما يستفاد منه استحقاق المرتهن الوضع عنده ،
إلا أن يشترط خلافه فلاحظ وتأمل.
ولو استترا عن
قبضه من العدل بعد أن طلب منهما أقبضه الحاكم الذي هو ولى الممتنع ولو كانا غائبين
وأراد تسليمه إلى الحاكم ، أو عدل آخر من غير ضرورة ، لم يجز ويضمن لو سلم هو ومن
تسلمه وكذا لو كان أحدهما غائبا لوجوب الصبر عليه إلى الحضور من الغيبة التي لا
تقصير معها ، والأصل عدم ولاية الحاكم في مثل ذلك ، وإطلاق ولايته عن الغائب في
بعض المقامات إنما يراد منه مع الحاجة والمصلحة ونحوهما ، لا نحو ذلك ، ضرورة عدم
جواز استيلاء الحاكم على أموال الغائبين بمجرد غيبتهم ، بل في المسالك « أن من
القواعد المقررة في بابها أن الودعي ليس له دفع الوديعة إلى الحاكم مع إمكان
المالك ، ولا مع غيبته إلا مع الضرورة » وما نحن فيه من ذلك ، وبه بان الفرق بين
ولاية المالك والحاكم.
نعم إن كان هناك
عذر كسفر ومرض ونحوهما سلمه إلى الحاكم أو من يأذن له ، لثبوت ولايته حينئذ ومن
هنا لو دفعه إلى غيره حينئذ من غير إذن الحاكم ضمن ولو كان ثقة ، أما لو تعذر
الحاكم وافتقر إلى الإيداع أودع من ثقة وأشهد ولا ضمان ، والظاهر جواز دفعه من
أحدهما في هذا الحال إذا كان ثقة ، بل لعله أولى ، لكن في القواعد « لو امتنعا لم
يضمن بالدفع إلى العدل مع الحاجة وتعذر الحاكم ، فإن امتنع أحدهما فدفعه إلى الآخر
ضمن ، والفرق أن العدل يقبض لهما ، والآخر يقبض لنفسه » وفيه أن العدالة تنفي ذلك
فتأمل والله أعلم.
ولو وضعاه على يد
عدلين جاز إجماعا ، محكيا عن التذكرة إن لم يكن محصلا ، لكن لم ينفرد به أحدهما عن
الآخر ولو أذن له الآخر إذا كانا قد صرحا لهما بإرادة الاجتماع ، أو أطلقا ، بناء
على انصرافه إلى ذلك ، باعتبار ظهور اختيار الاثنين في عدم الإكتفاء بحفظ أحدهما ،
نعم لو حصلت قرينة على عدم إرادة الاجتماع كان لأحدهما الانفراد بحفظه ، كما أن له
تسليمه إليهما من دون إذن الآخر في حالي اعتبار الاجتماع وعدمه ، ضرورة كون المراد
الاجتماع في الحفظ ، وإلا فالمال لهما ، فإذا أرادا تسليمه وجب فورا على كل منهما
، فما عن بعضهم ـ من
عدم جواز تسليم
أحدهما مع اعتبار الاجتماع إلا بإذن الأخر ـ واضح الفساد.
وكيف كان فلو سلم
أحد العدلين إلى الآخر ضمن كل منهما الكل ، لحصول سببه من كل منهما بالتفريط من
الدافع ، والتعدي باستقلال اليد من المتسلم ، فللمالك الرجوع على كل منهما ،
الواجب عليه حفظه جميعه ، منضما مع الآخر ، والتساوي في ثبوت سبب الضمان مع اتحاد
العوض المضمون ، لا يقتضي التقسيط ، بعد أن كان كل منهما سببا ، فهو كالأيدي
المتعاقبة المعلوم عدم التقسيط فيها ، وإن تساوت في ذلك واتحد العوض ، ودعوى أنهما
بمنزلة أمين واحد ، ممنوعة ، ضرورة إن كل واحد أمين مستقل على الجميع ، غاية ما في
الباب أنه قد شرط عليه انضمام الآخر اليه ، فما عساه يظهر من الفاضل من الميل إلى
التنصيف ، فيه ما لا يخفى.
والظاهر أن قرار
الضمان على من ضمنه المالك منهما ، لو تلف بآفة سماوية ، إن لم يثبت إجماع على
قاعدة « قرار الضمان على من تلف في يده المال » كما عساه يظهر منهم في باب الغصب.
لكن في المقام حكي عن فخر المحققين وابن المتوج أن الأصح استقراره على من ضمنه
المالك ، واحتمله في المسالك ، واستشكل فيه في القواعد ، وهو يومي إلى عدم الإجماع
المزبور بحيث يشمل المقام ، وحينئذ يتجه ما قلناه ضرورة عدم الدليل على رجوعه على
الآخر بعد أن كان رجوع المالك عليه بحق ، ولم يكن منه غرور له.
ودعوى ـ أن
المتعدي أقوى من المفرط فيساوي المباشر حينئذ ، كما أن الثاني يساوي السبب ، فيكون
أولى في قرار الضمان ـ لا ترجع إلى محصل يعتمد عليه شرعا.
وأضعف منها
التعليل بأن الضمان وإثبات اليد وجوديان ، وتارك الحفظ عدمي وسببية الوجودي
للوجودي أقوى وأولى من سببية العدمي ، وبأن اليد العادية سبب بسببية التضمين
بالتسليم ، مع كونها علة تامة في التضمين ، فكانت أقوى وأولى مع أن مقتضى ذلك
خصوصا الأولين عدم جواز رجوع المالك على الدافع أصلا ، لا أن القرار خاصة على
المتسلم ، كما أن مقتضى تعليل رجوع المالك على الدافع بأنه
مضيع بتسليمه
والمتسلم حافظ قد عمل بمقتضى الاستيمان ، عدم جواز الرجوع على المتسلم أصلا ، فضلا
عن كون القرار على الدافع ، والجميع كما ترى خصوصا بعد جزم من تعرض لهذا الفرع
بجواز رجوع المالك على من شاء منهما ، وإنما الكلام في قرار الضمان.
فالتحقيق فيه أنه
على من ضمنه المالك إن لم يثبت الإجماع المزبور ، فتأمل. فإن المقام ربما حصل فيه
خبط من بعضهم ، لكن ستسمع في كتاب الغصب ما يقتضي جريان قولهم قرار الضمان على من
تلف المال في يده ، على القواعد الشاملة للمقام ، إن لم يكن هو من موضوع ما ذكروه
في كتاب الغصب ، وحينئذ يتجه القرار على الآخر الذي تلف المال في يده دون العكس ،
فلاحظ وتأمل والله أعلم.
ولو باع المرتهن
الرهن حيث يجوز له ذلك أو العدل ودفع الثمن إلى المرتهن وفاء أو وثيقة إذا كان له
ذلك ثم ظهر فيه أي المبيع عيب لم يكن للمشترى الرجوع على المرتهن الذي قبض الثمن
المملوك للراهن ، وفاء أو وثيقة ، إذا الفسخ بالعيب إنما هو من حينه بلا خلاف أجده
بين من تعرض له.
لكن قد يشكل ـ إذا
كان وثيقة ، بأن رهانته فرع رهانة المبيع والفرض رده بالعيب ، فترد وصف الرهانة
معه ، فتبطل بإبدالهما ، لعدم اجتماع البدل والمبدل منه.
ـ ويدفع أولا :
بمنع فرعية رهانيته عليه ، ضرورة عدم انتقاله رهنا ، بل لا بد من استحقاق رهن
الثمن من سبب جديد ، من اشتراط ونحوه ، فضلا عن الارتهان الجديد.
وثانيا : بعد
التسليم بمنع اقتضاء الرد بالعيب ، رجوع وصف الرهانة التي بطلت في المبيع بالبيع ،
وانتقل إلى الثمن بمجرد دخوله في ملك الراهن فلا يبطله الفسخ الطاري ، لكن قد يقال
: مقتضى ذلك أنه لو كان العيب بالثمن إما أن لا يكون للراهن الرد من دون إذن
المرتهن ، وإنما يتعين له الأرش ، لتعلق وصف الرهانة به ، فيكون كالتصرف المسقط له
، أو أن له ذلك ، ولا تعود الرهانة ، لعدم رجوعها
بالرد بالعيب ،
وكلاهما محل بحث ، لعدم صدق التصرف على التعلق المزبور ، حتى يتعين الأرش ، كعدم
عود الرهانة ، إذ لا أقل من أن يكون الفسخ بالعيب كالإتلاف المقتضي تعلق الرهانة
بالقيمة التي هي بدله.
وقد يقال في الفرض
أن له رد المبيع بالعيب في الثمن من دون رد الثمن نفسه ، باعتبار تعلق حق الرهانة
به ، المانع من رده ، وإن لم يصدق عليه أنه تصرف منه ، كي يتعين له الأرش فيرد
حينئذ عوض الثمن. نحو ما احتمل فيما لو اشترى من ينعتق عليه فبان أنه معيب.
أما إذا رد الثمن
بإذن المرتهن فلا إشكال في عود الرهانة في المبيع ، بناء على ظهور إذنه في عود
المبيع رهنا ، وحينئذ لم يثبت إجماع على عدم فسخ الرهانة في الثمن برد المشتري
المبيع ، كان فيه نوع تأمل بناء على اقتضاء أدلة الفسخ رجوع كل ملك إلى صاحبه.
لكن قد يقال :
بتعارض أدلة الفسخ مع ما دل على لزوم الرهن من الاستصحاب وغيره ، وترجيحها عليه
محل منع ، بل العكس هو المتجه ، كما في نظائره ولعله لذا لم يتوقف أحد من الأصحاب
في بقاء الرهانة لو رد المشتري المبيع ، ولا بأس بالتزام تعين الأرش فيما فرضنا
نحن من حصول العيب بالثمن ، وتسمع في الإذن في بيع الرهن زيادة تحقيق لذلك ، فلا
محيص عنه خصوصا بعد اتفاق الأصحاب ظاهرا عليه. نعم قد يتجه عود المبيع رهنا فيما
لو فرض كون البيع لحفظ الرهن ، باعتبار عروض فساد له قبل الأجل ، فإن رهن الثمن
حينئذ يثبت كون المبيع رهنا ، فمع فرض الفسخ المزبور يعود المبيع على ما كان عليه
من وصف الرهانة ، تحقيقا لمعنى البدلية كما هو واضح بأدنى تأمل. والله العالم.
وكذا ليس له
الرجوع على العدل مع العلم بوكالته حال البيع ، أو حال الإقباض للثمن ، أو بعدهما
، أما إذا أنكر العلم بذلك ولا بينة ، استحق الرجوع عليه إن اعترف بالعيب ، أو
قامت به بينة ، ويرجع هو على الراهن إن اعترف بالعيب ، أو
كان ثابتا بالبينة
، فإن أنكره ولا بينة وكان قد اعترف به العدل ، فالقول قول الراهن كما في ظاهر
جامع المقاصد ، وصريح المحكي عن التحرير لأنه منكر ، ووكالة العدل عنه لا تقتضي
تصديقه في إقراره ، وإن أنكر العدل العيب على المشتري الذي لم يعترف بوكالته ، كان
القول قوله بيمينه ، فإن نكل فحلف المشتري رجع على العدل ولا يرجع العدل على
الراهن ، لاعترافه بالظلم ، ولكن يأخذ المبيع مقاصة ، فإن زاد دسه في مال المشتري
، وإلا قاصه من غيره مع الإمكان ، هذا كله في العيب.
أما لو استحق
الرهن لغصب ونحوه استعاد المشتري الثمن منه أى المرتهن ، بل ومن العدل مع بقاء
عينه في يده ، بل من كل من كان عين ماله في يده ، من غير فرق بين الراهن والعدل
والمرتهن ، ولو تعذر عليه المرتهن أو العدل كان له الرجوع على الراهن ، وإن لم يكن
في يده فعلا ، لأنه البائع حقيقة ، وقبض العدل أو المرتهن إنما كان عنه ، ولو تعذر
عليه الراهن لم يكن له الرجوع على العدل بعد فرض كون المال في يد غيره ، فعلا ،
وإن استولت عليه سابقا ، إذا كان عالما بوكالته حال البيع ، ولم يكن العدل عالما
باستحقاق المبيع ، لأنه حينئذ قد اشتراه منه على أنه نائب عن غيره ، وأن يده يد
غيره ، فقبضه للثمن قبض للراهن ، وإنما هو واسطة ، كناقد الثمن للمشترى عند إرادة
دفعه إلى البائع ، وبعلمه بوكالته كأنه قد أذن له في تسليمه إلى غيره.
وتخيله صحة
الوكالة ليس تقييدا للإذن ، بل هو داع ، فلا يشمله حينئذ عموم « على اليد » بل
الظاهر أن الحكم كذلك لو لم يكن عالما بوكالته حال البيع ، ولكنه عملها حال الدفع
، لاتحاد المدرك ، وإن كان قد يظهر من جامع المقاصد عدم تأثير العلم في غير حال
البيع. نعم لو علمها بعد البيع والدفع أمكن حينئذ القول بجواز الرجوع عليه ، لعدم
الإذن ، وقد سلمه الثمن بعنوان كونه مضمونا عليه بالبيع ، فلم يسلم له ، فيشمله عموم
« على اليد » والوكالة قد تبين فسادها في الواقع ، فيرجع عليه ، وهو يرجع على من
غره.
ولو تعذر عليه
العدل والراهن كان له الرجوع على المرتهن مع استيلاء يده عليه ، وان لم يكن هو
فيها حال الرجوع ، لعموم « على اليد » ويرجع هو على من غره. نعم لو كان قد دفعه
المشتري إليه مع العلم بأنه وكيل عن الراهن ، وأن يده يده ، أو اشتراه منه على ذلك
، فقد يقال : بعدم الرجوع عليه ، لما سمعته في العدل ، إلا أن كلامهم في التلف
ينافيه ، فإنه قد صرح الشيخ في مبسوطة ، والفاضل ، والشهيدان ، ويحيى بن سعيد ،
والمحقق الثاني ، فيما لو تلف في يد العدل أو المرتهن بأنه لا يرجع على العدل مع
العلم بوكالته ، كما في كل وكيل في بيع مال غيره ، فإن المشتري يرجع على الموكل لا
الوكيل ، خلافا للمحكي عن أبي حنيفة وخلاف الشيخ من الرجوع على الوكيل ، وهو يرجع
على الموكل ، ولا شاهد له ، بل الشواهد على خلافه ، إلا في الصورة السابقة ، وصرح
بعض هؤلاء وغيره بالرجوع على المرتهن ، ومقتضاه الفرق بينه وبين العدالة كما هو
ظاهر جماعة ، لكنه غير واضح الوجه.
اللهم إلا أن يقال
: إن المرتهن وإن كان وكيلا عن الراهن في القبض ، لكن له يد من حيث الرهانة ، فلعل
الرجوع عليه من هذه الحيثية ، وبه يتم الفرق بينه وبين العدل.
لكن فيه منع
استقلال يد له ، إذ لا يد للمرتهن من حيث الرهانة على الرهن ، فليس هو في يده إلا
وديعة ، وإن كان تعلق به حق الرهانة الذي لا يتوقف على كونه في يد المرتهن فتأمل
جيدا فإن المقام بعد لا يخلو من بحث فيما لو تلف في يد العدل أو المرتهن ، فإنه قد
يمنع الرجوع على المالك الراهن ، مع عدم استيلاء يده عليه ، وظهور فساد الوكالة.
نعم للمرتهن والعدل الرجوع عليه حال الغرور خاصة ، كما أنه يمكن القول بالرجوع على
العدل والمرتهن حتى مع العلم بالوكالة حال البيع ، لعموم « على اليد » وظهور فساد الوكالة ، فيكون من مسألة تعاقب
الأيدي فتأمل جيدا. وعلى كل حال فلا إشكال في رجوع المرتهن على الراهن ، إذا لم
يكن عالما بالاستحقاق ، لكن في المسالك هل يغرمه المرتهن ، أو يرجع على الرهن نظر
، ومقتضى قواعد
__________________
الغصب رجوعه مع
جهله ، وعلم الراهن بالاستحقاق ، لغروره ، والكلام آت فيما لو تلف الرهن في يد
المرتهن ، ثم ظهر مستحقا. وفيه أنه لا ينبغي التوقف في ذلك ، إذ حكمه حكم الغصب
قطعا ، بل الظاهر عدم اعتبار علم الراهن بالاستحقاق ، لتحقق الغرور بفعله ، وإن
كان جاهلا كما هو واضح في نظائر المسألة فلاحظ وتأمل.
وإذا مات المرتهن
، كان للراهن الامتناع من تسليمه إلى الوارث وإن كان وضعه في يد المرتهن بشرط في
عقد ، ضرورة رجوعه إلى اشتراط الاستيداع الذي ينفسخ بموت الودعي. نعم لو قلنا إن
الوضع في يد المرتهن من توابع حق الرهانة أمكن حينئذ القول بانتقاله إلى الوارث
حينئذ بانتقال حق الرهانة إليه ، إلا أن الذي يظهر من بعضهم بل هو صريح المسالك
هنا عدم اقتضاء الرهانة ذلك.
فلو أطلقها لم
يستحق المرتهن استدامة الوضع عنده ، بل يتفقان هو والراهن على من يضعانه عنده ،
وإن اختلفا ، قطع اختلافهما الحاكم بالوضع على يد عدل ونحوه ، وإن لم يثبت إجماع
عليه كان للنظر فيه مجال ، وإن لم يكن استدامة القبض من شرائط صحة الرهانة ، أو
لزومها ، إلا أن ظاهر أدلة الرهن خصوصا الآية استحقاق استدامة القبض عنده ، بل هو
معنى الاستيثاق ، إلا أن يشترط عليه وضعه على غير يده ، كما أومأنا إليه في بحث
القبض ، بل لعل ما تقدم منهم آنفا من تضمين المرتهن دون العدل مبني على أن قبض
المرتهن ليس بالوكالة عن الراهن ، بل قبضه من حيث حق الرهانة ، فيصح حينئذ الرجوع
عليه ، بخلاف العدل الذي هو وكيل قطعا ، فتأمل جيدا ، وعلى الأول فمن الواضح أن له
الامتناع كما أن لورثته الامتناع من بقائه في يد المرتهن لو مات.
وحينئذ فإن اتفقا
على أمين ، وإلا سلمه الحاكم إلى من يرتضيه وكذا لو خان العدل الموضوع عنده نقله
الحاكم إلى أمين غيره : إن اختلف المرتهن والمالك فطلب أحدهما نقله منه ، وإلا بقي
عنده ، لأن الحق لهما ، فإذا رضيا بإبقائه لم يكن لأحد الاعتراض عليهما ، ولو كان
المرتهن اثنين ولم يأذن لكل منهما بالانفراد فمات أحدهما ، ضم الحاكم إلى الأخر
عدلا للحفظ ، إلا إذا رضي الراهن
بالبقاء في يد
الباقي منفردا إلى غير ذلك مما يعرف مما هنا ، وما قدمناه سابقا فلا حاجة إلى
الإطناب.
ولو تلف العبد
مثلا في يد المشتري ثم بان مستحقا قبل أداء الثمن أو بعده ، رجع المالك على من شاء
من الغاصب والعدل والمرتهن القابض والمشتري ، لعموم « على اليد » ولكن يستقر
الضمان على المشتري مع علمه ، لأن التلف في يده التي هي يد ضمان ، أما مع الجهل
ففي القواعد « أنه يستقر الضمان على الغاصب » وهو لا يخلو من إشكال إن أراد به ما
يشمل مقدار الثمن الذي قد أقدم على بذله ولم يدخل عليه ضرر بظهور كون المالك غير
البائع بالنسبة إليه.
نعم هو متجه في
الزائد عليه ، لقاعدة الغرور ، مع أنه ربما قيل بالعدم فيه أيضا ، لإقدامه على كون
العين مضمونة في يده ، كما تقدم تحقيق ذلك وغيره في محله ، فإن ما هنا أحد جزئياته
، ولا خصوصية له فلاحظ وتأمل.
ولو ادعى العدل
دفع الثمن إلى المرتهن ، قبل قوله في حق الراهن إذا كان وكيلا عنه في ذلك ، لكن في
القواعد « على إشكال » ولعله للأصل ولا ريب في ضعفه ، نعم لا يقبل في حق المرتهن ،
لأنه وكيله في الحفظ خاصة ، فلا يقبل في غيره ، كما لو وكل رجلا في قضاء دين ،
فادعى تسليمه إلى صاحب الدين ، وفي القواعد « يحتمل قبوله على المرتهن في إسقاط
الضمان عن نفسه ، لا عن غيره » ، فعلى هذا لو حلف العدل سقط الضمان عنه ، ولم يثبت
على المرتهن أنه قبضه ، وعلى الأول يحلف المرتهن ، فيرجع على من شاء ، فإن رجع على
العدل لم يرجع العدل على الراهن ، لاعترافه بالظلم ، وإن رجع على الراهن لم يرجع
على العدل إن كان دفعه بحضرته ، أو ببينة غابت أو ماتت ، لعدم التفريط في القضاء
حينئذ وإلا رجع.
وفي القواعد « على
إشكال منشأه التفريط وكونه أمينا له اليمين عليه ، إن كذبه » وفيه ما لا يخفى ،
فتأمل جيدا ، ولو غصب المرتهن الرهن من يد العدل ثم أعاده إليه زال الضمان عنه ،
لأنه قد أداه إلى من يده يد المالك ، وهو واضح كوضوح غيره من الفروع التي ذكرها في
القواعد وأطنب فيها شراحها تبعا لها ، مع أن جملة
منها لا تخص
المقام كما أومأنا إلى بعضها فيما تقدم والله أعلم.
الفصل
السادس
من الفصول التي
استدعاها كتاب الرهن في اللواحق وفيه مقاصد الأول :في أحكام متعلقة بالراهن : لا
يجوز له أي الراهن التصرف في الرهن باستخدام ولا سكنى ولا إجارة ولا بيع ولا غير
ذلك من التصرفات الناقل للعين ، أو المنفعة أو المستوفي لها بلا خلاف أجده فيه.
كما في الرياض ، بل ولا شك فيه كما عن غاية المرام ، بل في السرائر ، والمفاتيح ،
الإجماع على أن ليس لأحدهما التصرف مستثنيا الأخير منهما ما يعود نفعه إليه ، وعن
الخلاف « الإجماع على أنه ليس له أن يكري داره المرهونة أو يسكنها غيره » وعن
المبسوط « ليس له استخدام العبد وركوب الدابة ، وزراعة الأرض ، وسكنى الدار ، إن
ذلك كله غير جائز عندنا ، ويجوز عند المخالفين » وفي المحكي عنهما معا « الإجماع
على أنه لا يجوز له وطى الأمة المرهونة » وعن الجواهر « لا خلاف فيه » وفي كشف
الرموز « إن العمل منعقد على خلاف الرواية الدالة على الجواز » وفي النافع والدروس
« متروكة » وفي التنقيح ومحكي إيضاح النافع « هجرها الأصحاب » إلى غير ذلك من
كلمات الأصحاب الصريحة في الإجماع المزبور ، والظاهرة فيه ، والمشعرة به ، بل لا
بأس بدعوى تحصيل الإجماع ، مضافا إلى النبوي الذي استدل به غير واحد من الأصحاب بل
عن إيضاح النافع « أنه مشهور النقل » بل عن صريح التنقيح أو ظاهره الاعتماد عليه « الراهن والمرتهن ممنوعان من التصرف » وإلى ما يمكن
استفادته من مفهوم الرهن الذي قد عرفت أنه الحبس الذي به يتم معنى الاستيثاق الذي
استفاضت به النصوص ، وإليه أومى في الدروس في تعليله المنع ، بأن الغرض من الرهن
الوثيقة ، ولا وثيقة مع تسلط المالك على البيع والوطي أو غيره من المنافع الموجبة
للنقص أو الإتلاف.
كما أن إليه يرجع
ما في التذكرة والمسالك من أنه لما كان الرهن وثيقة لدين
__________________
المرتهن إما في
عينه أو بدله لم يتم الوثيقة إلا بالحجر على الراهن ، وقطع سلطنته ليتحرك إلى
الأداء ، وفي الأخير « فمن ثم منع الراهن من التصرف في الرهن ، سواء أزال الملك
كالبيع أم المنفعة كالإجارة ، أم انتقص المرهون وقلل الرغبة فيه كالتزويج ، أم
زاحم المرتهن في مقصوده ، كالرهن لغيره ، أم أوجب انتفاعا وإن لم يضر بالرهن ،
كالاستخدام والسكنى إلى غير ذلك من تعليلاتهم التي مرجعها إلى ما ذكرناه.
لكن ومع ذلك كله
قد وسوس بعض متأخري المتأخرين في بعض أفراد التصرف ، خصوصا ما تضمنه حسن الحلبي « سألت أبا عبد
الله 7 عن رجل رهن جارية عند قوم أيحل له أن يطأها قال : إن الذين ارتهنوها يحيلون
بينه وبينها ، قلت : أرايت إن قدر عليها خاليا قال : نعم لا أرى هذا عليه حراما »
وصحيح محمد بن مسلم الذي هو مثله ، وكذا مالا ضرر فيه على المرتهن من التصرف
كتقبيل الجارية والاستخدام ، وليس الثوب ومسكن الدار وركوب الدابة ونحو ذلك إذا
كان بحيث لا ضرر فيه بنقص للمرهون ونحوه.
ولا يخفى عليك ما
فيه ، بعد ما عرفت ، بل هو كأنه اجتهاد في مقابلة النص والخبران وإن صح سندهما إلا
أنك قد سمعت دعوى هجرهما وتركهما ، من غير واحد من الأصحاب على وجه يلحقهما بالشاذ
الذي قد أمرنا بالإعراض عنه ، مضافا إلى موافقتهما للعامة التي جعل الله الرشد في
خلافها ، بل لعل في عدم ملائمة قوله : « إن الذين ارتهنوها » إلى آخره للسؤال عن
الجواز إيماء إلى ذلك ، بل يمكن حملهما على إرادة عدم الحرمة الموجبة لحد الزنا ،
وعلى غيره مما لا بأس به في نحو المقام ، فالحكم حينئذ من الواضحات.
بل قد يظهر من بعض
الأفاضل التأمل في جواز ما فيه نفع للرهن من التصرف كمداواة المريض ، ولو بما لا
خطر عليه فيه ، ورعي الحيوان وتأبير النخل ، وخفض الجارية ، وختن العبد ، والفصد ،
والحجامة ، ونحو ذلك ، وإن صرح به الفاضل ،
__________________
والشهيدان وغيرهم
من المتأخرين ، بل عن المبسوط التصريح بعدم المنع من الثلاثة الأخيرة أيضا لإطلاق
دليل المنع ، ودعوى حصول الإذن في ذلك خروج عن المبحث.
لكن فيه أن مقتضى
الأصول الجواز ، ولا يعارضها الإطلاق المزبور ، بعد الشك في إرادة ذلك منه ، خصوصا
بعد فتوى الجماعة به ، بل لعل المنساق منه غيره ، بل لا ينبغي التأمل في سقي
الأشجار ورعي الدواب وعلفها ونحو ذلك ، مما يكون سببا لحفظ المال ، بل قد يشك في
إرادة مطلق التصرف منه ، وإن لم يتضمن انتفاعا بحيث يكون كمال الغير الذي يحرم
لمسه وحمله ونحوهما.
نعم عن السرائر لا
يجوز ضرب الجارية للتأديب ، كما أن في القواعد وغيره منعه من قطع السلع ، ولعل
المراد ما لا يؤمن السلامة معه منهما ، وإلا كان محلا للنظر.
بل في المحكي عن
الخلاف ، إذا زوج الراهن عبده المرهون أو جاريته المرهونة كان تزويجه صحيحا
كالمحكي عن المبسوط إلا أنه قال : لا يسلم إلى الزوجة إلا بعد الفك ، وفي الدروس
وهو قريب ، وفي المختلف بعد أن جعل المعتمد عدم الجواز ، قال : لو قيل :له العقد
دون التمكين والتسليم ، كان وجها.
قلت : هو كذلك لا
لإطلاق قوله تعالى ( وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى ) إلى آخره ـ المتعارض بما سمعت مما هو مقيد له ، ضرورة كون
المراد من إطلاق الآية الأمر بالنكاح من حيث هو نكاح ، لا الشامل لما تعلق به حق
الغير ، ومنه يظهر عدم كون المعارضة من وجه بحيث يحتاج إلى مرجح ، وإلا لجرى في
غير النكاح من خصوص كل تصرف ، ولا لأن محل الرهن غير محل التزويج ، لما عرفت من
المنع من الانتفاع بالرهن المستلزم للتصرف فيه ـ بل للشك في إرادة مثل هذا التصرف
الذي ليناف حق الرهانة بوجه ، ولا فيه تصرف فعلا بالعين ، وانتفاع بها ، إذ الغرض
عدم التسليم إلا بعد الفك.
ومنه ينقدح حينئذ
صحة تدبير العبد المرهون كما جزم به في المختلف ، خلافا للشيخ ، لأنه وصية لا تنفذ
إلا بعد وفاء الدين ، بل الظاهر جواز غير التدبير من الوصية لذلك ، كما يشهد له في
الجملة ما صرح به الفاضل والكركي في المفلس الممنوع
من التصرف في
المال ، إلا أنه غير ممنوع منها لذلك ، اللهم إلا أن يفرق بينهما ، بتعلق حق
الراهن في خصوص العين المرهونة ، بخلاف دين المفلس المتعلق بمقدار ما يقابله من
الأعيان دون الزائد ، فتنفذ الوصية حينئذ بالموصى به حال الموت ، مع فرض زيادته عن
الدين ، بخلاف الرهن فتأمل جيدا.
بل عن الشيخ جواز
إنزاء الحيوان المرهون ، والإنزاء عليه ، ولكن جزم بعدمه في الدروس وهو الأولى ،
للإطلاق ، كما أنه جزم بأنه ليس له غرس الأرض ، لأنه ينقصها ، بل قال : ليس له
الزرع وإن لم ينقص الأرض ، حسما للمادة ، وهو كذلك إذ هو كسكنى الدار أو إجارتها
مدة تنقضي قبل حلول الدين من غير حصول نقص في العين ، ثم قال : فلو فعل قلعا عند
الحاجة إلى البيع ، ولو حمل السيل نوى مباحا فنبت ، فليس له إلزامه بإزالته قبل
حلول الدين لعدم تعديه ، فلو احتيج إلى البيع قلع ، إن التمسه المرتهن ، وكأنه عرض
بذلك إلى ما عن المبسوط « من أنه لو رهن أرضا بيضاء فسال إليها نواة ونبت أو أنبت
الراهن فيها نخلا أو شجرا لم يجبر الراهن على إزالته » وفي المختلف « الوجه الوجوب
، لتعلق حق المرتهن بأرض بيضاء ».
قلت : قد يفرق بين
ما كان من فعله ، وعدمه ، بالنسبة إلى إلزامه ، وعدمه ، بل قد يتأمل في أصل جواز
القطع للمرتهن ، بل قد يقال : في غرس الراهن أنه يلزم بالأجرة رهنا ، وإن كان
الأقوى إلزامه بذلك ، لاندراجه في قوله « لا حق لعرق ظالم ».
وكيف كان فلو بادر
الراهن إلى التصرف من غير إذن المرتهن فإن كان بانتفاع منه ، أو ممن سلطه ولو بعقد
لم تتعقبه إجازة لم يصح ، وفعل محرما ، بل في المسالك « إن قلنا أن النماء المتجدد
يتبع الرهن ، ثبت أجرة المثل إن كان مما له أجرة عادة وكانت رهنا ، وإلا لم يلزمه
شيء عن مثله ».
قلت : قد يقال
بذلك على الأول أيضا ، بناء على تخصيص النماء التابع في الرهنية بما يكون يصح
رهنها ، كالصوف والثمرة والشعر ونحوها ، لا مثل ذلك الذي
__________________
هو معدوم في
الحقيقة ، والأجرة عوض عن الانتفاع الذي لا يعقل ارتهانه ، والإثم على الراهن في
استيفائه ، لا من حيث كونه رهنا ، بل لاستلزامه التصرف في العين ، وإلا فلو فرض
إمكان انتفاع من دون تصرف في العين ، لم يبعد القول بجوازه ، وفي المسالك قد حكي
عن الشيخ أنه أطلق لو أجره ، فالأجرة له ، ويمكن إرجاعه إلى ما ذكرنا ، وإن كان
فيه تكلف ، كما أنه يمكن تأييده بقوله 6 « له غنمه ، وعليه غرمه » ، فتأمل وإن كان التصرف مجرد عقد
لم يكن إثما في ذلك ، لعدم النهي عن مثله في الأجنبي فضلا عنه.
نعم لو باع أو وهب
مثلا وقف على إجازة المرتهن فإن حصلت حكم بصحته وإلا فلا ، إذ هو إن لم يكن فضوليا
فمثله في ذلك ، ومن هنا بنى الكركي الكلام هنا في كون الإجازة فيه كاشفة أو ناقلة
عليه هناك ، لكن في حواشي الشهيد على القواعد ، في شرح قول الفاضل في مفروض المتن
لم يكن باطلا ، بل موقوفا ، قال :الفرق بين المراعاة والموقوف ، أن الأول يكون
كاشفا عما هو صحيح في نفس الأمر ، والثاني ما يتوقف عليه الحكم بالصحة ، فيكون جزء
سبب ، وظاهره أنه قد فهم منه الثاني هنا حيث عبر بالوقف كالمتن ، فيكون حينئذ
مخالفا للفضولي ، بناء على الكشف فيه من هذه الحيثية.
وربما يؤيده أن
الإجازة من المرتهن الذي هو غير مالك ، ليست إلا على معنى إسقاط حق الرهانة التي
له فسخه ، وهو غير متصور في الزمن السابق الذي تحقق فيه الحق أو مضى ، فإسقاطه لا
معنى له ، بل مختص بالزمن الحال ، فلا تكون الإجازة فيه كاشفة ، ولعل الفرق بينه
وبين إجازة المالك تصور رضي الثاني آن دخول ملكه في ملك غيره في الزمن السابق ،
بخلاف الأول.
لكن فيه ـ مع أنه
مخالف لما يظهر منهم من أن الإجازة كإجازة الفضولي بل هو صريح جامع المقاصد ، يمكن
منع عدم تصور ذلك ، ضرورة كون السقوط بعقد لبيع ، فمع فرض إجازة المرتهن يترتب
عليه أثره من حين وقوعه ، وهو انتقال الملك
__________________
المقتضي لسقوط
الرهانة.
ودعوى ـ أن إجازة
المرتهن ليست للعقد ، لعدم كونه مالكا ، وإنما له إسقاط حق رهانته ، فيؤثر العقد
حينئذ أثره لارتفاع المانع والمقتضي تام الاقتضاء.
يدفعها ظهور كلمات
الأصحاب بل هو صريح بعضهم كالفاضل في التحرير وثاني الشهيدين وغيرهم ، في أن
للمرتهن اجازة العقد ، وله فسخه ، وأن الشارع قد جعل له هذه السلطنة بارتهانه ، لا
أن المنع من التصرف فيه شرعي بحت بحيث لا مدخلية للمرتهن في ذلك ، وإنما له إسقاط
حقه من الرهانة خاصة ، وإلا لاقتضى ذلك عدم فسخ العقد له ، ضرورة عدم السلطنة له
على ذلك ، وأن الشارع قد جعل الارتهان مانعا من نفوذ التصرف ، فمتى ارتفع هذا
لمانع بإسقاط من المرتهن أو بفك للرهن ، كما ستعرف أثر المقتضي أثره ، وليس ذا من
التعليق الممنوع ، بل هو من قبيل اعتبار الشارع التقابض في تأثير عقد الصرف ،
والقبض في عقد الهبة ، والقبض في المجلس في عقد السلم ، مع أن كلامهم صريح في
خلافه ، وأن له الرد كما أن له الإجازة.
ويرشد إليه في
الجملة اعتبار إذنه في الانتفاع بالرهن على وجه لا تنتقل عينه كركوب الدابة وسكنى
الدار ونحوهما ، مما لا يقتضي الإذن فيه إبطال الرهانة ، مع أنها معتبرة ، ولا
يجوز التصرف بدونهما ، وهو يومي إلى أن له سلطنة على ذلك لا أنها مخصوصة بإسقاط حق
الرهانة ، وإلا فالمنع شرعي ، وإن كان لا يخلو من وجه بل ظاهرهم في حجر المفلس ذلك
، بناء على صحة تصرفاته ، وأنها تكون موقوفة ، وإن لم يرض الغرماء بها ، كما تسمعه
في محله ، اللهم إلا أن يفرق بين تعلق حق الرهانة وتعلق حق الغرماء بالتحجير ، كما
هو ظاهر الأصحاب في المقام ، إلا أنه لا يخلو من بحث.
وعلى كل حال فظهر
من ذلك كله أن إجازته تكون على حسب اجازة المالك إنما هي للعقد نفسه ، فيؤثر حينئذ
أثره ، وليس هذا من إسقاط حق الرهانة أو لا وبالذات في الزمن السابق ، كي يقال :
أنه غير متصور ، بل هو من آثار العقد الذي
أجازه ومن
مقتضياته ، فلا بأس حينئذ بدعوى الكشف هنا عن بطلان الرهانة في الزمن السابق. بناء
عليه في الفضولي فتأمل جيدا ، فإن المسألة غير محررة في كلامهم.
نعم قد يشكل دعوى
الكشف في تعقب الفك للعقد الذي لم يرده المرتهن بناء على صحة العقد ولزومه بذلك
كما جزم ثاني المحققين والشهيدين ، بل هو المحكي عن فخر المحققين ، والشهيد الأول
في حواشيه ، وفي القواعد « لو افتك الرهن ففي لزوم العقود نظر » ومقتضاه المفروغية
من الصحة ، وإنما الكلام في اللزوم ، ويمكن أن يريدها منه ، وإن كان من لوازمها
هنا اللزوم كما ستعرف.
وعلى كل حال فوجه
الأول وجود المقتضي الذي هو العقد من المالك ، وإنما كان له مانع من النفوذ ، وهو
حق المرتهن ، وقد زال ، فيؤثر المقتضي أثره من غير حاجة إلى تجدد رضا من المالك ،
لعدم تجدد شيء له وإنما ذهب حق الارتهان ، لا أنه انتقل إليه ، ومنه يعلم الفرق
بينه وبين ما إذا باع مال غيره فضولا ، ثم ورثه أو اشتراه وكيله ، الذي قالوا فيه
بالبطلان ، ـ لعدم المقتضي للصحة ـ حال العقد ، لعدم الإجازة من المالك ، وعدم كون
العاقد مالكا ، ـ أو بالتوقف على إجازة المالك الجديد ، لأنها أولى من تأثير إجازة
الأول أو مساوية لها ، ضرورة عدم تأتي الوجهين فيما نحن فيه.
ويقرب من ذلك ما في
جامع المقاصد « من بيان وضوح الفرق بينهما بأن مال الغير غير مملوك للمتصرف ،
فالمقتضي للصحة منتف ، لانحصاره في وقت العقد بالمالك الذي لم يحصل منه إجازة ،
ومجرد الصيغة لا تعد مقتضيا ، بخلاف ما نحن فيه فإن الملك منحصر في الراهن ،
والمقتضي وهو العقد الصادر من أهله في مملوك موجود غاية الأمر أن حق المرتهن مانع
، فإذا انتفى عمل المقتضي عمله.
هذا كله مضافا إلى
أنه لا سبيل إلى اعتبار إجازة المرتهن بعد انقطاع علاقته ، ولا إلى بطلان تصرف
الراهن المالك ، إذ تصرفه قبل الانفكاك غير محكوم ببطلانه فكيف بعده الذي مقتضى إطلاق
الأدلة وعمومها صحته ، خصوصا بعد لزوم العقد من
طرف الراهن ،
لاندراجه في عموم « الوفاء بالعقود ، » ولم يتجدد إلا ما يؤكد ذلك من ارتفاع
المانع فيستمر حينئذ خطاب الوفاء له.
ودعوى ـ أن شرط
الصحة في العقد الواقع حال الرهانة إذن المرتهن ، وقد فاتت بفك الرهانة الذي لا
وجه بعده ، لمراعاتها فيتعين البطلان حينئذ لفوات الشرط بل هو أولى بذلك من بيع
مال الغير فضولا ثم انتقل إلى البائع ، كدعوى أن الصحة من الفك إن كانت على الكشف
، اقتضى نفوذ التصرف في الرهن ـ وهو رهن ، ضرورة عدم سقوط الرهانة قبله ، وإن كانت
على النقل ، اقتضى ذلك تعليق أثر العقد الظاهر في السببية حين وقوعه ، هذا. مضافا
إلى استصحاب حال العقد قبل الفك من عدم التأثير ـ
يدفعها وضوح عدم
دليل يدل على اشتراط إذن المرتهن في الصحة ، إذ ليس في الأدلة إلا منع الراهن
والمرتهن من التصرف على معنى النفوذ ، لا العقد الذي ليس هو تصرفا قطعا ، وإنما
تثبت الصحة بإذن المرتهن باعتبار دوران الحق عليهما ، فمع رضاهما تتعين الصحة ،
وهذا أعم من الشرطية المزبورة قطعا ومنه ظهر الفرق بينه وبين المثال كما أوضحناه
سابقا.
كما يدفع الثانية
احتمال أن يقال : أنه لا بأس بالكشف ، والتزام عدم قدح الرهانة التي يتعقبها الفك
، والفاضل في القواعد فيما لو أتلف الرهن متلف وانتقل الرهانة إلى القيمة قال : «
فإن عفى الراهن فالأقرب أخذ المال في الحال : أي من الجاني لحق المرتهن ، فإن انفك
ظهر صحة العفو ، وإلا فلا » ، ولا وجه له إلا ما ذكرنا ضرورة اقتضاء ذلك نفوذ
العفو فيه ، وهو رهن ، فلا محيص عن التزام عدم قدح الرهانة المتعقبة بالفك في
تأثير السبب أثره.
ولعله إليه يرجع
ما عن فخر المحققين من الاستدلال عليه ـ بعد كونه جمعا بين الحقين ـ بأنه لا مانع
إلا حق المرتهن ، فإذا انفك انتفى المانع ، ثم بين وجه قول والده « ظهر صحة العفو
» بأن الأمور العدمية لا توصف بأنها موقوفة ، بل تكون
__________________
مراعاة ، وما يدل
على صحتها كاشف ، والكاشف هو دليل على سبق العلة المؤثرة التامة وأما الموقوف عليه
فهو من تمام العلة أعني علة الصحة.
لكن ضعفه في جامع
المقاصد ، بأنه لم يتحقق ثبوت حق للجاني إلى الآن ليجمع بينه وبين حق المرتهن ،
ومانعية حق المرتهن من صحة العفو تقتضي بطلانه وقت إنشائه ، فكيف تنكشف بعد صحته
في حال وجود المانع ، إلى أن قال : العفو إما أن يكون سببا تاما ، أولا ، فإن كان
الأول لزم إما تأثيره مع وجود المانع ، أو بطلانه ، وإن كان الثاني لزم كونه
موقوفا.
وفيه أنه يمكن أن
يريد ما ذكرنا من عدم مانعية الرهانة التي يتعقبها الفك الذي هو طريق لمعرفة كونها
كذلك ، وإلا فالعفو سبب تام في التأثير فتأمل جيدا فإنه لا يتم في نحو العتق والوقف
ونحوهما مما لا يمكن التزام كونه حرا مرهونا أو وقفا كذلك ، مضافا إلى ما في دعوى
رهنية ملك الغير في المثال السابق من دون اشتراط عليه ، والرهن السابق كان متعلقا
به من حيث كونه ملكا للبائع ، لا مع انتقاله عنه بالبيع كما هو واضح ، وقد يدفعها
أنه لا بأس بالتزام النقل تحقيقا للمانعية بل لعله الأقوى ، وليس هذا من التعليق
الممنوع قطعا ، ضرورة كون التعليق من العاقد ، لا الشرعي كما هو واضح.
ومن الغريب التمسك
بالاستصحاب بعد تغير الموضوع ، وخروج العين عن الرهانة إلى الطلق ، فلا وجه لجعل
ذلك وجه النظر في اللزوم في عبارة القواعد.
ومن ذلك كله يعلم
الحال في العتق الذي يتعقبه الفك ، وفاقا لما عن أكثر المتأخرين من النفوذ ، خلافا
للشهيد في الدروس وغيره ، فلا ينفذ ، لأنه لا يقع معلقا ، وفيه منع إن أراد به ما
يشمل الشرط الشرعي الذي منه عدم المانع ، مع أنه قد يدعى عدم التعليق ، بناء على
التقرير الذي ذكرناه سابقا ، ومثله لو أعتق المحجور عليه ، لسفه أو فلس فزال
الحجر.
لكن في التذكرة عن
الشيخ البطلان في الأخير ، وجعله أقوى ثم حكى القول ببقائه موقوفا ، ونفى البأس
عنه ، ويمكن أن يكون مختاره في المقام البطلان ، لأنه
هنا جعله كالحجر بالفلس
، وقد سمعت أن الأقوى البطلان عنده فيه.
وفي التحرير في
المقام في نفوذ العتق لو فك إشكال ، واحتمال أن المنع في العتق لاعتبار نية القربة
فيه التي لا تقبل التعليق يدفعه بعد تسليم اعتبارها فيه منع منافاة حصولها بإيجاد
سببه فيما يتوقف على ارتفاع مانع شرعي أو شرط كذلك.
ومن ذلك يعلم
الحال في الوقف ، وإن قلنا باعتبار النية فيه ، وكونه كالإيقاع في عدم الحاجة إلى
القبول ، اللهم إلا أن يدعى فيها مطلقا أو في خصوص العتق منها بظهور أدلتها في عدم
كونها موقوفة ، ولو على شرط شرعي ، ولذا بنى العتق منها على التغليب ، وقد يأتي
إنشاء الله التعرض لتحقيق ذلك في أبوابها.
ثم إن الظاهر سقوط
حق المرتهن فيما لو أذن بالمسقط ابتداء يكون بوقوعه ، من حيث أنه مناف لحق الرهانة
، لا بمجرد الإذن ، للأصل وغيره ، فله الرجوع فيها حينئذ قبل التصرف بعد علم
المأذون وقبله ، بل وبعد إيقاع الصيغة منه قبل الإقباض في مثل الهبة التي يتوقف
الملك بها عليه.
لكن في القواعد ،
الإشكال فيه ، ولعله لأن الإذن في المسقط يدل على الرضا بالسقوط ، ولأن التصرف
الناقل لا يجامع الرهن ، فلا بد من الحكم بالسقوط قبله.
وفيه أن المنافي
للرهن هو المقتضي للسقوط ، لا الرضا به ، ولا مانع من حصول السقوط بتمام سبب النقل
، وإن أبيت فليقدر لتصحيحه ، كما في نظائره قبله ، بآن ما لا بالإذن نعم لو حصل
النقل عن الراهن سقط ، ولو كان له الخيار للمجلس أو غيره فسخ خياره أولا ، لحصول
السقوط بمجرد الانتقال ، ولا دليل على عوده بالفسخ الذي هو منه حينه ، كالإقالة.
ولو رجع المرتهن
بإذنه قبل التصرف ، إلا أنه لم يعلم الراهن بذلك إلا بعده ، أمكن القول بالفساد ،
كما عن المبسوط الجزم به ، لبطلان مقتضى الصحة في الواقع ، وخروج الوكيل على ذلك
لو رجع الموكل ، ولما يعلم إلا بعد التصرف ، لدليل مخصوص لا يقاس عليه ، ودعوى ان
الفرض من الوكالة واضحة الفساد.
نعم لو انعكس
الفرض بأن أذن الراهن للمرتهن في البيع ، ورجع كذلك أمكن
القول بعدم
البطلان ، لانه من الوكالة كما هو واضح ، ولو كان قد باع أي المرتهن بخيار مثلا
ففسخه الراهن لأن له ذلك قطعا لم تعد الرهانة ، للأصل السالم ، لكن عن المبسوط أنه
إذا اشترى المرتهن عينا من الراهن بدينه ، أنه يصح ويبطل الرهن ، فإن تلفت العين
قبل القبض عاد الدين والرهن ، ولعله بناء على أن التلف قبل القبض فاسخ من الأصل ،
لا من الحين ، وإلا كان عود الرهانة بعد سقوطها ببراءة ذمة الراهن محلا للنظر وإن
كان لا يخلو من وجه ، وأولى منه بالنظر قوله فيه أيضا « وكذا لو أقبضه ثم تقايلا
عاد الدين والرهن ، كالعصير يصير خمرا ثم يعود خلا » وتعرف إنشاء الله فيما يأتي
الفرق بين المقامين.
ولو باع الراهن
فطلب المرتهن الشفعة ، فالظاهر أنه إجازة ، ضرورة توقف صحتها على بيع صحيح ، وهو
فرع رضى المرتهن ، فحمل طلبه حينئذ على الوجه الصحيح المعتبر يستلزم ذلك ، اللهم
إلا أن يعلم غفلته عن الرهانة ، فلا يدل الطلب حينئذ على الإسقاط مع إمكان دعوى
كون الطلب إجازة قهرا ، لا دالا على الرضا الذي تحصل به الإجازة ، نحو ما سمعته في
التصرف المسقط لحق الخيار.
وأما دعوى ـ أن
الشفعة كالفسخ في إزالة الملك لا يتوقف على إسقاط حق الارتهان ـ واضحة الفساد ،
ضرورة أن الشفعة من المرتهن إزالة ملك عن المشتري بعد ثبوته ونقله إليه بخلاف
الفسخ فيه الذي يرجع إلى عدم إجازة البيع ، فظهر من ذلك أنه لا محيص عن القول
بلزوم الطلب للإجازة ، والظاهر عدم بطلان الشفعة معه ، لعدم التلازم بين الرضا
باللزوم من حيث الرهانة ، وبينه من حيث الشفعة ، فيسقط وتصح الشفعة كما لو صرح
بذلك.
لكن في القواعد «
ولو باع الراهن فطلب المرتهن الشفعة ، ففي كونه إجازة إشكال. فإن قلنا به فلا شفعة
» وهو غريب ، خصوصا بعد قوله متصلا بذلك « ولو أسقط حق الرهانة فله الشفعة إن قلنا
بلزوم العقد » بعد الإغضاء عما في قوله إن قلنا بلزوم العقد مما لا محصل له معتد
به ، كما أنه لا محصل للمحكي عن ولده في توجيه العبارة ، فلاحظ وتأمل والله أعلم.
وكيف كان فقد ظهر
لك من ذلك كله أنه لا إشكال عندنا في صحة العتق من الراهن مع تعقب الإجازة من
المرتهن وإن قال المصنف فيه تردد مما ذكرنا ومن أن العتق لا يقع معلقا لاعتبار نية
القربة فيه ، أو لغير ذلك مما سمعت.
إلا أنه لا ريب في
كون الوجه الجواز لما قد مر مفصلا خلافا لما عن المبسوط ، والمراسم والوسيلة ،
والغنية ، بل والدروس : بناء على عدم الفرق بين ما صرح به من الفك وبين الإجازة ،
خصوصا مع كون المنع من بعضهم ، بناء منه على عدم جواز الفضولي فيندر الخلاف حينئذ
في خصوص المقام ، بل يمكن كون مراد الجميع مع عدم تعقب الإجازة فلا يكون خلاف
حينئذ فيه أصلا ، وأما احتمال عدم الجواز فيه ـ وإن قلنا بالفضولي في غيره ، لعدم
عموم في العتق يشمل مثل ذلك ، بخلاف غيره من العقود ـ فهو في غاية الضعف من وجوه ،
خصوصا في دعوى عدم العموم ، فإن « من أعتق » ونحوه كاف فيه ،
بل لعل العكس أولى من ذلك ، فيقال بالصحة حينئذ هنا ، وان منعنا الفضولي في غيره ،
لكون المعتق المالك ، وتعلق حق المرتهن مانع ، فمتى زال بإجازة أو فك عمل المقتضي
عمله ، كما أوضحناه سابقا في الفك الذي لا ريب في أن الإجازة أولى منه بالصحة كما
عرفت فلاحظ وتأمل.
وإليه يرجع ما في
المسالك هنا حيث قال : « منشأ التردد في الصحة من كون العتق إيقاعا ، فلا يكون
موقوفا لاعتبار التنجز فيه ، ومن أن المانع حق المرتهن ، وقد زال بإجازته ، وهو
أقوى ، ونمنع منافاة التوقف المذكور للتنجز ، كغيره من العقود التي يشترط فيها ذلك
أيضا ، فإن التوقف المذكور الممنوع هو توقف المقتضي على شرط ، لا على زوال مانع »
وعلى هذا لو لم يبطله المرتهن إلى أن افتك الرهن لزم ، إذ مراده الشرط الذي يكون
من العاقد لا الشرط الشرعي الذي منه عدم المانع ، ومنه الرضا المعلوم كونه شرطا في
العقود والتقابض في عقد الصرف وغير ذلك والله أعلم ، هذا كله في الراهن.
__________________
وكذا لا يجوز
للمرتهن التصرف في الرهن بانتفاع ونحوه ، لحرمة التصرف في مال الغير ، ولا يمضي
تصرفه فيه بعقد ونحوه إلا بإذن الراهن ، إذ هو فضولي فيجري عليه حكمه كما هو واضح
، مع أنه قد تقدم شطر صالح من الكلام فيه آنفا في الفصل الخامس فلاحظ.
ولكن ينبغي أن
يعلم ان في عتقه مع إجازة الراهن ترددا بل في المتن والوجه المنع لعدم الملك ما لم
يسبق الإذن وفاقا للقواعد ، ومحكي التحرير ، والإرشاد ، والدروس ، واللمعة ، وغاية
المراد ، والتنقيح ، وشرح الإرشاد للفخر ، والروضة ، والمسالك ، بل في الأخير « إن
كثيرا من الأصحاب لم يتوقف في الحكم ، لان المرتهن غير مالك ، ولا عتق إلا في ملك
، فيكون كالفضولي لا يصحح عتقه الإجازة » بل عن سابقه أن العتق يقع باطلا قطعا ما
لم تسبق الإذن ، إذ لا عتق إلا في ملك ، بل عن سابقهما قد اتفق الكل على إضمار
الصحة في قوله 7 « لا عتق إلا في ملك ».
قلت : لعله كذلك
فيما إذا كان العتق من المرتهن ، للخبر المزبور الذي لا يشكل بأن مقتضاه البطلان ،
وإن سبق الإذن ، ضرورة عدم حصول الملك للمرتهن معها ، لاندفاعه بما يأتي إنشاء
الله في باب العتق من أن المأذون والمأمور بعتق عبده عن غيره يصح عتقه ، وينتقل
إلى ملك الآمر والمأذون له قبل إيقاع الصيغة آنا ما ، والتزام نحوه في الاذن
اللاحقة ـ على معنى حصول الكشف بها عن دخوله في ملكه آنا ما قبل العتق ، كما لو
وهبه من نفسه فضولا ثم أعتقه فأجاز المالك الهبة فإنه ينكشف حينئذ وقوع العتق في
الملك ـ غير جائز بدون دليل عليه ضرورة مخالفة مثل ذلك للضوابط الشرعية التي ينبغي
الاقتصار في الخروج عنها على المتيقن ، وليس في غير الإذن السابقة ولو بمعونة كلام
الأصحاب.
أما إذا كان العتق
عن الراهن أو مطلقا ، فالمتجه ـ بناء على الفضولي وأنه على القاعدة ـ الجواز حتى
على القول باعتبار نية القربة فيه ، بناء على شمول دليل الفضولي لمثل ذلك ، كدفع
الزكاة والخمس ونحوهما عن الغير ، فيجيز من عليه الحق ، إلا
أن الانصاف عدم
خلو جميع ذلك كله من الإشكال ، خصوصا مع ملاحظة كلام الأصحاب.
نعم لو سبق اذن
الراهن للمرتهن في العتق مطلقا أو عن الراهن ، لم يكن إشكال في الصحة » لأن
المرتهن حينئذ وكيل عن المالك ، بل في المسالك « لو حملت عبارة المتن على ذلك كان
أولى ، واسترحنا من ذلك الإشكال المتوقف زواله على أمور خفية ».
قلت : لكن مقتضاه
حينئذ ما استوجه المصنف فيه المنع من عتق المرتهن عن الراهن مع الإجازة. وقد عرفت
ما فيه من الإشكال ، مضافا إلى عدم انطباق التعليل ، وأن الأقوى الجواز فيه ، بناء
على شمول دليل الفضولي لمثل ذلك ، وان قلنا باعتبار نية القربة التي يكفي في
إيجادها مشروعية الفضولي ، مثل التوكيل والتبرع.
ومرجع الجميع إما
إلى مشروعية إيجاد صورة الفعل العبادي عن الغير ـ على وجه يسقط التكليف عنه ، لا
أن المراد توجه أمر إلى الفاعل النائب بقصد امتثاله ، كما في الأصل ، ضرورة عدمه
في الوكيل مثلا فضلا عن غيره ، حتى الإجارة التي يؤمر بأدائها بعد تمام العقد من
حيث كونه وفاء بالعقد لا أمر عبادة ـ أو إلى أن الغير مأمور بإيقاع الصلاة عن
الغير ولو ندبا ، على نحو أمر الولد بالقضاء عن والده ، فتكون نية القربة فيه
حينئذ باعتبار كونه مأمورا بذلك ، بل هو معنى المشروعية تبرعا ، أو وكالة.
وجواز أخذ الأجرة
عليه ـ مع أنه عبادة محضة للأجير كالنافلة ـ للدليل الوارد في الحج وغيره ، ولعله
باعتبار تضمنه وصول منفعة للغير خصوصا إسقاط ما في ذمته وكان هذا أقوى من الأول
سيما بعد معلومية كون صلاة النيابة صنفا من العبادة بل هي نوع مقابل للعبادة
الأصلية نعم قد يفرق بين التوكيل وغيره والله اعلم والكلام في الوقف يعرف مما
قدمناه سابقا وذكرناه لا حقا فلاحظ وتأمل.
وكيف كان ف لو وطئ
الراهن بإذن أو بدونها فأحبلها ، صارت أم ولده شرعا بلا خلاف بل في التذكرة نسبه
إلى مذهبنا مشعرا بالإجماع عليه ، ولا ينافي ذلك ما تسمعه من جواز بيعها عند جماعة
من الأصحاب ، لعدم انحصار حكمها في عدم جواز البيع ، إذ قد لاتباع فتعتق من نصيب
ولدها مثلا.
