مقدمة الطبعة الثانية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على قائد البشرية الصالحة أبي القاسم محمد وعلى آله الهداة الميامين ..

أما بعد ... فلقد شاءت الأقدار أن تخرج هذه الأسفار الجليلة من تقريرات سيدنا الشهيد آية الله العظمى السيد الصدر ( قدس ) في مثل هذه الظروف العصيبة ، التي ألمت بعالمنا الإسلامي ، بعد قيام الثورة الإسلامية المباركة في إيران الإسلام بقيادة امام الأمة آية الله العظمى السيد الخميني ( مد ظله ).

هذه الظروف التي جاءت نتيجة تكالب قوى الكفر والاستكبار العالمي ، وتحالفها في التصدي ، والمواجهة للمدد الإسلامي الظافر ، الّذي كان لسيدنا الشهيد ( قده ) الدور الأساس في ترسيخ دعائمه ، وإرساء قواعده على الصعيدين الفكري والعملي في العالم الإسلامي أجمع ، وفي العراق على وجه الخصوص. حتى توج حركة الإسلام ببذل دمه الزاكي ، الّذي كان أغلى دماء هذا العصر. أريق في سبيل إعلاء كلمة الحق ومواجهة الطغاة والظالمين. فكان بحق سيد شهداء عصره ، أسوة بجده سيد الشهداء 7.

والحقيقة ان استيعاب أبعاد عظمة هذا العالم الرباني العامل لا يتيسر لأحد في مثل هذه الدراسة العاجلة ولكن ذلك لا يعفينا من التعرض لأبرز معالم مدرسته العلمية والفكرية ، التي أنشأها ، وخرج على أساسها جيلا من العلماء الرساليين والمثقفين الواعين


والعاملين في سبيل الله المخلصين .. رغم قصر حياته الشريفة التي ابتلاه الله فيها بما يبتلي به العظماء من الصديقين والشهداء والصالحين ..

وفيما يلي أهم مميزات هذه المدرسة ، التي ستبقى رائدة وخالدة في تاريخ العلم والإيمان معا.

١ ـ الشمول والموسوعية

اشتملت مدرسة شهيدنا الراحل على معالجة كافة شعب المعرفة الإسلامية والإنسانية. فهي متعددة الأبعاد والجوانب ، ولم تقتصر على الاختصاص بعلوم الشريعة الإسلامية من الفقه والأصول فحسب ، رغم ان هذا المجال كان هو المجال الرئيس والأوسع من إنجازاته وابتكاراته العلمية. فاشتملت مدرسته على دراسات في الفقه ، وأصول الفقه ، والمنطق ، والفلسفة ، والعقائد والعلوم القرآنية ، والاقتصاد ، والتاريخ ، والقانون ، والسياسة المالية والمصرفية ، ومناهج التعليم والتربية الحوزوية ، ومناهج العمل السياسي وأنظمة الحكم الإسلامي ، وغير ذلك من حقول المعرفة الإنسانية والإسلامية المختلفة.

وقد جاءت هذه الشمولية نتيجة لما كان يتمتع به إمامنا الشهيد من ذهنية موسوعية وعملاقة ، يمكن اعتبارها فلتة ، يحظى بها تاريخ العلم والعلماء بين الحين والآخر ، والتي تشكل كل واحدة منها على رأس كل عصر منعطفا تاريخيا جديدا في توجيه حركة العلم والمعرفة وترشيدها. فلقد كان ; آية في النبوغ العلمي ، واتساع الأفق ، والعبقرية الفذة. وقد سطعت منذ طفولته ، وبداية حياته ، وتحصيله العلمي ، كما شهد بذلك أساتذته ، وزملاؤه ، وتلاميذه ، وكل من اتصل به بشكل مباشر ، أو التقى به من خلال دراسة مصنفاته وبحوثه القيمة.

٢ ـ الاستيعاب والإحاطة :

من النقاط ذات الأهمية الفائقة في اتصاف النظرية ، أية نظرية ، بالمتانة والصحة مدى ما تستوعبه من احتمالات متعددة ، وما تعالجه من جهات شتى مرتبطة بموضوع البحث. فان هذه الخصيصة هي الأساس الأول في انتظام الفكر والمعرفة في أي باب من الأبواب ، بحيث يؤدي فقدانها إلى أن تصبح النظرية مبتورة ، ذات ثغرات ينفذ من خلالها النقد والتفنيد للنظرية. وهذه الميزة أيضا كان يتمتع بها فكر السيد الشهيد ( قده ) بدرجة


عالية ، فانه لم يكن يتعرض لمسألة من المسائل العلمية سيما في الأصول والفقه ، إلا ويذكر فيها من الصور والمحتملات ما يبهر العقول. وهذا هو جانب الاستيعاب والإحاطة المعمقة في فكره.

وقد ظهرت هذه السمة العلمية ، وهذه الخصيصة ، حتى في أحاديثه الاعتيادية. فكان عند ما يتناول أي موضوع ، ومهما كان بسيطا واعتياديا ، يصوغه صياغة علمية ، ويخلع عليه نسجا فنيا ، ويطبعه بطابع منطقي مستوعب لكل الاحتمالات والشقوق ، حتى يخيل لمن يستمع إليه انه امام تحليل نظرية علمية تستمد الأصالة والقوة والمتانة من مبرراتها وأدلتها المنطقية.

٣ ـ الإبداع والتجديد :

ان حركة العلوم والمعارف البشرية وتطورها ترتكز على ظاهرة التجديد ، والإبداع ، التي تمتاز بها أفكار العلماء ، والمحققين في كل حقل من حقول المعرفة. وقد كان سيدنا الشهيد ( قده ) يتمتع في هذا المجال بقدرة فائقة على التجديد وتطوير ما كان يتناوله من العلوم والنظريات ، سواء على صعيد المعطيات ، أو في الطريقة والاستنتاج. ولقد كان من ثمرات هذه الخصيصة انه استطاع أن يفتح آفاقا للمعرفة الإسلامية لم تكن مطروقة قبله.

فكان هو رائدها الأول ، وفاتح أبوابها ، ومؤسس مناهجها ، وواضع معالمها ، وخطوطها العريضة ، وستبقى المدرسة الإسلامية مدينة لهذه الشخصية العملاقة في هذه الحقول. وخصوصا في بحوث الاقتصاد الإسلامي ، ومنطق الاستقراء والتاريخ السياسي لأئمة أهل البيت :.

٤ ـ المنهجية والتنسيق :

ومن معالم فكر سيدنا الشهيد منهجيته الفنية الفريدة ، والمتماسكة لكل بحث كان يتناوله بالدرس والتنقيح. ومن هنا نجد ان طرحه للبحوث الأصولية والفقهية يمتاز عن كافة ما جاء في دراسات وبحوث المحققين السابقين عليه من حيث المنهجية والترتيب الفني للبحث. فتراه يفرز الجهات والجوانب المتداخلة والمتشابكة في كلمات الآخرين ، خصوصا في المسائل المعقدة ، التي تعسر على الفهم ويكثر فيها الالتباس والخلط ، ويوضح الفكرة ، وينظمها ، ويحللها بشكل موضوعي وعلمي لا يجد الباحث المختص نظيره في بحوث الآخرين. كما كان يميز بدقة طريقة الاستدلال في كل موضوع ، وهل أنها لا بد وان


تعتمد على البرهان أو انها مسألة استقرائية ووجدانية؟. ولم يكن يقتصر على دعوى وجدانية المدعى المطلوب إثباته فحسب ، بل كان يستعين في إثارة هذا الوجدان وإحيائه في نفس الباحثين من خلال منهج خاص للبحث ، وهو منهج إقامة المنبهات الوجدانية عليه.

وهذه نقطة سوف نواجهها بوضوح في دراساتنا الأصولية القادمة.

٥ ـ النزعة المنطقية والوجدانية :

ومن معالم فكر سيدنا الشهيد نزعته المنطقية والبرهانية في التفكير والطرح في الوقت الّذي كانت تلك المعطيات البرهانية تنسجم وتتطابق مع الوجدان وتحتوي على درجة كبيرة من قوة الإقناع وتحصيل الاطمئنان النفسيّ بالفكرة ، فلم يكن يكتفي بسرد النظرية بلا دليل أو كمصادرة ، بل كان يقيم البرهان مهما أمكن على كل فرضية يحتاج إليها البحث حتى ما يتعسر صياغة برهان موضوعي عليه كالبحوث اللغوية والعقلائية والعرفية ، وهذه السمة جعلت آراء ومعطيات هذه المدرسة الفكرية ذات صبغة علمية ومنطقية فائقة ، يتعذر توجيه نقد إليها بسهولة. كما جعلتها أبلغ في الإقناع والقدرة على افهام الآخرين وتفنيد النظريات والآراء الأخرى. وجعلتها أيضا قادرة على تربية فكر روادها وبنائه بناء منطقيا وعلميا ، وبعيدا عن مشاحة النزاعات اللفظية أو التشويش والخبط واختلاط الفهم ، الخطر الّذي تمني به الدراسات والبحوث العلمية والعقلية العالية في أكثر الأحيان.

وفي الوقت نفسه لم يكن يتمادى هذا الفكر البرهاني المنطقي في اعتماد الصياغات والاصطلاحات الشكلية ، التي قد تتعثر على أساسها طريقة تفكير الباحث فيبتعد عن الواقع ويتبنى نظريات يرفضها الوجدان السليم. خصوصا في البحوث ذات الملاك الوجداني والذاتي ، التي تحتاج إلى منهج خاص للاستدلال والإقناع. فكنت تجده دوما ينتهي من البراهين إلى النتائج الوجدانية ، فلا يتعارض لديه البرهان مع مدركات الوجدان الذاتي السليم في مثل هذه المسائل ، بل كان على العكس يصوغ البرهان لتعزيز مدركات الوجدان ، وكان يدرك المسألة أولا بحسه الوجداني والذاتي ثم كان يصوغ في سبيل دعمها علميا ما يمكن من البرهان والاستدلال المنطقي. ومن هنا لا يشعر الباحث بثقل البراهين وتكلفها أو عدم تطابقها مع الذوق والحس والوجداني للمسألة ، الأمر الّذي وقع فيه الكثير من الأصوليين والفقهاء المتأثرين بمناهج العلوم العقلية الأخرى ...


وقد استطاع هذا الفكر العملاق على أساس التوفيق بين خصيصته المنطقية والعلمية في الاستدلال وبين مراعاة المنهجية الصحيحة المنسجمة مع كل علم أن يتناول في كل حقل من حقول المعرفة المنهج العلمي المناسب مع طبيعة ذلك العلم من دون تأثر بالمناهج الغريبة عن ذلك العلم وطبيعته. وهذه خصيصة أساسية سوف نواجهها بجلاء أيضا في الدراسات الأصولية القادمة.

٦ ـ الذوق الفني والإحساس العقلائي :

الذوق حاسة ذاتية في الإنسان يدرك على أساسها جمال الأمور وتناسقها. والذهنية العقلائية هي الأخرى التي يدرك بها الإنسان الطباع والأوضاع والمرتكزات التي ينشأ عليها العرف والعقلاء ، ويبني على أساس منها الكثير من النظريات والأفكار في مجال البحوث المختلفة كالدراسات التشريعية والقانونية والأدبية. وهي في الأعم الأغلب البحوث المختلفة كالدراسات التشريعية والقانونية والأدبية. وهي في الأعم الأغلب مجالات للبحث لا يمكن إخضاعها للبراهين المنطقية أو الرياضية أو التجريبية ، وانما تحتاج إلى حاسة الذوق الفني والذهنية العقلائية والحس العرفي الأدبي. ونحن نجد في مدرسة السيد الشهيد الصدر ( قده ) التمييز الكامل بين هذه المجالات وغيرها في العلوم والمعارف ونجد أنه ( قده ) كان يتناول المسائل في المجال الأول بالاعتماد على الذوق الموضوعي والإدراك العقلائي المستقيم حتى استطاع ان يضع المنهج المناسب في هذه المجالات وأن يؤسس طرائق الاستدلال الذوقي والعقلائي ، ويؤصل قواعدها ومرتكزاتها ، خصوصا في البحوث الفقهية التي تعتمد الاستظهارات العرفية أو المرتكزات العقلائية ، فأبدع نهجا فقهيا موضوعيا في مجال الاستظهار الفقهي خرجت على أساسه الاستظهارات من مجرد مدعيات ومصادرات ذاتية إلى مدعيات ونظريات يمكن تحصيل الإقناع والاقتناع فيها على أسس موضوعية.

وتحسن الإشارة إلى انه قلما تجتمع النزعة البرهانية المنطقية في الاستدلال ، مع الذوق الفني والحس العقلائي والذهنية العرفية في شخصية علمية واحدة. فاننا نجد ان العلماء الذين مارسوا المناهج العقلية والبرهانية من المعرفة وتفاعلوا مع تلك المناهج وطرائق البحث قد لا يحسون بدقائق النكات العرفية والذوقية والعقلائية ، ولا يبنون معارفهم وأنظارهم إلا على أساس تلك المصطلحات البرهانية ، التي اعتادوا عليها في ذلك البحث العقلي. وكذلك العكس فالباحثون في علوم الأدب والقانون وما شاكل نجدهم لا يجيدون صناعة البرهنة والاستدلال المنطقي ، ولكن نجد ان مدرسة سيدنا الشهيد قد امتازت


بالجمع بين هاتين الخصيصتين اللتين قلما تجتمعان معا وتمكنت من التوفيق الدّقيق فيما بينهما ، واستخدام كل منهما في مجاله المناسب والسليم ، دون تخبط أو إقحام ما ليس منسجما.

٧ ـ القيمة الحضارية المدرسة السيد الشهيد الصدر :

لقد كان سيدنا الشهيد الصدر تحديا حضاريا معاصرا ، وكانت من مميزات مدرسته انها استطاعت التصدي لنسف أسس الحضارة المادية لإنسان العصر الحديث ، وان يقدم الحضارة الإسلامية شامخة على إنقاض تلك الحضارة المنسوفة. وعلى أسس علمية قويمة وضمن بناء شامل ومتماسك ومتى استطاع سيدنا الشهيد من خلاله أن ينزل إلى معترك الصراع الفكري الحضاري كأقوى وأمكن من خاص غمار هذا المعترك ووفق لتفنيد كل مزاعم ومتبنيات الحضارة المادية المعاصرة ، وان يخرج من ذلك ظاهرا مظفرا وبانيا لصرح المدرسة الإسلامية العتيدة والمستمدة من منابع الإسلام الأصلية والمتصلة بوحي السماء ولطف الله بالإنسان.

هذه نبذة مختصرة عن معالم مدرسة هذا المرجع والفيلسوف والعارف الرباني والمجاهد الشهيد التي أسسها وأشادها لبنة لبنة بفكره ونماها مرحلة مرحلة بجهوده العلمية المتواصلة وهي تعبر بمجموعها عن البعد العلمي ، الّذي هو أحد أبعاد هذه الشخصية العظيمة الفريدة في تاريخنا المعاصر.

أجل سيدي الأستاذ فان لساني ليكل عن استيعاب كل أبعاد شخصيتك وان قلمي ليعجز عن رسم مناقبك وفضائلك القدسية ، التي تفوق آفاق ذهني الضيق وقدرتي المحدودة. فعذرا سيدي إن اقتصرت على جانب واحد من جوانب عظمتك ، ذلك الجانب الّذي عشت معه ردحا طويلا من الزمن وعرفته معرفة مباشرة وتغذيت من ينبوعه الثر ما وسعني التزود العلمي والفكري والروحي. ولعل الله يوفقني لعرض ما يمكنني استعراضه من الجوانب الأخرى من حياتك المباركة وجهادك المقدس وتقواك وخصالك الحميدة وزهدك في دنياك واستعدادك للتضحية في كل وقت من أجل رسالتك وأمتك ودورك القيادي في حمل أعباء الإسلام الّذي ختمته ببذل دمك الزاكي في سبيل رسالتك ، فكم كنت عظيما سيدي! وكم كنت موفقا من قبل الله سبحانه وتعالى لكل منقبة ولكل بطولة وعظمة! فسلام الله عليك أيها الإمام الشهيد يوم ولدت ، ويوم نشرت الحق وأسست أصول العلم والإيمان ، ويوم جاهدت ودافعت عن كرامات هذه الأمة ، ويوم


استشهدت بيد أرذل خلق الله في هذا العصر ويوم تبعث حيا مع جدك الحسين وسائر الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ..

واما ما يأتي من البحوث فهي مجموعة الدراسات ، التي ألقاها سيدنا الشهيد الصدر في علم الأصول حسب منهج الدراسات العليا لبحوث هذا العلم خلال ما يقارب اثني عشر عاما كنا قد طبعنا منها في النجف الأشرف جزءين يرتبط أحدهما بمباحث ( تعارض الأدلة الشرعية ) والآخر ( بمباحث الألفاظ ) إلى مبحث الأوامر. وقد رأينا ان نعيد طباعتها مع سائر أجزاء الدورة الكاملة حسب ما تلقيناها من دروس ومحاضرات أستاذنا الشهيد ( 1 الشريف ) ، وبتوفيق من الله سبحانه وتعالى وتسديده ؛ لتكون رائدة لحركة هذا العلم ينتفع بها العلماء والمحققون ، الذين سيجدون من خلال هذه الدراسات الكثير من التجديد والإبداع والتطوير في المعطيات والطريقة معا ..

وسوف تستوعب الأجزاء الثلاثة الأولى كل مباحث الألفاظ والتي سميناها بمباحث الدليل اللفظي كما نأمل ان نوفق لإعداد وتنقيح بحوث الأدلة والأصول العملية خلال أجزاء أربعة ..

وختاما أسأل الله سبحانه وتعالى ان يوفقني لإكمال طباعة هذه الدورة وان يتغمد سيدنا وشهيدنا الراحل بعظيم أجره ويجمعه في مستقر رحمته مع الأنبياء والأئمة والصالحين وان يوفقنا للسير على نهجه واتباع خطه ويلحقنا به انه قريب مجيب ..

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين ..

محمود الهاشمي

قم المقدسة ١٤٠٥ هجرية



المقدمة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد.

هذا الكتاب جزء آخر من « بحوث في علم الأصول » يتلو الجزء السابق الّذي صدر باسم « تعارض الأدلة الشرعية » ويعتبر هذا الكتاب الجزء الأول من تلك البحوث ، بدأنا به حسب منهج الدراسات العليا لبحوث هذا العلم التي تلقيناها من محاضرات المولى الشريف سيدنا الأستاذ المفدي سماحة آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر ـ أدام الله ظله الشريف على رءوس المسلمين.

وقد أولى سماحته في هذه الدراسة اهتماما بالغا بالمضمون والمنهجة معا فلم يقتصر على مجرد إعطاء آرائه وإنظاره في البحوث الأصولية مع عرضها بالطريقة المتبعة في الكتب والدراسات التقليدية التي تسرد من خلالها وكأنها كومة أبحاث لا ترابط واضح فيما بينهما ، بل اهتم بالجانب المنهجي وتنسيق البحوث على نحو يتشخص الموضع الفني والطبيعي لكل مسألة ، إيمانا منه بأن هذا التنسيق يساهم في إعطاء صورة أوضح للمحتوى وفي القدرة على تحقيقه. هذا مع الالتزام على العموم بأن لا تبتعد الطريقة المتبعة في عرض هذه البحوث عن الطريقة المألوفة كثيرا ولو ادى ذلك إلى التنازل عن بعض مزايا المنهج الأفضل ، مساعدة للطالب على إمكان تطبيق مفردات هذه البحوث على ما هو معروض فعلا.

وعلى هذا الأساس ، يتضمن هذا الجزء كل أبحاث المقدمة المذكورة في « كفاية


الأصول » المشتملة على ثلاثة عشر امرا. وقد وزعناها على النحو التالي :

١ ـ تمهيد ، ويتضمن البحث عن تعريف علم الأصول وتحديد موضوعه وتقسيم مباحثه.

٢ ـ المدخل لدراسة البحوث اللفظية الأصولية ، ويشتمل على بحوث الوضع والعلاقة القائمة بين اللفظ والمعنى واقسامها وأحكام كل قسم ووسائل الإثبات وتشخيص نوع العلاقة في مورد الشك والالتباس.

٣ ـ بحوث لغوية ترجع بحسب المنهجة الصحيحة إلى قسم البحوث اللفظية الأصولية ، وهي البحوث المرتبطة بتشخيص مفاد الحروف والهيئات والمشتقات ، ذلك ان هذه البحوث تحتل اليوم مساحة واسعة من مباحث علم الأصول ولها أثرها الكبير في عدة من المسائل الأصولية الأخرى. ولكن من سوء المنهجة ولأجل عدم معهودية البحث عنها بهذه التوسعة والتطوير في الدراسات الأصولية القديمة التي كانت تتعرض لبحثها في سياق تقسيم مدلول الكلمة إلى ما يدل على معنى غير مستقل ومعنى مستقل كمبحث تمهيدي لغوي ، انساق المتأخرون من علماء الأصول أيضا مع جعلها بحثا تمهيديا بتعرض له في مقدمة العلم رغم انها بوضعها الفعلي تعتبر على حد أهم البحوث الأصولية المرتبطة بالدليل اللفظي من القواعد المشتركة التي تلعب دورا مهما في كيفية استنباط الحكم الشرعي من أدلته اللفظية.

وعلى هذا الأساس رأينا ان الصحيح درج البحث عن مفاد الحروف والهيئات والمشتقات في ضميم المسائل الأصولية وضمن مباحث الألفاظ.

وأخيرا ؛ إذ أبتهل إلى المولى القدير سبحانه وتعالى ان يوفقني لإكمال حلقات هذه الدراسة تأليفا ونشرا أسأله تعالى ان يمن علينا وعموم المسلمين بطول عمر سيدنا الأستاذ المفدي ويمتعنا بدوام أيام إفاداته العامرة انه ولي التوفيق.

النجف الأشرف

١٣٩٦ هجرية

محمود الهاشمي


تمهيد

تعريف علم الأصول

موضوعه

تقسيمات مباحثه



تعريف علم الأصول

اختلفت كلمات الأعلام في إعطاء صياغة محددة وتعريف جامع مانع الكافة المسائل المبحوث عنها في هذا العلم بالرغم من اتفاقهم على أن هذه المسائل تعتبر بطبيعتها متقدمة على بحوث علم الفقه ومسائل بنحو يجعل لعلم الأصول مرتبة أسبق من مرتبة علم الفقه.

والواقع ، ان عملية استنباط الأحكام الشرعية التي يتكفلها علم الفقه تعتمد على عناصر عديدة ومختلفة لا بد من توفرها جميعا ليتمكن الفقيه على أساسها من استنباط الحكم الشرعي. وهذه العناصر حين نفحصها نجد أنها تختلف فيما بينهما من حيث المأخذ ، فبعضها يطلب من علم الحديث وبعضها يطلب من علم الرّجال ، وبعضها يطلب من علم الفقه نفسه ، وأهم تلك العناصر وأوسعها انتشارا ما يؤخذ عادة من علم الأصول. ومن هنا يطرح السؤال التالي نفسه « هل أن هذه العناصر التي يبحث عنها في علم الأصول قد جمعت في إطار هذا العلم على أساس وجود رابط فيما بينهما يميزها عما عداها من العناصر المساهمة في عملية الاستنباط أو أنها جمعت نتيجة عدم تكفل سائر العلوم بها؟ »

والإجابة الصحيحة على هذا السؤال لا بد وأن تقوم على أساس إبراز مائز قبلي


موضوعي لبحوث علم الأصول يميزها عن غيرها من العناصر المساهمة في الاستنباط فلا يكفي لذلك مجرد انتزاع جامع بقدر ما ينطبق خارجا على المسائل المبحوثة فعلا في هذا العلم ، كما حاوله بعض عن طريق أخذ قيد « الممهدة لغرض الاستنباط خاصة » في التعريف. فان مثل هذا الجامع إنما ينتزع في طول تأليف العلم فلا يمكن أن يكون على أساسه تميز مسائله وبحوثه عن غيرها من البحوث المساهمة في عملية الاستنباط.

التعريف المدرسي

والتعريف المدرسي المعروف لعلم الأصول : أنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي.

وقد وجه إلى هذا التعريف ثلاثة اعتراضات رئيسية :

١ ـ انه لا يشمل المسائل الأصولية التي لا يستنبط منها حكم شرعي بل نتيجة عملية هي المنجزية أو المعذرية تجاه الحكم الشرعي ، كمسائل الأصول العملية طرا.

٢ ـ إنه ينطبق على القواعد الفقهية كقاعدة ما يضمن وما لا يضمن وقاعدتي لا ضرر ولا حرج وبعض القواعد الفقهية العملية كقاعدة الفراغ والتجاوز ، فانها جميعا يستنبط منها الحكم الشرعي أيضا كل بحسب مورده.

٣ ـ انه لا يميز بين المواضيع التي يدرسها علم الأصول والتي يدرسها بعض العلوم الأخرى ، كمسائل علم الرّجال مثلا أو بعض المسائل اللغوية ، فان وثاقة الراوي التي هي مسألة رجالية ، أو ظهور كلمة ( الصعيد ) في معنى معين وهو مسألة لغوية ، يمكن اعتبارهما أيضا من القواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي المرتبط بمدلول تلك الكلمة أو المنقول في رواية ذلك الراوي.

مدى شمول التعريف للأصول العملية

أما الاعتراض الأول ، فكأن المحقق الخراسانيّ ( قده ) اعترف بوجاهته فحاول تصحيح التعريف عن طريق إضافة قيد « أو الانتهاء إلى وظيفة عملية » على التعريف.


إلا أن هذا ليس تصحيحا موفقا ، إذ لم يشتمل على إبراز المائز الحقيقي الجامع بين كافة مسائل العلم وإنما هو مجرد عطف للمسائل التي لم يشملها التعريف على ما شملها من مسائل العلم ؛ الأمر الّذي كان ممكنا منذ البداية بأن يقال : ان علم الأصول هو علم مباحث الألفاظ أو الملازمات العقلية أو الأصول العملية وهكذا.

وهناك محاولتان للتغلب على هذا الإشكال بنحو آخر.

إحداهما : ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) : من أنه إذا أريد بالحكم المأخوذ في التعريف الأعم من الحكم الواقعي أو الظاهري دخلت مباحث الأصول العلمية أيضا (١).

وهذا الجواب لا يمكن المساعدة عليه. إذ يرد عليه :

أولا : ان الحكم الظاهري المحفوظ في موارده الأصول العملية يمثل نفس القاعدة الأصولية العملية وليس مستنبطا منها كما هو المطلوب في التعريف ، على ما سوف يأتي في شرح معنى الاستنباط.

وثانيا : ان جملة من الأصول العملية التي يبحث عنها في علم الأصول لا تتضمن الحكم الشرعي حتى الظاهري ، وإنما هي مجرد وظيفة عملية يقررها العقل حين يعجز عن الانتهاء إلى حكم شرعي بشأن الواقعة المشتبهة.

والأخرى ـ ما أفاده السيد الأستاذ ( دام ظله ) من أن المراد بكلمة الاستنباط في التعريف هو التوصل إلى الحجة على الحكم ، أي إثباته ولو تنجيزا أو تعذيرا لا خصوص الإثبات الحقيقي الواقعي. ولا إشكال في أن الأصول العملية بجميع أنواعها تثبت التنجيز أو التعذير تجاه الحكم الواقعي الشرعي (٢).

وهذه المحاولة صحيحة في التغلب على الاعتراض الأول.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٣

(٢) بتصرف من محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١٠


النقض على التعريف بالقواعد الفقهية

وأما الاعتراض الثاني ؛ فقد ذكر في مقام دفعه وجهان.

الأول : ما أفاده السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ بقوله : « ان الأحكام المستفادة من القواعد الفقهية سواء كانت مختصة بالشبهات الموضوعية ، كقاعدة الفراغ واليد ، أم كانت تعم الشبهات الحكمية أيضا ، كقاعدتي لا ضرر ولا حرج ـ بناء على جريانهما في موارد الضرر أو الحرج النوعيين ـ وقاعدتي ما يضمن وما لا يضمن وغيرها ، إنما هي من باب تطبيق مضامينها بأنفسها على مصاديقها وليست من باب الاستنباط والتوسيط ، مع ان نتيجتها في الشبهات الموضوعية نتيجة شخصية. » (١).

وهذه الإجابة غير تامة ، وذلك :

أولا : لعدم اختصاص القواعد الفقهية بالقواعد التطبيقية بل منها ما يستنبط به الحكم بنحو التوسيط ـ كما سيأتي قريبا ـ

وثانيا : ان التمييز بين المسألة الأصولية والقاعدة الفقهية بالتطبيق نفيا وإثباتا يؤدي إلى أن أصولية المسألة كثيرا ما ترتبط بصياغتها وكيفية التعبير عنها ، فمسألة اقتضاء النهي عن العبادة لفسادها تكون أصولية إذا طرحت بصيغة البحث عن الاقتضاء لأن البطلان حينئذ مستنبط عن الاقتضاء وليس تطبيقا ، ولا تكون أصولية إذا طرحت بصيغة البحث عن أن العبادة المنهي عنها باطلة أولا ، لأن بطلان كل عبادة محرمة حينئذ يكون تطبيقا ، مع ان روح المسألة واحدة في كلتا الصياغتين وهذا يكشف عن أن المائز الحقيقي للقاعدة الأصولية عن القاعدة الفقهية ليس مجرد عدم انطباق القاعدة الأصولية على الحكم المستخرج انطباق الكلي على فرده وانطباق القاعدة الفقهية كذلك بل أمر آخر قد يكون من مظاهرة ان النسبة بين القاعدة الأصولية والنتيجة الفقهية نسبة استنباطية لا تطبيقية وهذا ما سيأتي توضيحه.

الثاني : ما ورد في كلمات السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ وكأنه وجه ثان لمحل الإشكال

__________________

(١) نفس المصدر ص ١٠


حيث أفاد : « والصحيح انه لا شيء من القواعد الفقهية تجري في الشبهات الحكمية ، فان قاعدتي نفي الضرر والحرج لا تجريان في موارد الضرر والحرج النوعيّ ؛ وقاعدة ما يضمن أساسها ثبوت الضمان باليد مع عدم إلغاء المالك لاحترام ماله فالقواعد الفقهية نتائجها أحكام شخصية لا محالة. » (١)

وهذا الوجه بحاجة إلى تمحيص وتحديد للمقصود بالشبهة الحكمية التي أفيد بأن القواعد الفقهية لا تجري فيها ، فان ظاهر هذا الوجه ان قاعدة لا ضرر مثلا لو كان مناطها الضرر النوعيّ فهي مما تجري في الشبهة الحكمية وإذا كان مناطقها الضرر الشخصي فلا تكون جارية في الشبهة الحكمية.

فان أريد بالشبهة الحكمية الشك فيما يكون من وظيفة الشارع بيانه في مقابل الشك في الأمور الخارجية ، فمن الواضح ان وجوب الوضوء في حالة الضرر الشخصي حكم من وظيفة الشارع بيانه ويكون الشك فيه حينئذ شبهة حكمية ، وقاعدة لا ضرر تجري لتنقيح حال هذه الشبهة. وإن أريد بالشبهة الحكمية الشك فيما يكون من وظيفة الشارع بيانه على شرط أن يعم المكلفين جميعا ، فيمكن أن يفهم على هذا الأساس الفرق بين القول بأن الميزان في قاعدة لا ضرر الضرر النوعيّ والقول بأن الميزان الضرر الشخصي ، إذا على الأول تكون النتيجة ثابتة لعموم المكلفين في حالة وجود الضرر النوعيّ وعلى الثاني تختص النتيجة بمن كان الضرر فعليا في حقه ، ولكن أخذ العمومية بهذا المعنى شرطا في الشبهة الحكمية بلا موجب.

مع أن النتيجة قد تعم جميع المكلفين حتى على القول بأن الميزان هو الضرر الشخصي ، وذلك في مقام نفي أحكام هي بطبيعتها ضررية ولم يدل دليل عليها.

فلو شك في حكم الشارع بالضمان في غير موارد قيام الدليل على الضمان أمكن نفي الضمان بلا ضرر ، والنتيجة هنا عامة لا تختص بمكلف دون مكلف لأن الضرر مستنبط في الحكم بالضمان دائما فهو منفي بالقاعدة عن كل أحد.

هذا ، مضافا : إلى أن من القواعد الفقهية ما يكون الحكم المستنبط منها كليا يعم

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١٠


جميع المكلفين ، كما سيأتي في القواعد الفقهية الاستدلالية.

والتحقيق : أن ما يسمى بالقواعد الفقهية على أقسام.

الأول : ما ليس قاعدة بالمعنى الفني للقاعدة ، وذلك كقاعدة ( لا ضرر ) فان المعنى الفني للقاعدة يتقوم بأن تكون القاعدة أمرا كليا ذات نكتة ثبوتية واحدة بحيث ترجع إلى حقيقة واحدة ، فإن كانت القاعدة من المجعولات التشريعية كحجية خبر الثقة أو قاعدة الضمان باليد فوحدتها بوحدة الجعل الموجد لها تشريعا ، وإن كانت القاعدة من غير المجعولات كقاعدة الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته فوحدتها بوحدة تقررها الثبوتي بوصفها حقيقة واحدة ثابتة في نفس الأمر ، ومفاد ( لا ضرر ) ليس إلا مجموعة من التشريعات بالعدمية جمعت في عبارة واحدة ؛ فقصر وجوب الوضوء على غير حالة الضرر وقصر وجوب الصوم على غير حالة الضرر مثلا ليسا مجعولين بجعل واحد وثابتين بتقرر واحد ، بل الأول ثابت بتقييد جعل وجوب الوضوء بغير حالة الضرر والثاني ثابت بتقييد جعل وجوب الصوم بغير حالة الضرر. غاية الأمر ، ان الشارع جمع بين هذه التشريعات العدمية المتعددة بجعلها في مبرز واحد ، وفي مثل ذلك لا تصدق القاعدة إذ لا يوجب أمر كلي وحداني يكون دخيلا في إثبات كل واحد من هذه التشريفات بل هي جميعا تثبت في عرض واحد بدليل واحد ، فهذا من قبيل أن يقال : كل حكم يثبت للرجل في المعاملات فهو ثابت للمرأة. فان هذا ليس قاعدة بل هو تجتمع لجعول وأحكام متعددة تحت عنوان ثانوي مشترك وإبرازها بهذا العنوان.

وإن شئت قلت : ان القاعدة عنوان ثانوي في ( لا ضرر ) إن أريد بها نفس اللفظ الصادر من الشارع باعتباره دالا على تشريعات عدمية كثيرة فيرد على ذلك ان القاعدة أمر كلي وهذا لفظ شخصي.

وإن أريد بها مفاد هذا اللفظ فهو معنى كلي ولكن ليست له وحدة ثبوتية وإنما هو مجموعة من الأحكام والجعول المشتركة في عنوان ثانوي عبر عنها به.

نعم لو فسرنا ( لا ضرر ) على أساس أنها تشريع لحرمة الضرر ـ خلافا للتفسير المشهوري لها ـ فحرمة الضرر والإضرار أمر له وحدة ثبوتية فيصح أن تسمى قاعدة بالمعنى الفني للقاعدة ، إلا أنها سوف تكون على غرار قاعدة ( ما يضمن وما يضمن ) من


أمثلة القسم الثاني من أقسام القواعد الفقهية التي سيأتي الحديث عنها.

وعلى ضوء ما ذكرناه من معنى القاعدة يتضح أيضا : ان القاعدة الأصولية في بحث مقدمة الواجب ليست هي ان مقدمة الواجب واجبة بل الملازمة. لأن الملازمة لها وحدة ثبوتية في تقررها ، واما وجوب مقدمة الواجب فليست له هذه الوحدة ، إذ لم يتعلق جعل بوجوب كلي مقدمة الواجب وإنما مقدمة كل واجب واجبة بوجوب مجعول بتبع وجوب ذيها وكون مقدمة الواجب واجبة مجرد تجميع لتلك الجعول.

الثاني : ما يكون بنفسه حكما واقعيا كليا مجعولا بجعل واحد كقاعدة ( ما يضمن ) الراجعة إلى الضمان باليد. وهذا يصدق عليه القاعدة بالمعنى الفني لوحدته الثبوتية جعلا وكليته ، غير انه لا يمكن أن تقع في طريق إثبات جعل شرعي لأنها هي بنفسها الجعل الصادر من الشارع وإنما تقع في طريق تطبيقات وتخصصات هذا الجعل ؛ وهذا يخرج إذا أوضحنا ان المراد بالحكم الّذي مهدت القاعدة الأصولية لإثباته الجعل لا ما يعم حصصه وتطبيقاته. فضمان المشتري للسلعة في البيع الفاسد وإن كان يستخرج من القاعدة المذكورة ولكنه ليس مجعولا برأسه بل هو حصة من الحصص المجعولة بذلك الجعل الواحد. ومن هذا القسم أيضا قاعدة ( لا ضرر ) بناء على تفسيرها بحرمة الضرر والإضرار فانها على هذا تكون بنفسها جعلا شرعيا يقع في طريق إثبات تطبيقاته وتحصصاته الخارجية ، بخلاف ما إذا فسرت بنفي الحكم الضروري بحيث يكون وزانها وزان نفي العسر والحرج فانها على هذا التفسير الّذي هو المشهور والمعروف بينهم تقع في طريق إثبات الجعل سعة وضيقا ، إلا أنها لا تكون قاعدة بالمعنى الفني لها كما تقدم.

فالقاعدة الأصولية لا بد أن تقع في طريق إثبات جعل شرعي ، وهذا هو نكتة ما لوحظ سابقا من أن نتيجة القاعدة الأصولية نسبتها إليها ليست نسبة التطبيق بل نسبة الاستنباط والتوسيط ، وهذا إنما يصح فيما إذا كانت القاعدة الأصولية جعلا شرعيا لأن التطبيق معناه حينئذ كون النتيجة من صغريات القاعدة الأصولية ومصاديقها وهذا خلف كونها جعلا مستقلا برأسه ، فلا بد من أجل ذلك أن تكون النسبة بين القاعدة الأصولية والنتيجة نسبة الاستنباط لا التطبيق.


الثالث : ما يكون حكما ظاهريا يحرز به صغرى الحكم الشرعي ، من قبيل قاعدة الفراغ وأصالة الصحة. وهذا يخرج بنفس نكتة خروج القسم الثاني ، لأنه لا يقع في طريق إثبات جعل شرعي بل في طريق إثبات مصداق المتعلق جعل أو موضوعه.

الرابع : ما يكون حكما ظاهريا يمكن أن يتوصل به إلى الحجة على الحكم الشرعي ، أي على أصل الجعل ؛ كقاعدة الطهارة الجارية في الشبهات الحكمية أيضا.

الخامس : القواعد الفقهية الاستدلالية ، وهي القواعد التي يقررها الفقيه في الفقه ويستند إليها في استنباط الحكم الشرعي ، كقاعدة ظهور الأمر بالغسل في الإرشاد إلى النجاسة التي تشبه قاعدة ظهور الأمر بشيء في وجوبه.

وهذان القسمان لا يمكن إخراجهما على الأسس التي خرجت بموجبها الأقسام الثلاثة السابقة ، بل يتوقف إخراجهما عن التعريف المدرسي على إدخال تعديل عليه.

والتعديل المقترح لذلك هو إضافة قيد ( الاشتراك ) فيكون الميزان في أصولية القاعدة عدم اختصاص مجال الاستفادة والاستنباط منها بباب فقهي معين ، وبذلك يخرج القسمان الأخيران أيضا لأن قاعدة الطهارة أو القواعد الفقهية الاستدلالية وإن كانت عامة في نفسها ولكنها لا تبلغ درجة من العمومية تجعلها مشتركة في استنباط الحكم في أبواب فقهية متعددة. وهذا هو الّذي يبرر أن يكون البحث عن كل واحدة منها في المجال الفقهي المناسب لها ، بخلاف القواعد الأصولية المشتركة في أبواب فقهية مختلفة فانه لا مبرر لجعلها جزءا من بحوث باب فقهي معين دون سائر الأبواب.

النقض على التعريف بمسائل اللغة الرّجال

وأما الاعتراض الثالث. فقد اختلفت كلمات الأعلام في محاولاتهم لعلاج التعريف من ناحيته. وفيما يلي نستعرض أهم مواقفهم في هذا المجال :

١ ـ موقف المحقق النائيني من النقض

وحاصل ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) انه أخذ قيد ( الكبروية ) في التعريف ، فذكر : ان علم الأصول هو العلم بالكبريات التي لو انضمت إليها صغرياتها استنتج


منها حكم فرعي كلي (١).

وهذه المحاولة وإن وفقت في إخراج جملة من المسائل غير الأصولية التي قد يحتاج إليها الفقيه ، كوثاقة الراوي مثلا لكونها لا تقع كبرى قياس الاستنباط. إلا أنها تخل بالتعريف من حيث استلزامها خروج جملة من البحوث الأصولية أيضا ، من قبيل المسائل الأصولية المرتبطة بتشخيص المداليل اللغوية أو العرفية لبعض المواد فانها أيضا لا تقع إلا صغرى لكبرى حجية الظهور في قياس الاستنباط الفقهي ، وكذلك جملة من المسائل الأصولية العقلية ، كمسألة اجتماع الأمر والنهي ومسألة اقتضاء الأمر للنهي عن الضد ، فان الثمرة الفقهية المطلوبة منهما ـ على ما سيأتي في موضعه ـ تتوقف على تطبيق كبرى حجية الظهور أو قواعد التعارض بين الأدلة التي تنقح في هاتين المسألتين صغرياتها لا أكثر.

٢ ـ موقف السيد الأستاذ من النقض

وحاصل ما حاوله السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ انه أخذ قيد عدم الاحتياج إلى ضميمة أخرى في قياس الاستنباط ؛ فذكر : ان علم الأصول هو العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في طريق استنباط الأحكام الشرعية الكلية الإلهية من دون الحاجة إلى ضميمة كبرى أو صغرى أصولية أخرى إليها (٢).

ثم أورد عليه بنقوض مع الإجابة عليها ، وهي ترجع إلى نقضين رئيسيين :

الأول : النقض ببحوث الدلالات بأجمعها ، فانها لا تنقح إلا صغرى الظهور ، فتكون بحاجة إلى ضم كبرى حجية الظهور.

وأجاب عنه : بأن حجية الظهور قاعدة مسلمة مفروغ عن صحتها عند جميع العقلاء فلا تكون مسألة أصولية.

الثاني : النقض بمسألة اقتضاء الأمر بشيء للنهي عن ضده فانها لا يترتب عليها

__________________

(١) فوائد الأصول ج ١ ص ٢

(٢) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٨


وحدها إلا حرمة الضد غيريا وهي ليست نتيجة فقهية لعدم منجزية الحكم الغيري ؛ وإنما النتيجة الفقهية هي فساد الضد إذا كان عبادة ، واقتناصها موقوف على ضم كبرى أصولية هي اقتضاء حرمة العبادة لفسادها.

وأجاب عنه ، بكفاية ترتب النتيجة الفقهية على أحد تقديري البحث الأصولي ، وفي المقام تترتب صحة العبادة على القول بعدم الاقتضاء وهذا كاف في صيرورة مسألة الضد بحثا أصوليا (١).

وهذه المحاولة أيضا مما لا يمكن المساعدة عليها ، لا لما قد يقال : من استلزامها دورية التعريف ، حيث أصبحت المسألة الأصولية تعرف بعدم حاجتها إلى مسألة أصولية أخرى فلا بدّ في المرتبة السابقة من تشخيص المسألة الأصولية ، ليقال : بأن المقصود إن كل مسألة لم يكن يحتاج في مقام استنباط الحكم منها إلى غير صغراها المنقحة لموضوعها فهي مسألة أصولية. بل لأنه يرد عليها :

أولا : انه قد يراد عدم احتياجها إلى كبرى أصولية فوقها بل تكون هي كبرى القياس ، وحينئذ يكون رجوعا إلى المحاولة الأولى التي أفادها المحقق النائيني ( قده ) وقد يراد عدم احتياجها إلى مسألة أصولية أخرى ولو لم تكن كبرى في قياس الاستنباط ، وحينئذ إن أريد عدم الحاجة إليها أصلا خرجت الكثير من المسائل الأصولية ، لكثرة موارد احتياج بعضها إلى بعض في مجال استنباط الحكم الشرعي ، كما إذا اعتمد الاستنباط على دليل غير قطعي السند أو الدلالة. وإن أريد عدم الحاجة في الجملة بأن تكون المسألة الأصولية مستغنية عن غرها ولو في مورد واحد ؛ فسوف يشمل التعريف جملة من المسائل غير الأصولية التي قد يتفق بشأنها الاستغناء في الجملة ، كما إذا وردت كلمة ( الصعيد ) في دليل قطعي السند ـ كالنص القرآني ـ بحيث لم يكن الاستنباط الفقهي بحاجة إلى شيء عدا تحديد مدلولها فيكون البحث عنها بحثا أصوليا بمقتضى هذا التعريف.

وثانيا : ان جملة من بحوث علم الأصول تحتاج دائما إلى ضم كبرى أصولية إليها

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١٦


لكي يتمّ الاستنباط ، كالمسائل المرتبطة بتشخيص أقوى الظهورين عن أضعفهما في باب العمومات والمطلقات أو في باب المنطوق والمفهوم ، فانَّها تنقح صغرى أقوى الدليلين التي تكون بحاجة إلى ضمّ كبرى قواعد الجمع العرفي وملاكات الترجيح الدلالي في مقام المعارضة بين الأدلة.

ودعوى : أن قواعد الجمع العرفي كأصل حجيّة الظهور من القضايا المسلَّمة المتَّفق عليها عند العقلاء فلا يكون البحث عنها أصولياً. مدفوعة صغرى وكبرى.

أمَّا صغرى : فلأنَّ كبريات الجمع العرفي بنفسها بحاجة إلى بحث وتحقيق خصوصاً مع إبداء البعض لاحتمال شمول الأخبار العلاجية لموارد الجمع العرفي ، كما ذهب إليه صاحب الحدائق ( قده ) في جملة من الموارد وطبقة جملة من الفقهاء في بحوثهم الفقهية كالشيخ الطوسي ( قده ) في مسألة نجاسة الخمر وغيرها.

واما كبرى ، فلأن صيرورة المسألة واضحة أو مسلمة لا تميزها عن سائر مسائل العلم الواحد وإنَّما تؤدي إلى الاختلاف عنها بحسب مقام الإثبات والاستدلال.

فان هناك درجات من الإثبات قد تطرأ على المسألة وليست أصولية المسألة مرهونة بالخلاف فيها ، وإلا لرجع الأمر إلى تحديد المسألة الأصولية بمقياس يتعين في طول البحث الأصولي ، ومعه أمكن الاستغناء عن التعريف بالقول بأن قواعد علم الأصول هي القواعد الدخيلة في الاستنباط غير المبحوث عنها في علم آخر. ومنه يعرف ما في جوابه ـ دام ظله ـ عن النقض بمباحث الألفاظ.

وثالثا : فيما يخص الجواب عن النقض بمسألة الضد توجد عدة ملاحظات على ما يلي :

١ ـ ان القول بعدم الاقتضاء لا يكفي للحكم بصحة العبادة الضد ما لم تضم إليه أيضا قاعدة أصولية أخرى هي ثبوت الأمر الترتيبي ، أو إمكان استكشاف الملاك بعد سقوط الخطاب في موارد التزاحم.

٢ ـ جعل ثمرة بحث الاقتضاء صحة العبادة الضد أو بطلانها غير فني ، لأن النهي الغيري عن الضد إن كان صالحا للتنجيز كان هو الثمرة ، وإلا فلا يمكن ان ينقح به إثباتا أو نفيا صغرى اقتضاء النهي عن العبادة لفسادها وبالتالي الحكم ببطلان


العبادة الضد ، وإنما الصحيح جعل ثمرة هذا البحث ـ على ما سيأتي في محله ـ ثبوت الأمر الترتبي بالضد العبادي على القول بعدم الاقتضاء المستلزم لصحته والاجتزاء به وعدمه على القول بالعدم المستلزم لعدم الاجتزاء به.

٣ ـ ان ترتب الصحة على القول بعدم الاقتضاء من دون حاجة إلى مسألة أصولية أخرى ليس من الاستنباط بناء على ما تقدم منه ـ دام ظله ـ في دفع الاعتراض الثاني ، لكونه بنحو التطبيق لا التوسيط.

٣ ـ موقف المحقق العراقي من النقض

وحاصل ما حاوله المحقق العراقي ( قده ) انه جعل أصولية القاعدة مرهونة بكونها متكفلة للدلالة على الحكم وناظرة إلى إثباته بنفسه أو بكيفية تعلقه بموضوعه (١).

وبهذا يمكن تفسير الفرق بين ظهور صيغة الأمر في الوجوب وظهور كلمة الصعيد أو وثاقة الراوي ، فان الأول دال على الحكم بنفسه وناظر إليه دون الثاني.

ولا ينقبض عليه بمثل بحوث العام والخاصّ أو المطلق والمقيد أو بحوث الجملة الشرطية والوصفية ، بدعوى : انه كالبحث عن مدلول كلمة الصعيد لا يكون ناظرا إلى إثبات الحكم. لأن البحث فيها يرجع بحسب الحقيقة إلى البحث عن كيفية تعلق الحكم بموضوعه من حيث كونه عاما أو خاصا أو كونه بنحو التعليق أولا ، فتكون القاعدة الأصولية اللفظية في هذه البحوث أيضا ناظرة إلى إثبات الحكم.

وهذه المحاولة أيضا مما لا يخلو من إشكال. لأنها تؤدي إلى خروج مثل مسألة اقتضاء الأمر بشيء للنهي عن ضده ، بناء على ان الحكم المطلوب إثباته بها فقهيا ليس هو حرمة الضد بل الأمر الترتيبي به أو صحته وبطلانه ، وواضح ان قاعدة الاقتضاء لا تكون ناظرة إلى إثبات ذلك بصيغتها المطروحة في علم الأصول وقد يرجع واقع مراد المحقق العراقي ( قده ) إلى معنى آخر يأتي توضيحه.

وهكذا يتضح : ان جميع المحاولات التي أفيدت لعلاج الاعتراض الثالث ودفعه

__________________

(١) مقالات الأصول ج ١ ص ١٠


غير تامة. كما انها لا تتم في علاج الاعتراض الثاني المتقدم على ما يظهر بشيء من التأمل.

المختار في التعريف

والصحيح في تعريف علم الأصول بنحو تعالج به كل المشاكل المثارة بوجهه ان يقال :

علم الأصول هو العلم بالعناصر المشتركة في الاستدلال الفقهي خاصة التي يستعملها الفقيه كدليل على الجعل الشرعي الكلي.

ونلاحظ ان هذا التعريف يضع للمسألة الأصولية عدة خصائص.

الأولى : ان تكون عنصرا مشتركا لا يختص بباب دون باب من أبواب الفقه.

وتوضيح ذلك : ان الأدلة التي يمارسها الفقيه في مجال استنباط الحكم الشرعي تكون على قسمين :

١ ـ ما يكون دليلا خاصا معتمدا في استنتاج حكم فقهي معين ، من قبيل البحث عن مدلول كلمة ( الصعيد ) لغة ، فانه قد يستند إليه الفقيه كدليل على إثبات حكم شرعي في الفقه إلا انه لا يكون عنصرا مشتركا يستدل به في أبواب فقهية متنوعة.

٢ ـ ما يكون دليلا مشتركا سيالا في مختلف الأبواب الفقهية ، كالبحث عن تحديد مدلول صيغة الأمر أو النهي ، فانه يوفر للفقيه قاعدة عامة في تشخيص مداليل النصوص الشرعية المتكفلة لأمر أو نهي ، والأمر والنهي لا يختصان بباب فقهي دون باب.

وقد لوحظ من خلال توسع الممارسات الفقهية الاستدلالية وتطورها تدريجيا ان القسم الثاني من عناصر الاستنباط هذه باعتبار اشتراكه في أكثر من باب فقهي وعموميته في عمليات الاستنباط يكون أوسع من البحث الفقهي في هذا الباب أو ذاك ، بحيث لم يكن من الصحيح اعتباره جزءا من بحوث مسألة فقهية معينة ، أو تكرار البحث عنه في كل مسألة. بل الصحيح افراد الحديث عنه في فصل مستقل


تدرس فيه تلك العناصر كبرويا ثم تطبق النتائج المنقحة هناك في البحوث الفقهية كمصادرات مفروغ عنها سلفا ومن هنا بدا البحث عن هذا القسم من عناصر الاستنباط ينفصل شيئا فشيئا عن البحوث الفقهية حتى أصبح على شكل علم مستقل له خصائصه المتميزة ومنهجه الخاصّ.

فهذه الخصوصية من أهم مميزات المسألة الأصولية ، وبها تخرج مسائل اللغة التي لم يبحثها الأصوليون عن التعريف ، وكذلك جملة من القواعد الفقهية ، لأنها لا تشكل عناصر مشتركة.

الثانية ـ ان يكون هذا العنصر المشترك من عناصر الاستدلال الفقهي ونعني بالاستدلال الفقهي الاستدلال الّذي يقوم به الفقيه لتحديد الوظيفة تجاه الجعل الشرعي الكلي ، فما لا يدخل في نطاق هذا الاستدلال لا يكون أصوليا ، كقاعدة الفراغ أو أصالة الصحة ، لأنها وإن كانت عنصرا مشتركا ولكنها مختصة بالشبهات الموضوعية ولا تقع عنصرا في الاستدلال المحدد للوظيفة تجاه جعل شرعي كلي.

الثالثة ـ ان يكون هذا العنصر المشترك مرتبطا بطبيعة الاستدلال الفقهي خاصة وليس من العناصر المشتركة في عمليات الاستدلال على العموم ، وإلا كان بحثه من وظيفة علم المنطق لا الأصول ، فان علم الأصول بمثابة المنطق للفقه خاصة فهو يبحث العناصر المشتركة في الاستدلال الفقهي بينما يبحث المنطق عن العناصر المشتركة في طبيعي الاستدلال.

الرابعة ـ ان يكون هذا العنصر المشترك مما يستعمله الفقيه في الاستدلال الفقهي دليلا على الجعل الشرعي الكلي ، ومن دون فرق بين أنحاء الدليليّة من كونها لفظية أو عقلية أو شرعية وتوضيح ذلك : ان الأدلة التي يعتمد عليها الفقيه في استدلاله الفقهي على أقسام :

١ ـ الدليل اللفظي ـ ويراد به كل دليل تكون دلالته على أساس الوضع اللغوي أو العرفي العام فيشمل دلالة الفعل والتقرير أيضا.

٢ ـ الدليل العقلي البرهاني ـ وهو الدليل الّذي تكون دلالته على أساس علاقات وملازمات واقعية تثبت بحكم العقل البديهي أو بتوسط برهان.


٣ ـ الدليل العقلي الاستقرائي ـ وهو الدليل القائم دلالته على أساس حساب الاحتمالات الّذي هو الأساس العام في الأدلة الاستقرائية.

٤ ـ الدليل الشرعي ـ وهو ما جعله الشارع دليلا لتشخيص الوظيفة العملية تجاه الحكم الشرعي المشتبه.

٥ ـ الدليل العقلي العملي ـ هو كل كبرى عقلية تشخص الوظيفة تجاه الواقع المشكوك تعذيرا أو تنجيزا ، كقاعدتي البراءة والاحتياط العقليين.

والقسم الأول من هذه الأقسام يشمل مباحث الألفاظ والدلالات فانها طرا يكون البحث فيها عن الدليليّة اللفظية وتحديد مدلول ألفاظ عامة تعتبر عناصر مشتركة لاستنباط الحكم الشرعي في أبواب فقهية متنوعة.

والقسم الثاني يشمل بحوث الملازمات العقلية الثابتة بين الأحكام أو بينها وبين متعلقاتها ، كبحث وجوب المقدمة واقتضاء الأمر بشيء للنهي عن ضده واجتماع الأمر والنهي واقتضاء النهي للفساد ، وبحوث اشتراط القدرة في متعلق التكليف وإمكان أخذ القيود المختلفة في موضوع التكليف أو متعلقه وغير ذلك من المسائل العقلية الأصولية التي يكون البحث فيها عن سنخ العلاقة الثابتة بين حكمين أو بين الحكم ومتعلقه أو موضوعه والتي يستدل بها الفقيه على إثبات حكم آخر أو نفيه أو تحديد موضوع الحكم أو متعلقه ويكون ملاك الدلالة في جميع هذه البحوث عقليا برهانيا.

والقسم الثالث يشمل مسألة حجة الإجماع والسيرة والتواتر ، فان دليلية مثل هذه الأدلة تكون استقرائية لا برهانية ، إذا استثنينا بعض المسالك في حجية الإجماع وهو المسلك الّذي اختاره الشيخ الطوسي ( قده ) المعبر عنه بقاعدة اللطف ، إذ بناء عليه تكون دليلية الإجماع برهانية.

والقسم الرابع يشمل بحوث الحجج والقواعد المقررة شرعا لإثبات الوظيفة العملية ، وهي على قسمين :

١ ـ الأمارات ـ وتكون دليليتها على أساس الكشف والطريقية إلى الواقع الّذي يعنى بحسب الروح ترجيح قوة الاحتمال في التزاحم بين الأحكام في مرحلة الحفظ.

٢ ـ الأصول العملية ـ وتكون دليليتها على أساس ترجيح المحتمل في التزاحم المذكور.


والقسم الخامس يشمل مسألة البراءة والاحتياط والتخيير العقلية التي يشخص العقل في مواردها ما هو الوظيفة تجاه الحكم الشرعي المشتبه.

فكل هذه الأقسام تدخل في نطاق علم الأصول ، لأنها عناصر مشتركة ومستعملة من قبل الفقيه كأدلة على الجعل الشرعي الكلي.

وبهذه الخصوصية تخرج مسائل علم الرّجال ، كوثاقة الراوي ، وأدلة الرجالي ، كقاعدة ان ترحم الإمام هل يدل على الوثاقة أولا ، أو ان من روى عنه أحد الثلاثة هل يكون ثقة أولا؟ وذلك لأن مسائل الرّجال وأدلته وإن كانت عناصر مشتركة في الاستدلال الفقهي بمعنى ان الفقيه يستفيد منها في مختلف الأبواب ، ولكنها لا تكون لديه أدلة على الجعل الشرعي الكلي كما هو شأن المسألة الأصولية ، اما وثاقة الراوي فهي يحتاج إليها الفقيه باعتبارها موضوعا لدليلية الدليل حيث ان دليلية الخبر منوطة بوثاقة المخبر ، وما هو الدليل نفس الخبر ، فالبحث عن الوثاقة بحث عن ثبوت موضوع ما هو حكم شرعي ظاهري وليس بحثا عما يكون بنفسه دليلا للفقيه على الجعل الشرعي الكلي. واما أدلة الرجالي فهي أدلة على تلك الوثاقة لا على الجعل الشرعي الكلي فالفقيه يستعملها دليلا لإثبات موضوع الحكم الظاهري بحجية الخبر لا لإثبات الجعل الشرعي ابتداء.

فإن قيل ـ ان حجية الخبر التي هي مسألة أصولية يستعملها الفقيه أيضا لإثبات ظهور كلام الإمام الّذي هو موضوع للحكم الظاهري ، وما يكون دليلا على الجعل الشرعي هذا الظهور لا الخبر.

قلنا ـ ان ما يجعله الفقيه منجزا للجعل الشرعي الكلي في مورد هذا النقض نفس الخبر لا انه يجعله وسيلة لتنجيز الكلام المنقول ، ولهذا كان المنجز تاما ولو لم يصدق النقل ، وهذا بخلافه في محل الكلام فان الفقيه لا يجعل الدليل الرجالي بنفسه منجزا للواقع بل سببا في منجزية الخبر له.

وبهذه الصياغة للتعريف قد استغنينا عن إدخال كلمة ( الاستنباط ) في تعريف الأصول وحملها على الاستنباط التوسيطي خاصة لإخراج القواعد الفقهية غير الاستدلالية ، الأمر الّذي لا مأخذ له ، فان المطلوب من القاعدة الأصولية ان تقع في


طريق تشخيص الوظيفة العملية تجاه جعل إلهي سواء كان ذلك بنحو التوسيط أو التطبيق. واما القواعد الفقهية فقد عرفت انها لا تكون عناصر مشتركة في الاستدلال الفقهي.



موضوع علم الأصول

اعتاد علماء الأصول على ان يتعرضوا بمناسبة البحث عن تحديد موضوع عام لعلم الأصول إلى الحديث عن ضرورة وجود موضوع لكل علم وتحديد ما يكون موضوعا ومحمولا في العلم ، وجريا على هذا المنهج نبحث فيما يلي عن النقاط التالية :

١ ـ موضوع العلم.

٢ ـ معنى العرض الذاتي والغريب.

٣ ـ ما يبحث عنه في مسائل العلم.

٤ ـ تحديد موضوع عام لعلم الأصول.

١ ـ موضوع العلم

في كل علم مسائل عديدة ، ولكل مسألة موضوعها الخاصّ ، وجميع موضوعات تلك المسائل تلتقي في موضوع عام ينطبق عليها ويعتبر موضوعا للعلم ، لأن بحوث العلم كلها تدور حوله. وعلى هذا الأساس ذكروا في تعريف موضوع العلم وتحديده بأنه ما يبحث في العلم عن عوارضه الذاتيّة.

وقد استدل على ضرورة وجود موضوع عام لكل علم بدليلين :


الدليل الأول ـ ويتألف من مقدمتين :

أولاهما ـ ان لكل علم غرضا يترتب عليه ، والأغراض المترتبة على العلوم من نوعين :

١ ـ أغراض تدوينية ، وهي التي تطلب من وراء تدوين العلم أو تعليمه للآخرين ، ولذلك يكون هذا النوع من الأغراض المطلوبة في العلوم متنوعة ومختلفة من شخص إلى آخر.

٢ ـ أغراض ذاتية تترتب على كل علم في نفس الأمر والواقع مع قطع النّظر عن مرحلة التدوين والتعليم. وهذا النوع من الأغراض يكون بمثابة المعلول للعلم ويكون ترتبه على مسائل العلم من سنخ ترتب المعلول على علته ، وعلى هذا الأساس كان

لكل علم غرض واحد ـ ولو بالنوع ـ يترتب عليه. فعلم النحو مثلا يترتب عليه غرض الصيانة من الخطأ في المقام وعلم المنطق يترتب عليه غرض الصيانة من الخطأ في الفكر ، وهكذا سائر العلوم الأخرى.

الثانية ـ تطبيق كبرى فلسفية تقول بأن الواحد لا يصدر إلا من واحد بعد تعميمها إلى الواحد بالنوع ، فيقال هنا : بأن وحدة الغرض المترتب على مسائل كل علم تكشف لا محالة عن وحدة بالنوعية جامعة بين تلك المسائل بمعنى وجود قضية واحدة كلية يكون موضوعها جامعا بين موضوعات المسائل ومحمولها جامعا بين محمولاتها وتكون تلك القضية هي العلة في ترتب ذلك الغرض الواحد.

وقد نوقش في المقدمة الأولى من هذا الدليل : بإنكار ترتب تلك الأغراض على مسائل العلم في ذاتها وواقعها ، كيف ولو كان الأمر كذلك لزم ان لا يقع في الخارج خطأ في المقال أو الفكر مثلا لثبوت المسائل النحوية أو المنطقية في نفس الأمر والواقع.

وأجيب عنه تارة : بأن المقصود كون مسائل العلم في نفسها سببا في ترتب الغرض وليس المراد ترتبه عليها فعلا ومن دون قيد أو شرط ، فلا مانع من اشتراط معرفة المسائل وتعلمها في تحقق الغرض المنشود منها خارجا وإن شئت قلت : انها علة للتمكن من عدم الخطأ في الفكر أو المقال.


وأخرى : بأن غرض التصحيح وعدم الخطأ ليس أمرا خارجيا كوقوع الكلام الصحيح بل أمر إضافي يراد به مطابقة الكلام أو الفكر للقاعدة العلمية الثابتة في نفسها ، ومن الواضح : أن اتصاف الفكر أو الكلام بالمطابقة مع القاعدة يكون تمام علتها ثبوت نفس القاعدة في لوح الواقع.

والصحيح هو الجواب الأول دون الثاني : لأن التصحيح ومطابقة الفكر أو الكلام مع القاعدة العلمية ليست نسبة إلى مسائل العلم نسبة الأثر إلى المؤثر والغرض إلى ذي الغرض وإنما هو مجرد نسبة وإضافة بين شيئين ينتزعهما الذهن كلما افترض وجود المنتسبين فكيف يعقل أن تكون هي الغرض من جعل تلك القاعدة أو ثبوتها.

هذا ، ولكن مع ذلك لا يمكن المساعدة على هذا الاستدلال ، لأنه لو سلم ما يدعى فيه من أن لكل علم غرضا واحدا ولو بالنوع فهو لا يكفي لاستنتاج وحدة موضوع مسائل ذلك العلم ، وبرهان الواحد لا يصدر إلا من واحد على فرض تعميمه للواحد بالنوع لا يراد منه أكثر من لزوم التطابق بين العلة الموجودة ومعلولها في السنخ فيكون قاصرا على العلة الفاعلية ومبادئ وجود شيء خارجا وليست مسائل العلم وقضاياه علة فاعلة لوقوع الكلام أو الفكر الصحيحين خارجا كما هو واضح. هذا إن أريد ترتب الغرض بالنحو الأول الحقيقي ، وأما لو أريد الغرض بالمعنى الثاني الإضافي فعدم انطباق البرهان المذكور فيه أوضح ، لأن النسبة والإضافة تابعة في الوحدة والتعدد لأطرافها فلو فرض ثبوت قضية واحدة جامعة بين مسائل العلم الواحد كانت الإضافة المنتزعة منها واحدة لا محالة ، وإلا كانت متعددة ، وليست الإضافة أمرا مستقلا في ذاتها لكي تلحظ مستقلا ويستكشف منها وحدة العلم أو تعدده موضوعا.

وهذا هو الجواب الصحيح عن الاستدلال المذكور. واما ما جاء في كلمات السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ تارة : من إنكار ترتب غرض على ذات المسائل بدليل عدم تحققه في حق الجاهلين بها فلو أريد تطبيق برهان الواحد لزم افتراض وجود وحدة بين العلوم المتعلقة بالمسائل لا بين موضوعات المسائل وأخرى : بأن مقتضى البرهان الآنف الذّكر وجود جامع بين النسب الخاصة التي ترتبط بين محمولات المسائل وموضوعاتها


لأن الغرض يكون نتيجة ثبوت تلك النسب (١) فمما لا يمكن المساعدة عليه.

أما الأول : فلما عرفت في تصوير الغرض المترتب على مسائل العلم ؛

وأما الثاني : فلأن النسب والإضافات ليست أمورا مستقلة ـ كما عرفت أيضا ـ لكي يعقل في حقها الجامع والفرد والوحدة والتعدد بقطع النّظر عن أطرافها بل وحدتها وجامعيتها تكون بتبع وحدة طرفها دائما فافتراض وحدتها يعنى افتراض وجود قضية واحدة عامة جامعة موضوعا ومحمولا لموضوعات المسائل ومحمولاتها تكون هي المؤثرة في إيجاد الغرض الواحد.

الدليل الثاني ـ ان تمايز العلوم بتمايز موضوعاتها فلا بد وأن يكون لكل علم موضوع واحد وإلا لتداخلت العلوم فيما بينها.

وقد ناقش صاحب الكفاية ( قده ) في هذا الدليل بإنكار ما زعم فيه من أن تمايز العلوم يكون على أساس تمايز موضوعاتها بل على أساس تمايز الأغراض المترتبة عليها ، وإلا لزم أن يكون كل باب بل كل مسألة في علم علما مستقلا عن سائر المسائل لتمايز موضوعه عن موضوعها وهو واضح الفساد (٢).

ونحن وإن كنا لا نوافق على هذا الطراز من الاستدلال في إثبات وحدة موضوع العلم لكونه أشبه بالمصادرة ، حيث ان معرفة تكون تمايز العلوم بتمايز موضوعاتها فرع معرفة وجود موضوع واحد لكل علم يتميز عن موضوع غيره. إلا أن ما جاء في مناقشة صاحب الكفاية ( قده ) أيضا مما لا نوافق عليه ، لأن المدعى عند صاحب هذا الدليل ان موضوع العلم هو الجامع الذاتي بين موضوعات المسائل الّذي لا يندرج تحت جامع آخر وإلا كان هو موضوع العلم ، وموضوعات المسائل أو الأبواب داخل علم واحد تندرج كلها تحت جامع أوسع منطبق عليها فلا يمكن اعتبار كل منها علما برأسه.

ثم إن السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ حاول إبطال دعوى ضرورة وجود موضوع واحد في كل علم بالنقض ببعض العلوم كعلم الفقه حيث لا يعقل افتراض وجود موضوع

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١٩

(٢) كفاية الأصول ج ١ ص ٥ ( ط ـ مشكيني )


واحد جامع بين موضوعات مسائله ، إما لكونها قضايا جعلية اعتبارية فلا يعقل في حقها جامع حقيقي ، واما باعتبار ان موضوعاتها من مقولات متباينة بل متنافرة أحيانا فكيف يكون بينها جامع ذاتي (١).

ويمكن المناقشة فيما أفاده ـ دام ظله ـ بأن الأحكام الشرعية وإن كانت قضايا اعتبارية بلحاظ المعتبر والمنشأ إلا أنها حقيقية بلحاظ نفس الاعتبار ومبادئ الحكم لكونها من مقولة الكيف النفسانيّ ، وهي بهذا الاعتبار تكون موردا لحكم العقل بحق الطاعة والعبودية الّذي هو الغرض الملحوظ في علم الفقه.

وأما تباين موضوعات المسائل الفقهية فجوابه : انه لا بد وأن يراد بالموضوع الواحد لكل علم وجود محور واحد تدور حوله كل بحوث العلم الواحد وهذا قد لا يتطابق مع ما يجعل موضوعا للمسائل بحسب التدوين خارجا لأن مرحلة التدوين قد تتأثر بعوامل ومناسبات تقتضي نهجا آخر تعرض من خلاله مسائل العلم وبحوثه. ولذلك نجد أن بحوث علم الفلسفة والحكمة العالية التي تدور كلها حول الوجود قد صيغت في مرحلة التدوين بشكل لا يتطابق فيه ما جعل موضوعا للمسائل مع الوجود الّذي هو موضوع العلم حيث جعل الجوهر والعرض والواجب وغير ذلك موضوعا في المسألة الفلسفية بحسب مرحلة التدوين وجعل الوجود محمولا لها ، فقيل. العرض موجود والجوهر موجود والواجب موجود وهكذا مع أن الجوهر أو العرض أو الواجب تعينات للوجود أو الموجود الّذي هو موضوع الفلسفة ومحور أبحاثها ومثل ذلك يمكن بالنسبة إلى مسائل علم الفقه ، فيقال : أن الموضوع العام الّذي تدور حوله بحوث علم الفقه إنما هو الحكم الشرعي ويكون البحث في المسائل الفقهية عن تعينات الحكم الشرعي وتمثله في وجوب الصلاة أو الصوم أو حرمة الكذب أو غير ذلك.

والواقع ، أن قاعدة إن لكل علم موضوعا واحدا تدور حوله بحوثه ويمتاز به عن غيره من العلوم تشير إلى مطلب ارتكازي مقبول بأدنى تأمل لو لا وقوع التباس في البين نتيجة مجموع أمرين :

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٢١


١ ـ تخيل ان المراد بالموضوع ما جعل موضوعا للمسائل في مرحلة تدوينها وتأليفها في البحوث والمصنفات ، مع أن المقصود بالموضوع ما يكون محورا لبحوث العلم بحسب المناسبات الواقعية التي تطلبها طبيعة تلك البحوث ومقتضياتها ، وأقوى دليل على إرادة هذا المعنى من موضوع العلم ما تقدم نقله عن الفلسفة العالية التي تمثل العلم الحقيقي لدى من أخذت منهم قاعدة ان لكل علم موضوعا يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ، فانهم اتفقوا على ان موضوعها هو الوجود أو الموجود مع انهم يصوغون موضوعات مسائلها في مرحلة التدوين بشكل آخر كما عرفت.

٢ ـ تفسير القوم للعرض الذاتي بما يعرض للشيء أو يحمل عليه بعد الفراغ عن ثبوته ، مما أدي إلى صعوبة تطبيق القاعدة على بحوث كثير من العلوم وسوف يأتي توضيح الخطأ الواقع في هذه النقطة قريبا.

وبعد تصحيح هاتين النقطتين صح أن يقال : ان لكل علم موضوعا يوجد بحوثه في محور واحد بنحو يتميز به عن العلوم الأخرى وهذه الوحدة ثابتة ارتكازا ووجدانا لكل علم في مرتبة أسبق من مرتبة تدوينه التي هي مرتبة لاحقة ومتأثرة بعوامل ثانوية خارجة عن مناسبات طبيعة العلم في نفس الأمر والواقع ، فلا غرو أن نجد اختلافا في بعض الأحيان بين ما يكون موضوعا لبحوث علم واقعا وما يجعل موضوعا لمسائله في مرحلة التدوين والعرض. فبحوث علم النحو مثلا موضوعها الكلمة العربية وهي كذلك بحسب مرحلة تدوين المسائل النحوية أيضا ، ولكن بحوث الفلسفة العالية أو علم الفقه مثلا موضوعها الوجود والحكم الشرعي مع أنهما يحتلان مركز المحمول في المسائل الفلسفية والفقهية بحسب التدوين ، وبحوث علم الصحة مثلا تدور حول موضوع واحد هو صحة البدن مع انه بمثابة الغرض المترتب على مسائل علم الصحة بحسب مرحلة تدوينها حيث يبحث فيها عن الأسباب والعلل المؤثرة في صحة الأبدان طردا وعكسا. فالتطابق بين ما هو موضوع للمسائل بحسب التدوين وما هو موضوع للعلم ومحور لبحوثه غير لازم.

ومنه يظهر حال النزاع الّذي أثاره صاحب الكفاية ( قده ) من أن تمايز العلوم هل يكون بتمايز موضوعاتها أن باختلاف الأغراض المترتبة عليها؟ فانه لو أريد بالموضوع أو


الغرض ما وقع موضوعا أو كان غرضا للمسائل بحسب مرحلة التدوين فلا ضابط يمكن إعطاؤه كقاعدة عامة لجميع العلوم بل قد يكون امتياز علم عن غيره بما جعل موضوعا لمسائله وقد يكون بما يكون غرضا لها. وإن أريد بالموضوع ما يكون محورا تدور حوله بحوث العلم ومسائله التي تبحث عن الأعراض الذاتيّة لذلك الموضوع بالمعنى الّذي سوف يأتي في معنى العرض الذاتي فالصحيح ان تمايز العلوم بتمايز موضوعاتها.

٢ ـ العرض الذاتي والعرض الغريب

ذكروا في تعريف العرض الذاتي : بأنه ما يعرض على الشيء بلا واسطة أو مع واسطة مساوية ، والعرض الغريب ما يعرض على الشيء بواسطة أمر أخص أو أعم داخليا ـ أي جزءا من ماهيته ـ أم خارجيا أم مباينا ـ أي غير متحد معه أصلا ـ وقد أثيرت حول هذا التعريف اعتراضات مختلفة من قبل علماء الأصول ، ولعل أجودها ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) ، ونقتصر في هذا المجال على عرضه مع التعليق عليه.

وتوضيح ما أفاده : أن الأوصاف المنتسبة إلى شيء تتصور على أحد الأنحاء التالية :

١ ـ أن يكون العرض منتزعا عن مرحلة ذات الشيء فيوصف به باعتباره جزءا منه ووصفا داخليا له ، وهذا هو الذاتي في كتاب الكليات الخمس ( الإيساغوجي ) بحسب مصطلح المناطقة.

٢ ـ أن يكون منتزعا عن أمر خارج عن ذات الشيء ولكنه من اقتضاءاتها بحيث يكفي ثبوت ذات الموضوع وحده للاتصاف به بلا حاجة إلى جهة خارجية كالحرارة للنار والزوجية للأربعة ، وهذا هو الذاتي في كتاب البرهان بمصطلح المناطقة.

٣ ـ أن يكون عارضا بواسطة أمر خارج عن ذات الشيء غير أنه واسطة تعليلية تقتضي ثبوت العرض لنفس الشيء فيكون هو المعروض لا الواسطة ـ وهو الّذي يصطلح عليه بالواسطة الثبوتية ـ كالمجاورة التي تكون واسطة لعروض الحرارة على الماء ، ولا يفرق هنا بين أن تكون الواسطة الخارجية أعم أو أخص أو مساويا أو مباينا طالما ليست هي المعروضة للوصف.


٤ ـ أن يكون عارضا بواسطة أمر خارجي يكون حيثية تقييدية في العروض ، أي تكون الواسطة هي المعروضة للوصف حقيقة ـ وهو الّذي يصطلح عليه بالواسطة في العروض ـ ويشترط في هذا القسم أن يكون ذو الواسطة جزءا تحليليا من الواسطة. ومثاله ما يعرض على الجنس بواسطة النوع.

٥ ـ أن يكون عارضا بواسطة تقييدية ـ كما في القسم السابق ولكن مع افتراض كون الواسطة جزءا من ذي الواسطة ـ وهو عكس ما مر في ذلك القسم ـ من قبيل ما يعرض على النوع بواسطة الجنس. ولازم ذلك أن لا يكون ذو الواسطة في هذا القسم معروضا للوصف كما كان في القسم السابق لا ضمنا ولا استقلالا.

٦ ـ أن يكون عارضا بواسطة تقييدية مباينة عن ذيها تمايز الواسطة ذاتا ووجودا ، من قبيل ما يعرض على الجسم وينسب إليه من البطء أو السرعة مع كونه عرضا الحركة الجسم المباينة معه في الوجود أيضا.

وقد أفاد في حكم هذه الأقسام : بأن ذاتية العرض وغرابته إن كانت بلحاظ صحة الحمل والإسناد الحقيقيّين فالأقسام كلها باستثناء الأخير تكون من العرض الذاتي لصحة الحمل الحقيقي فيها جميعا ، وإن كانت بلحاظ صحة الاتصاف والعروض الحقيقي للشيء فالأقسام الثلاثة الأولى تكون من الذاتي بلا إشكال لكون الموضوع فيها هو المعروض الحقيقي للوصف ، كما أنه لا إشكال في ان الأقسام الثلاثة الأخيرة لا تكون من العرض الذاتي لكون الأوصاف فيها غير عارضة على الشيء حقيقة ، وأما القسم الوسط ـ وهو الرابع ـ فاعتباره من الذاتي أو الغريب مرتبط باشتراط استقلالية العروض وعدمه ؛ فلو لم يشترط ذلك كان من الذاتي أيضا لكون الشيء معروضا فيه للوصف ولو ضمنا.

وقد استظهر ـ قده ـ من كلمات الحكماء في هذا المجال ـ مستشهدا بكلام للمحقق الطوسي ـ ان ميزان ذاتية العرض وغرابته صحة العروض لا الإسناد ، كما استظهر منها


اشتراط استقلالية العروض فليس غير الأقسام الثلاثة الأولى عرض ذاتي فيما تقدم من الأقسام.

وبهذا أبطل ما اشتهر بينهم من أن العرض الذاتي ما يعرض بلا واسطة أو مع واسطة مساوية ، إذ الواسطة إذا كانت تقييدية فالعرض غريب لأن العروض غير حقيقي وإن كانت الواسطة مساوية ، وإذا كانت تعليلية فالعروض ذاتي وإن كانت الواسطة غير مساوية ، فالمناط تعليلية الواسطة لا مساواتها مع ذي الواسطة.

وفيما يلي تعليقنا على ما أفاده هذا المحقق من عدة نقاط.

١ ـ ان ما أسنده إلى كلمات الحكماء من كون مناط ذاتية العرض استقلالية العروض غريب في بابه ، فان كلام المحقق الطوسي ( قده ) الّذي استشهد به في إثبات مدعاه أيضا ـ صريح في خلاف ما أفاد وكأنه لم يلاحظ ذيله الّذي قال فيه « ... العلوم تتناسب وتتخالف بحسب موضوعاتها فلا يخلوا اما أن يكون بين موضوعاتها عموم وخصوص أم لا يكون ، فان كان فاما أن يكون على وجه التحقيق أو لا يكون ، والّذي يكون على وجه التحقيق هو الّذي يكون العموم والخصوص بأمر ذاتي وهو أن يكون العام جنسا للخاص كالمقدار والجسم التعليمي الذين أحدهما موضوع الهندسة ، والثاني موضوع المجسمات ، والعلم الخاصّ الّذي يكون بهذه الصفة يكون تحت العام وجزءا منه ، والّذي ليس على وجه التحقيق هو الّذي يكون العموم والخصوص بأمر عرضي وينقسم إلى ... وبعد أن قسم هذا إلى قسمين أيضا ـ قال : والعلم الخاصّ الّذي يكون على هذين الوجهين يكون تحت العام ولكنه لا يكون جزءا منه » (١).

وكأن المحقق العراقي ( قده ) لاحظ صدر هذا الكلام فاستفاد منه أن الموضوعين اللذين يكون أحدهما أعم من الآخر وجنسا له يكون كل منهما موضوعا لعلم مستقل ، فالبحث عن عوارض الموضوع الأخص لا يكون من مسائل العلم الّذي يبحث عن الموضوع الأعم وهذا يعني أن عوارض الموضوع الأخص لا تكون أعراضا ذاتية للموضوع الأعم وإن كان الأعم جزءا من الأخص كالجنس بالنسبة للنوع. وهذا كما يدل

__________________

(١) شرح الإشارات للمحقق الطوسي ج ١ ص ٣٠٢ ( ط ـ طهران )


ـ بحسب فهمه ـ على اشتراط كون العروض حقيقيا وعدم كفاية صحة الإسناد الحقيقي ـ وإلا فأوصاف الجنس تنسب إلى النوع حقيقة ـ كذلك يدل على اشتراط استقلالية العروض وعدم كفاية العروض الضمني المحفوظ في عوارض الجنس بواسطة النوع.

الا أن ذيل عبارة الطوسي ( قده ) صريح في أن الموضوع الأخص إذا كان تخصصه بالفصل ، أي كان نوعا وكان الموضوع الأعم جنسا له ، فالعلم الخاصّ يكون تحت العلم العام وجزءا منه أي انه ليس علما مستقلا في قباله ، وإذا كان تخصصه بأمر عرضي لم يكن العلم الخاصّ جزءا من العام بل كان علما مستقلا وهذا يعني ان العوارض الذاتيّة للأخص الذاتي عوارض للأعم أيضا ولذلك كانت مسائله جزءا من بحوث الأعم.

٢ ـ ان العرض تارة : يلحظ مضافا إلى موضوعه في عالم الوجود. وأخرى : يلحظ مضافا إليه في عالم التحليل وفي الحالة الأولى ، كل ما يكون محمولا على الشيء حقيقة يكون عارضا عليه كذلك أيضا ، لأن الوجود الخارجي للمعروض واحد على كل حال وإن كان ذا أجزاء بحسب عالم التحليل. فالأقسام كلها ما عدا الأخير تكون من العرض الذاتي على كلا الميزانين المذكورين في كلامه ( قده ). وفي الحالة الثانية ، ما لا يكون عارضا على شيء حقيقة لا يصح حمله عليه كذلك فأعراض الجنس كما لا تكون أعراضا للفصل حقيقة كذلك لا تكون محمولة عليه لأن الجنس والفصل بحسب التحليل متباينان لا ينسب أحدهما أو ما له من أعراض إلى الآخر.

وهكذا يتضح : أن التفصيل بين الأقسام المذكورة على أساس الحمل أو العروض لا محصل له ، وإنما الصحيح هو التفصيل على أساس العالم الملحوظ فيه العروض فان كان عالم الوجود فالأقسام الستة من العرض الذاتي وإن كان عالم التحليل انحصر العرض الذاتي بالأقسام الثلاثة الأولى.

٣ ـ إن ثمة نسبتين مختلفتين بين الشيء وما يعرض عليه :

إحداهما : نسبة المحلية.

الثانية : نسبة المنشئية

ونقصد بالمحلية : أن يكون الشيء محلا وموضوعا للعرض. ونقصد بالمنشئية : أن


يكون سببا لوجود العرض. وهاتان النسبتان قد تتطابقان وقد تفترقان ، فالحرارة تنتسب إلى النار بالمحلية والمنشئية معا بينما لا تنتسب إلى الماء إلا بالمحلية ، وإلى المجاورة مع النار إلا بالمنشئية.

والمحقق العراقي ( قده ) ـ شأن من عداه من علماء الأصول ـ فسر ذاتية العروض بكون المعروض محلا للعرض حقيقة ، ومن هنا حار في كيفية تطبيق هذا المعنى على العارض بواسطة أمر مساو كما جاء في تعريف الحكماء للعرض الذاتي. لأن الواسطة إذا كانت تقييدية تمنع عن كون ذي الواسطة محلا للعرض حقيقة وإذا كانت تعليلية فلا موجب لتخصيص الواسطة بالمساوي ما دام العروض على ذي الواسطة حقيقيا.

مع ان ظاهر الحكماء ان نظرهم في ذاتية العرض إلى النسبة الثانية أعني المنشئية والاستتباع ، فكل عرض كان ثبوته لموضوع بذاته أو لأمر يرجع إلى ذاته من دون أن يساهم في ذلك واسطة خارجة عن حريم الموضوع فهو عرض ذاتي وكل ما كان ثبوته لموضوعه بأمر خارج عن ذات الموضوع فعرض غريب.

وهذا التفسير لذاتية العرض وغرابته علاوة على انسجامه مع الأعراض المبحوث عنها في العلوم ـ على ما يأتي توضيحه في النقطة القادمة ـ هو المطابق مع كلمات الحكماء في تعريف العرض الذاتي في المقام وتوضيح ذلك : انهم جعلوا العرض الذاتي منحصرا في قسمين : ما يعرض بلا واسطة أو بواسطة أمر مساو وغيرهما عرض غريب. ولا وجه لهذا التقسيم إلا إذا أردنا بالعروض المنشئية والاستتباع ، فان العرض إذا كان يعرض بلا واسطة فالموضوع تمام المنشأ والعلة لاستتباع العرض وإذا كان يعرض بواسطة أمر مساو فالواسطة لا بد وأن تكون عارضة على الموضوع أيضا إما بلا واسطة فيكون موضوع هو تمام المنشإ في استتباعها واستتباع العرض أو بواسطة أمر مساو أيضا ـ لاستحالة عروضها بواسطة أمر أعم أو أخص وإلا كانت هي أيضا أعم أو أخص ـ فيكون كالواسطة الأولى المساوية من حيث منشئية الموضوع لاستتباعه ، من دون فرق في ذلك بين كون الواسطة داخلية أم خارجية.

لا يقال ـ ما يعرض على النوع بسبب الفصل يكون من العارض بواسطة أمر مساو مع أن المنشأ الحقيقي له الفصل لا النوع.


فانه يقال ـ باعتبار مساوقة وجود النوع لوجود الفصل وكون الفصل هو المحصل الحقيقي لماهيته تكون المنشئية والاستتباع ثابتة للنوع أيضا بحيث كلما وجد خارجا كان العرض موجودا أيضا وكلما ارتفع كان مرتفعا وهذا بخلاف عوارض النوع بواسطة الجنس.

وأما إذا كان العروض بواسطة أمر أخص فلا يكون العرض ذاتيا إذا كانت الواسطة خارجية ، أي أمرا عرضيا ، لأن المنشأ عندئذ إنما هو الواسطة فلا يكون الموضوع منشأ لاستتباع العرض.

وأما إذا كانت الواسطة داخلية ، كعوارض الجنس بسبب الفصل ، فالعرض ذاتي كما أشار إليه المحقق الطوسي ( قده ) في كلامه المتقدم « والّذي يكون على وجه التحقيق هو الّذي يكون العموم والخصوص بأمر ذاتي وهو أن يكون العام جنسا للخاص كالمقدار والجسم التعليمي ... والعلم الخاصّ الّذي يكون بهذه الصفة يكون تحت العام وجزءاً منه ».

والوجه في اعتبار هذا القسم من العرض الذاتي مع أن الجنس قد ينفك عن الفصل المسبب للعروض فلا يكون وجوده مستتبعا لوجود العرض ـ يرتبط بمسلكهم في تصوير كيفية عروض الفصل على الجنس المعبر عنه لديهم ( بالتشكيك الخاصي ) فقد ذكروا : أن عروض الفصل على الجنس في مثل قولنا بعض الحيوان ناطق يكون بأمر أخص ، وهو تلك الحصة الخاصة من الحيوانية التوأمة مع الفصل خارجا ، إلا أن هذه الواسطة الخاصة تمتاز على ما عداها من الوسائط العامة أو الخاصة المغايرة ذاتا مع ذيها في أنها عين ذيها بلا ميز ، ببرهان أنها إذا كانت مغايرة عنها ذاتا لكانت هي الفصل ومن هنا قالوا : أن ما به امتياز هذه الحصة الخاصة عن غيرها من حصص الجنس هو عين ما به. اشتراط الحصص. فعلى هذا الضوء إذا أخذنا به نستطيع أن نعرف الوجه في ذاتية العارض بواسطة أمر أخص داخلي كعوارض الجنس بسبب الفصل ، لأن الموضوع وهو الجنس وإن لم يكن وجوده مستتبعا دائما لوجود العرض إلا إنه باعتبار عدم حيلولة أمر غريب بين الفصل العارض على الجنس في الوجود كانت المنشئية الحقيقة بين الجنس والفصل وعوارضه ثابتة أيضا. وهذا بخلاف العارض


بواسطة أخص خارجي أو بواسطة أعم داخليا كان أم خارجيا إذ لا يبقى وجه لاعتبارهما ذاتيين بعد عدم استتباع الموضوع لهما.

وأما العارض بواسطة أمر مباين. فالواقع ان هذا القسم قد جاء من إضافات الأصوليين على تعريف العرض الذاتي والغريب ، فانهم بعد أن فسروا العروض بالمحلية الحقيقية فسروا المساواة والأعمية والأخصية بلحاظ عالم الصدق والاتحاد الخارجي فبقيت صورة تباين الواسطة عن ذيها في الوجود الخارجي غير مشمولة للتعريف فأضافوها كقسم من أقسام العرض الغريب.

ولكن بعد أن اتضح ان القصد من العروض المنشئية الحقيقية لا المحلية يتضح أيضا : أن المراد بالمساواة والأعمية والأخصية ما يكون كذلك بحسب المورد خارجا سواء كان متحدا في الوجود مع الموضوع أو لا ، لأن المنشئية والاستتباع لا يفرق فيها بين كون المنشأ متحدا في وجوده مع الناشئ أم مباينا معه وعلى هذا الأساس لا يشكل العارض بواسطة أمر مباين قسما جديدا للعرض الغريب بل إذا كانت الواسطة مستتبعة لنفس الموضوع كان العرض ذاتيا وإلا كان غريبا.

وقد تلخص من مجموع ما تقدم : أن العرض الذاتي هو ما يكون بينه وبين موضوعه المنشئية الحقيقية سواء كانت بينهما نسبة المحلية أيضا أم لا.

ثم إنا لا نريد بالمنشئية خصوص العلية الفاعلية بل مطلق الاستتباع والاستلزام الحقيقي ، بحيث يكون فرض وجود الموضوع مساوقا مع وجود العرض وإن لم يكن علة فاعلية له ، فإذا اتفق ان كان المحل ـ العلة المادية ـ مثلا لشيء مستتبعا لوجود العرض أيضا لكون علته الفاعلية مفروضة على كل حال ، صح أن يعتبر ذلك العرض ذاتيا لذلك المحل ومندرجا في مسائل العلم الّذي يبحث عن عوارضه. من قبيل علم النبات أو الأحياء مثلا اللذان يبحثان عن عوارض الموت والحياة والنموّ وغيرها للحيوان والنبات مع أنهما من العلل المادية لهذه الأعراض وعلتها الفاعلية الحقيقية إرادة الله سبحانه وتعالى ، ولكن باعتبار انه لا قصور في فيض تلك العلة الفاعلة وإنما القصور في استعداد المادة الحيوانية أو النباتية بحيث كلما تم الاستعداد وجبت تلك الأعراض كان البحث عنها بحثا عن العوارض الذاتيّة المستتبعة لهما وهذا بخلاف ما إذا لم يكن


المحل أو الغاية مستتبعا لوجود العرض لعدم توافر الشرائط الأخرى لوجوده كما في عروض السريرية على الجسم أو الحرارة على الماء مثلا ، ولهذا لم يكن البحث عنهما مندرجا في علم يتكفل البحث عن الأجسام أو المياه رغم كون العروض بمعنى المحلية الحقيقية محفوظا فيهما أيضا.

٣ ـ ما يبحث عنه في مسائل العلم

يستفاد من الكلام المتقدم عن الحكماء : أن العلم لا بد وأن يبحث فيه عن العوارض الذاتيّة لموضوعه مما يعني أن مسائل العلم ومحمولاتها عبارة عن أعراض ذاتية لما هو موضوع العلم.

وقد نوقش هذا الكلام من قبل علماء الأصول بمناقشات عديدة نقتصر على نموذجين منها :

الأول ما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ) ووافقه عليه جملة من المحققين : من اشتمال مسائل العلوم كثيرا على البحث عما لا يكون عرضا ذاتيا الموضوع العلم لدخالته في الغرض المطلوب من بحوث ذلك العلم (١).

وأضاف عليه السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ : بأن مسائل العلم قد لا تشتمل على ما يكون عرضا ذاتيا لموضوع المسألة فضلا عن موضوع العلم فمسائل علم الفقه مثلا محمولاتها عبارة عن أحكام شرعية وهي أعراض غير حقيقية فضلا من أن تكون ذاتية للموضوع (٢).

وهذه المناقشة يظهر حالها بعد ملاحظة مجموع أمرين :

١ ـ ما تقدم في شرح مرادهم من العرض الذاتي وهو الاستتباع والمنشئية الحقيقية.

٢ ـ أن نظر الحكماء في مثل هذه الكلمات والتحديدات إلى ما يصطلحون عليه بالعلم البرهاني وهو منحصر عندهم في الحكمة العالية والحكمة الطبيعية والحكمة

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٥ ( ط ـ عبد الرحيم )

(٢) راجع هامش أجود التقريرات ج ١ ص ٥


التعليمية « الرياضيات » وأما سائر العلوم فهي من الفنون والصناعات. إذ العلم البرهاني لديهم هو اليقين بثبوت المحمول للموضوع الحاصل على أساس الضرورة واستحالة الانفكاك لا الصدفة ، وذلك لا يكون إلا في ما إذا كان المحمول ضروري الثبوت لموضوعه أي عارضا عليه بلا واسطة أو بواسطة أمر يكون ثبوته له ضروريا ليكون ثبوت المحمول ضروريا في النهاية وهذا ينحصر عندهم في المسائل الفلسفية كما أشرنا.

وعلى هذا الضوء يعرف وجه قولهم بأن مسائل العلم تبحث عن العوارض الذاتيّة لموضوعه لا غير ، إذ لو لم تكن العوارض المحمولة على موضوع العلم ذاتيا له بمعنى أنها ناشئة منه بالذات أو بواسطة أمر ذاتي لم يكن التصديق بثبوتها علما بحسب اصطلاحهم فما لا يكون موردا للميزان المذكور كعلم الفقه والأصول ونحوهما خارج عن هذه القاعدة موضوعا.

الثاني : الإشكال المعروف من النقض بمحمولات المسائل التي تعرض على موضوع العلم بواسطة موضوعاتها وهي في الغالب أخص من موضوع العلم فتكون من العارض بواسطة أمر أخص ، وهو عرض غريب.

وقد اتضح جواب هذه المناقشة أيضا على ضوء ما عرفت في معنى العرض الذاتي وأن ما يعرض بواسطة أمر أخص يكون تخصصه ذاتيا ـ كأعراض الجنس بسبب الفصل ـ عرض ذاتي أيضا.

وبملاحظة مجموع ما ذكرنا يتبين لك أوجه المفارقة في كثير من كلمات علماء الأصول التي ذكروها في هذا المقام نقتصر فيما يلي على الإشارة إلى ما حاوله المحقق الأصفهاني ( قده ) في دفع الإشكال المعروف المتقدم حيث حاول تفسير العرض الذاتي بما يعرض على الشيء بلا واسطة أو بواسطة أمر يكون جعله بعين جعل ذي الواسطة لا بجعل آخر ، ولذلك كان ما يعرض على موضوع علم كالجسمية العارضة على الموجود في مسائل علم الحكمة بواسطة موضوعات المسائل الأخص ، كالجوهرية أو الإمكان حيث يقسم الموجود إلى ممكن وواجب والممكن إلى جوهر وعرض ويقسم الجوهر إلى عقل ونفس ومادة وصورة والأخيران يشكلان الجسم ـ عرضا ذاتيا لأن جعل الجوهرية


أو الإمكان بنفس جعل الجسمية ، بخلاف عروض مثل السواد على الإنسان بواسطة كونه زنجيا مثلا فانه عرض غريب (١).

والواقع ان ما أفاده ليس تفسيرا للعرض الذاتي بقدر ما هو تفسير للعرض الأولي ، حيث ميز العرض الأولي في كلمات الحكماء بما يكون جعله بنفس جعل موضوعه فيكون أوليا لكونه عينه في الوجود وإن كان غيره في التحليل. ومسائل العلوم لا تبحث عن خصوص العوارض الأولية لموضوع العلم ولا موجب لاشتراط ذلك فيها وإنما الاعتبار يقضي بأن يكون المبحوث عنها في مسائل العلم الحقيقي ـ وهو العلم البرهاني ـ العوارض الثابتة الموضوع العلم ثبوتا ذاتيا لكونه منشأ لها بحيث يستحيل انفكاكه عنها سواء كان ثبوتها بلا واسطة أو بواسطة وسواء كانت الواسطة أولية أو ثانوية وقد صرح شيخ الحكماء الرئيس ابن سينا في مقدمة كتاب البرهان بأن محمولات المسائل البرهانية لا يشترط فيها أن تكون أعراضا أولية لموضوعاتها.

٤ ـ موضوع علم الأصول

وعلى ضوء مجموع ما تقدم يعرف أن موضوع علم الأصول هو الأدلة المشتركة في الاستدلال الفقهي خاصة. ويكون البحث في المسائل علم الأصول عن دليليتها وجواز استناد الفقيه إليها في مقام الاستنباط.

إن قيل : ان جملة من القواعد الأصولية يكون البحث فيها عن أصل ثبوت تلك القاعدة وعدم ثبوتها ، كالبحث عن ثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته أو حرمة ضده وكالبحث عن ثبوت قاعدة قبح العقاب بلا بيان ولا يكون البحث عن دليليتها.

قلنا : ان مرجع هذه البحوث إلى البحث عن دليلية الأمر بشيء على وجوب مقدمته أو حرمة ضده أو دليلية الشك وعدم البيان عقلا على المعذرية فان صياغة هذه البحوث بحسب التدوين الخارجي المسائل علم الأصول وإن كانت عن أصل ثبوت

__________________

(١) نهاية الدراية المجلد الأول 6 ٣


القاعدة أو الملازمة وعدمه إلا ان ما هو مستند الفقيه في الاستدلال الفقهي إنما هو نفس الأمر بالشيء أو الاحتمال بلا بيان.

وهذا التحديد لموضوع علم الأصول يلتقي إلى حد كبير مع التحديد المعروف لموضوع علم الأصول عند المتقدمين من أن موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة. فانهم بحسب ارتكازهم العلمي أدركوا بأن هذا العلم يبحث عن قواعد الاستدلال الفقهي وأدلته العامة ، وإلا أنه حيث لم تكن الأدلة عندهم محدودة ولا مصنفة بعد إلا في حدود تلك الأدلة الأربعة التي كانت هي الأدوات الرئيسية للاستدلال في الفقه اعتبروا موضوع علم الأصول الأدلة الأربعة ، فالكتاب والسنة يعبران عن الدليل اللفظي والشرعي والإجماع يعبر عن الدليل العقلي الاستقرائي والعقل يعبر عن الدليل العقلي البرهاني والعملي.



تقسيم علم الأصول

التقسيم المعروف

يقال عادة في تقسيم بحوث علم الأصول : ان القواعد الأصولية على أربعة أقسام :

١ ـ ما يوصل إلى معروفة الحكم الشرعي بعلم وجداني. وهذا هو مباحث الاستلزام العقلي.

٢ ـ ما يوصل إلى معروفة الحكم الشرعي بعلم تعبدي ، وهذا على ضربين :

الأول : ما يكون البحث فيه عن الصغرى بعد الفراغ عن الكبرى وهذا هو مباحث الألفاظ بأجمعها.

الثاني : ما يكون البحث فيه عن الكبرى. وهذا هو مباحث الحجج والأمارات الظنية.

٣ ـ ما يبحث فيه عن الوظيفة العملية الشرعية للمكلفين عند العجز عن معرفة الحكم الواقعي بعلم وجداني أو تعبدي. وهذا هو مباحث الأصول العملية الشرعية.

٤ ـ ما يبحث فيه عن الوظيفة العملية العقلية في مرحلة الامتثال عند فقدان ما يعين الوظيفة الشرعية. وهذا هو مباحث الأصول العملية العقلية (١).

__________________

(١) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٦ ـ ٨


وهذا التقسيم لبحوث علم الأصول إن كان مجردا اختيار تصنيف معين للمسائل الأصولية فلا كلام. وإن كان على أساس ملاحظة نكتة فنية تقتضي هذا الترتيب بين المسائل الأصولية ، فان كانت تلك النكتة هي الطولية والترتب بين الأقسام المذكورة في عملية الاستنباط بحيث لا يمكن الانتهاء إلى قسم الا حيث يفقد القسم الأسبق. اتجه عليه :

أولا : عدم الطولية بين القسمين الأولين.

وثانيا : ثبوت الطولية داخل المجموعة الثانية والثالثة. فان الحجج والأمارات ـ العلوم التعبدية بحسب مصطلحه ـ وكذلك الأصول العملية الشرعية ليست كلها في مرتبة واحدة بل بعضها مقدم على بعض في عملية الاستنباط. فالعلم التعبدي الحاصل من دلالة دليل قطعي السند مقدم على الحاصل من دلالة دليل ظني. والوظيفة الشرعية المقررة بالاستصحاب مقدمة على الوظيفة المقررة بالبراءة ... وهكذا.

وثالثا : تأخر مرتبة المجموعة الرابعة على الثالثة لا يكون صحيحا على جميع المباني الأصولية في قاعدة الاشتغال العقلية ، فان من جملة المسالك علية العلم الإجمالي للموافقة القطعية التي تعني ان حكم العقل بالاشتغال تنجيزي حاكم على إطلاق دليل البراءة الشرعية.

وإن كانت تلك النكتة هي الطولية بين الأقسام من حيث مراتب الإثبات ودرجاته ، وان ذلك تارة : يكون بالعلم الوجداني ، وأخرى : بالعلم التعبدي ، وثالثة : بالأصل الشرعي ، ورابعة : بالوظيفة العقلية ، فهذا إنما يتجه على مباني مدرسة المحقق النائيني ( قده ) في تفسير الأمارات والأصول وإرجاع الفرق بينهما إلى سنخ المجعول فمتى ما كان المجعول هو العلمية والكاشفية كانت الأمارة ومتى ما كان المجعول شيئا آخر كان الأصل. واما بناء على ما هو الصحيح من أن الأمارية والأصلية ليستا بلحاظ سنخ المجعول وان صياغة المجعول وكونه بلسان جعل الطريقية أو المنجزية أو الوظيفة مجرد تعابير وألسنة لفظية وان مرد الفرق الواقعي بين الحكم الظاهري في مورد الأمارة والحكم الظاهري في مورد الأصل إلى كون الأول نتيجة لإيقاع التزاحم بين الملاكات الواقعية في مقام الحفظ وتقديم بعضها بملاك قوة الاحتمال وكون الثاني نتيجة


للتزاحم المذكور مع تقديم بعضها بملاك أهمية المحتمل ـ كما حققناه مفصلا في محله أقول : بناء على ذلك لا يصح التصنيف المذكور المسائل علم الأصول.

هذا مضافا : إلى ان المقياس في التصنيف إذا ربط بسنخ المجعول وألسنته فيمكن افتراض الأصل المحرز كالاستصحاب قسما برأسه بين الأمارات والأصول غير المحرزة.

المقترح في تقسيم علم الأصول

والواقع ، أن المسائل الأصولية قد عرفت أنها تتضمن البحث عن الأدلة المشتركة للاستدلال الفقهي ، وهي متنوعة من حيث نوع الدلالة وكونها لفظية أو عقلية أو شرعية بتوسط الكشف عن الواقع المعبر عنه بالأمارة أولا بتوسطه المعبر عنه بالأصل. ومتنوعة أيضا من حيث نوع الدليل ذاته وكونه مرتبطا بالشارع وصادرا منه أولا ومن حيث نسخ المجعول فيه وكونه الطريقية والعلمية أو المنجزية أو الوظيفة العملية.

والبحث عن كل هذه الأنحاء يتوقف على أصل موضوعي لا بد من بحثه مسبقا ، وهو حجية القطع إذ بدونه لا أثر للبحث في أي مسألة لاحقة كما أنه حيث ان الأدلة المذكورة كلها إنما يراد بها استنباط الحكم الشرعي فلا بدّ لكل تلك الأبحاث أيضا من فكرة مسبقة عن الحكم الشرعي وحقيقته وانقساماته إلى الواقعي والظاهري والتكليفي والوضعي وغير ذلك من الانقسامات.

وعلى هذا الأساس ، فالمنهج المقترح لبحوث هذه العلم ، أن توضع مقدمة تشتمل على أمرين. أحدهما ـ البحث عن حجية القطع. والآخر ـ البحث عن حقيقة الحكم وما يتصور له من أقسام. وبعد ذلك تصنف البحوث الأصولية على أساس أحد المقياسين التاليين.

١ ـ التقسيم بلحاظ نوع الدليليّة

وهو ان يلاحظ في التقسيم نوع الدليليّة من حيث كونه لفظيا أو عقليا أو تعبديا. وعلى هذا الأساس يمكن تصنيف المسائل الأصولية إلى ما يلي :

١ ـ مباحث الألفاظ ـ ويتضمن البحث عن الدليليّة اللفظية وكل ما يرجع إلى


تشخيص الظهورات اللغوية أو العرفية. فيندرج في هذا القسم كل البحوث اللغوية الأصولية ، كما يندرج فيه البحث عن كل ظهور حالي أو سياقي يمكن أن يكون كاشفا عن الحكم الشرعي ولو لم يتمثل في لفظ كما في دلالة فعل المعصوم 7 أو تقريره على الحكم الشرعي.

٢ ـ مباحث الاستلزام العقلي ـ ويتضمن البحث عن الدليليّة العقلية البرهانية ـ غير الاستقرائية ـ ويندرج في هذا القسم البحث عن كل قاعدة عقلية برهانية يمكن أن يستنبط منها حكم شرعي وهي على قسمين :

١ ـ غير المستقلات العقلية ـ ويبحث فيها عن القواعد العقلية التي يستنبط منها الحكم الشرعي بعد ضم مقدمة شرعية إليها ، وهذا يشمل كل أبحاث العلاقات والاقتضاءات التي يدركها العقل بين حكمين أو بين حكم وموضوعه أو متعلقه.

٢ ـ المستقلات العقلية ـ ويراد بها القاعدة العقلية التي يمكن على أساسها أن يستنبط حكم شرعي بلا توسيط مقدمة شرعية المعبر عنها بقاعدة الملازمة بين ما حكم به العقل من تحسين أو تقبيح وما حكم به الشرع. ويبدأ في هذا القسم أولا بالبحث عن حقيقة الحكم العقلي بالتحسين والتقبيح ثم يبحث عن قاعدة الملازمة.

٣ ـ مباحث الدليل الاستقرائي ـ ويتضمن البحث عن الإجماع والسيرة والتواتر التي تكون دليليتها قائمة على أساس حساب الاحتمالات والاستقراء ويبدأ البحث في هذا القسم بنبذة في شرح حقيقة الدليل الاستقرائي على نحو الإجمال.

٤ ـ الحجج الشرعية : وتتضمن البحث عن الأدلة التي تثبت دليليتها بجعل شرعي. وهي تشتمل على قسمين من الأدلة. أحدهما الأمارات ، والآخر الأصول العملية. والجدير أن توضع مقدمة قبل القسمين معا يبدأ فيها بالبحوث التي تتعلق بجعل الدليليّة والحجية شرعا وألسنتها المختلفة ، ويبحث فيها أيضا عن الفرق الجوهري بين حجية الأصل وحجية الأمارة ونوع الآثار التي تثبت بكل منهما ومقدار ما يثبت المعبر عنه بحجية المثبتات واللوازم ، ويبحث فيها أيضا عن تأسيس الأصل عند الشك في دليلية الشرعية.

٥ ـ الأصول العملية العقلية ـ وهي القواعد التي يقررها العقل تجاه الحكم


الشرعي في موارد الشك البدوي أو المقرون بالعلم الإجمالي بالمتباينين أو الأقل والأكثر ، ويلاحظ في هذا الفصل أيضا مدى تأثير العلم الإجمالي على الوظيفة المقررة في مورد الشك شرعا لو لا العلم الإجمالي وقلبه لها ، فيشمل هذا الفصل كل مسائل الاشتغال زائدا على البحث عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان والتخيير العقليين.

