
بسم اللّه الرحمن
الرحيم
وبه نستعين
الحمد للّه الذي خلق العباد وأمرهم
بعبادته ؛ ليدخلهم الجنّة التي خلقها لهم ، وأوجب عليهم طلب ما كلّفهم به من فنون
طاعته ؛ لكي يكونوا من الذين عرّفها لهم ، فأرسل لتعليمهم الرسل والأنبياء ، وأنزل
لبيان ذلك الكتب من السماء ، وعيّن للتبيينلهم
الأوصياء (
لِئَلَّا
يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ )؛
حيث لا حجّة بعد تبيان الحقّ لهم ، فمنهم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
الذي قرن الاعتراف بنبوَّته بالاعتراف
باُلوهيّته ، واختصّه من تكريمه بما لم يصل إليه أحد من بريّته ، أعني : سيّدنا
ومولانا محمّد صلىاللهعليهوآله الذي
أرسله اللّه رحمةً لخليقته ، وإعلاءً لكلمته ، وإعلاناً لحجّته ، وتبياناً للوصلة
إلى طاعته ، والوسيلة إلى عبادته ، فأنزل عليه الكتاب فيه تبيان كلّ شيء ؛ لئلاّ
يضلّوا كما ضلّ من كان قبلهم .
__________________
فصلوات اللّه وسلامه عليه وعلى آله
الأوصياء في الدين والراسخين في العلم ، خلفاء اُمّته ، وحلفاء حكمته ، وعلماء
ملّته ، الذين جعلهم اللّه الحجج على كلّ معترف له بملكة الربوبيَّة ، ولرسوله
بالسلطنةالنبويّة
، فاصطفى منصب ولاية الأمر لهم ، وعلى أصحابه الموفين بعهده ، المسلّمين لأمره ،
الذين حفظوا وصيّته من بعده في الثقلين ، وتمسّكوا بولاية عترته المصطفين ، ولم
يكونوا من الذين أعمى اللّه أبصارهم ، وأضلّ أعمالهم فلا ناصر لهم .
وبعد :
فهذا تنميقأنيق ، وتأليف أليف ، رقّمته في تحقيق
أمر الإمامة ، وتنقيح الإمارة الإيمانيّة ، وبيان حصرها في أئمّة الفرقة المحقّة
الإماميّة ، أعني : الطائفة الناجية الإثنى عشريّة ، رضوان اللّه عليهم أجمعين .
فإنّه لمّا تبيّن لي أنّ مناط كلام
جمهور المؤلّفين في هذا المبحث المتين على نهج أطوار المخالفين من أنواع المناظرات
والمجادلات الدائرة على ألسنة المتكلّمين ، ومن محض اتّباع الخلف السلف في كثير
ممّا صوّبه الأكثر وزيّف ، من غير ملاحظة طريقة سلوك الأئمّة الطاهرين عليهمالسلام في الاستدلال على
أعداء الدين من التمسّك بالبراهين الموجبة لليقين ، الناشئة من محكمات كتاب اللّه
المبين ، والمعتمدات الواردة عن سيّد المرسلين ، ووجدت أكثر المؤلّفات أيضاً
مشحونة بالمطاعن التي توجب تنفّر طباع الخصوم عن النظر فيها ، وقد قال اللّه عزوجل : ( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )وقال
أيضاً :
__________________
(
ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )وقال سُبحانه لموسى عليهالسلام : ( فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا
لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ ).
وكنت قد ظفرت أيضاً في خزائن علوم أهل
بيت العصمة والطهارة ، وكنوز رموز حكمهم على دليل متين ، وأصل أصيل ما سمحت به
أفكار السلف ، ولا أتت بمثله أبكارالخلف
، فائح العلم ، واضح الفهم ، بيّن الدلالة ، مسلّمة مقدماته ، بل معلومة بالبداهة
، مطابقاً لما ورد في محكمات القرآن وما نقله الفريقان عن منابع العلم والعرفان ،
مع كونه مشتملاً على اُمّهات سائر الدلائل ، كاشفاً عن مشكلات كثير من المسائل .
هذا ، مع أنّي كنت أيضاً قد اطّلعت على
كثير من الأشياء التي ذكرها المخالفون في كتبهم ، وهي من شواهد صحّة ما ادّعاه
الإماميّة على سلفهم ، وكأنّهم ذكروها غفلة من غير تفطّنهم بكونها حجّة عليهم .
فعزمت حينئذٍ مستعيناً بتوفيق اللّه
وحسن تأييده على تأليف هذا الكتاب المسطور على غير النهج الذي ذكرنا أنّه عادة
الجمهور ، مشتملاً على الدليل المذكور ، بحيث يتضمّن سائر الأدلّة ممّا هو المشهور
، فجعلت هذا الدليل أصل مبنى وضع الكتاب ، ومناط الاستدلال فيه ، لكن بحيث يمكن
إلحاق غيره من الأدلّة به ، ورتّبت بعض مقدماته على بعض ، بحيث يستلزم ثبوت كلّ
مقدّمة سابقة ثبوت اللاّحقة ، وترتّبها عليها ، ومع هذا جعلت لكلّ مقدّمة منه
مقالة ذكرتها فيها مع ما يشهد بصحّة ما في متونها ،
__________________
ويوضّح حقّيّةمضمونها من محكمات الآيات والروايات
الموافقة لها ، ونقلت معظم تلك الروايات من كتب القوم ؛ ليكون أتمّ في الحجّة
عليهم ، ولوجوهاُخرى
أيضاً .
وقد شفعت بعض ذلك بشيء من المقدّمات
العقليّة من البراهين القطعية والمسلّمات اليقينيّة ، وبيّنت كثيراً من مكالمات
الفريقين في تحقيق ما ذكروه من أدلّة الطرفين ، بحيث تبيّن الرشد من الغيّ والزين
من الشين ، واندفع كثير من الشبه والشكوك ، بحيث ارتفع المين من البين ، وسمّيته بـ
: «ضياء
العالمين» ، راجياً من فضل اللّه العظيم أن
يجعله كاسمه في النشأتين هادياً لمن أراد متابعة من اختاره اللّه من المصطفين ،
وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم ، موجباً لثوابه العظيم .
وقد بذلت جهدي ـ مهما أمكنني في كلّ
مقام ـ أن يكون في الوضوح بحيث ينتفع منه الخاصّ والعامّ ، ويحكم بصحّته كلّ منصف
متّصف بكون قصده تحقيق الحقّ لا محض الجدال والإلزام .
وقد انتظم تمام الكلام من المبدأ إلى
الختام في ضمن بيان فاتحة ومقدّمة ، ومقصدين ، وخاتمة ، وختام فيه تمام الكلام ،
مع اشتمال بعض منها على مقالات ، وبعض منهاعلى
أبواب وفصول ، بل على مباحث ومطالب بل على غيرها أيضاً من متمّمات الكلام .
__________________
أمّا الفاتحة :
فلنذكرفيها قبل الشروع في بسط المقال خلاصة
الدليل الذي أشرنا إليه على سبيل الإجمال ، مع نقل فهرست المقدّمة وغيرها من
المقاصد والمقالات والخاتمة والختام والأبواب والفصول على نهج لا يكون خالياً عن
نوع من الاستفصال ، حتّى يكون الناظر في كتابنا هذا على زيادة بصيرة في أصل المقال
من مبدأ الحال ، بحيث يسهل عليه استخراج كلّ ما احتاج إليه عند الاشتغال بتصحيح
المقصود على وجه الكمال . فنقول وباللّه التوفيق :
لا يخفى أنّ من أجلى الضروريات الدينيّة
والمسلّمات اليقينيّة عند جميع الطوائف الملّية ، لاسيّما كافّة هذه الفِرَق
الإسلاميّة ، أنّ العباد مكلّفون ـ إيجاباً ـ بعبادة اللّه عزوجل والتزام طاعته ـ التي
هي بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه ـ بمعنى أنّ الواجب عليهم أن يكون ما صدر منهم
على وفق أمره وإرادته ، دون نهيه وكراهته .
ومن الواضحات أيضاً : أن لا مجال للكلام
حينئذٍ في وجوب معرفة طريق ذلك ، ولزوم تحصيل العلم به ، وتشخيص ما يتعلّق به من
تعلّم المأمورات والمناهي بشرائطها وآدابها وحدودها وسائر ما يتعلّق بها ، بحيث
يتبيّن أنّها على ما هي عليه عند اللّه ، أي : على وفق إرادته وكراهته وأمره
__________________
ونهيه ؛ ضرورة لزوم
تشخيص ما كلّف به .
ولا شكّ في استلزام ذلك لزوم التعليم
ووجود المعلّم ؛ ضرورة امتناع تحقّق التعلّم بدون التعليم الذي لا يكون إلاّ
بالمعلّم ، فظهر أنّه لابدّ في مدّة زمان التكليف وما دام وجبالتعلّم من المعلّم الذي يرشد إلى
الأشياء التي وقع التكليف بها على وفق ما هي عليه عند اللّه ؛ حيث ظهر أنّ
المقصود تلك المعرفة الخاصّة ، ومنه يظهر لزوم كون المعلّم عالماً (بيّن العلم)بما يحتاج إليه المتعلّم ، بحيث لا
يحتمل الخطأ والغلط ؛ ضرورة عدم إمكان تعلّم الشيء من الجاهل به ، وكذا لا اعتماد
على ما يحتمل الخطأ والكذب ؛ ولهذا يلزم أيضاً كونه صدوقاً ثابت الصدق ، موثوقاً
به في جميع الأقوال والأحوال،
وكذلك يظهر وجوب التعليم والتبليغ عليه ؛ لئلاّ يلزم التقصير عليه ، ويتمّ الحجّة
على المقصّر في التعلّم .
وحيث ظهر أنّ ذلك كلّه إنّما هو لتشخيص
ما كلّف اللّه به ، ومعرفته على ما هو عند اللّه ، ظهر أنّ أصل التعليم لابدّ أن
يكون من اللّه عزوجل؛
ضرورة أنّ ما عند اللّه لا يعلم به غير اللّه ، إلاّ بإعلام من اللّه ولو
بالواسطة الثابتة وساطتها ، وأنّها منه [ عزوجل ]
، مع أنّ الجزم بموافقة أمر اللّه لا يحصل إلاّ بالأخذ من اللّه ، فظهر أنّ
اللّه سبحانه هو المرجع في معرفة جميع ما كلّف به طول مدّة التكليف ، وأنّه هو
المعلّم الذي علم ما يحتاجون إليه فيها ؛ ضرورة لزوم تشخيص الجميع ، وتعليمه
للمكلّف ما دام الاحتياج وهو في طول المدّة ، كما تبيّن ممّا ذكرنا .
__________________
هذا ، مع ما سنذكره في المقالات من
الآيات المصرّحة بأنّ اللّه عزوجل هو
المعلّم لما لا يعلمون ، وأنّه علّم الكتاب والحكمة ونحو ذلك ، ومن الآيات
المشتملة صريحاً على بيان صنوف الأحكام الكثيرة حتّى الجزئيّات الصغيرة ، ومن
الآيات المتضمّنة صريحاً بأنّ اللّه عزوجل أكمل
الدين وأتمّ النعمة والحجّة،
وأنّه رؤوف بالعباد،
لم يرض لهم بجهالة،
ولا البقاء على ضلالة،
وأنّه لم يفرّط في الكتاب من شيء،
وأن لا رطب ولا يابس إلاّ فيه،
وأنّه أحصى كلّ شيء فيه،
وأنّ فيه تبيان كلّ شيء،
وأمثالها من الآيات الكثيرة الآتية.
ثمّ إنّ من الواضحات قطعاً : أنّ حكمة
اللّه اقتضت وعادته جرت ـ من بدو الزمان إلى هذا الأوان ، ومن زمن آدم إلى عصر
الخاتم ـ على عدم مخاطبته ومكالمته بنفسه مع عامّة العباد في هذا العالم ، أي بدون
واسطة أصلاً ، عند بيان الأشياء بل مطلقاً ، كما أنّه لم يكتف بتديّنهم بما يدركون
بعقولهم أيضاً ، بل مداره على اختياره من خلقه وسائط وسفراء وهداة واُمناء ، من
الأنبياء والأوصياء ، والكتب والعلماء ، متمّماً بهم الحُجّة على غيرهم بالمعاجز
الباهرة ، والبراهين الوافرة من الفضائل الفاخرة ، والعلوم المتكاثرة ، الذين
أفضلهم وأكملهم كان نبيّنا محمّد صلىاللهعليهوآله الذي
أرسله إلى
__________________
كافة الإنس والجان ،
وأنزل عليه القرآن (
هُدًى
لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ).
فباليقين رسول اللّه صلىاللهعليهوآله والقرآن
واسطتان ثابتتان ، وحجّتان قائمتان ، ومعلّمان مبلّغان من طرف اللّه عزوجل وبأمره واختياره ،
بالبيان والعلم والبُرهان ، فيجب الرجوع إليهما مطلقاً ، وترك مخالفتهما رأساً ،
وعدم الاعتماد على ما لم يكن منهما أصلاً ، ما لم يثبت كونه ممّا هو حجّة ثابتة من
اللّه أيضاً .
وحيث لا شكّ في عجز الناس عن فهم جميع
القرآن ، وأنّ اللّه الحكيم ـ المصرّح بإتمام النعمة والحجة ـ لم يكن لينزل شيئاً
لم يُفهّمه لأحد ، ومن الواضحات أيضاً : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله
كان ترجمان القرآن ، وقيّمه ، وعالمه ،
وحافظه ، ومبيّن تفسيره وتأويله ؛ إذ قد أنزله اللّه له وإليه ، فهو المُختصّ
بفهم كلّ ما فيه ، وأمّافهم
غيره لا يدانيه ، وما لا يمكن استنباط المراد منه إلاّ بتعليم من اللّه ،
فالبيقين كان هو المعلّم حقيقة من اللّه تعالى قطعاً ، وحجّةً على الاُمّة قاطبة
؛ ولهذا كان عالماً بكلّ ما تحتاج إليه الاُمّة ؛ بحيث لا يجهل شيئاً ، وكان بنصّ
من اللّه مطاعاً ، آمراً ، ناهياً ، مفروض الطاعة على الكافّة ، لم يكن يجوز
مخالفته ، ولم يسغ معارضته ، ولا الاعتماد على ما لم يكن منه ، بل كان يجب على الجميع
الرجوع إليه ، والتسليم له ، ومتابعة أمره في كلّ مقال ، وعلى جميع الأحوال ، ولم
يجز لأحد إلاّ الأخذ منه ، ولو بالواسطة المعلومة حقيقتها ، دون غير ذلك ؛ لما هو
ثابت من كثرة الكذّابة عليه .
__________________
فقد ظهر من هذا كلّه أنّه لم يكن للنبيّ
صلىاللهعليهوآله ولا
لغيره الاعتماد على ما لم يكن من اللّه ، لاسيّما ممّا لم يكن مصوناً عن الإيقاع
في الخطأ والتأدية إلى خلاف ما عند اللّه ؛ ضرورة أنّه بعد ما ظهر من ورود
الأشياء كلّها من اللّه مع تعيين المعلّم ، لا يبقى احتمال اختيار للمعلّم ولا
لغيره ما سوى التسليم .
(هذا ، مع أنّ)النبيّ صلىاللهعليهوآله
لم يكن يحتاج إليه ؛ إذ لا حاجة إلى
البُرهان فيما يكون معلوماً بالبيان ، لاسيّما إذا كان في حكم العيان ، ولا يتصوّر
الظنّ والتخمين فيما يكون معلوماً باليقين ، وكذلك حال الاُمّة ، لما ظهر من
انحصار طريق التعلّم من اللّه في الأخذ من المعلّم من اللّه دون غير ذلك .
ثمّ إنّ من الواضحات البيّنة أنّ النبيّ
صلىاللهعليهوآله لم
يبق طول زمان التكليف حتّى يوفي لجميع اُمّته جميع ما يحتاجون إلى تعليمه بنفسه إلى
آخر الزمان ، ومعلوم أيضاً أنّه لم يُعلّم في حياته جميع الأشياء ـ لاسيّما الذي
يحتاجون إليه فيما بعد ـ لسائر الاُمّة ، وأنّ كلّ أحد لا يفهم جميع ما في القرآن
.
وهذا ـ مع إضافة ما هو ثابت من عدم
تقصيره في التبليغ ، وما تبيّن صريحاً من انحصار طريق التعلّم في الأخذ من المعلّم
من اللّه ـ ينادي بأن لابدّ ومن الواجبات اللازمة : أن يكون بعده إلى آخر الزمان
في كلّ عصر ـ بل في كلّ آنٍ ـ مَن ينوب منابه ويقوم مقامه في هذا الأمر ، يكون
إماماً للخلق ، وهادياً إلى الحقّ ، ولو رجلاً بعد رجل ، وأن يكون كلّ واحد بخصال
النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
لاسيّما في الصفات اللازمة في التعليم من كونه
__________________
معصوماً عن الخطأ
والشك والجهل ، عالماً بالكتاب كلّه ، غير عاجز عمّا يحتاج إليه أهل عصره ، آخذاً
كلّ علمه من اللّه ورسوله ؛ ضرورة أن لا اعتماد عليه ، ولا على علمه ما لم يكن
كذلك قطعاً .
فظهر أنّه لابدّ أن يكون أيضاً متعيّناً
من اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ،
مختاراً باختيار اللّه ، مصطفىً من صَفوة اللّه ، مفروض الطاعة بأمر اللّه ؛
ضرورة كون تعيينهمن
ألزم ما وجب تعليمه ، وأعظم ما تحتّم تعريفه من وجوه كثيرة تبيّن بعضها ممّا
حرّرناه ، وسيتبيّن جميعها فيما سيأتي .
ولقد كفى في هذا أنّ النائب إذا كان
بحيث لابدّ أن يكون مثل النبيّ صلىاللهعليهوآله أميناً
من اللّه على علمه وكتابه ودينه وشريعته ، ووساطةالتبليغ والتعليم ، بحيث إنّ به يتمّ
تبليغ النبيّ صلىاللهعليهوآله جميع
ما أنزله اللّه عليه ، فكيف يمكن أن يعرف مثل هذا بدون إعلام من اللّه ورسوله ؟
.
بل من الواضحات أنّ فرض سكوتهما عن
إعلام مثل هذا الأمر العظيم ينافي ما ثبت من إكمال اللّه الدين وإتمامه النعمة ،
وتبليغ النبيّ صلىاللهعليهوآله جميع
ما تحتاج إليه اُمّته في زمانه .
وحينئذٍ لا يخفى ، بل لا كلام أيضاً في
أنّ مثل هذا الرجل إنّما كان عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ،
ثمّ الحسنين ، ثمّ التسعة المعلومينمن
نسل الحسين عليهمالسلام ؛
لوجوه كثيرة سنذكرها مفصّلة .
وكفى في هذا اعتراف الاُمّة جميعاً بعدم
نصّ ، ولا عصمة ، ولا كمال علم في غير أهل البيت ، وأنّ كلاًّ من ذلك إن كان فهو
في عليّ وذرّيته
__________________
المذكورين ، مع
تسليمهم ـ كما سيأتي مفصّلاً ـ حديث الأمر بالتمسّك بالثقلين ، ووصاية عليّ للنبيّ
صلىاللهعليهوآله بنصّه
، وكذا الحسن عليهالسلام لأبيه
والحسين عليهالسلام لأخيه
وهكذا كلّ لاحق لسابقه ، كما كان ذلك دأب من سلف من الأنبياء والأوصياء ، وكذا
كونهم أعلم الناس بالكتاب والسنّة ، وأكملهم من كلّ جهة .
هذا كلّه ، مع ما سيأتي من نصوص الكتاب
والسنّة التي منها حكاية الغدير .
فظهر أنّ حكاية السقيفة ، وادّعاء عدم
تعيين أحد من اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ،
كان توهّماً فاسداً ناشئاً من الأشياء التي سنذكرها ، موجباً للمفاسد العظيمة .
هذا خلاصة الدليل المذكور ، وسيأتي
تفصيل بيان كلّ مقدّمة منه في مقامه،
بحيث لا يبقى شبهة لمشكّك .
وإن أردت حاصله تلخيصاً ، ومحصوله
تخليصاً ، فهو : أنّ اللّه عزوجل خلق
الخلائق لعبادته ، وكلّفهم بطاعته ، ولم يرض عنهم بإتيانها على أيّ نهج كان ، بل
لم يجز عنده غير ما أمر به في صريح البيان ، كما ينادي به حكمه بالضلالةوالبطلان على أهل الملل الذين كان
تعبّدهم فيها على مقتضى الظنّ كالرأي والاستحسان من غير سماع ممّن أرسله بالبيان
والتبيان .
ولا شكّ أنّه حينئذٍ لابدّمن العلم بها الموقوف على التعليم
والمعلّم ، فعليه سُبحانه أن يعلّمهم إيّاها ، بحيث لا يحتاجون إلى ما لم يجز
__________________
عنده ، وقد فعل ذلك ،
حيث أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ، وعيّن الأوصياء ، حتّى انتهى إلى حبيبه محمّد صلىاللهعليهوآله خاتم
الأنبياء ، فأرسله بالكتاب المبين ، وعلّمه ما احتاجوا إليه من اُمور الدين ، وحيث
ثبت أنّه لم يبق طول مدّة التكليف ، ولم يُعلم جميع الاُمّة جميع ما احتاجوا إليه ،
فلا جرم من وجود معلّم معيّن من اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله
في كلّ عصر بنحو ما كان في سائر الاُمم
، يكون مثل النبيّ صلىاللهعليهوآله في
الصفات عارفاً بجميع ما تحتاج الاُمّة إليه على ما هو الوارد من اللّه ؛ حتّى لا
يلزم التقصير في التبليغ ، ويُتمّ الحجّة والنعمة ، ولا شكّ في أنْ ليس في مثل هذه
الصفات ولا ادّعى ذلك أحد غير عليّ بن أبي طالب والحسنين والتسعة المعلومين من
ذريّة الحسين صلوات اللّه عليهم أجمعين .
وإذا تبيّن هذا ، فاعلم أنّ مضمون هذا
الدليل ممّا يستفاد ـ ولو متفرّقاً ـ من المرويّات المعتبرة المتعدّدة عن أهل بيت
الوحي والتنزيل ، وعلماء التفسير والتأويل ، فلا بأس إن ذكرنا ها هنا نبذاً من تلك
الأخبار لمزيد البصيرة لمن أراد الاستبصار :
فالأوّل
منها : ما رواه جماعة من أصحاب أهل البيت عليهمالسلام في
كتبهم بأسانيد ، منها:
ما ذكره الشيخ الجليل محمّد بن يعقوب
الكلينيفي
كتاب الكافي
__________________
عن هشام بن الحكمأنّه قال : أتى زنديق إلى أبي عبداللّه
جعفر بن محمّد الصادق عليهماالسلام ،
فسأله عن مسائل في التوحيد وصفات اللّه عزوجل
، وفاز بأجوبة شافية ، حتّى انجرّ الكلام إلى أن سأله ، فقال : من أين أثبتّ
الأنبياء والرسل ؟
فقال عليهالسلام :
«إنّا لمّا أثبتنا أنّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خلق ، وكان
ذلك الصانع حكيماً متعالياً لم يجز أن يشاهده خلقه ويُلامسوه ، فيباشرهم ويباشروه
، ويحاجّهم ويحاجّوه ، ثبت أنّ له سفراء في خلقه يعبّرون عنه إلى خلقه وعباده ،
ويدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم ، وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم ، فثبت الآمرون
والناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، والمعبّرون عنه جلّ وعزّ ، وهم الأنبياء عليهمالسلام وصفوته من خلقه ،
حكماء مؤدَّبين بالحكمة مبعوثين بها غير مشاركين للناس على مشاركتهم لهم في الخلق
والتركيب في شيء من أحوالهم ، مؤيَّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة .
ثمّ ثبت ذلك في كلّ دهرٍوزمان ممّا أتت به الرسل والأنبياء من
الدلائل والبراهين ؛ لكيلا تخلو أرض اللّه من حجّة يكون معه عِلم يدلّ على صدق
مقالته وجواز عدالته»الخبر
.
__________________
ويتبيّن منه أشياء :
أحدها : أنّه لابدّ ما دام زمان التكليف
أن يكون في كلّ عصر سفير بين اللّه وبين خلقه من الأنبياء والأوصياء ؛ ليعبّر ما
احتاجوا إليه عنه إليهم ، ويدلّهم على مصالحهم ممّا خلقوا لأجله .
وثانيها : أن يكون ذلك السفير كاملاً في
العلم والعمل والتقوى وسائر الكمالات ، فائقاً على جميع أهل عصره من كلّ الجهات ،
منزّهاً عن الجهل والرذالات ، مؤدّباً بآداب اللّه ، مؤيّداً من طرف اللّه ،
بحيث لا يتطرّق إليه الخطأ والزلل ، ولم يصل إليه غيره في العلم والعمل .