وكذا لا خلاف في
أنه لا يبطل الرهن المستصحب بذلك ، وإن كان بإذن بل في المسالك لا شبهة فيه ، بل
ظاهر قوله في التذكرة ـ عندنا ـ الإجماع عليه ، وعلله في جامع المقاصد بان الرهن
بعد تمامه ولزومه ، إنما يبطل بمنافيه ، والإحبال وإن وقع بالإذن غير مناف وإن
صارت أم ولد ، إذ لا يمتنع بيعها إذا تعلق بها حق المرتهن سابقا على الاستيلاد ،
إما مطلقا أو مع الإعسار ، ومع الإيسار يجب بذل القيمة ، لتكون رهنا ، وذلك أثر
بقاء الرهانة لا محالة ، فلا منافاة حينئذ » ، بل في المسالك : « لا تخرج به عنه
وإن منعنا من بيعها ، لإمكان موت الولد ، فإنه مانع ، فإذا زال عمل السبب السابق
عمله ».
قلت : قد يقال :
بالبطلان إن لم ينعقد إجماع على خلافه ، بناء على منع البيع مطلقا أو مع اليسار ،
لما عرفت سابقا من أنه يشترط في صحة الرهن كونه مما يباع حتى يتم الاستيثاق به ،
بدعوى ظهور كون ذلك شرطا في الابتداء والاستدامة ، كما هو الأصل في الشرائط ،
خصوصا في المقام الذي هذا الشرط فيه كأنه من مقومات الرهانة ، وبذل القيمة على
القول بالمنع مع اليسار إنما هو لبطلان الرهانة في العين لا لبقائها فيها ، حتى
تكون ذلك من آثارها.
ومن هنا أورد في
جامع المقاصد على هذا القائل بأن الرهانة إن بقيت فهي متعلقة بالعين ، وإلا فلا
تعلق لها بالقيمة ، وإن كان قد يدفع بالتزام الثاني ، والتعلق بالقيمة لكونه السبب
في إتلاف الرهن ، حتى لو أذن له بالوطي الذي لم يستلزم الإحبال ، فالإذن فيه ليس
إذنا بالإتلاف ، حتى يتوجه إليه عدم استحقاق القيمة رهنا باذنه ، ولعل هذا القائل
كسابقه يلتزم عدم عودها رهنا بموت الولد ، أو انكشاف عدم بطلان رهانتها الذي حكم
به ظاهرا لاستصحاب بقاء الولد أو غيره.
وكيف كان ف هل
تباع؟ قيل : لا ما دام الولد حيا ترجيحا لدليل منع بيع أمهات الأولاد الظاهر في
قوة الاستيلاد ، بحيث يضاهي العتق ، بل ربما كان أقوى ، لأنه ينفذ فيما لا ينفذ هو
فيه ، كاستيلاد المجنون والمحجور عليه ، ولأن استيلاد المريض يكون من الأصل ،
بخلاف عتقه ، بناء على أن منجزاته من الثلث ،
لكن لم نعرف
القائل به قبل المصنف ، بل ولا بعده ، غير الفاضل في التحرير ، وثاني الشهيدين ،
في ظاهر الروضة. نعم عن الشهيد في غاية المراد حكايته عن المبسوط ، وفي جامع
المقاصد « الظاهر أنه وهم » وحكي عنه الجواز مطلقا.
وقيل والقائل
الشيخ كما عرفت والحلي ، والفاضل ، في المختلف ، والكركي والشهيدان في اللمعة ،
والمسالك : نعم يجوز مطلقا للأصل ولأن حق المرتهن أسبق ولأولوية أو مساواة بيعها
في الدين المتعلق بها ، للبيع في ثمن رقبتها ، وبذلك كله وغيره يرجح دليل بيع
الرهن على دليل منع بيع أمهات الأولاد ، ولو سلم التعارض مع عدم الترجيح فالأصل
جواز البيع ، وقيل والقائل الشيخ في الخلاف وابن زهرة ، والفاضل في التذكرة ،
والشهيد في الحواشي ، على ما حكي عنهم : تباع مع إعسار الراهن وتبذل قيمتها رهنا ،
جمعا بين الحقين مع يساره ، بل في الغنية الإجماع عليه ، وكان وجهه بعد كونه جمعا
بين الدليلين مساواته في الأول لثمن رقبتها ، بخلاف الثاني ، لكن في السرائر أنه
مخالف لأصول المذهب.
وقيل : والقائل
الشهيد في بعض حواشيه : يجوز بيعها مع وطئه بغير اذنه ، ولا يجوز مع الوطي بالاذن
، ومال إليه بعض مشايخنا ، لموافقته للأصول والاعتبار إن لم يكن خرقا للإجماع ولا
ريب أن الثاني لا الأول ولا الأخيرين أشبه بأصول المذهب ، خصوصا إذا كان الوطي
بغير الإذن ، لما عرفت من ترجيح دليل الرهن بما سمعت ، الذي منه الشهرة ، بل قد
عرفت أن الأصل يقتضي الجواز بعد الإغضاء عن الترجيح.
وخصوصا بعد اعتراف
المصنف بل الجميع بأنه لو وطئها الراهن بإذن المرتهن لم تخرج عن الرهن بالوطء
كالإذن في غيره من الانتفاعات التي لا تستلزم بطلان الرهانة في العين ، وإن أذن له
في نقلها إلى غيره بعقد ، فضلا عن استيفائها بنفسه ، أو بغيره ، بل قد عرفت جزم
الأصحاب بعدم خروجها بذلك عنه ، وان ترتب عليه الإحبال ، حتى على القول بعدم جواز
البيع ، هذا.
وفي الدروس في
تحرير أصل المسألة : قال : « وفي بيعها أو وجوب إقامة بدلها
تردد ، من سبق حق
المرتهن ، وعموم النهي عن بيعها ، فيقام بدلها أو يتوقع قضاء الدين أو موت ولدها ،
ولو كانت مرهونة في ثمن رقبتها ، فبيعها أوجه ».
وفيه أنه لا إشكال
فيه مع الإعسار ، ومع اليسار من المسألة ، كما أن القائل بعدم جواز بيعها لا يوجب
إقامة بدلها ، بل ليس له إلا توقع قضاء الدين أو موت الولد ، بناء على أنها باقية
رهنا كما عرفت. والأمر سهل.
وعلى كل حال فلأحد
على المالك ، وإن كان بغير إذن ، وإنما يعزر ، وولده حر ، ولا يغرم قيمته رهنا ،
وإن قلنا بتبعية النماء ، كما أنه ليس عليه عوض الوطي كذلك. نعم لا يبعد وجوب أرش
البكارة عليه رهنا إذا كان بغير إذن ، لأنه عوض جزء أتلفه وكذا تفاوت قيمتها لو
كان بالوطي والإحبال أو الولادة ، بل لو ماتت بالطلق وجب بذل قيمتها رهنا ، كما في
القواعد ، وغيرها ، وكذا لو وطئ أمة غيره لشبهة ، فضلا عن غيرها ، فماتت بالطلق
بخلاف زوجته المأذون في وطئها والمزني بها ، الحرة المختارة التي لا تدخل تحت اليد
بالاستيلاد الذي هو إثبات يد في الأمة.
وأما المكرهة
الحرة ففي جامع المقاصد « يضمنها لو ماتت بالطلق ، كما صرح به في التذكرة ، لأنه
أحدث سبب هلاكها فيها على كره ، فيضمن ديتها التي تجب على العاقلة » وفيه ما لا
يخفى ، بل لا يخلو السابق أيضا من نظر ، والأقوى القيمة عند التلف لا الإحبال ،
ولا الأعلى منه إلى يوم التلف هذا كله في وطى الراهن.
أما المرتهن فكا
لأجنبي في الأحكام المتقدمة في بيع الحيوان ، لكن عن الشيخ في المبسوط هنا إذا
وطئها بإذن الراهن فإن لم يدع الجهالة بتحريم ذلك فهو زنا ، والخلاف « إذا وطئ
الجارية المرهونة بإذن الراهن مع العلم بتحريم ذلك لم يجب عليه المهر » ومثله عن
الغنية نافيا للخلاف فيه ، والظاهر إرادتهم عدم الإكتفاء بمطلق الإذن بل لا بد من
عقد التحليل ، إلا أنه لا وجه لنفي المهر عنه ، وحكي عنه في الدروس أنه قال لو أذن
له الراهن فلا مهر عليه ، ولا قيمة للولد ، ثم قال : وهو بعيد إلا أن يحمل على
التحليل ، لكن كلام الشيخ ينفيه ، وهو كذلك كما سمعت ، بل
المتجه على ما
سمعت من كلامه كون الولد رقا رهنا ، بناء على التبعية ، لا أنه يبذل قيمته رهنا
أيضا ، ومن الغريب ما يحكى عنهما أيضا وعن التحرير من أنها تصير أم ولد له ، لو
اشتراها بعد ذلك ، مع أن الظاهر من الأدلة اعتبار التولد من وطى المالك في ذلك.
وكيف كان ف لو أذن
المرتهن له أي الراهن في بيع الرهن جارية كان أو غيرها قبل حلول أجل الدين فباع
بطل الرهن فيه بلا خلاف ولا إشكال ولا يجب جعل الثمن رهنا إذا لم يشترطه بلا خلاف
أيضا بيننا إلا ما تسمعه من الشيخ في بعض أفراده للأصل السالم عن المعارض بعد
بطلان الرهانة في المبيع بالإذن التي تعقبها البيع ، اللهم إلا أن يدعى كون المراد
الإذن في بيعه مرهونا على معنى كون الثمن مقابلا له في الملك وحق الرهانة ، فتنتقل
الرهانة حينئذ إلى الثمن قهرا ، لكن ظاهر الأصحاب في المقام سقوط حق الرهانة ،
لعدم تعقل بقائها في المبيع حتى تقابل بالثمن ، وأنه فرق بين البيع والتلف ، وعليه
وإن كان فيه نوع تأمل ، يتجه حينئذ لهم ما سمعت.
ومنه يعلم ان
السقوط بالبيع ، لا بالأذن فيه ، فله حينئذ الرجوع بها قبل البيع لعدم بطلان حقه
بذلك ، ولو ادعى بالرجوع حلف الراهن إن ادعى علمه ، ولو صدقه على الرجوع وادعى
كونه بعد البيع ، وقال المرتهن : قبله ، فإن اتفقا على تعيين وقت أحدهما واختلفا
في الآخر حلف مدعي التأخير عن ذلك الوقت لأنه منكر بناء على أصالة تأخر مجهول
التاريخ عن معلومه ، وإن أطلقا الدعوى أو عينا وقتا واحدا حلف المرتهن ، لتكافؤ
الدعويين ، فيتساقطان ، ويبقى استصحاب الرهن سليما عن المعارض فتأمل جيدا.
أما إذا كان البيع
المأذون فيه بعد حلول الحق أو كان الحق حالا من أصله فمقتضى إطلاق المصنف وغيره
كونه كالأول ، بل في المسالك أنه المشهور لما عرفت ، لكن عن المبسوط لو أذن له في
البيع بعد محل الحق فباع صح البيع ، وكان ثمنه مكانه حتى يقضي منه ، أو من غيره ،
واختاره في التحرير ، بل والدروس معللا له بأنه
قضية عقد الرهن.
لكنه كما ترى ،
كدعوى انصراف الإذن في هذا الحال إلى اشتراط كونه رهنا باعتبار كونه محل البيع ،
بخلاف ما قبل الأجل بعد الإغضاء عن لزوم مثل هذا الشرط لو صرح به في الإجازة ، أو
الأذن السابقة ، وإن كان لا خلاف فيه على الظاهر بيننا ، بل في التذكرة صح عندنا
مشعرا بالإجماع عليه ، كقوله في المسالك قطعا محتجين عليه بعموم « المؤمنون » وفي
الدروس « أنه قريب من نقل الوثيقة إلى عين اخرى ».
لكن قد يقال : إنه
ليس في ضمن عقد حتى يلزم بلزومه ، ونقل الوثيقة إنما يكون بفسخ من المرتهن للأولى
، وإيجاب للرهن في الثانية ، على أن ظاهره في الدروس سابقا اختصاص النقل بالذي
يخاف فساده « قال : لو اتفق المتراهنان على نقل الرهن عند الخوف من الفساد إلى عين
أخرى احتمل الجواز لأن الحق لا يعدوهما ويجري مجرى بيعه ، وجعل ثمنه رهنا ، ويحتمل
المنع ، لأن النقل لا يشعر بفسخ الأول ، ويمتنع البدل مع بقاء الأول ، فإن قلنا
بجواز النقل هنا ، فهل يجوز في رهن قائم لم يعرض له نقص ، وجهان قريبان وأولى
بالمنع ، لأن المعرض للفساد يجب بيعه ، فهو في حكم الفائت ، ونقل الحق إلى بدل
الفائت معهود ، ولا فوات هنا ».
وهو كما ترى ظاهره
الميل إلى العدم في غير ما يخاف فساده ، فقرب الشرط منه غير مجد في صحته ولزومه ،
على أن المتجه بناء على عدم مشروعية نتائج العقود بالشرائط اعتبار رهانة جديدة
للثمن ، وظاهرهم خلافه ، والإكتفاء بصيرورته رهنا بذلك ، ولعله مبني على ما ستسمعه
إنشاء الله.
وعلى كل حال
فالحكم بلزوم الشرط هنا لا يخلو من إشكال ، اللهم إلا أن يقال إن الشرط في الإذن
في العقد كالشرط في العقد في اللزوم ، بل قد ينحل هذا الشرط إلى كونه شرطا على
البائع في الإيجاب المعتبر رهناهما معا في صحته ، ومنه حينئذ يعلم اللزوم لو اشترط
تعجيل الحق في الإذن كما صرح به غير واحد ، بل
لا أجد فيه خلافا
إلا من الشيخ ، فلم يسقط الأجل بهذا الشرط ، بل ظاهر الدروس حكاية كون الثمن رهنا
عنده في هذا الفرض ، وفيه مالا يخفى ، ولو اختلفا في اشتراط رهن الثمن ففي الدروس
وجامع المقاصد ، حلف الراهن ، ولو اختلفا في النية لم يلتفت إلى المرتهن ، لأن
الاعتبار بما دل عليه اللفظ.
نعم قد يناقش في
الأول بأن القول قول المرتهن في أصل الإذن ، فكذا صفتها كما عن التذكرة الجزم به
في خصوص الفرض ، بل عن المبسوط لو قال : أذنت بشرط أن تعطيني حقي ، فقال الراهن :
بل مطلقا ، فالقول قول المرتهن ، لأن القول قوله في أصل الإذن ، فكذا في صفته ،
وأجمل الفاضل في القواعد فقال : « حلف المنكر » من غير بيان أنه الراهن أو المرتهن
، ولعل التحقيق اختلاف التعبير في الدعوى ، والأمر سهل والله أعلم ، هذا كله في
إذن المرتهن للراهن.
وأما لو انعكس
الفرض بأن أذن الراهن للمرتهن في البيع قبل الأجل ففي المتن وغيره بل لم يعرف نقل
الخلاف فيه فضلا عن وقوعه لم يجز للمرتهن التصرف في الثمن على معنى كونه رهنا عنده
عوض المبيع ، كما صرح به في الروضة ، بل ربما قيل أنه لا خلاف فيه سوى ما حكاه في
الجامع ، بلفظ القيل من أنه لا يكون رهنا.
لكن في الرياض سوى
بين إذن الراهن والمرتهن في بطلان الرهن ، وعدم جعل الثمن رهنا ، قال : « ولو باع
المرتهن الرهن بدون إذن الراهن ، وقف على الإجازة ، وصح بعدها على الأشهر الأقوى
من جواز الفضولي ، وبطل الرهن ، كما لو أذن ابتداء أو باع هو بإذن المرتهن مطلقا ،
لزوال متعلقة ، ولا يجب جعل الثمن رهنا إلا مع اشتراطه ».
بل ربما ظهر منه
الميل إلى عدم صيرورة القيمة في التلف رهنا ، لأنه قال متصلا بالكلام السابق : «
قيل أما إذا أتلفه متلف إتلافا يقتضي العوض ، كان العوض رهنا ، لإمكان الاستيثاق
به ، وعدم خروجه عن العوض ، لكنه تبطل وكالة المرتهن في الحفظ والبيع إن كانت ،
لاختلاف الأغراض في ذلك باختلاف الأموال » انتهى
وفي الفرق وتعليل
قيام العوض مقام المتلف رهنا نظر ، يظهر وجهه لمن تدبر.
قلت : قد عرفت
اتفاق الأصحاب ظاهرا على كون الثمن رهنا في صورة إذن الراهن ، إلا ما حكاه في
الجامع بلفظ القيل ولا ريب في ضعفه ، وإن كان وجهه ما سمعت سابقا من اقتضاء البيع
بطلان الرهانة السابقة ، لعدم تعقل بقائها في المبيع ، بل وفي ثمنه إلا مع الشرط ،
وليس هنا ، إذ الفرص عدم وقوع غير الإذن من الراهن للمرتهن في البيع وهو أعم من
ذلك فيكون إذن الراهن كإذن المرتهن في ذلك بعد فرض استناد البطلان إلى البيع
المنافي للرهانة في المبيع ، وليس ما يقتضي رهن غيره من شرط ونحوه ، وهو مشترك
بينهما.
لكن فيه أولا :
أنه يتم بناء على أن الثمن للمبيع كعوض التالف تتعلق به الرهانة من حيث كونه عوض
مرهون ، إذ من الواضح حينئذ تمامية ما ذكره الأصحاب نعم هنا مقتضى ذلك كونه رهنا
أيضا في إذن المرتهن للراهن ، لا العكس خاصة ، وهم لا يقولون به إذا لم يشترط ،
اللهم إلا أن يدعى ظهور الإذن منه في الإسقاط بالبيع مطلقا ، أو في خصوص البيع قبل
الأجل ، باعتبار عدم اقتضاء الرهن بيعه حينئذ والشرط إنما هو لرفع الظهور المستفاد
من الإذن ، وإبقاء رهنية الثمن على حسب اقتضاء تعلق الحق بالعين ، أو بما يقوم
مقامها ، بخلاف المقام الذي لم يحصل منه إذن في البيع ، إذ الإذن من الراهن ،
وإنما حصل منه البيع ، وهو لا يقتضي إسقاط حقه من الرهانة وربما يؤيده عدم ذكرهم
اعتبار القبض في رهنية الثمن المشترط ، فضلا عن تجديد الإرهان.
وثانيا أنه لو
قلنا باقتضاء البيع سقوط الرهانة في المبيع على وجه لا يقتضي رهانة الثمن ، إلا
باتفاق جديد منهما ، لكن قد يقال : بظهور كون البائع المرتهن ، وان الإذن من
الراهن له من حيث حق رهانته ، لا أنها وكالة كوكالة الأجنبي في إرادة بقاء حق
الارتهان الذي لا موضوع له بعد البيع ، إلا في الثمن فهو كاتفاقهما على ذلك بل
مبني العقد ظاهرا عليه حتى يصرح بخلافه ، وهذا واضح بأدنى تأمل.
ومن ذلك كله يظهر
لك ما في الرياض من النظر من وجوه ، بل وما في الحدائق فإنه قال : فيما لو أذن
الراهن للمرتهن هل يكون الثمن رهنا فلا يجوز للراهن طلبه أم لا ، إشكال ، ولم
يحضرني الآن تصريح أحد منهم بالحكم المذكور ، ويمكن ترجيح العدم ، لأن حق المرتهن
إنما تعلق بالعين ، فلا يتعدى إلى الثمن إلا بدليل ، وليس فليس إذ قد عرفت التصريح
بذلك ، وأنه المراد من قولهم لا يجوز التصرف فيه إلا بعد الحلول بعد التأمل ، وقد
عرفت الوجه في ذلك أيضا ، فكلامه أيضا لا يخلو من نظر من وجوه.
كما أن قول المصنف
إلا بعد حلوله لا يخلو من نظر أيضا ، ضرورة اقتضائه جواز التصرف في الثمن بعد
الحلول ، وهو واضح البطلان ، إذ ليس الثمن إلا رهنا ، فيجري فيه ما يجري في الرهن
من عدم جواز التصرف فيه بعد الحلول إلا بإذن الراهن أو الحاكم أو المرتهن على
التفصيل الذي ستسمعه.
بل وكذا قوله
كغيره من الأصحاب ولو كان أي الإذن بالبيع بعد حلوله صح التصرف فيه ، لا يخلو من
نظر إذا لم تقترن بما يدل على الإذن في الاستيفاء منه ، ولو بمعاوضة جديدة ، أو
قبض كذلك ، كمطالبة من المرتهن ونحوها ، ضرورة عدم اقتضاء الإذن في البيع ذلك ،
ومن هنا شرط بعضهم جواز التصرف المزبور بالإذن فيه وفي الاستيفاء وهو جيد. بخلاف
ما في المسالك من تنزيل العبارة على مساواة الثمن للحق جنسا ووصفا ، إذ هو مع عدم
إشعار في عبارة المصنف وغيرها به غير تام ، إذ التساوي لا يقتضي الإذن في
الاستيفاء ، والتقاص القهري في نحوه إنما هو في خصوص ما في الذمم ، لا في الرهن
المساوي للحق كما هو واضح.
نعم لو فرض أن
المرتهن قد اشتراه بإذن من الراهن في الذمة بمساوئ حقه جنسا ووصفا ، أمكن حينئذ
دعوى التهاتر القهري ، وتنزيل العبارة عليه كما ترى ، وأضعف منه الاحتجاج لإطلاقها
بما دل على المقاصة من خبر المروزي المتقدم سابقا
في خوف جحود
الوارث ، وغيره الذي لا فرق فيه بين مجانس الحق ومخالفه ، ضرورة عدم جواز المقاصة
قبل حصول شروطها من الامتناع وغيره ، كما هو واضح ، فالتحقيق مراعاة الضوابط إن لم
يقم إجماع على خلافها في المقام ، ودونه خرط القتاد والله أعلم.
وكيف كان ف إذا حل
الأجل وأراد المرتهن حقه طالب الراهن بالوفاء ، ولو ببيع الرهن أو التوكيل في بيعه
، وفي الدروس ليس للمرتهن تكليف الراهن بأداء الحق من غير الرهن ، وإن قدر عليه الراهن
، ولعله لتعلق حقه في العين برضاه ، ولا ينافي ذلك شغل ذمة الراهن. كما لا ينافيه
عدم جواز البيع له ، لو بذل له الراهن الدين.
ولو تعذر الأداء
المزبور لامتناع من الراهن مثلا كان للمرتهن البيع والاستيفاء إن كان وكيلا بل له
ذلك من غير مراجعة له مع إطلاق وكالته وإلا يكن وكيلا ولم يتمكن من إجباره رفع
أمره إلى الحاكم إذا كانت له بينة يثبت بها حقه ليلزمه البيع بالقول أو الفعل بضرب
، أو حبس ، أو نحوهما مما يتوقف تحصيل الحق عليه إلى منتهى مراتب ذلك ، وليس
للمرتهن البيع قبل رفع أمره إلى الحاكم بلا خلاف أجده فيه ، للأصل وغيره بعد عدم
انحصار حقه في ذلك ، وبعد نصب الحاكم لقطع الخصومات وإعانة المظلومين ، فإن امتنع
على الحاكم إلزامه ـ ولو لعدم بسط يده ـ باعه عليه بنفسه ، أو بوكيله ولو المرتهن
إذا كان جامعا لشرائط الوكالة في مثله ، وليس للمرتهن هنا أيضا البيع بدون ذلك ، لتمكنه
من الولي الشرعي له الذي هو قائم مقامه فلا تسقط حرمة ماله حينئذ ، إذ هو كالتمكن
من المالك ، والاستيثاق لا يقتضي مباشرة الاستيفاء ف لا ينافي كون كيفيته ما ذكرنا
كي يعارض ما دل على عدم جواز التصرف في مال الغير إلا بإذنه ، أو إذن وليه لكن في
المتن وغيره أنه إن امتنع أي الراهن بعد إلزام الحاكم له كان له حبسه وله أن يبيع
عليه ومقتضاه التخيير بين الأمرين ، وأن ولاية الحاكم تثبت في أول مراتب الامتناع
عليه وهو لا يخلو من إشكال ، خصوصا بعد
مراعاة الاقتصار
في ولاية الحاكم على المتيقن الذي هو حال انتهاء مراتب الإجبار على الحق.
بل ربما كان في
خبر سماعة عن الصادق 7 ظهور في خلافه في الجملة ، « قال :كان أمير المؤمنين 7 يحبس الرجل إذا
كان التوى على غرمائه ، ثم يأمر فيقسم ماله بالحصص ، فإن أبى باعه فقسمه فيهم ،
يعنى ماله » فتأمل والأمر في ذلك سهل ، كسهولة اختلاف عبارة الأصحاب في المقام
بالنسبة إلى الإطلاق والتقييد المبني على ظهور الحال في هذا الحكم ، لا على
الاختلاف في المسألة ، والتفصيل ما ذكرنا.
وليس في نصوص
المقام ما ينافيه ، سوى ما في موثق إسحاق بن عمار من جواز البيع من دون مراجعة
الحاكم ، قال « سألت أبا إبراهيم 7 عن الرجل يكون عنده الرهن فلا يدري لمن هو من الناس فقال :
لا أحب أن يبيعه حتى يجيء صاحبه قلت : لا يدرى لمن هو من الناس فقال : فيه فضل أو
نقصان ، فقلت : إن كان فيه فضل أو نقصان فقال : إن كان فيه نقصان فهو أهون يبيعه
فيؤمر فيما نقص من ماله ، وإن كان فيه فضل فهو أشدهما عليه ، يبيعه ويمسك فضله ،
حتى يجيء صاحبه ».
إلا أني لم أجد
عاملا به ، عدا ما يحكى عن ظاهر أبي الصلاح حيث أطلق جواز البيع مع عدم التمكن من
استيذان الراهن ، وأنه ليس له إلا مقدار قيمته لو نقصت عن الحق مع البيع بغير
الإذن ، ولعله لهذا الخبر الذي يمكن حمله على ما إذا لم يكن إثبات حقه ورهانته عند
الحاكم ، أو على تعذر الحاكم ، أو على إرادة بيان مطلق البيع الذي يجامع الاستيذان
من الحاكم مع التمكن ، أو على غير ذلك.
كما انه ينبغي حمل
موثق عبيد بن زرارة ـ « عن الصادق 7 في رجل رهن رهنا إلى غير وقت موقت ، ثم غاب هل له وقت يباع
فيه رهنه ، قال : لا حتى يجيء » ـ على الكراهية أو على الغيبة التي لا ضرر على
الديان بانتظارها ، لقربها وتوقع مجيء الراهن ، أو غير ذلك مما يحمل عليه موثق
ابن بكير ـ « سألت أبا عبد الله 7
__________________
عن رجل رهن رهنا
ثم انطلق ، فلا يقدر عليه أيباع الرهن قال : لا حتى يجيء صاحبه » أو يطرحا ،
لإعراض الأصحاب عن إطلاقهما.
وأما خبر إبراهيم
بن عثمان « قلت للصادق 7 : رجل لي عليه دراهم ، وكانت داره رهنا ، فأردت أن أبيعها
فقال : أعيذك بالله أن تخرجه من ظل رأسه » فلا ريب في إرادة الكراهة لبيع الدار
منه ، كما أن المراد من بيعه على حسب حال بيع الرهن من الرجوع إلى الراهن أولا ،
ثم إلى الحاكم مع التمكن على التفصيل المتقدم ، لا أن المراد تولي بيعه بنفسه من
أول الأمر الذي يمكن دعوى إجماع الأصحاب على خلافه ، بل المفهوم في خبر المروزي
المتقدم في مسألة خوف جحود الوارث ظاهر في نفيه أيضا ، فضلا عن الموثقين السابقين.
ثم إن ظاهر
الأصحاب هنا عدم اعتبار قيام العدول مقام الحاكم مع تعذره ، نعم في جامع المقاصد
لو لم يكن الحاكم موجودا باع بنفسه ، ولو أشهد شاهدي عدل كان أولى ، وهو مع ظهوره
في عدم الوجوب لم يعتبر إذنهما في البيع للولاية كما أن الظاهر عدم إرادة من أنهى
الأمر إلى الحاكم من غير تعرض للحكم ، إذا لم يكن موجودا تعطيل المال لو فرض تعذر
الوصول إليه ؛ إذ الظاهر عدم التوقف في مباشرة المرتهن حينئذ للبيع ، واستيفاء حقه
كما هو مقتضى ما دل على المقاصة ، للموثق المزبور المعتضد بنفي الضرر والحرج.
بل أطلق في
التذكرة « أنه إذا لم يكن له بينة أو لم يكن في البلد حاكم فله بيعه بنفسه ، كما
أن من ظفر بغير جنس حقه من مال المديون وهو جاحد ، ولا بينة له يبيعه ، ويأخذ حقه
» وإن كان الظاهر إرادته بحيث يشق الوصول إليه ، لا مطلق عدم كونه في البلد ، كما
أن الظاهر إرادة من ألحق غيبة الراهن بالامتناع ، الغيبة التي يتضرر المرتهن
بانتظار مجيئه منها ، لا مطلق الغيبة وإن قصر زمانها ، بل ربما كانت أقصر زمانا من
استيذانه وهو في البلد في بعض الأحوال.
نعم قد يظهر من
كلمات الأصحاب في المقام عدم اعتبار إذن الحاكم إذا لم
__________________
يكن للمرتهن بينة
، وإن تمكن من استيذانه على وجه العموم ، بحيث يندرج الرهن المخصوص فيه في الواقع
من دون تعرض له بخصوصه ، إلا أن الاعتبار مراعاة لإذن الولي لا يخلو من قوة ، كما
أنه قد يظهر منها ومن الموثق المزبور بيع تمام الرهن ، وإن وفي بعضه بالحق ، فيبقى
الباقي حينئذ أمانة وهو جيد إذا توقف الحق عليه أو حصل ضرر بالتبعيض على المالك ،
أما إذا لم يكن كذلك فالمتجه مراعاة حق الراهن بالاقتصار على بيع مقدار الحق وإبقاء
عين المال أمانة.
ولو أراد الراهن
بيعه للوفاء فلم يأذن المرتهن كان للحاكم إلزام المرتهن بالإذن فإن امتنع تولى
أمره الحاكم ، وإليه أشار في التذكرة فقال : « وإنما يبيع الرهن الراهن أو وكيله
بإذن المرتهن ، فلو لم يأذن وأراد الراهن بيعه قال له الحاكم :ائذن في بيعه ، وخذ
حقك من ثمنه ، أو أبرأه ، ولو قال الراهن للمرتهن بعه لنفسك لم يصح البيع ، لأن
غير المالك لا يبيع لنفسه ، خلافا للشافعي في أحد الوجهين ، بل يقول بعه لي أو بعه
مطلقا على الأقوى حملا على الصحيح خلافا للشافعي في أحد وجهه أيضا فمنعه.
وقد عرفت فيما
تقدم أنه لا بد من الإذن في الاستيفاء ، فإن قال : استوفه لنفسك صح ، كما في
التذكرة ، وعلى الأقوى في الدروس وفيهما معا أنه يحدث فعلا جديدا من كيل أو وزن أو
نقل ، لدلالة اللفظ عليه. نعم احتمل في ثانيهما الإكتفاء بدوام اليد ، كقبض الرهن
أو الهبة من المودع والغاصب والمستعير ، ولا ريب في قوته لأن استدامة القبض كالقبض
الجديد كما أومأنا إليه سابقا ، وكذا الكلام لو قال اقبضه لي ثم لنفسك ، أو أمسكه
لنفسك.
ودعوى ظهور قوله
ثم استوف لنفسك في احداث فعل فعى وجه لا يشمل تجدد اليد واضحة المنع ، أما لو قال
بعه لي واستوف لنفسك ، أو أقبضه أو أمسكه كذلك ، فقد يشكل صحته فيما لو كان الثمن
في الذمة ، بعدم تعينه للمديون بغير قبض منه أو ممن يقوم مقامه مع عدم الحوالة ،
لكن في الدروس : الأقرب الجواز ، وإن لم يقبضه للراهن ، وإن كان مكيلا ، أو موزونا
، أو طعاما ـ بل قال : ـ لو كان الثمن غير
مقدر بهما فالظاهر
أنه لا إشكال فيه ، لصحة بيع ذلك قبل قبضه عندنا بغير اختلاف » وفيه أن الإشكال
مما ذكرنا لا من ذلك.
نعم في التذكرة «
الوجه الصحة ، لأن قوله استوف لنفسك يتضمن التوكيل » وهو جيد ، بناء علي كون
المراد اقبضه لي ثم لنفسك باعتبار توقف الثاني على الأول إنما الكلام على تقدير
عدم إرادته ، وقد عرفت أنه مشكل ، بل جزم الشافعي بعد صحته كالفاضل في القواعد ،
وإن ترتب الضمان على هذا القبض الفاسد ، اللهم إلا أن يقال أن القبض وإن كان لنفسه
يقوم مقام قبض الديان فيقدر له آنا ما كما في أعتق عبدك عني ، فتأمل جيدا هذا. وقد
تقدم تمام التحقيق في كثير من هذه المسائل في المباحث السابقة في كتاب البيع والله
أعلم.
المقصد
الثاني
في أحكام
متعلقة بالرهن
الرهن لازم من جهة الراهن جائز من جهة المرتهن بلا خلاف أجده فيه
، بل في التذكرة والمحكي عن غيرها الإجماع عليه ، وهو كذلك بناء على عدم مدخلية
القبض في صحته ولا لزومه ، بل وعلى تقدير مدخليته مع حصوله. نعم هو جائز من طرف
الراهن قبله ، بناء على أنه شرط في اللزوم كما مر تحقيق ذلك ، والمراد هنا بيان
حكمه من جهة الراهن ، والمرتهن ، بعد تمام ما هو معتبر في صحته ولزومه ، فالإجماع
حينئذ بحاله ، مضافا إلى ما دل على اللزوم من الأمر بالوفاء بالعقود وغيره الذي لا
يجري في المرتهن قطعا ، بعد أن كان الحق له ، فهو مسلط على إسقاطه كغيره من
الحقوق.
بل الظاهر عدم صحة
اشتراط الخيار للراهن ، لمنافاته الاستيثاق ، والحبس الذي هو مقتضى عقد الرهن ،
وفرق بينه وبين ارتهان العبد الجاني ونحوه ـ مما لا وثوق للمرتهن ببقائه ، من غير
الراهن الذي يكون شرط الخيار منه ، كاشتراط التوقيت ـ في المنافاة.
لكن مع ذلك كله قد
استشكل فيه في التذكرة فقال : « وأما الشرط الفاسد فهو ما ينافي مقتضى عقد الرهن ،
مثل أن يشترط أن لا يسلمه إليه على اشكال ، أولا يبيعه عند محل الحق ، أولا يبيعه
إلا بما يرضى به الراهن ، أو بما يرضى به رجل آخر ، أو تكون المنافع للمرتهن ،
أولا يستوفي الدين من ثمنه ، فإنها شروط نافت مقتضى العقد ، ففسدت ، وكذا إن شرط
الخيار للراهن على إشكال ، أو أن لا يكون العقد لازما في صفة ، أو يوقت الرهن ، أو
أن يكون الرهن يوما ، ويوما لا يكون رهنا ».
إلا أنه لا ريب في
ضعفه لما عرفت ، كضعف احتمال الفساد في اشتراط عدم التسليم إذا كان المراد منه
استمرار بقاء اليد ، بل وإن لم يرد منه ذلك إذا كان المراد منه مالا يشمل الوكالة
، أو قلنا بعدم اعتبار التسليم فيه ، فإن دعوى احتمال عود ذلك على العقد بالنقض
كما ترى ، وكذا الكلام في نحو اشتراط المنافع للمرتهن والله العالم.
وعلى كل حال فلا
ريب في لزوم الرهن من جهة الراهن. نعم قد يقال بجوازه لو كان قد وقع منه لانه شرط
عليه في بيع قد زعم صحته ، فبان عدمها بعد وقوع الرهانة منه ، كما جزم به في
القواعد لنفي الضرر والضرار ، ولان الشرط في البيع كجزء من الثمن أو المثمن اللذين
لا ريب في رجوعهما إلى مالكهما بظهور البطلان بل مقتضى ذلك بطلان الرهن قهرا ، إلا
أنه لما كان قد وقع بعقد محكوم بصحته لإطلاق الأدلة ، روعي الجمع بين ذلك ، وبين
حق الراهن بالخيار ، والمسألة سيالة في غير المقام ، كاشتراط البيع والإجارة
ونحوهما في عقد قد ظهر فساده بعد وقوعهما.
مع أنه قد يقال
بعدم الرجوع في الجميع ، لأن تخيل الصحة من الدواعي فالعقد الصادر باق علي مقتضى ما
دل على صحته ولزومه ، إذ هو حينئذ كما لو أبرأت الزوجة الذمة بظن صحة الطلاق ، أو
في خصوص المقام الذي لا مجال للقول بالبطلان فيه ، باعتبار منافاته لإطلاق ما دل
على الصحة ، ولا الخيار لعدم قابلية خصوص هذا العقد للخيار ، فهو حينئذ كالإبراء
المشترط في عقد قد ظهر فساده بعد وقوعه ، والنكاح
والطلاق والعتق
ونحوها ، وعن بعض نسخ القواعد ولو شرط عليه رهن في بيع فاسد فظن اللزوم فرهن فلا
رجوع ، وهو لا يخلو من قوة فتأمل جيدا.
وكيف كان ف ليس له
أى الراهن انتزاعه من المرتهن بدون رضاه إلا مع سقوط الارتهان ببراءة ذمة الراهن
من الدين الذي قد رهن به الرهن بالإقباض من المالك أو المتبرع أو الضمان أو
الحوالة أو الإقالة المسقطة للثمن المرهون به ، أو الإبراء من ذي الدين أو بتصريح
المرتهن بإسقاط حقه من الارتهان أو ما هو كالتصريح بلا خلاف في شيء من ذلك ، ولا
إشكال.
ولو برأت ذمته من
بعض الحق فالظاهر بقاء الجميع رهنا على ما يبقى من الدين وإن قل ، إذا لم يكن قد
اشترط التوزيع ، أو كونه رهنا على المجموع المنتفى صدقه بذهاب البعض ، وفاقا لصريح
جماعة ، بل عن الشيخ الإجماع عليه ، لظهور الارتهان في الاستيثاق ، لجميع أجزاء
الدين ، وكون الغرض استيفاؤه بتمامه منه أجمع كما يشعر به ما في النصوص من نفى البأس عن
الاستيثاق للمال الصادق على الكل والبعض ، جوابا للسؤال عن أخذ الرهن.
لكن في المسالك عن
الفاضل في القواعد أنه اختار فيها كونه رهنا على مجموع الدين الذي ينتفي صدقة
ببراءة الذمة من بعضه وإن قل ، فيبقى الباقي من غير رهن بعد أن احتمله هو ، والذي
فيها ، ولو أدى بعض الدين بقي كل المرهون رهنا بالباقي على إشكال ، أقر به ذلك إن
شرط كون الرهن رهنا على الدين وعلى كل جزء منه ، ولا صراحة فيه فيما ذكره ، ضرورة
أعمية مفهوم الشرط فيها من ذلك.
بل في جامع المقاصد
في شرحها أنه قد يتوهم عدم إفتاء المصنف نظرا إلى أن المذكور في كلامه هو الحكم مع
الاشتراط ، ولا نزاع فيه ، لأن النزاع مع الشرط وليس كذلك ، لأن الأقرب يقتضي
الفتوى ، إذ لا يتطرق الاحتمال مع الشرط ، إنما يتطرق بدونه ، ثم قال في القواعد «
ولو دفع أحد الوراث نصيبه من الدين لم ينفك نصيبه على اشكال ».
__________________
وفي جامع المقاصد
أي : لو دفع أحد وارثي الرهن نصيبه من الدين ، وهذا الاشكال ـ بعد الفتوى المتقدمة
بأنه مع الاشتراط يكون الرهن رهنا بكل جزء ، وبدونه على ما يقتضيه التقسيط ـ لا
وجه له ، إذ مع الاشتراط لا ينفك قطعا وبدونه بمقتضى التقسيط يلزم الانفكاك ،
ومقتضاه أنه فهم من العبارة الأولى التقسيط وإن كان هو كما ترى ، لما عرفت من كون
المفهوم أعم ، وإن جعلنا الأقرب راجعا إليه ، إذ أقصاه أن لا يكون الحكم كذلك ، لا
خصوص التوزيع وعلى كل حال فلا ظهور فيه ، بل ولا إشعار بذلك ، وحينئذ فلا قائل به
فيما أجد.
نعم ربما حكي عن
الفاضل وولده التوزيع والتقسيط ، بدعوى أن الرهانة كالمعاوضة في اقتضاء مقابلة
الأجزاء بالأجزاء لا الجملة بالأبعاض فان برء من بعض الدين انفك من الرهن بحسابه
نصفا أو ثلثا أو غيرهما من الأجزاء المشاعة.
وفيه مضافا إلى
مخالفته ما عرفت أنه يقتضي عدم كون الباقي رهنا على الجميع فيما لو تلف بعضه ، وهو
باطل نصا وإجماعا بقسميه ، ومنه يعلم قوة ما ذكرنا من كون المقابلة في الرهن
مقابلة جملته بكل جزء ، لا على حسب مقابلة المعاوضات التي لا شبه بينها وبين الرهن
، ودعوى ان العرف فارق بين التلف وغيره في التقسيط المزبور غير مسموعة ضرورة
اقتضاء العرف ما قلناه كما هو واضح بأدنى تأمل فيه.
أما إذا اشترط فلا
خلاف أجده في لزوم ما اشترطه من التوزيع أو الرهانة على المجموع أو على كل جزء من
الدين ، كما لا تأمل في الأول والأخير ، لعموم « المؤمنون » نعم قد يتوقف في
الثاني باعتبار منافاته للتوثق ، لكن الاتفاق ظاهرا على صحته ينفيه ، مع أنه لا
منافاة بناء على عدم وجوب قبول المرتهن للبعض المبذول لما فيه من الضرر عليه بفوات
الرهينة وان وجب بدونها ، فيكون هذا البعض حينئذ كالبعض المبذول المستلزم لنقص في
المالية ، مثل مال السلم وثمن المبيع في عدم وجوب القبول.
إلا أنه قد يدفعه
إطلاق ما دل على القبول ، والضرر غير قادح ، بعد أن أقدم عليه بالرضا بالشرط
المزبور ، بل لا يبعد وجوب القبول لو قلنا بانصراف الإطلاق
إلى الاحتمال
المزبور من دون شرط ، لتناول ما دل على لزوم القبول لذلك ، بحيث لا ينافيه التضرر
بفك الرهانة به بعد بنائها على ذلك ورضاه على هذا النحو ، وحينئذ يتأكد التوقف
المزبور في الشرط المذكور ، باعتبار اقتضائه عدم الوثوق بالرهن المفروض انفكاكه
بدفع جزء يسير من الدين ، فتأمل جيدا والله العالم.
وكيف كان ف بعد
ذلك الإقباض وغيره مما يحصل به الفك يبقى الرهن أمانة في يد المرتهن مالكية وحينئذ
لا يجب تسليمه إلا مع المطالبة من المالك أو من يقوم مقامه ، لأن حصولها في يد
الأمين بإذن المالك ، بخلاف الشرعية كالثوب الذي أطارته الريح ونحوه مما لا إذن
فيه من المالك ، وإنما هي من الشارع الذي أوجب عليه رده إلى مالكه ، أو إخباره به
، لعدم إذنه في بقائه في يده ، وبهذا افترقت الشرعية عن المالكية المستندة إلى
الإذن المستصحب حكمها حتى مع النسيان ونحوه.
ودعوى ـ تقييد
الإذن هنا بالرهانة ، فمتى زالت ، زالت ـ مدفوعة بعدم استلزام الرهانة الأمانة عند
المرتهن ، فهو حينئذ أمر آخر لا مدخلية له بالارتهان ، فما عن بعض العامة من
الضمان على المرتهن ـ إذا قضاه الراهن ، بخلاف ما إذا أبرأه ثم تلف الرهن في يده ،
ـ واضح الضعف ، بل الذي يقتضيه الاستحسان العكس ، ضرورة أنه مع القضاء يكون عالما
بانفكاك ماله ، فإذا لم يطالب به فقد رضي ببقائه أمانة ، بخلاف الإبراء ، فإنه قد
لا يعلم به الراهن فلا يكون تاركا لماله باختياره.
بل ربما ظهر من
الفاضل في التذكرة الميل إلى هذا التفصيل ، قال : وينبغي أن يكون المرتهن إذا أبرء
الراهن من الدين ، ولم يعلم الراهن ، أن يعلمه بالإبراء أو يرد الرهن ، لأنه لم
يتركه عنده إلا على سبيل الوثيقة ، بخلاف ما إذا علم ، لأنه قد رضي بتركه وهو حسن
، كما في المسالك إن أراد الأولى كما يشعر به لفظ ينبغي ، وإلا كان فيه نظر بعد ما
عرفت من أن الأمانة المالكية يكفي فيها حصول الإذن السابق من المالك بعنوان
العارية والوديعة ونحوهما ، وإن حصل لها فسخ من المالك
أو من المستعير
مثلا ، فإن فسخ العقد المخصوص لا ينافي بقاؤها أمانة ، ولو باعتبار كون ذلك من
توابع العقد الأول ، فتأمل جيدا ، فإنه دقيق جدا.
ومنه يعلم الحال
في حكم الرهن بناء على ما ذكرناه من استحقاق المرتهن قبضه من الراهن ، فإنه لا
يخرج بذلك عن كونه أمانة أيضا من الراهن ، وإن كانت مستحقة عليه بعقد الرهن ،
فالفك حينئذ من الرهانة كفسخ عقد العارية لا يخرج البقاء في الزمان المتأخر عن
كونه أمانة مالكية ، ولو للتبعية المزبورة ، والله العالم.
ولو شرط المرتهن
على الراهن في عقد الرهن إن لم يؤد الحق مطلقا أو عند الأجل أو في وقت كذا أن يكون
الرهن مبيعا ، لم يصح الشرط قولا واحدا ، للتعليق ، وتوقف البيع على سببه من
الصيغة ونحوها ، بل والرهن بناء على اقتضاء بطلان مثل هذا الشرط بطلان العقد الذي
علق الرضا فيه على الشرط بل وإن لم نقل بذلك للتوقيت في الرهن ، المتفق على بطلانه
، لمنافاته الاستيثاق ، وإن كان زائدا على أجل الدين ، إذ قد لا يتيسر بيعه فيه ،
لو جوزنا بيعه معه ، ولم نقل بكون المراد من التوقيت بقاؤه رهنا إلى الوقت المعلوم
؛ بحيث ليس للمرتهن التصرف فيه ، وإلا كانت منافاته واضحة أيضا ، وإن كان التوقيت
إلى أجل الدين ، إذ قد تدعو الحاجة إلى بيعه ، لموت المديون مثلا فضلا عن اقتضاء
التوقيت المزبور الخروج عن الرهنية عنده ، فليس للمرتهن حينئذ تعلق به ، فكيف يعقل
الاستيثاق بمال لا يجوز استيفاء الدين منه قبل انتهاء الوقت وبعده.
ولعله لذلك اتفق
الأصحاب هنا على بطلان الشرط والعقد ، حتى أن الشيخ الذي قد حكي عنه في باب الرهن
القول بعدم اقتضاء فساد الشرط فيه فساده ، قال ببطلانه هنا ، مدعيا الإجماع عليه ،
وكذا ابن إدريس في ظاهر السرائر ؛ فمن الغريب ما في التحرير قال : « وإذا شرط كونه
مبيعا عند حلول الأجل بالدين ، هل يفسد الرهن بفساد الشرط؟ فيه نظر ، والذي قواه
الشيخ عدم الفساد ، وهو جيد ».
وكأنه أخذ ذلك من
مذهبه في الشرط ، وغفل عن كلامه في المقام الذي لم يعرف
الخلاف فيه ، إلا
من بعض العامة ، فصحح الرهن وأفسد البيع ، محتجا بأن الراهن إذا رضي بالرهن مع هذا
الشرط كان أولى أن يرضي به مع بطلانه ، وفساده ظاهر ، لأن مجرد تقدير الرضا غير
كاف مع اختلال شرائط العقد الذي قد وقع ، بعد الإغضاء عما في الأولوية المزبورة ،
ويمكن أن يريد الفاضل في التحرير النظر في البطلان من هذه الحيثية ، لا من حيث
التوقيت ، والأمر سهل.
ثم إن الظاهر عدم
ضمان العين في يد المرتهن إلى المدة ، كما أن الظاهر ضمانها بعدها ، لأن القبض
فيها بالرهن الفاسد ، فلا يضمن كصحيحه ، وبعدها بالبيع الفاسد فيضمن كصحيحه ،
واحتمال أنه غير مضمون مطلقا ـ إلا إذا نوى تملكه بعد المدة بعنوان أنه مبيع ،
لتحقق القبض بالبيع الفاسد المغاير للقبض الأول الذي هو بالرهن الفاسد ـ واضح
الفساد ، لأن المراد من اشتراط كونه مبيعا انه من الآن مبيع في تلك المدة ، لا أنه
يباع فيها.
وعلى كل حال فلا
فرق في القاعدة المزبورة فيهما بين العلم بالفساد منهما والجهل كذلك والتفريق ،
للإجماع المحكي إن لم يكن المحصل على القاعدة المزبورة المقتضية بإطلاقها ذلك.
ولا ينافيه
الإشكال من بعض المتأخرين في بعض أفرادها ، كصورة جهل الدافع في المدة وعلم القابض
في المقام ، باعتبار أن القابض قد أخذ بغير حق ، لأن الدافع قد توهم الصحة ،
فيشمله حينئذ عموم « على اليد » بل
ربما أشكل بنحو ذلك في الجاهلين إلا أن ذلك كله كأنه اجتهاد في مقابلة النص ،
خصوصا بعد ما في المسالك « من أن الأصحاب وغيرهم أطلقوا القول في هذه القاعدة ،
ولم يخالف فيها أحد » بل فيها أيضا « إمكان دفع الإشكال المزبور بأن المالك أذن في
قبضه على وجه لا ضمان فيه ، والمتسلم تسلمه منه كذلك ، وعدم رضاه لو علم بعدم
اللزوم غير معلوم ، فالإذن حاصل والمانع غير معلوم ».
__________________
ومرجعه إلى أن
تخيل الصحة في مثل ذلك من الدواعي للدفع على وجه المزبور لا أنها شرط في عدم
الضمان ، بل دفعه في الجاهلين أوضح من ذلك ، ضرورة كون القابض كالمغرور بفعل
الدافع ، وأوضح من ذلك اندفاعها في فاسد المعاوضة التي لا فرق فيها بين العلم والجهل
، بعد كون الدفع على وجه الضمان ، لا عدمه كما هو واضح ، إنما الإشكال إن كان ففي
الصورة الأولى في المقام ، كصورة عدم ضمان العين المستأجرة مع علم المستأجر
بالفساد ، وجهل الموجر ، والعين المستعارة ، خصوصا إذا كان الفساد بغصب للعين
ونحوه ، بل ربما ظهر من بعضهم في باب الإجارة ما ينافي الإجماع المزبور ، فلاحظ
وتأمل والله أعلم هذا.
وقد تقدم تحقيق
الحال فيما لو غصبه اى المال ثم رهنه المالك من الغاصب وقد قلنا هناك أنه صح
الارتهان ولم يزل الضمان ، وكذا لو كان في يده بسوم أو ببيع فاسد أو استعارة
مضمونة إلا إذا أذن له في استمرار القبض ، فإن الظاهر زوال الضمان كما أوضحنا ذلك
كله وغيره فلاحظ وتأمل ، بل وذكرنا هناك أيضا عن الشيخ وغيره أنه لو أسقط عنه
الضمان ، صح أيضا وإن لم يفد إذنا بالبقاء ، ضرورة أعمية ذلك من الرضا به لبقاء
الإثم حينئذ.
إلا أنه أشكل
بكونه إسقاطا لما لم يجب ، ضرورة كون المراد بالضمان أنه لو تلف ثبت في الذمة مثله
، أو قيمته ، فقبل التلف لم يثبت حتى يسقط.
وقد يدفع بأن
الإسقاط للحق الذي تحقق فعلا وهو تهيؤ ذمته للضمان بالتلف ، فليس حينئذ إسقاط لما
لم يجب ، بل هو إسقاط لما وجب وتحقق.
ودعوى ـ عدم صحة
إسقاط مثل ذلك ـ يدفعها عموم « تسلط الناس على
حقوقهم وأموالهم » كدعوى ـ أن الإسقاط لا يتعقل بعد استمرار السبب ، وهو القبض
غصبا ، وتجدده في كل آن آن ، إذ هو يجدي في خصوص أثر السبب المقارن والسابق ،
فيبقى أثر السبب المتجدد غير ساقط ، ويكفي حينئذ في ثبوت الضمان ـ إذ يدفعها أيضا
منع كون ذلك أسبابا متعددة ، بل هي جميعها بعد اتحاد أثرها
__________________
وصدق الأخذ على
مجموعها سبب واحد عرفا ، بل وشرعا ، فالإسقاط حينئذ في محله فتأمل جيدا ، فإنه قد
يمنع كون ذلك من الحقوق التي يتعلق بها الإسقاط وانما هو من الأحكام للأصل وغيره
والله اعلم.
وما يحصل من الرهن
من فائدة متصلة أو منفصلة بالاكتساب كحيازة العبد أو غيره فهي للراهن بلا خلاف ولا
إشكال ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل المحكي منهما مستفيض ، كالنصوص ، بل يمكن
دعوى ضرورة المذهب ، بل الدين عليه ، وإن خالف فيه في الجملة أبو حنيفة كما قيل ،
إلا أن خلافه إن لم يؤكد الضرورة لا ينافيها ، إنما الكلام في تبعيتها له في
الرهانة وعدمها ، وقد أشار إليه المصنف بقوله ولو حملت الشجرة أو الدابة أو
المملوكة بعد الارتهان كان الحمل رهنا كالأصل على الأظهر وهو مشعر أو ظاهر في أن
الخلاف في نحو ذلك لا مطلق الفائدة ، وهو كذلك بالنسبة إلى الفوائد المتصلة كالسمن
والطول والعرض ونحو ذلك ، للإجماع بقسميه على تبعيتها ، بل هي في الحقيقة كصفات
الرهن وأحواله التي لا تخرج عن مسماه.
بل قد يقال : بعدم
صحة اشتراط خروجها ، وإن كان لا يخلو من إشكال ، بل وبالنسبة إلى ما يتجدد من
المنافع بالاختيار ، كاكتساب العبد ، لخروجها عن التبعية ، بل جزم في التذكرة بعدم
صحة اشتراط دخولها ، لأنها ليست من أجزاء الأصل ، فهي معدومة على الإطلاق.
لكن في الدروس لم
يفرق بينها وبين ثمرة الشجرة ، بل ربما ادعى أنه ظاهر الأصحاب ، وإن كان لا يخلو
من بحث ، كما أومأنا إليه سابقا ، ومنع الراهن من استيفائها لا لتبعيتها ، بل
لاستلزامه التصرف في المرهون الممنوع منه مطلقا نصا وفتوى ، وإلا فهي ليست من
النماءات المتولدة في الأعيان أو منها ، وإن كانت هي أحد مقدمات حصولها ، ضرورة
استنادها إلى الأفعال مع الأعيان ، كالانتفاع الحاصل بالتكسب بالدراهم ، فتأمل
جيدا.
وكيف كان فما
اختاره المصنف قد نسب إلى الأشهر والأكثر ، بل قيل أنه المشهور شهرة كادت تكون
إجماعا بل في الانتصار « أنه مما انفردت به الإمامية » ، بل في الغنية ، والسرائر
، الإجماع عليه ، بل والأخير منهما أنه مذهب أهل البيت : ، وأن عدم الدخول
مذهب المخالفين ، وهو الحجة بعد التبعية ، وأنها أجزاء من العين المرهونة استحالت
إلى موضوع آخر ، وعدم خروج الفرع عن أصله.
لكن قد يوهن
الإجماع بمصير كثير من الأصحاب إلى خلافه ، إذ القول بعدم التبعية للمبسوط والخلاف
ونكت النهاية للمصنف ، والتحرير ، والتذكرة والإرشاد ، والمختلف ، والإيضاح ،
والتنقيح ، وجامع المقاصد ، والروضة ، ومجمع البرهان ، والكفاية ، على ما حكي عن
بعضها ، ومال إليه في المسالك ، وحكاه في الدروس عن المصنف في درسه ، بل قد يظهر
من التذكرة الإجماع عليه ، بل في زكاة الخلاف دعواه صريحا ، قال : « إذ أرهن جارية
أو شاة فحملتا بعد الرهن كان الحمل خارجا بإجماع الفرقة ».
وتمنع التبعية في
غير الملك ، للأصل ، وتبعية ولد المدبرة للدليل ، مع أن العتق مبني على التغليب ،
وكون النماء أجزاء من العين بعد التسليم في جميع أفراده لا يقضي بذلك بعد خروجه عن
مسماها لغة وعرفا وشرعا ، وغير ملحوظ للعاقد ، ولا دليل في الشرع ، فأصالة تسلط
المالك على ملكه بحاله.
بل قوله 6 « له غنمه ،
وعليه غرمه » كخبر إسحاق عن أبي إبراهيم 7 « قلت : فان رهن دارا لها غلة ، لمن الغلة؟ قال : لصاحب
الدار » دال على ذلك أيضا ، بقرينة كون الظاهر أن السؤال لتخيل الدخول في الرهانة
، والمراد حينئذ بالجواب رفع ذلك ، وأنه لصاحب الدار التصرف به كيف يشاء ، لا أن
المراد بيان أصل الملكية الواضحة ، لوضوح بقاء الرهن على ملك المالك ، ومن ذلك كله
يظهر لك قوة القول بعدم الدخول ، وإن كان الأشهر خصوصا بين المتقدمين الأول والله
أعلم.
ولو كان في يده
رهنان ، بدينين متغايرين ، أو متوافقين ثم أدى الراهن أحدهما لم يجز للمرتهن إمساك
الرهن الذي يخصه الدين
المؤدى بالدين
الآخر من غير تراض مع الراهن بلا خلاف ولا إشكال ، وكذا لو كان له دينان ،
وبأحدهما رهن ، لم يجز له أن يجعله رهنا بهما من غير تراض معه أيضا ولا أن ينقله
إلى دين مستأنف أما مع الرضا منه فيجوز قطعا ، كما تقدم تحقيق ذلك كله ، وجميع ما
يتعلق به في آخر الفصل الثالث فلاحظ وتأمل والله أعلم.
وإذ أرهن مال غيره
بإذنه صح بلا خلاف فيه ، بيننا ، بل الإجماع بقسميه عليه عندنا ، بل وغيرنا عدا ما
حكي عن ابن شريح من القول على تقدير كونه عارية لا يصح رهنه ، لأنها غير لازمة ،
ولعله غير مخالف في أصل الحكم ، ومن هنا حكى في التذكرة عن ابن المنذر أنه أجمع كل
من يحفظ عنه العلم على أن الرجل إذا استعار من الرجل شيئا يرهنه ، على دنانير عند
رجل إلى وقت معلوم ففعل كان ذلك جائزا وفي المسالك « أجمع العلماء على جواز رهن
مال الغير باذنه على دينه في الجملة ، وسموه استعارة ».