ثم تختم بحوث الأدلة بخاتمة في التعارض الواقع بين الأدلة المذكورة على أقسامها وأحكام التعارض المذكور.

٢ ـ التقسيم بلحاظ نوع الدليل

وهو أن يلاحظ في التقسيم نوع الدليل من حيث ذاته ، وعلى أساسه تصنف البحوث الأصولية إلى قسمين رئيسيين :

أحدهما : الأدلة ، وهي القواعد الأصولية التي تشخص بها الوظيفة تجاه الحكم الشرعي بملاك الكشف عنه.

والآخر ـ الأصول العملية ، وهي القواعد التي تشخص الوظيفة العملية لا بتوسط الكشف.

أما القسم الأول ، فيبدأ فيه أولا بالبحوث التي تتعلق بالأدلة بصورة عامة ـ وهي التي أشرنا إليها في النهج السابق أيضا ـ ثم بعد الفراغ عنها تصنف إلى أدلة شرعية ، وهي التي تكون صادرة من الشارع. وعقلية ، وهي التي تكون قضايا مدركة من قبل العقل. فيبدأ بالدليل الشرعي ويصنف الكلام فيه إلى ثلاث جهات :

الأولى : في تحديد دلالات الدليل الشرعي.

الثانية : في إثبات صغراه أي صدوره من الشارع.

الثالثة : في حجية تلك الدلالات.

اما الجهة الأولى. فيصنف فيها الدليل الشرعي إلى لفظ وغيره ، ويميز بين دلالات الدليل الشرعي اللفظي ودلالات الدليل الشرعي غير اللفظي ( الفعل والتقرير ) وفيما يخص دلالات الدليل الشرعي اللفظي تقدم مقدمة تشتمل على مباحث الوضع والهيئات والدلالات اللغوية والمجازية ، لأن هذه المباحث ترتبط بدلالات هذا


الصنف من الدليل. ويدخل في نطاق دلالات الدليل الشرعي اللفظي مسائل صيغة الأمر ومادته وصيغة النهي ومادته والإطلاق والعموم والمفاهيم وغير ذلك من الضوابط العامة للأدلة.

وفيما يخص دلالات الدليل الشرعي غير اللفظي يتكلم عما يمكن أن يدل عليه الفعل أو التقرير بضوابط عامة من الظهور العرفي أو القرينة العقلية الناشئة من عصمة الشارع.

وأما الجهة الثانية ، فستعرض فيها وسائل الإثبات الممكنة من التواتر والإجماع والسيرة والشهرة وخبر الواحد.

وأما الجهة الثالثة ، فيتكلم فيها عن حجية الدلالة ، وجواز الاعتماد على ظهور الكتاب والسنة وسائر ما يتصل بذلك من أقوال ، وعن تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في الحجية.

وبعد ذلك ينتقل إلى الدليل العقلي. ويدخل فيه البحث عن كل قضية عقلية يمكن أن يستنبط منها حكم شرعي اما بلا واسطة أو بضم مقدمة شرعية أخرى ، أي المستقلات العقلية وغير المستقلات. ويدخل في الدليل العقلي هذا كل أبحاث الملازمات والاقتضاءات.

والبحث عن الدليل العقلي ، تارة : يقع صغرويا في صحة القضية العقلية ودرجة تصديق العقل بها. أو أخرى : كبرويا في حجية الإدراك العقلي للقضية في مقام استنباط الحكم الشرعي منه.

واما بحث الأصول العملية. فيبدأ بالكلام أولا عن بحوث عامة في الأصول العملية ، كالبحث عن ألسنتها وفوارقها مع الأدلة ومدى إثباتها لمواردها وعدم ثبوت المدلول الالتزامي بها ونحو ذلك ، ثم يبحث عنها. ويشتمل البحث عنها أولا : على بيان الوظيفة المقررة للشبهة المجردة عن العلم الإجمالي بجامع التكليف.

وثانيا : على بيان مدى التغير الّذي يحدثه في الموقف افتراض علم من هذا القبيل. ويدخل في الأول بحث البراءة والاستصحاب وفي الثاني بحث الاشتغال والأقل والأكثر.


وأيضا تختم بحوث علم الأصول بخاتمة في التعارض الواقع في الأدلة والأصول وأقسامه وأحكامه.

مقارنة بين التقسيمين

والملحوظ ان التقسيم الثاني أقرب إلى المنهج القديم في الدراسات الأصولية ؛ حيث كان يدرج فيها البحث عن حجية الخبر في البحث عن السنة لكونه عن عوارض السنة ، أي مثبتات الدليل الشرعي ، في حين ان التقسيم الأول أوفق بالمنهج المتداول في الدراسات الأصولية الحديثة.

كما أنه يتميز التقسيم الثاني بأنه يلحظ فيه تقسيم البحوث إلى مجاميع بنحو متطابق مع أنحاء تجمعها في مجال الاستدلال الفقهي ، فالقواعد الأصولية العامة في الدليل اللفظي ، كأبحاث الأوامر والنواهي وغيرها ، لا تنفصل عادة في مجال التطبيق والاستدلال الفقهي عن القواعد الأصولية الدخيلة في إثبات السند ، كحجية خبر الواحد والتواتر والسيرة والإجماع. لأن الفقيه حينما يستنبط الحكم من دليل لفظي يلتفت إلى دلالته وسنده معها ويعمل القواعد الأصولية المناسبة في كل من الجهتين ، فالتقسيم المذكور يراعي ذلك ويوحد التبحث عن مجموع تلك القواعد تحت عنوان الدليل الشرعي. وهذا معنى ان التصنيف فيه بنحو يناظر وضع القواعد الأصولية في مجال التطبيق والاستدلال الفقهي بينما ليس التقسيم الأول كذلك ، لأن أبحاث الظواهر والألفاظ فصلت فيه عن بحث حجية الخبر ، بل عن بحث حجية نفس الظهور أيضا مع أن الظهور وحجيته عنصران متلازمان عند الاستناد إليهما في عملية الاستدلال الفقهي.

وفي مقابل ذلك يتميز التقسيم الأول بإجراء التصنيف على أساس نوع الدليليّة للقاعدة الأصولية وتجميع كل مجموعة تتفق في سنخ الدليليّة وفي كونها لفظية أو عقلية برهانية أو استقرائية أو تعبدية بجعل الشارع في نطاق مستقل. وهذا يتيح الحديث في كل نطاق من نطاقات هذا التصنيف عن سنخ تلك الدليليّة التي هي السمة المشتركة للقواعد الأصولية الداخلة في ذلك النطاق ومنهجها وقواعدها العامة. فالأدلة


الاستقرائية مثلا بوصفها صنفا خاصا في التقسيم المذكور يمكن الحديث في نطاقها عن أصل المنهج الاستقرائي ، والحجج الشرعية بوصفها تمثل صنفا آخر من الدليلية ـ وهو الدليليّة التعبدية بحكم الشارع ـ يمكن الحديث في نطاقها عن أصل الحجية التعبدية وتحليلها. وبهذا يستهل كل صنف بما يكون بمثابة المنطق أو المنهج بالنسبة إليه ، بينما لا يتأتى ذلك. بنفس الدرجة من السهولة والدقة في التقسيم الثاني ، إذ قد تندمج بموجبة القاعدة ذات الدلالة اللفظية والأخرى الاستقرائية والثالثة التعبدية في صنف واحد لمساهمتها جميعا في الاستنباط من دليل واحد.

وبهذا قد يصح أن يقال : بأن التقسيم الأول هو الأفضل إذا نظر إلى علم الأصول بنظرة تجريدية ، أي بصورة منفصلة عن تطبيقه في علم الفقه. وان التقسيم الثاني هو الأفضل حينما ينظر إليه موزعا من خلال التطبيق وعلم الفقه. ومسألة تعيين أحد التقسيمين مسألة اختيار وتفضيل حسب وجهة النّظر.

وسنسير في بحوثنا هذه سيرا يقارب منهج التقسيم الأول ، لأنه بذلك يكون أقرب إلى الانطباق على المنهج المألوف في الكتب الأصولية التي وضعتها مدرسة الشيخ الأنصاري في الأصول. غير أننا فضلنا منهج التقسيم الثاني في الحلقات الدراسية الجديدة التي وضعناها كبديل للكتب الدراسية الأصولية القائمة فعلا لأنه في رأينا أكثر قدرة على إعطاء الطالب صورة أوضح عن دور القاعدة الأصولية في المجال الفقهي ، ورؤية أجلى لكيفية الممارسة الفقهية لقواعد علم الأصول.


مباحث الدليل اللفظي

المدخل



تقسيم البحث

المبحث الأول ـ الدلالة اللفظية وتفسيرها

١ ـ نظرية الدلالة على المعنى الحقيقي

تفسير العلقة الوضعيّة ـ تشخيص الواضع ـ تقسيمات الوضع ـ

تبعية الدلالة الإرادة ـ الاشتراك والترادف

٢ ـ نظرية الدلالة على المعنى المجازي

المبحث الثاني ـ نظرية الاستعمال

حقيقة الاستعمال ـ شروطه ـ المرآتية والعلامية ـ تفسير ظاهرة

المرآتية ـ مقارنة بين الاستعمال والإيجاد ـ إطلاق اللفظ وإرادة

شخصه ـ إطلاق اللفظ وإرادة نوعه ـ استعمال اللفظ في أكثر من معنى

المبحث الثالث ـ علامات الحقيقة وتشخيص المعنى

علامية التبادر ـ علامية صحة الحمل ـ علامية الاطراد ـ الأثر العملي

لتشخيص المعنى الحقيقي ـ تعارض الأحوال

المبحث الرابع ـ تطبيقات مختلف فيها

الحقيقة الشرعية ـ الصحيح والأعم



تقسيم البحث

استعرض علماء الأصول في مقدمة هذا العلم جملة من القضايا ذات الارتباط الوثيق بقسم مباحث الألفاظ من بحوث علم الأصول التي تعتبر من المسائل الأصولية الرئيسية المفتقر إليها عند اعتماد الدليل اللفظي في مجال استنباط الحكم الشرعي.

وهذه القضايا رغم أنها بحثت في المقدمة على شكل أمور متفرقة لا رابط فيما بينها سوى أنها تعتبر مبادئ تمهد لفهم جملة من المسائل الأصولية القائمة إلا أنه بالإمكان أن تذكر بشأنها منهجة فنية يتضح في ضوئها الموضوع الطبيعي لكل بحث من تلك البحوث التمهيدية وعلاقته بغيره ، ذلك ان هذه البحوث ترتبط كلها باللفظ وأنحاء ماله من مدلول في مقام إفادة المعاني بالألفاظ وهذا المقام له جانبان : أحدهما جانبه من ناحية السامع ، وهذا الجانب يمثل دلالة اللفظ على المعنى التي توجب انتقال ذهن السامع من اللفظ إلى معناه والثاني جانبه من ناحية المتكلم ، وهذا الجانب يمثل عملية استعمال اللفظ في المعنى وتوظيفه لإفادته من قبل المتكلم. والجانب الثاني مترتب على الجانب الأول إذ لو لم تكن للفظ دلالة على المعنى لما استعمله المتكلم فيه.

والجانب الأول ينقسم إلى قسمين لأن الدلالة تارة : تنشأ من الوضع الخاصّ مباشرة وهي دلالة اللفظ على المعنى الحقيقي ، وأخرى : لا تنشأ كذلك وهي دلالة


اللفظ على المعنى المجازي. واما اللفظ في موارد الإطلاق الإيجادي كإطلاقه وإرادة شخصه فليس له دلالة في عالم الذهن لعدم الثنائية على ما سيأتي توضيحه.

والبحث في هذين القسمين يقع تارة : بحسب مقام الثبوت الّذي يتكفل تفسير هاتين الدلالتين وكيفية نشوئهما وأقسامهما الممكنة. وأخرى : بحسب مقام الإثبات ويستعرض فيه ما يمكن أن يكون دليلا على تشخيص المدلول الحقيقي عن غيره لجعله علامة فارقة يرجع إليها في تشخيص دلالة لفظ مخصوص على معنى مخصوص. وثالثة : في بعض التطبيقات المختلف بشأن ما هو المدلول الحقيقي فيها.

وعلى هذا الأساس سوف نورد بحوث هذا التمهيد خلال المباحث التالية :

المبحث الأول : ويتضمن الحديث عن دلالة اللفظ على المعنى الحقيقي ودلالته على المعنى المجازي بحسب مقام الثبوت.

المبحث الثاني : ويتكفل البحث عن الاستعمال ومقوماته وبعض تطبيقاته.

المبحث الثالث : في علامات الحقيقة والمجاز وحالات الشك في نوع العلاقة بين اللفظ والمعنى.

المبحث الرابع : ونذكر فيه التطبيقات المختلف بشأن ما هو مدلولها الحقيقي المناسب بحثها في مقدمة علم الأصول وتتمثل في مسألتين ـ الحقيقة الشرعية والصحيح أو الأعم ـ.

وأما البحث عن مدلول المشتقات والحروف والهيئات فهو كسائر البحوث الأصولية من العناصر المشتركة في الاستدلال الفقهي على ما سوف يتبين في محله ، ولذلك أدرجناه في الفصل الأول من بحوث هذا القسم.


المبحث الأول



الدلالة اللفظية وتفسيرها

١ ـ النظرية العامة للدلالة على المعنى الحقيقي

دلالة اللفظ على المعنى الحقيقي يقصد بها الدلالة القائمة في اللفظ على أساس الوضع والعلاقة اللغوية التي هي الأساس في فهم المعاني من الألفاظ بشكل عام.

وتمتاز هذه الدلالة عن الدلالة على المعنى المجازي في أنها هي الدلالة الأولى للفظ لأنها علاقة قائمة بين اللفظ والمعنى الحقيقي مباشرة ، وأما دلالة اللفظ على المعنى المجازي فهي علاقة قائمة بينهما في طول علاقة اللفظ بمعنى سابق ، فالمعنى المجازي يفترض دائما معنى حقيقيا سابقا للفظ بخلاف المعنى الحقيقي ، ومناسبة المعنى المجازي للفظ دائما بلحاظ حد أوسط بينهما ، بينما المناسبة بين المعنى الحقيقي واللفظ بالمباشرة.

والكلام في الدلالة على المعنى الحقيقي وتحقيق النظرية العامة لهذه الدلالة يقع في عدة فصول :

الفصل الأول : في تفسير هذه الدلالة وشرح كنه العلاقة الوضعيّة المسببة لها.

الفصل الثاني : في تشخيص الواضع.

الفصل الثالث : في أقسام الوضع وتقسيماته المختلفة.

الفصل الرابع : في تحديد هوية الدلالة التي ينتجها الوضع وهل أن الدلالة تابعة


للإرادة أو لا؟

الفصل الخامس : في مدى إمكان اشتراك علاقتين وضعيتين في لفظ واحد أو معنى واحد ( الاشتراك والترادف ).

الفصل الأول في تفسير العلاقة الوضعيّة

لما كانت دلالة اللفظ على المعنى الحقيقي في حقيقتها ترجع إلى نحو من الاستتباع والسببية بمعنى كون الوجود الذهني للفظ سببا للوجود الذهني للمعنى فلا يمكن أن تحصل بدون مبرر ، ومن هنا حاول الأصوليون تبرير هذه السببية فوجد اتجاهان.

أحدهما : الاتجاه الذاتي القائل بأن العلاقة بين اللفظ والمعنى ذاتية كالعلاقة بين النار والحرارة.

والآخر ـ الاتجاه الموضوعي القائل بأنها علاقة تحصل نتيجة لعامل خارجي وبجعل جاعل المعبر عنه بالوضع وليست نابعة من طبيعة اللفظ والمعنى.

ولا شك في خطأ الاتجاه الأول وعدم صلاحيته لتفسير ما نعيشه من دلالات لغوية ثبت عدم كونها ذاتية ، لا لمجرد اختلاف الناس فيها ليقال بأن مرد الدلالة الذاتيّة إلى ميول لغوية غريزية وقد يختلف الناس في ميولهم وغرائزهم. بل لما تكشفه الملاحظة والتجربة لنا من عدم وجود أي ميل أصيل سابق على الاكتساب والتعلم للانتقال من لفظ مخصوص إلى معنى مخصوص. فالصحيح هو الاتجاه الموضوعي الّذي يفسر العلاقة اللغوية بين اللفظ والمعنى على أساس عامل خارج عن ذاتي اللفظ والمعنى يسمى بالوضع وفيما يلي نتحدث عن تشخيص حقيقة هذا العامل وكيف يستوجب السببية بين اللفظ ومعناه.

حقيقة الوضع

اختلفت كلمات الأعلام في تشخيص حقيقة الوضع بعد الاتفاق على أصل الاتجاه الموضوعي في تفسير العلاقة الحاصلة بين اللفظ والمعنى وبإمكاننا أن نقسم


أقوالهم في إطار هذا الاتجاه إلى مذهبين رئيسين :

الأول : مذهب الجعل الواقعي للسببية القائل : بأن الواضع يجعل السببية مباشرة بين طبيعي اللفظ والمعنى فتكون الملازمة والاستتباع بينهما أمرا واقعيا على حد واقعية الملازمات والسببيات الثابتة في لوح الواقع ولكن تحققها في المقام يكون ببركة الوضع والجعل.

الثاني : المذهب القائل : بأن الجاعل يقوم بعملية يترتب عليها قيام السببية بين اللفظ والمعنى أي يحدث في اللفظ صفة خاصة فيصبح اللفظ بعد اكتسابه تلك الصفة سببا لإخطار المعنى.

وقد اعترض على المذهب الأول في كلمات السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ بأنه : « ان أريد بوجود الملازمة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له وجودها مطلقا حتى للجاهل بالوضع فبطلانه من الواضحات التي لا تخفي على أحد ، فان هذا يستلزم أن يكون سماع اللفظ وتصوره علة تامة الانتقال الذهن إلى معناه ولازمه استحالة الجهل باللغات مع أن إمكانه ووقوعه من أوضح البديهيات. وإن أريد به ثبوتها للعالم بالوضع فقط دون غيره فيرد عليه : ان الأمر وإن كان كذلك يعني ان هذه الملازمة ثابتة له دون غيره إلا أنها ليست بحقيقة الوضع بل هي متفرعة عليها ومتأخرة عنها رتبة ، ومحل كلامنا هنا في تعيين حقيقته التي تترتب عليه الملازمة بين تصور اللفظ والانتقال إلى معناه » (١)

وكأنه يراد أن يقال : بأن الملازمة باعتبارها مشروطة بالعلم بالوضع تكون متأخرة رتبة عنه فلا يعقل أن يكون الوضع هو نفس هذه الملازمة وإلا يلزم تأخر الشيء عن نفسه.

وهذا المقدار يمكن أن يجاب عليه : بأن الوضع هو جعل هذه الملازمة المشروطة لانفسها ، ولا يلزم حينئذ تأخر الشيء عن نفسه لأن المتأخر عن العلم بالوضع الملازمة المجعولة باعتبارها مشروطة بالعلم والعلم بالوضع لا يراد به العلم بهذه الملازمة المجعولة بل بجعلها ونتيجة ذلك ان فعلية الملازمة تتوقف على جعلها كبرويا وهذا هو الوضع

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١ ص ٤٢ ـ ٤٣


وعلى تحقق الشرط المأخوذ في مقام جعلها قيدا وهو العلم بذلك الجعل.

وبالجملة ، إذا افترض الاعتراف بأصل إمكان جعل السببية الواقعية فلا محذور بعد ذلك في اختصاصه بالعالم بالوضع فان هذا نظير ما صورناه في بحوث حجية القطع.

من إمكان أخذ القطع بجعل حكم كبرويا قيدا في موضوع الحكم المجعول بذلك الجعل.

ولكن الصحيح رفض ما افترض من إمكان إيجاد السببية الواقعية بين شيئين بمجرد الوضع والجعل ، فان السببية صفة ذاتية للسبب الحقيقي فلا يمكن جعلها تكوينا لما ليس بسبب فضلا عن وضعها تشريعا واعتبارا.

فالصحيح من المذهبين في تشخيص حقيقة الوضع هو الثاني الّذي يفترض بأن الواضع يقوم بعمل تمهيدي يترتب عليه قيام السببية بين اللفظ والمعنى.

ولكننا في إطار هذا المذهب نواجه مشكلة تشخيص تلك العملية التمهيدية التي قام بها الواضع صانع اللغة فأوجب السببية بين اللفظ والمعنى. وقد انقسم أنصار هذا المذهب في علاج هذه النقطة إلى فريقين ، أحدهما آمن بنظرية الاعتبار ، والآخر بنظرية التعهد. وفيما يلي نتحدث عن النظريتين مع ما ينبغي التعليق به على كل منهما.

١ ـ نظرية الاعتبار

ويقول أصحاب هذه النظرية : بأن الواضع يمارس عملية اعتبارية إنشائية تتولد على أساسها العلاقة اللغوية بين اللفظ والمعنى. وهناك صيغ مختلفة في التكييف الإنشائيّ لهذا الاعتبار الوضعي.

الصياغات المختلفة لنظرية الاعتبار مع مناقشتها

الصيغة الأولى : أن الواضع يجعل اللفظ على المعنى كما تجعل الإشارات الحمراء مثلا على مواقع معينة لتكون علامة على الخطر ، غاية الفرق ان الوضع هناك حقيقي وهنا اعتباري إذ لم يجعل اللفظ حقيقة على أمر خارجي ـ كما توضع الشارة الحمراء على


الموضع المعين ـ بل لا يعقل ذلك في اللفظ وإنما المعقول ادعاء وضعه عليه فيكون الجعل اعتباريا.

وقد اعترض على هذه الصيغة في كلمات السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ بما يكون أشبه بالمؤاخذة على التعبير ومحصله : ان وضع اللفظ ليس من سنخ الوضع الحقيقي ، والوجه في ذلك : هو ان الوضع الحقيقي يتقوم بثلاثة أركان : الموضوع ـ وهو الشارة الحمراء ـ والموضوع عليه ـ وهو المكان الموضوع عليه الشارة ـ والموضوع له ـ وهو الدلالة على الخطر ـ وهذا بخلاف الوضع في باب الألفاظ فانه يتقوم بركنين : الموضوع ـ وهو اللفظ ـ والموضوع له ـ وهو دلالته على معناه ـ ولا يحتاج إلى شيء ثالث ليكون هو الموضوع عليه ، وإطلاقه على المعنى الموضوع له لو لم يكن من الأغلاط الظاهرة فلا أقل من أنه لم يعهد في الإطلاقات المتعارفة والاستعمالات الشائعة مع أن لازم الصيغة المذكورة أن يكون المعنى هو الموضوع عليه (١).

ويمكن دفع ما أفيد : بأن الإشكال إن كان من جهة مجرد عدم صدق عنوان الموضوع عليه على المعنى فهذا مما لا يسلم به من يدعي ان الوضع معناه جعل اللفظ على المعنى وكون المعنى موضوعا عليه فتكون دعوى عدم الصدق المذكورة مصادرة. وإن كان من جهة انه لا يتصور في المقام شيئان أحدهما يكون موضوعا عليه والآخر يكون موضوعا له كما هي الحالة في موارد الوضع الحقيقي ، فحين توضع الشارة الحمراء يكون هناك موضوع عليه وهو المكان ـ وموضوع له ـ وهو الخطر ـ وليس المقام كذلك. فيرد عليه : انه إن أريد بالتعدد كون الموضوع له والموضوع عليه متباينين وجودا فهذا غير لازم في موارد الوضع الحقيقي ، بل الموضوع له غالبا صفة قائمة بالموضوع عليه ، فالعلامة توضع على مكان معين للإشارة إلى انه خطير أو أنه رأس فرسخ ونحو ذلك من الصفات. وإن أريد بالتعدد المعنى المحفوظ في الصفة والموصوف فهذا بالإمكان افتراضه في الوضع الاعتباري بأن يقال : ان الواضع يضع لفظ الماء اعتبارا على الصورة الذهبيّة للدلالة على أنها صورة الماء فالموضوع عليه هو الصورة الذهنية الخاصة والموضوع له الدلالة على

__________________

(١) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٤٧


أنها صورة الماء وبناء على أن كل مستعمل واضع كما يختار السيد الأستاذ بإمكان هذه الصيغة ان تقول : ان كل استعمال هو وضع اعتباري ، بمعنى انه وضع للفظ اعتبارا على الصورة الذهنية الثابتة في ذهن المستعمل للدلالة على أنها ماء أو هواء أو غير ذلك من المعاني ، فالصورة الذهنية في الوضع الاعتباري بمثابة المكان في الوضع الحقيقي وكونها صورة للمعنى الفلاني بمثابة كون هذا المكان فرسخا أو فرسخين.

وعلى هذا يصح أن يقال : في كل من الوضع الحقيقي والوضع الاعتباري ان الموضوع له هو الدلالة على قضية والموضوع عليه هو المعنى الأفرادي المتحصل من تلك القضية ، وبهذا يكون التغاير بين الموضوع عليه والموضوع له محفوظا دائما.

والصحيح في الجواب عن أصل الصيغة : أن مجرد جعل شيء على شيء آخر حقيقة فضلا عن جعله اعتبارا لا يعطيه صفة يكون بها سببا حقيقيا له. وإن شئت قلت : ان الوضع الاعتباري لا يكون أحسن حالا من الوضع الخارجي الحقيقي ، ونحن نلاحظ في الوضع الحقيقي ان مجرد وضع الشارة الحمراء على موضع الخطر لا يكفي لحصول الدلالة المطلوبة ما لم تضم إليه عناية أخرى ، كالتعهد والالتزام بأن لا توضع الشارة الحمراء إلا لذلك ، فلا بد من إبراز نكتة أخرى قد تكفي وحدها لتفسير السببية بين اللفظ والمعنى بلا حاجة إلى الوضع الاعتباري.

هذا ، مضافا : إلى أن الفرق بين العلقة الوضعيّة وبين العلامات الموضوعة أساسا ليس من ناحية كون وضع اللفظ اعتباريا ادعائيا ووضعها حقيقيا خارجيا ، بل بينهما فرق جوهري في نوع العلاقة المتولدة فيهما فان العلاقة بين اللفظ والمعنى علاقة تصورية لا تقتضي أكثر من التلازم والتداعي بين تصور اللفظ وتصور المعنى ، بينهما هي في العلامات الخارجية علاقة تصديقية بين وجود العلامة ووجود ذيها خارجا فلا يصح التوحيد بينهما في المناشئ والآثار واعتبارهما من واد واحد.

الصيغة الثانية : اعتبار اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى بوجوده الخارجي ومتحدا معه فتسري إليه آثاره التي منها تصوره عند الإحساس به.

وقد ناقش فيها السيد الأستاذ ـ دام ـ ظله ـ بما يرجع إلى مجموع أمرين.

الأول : ان هذا الاعتبار لا بد وان يرجع إلى الحكومة والتنزيل بلحاظ الآثار.


الثاني : أنا لا نجد ترتب شيء من أحكام المعنى الخارجي وآثاره على وجود اللفظ فما معنى كونه وجودا تنزيليا له؟ (١)

ويمكن في دفع هذه المناقشة منع كلا الأمرين. ففيما يتعلق بالأمر الأول يقال : بأن رجوع الاعتبار إلى التنزيل بلحاظ الآثار دائما غير صحيح ، بل هناك نحو من الاعتبار والحكومة يكون متمحضا في ادعاء أن هذا ذاك. وقد بين الفرق بينهما في كلمات المحقق النائيني ـ قده ـ في البحث عن كيفية جعل الطريقية للأمارات ، حيث كان يورد عليه : بأن الآثار المطلوبة في القطع الطريقي ليست شرعية فكيف يصح التنزيل بلحاظها. فكان جوابه ـ قده ـ بيان الفرق بين التنزيل بلحاظ الآثار وبين اعتبار ما ليس بعلم علما.

وفيما يتعلق بالأمر الثاني يقال : ان أهم أثر من آثار المعنى الخارجي ـ وهو الانتقال إليه تصورا عند الإحساس به ـ يترتب على اللفظ أيضا ببركة هذا التنزيل ، فلتكن الحكومة بهذا المقدار.

والصحيح في الإجابة عن هذه الصيغة : ما ذكرناه الآن في إبطال الصيغة الأولى من أن السببية والاستتباع بين اللفظ والمعنى لا يعقل أن تكون متولدة من مجرد الاعتبار والجعل ، وإلا لأمكن جعل كل شيء سببا لشيء آخر بمجرد الاعتبار.

هذا ، مضافا : إلى ان تنزيل اللفظ منزلة الوجود الخارجي للمعنى أو اعتباره وجودا للمعنى لا يجعل منه بالاعتبار سوى مصداق عنائي للمعنى ومن الواضح ان تصور المصداق الحقيقي ليس سببا بذاته للانتقال إلى تصور الطبيعي فكيف بالمصداق العنائي الاعتباري. فلا بدّ ان تبدل الصيغة السابقة إلى صيغة تقول : بأن الوضع هو اعتبار اللفظ نفس المعنى ، أي اعتبار العينية بالحمل الأولي بينهما. وهذا غاية ما ينتجه ان يكون تصور اللفظ تصورا لذات المعنى بالاعتبار ولا يفسر كيف يحصل تصور للمعنى حقيقة.

ومنه يعرف الجواب على الصيغة الثالثة لنظرية الاعتبار القائلة : بأن الوضع هو

__________________

(١) راجع هامش أجود التقريرات ج ١ ص ١٢


اعتبار اللفظ أداة لتفهيم المعنى فان صيرورة اللفظ أداة حقيقية لتفهيم المعنى لا تتحقق من مجرد الاعتبار والجعل ، وإلا لأمكن جعل أي شيء أداة لشيء آخر.

وقد يكون هذا النقص الظاهر في نظرية الاعتبار بمختلف صيغها هو السبب في ظهور النظرية الأخرى في تفسير العلقة الوضعيّة ، وهي نظرية التعهد ، وإن لم يوضح ذلك في كلمات أنصارها.

٢ ـ نظرية التعهد

وتتلخص هذه النظرية : في أن الوضع ليس اعتبارا وإنما هو تعهد من قبل الواضع بأن لا يتلفظ بالكلمة إلا إذا كان يريد افهام المعنى الخاصّ الّذي يحاول ربطه بها. وهذا التعهد يؤدي إلى أننا متى ما سمعناه ينطق بتلك الكلمة انتقل ذهننا إلى تصور ذلك المعنى وعرفنا أن المتكلم أراد تفهيمه لنا ، وهذا معنى قيام السببية بين اللفظ والمعنى.

وقد تبنى السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ هذه النظرية واعتبارها التفسير الصحيح الحقيقة الوضع (١).

مميزات نظرية التعهد

وتتميز هذه النظرية بنقاط ثلاث :

١ ـ أن التعهد يفسر التلازم بين اللفظ والمعنى المحقق للدلالة بقضية شرطية يتعهد بها الواضح طرفاها النطق باللفظ وافهام المعنى وعلى أساسه ينفي وجود أي داع آخر للنطق باللفظ سوى افهام المعنى.

٢ ـ ان الدلالة الناتجة عن الوضع على أساس هذه النظرية تكون دلالة تصديقية لا تصورية فحسب ، لأن اللفظ بعد التعهد المذكور يكشف كشفا تصديقيا عن إرادة المتكلم لإفهام المعنى وهذا الكشف هو السببية المتولدة من الوضع عند أصحاب هذه

__________________

(١) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٤٨


النظرية. وأما الدلالة التصورية بين اللفظ والمعنى فهي وإن حصلت نتيجة الأنس الذهني بينهما إلا أنها ليست هي الدلالة الوضعيّة.

٣ ـ ان كل مستعمل ينقلب إلى واضع حقيقة على ضوء هذه النظرية لأنه متعهد ضمنا بأن لا ينطق باللفظ إلا عند إرادة افهام معناه الخاصّ ولا فرق بينه وبين الواضع إلا أن الأخير هو المتعهد الأول الأسبق زمانا وإلا فكل شخص مسئول عن تعهداته ولا يعقل أن يكون تعهد الواضع محققا للدلالة على قصد افهام المعنى من قبل غيره ، كما هو واضح.

التعليق على نظرية التعهد

وتعليقنا على هذه النظرية كما يلي :

١ ـ ان القضية المتعهد بها إن كانت هي أنه « كلما قصد تفهيم معنى الحيوان المفترس مثلا نطق بلفظ الأسد » فهذا لا يجدي في إيجاد الدلالة التصديقية المطلوبة من التعهد ، لأنه يستوجب استلزام قصد تفهيم المعنى للنطق باللفظ دون العكس الّذي هو المطلوب. وإن كانت هي أنه « كلما نطق باللفظ فهو يقصد معناه » فالتعهد بمثل هذه القضية وإن كان يحقق الاستلزام المطلوب ولكنه ليس عقلائيا ، لوضوح ان الإتيان باللفظ ليس هو الّذي يدفع بالمستمعل إلى إرادة معناه بل الأمر بالعكس. مضافا إلى ما سيأتي من استلزامه التعهد بعدم الاستعمال المجازي. وإن كانت القضية المتعهد بها « أن لا يأتي باللفظ إلا حينما يكون قاصدا تفهيم المعنى » فالتعهد بذلك معقول ومحقق للاستلزام المطلوب بين اللفظ المعنى ، غير أنه ينطوي على تعهد ضمني بعدم الاستعمال المجازي وواضح أن الوضع لا يعني التعهد بعدم المجاز. ولا يمكن إصلاحه بدعوى : تقييد التعهد الوضعي بعدم الإتيان بالقرينة اما في حالة الإتيان بالقرينة فلا تعهد. وذلك لأن الإنسان العرفي ليس ملتزما بعدم استعمال اللفظ في المعنى المجازي إلا بقرينة ، إذ كثيرا ما يتعلق الغرض من الاستعمال بالإجمال والإبهام.

هذا ، إضافة : إلى ان المراد بالقرينة إن كان هو القرينة المتصلة خاصة لزم التعهد الضمني بعدم الاستعمال المجازي مع الاعتماد على قرينة مفصلة. وإن كان مطلق


القرينة لزم مع الشك في القرينة المنفصلة إجمال الخطاب ويتعذر نفيه حينئذ بالأصل العقلائي ، لما سوف يأتي في محله من أن الأصول العقلائية لا تكون تعبدا بحتا بل هي بملاك وجود كاشفية في موردها ـ كالظهور في محل الكلام ـ والمفروض توقفه على عدم القرينة المنفصلة ، فلا يعقل التمسك به لنفيها.

٢ ـ ان الدلالة اللغوية على أساس هذه النظرية تتضمن عملية استدلالية وانتقالا منطقيا عقلائيا على أساس الالتزام العقلائي بالتعهد من أحد طرفي الملازمة التعهدية إلى طرفها الآخر مع ان نشوء ظاهرة اللغة في حياة الإنسان منذ عهوده الأولى وقبل أن تتكامل مدركاته العقلانية لا يساعد على هذا الافتراض ، بل يبرهن على أن عملية الوضع وإيجاد العلقة الوضعيّة والاستفادة منها في مجال المحاورة لا تتوقف على تعقيدات ومصادرات عقلائية كما يفترضه هذا التفسير ، على ما سوف يتضح من خلال شرح التفسير الصحيح الحقيقة الوضع.

٣ ـ ربما يحاول إبطال نظرية التعهد بتوجيه اعتراض الدور إليها بتقريب : ان الإتيان باللفظ ليس مطلوبا نفسيا بل غيري أي بقصد تفهيم معناه للسامع ، وإرادته كذلك فرع كونه موضوعا لذلك والمفروض ان وضعه متوقف على قضية شرطية هي إرادة افهام معناه كلما جيء به ، فيلزم الدور بلحاظ الإرادة الاستعمالية.

ولا يندفع الإشكال : بافتراض ان الموقوف على الوضع هو الإرادة الشخصية في مرحلة الاستعمال وهي إرادة غيرية والمتوقف عليه الوضع هو الإرادة الكلية للإتيان باللفظ كلما كان قاصدا افهام المعنى وهي إرادة نفسية.

لأن الإرادتين إرادة واحدة بحسب الحقيقية ، غاية الأمر تارة : تلحظ قبل تحقق شرطها بالفعل فترى إرادة كلية بنحو القضية الحقيقية ، وأخرى : تلحظ بعد فعلية الشرط فترى إرادة شخصية.

والصحيح في دفع الشبهة أن يقال : بأن الوضع عند أصحاب هذه النظرية عبارة عن نفس التعهد الّذي هو من مقولة الالتزام لا الإرادة. نعم طرف هذا التعهد والالتزام هو الإرادة وقصد التفهيم لا أن حقيقة الوضع هو هذا القصد ، فالموقوف عليه الإرادة الاستعمالية إنما هو ثبوت نفس التعهد والالتزام بالقضية الشرطية وهو ليس


إرادة لا كلية ولا جزئية كما هو واضح.

الرّأي المختار في حقيقة الوضع

وتحقيق الكلام في تشخيص حقيقة الوضع. أن يقال : بأن الله سبحانه وتعالى قد جعل من الإحساس بالشيء سببا في انتقال الذهن إلى صورته فالانتقال الذهني إلى الشيء استجابة طبيعية للإحساس به وهذا قانون تكويني ويوجد قانونان تكوينيان ثانويان يوسعان من دائرة تلك الاستجابة الذهنية.

أحدهما : قانون انتقال صورة الشيء إلى الذهن عن الطريق إدراك مشابهة ، كانتقال صورة الحيوان المفترس إلى الذهن بسبب رؤية رسم مشابه له على الورق.

ثانيهما : قانون انتقال صورة الشيء إلى الذهن عن طريق إدراك الذهن لما وجده مشروطا ومقترنا بذلك الشيء على نحو أكيد بليغ فيصبح هذا القرين في حكم قرينة من حيث إيجاد نفس الأثر والاستجابة الذهنية التي كان يحدثها على الذهن عند الإحساس به. وهذا هو ما يسمى في المصطلح الحديث بالمنية الشرطي والاستجابة الحاصلة منه بالاستجابة الشرطية.

وهذا الاقتران والأشراط الّذي يوجب الاستجابة المذكورة لا بد وأن يكون على وجه مخصوص ، أي لا يكفي فيه مطلق الاقتران بل لا بد وأن يكون اقترانا مركزا مترسخا في الذهن اما نتيجة كثرة تكرر الاقتران خارجا أمام إحساس الذهن ، وهذا هو العامل الكمي لتركيز الاقتران ، أو نتيجة ملابسات اكتنفت الاقتران ولو دفعة واحدة جعلته لا ينمحي عن الذهن ، وهذا هو العامل الكيفي.

والإنسان تحدث استجاباته الذهنية وفق هذه القوانين الثلاثة ، فإذا أطلق شخص مثلا صوتا مشابها لزئير الأسد انتقل إلى الذهن تصور ذلك الصوت نتيجة الإحساس المسمعي به وهو تطبيق للقانون الأول ، ثم ينتقل الذهن من ذلك إلى تصور الزئير نتيجة المشابهة بينهما وهذا تطبيق للقانون الثانوي الأول ، ثم ينتقل من ذلك إلى صورة الأسد نفسه الملازم خارجا مع صوته وهذا تطبيق للقانون الثانوي الثاني.

وقد حاول الإنسان أن يستفيد من القانونين التكوينيين الثانويين في مقام التعبير


عن مقصوده ونقله إلى ذهن مخاطبه ، فاعتمد على القانون الثانوي الأول في استخدام الإشارات التعبيرية والتصويرية التي تنقل المعاني إلى الذهن على أساس التشابه ، ولما كان قد اعتاد ان ينتقل من الأصوات إلى أسبابها وأشكال مناشئها على أساس الاقتران الخارجي فقد اتجه إلى توسيع نطاق الاستفادة من الأصوات واستخدامها في مجال تفهيم الآخرين أيضا باستخدام القانون الثانوي الثاني عن طريق جعل لفظ أو صوت مخصوص مقترنا ومشروطا بمعنى مخصوص اقترانا أكيدا ناشئا من التكرار أو نتيجة عامل كيفي معين وبذلك نشأت العلقة الوضعيّة ، أعني السببية والاستتباع بين ذلك الصوت المخصوص والمعنى المخصوص.

وهكذا تولدت ظاهرة اللغة في حياة الإنسان وبدأت تتكامل وتتوسع من صيغ بدائية محدودة إلى صيغ متكاملة أكثر شمولا واستيعابا للألفاظ والمعاني.

هذا هو حقيقة الوضع ؛ فالواضع بحسب الحقيقة يمارس عملية الإقران بين اللفظ والمعنى بشكل أكيد بالغ ، وهذا الاقتران البالغ إذا كان على أساس العامل الكمي ـ كثرة التكرار ـ سمي بالوضع التعيني وإذا كان على أساس العامل الكيفي سمي بالوضع التعييني.

مميزات النظرية المختارة في الوضع

وفي ضوء هذا التحليل لحقيقة الوضع تتضح الأمور التالية :

١ ـ ان الوضع ليس مجعولا من المجعولات الإنشائية والاعتبارية كالتمليك بعوض المجعول في باب البيع مثلا. وإنما هو أمر تكويني يتمثل في أشراط مخصوص بين اللفظ والمعنى المحقق لصغرى قانون الاستجابة الشرطية الّذي هو قانون طبيعي.

وقد يستخدم الإنشاء لإيجاد هذا الأشراط ـ كما في الوضع التعييني ـ ولكن هذا لا يعني ان الأشراط هو المنشأ بل نفس الإنشاء بما هو عملية تكوينية تصدر خارجا يحقق الأشراط المطلوب.

٢ ـ ان الدلالة التي تتحقق بالوضع دلالة تصورية دائما ، ولهذا لا فرق في انتقال السامع إلى المعنى بين أن يسمعه من لافظ ذي شعور أو من جهة غير شاعرة كالجدار


مثلا ، لأن الاقتران الأكيد الّذي هو ملاك الدلالة الوضعيّة ثابت في الحالتين ولا مجال للتفكيك بينهما بعد أن تم الأشراط بين اللفظ والمعنى واما الدلالة الكاشفة عن إرادة التفهيم أو غير ذلك فهي موقوفة على ملاكات أخرى من ظهورات حالية وسياقية.

وبذلك يظهر وجه النّظر فيما وجهه السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ على القائلين بأن الدلالة الوضعيّة تصورية من أن الوضع حيث انه فعل اختياري للواضع الحكيم فإطلاقه لأمثال هذه الموارد التي لا يترتب على الوضع فيها أثر يكون لغوا وعبثا (١).

فان هذا مبني على افتراض الوضع مجعولا اعتباريا إنشائيا على حد ساير المجعولات التشريعية ، واما بعد إن عرفنا حقيقة الوضع في الاقتران المخصوص بين اللفظ والمعنى فلا يتصور إيجاد هذا الاقتران في حالة دون حالة ، بل أمره دائر بين الوجود والعدم لا الإطلاق والتقييد.

٣ ـ ويستخلص مما سبق توقف فعلية الدلالة الوضعيّة غالبا على العلم بالوضع ، لأنه إنما تتحقق الدلالة بالإشراط والاقتران فلا بد وأن يعيش الشخص ذهنيا حالة الأشراط والاقتران بين اللفظ والمعنى لينتقل إلى المعنى عند سماع اللفظ وهذا يكون غالبا على أساس العلم بالوضع ، وقد يحصل على أساس تلقيني ، كأن تقرن أمام طفل مثلا بين اللفظ والمعنى على نحو خاص فتحصل العلقة في ذهنه عن طريق هذا التلقين فتؤثر هذه العلقة أثرها وإن لم يكن الطفل عالما بنفس هذه العلقة.

الفصل الثاني في تشخيص الواضع

اختلفوا في تشخيص الواضع بين اتجاهين الاتجاه القائل بإلهية الوضع والاتجاه القائل ببشريته.

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٥٢


أدلة القول بإلهية الوضع

ومن أنصار الاتجاه الأول من أعلام الأصوليين المحقق النائيني ( قده ) وقد حاول تعزيز موقفه بأمرين :

١ ـ ما نشاهده من استيعاب الأوضاع اللغوية لدقائق فنية ـ سواء ما كان منها ترتبط بجانب اللفظ أو المعنى ـ تفوق عادة طاقة جماعة من الناس وقدرتهم على نسجها وإبداعها فما ظنك بشخص واحد.

٢ ـ لو كان هناك واضع بشري معين قد أبدع كل هذا النظام اللغوي المنسق المتكامل لنقل ذلك في التاريخ ولخلد ذكره في الشعوب بينما لا يوجد شيء من ذلك في تاريخ أي لغة من اللغات (١).

مناقشة القول بإلهية الوضع

وقد نوقش في كلا هذين الأمرين من قبل أنصار الاتجاه الثاني : بأن مدعي بشرية الوضع لا يفترض وجود شخص معين من البشر قد قام بإبداع كل هذا النظام اللغوي الدّقيق ، وإنما يدعي أن الإنسان بذكائه الملهم من قبل الله سبحانه وتعالى اتجه ـ نتيجة إحساسه بالحاجة إلى التفاهم مع الآخرين من بني نوعه ـ إلى استخدام الأساليب البدائية الساذجة في بادئ الأمر من الإشارات والتصويرات وتقليد الأصوات في مقام التعبير عما يدور في ذهنه ونقله إلى الآخرين ، ثم نمت عنده تلك الأساليب وتطورت تدريجا حتى أصبحت بالشكل المنسق المتكامل الّذي عليه اليوم فهي إذن عملية قد اشتركت في إبداعها خبرات أجيال من البشر وليست من صنع إنسان معين لكي يستبعد ذلك على أساس عدم نقل التاريخ لاسمه أو على أساس استحالة وقوعه في نفسه.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٢


مبعدات بشأن القول ببشرية الوضع

هذا ، ولكن بالإمكان أن تذكر في قبال اتجاه بشرية الوضع مبعدات أخرى.

منها ـ انه كيف قدر لإنسان ما قبل اللغة البدائي أن يلتفت إلى إمكانية الاستفادة من الألفاظ ووضعها بإزاء المعاني لو لا إلهام من الله تعالى وتدخل منه بهذا الشأن.

ومنها ـ ان ظاهرة اللغة في ضوء المسالك المعروفة في تفسير الوضع تتطلب درجة بالغة من النضج الفكري والتطور الاجتماعي تؤهل الإنسان البدائي لفهم معاني التعهد والالتزام أو الجعل والاعتبار مع ان مثل هذه المرتبة من النضج العقلي والاجتماعي إنما حصل للإنسان في مراحل متأخرة عن صيرورته إنسانا اجتماعيا قادرا على التفهيم ونقل أفكاره إلى الآخرين.

ومنها ـ أنه لو سلم إدراك إنسان ما قبل اللغة لمثل هذه القضايا المعنوية الدقيقة مع ذلك يقال : كيف قدر لهذا الإنسان أن يفهم الآخرين ويتفاهم معهم ويتفق في تلك الأفكار لأنها ليست على حد القضايا الساذجة المحسوسة في الخارج لكي يمكن التفاهم عليها بالرموز والإشارات.

ومنها ـ أنه كيف نفسر اتفاق مجموعة من الناس على لغة معينة فهل كان ذلك من باب أنهم جميعا قد انقدح في أذهانهم صدفة أن لفظة الماء يناسب وضعها بإزاء المعنى المعين ولفظة الهواء بإزاء المعنى الآخر وهكذا ، وان ذلك حصل عند أحدهم ثم أتبعه فيه الآخرون والتزموا بقراره؟ اما الأول فبعيد جدا بحساب الاحتمالات.

واما الثاني ، فغير متناسب مع وضع إنسان ما قبل اللغة البدائي ، فان حالة التبعية الجماعية الرئيس أو شيخ عشيرة مثلا إنما حصلت في تاريخ الإنسان متأخرا عن ظاهرة اللغة بكثير.


فذلكة الموقف في تشخيص الواضع

هذا ، ولكن هذه المبعدات لا تتجه بناء على ما سلكناه نحن في تفسير الوضع ، لما عرفت من أن عملية الوضع لا تعدو أن تكون عملية ، طبيعية بسيطة هي الإشراط بين منبه اللفظي مع المعنى في إحساس الإنسان ، المحقق لصغرى قانون الاستجابة الشرطية الذهنية. الأمر الّذي كان مألوفا لديه في حياته الطبيعية بلا حاجة إلى افتراض إدراك معان دقيقية أو اعتبارات عقلائية معقدة. والقانون الطبيعي المذكور وتطبيقاته الطبيعية في حياة الإنسان نسبته إلى المجموعة البشرية على حد واحد لأنهم جميعا مزودون به كبرويا ويمارسون تطبيقاته الخارجية في الحياة الطبيعية كثيرا ، فيكون من المعقول افتراض أن مجموعة متقاربة من الناس في مواطن العيش وظروفهم الطبيعية قد اتفقوا فيما بينهم تدريجا على اختيار ألفاظ مخصوصة وتعيينها بإزاء معان مخصوصة بشكل بدائي ساذج ثم تطور ذلك عندهم بمرور الزمن وتنامي خبراتهم.

ولكن ، مع ذلك نحن لا نملك برهانا قاطعا على نفي اتجاه إلهية الوضع وأن الوضع ونشوء ظاهرة اللغة في حياة الإنسان كان من صنع نفسه مائة بالمائة. بل من المحتمل أن تكون قد بدأت هذه الظاهرة في حياة الإنسان أول ما بدأت بتدخل وعناية من الله سبحانه وتعالى ، بأن يكون قد ألهم آدم فعلمه الأسماء والألفاظ وكيفية استخدامها في مجال نقل أفكاره وخواطره إلى الآخرين ، بل فرضية الإلهام بأصل اللغة لعلها هي المناسبة مع ما هو الملاحظة في جملة من النصوص الدينية التي تؤكد على أن الخليفة الأولى من البشر ـ آدم وزوجته ـ كانا على معرفة واطلاع بلغة مكنتهما من الحوار والتفاهم فيما بينهما قبل أن يهبطا إلى الدنيا ويمارسا نشاطهما الطبيعي والاجتماعي فيها ، وهذا من المستبعد جدا أن يحصل من دون افتراض إلهام رباني كان بذرة في طريق نشوء هذه الظاهرة بعد ذلك في حياة الإنسان.


الفصل الثالث

أقسام الوضع

يقسم الوضع تارة : بلحاظ أقسام المعنى الموضوع له اللفظ ؛ وأخرى بلحاظ أقسام اللفظ الموضوع. وثالثة : بلحاظ أنحاء نشوء العلقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى. فهنا تقسيمات عديدة نذكرها فيما يلي :

١ ـ التقسيم الأول

قد يقسم الوضع بالنظر إلى المعنى الموضوع بإزائه اللفظ إلى أربعة أقسام :

١ ـ الوضع العام والموضوع له العام.

٢ ـ الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ.

٣ ـ الوضع العام والموضوع له الخاصّ.

٤ ـ الوضع الخاصّ والموضوع له العام.

والمراد من عموم الوضع وخصوصه في هذا التقسيم كلية الصورة الذهنية التي يستحضرها الواضع في مقام تخصيص اللفظ ووضعه بإزائها وجزئيتها. كما أن المراد من عموم الموضوع له وخصوصه كلية الصورة التي قد وضع وخصص بإزائها اللفظ فعلا وجزئيتها ، وعلى هذا الأساس يكون التقسيم المذكور حاصرا عقلا كما هو واضح.

ولا كلام في إمكان القسمين الأولين من هذه الأقسام ، بل لا ريب في وقوعهما في اللغات طرا فان أسماء الأجناس تمثل القسم الأول وأسماء الأعلام تمثل القسم الثاني ولا تخلو منهما لغة ، وإنما البحث والجدال حول إمكان القسمين الأخيرين وامتناعهما. والمشهور إمكان القسم الثالث بل وقوعه ، وامتناع القسم الرابع.

أما القسم الثالث : فقد ذكر في وجه إمكانه : بأن المفهوم الكلي الّذي يتصوره الواضع في مقام الوضع باعتبار انطباقه على الأفراد والجزئيات لكونه عين حقيقتها في الخارج فيصلح أن يكون عنوانا حاكيا عنها بحيث لا يحتاج في مقام إصدار حكم عليها إلى استحضار تلك الجزئيات بأنفسها في الذهن بل يكفي حضور ذلك العنوان الكلي


للحكم عليها من خلاله. ولا يقدح بذلك تغاير ذلك العنوان الكلي مع الجزئيات ذاتا في بعض الأحيان كما إذا كان المفهوم الكلي معنى اسميا والجزئيات معان حرفية ، لأن المفهوم العام بعد ان كان عين تلك المعاني الجزئية بالحمل الأولي وإن كان غيرها بالحمل الشائع صح ان يحكم عليها من خلاله ، لأنه يكفي في مرحلة إصدار الحكم على موضوع إحضاره في الذهن ولو بالحمل الأولي ولا يشترط إحضاره بالحمل الشائع وإنما يشترط ذلك في مرحلة جريان الحكم على ذلك الموضوع خارجا ، كما هو واضح.

وقد يعترض على هذا التقريب بأحد وجهين :

الأول : ان المفهوم الكلي للإنسان مثلا .. وغيره من المفاهيم الكلية ـ منتزع عن الواقع الخارجي لهذا المفهوم بلحاظ الحيثية المشتركة المحفوظة في ضمن الأفراد ، والمفاهيم الجزئية لزيد وعمرو وخالد منتزعة عن ذلك الواقع الخارجي بلحاظ الحيثية المميزة ، والألفاظ إنما تقوم العلاقة الوضعيّة بينهما وبين المفاهيم سواء كانت كلية أو جزئية لا بينهما وبين الواقع الخارجي المحكي لتلك المفاهيم ابتداء كما هو واضح ، وعليه ، فعند إرادة الوضع العام والموضوع له الخاصّ ان استحضر الواضع نفس مفهوم زيد ووضع اللفظ له فهذا خلف لأنه من الموضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ ، وإن استحضر مفهوم الإنسان فإذا وضع اللفظ له ملاحظا إياه على وجه الموضوعية كان من الوضع العام والموضوع له العام وهو خلاف المقصود ، وإذا وضع اللفظ له ملاحظا إياه بما هو فان في واقعة وحاك عن الخارج بحيث يكون المقصود قيام العلاقة الوضعيّة بالمحكي والمفني فيه فهذا غير معقول في المقام لأن مفهوم الإنسان لا يكون فانيا في المفاهيم الجزئية بل في الواقع الخارجي المحكي بالمفهومين الكلي والجزئي بلحاظين ، فيؤدي ذلك إلى إقامة العلاقة الوضعيّة بين اللفظ والخارج ابتداء وهو باطل ـ كما تقدم ـ لأن طرف العلاقة الوضعيّة يجب أن يكون مفهوما دائما.

نعم لو أمكن أن يلحظ مفهوم الإنسان فانيا في المفاهيم الجزئية ويوضع له اللفظ بهذا اللحاظ لحصل مدعي الوضع العام والموضوع له الخاصّ على مقصوده ولكنه غير صحيح لأن المفهوم الكلي والمفهوم الجزئي متباينان وإن كانا متحدين صدقا بلحاظ محكيها.


وهذا التقريب من الإشكال يتجه الجواب عنه : بأن المفهوم العام الّذي يتصوره الواضع في حالات الوضع العام والموضوع له الخاصّ ليس هو المفهوم العام المنتزع من الخارج ابتداء فحسب ، كمفهوم الإنسان الّذي لا يصلح أن يكون فانيا إلا في الواقع الخارجي المنتزع منه ، بل المفهوم العام المنتزع من نفس المفاهيم الجزئية التي يراد الوضع لها فيكون من المعقولات الثانوية ، كمفهوم الفرد من الإنسان أو الجزئي من الإنسان ونحو ذلك ، فان هذا مفهوم منتزع عن مفهوم زيد وعمرو وخالد وهكذا ؛ وبحكم ذلك يكون صالحا لأن يلاحظ بما هو فان في تلك المفاهيم وحاك عنها ويوضع له اللفظ بهذا اللحاظ ، فتكون العلاقة الوضعيّة قائمة بتلك المفاهيم وبذلك يتحقق الوضع العام والموضوع له الخاصّ.

الثاني : أن يقال بأن كل مفهوم جامع بين الأفراد لا يعقل جامعيته بينهما إلا بأن يجرد عن كل الخصوصيات التي يمتاز بها فرد على فرد ولا يؤخذ فيه شيء منها ، لأن طريقة انتزاع الجامع هي إلغاء الخصوصيات وإبقاء ما به الاشتراك. وعليه ، فلا يمكن أن يكون الجامع حاكيا عن الأفراد بخصوصياتها فكيف يستخدمه الواضع ويتوسل به للوضع للأفراد. وإن شئت قلت : أن الجامع جزء تحليلي من الفرد والفرد هو المركب منه ومن الجزء الآخر المميز له ولا يمكن الاكتفاء بتصور الجزء للوضع للكل ، فالوضع العام والموضوع له الخاصّ من قبيل أن يتصور الجنس أو الفصل فيوضع اللفظ النوع ، فكما لا يكفي تصور الجنس أو الفصل للوضع للنوع كذلك لا يكفي تصور الكلي للوضع للأفراد ، لما عرفت من أن نسبة إلى الفرد نسبة الجزء إلى الكل.

وجواب ذلك : أن الكلي انما يكون جزءا تحليليا بمعنى من المعاني لما هو فرده بالذات ـ كالإنسان بالنسبة إلى زيد وعمرو ـ فان طريقة الحصول على الكلي الجامع بين أفراده بالذات هي التجريد وفرز الخصوصيات على نحو لا يبقي إلا الحيثية المشتركة وهذا معنى كون الجامع جزءا من الفرد ، وهذا الكلام كما يصدق على الجامع من المعقولات الأولية كالإنسان بالنسبة إلى أفراده بالذات يصدق أيضا على الجامع من المعقولات الثانوية ـ بحسب اصطلاح الحكيم أو المنطقي ـ كالإمكان بالنسبة إلى أفراده بالذات من الإمكانات المتعددة ، والجزئية المقابلة للكلية إلى أفرادها بالذات من


الجزئيات المتعددة.

واما الجامع بالنسبة إلى أفراده بالعرض فليس الأمر فيه كذلك ، وهذا من قبيل الجامع العرضي الانتزاعي بالنسبة إلى مناشئ انتزاعه ، كالإمكان بالنسبة إلى ماهية الإنسان وماهية الحصان وغيرهما من الماهيات الممكنة وكالجزئي بالنسبة إلى مفهوم زيد ومفهوم عمرو وهكذا ، فان ماهية الإنسان وماهية الحصان بفرز ما به امتياز كل منها على الآخر ـ وهو الفصل ـ لا نحصل على مفهوم الإمكان وإنما نحصل على الجنس بل الإمكان في كل منها قائم بالماهية بخصوصيتها وبفصلها المميز لها عن الماهية الأخرى ، ولما كان الجامع العرضي قائما بكل منشأ من مناشئ انتزاعه بخصوصيته أمكن أن يلحظ بما هو فان في مناشئ انتزاعه بخصوصياتها ، ومن هنا إذا أريد الحكم على نحو يثبت للحيوان الناطق بما هو ناطق وللحيوان الصاهل بما هو صاهل فلا يتحقق ذلك بأخذ مفهوم الحيوان فانيا في معنونه لأن الحكم حينئذ إنما يثبت للحيوان الناطق والصاهل بما هما حيوانان لا بما هما نوعان مخصوصان وإنما يتحقق بأخذ جامع من قبيل مفهوم الماهية الممكنة لوضوح ان هذا المفهوم قائم بالحيوان الصاهل بما هو صاهل وبالحيوان الناطق بما هو ناطق وعلى هذا الأساس ، ففي موارد الوضع العام والموضوع له الخاصّ لا يتوسل بجامع يكون الخاصّ فردا بالذات له ـ كالإنسان مع زيد ـ ليرد الإشكال المذكور ؛ بل بجامع عرضي يكون الخاصّ بما هو خاص منشأ لانتزاعه ـ كمفهوم الفرد من الإنسان ـ فانه جامع عرضي منتزع من المفاهيم الجزئية لزيد وعمرو وغيرهما بخصوصياتها ؛ فان مثل هذا الجامع باعتبار قيامه بكل فرد بخصوصه يكون قابلا للحكاية عن الأفراد بخصوصياتها على النحو المناسب من الحكاية للعنوان الانتزاعي عن مناشئ انتزاعه.

والحاصل : ان حيثية الجامع تارة : تكون ثابتة في أفراده ضمنا فلا يعقل حكايته عن الأفراد بخصوصياتها لأن مرجعه إلى حكاية الجزء عن الكل وهذا ما يكون دائما في الجامع مع أفراده بالذات. وأخرى : تكون حيثية الجامع قائمة بأفراده قياما عرضيا على نحو تكون قائمة بهذا الفرد بخصوصه وبذاك بخصوصه ، وفي مثل ذلك يمكن أن يتخذ الجامع مرآة للأفراد بخصوصياتها وفانيا فيها في مقام إصدار الحكم عليها ، وهذا ما يمكن


أن يكون في الجامع الانتزاعي العرضي مع أفراده بالعرض أي مناشئ انتزاعه.

وعلى ضوء ما تقدم يتضح وجه النّظر فيما أفاده المحقق العراقي ـ قده ـ حيث عالج المشكلة وصار بصدد تصوير حكاية الجامع عن الفرد بخصوصيته عن طريق دعوى : ان الجامع المقصود في المقام عنوان مخترع للذهن محضا والجامع المخترع للذهن لا يحصل بطريقة التجريد وإلغاء الخصوصيات بل بإنشاء الذهن صورة تنطبق على الفرد بتمامه (١).

ووجه النّظر : ان كون الجامع مما ينطبق على الفرد بخصوصه ويصلح للحكاية عنه بما هو كذلك ليس مرهونا بمحض اختراعية المفهوم وكونه منشأ من قبل الذهن بحتا ، إذ بعد فرض ان العنوان الانتزاعي صالح للحكاية عن منشأ انتزاعه وان حيثية العنوان الانتزاعية العرضية قد تكون قائمة بكل فرد بخصوصه يكون من المعقول ملاحظة العنوان الانتزاعي حاكيا عن الأفراد بخصوصياتها.

فإن قيل : ان انتزاع العنوان الواحد من الأمور المتباينة بما هي كذلك أمر غير معقول بل لا بد من فرض حيثية مشتركة مصححة للانتزاع ، وبذلك نرجع إلى طريقة التجريد وإلغاء الخصوصيات وانتزاع العنوان بلحاظ الحيثية المشتركة فلا يمكن أن يكون حاليا عن الأفراد بخصوصياتها بل يتعين أن يكون الحاكي عن ذلك عنوانا اختراعيا للذهن.

كان الجواب : ان افتراض حيثية مشتركة ولو عرضية مصححة لانتزاع العنوان الواحد لا ينافي ما ذكرناه ، لأن هذه الحيثية المشتركة إذا كانت قائمة بكل فرد بخصوصه كان العنوان المنتزع لا محالة منطبقا على الفرد بخصوصه وحاكيا عنه كذلك.

فإن قيل : ان قيام الحيثية المشتركة بكل فرد بخصوصه غير معقول أيضا ، لأن الأفراد بخصوصياتها متباينات فيلزم من قيام تلك الحيثية بكل واحد منها صدور الواحد بالنوع من الكثير بالنوع بما هو كذلك.

__________________

(١) مقالات الأصول ج ١ ص ١٩


كان الجواب : ما تقدم من أنه لا مجال لتطبيق مثل هذه القاعدة في أمثال المقام مما لم يكن قيام الحيثية المشتركة فيه بالفرد من سنخ قيام المعلول بالعلة على نحو التأثير والإيجاد ، وإلا فما ذا يقال عن الحيثية المشتركة المصححة لانتزاع مفهوم الشيء ، فهل هي قائمة بالإنسان بخصوصه وبالماء بخصوصه مثلا أو قائمة بالقدر المشترك بينهما؟ لا سبيل إلى الثاني ، لأن ما به امتياز أحدها على الآخر شيء أيضا بلا إشكال. وعليه ، فقيام حيثية مشتركة واحدة في لوح الواقع بأمور كثيرة بما هي كثيرة ومتمايزة ليس فيه محذور لأن لوح الواقع الّذي هو أوسع من لوح الوجود ليس بابه باب التأثير والإيجاد فليست ماهيات الإنسان والحصان والطير علل لإمكان على حد العلية في عالم الوجود لتطبق قاعدة ان الواحد لا يصدر إلا من واحد لاستكشاف قيام الإمكان بالجامع بين تلك الماهيات.

الصحيح في تصوير الوضع العام والموضوع له الخاصّ

هذا ؛ ولكن إمكان الوضع العام والموضوع له الخاصّ بالطريقة المذكورة إنما يعقل مبنيا على التصورات المشهورة في حقيقة الوضع من اعتباره أمرا تشريعيات بحتا. وأما بناء على ما هو الصحيح من كونه أمرا واقعيا وهو القرن المخصوص بين اللفظ والمعنى لكي تتحقق بذلك صغرى قوانين الاستجابة الذهنية الطبيعية فلا بد للواضع في مقام تحقيق هذا الهدف من استحضار المعنى الخاصّ بنفسه أي ما هو خاص بالحمل الشائع في الذهن لكي يحقق الاقتران والسببية بينه وبين اللفظ ولا يكفي تصور ما هو خاص بالحمل الأولي.

وإن شئت قلت : ان الوضع بناء على المسلك الصحيح ينشأ من الجنبة التكوينية لعملية الوضع لا الجنبة الاعتبارية ، وهذا يعني ان العلقة الوضعيّة تحصل في مرحلة إصدار الحكم لا مرحلة جريه على المحكوم عليه. فلا بد من افتراض ثبوت المعنى الخاصّ المراد وضع اللفظ بإزائه في هذه المرحلة ولا يكفي ثبوته في مرحلة الجري فقط.

والتوصل إلى نتيجة الوضع العام والموضوع له الخاصّ بناء على هذا المسلك إنما يعقل عن طريق تكرر الاقتران بين اللفظ وبين المعاني الخاصة بنحو ينتج الاقتران بين


اللفظ وبين كل فرد من تلك المعاني.

وبتعبير آخر : ان الأشراط الذهني والربط المخصوص بين تصورين الّذي يؤدي إلى الاستجابة لأحدهما بالانتقال منه إلى الآخر لا يقتصر أثره على الطرفين بخصوصيتهما بل قد تنسحب تكوينا على الجامع ، بمعنى أنا إذا افترضنا فئتين كل فرد من إحداهما مقابل لفرد من الأخرى فتعود الذهن على الانتقال من كل فرد من الفئة الأولى مثلا إلى ما يقابله من فرد في الفئة الثانية في عدد من المرات يجعله ينتقل بعد ذلك تلقائيا من تصور فرد جديد من الفئة الأولى إلى ما يقابله من فرد في الفئة الثانية. وهذا بنفسه ما يمكن افتراضه في المقام بديلا عن الوضع العام والموضوع له الخاصّ إذ يحصل أشراط وربط مخصوص بين ( من ) الواقعة بين اسمين خاصين وبين ربط خاص بين مدلولي هذين الاسمين ، وهذا وضع خاص وموضوع له خاص ويحصل نظير ذلك بين ( من ) الواقعة بين اسمين آخرين وبين ربط مخصوص بين مدلولي هذين الاسمين وهكذا ، ولما كانت هذه الأشراطات الذهنية ينتسب أحد طرفيها إلى فئة وطرفها الآخر إلى فئة أخرى يتجه الذهن إلى أن ينتقل من كل فرد من هذه الفئة إلى الفرد المقابل له من الفئة الأخرى وبذلك تحصل نتيجة الوضع العام والموضوع له الخاصّ.

ومن مجموع ما تقدم يتضح حال القسم الرابع ، وهو الوضع الخاصّ والموضوع له العام ، فان المعنى الخاصّ لا يكون صالحا للمرآتية والحكاية عن المعنى العام لعدم كونه منتزعا عنه فلا يعقل أن يتصور الواضع معنى خاصا ليضع اللفظ بإزاء المعنى الأعم منه إلا بجعل تصوره للمعنى الخاصّ قنطرة للانتقال منه إلى تصور المعنى العام فيكون من الوضع العام والموضوع له العام ، أو انتزاع عنوان إجمالي مضاف إلى المعنى الخاصّ يكون مرآة للمعنى العام ومنتزعا عنه كعنوان ( المفهوم الّذي يكون جامعا بين عمرو وزيد مثلا ) فيكون من الوضع العام والموضوع له الخاصّ بحسب الحقيقة.

ودعوى : اشتمال المفهوم الخاصّ على العام ضمنا فيمكن أن يوضع اللفظ بإزائه من خلاله يدفعها : أن تصور العام ضمن الخاصّ تصور ضمني وبشرط المخصوصية فالوضع بإزائه كذلك يعني الوضع بإزاء العام الضمني الّذي هو الخاصّ لا محالة.

ثم إنه لا إشكال ـ كما أشرنا إليه في مستهل البحث ـ في وقوع الوضع العام والموضوع


له العام ـ كما في أسماء الأجناس ـ والوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ ـ كما في أسماء الأعلام ـ وأما الوضع العام والموضوع له الخاصّ فقد اشتهر بين الأعلام تطبيقه على المعاني الحرفية والهيئات باعتبار ان معانيها سنخ معان لا يمكن أن ينالها العقل مستقلا وبما هي معان كلية ؛ وحيث أنه لا يراد تخصيص اللفظ بإزاء أحد مصاديق ذلك المعنى غير المستقل فيضطر الواضع إلى اتباع طريقة الوضع العام والموضوع له الخاصّ في التوصل إلى إيجاد العلقة الوضعيّة بين اللفظ وبين كل واحد من تلك المعاني الخاصة. وهذا ما سوف نورد الحديث عنه مفصلا في البحوث اللفظية التحليلية المقبلة.

٢ ـ التقسيم الثاني

وقد يقسم الوضع إلى الوضع الشخصي والوضع النوعيّ وهذا تقسيم بنفس ملاك التقسيم المتقدم ولكن قد لوحظ فيه جانب اللفظ الموضوع بينما الملحوظ هناك جانب المعنى الموضوع له ، حيث انه قد عرفت بأن الواضع في عملية الوضع لا بد له من تصور طرفين اللفظ والمعنى. وكما يمكنه أن يتصور المعنى بنفسه تارة وبعنوان مشير إليه أخرى كذلك الحال في طرف اللفظ. فتارة : يلحظه بنفسه ويخصصه بمعنى معين فيكون الوضع شخصيا. وأخرى : يلحظه من خلال تصور عنوان مشير إليه فيكون الوضع نوعيا. وهذه الطريقة يستعملها الواضع غالبا فيما إذا كان اللفظ المراد وضعه سنخ لفظ غير مستقل في نفسه بنحو لا يمكن لحاظه إلا بما هو حالة وكيفية للفظ آخر ، كما هو الحال في الهيئات فانها سنخ دوال لا يمكن تصورها إلا ضمن مادة معينة فيضطر الواضع في هذه الموارد إلى أن يتبع في مقام الوضع طريقة الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، فيتصور عنوانا مستقلا كعنوان الهيئة التي على وزان فاعل مثلا ويشير به إلى واقع تلك الدوال غير المستقلة ويضعها للمعنى المطلوب تفاديا عن القيام بأوضاع عديدة بعدد المواد.

ونحن نواجه في هذا التقسيم نفس ما واجهناه في التقسيم المتقدم من الاعتراض على هذه الطريقة تارة : من جهة عدم حكاية العام عن الخاصّ وأخرى : من جهة عدم وفائه بتحقيق العلقة الوضعيّة بناء على ما هو الصحيح من كونها عبارة عن الأشراط


التكويني بين اللفظ والمعنى تصورا.

والجواب عنهما أيضا يكون بما تقدم هناك ، فان العنوان العام إذا كان صالحا للمرآتية والحكاية عما يكون منتزعا منه كفى ذلك في إمكان الحكم على الخاصّ من خلاله. وأن عملية الوضع والأشراط بين طبيعي تلك الدوال غير المستقلة وبين المعنى يكفي فيه التكرر والاقتران الحاصل بينهما بنحو يتعود الذهن على أن ينتقل من أي فرد من أفراد تلك الدوال إلى نفس المعنى فتحصل العلقة الوضعيّة بين المعنى وبين طبيعي تلك الدوال.

وأما تطبيق هذا القسم من الوضع على الهيئات والإشكال عليه بوجه الفرق بينها وبين موادها فهو بحث تطبيقي سوف نورد الحديث عنه لدى التعرض إلى مدلول الهيئات والجمل.

٣ ـ التقسيم الثالث

وقد يقسم الوضع بلحاظ مناشئه إلى الوضع التعييني والتعيني والاستعمالي :

١ ـ الوضع التعييني

اما الوضع التعييني ، فيراد به جعل العلقة الوضعيّة بجملة إنشائية محدودة ، من قبيل أن يقول الأب « سميت ابني جعفرا » وهذا لا شك في معقوليته ومرجعه على ضوء ما تقدم في تفسير الوضع إلى إيجاد القرن الأكيد بين اللفظ والمعنى بهذا الإنشاء.

٢ ـ الوضع التعيني

وأما الوضع التعيني ، فيراد به نشوء العلقة الوضعيّة بسبب كثرة الاستعمال ، وتصويره على المسلك المختار في حقيقة الوضع بأن يقال : أن هذا القرن الأكيد كما قد يحصل بعمل كيفي ، كإنشاء الوضع وجعله ، كذلك يحصل بعمل كمي وهو تكرار قرن اللفظ بالمعنى في استعمالات كثيرة على نحو يؤدي إلى قيام علاقة التلازم التصورية بينهما وهي العلاقة الوضعيّة المطلوبة.


وقد يستشكل في ذلك : بأن اللفظ قبل أن يصبح حقيقة في هذا المعنى كان يستعمل فيه مجازا ، والاستعمال المجازي لكي يوجب انفهام المعنى وقرنه في ذهن السامع باللفظ لا بد من اقترانه بالقرينة وإذا كانت الاستعمالات الكثيرة مشتملة على القرينة في كل مورد فالاقتران الأكيد إنما يكون بين المعنى والقرينة أو بين المعنى واللفظ المقترن بالقرينة ولا يتواجد بين المعنى وذات اللفظ المستعمل فيه.

ويندفع هذا الإشكال : بأن القرينة عنوان انتزاعي ومصداقها في كل مورد قد يختلف عن مصداقها في مورد آخر لأنها تارة : تكون حالية ، وأخرى : ارتكازية ، وثالثة : لفظية ، واللفظية تختلف باختلاف صياغة الكلام. وأما اللفظ المستعمل فهو عنصر محفوظ بحده في سائر موارد الاستعمال التي أثير فيها ذلك المعنى المستعمل فيه ، وهذا يوجب حصول الأشراط والاقتران الأكيد بين هذا المعنى وذات اللفظ المستعمل لأنه العنصر الثابت الوحيد المحفوظ في جميع موارد استعمال ، فيربط الذهن بموجب قانون الاقتران بينه وبين المعنى. وإنما يتم الاستشكال المذكور لو كانت هناك قرينة محددة من سنخ واحد تتكرر بخصوصيتها دائما مع اللفظ فان الاقتران حينئذ يقوم بين المعنى والمجموع المركب من اللفظ المستعمل وتلك القرينة المحددة.

واما تصوير الوضع التعيني على نحو يتحقق بكثرة الاستعمال على مسلك الاعتبار فهو مشكل ، لأن الاعتبار وجعل العلقة الوضعيّة فعل قصدي لا يتحقق بدون قصد ، ومن الواضح ان كل استعمال بمفرده من تلك الاستعمال الكثيرة لم يقصد بها شيء من ذلك. وبعبارة أخرى : انه إن ادعي تولد الاعتبار والجعل المذكور من كثرة الاستعمال فهو غير معقول ، لأنه فعل مباشري قصدي وليس تسبيبيا. وإن ادعي ان كثرة الاستعمال تمثل مرحلة الإنشاء والإبراز لذلك الجعل والاعتبار فهو واضح البطلان ، لأن الكثرة ليست قائمة بشخص واحد بل بأشخاص متعددين ولك واحد منهم في كل استعمال له لم يقصد سوى الاستعمال فكيف يحصل الجعل والاعتبار.

وأما بناء على مسلك التعهد ، فقد يوجه الوضع التعيني بأن كثرة الاستعمال تكشف عن التزام ضمني من المستعملين بتفهيم المعنى بهذا اللفظ ، من قبيل ان تلاحظ شخصا يستعمل يمينه في أعماله عادة فيستكشف التزامه بذلك. والفرق بين الالتزام


والجعل أو الاعتبار ان الاستمرار العملي على سلوك معين قد يكشف إنا عن الالتزام الضمني ولكن لا موجب لكشفه إنا عن أي جعل واعتبار.

ثم انه يتضح ـ على ضوء ما ذكرناه في تفسير الوضع التعيني ـ أن العلقة الوضعيّة ليست أمرا حديا متميزا ، لأنها إنما تعبر عن درجة من القرن الأكيد بين اللفظ والمعنى. ومن المعلوم أن مراتب القرن متعددة ومراتب كثرة الاستعمال متعددة أيضا ، وكل مرتبة تناسب مرتبة من القرن والربط وكلما ازدادت كثرة الاستعمال ازداد الربط والقرن بين اللفظ والمعنى.

٣ ـ الوضع بالاستعمال

وأما الوضع الاستعمالي ، فيراد به إنشاء الوضع وإيجاده باستعمال واحد بأن يستعمل اللفظ في معنى لم يكن موضوعا بإزائه ولا مستعملا فيه بعلاقة المجاز بقصد تعيينه له.

وتصوير هذا القسم من الوضع على المسلك المختار في حقيقة الوضع واضح ، لأن استعمال اللفظ في معنى لم يعهد له يكون بنفسه مصداقا للقرن الخارجي بينهما ، والمفروض ان الوضع ليس إلا عبارة عن تحقيق قرن أكيد بين اللفظ والمعنى خارجا بعمل كيفي أو كمي بنحو يحقق صغرى قانون الاستجابة الذهنية والانتقال من اللفظ كلما تصوره الذهن إلى المعنى. وهذا من الممكن أن يحصل باستعمال واحد كما هو واضح.

وأما تصويره على المسالك الأخرى في تفسير الوضع والتي تجعل منه أمرا إنشائيا مجعولا أو تعهدا عقلائيا فلا يخلو من إشكال ، لأن المجعول الاعتباري أو التعهد العقلائي أمر نفساني ويستحيل انطباقه على نفس الاستعمال أو إيجاده به ، بل لا بد من افتراض عناية زائدة على مجرد الاستعمال يستكشف بها تعهد المستعمل ضمنا بتفهيم ذلك المعنى كلما جاء باللفظ أو اعتباره معنى له.

وقد يتوهم إمكان تصوير الوضع بنفس الاستعمال في أحد فرضين :

١ ـ أن يفترض الوضع أمرا إنشائيا يتسبب إلى إيجاده خارجا باللفظ إيجادا


إنشائيا لا حقيقيا ، على حد ما يقال في باب الإنشائيات من أنها إيجاد للمعنى باللفظ خارجا فيمكن للمستعمل في المقام أن يتسبب بنفس استعماله إلى إنشاء العلقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى.

وفيه : عدم تمامية المبنى ، فانا لا نتعقل إنشاء المعنى باللفظ بل الأمور الإنشائية ليست إلا اعتبارات قائمة في أفق نفس المعتبر ويكون اللفظ مجرد كاشف عنها ، نعم في المعاملات العقلائية والشرعية يتسبب بالإنشاء إلى إيجاب ذلك المعنى الشرعي أو العقلائي المترتب على ذلك السبب ، إلا ان هذا إنما يصح في موارد توجد فيها مسببات كذلك لا في أمثال المقام.

٢ ـ ان يفترض الوضع عبارة عن مطلق تخصيص اللفظ بالمعنى سواء كان اعتباريا أو حقيقيا ـ ولعل هذا هو المستظهر من كلمات صاحب الكفاية ( قده ) في تفسير الوضع ـ فانه بناء على ذلك يمكن الوضع بالاستعمال باعتبار أنه يكون بنفسه مصداقا للوضع ، فإذا استعمل اللفظ في غير ما وضع له قاصدا به الحكاية عنه بنفس اللفظ فقد خصصه به وبذلك يتحقق الوضع حيث لا حقيقة للوضع إلا ذلك ؛ بخلافه في موارد الاستعمال المجازي فانه ليس تعينيا للفظ لأن يدل على المعنى بنفسه بل بالقرينة فلا يكون محققا للوضع.

وقد اعترض المحقق الأصفهاني ( قده ) على ذلك : بأن تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه مشترك بين الحقيقة والمجاز ، فان القرينة في باب المجاز بمثابة الوضع في باب الاستعمال الحقيقي مصححة لدلالة اللفظ على المعنى المجازي لا انها هي الدالة عليه. وإذن فكل استعمال مجازي هو تعيين اللفظ لأن يدل على المعنى بنفسه فيلزم أن يكون كل استعمال مجازي وضعا. ثم دفع ـ 1 ـ الاعتراض : بأن اللفظ وإن كان له تعيينان ، تعيين لأن يدل على المعنى الحقيقي بنفسه وتعيين يتبع ذلك لأن يدل على المعنى المجازي المناسب للمعنى الحقيقي كذلك ، إلا أن فعلية دلالة اللفظ على المعنى الحقيقي غير موقوفة على شيء ، بخلاف فعلية دلالته على المعنى المجازي فانها موقوفة على القرينة الصارفة عن الحقيقة ، فتعين اللفظ لأن يدل على معناه الحقيقي بنفسه كاف لدلالة اللفظ بلا حاجة إلى الاستعانة في فعلية الدلالة بشيء آخر ،


بخلاف تعيين اللفظ لأن يدل على معناه المجازي فانه لا يكفي لفعلية دلالة اللفظ عليه بل يحتاج إلى القرينة. وعلى هذا يصح أن يقال : ان الوضع هو تعيين اللفظ لأن يكون له دلالة فعلية على المعنى بمجرد التعيين بلا حاجة إلى شيء آخر والاستعمال المجازي ليس مصداقا لذلك بخلاف الاستعمال المقصود في المقام فانه إذا استعمل اللفظ في معنى بقصد الحكاية عنه بنفس اللفظ والدلالة الفعلية عليه به كان مصداقا للوضع (١).

والتحقيق : انه لا يعقل كون الاستعمال بنفسه مصداقا للوضع على هذا المسلك وذلك. اما أولا : فلأنه لو فرض تصويره بنحو يكون تعيينا للفظ لدلالة على المعنى فلا يتصور كونه كذلك إلا بالإضافة إلى شخص اللفظ المستعمل ، إذ المستعمل دائما جزئي ولا معنى لاستعمال طبيعي اللفظ فيكون الاستعمال على هذا مصداقا لوضع شخص ذلك اللفظ لأنه تعيين وضعي بالإضافة إليه خاصة وهذا غير المطلوب.

وأما ثانيا : فلأن قصد الحكاية والدلالة على المعنى بنفس اللفظ بحيث يكون نفس اللفظ سببا في الحكائية والمفهمية على حد اللفظ في موارد الاستعمال الحقيقي قصد أمر غير معقول فلا يمكن تأتيه من العاقل الملتفت ، وذلك لأن كون اللفظ دالا على المعنى بنفسه ومستغنيا في ذلك عن كل ضميمة أمر غير ممكن إلا بناء على توهم الدلالة الذاتيّة للألفاظ ، وحينئذ فلا بد لكل لفظ مستعمل في معنى من أن يكون دلالته عليه سبب ، وهذا السبب إما الوضع فقط وإما المناسبة المعبر عنها بالوضع التبعي مع القرينة والمفروض عدم الفراغ عن أي واحد منهما.

وإن شئت قلت : ان مصداقية الاستعمال للوضع قوامها بكون اللفظ المستعمل دالا على المعنى بنفسه فعلا وكونه كذلك فرع الوضع أو القرينة لبطلان الدلالة الذاتيّة فيستحيل أن يكون ما هو موقوف على الوضع محققا للوضع ، وليس محقق الوضع نفس قصد الحكاية والدلالة بذات اللفظ حتى يقال ان قصد الحكاية كذلك غير موقوف على الوضع في الرتبة السابقة بل على الوضع في ظرف الحكاية ، فان قصد الحكاية وإرادة الدلالة باللفظ ليس تعيينا وتخصيصا وإنما هو إرادة التعيين والتخصيص وإلا لكان

__________________

(١) راجع نهاية الدراية ج ١ ص ٣٥ ـ ٣٦


الوضع يحصل بمجرد إرادة الواضع تخصيص لفظ المعنى وإن لم يخصصه بالفعل.

ثم انه قد يعترض على تصوير إيجاد الوضع بالاستعمال بوجوه :

الأول : لزوم اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي اما في جانب اللفظ بدعوى : انه ملحوظ في مقام الوضع استقلالا وفي مقام الاستعمال آليا فلو اتحد المقامان لزم اجتماع اللحاظين ، أو في جانب الحكاية حيث أن الحكاية في مقام الاستعمال آلية وفي مقام الوضع استقلالية. والسر في الأمرين ان باب الاستعمال هو باب فعلية الحكاية ومقتضى فعليتها فناء الحاكي وحكايته في المحكي وإلا لم يكن حاكيا بل منظورا إليه في عرضه ، بخلاف باب الوضع فانه ليس فعلية الحكاية بل جعل اللفظ صالحا للحكاية أي جعله بحيث يحكي عنه في مقام الاستعمال.

والتحقيق : ان ما اعترض عليه بالوجه المذكور إن كان هو دعوى مصداقية الاستعمال والتعيين الاستعمالي للوضع والتعيين الوضعي ، وكأن المقصود بالاعتراض منع هذه المصداقية لأجل تقوم أحدهما باللحاظ الآلي والآخر باللحاظ الاستقلالي ، فهو متين بناء لا مبنى ولا يندفع بما في تقريرات المحقق العراقي ( قده ) : من أن الملحوظ استقلالا طبيعي اللفظ والملحوظ آليا شخص هذا اللفظ (١) فان المدعى ان التعيين الاستعمالي لشخص هذا اللفظ لا يمكن أن يكون مصداقا للوضع لأجل تقومه باللحاظ الآلي ، وكون طبيعي اللفظ ملحوظا استقلالا لا يصحح ذلك. وإن أريد بهذا الاعتراض إبطال الدعوى المذكورة بعد تسليم ان الاستعمال المذكور في نفسه مصداق للوضع ، فهو مما لا معنى له ، إذ بعد تسليم كون هذا وضعا لا معنى لدعوى تقوم الوضع باللحاظ الاستقلالي.

وإن أريد بالاعتراض المذكور إبطال دعوى أخرى ، وهي دعوى ان هذا الاستعمال مما يتسبب به إلى الوضع لا انه بنفسه مصداق للوضع ، فيتم الجواب عنه بأن الملحوظ الاستقلالي في مرحلة التسبب غير الملحوظ الآلي إذ الملحوظ الآلي هو شخص اللفظ وواقع حكايته المفنية له في المعنى وما يتسبب إليه بذلك الّذي يكون

__________________

(١) راجع مقالات الأصول ج ١ ص ١٧


ملحوظا استقلالا طبيعي اللفظ وطبيعي حكاية عن المعنى وكذلك الأمر إذا جعل الاستعمال كاشفا ومبرزا عن الوضع إذ يكون هناك عملان طوليان : أحدهما : استعمال اللفظ في المعنى ؛ وفي هذا العمل يكون اللفظ ونفس الاستعمال والحكاية ملحوظا باللحاظ الآلي. والآخر كشف الوضع بعملية الاستعمال هذه ، وفي ذلك يكون اللفظ والاستعمال ملحوظا استقلالا. هذا كله على تقدير تسليم المبنى ، والصحيح على المبنى المختار انه لا موجب لاشتراط استقلالية لحاظ اللفظ أساسا ، لأن الوضع لا يكون حقيقة إنشائية اعتبارية لكي يكون بحاجة إلى لحاظ أصلا بل يحصل قهرا وتكوينا على أساس القرن الواقعي المتحقق بين صورة اللفظ والمعنى.

الثاني : ان الاستعمال المذكور ليس حقيقيا ولا مجازيا ، إذ الأول موقوف على الوضع والمفروض ان المعنى لم يكون قد وضع له اللفظ ، والثاني موقوف على العلاقة والمفروض عدم ملاحظتها وعليه فيكون الاستعمال غلطا.

وأجاب عن ذلك المحقق الخراسانيّ ( قده ) : بأن ذلك غير ضائر بعد ما كان مما يقبله الطبع ولا يستنكره ، والميزان في صحة الاستعمال موافقة الطبع (١).

وليس المراد بهذا الجواب تصحيح دلالة اللفظ بنفسه على المعنى ، فان ملاك الإشكال المدفوع ليس هو ما حققناه من أن اللفظ في الاستعمال المذكور لا يعقل دلالته بنفسه على المعنى لأنه لا وضع ولا قرينة ، بل ملاك الإشكال هو ان الاستعمال المفروض وإن كان يتعقل تحقق الوضع به إلا انه غلط كالاستعمال. فأجاب برفع الغلطية لموافقته للطبع فان كونه موافقا للطبع وإن كان لا يوجب كون اللفظ دالا بنفسه على المعنى وسببا للانتقال إليه إلا انه يوجب صحة جعله بإزائه في مقام الاستعمال الّذي هو أمر غير قصد تفهيم المعنى به بشهادة وجوده في موارد تعمد الإجمال وعدم التفهيم أصلا.

وعلى هذا الأساس ، فيمكن الجواب على أصل الاعتراض بدعوى : ان الاستعمال حقيقي لأنه مقارن للوضع زمانا وإن كان أسبق منه رتبة لكونه هو الأداة في إيجاده ،

__________________

(١) كفاية الأصول ج ١ ص ٣٢ ( ط ـ مشكيني )


فان الميزان في كون الاستعمال حقيقيا وجود الوضع في زمان الاستعمال وهذا حاصل.

هذا ، مضافا : إلى ما أشير إليه من أن الغلطية إن أريد بها الخروج عن بابي الحقيقة والمجاز فليس هذا بمحذور. وإن أريد به الاستهجان والقبح فهو غير تام ، إذ يكفي في كون الاستعمال سليما ومقبولا عقلائيا انه يؤدي غرضا مهما وهو إيجاد العلقة الوضعيّة لو سلم إمكان إيجاد الوضع بالاستعمال في نفسه.

الثالث : ما ذكر في تقريرات المحقق العراقي ( قده ) : من ان استعمال اللفظ في معنى للدلالة عليه به يتوقف على كون اللفظ مستعدا لذلك ، واستعداده له يتوقف على الوضع وهو لا يحصل إلا باستعماله فيه فيلزم الدور.

وأجاب عنه : بأن الاستعمال يتوقف على كون اللفظ مستعدا للدلالة على المعنى في ظرف الاستعمال ، وهذا المقدار من الاستعداد حاصل في ظرف الاستعمال في مقام تحصيل الوضع به ، وذلك لأن القرينة تؤهل اللفظ في وقته للدلالة على المعنى (١).

والتحقيق : ان الدور لا مناص عنه في المقام ، ولكن لا بتقريب : توقف الاستعمال على الاستعداد حتى يجاب بأن الاستعداد في ظرف الاستعمال كاف وهو حاصل في المقام بسبب القرينة الدالة على أن المتكلم في مقام وضع اللفظ للمعنى. بل بتقريب : ان كون اللفظ دالا بنفسه على المعنى هو مقوم الوضع المزعوم على المسلك المستظهر من صاحب الكفاية ( قده ) مع أنه موقوف على الوضع كما عرفت مفصلا.

أقسام التقييد في الوضع

يتصور في بادئ الأمر أنحاء من التقييد من قبل الواضع :

أحدها : تقييد المعنى الموضوع له ، ومرجعه إلى وضع اللفظ للمقيد.

الثاني : تقييد اللفظ الموضوع ، ومرجعه إلى وضع اللفظ المقيد كما إذا فرض وضع اللفظ المقيد بالتنوين لمعنى معين.

__________________

(١) بدائع الأفكار ج ١ ص ٣٤


الثالث : تقييد نفس العلقة الوضعيّة ، على نحو تكون العلقة الوضعيّة منوطة ومشروطة بتحقق أمر معين ففي حالة عدم وجوده لا ثبوت للعلقة.

ولا إشكال في تعقل النحوين الأول والثاني من أنحاء التقييد.

وأما النحو الثالث ، فيظهر من المحقق الأصفهاني ( قده ) في توجيه مختار صاحب الكفاية ( قده ) في المعنى الحرفي إمكانه أيضا ، بأن يفترض ان الواضع يقيد العلقة الوضعيّة ويشرطها بشرط معين ففي حالة عدم وجوده لا ثبوت للعلقة الوضعيّة ، بل يكون اللفظ مهملا في تلك الحال.

والتحقيق : أنه بناء على مسلك التعهد في تفسير حقيقة الوضع يعقل تقييد العلقة الوضعيّة وإناطتها بتحقق أمر معين ، لأن العلقة الوضعيّة ـ بناء على هذا المسلك ـ عبارة عن ملازمة تصديقية بين الإتيان باللفظ وقصد تفهيم المعنى ناشئة على أساس التعهد والالتزام العقلائي الّذي قطعه الواضع على نفسه ، فمن المعقول أن ينيط الواضع تعهده والتزامه بحالة دون أخرى فهو يتعهد مثلا بأنه في النهار فقط كلما جاء باللفظ الفلاني يكون قاصدا لمعناه فتثبت العلقة الوضعيّة التعهدية في تلك الحالة فقط. وكذلك الحال بناء على مسلك الاعتبار فيما إذا أريد به قياس الوضع بسائر المجعولات العقلائية الاعتبارية.

وأما على المسلك الصحيح الّذي يرى أن العلقة الوضعيّة أمر واقعي تكويني وهو الملازمة التصورية بين اللفظ والمعنى الناتجة عن الاقتران بينهما خارجا ، وأن الاعتبار أو الجعل إذا مارسه الواضع فهو مجرد حيثية تعليلية لتحقيق ذلك الاقتران بين اللفظ والمعنى ، فتقييد العلقة الوضعيّة غير معقول ، لأن هذه العلقة الناشئة من الوضع معلول تكويني للوضع وليس مجعولا تشريعيا كالوجوب والحرمة أو الملكية والزوجية ، فلا يعقل للواضع بعد إيجاده لهذه العلقة والملازمة التصورية أن يقيدها بقيد جعلي. وبتعبير آخر : ان العلقة الوضعيّة ليست مجعولا اعتباريا أو منوطة بالمجعول الاعتباري لتكون قابلة للتوسعة والتضييق كما هو الحال في سائر المجعولات الاعتبارية ، وإنما هي علاقة واقعية بسبب القرن المنوط بنفس الجعل لا المجعول وهذا أمر غير قابل للتقييد كما هو واضح. وسيأتي لذلك مزيد تأكيد وتوضيح في بحث تبعية الدلالة للإرادة فلاحظ.


الفصل الرابع

تبعية الدلالة للإرادة

توضيحا لحيثيات هذا البحث التي قد يقع الخلط فيما بينهما نفرد فيما يلي الحديث عن أمور ثلاثة مختلفة مضمونا ، وقد لا يكون الملاك في إثبات بعضها كافيا لإثبات الباقي.

الأول : ان الدلالة اللفظية هل تكون تصورية أو تصديقية.

الثاني : ان الدلالة اللفظية هل تتوقف على وجود الإرادة بحيث لا توجد الدلالة إلا في ظرف فعلية الإرادة أم لا.

الثالث : في تحديد المدلول وأنه ذات المعنى أو المعنى المقيد بالإرادة.

هل الدلالة الوضعيّة تصورية أو تصديقية؟

أما الموضوع الأول ، فهو بحسب الحقيقة بحث عن جوهر الدلالة اللفظية الناشئة من الوضع من حيث كونها تصورية بمعنى كون اللفظ سببا لإخطار صورة المعنى في الذهن أو تصديقية بمعنى كونه كاشفا عن أمر خارجي وهو وجود الإرادة في نفس المتكلم.

والصحيح ـ على ما تقدمت الإشارة إليه ـ ان الدلالة الوضعيّة تصورية إذ لا يمكن أن تكون تصديقية إلا على مسلك التعهد في تفسير الوضع ، ومسلك التعهد باطل. أما بطلان هذا المسلك فقد تقدم توضيحه. واما كون الدلالة الوضعيّة تصديقية بناء عليه وتصورية بناء على المختار في تفسير الوضع فلأن الدلالة عبارة عن الانتقال من شيء وهو فرع الملازمة بينهما ، فإذا كانت الملازمة بين وجودين كان الانتقال تصديقيا ـ كالانتقال من النار إلى الحرارة أو من السحاب إلى المطر ـ وإن كانت الملازمة بين تصورين كان الانتقال تصوريا ـ كالانتقال من تصور السكوني في علم الرّجال إلى تصور النوفلي للتلازم بين ذكرهما ـ والتعهد مرجعه إلى إيجاد الملازمة بين وجودين هما وجود اللفظ وإرادة تفهيم المعنى بالالتزام بإرادة المعنى حين الإتيان باللفظ دائما فيكون الانتقال الناشئ منه تصديقيا وهو معنى كون الدلالة الوضعيّة تصديقية. واما الوضع بمعنى قرن اللفظ بالمعنى فهو يوجد الملازمة بين صورتين قرن الواضع إحداهما


بالأخرى ، ولا يعقل للقرن بين الصورتين ان يوجد شيئا سوى التلازم الذهني بينهما فيكون الانتقال تصوريا وهو معنى كون الدلالة الوضعيّة تصورية.

وقد يتخيل : إمكان صيرورة الدلالة الوضعيّة تصديقية على غير مسلك التعهد أيضا بأخذ الإرادة قيدا في المعنى الموضوع له.

ولكن التحقيق : أنه إن أريد أخذ مفهوم الإرادة الكلية أو مفهوم الإرادة الجزئية المضافة إلى شخص المتكلم فمن الواضح أن هذا لا يغير من جوهر الدلالة الوضعيّة شيئا وإنما يجعل اللفظ دالا بالدلالة التصورية على تصور الإرادة على حد دلالته على مفهوم الماء ، وكما أن دلالته على مفهوم الماء لا تعني الكشف عن وجوده كذلك دلالته على مفهوم الإرادة. وإن أريد أخذ واقع الإرادة ووجودها الخارجي القائم في نفس المتكلم قيدا في المعنى فهو غير معقول ، لأن الملازمة التي يراد إيجادها بالوضع إن كانت قائمة بين وجود الإرادة خارجا وصدور اللفظ فمثل هذه الملازمة لا يمكن إيجادها إلا بالتعهد وهذا رجوع إلى مسلك التعهد وهو خلف ، وإن كانت قائمة بين الوجود الخارجي للإرادة وتصور اللفظ ذهنا فهو غير معقول لاستحالة قيام الملازمة ابتداء بين تصور اللفظ ووجود الإرادة خارجا ، لأن الاقتران المتكرر اما أن يكون بين وجودين فيبرهن على الملازمة بين الوجودين وإما بين تصورين فيؤدي إلى الملازمة بين التصورين ، ولا يتعقل الاقتران المتكرر بين تصور اللفظ ووجود الإرادة خارجا لتقوم الملازمة بينهما بنحو ينتقل من تصور اللفظ إلى التصديق بوجود الإرادة.

فاتضح أن الدلالة الوضعيّة بناء على المسلك المختار في تفسير الوضع لا تكون إلا تصورية ، واما الدلالة التصديقية للكلام فهي غير وضعية بل سياقية قائمة على أساس أمارة نوعية وهي الغلبة ، فان الغالب في حال العاقل الملتفت أن لا يأتي باللفظ على سبيل لقلقة لسان وانه يقصد به أقوى المعاني ارتباطا به في عالم التصور ، ومثل هذه الغلبة لما كانت ارتكازية فهي من قبيل القرائن اللبية الارتكازية التي يوجب احتفافها بالكلام ظهورا تصديقيا للكلام على طبقها.


عدم توقف الدلالة على الإرادة

وأما الموضوع الثاني ـ وهو توقف الدلالة على وجود الإرادة وقصد التفهم ـ فالصحيح أنه بناء على مسلك التعهد لا يعقل كون الدلالة الوضعيّة مشروطة بالإرادة ، ولأن الدلالة الوضعيّة على هذا المسلك هي الدلالة التصديقية الحاصلة من تعهد المتكلم بأن يقصد المعنى حين يأتي باللفظ. وهذا التعهد الّذي هو ملاك تلك الدلالة لا يعقل ان يكون مشروطا بإرادة المعنى إذ لا محصل للتعهد بأنه عند الإتيان باللفظ يكون قاصدا للمعنى بشرط أن يكون قاصدا للمعنى فان قصد المعنى بنفسه متعلق للتعهد فلا يمكن أخذه شرطا له ، فإذا استحال تقييد التعهد بذلك استحال تقيد الدلالة التصديقية المتحصلة من التعهد بذلك. بل دلالة اللفظ بنفسها تكون كاشفة عن الإرادة لا أنها متوقفة على وجودها وإحرازها من الخارج.

نعم ، يعقل أن يكون التعهد مشروطا بطبيعي القصد ويكون المتعهد به وكون القصد للمعنى المعين لا معنى آخر فتكون الدلالة التصديقية للفظ تابعة للإرادة بمعنى انه لا بد من إحراز طبيعي القصد ـ قصد الإفهام ـ من الخارج وفي طول ذلك يكون اللفظ كاشفا عن تعيين متعلق ذلك القصد وفي مثل هذا الفرض لا يعقل أن تكون للفظ دلالة وضعية على أصل القصد بل لا بد لمن يلتزم بمثل هذا التعهد أن يعترف بأن دلالة اللفظ على أصل القصد دلالة سياقية غير وضعية ، وهو إذا اعترف بتعقل الدلالات السياقية وكونها منشأ للكشف عن أمر نفساني فهو يعني اعترافه بإمكان الاستغناء عن التعهد رأسا وذلك بتفسير الدلالة التي يراد تحصيلها بالتعهد على أساس السياق بالنحو الّذي شرحناه وهو خلف مسلك التعهد.

وأما بناء على غير مسلك التعهد في تفسير الوضع ، فقد يقال بتصوير تبعية الدلالة للإرادة والبرهنة عليه بتقريب : ان الغرض من إيجاد العلقة الوضعيّة إنما هو الانتقال من تصور اللفظ إلى تصور المعنى في موارد قصد التفهيم ، واما الانتقال في غير هذه الموارد فليس داخلا في الغرض العقلائي ومعه لا بد من افتراض تقيد العلقة الوضعيّة المجعولة بموارد قصد التفهيم ، لأن إطلاقهما لغير تلك الموارد مع اختصاص الغرض بها يكون لغوا ،


فتكون الدلالة الناشئة من الوضع مقيدة أيضا بقصد التفهيم وتابعة له فحيث لا يقصد التفهيم لا وضع وبالتالي لا دلالة (١).

ويرد على هذا التقريب :

أولا : إن لغوية الإطلاق مع فرض اختصاص الغرض فرع أن يكون في الإطلاق مئونة لحاظية زائدة ، وأما بناء على ما هو المختار من أن الإطلاق مجرد عدم التقييد فجعل العلقة الوضعيّة المطلقة يفي بالغرض وليس فيه مئونة زائدة على جعل العلقة المقيدة ليلزم إشكال اللغوية.

وثانيا : ان الإرادة اما ان يدعى كونها قيدا في نفس الوضع أو في المعنى الموضوع له أو في اللفظ الموضوع؟

أما الأول ، فهو غير معقول ، لأن تصور تقييد الوضع بالنحو الّذي أفيد في التقريب مبني على تخيل ان الوضع مجعول اعتباري من قبيل الوجوب والحرمة أو الملكية والزوجية فكما تقبل هذه المجعولات التشريعية التقييد كذلك العلقة الوضعيّة. وهذا تخيل باطل لأن جوهر الوضع ليس إلا قرن اللفظ بالمعنى الّذي هو المنشأ للملازمة بين تصور اللفظ وتصور المعنى ، والاعتبار إذا مارسه الواضع فانما يمارسه بوصفه مقدمة إعدادية لذلك القرن بين اللفظ والمعنى. فهناك إذن عمل تكويني وهو جعل اللفظ يقترن بالمعنى في الذهن اقترانا أكيدا ، وهناك معلول تكويني لهذا الاقتران هو الملازمة بين تصور اللفظ وتصور المعنى وكلاهما لا يقبل التقييد. أما الأول فلأنه فعل خارجي لا يقبل الإطلاق والتقييد وأما الثاني ، فلأن الاقتران منشأ حتمي للملازمة فلا يعقل للواضع بعد إيجاده أن يقيد الملازمة بقيد جعلي.

وأما الثاني : وهو أخذ الإرادة في المعنى الموضوع له ـ فان أريد به أخذ مفهوم الإرادة فلا يقتضي ذلك توقف الدلالة على وجود الإرادة ، لكون دلالة اللفظ على معناه تصورية بحسب الفرض فكما ان دلالته على ذات المعنى لا تتوقف على وجود مصداقه خارجا كذلك دلالته على مفهوم الإرادة لا تتوقف على أن يكون لهذا المفهوم مصداق

__________________

(١) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١١١


في الخارج. وإن أريد به أخذ واقع الإرادة ووجودها الخارجي قيدا المعنى الموضوع له فيرد عليه : مضافا إلى ما عرفت في الموضوع الأول من عدم معقولية ذلك ، أنا لو تصورنا الانتقال من تصور اللفظ إلى واقع الإرادة فهذا لا يجعل دلالة اللفظ متوقفة على الإرادة بحيث لا بد من إحرازها من خارج لكي تثبت دلالة اللفظ بل تكون الإرادة مدلولا للفظ بمعنى كون تصور اللفظ منشأ للتصديق بوجود الإرادة ؛ فإحراز وجود الإرادة يكون ببركة الدلالة الوضعيّة وتابعا لها لا أن الدلالة الوضعيّة تابعة لإحراز وجود الإرادة.

وأما الثالث : وهو أخذ الإرادة في اللفظ ـ فقد يقال : انه يصور تبعية الدلالة للإرادة ، لأن الموضوع إذا كان حصة خاصة من اللفظ وهي المقرونة بالإرادة فحيث لا إرادة لا يكون اللفظ مشمولا للوضع بل مهملا فلا تكون له دلالة. ولكن أخذ الإرادة الخارجية قيدا في اللفظ الموضوع غير معقول أيضا فان تقييد أحد طرفي الاقتران وهو اللفظ أو المعنى وإن كان معقولا ، بأن يقيد اللفظ بالتنوين مثلا أو يقيد المعنى بكونه طويلا أو قصيرا مثلا ، إلا أن المعقول هو القيد التصوري في اللفظ أو المعنى لا القيد الخارجي التصديقي ، فلفظ زيد حينما يراد قرنه بمعناه قد يقيد بالتنوين مثلا ، بمعنى أخذ صورة اللفظ المنون وجعلها تقترن بصورة معنى خاص واما تقييد اللفظ بالإرادة الخارجية وجعل صورة اللفظ المقترنة بالإرادة الخارجية مقرونة بصورة المعنى فلا معنى له ، لأن المقصود إن كان جعل وجود الإرادة الخارجية واقعا قيدا في الدلالة بحيث تكون دخيلة في الانتقال إلى صورة المعنى فهو غير معقول ، لأن الإرادة بوجودها الخارجي في نفس المتكلم لا يعقل أن تكون مؤثرة في تصور السامع للمعنى. وإن كان المقصود جعل التصديق بالإرادة الخارجية قيدا في اللفظ بحيث يكون الانتقال إلى صورة المعنى مسببا عن تصور اللفظ المنضم إلى التصديق بالإرادة الخارجية فهو غير معقول أيضا ، لأن الانتقال من شيء إلى شيء فرع الملازمة إذا كانت بلحاظ الاقتران المتكرر بين وجودين فيكون الانتقال من تصديق إلى تصديق وإذا كانت بلحاظ الاقتران المتكرر بين تصورين فالانتقال تصوري من تصور إلى تصور ، ولا معنى للاقتران المتكرر بين التصديق والتصور بما هما تصديق وتصور. وإن كان المقصود جعل تصور الإرادة


قيدا في اللفظ بحيث يكون الانتقال إلى صورة المعنى مسببا عن تصور اللفظ وتصور الإرادة ، أي تصور اللفظ بما هو مراد معناه ، فهو خروج عن فرض أخذ الإرادة الخارجية قيدا للفظ واعتراف بعدم إمكان تصوير تبعية الدلالة للإرادة.

عدم أخذ الإرادة قيدا في المدلول الوضعي

وأما الموضوع الثالث ـ وهو تحديد المدلول الوضعي ـ فالصحيح أن المدلول الوضعي هو ذات المعنى لا المعنى بقيد الإرادة ؛ إذ لو أريد أخذ مفهوم الإرادة بنحو كلي أو جزئي فيه فهو وإن لم يكن ذا محذور ثبوتي ولكنه خلاف الوجدان اللغوي. وإن أريد أخذ واقع الإرادة بوجودها الحقيقي قيدا في المعنى الموضوع له ، فالإشكال فيه : انه إذا قيل بمسلك التعهد الّذي يؤدي إلى كون الدلالة الوضعيّة تصديقية فالموضوع له هو الإرادة والإرادة هي تمام الموضوع له ؛ لأن المدلول التصديقي هو الموضوع له والمدلول التصديقي ليس إلا الإرادة لا أن الإرادة قيد فيه. وإذا قيل بالمسلك المشهور وهو مسلك الجعل سواء أريد به الجعل التكويني أو الاعتباري فيستحيل أو تكون الإرادة الواقعية مأخوذة قيدا في المعنى الموضوع له إذ لا معنى لهذه القيدية إلا الانتقال من اللفظ إلى المعنى مع قيده ، والانتقال إلى واقع الإرادة من اللفظ تصديقي بحسب الحقيقة لا تصوري والمفروض على غير مسلك التعهد ان الانتقال الّذي يحصل بالوضع تصوري ولا يمكن أن يكون تصديقيا.