وثالثها : أن يكون أصل بعثته وتعيينه من
طرف اللّه مستثنىً باصطفاء اللّه ، ممتازاً بالاختيار من اللّه .
ورابعها : أن يكون مدّعياً لذلك
بالأدلّة والبراهين والآيات ، من النصّ والكرامات والمعجزات ، حتّى يُتمّ الحجّة
على العباد ولا يكون لهم عذر عند العقاب في المعاد .
وممّا يدلّ على صدق هذا المقال ما سيظهر
ـ إن شاء اللّه تعالى ـ من أنّ جميع الأنبياء وأوصيائهم كانوا كذلك ، وأنّ الأرض
لم تكن خاليةً ـ كما ورد التصريح به هاهنا أيضاً ـ من حجّة مفروض الطاعة .
نعم ، من ترك التمسّك بالعترة الأطهار
اشتبه عليه الأمر فوقع في الإنكار ، وجاز عنده خرق هذه العادة فيما بعد النبيّ
المختار ، فتأمّل .
الثاني
: ما رواه هؤلاء المشايخ أيضاً عن يونس
بن يعقوبقال
:
__________________
كان عند أبي عبداللّه الصادق عليهالسلام جماعة من أصحابه ،
منهم : حمران بن أعين،
ومحمّد بن النعمان،
وهشام بن سالم،
وجماعة فيهم هشام ابن الحكم وهو شابّ ، فقال أبو عبداللّه عليهالسلام : «ياهشام ، ألا
تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عُبيد؟
وكيف سألته» ؟
__________________
قال هشام : يابن رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ،
اُجلّك وأستحييك ولا يعمل لساني بين يديك .
فقال أبو عبداللّه عليهالسلام : «إذا أمرتكم بشيءٍ
فافعلوا» .
قال هشام : بلغني ما كان فيه عمرو بن
عُبيد ، فعظم ذلك عليّ فخرجت إليه ودخلت البصرة يوم الجمعة ، فأتيت مسجد البصرة
فإذا أنا بحلقةٍ كبيرةٍ فيها عمرو بن عبيد ، وعليه شملةٌ سوداء متّزر بها من صوف
وشملة مرتدٍ بها والناس يسألُونه ، فاستفرجتُ الناس فأفرجوا لي ، ثمّ قعدت في آخر
القوم على ركبتيّ ، ثمّ قلت : أيّها العالم ، إنّي رجل غريب ، أتأذن لي في مسألة ؟
فقال لي : نعم ، فقلت له : ألك عين ؟ فقال لي : يابُنيّ ، أيّ شيءٍ هذا من السؤال
وشيء تراه كيف تسأل عنه ؟ فقلت : هكذا مسألتي ، فقال : يابنيّ ، سَلْ وإن كانت
مسألتك حمقاء ، قلت : أجبني فيها ؟ قال لي : سَلْ ، قلت : ألك عين ؟ قال : نعم ،
قلت : فما تصنع بها ؟ قال : أرى بها الألوان والأشخاص ، قلت : فلك أنف ؟ قال : نعم
، قلت : فما تصنع به ؟ قال : أشمّ به الرائحة ، قلت : ألك فم ؟ قال : نعم ، قلت :
فما تصنع به ؟ قال : أذوق به الطعم ، قلت : فلك اُذن ؟ قال : نعم ، قلت : فما تصنع
بها ؟ قال : أسمع بها الصوت ، قلت : ألك قلب ؟ قال : نعم ! قلت : فما تصنع به ؟
قال : اُميّز به كلّ ما ورد على هذه الجوارح والحواس ، قلت : أوَ لَيْس في هذه
الجوارح غنىً عن القلب ؟ فقال : لا ، قلت : وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة ؟ قال :
يابُنيّ ، إنّ الجوارح إذا شكّت في شيء شمّته
__________________
أو رأته أو ذاقته أو
سمعته ، ردّته إلى القلب فيستيقن اليقين ويُبطل الشكّ .
قال هشام : فقلت له : فإنّما أقام
اللّه القلب لشكّ الجوارح ؟ قال : نعم ، قلت : فلابدّ من القلب وإلاّ لم تستيقن
الجوارح ؟ قال : نعم ، فقلت له : يا أبا مروان ، فاللّه تبارك وتعالى لم يترك
جوارحك حتّى جعل لها إماماً يُصحّح لها الصحيح وتتيقّن به ما شكّت فيه ، ويترك هذا
الخلق كلّهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم لا يقيم لهم إماماً يردّون إليه شكّهم
وحيرتهم ، ويقيم لك إماماً لجوارحك تردّ إليه حيرتك وشكّك ؟
قال : فسكت ولم يقل لي شيئاً ، ثمّ
التفت إليّ ، فقال لي : أنت هشام ابن الحكم ؟ فقلت : لا ، قال : أمِنْ جلسائه ؟
قلت : لا ، قال : فمن أين أنت ؟
قال : قلت له : من أهل الكوفة ، قال :
فإذن أنت هو ، ثمّ ضمّني إليه وأقعدني في مجلسه ، وزال عن مجلسه وما نطق حتّى قمت
.
قال : فضحك أبو عبداللّه [ عليهالسلام ] وقال : «ياهشام ،
من علّمك هذا» ؟ قال : شيء أخذته منك وألّفته .
فقال : «هذا واللّه ، مكتوب في صحف
إبراهيم وموسى عليهماالسلام ».
هذا آخر الحديث ، وفيه : من الدلالة على
لزوم وجود إمام من اللّه في كلّ عصر ، فائقاً على سائر الناس ، لا سيّما في العلم
الذي يحتاجون إليه ، علماً مفيداً لليقين رافعاً للشكوك مزيلاً للخلاف ، وعلى عدم
إتمام الحجّة وإكمال الدين والنعمة بدون ذلك ، وعلى أنّ هذا الأمر المذكور ـ بعد
توجّه الذهن إليه والتفطّن به ـ مفاد صريح العقل وبداهة الفهم ما لا يخفى .
__________________
وسيأتي في الفصل العاشر من المقالة
الأخيرة من المقصد الأوّل حديث آخر عن هشام أيضاً ، أنّه تكلّم في مجلس بني العباس
على علماء القوم في الإمامة بما يوافق دليلنا الذي ذكرناه تمام الموافقة ، فلا
تغفل ، بل طالعه البتّة فإنّه كلام تامّ جيّد جدّاً .
الثالث
: ما رووه أيضاً عن يونس بن يعقوب :
قال : كنت عند أبي عبداللّه عليهالسلام فورد عليه رجل من أهل
الشام ، فقال : إنّي رجل صاحب كلام وفقه وفرائض ، وقد جئت لمناظرة أصحابك . . . .
فقال عليهالسلام لي
: «لو تُحسن الكلام كلّمته» فقلت : يا لها من حسرة ! فقال لي : أخرج إلى الباب
فانظر من ترى من المتكلّمين فأدخله ، قال : فأدخلت حمران بن أعين وكان يحسن الكلام
، وأدخلت الأحول (مؤمن الطاق) وكان يحسن الكلام ، وأدخلت هشام بن سالم وكان يحسن
الكلام ، وأدخلت قيس بن الماصروكان
عندي أحسنهم كلاماً ، وكان قد تعلّم من علي بن الحسين عليهماالسلام ، فلمّا استقرّ بنا
المجلس ورد هشام بن الحكم ، وهو أوّل ما اختطّت لحيته وليس فينا إلاّ من هو أكبر
سنّاً منه .
قال : فوسّع له أبو عبداللّه عليهالسلام ،
فقال : «ناصرنا بقلبه ولسانه ويده» .
ثمّ قال : «ياحمران ، كلّم الرجل»
فكلّمه ، فظهر عليه حمران .
__________________
ثمّ قال : «يا طاقي ، كلّمه» فكلّمه ،
فظهر عليه الأحول .
ثمّ قال : «ياهشام بن سالم ، كلّمه» ،
فتعارفا .
ثمّ قال أبو عبداللّه عليهالسلام لقيس : «كلّمه» ،
فكلّمه .
فأقبل أبو عبداللّه عليهالسلام يضحك من كلامهما ممّا
قد أصاب الشامي ، فقال للشامي : «كلّم هذا الغلام» ـ يعني هشام بن الحكم ـ فقال
الشامي : ياغلام ، سلني في إمامة هذا ؟ فغضب هشام حتّى ارتعد ، ثمّ قال للشامي :
ياهذا ! أربّك أنظر لخلقه أم خلقه لأنفسهم ؟ فقال الشامي : بل ربّي أنظر لخلقه ،
قال : ففعل بنظره لهم ماذا ؟ قال : أقام لهم حُجّة ودليلاً ؛ كي لا يتشتّتوا أو
يختلفوا ، ويتألّفهم ، ويقيم أوَدَهم ويخبرهم بفرض ربّهم . قال : فمن هو ؟ قال :
رسول اللّه ، قال هشام : فمِن بعد رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
مَن ؟ قال : الكتاب والسنّة .
قال هشام : فهل نفعنا اليوم الكتاب
والسنّة في رفع الاختلاف عنّا ؟ قال الشّامي : نعم ، قال : فلم اختلفتُ أنا وأنت ،
وصرتَ إلينا من الشام في مخالفتنا إيّاك ؟ قال : فسكت الشامي .
فقال له أبو عبداللّه الشامي : «ما لك
لا تتكلّم ؟» .
قال الشامي : إن قلت : لم نختلف كذبتُ ،
وإن قلتُ : إنّ الكتاب والسنّة يرفعان عنّا الاختلاف أبطلتُ ؛ لأنّهما يحتملان
الوجوه ، وإن قلت : قد اختلفنا وكلّ واحد منّا يدّعي الحقّ فلم ينفعنا إذاً الكتاب
والسنّة ، إلاّ أنّ لي عليه هذه الحجّة .
فقال له أبو عبداللّه عليهالسلام : «سله تجده مليّاً»
.
فقال الشامي : ياهذا ، من أنظر للخلق
أربّهم أو أنفسهم ؟ فقال هشام : ربّهم أنظر لهم منهم لأنفسهم .
فقال الشامي : فهل أقام لهم من يجمع لهم
كلمتهم ويقيم أوَدَهم ويخبرهم بحقّهم من باطلهم .
قال هشام : في وقت رسول اللّه صلىاللهعليهوآله أو
الساعة ؟
قال الشامي : في وقت رسول اللّه صلىاللهعليهوآله (رسول
اللّه)والسّاعة
مَنْ ؟
فقال هشام : هذا القاعد الذي تُشدّ إليه
الرحال ، ويخبرنا بأخبار السماء [ والأرض ]
وراثةً عن أب عن جدٍّ .
قال الشامي : فكيف لي أن أعلم ذلك ؟ قال
هشام : سله عمّا بدا لك ، قال الشامي : قطعت عذري فعليّ السؤال ؟
فقال أبو عبداللّه عليهالسلام : «ياشاميّ ، اُخبرك
كيف كان سفرك ، وكيف كان طريقك ؟ كان كذا وكذا» ، فأقبل الشامي يقول : صدقت ،
أسلمت للّه الساعة .
فقال أبو عبداللّه عليهالسلام : «بل آمنت باللّه
الساعة ، إنّ الإسلام قبل الإيمان ، وعليه يتوارثون ويتناكحون ، والإيمان عليه
يثابون» .
فقال الشامي : صدقت ، فأنا الساعة أشهد
أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّداً رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
، وأنّك وصيّ الأوصياء. الخبر .
ودلالته على المقصود ـ أعني لزوم وجوب
معلّم من اللّه في كلّ عصر ، وعلى عدم كفاية القرآن بدون مفسّر عالم به : نبيّ أو
وصيّ ، وعلى ادّعاء أئمّة الإماميّة ذلك بالبرهان ، وكذا على عدم جواز الاختلاف ،
ووجوب رفعه على اللّه عزوجل ،
بل فعله ذلك ـ ظاهرة ، فافهم .
__________________
الرابع
: ما رووه أيضاً عن منصور بن حازم:
قال : قلت لأبي عبداللّه عليهالسلام : إنّ من عرف أنّ له
ربّاً ، فقد ينبغي له أن يعرف أنّ لذلك الربّ رضاً وسخطاً ، وأنّه لا يُعرف سخطه
ورضاه إلاّ بوحي أو رسول ، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرُسل ، فإذا
لقيهم عرف أنّهم الحجّة ، وأنّ لهم الطاعة المفترضة ، فقلت للناس : أليس تعلمون
أنّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآله كان
هو الحجّة من اللّه على خلقه ؟ قالوا : بلى ، قلت : فحين مضى صلىاللهعليهوآله من
كان الحجّة على خلقه ؟ قالوا : القرآن ، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجئُوالقدريوالزنديق الذي لا يؤمن به ، حتّى يغلب
الرجال بخصومته ، فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّة
__________________
إلاّ بقيّم فما قال
فيه من شيء كان حقّاً ، فقلت : لهم مَن قيّم القرآن ؟ فقالوا : ابن مسعودقد كان يعلم ، وعمريعلم ، وحُذيفةيعلم ، قلت : كلّه ؟ قالوا : لا .
فلم أجد أحداً يقال : إنّه يعلم القرآن
كلّه إلاّ عليّاً صلوات اللّه عليه ، وإذا كان الشيء بين القوم ، فقال هذا : لا
أدري ، وقال هذا : لا أدري ، وقال هذا : لا أدري ، وقال هذا : أنا أدري ، فأشهد
أنّ عليّاً عليهالسلام كان
قيّم القرآن ، وكانت طاعته مفترضةً ، وكان الحجّة على الناس بعد رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ،
وأنّ ما قال في القرآن فهو حقّ .
فقال ـ الصادق عليهالسلام ـ : «رحمك اللّه» ،
فقلت : إنّ عليّاً عليهالسلام لم
يذهب
__________________
حتّى ترك حجّةً من
بعده ، كما ترك رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ،
وأنّ الحُجّة بعد عليٍّ الحسن بن عليّ عليهماالسلام ،
وأشهد على الحسن عليهالسلام أنّه
لم يذهب حتّى ترك حجّةً من بعده ، كما ترك أبوه وجدّه ، وأنّ الحجّة بعد الحسن
الحسين عليهماالسلام ،
وكانت طاعته مُفترضةً ، فقال : «رَحمك اللّه» ، فقبّلت رأسه وقلت : وأشهد على
الحُسين عليهالسلام أنّه
لم يذهب حتّى ترك حجّةً من بعده عليّ بن الحُسين عليهماالسلام ،
وكانت طاعته مفترضةً .
فقال : «رحمك اللّه» فقبّلت رأسه .
وقلت : وأشهد على عليّ بن الحسين عليهماالسلام أنّه لم يذهب حتّى
ترك حجّةً من بعده محمّد بن عليّ الباقر عليهماالسلام ،
وكانت طاعته مفترضةً .
فقال : «رحمك اللّه» قلت : أعطني رأسك
حتّى اُقبّله ، فضحك .
قلت : أصلحك اللّه ، قد علمت أنّ أباك
لم يذهب حتّى ترك حجّةً من بعده ، كما ترك أبوه ، وأشهد باللّه أنّك أنت الحجّة ،
وأنّ طاعتك مفترضةٌ .
فقال : «كفّ رحمك اللّه» ، قلت : أعطني
رأسك اُقبّلُهُ فقبّلتُ رأسَهُ فضحك وقال : «سلني عمّا شئت فلا اُنكرك بعد اليوم
أبداً».
أقول
: دلالته أيضاً ظاهرة على لزوم دوام
وجود قيّم للقرآن ، عالم به كلّه ، وعدم كفايته بدون القيّم ، واختصاص القيمومة
بهؤلاء القوم ، وعلى ادّعائهم القيمومة أيضاً ، وعلى إخفائهم هذه الدعوى على أكثر
الناس تقيّة .
الخامس
: ما رووه أيضاً عن عبدالعزيز بن مسلم، قال : كنّا مع
__________________
الرضا عليهالسلام بمروٍ فاجتمعنا في
الجامع يوم الجمعة في بدء مَقدِمنا فأداروا أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس
فيها ، فدخلت على سيّدي عليهالسلام فأعلمتُه
خوض الناس فيه ، فتبسّم عليهالسلام .
ثمّ قال : «يا عبدالعزيز ، جهل القوم
وخدعوا عن آرائهم ، إنّ اللّه عزوجل لم
يقبض نبيّه صلىاللهعليهوآله حتّى
أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كلّ شيء ، بيّن فيه الحلال والحرام
والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج إليه الناس كملاً ، فقال تعالى : ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ
شَيْءٍ ).
وأنزل عليه في حجّة الوداع ، وهي آخر
عمره صلىاللهعليهوآله :
(
الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلَامَ دِينًا )وأمرُ الإمامةِ من تمام الدين .
ولم يمض صلىاللهعليهوآله
حتّى بيّن لاُمّته معالم دينهم وأوضح
لهم سبيلهم . . . فأقام لهم عليّاً عليهالسلام علماً
وإماماً ، وما ترك شيئاً تحتاج إليه الاُمّة إلاّ بيّنه ، فمن زعم أنّ اللّه لم
يُكمل دينه فقد ردّ كتاب اللّه (وكان)كافراً
به . . .
إنّ الإمامة أجلّ قدراً ، وأعظم شأناً ،
وأعلى مكاناً . . . ، وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعُقولهم ، أو ينالوها
بآرائهم ، أو يقيموا إماماً باختيارهم .
إنّ الإمامة خصّ اللّه عزوجل بها إبراهيم الخليل
بعد النُبوّة ، والخلّة مرتبة ثالثة ، وفضيلة شرّفه بها . . . فقال : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا )،
فقال الخليل سروراً بها : (
وَمِنْ
ذُرِّيَّتِي )؟ قال اللّه عزوجل : ( لَا يَنَالُ
__________________
عَهْدِي
الظَّالِمِينَ ).
فأبطلت هذه الآية إمامة كلّ ظالم إلى
يوم القيامة وصارت في الصفوة ، ثمّ أكرمه اللّه تعالى بأن جعلها في أهل الصفوة
والطهارة من ذرّيّته،
فقال : (
وَوَهَبْنَا
لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ
أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ
وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ )الآية
، فلم تزل في (أهل العلم والطهارة من)ذرّيّته
يرثها بعض عن بعض قرناً فقرناً ، حتّى ورّثها اللّه عزوجل
النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
فقال جلّ وتعالى : (
إِنَّ
أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا
النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ )،
فكانت له خاصّة فقلّدها صلىاللهعليهوآله عليّاً
عليهالسلام بأمر
اللّه عزوجل على
رسم ما فرض اللّه ، فصارت في ذرّيّته الأصفياء الذين آتاهم اللّه العلم والإيمان
. . .» .
ثمّ ذكر عليهالسلام صفاتٍ
كثيرةً للإمام ، منها أنّه قال :
«إنّ الإمامة هي منزلة الأنبياء وإرث
الأوصياء ، وإنّها خلافة اللّه وخلافة الرسول صلىاللهعليهوآله
. . .
وإنّ الإمام يحلّ حلال اللّه ويحرّم
حرام اللّه . . . ويذبّ عن دين اللّه ، ويدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة
الحسنة والحجّة البالغة .
وإنّ الإمام كالشمس الطالعة المجلّلة
بنورها للعالم وهي في الاُفق ، بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار . . .
__________________
وإنّ الإمام أمين اللّه في خلقه وحجّته
على عباده ، . . . المطهّر من الذنوب والمبرّأ من العيوب ، المخصوص بالعلم الموسوم
بالحلم .
وإنّ الإمام واحد دهره لا يدانيه أحد
ولا يعادله عالم ، ولا يوجد منه بدل . . .
وإنّ الإمام عالم لا يجهل وراع لا
يَنْكُل ، معدن القُدس والطّهارة ، والنُسك والزهادة ، والعلم والعبادة . . . نامي
العلم كامل الحلم . . . مفروض الطاعة . . . حافظ لدين اللّه . . . (مخصوص بالفضل
كلّه ، من غير طلب منه له ولا اكتساب ، بل اختصاص من المفضّل الوهاب»).
ثمّ قال عليهالسلام :
«فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه اختياره ، هيهات هيهات ضلّت العقول ،
وتاهت الحلوم ، وحارت الألباب . . . عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله (ولا
يمكن أن)ينعت
بكنهه أو يفهم شيء من أمره . . . . فأين الاختيار من هذا ؟ وأين العقول من هذا ؟
وأين يوجد مثل هذا حتّى يقوم مقامه ؟ » .
ثمّ قال عليهالسلام :
«ولقد رغبوا عن اختيار اللّه واختيار رسوله . . . إلى اختيارهم والقرآن يناديهم :
(
وَرَبُّكَ
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ
وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ).
وقال عزوجل :
(
وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ
يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ).
وقال سُبحانه : ( مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ
لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ
__________________
تَدْرُسُونَ
* إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ
الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ )»
.
ثمّ قال عليهالسلام :
«إنّ الأنبياء والأئمة يوفّقهم اللّه ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه
غيرهم ، فيكون علمهم فوق علم أهل الزمان .
قال اللّه عزوجل : ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ
أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَىٰ فَمَا
لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ).
وقال سُبحانه في طالوت : ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ
وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ
يَشَاءُ ).
وقال تعالى : ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ
أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ).
وقال عزوجل لنبيّه
صلىاللهعليهوآله :
(
وَأَنْزَلَ
اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ).
وقال سُبحانه ـ في الأئمّة من أهل بيت
نبيّه وذرّيّته : (
أَمْ
يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ
آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا
عَظِيمًا )» .
ثمّ قال عليهالسلام :
«وإنّ العبد إذا اختاره اللّه عزوجل لاُمور
عباده شرح صدره لذلك ، وأودع قلبه ينابيع الحكمة ، وألهمه العلم إلهاماً ، فلم
يَعيَ
__________________
بعده بجواب ، ولا
يحيرفيه عن الصواب ، فهو
معصوم مؤيّد مُوفّق مسدّد قد أمن من الخطأ والزلل والعثار ، يخصّه اللّه بذلك ؛
ليكون حجّته على عباده ، وشاهده على خلقه ، و(
ذَٰلِكَ
فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ )فهل
يقدرون على مثل هذا فيختارونه ؟ أو يكون مختارهم بهذه الصّفة فيقدّمونه»؟ الخبر ، وهو طويل مشتمل على آيات في
الإمامة وصفات للإمام ، ونحن أخذنا من كلّ موضع شيئاً .
وفيه من الدلالات على ما نحن فيه خصوصاً
على لزوم كون الإمام أعلم وأصلح ، وكون تعيينه من اللّه واختياره ما لا يخفى على
ذي مُسْكَةٍ . هذا ، مع اشتماله على دعوى أئمّة الإماميّة الإمامة لأنفسهم ، وفي
الفقرات ما ينادي بأنّه لا يمكن أن يأتي بمثل هذا الكلام غيرهم ، وتوثيقهم ـ بحيث
لا يداني الكذب حوالي ساحتهم ـ مسلّم عند كلّ المسلمين.
السادس
: ما رووه أيضاً عن إسحاق بن غالب:
قال : قال أبو عبداللّه الصادق عليهالسلام في خُطبة له يذكر
فيها حال الأئمّة عليهمالسلام وصفاتهم
: «إنّ اللّه عزوجل أوضح
بأئمّة الهدى من أهل بيت نبيّنا صلىاللهعليهوآله عن
دينه ، وأبلج بهم عن سبيل منهاجه ، ومنح بهم عن باطن ينابيع علمه ، فمن
__________________
عرف من اُمّةمحمّد صلىاللهعليهوآله
واجبَ حقّ إمامه ، وجد طعم حلاوة إيمانه
؛ لأنّ اللّه تعالى نصب الإمام علماً لخلقه ، وجعله حجّة على أهل موادّه وعالمه ،
وألبسه اللّه تاج الوقار ، وغشّاه من نور الجبّار ، يُمدّ بسببٍ إلى السماء لا
ينقطع عنه موادّه ، ولا يقبل اللّه أعمال العباد إلاّ بمعرفته ، فهو عالم بما يرد
عليه من ملتبسات الدجى ومعمّيات السنن ومشبّهات الفتن .
فلم يزل اللّه تبارك وتعالى يختارهم
لخلقه من ولد الحسين عليهالسلام من
عقب كلّ إمام ، يصطفيهم لذلك ويجتبيهم ويرضى بهم لخلقه ويرتضيهم ، كلّما مضى منهم
إمامٌ نصب لخلقه من عقبه إماماً علماً بيّناً وهادياً نيّراً وحجّة عالماً ،
أئمّةً من اللّه يهدون بالحقّ وبه يعدلون ، حجج اللّه ودعاته ورعاته على خلقه ،
جعلهم اللّه حياة للأنام ، ومصابيح للظلام ، ومفاتيح للكلام ، ودعائم للإسلام .