نعم في التذكرة «
هل يكون سبيل هذا العقد سبيل العارية أو الضمان؟ الحق عندنا الأول » ولعله مشعر
بالإجماع ، كالمحكي من نسبة ولده ذلك إليه ، وإلى المحققين.
لكن عن المبسوط
أنه حكي فيه قولا بأنه على سبيل الضمان المعلق بالمال ، والمعروف حكاية ذلك عن أصح
قولي الشافعي ، كالمحكي عن بعض الشافعية من أنه بين الراهن والمرتهن رهن ، وبين
المعير والمستعير عارية ، وبين المعير والمرتهن ضمان ولا ريب في ضعف الجميع ، بل
في بطلانه حتى على ما وجهه به في الدروس ، من أن المعير أناب المستعير في الضمان
عنه ، ومصرفه في هذا المال ، إذ هو غير مجد في مخالفته للمعهود من الضمان الذي هو
الانتقال من ذمة إلى ذمة ، وهو مفقود هنا قطعا ، وكيف يكون ضمانا ولم يقصده الراهن
، ولا المرتهن ، مع أنه لو صرح المالك وقال للديان لزمت دينك في رقبة هذا المال
على وجه لا تكون ذمته مشغولة له لم يكن صحيحا وبالجملة لا ينبغي إتعاب النظر في
فساد ذلك.
نعم قد يشكل
العارية بأن التوثيق الحاصل بدفع الرهن ليس من منافع العين التي تباح بعقد العارية
المساوي لعقد الإجارة في ذلك ، المعلوم امتناعه في مثل الفرض وإنما هو انتفاع بسبب
تعلق عقد الرهن بها ، لا أنها من منافعها التي هي كالسكنى في الدار والخدمة في
العبد ، والركوب في الدابة ونحو ذلك.
على أن تعلق عقد
الرهن بها قد يؤدى إلى خروجها عن الملك المنافي للعارية التي هي إباحة المنفعة ،
مع بقاء العين ، وإن اعتراها اللزوم كعارية الأرض للدفن ونحوه ، بل ما تسمعه من
مشهورهم من الضمان في هذه العارية وإن تلفت بآفة سماوية بعد الرهانة ، بل ولو
بجناية العبد نفسه ـ ، مناف لما ذكره من عدم الضمان لها في غير الذهب والفضة إلا
بالتعدي أو التفريط أو الشرط.
ودعوى رجوع ما هنا
إلى الثالث واضحة الفساد ، كدعوى خروج ذلك عن مطلق العارية ، بدليل مخصوص ، لعدمه
كما ستعرف ، فلا يبعد أن يكون ذلك من الأحكام الجائزة شرعا وإن لم يندرج تحت عقد
من العقود المتعارفة ، إذ دعوى عدم خلو الواقع منها يكذبها الوجدان ، فإن كثيرا
مما هو جائز شرعا لا يدخل كالقبالة والمنحة ونحوهما ، على بعض الأقوال أو الوجوه ،
بل حاصل ذلك عدم اعتبار كون الرهن ملكا للراهن ، كما أنه لا يعتبر في صحة الرهن
كون الدين على الراهن ، فيجوز أن يرهن ماله على دين غيره متبرعا ، كما ذكرناه
سابقا في الشرائط.
بل هو غير زائد
على ما نحن فيه إلا بالإذن التي تكون سببا لاستحقاق الرجوع عليه بها كالوفاء تبرعا
، وبالإذن الذي يمكن دعوى عدم انحلال الثاني منه إلى القرض بعد عدم اعتبار الملكية
فيما يوفى به ، فيستحق حينئذ الرجوع عليه بالإذن ، وإن كان ما وفى به باقيا على
ملك الموفي إلى حين الوفاء ، ولعله للإذن في إتلاف المال فيما يعود نفعه إليه ،
فإنه يكفي في تسبيب مثله الضمان.
وعلى كل حال فدعوى
كون المقام عارية حقيقة في غاية الإشكال ، ولعله لا يريده الأصحاب كما يومي إليه
ما في المسالك من نسبة التسمية إليهم ، وكذا من قال
بالضمان ، فإنه لا
يريده حقيقة بل المراد قربه منهما بالنسبة إلى بعض الأحكام ، ولا ريب حينئذ في أن
الحق مع الأصحاب ضرورة أقربية ذلك إليها من الضمان ، والأمر سهل بعد عدم وضوح ثمرة
معتد بها على هذا الخلاف.
وإن حكي عن
المبسوط وتبعه غيره تفريع اعتبار ذكر جنس الدين وقدره وحلوله وتأجيله ووصفه وصاحبه
على تقدير الضمان ، لعدم صحته في المجهول ، بخلاف العارية ، وأنه عليه ليس لمالك
العين إجبار الراهن على الفك ، إذ هو كضمان الدين المؤجل الذي لا يصح للضامن
المطالبة بالتعجيل ، لإبراء ذمته ، بخلافها ، فإنها غير لازمة ، وأنه عليه يرجع
بما بيع به ، وإن كان أقل من ثمن المثل ، لأنه الذي أداه ، بخلافها فإنه يرجع
بقيمة تامة ، وكذا إذا بيع بأكثر منه ، فعلى الضمان يرجع بالجميع ، وعليها يرجع
بقدر القيمة.
لكن في الأول : أن
الفاضل في ظاهر القواعد وصريح المحكي عن التذكرة والكركي وابن المتوج مع القول
بالعارية قد اعتبروا ذكر جميع ذلك أو بعضه ، وفي المسالك أنه أولى ، فلا يجوز
بدونه لما فيه من الغرر والضرر ، لكثرة تفاوت الدين وجنسه والمرتهن والأجل ، وإن
كان قد يقوى الجواز ، وفاقا للمحكي عن التحرير ، وجامع الشرائع ، وظاهر إطلاق
الإرشاد واللمعة ، كالكتاب بل والمبسوط ، والدروس ، وان فرعاه على القول بالعارية
مع إطلاق الإذن الذي هو كالتعميم في تناول الأفراد مع عدم الانصراف إلى البعض ،
وإن تفاوتا في الدلالة قوة وضعفا.
ومنه ينقدح حينئذ
عدم الفرق بين الضمان والعارية في ذلك ، إذ ليس هو من ضمان المجهول حينئذ. نعم لو
فرض تصور اذن في العارية للرهن لا على وجه الإطلاق أمكن حينئذ التوقف لرجوع الأمر
إلى الإجمال حينئذ لا الإطلاق.
وفي الثاني : ان
الأقوى على العارية أيضا عدم جواز إجباره على الفك قبل الحلول ، لأنها لزمت
بالعارض ، كالعارية للدفن ، بل ربما ظهر من ثاني الشهيدين أن لزومها إجماعي خلافا
لمحكي المبسوط ، والسرائر ، والتذكرة ، وعارية التحرير ، وجامع الشرائع ، لكون
العارية من العقود الجائزة ، وفيه ما عرفت ، ومن هنا كان
خيرة ثاني
الشهيدين كالمحكي عن التحرير في المقام ، وجامع المقاصد ، عدم جواز المطالبة له ،
بل الظاهر ذلك وإن أجابه المرتهن إلى قبول الحق أو تبديل الرهن ، فظهر حينئذ أنه
لا تلازم بين القول بالعارية وبين القول بالجواز ، كما يومي إليه ما سمعته ممن قال
باللزوم من أصحابنا ، مع قوله بالعارية ، إذ القول بالضمان ليس لأحد منا.
نعم لا إشكال في
أن له المطالبة بالفك على كل حال بعد الحلول ، بلا خلاف أجده فيه ، بل قيل : كأنه
إجماعي ، ولا ينافيه لزوم العارية بالرهن ، إذ لا نقول ان له فسخ الرهن ، بل يطالب
الراهن بالفك ، فإن حصل وإلا فإن باعه المرتهن في الدين رجع هو على الراهن كما
ستعرف ، وليس له التعرض للمرتهن بوجه ، لعدم السبيل له عليه.
وما قيل : من أنه
قد يقال : إذا حل الأجل وأمهل المرتهن الراهن أن للمالك أن يقول للمرتهن إما أن
ترد مالي ، أو تطالب الراهن بالدين ليؤديه فيفك الرهن كما أنه إذا ضمن دينا ومات
الأصيل فللضامن أن يقول إما أن تطالب بحقك من التركة ، أو تبرئني لا وجه له معتد
به لا في المشبه ولا في المشبه به.
وفي الثالث
والرابع : ما ستعرفه عند التعرض لحكم ذلك ، فمن الغريب تفريع ذلك وغيره على
القولين ، خصوصا من مثل الشهيد في الدروس ، وعلى كل حال فإذا أعاره للرهانة فإن
عمم له أو أطلق بناء على كونه كالتعميم رهنه كيف شاء ، وإن عين له مقدارا من الدين
أو خصوص مرتهن أو أجل مخصوص أو نحو ذلك تعين ، فلو خالفه كان فضوليا إلا إذا عين
له الأكثر فرهنه ، على الأقل ، للأولوية ، أما إذا عين له الأقل فرهنه على الأكثر
ففي فضوليته بالنسبة إلى الجميع أو خصوص الزائد وجهان أو قولان ، أقواهما الثاني ،
بل ينبغي الجزم به لو كان في عبارة مستقلة بأن قال : هو رهن على المأة وعلى
الخمسين مثلا.
بل عن بعض نسخ
جامع المقاصد ، أنه يجب أن يستثنى من هذه المسألة ما لو رهنه بالزائد ، وبكل جزء
منه فإنه رهن بالمقدار المأذون فيه على وفق الأذن ،
والزائد موقوف ،
ويكون موضع الوجهين ما إذا رهنه على المجموع ، ثم إنه استشكل في الصحة لأنا إذا
قسطنا الأجزاء على الأجزاء يكون بعضه رهنا بالمأذون ، فيكون خلاف الإذن ، لأن
الإذن اقتضى رهن جميعه بالمأذون فيه ، والأولوية ممنوعة بعد احتمال التعيب
بالشركة.
وعن نسخة أخرى
المتجه أنه إن رهن على الأكثر وعلى كل جزء منه صح في المأذون فيه ، وبطل في الزائد
، وجها واحدا ، وإن رهن على الأكثر مقتصرا على ذلك فالمتجه البطلان مطلقا ، وهما
معا كما ترى ، والأقوى ما ذكرناه من النفوذ في المقدار المأذون فيه ، والفضولية في
الزائد مطلقا كما لو أعاره شيئا معينا فرهنه مع غيره ، وليس ذلك من قبيل الوكيل
على البيع بشيء معين فباعه بالأنقص متفاحشا فإنه فضولي ولا ينفذ البيع فيه بمقدار
ما أذن له فيه ، كما هو واضح والله أعلم.
وكيف كان فإن رهنه
المستعير ضمنه بقيمته إن تلف أو تعذر إعادته كما صرح به غير واحد ، بل في المسالك
جعلوها أي العلماء مضمونة على الراهن ، وإن تلفت بغير تفريط ؛ لكن عن عارية
التحرير ؛ لم يكن على أحدهما ضمانه ؛ واحتمله في الدروس قال : « لأنها أمانة عندنا
، إلا أن نقول الاستعارة المعرضة للتلف مضمونة قلت : أو نقول الأصل الضمان ، خصوصا
بناء على ما سمعت سابقا من عدم كون ذلك عارية في الحقيقة ، كي يعارضه ما دل على
عدم ضمان العارية ، بل وعليه بعد الشك في شموله لمثله ، ولو لكلام الأصحاب ، ولأنه
بتعلق الرهن به شابه المال المحترم المدفوع وفاء بالإذن من غير ظهور من المالك
فعلا ولا قولا بالمجانية.
بل في جامع
المقاصد ، ومحكي قواعد الشهيد ، وموضع من التذكرة ، الضمان لو تلف في يد المستعير
قبل الرهانة ، بل في الأخير عندنا مشعرا بدعوى الإجماع عليه ، كالمحكي عن ولده من
أنه نص الأصحاب على أنها عارية مضمونة ، مضافا إلى أنه قبضه للإتلاف في دينه ، فهو
قبض ضمان ، كالقبض في السوم ، لا أن سبب الضمان الرهن ، ومنه ينقدح حينئذ الضمان
لو تلف في يد المستعير بعد الفك ، كما نسب إلى
ظاهر إطلاقهم.
لكن استشكل في
الضمان قبل الرهانة في القواعد : بل عن موضع آخر من التذكرة استقرب عدم الضمان ،
لأنه أمانة ، وإنما ضمن بالرهن للتعرض للإتلاف ، وسببه الرهن ، والمسبب لا يتقدم
على السبب ، بل جزم ثاني الشهيدين بعدم الضمان ، ولعل الأول لا يخلو من قوة ،
خصوصا مع القول بالضمان في المال المدفوع إلى رجل لقضاء دينه ، وإن فرق بينهما في
الدروس ، بأن هذا إقراض متعين للصرف ، بخلاف المستعار ، فإنه قد لا يصرف في القضاء
إلا أنه كما ترى ، على أن المراد التشبيه به في الجملة ، وأقرب شبها به المقبوض
بالسوم ، بل لعل المدرك فيهما واحد عند التأمل.
وعلى كل حال فلا
خلاف أجده في عدم ضمان المرتهن للأصل وما دل على عدم ضمان المرتهن الشامل للمقام ،
لكن في القواعد « الأقرب عدم الضمان » وهو مشعر باحتماله ، ولعله لأن يده مترتبة
على يد المستعير التي قد عرفت ضمانها ، إلا أنه كما ترى ، وأوضح منه فسادا ما عن
ولده من توجيهه ، وإن أطنب فيه ، وحكاه عنه نفسه كما لا يخفى على من لاحظه ،
والمراد بالقيمة التي يضمنها له قيمة يوم التلف ، لأنه ليس أسوء حالا من الغاصب.
نعم لو كان
التفاوت لنقص في العين ، اتجه ضمان الأعلى لكون الأبعاض مضمونة عليه كالجملة ،
وتعذر الرد للغصب ونحوه كالإتلاف كما هو واضح. وعن المبسوط ، والتحرير ، أنه إذا
جنى العبد وبيع في الجناية يرجع بقيمته ، وهو كذلك ، إذ إتلاف العبد نفسه كالتلف
بآفة في الضمان ، لكن قيل إن ذلك منهما محمول على الغالب من البيع بالقيمة ، ولا
بأس به. نعم الظاهر أن للمالك إلزام الراهن بالفك في الخطأ بل والعمد مع رضي
المجني عليه بذلك ، ولم يسترقه ولو بالأزيد من قيمته ما لم يصل إلى حد يقبح
الإلزام به.
هذا كله في غير
البيع بالرهن ، أما هو فإن باعه المرتهن حيث يجوز له ذلك بقيمته رجع بها على
المستعير ، وإن كان بأنقص مما يتغابن بمثله رجع بها تامة ، ولو بيع بأكثر من ثمن
مثله ، كان له المطالبة بما بيع به لأن الثمن ملكه ، وقد
أخذ في الدين ،
وفي المسالك « أن ما في المتن أجود مما في القواعد من التعبير بالرجوع بأكثر
الأمرين من القيمة وما بيع به ، لإيهامه إمكان بيعه بدون القيمة ، وهو ممتنع لعدم
تصور بيعه على وجه يصح بنقصان من قيمته ؛ بخلاف الزيادة ، لإمكان اتفاق راغب فيها
تزيد عن ثمن المثل ، بحيث لولا ظهوره لما وجب تحريه ، لكونه على خلاف العادة
المعروفة في ثمن مثله.
وربما فرض نقصان
الثمن عن القيمة مع صحة البيع بسبب قلة الراغب في الشراء مع كون قيمة المال في ذلك
الوقت والمكان عند ذوي الرغبة أزيد مما بذل فيه ، ويشكل بأن المعتبر في القيمة ما
يبذل في ذلك الوقت ، لا ما يمكن بذله فإن كان الذي باع به المرتهن يسوغ البيع به
لم يثبت للمالك سواه ، وإلا لم يصح البيع ».
قلت : يمكن فرضه
بما عرفت من البيع بما يتغابن بمثله ، كما أومى إليه في الدروس قال : « ليس
للمرتهن بيعه بدون إذن ، إلا أن يكون وكيلا شرعيا أو وصيا على القولين ، فلو امتنع
الراهن من الإذن أذن الحاكم ، ويجب على الراهن بذل المال ، فإن تعذر وباعه ضمن
أكثر الأمرين من قيمته ، ولو بيع بأقل من قيمته بما لا يتغابن به ، بطل ، وإن كان
يتغابن به كالخمسة في المأة صح ، وضمن الراهن النقيصة على قول العارية ، وعلى
الضمان لا يرجع ، لأن الضمان يرجع بما غرمه ».
وهو صريح فيما
قلناه من ضمان الراهن نقيصة التغابن ، وإن صح البيع ، لكن قد يوهم أول كلامه
اكتفاء المرتهن في صحة البيع بإذن الراهن الذي هو المستعير ، والظاهر اعتبار إذن
المالك معه ، وإن كان لا يجوز له الامتناع ، ولو امتنع قام الحاكم مقامه كالراهن
المالك ، ومن هنا لم يقدح إذنه في البيع في جواز رجوعه بمقدار التغابن ، لأن إذنه
باعتبار لزومها عليه ، كعدم الإذن كما هو واضح.
ولو اقتصر المرتهن
على إذنه في البيع والوفاء لم يكن له الرجوع على الراهن لأنه كالمتبرع بقضاء الدين
حينئذ ، كما أنه لا يصح البيع لو اقتصر علي إذن المستعير لعدم كونه مالكا ، والإذن
بالرهانة أعم من الاذن في البيع فتأمل جيدا.
وكيف كان فالمعروف
بين الأصحاب عدم دخول زوائد الرهن الموجودة حال العقد التي لا تدخل في اسمه الذي
هو مورد عقد الرهن لغة ولا عرفا ولا شرعا ، ولا تتبعه في العقد عليه في أحدهما ،
بل في التنقيح الإجماع عليه ، كما عن الانتصار ذلك أيضا لكن في خصوص الحمل ، وهو
الحجة بعد الأصل ، خلافا للمحكي عن الإسكافي « فتدخل » وهو واضح الضعف ، بل في
التنقيح انعقد الإجماع بعده على خلافه نعم ربما قيل بدخول نحو الصوف والوبر والشعر
على ظهر الحيوان ونحو ذلك مما هو جزؤه بل عن التذكرة أنه استقربه ، وتردد فيه ،
وفي دخول الأس تحت الجدار ، والمغرس تحت الشجرة ، واللبن ، والضرع ، والأغصان في
الشجر ، في القواعد.
والظاهر دخول
الصوف وشبهه إذا لم يكن مستجزا بل لعله ليس من محل البحث والتردد إذا كان جزءا مما
جعل عنوانا للرهن ، إنما الكلام في المستجز مع كون العنوان الحيوان ، وقد سمعت ما
عن التذكرة من الدخول ، نحو ما عن التحرير وجامع المقاصد ، لكونه جزء حقيقة من
الحيوان ، وإنما يخرج عن الجزئية بعد الانفصال وهو قوي ، اللهم إلا أن يدعى تعارف
خروجه في عقد الرهن ونحوه.
وأما الأس فإن
أريد به بعض الجدار المستور الذي هو أصل البناء ، فقد يقوى دخوله ، لأنه بعض مسمى
اللفظ وكونه مستورا غير قادح ، وإن أريد به موضع الأساس كما عساه يومي إليه ذكر
المغرس بعده ، فالأقوى عدم دخوله ؛ كما عن التذكرة وغاية المرام ، لعدم تناول
اللفظ له ؛ ودعوى دلالته عليه بالالتزام على وجه يدخل في الرهانة ممنوعة.
ومنه يعلم الحال
في المغرس ؛ واستحقاق المرتهن إبقاءه على الراهن ؛ لتوقف التوثق عليه ؛ أو اسم
الجدار مثلا ـ لا يقضي بالرهانة ؛ ومنه يعلم عدم دخول الجدران في رهنية السقف ،
وإن كان لا يمكن بقاؤه بدونها فتأمل جيدا.
وأما اللبن فقد
يقوى عدم دخوله خلافا للمحكي عن حواشي الشهيد ؛ لعدم دخوله في مسمى اللفظ ؛ وظهور
انصراف الرهانة إلى غيره ، ودعوى أنه كالجزء ومن جملة رطوبات البدن واضحة المنع ،
بل لو قيل : بدخوله في البيع والهبة ونحوهما
أمكن الفرق بينهما
، وبين الرهن في ذلك عرفا ، فلا وجه لبناء المسألة هنا على ذلك ولا إشكال في دخول
الأغصان الرطبة ونحوها مما لم تجر العادة بقطعها ، بل عن الإيضاح أنه لا خلاف فيه
، بل قد يقوى دخول اليابسة وما جرت العادة بقطعه ، لأنها بعض المسمى ، إلا أن
يتعارف الخروج في الرهن.
والضابط خروج كل
ما لا يدخل تحت مسمى اللفظ إلا أن يتعارف دخوله ، ودخول كل ما هو بعض مسماه ، إلا
أن يتعارف خروجه ، وحظ الفقيه من ذلك الإجمال مع أنه قد تقدم في بحث ما يندرج في
المبيع ما يستفاد منه تمام التفصيل في ذلك ، فراجع ملاحظا للفرق بين الرهانة
والبيع في بعض الجزئيات.
وقد ظهر حينئذ من
ذلك كله أنه إذا رهن النخل لم تدخل الثمرة ، وإن لم تؤبر لعدم تناول اللفظ لها ،
والدخول في البيع ، لدليل مخصوص لا يقتضي به هنا ، بعد حرمة القياس عندنا ، فلا
فرق حينئذ بين ثمرة النخل وغيره ، وخصه هنا تنبيها على خلاف بعض العامة وكذا لو
رهن الأرض لم يدخل الزرع ولا الشجر ولا النخل لعدم تناول اللفظ ولو قال : بحقوقها
ضرورة عدم كونها من حقوقها ، خلافا للمحكي عن الشيخ فتدخل حينئذ ، ولا ريب في
ضعفه.
فمن الغريب قول
المصنف هنا أنه لو قال ذلك دخل كل منها وفيه تردد ، ما لم يصرح بل لم أجد أحدا
غيره تردد فيه. نعم لو قال وما اشتملت عليه ونحو ذلك مما هو صريح في الدخول أو
ظاهر كان متجها ، وقد تقدم الكلام في نحو ذلك في البيع وكذا لا يدخل ما ينبت في
الأرض بعد رهنها سواء أنبته الله سبحانه أو الراهن أو الأجنبي إذا لم يكن الغرس من
الشجر المرهون بلا خلاف أجده فيه ، بين من تعرض له ، لعدم كونه من نماء الأرض حتى
يأتي فيه ما تقدم ، إلا أنه لا يخلو من إشكال في بعض أفراده ، كالحشيش ونحوه مما
يظهر منهم في غير المقام الحكم منهم بملكيته لصاحب الأرض لأنه نماء أرضه.
نعم هو كذلك في
بعض أفراده مما لا يعد نماء لها ، وإنما هي من معدات وجوده ودعوى أن جميع ما ينبت
فيها كذلك لا تخلو عن نظر ، وتحقيق البحث في ذلك في
مقام آخر ، وأما
إذا كان الغرس من الشجر المرهون مثلا فهو باق على الرهنية ، لا أنه يدخل في الأرض
من حيث أنه نماء.
وهل يتوقف غرسه
حينئذ على إذن المرتهن؟ احتمله في المسالك ، لأنه تصرف في الرهن وانتفاع به ، وقد
يقوى العدم ، لأنه مصلحة له وزيادة في قيمته ، كالسقي والدواء ونحوهما ، نعم لو
أضر بالأرض فلا ريب في توقفه على إذنه ، وكذا لو كان الغرس من غير المرهون ، وأطلق
في الدروس المنع من الزرع وإن لم تنقص به الأرض حسما للمادة ، وهو لا يخلو من
اشكال ، خصوصا إذا كان في الزرع مع ذلك مصلحة للأشجار والنخل ، بل ربما يتضرر
الراهن بالترك فتأمل جيدا.
وكيف كان ف هل
يجبر الراهن على إزالته؟ أي ما نبت في الأرض بفعله أو بفعل الله أو بفعل أجنبي قيل
: كما عن المبسوط والتذكرة لا يجبر على الإزالة وقيل كما في القواعد ، ومحكي
المختلف والإيضاح وغاية المرام ، وجامع المقاصد ، نعم يجبر على إزالته وهو الأشبه
عند المصنف ، لأن الإبقاء ولو كان الأصل من غيره تصرف منهي عنه ، فهو كالمتاع
الموضوع في دار الغير ، وفيه منع عد مثل ذلك تصرفا.
ومن هنا مال في
المسالك إلى التفصيل بين ما كان من فعله فالأقوى إزالته وبين ما كان من فعل غيره
فلا يجب ، قال « : وقد يفرق بينه وبين المتاع بأن وضع المتاع منه فهو سبب في بقائه
بخلاف ما أنبته الله ».
وفيه أنه يمكن أن
يريد الأول وضع المتاع من غيره ، فكان اللائق في رده التزام عدم وجوب الإزالة فيه
أيضا ، أو إبداء الفرق. كما أن كلمات الأصحاب لا تخلو من إجمال في المقام ، حيث لم
يفرقوا بين ما كان للنابت أمد ينتظر كالزرع وعدمه ، خصوصا إذا كان أمده قبل حلول
الدين ، ولا في الإجبار على الإزالة قبل حلول الدين وبعده ، مع أن المحكي عن
الإيضاح ، وغاية المرام ، إيجاب إزالة الزرع عند انتهاء المدة عادة.
وفي الدروس « ليس
له إلزامه بالإزالة قبل حلول الدين لعدم تعديه ، فإن احتيج إلى البيع قلعه » فإن
بيعا ففي توزيع الثمن ما تقدم في بيع الأمة وولدها ، ولم يفرقوا أيضا في الإزالة
بين ما كان فيه ضرر على الراهن وعدمه ، وجميع ذلك محل للنظر. ومن هنا أمكن أن يقال
إن الإنبات إذا كان من فعل الله لم يجبر على القلع في الحال ، لإمكان أن يؤدي
الدين من محل آخر ، وهذا البقاء له لا منه ، فإذا دعت الحاجة إلى البيع فإن قام
ثمن الأرض لو بيعت وحدها بالدين لم يستحق القلع ، بل وكذا لو لم يقم ، إلا أنه لم
تنقص قيمة الأرض بما نبت فيها ، ولم يحصل ضرر على الراهن بذلك.
نعم إن نقصت ولم
تف بالدين فقد يتجه حينئذ القلع للمرتهن ، إلا إذا أذن الراهن بالبيع مع الأرض
والفرض عدم النقص بذلك عليه أيضا ، فيباعان ويوزع الثمن عليهما كما أومى إليه في
الدروس ، بل ربما قيل إنه إذا كان محجورا عليه بالفلس تعين البيع مع الأرض ولم يجز
القلع ، لتعلق حق الغرماء ، ويوزع الثمن عليهم ، فإن نقصت قيمة الأرض بسبب الأشجار
حسب النقصان على الغرماء ، لأن حق المرتهن في الأرض فارغة ، وإنما منع من القلع
رعاية لجانبهم ، بل ينقدح من ذلك الإشكال في القلع في بعض الأحوال ، وإن كان
الإنبات من فعل الراهن كما إذا لم يكن ضرر على المرتهن بوجه من الوجوه ، وخصوصا
إذا أراد القلع قبل حلول الحق ، إذ دعوى أنه ظالم ولا حق لعرقه في نحو ذلك لا يخلو
من إشكال وعن التذكرة أنه أطلق عدم الإجبار على القلع قبل حلول الحق ، لإمكان قضاء
الدين من الغير ، فمن اللازم التأمل في شقوق المسألة في المقام والله أعلم.
ولو رهن لقطة مما
يلقط كالخيار ، فإن كان الحق يحل قبل تجدد الثانية صح بلا خلاف ولا إشكال ، لوجود
المقتضي وارتفاع المانع وإن كان متأخرا تأخرا يلزم منه اختلاط الرهن بحيث لا يتميز
قيل كما عن المبسوط وموضع من التذكرة يبطل لتعذر الاستيفاء بسبب عدم التميز ، ولعدم
صحة البيع عند الأجل للجهل.
والوجه أنه لا
يبطل وفاقا للفاضل في غيرها ، وولده والشهيدين ، والمحقق الثاني ، وغيرهم على ما
حكي عن بعضهم ، لإمكان الاستيفاء مع المضايقة من الراهن بالقسمة معه ، ولو بالصلح
قهرا.
ومنه يعلم اندفاع
الثاني ، على أنك قد عرفت سابقا عدم اعتبار إمكان خصوص البيع في الرهن ، بل يكفي
الصلح ، لأن كلا منهما طريق لاستيفاء الدين ، مضافا إلى اعتبار إحراز الشرائط في
الرهن حال الرهانة ، والأمور العارضة لا تقدح بعد فرض وجود طريق للتخلص ، ولو
اشترط القطع عند تجدد الثانية فالظاهر الصحة ، كما عن المبسوط التصريح بها. هذا
إذا وقع المزج بعد القبض ، أما لو وقع قبله ، فعن الدروس أن الأقرب الفسخ والبطلان
، وهو كذلك ، بناء على اعتبار القبض في الصحة وفرض تعذره ، وكذا البحث في رهن
الخرطة مما يخرط والجزة مما يجز والله أعلم.
وإذا جنى العبد
المرهون عمدا تعلقت الجناية برقبته بلا خلاف ولا إشكال وكان حق المجني عليه أولى
به من حق المرتهن المتعلق بالذمة مع العين ، بخلاف حق الجناية المقدم على حق
المالك الذي هو أولى من المرتهن ، بل لم يتوقف استيفاؤه على استيذان المالك في
جناية العمد ، بخلاف حق الارتهان فله حينئذ أن يقتص فتبطل الرهانة إن كان في النفس
، وإلا اقتص وبقي الباقي رهنا ، وله أن يسترقه أو يبيعه مع استيعاب الجناية ، وإلا
فمقدارها ، بل ليس له إلا أحدهما إذا كانت الجناية العمدية مما توجب أرشا لا
قصاصا.
وإن كان قد جنى
خطأ فان افتكه المولى أو غيره بقي رهنا لأصالة الرهانة وإن سلمه ولم يتبرع متبرع
في فكه حتى المرتهن كان للمجني عليه منه بقدر أرش الجناية ، والباقي رهن ، وإن
استوعبت الجناية قيمته ، كان المجني عليه أولى به من المرتهن لما عرفت فيسترقه أو
يبيعه ، وتبطل الرهانة ، ولو اتفق حصول راغب فيه فزاد ثمنه عن الجناية كان الباقي
منه رهنا.
والظاهر أن له
إلزام المجني عليه بالبيع ، مع بذل الزيادة ، لتكون رهنا ولو
كان الواجب دون
قيمة العبد ، ولكن تعذر بيع البعض أو انتقصت القيمة به بيع الجميع والفاضل من
الثمن عن الجناية يكون رهنا ، كما لو اضطر الى بيع الرهن ، ولا فرق في ذلك كله بين
كون الجناية من العبد ابتداء ، أو بأمر السيد ، وإن كان مكرها له عندنا ، لعدم
التقية في الدماء ، إلا أنه يحبس المكره حتى يموت.
نعم لو كان العبد
غير مميز أو أعجميا يعتقد وجوب طاعة السيد في جميع أوامره ، فعن التذكرة وقصاص
المبسوط وغيرهما أن الجاني هو السيد ، وعليه القصاص أو الضمان ، بل في الأول لا
يتعلق برقبة العبد شيء ، فيبقى رهنا ، وإن كان السيد معسرا ، خلافا للعجلي وخلاف
الشيخ ، فأسقطا القود عن الآمر أيضا ، إذا كان المأمور صغيرا لعدم قتله ، ويأتي
إنشاء الله تعالى تحقيق ذلك في محله.
ولو جنى على مولاه
عمدا فان كانت طرفا اقتص منه لعموم الأدلة وأولوية السيد من الأجنبي في ذلك ، لعظم
حقه على العبد ، ولا ينافيه عدم القطع بالسرقة ، إذ لعله لأنه مشروط بسرقة ما لا
شبهة فيه ، والعبد له شبهة في مال سيده ، وهو غير محرز عنه في العادة وعلى كل حال
ف ـ لا يخرج عن الرهانة بذلك للأصل ، ولو كانت الجناية نفسا جاز للوارث قتله وله
العفو فيبقى رهنا ، وليس له العفو على مال كالمورث فيبقى رهنا ، أما لو كانت خطأ
أو عمدا يوجب مالا لم يكن لمولاه عليه شيء وبقي رهنا لعدم استحقاقه على ماله مالا
بلا خلاف أجده في شيء من ذلك بل ولا إشكال.
ولو كانت الجناية
على من يرثه المالك ثبت للمالك مع موت المجني عليه ما ثبت للموروث من القصاص قطعا
في نفس أو طرف أو انتزاعه من الرهانة في الخطأ أو العمد إن استوعبت الجناية قيمته
، أو إطلاق ما قابل الجناية إن لم تستوعب ويبقى الباقي رهنا بلا خلاف أجده بين من تعرض
له ، وكان الفرق بينه وبين الجناية على المولى ـ مع أن الحق للمولى في الموضعين ـ أن
الواجب في الجناية على المولى له ابتداء ، ويمتنع أن يجب له على ماله مال كما تقدم
، أما الجناية على موروثة فالحق فيها ابتداء للمجنى عليه ، وإنما ينتقل الحق إلى
الوارث
من الموروث وإن
كانت دية ، لأنها محسوبة من تركته ، يوفى منها دينه ، وتنفذ وصاياه وكما لا يمتنع
ثبوت مال لمورث المولى على عبده ، لا يمتنع انتقاله عنه إليه ، فيفكه عن الرهن
لذلك.
فما عن بعض
الشافعية ـ من الحكم بسقوط المال بانتقاله إلى سيده ، ويبقى رهنا قياسا على ما لو
كان المال للسيد ابتداء ـ ضعيف ، لما عرفت من أن الانتقال للسيد من الموروث ، لأن
الدية تنتقل إلى الميت في آخر جزء من أجزاء حياته ولو في جناية العمد في قول ،
وعلى الأصح فيه ينتقل معوضها الذي هو القصاص ، ولذا حسبت مطلقا من تركته ، ففي
الحقيقة ملك السيد للعبد بذلك جديد ، غير الملك الأول الذي كان به رهنا ، وقد تقدم
سابقا بعض الكلام على هذه المسائل فلاحظ وتأمل.
ولو جنى على عبد
مولاه فكالجناية على مولاه في العمد والخطأ ، إذا لم يكن المجني عليه مرهونا عند
غير مرتهن الجاني ، والا جاز له العفو على مال في العمد ، وهو رقبة العبد وتعين
عليه ذلك في الخطاء وفيما لا قصاص له من العمد ، ولا يقدح في ذلك قاعدة عدم
استحقاقه على ماله مالا بعد أن كان المسلم منها غير الفرض الذي للغير تعلق به.
بل قد يقال : إن
الاستحقاق فيه في الحقيقة لمرتهن المقتول وان كان هو يقدم عليه لو أراد القصاص ،
أما مع عدم ارادته فيستحق على العبد القاتل دية المقتول ـ لتكون رهنا ، وليس إلا
نفسه فينتزع وتكون رهنا قهرا ، نحو قيمة الرهن المتلف ، أو يباع بها وتجعل هي رهنا
، وليس ذلك بأعظم من جناية المولى نفسه على المرهون فإنه يضمن قيمته للمرتهن رهنا
، وإن كانت الجناية على ماله.
بل قد يقال بتعين
العفو له على مال في الأول أيضا ، وإن قلنا أن جناية العمد توجب القصاص لأحد
الأمرين ، إذ الظاهر اختصاص ذلك بالحر دون العبد الذي صرح غير واحد من الأصحاب
بأنه إذا قتل الحر عبدا كان الولي مخيرا
__________________
بين القصاص
والاسترقاق ، بل قيل : إنه كذلك قولا واحدا ، بل الظاهر إلحاق جناية الأطراف
بالنفس ، ومن هنا يظهر لك أنه لا ينبغي بناء جواز العفو له على غير مال ، على
القولين المزبورين ، فيصح على الأول ، لأن اختيار المال ضرب من الإكتساب ، ولا
يجبر الراهن على ذلك لحق المرتهن ، بل لو عفي مطلقا لم يثبت المال حينئذ ، ولا يصح
على الثاني ، لأن عفوه حينئذ كعفو المحجور عليه لفلس لا ينفذ الا فيما لا تعلق فيه
للمال ، إذ قد عرفت ان ذلك في الحر.
ثم إن كان الواجب
في الجناية أكثر من قيمة القاتل أو مثلها ، فعن الشيخ أنه يباع لأنه ربما رغب فيه
راغب ، فيفضل من قيمته شيء يكون رهنا عند مرتهنه. وعن بعض العامة ومحتمل التحرير
، أنه ينقل عينه إلى مرتهن المجني عليه ، لعدم الفائدة في بيعه ، وربما رجح الأول
بأن الحق في مالية العبد لا عينه التي لم يجبر الراهن عليها ، وإنما تعلق بها حق
مرتهن المقتول بسبب الجناية ، وإن كان الواجب الأقل فبالنسبة ، نقلا أو بيعا على
الوجهين أيضا.
قلت : إن اتفق
الثلاثة على نقل العين أو البيع فلا بحث ، وقد يحتمل صيرورة الزائد رهنا في الأول
لو تجددت زيادة قيمته ، والأقوى خلافه مع بطلان رهانته حال النقل ، إذ لا دليل على
عودها في المتجدد ، وإن اتفق الراهن ومرتهن المقتول على أحد الأمرين ، لم يكن
لراهن القاتل منعهما منه ، سواء كان بيعا أو نقلا ، إلا إذا وجد الراغب الباذل
للزيادة على قيمة المقتول ، فله حينئذ الإلزام بالبيع ، أو إبقاء ما قابلها منه
رهنا عنده ، ولو اتفق المرتهنان على أحد الأمرين ، كان للراهن مخالفتهما لأن حق
الجناية له.
واحتمال أن لمرتهن
القتيل الإلزام بالبيع ـ ، لأن الدية المستحقة نقدا والإلزام بالنقد ، لأن
الاستحقاق حينئذ له ، وإلا فالمولى لا يستحق على مملوكه ـ ضعيف لأن استحقاقه تبع
لاستحقاق المولى لو كان غير مالك ، فالمتجه حينئذ كون التخيير بيد المولى في البيع
أو النقل ، بناء على ثبوت ذلك للمولى غير المالك ، وثبوت حق الرهانة في رقبة
الجاني قهرا ـ لعموم ما دل على أن جناية العبد في رقبته ، الشامل
لمثل حق الرهانة ـ
، لا ينافي ضرورة كون ثبوته مراعى بحق المولى المفروض تخيره بين القصاص ، والنقل
للعين والبيع ، بل الظاهر أن المراد بالبيع الكناية عن قيمة العبد لا خصوص البيع ،
وحينئذ فللمولى دفع القيمة لمرتهن المجني عليه ، وفك الجاني من الرهانة ، بعد عدم
اختياره القصاص أو النقل للرهانة ، والأمر في ذلك كله سهل.
انما الكلام فيما
هو ظاهر من تعرض لهذا الفرع من الأصحاب من بطلان رهانة القاتل ، مع أنه لا داعي
إليه ، إذ يمكن القول باجتماع الرهانتين ، وإن قدم في الاستيفاء مرتهن المقتول ،
لمكان حق الجناية ، وتظهر الثمرة فيما لو فك منه وفي غيره ، اللهم إلا أن يقال :
إنه لما كان القاعدة عدم استحقاق المولى على عبده مالا ، إلا أنه هنا لمكان تعلق
حق الارتهان في المقتول كان للمولى حينئذ حكم الأجنبي الذي له الاسترقاق والبيع ،
وإبطال حق المرتهن ، فلما تعذر الاسترقاق حقيقة بالنسبة إليه لأنه تحصيل الحاصل
اعطى لازمه ، وهو الانتزاع وإبطال الرهانة ، ولكن للبحث فيه مجال ، والمسألة غير
محررة في كلام الأصحاب.
وأما إذا كان
المقتول رهنا عند مرتهن القاتل ، فإن كان على حق واحد فالجناية هدر ، وإن تعدد قيل
: وكذا إن تعدد وتساويا جنسا وقدرا وتساوت القيمتان ، إلا أن يكون دين المقتول أصح
وأثبت من دين القاتل ، كأن يكون مستقرا ودين القاتل عوض شيء يرد بعيب أو صداق قبل
الدخول ، فله حينئذ النقل أو البيع على أحد الوجهين السابقين للرهانة عليه ، وكذا
إن تعدد الدينان واختلفا بالحلول والتأجيل أو في طول الأجل وقصره.
أما إذا أنفقا فيه
فإما أن يتفقا جنسا وقدرا ، أو يختلفا ، فإن اتفقا واختلف العبدان في القيمة ،
وكانت قيمة المقتول أكثر ، فالجناية هدر ، لانتفاء الفائدة كما لو تساويا ، وإن
كانت قيمة القاتل أكثر منه نقل قدر قيمة القتيل إلى دين القتيل ، وبقي الباقي رهنا
بما كان.
وإن اختلف الدينان
قدرا لا جنسا ، فإن تساوت قيمة العبدين أو كان القتيل
أكثر قيمة ، فإن
كان المرهون بأكثر الدينين القتيل فله التوثق بالقاتل ، لأن التوثق لأكثر الدينين
في نفسه فائدة مطلوبة ، بخلاف ما لو كان القتيل مرهونا بأقله فلا فائدة في النقل
حينئذ.
وإن كان القتيل
أقل قيمة كان مرهونا بأقل الدينين فلا فائدة في النقل ، وإن كان مرهونا بأكثر نقل
من القاتل قدر قيمة القتيل إلى الدين الآخر ويبقى الباقي رهنا ، وإن اختلف الدينان
في الجنس ، فهو كالاختلاف في القدر أو في الحلول والتأجيل ، هذا حاصل ما ذكروه ،
ومرجعه إلى حصول الفائدة للمرتهن في نقل الرهانة ، وعدمها إلا ان ما قدمناه سابقا
من البحث آت في المقام ، بل لعله أولى من السابق.
بل قد يشكل أيضا
بأنه لا مدخلية للفائدة وعدمها في النقل القهري للرهانة ، باعتبار اقتضاء الجناية
ذلك وله ثمرات ، فإنه بناء على ذلك لو اتفق وفاء دين الجاني بإبراء ونحوه لم يقدح
في بقائه رهنا على دين المجني عليه ، وإن كان مساويا له في القدر والجنس والحلول
مع تساوى قيمتي العبدين ، بخلافه على تقدير عدم انتقل فإنه تمضي الرهانة إلى غير
ذلك مما يظهر لك بأدنى تأمل بعد الإحاطة بما ذكرناه من كون الانتقال إلى الرهانة
قهريا بسبب الجناية.
ثم إن الكلام في
نقل العين أو القيمة يأتي مثله هنا أيضا ، لكن عن التحرير أنه جزم في هذه المواضع
بالبيع ، وجعل الثمن رهنا ، ولعله يريد أن له ذلك لا تعيينه بل ربما قطع بكون
المراد ذلك ، كما أن ما في القواعد في أصل المسألة يمكن إرادته ما ذكرنا ، وإن
أطلق هو ، قال « ولو جنى على عبد مولاه ، فكمولاه ـ أي فكالجناية على مولاه ـ إلا
أن يكون رهنا من غير المرتهن ، فله قتله ويبطل حق المرتهنين ، والعفو على مال
فيتعلق به حق المرتهن الآخر ، ولو عفى بغير مال فكعفو المحجور عليه ، ولو أوجبت
أرشا فللثاني ، ولو اتحد المرتهن وتغاير الدين فله بيعه ، وجعل ثمنه رهنا بالدين
الأخر ».
بناء على أن
المراد من المغايرة مجرد عدم كون الدين واحدا ، بل وكذا عبارة الدروس في الاكتفاء
بمطلق التغاير ، قال : « ولو اختلف الدينان جاز نقل ما قابل
الجناية بدلا من
المجني عليه لمرتهنه » بناء على أن المراد بالاختلاف نحو ذلك ، وقد نقلناها سابقا
وجملة من فروع المقام عند البحث في رهانة الجاني والأمر سهل والله أعلم.
ولو أتلف الرهن
متلف كلا أو بعضا الزم بقيمته ولو الأرش.
وتكون رهنا بلا
خلاف أجده فيه ، بل ولا إشكال ، لأن حق الرهانة متعلق بالعين وقد جعل لها الشارع
بالتلف بدلا ، فيتعلق به كما هو مقتضى البدلية ، ولأن معنى الرهن الاستيثاق بالعين
، ليستوفي الدين من قيمته ، وإن كان العقد إنما جرى على العين ، فوسوسة بعض الناس
في هذا الحكم في غير محلها ، بل الحكم ذلك ولو كان الذي أتلفه المرتهن لعدم دلالة
إتلافه على إسقاط حق رهانته ، كما أن عدم ضمان المالك لماله لا يسقط حق المرتهن ،
لو كان المتلف المالك كما هو واضح.
لكن لو كان
المرتهن وكيلا في الأصل على بيع أو غيره لم يكن وكيلا في القيمة ، لأن العقد لم
يتناولها ولم يكن حق الوكالة من الأمور المتعلقة بالعين على حسب الرهانة ، ولعل
الاستيداع كذلك ، كما صرح به في المسالك ، فلم يفرق بين الوكالة على البيع أو على
الحفظ في البطلان مع التلف ، لكن في التذكرة وغيرها أن للعدل حفظ القيمة ، لأنها
بدل الرهن ، وله إمساك الرهن وحفظه ، والقيمة قائمة مقامه ، وليس له البيع لبطلان
وكالته فيه ، وفيه ما عرفت من ان الوكالة منوطة بما عينه المالك الذي يختلف أغراضه
في الاستيمان على الأموال ، وبيعها باختلاف الأشخاص ، فقد يستأمن على عين ، ولا
يستأمن على قيمتها ، وكذا البيع ، فالفرق بينهما لا يخلو من نظر ، فتأمل جيدا
والله أعلم.
ولو رهن عصيرا جاز
بلا خلاف ، بل عن المبسوط الإجماع عليه ، لأنه عين مملوكة يجوز بيعها إجماعا
بقسميه ، واحتمال صيرورته خمرا قبل حلول الحق غير قادح كرهن المريض. نعم لو علم
ذلك اتجه المنع ما لم يعلم انقلابه خلا ، وإلا جاز أيضا ، بل قد يقال بجوازه بدونه
، على نحو ما سمعته في رهن ما يسرع اليه الفساد قبل
الحلول ، فلاحظ
وتأمل.
وعلى كل حال ف إن
صار خمرا في يد المرتهن بطل الرهن عندنا ، للخروج عن الملكية التي هي شرط صحته ،
خلافا لأبي حنيفة فلم يبطل الملك ولا الرهانة ، قياسا على العبد المرتد ، وهو باطل
عندنا ، مع أن الفرق بينهما بمعلومية عدم ملك المسلم الخمر ، وعدم جواز التصرف له
فيه دون المرتد واضح ، ف لا ريب في أن التحقيق ما قلنا.
نعم لو عاد خلا
عاد إلى ملك الراهن بلا خلاف أجده بيننا ، إلا ما تسمعه من المحكي عن أبي الصلاح
وهو شاذ ، لرجحانه على غيره بالملك السابق ، واليد المستمرة ، إذ يد المرتهن من
آثار يد المالك ، وللسيرة وللإجماع ، بل الضرورة على ملك الخل وجواز اتخاذه ، مع
أن العصير لا ينقلب إلى الحموضة إلا بتوسط الشدة ، على ما صرح به في التذكرة وجامع
المقاصد والمسالك ، فلو لم يعد بالخلية إلى الملك لم يملك الخل من اتخذه حينئذ ،
مضافا إلى الشك في اندراج الفرض في المباح الذي يملكه من استولى عليه ، فلا بد من
دخوله في ملك أحد حال تخلله ، ولا ريب في رجحان المالك السابق على غيره ، وإلى غير
ذلك مما يظهر من التأمل فيما ذكرناه ، فإذا عاد إلى ملك الراهن عادت الرهانة حينئذ
معه ، بلا خلاف أجده لأن العائد الملك السابق الذي كانت الرهانة متعلقة به ، لا
أنه ملكه بسبب جديد.
وفي التذكرة «
معنى قولنا يبطل الرهن ، لا نريد به ارتفاع أثره بالكلية ، وإلا لم يعد الرهن بل
المراد ارتفاع حكمه ما دامت الخمرية ثابتة » وتبعه في جامع المقاصد والمسالك ،
والمراد أن العلاقة باقية ، لمكان الأولوية ، ففي الحقيقة الرهن والملك موجودان
بالقوة القريبة ، لأن تخلله متوقع ، وإنما الزائل كونه رهنا وملكا بالفعل لوجود
الخمرية المنافية لذلك ، فيكون البطلان مراعى ببقائه كذلك ، أو بتلفه لا على جهة الكشف
كما عن بعض الشافعية ، فيبين عدم البطلان بالعود خلا والأظهر بطلانه بل على إرادة
عود حكم الرهانة الاولى ابتداء من دون استيناف عقد رهانة جديدا ،
كما عن بعض آخر من
الشافعية.
ولا استبعاد في
مشروعية ذلك بعد وقوع النظير له في الشريعة ، كإسلام زوجة الكافر التي تخرج به عن
حكم العقد إذا أسلم قبل انقضاء العدة ، وكذا إذا ارتد أحد الزوجين ، بل من نظيره
ما إذا اشترى المرتهن عينا من الراهن بدينه فتلفت قبل القبض ، أو تقايلا بعده ،
بناء على عود الرهانة بانفساخ البيع ، وحاصله أن عقد الرهانة لم يبطل بالخمرية حتى
يقال : أنه لا بد من استينافه ، بل الخمرية صارت مانعة من جريان حكم العقد ، فمتى
زالت عمل العقد عمله ، ودعوى أن استدامة الملك شرط في صحة العقد ، يمكن منعها
خصوصا مع ملاحظة كلام الأصحاب في المقام ، بل أقصى ما يسلم كونها شرطا في استمرار
حكم العقد ، وحينئذ فما دل على عدم ملك الخمر لا يقتضي فساد الرهانة فتأمل جيدا.
وقد ظهر من ذلك
كله أن ما عن أبي الصلاح ـ من أنه إن صار خمرا بطلت وثيقة الرهن ووجب إراقته ـ ضعيف
إن أراد بذلك عدم العود إن عادت ، بل وإن أراد عدم جواز إبقائها للتخليل ، إذ
الظاهر عدم الخلاف عندنا في جوازه ، وهي المسماة بالخمرة المحترمة ، كما ستسمع.
ثم إن كان الرهن
مشروطا ببيع لم يكن للمرتهن الخيار في الفسخ ، وان لم يتعقب التخليل ، للوفاء
بالشرط ، وكذا إذا لم يقبضه ، بناء على عدم اعتبار القبض في صحة الرهن ، وإن قلنا
باعتباره في اللزوم ، وأما على القول بالاعتبار في الصحة ولم يقبضه حتى صار خمرا
فالظاهر البطلان ، لعدم الشرط قبل تمام الرهانة بلا خلاف أجده بين من قال بشرطية
القبض ، كما اعترف به في جامع المقاصد ، وإن كان قد ناقش هو في ذلك بأنه لا مانع
من الصحة مع تخلل الخمرية بين العقد والقبض الذي هو أحد أجزاء السبب ، إذ دعوى ـ كون
الشرط قابلية المورد للرهانة من أول العقد إلى حين تمام السبب ـ لا دليل عليها
لكنها مناقشة مقطوع بفسادها بين الأصحاب في جميع القيود المعتبر في تمام السبب
غيرها ، كالتقابض في الصرف ، والقبض في المجلس في السلم ، والقبض في الهبة ، وغير
ذلك مما هو عندهم كأجزاء العقد التي لا إشكال
في اعتبار الشرطية
فيها ، ولتحرير ذلك مقام آخر ، وحينئذ يتخير المرتهن في المقام في فسخ البيع
المشروط به ، ولا تعود رهنا بعودها خلا ، كما صرح به في الدروس ، إلا برهانة
مستأنفة.
ولو اختلفا في
القبض هل كان قبل الخمرية أو بعده؟ قدم قول مدعي الصحة ، وإن كان الراهن ، كما
تقدم البحث في نظائره في المباحث السابقة ، وعن الشيخ أنه تردد في ذلك من البناء
على الظاهر ، ومن أن القبض فعل المرتهن ، فيقدم قوله فيه وهو في غير محله.
نعم لو كان
الاختلاف في أصل القبض لا في صفته ، كان القول قوله ، لأصالة عدمه ومن ذلك يظهر لك
حينئذ ما في التذكرة من أن الأولى في المسألة الأولى تقديم قول المرتهن ، حاكيا له
عن الشيخ وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي ، محتجا عليه بما هو واضح الضعف بأدنى تأمل
، فلاحظ وتأمل.
وفي التذكرة ،
أيضا « ولو انقلب المبيع خمرا قبل القبض فالكلام في انقطاع البيع وعوده إذا عاد
خلا على ما ذكرنا في انقلاب العصير المرهون خمرا بعد القبض » وفيها أيضا في موضع
آخر قريب من ذلك ، « وإذا اشترى عصيرا فصار خمرا في يد البائع وعاد خلا فسد العقد
، ولم يعد ملك المشتري لعوده خلا ، والفرق بينه وبين الرهن ، أن الرهن عاد تبعا
لملك الراهن ، وهاهنا يعود ملك البائع لعدم العقد ، ولا يصح أن يتبعه ملك المشتري
» وهو مناف لذلك الكلام فتأمل جيدا. ولعله لإمكان ان يكون ذلك من التلف قبل القبض
، فينفسخ العقد حينئذ ، ولا معنى لعوده ، وإن كان فيه منع واضح كما ستعرف.
وكيف كان ف لو رهن
مسلم من مسلم خمرا ، لم يصح بلا خلاف ولا إشكال ، كما تقدم الكلام فيه ، وفيما إذا
وضعه على يد ذمي أو رهنه عنده أو بالعكس سابقا ، لعدم الملكية التي قد عرفت
اشتراطها في الرهن مما تقدم ، وعدم جواز بيع المسلم إياها من غير فرق بين المحترمة
وغير المحترمة فلو انقلب في يده أي المرتهن خلا فهو له لاستيلاء يده عليه ، وليست
هي يد الأول ، إذ الفرض
كون الرهانة فاسدة
، فهو حينئذ حال خليته مال لا مالك له ، كباقي المباحات يملك حينئذ بالاستيلاء مع
النية ، أو بدونها على القولين ، لكن قد يناقش بأن أولوية الأول للملك السابق ،
فلا تعارضه يد الثاني بعد ما سمعت سابقا من الشك في كون مثله من المباحات ، وبأن
فساد الرهانة لا ينافي كون اليد للأول ، وأن المرتهن من فروعه ، وخصوصا إذا كانت
الخمر محترمة ، ولعله لذا قال المصنف على تردد بل في جامع المقاصد ، والمسالك أن
الأقوى كونها للأول ، إذا كانت محترمة ، بخلاف غير المحترمة ، فإنه لا يد لأحد
عليها.
وحينئذ فلو غصبها
غاصب فتخللت في يده كانت ملكا له ، دون المغصوب منه ، بل أطلق في القواعد ،
والمحكي عن المبسوط ، والإيضاح ، ملكية الغاصب للخمر المتخللة في يده لكن قد يناقش
بما سمعت من أولوية الأول بالملك السابق ، بل عن غصب التذكرة ما يظهر منه الإجماع
على أن الخمر المتخللة في يد الغاصب للمغصوب منه حيث نسبه إلى مذهبنا ، بل عن غصب
الخلاف أنه لا خلاف فيه ، اللهم إلا أن ينزل كلامهما على المحترمة ، لعدم تصور
الغصب في غيرها ، إذ لا سلطنة له عليها بخلافها فإن السلطنة ثابتة عليها ويجب ردها
، وبالتخليل يضمن المثل لو تلف ، فحينئذ يعود الملك للأول بعودها خلا لأن يد
الغاصب كعدمها.
ولعل الأقوى
صيرورتها ملكا للأول على كل حال بالتخلل ، للأولوية التي مبناها حصول المانع للسبب
في بعض الأزمنة ، فيبقى الباقي على مقتضى عمله فيه ، نحو ما سمعته في العصير
المرهون المنقلب خمرا ثم خلا ، ضرورة كون الجميع من واد واحد ، فإن السبب الذي
اقتضى الملك قبل الخمرية باق على حسب استعداده ، وإنما منعه حال الخمرية ما دامت ،
باعتبار ما دل على عدم ملكها الذي لا يقتضي بطلان أصل السبب ، بل أقصاه بطلان أثره
ما دام المانع ، فإذا زال عمل المقتضي مقتضاه.
ومن هنا لم يشترط
في ملكية الأول حصول يده عليه ، لأن المملك له هو السبب الأول لا يده ، وحينئذ فلا
فرق بين المحترمة وغيرها ، وبين المأخوذة قهرا من يده إذا
فرض تخللها
وغيرها.
ويؤيد ذلك ما تسمعه
إنشاء الله من عدم الخلاف في أنه لو غصب عصيرا فصار خمرا في يد الغاصب ثم صار خلا
يعود على ملك الأول ، ليس إلا لما ذكرناه ، ومنه يعلم الوجه فيما ذكره في التذكرة
أولا ، فإنه لما صار خمرا في يد البائع لم يبطل أصل السبب ، بل بطل حكمه ، في أن
الخمرية ، نحو ما سمعته في الرهانة ، وفي إسلام أحد الزوجين ، فلما زال المانع عمل
السبب عمله.
وأما احتمال أنه
من التلف قبل القبض ، فيدفعه منع كونه تلفا حقيقة ، بل ولا حكما بعد فرض العود إلى
الخلية ، وبذلك يظهر الفرق بين حالي الابتداء والاستدامة ضرورة مشروعية المانع في
الثاني في إسلام أحد الزوجين والارتداد ونحوهما ، بخلاف الأول ، فلا يجوز العقد
على الخمر ابتداء مراعيا في صحته صيرورته خلا ، ضرورة كونه كتعليق السبب المعلوم
بطلانه ، فاتضح أن صحة مانع الاستدامة لا يستلزم الصحة في الابتداء. كما أنه اتضح
بهذا التحقيق ما في جملة من الكلمات التي هي غير محررة ولا منقحة ، حتى ما في
المتن.