وقد يستشكل في أخذ الإرادة قيدا في المعنى الموضوع له تارة : بأن لازم ذلك عدم انطباق المعنى على الخارج باعتبار تقيده بأمر لا يوجد إلا في وعاء الذهن. وأخرى : بأن الإرادة من مقومات الاستعمال ومتأخرة عنه طبعا تأخر الإرادة عن المراد فلا يمكن أخذها في المعنى المستعمل فيه ، للزوم الدور على تقريب مشهور أو الخلف حسب تقريبات المحقق الأصفهاني في أمثال المقام.

وكلا هذين الاعتراضين غير متجه. أما الأول ، فلأن الإرادة لها مراد بالذات ، وهو نفس الوجود الإرادي للمراد فان الإرادة نحو وجود للمراد كما ان التصديق وجود تصديقي للمعلوم والتصور وجود تصوري للمتصور وهكذا ، وللإرادة مراد بالعرض وهو


ذات المفهوم. فلو كان المقصود من وضع اللفظ للمعنى المراد وضعه لما هو المراد بالذات لكان مرجعه إلى الوضع للوجود الإرادي القائم في النّفس ، واما إذا كان المقصود من ذلك وضع اللفظ لذات المفهوم مع أخذ نسبة بينه وبين الإرادة في المعنى الموضوع له على أساس ان المفهوم مراد بالعرض والإرادة لها نسبة إلى المراد بالعرض فيعقل تقييد المفهوم بهذه النسبة ، فلا يخرج بذلك عن قابلية الانطباق على الخارجيات.

والحاصل : ان هناك نسبة وتحصيص تنتزع بلحاظ المراد بالذات ونسبة تنتزع بلحاظ المراد بالعرض ، وتقييد المعنى الموضوع له بالإرادة لا ينحصر بأخذ النسبة الأولى بل يمكن تصويره بأخذ النسبة الثانية.

واما الثاني ، فيندفع : بأن الإرادة التفهيمية لشيء في طول ذلك الشيء والمدعى في المقام ليس هو أخذ الإرادة التفهيمية لشيء في نفس ذلك بل أخذها جزءا آخر للمعنى المركب من ذلك الشيء ومن إرادته التفهيمية. وكأن هذا الاعتراض نشأ من تخيل أن ما يدعى أخذه في المعنى هو الإرادة التفهيمية لتمام المعنى مع ان المدعى أن الإرادة التفهيمية لجزء المعنى هي بنفسها الجزء الآخر لذلك المعنى فلا يلزم من ذلك أخذ الإرادة في المراد.

ولو فرض أن الاعتراض المذكور متجه فلا يبرهن إلا على استحالة أخذ الإرادة في مرتبة موضوع شخص تلك الإرادة لا أخذها في مرتبة موضوع إرادة من سنخ آخر ، حيث سيأتي في نظرية الاستعمال تصوير ثلاث إرادات ـ وهي الإرادة الاستعمالية والإرادة التفهيمية والإرادة الجدية ـ فلا يثبت بمحذور الدور أو الخلف امتناع أخذ الإرادة الجدية في موضوع الإرادة التفهيمية أو الاستعمالية.

فالمهم في الاعتراض على أخذ الإرادة ما قلناه آنفا من استحالة تقيد المدلول التصوري بأمر تصديقي.

وقد أجيب عن هذا الاعتراض : بالالتزام بالوضع لذات الحصة التوأم مع الإرادة على نحو مساوق لخروج القيد والتقيد معا.

ويندفع ذلك. أولا : بأن الحصة بهذا المعنى انما يعقل في الأفراد الخارجية لأن لكل فرد تعينا في مقابل غيره بقطع النّظر عن تقيده بخصوصياته العرضية ، ولا يعقل في


الحصص المفهومية لأن صيرورة الحصة حصة في عالم المفهوم إنما هو بالتقييد. فإذا جردت عن التقييد في مقام تعليق شيء عليها كان معلقا على الجامع لا محالة.

وثانيا : بأن تعلق الإرادة الاستعمالية بذات تلك الحصة فرع افتراض القيد في المرتبة السابقة ، لأنه إنما يراد استعمال اللفظ فيما وضع له وهو الحصة ، وحيث أن القيد نفس الإرادة فافتراضه في المرتبة السابقة خلف.

الفصل الخامس

اشتراك علاقتين في طرف

إذا افترضنا علاقتين وضعيتين ، فقد تكونان متباينتين لفظا ومعنى ، وهذا لا كلام فيه. وقد تكونان مشتركتين في لفظ واحد بأن يكون لفظ واحد موضوعا لمعنيين ، أو في معنى واحد بأن يكون لفظان موضعين لمعنى واحد ، وتسمى الحالة الأولى بالاشتراك والحالة الثانية بالترادف.

والكلام هنا يقع في ثلاث جهات :

الأولى : في الضرورة اللغوية للاشتراك. وهذا البحث يختص في كلامهم بالاشتراك بالمعنى المقابل للترادف ، إذ لم يتوهم كون الترادف ضروريا. وسيأتي إمكان دعوى كونهما معا ضروريين بمعنى من المعاني.

الثانية : في منافاته الحكمة الوضع. وهذا البحث يختص أيضا بالاشتراك ولا يشمل الترادف ، لعدم توهم منافاته للحكمة المذكورة.

الثالثة : في إمكانه النظريّ ذات. وهذا بحث يشمل الاشتراك والترادف معا ، إذ يتوهم عدم الإمكان النظريّ في ذاك تارة وفي هذا أخرى.

مدى الحاجة إلى الاشتراك

أما الحديث في الجهة الأولى ، فقد يدعى ضرورة الاشتراك ببرهان كثرة المعاني وعدم تناهيها مع كون الألفاظ محدودة ومتناهية فلو فرض اختصاص كل لفظ بمعنى واحد لزم تطابق المتناهي مع اللامتناهي وهو محال.


والتحقيق : انه إذا أريد بضرورة الاشتراك ما يعم الاشتراك الناتج من الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، نظرا إلى أنه يؤدي إلى كون اللفظ الواحد مشتركا بين معنيين أو معان ولو بوضع واحد ، فالصحيح هو ان الاشتراك بهذا المعنى ضروري ، إذ بدونه لا بد أن نفترض لكل ربط ونسبة لفظا دالا عليه ولما كان كل ربط مغايرا ذاتا وماهية لأي ربط آخر ولا جامع بين الربطين ولو كان طرفا الربطين فردين من جامع واحد ـ على ما يأتي في المعاني الحرفية ـ فهناك إذن أنحاء من الربط غير متناهية لعدم تناهي الأفراد والجزئيات ، ولا يتوفر من الألفاظ ما يوازيها عددا ليكون لكل معنى لفظ يختص به.

وإن أريد بضرورة الاشتراك ضرورة تعدد وضع لفظ واحد لمعنيين أو أكثر من أجل عدم تناهي المعاني وتناهي الألفاظ ـ كما هو المقصود بالاشتراك عند إطلاقه عادة ـ فيرد عليه :

أولا : ان جعل لفظ يدل على كل معنى من المعاني الاسمية أو الحرفية لا ينحصر طريقه بالاشتراك بهذا المعنى المساوق لتعدد الوضع بعدد الدلالات الوضعيّة ، بل يمكن أن يحصل عن طريق الوضع العام والموضوع له الخاصّ فالاشتراك بالمعنى المساوق لتعدد الوضع غير ضروري ولو سلمنا عدم تناهي المعاني وتناهي الألفاظ.

وثانيا : ان الحاجة إلى الاستعمال في حياة الإنسان لا يمكن أن تتعلق إلا بمقدار محدد من تلك المعاني غير المتناهية لأنها فرع تصور الإنسان للمعنى لوضوح ان ما لا يتصور فعلا لا يحتاج إلى استعمال اللفظ فيه. فالأوضاع إذن لا يمكن أن تزيد عن المجموع الكلي للمعاني التي تصورها الإنسان في حياته ، وحيث ان هذا المجموع محدود ومتناه فلا يتطلب إلا أوضاعا متناهية وبالتالي ألفاظا متناهية. ولا فرق في ذلك بين أن يقال ان الواضع هو نفس المستعمل أو هو الله سبحانه وتعالى ، فان الّذي يدعو إلى الوضع دائما إنما هو حاجة المستعمل والحاجة إلى الاستعمال في معنى فرع تصوره ، ولما كان التصور محدودا كان الوضع محدودا لا محالة.

وثالثا : ان الاشتراك إذا كان قد وقع ضرورة بسبب زيادة المعاني على الألفاظ لكان من الطبيعي ان لا نجد لفظا مهملا مع ان الألفاظ المهملة في اللغة كثيرة


وقد لا تقل عن عدد الألفاظ المشتركة ، وهذا يعني ان الاشتراك لم يحصل نتيجة استيفاء الألفاظ وزيادة المعاني عليها لعدم تناهيها ، فمثلا جل الكلمات اللغوية في سائر اللغات تعتبر مهملة في اللغة العربية فكيف يصح أن نفسر الاشتراك فيها على أساس الضرورة المذكورة.

ورابعا : ان تفهيم المعنى الكلي لا يتوقف دائما على أن يوضع له لفظ خاص لكي يدل عليه بالخصوص ، بل قد يحصل تفهيمية على نحو تعدد الدال والمدلول أو بنحو الإشارية ـ كما في تفهيم الجزئيات ـ فإذا أردت أن تفهم معنى « البغل » فقد لا تستعمل كلمة « البغل » بل تقول الكائن المتولد من حصان وحمار ، وبذلك تحصل نتيجة الوضع بدون التزام بأوضاع متعددة بعدد المعاني ليتوهم ضرورة الاشتراك. بل قد يحصل تفهيم جملة من المعاني بلا استعانة بدلالة وضعية أصلا ، كما في موارد الإطلاق الإيجادي والإحضار الحسي للمعنى ، كما في قولك زيد اسم ـ على ما يأتي من أن الإطلاق الإيجادي لا يتوقف على الوضع أصلا ـ.

هذا ، وأما إذا قطع النّظر عن هذه الاعتراضات ، فلا يمكن الاعتراض تارة : بأن المعاني الكلية متناهية فلا تزيد على عدد الألفاظ والوضع إنما يكون للمعاني الكلية (١) وأخرى : بأن التركيبات اللفظية غير متناهية فلا تقل عن عدد المعاني (٢) وثالثة : بأنه يمكن التعويض عن الاشتراك بالاستعمال المجازي (٣).

أما الأول ، فلأنه يرد عليه : أنا لو أدخلنا في الحساب المعاني الاعتبارية فلا برهان على تناهي المعاني الكلية ، بل البرهان على الخلاف ، إذ المعاني منها ما يكون بسيطا كمفهوم الوجود والعدم ، ومنها ما يكون مركبا حقيقيا كمفهوم الإنسان ، ومنها ما يكون مركبا اعتباريا كمفهوم الدار والمدينة فلو فرض تناهي القسمين الأولين فالقسم الثالث لا تناهي له لكونه منتزعا من ملاحظة مجموع أمرين أو أكثر بعد إلباسهما ثوب الوحدة الاعتبارية ، وهذا الانتزاع أمر غير قابل للتناهي إذ أي مفهوم اعتباري يفترض

__________________

(١) كفاية الأصول ج ١ ص ٥٣ ( ط ـ مشكيني )

(٢) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٢١١

(٣) كفاية الأصول ج ١ ص ٥٤ ( ط ـ مشكيني )


يمكن أن ينتزع منه ومن مفهوم آخر عنوان اعتباري آخر وهكذا ..

أضف إلى ذلك : أن الالتزام بعدم تناهي مجموع المعاني الكلية والجزئية كاف لإثبات مدعى القائل بضرورة الاشتراك ولو بلحاظ المعاني الجزئية التي لا إشكال أيضا في تعلق الأغراض الاستعمالية بها كثيرا ما لم نرجع إلى جواب آخر عن الشبهة.

وأما الثاني ، فيرد عليه : أن الألفاظ مهما كان لها صور فانها تظل دائما أقل من المعاني ببرهان أن أي تركيب لفظي كما يحقق لفظا جديدا كذلك يحقق معنى جديدا قد يراد التعبير عنه نفسه كما هو واضح.

وأما الثالث ، فيرد عليه : بأن المعاني الحقيقة اما أن تكون غير متناهية أو متناهية ، وعلى الأول يجري برهان الاشتراك ، لزيادتها حينئذ على الألفاظ. وعلى الثاني يلزم ان تكون المعاني الأخرى كلها مجازية وهي غير متناهية ، وهذا يفترض علاقات غير متناهية بينها وبين المعاني الحقيقية وكل علاقة تمثل حيثية في المعنى الحقيقي ويؤدي ذلك إلى اشتمال المعاني الحقيقة على حيثيات غير متناهية وكل منها بحاجة إلى لفظ دال عليه فيعود المحذور.

وإن أريد بضرورة الاشتراك كونه ظاهرة طبيعية في اللغة فهذا أمر بالإمكان تفسيره وقبوله إلى حد ما ، لأن كل لغة لا تمثل مجتمعا واحدا بل مجتمعات صغيرة بعدد الوحدات البدائية التي تنتمي إليها من قبائل ومجاميع والحاجات اللغوية في كل واحد منها تتجدد وتزداد باستمرار وتتخذ كل مجموعة طريقة في إشباع تلك الحاجات ، ولما كانت مقررات اللغة المشتركة بين تلك القبائل محدودة نسبيا وكانت الصلة اللغوية الكاملة مفقودة بين كل مجموعة والأخرى كان من الطبيعي بحساب الاحتمالات أن يقع اختيار هذه المجموعة على لفظ معين للدلالة على معنى ويقع اختيار المجموعة الأخرى على نفس اللفظ للدلالة على معنى اخر ، وعند ما انصهرت هذه المجاميع في لغة واحدة واندمجت حياة بعضهم ببعض ظهر الاشتراك بسبب ذلك.

والشيء نفسه يمكن أن نقوله بالنسبة إلى الترادف ، فان حساب الاحتمالات يقتضي أيضا استبعاد أن يتطابق عفويا اختيار مجموعتين منتميتين إلى إطار لغوي


واحد بصورة مستمرة ، بل قد يجعل هؤلاء لفظا دالا على معنى ويجعل أولئك لفظا آخر لنفس المعنى.

ولكن ، هذا لا يعني حصر الاشتراك ضمن هذا النطاق بل يمكن افتراضه من بداية الأمر على صعيد لغوي واحد ، فكما يتصور الاشتراك في الأعلام الشخصية في بيئة واحدة وعائلة واحدة كذلك لا مانع من افتراضه على هذا النحو في أسماء الأجناس ونحوها.

الاشتراك لا ينافي حكمة الوضع

وأما الحديث في الجهة الثانية ـ فقد يدعى ـ على عكس ما ادعي في الجهة السابقة ـ امتناع الاشتراك في اللغة لكونه لغوا ، إذا الحكمة والغرض المطلوب من الأوضاع اللغوية إفهام المعنى الموضوع بإزائه اللفظ بذلك اللفظ وهذا فرع أن يكون ما وضع بإزائه اللفظ متعينا لا مرددا بين معان متعددة كما في المشترك.

وهذه النكتة لا تجري في الترادف ، لوضوح ان تكثر الألفاظ الدالة على معنى واحد لا يدخل إجمالا على دلالة أي واحد منها.

إلا أن هذه الدعوى غير صحيحة ، فانه يكفي في إشباع الحاجة اللغوية من الوضع أن يكون جزء العلة في افهام المعنى الموضوع له. وإن شئت قلت : ان الإفهام الإجمالي بمعنى صلاحية اللفظ لأن يكون دالا على المعنى الحاصل من الوضع محفوظ في المشترك أيضا ، وإن كان يحتاج في تعيين إرادة أحد المعاني الموضوع بإزائها اللفظ إلى قرينة معينة.

هذا ، إذا لم نفترض تعدد الواضعين للألفاظ المشتركة حسب تعدد القبائل أو المجاميع اللغوية البدائية المؤدي إلى تحقق اقترانات عديدة للفظ معين مع معان عديدة وإلا فالشبهة أوضح اندفاعا.


مدى إمكان اشتراك علاقتين في طرف

وأما الجهة الثالثة ، فلا شك في إمكان الاشتراك والترادف نظريا بناء على المسلك المختار في تفسير العلاقة الوضعيّة ، وكذلك بناء على تفسيرها بالاعتبار. واما بناء على مسلك التعهد فقد يصعب تصوير الاشتراك أو الترادف ثبوتا ، وذلك : لأن التعهد إذا كان بصيغة انه كلما جاء باللفظ قصد معناه الموضوع له بطل الاشتراك للزوم فعلية كلا التعهدين في مورد ذكر المشترك لوقوعه شرطا في التعهدين معا ، وإذا كان بصيغة انه كلما قصد المعنى جاء باللفظ الدال عليه بطل الترادف للزوم فعلية كلا التعهدين في مورد إرادة قصد المعنى المستوجبة للإتيان بكلا اللفظين معا.

ويمكن لأصحاب هذا المسلك التغلب على هذا الإشكال إما بافتراض ان المتعهد به هو قصد أحد المعنيين أو إتيان أحد اللفظين ، وإما بتقييد كل من التعهدين بعدم قصد المعنى المأخوذ في التعهد الآخر ، أو عدم الإتيان باللفظ المأخوذ فيه ، أو غير ذلك من أنحاء التقييد المتقدمة في شرح ذلك المسلك.


٢ ـ نظرية الدلالة على المعنى المجازي

الدلالة على المعنى المجازي هي دلالة اللفظ على معنى لم يكن مدلولا له بحسب القانون اللغوي الأولي العام لعلاقة بينه وبين ما هو مدلوله اللغوية الأولي. ومن هنا تعتبر هذه الدلالة ثانوية ومتفرعة على عدم إرادة المعنى الحقيقي.

والحديث عن المجاز يقع تارة : في تشخيص حقيقته من حيث كونه مدلولا للفظ أو لمرحلة عقلية وراء مرحلة مدلول اللفظ. وأخرى : في مدى حاجة الاستعمال المجازي إلى الوضع.

١ ـ حقيقة المدلول المجازي

والبحث من الناحية الأولى هو البحث المعروف الّذي أثارته مدرسة السكاكي في باب المجاز ، حيث أنكرت هذه المدرسة أن يكون المجاز استعمالا للفظ في غير ما وضع له من المعنى بحسب القانون اللغوي بل اعتبرته من باب الاستعمال في المعنى الحقيقي وإنما العناية والتجوز في تطبيق ذلك المعنى على غير واقعه في الخارج ادعاء ، ومن هنا كان المدلول المجازي بناء على هذا الاتجاه مدلولا عقليا ادعائيا. ولكن جمهور المشهور على أن المجاز مدلول لفظي مباشر لأنه من استعمال اللفظ في ذلك المعنى على حد استعماله


في المعنى الحقيقي إلا أنه لا بد في افهامه من الاعتماد على قرينة دالة عليه.

والتحقيق : أن الادعاء المفترض لتفسير الاستعمال المجازي من قبل السكاكي إما أن يكون مرجعه إلى ادعاء ان المفهوم الّذي لم يوضع له اللفظ « المعنى المجازي » هو نفس المفهوم الّذي وضع له اللفظ بالحمل الأولي فيعتبر ويدعي ان مفهوم « الرّجل الشجاع » هو نفس مفهوم « الحيوان المفترس » ويستعمل اللفظ فيه على أساس هذه العينية المدعاة ، أو يرجع إلى ادعاء أن غير ما وضع له اللفظ ـ سواء كان مفهوما كليا أو فردا خارجيا كهذا الرّجل الشجاع ـ مصداق لما وضع له اللفظ على نحو يحمل عليه المعنى الموضوع له بالحمل الشائع ، فيستعمل اللفظ في المعنى الموضوع له ولكنه يطبق على فرد عنائي ادعائي.

أما الأول ، فلا يحقق مقصود السكاكي ـ وهو كون التجوز تصرفا في أمر عقلي بحث لا في اللفظ ـ بل هو يعني استعمال اللفظ في غير ما وضع له بادعاء انه نفس الموضوع له ، فالعناية مأخوذة إذن في مرحلة الاستعمال ويرد عليه : ان هذه العناية لا دخل لها في تصحيح الاستعمال وتكوين الدلالة على المعنى المجازي ، لأن المعنى المدعى بالعناية انه الموضوع له إن كانت له علاقة ومشابهة مع المعنى الحقيقي كفى ذلك في تصحيح الاستعمال وتكوين الدلالة بدون حاجة إلى العناية المذكورة ـ على ما يأتي ـ وإن لم تكن بين المعنيين علاقة فلا تحصل الدلالة ولا يصح الاستعمال بمجرد الادعاء المذكور ولا يتوهم : ان الادعاء المذكور يوجب توسعة العلقة الوضعيّة حكما ، كما هو الحال في سائر ألسنة الادعاء والتنزيل ، فان الادعاء المذكور إن رجع إلى وضع جديد فهو خلف لأن لازمه كون اللفظ مستعملا فيما وضع له ؛ وإلا فلا يمكن أن تسري أحكام العلقة الوضعيّة من الدلالة وصحة الاستعمال بمجرد الادعاء والتنزيل لأنها آثار واقعية تكوينية للعلقة الوضعيّة ، وبالادعاء والتنزيل إنما تسري الآثار المجعولة من قبل ذلك المنزل لا ما كان أثرا تكوينيا.

وأما الثاني ، فهو يفي بمقصد السكاكي ، لأنه يفترض عدم التصرف في مرحلة الاستعمال وإنما التصرف في مرحلة تطبيق المراد الاستعمالي على مصداقه. وهذا يرجع في الحقيقة إلى أن العناية في تطبيق المراد الاستعمالي على المراد الجدي ، فحين تقول


« جئني بأسد » يكون مرادك الاستعمالي المطالبة بحيوان مفترس ومرادك الجدي المطالبة برجل شجاع ، والعناية التي يدعى فيها كون الرّجل الشجاع حيوانا مفترسا بالحمل الشائع هي التي تربط عرفا ذاك المراد الاستعمالي بهذا المراد الجدي على الرغم من تغايرهما.

ويرد عليه :

أولا : ان التجوز لا ينحصر بموارد احتواء الكلام على المراد الجدي بل يتصور في موارد الهزل أيضا وتمحض الكلام في المراد الاستعمالي ؛ فان كان المجاز مرادا هنا في مرحلة المدلول الاستعمالي فهو خلف المدعى ، وإن كان مرادا في مرحلة المدلول الجدي فهو خلف هزلية الكلام.

وثانيا : ان افتراض كون هذا الفرد فردا من المعنى الحقيقي انما يناسب كلية المعنى الحقيقي ولا يتأتى حيث يكون جزئيا ؛ فلو قيل بأن لفظتي الشمس والقمر مثلا موضوعتان لهذين النيرين الخاصّين فكيف نفسر على أساس العناية المذكورة قولنا « هؤلاء أقمار أو شموس » مع أن المدلول جزئي ، وهذا بخلافه على المسلك الآخر فانه لا مانع بموجبة من أن يكون المعنى الحقيقي جزئيا والمعنى المجازي كليا.

هذا ، مضافا : إلى الوجدان القاضي بأن إسباغ صفات المعنى الحقيقي ادعاء على شيء قد يؤدي عكس المقصود للمتجوز ، فمن يريد أن يبالغ في جمال يوسف فيقول انه « بدل » ليس في ذهنه إطلاقا ادعاء ان يوسف مستدير كالبدر ، وإلا لفقد جماله كإنسان ، لأن صفات البدر انما تكون سببا للجمال في البدر بالذات لا في شيء آخر.

وعلى هذا الأساس ، فما ذكره السكاكي لا يصلح أن يكون تفسيرا عاما للتجوز.

والصحيح ما عليه المشهور من أن الأصل في التجوز كونه راجعا إلى المدلول الاستعمالي ومرحلة اللفظ.

وقد يتوهم : ان ذلك يؤدي إلى أن يكون قولنا « زيد أسد » مرادفا لقولنا « زيد


رجل شجاع » مع ان الوجدان قاض بأن استفادة معنى الشجاعة من الأول أبلغ وآكد ، وهذا يكشف لا محالة عن أقربية تفسير السكاكي لهذا المجاز.

ويندفع ذلك : بأن كون ذلك أبلغ وآكد محفوظ حتى على مقالة المشهور ، لأن كلمة « أسد » ليست مرادفة في مدلولها الاستعمالي المجازي لكلمة الرّجل الشجاع بل تزيد عليه غالبا بملاحظة الرّجل الشجاع بما هو شبيه بالحيوان المفترس ومناظر له في الشجاعة فكأن الكلام يستبطن تشبيها أيضا.

٢ ـ مدى حاجة المجاز إلى الوضع

بعد افتراض ان التجوز يرجع إلى مرحلة الاستعمال يقع الكلام في نقاط.

منشأ الدلالة على المجاز

النقطة الأولى : انه من أين نشأت دلالة اللفظ على المعنى المجازي مع عدم الوضع ومعلومية ان الدلالة اللفظية التصورية ليست ذاتية.

وقد يتوهم الجواب على هذا التساؤل : بأن الدلالة نشأت من القرينة على المجاز. وهذا التوهم غير صحيح ، لأننا نتكلم فيما يناظر الدلالة الوضعيّة وهو الدلالة التصورية للفظ على المعنى المجازي وهذه الدلالة بوجودها الشأني ليست مستندة إلى القرينة وذلك.

أولا : لأن اللفظ بحد ذاته فيه صلاحية إخطار المعنى المجازي وإن كان بدرجة أضعف من اقتضائه لإخطار المعنى الحقيقي ، ولو لا ذلك لما صح استعمال اللفظ في المعنى المجازي بلا قرينة.

وثانيا : ان القرينة غالبا لا تصلح لإخطار المعنى المجازي وإنما تصلح لصرف الذهن عن المعنى الحقيقي ، ففي قولنا « أسد يرمي » ليس في كلمة « يرمي » دلالة تصورية ولو التزاما على الرّجل الشجاع ، بل فيها دلالة على إنسانية الأسد فقط بقرينة الرماية واما كونه رجلا شجاعا فهو بدلالة نفس لفظ « الأسد » وعليه فلا بد من تفسير لدلالة اللفظ على المعنى المجازي.


وهنا تفسيران رئيسيان : أحدهما : تفسيره على أساس نفس الوضع الأول للفظ بإزاء معناه الحقيقي. والآخر : تفسيره على أساس وضع آخر.

أما التفسير الأول ، فتوضيحه : أن اللفظ يكتسب بسبب وضعه للمعنى الحقيقي صلاحية الدلالة على كل معنى مقترن بالمعنى الحقيقي اقترانا خاصا غير أنها صلاحية بدرجة أضعف لأنها تقوم على أساس مجموع اقترانين ومع اقتران اللفظ بالقرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي تصبح هذه الصلاحية فعلية ويكون اللفظ دالا فعلا على المعنى المجازي ، فالدلالة اللفظية التصورية على المعنى المجازي كالدلالة اللفظية التصورية على المعنى الحقيقي كلتاهما تستندان إلى الوضع ولكن على اختلاف في الشدة والضعف.

وهذه الدلالة على المعنى المجازي من لوازم الوضع الحقيقي وليست بحاجة إلى وضع جديد ما دام قانون الاقتران كما يعمل ضمن الاقتران البسيط كذلك يعمل ضمن الاقترانات المركبة ، ومحاولة تحصيل هذه الدلالة بوضع جديد محاولة لتحصيل الحاصل. وليس معنى ما ذكرناه من استناد الدلالة على المعنى المجازي إلى مجموع اقترانين ان ذهن السامع لا بد لكي ينتقل إلى المعنى المجازي أن ينتقل أولا من اللفظ إلى المعنى الحقيقي ثم إلى المعنى المجازي ، وذلك : لأن اللفظ بعد قرنه بالمعنى الحقيقي يؤدي نفس دوره في إثارة ما يشيره المعنى الحقيقي فيصبح تصور اللفظ صالحا لإثارة المعنى المجازي في الذهن بسبب قرنه بما هو صالح لهذه الإثارة ، غاية الأمر : أن صلاحية اللفظ لذلك بدرجة أضعف من صلاحيته لإثارة نفس المعنى الحقيقي ، لأنها مكتسبة بالواسطة. فكون اللفظ مثيرا للمعنى الحقيقي حيثية تعليلية لإثارته للمعنى المجازي لا تقييدية على نحو لا بد أن يصل ذهن السامع إلى المجاز مارا بالمعنى الحقيقي.

ونلاحظ على هذا الضوء : أن طريقتنا هذه في تفسير دلالة اللفظ على المعنى المجازي وكيفية نشوئها على أساس مجموع اقترانين تفسر الطولية بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي ، وكون دلالة اللفظ على المعنى الحقيقي أقوى ، وكون حمله على الثاني في طول تعذر الأول.

وأما التفسير الثاني. فأول ما يواجهه مشكلة المساواة بين المعنى الحقيقي والمجازي في


دلالة اللفظ وحمل الكلام عليه ما دام كل منهما معنى وضعيا للفظ ، فلا بد من تصوير الوضع على نحو يحافظ فيه على الطولية بين المعنيين وأولوية المعنى الحقيقي ، وذلك بأحد وجوه :

الأول : أن يقال : بأن اللفظ موضوع للمعنى المجازي بوضع نوعي على نحو لوحظت فيه الأوضاع الشخصية بأن قيل مثلا ان لفظ الأسد موضوع لما يشابه معناه الموضوع له ، وبذلك تحفظ الطولية.

ويرد عليه : أن مجرد كون الوضع الثاني نوعيا وأخذ المشابهة عنوانا مشيرا إلى المعاني المجازية ، أو حيثيته تقييدية فيها لا يكفي لتفسير الطولية بين العلقتين الوضعيّتين على نحو لا تؤثر إحداهما إلا في فرض عدم تأثير الأخرى.

الثاني : أن يقال : بأن الوضع للمعنى المجازي مقيد بفرض وجود القرينة على المعنى المجازي بأخذها قيدا في الوضع أو اللفظ الموضوع ، فمع عدم القرينة يقدم المعنى الحقيقي إذ لا وضع للمعنى المجازي في هذه الحالة. ولا يتوهم : كون هذا الوضع لغوا ما دام مقيدا بوجود القرينة على المعنى المجازي لأنها تكفي عنه دائما. لاندفاع هذا التوهم : بأن المقصود بالوضع تصحيح دلالة نفس اللفظ على معناه المجازي ، والقرينة إنما تفهم المعنى المجازي على أفضل تقدير ولا تصح دلالة اللفظ عليه.

ويرد عليه : ان لازم تقييد الوضع المصحح للدلالة على المعنى المجازي بنصب القرينة عدم صحة الاستعمال المجازي في حالات عدم نصب القرينة لعدم الدلالة وانتفاء العلاقة في هذه الحالة بحسب الفرض. مع أنه صحيح بلا إشكال بلحاظ شأنية الدلالة في اللفظ ، وهذا يكشف عن أن المصحح للدلالة وبالتالي للاستعمال ليس هو الوضع المقيد المذكور.

الوجه الثالث : أن يقال : بتصوير وضع مقيد للمعنى المجازي غير ان القيد هو مجرد نصب القرينة الصارفة.

ويرد عليه : نفس المحذور أيضا ، لأن الدلالة الشأنية للفظ على المعنى المجازي وبالتالي صحة استعمال اللفظ فيه ثابتة في موارد عدم نصب القرينة الصارفة أيضا.

الوجه الرابع : أن يفترض كون اللفظ موضوعا للمعنى المجازي بوضع مقيد بعدم


إرادة المعنى الحقيقي بأن تقيد العلقة الوضعيّة المجعولة بهذه الحالة ، ولازم ذلك عدم الحمل على المعنى المجازي إلا في حالة عدم إرادة المعنى الحقيقي وبذلك تثبت الطولية.

ويرد عليه : انا لو تعقلنا تقييد العلقة الوضعيّة على هذا النحو فلا يمكن أن نفسر بذلك أقوائية ظهور اللفظ في المعنى الحقيقي في مرحلة المدلول التصوري على نحو لو سمعنا اللفظ من شخص غير مريد لمعنى أصلا لانسبق الذهن إلى المعنى الحقيقي بدرجة أكبر ، فان دلالة اللفظ على كل من المعنى الحقيقي والمجازي إذا كانت بسبب الوضع فلما ذا يتبادر المعنى الحقيقي في مقابل المعنى المجازي تصورا. فلا بد إذن من تفسير الدلالتين معا على أساس وضع واحد وهو وضع اللفظ للمعنى الحقيقي ، ولما كان المعنى الحقيقي أحق بهذا الوضع من المعنى المجازي كان نصيبه من الدلالة أكبر على ما شرحناه.

الوجه الخامس : أن يقال : بتصوير وضعين أحدهما للمعنى الحقيقي وهو وضع مطلق تعييني. والآخر للمعنى المجازي منوط بالجامع بين نصب القرينة وإرادة معنى على نحو الإجمال من اللفظ ، ويتعين حينئذ تقديم المعنى الحقيقي في حالة عدم القرينة ونفي الإجمال ولو بالأصل وظهور الحال.

ولا يرد على هذا التقريب : النقض بصحة الاستعمال المجازي بلا قرينة ، لأن الاستعمال كذلك مساوق للإجمال ومعه يكون الوضع للمعنى المجازي فعليا. ولا يرد عليه : لزوم فعليه كلا الوضعين في حالة إطلاق اللفظ من غير المريد ، لأن الوضع الثاني غير متحقق في هذه الحالة لعدم القرينة وعدم الإجمال فيتعين انسباق المعنى الحقيقي.

ولكن هذا انما ينسجم على تقدير التعامل مع العلقة الوضعيّة كأمر اعتباري قابل للتقيد بحال دون حال ، وهو غير صحيح على ما مر تحقيقه.

مصحح الاستعمال المجازي

النقطة الثانية : بعد الفراغ عن تفسير دلالة اللفظ على المعنى المجازي على أساس الوضع الأول بالنحو المتقدم يقع الكلام في انه هل يصح استعمال اللفظ في المعنى المجازي ما دام أصبح صالحا للدلالة عليه أو تتوقف صحته على وضع معين أو عناية إضافية؟. ودعوى الاحتياج إلى الوضع هنا لأجل تصحيح الاستعمال وفي النقطة


السابقة لأجل تفسير أصل الدلالة.

والصحيح ، عدم الاحتياج إلى وضع في المجاز لتصحيح الاستعمال ، لأنه ان أريد بصحة الاستعمال حسنه فواضح أن كل لفظ له صلاحية الدلالة على معنى يحسن استعماله فيه وقصد تفهيمه به ، واللفظ له هذه الصلاحية بالنسبة إلى المعنى المجازي ـ كما عرفت ـ فيصح استعماله فيه. وإن أريد بصحة الاستعمال انتسابه إلى اللغة التي يريد المتكلم التكلم بها ، فيكفي في ذلك أن يكون الاستعمال مبنيا على صلاحية في اللفظ للدلالة على المعنى ناشئة من أوضاع تلك اللغة. وإن أريد بصحة الاستعمال جوازه وإنه لا بد من إذن الواضع في الاستعمال ليكون جائزا. فيرد عليه : أن الجواز تارة : وضعي ، وأخرى : تكليفي. فان لوحظ الجواز الوضعي فمرجعه إلى صحة الاستعمال ، وصحة الاستعمال بعنوانها ليست مجعولة إلا بتبع إيجاد علاقة بين اللفظ والمعنى والمفروض وجود هذه العلاقة ـ كما عرفت ـ وإن لوحظ الجواز التكليفي فلا معنى له في المقام ، إذ لا مولوية تكليفية لواضع اللغة بما هو كذلك ، ولا يكون منعه التكليفي ولو كان مولى موجبا لبطلان الاستعمال.

منشأ الدلالة المجازية على مسلك التعهد

النقطة الثالثة : إن ما ذكرناه إنما كان بناء على ما هو الصحيح من ان الوضع لا ينتج إلا الدلالة التصورية ، حيث اتضح في النقطة الأولى ان هذه الدلالة التصورية لا يحتاج ثبوتها بالنسبة للمعنى المجازي إلى وضع آخر وأما بناء على مسلك التعهد القائل بأن الوضع هو أساس الدلالة التصديقية فقد يقال : بالحاجة إلى الوضع في باب المجاز لتكوين الدلالة التصديقية على قصد التفهيم ، وذلك لأن المناسبة بين المعنى الحقيقي والمجازي التي شرحناها إنما تكون ملاكا لدلالة اللفظ تصويرا على المعنى المجازي ولا تكون ملاكا للدلالة التصديقية.

ولا بد من تصوير التعهد الوضعي بإرادة المعنى المجازي على نحو يكون محكوما للتعهد الوضعي بإرادة المعنى الحقيقي لتحفظ الأولوية للدلالة التصديقية على المعنى الحقيقي. وذلك بأحد وجوه :


منها ـ أن يفترض كون التعهد الوضعي بإرادة المعنى المجازي مقيدا بفرض عدم إرادة المعنى الحقيقي ، فيكون التعهد الوضعي بإرادة المعنى الحقيقي حاكما على التعهد الآخر ومانعا عن الانتهاء إليه ما لم تقم قرينة خاصة على عدم إرادة المعنى الحقيقي. ومثل ذلك ما إذا فرض أن الوضع الثاني مقيد بنصب القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي مثلا.

ومنها ـ ان يفترض ان الواضع تعهد بإرادة المعنى الحقيقي بالخصوص وتعهد بإرادة أحد المعنيين الحقيقي أو المجازي ، فإذا أطلق اللفظ ولم تكن قرينة حمل على المعنى الحقيقي لأنه مقتضى الوفاء بكلا التعهدين ، وإلا حمل على المجازي وفاء بالتعهد الثاني.

ولكن التحقيق : أن الدلالة التصديقية للفظ على المعنى المجازي لا تتوقف على الوضع حتى لو قلنا بأن الوضع هو التعهد وانه ينتج الدلالة التصديقية. وذلك : لأنه بعد الفراغ عن حصول الدلالة التصورية الشأنية للفظ على المعنى المجازي بمقتضى الطبع وبسبب المناسبة بين المعنى الحقيقي والمجازي ، إذا أطلق المتكلم اللفظ المذكور فقال « جئني بأسد » كان المدلول التصديقي في مرحلة المراد الاستعمالي مرددا في بادئ الأمر بين ثلاثة أمور الحيوان المفترس ، والرّجل الشجاع ، ومعنى لا يناسب الحيوان المفترس كالماء مثلا ، والأول ينفي بالقرينة الصارفة ، والثالث ينفي بظهور حال المتكلم العرفي في انه لا يقصد بلفظ تفهيم معنى ليس في اللفظ دلالة تصورية شأنية عليه ، فيتعين الثاني وبذلك تتم الدلالة التصديقية على المعنى المجازي بلا حاجة إلى التعهد الوضعي الخاصّ.

الوضع للمعنى مقيدا بالقرينة

النقطة الرابعة : بعد الفراغ عن عدم الاحتياج إلى وضع في دلالة اللفظ على المعنى المجازي واستعماله فيه نقول : أنه لا إشكال في إمكان وضع اللفظ للمعنى المجازي بنحو يوجب إخراجه من كونه مجازيا ، وإنما الإشكال في إمكان وضع اللفظ المقترن بالقرينة للمعنى المجازي بحيث يكون الموضوع للمعنى المجازي حصة خاصة من اللفظ ـ وهي


الكلمة المتصلة بالقرينة على ذلك المعنى ـ فقد يدعى وقوع مثل هذا الوضع ، ويستظهر أن مثل كلمة « ماء الرمان » ونظائرها موضوعة بما هي مركبة للماء المضاف الخاصّ.

والتحقيق : أن هذا الوضع غير ممكن عقلائيا للغويته ، لأنه إن أريد به افهام المعنى المجازي بلا حاجة إلى قرينة فهو غير معقول ، لأن المفروض ان الموضوع فيه هو اللفظ المقيد بالقرينة وإن أريد إفهام المعنى المجازي في حالة وجود القرينة فهذا حاصل بالقرينة بدون حاجة إلى الوضع وإن أريد بذلك إعفاء المتكلم من ملاحظة العلاقة والمشابهة بين المعنى المجازي والحقيقي فسيأتي في النظرية العامة للاستعمال ان صحة الاستعمال في المعنى المجازي لا تحتاج إلى هذه الملاحظة ، وان العلاقة المذكورة حيثية تعليلية لصحة الاستعمال لا تقييدية وشأنها شأن الوضع في الاستعمال الحقيقي فكما لا تجب ملاحظة الوضع عند استعمال اللفظ في معناه الحقيقي كذلك العلاقة هنا.

تحديد المراد من المعنى المجازي

النقطة الخامسة : اتضح مما ذكرناه في النقطة الأولى ان دلالة اللفظ على المعنى المجازي مستمدة من وضعه للمعنى الحقيقي على أساس التركيب بين اقترانين ـ كما تقدم ـ وهذا هو الأصل الغالب ، غير ان هناك دلالات ذهنية تصورية أحيانا لا تستند إلى وضع أصلا لا بصورة مباشرة ولا بصورة غير مباشرة ، وإنما تستند إلى تناسب ذاتي وطبيعي بين الصورة الذهنية للفظ والصورة الذهنية للمعنى ، وذلك كما في دلالة اللفظ على نوعه في مثل قولنا « ضرب فعل ماض » إذ ينتقل ذهن السامع من الشخص إلى النوع ، وهذا مبني على تناسب طبيعي بين الصورتين على نحو يوجب صلاحية صورة الشخص للإعداد للانتقال إلى صورة النوع ولو مع ضم قرينة على عدم إرادة الخصوصية ، وقد تكون القرينة نفس ورود اللفظ مورد الاستعمال لأن استعمال اللفظ في نفسه بخصوصه غير صحيح ـ على ما يأتي ـ

فإذا أريد بدلالة اللفظ على المعنى المجازي دلالته على كل معنى لا يكون موضوعا له مباشرة شملت هذه الدلالات القائمة على التناسب الطبيعي وإذا أريد بها دلالته على معنى له علاقة بالموضوع له خرجت الدلالات المذكورة عن كونها مجازية وكانت قسما آخر برأسه.


وقد يستشكل في دلالة اللفظ على نوعه : بأنه إن أريد كون اللفظ بخصوصيته دالا على الطبيعي وموجبا للانتقال إليه فيرد عليه : ان خصوصية الفرد مباينة للطبيعي فكيف ينتقل من المباين إلى المباين. وإن أريد كون اللفظ بجامعه دالا على الطبيعي فهذا معناه دلالة الطبيعي على الطبيعي وهو غير معقول ، لأن الدال يجب أن يكون غير المدلول.

والجواب على هذا الاستشكال : أن الدال على الطبيعي والمثير لصورته في الذهن إنما هو الصورة الذهنية لشخص اللفظ ولكن لا بما هي صورة ذهنية للخصوصية بل بما هي صورة ضمنية للجامع المحفوظ في ضمنها ، فالوجود الضمني للطبيعي يثير صورة ذهنية استقلالية للطبيعي باعتبار التناسب الطبيعي بينهما. وسيأتي الكلام مفصلا عن إطلاق اللفظ وإرادة نوعه وصنفه ومثله وشخصه عند التكلم عن الاستعمال.



المبحث الثاني



نظرية الاستعمال

علاقة اللفظ اللغوية بالمعنى في مجال الاستخدام اللغوي للألفاظ لها جانبان : أحدهما : جانبها المرتبط بالسامع ، ويعبر عن هذه العلاقة بالدلالة لأن محصل علاقة اللفظ بالمعنى عند السامع ان تصور أحدهما يوجب الانتقال إلى تصور الآخر. والآخر جانبها المرتبط بالمتكلم ؛ ويعبر عن هذه العلاقة بالاستعمال بمعنى ان المتكلم يستعمل اللفظ في المعنى ويتخذه أداة لتفهيمه.

وقد عرفنا فيما سبق منا شيء الدلالة اللغوية وتفسيرها بالنسبة إلى اللفظ مع المعنى الحقيقي ومع المعنى المجازي ، والآن نتكلم عن الاستعمال وحقيقته وشروطه العامة.

حقيقة الاستعمال

يختلف الاستعمال عن عملية الدلالة التصورية ، فان الدلالة التصورية تحصل بمجرد إطلاق اللفظ لو لم يكن قد أريد به شيء أصلا واما الاستعمال فلا يتحقق بمجرد إطلاق اللفظ بل يتقوم بالإرادة وتسمى بالإرادة الاستعمالية. وتفصيل ذلك : أن المتكلم يتصور له ثلاثة أنحاء من الإرادة.

الأولى : الإرادة الاستعمالية ، وهي الإرادة المقومة للاستعمال. وليست هذه


الإرادة : هي إرادة تفهيم المعنى وإخطاره باللفظ فعلا ، ولا إرادة إيجاد المعنى باللفظ إيجادا عرضيا ـ كما عن المحقق الأصفهاني ـ (١) ولا إرادة التلفظ باللفظ المنبعثة عن تعهد نفساني يقتضي التلفظ به في ذلك الظرف الخاصّ ـ كما هو مقتضى مسلك التعهد ـ كما لا محصل لتفسير الإرادة الاستعمالية بإرادة استعمال اللفظ في المعنى وإفنائه في مطابقه.

أما الأول ، فلحصول الاستعمال والإرادة في موارد عدم إرادة التفهيم وعدم كون اللفظ كاشفا فعلا عن المعنى ، كما في موارد الإتيان بالألفاظ المشتركة في مقام الاستعمال مع تعمد الإجمال وعدم نصب القرينة ، فان الاستعمال حاصل بلا إشكال مع عدم حصول التفهيم وإرادته.

وأما الثاني ، فلا موجب له إلا تخيل ان الوضع عبارة عن جعل اللفظ وجودا للمعنى وان الاستعمال باعتباره تنفيذا للوضع وجريا على طبقه يكون مرجعه إلى قصد اللفظ بما هو وجود تنزيلي للمعنى ، وقد عرفت حال المبنى سابقا. مضافا : إلى أن أي مبنى يختار في تصوير حقيقة الوضع انما يراد من أجل تبرير الدلالة وتفسيرها ، وبعد فرض قيامها فلا يتعين على الاستعمال أن يكون متطابقا مع ما هو المجعول من قبل الواضع.

وأما الثالث ، فهو مبني على التعهد. على أنه لا يوضح حقيقة تلك الإرادة وانما يبين كونها ناشئة عن التعهد والكلام الآن عن حقيقتها.

وأما الرابع ، فغير مفيد. لأن الكلام في تفسير الاستعمال الّذي هو متعلق الإرادة فتفسير الإرادة الاستعمالية بإرادة الاستعمال ليس مفيدا ، إلا أن يكون المقصود تفسير الإرادة الاستعمالية بإرادة ملاحظة اللفظ آلة للمعنى بحيث تؤخذ آلية اللفظ لحاظا في معنى الإرادة الاستعمالية والاستعمال ومرجع ذلك إلى دعوى تقوم الاستعمال باللحاظ الآلي للفظ ، وسيأتي تحقيق ذلك.

بل الإرادة الاستعمالية : عبارة عن إرادة التلفظ باللفظ ولكن لا بما انه صوت مخصوص بل بما انه دال بحسب طبعه وصالح في ذاته لإيجاد صورة المعنى في الذهن ،

__________________

(١) راجع نهاية الدراية ج ١ ص ٣٥ ( المطبعة العلمية ـ قم )


فإرادة الإتيان بما يصلح للدلالة على معنى بما انه يصلح لذلك هي الإرادة الاستعمالية ، والمراد بهذه الإرادة هو نفس الاستعمال. وإن شئت قلت : ان الإتيان باللفظ مقدمة إعدادية للانتقال إلى صورة معنى معين فإرادته بما هو مقدمة إعدادية لذلك إرادة استعمالية ولو فرض عدم توفر المقدمات الأخرى الدخيلة في الدلالة ـ كما في موارد تعمد الإجمال ـ

الثانية : الإرادة التفهيمية ؛ وهي إرادة تفهيم المعنى تصورا باللفظ وإخطاره فعلا. وفرق هذه الإرادة عن الأولى ان متعلق هذه الإرادة التفهيم والإخطار الفعلي ومتعلق تلك الإخطار الشأني ، أي الاعداد للإخطار الملائم مع الفعلية وعدمها.

الثالثة : الإرادة الجدية ، وذلك أن من يريد أن يخطر المعنى تصورا في ذهن السامع قد يكون هازلا ولا تكون في نفسه حالة حقيقة تناسب ذلك المعنى ، من جعل حكم أو قصد حكاية وغير ذلك. وهذه الإرادة الجدية تختص بموارد استعمال الجمل التامة وأما الكلمات الإفرادية والجمل الناقصة فلا يتصور بشأنها إلا الإرادة الاستعمالية والتفهيمية.

وقد اتضح على ضوء ما ذكرناه : ان الاستعمال عملية إرادية متقومة بالإرادة الاستعمالية على النحو المتقدم ، وعلى هذا الأساس لا بد في الاستعمال من لحاظ اللفظ ولحاظ المعنى لأن اللفظ هو المراد صدوره والمعنى هو الحيثية التي بلحاظها أريد إصدار اللفظ.

مقومات الاستعمال وشروطه

وقد يذكر للاستعمال شروط ومقومات أساسية لا يتأتى الاستعمال بدونها وقد تستنبط جميعا من التعريف المتقدم.

الأول : أن يكون في اللفظ صلاحية الدلالة على المعنى فإذا لم يكن فيه صلاحية ذلك فلا يعقل الاستعمال ، لأن الاستعمال ـ كما عرفت ـ قصد تفهيم المعنى باللفظ ولو شأنا وإعدادا فمع عدم شأنية اللفظ لا يعقل قصد ذلك من الملتفت. وهذا الشرط لا إشكال فيه ، وهو مستنبط من نفس التعريف المتقدم للاستعمال بدون حاجة إلى


مصادرة أو حجة إضافية. ولا يفرق في تحقق هذا الشرط بين أن تكون صلاحية الدلالة على المعنى حاصلة بالوضع بصورة مباشرة ، كما في دلالة اللفظ على المعنى الحقيقي ، أو بالوضع بصورة غير مباشرة ، كما في دلالة اللفظ على المعنى المجازي ، أو بالمناسبة الذاتيّة ، كما في دلالة شخص اللفظ على نوعه ـ كما تقدم.

وعلى أساس هذا الشرط قلنا بأن إيجاد الوضع بنفس الاستعمال أمر غير معقول على بعض المباني ـ كما تقدم في بحث الوضع ـ.

الثاني : أن يكون هناك تغاير بين المستعمل والمستعمل فيه فلا يعقل وحدتهما وذلك أيضا مستنبط من نفس نظرية التعريف المتقدمة للاستعمال ، لأن اللفظ المستعمل يقصد جعله دالا والمعنى المستعمل فيه يقصد كونه مدلولا ، والدال والمدلول متضايفان ، والمتضايفان متقابلان فلا يعقل صدقهما على شيء واحد وقد يتوهم : عدم لزوم التغاير الحقيقي بينهما وكفاية التعدد ولو بالاعتبار لأن مجرد كون شيئين متضايفين لا يثبت تنافيها في مقام الصدق حقيقة بل يكفي أن يكون صدق كل منها بلحاظ حيثية مغايرة لحيثية صدق الآخر قضاء لحق التضايف ـ كما هو الحال في العالم والمعلوم ـ فانه يمكن صدقهما على ذات واحدة عالمة بنفسها ولكن باعتبارين. ويندفع التوهم : بأن مجرد التضايف بين مفهومين وإن كان لا يساوق امتناع تصادقهما على واحد حقيقة ولكن قد تتفق نكتة إضافية في المفهومين المتضايفين تبرهن على ذلك ، كما في العلة والمعلول فانها مفهومان متضايفان ويستحيل صدقهما على واحد ولو باعتبارين لاستحالة علية الشيء لنفسه ، والدال والمدلول من صنف العلة والمعلول ، غاية الأمر ان العلية بلحاظ الوجود الذهني للدال والمدلول فيستحيل تصادقهما على واحد لنفس المحذور ، وعليه فهذا الشرط تام. وقد يفرغ على ذلك استحالة استعمال اللفظ في شخصه ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

الثالث : انه بعد الفراغ عن تقوم الاستعمال بلحاظ اللفظ ولحاظ المعنى ـ كما تقدم ـ يقال : بأن المعتبر من اللحاظ في جانب المعنى هو اللحاظ الاستقلالي وفي جانب اللفظ هو اللحاظ الآلي والمراد بالاستقلالية في جانب المعنى الاستقلالية بالنسبة إلى اللفظ وكونه ذا المرآة للفظ فلا ينافي ملاحظة مرآة بالنسبة إلى معنونة مثلا ، والمراد


بالآلية في جانب اللفظ أن يلحظ اللفظ فانيا في المعنى ومرآة له بمعنى ان الاستعمال متقوم باللحاظ الآلي ، وبذلك يختلف عن الانتقال من العلامة إلى ذي العلامة في سائر الموارد فان العلامة هناك تلحظ باللحاظ الاستقلالي بخلاف اللفظ مع المعنى.

المرآتية والعلامية

ولتحقيق هذه الدعوى لا بد من التكلم في أن الاستعمال هل هو من باب المرآتية أو من باب العلامية؟ وهل تختلف أساسا طريقة مواجهة الذهن للفظ والمعنى مع طريقة مواجهة للعلامة وذي العلامة فيكون اللفظ مستعملا بالنظر المرآتي والعلامة مستعملة بالنظر الاستقلالي؟ وما ذا تعني مرآتية اللفظ في مقام الاستعمال والتفاهم؟ وإذا كان الاستعمال عادة من باب المرآتية ، فهل هذا مجرد ظاهرة عامة بالإمكان أن يشذ عنها الاستعمال أو انها من مقوماته ولا يتأتى بدونها؟

وينبغي أن يعلم : أن البحث ليس بحثا في المصطلح ، إذ قد يصطلح بكلمة الاستعمال على الاستخدام الآلي للفظ في مقام إفادة المعنى فيكون تقومه بالآلية داخلا في تعريف معناه المصطلح ولا مضايقة في الاصطلاح ، وإنما البحث في واقع العملية التفهيمية للمعاني بالألفاظ ومدى تقومها باللحاظ الآلي.

وتوضيح الحال في تلك : أن من الملاحظ وجود فارق بين علاقة اللفظ بالمعنى في مرحلة إفادة المدلول الوضعي وعلاقة العلامة بذي العلامة كعلاقة العمود بمقدار المسافة ، فان اللفظ يبدو وكأنه مرآة للمعنى وأداة لإحضارها وليست كذلك العلامة مع ذيها.

وهذه المرآتية وإن كان ما ذكرناه لا يكفي لتحديد معناها وكنهها ، إلا انها لما كانت أمرا مركوزا معلوما على وجه الإجمال أمكن أن نبدأ بالحديث عن تبريرها والكشف عن سببها في باب الألفاظ قبل تدقيق تفسيرها ، وعلى ضوء ذلك يتضح مغزاها ومعناها ومدى دخلها في عملية الاستعمال.


تفسير ظاهرة المرآتية

وما يمكن أن يقال في تفسير ظاهرة المرآتية أحد وجوه :

الأول : ان دلالة اللفظ على المعنى لما كانت بالوضع ، والوضع هو جعل اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى ومرآة له ، كان من نتيجة ذلك أن تكون عملية تفهيم المعنى باللفظ متمثلة في لحاظ اللفظ فانيا في المعنى ومرآة له ، لأن عملية التفهيم هذه ليست إلا تطبيقا جزئيا لما جعله الواضع على وجه كلي ، ولما كان مجعول الواضع هو المرآتية ففعلية هذا المجعول يعني فعلية هذه المرآتية.

ولعل السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ لاحظ هذا حين ربط المرآتية في الاستعمال بمسلك الاعتبار ونفاه عن مسلك التعهد (١).

والتحقيق : أن الواضع إذا كان يمارس جعل العلقة الوضعيّة من خلال اعتبار اللفظ مرآة للمعنى أو وجودا له فليس معنى هذا ان المعتبر بهذا الاعتبار يتحقق بنفس هذا الاعتبار بما هو اعتبار ليرقب ثبوت المعتبر على النحو الّذي اعتبره ، فان العلقة بين اللفظ والمعنى أمر واقعي ـ كما تقدم ـ وسببية الاعتبار الصادر من الواضع له ليس من باب إيجاد الاعتبار المعتبرة ، بل من باب انه يحقق تكوينا قرنا مخصوصا بين اللفظ والمعني ، وهذا القرن يوجب التلازم بين تصور اللفظ وتصور المعنى. والسؤال حينئذ لا يزال قائما عن سر المرآتية في هذا الانتقال من اللفظ إلى المعنى.

وستعرف : أن المرآتية بالمعنى المدعى في هذا الوجه المساوق لأن يرى المعنى باللفظ نظير مرآتية العنوان لمعنونه أمر غير معقول في اللفظ بالنسبة إلى المعنى ، لأنه مباين له وليس عينه بوجه من الوجوه واعتبار العينية وجعله تنزيلا نفس المعنى لا يحقق العينية واقعا بل ادعاء ، ورؤية شيء بشيء لا تكون إلا مع العينية بينهما بوجه على حد عينية العنوان مع معنونه.

الثاني : أن اللفظ موضوع للمعنى الكلي ، والمعنى الكلي لا يجيء إلى الذهن إلا في

__________________

(١) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٢١٩


ضمن هذه الحصة أو تلك ، سواء قلنا بامتناع إدراك الإنسان للكلي أو بإمكانه. أما على الأول ، فواضح. وأما على الثاني ، فلأنه إمكان نظري ، وأما في الحياة العملية فلا يتوفر للإنسان إدراك الكلي بحده عادة ، وإلا فكيف نتصور إنسانا بدون فرض أي طول خاص أو لون خاص أو جهة خاصة؟ وهل يبقى بعد إسقاط كل هذا من الحساب إلا نفس لفظ الإنسان؟ ولما كان لفظ الإنسان رمزا صالحا لأن يعبر عن أي فرد من أفراد الإنسان فقد اعتاد الذهن على أن ينظر إليه بوصفه التجسيد للكلي ونحو تحقق الكلي في الذهن ؛ ومن هنا كان النّظر إلى اللفظ نظرا مرآتيا وهذا على خلاف العلامات ودلالاتها لأنها انما تدل على أشياء جزئية محددة قابلة للتصور بحدها وبصورة مستقلة عن تصور العلامة.

وهذا أيضا لا يصلح لتفسير ظاهرة المرآتية في باب التفهيم اللفظي حتى ولو سلم ما افترض له من أصل موضوعي ينكر تصور الكلي بحده ، وذلك لأن هذه المرآتية لا تختص بالألفاظ الموضوعة للمعاني الكلية عند إرادة تفهيم المعنى الكلي بها بل هي محفوظة حتى فيما إذا أريد بها الفرد الجزئي ، وكذلك في مثل الأعلام الشخصية الموضوعة للمعاني الجزئية التي تأتي إلى الذهن بحدها بلا إشكال ، فهذه المرآتية لا ربط لها بعدم إمكان تصور الكلي.

الثالث : أن الدال على شيء تارة : يكون مما يترقب تعلق غرض نفسي بالالتفات إليه بمعناه بما هو ، وأخرى : لا يترقب ذلك عادة وإنما ينحصر الغرض منه بالغرض المقدمي ، فما كان من قبيل الأول يلحظ باللحاظ ، الاستقلالي في مقام استخدامه لتفهيم مدلوله ـ ومنه العلامات ـ وما كان من قبيل الثاني يلحظ باللحاظ الآلي المرآتي لغلبة جانب المقدمية عليه ـ ومنه الألفاظ ـ.

وهذا التفسير غير واضح أيضا ، إذ لم يعلم ان كل علامة تختلف عن كل صوت لفظي أو نقش لفظي في هذه الناحية ، بل قد يجعل نقش لفظي معين علامة على رأس الفرسخ مثلا ، وهذا معناه ان المرآتية وعدمها ليست من شئون تشخيص سنخ الدال وكونه من سنخ الألفاظ والأصوات أو من سنخ العمود.

الرابع : أن العلقة الوضعيّة تقوم على أساس الأشراط والاقتران الأكيد بين


التصورين ـ كما تقدم ـ وكلما حصل قرن وأشراط بين تصورين لشيئين على نحو أصبح أحدهما سببا للآخر ترتب على ذلك قيام نفس العلقة بين الإحساس بذلك الشيء وتصور الشيء الآخر على نحو يكون الإحسان بنفسه سببا كافيا لتوليد تصور الشيء الآخر ، لما بين الإحساس بشيء وتصور ذلك الشيء من ارتباط يجعل ما أشرط بتصوره مشروطا بإحساسه أيضا ، وهذا معناه أن الإحساس باللفظ سمعيا أو بصيرا يولد على أساس بالإشراط تصور المعنى مباشرة فيكون هذا الإحساس بنفسه مثلا للدور الّذي ثبت بالوضع لتصور اللفظ ، ويترتب على ذلك أن تصور اللفظ يكون دائما تحت الشعاع ويكون البارز هو الانتقال مباشرة من الإحساس باللفظ إلى تصور المعنى وبذلك يصح أن يقال : بان اللفظ مغفول عنه ومرآة ونحو ذلك من التعابير.

وهذا التفسير صحيح في أساسه القائل بان علاقة السببية بين تصور اللفظ وتصور المعنى تمتد إلى نفس الإحساس باللفظ على أساس ما بين الإحساس به وتصوره من ربط فتقوم السببية بين الإحساس باللفظ وتصور المعنى مباشرة ، ويصلح هذا التفسير لتبرير الفرق بين الدلالة الآلية للفظ على المعنى ودلالة العلامة على ذي العلامة ، حيث ان تلك تصورية تقوم على أساس التلازم بين تصورين بسبب الأشراط فينسحب الأشراط من تصور المعنى على الإحساس به فيكون الإحساس باللفظ كافيا للانتقال التصوري إلى المعنى ، واما دلالة العلامة على ذيها فتصديقية فلا يكفي مجرد الإحساس بالعمود للتصديق ببلوغ رأس فرسخ ما لم يتحول هذا الإحساس إلى التصديق بأحد طرفي الملازمة المستبطن لتصوره.

ولكن ، هذا التفسير لا يشمل كل الحالات ، إذ في بعض الحالات لا يوجد هناك إحساس سمعي ولا بصري باللفظ ، كما هي الحال فيما إذا لاحظنا الشخص الّذي يتصور الكلام في ذهنه لا السامع ولا القارئ ، فانه ينطلق من تصور اللفظ إلى تصور المعنى لا من الإحساس باللفظ إلى تصور المعنى ، فكيف نفسر المرآتية في هذه الحالة؟

الخامس : ويمكن أن يعتبر بوجه تكميلا للوجه الرابع وتحقيقه : أن الانتقال الذهني إلى المعنى المدلول للفظ على نحوين :

أحدهما : الانتقال الناشئ من تصور اللفظ وإدراكه بوجه من الوجوه وهذا هو


انتقال السامع أو القارئ. والآخر : الانتقال السابق على تصور اللفظ والّذي ينشأ منه الانتقال إلى اللفظ ، وهذا هو انتقال المتكلم ، فانه ينقدح في نفسه أولا المعنى ويقصد تفهيمه ثم ينتقل إلى اللفظ. ولهذا فان المتكلم المطلع على لغتين بصورة متكافئة بعد أن يقصد التفهيم قد يفكر في اختيار إحدى اللغتين ، وقد يبقي يفتش عن اللفظة المناسبة لما يقصده من معنى حتى يجدها ، وهذا يعني ان انتقاله إلى اللفظ في طول انتقاله إلى المعنى.

أما في الانتقال الأول فمرآتية اللفظ مرجعها إلى كونه مغفولا عنه من قبل النّفس وإن كانت صورته موجودة في الذهن ، وذلك : إما لأن الانتقال إلى المعنى كان استجابة للإدراك الحسي للفظ مباشرة بدون توسيط الصورة الذهنية للفظ ـ على ما بيناه في الوجه الرابع ـ واما لأن الانتقال إلى المعنى كان في طول تصور اللفظ واستجابة له ، ولكن اللفظ مع هذا مغفول عنه وتمام توجه النّفس إلى المعنى. ولا يتوهم : أن الصورة الذهنية للفظ موجودة على أي حال وهي حاضرة للنفس بذاتها فما معنى كونها مغفولا عنها؟ فإنه يقال : إن وجود شيء في صقع من صقاع النّفس شيء وتوجه النّفس إليه شيء آخر ، وبهذا يفرق بين العلم الارتكازي والعلم الفعلي. ولا يتوهم : ان الصورة الذهنية للفظ إذا كانت مغفولا عنها وغير متوجه نحوها فكيف ينتقل منها إلى المعنى؟ فانه يقال : ان هذا الانتقال نتيجة الأشراط والاقتران الأكيد ، وهذا يؤدي إلى كون الصورة الذهنية للفظ بوجودها في صقع الذهن مستدعية للصورة الذهنية للمعنى لا بالالتفات إليها والتوجه نحوها ، فما هو طرف الإشراط وبالتالي طرف السببية تكوينا الوجود الذهني للفظ وبعد استتباعه لوجود المعنى ذهنا يمكن للنفس أن تتوجه إلى المعنى ابتداء ، وهذا ما يقع عادة فيقال حينئذ أن اللفظ يلحظ مرآة ؛ أي كما ان الناظر في المرآة على الرغم من أنه يرى المرآة ويرى الصورة معا يغفل عن رؤيته للمرأة ويتوجه إلى رؤيته للصورة ، فكذلك السامع فانه على الرغم من تصوره للفظ والمعنى معا لا يتوجه إلا إلى المعنى ويغفل عن تصوره للفظ ، فالسامع يتراءى له حسب وعليه التفصيليّ وتوجهه الفعلي كأنه لا يواجه إلا المعنى. هذا هو محصل الآلية والانتقال الأول.


وأما في الانتقال الثاني ، أي انتقال المتكلم إلى المعنى الّذي يستتبع الانتقال إلى اللفظ ، فاللفظ مرآتيته هنا أيضا بمعنى كونه مغفولا عنه وكون توجه المتكلم منصبا على المعنى وقصد تفهيمه ، وأما أداة التفهيم التي هي اللفظ فلا يتوجه إليها إلا تبعا ، كما هو الشأن في كل أداة نشأت العادة على استعمالها لأغراض معينة على نحو أصبح استعمالها شبه عمل آلي يمارسه الإنسان شبه ممارسة تلقائية ، فمن اعتاد أن يكتب بالقلم متى قصد الكتابة ـ إذا أراد أن يكتب في وقت ما ـ مد يده إلى القلم وكتب به بدون توجه تفصيلي إلى الأداة وإنما توجهه منصب على ما يكتب وليست الأداة ملتفتا إليها إلا تبعا ، وهذا نحو من الآلية ملحوظ في كل أداة من هذا القبيل.

وعلى هذا الأساس تتضح أمور :

الأول : ان الآلية بالمعنى الّذي ذكرناه في كلا الانتقالين أمر يقتضيه طبع المطلب ولكنها ليست من مقومات عملية تفهيم المعنى باللفظ أو افهام المعنى من اللفظ ، إذ يمكن لكل من المتكلم والسامع أن يتوجه إلى اللفظ وإلى المعنى توجها مستقلا. وتوهم : أن النّفس لبساطتها لا يعقل أن تتوجه إلى شيئين استقلالا في عرض واحد. مدفوع : بأن بساطتها بمعنى لا ينافي ذلك ، ولهذا كانت النّفس تتوجه إلى الموضوع والمحمول استقلالا في مقام عقد القضية في وقت واحد.

الثاني : أن انتقال السامع من اللفظ إلى المعنى يختلف عن انتقال الشخص من ملاحظة العمود إلى معرفة المسافة في أن اللفظ في الانتقال الأول يكون مغفولا عنه عادة بخلاف العمود في الانتقال الثاني ، وذلك لأن الانتقال الأول انتقال تصوري ويمثل التلازم بين تصورين على أساس الأشراط والاقتران المؤكد ، وقانون الاقتران يقتضي أن يكون أحد التصورين بوجوده الذهني سببا للتصور الآخر ، سواء التفت إليه من قبل النّفس بتوجه تفصيلي أو لا ، ويقتضي أن يكون الإحساس المثير لأحد التصورين صالحا لإثارة التصور الآخر مباشرة. وأما الانتقال الثاني فهو انتقال تصديقي ودلالة العلامة على ذيها دلالة تصديقية ، ولهذا لا يكفي الإحساس بها للتصديق بذيها ، فان التصديق بأحد المتلازمين يتوقف على التصديق بالآخر فما لم يتحول الإحساس بالعلامة إلى التصديق بوجودها المساوق حدوثا للالتفات إليها لا يحصل


التصديق بذيها. وهكذا نعرف أن هذه الآلية تختص بالدال التصوري.

وقد يكون من أجل ذلك ـ لا لبعض ما تقدم ـ نفي السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ الآلية والمرآتية على مسلك التعهد ، لأن الدلالة الوضعيّة على هذا المسلك دلالة تصديقية.

الثالث : اتضح مما سبق : أن الآلية والمرآتية في الاستعمال يرجع إلى معنى يقابل التوجه والالتفات من النّفس. وقد يتوهم : تفسيرها بمعنى ملاحظة اللفظ كأنه المعنى ، لا مجرد عدم التوجه إليه بل التوجه إليه بما هو عين المعنى ومندك فيه ، وهذا النحو من الآلية لا موجب لها على ضوء الوجوه السابقة بل غير معقول في المقام. وتحقيق ذلك : أن فناء شيء في شيء واندكاكه فيه ، تارة : يكون بمعنى وجوده بتبع وجوده ، بحيث يكون لكل منهما وجود في العالم الّذي تحقق فيه فناء أحدهما في الآخر غير ان وجود أحدهما وجود تبعي بالإضافة إلى الآخر لكونه محض الربط والتعلق به ، كما يقال في وجود الممكنات بالنسبة إلى الواجب ووجود النسبة بالإضافة إلى طرفيها. وأخرى : يكون بمعنى النّظر إلى الفاني كأنه المفني فيه بحيث يرى المنفي فيه برؤية الفاني ، فليس للمفني فيه وجود في عالم الفناء أصلا وإنما الموجود هو الفاني وفناؤه بمعنى أن التوجه إليه بما انه هو المفني فيه لا بما هو فكأن المفني فيه يرى برؤية الفاني ، وهذا هو سنخ فناء كل عنوان في معنونه. وكل من هذين النحوين غير معقول في اللفظ مع المعنى. أما الأول فواضح ، لأن اللفظ بالإضافة إلى المعنى ليس كالنسبة بالإضافة إلى طرفها. وأما الثاني ؛ فلان تعقل المرآتية بنحو يرى هذا الشيء بما هو الشيء الآخر لا يكفي فيه مجرد اعتبار كون أحدهما عين الآخر ، لأن هذا الاعتبار إنما يجعل ملاحظة الذهن للفظ ملاحظة للمعنى بالاعتبار والعناية لا أن الملاحظ للفظ يرى بوجه ما المعنى حقيقة من خلال اللفظ وان اللفظ يكون فانيا في أفق هذه الرؤية ، بل لا بد لتعقل المرآتية والفناء بهذا النحو بين شيئين أن يكون بينهما نحو وحده واقعية من قبيل الصورة الذهنية مع ذيها والعنوان مع المعنون ، فأنت إذا أحضرت صورة ذهنية للإنسان فهناك في صقع ذهنك تصور ومتصور موجود بنفس ذلك التصور والتصور كيف نفساني وليس إنسانا والمتصور إنسان وليس كيفا وفي هذه الحالة يمكنك أن تلحظ التصور لا بما هو تصور بل بما هو عين المتصور لأن هذه العينية واقعية فترى حينئذ الإنسان لا الصورة ويقال عند


ذاك ان الصورة أخذت مرآة وفانية في المتصور. وقد يتفق ان المتصور نفسه مما لا يصدق على نفسه بالحمل الشائع وإن كان يصدق على نفسه بالحمل الأولي ، فأنت حين تتصور مفهوم الجزئي فتصورك له جزئي حقيقة واما متصورك فهو جزئي بالحمل الأولي ومفهوم كلي بالحمل الشائع والعينية هنا بين الجزئي بحمل والكلي بحمل آخر واقعية ، فقد تلتفت إلى تصورك بما هو كلي وقد تلتفت إليه بما هو جزئي ويقال حينئذ انه قد لوحظ بما هو مرآة لمعنونه فالمرآتية إذن لا تتم بالمعنى المذكور إلا بنحو من العينية الواقعية بين الشيئين ولا يتم ذلك في مثل اللفظ والمعنى الّذي ليس بينهما أي عينية واقعية.

الرابع : من شروط الاستعمال استحضار المستعمل للحيثية المصححة لدلالة اللفظ على المعنى. وتوضيح ذلك : أن الحيثية المصححة في الاستعمال الحقيقي هي الوضع وفي الاستعمال المجازي ، الوضع مع العلاقة. وكأنه لا إشكال عندهم في أن الوضع حيثية تعليلية بحتة ولا يجب استحضارها ، وأما العلاقة فقد ادعي لزوم استحضارها في مقام الاستعمال المجازي ، وبهذا كان هذا الشرط مدعي في نطاق الاستعمالات المجازية لا الحقيقية. وتقريبه : انه بدون ملاحظة هذه العلاقة يكون اللفظ أجنبيا عن المعنى المجازي ولا يكون هناك مبرر لاستعماله فيه ، فالحد الأوسط المبرر للاستعمال هو المعنى الحقيقي فلا بدّ للمستعمل من ملاحظته. والتحقيق : انه لا يلزم ذلك بناء على طريقتنا في تصحيح استعمال اللفظ في المعني المجازي ، إذ عرفنا أن كل لفظ يصح أن يستعمل فيما له صلاحية الدلالة عليه تصورا ، وعرفنا ان اللفظ بقرنه بالمعنى الحقيقي يكسب نفس ما للمعنى من اقترانات وإثارات ولكن بدرجة أضعف فتصبح له صلاحية الدلالة على المعنى المجازي الّذي كان المعنى الحقيقي صالحا للدلالة عليه وإثارته في الذهن. وبهذا نعرف : أن دور المعنى الحقيقي في ربط اللفظ وقرنه بالمعنى المجازي دور الحيثية التعليلية لا التقييدية. وعليه ، فاللفظ بعد وضعه للمعنى الحقيقي وقرنه به يصبح صالحا بدرجة ما للدلالة على المعنى المجازي مباشرة ، ومعه يصح للمستعمل استعمال اللفظ فيه بدون حاجة إلى لحاظ الحيثية التعليلية ، كما هو الحال في الاستعمال الحقيقي بالنسبة إلى لحاظ نفس الوضع. نعم ، لو بني على أن المصحح


لاستعمال اللفظ في معناه المجازي كونه موضوعا بوضع نوعي لما يشابه المعنى الحقيقي اتجه القول بتوقف صحة الاستعمال في المعنى المجازي على ملاحظة المشابهة إذ بدون ذلك لا يكون قد استعمل اللفظ في المعنى الّذي وضع له بالوضع النوعيّ وهو المشابه بما هو مشابه.

الخامس : ما يدعى كونه شرطا للاستعمال عموما من كون اللفظ موضوعا للمعنى المستعمل فيه إما بوضع شخصي ؛ وذلك في الاستعمال الحقيقي ، أو بوضع نوعي ، وذلك في الاستعمال المجازي. وتقوم هذه الدعوى على أساس ان استعمال اللفظ في معنى لا يكفي في صحته مجرد صلاحيته للدلالة عليه بل لا بد من الوضع.

وقد تقدم تحقيق ذلك في نظرية الدلالة على المعنى المجازي ، وأوضحنا انه لا يعتبر ذلك في تصحيح الاستعمال.

مقارنة بين الاستعمال والإيجاد

يمكن ان نلاحظ ـ على ضوء ما تقدم ـ ان الاستعمال عبارة عن الاستعانة بإخطار غير الشيء المقصود افهامه لكي ينتقل من إلى المقصود ، وفي مقابل ذلك قد يستبدل الشخص الاستعمال بطريقة إيجاد نفس المعنى المقصود افهامه بإيجاد المعنى خارجا وإحضاره تحت إحساس السامع كوسيلة الإخطار صورته في الذهن ، وتسمى هذه الدلالة بالدلالة الإيجادية وممارسة ذلك بالإطلاق بالإيجادي وهو يختلف في حقيقته ومميزاته عن الاستعمال ، كما يظهر ضمن النقاط التالية :

١ ـ ان الذهن في الدلالة الحكائية لا ينتقل إلى المعنى مباشرة بل باجتياز صورة ذهنية أخرى كصورة اللفظ التي تنبه الذهن إلى معناه نتيجة الاقتران الوضعي بينهما ، وما في الدلالة الإيجادية فالمعنى يتصور مباشرة وبلا توسيط تصور آخر لكونه قائما على أساس التلازم التكويني بين الإحساس بالشيء وحضور صورته لدى الذهن فلا يحتاج إلى أي عناية جعلية. وبكلمة أخرى : إن الاستجابة الذهنية في الدلالة الإيجادية قائمة على أساس الإحساس بالمنبه الطبيعي ولهذا كانت الدلالة الإيجادية هي الوسيلة الأولية والطبيعية في حياة الإنسان.


٢ ـ انه بالوسيلة الحكائية يمكن إخطار موضوع القضية في ذهن السامع سواء كان كليا أو جزئيا لتعقل كون الحاكي حاكيا عن الكلي تارة وعن الجزئي أخرى ، واما بالوسيلة الإيجادية فلا يعقل إخطار المعنى الكلي بها فإذا كان موضوع القضية كليا استحال إخطاره عن طريق الوسيلة الإيجادية لأن الموجد دائما فرد جزئي ، والكلي وإن كان موجودا بإيجاد فرده ولكنه موجود في ضمنه وجودا تحليليا فيمثل هذا الإيجاد نحصل على صورة في ذهن السامع موازية لما أوجدناه فيكون الكلي موجودا فيها وجودا تحليليا وفي ضمن الخاصّ لا بحده بما هو كلي ، ومن الواضح التباين بين صورة الكلي في ضمن الفرد وصورة الكلي بحده. نعم يمكن جعل الأولي مقدمة إعدادية في ذهن السامع لكي ينتقل منها إلى الثانية ، إلا ان هذا استخدام للوسيلة الحكائية وخلف فرض الاقتصار على الوسيلة الإيجادية لأنه يعني انتقال الذهن من صورة ذهنية إلى صورة ذهنية أخرى وهو معنى الحكاية ـ كما تقدم ـ ومنه أن ينصب قرينة على إلغاء الخصوصية وإرادة الكلي مما أوجده.

٣ ـ إن إفادة قضية بإخطار موضوعها بالوسيلة الإيجادية ومحمولها بالوسيلة الحكائية لا يكفي فيها مجرد معقولية الوسيلة الإيجادية في إخطار المعنى بل لا بد من فرض وسيلة لإخطار النسبة بين الموضوع والمحمول لكي تتم بذلك عناصر القضية في ذهن السامع ، ومن الواضح ان النسبة انما يكون إخطارها بوسيلة حكائية وهي الهيئة وحكاية الهيئة ودلالتها على النسبة فرع الوضع ، فلا بدّ حينئذ من النّظر إلى ان الهيئة المتحصلة من المجموع الملفق من الوسيلة الحكائية والوسيلة الإيجادية هل وضعت للنسبة على حد وضع الهيئة المتحصلة من مجموع الوسيلتين الحكائيتين لذلك أو لا؟

تطبيقات

وعلى ضوء ما تقدم من الشروط العامة للاستعمال وبالمقارنة بين الاستعمال والإطلاق الإيجادي قد يستشكل في تعقل الاستعمال في عدة مواضع.

منها ـ الاستعمال الّذي يوجد به الوضع ، لاختلال الشرط الأول من شروط الاستعمال فيه ، أو لاستلزامه اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي بناء على الشرط


الثالث ، وقد تقدم الكلام عنه في بحث الوضع.

إطلاق اللفظ وإرادة شخصه

ومنها ـ إطلاق اللفظ وإرادة شخصه ، فيقال : انه لا يعقل أن يكون من باب الاستعمال بل يتعين أن يكون من باب الإطلاق الإيجادي.

اما الجزء الأول من هذا المدعى ، فيبرهن عليه تارة ـ على ضوء الشرط الثاني ـ بتقريب : عدم التغاير بين الدال والمدلول والمستعمل والمستعمل فيه مع أن التغاير معتبر. وأخرى ـ على ضوء الشرط الثالث ـ بلزوم اجتماع اللحاظين لأن اللفظ بما هو لفظ دال يلحظ في مقام الاستعمال باللحاظ الآلي تطبيقا للشرط الثالث وبما هو نفس المعنى يلحظ باللحاظ الاستقلالي ويستحيل اجتماع هذين اللحاظين على ملحوظ واحد.

أما البرهان الأول فهو وجيه ، ولا ينفع التغاير الاعتباري والحيثي ـ كما تقدم ـ فلا يتم ما أفاده المحقق الخراسانيّ 1 من أن التغاير الاعتباري والحيثي ـ كاف لتصوير كون اللفظ دالا ومدلولا فهو دال بما هو لفظ صادر ومدلول بما هو مراد (١). إذ يرد عليه : ما تقدم من لزوم التعدد الحقيقي في أمثال المقام. وقد يورد عليه : بأن دلالة اللفظ بوصفه فعلا اختياريا للفظ على الإرادة دلالة عقلية وليست لفظية ، والكلام في تصحيح الدلالة اللفظية بحيث يصدق الاستعمال بنحو من الأنحاء كما أفاده المحقق الأصفهاني (٢). ولكن هذا الإيراد غير واضح ، لأن الظاهر ان مقصود صاحب الكفاية من الإرادة ليس الإرادة التكوينية للمتكلم التي هي من مبادئ الفعل الاختياري ، لوضوح انه لو كان قد خلط بين المدلول العقلي والمدلول اللفظي وتصور ان دلالة اللفظ على الإرادة دلالة لفظية لما توصل بذلك إلى مرامه أيضا ، لأنه بصدد تصوير استعمال اللفظ في شخص نفسه وبهذا الخلط انما يكون اللفظ مستعملا في شيء آخر هو

__________________

(١) كفاية الأصول ج ١ ص ٢٠ ( ط ـ مشكيني )

(٢) نهاية الدراية ج ١ ص ٣٢ ( المطبعة العلمية ـ قم )


الإرادة. فهذا شاهد على أنه لا يقصد بالإرادة ما ذكر بل تقصد الإرادة التفهيمية أو الاستعمالية ، بمعنى أن اللفظ بما هو لفظ أريد به التفهيم دال ، وبما أنه أريد تفهيم نفسه به مدلول.

وأما البرهان الثاني ، فيرد عليه : ما عرفت من أن الشرط الثالث غير تام ، وانه ليس من الضروري أن يكون اللفظ ملحوظا في مقام الاستعمال باللحاظ الآلي. ولو سلم هذا الشرط لكان الفرض المبحوث عنه في نفسه مستحيلا بقطع النّظر عن محذور اجتماع اللحاظين ، لأن فرض الاستعمال هو فرض الآلية وهو مساوق للاثنينية بين الآلة وذي الآلة فمع التعدد يستحيل اللحاظ الآلي وكون الشيء فانيا في نفسه.

واما الجزء الثاني من المدعى ، فالصحيح أن تفسيره على أساس الإيجاد معقول لأنه يتوقف على أمرين كلاهما ثابت ، أحدهما : أن يكون موضوع القضية جزئيا ، لما تقدم من عدم إمكان إحضار الكلي في الذهن بالإيجاد وهذا الشرط حاصل في المقام لأن المراد بحسب الفرض شخص اللفظ لا طبيعيه. والآخر : أن تكون الهيئة المتحصلة من المجموع الملفق من الوسيلة الحكائية ولإيجادية موضوعة للنسبة ، والظاهر ان هذا حاصل أيضا في الموارد التي تكون الوسيلة الإيجادية فيها لفظا ، كما هو الحال في المقام ، لأن الهيئة المتحصلة حينئذ من مثل ( زيد لفظ ) هي نفس الهيئة المتحصلة من مثل ( زيد عالم ) والعرف يفهم النسبة من كلتا الجملتين ، بخلاف الموارد التي تكون الوسيلة الإيجادية فيها متمثلة في فعل لا لفظ ، كما لو ضرب شخص الحائط وقال ( ضرب ) فان الهيئة المتحصلة من المجموع المركب من ضرب الحائط خارجا وكلمة ( ضرب ) مباينة سنخا للهيئة المعهودة دلالتها على النسبة ، ولهذا كان بالإمكان منع وضعها لإفادة النسبة.

وبهذا يتضح الجواب على ما أورده المحقق الأصفهاني 1 على تصحيح هذا الإطلاق من باب الإيجاد بالنقض بمثل إيجاد الضرب خارجا وتشكيل القضية من ضم ذلك إلى لفظ دال على المحمول (١) فان هذا النقض مندفع : بأن عدم صحة

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٣٣ ( المطبعة العلمية ـ قم )


تشكيل القضية في مورد النقض لو سلم ليس ناشئا من عدم تعقل الوسيلة الإيجادية بل من عدم كون الهيئة في مورد النقض موضوعة لإفادة النسبة ، بخلاف الهيئة في المقام.

وهذا هو الجواب على النقض لا ما قد يقال ـ كما عن المحقق العراقي ـ من أن اعتياد الإنسان على الانتقال من الألفاظ لا من الأفعال هو نكتة الفرق (١) لأن الانتقال من الإحساس بشيء إلى تصور نفس ذلك الشيء أمر لا يختص بالألفاظ كما هو واضح ، واما الانتقال إلى أمر آخر من باب الحكاية فهو وإن كان مختصا باب الألفاظ إلا أن المطلوب في المقام ليس ذلك بل الانتقال إلى نفس ما أوجد.

إطلاق اللفظ وإرادة نوعه

ومنها ـ إطلاق اللفظ وإرادة نوعه وصنفه ومثله ، وقد قيل ان الأول من صغريات الوسيلة الإيجادية بل ادعى السيد الأستاذ ( دام ظله ) ان الإطلاقات الثلاثة كلها من هذا القبيل ولا معنى لجعلها من باب الاستعمال والحكاية ، لأن التوصل بالحاكي إنما هو في فرض لا يكون نفس المقصود حاضرا فيه وفي هذه الموارد يكون نفس المقصود حاضرا وموجدا وهو كلي ( ضرب ) مثلا بإيجاد فرده ، غاية الأمر : أن المقصود إذا كان هو النوع على إطلاقه اقتصر المتكلم على إيجاد فرده ، وإن كان المقصود حصة خاصة منه أتى بالحرف للدلالة على التحصيص والتضييق فيقول مثلا ( ضرب في ضرب زيد فعل متصل بفاعله ) (٢).

ولكن ، قد اتضح ـ على ضوء ما تقدم من المقارنة العامة بين الاستعمال والإيجاد ـ عدم إمكان تخريج هذه الإطلاقات على أساس الإيجاد ، لما مضى من أن الموضوع إذا كان كليا فيستحيل إحضاره في ذهن السامع بالوسيلة الإيجادية. ولا معنى لما أفيد من كون الموضوع موجدا بنفسه والحرف دال على التضييق في موارد إرادة الصنف أو المثل ، لأن ما هو المضيق إن كان هو ( ضرب ) بوجوده الخارجي فبطلانه واضح ، إذ

__________________

(١) بدائع الأفكار ج ١ ص ٩١

(٢) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١٠٦


الوجود الخارجي لا يقبل الإطلاق والتقييد ، وإن كان المضيق هو المفهوم المقصود تفهيمه بذلك الوجود رجع إلى باب الاستعمال والحكاية. فالمتعين إذن تنزيل هذه الإطلاقات على الاستعمال.

وقد يستشكل في تنزيلها على الاستعمال ، تارة : بلزوم اتحاد الدال والمدلول باعتبار ان اللفظ بنفسه مصداق لنوعه فلو استعمل في النوع كان دالا ومدلولا. وأخرى : بأن الاستعمال بحاجة إلى مناسبة بين اللفظ والمعنى ليستعمل أحدهما في الآخر ولا مناسبة بين الشخص بما هو شخص والنوع لأن خصوصية الشخص مباينة للنوع.

والجواب : أما عن الأول ، فبأن كونه مصداقا للمدلول لا يساوق كونه هو المدلول بالذات ، والتقابل الآبي عن التصادق إنما هو بين الدال والمدلول بالذات ، وإلا فما أكثر ما يكون نفس الدال مصداقا لمدلوله ، كما في كلمة ولفظ ونحو ذلك. وإن شئت قلت : أن المدلولية بالذات تقف على نفس المفهوم ولا تسري إلى كل مصداق من مصاديقه ليلزم اجتماع الدال والمدلول في المصداق. واما عن الثاني ، فبأن اشتمال الفرد على حصة من الطبيعي يكفي مناسبة عرفية لجعله أداة للانتقال إلى الطبيعي.

استعمال اللفظ في أكثر من معنى

ومنها ـ استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، فقد وقع البحث في إمكانه وذهب جملة من المحققين إلى امتناعه على ضوء الشروط المتقدمة للاستعمال وذهب جماعة إلى إمكانه مع مخالفته للقواعد العربية ومساوقته للتجوز إما مطلقا أو في خصوص المفرد.

وتحقيق الكلام في هذه المسألة يقع في جهات.

المراد من تعدد المعنى

الجهة الأولى : في تحرير النزاع. وتوضيحه : ان ضابط هذا الاستعمال المبحوث عن جوازه وعدمه أن يكون كل من المعنيين مستقلا في مقام تعلق الإرادة الاستعمالية به ، بمعنى أن يقصد تفهيمه بما هو باللفظ لا بما هو في ضمن معنى آخر أو بما هو


فرد لمعنى آخر ، فالاستقلال المقصود هو الاستقلال الاستعمالي لا الحكمي ، فقد يقصد تفهيم معنى بما هو باللفظ وكذلك المعنى الآخر إلا أن المحمول الّذي يحكم به عليهما واحد ثابت لمجموع المعنيين ، وقد يقصد تفهيم المجموع من المعنيين باستعمال اللفظ في المجموع ويكون كل منهما موضوعا مستقلا للحكم إذ لا ملازمة بين الاستقلال الاستعمالي والحكمي. وقد ذهب بعض المحققين ـ على أن ما في حاشية المحقق الأصفهاني ( قده ) (١) إلى التلازم بين الأمرين ويظهر منه ان السر في هذا التلازم هو ان الحكم الاستقلالي شأنه التعلق بالمعنى الملحوظ في مقام الاستعمال فإذا كان المعنى ملحوظا ضمنيا في مقام الاستعمال فالحكم يثبت له بما هو ضمني أيضا والعكس صحيح ، ولا يمكن مع ملاحظته في الضمن استعماليا أن يتعلق الحكم به مستقلا إلا بإبطال اللحاظ الاستعمالي وإحداث لحاظ جديد ، وهو خلاف الوجدان. والتحقيق في حل هذه الشبهة أن يقال : ان الحكم وإن كان يتعلق بالمعنى الملحوظ باللحاظ الاستعمالي لا بمعنى ملحوظ بلحاظ آخر وإلا لم يكن متعلقا بالمعنى المستعمل فيه إلا أن اللحاظ الّذي تقتضيه الإرادة الاستعمالية الضمنية له لا يأبى عن تعلق الحكم الاستقلالي به ، وذلك لأن لفظ ( عين ) مثلا موضوع لطبيعي العين الجارية ولطبيعي العين الباكية والمعنى في كل منهما هو الجامع بين المقيد بكونه في ضمن مركب والمطلق وليس المراد بكون المعنى ضمنيا في مقام تعلق الإرادة الاستعمالية إرادة الحصة الأولى منه كما انه ليس المراد باستقلاليته في هذا المقام إرادة الحصة الثانية منه بل المراد الاستعمالي سواء كان ضمنيا أو استقلاليا هو الطبيعة بنحو جامع بين المقيد والمطلق ، إلا ان هذه الطبيعة الجامعة تارة : بقصد تفهيمها بالخصوص باللفظ ، وهو معنى استقلالها في الإرادة الاستعمالية. وأخرى : يقصد تفهيمها بأن تعتبر جزءا من مجموع الطبيعتين الجامعتين بين المطلق والمقيد ويقصد تفهيمها بما انها في ضمن المجموع ، وعلى كل من التقديرين فالمراد جدا منه الّذي هو مصب الحكم تارة : يكون هو الحصة المطلقة ، وأخرى : الحصة الخاصة ؛ فعلى الأول يكون الحكم استقلاليا سواء كان الاستعمال

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٨٦ ( المطبعة العلمية ـ قم )


استقلاليا أو لا ، وعلى الثاني يكون الحكم ضمنيا على التقديرين ، فمنشأ الإشكال توهم : أن المقصود بإرادة المعنى استقلالا لا ضمنا في مقام الاستعمال إرادة المطلق في مقابل المقيد ، مع أن المقصود إرادة تفهيم الجامع بين المطلق والمقيد بنفسه ، وتوهم : ان المقصود بإرادة المعنى ضمنا في مقام الاستعمال إرادة المقيد ، مع أن المقصود إرادة تفهيم الجامع بين المطلق والمقيد ولكن في ضمن تفهيم مجموع جامعين من هذا القبيل وفي هذه الحالة قد يكون المراد الجدي هو المطلق وقد يكون هو المقيد.

إمكان استعمال المفرد في أكثر من معنى

الجهة الثانية : في إمكان استعمال اللفظ المفرد في أكثر من معنى وامتناعه وقد ادعي الامتناع وقرب بعدة وجوه :

الأول : استلزامه صدور الكثير من الواحد ، إما بتقريب منسوب إلى المحقق النائيني ( قده ) من أن النّفس باعتبار بساطتها يمتنع في حقها أن تلحظ معنيين مستقلين في آن واحد ، والاستعمال في أكثر من معنى يستدعي ذلك إذ بدونه يفقد الاستعمال أهم مقوماته وهو اللحاظ (١).

وإما بتقريب أشار إليه المحقق العراقي ( قده ) من أن استعمال اللفظ في معنيين مرجعه إلى كون اللفظ مقتضيا لإيجاد انفهامين في ذهن السامع ، مع أنه لا يمكن ترتب الفهمين على مقتض واحد حذرا من توارد المعلولين على علة واحدة (٢).

اما التقريب الأول ، فيرد عليه : ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) (٣) وغيره من اقتدار النّفس على انتقالات وتصورات متعددة في آن واحد ولا ينافي ذلك بساطتها كما هو محقق في محله ، ومما يدل على ذلك أن تصورات أجزاء القضية لا بد من اجتماعها كلها في زمان إيقاع النسبة والحكم بل ان تصور اللفظ وتصور المعنى متزامنان دائما وهما وجودان ذهنيان.

__________________

(١) راجع محاضرات أصول الفقه ج ١ ص ٢١٧

(٢) مقالات الأصول ج ١ ص ٤٨

(٣) راجع نهاية الدراية ج ١ ص ٨٥


واما التقريب الثاني ، فيرد عليه : أن اللفظ بلحاظ كل من الوضعين يكتسب حيثية قرن مؤكد مغايرة للحيثية التي يكتسبها بتوسط الوضع الآخر ويمكن أن نعبر عنها بالألفة الذهنية بين صورة اللفظ والمعنى الحاصلة ببركة القرن الخارجي بينهما ، وهو بلحاظ كل من الحيثيتين يكون سببا في إيجاد معنى خاص ، فلا يلزم صدور الكثير من الواحد بلا حاجة إلى التخلص عن المحذور بتكثير السبب عن طريق ضم القرينة ـ كما في مقالات المحق العراقي ـ هذا ، على أن البيان المذكور لو تم لاقتضى استحالة ترتب انفهامين في ذهن السامع على اللفظ لا استحالة استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، لأن الاستعمال لا يتقوم بفعلية الانفهام بل بشأنيته في نفسه ، ولهذا قد يكون المستعمل في مقام الإجمال.

الثاني : ما جاء في كلمات صاحب الكفاية 1 (١) ومرجعه إلى الاستناد إلى الشرط الثالث لإثبات الامتناع ، إما بتقريب : ان الاستعمال ـ كما تقرر في الشرط الثالث ـ عبارة عن إفناء اللفظ في معناه بنحو يكون اللفظ ملحوظا باللحاظ الآلي ومرآة للمعنى ، ويستحيل وحدة الفاني مع تعدد المفني فيه في عالم اللحاظ ، لأن الفناء يستدعي العينية في التصور واللحاظ وهو خلف التعدد. وبكلمة أخرى : مع فنائه في أحد المعنيين فأي وجود يبقى له لكي يفرض فناؤه في المعنى الآخر. وإما بتقريب : أشار إليه المحقق العراقي 1 في مقالاته من أنه بناء على أن اللفظ يلحظ في مقام الاستعمال لحاظا آليا يلزم في حالة استعمال اللفظ في أكثر من معنى اجتماع لحاظين على ملحوظ واحد وهو اللفظ ، لأن كلا من المعنيين ملحوظ باللحاظ الاستقلالي وكل من هذين اللحاظين يصل إلى المعنى بتوسط اللفظ ومرورا منه إليه كما هو معنى الآلية ، وهو يعني مرور لحاظين من اللفظ إلى المعنيين في وقت واحد ، وهو معنى لزوم اجتماع لحاظين آليين على اللفظ في استعمال واحد وهو غير معقول. وهذا بخلاف ما إذا أنكرنا الآلية في مقام الاستعمال فان اللفظ حينئذ يكون ملحوظا

__________________

(١) كفاية الأصول ج ١ ص ٥٤ ( ط ـ مشكيني )


بلحاظ استقلالي ويكفي فرد واحد من هذا اللحاظ لإفادة كل من المعنيين (١).

ويرد على التقريب الأول : أن آلية اللفظ ذهنا في عالم اللحاظ المدعاة شرطا ثانيا فيما تقدم إن أريد بها الآلية بالمعنى المقابل لتوجه النّفس والتفاتها تفصيلا إلى الشيء ، بمعنى أن الألفاظ تستعمل استعمالا أداتيا مع الغفلة عنها عادة ، فهذه ظاهرة عامة في عالم الاستعمال ولكنها ليست مقومة لعملية الاستعمال ذاتا ـ كما عرفت ـ ولا تستدعي امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، لأن مجرد عدم التوجه إلى اللفظ كما يلائم مع استخدامه أداة لتفهيم معنى واحد كذلك يلائم مع استخدامه أداة لتفهيم معنيين ، ولا يخرج بذلك عن كونه أداة اعتاد الإنسان على استخدامها والنّظر إليها تبعا. وإن أريد بالآلية ملاحظة اللفظ فانيا في المعنى وكأنه المعنى بحيث يرى المعنى برؤية اللفظ فهي على فرض ثبوتها في الاستعمال توجب امتناع الاستعمال في أكثر من معنى ولكن هذا المعنى من الآلية غير معقول في المقام ـ كما تقدم ـ.

ويرد على التقريب الثاني : ان اللحاظ الآلي للفظ في مقام الاستعمال ليس معناه ان لحاظا واحدا يعبر من اللفظ إلى المعنى فيكون لحاظا استقلاليا للمعنى باعتبار استقراره عليه ولحاظا آليا للفظ باعتبار استطراقه منه ليلزم محذور عبور لحاظين عن اللفظ ، بل معناه ـ على ما تقدم ـ ان اللفظ ملحوظ بلحاظ وموجود في الذهن بوجود ، ولكنه ليس محطا للتوجه والالتفات من قبل النّفس بحكم العادة التي تجعل المعتاد يستعمل الأداة فيما أعدت له من دون توجه إليها بالفعل ، وقد عرفت أن الوجود الذهني أعم من التوجه والالتفات. وعليه ، فلا يلزم من استعمال اللفظ استعمالا أداتيا لتفهيم معنيين اجتماع لحاظين آليين عليه.

الثالث : ما جاء في كلمات المحقق الأصفهاني 1 تارة بتقريب : أن الاستعمال المذكور يقتضي صيرورة اللفظ وجودا تنزيليا لكل من المعنيين ، ومع كون الوجود الحقيقي واحدا فليس هناك أمران حقيقيان لينزل كل منهما منزلة معنى. وأخرى بتقريب : ان استقلال كل من المعنيين في مقام الاستعمال الّذي هو المفروض

__________________

(١) راجع مقالات الأصول ج ١ ص ٤٨


معناه استقلاله في الإيجاد التنزيلي لأن الاستعمال عين الإيجاد كذلك ، والاستقلال بالإيجاد التنزيلي يستدعي الاستقلال بالوجود التنزيلي لأن الإيجاد عن الوجود ، والاستقلال بالوجود التنزيلي يقتضي الاستقلال بالوجود اللفظي الحقيقي لأن الوجود التنزيلي للمعنى عين الوجود الحقيقي للفظ ، فالاستقلال في أحدهما مساوق للاستقلال في الآخر.

ويرد على التقريب الأول : وضوح أن تعدد المنزل عليه لا يستدعي تعدد المنزل إذ يمكن أن يكون الوجود الواحد منزلا منزلة أمور متعددة بتنزيلات متعددة فلا نحتاج إلى وجود حقيقي آخر لينزل منزلة المعنى الآخر ، ولو لا ذلك لسرى الإشكال إلى أصل وضع اللفظ للمعنيين ولم يختص الإشكال باستعماله فيهما ، فإذا صح في مقام الوضع تنزيل اللفظ الواحد بتنزيلين بإزاء معنيين لم يكن ما يمنع من إخراج كل من التنزيلين عن القوة إلى الفعل.

وأما التقريب الثاني ، فيرد عليه : أولا : ما يشترك فيه البيانان ، من أنه إن أريد بكون الاستعمال إيجاد المعنى باللفظ تنزيلا كون اللفظ أداة لإيجاد المعنى ومرآة له في مقام الاستعمال فلا يمكن أن يكون كذلك بالنسبة إلى معنيين وإلا لزم فناؤه في اثنين أو اجتماع اللحاظين ، رجع إلى الوجه السابق وإن أريد بذلك مجرد اعتبار ان اللفظ عين المعنى كما يعتبر الطواف بالبيت صلاة مثلا فليس هذا حقيقة الاستعمال.

وثانيا : ان الاستقلال في الإيجاد التنزيلي وإن كان يقتضي الاستقلال في الوجود التنزيلي ، إلا ان هذا لا يقتضي الاستقلال في الوجود الحقيقي ، إذ المراد باستقلال وجود ما استقلاله في عالم ثبوته وموطن تحققه ، وهو بالنسبة إلى الوجود التنزيلي عالم الاعتبار أو ما يشبه ، فلا بدّ من استقلاله في هذا العالم ، بمعنى انه لا بد أن يكون كل من المعنيين إيجادا مستقلا في عالم الاعتبار ووجودا مستقلا كذلك ؛ وهذا حاصل في المقام ولا يلازم مع استقلال كل منهما بالوجود في عالم الخارج.


صحة استعمال المفرد في أكثر من معنى

الجهة الثالثة : بعد الفراغ عن عدم الامتناع يتكلم عن صحة استعمال اللفظ المفرد في أكثر من معنى على وجه الحقيقة وعدمها ، فقد يقال : ان في الاستعمال المذكور إخلالا بقيد الوحدة المأخوذ في مقام الوضع وتقريب ذلك بوجهين : أحدهما : ان يدعى ان قيد الوحدة مأخوذ في المعنى الموضوع له. والآخر : أن يدعى انه دخيل في غرض الواضع ولم يؤخذ قيدا في المعنى الموضوع له لاستحالة تقييده به ، ولما كان دخيلا في الغرض امتنع إطلاق المعنى الموضوع له ، من قبيل قصد امتثال الأمر في العبادات ؛ ولزم التقيد به في مقام الاستعمال الجاري على طبق الوضع.

أما الوجه الأول ، فيرد عليه : أن الوحدة المدعى أخذها في المعنى الموضوع له إن كانت بمعنى الوحدة الذاتيّة المساوقة لشيئية الشيء في مقابل كون الشيء اثنين ، فمن الواضح انها محفوظة في موارد استعمال اللفظ في أكثر من معنى. وإن كانت بمعنى الوحدة اللحاظية الاستغراقية ، أي أن يكون ملحوظا باللحاظ الاستقلالي لا الضمني في مقام الاستعمال ، فهذا اللحاظ الاستعمالي لو تعقلنا أخذه في المعنى الموضوع له ـ على بحث تقدم في مسألة تبعية الدلالة للإرادة ـ فهو محفوظ في المقام ، لأن المفروض ملاحظة كل من المعنيين بلحاظ استقلالي في مقام الاستعمال لا ملاحظة مجموع المعنيين شيئا واحدا مركبا ، وإلا كان من استعمال اللفظ في المعنى الواحد وإن كانت بمعنى نفي ثبوت لحاظ للمعنى الآخر في مقام الاستعمال ؛ فهذا أمر لا يعقل أخذه قيدا في المعنى الموضوع له ، لأن المراد به ليس مفهوم عدم اللحاظ الآخر بل واقعة مع انك عرفت ان طرفي العلقة الوضعيّة يجب أن يكونا مفهومين وتصورين ولا يعقل أن يكون أحد الطرفين أمرا وجوديا لأن الانتقال الوضعي انتقال تصوري بحث. وهذا هو الجواب الصحيح لا ما أفاده المحقق العراقي ( قده ) وغيره من ان الوحدة اللحاظية في مقام الاستعمال من مقومات الاستعمال فلا يعقل أخذها في المعنى المستعمل فيه السابق


رتبة على الاستعمال (١) إذ يرد عليه : ان مرجع هذه الوحدة إلى تقييد كل من المعنيين بعدم لحاظ المعنى الآخر لحاظا استعماليا ، ومن الواضح أن ما هو في طول كل من المعنيين اللحاظ الاستعمالي المقوم للاستعمال فيه لا اللحاظ الاستعمالي المقوم للاستعمال في المعنى الآخر فضلا عن عدم ذلك اللحاظ فلا يلزم من أخذ الوحدة اللحاظية بهذا المعنى أخذ المتأخر في مرتبة متقدمة.

وأما الوجه الثاني ، فيرد عليه : أن ضيق غرض الواضع لا يوجب ضيق نفس العلقة الوضعيّة حتى لو سلم ذلك في باب الأوامر وان ضيق غرض المولى في باب العبادة يوجب ضيقا في متعلق الأمر وعدم إطلاقه ، وذلك لما أوضحناه من أن العلقة الوضعيّة أمر واقعي مترتب على الوضع ترتب المعلول على علته وليس حالها مع الوضع حال المجعول بالنسبة إلى جعله ، فمهما كان الغرض ضيقا يؤدي الوضع دوره كسبب لقرن أكيد بين اللفظ والمعنى ، وهذا القرن هو ملاك الانتقال والدلالة.

ثم إن ما ذكرناه انما نقصد به نفي خروج الاستعمال في أكثر من معنى عن قانون الوضع ، ولكنا نسلم في الوقت نفسه بأنه خلاف القانون العرفي للمحاورة ، وبمعنى انه على خلاف الظهور العرفي ، ولهذا لا يبني العقلاء على التمسك بأصالة الحقيقة لإثبات استعمال المشترك في كلا معنييه. ونكتة ذلك ظهور حال المتكلم في التطابق وعلاقة واحد بواحد بين عالم اللفظ والإثبات وعالم المقصود والمراد ، فان مقتضى التطابق أن يكون بإزاء كل جزء من الكلام جزء من المعنى لا جزءان.

استعمال المثنى والجمع في أكثر من معنى

الجهة الرابعة : ان من سلك مسلك قيد الوحدة في إبطال استعمال اللفظ في أكثر من معنى قد استثنى من ذلك المثنى والجمع ، وذكر انه لا بأس بأن يراد بعينين عين جارية وأخرى باكية ، بتخيل ان الألف والنون في المثنى دال على إرادة المعنيين من المدخول فلا محذور.