فالإمام هو المنتجب المرتضى والهادي
المنتجى ، اختاره اللّه بعلمه ، وانتجبه لطهره ، بقيّة من آدم ، وخيرة من ذرّيّة
نوح ، ومصطفى من آل إبراهيم ، وسلالة من إسماعيل ، وصفوة من عترة محمّد صلىاللهعليهوآله .
. . .
لم يزل مرعيّاً بعين اللّه ، مطروداً
عنه حبائل إبليس وجنوده ، مُبرّأً من العاهات ، محجوباً عن الآفات ، معصوماً من
الزلاّت ، مصوناً عن الفواحش كلّها ، معروفاً بالحلم والبرّ في يفاعه، منسوباً إلى العفاف والعلم والفضل عند
انتهائه ، مسنداً إليه أمر والده ، صامتاً عن المنطق في حياته ، فإذا انقضت مدّة
والده . . . وجاءت الإرادة من اللّه فيه . . . فمضى والده ، وصار أمر اللّه إليه
من بعده ، وقلّده دينه ، وجعله الحجّة على عباده ، وقيّمه في
__________________
بلاده ، وأيّده بروحه
، وآتاه علمه ، وأنبأه فضل بيانه ، واستودعه سرّه . . . واستحفظه علمه ، واستخبأه
حكمته ، واسترعاه لدينه ، وانتدبه لعظيم أمره ، وأحيا به مناهج سبيله ، وفرائضه
وحدوده ، فقام بالعدل عند تحيّر أهل الجهل . . . بالنور الساطع والشفاء النافع . .
. والبيان اللائح من كلّ مخرج على طريق المنهج الذي مضى عليه الصادقون من آبائه عليهمالسلام »الخبر .
ودلالته كسابقه حتّى أنّه يدلّ على
العصمة صريحاً ، فتأمّل .
السابع
: ما رووه أيضاً من كتاب بعض قدماء
المحدّثين في شأن (
إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ )عن الباقرين عليهماالسلام برواية الثاني عن
الأوّل في روايات عديدة ، نحن نجمع خلاصة مفاد الجميع ونذكرها على نهج يتّضح به
المقصود وإن دعت الضرورة أحياناً إلى النقل بالمعنى أو تأليف بعض مع بعض أو تقديم
وتأخير ونحو ذلك ، [و] من أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب الكافي .
قال أبو جعفر الباقر عليهالسلام : «يامعشر الشيعة ،
خاصموا بسورة (
إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ )
تفلجوا ، فواللّه ! إنّها لحجّة اللّه على الخلق بعد رسول اللّه صلىاللهعليهوآله »
، أي من حيث إنّها تدلّ على أنّ الزمان بعده صلىاللهعليهوآله
لا يخلو من حجّة من جهة دلالة قوله
تعالى : (
تَنَزَّلُ» بصيغة المضارع على الاستمرار التجدّدي ؛ ولهذا قال أيضاً : «وإنّها
لسَيّدة دينكم ، يامعشر الشيعة ، خاصموا بـ : (
حم
* وَالْكِتَابِ
الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا
مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ
عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ )، فإنّها لولاة
__________________
الأمر خاصّة بعد رسول
اللّه صلىاللهعليهوآله »
، أي من جهة دلالة الاستمرار التجدّدي الذي في (
مُنْذِرِينَ
)
و (
يُفْرَقُ
)
و (
مُرْسِلِينَ
)
على لزوم وجود قابل لذلك في كلّ عصر .
وقال عليهالسلام مؤيّداً
لمدّعاه ومتمّماً له:
«يامعشر الشيعة ، يقول اللّه تبارك وتعالى : ( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ
إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ )» .
فقيل : يا أبا جَعفر ، نذيرها محمّد صلىاللهعليهوآله .
قال : «صدقت ، فهل كان نذير وهو حيّ في
أقطار الأرض ؟» فقيل : لا ، فقال : «أرأيت بعيثه أليس نذيره ، كما أنّه صلىاللهعليهوآله في
يوم بعثته من اللّه نذير ؟» قيل : بلى ، قال : «فكذلك لم يمت محمّد صلىاللهعليهوآله إلاّ
وله بعيث نذير ، فإن قيل : لا ، فقد ضيّع رسول اللّه صلىاللهعليهوآله من
في أصلاب الرجال مِن اُمّته» ، قيل : وما يكفيهم القرآن ؟ قال : «بلى إن وجدوا له
مفسّراً » قيل : وما فسّره رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
؟ قال : «بلى قد فسّره لرجل واحد وفسّر
للاُمّة شأن ذلك الرجل ، وهو عليّ بن أبي طالب عليهالسلام »
.
قال السائل : يا أبا جعفر ، كان هذا أمر
خاصّ لا يحتمله العامّة ؟ قال : «أبى اللّه أن يعبد إلاّ سرّاً حتّى يأتي إبّان
أجله الذي يظهر فيه دينه ، كما أنّه كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
مع خديجة متستّراً ، حتّى اُمر
بالإعلان» ، قيل : فينبغي لصاحب هذا الدين أن يكتم ؟ قال : «أوَ ما كتم عليّ بن
أبي طالب عليهالسلام يوم
أسلم مع رسول اللّه صلىاللهعليهوآله حتّى
ظهر أمره ؟» فقيل : بلى ، قال : «فكذلك أمرنا حتّى يبلغ الكتاب أجله».
__________________
وقال عليهالسلام :
«إنّ شيعتنا إن قالوا لأهل الخلاف لنا : إنّ اللّه تعالى يقول لرسوله صلىاللهعليهوآله :
(
إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ )إلى آخرها ، فهل كان أمر من أيّ أُمور
تلك السنة لا يعلمه رسول اللّه صلىاللهعليهوآله في
تلك الليلة ؟ فإنّهم سيقولون : لا » أي من حيث إنّه صريح مفاد قوله تعالى : ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ )،
«فقل لهم : فهل كان له أن لا يظهر ما علم ممّا لابدّ من إظهاره ؟ فيقولون : لا »
أي من حيث وجوب التّبليغ ، «فقل لهم : فهل كان فيما أظهر الرسول صلىاللهعليهوآله من
علم اللّه عزّ ذكره اختلاف ؟ » فإن قالوا : لا» أي : لكونه مفاد قوله تعالى : ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ
اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا )أو
لوجوه اُخر ظاهرة ، «فقل لهم : فمن حكم بحكم اللّه فيه اختلاف ، فهل خالف رسول
اللّه صلىاللهعليهوآله ؟
فيقولون : نعم ، فإن قالوا : لا ، فقد نقضوا أوّل كلامهم» .
وقال عليهالسلام أيضاً
مؤيّداً ومتمّماً : «وقل لهم : (
مَا
يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ )،
فإن قالوا : من الراسخون في العلم ؟ فقل : من لا يختلف في علمه ، كما كان رسول
اللّه صلىاللهعليهوآله صاحب
ذلك ، فهل بلّغ أو لا ؟ فإن قالوا : قد بلّغ ، فقل : فهل مات صلىاللهعليهوآله والخليفة
من بعده يعلم علماً ليس فيه اختلاف ؟ فإن قالوا : لا ، فقل : إنّ خليفة النبيّ صلىاللهعليهوآله مؤيّد
ولا يستخلف رسول اللّه إلاّ من يحكم بحكمه وإلاّ من يكون في علمه أحد يكون مثله
إلاّ النبوّة ، وإن كان رسول اللّه لم يستخلف فقد ضيّع مَن بعده في أصلاب الرجال
. . .» .
__________________
وقال عليهالسلام أيضاً
لدفع توجيه عدم لزوم تحقّق التجديد ليلة القدر ولا ضرورة الاستخلاف : «فإن قالوا
لك : فإنّ علم رسول اللّه صلىاللهعليهوآله كان
من القرآن ، فقل : (
حم
وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ )
إلى قوله : (
فِيهَا
يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا
مُرْسِلِينَ )فإن قالوا : لا يرسل اللّه عزوجل إلاّ إلى نبيّ ، فقل
: هذا الأمر الحكيم الّذي يفرق فيه هو من الملائكة والروح الذي تنزّل من سماء إلى
سماء أو من سماء إلى الأرض ، فإن قالوا : من سماء إلى سماء فليس في السماء أحد
يرجع من طاعة إلى معصية ، فإن قالوا : من سماء إلى أرضـ وأهل الأرض أحوج الخلق إلى ذلك ـ فقل
لهم : فهل لابدّ من سيّد يتحاكمون إليه ؟» أي : حتّى تنزل الملائكة إليه ، «فإن
قالوا : فإنّ الخليفة هو حكمهم ، فقل : (
اللَّهُ
وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ )إلى
آخر الآية . . . فكلّ وليّ للّه فهو مؤيّد ، ومن اُيّد لم يُخط ، وكلّ عدوّ للّه
فهو مخذول ، ومن خُذل لم يصب».
أي : إذا لم يكن الخليفة مؤيّداً
محفوظاً من الخطأ ، فكيف يخرجه اللّه ويُخرج به عباده من الظّلمات إلى النور ؟ .
وقال عليهالسلام:
«إنّ اللّه عزوجل يقول
: (
فِيهَا
يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ )، والمحكم ليس بشيئين إنّما هو شيء واحد
، فمن حكم بأمر فيه اختلاف
__________________
فرأى أنّه مصيب فليس
حكمه من حكم اللّه ، بل حكم بحكم الطاغوت».
ثمّ قال عليهالسلام :
«كما أنّ الأمر لابدّ من تنزيله من السماء يحكم به أهل الأرض ، كذلك لابدّ من
والٍ» .
قال عليهالسلام :
«فإن قالوا : لا نعرف هذا ، فقل : لهم قولوا ما أحببتم ، أبى اللّه بعد محمّد صلىاللهعليهوآله أن
يترك العباد ولا حجّة عليهم ، فإن قالوا : حجّة اللّه القرآن ، فقل لهم : إنّ
القرآن ليس بناطق يأمر وينهى ، ولكن للقرآن أهل يأمرون وينهون» .
ثمّ قال عليهالسلام ردّاً
على انحصار الحجّيّة في القرآن : «أقول : ربّما عرضت لبعض أهل الأرض مصيبة ما هي
في السُّنّة والحكم الذي ليس فيه اختلاف ، وليست في ظاهر القرآن ، أبى اللّه
لعلمه بتلك الفتنة أن تظهر في الأرض وليس في حكمه رادّ لها ومفرّج عن أهلها . . .»
.
وقيل له : أخبرني عن هذا العلم الذي ليس
فيه اختلاف من يعلمه ؟
قال : «أمّا جملة العلم فعند اللّه جلّ
ذكره ، وأمّا ما لا بدّ للعباد منه فعند الأوصياء».
قال السائل : فكيف يعلمونه ؟ قال : «كما
كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآله يعلمه
، إلاّ أنّهم لا يرون ما كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
يرى ؛ لأنّه كان نبيّاً وهم محدّثون ،
وإنّه كان يفد إلى اللّه جلّ جلاله فيسمع الوحي وهم لا يسمعون» .
فقال السائل : أخبرني عن هذا العلم ما
له لا يظهر كما كان يظهر مع رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
؟
قال : «أبى اللّه أن يطلع على علمه
إلاّ ممتحناً للإيمان به ، كما قضى
__________________
على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله أن
يصبر على أذى قومه ولا يجاهدهم إلاّ بأمره ، فكم من اكتتام قد اكتتم به حتّى قيل
له : (
فَاصْدَعْ
بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ )وأيم
اللّه ، أن لو صدع قبل ذلك لكان آمناً ولكنّه إنّما نظر في الطاعة وخاف الخلاف
فلذلك كفّ» .
ثمّ قال عليهالسلام ـ
إشارة إلى أنّ علم الوصيّ أيضاً سيظهر ـ : «فوددت أنّ عينك تكون مع مهديّ هذه
الاُمّة ، والملائكة بسيوف آل داود بين السماء والأرض تعذّب أرواح الكفرة من
الأموات ، وتلحق بهم أرواح أشباههم من الأحياء».
وقال أبو جعفر عليهالسلام أيضاً في رواية اُخرى
: «لقد خلق اللّه عزوجل ليلة
القدر أوّل ما خلق الدّنيا » أي : ليست مختصّة بهذه الاُمّة ، بل كانت من بدو خلق
المكلّفين ؛ لاحتياجهم إلى تدبير اُمورهم فيها ؛ ولذا قال عليهالسلام أيضاً : «ولقد خلق
فيها أوّل نبيّ يكون وأوّل وصيّ يكون» أي : من حيث استلزام تنزّل الملائكة فيها
وجود النبيّ أو الوصيّ .
قال عليهالسلام :
«ولقد قضى أن تكون في كلّ سنة ليلة يهبط فيها بتفسير الاُمور إلى مثلها من السنة
المقبلة» ، أي : من جهة احتياجهم إلى التفسير ؛ ولهذا قال عليهالسلام : «من جحد ذلك فقد
ردّ على اللّه عزوجل علمه»
، أي : من حيث إنّ علم اللّه في الاُمور المتجدّدة في كلّ سنة لابدّ أن ينزل إلى
الأرض ليتمّ الحُجّة ؛ ولهذا قال عليهالسلام :
«لأنّه لا يقوم الأنبياء والرّسل والمحدّثون ، إلاّ أن تكون عليهم حُجّة بما
يأتيهم في تلك الليلة ، مع الحُجّة التي يأتيهم بها
__________________
جبرئيل عليهالسلام » ، قلت : والمحدّثون
أيضاً يأتيهم جبرئيل أو غيره من الملائكة ؟
قال عليهالسلام :
«أمّا الأنبياء والرسل صلّى اللّه عليهم فلا شكّ ولابدّ لمن سواهم ـ من أوّل خلقة
الدنيا إلى فنائها ـ أن يكون على أهل الأرض حجّة» أي علم ، «ينزل ذلك في تلك
الليلة إلى من أحبّه اللّه من عباده» ، أي : وإن لم ير الملك ؛ لكفاية السماع
للوصيّ ؛ ولهذا يكون الوصيّ محدّثاً والنبيّ رائياً وغيرهما خالياً .
ثمّ قال عليهالسلام :
«وأيم اللّه ، لقد نزل الروح والملائكة بالأمر في ليلة القدر على آدم عليهالسلام . وأيم اللّه ، ما
مات آدم إلاّ وله وصيّ ، وكلّ من جاء بعد آدم عليهالسلام من
الأنبياء قد أتاه الأمر فيها ووضع لوصيّه من بعده ، وإن كلّ نبيّ من آدم إلى محمّد
صلىاللهعليهوآله كان
يؤمر فيما يأتيه من الأمر في تلك الليلة أن أوص إلى فلان ، ولقد قال اللّه عزوجل في كتابه لولاة الأمر
من بعد محمّد صلىاللهعليهوآله خاصّة
: (
وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
)
إلى قوله تعالى : (
فَأُولَٰئِكَ
هُمُ الْفَاسِقُونَ ).
يقول : أستخلفكم لعلمي وديني وعبادتي
بعد نبيّكم كما استخلفت وصاة آدم عليهالسلام من
بعده ، فقد مكّن ولاة الأمر بعد محمّد صلىاللهعليهوآله
بالعلم ونحن هم ، فاسألونا فإن صدقناكم
فاقرّوا وما أنتم بفاعلين ، أمّا عِلمنا فظاهر ، وأمّا إبّان أجلنا الذي يظهر فيه
الدين منّا ، حتّى لا يكون بين الناس اختلاف ، فإنّ له أجلاً من ممرّ الليالي
والأيّام إذا أتى ظهر وكان الأمر واحداً .
وأيم اللّه لقد قُضي الأمر أن لا يكون
بين المؤمنين اختلاف . . . أبى اللّه عزوجل أن
يكون في حُكمه اختلاف أو بين أهل علمه تناقض ؛ ولذلك
__________________
جعلهم شهداء على
النّاس ليشهد محمّد صلىاللهعليهوآله علينا
ولنشهد على شيعتنا ولتشهد شيعتنا على الناس»الخبر
.
ودلالاته أيضاً متّضحة بأدنى تأمّل ،
لاسيّما على بعض ما نحن فيه ، وكذا على لزوم استمرار ورود الأوامر والأحكام كلّها
من اللّه وتفسيرها لحجّته النبيّ أو الوصيّ .
وعلى أنّ ذلك كان كذلك من زمان آدم عليهمالسلام وأوصيائه جميعاً
ويكون مستمرّاً ما دام التكليف ، ولا يكون زمان خالياً عن الحُجَّة إلاّ أن لا
يكون تكليف .
وعلى أنّ الوصيّ ـ الذي لا يكون نبيّاً ـ
لابدّ أن يكون محدّثاً يحدّثه الملك وإن لم يره ، وأنّ الرؤية مختصّة بالنبيّ .
وعلى أنّ حكم اللّه الوارد منه لا يكون
إلاّ واحداً ، وإنّما الاختلاف بحسب الحكم بالآراء المحتملة للخطأ ، وأنّ من احتمل
الخطأ في حكمه لم يكن إماماً وحجّةً من اللّه .
وعلى كون علم القرآن عند الأوصياء ،
وكونهم مأمورين بكتمان حالهم عن مخالفيهم إلى أن يؤمروا بالإظهار ، كما أنّ النبيّ
أيضاً كان كذلك .
وبالجملة
: هو صريح في أنّ العلم من اللّه هو
الفارق بينالحقّ
والباطل ، فتأمّل .
وسيأتي تفصيل أكثر ما أشرنا إليه كلّ في
محلّه ، لا سيّما في فصل الوصيّة ، وبحث بطلان الاختلاف وعجز الناس عن فهم جميع
الأحكام من
__________________
القرآن .
الثامن
: ما رواه أيضاً جماعة منهم الطبرسيفي احتجاجه ، عن أمير المؤمنين عليهالسلام في جواب الزنديق الذي
سأله عن مسائل كثيرة ، والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة .
قال عليهالسلام في
موضع منه : «لا تنفع الصلاة ولا الصدقة إلاّ مع الاهتداء إلى سبيل النجاة وطرق
الحقّ ، وقد قطع اللّه عذر عباده بتبيين آياته وإرسال رسله ؛ لئلاّ يكون للناس
على اللّه حجّة بعد الرسل ، ولم يُخْلِ أرضه من عالم بما تحتاج الخليقة إليه ،
ومتعلّم على سبيل نجاة ، اُولئك هم الأقلّون عدداً .
وقد بيّن اللّه ذلك في اُمم الأنبياء
وجعلهم مثلاً لِمَن تأخّر ، مثل قوله في قوم نوح : (
وَمَا
آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ )، وقوله فيمن آمن من اُمّة موسى عليهالسلام : ( وَمِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ
يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ )، وقوله في حواري عيسى عليهالسلام ، حيث قال لسائر بني
إسرائيل : (
مَنْ
أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ
آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )يعني
بأنّهم مسلّمون لأهل الفضل فضلهم ولا يستكبرون عن أمر ربّهم ، فما أجابه منهم إلاّ
الحواريّون .
__________________
وقد جعل اللّه للعلم أهلاً ، وفرض على
العباد طاعتهم بقوله : (
أَطِيعُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ).
وبقوله : (
وَلَوْ
رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ
الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ).
وبقوله : (
اتَّقُوا
اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ).
وبقوله : (
وَمَا
يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ).
وبقوله : (
وَأْتُوا
الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا )، والبيوت هي بيوت العلم الّتي استودعها
الأنبياء ، وأبوابها أوصياؤهم ، فكلّ عمل من أعمال الخير يجري على غير أيدي أهل
الاصطفاء ، وعهودهم ، وحدودهم ، وشرائعهم ، وسننهم ، ومعالم دينهم مردود غير مقبول
، وأهله بمحل كفر وإن شملتهم صفة الإيمان ؛ ألم تسمع قول اللّه تعالى : ( وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ
نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ )( وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ).
فمن لم يهتد من أهل الإيمان إلى سبيل
النجاة لم يغن عنه إيمانه باللّه مع دفعه حقّ أوليائه ، وحبط عمله ، وهو في
الآخرة من الخاسرين .
وقد قال اللّه عزوجل : ( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ )( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) في هذا الموضع هم المؤتمنون
__________________
على الخلائق من الحجج
والأوصياء في عصر بعد عصر .
وليس كلّ من أقرّ من أهل القبلة
بالشهادتين كان مؤمناً ، إنّ المنافقين كانوا يشهدون أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ
محمّداً رسول اللّه ، ويدفعون عهد رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
بما عهد به من دين اللّه وعزائمه
وبراهين نبوّته إلى وصيّه ، ويضمرون من الكراهة لذلك والنقض لما أبرمه عند إمكان
الأمر لهم فيما قد بيّنه اللّه لنبيّه بقوله : (
فَلَا
وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا
تَسْلِيمًا ).
وبقوله : (
وَمَا
مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ
أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ).
ومثل قوله : ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ )، أي : لتسلكنّ سُبُلَ من كان قبلكم من
الاُمم في الغدر بالأوصياء بعد الأنبياء ، وهذا كثير في كتاب اللّه [تعالى ] .
وقد شقّ على النبيّ صلىاللهعليهوآله ما
يؤول إليه عاقبة أمرهم ، واطّلاع اللّه إيّاه على بوارهم ، فأوحى اللّه عزوجل إليه بقوله : ( فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ
حَسَرَاتٍ )، (
فَلَا
تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ )»الخبر
، ومعناه واضح .
وستأتي أخبار من كتب القوم في تفسير بعض
هذه الآيات بما فسّره
__________________
الإمام عليهالسلام في الفصل التاسع من
المقالة الأخيرة من المقصد الأوّل ، فتأمّل .
التاسع
: ما نقلوه أيضاً عن أمير المؤمنين عليهالسلام في روايات نحن نجمعها
ونذكرها باختصار بعض منها ، ولنقدّم قوله المشهور المسلّم وروده :
قال عليهالسلام :
«أيّها الناس ، سلوني قبل أن تفقدوني ، فوالذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، لو
سألتموني عن أيّة آية في ليل اُنزلت أو في نهار اُنزلت ، مكّيّها ومدنيّها ،
سفريّها وحضريّها ، ناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وتأويلها وتنزيلها ،
لأنبأتكم،
وقد أقرأنيها رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وعلّمني
تأويلها ، فواللّه ، لا تسألوني عن فئة تضلّ مائة وتهدي مائة إلاّ أنبأتكم
بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة».
سلوني فإنّ عندي علم الأوّلين والآخرين
. . . ولولا آية في كتاب اللّه لأخبرتكم بما كان ، وبما يكون وما هو كائن إلى يوم
القيامة ، وهي قوله تعالى : (
يَمْحُو
اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ).
أما واللّه ، لو ثنيت لي الوسادة
لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم ، وأهل الإنجيل بإنجيلهم ، وأهل الزبور بزبورهم ،
وأهل القرآن بقرآنهم ، حتّى ينطق كلّ كتاب من كتب اللّه فيقول : صدق عليّ عليهالسلام لقد أفتاكم بما أنزل
اللّه فيّ ، وأنتم تتلون القرآن ليلاً ونهاراً فهل فيكم أحد يعلم ما أنزل اللّه
فيه ؟ ».
وسيأتي مثله منقولاً من كتب القوم في
الفصل الأوّل من المقالة الأخيرة من المقصد الأوّل مع مؤيّدات كثيرة .
__________________
ثمّ قال بعد الجواب عن مسائل كثيرة
غريبة سألوها : «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، سبعون منها في النار وواحدة
ناجية في الجنّة ، وهي التي اتّبعت يوشع بن نون وصيّ موسى عليهالسلام .
وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة
، إحدى وسبعين فرقة في النار وواحدة في الجنّة ، وهي التي اتّبعت شمعون وصيّ عيسى عليهالسلام .
وتفترق هذه الاُمّة على ثلاث وسبعين
فرقة ، اثنتان وسبعون فرقة في النار وواحدة في الجنّة ، وهي التي اتّبعت وصيّ
محمّد صلىاللهعليهوآله »
وضرب بيده على صَدره ، ثمّ قال : «ثلاث عشرة فرقة من الثلاث والسبعين فرقة كلّها
تنتحل مودّتي ومحَبّتي ، واحدة منها في الجنّة ، وهي النمط الأوسط ، واثنتا عشرة
في النار».
وسيأتي أمثاله من كتب القوم في الفصل
الرابع من الباب الرابع من المقدّمة .
ثمّ قال عليهالسلام :
«أيّها الناس ، عليكم بالطاعة والمعرفة بمن لا تعتذرون بجهالته ، فإنّ العلم الذي
هبط به آدم عليهالسلام وجميع
ما فضّلت به النبيّون إلى خاتم النبيّين في عترة نبيّكم محمّد صلىاللهعليهوآله فأنّى
يُتاه بكم ؟ بل أين تذهبون ؟
يا من نُسخ من أصلاب أصحاب السفينة !