نعم ليس كذا لك لو
جمع جامع خمرا مراقا فتخللت في يده إذ الظاهر كونها ملكا للثاني بلا خلاف أجده فيه
بين من تعرض له ، دون الأول ، لإسقاط حق أولويته منها بالإراقة الظاهرة في الإعراض
الذي يزيل حكم الملك الذي هو أقوى من الحق المزبور ، ولا يقدح حرمة الجمع على
الجامع ، إذ ليس حكمنا بملكه للجمع المزبور ، بل لاستيلائه على العين حال التخليل
الذي صارت به مالا بلا مالك ، لتكون كالمباحات ، مع أن الظاهر عدم الحرمة لو أراد
الجمع للتخليل ، فإن الظاهر صحة إبقائها وحفظها لذلك ، ومن ثم سميت محترمة : أي
يحرم غصبها وإتلافها على من في يده.
بل في المسالك لو
لا احترامها لأدى ذلك إلى تعذر اتخاذ الخل ، لأن العصير لا ينقلب إلى الحموضة إلا
بتوسط الشدة ، ونحوه في جامع المقاصد والتذكرة ، قال في الأخير : « الخمر قسمان ،
محترمة : وهي التي اتخذ عصيرها ليصير خلا ، وإنما
كانت محترمة ، لأن
اتخاذ الخل جائز إجماعا ، والعصير لا ينقلب إلى الحموضة إلا بتوسط الشدة ، فلو لم
تحرم وأريقت في تلك الحال لتعذر اتخاذ الخل ، والثاني :غير محترمة : وهي التي اتخذ
عصيرها لغرض الخمرية.
وقد استفاد بعض
مشايخنا من هذه العبارات أنه لا بد من سبق الخمرية للخل في عصير التمر وغيره ، بل
قال : ليس المراد من العصير ما استخرج ماؤه بالعصر ، بل هو أعم منه فحينئذ ما
يستعمله الناس من خل التمر والزبيب لا يجوز استعماله إذا اشتد قبل الحموضة ، ولنا
معه بحث ذكرناه في غير المقام ، وعلى كل حال فما يظهر من المصنف من التردد في كون
المفروض ملكا للجامع في غير محله ، كالإشكال عن التحرير أولا ، وقد بان من ذلك كله
الفرق بين الجامع والغاصب ، فيملك في الأول دون الثاني على الأصح.
وعلى كل حال ف ليس
كذلك لو غصب عصيرا فصار خمرا في يده ثم تخلل كذلك ، فإنه لا خلاف كما في المسالك
ومحكي غاية المرام في عدم ملكية الغاصب له ، بل هو ملك للمغصوب منه ، فيرجعه إليه
، ويرجع أرش النقصان معه لو قصرت قيمته عن العصير ، بل الظاهر وجوب دفعه إليه في
حال الخمرية ، لأولويته ، وإمكان إرادة تخليله ، إلا أن يعلم إرادته منه الشرب ،
فلا يجوز ، ويرد معه مثل العصير ، لإمكان عدم انقلابه خلا ، فإذا عاد رده إليه ،
لأنه قد عاد ملكه إليه ، وان تغيرت صورته ، وتمام الكلام يأتي في باب الغصب إنشاء
الله.
ثم ليعلم أن الخمر
قد يذكر ، كما عن القاموس وغيره ، بل ظاهر المحكي عن المصباح المنير : أنهما على
حد سواء ، قال : الخمر معروفة يذكر ويؤنث ، فيقال :هو الخمر ، وهي الخمر ، وقال
الأصمعي : الخمر أنثى وأنكر التذكير ، كما أن ظاهره اختصاص الإنكار بالاصمعي
المحجوج بنقل المثبت ، بل تذكير المصنف والفاضل وغيرهما من الأساطين الضابطين شاهد
على خلافه أيضا ، والأمر سهل.
ولو رهنه بيضة
فأحضنها فصارت في يده فرخا كان الملك والرهن باقيين ،
وكذا لو رهنه حبا
فزرعه بلا إشكال في كل منهما ، أما الأول فلأن هذه الأشياء نتيجة ماله ، ومادتها
له ، فلم تخرج عن ملكه بالتغيير ، والاستحالات المتجددة صفات حاصلة فيهما ، وحصل
بسببها استعدادات مختلفة ، لتكونات متعاقبة خلقها الله تعالى فيها ووهبها له ،
والأرض والماء والإحضان ونحوها من المعدات التي لا تخرج المادة عن ملك صاحبها.
وأما الثاني :
فلأن الرهن تابع للعين كيفما تغيرت وتنقلت ، إذ هو مشابه لصفة الملك في ذلك ، وليس
معلقا على اسم البيضة والحب حتى يزول بزوال الاسم ، كما هو واضح ، بل ليس ذا من
مسألة النماءات التي فيها البحث السابق ، بل هو كسمن الدابة ونحوه مما لا إشكال في
تعلق الرهن به ، واحتمال تعلق الرهن بمقدار الحب من الزرع وغيره ظاهر الفساد ، بل
لا خلاف أجده في شيء من ذلك إلا ما يحكى عن الشيخ وبعض العامة من تسبيب هذه
التغييرات الملك للقابض ، تنزيلا للعين منزلة التلف ، فغايته ضمان المثل أو القيمة
، وضعفه واضح ، كما هو محرر في باب الغصب والله أعلم.
وإذا رهن اثنان
عبدا بينهما بدين عليهما ، كانت حصة كل واحد منهما رهنا بدينه مع الإطلاق فإذا
أداه صارت حصته طلقا ، وإن بقيت حصة الآخر رهنا ، كما تقدم الكلام في ذلك مفصلا
عند قول المصنف : ولو رهن على مال رهنا ثم استدان آخر ، إلى آخر البحث فلاحظ
وتأمل.
المقصد الثالث
من المقاصد التي
استدعاها البحث في لواحق كتاب الرهن في النزاع الواقع فيه.
وان تقدم بعضها في
مطاوي الأبحاث السابقة ولكن مع ذلك فيه مسائل :الأولى : إذا رهن مشاعا وأذن
للمرتهن في قبضه واستدامة يده عليه وتشاح الشريك والمرتهن في إمساكه للرهانة ولو
من حيث إذن الراهن له في ذلك أو للاستيمان انتزعه الحاكم وقبضه لهما بنفسه ، أو نصب
عدلا يكون في يده لهما ، بل قد يقال : بجواز نصب أحدهما لذلك ، لكن لا يخلو من
اشكال ، وعلى كل حال يقوم القبض مقام قبض المرتهن ، في تحقق الرهانة ، وإن لم يكن
ذلك بوكالة من المرتهن ، بل ربما لا يكون له التوكيل في ذلك ، كما إذا شرط الراهن
عليه القبض بنفسه ، بل لاقتضاء نصبه حاكما من الشارع ذلك ، ضرورة أن الحاكم هو
المعد لقطع أمثال هذه المنازعات المتوقف على نحو ذلك ، وان كان موضوعه حال طلب كل
منهما انقطاعه ، لكن لا يكون الحاكم في ذلك فرع إذنهما على وجه يكون له حكم
المأذون ، بل قد يقال : لا حاجة إلى اذن الراهن.
لكن في المسالك
فان الحاكم ينصب له عدلا لقبضه عن الرهن ، وليكن بإذن الراهن ، وللأمانة ، ولعل
إطلاق الأصحاب على خلافه. نعم لو أن الراهن شرط في عقد الرهانة القبض بنفسه ، أمكن
حينئذ الحكم بانتفائها بالتشاح ، وقد يظهر من لفظ النصب في جملة من عبارات الأصحاب
كون العدل قيما لا وكيلا عنهما ، بل ولا عن الحاكم ، فلا يزول حكم قبضه بخروج
الحاكم أو المرتهن أو الشريك عن بعض صفة التوكيل ، ومثله لو كان التشاح بين
الشريكين في أصل قبض المال المشترك والاستيمان عليه ، بل لعل الظاهر أن للحاكم من
حيث الحكومة المعدة لقطع النزاع انتزاعه منهما ونصب أمين عليه ، وان اتفقا معا على
عدم الرضا بذلك ما لم يتفقا على ما
يحصل به قطع
النزاع بينهما ، والأصل في ذلك وغيره من الأحكام المتصورة في المقام قوله 7 « فإنى قد جعلته
عليكم حاكما » إذ الحاكم هو المعد لقطع مثل ذلك الذي يجب على الشارع حسم مادته لما
يترتب عليه من المفاسد.
ومنه يظهر أن
حكومة الحاكم لا تختص بما كان من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بل هي أعم من
ذلك ، ضرورة عدم المعروف في الفرض ، إذ لا يجب على أحد الشريكين الإذن للآخر في
القبض ، أو لمن يريده أحدهما فتشاحهما لا معصية فيه من أحدهما ، وربما تكون
المصلحة لكل منهما في عدم استيمان الآخر ، بل ربما يكون ضرر على كل منهما بذلك.
وعلى كل حال فإذا
انتزعه منهما آجره إن كان له أجرة ولو على بعض الشركاء على إشكال ، مدة لا تزيد عن
أخذ الحق إلا برضا المرتهن وإجازته ، ثم قسمها بينهما بموجب الشركة ان طلبوا
استيجاره ، فان لم يطلبه أحد منهم أبقاه من دون إجارة ، وإن طلبه أحد الشريكين دون
الأخر هايأ بينهما ، فيؤجره في مدة الطالب دون الأخر ، وإن طلبه المرتهن توقف على
إذن الراهن وكذا العكس ، والأجرة تكون بين المرتهن والشريك بناء على تبعية مثل هذا
النماء للرهن وإلا كانت بين الشريكين.
وإن لم تكن له
أجرة أو لم يريدوا استيجاره جعله عنده أمانة أو استأمن عليه من شاء ولو أحدهما على
اشكال ، وقد عرفت ان له فعل ذلك كله قطعا للمنازعة المنصوب لحسمها وما شابهها ، بل
الظاهر أن له الإلزام بالقسمة فيما يقسم ، والبيع في غيره ونحو ذلك ، مع توقف
قطعها عليه ، بل قد يحتمل جواز ذلك له وإن لم يتوقف ، لأنه مخير في أفراد القطع
والفرض ان ذلك أحدها ، لكن يقوى العدم فيقتصر في القطع على أقل الأفراد ضررا
عليهما ، وأقلها مخالفة للضوابط.
وتحرير هذه الجملة
محتاج إلى بسط في الكلام ، وليس هذا محله ، خصوصا بالنسبة إلى ثبوت ولاية الحاكم
في نحو المقام الذي يكون فيه القبض شرطا في الصحة ،
الظاهر في كون
الشرط قبض المرتهن نفسه ، وقبض المتعاقدين في مثل الصرف ، وقبض الموقوف عليه في
الوقف ، وقبض الموهوب في الهبة ، فإن قيام قبض الحاكم مقامه مع عدم التوكيل لا
يخلو من بحث ، بل لا يخلو أصل ثبوت ولايته فيما يقطع به النزاع اقتراحا مع فرض عدم
معصية من أحدهما في دعواه منه أيضا ، وإن كان ظاهر الأصحاب في المقام ونظائره ذلك
، لإطلاق الأدلة في كونه منصوبا لذلك ، ولأن مجاري الأمور بيده ، وأولويته من
الحكمين في نزاع الزوجين وغير ذلك ، والله العالم.
المسألة الثانية :
إذا مات المرتهن انتقل حق الرهانة إلى الوارث بلا خلاف ولا إشكال فإن امتنع الراهن
من استئمانه كان له ذلك وإن كان المرتهن مؤتمنا سابقا لبطلان ذلك بالموت فان اتفقا
على أمين وإلا استأمن عليه الحاكم كما تقدم الكلام في ذلك مفصلا في آخر الفصل
الخامس وغيره ، بل تقدم الآن في المسألة السابقة ماله تعلق به في الجملة ، كما لا
يخفى.
المسألة الثالثة :
إذا فرط في الرهن أو تعدى فيه ضمنه بلا خلاف ولا إشكال ، فإن كان مثليا وتلف لزمه
مثله. فإن تعذر فقيمته عند الأداء أو التلف.
أو الأعلى على ما
تقدم سابقا في باب القرض وغيره من نظائر المسألة ، وان كان قيميا لزمته قيمته إلا
أن المصنف على أنها يوم قبضه ولم نعرفه لغيره ، بل عن جماعة الاعتراف بمجهولية
قائله ، وإن أرسله في القواعد ، وربما أراد المصنف ، كما أنه لم نعرف له وجها يعتد
به ، ضرورة عدم كون العين مضمونة قبل التفريط.
لكن في المسالك «
حكم المصنف باعتبار قيمته يوم قبضه ، مبني على أن القيمي يضمن بمثله » وقد أخذ ذلك
من الدروس حيث قال : « والمعتبر بالقيمة يوم التلف » وقال ابن الجنيد : « الأعلى
من التلف الى الحكم عليه بالقيمة » ويلوح من المحقق أن الاعتبار بالقيمة يوم القبض
، بناء على أن القيمي يضمن بمثله ، وفي كلام ابن الجنيد إيماء اليه ، وفيهما معا ـ
بعد الإغضاء عن إرادة المثل من القيمة في كلام المصنف إلا أن يحمل على تعذر المثل
، وفيه ما لا يخفي أيضا ـ أن ذلك لا يقتضي الاعتبار يوم القبض أيضا ، ومن هنا في
المسالك بعد أن بناه على ما سمعت قال : « ومع ذلك ففي
اعتبار يوم القبض
نظر ، لأنه ثم لم يكن مضمونا ، فينبغي على ذلك اعتبار المثل يوم الضمان » وهو كذلك
، فلو كان الرهن يوم القبض سمينا فهزل قبل التفريط ثم فرط فيه ضمنه بمثله الصوري
من يوم التفريط لا القبض كما هو واضح ، ودعوى أن التفريط يوجب رد المقبوض يوم
القبض ، كما ترى ، مع أنه لا تخص القول بضمان القيمي بمثله.
وبالجملة هذا
القول على كل حال في غاية الضعف ، ومثله في ذلك القول بضمان أعلى القيم من حين
القبض إلى حين التلف ، وإن قال في المسالك : « أنه نسب إلى الشيخ في المبسوط » بل
عن الصيمري أنه قول مشهور ، نقله فخر الدين واختاره ، بل في الرياض « أنه مشهور في
المصنفات ولعله أحوط وأجود ، إما لكونه كالغاصب فيؤخذ بأشق الأحوال ، أو لاقتضاء
الشغل الذمة اليقيني البراءة كذلك ، ولا تحصل إلا بذلك ».
لكن فيه ما عرفت
من انه لا وجه لضمان القيمة قبل حصول سبب الضمان ، والمشابهة للغاصب انما تحصل
بالتفريط لا قبله ، والبراءة اليقينية أو ما بمنزلتها تحصل بما دل على ضمانه يوم
التلف ، على أن الظاهر عدم كون المقام مما يجب فيه يقين البراءة لعدم الإجمال في
موضوع التكليف ، بل هو من الشك في الأقل والأكثر ، مع عدم توقف صحة الأول على
الثاني ، فأصل البراءة محكم في نفسه إذ هو كالشك في شغل الذمة لشخص بالأقل أو
الأكثر ، وكالشك في وجوب قضاء فريضة عليه أو أزيد ونحو ذلك ، فلا ريب حينئذ في ضعف
هذا القول ، ومشاركته في عدم المستند للأول ،
وأضعف منهما ما عن
الإسكافي من أنه أعلى القيم من يوم التلف إلى يوم حكم الحاكم عليه أو إلى المطالبة
بها كما في نقل آخر عنه ، ولعلهما بمعنى ، كما أن فسادهما معا على تقدير اختلافهما
واضح ، ضرورة تعلق الضمان حال التلف من غير مدخلية للمطالبة أو حكم الحاكم. نعم قد
يقوى ضمان أعلى القيم من حين التفريط إلى حين التلف ، كما عن المختلف والصيمري
وابن فهد. لأنه حينئذ كالغاصب ، ولتضرر المالك بما فات في يده من تفاوت القيمة.
ولكن الأقوى منه
ما قيل : من أن ضمانه بقيمته يوم هلاكه بل لعله خيرة الأكثر كما اعترف به في
المسالك ، لأنه يوم الانتقال ، إذ قبله كان الخطاب منحصرا في رد العين ، وعدم
المنافاة بين انحصار الحق في العين قبل التلف وانتقال قيمتها قبله إلى الذمة بعده
لا يكون مقتضيا لذلك ، والحكم في الغاصب ممنوع فضلا عن المقام ، كمنع ضمان مثل هذا
الضرر ، ولذا لا يضمن لو رد العين نفسها فكذا ما أقامه الشارع مقامها الذي هو في
الحقيقة طريق تأدية لها. نعم لو كانت التفاوت بسبب نقص في العين قد حصل في يده بعد
التفريط ، اتجه اعتبار الأعلى حينئذ ، لفوات الأجزاء المضمونة عليه في يده ، حتى
لو رد العين نفسها على الأقوى ، كما هو واضح.
وقد ظهر من ذلك أن
ما في المتن وغيره من أنه قيل : يضمن أعلى القيم يرجع إلى أحد الأقوال السابقة إذ
لا معنى له بدون التنزيل على أحدها ، وقد مر تمام الكلام في نظائر المسألة ، ويأتي
إنشاء الله تعالى في باب الغصب.
فلو اختلفا اى
الرهن والمرتهن في القيمة المضمونة بالتفريط فالقول قول الراهن عند الأكثر كما في
الدروس ، بل عن الغنية الإجماع عليه ، مؤيدا بحكاية عن الشيخين والقاضي والديملي
والتقي وابن حمزة لأن المرتهن خائن بتفريطه ، فلا يقبل قوله وفيه أن قبول قوله
لإنكاره ، لا من حيث أمانته التي ارتفعت بخيانته ومن هنا قيل القول قول المرتهن
لأصالة البراءة من الزائد ، فيكون منكرا عليه اليمين ، وعلى الراهن المدعي البينة
كما هو مضمون النبوي ولا ريب في أنه هو الأشبه وفاقا للشهيدين والمحكي عن الحلي
والفاضل وكثير من المتأخرين. نعم القول قول الراهن في دعوى قلتها لو كان هو المتلف
للرهن ، وأراد المرتهن القيمة منه ، تكون رهنا ، فادعى عليه زيادتها ، لكون الأصل
معه ، فيكون منكرا عليه اليمين ، والمرتهن المدعي عليه البينة ، ولو كان المتلف
أجنبيا وصدقه الراهن في دعوى القلة لم يكن للمرتهن سبيل عليه ، مع احتمال توجه
اليمين له عليه ، باعتبار تعلق حق الرهانة بها ، والله أعلم.
المسألة الرابعة
لو اختلفا فيما على الرهن قلة وكثرة مع اتحاد الدين
وتعدده ، وإن
اتفقا على شغل الذمة كان القول قول الراهن ، وقيل : والقائل الإسكافي القول قول
المرتهن ما لم يستغرق دعواه ثمن الرهن ، والأول أشهر بل هو المشهور شهرة عظيمة ،
بل عن ابني زهرة وإدريس الإجماع عليه ، ولعله كذلك ، لعدم قدح خلافه فيه ، وهو
الحجة.
مضافا إلى قاعدة
المدعي والمنكر إذ لا ريب في كون الأول هنا المرتهن ، والثاني الراهن الموافق قوله
لأصالة عدم ارتهانه بأزيد مما اعترف به المالك ، بل لو كان النزاع في أصل شغل
الذمة به ، كان الأصل براءة الذمة.
وإلى صحيح محمد بن
مسلم عن أبي جعفر 7 « في رجل رهن عند صاحبه رهنا لا بينة بينهما فيه ، فادعى
الذي عنده الرهن أنه بألف ، فقال صاحب الرهن :إنه بماءة قال : البينة على الذي
عنده الرهن أنه بألف ، وإن لم يكن عنده بينة فعلى الراهن اليمين ».
وموثقة ابن ابى
يعفور عن أبي عبد الله 7 « إذا اختلفا في الرهن فقال أحدهما : رهنه بألف ، وقال
الآخر : بماءة درهم؟ فقال : يسئل صاحب الألف البينة ، فإن لم يكن بينة ، حلف صاحب
الماءة ».
وموثق عبيد بن
زرارة عنه أيضا « في رجل رهن عند صاحبه رهنا لا بينة بينهما ، فادعى الذي عنده
الرهن أنه بألف فان لم يكن عنده بينة ، فعلى الذي له الرهن اليمين أنه بماءة. » فلا
محيص حينئذ عن المشهور ، خصوصا مع عدم دليل للإسكافي صالح لمعارضة ما سمعت ، إذ
ليس إلا موافقة الظاهر في بعض الافراد الذي لا عبرة به في مقابلة ما سمعت.
وخبر السكوني عن جعفر عن أبيه
عن على 7 « في رهن اختلف فيه الراهن والمرتهن؟ فقال الراهن : هو بكذا وكذا ، وقال
المرتهن : هو بأكثر؟ قال
__________________
على 7 ، يصدق المرتهن
حتى يحيط بالثمن ، لأنه أمينه » الضعيف سندا الموافق لأحد قولي العامة ، المخالف
للمتواتر كما في جامع المقاصد المحتمل لما عن الشيخ من أن الاولى للراهن أن يصدق
المرتهن.
فمثله لا يصلح
لمعارضة ما تقدم من وجوه ، على أن ظاهره باعتبار مفهوم الغاية تصديق الراهن فيما
لو أحاطت دعوى المرتهن بالثمن ، والمعروف حكايته عن ابن الجنيد أنه يصدق المرتهن ما
لم يدع زيادة القيمة على الراهن ، فهو مخالف حينئذ للخبر. نعم على ما حكاه في
المتن عنه يتجه الاستدلال له به ، وكان الموجب لاختلاف النقل عنه عبارته المحكية
عنه ، وهي : المرتهن يصدق في دعواه حتى يحيط بالثمن ، فإن زاد دعوى المرتهن على
القيمة لا تقبل إلا ببينة. باعتبار اشتمالها على مفهوم الغاية القاضي بخروج دعوى
الإحاطة عن حكم دعوى غيرها ، وعلى مفهوم الشرط القاضي بدخولها.
وعلى كل حال
فالمذهب ، الأول ، بل لو أراد ابن الجنيد ـ ما يشمل دعوى المرتهن أصل الشغل
بالزائد ـ كما عساه يظهر من بعض ، بل ظاهر الفاضل في القواعد أن نزاعه في ذلك ـ كان
مخالفا للضوابط الشرعية ، بل يمكن دعوى الضرورة حينئذ على خلافه والله أعلم.
المسألة الخامسة :
لو اختلفا في متاع فقال أحدهما أي المالك هو وديعة عندك وقال الممسك هو رهن ف
المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة بل ربما استظهر من نافع المصنف الإجماع عليه أن
القول قول المالك وقيل : والقائل الصدوق ، والشيخ ، في المحكي عن مقنع الأول ،
واستبصار الثاني ، القول قول الممسك ، والأول أشبه بأصول المذهب وقواعده ، لأنه
منكر باعتبار موافقة قوله لأصالة عدم الارتهان.
وفي موثق إسحاق بن
عمار عن الصادق 7 في الاختلاف في الوديعة والقرض « أن القول قول صاحب المال
مع يمينه » وخصوص المورد لا يخصص الوارد ،
__________________
فيستفاد منه حينئذ
أصالة عدم الحكم بمال الإنسان بغير قوله ، وإن كان مدعيا ، فضلا عما نحن فيه ، مما
هو مدعى عليه ، اللهم إلا أن يقال إن ما فيه مبنى على أصالة الضمان في اليد ، حتى
يقوم خلافه ، لا على الأصل المزبور الشامل للمقام ، فلا يكون شاهدا له ، وفيه بحث.
وعلى كل حال فقد
يؤيد ما نحن فيه أيضا الخبر المتقدم سابقا في مسألة استيفاء المرتهن الدين مما في يده إذا خاف
جحود الوارث لو أقر بالرهانة ، ضرورة ظهوره في أن القول قول الوارث مع الإقرار لا
قوله ، وإن كان المال في يده فلاحظ وتأمل.
كل ذلك مضافا إلى
خصوص صحيح ابن مسلم عن أبي جعفر 7 « في رجل رهن عند صاحبه رهنا ، فقال الذي عنده الرهن : أرهنته
عندي بكذا وكذا ، وقال الأخر : إنما هو عندك وديعة ، فقال : البينة على الذي عنده
الرهن أنه بكذا وكذا ، فإن لم يكن له بينة فعلى الذي له الرهن اليمين » لكن حمله
الشيخ على صورة النزاع في الدين ، لا الرهن ، فقال : إنما قال : عليه البينة على
مقدار الدين الذي ارتهنه به ، لا على أصل الرهن ، وحينئذ فيمين المالك مع تعذر
البينة على نفي الدين ، ومقتضاه أن محل النزاع صورة الاتفاق على الدين ، ولكن
اختلفا في الرهانة عليه ، والوديعة.
فلا يكون المحكي
عن ابن حمزة ـ من التفصيل بين اعتراف صاحب المتاع بالدين فالقول قول الممسك وعدمه
فالقول قول المالك ـ قولا ثالثا في المسئلة منشؤه الجمع بين الصحيح المتقدم وبين خبر
عبادة بن صهيب قال : « سألت أبا عبد الله 7 عن متاع في يد رجلين أحدهما يقول : استودعتكه ، والآخر
يقول هو رهن؟ فقال : القول قول الذي يقول أنه رهن عندي ، إلا أن يأتي الذي ادعى
أنه أودعه بشهود » وموثق ابن ابى يعفور عن الصادق 7 المتقدم صدره سابقا « قال : وان كان الرهن أقل مما رهن به
أو أكثر واختلفا ، فقال أحدهما : هو رهن ، وقال الآخر هو وديعة؟ قال :على صاحب
الوديعة البينة ، فإن لم يكن بينة حلف صاحب الرهن ».
__________________
وصحيح أبان الموافق في المتن
للموثق المزبور ، حتى ظن في الحدائق أنهما خبر واحد منكرا بذلك على ما حكاه عن
صاحب الكفاية من عدهما خبرين ، لكن فيه أنه هو قد اعترف بأن الصدوق رواه عن فضالة
عن أبان عن الصادق 7 ، وأن طريقه إلى فضالة صحيح ، وأن الشيخ روى الأول بسنده
عن أبان عن ابن أبى يعفور ، وبذلك يكونان خبرين ، وان اتحد متنهما.
وكيف كان ففيه ـ مع
أنه لا شاهد لهذا الجمع أولا ـ أنه فرع المقاومة المفقودة في المقام ، لا للضعف
سندا ، لما عرفت من أن فيهما الموثق والصحيح ، ولكن لندرة العامل ، بخلاف الأول
الذي قد عرفت عظم شهرته ، ولاعتضاده بما عرفت من القواعد وغيرها ، ودعوى ـ اعتضاد
هذه بظهور كونه رهنا بعد الاعتراف بالدين ـ واضحة المنع ، مع أنه على تسليمها لا
تساوي ما اعتضد به الأول ، خصوصا ما قيل : من موافقة هذه للتقية أيضا ، وأضعف من
ذلك ما يحكى عن ابن الجنيد من الجمع بينها بالتفصيل أيضا بين صورتي اعتراف القابض
للمالك بكونه في يده على سبيل الامانة ثم صار رهنا فالقول قول المالك ، وصورة
دعواه الرهانة ابتداء فالقول قوله ، إذ هو كما ترى ، وقد ظهر من ذلك كله أنه لا
محيص عن المشهور ، وإن وسوس فيه بعض متأخري المتأخرين ، بل جزم بخلافه آخر ترجيحا
للنصوص المزبورة على الصحيح الأول ، إلا أن خلافه غير قادح ، بعد أن كان منشؤه
اختلال الطريقة ، بل ربما أفاد المشهور قوة والله أعلم.
المسألة السادسة :
إذا أذن المرتهن للراهن في البيع ورجع ، ثم اختلفا فقال المرتهن : رجعت قبل البيع
، وقال الراهن رجعت بعده كان القول قول المرتهن عند المشهور بين الأصحاب بل في
جامع المقاصد نسبته إليهم مشعرا بدعوى الإجماع ، خصوصا مع قوله أنه ينبغي الوقوف
معهم. وإن كان الدليل يقتضي خلافه ، ترجيحا لجانب الوثيقة المستصحب بقاؤها إلى أن
يعلم المزيل. وليس ، لأن الاذن في البيع غير مسقط لها ، وإنما المسقط لها البيع
المأذون فيه ، ولم يثبت إذ الدعويان متكافئان لأن الراهن يدعى تقدم البيع على
الرجوع والأصل عدمه ، والمرتهن بالعكس ،
__________________
والأصل عدمه ، فإن
كلا منهما حادث ، والأصل تأخره ، والاقتران أيضا حادث والأصل عدمه ، مع انه لو حكم
به هنا لاقتضى فساد البيع.
وعلى كل حال يبقى
استصحاب الرهانة سالما عن المعارض ، ودعوى ـ معارضته بأصالة صحة البيع المعلوم
وقوعه ، فيتساقطان ، ويبقى مع الراهن ملكية المرهون ، وتسلط الناس على أموالهم ـ يدفعها
أن أصالة صحة العقد مترتبة على سبقه بالإذن ، فإذا حكم بعدمه لم يمكن الحكم بصحة
العقد ، بخلاف استصحاب الوثيقة ، فإنه باعتبار معلومية حصولها صحيحة سابقا ، إنما
يكون الشك في طرو المبطل لها ، فيكفي في نفيه أصالة عدمه ، وليس استصحابها مشروطا
بسبق الرجوع على البيع ، حتى يقال :إنه إذا حكم بعدمه لم يمكن الحكم به ، نحو ما
سمعته في صحة البيع ، بل يكفي في صحة استصحابها عدم العلم بسبق البيع للرجوع.
ومن ذلك يعلم
اندفاع ما في جامع المقاصد من المناقشة في أصل تكافؤ الدعويين : « بأن الأصل وإن
كان عدم صدور البيع على الوجه الذي يدعيه الراهن ، إلا أنه لا يتمسك به الان ،
لحصول الناقل عنه ، وهو صدور البيع مستجمعا لجميع ما يعتبر فيه شرعا ، وليس هناك
ما يخل بصحته ، إلا كون الرجوع قبله ، ويكفى فيه عدم العلم بوقوعه كذلك ،
والاستناد إلى أن الأصل بقاء الإذن السابق ، لأن المانع لا يشترط العلم بانتفائه ،
لتأثير المقتضى وإلا لم يمكن التمسك بشيء من العلل الشرعية ، إذ لا يقطع بنفي
موانع تأثيرها بحسب الواقع ، وهو معلوم البطلان ، فإن من صلى مراعيا للافعال
والشرائط ، يكفيه في صحة صلاته الاستناد إلى أصالة عدم طرو النجاسة على ثوبه وبدنه
الطاهرين ، وإن لم يعلم انتفاؤها بحسب الواقع قطعا.
هذا مع اعتضاده
بأن الأصل في البيع الصحة واللزوم ، وحيث تحقق الناقل عن الأصل المزبور امتنع
التمسك به ، وخرج عن كونه حجة ، كأصل الطهارة بعد ثبوت المقتضى للتنجيس مثلا ،
فإنه لا يتمسك به ، وحينئذ فينتفي حكم كل من الأصلين اللذين ذكروهما ، على أن ما
ذكروه في الاستدلال إنما يتم على تقدير تسليم بقاء الأصلين المزبورين ، والانحصار
فيهما وفي الأصل الثالث الذي ذكروه ، وليس
كذلك ، فإن لنا
أصلا آخر من هذا الجانب ، وهو أن الأصل في البيع الصحة واللزوم ووجوب الوفاء
بالعقد.
لانه كما ترى مبنى
على أن الشك في صحة العقد إنما وقع في المانع الذي هو الرجوع قبل البيع ، لا في
حصول الشرط الذي هو الاذن ، وقد عرفت ما فيه ، وإلى ذلك يرجع ما في المسالك من
دفعه ، فإنه قال : « لا نسلم وقوع البيع جامعا للشرائط الشرعية ، لأن من جملة
شرائطه إذن المرتهن ، وحصوله غير معلوم ، وتنقيح ذلك أن الرهن المانع للراهن من
التصرف لما كان متحققا ، لم يمكن الحكم بصحة البيع الواقع من الراهن إلا بإذن
معلوم من المرتهن حالة البيع ، ولما حصل الشك في حصولها حالته ، وقع الشك في حصول
الشرط نفسه ، لا في وجود المانع ، ومعلوم أن الشرط لا يكفى فيه عدم العلم بانتفائه
، بل لا بد من العلم بحصوله ، ليترتب عليه المشروط ، ولو بطريق الاستصحاب ،
كالصلاة مع تيقن الطهارة سابقا ، والشك في بقائها الآن ، والأمر هنا كذلك ، فإن
الرهن المانع من صحة البيع واقع يقينا ، ويستصحب الآن ، والشرط المقتضي لصحة البيع
غير معلوم الوقوع في زمان البيع ، لا باليقين ولا بالاستصحاب ، فيرجح جانب الوثيقة
كما ذكروه ».
لكن فيه أولا :
أنه لا ريب في كون الشرط هنا بعد تحقق الإذن عدم الرجوع بها الذي هو لازم بقائها ،
ويكفى ما ذكروه من أصالة العدم والاستصحاب في إثباته ، إلا أنه لو كان النزاع في
الرجوع وعدمه ، لا فيما إذا كان النزاع في أنه قبل البيع أو بعده كما هو الفرض ،
ضرورة معارضة أصالة عدم كونه قبله حينئذ ، بأصالة عدم كون البيع قبله ، كما أن
استصحاب بقاء الإذن لا يمكنه أن يفيد المقارنة للبيع حينئذ ، لاحتمال تخلل الرجوع
الذي قد عرفت معارضة أصالة عدمه ، لأصالة عدم تخلل البيع بين الاذن والرجوع ،
فاستصحاب بقاء الإذن حينئذ الذي لازمه عدم الرجوع ، كاستصحاب بقاء المال الذي
لازمه عدم البيع كما هو واضح ، فكان الذي ينبغي توجيه الرد بذلك ، لا بأن الشك في
الشرط لا المانع ، فتأمل جيدا.
وثانيا : أنه لا
ريب في الحكم بحصول الشرائط بعد وقوع الفعل ، وإن كان
الأصل يقتضي عدمها
، كما لو شك في الطهارة أو الاستقبال أو التستر أو نحو ذلك بعد الصلاة ، خصوصا إذا
كان أصلها ثابتا كما لو تيقن الحدث بعد الفراغ من الصلاة ، ولكن لا يعلم سبقه
عليها أو بالعكس ، فقوله إن الشرائط لا بد من إحرازها بيقين أو باستصحاب ، إن أراد
به قبل التلبس بالفعل ، فهو مسلم ، ولكنه غير ما نحن فيه ، وإن أراد بعده ، فهو
واضح المنع ، ضرورة اقتضاء أصالة صحة فعل المسلم ما ذكرنا ، بل الظاهر اقتضاؤها
وإن كان الشرط من فعل الغير ، كما لو صلى في لباس غيره أو مكان كذلك ، ثم شك في
أنه هل كان مأذونا أولا؟ فإنه يحكم بصحة فعله ، ولا يكلف بالإعادة ، وكذا لو شك
بعد البيع هل كان مأذونا أولا؟.
نعم أصل صحة الفعل
لا يسقط بها حق غير الفاعل إذا أنكر ، فللمالك الأجرة في المثال ، ويحكم بعود
المال لو كان موجودا لو باعه ، لأن أصالة صحة فعله لا تقتضي سقوط حق غير الفاعل ،
أما في مثل الفرض الذي قد تحقق فيه أصل الإذن ، فقد يتجه دعوى جريان أصالة صحة
البيع التي يكفي فيها احتمال عدم الرجوع قبله ، ففي الحقيقة سقوط حقه بإذنه ، لا
بأصالة الصحة ، إلا أنه يعارض ذلك أصالة الصحة في رجوعه ، ضرورة كونه فعلا من
أفعال المسلم الذي ينبغي حملها على الصحة التي هي هنا الحكم بكونه قبل البيع ، حتى
يؤثر فسادا ، فصحيحة ذلك ، وفاسده الواقع بعد البيع ، لعدم تأثيره ، إذ ليس الفساد
والصحة إلا ترتب الأثر وعدمه ، ودعوى ـ تساقطهما والرجوع إلى الأمر بالوفاء
بالعقود الذي هو غير أصل الصحة ضرورة شموله لما لم يحكم بصحته وفساده ، بعد
الإغضاء عما فيها ـ يدفعه أنه شامل ، لعقد الرهن أيضا ، فيكون مخاطبا بالوفاء به.
نعم لو كان النزاع
في أصل الرجوع وعدمه اتجه الحكم بصحة البيع ، ونفى الرجوع بالأصل ، واستصحاب بقاء
الاذن ، ودعوى أن الفرض من ذلك ـ إذ قول الراهن رجعت بعد البيع كلام أجنبي ، لا
مدخلية له في الدعوى ، وإنما العمدة قوله لم ترجع قبل البيع ، فهو منكر والمرتهن
مدع ـ يدفعها أنها ليست بأولى من العكس ،
إذ قول المرتهن
بعت بعد الرجوع كلام أجنبي لا مدخلية له في الدعوى ، وإنما العمدة قوله لم تبع قبل
الرجوع : فهو منكر ، والراهن مدعي.
ولا يرد أن مقتضي
ذلك تحالفهما معا ، وفسخ البيع ، لان ذلك كذلك لو لم يكن لأحدهما أصل آخر يرجع
اليه ، أما إذا كان وهو استصحاب الرهانة ، فالمنكر هو ، لموافقته للأصل ، والمدعي
الراهن ، فيكون عليه البينة ، وعلى الأول اليمين.
وقد ظهر من ذلك
كله أنه لا وجه لما قيل أو يقال من أن المتجه العمل بالأصلين ، أى أصلي بقاء
الرهانة وصحة البيع ، فيحكم بكونه مبيعا وهو رهن ، إذ قد عرفت أنه لا أصل سالم
فيقتضي الصحة ، على أن العمل بالأصلين في الموضع الواحد غير متجه في المقام ،
ضرورة اقتضائهما حينئذ حكما فيه معلوما من الشرع خلافه ، وهو رهانة ملك الغير بغير
إذنه ، وبقاء الرهانة مع صحة البيع المنافية لها ، المقتضية سقوطها وبالجملة هو
واضح الفساد ـ
فبان أن كلام
الأصحاب في محله ، بل هو كذلك ، لو شك المرتهن في نفسه أن رجوعه كان قبل البيع أو
بعده ، بعد أن علمهما معا ، وكذا لو شك الراهن كذلك ، فإن الأصل بقاء الرهانة في
الجميع ، فتأمل جيدا هذا.
وفي التذكرة عن
بعض الشافعية « التفصيل بين ما لو قال الراهن أولا تصرفت بإذنك؟ ثم قال المرتهن :
كنت قد رجعت قبله ، فالقول قول الراهن بيمينه ، وبين ما لو قال المرتهن أولا :
رجعت عما أذنت ، فقال الراهن : كنت تصرفت قبل رجوعك ، فالقول قول المرتهن بيمينه ،
لأن الراهن حينما أخبر لم يكن قادرا على الإنشاء.
وفي جامع المقاصد
يقرب من ذلك ، ما لو تصادقا على صدور البيع ، ثم اختلفا في حال الرجوع أو تصادقا
على صدور الرجوع ، ثم اختلفا في حال البيع ، أخذنا بالإقرار السابق.
قلت : لعل مبنى
كلام بعض الشافعية ـ كما يومي إليه التعليل ـ على إنكار الراهن الرجوع قبل البيع
المتفق عليه بينهما ف الأول ، من غير اعتراف بالرجوع بعده ، وعلى إنكار المرتهن
البيع قبل الرجوع المتفق عليه بينهما في الثاني ، وهو
كذلك ، إلا أنه
غير مفروض الأصحاب فلا يكون تفصيلا فيه.
أما ما في جامع
المقاصد فيصعب الفرق بينه وبين مفروض الأصحاب ، والإقرار بعد أن كان الفعل من غير
المقر قد يمنع الأخذ به ، فتأمل جيدا.
نعم بقي شيء أشار
إليه الشهيد في الدروس والحواشي وتبعه عليه غيره ، وهو أن كلام الأصحاب يتم فيما
إذا أطلق الدعويان ولم يعينا وقتا للبيع أو الرجوع ، وأما إذا عينا وقتا واختلفا
في الآخر فلا يتم ، لأنهما إذا اتفقا على وقوع البيع يوم الجمعة مثلا ، واختلفا في
تقديم الرجوع عليه وعدمه ، فالأصل التأخر ، وعدم التقدم ، فيكون القول قول الراهن
، وينعكس الحكم لو اتفقا على عدم وقت الرجوع ، واختلفا في تقدم البيع عليه وعدمه ،
وهذه مسألة تأخر مجهول التاريخ عن معلومه ، وقد حققنا الكلام فيها في مقام آخر.
ولعل إطلاق
الأصحاب هنا وفي مسألة الجمعتين ومسألة من اشتبه موتهم في التقدم والتأخر ، ومسألة
تيقن الطهارة والحدث وغيرها شاهد على أن أصالة التأخر إنما تقتضي بالتأخر على
الإطلاق ، لا بالتأخر عن الأخر ومسبوقيته به ، إذ وصف السبق حادث ، والأصل عدمه ،
فيرجع ذلك إلى الأصول المثبتة : وهي منفية ، فأصالة الرهن هنا حينئذ بحالها ، إلا
أن الإنصاف عدم خلو ذلك عن البحث والنظر ، خصوصا في المقام فتأمل جيدا والله أعلم.
ولو كان التصرف
المأذون فيه الذي اختلف في الرجوع به قبل وقوعه أو بعده انتفاعا كسكنى وركوب ،
ونحوهما ، بناء على أن الواقع منهما بغير اذن يوجب أجرة تكون رهنا ، فقد يقال : ان
القول قول الراهن ، لتعارض الأصلين فيبقى أصل براءة الذمة سالما هنا عن المعارض ،
اللهم إلا أن يقال إن الأصل في منافع الرهن على الضمان ، فيكون واردا على أصل
البراءة قاطعا له. ولو تلفت العين ، فوقع النزاع بينهما أن إتلافها كان قبل الرجوع
أو بعده ، فقد يقال : أيضا بتقديم قول الراهن ، لأصالة البراءة أيضا من القيمة ،
إذ استصحاب الرهانة بعد انعدام الموضوع غير معقول ، لكن قد يقوى خلافه ، لان التلف
لا ينافي جريان الاستصحاب إلى حال التلف ، فيكون رهنا
تالفا فتأمل جيدا.
والله أعلم.
المسألة السابعة
الظاهر أنه ليس للمرتهن إلزام الراهن بالوفاء ، بعين الرهن ، وإن كان مجانسا للحق
، للأصل وغيره ، نعم له إلزام المرتهن بالقبول مع التجانس ، وليس له طلب البيع ،
ولو كان مخالفا للحق واتفقا على دفعه عنه أو بيعه بالموافق أو المخالف ، كان لهما
ذلك قطعا ، لأن الحق لهما ، وكذا في الرهن الموافق للحق.
وإذا اتفقا على
البيع ، واختلفا فيما يباع به الرهن فأراد أحدهما بيعه بالنقد الغالب ، وآخر بغيره
بيع بالنقد الغالب في البلد بإذن الحاكم ، من غير فرق في طالب الغالب بين كونه
الراهن أو المرتهن ، لأن لكل منهما حقا في العين ، وحينئذ فلا بد من استيذانه ليجبر
الممتنع أو يأذن بالبيع عليه ، نعم لو كان المرتهن مثلا وكيلا لازما وأراد بيعه
بالغالب لم يتوقف على إذن الحاكم ، ولم يلتفت إلى معارضة الراهن المخالفة للشرع ،
لانصراف الإطلاق إلى الغالب شرعا وعرفا.
وكذا لو طلب كل
واحد منهما نقدا غير النقد الغالب وتعاسرا ردهما الحاكم إلى الغالب ، لأنه الذي
يقتضيه الإطلاق بلا خلاف أجده في شيء من ذلك بيننا.
لكن قد يناقش أولا
: بأن المتجه إجابة المالك لو كان طالبا للبيع بمساوئ الحق ، وإن لم يكن الغالب ،
لأن المراد منه وفاء عين الحق ، وليس للمرتهن غرض بالبيع بالنقد الغالب أو غير
مساوي الحق ، حتى يصلح لأن يكون معارضا لذلك ، ولا إطلاق في الأدلة بحيث يعارض ذلك
، بل ربما ظهر من قوله 7 ـ في خبر خوف جحود الورثة المتقدم سابقا «
فليأخذ ماله مما في يده » ـ أن الرهن يباع بمساوئ الحق ، فيجاب إليه حينئذ من
أراده منهما ، وإن كان المرتهن.
وربما يؤيده أنه
المنساق من الاستيثاق ، بل يؤيده أنه لو لم يكن له ذلك ، لأدى
__________________
إلى الضرر على
المرتهن بالنقد ، ثم النقل ، لعدم دليل يقتضي إلزام الراهن شراء الحق بثمن الرهن
في المرتبة الأولى ، اللهم إلا أن يجعل ذلك هو الغاية ، فيقال للراهن التغليب ما
لم يستلزم الضرر على المرتهن بالتعطيل ، أو يقال ليس للراهن إلا البيع بالنقد
الغالب أولا ، ثم ليس له إلا شراء عين الحق بالثمن إذا لم يرض المرتهن فتأمل جيدا.
أو يقال أن مبنى
كلام الأصحاب على وجوب قبول المرتهن الثمن الغالب عوضا عن حقه وافقه أو خالفه ،
لأن مبنى الرهانة على ذلك ، إلا أنه كما ترى فيه هدم لقاعدة استحقاق المستحق عين
ماله من غير دليل ، إذ ليس في الأدلة إلا بيعه وهو أعم من ذلك إذ يمكن إرادة أنه
يباع ويشترى بثمنه عين الحق ، ودعوى ـ أن الرضا بالارتهان مقتض للرضا بأخذ الثمن ،
عوضا عن حقه وإن خالفه ـ واضحة المنع ، كدعوى أن ذلك حكم شرعي لا مدخلية فيه
لرضاهما ، فتأمل جيدا.
وثانيا : أنه لا
معنى لرد الحاكم لهما إلى الغالب بعد ان اتفقا على عدمه ، والحق منحصر فيهما ،
وقطع نزاعهما يكون بترجيح أحدهما على الآخر بمساواة الحق ونحوها ، فإن لم يكن
فالقرعة ، أو اختيار الحاكم.
هذا ولكن ليس في
كلام من تعرض للمسألة من الأصحاب شيء من ذلك ، قال في القواعد : في فروع وضع
الرهن على يد العدل : « ولو عينا ثمنا لم يجز له التعدي فإن اختلفا لم يلتفت إليهما
إذ للراهن ملكية الثمن ، وللمرتهن حق الوثيقة ، فيبيعه بأمر الحاكم بنقد البلد ،
وافق الحق أو قول أحدهما أولا ، وإن تعدد فبالأغلب فإن تساويا فبمساوي الحق ، فإن
باينهما عين له الحاكم »
وقال في التذكرة
في فروع العدل أيضا « لو اختلف المتراهنان فقال أحدهما : بع بدنانير ، وقال الآخر
: بع بدراهم ، لم يبع بواحد منهما ، لاختلافهما في الاذن ، ولكل منهما حق في بيعه
، فللمرتهن حق الوثيقة في الثمن ، واستيفاء حقه منه وللبائع ملك الثمن ، فإذا
اختلفا رفعا ذلك إلى الحاكم ، فيأذن له أن يبيعه بنقد البلد ، سواء
كان من جنس حق
المرتهن أو لم يكن ، وسواء وافق ذلك قول أحدهما أو خالفه ، لأن الحظ في البيع يكون
بنقد البلد ، ولو كان النقدان جميعا نقد البلد ، باعه بأعلاهما ، وان كانا
متساويين في ذلك باع بأوفرهما حظا ، فإن استويا في ذلك ، باع بما هو من جنس الحق
منهما ، فإن كان الحق من غير جنسهما باع بما هو أسهل صرفا إلى جنس الحق وأقرب إليه
، فإن استويا في ذلك ، عين له الحاكم أحدهما فباع به ، وصرف نقد البلد اليه ».
وقال في الدروس :
« ولو اختلفا فيما يباع به ، بيع بنقد البلد ، بثمن المثل حالا ، سواء كان موافقا
للدين أو اختيار أحدهما ، أم لا ، ولو كان فيه نقدان بيع بأغلبهما ، فإن تساويا
فبمناسب الحق فإن بايناه عين الحاكم إن امتنعا من التعيين ، ولو كان أحد
المتباينين أسهل صرفا إلى الحق تعين » الى غير ذلك من عباراتهم التي لا تعرض فيها
لشيء مما ذكرنا ، كما لا تعرض فيها لبيان البلد الذي يعتبر البيع ، بنقده الغالب
، هل هو بلد البيع ، أو بلد الرهانة ، أو بلد المرتهن ، أو بلد الراهن ، إذ لا
اشكال مع اتحاد الجميع ، أما مع الاختلاف ففيه إشكال ، وان كان ترجيح بلد البيع لا
يخلو من وجه ، ولعل إرجاع الأمر إلى الحاكم مع التنازع في هذا الحال فيقطعه بنظره
أولى.
وعلى كل حال ف لو
كان للبلد نقدان غالبان متساويان إذ لو كانا متفاوتين بيع بالأغلب ، بل قد يندرج
في السابق أما مع التساوي ففي المتن بيع بأشبههما بالحق والظاهر إرادة الموافقة من
المشابهة ، ويمكن إرادة الأعم من ذلك ، ترجيحا لجانب المرتهن الذي كانت الحكمة في
مشروعية الارتهان له استيفاء حقه من الرهن ، ولا ريب في أولوية استيفائه أولا على
غيره.
لكن قد سمعت ما في
التذكرة أنه مع التساوي يباع بأوفرهما حظا ، وكأنه رجح مصلحة المالك ، أما مع
المباينة فظاهر المتن وصريح القواعد البيع بما عين الحاكم ، إلا أنه قد تقدم ما في
الدروس أن البيع بالأسهل صرفا إلى الحق ، وفي
المحكي عن التحرير
بيع بأقربهما حظا ، وفي المسالك هو أقعد من الجميع ، فإنه ربما كان عسر الصرف إلى
الحق أصلح للمالك. قلت : والكلام في اعتبار مراعاة مصلحة المالك. فتأمل جيدا والله
أعلم.
المسألة الثامنة :
إذا ادعى المرتهن رهانة شيء مخصوص فأنكر الراهن ، وذكر أن الرهن غيره ، وليس هناك
بينة ، بطلت رهانة ما ينكره المرتهن بلا خلاف أجده فيه ، لكونه جائزا من قبله ،
فيكفي في فسخه إنكاره ، الظاهر في عدم الرضا بكونه رهنا الآن ، ولكنه لا يخلو من
تأمل ، خصوصا بعد ما تسمعه عن الإرشاد إن لم يكن إجماعا ، كما يظهر من تتبع
كلماتهم في نظائر المقام ، كإنكار الطلاق الرجعي وغيره مما صرحوا بكونه فسخا من
المنكر فلاحظ وتأمل.
وإذا بطلت رهانة
ما أنكره المرتهن حلف الراهن على نفى رهانة الآخر الذي ادعاه المرتهن ، لانه منكر
بلا إشكال ، كما لو قال : رهنت العبد فقال المرتهن : بل هو والجارية وحينئذ فإذا
حلف الراهن في الفرض خرجا معا عن الرهن في ظاهر الشرع ، لكن عن الإرشاد أنهما
يتحالفان ، ولعله لعدم البطلان بالإنكار الذي هو أعم من الفسخ ، وفيه مضافا إلى ما
عرفت من ظهور الاتفاق على كونه فسخا ، أن له طريقا إلى التخلص عن اليمين بالفسخ
على تقدير الرهانة ، لأنه جائز من قبله ، فتكليفه باليمين التي مرجعها إلى الفسخ
الذي يمكن وقوعه منه بدونها لا وجه له ، فلا ريب في أن الأقوى ما ذكره الأصحاب
الذين هو من جملتهم في القواعد ، والمحكي عن التذكرة.
نعم قد يتجه
التحالف لو كان ما اختلفا في رهنه شرطا في بيعه ، كما اختاره الشهيدان ، ومال إليه
ثاني المحققين ، لرجوعه حينئذ إلى الاختلاف في الثمن ، إذ الشرط من مكملاته ،
فيتحالفان حينئذ على كيفية الشرط ويتسلط البائع مثلا حينئذ على فسخ العقد ، لعدم
سلامة الشرط الذي اتفقا عليه في الجملة له ، لكن في القواعد أن الأقوى تقديم قول
الراهن أيضا ، وهو لا يخلو من وجه لأصالة اللزوم وعدم ثبوت عدم الوفاء بالشرط ،
بحيث يتسلط به على الفسخ ، إذ لعله
ما أنكر رهانته
فيكون هو المفوت لشرطه ، فلا يفسخ بمجرد الاحتمال فإذا لم يكن له الفسخ لم يتوجه
عليه اليمين ويختص اليمين بالراهن ، وهو قوي جدا ، ولا غرابة في بقاء العقد بلا
شرط ، وإن اتفقا معا عليه ، بعد الجريان على الضوابط ، كما أومى إليه فخر المحققين
في المحكي عنه ، فلاحظ وتأمل. والله أعلم.
المسألة التاسعة :
لو كان له دينان أحدهما برهن والآخر بلا رهن مثلا فدفع الراهن اليه مالا واختلفا
في أنه عن ذي الرهن ، أو عن فاقده فالقول قول الدافع بلا خلاف ولا إشكال لأنه أبصر
بنيته التي لا تعلم إلا من قبله ، بل ربما قيل : بأن القول قوله بلا يمين ، لذلك ،
لكن يمكن أن يكون قد علم المرتهن منه ذلك ، ولو بقرائن فيحتاج إلى اليمين حينئذ في
النفي ، خصوصا بعد مشروعيتها لنفي التهمة ، أما لو ادعى المرتهن عليه الإقرار ،
فلا إشكال في توجه اليمين ، والأمر في ذلك سهل.
إنما الكلام فيما
إذا اعترف الدافع بأنه لم ينو أحدهما حال الدفع ، فقد يحتمل التوزيع ، وبقاء
التخيير ، فله أن يصرفه الآن إلى ما شاء ، بل جزم في جامع المقاصد بالأول ، لصحة
القبض والدفع ، وليس أحدهما أولى من الأخر ، ولانه قد ملكه ملكا تاما. فإما عن
الدينين ، أو عن أحدهما بعينه ، أولا عن أحدهما ، أو عن أحدهما لا بعينه ، والكل
باطل إلا الأول ، لاستحالة الترجيح بلا مرجح ، وملك المقضي به مع عدم زوال المقضي
عن الذمة ، ولأنه إن لم يزل عن ذمته شيء منهما لزم المحال ، وإلا كان هو المقضي
عنه.
لكن فيه أن الفعل
المشترك لا ينصرف من دون تعيين ، فالتوزيع محتاج إلى مرجح أيضا ، وعدم اعتبار ذلك
في قضاء الدين إنما يسلم مع عدم اختلاف جهة الدين لعدم ما يترتب حينئذ على النية ،
أما مع الاختلاف ولو بتعدد الغريم فلا. لأصالة بقاء المال على ملك الدافع ، وبقاء
شغل الذمة ، وحينئذ فإن كان مبنى الاحتمال الثاني ذلك ، كان له وجه ، وإلا فهو
مشكل.
اللهم إلا أن يدعى
أنه وإن ملكه القابض ، لكن إذا تعقب بالتعيين بعد ذلك ينكشف الملك على هذا الوجه
من حين الدفع وبه حينئذ يرجح على التوزيع وغيره أو يقال إنه بالدفع يملك على
الغريم ما قابله مما في ذمته على وجه التخيير له في التعيين.
وقد يحتمل القرعة
أيضا ، كما احتملت فيما إذا كان له زوجتان أو زوجات ، فقال :زوجتي طالق ، ولم ينو
واحدة منهما ، فإن المحكي عن الشيخ والفاضلين والشهيد احتمالها ، واحتمال التعيين
بعد ذلك ، فيقع الطلاق حينئذ من حينه ، أو حين اللفظ ، قيل : وكذا لو أسلم على
أكثر من أربع ، أو دفع الزكاة وكان له مالان غائب وحاضر. أو سمى ولم ينو سورة معينة
، أو كان له خيار حيوان ، وشرط وأسقط من خياره يومين ، لكن فيه ـ بعد الفرق بين
بعض الأمثلة أو جميعها ، وبين المقام ـ أنه قد يلتزم القائل بالتوزيع مثله في
القابل منها ، لعدم الإشكال حينئذ معه ، وغير القابل يفزع إلى القرعة ، أو غيرها.
وعلى كل حال فمما
ذكرنا يعرف الحال في نظائر المسألة. كما لو تبايع كافران درهما بدرهمين ، ودفع
مشترى الدرهم درهما ، ثم أسلما فإنه إن قصد به الفضل ، بقي عليه الأصل وإن قصد
الأصل فلا شيء عليه ، وإن قصدهما ووزع وسقط ما بقي من الفضل وإن لم يقصد
فالتوزيع. أو التعيين الآن ، أو والبطلان كما ذكرنا ، وقد يحتمل هنا الاحتساب من
الأصل ، لأنه الدين حقيقة وغيره حكما ما داما على الشرط. فتأمل وكما لو كان لزيد
عليه ماءة ولعمر ومثلها ، ووكلا من يقبض لهما ، ودفع المديون لزيد أو لعمرو أو
لهما فذاك ، وإلا فالوجوه والبطلان هنا أقوى منه فيما تقدم ، ولو اقتص الغريم حيث
يجوز له ذلك ، احتمل كون المدار على نيته ، لكن ينبغي مراعاة المصلحة والتوزيع ،
ولو دفع الحاكم عن المماطل كان الاعتبار بنيته ، لأنه الولي.
نعم لو نوى
المماطل بعد القهر بما دفعه الحاكم أمكن اعتبار نيته ، كما لو قهره الحاكم على
الدفع فنوى ، وقد يحتمل اعتبار نية القابض ، ولو لم ينو أحد منهم
احتمل التوزيع ،
والتعيين ، والبطلان ، وفي القواعد « ولو أخذ من المماطل قهرا فالاعتبار بنيته ،
ويحتمل القابض » ولو فقدت فالوجهان أي التوزيع والتعيين بعد ذلك والله أعلم.
وان اختلفا في رد
الرهن فالقول قول الراهن مع يمينه إذا لم يكن له اى المرتهن بينة بلا خلاف أجده
فيه لانه منكر ، باعتبار موافقته لأصالة عدم الرد ، وكون المرتهن أمينا أعم من
تصديقه في ذلك ، والقياس على الودعي ـ مع أنه باطل عندنا ـ قد يفرق بينهما ،
بالقبض لمصلحة المالك ، فيكون محسنا لا سبيل عليه ، وعدمه ، وكذا المستعير
والمقارض والوكيل بجعل وغيرها والله أعلم.