__________________

(١) مقالات الأصول ج ١ ص ٤٩


والتحقيق : أن تخريج إرادة معنيين من المثنى كذلك لا يمكن تصوره إذا فرض ان المثنى دال على مفاده بنحو تعدد الدال والمدلول مادة وهيئة بمعنى ان المادة تدل على الطبيعة التي وضع لها اللفظ وهيئة المثنى تدل على المتعدد منه ، فانه على هذا إن كانت المادة مستعملة في معنى واحد فلا يعقل استفادة المعنى الآخر من التثنية بعد فرض ان مدلولها ليس إلا تكثير مدلول المادة ، وإن كانت المادة مستعملة في معنيين لزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى وكان هذا التكثير مستفادا من نفس المادة ، فكان لا بد لإعمال التثنية من أن يراد المتكرر من كل من المعنيين وبذلك يلزم استعمال اللفظ ، في أكثر من معنى على مستوى المادة ومستوى الهيئة معا. وقد يتوهم : ان محذور استعمال اللفظ في أكثر من معنى في هذا الفرض انما يلزم في المادة لا في الهيئة لأن الهيئة لم تستعمل إلا في معناها وهو إفادة المتعدد من مدخولها ، غاية الأمر ان مدخولها أصبح ذا معنيين ، فهو من قبيل تثنية ما يكون متعددا بنفسه كالعشرة ، فان دلالة عشرتين على عشرين ليس من استعمال هيئة المثنى في أكثر من معنى (١). والجواب على هذا التوهم : أن هيئة المثنى موضوعة لإفادة المتعدد من مدلول المادة المدخولة لها وفي الحالة المذكورة إن استعملت المادة في مجموع المعنيين على نحو كان المجموع مدلولا واحدا لها لم يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى على مستوى المادة أصلا وهو خلف المفروض ، وإن استعملت المادة في كل من المعنيين على استقلاله فهذا يعني ان لفظ المادة له مدلولان مستقلان ، والهيئة موضوعة بنحو الوضع العام والموضوع له الخاصّ لإفادة المتعدد من مدلول المادة ، وحيث ان للمادة مدلولين فلا محالة يكون للهيئة مدلولان : أحدهما المتعدد من هذا المدلول ، والآخر المتعدد من ذلك المدلول ، وأين هذا من تثنية العشرة التي لم تستعمل مادتها إلا في مدلول واحد.

وهذا واضح ، غير ان الكلام يقع في الأصل الموضوعي له وهو ان تكون إفادة المثنى لمعناه على نحو تعدد الدال والمدلول. إذ قد يقال : بأن هذا لا يتم في بعض موارد المثنى الخاصة ـ كما في تثنية الأعلام الشخصية ـ إذ ليس المعنى الموضوع له لفظ المادة كليا

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٢٢٣


قابلا للتكثير بهيئة المثنى ، وكذلك الحال في تثنية اسم الإشارة. ويمكن أن تصور طريقة إفادة المثنى لمعناه في هذه الموارد الخاصة بأحد وجوه :

الأول : أن يقال بأن المثنى دال على مفاده بنحو تعدد الدال والمدلول غير ان مدلول المادة هو المسمى والتثنية تدل على إرادة كلا المعنيين باعتبارهما فردين من مفهوم المسمى. والطريقة نفسها يمكن تطبيقها على أسماء الأجناس المشتركة فيستفاد من مثناها كلا المعنيين بلا لزوم محذور سوى تأويل المادة وحملها على المسمى.

ويرد عليه : أولا : أنه إن كان مستساغا في أسماء الأجناس فهو بعيد في تثنية الأعلام الشخصية ، لأن لازم حمل المادة على المسمى تنكير اللفظ وإخراجه عن العلمية فيكون ( زيدان ) في قوة قولنا ( اثنان ممن يسمى بزيد ) مع ان المرتكز التعامل مع زيدين تعامل الأعلام.

وثانيا : انه لا يستساغ في تثنية اسم الإشارة ، إذ لا معنى عرفا لاستعمال مادته في كلي المشار إليه. وقد يعالج ذلك ـ كما في مقالات المحقق العراقي بأن تكون تثنية اسم الإشارة بلحاظ المعنى الكلي لمادتها ، وهو كلي المفرد المذكر بالنسبة إلى كلمة هذا مثلا في الرتبة السابقة على تعينه بطرو الإشارة عليه ، فالإشارة تطرأ عليه في طول إفادة تعدده وتكرره لا ان إفادة التعدد في طول الإشارة ليقال انه لا يقبل التعدد بعد صيرورته جزئيا متعينا بالإشارة (١) ولكن يبقى السؤال حينئذ عما يكون دالا على الإشارة ، فان كان هو المادة فهذا خلف ، لأن أخذ الإشارة في مدلولها بنحو من الأنحاء يوجب تعينه وعدم صلاحيته للتكرر ، وإن كان هو هيئة التثنية فهذا يعني ان هيئة التثنية في خصوص اسم الإشارة لها وضع خاص ، فلم ينجح هذا البيان في تفسير الوضع النوعيّ لهيئة المثنى على نحو تعدد الدال والمدلول.

الثاني : أن يقال بأن المثنى دال على مفاده بنحو تعدد الدال والمدلول ومدلول المادة هو أحد المعنيين ، وذلك أن اللفظ بعد وضعه لهذا المعنى ووضعه لذاك أصبحت له قابلية الدلالة على كل منهما تعيينا ـ كما هو شأن المشترك ـ ولكن دلالته الفعلية عند

__________________

(١) مقالات الأصول ج ١ ص ٥٠


إطلاقه بلا قرينة انما هي على أحدهما على نحو الترديد. والمراد بذلك ليس مفهوم أحدهما بل نحو من التذبذب بين المعنيين وعدم الاستقرار يعبر عنه عرفا بأن اللفظ يدل على أحدهما ، وهذه دلالة ناشئة من مجموع الوضعين فهي دلالة حقيقة ، وتكون هيئة التثنية دالة على المتعدد من هذا المدلول فيؤدي إلى نفس نتيجة التقريب السابق لكن مع مزيتين : إحداهما : ان مدلول المادة هناك مفهوم المسمى وهو معنى مجازي للفظ ، بخلافه في المقام. والأخرى : أنه لا يرد هنا لزوم خروج العلم بالتثنية عن العلمية ، لأن أحدهما بهذا المعنى لا يخرج اللفظ عن العلمية ، ولا يجعل مدلوله مفهوما كليا كمفهوم المسمى ، ولا عدم إمكان تفسير التثنية في اسم الإشارة كما في ( هذين ) فان المادة هنا مستعملة في الفرد المشار إليه ولكن على وجه الترديد ، فمن حيث انه فرد لم يخرج اسم الإشارة عن طبعه كمعرفة دالة على المعين ، ومن حيث انه مردد قابل للتكثير والتثنية بالهيئة ؛ ولا يلزم في تصوير هذا الوجه أن يكون الفرد المردد معقولا واقعا بل يكفي أن يكون معقولا عرفا وبحسب الفهم اللغوي العام ، وإذا كان معقولا عرفا أمكن تطبيقه على موارد تثنية الأعلام وأسماء الإشارة ـ وكذلك أسماء الأجناس ـ على نحو يستفاد من مثناها المتعدد من المعنى.

ويمكن أن يلاحظ على هذا الوجه : بأن التذبذب بين المدلولين في المادة إنما يتعقل على مستوى المدلول التصديقي لا على مستوى المدلول التصوري ، إذ لا معنى للتذبذب في التصور. وعلى هذا فالمدلول المتحصل من ذلك التذبذب المعبر عنه بأحد المعنيين إنما هو تصديقي لا تصوري ، فيلزم من ربط مدلول هيئة التثنية به إناطته بالمدلول التصديقي ؛ مع انه لا بد من انحفاظ معنى للهيئة المذكورة في مرحلة المدلول التصوري البحث للكلمة.

الثالث : أن يقال بأن المادة في المثنى غير مستعملة في معنى ، بل الهيئة مستعملة في إفادة تكرار لفظ المادة ، فبدلا عن أن يقول « عين وعين » يقول « عينين ». ويريد بذلك إخطار تصور عين وعين قاصدا بهما افهام المعنيين.

وهذا التصوير ينطبق على التثنية في الاعلام وأسماء الإشارة من دون ورود إشكال ، وعلى أسماء الأجناس أيضا بنحو يمكن أن يستفاد من مثناها المتعدد من المعنى تارة ، والمتعدد من الأفراد لمعنى واحد تارة أخرى على نحو تعدد الدال والمدلول.


وقد يعمق هذا التقريب ـ كما في كلمات المحقق الأصفهاني 1 بأن يصور على نحو يرجع إلى استعمال المادة في معنى بأن يقال : ان المادة تستعمل في طبيعي اللفظ من باب استعمال اللفظ في نوعه ولكن لا فيه بما أنه لفظ بل بما له من المعنى ، فالمعنى لم تستعمل فيه المادة بل استعملت في نوع اللفظ المتضمن للمعنى ، وهيئة المثنى تدل على إرادة فردين من طبيعي لفظ المفرد بما انهما دالان على معنييهما ، فقد تحفظنا بهذا على كون المادة مستعملة في شيء وعلى دلالة الهيئة على تعدد ما أريد من المادة (١). ويرد على هذا التعميق : ان استعمال المادة في طبيعي اللفظ بما له من المعنى تارة : يراد به ان الدلالة على المعنى بما هي مفهوم تلحظ قيدا لطبيعي اللفظ ، وأخرى : يراد به تقييد طبيعي اللفظ بواقع الدلالة على المعنى. اما الأول ، فواضح البطلان. لأن مفهوم الدلالة على المعنى لا ينسبق إلى الذهن من قولنا ( زيدان ) مضافا : إلى أن انسباقه لا يساوق انسباق واقع معنى اللفظ. وأما الثاني ، فلأن هذا قيد واقعي لا مفهومي ، ولا يعقل تقيد المعنى المستعمل فيه بقيد واقعي ، لأن الانتقال من اللفظ إلى المعنى المستعمل فيه تصوري والانتقال التصوري انما يكون بين مفهومين تصوريين.

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٩٣



المبحث الثالث



علامات الحقيقة وتشخيص المعنى

ذكر لتشخيص المعنى الموضوع له اللفظ علامات ثلاث :

١ ـ التبادر

٢ ـ صحة الحمل

٣ ـ الاطراد

وفيما يلي نبحث عن كل واحدة منها تباعا ، ونعقب عليها بالبحث في تعارض الأحوال.

علامية التبادر

يراد بالتبادر انسباق معنى معنى إلى الذهن عند إطلاقه.

وتقريب علاميته للمعنى الموضوع له : أن انسباق المعنى إلى الذهن من اللفظ له علتان الوضع والقرينة ، فمع عدم القرينة يكشف الانسباق كشفا إنيا عن الوضع.

وقد اعترض عليه : بالدور من أجل توقف التبادر على العلم بالوضع فلو نشأ العلم من التبادر لزم الدور.

وقد أجيب عن هذا الدور بوجوده :


منها ـ ما نقله المحقق الأصفهاني ( قده ) عن صاحب الحجة : من أن التبادر ليس معلولا للعلم بالوضع بل لنفس الوضع ومن مقتضياته ، ولذا يكشف عنه إنا ، والعلم بالوضع إنما هو شرط في تأثير الاقتضاء الثابت للوضع في التبادر (١).

وهذا الجواب في غاية الغرابة ، لأنه لو سلم لوقع الدور أيضا في ناحية الشرط لتوقف التبادر على العلم بالوضع باعتباره شرطا وتوقف العلم على التبادر باعتباره علامة. إلا ان المحقق الأصفهاني لم يكتف بهذا بل أراد إثبات ما ينكره ذاك ، فادعى ان التبادر معلول للعلم بالوضع لأن المعنى واللفظ بينهما ملازمة متمثلة في الجعل الوضعي ، وإدراك اللازم والعلم به معلول دائما للعلم بالملازمة لا للعلم بالملزوم وإلا لزم أن يكون كل من العلم. باللازم والعلم بالملزوم صالحا لعلية الآخر ، وعليه فإدراك المعنى معلول للعلم بالوضع.

ويرد على ما أفاده المحقق الأصفهاني : أنا إذا قسنا الملازمة الجعلية الوضعيّة بالملازمات الواقعية وطبقنا عليها القانون الّذي ادعاه 1 وهو أن العلم باللازم يستند دائما إلى العلم بالملازمة لا إلى ذات الملزوم ، وجدنا الأمر يؤدي إلى عكس مقصوده ، لأنه يقصد بالعلم باللازم هنا تبادر المعنى إلى الذهن وهذا التبادر هو نفس اللازم لا العلم به ، لوضوح ان الملازمة الوضعيّة قائمة بين تصور اللفظ وتبادر المعنى ، فما سماه علما باللازم هو نفس اللازم ، ولا شك في أن اللازم تابع لوجود الملزوم لا للعلم بالملازمة ، فإدراك شيء إنما يكون فرع إدراك الملازمة إذا كان طرف الملازمة ذات ذلك الشيء واما إذا كان طرفها نفس الإدراك فلا إشكال في تبعيته للملزوم.

ومنها ـ ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) من أنه لا دور لأنه يكفي في ارتفاع الدور تغاير الموقوف والموقوف على بالشخص لا بالنوع ، فليفرض علمان تفصيليان متماثلان أحدهما يتوقف على التبادر والآخر يتوقف عليه التبادر (٢). وهذا البيان من الغرائب ، لا لأجل لغوية تحصيل العلم ثانيا ـ كما أفاده فقط ـ بل لوضوح استحالة حصول علمين

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٣٩

(٢) مقالات الأصول ج ١ ص ٣١


تصديقيين تفصيليين بأمر واحد وإن تعددت الصور التفصيلية ، لأنها إنا تكون هي المعروض بالذات للتصديق بما هي فانية في الخارج فإذا لم يكن إلا خارج واحد مرئي بنحو واحد بكلتا الصورتين فلا يعقل تعدد التصديق كما لا يعقل تعدد الشك.

ومنها ـ ما ذكره المحقق الخراسانيّ 1 من توقف التبادر على العلم الإجمالي الارتكازي وتوقف العلم التفصيليّ على التبادر (١) وليس المراد بالإجمالي المعنى الأصولي للعلم الإجمالي ، لأنه لا يكفي بهذا المعنى التبادر معنى بعينه بعد فرض استواء نسبة الذهن إلى تمام أطراف العلم الإجمالي ، وإنما المراد بالإجمالي العلم التفصيليّ الارتكازي البسيط وهو علم غير مقرون بالتفات النّفس إليه فعلا ، والمراد بالعلم التفصيليّ الّذي ينشأ من التبادر العلم المركب أي العلم بالعلم بالوضع. فالعلم المركب المساوق للالتفات الفعلي في طول التبادر والتبادر في طول العلم الارتكازي فلا دور.

والصحيح ، أن علامية التبادر للمستعلم غير معقولة بناء على التصور المشهور للوضع بوصفه جعلا اعتباريا قائما بالواضع وذلك ، لأن المقصود إن كان جعل التبادر برهانا إنيا وعلامة مباشرة على نفس الوضع بما هو جعل قائم بالوضع ، فيرد عليه : ان الوضع بجعله الواقعي القائم بالواضع ليس علة للتبادر ليكون التبادر كاشفا إنيا عنه ولا دخل له في علته ، بل تمام العلة للتبادر نفس العلم بالوضع سواء كان هناك وضع في الواقع أو لا. وإن كان المقصود جعل التبادر برهانا إنيا لدى المستعلم على علمه بالوضع فهو غير معقول ، لأن العالم بمجرد استعلامه عن علم نفسه يحصل له اليقين المباشر بعلمه إذا كان عالما ويستحيل أن يوسط بينه وبين علمه الّذي يستعلم عنه واسطة يبرهن بها عليه لأجل حضور العلم في أفق نفسه.

ولكن ، بناء على تصورنا للوضع بوصفه عملية قرن بين تصور اللفظ وتصور المعنى في ذهن السامع بنحو أكيد يوجب انتقال الذهن من أحدهما إلى الآخر ـ تكون علامية التبادر معقولة ، لأن انسباق ذهن السامع إلى معني من اللفظ فرع الملازمة بين تصور اللفظ وتصور المعنى في ذهنه ، وهذه الملازمة والتداعي فرع القرن الأكيد بين اللفظ

__________________

(١) كفاية الأصول ج ١ ص ٢٥ ( ط ـ مشكيني )


والمعنى الّذي هو روح الوضع وهو أمر واقعي وليس من مقولة العلم والتصديق ، فلا يكون التبادر موقوفا على العلم بالوضع. ودعوى : ان الانتقال من اللفظ إلى المعنى بسبب الملازمة لا يكون الا بعد العلم بها لأن الانتقال من أحد المتلازمين إلى الآخر فرع العلم بالملازمة.

مدفوعة : بأن هذا إنما هو فيما إذا كانت الملازمة بين ذات المدركين ـ كالملازمة بين النار والاحتراق ـ فان الانتقال التصديقي من أحدهما إلى الآخر فرع العلم بالملازمة بين النار والإحراق ، واما إذا كانت الملازمة بين نفس الإدراكين فيكون ترتب أحدهما عقيب الآخر ناتجا عن نفس الملازمة ولو لم يكن المدرك عالما بها ، ومقاما من هذا القبيل لأن القرن الأكيد يوجد ـ كما سبق في بحث الوضع ـ ملازمة بين الإدراك التصوري للفظ والإدراك التصوري للمعنى ، وهذه الملازمة بنفسها سبب للانسباق والتبادر ، ولهذا يحصل هذا الانسباق لدى الطفل أيضا نتيجة لذلك مع عدم وجود أي علم تصديقي لديه بالملازمة.

هذا كله في علامية تبادر المستعلم ، وأما تبادر العالم بالوضع فعلاميته للمستعلم لا محذور فيها على جميع المسالك في حقيقة الوضع. ولكن سوف يتضح مما يأتي ان تبادر العالم لا يكفي عادة بمجرده لحصول العلم بالوضع ما لم تضم إليه حيثية زائدة هي اطراده لدى العالمين به ليحصل الجزم بسبب ذلك بأن هذا التبادر نشأ عند العالم من الوضع لا من القرينة ، فتكون العلامة اطراد تبادر العالم لا نفس تبادره.

ثم ، إنه يمكن الاعتراض على علامية التبادر ببيان آخر ، وحاصله : ان المراد بالتبادر اما أن يكون التبادر لدى كل فرد بمعنى ان كل فرد يكون تبادره علامة على الحقيقة ، واما أن يكون التبادر لدى العرف العام فان أريد الأول ، فيرد عليه : أن هذا لا يكون برهانا إنيا على الوضع ، لأن الأنس الذهني بين اللفظ والمعنى بالنسبة إلى فرد خاص كما قد يحصل بسبب الوضع أو القرينة كذلك قد يحصل بسبب ظروف وملابسات تنشأ من حياته الخاصة وظروفه الثقافية والعملية ، ألا ترى أن أسماء الأعلام يتبادر منها إلى كل شخص أقرب من يسمى بذلك الاسم في حياة ذلك الفرد. وإن أريد الثاني ، فكونه برهانا إنيا تام ، ولكن لا يكفي مجرد التبادر عند الفرد


لافتراض التبادر لدى العرف العام ، لاحتمال وجود سبب ذاتي لذلك التبادر.

وهذا كلام صحيح مبدئيا ، وحله من الناحية العلمية : أن العلامة البرهانية على الوضع هي التبادر لدى العرف العام من اللفظ المجرد عن القرينة الخاصة.

واما التبادر لدى الفرد فان احتمل نشوؤه من قرينة خاصة فلا سبيل إلى نفي هذا الاحتمال إلا الفحص والبحث والتأكد ، وأما إن احتمل نشوؤه من ظروف وملابسات تخص حياة ذلك الفرد فهذا الاحتمال ما دام موجودا لا يتحقق الكشف الوجداني البرهاني عن الوضع ، ولكنه ملغى تعبدا بالاعتماد على قاعدة عقلائية اصطلحنا عليها في بحث حجية الظهور بأصالة التطابق بين الظهور الشخصي والظهور النوعيّ ، فان الفهم الشخصي لمدلول اللفظ من قبل إنسان عارف باللغة يكفي عند العقلاء في تشخيص مدلوله النوعيّ العام الّذي هو موضوع حجية الظهور.

علامية صحة الحمل

وقد ذكروا في علامية صحة الحمل للحقيقة والوضع : أن صحة حمل اللفظ على معنى معين بالحمل الأولي الذاتي علامة كونه نفس المعنى الموضوع له ، وصحة حمله عليه بالحمل الشائع علامة كونه من مصاديق المعنى الحقيقي.

وقد يستشكل في علامية صحة الحمل في الحمل الأولي والحمل الشائع أما الأول :

فلأن صحة الحمل تتوقف على فرض التغاير بين المحمول والموضوع كما تتوقف على نحو من الاتحاد. وعليه ، فكيف يكشف حمل اللفظ المراد استعلام معناه على معنى عن كونه نفس المعنى الموضوع له مع لزوم المغايرة (١).

وأما الثاني : فلأن صحة الحمل الشائع كما تكون في موارد حمل النوع على فرده والجنس على النوع والفصل على النوع كذلك تكون في موارد حمل أحد الكليين المتساويين في الصدق على الآخر ، كما في قولنا الضاحك الناطق ، أو أعم الكليين على أخصهما صدقا من دون أن يكون الموضوع فردا حقيقيا من المحمول ، كما في قولنا

__________________

(١) راجع مقالات الأصول ج ١ ص ٣١


الضاحك حيوان. وفي القسم الأول من الموارد يمكن الاستكشاف والعلامية باعتبار ان المحمول ثابت في مرتبة ذات الموضوع فتكشف صحة حمله على أن اللفظ موضوع لمعنى ثابت في مرتبة ذات المحمول عليه. وأما في القسم الثاني من الموارد فلا يصح الاستكشاف المذكور ، لأن المحمول ليس ثابتا في مرتبة ذات الموضوع وانما هو منطبق معه على وجود واحد. واستكشاف المعنى بالحمل الشائع لا يكون إلا بأن يدل الحمل على ان ما للمحمول من معنى متحد مع المعنى الموجود في مرتبة ذات الموضوع لا معه ابتداء (١).

أما الاستشكال الأول في علامية الحمل الأولي ، فيرد عليه : انه لو سلم لزوم التغاير في تصحيح الحمل فهو يتصور في الحمل الأولي تارة : بلحاظ كون كل من الطرفين مدلولا للفظ مغاير للفظ الدال على الآخر. وأخرى : بلحاظ الإجمال والتفصيل ، كما في الحد والمحدود. والأول من التغاير لا ينافي العينية ، والثاني لا ينافي العينية الذاتيّة ، وهي تكفي لإثبات كون المحمول نفس المعنى الموضوع له ذاتا بقطع النّظر عن حيثية الإجمال والتفصيل.

وأما الاستشكال الثاني في علامية الحمل الشائع ، فيرد عليه : ان الحمل الشائع في القسم الثاني من الموارد ينتج نتيجة أيضا ، لأنه يكشف عن الاتحاد الوجوديّ بين الناطق والضاحك وان مدلول اللفظ المراد استعلام معناه أحد المفاهيم المنطبقة على نفس الوجود الّذي انطبق عليه المفهوم الآخر المعلوم ، وهذا يحتاج في التعيين النهائيّ إلى إحصاء تمام المفاهيم التي تنطبق على ذلك الوجود وتعيينه من بينها. وشبه هذه الضميمة نحتاجها في القسم الأول أيضا ، إذ غاية ما يثبت بالحمل ان مدلول اللفظ المراد استعلام معناه أحد المعاني الثابتة في مرتبة ذات الموضوع ، فلا بد من إحصاء هذه المعاني وتعيينه ، نعم دائرة التردد في القسم الأول أضيق منها في القسم الثاني وهذا لا ينفي دور العلامة رأسا.

والصحيح ، عدم إمكان استعلام الحقيقة بصحة الحمل ، لأن غاية ما يستفيده

__________________

(١) راجع نهاية الدراية ج ١ ص ٤٢


المستعلم من صحة الحمل اتحاد المعنيين الموضوع والمحمول في القضية الحملية ذاتا أو وجودا سواء كان ذلك المعنى مجازيا للفظ المستعمل فيه أم حقيقيا ، ولذلك يصح الحمل كذلك في اللفظ المستعمل مجازا ، وهذا يعني ان علامية صحة الحمل موقوفة على العلم في المرتبة السابقة بكون المعنى المستعمل فيه اللفظ حقيقيا فلا يعقل أن يستعلم منها الوضع والحقيقة.

ولا يمكن دفع هذا المحذور بما ذكرناه في دفع محذور الدور عن علامية التبادر ، لأن التبادر لم يكن متوقفا على العلم التصديقي بالمعنى الحقيقي وأما صحة حمل اللفظ بما له من المعنى الحقيقي فتتوقف على العلم التصديقي بأن المعنى المحمول معنى حقيقي للفظ.

وبكلمة أخرى : انه في التبادر كان الالتفات إلى اللفظ وما ينسبق منه إلى الذهن سببا لحصول العلم بالمعنى الحقيقي ، واما في المقام فالالتفات إلى القضية الحملية وصحتها لا يؤدي إلا إلى العلم بوحدة المعنيين الواقعيين موضوعا ومحمولا في القضية الحملية ، لأن هذا هو تمام مدلول الجملة الحملية ، وأما ثبوت الوضع بين اللفظ وذلك المعنى المستعمل فيه فلا يمكن استنتاجه من ذلك.

وكما لا يمكن جعل صحة الحمل لدى المستعلم علامة عنده كذلك لا يمكن جعل صحة الحمل عند العالم من أبناء العرف واللغة علامة لدى المستعلم ، لأنه بدون تصريح من العالم بأنه قد استعمل اللفظ المستعلم حاله عند الحمل عليه في معناه الحقيقي لا يثبت كون المحمول محمولا على المعنى الحقيقي للفظ ، ومع تصريحه بذلك يكون مرجعه إلى تنصيص أهل اللغة والخبرة ، إذ لا يراد بالتنصيص إلا شيء من هذا القبيل.

وحال صحة السلب فيما ذكرناه حال صحة الحمل.

علامية الاطراد

وأما الاطراد واستعلام الوضع به فيمكن أن يراد به أحد معان :

الأول : اطراد التبادر ؛ بأن يطلق المستعلم اللفظ مرارا عديدة وفي أوضاع وحالات مختلفة ويتبادر منه في جميع ذلك معنى واحد.


والاطراد بهذا المعنى يكون بحسب الحقيقة مشخصا لصغرى علامية التبادر وليس علامة مستقلة ، لما تقدم من أن التبادر وانسباق معنى من اللفظ انما يكون علامة على الحقيقة فيما إذا كان حاقيا أي مستندا إلى الوضع لا القرينة أو الأنس الشخصي ، وباطراد التبادر ينفي عادة استناد التبادر إلى غير الوضع ، خصوصا إذا استعال المستعلم بتبادر غيره أيضا ، إذ ينفي به احتمال ارتكاز قرينة عامة في حياة فرد معين تصرف ذهنه عن المعنى الحقيقي.

الثاني : اطراد الاستعمال ، ويراد به صحة استعمال اللفظ في معنى معين في موارد مختلفة مع إلغاء جميع ما يحتمل كونه قرينة على إرادة المجاز وقد ذكر السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ ان هذا الأسلوب هو الطريقة الوحيدة المتبعة غالبا لمعرفة الحقيقة والوضع (١).

ويرد عليه : ان اطراد الاستعمال في موارد مختلفة مع إلغاء ما يحتمل كونه قرينة لا تتوقف على أن يكون المعنى المستعمل فيه اللفظ في تلك الموارد حقيقيا بل قد يكون مجازيا ؛ لأن الاستعمال المجازي بلا قرينة صحيح أيضا. وكأنه وقع خلط بين اطراد الاستعمال في معنى واطراد انسباقه من اللفظ في موارد عديدة الّذي سميناه باطراد التبادر ، فان الأخير علامة على الحقيقة دون الأول.

الثالث : الاطراد في التطبيق بلحاظ الحيثية التي أطلق من أجلها اللفظ ، كما إذا أطلق ( الأسد ) على حيوان باعتباره مفترسا وكان مطردا في تمام موارد وجود حيثية الافتراس في الحيوان فيكون علامة كونه حقيقة في تلك الحيثية.

وقد اعتراض عليه المحقق الخراسانيّ 1 : بأن هذا المعنى من الاطراد ثابت في المعاني المجازية أيضا إذا كان يحفظ فيه مصحح المجاز وإنما لم يطرد تطبيق استعمال ( الأسد ) مثلا في جميع موارد المشابهة مع معناه الحقيقي لعدم كفاية مطلق الشبه في تصحيح المجاز بل لا بد من المشابهة في أبرز الصفات ، ومع حفظ ذلك يكون الاستعمال مطردا (٢).

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١٣٢

(٢) كفاية الأصول ج ١ ص ٢٩ ( ط ـ مشكيني )


وهذا الاعتراض متجه.

الرابع : اطراد الاستعمال من دون قرينة ، لا بمعنى الاستدلال بصحة الاستعمال مطردا بدون قرينة على نفي المجازية ليرجع إلى التقريب الثاني ، وليرد عليه : ما تقدم من أن الاستعمال المجازي صحيح بدون قرينة لأن القرينة مقومة لانفهام المعنى المجازي لا لصحة استعمال اللفظ فيه ، بل بمعنى الاستدلال بشيوع الاستعمال في معنى بلا قرينة على أنه المعنى الحقيقي ، لأن الأمر يدور بين أن تكون جميع تلك الاستعمالات الكثيرة مجازا من دون قرينة أو حقيقة ، والمجاز بلا قرينة وإن كان استعمالا صحيحا وواقعا خارجا ولكنه لا شك في عدم كونه مطردا وشائعا بحيث يشكل اتجاها نوعيا في الاستعمالات ، فيكون الاطراد المذكور نافيا لاحتمال المجازية لا محالة.

الأثر العملي لعلامات الحقيقة

قد اتضح على ضوء مجموع ما تقدم : أن العلامة الأساسية على الوضع هي التبادر من ناحية ، وشيوع الاستعمال من غير قرينة من ناحية أخرى.

وقد خيل لبعض المحققين : أن علامات الحقيقة لا أثر عملي لها ، لأنها انما تبرهن على الوضع والوضع بما هو ليس موضوعا للحجية وانما الموضوع للحجية الظهور ؛ وفي مورد يكون الظهور ثابتا بالفعل لا حاجة بنا إلى إثبات الوضع بعلاماته لأن الظهور وجداني وهو يكفي في الحجية سواء كان هناك وضع أو لا ، وفي مورد لا يكون الظهور فعليا ـ ولو للاحتفاف بما يمنع عن فعلية الظهور ـ لا قيمة لإثبات الوضع لعدم كفايته في ترتب الحجية (١).

وهذا التخيل نشأ من عدم التمييز بين الظهور الشخصي والظهور النوعيّ ، فانا إذا التفتنا إلى التمييز بينهما ـ كما تقدم ـ وإلى أن موضوع الحجية ابتداء هو الظهور النوعيّ ، وأن الظهور الشخصي المساوق لوجدان الفرد انما يكون كاشفا عقلائيا عن الظهور النوعيّ ، وان العلاقة الوضعيّة عبارة عن القرن المؤكد المستتبع لانسباق ذهن العرف

__________________

(١) راجع مقالات الأصول ج ١ ص ٣١


المبني على ذلك الوضع إلى المعنى من اللفظ ، تبين الأثر العملي لعلامة الحقيقة فان المستعلم يستدل بالتبادر مثلا أي بالظهور الشخصي على العلاقة الوضعيّة ـ المساوقة للظهور النوعيّ حيث لا يوجد ما يوجب الإجمال ـ وبذلك ينقح موضوع الحجية.

تعارض الأحوال

افترض للفظ أحوال متعددة طارئة من النقل والاشتراك والتجوز والإضمار والتقييد والاستخدام وغير ذلك ، وافترض الدوران بين كل واحد منها والحالة الطبيعية الأصلية تارة ، وافترض الدوران فيما بينهما تارة أخرى. وفي الدوران الأول يقال : أن الأصل نفي الحالة الطارئة ، وفي الدوران الثاني تذكر مرجحات لهذا تارة ولذاك أخرى.

والتحقيق : أن هذه الحالات ليس لها مركز واحد ، بل يمكن تصنيفها إلى ثلاثة مراكز :

الأول : الدلالة التصورية للفظ التابعة للوضع. وإلى ذلك يرجع الدوران بين النقل وعدمه وبين الاشتراك وعدمه ، فان مرجع النقل والاشتراك إلى التبدل أو التعدد في الدلالة التصورية للفظ في العرف العام وينشأ بسبب ذلك الشك في المراد في مقام الاستعمال.

وحل هذا الدوران : اما بين النقل وعدمه ، فبنفي النقل. وذلك أن الظهور الفعلي الشخصي للفظ في مرحلة الدلالة التصورية يكشف عقلائيا ـ كما ذكرنا ـ عن الظهور النوعيّ للفظ في هذه المرحلة ، لأن الأصل التطابق بين ذهن الفرد وذهن العرف الّذي يعيش ذلك الفرد ضمنه. واحتمال النقل معناه احتمال زوال الظهور النوعيّ فينفي بوجدانية بقاء الظهور الشخصي الفعلي. وأما بين الاشتراك وعدمه ، فبنفي الاشتراك وذلك لأن مرجع الاشتراك إلى تعدد الدلالة التصورية النوعية أو تعدد الظهور النوعيّ على سبيل البدل ، فإذا كان الظهور في وجدان الفرد تعيينيا وفي معنى واحد فمقتضى أصالة التطابق العقلائية بين ذهن الفرد وذهن العرف ان الدلالة النوعية كذلك وهذا مساوق لنفي الاشتراك.


هذا كله فيما إذا كان أصل النقل أو الاشتراك غير معلوم الوقوع ، وأما إذا كان معلوم الوقوع ولكن لا يعلم بثبوته حين الاستعمال فهل يمكن أن ينفي النقل أو الاشتراك بأصل إلى حين الاستعمال ، إما مطلقا ، أو فيما إذا كان الاستعمال معلوم التاريخ ، أو فيما إذا لم يكن النقل ، أو الاشتراك معلوم التاريخ؟ وجوه.

والتحقيق : عدم وجود أصل كذلك في جميع الحالات ، لأن الأصل اما عقلائي وإما شرعي. اما الأصل العقلائي ، فمرجعه إلى ما ذكرناه من أصالة التطابق بين ذهن الفرد وذهن العرف الّذي يعتبر ذلك الفرد جزءا منه ومع العلم بانثلام هذا التطابق لا معنى للبناء عليه بلحاظ زمان متقدم ، إذ لا توجد حينئذ نكتة كشف نوعية مصححة لهذا البناء عقلائيا. وأما الأصل الشرعي ، فمرجعه إلى استصحاب عدم النقل أو بقاء الوضع السابق أو كون اللفظ بحيث ينسبق منه المعنى الفلاني ، ومن الواضح ان هذا الاستصحاب لا يثبت الظهور الفعلي إلا بنحو مثبت ، لأن الظهور الفعلي لشخص هذا الكلام ليس له حالة سابقة وإنما الحالة السابقة للحيثية التعليلية له وهي القرن الوضعي. وإن شئت قلت لقضية تعليقية وهي أنه متى ما أطلق اللفظ انسبق منه المعنى الفلاني ، وما هو موضوع الحجية الظهور الفعلي فلا يمكن إثباته بالاستصحاب لرجوعه إلى الاستصحاب التعليقي في الموضوعات بل بنظر أدق ان موضوع الحجية ليس هو الظهور الفعلي في مرحلة الدلالة التصورية أيضا بل الظهور الفعلي التصديقي ، وترتب الظهور التصديقي على الظهور التصوري ليس شرعيا فلا يمكن إثبات موضوع الحجية ولو تمت أركان الحجية في نفس الظهور التصوري الفعلي.

الثاني : الدلالة التصديقية في مرحلة المراد الاستعمالي. وإلى ذلك يرجع الدوران بين المجاز وعدمه ، وبين الإضمار ـ الّذي هو نحو من التجوز في هيئة الإسناد ـ وعدمه ، وبين الاستخدام ـ الّذي هو أيضا نحو من التجوز في هيئة إرجاع الضمير إلى مرجعه ـ وعدمه. فان هذه الأنحاء من الدوران كلها في مرحلة المراد الاستعمالي ، ولا شك في أن أصالة الحقيقة التي مرجعها إلى حجية ظهور حالي المتكلم في التطابق بين مراده الاستعمالي والظهور التصوري لكلامه تنفي احتمال الحالات الطارئة.

واما إذا دار الأمر فيما بينهما ، فان كان في كلام واحد أوجب التعارض بين


مقتضى الظهورين ، فان لم يكن أحدهما مستحقا للتقديم لقرينية أو أقوائية أدى إلى إجمال الكلام. وإن كان في كلامين فالظهور فعلي في كل منهما. ويطبق قانون التعارض المستقر أو غير المستقر.

الثالث : الدلالة التصديقية في مرحلة المراد الجدي. وإلى ذلك يرجع الدوران بين الإطلاق والتقييد ، لما حققناه من أن الظهور الإطلاق الحكمي ناظر إلى مرحلة المراد الجدي ، فكلما كان التقييد مشكوكا وتمت مقدمات الحكمة تعين نفيه. واما إذا دار الأمر بين التقييد وحالة من الحالات المتقدمة في الدوران السابق فمرجعه إلى التنافي بين ظهور وضعي وظهور إطلاقي ، وتحقيقه في بحث تعارض الأدلة.

واما التخصيص ، فهو يرجع إلى هذا المركز ، أو إلى المركز السابق على الخلاف في إيجابه للتجوز أو للتصرف في مرحلة الكشف من المراد الجدي فحسب.


المبحث الرابع



تطبيقات مختلف بشأنها

بعد أن اتضحت نظرية الدلالة على المعنى الحقيقي والدلالة على المعنى المجازي بشكل عام يقع البحث عن تطبيقات قد وقع الخلاف فيها حول تحديد ما هو المدلول الحقيقي للفظ. والتطبيقات المختلف فيها تارة : تكون مفردات خاصة لا تشكل عنصرا مشتركا في الاستدلالات الفقهية ، نظير البحث حول تشخيص مدلول كلمة ( الصعيد ) مثلا. وأخرى : تكون مواد بطبيعتها سيالة ومشتركة في أبواب فقهية متنوعة ، كالبحث عن مدلول صيغة الأمر مثلا أو هيئة المشتق أو الحروف والهيئات التركيبية.

أما القسم الثاني : فهو خارج عن نطاق هذا المدخل ومندرجة في المسائل الأصولية القادمة.

وأما القسم الأول فهو على ضربين :

١ ـ ما يبحث فيه عن تحديد مدلول لغوي أو عرفي لمفرد من المفردات كالبحث عن مدلول كلمة ( الصعيد ) وهذا بحث لغوي بحث يكون في ذمة علوم اللغة والعربية.

٢ ـ ما يبحث فيه عن تحديد المدلول الشرعي الخاصّ لبعض المفردات بحيث يكون منشأ البحث احتمال طرو تغيير على مدلول اللفظ في عرف الشارع وهذا هو المناسب بحثه في هذا المدخل للبحوث الأصولية فانه وإن كان بحثا عن مفردات خاصة


لا تشكل عناصر مشتركة للاستنباط إلا ان البحث فيها لما كان عن معانيها الشرعية لم يوكل ذلك إلى البحوث اللغوية البحتة ويتمثل هذا النوع من التطبيقات في أسماء العبادات والمعاملات ويكون البحث فيها من جهتين :

١ ـ في تحديد معناها الشرعي الحقيقي. وهذا ما يصطلح عليه بالبحث عن الحقيقة الشرعية.

٢ ـ في تحديد معانيها من حيث اختصاصها بالصحيح من افرادها أو عمومها للفاسد منها أيضا. وهذا ما يصطلح عليه بالبحث عن الصحيح والأعم.

١ ـ الحقيقة الشرعية

والحديث عن الحقيقة الشرعية ، تارة في ثبوتها ، وأخرى في الثمرة العملية المترتبة عليها.

١ ـ ثبوت الحقيقة الشرعية

اما البحث عن ثبوت الحقيقة الشرعية بمعنى صيرورة بعض الأسماء حقائق في المعاني الخاصة المخترعة من قبل الشارع فهذا موقوف على أن يثبت وضع هذه الألفاظ بإزاء معانيها الشرعية بأحد الأنحاء المتقدمة في مناشئ حصول العلقة الوضعيّة من الوضع التعييني أو التعيني أو الاستعمالي ، فلا بدّ من ملاحظة مدى إمكان تطبيق تلك المناشئ لحصول العلقة الوضعيّة على هذه المعاني الشرعية وذلك من خلال نقاط.

النقطة الأولى : في ثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعيني الناشئ من كثرة استعمال الشارع للألفاظ في هذه المعاني. وهذا موقوف أولا : على أن يثبت عدم وضع تلك الألفاظ بإزاء نفس المعاني لغة أو عرفا قبل استعمال الشارع لها وإلا كانت حقائق لغوية لا شرعية. وثانيا : على عدم سبق وضع شرعي تعييني وإلا كانت حقائق شرعية تعيينية لا تعينية ـ وسوف يأتي حال هذين الشرطين ـ وموقوف ثالثا : على كثرة تداول الأسامي المذكورة في استعمالات الشارع بحيث يبلغ درجة تجعل الذهن ينسبق إلى المعنى الشرعي من اللفظ بلا قرينة. وهذا الشرط ربما يناقش فيه من وجوه :


الأول : التشكيك في وقوع استعمالات كثيرة من الشارع خاصة بدرجة توفر شرط حصول الوضع التعيني وانما المتيقن والمؤكد هو كثرة تداول هذه الألفاظ في استعمالات مجموع الشارع والمتشرعة وهذا لا يكفي لإثبات ان هذه المعاني حقائق شرعية.

والجواب : أن المراد بالحقيقة الشرعية إن كان هو قيام العلاقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى الشرعي في عصر النبي 6 على نحو يكون اللفظ صالحا لإثارة هذا المعنى بقانون الاقتران فهذا يفي بتحقيقه كثرة الاستعمال في مجموع المحاورات الدائرة في ذلك العصر بما فيها كلام النبي 6 وكلام غيره ، وإن كان المراد بالحقيقة الشرعية قيام العلقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى بسبب صادر من النبي 6 خاصة على نحو يصدق عليه انه الواضع فهذا لا تفي به الكثرة المذكورة لأنها غير صادرة بتمامها من النبي 6 إلا أن هذه الحيثية لا دخل لها في الأثر المطلوب للبحث وهو الحمل على المعنى الشرعي فان ميزان الحمل ثبوت العلاقة الوضعيّة في عرف ذلك العصر لا خصوص ثبوتها بفعل صادر من النبي 6 خاصة.

الثاني : ان هذه الاستعمالات كلها أو جلها كانت على سبيل المجاز والقرينة الخاصة أو العامة فلا تجدي في إيجاد الوضع والحقيقة.

والجواب : ان تلك الاستعمالات وإن كانت مع القرينة إلا أن عدم وحدة القرينة واختلافها من مقام إلى مقام مع انحفاظ نفس المعنى الشرعي المستعمل فيه اللفظ في جميع تلك الاقترانات حقيق بتحصيل الدرجة المطلوبة من العلقة الوضعيّة فيما بينهما ، وهذا هو التخريج العام للوضع التعيني الحاصل من كثرة الاستعمال على ما تقدم في بحث الوضع.

الثالث : التشكيك في أصل ثبوت استعمال من قبل الشارع الأقدس لهذا الأسماء في المعاني الشرعية ولو على سبيل المجاز ، لاحتمال ان تكون مستعملة في المعاني اللغوية مع اعتماد طريقة تعدد الدال والمدلول في مجال افهام الخصوصيات المعتبرة شرعا.

والجواب : انه لو سلم وفاء طريقة تعدد الدال والمدلول عرفا بإفادة كل التفاصيل المطلوبة شرعا ، فان ذلك لا ينافي كفاية ما يحصل من الاقتران المستمر من خلال مجموع


الاستعمالات بين اللفظ والمعنى الشرعي لتحقيق العلقة الوضعيّة وبالتالي ثبوت الحقيقية الشرعية ، لأن العنصر غير المتغير في جميع موارد الاستعمالات تلك إنما هو اللفظ واما الدوال الأخرى فمتغيرة أو غير ملموسة فيما إذا افترضت القرينة ارتكازية معنوية.

النقطة الثانية : في ثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني الصريح ، بأن يقوم الشارع بنفسه بعملية الوضع وتخصيص اللفظ بالمعنى الشرعي.

وثبوت الحقيقة الشرعية على أساس هذا المنشأ أمر لا ينبغي أن يحتمل في نفسه ، إذ الوضع حتى لو قيل بكونه أمرا جعليا إنشائيا فلا ريب في انه ليس مطلوبا بوجوده الواقعي النّفس الأمري وانما يطلب من أجل تيسير عملية المحاورة والتفاهم الاجتماعي ، ولذلك كانت اللغة ظاهرة اجتماعية اكتشفها الإنسان ومارسها بعد أن مارس حياته الاجتماعية مع الآخرين. وهذا يعني أن شيئا من هذا القبيل لو كان صادرا عن النبي 6 لكان ينبغي أن يصدر على مرأى من الناس ومسمع ، ولانتشر حينذاك خبره وسجله التاريخ في حين انه لا يوجد في مجموع ما ثبت من سيرة النبي 6 وأحاديثه المأثورة بطرق العامة والخاصة ما يوهم وقوع مثل هذا الأمر.

النقطة الثالثة : في ثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني الحاصل بنفس الاستعمال. وتقريبه : أن سيرة العقلاء جارية على تعيين أسماء بإزاء ما يخترعونها من صناعات ومخترعات ، اما بتصريح وضعي أو من خلال الاستعمال على أقل تقدير ، وكأن اختراع شيء أو ابتكار معنى جديد يجعل المخترع مسئولا عن تسميته. والشارع الأقدس أيضا لا يتعدى الطريقة العقلائية هذه في ممارسة العامة.

والمقصود باختراع الشارع واستحداثه لتلك المعاني وجعلها كون هذا التأليف الاعتباري القائم بين أجزائها مستندا إلى نظره واعتباره لا إلى نظر خاص أو عام وراء نظره كالتركيب الاعتباري بين أجزاء البيت ، فان كل عبادة مع قطع النّظر عن تعلق الطلب بها لها جهة وحدة ثابتة في نفسها ، ضرورة ان كل معنى يستعمل فيه اللفظ لا بد وأن يكون فيه جهة وحدة ليكون المستعمل فيه واحدا ، ومن المعلوم ان لفظ الصلاة مثلا يستعمل في العبادة الخاصة مع قطع النّظر عن وحدتها الناشئة من وحدة


الطلب المتعلق بها فيكشف ذلك عن نحو وحدة اعتبارية لها ، فالمراد بالاستحداث تأسيس هذه الوحدة. ومنه يظهر عدم وجاهة ما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ) من أنه ليس لتلك المعاني نحو استحداث وجعل مع قطع النّظر عن جعلها في حيز الطلب أصلا (١).

إلا أن هذا التقريب غير تام ، لأن غاية ما يستنتج منه قوة احتمال اتباع الشارع للطريقة العقلائية ولا دليل على حجية مثل هذا الاحتمال.

وقد يطور هذا القريب بنحو يسلم من الاعتراض المذكور ، ببيان : أن نوعية هذه الطريقة ومركوزيتها لدى العقلاء يوجب انعقاد ظهور عرفي لدى أول استعمال شرعي في تعيين الشارع ذلك اللفظ بإزاء المعنى الشرعي الّذي استعمل فيه ، فيكون محققا لصغرى حجية الظهور.

ولكن ، مع ذلك هناك مجال واسع للمناقشة في هذا الدليل ، إذ لم يثبت اختراع الشارع لمعاني هذه الأسماء بنحو تعتبر من مختصاته على حد اختصاص المخترعات الصناعية والطبيعية بأصحابها ، لقوة احتمال ثبوت جملة منها أو مما يشابهها ـ ولو عرفا ـ في الشرائع السابقة وقد كانت معروفة شائعة بين الناس. ومما يعزز ذلك ورود كثير من الآيات القرآنية وغيرها من النصوص الشرعية تحكي ثبوت مثل الصلاة والصيام والزكاة والحج ومعهوديتها في الديانات السابقة.

ويمكن أن يقال : ان هذه الآيات المباركة لا يمكن الاستدلال بها على سبق المعاني الشرعية وان الصلاة الإسلامية كانت موجودة سابقا مع نحو من الاختلاف في الخصوصيات الّذي لا يوجب تعدد المعنى ، وذلك لاحتمال أن يكون الموجود في الشرائع السابقة سنخ عبادات أخرى لا يجمعها مع العبادات الإسلامية جامع ، بمعنى ان الصلاة العيسوية مع الصلاة الإسلامية ليستا صنفين لمركب اعتباري واحد كصلاتي المسافر والحاضر في شرعنا وانما أطلق عليها ألفاظ الصلاة وغيرها مجازا ، ولا يمكن نفي هذا الاحتمال إلا بعد إثبات الوضع للمعنى الشرعي ليتعين حمل تلك

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٤٦


الألفاظ على المعاني الشرعية بمقتضي أصالة الحقيقة ، فلا بدّ في المرتبة السابقة من إثبات كون المعنى الشرعي حقيقيا للفظ الصلاة مثلا اما بوضع الشارع أو بوضع سابق عليه ، والثاني لا سبيل إليه إلا من ناحية ما يتوهم من دلالة هذه الآيات ، والأول يثبت المطلوب.

وقد يدعى في مقابل ذلك : ظهور آية « كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم » (١) بحد ذاتها في اتحاد سنخ الصوم وكون المراد به معناه الشرعي وإلا لزم الاستخدام في ضمير ( كما كتب ). وفيه : ان من الممكن حمله على معناه اللغوي وهو طبيعي الإمساك الجامع بين الصوم الناسخ والصوم المنسوخ فلا يلزم الاستخدام ولا يكون دليلا على سبق المركب الاعتباري المسمى بالصوم عندنا وكونه ثابتا في الشرائع السابقة. وعليه فلم دليل على قدم المعاني الشرعية.

ولكن الصحيح ان مجرد التشكيك في ذلك ولو بلحاظ الآيات المذكورة يكفي للتوقف في إثبات الوضع التعييني بالسيرة العقلائية ، بل يمكن التمسك ببعض تلك الآيات إذا ثبت نزولها في وقت متأخر من حياة النبي 6 في الظرف الّذي يطمأن فيه بأن اللفظ كان ينصرف فيه عند إطلاقه إلى المعنى الشرعي للأنس الذهني العام.

وبما ذكرناه اتضح : ان الّذي يترتب على قدم المعاني الشرعية التوقف عن إثبات الوضع التعييني لاحتمال الاستعمال فيها مجازا بعد أن لم يكن الشارع هو المخترع لا أنه يترتب على ذلك كون الألفاظ الخاصة حقائق لغوية فيها قبل الشرع ، إذ قدم المعنى لا يستلزم كونه مسمى في السابق بنفس هذا اللفظ الّذي استعمال فيه في الإسلام ليلزم كونه حقيقة لغوية فيه كما أفاده صاحب الكفاية 1 وقد نبه على إنكار هذا الاستلزام المحقق الأصفهاني 1 والسيد الأستاذ ( دام ظله ) وأضاف الأخير : بأنه لو سلم الاستلزام المطلوب لم يضر بالمقصود إذ لم يتعلق غرض الأصولي بخصوص الوضع الصادر من النبي 6 بل بكون اللفظ حقيقة في المعنى الشرعي ليحمل عليه بلا توقف على قرينة ، وهذا يحصل مع ثبوت الحقيقة اللغوية أيضا (٢) إلا أن

__________________

(١) سورة البقرة آية ٣٨١

(٢) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١٤٠


هذا الاعتراض غير وارد على صاحب الكفاية ( قده ) ، وذلك لأن ثمرة الحقيقة الشرعية عنده هي الحمل على المعنى الشرعي لا التوقف بينه وبين المعنى اللغوي ، وهذا إنما يحصل إذا ثبت وضع من الشارع إذ شأن من يؤسس معنى ويضع له اللفظ أن يخصص اللفظ به بحيث يجعل مجرد الإتيان به دالا على مخترعه بلا حاجة إلى إقامة قرينة أصلا. وبتعبير آخر : ان السيرة جارية على النقل من قبل المؤسس ، واما إذا كانت الحقيقة سابقة فلا وجه للنقل بل يكون للفظ حينئذ معنيان لغويان ونتيجة ذلك مع عدم القرينة التوقف لا محالة.

والتحقيق : أن مجرد كون المعاني الشرعية قديمة وإن كان لا يستلزم انها كانت بنفس هذه الأسماء الخاصة ولكن مع هذا يمكن دعوى ان كثيرا من تلك المعاني الشرعية كانت بنفس هذه الأسماء قبل الإسلام فيكون المعنى واللفظ كلاهما قديما فالحج مثلا وما فيه من مناسك وآداب كان معروفا ومعهودا قبل الإسلام حتى سميت السنة في اللغة بالحجة ، وكذلك الصلاة والصيام وجملة من العبادات الأخرى لم تكن غربية عن ذهنية الناس قبل مجيء الإسلام. وكأن صاحب هذه المدعي يفترض ان الإسلام جاء بهذه التصورات والمعاني في مجتمع لم يعش حياة دينية ولم يسمع شيئا عن العبادات والطقوس الثابتة في الشرائع السابقة ، ومثل هذا الزعم مما لا يساعد عليه الاعتبار التاريخي لمجتمع الجزيرة العربية قبل الإسلام ولا اللغوي.

فان مجتمع الجزيرة كان فيه جمع غفير من أصحاب الديانتين السابقتين على الإسلام ، وكان تعيش تفاعلا مستمرا مع أصحابهما وهم يمارسون مختلف عباداتهم التي جزء كبير منها مشترك بينهما وبين الإسلام ، بل كان في القبائل العربية الأصيلة نفسها من اعتنق إحدى الديانتين. ومن البعيد افتراض انهم كانوا لا يطلقون اسما عربيا على تلك العبادات رغم شيوعها ودخولها في محل ابتلائهم ، ولو كانت مسماة عندهم بأسماء أخرى لانعكس ذلك في لغتهم ولنقله تاريخ الأدب العربي لا محالة.

ومما يعزز قدم الأسماء ان الإسلام والقرآن الكريم منذ بداية الوحي طرح نفس الأسماء واستعملها لإفادة تلك العبادات يوم كان النبي 6 مستضعفا وليس في مرحلة إيجاد عرف لغوي جديد ، وهذا يعني ان تلك الألفاظ لم تكن بدعا من التعبير


ولم يستغربه الناس ، وهو كاشف عن تعارفها بمعانيها العبادية قبل ذلك. بل نلاحظ ان القرآن الكريم يعرض بكفار الجاهلية وبعبادتهم فيطلق عليها في مجال التعريض اسم الصلاة ، وهذا ظاهر في أن هذا اللفظ هو الاسم الّذي كانوا يطلقونه على عبادتهم كما يطلقه الشارع على ما جاء به ، وذلك كما في قوله تعالى : « وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية » (١)

ويعزز هذا المدعى أيضا ما يقال : من أن ( صلوت وزكاة ) لفظتان عبريتان كانتا بمعنى العبادة المعهودة وقد عرب اللفظ وبقي محافظا على الواو في الخطّ تأثرا بأصله.

والمتلخص : أن هناك إحدى فرضيات ثلاث لا يخلو الحال من إحداها فاما أن لا تكون هذه المعاني الشرعية ثابتة قبل الإسلام ، فلا محالة تكون مخترعة من قبله فيثبت عندئذ الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني بنفس الاستعمال على التقريب المتقدم شرحه. وإما أن تكون المعاني الشرعية بأساميها ثابتة في المجتمع العربي قبل الإسلام بشكل وآخر بحيث لم يصدر من قبل الشارع عدا تغيير بعض التفاصيل والشروط غير المقومة الحقيقة ذلك المعنى الجامع ، فيثبت عندئذ ان المعاني الشرعية الجامعة بين ما جاء به الإسلام وما جاءت به الشرائع السابقة مع ما بينهما من اختلاف في التفاصيل كان ثابتا كحقائق لغوية لهذه الأسماء. واما أن يدعى ان المعاني الشرعية وإن كانت ثابتة في الجملة قبل الإسلام إلا ان استعمال نفس الأسامي فيها بدرجة تصبح حقيقة لغوية فيها لا جزم بثبوته إلا مع ملاحظة فترة مجيء الإسلام وما خلقته تشريعاته العبادية من الحاجة الاستعمالية لهذه الأسماء في المعاني الشرعية ، فيثبت عندئذ الحقيقة الشرعية التعينية.

وإنكار هذه الفرضيات جميعا وادعاء ان هذه الأسماء لم تكن حقيقة في المعاني الشرعية قبل الإسلام ولم يبلغ استعمالها فيها مرتبة الحقيقة التعينية بعد الإسلام أمر بعيد جدا مع تلك المرتبة من شيوع الاستعمالات المذكورة قبل الإسلام وبعده ـ كما عرفت ـ.

__________________

(١) سورة الأنفال آية ٣٥


٢ ـ ثمرة القول بالحقيقة الشرعية

ذكروا : أن ثمرة القول بالحقيقة الشرعية تظهر في النصوص الشرعية التي ورد فيها استعمال هذه الأسماء ، فأنه على تقدير ثبوت وضع شرعي لها يكون مقتضي أصالة الحقيقة حملها على إرادة المعنى الشرعي ، بخلاف ما إذا لم تثبت الحقيقة الشرعية فتحمل على إرادة المعنى اللغوي العام. ولو فرض الشك في الحقيقة الشرعية كان الاستعمال مجملا لا محالة.

وقد ذكرت مدرسة المحقق النائيني ( قده ) في هذا المقام : بأن هذه ثمرة غير واقعية خارجاً لأن ظهور النصوص الواردة عن الأئمة المعصومين : في إرادة المعاني الشرعية ممّا لا ريب فيه وإنَّما النزاع فيما صدر قبل هذا التاريخ في عصر النبي 6 من الأحاديث النبويّة الشريفة ، وهي لم يثبت منها في طرقنا إلا ما روي من قبل أئمة أهل البيت : المتعيّن حمله على المعنى الشرعي كما عرفت (١).

ولكن الظاهر انَّ هذه الدعوى لا مأخذ لها. إذ لو سلّمنا صحّتها في حق ما يروى عن النبي 6 فما ظنّك بالنصوص القرآنية التي يكثر فيها استعمال أسامي العبادات والمعاملات. على أنَّ هناك جملة من الأحاديث النبوية التي نقلت في طرقنا حرفيّاً تحفّظاً وتيمّناً بكلامه الشريف ، فلم يبق إلا دعوى العلم بالمراد في كل تلك الأحاديث ، وهذه ليست بأقلّ من دعوى العلم بالمراد في تمام موارد استعمال هذه الأسماء ابتداءً بحيث لا يبقي مجال للثمرة.

وحيث يفرض الشك في المراد من اللفظ الصادر من الشارع وتنتهي النوبة إلى الرجوع إلى المباني في مسألة الحقيقة الشرعية فيقال : إن ثبتت الحقيقة الشرعية بنحو يوجب النقل كما هو الحال على مسلك الوضع التعييني بالاستعمال بالتقريب المتقدم تعين النقل كما هو الحال على مسلك الوضع التعييني بالاستعمال بالتقريب المتقدم تعين الحمل على المعنى الشرعي. وإن ثبتت بنحو يوجب الاشتراك ، كما هو الحال لو كانت حاصلة لمجرّد كثرة الاستعمال بدون هجر المعنى السابق ، فالحكم هو التوقّف ،

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١٣٣


وكذلك الأمر لو ثبت كون الألفاظ الخاصة حقيقة عرفية أو لغوية في معانيها الشرعية فانَّه مساوق للاشتراك الموجب للتوقّف. وإن قيل بأنَّها مستعملة في لسان الشارع مجازاً تعيّن الحمل على المعنى اللغوي ما لم يفرض وصول المجاز إلى درجة من الشهرة يمكن أن يزاحم فيها الحقيقة بأن يكون انصراف المعنى المجازي من اللفظ بلحاظ كثرة الاستعمال فيه مضاهياً لانصراف المعنى الحقيقي منه غاية الأمر انَّ هذا انصراف من حاق اللفظ والوضع حيثية تعليلية للانصراف وذاك انصراف من اللفظ منضماً إلى معهودية كثرة الاستعمال على نحو تكون هذه المعهودية حيثية تقييدية. وإن قيل بالاستعمال في المعنى اللغوي وإقامة قرينة على فرده الخاصّ أو على باقي الأجزاء والشرائط ، فإن كانت القرينة عامة فلا بدّ من حمل اللفظ على المعنى الشرعي دائماً إلا حيث يحتف اللفظ بما يوجب إجماله ، وإن كانت القرينة خاصة كان حالة حال المجاز. وامَّا إذا علم بالحقيقة الشرعية والنقل ولكن شك في زمان صدور الكلام وانَّه هل كان قبل ذلك ليحمل على المعنى اللغوي أو بعده ليحمل على المعنى الشرعي ، فقد تقدّم تحقيق ذلك على وجه كلّي في بحث تعارض الأحوال فلاحظ.

٢ ـ الصحيح والأعم

اختلفت كلمات الأعلام في تحديد مدلول ألفاظ العبادات والمعاملات من حيث اختصاصه بالنوع الصحيح منهما أو شموله للأعم من الصحيح والفاسد وتنسيقاً للبحث نصنف المسألة إلى مقامين رئيسين رغم اشتراكهما في جملة نكات ، نتكلّم في أولهما عن أسماء العبادات وفي ثانيهما عن أسماء المعاملات.

أسماء العبادات

امَّا المقام الأوّل ، فالكلام فيه يقع من جهات عدّة :


مدى ارتباط البحث بالحقيقة الشرعية

الجهة الأولى ـ في العلاقة بين هذا البحث والبحث المتقدم عن الحقيقة الشرعية.

قد يتبادر إلى الذهن في أوّل وهلة توقّف هذا البحث على ثبوت الحقيقة الشرعية ، بمعنى ثبوت مدلول شرعي لهذه الأسماء لكي يبحث عن اختصاصه بالصحيح أو شموله للفاسد أيضا ولكن الصحيح جريان هذا البحث سواء قيل في البحث السابق بالحقيقة الشرعية أو العرفية أو المجاز.

امَّا على القول بالحقيقة الشرعية فواضح ، وامَّا على القول بأنَّ الأسماء حقائق عرفيّة في نفس المعنى الشرعي ، فلرجوع النزاع إلى البحث عن تحديد ذلك المعنى الحقيقي لدى العرف وهل هو الصحيح أو الأعم؟

وأمَّا على القول بالمجاز ، فقد ذكر بشأن تصوير هذا النزاع بناء عليه أيضا وجوه :

الأول : ما جاء في كلمات صاحب الكفاية ( قده ) من رجوع النزاع على القول بالمجاز إلى تحديد المجاز الأقرب الّذي لا بد وأن

يحمل عليه اللفظ عند القرينة على عدم إرادة معناه الحقيقي ، فهل هو الصحيح أو الأعم؟ وبكلمة أخرى. انَّ أي المعنيين قد اعتبرت العلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي الصحيح من أفراد المعنى الشرعي أو الأعم منه ومن الفاسد لكي يحمل عليه اللفظ ولو لم تكن قرينة معيّنة.

ثمَّ اعترض عليه : بأنَّ اللفظ إن أطلق بلا قرينة أريد منه المعنى الحقيقي لا محالة ، وإلا فلا بدَّ لإثبات المعنى المجازي وتعيينه في المعنى الصحيح أو الأعم من القرينة ، ولو بأن تكون قرينة شخصية عامة في محاورات الشارع ، وأنَّى يمكن إثبات مثل هذه القرينة (١).

وهذا الاعتراض غير وارد ، إذ الطولية بين المعاني المجازية ممَّا لا ينبغي إنكاره ـ كما شرحناه في بحوث الوضع ـ لأنَّ المجاز يكون على أساس العلاقة والمناسبة بين المعنى المجازي والحقيقي الّذي يقتضي قرناً بين اللفظ وبين المعنى المجازي في طول قرنه مع

__________________

(١) كفاية الأصول ج ١ ص ٣٥ ( ط ـ مشكيني )


معناه الحقيقي ، فيعقل أن يكون بعض المعاني المجازية أقرب إلى اللفظ وآكد في اقترانه الطولي من البعض الآخر إمَّا لكون الأخير في طول الأوّل بحيث يكون الانتقال إليه بتوسّط الأوّل ، أو لكون المجاز الأوّل أكثر شبهاً بالمعنى الحقيقي من المجاز الثاني.

إلا أنَّ تطبيق هذه الكبرى على محل البحث لا يخلو من منع ، إذ لا مجال لزعم طولية الأعم للصحيح بعد أن كانت العلاقة المصححة محفوظة فيها بدرجة واحدة عرفاً. وأوضح منه فساداً توهّم طولية الصحيح للأعم.

الثاني : ما جاء في تعليق المحقق الأصفهاني ( قده ) على الكفاية من أنَّ النزاع حينئذ في أنَّ اللفظ قد استعمل عند الصحيحي في الصحيحة لعلاقة بينها وبين المعنى اللغوي ، وفي الفاسدة لا لعلاقة بينها وبين المعنى الأصلي ولا للمشاكلة بينها وبين الصحيحة بل من جهة تصرّف في أمر عقلي وتنزيل المعدوم من الأجزاء والشرائط منزلة الموجود ، لئلا يلزم سبك مجاز في مجاز فلا مجاز أصلاً من حيث المعنى إلا في استعمال اللفظ في الصحيحة ، وحيث انَّ الاستعمال دائماً في الصحيحة من حيث المفهوم والمعنى فمع عدم القرينة على التصرف في أمر عقلي يحمل على الصحيحة ويترتّب عليه ما يترتّب على الوضع للصحيحة من الثمرة. وأمَّا الأعمي ، فهو يدّعي أن اللفظ دائماً مستعمل في الأعم وإفادة خصوصية الصحيحة والفاسدة بدال آخر ، فمع عدم الدال الآخر يحمل اللفظ على ظاهره ويتمسّك بإطلاقه (١).

وهذا التقريب للنزاع أيضا لا تساعد عليه الطرائق العرفية في باب المحاورة ، إذ لو لم تمنع عرفية إعمال مجازين ولو كان أحدهما ادعائيّاً بعد إمكان الاستعمال المجازي لانحفاظ نفس العلاقة سنخاً ، فلا إشكال في عرفية الاستعمال في الأعم ابتداءً بل وقوعها خارجاً ، كما في موارد التقسيم إلى الصحيحة والفاسدة التي يتعيّن فيها الاستعمال في الجامع.

هذا بالنسبة لما ذكره في حقّ الصحيحي ، وامَّا ذكره في حقّ الأعمّي فالمفارقة فيه باعتبار انَّ إفادة المعاني بتعدّد الدال والمدلول وإن كانت طريقة متّبعة عرفاً ولكنها

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٤٨ ـ ٤٩ ( المطبعة العلمية ـ قم )


تتخذ في موارد يراد فيها التحفّظ على الحقيقة ، أمَّا حيث يكون الاستعمال مجازيّا على كلّ حال فلا يبقى موجب عرفي لاستعمال هذه الطريقة زائداً على ارتكاب المجاز.

الثالث : وهو الوجه الصحيح ـ أن يكون النزاع في تحديد مفاد القرينة العامة التي كان يعتمدها الشارع في استعمالاته المجازية ، فالصحيحي يدّعي انَّ مفادها الصحيح ، والأعمّي يدّعى أنَّه الأعم.

ودعوى : تعسر معرفة مفاد القرينة العامة الارتكازية لعدم كونها على حدّ القرائن الخاصّة حسيّة مدفوعة : بإمكان تحديد ذلك عن طريق التبادر وما ينسبق من الاستعمالات الشرعية إلى الذهن ، فانَّه يكون شاهداً على تحديد مفاد القرينة الارتكازيّة العامة بعد فرض عدم كونه المعنى الموضوع له.

معنى الصحة والفساد

الجهة الثانية : في المراد بالصحّة والكلام في ذلك من عدة نقاط :

١ ـ في معنى الصحّة والفساد. فقد ذكروا للصحة معاني مختلفة من موافقة الأمر أو تحصيل الغرض أو سقوط القضاء والإعادة ، والفساد ما يقابل ذلك. وعلّق عليه في كلمات السيد الأستاذ ( دام ظلّه ) : بأنَّ هذه لوازم شرعية قد تترتّب على معنى الصحة وليس شيء منها معناها بالدقة ؛ وإنَّما الصحّة تعني التمامية من حيث الأجزاء والشرائط والفساد نقصانه من حيث أحدهما ، ولذلك كانت الصحة والفساد خاصّين بالمركّبات دون البسائط (١).

والواقع أنَّ معنى الصحّة والفساد لا يساوق التمامية والنقصان أيضا ، بل الصحة في شيء تعني وجدانه للحيثية المرغوب فيها من وراء ذلك الشيء سواءً كان ذلك في المركبات المشتملة على أجزاء وشرائط أم لا ، ولذلك يصحّ عرفاً توصيف ما لا جزء له ولا شرط بالصحّة والفساد ، فيقال مثلاً هذه الفكرة صحيحة أو فاسدة ، بمعنى مطابقة للواقع أم لا ، أو مؤدّية إلى المصلحة أم لا.

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١٤٣ ( مطبعة الآداب ـ النجف الأشرف )


ومنه يعرف : أنَّ التمامية من حيث الأجزاء والشرائط التي جعلها الأستاذ معنى للصحة ـ فضلاً عن تفسيرنا نحن ـ تكون الحيثيّات المتقدمة عن الاعلام مقومة لها وليست مجرّد لوازم شرعية للعمل الصحيح ، لأنَّ تمامية عمل أو وجدانه للحيثية المطلوبة كلاهما أمر نسبي لا بدَّ من ملاحظتهما بالإضافة إلى جهة ومعنى ، كسقوط الأمر أو موافقته أو حصول الغرض منه ليمكن انتزاع وصف الصحة أو الفساد للعمل بلحاظ ذلك ، وإلا فكلّ شيء لو لوحظ بذاته كان تاماً وواجداً لأجزاء ذاته. ولعلَّ هذا مقصود المحقق الأصفهاني ( قده ) حينما ادّعى انَّ هذه الحيثيات ليست من لوازم التمامية فحسب بل ممَّا تتم بها حقيقة (١) وبما أنَّ الجهة الملحوظة المطلوبة في العبادات ليست إلا ما ذكر من موافقة الأمر أو سقوط الإعادة والقضاء أو تحصيل الغرض العبادي وكلّ منها يعبّر عن حيثيّة مطلوبة في العمل العبادي ، فالصحة والفساد في العبادة يكونان بالقياس إلى هذه الحيثيات لا محالة.

٢ ـ انَّ الصحيحي ، تارة : يقصد أخذ ما هو الصحيح بالحمل الشائع من أفراد المعنى الشرعي في مدلول الاسم وأخرى : يقصد أخذ مفهوم الصحيح فيه.

أمَّا التقدير الأول ، فسوف يقع البحث عنه وعن كيفية تصوير الجامع ـ بناء عليه ـ بين الأفراد الصحيحة.

وأمَّا التقدير الثاني : فان كان الغرض مجرّد التسمية فلا كلام. وإن كان الغرض تصوير مسمَّى للفظ يصلح أن يكون تفسيراً لما وقع متعلّقاً للأحكام في خطابات الشارع فمن الواضح أن ما يكون من قبيل عنوان موافقة الأمر المنتزع في طول تعلّق الأمر الشرعي لا يمكن أخذه في مدلول اللفظ الواقع موضوعاً للأمر الشرعي. نعم ، عنوان محصّل الغرض ليس عنواناً طولياً ثبوتاً بل إثباتا ، فلا مانع من أخذه في المعنى الا أنَّ أصل هذا التقدير غير محتمل في نفسه لوضوح عدم تبادر مفهوم الصحة من أسماء العبادات ، وانَّما المعقول دعوى تبادر واقع الصحيح من أفرادها.

٣ ـ لا إشكال في اعتبار الصحّة من حيث الأجزاء على القول بالصحيح ، انَّما

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٥٠ ( المطبعة العلمية ـ قم )


الكلام في اعتبار الصحة من حيث الشرائط حتى ما لا يمكن أخذه منها في متعلّق الخطاب كقصد القربة والوجه. وكذلك القيود اللبيّة كعدم المزاحم ـ لو قيل باشتراطه في صحة العبادة ـ وعدم النهي ـ لو قيل باقتضائه الفساد ـ أمَّا الشرائط ، فالظاهر ملاحظة الصحة من ناحيتها كالأجزاء تماماً ، غاية الأمر أن دخلها يكون بنحو دخول التقليد وخروج ذات القيد والشرط عن المسمّى.

وقد نقل السيد الأستاذ ( دام ظلّه ) عن تقرير بحث الشيخ الأنصاري ( قده ) دعوى : عدم إمكان ذلك ، لأنَّ الشرط في طول المشروط فيكون في طول أجزاء المشروط أيضا فيستحيل أن يؤخذ معها في عرض واحد.

ثمَّ علّق عليه الأستاذ : بأنَّ الترتّب المزعوم بين الشرط والجزء بلحاظ عالم الوجود لا المفهوم فلا مانع من ملاحظتهما معاً في مقام التسمية (١).

ولكنَّ ، الواقع أن أصل الاعتراف بالطولية بين الشرط والجزء في غير محلّه حتى بلحاظ عالم الوجود ، وانَّما الطولية المدعاة في محلّها بين الشرط بما هو شرط والمقتضي المشروط به بما هو مقتضي ، أي بينهما في مقام التأثير ، حيث يزعم بأن تأثير الشرط متأخر رتبة عن تأثير المقتضى لأنه مصحح لفاعلية الفاعل أو قابليّة القابل فيكون متأخراً في مقام التأثير عن اقتضاء المقتضي. وحيثية التأثير غير مأخوذة في اللفظ عند الصحيحي وانَّما المأخوذ ذات الشرائط والأجزاء ، ولا طولية بينهما نعم لو أخذ مفهوم الصحيح بما هو صحيح ومؤثّر في الغرض كان لتلك الدعوى مجال.

وأمَّا قصد القربة والوجه ، فاعتباره في الصحة مبتن على البحث المعروف حول إمكان أخذ قصد القربة ونحوه من القيود في متعلّق الأمر ، لما أشرنا إليه الآن من أنَّ غرض الصحيحي تصوير معنى لأسامي العبادات يصلح أن تقع به متعلقة للأحكام في الخطابات الشرعية ، فما لا يمكن أخذه متعلّقاً للأمر الشرعي لا ينبغي للصحيحي أن يدّعي أخذه في المسمَّى ولو كان معتبراً في الصحة شرعاً أو عقلاً.

وأمَّا عدم النهي والمزاحم ، فان كان النهي أو المزاحم مضافين إلى المسمّى بما هو

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١٤٥ ( مطبعة الآداب في النجف الأشرف )


مسمَّى كانا في طول المسمَّى لا محالة وقد عرفت منافاة أخذه لغرض الصحيحي ، وإن كانا مضافين إلى ذات المسمَّى أمكن أن تلحظ الصحة من ناحيتهما أيضا كما هو الحال في سائر القيود.

تصوير المعنى الجامع على كلا القولين

الجهة الثالثة : لا ينبغي الإشكال في أنَّ هذه الأسماء تعتبر من متّحد المعنى كأسماء الأجناس وليست ذات معان متعدّدة ، كما يشهد بذلك إطلاقاتها في لسان الشارع والمتشرّعة. وعلى هذا الأساس كان لا بدَّ على كلا القولين في هذا البحث من تصوير معنى جامع يشترك فيه جميع الأفراد الصحيحة أو الأعم من الصحيحة والفاسدة.

وفيما يلي نتحدث أولا عن كيفية تصوير جامع للأفراد الصحيحة ، ثمَّ نتحدّث عن الجامع الأعم.

١ ـ تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة

وقد استشكل في إمكانه جملة من الأعلام ، لشدة تباين الأفراد الصحيحة واختلافها من حال إلى حال خصوصاً في مثل الصلاة من العبادات.

والصياغة الفنية للإشكال المذكور : أن هذا الجامع أمَّا أن يكون مركباً أو بسيطاً وكلاهما لا يصحّ. أمَّا الجامع المركّب ، فلأنَّه لو أخذت فيه جميع القيود لم ينطبق على الفاقد لبعضها الصحيح في حال العذر ولو أخذ ما يعتبر في جميع الحالات انطبق على الفاقد حال الاختيار وهو من الفاسد. وأمَّا الجامع البسيط ، فلو أريد به الجامع الذاتي في كتاب الكليّات فهو غير معقول ، لاستحالة وجود جامع كذلك بين قيود متباينة سنخاً. ولو أريد الجامع الذاتي في كتاب البرهان ، أي ما يكون من لوازم الماهية فكذلك غير معقول ، لأنَّ لازم الماهية يكون بمثابة المعلول لها ويستحيل وجود لازم واحد لأمور متباينة سنخاً. ولو أريد مطلق الجامع البسيط ولو كان منتزعاً بلحاظ جهة عرضية ـ كالناهي عن الفحشاء والمنكر مثلا ـ فهذا وإن أمكن ثبوتا ولكنه غير محتمل إثباتاً ، لاستلزامه عدم صدق الاسم إلا بعد ملاحظة الجهة العرضية المصححة لانتزاع


الجامع العرضي ، مع أنَّه لا شك بحسب الارتكاز الشرعي والمتشرّعي في الصدق من دون ملاحظة شيء من الجهات العرضية الإضافية.

وهذه الصيغة الفنية للاستشكال يمكن أن تذكر في حلّها عدّة وجوه :

الأول : وهو الوجه المختار ـ انَّه لا موجب لافتراض أخذ كل الأجزاء والشرائط المعتبرة في الافراد الصحيحة جمعاً في الجامع التركيبي ليستحيل صدقه على الفاقد لبعضها ، بل يؤخذ في الجامع التركيبي ما يلي :

أولا : القيود المعتبرة في صحة الفعل مطلقا وفي جميع الحالات ـ كقصد القربة ـ فتؤخذ في الجامع التركيبي تعيينا.

ثانياً : القيود المعتبرة في الفعل بنفسها أو ببدلها العرضي التخييري كالفاتحة والتسبيحات الأربع في الأخيرتين ـ فيؤخذ في الجامع التركيبي الجامع بينها وبين بدلها العرضي.

ثالثا : القيود المعتبرة في الفعل بنفسها أو ببدلها العرضي التعييني كالوضوء من المحدث بالأصغر والغسل من المحدث بالأكبر وكالأخيرتين في الرباعية من الحاضر وتركهما من المسافر ـ فيؤخذ الجامع بينها وبين بدلها مع تقييد كلّ منهما بموضوعه فيكون صادقاً في الحالتين معاً.

ورابعاً : القيود المعتبرة ولها بدل طولي ـ كالجلوس بدلاً عن القيام أو التيمّم بدلاً عن الوضوء والغسل في حالة الاضطرار ـ وحاله حال القسم السابق يؤخذ الجامع بين البدلين مع التقييد بحالتي الاختيار والاضطرار.

إن قلت ـ انَّ التقييد بمطلق الاختيار يلزم منه تعلّق الأمر بالجامع بين البدلين كلّ في موضوعه ، وهو يستلزم جواز اختيار المكلّف للفرد الاضطراري فيما إذا حقق موضوعه فيجوز له أن يصبّ الماء مثلاً ويتيمّم ، والتقييد بخصوص الاضطرار لا بسوء الاختيار يلزم منه عدم شمول الفرد الاضطراري بعد سوء الاختيار مع كونه صحيحاً وان المكلّف آثماً.

قلت : هذا الإشكال غير مربوط بالتسمية بل بالأمر وكيفية تعلّقه بالفعل ثبوتاً ، وحلّه : بافتراض وجود أمرين أمر بالجامع المذكور وأمر آخر بخصوص الفرد الاختياري


مقيداً بالقدرة عليه عقلاً.

وخامساً : القيود المعتبرة في حال الاختيار ونحوه فقط من دون بدل عنها في غير تلك الحال ـ كما في ترك البسملة تقيّة مثلاً ـ والإشكال في كيفية أخذ هذا القسم من القيود لعلّه أشدّ منه في الأقسام السابقة ، إذ لا جامع بين أمرين كي يمكن ان يؤخذ في المركّب مع تقييد كلّ منهما بموضوعه ولكن الصحيح مع ذلك إمكان تصوير أخذه في الجامع بأحد نحوين :

١ ـ أن نضيق من دائرة صدق الجامع التركيبي من دون أخذ ذلك القيد فيه فيقيد بما لا يكون فاقداً للبسملة من دون تقية. وهذا وإن كان يؤدّي إلى عدم دخول الجزء حال الإتيان به في المسمَّى ، إلا أنَّ ذلك لا ضير في الالتزام به على القول بالصحيح ، ولا ارتكاز متشرّعي ينفيه بعد ملاحظة أن حالات التقيّة ونحوها لا يمكن أن تفترض بالنسبة إلى جميع الأجزاء المهمّة للصلاة وانَّما تنعقل في مثل البسملة من الأجزاء.

٢ ـ أن يؤخذ الجامع بين ذلك الجزء وتقيد الأجزاء الأخرى بحال التقية ونحوها ، كما كان في بعض الأقسام المتقدمة. ومنه يعرف : أن ما يجوز تركه لا إلى بدل في حالة الاضطرار إذا كان مستوعباً أو النسيان يمكن أخذه أيضا في الجامع التركيبي بالنحو الأول.

وقد يستشكل في معقولية أخذه بالنحو الثاني بدعوى : انَّ الجامع بينه وبين التقيد بالاضطرار أو النسيان لا يمكن تعلّق الأمر به ، لعدم إمكان انبساطه على التقيد المذكور ، أمَّا لعدم القدرة عليه كما في الاضطرار ، أو لعدم إمكان الانبعاث عنه كما في النسيان.

وفيه : أوّلاً : سوف يأتي أنَّ الجامع بين غير المقدور والمقدور ويمكن الأمر به ، فلا إشكال في التقييد بالاضطرار.

وثانياً : لا مانع من أخذ جامع من هذا القبيل في التسمية ولو فرض عدم انبساط الأمر على التقيد المذكور للقرينة العقلية. وهكذا يتّضح إمكان تصوير جامع تركيبي يختص بالأفراد الصحيحة.


إن قيل ـ هب أنَّكم استطعتم بهذه العنايات تصوير جامع تركيبي تشترك فيه جميع أفراد الصحيحة ، ولكن العرف لا يساعد على افتراض مثل هذا الجامع المعقّد الهوية مدلولاً للألفاظ التي معانيها أبسط من ذلك في نظره خصوصاً إذا أدخلنا في الحساب القيود اللبيّة من عدم النهي والمزاحم التي لا تنحصر تحت ضابط وحد.

قلنا ـ نمنع أن تكون أسامي لبعض العبادات أبسط من ذلك عرفاً بناء على القول بالوضع للصحيح ـ خصوصاً مثل الصلاة التي فيها نحتاج إلى مثل هذا الجامع التركيبيّ المعقّد ، فانَّ العرف يدرك أيضا أن للصلاة آداب وتفاصيل كثيرة ولا ضرورة في افتراض أن العرف يستحضر بصورة تفصيلية كافة شرائطها وتفاصيلها بل يدرك إجمالاً أن المسمَّى له خصوصيات معيّنة يرجع فيها إلى الشارع المخترع لها ، نظير أسامي كثير من المعاجين والمركّبات التي قد لا يعرف العرف أجزائها تفصيلاً.

الثاني : ما حاوله المحقق الخراسانيّ ( قده ) في تصوير الجامع على الصحيح. ويتألّف من نقطتين :

١ ـ أن المأثور في النصوص الدينية ترتب أثر مشترك على الأفراد الصحيحة خاصة ، وهو الانتهاء عن الفحشاء والمنكر ـ ولو اقتضاء ـ.

٢ ـ أنَّ وحدة الأثر سنخاً تكشف عن وحدة المؤثر سنخاً لا محالة. والنتيجة المتحصلة منهما وجود جامع واحد بين الأفراد الصحيحة خاصة يكون هو العلة في إيجاد الأثر المشترك. والظاهر انَّ مقصوده إثبات جامع بسيط ذاتي بين الأفراد الصحيحة بقرينة اعتماده على المقدّمة الثانية (١).

وقد اعترض على هذا الوجه في كلمات جملة من الأعلام من وجوه :

أولها : أن مجال تطبيق القانون الفلسفي المتقدّم هو لوازم الوجود الواحد أو الحقيقة الواحدة ، فلا مأخذ لتطبيقه على الأمور الاعتبارية أو الانتزاعية كعنوان النهي عن الفحشاء والمنكر الّذي هو نظير عنوان الطويل ينتزع عن حقائق مختلفة ، لأنَّ نسبة هذه الأعراض إلى موضوعاتها نسبة العرض إلى منشأ انتزاعه لا نسبة اللازم إلى علّته. فهذا

__________________

(١) راجع كفاية الأصول ج ١ ص ٣٦ ( ط ـ مشكيني )


الوجه موقوف على إثبات أثر ذاتي مشترك بين الأفراد الصحيحة وأنَّى يمكن ذلك.

ثانيها : ما تقدّم من استحالة وجود جامع بسيط مشترك بين الأفراد الصحيحة ، لأنَّ وجود جامع ذاتي بمعنى الذاتي في كتاب الكليّات خلف تكثر الأفراد وتباينها في الحقيقة ، والذاتي في كتاب البرهان معلول للذات فلا يعقل أن يكون جامعاً لمقولات متباينة والجامع العرضي قد عرفت عدم احتمال وضع الاسم له إثباتاً.

ثالثها : ما أفاده السيد الأستاذ ( دام ظلّه ) من استلزامه خروج المشخّصات الفردية للصحيح في كلّ مورد عن المسمَّى ، مع أنَّه لا إشكال في دخولها في العبادة (١).

وفيه : إن أريد دخالتها في تحقق الجامع وانتزاعه ، فهو مسلم لكنه لا يلزم دخولها في المسمَّى بل المسمَّى ذات الجامع ، وإن أريد دخالتها في التأثير وإيجاد الأثر المشترك فهو ممنوع على ضوء قانون الواحد لا يصدر إلا من واحد.

رابعاً : النقض بالقيود الثانوية ـ كقصد القربة ـ إذ لو أخذت في المسمى لم يمكن وقوعه متعلقا للخطاب الشرعي وإن لم تؤخذ فيه لم يترتب الأثر المشترك عليه لكي يكشف عن الجامع.

وفيه : لو فرض تبني الصحيحي لاستحالة أخذ القيود الثانوية في متعلّق الأمر أمكنه أن يجعل المسمَّى ما يكون مؤثّراً في إيجاد ذلك الأثر المشترك لو انضمّ إليه قصد القربة ، فيكون الجامع بوجوده التعليقي المفاد بقولنا ( ما لو انضمّ إليه قصد القربة كان ناهياً عن الفحشاء والمنكر ) مسمَّى للفظ ولا ضير في كونه تعليقيّاً انتزاعيّاً ، لأنَّه لا يتوقّف على ملاحظة أمر غريب خارج عن ذات المؤثر.

الثالث : ما أفاده المحقق العراقي ( قده ) : من إمكان تصوير جامع وجودي لا ذاتي بين الأفراد الصحيحة باعتبار اشتراكها جميعاً ـ ولو كانت متفاوتة سنخاً وذاتاً ـ في الحيثيّة الوجودية الموجبة لانتزاع عنوان الوجود منها ، فإذا قلنا بأنَّ دخل تلك المقولات المتباينة في الصلاة بلحاظ دخل حيث وجودها الحاوي للمراتب المحفوظة في المقولات بلا دخل خصوصية المقولية في حقيقة الصلاة فلا ضير من جعل الصلاة عبارة عن مفهوم

__________________

(١) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١٥٤


منتزع من هذا الوجود الجامع بين الوجودات المحدودة المحفوظة في كلّ مقولة ، مع أخذه من حيث الزيادة والنقصان من سنخ التشكيكات القابلة للانطباق على القليل تارة والكثير أخرى (١).

والغريب : أنَّ السيد الأستاذ ( دام ظلّه ) حمل كلامه على إرادة الوضع للوجود الخارجي. فأورد عليه : بأنَّ الوجود غير مأخوذ في معاني الألفاظ إطلاقاً ، بل الموضوع له اللفظ ذات المعنى والمفهوم الصالح للوجود خارجا أو ذهنا (٢) مع أن عبارته واضحة في إرادة الوضع بإزاء المفهوم المنتزع من الوجود الجامع.

والصحيح في بيان وجه المفارقة ، أنا لو تعقلنا اشتراك مقولات متباينة سنخا في حيثية وجودية واحدة حاوية لجميع تلك المراتب فلا شبهة في أن تلك الحيثية الوجودية باعتبار واقع الوجود وحقيقته لا يمكن أن ينالها الذهن بل غاية ما يمكن للذهن أن ينال منه عنوان عرضي مشير إليه كعنوان الوجود والموجود ، وواضح أن مثل هذا العنوان ليس مدلولا لأسامي العبادات.

وبكلمة أخرى : ان الحيثية الوجودية من دون انتزاع مفهوم منها لا يصح وضع اللفظ لها لعدم إمكان وضع اللفظ للوجود الخارجي ابتداءً كما أشار إليه السيد الأستاذ ، فلا بدَّ إذن من انتزاع مفهوم. فان كان المفهوم المنتزع عنواناً أوليّا ماهويّاً عاد المحذور ، لتعذر تصوير جامع ماهوي مقولي واحد لعناصر الصلاة المتباينة مقوليّاً ، وإن كان المفهوم المنتزع عنواناً عرضيّاً في طول عناوين القيام والسجود والقراءة ونحو ذلك فهو أمر معقول ولكن مرجعه إلى تصوير الجامع الانتزاعي ، ويرد عليه ما تقدّم في تصوير الإشكال من عدم إناطة تطبيق الصلاة على مصداقها على ملاحظة أي حيثيّة عرضية إضافية وراء تصوّر نفس العناوين الأوليّة لأفعالها.

الرابع : ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) من أنَّ الشيء إذا كان مؤتلفاً من مقولات متباينة وأمور عديدة بحيث تزيد وتنقص كمّاً وكيفاً ، فمقتضى الوضع له بحيث يعمّ

__________________

(١) مقالات الأصول ج ١ ص ٤٠

(٢) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١٦٠


كلّ تلك الموارد ويجمع كلّ متفرقاتها أن تلاحظ بنحو مبهم في غاية الإبهام بمعرفيّة بعض العناوين الغير المنفكّة عنها كعنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر ، فيوضع له اللفظ. وهذا واقع في العرف في مثل الخمر مثلاً الموضوع لمائع مبهم من حيث مرتبة الإسكار ومن حيث كونه متخذاً من العنب أو التمر أو غير هما ، ومن حيث كونه ذا طعم خاص أو لون مخصوص أو غير ذلك من الجهات (١).

وفيه : إن أريد انَّ المسمّى مبهم ثبوتاً فهو غير معقول حتى فيما يصطلح عليه بالمبهمات فضلا عن أسامي العبادات أو المعاملات التي هي كأسماء الأجناس ، فانَّ المبهمات لا إبهام فيها من حيث المعنى والمفهوم الموضوع له اللفظ ، وانَّما إبهامها من حيث انطباقها في الخارج. وإن أريد انَّ المسمَّى معنى عرضي يشار به إلى واقع تلك المركبات فيكون مبهماً لعدم تبيّن المركّب المشار إليه به ـ كعنوان الجامع لما أمر به الشرع ـ فهو خلاف الوجدان العرفي والمتشرّعي القاضي بأنَّ أسامي العبادات والمعاملات كأسماء الأجناس تحكي عن عناوين تفصيلية حقيقية. ومنه يظهر ما في دعواه وضع الخمر لمائع مبهم ، فانَّ الخمر كأسماء الأجناس الأخرى موضوعة لمعنى مبين ولكنَّه ملحوظ لا بشرط من حيث مرتبة الإسكار ، أو المنشأ المأخوذ ـ على القول بعدم اختصاصه بما يتخذ من عصير العنب ـ أو غير ذلك من الجهات.

ويحتمل أن يكون مراده ( قده ) الإبهام في تشخيص المعنى الموضوع له لدى العرف ، كما في أسامي بعض المركّبات والمعاجين. ولو لا اعترافه ( قده ) بعدم معقولية الجامع التركيبي للأفراد الصحيحة لكنا نتأكّد من إرادته هذا المعنى وكان يرجع إلى الوجه المختار.

٢ ـ تصوير الجامع الأعم

أمَّا تصوير الجامع على القول بالوضع للأعم ، فقد استشكل في إمكانه المحقق الخراسانيّ ( قده ) رغم أنَّه صوره فيما سبق على القول بالصحيح. وملخص ما أفاده : أنَ

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٥٥ ( المطبعة العلمية ـ قم )


الجامع البسيط للأعم لا سبيل إليه بعد عدم اشتراك الأفراد الفاسدة مع الصحيحة في الأثر ، والجامع التركيبي غير معقول ، إذ لو أخذت الأركان مثلاً بشرط شيء من ناحية سائر القيود والأجزاء لزم عدم الصدق على الفاقد لها ، وإن أخذت لا بشرط من ناحيتها لزم أن يكون إطلاق الاسم على الواجد لها بخصوصه مجازاً بعلاقة اشتمال على ما يكون صلاة (١).

وهذا الاستشكال ليس بشيء. أمَّا إذا شئنا السير حسب منهجه في تصوير الجامع فلإمكان تصويره بسيطاً ومركّباً. أمَّا بسيطاً ، فبأن نجعل المسمَّى عبارة عمَّا يكون مؤثراً شأناً في النهي عن الفحشاء والمنكر أي ولو في بعض الحالات والملابسات. لأنَّ الفاقد لبعض الأجزاء أو الشرائط غير الركنية عرفاً يكون صحيحاً في حالات العذر ونحوه ؛ فيكون الجامع البسيط للصحيح المستكشف ببركة القانون الفلسفي المتقدم بنفسه جامعاً للأعم ولكن لا بوجوده الفعلي المخصوص بالصحيح بل الشأني المحفوظ في الأعم.

وأمَّا مركباً ، فبأخذ الأركان لا بشرط من حيث انضمام الأجزاء الأخرى ومحذور : استلزام ذلك لعدم صدقه على الواجد بما هو واجد قد تصدّى السيد الأستاذ ( دام ظلّه ) إلى دفعه : بأن اللا بشرطية قد تكون بنحو لا يضر به فقدان القيد مع كون وجوده داخلا في المسمَّى. وقد مثّل له بالكلمة العربية المأخوذة لا بشرط من حيث الزيادة على حرف أو حرفين مع دخول الزائد في مسمَّى الكلمة على تقدير وجوده (٢).

والتحقيق : انَّ اللا بشرطية ليس لها إلا معنى واحد ، وهو الإطلاق المقابل للتقييد الّذي يعنى رفض القيد وهو يلازم خروجه وجوداً وعدماً. نعم ، لو قيل بأنَّ الإطلاق بمعنى جمع القيود أمكن أن يكون القيد في حال وجوده مقوماً وفي حال عدمه غير مقوم ، ولكنه فاسد مبنى كما حقّق في محلّه ، وبناء لاستلزامه أن يكون المسمَّى الأفراد الخارجية بما هي أفراد فتكون الأسماء من متكثر المعنى على حدّ الحروف والهيئات.

والصحيح أن يقال : أن الجامع المركب إذا أريد على نحو يتضمّن الأركان

__________________

(١) كفاية الأصول ج ١ ص ٣٩ ( ط ـ مشكيني )

(٢) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١٦٩


بعناوينها التفصيلية فالإشكال منجز ، سواء لوحظت هذه الأركان بلحاظ سائر الأجزاء لا بشرط أو بشرط شيء ولكن إذا أريد به جامع انتزاعي منتزع من تجمع الأركان وحدها تارة ، ومن التجمع المشتمل عليها وعلى سائر الأجزاء تارة أخرى ، ويكون انتزاعه من هذا التجمع أو ذاك غير منوط بملاحظة أيّ حيثيّة عرضية زائدة على ذوات الأجزاء المتجمعة فهو أمر معقول ويحقّق غرض الأعمّي بدون استلزام محذور ، وذلك من قبيل ان يوضع لفظ الكلمة مثلاً لعنوان ما زاد على الحرف الواحد ، فانَّ هذا ينطبق على الكلمة الثنائية والكلمة الثلاثية الحروف على السواء ، فيمكن تصوير نظير ذلك في المقام ، وكون هذا العنوان انتزاعيّاً لا يقدح بعد أن كان منتزعاً بلحاظ نفس الأجزاء والقيود الداخلة في المسمَّى.

ثمرة النزاع في أسماء العبادات

الجهة الرابعة : حول ثمرة هذا البحث ومهمّ ما ذكر بهذا الصدد ثمرتان :

أولاهما : وهي مبنيّة على أن يكون المسمَّى عند الصحيحي جامعاً بسيطاً وعند الأعمّي جامعاً تركيبيّاً ، لعدم إمكان استكشاف جامع بسيط بين الصحيحة والفاسدة. فيقال عندئذٍ : بظهور ثمرة البحث فيما لو شك في اعتبار جزء أو شرط ، حيث يكون من الشك في المحصل بناء على الصحيح فيجب الاحتياط ، ومن الشك في التكليف الزائد بناء على الأعمّ فتجري البراءة.

وفيه : أولا ما تقدّم من بطلان المبنى.

وثانياً : كون المسمَّى جامعاً بسيطاً لا يلازم عدم جريان البراءة عند الشك.

لا لما جاء في الكفاية من أنَّ الجامع البسيط قد يفترض متّحداً مع الأجزاء والشرائط في الوجود (١). فانَّ هذا الكلام غير فنّي على ما يتّضح.

بل الصحيح : انَّ الجامع البسيط إن افترض ذا مراتب تشكيكية تصدق على الضعيف والشديد بحيث تؤدّي سعة المركّب وضيقه من حيث الأجزاء والشرائط إلى

__________________

(١) كفاية الأصول ج ١ ص ٣٧ ( ط ـ مشكيني )


شدة ذلك الجامع وضيقه ـ كما زعمه المحقق العراقي فتجري البراءة عند الشك في القيد ولو كان الجامع غير متّحد مع المركّب بل مسبباً عنها خارجاً ، لرجوعه إلى الشك في وجوب المرتبة الشديدة منه وهو شك في التكليف.

وان افترض الجامع البسيط غير تشكيكي بل بسيط في وجوده كما هو بسيط في مفهومه ، فان فرض أنَّه وجود مباين مع المركّب مسبب عنه كان من الشك في المحصل الّذي هو مجرى قاعدة الاشتغال. وإن فرض انَّه متّحد معه في الوجود وإن كان مبايناً ذاتاً ، فإن كان منتزعاً منه بلحاظ جهة عرضية داخلة في عهدة المكلّف ، نظير عنوان المؤلم المنتزع من الضرب بلحاظ حيثية الألم القائمة بالمضروب ، فالشك بلحاظ ما هو داخل في العهدة شك في المحصل وإن كان بلحاظ قيود ذات المركّب دائرة بين الأقل والأكثر ، فيلزم الاحتياط أيضا.

وإن كان متّحداً معه وجوداً وذاتاً ، بأن كان منتزعاً بلحاظ ذات المركّب فالشك في أصل التكليف ، لأن ما هو داخل في عهدة المكلّف هو الجامع الذاتي الّذي افترضنا اتحاده مع المركّب ذاتاً ووجوداً ، فالشك في المركّب يعني الشك في حدود ما هو داخل تحت عهدة المكلّف فتجري البراءة.

وكذلك الحال فيما إذا افترضنا الجامع اعتباريّاً لا خارجيّاً ـ سواء كان تشريعيّاً كعنوان الطهور أو عقليّاً كعنوان أحدهما ـ فتجري البراءة عند الشك ولو كانت نسبة الجامع الاعتباري إلى المركّب نسبة المسبب إلى السبب كما لو شك في حصول الطهور شرعاً بثلاث غسلات ـ لأنَّ الارتكاز العرفي المحكَّم على الخطابات الشرعية يقضي بأخذ العناوين المذكورة على نحو الطريقية والمشيرية إلى معنوناتها الخارجية متعلّقاً للتكليف وليست هي المطلوبة على سبيل الاستقلال ، فيكون الشك بلحاظ ما يدخل في عهدة المكلّف شكّا في التكليف الزائد لا محالة.

ومن التأمّل فيما ذكرناه يظهر لك أوجه المفارقة في جملة من كلمات الأعلام في المقام.

ثانيهما : ذكروا : أنَّه على القول بالوضع للصحيح ينسد باب التمسّك بالإطلاق اللفظي في الخطابات الشرعية المشتملة على هذه الأسامي وإن أمكن التمسّك


بالإطلاق المقامي أحياناً ، لرجوع الشك في اعتبار قيد إلى الشك في الصدق. وعلى القول بالأعم يمكن التمسّك بالإطلاق اللفظي ابتداءً ، لانحفاظ صدق العنوان على كلّ حال.

وهذا التقرير للثمرة صحيح لا غبار عليه ، وإن وقع التشكيك في صحّتها من قبل بعض الأصوليّين نتيجة خلطه بين الإطلاق اللفظي الّذي هو سنخ من دلالة اللفظ ولكن مشروطا بمقدمات تثبت بأصول عقلائية عامة ولا يحتاج إلى قرينة خاصة ، وبين الإطلاق المقامي الّذي هو من دلالة الحال ومقام السكوت مشروطاً بتوفّر قرينة خاصة يحرز بها وجود مقتضي البيان.

اختيار أحد القولين

الجهة الخامسة : في اختيار أحد القولين والبرهنة عليه. ونستعرض في هذه الجهة أدلة القول بالوضع للأعم أولا ثمَّ أدلة القول بالوضع للصحيح.

١ ـ أدلة القول بالوضع للأعم

ذكروا لإثبات الوضع للأعم وجوه عدة :

١ ـ ما ذكره السيد الأستاذ ( دام ظلّه ) من أنَّ الصلاة موضوعة للأعم من الصحيحة والفاسدة بلحاظ الأجزاء والشرائط غير الأركان الأربعة المتمثّلة في التكبير والركوع والسجود والطهور فإنَّها مقوّمة للمسمَّى أيضا وقد حاول استظهار ذلك من الأخبار البيانيّة التي وردت بشأن تحديد أجزاء الصلاة وقيودها. أمَّا التكبير ، فلأنَّه ورد بشأنه بأن افتتاح الصلاة يكون به فمن دون التكبير لا صلاة بعد. ولعلّه لذلك لم يذكر فيما تعاد الصلاة بالإخلال به ، فكأنَّ أحاديث لا تعاد ناظرة إلى الإخلال بصلاة منعقدة حدوثاً وأمَّا الركوع والسجود والطهور ، فلما ورد من أنَّ الصلاة ثلثها الركوع وثلثها السجود وثلثها الطهور. ولا ضير في أن تكون الا ثلاث الثلاثة كلّها مستوفاة بحيث لا يبقى محل لغيرها ، فانَّ هذا مجرّد إطلاق قابل للتقيد بما دلّ على ركنيّة جزء آخر هو التكبير ، أو يحمل على أنَّها أثلاث للصلاة بعد فرض الدخول فيها


بالتكبير ، وامَّا الأجزاء الأخرى فلا تكون مقومة للمسمَّى ولا ركناً فيها ، ولذا لا تجب الإعادة بسبب الإخلال بها نسياناً (١).

وهذه الدعوى تنحل بحسب الحقيقة إلى جانب إيجابي ، هو أخذ الأركان الأربعة في المسمَّى ، وجانب سلبي هو عدم أخذ غيرها فيه. ورغم انَّ الجانب السلبي هو محل النزاع في هذا البحث نجد انَّ الّذي استأثر باهتمام الأستاذ كان هو الجانب الإيجابي فتصدّى للبرهنة عليه بالنصوص والروايات.

وأيّاً ما كان فيما يمكن أن يذكر دليلاً على الجانب السلبي وجوه عديدة :

منها ـ انَّ الأجزاء غير الركنية لو كانت مأخوذة في المسمَّى لما صحّت الصلاة بالإخلال بها ولو نسياناً ، وهو خلاف المقرر فقهيّاً.

وفيه : ما تقدّم من أنَّ الصحيحي إنَّما ينتزع الجامع عمَّا يكون مطابقاً للمأمور به بمقدار دخالته فيه لا أكثر ، فإذا كان اعتباره منوطاً بحال دون حال أخذ في الجامع مقيداً بذلك الحل فلا يكون في البين إخلال.

ومنها ـ استكشاف ذلك من الأخبار البيانية ، حيث اقتصرت في بيان الأركان على الأربعة المتقدمة ولم تذكر سائر الأجزاء.

وفيه : أنَّه موقوف على إحراز ورود الأخبار لبيان المسمَّى أيضا ، وأنَّى يمكن إحراز ذلك.

ومنها ـ التمسّك بمفهوم ما دلَّ على أنَّ الصلاة ثلاثة أثلاث : ثلث طهور وثلث ركوع وثلث سجود (٢) بدعوى : أنَّ ظاهرها الأوّلي بيان حقيقة الصلاة وتكوينها ، ولا موجب لرفع اليد عن هذا الظهور إلا في تكبيرة الإحرام التي دلّت نصوص أخرى على أنَّ الصلاة تفتتح بها.

وفيه : أنَّ دلالة رواية التثليث تكون بالوضع فلا يمكن أن يجمع بينها وبين دليل ركنية التكبير بالتقييد ، كما لا يمكن إرادة الا ثلاث بعد الدخول في الصلاة بالتكبير

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١٧٥ ( مطبعة الآداب ـ النجف الأشرف )

(٢) راجع وسائل الشيعة باب ـ ٩ ـ من أبواب الركوع والسجود


لأنَّه ينافي مع كون أحد الثلاثة الطهور. فيتعين الجمع بينها وبين دليل ركنية التكبير ـ بل وأدلة القيود الأخرى الأخرى المعتبرة في الصلاة أيضا ـ بإرادة التثليث من حيث الأهمية أو الثواب كما ورد ذلك بشأن سورة الإخلاص من أنَّها ثلث القرآن الكريم. هذا إذا لم يدع ظهور سياق دليل التثليث في ذلك من أوّل الأمر.

وأمَّا الجانب الإيجابي في كلام السيد الأستاذ ، فما يمكن أن يكون مدركاً له انَّما هو رواية تثليث الصلاة بضميمة ما دلَّ على أنَّ الصلاة تفتتح بالتكبير ، ولكن يرد عليه :

أولا : انَّ هذه الأحاديث امَّا أن يدعى عدم ظهورها في أكثر من إبراز أهمية الأمور الأربعة وركنيتها بلحاظ الغرض الشرعي فلا تثبت ما هو المطلوب ، وأمَّا أن يجمد على ظاهر التعبير فيها ، فلا بدَّ حينئذ من الالتزام بدخالة كلّ ما ورد فيه تعبير مماثل من الأجزاء أو الشرائط في المسمَّى ، من قبيل ما ورد من أنَّه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ولا صلاة لمن لم يقم صلبه وغير ذلك.

وثانياً : انَّ الأخبار المتعرضة لركنية تكبيرة الإحرام على طوائف :

أولاها : ما دلَّ على الاجتزاء بتكبيرة واحدة في افتتاح الصلاة ، من قبيل رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر 7 قال : التكبيرة الواحدة في افتتاح الصلاة تجزي والثلاث أفضل والسبع أفضل كلّه (١).

ولا دلالة فيها على أكثر من دخل تكبيرة الإحرام في الاجتزاء وأداء الواجب الشرعي.

ثانيتها : ما دلَّ على أنَّ التكبير بمثابة الصلاة كرواية إسماعيل بن مسلم عن جعفر عن أبيه عن رسول الله 6 ( في حديث ) قال : ولكلّ شيء أنف وأنف الصلاة التكبير (٢).

وهذه قد تكون على عكس المقصود أدلّ لأنَّ أنف الشيء لا يكون مقوماً له وإنَّما هو كناية عن مقدمته على انَّ الرواية ساقطة سنداً.

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ١ من تكبيرة الإحرام ج ٤

(٢) نفس المصدر والباب ج ٦


ثالثتها : ما دلّ على أنَّ التكبير مفتاح الصلاة ، كرواية ناصح المؤذن عن أبي عبد الله 7 ( في حديث ) قال : فانَّ مفتاح الصلاة التكبير (١).

وهذه وإن كان قد يستظهر منها انَّ الصلاة لا تنعقد بدون التكبير مهما جاء الإنسان بالأركان والأجزاء إلا أنَّ هذا الظهور انَّما يجدي فيما لو أحرز أنَّ النّظر إلى المسمَّى لا أداء المطلوب الشرعي. على أنَّ ناصح المؤذن ممّن لم يثبت توثيقه.

رابعتها : ما دلّ على حصر افتتاح الصلاة بالتكبير كرواية ( المجالس ) بإسناده ( في حديث ) قال رسول الله 6 : وامَّا قوله : الله أكبر إلى أن قال : لا تفتح الصلاة إلا بها (٢).

وهي مضافاً إلى ضعف سندها لا يعلم أن تكون جملة خبرية فضلاً عن أن تكون ناظرة إلى ما يكون مقوم صدق المسمَّى ، بل يحتمل أن تكون جملة ناهية ومع الاحتمال لا يتمّ الاستدلال.

خامستها : ما دلّ على أن تحريم الصلاة تكبير ، كرواية ابن القداح عن أبي عبد الله 7 قال : قال رسول الله 6 : ( في حديث ) وتحريمها التكبير (٣).

وهي لا تدلّ على أكثر من حرمة الإتيان بمنافيات الصلاة بعد الدخول فيها.

سادستها : ما دلّ على أنَّه لا صلاة بدون افتتاحها بالتكبير كرواية عمّار قال : سألت أبا عبد الله 7 عن رجل سها خلف الإمام فلم يفتتح الصلاة قال : يعيد الصلاة ولا صلاة بغير افتتاح (٤).

ولعلَّ هذه أحسن ما يمكن الاستدلال بها على المدعى من روايات ركنية تكبيرة الإحرام. لكنَّه مع ذلك لا يتمّ لأنَّ قوله 7 ( يعيد صلاته ) إن لم يكن قرينة على انَّ النّظر إلى مقام الامتثال والأجزاء لا المسمَّى وإلا لم يناسب أن يعبر عنه بالإعادة ، فلا أقلّ من الاحتمال المستوجب للإجمال.