هذه مثلها فيكم فاركبوها ، فكما نجا في هاتيك من نجا فكذلك ينجو في هذه من دخلها ،
أنا رهين بذلك قسماً حقّاً وما أنا من المتكلّفين ، والويل لِمَن تخلّف ، ثمّ
الويل لِمَن تخلّف .
أما بلغكم ما قال فيكم نبيّكم صلىاللهعليهوآله ،
حيث يقول في حجّة الوداع : إنّي
__________________
تارك فيكم الثقلين ،
ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا:
كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فانظروا
كيف تخلّفوني فيهما ؟ ألا هذا عذب فرات فاشربوا ، وهذا ملح اُجاج فاجتنبوا».
ثمّ قال عليهالسلام :
«إنّ أبغض الخلائق إلى اللّه تعالى رجلان : رجل وكله اللّه إلى نفسه ، فهو جائر
عن قصد السبيل مشعوفبكلام
بدعة ، ودعاء ضلالة ، فهو فتنة لمن افتتن به ، ضالّ عن هَدْيمن كان قبله ، مضلّ لِمَن اقتدى به في
حياته وبعد وفاته ، حمّال خطايا غيره ، رهن بخطيئته .
ورجل قَمشجهلاً ، فوضع في جهّال الاُمّة قد سمّاه
أشباه الرجال عالماً وليس به ، بكّر فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ممّا كثر ،
حتّى إذا ارتوى من آجن ، وأكثر من غير طائل ، جلس بين الناس قاضياً ضامناً لتخليص
ما التبس على غيره ، إن خالف من سبقه لم يأمن من نقض حكمه من يأتي بعده ، كفعله
بمن كان قبله ، فإن نزلت به إحدى المُبهمات هيّأ لها حشواً رثّاً من رأيه ، ثمّ
قطع به ، فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ ؟ جاهل
خبّاطجهالات ،
__________________
غاشٍركّاب عَشَوات ، لم يعضّ على العلم بضرس
قاطع ، لا يحسب العلم في شيء ممّا أنكره ، ولا يرى أنّ وراء ما بلغ منه مذهباً
لغيره ، وإن قاس شيئاً بشيء لم يكذّب رأيه ؛ كيلا يقال : لا يعلم» الخبر ، إلى أن
قال عليهالسلام :
«إلى اللّه أشكو من معشر يعيشون جهّالاً ويموتون ضلاّلاً».
وقال عليهالسلام أيضاً
: «ترد على أحدهم القضيّة في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ، ثمّ ترد تلك
القضيّة بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ، ثمّ تجتمع القضاة بذلك عند
الإمام الذي استقضاهم ، فيصوّب آراءهم جميعاً ، وإلههم واحد ! ونبيّهم واحد !
وكتابهم واحد ! أفأمرهم اللّه سُبحانه بالاختلاف فأطاعوه ! أم نهاهم عنه فعصوه !
أم أنزل اللّه سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه ! أم كانوا شركاء له
فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى ! أم أنزل اللّه سبحانه ديناً تامّاً فَقَصَّر
الرسول صلىاللهعليهوآله عن
تبليغه وأدائه ! واللّه سُبحانه يقول : (
مَا
فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ )وفيه تبيان لكلّ شيء ، وذكر ( عزوجل ) أنّ الكتاب يُصدّق
بعضه بعضاً ، وأنّه لا اختلاف فيه ، فقال سُبحانه : (
وَلَوْ
كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ).
فإنّ القرآن ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، لا تفنى عجائبه ، ولا تنقضي غرائبه ، ولا
تنكشف الظلمات إلاّ به».
ثمّ قال عليهالسلام :
«وقد قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله :
رحم اللّه امرأً علم حقّاً فقال
__________________
فغنم ، أو سكت فسلم ،
نحن أهل البيت نقول : إنّ الأئمّة منّا ، وإنّ الخلافة لا تصلح إلاّ فينا ، وإنّ
اللّه تبارك وتعالى جعلنا أهلها في كتابه وسنّة نبيّه صلىاللهعليهوآله ،
وإنّ العلم فينا ونحن أهله ، وهو عندنا مجموع كلّه بحذافيره ، وإنّه لا يحدث شيء
إلى يوم القيامة حتّى أرش الخدش إلاّ وهو عندنا مكتوب بإملاء رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ».
وقال عليهالسلام :
«اللّهمّ إنّي لأعلم أنّ العلم لا يأرزكلّه
ولا ينقطع موادّه ، وإنّه لابدّ لك من حجج في أرضك حجّة بعد حجّة على خلقك ،
يهدونهم إلى دينك ويعلّمونهم علمك ؛ كيلا يتفرّق أتباع أوليائك ، ظاهر ليس بالمطاع
، أو مكتتم يترقّب ، إن غاب عن الناس شخصهم في حال هدنتهم فلم يغب عنهم قديم ،
مبثوث علمهم ، وآدابهم في قلوب المؤمنين مثبتة ، اُولئك الأقلّون عدداً الأعظمون
عند اللّه أجراً».
والأخبار عنه عليهالسلام من هذا القبيل كثيرة
، كفى ما ذكرناه لصاحب البصيرة ، وسنذكر كثيراً منها في مواضعها إن شاء اللّه
تعالى .
وفي روايات عن سُليم بن قيس، وكذا في كتاب سليم أنّه قال
__________________
لعليّ عليهالسلام : إنّي سمعت من سلمانوأبي ذروالمقدادشيئاً من تفسير القرآن والرواية عن النبيّ
صلىاللهعليهوآله ،
وسمعت منك تصديق ما سمعت منهم ، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن
ومن الأحاديث عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنتم
تخالفونهم [فيها]
وتزعمون أنّ ذلك كلّه باطل ، أفَتَرى الناس يكذبون متعمّدين على نبيّ اللّه صلىاللهعليهوآله ويفسّرون
القرآن بآرائهم ؟
__________________
فأقبل عليهالسلام عليه
وقال له : «قد سألت فافهم الجواب : إنّ في أيدي الناس حقّاً وباطلاً ، وصدقاً
وكذباً ، وناسخاً ومنسوخاً ، وعامّاً وخاصّاً ، ومحكماً ومتشابهاً ، وحفظاً ووهماً
، وقد كُذب على رسول اللّه [ صلىاللهعليهوآله ]
وهو حيّ ، حتّى قام خطيباً ، فقال : أيّها الناس ، قد كثرت عليّ الكذّابة ، فمن
كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار ، ثمّ كُذب عليه من بعده ، وإنّما
أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس :
رجل : منافق يظهر الإيمان ، متصنّع
بالإسلام ، لا يتأثّم ولا يتحرّج أن يكذب على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله متعمّداً
، فلو علم الناس أنّه منافق كذّاب لم يقبلوا منه ولم يصدّقوه ، ولكنّهم قالوا :
هذا قد صحب رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ورآه
وسمع منه ، وأخذوا عنه وهم لا يعرفون حاله ، وقد أخبره اللّه عن المنافقين بما
أخبره ، ووصفهم بما وصفهم ، فقال عزوجل :
(
وَإِذَا
رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ )،
ثمّ بقوا بعده فتقرّبوا إلى أئمّة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب
والبُهتان ، فولّوهم الأعمال وحملوهم على رقاب الناس وأكلوا بهم الدنيا ، وإنّما
الناس مع الملوك والدنيا إلاّ من عصم اللّه ، فهذا أحد الأربعة.
ورجل : سمع من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله شيئاً
لم يحفظه على وجهه ووَهَم فيه ، ولم يتعمّد كذباً ، فهو في يده ، يقول به ويعمل به
ويرويه ، ويقول : أنا سمعته من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
، فلو علم المسلمون أنّه وَهم [فيه] لم يقبلوه ، ولو علم هو أنّه وَهم
[فيه] لرفضه.
ورجل ثالث : سمع من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله شيئاً
أمر به ثمّ نهى عنه وهو
__________________
لا يعلم ، أو سمعه
ينهى عن شيء ثمّ أمر به وهو لا يعلم ، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ ، فلو علم
أنّه منسوخ لرفضه ، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخ لَرَفضوه .
وآخَر رابعٍ : لم يكذب على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ،
مبغض للكذب خوفاً من اللّه وتعظيماً لرسوله صلىاللهعليهوآله
، ولم يَسْهَ ، بل حفظ ما سمع على وجهه
فجاء به كما سمع ، لم يزد فيه ولم ينقص منه ، وعلم الناسخ من المنسوخ ، فعمل
بالناسخ وتجنّب عن المنسوخ ، وعرف العامّ والخاصّ فوضع كلّ شيء موضعه ، وعرف
المتشابه والمحكم . فإنّ أمر النبيّ صلىاللهعليهوآله
مثل القرآن ناسخ ومنسوخ ، وخاصّ وعامّ ،
ومحكم ومتشابه .
وقد كان يكون من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله الكلام
له وجهان : كلام عامّ ، وكلام خاصّ مثل القرآن ، فيشتبه على من لم يعرف ، ولم يدر
ما عنى اللّه به ورسوله صلىاللهعليهوآله ،
وليس كلّ أصحاب رسول اللّه كان يسأله عن الشيء فيفهم ، وكان منهم من يسأله ولا
يستفهمه ، حتّى أن كانوا لَيحبّون أن يجيء الأعرابي والطارئ فيسأل رسول صلىاللهعليهوآله حتّى
يسمعوا .
وقد كنت أدخل على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله كلّ
يوم دخلةً وكلّ ليلة دخلةً ، فيخليني فيها أدور معه حيث دار ، وقد علم أصحاب رسول
اللّه صلىاللهعليهوآله أنّه
لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري ، فربّما كان في بيتي يأتيني رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ،
أكثر ذلك في بيتي ، وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني وأقام عنّي نساءه ، فلا
يبقى عنده غيري ، وإذا أتاني في منزلي لم تقم عنّي فاطمة ولا أحد من بنيّ .
وكنت إذا سألته أجابني ، وإذا أمسكت عنه
وفنيت مسائلي ابتدأني ، فما نزلت عليه آية من القرآن إلاّ أقرأنيها وأملاها عليّ
فكتبتها بخطّي ،
وعلّمني تأويلها
وتفسيرها ، وناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وعامّها وخاصّها ، ودعا اللّه
أن يعطيني فهمها وحفظها ، فما نسيت آيةً من كتاب اللّه ولا علماً أملاه عليّ
وكتبته مُنذ دعا اللّه لي بما دعا ، وما ترك شيئاً علّمه اللّه ، من حلال ، ولا
حرام ، ولا أمر ، ولا نهي كان أو يكون ، ولا كتاب منزل على أحد قبله إلاّ علّمنيه
وحفظته ، فلم أنس حرفاً واحداً منذ دعا لي»،
الخبر ، وستأتي بقيّته وشواهده في الفصل الأوّل ، والحادي عشر من المقالة الأخيرة
من المقصد الأوّل .
ودلالته على ما سبق ، مع الدلالة على
بطلان الرأي وضلالة الاختلاف ، وكون حكم اللّه واحداً مأخوذاً من اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله مودوعاً
عند أهله ، وعلى عدم حُسن حال كلّ الصحابة ، ووجود الكذّابين والمنافقين
والمتوهّمين فيهم ، وأن لا اعتماد على كلّ ما رووه عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ظاهرة
.
وسيأتي ما يوضّح كلاًّ ممّا ذكره
مفصّلاً ، كلّ واحد في محلّه ، فلا تغفل .
العاشر
: ما رووه أيضاً عن هشام بن الحكم وغيره
، عن أبي عبداللّه الصادق عليهالسلام ،
في جواب الزنديق الذي سأله عن مسائل كثيرة ، منها :
إنّه قال : لأيّ علّة خلق اللّه هذا
الخلق وهو غير محتاج إليهم ، ولا مضطرّ إلى خلقهم ، ولا يليق به التعبّث بنا ؟
قال عليهالسلام :
«خلقهم لإظهار حكمته ، وإنقاذ علمه ، وإمضاء تدبيره» .
قال : وكيف لم يقتصر على هذه الدار
فيجعلها دار ثوابه ومحتبس عقابه ؟
__________________
قال عليهالسلام :
«إنّ هذه الدار دار ابتلاء ، ومتجر الثواب ، ومكتسب الرحمة ، ملئت آفات ، وطبقت
شهوات ؛ ليختبر بها عبيده بالطاعة ، فلا يكون دار عمل دار جزاء» .
قال : فأخبرني عن اللّه كيف لم يخلق
الخلق كلّهم مطيعين موحّدين وكان على ذلك قادراً ؟
قال عليهالسلام :
«لو خلقهم مطيعين لم يكن لهم ثواب ؛ لأنّ الطاعة إذا ما كانت من فعلهم لم تكن جنّة
ولا نار ، ولكن خلق خلقه فأمرهم بطاعته ، ونهاهم عن معصيته ، واحتجّ عليهم برسله ،
وقطع عذرهم بكتبه ؛ ليكونوا هم الذين يطيعون ويعصون ، ويستوجبون بطاعتهم [له] الثواب وبمعصيتهم [ إياه] العقاب ، وما نهاهم اللّه عن شيء
إلاّ وقد علم أنّهم يطيقون تركه ، ولا أمرهم بشيء إلاّ وقد علم أنّهم يستطيعون
فعله ، فمن خلقه اللّه كافراً ، يستطيع الإيمان وله عليه بتركه الإيمان حجّة» .
ثمّ قال عليهالسلام :
«وإنّ اللّه عزوجل اختار
من ولد آدم اُناساً فطهّر ميلادهم ، وطيّب أبدانهم ، أخرج منهم الأنبياء والرسل ،
فهم أزكى فروع آدم ، ما فعل ذلك لأمر استحقّوه من اللّه ، ولكن علم منهم حين
ذرأهم أنّهم يطيعونه ويعبدونه ولا يشركون به شيئاً ، فهؤلاء بالطاعة نالوا من
اللّه الكرامة والمنزلة الرفيعة عنده ، وهؤلاء الذين لهم الشرف والفضل والحسب ،
وسائر الناس سواء ، ألا من اتّقى اللّه أكرمه ، ومن أطاعه أحبّه ، ومن أحبّه لم
يعذّبه بالنار» .
ثمّ قال عليهالسلام أيضاً
: «وإنّ الأرض لا تخلو من حجّة ، ولا تكون الحجّة إلاّ من عقب الأنبياء ، ما بعث
اللّه نبيّاً قطّ من غير نسل الأنبياء .
__________________
وذلك أنّ اللّه شرع لبني آدم طريقاً
منيراً ، وأخرج من آدم عليهالسلام نسلاً
طاهراً طيّباً ، أخرج منه الأنبياء والرسل ، هم صفوة اللّه وخلص الجوهر ، طهروا في
الأصلاب ، وحفظوا في الأرحام ، لم يصبهم سفاح الجاهليّة ، ولا شاب أنسابهم ؛ لأنّ
اللّه عزوجل جعلهم
في موضع لا يكون أعلى درجة وشرفاً منه ، فمن كان خازن علم اللّه ، وأمين غيبه ،
ومستودع سرّه ، وحجّته على خلقه ، وترجمانه ولسانه ، لا يكون إلاّ بهذه الصفة .
فالحجّة لا يكون إلاّ من نسلهم ، يقوم
مقام النبيّ صلىاللهعليهوآله في
الخلق بالعلم الذي عنده وورثه عن الرسول ، إن جحده الناس سكت ، وكان بقاءما عليه الناس قليلاً ممّا في أيديهم من
علم الرسول صلىاللهعليهوآله على
اختلاف منهم فيه ، قد أقاموا بينهم الرأي والقياس ، وإنّهم إن أقرّوا به وأطاعوه
وأخذوا عنه ، ظهر العدل وذهب الاختلاف والتشاجر واستوى الأمر وأبان الدين وغلب على
الشكّ اليقين ، ولا يكاد أن يقرّ الناس به أو نجعواله بعد فقد النبيّ ، وما مضى رسول ولا
نبيّ قطّ إلاّ وتختلف اُمّته من بعده ، وإنّما كان علّة اختلافهم خلافهم على
الحجّة وتركهم إيّاه» .
قال السائل : فما يصنع بالحجّة إذا كان
بهذه الصفة ؟
قال : «قد يقتدى به ويخرج عنه الشيء بعد
الشيء فيه منفعة الخلق وصلاحهم ، فإن أحدثوا في دين اللّه شيئاً أعلمهم ، وإن
زادوا فيه أخبرهم ، وإن نقصوا منه شيئاً أفادهم . . .»، الخبر .
ودلالته ظاهرة ، ولاسيّما على ذمّ
الاختلاف وبطلان العمل بالرأي
__________________
والقياس ، وإنّ ذلك
إنّما يكـون بعـد كلّ نبيّ وبسبب مخالفة حجج اللّه وترك متابعتهم ، وأنّ اللّه
لم يجعل الأرض خالية قطّ عن حجّة عالم بكلّ ما يحتاج إليه الناس ، وأن لا يكون
حجّة إلاّ من نسل سابقه من زمان آدم ، وهلّم جرّاً .
وفيه أيضاً دلالة على بطلان الجبر ،
وبعض حِكم الخِلقة وأنّ السّبب العمدة إنّما هو الطاعة والعبادة ، وسيأتي أيضاً ما
فيه تبيان كلّ ما ذكره عليهالسلام ،
لاسيّما في الباب الرابع من المقدّمة ، فتأمّل .
الحادي
عشر : ما رواه جماعة من أصحاب الصادق عليهالسلام في روايات عَديدة ،
منها : النسخة التي كتبها لهم وأمرهم بحفظها وتعاهدها أوقات الصلوات ، ونحن نذكر
من كلّ رواية ما يناسب المقام :
قال عليهالسلام في
النسخة التي ذكرناها ـ وقد اختصرناها ـ : «واعلموا أيّتها العصابة المرحومة
المفلحة ، أنّ اللّه عزوجل إنّما
أمر ونهى ليطاع فيما أمر به ولينتهى عمّا نهى عنه ، فمن اتّبع أمره فقد أطاعه
وأدرك كلّ شيء من الخير عنده ، ومن لم ينته عمّا نهى اللّه عنه فقد عصاه ، فإن
مات على معصيته أكبّه اللّه على وجهه في النار .
واعلموا أنّه ليس يغني عنكم من اللّه
أحد من خلقه شيئاً ، وأنّه ليس بين اللّه وبين أحد من خلقه ملك مقرّب ولا نبيّ
مرسل ولا من دون ذلك من خلقه كلّهم ، إلاّ طاعتهم له ، فاجتهدوا في طاعة اللّه
واجتنبوا معاصيه إن سرّكم أن تكونوا مؤمنين حقّاً حقّاً ، وعليكم باتّباع آثار
رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وسنّته
وآثار الأئمّة الهداة من أهل بيت رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
من بعده وسنّتهم ، فإنّ من أخذ بذلك فقد
اهتدى ، ومن ترك ذلك ورغب عنه ضلّ ؛ لأنّهم هم الذين أمر اللّه بطاعتهم وولايتهم
.
واعلموا أنّه ليس من علم اللّه ولا من
أمره أن يأخذ أحد من خلق اللّه في دينه بهوى ولا رأي ولا مقائيس ، وقد أنزل
اللّه القرآن وجعل فيه تبيان كلّ شيء ، وجعل للقرآن ولتعلّم القرآن أهلاً ، لا
يسع أهل علم القرآن الذين آتاهم اللّه علمه أن يأخذوا فيه بهوى ولا رأي ولا
مقائيس ، أغناهم اللّه عن ذلك بما آتاهم من علمه وخصّهم به ووضعه عندهم كرامة من
اللّه أكرمهم بها ، وهم أهل الذكر الذين أمر اللّه هذه الاُمّة بسؤالهم ، وهم
الذين مَن سألهم وتتّبع أثرهم أرشدوه وأعطوه من علم القرآن ما يهتدي به إلى اللّه
بإذنه وإلى جميع سبل الحقّ ، وهم الذين لا يرغب عنهم وعن مسألتهم وعن علمهم الذي
أكرمهم اللّه به وجعله عندهم ، إلاّ من سبق عليه في علم اللّه الشقاء ، فأولئك
الذين يرغبون عن سؤال أهل الذكر ، ويأخذون بأهوائهم وآرائهم ومقائيسهم حتّى دخلهم
الشيطان ؛ لأنّهم جعلوا أهل الإيمان في علم القرآن عند اللّه كافرين ، وجعلوا أهل
الضلالة في علم القرآن عند اللّه مؤمنين ، وجعلوا ما أحلّ اللّه في كثير من
الأمر حراماً وما حرّم اللّه حلالاً فذلك أصل ثمرة أهوائهم .
فواللّه ، إنّ للّه على خلقه أن
يطيعوه ويتّبعوا أمره في حياة محمّد صلىاللهعليهوآله
وبعد موته ، فكما لم يكن لأحد من الناس
مع محمّد صلىاللهعليهوآله أن
يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقائيسه خلافاً لأمر محمّد صلىاللهعليهوآله
، فكذلك لم يكن ذلك لأحد من الناس بعد
محمّد صلىاللهعليهوآله .
ومن زعم أنّ أحداً ممّن أسلم مع محمّد صلىاللهعليهوآله أخذ
برأيه ومقائيسه ، فقد كذب على اللّه وضلّ ضلالاً بعيداً .
واعلموا أنّ من لم يجعله اللّه من أهل
صفة الحقّ ، فأُولئك هم شياطين الإنس والجنّ ، وأنّ لشياطين الإنس حيلةً ومكراً
وخدائع ووسوسة
بعضهم إلى بعض ،
يريدون ـ إن استطاعوا ـ أن يردّوا بشبههم أهل الحقّ عمّا أكرمهم اللّه به من
النظر في دين اللّه ، الذي لم يجعل اللّه شياطين الإنس من أهله ، إرادة أن يستوي
أعداء اللّه وأهل الحقّ في الشكّ والإنكار والتهذيب ، [فيكونون سواء] كما وصف اللّه تعالى في كتابه من
قوله : (
وَدُّوا
لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ).
وقال عليهالسلام في
حديثٍ آخَر : «اعلموا أنّ اللّه تبارك وتعالى إنّما غضبه على من لم يقبل منه رضاه
، وإنّما يمنع من لم يقبل منه عطاه ، وإنّما يضلّ من لم يقبل منه هداه .
وكلّ اُمّة قد رفع اللّه عنهم علم
الكتاب حين نبذوه ، وولاّهم عدوّهم حين تولّوه ، وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا
حروفه وحرّفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه ، والجهّال يعجبهم حفظهم للرواية ،
والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية ، وكان أيضاً من نبذهم الكتاب أن ولّوه الذين لا
يعلمون فأوردوهم الهوى ، وأصدروهم إلى الردى ، وغيّروا عرى الدين ، ثمّ ورثوه في
السفه والصبا . . . » الخبر ، إلى أن قال عليهالسلام :
«فاعرفوا أشباه الأحبار والرهبان الذين
ساروا بكتمان الكتاب وتحريفه (
فَمَا
رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ )فإنّ
أشباههم من هذه الاُمّة الذين أقاموا حروف الكتاب وحرّفوا حدوده ، فهم مع السادة
والكبرة ، فإذا تفرّقت قادة الأهواء كانوا مع أكثرهم دنياً وذلك مبلغهم من
__________________
العلم [ . . .] ، لا
يزال يُسمع صوت إبليس على ألسنتهم بباطل كثير ، يصبر منهم العلماء على الأذى
والتعنيف ، ويعيبون على العلماء بالتكليف . . .» الخبر ، إلى أن قال عليهالسلام :
«تركهم رسول اللّه صلىاللهعليهوآله على
البيضاء ليلها من نهارها ، لم يظهر فيهم بدعة ولم يبدّل فيهم سنّة ، لا خلاف عندهم
ولا اختلاف ، فلمّا غشي الناس ظلمة خطاياهم صاروا إمامين : داعٍ إلى اللّه ،
وداعٍ إلى النار ، فعند ذلك نطق الشيطان فعلا صوته على لسانه أوليائه وكثر خيله
ورجله ، وشارك في المال والولد من أشركه ، فعمل بالبدعة وترك الكتاب والسنّة ،
ونطق أولياء اللّه بالحجّة ، وأخذوا بالكتاب والحكمة ، فتفرّق من ذلك اليوم أهل
الحقّ وأهل الباطل . . .»،
الخبر .