كتاب المفلس
المفلس بالكسر لغة
هو الفقير الذي ذهب خيار ماله وبقي فلوسه ونحوه ما في القواعد من أنه من ذهب جيد
ماله ، وبقي رديه ، فصار ماله فلوسا وزيوفا ، ولعل العرف الآن على كون المفلس بالكسر
أعم من الذاهب خيار ماله ، بل هو شامل لمن لم يكن له مال من أول أمره إلا الفلوس.
نعم قد يقال إن المفلس بالفتح عرفا ذلك ، على أنه لا يخلو من بحث ، وعن المبسوط أن
المفلس لغة هو الفقير المعسر وهو مشتق من الفلوس ، وكان معناه نفى خيار ماله وجيده
، وبقي معه الفلوس ، وعن التحرير أنه مأخوذ من الفلوس التي هي آخر مال الرجل.
وعن التذكرة
الإفلاس مأخوذ من الفلوس ، وقولهم أفلس الرجل كقولهم أخبث أي صار أصحابه خبثاء ،
لأن ماله صار فلوسا وزيوفا ، ولم يبق له مال خطير ، وكقولهم أذل الرجل : أى صار
إلى حالة يذل فيها ، وكذا أفلس أي صار إلى حالة يقال فيها ليس معه فلس ، أو يقال
لم يبق معه إلا الفلوس ، أو كقولهم أسهل الرجل وأحزن ، إذا وصل إلى السهل والحزن ،
لأنه انتهى أمره إلى الفلوس.
والأصل أن المفلس في عرف اللغة هو الذي
لا مال له ، ولا ما يدفع به حاجته ، ولهذا لما قال النبي 6
« أتدرون ما المفلس؟ قالوا : يا رسول الله المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ،
قال : ليس ذلك المفلس ، ولكن المفلس من يأتي يوم القيامة حسناته أمثال الجبال ،
ويأتي وقد ظلم هذا ، وأخذ من عرض هذا ، فيأخذ هذا من
__________________
حسناته وهذا من
حسناته ، فإن بقي عليه شيء أخذ من سيئاتهم ، فيرد عليه ، ثم صار إلى النار ».
وعن القاموس :
أفلس إذا لم يبق معه مال ، فكأنما صارت دراهمه فلوسا ، أو صار بحيث يقال : ليس معه
فلس ، وفلسه القاضي تفليسا ، حكم بإفلاسه ، قلت : لا ريب في أن أفلس بالمعنى الذي
ذكروه ، فيكون لازما ، واسم الفاعل منها مفلس بالكسر ، ولا يكون منها اسم مفعول.
نعم فلس بالتشديد اسم مفعولها مفلس ، والظاهر أن ما ذكره في القاموس أخيرا من جملة
خبطه في المعاني ، إذ الظاهر أنه أراد بذلك المعنى الشرعي ، وعلى كل حال ففي العرف
ـ الكاشف عن اللغة للأصل ـ أن المفلس بالكسر الفقير الذي لا مال له يعتد به عنده ،
والمفلس الذي ذهب جيد ماله وبقي معه الفلوس وربما أطلق على الأول عرفا.
أما المفلس بالفتح
شرعا ، ولو على جهة المجاز أو الحقيقة المتشرعة أو الشرعية بناء على ثبوتها في
مثله ، ففي المتن هو الذي جعل مفلسا ، أي منع من التصرف في أمواله وفي القواعد من
عليه ديون ، ولا مال له يفي بها ، وهو شامل لمن قصر ماله ومن لا مال له ، بناء على
عدم استدعاء السالبة وجود الموضوع ، وفي المسالك نسبة هذا التعريف إلى أكثر
الفقهاء منا ومن العامة ، عليه يكون المفلس ذلك ، وإن لم يحجر عليه.
ويشهد له قولهم ،
لو مات المفلس قبل الحجر عليه لم تترتب الاحكام ، وشرط الحجر على المفلس التماس
الغرماء ، وغير ذلك مما قيل إنه صار بسببها حقيقة ، لكثرة الاستعمال ، بحيث يبعد
حمله على ارادة المجاز ، وحينئذ يكون الفلس سابقا على الحجر ومغاير إله ، وهو أحد
أسبابه كما ذكروه ، لا عينه ولا جزء مفهومه.
نعم قد يطلق
التفليس على حجر الحاكم على المفلس ، كما يقال : فلسه القاضي لكنه من باب إطلاق
اسم السبب على المسبب ، وحينئذ فلا مانع من اجتماع الفلس والصغر ، كما إذا استدان
الولي للصبي إلى هذه المرتبة ، وكذا السفيه ، ولا يمنع من ذلك عدم حجر الحاكم على
الصبي المفلس ، لأنه ليس بشرط في تحقق مفهومه شرعا ،
وعليه فبين المعنى
اللغوي والشرعي عموم من وجه ، يجتمعان فيمن عليه الديون ولا مال له ، وينفرد
اللغوي بمن ذهب ماله ، وليس عليه دين ، الشرعي بمن له مال كثير ولكن عليه دين يزيد
على ماله ، وبه جزم في المسالك ، قال : « وعلى ما يظهر من تعريف المصنف يكونان
متباينين ».
قلت : فيه أولا :
أنه على تعريف المصنف بينهما العموم من وجه ، ضرورة ملاحظته بالنسبة إلى المصداق ،
فالمحجور عليه تارة يكون عليه الديون ، ولا مال له ، أوله مال فلوس فيجتمعان فيه ،
وينفردان بما ذكره هو أيضا ، وثانيا أن الحق كون المفلس شرعا من حجر عليه لقصور
ماله عن ديونه ، أو لعدم ما في يده ، فيكون التحجير عليه بالنسبة إلى المتجدد ،
كما صرح به الفاضل وإن كان لنا فيه بحث ، تسمعه إنشاء الله تعالى ، فقبل الحجر لا
يسمى المديون مفلسا شرعا ، وان استغرقت ديونه أمواله ، وزادت عليها ، كما يشهد
لذلك التأمل لكلماتهم ، والمناسبة لمعنى اسم المفعول في المفلس ، إذ منع الحاكم له
من التصرف يكون كأخذ فلوسه منه ، وبه صرح المحقق الثاني ، والأمر سهل والله أعلم.
وكيف كان ف لا
يتحقق الحجر عليه إلا بشروط أربعة وفي القواعد والتذكرة خمسة ، بزيادة المديونية
التي ترجع إلى الأول وهو أن تكون ديونه ثابتة عند الحاكم الذي أراد التحجير عليه ،
أو غيره ضرورة أصالة بقاء سلطنته مع عدم الثبوت ، بل هو ليس مفلسا شرعا كما عرفت.
الثاني : أن تكون
أمواله من عروض ومنافع وديون غير المستثنيات في الدين قاصرة عن ديونه فإن لم تكن
قاصرة فلا حجر عليه إجماعا محكيا في جامع المقاصد والمسالك وظاهر التذكرة ، بل
طالبه أرباب الدين ، فإن قضى وإلا رفعوا أمرهم إلى الحاكم ، فيحبسه إلى أن يقضي ،
أو يبيع عليه ويقضى عنه ، لأنه ولي الممتنع ، ولا يمنع في هذا الحال عن التصرف في
أمواله ، فلو تصرف فيها بحيث أخرجها عن ملكه ، قبل وفاء الحاكم بها نفذ تصرفه ،
وانتقل حكمه إلى من لم يكن عنده مال لديونه ، للإجمال في التذكرة على اشتراط منع
التصرف بالحجر ، كما هو مقتضى الأصل.
ويحتسب من جملة
أمواله معوضات الديون لأنها من أملاكه سيما فيما لا يكون لأهلها الرجوع فيها ، كما
أنه يحتسب أعواضها من ديونه ، بلا خلاف أجده بيننا.
نعم عن بعض العامة
أنها لا تقوم عليه ، لأن لأربابها الرجوع فيها ، فلا تحتسب من ماله ولا عوضها عليه
من دينه ، وفيه ـ مضافا الى ما عرفت من أنه قد لا يكون لأربابها الرجوع ، وثبوته
بالفلس إنما يكون بعد التحجير لا قبله ، على الأصح ، كما ستعرف ـ أنه لا يمنع ذلك
من احتسابها من أمواله ، بعد أن كانت من أملاكه ، فمع عدم القصور بها تبقى حينئذ
سلطنته على ماله ، بل الظاهر بقاؤها إذا كانت له أموال مؤجلة بها يرتفع القصور ،
أو أموال غايبة ، بل لو كانت على معسرين أمكن القول ببقاء السلطنة للأصل ، لكنه لا
يخلو من اشكال ، ونحوهم من لا يتمكن من الاستيفاء منهم ، ولو ظلما وكذا الأموال
المغصوبة.
الثالث : أن تكون
حالة لعدم الاستحقاق مع التأجيل. فلا يحجر عليه ، وإن لم يف ماله بها لو حلت ،
للأصل ، ولو كان بعضها حالا حجر عليه مع القصور ، وسؤال أربابها ، فيقسم ماله
حينئذ بينهم ، ولا يذخر للمؤجلة شيء حتى أعواضها ولا يدام الحجر عليه لها ، كما
لا يحجر بها ابتداء ، ودعوى حلولها بالتحجير ـ كما عن الشافعي واحمد ومالك ـ واضحة
الفساد ، لعدم الدليل القاطع ، للأصل حتى القياس على الميت ، لظهور الفرق بينهما
ببقاء الذمة ، وقابلية الإكتساب وغيرهما ، كما هو واضح.
الرابع : أن يلتمس
الغرماء أو بعضهم الحجر عليه إذ الحق لهم ، فلا يحجر عليه مع عدم التماس أحدهم ،
للأصل ، إلا أن يكون الدين لمن هو وليه ، من يتيم أو مجنون أو نحوهما ، دون الغائب
الذي لا ولاية له عليه بالنسبة إلى استيفاء دينه ، بل يعتبر في التحجير عليه
بالتماس البعض أن يكون دينه مقدارا يجوز الحجر به عليه للأصل وان عم الحجر حينئذ
له ولغيره ، من ذي الدين الحال الذي يستحق المطالبة به ، وبذلك افترق عن المؤجل ،
مع أنه لم يثبت التحجير لبعض الدين الحال ، خلافا للتذكرة ، فاستقرب جواز الحجر
بالتماس البعض ، وإن لم يكن دين الملتمس زائدا عن ماله ، ولا دليل عليه يقطع الأصل
، والضرر عليه يرتفع عنه بإجبار الحاكم له على الوفاء.
وعلى كل حال فقد
بان لك انه لو ظهرت أمارات الفلس عليه مثل أن يكون نفقته من رأس ماله ، أو يكون ما
في يده بإزاء دينه ، ولا وجه لنفقته إلا ما في يده لم يتبرع الحاكم بالحجر عليه
للأصل ، فهو حينئذ كمن لم يظهر عليه أماراته ، مثل أن يكون كسوبا ينفق من كسبه ،
خلافا للشافعي فجوز الحجر على من ظهرت عليه أمارات الفلس ، ولا ريب في ضعفه ، كضعف
ما يحكى عنه أيضا من جواز الحجر على من ساوت أمواله ديونه.
وكذا لا يحجر عليه
الحاكم لو سأل هو الحجر على نفسه ، من دون التماس الغرماء ، للأصل السالم عن
المعارض ، لكن استقرب في التذكرة جواز إجابته ، لأن فيه مصلحة له ، ببراءة ذمته ،
فكما يجاب الغرماء في ملتمسهم حفظا لحقوقهم ، يجاب هو أيضا ليسلم من حق الغرماء ،
ومن الإثم بترك وفاء الدين ، ولما روى عن النبي 6 « أنه حجر على معاذ بالتماسه خاصة » وفيه ان الخبر لم يثبت
من طرقنا فليس حجة ، سيما مع كون المشهور كما في المسالك على خلافه. والأول اعتبار
لا يصلح مدركا لحكم شرعي.
وما أبعد ما بينه
، وبين المحدث البحراني الذي توقف في أصل الحجر بالفلس ولو مع الشرائط محتجا بأنه
ليس في النصوص ما يدل عليه.
وفيه مع عدم
انحصار الحجية فيها ، بل الإجماع بقسميه هنا كاف في ذلك ، على أن الموجود منها هنا
غير خال من الاشعار ، بل الظهور ، سيما النبوي المتقدم آنفا ، ف في موثق عمار عن الصادق 7 « كان أمير
المؤمنين 7 يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه ، ثم يأمر فيقسم ماله بينهم بالحصص ، فإن
أبا باعه فيقسمه بينهم » ، فإن الأمر بقسمة ماله ظاهر في رفع اختياره في التخصيص
لو أراده ، بل هو ظاهر في رفع اختياره لو أراد التصرف فيه على وجه يخرجه عن ملكه ،
حتى لا يستحق الديانة منه ، بل لعل المراد من قوله يحبس ، المنع من التصرف.
__________________
كما يرشد إليه خبر
غياث عن جعفر عن أبيه 8 « أن عليا 7 كان يفلس الرجل إذا التوى على غرمائه ، ثم يأمر به فيقسم
ماله » الحديث. ضرورة عدم معقولية إرادة غير ذلك من التفليس ، خصوصا بعد قوله 7 ثم إلى أخره ومنه
حينئذ يظهر دلالة خبر الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين 7 « أنه قضى أن الحجر على الغلام حتى يعقل ، وقضى في الدين
أنه يحبس صاحبه ، فإن تبين إفلاسه والحاجة ، فيخلى سبيله حتى يستفيد مالا ، وقضى 7 في الرجل يلتوي
على غرمائه أنه يحبس ثم يأمر به ، فيقسم ماله بين غرمائه بالحصص ، فإن أبا باعه
فيقسم بينهم ».
بل وخبر السكوني عن جعفر عن أبيه
عن على : « أنه كان يحبس في الدين ثم ينظر فإن كان له مال اعطى الغرماء وإن لم يكن له
مال دفعه إلى الغرماء ، ويقول لهم : اصنعوا به ما شئتم ، إن شئتم فأجروه ، وإن
شئتم فاستعملوه ».
وكيف كان فلا
ينبغي الشك في أصل جواز الحجر بالفلس ، على معنى منع التصرف ، ولعل ذلك من مقتضى
نصبه حاكما أيضا ، وحينئذ ف إذا حجر عليه استحب له إظهار ذلك ، بحيث لا يتضرر
معاملوه ، كما في القواعد والتذكرة ، ومحكي المبسوط والتحرير ، لان مثل هذه
النصيحة مرادة من الحاكم ، وتعلق به منع التصرف ، لتعلق حق الغرماء ، واختصاص كل
غريم بعين ماله ، وقسمة أمواله بين غرمائه فينحصر القول فيه حينئذ في هذه الثلثة.
الأول في منع
التصرف ، ولا خلاف بين الأصحاب في أنه يمنع من التصرف ابتداء في المال الموجود حال
الحجر ، سواء كان بعوض أو غيره ، بل ولو محاباة احتياطا لحفظ المال للغرماء ولا
يتم إلا بذلك ، ضرورة أنه متى كان له تسلط على المال بوجه ، خيف عليه منه ، فلا
ريب في أن الاحتياط ـ لحق الغرماء الذي شرع التحجير عليه له ـ في عموم منع التصرف
فيه ، وعن ظاهر الخلاف وكذا
__________________
الغنية الإجماع
على منعه من التصرف بماله ، بما يبطل ( الغرماء ).
نعم لا يمنع مما
لم يكن تصرفا فيه ، كالنكاح والطلاق والقصاص والعفو عنه ، والإقرار بالنسب ، ونحو
ذلك ، مما هو ليس تصرفا في المال ، وان استلزم بعضها ذلك ، كالمؤنة في الإقرار
بالنسب ، ونحوه.
كما لا يمنع من
التصرف المحصل للمال كالاحتطاب والاصطياد ، وأولى منهما قبول الوصية والاتهاب ،
والشراء بثمن في الذمة والقرض ونحوها ، مما هو مصلحة للغرماء ، بناء على تعلق حقهم
بها أيضا ، فتدخل حينئذ في الحجر ، كما صرح به الفاضل والكركي ، وثاني الشهيدين.
لكن قد يشكل
بأصالة عدم تعلق الحجر بها ، إذ الثابت من تعلقه بالأموال القاصرة حال الحجر لا
غيرها ، خصوصا مع الضرر على أصحابها في بعض أفرادها ، كما إذا اشترى في الذمة أو
باع سلما ، بناء على عدم جواز الفسخ للبائع ، وإن كان جاهلا كما صرح به الفاضل
وغيره ، للأصل وتعلق حق الغرماء بها ، وأنه لا يشاركهم فيما له من الدين لتجدده ،
وستسمع تحقيق الحال فيه إنشاء الله تعالى.
ولعله لذلك أو
لغيره استشكل في تعلق الحجر بها في الإرشاد ، ولم يرجح الشهيد في المحكي عن حواشيه
، وغاية المراد ، بل عن فخر المحققين أن عدم التعلق أولى ، والظاهر أن محل النزاع
في أصل مشروعية التحجير فيها وعدمه ، لا في دخولها في إطلاق التحجير وعدمه ،
المبني على المفروغية ، من جواز التنصيص له على الدخول أو الخروج ، كالمفروغية من
جواز تجديد الحجر عليها ، لاتحاد المدرك فيها وفي سابقها إلا ان ما عدا الأخير
يمكن منعه للأصل السالم عن معارضة ما يصلح للخروج به عنه بعد القول بعدم حجية كل
ظن حصل للمجتهد ، خصوصا ما كان من أمثال هذه الاعتبارات التي يصعب الفرق بينها ،
وبين القياس والاستحسان ، وحينئذ فلا يتجه
__________________
جعل النزاع فيه ،
على أن المتجه على تقديره سؤال الحاكم إذا لم يعلم لفظ تحجيره ، ولو تعذر اقتصر
على المتيقن.
وعلى كل حال لا
يمنع من أمثال هذه التصرفات ، بل صرح الفاضل والكركي بعدم منعه من نحو الوصية
والتدبير الذي لا ضرر فيه على الغرماء ، لكونه بعد الموت الموجب لسبق استيفاء
الدين أولا ، وفيه أنه لا يتم بناء على بطلان تصرفه ، وسلب عبارته فيما يتعلق
بالمال الموجود ، كما هو ظاهر قول المصنف فلو تصرف كان باطلا ، سواء كان بعوض
كالبيع والإجارة ، أو بغير عوض كالعتق والهبة بل هو المحكي عن أبي على ، والمبسوط
، والتحرير ، والإيضاح ، فيكون حينئذ معنى تحجير الحاكم هنا سلب الأهلية ، بل قيل
هو أمر زائد على منافاة حق الغرماء ، وحينئذ لا فرق فيه بين الوصية وغيرها ، ولعله
لذا جزم الفاضل في المحكي عن قواعده في باب التدبير بعدم الصحة.
اللهم إلا أن يفرق
بين الوصية وغيرها بأنها تصرف في المال بعد الدين ، بخلاف غيرها ، فإنه تصرف في
المال فعلا ، وإن كان لا ينفذ على تقدير الصحة إلا بعد الوفاء ، مضافا إلى أنه
يقوى عدم كون التحجير سلب الأهلية ، لعدم الدليل ، بل قولهم بنفوذ تصرف السفيه مع
اجازة الولي ينافيه ، وأنه لا يقصر بالحجر من التصرف في مال الغير الذي بنفذ
بالإجازة ، إذ ليس التحجير إلا لمنافاة التصرف لحق الغرماء ، وهو حاصل بعدم النفوذ
، غير متوقف على سلب الأهلية ، ولعله لذا نفى الباس عن عدم البطلان في التذكرة ،
وقواه في جامع المقاصد ، وفي المسالك « لعله أقوى ».
وهو كذلك بناء على
أن الفضولي على القاعدة ، بل وان لم نقل بذلك ، للفحوى حينئذ ، ودعوى ـ ان المتجه
مع الشك في كون التحجير سلب الأهلية أو النفوذ عدم انتقال المال بمثل هذا العقد ،
وإن تعقبه إجازة أو تبين زيادة مال ، للأصل ـ يدفعها منع الشك ، ولو لعموم «
الوفاء بالعقود » اللهم إلا أن يمنع شمولها للمشكوك
__________________
في أهلية النقل ،
كالمشكوك في أنه يعقد عليه أولا ، لكن فيهما معا بحث.
وعلى كل حال
فالأقوى صحة عقده ، بل ظاهر جماعة من الأصحاب ، بل هو كصريح التذكرة عدم بطلانه
برد الغرماء ، وأنه يبقى موقوفا على أن يقسم المال ، لا يباع ولا يسلم إلى الغرماء
، فان فضل لارتفاع قيمة غيره ، أو لإبراء بعض الديانة أو غير ذلك ، نفذ فيه التصرف
، وإلا بطل ، لسبق التعلق به فيه ، وليس لذوي الدين ابطال التصرف ، وفسخ العقد قبل
ذلك ، وهو جيد ، وقد أومأنا إليه في تصرف الراهن ولو كان ما تصرف فيه متعددا ففي
القواعد « انه مع القصور يبطل الأضعف ، كالرهن والهبة ثم البيع والكتابة ، ثم
العتق » وعن الشافعية احتمال نقض الأخير كما في تبرعات المريض إذا زادت عن الثلث ،
لأن المزاحمة إنما وقعت بين ديون الغرماء والأخير ، فيكون السابق ماضيا ، لعدم ما
ينافيه ، واستحسنه في التذكرة.
وفيه أن الحجر على
المريض إنما هو فيما زاد على الثلث ، فالأخير هو الزائد ، فيكون باطلا دون ما سواه
، بخلاف المفلس ، فإنه محجور عليه في الجميع ، فلا يظهر فرق بين الأخير وغيره لان
الجميع كالفضولي ، فينبغي أن يقال حينئذ : جميع التصرفات موقوفة ولا بد من إبطال
بعضها ، ولا أولوية لبعض على غيره ، بشيء من الاعتبارين ، لأن المتقدم والمتأخر
سواء في كونهما موقوفين ، والضعيف والقوي سواء في كونهما غير نافذين ، ولا فرق بين
العتق وغيره في ذلك ، فيقرع حينئذ ، أو يخيرون ، كما لو وقع التصرفات دفعة واحدة ،
وقد يحتمل البطلان في الجميع ، وفيه ضعف.
لكن في جامع
المقاصد « التحقيق أنا لو قلنا : أن الإجازة كاشفة لا ناقلة كانت جميع التصرفات
مراعاة بوفاء الدين ، فيظهر للتقدم أثر حينئذ ، وحيث أنا رجحنا هذا القول فيما سبق
كان ذلك أقوى » وفيه نظر يعرف من ملاحظة ما سلف لنا في تصرف الراهن. فلاحظ وتأمل ،
ولو كان التصرف بيعا ونحوه على الغريم صح ، ضرورة ظهوره في إرادة الشراء الصحيح
المستلزم للرضا بالتصرف ، فلو باعه حينئذ منه بالدين وليس سواه صح لما ذكرنا ، لا
لما في القواعد « من أن سقوط الدين يسقط الحجر » إذ هو مستلزم للدور ، أو اقتران
صحة البيع ، وارتفاع الحجر المنافي لتقدم الشرط
الذي هو رفع الحجر
على المشروط ، وهو صحة البيع.
ولو ظهر غريم بعد
ذلك فقد يحتمل بطلان البيع من رأس ، لعدم تصور مشاركته في الثمن الذي هو الدين
والبطلان في مقدار ما يقابل دينه من العين ، والرجوع على المشتري بمقدار ما
يقابلها ولعل الأقوى الأول ، بناء على عدم تصور التبعيض في حق الحجر ، فمتى بطل
بالنسبة إلى أحدهما بطل بالنسبة إلى الجميع ، لأن حق كل منهم يتعلق بتمام العين ،
حتى لو أبرأ أحدهم ذمة المفلس بقي حق الأخر متعلقا بالجميع ، ولا يفك من العين
مقدار الدين ، ولا فرق في الحكم المزبور بين كون البائع الحاكم أو المفلس ، أما لو
باعه من الغريم بثمن غير الدين ثم ظهر غريم صح وشاركه في الثمن بالنسبة ، إذا كان
البيع من الحاكم بثمن ، إذ الظاهر عدم توقف صحة البيع على حضور كل غريم في الواقع
، ولو كان البائع المفلس بتخيل انحصار الغريم في المشتري ثم بان وجود غيره ، فقد
يظهر من بعضهم نفوذ البيع ، للعمومات ، لكن قد يشكل بتعلق حقه واقعا في العين ،
فبعد ظهوره لا بد من مراعاته كغيره من الغرماء الظاهرين ، فتأمل جيدا.
ولو اشتري المفلس
مالا في الذمة وقد اشترط عليه التصرف فيه بعتق أو هبة أو نحوهما فالمتجه البطلان ،
بناء على سلب عبارته في كل مال موجود حال الحجر أو متجدد ، لأنه حينئذ يكون شرطا
غير مقدور ، فيفسد ويفسد العقد به ، بناء على أن فساد الشرط مقتض لذلك ، وإن قلنا
بعدم سلب عبارته ، فيصح العقد قطعا مع علم المشتري بحاله ، ويوقع التصرف المشروط ،
فإن نفذ لاتفاق زيادة المال فلا إشكال ، وإلا أمكن اختصاص الغرماء به ، وعدم تسلط
البائع على الخيار ، سيما إذ كان عالما بالحال لتعلق حق الغير ، وعدم تقصير
المشتري في استطاعته من التصرف.
ويحتمل تسلطه لعدم
انتقال المال إلى المفلس إلا على هذا الوجه ، فهو كالخيار المشروط فيما لو اشترى
بالذمة والأقوى صحة أصل العقد ونفوذ التصرف لأصالة عدم منعه عن مثل هذا التصرف
المستحق عليه بالشرط بعد ان انتقل المال اليه على هذا
الوجه كما هو واضح
، هذا كله في إنشاء التصرف.
أما لو أقر بدين
سابق صح في الجملة بلا خلاف أجده فيه ، بل قيل إنه كذلك قولا واحدا. نعم عن شرح
الإرشاد أنه حكي عن بعض الأصحاب عدم صحة إقراره مطلقا ، ولم نعرفه مع وضوح فساده ،
لمنافاته لما دل على جواز إقرار العقلاء على أنفسهم واحتمال سلب الأهلية إنما هو
في خصوص إنشاء التصرفات بالأعيان ، أما الإخبار بالدين فلا وجه له معتد به فيه ،
كما هو ظاهر.
بل في المتن ومحكي
المبسوط والخلاف والتذكرة والتحرير أنه صح وشارك المقر له الغرماء بل عن غاية
المراد حكايته عن أبي منصور الطبرسي ، بل هو قربه في المحكي عن حواشيه ، لكن بشرط
أن يكون عدلا ، لعموم جواز الإقرار المقتضي كونه كالبينة شرعا في الإثبات ،
واحتمال التهمة يدفعه أن الإقرار في حقه أكثر منه ضررا في حق الغرماء ، وفيه أن
العموم إنما يدل على لزومه ، ونحن نقول به ، وعدم مشاركته باعتبار معارضته لحق
الغير الذي لا ينفذ هو فيه ، إذ حق الغرماء قد تعلق بالأعيان بل قيل إنه أقوى
تعلقا من حق الرهانة ، وبذلك يظهر لك الفرق بينه وبين البينة التي لم يفرق الشارع
في نفوذ مقتضاها بين الجميع ، وعدم النفوذ في حق الغير للأصل ، لا للتهمة ، ولذا
كفى في عدم النفوذ عدم العلم بصدق الإقرار ، وإن لم يتهم المقر ، ومن هنا اختار
الفاضل ، والشهيدان ، والكركي ، وغيرهم على ما حكى عنهم عدم النفوذ ، وهو قوي جدا.
لكن قد يشك في
كيفية تعلق حق الغرماء بالعين على وجه يمنع الإقرار ، والأصل يقتضي عدمه ، وسلب
الأهلية في إنشاء التصرف أو عدم النفوذ لا يقتضي ذلك ، إذ هو من الحاكم في تحجيره
لا من تعلق حق الغرماء بالعين. وعلى تقديره لا يقتضي مثله في الإقرار ، فتأمل جيدا
، فإنه قد يدفع ذلك كله صدق كون الإقرار في حق الغير ، فيكون ممنوعا.
ولو أسند الدين في
إقراره إلى ما بعد الحجر بمعاملة ونحوها مما يحصل برضا الطرفين ، لم يشارك قطعا ،
لعدم زيادة الإقرار بذلك على نفس المعاملة التي قد عرفت
عدم المشاركة بها
للغرماء لو وقعت بعد الحجر ، نعم لو أسند إقراره بالدين إلى ما بعد الحجر على وجه
يشارك لو كان المقر به معلوما ثبوته ، كإتلاف مال أو جناية ، جرى فيه البحث السابق
، لاتحاد المدرك ، لكن في الروضة اختيار عدم المشاركة في الأول دون الثاني ، وهو
غريب ، وأغرب منه تعليله ذلك بما تسمعه من دليل المشاركة في الجناية ، والبحث هنا
من حيث الإقرار لا من حيث نفس الجناية ، ومن هنا أمكن كون مراده الفرق بين الجناية
والمعاملة الاختيارية ، فلا يكون مخالفا فلاحظ وتأمل ولو أقر بدين وأطلق ، فأصالة
تأخر الحادث تقتضي تأخره عن الحجر المعلوم تاريخه ، فلا يشارك ، وإن قلنا بها في
غيره.
وكذا البحث فيما
لو أقر بعين لمن صدقه في ذلك. نعم لو قلنا بنفوذ الإقرار فيها دفعت إلى المقر له
لعدم كونها حينئذ من أموال المفلس ، ولكن فيه اي في نفوذ الإقرار فيها عند المصنف
تردد وإن جزم بالشركة في الإقرار بالدين ، بل حكي عن بعضهم الجزم بالفرق بينهما في
ذلك ، ولعله لتعلق حق الغرماء بأعيان ماله ، فيكون الإقرار بها إقرارا منافيا لحق
الغير ، كالرهن ونحوه ، ويشكل بأنه لا فرق بين أخذ بعض الأعيان بموجب التقسيط
مساواة لهم ، وبين أخذه ذلك البعض تقديما له عليهم ، مع تعلق حقهم بالعين ، ومن
هنا كان الأقوى عند الشهيدين ، والكركي ، والفاضل في الإرشاد ، عدم الفرق بينهما ،
في عدم النفوذ ، بحيث ينافي حق الغرماء كما أن خيرة المحكي عن المبسوط ، والتحرير
عدمه ، في النفوذ فيهما فيشارك في الأول ، وتدفع العين للمقر له في الثاني ، لكن
قد يدفع بعدم صدق التصرف في المال في الأول ، وان رجع إليه بالأخرة كرجوع نفقة من
أقر بنسبه بخلاف الثاني ، فإنه كالتصرف في المال نفسه ، فهو معارض لحق الغير ، بل
مندرج في الحجر عليه في المال.
وفيه أنه لا فرق
في عدم نفوذ الإقرار في حق الغير ، بين العين والدين الذي هو أيضا كالتصرف في
المال أيضا ، ولذا لم يمض إقرار بعض الورثة بالدين على الآخر كالعين ، بل قد يقال
بأولوية نفوذه في العين من الدين ، باعتبار عدم ثبوت كونها من
مال المفلس بعد
الإقرار ، حتى يتعلق بها الحجر ، لكونه أقوى من اليد ، ومن هنا حكي عن بعضهم القول
بذلك ، فيرجع حاصل الأقوال في المسألة إلى أربعة أقواها عدم النفوذ ، وربما قيل
إنها خمسة ، بزيادة القول بأن العين تؤخر ويقسم غيرها بين الغرماء ، فان فضلت
أعطيت للمقر له ، وإلا دفعت إلى الغرماء ، ولعله ليس قولا في المسألة ، بل يقول به
الجميع جمعا بين الحقين.
وعلى كل حال فقد
صرح بعضهم بضمان المفلس القيمة أو المثل ، بناء على دفعها للغرماء ، من غير فرق
بين تقصيره في الإقرار بها قبل الحجر وعدمه ، ولعله لأنها قد أخذت في دينه ، وفيه
اشكال مع عدم التقصير ، وأخذها في دينه مع عدم براءة ذمته بذلك إلا مع اجازة
المالك ، لا يقتضي ضمانها بعد أن كان الآخذ غيره ، فالقضاء بها حينئذ كالقضاء
بالمتبرع به ، اللهم إلا ان يقال إن الأصل ضمان كل ما وصل نفعه إليك من المال
المحترم ، إلا أن يتبرع به المالك ، مضافا الى عموم « على اليد » فتأمل جيدا.
أما لو كذبه المقر
له بها ففي القواعد ومحكي التذكرة أنها تقسم ولعله لعدم صحة الإقرار مع الرد
بخلافه مع التصديق ، وفيه أنه بناء على نفوذ إقراره يتجه دفعها إلى المقر له مع
التصديق ، وإلا خرجت عن ملك المقر فلا يتعلق بها حجر ، فإذا كانت في يده توصل إلى
وصولها لصاحبها ، وإن كانت في يد غيره ، صارت مجهول المالك وعلى كل حال لم يكن
للغرماء تعلق بها والله أعلم.
ولو قال : هذا
المال مضاربة لغائب قيل : يقبل قوله مع يمينه ، ويقر في يده ، وان قال : لحاضر
وصدقه دفع إليه ، وإن كذبه قسم بين الغرماء وهو المحكي عن المبسوط ، قال : إذا أقر
بالمال ، إلا أنه قال : هو مضاربة لفلان ، فإن المقر له لا يخلو من أحد أمرين. إما
أن يكون غائبا أو حاضرا ، فإن كان غائبا كان القول قول المفلس مع يمينه أنه للغائب
، فإذا حلف أقر المال في يده للغائب ، ولا حق للغرماء فيه ، وإن كان حاضرا نظر فيه
، فإن صدقه ثبت له ، لأنه إقرار من جائز التصرف ، وصدقه المقر له ، فوجب أن يكون
لازما ، وإن كذبه بطل إقراره ، ووجب
قسمته بين
الغرماء.
وفيه انه لا فرق
بين ذلك وبين الإقرار بالعين التي لم يحك عنه فيها مثل ذلك ، مضافا إلى ما قيل :
من أنه لم يشرع اليمين لإثبات مال الغير ، وإن كان قد يدفعه أنها لرفع التهمة ، لا
للإثبات ، ومن أنه لا معنى لإقراره في يده مع سلب أهلية اليد ، لأن الحجر عليه رفع
يده عن السلطنة المالية. ويدفعه أيضا منع صيرورته بالحجر كذلك ، إذ هو مكلف رشيد ،
ولا عدوان في يده ، والحجر انما يرفعها عن ماله ، لا عن مال غيره. إنما الكلام في
نفوذ إقراره ، فعلى تقديره فالإقرار في يده متوجه ، والتحقيق عدم الفرق بين هذه
المسألة وسابقتها ، فيجري فيها الكلام السابق حينئذ والله أعلم.
ولو اشترى بخيار
وفلس والخيار باق ، كان له إجازة البيع وفسخه بلا خلاف أجده فيه لأنه ليس بابتداء
تصرف في المال ، بل هو أثر أمر ثابت قبل الحجر المانع له من ابتداء التصرف في
المال ، للأصل وغيره ، بل ظاهر المصنف ، وصريح الكركي ، وثاني الشهيدين ، والمحكي
عن المبسوط ، والتحرير ، عدم اعتبار الغبطة في ذلك ، بل له الفسخ وإن كان فيه
مفسدة على الغرماء ، للأصل بعد عدم ما يدل على منع الحجر إياه عن مثل ذلك ، خلافا
للفاضل ، فاعتبر الغبطة في خيار العيب دون غيره ، ووجهه الشهيد بأن الخيار في غيره
ثابت بأصل العقد ، لا على طريق المصلحة فلا يتقيد بها ، بخلاف العيب.
وفيه أن كلا من
الخيارين ثابت بأصل العقد ، غاية ما في الباب أن أحدهما ثبت بالاشتراط مثلا ،
والآخر بمقتضى العقد ، ولم يكن ثبوت أحدهما مقيدا بغبطة ولا بعدمها ، إذ لم يقل
أحد بتقييد فسخ العيب في غير المفلس بالمصلحة ، بل صرحوا بجواز الفسخ له ، وان
زادت القيمة بسبب العيب ، كالخصاء ، والحكمة في أصل المشروعية لا يجب اطرادها ،
وإلا لاقتضى اعتبار الغبطة في الفسخ بكل خيار ، ضرورة كون الحكمة في مشروعية أصل
الخيار في مثل البيع الذي الأصل فيه اللزوم إمكان أن يتجدد لذي الخيار ما يوجب ارادة
الفسخ ، فلا يجد السبيل إليه ، فيحصل عليه ضرر.
وأضعف من ذلك
تعليل الفرق بينهما بأن العقد في زمن الخيار متزلزل لإثبات له ، فلا يتعلق حق
الغرماء بالمال ، إذ التزلزل مشترك بينهما ، فالقول : حينئذ بعدم اعتبار الغبطة في
الجميع لا يخلو عن قوة. نعم قد يفرق بينهما بأن العيب لم يوجب استحقاق الرد خاصة ،
بل أوجبه مع الأرش ، وإن كان على جهة البدل ، بل لعل اقتضاؤه الأرش أقوى ، بدليل
عدم سقوطه بالتصرف ونحوه مما يسقط به الرد ، بل قد يقال : إن الأرش ثابت به وإن
كان له إسقاطه بفسخ العقد ، فالحاصل حينئذ باختياره اللزوم مثلا سقوط الرد لا ثبوت
الأرش ، وإن كان لا يخلو من اشكال.
وحيث كان كذلك
اتجه حينئذ دعوى تعلق حق للغرماء بهذا الخيار من بين الخيارات ، كما انه اتجه
اعتبار الغبطة ، ترجيحا لمن يكون معه على الأخر ، إذ قد عرفت اجتماع الجهتين أي
الأرش والرد في هذا الخيار ، بخلاف غيره من أفراد الخيار حتى الغبن ، فإنه ليس فيه
جهة للمال أصلا ، فلا يتقيد بالغبطة أو عدم المفسدة ، بل ربما يؤيده ما قيل : من
أن المريض إذا اشترى معيبا ولم يرده مع كون الغبطة في رده احتسب نقص عيبه من الثلث
، ولعل من ذلك ينقدح أنه لو لم يكن للمفلس إلا الرد بالعيب لإسقاط الأرش قبل الفلس
ونحوه لم تعتبر الغبطة فيه ، إذ هو حينئذ كغيره من الخيارات ، كما أنه قد ينقدح من
ذلك وجه آخر ، لأصل ثبوت الخيار بعد الفلس بغير العيب ، بأن يقال : إنه ليس تصرفا
في مال ، وإن رجع إليه بالأخرة ، وإن كان فيه بحث ظاهر ، ولعله لذا كان ظاهر
المحكي عن الأردبيلي ، وبعض الشافعية ، اعتبار الغبطة في جميع أنواع الخيار ، لان
الفسخ نوع تصرف في المال.
وفيه أن المتجه
حينئذ منعه منه ، من دون اذن الغرماء ، لأنه حينئذ كالتصرف فيه ببيع ونحوه ، لا
تقييده بالغبطة ، ولم أقف على قائل به ، وإن كان يشهد له في الجملة منع السفيه عنه
، لكن قد يفرق بينهما بأن الحجر يقتضي تعلق حق الغرماء بمال المفلس على حسب كيفية
ملكه له في اللزوم والتزلزل ، لا أن به تختلف جهة ملكه ، فمع كون الملك بالنسبة
إليه متزلزلا يبقى على حاله بعد الفلس ومن ذلك ينقدح ان له الخيار أيضا فيما يشتريه
في الذمة بعد الفلس ، لأن المال قد انتقل اليه
على هذا الحال ،
وتعلق به حقهم على هذا الحال فلا يمنع منه ، ولو لم يكن للمفلس الا الرد ، فتأمل
جيدا والله أعلم.
ولو خرج المال عن
المفلس بعقد متزلزل كالهبة ونحوها قبل الفلس لم يستحق الغرماء عليه الرجوع قطعا ،
كما هو واضح. نعم لو كان له حق فقبض دونه قدرا أو وصفا على جهة الإسقاط والإبراء
كان للغرماء منعه قطعا لانه تصرف في المال بما ينافي حقهم ، بل في جامع المقاصد
وغيره لهم منعه من قبض بعض الحق ، وإن لم يكن على جهة الإسقاط للباقي ، إذا حصل
ضرر كما في قبض بعض ثمن المبيع ، قال : لأن فيه إسقاطا لحق يتعلق بالمال ، فيمنع
منه ، لانه تصرف مبتدأ أما إذا لم يكن كذلك كقبض بعض ما استحقه بإتلاف مال ، أو
قرض ونحوهما ، مما يلزم عليه فيه قبض البعض لو بذله من عليه كالجميع ، كان له قبض
البعض ، وفيه أنه يمكن المناقشة في منعه عن إسقاط هذا الحق الذي هو ليس بأولى من
حق الخيار ، فتأمل جيدا هذا.
وفي المسالك أن
نسبة القبض إليه على طريق المجاز ، فإنه لا يمكن من قبض المال لاقتضاء الحجر ذلك ،
وإنما المراد ، إثبات تسلطه على الحكم المذكور وإن كان القابض غيره ، وفيه أن أقصى
ما ثبت من الحجر منعه من التصرفات المنافية لحق الغرماء لا غيرها ، للأصل وغيره ،
قال في القواعد : « ولا يمنع من وطي مستولدته ولم يفرق بين كون ثمنها من جملة دين
الغرماء أولا ، ولا بين القول بإجارتها وعدمه » لكن قال : « وفي وطي غيرها من
إمائه نظر » وعن التذكرة أقر به المنع ، وفي جامع المقاصد « أنه الأصح » إلا أنه
يمكن أن يكون ذلك من جهة التعريض للإتلاف بالطلق أو نقصان القيمة ، أو بصيرورتها
أم ولد ، بناء على بطلان حق الغرماء بها حينئذ ، وفيه نظر ، بل جزم في القواعد
ومحكي التذكرة بعدمه ، ولعله لسبق تعلق حقوقهم ، إلا أن الظاهر تأخيرها في البيع
لتبين القصور وعدمه ، لئلا يبطل حق الاستيلاد ، وعلى كل حال فمنع المفلس من التصرف
بماله على وجه لا ينافي حق الغرماء لا يخلو من بحث ، بل منع. والله أعلم.
ولو أقرضه إنسان
مالا بعد الحجر مثلا أو باعه بثمن في ذمته ، لم يشارك الغرماء ، وكان ثابتا في
ذمته إذا كان عالما بحال اتفاقا ، كما في المسالك ، بل وان كان جاهلا كما صرح به
الفاضل ، والشهيدان ، والكركي ، وغيرهم ، للأصل خصوصا على القول بتعلق حقوق
الغرماء بالمال المتجدد ، وخبر الاختصاص بعين المال في الفلس ، إنما هو للغريم قبل الحجر ،
والمشاركة لهم لا دليل عليها وان كان قد أدخل لهم مالا عوض دينه.
ومن ذلك يظهر لك
ما في احتمال الضرب واحتمال الاختصاص ، بل يزيد الأول ضعفا أن الجهل لا مدخلية له
في مشاركة الغير ، بعد فرض اختصاص الحجر للديون السابقة ، إذ دعوى ـ أن المحجر
لاحظ في التحجير الديون السابقة ومثل المفروض ـ لا دليل عليها ، بل في المسالك «
أن الوجهين شاذان ، لأنه ان كان غريما اختص بعين ماله ، وإن لم يكن غريما لم يضرب
» وان كان قد يتكلف لدفع ذلك ، كما أنه يظهر لك أيضا ما في المحكي عن فخر الإسلام
في شرح الإرشاد ، من الصبر والضرب ، لكونه غريما وأدخل مالا في مقابلة الثمن ،
والاختصاص للعموم ، فالأقوى حينئذ وجوب الصبر بناء على تعلق الحجر بالمتجدد ، والا
كان له المطالبة بالوفاء منه ، ثم إن ظاهر التعليل للمشاركة بإدخال المقابل في
أموال المفلس يقتضي عدمها إذا لم يكن كذلك ، وكان برضا من المستحق كما في المهر
وعوض المتلف بالاذن ، ولعله كذلك للأصل ، ونفى الخلاف عنه في التذكرة.
ولو أتلف مالا بعد
الحجر ضمن ، وضرب صاحب المال مع الغرماء كما في القواعد وجامع المقاصد والمسالك ،
وإن ذكروا معه الجناية أيضا ، لعدم الفرق بينها وبين التلف في ذلك ، إذ المدرك في
الجميع أن الثابت هنا من المال من غير رضا صاحبه ، وإن كان هو كما ترى ، وكذا
الاستدلال عليه بعموم الخبر الدال على الضرب وبما دل على وجوب العوض ، فانا لم نقف
على خبر ظاهر في شمول الفرض ، وما دل على وجوب العوض لا يقتضي المشاركة ، وكأنه
لذلك لم يرجح في التذكرة بل جعل
__________________
أول الوجهين عدم
الشركة لتعلق الحق ، ولانه كما لو جنى الراهن ولا مال له غير المرهون ، فإن المجني
عليه لا يزاحم المرتهن ، قلت : كل ذلك مضافا إلى الأصل ، ولعله لذلك حكى عن
الأردبيلي التأمل فيما ذكروه من المشاركة ، وهو في محله ، والله أعلم.
ولو أقر المفلس
بمال بعد الحجر أو ثبت شغل ذمته بمال بعده كذلك مطلقا وجهل السبب في ثبوته ، فلم
يعلم أنه مما يشارك به كالإتلاف والجناية ، أولا ، كما إذا كان برضا من المستحق
وعلم منه أو جهل على الأصح لم يشارك المقر له الغرماء ، لاحتماله ما لا يستحق به
المشاركة فالأصل عدمها حينئذ واحتمال أن الأصل المشاركة حتى يعلم كونه مما لا
يشارك ، لا شاهد له ، بل هو على خلافه ، ضرورة كونها من الأمور الحادثة ، والأصل
عدمها ، بل الظاهر عدم وجوب الاستفصال أيضا حال عدم العلم بجهله ، للأصل ، أما لو
أطلق مع ذلك أو بدونه في السبق واللحوق ، وجهل تاريخ الحجر والدين ، فالأصلان
متعارضان ، ويبقى أصالة عدم تعلق خصوص هذا الدين سالما.
ودعوى ـ أن اللحوق
مانع ولم يثبت ، فالأصل المشاركة ـ ، لم نتحقق لها شاهدا ، بل الشاهد بخلافها ،
كما عرفت ، حتى لو سلم الشك في المقام في كون السبق شرطا في المشاركة ، أو أن
اللحوق مانع ، إذ أصالة عدم التعلق تغني عن ذلك ، ولو علم تاريخ أحدهما بني تأخير
أحدهما على ما تقدم سابقا في نظائر المسألة ، وحينئذ يشارك لو كان المعلوم الدين
هذا. وفي المسالك هنا نظير ما حكيناه عنه سابقا في الروضة ، وفيه ما لا يخفى ، وفي
جواز العمل بما ذكرناه من الأصول بلا استفصال وجه فلا يجب حينئذ وإن كان يمكن أن
يحصل به رفع الاشكال. والله أعلم.
ولا تحل الديون
المؤجلة بالحجر بلا خلاف أجده من غير الإسكافي ، للأصل بعد حرمة القياس على الميت
، وكونه مع الفارق ، كما قيل : بتضرر الورثة والغرماء بدونه فيه ، لعدم ذمة له
بخلاف المفلس ، مضافا إلى انه لا خلاف بيننا بل وبين غيرنا عدا الحسن البصري
المنقرض خلافه في أنها تحل بالموت
بل الإجماع بقسميه
عليه ، لخبر أبي بصير « إذا مات الرجل حل ماله ، وما عليه من الدين » والسكوني « إذا كان على
الرجل دين إلى أجل ومات الرجل حل الدين » والصحيح المضمر « إذا مات فقد حل
مال القارض ».
بل ظاهر الأولين
كمعقد المحكي من إجماع الخلاف عدم الفرق بين مال السلم والجناية المؤجلة ، وغيرهما
، خلافا للمحكي عن إيضاح الفخر ، وحواشي الشهيد ، من عدم حلول السلم بالموت ،
ولعله لأنه يقتضي قسطا من الثمن ، لكنه كما ترى لا يصلح معارضا للدليل ، وكذا ما
قيل : من تعليل احتمال خروج الجناية ، بأن تأجيلها شرعي ، لا مدخلية لرضا الميت
فيه ، إذ لا فرق بين الجميع فيما عرفت من الدليل ودعوى ـ أن بينه وبين ما اقتضى
بقاء أجله تعارض العموم من وجه ـ يدفعها أن ذلك قائم في كل فرد من أفراد الدين ،
مع أنه لا إشكال في انسياق التخصيص في الجميع ، فالتحقيق في أمثال ذلك ملاحظة
الحاصل من مجموع الأدلة ، ولا ريب في ظهور التخصيص حينئذ ، فتأمل ، وأما حلول ما
له فستعرف البحث فيه إنشاء الله تعالى.
القول الثاني في
اختصاص الغريم بعين ماله وتفصيل الكلام أن من وجد منهم عين ماله كان له أخذها ،
ولو لم يكن سواها : وله أن يضرب مع الغرماء بدينه ، سواء كان عنده وفاء لغيره من
الغرماء أو لم يكن على الأظهر الأشهر بل المشهور ، بل لا أجد فيه خلافا معتدا به
إذا كان وفاء ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل لا أجد خلافا فيما إذا لم يكن ، إلا
من المحكي عن الشيخ في التهذيب ، والاستبصار ، والنهاية والمبسوط ، فخص الاختصاص
بما إذا كان وفاء ، بتجدد مال آخر للمفلس بإرث أو اكتساب أو بكون الديون إنما تزيد
على أمواله مع ضميمة الدين المتعلق بمتاع واجده ، فإذا خرج الدين من بين ديونه ،
والمتاع من بين أمواله صارت وافية بالديون ، أو بغير ذلك مما يتصور فيه ذلك ، بحيث
لا ينافي القصور الذي هو شرط الفلس.
__________________
ولا ريب في ضعفه ،
للنبوي المروي في كتب فروع الأصحاب « إذا أفلس الرجل ووجد سلعته
فهو أحق بها » ونحوه غيره وإطلاق صحيح عمر بن يزيد عن أبي الحسن 7 « سألته عن الرجل
تركبه الديون ، فيوجد متاع رجل آخر عنده بعينه ، قال : لا يحاصه الغرماء » المراد
منه ولو بضميمة كلام الأصحاب فسخ العقد لا عدم المحاصة في الوفاء ، والا لوجب
التعرض لزيادته على دينه ونقيصته.
وأوضح منه في ذلك مرسل
جميل عن أبي عبد الله 7 « في رجل باع متاعا من رجل ، فقبض المشتري المتاع ولم يقبض
الثمن ، ثم مات المشتري والمتاع قائم بعينه ، فقال : إذا كان المتاع قائما بعينه ،
رد إلى صاحب المتاع وقال : ليس للغرماء أن يحاصوه » فإنه ظاهر في إرادة عدم
المحاصة للفسخ ، وان كان هو غير ما نحن فيه ، إذ الكلام في المفلس الحي ، وهذا في
الميت ، وان لم يكن مفلسا ، لصحيح أبي ولاد « سألت أبا عبد الله 7 عن رجل باع من رجل متاعا إلى سنة ، فمات المشتري قبل أن
يحل ماله ، وأصاب البائع متاعه ، إله أن يأخذه إذا حقق له؟ فقال 7 إن كان عليه دين
وترك نحوا من دينه فليأخذ إن حقق له ، فان ذلك حلال له وان لم يترك نحوا من دينه
فان صاحب المتاع كواحد ممن له عليه شيء يأخذ حصته ، ولا سبيل له على المتاع » وبه
يقيد مرسل جميل فيكون الحاصل ما ذكره المصنف بقوله :
أما الميت فغرماؤه
سواء في التركة ، إلا ان يترك نحوا مما عليه ، فيجوز حينئذ لصاحب العين أخذها
كغيره من الأصحاب ، بل لا أجد فيه خلافا سوى ما يحكى عن ابن الجنيد من الاختصاص
وإن لم يكن وفاء كالحي ، وكأنه اجتهاد في مقابلة النص ، بل ظاهر النص والفتوى
اشتراط الاختصاص في الميت بما عرفت ، وإن كان قد مات محجورا عليه ، بل صرح به في
المسالك ، ولعلهم رجحوا ذلك على إطلاق
__________________
صحيح عمر بن يزيد
للحكمة الواضحة في هذا الشرط بالنسبة إلى الميت دون الحي ، إذ الميت لم تبق له ذمة
بعد الموت ، فلا يناسب الاختصاص إلا مع الوفاء ، لئلا يتضرر الغرماء ، بخلاف الحي ،
فإن ما يتخلف من الدين متعلق بذمته ، فربما لا يضيع.
وفي المسالك عن
بعضهم أن الحكم مختص في الميت المحجور عليه ، قال : « وإطلاق النص يدفعه ».
قلت : هو المحقق
الثاني في جامع المقاصد ، وضعفه واضح ، والأنسب منه القول بعدم اشتراط الوفاء في
الاختصاص إذا كان قد مات مفلسا ، استصحابا للخيار الثابت لصاحب العين في حال
الحياة ، ولا طلاق صحيح عمر بن يزيد منضما إلى عدم ظهور صحيح أبي ولاد ومرسل جميل
في موت المفلس ، بل لعلهما ظاهران في غيره ، بل لعله لا يخلو من قوة ، إن لم يكن
إجماع على خلافه ، فتأمل جيدا ، فإنى لم أجد تنقيحا له فيما حضرني من كلام
الأصحاب.
نعم قد سمعت التصريح بخلافه في المسالك
، وكذا العلامة في التذكرة ، بل ظاهرهما أنه مفروغ منه ، ولعل وجهه أن العين قد
انتقلت بالموت إلى الوارث ، فذهب شرط خيار الفلس ، ولم يبق إلا الخيار من حيث
الموت المشروط بالوفاء في صحيحة أبي ولاد. وعلى كل حال فما عن الشيخ ; لم نجد له
شاهدا بالخصوص سوى دعوى الجمع بين النصوص ، بحمل ما دل منها على الاختصاص على ما
إذا كان وفاء ، وما دل منها على عدمه ، كخبر أبي بصير « سئل أبو عبد الله ٧ عن رجل كانت عنده
مضاربة وأموال أيتام وبضائع ، وعليه سلف لقوم فهلك وترك ألف درهم ، أو أكثر من ذلك
، والذي للناس عليه أكثر مما ترك؟ فقال : يقسم لهؤلاء الذين ذكرت كلهم على تقدير
حصصهم أموالهم » وغيره على ما إذا لم يكن وفاء من غير فرق بين الحي والميت ، لكن
فيه أنه لا شاهد على هذا الجمع ، إذ صحيح أبي ولاد ومرسل جميل في الميت الذي قد
عرفت الحكم فيه ، والكلام في المفلس الحي الذي هو لعله
__________________
الظاهر من صحيح
عمر بن يزيد ، كما أن الظاهر من قوله فيه لا يحاصه الغرماء قصور المال عن الوفاء ،
وان الحاكم قد حجر عليه فهو أحد أدلة التحجير على المفلس الذي أنكره في الحدائق ،
كما أنه أنكر في المقام دلالة النصوص على الخيار الذي عند الأصحاب وإنما هي دالة
على الاختصاص في الغرماء ، ولا ريب في ضعفه في المقامين ، وحينئذ فليس أخذ العين
عزيمة عليه ، بل له أن يفسخ ويأخذ العين ، وله أن يضرب بالثمن على الغرماء ، كما
أومى إليه في صحيح أبي ولاد ، وليس أن يفسخ ويضرب بقيمة المتاع ان كانت أزيد من
الثمن قطعا.
نعم قد يقال : إن
له ذلك إذا تلفت العين بعد الحجر ، وتعلق الخيار بها ، إذ احتمال سقوط خياره حينئذ
مناف للاستصحاب ، ولإطلاق الدليل ، مع أنه يمكن فرض التلف بعد اختيار الفسخ ، وقبل
وصول العين اليه ، وقد يعلم في الفرض اختصاصه بالقيمة التي هي بدل العين عن
الغرماء ، وفيه ضعف ، لان الدليل إنما اقتضى الاختصاص بالعين لا بقيمتها التي قد
استحقت بعد الفسخ ، فهي كنموها من الديون التي يضرب أصحابها مع الغرماء ، وان
تجددت بعد الحجر ، كما ستعرف إنشاء الله تعالى فتأمل جيدا.
وكيف كان ف هل هذا
الخيار في ذلك في الحي أو الميت على الفور قيل : نعم لأنه على خلاف الأصل فيقتصر
فيه على المتيقن ، وعن المبسوط أنه أحوط ، وفي المسالك أولى ، وفي محكي التذكرة
أنه الأقرب ، وجامع المقاصد ، يمكن ترجيحه بأنه الأشهر في كلام الأصحاب ، وفيه جمع
بين الحقين ، فالقول بالفورية قريب ، هذا.
وقد يشعر قول
المصنف ولو قيل بالتراخي جاز بالميل إلى التراخي ، ولعله كذلك لإطلاق الدليل ، وقد
تقدم في الخيارات تحقيق نظائر هذا البحث ، ثم إنه لا فرق في الرجوع بالعين في
الفلس بين دفع الغرماء للدين من مال المفلس ، أو من مالهم ولو بإباحة للمفلس أن
يفي عن نفسه ، وعدمه لا للمنة ، وتجويز ظهور غريم ، لعدم اطرادهما ، بل لإطلاق
النص الذي لا فرق فيه مع ذلك أيضا بين زيادة قيمة
__________________
السلعة ، أو كثرة
الراغبين إليها بحيث يرجى صعود سعرها ، وعدمه ، خلافا للتذكرة فأوجب حينئذ قبول ما
بذله الغرماء من دينه ، وكأنه اجتهاد في مقابلة النص ، بل فيها أيضا ما يقتضي وجوب
القبول لو بذل الثمن باذل من ماله تخليصا للعين ، وإطلاق النص يدفعه.