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ١ من تكبيرة الإحرام ج ٧

(٢) نفس المصدر والباب ج ١٢

(٣) نفس المصدر والباب ج ١٠

(٤) وسائل الشيعة باب ٢ من أبواب تكبيرة الإحرام ج ٧


على أن نفي عنوان الصلاة عن الفاقدة لا يختص بالتكبير بل وارد في كثير من الأجزاء ، كما يعرف بمراجعة الأخبار البيانية.

وهكذا يتّضح : عدم وفاء شيء من روايات تكبيرة الإحرام على أخذها في المسمَّى ، فالجانب الإيجابي من كلام السيد الأستاذ ( دام ظلّه ) لا دليل عليه أيضا.

٢ ـ صحة تقسيم الأسماء بما لها من المعنى الشرعي إلى الصحيح والفاسد.

وفيه : أنَّه لا يدلّ على أكثر من صحة استعمالها في الأعم وهو أعمّ من الحقيقة.

٣ ـ ما ورد من التعبير بالإعادة في موارد وقوع العبادة فاسدة المستبطن للاعتراف بصدق الاسم على الفاسد أيضا.

وفيه : انَّ الاستعمال ـ كما عرفت ـ أعمّ من الحقيقة. نعم لو أريد به مجرّد إبراز منبه وجداني لمن يعترف سلفاً بعدم العناية في هذه الاستعمالات كان له وجه. إلا انَّه منقوض عليه بمثل لا تعاد الصلاة إلا من خمس ، المشعر بصدق الاسم مع فقد الأركان أيضا وهو ممَّا لا يلتزم به القائل بالأعم. وكذلك ينقض عليه بالإطلاقات المعاكسة ، من قبيل لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب.

٤ ـ دعوى تبادر المعنى الأعم.

وفيه : لو سلّم فلا يمكن ان يكشف عن المعنى الثابت في زمن الشارع ، إذ لعلّه كان حقيقة في الصحيح ونقل إلى الأعم نتيجة التوسّع في الإطلاقات عند المتشرعة.

وأصالة عدم النقل العقلائية لا يحرز ثبوتها في موارد يكون مقتضي النقل مؤكداً في نفسه.

٥ ـ ما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ) من شهادة سيرة العقلاء المخترعين للمعاجين ونحوها على الوضع للأعم بلحاظ شرائط التأثير دون الأجزاء (١).

وفيه : لو سلّمنا ذلك ، وسلّمنا متابعة الشرع لنفس الطريقة ، فهو خلط بين شرائط الاستعمال والتأثير وشرائط المركّب نفسه التي هي محلّ البحث ، إذ أي فرق بين الأجزاء وبين أن يكون المعجون ذا رائحة خاصة أو لون معيّن.

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٧١ ( المطبعة العلمية ـ قم )


٦ ـ الاستدلال بمثل قوله 7 « دعي الصلاة أيّام أقرائك » بتقريب : أن صلاة الحائض فاسدة لعدم الطهور فنهيها عنها دليل الوضع للأعم.

واعترض عليه من قبل بعض المحققين (١) بأن هذا النهي إرشادي فيكون مفاده الأخبار عن عدم القدرة على الصلاة لكونها مشروطة بالطهور.

وأجيب عنه (٢) : بلغوية الأخبار بعدم القدرة على الصلاة عن طهارة من الحيض في حال الحيض.

وفيه : أنَّه لا لغوية إذا كان الغرض من نفس هذا الخطاب إرشاده إلى منافاة الحيض مع الطهور المعتبر في الصلاة. والغريب من المجيب في مقام إبطال أصل الاستدلال أن جعل مراد الصحيحي استعمال اللفظ فيما هو الصحيح بقطع النّظر عمَّا يعتبر بشخص ذلك الخطاب. مع أنَّ هذا تفسير بما لا يرضى به صاحبه ـ كما هو ظاهر القول بالوضع للصحيح ـ وخلاف غرضه من المنع عن التمسّك بإطلاق الخطاب عند احتمال اعتبار قيد بشخص ذلك الخطاب.

ويمكن أن يجاب عن الاعتراض : بأن الإرشادية لا تعني استعمال الجملة الإنشائية الناهية في مدلول استعمالي إخباري هو نفي القدرة على الصلاة ، فانَّ هذا غير محتمل.

وانَّما تعني عدم إرادة الحرمة الذاتيّة من النهي ثبوتاً لقرينة عامة مختصة بأدلة المانعية في باب المركّبات مع كون المستعمل فيه الجملة الإنشائية هو النهي عن صلاتها ، فهذا الاعتراض غير متّجه.

وهناك اعتراض آخر وجهه صاحب الكفاية ( قده ) وحاصله : أن القول بالأعم أيضا لا يدفع الإشكال نهائيّاً ، إذ لازمه حرمة إتيان الحائض بالصلاة الفاسدة من غير ناحية الحيض. فلا بدَّ من تقييدها بما يكون صحيحاً من غير ناحية الحيض ، ومعه لا يكون دليلاً على مقالة الأعمي أيضا (٣).

وفيه : إمكان دعوى استفادة التقييد المذكور بنحو تعدد الدال والمدلول من قرينة

__________________

(١) هو الشيخ محمد تقي صاحب الحاشية

(٢) نهاية الدراية ج ١ ص ٧٣ ( المطبعة العلمية ـ قم )

(٣) كفاية الأصول ج ١ ص ٤٨ ( ط ـ مشكيني )


خاصة وهي كون النّظر إلى الإتيان بما هو وظيفتها الشرعية لو لا الحيض ، وأمَّا الاسم فمستعمل في الأعم.

والصحيح في الجواب : أنَّه لا مانع من إرادة الصحيحة بالخصوص بناء على القول بالوضع للصحيح ، بل هو المتعيّن على ضوء القرينة التي ذكرناها الآن ؛ غاية الأمر : أنَّه لا يكون بداعي الزجر بل بداعي إبراز عدم القدرة على الفعل خارجاً.

٢ ـ أدلة القول بالوضع للصحيح

وذكر بشأن إثبات الوضع للصحيح وجوه أيضا :

١ ـ التمسّك بمثل قوله تعالى « إنَّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر » (١) أو قوله 7 « الصلاة قربان كلّ تقيّ » (٢) إذ بعد العلم باختصاص اللوازم بالصحيحة يعرف أن الفاسدة ليست بصلاة.

وفيه : أنَّه من التمسّك بالأصل عند الشك في الاستناد ، حيث يعلم بخروج الفاسدة ولكن لا يدري هل يكون خروجه بالتخصيص أو من جهة وضع الاسم لغيرها. فلا يتمّ بناء على عدم صحة إجراء الأصول العقلائية اللفظية في هذه الفروض.

٢ ـ التمسّك بما دلّ على نفي الصلاة عن الفاقد كقوله 7 « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » وما لم يرد فيه ذلك يلحق بما ورد فيه بعدم احتمال الفرق.

وفيه : مع الغضّ عن أنَّ نظر هذه الألسنة إلى قيود الواجب وما هو الوظيفة الشرعية بأسلوب بليغ أكيد ، أنَّها معارضة بمثل ما تقدّم عن القائل بالأعم من إطلاقات تشهد على العكس.

٣ ـ الاستشهاد بالطريقة العقلائية للمخترعين التي تقتضي بوضع الاسم للفرد الصحيح الواجد للأجزاء والشرائط المعتبرة فيه ولم يظهر انَّ الشارع قد حاد عنها فيما

__________________

(١) سورة العنكبوت آية : ٤٥

(٢) راجع وسائل الشيعة باب ١٢ من أبواب أعداد الفرائض


شرعه من عبادات.

وفيه : ما تقدّم في بحث سابق من أنَّ مجرّد وجود طريقة عقلائية في هذا المجال لا يستوجب أكثر من احتمال أو ظنّ باتباع الشارع لنفس الطريقة ولا دليل على حجيّة هذا الاحتمال أو الظنّ ، إلا أن تبلغ مرتبة من الوضوح والارتكاز في أذهان الناس بحيث تخلع على الاستعمال الشرعي ظهوراً في إرادة الوضع للصحيح وعهدة إثبات مثل ذلك في المقام على مدعيه.

٤ ـ دعوى : تبادر خصوص الصحيح وانسباقه إلى الذهن عند إطلاق الاسم في مثل قولنا ( فلان صلَّى ) حيث يفهم منه أنَّه أدَّى الصلاة الصحيحة المبرئة لذمته لا الفاسدة.

وفيه : ان مأخذ التبادر المزعوم ليس هو اللفظ بل القرينة المعنوية العامة ، وهي معهودية التزام كلّ مكلّف بأداء ما هو وظيفته الشرعية بنحو مبرئ للذمة.

المختار في الصحيح والأعم

والتحقيق في الاستدلال على الوضع للصحيح أو الأعم أن نرجع إلى البحث المتقدّم في المسألة السابقة والمباني المذكورة هناك فنقول : تارة : نبني على ثبوت المعاني الشرعية لأسماء العبادات أو المعاملات كحقائق عرفية كانت دائرة بين الناس قبل مجيء الإسلام. وأخرى : نبني على ثبوتها لها كحقيقة شرعية تعينية. وثالثة : نبني على الحقيقة الشرعية التعيينية.

فعلى الأول ، لا معنى لتوهم الوضع بإزاء الصحيح خاصة : بل يتعيّن المصير إلى أنَّها كانت موضوعة لمعنى عام صالح للانطباق على ما اعتبره الإسلام فيها من أجزاء وقيود وعلى الثاني ، يترجّح الوضع للأعم أيضا ، لإمكان إحراز شرط الوضع التعيني ـ وهو كثرة الاستعمال ـ بالنسبة للأعم بخلاف الصحيح. بل قد لا يحرز أصل إطلاقه عليه ، لاحتمال كون الإطلاق في موارده باعتبار مصداقيته للأعم أيضا.

وعلى الثالث ، يشكل إحراز أيّ من الوضعين التعيينيين من قبل الشارع إلا انَّ أصل هذا المبنى كان بلا مأخذ في المسألة السابقة ، سيّما إذا لاحظنا أنَّ تداول الأسامي


في استعمالات الشارع كان سابقاً على تبيان الأجزاء والشرائط والتي اقتضت المصلحة أن يتدرّج في بيانها ، فلو كان هناك وضع تعييني من قبل الشارع فالأرجح أنَّه كان في الأعم ، لأنَّ الوضع للصحيح بما هو صحيح غير محتمل ؛ ولواقع الأجزاء والشرائط التي هي مبهمة لم تعرف بعد لا يناسب غرض الوضع والوضع لما هو مبين فعلا يوجب تغير الوضع وهكذا يترجح القول بالوضع للأعم على جميع التقادير.

ثم إن هناك رأيا آخر في معاني هذه الأسماء تبناه الشيخ الأنصاري ( قده ) وتبعه فيه المحقق النائيني ( قده ) وهو انَّ الموضوع له في مثل لفظ الصلاة المرتبة العليا منها المتمثّلة في صلاة المختار الواجد لجميع القيود ، واستعمالها في المراتب الأخرى يكون بعناية تنزيل الفاقد منزلة الواجد مع العذر نعم لا بدَّ من فرض المرتبة العليا جامعة بين القصر والتمام لكونهما في عرض واحد.

وهذا إذا كان بقصد التخلّص من تصوير الجامع بلحاظ سائر المراتب فهو يواجه أيضا مشكلة تصوير الجامع بلحاظ الأنحاء المختلفة للصلاة الاختيارية لا من ناحية القصر والتمام فقط بل من ناحية كونها ثنائية تارة وثلاثية أخرى ورباعية ثالثة.

أسماء المعاملات

المقام الثاني : في أسماء المعاملات. والبحث عن وضعها للصحيح أو الأعم يقع في جهات أيضا.

تحرير صيغة النزاع في أسماء المعاملات

الجهة الأولى : في صيغة النزاع ، حيث يمكن أن يجعل النزاع في وضعها للصحيح أو الأعم بنظر الشرع ، كما يمكن أن يجعل النزاع في وضعها لذلك بنظر العقلاء وإن لم يكن صحيحاً عند الشرع ، حيث انَّ للعقلاء أيضا نظراً في صحة المعاملة وفسادها ، فلا بدَّ من تحديد المراد بالصحّة المبحوث عنها أهو الصحة عند العقلاء أو عند الشرع أيضا؟

وقد اختار السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ أن المبحوث عنه هو الوضع للأعم أو الصحيح


بنظر العقلاء فقط ، إذ دعوى الوضع بإزاء الصحيح الشرعي يستوجب أن تكون أدلة الإمضاء من مثل ( أحلّ الله البيع ) لغواً حيث يرجع بحسب المفاد إلى قولنا البيع الصحيح صحيح ، وهي قضية بشرط المحمول (١).

وفيه : مضافاً إلى أنَّ غاية ما يلزم أن يكون البيع في شخص هذا الاستعمال أريد به الأعم ولو مجازاً بقرينة ورودها في مقام الإمضاء أن ما ذكر من المحذور انَّما يتّجه فيما إذا أريد بالوضع للصحيح عنوان الصحيح ، وهو لم يكن محتملاً في أسماء العبادات فضلاً عن أسماء المعاملات ، وإنَّما مدّعى الصحيحي هو الوضع بإزاء واقع الصحيح وهو المركب المشتمل على قيود تستوجب ترتّب الأثر المطلوب ، فيكون قوله تعالى ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) ) بمثابة ان يقول « أحلّ الله التمليك بعوض المقرون بالرضا والإنشاء بفعل الماضي والبلوغ مثلاً » ولا لغوية في ذلك كما هو واضح. وإن شئت قلت كما أن الصحة في المعاملة متقومة بالإمضاء كذلك الصحة في العبادة متقومة بالأمر فيكون أخذها في المسمَّى مستلزماً لتعلّق الأمر بالمأمور به وهو من القضية بشرط المحمول أيضا ، فالتفرقة بين المقامين في الإشكال المذكور لا نفهم له وجهاً. والجواب ما عرفت.

فالصحيح ، أنَّ النزاع يمكن أن يجعل في الوضع للصحيح عند العقلاء أو الوضع للصحيح عند الشارع الّذي هو أخصّ من الصحيح عند العقلاء.

تصوير النزاع في المعاملة بمعنى المسبب

الجهة الثانية : في جريان النزاع في أسماء المعاملات بمعنى المسببات.

ذكر المشهور : أنَّ النزاع في أسماء المعاملات مبنيّ على أن تكون اسماً للمعاملة بمعنى السبب ، لأنَّه الّذي يشتمل على أجزاء وشرائط ويترتّب عليه الأثر فيتصوّر فيه الصحة والفساد ، وأمَّا المعاملة بمعنى المسبب ـ كالملكية ـ فأمره دائر بين الوجود والعدم لا الصحة والفساد.

وعلّق عليه السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ بأنَّ المسبب له معنيان :

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٣٠٤ ( مطبعة الآداب في النجف الأشرف )


١ ـ الأثر الشرعي أو العقلائي الحاصل بالمعاملة كالملكية مثلاً :

٢ ـ الأثر المنشأ من قبل المتعاملين أنفسهما ، وهو اعتبار شخصي قائم بالمتعاملين يكون بمثابة موضوع للاعتبار العقلائي والشرعي.

والّذي لا يعقل فيه الصحة والفساد انَّما هو المعنى الأوّل من المسبب لا الثاني ، فانَّه قابل للاتّصاف بهما لاستتباعه ترتّب الأثر وعدمه.

ثمَّ أفاد بأن المعنى الأول للمسبب لا مجال لأن يتوهّم كونه الموضوع له ، لوضوح انَّه ليس فعلاً للمتعاملين بل فعل الشارع أو العقلاء وأسماء المعاملات تنسب إلى المتعاملين أنفسهما فيقال : باع واشترى ، ولا يصحّ أن يقال : باع الشارع أو اشترى العقلاء (١).

والصحيح ، ما ذهب إليه المشهور فانَّ المعاملة بمعنى المسبب يمكن أن يراد بها الأثر العقلائي أو الشرعي المترتّب خارجاً على السبب باعتباره النتيجة المتوخّاة من قبل المتعاملين ، ولو كان هناك اعتبار شخصي أيضا من قبلهما فذلك استطراق إلى حصول النتيجة القانونية. وبما أن هذه النتيجة من فعل المتعاملين بالتسبيب صح اسناد المعاملة إليهما فيكون المراد بالمسبب ما هو فعل المتعاملين بالتسبيب وهو فعلية المجعول العقلائي أو الشرعي وترتّبه خارجاً لا جعل الأثر بنحو القضية الحقيقية. وفعلية المجعول العقلائي يدور أمرها بين الوجود والعدم لا الصحة والفساد كما هو واضح.

ثمرة النزاع في أسماء المعاملات

الجهة الثالثة : في ثمرة النزاع لا إشكال في عدم انعقاد الإطلاق اللفظي في أدلة المعاملات بناء على القول بوضعها للصحيح كما هو الحال في أسماء العبادات بناء على وضعها للصحيحة ، إلا أنَّه على القول بالوضع للصحيح الشرعي لا ينعقد إطلاق لفظي أصلاً ، وعلى القول بالوضع للصحيح العقلائي ففيما يشك في اعتباره عند العقلاء فقط لا ما يحرز عدم اعتباره عندهم ويشك في اعتباره شرعاً.

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٣٠٤ ( مطبعة الآداب في النجف الأشرف )


ولكن قد يعوّض عن الإطلاق اللفظي بدلالة أخرى ينفي بها احتمال اعتبار القيد المشكوك ويمكن تقريبها بأحد نحوين :

١ ـ التمسّك بدلالة الاقتضاء في دليل إمضاء المعاملة ، إذ لو لم يكن الإمضاء مطلقاً لزم لغوية الخطاب عرفاً.

وفيه : انَّ الإطلاق بملاك صون الكلام عن اللغوية موقوف على عدم وجود قدر متيقّن الصحة لمفاد الدليل ؛ كما هو كذلك بالنسبة إلى المعاملة الواجدة لتمام ما يحتمل دخله في صحتها شرعاً.

٢ ـ التمسّك بالإطلاق مقامي يقوم على أساس ظهور حال الشارع عند تصدّيه لإمضاء معاملة دائرة بين العقلاء في الإحالة على العرف العقلائي بالنسبة إلى ما سكت عنه.

وهذا التقريب وإن كان أحسن حالاً من سابقه ، لكنَّه موقوف على إحراز تصدّى المولى لبيان تمام مرامه بشخص ذلك الخطاب لا بمجموع خطاباته كما هو طريقته في الردع. واما استكشاف الإمضاء الشرعي من عدم وصول الرادع مع الحاجة إليه فهو اعتماد على دليل لبّي ليس فيه امتيازات الدليل اللفظي كما هو واضح.

عدم ترتّب الثمرة في المعاملة بمعنى المسبب

الجهة الرابعة : جاء في كلمات جملة من الأعلام ـ منهم المحقق النائيني ( قده ) ـ أنه بناء على وضع الاسم للمعاملة بمعنى المسبب لا يمكن التمسّك بالإطلاق الدليل اللفظي على كلّ حال ، لأنَّ إمضاء المسبب لا يقتضي إمضاء كافة ما جعل سبباً له بل يكفي إمضاء سبب من أسبابه.

وقد اعترض عليه السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ : بأنَّ المسبب كالسبب منحل خارجاً بعدد الأسباب ، سواءً أريد به الحكم العقلائي ، أو الاعتبار الشخصي ، أو المنشأ للمتعاملين لوضوح الخلال الأحكام العقلائية بعدد الأسباب وان المتعاملين في كلّ معاملة وإنشاء لهم اعتبار ومنشأ غير ما لهم في الإنشاء الآخر ، فليس هناك مسبب خارجي واحد له أسباب عديدة كي يقال : بعدم دلالة إمضائه على إمضاء كافة


أسبابه (١).

ولكنَّك عرفت : أن المعاملة بمعنى المسبب ليس هو المنشأ أو الاعتبار الشخصي القائم في نفس المتعاملين ، بل النتيجة القانونية المتحصّلة بالمعاملة خارجاً. وإمضاء الشارع للمسبب بهذا المعنى لا يعني افتراض نظره إلى الأحكام العقلائية ـ جعلاً أو مجعولاً ـ المقررة من قبل لإمضائها ، بل إمضاء المسبب عند الشرع والعقلاء معاً بمعنى إعطاء الناس الفرصة على إيجاده في قبال المنع عنه ، كما هو المستفاد من مثل قوله تعالى « ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) » (٢).

وعلى هذا الأساس يتّضح وجه عدم الإطلاق اللفظي في أدلة الإمضاء لأنَّ الترخيص وإعطاء الفرصة لإيجاد مسبب ـ كالتمليك بعوض مثلاً ـ لا يقتضي الترخيص في إيجاده عن أيّ طريق وسبب ، وهذا مطلب عرفي مقبول قبل أن يكون تحليلاً عقليّاً ونظيره ما يدلّ على الترخيص في ذي المقدمة الّذي له مقدمات عديدة على سبيل البدل فانَّ دليل الترخيص هذا ليس له إطلاق يقتضي الترخيص في جميع تلك المقدمات البدلية.

وضع أسماء المعاملات للسبب أو المسبب

الجهة الخامسة : في اختيار وضع أسماء المعاملات للأسباب أو المسبّبات ولا بدَّ مسبقاً من توضيح ما يشتمل عليه كلّ من السبب والمسبّب. أمَّا السبب فيتكوّن من ثلاثة عناصر :

١ ـ الإنشاء المتمثل في اللفظ أو ما يقوم مقامه.

٢ ـ المدلول التصديقي للإنشاء ، وهو الالتزام الشخصي بمضمونه في أفق النّفس فلو لم يكن جاداً في إنشائه لم يتحقّق السبب.

٣ ـ قصد التسبب بذلك الالتزام إلى المسبب القانوني العقلائي أو الشرعي

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١٩٩ ـ ٢٠٢ ( مطبعة الآداب في النجف الأشرف )

(٢) سورة البقرة آية ٢٧٥


فلو لم يكن قاصداً للتسبب. لا تتحقّق المعاملة.

وأمَّا المسبب ، فهو الأثر والنتيجة القانونية المترتّبة خارجاً على إنشاء المعاملة ـ كما تقدّم ـ وهو تارة : يكون قانوناً شرعيّا. وطوراً : يكون قانوناً عقلائيّاً. وثالثة : يكون قانوناً شخصيّا يتّفق عليه المتعاملان خاصة.

وعلى هذا الأساس يتبيّن : أنَّه لا تقابل بين المعاملة بمعنى السبب والمعاملة بمعنى المسبب بل يمكن جعلهما فردين من مفهوم واحد ، فالبيع مثلاً اسم للتمليك بعوض ، والبائع عند إنشائه يكون قد أوجد التمليك خارجاً حقيقة بنفس اعتباره وإنشائه ، فكل من اعتباره وما تسبب إليه فرد من التمليك إلا أنَّ أحدهما التزام شخصي مباشر والآخر التزام قانوني تسبيبي والدليل عليه صحّة إطلاق الاسم عرفاً على كلّ منهما بلا عناية.

بل لا يبعد دعوى أنَّه بحسب النّظر العرفي المسامحي لا يوجد شيئان بل شيء واحد هو ما يوجده المتعاملان من التمليك بعوض ، ويكون تحليل العملية إلى إنشاء معاملي ونتيجة قانونية منشأة به نظير تحليل الموجود الخارجي إلى إيجاد ووجود أمراً دقيقاً.

فالحاصل : انَّ النّظر العرفي المسامحي يرى انَّ الملكية القانونية عبارة عن تطوير للتمليك الشخصي والنسبة بينهما نسبة البذرة إلى الشجرة.

وحيث ثبت صحة إطلاق أسماء المعاملات على المعاملة بمعنى السبب كان النزاع حول وضعها بخصوص الصحيح منها أو الأعم متجهاً.

الرّأي المختار في أسماء المعاملات

الجهة السادسة : في اختيار وضع أسماء المعاملات للصحيح أو الأعم والظاهر أنَّه لا ينبغي الشك في عدم وضعها لخصوص المعاملة الصحيحة بنظر الشرع ، كيف وهذه الأسماء كانت دارجة بين الناس قبل مجيء الشريعة وما أوجبته من قيود وشرائط. كما أنَّ مخالفة الشرع مع العرف في بعض شرائط صحة المعاملة لا تعني مخالفته معه في مدلول الاسم ، وهذا واضح بل يمكن أن يقرر هذا المعنى كدليل تعبّدي على عدم وضع الاسم للصحيح الشرعي بالبيان المتقدّم في بحث الحقيقة الشرعية ، حيث يدّعى ظهور الاستعمالات الشرعية عرفاً في أن الشارع أيضا يستعملها في نفس المعاني المعهودة لها


عند الناس بوصفه أحد هم وسائراً على طريقتهم في مجال المحاورة.

وأمَّا الصحة بنظر العقلاء ، فالظاهر عدم أخذها في مدلول الأسماء أيضا. أمَّا مفهوم الصحة فواضح ، وامَّا واقع الصحيح فلأنَّ أخذ كلّ ما يعتبر في الصحة من القيود يستلزم تأرجح معاني هذه الأسماء وتغيرها من وقت إلى آخر أو من بلد إلى بلد ، ومثل هذا ممَّا يجزم بعدمه. فالصحيح هو الوضع للأعم بعد أخذ ما يحفظ صورة المعاملة وعنوانها ، فانَّ ذلك لا بدَّ من افتراضه مقوماً للمسمَّى. ومنه أصل الإنشاء والمعنى المنشأ به ، فانَّه من دونهما لا يصدق الاسم جزماً.


مباحث الدليل اللفظي

البحوث اللفظية التحليلية

تمهيد

دور علم الأصول في البحوث اللفظية

والمنهج العام للبحث فيها

الحروف والهيئات



تمهيد

لا شك في انَّ تعيين مدلول كلّ كلمة ـ سواءً كانت اسماً أو فعلاً أو حرفاً أو هيئة ـ من شأن علوم اللغة والبحوث اللغوية بمعناه العام الّذي يتناول الصرف والنحو أيضا.

ووظيفة الممارسين لعلوم اللغة تحديد المدلول لكلّ كلمة أو هيئة بالقدر الّذي يتيح للمستعمل أن يميّز مدلول كلّ كلمة عن مدلول الأخرى في الحدود التي تتصل بأغراضه في مقام الاستعمال ، وامَّا البحث في كنه ذلك المدلول وحقيقته فليس من وظيفة علوم اللغة وإذا أردنا مثالاً لهذا الموقف أمكن تنظيره بقاموس يوضع لشرح مصطلحات الأدوات والمواضعات التي يباشرها أو يحتاجها العامل الممارس للكهرباء ، فانَّ القاموس وظيفته أن يشرح له معنى السالب والموجب مثلاً وليس من وظيفته أن يشرح له حقيقة السالب والموجب ، وامَّا البحث في كنه المدلول وحقيقته فهو في ذمة غير علوم اللغة من العلوم الطبيعة والفلسفية والمنطقية. والتوضيح كما يلي : حينما نطرح قضية البياض في الجسم تارة « نتساءل ما هو لون البياض كما يتساءل الغريب عن اللغة العربية ، فيقال له أنَّه هذا اللون المعهود في العاج مثلاً ، وهذا وظيفة اللغوي. وثانية : نتساءل عن المصداق الخارجي لمفهوم هذا الكلام ، أي مدلوله


بالعرض بالقدر الّذي يبحث فيه عن بياض الجسم كظاهرة طبيعية نريد أن نفسرها ونربطها بسائر الظواهر ، وهذا وظيفة العلوم الطبيعية. وثالثة : نتساءل عن المصداق الخارجي ، أي المدلول بالعرض ، ونريد أن نبحث عن كنهه وما هي حقيقة البياض وحقيقة الجسم وهل هما موجودان بوجود واحد أو بوجودين؟ وهذا بحث يدخل في ذمة الفلسفة الطبيعية التي استغنت عنها العلوم الطبيعية الحديثة. ورابعة : نتساءل عن ماهية البياض بما هي بقطع النّظر عن وجودها الخارجي ونبحث عن تعريفها المنطقي وتحليلها إلى أجزائها الذاتيّة من جنس وفصل ، ككون البياض كيفاً مبصراً ، وهذا بحث فلسفي من ذلك النوع وتطبيق لنظرية الحد والرسم من المنطق الصوري. وخامسة : نتساءل عن كنه المدلول بالذات للكلام بما هو مدلول بالذات له وحاك عن الخارج ، أي عن تحليله من زاوية بنائه الذهني. وكيف بنيت عناصره على نحو صار صالحاً للحكاية عن الخارج ومتطابقاً مع أجزاء الكلام ، فنحن هنا لا نطلب الحصول على التصور المناسب لمدلول الكلمة لكي نطلب ذلك من اللغة ، لوضوح انَّ الصورة الذهنية المناسبة لقولنا ( البياض في الجسم ) موجودة في ذهننا فعلاً بوصفنا من العارفين باللغة العربية ، ولا نطلب أي حقيقة خارجية عن البياض والجسم لنرجع إلى العلوم الطبيعية أو الفلسفة الطبيعيّة ، ولا نريد أن ندرس كنه الوجود الذهني لهذه الصورة التي أثارها هذا الكلام في نفسنا وتشخيص ماهيّتها في نفسها لترجع إلى الفلسفة الإلهية بالمعنى الأعم ، ولا نريد أن نعرف ماهيّة من الماهيات حسب نظرية الحدّ والرسم في المنطق الصوري. وانَّما نريد أن نعرف عناصر هذه الصورة الذهنية وتركيبها بالقدر الّذي يتيح لنا تفسيرها بما هي متطابقة مع الكلام تطابق المدلول مع داله. ومع الخارج تطابق المدلول بالذات للمدلول بالعرض على النحو الّذي يجعله صالحاً للحكاية عنه والانطباق عليه ، فمثلاً هل الصورة الذهنية الموجودة في ذهننا فعلاً عند سماع جملة البياض في الجسم مكونة من عنصرين أو من ثلاث عناصر؟ وحينما نشكل جملتين إحداهما تامّة والأخرى ناقصة وهي متطابقة في عنصري البياض والجسم معاً فنقول ( بياض الجسم ) و ( ابيضَّ الجسم ) فما هو العنصر الّذي تتميّز به إحدى الصورتين الذهنيّتين عن الأخرى فجعل هذه تامّة وتلك ناقصة؟ ويمكن أن نطلق على ذلك انَّه


البحث في فلسفة اللغة لأنَّه بحث تحليلي في مدلول اللغة بما هو مدلول بينما الفلسفة الاعتيادية تبحث في تحليل الشيء بما هو لا بما هو مدلول. ويدخل في هذا النطاق بحث الحروف والهيئات.

وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقسم البحث في مدلول اللفظ إلى قسمين :

الأول : بحث لغوي اكتشافي ـ تحديدي ـ وهو البحث عن تعيين مدلول اللفظ بغية أن يصبح ذهننا قادراً على الانتقال إلى الصورة الذهنية المناسبة عند سماع اللفظ. وهذا بحث يغير من واقع ما يجري في الذهن ، فالأجنبي عن اللغة العربية بعد أن يتعلّم هذه اللغة تحصل في ذهنه عند سماع قولنا ( البياض في الجسم ) صورة لم تكن تحصل قبل ذلك.

الثاني : بحث فلسفي تحليلي لمدلول اللفظ بما هو مدلول ، أي للصورة الذهنية بهذه الحيثية. وهذا بحث لا أثر له على واقع ما يجري في الذهن ولا يوصل إلى صورة جديدة بسبب سماع الكلام ، لأنَّ الفهم اللغوي له مكتمل سابقاً وانَّما هو مجرّد تحليل.

وقد لاحظ علماء الأصول : أن في كلّ من هذين البحثين قصوراً على مستوى الممارسات العملية له. أمَّا البحث الأول ، فهو وإن كان من وظيفة علماء اللغة إلا انَّ جملة ممَّا يدخل في هذا المجال لم تف بحوثهم بتوضيحه إمَّا لغفلتهم عنه بسبب عدم صلته بالأغراض العملية المحدودة التي تستهدفها علوم اللغة ، وهي أغراض لا تزيد على حاجة الإنسان العرفي في مقام التعبير عادة من قبيل دلالة صيغة الأمر على الوجوب إثباتاً ونفياً ، إذ اكتفي اللغويّون ببيان دلالتها على الطلب دون توضيح خصوصيّات الطلب. وإمَّا لأنَّ المسألة ليست مرتبطة بمجرّد نقل موارد الاستعمال عند العرب وانَّما هي بحاجة إلى عناية واجتهاد ، كالبحث عن دخول الزمان في مدلول الفعل أو شمول المشتق لما انقضى عنه المبدأ.

وأمَّا البحث الثاني ، فلم تكن له أيّ ممارسة جادة قديماً حيث كانت الفلسفة وقتئذٍ متّجهة إلى تحليل حقائق الأشياء الذهنية والخارجية بما هي أشياء لا بما هي مدلولات للكلام ولما أحسّ الأصوليّون بهذا النقص كان هذا الإحساس سبباً تدريجيّاً لمحاولات تنامت على مرّ الزمن لسدّ هذا النقص وملأ شيء من هذا الفراغ.


ومن أجل ذلك دخلت في علم الأصول أبحاث من قبيل دلالة صيغة الأمر والنهي على الوجوب والحرمة ، ودلالة أداة الشرط على المفهوم ؛ وهذا ما يدخل في القسم الأول. وأبحاث من قبيل تحليل المعاني الحرفية ومداليل الهيئات في الجمل الناقصة والتامّة والخبريّة والإنشائيّة ، وهذا ما يدخل في القسم الثاني.

ولما لم يكن علم الأصول علماً لغويّاً أو فلسفيّاً بطبيعته ، بل هو علم العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ، كان حريّاً به أن لا يتناول بصورة أساسية من تلك الأبحاث إلا ما يشكّل عنصراً مشتركاً في عملية الاستنباط على نحو ينطبق عليه الميزان المتقدّم للمسألة الأصولية. وهذا ما كان بالنسبة إلى ما يندرج من البحوث الأصولية في القسم الأول وما يندرج منها في القسم الثاني.

امَّا بالنسبة إلى القسم الأول ، فقد ميّز الأصوليّون بين الدلالة اللغوية الصالحة لأن تكون عنصراً مشتركاً في عملية الاستنباط فبحثوها في علم الأصول ، كدلالة الأمر على الوجوب ، وأداة الشرط على المفهوم ، وهيئة اسم الفاعل على الأعم ، بالرغم من أنَّ بعضهم ذكر بعض هذه الأبحاث في المقدّمات والمبادئ ، لأنَّ عدم الرؤية الفنيّة الواضحة لميزان المسألة الأصولية كان يوجب باستمرار التشويش في الجانب التصنيفي والتنسيقي للمسائل ، بينما الشعور الأصولي الفطري كان هو الموجّه الأساسي لذكر ما ينبغي أن يذكر.

وتركت ـ على هذا الأساس ـ أبحاث لغويّة لم تف اللغة بحقّها على الرغم من دخلها في الاستنباط أحياناً ، وذلك لعدم كونها عنصراً مشتركاً في عملية الاستنباط ، فتحمل مسئوليتها الفقه في الموارد التي يكون لها دخل في استنباط الحكم فيها ، كتفسير كلمة ( الصعيد ) أو ( الكعب ) أو ( الريبة ) ونحو ذلك.

وأمَّا بالنسبة إلى القسم الثاني ، فنجد أن المصبّ الرئيسي للبحث أصولياً متّجه إلى تمييز المعاني الاستقلالية عن المعاني الربطية والآلية ، وتوضيح خصائص كلّ منهما بما في ذلك قابلية المعنى الاستقلالي للحاظ والتوجّه المؤدّي إلى صلاحيته للإطلاق والتقييد وعدم قابلية المعنى الربطي والآلي لذلك المؤدّي إلى عدم صلاحيته للإطلاق والتقييد. وقد أدّت المسالك المختلفة تجاه المعنى الحرفي وآليته وربطيته إلى مواقف مختلفة


في عدّة مسائل منها ـ إمكان إرجاع القيد إلى الهيئة في الواجب المشروط ، وبذلك كان هذا البحث التحليلي في مدلول اللغة يشكّل ـ إثباتاً ونفياً ـ عنصراً مشتركاً في عملية الاستنباط. وسيأتي ـ تفصيل الكلام عن ذلك في موضعه المناسب.

وفي ضوء ذلك نعرف : أن البحوث الأصولية في دلالات الألفاظ تنقسم إلى قسمين : أحدهما : بحوث تحليلية. والآخر : بحوث لغوية تحديدية. غير أنَّ المزيد من التعميق والتدبّر في هذه البحوث اللغوية وتقييمها يكشف على ما سيأتي إن شاء الله تعالى : ان جلّ البحث فيها تفسيري وليس لغويّاً.

وبهذا يظهر فارق جوهري بين دور الأصولي في بحث تلك المسائل ودور علوم اللغة. ولنضرب مثالاً لتوضيح الفكرة ، وذلك بالبحث عن دلالة صيغة الأمر على الوجوب ، فانَّ هذه المسألة وإن طرحت في علم الأصول في البداية وكأنَّ المطلوب حقيقة التفهم على مدلول الصيغة والتوصّل إلى ما يفهمه العرف منها ، ولكنَّها بالتدريج لم تعد كذلك ، وأصبح من المتسالم عليه انَّها تدلّ على الوجوب ، وإنَّما البحث في تفسير هذه الدلالة. فهل هي دلالة بالوضع ، أو بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، أو بحكم العقل والعقلاء؟ وهو بحث تفسيري تترتّب عليه ثمرات في الفقه ، لأنَّ التعامل مع الدلالة في مورد التعارض والتقديم والتخصيص ونحو ذلك يختلف باختلاف نوع الدلالة وبهذا اكتسب البحث الأصولي عمقاً واحتاج إلى أساليب دقيقة في مقام إثبات المطلوب في هذه المسائل ، بينما لا يحتاج تشخيص المدلول العرفي النهائيّ على إجماله إلى بحث معمّق على هذا المستوى لأن المعتمد فيه بصورة رئيسية هو الانسباق والفهم العرفي العام.

وعلى هذا الأساس ، نستطيع أن نصنّف الاتجاه في الأبحاث اللغوية الأصولية إلى اتجاهين :

الأول : اتجاه تفسيري ، وهو ما شرحناه. ومنهج هذا الاتجاه ان تجمع في البداية كلّ الدلالات العرفية المتّصلة باللفظ المبحوث عنه وبعد التأكد من عرفيتها وسلامتها يبحث عن تفسيرها ، ويكون التفسير ناجحاً بالقدر الّذي يستطيع أن يقدّم نظرية لتفسير تلك الدلالات جميعاً دون أن يلزم نقض أو تنثلم دلالة ، وهذا نهج علمي يشبه النهج العلمي الّذي يمارسه العالم الطبيعي في تفسير ظاهرة طبيعية بكلّ آثارها


وشئونها ، وهو يختلف بصورة أساسية عن نهج علوم اللغة. وهذا هو النهج الّذي ستجد ممارسته في الأبحاث المقبلة إن شاء الله تعالى.

الثاني : اتّجاه اكتشافي ، وهو الاتجاه إلى معرفة المدلول العرفي للكلمة أو الكلام الّذي يعالج دفع شك حقيقي في انَّ اللفظ هل يدلّ على المعنى الفلاني أو لا ، وهو اتجاه يتّفق في روحه العامة مع الاتجاه اللغوي. وفي هذا المجال توجد وسيلتان رئيسيّتان بغض النّظر عن الوسائل المستمدة من علوم اللغة.

إحداهما : الانسباق والتبادر ، وهي وسيلة تدلّ على الوضع كما تقدّم والتبادر قد يكون تبادراً لنفس المعنى الموضوع للفظ ، كما إذا تبادر خصوص المتلبّس بالمبدإ من اللفظ المشتق ، وأخرى يكون لملازمات المعنى التي يستكشف منها المعنى ، كما إذا تبادر التضاد فيما بين المشتقات الدال على وضعها لخصوص المتلبس لا محالة.

لا يقال : كيف يمكن التفكيك بين الانسباقين بحيث يفترض في المثال عدم تبادر خصوص المتلبس الّذي هو المعنى الموضوع له ولكن تتبادر خصوصية التضاد الملازمة مع كون المعنى خصوص المتلبس ، فان تبادر اللازم يساوق دائماً تبادر الملزوم ومعه لا حاجة إلى تبادر اللازم.

فانَّه يقال : يمكن ذلك فيما إذا فرض رجوع المستعلم إلى تبادر أهل العرف للازم فانَّه قد يفترض انَّ ارتكازهم للتضاد مثلاً بين المشتقات أوضح وأبين من تبادر هم أصل المعنى.

أضف هذا إلى أنَّه بناء على ما هو الصحيح في تفسير الوضع من كونه عبارة عن الأشراط بين اللفظ والمعنى تصوراً من المعقول أن يكون بعض جهات المعنى الموضوع له أو ملازماته أشدّ التصاقاً وإشراطاً باللفظ من المعنى بحدّه وحاقه.

والأخرى ـ البرهان ، ويكون وسيلة لتشخيص المعنى الموضوع له في أحد مجالين :

١ ـ في نفي أحد المعنيين أو المعاني المحتملة في اللفظ ، فيكون وسيلة سلبية على المعنى. وقد استعمل علماء الأصول هذه الوسيلة في بحث الصحيح والأعم حيث حاول بعضهم نفي احتمال الوضع للصحيح بإقامة البرهان على استحالة وجود معنى جامع بين الأفراد الصحيحة بالخصوص.


٢ ـ في التطبيق. وهذا ما يحصل عادة حين يبحث عن تطبيق كبرى مقدمات الحكمة على مورد فيقال : انَّ الجملة الشرطية مثلاً هل يتصوّر فيها إطلاق يدلّ على الانتفاء عند الانتفاء أو لا ، فانَّ هذا بحث تطبيقي لأنَّ كبرى مقدمات الحكمة مفروغ عنها على نحو لا يحتمل التخصيص فيها وإنَّما الكلام في تشخيص صغراها.

فإن قيل : أي معنى للبرهنة على أنَّ اللفظ يدلّ على المعنى الفلاني فانَّ الانسباق أمر وجداني أو قريب من الوجدان دائماً ، فمع وجوده لا شك في الدلالة ومع عدمه كيف يمكن إثبات الدلالة ببرهان.

قلنا : أمَّا في المجال الأول ، فقد عرفت أنَّ البرهان لا يكون وسيلة على إثبات المعنى ابتداءً بل وسيلة سلبية على نفي أن يكون أحد المحتملين أو المحتملات معنى للفظ لعدم كونه مفهوماً متقرراً واحداً في نفسه ، وهذا من شأن البرهان إثباته أو نفيه.

وأمَّا في المجال الثاني ، فلأن كبرى دلالة قد يفرغ عنها ، كدلالة مقدمات الحكمة على نحو لا يحتمل التخصيص في اقتضائها وانَّما يكتنف الغموض صغراها ؛ فقد لا يكون الانطباق واضحاً حتى عرفاً ولكن على نحو بحيث لو بيّن الانطباق لأحسّ العرف بالدلالة تطبيقاً لمقدمات الحكمة. ولكن مع هذا قد يتوهّم : ان خفاء الدلالة على العرف لا بدَّ أن يكشف عن خلل في نظر هم في انطباق تلك الكبرى على المورد ومعه يكون نظرهم متبعاً.

إلا أنَّ الصحيح انَّ الأمر ليس كذلك دائماً بل يختلف ، فقد يكون على هذا النحو ، كما في خفاء استفادة الوجوب من صيغة الأمر بالإطلاق بتقريب : انَّ الوجوب هو الطلب المطلق والاستحباب هو الطلب المقيّد لأنَّه فرد ضعيف من الطلب والفرد الضعيف يرجع إلى المقيد بحدّ عدمي. لوضوح انَّ هذه القيدية ليست عرفية ومقدمات الحكمة انَّما تنفي القيد العرفي. وقد لا يكون على هذا النحو ، كما في خفاء استفادة المفهوم من الشرط بلحاظ افتراض علة أخرى يساوق عدم كون الشرط دخيلاً بعنوانه وهو خلاف ظاهر اللفظ ، فانَّ هذا التقريب لو تمّ لا يضرّ به خفاء النتيجة المستخلصة منه فعلاً لأنَّ هذا الخفاء مرجعه إلى عدم إدراك العرف للتلازم بين هذه النتيجة وما يفهمه من اللفظ فعلاً من دخل الشرط بعنوانه فإذا أمكن إثبات هذا التلازم ولو بالبرهان تمّ المطلوب.


ثمَّ إنَّ الاتجاه التفسيري يصبح في عدد من الحالات كافياً لاكتشاف المطلب وإثباته ، وذلك انَّ الاتجاه الاكتشافي ـ كما عرفت ـ يعالج دفع شك حقيقي في انَّ اللفظ هل يدلّ على المعنى الفلاني أو لا يدلّ بينما الاتجاه التفسيري يعني انَّ الدلالة مفروغ عنها وانَّما نريد أن نفسرها. ولكن الشك الحقيقي في دلالة لفظ على معنى ـ كدلالة الجملة الشرطية على المفهوم ـ على نوعين :

أحدهما : أن يكون شكّا حقيقياً غير ناشئ من شبهة. والآخر : أن يكون شكّا حقيقياً ناشئاً من شبهة معيّنة ، وهي وجود وجدانات عرفية متعددة لا يتمكن الملاحظ من تفسيرها جميعاً فيتبلبل ويشكك ، كما إذا كان يحسّ بوجدانه من ناحية بمفهوم الشرط ويحسّ بوجدانه من ناحية أخرى أيضا بأنَّ استعمال الشرطية في موارد عدم المفهوم ليس مجازاً ، فيقول الملاحظ لو كانت الشرطية موضوعة لإفادة العليّة الانحصارية الموجبة للمفهوم فكيف لا يلزم التجوّز؟ ولو لم تكن الشرطية مجازاً في مورد عدم المفهوم فكيف نفسّر دلالتها على المفهوم؟ وهذا العجز عن وضع تفسير نظري لكلّ الوجدانات يصير في كثير من الأحيان باعثاً على الشك ، وهذا نسمّيه بالشك الناشئ من شبهة ، وفي مثل ذلك يكون للاتجاه التفسيري دور مهم في الإثبات وإزالة هذا الشك فيما إذا أمكن له أن يجمع كلّ الوجدانات العرفية المتعلقة بالقضية المطروحة للبحث ويضع نظرية لتفسيرها جميعاً على نحو يحسّ الإنسان العرفي بعد ذلك بالاطمئنان إلى وجداناته ويزول منه الشك فالاتجاه التفسيري كما قد يكون تفسيريّاً لغرض ترتيب آثار هذه الخصوصية أو تلك كذلك قد يكون لغرض الإقناع وإزالة شك حقيقي ، وذلك بممارسة المنهجة العلمية التي شرحناها. وستأتي في البحوث المقبلة تطبيقات لهذه المنهجة العلمية وكيفية استخدام الاتجاه التفسيري في هذا المجال هذه هي المنهجة العامة لعلم الأصول في القسمين السابقين من البحوث.

وبعد أن تحدّد دور علم الأصول في بحوث هذين القسمين والفوارق الجوهرية بينهما والمنهج العام للبحث في كلّ منهما ، نستعرض فيما يلي قسم البحوث التحليلية أولا ثمَّ قسم البحوث اللغوية ثانياً.


البحوث اللفظية التحليلية

الحروف



تمهيد

الاتجاهات المعروفة في معنى الحروف

١ ـ علامية الحروف

٢ ـ آليّة المعنى الحرفي

٣ ـ نسبية المعنى الحرفي

ـ الوجوه المختلفة في تفسير نسبية المعنى الحرفي

١ ـ إيجادية الحروف

٢ ـ وضعها للوجود الرابط

٣ ـ وضعها للتخصيص

٤ ـ وضعها للأعراض النسبية

تعديل الاتجاه الثالث وتصحيحه

المعاني النسبية للحروف تحليلة

النسب الأوليّة والنسب الثانوية

تلخيص وتعميق



تمهيد

ذكر علماء العربية بإزاء كلّ حرف معنى معيّناً ف ( من ) موضوعة للابتداء و ( في ) للظرفية و ( هل ) للاستفهام وهكذا. وقد لاحظ علماء الأصول أنَّ هناك فرقاً واضحاً بين شرح اللغوي وتحديده لمعاني الأسماء أو الأفعال ، كأن يقول مثلاً ( الأسد ) هو الحيوان المفترس أو ( جلس ) بمعنى قعد ، وبين تحديداتهم تلك لمعاني الحروف من حيث انَّ شرح الاسم أو الفعل ينبئ عن مرتبة من الترادف والتوحّد في المعنى بين الكلمة المشروحة والكلمة الشارحة ، بحيث يصحّ استبدال إحداهما بالأخرى في مجال الاستعمال دون أن يختل التركيب الذهني لصورة المعنى المعطاة بالكلام ، بينما لا يتأتى ذلك في معاني الحروف. فالظرفية مثلاً لا يمكن أن يستعمل بحال من الأحوال بدلاً عن حرف ( في ) ولا الابتداء بدلاً عن ( من ).

وقد استأثرت هذه الظاهرة باهتمام الأصوليين فدفعتهم إلى مواصلة البحث والتنقيب في مدلولات الحروف ليخرجوا بالتحليل النهائيّ الّذي على أساسه يمكن تفسير واقع الفروق بين المعاني الحرفية والمعاني الاسمية. ولذلك كان هذا البحث الأصولي اللفظي تحليليّاً لا لغوياً ، إذ لا يواجه الأصولي فيه شكّا حقيقيّاً في أصل مدلول الحرف يراد دفعه ، وليس هناك غموض فيه يطلب علاجه بهذا البحث. بل معنى كلّ


حرف وموضع استعماله واضح لديه بنحو الإجمال ، ولو فرض الشك في مدلول حرف معيّن أمكن رفعه بالرجوع إلى كتب اللغة أو اتّباع وسائل تشخيص المعنى المشكوك فيه التي تقدّمت الإشارة إليها وسوف يأتي تطبيقها في البحوث اللفظية اللغوية.

وإنَّما يعالج هذا البحث ـ بعد الفراغ عن صحة ما ذكر بإزاء كلّ حرف من المعاني لغويّاً ـ حقيقة الفرق بين كيفيّة تصوّر الذهن للمعاني الحرفية وتصوّرها للمعاني الاسمية ، الأمر الّذي نلمس أثره الظاهر في عدم إمكان استعمال أحدهما مكان الآخر رغم كونه شرحاً له وتحديداً لمحتواه.

الاتجاهات المعروفة في المعنى الحرفي

والمتلخص من مجموع كلمات الأعلام في تشخيص معاني الحروف وفرقها عن معاني الأسماء اتجاهات ثلاثة رئيسية نستعرضها فيما يلي تباعاً.

١ ـ علامية الحروف

ويقيس أصحاب هذا الاتجاه الحروف بالحركات الإعرابيّة ، فيدّعى بأنَّها لم توضع بإزاء معنى خاص وانَّما هي لمجرّد التنبيه على أنَّ مدخولها مظروف أو مبدوء به وهكذا ، كما يقال في الحركات الإعرابية من أنَّها علامة على خصوصية الفاعلية أو المفعولية.

والاعتراض على هذا المسلك : بأنَّ إفادة الخصوصيات أيضا يساوق الوضع بإزاء معنى إذ لا يشترط في المعنى أن يكون معنى تاماً مستقلاً. يمكن الإجابة عليه من قبل أصحاب هذا الاتجاه : بأنَّ المقصود وضع الاسم المقيّد بالحرف للمعنى الخاصّ بحيث لا يبقى للحرف مدلول إضافي في الكلام يستفاد منه بنحو تعدّد الدال والمدلول كما هو المطلوب.

والصحيح أن يقال : انَّ هذا الاتجاه إن أريد به فراغ الحروف من الدلالة والتأثير في تكوين المدلول نهائيّاً فهو باطل بضرورة الوجدان اللغوي والعرفي ، لأنَّ لازمه أن لا يكون حذف الحرف المساهم في تكوين الجملة مضراً بمعناها أصلاً وهو خطأ واضح.


وإن أريد به : انَّ الحرف ليس له مدلول في عرض مدلول الاسم الّذي يشاركه في تكوين الجملة وانَّما مدلوله طولي دائماً ، بمعنى أنَّه يشخص المراد من الاسم. ففي قولنا « الصلاة في المسجد » تدلّ ( في ) على أنَّ المراد من الصلاة فعل مخصوص بخصوصية الوقوع في المسجد ، ومن أجل ذلك يشبه بالحركات الإعرابية. فيرد عليه : انَّه إن قصد بذلك انَّ الحرف يشخص انَّ المراد الاستعمالي من كلمة الصلاة ذلك فهو غير صحيح ، لأنَّ استعمال لفظ الصلاة في الحصة الخاصة بخصوصها مع كونها موضوعة للطبيعة الجامعة مجاز ، وإن قصد بذلك انَّ الحرف يشخص المراد الجدّي من كلمة الصلاة فهذا يعني نظر الحرف إلى مرحلة المراد الجدّي وهو واضح البطلان ، فانَّ الحرف يساهم في تكميل الجملة في مرحلة المدلول الاستعمالي ، ولهذا لا تكون الجملة تامّة بدون الحرف سواءً كان لها مدلول جدّي أو لا.

وإن أريد به : انَّ الحرف ليس دالاً مستقلاً كما هو الحال في الاسم بل يستحيل أن يكون إلا دالاً ضمنيّاً والدال المستقل هو المجموع المركّب من الحرف والاسم ، فهذا معنى دقيق وعميق وهو الّذي يقتضيه منهجنا العام في تحقيق المسألة ـ على ما يأتي ـ إذ يتّضح ان من لوازم عدم استقلالية المعنى عدم استقلالية الدلالة.

٢ ـ آليّة المعنى الحرفي

وقد ذهب أصحاب هذا الاتجاه ومنهم المحقق الخراسانيّ ( قده ) في كفاية الأصول ـ إلى أنَّ معاني الحروف هي نفس معاني الأسماء ذاتاً ، وإنَّما الفرق بينهما في اختصاص كلّ منهما بوضع معيّن ، حيث وضع الاسم ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه ووضع الحرف ليراد به معناه لا كذلك بل بما هو آلة وحالة لغيره ، وهذا الاختلاف في الوضع هو الّذي يكون موجباً لعدم جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر وإن اتّفقا فيما له الوضع (١).

ويستفاد من كلامه مجموع أمرين :

__________________

(١) كفاية الأصول ج ١ ص ١٥ ( ط ـ مشكيني )


١ ـ انَّ الاختلاف بين معاني الحروف والأسماء بلحاظ أمر عرضي خارج عن ذات المعنى ، وهو كيفية لحاظ الذهن للمعنى حين الاستعمال من الآلية والاستقلالية.

٢ ـ أن آليّة اللحاظ واستقلاليّته لا يمكن أن تكون قيداً في الموضوع له أو المستعمل فيه بل في الوضع نفسه.

وكأنَّه ( قده ) فرغ عن صحة الأمر الأول ، فلم يكلّف نفسه مئونة إثباته وانَّما أشبع البحث في الأمر الثاني ، مع أنَّ المهمّ إثبات أصل المدّعى من وحدة المعنيين وعدم تغاير هما ذاتاً.

وقد أورد عليه في كلمات المحققين اعتراضات عديدة.

منها ـ ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) في تعليقته على الكفاية بقوله « انَّ الاسم والحرف لو كانا متّحدي المعنى وكان الفرق بمجرّد اللحاظ الاستقلالي والآلي لكان طبيعي المعنى الوحدانيّ قابلاً لأن يوجد في الخارج على نحوين كما يوجد في الذهن على طورين ، مع انَّ الحرفي كأنحاء النسب والروابط لا يوجد في الخارج إلا على نحو واحد وهو الوجود لا في نفسه ولا يعقل أن توجد النسبة في الخارج بوجود نفسي » (١).

وكأنَّه ( قده ) يفترض مطابقة عالم الخارج مع الذهن في أنحاء الوجود أصلاً موضوعيّاً مسلماً فيعترض بأن المعنى الواحد لو كان يوجد في الذهن على طورين آليّ واستقلالي لزم أن يوجد في الخارج كذلك مع أنَّ المعنى الحرفي لا يوجد خارجاً إلا في غيره.

ولكن لا مأخذ للأصل الموضوعي المزعوم ، إذ لا برهان على ضرورة التطابق بين الوجود الذهني والوجود الخارجي ، بل البرهان على خلافه ، فان العرض لحاظه في الذهن يمكن أن يكون مستقلاً عن موضوعه مع انَّه في الخارج لا يوجد إلا في موضوعه.

ومنها ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من أنَّ تقييد الواضع واشتراطه الآليّة في استعمال الحرف والاستقلاليّة في استعمال الاسم ليس ملزماً ولا يترتّب عليه عدم صحّة الاستعمال للفظ في معناه الموضوع له. ولو سلّم فغايته عدم صحّته بقانون الوضع

__________________

(١) نهاية الدراية الجزء الأول 6 ٤٣ ( المطبعة العلمية ـ قم )


لا عدم صحّته مطلقاً ولو بالنحو الّذي يصحّ به الاستعمال المجازي ، مع وضوح انَّ استعمال الحرف في مورد الاسم وبالعكس غير صحيح مطلقاً (١).

امَّا الجانب الأول من كلامه ( قده ) فيمكن دفعه بتقريب : انَّ تقييد الواضع لا يرجع إلى شرط على المستعمل على حدّ الشرط الفقهي من باب الالتزام في ضمن الالتزام بل إلى تقييد العلقة الوضعيّة بحالة خاصة ، ومعه لا وضع للحرف غير التوأم مع اللحاظ الآلي لانتفاء قيد الوضع فلا يصحّ استعماله في معناه من أجل ذلك.

وإذا تمَّ هذا الجواب أمكن على ضوئه دفع الجانب الثاني من كلامه ( قده ) لأنَّ الحرف في حالة عدم اللحاظ الآلي يكون مهملاً لعدم الوضع في هذه الحالة ، والمهمل لا يصحّ استعماله في معنى لا حقيقة ولا مجازاً ، امَّا الأول ، فلأنَّه خلف الإهمال. وامَّا الثاني ، فلأنَّه فرع ان يكون له معنى حقيقي فعلاً ، لأنَّ المصحح للاستعمال في المعنى المجازي والحدّ الأوسط بينه وبين اللفظ هو المعنى الحقيقي ومع عدم الحدّ الأوسط لا ربط بين اللفظ والمعنى الآخر.

ولكن كلّ هذا بناء على تعقّل كبرى تقييد العلقة الوضعيّة وإمكان التعامل مع الوضع على حدّ التعامل مع سائر المجعولات الاعتباريّة. وقد سبق في بحوث الوضع ما هو التحقيق في إبطال ذلك.

ومنها ـ ما ذكره السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ من أن لحاظ المعنى آلة لو كان موجباً لكونه معنى حرفيّاً لزم منه كون كلّ معنى اسمي يؤخذ معرفاً لغيره في الكلام وآلة للحاظه كالعناوين الكليّة المأخوذة في القضايا معرفات للموضوعات الواقعية معنى حرفيّاً (٢).

وفيه : انَّ المراد بالآليّة هنا فناء مفهوم في مفهوم آخر لإفناء العنوان في المصداق الخارجي الّذي ليس من هذا الباب ، بل من باب ملاحظة المفهوم الواحد بالحمل الأوّلي فيرى به المعنون ولذلك يحكم عليه بأحكام في المعنون وإن كان في واقعه وبالحمل الشائع مغايراً مع المعنون.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٥

(٢) هامش أجود التقريرات ج ١ ص ١٥ ـ ١٦


وصريح كلام صاحب الكفاية ( قده ) يشهد بإرادة هذا المعنى حيث قال : « انَّه لا يكاد يكون المعنى حرفيّاً إلا إذا لوحظ حالة لمعنى آخر ومن خصوصياته القائمة به » وقال : في موضع آخر من كلامه : « حاله كحال العرض ، فكما لا يكون في الخارج إلا في الموضوع كذلك هو لا يكون في الذهن إلا في مفهوم آخر » (١).

ومنها ـ ما أورده السيد الأستاذ أيضا بقوله : « كما انَّ لحاظ المعنى حالة لغيره لو كان موجباً لكونه معنى حرفيّاً لزم منه كون جميع المصادر معاني حرفية ، فانَّها تمتاز عن أسماء المصادر بكونها مأخوذات بما أنَّها أوصاف لمعروضاتها بخلاف أسماء المصادر الملحوظ فيها الحدث بما انَّه شيء في نفسه مع قطع النّظر عن كونه وصفاً لغيره » (٢).

وهذا النقض يمكن دفعه : بأن المصادر تحتوي على مادة وهيئة ، فان أريد النقض بموادها فهي موضوعة لذات الحدث. وإن أريد النقض بهيئاتها فقد يسلّم بكونها كالحروف وسائر الهيئات ، كما هو أحد القولين فيها.

ومنها ـ ما أورده السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ أيضا من أنَّ المعنى الحرفي قد يكون هو المقصود بالإفادة في كثير من الموارد ، وذلك كما إذا كان ذات الموضوع والمحمول معلومين عند شخص ولكنَّه كان جاهلاً بخصوصيّتهما فسأل عنها فأجيب على طبق سؤاله فهو والمجيب انَّما ينظران إلى هذه الخصوصية نظرة استقلالية (٣).

وفيه : علاوة على أنَّه مخالف لمبناه ومبنى مشهور المتأخرين من أن معاني الحروف غير استقلالية بذاتها في مرحلة تقررها الماهوي فلا يعقل وجودها لا ذهناً ولا خارجاً إلا بما هي عليه من الآلية والفناء. يمكن تفسير مورد النقض بأحد نحوين :

١ ـ أن ينتزع المستعمل مفهوماً اسميّاً مشيراً إلى واقع المعنى الحرفي الخاصّ ويجعله مدخول الاستفهام ، نظير قولنا : ما هي الكيفيّة التي سافر بها زيد؟

٢ ـ أن يكون اللحاظ الاستقلالي متعلّقاً بطرف المعنى الحرفي أي بالمعنى الاسمي المتحصص به بما هو متحصّص فيكون لحاظ التحصص تبعيّاً ، كما لو سأل : أن زيداً هل

__________________

(١) كفاية الأصول ج ١ ص ١٦ ( ط ـ مشكيني )

(٢) هامش أجود التقريرات ج ١ ص ١٦

(٣) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٦٢


جاء في البرّ أو البحر؟

وهكذا يتبيّن أن شيئاً من أوجه المفارقة المذكورة لتفنيد الاتجاه الّذي سار عليه صاحب الكفاية ( قده ) في معاني الحروف لا يتمّ برهانيّاً.

والصحيح في تفنيد هذا الاتجاه أن يقال : لو أريد بعدم استقلاليّة معاني الحروف كونها تلحظ حالة لمعاني الأسماء ومندكّة فيها فسوف يأتي لدى عرض الاتجاه الثالث أن هذه الحالية والاندكاك تنجم عن الفرق بينهما سنخاً وذاتاً وليست مجرّد حالة طارئة على المعنى. ولو أريد كونها آلة ومرآتاً لملاحظة المصاديق الخارجية الخاصة فيرد عليه :

أولا : انَّ كلّ مفهوم يكون مرآة لمصاديقه الخارجية بمقدار ما أخذ فيه منها ، فان كان مفهوماً كليّاً لا يكون مرآة إلا عن الحيثيّة المشتركة بين الأفراد ويستحيل أن يكون مرآتاً عن الخصوصيّات ، وإن كان جزئيّاً وخاصاً ـ ولو بالحمل الأوّلي ـ كان حاكياً عن الخاصّ الخارجي ، فلا يصلح هذا لأن يكون تمييزاً بين معاني الحروف والأسماء.

وثانياً : ما يأتي في إثبات الاتجاه القادم من اختلاف المعنى الحرفي عن المعنى الاسمي ذاتاً وحقيقة.

٣ ـ نسبية المعنى الحرفي

والاتجاه الثالث هو الاتجاه القائل بالتغاير والتمايز الذاتي بين معاني الحروف والأسماء مع قطع النّظر عن الخصوصيات العرضية الناشئة من طرو اللحاظ الآلي أو الاستقلالي عليها في مرحلة الاستعمال وهذا هو الاتجاه الّذي ذهب إليه أكثر المحقّقين المتأخّرين من علماء الأصول.

وتوضيح هذا الاتجاه وتحقيقه يتمّ خلال خمس مراحل من الكلام.

١ ـ عند ما يواجه الذهن ناراً في الموقد مثلاً ينتزع مفهوماً بإزاء النار والموقد وينتزع مفهوماً بإزاء الارتباط والعلاقة القائمة بين النار والموقد حيث نواجه ناراً وموقداً مرتبطين فيما بينهما.


وهذان نوعان من المفاهيم يختلفان في الدور الّذي يقوم به كلّ منهما في عالم الإدراك ويختلفان على أساس من ذلك في الجوهر والحقيقة.

فالنوع الأول مفاهيم ترد إلى الذهن من الخارج لغرض الاستطراق إلى التمكّن من إصدار الحكم على الخارج ، إذ ليس الغرض من إحضار مفهوم النار مثلاً أن توجد خصائص حقيقة النار وشئونها التكوينية من الحرارة والإحراق ونحو هما في الذهن بل تمام الغرض هو التوصل إلى إصدار الحكم بتوسط إحضار هذا المفهوم وملاحظته بما هو فان في الخارج. وقد ذكرنا فيما سبق من بحوث الوضع أنه يكفي من أجل إصدار الحكم على شيء خارجي أن نستحضره في الذهن بالحمل الأوّلي فنحكم عليه ويكون ثابتاً لما يكون مصداقاً له بالحمل الشائع.

وبخلاف ذلك النوع الثاني ، أعني المفهوم المنتزع بإزاء علاقة النار بالموقد ، فانَّ الغرض من إحضاره ليس هو صرف التمكّن من إصدار الحكم بل تحصيل خصائص حقيقة ذلك المفهوم من الربط بين مفهومين في الذهن أو أكثر ؛ لوضوح انَّ المقصود إيجاد الالتصاق والربط بين مفهوم النار في الذهن ومفهوم الموقد في الذهن ، وبما أنَّ هذا الربط ربط حقيقي في مرحلة الإدراك بين المفهومين فلا بدَّ وان يكون هذا النوع من المفاهيم ربطاً بالحمل الشائع ولا يكفي أن يكون ربطاً بالحمل الأوّلي. هذا هو الفارق بين النوعين من حيث الوظيفة والغرض ، ويلزم من ذلك أن يكون النوع الأول مفاهيم مستقلّة في ذاتها ويكون النوع الثاني مفاهيم تعلقية في ذاتها ، لأنَّ حقيقتها في الذهن عين التعلّق والربط على حدّ الربط الخارجي بين النار والموقد ، غاية الفرق ان الربط هناك بين وجودين خارجيين وهنا بين مفهومين وامَّا الربط نفسه فحقيقي فيهما معاً.

وبذلك يتّضح : أول الفوارق بين معاني الحروف ومعاني الأسماء ، وهو انَّ المعنى الاسمي سنخ معنى يحصل الغرض من إحضاره في الذهن بالنظر التصوّري الأوّلي وإن كان مغايراً له بالنظر التصديقي ، والمعنى الحرفي سنخ مفهوم لا يحصل الغرض من إحضاره في الذهن إلا بأن يكون عين حقيقته بالنظر التصديقي.

٢ ـ يتّضح ممَّا تقدّم : أن الحروف لا يمكن أن تكون موضوعة بإزاء مفهوم النسبة


أو مفهوم الربط والعلاقة ، لما ذكرنا من أن الغرض من إحضار المفهوم الحرفي الحصول على خصائص وشئون حقيقته وهذا لا يكون إلا بأن يكون الحاضر عين الحقيقة بالنظر التصديقي ومفهوم الربط والنسبة ليس عين النسبة بالنظر التصديقي وإن كان عينها بالنظر التصوّري ، ولذلك لا يمكن أن نربط به بين مفهوم النار في الذهن ومفهوم الموقد في الذهن مهما تصوّرناه أو تصوّرنا ما يشابهه من المفاهيم الاسمية.

٣ ـ انَّنا نلاحظ ثلاث نسب :

إحداهما : النسبة بين النار والموقد في الخارج.

والثانية : النسبة بين النار والموقد في ذهن المتكلّم.

والثالثة : النسبة بين النار والموقد في ذهن السامع. وهذه النسب الثلاث ليس بينها جامع ذاتي ماهوي ، ومفهوم النسبة وإن كان جامعاً بينها ولكنَّه ليس ذاتيّاً بل عرضي وذلك بالبرهان المركّب من الأمور الثلاثة الآتية :

أولا : انَّ انتزاع الجامع الذاتي بين الأفراد لا بدَّ فيه من انحفاظ المقوّمات الذاتيّة للأفراد مع إلغاء الخصوصيّات العرضية لها ، فحين نريد الحصول على جامع ذاتي بين زيد وعمرو لا بدَّ من التحفّظ على المقوّمات الذاتيّة لكلّ منهما ـ وهي الحيوانية والناطقيّة ـ وطرح الباقي.

ثانياً : انَّ كلّ نسبة من النسب الثلاث المذكورة متقوّمة بشخص وجود طرفيها ، فالنسبة الذهنية القائمة في أفق ذهن المتكلّم متقوّمة بشخص الوجود الذهني للنار وشخص الوجود الذهني للموقد القائمين في أفق ذهنه. وبهذا يتّضح : أن المقومات الذاتيّة لكلّ نسبة تختلف عن المقومات الذاتيّة للنسبة الأخرى. ولا يتوهّم : أن النسب الثلاث لما كان يوجد جامع مفهومي بين موصوفها ـ وهو مفهوم النار ـ وبين وصفها ـ وهو مفهوم الموقد ـ فيكون المقوّم لكلّ واحد من تلك النسب الثلاث هو عين المقوّم للنسب الأخرى وهو مفهوم النار ومفهوم الموقد. لأنَّ هذا التوهّم مندفع : بأن المقوم لكل نسبة هو طرفها ، وطرف النسبة هو شخص وجود النار الثابت في أفق تلك النسبة. نعم لا إشكال في انَّ شخص وجود النار في ذهن المتكلّم وشخص وجود النار في ذهن السامع وشخص وجود النار في الخارج ينتزع منها جميعاً مفهوم النار الحاكي


عنها على حدّ حكاية الكلّي عن فرده ولكن هذا المفهوم المنتزع ليس هو طرف النسبة فلا يكون هو المقوم لها.

ثالثاً : حيث ثبت انَّ المقوّمات الذاتيّة لكلّ نسبة مختلفة عن المقومات الذاتيّة للنسبة الأخرى. يتبرهن استحالة انتزاع الجامع الذاتي بين تلك النسب لأنَّه إن تحفّظنا على المقومات الذاتيّة لأشخاص النسب فلا يمكن تحصيل مفهوم واحد يكون جامعاً ، لأنَّ مقومات كلّ نسبة مغايرة لمقومات النسبة الأخرى ، وما لم تلغ الخصوصيات التي تتغاير بها الأفراد لا يمكن الحصول على الجامع بينها. وإذا ألغينا المقومات لكل نسبة استحال الحصول على جامع ذاتي ، لأنَّ الجامع الذاتي لا بدَّ أن تنحفظ فيه المقومات الذاتيّة للأفراد.

٤ ـ وهي متفرعة على الثالثة على حدّ تفرّع المرحلة الثانية على الأولى وحاصلها : أنَّه يتبرهن على أساس عدم الجامع الذاتي بين تلك النسب انَّ المفهوم الحرفي سنخ مفهوم ليس له تقرّر ذاتي في مرحلة سابقة على الوجود بخلاف المفهوم الاسمي. وتوضيحه : انَّنا حينما نتصور النار يمكننا بنظرة تحليلية أن نحلل هذه النار الموجودة في ذهننا إلى ماهية ووجود ونعقد على أساس ذلك قضية موضوعها ذات الماهية ـ أي النار ـ ومحمولها الوجود. وهذا يعني انَّ مفهوم النار قد فرض موضوعاً في القضية دون أن يلحظ معه عالم الوجود ثمَّ نسب إلى عالم الوجود فقيل النار موجودة ، فالنار إذن لها نحو تقرر باعتبارها موضوعاً لتلك القضية القائمة على نظر تحليلي بقطع النّظر عن عالم الوجود ، وهذا هو معنى أن المفهوم الاسمي له تقرّر ذاتي في مرحلة سابقة على الوجود. وامَّا المفهوم الحرفي ، فهو ليس كذلك لأنَّ شخص النسبة بعد أن ثبت أنَّها متقومة ذاتاً بشخص وجود طرفيها بحيث يكون شخص وجود الطرفين بالإضافة إلى النسبة المتقومة بها كالجنس والفصل بالإضافة إلى المفهوم الاسمي للنار أو للإنسان ، فلا يعقل أن يكون لتلك النسبة نحو تقرّر ذاتي في مرحلة سابقة على عالم الوجود ، إذ في هذه المرحلة لا انحفاظ للمقوّمات الذاتيّة لتلك النسبة. ففرق بين فرض النار أو الإنسان في مرحلة سابقة على الوجود ثمَّ الحكم عليه بأنَّه موجود أو غير موجود ، وفرض شخص النسبة في مرحلة سابقة كذلك ، فان الأول معقول لانحفاظ المقومات الذاتيّة له وهي الحيوانية


الناطقية مثلاً ، وامَّا الثاني فهو غير معقول لعدم انحفاظها.

نعم ، لو قيل بالجامع الذاتي بين أشخاص النسب لكان فرض ذلك هو فرض تجريد هذا الجامع من خصوصيات أشخاص الطرفين ، ومعه يكون له تقرر ماهوي في مرحلة سابقة على عالم الوجود ، بخلاف ما إذا برهنّا على امتناع ذلك الجامع ، ولهذا كانت المرحلة الثالثة أساساً لما نقرّره في هذه المرحلة من أنَّ التقرّر الماهوي للمفهوم الحرفي في طول عالم الوجود وأمَّا التقرر الماهوي للمفهوم الاسمي فعالم الوجود في طوله بالنظر التحليلي وبهذا يتّضح الفارق الثاني من الفوارق الأساسية بين المفهوم الاسمي والمفهوم الحرفي.

٥ ـ انَّ المفهوم الاسمي للنار الموجود في الذهن إذا لوحظ بما هو موجود في الذهن ، أي بالنظر التصديقي ، فهو جزئي ذهني نسبته إلى النار الخارجية نسبة المماثل إلى المماثل ، وإذا لوحظ ذات المفهوم الاسمي بقطع النّظر عن وجوده الذهني ، أي بالنظر التصوّري ، فهو مفهوم ينطبق على النار الخارجية انطباق الكلّي على فرده. وهذا النحو من الانطباق لا يتصوّر للنسبة الذهنية القائمة في ذهن المتكلّم مع النسبة الخارجية ، لأنَّها إن لوحظت متقومة بشخص طرفيها فهي نسبة جزئية مغايرة للنسبة الخارجية المتقومة هي الأخرى بشخص طرفيها ، وإن قطع النّظر عن شخص الطرفين فليس لها في هذه المرتبة تقرّر ماهوي أصلاً لتكون قابلة للانطباق على النسبة الخارجية على حدّ انطباق الكلّي على فرده.

وأمَّا كيفيّة حكاية المفهوم الحرفي عن الخارج مع عدم انطباقه عليه على حدّ انطباق الكلّي على فرده ، فهي بسبب الطرفين إذا نظر إليهما بالنظر التصوّري الآلي بما هما عين الخارج فبهذا النّظر ترى النسبة تبعاً بأنَّها عين النسبة الخارجية إذ لا تعدد ولا تغاير بين النسبتين إلا بلحاظ التغاير والتعدد في اشخاص الطرفين ، فإذا لوحظ طرفا النسبة الذهنية بما هما خارجيان فبهذا اللحاظ لا ترى النسبة الذهنية مغايرة للنسبة الخارجية.

وبما ذكرناه في المراحل الخمس يتّضح : ما هو المظنون في مقصود شيخ المحققين المحقق النائيني ( قده ) حيث ذهب إلى إيجاديّة معاني الحروف وكان بيانه مشوباً بشيء


من الغموض بحيث حمله حتى بعض الأجلة من مقرّري بحثه على معنى غريب جدّاً إذا افترض انَّ مقصوده 1 ان نفس الحرف يكون موجوداً لمعناه في عالم الكلام واللفظ دون أن يكون لهذا المعنى أي تحقّق قبل الكلام. فاعترض عليه : بأن الحرف وإن كان موجداً للربط في عالم الكلام واللفظ ولكن موجوديّته لذلك انَّما هي بلحاظ دلالته على معنى والكلام في تشخيص ذلك المعنى.

ولكن الظاهر أن المحقق النائيني ( قده ) لا يقصد إيجادية الحرف بل إيجاديّة معاني الحروف ، فكون المعنى الحرفي كالمعنى الاسمي ثابتاً في الذهن قبل الكلام أمر بديهي مفروغ عنه ، وانَّما المدّعى انَّ المعنى الحرفي سنخ معنى إيجادي والمعنى الاسمي إخطاري. وهذه الإيجادية في معاني الحروف لها ثلاثة أركان :

أولا : انَّ المعاني الحرفية لا بدَّ أن تكون عين حقيقتها عنواناً ووجوداً أي بالنظر التصديقي فضلاً عن التصوّري ، بخلاف المعاني الاسمية التي يتحقّق الغرض من إحضارها أن تكون عين حقيقتها بالنظر التصوّري.

ثانياً : انَّ المفاهيم الحرفية تقرّرها الماهوي والذاتي في طول عالم الوجود ـ ذهناً أو خارجاً ـ بخلاف التقرر الذاتي للمفاهيم الاسمية فانَّه محفوظ في المرتبة السابقة على الوجود الذهني والاستعمال.

ثالثاً : انَّ المفاهيم الحرفية نسبتها إلى ما يوازيها من النسب في الخارج نسبة المماثل إلى المماثل وليست كنسبة الكلّي إلى فرده بنحو ينطبق عليه ، خلافاً للمفاهيم الاسمية التي نسبتها إلى الخارج بالنظر التصوّري نسبة الكلّي إلى فرده بنحو ينطبق عليه ولهذا تكون حكاية المعنى الحرفي عن الخارج بتبع حكاية المعنى الاسمي.

الوجوه المختلفة في تفسير نسبيّة المعنى الحرفي

وتذكر ـ عادة ـ في إطار الاتجاه الثالث عدّة وجوه ادّعي اختلافها في تحقيق المعاني الحرفية ضمن هذا الإطار.


١ ـ إيجاديّة المعنى الحرفي

الوجه الأول : ما نسب إلى المحقق النائيني ( قده ) إذ قيل : بأنَّه يرى أن مدلول الحرف هو الربط الكلامي وبهذا كان إيجاديّاً ، بخلاف المعاني الاسمية فانَّها مفاهيم استقلالية بحد ذاتها وأنفسها وبهذا كان المعنى الاسمي إخطاريّاً (١).

مناقشة السيد الأستاذ في إيجادية الحروف

وقد فهم السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ من هذا الكلام انَّ المقصود هو وضع الحروف للربط بين أطراف الكلام في مرحلة الاستعمال. فاعترض عليه : بأنَّ ربط الحروف بين المفاهيم الاسمية في التراكيب الكلامية غير المربوطة بعضها ببعض انَّما هو من جهة دلالتها على معانيها التي وضعت بإزائها لا من جهة إيجادها المعاني الربطية في مرحلة الاستعمال والتركيب الكلامي (٢).

وفهم دليل المحقق النائيني في ضوء ذلك بأنَّ الحروف بعد ان لم يكن يخطر منها في الذهن معنى مستقل فلا محالة يتعيّن في أن تكون معانيها إيجادية. فاعترض عليه بقوله : « الثاني ـ إن عدم استقلالية المعاني الحرفية في حدّ أنفسها وتقوّمها بالمفاهيم الاسمية المستعملة لا يستلزم كونها إيجادية ، لا مكان أن يكون المعنى غير مستقل في نفسه ومع ذلك لا يكون إيجاديّاً » (٣).

توضيح معنى إيجادية الحروف

والمظنون قويّا أن مقصود المحقق النائيني ( قده ) ملاحظة مرحلة المعنى وإيجادية المعاني الموضوعة بإزائها الحروف لا انَّها توجد الربط بين أطراف الكلام بلا أن تكون موضوعة لمعنى ، ولكن باعتبار ان سنخ معانيها الموضوعة بإزائها سنخ معانٍ لا يمكن

__________________

(١) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٦٣

(٢) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٦٤ ـ ٦٧

(٣) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٦٨ ـ ٦٩


إحضارها في الذهن مستقلاً لعدم ثبوت تقرّر ذاتي لها بقطع النّظر عن مرحلة وجودها ضمن اشخاص أطرافها كانت إيجادية ـ بالنحو المتقدّم شرحه في الفوارق الثلاثة بين معاني الحروف والأسماء ـ فلا مجال لشيء من هذين الاعتراضين.

وبكلمة أخرى : ان الإيجاديّة إذا لم يرد بها الإيجادية في نفس مرحلة الكلام في مقابل تقرّر المعنى الحرفي بقطع النّظر عن المرحلة الكلامية بل أريد بها الإيجادية في مرحلة الصورة الذهنية لمدلول الكلام في مقابل ان يكون للمعنى تقرّر في مرتبة ذاته وبقطع النّظر عن مرحلة الوجود الذهني فلا يرد عليها الاعتراضان المذكوران.

مناقشة المحقق العراقي في الإيجادية

ومنه يظهر : أنَّه لا مجال لاعتراض أورده المحقق العراقي ( قده ) من أن هذا مبني على القول بإمكان وجود الماهية المهملة ـ الموضوع لها الاسم ـ في الذهن مجرّداً عن الإطلاق والتقييد ليوجد فيها التقييد بالحرف ، مع استحالة ذلك ، لأنَّ الطبيعة اللا بشرط المقسمي لا تأتي في الذهن إلا في ضمن الطبيعة بشرط شيء أو الطبيعة لا بشرط. وعلى الأول ، يكون التقييد ثابتاً في مرحلة سابقة على الكلام وهو خلف الإيجادية. وعلى الثاني ، يستحيل إيجاد الربط والتقييد لأنَّ المطلق لا يقبل التقييد إلا بإزالة تلك الصورة واستبدالها بصورة أخرى ويعود حينئذ نفس التشقيق (١).

فانَّه لم يكن المقصود انَّ معاني الحروف توجد التقييد في معاني الأسماء بعد وجودها في الذهن مهملة لكي يكون خلاف التحقيق ، وانَّما المقصود من الإيجادية الخصائص الثلاث المتقدّمة ، وهي لا تستلزم وجود المعنى الاسمي الواقع طرفا للمعنى الحرفي في الذهن بنحو مهمل قبل وجوده.

هذا ، مضافاً : إلى أنَّه لو سلّم انَّ المقصود من الإيجادية ما توهّم فلا يرد عليه الإشكال المذكور أيضا ، لأنَّ الطبيعة اللا بشرط المقسمي وإن كان لا يعقل وجودها على جامعيتها في الذهن إلا أن إحدى حصتيها ـ وهي الطبيعة اللا بشرط القسمي ـ

__________________

(١) راجع مقالات الأصول ج ١ ص ٢٢


قابلة للوجود في الذهن ولطرو التقييد عليها ، لأن هذه الحصة متقومة بعدم لحاظ التقييد لا بلحاظ عدم التقييد فإذا طرأ عليها الربط الكلامي زال بذلك قيدها ولا يلزم من ذلك تبدّل الصورة رأساً. والحاصل : انَّ المطلق بإطلاق لحاظي لا يعقل طرو التقييد عليه إلا بتبديل شخص هذا اللحاظ ، وأمَّا المطلق الّذي يرجع إطلاقه إلى أمر عدمي وهو عدم لحاظ القيد فيعقل طرو التقيد عليه مع حفظ شخص لحاظه ، غاية الأمر يبدل عدم لحاظ القيد فيه إلى لحاظه وأمَّا ما أفاده المحقق العراقي 1 من النقض على الإيجادية بأن لازمها كون مقدمات الحكمة الدالة على الإطلاق إيجادية أيضا ، لأن الإطلاق أمر زائد على الطبيعة المهملة كالتقييد. ففيه : أن مقدمات الحكمة ليست موازية للحرف في مرحلة الدلالة ، لأن دلالتها تصديقيّة وفي مرحلة المدلول الجدّي للكلام ـ كما حققناه في محله ـ والكلام في الحرف انَّما هو في مرحلة المدلول التصوّري فلا معنى لقياس أحدهما بالآخر.

مناقشات أخرى للمحقق العراقي مع جوابها

وقد نسب إلى المحقق العراقي ( قده ) في تقريرات بحثه (١) عدد آخر من الاعتراضات لا تخلو من غرابة.

منها ـ انَّ الهيئة التي تطرأ على المادة متأخرة بالطبع عن المادة المتأخرة عن مدلولها وهو المعنى الاسمي ، فلو كانت الهيئة موجودة لمعناها في المعنى الاسمي لكان معناها متأخراً عنها وبالتالي يتأخر عن مدلول المادة بثلاث رتب ، وبما انَّه مقوم لموضوعه يلزم أن يكون في رتبته فيتقدّم على علته بثلاث رتب وهذا خلف.

ويرد عليه : ـ لو سلّم ان المقصود من الإيجادية ما توهّم ـ ان المعنى الحرفي مقوم للمقيد بما هو مقيد وما تكون المادة متأخرة عنه تأخر الدال عن المدلول ذات المقيد بما هو معنى اسمي لا المقيد بما هو مقيد ، فلا يلزم كون المتأخر مقوماً للمتقدم.

ومنها ـ انَّ المعنى الحرفي إذا كان إيجاديّاً في مرحلة الكلام ولا واقع له وراء ذلك

__________________

(١) بدائع الأفكار ج ١ ص ٤٣


يلزم أن لا يكون للحرف مدلول بالعرض ومفني فيه ، وهذا يعني انَّ القضية في مرحلة المدلول بالعرض تظلّ ناقصة وغير متطابقة مع مرحلة المدلول بالذات. ويرد عليه : انَّه لو سلّم انَّ المقصود من الإيجادية ما توهّم ـ فيمكن لمدعي هذا النحو من الإيجادية أن يقول : بأنَّ الربط الكلامي له محكي وهو الربط الخارجي في مرحلة المدلول بالعرض ولكنه ليس على نحو حاكية المفهوم الذهني عن مصداقه لأنَّه خلف الإيجادية بالمعنى المفترض بل على نحو حكاية المماثل عن مماثله. وبذلك يظهر الجواب عن اشكاله الثالث ؛ وهو انَّ مدلول الحرف في قول الآمر « سِر من البصرة بحكم كونه إيجاديّاً يكون في صقع الطلب ومثله في التأخر عن المطلوب رتبة وباعتباره من قيود المطلوب يكون متقدّماً فان ما هو في صقع الطلب الربط الكلامي وما هو من قيود المطلوب لبّ محكيه بالمعنى الّذي عرفته. على أن كون شيء موجوداً في صقع الطلب لا يعني انَّه في رتبته وكون شيء في رتبة الطلب لا يعني تأخّره رتبة عن المطلوب.

٢ ـ وضع الحروف للوجود الرابط

الوجه الثاني : ما نسب إلى المحقق الأصفهاني ( قده ) إذ ادّعي أنَّه يرى وضع الحرف للوجود الرابط الخارجي. واعترض عليه السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ.

أوّلاً : انَّ الوجود الخارجي أو الذهني ليس مأخوذاً في المعنى الموضوع له الكلمة ، بل اللفظ يوضع بإزاء ذات المعنى لأنَّ الوضع انَّما هو لأجل الانتقال الذهني إلى مدلوله وما يعقل انتقال الذهن إليه ذات المعنى لا الوجود.

وثانياً : انَّ الوجود الرابط كثيراً ما لا يكون موجوداً في موارد الاستعمال ، كما في موارد استعمال اللام في قولنا « الوجود لله واجب » إذ لا يعقل الوجود الرابط بين الله ووجوده.

وثالثاً : انَّ الوجود الرابط الخارجي أساساً لا موجب للالتزام به ، إذ لا برهان على وجود أمر ثالث في الخارج زائداً على الذات والعرض سوى ما يدّعي : من انَّا قد نعلم بوجود زيد وبوجود علم ونشك في قيام هذا العلم بزيد ، وحيث انَّ المشكوك غير المعلوم فيجب أن يكون هناك في حالة علم زيد أمر ثالث وراء ذات زيد وذات العلم


وهو الوجود الرابط وهذا البرهان مدفوع : بأن العلم والشك حيث انَّهما متقوّمان بالصور الذهنية لا بالخارج ابتداءً فلا يقتضي فرض العلم والشك إلا فرض صورتين ذهنيّتين متغايرتين في عالم الذهن ولا ينافي كون مطابقهما واحداً في الخارج (١)

توضيح المقصود من الوجود الرابط

والتحقيق : أنَّ المتراءى من عبائر المحقق الأصفهاني ( قده ) انَّه يقول بوضع الحرف لماهيّة النسبة التي هي عين الاستهلاك والاندكاك والتي يكون تقرّرها الماهوي في طول صقع الوجود ذهناً أو خارجاً لا للوجود الرابط الخارجي ، فكون النسبة موجودة خارجاً أو موجودة ذهناً غير مأخوذ في مدلول الحرف وانَّما المدلول نفس ماهية النسبة. وهذا لا يعني أيضا كون الماهية جامعاً ذاتياً بين الربط الذهني والوجود الرابط الخارجي الموازي له لما تقدّم من استحالة الجامع الذاتي بين ربطين سواءً كانا خارجيَّين أو ذهنيَّين أو مختلفين ، لأنَّ كلّ ربط متقوّم ذاتاً بشخص وجود طرفيه. وبذلك يظهر : أنَّ النسبة المتقومة بالطرفين في عالم الذهن وافية بالمعنى الحرفي عند المحقق الأصفهاني ، ولهذا جاء في كلامه تشبيه المعنى الحرفي والاسمي في الذهن بالوجود الرابط والوجود المحمولي ، فالمعنى الحرفي بالنسبة إلى المعنى الاسمي في عالم المفاهيم في الذهن كالوجود الرابط بالنسبة إلى الوجود المحمولي في الخارج لا انَّ المعنى الحرفي هو الوجود الرابط. وممَّا يوضح ذلك : أنَّه 1 قد صرّح بانحفاظ النسبة التي هي مدلول الحرف حتى في موارد هل البسيطة (٢) مع بداهة انَّه لا وجود رابط خارجي بين وجود الشيء وماهيته.

وعلى هذا الأساس ، تندفع الإشكالات الثلاثة. امَّا الأول ، فلوضوح أنَّ الوجود الخارجي لم يؤخذ في مدلول الكلمة ليقال انَّه لا يقبل الانتقال الذهني إليه ، حيث انَّ الحرف لم يوضع للوجود الرابط الخارجي بل وضع لذات ماهية النسبة بقطع النّظر عن

__________________

(١) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٧٢ ـ ٧٧

(٢) راجع نهاية الدراية ج ١ ص ٢٤


نحوي وجودها. غير انَّ النسبة متقومة دائماً بشخص وجود طرفيها وبهذا كانت النسبة القائمة في ذهن المتكلم والنسبة القائمة في ذهن السامع ماهيتين متغايرتين وكلّ منهما قابلة للانتقال الذهني ، وذلك بأن توجد في صقع الذهن تبعاً لطرفيها بالنحو المناسب لها من الوجود. وأمَّا الثاني ، فلأنَّه مبني على تخيّل كون المدّعي وضع الحرف للوجود الرابط الخارجي وقد عرفت عدمه.

ثمَّ لا ندري هل كان نظره الشريف في تسجيل هذا النقض إلى وضوح صدق قولنا الوجود لله مع انَّه لا وجود رابط بين الطرفين ، أو إلى وضوح كونه كلاماً له مفاد مع انَّه إذا كان اللام يدلّ على الوجود الرابط فليس له في هذا الكلام مدلول بالذات فلا يكون الكلام ذا مفاد؟ فان كان النّظر إلى الأول ، فيرد عليه : انَّه لا بدَّ من تسجيل الإشكال في رتبة أسبق بالتقريب الثاني ، لأنَّ الكلام سواءً كان صادقاً أو كاذباً لا بدَّ أن يكون مدلوله بالذات محفوظاً فإذا كان المدلول بالذات نفس الوجود الخارجي فيكون عدم الصدق مساوقاً لعدم المفاد رأساً. وإن كان النّظر إلى الثاني فلا نعلم لما ذا لم ينقض بجميع موارد استعمال الحرف في حالات كذب المتكلّم حتى في مثل قولنا « السواد للجسم ثابت » حيث انَّ المدلول بالذات لا يتصوّر حينئذ فيلزم خلو الجملة من كونها ذات مفاد في نفسها.

ومنه يظهر : انَّ الإشكال الثالث وهو إنكار الوجود الرابط الخارجي لا يضرّ بالمدعى علاوة على أنَّه خلاف التحقيق ، إذ لو أريد إنكار ثبوت وجود ثالث خارجاً على وجود المنتسبين فهو صحيح لكنَّه ليس هو المراد بالوجود الرابط. وإن أريد إنكار ثبوت واقعية ثالثة في الخارج وراء واقعية المنتسبين فهو غير صحيح ، لوضوح انَّ هناك أمراً واقعيّاً ثابتاً في لوح الواقع الّذي هو أوسع من لوح الوجود نفتقده عند ما نفترض ناراً وموقداً غير منتسبين وهذه الواقعية هي منشأ انتزاع مثل عنوان الظرفية أو المظروفية وهي منشأ واقعيتهما لو قيل بأنَّهما من الأمور الواقعية لا الاعتباريّة.


٣ ـ وضع الحروف للتخصيص

الوجه الثالث : ما أفاده السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ من انَّ الحرف موضوع لتخصيص المفهوم الاسمي وتضييقه بمعنى انَّ المفهوم الاسمي قابل في نفسه للتخصيص إلى حصص كثيرة والانطباق عليها ، فان أريد تفهيم ذات المعنى أمكن الاكتفاء بالاسم ، وامَّا إذا أريد تفهيم حصّة خاصة منه فحيث انَّ الاسم لا يفي بذلك فلا بدَّ من تفهيمها بنحو تعدد الدال والمدلول بأن يكون الاسم دالاً على ذات المعنى والحرف دالاً على تحصصه وضيق دائرة قابلية الانطباق فيه (١).

والصحيح : انَّ تحصيص مفهوم اسمي بلحاظ مفهوم اسمي آخر لا يعقل أن يكون إلا بلحاظ افتراض نسبة بين المفهومين بحيث يقع أحد المفهومين طرفا لنسبة مع المفهوم الآخر ـ من قبيل نسبة الظرفية بين النار والموقد ـ ويصبح بذلك حصّة خاصة من النار وينشأ ضيق في دائرة انطباقه يوجب امتناع انطباقه على الفاقد للنسبة ، وما لم تفرض في المرتبة السابقة نسبة بين مفهومين لا يعقل ان يتضيّق أحدهما بلحاظ الآخر. وعلى هذا فان أريد بالوضع للتخصيص كون الحرف موضوعاً لما هو ملاك التحصيص أي النسب التي بها تتحصّص المفاهيم الاسمية بعضها بالبعض الآخر فهذا نفس المدّعى السابق الموضح في الاتجاه الثالث وليس شيئاً آخر في قباله ، وإن أريد كون الحرف موضوعاً لنفس التحصيص فيرد عليه.

أولا : انَّ التحصيص والضيق لما كان في طول أخذ نسبة بين المفهومين لا محالة فلا بدَّ من دال على تلك النسبة فان لم يكن هناك دال عليها بقي المدلول ناقصاً ، وحيث لا يتصوّر دال غير الحرف فيتعيّن كون الحرف دالاً عليها ومعه يكتمل مدلول الكلام ولا معنى لأخذ الضيق والتحصيص في مدلول الحرف حينئذ.

وثانياً : انَّ التحصيص والضيق في طول النسبة وممَّا يستتبعه المعنى الحرفي لا انَّه بنفسه المعنى الحرفي وفي طول المعنى الحرفي ، ولهذا نجد انَّه ليس مساوقاً مع جميع المعاني

__________________

(١) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٨٠ ـ ٨٥


الحرفية بل انَّ بعض المعاني الحرفية لا يشمل على التحصيص وهذا شاهد على عدم إمكان دعوى كون الحروف موضوعة للتخصيص ابتداءً ، وذلك كما في معاني حرف العطف والاستثناء والتفسير والإضراب. فمثلاً في حرف العطف حينما يقال « جاء إنسان وحصان » لا يدلّ الواو على الحصة الخاصة. فان توهّم : أنَّه أيضا يدلّ على التحصيص وانَّ الجائي هو الحصة الخاصة من الإنسان المقترنة بالحصان ، قلنا فما ذا يقال في مثل قولنا « الحرارة والبرودة لا تجتمعان » فانَّه من الواضح انَّ المقصود من هذا الكلام ليس أن نقول انَّ الحصة الخاصة منهما لا تجتمعان فأين التحصيص؟ وكذلك في مثل قولنا « أكرم العشرة إلا واحداً » فان مفهوم العشرة لم يكن تحته حصتان إحداهما التسعة والأخرى التسعة زائداً واحد ليكون الحرف دالاً على تحصيصه بالأولى. وهناك توجيه محتمل في كلام الأستاذ ـ دام ظلّه ـ تأتي الإشارة إليه.

ثمَّ انَّ الأستاذ قد ربط بين الوجه الّذي اختاره في الحروف وبين مسلكه في تفسير الوضع ، وهو مسلك التعهد ، حيث أفاد : « انَّ ما سلكناه في باب الوضع من ان حقيقته التعهد والتباني ينتج الالتزام بذلك القول لا محالة ضرورة ان المتكلّم إذا قصد تفهيم حصة خاصة فبأيّ شيء يبرزه إذ ليس المبرز له إلا الحرف أو ما يقوم مقامه » (١) مع أنَّه لا ارتباط بين البحثين بوجه ، لأنَّ المبحوث عنه في المقام هو الفارق بين ما هو المدلول التصوري للحروف والأسماء وانَّهما من سنخ واحد أو سنخين سواءً كانت حقيقة الوضع تخصيص اللفظ بإزاء نفس هذا المدلول التصوّري أو الالتزام بقصد تفهيم ذلك المعنى للغير. وكما انَّ التعهّدات العقلائيّة لا بدَّ وأن تكون مستوعبة ووافية بإشباع كلّ الحاجات اللغوية كذلك حكمة الوضع تقتضي إشباعها على حدّ واحد.

وبتعبير آخر : انَّ الخلاف في حقيقة الوضع بين أصحاب التعهد وأصحاب الاعتبار ليس في تشخيص حكمة الوضع وانَّ الغرض من الاعتبار تمكين المستعمل من حاجته ، بل في ان طريق سدّ هذه الحاجة ما هو؟ فإذا كانت الحاجة تقتضي جعل ما يدل على الحصة الخاصة فهذا ما يقتضي الوضع لذلك مهما كان معنى الوضع.

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٨٤


وهكذا ، يتّضح حتى الآن ، الاتجاه الثالث مدّعى وبرهاناً. ويتبيّن : أن جملة من الأقوال يمكن أن تكون مجرّد تعبيرات مختلفة عن ذلك المدّعى الّذي أوضحناه في تنقيح هذا الاتجاه.

٤ ـ وضع الحروف للأعراض النسبية

وهناك قول في المعاني الحرفية نسب إلى المحقق العراقي ( قده ) في تقريرات بحثه (١) وإن كانت مقالاته غير متطابقة مع تمام ما نسب إليه في هذا القول ، وهو مذهب يتأرجح بين الاتجاهات.

وحاصل ما نسب إليه : انَّ الموجودات في العين على أنحاء. منها ، وجود الجوهر. ومنها ، وجود العرض بأقسامه التسعة المعبر عنه بالوجود الرابطي. ومنها ، ربط الاعراض بموضوعاتها أي الوجود الرابط والعرض قد يتقوّم بموضوع واحد ، ـ كمقولة الكيف ـ وقد يحتاج في تحققه إلى موضوعين ـ كالأين والإضافة ـ والسيرة العقلائيّة على جعل دوال على كلّ هذه الأمور ، وقد جعلت الأسماء دالة على الجواهر وجملة من الأعراض ، والهيئات دالة على الربط بأنحائه ، فبقي أن يدلّ الحرف على الاعراض الإضافية النسبية التي تحتاج إلى موضوعين ، والهيئة في الجملة المشتملة على الحرف تدلّ على ربط هذا العرض بكلّ من موضوعيه. وبكلمة أخرى : انَّنا نستفيد من الجملة المذكورة العرض النسبي والربط المخصوص معاً ، فلا بدَّ امَّا من افتراض دلالة الحرف على الأول والهيئة على الثاني أو العكس والثاني باطل ، لوجدانية انَّ الهيئة لا تدلّ على العرض فيتعيّن الأول وهو المطلوب.

ويرد عليه : أولا : انَّ الألفاظ ليس من الضروري ان تتطابق مع قائمة المقولات الحقيقية والوجودات الخارجية العينيّة بمراتبها وأن نجد مدلول كل واحد منها ضمن هذه القائمة ، لأن معنى اللفظ قد يكون أمراً اعتباريّاً أو انتزاعيّاً أو عدماً صرفاً وليس من المقولات بوجه سواءً في الأسماء ـ كلفظ العدم مثلاً ـ أو في الحروف ، إذ كثيراً

__________________

(١) بدائع الأفكار ج ١ ص ٤٢


ما لا يكون المعنى الحرفي معبّراً عن وجود خارجي لا ربطي ولا رابطي.

وثانياً : انَّ المقصود من استفادة العرض النسبي من قولنا « زيد في الدار » إن كان استفادة معنى الأين بما هو هيئة قائمة بالمتأين بلحاظ نسبة خاصة بينه وبين ظرفه ومكانه ، فهذا ممَّا لا يستفاد بالمطابقة من اللفظ أصلاً وإن كان المقصود استفادة النسبة الخاصة القائمة بين المتأين والمكان الّذي يتواجد فيه ، فهذا صحيح غير انَّ هذه النسبة بنفسها نحو من الربط ليست بحاجة إلى ربط آخر بطرفيها ليقال بأنَّ الهيئة تتكفّل بربطها بطرفيها.

وثالثاً : انَّ مفاد الحرف إذا كان عرضاً نسبيّاً. فان أريد العرض النسبي بوصفه مفهوماً من المفاهيم ، فهذا يعني كونه مفهوماً مستقلاً في عالم الذهن على حدّ استقلالية سائر المفاهيم الاسمية ، لوضوح انَّ مفهوم العرض بما هو قابل للوجود الاستقلالي في الذهن ، فيبقى السؤال عن الفرق بين الحرف والاسم الموازي له وإن كان وجوده في الخارج في نفسه عين وجوده لموضوعه. وإن أريد العرض النسبي بوجوده الخارجي الرابطي ، فهو واضح البطلان ، لأنَّ الوجود الخارجي لا يعقل أن يكون مدلولاً بالذات للكلام ، لأنَّ المدلول بالذات للكلام يجب أن يكون قابلاً لطرو الوجود الذهني واللحاظ عليه كما هو واضح.

تعديل الاتجاه الثالث وتصحيحه

وبعد ان اتّضح الاتجاه الثالث مدّعى وبرهاناً ، وتبيّن انَّ جملة من الأقوال يمكن أن تكون مجرّد تعبيرات مختلفة عنه نقول : انَّ التحقيق انَّ هذا الاتجاه بحاجة إلى تعديل وإصلاح. ذلك أن مقتضى ما ذكرناه في توضيح هذا الاتجاه انَّ في صقع الذهن موجودات ثلاثة عند تصوّرنا لمفاد « النار في الموقد » اثنان منهما موجودان في أنفسهما وهما الصورة الذهنية للنار والصورة الذهنية للموقد ، والثالث موجود لا في نفسه وهو الربط القائم بينهما ، وهذا المعنى مستحيل بالبرهان. فنحن ننكر أن لدينا في هذه الحالة وجودين ذهنيين مغايرين أحدهما للنار والآخر للموقد وهناك نسبة واقعية في عالم الذهن قائمة بينهما ، إذ لو كان هناك وجودان ذهنيّان كذلك لاستحال الربط


بينهما في عالم الذهن بنحو يحكي عن الربط الخارجي ، وذلك لأنَّ ما يربط به الوجود الذهني للنار والوجود الذهني للموقد إن كان هو مفهوم النسبة المكانية فهذا بنفسه مفهوم اسمي ويستحيل إيجاد الربط به ، وإن كان هو واقع النسبة المكانية بنحو تكون لدينا نسبة مكانية واقعية في الذهن موازية للنسبة المكانية الواقعية في الخارج فهذا أيضا مستحيل ، لأنَّ واقع النسبة المكانية يستحيل قيامه بين الصور الذهنية في أنفسها ، لأنَّها أعراض وكيفيّات نفسية والمكان إنَّما هو من شئون الجسم لا العرض النفسانيّ ، وإن كان هو واقع نسبة أخرى من النسب التي تناسب الصور والمفاهيم في عالمها الذهني من قبيل نسبة التقارن بين الصورتين فهذا أيضا غير صحيح لأنَّ نوعاً من النسبة يستحيل أن يحكي عن نوع آخر منها فكيف يمكن أن تحكي القضية المعقولة عندئذ عن النسبة المكانية الخارجية مع اختلاف سنخ النسبتين ، وهكذا يتعيّن بالبرهان أن لا يكون عندنا وجودان ذهنيان متغايران بينهما نسبة ، بل ليس في الذهن إلا وجود ذهني واحد ولكن الموجود بهذا الوجود الواحد مركّب تحليلي من نار وموقد ونسبة ، فالنسبة التي هي بإزاء الحرف ليست نسبة واقعية وجزءاً واقعياً في الوجود الذهني للنار في الموقد ، بل نسبة تحليلية وجزءاً تحليليّاً ، فالنسبة بالإضافة إلى الوجود الذهني الوحدانيّ كأجزاء الماهية التحليلية من الجنس والفصل بالإضافة إلى الوجود الخارجي الوحدانيّ ، وهذا يعني أن مفاد الحروف النسبة التحليلية الذهنية لا النسبة الواقعية. ولعلَّ هذا المعنى كان هو المركوز لدى السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ فاستنكر بوجدانه أن تكون الحروف موضوعة للنسبة الحقيقية عيناً أو ذهناً ، فهو لم يكن يرى وجداناً إلا وجوداً ذهنياً واحداً ممَّا اضطره إلى أن يدّعى وضع الحروف للتخصيص وتضييق دائرة صدق المعاني الاسمية فان كان يقصد من ذلك أن نشأة الذهن البشري تقتضي أن يتضيّق الوجودان الخارجيّان ويندكان في وجود ذهني واحد يمكن تحليله إلى أركان ثلاثة فهو مطلب صحيح.


المعاني النسبية للحروف تحليلية

والمتلخّص : أن هناك نسبة واقعية خارجيّة ، ونسبة واقعية ذهنية ، ونسبة تحليلية ذهنية. والنسبة الواقعية تستدعي لا محالة طرفين وجوديين متغايرين في صقع وجودها ذهناً أو خارجاً ، بخلاف النسبة التحليلية التي هي جزء تحليلي من ماهية الموجود وليست ثابتة في صقع الوجود على وجه الجزئية ، وما هو مدلول الحرف انَّما هو النسبة التحليلية لا النسبة الواقعية في صقع الذهن فضلاً عن صقع الخارج ، لأنَّ النسبة الواقعية الذهنية تستدعي طرفين وجوديين متغايرين ومتى ما افترضنا طرفين كذلك استحال إيجاد الربط بينهما بنحو قابل للحكاية عن النسبة الخارجية كما برهنَّا عليه.

فان قيل ـ يمكن المناقشة في البرهان المذكور باختيار دعوى إيجاد الربط بقيام النسبة الواقعية المكانية ، لكن لا بين اللحاظين ليقال انَّهما وجودان ذهنيّان وعرضان نفسيّان ، ولا معنى لقيام النسبة المكانية بينهما ، بل بين الملحوظين.

قلنا ـ إن أريد بقيام النسبة بين الملحوظين قيامهما بين الملحوظين بالذات ، فمن الواضح أن الملحوظ بالذات نفس اللحاظ ، وبهذا يرجع إلى قيامهما بين نفس اللحاظين ، وإن أريد قيامهما بين الملحوظين بالعرض بما هما ملحوظان بالعرض ، أي بالمقدار المطابق لما هو الملحوظ بالذات ، فمن الواضح انَّ هذا لا يمكن إلا مع أخذ ما يكون قابلاً للحكاية عن تلك النسبة في مرتبة الملحوظ بالذات ، لأنَّ الملحوظ بالعرض لا يرى إلا بمنظار الملحوظ بالذات وقد عرفت سابقاً امتناع ذلك ، وإن أريد قيامهما بين الملحوظين بالعرض بذاتيهما لا بما هما ملحوظان ، فهذا صحيح غير أنَّه لا ينفع لإيجاد الربط في عالم الذهن الّذي هو المطلوب كما هو واضح.