وقال عليهالسلام في
حديثٍ آخَر : «إنّ اللّه عزوجل جعل
في كلٍّ من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون (من ضلّ)إلى الهدى ويصبرون معهم على الأذى ،
يجيبون داعي اللّه ، ويدعون إلى اللّه فأبصروهم رَحمكم اللّه فإنّهم في منزلة
رفيعة وإن أصابتهم في الدنيا وضيعة ، إنّهم يحيون بكتاب اللّه الموتى ، ويبصرون
بنور اللّه من العمى ، كم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من تائه ضالّ قد هدوه ،
يبذلون دماءهم دون هلكة العباد ، ما أحسن أثرهم على العباد وأقبح آثار العباد
عليهم»
وقال عليهالسلام في
حديثٍ آخَر في قوله تعالى : (
اتَّخَذُوا
أَحْبَارَهُمْ
__________________
وَرُهْبَانَهُمْ
أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ): «واللّه ، ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم
، ولو دعوهم ما أجابوهم ، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً ،
فاتّبعوهم فعبدوهم من حيث لا يشعرون».
وقال عليهالسلام في
حديثٍ آخَر : «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب ، فجعل لكلّ شيء سبباً ،
وجعل لكلّ سبب شرحاً ، وجعل لكلّ شرحٍ علماً ، وجعل لكلّ علمٍ باباً ناطقاً ، عرفه
من عرفه وجهله من جهله ذاك رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
ونحن».
وقال عليهالسلام :
«من أصبح من هذه الاُمّة لا إمام له من اللّه عزوجل ظاهر
عادل أصبح تائهاً ضالاًّ ، وإن مات على هذه الحالة مات ميتة جاهلية . . .»، الخبر .
والمراد بالظاهر : واضح الحال والإمامة
وإن كان شخصه غائباً عن المكلّف .
وقال عليهالسلام :
«يخرج أحدكم فراسخ فيطلب لنفسه دليلاً ، وأنت بطرق السماء أجهل منك بطرق الأرض
فاطلب لنفسك دليلاً».
وقال عليهالسلام :
«إنّ عيسى عليهالسلام حين
تكلّم في المهد كان نبيّاً وحجّةً على
__________________
من سمع كلامه في تلك
الحال ، ثمّ صمت فلم يتكلّم حتّى مضت له سنتان ، وكان زكريّا الحُجّة للّه عزوجل على الناس بعد صمت
عيسى عليهالسلام بسنتين
، ثمّ مات زكريا فورثه يحيى ابنه الكتاب والحكمة وهو صبي صغير ، فلمّا بلغ عيسى عليهالسلام سبع سنين تكلّم
بالنبوّة والرسالة حين أوحى اللّه إليه ، فكان عيسى عليهالسلام الحجّة
على الناس أجمعين ، وليس تبقى الأرض يوماً واحداً بغير حجّة للّه على الناس .
وكان عليٌّ عليهالسلام حجّةً من اللّه
ورسوله على هذه الاُمّة يوم أقامه للناس ، ونصبه علماً ، ودعاهم إلى ولايته ،
ولكنّه صمت فلم يتكلّم مع رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
وكانت الطاعة لرسول اللّه صلىاللهعليهوآله على
الاُمّة وعلى عليّ عليهالسلام في
حياة النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
وكانت الطاعة من اللّه ومن رسوله صلىاللهعليهوآله على
الناس كلّهم لعلي عليهالسلام بعد
وفاة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ،
وكان عليّ عليهالسلام حكيماً
عالماً».
«والعلم يتوارث فلا يهلك عالم إلاّ بقي
من بعده من يعلم مثل علمه أو ما شاء اللّه.
فقيل له : أفيسع الناس إذا مات العالم
أن لا يعرفوا الذي بعده ؟
فقال : «أمّا أهل هذه البلدة ـ يعني
المدينة ـ فلا ؛ لأنّ الإمام إذا هلك وقعت حجّة وصيّه على من هو معه في البلد ،
وأمّا غيرها من البلدان فبقدر مسيرهم ، إنّ اللّه تعالى يقول : ( فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا )، الآية .
__________________
فإن نفر قوم فهلك بعضهم قبل أن يصل
فيعلم فهو بمنزلة من خرج من بيته مهاجراً إلى اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ثمَّ
يدركه الموت» .
قيل : فإذا قدموا بأيّ شيء يعرفون
صاحبهم ؟
قال : «يعطى السكينة والوقار والهيبة».
وقال : «يعرف صاحب هذا الأمر بثلاث خصال
مع العلم لا تكون في غيره : هو أولى الناس بالذي قبله ، وهو وصيّه ، وعنده سلاح
رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ووصيّته
. . .»، الخبر .
والأخبار منه عليهالسلام ، ومن سائر الأئمّة عليهمالسلام من هذا القبيل كثيرة
، وكفى ما ذكرناه لصاحب البصيرة ، وسيأتي أمثالها في المواضع المناسبة لذكرها
سيّما في فصل الوصيّة .
ثمّ إنّ ها هنا حكاية لطيفة مشتملة على
رواية شريفة عنه عليهالسلام أحببنا
ذكرها ، وهي ما رواه جماعة عن رجل من قريش من أهل مكّة ، قال : قال لي سُفيان
الثوري: إذهب بنا إلى أبي
عبداللّه جعفر بن محمّد عليهماالسلام ،
قال : فذهبت معه إليه فوجدناه قد ركب دابّته ، فقال له سفيان : يا أبا عبداللّه
حدّثنا بحديث خطبة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله في
مسجد الخيف ، قال : «دعني
__________________
أذهب في حاجتي فإنّي
قد ركبت فإذا جئت حدّثتك» فقال : أسألك بقرابتك من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله لما
حدّثتني .
قال : فنزل ، فقال له سفيان : مُر لي
بدواة وقرطاس حتّى اُثبته فيه ، فدعا به ، ثمّ قال :
«اكتب : بسم اللّه الرحمن الرحيم ،
خطبة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله في
مسجد الخيف : نضّر اللّه عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلّغها من لم تبلغه ، يا أيّها
الناس ، ليبلّغ الشاهد الغائب ، فربّ حامل فقه ليس بفقيه ، وربّ حامل فقهٍ إلى من
هو أفقه منه ، ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب امرىء مسلم : إخلاص العمل للّه ،
والنصيحة لأئمّة المسلمين ، واللزوم لجماعتهم ، فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم ،
المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم يسعى بذمّتهم أدناهم» .
فكتبه سُفيان ، ثمّ عرضه عليه وركب أبو
عبداللّه عليهالسلام وجئت
أنا وسُفيان ، فلمّا كنّا في بعض الطريق قال لي : كما أنت حتّى أنظر في هذا الحديث
، فقلت له : قد واللّه ، ألزم أبو عبداللّه رقبتك شيئاً لا يذهب من رقبتك أبداً
، فقال : وأيّ شيء ذلك ؟ فقلت له : ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب امرىءٍ مسلم : إخلاص
العمل للّه ، قد عَرفناه ، والنصيحة لأئمّة المسلمين» ، مَن هؤلاء الأئمّة الذين
تجب علينا نصيحتهم ؟ معاوية بن أبي سفيان
__________________
ويزيد بن معاوية، ومروان بن الحكموكلّ من لا تجوز شهادته عندنا ولا تجوز
الصلاة خلفهم ؟ !
وكذا قوله : «واللزوم لجماعتهم» ، فأيّ
الجماعة :
مرجئيقول
: من لم يصلّ ولم يصم ولم يغتسل من جنابة ، وهَدم الكعبة ، ونكح اُمّه ، فهو على
إيمان جبرئيل وميكائيل ؟ !
أو قدريٌّيقول : لا يكون ما شاء اللّه ، ويكون
ما شاء إبليس ؟ !
أو حروريٌّيبرأ من عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ويشهد عليه بالكفر ؟
!
__________________
أو جهميٌّيقول : إنّما هي معرفة اللّه وحده ليس
الإيمان شيء غيرها ؟ !
قال : ويحك ، أيّ شيء يقولون ؟ فقلت :
يقولون : إنّ علي بن أبي طالب عليهالسلام واللّه
، للإمام الذي يجب علينا نصيحته ، و«لزوم جماعتهم» : أهل بيته .
قال : فأخذ الكتاب فخرقه، ثمّ قال : لا تخبر بها أحداً.
أقول
: هذه الخطبة ممّا ذكرها العامّة
والخاصّة عن النبيّ صلىاللهعليهوآله في
مسجد الخيف ـ كما سيظهر ـ لا سيّما في حكاية الغدير ، واختصر الإمام عليهالسلام هاهنا على هذه الفقرات
منها لما فيها ممّا فسّره الرجل ، فتأمّل .
الثاني
عشر : ما رواه جماعة من الأعلام الثقات في
روايات معتبرة ، وتوقيعات معتمدة عن مولانا وسيّدنا القائم لإعلاء كلمة اللّه
الحُجّة بن الحسن صاحب الزمان عليه وعلى آبائه صلوات اللّه الملك الديّان ، ونحن
نقتصر فيها على ذكر ما هو المناسب هاهنا :
__________________
قد نقل ثقات من القدماء في كتبهم ، منهم
أبو جعفر محمّد بن بابويه الملقّب بالصدوق،
عن الثقة الجليل سعد بن عبداللّه القمّيصاحب
أبي محمّد العسكري عليهالسلام ،
قال :
صارت بيني وبين رجل منازعة في الإمامة
فذهبت مع الشيخ الجليل أحمد بن إسحاقالوكيل
إلى سرّ من رأى ، ومعي بضع وأربعون مسألة لأسأل عنها مولانا أبا محمّد عليهالسلام ، فلمّا دخلنا عليه
رأينا وجهه كالقمر ليلة البدر ، ورأينا على فخذه غلاماً صغيراً يشبه المشتري في
الحسن والجمال
__________________
وله ذؤابتان ، فلمّا
سلّمنا وجلسنا وأردنا المسألة ، قال للغلام : أخبرهم ياولدي عن مسائل شيعتك
ومواليك» ، وذكر الخبر وجوابه عليهالسلام عن
سائر المسائل وما كان فيه المنازعة بينه وبين الرجل ـ إلى أن قال ـ فقلت له :
أخبرني يا مولاي عن العلّة التي تمنع القوم من اختيار إمامٍ لأنفسهم ؟
قال : «مفسد أو مُصلح ؟» قلت : مصلح .
قال : «هل يجوز أن يقع خيرتهم على
المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد ؟» قلت : بلى .
قال : «فهي العلّة ، أزيدها لك ببرهان
يقبل ذلك عقلك ؟» قُلت : نعم ، قال : «أخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم اللّه ،
وأنزل عليهم الكتب ، وأيّدهم بالوحي والعصمة ، إذ هم أعلام الاُمم وأهدى إلى
الاختيار منهم ، مثل موسى وعيسى عليهماالسلام فهل
يجوز مع وفور عقلهما وكمال علمهما إذا همّا بالاختيار أن تقع خيرتهما على المنافق
وهما يظنّان أنّه مؤمن ؟» قلت : لا .
فقال : «هذا موسى كليم اللّه عليهالسلام مع وفور عقله وكمال
علمه ونزول الوحي عليه اختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربّه سبعين رجلاً
ممّن لم يشك في إيمانهم وإخلاصهم ، فوقعت خيرته على المنافقين ، وقد شهد بذلك
القرآن المبين ، قال اللّه عزوجل :
(
وَاخْتَارَ
مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا )الآية
، فلمّا وجدنا اختيار من قد اصطفاه اللّه بالنبوّة واقعاً على الأفسد دون الأصلح
وهو يظن أنّه الأصلح دون الأفسد علمنا أن لا اختيار لمن لا يعلم ما تخفي الصدور
وما تكنّ الضمائر ، وأن لا خطر لاختيار المهاجرين والأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء
على ذوي الفساد لمّا
__________________
أرادوا أهل الصلاح .
. .»، الخبر .
وقد نقلوا أيضاً أنّه عليهالسلام بعد ما مضى أبوه
وتشاجر جماعة من الشيعة في الخلف وأنكر وجوده عليهالسلام بعض
منهم ، كتب إليهم بخطه عليهالسلام :
«بسم اللّه الرحمن الرحيم ، عافانا اللّه وإيّاكم من [ . . .] الفتن ، ووهب لنا
ولكم روح اليقين ، وأجارنا وإيّاكم من سوء المنقلب ، إنّه اُنهي إليّ ارتياب جماعة
منكم في الدين وما دخلهم من الشكّ والحيرة في ولاة أمرهم ، فغمّنا ذلك لكم لا لنا
، وساءنا فيكم لا فينا ؛ لأ نّ اللّه معنا فلا فاقة بنا إلى غيره ، والحقّ معنا
فلن يوحشنا من قعد عنّا [ . . .] .
يا هؤلاء ، ما لكم في الريب تتردّدون ،
وفي الحيرة تنعكسون ، أما سمعتم اللّه عزوجل يقول
: (
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي
الْأَمْرِ مِنْكُمْ )!
أوَ ما علمتم ما جاءت به الآثار ممّا
يكون ويحدث في أئمّتكم على الماضين والباقين منهم ؟
أوَ ما رأيتم كيف جعل اللّه لكم معاقل
تأوون إليها ، وأعلاماً تهتدون بها من لدن آدم إلى أن ظهر الماضي عليهالسلام ؟ ، كلّما غاب عَلَمٌ
بدا عَلَمٌ ، وإذا أفل نجم طلع نجم ، فلمّا قبضه اللّه إليه ظننتم أنّ اللّه
أبطل دينه ، وقطع السبب بينه وبين خلقه ، كلاّ ما كان ذلك ولا يكون ، حتّى تقوم
الساعة ويظهر أمر اللّه وهم كارهون .
وإنّ الماضي عليهالسلام مضى سعيداً فقيداً
على منهاج آبائه حذو النعل
__________________
بالنعل وفينا وصيّته
وعلمه ، ومن هو خلفه ومن يسدّ مسدّه ، ولا ينازعنا في موضعه إلاّ ظالم آثم ، ولا
يدّعيه دوننا إلاّ جاحد كافر ، ولولا أنّ أمر اللّه لا يغلب ، وسرّه لا يظهر ولا
يعلن ، لظهر لكم من حقّنا ما (ستر عنه)عقولكم
، ويزيل شكوككم ، لكنّه ما شاء اللّه كان ، ولكلّ أجل كتاب .
فاتّقوا اللّه وسلّموا (لنا وردّوا)الأمر إلينا ، فعلينا الإصدار كما كان
منّا الإيراد ، ولا تحاولوا كشف ما غطّي عنكم [ . . .] فقد نصحت لكم واللّه شاهد
عليّ وعليكم»،
الخبر .
وقد نقلوا أيضاً عن الشيخ الصدوق أحمد
بن إسحاق الوكيل أنّه قال : لما ادّعى جعفر الكذّاب الإمامة وكتب بذلك كتاباً إلى
بعض الشيعة ، أخذت كتابه وكتبت كتاباً إلى صاحب الزمان عليهالسلام وأعلمته بالأمر ،
وأرسلت كتابه مع كتابي إليه عليهالسلام ،
فخرج إليّ الجواب في ذلك :
«بسم اللّه الرحمن الرحيم ، أتاني
كتابك أبقاك اللّه والكتاب الذي أنفذت في درجه ، وأحاطت معرفتي بجميع ما تضمّنه
على اختلاف ألفاظه وتكرّر الخطأ فيه ، ولو تدبّرته لوقفت على بعض ما وقفت عليه منه
، والحمد للّه ربّ العالمين على إحسانه إلينا وفضله علينا ، أبى اللّه عزوجل للحقّ إلاّ إتماماً وللباطل إلاّ
زهوقاً ، وهو شاهد عليّ بما أذكره [ . . .] إذا اجتمعنا اليوم الذي لا ريب فيه ،
ويسألنا عمّا نحن فيه مُختلفون ، وإنّه لم يجعل لصاحب الكتاب على المكتوب إليه ولا
عليك ولا على أحد من
__________________
الخلق إمامة مفترضة
ولا طاعة ولا ذمّة ، وسأبين لكم جملة تكتفون بها إن شاء اللّه تعالى :
يا هذا ، يرحمك اللّه إنّ اللّه تعالى
لم يخلق الخلق عبثاً ، ولا أهملهم سدىً ، بل خلقهم بقدرته ، وجعل لهم أسماعاً
وأبصاراً وقلوباً وألباباً ، ثمّ بعث إليهم النبيّين عليهمالسلام مبشّرين
ومنذرين ، يأمرونهم بطاعته وينهونهم عن معصيته ، ويعرّفونهم ما جهلوه من أمر
خالقهم ودينهم ، وأنزل عليهم كتاباً ، وبعث إليهم ملائكة وباين بينهم وبين من
بعثهم إليهم بالفضل الذي جعله لهم عليهم ، وما آتاهم من الدلائل الظاهرة ،
والبراهين الباهرة ، والآيات الغالبة ، فمنهم من جعل النار عليه برداً وسلاماً
واتّخذه خليلاً ، ومنهم من كلّمه تكليماً ، وجعل عصاه ثعباناً مبيناً ، ومنهم من
أحيا الموتى بإذن اللّه وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن اللّه ، ومنهم من علّمه منطق
الطير واُوتي من كلّ شيء .
ثمّ بعث محمّداً صلىاللهعليهوآله رحمةً
للعالمين ، وتمّم به نعمته ، وختم به أنبياءه ، وأرسله إلى الناس كافّة ، وأظهر
مِن صدقه ما أظهر ، وبيّن من آياته وعلاماته ما بيّن .
ثمّ قبضه إليه حميداً فقيداً سعيداً ،
وجعل الأمر من بعده إلى أخيه وابن عمّه ووصيّه ووارثه عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ، ثمّ إلى الأوصياء
من ولده واحداً بعد واحدٍ ، أحيا بهم دينه ، وأتمّ بهم نوره ، وجعل بينهم وبين
إخوتهم وبني عمّهم [ . . .] فرقاً بيّناً يُعرف به الحُجّة من المحجوج ، والإمام
من المأموم ، بأن عصمهم من الذنوب وبرّأهم من العيوب وطهّرهم من الدنس [ . . . ]وجعلهم
خزّان علمه ومستودع حكمته وموضع سرّه ، وأيّدهم بالدلائل . ولولا ذلك لكان الناس
على سواء ، ولادّعى أمر اللّه كلّ أحد ،
ولما عرف الحقّ من
الباطل ، ولا العلم من الجهل .
وقد ادّعى هذا المبطل المدّعي على
اللّه الكذب بما ادّعاه ، فلا أدري بأيّ حالة بقيله رجاء أن تتمّ دعواه ، أبفقه في دين
اللّه ؟ فواللّه ، لا يعرف حلالاً من حرام ، ولا يفرّق بين خطأ وصواب ، أم بعلم
؟ فلا يعلم حقّاً من باطل ولا محكماً من متشابه ، [ . . .] أم بورع ؟ واللّه شهيد
على تركه الصلاة الفرض أربعين يوماً [ . . . ]ولعلّ خبره تأدّى إليكم ، وهاتيك
ظروف مسكره منصوبة ، وآثار عصيانه للّه عزوجل
مشهورة قائمة ، أم بآية ؟ فليأت بها ، أم بحجّة ؟ فليقمها ، أم بدلالة ؟ فليذكرها»
.
ثمّ ذكر عليهالسلام آيات
مناسبة إلى أن ذكر له : «فامتحن هذا الظالم واسأله عن آية من كتاب اللّه يفسّرها
، أو صلاة يبيّن حدودها وما يجب فيها ؛ لتعلم حاله ومقداره»،
الخبر .
وقد ذكر عليهالسلام في
توقيع آخَر : «وأمّا علّة ما وقع من الغيبة فإنّ اللّه عزوجل يقول : (
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ
تَسُؤْكُمْ )، إنّه لم يكن أحد من آبائي إلاّ وقد
وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه ، وإنّي لأخرج حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت
في عنقي .
وأمّا وجه الانتفاع في غيبتي فكالانتفاع
بالشمس إذا غيّبتها عن الأبصار السحاب ، وإنّي لأمان لأهل الأرض ، كما أنّ النجوم
أمان لأهل
__________________
السماء».
وفي توقيع آخَر: «وأمّا ظهور الفرج فإنّه إلى اللّه
وكذب الوقّاتون ، وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم
حُجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه» .
ومفاد الجميع واضح ، لا سيّما في الدلالة
على عدم صحّة اختيار الرعيّة إماماً لهم ، وعلى صفات الإمام وفوائده في زمان
الغيبة مع الحكمة المقتضية للغيبة ، وعدم لزوم تعطيل الأحكام حينئذٍ ، كما توهمه
المخالفون ، وسيأتي تفصيل هذه المضامين ، لا سيّما في ذكر أحوال الصاحب عليهالسلام ، فتأمّل .
ثمّ هاهنا أيضاً نقل لطيف مناسب للمقام
مأخوذ من حديث شريف عنه عليهالسلام ،
وهو أنّ جمعاً ، منهم الصدوق رحمهالله نقلوا
عن محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني،
قال : كنت أنا وجماعة عند الشيخ الثقة الجليل أبي القاسم الحسين بن روحرضیاللهعنه ـ
وهو من الأبواب والسفراء في الغيبة
__________________
الصغرى ـ فقام إليه
رجل ، فقال له : إنّي اُريد أن أسألك عن شيء ، فقال له : سل عمّا بدا لك .
فقال الرجل : أخبرني عن الحسين بن عليّ عليهماالسلام أهو وليّ اللّه ؟
قال : نعم .
قال : أخبرني عن قاتله لعنه اللّه أهو
عدّو اللّه ؟ قال : نعم !
قال : فهل يجوز أن يسلّط اللّه عزوجل عدّوه على وليّه ؟
فقال له أبو القاسم : افهم عنّي ما أقول
لك : اعلم أنّ اللّه تعالى لا يخاطب الناس بمشاهدة العيان ، ولا يشافههم بالكلام
، ولكنّه جلّت عظمته يبعث إليهم من أجناسهم وأصنافهم بشراً مثلهم ، ولو بعث إليهم
رسلاً من غير صنفهم وصورهم لنفروا عنهم ولم يقبلوا منهم ، فلمّا جاؤوهم وكانوا من
جنسهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق قالوا لهم : أنتم مثلنا لا نقبل منكم حتّى
تأتونا بشيء نعجز عن أن نأتي بمثله فنعلم أنّكم مخصوصون دوننا بما لا نقدر عليه ،
فجعل اللّه عزوجل
لهم المعجزات التي يعجز الخلق عنها ، فمنهم : من جاء بالطوفان بعد الإنذار
والأعذار ، فغرق جميع من طغى وتمرّد ، ومنهم : من اُلقي في النار فكانت عليه برداً
وسلاماً ، ومنهم : من فلق له البحر ، وجعل له العصا ثعباناً ، ومنهم : من أبرأ
الأكمه والأبرص وأحيا الموتى بإذن اللّه ، ومنهم : من انشقّ له القمر وكلّمته
البهائم وغير ذلك .
فلمّا أتوا بمثل ذلك عجز الخلق من
اُممهم أن يأتوا بمثله ، وكان من تقدير اللّه جلّ جلاله ولطفه بعباده وحكمته أن
جعل أنبياءه مع هذه
__________________
المعجزات في حال
غالبين وفي اُخرى مغلوبين ، وفيحال قاهرين وفي اُخرى مقهورين ، ولو جعلهم اللّه عزوجل في جميع أحوالهم غالبين قاهرين ، ولم
يبتلهم ولم يمتحنهم لاتّخذهم الناس آلهة من دون اللّه ، ولما عرف فضل صبرهم على
البلاء والمحن والاختبار ، ولكنّه جعل أحوالهم في ذلك كأحوال غيرهم ؛ ليكونوا في
حال المحنة والبلاء صابرين ، وفي حال العافية والظهور علىالأعداء شاكرين ،
ويكونوا في جميع أحوالهم متواضعين غير شامخين ولا متجبّرين ، وليعلم العباد أنّ
لهم عليهمالسلام إلهاً
هو خالقهم ومدبّرهم فيعبدوه ويطيعوا رسله ، وتكون حجّة اللّه ثابتةً على من تجاوز
الحدّ فيهم وادّعى لهم الربوبيّة ، أو عاند وخالف وعصى وجحد بما أتت به الأنبياء
والرسل ، وليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة .
قال محمّد بن إبراهيم رضیاللهعنه :
فعدت من غدٍ إلى الشيخ أبي القاسم رضیاللهعنه ،
وأنا أقول في نفسي : أتراه ذكر لنا ما ذكر أمس من عند نفسه ؟
فابتدأني وقال : أخرّ من السماء فتخطفني
الطير ، أو تهوي بي الريح في مكان سحيق أحبّ إليّ من أن أقولفي دين اللّه برأيي ومن عند نفسي ، بل
ذلك عن الأصل ومسموع من الحجّة صلوات اللّه عليه.
الثالث
عشر : ما رواه جماعة ، منهم الكليني ، عن
أبي حمزة الثمالي،
عن أبي جعفر الباقر عليهالسلام في
حديث طويل نحن نذكر خلاصته
__________________
التي لا بدّ من ذكرها
هاهنا :
قال عليهالسلام :
«إنّ اللّه عزوجل
عهد إلى آدم عليهالسلام أن
لا يقرب هذه الشجرة ، فلمّا بلغ الوقت الذي كان في علم اللّه أن يأكل منها نسي
فأكل منها ، وهو قوله تعالى :(
وَلَقَدْ
عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا )،
فلمّا أكل منها اُهبط إلى الأرض ، فولد له هابيل واُخته توأماً ، وولد له قابيل
واُخته توأماً .