نعم يعتبر فيه
حلول الدين ، فلا رجوع لو كان مؤجلا ، لعدم استحقاقه المطالبة حينئذ ، فلا يستحق
الفسخ ، ولو حل قبل فك الحجر وقبل الوفاء بها فالأصح في جامع المقاصد عدم الرجوع
بها أيضا ، لتعلق حق الغرماء بها ، فلا يستحق إبطاله ، لكن في القواعد اشكال ،
ولعله من ذلك ، ومن عموم الخبر ، بل عن التحرير الجزم بالرجوع ، وهو جيد بناء على
مشاركة الدين المؤجل الحال قبل قسمة الكل أو البعض ، لاندراجه حينئذ في عموم النص
المزبور ، كما صرح به في الروضة ، لكنه لا يخلو من إشكال ، لسبق تعلق حق الغير ،
ولأصالة عدم المشاركة ، ولذا قرب في التذكرة أنه لو حل الأجل قبل انفكاك الحجر أنه
لا يشارك صاحبه الغرماء ، وبنى عليه أنه ليس لصاحب الدين الذي قد حل الرجوع في عين
ماله ، سواء كان الحاكم دفعها في بعض الديون أولا وهو جيد ، لكنه صرح بعد ذلك في
آخر كتاب الفلس ، أنه إذا حل المؤجل قبل قسمة الكل أو البعض شارك فيما لم يقسم ،
ويمكن الجمع بين كلاميه بحمل ما هنا على عدم الشركة إذا كان الحلول بعد القسمة ،
بخلاف الأخير ، إلا أن تعليله الفرع ينافي ذلك ويمكن دفعه أيضا فتأمل.
هذا كله في
المعاوضة المحضة ولو قرضا فإنه صرح في التذكرة بأنه للمقرض الرجوع بعينه إذا فلس
المقترض ، وكان عين المال موجودة ، أما ما ليست كذلك ، بل فيها شبه للمعاوضة ، فلا
فسخ ، للأصل السالم عن المعارض ، ضرورة عدم اندراج مثل النكاح والخلع والعفو عن
القصاص على مال ونحوها في الخبر المزبور ، فلا تفسخ الزوجة النكاح بتعذر الصداق
ولا الزوج الخلع بتعذر العوض بإفلاس الزوجة ولا العافي بتعذر عوضه ، كما هو واضح ،
بل لا أجد فيه خلافا ، بل في جامع المقاصد الإجماع عليه.
والظاهر اعتبار
بقاء العين على ملك المفلس بذلك العقد ، لانه المنساق من إطلاق
الخبر المزبور
الذي خرجنا به عن أصالة اللزوم ، وخبر « من وجد عين ماله فهو أحق بها » لم نجده في
أصولنا ، فلو خرج عن ملكه حينئذ ثم عاد إليه بسبب آخر قبل الحجر ، لم يكن له
الرجوع حينئذ ، وان لم يكن بعوض كالهبة والوصية ونحوهما ، واولى من ذلك لو كان
عوده بعد الحجر ، ضرورة اقتضاء الفاء عدمه بل قد يقال : بعدم جواز الرجوع له ، لو
عاد بفسخ خيار أو إقالة على إشكال ، لكن في القواعد « لو عاد إلى ملكه بلا عوض
كالهبة والوصية ، احتمل الرجوع ، لأنه وجد متاعه ، وعدمه لتلقى الملك من غيره ».
وفي الوجه الأول
ما عرفت ، مضافا إلى أن فسخ البيع إنما يقتضي بطلان ملكه به ، لا بسبب غيره ، كما
هو المفروض ، بل قال : ومعه : أي القول بالرجوع ، فإن عاد بعوض كالشراء فان وفي
البائع الثمن فكالأول : أي في احتمال الرجوع ، وعدمه من الوجدان ، وعدم معارضة
الثاني الأول بعد وفاء ثمنه ، ومن أن المعاوضة الثانية أوجبت استحقاق الرجوع
للثاني عند عدم الوفاء فلا يبقى للأول رجوع ، لامتناع ثبوت حق الثاني مع بقاء حق
الأول ، وهو كما ترى بعد ما عرفت من عدم الرجوع في المسألة السابقة ، ففي المقام
بطريق أولى.
بل قال : وان لم
يكن وفاء الثمن احتمل عوده إلى الأول لسبق حقه ، وإلى الثاني لقرب حقه ، وتساويهما
فيضرب كل منهما بنصف الثمن.
وهو غريب ضرورة
انقطاع حق الأول بالمعاملة الثانية ، وذلك لان ثبوتها يستلزم ثبوت لوازمها ، وإلا
لم تكن صحيحة ، لعدم ترتب الأثر الذي هذا من جملته عليها ، فيجب ارتفاع لوازم
الأول بالسبب الطاري ، كما هو واضح ، فيتعين حينئذ الوسط ، أما إذا كانت باقية على
الملك ولم يحدث فيها ما يمنع من الرجوع كالرهانة ونحوها ، إلا أنها ناقصة ، فإن
كان البعض الناقص مما يتقسط عليه الثمن لجواز افراده بالبيع كالعبد من العبدين ،
ونحوه ، أولا كيد العبد ورجله ، وعلى كل حال فإما أن يكون بآفة سماوية ، أو بجناية
من المشتري أو البائع أو أجنبي فالصور ثمان.
وقد أشار المصنف
إلى الأولى منها بقوله ولو وجد بعض المبيع سليما
تخير بين الضرب
بجميع ماله وبين أخذ الموجود بحصته من الثمن وضرب بالباقي مع الغرماء بلا خلاف
أجده فيه عندنا مطلقا كما في المسالك ، لصدق عين المال على الموجود ، فيثبت
التخيير فيه ، بخلاف التالف الباقي على مقتضى أصالة لزوم العقد فيه وتبعض الصفقة
هنا لا أثر له ، لعدم ما يقتضي شمول هذا الفرد منه بالنسبة إلى كل منهما ، لكن في
المختلف عن ابن الجنيد أنه قال : إن وجد بعض متاعه أخذه بالقيمة يوم يسترده ، وضرب
بما يبقى من الثمن مع الغرماء فيما وجده للمفلس ، قال : وقد خالف الشيخ في موضعين
الأول ـ إطلاق الضرب بالنقص ، الثاني احتساب المأخوذ بالقيمة ، والتالف بها ،
والشيخ نسبهما إلى الثمن ، وهو لا يخلو من قوة.
وفي جامع المقاصد في
شرح ما في القواعد « ولو كان للتالف قسط من الثمن كعبد من عبدين فللبائع أخذ
الباقي بحصته من الثمن ، والضرب بثمن التالف » قال : « ان فيه نظرا من وجوه ،
الأول : ان أخذ الباقي بحصته من الثمن إن كان على طريق المعاوضة توقف علي رضا
المستحقين ، وصدور العقد على الوجه المعتبر شرعا ولا يقوله أحد ، وإن كان على جهة
الفسخ فلا معنى لأخذه بحصته من الثمن ، بل يفسخ ويأخذه ، الثاني : ان الفسخ فيه
وحده يقتضي تبعيض الصفقة وذلك غير جائز الثالث :أنه أطلق الضرب بحصته من الثمن ،
وذلك لا يستقيم على أصله ، بل يجب أن يقيده بما إذا كانت القيمة أزيد من الثمن ،
هربا من المحذور السابق ، فإن ساوت أو نقصت فيجب عنده الضرب بنقصانها كما سبق » (
إلى أن قال ) : « والذي يقتضيه النظر أنه يفسخ المعاوضة مطلقا ، أو يتركه مطلقا
حذرا من لزوم تبعيض الصفقة ، أو يقال : ينظر حيث يكون على المفلس ضرر ، يفسخ في
الموجود فيأخذه ، ويسقط حصته من الثمن ، ويبقى البيع في الأخر بحاله ، فيضرب بحصته
من الثمن ، وذلك حيث تكون القيمة أزيد من الثمن ، أما إذا كانت أنقص أو مساوية
فإنه يأخذ حصته من القيمة ، ولا يمنع ذلك كون العبدين بمنزلة مبيعين ، نظرا إلى أن
لكل منهما قسطا من الثمن ، وان كان في الثاني مناقشة ، لأن المنع من تبعيض الصفقة
لحق كلا منهما ، وإطلاق كلام ابن الجنيد يقتضي الفسخ في الجميع ، وأخذ الباقي
بقيمته ، ويضرب بقيمة التالف ،
وقواه المصنف في
المختلف ، وقوته بينة ».
وهو كما ترى ضرورة
تعين الوجه الثاني في النظر الأول وقوله « لا معنى » إلى أخره لا معنى له ، إذ ذلك
لازم للفسخ فيه وحده ، وإن كان مراده أنه لا معنى للتعبير عن ذلك بالأخذ بالحصة ،
وفيه أنه متعارف في إرادة الفسخ فيما يقابله من الثمن ، كما أن النظر الثاني يدفعه
ما أومأنا إليه من اشتراك التبعيض بالنسبة إليهما ، وأنه لا مانع منه بعد قضاء
الدليل به ، واما الثالث فالفرق بين المقام وبين الأرش واضح ، ضرورة حصول فسخ
العقد من أصله ، وكان مقتضى الضابطة الرجوع بالأرش على مقتضى القيمة ، لأنه ليس
أرش معاوضة ، إلا أنه لما منع عنه قاعدة عدم اجتماع العوض والمعوض ، وجب التقييد
فيه بذلك ، بخلاف المقام الذي هو فسخ للعقد بالنسبة إلى الموجود ، دون التالف ،
فليس حينئذ إلا ما يخصه من الثمن بالنسبة ، ولا مدخلية للقيمة هنا أصلا ، ومن ذلك
يعلم ما في كلامه الأخير ، بل وما في كلام ابن الجنيد الذي قواه في المختلف ،
واستظهر منه في جامع المقاصد الفسخ في الجميع ، مع أن ما فيه من أخذ الموجود
بالقيمة ينافي ذلك ، وعلى كل حال فكلام الأصحاب هنا في محله ، وليس فيه إلا تبعيض
مقتضى العقد ، ولا بأس به بعد قضاء الدليل. فتأمل جيدا والله أعلم.
نعم إنما الإشكال
في قول المصنف وغيره من الأصحاب ، بل لعله المشهور وكذا لو وجده معيبا بعيب قد
استحق أرشه لكون الجاني أجنبيا ولو البائع ضرب مع الغرماء بأرش النقصان وإن زاد
على الثمن فإنه ليس جمعا بين العوض والمعوض عنه ، كما سمعته من جامع المقاصد ،
ويحتمل أن يريد بالأرش جزء من الثمن نسبته إليه كنسبة النقصان إلى القيمة إن كان
الثمن أنقص عن القيمة ، وإلا فنقصان القيمة ، كما صرح به في القواعد ، قال : « وإن
كان بجناية أجنبي أخذه البائع ، وضرب بجزء من الثمن علي نسبة نقصان القيمة لا بأرش
الجناية ، إذ قد تكون كل الثمن ، كما إذا اشترى عبدا بمائة تساوي مائتين فقطعت يده
، فيأخذ العبد والثمن ، وهو باطل ، هذا إن نقص الثمن عن القيمة ، وإلا فنقصان
القيمة وعلى كل حال فهذا كله لو كانت الجناية توجب أرشا.
أما لو عاب بشيء
من قبل الله سبحانه وتعالى أو جناية من المالك كان مخيرا بين أخذه بالثمن مجانا
وبين تركه والضرب مع الغرماء بالثمن ، فإن المعلوم من قاعدة فسخ المعاوضة إيجاب
رجوع كل مال إلى صاحبه عينا أو بدلا ، وكون العين في يد المشتري غير مضمونة للبائع
، معارض بماله قسط من الثمن ، مع أنا لا نقول أنها مضمونة مطلقا ، بل بمعنى أن
الفائت في يد المشتري يكون من ماله ، لأن ذلك هو مقتضى عقود المعاوضات المضمونة ،
فإذا ارتفع رجع كل من العوضين إلى مالكه أو بدله ، وأما كون اليد لا قسط لها من
الثمن ، فإن أرادوا أن الثمن لم يبذل في مقابلتها منه شيء ففساده ظاهر ، إذ
لولاها لم يبذل جميعه قطعا ، وإن أرادوا أن الثمن لا يتقسط عليها وعلى باقي
الاجزاء على نسبة الكثرة والقلة ، كالعشر في متساوي الأجزاء فهو لا يدل على
مطلوبهم.
كل ذلك مع منافاة
تعليلهم لما حكموا به من الأرش في جناية الأجنبي ، وإن كان قد أخذه المشتري ،
ضرورة أنه أخذه والعين ملك له ، ولم تكن مضمونه عليه للبائع ، وكون الأرش جزءا من
المبيع وقد أخذه المشتري ـ فلا يضيع على البائع بخلاف التعيب بالافة السماوية التي
لم يكن لها عوض ـ لا يجدى بعد عدم كون العين مضمونة ، ومن هنا كان خيرة المحقق
الثاني الرجوع بالأرش مطلقا ، بعد أن حكاه عن ابن الجنيد ، وأن المصنف في المختلف
قواه ، واستحسنه الشهيد الثاني ، وقد عرفت أن كلام ابن الجنيد أجنبي عن ذلك ، وأن
ظاهره عدم الفسخ مطلقا ، وانما يأخذ الموجود بالقيمة ، وفاء عن دينه ، فإن بقي له
من الثمن شيء ضرب مع الغرماء.
وأما ما سمعته من
الأصحاب فقد يقال : إن الموافق للضوابط عدم استحقاق الأرش أصلا ، إذ هو كنماء
الملك يستحقه المشتري ، والشارع إنما جعل له الفسخ في الموجود من ماله ، ففسخ
العقد يوجب رجوع هذا المال إليه ، لأنه الموجود دون غيره ، والفرض أن التالف ليس
مما يمكن بناء العقد بالنسبة إليه ، حتى يستحق ما يقابله من الثمن ، بل قد عرفت أن
صفة الصحة والعيب ليست هي إلا كصفة الكتابة والعلم ونحوهما مما لا تقابل بأجزاء
الثمن ، وإن زاد بسببها ، فان زيادته بها أعم من مقابلته
لها ، كما هو واضح
، ولذا لم ينفسخ العقد قهرا فيما قابلها من الثمن عند فقدها ، فحينئذ إذا فسخ ليس
له إلا الموجود الذي حصل فيه سبب الفسخ دون غيره الذي لا قسط له من الثمن ، وليس
من قاعدة « كون التلف ممن لا خيار له » ضرورة تجدد الخيار ، وعدم حصوله من أول
العقد. اللهم إلا أن تفرض المسألة فيما بعد الحجر لكنه خلاف ظاهر كلامهم ، ضرورة
ظهوره في أنه حال تعلق الخيار وجد العين ناقصة ، ولا يكون ذلك إلا قبل الحجر فتأمل
جيدا.
فظهر من ذلك أن
الموافق لمقتضى الضوابط ، عدم استحقاق الأرش أصلا ، إلا انه حيث يكون مستحقا على
الأجنبي حكموا بالرجوع به ، باعتبار كونه قائما مقام الجزء التالف ، وأنه ليس في
الحقيقة تضمين للمالك ، ولكن التعليل كما ترى ، ولعل المتجه عليه رجوعه به مع
وجوده ، أما مع فرض تلفه من المالك ، أو من قبل الله تعالى ، فهو كالجزء بل هو
أولى منه في عدم الرجوع ، كما أن المتجه عليه الرجوع بمقداره لا بأزيد ، لو فرض
تفاوت القيمة ، بحيث لو كان الجاني البائع فقد يبقى له ويضرب به ، وقد ينقص ويبقى
مشغول الذمة به للمفلس ، وقد يتساويان فيأخذ منه ما عليه ويضرب بماله.
والإنصاف أن
العمدة في إثبات ذلك من أصله حينئذ الإجماع إن تم ، وإلا فلا ، وحينئذ فينبغي
الاقتصار فيه على المتيقن ، وهو أقل الأمرين من تفاوت القيمة ، ومن النسبة إلى
الثمن ، كما سمعته من الفاضل في القواعد ملاحظا فيه أرش المعاوضة من جهة ، وأرش
الجناية من أخرى ، فرارا من عدم جواز الجمع بين العوض والمعوض ، وأطلق في المسالك
ملاحظة الأرش بنسبة الثمن ، معللا له بأن السبب في ذلك الهرب من الجمع بين العوض
والمعوض ، فلم يلاحظ فيه الا أرش المعاوضة ، وهو لا يخلو من وجه ، لكن في جامع المقاصد
« أن المتجه الرجوع بتفاوت القيمة مطلقا وان زاد على الثمن » وليس فيه جمعا بين
العوض والمعوض ، إذ لم يأخذ ذلك على أنه ثمن ، بل على أنه عوض الفائت الذي استحق
بالفسخ عينا أو قيمة ، فلاحظ فيه نحو أرش الجناية على كل حال ، والمتجه على ما
ذكرنا الاقتصار على المتيقن ، وهو ما عرفت
فتأمل جيدا.
ولو قبض نصف الثمن
مثلا وتساوى العبدان قيمة وتلف أحدهما ، فعن ابن الجنيد أنه يجعل المقبوض في
مقابلة التالف ، ويتخير بين الضرب بالباقي ، وبين أخذ العبد الموجود به ، لتناول
الخبر له.
وفيه أن مقابلة
المقبوض للتالف لا مقتضى له ، فإن جملة الثمن في مقابلة المبيع ، ولا أولوية لكون
المقبوض مقابل التالف على كونه في مقابل الموجود ؛ ومن هنا كان المحكي عن ابن
البراج مراعاة التوزيع بمعنى أن له الرجوع بنصف الموجود ، ويضرب حينئذ بربع الثمن
مع الغرماء ، وله عدم الفسخ والضرب بما بقي له من الثمن ؛ لكن فيه مضافا الى
التضرر بالشركة أن هذا الخيار على خلاف الأصل ، والمتيقن منه ما إذا لم يقبض من
الثمن شيئا فيبقى غيره على قاعدة اللزوم ، خصوصا بعد النبوي « وإن كان قد قبض
من ثمنه شيئا فهو أسوة الغرماء » والله أعلم هذا كله إذا وجد المبيع ناقصا.
وأما إذا كان
زائدا كما لو حصل منه نماء منفصل كالولد واللبن ونحوهما كان النماء للمشتري ، وكان
له أي البائع أخذ الأصل بالثمن بلا خلاف بيننا ولا إشكال ، بل في المسالك أنه موضع
وفاق ، بل لا فرق في الولد بين الحمل والمنفصل ، ولا في اللبن بين المحلوب وغيره ،
لكون الجميع نماء ملك المشتري.
ولو كان النماء
متصلا كالسمن والطول مثلا فزادت لذلك قيمته قيل والقائل الشيخ فيما حكى عنه وعن
جماعة له أي البائع أخذه ، لأن هذا النماء يتبع الأصل لأنه محض صفة ، وليس من فعل
المفلس فلا يعد مالا له ، ولأنه يصدق عليه أنه وجد عين ماله ، بل الظاهر عدم صدق
أن معها غيرها ، ولأن الفسخ هنا كالفسخ بالخيار الذي لا إشكال في كون هذه الزيادة
فيه لمن عادت العين له به ، وما في جامع المقاصد من الفرق بينهما بثبوت استحقاق
الرجوع بأصل العقد في الخيار ، بخلافه هنا ، فإنه طار بعد الحجر ـ غير مجد ، بعد
اشتراكهما في أن الفسخ من حينه ، وبعد
__________________
عدم رجوع غيره من
النماء بفسخ الخيار ، وإن كان ثابتا بأصل العقد.
ولكن مع ذلك قال
المصنف فيه تردد مما ذكرنا ، ومن أنها زيادة عينية قد وقعت في ملك المشتري ، وان
لم تكن من فعله ، فهي في الحقيقة عين مال البائع مع شيء آخر ، ومن هنا كان خيرة
جماعة منهم الفاضل في المختلف وابن الجنيد والمحقق الثاني أن الزيادة للمفلس ،
لكنها لا تمنع من رجوع البائع ، لعدم سلبها صدق اسم وجدان العين ، فإذا رجع كان
شريكا معه بالنسبة ، لكن ظاهر ما عن التذكرة أو صريحها عدم جواز الفسخ من أصله ،
لأنه على خلاف الأصل ، فيقتصر فيه على المتيقن الذي هذا ليس منه ، وفيه مالا يخفى
، بل لعل القول الثاني. الذي هو مراد المصنف من تردده على الظاهر لا يخلو من ضعف
أيضا على ما عرفت والله أعلم.
وكذا الكلام لو
باعه نخلا وثمرتها قبل بلوغها وبلغت بعد التفليس فزادت قيمتها لزيادة في نفس
الثمرة ، أما إذا كانت الزيادة في القيمة خاصة ، مع بقاء الثمرة على قدرها ، ففي
المسالك في إلحاقها بالمسألة وجهان ، من كون الزيادة القيمية حصلت في ملك المفلس
فلا يؤخذ منه مجانا ، ومن بقاء عين مال البائع من غير تغيير ، فيدخل في عموم الخبر
، ثم قال : واستقرب في التذكرة عدم جواز الرجوع في العين مطلقا متى زادت قيمتها
لزيادة السوق ، وألحق به ما لو اشتراها المفلس بدون ثمن المثل ».
قلت : لا إشكال في
ضعف ما في التذكرة ، ضرورة اندفاعه بإطلاق النص ، إنما الكلام في أن زيادة السوق
لأوصاف حصلت في ملك المفلس ، كزيادته بالسمن والطول ونحوهما ، أولا ، الظاهر
الثاني ، وإن قلنا به في الأول ، لعدم كونها نماء في كل مقام تنفسخ فيه المعاوضة ،
وعدم صحة سلب عدم وجدان عين المال بها ، بل ولا صدق وجدان غيرها معها كما هو واضح.
والله أعلم.
أما لو اشترى حبا
مثلا فزرعه وأحصد ، أو بيضة فأحضنها وصار منها فرخ لم يكن له أي البائع أخذه لأنه
ليس عين ماله كي يصح له الفسخ فيه ،
ضرورة استحالته في
ملك المشتري ، وليس المدار في الرجوع بالمغصوب على كونه عين المال حال الغصب ، ومن
هنا صح الرجوع فيه وإن استحال في يد الغاصب إلى حقيقة أخرى ، إذ هو مال المالك على
أي حال يكون ، ومنه زرع المرتهن للحب المرهون ، بل قد يقال : ليس للبائع الفسخ في
العصير إذا تخمر في يد المشتري ثم تخلل ، لكنه لا يخلو من اشكال. نعم في المسالك «
لو قلنا بالمنع من الرد في الزيادة المتصلة ، فهنا أولى » وقد عرفت أن المختار
عندنا عدم المنع من الرد فتأمل.
ولو باعه نخلا
حائلا فأطلع وفسخ البائع أو أخذ النخل قبل تأبيره لم يتبعها الطلع فضلا عن غيره من
الأشجار ، لأنه من النماء الذي قد سمعت الحكم فيه ، ودخوله في البيع للدليل لا
يقتضي دخوله هنا ، بعد حرمة القياس عندنا ، فما عن الشيخ ; من الدخول كما عن
أحد قولي الشافعي ضعيف ، أما إذا أبر فلا يتبعه قولا واحدا ، والظاهر عدم استحقاق
المالك الأجرة حينئذ لو أراد المشتري الإبقاء إلى الجذاذ ، كما صرح به الفاضل في
القواعد ، والمحقق الثاني والشهيد الثاني ، وكذا الحمل والزرع في الأرض ، ونحو ذلك
، بل في المسالك أنه يستحق بقاؤه إلى حصاده بلا أجرة قولا واحدا ، ولعله لأن
الثابت له الفسخ في العين ، وردها إلى ملكه وقد حصل ، وليس له رد المنفعة التي قد
استحقها المفلس ، بل هو بمنزلة من استوفاها ، كما انه ليس له إدخال الضرر عليه
بإتلاف ماله لو أراد قلعه ، وهذا بخلاف ما لو آجر أرضا فزرع المستأجر وأفلس ، ففسخ
المؤجر ، فإنه يستحق أجرة المثل حينئذ على الإبقاء إلى وقت الحصاد ، لان مورد
المعاوضة هنا المنفعة وقد فسخ ، ولم تعد إليه باعتبار استحقاق الإبقاء عليه ، فله
عوضها حينئذ ، خصوصا والمفلس لم يكن يستحقها مجانا قبل الفسخ ، فكيف يستحقها كذلك
بعده.
وبالجملة الفرق
بين المسألتين واضح ، ولكن لا يقتضي عدم استحقاق الأجرة في المسألة الأولى ، إذ قد
يقال بذلك مراعاة للجمع بين الحقين ، إذ المشتري كان له الإبقاء من حيث أنه مالك
لا مطلقا ، بل قد يفرق بين المقام ، وبين بيع الأرض المزروعة ،
باعتبار ظهور
العقد الحاصل برضاهما في البقاء ، بخلاف الفسخ الحاصل قهرا على المشتري ، ومن هنا
كانت المسألة لا تخلو من إشكال ، اللهم إلا أن يقال : إنه لا إشكال في استحقاق
البقاء على البائع ، لأنه ليس بظالم ، ولتوقف تمام ماليته على ذلك ، والأجرة إن
كان يستحقها المالك عليه من جهة شغل ملكه فهي من الشرع ، لا أن استحقاق البقاء
مشروط ببذلها ، فهي حينئذ تكليف مستقل مع الشك ينفى بالأصل ، فتأمل جيدا ، فإنه
دقيق. والله أعلم.
وكذا لو باع أمة
حائلا فحملت ، ثم فلس وأخذها البائع لم يتبعها الحمل لو فسخ البائع ، إذ هو كغيره
من الحمل والنماء ولعل عود ( ذكره ) بالخصوص تنبيها على أن مقتضى قول الشيخ ـ في
تبعية الحمل للأم في البيع لكونه كالجزء منها ـ القول بالتبعية هنا ، بناء على عدم
منع النماء المتصل نحو السمن والطول ، كما سمعته من الشيخ سابقا ، لكن قد عرفت
ضعفه في محله ؛ والله أعلم.
ولو باع شقصا وفلس
المشتري كان للشريك المطالبة بالشفعة ، ويكون البائع أسوة مع الغرماء في الثمن بلا
خلاف أجده بين أصحابنا في الحكمين ، الواضح وجه ثانيهما ، وأما وجه أولهما فقوة حق
الشفعة ، بدليل ثبوتها مع انتقال العين عن المشتري حتى لو جعلها مسجدا ، بل لو
تقايل المتبايعان كان للشفيع ابطال التقايل ، والأخذ بالشفعة ، بل لو فسخ البائع
بعيب في الثمن كان للشفيع فسخ الفسخ ، والأخذ بالشفعة في أحد الوجوه ، أو أصحها ،
وكذا المشتري إلى غير ذلك مما يستفاد منه قوة حق الشفعة ، بخلاف خيار البائع الذي
لم يثبته الشارع إلا مع وجود العين ، ولان تعلقها هنا في العين أسبق ، ضرورة
حصولها بالعقد ، بخلاف الخيار المتوقف على فلس المشتري ، فهي حينئذ أرجح منها
بالسبق ، ولأنها لاحقة للبيع بذاته والخيار لاحق له بواسطة الحجر ، وما بالذات
أولى مما بالعرض.
وإن كان الأخير
كما ترى ، لا محصل له بحيث يصلح مدركا لحكم شرعي ، بل وسابقه ، إذ السبق باعتبار
سبق السبب لا يقتضي ترجيحا على المتأخر الذي تأخر
سببه ، كما هو
واضح ، فانحصر الوجه في الأول الذي لولاه لكان المتجه ثبوت حقهما معا ، فأيهما سبق
كان الحق له ، ومع الاقتران يبطلان ويبقى للمفلس ، أو يستخرج أحدهما بالقرعة ، مع
القطع بتأثير أحدهما في الواقع ، والاحتمال في الظاهر بناء على اعتبار ذلك في
القرعة ، إذ لا ظهور في دليل كل منهما في نفى ثبوت حق لغيره ، بل مقتضى عموم
دليلهما الثبوت لهما ، فهو كما لو قال الشارع بالخصوص لهذا الشريك الشفعة ، ولهذا
البائع الخيار.
بل قد يظهر لك مما
ذكرنا وجه في أصل المسألة إن لم يقم إجماع على خلافه ، وهو القول بأن الحق للسابق
منهما ، ومع الاقتران ترجح الشفعة بما ذكر مرجحا لها من القوة وغيرها ، بل لعل هذا
أولى مما ذكره في القواعد وغيرها من احتمال تقديم حق البائع ، لأن الشفعة شرعت
لدفع الضرر بالشركة التي لا يختارها الشريك ، والضرر هنا يزول عن الشفيع ، لأن
البائع إذا رجع في الشقص عاد الأمر كما كان قبل البيع ، ولم يتجدد شركة غيره ،
واحتمال تقديم حق الشفيع بالعين ، والبائع بالثمن على سائر الغرماء ، حيث تعذر
أخذه العين ، وحيث إنه عوض ماله الذي قد وجده في حال الحجر بعينه ، وقد كان حقه
التقديم به لولا عروض مانع سابق ، فيرجع إلى بدله جمعا بين الحقين ، إذ الأخير
واضح الفساد ، لعدم حق بعد للبائع ، بعد تقديم الشفيع في العين لكون الثمن حينئذ
من أموال المشتري ، فهو وغيره من الغرماء سواء فيه ، بل والأول لكون الضرر حكمة في
الشفعة ، لا علة تدور مدارها ، فلا ريب في أن ما ذكرناه أولى منهما والله أعلم.
ولو فلس المستأجر
قبل تمام استيفاء المنفعة كان للمؤجر فسخ الإجارة إن شاء من غير خلاف أجد فيه ،
إلحاقا للمنافع بالأعيان ، وتنقيحا للمناط ، بل ربما تكلف إدراج المنفعة في بعض
نصوص الخيار وحينئذ ف لا يجب عليه إمضاؤها ولو بذل الغرماء الأجرة من مال المفلس
أو من مالهم ، ولو بالإباحة للمفلس على حسب ما عرفته في بذل ثمن المبيع ، ولو كان
قد استوفى المستأجر بعض المنفعة قبل الفلس ،
فسخ المؤجر فيما
بقي وضرب بما يقتضيه التقسيط بالنسبة إلى الماضي مع الغرماء ، إذ هو كتلف بعض
المبيع الذي يسقط عليه الثمن ، إذ المنفعة قليلها وكثيرها يمكن إفرادها بالإجارة ،
بل وكذا لو استوفى بعد الفلس ، ولو كانت العين المستأجرة أرضا قد زرعها المفلس ،
أو غرس فيها ، أو بنى كان له الفسخ أيضا ، واستحق أجرة المثل على الإبقاء ، لما
عرفت سابقا من الفرق بين الإجارة والبيع في ذلك.
بل صرح في المسالك
هنا « أن لها الأجرة مقدمة على الغرماء ، لما فيها من مصلحتهم بحفظ الزرع ، كأجرة
الكيال والوزان » وإن كان لا يخلو من تأمل ، بناء على استحقاق البقاء عليه ، وإن
وجبت الأجرة شرعا جمعا بين الحقين ، ولو كانت الإجارة على عين كلية في ذمة المؤجر
، ولم يكن قد أقبضها المستأجر ، فالظاهر أن له الفسخ أيضا ، بل لعله أولى من الفسخ
في العين المشخصة التي سلمها المؤجر ، وفي المسالك « إن اختار المؤجر الإمضاء أمره
الحاكم بتعيينها ليؤجرها » وهو كذلك ، بل قد يقال : إن له الفسخ لو كانت الإجارة
على عمل في ذمته ، وقد فلس المستأجر قبل أن يعمل العمل كله ، أو بعضه ، فإنه أولى
من العين.
ومنه ينقدح الخيار
للبائع لو كان قد باعه شيئا في ذمته وقد فلس المشتري قبل أن يقبضه ، لكون المناط
في الجميع واحدا ، ولو فسخ مؤجر العين وقد وجد عينه مشغولة بحمل مال للمفلس ، وجب
الإبقاء بالأجرة إلى المأمن ، مقدما بها على الغرماء ، وكذا لو كان المفلس راكبا
لها ، دفعا للضرر على نفسه الذي هو أولى من حفظ ماله ، كما صرح بذلك كله في
المسالك ، وإن كان لا يخلو التقدم في الأخير من بحث ، إلا أن يدخل تحت النفقة.
والظاهر أن له
الفسخ وإن كان المأمن في صوب المقصد ، لوجود السبب ، وعدم الفائدة في بعض الافراد
غير قادح بعد وجود السبب ، مع أنه يمكن تصوير الفائدة في كثير من الأفراد ، بل له
الفسخ وإن كان المأمن منتهى المسافة المستأجرة عليها ، وكذا له الفسخ وإن كان
النقل إلى المأمن يحصل بإجارة مساوية للنقل إلى
المقصد ، أو أكثر
، لكن في التذكرة أن الأولى وجوب النقل إلى المقصد ، وعدم تخيره في الفسخ ، بل يجب
عليه إمضاء العقد ، ثم قال : وهل يقدم بالقسط للنقل من موضع الحجر إلى المقصد من
المسمى اشكال ، وهو كما ترى حتى في إشكاله ، فإن المتجه بناء على عدم الفسخ عدم
التقدم ، كما هو واضح.
نعم ما فيها من
أنه لو كان المأمن في صوب المقصد ، وصوب مبدء المسافة أو تعددت مواضع الأمن وتساوت
قربا وبعدا ففي التذكرة فإن كان اجرة الجميع واحدة نظر إلى المصلحة ، فإن تساوت
كان له سلوك أيها شاء ، لكن الأولى سلوك ما يلى المقصد ، لأنه مستحق عليه في أصل
العقد ، وان اختلفت الأجرة سلك أقلها أجرة ، وإن تفاوتت المصلحة ، فإن اتفقت مصلحة
المفلس والغرماء في شيء واحد تعين المصير اليه ، وإن اختلفت ، فالأولى تقديم
مصلحة المفلس ، ولا بأس به ، ولو أفلس المؤجر بعد تعين الدابة فلا فسخ ، بل يقدم
المستأجر بالمنفعة ، كما يقدم المرتهن ، لأصالة اللزوم ، وسبق الاستحقاق.
نعم للغرماء البيع
مستحقة المنفعة ، ولهم الصبر إلى انقضاء الإجارة إذا لم يوجد راغب ، لكن هل يبقى
الحجر مستمرا عليه إلى انقضائها احتمال. ولعل الأقوى عدمه ، ولو كانت الإجارة على
الذمة ، فله الرجوع إلى الأجرة إن كانت باقية ، للوجدان ، وله الضرب بقيمة المنفعة
، كما أنه يتعين له ذلك لو وجدها تالفة ، وليس له الفسخ والضرب بالأجرة ، لأنه ليس
كالسلم كما هو واضح والله أعلم.
ولو اشترى أرضا
فغرس المشتري فيها أو بنى ، ثم أفلس كان صاحب الأرض أحق بها قطعا ، بل لا خلاف
أجده فيه ، لصدق وجود العين وليس له إزالة الغروس ولا الأبنية مع عدم بذل الأرش
قطعا. وهل له ذلك مع بذل الأرش ، قيل : والقائل الشيخ في المحكي عن مبسوطة نعم
لظهور ما دل على أن له الرجوع في العين في استحقاق منافعها ، وحيث وضع بحق جمع بين
الحقين ببذل الأرش والوجه المنع لأنها قد وضعت بحق خالص للمالك ، فليس لأحد
إزالتها
لاحترامها ،
والأرش مع عدم الرضا به لا يسقط احترامها ، بخلاف الأرض التي كانت ملكا للمفلس ،
وقد انتفع بها بذلك ، ولم يكن لأحد فيها حق أصلا. وإنما تجدد له الرجوع بالعين
خاصة ، بل المتجه عدم استحقاق الأجرة على البقاء ، كما صرح به في جامع المقاصد ،
للأصل الذي قد سمعته في الزرع.
بل في المسالك «
أنه يلزم على قول الشيخ أن له الإبقاء بالأجرة لا مجانا ، لأن ذلك هو مقتضى تعليله
، ولكن لم يذكر احد استحقاقه الأجرة لو أبقاها ، نعم هو وجه لبعض الشافعية » وربما
يستفاد منه عدم الخلاف في عدم استحقاق الأجرة مع اختيار البقاء ، بل لعل الشيخ
أيضا لا يقول بها. وإن جوز له القلع بالأرش ضرورة عدم تلازمهما.
وحينئذ فطريق
معرفة الأرش على قول الشيخ تقويم الغرس والبناء قائمين بلا أجرة ومقلوعين ،
فالتفاوت بينهما هو الأرش. ولكن التحقيق مساواة الغرس للزرع في استحقاق البقاء بلا
أجرة ، وعدم جواز القلع بالأرش إلا مع التراضي ، واحتمال الفرق بينهما بأن له أمدا
ينتظر ، بخلاف الغرس والبناء ، فيحصل الضرر عليه اعتبار لا يصلح معارضا لما يقتضيه
الضوابط ، خصوصا بعد أن كان الفسخ اختياريا له ، لا قهريا عليه. فتأمل جيدا.
نعم لو أفلس بثمن
الغرس أيضا ففسخ صاحبه ، لعدم عوده زيادة على ما كان ، أو قلنا أن مثله يتبع العين
كالسمن ـ لم يكن له استحقاق بقاء على صاحب الأرض بل له قلعه من دون أرش لأنه دفعه
إلى المشتري مقلوعا ، بل لو قلعه صاحبه كان عليه طم الحفر ، لأنه احداث في ملك
الغير لتخليص ماله ، ومصلحة بسبب فعل غير مضمون ، إذا لم يكن الغرس في الأرض عدوانا
، ومن هنا كان الظاهر أنه ليس لأحدهما مطالبة الآخر بتخليص ماله من مال الأخر ،
لان الغرس لم يقع من واحد منهما بغير حق ، وإنما فعله المفلس حين كان مالكا للعين
والانتفاع.
نعم لكل واحد
منهما تولي ذلك ، والأولى استيذان الحاكم. والظاهر أن
صاحب الأرض له قلة
، وان كان هو حين القلع لم يكن صالحا بعد للغرس ، لأن منفعة الأرض لبائعها بعد
الفسخ ، ولم يكن الغرس للمفلس ، حتى يستحق إبقاؤه. لأن الفرض أن صاحبه قد فسخ أيضا
، وقد يحتمل في المقام من جهة خبر « الضرر والضرار » أن لصاحب الغرس أرش النقص على المفلس ، أو يقال : إن له
الإبقاء بالأجرة أو يقال إن لصاحب الأرض القلع بالأرش. والله أعلم.
وكيف كان فمفروض
مسألة المتن أن الغرس للمفلس ، وقد عرفت أن الحكم فيها الفسخ ، فتكون الأرض للبائع
، والغرس للمفلس ، ثم يباعان ويكون له أي البائع ما قابل الأرض بأن يقوما معا ثم
تقوم الأرض مشغولة به مجانا ما بقي على ما عرفت ، وينسب قيمتها كذلك إلى قيمة
المجموع ، ويؤخذ لها من الثمن بنسبة ذلك ، والباقي للمفلس. هذا إن رضي صاحبها
بالبيع ، فإن امتنع بقيت له الأرض ، وبيعت الغروس والأبنية منفردة باقية في الأرض
من غير أجرة ، ولا يجبر على بيع الأرض ، وإن استلزم نقصانا عليه في بيعهما منفردين
، لأن الذي له ذلك ، فإذا بيعت كذلك كان للمشتري الدخول ، والسقي وغيرهما من
الاحكام ، نحو ما تقدم فيمن باع بستانا واستثنى منها شجرات أو نخلات. كما هو واضح
والله أعلم.
ولو اشترى زيتا
فخلطه بمثله لم يبطل حق البائع من العين لوجودها وإن كانت غير متميزة ، إذ هو لا
يستلزم عدمها ، بعد أن لم تكن واسطة بين الموجود والمعدوم ، فيقسم حينئذ بينه وبين
المفلس ، لان الفرض التساوي في الزيت ، وكذا لو خلطه بدونه في عدم بطلان حقه من
العين ، بل وفي القسمة عند المصنف وغيره لانه بفسخه رضي بما دون حقه وفيه أنه أعم
من ذلك ، ولعل الأوجه أن له التوصل إلى حقه بالبيع ، ويكون له من الثمن بنسبة ما
يخصه من القيمة ، كما جزم به في محكي التحرير ، لأنهما كالمالين لشخصين لو بيعا
صفقة ، وإن كانا مستقلين.
واحتمال الشركة في
العين على هذه النسبة ، يدفعه ـ مضافا إلى لزوم الربا ،
__________________
بناء على عمومه
لكل معاوضة ولو القهرية ـ أنه لا معاملة بينهما على ذلك ، والامتزاج لا يستلزمه
قهرا ، وإنما يستلزم الشركة قهرا في المالين على نسبة قدرهما ، على معنى استحقاق
كل منهما النصف مع فرض التساوي ، وبحيث لو تلف منه يكون بالنسبة ، أما لو بيعا لو
حظ في ثمنهما ملاحظة المالين المستقلين ، ضرورة تفاوت الثمن بالنسبة إليهما ، ولا
تلازم بينه وبين الاشتراك بالعين ، وللبائع الامتناع من العين هنا إذا رضي بدون حقه
، لأنه يكون حينئذ شريكا.
لكن في جامع
المقاصد « فان قيل : إنه هل يجاب البائع لو طلب القسمة بعد الرجوع والمخلوط به
المثل والأردى؟ قلت : يحتمل أن لا يجاب ، لأن الخلط لم يكن على طريق الشركة ،
وإنما وقع ذلك من المفلس حين كان مالكا لكل منهما ، فلو أجبناه إلى القسمة لزم
تملكه بعض مال المفلس ، لامتناع فصل ملكه ، وهو باطل ، ولأن القائلين باستحقاق
القيمة بالبيع بعد الرجوع لم يفصلوا ، وظاهرهم إطلاق الحكم في الحالات كلها » وفي
التحرير أثبت له المطالبة بالبيع في الخلط بالمثل والأردى.
قلت : ظاهر
الأصحاب في غير المقام وقوع الشركة قهرا في الممتزج بالمساوي ، وكذا الأردى إذا
رضى صاحب الجيد ، ولعله لأن الامتزاج موجب لذلك حتى في صورة الاختيار الذي يكون
الفائدة فيه حينئذ الرضا بإيجاد السبب المقتضي للشركة في نفسه ، وحينئذ فطلب
القسمة في محله ، أما لو كان بالأردى فمع رضاه يعمل السبب حينئذ عمله من الاشتراك
قهرا ، فلو بيعا حينئذ لم يكن له الأعلى حسب الشركة ، ولا يستحق من الثمن بمقدار
قيمة ماله ، لأن الفرض حصول الشركة.
نعم له أن لا يرضى
ويطالب بالبيع ، فيخصه من الثمن على نسبة القيمة ، لكن الإنصاف أن ذلك كله محتاج
إلى الدليل ، وإلا فالذي تقتضيه الضابطة بقاء كل مال على ملك صاحبه حينئذ حتى في
المتساوي ، لتوقف ملك كل منهما شيئا من مال الأخر على الترضي ، والفرض عدم حصوله
منهما ، أو من أحدهما ، وربما كان هو ظاهر المحكي عن ابن الجنيد الذي اختاره في
المختلف فلاحظ وتأمل.
وإن كان قد خلطه
بما هو أجود قيل والقائل الشيخ والفاضل في بعض كتبه يبطل حقه من العين ، ويضرب
بالقيمة التي يطلب بها المفلس ، مع الغرماء لكونها حينئذ كالتالفة بالاختلاط ،
وعدم التمكن من القسمة ، للإضرار بالمفلس ، وفيه أنه يمكن التوصل إلى حقه بالبيع ،
ويكون من الثمن على نسبة القيمة ، ولو أثر مثل هذا الاختلاط في ذهاب العين ، لزم
مثله في القسمين الأولين ، ومن هنا كان مختار الفاضل وثاني الشهيدين ذلك ، فعليه
لو كانت قيمة زيته درهما ، والممزوج به درهمين ، أخذ ثلث الثمن ، وهكذا ، وليس له
الامتناع من البيع هنا ، وإن احتمله بعضهم ، لانحصار التوصل الى حقه فيه ، نعم
للغرماء والمفلس الامتناع من البيع إذا رضوا بالقسمة معه على قدر المالين ، بناء
على ما ذكرنا سابقا لانحصار الحق فيهم ، فمع رضاهم بدون حقهم لم يكن لأحد منعهم ،
هذا.
وعن الشيخ أنه حكى
هنا قولا آخر ، وهو الشركة في العين على نسبة القيمة فإذا خلط جرة تساوي دينارا
بجرة تساوى دينارين فللبائع قيمة ثلث الجميع ، فيعطى ثلث الزيت ، وغلطه باستلزامه
الربا ، وفي المسالك « أنه يتم على القول بثبوته في كل معاوضة ، ولو خصصناه بالبيع
لم يكن القول بعيدا » قلت : هو بعيد أيضا ضرورة عدم المعاملة بينهما ، والامتزاج
لا يستلزم ذلك ، فلا ريب في أن المتجه ما عرفت.
نعم قد يحتمل
الرجوع إلى الصلح القهري ، بل وفي المسالك في باب الغبن في نحو المقام ، أنه لا
يخلو من قوة بل فيها وفي الروضة هناك ما فيه نوع منافاة في الجملة ، فلاحظ وتأمل
والله أعلم.
ولو نسج المشتري
الغزل أو قصر الثوب أو خبز الدقيق أو عمل نحو ذلك مما يفيد المبيع صفة محضة لم
يبطل حق البائع من العين قطعا لعدم خروجها بذلك عن الوجود ، بل ان لم تزد قيمة
المبيع بهذه الصفات لم يكن للمفلس شيء سواء غرم عليه شيئا أولا ، واحترام عمله ـ بعد
أن كان في ماله ـ لا يقتضي استحقاق شيء على البائع ، كما انه إن نقصت قيمته لم
يكن شيء للبائع ، بناء على ما عرفت
سابقا من عدم
استحقاق البائع الأرش بجناية البائع المقتضي للعدم في المقام بطريق أولى.
إنما الكلام فيما
لو زاد بعمله ومقتضى قول المصنف كان للغرماء ما زاد بالعمل القطع بذلك ، وهو أحد
القولين في المسألة ، فلو كان الثوب غير مقصور يساوي مائة ومقصورا يساوي مائة
وعشرين كان للمفلس سدس الثمن ، ووجهه أن هذه الزيادة بسبب فعل للمفلس ، وفيه أن
المتجه بناء على ما ذكرنا من عدم استحقاق المشتري السمن ونحوه ، العدم هنا ، كما
في القواعد ، بل هو أولى ضرورة عدم كون الحاصل هنا إلا صفة محضة لا يعقل ملكها
مستقلا ، فهي من توابع المملوك.
ودعوى ـ أن الفرق
بينها وبين السمن حتى أنه يمكن القول بالعدم هناك ، بخلافه هنا ، بأن السمن ونحوه
من الله ، وإن كان سببه من فعل المكلف ، كالعلف والسقي مع أنه قد يتخلف عنهما ،
بخلاف المقام الذي هو من فعله أو في حكمه ، كما لو استأجر على العمل مثلا ، ولذا
لم يجز الاستيجار على الأول دونه ـ يدفعها أنها بعد التسليم ، لا تجدي ، إذ الفعل
بعد أن كان في ملكه لم يكن له ضمان على أحد ، وإنما استحق البائع العين التي
يلزمها تبعية مثل هذه الأوصاف ، كما هو واضح ، ولا فرق بين كون الصفة من فعله ، أو
فعل غيره ، بعد أن كانت نماء ملكه ، وزيادة قيمة العين سببها له ، فليس السبب إلا
ما ذكرنا ، وبذلك قد استرحنا عن تحقيق حال الزيادة أنها وقت الفسخ ، كما هو ظاهر
المسالك ، أو ولو تجددت ، كما هو مقتضى التعليل السابق.
وعلى كل حال فقد
ظهر لك عدم لحوق هذه الصفات بالأعيان المتولدة من العين المحكوم بكونها للمفلس ،
لأنها نماء ملكه ، ولو ألحقنا الصفة بالعين ، كان للأجير على الطحن والقصارة ، حبس
الدقيق والثوب لاستيفاء الأجرة ، كما أن للبائع حبس المبيع لاستيفاء الثمن ، بل لو
تلف الثوب أو الدقيق بيده لم يستحق الأجرة قبل التسليم فإنه حينئذ كالمبيع التالف
قبل قبضه ، أما على عدم الإلحاق استحق ، لانه صار مسلما بالفراغ ، ولو أفلس قبل
إيفاء الأجير أجره القصارة مثلا ، ففي القواعد إن لم يزد بها
فلا شيء للأجير
في ثمن العين وإن زاد وألحقنا هذه الصفة بالأعيان ، فإن لكل من البائع والأجير
الرجوع إلى عين ماله ، فلو ساوى قبل القصارة عشرة ، والقصر خمسة ، والأجرة درهما
قدم الأجر بدرهم والبائع بعشرة وأربعة للغرماء والمراد أن للأجير حبس العين حتى
يستوفي أجره ، وليس له عين مال قطعا ، بل له الحبس ، وإن لم يزد الثوب بقصارته كما
سمعته سابقا ، والله أعلم. فتأمل جيدا.
ولو كان قد صبغ
الثوب فإن لم تزد قيمته بالصبغ لم يكن للمفلس شيء بلا خلاف أجده ، بل في المسالك
قولا واحدا ، فيختص البائع حينئذ بالعين ، لكونها قائمة بخلاف عين مال المفلس ،
فإنها ذاهبة ، والفرض أن الصفة لا أثر لها ، ولو زادت قيمته بقدر قيمة الصبغ كان
شريكا للبائع في الثمن ، بقدر قيمة الصبغ فلو فرض ان قيمة الثوب غير مصبوغ أربعة ،
والصبغ درهمان ، والمصبوغ ستة ، فللمفلس ثلث الثمن ، ولو زادت قيمته بأقل من قيمته
، كما لو فرض قيمته مصبوغا في المثال خمسة ، فالنقصان على الصبغ ، لان الصبغ تتفرق
أجزاؤه في الثوب ويهلك ، والثوب قائم بحاله ، فكانت نسبة النقصان إليه أولى ، وبه
جزم في القواعد لكن لا يخلو من نظر ، وشرطه في المسالك بأن لا يعلم استناد النقصان
أو بعضه في الثوب وإلا لحقه بسببه ، بل قد يظن من إطلاق المصنف الشركة بمقدار
الصبغ ، وقوع النقصان عليهما بالنسبة ، فتأمل.
ولو زادت قيمة
الثوب مصبوغا على قيمة الصبغ ، كما لو فرض كون الثوب في المثال يساوى ثمانية ،
فالمتجه بناء على ما ذكرناه اختصاص البائع بالزيادة ، لأنها صفة محضة ، وقد عرفت تبعيتها
للعين ، ويجيء على ما سلف سابقا احتمال اختصاص المفلس بها ، لأنها كالأعيان ،
فيكون الثمن حينئذ في الفرض بينهما نصفين ، وقد يحتمل هنا بسطها على قيمة الثوب
والصبغ ، فيكون الثمن أثلاثا ، بل لا محيص عنه إذا فرض كون الزيادة للثوب والصبغ ،
هذا كله حكم ما إذا لم تنقص قيمة الثوب به أي الصبغ ، فإن نقص لم يكن للمفلس شيء
، بل هو أولى مما إذا لم يزد به الذي عرفته
فيما تقدم. والله
أعلم.
وكذا البحث فيما
لو عمل المفلس فيه عملا بنفسه ضرورة عدم الفرق بينه وبين الاستيجار عليه ، بل وكذا
لو تبرع متبرع به باذن المالك ، فإن الجميع عند المصنف متى زاد المتاع به كان
المفلس شريكا للبائع معه في الثمن بقدر العمل على حسب ما عرفت ، وقد تقدم أن
التحقيق عندنا عدم استحقاقه شيئا إذا لم يكن العمل صبغا ونحوه مما هو أجزاء مالية
أو كالأجزاء بل ينبغي الجزم فيما لو كان العمل عمل غاصب ونحوه ، مما لم يعمله
المفلس بنفسه ، ولا أذن فيه ، ولا غرم عليه أجرة كما هو واضح. والله أعلم.
ولو أسلم في متاع
وقد حل الأجل ثم أفلس المسلم اليه قيل والقائل الشيخ في المحكي عن مبسوطة ، وتبعه
الفاضل في التذكرة إن وجد رأس ماله أخذه إنشاء وإلا بأن وجده تالفا قبل الحجر أو
موجودا ولم يجز الفسخ ضرب مع الغرماء بالقيمة بل لا خلاف أجده في الحكم الأول
لاندراجه في النصوص أو استفادته من فحواها ، وإنما الكلام في الحكم في الثاني
، فإن ظاهره تعين ذلك عليه ، وأنه ليس له الفسخ حينئذ ، بل صرح به ، قال : وإن لم
يجد عين ماله فإنه يضرب مع الغرماء بقدر ماله عليه من الحنطة ، وقيل أيضا أنه إن
أراد فسخ العقد والضرب مع الغرماء برأس المال كان له ذلك ، والأول أصح. وكيفية
الضرب بالطعام أن يقوم الطعام الذي يستحقه بعقد السلم ، فإذا ذكرت قيمته ضرب مع
الغرماء بما يخصه منها فيه ، فإن كان في مال المفلس طعام أعطي منه بقدر ما خصه من
الثمن ، وإن لم يكن في ماله طعام اشترى له بالقدر الذي خصه من القيمة طعاما مثل
الطعام الذي يستحقه ، ويسلم إليه ، ولا يجوز أن يأخذ بدل الطعام بالقيمة التي تخصه
، لانه لا يجوز صرف المسلم فيه إلى غيره قبل قبضه.
وقيل والقائل
الفاضل في بعض كتبه وغيره ، بل في المسالك نسبته إلى
__________________
الأكثر له الخيار
مع التلف أيضا بين الفسخ والضرب بالثمن أو بين اللزوم والضرب بحقه ، لكن إذا أريد
معرفة ما يخصه من مال المفلس اعتبر قيمة المتاع حينئذ لذلك ، وربما أطلق على ذلك
الضرب بها مجازا وكيف كان ف هو أقوى عند المصنف ، والفاضل في بعض كتبه ، بل لم
يستبعده في التذكرة أيضا وثاني الشهيدين ، لكنه قيده في المسالك والمحكي عن غيرهما
بما إذا لم يكن مال المفلس من جنس المسلم فيه أو يشتمل عليه ، بحيث لا يمكن وفاؤه
منه.
قال : « ولو فرض
ذلك لم يكن له الفسخ ، إذ لا انقطاع للمسلم فيه ولا تعذر ، ومن الممكن أن يصل إلى
جميع حقه ، بأن يفرض عدم قصور المال حين القسمة ، وإن كان قاصرا كما مر فلا بد من
ملاحظة هذا القيد ، وعلى تقدير وصول البعض فلا وجه للفسخ فيه أيضا ».
وهو من غرائب
الكلام ، ضرورة أن محل البحث عدم وفاء تمام المسلم فيه للإعسار لا للانقطاع ،
وحينئذ فلا فرق بين كون مال المفلس من جنس المسلم فيه ، وعدمه ، كما أنه لا معنى
لفرض وفاء جميع حقه ، لمعلومية خروجه عن محل النزاع ، وكذا لا معنى لقوله لا وجه
للفسخ في بعض ، إذ لعل وجهه تبعض الصفقة ، بل هو لازم لكل من قال بالخيار هنا
ضرورة أنه لا بد من وصول بعض حقه اليه مما يخصه من مال المفلس ، كما هو واضح.
فالتحقيق في
المقام ما سمعته عن الشيخ ، لأصالة لزوم العقد ، واختصاص ما دل على الخيار فيما
إذا تعذر المسلم فيه للانقطاع ، دون غيره ، فيضرب حينئذ بماله من المسلم فيه ،
ويؤخذ له بما يخصه من مال المفلس بعض حقه ، وجوبا أو ندبا على ما تقدم في السلف من
جواز أخذ غير الحق وفاء عنه قبل قبضه ، وعدمه ، ويبقى له الباقي في ذمة المفلس ،
بل لو كان المسلم فيه ثوبا أو عبدا أو نحوهما مما هو غير متساوي الأجزاء لم يكن له
الفسخ ، بل يعزل ما يخصه من الحصة ، وينتظر إتمامها من المفلس
بعد ذلك.
خلافا للتذكرة قال
: فيشترى بحصة المسلم شقص ، فإن لم يوجد فللمسلم الفسخ » وفيه بحث ، كما أن ما
فيها أيضا من أنه لو قوم المسلم فيه فكانت قيمته مثلا عشرين ، فأفرزنا له من المال
عشرة لكون الديون ضعف المال ، ثم رخص السعر قبل الشراء بحيث كانت العشرة تفي بثمن
جميع المسلم فيه ، فالأقرب أنه يشترى به جميع حقه ، ويسلم إليه لأن الاعتبار إنما
هو يوم القسمة ، والموقوف وإن لم يملكه المسلم ، لكنه صار كالمرهون بحقه ، وانقطع
حقه عن غيره من الحصص ، حتى لو تلف قبل التسليم اليه لم يتعلق له حق بما عند
الغرماء ، وكان حقه في ذمة المفلس كذلك أيضا ، إذ المتجه بناء على عدم ملك المسلم
الموقوف ، لأن حقه في الحنطة لحوق الغرماء له بذلك ، لبقاء المال على ملك المفلس ،
والأصل عدم حكم الرهانة فتصرف له في المثال حينئذ خمسة وتوزع الخمسة الباقية عليه
وعلى الغرماء ، كما أنه يلحق الغرماء لو زاد السعر قبل الشراء له بما وقف له من
الدراهم. وهو واضح.
ولو أولد الجارية
ثم فلس جاز لصاحبها انتزاعها وبيعها فيه وفي غيره لصدق وجدان عين المال فسلط على
الفسخ والاستيلاد غير مانع بعد أن لو طالب بثمنها ولم يفسخ جاز بيعها في ثمن
رقبتها فأخذها حينئذ بمنزلته ، وليس للغرماء المنع ، وإن قلنا بتعلق حقهم بالمنفعة
، لو لم تبع لأولوية حقه منهم ، ولا يشاركونه في الثمن ، لأن الذي تعلق بها حقه
دون غيره ، فيتعلق حقه بثمنها القائم مقامها دون غيره ، وإن كان هو ملكا للمفلس ،
إلا أنه كالمرهون يتعلق حق البائع به.
وعلى كل حال
فالحكم خاص فيها دون ولدها لأنه حر باعتبار تولده ، وهو في ملك سيدها ، وإن لم يكن
لأحد معه حقه ، فلا سبيل حينئذ عليها ، ولو وفي بعضها بثمن رقبتها أشكل الفسخ فيها
مطلقا وإذا جنى عليه أو على عبده أو على مورثه خطأ تعلق حق الغرماء بالدية لأنها
مال متجدد للمفلس ، ولا يصح العفو
منه هنا لمنعه من
التصرف في المال وإن كان ت الجناية عمدا كان بالخيار بين القصاص وبين أخذ الدية إن
بذلت له والواجب له أصالة القصاص على الأصح ولا يتعين عليه قبول الدية للأصل
ولأنها اكتساب وهو غير واجب وله العفو عن القصاص هنا لعدم كونه تصرفا ماليا ،
فتنتفي الدية حينئذ ، لأن الأصح ثبوتها صلحا لا أصالة.