وإن قيل ـ انَّنا ندّعي ان في الذهن وجوداً لحاظيّا لماهية النار ووجوداً لحاظيّا آخر لماهية الموقد ، وكما انَّ كلّ واحد من هذين الوجودين رغم كونه وجوداً لماهية النار أو الموقد بحيث يرينا بالنظر التصوّري ناراً وموقداً ليس في الحقيقة وبالنظر التصديقي ناراً وموقداً بل صورة ذهنية ، كذلك نفرض وجوداً لحاظيّا للربط بين ذينك الوجودين الذهنيّين ، وهذا الوجود الربطي بالنظر التصوّري نسبة مكانية كما انَّ طرفيه بالنظر


التصوّري نار وموقد ولا ينافي ذلك أن لا يكون بالنظر التصديقي نسبة مكانية كما انَّ طرفيه بالنظر التصديقي ليسا ناراً وموقداً. وبكلمة أخرى : انَّ قيام ما هو نسبة مكانية بالنظر التصديقي بين الوجودين الذهنيين للنار والموقد مستحيل ، ولكن قيام ما هو نسبة مكانية بالنظر التصوّري بينهما ليس مستحيلاً ، وهذا يكفي للحصول على رؤية بالنظر التصوّري للنار في الموقد بنحو الارتباط.

قلنا ـ انَّ هذا غير متصوّر في المقام ، وذلك لأنَّ العقل لو كان ينال من النسبة الخارجية المكانية ماهية على حدّ ما ينال من النار الخارجية ماهيتها ومن الموقد الخارجي ماهيته لأمكن القول بأنَّ هذه الماهية التي ينالها من النسبة المكانية الخارجية توجد بوجود ذهني ويكون هذا الوجود عين النسبة المكانية الحقيقية بالنظر التصوّري وإن كان غيرها بالنظر التصديقي ، كما هو الحال في الوجود الذهني للنار ، غير أنَّنا برهنا سابقاً على أنَّ كلّ نسبة ليس لها تقرّر ماهوي ولا انحفاظ مفهومي على حدّ انحفاظ الموجودات المحمولية في ماهياتها ، وأنَّ العقل لا يمكن أن ينال من النسبة الخارجية ماهيتها الحقيقة لأنَّ ماهيتها متقوّمة بشخص وجود طرفيها في أفقها ، وكلّ ما يناله من النسبة الخارجية انَّما هو مفهوم عرضي من قبيل مفهوم النسبة المكانية ، وهو مفهوم اسمي ولا يتحقق به الربط بإيجاد نسبة واقعية في الذهن ، وهذه النسبة إن كانت نسبة مكانية فإيجادها بين الصور الذهنية مستحيل ، وإن كانت نسبة أخرى فالحكاية بها عن النسبة المكانية الخارجية مستحيلة.

وهكذا يتّضح : أنَّ الذهن يختلف عن الخارج من حيث انَّ الخارج يحتوي على نسب واقعية متقومة بطرفين خارجيين متغايرين في أفقها ، وامَّا الذهن فهو حينما يريد أن يحصل على صورة لواحدة من تلك النسب لا يوجد طرفين متغايرين من الوجود الذهني وينشئ بينهما نسبة موازية للنسبة الواقعية الخارجية ، وانَّما يتحقّق وجود واحد في الذهن هو وجود لمركّب تحليلي أحد أجزائه النسبة.


النسب الأوليّة والنسب الثانوية

إلا أنَّا إنَّما نقول بأن ما بإزاء الحروف هو النسب التحليلية في موارد النسب الأولية لا النسب الثانوية. توضيح ذلك : انَّ الذهن كما يحصل في باب المفاهيم الاسمية على معقولات أولية تتحصل لديه من الخارج ، كمفهوم الماء والبياض ، ومعقولات ثانوية تتحصل لديه في طول الحصول على المعقولات الأولية ، كالنوعية والجنسية ، كذلك في باب المفاهيم الحرفية هناك نسب أولية يحصل عليها الذهن من الخارج بحيث يكون موطنها الأصلي هو الخارج والذهن طفيلي عليها ، كالنسب المكانية والاستعلائية والابتدائية والانتهائية ونحو ذلك ، وهناك نسب ثانوية يحصل عليها الذهن في طول معقول ذهني سابق ويكون موطنها الأصلي هو الذهن ، كالنسبة الإضرابية والاستثنائية والتأكيدية والعاطفة ونحو ذلك ، ففي قولنا « جاء زيد بل عمرو » هناك نسبة بين زيد وعمرو ، وهي النسبة المصححة لانتزاع عنوان المعدول عنه من زيد والمعدول إليه من عمرو ، وهذه النسبة موطنها الأصلي هو الذهن إذ لو قطع النّظر عن الذهن فلا معنى للإضراب في الخارج. والحاصل : انَّ النسبة الإضرابية بروحها وحاقها يمكن قيامها في الذهن ، خلافاً لمثل النسبة المكانية التي هي من النسب الأولية ، وعليه فمن المتصوّر قيام نسبة واقعية إضرابية في الذهن بين طرفين متغايرين ويكون الحرف موضوعاً بإزاء هذه النسبة.

ويتلخّص من مجموع ما تقدّم : انَّ الحروف الواردة في مورد النسب الأولية الخارجية موضوعة بإزاء نسب تحليلية ، وانَّ الحروف الواردة في موارد النسب الثانوية موضوعة بإزاء نسب واقعية.

ومن نتائج وضع الحروف للنسب التحليلية كون مفادها نسبة ناقصة لا يصحّ السكوت عليها ـ على ما سيأتي تفصيل ذلك عند الكلام حول مفاد هيئات الجمل ـ فقولنا « النار التي في الموقد » جملة ناقصة على الرغم من اشتمالها على نسبة ، ونقصان الجملة بسبب نقصان النسبة ، ونقصان النسبة انَّما هو بنكتة كونها تحليلية ، لأنَّ معنى النسبة التحليلية انَّها ليست نسبة واقعية في صقع الذهن ، بل لا يوجد في صقع الذهن


إلا مفهوم افرادي مركّب تحليلاً بحيث لو حلّل بنظرة ثانية لقيل أنَّه ينحل إلى نسبة وطرفين فلا يصحّ أن يعتبر الدال على هذا المفهوم الإفرادي كلاماً يصحّ السكوت عليه ، وهذا بخلاف النسبة الواقعية الثابتة في صقع الذهن بما هي نسبة. ويأتي تتمة الكلام في ذلك.

وما قلناه من أنَّ الحروف موضوعة للنسبة التي تستدعي طرفين ولو بنحو الاندماج هو الأمر الغالب ، ولكن قد يتّفق أن يكون مفاد الحرف خصوصية في المعنى الاسمي ، وحرفيتها لا باعتبار كونها نسبة بين طرفين بل باعتبار كونها خصوصية في الصورة الذهنية التي تكون بإزاء المدخول كما في اللام الدالة على التعيين بأحد أنحائه من الجنسي وغيره ، كما في قولنا ( العالم ) فانَّ اللام تستوفي مدلولها الحرفي هنا بطرف واحد ، ولو كان مدلولها نسبة بين شيئين لما كانت كذلك ، وسيأتي لذلك بعض التوضيح في البحث عن هيئة الفعل.

تلخيص وتعميق

يمكننا أن نعبر عن كل ما قدّمناه في تحقيق المعاني الحرفية وإرجاعها إلى نسب تحليلية لا واقعية على أساس القاعدة التالية وهي : أنَّ الماهيات على قسمين : أحدهما : ماهيّات لها تقرّر واستقلال ماهوي ، وهي ما يعبر عنها بالمفاهيم الاسمية.

والآخر ـ ماهيات ليس لها تقرر كذلك بل هي ناقصة في مرحلة ذاتها ومتقومة ذاتاً بغيرها. وهي يعبّر عنها أصوليّاً بالمفاهيم الحرفية. فالقسم الأول له وجودان حقيقي وذهني والماهية محفوظة في كلا الوجودين على النحو المبين في براهين إثبات الوجود الذهني ، وهي تشكّل جامعاً ذاتياً بين الوجود الحقيقي الخارجي والوجود الذهني على حدّ جامعيتها بين الوجودات الحقيقية الخارجية ، وامَّا القسم الثاني من الماهيات فهي لنقصانها الذاتي يستحيل أن يكون لها وجود ذهني وهو الوجود اللحاظي التصوري لأنَّ معنى ذلك انحفاظ ماهيتها في ضمن الوجودين وهو يساوق افتراض الجامع الذاتي بين فردين من النسبة مع أنا برهنا على استحالة الجامع الذاتي بين فردين من النسبة ، وهذا برهان على استحالة الوجود الذهني للماهية النسبية وليس مقصودنا بالوجود الذهني


مطلق الوجود في عالم النّفس بل الوجود اللحاظي التصوري ، إذ ليس كل وجود في عالم النّفس ذهنياً فالإرادة كيف نفساني موجود في نفس العطشان بالنسبة إلى الماء ، ووجوده فيه خارجيّ لا ذهني. ويترتّب على ما ذكرناه : أن النسبة كلّما كان موطنها الأصلي خارج عالم النّفس فلا يمكن أن توجد في صقع الذهن حقيقة لا بوجود حقيقي ولا بوجود لحاظي تصوري ، امَّا الأول فلأنَّه خلف ما فرضناه من أنَّ موطنها الأصلي خارج عالم النّفس. وأمَّا الثاني فلما برهنا عليه من استحالة الوجود الذهني للنسبة ، فلا بدَّ في مقام اقتناص الذهن لها أن تكون تحليلية ومرجعه إلى انَّ الحصة الخاصة لها وجودان وجود خارجي ووجود ذهني ، فالوجود الذهني دائماً يكون لمفهوم اسمي بمطلقه أو بحصة خاصة منه. وبهذا يمكن إيقاع التصالح بين الاتجاهين الإخطاري والإيجادي في المعاني الحرفية فلعلّ القائل بإخطاريتها كأن يقصد إخطارية الحصة الخاصة المستبطنة للنسبة تحليلاً ، فانَّها إخطارية كإخطارية المعنى الاسمي المطلق فانَّه لا فرق بين أن توضع بإزاء الحصة الخاصة اسماً واحداً كالفانوس مثلاً أو ألفاظ متعددة كالنار في الزجاج مثلاً وكلَّما كان الموطن الأصلي للنسبة عالم النّفس وحقّها الحقيقي في الوجود في هذا العالم ، فهي يمكن أن توجد في عالم النّفس بوجودها الحقيقي لا بوجود لحاظي تحليلي فقط. ويترتب على ذلك انَّ النحو الأول من النسبة يعتبر نسبة ناقصة ، والنحو الثاني منها يعتبر نسبة تامة.


البحوث اللفظية التحليلية

الهيئات



١ ـ هيئات الجمل

١ ـ الجمل الناقصة

٢ ـ الجمل الخبرية

ـ اسمية وفعلية ومزدوجة ـ

٣ ـ الجمل الإنشائية

٤ ـ الجملة الشرطية

٢ ـ الهيئات الإفرادية

هيئة الفعل ، هيئة المصدر

هيئة المشتقات. المركبات

المبهمات.

٣ ـ كيفية الوضع في الحروف والهيئات

٤ ـ الثمرات العملية للبحث



ونريد بالهيئة : التركيب الخاصّ لمفردات معيّنة من حروف أو كلمات بما يشتمل عليه هذا التركيب من خصوصيات.

والهيئات على قسمين ، أحدهما : هيئات الجمل. والآخر : الهيئات الإفرادية. وسنتكلّم عن القسمين تباعاً.

١ ـ هيئات الجمل

ونريد بهيئة الجملة : الهيئة القائمة بمجموع كلمتين أو أكثر على نحو يكون للمجموع مدلول لم يكن ثابتاً لتلك المفردات في حال تفرّقها.

وتنقسم الجملة إلى جملة ناقصة وجملة تامة خبرية وجملة تامة إنشائية وفيما يلي تحقيق هيئات هذه الأصناف الثلاثة على الترتيب.

١ ـ الجمل الناقصة

وهي الجمل التي لا يصحّ السكوت عليها ، كما قال علماء العربية ، كجملة الوصف والموصوف والمضاف والمضاف إليه.


وهناك اتجاهان في تفسير مفاد هذه الجمل.

١ ـ ما ذهب إليه السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ من وضع هيئات الجمل الناقصة للتخصيص ، كما تقدّم منه في الحروف. وقد عرفت أن التحصيص لا يكون إلا في طول نسبة بين المفهومين فلا بدَّ من دال عليها وليس غير الهيئة في الجملة الناقصة ما يمكن ان يفترض دالاً عليها.

٢ ـ ما ذهب إليه المشهور من وضع الجملة الناقصة بإزاء النسبة الناقصة.

والصحيح : أن الجمل الناقصة كقولنا ( ضرب زيد ) من قبيل القسم الأول من الحروف موضوعة للنسب التحليلية ، بمعنى أن ما بإزائها وجود ذهني واحد والنسبة جزء تحليلي للمركّب التحليلي الموجود بذلك الوجود ، ويستحيل فرض نسبة واقعية في هذا المجال ، لأنَّها تستدعي فرض صورتين متغايرتين ، إحداهما صورة زيد ، والأخرى صورة الضرب ، ومع فرض ذلك يتعذّر الربط بينهما بنحو يمكن الحكاية عن ضرب زيد الخارجي ، لأن إيجاد الربط بينهما إمَّا أن يكون بمفهوم النسبة الصدورية مثلاً ، أو بإيجاد واقع النسبة الصدورية ، أو بإيجاد نسبة واقعية أخرى غير النسبة الصدورية ، والكل باطل كما تقدّم نظيره في الحروف ، أمَّا الأول فلأنَّه مفهوم اسمي ولا يحصل به الربط ؛ وامَّا الثاني فلاستحالة قيام نسبة صدورية ونحوها بالحمل الشائع بين الصور الذهنية ، لأن إحداهما لم تصدر عن الأخرى وليست من أعراضها بل كلتا هما من عوارض النّفس وصادرتان عنهما ، وأمَّا الثالث فلاستحالة الحكاية عن سنخ نسبة بسنخ نسبة أخرى. فلا بدَّ إذن من فرض وجود ذهني وحداني وهذا الوجود وجود لمركّب تحليلي أحد أجزائه النسبة ، وما هو نفس الحقيقة بالنظر التصوري وغيرها بالنظر التصديقي انَّما هو نفس ذلك الوجود الوحدانيّ على النحو الّذي أوضحناه في الحروف ، وسيأتي مزيد توضيح لمفاد الجملة الناقصة في الفرق بينها وبين الجمل التامة.

هذا على العموم ، وبالتدقيق يتّضح أن الجمل الناقصة التي تشتمل على نسب ناقصة تتواجد في مواردها نسبة حقيقية من نحوين : أحدهما : نسب حقيقية خارجية ، كما في النسبة القائمة بين الضرب وزيد في جملة الإضافة ( ضرب زيد ). والآخر : نسب حقيقية قائمة في صقع الذهن لما تقدّم من أنَّ النسب الثانوية نسب قائمة في صقع


الذهن بما هي نسب حقيقة ، كما في النسبة القائمة بين الوصف والموصوف في الجملة الوصفية في قولنا ( الرّجل العالم ) إذ ليس بين الرّجل والعالم نسبة حقيقية خارجية لاتّحاد هما في الخارج ، والنسبة في صقع وجودها تتطلب طرفين متغايرين ، وانَّما النسبة الخارجية قائمة بين الرّجل والعلم ، وأمَّا بين الرّجل والعالم فهناك نسبة تصادقية تامة في الذهن ، وهي من النسب الثانوية التي موطنها الأصلي الذهن ، وسيأتي أن مفاد الجملة التامة هو هذه النسبة التصادقية ، وكما انَّ النسبة الحقيقية الخارجية بين الضرب وزيد يمكن للذهن في مجال تصور الواقعة تحويلها بطرفيها إلى مفهوم واحد مركّب تركباً تحليليّاً بحيث تكون النسبة المذكورة تحليلية في هذا المفهوم ، كذلك النسبة الحقيقية الذهنية التصادقيّة بين « الرّجل والعالم » ، فانَّها إذا أريد التعبير عنها وعن طرفيها بما هي واقعة أمكن للذهن تحويلها بمجموعها إلى مفهوم واحد مركّب تركّباً تحليليّاً بحيث تكون النسبة التصادقية تحليلية في هذا المفهوم ويعبر حينئذ بالجملة الناقصة ، وسيتّضح هذا المطلب أكثر في أعقاب شرح مفاد الجملة التامة.

٢ ـ الجمل التامة الخبرية

والمشهور أنَّها موضوعة للنسب ، ولكن النسبة المفاد عليها بالجملة التامة نسبة تامة يصحّ السكوت عليها بخلاف النسبة المفاد عليها بالجملة الناقصة أو الحروف.

وخالف في ذلك أيضا السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ وادّعى : أنَّها موضوعة لإبراز أمر نفساني كقصد الحكاية في الجملة التامة الخبرية وقصد الإنشاء في الجملة التامة الإنشائية.

وقد أفاد بهذا الصدد اعتراضات عديدة في محاولة لإبطال ما ذهب إليه المشهور (١) نذكرها جميعاً مع التعليق عليها بما يثبت في النهاية صحة مسلك المشهور.

الاعتراض الأول : النقض بموارد لا يعقل فيها وجود النسبة خارجاً بين الموضوع والمحمول ، كقولنا العنقاء ممكن وشريك الباري ممتنع ، لأنَّ ثبوت النسبة فرع ثبوت

__________________

(١) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٩٠ ـ ٩٣


المنتسبين خارجاً فمع عدمهما لا يعقل ثبوتها ، فلا بدَّ وأن يكون معنى الجملة الخبرية سنخ معنى محفوظ حتى في هذه الموارد ، وليس هو إلا قصد الحكاية.

وواضح أن هذا الاعتراض مبنيّ على افتراض أخذ النسبة الخارجية في مفاد الجملة الخبرية ، والواقع انَّ هذا الاعتراض منه ـ دام ظلّه ـ انسياق مع فهمه لمسلك المشهور في المقام السابق ، حيث رأينا كيف حمل كلام المحقق الأصفهاني ( قده ) على إرادة الوجود الرابط الخارجي. وقد عرفت انَّ نظر المشهور إلى النسبة الذهنية بين المفهومين ، وهي محفوظة في كلّ مورد يفترض فيه وجود مفهومين في الذهن ولو فرض استحالة وجود هما خارجاً. فلو كان مقصوده عدم تصوّر النسبة في موارد النقض بين المفهومين في صقع الوجود الذهني فهو غير صحيح ، وإن كان مراده عدم النسبة الخارجية لتوقّفها على وجود الطرفين في الخارج فيرد عليه :

أوَّلا : انَّ النسبة المدعى وضع الجملة لها ليست هي الخارجية كما عرفت. وليست نسبة ذلك إلى المشهور إلا كنسبة وضع الحروف للوجود الرابط الخارجي إلى المحقق الأصفهاني ( قده ).

ثانياً : انَّ الملحوظ لو كان هو النسبة الخارجية فلا موجب لتخصيص النقض بمثل شريك الباري ممتنع ، لأنَّ النسبة الخارجية غير محفوظة في جميع القضايا الحملية حتى مثل « زيد عالم » لأنَّ الحمل مبني على الهوهويّة وكون زيد وعالم موجودين بوجود واحد ، ومع وحدة الوجود في الخارج لا يمكن افتراض نسبة خارجية ، لأنَّ النسبة في كلّ صقع تحتاج إلى طرفين في ذلك الصقع فمع عدم التعدد في صقع لا نسبة أيضا.

الاعتراض الثاني : إن حقيقة الوضع بعد أن كانت عبارة عن التعهّد عند الأستاذ ـ دام ظلّه ـ فلا محالة يتعلّق بأمر اختياري ، وما هو اختياري انَّما هو قصد الحكاية أو الإنشاء لا ثبوت النسبة أو عدم ثبوتها.

ويرد عليه : انَّ وضع الجملة للنسبة لا يراد به إلا نفس ما يراد حين يقال مثلاً ان « من » موضوعة للتخصيص أو ان « نار » موضوعة للجسم المحرق. فلما ذا لا يعترض هناك ويقال : انَّ التحصيص أو الجسم المحرق لا معنى للتعهد به كما لا معنى للتعهد بالنسبة؟.


وحلّ المغالطة : أنه بناء على التعهد يكون المعنى الموضوع له حقيقة أمراً نفسانيّاً دائماً حتى في الكلمات الإفرادية والحروف وهو قصد إخطار المعنى تصوّراً في ذهن السامع ، فقصد إخطار التحصيص مثلاً هو معنى « من » بناء على مسلك التحصيص في الحروف ، وقصد إخطار صورة الجسم المحرق هو معنى كلمة « نار » وهكذا ... وبناء على هذا يعود النزاع بين المسلكين في باب الجملة التامة بعد الفراغ عن كونها موضوعة لأمر نفساني إلى الخلاف في تعيين هذا الأمر النفسانيّ ، فهل هو قصد إخطار النسبة تصوراً أو قصد الحكاية عنها؟ فالأوّل هو المدّعى في مسلك المشهور بعد افتراض عدم بطلان التعهد ، والثاني هو المدّعى في مسلك السيد الأستاذ وهكذا يتّضح : أن كون الوضع هو التعهّد لا يعين أحد القولين في المقام.

الاعتراض الثالث : وهو مبني على أنَّ مثل جملة « زيد عالم » له دلالة تصديقية على معناه ، إذ يقال علي هذا الأساس : انَّ معنى جملة « زيد عالم » يجب أن يكون سنخ معنى تقتضي الجملة التصديق به ، ومن الواضح انَّ الجملة بما هي لا تقتضي التصديق بالنسبة ولو ظنّاً بل بقصد الحكاية ، فيتعيّن أن يكون قصد الحكاية هو مدلول الجملة.

والتحقيق ، أنَّنا تارة : نتكلّم على مبنى كون الوضع غير التعهد ، وأخرى : على مبنى انَّ الوضع هو التعهد.

فعلى الأول تكون الدلالة الوضعيّة دائماً تصورية ، إذ لا يعقل نشوء أكثر من ذلك من الوضع بناء على عدم إرجاعه إلى التعهد ، فجملة « زيد عالم » دلالتها الوضعيّة تصورية أيضا. وامَّا دلالتها التصديقية على قصد الحكاية فليست وضعية ، بل بملاك الظهورات الحالية والسياقية.

وأمَّا على الثاني فالدلالة الوضعيّة تصديقية دائماً حتى في الكلمات الإفرادية ، حيث أنَّها تدلّ دلالة تصديقية على قصد إخطار المعنى ، وتكون الجملة التامة مثل « زيد عالم » ذات دلالة وضعية تصديقية على المسلكين معاً. غاية الأمر : أنَّ مدلولها الوضعي التصديقي على مسلك السيد الأستاذ هو قصد الحكاية ، وعلى مسلك المشهور هو قصد إخطار النسبة في الذهن وأمَّا قصد الحكاية فلا يكون على مسلك المشهور مدلولاً وضعياً ، بل مدلولاً تصديقيّاً سياقيّاً ينشأ من قرائن الحال والسياق ، على ما تقدّم


في مبحث تبعية الدلالة للإرادة.

الاعتراض الرابع : عدم تعقّل الفرق بين الجمل التامة والجمل الناقصة فيما إذا فرض انَّهما معاً موضوعان للنسبة ، إذ ليست النسبة من الأمور القابلة للقلة والكثرة أو التمامية والنقصان ، فلا بدَّ وأن يكون منشأ الفرق الّذي نجده بينهما أن تكون الجمل التامة موضوعة لقصد الحكاية عن وقوع تلك النسبة ليكون مطلباً تصديقيّاً يصحّ السكوت عليه.

وهذا الاعتراض هو أوجه الاعتراضات التي وجهها السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ على مسلك المشهور ، إلا انَّه مع ذلك ممَّا لا يمكن المساعدة عليه لأنَّ الفارق بين الجمل التامة والجمل الناقصة لا بدَّ وأن نفتّش عنه بلحاظ مدلوليهما التصوريين ولا يكفي إدخال المدلول التصديقي في مفاد الجملة التامة لإبراز ذلك بدليل انحفاظ الفرق بينهما حتى إذا ما انسلخت الجملة عن قصد الحكاية ، كما إذا دخل عليها الاستفهام فقيل « هل زيد عالم » وهو ينافي قصد الحكاية عن النسبة ، فلو كان مدلولها التصوري عين المدلول التصوري في الجملة الناقصة وهي « زيد العالم » لصحّ أن يقال « هل زيد العالم » بدلاً عن « هل زيد عالم » مع وضوح عدم صحّته ، وليس ذلك إلا من جهة الفرق التصوري بين مدلول الجملتين ، وأن النسبة نفسها على قسمين تامة وناقصة.

كيف تكون النسبة ناقصة أو تامة؟

والواقع ، أن بيان حقيقة الفرق بين الجملتين التي تستوجب تمامية إحداهما وصحة السكوت عليها ونقصان الأخرى من أهم وأدقّ مراحل هذا البحث ، والغريب انَّ أكثر المحققين لم يعالجوا هذه المشكلة في حدود ما اطلعت عليه من كلماتهم.

والّذي ينبغي أن يقال بهذا الصدد : أن النسبة إذا كانت تحليلية في صقع الذهن بالمعنى المتقدّم شرحه في القسم الأول من الحروف كانت ناقصة ، وإذا كانت واقعية في صقع الذهن كانت تامة. فالتمامية والنقصان تنشأ من تحليلية النسبة وواقعيتها ، لأنَّ النسبة إذا كانت تحليلية فمعناه أنَّه لا يوجب في الذهن إلا مفهوماً إفراديّاً ينتظر في حقّه أن يقع طرفاً للارتباط بحكم معيّن ، فلا يصحّ السكوت عليه. وامَّا إذا كانت


واقعية فمعناه احتواء الذهن كلا من النسبة والمنتسبين ، فلا حالة منتظرة فتكون تامة. وأمَّا تشخيص ما يكون من النسب الذهنية تحليلاً وما يكون منها واقعيّاً فضابطه العام أن كلّ نسبة يكون موطنها الأصلي هو الخارج ، أي نسبة خارجية فهي نسبة تحليلة في الذهن بالبرهان المتقدّم في الحروف والجمل الناقصة وكلَّ نسبة يكون موطنها الأصلي الذهن فهي نسبة ذهنية واقعية.

لا يقال ـ على هذا الأساس ينبغي أن يكون المدلول في القسم الثاني من الحروف كحروف العطف والإضراب مدلولاً تاماً يصحّ السكوت عليه كالجمل التامة ، لأنَّها تدلّ على النسب الثانوية التي موطنها الأصلي هو الذهن لا الخارج.

فانَّه يقال ـ لا شك في دلالة هذا القسم من الحروف أو الهيئات على النسب التامة ، إلا انَّ هذا لا يعني صحة السكوت عليها بمفردها ، بل لا بدَّ من الإتيان بأطراف النسبة التامة المفادة بها أيضا لكي يتمّ المعنى في الذهن ويصحّ السكوت عليه ، وهذا واضح.

الجمل الخبرية الاسمية

وفي ضوء هذا التحليل نستطيع أن نفهم النسب المفاد عليها في الجملة الخبرية الاسمية ـ الحملية ـ فانَّها موضوعة للنسبة التصادقية وهي الربط بين المفهومين ـ الموضوع والمحمول ـ بنحو يرى أحدهما الآخر ويصدق عليه في الخارج ، فانَّ الذهن البشري قادر على استحضار مفهومين وإنفائهما في واقع خارجي معيّن ، فتكون بينهما نسبة التصادق والإراءة لمعنون واحد.

وهذه نسبة ذهنية وليست خارجية ، بل يستحيل أن تكون خارجية إذ ليس في الخارج وجودان ليكون بينهما نسبة خارجية ، بل وجود واحد مصداق للمحمول والموضوع في الجملة الخبرية.

وفي كلّ صقع تكون النسبة موجودة فيه لا بدَّ أن يكون لطرفيها وجودان متغايران ، فحينما نقول « الرّجل عالم » يكون الكلام دالاً على هذه النسبة ، وباعتبارها نسبة واقعية استوفت أطرافها تكون تامة وتكون الجملة جملة تامة بخلاف قولنا « علم


الرّجل أو « الرّجل العالم ».

أمَّا الأول ، فلأن النسبة هنا تحليلية ، ببرهان أنَّها من النسب التي موطنها الأصلي الخارج فيستحيل تصوّر الذهن لها إلا عن طريق مفهوم ذهني واحد مركّب تحليلاً ، كما برهنا عليه سابقاً.

وأمَّا الثاني ، فلأن النسبة هنا تحليلية أيضا ، لا لأنَّ موطنها الأصلي الخارج فان مرد النسبة في الجملة الوصفية « الرّجل العالم » إلى النسبة التصادقية لا إلى نسبة خارجية ، لعدم وجود نسبة في الخارج بين الرّجل والعالم ، لاتحاد هما في وعاء الخارج وفي وعاء اتحاد الطرفين يستحيل قيام النسبة بينهما ، وإنَّما تقوم بينهما في وعاء المغايرة وهو الذهن ، فالنسبة الممكنة بين الرّجل والعالم انَّما هي النسبة التامة التصادقيّة ، غير أنَّ هذه النسبة إذا أريد الحكاية عنها تصوّراً على حدّ حكاية الذهن تصوّراً عن النسب الخارجية كان من الضروري تحويلها إلى نسبة تحليلية أيضا بحيث يوجد في الذهن مفهوم وحداني مركّب لو حلل لانحل إلى نسبة تصادقيّة وطرفين ، وذلك إذ بدون هذا ومع قيام النسبة التصادقيّة في الذهن حقيقة لا يكون ذلك مفهوماً ذهنيّاً حاكياً عن النسبة التصادقيّة بل إيجاداً حقيقيّاً لها ، فالذهن بعد فرض قدرته على الحكاية مفهوماً وتصوّراً عن النسب الواقعية سواءً كانت أوليّة خارجية أو ثانوية ذهنية على حدّ قدرته على الحكاية عن غير النسب من الأمر والواقعية فلا بدَّ أن تكون حكايته عن تلك النسب بالطريقة التي برهنا عليها ، وبهذا قد يتّضح سر الكلام المعروف وهو أن الأوصاف قبل العلم بها اخبار ، وانَّ الجملة الوصفية متأخرة رتبة عن الجملة التامة ، فانَّه من تأخر الحاكي عن المحكي ، فانَّ نسبة مفاد الجملة الوصفية إلى مفاد الجملة التامة نسبة مفاد جملة الإضافة « علم الرّجل إلى الواقعة الخارجية التي تمثّل قيام هذا العرض بموضوعه.

قد يقال انَّ النسبة التصادقية إن كانت خصوصية لحاظية فلا بدَّ فيها من ملحوظ بالذات وملحوظ بالعرض من زاوية اللاحظ مع انَّ المفروض انَّها ليس لها ما يطابقها في الخارج ، وإن كانت خصوصية واقعية قائمة باللحاظ فهي ليست ملحوظة ومتوجهاً إليها إلا بلحاظ آخر يكون ناظراً إلى الربط المخصوص بين التصورين الأوليين مع


وضوح انَّنا في الجملة التامة لا نستعين بلحاظ آخر طولي نرى به الربط بما هو خصوصية واقعية قائمة باللحاظ الأول ، والتحقيق : انَّ الخصوصيات التي تفترض في اللحاظ على ثلاثة أقسام ، الأول : الخصوصية اللحاظية ومرجعها إلى لحاظ زائد يؤخذ قيداً في اللحاظ الأول كلحاظ العلم في الإنسان ، فانَّه لحاظ ضمني زائد على لحاظ أصل الإنسان ، وهذا اللحاظ الضمني له ملحوظ بالذات وملحوظ بالعرض بمقدار صلاحيته للفناء والحكاية عن الخارج تصوّراً.

الثاني : الخصوصية الواقعية القائمة باللحاظ بما هو موجود من الموجودات كخصوصية كونه معلولاً للحاظ الفلاني ومتأخراً رتبة عن علّته ونحو ذلك ، وهذه الخصوصيات ليست تحت نظر الذهن بنفس منظورية ذلك اللحاظ ولا حاضرة لديه بنفس حضور ذلك اللحاظ ، بل حضورها لدى الذهن يحتاج إلى ملاحظة ثانوية تنتزع بها أمثال تلك العناوين من تلك الخصوصيات الواقعية.

الثالث : الخصوصية الواقعية القائمة باللحاظ ، لكن لا بما هو موجود بل بحيثية إراءته وإنارته ، ومثالها خصوصية الإفناء وملاحظة المفهوم فانياً في الواقع ، فانَّ هذا الإفناء ليس خصوصية لحاظية كما في القسم الأول بمعنى انَّا نضيف خصوصية مفهومية إلى المفهوم الملحوظ ، فيكون فانياً كما نضيف قيد العالم إلى الإنسان ، وذلك ببرهان انَّ أيَّ إضافة مفهومية يبقى المفهوم بعدها ملائماً للإفناء وعدمه ، وهذا معناه انَّ الإفناء خصوصية في نفس اللحاظ وفي كيفية إراءته لملحوظه وليست تطعيماً للملحوظ بعنصر جديد ، إلا انَّ هذه الخصوصية حيث إنَّها قائمة بنفس إراءة اللحاظ فهي حاضرة لدى الذهن بنفس حضور هذه الإراءة لا محالة ، ولا يحتاج حضورها إلى لحاظ طولي ، ومن هذا القبيل خصوصية تصادق الإراءتين في لحاظ الموضوع ولحاظ المحمول ، بحيث يكون ما يرى بالمحمول من الملحوظ بالعرض من زاوية اللاحظ نفس ما يرى كذلك بالموضوع ، وهذه خصوصية في كيفية إفناء المحمول في ملحوظه بالعرض ، وهي قائمة بحيثية إراءة اللحاظ ، ولهذا ترى بنفس رؤية الذهن للحاظين فكما انَّ رؤية اللحاظ فانياً لا يحتاج إلى لحاظ آخر من الذهن كذلك رؤية اللحاظين متصادقين في مقام الفناء ، وكما انَّ خصوصية إفناء اللحاظ في الخارج ليس لها ملحوظ بالذات ولكنَّها دخيلة في رؤية


الملحوظ بالعرض باللحاظ الفاني من زاوية اللاحظ كذلك خصوصية تصادق اللحاظين في مقام الإفناء على مصب واحد لا يضيف إلى ملحوظ بالذات خصوصية مفهومية لأنَّ هذا التصادق معنى حرفي قائم بين اللحاظين نفسهما ، ولا يدخل كقيد في الملحوظ بالذات ولكنه دخيل في رؤية الملحوظ بالعرض للحاظين معه بنحو الوحدة فبدلاً عن أن يفنى كل من اللحاظين بصورة منعزلة عن الآخر يفنيان معاً في مصبّ واحد.

الجملة الخبرية الفعلية

والنسبة التصادقيّة التي هي النسبة التامة المداولة للجملة الخبرية كما تتصوّر في الجمل الخبرية الاسمية كما في قولنا « الرّجل ضارب » كذلك تتصور في الجمل الخبرية الفعلية كما في قولنا « ضرب الرّجل غاية الأمر أنَّهما نحوان من التصادق ، فانَّ التصادق في الأول هو بالمعنى الّذي عرفناه الّذي يرجع إلى انطباقهما على واقع واحد ، والتصادق في الثاني بمعنى انطباقهما على مركز واحد مركّب من العرض ومحله ، فالضرب والرّجل مفهومان وهذان المفهومان قد يلحظ مفهوم الضرب منهما فانياً في حادثة ومفهوم الرّجل فانياً في ذات غير واقعة طرفاً لتلك الحادثة ، وفي مثل ذلك لا ربط ولا تصادق بين المفهومين. وقد يلحظ مفهوم الضرب فانياً في حادثة معيّنة ومفهوم الرّجل فانياً في طرف تلك الحادثة ، فيكون بينهما علاقة وارتباط وتصادق على واقعة مركّبة واحدة في الخارج ، وهذا هو مفاد الجملة الفعلية. فالتصادق دائماً يكون بلحاظ أخذ العنوانين بما هما مشيران إلى الخارج مع افتراض نحو وحدة في المشار نحوه بهما معاً ، فان كانت هذه الوحدة ذاتية كان من باب الحمل ، كما هو الحال في الجمل الخبرية الاسمية ، وإن كانت وحدة في الواقعة كان من باب الإسناد كما هو الحال في الجمل الخبرية الفعلية.


الجملة الخبرية المزدوجة

وهناك قسم ثالث من الجمل الخبرية تعتبر مزدوجة مركّبة من جملة اسمية وفعلية وهي الجملة الاسمية التي يكون الخبر فيها فعلاً ، كقولك « البدر طلع » والبحث عن هذا النوع من الجمل يقع في مقامين :

الأول : تشخيص كونها مركّبة من جملتين أي جملة كبرى بحسب مصطلح النحاة أو جملة واحدة فعلية تقدّم فيها الفاعل على الفعل.

الثاني : في كيفية تصوير النسبة التصادقية في الجمل المركّبة ـ الجمل الكبرى ـ.

أمَّا المقام الأول : فالمعروف المشهور بل المتّفق عليه عند علماء العربية اعتبار أمثال هذه الجملة مركّبة من جملتين جملة صغرى تقع محمولاً داخل الجملة الكبرى على حدّ قولنا « زيد أبوه قائم » وذلك باعتبار أن الفاعل لا بدَّ وأن يتأخّر عن الفعل فيذكر بعده امَّا صريحاً أو بضمير يرجع إلى ما قبله « فالبدر طلع » يعني « البدر طلع هو » فيكون الخبر جملة فعلية لا محالة وفي قبال ذلك هنالك اتّجاه حديث من قبل بعض الباحثين يقضي باعتبار الجملة المزدوجة جملة واحدة فعلية تقدّم فيها الفاعل على الفعل فجملة « البدر طلع » هو نفس جملة « طلع البدر » وذلك لأنَّه لا يطرأ بتقديم الفاعل فيها على الفعل أي جديد إلا تقديم المسند إليه وهو لا يغيّر من طبيعة الجملة ولا من معناها وأمَّا قصة تأخّر الفاعل عن الفعل رتبة فهي تعسفات وتفلسفات ألزم بها النحاة أنفسهم وقد أوقعتهم في كثير من المشكلات على حدّ تعبيره (١).

ونحن وإن كنَّا قد نتّفق مع الباحث المذكور في وقوع شيء من التكلّف والتفلسف غير المنسجم مع طبيعة البحوث اللغوية ووظيفتها أحياناً في كلمات النحاة حين حاولوا تعليل القواعد العربية وصياغتها في قوالب الفلسفة الإغريقية. ولكنا مع ذلك نرى انَّ هذه المحاولات أو جملة منها على الأقل لم تكن أكثر من مجاراة مع روح العصر وثقافته ولغته العلمية آنذاك لإعطاء ضوابط فنيّة ومدرسيّة عمَّا كانوا يدركونه مسبقاً

__________________

(١) راجع « في النحو العربي » ص ٣٩ ـ ٤٠


بوجداناتهم اللغوية الأصيلة وهذا يعني انَّا إذا شئنا تجاوز تلك الصياغات والمصطلحات وأردنا تأسيس منهج آخر قد يكون أنسب وأقرب إلى روح البحوث اللغوية والنحوية فلا بدَّ وأن لا نتخبط في إنكار وجدانات لغوية أصيلة قد تكون مستترة من وراء تلك الصياغات.

وعلى هذا الأساس يمكننا أن نعلّق في المقام بما يلي :

انَّ القول بأنَّ جملة « البدر طلع » فعلية يجعلنا أمام مفارقات لا يمكن حلّها وتفسيرها. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر.

١ ـ كيف نفسّر صحة قولنا « ذهب الناس » وعدم صحة « الناس ذهب » وانَّما الصحيح « الناس ذهبوا ».

٢ ـ صحة قولنا « قام محمد وعلي » وعدم صحة « محمد وعلي قام » بل الصحيح « محمد وعلي قاما ».

٣ ـ صحة قولنا « طلع الشمس » وعدم صحة « الشمس طلع » بل الصحيح « الشمس طلعت ».

٤ ـ صحة قولنا « جاء رجل وعدم صحة « رجل جاء ».

ومرجع الثلاثة الأولى إلى اشتراط التطابق بين المبتدأ وخبره في الأفراد والتثنية والجمع والتأنيث والتذكير فإذا قلنا : ان « رجل و « الناس » و « محمد » و « علي » فاعل ويرتبط به الفعل مباشرة ، سواءً تقدّم على الفعل أو تأخّر عنه فلا نستطيع أن نفسّر هذه الفوارق بين حالة تقدّم الفعل وحالة تأخره ما دام جوهر العلاقة المعنوية واحداً ، بل تكون مجرّد فوارق تعبّدية بحتة ، بخلاف ما إذا افترضنا انَّ جوهر العلاقة المعنوية مختلف وانَّ العلاقة بين جزئي الجملة في حالة تقدّم الفعل هي علاقة إسنادية ، أي علاقة فعل بفاعل ، وأنَّها في حالة تأخر الفعل علاقة حملية أي علاقة خبر بمبتدإ ، وهو ما يعنيه النحاة بقولهم انَّ الجملة في هذه الحالة تعتبر اسمية. فان بإمكاننا أن نفسّر الفوارق المذكورة حينئذ باعتبار أنَّ فاعل الفعل ليس هو الاسم المتقدّم عليه ليقال : كيف ساغ أن يكون الفعل بصيغة المفرد أو التذكير حينما يتأخّر عنها ولا يسوغ ذلك حينما يتقدّم عليها. بل الفاعل ضمير يمثّل مدلول الاسم المتقدّم ، ولما كان الضمير ممثلاً


لمرجعه فلا بدَّ أن يتطابق معه في الأفراد والجمع والتأنيث ، وهذا يبرهن على انَّ الجملة اسمية والاسم المتقدّم ليس فاعلاً بل موضوعاً للحكم عليه بجملة فعلية ، وهذه هي العلاقة الحملية التي نجدها في الجملة الاسمية حينما يكون الخبر فيها مفرداً ، وحينما يكون الخبر فيها جملة اسمية كما في « زيد أبوه عالم ».

ومرجع الفرق الأخير إلى اشتراط تعريف المبتدأ وعدم جواز الابتداء بالنكرة. وهذا يبدو شرطاً تعبّديّاً بناء على افتراض انَّ الفاعل يبقى على فاعليته مع تأخّر الفعل أيضا ، إذ لا يعرف وجه لاشتراط كون الفاعل معرفة في حال تقدمه ورفع اليد عن هذا الشرط في حال تأخره. بخلاف ما إذا افترض تغير جوهر العلاقة في حالتي تأخّر الفاعل وتقدّمه وأنَّ الجملة في الحالة الأولى فعلية والعلاقة فيها إسنادية لا يحتاج فيها إلى معرفية الفاعل والجملة في الحالة الثانية اسمية والعلاقة فيها حملية ، والنسبة الحملية باعتبار كونها تطبيقاً للمحمول على الموضوع بنحو يرى تصادقهما على مركز واحد هو الموضوع كان للموضوع أهمية ومركزية فيها بحيث اشترط أن يكون معرفة متعيّناً بأحد أنحاء التعين.

وهكذا تلجؤنا الوجدانات اللغوية إلى اعتبار الجملة المزدوجة جملة مركبة من جملة فعلية صغرى وجملة اسمية كبرى.

وأمَّا المقام الثاني : فقد يستشكل على تطبيق النسبة التصادقية على الجمل الكبرى بأنَّ الجملة الحملية يحمل فيها الخبر على المبتدأ ويطبق عليه على نحو يرى تصادقهما معاً على مركز واحد ، وهذا لا يمكن تعقّله في حمل الفعل على المبتدأ فانَّ الفعل بما هو فعل لا يمكن تطبيقه وصدقه على المبتدأ وكذلك لا يتعقّل حمل جملة « أبوه عالم » على زيد فانَّ زيداً ليس هو عين « أبوه عالم ».

والجواب عن هذا الإشكال يمكن أن يكون بأحد وجهين :

١ ـ انَّ المحمول على الموضوع في الجمل الكبرى ليس هو الفعل أو الجملة الكبرى بل هو المعنى المتحصل من الجملة الصغرى بحيث ننتزع منها معنى إفراديّاً يكون هو المحمول « فزيد أبوه عالم » يعني « زيد ذو أب عالم ». إلا انَّ هذا الوجه غير تام ، لأنَّ تحويل الجملة الصغرى التي هي ذات مفهوم تركيبي إلى مفهوم افرادي منتزع منها


عناية زائدة ومئونة على خلاف طبع هذه الجمل.

٢ ـ انَّ الحمل لا يراد به اتحاد مفهومين في مصداق واحد خارجاً فحسب ليقال أن هذا مستحيل في المقام ، بل المراد صدق المحمول على الموضوع وكونه واقعاً فيه حينما ينظر إليه. ومن الواضح انَّ مفهوم « أبوه عالم » أو « اجتهد » صادق في حقّ زيد حقيقة على تقدير كونه كذلك. فالجملة الحملية موضوعة لإفادة النسبة التصادقية بمعنى أنَّه كلَّما لاحظت الموضوع وجدت المحمول صادقاً في حقّه تصوّراً ، وهذا كما يعقل في المحمول الأفرادي كذلك يتعقل في الجملة.

تحديد الدال على النسبة الخبرية

وبعد أن اتّضح ما هو مفاد الجملة الخبرية التامة ـ اسمية أو فعلية ـ تبقى نقطة وهي : أن هذا المفاد الّذي يتمثّل في نسبة تامة تصادقيّة هل هو مدلول نفس هيئة الجملة ، كما افترضنا من خلال الحديث وهو المشهور ، أو مدلول لجزء من الجملة ، كما قد يدّعى ذلك في الجملة الاسمية تارة وفي الجملة الفعلية أخرى؟

امَّا في الجملة الاسمية ، فقد يدّعى أن الربط فيها بين المحمول والموضوع مفاد ضمير مقدر ، وتعود جملة « زيد عالم » إلى قولنا « زيد هو عالم ».

ويرد عليه : أن ضمير ( هو ) له مفهوم اسمي استقلالي فلا يعقل أن يتحقّق به ربط بنحو من أنحاء النسبة بين الموضوع والمحمول ، ولو كان الضمير دالاً على معنى حرفي نسبي لما صحّ أن يقع موضوعاً في الجملة مع وضوح ان الضمير في سائر الموارد بمعنى واحد.

وأمَّا في الجمل الخبرية الفعلية. فهل النسبة التصادقيّة الإسنادية مدلول الهيئة القائمة بالجملة الطارئة على هيئة الفعل ، أو مدلول هيئة الفعل ولو مع قيد؟ في ذلك بحث. فإن بني على الأول لزم أن يكون لهيئة الفعل مدلول نسبي يدخل في أحد طرفي النسبة التصادقية التامة ولا بدَّ أن يكون نسبة ناقصة ، وان بني على الثاني فلا موجب لافتراض دلالة هيئة الفعل على النسبة الناقصة ، وسيأتي تحقيق ذلك عند الكلام حول الهيئات الإفرادية.


أنحاء النسب الناقصة

قد عرفت على ضوء ما تقدّم انَّ النسب الناقصة انَّما تكون ناقصة لكونها نسباً تحليلية في الذهن وإن كانت واقعية في الخارج ، وبذلك تمتاز عن النسب التامة التي تكون واقعية في الذهن.

والمقصود هنا البحث عن أنحاء هذه النسب الناقصة وما بينها من الفوارق.

وموضوع بحثنا فعلاً النسبة التوصيفية والإضافة وحروف الجر. وأمَّا النسب الناقصة المستبطنة في المشتقات والهيئات الإفرادية فسوف يأتي الحديث عنها فيما بعد ، وعلى هذا الأساس نقول :

أمَّا النسبة الوصفية فقد يتوهّم أنَّها مع النسبة الإضافية موضوعتان لمعنى واحد وهو التحصيص وربط مفهوم بمفهوم آخر بنحو التقييد. ولكن قد عرفت أنهما وإن كانتا معاً تدلان على التحصيص إلا أن التحصيص في النسبة الوصفية انَّما هو بلحاظ مفاد النسبة التامة الخبرية لا بلحاظ الخارج ابتداءً خلافاً للنسبة الإضافية ، فاعتبار هما معاً من واد واحد غير فنّي.

وأمَّا مدلول الإضافة مع مفاد حروف الجرّ فقد يحاول إرجاع أحدهما إلى الآخر كما ذهب إليه بعض النحاة المحدّثين فادّعى : انَّ حرف الجرّ يقوم بدور الوسيط لتسهيل الإضافة حيث لا يمكن الإضافة المباشرة ففي قولنا « سافرت من البصرة » تكون البصرة مضافاً إليه لكن حيث انَّ « سافرت » ببنائها ممَّا لا يضاف أبداً فاستعين بـ ( من ) لتحقيق هذه الإضافة. كما احتمل أن تكون حروف الجرّ قد استعمل في البداية كأسماء وأفعال دالة على معان مستقلة ثمَّ أفرغت من معناها وتحولت إلى مجرد رموز (١).

والتحقيق : إنَّ إرجاع حروف الجرّ إلى الإضافة بالنحو المذكور غير وجيه. ويتّضح ذلك بمراجعة الوجدان اللغوي في عدة نقاط نقارن فيها بين موارد استعمال الحروف وموارد الإضافة فنجد فيما بينهما فوارق واضحة بحيث لا يقبل الحسّ اللغوي اعتبار هما

__________________

(١) لاحظ المخزومي في كتابه « في النحو العربي » ص ٧٧ ـ ٧٩


من واد واحد. وذلك كما يلي :

١ ـ انَّه في كثير من الموارد نجد إمكان الإضافة المباشرة لما يدّعى انَّ حرف الجر يقوم بدور إضافته إلى المجرور ومع ذلك لا يمكن الاستغناء فيها عن الحرف ، كما في قولك « سفرك أطول من سفري » أو قولك « زيد قائم في الدار » فان كلاَّ من « أطول » و « قائم » اسم قابل للإضافة ومع ذلك لا يصحّ أن نستغني في المثالين عن الحرف بإضافتهما إلى المجرور.

٢ ـ انَّ هذه النظرية لئن أمكن تطبيقها على مثل حرف « من » في المثال فهي لا تنطبق على أكثر حروف الجرّ كالكاف وحاشا وربّ وغيرها. فقولنا « زيد كعمرو » لا يمكن أن يكون كاف الجر فيها من أجل إضافة ما قبلها إلى ما بعدها. إذ لا يعقل إضافة زيد إلى عمرو ولا إضافة « كائن » أو « مستقرّ » إليه ـ بناء على تقديره في أمثال المقام كما يقوله النحويّون وإن كان لا يوافق عليه الباحث المذكور ـ بل حرف « حاشا » يعطي معنى السلب والاستثناء وهو على العكس من الإضافة تماماً يقتضي تخصيص الحكم بغير المجرور.

ودعوى : إرجاع مثل هذه الحروف إلى الأسماء فالكاف بمعنى « مثل » وحاشا بمعنى « غير » مضافاً إلى عدم التزام الباحث المذكور به. مندفعة : بأن أي حرف بالإمكان اقتناص مفهوم اسمي منتزع عنه كما تنتزع الظرفية من « في » والابتداء لـ « من » وهكذا. ولكن مثل هذه المفاهيم الاسمية المنتزعة ليست هي معاني الحروف بل منتزعة عمَّا هو معناها.

٣ ـ من جملة الفوارق بين حروف الجرّ والإضافة انَّ الحروف يمكن استعمالها بين أطراف جزئية مشخصة فتقول مثلاً « زيد في هذه الدار » ولكن الإضافة لا يمكن أن تكون بين طرفين مشخصين بل يشترط في المضاف دائماً أن يكون مفهوما كليّاً وهذا تعبير آخر عمَّا يقوله النحاة من اشتراط أن يكون المضاف نكرة ولا يشترط ذلك فيما يتعلّق به حرف الجر.

٤ ـ وأخيراً حكم الوجدان لمن يقارن بين موارد الإضافة وموارد استعمالات حروف الجرّ بأن الإضافة لا تفيد من ناحيتها نوع النسبة والعلاقة بين المضاف


والمضاف إليه وانَّما تفيد أصل العلاقة الملائمة مع أنحاء مختلفة منها خلافاً للحروف فانَّ كلّ واحد منها يتضمّن مدلولاً خاصاً به زائداً على أصل الارتباط والنسبة إلى المجرور ، فأنت تقول مثلاً « الضرب من زيد » فيفيد صدوره منه و « الضرب على زيد » فيفيد ووقوعه عليه وتقول « ضرب زيد » فيلائم كلا الأمرين.

وهكذا يتبرهن : انَّه لا يمكن إرجاع حروف الجرّ إلى الإضافة واعتبارها تقوم بدور الوسيط لتسهيل عملية الإضافة حيث لا يمكن الإضافة المباشرة. نعم هناك في رأينا معنى آخر دقيق لاكتشاف الدور المشترك لحرف الجرّ والإضافة مع عدم طمس معالم الفرق بينهما سوف نتعرّض له فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وحيث ثبت من خلال النقاط المتقدمة وجود فارق في المدلول بين مفاد الإضافة ومفاد الحروف الجارة فسوف نواجه السؤال عن جوهر هذا الفرق وتحديد ما هو المعنى الموضوع بإزائه كلّ منهما. وفي مقام علاج هذه النقطة يمكن أن نطرح عدّة فرضيات نحاول في كلّ منها تفسير وتشخيص جوهر الفرق بين مفاد الإضافة والحروف.

لنرى أنَّ أيّاً منها تستطيع أن تفسّر الفرق بنحو لا نتنازل معه عن شيء من وجداناتنا اللغوية التي أبرزناها من خلال النقاط الأربع المتقدّمة فتكون هي النظرية الصحيحة لتشخيص مدلول الحروف والإضافة على ضوئها.

١ ـ انَّ الإضافة موضوعة للدلالة على التحصيص وتضييق دائرة صدق الاسم المضاف ، فكلمة « ماء » مثلاً مفهوم عام ينطبق على كلّ من ماء النهر والكوز والإناء ولكن بسبب إضافته إلى الكوز مثلاً يتحصص مفهومه وتتحدد دائرة صدقه بخصوص ماء الكوز ، ومن هنا كان المضاف والمضاف إليه في قوّة مفهوم واحد هو مفهوم الحصة الخاصة.

وامَّا الحروف فتدلّ على نسبة معيّنة خارجية بين طرفين أو أكثر ولهذا كانت تفيد نوعية العلاقة والنسبة بين أطرافها.

وهذا الوجه يمكن أن يفسّر لنا وجداناتنا المتقدمة فانَّه إذا افترض أن الإضافة لمجرَّد تحصيص المعنى العام وتقييده والحروف للدلالة على النسب الخارجية فاستفادة تلك النسب من الحرف دون الإضافة أمر منسجم حينئذ كما أنَّ عدم إمكان تبديل الحرف


بالإضافة في النقاط المتقدمة قابل لأن يفسر على أساس هذه التفرقة.

ولكن يبقى التساؤل عن المقصود بالتحصيص الموضوع له الإضافة فانَّه إذا أريد مفهوم التحصيص والتقييد فهذا مفهوم اسمي مستقل بضمه إلى مفهوم اسمي آخر لا يتحقق تحصيص وضيق فيه. وإن أريد واقع التحصيص والضيق فهذا لا يعقل إلا بأخذ نسبة من تلك النسب الخارجية بين المفهوم المتحصص والمفهوم المتحصص به حتى يكون المركّب منهما لا يصدق على غير الحصّة الخاصة ومن دون ذلك يستحيل أن لا يصدق مفهوم على ما هو مصداقه بالذات.

وإذا أخذت النسبة الخارجية بين المفهومين في مدلول الإضافة ـ سواءً احتفظ فيها بنوع النسبة وخصوصية كونها ظرفية أو صدورية أو وقوعية أم لم يحتفظ به بل أخذ أصل الربط والنسبة ـ اتّجه النقض بالموارد السابقة لا محالة. فان هذه النسبة الخارجية كما هي ثابتة بين الماء والكوز في قولنا « الماء في الكوز » المصحح لإضافة الماء إلى الكوز وتحصيصه به كذلك بنفسها ثابتة بين القائم والدار في قولنا زيد قائم في الدار من دون أن تصحّ إضافته إليه.

وكذلك الحال في « زيد في الدار » ممَّا يعني انَّ هذا المقدار المبرز في هذه الفرضية من الفرق لا يكفي لعلاج المفارقات المتقدمة جميعاً.

٢ ـ انَّ الذهن في موارد الحروف يلحظ ثلاثة أمور الطرفان والنسبة الخاصة بينهما. وأمَّا الإضافة فاللحاظ فيها ينصب على مفهوم واحد هو المفهوم المضاف بما هو مضاف ومنسوب إلى المضاف إليه فالنسبة الخارجية تخلع على المضاف حالة الانتساب والتحصص وهذه الحالة كالنسبة معنى حرفي على ما سيأتي لدى البحث عن مدلول هيئة المصدر والفعل ، ولكنَّها ليست نسبة متقومة بطرفين بل حالة صالحة للقيام بطرف واحد ولهذا نجد وحدة المفهوم في موارد الإضافة وتعدده في موارد الحروف.

وهذه الفرضية غير تامة أيضا. وذلك.

أولا : لأنَّه لو أريد من وحدة اللحاظ في موارد الإضافة وتعدده في الحروف الوحدة الواقعية في صقع الوجود الذهني. فقد عرفت بأن مفاد الحروف بل كلّ النسب الناقصة الأوليّة يكون كذلك لأنَّها وإن كانت متضمنة للنسبة وهي متقوّمة بطرفين أو أكثر إلا


أن هذا النوع من النسب تحليلية قام البرهان على استحالة كونها واقعية في الذهن. وإن أريد الوحدة بلحاظ عالم التحليل فالوجدان قاض بعدم وحدة المفهوم في موارد الإضافة أيضا كموارد الحروف تماماً بدليل لحاظ الذهن لمفهوم المضاف إليه وهذا لا ينسجم إلا مع افتراض دلالة الإضافة على النسبة بينه وبين المضاف لا الحالة الخاصة المتقومة بالمضاف فقط كما في هيئة المصدر.

وثانياً : انَّ هذه الفرضية كسابقتها لا تعالج المفارقات المبرزة في النقاط المتقدمة فانَّ في كلّ مورد توجد نسبة حرفية خارجية بين شيئين تتحقق حالة الانتساب أيضا فلما ذا لا تطرد فيها الإضافة.

٣ ـ انَّ الإضافة مفادها مفاد الحروف ولكن بنحو النسبة الناقصة المفروغ عنها بينما الحروف تدلّ على معانيها بنحو النسبة التامة فقولنا : « غلام زيد أو خاتم فضّة » تحويل للنسبة التامة المفادة بقولنا « الغلام لزيد والخاتم من فضة » إلى نسبة ناقصة تقييديّة مفروغ عنها نظير ما قلناه في النسبة التوصيفية من انَّ قولنا « الرّجل الشجاع » نسبة ناقصة منتزعة بلحاظ النسبة التامة الخبرية في قولنا « الرّجل شجاع » ولهذا أيضا نجد أن الإضافة كالتوصيف تستبطن الاخبار ، فإذا قلت « رأيت غلام زيد » كنت قد أخبرت ضمناً انَّ ذلك الغلام لزيد.

وهذه الفرضية أيضا ممَّا لا يمكن المساعدة عليها.

وذلك أولا : فساد المبنى فان النسب المفادة بالحروف نسب خارجية تحليلية وهي لا تكون إلا ناقصة ولذلك قلنا بضرورة افتراض تقدير في جملة « الغلام لزيد » أي « الغلام كائن لزيد » ليكون هو طرف النسبة التامة كما يتّفق عليه النحاة. وسوف يأتي التعرّض لذلك في بحث الهيئات الإفرادية.

وثانياً : عدم إمكان افتراض النسبة الحرفية تامة في تمام الموارد بل من الواضح نقصانها في مثل قولنا « مررت بزيد » حيث لا تكون الجملة مفيدة لأكثر من نسبة تامة واحدة. ولو فرض استفادة نسبة تامة أخرى وهي كون الرّجل المرور به زيداً فهي نسبة مستبطنة لا صريحة وهي محفوظة في الإضافة أيضا بحسب الفرض.

وثالثاً : انَّ هذا الوجه كسابقيه لا يعالج المفارقات المتقدمة طالما لا يبرز فرقاً بين


مفاد الحروف ومفاد الإضافة إلا من حيث المفروغية وعدمها وقد عرفت لزوم اكتشاف الفارق الجوهري المانع عن صحة استعمال الإضافة في أكثر موارد استعمالات حروف الجر.

٤ ـ انَّ حروف الجر وهيئة الإضافة موضوعتان معاً للتخصيص والنسبة التقييديّة الناقصة ـ أي النسبة الخارجية ـ غير أن بينهما فرقاً من حيث مركز التقييد ومصبّه. فالحروف موضوعة لتقييد المفاهيم التركيبيّة التامة أي مفاد النسب التامة. والإضافة موضوعة لتقييد المفاهيم الإفرادية وتحصيصها. لأنَّ النسبة التامة يتصوّر في حقّها الإطلاق والتقييد بصورة مستقلة عن الإطلاق والتقييد في أطرافها ، فالذهن في موارد النسب التامة كما يمكنه أن ينتزع مفهوماً إفراديّاً محصصاً يجعله ظرفاً للنسبة التامة الحكمية كذلك يمكنه ان يبقى المفاهيم في أطراف النسبة التامة على إطلاقها ولكن يقيّد النسبة التامة نفسها. وفائدة ذلك تظهر في الموارد التي لا يمكن فيها تحصيص المفهوم الواقع طرفاً للنسبة التامة كما إذا كان مشخصاً مثلاً غير قابل للتخصيص والتضييق كقولك « زيد في الدار » فان التقييد بالدار راجع إلى النسبة التامة للجملة. وبهذا البيان يندفع النقض بموارد استعمالات الحروف التي لا يمكن تحويلها إلى الإضافة فانَّ مركز التحصيص والتضييق في تلك الموارد ليس هو الذات الواقعة موضوعاً لكي تضاف إلى المجرور بالحرف وانَّما مركزه هو النسبة التامة كما عرفت.

وما ذكر في هذا الوجه من وضع الإضافة للنسبة الناقصة التقييدية الطارئة على المفاهيم الإفرادية وإن كان صحيحاً إلا أنَّ تعيين معنى الحروف في تقييد مفاد النسب التامة ممَّا لا يمكن المساعدة عليه.

وذلك. أولا : لرجوع التقييد بالحرف في كثير من الأحيان إلى غير النسب التامة كما في موارد تعلّقها بالمصادر والأوصاف والاشتقاقيّة وهي لا تتضمن نسبة تامة. ودعوى : إمكان اقتناص مفاد تام في تلك الموارد باعتبار أنَّ الأوصاف تستبطن الاخبار مدفوعة : مضافاً إلى أنَّه قد لا يكون متعلق الجار والمجرور إلا المصدر وهو حتى لو قيل باشتماله على النسبة لا إشكال في عدم انحلاله إلى اخبار ونسبة تامة مستبطنة. أن الاستلزام المذكور للنسبة التامة لا يختص بالمشتقات بل ثابت في مطلق القيود


المأخوذة في أطراف نسبة تامة ولو لم تكن مشتقات كما في الإضافة مثلاً فلما ذا لا ترجع إليها الحروف ولا تقيد نسبها التامة المستلزمة؟

وثانياً : وجدانية عدم إمكان تقييد النسب التامة غير المشتملة ـ على مفهوم حدثي بحروف الجرّ ، كما يظهر ذلك من خلال المقارنة وتتبع الأمثلة فاننا عند ما نحكم على ( زيد ) في نسبة تامة بمفهوم جامد كما في قولنا « زيد إنسان أو ابن عمرو » لا نجد مجالاً لإيراد شيء من معاني الحروف لتقيد مفادها لأنَّا لا نجدها صالحة لذلك. ولكن بمجرّد أن نحكم عليه بمفهوم حدثي فنبدل كلمة « إنسان » إلى « قائم » أو أيّ مشتق آخر نجد أنَّه ينفتح المجال واسعاً للتقييد بكثير من معاني حروف الجر الأمر الّذي كان منغلقاً نهائيّاً علينا قبل تبديل المفهوم الجامد بالمشتق. وهذا يوجب القطع بأن الفرق بين حروف الجرّ والإضافة ليس من ناحية الاختلاف بينهما في مركز التقييد من حيث كونه مفهوماً إفراديّاً أو معنىً نسبيّاً تاماً أو ناقصاً بل هناك خصوصية في المعنى الحدثي تقتضي اختصاص حروف الجر بها.

وثالثاً : استحالة تصوير أصل طرو النسبة التقييدية الناقصة على النسبة التامة بناء على تصوراتنا في حقيقة النسبة الناقصة من كونها تحليلية لا واقعية. على ما سوف يأتي البرهان عليه لدى التعرّض إلى النسبة الاستفهامية.

وذلك البرهان أيضا لا يختصّ بفرض كون طرف النسبة الناقصة نسبة تامة بل يتمّ أيضا فيما إذا أريد جعل طرفها النسبة الناقصة نفسها لا الحصة المنتسبة.

وهكذا يتبيّن انَّ هذا الوجه لا يمكن تتميمه حتى إذ افترض أن طرف النسبة في حروف الجر هو النسب الناقصة المستلزمة للمشتقات أو الأفعال.

٥ ـ أن يقال باختصاص حروف الجر للدلالة على تقييد المعاني الحديثة بخلاف الإضافة فانَّها قد تقيد المعاني الجامدة كما في « غلام زيد » وقد تقيد المعاني الحديثة كما في « ضارب زيد ».

وهذا الوجه وإن كان صحيحاً فان الوجدان من خلال تتبع موارد الاستعمالات والمقارنة فيما بينهما بالنحو الّذي تقدّم في مناقشة الوجوه السابقة يحكم باختصاص المعاني الحرفية بتحصيص المعاني الحديثة فقط ولذلك التزم النحاة بضرورة تعلّق


حروف الجرّ بل مطلق الظرف بفعل أو مشتق مذكور أو مقدّر. إلا أن التمييز بين الحروف والإضافة بهذا المقدار يجعل التفرقة بينهما بهذا النحو كأنه تعبّد لغوي بحت لا يستبطن نكتة فنيّة.

وإلا فلما ذا خصّص حرف الجر بوظيفة التحصيص في المعاني الحديثة فحسب؟

وبالإمكان تفسير هذه النقطة بوجه فني حاصله : انَّ هناك فرقاً أساسيّاً بحسب الإحساس الفطري للإنسان بين المعاني الحديثة والمعاني الذاتيّة من حيث انَّ المعنى الحدثي ليس له تشخّص بذاته كما في المعاني الذاتيّة فانَّ الذوات باعتبار استقلالها في الوجود تكون مستقلة في التشخص أيضا لأنَّ الوجود يساوق التشخص.

وأمَّا الحدث فتشخصه من قبل أطرافه وعلاقته بها فتشخص ضرب زيد عن ضرب عمر إنَّما هو بلحاظ صدور هذا من زيد وذاك عن عمرو أو وقوعه على زيد أو على عمرو أو كونه بالعصا أو باليد وهكذا. والحروف ـ وكذلك الهيئات الاشتقاقية ـ موضوعة لإفادة هذه التشخصات في المعاني الحرفية عن طريق تحديد نوع العلاقة والربط بين الحدث وبين ذلك الطرف فليست حروف الجر كالإضافة أو التوصيف لمجرّد تحصيص المعاني الحدثية ـ وإن كانت تستلزم ذلك ـ بل هي لتشخيص المعنى الحدثي وإبرازه حيث لا يتشخص إلا بمثل ذاك ومن هنا كانت تدلّ على خصوصيات تفصيلية زائدة على أصل الربط والنسبة ومن الواضح انَّ هذا الدور لا موضوع ولا معنى له في المعاني الذاتيّة لكي تدخل الحروف عليها فان الذوات متشخصة بقطع النّظر عن علاقتها بأطرافها ومن هنا كان لا بدَّ في موارد لا يوجد في الكلام ما يدلّ على الحدث كما في قولك « هذا غلام لزيد » إمَّا من تقديره فيكون المعنى هذا غلام كائن لزيد فتكون النسبة التحصيصية مفادة بالتوصيف أو تحويل اسم الذات إلى معنى حدثي بأن يفرض انَّ المقصود من غلام لزيد أنَّه مملوك له.

وبهذا التقرير يتّضح الفرق الفني الدّقيق بين قولك « هذا ضارب زيد » و « هذا ضارب لزيد » رغم التشابه الشديد بينهما الموهم وحدة معنى الإضافة وحرف الجر فيه ، فانَّ « ضارب زيد » لا يدلّ على خصوصية مشخصة للضارب فانَّه مشخص في نفسه ولا لضربه لأنَّ المضاف هو الضارب لا ضربه وانَّما يدلّ على تحصيصه وتضييقه في


حصّة خاصة منه بينما يدلّ « ضارب لزيد » على خصوصية في الضرب الصادر من الضارب تشخصه من ناحية المفعول ومن يكون عليه الضرب.

وعلى ضوء كلّ ما تقدّم نعرف : انَّ ما ذكره الباحث المذكور من أنَّ حروف الجرّ تقوم بدور الإضافة قد يبرز جانباً من التشابه بين دور حروف الجر والإضافة ولكن هذا لا يفي بتحليل الموقف وانَّما الّذي يفي به تقديم نظرية شاملة للمقارنة بين حروف الجر والإضافة على نحو يبرز جوانب الاتفاق بينهما ويفسر أوجه الاختلاف جميعاً.

تفسير المحقق العراقي للنسبة التامّة والناقصة

وقد اتّضح بما ذكرناه سرّ الفرق بين الجملة التامة والجملة الناقصة والميزان الكلي في تمامية النسبة ونقصانها الراجع إلى واقعيتها في صقع الذهن وتحليلتها ، ولا يلاحظ للمشهور شيء محدد يمكن الحديث عنه بشأن التمييز بين الجملة التامة والناقصة وتفسير الفرق بينهما إلا المحاولة التي أشير إليها في مقالات المحقق العراقي ( قده ) وتوسّع فيها في تقريرات بحثه.

وحاصل المحاولة دعوى : أنَّ هيئة الجملة الناقصة تختلف عن هيئة الجملة التامة في مفادها من وجوه :

الأول : انَّ الهيئة الأولى تحكي عن النسبة الثابتة بينما الثانية تحكي عن إيقاع النسبة.

الثاني : أن المحكي عنه في الجملة التامة هو النسبة بلحاظ وجودها فإذا قال المتكلّم « زيد قائم » حكي عن النسبة الموجودة بين زيد والقيام ، وامَّا الجملة الناقصة فانَّ محكيها هي النسبة بلحاظ نفسها مع قطع النّظر عن وجودها وعدمها في الخارج ، ولهذا يصحّ أن يحكم على الموضوع المتقدّم بها بالنفي.

الثالث : وهو متفرّع على الثاني ، أنَّه كلَّما أخذ القيد في موضوع الحكم الشرعي على نهج النسبة التامة فمقتضاه كونه لوحظ قيداً ووصفاً للموضوع بما هو متحقّق في الخارج ، وكلَّما أخذ القيد فيه على نهج النسبة الناقصة فهو قيد للموضوع بحد ذاته بقطع النّظر عن الوجود والعدم. ومثال الأول : « إذا كان الماء كرّاً اعتصم » ومثال الثاني : « الماء


الكرّ معتصم » وقد فرع على ذلك ثمرة بلحاظ استصحاب العدم الأزلي.

مناقشة التفسير المذكور

أمَّا الوجه الأول ، فلا محصل له إلا بإرجاعه إلى ما حققناه ، إذ ما المراد بالنسبة الثابتة وبإيقاع النسبة ، فان أريد بإيقاع النسبة إيجادها التصوري في الذهن ومن ثبوتها وجودها التصوّري كذلك فيكون الفرق من باب الفرق بين الإيجاد والوجود وتكون الجملة الناقصة موضوعة لإفادة الوجود والجملة التامة موضوعة لإفادة الإيجاد. فيرد عليه : أن الوجود التصوري والإيجاد التصوري كليهما ليسا دخيلين في مدلول الجملة ، بل مدلولها ذات المعنى في نفسه بلا أخذ الوجود فيه ، فلا بدَّ من تصوير فرق بين ذاتي النسبتين في أنفسهما.

وإن أريد بإيقاع النسبة كونها موجودة في صقع الذهن حقيقة وبالنسبة الثابتة كونها موجودة ضمناً وتحليلاً ، رجع إلى ما حققناه ولم يكن الفرق بالإيقاع والوقوع والإثبات والثبوت بل بالتحليلية والواقعية ، وإلا فمجرّد كون نسبة واقعة أو موقعة أي دخل له في تماميتها في مرحلة المدلول التصوري للكلام بعد فرض كونها نسبة واقعية في صقع الذهن.

أمَّا الوجه الثاني : فيرد عليه : انَّ النسبة التامة كالنسبة الناقصة يمكن ان يرد النفي على مفادها ، فيقال مثلاً : « ما قام زيد » وقوله ان جملة « زيد قائم » تحكي عن النسبة الموجودة بين زيد والقيام إن أريد به أخذ مفهوم الوجود في النسبة فهو واضح البطلان. مضافاً إلى أنَّه كمفهوم يمكن أن يؤخذ قيداً للجملة الناقصة أيضا فيقال : « قيام زيد الموجود » وإن أريد به أخذ واقع الوجود في المدلول بالذات لهيئة الجملة التامة فهو غير صحيح ، لأنَّ الوجود الخارجي لا يعقل أخذه في مدلول اللفظ. على أن للجملة التامة مدلولاً محفوظاً في حالتي الصدق والكذب معاً ، وإن أريد أنَّ المدلول بالذات للجملة التامة يلحظ فانياً في الخارج فنفس الشيء يصحّ في الجملة الناقصة أيضا. فحين تقول « قيام زيد محرم » تلحظ قيام زيد الّذي هو جملة ناقصة بما هو حاك عن الخارج.

نعم ، يمكن أن يعبر عن الوجه بتقريب آخر فيكون منسجماً مع ما هو التحقيق في


المسألة ، وذلك بأن يقال : انَّ الجملة التامة حيث انَّ مفادها النسبة التصادقية فهي تفترض حتماً كون النّظر التصوري الّذي تحققت النسبة التصادقية في صقعه متجهاً إلى ما وراء هذا الصقع ، إذ لو لا ذلك لا يتعقّل التصادق ولو تصوّراً فتصور النسبة التصادقية بنفسه يعني النّظر ولو تصوّراً إلى ما وراء هذا الصقع. وهذا بخلاف النسبة الناقصة فانَّها لا تقتضي بطبيعتها ذلك. وهذا معنى صحيح مستنتج ممَّا ذكرناه في تحقيق ملاك التمامية والنقصان ، ولا يترتَّب عليه اختلاف الجملتين في كون الناقصة لا تأبى عن ورود النفي عليها وكون التامة تأبى عن ذلك ، لوضوح أن التامة لا تأبى عن ذلك أيضا ـ كما عرفت ـ إذ ليس معنى كون النّظر فيها إلى ما وراء الصقع التصديق بوجود مطابق في الخارج بل مجرّد كون النّظر التصوّري كذلك إذ لا يعقل تصوّر التصادق بما هو نسبة إلا بذلك.

وامَّا الوجه الثالث : فواضح البطلان. لأنَّ النسبة التامة بما هي نسبة تامة لا تختص بما إذا كان موضوعها موجوداً في الخارج ومحمولها ثابتاً لموضوعها بما هو محقق ، فقولنا « الإنسان ممكن » جملة تامة ومحمولها ليس ثابتاً للإنسان بما هو محقق في الخارج بل بما هو ماهية في نفسها ؛ والظهور المدّعى في كلامه إذا تمَّ في مثال الجملة الشرطية للكر فهو من تبعات خصوصية في العبارة لا من تبعات مجرّد التمامية.

الجمل التامة لم توضع لقصد الحكاية

وهكذا تبرهن صحة مدّعى المشهور من أنَّ الجمل التامة موضوعة بإزاء النسب التامة. كما اتّضح انَّ قصد الحكاية خارج عن مدلولها وانَّما تدلّ عليه ظهورات حالية أو سياقية. بل دعوى : وضع الجمل التامة لقصد الحكاية ممَّا لا يمكن المساعدة عليها. وذلك :

أولا : لابتنائه على القول بمسلك التعهد في حقيقة الوضع وافتراض انَّ الدلالة الوضعيّة دلالة تصديقية وليست تصورية ، وقد تقدّم في بحث الوضع عدم صحّته.

وثانياً : النقض بمثل موارد دخول أداة الاستفهام على الجملة التامة كما في قولك « هل زيد قائم » إذ لا إشكال في أنَّ المستفهم عنه نسبة القيام إلى زيد أي كون زيد


قائماً لا قصد الحكاية عنها. وقد حاول الأستاذ التخلّص من هذا النقض بافتراض أن أداة الاستفهام أو هيئة الجملة الاستفهامية موضوعة بوضع واحد لإبراز قصد الإنشاء والاستفهام ، فليست استفادة الاستفهام من الجملة الاستفهامية من باب تعدد الدال والمدلول بأن يكون الاستفهام مفاداً بدلالة الأداة والنسبة التامة بالجملة التامة المدخول عليها الأداة حتى يكون نقضاً عليه.

إلا أن هذه المحاولة للتخلّص عن النقض غير تامة أيضا.

فإنَّه أولا : بالإمكان تبديل النقض بما لا يحتمل فيه وحدة الدال والمدلول كما إذا دخل الفعل على الجملة التامة في مثل قولك « أخبرني أن زيداً ميّت » فانَّ المخبر به نفس النسبة لا قصد المخبر الحكاية عنها. والأفعال لا إشكال في كون دلالتها من باب تعدد الدال والمدلول حيث وضعت هيئتها بوضع نوعي مستقل عن وضع المواد التي تدخل عليها.

وثانياً : لو لم تكن استفادة الاستفهام من الجملة الاستفهامية من باب تعدد الدال والمدلول لما صحّ أن يصدق الاستفهام في مقام الجواب بنعم أو ينفي بلا. لأنَّ المدلول الإنشائي غير قابل للتصديق أو للنفي وإنَّما القابل لذلك النسبة التامة المفاد عليها بالجملة التامة في مدخول أداة الاستفهام. اللهم إلا أن يدعى بأن « نعم » أو « لا » في قوة تكرار تلك الجملة التامة واستعمالها في معنى لم تكن مستعملة فيه في سياق الاستفهام وهو النسبة الاخبارية على سبيل الاستخدام ، نظير أن يقول « هل جاءك المولى » بمعنى العبد فيقول « نعم » وهو يريد معنى آخر من المولى غير ما أراده المتكلّم.

إلا انَّ مثل هذه التحميلات واضحة التكلّف والفساد.

٣ ـ الجمل التامة الإنشائية

وامَّا الجمل التامة الإنشائية ، فقد وقع فيها بحث واسع بين الأعلام من خلال مقارنتهم لها بالجمل التامة الخبرية ومحاولة التمييز بين القسمين ، ويمكن تصنيف البحث إلى جهتين : إحداهما : تتصل بنحو علاقة الجملة الإنشائية بالمعنى ودلالتها عليه وأنَّها إيجادية بمعنى كونها موجدة لمعناها باللفظ ، خلافاً لعلاقة الجملة الخبرية بالمعنى ودلالتها


عليه التي هي إخطار به؟ والجهة الأخرى : تتصل بذات المعنى وتشخيص انَّ ذات المعنى في الجملة الإنشائية هل هو نفس المعنى في الجملة الخبرية أو لا؟

هل المعاني الإنشائية إيجادية؟

امَّا الجهة الأولى ، فهناك اتجاه معروف موروث يفترض كون الجمل الإنشائية موجدة لمعانيها باللفظ ويميّز بين الخبر والإنشاء بأن الأول حاكٍ والثاني موجد لمعناه.

الوجوه المختلفة لتفسير إيجادية الجمل الإنشائية

والإيجادية المدعاة في الجملة الإنشائية تارة : يراد به نفس الإيجادية المدعاة في مداليل سائر الحروف والهيئات ـ على ما تقدّم ـ وهي بهذا المعنى لو صحّت لا تصلح مائزاً بين الجملة الإنشائية والخبرية ، لوضوح أن هيئة الجملة الخبرية تدخل ضمن الحروف والهيئات أيضا ، فإذا تمَّ برهان على أن كلّ ما لا يكون مدلوله معنى مستقلاً في المفهومية والتقرر فلا بدَّ أن يكون إيجاديّاً فهذا يشمل هيئة الجملة الخبرية أيضا وأخرى : يراد بها الإيجادية بنكتة أخرى وبقطع النّظر عن دعوى الإيجادية العامة في الحروف والهيئات ، وعلى الثاني فلها وجوه :

الإيجادية بمعنى التوليد

الأول : انَّ تدعى الإيجادية للجملة الإنشائية بدلاً عن الإخطار بمعنى أن سنخ علاقة اللفظ بالمعنى وتأثيره فيه قد يكون بنحو الإخطار المباشر وإيجاد المعنى تصوراً في ذهن السامع بسبب اللفظ ، وهذا هو الوضع الثابت للكلمات الإفرادية وما يلحق بها ولهيئة الجمل التامة الخبرية ، فانَّها كلّها تؤثر في معانيها بإخطار تلك المعاني. وقد تكون علاقة اللفظ بالمعنى وتأثيره فيه بنحو الإيجاد والتوليد أي انَّ اللفظ يوجد المعنى في الخارج ويكون وجوده هذا سبباً في خطوره في ذهن السامع ، فالخطور في ذهن السامع ليس بسبب اللفظ مباشرة بل بسبب مواجهة المعنى بوجوده الخارجي ، وهذا الوجود الخارجي بسبب اللفظ ، فيدعى أن الجملة الإنشائية من هذا القبيل فهي توجد المعنى


وفي طول ذلك يتمّ الإخطار ، فحين يقال « صلّ » يوجد بهذه الجملة طلب في الخارج وفي طول ذلك ينتقل ذهن السامع إلى مفهوم الطلب ، إذ ينتزعه من مصداقه الخارجي.

وقد يكون الداعي للذهاب إلى مثل ذلك هو البناء على أن الجملة الإنشائية موضوعة للمفاهيم الاسمية المتعارفة من الطلب والتمنّي والاستفهام والنداء ونحو ذلك. وحيث أنَّه يوجد فرق واضح بين هذه الجمل والأسماء الإفرادية الدالة على هذه المعاني لنقصان هذه الأسماء وتمامية تلك الجمل ، أريد معالجة هذا الفرق بدعوى أن اختلاف جملة « افعل » مثلاً عن اسم الطلب في كونه جملة تامة مع أنَّها موضوعة لنفس المعنى ينشأ من سنخ تأثيرها في مدلولها ، حيث انَّها توجد الطلب باللفظ ، وبذلك كانت جملة تامة يصحّ السكوت عليها لإفادتها لمعنى تصديقي بخلاف كلمة الطلب إذا أطلقت.

ويرد على ذلك : أولا : انَّ هذه الموجديّة إن ادّعي ثبوتها للجملة الإنشائية بقطع النّظر عن وضعها لمعناها فهو واضح البطلان ، لعدم العلاقة الذاتيّة بين اللفظ والمعنى ، وان ادعي ثبوتها بسبب الوضع فهو باطل أيضا بعد أن عرفنا حقيقة الوضع ، وانَّ مرجعه إلى الإشراط والقرن المؤكد وهذا لا يوجب بطبعه إلا التلازم في التصوّر بين اللفظ والمعنى ، فلا يعقل ان يترتّب عليه التلازم أو السببية في الوجود الخارجي.

وثانياً : إن الوجود الخارجي لمعاني الجمل الإنشائية كثيراً ما يكون محفوظاً في المرتبة السابقة على الكلام فكيف يعقل دعوى حصوله بالإنشاء وذلك كما في موارد التمنّي والترجّي والاستفهام ، لقيام مصاديق هذه المعاني بالنفس في المرتبة السابقة. فإن أريد الموجدية الموجدية لهذه المصاديق فهو واضح البطلان ، وإن أريد بالموجدية نحو آخر من الوجود رجع إلى الوجود الذهني وكان من باب الإخطار ، إذ ليس للماهية حقيقة إلا الوجود الخارجي أو الوجود الذهني فان قيل : هناك نحو ثالث من الوجود وهو الوجود الإنشائيّ فالجملة الإنشائية موجدة للتمنّي مثلاً بوجوده الإنشائيّ لا الخارجي ولا الذهني. قلنا : الوجود الإنشائي إن أريد به الوجود الاعتباري للشيء فهو متقوم بالاعتبار ولا يمكن أن يتحقق بمجرّد اللفظ ، مع أن استعمال جملة التمنّي والترجّي


والاستفهام لا يحتاج إلى ضمّ أيّ اعتبار. وإن أريد به الوجود الحاصل بالجملة الإنشائية ؛ فهذا عود إلى ما يراد تحليله فإنَّنا بصدد معرفة حقيقة هذا الوجود.

ولعلَّ الّذي ساعد على توهّم الإيجادية بالمعنى المذكور ما يرى من ترتّب مصداق المعنى على الجملة الإنشائية أحياناً ، كما في « افعل » حيث يحصل بسببها طلب لم يكن ثابتاً قبل ذلك. إلا أن هذه الموجدية في طول إخطار الجملة لمعناها ، بل في طول مدلولها التصديقي أيضا وليست بدلاً عن الإخطار كما يراد ادعاؤه في هذا الوجه. وستعرف ذلك مفصلاً عند التكلّم في الوجه الثالث.

الإيجادية بمعنى عدم قصد الحكاية

الثاني : أن يراد إيجادية الجملة الإنشائية في عرض الإخطار ، فالجملة الإنشائية تخطر معناها في ذهن السامع على حدّ ما يقع في سائر الجمل والكلمات غير أن الجملة الإنشائية تختلف عن الجملة الخبرية من زاوية المتكلّم في أنَّ المتكلّم يتمحّض قصده من الجملة الإنشائية في تحقيق وجود تنزيلي للمعنى باللفظ فحينما يقول « بعت » إنشاءً أو « يعيد » إنشاءً يقصد إيجاد النسبة تنزيلاً باللفظ على أساس أن اللفظ وجود تنزيلي للمعنى ، وهذا لا ينافي أن يقصد إخطار المعنى تصوّراً في ذهن السامع وأن يكون اللفظ موجباً لهذا الإخطار ، وإنَّما المهم انَّه ليس قاصداً للحكاية عن وقوع النسبة خارجاً ، وامَّا في الجملة الخبرية فهو إضافة إلى ما ذكر يقصد الحكاية ، فالنسبة بين محتوى الجملة الإنشائية ومحتوى الجملة الخبرية نسبة الأقل إلى الأكثر على ما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ).

والتحقيق : أن الإنشاء أو الجملة الإنشائية ، تارة : تقارن بالجملة الخبرية في مرحلة المدلول الجدّي والتصديقي ، وأخرى : تقارن بها في مرحلة المراد الاستعمالي والمدلول الوضعي. امَّا في المرحلة الأولى ، فلا شك في أنَّه كما تزيد الجملة الخبرية على قصد الإيجاد التنزيلي للنسبة باللفظ ـ لو سلّمناه ـ بقصد الحكاية الّذي هو المدلول الجدّي لها ، كذلك تزيد الجملة الإنشائية على القصد المذكور بما هو مدلول جدّي لها من التمنّي النفسانيّ أو الإرادة أو طلب الفهم وغير ذلك من المداليل التصديقية للجملة الإنشائية


ولكن الحديث عن مرحلة المدلول الجدّي أجنبي عن محل الكلام ، لأنَّ المقصود في المقام الكشف عن الفارق بين الجملتين في مرحلة المدلول الوضعي والمراد الاستعمالي ، وذلك لوضوح أن الجملة الإنشائية والخبرية حتى في موارد استعمالها هزلاً وتجرّد هما عن المدلول الجدّي معاً يبقى فارق بينهما لا بدَّ من تفسيره ، فهناك فرق بين أن تقول « بعت داري » في مقام الإنشاء هزلاً أو تقول « بعت داري » في مقام الاخبار هزلاً ، وهذا يعني انَّ الفارق في مرحلة المراد الاستعمالي نفسه.

وامَّا في المرحلة الثانية ، فقصد الحكاية أجنبيّ عن المدلول الاستعمالي للجملة الخبريّة ، فإنَّ مدلولها الاستعمالي ليس إلا إخطار النسبة تصوّراً ، لما تقدّم من انَّ الدلالة الوضعيّة تصورية ، وهذا الإخطار بنفسه محفوظ في الجملة الإنشائية أيضا ، لوضوح انَّ المنشئ يقصد بقوله « بعت » أن يخطر في ذهن المشتري معنى. فلم يتحدد أي فرق بين الجملتين على هذا الأساس.

الإيجادية والمدلول التصديقي

الثالث : أن يراد إيجادية الجملة الإنشائية في طول الإخطار بل في طول مدلولها التصديقي ، بأن يقال : إنَّ صيغة « افعل » مثلاً تدلّ تصوراً على النسبة البعثيّة والإرسالية ، وتدلّ تصديقاً على الحالة النفسيّة المناسبة لهذا المدلول التصوّري ، وهي إرادة تحرّك المأمور نحو المادة ، وباعتبارها كاشفة عن هذه الإرادة وكون هذا الكشف بداعي التوصّل إلى المراد ينطبق عليها عنوان الطلب وتكون مصداقاً حقيقيّاً للطلب بمعنى السعي نحو المقصود وهكذا تكون الجملة موجدة لمعناها في طول دلالتها التصورية والتصديقية.

وهذا النحو من الإيجادية صحيح في الجملة ، ولكنَّه ليس من شئون الجملة الإنشائية ولوازمها بما هي جملة إنشائية ، بل أمر يتّفق أحياناً ، وهي لما كانت في طول دلالة الجملة الإنشائية على معناها جدّاً فلا يمكن أن تكون هي نكتة الفرق بين الجملة الإنشائية والخبرية ، لانحفاظ الفرق بينهما في الرتبة السابقة وفي مرحلة المدلول الاستعمالي حتى مع هزليّة الجملتين معاً كما عرفت.


واتّفاق الإيجادية بهذا المعنى يكون إمَّا في مورد تكون فيه الجملة الإنشائية بلحاظ كشفها التصديقي عن المدلول الجدّي مصداقاً لمدلولها التصوّري تكويناً ، كما هو الحال في الجملة الطلبية كصيغة « افعل » على ما عرفت ، أو في مورد تقع فيه الجملة الإنشائية الواجدة لمدلول جدّي موضوعاً لحكم شرعي أو عقلائي يكون هذا الحكم مصداقاً لمدلولها التصوّري ، كما هو الحال في الجمل الإنشائية في باب المعاملات.

وقد يستشكل في تعقّل هذه الإيجادية كما في تقريرات المحقق العراقي 1 تارة بأن الوجود الخارجي الّذي يحصل باللفظ لا يعقل أن يكون هو المستعمل فيه أو المدلول للجملة الإنشائية ، لأنَّ المدلول يجب أن يكون من الممكن حضوره في الذهن عند سماع اللفظ والوجود الخارجي لا يمكن حضوره ذهناً وأخرى : بأن هذا الوجود في طول الاستعمال والمستعمل فيه متقدّم بالطبع على الاستعمال ؛ فلو كان هو المستعمل فيه لزم التقدّم والتأخر رتبة وهو خلف.

ويرد على الإشكال الأوّل : أن الإيجادية إذا ادعيت بدلاً عن الإخطارية فلا مورد لهذا الإشكال ، إذ لا مدلول إخطاري للجملة الإنشائية حينئذ لا أن مدلولها الإخطاري هو ذلك الوجود الخارجي وانَّما الخطور يتحقق في رتبة انتزاع مفهوم من هذا الوجود ، وإذا ادعيت الإيجادية إضافة إلى الإخطاريّة فلا تعني أن هذا الوجود هو نفس المستعمل فيه بل هو وجود للمعنى المستعمل فيه ، فكأن اللفظ يخطر ذات المعنى في الذهن ويوجد له مصداقاً في الخارج من دون أن يكون الوجود الخارجي هذا دخيلاً في المستعمل فيه. ومنه يعرف الجواب على الإشكال الثاني ، فإن ما هو متقدّم على الاستعمال ذات المعنى المستعمل فيه لا وجوده لعدم دخل الوجود في المعنى ، وما هو في طول الاستعمال وجود ذلك المعنى فلا خلف.

الإيجادية بالنظر التصوّري

الرابع : أن يراد إيجادية الجملة الإنشائية بحسب النّظر التصوّري ، أي إيجادية تصوريّة ، وذلك في الجمل المشتركة بين الاخبار والإنشاء ك‍ « بعت » و « يعيد » فانَّ هذه الجملة تدلّ على النسبة المفادة لها على نحو واحد فهي في مورد الاخبار تلحظ فانية


في واقع يرى بالنظر التصوّري مفروغاً عنه ، وفي مورد الإنشاء تلحظ فانية في واقع يرى بالنظر التصوّري ثبوته بنفس هذا الكلام ، ومن أجل ذلك توصف الجملة الإنشائية بالموجديّة وهذه موجدية محفوظة حتى في موارد الهزل ، لأنَّها موجدية بحسب النّظر التصوّري وهي محفوظة سواءً ترتّب مصداق للمعنى حقيقة على الجملة الإنشائية ، كما في موارد صحة البيع ، أو لم يترتّب ، كما في موارد هزليّته وعدم ترتّب أثر عليه. وبعبارة أخرى : إنَّ هذه الموجدية وما يقابلها من شئون مرحلة المدلول التصوري ولا تتوقّف على افتراض المدلول الجدّي ولا من شئونه ، غير أنَّه لا بدَّ أن يكون المعنى سنخ معنى قابل لأن يحدث له مصداق بنفس هذا الكلام لكي يلحظ بحسب النّظر التصوري على هذا الوجه ، ويكون ذلك في أحد الموردين اللذين أشرنا إليهما في الوجه السابق.

وهذه الموجدية معنى صحيح معقول يمكن التمييز به بين الأخبار والإنشاء في الموارد التي يترتّب فيها للإنشاء موجدية لمصداق معناه ، ولكنَّها غير متصوّرة في الموارد التي لا يترتّب فيها للإنشاء موجدية لمصداق معناه ، كما في جمل التمنّي والترجّي ، فإن النسبة التي تعبّر عن التمنّي أو الترجّي بنحو المعنى الحرفي إنَّما يترقب أن يكون لها مصداق ثابت في نفس المتمنّي والمترجّي ، ولا معنى لافتراض مصداق لها بنفس الكلام. ودعوى : أن التمنّي الإنشائي يكون مصداقاً كذلك مجرّد كلام ، لأنَّ التمنّي الإنشائي عبارة أخرى عن استعمال الجملة الإنشائية في مقام التمنّي وهذا ليس مصداقاً للتمنّي لينظر إلى المدلول التصوّري بما هو فانٍ في مصداق يحصل بنفس هذا الكلام.

وكلَّما تعقّلنا الموجدية في الإنشاء والحكائيّة في الاخبار ، فإن تعقّلنا هما على نحو يرجعان إلى خصوصيّتين في المدلول الجدّي للكلام فلا إشكال في خروجهما عن المعنى الموضوع له والمستعمل فيه ، لأنَّ المدلول الوضعي مدلول تصوّري بحت ، وان تعقلنا هما على نحو يرجعان إلى خصوصيتين في المدلول التصوّري الاستعمالي كما هو الحال في الوجه الرابع فيقع الكلام في أخذ هاتين الخصوصيّتين في المعنى الموضوع له الجملة الإنشائية والخبرية وعدم أخذ هما وكونهما من شئون الاستعمال محضاً ونلاحظ بهذا الصدد : أن المحقق الخراسانيّ 1 ذهب إلى انَّ الاخبارية والإنشائية ليستا دخيلتين في المعنى الموضوع له والمستعمل فيه ، وأكد ذلك جملة من أعلام مدرسته


ـ كالمحقق الأصفهاني والمحقق العراقي ـ على أساس أنَّهما من خصوصيات الاستعمال فلا يمكن أخذ هما في المعنى المستعمل فيه. وقد وقع نظير ذلك بالنسبة إلى اللحاظ الاستقلالي والآلي في الأسماء والحروف. والتحقيق هنا هو التحقيق هناك. وحاصله : أن حقيقة الوضع ـ كما أوضحناه ـ إيجاد تلازم تصوّري بين اللفظ والمعنى على أساس القرن المؤكد بينهما ، فما هو طرف الملازمة بينهما ، فما هو طرف الملازمة أولا وبالذات نفس الصورة الذهنية للمعنى وذات المعنى نفسه طرف للملازمة بالعرض بلحاظ كون الصورة وجوداً ذهنيّاً له ، فالموضوع له بمعنى ما جعل لازماً لتصوّر اللفظ ينطبق أولا وبالذات على نفس الصورة وثانياً وبالعرض على ذات المعنى ، فهناك موضوع له بالذات وموضوع له بالعرض. فان أريد من عدم أخذ خصوصيات الصورة من الاستقلالية والآلية ونحو فنائها في معنونها في الموضوع له عدم أخذها في الموضوع له بالعرض فهذا واضح ، لأن أخذها فيه يلزم منه التهافت وكون الصورة دخيلة في ذيها أو تعدد الصور الذهنية ، وإن أريد من ذلك عدم أخذ تلك الخصوصيات في الموضوع له بالذات فليس بصحيح ، إذ لا مانع من أن يحدد طرف الملازمة بالذات بصورة ذهنية ذات خصوصيات معينة فيقرن اللفظ بها لكي يكون تعدده سبباً لوجود تلك الصورة بتلك الخصوصيات في الذهن ، ولا يلزم من ذلك أيّ تهافت أو محذور. ونفس الشيء يقال عن أخذها في المستعمل فيه.

تشخيص المدلول التصوري للجمل الإنشائية

الجهة الثانية : في تشخيص ذات المعنى في الجملة الإنشائية والكلام في ذلك يقع في مقامين ، أحدهما : في الجمل المختصة بالإنشاء كالجملة الاستفهامية وصيغة « افعل » وجمل التمنّي والترجّي ونحوها ، والآخر : في الجمل المشتركة كالجملة الفعلية التي تستعمل في مقام الطلب أو في مقام الإنشاء المعاملي من قبيل « يعيد » و « بعت ».


تشخيص مدلول الجمل المتمحضة في الإنشاء

أمَّا المقام الأول ، فهناك عدة وجوه وأقوال لتشخيص مدلول الجملة الإنشائية وذلك كما يلي :

الوجه الأول : وحاصله : أنَّ الجملة الإنشائية موضوعة للطلب وللتمنّي والترجّي والاستفهام على اختلاف أنواعها ، وبذلك تتميّز مدلولاً عن الجملة الخبرية التي لا تدخل هذه المعاني في مدلولها حتى في مثل الجملة الخبرية المتكفلة للاخبار عن الطلب أو التمنّي أو غير هما ، كما في قولك « أطلب منك » فإن الطلب هنا مستفاد من الكلمة الإفرادية لا من هيئة الجملة التي لها نحو مدلول واحد في سائر الموارد.

وهذه الفرضية عليها أن تبرز فرقاً بين الجملة الإنشائية والألفاظ الدالة على نفس مفاهيم الطلب والتمنّي والاستفهام ، لوضوح اختلافهما على ما أشرنا إليه في الحديث عن الاتجاه الأول.

وهذا الفرق تارة يبين بدعوى : ان الجملة الإنشائية موضوعة لإبراز واقع هذه الصفات والكشف عنها بينما تلك الألفاظ موضوعة بإزاء مفاهيمها بقصد إحضار تلك المفاهيم تصوراً ، وبذلك كانت الجملة الإنشائية كلاماً تاماً بخلافها. وهذا يرجع إلى البناء على مسلك التعهد وأن الدلالة الوضعيّة تصديقية ، فانَّه حينئذ يمكن القول بأن الجملة الإنشائية موضوعة للكشف على النحو المذكور فيكون واقع الطلب مدلولاً وضعياً وتكون دلالة الجملة عليه تصديقيّة ، وهذا ما اختاره السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ غير أن المبنى باطل كما تقدّم في محله.

وأخرى يبين بدعوى : أن الجملة الإنشائية توجد معناها باللفظ وبذلك كانت كلاماً تاماً بخلاف تلك الألفاظ ، وهذا ما يعبر عنه بالإيجادية ببعض وجوهها التي تقدّم الكلام عنها وعن ردّها ، وعليه فهذه الفرضية غير صحيحة.

الوجه الثاني : ما أفاده المحقق العراقي 1 من دلالة أداة الاستفهام أو هيئة الجملة الاستفهامية مثلاً على نسبة الاستفهام إلى مدخولها فأحد طرفي هذه النسبة هو مفهوم الاستفهام والطرف الآخر النسبة التامة المدخول عليها الأداة ، وباعتبار


استلزام النسبة لوجود طرفين لها على الأقل عقلاً تدلّ الأداة تبعاً على طرف النسبة الاستفهامية وهو مفهوم الاستفهام والشيء نفسه يقال عن سائر الجمل الإنشائية فالجملة الطلبية تدلّ على نسبة الطلب أو البعث إلى المادة وهكذا.

الوجه الثالث : ما يستفاد من كلمات المحقق الأصفهاني 1 من أنَّ المتكلّم بعد أن يصبح في حالة الاستفهام عن قضية تتحقق علاقة وربط بينه وبين القضية المستفهم عنها لم تكن موجودة قبل ذلك ، وكما ينتزع عن حالة الاستفهام مفهوم اسمي وهو الاستفهام كذلك ينتزع من هذا الربط مفهوم حرفي هو معنى أداة الاستفهام أو هيئة الجملة الاستفهامية فيكون مفادها النسبة القائمة بين المستفهم والمستفهم عنه ، وهذا الوجه يختلف عن سابقه في أنَّ طرف الاستفهامية هناك نفس مفهوم الاستفهام بينما هنا المستفهم ولذلك يكون مفهوم الاستفهام خارجاً عن مدلول الأداة هنا بينما كان مدلولاً عليه في الوجه السابق تبعاً والغريب انَّ مقرّر بحث المحقق العراقي ( قدس سرّه ) ذكر الوجه الثاني في تقريب كلامه ، حيث قال : انَّ أداة الاستفهام موضوعة للنسبة الاستفهامية بينما الموجود في مقالات المحقق العراقي نفسه انَّها موضوعة لنسبة الاستفهام.

وما أفاده المحقق الأصفهاني يمكن تصويره في سائر الجمل الإنشائية بأن تكون موضوعة للنسب الموازية للمفهوم الاسمي للاستفهام والطلب والتمنّي والترجّي والنداء وغير ذلك.

ولا شك في وهن الوجه السابق في مقابل هذا الوجه ، لأنَّ مقتضى الوجه السابق الّذي هو ظاهر المقالات أن تكون الجملة الاستفهامية على مستوى مدلولها اللفظي ناقصة ، لعدم وجود دال على أحد طرفي النسبة وهو الاستفهام ، لأنَّ الأداة أو الهيئة باعتبارها حرفاً متمحضة في الدلالة على النسبة ، ومجرد القرينة العقلية الحاكمة بتقوم النسبة بطرفين لا يوجب تتميم المدلول بما هو مدلول الجملة ، وإلا لأمكن أن يصبح قولنا « زيد في » جملة تامة بضمّ القرينة المذكورة ومثل هذا البيان لا يرد على ما أفاده المحقق الأصفهاني كما هو واضح.

وعلى أيّ حال ؛ فإنَّه يرد على كلّ من فرضية المحقق العراقي وفرضية المحقق


الأصفهاني : أن النسبة التي تفرض بين مفاد الجملة التامة المدخولة لأداة الاستفهام وبين الاستفهام أو المستفهم إمَّا أن تكون نسبة تامة واقعية في الذهن أو ناقصة تحليلية. والأول غير معقول ، لأنَّ ضابط النسبة التامة ـ كما برهنا عليه سابقاً ـ أن يكون موطنها الأصلي الذهن ، ولهذا أثبتنا انَّ النسب الخارجية الأولية لا يمكن أن ترد إلى الذهن إلا ناقصة ، ومرادها بالنسب الخارجية كلّ ما كان خارج الذهن بوصفه وعاء للتصوّر واللحاظ سواءً كان موجوداً في عالم المادة أو في عالم النّفس. وعليه فلا يمكن أن تكون النسبة الاستفهامية تامة لأنَّها ثابتة خارج الذهن ولو كان هو عالم النّفس الّذي هو موطن الاستفهام.

والثاني غير معقول ، لأنَّ طرفي النسبة التحليلية مع نفس النسبة يوجدان بوجود ذهني واحد تنحلّ ماهيته إلى أجزاء ثلاثة كما تقدّم البرهان عليه ـ وهو المقيّد أو الحصة وأجزاؤه التحليلية الثلاثة عبارة عن ذات المقيّد والقيد والتقييد. وحينئذ إمَّا أن يفرض أن النسبة الموجودة بين زيد وعالم في مثل « زيد عالم » هو المقيد والطرف الآخر الّذي هو معنى اسمي كالاستفهام أو المستفهم هو القيد أو يفرض العكس. والأول غير صحيح ، لأن هذا الوجود الوحدانيّ المعبر عنه بالمقيد أو الحصة إِن كان وجوداً رابطيّاً واندكاكيّاً فلا يمكن أن يكون المفهوم الاسمي جزءاً من ماهيته ، هذا ، مضافاً إلى أنَّ مجرّد تقييد النسبة الخبرية التامة بالاستفهام بنحو المعنى الحرفي أو الاسمي لما ذا يخرجها عن صلاحيتها للحكاية مع وضوح عدم صلاحية الجملة الاستفهامية للحكاية بها عن النسبة التي يدلّ عليها مدخول الأداة. والثاني يستلزم كون « هل زيد عالم » كلاماً ناقصاً لا يصحّ السكوت عليه ، لأنَّ النسبة التامة الموجودة فيه صارت قيداً تحصيصياً لعنوان الاستفهام أو المستفهم والمقيد هو الاستفهام أو المستفهم فيكون بحاجة إلى أن يقع طرفاً لنسبة تامة حتى يكون هو مع الطرف الآخر والنسبة بينهما كلاماً تاماً.

وحلّ هذا الإشكال بنحو يتّضح به مفاد الجملة الاستفهامية وأضرابها : أن مفاد الأداة أو الهيئة المتحصلة من دخولها على الجملة المستفهم عنها ليس نسبة مغايرة للنسبة التصادقية المدلول عليها بجملة « زيد عالم » التي دخلت عليها الأداة ـ كما افترض ذلك في كلا الوجهين ـ بل مفاد الأداة أو الهيئة الحاصلة بها متمم لنفس هذه النسبة.


وتوضيح ذلك : انَّ النسبة بين « زيد » و « عالم » ليس لها ركنان فحسب بل لا بدَّ من ركن ثالث لهما لا محالة ، فانَّ النسبة التصادقية لا معنى لها إلا بلحاظ وعاء يكون فيه التصادق أي انَّ الذهن يتصوّر « زيد » و « عالم » متصادقين على شيء في عالم من العوالم خارج الذهن ، وهذا العالم في الجملة الخبرية هو عالم التحقق والثبوت ويدلّ عليه تجرد الجملة عن الأداة في لغة العرب ولعله يوجد بإزائه دال مستقلّ في بعض اللغات الأخرى ، وفي جملة الاستفهام هو عالم الاستفهام أو السؤال ويدلّ عليه أداة الاستفهام وفي جملة التمنّي عالم التمنّي ويدلّ عليه أداة التمنّي وهكذا ويكون المعنى في الجملة الأولى تصادق المفهومين في وعاء التحقق وفي الثانية تصادقهما في وعاء الاستفهام وفي الثالثة في وعاء التمنّي وهكذا وليس المقصود من هذا الطرف الثالث وجود مفهوم اسمي ثالث للنسبة التصادقيّة على حدّ مفهوم « زيد » و « عالم » بل وجود ركن ثالث لقوام النسبة التصادقية فإنَّهما بحاجة إلى وعاء يصدق بلحاظه المفهومان. وإن شئت قلت : انَّ النسبة التصادقية بين مفهومين لها حصص عديدة ، إحداهما : النسبة التصادقية بلحاظ وعاء التحقق. والأخرى : التصادق في عالم السؤال والاستفهام. والثالثة : في عالم التمنّي وهكذا. وتعيين إحدى هذه الحصص يكون بالأداة الداخلة على الجملة أو بمجرّدها عن كلّ أداة كما في الجملة الخبرية.

وقد تحصّل ممَّا ذكرناه : أنَّ الفرق بين الجملة المختصة بالإنشاء والجمل الخبرية ينشأ من المدلول التصوّري لأنَّها تختلف عن الجمل الخبرية في الوعاء الملحوظ فيه تصادق المفهومين المقوّم لكيفيّة النسبة التصادقية وما مضى منَّا من أنَّ معنى « زيد عالم » محفوظ سواءً دخل عليه الاستفهام أم لا لكون الدلالة بنحو تعدد الدال والمدلول كان مع غضّ النّظر عن الوعاء. وعلى هذا يكون الجواب عليه بنعم بمنزلة تكرار المعنى من جميع الجهات إلا من جهة الوعاء فهو موضوع لتبديل وعاء نفس هذه النسبة من الاستفهام إلى التحقق وربّما يرجع كلام المحقق العراقي 1 لبّا إلى ما حقّقناه حيث انَّه جعل مدلول الأداة نسبة الاستفهام لا النسبة الاستفهامية فليس هناك نسبة جديدة تقتضيها الأداة مع مفهوم الاستفهام الاسمي بل هي نفس النسبة التصادقية تلحظ ببركة الأداة في عالم الاستفهام.