ثمّ إنَّ آدم عليهالسلام أمر هابيل وقابيل أن
يقرّبا قُرباناً ، وكان هابيل صاحب غنم وقابيل صاحب زرع ، فقرّب هابيل كبشاً من
أفاضل غنمه وقرّب قابيل من زرعه ما لم يُنَقَّ ، فتُقبّل قربان هابيل ولم يُتقبّل
قربان قابيل ، وكان القربان تأكله النار ، فعمد قابيل إلى النار فبنى لها بيتاً ،
وهو أوّل من بنى بيوت النار ، فقال : لأعبدنّ هذه النار حتّى تتقبّل قرباني .
ثمّ إنّ إبليس لعنه اللّه قال لقابيل :
قد تُقبّل قربان هابيل ولم يُتقبّل قربانك فإن لم تقتله يكون له عقب يفتخرون على
عقبك ، فقتله، وبكى آدم عليهالسلام على
هابيل أربعين ليلة ، ثمّ سأل ربّه ولداً ، فولد له غلام فسمّاه هبة اللّه .
فلمّا انقضت نبوّة آدم واستكملت أيّامه
أوحى اللّه إليه أن : يا آدم ، قد قضيت نبوّتك واستكملت أيّامك ، فاجعل العلم
الذي عندك والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوّة في العقب من
ذرّيُتك عند هبة
__________________
اللّه ، فإنّي لم
أقطع العلم والإيمان والاسم الأكبر وآثار علم النبوّة من العقب من ذرّيّتك إلى يوم
القيامة ، ولن أدع الأرض إلاّ وفيها عالم يُعرف به ديني وتعرف به طاعتي ، ويكون
نجاة لِمَن يولد فيما بينك وبين نوح عليهالسلام ،
وبشّر آدم بنوح عليهالسلام ،
فقال : إنّه باعث نبيّاً اسمه نوح ، وإنّه يدعو جهاراً إلى اللّه عزّ ذكره ،
ويكذّبه قومه فيهلكهم اللّه بالطوفان . وكان بين آدم ونوح عشرة آباء كلّهم أنبياء
وأوصياء ، وأوصى آدم إلى هبة اللّه : أنّ من أدرك نوحاً عليهالسلام منكم فليؤمن به
وليتّبعه ، فإنّه ينجو من الغرق .
ومرض آدم عليهالسلام مرضه
الذي مات فيه ، ولمّا قُبض آدم هبط جبرئيل وأرى هبة اللّه كيف يغسّل أباه ،
فغسّله حتّى إذا بلغ الصلاة عليه ، قال هبة اللّه : يا جبرئيل ، تقدّم فصلّ على
آدم ، فقال له جبرئيل : إنّا اُمرنا أن نسجد لأبيك آدم وهو في الجنّة فليس لنا أن
نؤمّ شيئاً من ولده ، فتقدّم هبة اللّه فصلّى على أبيه وجبرئيل خلفه مع جنود من
الملائكة .
ثمّ إنّ هبة اللّه لمّا دفن أباه أتاه
قابيل فقال له : إنّي قد رأيت أبي آدم قد خصّك من العلم بما لم اُخصّ به أنا ، وهو
العلم الذي دعا به أخوك هابيل فتُقبّل قربانه ، وإنّما قتلتُه ؛ لكيلا يكون له عقب
فيفتخرون على عقبي ، فإنّك إن أظهرت من العلم الذي اختصّك به أبوك شيئاً قتلتك ،
كما قتلت هابيل .
فلبث هبة اللّه والعقب منه مستخفين بما
عندهم من العلم والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوّة ، حتّى بعث
اللّه نوحاً عليهالسلام ،
وظهرت وصيّة هبة اللّه حين نظروا في وصيّة آدم عليهالسلام ،
فوجدوا نوحاً عليهالسلام نبيّاً
قد بشّر به آدم عليهالسلام ،
فآمنوا به وصدّقوه واتّبعوه ، وقد كان آدم عليهالسلام وصّى
هبة اللّه أن يتعاهد هذه الوصيّة عند رأس كلّ سنة فيكون يوم عيدهم
فيتعاهدون نوحاً
وزمانه الذي يخرج فيه ، وكذلك جاء في وصيّة كلّ نبيّ ، حتّى بعث اللّه محمّداً صلىاللهعليهوآله ،
وإنّما عرفوا نوحاً بالعلم الذي عندهم ، وكان بين آدم ونوح عليهماالسلام من الأنبياء مستخفين
؛ ولذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسمّوا كما سمّي من استعلن من الأنبياء ، وهو قول
اللّه عزوجل
: (
وَرُسُلًا
قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ )،
يعني : لم اُسمِّ المستخفين كما سمّيت المستعلنين من الأنبياء .
فمكث نوح عليهالسلام في
قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً لم يشاركه في نبوّته أحد ، ولكنّه قدم على قوم
مكذّبين للأنبياء الذين كانوا بينه وبين آدم عليهالسلام ،
وذلك قوله عزوجل
: (
كَذَّبَتْ
قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ )، يعني : من كان بينه وبين آدم .
ثمّ إنّ نوحاً عليهالسلام لمّا انقضت نبوّته
واستكملت أيّامه أوحى اللّه عزوجل إليه
أن : يا نوح ، قد قضيت نبوّتك واستكملت أيامك ، فاجعل العلم الذي عندك والإيمان
والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوّة في العقب من ذريّتك فإنّي لن أقطعها
، كما لم أقطعها من بيوتات الأنبياء الذين كانوا بينك وبين آدم ، ولن أدع الأرض
إلاّ وفيها عالم يُعرف به ديني ويعرف به طاعتي ، ويكون نجاة لِمَن يولد فيما بين
قبض النبيّ إلى خروج النبيّ الآخَر .
فأوصى نوح إلى سام ابنه وبشّر ساماً
بهود عليهالسلام ،
فكان بين نوح وهود من الأنبياء عليهمالسلام [مستخفين
ومستعلنين]
، وقال نوح عليهالسلام :
إنّ اللّه باعث
__________________
نبيّاً يقال له : هود
، وإنّه يدعو قومه إلى اللّه عزوجل
فيكذّبونه ، واللّه عزوجل مهلكهم
بالريح ، فمن أدركه منكم فليؤمن به وليتّبعه ، حتّى ينجيه اللّه من عذاب الريح ،
وأمر نوح عليهالسلام ابنه
ساماً أن يتعاهد هذه الوصيّة عند رأس كلّ سنة فيكون يومئذٍ عيداً لهم ، فيتعاهدون
فيه [بعث هود وزمانه الذي يخرج فيه فلمّا بعث اللّه تبارك هوداً نظروا فيما] عندهم من العلم والإيمان والاسم
الأكبر ومواريث العلم وآثار علم النبوّة فوجدوا هوداً نبيّاً وقد بشّر به أبوهم
نوح عليهالسلام فآمنوا
به وصدّقوه فنجوا من عذاب الريح ، وهو قول اللّه عزوجل
: (
وَإلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً».
وقوله سُبحانه وتعالى : ( كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ )الآية
.
وقال تبارك وتعالى : ( وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ
بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ ).
وقوله :(
وَوَهَبْنَا
لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا )؛
لنجعلها في أهل بيته ، (
وَنُوحًا
هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ )؛ لنجعلها في أهل بيته .
وأمرـ
يعني هود ـ العقب من ذرّيّتهالأنبياء
عليهمالسلام من
كان قبل إبراهيم لإبراهيم عليهالسلام ،
فكان بين إبراهيم وهود من الأنبياء عليهمالسلام ،
وهو قوله : (
وَمَا
قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ).
__________________
وقوله سبحانه : ( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ )الآية
.
وقوله عزوجل
: (
وَإِبْرَاهِيمَ
إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ )الآية .
فجرى بين كلّ نبيّين عشرة أنبياءوتسعة وثمانية أنبياءوكلّهم أنبياء ، وجرى لكلّ نبيّ ما جرى
لنوح عليهالسلام ،
وكما جرى لآدم وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ، حتّى انتهت إلى يوسف بن يعقوب عليهمالسلام ، ثمّ صارت من بعد
يوسف في أسباطإخوته
، حتّى انتهت إلى موسى عليهالسلام ،
فكان بين يوسف وبين موسى عليهماالسلام (عشرة)من الأنبياء عليهمالسلام .
فأرسل اللّه موسى وهارون عليهماالسلام إلى فرعون وهامان
وقارون ، ثمّ أرسل الرسل تترى : (
كُلَّ
مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا
وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ).
وكانت بنو إسرائيل تقتل نبيّاً واثنان
قائمان ، وتقتل اثنين وأربعة قيام ، حتّى أنّه كان ربّما قتلوا في اليوم الواحد
سبعين نبيّاً ، ويقوم سوق قتلهمآخر
النهار .
فلمّا نزلت التوراة على موسى عليهالسلام بشّر بمحمّد صلىاللهعليهوآله، وكان بين يوسف
وموسى من الأنبياء ، وكان وصيّموسى يوشع بن نون وهو فتاه الذي ذكره اللّه تعالى
في كتابه،
فلم تزل الأنبياء تبشّر بمحمّد صلىاللهعليهوآله حتّى
__________________
بعث اللّه تعالى
المسيح عيسى بن مريم عليهماالسلام ،
فبشّر بمحمّد صلىاللهعليهوآله ،وذلك
قوله تعالى : (
يَجِدُونَهُ ) ، يعني : اليهود والنصارى . ( مَكْتُوبًا ) ، يعني : صفة محمّد صلىاللهعليهوآله .
(
عِنْدَهُمْ
) يعني
: (
فِي
التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ
الْمُنْكَرِ )، وهو قوله عزوجل يخبر عن عيسى عليهالسلام : ( وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ). وبشّر موسى وعيسى بمحمّد صلىاللهعليهوآله ،
كما بشّر الأنبياء بعضهم ببعض حتّى بلغت محمّداً صلىاللهعليهوآله
.
فلمّا قضى محمّد صلىاللهعليهوآله نبوّته
واستكملت أيّامه أوحى اللّه إليه يا محمّد ، قد قضيت نبوّتك واستكملت أيّامك
فاجعل العلم الذي عندك والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوّة في
أهل بيتك عند علي بن أبي طالب عليهالسلام فإنّي
لم أقطع العلم والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوّة من العقب عن
ذرّيّتك ، كما لم أقطعها من بيوتات الأنبياء الذين كانوا بينك وبين آدم عليهالسلام . وذلك قوله عزوجل : (
إِنَّ
اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى
الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ).
وإنّ اللّه تعالى لم يجعل العلم جهلاً
، ولم يكل أمره إلى أحد من خلقه لا إلى ملك مقرّب ، ولا إلى نبيّ مرسل ، ولكنّه
أرسل رسولاً من ملائكته [إلى نبيه]
، فقال له : قل كذا وكذا فأمرهم بما يحبّ ونهاهم عمّا يكره ، فقصّ عليهم أمر خلقه
بعلم ، فعلم ذلك العلم وعلّم أنبياءه وأصفياءه من
__________________
الأنبياء والإخوان ،
والذرّيّة التي بعضها من بعض ، فذلك قوله عزوجل
: (
فَقَدْ
آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا
عَظِيمًا ).
فأمّا الكتاب فهو النبوّة ، وأمّا
الحكمة فهم الحكماء من الأنبياء من الصفوة ، وأمّا الملك العظيم فهم الأئمّة من
الصفوة ، وكلّ هؤلاء من الذرّيّة التي بعضها من بعض والعلماء الذين جعل فيهم
البقية وفيهم العاقبة وحفظ الميثاق حتّى تنقضي الدنيا ، فهذا شأن الفُضّل من
الصفوة والرسل والأنبياء والحكماء وأئمّة الهدى والخلفاء الذين هم ولاة أمر اللّه
، و[أهل]
استنباط علم اللّه ، وأهل آثار علم اللّه من الذرّيّة التي بعضها من بعض من
الصفوة بعد الأنبياء .
فمن اعتصم بهؤلاء الفُضَّل انتهى بعلمهمونجا بِنصرتهم ، ومن وضع (ولاة أمر)اللّه وأهل استنباط علمه في غير الصفوة
من بيوتات الأنبياء ، فقد خالف أمر اللّه وجعل الجهّال ولاة أمر اللّه
والمتكلّفين بغير هدى من اللّه وزعموا أنّهم أهل استنباط علم اللّه ، فقد كذّبوا
على اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ،
ورغبوا عن وصيّه وطاعتهولم
يضعوا فضل اللّه حيث وضعه اللّه» ، الخبر ، إلى أن قال عليهالسلام :
«إنّ اللّه عزّ وجل طهّر أهل بيت نبيّه
وسأل لهم أجر المودّة وأجرى لهم الولاية وجعلهم أوصياءه وأحبّاءه ثابتةبعده في اُمّته، فاعتبروا أيّها
__________________
الناس فيما قلت ؛ حيث
وضع اللّه ولايته وطاعته ومودّته واستنباط علمه وحججه ، فإيّاه فتقبّلوا وبه
فاستمسكوا تنجوا به ، وتكون لكم الحجّة يوم القيامة»، الخبر .
ولا يخفى دلالته على ما نحن فيه ،
وصراحته في دوام الوصيّة في الذرّيّة الطاهرة من آدم عليهالسلام ،
وكتمان بعض تقيّةً ، وإعلان بعض عند الإذن من اللّه ، كما هو بعينه في هذه الاُمّة
، وسيأتي تبيانه في فصل الوصيّة .
وقوله عليهالسلام :
«إنّ اللّه لم يجعل العلم جهلاً» ردّ على من قال بأنّ اللّه بيّن بعض أحكامه على
لسان نبيّه صلىاللهعليهوآله وفوّض
الباقي إلى ظنون المجتهدين وأفكارهم واجتهاداتهم الظنّيّة ، وأمر من لم يبلغ درجة
الاجتهاد باتّباع ظنون هؤلاء المجتهدين .
وملخّص الكلام أنّ الظنّ قد يكون باطلاً
فيكون جهلاً ؛ لعدم مطابقته الواقع ، فتأمّل .
الرابع
عشر : منقولات غريبة مؤيّدات للمقصود
أحببنا ذكرها هاهنا :
أحدها : ما نقله الكراجكيفي كتاب كنز الفوائد : عن عليّ بن محمّد
البغدادي ، عن أحمد بن محمّد الجوهري ، عن محمّد بن لاحق بن سابق ، [عن هشام بن
محمّد السائب الكلبي]
، عن أبيه ، عن الشرقي بن
__________________
القطامي ، عن تميم بن
وعلة المري ، عن الجارود بن المنذر العبدي،
ونقله أيضاً الكلبيمن
علماء العامّة بلا واسطة ، عن الشرقي ، عن تميم ، عن الجارود ، وقد نقله غيرهما
أيضاً ، ونحن نذكر من كلّ نسخة ما هو الأضبط الأظهر :
قال تميم : وكان الجارود نصرانيّاً
فأسلم عام الحديبيّة وحسن إسلامه ، وكان قارئاً للكتب ، عالماً بتأويلها ، بصيراً
بالفلسفة والطب ، ذا رأي أصيل ووجهٍ جميل ، فأنشأ يحدّثنا في أيّام عمر بن الخطّاب
.
قال : وفدت على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله في
رجال من عبد القيس ، فلمّا بصروا به راعهم منظره ومحضره فصدّهم عن بيانهم ،
فاستقدمت دونهم إليه فوقفت بين يديه ، فقلت : سلام عليك يا رسول اللّه ، بأبي أنت
واُمّي ! ثمّ أنشأت أقول ، وذكر أشعاراً في مدحه صلىاللهعليهوآله
، منها :
أنبأَنا الأوّلونَ بِاسمِكَ فينا
|
|
وبأسماءِ أوصياء كِرام
|
قال : وكان عنده رجل لم أكن أعرفه ،
فقلت : من هو ؟ قالوا : سلمان الفارسي ذو البرهان العظيم ، والشأن القديم .
__________________
فقال سلمان : وكيف عرفت رسول اللّه يا
أخا عبد القيس من قبل إتيانه ؟ فأقبلت على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ،
وهو يتلألأ ويشرق وجهه نوراً وسروراً ، فقلت : يا رسول اللّه ، إنّ قسّاً كان
ينتظر زمانك ، ويتوكّف إبّانك ، ويهتف باسمك واسم أبيك واُمّك وبأسماء لست اُصيبها
معك ، ولا أراها فيمن اتّبعك .
قال سلمان : فأخبرنا .
وفي رواية الكلبي بعد نقل الأشعار :
فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله :
أفيكم من يعرف قس بن ساعدة الأيادي ؟ فقلت : كلّنا نعرفه يا رسول اللّه ، غير
أنّي من بينهم عارف بخبره وواقف على أثره ، فقال سلمان : فأخبرنا.
قال : فأنشأت اُحدّثهم ورسول اللّه صلىاللهعليهوآله يسمع
والقوم سامعون واعون ، فقلت : يا رسول اللّه ، لقد شهدت قسّاً وقد خرج من نادٍ من
أندية أياد ، وهو مشتمل على نجاد ، فوقف في إضحيان ليلٍ كالشمس رافعاً إلى السماء
وجهه وإصبعه ، فدنوت منه فسمعته يقول : اللّهم ربّ السموات الأرقعة ، والأرضين
الممرعة بحقّ محمّد والثلاثة المحامدة معه ، والعليّين الأربعة ، وسبطيه المنيعةالأرفعة الفرعة ، السَري الألمعة ،
وسميّ الكليم الضرعة ، والحسن ذي الرفعة ، اُولئك النقباء الشفعة ، والطريق
المهيعة ، دَرَسة الإنجيل ، وحفظة التنزيل على عدد النقباء من بني إسرائيل ، مُحاة
الأضاليل ، ونُفاة الأباطيل ، والصادقوا القيل ، فهم أوّل البداية ، وعليهم تقوم
الساعة ، وبهم تنال الشفاعة ، ولهم من اللّه فرض الطاعة ، اسقنا غيثاً مغيثاً .
ثمّ قال : اللّهمّ ليتني مدركهم ولو بعد
لأي من عمري ومحياي .
__________________
قال الجارود : ثمّ قلت : يا رسول
[اللّه] ، أنبئني أنبأك اللّه بخير عن هذه الأسماء التي لم نشهدها وأشهدها قسّ ؟.
فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله :
«يا جارود ، ليلة اُسري بي إلى السماء أوحى اللّه عزوجل
إليّ أن : سل من قد أرسلنا قبلك من رسلنا على ما بعثوا ؟ فقلت لهم : على ما بعثتم
؟ فقالوا : بنبوّتك وولاية عليّ بن أبي طالب والأئمّة منكما ، ثمّ أوحى اللّه
إليّ أن : التفت عن يمين العرش ، فالتفتّ فإذاً عليّ والحسن والحسين وعليّ بن
الحسين ومحمّد بن عليّ وجعفر بن محمّد وموسى بن جعفر وعليّ بن موسى ومحمّد بن عليّ
وعليّ بن محمّد والحسن بن عليّ والمهدي في ضحضاحمن نور يصلّون ، فقال لي الربّ تعالى :
هؤلاء الحجج أوليائي ، وهذا المنتقم من أعدائي» .
فقال لي سلمان : هؤلاء المذكورون في
التوراة والإنجيل والزبور،
الخبر .
ولنوضّح بعض كلماته : القِس ، والقسّيس
: كبير النصارى وعالمهم ، ولا ينافيه تسمية الرجل به .
ويقال : توكّف الخبر إذا انتظر وكفه ،
أي : وقوعه .
والنجاد كـ : «كتاب» : حمائل السيف .
__________________
وليلة إضحانيّة ـ بالكسر ـ : مُضيئة .
والأرفعة : جمع الرفيع .
وأمرع الوادي : أكلأَ .
والسّري كـ : «غني» : النهر الصغير ،
وهو كناية عن جعفر عليهالسلام ؛
لأنّه أيضاً في اللغة بمعنى النهر الصغير .
واللأي : كـ : «السعي» : الإبطاء ، وفي
بعض النسخ ليس قوله : (اسقنا غيثاً مغيثاً).
وفي رواية الكلبي بدل قوله : «وسبطيه
النبعة ـ إلى قوله ـ وسميّ الكليم هكذا : «وفاطمة والحسنين الأبرعة ، وجعفر وموسى
التبعة وسميّ الكليم » . والأصحّ ما نقلناه .
وفي بعض النسخ ليست كلمة «والحسن ذو
الرفعة» ولعلّها سقطت من قلم بعض النُّسّاخ للزوم ذكره الحسن العسكري عليهالسلام أيضاً .
ويحتمل على النسخة الخالية عنها أن يكون
«الأرفعة الفرعة» كنايةً عنه عليهالسلام ؛
لكونه فرع الحسن والحسين عليهماالسلام من
حيث التسمية والنسب جميعاً ، أو لكـون « الفرعـة » أيضاً بمعنى ذي الفرع ، كما هـو
الظاهر المتبادر .
ولا يخفى أنّ مهدي هذه الاُمّة فرعه
الحقيقي ، ثمّ يحتمل بناءً على وجود «والحسن » كون «الأرفعة الفرعة» كنايةً عن
فاطمة عليهاالسلام ،
لكن بناءً على هذه الاحتمالات كلّها لا بدّ من وجود الواو بأن يكون «والأرفعة
الفرعة» كما هو ظاهر ، والأظهر كونه صفةً للسبطين ؛ لكون ذرّيّة الرّسول صلىاللهعليهوآله منهما
، وكذا الأظهر عدم ذكر فاطمة عليهاالسلام ،
كما يشعر به قوله : «عدد النقباء»
وأمثاله بعد بيانه
صريحاً اسم رسول اللّه صلىاللهعليهوآله على
حدة ، فتأمّل .
وثانيها
: ما ذكره السدّيمن
قُدماء المفسّرين في تفسيره : أنّ سارة لمّا كرهت مكان هاجر أوحى اللّه إلى
إبراهيم الخليل عليهالسلام ،
فقال : انطلق بإسماعيل واُمّه حتّى تنزل بيتيالتهاميّ
ـ يعني مكّة ـ فإنّي ناشر ذرّيّته وجاعلهم ثقلاً على من كفر بي ، وجاعل منهم
نبيّاً عظيماً ، ومظهره على الأديان ، وجاعل من ذرّيّته اثني عشر عظيماً ، وجاعل
ذرّيّته عدد نجوم السماء.
وثالثها
: ما ذكره جمع ، منهم : الكراجكي في كنز
الفوائدمن
عبارة التوراة ، وذكرها الشيخ العلاّمة باقر علوم أهل البيت عليهمالسلام ، وقال : سمعت من
جماعة من ثقات أهل الكتاب أنّها موجودة في توراتهم الآن ، وقد ذكرها أيضاً بعض
علماء اليهود بعد إسلامه في رسالته التي ألّفها في بشارات اللّه وأنبيائه بمجيء
نبيّنا صلىاللهعليهوآله ،
وقد صرّح جمع بأنّه في السفر الأوّل من التوراة في ذكر البشارة لإبراهيم عليهالسلام في قبول دعائه في حقّ
إسماعيل عليهالسلام ،
وهي
__________________
هكذا : وليَشْمَعيل
شَمَعْتيخا ، وفي بعض النسخ : شَمَعْتيك هينَه بَرَخْتي اُوتْو ، وهيفَريتي أوتْو
، وهيبربيتي ، وفي بعض النسخ الصحيحة : هيبربتي ، وهو أظهر ، بماذماذ ، وفي بعض
النسخ : بماوَد ماوُد شَنيم عاسار نسيئيم يُوليد ، ونَتَيْتُولِكُوْي كادُول ، وفي
بعض النسخ : كَذول.
قال الشيخ العلاّمة : وسمعت هؤلاء
الثقات من أهل الكتاب يترجمونها هكذا ، وفي إسماعيل أَسْمَعْتك أنّي باركت إيّاه ،
وأوفرت إيّاه وأكثرت إيّاه بغاية الغاية اثني عشر رؤساء يولدون ووهبته قوماً
عظيماً .
ثمّ قال رحمهالله :
إنّ تفسيرهم : بغاية الغاية مبنيٌّ على نسخة ماود ماود . والظاهر أنّه تحريف من
اليهود لفظاً ومعنى ؛ إذ الذي يظهر من الأخبار أنّ ماذ ماذ اسم محمّد صلىاللهعليهوآله بالعبرانية
، فالمعنى : أكثرت نسل إسماعيل عليهالسلام بسبب
محمّد صلىاللهعليهوآله .