أما على القول بأن
الواجب أحد الأمرين فقد يقال : بتعينها بعد العفو عن القصاص ، مع أنه لا يخلو عن بحث
فتأمل. أما لو قتل هو كانت ديته كماله ، ولو كان عمدا لم يجز للورثة القصاص إلا
بعد أداء الدين على المشهور ، كما في الدروس ، قال : وقيده الطبرسي ببذل القاتل
الدية ، وجوز الحليون القصاص مطلقا ، قلت : ولتحقيق الحال في ذلك محل آخر والله
أعلم.
نعم لو كان له دار
موقوفة عليه أو دابة كذلك ، وليست من المستثنيات وجب عليه أن يؤاجرها بإذن الحاكم
أو الغرماء ، لتعلق الحق بمنفعتهما وليس هو اكتسابا وكذا لو كانت له مملوكة ممنوع
عليه بيعها ولو كانت أم ولد بل في المحكي عن المبسوط إذا كانت له أم ولد يؤمر
بإجارتها ، ويجبر على ذلك بلا خلاف ، وظاهره بين المسلمين ، لكن في التذكرة لو
كانت له أم ولد أو ضيعة موقوفة عليه ، ففي وجوب مؤاجرتها نظر ، من حيث أن المنافع
وإن لم تكن مالا فإنها تجري مجراه ، فيجعل بدلها للدين ، ومن حيث أن المنافع لا
تعد أموالا حاضرة ولو كانت تعد من الأموال لوجب اجارة المفلس نفسه ، ولوجب بها
الحج والزكاة ، والثاني أقرب ، ومقتضاه المنع مطلقا حتى في الدار الموقوفة ،
والدابة ونحوهما.
وفيه منع واضح حتى
بالنسبة إلى الحج بها ، على أنه لو سلم أمكن الفرق بأن الحج إنما يجب بالمال
الحاضر ، والمنفعة تتجدد شيئا فشيئا ، ولا يطمئن ببقائها بحيث يستوفى الجميع ، حتى
يستقر ملك الأجرة فلا يجب عليه الاقدام مع هذه المخاطرة ولو فرض بحال يستقر ملكه
على الأجرة اتجه الوجوب حينئذ.
ثم إنه لا خلاف
ولا إشكال في أن للمفلس الدعوى لأنها ليست تصرفا ماليا ف إذا شهد للمفلس شاهد بمال
فان حلف استحق وتعلق به حق الغرماء وان امتنع قيل لم يجبره الحاكم ، لأنه لا يعلم
صدق الشاهد ، ولو علم ثبت الحق بشهادته من غير يمين ، وحينئذ فلا يجبره على مالا
يعلم صدقه ، ولان الحلف تكسب وهو غير واجب.
وفيه أن المدعى
يعلم صدقه وهو كاف في الجبر ، وإن لم يعلم الحاكم ، وليس هو تكسبا ، بل هو مقدمة
لتحصيل ماله الواجب عليه ، لوفاء الدين المطالب به.
وعلى كل حال إذا
لم يحلف ف هل يحلف الغرماء قيل : والقائل الأكثر بل المشهور بل لا أجد فيه خلافا
من غير الإسكافي لا يحلفون ، بل في ظاهر التذكرة الإجماع عليه ، وهو الوجه للإجماع
ظاهرا على عدم جواز الحلف لإثبات مال الغير ، ولما في المسالك من أن كل واحد منهم
إن حلف على مجموع المال كان حلف لإثبات مال غيره ، وهو باقي الغرماء ، وإن حلف على
القدر الذي يخصه بالتقسيط لم يثبت له أجمع ، بل بعضه ، لأنه مال المفلس ، فلا يتم
ثبوت جميع المال بهذا الحلف ، والاعتذار عن حلفه على المجموع بأنه إنما يثبت به
استحقاقه ، لا يدفع ذلك ، لأنه يتضمن إثبات مال الغير أيضا ، وإن كان قد يناقش فيه
بأنه يحلف على الجميع ، وإن كان لا يثبت له إلا حصته ، كالوارث ، ولا يستلزم إثبات
باقي المال للغرماء.
ودعوى أن ثبوت
حصته فرع ثبوت المال للجميع ، ممنوعة ، كدعوى مشاركة الغير له في هذه الحصة ، إذ
هو كبعض الورثة إذا حلف ، فإنه يثبت حصته ، ولا يشاركه غيره فيها ، وإن كانت هي
للميت فتأمل جيدا. ولذا قال في التذكرة : لو حلف بعض الغرماء عند القائلين به ،
دون بعض استحق الحالفون بالقسط ، كما لو حلف بعض الورثة لدين الميت ، وليس لمن
امتنع من اليمين من الغرماء مشاركة الحالف ، كالوارث إذا حلف دون باقي الورثة ، لم
يكن للباقين مشاركته ، لأن المقبوض باليمين ليس عين مال الميت ، ولا عوضه بزعم
الغريم.
وربما قيل بالجواز
بل هو المحكي عن أبي علي لأن في اليمين إثبات
حق للغرماء
والممنوع إنما هو لإثبات مال الغير من دون حق ، إذ أقسام اليمين لإثبات مال الغير
ثلاثة ، كما عن حواشي الشهيد الأول : أن لا يكون للحالف حق فلا يصح حلفه إجماعا ،
الثاني : أن يكون للحالف حق ولغيره حق ، لكن حق الحالف مقدم ، وهو محل البحث ونحوه
المرتهن ، الثالث : أن يكون للحالف حق ولغيره حق ، ولكن حق الغير مقدم ، كالراهن
ومالك الجاني فهذا يحلف ، ويثبت حق غيره إجماعا ، وفيه أن الأصل عدم ثبوت الحق
باليمين ، فيقتصر في خلافه على المتيقن ، وهو محل الإجماع ويبقى غيره على الأصل ،
ومنه ما نحن فيه.
نعم يمكن التوصل
هنا إلى حلف الغرماء بان ينقلوا المال إليهم بعقد شرعي يعلم به الشاهد ، ثم يشهد
ويحلفون ، لكن يخرج عما نحن فيه ، وكذا الكلام فيما لو كان الدين لميت ، ونكل
الوارث ، وأراد الغرماء الحلف ، إلا أن المحكي هنا عن حواشي الشهيد جواز حلفهم ،
ولعله للفرق بينه وبين المفلس بتعذر الوصول إلى الحق من الميت بخلاف المفلس ، لكنه
كما ترى لا يصلح مخرجا عن الأصل المزبور ، فتأمل جيدا والله أعلم.
وإذا مات المفلس
حل ما عليه بلا خلاف ولا إشكال كما تقدم سابقا ، ولا يحل ماله عند المشهور بين
الأصحاب شهرة عظيمة ، بل عن الغنية نفي الخلاف فيه. بل عن الخلاف لا خلاف فيه بين
المسلمين. للأصل بعد حرمة القياس ، على أن الفارق موجود بتضرر الورثة بالامتناع عن
التصرف ، والغرماء به ، ولكن فيه رواية أخرى مرسلة لأبي بصير وقد ذكرناها
سابقا مهجورة عند معظم الأصحاب ، إذ لم أجد من عمل بها إلا الشيخ في المحكي عن
نهايته التي ليست هي كتاب فتوى ، وأبا الصلاح ، والقاضي ، والطبرسي ، فيما حكي
عنهم. وهو لا يصلح جابرا لها كي تصلح لقطع الأصل بل الأصول كما هو واضح.
وينظر المعسر إلى الميسرة ، كما قال
الله تعالى ( وَإِنْ كانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ )
__________________
وفي خبر غياث بن
إبراهيم عن الصادق عن الباقر 8 « أن عليا 7 كان يحبس الرجل ، فإذا تبين له إفلاسه وحاجته خلى سبيله ،
حتى يستفيد مالا » وفي وصية الصادق 7 الطويلة التي كتبها لأصحابه « إياكم وإعسار أحد من إخوانكم
المسلمين أن تعسروه بشيء يكون لكم قبله ، وهو معسر ، فإن أبانا رسول الله 6 كان يقول : ليس
لمسلم أن يعسر مسلما ، ومن أنظر مسلما أظله الله يوم القيامة ، يوم لا ظل إلا ظله
».
وفي مرسل عبد الله
بن سنان عن النبي 6 « لا يحل لغريمك أن يمطلك وهو مؤسر ، فكذلك لا يحل لك أن
تعسره ، إذا علمت أنه معسر » وفي المرسل « إن امرأة استعدت على زوجها عند أمير المؤمنين 7 أنه لا ينفق
عليها ، وكان زوجها معسرا ، فأبى أن يحبسه ، وقال : إن مع العسر يسرا ، ولم يأمره
بالتكسب » والنبوي العامي « أنه 6 لما حجر على معاذ لم يزد على بيع ماله » وفي آخر « أن رجلا أصيب
في ثمار ابتاعها فكثر دينه ، فقال النبي 6 : تصدقوا عليه ، فتصدقوا عليه فلم يبلغ وفاء دينه ، فقال
النبي 6 : خذوا ما وجدتم ليس لكم إلا ذلك ».
كل ذلك مضافا إلى
ما عن المبسوط من أنه لا خلاف في أنه لا يجب عليه قبول الهبة والوصية ، والاحتشاش
، والاحتطاب ، والاغتنام ، مؤيدا بالمشهور نقلا وتحصيلا على عدم وجوب التكسب عليه
، بل أرسله بعضهم إرسال المسلمات ، وعللوا به عدم قبول الهبة ونحوها مما يظهر منه
المفروغية منه ، بل عن ظاهر الغنية والسرائر الإجماع على عدم جواز دفعه إلى
الغرماء ليستعملوه.
وحينئذ ف لا يجوز
إلزامه بالتكسب ولا مؤاجرته التي
__________________
هي نوع تكسب أيضا
، ودعوى ـ أنها ليست منه ، بل هي منفعة ، وقد تقدم أن التحقيق كون المنفعة مالا
يتعلق بها حق الغرماء ـ يدفعها أنه لا إشكال في عدم عد منفعة الحر مالا ، ولذا لا
تضمن بالفوات. وإنما تكون مالا بالإجارة ، لا قبلها ، فلا يتعلق بها حينئذ حق
للغرماء ، فما عن مالك ـ في رواية من أنه إن كان يعتاد إجارة نفسه لزم ، وأحمد
وإسحاق وعمر بن عبد العزيز وعبد الله بن الحسن العنبري وسوار من أنه يؤاجر ، فإن
امتنع جبره القاضي ـ واضح الضعف ، وان احتجوا بأن النبي 6 « باع سرقا في
دينه ، وكان سرق رجل دخل المدينة ، وذكر أن وراه مال ، فداينه الناس فركبته الديون
، ولم يكن وراه مال ، فأتى به النبي 6 فسماه وباعه بخمسة أبعرة » ، والحر لا يجوز بيعه فثبت أنه
باع منافعه.
بل ورد في طريق
الخاصة خبر محمد بن سليمان عن رجل من أهل الجزيرة يكنى أبا محمد قال : « سأل الرضا 7 رجل وأنا أسمع ،
فقال له : جعلت فداك إن الله عز وجل يقول ( وَإِنْ كانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) أخبرني عن هذه
النظرة التي ذكرها الله عز وجل في كتابه لها حد يعرف ، إذا صار هذا المعسر إليه لا
بد له من أن ينتظر ، وقد أخذ مال هذا الرجل وأنفقه على عياله ، وليس له غلة ينتظر
إدراكها ولا دين ينتظر محله ، ولا مال غائب ينتظر قدومه؟ قال : نعم ينتظر بقدر ما
ينتهى خبره إلى الامام ، فيقضي عنه ما عليه من سهم الغارمين ، إذا كان أنفقه في
طاعة الله عز وجل ، فإن كان أنفقه في معصيته ، فلا شيء له على الامام ، قلت : فما
لهذا الرجل الذي ائتمنه ، وهو لا يعلم فيما أنفقه في طاعة الله أو في معصيته ،
فقال : يسعى له في ماله ، فيرده عليه وهو صاغر ».
وخبر السكوني عن الصادق عن
الباقر 8 « ان عليا 7 كان يحبس في الدين ، ثم ينظر فإن كان له مال اعطى الغرماء
، وإن لم يكن له مال دفعه إلى
__________________
الغرماء ، فيقول
اصنعوا به ما شئتم ، ان شئتم وأجروه ، وإن شئتم استعملوه » وإلى ذلك أشار المصنف
بقوله وفيه رواية أخرى مطرحة لكن في اللمعة ، وهو يدل على وجوب التكسب ، واختاره
ابن حمزة ومنعه الشيخ وابن إدريس ، والأول أقرب ، وفي الروضة « لوجوب قضاء الدين
على القادر مع المطالبة ، والمكتسب قادر ، ولهذا تحرم عليه الزكاة ، وحينئذ فهو
خارج من الآية ، وإنما يجب عليه التكسب فيما يليق بحاله عادة ولو بمؤاجرة نفسه ،
وعليه تحمل الرواية ».
وفي المسالك « ولو
قيل بوجوب ما يليق بحاله كان حسنا » وفي الدروس « ويجب التكسب لقضاء الدين على
الأقوى بما يليق بالمديون ، ولو كان إجارة نفسه وعليه تحمل الرواية » وفي جامع
المقاصد « وفيه قوة » وعن السيد عميد الدين يجب على المديون السعي إذا جرت عادته بالسعي
، وكذا لو لم تجر عادته إذا لم يستضر ، وفي الوسيلة ان كان المستدين معسرا صبر
عليه من له الدين حتى يجد ، فإن كان مكتسبا أمر بالاكتساب والإنفاق بالمعروف على
نفسه وعياله ، وصرف الفاضل في وجه دينه ، وإن كان غير مكتسب خلى سبيله حتى يجد ،
وعن جامع الشرائع ومجمع البرهان الأمر بالاكتساب ، وفي المختلف قول ابن حمزة جيد
ونمنع من إعسار المكتسب ولهذا تحرم عليه الزكاة.
وفي السرائر « ومن
كان عليه دين وجب عليه السعي في قضائه » وفي القواعد « ويجب على المدين السعي في
قضاء الدين » ونحوهما عن النهاية ، وربما استظهر منهم وجوب السعي حتى بالتكسب ،
لكن صدورها ممن علم من مذهبه عدم وجوب التكسب يقضي بإرادة السعي في تحصيل ماله من
ديون وأموال غائبة ، ونحو ذلك ، لا ما يشمل وجوب التكسب ، وربما جمع بين الكلامين
بإرادة وجوب السعي الشامل للتكسب ، وإرادة نفي إلزام الغرماء له به ، واستعمالهم
إياه ومؤاجرتهم له ، وعن التذكرة الإجماع على عدم جواز مطالبته وملازمته وحبسه.
وكيف كان فالإنصاف
أن كلمات الأصحاب في المقام لا يمكن جمعها على معنى
واحد ، بل لعل
الحاصل مما ذكرناه منها أربعة أقوال أو خمسة ، وأن المشهور منها عدم وجوب التكسب
حتى بالتقاط مباح لا يحتاج إلى تكلف ، فيكون وجوب الوفاء عندهم مشروطا باتفاق حصول
اليسار ، ولا يجب عليه تحصيله وإن تمكن منه ، تمسكا بالأصل وظاهر الآية والرواية
المعتضدة بما سمعت.
لكن فيه أن الأصل
يقطعه ظهور أمر قضاء الدين في كونه واجبا مطلقا ، والآية لا تدل على كونه مشروطا ،
ضرورة أنه يجب الإنظار إلى الميسرة ، وان وجب عليه تحصيلها مع التمكن منها ، وكذا
الرواية ، بل إن كانت ( حتى ) فيها تعليلية أشعرت بالوجوب حينئذ ، نعم هما معا
ظاهران في خلاف خبر السكوني الذي قال في السرائر : « أنه مخالف لأصول مذهبنا ، ومحكم
التنزيل » ضرورة أن الإنظار الذي هو بمعنى التأخير مناف لاستعماله في الدين
ومؤاجرته ، وكذا تخلية السبيل التي في الرواية فالقول حينئذ بوجوب السعي عليه في
قضاء الدين بتكسب وغيره لا يخلو من قوة.
نعم لا يجب عليه
ما كان منه فيه نقص عليه ومنة ، ترجيحا لما دل على عدم تحمل المؤمن ذلك عليه ، مع
انه لا يخلو من إشكال فيما إذا لم يصل إلى حد الحرمة لكون الواجب عليه هنا حق
مخلوق أيضا يتضرر بعدم وصوله إليه ، ودعوى ـ عدم وجوب السعي لعدم العلم بانتاجه
القضاء الواجب ، إذ قد يتخلف عنه ، والواجب من المقدمة ما كان موصلا إلى ذي المقدمة
ـ يدفعها أولا : أنه يمكن العلم عادة في بعض أفراد السعي بحصول قضاء جميع الدين أو
بعضه ، وثانيا : ان الأوامر المطلقة تقتضي التشاغل في مقدمات المأمور بها إلى أن
يحصل العجز ، ولا يجب العلم بالتوصل ، كما أوضحنا ذلك في باب التيمم بالنسبة إلى
طلب الماء فلاحظ وتأمل.
اللهم إلا أن يقال
إن ذلك إن وجب فهو ليس من وجوب المقدمة لوجوب ذيها بل هو من الفهم العرفي من إطلاق
الخطاب ، ونمنع وجود خطاب هنا كذلك ، وعلى
__________________
تقديره فهو معارض
بالمنساق من الآية والرواية المعتضدتين بكلام الأصحاب ، فتأمل جيدا. لكنه مع أنه
واضح النظر لا يحسم مادة الإشكال المتقدم القاضي بالوجوب الذي منه يعلم عدم الفرق
بين المكتسب وغيره ، بل وبين اللائق به وغيره في وجه ، كما أنه يعلم منه أنه لا
تسلط للغرماء على استعماله ، ومؤاجرته المنافية للأنظار ، وتخلية السبيل ، وإن وجب
عليه هو السعي في قضاء دينه ، فتأمل جيدا. والله أعلم.
القول الثالث في
قسمة ماله بين غرمائه بعد بيعه ، قال الفاضل في القواعد « ينبغي للحاكم المبادرة
إلى بيع ماله ، لئلا تطول مدة الحجر » وظاهر لفظ « ينبغي » فيها الاستحباب ، كما
هو صريح التذكرة ، لكن قد يقال : إن الحجر على خلاف الأصل ، فيجب الاقتصار فيه على
قدر الحاجة ، فتجب المبادرة حينئذ خصوصا بعد مطالبة الديان ، والفرض قيام الحاكم
مقام المديون ، وخصوصا مع مصلحة المفلس في التعجيل مخافة التلف ، ويجب على الحاكم
مراعاة المصلحة ، ولعله لذا قال في التحرير « على الحاكم أن يبادر إلى بيع ماله
وقسمته » بل في جامع المقاصد « إن الوجوب أظهر ».
نعم لا يفرط في
المبادرة بحيث يؤدى إلى فساد في المال ، بأن يطمع المشترون فيه بثمن بخس ، وفي
المتن والقواعد ومحكي المبسوط والتحرير والإرشاد يستحب إحضار كل متاع إلى سوقه ،
لتتوفر الرغبة ومقتضاه جواز بيعه في غير سوقه ، ولو رجي الزيادة فيه ، لكن في جامع
المقاصد أنه لا يبعد الوجوب ، إلا أن يقطع بانتفاء الزيادة بإحضاره في سوقه ، وفي
المسالك إنما يستحب الإحضار إذا وثق بانتفاء الزيادة لو بيع في غير سوقه ، والا
فالأولى الوجوب ، لأن بيعه فيه أكثر لطلابه ، وأضبط لقيمته ، ولكن أطلق الجماعة
الاستحباب ، وظاهر اللمعة الوجوب ، وبه جزم في الروضة مع رجاء زيادة القيمة قلت :
قد يقال : الأصل البراءة إذا باعه بثمن مثله في غيره ، ورجاء الزيادة تطلب للإصلاح
، ولا يجب عليه ، إذ لا يزيد على مال الطفل الذي لا يجب فيه مراعاة الغبطة ، وعلى
كل حال لو شق نقله إلى سوقه ، نودي عليه.
وكذا يستحب حضور
الغرماء تعرضا لطلب الزيادة فإنه ربما يرغبون في بعض المتاع فيزيدون قيمته ، ولا
يجب عليه ذلك ، لما عرفت ، لكن في المسالك « يمكن وجوبه مع رجاء الزيادة بحضورهم »
بل وفي جامع المقاصد « لو رجى بحضورهم زيادة نفع وجب » وفيه ما تقدم ، وكذا يستحب
حضور المفلس أو وكيله ، فإنه أخبر بقيمة متاعه ، وأعرف بجيده من غيره ، وبثمنه
وبالمعيب من غيره ولأنه تكثر الرغبة بحضوره ، فإن شراء المال من مالكه أحب إلى
المشتري ، ولأنه أبعد من التهمة ، وأطيب لقلب المفلس ، وليطلع المشتري على العيب ،
فيبيعه على وجه لا يرد ، ولغير ذلك ، بل يأتي وجوب حضوره مع رجاء الزيادة به بناء
على ما تقدم. وفيه ما عرفت.
ويستحب أيضا أن
يبدء ببيع ما يخشى تلفه كما في القواعد ومحكي المبسوط ، والتحرير ، لما فيه من
مراعاة الأصلح للمفلس ، لكن عن ظاهر الإرشاد والتذكرة ، الوجوب ، بل في جامع
المقاصد لا ريب في وجوب ذلك ، لوجوب الاحتياط على الأمناء والوكلاء ، فالحاكم أولى
فإن تصرفه قهري ، فلا يجوز له تعريض مال من حجر عليه التلف ، فيبيع الفاكهة
والطعام ونحوهما ، وتبعه في المسالك فقال : « جعل هذا من المستحب ليس بواضح ، بل
الأجود وجوبه ، لئلا يضيع على المفلس وعلى الغرماء ، ولوجوب الاحتياط على الوكلاء
والأمناء في أموال مستأمنيهم ، فهذا أولى. لأن ولاية الحاكم قهرية ، وهي أبعد من
مسامحة المالك ، وحينئذ فيبدء بما يخاف عليه الفساد عاجلا كالفاكهة ثم بالحيوان ثم
سائر المنقولات ثم بالعقار ، هذا هو الغالب ، وقد يعرض لبعض ما يستحق التأخير
التقدم لوجه » قلت : لعل المراد خوف التلف في نفسه ، لكونه مما شأنه ذلك ، لا تخوف
التلف إن لم يبدء به وفرق واضح بين المقامين ، فتأمل جيدا.
ويستحب أن يبدء
بعده بالرهن لانفراد المرتهن به ولأنه ربما زادت قيمته عن الدين ، فيضم الباقي إلى
مال المفلس ، وربما نقصت فيضرب المرتهن
بباقي دينه مع
الغرماء ، وكذا العبد الجاني ، وإن فارقه بأنه لو قصر عنها لم يستحق المجني عليه
الزائد ، لأن حقه لم يتعلق بالذمة ، بل بالعين ، بخلاف الرهن ، لكن لولا التسامح
في السنن لأمكن المناقشة ، في اقتضاء ذلك ندبية البداءة به قبل غيره ، فمن الغريب
ما عن ظاهر الإرشاد ، وصريح جامع المقاصد ، من الوجوب لذلك ، الذي يمكن حصوله وإن
تأخر بيعهما ، ضرورة معرفة النقصان والزيادة قبل القسمة ، كما هو واضح.
ويستحب أيضا أن
يعول على مناد يرتضي به الغرماء والمفلس دفعا للتهمة عنه ولا يجب للأصل ، ولأنه
بالحجر على المفلس سقط اعتباره ، وكان كوكيله ، والغرماء إنما لهم حق الاستيفاء من
القيمة ، والحاكم أمين شرعي لا تتطرق إليه التهمة ، ف من هنا إن تعاسروا عين
الحاكم وسقط استحباب مراعاتهما معا ، هذا. ولكن عن جامع المقاصد هذا الحكم ينبغي
أن يكون على طريق الوجوب فإن الحق في ذلك للمفلس ، فإنه ماله والغرماء لأنهم
استحقوا صرفه إليهم بدينهم ، وتبعه في المسالك ، وفيه ما عرفت ، خصوصا بعد ما حكي
عن جامع المقاصد من أنه يفوض إليهم التعيين ، فإن كان مرضيا أي ثقة أمضاه الحاكم ،
وإلا رده وعين غيره ، وهو في الحقيقة غير خارج عن تعيين الحاكم ، بل عنه أيضا
والتذكرة التصريح بأن المقام ليس كالراهن والمرتهن. إذا اتفقا على غير ثقة لبيع
الرهن جاز ، إذ لا نظر للحاكم معهما هناك ، بخلاف ما هنا ، فان للحاكم نظرا في مال
المفلس ، إذ الحجر بحكمه ، وربما ظهر غريم فيتعلق حقه.
هذا كله إذا كان
مختار كل منهم متطوعا ، أو بأجرة متحدة ، والأقدم المتبرع وقليل الأجرة مع صلاحيته
لذلك ، ولكن الانصاف مع ذلك كله عدم خلو الجزم بعدم اعتبار مالك المال ، والغرماء
الذين تعلق حقهم به بالحجر ، من إشكال ، خصوصا مع أصالة عدم تسلط غير المالك ، وذي
الحق على المال ، بل قد يقال باعتبار تقدم اختيار المفلس مع عدم الضرر على الغرماء
، لأنه المالك ، وحقهم إنما تعلق من حيث الاستيفاء لا غيره ، بل لا يعتبر رضاهم
بعد تعيينه ، كما هو واضح. فتأمل جيدا.
ومن ذلك يعلم ما
في المحكي عن المبسوط من أنهم ان اختلفوا فاختار المفلس رجلا ، والغرماء آخر ، نظر
الحاكم فإن كان أحدهما ثقة ، والآخر غير ثقة مضى الثقة ، وإن كانا ثقتين إلا أن
أحدهما بغير أجرة أمضاه ، وإن كانوا جميعا بأجرة قبل أوثقهما وأصلحهما للبيع ، وعن
التذكرة أنه زاد وإن كانا متطوعين ضم أحدهما إلى الآخر ، لأنه أحوط ، وفي جامع
المقاصد بعد أن حكي ذلك قال : ومن هنا يعلم أن عبارة القواعد التي هي كعبارة
الكتاب تحتاج إلى تنقيح.
قلت : الأمر في
ذلك سهل ، ضرورة معلومية تتبع الحاكم التراجيح التي لا يسع للفقيه حصرها ، وإنما
المهم تنقيح ما قدمناه ، فتأمل جيدا. والله أعلم.
وكيف كان ف إذا لم
يوجد من يتبرع بالبيع ولا بذلت الأجرة من بيت المال المعد للمصالح التي هذه من
جملتها ، لعدم سعته لذلك ، أو لأهمية صرفه في غيره ، ولا من تبرع بها وجب أخذها من
مال المفلس ، لأن البيع واجب عليه بل الأقوى عدم وجوب أخذها من بيت المال ، بل
أطلق في القواعد كون الأجرة عليه ، كما أنه أطلق تقدم أجرة الكيال والوزان والحمال
، وما يتعلق بمصلحة الحجر على سائر الديون ، اللهم إلا ان يريد ما في محكي التذكرة
من أن مؤنة الأموال كأجرة الوزان والناقد والكيال والحمال والمنادي وأجرة البيت
الذي فيه المتاع مقدمة على ديون الغرماء ، لأنها لمصلحة الحجر ، وإيصال أرباب
الحقوق حقهم ، ولو لم تقدم لم يرغب أحد في تلك الاعمال ، وحصل الضرر للمفلس
والغرماء.
هذا كله إذا لم
يوجد متطوع بذلك ، ولا في بيت المال سعة له ، فإن وجد متطوع أو كان في بيت المال
سعة لم يصرف مال المفلس إليها ، ومقتضاه عدم جواز أخذها من مال المفلس ، مع وجود
بيت المال ، مع أن ذلك لضرورة وفاء دينه ، فكيف لا يجوز صرفه من ماله ، فلا ريب في
أن الأقوى الجواز ، بل الأحوط عدم الأخذ من بيت المال إلا أن يعطى للمفلس من حيث
فقره ، بل ينبغي وفاء دينه عنه ، بل قد سمعت خبر محمد بن سليمان وقد تقدم في آخر
باب القرض ما يدل من النصوص على وجوب
__________________
ذلك على الامام ،
وأنه إن لم يقضه عنه كان عليه وزره ، لقوله تعالى ( إِنَّمَا
الصَّدَقاتُ ) الى آخره فلاحظ وتأمل ، لكن ذلك غير ما نحن فيه ، إنما
الكلام في إعطائه هذه المؤن من بيت المال ، وان لم تحتسب على المديون ، وهو لا
يخلو من إشكال ، والله أعلم.
ولا يجوز تسليم
مال المفلس لمن اشتراه إلا مع قبض الثمن منه سابقا لمنافاته الاحتياط اللازم
مراعاته في المقام ، بل لو رضى المفلس والغرماء أمكن للحاكم المنع في وجه ، لأن له
نظرا في المال ، ولجواز ظهور غريم ، وإن كان الأوجه خلافه ، لأصالة عدم غريم آخر ،
وعلى كل حال ف إن تعاسرا تقابضا معا كما في كل بايع ومشترى ، ولا وجه لجبر المشتري
على التسليم سابقا خلافا لما عن المبسوط في أول كلامه ، ولا يبيع الا بثمن المثل
فصاعدا ، إن أمكن حالا ، بل صرح الفاضل بأنه لا يبيع إلا بنقد البلد ، لأنه أوفر ،
ولان التصرف على الغير يراعى فيه المتعارف.
قلت : هو كذلك إذا
لم يتفق المفلس والغرماء على البيع بغير نقد البلد ، وإلا اتجه الجواز ، وخصوصا
إذا كان أعود لهم وموافقا لجنس الدين ، بل قد يقال بجواز البيع بدون ثمن المثل مع
رضاهم ، لأصالة عدم غريم آخر ، ولو لم يوجد باذل لثمن المثل ، لم يجز تأخيره طلبا
لمصلحة المفلس ، مع عدم رضا الغرماء ، ولعل المراد بثمن المثل في كلام الأصحاب ما
يبذل في مقابلته في ذلك المكان والزمان.
نعم في محكي
التذكرة لو كان بقرب بلد ملك المفلس بلد فيه قوم يشترون العقار في بلد المفلس أنفذ
الحاكم إليهم ليتوفر الثمن على المفلس ، وفي جامع المقاصد « لا وجه لتخصيص العقار
، وكذا غيره » ولا بأس به ولو كانت المصلحة للمفلس في البيع بغير نقد البلد لم يجب
إليه إذا كان مخالفا لجنس حق الغرماء ، بل بيع بالنقد وإن خالف حقهم ، ثم يصرف
إليه إذا لم يرضوا به عوضا عن حقهم ، وعن التحرير أنه إذا بيع بغير جنس الحق من
النقد دفع إلى الغرماء بالقيمة ، ولعله يريد مع التراضي.
__________________
وكيف كان فما
يقبضه الحاكم من الأثمان على التدريج ، فان كان الغريم واحدا سلم اليه من غير
تأخير ، وكذا إن أمكنت قسمته بسرعة ، وإن كان يعسر قسمته لقلته وكثرتهم جاز له
التأخير ، إلا إذا امتنعوا ، فإنه يقسم عليهم حينئذ ، ولا يكلفوا حجة على انتفاء
غيرهم لعسرها ، بل يكتفى بإشاعة حاله ، بحيث لو كان لظهر ، وتكليف الورثة الحجة
على انتفاء غيرهم باعتبار كونهم أضبط من الغرماء لا يستلزمه هنا. والله أعلم.
ولو اقتضت المصلحة
تأخير القسمة قيل والقائل الشيخ في المحكي عن مبسوطة والفاضل في قواعده يجعل المال
في ذمة ملي بقرض ونحوه احتياطا لحفظ المال ، إذ هو أولى من الإيداع المحتمل للتلف
بلا ضمان وإلا يوجد ملي يجعله في ذمته جعل وديعة لأنه موضع ضرورة حينئذ ، وظاهرهما
وجوب الأول مع التمكن عنه ، وإن لم يكن في غيره مفسدة ونوقش في ذلك بأن فرض الحاكم
في الأموال التي يليها الاستيداع ، كما في أموال اليتامى وغيرهم ممن أمره أحوط من
مال المفلس ، والفرق بأن مال الصبي معد لمصلحة تظهر له ، من شراء تجارة أو عقار
ونحوهما ، وقرضه قد ينافي ذلك ، بخلاف مال المفلس المعد للغرماء خاصة كما ترى ،
ولعله لذا نسبه المصنف إلى القيل مشعرا بتمريضه ، بل في التذكرة ، القطع بجواز
الإيداع ، مع التمكن من القرض ، وإن كان هو أولى واستحسنه في المسالك.
لكن قد يقال : إن
الموافق لما تقدم من المسالك وغيرها وجوب مراعاة الأصلح للأمين الشرعي الذي في
الحقيقة نائب عن الشارع في ذلك ، ومعلوم أن الأصلح واجب المراعاة على الشارع ،
لقبح ترجيح المرجوح بالنسبة اليه ، ولعل ذلك هو مبنى ما تقدم سابقا ، وان كان هو
متخلفا في بعض أفراده ، ضرورة الفرق بين مراعاة الأصلح من الافراد الموجودة ، وبين
تطلب الفرد الأصلح وان لم يعلم بوجوده ، فإنه يمكن منع وجوب الثاني بخلاف الأول ،
بل قد يمنع وجوب تطلب ذي المصلحة فضلا عن الأصلح.
وعلى كل حال يكون
ذلك هو المدار في المسألة وأفراده مختلفة لا يسع الفقيه ضبطها ، وينبغي حينئذ
اعتبار الامانة مع الملاءة ، بل لعل الأولى أخذ الرهن مع
التمكن منه ،
وربما أغنى هو عن الملاءة بل والأمانة ، ولا يؤجل القرض بعقد بيع ونحوه ، لأن
الديون حالة ، اللهم إلا أن لا يوجد مقترض بدونه ، وكان هو مع الأجل أرجح من
الوديعة ، فإن المتجه القرض ، وبالجملة المدار في المسألة بالنسبة إلى التطلب على
عدم المفسدة ، ولا يجب عليه تطلب المصلحة ، فضلا عن الأصلح.
نعم لو وجد اعتبر
مراعاتهما ، بل لا يجوز له ترك الأصلح حينئذ ، بناء على ما عرفت فتأمل وينبغي أيضا
اعتبار العدالة في الودعي ، بل في المسالك ، ومراعاة من يرتضيه الغرماء والمفلس ،
ومع الاختلاف يعين الحاكم ، لكن اقتصر في التذكرة على الغرماء ، فقال : وينبغي أن
يودع ممن يرتضيه الغرماء ، فإن اختلفوا وعينوا من ليس بعدل لم يلتفت الحاكم ، وعين
من أراد من الثقات ولا يودع من ليس بعدل ، ولا ريب في أنه ينبغي مراعاته أيضا
فيودع حينئذ ممن يرتضيه الثلاثة ، وقد عرفت المدار في أصل المسألة. نعم قد يقال :
بعدم اعتبار الحاكم في المقام إذا قطع بانتفاء غريم آخر ، ضرورة انحصار الحق حينئذ
في المفلس والغرماء ، بل ومع احتماله أيضا لأصالة عدمه أما لو كان بعض الغرماء
غائبا أو ناقصا اعتبر الحاكم حينئذ ، وتكليفه حينئذ في الحفظ ما عرفت ، والله
أعلم.
ولا يجبر المفلس
على بيع داره التي يسكنها إجماعا محكيا عن المبسوط ، وفي الغنية والتذكرة لقول
الصادق 7 في حسن الحلبي أو صحيحه « لاتباع الدار ولا الجارية في الدين ، لأنه لا بد للرجل
من ظل يسكنه ، وخادم يخدمه » وفي صحيح ذريح المحاربي « لا يخرج الرجل من مسقط رأسه
بالدين » وهو الذي ذكره ابن أبي عمير على ما رواه إبراهيم بن هاشم قال : « إن محمد
بن أبي عمير كان رجلا بزازا فذهب ماله وافتقر ، وكان له على رجل عشرة آلاف درهم ،
فباع دارا له كان يسكنها ، بعشرة آلاف درهم وحمل المال إلى بابه ، فخرج إليه محمد
بن أبي عمير فقال : ما هذا؟ فقال : هذا مالك الذي علي قال : ورثته؟ قال : لا ، قال
: وهب لك؟
__________________
قال ، لا ، قال :
فهل هو ثمن ضيعة بعتها؟ قال : لا ، قال : فما هو؟ قال : بعت داري التي أسكنها
لأقضي ديني ، فقال محمد بن أبي عمير : حدثني ذريح المحاربي عن أبي عبد الله 7 قال : لا يخرج
الرجل عن مسقط رأسه بالدين ، ارفعها لا حاجة لي فيها ، والله إني لمحتاج في وقتي
هذا إلى درهم واحد ، وما يدخل ملكي منها درهم ، » وكان ذلك من ابن أبي عمير لكمال
ورعه ، وعلو همته ، وإلا فليس مراد الصادق 7 عدم بيع المالك برضاه ، واختياره لوفاء دينه ، إذ لا ريب
في جوازه ، بل لا أجد خلافا فيه ، ويمكن دعوى الإجماع أو الضرورة على خلافه ، بل
المراد أنه لا يلزم بيعها ويجبر عليه ، إذ لا يجب عليه شرعا الوفاء بها.
نعم قد يفهم من خبر
عثمان بن زياد أنه لا ينبغي لذي الدين أن يكون سببا لبيع المديون داره ،
ولو برضاه ، أو يرضى له بذلك ، قال : « قلت لأبي عبد الله 7 إن لي على رجل
دينا ، وقد أراد أن يبيع داره فيقضي؟ فقال له أبو عبد الله : أعيذك بالله أن تخرجه
من ظل رأسه ، أعيذك بالله أن تخرجه من ظل رأسه ، أعيذك بالله أن تخرجه من ظل رأسه
».
وعلى كل حال
فلاتباع الدار في الدين ، لكن في خبر سلمة بن كهيل « سمعت عليا 7 يقول لشريح :
أنظر إلى أهل المعل والمطل في دفع حقوق الناس من أهل القدرة واليسار ، ممن يدلي
بأموال المسلمين إلى الحكام ، فخذ للناس بحقوقهم وبع فيه العقار والديار ، فإنى
سمعت رسول الله 6 يقول : مطل المسلم المؤسر ظلم للمسلمين ، ومن لم يكن له
عقار ولا دار ولا مال فلا سبيل عليه » وينبغي حمله على الموسر المماطل ، أو على
الزائد عن قدر الحاجة ، أو على التقية ، أو غير ذلك ، وقد يلحق بالدار بيوت
الاعراب ، وبالجارية خدمة الأحرار ، إذا كان من أهل ذلك ، فيعزل من ماله حينئذ
مقدار اجاراتهم ، وستعرف في آخر المبحث أن مدار ذلك كله العسر والحرج ، الشاملان
لذلك وغيره مما يضطر إليه لمعايشه أو رفع النقص عنه.
وكيف كان فلو فرض
كون الدار زائدة عما يحتاجه سكن ما احتاجه ويباع
__________________
منها ما يفضل عن
حاجته لوفاء دينه الواجب عليه ، كما صرح به الفاضل في القواعد وثاني الشهيدين ،
ويحيى ابن سعيد في المحكي عن جامعه ، وغيره ، بل لا أجد فيه خلافا ، ويرشد إليه
التعليل في صحيح الحلبي المتقدم ، وقال الصدوق كان شيخنا محمد بن الحسن 2 يروى « إن كانت الدار
واسعة يكتفى صاحبها ببعضها فعليه أن يسكن منها ما يحتاج اليه ، ويقضي ببقيتها دينه
وكذلك إن كفته دار بدون ثمنها باعها ، واشترى بثمنها دارا ليسكنها ، ويقضي بباقي
الثمن دينه. »
وفي موثق مسعدة بن
صدقة « سمعت جعفر بن محمد 8 وسئل عن رجل عليه دين ، وله نصيب في دار ، وهي تغل غلة
فربما بلغت غلتها قوته ، وربما لم تبلغ حتى يستدين ، فإن هو باع الدار ، وقضى دينه
بقي لا دار له ، فقال : إن كان في داره ما يقضي به دينه ، ويفضل منها ما يكفيه
وعياله ، فليبع الدار ، وإلا فلا » ، كل ذلك مضافا إلى أصالة لزوم الوفاء ، مع
التمكن الذي يجب الاقتصار في الخروج منه على المتيقن ، وهو غير ذلك ، بل هو
المنساق من دليل الاستثناء ومنه وبعض ما تقدم يعلم أنه لو فرض زيادة قيمتها عليه ،
وجب بيعها ، وشراء اللائقة بحاله ، وأخذ الزائد.
لكن عن التذكرة
المنع من بيعها ، وكذا الخادم ، وشراء أدون منهما للأصل المقطوع بما سمعت ، والنهي
عن بيعهما ، وفيه ما لا يخفى بعد ما عرفت ، مع أن الذي وجدته فيها في باب الدين
أنه لا يكلف بيع داره ، وشراء أدون إذا كانت داره بقدر كفايته ، وكذا لا يكلف بيع
خادمه وشراء أدون ، ولا بيع فره وشراء أدون ، للأصل وعموم النهي عن بيع هذه
الأشياء ، وهو غير صريح في الخلاف فتأمل. ولو كان له دور متعددة وفرض احتياجه إلى
سكناها لم يبع شيء منها ، كما صرح به ثاني الشهيدين للتعليل السابق ، وارادة
الجنس من الدار.
وكذا البحث في
أمته التي تخدمه المحتاج إليها الذي حكى الإجماع عن المبسوط ، وفي الغنية وظاهر
التذكرة على عدم بيعها في الدين ، مضافا إلى صحيح
__________________
الحلبي المتقدم ،
المحمول لفظ الجارية فيه على المثال للخادم ، ولو عبدا ، بل المتعدد كالمتحد مع
الحاجة ، نحو ما سمعته في المسكن. نعم قد يتوقف في عدم جواز بيع ذلك إذا كانت
الحاجة من حيث الشرف ، لا من حيث الاضطرار ، حتى بالنسبة إلى الدار الواحدة ، والخادم
الواحد ، لأصالة لزوم وفاء الدين ، وظهور التعليل في أن المدار على الاضطرار ، بل
منه قد ينقدح بيع داره المملوكة لو كان له دار قد وقفت عليه ترتفع ضرورته بسكناها
، وكذا الخادم.
وفي المسالك سابقا
أنه لو كانت له أم ولد تحصل خدمته بها فالظاهر الاكتفاء بها عن مملوكته ، لصدق
المملوكة ، وان تشبثت بالحرية فيباع ما سواها مع احتمال عدمه ، وفيه نوع إيماء إلى
ما ذكرنا ، لكن قد يقال : إن ما احتاج اليه من حيث الشرف أشق على النفوس من
الضروريات ، والمدار في المسألة كما سمعته على العسر والحرج ، فتأمل جيدا.
وكيف كان فقد ظهر
لك مما قدمنا ضعف المحكي عن ابن الجنيد من جواز الإلزام ببيع الدار والخادم في
الدين ، وإن كان الأولى تركه ، قال : « ويستحب للغريم إذا علم عسر من عليه الدين
أن لا يحوجه الى بيع مسكنه وخادمه الذي لا يجد غناء عنهما ، لا وثوبه الذي يتجمل
به ، وأن ينظره إلى أن ينتهي خبره إلى من في يده الصدقات إن كان من أهلها أو الخمس
إن كان من أهله ، فإن لم يفعل ذلك وثبت دينه عند الحاكم ، وطالب الحاكم ببيع ذلك
فلا بأس أن يجعل ذلك الملك رهنا في يد غريمه ، فإن أبى إلا استيفاء حقه أمره
الحاكم بالبيع ، وتوفية أهل الدين حقوقهم ، فإن امتنع حبسه إلى أن يفعل ذلك ، فإن
دافع باع عليه الحاكم » إذ هو كما ترى اجتهاد في مقابلة النص والفتوى ، بل الإجماع
، بل كما عرفت.
وخبر سلمة بن كهيل
المتقدم محمول على ما سمعت ، هذا ولم نعثر فيما وصل إلينا من النصوص على
استثناء غير الدار ، والجارية ، والكفن ، لكن في الغنية « ولا
__________________
دابته التي يجاهد
عليها بدليل إجماع الطائفة ». وفي المسالك بعد ذكر الدار والجارية اللائقين بحاله
قال : « وفي حكمها دابة ركوبة ، ولو احتاج الى المتعدد استثنى كالمتحد » وكذا
الروضة ، وفي الإرشاد « ولا فرس ركوبه إذا كان من أهلها » ونحوه التذكرة من دون
شرط ، وكذا جامع المقاصد.
قلت : لعل المدار
في ذلك وغيره مما تسمعه من ثياب التجمل ونحوها عدم الحرج في الدين ، وإرادة الله
بنا اليسر دون العسر ، ونحو ذلك مما دل على هذا الأصل ، وربما كان في دين التذكرة
إشارة اليه فلاحظ وتأمل. ولعل في قوله ( وَإِنْ كانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) نوع إيماء إليه ، كالتعليل في صحيح الحلبي ضرورة حصول العسر
والحرج والمشق التي لا تتحمل في بيع الضروريات ، ولو بحسب الشرف الذي يكون في عدمه
نقص وإذلال لا ترضى به الأنفس العزيزة ، بل ربما كان عليها أشد مراعاة من
الضروريات للمعاش ، بل قد يهون عليهم في مقابلة إزهاقها ، ومن هنا أسقط الشارع
التكاليف له في باب الوضوء والغسل واستطاعة الحج وغير ذلك ، ودعوى أن ذلك لا يتم
في حقوق المخلوقين كما عن بعض الشافعية واضحة المنع ، ضرورة إطلاق الأدلة ، كدعوى
أنه مشترك بينه وبين صاحب المال ، إذ فيه أنه لا عسر ولا حرج في الانتظار ، ولو
فرض حصوله في خصوص شخص لم يكن معتبرا ، لأن المدار على المشقة على الصنف لا الشخص
، كما حقق في محله.
كل ذلك مع أنه
يمكن دعوى صدق ذي العسرة على من لم يجد غير ذلك ، وأنها لا يتحقق صدق الميسرة بها
، لأن المراد بذي العسرة الشدة والضيق عليه ، لو أراد الوفاء ، وعكسه الميسرة ،
ولا ريب في تحقق الشدة والضيق عليه لو كلف ببيع ضرورياته ، ولعله لذا استدل بها
الفاضل في المختلف على استثناء الدار والجارية ، وحكى عن الأردبيلي أنهم قد
يستثنون بعض الأمور المحتاج إليها ، مثل الكتب العلمية لأهلها ، لكن في التذكرة «
ولا يترك له الفرش والبسط ، بل يسامح باللبد والحصر
__________________
القليل القيمة »
ويمكن منعه عليه بناء على الأصل الذي قد ذكرنا ، على ما يظهر من بعضهم من الاقتصار
على بعض الضروريات ، اللهم إلا يريد المثال ، بل ستسمع ما في موضع آخر من التذكرة
من شرط الأخذ عندنا أن لا يكون مما يحتاج اليه المفلس في ضروريات معاشه ، وبالجملة
فالمدار في المسألة على ما ذكرنا.
نعم قد يشك في
تحقق العسر بالنسبة إلى بعض الأمور ، فتباع حينئذ في الدين لأصالة وجوب وفائه
حينئذ فتأمل جيدا. هذا وفي المسالك « لا فرق في المستثنيات بين كونها عين مال بعض
الغرماء وعدمه عندنا » قلت : قد استشكل فيه الفاضل في المحكي عن تحريره ، والشهيد
في الحواشي ، لتعارض العمومين ، بل قد يقال بظهور نصوص المقام في غير الفرض ،
فيكون دليل الفسخ بلا معارض ، بل لعل مثله ليس بيعا في الدين ، لكن قد يشعر قوله
في المسالك عندنا بالإجماع ، وربما ظهر ذلك أيضا من التذكرة حيث لم يحك الخلاف فيه
، إلا عن احمد لقوله « من أدرك متاعه » إلى آخره وأجاب عنه بأنه ليس على إطلاقه
، لأنه مشروط إجماعا بشرائط تخرجه عن الاحتجاج به في صورة النزاع ، لأن شرط الأخذ
عندنا أن لا يكون مما يحتاج إليه المفلس في ضروريات معاشه.
ولو باع الحاكم أو
أمينه مال المفلس ، ثم طلب بزيادة لم يفسخ العقد إذا لم يكن ذلك بخيار ونحوه ، بلا
خلاف أجده فيه ، للأصل السالم عن المعارض ، ولو التمس من المشتري الفسخ لم يجب
عليه الإجابة للأصل أيضا لكن يستحب قطعا في كل طالب للإقالة ، فضلا عن المقام ،
ولو كان البيع بخيار فسخ بل في جامع المقاصد « لا ريب في الوجوب » وفي المسالك «
في الوجوب نظر ، أقربه ذلك ، وإن كان قد بيع بثمن المثل ، للقدرة على تحصيل
الزيادة بالفسخ ، فيكون كما لو طلب بزيادة عن ثمن المثل قبل البيع » قلت : ينبغي
الجزم بذلك ، مراعاة للأصلح مع تيسره ، وفرق واضح بينه وبين ما إذا لم يكن خيار ،
وإن بذل المشتري الإقالة لعدم حق للمفلس ينبغي مراعاته ، فلا يجب على الحاكم
الإجابة لو بذلها المشتري فضلا عن وجوب الالتماس عليه ، وان علم اجابة المشتري له.
__________________
نعم يستحب للحاكم
الفسخ مع رضا المشتري كما نص عليه في القواعد وغيرها ، بل قد يقال : باستحباب
التماس الحاكم للمشترى عليها ، بل عليه يحمل ما عن المبسوط إذا باع الحاكم أو
أمينه من مال المفلس بثمن مثله ، ثم جاء به زيادة بعد لزوم البيع وانقطاع الخيار ،
سئل المشتري الإقالة أو بذل الزيادة ، ويستحب للمشتري الإجابة الى ذلك ، لان فيه
مصلحة المفلس ، وان لم يجبه إلى ذلك لم يجبر عليه ، لان البيع الأول قد لزم ، إذ
احتمال ارادة وجوب السؤال مخالف للأصل ، بلا مقتض.
ومن الغريب ما في
الحواشي المنسوبة إلى الشهيد عند قول الفاضل ولو بذلت زيادة بعد الشراء استحب
الفسخ ، قال : « هذا إن كان للبائع خيار مجلس أو شرط أو غبن ، وإلا فلا ، نعم
يستحب للمشتري الإقالة ، ويحتمل في الأول الوجوب ، وقد استشكله في باب الوكالة
خصوصا على قول الشيخ أن المبيع لا يملك إلا بعد انقضاء الخيار ، قلت :المتجه أيضا
وجوب الفسخ على الوكيل مع الخيار ، وعموم وكالته له مراعاة للمصلحة ، كما هو واضح.
ولعل الذي دعاه الى ما ذكره ظهور قول الفاضل استحب الفسخ في أن له ذلك ، وان لم
يرض المشتري ، وليس إلا مع الخيار ، وفيه أن المراد استحباب الفسخ مع رضى المشتري
بالإقالة ، كما ذكرناه سابقا والله أعلم.
ويجري عليه نفقته
وكسوته ونفقة من تجب عليه وكسوته ، ويتبع في ذلك عادة أمثاله إلى يوم قسمة ماله ،
فيعطى هو وعياله نفقة ذلك اليوم بلا خلاف أجده في شيء من ذلك ، وفي محكي المبسوط
لا خلاف في أنه يجب أن ينفق عليه ، وعلى من تجب عليه نفقته من أقاربه وزوجته
ومماليكه من المال الذي في يده ، ولا يسقط عنه نفقة أحد منهم. وفيه أيضا يجب أن
يكسى ويكسى جميع من تجب عليه كسوته من زوجته وأقاربه إجماعا ، وقدرها ما جرت به
عادته من غير سرف ، وقد حد ذلك بقميص وسراويل ومنديل وحذاء لرجله ، وان كان من
عادته أن يتطلس دفع إليه طيلسان ، وإن كان بردا شديدا زيد في ثيابه محشوة ، وأما
جنسها فإنه يرجع أيضا فيها إلى عادة مثله مع الاقتصاد ، وفي التذكرة « يجب على
الحاكم أن يترك له دست ثوب يليق بحاله ، وقميص وسراويل ومنديل ومكعب ويزيد في
الشتاء جبة ، ويترك له العمامة
والطيلسان والخف ،
ودراعة يلبسها فوق القميص إن كان لبسها يليق بحاله ، لأن حطها عنه يزري بحاله ،
وفي الطيلسان والخف نظر ، ( إلى أن قال ) : ويجوز أن يترك له نفقة يوم القسمة ،
وكذا نفقة من عليه نفقته » إلى غير ذلك من كلماتهم ، وإن اقتصر بعضهم على ثياب
التجمل ، إلا أن المدرك في الجميع واحد ، وهو ما ذكرنا سابقا.
مضافا الى ما
تسمعه مما ورد في الكفن الذي هو كسوة الميت ، فإن الحي أعظم حرمة منه ، وإلى ما
يشعر به في الجملة خبر على بن إسماعيل « عن رجل من أهل الشام أنه سأل أبا الحسن 7 عن رجل عليه دين
قد فدحه وهو يخالط الناس ، وهو يؤتمن يسعه شراء الفضول من الطعام والشراب ، فهل
يحل له أم لا؟ وهل يحل أن يتطلع من الطعام ، أم لا يحل له الا قدر ما يمسك به نفسه
ويبلغه؟ قال : لا بأس بما أكل » والنبوي « ابدء بنفسك ثم بمن تعول » والى ما دل على وجوب الإنفاق
الذي يرجح على ما دل على وفاء الغريم بوجوه منها فتوى الأصحاب ، واختص نفقة ذلك
اليوم لعدم انضباط غيره ، ولاحتمال تعلق وجوب نفقة اليوم الشامل لليل عليه بأول
اليوم ، دون غيره من الأيام ، وان قلنا بارتجاع نفقة من يموت من عيلته في أثناء
النهار ، بناء علي أنه يملكه المنفق عليه ، بشرط اجتماع الشرائط لا مطلقا ، وان
احتمله في المسالك.
وعلى كل حال بذلك
يفترق عن الكسوة التي لا معنى لاعتبارها يوما فيوما ، ومن هنا لاحظوا فيها المعتاد
فيها كما وكيفا وزمانا ، ولو اتفقت القسمة في طريق سفره ، ففي القواعد ، وجامع المقاصد
، ومحكي الإيضاح أن الأقرب اجراء النفقة إلى يوم وصوله ، بل في الثاني ان احتمال
العدم ضعيف جدا ، إذا لم يكن دون منزله بلد آخر للإضرار المؤدي إلى الهلاك أو
المشقة العظيمة ، قال : ولو كان بلد دون منزله ففي الاجراء إلى وطنه المألوف إشكال
، هذا وفي التذكرة أن كلما يترك له
__________________
إذا لم يوجد في
ماله اشترى له ، وهو جيد بالنسبة إلى النفقة دون الدار والخادم والفرس ونحو ذلك
مما لم يكن متخذا لها ، وإن كان محتاجا إليها لعدم الدليل.
وفيها أيضا أنه لو
كان للمفلس صنعة تكفيه لمؤنته وما يجب عليه لعياله ، أو كان يقدر على تكسب ذلك لم
يترك له شيء وكأنه مناف لإطلاق الأصحاب الذي قد عرفت أن منشؤه تقديم ما دل على
وجوب الإنفاق ، والقدرة على التكسب لا تنافيه. ولا تقتضي تقديم حق الديان على حق
من وجبت نفقته عليه فتأمل جيدا ، وفيها أيضا أن الاولى الاعتبار بما يليق بحاله في
إفلاسه ، لا في حال ثروته ، ولو كان يلبس قبل الإفلاس أزيد مما يليق بحاله ، رد
إلى اللائق. وان كان يلبس دون اللائق تقتيرا لم يزد عليه في الإفلاس ، ويترك
لعياله من الثياب ما يترك له ، قلت : قد يقال : إن المدار على اللائق بحاله في حد
ذاته ، مع قطع النظر عن حالي إفلاسه وثروته. نعم لو كان مقترا على نفسه لم يزدد
على ذلك كما ذكره.
ولو مات قدم كفنه
على حقوق الغرماء ، ويقتصر على الواجب منه بلا خلاف أجده ، وقال زرارة « سألت أبا عبد
الله 7 عن رجل مات وعليه دين بقدر كفنه؟ قال : يكفن بما ترك ، إلا أن يتجر انسان
فيكفنه ، ويقضى بما ترك دينه » وخبر إسماعيل بن أبى زياد « عن جعفر عن
أبيه 8 قال : قال رسول الله 6 إن أول ما يبدء به من المال الكفن ثم الدين ثم الوصية ، ثم
الميراث » وهما الحجة مضافا إلى محكي الإجماع في جامع المقاصد ، وإلى ما دل على
التكفين من أصل المال ، المرجح على ما دل على وفاء الدين بما عرفت ، بل
ليس في الخبرين الاقتصار على الواجب ، فقد يقال : بتقديم الكفن المتعارف بالنسبة
إلى ذلك الشخص ، على وفاء الدين.
خصوصا إذا قلنا : إن المنشأ في تقديمه
كونه من النفقة التي قد عرفت الرجوع
__________________
فيها إلى عادة
أمثاله ، كما يومي اليه إلحاق باقي مؤن تجهيزه من السدر والكافور وماء الغسل ونحو
ذلك ، بالكفن في التقديم ، بل ومؤن تجهيز كل من وجب عليه تجهيزه ، ضرورة عدم
المدرك لذلك إلا كونه من الإنفاق الذي قد عرفت تقديمه على وفاء الدين. فالوجه في
ذلك كله الرجوع إلى المتعارف ، وإن زاد على الواجب ، ما لم يقم إجماع على خلافه ،
اللهم إلا أن يقال : إنا نمنع كون المنشأ في وجوب الكفن الإنفاق ، ولذا لم يجب
تكفين من وجبت نفقته عليه من أقاربه ، بل المنشأ الخبران ، وتقديم ما دل على
التكفين من أصل المال على ما دل على وفاء الدين ، ومثله باقي مؤن التجهيز فينبغي
حينئذ الاقتصار على الواجب منه ، دون المندوب الذي قد ورد فيه أنه ليس من الكفن.
نعم لا بأس بالرجوع في جنس الواجب إلى الوسط ، مع أن المحكي عن البيان الاقتصار
على الأدون ، واحتمله غيره أيضا ، وقد تقدم لنا بعض الكلام في ذلك في كتاب الطهارة
فلاحظ وتأمل.