ونفس الشيء يقال أيضا عن الجملة الطلبية المختصة بالطلب من قبيل الجملة الفعلية المتقوّمة بفعل الأمر.

الجمل الخبرية المستعملة في الإنشاء

المقام الثاني في الجمل المشتركة أي في الجملة الخبرية التي تستعمل في مقام الإنشاء المعاملي من قبيل « بعت » أو في مقام الطلب من قبيل « يعيد » فيقع الكلام في أنَّها هل تكون مستعملة في معنى آخر مغاير لمدلولها الّذي يراد منها في موارد استعمالها كجملة خبرية بحيث يحتاج استعمالها في ذلك المعنى إلى وضع آخر أو التزام بالتجوّز أو أنَّها مستعملة في نفس المعنى؟ وعلى الثاني فما هو الفرق بين « يعيد » و « بعت » الاخبارية و « يعيد » و « بعت » الإنشائية بعد وحدة المعنى المستعمل فيه؟ فهنا نقطتان من الكلام.

أمَّا النقطة الأولى : فتوضيح الحال فيها أنَّه إن بني على مسلك التعهّد وأنَّ الدلالة الوضعيّة تصديقية وأنَّ المدلول الوضعي للجملة الخبرية في موارد الاخبار قصد الحكاية ـ كما بني عليه السيد الأستاذ فلا بدَّ من الالتزام بأن الجملة حينما تستعمل في مقام الإنشاء تنسلخ عن ذلك المعنى وتتخذ مدلولاً آخر وهو إبراز الطلب أو إبراز اعتبار من الاعتبارات المعاملية ، وذلك لعدم تعقّل انحفاظ قصد الحكاية عن وقوع الشيء في موارد الإنشاء كما هو واضح ، وأمَّا إذا بني على ان المدلول الوضعي للجملة الخبرية تصوري بحت ـ وهو في رأينا النسبة التصادقية بلحاظ وعاء التحقق أو أيّ معنى تصوري آخر في رأي الآخرين ـ فينفتح مجال لإمكان القول بأنَّ الجملة الخبرية حينما تستعمل في مقام الإنشاء تحتفظ بمدلولها التصديقي وتبدّل من قصد الحكاية إلى الطلب أو اعتبار التمليك بعوض مثلاً ، فلا يحتاج الاستعمال كذلك إلى وضع آخر أو التزام بالتجوّز. وفي مقابل ذلك يمكن القول باختلاف المدلول التصوّري وأنَّ مفاد « يعيد » أو « بعت » إنشاءً هو النسبة التصادقية في وعاء آخر غير وعاء التحقق وهو وعاء الطلب في « يعيد » ووعاء الاعتبار في « بعت » فكما اختلفت النسبة في الجملة الاستفهامية عن النسبة في الجملة الخبرية من ناحية الركن الثالث للنسبة وهو وعاء التصادق كذلك


الحال في الجمل المشتركة.

ولكن الأقرب هو الأول ، وأنَّ الجملة المشتركة ذات مدلول تصوّري واحد في موردي الاخبار والإنشاء وهو النسبة التصادقية في وعاء التحقق ولا تقاس بمثل الجملة الاستفهامية ممَّا يختصّ بالإنشاء لوجود فارق ثبوتي وإثباتي أمَّا الثبوتي ، فلأن وعاء الاعتبار مثلاً في « أنت طالق » أو وعاء الطلب في يعيد صلاته ليس في عرض وعاء التحقق على حدّ عرضية وعاء الاستفهام له ، فانَّ الاعتبار يتعلّق بالنسبة التصادقية التحقيقية فما هو المعتبر مفهوماً النسبة المحققة في الخارج لا النسبة المحققة في الاعتبار وانَّما تأتي الاعتبارية من تعلّق الاعتبار بتلك النسبة ، وكذلك وعاء الطلب في جملة « يعيد صلاته » فان إبرازه بمثل ذلك بعناية افتراض تحقق الشيء وكونه مفروغاً عنه ، أو بعناية الإخبار عن تحقق الشيء من العبد المفروض كونه منقاداً ومتمثلاً الملازم لكونه مطلوباً. فالنسبة التصادقية في وعاء الاعتبار ملحوظ في هذا القسم من الجمل الإنشائية في المرتبة السابقة.

وأمَّا الفارق الإثباتي ، فعدم وجود أداة مستقلة تساعد على افتراض وعاء آخر غير وعاء التحقق الّذي يقتضيه تجرّد الجملة المستعملة في مقام الإنشاء عن الأداة.

وأمَّا النقطة الثانية ، فلا إشكال في اختلافهما في المدلول التصديقي. ولكن يمكن القول إضافة إلى ذلك باختلافهما في المدلول التصوري أيضا على الرغم من وحدته ذاتاً فيها على أساس الإيجادية والحكائية بالوجه الرابع المتقدّم ، وهي إيجادية وحكائية من شئون نفس المدلول التصوري. وقد عرفت أن بالإمكان أخذ هذه الخصوصيات في الموضوع له والمستعمل فيه ، والوجدان العرفي يساعد على ذلك أيضا لكي يتناسب المدلول التصديقي مع المدلول التصوري ، فان تعين المدلول التصديقي لكلّ جملة ليس جزافاً وانَّما هو حسب تناسباته العرفية النوعية مع المدلول التصوّري. ومن الواضح أنَّ النسبة التي تلحظ بالنظر التصوّري فانية في مصداق مفروغ عنه لا تناسب مدلولاً تصديقياً من قبيل الطلب أو التمليك المعاملي وانَّما تناسب مدلولاً تصديقيّاً من قبيل قصد الحكاية عن الخارج ، بخلاف النسبة التي تلحظ تصوراً فانية في مصداق يرى كأنَّه حاصل بنفس هذه العملية كما هو واضح وعليه فخصوصية الإيجادية والحكائية


بالمعنى المذكور مأخوذة في المدلول التصوّري ، وذلك إمَّا على نحو تعدد الدال والمدلول بأن تكون الجملة موضوعة لذات النسبة المناسبة لكلا النحوين من النّظر التصوّري الإفنائي ، وإمَّا على نحو وحدة الدال بالالتزام بتعدد الوضع أو بالحقيقة والمجاز.

ونفس هذا الفرق يمكن ادعاؤه أيضا في المقام الأول ، فيقال : أن الجمل المختصة بالإنشاء تتميّز عن الجمل الخبرية بنسبة مغايرة ذاتاً وبطريقة في مقام إفنائها بالنظر التصوري مغايرة لطريقة الإفناء بالنظر التصوري في موارد الجملة الخبرية ، وذلك في كلّ مورد تتعقّل فيه الإيجادية والحكائية بالنحو المتقدم في الوجه الرابع.

تلخيص وتعميق

وعلى العموم يتحصّل ممَّا ذكرناه : أن الجملة الإنشائية بكلا قسميها لا تتضمّن نسبة جديدة غير النسبة التصادقية التامة وانَّما يختلف ما يتمحّض في الإنشاء عن الجمل الخبرية في الوعاء الملحوظ فيه تصادق المفهومين. إلا انَّا انَّما نقول ذلك في الجمل المتمحّضة في الإنشاء التي يكون مدخول أداة الإنشاء فيها جملة تامة كالجملة الاستفهامية ، وأمَّا الأدوات الإنشائية التي لا تدخل على جملة تامة كما في قولنا « يا زيد » فلا يتم فيها ما ذكر ، لأنَّ المدخول ليس متكفّلاً لنسبة تصادقية تامة. فإما أن ترجع بحسب المدلول إلى جملة فعلية إنشائية فيكون في قوة قولنا « أدعو زيداً » ـ إنشاءً لا إخباراً ـ فينطبق عليه ما ذكرناه فيما سبق. وإمَّا أن يدّعى أن حرف النداء باعتباره بنفسه منبهاً تكوينيّاً على حدّ المنبهية التكوينيّة لكلّ صوت فإطلاقه إِيجاد لما هو المنبّه تكويناً لا لما هو حاك ودال عليه بالدلالة اللفظية فيكون من الإطلاق الإيجادي لا الحكائي. ولكن حيث أنَّ المنبهيّة التكوينيّة لحرف النداء نسبتها إلى « زيد » وغيره على حدّ واحد فحيثما يراد تنبيه زيد بالخصوص لا بدَّ من دال آخر على أنَّ التنبيه لزيد ، والدال الآخر هو هيئة « يا زيد » فانَّها موضوعة لذلك وبهذا يظهر : أنَّه لا يمكن استبدال حرف النداء بأيّ صوت آخر له منبهية تكوينية ، لأنَّ الهيئة المتحصلة من ضمّ صوت آخر إلى « زيد » لم تكن موضوعة لإفادة توجّه النداء نحو « زيد » خاصة.

وعلى هذا الأساس نفرض أيضا الفرق بين نداء « زيد » و « يا زيد » فإنَّ نداء


« زيد » دال حكائي على حصّة خاصة من مفهوم النداء ، وامَّا « يا زيد » فهو نداء حقيقي وقد أفيد توجيهه بدال حكائي. وإن شئت قلت : أن نداء « زيد » تارة : يكون. وجوداً بوجود حكائي مقيّداً وقيداً كما في قولنا : « تنبيه زيد » وأخرى يكون موجوداً بنفسه حقيقة مقيّداً وقيداً ، كما إذا أمسكنا زيداً وجذبناه بقصد تنبيهه. وثالثة : يكون المنبّه موجوداً حقيقة وتكون نسبته وتوجهه إلى « زيد » موجوداً بوجود حكائي كما في « يا زيد » وليعلم أن هذه النسبة ناقصة ، لأن موطنها الأصلي هو الخارج فان التنبيه وكونه تنبيهاً لزيد أمر خارجي والهيئة دلّت على النسبة التحليلية بين التنبيه وزيد ، وفرقه عن النسبة الناقصة في قولنا « تنبيه زيد » أو « نداء زيد » كونها نسبة ناقصة بين واقع التنبيه لا مفهومه.

إن قلت ـ إذا كانت النسبة الندائية ناقصة كانت تحليلية في الذهن ، ومعه ما معنى كون جزء تحليلي من الوجود الذهني موجوداً بوجود حقيقي وجزء آخر منه موجوداً بوجود حكائي؟

قلت ـ مقصودنا من ذلك أن مجموع الوجود الخارجي للمنبّه مع تلك الهيئة تعاونا في إعطاء ذاك الشيء الواحد للذهن لا أنَّ كلَّ واحد منهما أوجد حقيقة جزءاً مستقلاً من ذاك الشيء حتى يقال أنَّه لا يعقل ذلك ، ولا ضير في افتراض كون الحكاية عن توجه واقع المنبه إلى زيد ـ بمعنى إعطاء صورة ذلك إلى الذهن عن طريق إيجاد واقع المنبه ونسبته بالوجود الحكائي إلى زيد ـ موجدة لواقع ذي الصورة أي انَّه يتحقق بذلك واقعاً تنبيه زيد نظير إيجاد الحالات النفسيّة عند شخص عن طريق الإيحاء بوجودها فيه.

فان قلت ـ إذا كانت هذه النسبة ناقصة فكيف صحّ السكوت على جملة النداء وكانت تامة.

قلنا ـ انَّها ليست تامة بمعنى انَّها توجد نسبة حقيقية بين شيئين مستقلين نعم هي تامة بمعنى انَّه كان المقصود إيجاد تنبيه زيد خارجاً وقد حصل ذلك فلا تبقى حالة انتظارية من ناحية التنبيه المقصود.


٤ ـ مفاد الجملة الشرطية

إلى هنا كنَّا نتكلّم عن الجمل الحمليّة اسمية أو فعلية خبرية أو إنشائية ومن مجموع ما ذكرناه يمكن التعرّف على مفاد الجملة الشرطية التي يربط فيها مفاد جملة بمفاد جملة أخرى وبتعبير آخر : انَّها تربط بين نسبتين تامتين ولا يصحّ تأليف الجملة الشرطية للربط بين جملتين ناقصتين أو بين تامة وناقصة ، وهذا بنفسه من الشواهد على ما هو المختار من ان الجملة التامة والناقصة تختلفان في مرحلة المدلول التصوّري بلحاظ سنخ النسبة لا انَّ الفرق بينها بلحاظ دلالة الأولى على قصد الحكاية مثلاً دون الثانية ، كما عليه السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ ليرجع إلى كون الاختلاف بينهما في مرحلة المدلول التصديقي إذ لو كان الأمر كذلك لكنا نترقّب ان لا تختلف جملة الشرط في حالتي التمامية لمفادها والنقصان لأنَّها على أي حال ليس لها مدلول تصديقي وانَّما المدلول التصديقي للجملة الشرطية ككل. ومن يقول « إذا جاء زيد فأكرمه » لا يريد ان يحكي عن مجيء زيد ، ومع هذا نرى انَّ جملة الشرط لا يصحّ أن تكون إلا تامة وهذا شاهد على انَّ التمامية والنقصان من شئون المدلول التصوّري. ومفاد الجملة الشرطية امَّا بلحاظ هيئتها ككل أو بلحاظ أداتها هو النسبة التعليقية وهي نسبة ثانوية كالنسبة التصادقية موطنها الأصلي هو الذهن ، إذ في لوح الواقع الخارج عن الذهن لا توجد نسبة تعليقية متقوّمة بطرفين ، بل الإناطة والتوقّف أمر واقعي له واقعية حتى في حال عدم ثبوت الطرفين يوجه فلا يعقل أن تكون واقعية التوقّف وثبوته في الخارج على نحو نسبي وإلا لما استغنى عن طرفيه ، وهذا بخلاف النسبة التوقّفية والإناطة في الذهن فانَّ مرجعها إلى إناطة المفهوم المفاد بجملة لجزاء بالمفهوم المفاد بجملة الشرط بلحاظ مرحلة صدقها وبما هما حاكيان عن معنونهما ، فكما انَّ التصادق ليس إلا شأن العناوين القائمة في الذهن كذلك الإناطة والتوقّف والنسبة التوقفية مع مفهوم التوقّف كالنسبة التصادقية أو الابتدائية مع مفهوم التصادق والابتداء ، ولما كانت نسبة ثانوية موطنها الأصلي الذهن فهي تامة لا محالة وبهذا كانت الجملة الشرطية تامة وأمَّا جملتا الجزاء والشرط فهما أيضا جملتان تامتان لأنَّ مفادهما النسبة التصادقية ، وعدم صحة السكوت


على أحدهما ليس لنقصانها في نفسها بل لعدم استيفاء حق النسبة التعليقية التي لا تقوم إلا بطرفين ، فلو أتي المتكلّم بأداة الشرط مع جملة الشرط وسكت كان عدم صحة السكوت بسبب بتر مفاد الجملة الشرطية وعدم استيفاء أطراف النسبة التعليقية التي بدأ بتفهيمها لا بسبب نقصان جملة الشرط في ذاتها. وقد يأتي الكلام بنحو أوسع عن مفاد الجملة الشرطية في فصل المفاهيم إن شاء الله تعالى.

٢ ـ الهيئات الإفرادية

تتكوّن الجملة التامة من محكوم به ومحكوم عليه. والمفردات اللغوية إذا قطع النّظر عن جانب الهيئة فيها فهي تنقسم إلى اسم وحرف ، ولا شك في انَّ الاسم يصحّ أن يكون محكوماً به ومحكوماً عليه في الجملة التامة كما لا شك في انَّ الحرف لا يصلح لكلّ من الأمرين وان كان قد يتوهّم وقوعه محكوماً به فيما إذا كان الخبر مكوّناً من جار ومجرور مثلاً كما في قولنا « الرّجل في الدار » ولكن الصحيح انَّ هذا غير معقول ، لأنَّ المحكوم به طرف للنسبة التامة وطرف النسبة التامة يجب أن ينظر إليه بما هو مستقل عن طرفها الآخر ، إذ في صقع النسبة يحتاج إلى طرفين متغايرين ـ كما تقدّم ـ مع انَّ الحرف وهو كلمة « في » في المثال تدلّ على نسبة ناقصة والنسبة الناقصة تحليلية كما برهنا عليه والنسبة التحليلية تندمج مع كلا طرفيها في وجود ذهني واحد ، ومن هنا يلزم التهافت من جعل الجار والمجرور بنفسه محكوماً به ، لأنَّ مقتضى النسبة التامة أن يكون منحازاً عن المحكوم عليه ومقتضى النسبة الناقصة الاندماج فيه. وهذا هو السرّ الفني لما اتَّفق عليه النحاة من تقدير مفهوم اسمي في أمثال المقام على نحو تعود الجملة المذكورة إلى قولنا « الرّجل كائن في الدار » ليعطي لكلّ من النسبتين حقّها بدون محذور.

وأمَّا إذا دخلت الهيئة على الاسم وأصبح الاسم مركّباً من هيئة ومادة فهذا يؤدّي في بعض الحالات إلى ظهور قسم ثالث في اللغة ليس صالحاً لأن يحكم عليه وبه كما في الاسم ـ وليس فاقداً لصلاحية كلا الأمرين معاً ـ كما في الحرف ـ بل هو وسط بينهما يصلح لأن يحكم به ولا يصلح لأن يحكم عليه وهو الفعل. غير انَّ ظاهرة نشوء هذا


القسم الثالث لا تطرد في جميع موارد طرو الهيئة وتركّب الاسم من مادة وهيئة ، لوضوح انَّ المادة تصبح بطرو الهيئة مصدراً تارة ، ومشتقاً من قبيل اسم الفاعل والمفعول أخرى ، وفعلاً ثالثة ، على اختلاف نوع الهيئة الطارئة. والملحوظ انَّ المصدر لا يخرج باكتسابه الهيئة المصدرية عن صلاحيته الأصلية لأن يحكم به وعليه ولكنَّه لا يصحّ أن يحمل على الذات فيقال « الفقه علم » و « العلم مفيد » ولا يقال « زيد علم » والمشتق يصلح أيضا أن يحكم به وعليه ، ويمتاز على المصدر بصلاحيته لأن يحمل على الذات فيقال « زيد عالم » والفعل يصلح لأن يحكم به ولا يصلح لأن يحكم عليه ولا أن يحمل على الذات وتحقيق الحال في هذه الفوارق يقع في جهات.

١ ـ هيئة الفعل

الجهة الأولى : في مفاد الفعل على نحو يفسّر الظاهرة المذكورة التي تميّزه عن غيره.

وفي هذا المجال لا بدَّ من استعراض مجموعة من القناعات الثابتة بوجدان ، أو المبرهنة بشيء ممَّا تقدّم ، لكي يشخص مدلول الفعل في ضوء تلك القناعات.

وهي كما يلي :

١ ـ أنَّنا في قولنا « ضرب زيد » نفهم النسبة الصدورية القائمة بين الحدث والفاعل.

٢ ـ انَّ هذه النسبة يستحيل أن تكون نسبة تامة وفقاً للميزان المتقدم لأنَّ موطنها الأصلي هو الخارج فلا تكون في الذهن إلا تحليلية وكلّ نسبة تحليلية فهي ناقصة.

٣ ـ انَّ الجملة المذكورة تحتوي على النسبة التامة بلا إشكال.

٤ ـ انَّ الفعل بمفرده وبدون أن تستكمل الجملة الفعلية هيئتها بضمّ الفاعل يكون ناقصاً ولا يصحّ السكوت عليه.

٥ ـ انَّ الجملة المذكورة لها مدلول وضعي تصوري محفوظ مع قطع النّظر عن المدلول التصديقي المعبر عنه بقصد الحكاية وفي مرتبة سابقة عليه.

٦ ـ أنَّ الفعل لا يصحّ الحكم عليه وإن صحَّ الحكم به ، ولا يصحّ حمله على مصداق مدلول المادة خلافاً للمصدر الّذي يصحّ أن يحكم عليه وأنَّ يحمل على مصداق


مدلول المادة فيه.

وبلحاظ هذه المسلَّمات يبطل ما نقل عن المحقق النائيني 1 من أنَّ هيئة الفعل تدلّ على نسبة تامة هي نسبة الحدث إلى فاعله على نحو التحقق ، وكذلك ما أفيد من قبل السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ من أنَّ مفاده قصد الحكاية ، امَّا الأول فلان النسبة الصدورية بين الحدث وفاعله يستحيل أن تكون تامة لكونها تحليلية.

وكأن المحقق النائيني بإضافته التحقق إلى النسبة أراد أن يجعلها تامة ويميّزها عن النسبة المأخوذة في هيئة المصدر ، بتصوّر أن الفرق بين التامة والناقصة بذلك. مع انَّ هذه الإضافة لا محصل لها في مقام تتميم النسبة سواءً أريد بها مفهوم التحقق ، أو واقع التحقق الخارجي ، أو ملاحظة النسبة بما هي فانية في الواقع الخارجي ، أمَّا الأول فلأنَّه مفهوم اسمي ولا معنى لأن تتحول نسبة من النقصان إلى التمامية بمجرّد أن يكون لها طرف اسمي آخر ، وامَّا الثاني فلوضوح انَّ الوجود الخارجي غير دخيل في المدلول ، وأمَّا الثالث فلأنَّه أمر يقع حتى في المفهوم الأفرادي ولا يصيره بذلك جملة فملاك تمامية النسبة ليس إلا ما ذكرناه من كونها واقعية في مقابل التحليلية ، نعم النسبة التامة هي النسبة القابلة لأن يحكم عليها بالتحقق لا أنَّها نسبة متضمنة للتحقق.

وامَّا الثاني : فلأنه رجوع إلى المدلول التصديقي مع انَّ الكلام في المدلول الوضعي وهو تصوري.

وكيف كان ، فعلى ضوء المسلمات المذكورة يجب أن نشخص مدلول الفعل ، وذلك بوضع فرضيتين وملاحظة ما ينجح منهما في تفسير كلّ تلك المسلمات والانسجام معها.

الفرضية الأولى : انَّ في جملة « ضرب زيد » هيئتين : إحداهما : هيئة الفعل والثانية هيئة الجملة الفعلية. والأولى تدلّ على النسبة الصدورية الناقصة ، والثانية تدلّ على النسبة التصادقية التامة. وهذا يفسّر لنا النقصان في الفعل بدون استكمال الجملة لهيئتها. ولكن امام هذه الفرضية مشكلة وهي أن النسبة بحاجة إلى طرفين ، وإذا كانت الهيئة في الفعل دالة على نسبة ناقصة فالمادة تدلّ على أحد طرفيها ، ولا يوجد ما يدلّ على طرفها الآخر ، وأمَّا الفاعل فهو طرف للنسبة التامة لا الناقصة. وهذا


إشكال لا يرد فيما لو فرض انَّ هيئة الفعل كان مفادها النسبة التامة ، لتوفر الدالين على الطرفين فيها. والالتزام بدلالة الهيئة على النسبة الناقصة وأحد الطرفين معاً غريب أيضا ، ولازمه انفهام ذات مبهمة من الفعل وهو خلاف الوجدان. والإشكال نفسه يرد لو قيل بوضع هيئة المصدر للنسبة الناقصة أيضا.

وحلّ هذه المشكلة : بأن النسبة التي يفرض دلالة الهيئة عليها ليست بمعنى النسبة المتقومة بطرفين بل بمعنى خصوصية في الضرب الملحوظ مدلولاً للمادة ، فانَّ الضرب تارة : يلحظ بما هو حال ، وهذا هو الضرب الّذي يضاف إلى المفعول. وأخرى : يلحظ بما هو صادر ، وهذا هو الضرب الّذي يضاف إلى الفاعل ، فالهيئة تدلّ مثلاً على كونه بالنحو الثاني. ولا يرجع ذلك إلى أخذ نفس مفهوم الصدور أو الحلول فإنَّهما مفهومان اسميان بل أخذ منشأ انتزاعهما الّذي هو حالة مخصوصة في كيفية لحاظ الضرب وهذه الحالة قائمة بالضرب بنحو قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي وليست نسبة قائمة بين معنيين اسميين لتحتاج إلى طرفين ، والشيء نفسه نقوله لحل المشكلة بالنسبة إلى هيئة المصدر أيضا.

ويمكن أن نجد حالات مماثلة لهذه الظاهرة في المعاني الحرفية أي لمعنى حرفي تتمثل حرفيته في اندكاكه في المعنى الاسمي على نحو يكون الحرف دالاً على خصوصية في المعنى الاسمي لا على نسبة بين طرفين ، ومن تلك الحالات اللام التي تدخل على الكلمة وتدلّ على التعيين بأقسامه ، فان التعيين ليس نسبة بين مفهومين اسميين بل حالة خاصة بالمدخول.

وعلى هذا الأساس يبقى على هذه الفرضية ان تفسر لنا الخصوصية السادسة من الخصوصيات المتقدمة ، وهي عدم صحة الحكم على فعل الماضي وعدم صحة حمله على مصداق مدلول المادة. إذ قد يقال : ان مجرّد اكتساب مدلول مادة الفعل نسبة ناقصة تقييدية من ناحية الهيئة لا يخرجه عن الاسمية الكاملة والصلاحية لأن يحكم به ولأن يحمل على مصداقه ، وإلا لوقع مثل ذلك في المصدر بناء على انَّ الهيئة المصدرية موضوعة للنسبة الناقصة.

ويمكن تفسير ذلك والتمييز بين فعل الماضي والمصدر بعد افتراض ان الهيئة في كل


منهما تدلّ على نسبة ناقصة ببيان حاصله : ان الكلمة التي تتركّب من دالين أحدهما الهيئة والآخر المادة على النحو الّذي ذكرناه في المصدر والفعل ، تارة : يكون الركن فيها بحسب إفادة مجموع الدالين لمجموع المدلولين المادة. وأخرى : يكون الركن هو الهيئة. وذلك انَّا سنوضح في محله انَّ الجملة المشتملة على حرف واسم تكون بمجموعها دالة على مجموع المعنيين. ومجموع المعنيين في المقام تارة : يكون المتحصل منهما الضرب بوجه مخصوص. وأخرى : الوجه المخصوص للضرب. والأول معناه ركنية مدلول المادة ، والثاني معناه ركنية مدلول الهيئة ، والمصدر منزل في اللغة على الوجه الأول على القول بتضمن هيئته للمعنى ، والفعل منزل في اللغة على الوجه الثاني ، ولهذا لا يصحّ ان يحكم عليه لأن الركن فيه هو مدلول الهيئة الحرفي ، ولا ان يحمل على مصداق مدلول المادة لأنَّه ليس مصداقاً لمدلول الهيئة الّذي هو الركن في المعنى الجمعي للكلمة بمادتها وهيئتها ، وهذا الافتراض يفسر لنا إحساسنا الوجداني بالفرق بين الفعل والمصدر حتى مع تكفل المصدر للنسبة أيضا.

قد يقال أن فرض كون الركن في مدلول فعل الماضي هيئة ومادة هو وجه الضرب وكون الركن في مدلول المصدر الضرب بوجه مخصوص خلف حرفية الهيئة إذ بعد حرفية هيئة فعل الماضي كيف يعقل أن يكون مفادها ركناً وملحوظاً بنحو الاستقلال بحيث يكون مفاد المادة تابعاً له وتحت الشعاع له فان هذا إرجاع للهيئة إلى معنى اسمي بحسب الحقيقة بحيث لا يبقى فرق بين مدلول فعل الماضي ومدلول قولنا صدور الضرب مع انَّ هذا اسم وذاك حرف والتحقيق انَّ الحروف على قسمين : الأول ، ما كان مفاده صورة ذهنية زائدة على الصورة الذهنية التي بإزاء الاسم غاية الأمر انَّ تلك الصورة موجودة على نحو وجود النسبة والربط وبقدر حظّ هذه الماهيات الناقصة من الوجود ، الثاني ، ما لا يكون مفاده إعطاء صورة ذهنية زائدة بل تعيين الصورة الذهنية المعطاة به لمفهوم الأسماء الّذي يكون ذلك الحرف مرتبطاً به وذلك فيما إذا كان الاسم موضوعاً لسنخ معنى قابل لأن يوجد ضمن إحدى صورتين ذهنيتين ليست النسبة بينهما الأقل والأكثر ، لكي يقال ان الاسم يدلّ على الأقل ، والحرف يدلّ على الزائد فيرجع إلى القسم الأول بل النسبة بين الصورتين الذهنيتين التباين وإن كان


أصل المفهوم الاسمي محفوظاً فيها معاً على نحو واحد ، ومثاله ان المادة المحفوظة في المصدر والفعل موضوعة للضرب مثلاً ولكن الضرب كمفهوم يمكن حفظه في الذهن بإحدى صورتين ، الأولى الصورة التي تبدأ بالضرب وتنتهي إلى الضارب بأن يلاحظ الضرب بما هو صادر ، والأخرى الصورة التي تبدأ للضارب وتنتهي إلى الضرب بان يلاحظ صدور الضرب وتحرك الفاعل نحوه ، وكلّ من الصورتين منتزعة عن الضرب وان اختلفا في كيفية التصور ، وهذا الاختلاف لا يرجع إلى اختلاف في جانب المتصور ، بل في التنسيق الذهني للمتصور ومن هنا لا يصحّ أن يُدّعى مثلاً ان الهيئة تدل على جزء تحليلي من التصور ، والمادة تدلّ على الجزء الآخر ، إذ لا يوجد فرق في جانب المتصوّر ، وانَّما الفرق في كيفية أخذ الصورة ذهناً من قبيل أخذ الرسام لصورتين مختلفتين لشخص واحد من اليمين تارة ومن اليسار أخرى ، وعليه فالجانب المفهومي هنا وهو ذات المتصور مدلول للاسم فقط ولا يساهم الحرف أي هيئة الفعل أو المصدر فيه ، وانَّما الهيئة تساهم في تحديد الصورة ، لأن الاسم لا يشرط تجاه إحدى الصورتين ، فيكون الحرف مشروطاً بتعين إحدى الصورتين ، ويكون المدلول النهائيّ للكلمة مادة وهيئة ، تلك الصورة المعيّنة للمادة ببركة الهيئة وهذه الصورة يختلف فيها المصدر عن الفعل بالنحو الّذي ذكرناه ، وبهذا لا يلزم جعل الهيئة الهيئة ذات مدلول اسمي ، لأن وظيفتها كما عرفت تحديد الصورة التي بإزاء مدلول المادة ولا تساهم في الجانب المفهومي للمدلول أصلاً ، ولا يُتوهم انَّ بالإمكان إرجاع حروف القسم الأول إلى ذلك أيضا بان يقال ان « في » تدلّ على الصورة الذهنية للنار بما هي مظروفة ومحتواة ، وذلك لأن هذه الصورة تحتوي على زيادة مفهومية عن المدلول الاسمي لكلمة النار ، وليس فرقها عن صورة ذات النار فرقاً تصويريّاً وفي طريقة أخذ الصورة ، وتلك الزيادة المفهومية لا محالة تكون مدلولاً للحرف ولا بدَّ من إرجاعها حينئذ إلى النسبة الظرفية.

الفرضية الثانية : أن يقال انَّ هيئة الفعل الماضي موضوعة لنسبة تامة تصادقية وهيئة الجملة الفعلية لا تدلّ على النسبة التامة بل على تعيين طرفها في الفاعل ، وامَّا النسبة الصدورية فهي مأخوذة في نفس مدلول المادة امَّا افتراضاً وامَّا برهاناً بناء على انَّ الهيئة موضوعة بالوضع النوعيّ بلحاظ مختلف المواد ، فانَّه بناء على ذلك مع


ملاحظة أن النسبة الملائمة لبعض المواد هي النسبة الصدورية ولبعضها النسبة الحلولية ولبعضها غير ذلك لا يمكن فرض أخذ أنحاء هذه النسب في طرف الهيئة إلا بأن يكون وضعها شخصيّا وفي ضمن كلّ مادة بشخصها. وهكذا يتعيّن بناء على الوضع النوعيّ للهيئة أن تكون هذه النسب مأخوذة في مدلول المادة ، وقد يكون الفرق بين الماضي والمضارع أيضا بلحاظ النسبة المأخوذة في مدلول المادة.

وهذه الفرضية تفسّر لنا عدم صحة الحكم على فعل الماضي وعدم صحة حمله على مصداق مدلول المادة. إذ حال فعل الماضي حال جملة اسمية فكما انَّ الجملة الاسمية تكون مواد مفرداتها مندكّة في ضمن مدلولها الجملي ومفادها النسبي الهيئتي كذلك الحال في فعل الماضي.

هذا كلّه في الفعل الماضي ومثله فعل المضارع. وأمَّا فعل الأمر فان بني في تفسير الماضي على الفرضية الأولى وأريد تعميمها على فعل الأمر لكون الأقسام الثلاثة من الفعل على وتيرة واحدة وجداناً فلا بدَّ من افتراض دلالة هيئة فعل الأمر على نسبة ناقصة ودلالة هيئة الجملة المكونة من الفعل وفاعله على نسبة تصادقية تامة غير انَّها ليست بلحاظ وعاء التحقق بل بلحاظ وعاء الطلب فهي نسبة تصادقية تشريعية لا خارجية حيث انَّ الجملة المذكورة إنشائية. ولكن بناء على ذلك لا يمكن الالتزام بان مدلول هيئة فعل الأمر نفس النسبة الناقصة الصدورية التي يدلّ عليها فعل الماضي مثلاً لأنَّ لازم ذلك الترادف بين فعل الماضي والأمر وعدم ظهور الفرق بينها إلا بعد ضمّ الفاعل وملاحظة الجملة بمجموعها مع وضوح الفرق بين الفعلين في مدلوليهما التصوريين في أنفسهما. ومن هنا يتعيّن القول بأنَّ مفاد هيئة فعل الأمر نسبة ناقصة أخرى من قبيل ما يقال من أن مدلول هيئة الأمر النسبة الإرسالية أو البعثية ، بمعنى ملاحظة الإرسال أو البعث على نحو المعنى الحرفي وبما هو نسبة بين المرسِل والمرسَل والمرسل نحوه أو الباعث والمبعوث والمبعوث نحوه ، والنسبة الإرسالية مع الإرسال كالنسبة الابتدائية مع الابتدائية مع الابتداء ، وقد يلائم هذا حينئذ مع إِبقاء النسبة التصادقية التامة التي تدلّ عليها هيئة جملة ( افعل ) على وعاء التحقق بأن يكون الملحوظ في مفاد الجملة تحقق الإرسال لا صدور المادة.


وان بني في تفسير الماضي على الفرضية الثانية أمكن القول هنا تعميماً لتلك الفرضية بأن هيئة فعل الأمر موضوعة ابتداء لنسبة تامة تصادقية وهذه النسبة التصادقية امَّا أن تكون نسبة تصادقية بين نفس المدلول الأصلي للمادة والفاعل فلا بدَّ أن تكون حينئذ بلحاظ وعاء الطلب لا بلحاظ وعاء التحقق. وإِمَّا أن تكون نسبة تصادقية بين الإرسال نحو المادة والفاعل بأن يلحظ مدلول المادة في ( اضرب ) لا بما هو حدث الضرب بل بما هو إرسال نحو الضرب فيكون الإرسال مطعماً في مدلول المادة بدلاً عن أخذه في مدلول الهيئة ، كما هي الحال على أساس الفرضية الأولى وقد يأتي مزيد بحث وتوضيح في مفاد صيغة افعل في فصل الأوامر وسنخ هذا التطعيم لا بدَّ من الالتزام به في المضارع إِذا قيل بأنَّ هيئة الماضي والمضارع موضوعة للنسبة التصادقية التامة على نحو واحد ليحفظ الفرق بين الفعلين.

ثمَّ انَّ هناك مقالة لبعض النحاة في عدم النّظر إلى فعل الأمر قسيماً للماضي والمضارع. ووافقه على ذلك بعض الباحثين المحدّثين مدعياً : انَّ بناء « افعل » ليس بفعل كما يفهم من هذه الكلمة ، لأن الفعل لا بدَّ وأن يتميّز بشيئين أحدهما متفرّع على الآخر :

١ ـ أن يبنى على المسند إليه ويحمل عليه.

٢ ـ أنَّه مقترن بالدلالة على الزمان.

وبناء « افعل » خلو من هاتين الميّزتين لأنَّه لا يشير إلى تلبّس الفاعل بالفعل في حال بل كلّ ما يشير إليه أو يدلّ عليه هو طلب الفعل من المواجه بالطلب. ومن هنا لا تكون له دلالة على الزمان أيضا إِذ ليس هناك من فعلي لكي يكون تلبّس الفاعل به واقعاً في أحد الأزمنة (١).

وقد اتّضح بطلان هذه المقالة على ضوء ما تقدّم في تحليل مدلول الأفعال ، فانَّ دلالة الفعل على تلبّس فاعله به لا يقصد منها الدلالة على وقوع ذلك خارجاً بل المقصود أن الفعل والحدث تارة : يلحظ في نفسه فيكون اسماً ، وأخرى : تلحظ نسبته إلى

__________________

(١) راجع « في النحو العربي » ص ١٢٠ ـ ١٢١


شخص بنحو النسبة الناقصة أو التامة ـ على الفرضيتين المتقدّمتين ـ ومن الواضح انَّ هذا محفوظ في فعل الأمر أيضا لأنَّه يدلّ على انَّ المطلوب صدور الفعل من المأمور فقد لوحظت نسبة الفعل ـ الحدث ـ إلى الفاعل أيضا ، لكنَّه لم يلحظ ذلك في وعاء التحقق والاخبار بل في وعاء الطلب والإرسال ، وهذا الاختلاف لا يمثل فارقاً فيما هو مدلول الفعل بل في مدلول الجملة وكون النسبة التامة فيها إخبارية أو إنشائية.

وبكلمة أخرى : انَّ الملحوظ في صيغة ( افعل ) لو كان هو نسبة طلب الفعل إلى الشخص المخاطب ابتداءً بدون ملاحظة نسبة بين نفس الفعل والفاعل كان لما ذكر من عدم كون هذه الصيغة فعلاً وجه ، لأنَّ الفعل متقوّم بنسبة الحدث إلى الفاعل بنحو الصدور أو الحلول ولكن الالتزام بتجريد فعل الأمر عن النسبة المباشرة بين الحدث والفاعل بلا موجب بل الموجب على خلافه ، وهو أنَّ هذا التجريد يقتضي أن يكون المطلوب من المخاطب ذات الحدث ولو بأن يصدر من غير المخاطب ، فلو قال الشخص لابنه « جئني بماء » فالولد هنا مطلوب منه مجيء الماء ولم يلحظ مجيء الماء صادراً منه ، مع أن الفهم العرفي واللغوي لهذا الكلام لا يبرر أن يكتفي الابن بتوفير المجيء بالماء عن طريق أمره لغيره بأن يسقي أباه الماء وليس ذلك إِلاَّ لأنَّ النسبة بين الحدث والمخاطب بنحو الصدور مأخوذة وهذا يكفي في كون الصيغة فعلاً لدلالتها على النسبة الصدورية تصوراً وإن لم تدل على وقوع الحدث من الذات فعلاً لأنَّ الوعاء الملحوظ للنسبة ليس هو وعاء التحقق بل وعاء الطلب ولو كانت فعلية الفعل متقومة بدلالته على وقوع الحدث من الذات فعلاً وكون النسبة بلحاظ وعاء التحقق لوجب الالتزام بعدم فعلية فعل الماضي والمضارع أيضا حينما يلحظان في غير وعاء التحقق كما إِذا قيل « ليضرب زيد » أو « هل ضرب زيد ».

ثمَّ انَّه يظهر من المحقق النائيني ( قده ) الاستغناء بهيئة الفعل ووضعها لمعناها عن وضع هيئة الجملة الفعلية للنسبة بدعوى : انَّ الهيئة الإفرادية للفعل كافية لإفادة الربط والنسبة بين الفعل والفاعل فلا حاجة لوضع هيئة الجملة الفعلية لذلك خلافاً للجملة الاسمية فانَّه لا يوجد فيها هيئة فيها هيئة إفرادية تغني عن وضع هيئتها الجملية لإفادة النسبة.


وقد اعترض عليه المحقق العراقي ( قده ) باعتراضين :

أحدهما : النقض ببعض الجمل الاسمية « كزيد ضرب » باعتبار اشتمالها على هيئة الفعل فلما ذا لم يغن عن وضع الهيئة التركيبيّة.

والآخر : الحل بأن مفاد الهيئة الإفرادية للفعل نسبة الفعل إلى فاعل ما فلا بدَّ من وضع الهيئة التركيبيّة لإفادة تعيين طرف النسبة في فاعل مخصوص وهو زيد مثلاً في « ضرب زيد ».

ويمكن دفع الاعتراض الأول : بأن جملة ( زيد ضرب ) امَّا ان نبني على رجوعها بالتحليل إلى جملتين كبيرة وصغيرة كما هو المعروف ، وامَّا نقول بأنَّها جملة واحدة مكونة من الفعل والفاعل غاية الأمر انَّ الفاعل تقدم على الفعل فعلى الأول تكون الجملة مشتملة على نسبتين أحدا هما : نسبة الفعل إلى الضمير المستتر المقدر في الجملة الفعلية. وأخرى : نسبة المبتدأ إلى الجملة الفعلية بما هي خبر. والمدعى ـ وفاء هيئة الفعل بإفادته انَّما هو النسبة الأولى دون الثانية فلا بدَّ إِذن من وضع هيئة الجملة الاسمية لإفادة النسبة الثانية.

وعلى الثاني : تكون جملة زيد ضرب فعلية على حدّ جملة ضرب زيد فلا موضوع للنقض.

وأمَّا الاعتراض الثاني : فيندفع ـ كما يندفع أصل كلام المحقق النائيني ( قده ) ـ بأن نسبة الفعل إلى فاعله التي هي مدلول هيئة الفعل لا يعقل كفايتها سواءً لوحظ فيها الفاعل بنحو الإبهام أو التعيين ـ بناء على الفرضية الأولى من الفرضيتين السابقتين ـ إِذ تكون النسبة المفادة بهيئة الفعل نسبة أولية وقد برهنَّا سابقاً على انَّ كل نسبة أولية لا بد أن تكون مفادة على نهج النسبة التحليلية فتكون ناقصة ويستحيل أن تكون نسبة واقعية ثابتة فلا تغني عن وضع الهيئة التركيبيّة للجملة لإفادة النسبة التامة.

٢ ـ هيئة المصدر

الجهة الثانية : في المصدر وقد اشتهر في كلمات النحاة انَّ المصدر هو الأصل في الاشتقاقات. وينبغي أن يقصد من ذلك كون معناه المدلول عليه بأسماء المصادر


أصلاً فيها لكونه عبارة عن نفس المبدأ ، وامَّا ألفاظها فتشتمل على هيئات خاصة لا ترد في سائر الاشتقاقات إِلاَّ انَّ هذه الهيئات لم تلحظ فيها إفادة معنى زائد على المبدأ وإلا لم تكن أصلاً.

وهناك محاولتان تتردّدان في كلمات المتأخّرين من الأعلام لتصوير معنى زائد وضعت بإزائه هيئات المصادر أيضا.

المحاولة الأولى : انَّها موضوعة بإزاء نسبة ناقصة بين الحدث وذات مبهمة.

وهذه المحاولة يمكن أن تذكر في مقام إبطالها عدّة مفارقات :

١ ـ ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) من استلزامه مشابهة أسماء المصادر للحروف في معانيها النسبيّة فلا بدَّ وأن تكون مبنيّة مع كونها معربة بلا كلام (١).

وهذا الجواب غير تام لأنَّ الّذي يستدعي بناء الاسم مشابهته للحروف بمادته لا بهيئته كما في أسماء الإشارة والضمائر. وإِلاَّ انتقضت هذه القاعدة بالأوصاف الاشتقاقية بناء على ما هو الصحيح من دلالة هيئاتها على معانٍ نسبية.

٢ ـ لا إِشكال في صحة نسبة المصدر إلى ذات في مثل قولنا « ضرب زيد » وهذا ينافي أخذ معنى نسبي في هيئته لاستلزامه قيام نسبتين ناقصتين في عرض واحد بين مادة واحدة وطرفين ، أحدهما الذات المبهمة والآخر زيد ، وهو مستحيل بناء على ما تقدّم من حقيقة المعاني الحرفية ، لأن عرضية النسبتين تستدعي تعدد هما وهو يقتضي وجود مفهومين مستقلين في الذهن ينحل كلّ منهما إلى طرفين ونسبة تحليلية ووحدة المادة المنتسبة تقتضي عدم وجود أكثر من مفهوم واحد وهو خلف.

نعم لو فرضت الطولية بين النسبتين الناقصتين كما في قولنا « ماء وجه زيد » أو قولنا « ماء ورد زيد » أمكن قيامهما بمفهوم واحد ، لرجوعه إلى مزيد تحصيص في مفهوم واحد إِلاَّ انَّ الطولية في المقام غير معقولة لأنَّ الذات المبهمة المنتسب إِليها المبدأ نفس زيد فلا يعقل تحصيصها به.

ويمكن لصاحب المحاولة الفرار عن هذا الإشكال بدعوى : خروج الذات عن

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٦٣


مدلول المصدر ، فهو لا يدلّ على أكثر من المبدأ المنتسب مع تعيين المنتسب إِليه بما يضاف إِليه المصدر ، ولا محذور في ذلك عدا تعدد الدال على النسبة بتعدد هيئة المصدر وهيئة الإضافة. وليس هذا محذوراً ثبوتيّاً.

٣ ـ انَّ فرض دلالة المصدر على طرف النسبة في موارد الإضافة لزم المحذور المتقدّم في الجواب السابق ، وإِلاَّ لزم افتقار المصدر دائماً إلى دال آخر ليتمم مدلوله الإفرادي ، مع وضوح تماميته في نفسه في كثير من الموارد كما في قولنا الضرب حرام.

وهذا الجواب أيضا بالإمكان التخلّص عنه بالالتزام بتعدد الوضع في أسماء المصادر فهي مستقلة في الخارج فلا تكون النسبة مأخوذة فيها ويصطلح عليها حينئذ باسم المصدر ، وهي مقيّدة ومنتسبة إلى ذات موضوعة للمبدإ المنتسب ويصطلح عليها حينئذ بالمصدر.

٤ ـ انَّ فرض أخذ الذات في مدلول المصدر لزم المحذور الثبوتي المتقدّم ، وإلا لزم تعدد الدال على النسبة ، وهو مع الغض عن كونه خلاف الوجدان والذوق العرفيين لا يحقق غرضاً لغويّاً ، إِذ في موارد استعماله مستقلاً لا نسبة لكي يوضع لها بحسب الفرض ، وفي موارد الإضافة والتقييد يوجد دال آخر عليها فيكون وضعه لها لغواً لا طائل تحته.

المحاولة الثانية : ما أفاده المحقق النائيني 1 من أنَّ هيئة المصدر وضعت للتمييز بين اسم المعنى المصدري والمعنى المصدري ، حيث أن اسم المصدر موضوع للدلالة على الحدث ملحوظاً غير منتسب إلى ذات وهيئة المصدر موضوعة لنفي ذلك اللحاظ وإِلغاء عدم الانتساب (١).

وهذه المحاولة رغم إِجمالها مما لا يمكن المساعدة عليها أيضا إِذ لو أريد أن هيئة اسم المصدر موضوعة لتقييد المبدأ بالحدث غير المنتسب « فالغسل » مثلاً يعني الغسل الّذي لا يكون من ذات في الخارج ، فهذا ، مضافاً : إلى كونه خلاف الواقع الخارجي إِذ لا يوجد مصداق لمحدث غير منتسب إلى ذات ،

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٦٣


واستلزام عدم صحة إِضافة اسم المصدر إلى ذات كقولنا « غسل زيد » للزوم التهافت بين مدلوله ومدلول هيئة الإضافة. ممَّا لا موجب له فانَّه يكفي في إِفادة عدم هذا التقييد ان لا يكون المصدر موضوعاً للتقييد المذكور لا أن تكون موضوعة بهيئتها لإلغائه.

وإِن أريد دلالة اسم المصدر على عدم الانتساب من ناحية وان انتسب بدوالٍ أخرى. فهذا المعنى ممَّا لا يحتاج إلى الوضع بل يحصل بعدم الوضع للخلاف ، كما في الأسماء الجامدة على أنَّ ما يقابله حينئذ أن تكون هيئة المصدر موضوعة للدلالة على الانتساب ، وهو رجوع إلى المحاولة الأولى التي استنكرها المحقق المذكور.

ويمكن تصوير دلالة الهيئة المصدرية على معنى حرفي بنحو ثالث يختلف عن الوجهين السابقين ، ولعلَّه هو المحصل الحقيقي لهما ، وهذا الوجه هو ما أشرنا إِليه في الجهة السابقة من كون الهيئة موضوعة للدلالة على خصوصية في مدلول المادة قائمة به قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي من دون أن تكون هذه الخصوصية نسبة بالمعنى الّذي يحتاج إلى طرفين ، ولا تكون الذات على هذا مأخوذة في مدلول الهيئة أصلاً. وتندفع بذلك جلّ الإشكالات السابقة ، ويعقل التمييز على أساس ذلك حينئذ بين المصادر وأسماء المصادر باعتبار وضع هيئة المصدر لما ذكرناه وعدم وضع هيئة اسم المصدر لشيء وتمحضه في مدلول المادة فتكون النسبة بين المدلول الجمعي للمصدر والمدلول الجمعي لاسم المصدر نسبة الكلّ إلى الجزء ، وعلى هذا الأساس لا معنى لافتراض وحدة الصيغة للمصدر ولاسم المصدر ، فانَّ هذا انَّما يتعقّل إِذا فرضنا التباين بين المعنيين ولو بلحاظ مفاد الهيئة ، فيمكن افتراض صيغة واحدة موضوعة لكلّ منهما على نحو الاشتراك اللفظي ، وامَّا إِذا كان الفارق بينهما مجرّد تمحّض اسم المصدر في الدلالة على مدلول المادة وزيادة المصدر على ذلك فمع وحدة الصيغة وكون هيئتها موضوعة لمعنى إضافي لا يحصل التمحّض فلا يمكن جعلها بلحاظ اسم المصدر. وليس الكلام في التفرقة بلحاظ مرحلة المدلول التصديقي حتى يقال أنَّها تكون اسم المصدر حين لا يراد من هيئتها شيء وإِنَّما الكلام في التفرقة بين المصدر واسمه في مرحلة المدلول التصوري. ولكن الصحيح أنَّه لا معين لكون هذا المعنى الإضافي مدلولاً لهيئة المصدر.


ثمَّ انَّه يمكن أن يستدل على وضع زائد لهيئة المصادر بعدة وجوه :

منها ـ انَّا نرى الفرق بحسب الوجدان بين المصادر وبين أسمائها. وهذا لا يكون إِلاَّ على أساس أخذ معنى نسبي في مدلول المصدر.

وهذا الوجه لو تمَّ لكفى في أداء حقّه افتراض أخذ النسبة في مدلول المصادر المزيدة مع عدم أخذها في المصادر المجردة. إِذ بذلك يحفظ الفرق بينهما ولا يتوقّف انحفاظ الفرق على أخذ النسبة في كلّ من القسمين من المصادر. بل يمكن افتراض دخوله في مدلول المادة ولهذا نجده محفوظاً في سائر مشتقات المادة. فالبيان المذكور ينفع لتصوير الفرق بين مدلول المصدر ومدلول اسم المصدر لا لبيان انَّ هيئة المصدر لها مدلول قد وضعت لإفادته إِلاَّ أن يقال انَّ مرجع هذا إلى ذاك.

ويتوقّف هذا الوجه إلى انحصار ملاك الفرق بين المصدر واسم المصدر فيما ذكر ، فانَّ الفرق بينهما ممَّا لا إِشكال فيه عرفاً إلا انَّه يمكن أن يكون لأحد اعتبارات أخرى.

الاعتبار الأول : انَّ المصدر موضوع للفعل واسم المصدر موضوع للانفعال.

وهذا الاعتبار يمكن استبعاده بعدم الفرق بين الفعل والانفعال فان كليهما من المصادر.

الاعتبار الثاني : انَّ المصدر موضوع للفعل واسم المصدر للنتيجة المتولدة منه. وهذا أيضا بظاهره ينفيه عدم توقّف الفرق بينهما على أن يكون الفعل توليديّاً بحيث تكون له نتيجة خارجية.

الاعتبار الثالث : انَّ العقل والعرف يحلل الفعل في عالم المفهوم والتصوّر إلى مرحلتين : إِحداهما : الفعل بما هو حدث يصدر من فاعل. والأخرى : الفعل بما هو موجود بالذات في الخارج وهذا واضح جداً في مثل الخلق والمخلوق والإيجاد والوجود فإنَّهما رغم وحدتهما بحسب الواقع والحقيقة بينهما فرق واضح بحسب عالم المفهوم. فان المخلوق والموجود كأنَّهما نتيجة الخلق والإيجاد ، فنفس المعنى يقال في باب المصادر وأسماء المصادر وإن كان التحليل المذكور أخفى فيها من المثالين. فالقيام تارة : يلحظ بما هو حدث وإيجاد فيكون معنى مصدريّاً. وأخرى : يلحظ بما هو موجود في الخارج فيكون اسم المصدر. وهذا الاعتبار الثالث يلتقي في الحقيقة بالنحو الثالث الّذي ذكرناه


لتصوير دلالة المصدر على معنى إضافي وقد عرفت انَّه يلائم مع كون هذا المعنى الإضافي مأخوذاً في نفس مدلول المادة.

ومنها ـ انَّا نرى الفرق عرفاً بين المصادر المجرّدة والمزيدة فالخروج ليس هو الإخراج رغم وحدة المادة فيهما ، ممَّا يكشف عن إفادة هيئات المصادر لمعنى زائد يختلف باختلافها.

وهذا الوجه لا مأخذ له أيضا ، إِذ لا موجب لافتراض منشأ للفرق بين المصادر بلحاظ مدلول هيئاتها ، بل يمكن أن يكون الفرق ناشئاً من وضعها بإزاء مبادئ مختلفة. فالخروج موضوع بإزاء فعل الخروج ، والإخراج بإزاء سنخ خاص منه وهو الخروج التحميلي ، والاستخراج بإزاء سنخ آخر وهو الخروج المطاوعي وهكذا.

ومنها ـ عدم صحة إضافة بعض المصادر إلى الفاعل لها بل إلى القابل لها ، فإذا أخرج زيد عمراً مثلاً لا يصحّ أن يقال خروج زيد بل خروج عمرو ، ممَّا يعني أخذ نسبة المبدأ إلى القابل أو الفاعل أو إِليهما في المصادر زائداً على معنى مباديها. وإِلاَّ فمبدأ الخروج نسبته إلى فاعله وقابله على حدّ واحد.

وفيه : انَّا بيَّنا آنفاً انقسام الفعل في عالم المفهوم إلى مرحلتين مرحلة التكوين ومرحلة التكوين ومرحلة التكون ، ونضيف عليه في المقام : بأن مرحلة التكوين أيضا يمكن أن يحلل عرفاً إلى التكوين الفاعلي والتكوين القابلي ، فيوضع بعض المصادر بإزاء الفعل الملحوظ في مرحلة تكوينه الفاعلي وبعضها بإزاء الفعل الملحوظ في مرحلة تكوينه القابلي أو الأعم منه ومن الفاعلي.

وهكذا يتّضح : أن وضع هيئة المصدر لمعنى حرفي بالنحو الّذي يرجع إلى نسبة ناقصة أو إِلغاء لحاظ عدم الانتساب ممَّا لا دليل عليه ، بل البرهان على خلافه. وامَّا وضعها لمعنى حرفي بالنحو الثالث الّذي شرحناه فهو أمر معقول ثبوتاً ، ولا شك إثباتاً في مساعدة الوجدان على استفادة هذا المعنى الحرفي من الكلمة ، ولكن لا معين لكون الهيئة المصدرية موضوعة لإفادته لإمكان كونه مأخوذاً في نفس مدلول المادة بمعنى وضعها للحدث الملحوظ على ذلك الوجه ، ولهذا نرى انَّ هذه النكتة محفوظة ومستفادة من المادة حتى في ضمن هيئة أخرى كهيئة الفعل ، فإذا ثبت انَّ هيئة الفعل غير


موضوعة لإفادة هذه النكتة ـ كما أشرنا سابقاً ـ تبرهن كونها مأخوذة في مدلول المادة السارية ، وبهذا يكون الفرق بين المصدر واسم المصدر محفوظاً بين مادة الاشتقاق بكلّ صيغها بما فيها المصدر أسبقية البسيط على المركب ، وانَّ المصدر أسبق رتبة من الفعل بنفس النكتة ، وانَّ الفعل وكلّ جملة تامة أسبق رتبة من الجملة الناقصة على ما أشرنا إلى نكتته سابقاً.

وأمَّا المشتق فهو في رتبة الجملة الناقصة ، بناء على التركيب في مفاده بالنحو الّذي يأتي إِن شاء الله.

٣ ـ هيئة المشتقات

الجهة الثالثة : في تشخيص مفاد هيئة المشتقات الوصفية. والمراد بها كلّ مشتق يحمل على الذات التي يقوم بها المبدأ بنحو من أنحاء القيام ، كاسم الفاعل وغيره من الأوصاف الاشتقاقية. ولا شك في أنَّ هيئة هذه المشتقات موضوعة لمعنى إضافي زائداً على مدلول المادة ، كما لا شك أيضا في عدم كونها موضوعة لنسبة تامة ومن ناحية ثالثة ، يلاحظ أنَّ هذه المشتقات تختلف عن المصدر في أنَّها تحمل على الذات بلا عناية بينما لا يحمل المصدر عليها إِلاَّ بعناية ، وعلى أساس هذه المسلمات يقع الكلام عن تشخيص المعنى الجمعي للمشتق وبكلمة أخرى : تحديد مدلول الهيئة فيه. ومن خلال البحث في ذلك نشأ الحديث عن بساطة المفاهيم الاشتقاقية وتركبها حسب الاحتمالات التي تطرح في مقام تشخيص المدلول. ولا ينبغي أن يكون المراد بالبساطة التي وقع النزاع فيها البساطة في اللحاظ والتصور في مقابل التركب وتكثر المفهوم في هذه المرحلة ، لأنَّ البساطة بهذا المعنى لا معنى للشك فيها على جميع المحتملات في مدلول المشتق حتى لو بني على دخول النسبة والذات فيه ، لأنَّ النسبة الممكن ادعاء دخولها نسبة ناقصة لوضوح عدم تكفّل المشتق لمفاد جملة تامة على نحو يصحّ السكوت عليه ، والنسبة الناقصة مع طرفيها تشكّل مفهوماً وحدانيّاً بسيطاً في مرحلة اللحاظ والتصور كما تقدّم ، فلا بديل لهذه البساطة إِلاَّ دعوى دخول النسبة التامة في مفاد المشتق وهو


واضح البطلان ، كما لا ينبغي أن يقال في تصوير النزاع انَّه بعد الفراغ عن كون مدلول المشتق منتزعاً عن الذات بلحاظ تلبسها بالمبدإ يتكلّم في انَّ المنتزع هل هو عنوان واحد أو أمران ، لأن هذا يعني فراغ كلا الطرفين عن مقومية الذات للمدلول الاشتقاقي ، مع انَّ هذه المقومية محل الإشكال عند القائلين بالبساطة ومورد ما نقل من براهين المحقق الشريف على إبطال التركيب ، وعليه فمرجع البحث في البساطة والتركيب إلى البحث عن انَّه بضمّ مدلول الهيئة إلى مدلول المادة هل يتحصّل معنى واحد إدراكاً وتحليلاً أو انَّه معنى واحد إدراكاً ولكنه بالتحليل مركب من حدث وغيره على نحو تركب مفاد الجملة الناقصة.

وعلى أي حال ، فالأقوال في تحديد مدلول المشتق من زاوية البساطة والتركيب والتمييز بينه وبين المصدر يمكن تلخيصها في أربعة :

الأقوال في المشتق من حيث البساطة والتركيب

١ ـ ما اختاره المحقق الدواني وتبعه المحقق النائيني ( قدس سر هما ) من أن المشتق موضوع بمادته للحدث وبهيئته للدلالة على أنَّه ملحوظ لا بشرط عن الحمل على الذات ، بخلاف المصدر الملحوظ بشرط لا عن الحمل.

٢ ـ ما يظهر من كلمات المحقق الخراسانيّ ( قده ) من دلالة المشتق على معنى بسيط منتزع عن الذات بلحاظ تلبسها بالمبدإ ، بحيث تكون نسبته إليها نسبة العنوان الانتزاعي إلى منشأه ونسبته إلى المبدأ نسبة العنوان المنتزع إلى مصحح الانتزاع.

٣ ـ ما يظهر من كلمات المحقق العراقي ( قده ) من أن المشتق يدلّ بمادته على الحدث وبهيئته على نسبته إلى الذات ، فيكون مدلول « قائم » مثلاً قيام صادر من ذات.

٤ ـ ما يظهر من كلمات المحقق الأصفهاني ( قده ) وتبعه السيد الأستاذ ( دام ظلّه ) من دلالة المشتق على الذات المنتسب إليها المبدأ ، فيكون مدلول « قائم » مثلاً ذات لها القيام.


أدلة القول الأول ومناقشتها

امَّا القول الأول ، فينحل إلى دعوى سلبية هي عدم أخذ النسبة في هيئة المشتق ، ودعوى إيجابية هي وضع الهيئة للدلالة على اللا بشرطية من ناحية الحمل.

امَّا الدعوى السلبية ، فممّا يمكن أن يستدلّ به عليها.

١ ـ ما نسب إلى الدواني من صحة إطلاق المشتق كالأبيض مثلاً على البياض الّذي هو المبدأ والّذي هو المحسوس المباشر للإنسان قبل قيام البرهان الفلسفي على وجود ذات وراءه ، بل ويصحّ إطلاقه على ما ثبت بالبرهان استحالة وجود ذات وراءه كإطلاق العالم على الواجب تعالى الّذي أوصافه عين ذاته.

وفيه : أنَّه مبنيّ على افتراض دلالة المشتق ـ بناء على التركيب على تلبّس ذات بالمبدإ بنحو يستلزم الاثنينية بينهما في الوجود أيضا وهو بلا موجب ، بل يمكن افتراض دلالته على وجدان ذات للمبدإ ، سواءً كان بنحو التلبّس الخارجي أو التلبّس الذاتي الصادق في المتحدين وجوداً أيضا أي الذات المتلبسة بالمبدإ سواءً كان تلبسها به في مرحلة ذاتها أو في مرحلة لاحقة.

٢ ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من استلزام التركب والدلالة على النسبة مشابهة المشتق للحروف في المعنى ، فلا بدَّ من أن يكون مبنيّا مع انَّه معرب بلا كلام.

وفيه : أولا ـ ما أشرنا إِليه آنفاً من أنَّ الاسم يبنى فيما إِذا تضمّن بمادته لمعنى حرفي.

وثانياً : انَّ مطلق دلالة الاسم على معنى حرفي نسبي لا يصيره مبنيّا بل فيما إِذا دلَّ على المعنى النسبي فحسب بحيث كان تمام ما هو مفاده معنى غير مستقل محتاج إلى طرف كالحروف ، وامَّا إِذا دلَّ على معنى نسبي في ضمن أطرافه بحيث لم يكن محتاجاً في تصوّر معناه الأفرادي إلى دال آخر كما هو المدعى في المشتق فلا يصيره مبنيّا. وإِن شئت قلت : انَّ المدعى دلالة المشتق على حصّة خاصة من الذات ، وهي المنتسب إليها المبدأ. والحصة وإِن كانت متقومة بالنسبة التحليلية المأخوذة فيها إِلاَّ انَّها معنى افرادي تام لا يحتاج إلى غيره ليشابه الحروف. وإِلاَّ لزم أن يكون بعض الجوامد مبنيّا


أيضا كالصارم مثلاً الموضوع لحصة خاصة من السيف ، والسرير الموضوع لحصة خاصة من الخشب.

٣ ـ ما جاء في تقرير إِفادات المحقق النائيني ( قده ) أيضا من انَّ المشتق ان دلَّ على النسبة مع طرفها وهو الذات اتّجه المحذور الّذي سوف يأتي نقله عن المحقق الشريف ( قده ) وإِلاَّ لزم تقوّم النسبة بطرف واحد وهو مستحيل.

وهذا البيان بظاهره ممَّا يسهّل رفضه ، فانَّ عدم أخذ طرف النسبة في مدلول المشتق لا يعني تقوّم النسبة بطرف واحد بل هي متقومة بطرفين إِلاَّ انَّ المشتق لا يدلّ عليهما معاً فيحتاج إلى دال آخر. بل كان الأفضل أن يوجّه المحذور القادم عن الشريف ( قده ) من تقوّم المشتق بالذات على كلا التقديرين ، لأنَّ النسبة المدلول عليها بالمشتق متقومة بطرفها وهو الذات فيكون مدلول المشتق متقوّماً بالذات أيضا.

ويمكن أن يكون واقع مرام المحقق النائيني ( قده ) انَّ الذات لو كانت خارجة عن مدلول المشتق لزم عدم استقلاليته في المفهوم وهو واضح الفساد لغة وعرفاً.

ولزوم هذا المحذور على هذا التقدير متين لا غبار عليه ، ولكن التخلّص عنه باختيار التقدير الأول ودفع المحاذير التي تخيل لزومها المحقق الشريف ( قده ) على ما سيأتي.

وامَّا الدعوى الإيجابية فبالإمكان تفسيرها بأحد وجوه :

١ ـ ما هو مقتضى ظاهر عنوان لا بشرطية الحمل وبشرط لائيته من اعتبار المبدأ بشرط لا والمشتق لا بشرط.

وقد اعترض عليه : بأنَّ اعتبار اللا بشرطية لا يصحح الحمل ، بل لا بدَّ من الاتحاد والعينيّة بين المحمول والمحمول عليه فلو كان المبدأ متّحداً مع الذات صحَّ حمله عليه ولو اعتبرناه لا بشرط. وما أفيد في هذا الاعتراض من عدم كفاية اعتبار اللا بشرطية في صحة الحمل صحيح ، إِلاَّ انَّ دعوى صحة الحمل إِذا كان المحمول متّحداً مع الموضوع ولو اعتبرناه بشرط لا قابل للمنع بأحد وجهين :

أ ـ ان يدّعى تقييد العلقة الوضعيّة بين اللفظ المحمول ومعناه بعدم الحمل ، نظير ما ادعي في المعاني الحرفية على بعض المسالك.

ب ـ أن يؤخذ مفهوم عدم الحمل قيداً تصوريّاً في المدلول بأن يوضع القيام لحدث


القيام غير المحمول على ذات فلا يمكن حمله عندئذ ، لأن حمله على حدث يكون محمولاً على الذات ومتّحداً معه ليس مصداقاً له وحمله على حدث غير محمول تهافت ، إِذ كيف يكون الحدث غير المحمول محمولاً.

وعلى هذا الأساس يمكن لأصحاب هذا القول دعوى اعتبار هيئة المصدر لغة للمنع عن الحمل بأحد هذين الوجهين بخلاف هيئة المشتق.

ولكن يرد عليهم حينئذ :

أولا : ابتناؤه على اتحاد المبدأ والذات وجوداً ، وسوف يأتي بطلانه.

ثانياً : أنَّه موقوف على الالتزام بوضع هيئة المصدر لمعنى زائد دون هيئة المشتق ، إذ يكفي عدم وضعها بإزاء المنع عن الحمل في صحة الحمل وهذا ما لم يحتمله أحد.

٢ ـ ما يظهر من خلال كلمات المحقق النائيني ( قده ) تلويحاً أو تصريحاً من انَّ اللا بشرطية والبشرط لائية لم تلحظ بالنسبة إلى الحمل ابتداءً بل لخصوصية أخرى في مدلول اللفظ نتيجة صحة الحمل في المشتق وعدمها في المصدر.

وتلك الخصوصية هي انَّ الاعراض أطوار ومظاهر للموجود الخارجي إلا انَّها تلحظ تارة : بما هي طور من أطواره فيكون وجودها في نفسها عين وجودها لموضوعها وبهذا الاعتبار تكون متحدة مع الموضوع وأخرى تلحظ بما هي فترى كأنَّها موجودة بوجود مستقل مغاير مع موضوعها. فهناك لحاظان للمبدإ يكون متحداً بأحد هما مع الذات ومغايراً بالآخر معها والمشتقات موضوعة بهيئاتها للدلالة على ملاحظة المبدأ بالنحو الأول ولذلك صحَّ حملها على الموضوع ، والمصادر موضوعة للدلالة على ملاحظته بالنحو الثاني ولذلك لم يصحّ حملها (١).

وقد اعترض عليه السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ بوجوه عديدة (٢) :

منها ـ انَّ مجرد الاختلاف في كيفية لحاظ المفهوم لا يمنع عن حمله على مفهوم آخر إذا كان متحداً معه واقعاً كما انَّه لا يصحح حمله إذا كان متغايراً.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٧٢

(٢) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٢٩٢


وهذا الاعتراض لا مأخذ له نقضاً وحلاًّ.

امَّا النقض : فبالمصادر الجعلية كالشيئية والإنسانية والحيوانية فانَّه لا إِشكال في عدم صحة حملها على الذات فلا يقال زيد شيئية أو إنسانية كما يقال شيء أو إنسان. ولا يمكن أن يفسّر الفرق بينهما على أساس اختلاف المفهوم خصوصاً في مثل الشيء والشيئة ، إذ لا يوجد مفهوم أوضح من مفهوم الشيء يمكن أخذه فيه بنحو التركيب.

وامَّا الحلّ : فلان مصحح الحمل وعدمه اتحاد المفهومين وتغاير هما بحسب عالم لحاظهما ، فإذا كان لحاظهما بنحو يرى انَّهما متغايران في الوجود لم يصحّ حمل أحدهما على الآخر ، وإذا كان بنحو يرى انَّهما وجود واحد صحَّ الحمل لأن الحمل من شئون عالم اللحاظ الذهني لا الواقع الخارجي فانَّه عالم الاتحاد والعينيّة. ويرى المحقق النائيني ( قده ) انَّ الذهن بتعمله وتحليله يمكن أن يجزّئ الموجود الخارجي إلى ذات وعرض ولو لم يكونا اثنين واقعاً فينتزع عنوان الإنسانية مثلاً بما هو عرض لذات الإنسان ، وبهذا اللحاظ عندئذ يرى وجودين لا يمكن حمل أحدهما على الآخر ، والمصدر موضوع للمبدإ منظوراً إليه بهذه العناية ، ولذلك قال الميرزا ( قده ) انَّ مدلول المصدر بحاجة إلى عناية بخلاف المشتق الموضوع للموضوع الخارجي منظوراً إليه بحسب طبعه وحقيقته.

ومنها ـ النقض بالأعراض الانتزاعية والاعتبارية التي لا وجود لها في الخارج لكن يمكن أن ينظر إليها تارة بما هي موجودة في نفسها وأخرى بما هي موجودة لغيرها.

والالتزام بالتفصيل بين المشتقات ذات المبادئ الانتزاعية والاعتبارية وغير هما ممَّا لا يمكن المساعدة عليه.

وهذا الاعتراض أوضح اندفاعاً عن سابقه لأنَّه يهدم مدعى المعترض أيضا ، إذ يقصد من ورائه الانتهاء إلى أخذ مفهوم الذات أو الشيء في المشتق ليصحّ الحمل بلحاظه مع انَّه من المفاهيم الانتزاعية التي لا وجود خارجي لها ، فانَّ سلّم بنحو اتحاد بينها وبين مناشئها المصحح لحملها على الخارج كان بنفسه مصحح الحمل عند المحقق النائيني أيضا.

ومنها ـ النقض بأسماء الزمان والمكان فانَّ « مقتل » مثلاً ليس موضوعاً للقتل وملحوظاً لا بشرط عن حمله على زمان أو مكان ، إذ ليس القتل وجوداً لمكان أو زمان


وطوراً من أطوار هما كي يصحّ حمله عليهما بهذا الاعتبار فيلزم التفصيل أيضا بين المشتقات.

وهذا الاعتراض أيضا يمكن التخلّص عنه بافتراض انَّ المبدأ في أسماء الزمان والمكان ليس هو الحدث ، بل المحلية والمعرضية للحدث التي تكون نسبتها إلى الزمان أو المكان نسبة العرض إلى موضوعه ، نظير ما يلتزم به في أسماء الحرف والملكات من المشتقات.

والصحيح في مناقشة هذا التفسير للا بشرطية أن يقال :

ان سلّم تعدد وجود العرض وموضوعه غاية الأمر انَّ الوجود كما يضاف إلى العرض بنفسه كذلك يضاف إليه بما هو لموضوعه فهذا لا يكفي وحده لصحة الحمل بعد افتراض تغاير هما في الوجود حقيقة ولحاظاً. بل هو نظير إضافة وجود المعلول لعلته فيقال انَّه موجود لعلته باعتبار وجدانها له بنحو التسبيب لا التقييد فكما لا يصحّ حمل المعلول على علته لمجرّد إضافة وجوده إليها بعناية الواجديّة كذلك في العرض وموضوعه.

وإن أنكرنا تعدد الوجود ، وقلنا بأنَّه ليس هناك أكثر من موجود واحد في الخارج هو الموضوع والاعراض حدود ذلك الوجود ومن شئونه فهذا مطلب معقول فلسفيّاً ولا برهان على خلافه غير ما يقال : من أنَّ العرض من مقولة مباينة مع الموضوع وان الموضوع وجود جوهري في نفسه والعرض وجود رابطي. وهذه الكلمات بمجموعها لا تعدو أن تكون مصادرات وقد التزم بعض الحكماء أنفسهم بأن النّفس وما يعرض عليها من الصور العلمية وجود واحد والصور العارضة حدود ذلك الوجود.

إِلاَّ أن الإلهام الفطري للإنسان الّذي هو منبع الأوضاع اللغوية والعرفية يأبى وحدة العرض وموضوعه ويرى تغاير هما مفهوماً ووجوداً ، ومعه لا يمكن حمل ما وضع بإزاء أحدهما على الآخر.

٣ ـ أن يراد باللابشرطية والبشرط لائية تباين المفهومين ذاتاً. فالمصدر موضوع للحدث وهو مغاير مع الذات مفهوماً ووجوداً وبذلك يكون بشرط لا عن الحمل ، والمشتق موضوع لعنوان بسيط ينتزع عن الذات في حال تلبسها بالمبدإ ، وبما انَّ العناوين الانتزاعية متحدة مع مناشئها كان المشتق لا بشرط من الحمل. ونستعرض


لإثبات بساطة المشتق بالمعنى المذكور المحاذير التي أوردها المحقق الشريف على القول بالتركيب. ويرجع هذا القول في ضوء هذا التفسير إلى القول الثاني الّذي نسبناه إلى صاحب الكفاية ( قده ). وبذلك نكون قد شرعنا في معالجة الثاني فنقول :

القول الثاني ومناقشته

هنالك عدة مواضع للنظر في هذه الدعوى :

فأولاً : إن أريد من الانتزاع معنى يساوق الإدراك كما هو الحال في جميع الأمور الانتزاعية التي لها واقعية ونحو تقرّر في لوح الواقع بقطع النّظر عن الذهن ، كالإمكان والزوجية ، ويكون نظر الذهن طريقاً إليها فواضح انَّه في المقام لا نجد شيئاً زائداً على الذات والمبدأ والنسبة ليكون هو مدلول المشتق ، وإن أريد من الانتزاع معنى يساوق الجعل من قبل الذهن وإنشاء مفهوم ذهني لكي يطبق على الذات المتلبسة فهذا معناه انَّ مداليل عالم وقائم وغيرهما يكون من المنشآت الذهنية المطبقة على الخارج بتعمل الذهن وليس من مستوردات الذهن التي يرى لها واقع محفوظ في نفسه ، وذلك خلاف الوجدان.

وثانياً : انَّ محاذير المحقق الشريف لا يتخلص عنها بهذا القول طالما افترض تقوم المشتق مطلقاً بأمر انتزاعي غير ذاتي.

وثالثاً : انَّ مجرَّد فرض معنى المشتق أمراً انتزاعيّاً لا يكفي لإثبات بساطته أو الفرق بينه وبين معنى المصدر في ضمن الحمل على الذات ، بدليل وجود مصادر انتزاعية أيضا للإمكان والزوجية فلما ذا لا يصحّ حملها على الذات ويصحّ حمل الممكن أو الزوج عليها.

القول الثالث ومناقشته

وامَّا القول الثالث الّذي اختاره المحقق العراقي من دلالة المشتق بمادته على الحدث وبهيئته على النسبة فقد استند فيه إلى استقراء وضع الهيئات في اللغة فانَّها جميعاً موضوعة بإزاء معانٍ حرفيّة نسبيّة فيما نعرف فلا تكون هيئة المشتق بدعاً عنها.


وبما أن المعنى النسبي بحاجة إلى طرف آخر غير المبدأ وهو الذات ومن دون أخذها في المشتق لا يصحّ الحمل فيه اضطرَّ المحقق العراقي ( قده ) إلى علاج هذه النقطة. ولكن عبائر تقرير بحثه لا تخلو عن غموض وتشويش يمكننا أن نستخلص منها سنخين من العلاج.

١ ـ ان يدعى دلالة المشتق على طرف النسبة بالالتزام وتكون صحّة الحمل بملاحظة هذا المدلول الالتزامي.

وفيه :

أولا : انَّه تعسّف واضح ، فانَّ الظاهر من حمل المشتق على ذات أو على مشتق آخر كقولنا الناطق ضاحك ، الربط بين المدلولين المطابقيين لهما.

وثانياً : انَّ هذه الدلالة لا تعين أخذ الذات طرفاً للنسبة بنحو المقيد أعني ذات لها المبدأ ، لا بنحو القيد أعني مبدأ لذات. والّذي يجدي في صحة حمل المشتق ويكون مستفاداً منه لغة هو الأول لا الثاني.

وثالثاً : النقض بالمصدر بناء على المسلك المشهور من دلالة هيئته على النسبة فلو كانت الدلالة الالتزامية على طرف النسبة كافية لتصحيح الحمل لما بقي فرق بينه وبين المشتق.

٢ ـ انَّ هيئة المشتق موضوعة للنسبة الاتحادية بين الذات والمبدأ فلا مغايرة بين الطرفين كي لا يصحّ الحمل.

والواقع انَّ هذا البيان ممَّا لم نفهم له معنى ، إذ ليس البحث عن الدال على النسبة الاتحادية أو الحملية وانَّما الإشكال في التغاير بين المشتق وما يحمل عليه إذا لم تؤخذ الذات فيه وهو تغاير مناف لصحة الحمل. ثمَّ انَّه يرد على هذا القول : ما تقدّم في التعليق على القول الأول من أنَّ دلالة المشتق على المبدأ والنسبة فقط يلزم منه تقوم النسبة بطرف واحد في مقام التصور وهو يؤدّي إلى أن يكون المشتق ناقصاً من حيث المفهوم محتاجاً إلى متمم تصوّري كالحروف ، ومجرّد لزوم تقوّم النسبة بطرفين لا يكفي لإيجاد مدلول التزامي عليهما فانَّ الدلالة الالتزامية التصورية فرع تمامية تصوّر الملزوم مسبقاً ، ومن دون تصور طرفي النسبة لا تصوّر للنسبة بعد لما تقدّم في بحث المعنى الحرفي


من أنَّ النسب الخارجية تحليلية لا توجد ذهناً إلا ضمن صورة واحدة تنحلّ إلى طرفين ونسبة.

القول الرابع وأدلّته

وأمَّا القول الرابع الّذي اختاره المحقق الأصفهاني ( قده ) والسيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ من تركّب المشتق من ذات له المبدأ فالبحث عنه يقع أولا : فيما يمكن أن يساق دليلاً عليه. وثانياً : في دفع المفارقات التي ذكرت أو يمكن أن تذكر بشأنه.

امَّا الأدلة ، فقد ذكروا انَّ المشتق لا بدَّ وأن يكون مغايراً مع المصدر مفهوماً ببرهان صحّة حمله على الذات وعدم صحة حمل المصدر عليها وهو دليل تغاير المفهومين ، إذ المفهوم الواحد لا يعقل أن يكون متحداً مع الذات ومبايناً معها. ولا يعقل التغاير بينهما إلا على أساس أخذ مفهوم الذات المبهمة في المشتق بنحو المقيد لا القيد إذ لا يصح الحمل من دون ذلك (١).

والواقع ، انَّ هذا البيان إن قصد منه البرهنة الحديّة على القول بتركيب معنى المشتق أمكن النقاش فيه بما تقدّم منَّا في تفسير كلام المحقق النائيني ( قده ) من أنَّا لو جارينا الدقة الفلسفية فلا برهان يقتضي تركّب الموجود الخارجي من موضوع وعرض ، إلا أن الإلهامات الفطرية والعرفية التي عليها المعول في تشخيص الأوضاع اللغوية قد تساعد على دعوى التركيب وإن شئت مزيداً من توضيح له قلنا : انَّ المحمولات على أقسام ثلاثة :

١ ـ ما يكون ذاتيّاً للموضوع بالمعنى المذكور في كتاب الكليّات الخمس ، كقولنا زيد إنسان.

٢ ـ ما يكون ذاتيّاً في كتاب البرهان ، كقولنا الأربعة زوج أو زيد شيء.

٣ ـ ما يكون عرضاً خارجيّاً ، كقولنا الإنسان أبيض.

وملاحظة هذه المحمولات بالنظرة الفلسفية الدقيقة تقضي بإمكان ملاحظتها في

__________________

(١) يراجع نهاية الدراية ج ١ ص ١٢٩ ومحاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٢٩٧


عالم التصوّر والإدراك تارة : بنحو وحداني بسيط كما هو طبع وجوده الخارجي. وأخرى : بنحو التحليل والتجزئة إلى ذات وإنسانية أو شيئية أو بياض. ولكن الفهم العرفي الفطري للإنسان يجد فرقاً بين القسمين الأولين والقسم الأخير ، لأنَّ إنسانية الإنسان أو شيئيّة الشيء ليست وجودات زائدة على موضوعاتها ، ولذلك يعتبرها مصادر جعلية انتزعت بالتجريد وإعمال العناية العقلية التحليلية ، وهذا بخلاف بياض الجسم مثلاً أو قيام زيد فانَّ مثل هذه الأعراض تعتبر بحسب الفهم الفطري وجودات مستقلة طارئة على الذوات ، ولذلك لم يصح حملها عليها ، فإذا أريد حملها على موضوع اضطرَّ إلى تركيب معنى يمكن أن ينطبق عليه وذلك بأخذ عنوان الذات ـ الّذي هو من الذاتي في كتاب البرهان ـ أو واقع الذات كالإنسان مثلاً ـ وهو الذاتي في كتاب الكليّات ـ في المعنى. وقد وضعت المشتقات بحسب النوع بإزاء هذا المعنى التركيبي ، وإن كانت قد تدخل على ما يكون ذاتياً بحسب الدقّة كالممكن مثلاً. ولعلَّه باعتبار عرضيته بحسب الفهم العرفي.

المناقشات على القول بتركب المشتق

وأمَّا المفارقات والاعتراضات التي أخذت على هذا القول ، فبعضها توجه على افتراض تركّب المشتق من مفهوم الشيء أو الذات والمبدأ والنسبة وبعضها توجه على افتراض تركّبه من واقع الشيء المعروض للمبدإ كالإنسان في ضاحك مثلاً. فالبحث يقع عن فرضين.

أمَّا فرض التركّب من مفهوم الشيء ، فقد استظهر من بعض كلمات المحقق الشريف في حاشيته على شرح المطالع في المنطق انَّه يعترض عليه بلزوم دخول العرض العام ـ وهو الشيء ـ في الذاتي ـ كالناطق الفصل ـ وهو مستحيل.

والمحقق النائيني ( قده ) عدل من صياغة المفارقة بعد الاعتراف بصحتها بأن اللازم دخول الجنس في الفصل لأنَّ الشيء جنس الأجناس وليس عرضاً عاماً.

وكلتا الصياغتين ممَّا لا نساعد عليه.

امَّا صياغة المحقق النائيني ( قده ) فلأنَّ الشيء ليس جنساً أعلى ، لا لما قيل من لزوم


عدم كون المقولات العشر ـ مقولة الجوهر ومقولات الأعراض التسع ـ أجناساً عالية وهو خلاف ما هو ثابت في محله ، فانَّه حوالة على مفلس ، إذ لم يقم في الفلسفة برهان على استحالة وجود جنس أعلى للمقولات العشر ـ كما اعترف به صاحب الأسفار ـ وانَّما الّذي قام البرهان عليه هو انَّ مثل مفهوم العرض ليس جنساً عالياً للمقولات العرضية وكذلك مفهوم الوجود.

بل لأن مفهوم الشيء لو كان جنساً لزم تركب كلّ مقولة منه ومن فصل يميزه عن المقولات الأخرى.

وذاك الفصل شيء لا محالة وإلا لم يكن جزءاً زائداً ، فان كان تمام حقيقته الشيئية لزم اتحاد الجنس والفصل وإن كانت جزءه لزم تركبه من جزءين ، فننقل الكلام إلى جزئه الثاني الّذي هو شيء لا محالة ، فإما نرجع إلى الشيئية في النهاية أو نتسلسل إلى ما لا نهاية دون أن نصل إلى ما يميّز المقولات وكلاهما باطل كما هو واضح.

أضف إلى ذلك : عدم الفرق بين القول بتركب المشتق أو بساطته إذا كان مفهوم الشيء جنس الأجناس ، إذ لا إشكال في انتزاعه من المبدأ أيضا ، فمحذور دخول الجنس في الفصل لازم على كلّ حال.

وأمَّا الصياغة المنسوبة إلى المحقق الشريف ، فجوابها : انَّ ما مثل به المناطقة للفصول كالناطق والصاهل لم يرد جعله بتمام مدلوله اللغوي فصلاً كيف والنطق ـ سواءً كان بمعنى التكلّم أو الإدراك ـ من الكيف المسموع أو النفسانيّ وليس ذاتياً فإذا كان لا بدَّ من التصرّف في مادة هذه الأمثلة بحملها على ما يوازي هذه الأعراض من جهات ذاتية فأيّ مانع من أن يكون هناك تصرّف بلحاظ هيئاتها أيضا بأن لا يراد جعل تمام مدلولها فصلاً. بل لو فرض انَّهم جعلوها كذلك فالخطأ في فهمهم للمعاني اللغوية فكان ينبغي أن ينقض عليهم لا أن يجعل ما صنعوه نقضاً على المعنى اللغوي بعد أن لم يكن المنطقي ناظراً إلى المسألة اللغوية.

والواقع انَّ ما ذكره المحقق الشريف أجنبي عن مسألتنا الأصولية بالمرة لأنَّه يذكر كلامه هذا في التعليق على مقالة شارح مطالع الأنوار في دفع شبهة كان يوجه على تعريف الإدراك بأنَّه : ترتيب أمور معلومة يتوصّل به إلى أمر مجهول ، من لزوم خروج


التعريف بالحد الناقص الّذي هو تعريف بالفصل فقط. حيث أجاب عنها : بأنَّ الفصل أيضا مركّب من أمور وليس بسيطاً فالناطق مثلاً عبارة عن شيء له النطق. فعلق عليه المحقق الشريف بلزوم دخول العرض في الذاتي. وواضح انَّ تمام نظره إلى الفصل الحقيقي والتعريف به مع قطع النّظر عن باب الدلالات اللغوية. وانَّ حقيقة الفصل لو كان مركّباً من الشيئية والنطق مثلاً لزم دخول العرض العام في الذاتي وهو محال ، سواءً كان يوجد دال عليهما أو على أحدهما فقط وهذا لا ربط له بمسألتنا اللغوية.

وأمَّا فرض تركّب المشتق من واقع الشيء والمبدأ والنسبة ، فقد أورد عليه : بلزوم انقلاب القضية الممكنة إلى ضرورية ، فقولنا « الإنسان كاتب » يؤول إلى قولنا « الإنسان له الكتابة » فتكون ضرورية.

وأجيب عنه حلاًّ : بأن الضروري ثبوت مطلق الإنسانية للإنسان لا المقيدة بقيد إمكاني فانَّ ثبوته إمكاني أيضا.

ونقضاً : بلزومه على القول بدخول مفهوم الشيء لأن ثبوت الشيء للإنسان ضروري أيضا لكونه ذاتياً في كتاب البرهان.

وهناك عدّة محاولات لتوجيه الاعتراض بنحو يسلم عن هذا الجواب. نذكر بعضها فيما يلي :

١ ـ تغيير مورد الإشكال من مثال « الإنسان كاتب » إلى « زيد كاتب » فلو كان المأخوذ واقع الشيء في الكاتب رجع إلى قولنا « زيد زيد له الكتابة » والتقييد في هذا المثال غير معقول ، لأن زيداً جزئي لا يقبل التقييد وانَّما هو مجرّد معرف ومشير فتكون القضية ضرورية.

وفيه :

أولا : انَّه قد يراد من واقع الشيء ما يكون معروضاً عادة للمبدإ في الواقع الخارجي ، كالإنسان في مثال الكاتب ، لا ما جعل موضوعاً للقضية. وهو كلّي قابل للتقيّد.

وثانياً : الجزئي الحقيقي كزيد وإن لم يكن يقبل التقييد الأفرادي ولكنه يقبل


التقييد الأحوالي ، فقولنا « زيد كاتب » يرجع إلى قولنا « زيد زيد في حالة الكتابة » ومن الواضح انَّ الجزئي المقيد بحالة خاصة إمكانيّة بما هو مقيّد بتلك الحالة ثبوته لنفسه إمكاني لا ضروري.

٢ ـ ان القيد الإمكاني إن أريد به المعرفية والمشيرية إلى ذات المقيد كان المحمول نفس الموضوع فتكون القضية ضرورية ، وإن أريد به التقييد والتحصيص فالمقيد بما هو مقيّد وإن كان ثبوته غير ضروري إلا انَّه يستلزم أن يكون الحمل وضعيّاً لا طبعيّاً ، لكونه من حمل الأخص على الأعم بحسب المفهوم ، وهو باطل. وبهذه المحاولة يندفع الحلّ والنقض معاً.

وفيه : انَّا لا نسلّم بطلان حمل الأخص مفهوماً على الأعم سواءً كان الحمل معبراً عن النسبة التصادقية بين مفهومي الموضوع والمحمول في الخارج أو عن افتراض الموضوع مصداقاً للمحمول بجعل مفهوم الموضوع فانياً في معنونه الخارجي لأنَّ اللازم على الأول جعل المفهومين مرآتين عن حقيقة واحدة وعلى الثاني جعل مفهوم كذلك فكأن الملحوظ فيه المصداق ابتداءً ولا تضرّ أعمية الموضوع مفهوماً على كلا التقديرين.

٣ ـ انَّ أخذ واقع الشيء في المشتق يستلزم انحلال القضية الواحدة الممكنة إلى قضيتين : إحداهما : ضرورية وهي « الإنسان إنسان » والأخرى ممكنة هي « الإنسان له الكتابة » مع انَّ « الإنسان كاتب » ليس إلا قضية واحدة عقلاً. وعرفاً. وهذه المحاولة لا تدفع النقض وإن كانت تعالج الحلّ.

وفيه : انَّ الانحلال إلى قضيتين وكون إحداهما ضرورية إن كان بلحاظ انَّ المحمول يصبح بذاته قضية بقاعدة انَّ الأوصاف والقيود قبل العلم بها أخبار فقولنا « زيد شاعر ماهر » يرجع إلى إخبارين اخبار بمطلق شاعريته واخبار بمهارته في الشعر ، فمن الواضح انَّ أحد الإخبارين وهو الأخبار عن ثبوت المطلق مفاد للجملة التزاماً بقانون انَّ ثبوت المقيد يستلزم ثبوت المطلق عقلاً ، ولا ضير في أن تكون جهته ضرورية ، وامَّا ثبوت الحصة الّذي هو المدلول المطابقي للجملة فجهته الإمكان كما في قولنا « الحديد جسم صلب ».

وإن كان الانحلال بدعوى : انَّ اشتمال المحمول على النسبة يؤدّي إلى عروض


نسبتين على الذات في عرض واحد إحداهما ضرورية والأخرى إمكانية إذ لا موجب لافتراض الموضوع في إحداهما مقيداً بمحموله. فيرد عليه : انَّ النسبة الناقصة ملحوظة في رتبة سابقة عن الحمل فيكون المحمول هو الحصة الخاصة لا الذات المطلقة. وإن شئت قلت : قد تقدّم منَّا في بحث المعاني الحرفية أن النسبة الناقصة ليست إلا صورة ذهنية واحدة لحصة من المقيد والنسبة الملحوظة فيها تحليلية وليست بواقعية فلا تشتمل القضية الحملية على أكثر من نسبة واحدة وهي إمكانية.

وهكذا يتبرهن عدم صحة المحاولات الثلاث في إبطال الجواب على مفارقة انقلاب الممكنة ضرورية لو أخذ مصداق الشيء في المشتق.

الصحيح والمختار من الأقوال

إلا انَّ الصحيح مع ذلك عدم أخذ مصداق الشيء في المشتق على القول بالتركيب ؛ إذ لو أريد به ما جعل موضوعاً للقضية فمن الواضح انَّ المشتقات لا تكون محمولات دائماً كما في قولنا « أكرم الكاتب ».

وإن أريد أخذ الطبيعة التي من شأنها الاتصاف بالمبدإ كالإنسان فهو ينافي ما نحسّه وجداناً من صحّة استعمال الكاتب مثلاً في غير الإنسان وإن كانت القضية كاذبة ، فيتعيّن أن يكون المشتق مركباً من مفهوم الشيء والمبدأ والنسبة.

إلا انَّ هذا الكلام إنَّما نقوله في المشتقات الموضوعة بوضع نوعي ، أي الأوصاف الاشتقاقيّة بحسب مصطلح النحاة لا مثل السيف والصارم والسرير ونحوها ، فانَّ المأخوذ فيها واقع الشيء بمعنى الطبيعي الّذي يكون معروضاً لمبادئها ولذلك لا يصدق على غيره كما يظهر بمراجعة العرف واللغة.

نحو التلبّس المأخوذ في المشتق

بعد افتراض أخذ نسبة تلبسيّة بنحو من أنحاء التلبّس في مدلول هيئة المشتق ـ سواءً قيل بأخذ الذات فيه أو لا ـ يقع الكلام في انَّ هذا التلبس هل يستدعي المغايرة ذاتاً ووجوداً بين الذات والمبدأ فلا يمكن تطبيق مدلول المشتق على ما يكون متحداً مع


المبدأ إذ لا يعقل التلبس حينئذ بين الشيء ونفسه ، أو يكفي في تعقله المغايرة مفهوماً وان اتحدت الذات والمبدأ وجوداً كما في إطلاق صفات الذات على الله سبحانه وتعالى بناء على الحق من عينيّة مبادئ تلك الصفات لذاته أو لا يحتاج حتى إلى المغايرة مفهوماً فيصح قولنا البياض أبيض والضوء مضيء وهكذا.

ذهب المحقق الخراسانيّ ( قده ) إلى الوسط من هذه الوجوه قائلاً بأن المأخوذ في المدلول التلبس بنحو من الأنحاء ، وهو كما يصدق على التلبس الحلولي والصدوري كذلك يصدق على التلبس الاتحادي ، ومرجعه إلى قيام المبدأ بالذات على نحو العينية وبهذا صحّ إطلاق عالم على الله سبحانه بلا حاجة إلى عناية.

والتحقيق : انّ أنحاء التلبس هي أنحاء من النسب ولا يعقل الجامع الذاتي بينها ، فدعوى : انّ المأخوذ هو التلبس بجامعه غير صحيح. لأنّ المقصود بالتلبس إن كان المعنى الاسمي له فمن الواضح انّه لا ينسبق إلى الذهن من الكلمة ، وإن كان المعنى الحرفي له فلا يتصوّر الجامع بين الحلول والصدور والعينيّة بل يتعيّن أن تكون الكلمة موضوعة لأحد هذه الأنحاء وتستعمل في الباقي بنحو من العناية أو موضوعة لكلّ واحد من تلك الأنحاء على نحو الوضع العام والموضوع له الخاصّ على نحو لا تكون الكلمة من متحد المعنى.

وضع المجموع الكلي للمركّب

عرفنا سابقاً أن المركّب يشتمل على مواد لمفرداته وهيئات إفرادية وهيئة حاصلة من ضمّ هذه المفردات بعضها إلى بعض. وبعد أن فرغوا عن أنّ كلّ واحد من هذه العناصر موضوع لمعناه ومساهم في تكوين المعنى الجملي المجموعي للكلام وقع البحث في انّه هل يكون للمجموع من هذه العناصر المشتمل حتى على هيئة الجملة وضع خاص للمجموع من المعاني المتحصلة من تلك العناصر أو لا. والمعروف بين المحققين عدم وجود وضع من هذا القبيل وقد استدلّ لذلك بوجوه :

الأول : انّه لو ثبت هذا الوضع لزم استفادة المعنى والانتقال إليه مرّتين : مرة على سبيل التفصيل جزءاً جزءاً من ناحية وضع أجزاء الجملة وأخرى على سبيل الإجمال


واللف من ناحية وضع المركب للمجموع المتحصّل من معاني أجزائه وهو خلاف الوجدان بل الّذي يلزم في الحقيقة الانتقال إلى المعنى الجملي الإجمالي مرّتين لأنّ معاني الأجزاء باعتبار اشتمالها على المعنى الحرفي الرابط لا تأتي إلى الذهن متفاصلة بل مترابطة.

ويرد عليه : انّ تعدد الانتقال بسبب تعدد الدال لا تعدد الوضع فان الوضع كما تقدّم هو القرن المؤكد بين اللفظ والمعنى فهو حيثية تعليلية للانتقال من اللفظ إلى المعنى ، وامّا السبب الباعث على تصوّر المعنى فهو نفس اللفظ فإذا كانت جملة واحدة طرفا لقرنين مؤكدين ، مجملة تارة ، ومفصلة أخرى ، فليس هناك في الذهن إلاّ سبب واحد لإثارة المعنى لأن الجملة بإجمالها وتفصيلها موجودة بوجود واحد. وإن شئت قلت : انّ التعدد التحليلي للدال لا يوجب تعدد الوجود الذهني للمعنى حقيقة.

الثاني : انّ لازم ذلك اجتماع لحاظين في آن واحد من قبل النّفس أحدهما متعلّق بالمعنى الإجمالي ، والآخر متعلّق بالمعنى التفصيليّ وهو محال. وهذا الوجه واضح البطلان كبرى وصغرى.

الثالث : انّ وضع مواد المركّب وهيئاته لأنحاء النسب والربط يجدي لتحصيل المقصود فتكون إضافة وضع آخر للمركّب على تلك الأوضاع لغواً صرفاً ، والتحقيق :

انّ هذا يتمّ إذا افترضنا انّ بالإمكان استقلال الهيئات في كلّ جملة بالوضع لمعانيها الحرفية ، ولكن سيأتي إن شاء الله تعالى أن الهيئات والحروف الموضوعة للنسب الناقصة يستحيل استقلالها في الوضع بل لا بدّ أن تكون موضوعة تبعاً لوضع الجملة ككل ، ومعه لا لغوية في وضع المجموع للمجموع. ويأتي توضيح الحال في ذلك عند الكلام في تشخيص وضع الحروف والهيئات ونوعه.

الأسماء المبهمة

وقد شمل بحث الأصوليين وتحليلهم المبهمات من الأسماء ، كأسماء الإشارة والضمائر والموصولات ، لشباهتها بالحروف في عدم تحدد معناها بصورة مستقلة عن غيرها ، وإن كانت تختلف عنها في إمكان وقوعها محكوماً به وحملها على الذات.


ولنأخذ اسم الإشارة « هذا » محوراً للحديث وعلى ضوئه يفهم الحال في سائر المبهمات وقد ذكر المحقق الخراسانيّ ( قده ) أن « هذا » تدلّ على نفس ما تدلّ عليه كلمة المفرد المذكر ، غاية الأمر : أنّها وضعت ليشار بها إلى المعنى ومن أجل ذلك يكون استعمالها مساوقاً لتشخيص المعنى بسبب الإشارة من دون أن تؤخذ الإشارة قيداً في المعنى الموضوع له.

واعترض عليه السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ : بأنّا لو سلّمنا اتحاد المعنى الحرفي والاسمي ذاتاً واختلافهما باللحاظ لم نسلم ما أفاده في المقام ، وذلك لأن لحاظ المعنى في مرحلة الاستعمال أمر ضروري فلا يلزم على الواضع أن يجعل لحاظ المعنى آلياً كان أو استقلاليّاً قيداً للموضوع له بل هو لغو بعد ضرورة وجوده ، وهذا بخلاف أسماء الإشارة ونحوها فان الإشارة إلى المعنى ليست ممّا لا بدّ منه في مرحلة الاستعمال فلا بدّ من أخذه قيداً في المعنى الموضوع له ، وذلك بأن يقال انّ اسم الإشارة « هذا » وضع للدلالة على قصد تفهيم المفرد المذكر في حالة الإشارة إليه وليس المراد بذلك وضعه لمفهوم المفرد المذكر بل لواقعه على نحو الوضع العام والموضوع له الخاصّ.

وكلّ من اعتراض السيد الأستاذ على صاحب الكفاية ومختاره ومدعى صاحب الكفاية محل نظر ، أمّا الأول فلأنّ عدم أخذ الإشارة قيداً في الموضوع له ليس معناه إطلاق الوضع من ناحيتها بل أخذها قيداً في نفس العلقة الوضعيّة بناء على التصورات المشهورة القائلة بإمكان ذلك ، ولو لا هذا لما تمّ مدعى صاحب الكفاية في باب الحروف أيضا فان تصحيحه يتوقّف على أخذ اللحاظ الآلي قيداً في العلقة الوضعيّة. ودعوى : الفرق بين البابين كما أفيد لأنّ اللحاظ ضروري والإشارة غير ضرورية. مدفوعة بأن ما هو ضروري أصل اللحاظ لا آليته بالخصوص فآلية اللحاظ كالإشارة أمر غير ضروري ولا يمكن فرض تقوم الاستعمال به بالخصوص وإبائه عن الاستقلالية إلاّ بأخذه قيداً في الوضع بوجه من الوجوه.

وامّا الثاني : فانّه يرد عليه : أولا ـ ان لازم كون كلمة هذا موضوعة للمفرد المذكر على نحو الوضع العام والموضوع له العام الترادف بين هذا والمفرد المذكر مع انّه خلاف الوجدان ، وثانياً : ما تقدّم منا من ان تقييد العلقة الوضعيّة لا معنى له.


وأما الثالث : فلأن أخذ واقع الإشارة في المدلول معناه كون الدلالة تصديقية ، وهذا يناسب مسلك التعهد ولكنه لا يناسب ما هو التحقيق من أن الدلالة الوضعيّة تصورية بحتة محفوظة حتى عند النطق بالكلمة بدون قصد وشعور. فالصحيح انّ كلمة هذا تستبطن الإشارة بوجه من الوجوه بشهادة الوجدان اللغوي ، ولكن استبطانها لذلك ليس بوضعها لمفهوم الإشارة لوضوح التغاير بين هذا والإشارة على حدّ التغاير بين من ومفهوم النسبة الابتدائية ، فانّ مفهوم الإشارة ليس إشارة كما انّ مفهوم النسبة ليس نسبة وليس أيضا بوضعها لواقع الإشارة الّذي هو فعل من النّفس ونحو توجه خاص لأن هذا يعني كون الكلمة ذات مدلول تصديقي بحسب وضعها وهو خلف المبنى ، وليس أيضا بوضعها للمقيد بهذا الواقع ، لا على نحو دخول القيد والتقيد معاً ، ولا على نحو خروج القيد مع دخول التقيد لنفس المحذور بل توضيح هذا الاستبطان : انّ الإشارة نحو نسبة وربط مخصوص بين المشير والمشار إليه والنسبة الإشارية مع مفهوم الإشارة كالنسبة الابتدائية مع مفهوم الابتدائية ، وكما أن النسبة الابتدائية لها صورة ذهنية في مرحلة المدلول التصوري كذلك تلك النسبة الإشارية ، ولفظة هذا موضوعة لكلّ مفهوم مفرد مذكر واقع طرفاً لهذه النسبة الإشارية لا بمعنى انّ الواقع الخارجي للإشارة مأخوذ ليلزم انقلاب الدلالة الوضعيّة إلى تصديقية ، بل الإشارة بما هي أمر نسبي تصوري مأخوذة على حدّ سائر النسب الحرفية في مرحلة المدلول التصوري. ونفس الشيء يقال في التخاطب أيضا فانّه يحقق نسبة معيّنة تخاطبية على الوجه المذكور وهكذا. وعلى هذا الأساس يكون الوضع في المبهمات من قبيل الوضع العام والموضوع له الخاصّ.

٣ ـ كيفية الوضع في الحروف والهيئات

بعد ان فرغنا من تحديد معاني الحروف والهيئات من زاوية تمييزها عن المعاني الاسمية واستكشاف خصائصها العامة المشتركة يقع الكلام في تشخيص كيفية وضع الحروف والهيئات وذلك من ناحيتين :

الأولى : من ناحية المعنى الموضوع له فيبحث انّ وضعها هل هو من الوضع العام


والموضوع له العام كما في أسماء الأجناس أو من الوضع العام والموضوع له الخاصّ.

والثانية : من ناحية اللفظ الموضوع فيبحث انّ وضعها هل هو وضع شخصي أو نوعي.

١ ـ من ناحية المعنى الموضوع له

أمّا من الناحية الأولى : فالكلام فيها يشمل كلّ الحروف والهيئات التي تدلّ على معنى حرفي ، وامّا ما كان منها موضوعاً لمفهوم اسمي كالمشتق بناء على التركب بالنحو المتقدم فهو خارج عن محل البحث لأنّ حاله حال سائر أسماء الأجناس في كونها موضوعة بالوضع العام والموضوع له العام.

وتحقيق الحال في هذه الناحية : انّ المعاني الحرفية ، تارة : تكون نسباً واقعية وهي مداليل الجمل التامة. وأخرى : نسباً تحليلية ناقصة وهي مداليل الحروف وهيئات الجمل الناقصة.

امّا النسب الواقعية فالصحيح انّ الوضع فيها عام والموضوع له خاص إلاّ أن العمومية والخصوصية لا يراد منهما العمومية والخصوصية بلحاظ الصدق الخارجي لوضوح انّ هذه النسبة الواقعية ذهنية وليست خارجية ، بل لا يعقل تحقق النسبة التصادقية والإضرابية في الخارج على ما برهنا عليه فيما سبق. كما أنّ ما جاء في تعبير المحقق النائيني 1 في تفسير العمومية والخصوصية من انّ الخصوصية تعني دخول تقيد المعنى الحرفي بطرفيه في المعنى الموضوع له وان خرج عنه ذات الطرفين والعمومية تعني خروج التقيد بالأطراف أيضا عن المعنى الموضوع له ليس بصحيح ، إذ ليس لنا في المعاني الحرفية النسبية زائداً على نفس النسبة التي هي التقيد أمران قيد وتقيد أو طرف وتقيد آخر بينه وبين النسبة لكي يبحث عن خروج التقييد عن حريم المعنى الموضوع له ودخوله فيه ، فان امتياز المعنى الحرفي عن المعنى الاسمي في انّه بذاته تقيد وربط فلا يحتاج إلى تقيد آخر يربطه بطرف وإلاّ لاحتاج ذلك الربط إلى ربط آخر وهكذا.

وانّما المقصود العمومية والخصوصية بلحاظ عالم الذهن نفسه ، أي انّ أفراد هذه


النسب الواقعية في الذهن هل يكون فيما بينها جامع حقيقي تكون نسبته إليها نسبة الكلّي إلى مصاديقه في نفس هذا العالم لكي يعقل وضع الجملة بإزاء ذلك الجامع أولا يوجد ثمة جامع ذاتي بين النسب فلا بدّ من وضع الجملة بإزاء مصاديق النسب الموجودة في صقع الذهن. فعلى الأول يكون الموضوع له عاماً وعلى الثاني يكون خاصاً ، وقد تقدّم فيما سبق البرهان على استحالة وجود جامع حقيقي بين النسب الواقعية. فيتعين أن يكون الموضوع له خاصاً في الجمل الموضوعة بإزاء النسب الواقعية.

وامّا النسب الناقصة ، والتي هي نسب أوليّة موطنها الأصلي هو الخارج لا الذهن ولذلك كانت تحليلية ـ على ما تقدّم ـ فالبحث عنها يكون من حيث الوضع والموضوع له معاً فان ما يوضع بإزاء هذه النسب كما يكون مدلوله ضمنيّاً تحليليّاً كذلك يكون وضعه ضمنيّاً ، لأنّ وحدة الوجود الذهني المدلول عليه بجملة « نار في الموقد » يستدعي أن لا تكون هناك دلالات وانتقالات ذهنية ثلاثة للجملة بنحو تعدد الدال والمدلول بل ليس هناك إلاّ مدلول واحد ودال واحد وذلك لأن الوضع ليس إلاّ القرن الموجب للدلالة. وليست الدلالة إلاّ السببيّة في عالم التصوّر واللحاظ بين اللفظ والمعنى ، والسبب دائماً هو الوجود الفعلي ولا يعقل أن يستقل جزؤه التحليلي بالسببيّة فما لا استقلال له في الوجود لا استقلال له في السببيّة والموجدية. فهناك إذن وجود واحد وموجدية واحدة وبالتالي وضع واحد وهذا يعني انّ الوضع في الحروف والجمل الناقصة وضع ضمني كما انّ مدلولها ضمني تحليلي ، بمعنى انّ الواضع قد وضع كلمة « نار » لمعناها الاسمي المستقل وكلمة « موقد » لمعناها الاسمي أيضا ثمّ وضع جملة « نار في الموقد » ـ ولو بنحو الوضع النوعيّ المشار به إليهما إجمالاً ـ للمعنى الوحدانيّ المتضمّن بالتحليل لأجزاء ثلاثة.