ثمّ قال : وبناءً على تحريفهم أيضاً
المراد بغاية الغاية هو النبيّ صلىاللهعليهوآله بالعبرانية؛ لأنّه في غاية الغاية من الكمال.
وقال العالم ـ الذي ذكرنا أنّه أسلم ـ
في رسالته المذكورة : إنّ العلماء المفسّرين للعبرانية اختلفوا في «ماذ ماذ» ،
فمنهم من فسّره بمحمّد صلىاللهعليهوآله ،
ومنهم من فسّره بأحمد أحمد ، ومنهم من فسّره بعظيم عظيم .
قالوا : إنّ قوله : «يشمعيل» بمنزلة
إسماعيل ، «وشمعتيخا» بمنزلة
__________________
سمعتك ، و «خا» في
العبرية بمنزلة كاف الخطاب ، و«هِينَهْ» بمنزلة : ها أنا ، و«برختي» للمتكلّم وحده
أيضاً أوليها بمنزلة باركت ، و«اُوتو» ضمير الغائب بمنزلة : إيّاه ، و«هيفريتي»
و«هيبربتي» للمتكلّم وحده أيضاً : اُولاهما بمنزلة : أوفرت وأثمرت ، والاُخرى
بمنزلة : كثرت وأكثرت ، و«شنيم عاسار» بمنزلة : اثني عشر ، و«نسيئيم» جمع نسيء
بمعنىشريف ، وعلامة الجمع
في العبرانيّة الميم ، «ونتيتو» ـ وفي بعض النسخ «ونَنَيتو» بمنزلة : وهبته
وأعطيته ، و«لكوي» بمنزلة القوم ، و«كادول» أو «كدول» بمنزلة : عظيم وكبير . وفي
إسماعيل سمعت دعاءك ها أنا باركته وأثمرته ، وكثرته بعظيم عظيم ، أو بمحمّد صلىاللهعليهوآله اثني
عشر شريفاً يولدون منه ، وأعطيته لقوم عظيم كبير.
قال الكراجكي : وهذا نصّ صريح على
ساداتنا الأئمّة ، وإبانة عن تشريف منزلتهم ؛ لأنّ رتبة التعظيم والتشريف المخصوص
بهذه العدّة المخصوصة غير موجودة إلاّ فيهم من بين جميع ولد إسماعيل ، ولا نعلم
اثني عشر يدّعون ذلك في أنفسهم غيرهم،
انتهى ، فتأمّل جدّاً .
ورابعها
: ما رواه جمع منهم : الشيخ النبيه
الشيخ أحمدفي
كتاب مقتضب الأثر عن ثوابة بن أحمد الموصلي ، عن الحسين بن الحرّاني ، عن موسى بن
عيسى الإفريقي ، عن هشام بن عبداللّه الدستوائي ، عن عمرو بن
__________________
شمر ، عن جابر
الجُعفي،
قال : سمعت سالم بن عبداللّهبن
عمر بن الخطاب يحدّث أبا جعفر محمّد بن علي عليهماالسلام بمكة
، قال : سمعت أبي عبداللّه بن عمر يقول : سمعت رسول اللّه صلىاللهعليهوآله يقول
:
«إنّ اللّه عزوجل أوحى إليّ ليلة اُسري بي : يا محمّد ،
من خلّفت في الأرض في اُمّتك ؟ ـ وهو أعلم بذلك ـ قلت : يا ربّ ، أخي ، قال : عليّ
بن أبي طالب عليهالسلام ؟
قلت : نعم ، قال : يا محمّد ، إنّي اطّلعت إلى الأرض اطّلاعة فاخترتك منها ، فلا
أُذكر حتّى تُذكر معي ، أنا المحمود وأنت محمّد ، ثمّ اطّلعت إلى الأرض اطّلاعة
اُخرى ، فاخترت منها عليّ بن أبي طالب ، فجعلته وصيّك ، فأنت سيد الأنبياء وعليّ
سيّد الأوصياء ، ثمّ اشتققت له اسماً من أسمائي فأنا الأعلى وهو عليّ .
يا محمّد ، إنّي خلقتك وخلقت عليّاً
وفاطمة والحسن والحسين والأئمّة من نور واحد ، ثمّ عرضت ولايتهم على الملائكة
وغيرهم ، فمن قَبِلها كان من المقرّبين ، ومن جحدها كان من الكافرين .
يا محمّد ، لو أنّ عبداً من عبيدي عبدني
، حتّى ينقطع ، ثمّ لقيني جاحداً لولايتهم أدخلته ناري .
ثمّ قال : يا محمّد ، أتحبّ أن تراهم ؟
قلت : نعم ، قال : تقدّم أمامك ، فتقدّمت أمامي فإذاً عليّ بن أبي طالب والحسن
والحسين وعليّ بن الحسين
__________________
ومحمّد بن عليّ وجعفر
بن محمّد وعليّ بن محمّد والحسن بن عليّ والحُجة القائم عليهمالسلام كأنّه كوكب درّيّ في
وسطهم ، فقلت : يا ربّ ، من هؤلاء ؟ فقال : هؤلاء الأئمّة وهذا القائم ، يحلّ
حلالي ويحرّم حرامي وينتقم من أعدائي .
يا محمّد ، أحببه فإنّي اُحبّه واُحبّ
من يحبّه» .
قال جابر : فلمّا انصرف سالم من الكعبة
تبعته فقلت : يا أبا عمر ، أنشدك اللّه هل أخبرك أحد غير أبيك بهذه الأسماء ؟
فقال : اللّهم ، أمّا الحديث عن رسول
اللّه صلىاللهعليهوآله فلا
، ولكنّي كنت مع أبي عند كعب الأحبارفسمعته
يقول : إنّ الأئمّة من هذه الاُمّة بعد نبيّها على عدد نقباء بني إسرائيل ، وأقبل
عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ،
فقال كعب : هذا المقضيأوّلهم
وأحد عشر من ولده ، وسمّاهم كعب بأسمائهم في التوراة : تقوبيث ، قيذو، فبيراء ، مفسورا ، مسموعا ، دوموه ،
مشيو ، هذار ، يثيمو ، بطور ، نوقس ، قيذموا.
قال أبو عامر هشام الدستوائي ـ الراوي
لهذه الحكاية عن عمرو بن شمر الراوي عن جابر ـ : لقيتيهوديّاً بالحيرة يقال له : عثوا بن
اُوسُو ، وكان حبر اليهود وعالمهم ، فسألته عن هذه الأسماء وتلوتها عليه ، فقال
__________________
لي : من أين عرفت هذه
النعوت ؟ قلت : هي أسماء ، قال : ليست أسماء ولكنّها نعوت لأقوام ، وأوصاف
بالعبرانية صحيحة ، نجدها عندنا في التوراة ، ولو سألت عنها غيري لعمي عن معرفتها
أو تعامى .
قلت : ولمَ ذلك ؟
قال : أمّا العمي فللجهل بها ، وأَمّا
التعامي ؛ فلئلاّ يكون على دينه ظهيراً وبه خبيراً ، وإنّما أقررت لك بهذه النعوت
؛ لأنّي رجل من ولد هارون بن عمران ، مؤمن بمحمّد صلىاللهعليهوآله
، اُسرّ ذلك عن بطانتي من اليهود الذين
لم اُظهر لهم الإسلام ، ولن اُظهره بعدك لأحد حتّى أموت .
قلت : ولمَ ذلك ؟
قال : لأنّي أجد في كتب آبائي الماضين
من ولد هارون أن لا نؤمن بهذا النبيّ الذي اسمه محمّد ظاهراً ونؤمن به باطناً ،
حتّى يظهر القائم المهدي من ولده ، فمن أدركه منّا فليؤمن به ، وبه نعت الأخير من
الأسماء .
قلت : وبِمَ نعت ؟
قال : نعت بأنّه يظهر على الدين كلّه ،
ويخرج إليه المسيح فيتديّن به ، ويكون له صاحباً .
قلت : فانعت لي هذه النعوت ؛ لأعلم
علمها :
قال : نعم فَعِهِ عنّي وصُنْهُ إلاّ عن
أهله وموضعه إن شاء اللّه تعالى .
أمّا تقوبيث ، فهو أوّل الأوصياء ووصيّ
آخر الأنبياء .
وأمّا قيذو ، فهو ثاني الأوصياء وأوّل
العترة الأصفياء .
وأمّا دبيراء ، فهو ثاني العترة وسيّد
الشهداء .
وأمّا مقسوراً ، فهو سيّد مَن عَبد
اللّه من عباده .
وأمّا مسموعاً ، فهو وارث علم الأوّلين
والآخرين .
وأمّا دوموه ، فهو المدرة الناطق عن
اللّه الصادق .
وأمّا مشيو، فهو خير المسجونين في سجن الظالمين .
وأمّا هذار ، فهو المخنوع بحقّه النازح
الأوطان الممنوع .
وأمّا يثمو، فهو القصير العمر الطويل الأثر .
وأمّا بطور ، فهو رابع اسمه .
وأمّا نوقس ، فهو سميّ عمّه .
وأمّا قيذمو، فهو المفقود من أبيه وأمّه ، الغائب
بأمر اللّه وعلمه والقائم بحكمه.
أقول
: في القاموس : المدرة ـ كمنبر ـ :
السيّد الشريف المقدم . والمنخوع ـ بالنون أو بالباء والخاء المُعجمة ـ أي : الذي
أقرّوا بحقّه ومنعوه منه وأخرجوه عن وطنه ، وهي أوصاف الرضا عليهالسلام .
وفي القاموس : بخَعَ بحقّي ـ كمنع ـ :
أقرّ ، وقال : بَخَعَ بالحقّ بخُوعاً أقرّ به وخشع له.
وقال : نزح ـ كمنع وضرب ـ : بَعُد.
ثمّ إنّ الذي وصل إلينا من تلك الكلمات
هكذا ، ولا يمتنع وقوع الاشتباه والتصحيف في بعضها ، واللّه أعلم .
__________________
وخامسها
: ما رواه أيضاً في كتاب المقتضب عن
ثوابة الموصلي،
عن الحسن بن أحمد بن حازم ، عن حاجب بن سُليمان أبي موزج ، قال : لقيت ببيت المقدس
عمران بن خاقان الوافد إلى المنصور وقد أسلم على يده ، وكان قد حجّ اليهود ببيانه
وعلمه ، وكانوا لا يستطيعون جحده لما في التوراة من علامات رسول اللّه صلىاللهعليهوآله والخلفاء
من بعده ، فقال لي يوماً:
يا أبا موزج ، إنّا نجد في التوراة ثلاثة عشر اسماً ، منها: محمّد واثنا عشر بعده من أهل بيته ،
وهم أوصياؤه وخلفاؤه مذكورون في التوراة ليس فيهم القائمون بعده من تيم ولا عدي
(ولاغيرهما)،
وإنّي لأظنّ ما تقوله هذه الشيعة حقّاً .
قلت : فأخبرني به ؟ قال : لتعطيني عهد
اللّه وميثاقه أن لا تخبر الشيعة بشيء من ذلك فيظهروه عليّ .
قلت : وما تخاف من ذلك والقوم من بني
هاشم ؟
قال : ليست أسماؤهم أسماء هؤلاء ، بل هم
من ولد الأوّل منهم،
وهو محمّد صلىاللهعليهوآله ومن
بقيّته في الأرض من بعده ، فأعطيته ما أراد من المواثيق .
وقال لي : حدّث به بعدي إن تقدّمتك ،
وإلاّ فلا عليك أن لا تخبر به أحداً ، ثمّ قرأ من التوراة ما ترجمته : أنّ شموعيليخرج من صلبه ابن مبارك صلواتي عليه
وقدسي ، يلد اثني عشر ولداً يكون ذكرهم باقياً إلى يوم
__________________
القيامة وعليهم
القيامة تقوم،
طوبى لمن عرفهم بحقيقتهم.
أقول
: ولعل عدّ الاثني عشر من ولده صلىاللهعليهوآلهعلى تقدير عدم تطرّق
التحريف إليه على سبيل التغليب أو التجوّز ؛ لكون النبيّ صلىاللهعليهوآلهوالد الاُمّة ، لا
سيّما الإمام الذي هو أصل الاُمّة ، فتأمّل .
وليكن هذا آخر ما أردنا إيراده هاهنا ؛
لأنّ كثرة الأخبار المناسبة لما نحن فيه ممّا لا تستقصى كثرةً ، وفيما ذكرناه
تبصرة لمن أراد التبصّر ، وستأتي أيضاً بعض الأخبار المفيدة لأهل الاستبصار فيما
يقتضيه المقام ويحتاج إليه توضيح المرام ، وإذ فرغنا من أحاديث الفاتحة فلنشرع
الآن في ذكر فهرست مباحث الكتاب :
اعلم أنّا رتّبنا هذا الكتاب ـ كما
أشرناسابقاً ـ بعد فاتحته
المذكورة على مقدّمة
، وفيها تبيان وخمسة أبواب فيكلّ باب
فصول ، وعلى مقصدين
، في كلّ واحد منهما اثنتا عشرة مقالة وفي المقالة الأخيرة من المقصد الأوّل اثنا
عشر فصلاً ، وعلى خاتمة
فيها فصلان ، وعلى ختام
نختم به الكتاب ، وقد يشتمل بعض ما ذكر على مباحث ومطالب وغيرها ممّالم نذكرها في الفهرست ، وتفصيل الفهرست
هكذا :
أمّا
المقدمة : ففي بيان جريان عادة اللّه بامتحان
العباد ، وذكر نبذ من أعاظم ماامتحن
اللّه به الخلائق في هذه الدنيا ، ممّا لبيانه مدخل في توضيح جمّة من مقدّمات
دليلنا هذا ، بل سائر الأدلّة أيضاً ؛ بحيث كان كلّ
__________________
واحد كالمبادئ لها ،
وكذا في كشف كثير من الشبه التي أوهمت جمهور المخالفين ، بحيث منعتهم عن فهم ما هو
الحقّ ، وقد بيّنّا ما يتعلّق بها في ضمن تبيان وخمسة أبواب :
أمّا
التبيان : ففي توضيح أنّ اللّه عزوجل لم يكتف من عباده بمحض دعوى الإيمان ،
بل امتحن كلاًّ منهم بأنواع الامتحان من بدو الخلقة إلى آخر الزمان ، وأنّ من ذلك
أهل زمان سيّد الإنس والجانّ ، بل نذكر فيه أيضاً بعض ما ورد في أنّ أمر إمامة
عليّ عليهالسلام من
جملة عُمدة ما وقع به الامتحان .
الباب
الأوّل : في بيان امتحان اللّه عباده بميل
طبائعهم إلى ما نشأوا فيه ، واعتادوا به ، وشبّوا عليه ، مثل : حبّ طريقة آبائهم
وأسلافهم وكبرائهم ، وأخذ أطوارهم واقتفاء آثارهم ، وذكر نهي اللّه إيّاهم عن ذلك
، وأمرهم ببذل الجهد في تحقيق الحقّ وقبوله ، وترك الحميّة والعصبيّة ، وفيه ثلاثة
فصول :
الفصل
الأوّل : في توضيح كون طبيعة عامّة البشر
مجبولة على هذه الحالة في كلّ زمان بحيث إنّها دعت جماعة إلى أن قصدوالتحريف الحقّ وإخفائه ، وبيان كون
متابعة هذه الحالة ، منهيّ عنها ، مذمومة ، لا سيّما في اُمور الدين ، وأنّه من
أقبحصفات الجهّال
والضلاّل والمبطلين ، وأطوار الكفّار والمعاندين .
الفصل
الثاني : في بيان أنّ الواجب على طالب الحقّ
غايةبذل
__________________
الجهد في تصفية نيته
وتفريغ قلبه عن هذه الحالة وأمثالها ، حتّى يصير قابلاً لإلهام الحقّ وإدراكه ،
وأنّ اللّه عزوجل
يوفّق مثل هذا الشخص لفهم الحقّ وقبوله .
الفصل
الثالث : في بيان لزوم الحبّ في اللّه والبغض
للّه ، ونصرة دينه وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه .
الباب
الثاني : في بيان امتحان اللّه عباده بميل
طبائعهم البشرية إلى شهوات الدنيا ، ورغبتهم إلى ما زيّن لهم الشيطان من مرديات
الهوى ، لا سيّما حبّ الرئاسة والمال والعزّ والجاه الذي هو عمدة أسباب التحاسد والتباغض
والمنافسات ، بل الفتن والاختلافات والنفاق والكذب ، بل ذلك اُمّ الفساد في العالم
، وبيان شيوع ذلك وشموله كلّ زمان وكلّ أحد إلاّ قليلاً ممّن رحمهالله بالعصمة والتوفيق ،
وذكر [كون]
نهي اللّه عزوجل
إيّاهم عن ذلك في غاية التوبيخ والتأكيد ، بحيث عيّن عليهم في كلّ عصر من يردعهمعن ذلك بالمواعظ والتعزيرات ، وقرّر
الحدود والتأديبات ، ونصب جماعة مخصوصين للرئاسات ، وتوضيحه في ضمن فصول ثلاثة :
الفصل
الأوّل : في بيان جمل ممّا يدلّ على شيوع هذه
الحالات ، وابتلاء عامّة الناس بها في جميع الاُمم السابقة واللاحقة من زمان آدم عليهالسلام إلى قيام الساعة ،
حتّى أهلعصر
النبيّ صلىاللهعليهوآله ومن
بعدهم ، وذكر كون تلك الحالات من صفات أهل السوء منهم والأشرار دون الأخيار .
الفصل
الثاني : في توضيح شدّة هذا الشيوع في هذه
الاُمّة ، حتّى
__________________
الصحابة ، وبيان وجود
خصوص اُمراء السوء فيهم ، وأئمّة الضلالة والمضلّين ، وأعداء آل محمّد صلّى اللّه
عليهم أجمعين وحسّادهم ، والمنافقين وأشباههم ، وما ورد في ذمّ أهل هذه الحالات
منهم والتابعين لهم .
الفصل
الثالث : في توضيح ما يدلّ على خصوص النهي عن
هذه الحالات ، وأنّ أكثر الفتن والفساد لا سيّما في الدين منها ، وسائر ما يتعلّق
بذلك .
الباب
الثالث : في بيان امتحان اللّه أيضاً عباده
بإمهال أهل الدنيا ، والظالمين والفراعنة وأمثالهم وأتباعهم ، وشدّة رواج الباطل
ورونق سوقه بحيث يشتبه بالحقّ على الجاهل في الوثوق به من غلبة أهله ، وكثرة أبناء
الدنيا وشوكتهم ، وشدّة مصائب أولياء اللّه ، ومتاعب أهل طاعته ، وضعف أهل الآخرة
وابتلائهم ، وكساد الحقّ وبواره بحيث يشتبه بالباطل على الجاهل من ضعف أهله ،
وقلّة أتباعه ، وسقوط اعتباره .
وفي ذكر ما ورد من ذمّ الفرقة الاُولى ،
وشدّة عذابهم ، وعلائم بطلانهم ، ولزوم ترك اتّباعهم ، ومن مدح الاُخرى ، وكونهم
مأمورين بالصبر على البلوى ، وتحمّل الأذى والسلوك مع أبناء الدنيا ، والمداراة مع
أهل الهوى ، وكتمان الحقّ عن الظالمين والأشرار ، وستر العلوم عنهم والأسرار .
وكذا بيان عموم هذه العادة في جميع
الأزمنة من عصر آدم عليهالسلام وما
بعده ، حتّى في هذه الاُمّة ، ولو على سبيل الشدّة والضعف ، وها نحن نوضّح ما
يتعلّق بهذا في ضمن فصول خمسة :
الفصل
الأوّل : في بيان اقتضاء حكمة اللّه ومصلحته
أن يكون لأعدائه ومخالفيه التاركين للحقّ والدين إمهال واستدراج بالغلبة والشوكة ،
والتنعّم في هذه
الدنيا التي هي دار الراحة والتمتّع لهـم ، وبإقبالها إليهم توجّه أهلها وزخارفها
عليهم ؛ ليزدادوا إثماً وتكـون الحُجّة عليهم تماماً ، ويستحقّوابذلك الهلاك ، وشدّة العـذاب ، وفي توضيـح
أنّ ذلك ليس مـن آثار أهـل الخير ، بل هـو من علامة الجهالة والضلالة ، والسخـط مـن
اللّه عزوجل
، وأنّه تعالى نهى عن هذه الحالات وذمّ أهلها ولعنهم وفسّقهم .
الفصل
الثاني : في بيان اقتضاء الحكمة ابتلاء أولياء
اللّه في الدنيا وأهل طاعته المتمسّكين بالحقّ واليقين بالمصائب والمتاعب والخوف
والأذى من الجهّال وأعداء الدين ، وكونهم في أغلب الأوقات مقهورين ، وبين الناس في
أكثر الحالات مستضعفين ، لا سيّما الأنبياء والأوصياء والصالحين ، بحيث كلّما زادت
رُتبة شخص في العُقبى زاد بلاءً وعناءً في الدنيا ، وفيه ذكر نبذ من مناقب هؤلاء ،
وعظيم أجرهم وقربهم عند اللّه عزوجل .
الفصل
الثالث : في بيان قلّة أهل الحقّ والخير
وأصحاب الإيمان واليقين ، وكثرة أصحاب الجهالة والبطالة المائلين إلى خلاف ما عليه
أهل الدين ، (وكون عامّة الناس مع الدنيا وأهلها كيفما قالت وأينما مالت ، بحيث
يتوهّم الجاهل أنّ ذلك هو الحقّ المبين ، بل يعدّ أهل الدين)من الجاهلين ، مع أنّ أصل الكثرة
واجتماع العامّة من علائم البطالة والضلالة ، كما أنّ عكسه علامة الحقّيّة
والهداية .
الفصل
الرابع : في بيان أمـر اللّه عزوجل أولياءه من الأنبياء
__________________
والأوصياء وأتباعهم ،
حتّى نبيّنا محمّد صلىاللهعليهوآله بالصبر
على جفاء الجفاة وأذى العتاة ، والتزام المداراة والتمسّك بالكَظم والتُقاة ، وكتم
الحقّ والعلوم والأسرار عن غير أهلها من الجهلة الأشرار ، وفي ذكر ما ورد في مدح
أهل البيت عليهمالسلام أهل
هذه الحالات ، وكونهم على الحقّ وهم الهداة .
الفصل
الخامس : في بيان أنّ المدار على هذا النوع من
الامتحان وكذا الامتحان الآتي كان في كلّ زمان ، حتّى في هذه الاُمّة ، كما مرّ
أنّهكذلك كانت الامتحانات
المتقدّمة ، وهكذا يكون إلى قيام قائم آل محمّد صلىاللهعليهوآله
، ونذكر فيه ما يدلّ على اقتفاء هذه
الاُمّة الأمم السابقة في كلّ شيء .
الباب
الرابع : في بيان ما امتحن اللّه به أيضاً
عباده بحسب اقتضاء حكمته ومصلحته ، من خلقهم خلقة متفاوتة بحسب الآراء والأفهام ،
متباينة بحسب الأذهان والأحلام ، حتّى أنّه قلّما يقع اتّفاق جميع آراء رجلين ،
بحيث إنّهم لو تركوا وآراءهموما
يدركونهبأفكارهم
وأهوائهملما
اجتمعوا على كلّ حال ، ولا خرجوا عن حدّ التفرّق والاختلاف، ولما خلصوا من العمى والضلال ، فضلاً
عن الاهتداء إلى أحكام اللّه الحكيم المتعال ، وأنّه لأجل هذا حيث أراد اللّه عزوجل أن يجمعهمعلى الهدى ، أنعم عليهم بالأنبياء
والهداة ؛ ليبيّنوا لهم ما هو طريق النجاة ، وما يزيل الشتات من المعارف اليقينيّات
، والأحكام المتقنات المتّفقات النازلات
__________________
عليهم عن اللّه عزوجل ، وأمر سائر الخلق بالتسليم لهؤلاء ،
وأخذ المعارف والأحكام منهم ، ومتابعتهم في جميع الأشياء ، وترك التفرّق والاختلاف
الحاصل من متابعة الظنون والآراء ، مع التصريح بذمّالتفرّق والاختلاف ، وكونه ضلالة من كلّ
فريق وفي كلّ زمان ، الدالّ على أنّ حكم اللّه واحد في أيّ شيء كان ، وفيه أنّ
كلّ اُمّة من الأمم افترقت بعد نبيّها ، حتّى هذه الاُمّة ، وأنّ الحقّ في واحدة ،
وذكر جمل من مذاهبهم ، وتوضيح هذا أيضاً في ضمن خمسة فصول .
الفصل
الأوّل : في بيان عموم تفاوت الآراء في الأنام
، واختلاف الأديان والأفهام ؛ بحيث صار سبب شتات المذاهب والأحكاممن بدو الخلقة إلى آخر الأيّام ، وما
ورد في ذمّ الاختلاف والتفرّق ، لا سيّما في الدين ، وأنّه علامة الهلاكة والضلالة
وطريقة المبطلين ، وأنّه لم يكن جائزاً أبداً في شريعة أحد من المرسلين .