ثم إن الظاهر عن
النص والفتوى عدم الفرق في هذه المستثنيات بين كون الدين لطاعة أو مباح أو معصية ،
وبين كونه عوض غصب وسرقة وإتلاف محرم وغيرها ، وبين كونه لمعين وغيره ، كالزكاة
والكفارة والخمس والنذور ونحوها.
أما تارك الحج
عمدا حتى ذهب ماله ، فالمتجه وجوب بيعها في أدائه للمقدمة ، ولعدم شمول أدلة
المقام له حتى نفي الحرج ، ضرورة كونه هو الذي أدخله على نفسه على أنه معارض بما
دل على وجوب حجه على كل حال ، لكن عن فقه الرضا 7 « إن كان غريمك معسرا وكان أنفق ما أخذ منك في طاعة الله
فانظره إلى ميسرة ، وهو أن يبلغ خبره الامام 7 ، فيقضي عنه ، أو يجد الرجل طولا فيقضي دينه ، وإن كان
أنفق ما أخذ منك في معصية الله فطالبه بحقك ، فليس من أهل هذه الآية ».
وفي خبر محمد بن
سليمان عن رجل من أهل الجزيرة يكنى أبا نجاد « قال سئل الرضا 7 عن رجل وأنا اسمع
فقال له : جعلت فداك إن الله عز وجل يقول :
__________________
( وَإِنْ كانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) أخبرني عن هذه النظرة التي ذكر الله تعالى في كتابه ، لها
حد يعرف إذا صار هذا المعسر إليه لا بد من أن ينظر ، وقد أخذ مال هذا الرجل ،
وأنفقه على عياله ، وليس له غلة فينظر إدراكها ، وليس له دين ينظر محله ولا مال
غائب ينظر قدومه؟ قال : نعم ، فينتظر بقدر ما ينتهي خبره إلى الامام ، فيقضي ما
عليه من الدين من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في طاعة الله عز وجل ، وإن كان أنفقه
في معصية الله فلا شيء على الامام له ، قلت : فما لهذا الرجل الذي ائتمنه ، وهو
لا يعلم فيما أنفقه ، في طاعة الله أم في معصيته ، قال : يسعى له في ماله فيرده
عليه وهو صاغر ».
وعن الصدوق الفتوى
بمضمونها ، فجوز المطالبة للمعسر إذا كان قد أنفقه في معصية ، ولعل الدين إذا كان
معصية في نفسه ، كالسرقة والغصب أولى من ذلك عنده ، وربما استحسن بعض متأخري
المتأخرين الجمع بين خبر السكوني الدال على تسليم المديون إلى غرمائه ليستعملوه ، وغيره مما
دل على العدم بذلك أيضا ، إلا أن الجميع كما ترى بعد عدم ثبوت حجية الكتاب المزبور
عندنا ، وضعف خبر أبي نجاد واضطراب متنه ، بدلالة أوله على الإنفاق على العيال ،
وذيله على أنه لم يعلم ، بل ما فيه من عدم وفاء الامام عنه مع الجهل بحاله مخالف
لأصالة صحة فعل المسلم.
كل ذلك مضافا إلى
ما قيل : من أولوية الانظار بالمنفق في المعصية من المنفق بالطاعة ، باعتبار عدم
حلية الزكاة للأول دون الثاني ، فلا ريب حينئذ في أن الإطلاق المزبور الذي قلنا
أنه الظاهر من النص والفتوى أولى ، كما أن الظاهر منهما أيضا عدم التسامح في
الزائد على المستثنيات ، ضرورة وجوب وفاء الدين الذي يمكن دعوى استقلال العقل فيه
، فضلا عما ورد فيه من الشرع.
وربما وسوس فيه
بعض متأخرين المتأخرين مدعيا أن الظاهر من النصوص التوسعة في ذلك ، فإن عمر بن
يزيد « قال : قد أتى رجل أبا عبد الله 7 يقتضيه
__________________
وأنا حاضر ، فقال
له : ليس عندنا شيء. ولكن يأتينا خِطْر ووسمة فتباع ونعطيك إنشاء الله ، فقال له
الرجل : عدني ، فقال له 7 : كيف أعدك وانا لما لا أرجو أرجى منى لما أرجو » وهو دال
على التوسعة ، وعدم ما ذكروه من التضييق ، فإنه يبعد كل البعد أن لا يكون له مال
بالكلية سوى المستثنيات المذكورة ، إذ المستفاد من الاخبار أنه كان ذا ثروة وأملاك
، وإن تعذر عليه النقد في ذلك الوقت.
وهو من غرائب
الكلام فإنه ليس في الخبر دلالة على مضايقة الديان له هذه المضايقة ، وإنما تقاضاه
بتخيل وجود شيء عنده ، فأرضاه بالكلام حتى أراد منه الوعد على ما ذكره ، فأجابه
بما سمعت. نعم ربما يستفاد من خبر يزيد بن معاوية نوع سعة « قال :
قلت لأبي عبد الله 7 : إن على دينا يعوزني وأظنه قال ولأيتام ، وأخاف إن بعت
ضيعتي بقيت وما لي شيء؟ فقال : لا تبع ضيعتك ، ولكن أعط بعضا ، وأمسك بعضا » لكن
يمكن أيضا أن لا يكون مقتض لتعجيل دينهم ، وأنهم محتاجون إلى الإنفاق الذي يحصل
بالدفع تدريجا ، بل ربما أذن 7 له في ذلك ، باعتبار ولايته 7 عليهم ، وكل ذلك مع عدم دلالة في الخبر على إلزام الولي له
بذلك؟ وأنه إنما سأل الإمام عن أصل وجود الدين عليه لهم ، وأنه يريد وفاءه وإن لم
يكن ملتزما بذلك. بل هو الظاهر من الخبر والله أعلم.
__________________
مسائل ثلاث
الأولى : إذا قسم
الحاكم مال المفلس على غرمائه ثم ظهر غريم لم يكن يعلم به وليس له عين مال قد
اختار الفسخ فيها نقضها بل هي انتقضت في نفسها وشاركهم الغريم كما في الإرشاد ،
والتحرير ، والمسالك ، ومحكي المبسوط ، والتذكرة ، لعدم صدق القسمة التي كان يأمر
بها أمير المؤمنين 7 ضرورة أنها إخراج الحصص المشاعة إلى التعيين ، ومع فرض
ظهور الغريم المشارك لهم بسبب سبق دينه على الحجر مثلا لم تخرج حصته من الإشاعة
إلى التعيين ، لحصولها في كل حصة دفعت إلى كل غريم فتبطل القسمة التي من مقوماتها
وصول نصيب كل إلى صاحبه ، فلا يتحقق صدقها إلا بدفع الحصة الأخيرة إلى صاحبها لو
فرض وقوعها على التدريج.
ومن هنا ظهر لك
أنه لا فرق بعد الأمر بالقسمة التي عرفت توقف صدقها على ما سمعت ، بين اشتراك عين
المال وعدمه ، كما في المقام ، فإن المال وإن كان ملكا للمفلس بل لا يتوقف تعيين
نصيب كل منهم على التراضي ، إلا أنه علق الشارع فيه ديون الغرماء على الإشاعة ،
على معنى استحقاق كل منهم الوفاء منه بحصة مشاعة على نسبته إلى باقي الديون وأمر
بقسمته على ذلك ، وقد عرفت توقف صدقها على ما سمعت ، بل لعلها كذلك في شركة
الأموال فإن المال المشترك بين ثلاث لو فرض كونه نصفين مثلا ، وتراضى اثنان منهما
على ان يكون نصيب كل منهما في أحد النصفين عوضا عن الأخر ، فيبقى للثالث مع كل منهما
حصته المشاعة ، لم تصح القسمة ، وإن لم يكن فيها تصرفا في مال الثالث ، ولا إخراجا
له عن الإشاعة ، إلا أن القسمة لا يتحقق صدقها مع بقاء الحصة المشاعة للثالث ، بل
قد يشكل الصحة مع التراضي من
الجميع ، ما لم
يكن بعقد صلح مثلا فاتضح من ذلك أن المانع في الجميع متحد ، وهو عدم صدق القسمة
بدون ذلك.
فما في ظاهر
القواعد ـ أو محتملها في المقام ـ من عدم انتقاضها وأنه يرجع إلى كل أحد بحصة
يقتضيها الحساب ـ واضح الضعف ، وإن اختاره في جامع المقاصد محتجا بأن كل واحد قد
ملك ما هو قدر نصيبه بالإقباض الصادر من أهله في محله فلا يجوز النقض ، لأنه يقتضي
إبطال الملك السابق ، أما الحصة الزائدة على قدر نصيبه باعتبار الغريم الظاهر ،
فإنها غير مملوكة فتستعاد ، وحاصله أنه قبض نصيبه وغيره ، فهو صحيح في نصيبه ،
باطل في غيره ، لوجود المقتضي في الأول ، إذ هو الدفع من المالك على جهة القضاء ،
وقبض الديان له على هذا الوجه بخلاف الزائد فإنه ليس له دفعه وفاء ، فيختص المانع
به ، وبقاءه مشاعا غير قادح ، لانه مال الدافع ، إذ هو كما لو دفع المديون خمسة
عشر إلى الديان اشتباها ، فإنه يصح الدفع والقبض في خمسة فقط ، وان بقيت مشاعة في
العشرة المشتركة بينهما ، وبذلك افترق المقام عن الأموال المشتركة بين ملاك
متعددة.
لكنك خبير بما فيه
بعد الإحاطة بما ذكرنا ، مضافا إلى أن مقتضاه الصحة حتى في صورة الاشتباه في
التوزيع بين الغرماء الحاضرين ، وفي صورة نسيان بعضهم ، وفي صورة العمد إلى اختصاص
أحدهم بالزائد ، أقصاه أن الغريم يضرب بالحصة ، وأما القابض فإنه يملك مقدار نصيبه
، لا أظن أحدا يلتزمه ، فإنه لا يتصور القسمة المأمور بها في بعض افراده كما لو خص
أحدهم بجميع المال ، أو خرج حصة أحدهم مستحقة للغير ، ولم يكن للمفلس إلا غريمان ،
ودعوى أن المراد بالقسمة في المقام أمر لا ينافيه شيء من ذلك ، لا شاهد له ، بل
الشاهد بخلافه متحقق ، ضرورة ظهور النصوص والفتاوى بصحة الدفع والقبض ـ إذا كان
جامعا لوصف القسمة ، فلا يترتب عليه ملك بدونه كما هو واضح ؛ هذا.
وعن فخر المحققين
أن مبنى المقام على أن الدين هل يتعلق بالتركة تعلق الدين
بالرهن ، أو
الجناية برقبة العبد؟ فعلى الأول يكون قضاء ، ويرجع بحصة يقتضيها الحساب لأنه يكون
بمنزلة صاحب الدين إذا أخذ أكثر مما يستحقه ، وعلى الثاني تبطل ، لأنها تكون قسمة
الكل المشترك حقيقة بين بعض المستحقين ، وهو كما ترى خصوصا الشق الثاني ، إذ لا
يلزم من كون تعلقه بها تعلقا كتعلق أرش الجناية ثبوت القسمة حقيقة التي هي فرع
الشركة الحقيقية ، لأن المجني عليه ، لا يملك الجاني ولا شيئا منه بمجرد الجناية ،
وإن استحق ذلك مطلقا ، أو في صورة العمد ، وأما الشق الأول ففيه مالا يخفى أيضا
بناء على ما ذكرنا.
ثم إنه لا يخفى
ثمرة القولين بأدنى تدبر في كون النماء للمفلس على النقض ، فيحسب حينئذ له من
ديونه ، لظهور بطلان القسمة من الأصل لا حين ظهور الغريم ، وللغرماء ، على تقدير
عدم النقض عدا نماء الحصة الباقية للغريم ، فإنه يكون حينئذ للمفلس ، فيقسم بين
غرمائه ، ولا يختص به صاحب الحصة ، لعدم ملكه إياها قبل القبض ، كما هو واضح. لكن
في القواعد بعد أن ذكر عدم النقض أولا ثم احتمل النقض قال : « ففي الشركة في
النماء المتجدد إشكال » ولعله للإشكال في أصل المسألة وما عن الإيضاح من أنه تفريع
على النقض وعدمه ، فإن قلنا بالنقض شارك ، وإلا فلا ومنشأ الاشكال هل هو رفع
القسمة من أصلها أم فسخ متجدد وهو كما ترى ، وكذا احتمال أنه تفريع على النقض ،
وإن قيل : إنه المبادر من العبارة ، إلا أنه واضح الفساد ومنها تحقق الزكاة على
القابض ، إذا بلغ نصيبه النصاب على عدم النقض ، ولا زكاة على النقض ، ومنها مضي
التصرف فيه على عدم النقض ، وعدمه على الآخر ، إلى غير ذلك مما هو واضح بأدنى
تأمل.
ولو كان قد تلف
المال في يد الغرماء ، فالظاهر احتسابه عليهم على كل حال أما على عدم النقض فواضح
، وأما على النقض فلانه قبضوه استيفاء ، والقبض يضمن بفاسده ، كما يضمن بصحيحه ،
ولعموم « على اليد » هذا
كله في ظهور الغريم المطالب بدين.
__________________
أما إذا كان غريم
له عين قائمة في أموال المفلس ، ففي المسالك « أما إن يجدها مع بعض الغرماء أو مع
غيرهم بأن يكون الحاكم قد باعها وجعل ثمنها في ماله ، أو يجدها بأيدي الغرماء
بالسوية ، وفيما عدا الصورة الأخيرة لا يتوجه إلا نقض القسمة لأن العين إذا انتزعت
من أحدهم بقي بغير حق ، وفي الأخيرة الخلاف السابق.
قلت : مبنى هذا
الكلام على عدم بطلان الخيار بالبيع ، أو بالدفع إلى أحد الغرماء وهو أحد
الاحتمالين أو الثلاثة أو الأربعة في المسألة كما أوضحناه في محله ، وعلى تقديره
فظاهره انحصار الخلاف في الصورة المتأخرة ، مع أنه يمكن جريانه في الصورة الأولى ،
بناء على ما سمعته من جامع المقاصد مما لا فرق فيه بين ظهور الغريم وحضوره ، وكذا
الثانية إذا فرض اختصاص أحد الغرماء بالثمن ، أو لو فرض توزيعه فالمتجه عدم نقض
القسمة ، لعدم رجوع أحد الغرماء على الآخر بحصة مشاعة ، وإنما يرجع عليهم صاحب
الثمن على حسب حصصهم ، وهو لا يقتضي بطلان القسمة ، وكذا الصورة الثالثة التي هي
فرض تسوية الغرماء في العين ، فإنه مع انتزاعها منهم أجمع له يرجع أحدهم على الأخر
بشيء.
نعم لو جعل مبنى
النقض في ذلك أن صاحب العين من جملة الغرماء ، وقد وقعت القسمة قبل حضوره ، فهو
يستحق حصة مشاعة يخير بينها ، وبين انتزاع العين ، فالنقض حينئذ لذلك بناء على أن
النقض بمثله ، ولو على جهة التخيير كان أولى ، لكن عليه ينبغي أن لا يتفاوت الحال
في الصور الثلاثة بل يتجه النقض حينئذ لو وجد العين على ملك المفلس وقد قسم ما
عداها فانتزعها. هذا. وربما توهم من عبارة المصنف والقواعد وغيرهما احتياج نقض
القسمة إلى حكم الحاكم بذلك ، وهو واضح الفساد ، كما نص عليه في جامع المقاصد ،
وإنما أسند النقض اليه باعتبار فرض كونه القاسم ، وإلا فهي منتقضة بنفسها ، بناء
على النقض كما هو ظاهر.
ولو خرج المبيع
مثلا من مال المفلس ظاهرا مستحقا للغير ، فإن كان الثمن موجودا لم يدفع بعد إلى
الغرماء رجع به صاحبه ، وإن كان قد تلف في يد المفلس
أو وليه كان ضامنا
له ، فيضرب صاحبه مع الغرماء إن كان قد أتلفه المفلس ، بناء على ضرب مثله وإن كان
بعد الحجر ، كما تقدم سابقا ، اللهم إلا أن يفرق بينهما بأن ما نحن فيه قد وقع
باختيار من المالك ورضى منه ، وإن كان على جهة الضمان فلا يضرب به ، بخلاف السابق
المفروض إتلاف المفلس قهرا على مالكه بسرقة أو غصب أو خطاء ونحوها.
لكن خيرة الفاضل
والمحكي عن الشيخ وفخر المحققين أنه يقدم على الغرماء ولو كان التلف بآفة سماوية ،
بعد أن احتمل الضرب معهم ، واستجوده في جامع المقاصد معللين له بأنه من مصالح
الحجر ، لئلا يرغب عن شراء مال المفلس ، وهو كما ترى لا يصلح مثله أن يكون مدركا
لذلك ، وانما وقع من بعض العامة بناء منهم على حجية الاستحسان ، والمصالح المرسلة
، وكذا لو تلف في يد الغرماء واختار هو الرجوع على المفلس ، فيقدم عليهم عند
الفاضل ، واحتمل الضرب ، وعلى ما ذكرنا يتجه البقاء في ذمة المفلس ، أما لو رجع
عليهم اتجه تغريم كل منهم مقدار ما قبض من ماله ، ولا يرجع به على المفلس ، لانه
قبض مضمون عليهم ، وإنما لهم الرجوع بدينهم ، لأنه باق ، وان رجع على المفلس رجع
هو على الغرماء ، لأن قرار الضمان على من تلف في يده المال ـ والله أعلم.
المسئلة الثانية
إذا كان عليه ديون حالة وديون مؤجلة وقد فلس لقصور ما عنده عن الحالة قسمت أمواله
على الحالة خاصة ولا يدخر منها شيء للمؤجلة بلا خلاف ولا إشكال ، لعدم استحقاقها
قبل الأجل ، كما تقدم سابقا في أول كتاب الفلس. نعم لو حلت قبل قسمة الكل ففي
التذكرة والمسالك والروضة شاركت بل فيها جميعها أنه لو حل بعد قسمة البعض شارك في
الباقي وضرب بجميع المال ، وضرب باقي الغرماء ببقية ديونهم ، ولعل الوجه في ذلك
بعد كونه أولى من المتجدد ، كأرش الجناية وعوض الإتلاف أن المقتضى للمشاركة موجود
، وهو كونه دينا سابقا على الحجر ، وكان الأجل مانعا ، فإذا ارتفع عمل المقتضى
عمله ، فهو كما لو أسلم الوارث قبل القسمة ، وتعلق حقوق الغرماء غير مانع من تعلق
حق غيرهم ممن شاركهم في سبب
الاستحقاق ، وبذلك
ترتفع المناقشة من بعض متأخري المتأخرين في أصل المشاركة ، بسبق تعلق حق الغير
فنمنع تعلق غيره به ، إذ هو حينئذ كالمرهون ، وإن كانت هي لا تخلو من وجه ، خصوصا
بناء على ما تقدم سابقا من عدم الرجوع لصاحب العين لو كان دينه مؤجلا وقد حل قبل
القسمة ، ونحوه مما هو مبنى على سبق تعلق الحق المانع من تعلق حق الغير.
وعلى كل حال
فالظاهر عدم الفرق في حلول المؤجل بين انتهاء المدة ، وبين إسقاطه بالصلح على
الأنقص منه مثلا ، مع المفلس الذي لا يمنع من مثل هذا الصلح ، لعدم كونه تصرفا في
المال الذي تعلق به حق الغرماء وان كان بعد الصلح يشاركهم صاحبه ، لصدق حلول
المؤجل قبل القسمة ، ودعوى المنع من مثل هذا الصلح على وجه يلحق الغريم به ، لأنه
يؤل إلى الضرر على الغرماء ، ولأنه كالدين الحاصل بعد الحجر ـ يمكن منعها لما عرفت
، ولأنه ليس دينا جديدا بل هو صلح عن ذلك الدين ببعضه ، فيكون الصلح بالنسبة إلى
الزائد كالإبراء وإن كان هو في مقابلة إسقاط الأجل ، فتأمل ، جيدا. والله أعلم.
المسئلة الثالثة :
إذا جنى عبد المفلس ، كان المجني عليه أولى به من الغرماء الذين لا يزيد تعلق حقهم
بالمال على الرهانة التي قد عرفت تقدم الجناية عليها للوجوه السابقة الآتية هنا
منضمة إلى عدم الخلاف في ذلك في المقامين ، ومنه يعلم أن تعلق حق الغرماء هنا ليس
كتعلق أرش الجناية ، وإلا أمكن القول بالاشتراك بينهما ، كما لو جنى العبد الجاني
قبل انتهاء حال الجناية الأولى ، وبالجملة يتجه فيه ذلك الحكم فعدم الخلاف في
التقديم هنا مما يومي إلى عدم كون التعلق كأرش الجناية ، وان احتمله الفخر سابقا
فيستوفي منه حق الجناية حينئذ ، فإن زاد فهو الغرماء.
وعلى كل حال ف لو
أراد مولاه فكه بما تعلق به الحق من الأموال كان للغرماء منعه لأنه تصرف مالي وقد
حجر عليه في ذلك ؛ لكن
في المسالك « إنما
يمنع المولى من فكه مع عدم المصلحة في فكه ، فلو فرضت بأن كان كسوبا يثمر مالا إلى
حين القسمة وقيمته باقية فله فكه لمصلحة » قلت : قد يمنع أيضا معها ، لتعلق الحق
في المال على وجه لا يتصرف به إلا في بيعه للوفاء ، وان اتفق حصول مصالح للمفلس ،
وكذا لو كان له رهن على دين مؤجل وكانت المصلحة في فكه ، لم يلتزم الغرماء بذلك ،
فلعل إطلاق المصنف وغيره المنع لا يخلو من قوة.
ولو كان الجاني
المفلس بما يوجب مالا ، كان المجني عليه أسوة الغرماء ، كما قدمناه سابقا ، إذ
الفرق بينه وبين عبده بالتعلق بالذمة والعين واضح ، ولو كانت جنايته عمدا فصالح
على الدية لم يشارك ، بناء على أن الواجب أولا القصاص ، وأن الدية تثبت بالصلح.
نعم لو قلنا الواجب أحد الأمرين من أول الأمر والخيار بيد المجني عليه ، أمكن
القول حينئذ بالمشاركة للغرماء ، بل لو قلنا في الصلح أنه ليس من قبيل المعاوضات ،
وإنما هو إسقاط لحق القصاص ، ورجوع إلى الدية الثابتة شرعا أمكن القول بالشركة ، فيكون
الفرق بين القولين أن الخيار في الأول بيد المجني عليه ، والثاني بأيديهما معا ،
ولعل قوله تعالى ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ
مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ ) إلى آخره لا يخلو
من اشعار بذلك ، وكأنه لذا لم يجزم الفاضل في التذكرة بعدم المشاركة في الصلح أيضا
، فإنه بعد أن حكى عن أحمد المشاركة مطلقا قال : ويحتمل عندي أن لا يشارك ، لأن
الجناية موجبها القصاص. وإنما يثبت المال صلحا وهو متأخر عن الحجر ، فلا يشارك كما
لو استدان فتأمل جيدا والله أعلم هذا تمام الكلام في حكم المفلس.
ولكن يلحق بذلك
النظر في حبسه بل حبس كل مديون فنقول :لا يجوز حبس المعسر مع ظهور إعساره سواء كان
مفلسا أي منعه الحاكم من التصرف فيما يتجدد من الأموال ، أولا ، للأنظار المأمور
به في الكتاب والسنة ، بل
__________________
والفتوى ، فإني لا
أجد خلافا في ذلك ، إلا ما تقدم سابقا من الصدوق في المعسر بصرف ما استدانه في
معصية ، وقد عرفت ضعفه.
وكيف كان ف يثبت
ذلك أي إعساره بموافقة الغريم جميعهم وإلا ففي حق الموافق ، ولو فرض تعدده وجمعه
لشرائط الشهادة ثبت حينئذ ، واندرج تحت قول المصنف كغيره من الأصحاب أو قيام البينة
لكن على التفصيل الاتى خلافا لبعض العامة ، حيث جعل قيام البينة به غير مانع من
حبسه مدة يغلب على ظن الحاكم أنه لو كان له مال لظهر ، وهو كما ترى.
فإن تناكرا أي
الغريم والمديون في الإعسار وعدمه وكان له أى للمديون مال ظاهر غير المستثنيات لم
يقبل دعواه ، وأمر ه الحاكم بالتسليم إن كان المال من جنس الحق أو تراضيا به ،
وإلا صرف اليه ببيع ونحوه فان امتنع فالحاكم بالخيار ، بين حبسه حتى يوفي بنفسه
لوجوبه عليه ، بل مماطلته فيه تحل عقوبته بالحبس وغيره وعرضه ، لقوله 6 « لي الواجد يحل
عقوبته وعرضه » المعمول بإطلاقه بين الأصحاب ، من غير ملاحظة مراتب الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ، وقد سمعت النصوص المتضمنة لفعل أمير المؤمنين 7 « فيمن كان يلتوي على غرمائه » بل لعل إطلاق الخبر المزبور
يقضي بحلية ذلك للغريم وغيره ، اللهم إلا أن يدعى أن الحبس ونحوه من وظائف الحاكم
، لانه كالتعزير الملحق بالحدود.
نعم لا إشكال في
حلية العرض للغريم ، بأن يقول له يا ظالم ونحوه لذلك ، وقوله تعالى ( لا
يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ ) ولا يلزم التفكيك
في الخبر ، إذ المراد من الحبس حينئذ أن يحبسه عند الحاكم ، فيكون التحليل له
فيهما ، بل الظاهر جواز ذلك للحاكم ، لإطلاق الخبر المزبور ، بل وغيره في وجه.
وعلى كل حال فهو
بالخيار بين ما عرفت وبين بيع أمواله وقسمتها
__________________
بين غرمائه لأنه
ولي الممتنع ، وإن كان لا يتعين عليه ذلك ، بل يخير بينه وبين الفرد الأول ، وقد
تقدم نظير ذلك في الرهن ، كما أنه تقدم التأمل فيه ، والمحكي في النصوص هنا من فعل أمير
المؤمنين 7 « أنه كان يحبسه بالالتواء ثم يأمر بقسمة ماله بين الغرماء ، فإن أبى باعه
وقسمه بينهم » بل وفي خبر السكوني منها « أنه كان يحبس في الدين ، ثم ينظر فإن كان له مال
أعطى الغرماء » وعلى كل حال هو غير التخيير المزبور ، اللهم إلا ان يقال : إنه لا
دلالة في فعله 7 على عدم جواز غير هذا الفرد ، وفيه أن نقل الأئمة : لهم بهذا اللفظ ظاهر
في أن الحكم ذلك ، فتأمل جيدا. والأمر سهل.
وكيف كان ف لو لم
يكن له مال ظاهر وادعى الإعسار ، فإن وجد البينة قضى الحاكم بها بالشرط الآتي وإن
عدمها ، وكان له أصل مال معهود أو كان أصل الدعوى مالا كالقرض ونحوه وقد أثبتها
الغريم حبس حتى يثبت إعساره لأصالة بقاء المال ، ولاشتراط الانظار بالإعسار ولم
يثبت ، ولأن أمير المؤمنين 7 كان يحبس بمجرد الالتواء ، نعم في التذكرة « إنه إذا لم
يكن له بينة بذلك يحلف الغرماء على عدم التلف ، فإذا حلفوا حبس ، ولعله مراد غيره
مع احتمال العدم ، لما عرفت من عدم اشتراط الحبس باليسار مع المماطلة ، كي يحتاجوا
إلى إثباته ، بل يكفي فيه عدم ثبوت اليسار ، وهو حاصل وان لم يحلفوا. هذا.
وقد صرح الفاضل في
التذكرة والقواعد « أنه لا يمنع الحبس تعلق حق الغير في عينه بإجارة ونحوها » وهو
كذلك مع إمكان الجمع ، أما مع عدمه ففيه اشكال ، من تعارض الأدلة ولا ترجيح ،
واحتمال ترجيح الإجارة بالسبق معارض بصورة سبق الدين وإن تأخرت المطالبة. نعم قد
يتم في صورة سبق الإجارة عليه ، كما أنه يتم ترجيح الدين عليها في صورة سبقه ، بل
قد يقال بترجيحه مطلقا ، باعتبار انجبار المستأجر بالخيار بخلافه ، إلا أن الجميع
محل للنظر ، كما أن ما في القواعد من
__________________
أنه يجوز الحبس في
دين الولد لا يخلو من اشكال ، لخبر الحسين بن ابى العلاء وللنصوص الدالة
على أن الولد وماله لأبيه وعلى عظم حق الوالدين ونحو ذلك ، ولعله لذا جزم في
التذكرة بالعدم ، وفي جامع المقاصد أنه لا يخلو من قوة ، وهو كذلك ، والله أعلم.
وعلى كل حال فإذا
تصدى لإثبات إعساره ف ان شهدت البينة بتلف جميع أمواله قضى بها ، ولم يكلف اليمين
، ولو لم تكن البينة مطلعة على باطن أمره بالصحبة المتأكدة ، لأنها بينة إثبات ،
فيشملها جميع ما دل على قبول البينة ، ولا يقدح تضمنها النفي ، لأن كل بينة إثبات
تتضمن ذلك ، حتى بينة ملك العين مثلا لزيد ، المتضمنة لعدم بيعه خفية وعدم هبته
وغير ذلك من المحتملات التي لا تقدح ، بعد أن كان شهادة البينة أمرا إثباتيا يمكن
علمها به ، وأنه هو المستند لها فيما هو مخالف للأصل ، فيلزمه حينئذ ثبوت الإعسار
، ضرورة اقتضاء تلف جميع الأموال ذلك ولا يحتاج إلى اليمين معها ، للأصل ، وظهور قوله
« البينة على المدعى » إلى آخره في عدم الشركة بينهما ، مضافا إلى أنها كسائر
البينات المعلوم عدم توقف ثبوت ما شهدت به على اليمين ، لمعلومية عدم اشتراط
قبولها بالاطلاع على باطن أمره بالصحبة المتأكدة إذ هي بعد ما سمعت كباقي بينات
الإثبات التي لا ينحصر طريق علمها بما تشهد به لذلك.
أما لو شهدت
بالإعسار مطلقا أي من دون تعرض لتلف المال المعلوم أصله وغيره لم تقبل حتى تكون
مطلعة على باطن أموره بالصحبة المؤكدة لأنها حينئذ بينة نفي ، ضرورة رجوعها الى
عدم الملك الذي يمكن أن يكون مستندها فيه الأصل المعلوم نقضه عند غيرها ، ويمكن أن
يكون اطلاعها على التلف ، إلا أنها مع فرض الصحبة المؤكدة يحصل الظن القوي بل
المتاخم أن يكون مستندها الثاني ، فيقوى حينئذ بها جانب مدعى الإعسار ، بل ظاهر
الأكثر تقديمه حينئذ على خصمه
__________________
الموافق للأصل ،
وكم من ظاهر قدم عليه ، كما في دعوى الزوجة مع الخلوة الدخول بها وغيرها ويتجه
حينئذ ما ذكره المصنف وغيره بل نسب إلى الأكثر من أن للغرماء إحلافه حينئذ دفعا
للاحتمال الخفي وهو احتمال عدم اطلاعها على أصل المال وخفائه عليها ، وإنما شهدت
بالأصل المفروض انتقاضه ، وبذلك ظهر الفرق بين بينة التلف وبينة الإعسار ، كما أنه
ظهر كون اليمن لقوة جانب مدعي الإعسار حينئذ واليمين تتبع من قوى جانبه بالأصل أو
بالظاهر الذي ثبت ملاحظته للشارع ، فالبينة في المقام لحصول الظاهر المرجح بدعوى الإعسار
، فيكون به حينئذ منكرا فيتوجه اليمين عليه لذلك ، لا أنه باق مدع ومحتاج إلى
اليمين مع البينة كيمين الاستظهار ، ضرورة ظهور قوله 7 « البينة على المدعي » في قطع الشركة ، ولا دليل بالخصوص
هنا على اليمين كالاستظهار ، مضافا إلى عدم تنقيح مستند شهادة البينة هنا وإن كان
قد حصل الظن القوي بالصحبة المتأكدة أنه التلف لا الأصل ، لكنه إذا لم يصل إلى حد
العلم غير مجد في قبول مثل هذه البينة التي قد عرفت رجوعها إلى بينة النفي المعلوم
عدم قبولها ما لم تؤل إلى الإثبات بالحصر ونحوه ، ولو فرض كونها في المقام كذلك رجعت
إلى البينة الأولى ولم يحتج معها إلى اليمين قطعا ، كما أن الاولى لو فرض شهادتها
على تلف المال الظاهر ، ولم تعلم بغيره ولا اعترف الخصم بعدم غيره اتجه أيضا توقف
ثبوت الإعسار على اليمين ، ضرورة رجوع الحال حينئذ إلى دعواه ممن لم يعلم له أصل
مال ، وستعرف احتياجه حينئذ إلى اليمين.
نعم لو شهدت بتلف
الظاهر واعترف الخصم بعدم غيره لم يحتج حينئذ ثبوته إلى يمين كما هو واضح ، وبذلك
تم كلام الأكثر وسقط ما أطنب به في المسالك ، فإنه بعد أن قرر المشهور حاكيا له عن
المصنف والعلامة في غير التذكرة قال : « أما فيها فعكس الحكم ، وأثبت اليمين في
بينة التلف دون بينة الإعسار ، محتجا بأن البينة
__________________
إذا شهدت بالتلف
كان كمن ثبت له أصل مال واعترف الغريم بتلفه ، وادعى مالا غيره فإنه يلزمه اليمين
» وأفتي في موضع آخر منها بأنه لا يمين في الموضعين محتجا بأن فيه تكذيبا للشهود ،
ول قوله 6 « البينة على المدعي واليمين على المنكر » والتفصيل قاطع للشركة.
ثم قال : « إن
تلخيص الحكم في ذلك لا يخلو من اشكال ، والفرق لا يخلو من نظر ، وذلك لأن شهود تلف
ماله إما أن تكون شهادتهم على تلف المال الظاهر لهم من غير معرفة لهم بحال باطن
أمره ، بحيث يحتمل أن يكون له مال آخر لم يتلف ، كما هو الظاهر من قول الجماعة
وتعليلهم المسألة وتصريحهم بعدم اعتبار كونهم من أهل الخبرة بحاله ، ويشكل مع هذا ثبوت
إعساره ، لأن حاله بالنسبة إلى المال باطنا مجهول مطلقا ، حتي لو فرضنا أن هذا
المال الظاهر لم يكن له لم يناف ثبوت ماليته باطنا ، والحال أنه لم يختبر ، وإن
أرادوا ـ بعدم اعتبار اطلاعهم على باطن أمره أن الحاكم لا يعتبر اطلاعه على ذلك ،
مع ان اطلاعهم معتبر في نفس الأمر اتكالا علي عدالتهم ، وأن العدل لا يجازف في
شهادته كما صرح بهذا المعنى بعض الأصحاب أشكل الفرق بين الأمرين ، لأن ذلك آت في
الشهادة على مطلق الإعسار وتحويلها نحو الإثبات لئلا يتمحض النفي غير متوقف على
هذا الشرط ، فإن مرجعه الى تحرير شهادتهم ، لا إلى علمنا بأخبارهم ، وحكم اليمين
متفرع على ما قررنا ، فإن اكتفينا في بينة التلف بالاطلاع علي ظاهر ماله ، فلا بد
من القول باليمين ، لأنه يصير بهذه البينة كمن لا يعلم له أصل مال مع احتماله ،
ويتوجه عدم الافتقار الى اليمين في بينة الإعسار المطلعة علي الحال ، لأن ذلك أقصى
ما يمكن اعتباره شرعا في التفحص ، فلا يكلف مع البينة أمرا آخر ، لأصالة البراءة
أو لظاهر الخبر ، وإن اعتبرنا اطلاع بينة التلف علي باطن أمره كما ذكره بعضهم توجه
عدم اعتبار اليمين معها لما ذكرناه.
ويمكن أن يوجه
كلام الجماعة الدال على عدم اعتبار الخبرة الباطنة في شهادة التلف لا بالنظر إلى
الحاكم ، ولا بالنظر إلى الشهود بأن هذا المديون لما كان يعرف
__________________
له أصل مال ولو
بكون الدعوى كذلك ، فلا بد لهذا المال الثابت ظاهرا من أمر يدفعه ، فإذا شهدوا
بتلف أمواله التي يطلعون عليها فقد علم الانتقال عن ذلك الأصل الباقي في المال ،
وإن أمكن بقاء بعضه ، إلا أنه غير معلوم ، والتكليف إنما هو بالظاهر ، بخلاف ما إذ
اشهدوا بإعساره ، فإن المراد أنهم لم يطلعوا على ماله ، وهذا لا يدفع ذلك الأصل
الذي هو بقاء المال السابق بوجه ، فلا بد مع ذلك من الخبرة الباطنة والعشرة
المتأكدة ليحصل الظن بتلف ذلك المال ، وانما يحصل بذلك.
فظهر الفرق بين
الحالين ، وتوجه به ما اختاروه من ثبوت اليمين في الأول دون الثاني ، لأن الأول لا
يدفع المال الباطن يقينا ، ولا ظنا ، لعدم الاطلاع عليه ، بخلاف الثاني ، لأن كثرة
ملابسته ومجاورته والاطلاع على الصبر على ما لا يصبر عليه من يكون بيده مال عادة ،
يفيد الظن الغالب بعدم المال ، فلا يتجه مع ذلك انضمامه اليمين إلى البينة.
نعم لو ادعى
الغريم وجود مال مخصوص للمديون ، واعترف بعدم غيره فشهد الشهود بتلفه لم يجب
اليمين في الأول أيضا ، ولم يعتبر اطلاع الشهود على باطن أمره ، إلا أن هذه مادة
خاصة والمسألة أعم منها ، والظاهر من عبارة الأصحاب وغيرهم في هذه المسألة هو ما
وجهناه أخيرا من أن شهود التلف لا يعتبر اطلاعهم على حاله في أنفسهم ولا عند
الحاكم ، بخلاف شهود الإعسار ، ووجهه ما بيناه.
لكن المحقق الشيخ
على ; قرر كلامهم على ما نقلنا من الوجه ، وهو أن المراد عدم علم الحاكم باطلاعهم
مع اشتراطه في نفس الأمر ، فحصل الالتباس في الفرق على تقريره ، ونفى اليمين في
الأول وإثباتها في الثاني على تقريرهم ، فإن الاطلاع على باطن أمره إن كان معتبرا
فيها فإما أن يقال باشتراط علم الحاكم به أيضا أو نفيه عنهما اتكالا على العدالة ،
فالفرق ليس بجيد ، وإذا لم يطلعوا على باطن أمره في التلف على ما ذكروه ، يكون
إثبات اليمين فيه أوجه من الآخر كما ذكره في التذكرة دون العكس ، لأن الخبرة
الباطنة أفادت ظنا قويا ، مضافا إلى البينة بعدم المال ، ومختار التذكرة في إثبات
اليمين في الأول دون الثاني أجود ، ونقلناه
بطوله ليظهر لك
مواقع النظر فيه من غير ما ذكرناه أيضا خصوصا فيما ذكره من التوجيه لكلام الجماعة
الذي جعل نتيجته ما لا يقولون به ، من إثبات اليمين لبينة التلف دون بينة الإعسار.
ومن الغريب قوله
بعدم احتياج الثانية اليه ، مع اعترافه بأنها إنما تفيد الظن القوى بسبب الصحبة
بأن مستندها التلف ، ومعلوم أن مثل ذلك لا يخرجها عن كونها بينة نفى ، وعن احتمال
كون مستندها الأصل المعلوم قطعه كما أوضحناه سابقا وأغرب منه عدم ذكره الوجه
الظاهر من كلماتهم في تشقيقه عدم اعتبار الاطلاع في بينة التلف من أن مرادهم جميع
الأموال المستلزم لثبوت الإعسار ، وأن مثله لا يعتبر فيه الاطلاع بالصحبة ولا
اليمين ، لأنها فرد من بينة الإثبات ، ولا ينحصر طريق علمها بذلك في الصحبة ، ولو
فرض ان بينة الإعسار كذلك ، استغنت عن اليمين أيضا ، إلا أنك قد عرفت احتمالها
وأنها ظاهرة مع الصحبة في أن مستندها الاطلاع على التلف ، كما أنه لو فرض كون بينة
التلف على تلف مال مخصوص ، اتجه اعتبار اليمين من المديون في نفي دعوي غيره ، وما
حكاه عن التذكرة من عكس الأمر إنما ذكره احتمالا ، مع أن الظاهر خروجه عن موضوع
البحث كما اعترف به في جامع المقاصد ، لأن ظاهر كلامه فرض شهادة البينة على تلف
المال الذي في يده ظاهرا لا جميع الأموال ، واليمين حينئذ مع عدم اعتراف الخصم
بعدم غيره متوجه كما ذكرناه ، بل لعل ما حكاه عنها أيضا من عدم احتياج اليمين في
البينتين خارج أيضا ، لظهور كلامه في عدم اليمين مع بينة الإعسار التي تؤل إلى
بينة التلف في معلومية كون مستندها العلم بتلف جميع أمواله ، وأنها غير محتملة لأن
يكون مستندها الأصل ، فإنه جعلها كالبينة على عدم الوارث فلاحظ وتأمل.
وبالجملة كلامه في
المقام لا يخلو من نظر من وجوه ، ثم قال : « واعلم أن الخبرة المعتبرة في شهود
الإعسار إن اطلع الحاكم عليها فلا كلام ، وإلا ففي الاكتفاء بقولهم له أنهم بهذه
الصفة وجه قوي ، وقطع به في التذكرة » قلت لا ريب في ضعفه ،
ضرورة عدم الدليل
على ثبوته بقولهم الذي مرجعه إلى دعوى لا يثبت بها مثله بعد اعتبار اتصافهم به
كالعدالة ، فلا بد من العلم به ولو ببينة شرعية كما هو واضح ، وأومأ إليه في جامع
المقاصد.
وقد تلخص مما
ذكرناه أن بينة الإعسار عندهم ، لم يعلم رجوعها إلى إثبات حتى يتوجه الاستغناء عن
اليمين ، للخبر القاطع للشركة ، بل هي بسبب الصحبة المؤكدة أفادت كون الظاهر مع
دعوى الإعسار ، فقدموه على الأصل بيمين المعسر كما أوضحناه سابقا ، ولو فرض العلم
برجوعها إلى إثبات ، أغنت عن اليمين قطعا وكانت كبينة التلف حينئذ ، بناء على
المعلوم من مذهب الأصحاب من قبول بينة النفي إذا رجعت إلى إثبات ، خلافا لبعض
العامة ، ضرورة شمول ما دل على حجية البينة حينئذ لها ، بخلاف ما إذا لم يعلم
رجوعها إلى إثبات ، لاحتمال كون مستندها أصل العدم ، المعلوم انتقاضه ، كما في
المقام ، أولا تزيد على إنكار المنكر والله أعلم.
وكيف كان فان لم
يعلم له أصل مال ولا كانت الدعوى الثابتة عليه مالا وادعى الإعسار قبلت دعواه ولا
يكلف البينة ، وللغرماء مطالبته باليمين لانه بموافقته للأصل كان منكرا وقد قال 7 « البينة على
المدعي واليمين على من أنكر » بل منه ينقدح الإشكال في قبول البينة منه لو أقامها
على وجه يعلم رجوعها إلى إثبات ، بناء على عدم قبولها من المنكر ، لكن جزم في
التذكرة بقبولها وإسقاط اليمين عنه حينئذ ، ولا يخلو من بحث كما يأتي إنشاء الله.
ومن الغريب من بعض
العامة منع قبوله هنا إلا بالبينة ، بناء على أن الظاهر من حال الحر أنه يملك شيئا
قل أو كثر ، وفيه منع اعتبار هذه الظاهر بدون دليل بحيث يقطع الأصل. نعم لو فرض
العلم بذلك اتجه ما ذكره ، بل لعله متجه أيضا فيما لو حصل العلم بإتلافه مالا أيضا
، لانقطاع أصل العدم فيه قطعا ، وحصول المال في الجملة معارض بالعلم بإتلافه كذلك
، فلا يستصحب شيء منهما ، لرجوعه إلى استصحاب الجنس ،
__________________
فيكون قول كل
منهما خاليا عن الأصل ، إلا أن الواجب على المديون الوفاء ، حتى يثبت إعساره الذي
هو الشرط في الإنظار ، لا أن اليسار شرط في صحة المطالبة ، فيتجه حينئذ حبسه إلى
ثبوت إعساره فتأمل جيدا والله أعلم.
وعلى كل حال فإذا
قسم المال الذي عنده بين الغرماء وجب إطلاقه ولا يجوز إبقاؤه في الحبس الذي هو
أذية حينئذ بلا حق ، ولو فرض كونه مفلسا فهل يزول الحجر عنه بمجرد الأداء
والاقتسام ، لأنه إنما حجر عليه بالنسبة إلى الموجود من ذلك المال وقد فرض قسمته
أو يفتقر إلى حكم الحاكم لأنه قد حصل بحكمه فلا يرتفع إلا بحكمه للاستصحاب كالسفيه
الأولى عند المصنف والفاضل وغيرهما أنه يزول بالأداء لزوال سببه ولا بأس به مع فرض
كون الحجر بالنسبة إلى المال الموجود ، لا إذا كان فيه وفي المتجدد ، ولا في
الإطلاق إذا فرض شموله لهما كما هو واضح والله أعلم.
إلى هنا تم الجزء الخامس والعشرون من
كتاب جواهر
الكلام بحمد الله ومنه وقد بذلنا غاية
جهدنا في تصحيحه ومقابلته
للنسخة المصححة التي قوبلت بنسخة الأصل
المخطوطة المصححة بقلم
المصنف طاب ثراه ويتلوه الجزء السادس
والعشرون في أحكام
الحجر إنشاء الله تعالى
على
الآخوندى
فهرس
ما في هذا
الجزء من المطالب
المقصد الخامس في القرض وحقيقته وتعريفه وبيان صيغه...................... ١
ثواب
القرض وشرائطه وأنه لو شرط النفع حرم.................................. ٤
إذا
تبرع المقترض بزيادة في العين أو الصفة....................................... ٧
إذا
جر القرض منفعة حكمية كما لو شرط الدراهم الصحاح عوض المكسرة....... ١٠
فيما
يصح إقراضه وهو كل ما يضبط وصفه وقدره.............................. ١٤
وجوب
الضبط في المقترض لمعرفة العوض....................................... ١٧
جواز
اقراض الجواري والعبيد والكلام في اقراض اللئالى.......................... ٢١
متى
يملك المقترض القرض : بالقبض أو التصرف؟............................... ٢٣
هل
للمقترض ارتجاع القرض بعد القبض ولو كره المقترض؟...................... ٢٨
إذا
شرط التأجيل في القرض هل يلزم الوفاء به؟................................. ٣٠
يصح
تعجيل القرض لو كان مؤجلا باسقاط بعضه مع التراضى................... ٣٦
وجوب
نية الاداء في القرض إذا غاب صاحبه غيبة منقطعة........................ ٤١
إذا
لم يقدر على صاحب المال يجب عليه أن يوصي به ويعزله من ماله.............. ٤٤
هل
يصح المضاربة بالدين قبل قبضه........................................... ٤٩
إذا
باع الذمى مالا يصح للمسلم تملكه كالخمر والخنزير......................... ٥٠
إذا
كان لاثنين مال في ذمة ثم تقاسما بما في الذمة................................. ٥٤
إذا
باع الدين بأقل منه لم يلزم المدين أن يدفع إلى المشترى اكثر مما بذله............ ٦٠
حرمة
القرض بشرط البيع محاباة أو الاجارة أو غيرها من العقود................... ٦١
إذا
اقترض دراهم ثم أسقطها السلطان وجاء بدراهم غيرها....................... ٦٦
يجوز
الاقتراض وإن لم يكن له مقابل وقدرة على القضاء......................... ٦٧
المقصد
السادس في دين المملوك
لا
يجوز للمملوك أن يتصرف في نفسه باجارة ولا استدانة ولا غير ذلك من العقود.. ٦٩
إذا
أذن له المولى في الاستدانة كان الدين لازما له............................... ٧٣
إذا
اذن له في التجارة أو الابتياع.............................................. ٧٦
إذا
اقترض العبد بغير إذن فهل تستعاد العين وإن تلفت يتبع به؟................... ٨٦
إذا
اقترض مالا فأخذه المولى فتلف في يديه..................................... ٨٧
خاتمة
في اجرة الكيال والوزان والسمسار والدلال وفيها فروع.................... ٨٨
كتاب
الرهن
تعريف
الرهن وأنه يفتقر إلى ايجاب وقبول وبيان صيغتهما........................ ٩٤
هل
القبض شرط في صحة الرهن أو في لزومه وبيان الاختلاف في ذلك........... ٩٩
إذا
أذن في قبضه ثم رجع قبل قبضه. أو نطق بالعقد ثم جن..................... ١٠٦
هل
تكون استدامة القبض شرطا في صحة الرهن أو لزومه...................... ١٠٨
لو
أقر الراهن بالاقباض ثم رجع عن اقراره.................................... ١١٣
الفصل الثانى في شرائط الرهن......................................... ١١٦
من شرطه أن يكون عينا مملوكان يمكن قبضه
ويصح بيعه.................... ١١٦
إذا
أرهنه منفعة كسكنى الدار وخدمة العبد................................... ١١٩
إذا
رهن المدبر هل يكون رهن رقبته ابطالا لتدبيره؟............................ ١٢٠
إذا
رهن مالا يملك هل يمضى او يتوقف على اجازة المالك؟..................... ١٢٥
إذا
رهن المسلم خمرا عند ذمى او رهنها الذمى عند مسلم....................... ١٢٧
إذا
رهن مالا يصح ولا يمكن اقباضه كالطير في الهواء والسمك في الماء........... ١٢٩
هل
يصح الرهن في زمن الخيار.............................................. ١٣٢
يصح
رهن العبد المرتد ورهن الجانى خطأ وفيه مسائل.......................... ١٣٣
إذا
رهن ما يسرع إليه الفساد قبل الاجل..................................... ١٣٧
الفصل الثالث في الحق
يجوز
أخذ الرهن في كل دين ثابت في الذمة ولا يصح فيما لم يحصل سبب وجوبه. ١٤٣
لا
يجوز أحذ الرهن علي الدية قبل استقرار الجناية ولا علي قسط كل حول قبل حلوله ١٥٠
إذا
رهن على مال العجالة ولا على الاجارة المتعلقة بعين الموجر.................. ١٥٢
إذا
رهن على مال رهنا ثم استدان آخر وجعل ذلك الرهن عليهما............... ١٥٤
الفصل الرابع في الراهن
يشترط
في الراهن كمال العقل وجواز التصرف............................... ١٥٩
الفصل الخامس في المرتهن
يشترط
في المرتهن ما يشترط في الراهن ولو كان وليا ليتيم جازله أخذ الرهن له... ١٦٠
إذا
كان المرتهن ولى يتيم يجوز له أخذ الرهن لمال اليتيم مع شرائط............... ١٦٣
إذا
اشترط المرتهن الوكالة في العقد لنفسه أو وضع الرهن في يد عدل............ ١٦٥
إذا
مات الرهن تبطل وكالته دون الرهانة..................................... ١٦٧
إذا
مات المرتهن ولم يعلم الرهن فهو كسبيل ماله............................... ١٦٩
المرتهن
أحسن باستيفاء دينه من غيره من الغرماء بشرائط........................ ١٧٣
الرهن
أمانة في يد المرتهن لا يضمنه لو تلف ، وفيه فروع....................... ١٧٤
فروع
في الانفاق علي الرهن................................................ ١٧٩
يجوز
للمرتهن أن يستوفي دينه مما في يده إن خاف جحود الوارث................ ١٨٢
في
وضع الرهن في يد عدل الاختلاف في ذلك................................ ١٨٥
إذا
باع الرهن وظهر فيه عيب أوانه مستحق.................................. ١٨٩
إذا
مات المرتهن وامتنع الراهن من تسليمه إلى الوارث........................... ١٩٣
الفصل السادس في اللواحق
لا
يجوز للراهن التصرف في الرهن مطلقا..................................... ١٩٥
وكذلك
لا يجوز للمرتهن أيضا التصرف في الرهن بانتفاع ونحوه وفيه فروع...... ٢٠٧
لو
أذن المرتهن في بيع الرهن قبل حلول الاجل................................. ٢١٢
المقصد الثانى في احكام متعلقة بالرهن
الرهن لازم من جهة الراهن وليس له انتزاعه من المرتهن......................... ٢٢١
ما
يحصل من الرهن من فائدة فهى للراهن..................................... ٢٢٩
إذا
كان في يده رهنان بدينين ثم أدى الراهن أحدهما........................... ٢٣٠
إذا
رهن مال غيره باذنه ، فيه صور وفروع................................... ٢٣١
إذا
رهن لقطة مما يلقط هل يصح الرهانة...................................... ٢٤١
إذا
جنى العبد المرهون عمدا أو خطأ.......................................... ٢٤٢
إذا
أتلف الرهن متلف أو أتلفه المرتهن........................................ ٢٤٨
إذا
ارهن عصيرا فصار خمرا ثم عادخلا....................................... ٢٤٨
إذا
رهن بيضة فأحضنها فصارت في يده فرخا................................. ٢٥٤
إذا
رهن اثنان عبدا بينهما بدين عليهما....................................... ٢٥٥
المقصد الثالث
إذا
رهن مشاعا وتشاح الشريك والمرتهن في إمساكه........................... ٢٥٦
مسألة
فيما إذا مات المرتهن واخرى فيما اذا فرط في الرهن وتلف............... ٢٥٨
لو
اختلفا فيما على الرهن قلة وكثرة مع اتحاد الدين............................ ٢٦٠
لو
اختلفا في متاع فقال أحدهما وديعة والممسلك انه رهن....................... ٢٦٢
إذا
أذن المرتهن للراهن في البيع ثم رجع واختلفا في ذلك......................... ٢٦٤
إذا
اتفقا على البيع واختلفا فيما يباع به الرهن................................. ٢٧٠
إذا
ادعى رهانة شئ فأنكر الراهن وذكر أن الرهن غيره........................ ٢٧٣
إذا
كان له دينان أحدهما برهن والاخر بلا رهن فدفع إليه مالا واختلفا.......... ٢٧٤
إذا
اختلفا في رد الرهن ولم يكن له بينة....................................... ٢٧٦
كتاب
المفلس
معنى
التفليس والافلاس والمفلس.............................................. ٢٧٧
لا
يتحقق الحجر على المفس إلا بشروط أربعة................................. ٢٧٩
إذا
ظهرت أمارات الفلس هل يتبرع الحاكم بالحجر............................ ٢٨١
القول الاول في منع التصرف
اول
ما يبدء الحاكم هو منع التصرف للمفلس احتياطا للغرماء................... ٢٨٢
إذا
تصرف المفلس في امواله بالبيع والاجارة او بغير عوض كالهبة................ ٢٨٤
إذا
أقر المالك بعين أو بدين سابق هل يصح ويشارك الغرماء؟................... ٢٨٧
إذا ادعى المفلس أن هذا المال مضاربة لغائب.................................. ٢٨٩
إذا
كان قد اشترى بخيار ثم فلس هل يجوز له اجازة البيع وفسخه؟.............. ٢٩٠
إذا
كان للمفلس حق فقبض دون حقه....................................... ٢٩٢
فرعان
فيما إذا أقرضه انسان مالا بعد الحجر او باعه بثمن في ذمته أو أتلف مالا.. ٢٩٣
إذا
اقر المفلس بمال مطلقا وجهل السبب...................................... ٢٩٤
الديون
المؤجلة بالحجر لا تحل وانما تحل بالموت................................. ٢٩٤
القول الثانى في اختصاص الغريم بعين ماله................................ ٢٩٥
من
وجد من الغرماء عين ماله هل يتعين عليه أخذ ماله؟........................ ٢٩٥
هل
الميت في ذلك سبيله سبيل الحى او يكون غرماؤه سواء في التركة............ ٢٩٦
هل
يكون خيار صاحب المال فوريا فان أخذ والاكان اسوة مع الغرماء؟.......... ٢٩٨
إذا
وجد بعض المبيع سليما أو معيبا بعيب قد استحق أرشه..................... ٣٠٠
إذا
وجد المبيع وقد حصل له نماء منفصل كالولد واللبن......................... ٣٠٥
اذا
اشترى حبا فزرعه وأحصد أو بيضة فأحضنها وصار فرخا................... ٣٠٦
إذا
باع شقصا وفلس المشترى هل يكون للشريك الشفعة...................... ٣٠٨
إذا
فلس المستأجر يجوز للمؤجر فسخ الاجارة؟................................ ٣٠٩
إذا
اشترى أرضا فغرس ثم أفلس هل يكون صاحب الارض أحق بها............. ٣١١
إذا
اشترى زيتا فخلطه بمثله أو بأجود منه هل يبطل حق البايع من العين؟......... ٣١٣
إذا
اشترى غزلا فنسجه أو ثوبا فقصره أو صبغه ثم أفلس....................... ٣١٥
إذا
أسلم في متاع ثم أفلس المسلم إليه فوجد رأس ماله.......................... ٣١٨
إذا
أولد الجارية ثم فلس هل يجوز لصاحبها انتزاعها وبيعها...................... ٣٢٠
إذا
جنى على المفلس أو على عبده خطا تعلق حق الغرماء بالدية.................. ٣٢١
إذا
شهد للمفلس شاهد بمال وحلف او حلف الغرماء.......................... ٣٢٢
إذا
مات المفلس حل ما عليه ولا يحل ماله..................................... ٣٢٣
ينظر
المعسر ولا يجوز إلزامه ولا مؤاجرته..................................... ٣٢٥
القول الثالث قسمة ماله
يستحب
احضار كل متاع إلى سوقه وحضور الغرماء تعرضا للزيادة............. ٣٢٨
ومن
ذلك أن يعول على مناد يرتضى به الغرماء وإن تعاسروا عين الحاكم........ ٣٣٠
لا
يجوز تسليم مال المفلس لمن اشتراه إلا مع قبض الثمن........................ ٣٣٢
إذا
اقتضت المصلحة تأخير القسمة........................................... ٣٣٣
لا
يجبر المفلس على بيع دارة التى يسكنها وفيه صور ومسائل.................... ٣٣٤
إذا
باع الحاكم مال المفلس ثم طلب بزيادة هل يفسخ العقد؟.................... ٣٣٩
يجرى
على المفلس وعلى عياله نفقتهم إلى يوم القسمة.......................... ٣٤٠
إذا
قسم الحاكم ثم ظهر غريم هل ينقض القسمة ويشارك الغرماء................ ٣٤٦
إذا
كان عليه ديون حالة وديون مؤجلة قسمت على الحالة خاصة............... ٣٥٠
إذا
جنى عبد المفلس كان المجنى عليه اولى به من الغرماء وفيه كلام............... ٣٥١
فروع
وابحاث في إنظار المعسر وحبسه وإطلاقه بعد الاداء أو القسمة............. ٣٥٣
|