ومن الواضح انّ الموضوع له في الحروف ونحوها خاص أيضا لأنّ الواضع قد وضعها لواقع تلك الحصص والصور الوحدانية المحتوية على النسبة التحليلية ولم يضعها لمفهوم الظرفية الاسمي مثلاً ، لما تقدّم من أنّ هذا المفهوم ليس جامعاً حقيقيّاً ذاتيّاً لتلك النسب والتحصيصات. والمراد من الوضع العام والموضوع له الخاصّ هنا الحصص بمعنى انّ الواضع يتصوّر مفهوم الحصة الخاصة المشتملة على الظرف والمظروف ونسبة


الظرفية التحليلية ويضع الحرف أو الهيئة لواقع تلك الحصص فجملة « نار في الموقد » مثلاً موضوعة لهذه الحصة من الظرفية المتقوّمة بوجود ذهني واحد للنار والموقد والظرفية بينهما وهي حصّة غير النسبة الظرفية في جملة « زيد في الحديقة » المتقومة بوجود ذهني آخر ، وامّا أفراد ومصاديق « نار في الموقد » الخارجية فليس الوضع بلحاظها خاصاً كما كان في النسب الواقعية الذهنية لأنّ ذلك الوجود الذهني الواحد ليس متضمناً على نسبة واقعية حتى يكون متشخصاً ومتقوّماً بأطرافها.

تصوير الوضع العام والموضوع له العام في الحروف

هذا هو المختار في تحقيق الأوضاع للمعاني الحرفية. ومن الجدير بالذكر بهذا الصدد محاولة قام بها المحقق العراقي 1 لتصوير كون وضع الحروف من الوضع العام والموضوع له العام. وحاصل المحاولة : انّ الحرف موضوع للقدر المشترك الجامع بين الجزئيات ولكنّه سنخ جامع لا يمكن تصوره إلاّ في ضمن الخصوصيات خلافاً للجامع في المفاهيم الاسمية التي وضعت لها أسماء الأجناس حيث انّه سنخ جامع قابل للورود في الذهن مجرداً عن الخصوصيات وبذلك يتصوّر الوضع العام والموضوع له العام في الحروف بافتراض جامع من ذلك القبيل يكون هو مفاد الحرف وتكون الخصوصية مستفادة من دال آخر على طريقة تعدد الدال والمدلول والدليل على أن وضع الحروف على هذا الوجه تبادر الحيثيّة المشتركة من الحرف في موارد استعماله. ولنا حول هذا الكلام عدة تعليقات.

الأول : انّ المشكلة في تصوير الجامع لم تكن عبارة عن أنّ النسبة الابتدائية مثلاً لا يمكن أن ترد إلى الذهن إلاّ توأماً مع الخصوصيات حتى يقال ان هذا لا ينفي تعقل الجامع لعدم توقّف الجامع على تعقّل وروده مجرداً إلى الذهن ، فالطبيعة اللابشرط المقسمي جامع بين الطبيعة اللابشرط القسمي والطبيعة الملحوظة بشرط شيء ومع هذا فانّها لا ترد إلى الذهن إلاّ في ضمن إحدى الحصتين ، بل المشكلة في تصوير الجامع هي انّ كلّ نسبة متقومة ذاتاً وتقرراً بطرفيها ، فإذا أريد انتزاع جامع ذاتي بين نسبتين فان تحفظنا على خصوصية الطرفين لكل نسبة استحال الحصول على جامع


لتباين الخصوصيات ، وان ألغينا خصوصية الطرفين لم تبق نسبة إذ لا تقرر للنسبة إلاّ بطرفيها فلا يمكن الحصول على جامع بين النسبتين ، وعلى هذا الأساس فالجامع الّذي يفترض المحقق العراقي ( قده ) انّه لا يرد إلى الذهن إلاّ مع الخصوصيات إن كان في تقرّره الماهوي مستقلاً فهذا خلاف البرهان المذكور وإلاّ فهو مساوق لعدم الجامع.

الثاني : انّا لو سلّمنا تعقّل الجامع المذكور الّذي أفاده فهذا لا يفيد في إثبات كون الإفادة بنحو تعدد الدال ، لأنّ تعدد الدال والمدلول انّما يتعقّل في فرض يمكن فيه تعدد الانتقال وهو في المقام غير معقول لأنّ المفروض عدم إمكان الانتقال إلى الجامع إلاّ في ضمن الخاصّ ومع وحدة الانتقال لا معنى لتعدد الدال بل ولا لتعدد الوضع.

الثالث : انّ استدلاله على مدعاه 1 بشهادة الوجدان بتبادر الحيثية المشتركة غير واضح لأنّ الحيثيّة المشتركة لا يمكن أن ترد إلى الذهن إلاّ في ضمن الخاصّ كما افترضه ، وعليه فان ادعي شهادة الوجدان بعدم الانتقال إلى الخصوصية فهو خلف الفرض ، وان ادّعي شهادة الوجدان بعدم الانتقال من ناحية نفس الحرف إلى الخصوصية فهذا لا ينافي ما ندّعيه من كون الحرف موضوعاً بوضع ضمني على نحو الوضع العام والموضوع له الخاصّ فان مقتضى ذلك انّ الخصوصية مستفادة من المجموع لا من الحرف مستقلاً.

وبالإمكان صياغة برهان آخر على مدّعى المحقق العراقي مركب من أمرين : أحدهما : وجداني ، وهو إدراك وجود تشابه بين النسب الابتدائية على نحو لا يوجد بين نسبة ابتدائية ونسبة ظرفية. والآخر : برهاني ، وهو انّ كلّ تشابه بين أمرين يرجع لا محالة إلى اشتراكهما في حيثية واحدة إذ مع التباين في كلّ الحيثيات لا يبقى فرق بين مباين ومباين ، فإذا تقرّر هذان الأمران يستكشف على أساسهما وجود حيثية مشتركة بين النسب الابتدائية ، وهذه الحيثية ليست عرضية وطارئة لوضوح انّ التشابه ملحوظ بين النسبتين الابتدائيتين بقطع النّظر عن أيّ عارض وطارئ ولا يمكن تصوّر زوال التشابه بزوال هذا العارض أو ذاك فيتعيّن أن تكون الحيثيّة المشتركة ذاتية وبذلك يثبت الجامع الحقيقي بين النسبتين.

وببيان آخر : إن النسب الابتدائية مثلاً ينتزع منها جميعاً مفهوم اسمي واحد


ولا يمكن انتزاع مفهوم واحد من المتباينات بما هي متباينات ، فحينما ينتزع مفهوم واحد من أفراد عديدة فلا بدّ أن يكون منتزعاً امّا بلحاظ مرتبة ذاتها فيكون جامعاً ذاتيّاً ، أو بلحاظ مرتبة عرض من أعراضها وشأن من شئونها فيكون جامعاً عرضيّاً ، والثاني في المقام باطل لما أشرنا إليه فيتعيّن الأول.

وينحصر الجواب على هذا البرهان : بإنكار مرجعية التشابه حتماً إلى الاشتراك في جامع إلاّ فيما كان له تقرر ماهوي في مرتبة سابقة على الوجود وامّا ما كان تقرّره في طول صقع الوجود فلا يرجع التشابه والتقارب فيه إلى الاشتراك في جامع مفهومي حقيقي كما هو الحال في أنحاء الوجود نفسها ولو كان لا بدّ من جامع كذلك في كلّ تشابه لزم عند تطبيق ذلك على النسب افتراض اشتمالها على جامع ذاتي محفوظ في تمام النسب وجامع ذاتي آخر محفوظ في خصوص النسب الابتدائية مثلاً ، وبهذا تكون النسبة الابتدائية مركّبة من جزءين وهذا الجزءان بنفسيهما بينهما تشابه بالضرورة في مقابل ما لا يدخل في تكوين النسبة من مفاهيم فلا بدّ انسياقاً مع البرهان المذكور من افتراض جامع ذاتي بينهما وهكذا.

٢ ـ من ناحية اللفظ الموضوع

الناحية الثانية : في تشخيص كيفية وضع الحروف والهيئات من جانب اللفظ من حيث انّه شخصي أو نوعي ، والمعروف بين المحققين انّ الوضع في الهيئة نوعي وامّا الوضع في الحروف فلم يتكلّموا عنه وكأنّه لافتراض وضوح كون الوضع فيه شخصياً.

والتحقيق في الحروف : انّ الوضع فيها نوعي بناء على ما حققناه من أنّ الحرف ليس له وضع مستقل بل موضوع بوضع ضمني في ضمن الجملة ، وحيث انّ عناصر الجملة تختلف من مورد إلى آخر وهي غير محصورة فلا بدّ من استحضار عنوان إجمالي يشير إلى كلّ الجمل التي تتألّف من ظرف ومظروف وحرف الظرفية مثلاً ووضعها للمعنى المناسب لها ، وهذا يعني انّ الوضع نوعي لأنّ الموضوع في الحقيقة شخص كلّ جملة وشخص الجملة لم يستحضر في مقام الوضع إلاّ بنوعه.

وأمّا الهيئات ، فالمعروف كما أشرنا ان الوضع فيها نوعي إذ لم تستحضر الهيئة


المتخصصة بكلّ مادة بالخصوص في مقام الوضع وانّما استحضر نوع الهيئة الملحوظة لا بشرط من حيث المادة ، وهذا بخلاف المادة فانّ وضعها شخصي.

وقد استشكل في ذلك ثبوتاً بأن التمييز بين الهيئة والمادة بالنوعية في الوضع في الأولى والشخصية في الثانية غير متعقّل ، لأن مناط نوعية وضع الهيئة إن كان عدم اختصاصها بمادة من المواد فالمواد كذلك لعدم اختصاصها بهيئة من الهيئات ، ومناط شخصية الوضع في المادة إن كان امتياز كلّ مادة عن الأخرى فالهيئات كذلك لامتياز بعضها عن بعض.

وقد وجهه المحقق الأصفهاني ( قده ) بأن المادة لما كان لها جامع يمكن استحضاره فالواضع يحضر هذا الجامع في ذهنه ويضع له المعنى فيكون الموضوع بحقيقته وشخصه مستحضراً ، ففي وضع مادة « ضرب » مثلاً يتصور الحروف الثلاثة على نحو يكون الضاد مقدماً على الراء والباء متأخراً عنهما فيقول وضعت ذلك للمعنى الحدثي الخاصّ. وامّا في جانب الهيئة ، فلا يمكن حضور الهيئة بنفسها واستحضارها مجردة عن المادة لتقومها بالمادة حيث انّها طور من أطوارها ، فلا يعقل أن يكون هناك جامع حقيقي بين هيئات « ضارب » و « عالم » و « شارب » لأنّه لا جامع بين المواد ، وذلك الجامع حيث انّه هيئة يحتاج إلى ما يقوم به ومع قيامه بمادة خاصة يتشخص فلا يكون جامعاً ، والحاصل : انّ كلّ ما يفرض جامعاً إن كان قائماً بمادة فليس هو بجامع لتخصصه بمادة من المواد وإلاّ فليس بهيئة حقيقة. وإذن فلا بدّ للواضع من إحضار عنوان انتزاعي يشير به إليها ، أو وضع بعضها وقياس الأفراد الأخرى عليه ، وبهذا يكون الوضع نوعيّاً ويختلف عن المادة لوجود الجامع الحقيقي للمادة ، وهذا طريف وجيه ، غير انّ الكلام يبقى إثباتاً في ان وضع الهيئة هل هو نوعي أو شخصي ولدينا هنا إشكال إثباتي نرى أنّه يواجه دعوى النوعية في وضع بعض الهيئات الإفرادية ، كهيئة اسم الفاعل ونحوه ، وملخصه : انّ الهيئة كهيئة اسم الفاعل أو فعل الماضي مثلاً إذا أخذت لا بشرط من حيث المادة ووضعت للذات المتلبسة بالمبدإ بناء على التركيب في المشتق وللنسبة بين الفعل والفاعل بناء على أن مفاد الفعل نسبة أولية ، فهناك أنحاء من التلبّس وأنحاء من النسب بين الفعل والفاعل فهو تارة : يكون صدوريّاً كما في « ضارب » و « ضرب »


و « قاتل » و « قتل » وأخرى : حلوليّاً كما في « مائت » و « مات » و « عالم » و « علم » فان كان المأخوذ في مدلول الهيئة في مقام الوضع الجامع بين تلك النسب والتلبسات على نحو الوضع العام والموضوع له العام أو على نحو الوضع العام والموضوع له الخاصّ فيلزم صحة استعمال كلّ هيئة في كلّ نحو من التلبس ، وهذا يعني صحة استعمال « قاتل » فيمن تلبس بحلول القتل عليه وهكذا وهو واضح البطلان ، وإن كان المأخوذ نحواً خاصاً من التلبس كالتلبس الصدوري مثلاً لزم ان لا يجوز استعمال أي هيئة في مورد التلبس الحلولي مع وضوح صحته في بعض الهيئات كما في « مائت » مثلاً فلم يبق إلاّ أن يكون الواضع قد لاحظ كلّ هيئة مقرونة بمادتها الخاصة ووضعها للنحو المناسب من التلبس والنسبة وهو معنى الوضع الشخصي.

ولا يصحّ أن يقال : ان اسم الفاعل موضوع للذات المتلبسة بالمبدإ بالتلبس المناسب لطبيعة ذلك المبدأ ، وحيث انّ المناسب للقتل التلبس الصدوري لم يصح استعمال لفظ « القاتل » في الذات التي حلّ فيها القتل ، وان المناسب للعلم التلبس الحلولي لم يصح استعمال لفظ « العالم » في الذات التي صدر منها العلم. فان هذا الكلام لا محصل له ، وذلك لأن كلاً من القتل والموت والعلم عرض له نسبتان ، نسبة إلى فاعل القتل والعلم ونسبة إلى محلها ، وليس أحدهما أولى من الآخر بإحدى النسبتين فلما ذا صحّ استعمال « قاتل » في فاعل القتل ولم يصح استعمال « مائت » في فاعل الموت.

ولا يصح أن يقال : انّ هيئة اسم الفاعل موضوعة للذات المنتسب إليها المبدأ بالنسبة التي أخذت في المصدر ، وحيث انّ المصادر مختلفة من هذه الجهة ففي بعضها أخذت النسبة إلى الفاعل وفي بعضها النسبة إلى المفعول وهكذا ، فاسم الفاعل يدلّ على صاحب تلك النسبة ومن هنا افترق « قاتل » عن « مائت » فان القتل أخذت فيه النسبة إلى الفاعل والموت أخذت فيه النسبة إلى الميت. فان هذا الكلام غير مستقيم حتى لو بني على تضمن هيئة المصدر للنسبة ، لأنّ النسبة المأخوذة في القتل مثلاً لا نسلم انّها النسبة إلى فاعل القتل بالخصوص بل هي النسبة إلى كل من الطرفين من الفاعل والقابل ، ولذا تكون إضافته إلى القابل على حدّ إضافته إلى الفاعل ، فكما يقال « قتل


معاوية لحجر جريمة » يقال « قتل حجر من أعظم المحرمات » والوجدان شاهد على ان لفظ القتل لا يوجب انصراف الذهن إلى خصوص النسبة الفاعلية. فلم يبق وجه لاختصاص القاتل بفاعل القتل.

ولا مخلص عن هذا الإشكال إلاّ بالالتزام بأن الهيئة في ضمن كلّ مادة موضوعة بوضع شخصي للنحو المخصوص من النسبة ، أو الالتزام بأن أنحاء النسب مأخوذة في مدلول المادة ووضعها الشخصي ، بأن تكون النسبة الصدورية مثلاً مأخوذة بالخصوص في مدلول المادة ، أو تكون كلّ من النسبة الصدورية والحلولية مأخوذة في مدلولها بنحو الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، ويحافظ حينئذ على الوضع النوعيّ للهيئة.

٤ ـ الثمرات العملية

للبحث عن مفاد الحروف والهيئات

قد فرغنا الآن من البحث التحليلي في مداليل الحروف والهيئات ، وعلينا أن نشرح الثمرات العملية لهذا البحث ويمكن تلخيصها فيما يلي :

١ ـ رجوع القيد إلى مدلول الهيئة إمكاناً وامتناعا

إذا أفيد الحكم بنحو المعنى الحرفي ، كما إذا دلّت عليه هيئة الأمر ، وأريد ربطه بقيد ، كما في قولنا « إذا استطعت فحج » فبالإمكان ثبوتاً أن يكون القيد قيداً للحكم والوجوب وأن يكون قيداً للواجب. والمتبع في تعيين أحد الأمرين ظهور الدليل بحسب مقام الإثبات ، ولكن قد يقال بأن رجوع القيد إلى مدلول الهيئة غير معقول ثبوتاً باعتباره معنى حرفياً والمعنى الحرفي لا يعقل تقييده فيتعيّن إرجاعه إلى مرجع آخر كمادة الأمر في المثال ومن هنا أنكر جماعة من الأعلام الوجوب المشروط وفرعوا ذلك على مواقف معيّنة تجاه المعاني الحرفية اقتضت الذهاب إلى عدم إمكان تقييدها. ويمكن تلخيص تلك المواقف في الوجهين التاليين :

الوجه الأول : انّ الحرف ـ بمعناه العام الشامل للهيئة ـ موضوع بالوضع العام والموضوع له الخاصّ ، وهذا يعني انّ مدلول الحرف جزئي والجزئي لا يقبل التقييد لأن


التقييد انّما يطرأ على ما يكون قابلاً في نفسه للسعة والانطباق على واجد القيد وفاقده وهذه القابلية شأن الكلّي لا الجزئي فلا يمكن إرجاع القيد إلى مفاد الهيئة.

الوجه الثاني : انّ المعنى الحرفي متقوم بالآلية في عالم اللحاظ وعدم التوجه إليه مستقلاً والتقييد يستدعي توجه الحاكم بالتقييد إلى مصبه وملاحظته له مستقلاً لكي يقيده وهو خلف طبيعة المعنى الحرفي.

مانعية الجزئية عن التقييد

امّا الوجه الأول : ومرده إلى مانعية جزئية المعنى الحرفي عن التقييد فهو يستند إلى برهان مركب من الأمور التالية :

١ ـ انّ وضع الحروف على نحو الوضع العام والموضوع له الخاصّ كما برهنا عليه سابقاً.

٢ ـ انّ الخاصّ عبارة أخرى عن الجزئي الّذي لا يقبل الصدق على كثيرين.

٣ ـ انّ الجزئي كذلك لا يقبل التقييد.

ونتيجة ذلك كلّه انّ المعنى الحرفي لا يقبل التقييد.

والتحقيق : في ردّ هذا البرهان بمنع الأمر الثاني منه ، فان كون الموضوع له الحرف خاصاً لا يساوق كونه جزئيّاً بالمعنى الّذي لا يقبل الصدق على كثيرين ، وانّما هو نحو آخر من الجزئية مردّه إلى الجزئية الطرفية بمعنى انّه متقوم بأطرافه وهذا النحو من الجزئية لا يمنع عن قابلية الصدق على كثيرين وعروض التقييد له من بعض الجهات. وتوضيح ذلك : انّ أنحاء النسب ـ كما تقدّم ـ لا يعقل أن يكون بينهما جامع ذاتي لأن كلّ نسبة متقومة في حقيقتها بطرفيها ، فأخذ الجامع بإلغاء الطرفين غير معقول لأن هذا إلغاء لحقيقة النسبة فلا يكون المأخوذ جامعاً نسبيّاً حقيقيّاً ، وأخذ الجامع مع التحفظ على الطرفين غير معقول للتباين بين النسبتين حينئذٍ بتباين أطرافها ، وهذا يبرهن على أنّ الموضوع له الحرف ليس جامعاً بين النسب بل كلّ نسبة من النسب المتقومة بأطرافها ، ثمّ انّ كلّ نسبة من تلك النسب في نفسها كلية قابلة للإطلاق والتقييد ومن سائر الجهات غير جهة الأطراف المتقومة لها وليس التقييد بتلك الجهات بمعنى انّ


جهة أخرى تكون مقومة للنسبة في عرض أطرافه الأخرى الّذي لازمه أن لا يكون هناك جامع بين النسبة المتخصصة بالطرف الآخر والنسبة غير المتخصصة به لعين البرهان السابق ، فان النسبتين إذا كانتا مختلفتين في الأطراف المقومة لها امتنع الجامع بينهما ، بل معناه كون التقييد بالأمر الآخر يعرض للنسبة في المرتبة المتأخرة بحيث يكون مقيداً للنسبة بعد تقومها بأطرافها وليس مقوماً لها مع أطرافها. وبتعبير آخر : انّ الشيء تارة : يكون ممّا به قوام النسبة فيكون في المرتبة السابقة عليها وتكون النسبة متعلقة به. وأخرى يكون قيداً للنسبة بعد تقومها بأطرافها بحيث يكون من شئونها وعوارضها ذهناً كحال القيود بالإضافة إلى المفاهيم الاسمية ، فالهيئة مستعملة في النسبة المتقومة بأطرافها الخاصة وهي جامعة بين النسبة المتقيدة بأمر آخر والنسبة المطلقة من سائر الجهات ، وهذا الجامع معقول لعدم استلزامه إلغاء الأطراف المقومة وهو قابل للتقييد وبذلك تندفع الشبهة.

وقد أجيب عن البرهان المذكور بوجوه أخرى :

منها ـ ما يرجع إلى منع الأمر الأول ، كجواب المحقق الخراسانيّ ( قده ) بدعوى : انّ الحروف موضوعة بالوضع العام والموضوع له العام.

ومنها ـ ما يرجع إلى منع الأمر الثاني ، كجواب المحقق الأصفهاني ( قده ) بأنّ كون مدلول الحرف خاصاً ليس بمعنى كونه جزئيّاً خارجيّاً أو ذهنيّاً بل خصوصيته بتقومه بطرفيه فلا يمكن افتراض المعنى الحرفي جامعاً بين نسبتين ، ولكن هذا لا يأبى عن إدخال مقوم ثالث على النسبة وهو القيد في محل الكلام فمدلول هيئة « افعل » الّذي هو البعث الملحوظ بما هو نسبة بين المادة والمخاطب قد يلحظ بما هو نسبة ثلاثية الأركان بين المادة والمخاطب والشرط. وفرق هذا عمّا حقّقناه في مقام الجواب انّ إرجاع القيد إلى مدلول الهيئة على ما بيّناه يكون من باب التقييد الطارئ عليه ، وعلى ما أفاده يكون بتثليث مقومات النسبة على نحو لا يعود هناك جامع بين النسبة المرتبطة بهذا المقوم الثالث والنسبة غير المرتبطة به.

ومنها ـ ما يرجع إلى منع الأمر الثالث ، من قبيل جواب المحقق الأصفهاني ( قده ) أيضا من أن المعنى الحرفي لو سلّم كونه جزئيّاً حقيقيّاً فلا ينافي ذلك التقييد بمعنى


التعليق على أمر مقدّر الوجود ، فان الجزئي يقبل ذلك وانّما لا يقبل التقييد بمعنى تضييق دائرة المعنى ، وبتعبير آخر : انّ الفرد الجزئي لا بدّ له من علة ، فتارة : تكون علته فعلية فيكون فعلياً. وأخرى : تكون علته غير فعلية فيكون معلقاً عليها.

ومن قبيل جواب المحقق العراقي ( قده ) بأنّ الجزئي وإن كان لا يقبل الإطلاق والتقييد من حيث ذاته لعدم قابليته للصدق على أفراد متعددة إلاّ انّه قابل للإطلاق والتقييد من حيث أحواله ، فالتقييد المقابل للإطلاق الأحوالي معقول وإن كان التقييد المقابل للإطلاق الأفرادي محالاً.

ومن قبيل الجواب الّذي أفاده صاحب الكفاية ( قده ) من انّ مدلول الهيئة وإن كان يصبح جزئيّاً بالإنشاء ولكن يمكن تقييده أولا ثمّ إنشاؤه مقيداً ، ففي مرتبة كونه جزئياً لا تقييد فلا محذور.

هذه خمسة أجوبة والتحقيق عدم الالتزام بشيء منها.

أمّا الأول : فلما تقدّم من البرهان على أن الموضوع له في الحروف خاص وليس عاماً.

وأمّا الثاني : فلأننا إذا أنكرنا الجزئية الحقيقية للمعنى الحرفي وقلنا انّها جزئية طرفية فالتقييد العرضي للنسبة معقول على حدّ تقييد المفاهيم الاسمية ولا حاجة إلى إرجاعه إلى افتراض مقوم ثالث للنسبة كما صنعه 1 بل انّ ذلك غير صحيح ، إمّا أولا : فلأنّه لا يوجد ربط مباشر بين الشرط والمادة والمخاطب لتلحظ نسبة واحدة قائمة بالثلاثة ، بل الشرط مرتبط بمشروطه وهو الحكم الملحوظ في مرحلة المدلول التصوري بما هو نسبة بعثية أو إرسالية قائمة بين المادة والمخاطب ، فلا بدّ من ارتباط الشرط بهذه النسبة بدلاً عن ربطه بالمادة والمخاطب ابتداءً.

وإن شئت قلت : انّ الربط بنحو المعنى الحرفي الصالح لأن ينتزع منه مفهوم الشرطية بنحو المعنى الاسمي وان يحكي عن واقع الربط الّذي يكون الشرط طرفاً له انّما يقوم بين الشرط والمشروط.

وثانياً : انّ لازم ذلك عدم كون التعليق مفاداً على نحو النسبة التامة في الجملة الشرطية ، وهذا يوجب تعذّر استفادة المفهوم كما سنوضّحه إن شاء الله تعالى.


أمّا الثالث : فيرد عليه : انّه مع إنكار الجزئية الحقيقية لا معنى للتعليق بنحو يقابل التقييد ، ومع افتراض كون المعنى الحرفي جزئيّاً حقيقياً فلا يتمّ الجواب المذكور لأنّ المفروض فيه كون التقييد بالشرط راجعاً إليه في المرتبة المتأخرة عن كونه جزئيّاً خارجيّاً وشخصاً خاصاً ، بمعنى انّ ما هو معروض التقييد هو الجزئي ومن المعلوم انّ ما كان جزئيّاً كما لا يقبل التضييق كذلك لا يقبل التعليق لأن فرض جزئيته الخارجية هو فرض تشخصه بوجود خاص وبعلة خاصة ولا يعقل كونه مطلقاً من ناحية علّته وإلاّ لم يكن جزئياً لأنّ معناه إطلاقه من حيث سنخ وجوده المترشح من علته. والحاصل : انّ الإطلاق المقابل للتعليق معناه قابلية الفرد للتعليق على أمور متعددة وبالتقييد يعلّق الأمر بالفعل على شيء واحد والجزئي لا يقبل التعليق على أمور متعددة بحدّ ذاته لأنّه لا يكون جزئيّاً إِلاّ بترشحه من علّة خاصة فبعد ان كان جزئيّاً لا يعقل تعليقه. وإِن شئت قلت : انّ التعليق إِن كان في مقابل الإطلاق من ناحية العلة فهو غير معقول في الجزئي كما عرفت ، وإن كان في مقابل فعلية المعلق بفعلية المعلّق عليه ، ففيه : انّ مفاد التعليق في الشرطية سنخ معنى محفوظ في فرض فعلية المعلّق عليه وفرض عدم فعليته فلا يمكن أن يراد بالتعليق معنى يقابل الفعلية. هذا ، مضافاً : إلى انّ التعليق بهذا المعنى يستدعي كون المعلّق مفهوماً كليّاً لا جزئيّاً خارجيّاً لأنّ الشيء لا يكون جزئيّاً خارجيّاً إلاّ بالوجود والتشخص وهو ينافي التعليق المذكور.

وامّا الرابع : فيرد عليه : انّ أحوال الفرد عبارة عن حدوده الوجودية والشيء وإن كان قابلاً لحدود وجودية مختلفة طولاً وقصراً إلاّ أنه في مرتبة كونه جزئياً حقيقيّاً وشخصاً خاصاً لا يكون قابلاً لحدود مختلفة حتى يضيق بحدّ خاص ، إِذ من لوازم الجزئية والتشخص أن يكون ذا حدٍّ خاص لأن كلّ جزئي محدود ومتقوّم بحدوده الخاصة فلا يعقل تضييقه بحد من الحدود الشخصية ، نعم قد يؤخذ الفرد مقارناً لحالة من حالاته فيؤخذ موضوعاً لحكم كما إذا قلنا « زيد حال كونه في النار مؤدب » وهذا غير تضييق نفس الفرد.

والحاصل : انّه إن أريد بالتقييد الأحوالي تضييق وجوده بحال خاص بحيث لا يكون لوجوده الجزئي سعة لغير ذاك الحال فهو غير معقول لأنّ الجزئي لا بدّ أن يكون


متحدداً في وجوده بحدود وأحوال خاصة لا يقبل الإطلاق من جهتها ليقبل التقييد. وإن أريد أخذ مرتبة من ذاك الوجود الجزئي مقيدة بحال من أحواله فهو أمر ممكن إلاّ انّه انّما يصحّ فيما إذا أريد ترتيب حكم على الفرد في حالة مخصوصة لا فيما إذا أريد تضييق نفس الفرد وتحديد وجوده.

وامّا الخامس : فكأنّه بني على أن يراد بالجزئية الجزئية بحسب الوجود الإنشائي باعتبار انّ الوجود مساوق للتشخص والثبوت الإنشائي نحو من الثبوت والوجود ، إذ من الواضح انّ المحذور لو كان هو الجزئية الخارجية أو اللحاظية لكان المعنى جزئيّاً مع قطع النّظر عن الإنشاء فلا يمكن تقييده ولو في المرتبة السابقة على الإنشاء. والتحقيق : عدم تمامية الجواب المذكور أصلاً ، وذلك لأنّ المعنى الموضوع له إن كان كلّياً بحدّ ذاته وانّما يصير جزئياً بالإنشاء والإيقاع الإنشائي فالهيئة لا يمكن أن تستعمل على سبيل الحقيقة إلاّ في نفس ذلك المعنى العام بناء على انّ استعمال الجملة الإنشائية في مدلولها هو سنخ إيجاده بها ، فلا يمكن أن يوجد بالهيئة إلاّ ذلك المعنى العام دون المقيد ، نعم لو قيل بأن الإيجاد الإنشائي أمر وراء نفس الاستعمال أمكن إفادة المقيد في مرحلة الاستعمال أولا على طريقة تعدد الدال والمدلول ثمّ إيجاد المقيد إنشائياً بمجموع الكلام ، كما انّه لو قيل بجزئية المعنى الحرفي الذهنية على أساس أخذ اللحاظ الآلي قيداً فيه أمكن التقييد أيضا لأنّ التقييد انّما هو بلحاظ سعة انطباقه على الافراد الخارجية وهو لا ينافي التشخص في الوجود اللحاظي التصوري.

مانعية الآلية عن التقييد

وأمّا الوجه الثاني : وهو انّ آلية المعنى الحرفي تمنع عن قابليته للتقييد فيمكن أن يقرب بعدّة تقريبات :

التقريب الأول : وهو مبني على الآلية اللحاظية وانّ المعنى الحرفي متحد مع الاسمي ذاتاً ومتميز عنه باللحاظ الآلي وكونه ملحوظاً تبعاً للحاظ متعلقه استقلالاً شأن المرآة مع ذي المرآة والعنوان الملحوظ فانياً في معنونه وحاصله : انّه بناء على هذا الأساس لا يمكن تقييد المعنى الحرفي لأنّ تقييد شيء يتوقّف على ملاحظته وتصوره استقلالاً.


وقد يجاب على ذلك : بأن كون المعنى الحرفي ملحوظاً آليّاً انّما يمنع عن تقييده حال لحاظه كذلك ، وامّا لحاظ المعنى في نفسه أولا مقيداً بقيد ثمّ لحاظ المقيد آلياً في مقام الاستعمال فلا مانع عنه أصلاً.

والتحقيق : انّ هذا انّما يتمّ إذا كان التقييد بالشرط ومفاد هيئة الجملة الشرطية الّذي يربط مدلول هيئة الجزاء بجملة الشرط مأخوذاً على نحو النسبة الناقصة التقييدية. فان بالإمكان حينئذٍ تقييده وملاحظة الحصة الخاصة باللحاظ الآلي وإفادتها بنحو تعدد الدال والمدلول ، وامّا إذا كان مفاد هيئة الجملة الشرطية نسبة تامة أحد طرفيها مفاد الشرط والطرف الآخر مدلول هيئة الجزاء فلا يتم ما ذكر ، لأنه لا بدّ من حفظ النسبة التامة في مرحلة اللحاظ الاستعمالي وانحفاظها في هذه المرحلة مساوق للنظر إلى طرفيها بما هما متغايران لما تقدّم من انّ طرفي النسبة التامة في عالم اللحاظ الاستعمالي ملحوظان بما هما متغايران ، فان كان طرفها ملحوظاً في هذه المرحلة تبعاً فكيف يمكن إيقاع النسبة بينه وبين الطرف الآخر؟

والصحيح في إبطال هذا التقريب منعه مبنى ، وذلك لأن التغاير بين المعنى الاسمي والحرفي ذاتي لا لحاظي ومن هنا ينتقل إلى التقريب الآخر التالي.

التقريب الثاني : ان المعنى الحرفي بحكم كونه نسبيّاً لا يعقل أن يكون له وجود استقلالي لا في الذهن ولا في الخارج ، وبذلك يمتنع تعلّق اللحاظ الاستقلالي به لا لأخذ اللحاظ الآلي قيداً فيه كما هو مبنى التقريب السابق بل لأن النسبة الحقيقية سنخ ماهية ناقصة ذاتاً لا يعقل أن يكون لها وجود بحيالها وانّما هي مندكة في طرفيها دائماً. وإذا كان هذا هو نحو وجودها في الذهن فلا يعقل تقييدها لأنّ تقييد معنى يستدعي ملاحظته والتوجّه إليه وبهذا البيان اتّضح وجه النّظر فيما أفاده جملة من الأعلام ، من دفع التقريب السابق بإنكار التبعية في اللحاظ للمعنى الحرفي وتوضيح أن تبعيته ذاتية باعتبار نسبيته ، وذلك لأن هذه التبعية الذاتيّة تبرهن بنفسها على استحالة الوجود الاستقلالي لمثل هذه الماهية التي لا استقلال لها في مقام التقرر فضلاً عن مقام الوجود ، واللحاظ نحو من الوجود فينتج عدم قابلية المعنى الحرفي للحاظ الاستقلالي ويعود الإشكال.


والتحقيق : انّ المعنى الحرفي إذا كان نسبة ناقصة فهذا الإشكال لا محيص عنه لأنّ النسبة الناقصة كما أوضحنا سابقاً تحليلية وهذا يعني انّها لا ثبوت لها في صقع الذهن بوجه ومعه لا يعقل إرجاع القيد إليها في مرحلة اللحاظ الاستعمالي ، إذ في هذه المرحلة لا نسبة أصلاً وإنّما هناك مفهوم افرادي قابل بنظرة ثانية للتحليل إلى أجزاء أحدها النسبة فالقيود في هذا المقام ترجع دائماً إلى الحصة الخاصة المتحصلة.

وأمّا إذا كان المعنى الحرفي نسبة تامة فيمكن تقييده لأن النسبة التامة لها ثبوت في صقع الذهن في مرحلة اللحاظ الاستعمالي. ولا يحتاج ذلك إلى أن يكون للمعنى الحرفي وجود استقلالي بل لا بدّ من توجّه استقلالي من قبل النّفس لمدلول هيئة الجزاء الّذي يراد ربطه بمدلول الشرط ، والتوجه الاستقلالي من النّفس غير الوجود الذهني الاستقلالي ، فقد يكون شيء موجوداً بوجود ذهني استقلالي ولكن النّفس غير متوجهة نحوه ، كما في الصور المركوزة في الذهن المغفول عنها فعلاً ، وقد يكون الأمر بالعكس كالتوجه نحو إضافة بين النّفس وشيء ممّا هو في صقعها وليس هو عين الحضور والوجود في ذلك الصقع. وعليه فلا محذور في تقييد مفاد هيئة الجزاء.

٢ ـ التمسّك بإطلاق مدلول الهيئة إمكاناً وامتناعا

يتمسّك عادة بإطلاق مدلول الهيئة بمعنيين :

الأول : التمسّك بإطلاقه لإثبات أن الوجوب المجعول في طرف المنطوق ليس مقيداً بقيد ، ويمثّل هذا الإطلاق ينفي كون الوجوب مشروطاً بل ينفي كونه غيريّاً أو كفائياً أو تخييريّاً بناء على رجوع هذه الخصوصيات إلى الوجوب المشروط على تفصيل يأتي في موضعه.

الثاني : التمسّك بإطلاقه في ظرف وقوعه طرفاً للتعليق في الجملة الشرطية لإثبات انّ المعلّق سنخ الحكم لا شخصه لكي ينتفي سنخ الحكم بانتفاء الشرط.

وكلّ من المعنيين يقع موضعاً للإشكال في المقام بناء على بعض المسالك المتقدمة في المعاني الحرفية. إمّا بتقريب : انّ المعنى الحرفي جزئي والجزئي لا يقبل الإطلاق الّذي هو من شئون المفاهيم الكلية. وامّا بتقريب : أن المعنى الحرفي وإن لم يكن جزئياً إلاّ انّه


لا يعقل تقييده من أجل آليته ـ على ما تقدّم في الثمرة السابقة ـ وكلّ ما لا يعقل تقييده لا يمكن التمسّك بإطلاقه امّا لأن استحالة التقييد توجب استحالة الإطلاق ، وامّا لأن استحالة التقييد توجب تعذر جريان مقدمات الحكمة التي منها انَّه لو أراد المقيد لقيده وقد اتّضح الحال في كلّ ذلك ممّا تقدّم حيث ثبت انّ المعنى الحرفي يمكن تقييده فيصحّ التمسك بإطلاقه. نعم بعض الأجوبة التي صحح بها التقييد هناك لو تمّت لا تنفع لتصحيح الإطلاق بالمعنى الثاني في المقام ، كالجواب المبني على إرجاع التقييد إلى التقييد الأحوالي أو إلى التعليق في الفرد ، لأنّ هذا لا يصحح الإطلاق في مدلول الهيئة بمعنى حمله على سنخ الحكم.

٣ ـ التمسّك بإطلاق الموضوع في الجملة التامة دونه في الجملة الناقصة

وتوضيحه : انّ معنى من معاني ـ سواءً كان اسميّاً أو حرفيّاً ـ إذا وقع طرفاً لنسبة فتارة : تكون النسبة تامة ، وأخرى : ناقصة. فان كانت النسبة تامة وشك في انّ ما هو طرف هذه النسبة الّذي يحكم عليه بطرفها الآخر هل هو المطلق أو المقيد أمكن التمسك بالإطلاق وإجراء مقدمات الحكمة لإثبات انّ الطرف هو المطلق ، مثلاً إذا قلنا « وجوب الصدقة معلّق على الغنى » أو قلنا « البيع حلال » وشككنا في انّ موضوع التعليق على الغنى وموضوع الحلية هل هو طبيعي وجوب الصدقة وطبيعي البيع أو حصة خاصة أمكن بالإطلاق ان نثبت الأول ، ويتفرع عليه دلالة الجملة المذكورة على انتفاء سنخ الحكم بانتفاء الغنى وامّا إذا وقع معنى طرفاً لنسبة ناقصة وصفية مثلاً وشككنا في انّ الموصوف منه بالوصف هل هو مطلقه أو مقيّده فلا يمكن التمسّك بالإطلاق لإثبات انّ الموصوف هو المطلق فمثلاً إذا قيل « وجوب الصدقة المعلق على الغنى ثابت » وشككنا في انّ صفة « المعلّق على الغنى » هل هي صفة لسنخ وجوب الصدقة أو لحصة خاصة فلا يمكن إجراء الإطلاق ، والنكتة في ذلك تتضح من تحليلنا المبرهن المتقدم للنسبة التامة والنسبة الناقصة ، فبعد أن ثبت انّ النسبة الناقصة تحليلية وأنّه في صقع الذهن لا يوجد إثبات شيء لشيء بل يوجد شيء خاص فلا موضوع يثبت له شيء في صقع الذهن لتجري الإطلاق في هذا الموضوع بل مفهوم افرادي


واحد والقضية المركبة تحليلية لا واقعية وهذا بخلاف موارد النسبة التامة.

ومن ذلك يتّضح سر في غاية الأهمية وبيانه : انَّ اقتناص المفهوم للجملة الشرطية أو أي جملة أخرى يتوقّف ـ كما يأتي ـ على أن يكون المعلّق سنخ الحكم لا شخصه إذ لو كان المعلّق شخص الحكم فلا يقتضي التعليق أو العلية الانحصارية إِلاَّ انتفاء الشخص مع احتمال ثبوت شخص آخر والطريق إلى إثبات ان المعلّق سنخ الحكم إجراء الإطلاق في مفاد هيئة « أكرم » في قولنا « إذا جاءك ضيف فأكرمه » والإطلاق انَّما يجري في مفاد هيئة « أكرم » بلحاظ كونه موضوعاً للتعليق إذ لا معنى للإطلاق ومقدمات الحكمة إلا بهذا اللحاظ ، وحينئذ نقول : انَّ تعليق الجزاء على الشرط مستفاد من الجملة الشرطية بنحو المعنى الحرفي خلافاً للجملة المتقدمة « وجوب الصدقة معلق على الغنى » فانَّ التعليق فيها كان مستفاداً بنحو المعنى الاسمي وهذا التعليق المستفاد بنحو المعنى الحرفي ان كان نسبة تامة ويحتلّ مدلول الجزاء مركز الموضوع فيها أمكن إجراء الإطلاق ومقدمات الحكمة فيها ، وإن كان نسبة ناقصة امتنع إجراء الإطلاق في مدلول الجزاء لإثبات انَّ المعلّق هو المطلق ، هذا كشف للسرّ على وجه الإجمال ويأتي تفصيله ومزيد توضيحه وتطبيقه على جميع الجمل التي يبحث عن مفهومها في بحث المفاهيم.

وعلى هذا الأساس يتّضح : انَّ ما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ) في الثمرة الأولى من تصوير التقييد لمفاد الهيئة بجعل الشرط طرفاً ثالثاً مقوماً للنسبة المدلول عليها بهيئة الجزاء لا يمكن أن يصحح التمسك بالإطلاق لإثبات ان المعلّق هو سنخ الحكم استطراقاً لإثبات المفهوم ، وذلك لأن فرض كون الشرط ركناً ثالثاً مقوماً للنسبة هو فرض تحصصها ذاتاً بهذا الطرف الثالث فليس لها مرتبة في صقع الذهن كانت عارية فيها عن الشرط ثمَّ يطرأ عليها الربط بالشرط والتعليق عليه لتجري الإطلاق لإثبات طرو هذا التعليق على المطلق ، كما هو الحال فيما لو كان مدلول الهيئة طرفاً لنسبة تامة.



مباحث الدليل اللفظي

البحوث اللفظيّة اللغوية



تمهيد

بينما كنَّا فيما سبق نبحث بحثاً تحليليّاً في مفاد الحرف أو الهيئة بمعنى انَّ مفاد الجملة بحدوده واضح لدينا وانَّما كنَّا نحاول التعريف على مقدار نصيب الحرف من هذا المفاد ، نبدأ الآن ببحوث لفظية لغوية وهي بحوث يراد بها تحديد المفاد ويتوقّف عليها تعيين مدلول اللفظ ذاتاً أو سعة وضيقاً غير انَّ هذه البحوث ـ كما أشرنا في البداية ـ يجب أن تشكل عناصر مشتركة في عملية الاستنباط لكي تتميز عن البحوث اللغوية البحتة.

وقد ألمعنا سابقاً إلى أنَّ البحوث اللغوية الأصولية تكون على نحوين :

١ ـ بحوث لغوية تفسيرية. وهي التي يكون منهج البحث الأصولي فيها تفسير الدلالات العرفية المتصلة باللفظ المبحوث عنه بعد التأكد من عرفيتها وسلامتها فدور الأصولي في هذا النوع من الأبحاث تقديم نظرية متكاملة تصلح لتفسير تلك الدلالات اللفظية دون أن يلزم نقض أو تنثلم دلالة ، وهذا نهج علمي ـ كما أشرنا ـ يشبه النهج العلمي الّذي يمارسه العالم الطبيعي في تفسير الظواهر الطبيعية.

٢ ـ بحوث لغوية اكتشافية ، وهي البحوث التي تعالج دفع شك حقيقي في مدلول اللفظ لمعرفة ما هو مدلول الكلمة أو الكلام. وقد أشرنا فيما سبق أن هناك وسيلتين رئيستين ـ بغضّ النّظر عمَّا قد يستند إليه من علوم اللغة ـ تعتبران هما الأساس في


اكتشاف مدلول اللفظ عند الأصولي وهما التبادر والبرهان. وقد تقدّم شرح دور كلّ منهما ومجال الاستفادة منها.

وعلى هذا الأساس ، سوف نعالج فيما يأتي من البحوث اللفظية تحديد المفاد اللغوي أو العرفي لألفاظ ودلالات عامة تشكّل عناصر مشتركة في عملية الاستنباط على ضوء المنهجة التي ذكرناها.


البحوث اللفظية اللغوية

المشتق

المشتق عند الأصوليين ـ ما ذا يراد بالحال في

عنوان النزاع؟ تصوير معنى عام للمشتق على

القولين ـ المختار في معنى المشتق ـ ما استدلّ به

على الوضع للمتلبّس ـ التفصيل بين بعض

المشتقات وبعض ـ ما يقتضيه الأصل العملي

عند الشك.



تمهيد

عرفنا فيما سبق من البحوث التحليلية مقدار ما تصيبه الهيئات الإفرادية بما فيها هيئة المشتق من مفاد الكلمة المشتملة عليها.

والبحث الآن عن المشتق من ناحية تحديد مفاده ومدلوله اللغوي أو العرفي وتعيين أنَّه موضوع للمتلبس بالمبدإ خاصة أو لمفهوم أعم يشمل المتلبس ومن انقضى عنه المبدأ على السواء. وهذه حيثية من البحث أصولية ينطبق عليها ميزان المسألة الأصولية لأنَّها تشكل عنصراً مشتركاً في عمليات الاستنباط صالحاً للدخول في كلّ باب من أبواب الفقه.

المشتق عند الأصوليين

لا ريب في أنَّ موضوع هذا البحث هو الأسماء دون الحروف والأفعال وإن كان الأخير مشتقاً بمصطلح آخر ، إلا انَّ الأسماء أيضا فيها الجامد وفيها المشتق ، والمشتق فيه ما يكون وصفاً ـ كأسماء المفاعيل ـ وما لا يكون ـ كأسماء المصادر ـ.

وقد ذكر جملة من المحققين بهذا الصدد : انَّ الضابط في الاسم الّذي يقع موضوعاً لهذا البحث ان يتوفّر على شرطين :


١ ـ أن يصحّ حمله على الذات ، إذ البحث عن صحة إطلاق المشتق على المنقضي عنه المبدأ فرع أن يكون ممَّا يجري على الذات ويحمل عليها وبذلك خرجت المصادر عن هذا البحث.

٢ ـ أن لا تكون حيثية المبدأ التي بها صح حمل الاسم على الذات ذاتية لها بحيث يستحيل انفكاكها عنها كما في أسماء الماهيات من الأجناس والأنواع ، لعدم انحفاظ ما يمكن أن يصدق عليه الاسم فيها بعد انقضاء المبدأ.

وقد اعترض على هذا الشرط : باستلزامه خروج ما تكون حيثية المبدأ فيه عرضية ولكنَّها لازمة ، كالواجب والممكن والزوج وغيرها من الأسماء المشتملة على مبادئ قد يصطلح عليها بالذاتي في كتاب البرهان.

وقد اضطر السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ في مقام الجواب على هذا الاعتراض أن يجعل النزاع في سعة مفهوم الهيئة الاشتقاقية وضيقه بقطع النّظر عن المادة التي تدخل عليها ، فذاتية المبدأ لا تضرّ بوضع الهيئة الداخلة عليها للأعم.

ولو أريد من استحالة الانفكاك في الشرط الثاني الاستحالة المنطقية لا الفعلية لارتفع الإشكال ، لأنَّ الاستحالة المنطقية هي عبارة عمَّا يؤدّي افتراضه إلى التناقض فاشتراط عدمها في المقام يعني اشتراط المغايرة بين المبدأ والذات ـ ولو كان لازماً له ـ وهذا لا بدَّ منه ، إذ لو كان المبدأ متّحداً مع الذات بحيث كان فرض انفكاكه عنها تناقضاً ، كما في الكليّات الخمسة ، لم يجر هذا النزاع فيه لأنَّه لا يعقل حينئذٍ فرض الذات فارغة عن التلبّس بمبدئها ولو فرضاً وتصوراً باعتباره تناقضاً في عالم التصوّر مستحيلاً ، وهذا بخلاف ما إذا لم تكن استحالة الانفكاك منطقية فان فرض الذات فارغة عن مبدئها معقول حينئذٍ وإن لم يكن واقعاً خارجاً بل يستحيل وقوعه ، فان تحديد معاني الألفاظ لا يتوقّف على وقوعها في الخارج بالفعل.

إن قيل : فما ذا يقال في مثل الناطق والصاهل ونحوها ممَّا يدخل في محلّ النزاع بحسب هيئاتها رغم كونها من الكليات الذاتيّة؟

قلنا : المراد بالكلّي الذاتي ما يكون كذلك حقيقة ، كالإنسان والحيوان ومثل هذه الأوصاف الاشتقاقية وإن عبر عنها مسامحة بالفصول لكنَّها ليست ذاتية لأنَّها جميعاً


مطعمة بمعانٍ حدثيّة ، كما لا يخفى على من تأمَّل.

وعلى هدى هذين الشرطين ذكر المحققون : انَّ الأسماء الجامدة يخرج منها عن النزاع ما كان منتزعاً عن الذات كالإنسان والحجر والشجر ونحوها لانثلام الشرط الثاني فيه ، ويدخل منها فيه غير ذلك كالزوج والسيف والمنشار ونحوها لتوفّر كلا الشرطين فيه ولو كان فيه ما ينتزع عن الذات بملاحظة لازم لها يستحيل انفكاكه عقلاً.

وما ذكروه من التفصيل بين القسمين لا يشقّ له غبار في القسم الثاني ، وأمَّا القسم الأول فبحاجة إلى تمحيص وتعديل. وذلك انَّ الماهيات الخارجية ذات مراتب أربع مترتبة من حيث الذاتيّة والعرضية بحسب مصطلحات المناطقة المطابقة أيضا مع الإلهام الفطري واللغوي للإنسان « المادة والصورة الجسمية والصورة النوعية والحالات الطارئة ، ولا إِشكال عندهم في ذاتية المادة ( الهيولى ) والصورة الجسمية ، كما لا إشكال في عرضية المرتبة الرابعة أعنى الحالات الطارئة على الموجود الخارجي ، كالشكل المعين العارض على الحديد فيجعله سيفاً أو منشاراً أو فأساً.

وهو مطابق أيضا مع الإلهام الفطري اللغوي للإنسان فانَّ الذهن العرفي يرى الجسم المركّب من المادة والصورة الجسمية جوهراً بخلاف الإشكال العارضة على الجسم فيراها خارجة من صميم الذات. وامَّا الصورة النوعية ، وهي التي تتميّز بها الأنواع كالإنسان والحجر والشجر ، فهناك خلاف بين الحكماء حول جوهريتها وعرضيتها. والجهة الملحوظة للأصولي في هذا البحث ملاحظة انَّ أيّاً من هذه الحيثيّات للموجود الخارجي ممَّا يساوق انفكاكه انتفاء الموضوع فيكون خارجاً عن البحث.

وبهذا الصدد نقول : لا ينبغي الشك في انَّ المرتبتين الأولى والثانية ـ المادة والصورة الجسمية ـ ممَّا تتقوّم بهما الذات بحسب الفهم العرفي الفطري بحيث يستحيل انفكاكهما عنها استحالة منطقية ، وانَّما لم نجعل الذات نفس الهيولى ـ كما في الفلسفة ـ لعدم إدراك الذهن الفطري للمادة مجرّدة عن الصورة وانَّما هو أمر يدعى انَّه أثبته البرهان الفلسفي فحسب ولهذا ليس هناك ما تحمل عليه الجسمية عرفاً عدا مثل مفهوم الشيء ونحوه المنتزع من الجسمية نفسها ، وأمَّا الصورة النوعية ، كالحجرية والحديدية ، فقد اعتبرها


الأصوليون مقومة للذات وبالتالي خارجة عن هذا النزاع. إلاّ انَّ هذا على إطلاقه ممَّا لا يمكن المساعدة عليه ، سواءً فسّرنا الاستحالة في الشرط الثاني للدخول في محل النزاع بالاستحالة المنطقية أو العقلية أمَّا على الأول فلعدم وقوع تهافت منطقي في افتراض انفكاك الصورة النوعية عن الذات بشهادة حملها عرفاً على الصورة الجسمية فيقال « هذا الجسم حديد أو شجر ».

وأمَّا على الثاني : فهناك بحث في إمكان انفكاك الذات عن صورتها النوعية من جهة البحث في مدى تقوم الصورة الجسمية بها ، فهناك اتجاه يقول بأنَّها كالأعراض لا دخل لها في الصورة الجسمية ، واتَّجاه آخر يدعى أصحابه تقوم الصورة الجسمية بإحدى الصور النوعية على سبيل البدل ، واتجاه ثالث يرى تقومها بأشخاص الصور النوعية ، فالنخلة إذا ما قطعت مثلاً فأصبحت خشبة فبزوال صورتها النوعية النامية تتبدّل جسميتها أيضا. وحينئذٍ بناء على الاتجاه الأخير قد يدعى خروج هذه الجوامد عن النزاع ، ولكن الصحيح أنَّه لا وجه لملاحظة الفهم الدقي والبرهاني في تشخيص الأوضاع اللغوية وانَّما الميزان ملاحظة الفهم الفطري العرفي ، ولا ريب في انَّ العرف في مثال النخلة يرى انحفاظ الذات والصورة الجسمية بعد زوال صورتها النوعية أيضا ولو لم تكن منحفظة بحسب البرهان الفلسفي كما انَّه ربّما يرى عدم انحفاظها ، كما في استحالة الكلب ملحاً ، فانَّه يرى عرفاً جسماً آخر غير الكلب ومن هنا يحكم بطهارته في الفقه ولو فرض انحفاظ الصورة الجسمية بالدقة العقلية.

فالصحيح إمكان النزاع في أسماء الأنواع أيضا فيما إذا لم يكن تغيرها بنحو الاستحالة العرفية وإن لم يقع ذلك بين المحققين ، حيث انَّ الظاهر اتفاق كلمة المتنازعين على اختصاص أسماء الأنواع بالمتلبس بالمبدإ.

وامَّا الأسماء المشتقة فالصحيح أن يستثنى منها أسماء المصادر كما أشير إليه في الشرط الأول.

وامَّا الأوصاف الاشتقاقية فقد استثني منها بعض الأسماء.

منها : استثناء الميرزا ( قده ) لاسم الآلة كمفتاح ، فانَّه بالرغم من كونه وصفاً اشتقاقيّاً يصدق على كلّ ما يقبل الفتح ولو لم يكن متلبساً بالفعل.


وفيه : انَّ المبدأ المأخوذ في اسم الآلة إن لوحظ بنحو الفعلية فلا محالة يلتزم بعدم الصدق في مورد النقض بناء على الوضع للمتلبس ، وإن لوحظ بنحو الشأنية والقابلية فدخوله في محلّ النزاع لا بدَّ وأن يقاس مع انقضاء شأنية المبدأ لا فعليته. وسوف يأتي البحث عن مثل هذه المشتقات.

ومنها : استثناء الميرزا ( قده ) أيضا اسم المفعول لأن الهيئة فيها وضعت لأن تدلّ على وقوع المبدأ على الذات وهو ممَّا لا يعقل فيه الانقضاء لأن ما وقع لا ينقلب عمَّا وقع عليه.

وفيه : انَّه إن أريد دعوى الفرق ثبوتاً بين نسبة الفعل إلى فاعله ونسبته إلى مفعوله فمن الواضح انَّ كلّ نسبة متقومة بوجود طرفها ، وإن أريد دعوى : الفرق إثباتاً وأن هيئة المفعول موضوعة لغة لنسبة أعم من ذلك فمضروب مثلاً موضوع بهيئته لمن وقع عليه الضرب لا من يقع عليه الضرب بالفعل فهو غير مسلَّم ، إذ من المستبعد أن يلحظ معنى مفعولي في اسم المفعول دون أن يلحظ ما يقابله من المعنى الفاعلي في اسم الفاعل فإنَّهما متقابلان بحسب الفهم الفطري العرفي. ويشهد لما نقول ما نجده في مثال المطلوب والمعلوم والمصبوغ من عدم الصدق حين انقضاء الطلب والعلم والصبغ ، وامَّا مثال المضروب فلو فرض استفادة توسعة فيه بالنحو المزعوم فلخصوصية في مادة الضرب ولذلك نشعر بها في الضارب أيضا.

ومنها : استثناء صاحب الكفاية ( قده ) مصادر الزمان كالمقتل لعدم إمكان انحفاظ الذات التي هي نفس الزمان فيها بعد انقضاء المبدأ (١).

وأجيب عنه بوجوه عديدة :

١ ـ ما ذكره صاحب الكفاية نفسه من أنَّ الذات الملحوظة في اسم الزمان وإن لم تكن توجد إلا ضمن الفرد المنقضي بانقضاء المبدأ إلا انَّ ذلك لا يمنع عن وضع الاسم بناء على الأعم للأعم منها ومن الفرد المستحيل ـ وهو المنقضي عنه المبدأ ـ ونظائره كثيرة في المسمَّيات كلفظ الواجب مثلاً (٢).

__________________

(١) كفاية الأصول ج ١ ص ٢٣ ( ط ـ مشكيني )

(٢) نفس المصدر


وكأنَّه يريد الإشارة إلى ما ذكرناه فيما سبق من عدم توقّف صحّة الاستعمال أو الوضع على إمكان وقوعه خارجاً بل إمكان تصوره ذهناً بلا استحالة منطقية.

وفيه : وجود استحالة منطقية في افتراض انحفاظ ذات الزمان بعد انقضاء مبدئه الّذي هو نفس الزمان أيضا ما لم تبرز عناية أخرى.

٢ ـ ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) والسيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ من انَّ الموضوع له فيها هو الأعم من الظرف الزماني والمكاني وليست مختصة بالزمان وبقاء ذات الظرف بهذا المعنى الأعم مع انقضاء المبدأ أمر معقول ولو بلحاظ ظروف المكان لا الزمان (١).

وفيه : ان أريد الوضع لمفهوم الظرف فهو واضح البطلان فانَّ مفهوم الظرف كمفهوم الفاعل والمفعول معانٍ اسمية منتزعة عن المعنى الحرفي النسبي الّذي هو مدلول الهيئات الاشتقاقية بحسب الفرض وإن أريد واقع النسبة الظرفية المتقومة بالظرف والمظروف فمن المعلوم انَّ النسبة الظرفية في ظروف الزمان تختلف سنخاً عن النسبة الظرفية المكانية حقيقة وعرفاً ولذلك كانت إحداهما مقومة لمقولة ( الأين ) والأخرى مقومة لمقولة ( المتى ) ولا جامع حقيقي بين المقولات.

إن قيل : يكفي وجود جامع انتزاعي كالظرفية الأعم من الزمانية أو المكانية لأن يوضع اللفظ بإزاء النسب الظرفية بنحو الوضع العام والموضوع له الخاصّ كما هو الشأن في كلّ المعاني الحرفية بل كما هو الواقع في كلمة « في » الموضوع لمطلق النسبة الظرفية فيجري النزاع حينئذٍ في تشخيص انَّ العنوان العام الملحوظ حين الوضع قد أخذ فيه فعلية التلبّس أو الأعم من المتلبّس والمنقضي.

قلنا : هذا خلف ما أشرنا إليه من اختلاف المعنى الملحوظ في هذه الأسماء حينما يراد منها الزمان عمَّا إذا أريد منها المكان فانَّ خصوصية كون الظرفية زمانية أو مكانية يفهمها العرف منها لا من دال آخر.

٣ ـ ما أفاده المحقق العراقي ( قده ) من انحفاظ الذات بعد انقضاء المبدأ في أسماء

__________________

(١) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٢٦١


الزمان أيضا ولو عرفاً ، لأنَّ اللحظة الزمنية التي وقع فيها المبدأ وإن كانت تنقضي بانقضاء المبدأ إلا انَّ الاتصال الموجود بين اللحظات الزمنية يجعلها أمراً واحداً محفوظاً بشخصه بين المبدأ والمنتهى فيرى بهذا الاعتبار بقاء الذات الزمنية وانقضاء المبدأ المنتسب إليها.

وهذا الوجه صحيح ، ولا يرد عليه ما أورده المحقق الأصفهاني ( قده ) من انَّ اتصال الهويات المتغايرة لا يصحح بقاء تلك الهوية التي وقع فيها الحدث حقيقة بل مجازاً ومن باب نسبة ما يوصف به الجزء إلى الكلّ.

فان الاعتراض متّجه في الجزء والكل العرضيين لا التدريجيين ، لأن الكل التدريجي يكون موجوداً بتمامه بوجود كلّ جزءٍ من أجزائه فالنهار موجود بشخصه لا بجزئه في جميع الآنات المتدرجة منه.

نعم قد يقال : انَّه يلزم على القول بالوضع للأعم حينئذٍ صحّة إطلاق اسم الزمان على الزمان إلى يوم القيامة فيقال : عن هذا الزمان مثلاً بأنَّه « مقتل زكريا » لأنَّه متّصل بزمان قتله.

والجواب عنه : انَّ المناط في تقطيع الزمان بالنظر العرفي الّذي يقطع الزمان إلى دهر وسنين وشهور وأسابيع وأيّام وساعات ويرى انَّ كلّ قطعة منها لها وجود مستقل ويرى انَّ الذات الزمنية فيها تزول بانتهاء تلك القطعة فالمقتلية مثلاً ليست وصفاً للدهر كلّه بل لتقطيع يدخل فيه لحظة القتل.

ما ذا يراد بالحال في عنوان النزاع؟

قد جرى على أقلام المتقدمين من علماء الأصول عند تحرير عنوان هذا البحث التعبير بأن المشتق هل وضع للمتلبس بالمبدإ في الحال أو للأعم منه فأوهم اعتبار زمان الحال في مدلوله على القول بوضعه للمتلبّس ، وتصدّى المحققون المتأخرون لإزالة هذا الوهم وانَّ الاسم المشتق من هذه الناحية على حدّ الاسم الجامد لم يؤخذ فيه الزمان وإن كان انطباقه على مصداقه الخارجي لا يكون إلا في حال وجدانه للمبدإ كما هو الحال في الجوامد أيضا.


وهذا هو الصحيح ، فإنَّا لا نتبادر من المشتقات زمان الحال ولا أي زمن من الأزمنة لا بنحو المعنى الاسمي ولا الحرفي. ويدلّ عليه : انَّ الزمان بنحو المعنى الاسمي لا دال عليه في المشتقات إذ لو أريد استفادته من موادها فالمفروض انَّها لم توضع إلا للدلالة على المبدأ بنحو الوضع النوعيّ القانوني وان أريد استفادته من هيئاتها فهي لا تدلّ على معنى اسمي. وامَّا استفادة الزمان بنحو المعنى الحرفي فلها صيغتان كلتاهما ممَّا لا يمكن المساعدة عليهما :

الأولى : أن يدعى تقيد النسبة المدلول عليها بهيئة المشتق بالمقارنة لزمان النطق.

الثانية : أن يدعى تقيدها بالتقارن لزمان الجري والتطبيق ـ أي زمان الحكم واسناده فيه إلى موضوع في نسبة تامة وامَّا النسبة الناقصة المدلول عليها بالمشتق نفسه فلست جرياً لأنَّها مفهوم افرادي كما تقدّم ـ ويرد على الفرضية الأولى ـ :

١ ـ لزوم أن يكون قولنا « زيد ضارب بالأمس أو غداً » مجازاً وهو خلاف الوجدان العرفي.

٢ ـ ان أريد التقيد بمفهوم زمان النطق فهو واضح الفساد ، وان أريد التقيد بواقع زمان النطق ووجوده التصديقي الخارجي فكلمة « عالم » مثلاً موضوعة للمتلبس بالعلم مقارناً مع صدور النطق به من شخص فلازمه أن لا يتصور معنى للفظ من دون تحقق نطق خارجاً ، مضافاً : إلى استلزامه أن يكون المدلول الوضعي التصوري متقيداً بأمر تصديقي وهو غير معقول على ما حقّقناه سابقاً.

ويرد على الفرضية الثانية :

١ ـ ما أوردناه ثانياً على الفرض السابق.

٢ ـ انَّ واقع الحكم لو كان هو القيد فهو في طول المحمول المنتسب إلى موضوعه فكيف يعقل أن يؤخذ فيه. فالصحيح عدم تقيد المشتق بالزمان على القول بوضعه للمتلبّس.

ويتفرّع على ذلك اختلاف مدرك الظهور في قولنا « زيد عالم » الّذي لا إشكال في انَّ المتفاهم منه عرفاً انَّه عالم حين النطق ، فانَّه لو قلنا بأخذ التقيد بزمان النطق في المشتق ـ كما هو مقتضى الصيغة الأولى ـ كانت الدلالة المذكورة وضعية ولو قلنا بأخذ


التقيد بزمان الجري والنسبة فيه ـ كما هو مقتضى الصيغة الثانية ـ فالمدلول الوضعي تلبس زيد بالعلم حين اسناد هذا الحكم وامَّا تعيين زمان النطق للإسناد فيكون على أساس الظهور الانصرافي إذ كون النّظر حين اسناد وربط حكم بموضوع إلى زمان آخر غير زمان الربط نفسه فيه مزيد عناية وبحاجة إلى قرينة على ملاحظته وامَّا على ما هو الصحيح من دلالة المشتق على الذات المتلبسة بالمبدإ دون قيد زائد ، فكلا الظهورين السابقين غير وضعيين بل يتعيّن زمان النسبة في زمان النطق بالظهور الانصرافي المتقدم ويتعيّن زمان التلبس في زمان الجري والنسبة بظهور الجملة في الاتحاد والعينية بين الموضوع والمحمول بما هو وصف.

تصوير معنى عام للمشتق على القولين

لا ريب في أنَّ الأسماء المشتقة تكون من متحد المعنى بمعنى أنَّها تدلّ على معنى عام ، ولذلك تقع موضوعاً للإطلاق والعموم على حدّ أسماء الأجناس. وهذا يعني ضرورة البحث عن إمكان تصوير معنى عام جامعي على كلا القولين وإلا فلو ثبت عدم وجود معنى جامع على أحد القولين كان ذلك بنفسه دليلاً على بطلان ذلك القول ، وعلى هذا الأساس نقول :

أمَّا على القول بوضع المشتق للمتلبّس فلا ينبغي التردد في وجود معنى جامع له ، سواءً قيل ببساطة المشتق أو تركبه ، فانَّه على التقديرين يكون المتلبس بالمبدإ معنى جامعاً ينطبق على كلّ ما فيه التلبس وتوهّم : انَّ المشتق على القول بالتركيب يتضمّن معنى نسبيّاً حرفيّاً فلا يكون عاماً ، لا مأخذ له على ضوء ما تقدّم من أنَّ نسبيّة المعنى لا تقتضي جزئيته بلحاظ المصاديق الخارجية ما لم تتغير أطرافها.

كما أنَّه لا ينبغي التردد في عدم معقولية الجامع الأعم بناء على القول ببساطة المشتق وأنَّه موضوع بإزاء المبدأ ملحوظاً لا بشرط من حيث الحمل لعدم صدق المبدأ على الفاقد له ولو لوحظ لا بشرط من حيث الحمل بداهة ركنية المبدأ حينئذٍ في صدقه.

وامَّا تصوير معنى جامع أعم على القول بتركّب المشتق ، فيمكن أن يذكر بشأنه عدة وجوه :


١ ـ أن يفرض المعنى الجامع عبارة عن الذات التي لها التلبس بالمبدإ في أحد الزمانين الماضي أو الحاضر.

وفيه : ما تقدّم من عدم أخذ الزمان في مدلول المشتق.

٢ ـ انَّ الجامع هو الذات التي صدر عنها المبدأ بأن يكون مفاد الفعل الماضي بنحو النسبة الناقصة مأخوذاً في مدلول المشتق « فعالم » يعني « من علم » و « قائم » « من قام » وهكذا ، فيصدق على المتلبس والمنقضي عنه التلبس بالمبدإ معاً.

وفيه : أولا : يلزم عدم صدق المشتق على الذات بلحاظ آن حدوث المبدأ ، لأن الفعل الماضي لا يصدق إلا حينما يكون المبدأ حادثاً قبل زمان الجري ، سواءً كان من جهة أخذ الزمان الماضي فيه أو أخذ ما يساوقه في الزمانيات ، وهو خلاف الضرورة العرفية في المشتق. كيف ولازمه أن يكون المشتق حقيقة في المنقضي خاصة إذا كان المبدأ فيه آني الحدوث بحيث لا يبقى في الآن الثاني.

وثانياً : يلزم عدم صحة إجراء المشتق بلحاظ المستقبل إذ لا يصحّ أن يقال « زيد من قام غداً » ولو أرجعنا زمان الغد إلى الحمل ، لعدم عرفية إجراء الماضي بلحاظ المستقبل.

وثالثاً : عدم صحة أخذ مفاد الفعل الماضي في جميع المشتقات ، كما يتّضح بمراجعة أسماء الآلة أو المكان والزمان أو غيرها من المشتقات.

ورابعاً : انَّ الفعل الماضي يدلّ على حركة المبدأ وصدوره من ذات ومثل هذا المعنى غير مأخوذ في المشتقات فانَّها تحكي عن الذات المتّصفة بالمبدإ ولا تحكي عن حيثية حركة المبدأ وصدوره منها.

٣ ـ ما أفاده السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ بقوله : « انَّا لو سلّمنا انَّ الجامع الحقيقي بين الفردين غير ممكن إلا انَّه يمكننا تصوير جامع انتزاعي بينهما وهو عنوان أحدهما » (١).

وفيه : انَّ مجرد معقولية جامع انتزاعي ، كعنوان أحدهما الّذي يمكن أن ينتزع من النقيضين فضلاً عن غير هما ، لا يكفي إذ المقصود تصوير جامع يحتمل بشأنه أن يكون

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٢٦٤


هو المعنى الموضوع له للمشتقات ولا إشكال في عدم انفهام مفهوم أحدهما عن المشتق. ولو كان المشتق موضوعاً بإزاء مفهوم أحد الفردين المتلبس والمنقضي لزم عدم تعقل الشمولية فيه لأن عنوان أحدهما أو واحد منها عنوان بدلي دائماً.

٤ ـ ما أفاده السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ أيضا من أنَّ الجامع عبارة عن الذات المنتقض عدم المبدأ فيها بالوجود أو قُل خروج المبدأ فيها من العدم إلى الوجود (١).

وفيه : أولا ـ عدم انفهام انتقاض عدم المبدأ أو خروجه من العدم في المشتقات بل العرف بشكل عام يفهم معاني المشتقات من طرف وجود المبادئ فيها ابتداءً لا بتوسيط إعدامها.

وثانياً : إن أريد أخذ مفهوم الانتقاض الاشتقاقي كعنوان المنتقض فهو أيضا مشتق لا بدَّ من تحديد معنى جامع له لكي لا يختص بالمنتقض فيه العدم بالفعل ، وإن أريد أخذ الانتقاض بنحو الفعل الماضي رجع إلى الوجه الثاني المتقدم وقد عرفت عدم المساعدة عليه وإن أخذ مبدأ الانتقاض منسوباً إلى الذات بنحو النسبة الناقصة كان كنسبة أي مبدأ اشتقاقي بحاجة إلى تصوير معنى جامع يشمل صورة انقضائه وتلبّس الذات به.

٥ ـ أن يكون الجامع عبارة عن الذات المنتقض عدم المبدأ الأزلي فيه ، وهو صادق على المنقضي لأنَّ عدم المبدأ فيه ليس بأزلي.

وفيه : ما تقدم في الاعتراض الأول على الوجه السابق.

وهكذا يتّضح : عدم إمكان تصوير معنى جامع حقيقي بين المتلبّس بالمبدإ والمنقضي عنه.

وإذا اتّضحت هذه المقدمات نشرع في بيان المختار في معنى المشتق مع استعراض ما يمكن أن يذكر بشأنه من وجوه الاستدلال.

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٢٦٥


المختار في معنى المشتق

والواقع انَّ قليلاً من التدبّر والتأمّل في إطلاقات المشتق كافٍ في رأينا للجزم بوضعها للمتلبس بالمبدإ خاصة ، لأنَّ المشتق له مادة وهيئة ، أمَّا المادة فموضوعة للدلالة على الحدث ، وامَّا الهيئة فللدلالة على نسبة ذلك الحدث إلى الذات وتلبّسها به على اختلاف أنحائه وكيفيّاته وهي فرع وجود الحدث وعدم انقضائه.

ويكفينا دليلاً على بطلان الوضع للأعم ما تقدّم من عدم تيسّر تصوير معنى جامع بين المتلبّس والمنقضي عنه المبدأ.

ما استدلّ به على الوضع للمتلبّس

وقد استدلّ مع ذلك على الوضع لخصوص المتلبس بوجوه عدّة.

منها : دعوى تبادر المتلبس خاصة.

واعترض عليه : باحتمال استناده إلى الانصراف الناجم عن كثرة الاستعمال في المتلبس.

وأجيب عن الاعتراض : بأنَّ الاستعمال في موارد الانقضاء أكثر منه في موارد التلبّس ، واضطرّ المجيب حينئذٍ أن يفسّر كثرة الاستعمال في حالات الانقضاء بنحو لا ينافي مع الوضع للمتلبس خاصة ، وذلك بافتراض ان أكثر موارد استعمال المشتقات لا يكون التلبس بالمبدإ فيها فعليّاً حين الاستعمال بل منقضياً. وحينئذٍ لو قيل بالوضع للمتلبس خاصة تعيّن حملها على انَّ الإسناد بلحاظ حال التلبس دفعاً للمجاز الكثير بل الأكثر المنافي مع حكمة الوضع وإن قيل بالوضع للأعم كان الإطلاق بلحاظ حال الاستعمال والنطق لعدم استلزام المجاز وبذلك حاول أن يمنع على القائل بالأعم دعوى كثرة الاستعمال في المتلبس.

ولنا في المقام تعليقان : أحدهما على مقالة المجيب ، والثاني على الاعتراض.

ففيما يتعلّق بكلام المجيب نحن لا نسلّم كثرة الاستعمال في المنقضي بناء على الوضع للأعم لأنَّ موارد الاستعمالات امَّا أن تكون جملاً تطبيقية أو لا تكون جملاً


تطبيقية ، كما إذا وقع المشتق في سياق إنشاء كما في قولنا « أكرم العالم » ولا إشكال في عدم صحة الاستشهاد بالجمل غير التطبيقية على الاستعمال في المنقضي كما هو واضح ، والجمل التطبيقية منها ما تكون إسنادية كقولنا « ضرب العالم » أو « ضربت العالم » ومنها ما تكون حملية ولا إشكال أيضا في انَّ الاستعمال في الجمل الإسنادية تكون بلحاظ زمان اسناد الفعل لا النطق ولو قيل بالوضع للأعم ، والجمل التطبيقية الحملية منها ما لا تكون الذات المحمول عليها المشتق محفوظة حين الاستعمال كقولنا « شيخ المفيد عالم » ممَّا يتعيّن أن يكون الجري فيها بلحاظ زمان التلبّس على القولين معاً ، فلا يبقى عدا موارد انحفاظ الذات حين الاستعمال مع كون الجملة تطبيقية حملية وهي ليست بتلك الكثرة في نفسها فضلاً من ان تكون أغلب مواردها ممَّا قد انقضى على الذات زمان التلبس بالمبدإ.

وفيما يتعلّق بأصل الاعتراض نقول : انَّ استناد التبادر إلى الانصراف الناشئ عن كثرة الاستعمال في التلبس ـ لو سلّم يكشف عن تعين اللفظ فيه تدريجاً على أساس غلبة الاستعمال وكثرة الحاجة إليه ، فلو لم تكن هذه الحيثية بنفسها كاشفة عن انَّ الوضع من أول الأمر كان للمتلبس خاصة فلا أقلّ من كشفه عن تعيّنه لذلك عرفاً وهو على حدّ الوضع التعييني من وجهة غرض الفقيه من هذا البحث.

ومنها : لزوم انتفاء التضاد بين الأوصاف الاشتقاقية بناء على الوضع للأعم ، فيصدق في مورد واحد مثلاً « العالم » و « الجاهل » معاً باعتبار تلبسه بالجهل سابقاً.

وهذا الوجه يصلح أن يكون منبهاً وجدانيّاً لمن يعيش ارتكازية التضاد بين الأوصاف في نفسه على أساس ارتكاز الوضع للمتلبس عنده ولكنه غافل عنه ، وأمَّا الّذي يدّعي الوضع للأعم فيمكنه الاعتراض بعدم التضاد بين الأوصاف الاشتقاقية إلا حيث ما يلحظ في الاتصاف زمان واحد ، ومجرّد التضاد بين مبادئ المشتقات لا يكفي دليلاً على التضاد فيما بينها بعد ان كانت ذات معنى زائد على المبدأ وهو التلبس الّذي يعقل افتراضه بنحو يمنع عن التضاد.

ومنها : الاستدلال بصحة سلب المشتق عن المنقضي عنه التلبّس فيصحّ أن يقال « زيد ليس بجاهل ».


واعترض عليه : بأنَّه لو أريد سلب مطلق المبدأ فهو كذب ، وإن أريد سلب من له المبدأ فعلاً فهو صحيح ولكنَّه لا يفيد لأنَّ سلب الأخص لا يثبت سلب الأعم الّذي هو المعنى الموضوع له عند الخصم.

وهذا الاعتراض نشأ من الخلط بين تقييد الوصف الاشتقاقي بالفعلية وتقييد مبدأ الاشتقاق ، فانَّ الّذي لا يضرّ بمقالة الخصم تقييد مبدأ الاشتقاق بالفعلية وأمَّا تقييد جري المشتق نفسه بذلك في قولنا « زيد الآن ليس بجاهل » فهو ضار بمقالته لا محالة.

والصحيح المناقشة في كبرى علامية صحّة السلب بالنحو الّذي تقدّم شرحه في علامات الحقيقة والمجاز.

ومنها : ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) ويتألّف من خطوتين :

أولا لهما : انَّ مدلول المشتق أمر بسيط كمدلول المصدر نفسه ولكن ملحوظاً لا بشرط من ناحية الحمل.

الثانية : انَّ المشتق إذا كان بسيطاً فلا يعقل وضعه للأعم لعدم الجامع عندئذٍ بين حالتي التلبّس والانقضاء.

والخطوة الثانية من هاتين صحيحة على ما تقدّم أيضا ، إلا انَّ الأولى منهما محل تأمّل بل منع على ما تقدّم الكلام فيه مفصلاً في الهيئات الإفرادية.

هذه مهم الوجوه التي استدلّ بها لإثبات وضع المشتق بإزاء المتلبّس خاصة. ومن خلال التأمّل فيها يتّضح أيضا أوجه المفارقة في الأدلة التي ساقوها لإثبات الوضع للأعم فلا موجب للتعرّض إليها.

التفصيل بين بعض المشتقات وبعض

نعم مقالة التفصيل بين أسماء الحرف والصناعات والملكات وأسماء الآلة ونحوها وبين سائر المشتقات تستحقّ شيئاً من العناية.

وأحسن ما يمكن أن يستدلّ به عليها أن يقال : لا إشكال في صدق هذه الأسماء حتى مع عدم تلبس الذات بالحدث المأخوذة في مباديها حرفياً فيقال لزيد مثلاً « انَّه صائغ » ولو كان نائماً في بيته. وهذا يرجع لا محالة امَّا إلى توسعة في مدلول الهيئة بدعوى


وضعها للأعم أو التصرّف في غير ذلك من الجهات ، وبإبطال الأخير يتعيّن الأول. وجه البطلان : انَّ هذا التصرّف يتصوّر بأحد وجوه أربعة كلّها ممَّا لا يمكن المساعدة عليها.

١ ـ ان يوسع من مدلول المادة فيدعى : وضع مادة « صائغ » مثلاً لحرفة الصياغة. ويبطله : انَّه خلاف ما هو المقرر من انَّ المواد الاشتقاقية ذات وضع نوعي واحد في جميع الاشتقاقات.

٢ ـ ان يتصرّف في مدلول الهيئة بحملها على التلبس الشأني لا الفعلي ولا الأعم.

ويرد عليه : ما أبطلنا به الوجه السابق فانَّ الهيئات الاشتقاقية أيضا ذات وضع نوعي واحد في جميع المشتقات مع وضوح عدم دلالة هيئة « قائم » على شأنية التلبس بالقيام.

٣ ـ ان يتصرّف في الجملة المستعمل فيها هذه المشتقات فقولنا « زيد صائغ » وإن كانت لغويّاً تقتضي فعلية تلبّس زيد بالصياغة ولكن معهودية كون الصياغة حرفة قرينة عرفاً على استفادة شأنية التلبس بها.

وفيه : انَّ التوسعة المذكورة مفهومة من هذه المشتقات ولو لم ترد في جملة تامة.

٤ ـ دعوى عناية ادعاء عرفي يقضي بإلغاء الفواصل الزمنية المتخللة بين فترات صدور المبدأ من الذات في هذه المشتقات بنكتة تكرّر صدور المبادئ فيها ، فكأن الذات بهذا الاعتبار متلبسة بها دائماً.

وفيه : انَّ لازمه صحّة استعمال وصف اشتقاقي آخر مكانها بأن يقال « زيد متلبس بالصياغة أو الكتابة في حال نومه » مثلاً لأن الفترات الزمنية الفاصلة ملغاة بحسب الفرض مع انَّه خلاف الفهم العرفي جدّاً ممَّا يعني اختصاص النكتة بهذه المشتقات بالذات.

فإذا بطلت هذه الوجوه تعيّن وضعها للأعم.

إلا انَّ الصحيح مع ذلك عدم التفصيل بين المشتقات ، لعدم إمكان المصير إلى وضع شيء منها بإزاء الأعم ، وذلك :

إمَّا أولا : فلما تقدّم من عدم معقولية معنى جامع بين المتلبس والمنقضي يصحّ


اعتباره المعنى الأعم.

وإمَّا ثانياً : فلأنَّ الأسماء التي ادّعي في التفصيل وضعها للأعم أيضا لا تصدق حقيقة على الذات بعد زوال مباديها بالنحو الملحوظ فيها بشهادة العرف واللغة على عدم صدق « الصائغ » مثلاً على من كانت حرفته الصياغة في الزمن السابق إلا مجازاً على حدّ صدق القائم على من كان متلبساً بمبدإ القيام ممَّا يعني انَّها أيضا موضوعة بإزاء المتلبس بالمبدإ غير انَّه لوحظ نحو توسعه في مفادها لا بدَّ من تخريجه بشكل أو آخر.

والصحيح : انَّ هذه التوسعة ملحوظة في مدلول هيئاتها على النحو المتقدّم في الوجه الثالث من الوجوه الأربعة :

وما قيل في إبطاله : من استلزامه تعدد وضع الهيئات الاشتقاقية وهو بخلاف المقرر في موضعه. يرد عليه :

أولا : انَّ هذا اللازم لا بدَّ من الالتزام به على كلّ حال بعد ثبوت الفرق وجداناً بين هذه الأسماء وغيرها ، غاية الفرق : انَّ المفصل يدعي وضعها للأعم من المتلبس والمنقضي ونحن ندعي وضعها لخصوص المتلبس مع التوسعة في معنى التلبس لعدم إمكان المساعدة على الوضع للأعم.

وثانياً : لا لزوم لتعدد الوضع لإمكان دعوى وضعها جميعاً بإزاء هذا المعنى الموسع من التلبس ، غاية الأمر : لا مصداق له في مثل ضارب وقائم إلا في التلبس الفعلي لعدم صلاحية مباديه لغير هذا النحو من التلبس.

وهكذا يتّضح : انَّ الصحيح وضع المشتق بإزاء المتلبس بالمبدإ خاصة ، وانَّما الفرق في كيفيات التلبس وأنحائها.

ما يقتضيه الأصل العملي عند الشك في معنى المشتق

ثمَّ لو فرض الشك في ما هو المعنى الموضوع له المشتق فما هو مقتضى الأصل العملي؟ والحديث عن الأصل العملي تارة : يقع بلحاظ المسألة الأصولية ، وأخرى : بلحاظ المسألة الفقهية.


١ ـ حكم الأصل في المسألة الأصولية

ففيما يتعلّق بالأصل العملي في المسألة الأصولية ـ أعني ما يمكن أن نثبت به الوضع للأعم أو للمتلبس ـ ربّما يتمسّك باستصحاب عدم أخذ خصوصية التلبس قيداً في مقام الوضع زائداً على الجامع وبذلك ينفي الوضع للمتلبس خاصة.

إلا انَّ هذه الدعوى لا مأخذ لها. إذ يرد عليه من أوجه المفارقة :

أولا : ابتنائه على تخيّل انَّ لحاظ المعنى الأعم أو الأخص من باب المطلق والمقيد الّذي يكون أصل الجامع متيقّناً في مقام لحاظه والشك في الخصوصية وهو غير صحيح ، فانَّ المعنيين وإن كانا متّحدين بحسب الصدق في الخارج إلا انَّهما بحسب عالم اللحاظ والمفهوم متباينان ـ بناء على إمكان تصوير معنى جامع أعم ـ فليس الشك فيما لاحظه الواضع حين الوضع دائراً بين الأقل والأكثر لينفي الزائد بالأصل.

وثانياً : ابتنائه على كون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل السلب والإيجاب لا تقابل الضدّين ـ كما اختاره السيد الأستاذ ـ أو العدم والملكة كما يظهر من المحقق النائيني وإلا كان إثبات الوضع للأعم ينفي الخصوصية من الأصل المثبت.

وثالثاً : انَّ غاية ما يثبت من نفي لحاظ الخصوصية انَّ الواضع قد لاحظ حين الوضع المعنى الأعم الجامع بين المتلبس والمنقضي وما هو موضوع الحكم الشرعي بالحجية انَّما هو الظهور المسبب من الوضع فلا يمكن تعيينه في الأعم بالاستصحاب المذكور إلا بالأصل المثبت أيضا.

٢ ـ حكم الأصل في المسألة الفقهية

وفيما يتعلّق بالأصل في المسألة الفقهية الفرعية ، إن أريد إجراء الاستصحاب الموضوعي ونعني به : استصحاب بقاء صدق المشتق بعد الانقضاء لترتيب أثره الشرعي. ففيه : انَّه من الأصل في الشبهة المفهومية وهو خلاف ما حقّقناه في موضعه من بحوث الاستصحاب وإن أريد استصحاب بقاء الحكم المترتّب على المشتق ، فتارة : يفرض انَّ الحكم مرتّب على المشتق بنحو الإطلاق البدلي على صرف وجوده كما إذا قال « أكرم عالماً » وأخرى : يفرض ترتّبه على مطلق وجوده كما إذا قال « أكرم كلّ


عالم » ففي الفرض الأول الّذي يكون الشك فيه بحسب الحقيقة في متعلّق الحكم لا موضوعه ـ فيما إذا لم يفرض انحصار العالم في المنقضي عنه المبدأ ـ يكون الدوران بين التعيين والتخيير الّذي هو مجرى أصالة البراءة عن التعيين عندنا مطلقاً ، فيجوز الاكتفاء في مقام الامتثال بإكرام من كان عالماً سابقاً.

وفي الفرض الثاني : فصل صاحب الكفاية ( قده ) بين ما إذا تنجز الحكم بعد انقضاء المبدأ وما إذا كان متنجّزاً من حين التلبس فشك في ارتفاعه بانقضاء التلبس ، فحكم باستصحاب عدم الحكم في الأول واستصحاب بقاء الحكم في الثاني (١).

وفي كلا الشقّين من هذا التفصيل كلام.

امَّا الشقّ الأول ، فلان مقتضى التحقيق المطابق مع مسالكه 1 أيضا التفصيل بين حالتين :

الأولى : ما إذا تأخّر جعل الحكم عن زمان التلبس ، فتجري أصالة البراءة عن التكليف أو استصحاب عدمه لكونه من الشك في حدوث التكليف.

الثانية : ما إذا كان الجعل ثابتاً في زمان التلبس أيضا ولكنَّه كان معلّقاً على شرط ـ كنزول المطر مثلاً ـ يتحقق بعد انقضاء التلبس ، وفي مثله يجري استصحاب الحكم بنحو القضية التعليقية ، حيث يقال انَّ المطر لو كان قد نزل قبل الانقضاء كان الحكم فعلياً ويشك في فعليّته بعده لاحتمال دخل فعلية التلبس فيه كاحتمال دخل العنبية في حرمة العصير المغلي فيجري الاستصحاب التعليقي عند القائلين به.

وامَّا الشق الثاني : فقد أورد عليه السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ :

أولا : بأنَّه شبهة حكمية ولا يجري فيها الاستصحاب.

وثانياً : انَّه شبهة مفهومية ولا يصحّ إجراؤه فيها أيضا (٢).

والاعتراض الأول اعتراض مبنائي. وقد ذكرنا في موضعه من بحوث الاستصحاب أن الصحيح جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية والموضوعية جميعاً.

__________________

(١) كفاية الأصول ج ١ ص ٢١ ( ط ـ مشكيني )

(٢) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٢٧٠ ( مطبعة الآداب في النجف )


والاعتراض الثاني مبني على دعوى للسيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ ذكرها في أبحاث الاستصحاب ، حاصلها : انَّ الشبهات المفهومية لا مجال فيها للاستصحاب الحكمي كما لا مجال للاستصحاب الموضوعي ، لأن الشك في بقاء الحكم ناشئ عن الشك في بقاء الموضوع ويشترط في الاستصحاب إحراز بقائه.

وقد أوضحنا هناك : أن مسألة انحفاظ موضوع الحكم المستصحب وعدمه لا ربط لها بكون الشبهة الحكمية مفهومية أم لا ، وإنَّما ترتبط بمدى تشخيص العرف للحيثية المفقودة المحتمل دخلها في الحكم واعتبارها ركناً مقوّماً للموضوع أم لا. فقد تكون الشبهة مفهومية ومع ذلك لا تكون حيثيّة التلبس المنقضية مقوّمة للموضوع بحسب نظر العرف فيكون الاستصحاب جارياً. فالصحيح ملاحظة هذه النكتة في التفصيل كما هو واضح.

ثمَّ انَّه لو فرضنا اجتماع حكمين مترتبين على المشتق أحدهما مطلق شمولي ، كما إذا ثبت « وجوب إكرام عالم » و « وجوب إكرام كلّ عادل » فسوف يتشكّل علم إجمالي امَّا بفعلية وجوب إكرام العادل المنقضي عنه التلبس أو وجوب تطبيق إكرام العالم على المتلبس بالعلم. وهذا علم إجمالي منجز لو قيل بعدم جريان الاستصحاب المثبت للتكليف في المشتق الّذي رتّب عليه الحكم بنحو مطلق الوجود ـ كما ذهب إليه السيد الأستاذ مطلقاً وذهبنا إليه في صورة تأخّر الجعل عن زمان التلبّس ـ.



فهرست الموضوعات



فهرست الموضوعات

مقدمة الطبعة الثانية................................................................. ٧ ـ ١٣

مقدمة الطبعة الاولى................................................................. ٧ ـ ١٦

تمهيد

١٧ ـ ٦٢

تعريف علم الأصول.............................................................. ١٩ ـ ٣٥

التعريف المدرسي..................................................................... ٢٠

مدى شمول التعريف للأصول العملية............................................. ٢٠ ـ ٢١

النقض على التعريف بالقواعد الفقهية............................................ ٢٢ ـ ٢٦

النقض على التعريف بمسائل اللغة الرّجال............................................... ٢٦

١ ـ موقف المحقق النائيني من النقض................................................... ٢٦

٢ ـ موقف السيد الأستاذ من النقض........................................... ٢٧ ـ ٣٠

٣ ـ موقف المحقق العراقي من النقض........................................... ٣٠ ـ ٣١

المختار في التعريف............................................................. ٣١ ـ ٣٥

موضوع علم الأصول :........................................................... ٣٧ ـ ٥٣

١ ـ موضوع العلم............................................................ ٣٧ ـ ٤٣

٢ ـ العرض الذاتي والعرض الغريب............................................ ٤٣ ـ ٥٠

٣ ـ ما يبحث عنه في مسائل العلم............................................. ٥٠ ـ ٥٢

٤ ـ موضوع علم الأصول..................................................... ٥٢ ـ ٥٣

تقسيم علم الأصول............................................................... ٥٥ ـ ٦٢


المدخل :

٦٣ ـ ٢١٦

تقسيم البحث................................................................. ٦٧ ـ ٦٨

المبحث الأول ـ الدلالة اللفظية وتفسيرها :..................................... ٧١ ـ ١٢٧

١ ـ النظرية العامة للدلالة على المعنى الحقيقي.................................. ٧١ ـ ١١٦

الفصل الأول في تفسير العلاقة الوضعيّة................................. ٧٢ ـ ٨٣

حقيقة الوضع.................................................................. ٧٢ ـ ٨٣

نظرية الاعتبار................................................................. ٧٤ ـ ٧٨

الصياغات المختلفة لنظرية الاعتبار.............................................. ٧٤ ـ ٧٨

نظرية التعهد.................................................................. ٧٨ ـ ٨١

مميزات نظرية التعهد............................................................ ٧٨ ـ ٧٩

التعليق على نظرية التعهد....................................................... ٧٩ ـ ٨١

الرّأي المختار في حقيقة الوضع.................................................. ٨١ ـ ٨٢

مميزات النظرية المختارة في الوضع............................................... ٨٢ ـ ٨٣

الفصل الثاني في تشخيص الواضع....................................... ٨٣ ـ ٨٦

أدلة القول بإلهية الوضع................................................................ ٨٤

مناقشة القول بإلهية الوضع............................................................. ٨٤

مبعدات بشأن القول ببشرية الوضع..................................................... ٨٥

فذلكة الموقف في تشخيص الواضع..................................................... ٨٦

الفصل الثالث أقسام الوضع........................................... ٨٧ ـ ١٠٣

١ ـ التقسيم الأول............................................................ ٨٧ ـ ٩٤

الصحيح في تصوير الوضع العام والموضوع له الخاصّ.............................. ٩٢ ـ ٩٤

٢ ـ التقسيم الثاني............................................................ ٩٤ ـ ٩٥

٣ ـ التقسيم الثالث......................................................... ٩٥ ـ ١٠٢

١ ـ الوضع التعييني................................................................... ٩٥

٢ ـ الوضع التعيني............................................................ ٩٥ ـ ٩٧

٣ ـ الوضع بالاستعمال...................................................... ٩٧ ـ ١٠٢

أقسام التقييد في الوضع...................................................... ١٠٢ ـ ١٠٣

الفصل الرابع........................................................ ١٠٤ ـ ١١١

هل الدلالة الوضعيّة تصورية أو تصديقية؟..................................... ١٠٤ ـ ١٠٥


عدم توقف الدلالة على الإرادة.............................................. ١٠٦ ـ ١٠٩

عدم أخذ الإرادة قيدا في المدلول الوضعي..................................... ١٠٩ ـ ١١١

الفصل الخامس اشتراك علاقتين في طرف............................ ١١١ ـ ١١٦

مدى الحاجة إلى الاشتراك................................................... ١١١ ـ ١١٥

الاشتراك لا ينافي حكمة الوضع...................................................... ١١٥

مدى إمكان اشتراك علاقتين في طرف................................................ ١١٦

٢ ـ نظرية الدلالة على المعنى المجازي........................................ ١١٧ ـ ١٢٧

١ ـ حقيقة المدلول المجازي................................................. ١١٧ ـ ١٢٠

٢ ـ مدى حاجة المجاز إلى الوضع........................................... ١٢٠ ـ ١٢٧

منشأ الدلالة على المجاز...................................................... ١٢٠ ـ ١٢٣

مصحح الاستعمال المجازي.................................................. ١٢٣ ـ ١٢٤

منشأ الدلالة المجازية على مسلك التعهد....................................... ١٢٤ ـ ١٢٥

الوضع للمعنى مقيدا بالقرينة................................................. ١٢٥ ـ ١٢٦

تحديد المراد من المعنى المجازي................................................ ١٢٦ ـ ١٢٧

المبحث الثاني نظرية الاستعمال................................................. ١٣١ ـ ١٥٩

حقيقة الاستعمال........................................................... ١٣١ ـ ١٣٣

مقومات الاستعمال وشروطه................................................ ١٣٣ ـ ١٣٥

المرآتية والعلامية..................................................................... ١٣٥

تفسير ظاهرة المرآتية........................................................ ١٣٦ ـ ١٤٣

مقارنة بين الاستعمال والإيجاد............................................... ١٤٣ ـ ١٤٤

تطبيقات................................................................... ١٤٤ ـ ١٥٩

إطلاق اللفظ وإرادة شخصه................................................ ١٤٥ ـ ١٤٧

إطلاق اللفظ وإرادة نوعه................................................... ١٤٧ ـ ١٤٨

استعمال اللفظ في أكثر من معنى............................................. ١٤٨ ـ ١٥٩

المراد من تعدد المعنى........................................................ ١٤٨ ـ ١٥٠

إمكان استعمال المفرد في أكثر من معنى...................................... ١٥٠ ـ ١٥٣

صحة استعمال المفرد في أكثر من معنى....................................... ١٥٤ ـ ١٥٥

استعمال المثنى والجمع في أكثر من معنى....................................... ١٥٥ ـ ١٥٩

المبحث الثالث علامات الحقيقة وتشخيص المعنى............................... ١٦٣ ـ ١٧٤

علامية التبادر.............................................................. ١٦٣ ـ ١٦٧


علامية صحة الحمل......................................................... ١٦٧ ـ ١٦٩

علامية الاطراد............................................................. ١٦٩ ـ ١٧١

الأثر العملي لعلامات الحقيقة................................................ ١٧١ ـ ١٧٢

تعارض الأحوال............................................................ ١٧٢ ـ ١٧٤

المبحث الرابع ـ تطبيقات مختلف بشأنها :..................................... ١٧٧ ـ ٢١٦

١ ـ الحقيقة الشرعية....................................................... ١٧٨ ـ ١٨٦

١ ـ ثبوت الحقيقة الشرعية................................................. ١٧٨ ـ ١٨٤

٢ ـ ثمرة القول بالحقيقة الشرعية............................................ ١٨٥ ـ ١٨٦

٢ ـ الصحيح والأعم...................................................... ١٨٦ ـ ٢١٦

أسماء العبادات............................................................. ١٨٦ ـ ٢١٠

مدى ارتباط البحث بالحقيقة الشرعية......................................... ١٨٧ ـ ١٨٩

معنى الصحة والفساد....................................................... ١٨٩ ـ ١٩٢

تصوير المعنى الجامع على كلا القولين......................................... ١٩٢ ـ ٢٠٠

١ ـ تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة..................................... ١٩٢ ـ ١٩٨

٢ ـ تصوير الجامع الأعم................................................... ١٩٨ ـ ٢٠٠

ثمرة النزاع في أسماء العبادات................................................ ٢٠٠ ـ ٢٠٢

اختيار أحد القولين......................................................... ٢٠٢ ـ ٢١٠

١ ـ أدلة القول بالوضع للأعم.............................................. ٢٠٢ ـ ٢٠٨

٢ ـ أدلة القول بالوضع للصحيح............................................ ٢٠٨ ـ ٢٠٩

المختار في الصحيح والأعم.................................................. ٢٠٩ ـ ٢١٠

أسماء المعاملات............................................................. ٢١٠ ـ ٢١٦

تحرير صيغة النزاع في أسماء المعاملات......................................... ٢١٠ ـ ٢١١

تصوير النزاع في المعاملة بمعنى المسبب........................................ ٢١١ ـ ٢١٢

ثمرة النزاع في أسماء المعاملات................................................ ٢١٢ ـ ٢١٣

عدم ترتّب الثمرة في المعاملة بمعنى المسبب.................................... ٢١٣ ـ ٢١٤

وضع أسماء المعاملات للسبب أو المسبب...................................... ٢١٤ ـ ٢١٥

الرّأي المختار في أسماء المعاملات............................................. ٢١٥ ـ ٢١٦


البحوث اللفظية التحليلية :

٢١٧ ـ ٣٥٥

تمهيد...................................................................... ٢١٩ ـ ٢٢٦

الحروف :

٢٢٧ ـ ٢٥٨

المعاني الحرفية.............................................................. ٢٣١ ـ ٢٥٣

تمهيد...................................................................... ٢٣١ ـ ٢٣٢

الاتجاهات المعروفة في المعنى الحرفي........................................... ٢٣٢ ـ ٢٤٢

١ ـ علامية الحروف....................................................... ٢٣٢ ـ ٢٣٣

٢ ـ آليّة المعنى الحرفي...................................................... ٢٣٣ ـ ٢٣٧

٣ ـ نسبية المعنى الحرفي..................................................... ٢٣٧ ـ ٢٤٢

الوجوه المختلفة في تفسير نسبيّة المعنى الحرفي.................................. ٢٤٢ ـ ٢٥٨

١ ـ إيجاديّة المعنى الحرفي................................................... ٢٤٣ ـ ٢٤٦

مناقشة السيد الأستاذ في إيجادية الحروف.............................................. ٢٤٣

توضيح معنى إيجادية الحروف................................................. ٢٤٣ ـ ٢٤٤

مناقشة المحقق العراقي في الإيجادية............................................ ٢٤٤ ـ ٢٤٥

مناقشات أخرى للمحقق العراقي مع جوابها.................................. ٢٤٥ ـ ٢٤٦

٢ ـ وضع الحروف للوجود الرابط.......................................... ٢٤٦ ـ ٢٤٨

توضيح المقصود من الوجود الرابط........................................... ٢٤٧ ـ ٢٤٨

٣ ـ وضع الحروف للتخصيص.............................................. ٢٤٩ ـ ٢٥١

٤ ـ وضع الحروف للأعراض النسبية........................................ ٢٥١ ـ ٢٥٢

تعديل الاتجاه الثالث وتصحيحه.............................................. ٢٥٢ ـ ٢٥٣

المعاني النسبية للحروف تحليلية............................................... ٢٥٤ ـ ٢٥٥

النسب الأوليّة والنسب الثانوية............................................... ٢٥٦ ـ ٢٥٧

تلخيص وتعميق............................................................ ٢٥٧ ـ ٢٥٨

الهيئات :

٢٥٩ ـ ٣٥٥

١ ـ هيئات الجمل............................................................ ٢٦٣ ـ ٣٠٥

١ ـ الجمل الناقصة........................................................ ٢٦٣ ـ ٢٦٥


٢ ـ الجمل التامة الخبرية.................................................... ٢٦٥ ـ ٢٨٨

كيف تكون النسبة ناقصة أو تامة؟........................................... ٢٦٨ ـ ٢٦٩

الجمل الخبرية الاسمية........................................................ ٢٦٩ ـ ٢٧٢

الجملة الخبرية الفعلية................................................................. ٢٧٢

الجملة الخبرية المزدوجة...................................................... ٢٧٣ ـ ٢٧٦

تحديد الدال على النسبة الخبرية....................................................... ٢٧٦

أنحاء النسب الناقصة........................................................ ٢٧٧ ـ ٢٨٥

تفسير المحقق العراقي للنسبة التامّة والناقصة.................................... ٢٨٥ ـ ٢٨٦

مناقشة التفسير المذكور...................................................... ٢٨٦ ـ ٢٨٧

الجمل التامة لم توضع لقصد الحكاية.......................................... ٢٨٧ ـ ٢٨٨

٣ ـ الجمل التامة الإنشائية.................................................. ٢٨٨ ـ ٣٠٣

هل المعاني الإنشائية إيجادية؟................................................. ٢٨٩ ـ ٢٩٥

الوجوه المختلفة لتفسير إيجادية الجمل الإنشائية................................. ٢٨٩ ـ ٢٩٥

الإيجادية بمعنى التوليد........................................................ ٢٨٩ ـ ٢٩١

الإيجادية بمعنى عدم قصد الحكاية............................................. ٢٩١ ـ ٢٩٢

الإيجادية والمدلول التصديقي................................................. ٢٩٢ ـ ٢٩٣

الإيجادية بالنظر التصوّري.................................................... ٢٩٣ ـ ٢٩٥

تشخيص المدلول التصوري للجمل الإنشائية.................................. ٢٩٥ ـ ٣٠٣

تشخيص مدلول الجمل المتمحضة في الإنشاء.................................. ٢٩٦ ـ ٣٠٠

الجمل الخبرية المستعملة في الإنشاء............................................ ٣٠٠ ـ ٣٠٢

تلخيص وتعميق............................................................ ٣٠٢ ـ ٣٠٣

٤ ـ مفاد الجملة الشرطية.................................................. ٣٠٤ ـ ٣٠٥

٢ ـ الهيئات الإفرادية......................................................... ٣٠٥ ـ ٣٣٨

١ ـ هيئة الفعل............................................................ ٣٠٦ ـ ٣١٤

٢ ـ هيئة المصدر.......................................................... ٣١٤ ـ ٣٢٠

٣ ـ هيئة المشتقات........................................................ ٣٢٠ ـ ٣٣٥

الأقوال في البساطة مدلول المشتق وتركبه.............................................. ٣٢١

أدلة القول بوضع هيئة المشتق للابشرطية من ناحية الحمل مع مناقشتها......................... ٣٢٢ ـ ٣٢٧

مناقشته القول بوضع هيئة المشتق لعنوان بسيط منتزع عن الذات المتلبسة بالمبدأ............ ٣٢٧

القول بدلالة المشتق على الحدث والنسبة ومناقشة.............................. ٣٢٧ ـ ٣٢٩

أدلة القول بتركب المشتق................................................... ٣٢٩ ـ ٣٣٠


المناقشات على القول بتركب المشتق.......................................... ٣٣٠ـ ٣٣٤

الصحيح والمختار من الأقوال........................................................ ٣٣٤

نحو التلبّس المأخوذ في المشتق................................................ ٣٣٤ ـ ٣٣٥

وضع المجموع الكلي للمركَّب............................................... ٣٣٥ ـ ٣٣٦

الأسماء المبهمة.............................................................. ٣٣٦ ـ ٣٣٨

٣ ـ كيفية الوضع في الحروف والهيئات...................................... ٣٣٨ ـ ٣٤٦

١ ـ من ناحية المعنى الموضوع له............................................ ٣٣٩ ـ ٣٤٣

تصوير الوضع العام والموضوع له العام في الحروف............................. ٣٤١ ـ ٣٤٣

٢ ـ من ناحية اللفظ الموضوع.............................................. ٣٤٣ ـ ٣٤٦

٤ ـ الثمرات العملية للبحث عن مفاد الحروف والهيئات...................... ٣٤٦ ـ ٣٥٥

١ ـ رجوع القيد إلى مدلول الهيئة إمكاناً وامتناعا............................. ٣٤٦ ـ ٣٤٧

مانعية الجزئية عن التقييد..................................................... ٣٤٧ ـ ٣٥١

مانعية الآلية عن التقييد...................................................... ٣٥١ ـ ٣٥٣

٢ ـ التمسّك بإطلاق مدلول الهيئة إمكاناً وامتناعا............................. ٣٥٣ ـ ٣٥٤

٣ ـ التمسّك بإطلاق الموضوع في الجملة التامة دونه في الجملة الناقصة.......... ٣٥٤ ـ ٣٥٥

البحوث اللفظيّة اللغوية :

٣٥٧ ـ ٣٨١

تمهيد...................................................................... ٣٥٩ ـ ٣٦٠

المشتق......................................................................... ٣٦١ ـ ٣٨١

تمهيد............................................................................... ٣٦٣

المشتق عند الأصوليين....................................................... ٣٦٣ ـ ٣٦٩

ما ذا يراد بالحال في عنوان النزاع؟........................................... ٣٦٩ ـ ٣٧١

تصوير معنى عام للمشتق على القولين........................................ ٣٧١ ـ ٣٧٣

المختار في معنى المشتق............................................................... ٣٧٤

ما استدلّ به على الوضع للمتلبّس............................................ ٣٧٤ ـ ٣٧٦

التفصيل بين بعض المشتقات وبعض........................................... ٣٧٦ ـ ٣٧٨

ما يقتضيه الأصل العملي عند الشك في معنى المشتق............................ ٣٧٨ ـ ٣٨١

١ ـ حكم الأصل في المسألة الأصولية................................................ ٣٧٩

٢ ـ حكم الأصل في المسألة الفقهية......................................... ٣٧٩ ـ ٣٨١

بحوث في علم الأصول - ١

المؤلف:
الصفحات: 391