الفصل
الثاني : في بيان أنّ منشأ التفرّق
والاختلافات إنّما هو ما ذكرناه ، مع الوقوع في الشبهات التي هي من خطوات الشيطان
، مثل ما مرّ من متابعة الآباء والأسلاف والهوى والشهوات ، وكالتمسّك في الدين
بالظنّ والتخمين ممّا يدخل تحت الاعتبارات العقلية والاجتهادات الظنّيَّة ، وما
يفيده الرأي والقياس والاستحسانات وأمثال هذه التخيّلات ، التي منها الاعتماد على
ما استقرّ عليه الجمهور ، وصار من القول والفعل المشهور ، بحيث سمّاه الأكثرون
إجماعاً ، وتلقّوه بالقبول ، وإن كان في الأصل بحسب خرص بعض العقول ، وذكر ما يدلّ
على بطلان هذه الأشياء وعدم كونها
__________________
من سنن الأنبياء .
الفصل
الثالث : في بيان أنّ دأب الأنبياء وأتباعهم
إنّما كان التسليم لأمر اللّه وحده وأخذ العلوم والأحكام جميعاً من اللّه تعالى
، (
لَا
يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ).
الفصل
الرابع : في بيان نبذ ممّا ورد في اختلاف
الاُمم السالفة ، وتفرّقها عقب نبيّها من بعد ما جاءهم العلم ، وأنّ فرقة منها
واحدة كانت ناجية والباقون هالكون ، مع بيان شرذمة من مذاهب تلك الفِرَق ، وتوضيح
كون كلّ اختلافها بسبب متابعة الأهواء والآراء .
الفصل
الخامس : في بيان اختلاف هذه الاُمّة أيضاً ،
حتّى من بدء الأمر وأنّ كلّهم هالكون إلاّ فرقة واحدة وأنّها ناجية ، وأنّها طائفة
لا يزالون ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم خذلان من خذلهم ، لا يكفرون ولا يرتدّون إلى
يوم القيامة ، وبهم يتحقّق معنى ما ورد في هذه الاُمّة من أنّها لا تجتمع على
الخطأ والضلال ، مع توضيح أنّ أهل البيت عليهمالسلام منها
، بل إنّهم أساسها ، مع بيان نبذ من وجوه تشبّه هؤلاء بسابقيهم زيناً وشيناً ،
وذكر جمّة من مذاهب هذه الاُمّة ، لا سيّما في الأئمّة ، وأنّ أصل سبب هذه المفاسد
كلّها متابعة الأهواء والآراء ، وتوضيح ما تختصّ به الإماميّة الاثنا عشرية من
الاقتصار على التمسّك بما ورد عن اللّه عزوجل
، وترك الاعتماد على ما سوى ذلك أيّ شيء كان .
الباب
الخامس : في بيان ما فيه نوع امتحان أيضاً
ممّا خصّ اللّه به هذه الاُمّة ، وهو أنّ اللّه عزوجل
لمّا فضّل حبيبه محمّداً صلىاللهعليهوآله على
جميع
__________________
النبيّين والمرسلين
وأرسله رحمةً للعالمين ، وأراد أن يكون دينه ناسخاً لسائر الأديان وباقياً إلى يوم
الدين ، رفع بفضل إحسانه عن اُمّته عذاب الاستئصال الذي كان قد يصيب الاُمم الماضين
، وأنّه لمّا كان ذلك مقتضياً لعدم تصريحه بطائفة من أوامره العظام التي كان يعلم
أنّه إن صرّح بها وحصلت المخالفة ولو من بعضهم ، استوجبوا عذاب الاستئصال الذي لم
يكن يريده لهم ، جعل في بيان تلك الأوامر نوع إجمال ، وذكرها على سبيل التعريض دون
مُرّ التصريح ، موضّحاً لها لأولي البصائر بالقرائن الظواهر ، وجعل سبب بقاء من
خالف فيها ولو مع التعريض وجود الطائفة المحقّة التي تلقّوها بالقبول ، الذي به
يتحقّق معنى ما ورد في هذه الاُمّة من عدم اجتماعهم على الخطأ والضلال ، كما
حقّقناه ، وفيه ذكر أنّ أمر إمامة عليّ بن أبي طالب عليهالسلام من
هذا القبيل .
وأمّا
المقصد الأوّل : ففي بيان تفصيل
أجزاء الدليل المذكور ، وما يتّضح به كلّ واحد منها ، وفيه اثنتا عشرة مقالة :
المقالة
الاُولى : في بيان ما هو المسلّم الثابت عند
كلّ مسلم من وجوب عبادة اللّه وطاعته بنحو ما كلّف بذلك ، وأنّه هو الأصل في
إرسال الرسل ودعوة الاُمم .
المقالة
الثانية : في بيان ما يلزم من سابقه من وجوب
معرفة طريق التعبّد ، ولزوم تعلّم أوامر اللّه ونواهيه ، وذكر جملة من تلك
الأشياء التي لابدّ من معرفتها وتعلّمها .
المقالة
الثالثة : في بيان ما يلزم أيضاً من السابق
عليه من وجوب
التعليم ، ولزوم وجود
المعلّم المُرشد إلى تلك الأشياء التي وقع التكليف بها ، ولزوم تعلّمها ما دام
التكليف ووجوب التعلّم .
المقالة
الرابعة : في بيان ما هو من لوازم سابقه أيضاً
من لزوم كون المعلّم عالماً بما يحتاج إليه المتعلّم وكلّف به على ما هو عليه عند
اللّه ، علمـاً بيّناً ثابتاً غيـر متزلزل لا يتطرّق إليه الغلـط ولا يحتمـل
الخطأ والاشتباه .
المقالة
الخامسة : في بيان ما هو من اللوازم أيضاً من
لزوم كون المعلّم صدوقاً بيّن الصدق ، موثوقاً به في جميع الأقوال والأفعال ، غير
مقدوح بالكذب في حال من الأحوال ، وبالجملة يكون معصوماً من الخطأ والخلل والعثار
والزلل .
المقالة
السادسة : في بيان ما هو أيضاً من اللوازم من
لزوم كون أصل التعليم في كلّ شيء اُصولاً وفروعاً وغيرهما من اللّه عزوجل ولو بالواسطة الثابتة وساطته ؛ ضرورة
أنّ ما في علم اللّه لا يعلم إلاّ بإعلامه .
المقالة
السابعة : في بيان ما هو أيضاً مثل ما سبق عليه
في اللزوم والوضوح من أنّ اللّه عزوجل
بيّن وعلّم لإتمام الحُجَّة جميع ما يحتاج إليه المكلّفون ؛ بحيث لا يشذّ منه شيء
، و(أنّ ذلك)إنّما
هو بوساطة ما هو ثابت الوساطة من الواسطتين الآتيتين ، يعني رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وكتابه
.
المقالة
الثامنة : في بيان ما هو كالسابق أيضاً من كون
القرآن ورسول اللّه صلىاللهعليهوآله واسطتين
ثابتتين ، وحجّتين قائمتين ، ومعلّمين متعيّنين من
__________________
طرف اللّه عزوجل ، وأنّ الواجب الرجوع إليهما أبداً
والأخذ منهما مطلقاً ، وترك ما لم يكن منهما رأساً ما لم يثبت كونه حُجّةً من
اللّه أيضاً .
المقالة
التاسعة : في بيان ما هو بيّن اللزوم أيضاً من
سابقه من أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله حيث
كان قيّماً للقرآن الذي هو شريكه ودليله والمنزل عليه ، وعالماً بجميع ما فيه
تأويلاً وتفسيراً ، كان هو المعلّم الحقيقي من اللّه عزوجل قطعاً ، وحجّة على الاُمّة قاطبة ،
ومفروض الطاعة عليهم كافّة بنصّ من اللّه تعالى في كلّ شيء لا يجوز لهم مخالفته
ولا التمسّك بما لم يكن منه ، بل يجب عليهم الرجوع في كلّ شيء إليه ، والتسليم له
، وأخذ ما احتاجوا إليه منه ولو بالواسطة الثابتة وساطته ، وأنّه لأجل هذا جعله
اللّه حاكماً أيضاً ؛ حيث أعطاه الحكم والنبوّة جميعاً .
المقالة
العاشرة : في بيان ما هو أيضاً نظير ما سبق
عليه من أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله حيث
كان بتلك المثابة التي تبيّنت كان عالماً من اللّه ، بيّن العلم بجميع الأشياء
يقيناً ، بحيث لم يعجز عن سؤال أصلاً ، ولم يكن في حكمه اختلاف ولا خطأ أبداً ؛ إذ
لم يحتج إلى شيء من شقوق الاجتهاد بالرأي رأساً ، وكان أيضاً صدوقاً ثابت الصدق مسلّم
التوثيق ، معصوماً عن الخطأ والزلل ، متعيّناً من اللّه عزوجل ، فائق الكمالات من جميع الجهات ،
مبلّغاً عن اللّه ما لابدّ منه ويحتاج إليه بلا مسامحة ولا إهمال ؛ ولهذا كان
بحيث لا قدح فيه ، ولا نقص يعتريه ، ونذكر نبذاً من مناقبه حسباً ونسباً وعلماً
وعملاً .
المقالة
الحادية عشرة : في بيان ما هو
أيضاً كالسابق عليه من أنّ
النبيّ صلىاللهعليهوآله مع
ثبوت عدم تقصيره في التبليغ لمّا لم يبق طولمدّة
التكليف ، ولم يبيّن للناس جميع ما يحتاجون إليه تلك المدّة مع أنّ القرآن لا يظهر
منه غير قليل من الأحكام ، ولم يجز للناس إلاّ الأخذ من المعلَّم من اللّه تعالى
فقط ، ظهر أن لابدّ له من نائب بعدهفي
كلّ عصر إلى آخر الدهر يقوم مقامه في هذا الأمر ، ويكون إماماً لسائر الاُمّة
مفروض الطاعة عليهم (ولو رجلاً بعد رجل ، متصفاً)مثل النبيّ صلىاللهعليهوآله بجميع
ما مرّلزومه من صفات
المعلّم من اللّه ، لاسيّما العلم والصدق المعهودين ، والتعيين بنصّمن اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله .
وبالجملة : لابدّ من تشاركهما فيما سوى
مُختصّات النبوّة ، كنزول الوحي ، ورؤية الملك ، ونحو ذلك ، وكون علم النائب
بواسطة الرسول صلىاللهعليهوآله .
المقالة
الثانية عشرة : في بيان أنّ مثل
هذا النائب الذي ذكرناه ووصفناه منحصر في عليّ بن أبي طالب ، وذرّيّته الأئمّة
الأحد عشر المعلومين صلوات اللّه عليهم أجمعين .
وها نحن نوضّح ذلك في ضمن اثني عشر
فصلاً :
الفصل
الأوّل : في بيان أعلميّتهم عليهمالسلام من كلّ باب ،
وإحاطتهم بعلم الكتاب ، وكون كلّ واحد منهم أعلم أهل عصره من جميع الجهات بطريق
علوم النبيّ صلىاللهعليهوآله ووساطته
دون التمسّك بالرأي والاجتهاد ، وفيه ذكر وجوه
__________________
علومهم عليهمالسلام .
الفصل
الثاني : في بيان كونهم أعلم وأعبد وأصلح
وأزهد وأورع وأتقى وأصدق وأعدل وأوثق وأسخى وأشجع من كلّ جهة ، مسلّمين في ذلك ،
فائقين على غيرهم بذلك ، بحيث يستفاد منه عصمتهم ، وفيه بيان نبذ من أدّلة عصمتهم عليهمالسلام .
الفصل
الثالث : في بيان تشابههم أيضاً بالنبيّ صلىاللهعليهوآله ومعظم
الأنبياء والأوصياء والصدّيقين والأولياء في سائر الصفات من الأخلاق والأطوار ،
ومحاسن السجيّات والتقيّة ، والصبر والكتمان والمداراة ، وأمثال هذه الحالات ،
حتّى صدور المعجزات والكرامات ، والإخبار بالمغيّبات ، وكون بعضهم من ذرّيّة بعضٍ
من غير مدخليّة أجنبيٍّ .
الفصل
الرابع : في بيان نبذ من حقوقهم على المسلمين
، وخدماتهم ، لاسيّما عليّ عليهالسلام ،
للّه ولرسوله صلىاللهعليهوآله ،
وفي ترويج الدين ، وورود المدح والبشرى ، ووفور المحبة والرضا من اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله فيهم
، وتصدّي النبيّ صلىاللهعليهوآله بنفسه
لتربيتهم ، ونهاية حمايته ورعايته لهم ، وإيجاب اللّه لهمعلى الخلق مودّتهم ، حتّى جعل ذلك أجر
حقوق رسوله صلىاللهعليهوآله ،
وتصريح النبيّ صلىاللهعليهوآله بأنّهم
بمنزلة نفسه ، ومخلوقونمعه
من نور واحد ، وطينة واحدة ، وأنّ حربهم حربه ، وسلمهم سلمه ، وأذاهم أذاه ،
وأمثال ذلك ممّا لا يبقى به شكّ ولا شُبهة في أنّ بينهم وبين (غيرهم من)الأصحاب بل
__________________
الأقرباء والأحباب
كان بوناً بعيداً ، حتّى أنّ هذا كان أصل ما حسدهم الحاسدون ، وأبغضهم المبغضونالمنافقون ، وآذاهم المعاندون ، بحيث
كثرت أعداؤهم في الآفاق ، وستر خصائص أحوالهم أهل النفاق ، ووشوا بهم إلى كلّ شانئ
لهم وظالمهم ، حتّى انجرّ إلى حبسهم وقتلهم ، واستلزم غيبة آخرهم وقائمهم ، وفيه
ذكر نبذ ممّا ورد في ذمّ أعدائهم ، ومدح شيعتهم وأوليائهم ، مع تحقيق معنى الشيعة
.
الفصل
الخامس : في بيان جملة من سائر مناقبهم
ومزاياهم على غيرهم التي تنادي باختصاصهم عند اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله بما
ليس لمن سواهم ، بحيث اتّفق الخلق على عظم شأنهم ، وعلوّ مقامهم ، حتّى أنّه صرّح
جمع من أهل الخلاف عليهم بكونهم صالحين للخلافة ، بل كونهم أصلح وأولى من غيرهم .
ونحن نذكر في هذا المقام أوّلاً نخبة من
سائر الفضائل المتعلّقة بهم ممّا ورد فيهم على سبيل الإطلاق ، ثمّ نذكر نبذاً من
أحوال واحد واحد منهم حسباً ونسباً إلى القائم عليهمالسلام .
وفي هذا المقام أيضاً نذكر جملة من
فضائل فاطمة عليهاالسلام وخديجة
رضي اللّه عنها ، وكذا مناقب أبي طالب رحمهالله ،
وخدماته للإسلام ، وحمايته للرسول صلىاللهعليهوآله ،
بل مع إثباتإسلامه
واقعاً و إن لم يعلن به للمصلحة الشرعية ، مع شيء من مناقب الأخيار من بني هاشم
رجالاً ونساءً ، حتّى يتبيّن كمال جلالة حال هؤلاء الأجلّة ، أعني : النبيّ صلىاللهعليهوآله والأئمّة
المذكورين
__________________
صلوات اللّه عليهم
أجمعين من كلّ جهة .
الفصل
السادس : في بيان ما ورد في خصوص كونهم أوصياء
، وأنّ عليّاً عليهالسلام وصيّ
رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ،
وكلّ متأخّر وصيّ المتقدّم ، وأنّ الوصيّة إنّما تكون للمنصوب من اللّه للنيابة
والخلافة وتوديع مواريث الأنبياء ، كما كان ذلك سيرة الأنبياء السابقين ، وذكر ما
ورد في وصاية الأنبياء السابقين ، ووصيّة كلٍّ من هؤلاء المذكورين وما يتعلّق بذلك.
الفصل
السابع : في بيان ما ورد في خصوص لزوم التمسّك
بأهل البيت والعترة ونحو ذلك ، كحديث الثقلين ، وأنّ الحقّ معهما ، وهما مع الحقّ
أبداً ، وأمثالهما ، وأنّ المراد بالعترة هؤلاء الأجلّة ، بحيث يدلّ على نيابتهم
وإمامتهم .
الفصل
الثامن : في بيان سائر الروايات التي هي نصوص
الإمامة لهم ، وإن كان مورد بعضها بعضهم ، بل وإن كان بعضها على غير سبيل التصريح
في الدلالة ؛ لتبيان الحال عند ملاحظة بعضها مع بعض .
الفصل
التاسع : في بيان الآيات التي يستدلّ بها على
إمامتهم ، وإن كان سبب النزول في بعضٍ منها شيئاً آخَر أو بعضاً منهم ، بل ولو لم
تكن نصّاً صريحاً ؛ لما مرّ في الفصل السابق .
الفصل
العاشر : في بيان ما وجدناه من سائر المنقولات
المتفرّقة ، والبراهين العقليّة ، والقرائن والأمارات وأمثالها ، ممّا يستفاد منه
إمامة هؤلاء الأجلّة كلّهم ، أو خصوص بعض منهم ولو من غير التصريح بذلك .
الفصل
الحادي عشر : في بيان ما ورد في
خصوص أنّ الأوصياء
__________________
والأئمّة والخلفاء في
هذه الاُمّة اثنا عشر وبعدد نقباء بني إسرائيل ونحو ذلك ، وأنّ أمر الناس لا ينقضي
حتّى يمضي فيهم اثنا عشر أميراً ووالياً ، وأنّهم من قريش ، بل من ولد الحسين عليهالسلام ، وأنّ آخرهم قائمهم
عجّل اللّه فرجه ، وأمثال ذلك ممّا يدلّ على أنّ المراد هؤلاء الأجلّة ، حتّى
أنّه يظهر من بعضها التصريح بأسمائهم وألقابهم .
ثمّ نذكر هاهنا بعض ما ورد في المهديّ
الموعود وكيفيّة خروجه وما يتعلّق بذلك ، وتحقيق كونه هو القائم الثاني عشر ، سوى
ما مرّ من بعض أحواله في الفصل الخامس .
ثمّ نذكر أيضاً ما ورد في وجود اثني عشر
إماماً أيضاً مضلّين ، وأنّ الأئمّة نوعان : داعٍ إلى اللّه ، وداعٍ إلى النار .
الفصل
الثاني عشر : في بيان أنّ هؤلاء
الاثني عشر كلّهم ادّعوا أنّ هذا الأمر لهم ، ومختٌّص بهم من دون مشاركة أحد معهم
، وأنّ ذلك بما مرّ من النصّ والتعيين من اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ـ
الذي ثبت لزوم وجوده في النائب الإمام ـ مع كونهم غير مقدوحين في شيء ، لاسيّما
الكذب عند جميع الفِرَق ، بل مع ظهور تحقّق الشرائط والكمالات التي ذكرناها فيهم ،
وثبوت كمال علمهم ، وورعهم ، وحسن حالهم ، وصدق مقالهم عند كلّ أحد ، وانتفاء
مدّعٍ للنصّ ، والتعيينالمذكور
في حقّغيرهم ، بل كون
الاُمّة معترفة بعدم صدور النصّ لغيرهم ، حتّى أنّه ما ادّعى أحد غيرهم اجتماع
سائر الشرائط والكمالات فيه ، بل لم توجد أيضاً فيمن سواهم .
__________________
وأمّا
المقصد الثاني : ففي بيان ما تشبّث
به الذين قالوا بخلافة من تقدّم على عليّ عليهالسلام ،
والمقالات التي بينهم وبين الشيعة الإماميّة ، وتوضيح الحقّ في جميع ذلك ، وفيه
أيضاً اثنتا عشرة مقالة :
المقالة
الاُولى : في بيان ما هو من أعظم ما تشبّثوا به
، أعني : قولهم بكون إجماع الاُمّة حجّة في الأمر الذي ينعقد عليه كائناً ذلك
الأمر ما كان ، وتحقيق الحقّ في ذلك .
المقالة
الثانية : في بيان ما هو كذلك أيضاً من قولهم
بصحّة التعبّد في الاجتهادفي
استنباط الأحكام على وفق مقتضى الرأي والقياس والاستحسان وأمثالها من الاُمور
الاعتباريّة ، والمستندات العقليّة الظنّيّة ، وتوضيح توهّمهم فيه .
المقالة
الثالثة : في بيان ما هو كذلك أيضاً من قولهم
بأنّ الإمامة تصحّ أن تكون باختيار الرعية ، أو الإمام السابق من غير حاجة إلى
التعيين من اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ،
وتوضيح توهّمهم فيه .
المقالة
الرابعة : في بيان كيفيّة قضيّةسقيفة بني ساعدة ، وما يتعلّق بذلك .
المقالة
الخامسة : في بيان ما هو من أعظم ما تشبّثوا به
أيضاً ، أعني : دعواهم تحقّق الإجماع على بيعة السقيفة ، وعدم تحقّق تخالفٍ ولا
تنازعٍ في تلك البيعة ، لاسيّما من علي عليهالسلام ،
وذكر توجيههم ما نقل من المخالفة ، وتحقيق توهّمهم في جميع ذلك .
__________________
المقالة
السادسة : في بيان ما تشبّثوا به أيضاً من
تعديل الصحابة ، ودعوى لزوم الحكم بُحسن حالهم وعدم جواز التعرّض لهم بما يشينهم ،
بل لا بدّ من التوجيه أو السكوت ، لاسيّما البَدريّين وأهل بيعة الرضوان ، وتحقيق
توهّمهم في جميع ذلك .
المقالة
السابعة : في بيان تشبّثهم بالقول بأنّ قصد
الصحابة فيما صدر منهم ـ لاسيّما في السقيفة ـ لم يكن إلاّ ملاحظة جانب اللّه عزوجل دون ما تقوّله الشيعة من المنافسات
الدنيوية كحبّ الرئاسة والجاه ، والتحاسد ، والتباغض المكنونة بينهم على الخصوص مع
علي عليهالسلام ،
ونحو ذلك ، وتحقيق توهّمهم في ذلك .
المقالة
الثامنة : في بيان تشبّثهم بما نقلوا من حسن
سلوك عليّ عليهالسلام وخواصّه
مع من تقدّم عليه وحضوره جماعتهم ودخوله معهم في اُمور الناس ومشاوراتهم ، وأمثال
ذلك ممّا ظاهره الرضا منهم وحسن الاعتقاد بهم ، وتحقيق توهّمهم في ذلك أيضاً .
المقالة
التاسعة : في بيان ما تشبّثوا به أيضاً من
إنكارهم على الشيعة القول بالتقيّة والكتمان ، وسائر ما ذكروا صدوره عن أئمّتهم من
لوازم المداراة ، وإطفاء الفتن ، ونحو ذلك ، وتحقيق الحقّ فيه .
المقالة
العاشرة : في بيان ما تشبّثوا بـه أيضاً مـن
دعوى كون أحاديث الشيعة موضوعة على أئمّتهم ، مع ذكر ما ينادي بأنّ الأمر بالعكس ،
وتحقيق حال ما روي من الأحاديث ، وما ينبغي أن يكون الاعتماد عليه منها .
المقالة
الحادية عشرة : في بيان تشبّثهم
أيضاً بدعوى كون مذهب
الشيعة مستحدَثاً ،
وأنّهم من أهل البدعة والضلالة ، وعداوة الصحابة ، والجهالة ، والحمق ، والسفَه، والغُلوّ ، والفرية على أئمّتهم حتّى
سمّوهم رافضة ، وتحقيق كون جميع ذلك فريةً وتعصّباً محضاً ، بل في مخالفيهمروائح النصب والعدواة لأهل البيت عليهالسلام وإن كانوا لا يشعرون
.
المقالة
الثانية عشرة : في بيان جمل ممّا
ترتّب على بيعة السقيفة ، وعدم تسليم الأمر إلى عليّ عليهالسلام من
المفاسد العظيمة المخلّة بالدين ، الدالّة على أنّ صلاح الاُمّة لم يكن في تلك
البيعة .
وأمّا
الخاتمة ففيها فصلان :
الفصل
الأوّل : في بيان سائر ما تشبّث به القائلون
بخلافة من تقدّم على عليّ عليهالسلام من
الآيات والروايات وغيرها ، التي زعموها نافعة لهم في ذلك مع توضيح أنّها ليست كذلك
.
الفصل
الثاني : في بيان نبذ ممّا نقله (القوم)الذين قالوا بخلافة من تقدّم على عليّ عليهالسلام في خلفائهم وكبرائهم
من قبائح الأفعال والأقوال والأعمال ، ورذائل الصفات والأحوال والخصال ، وما نقلوه
أيضاً من المقالات والآيات والروايات التي تدلّ على ضلالهم في مذهبهم ، وعلى عدم
كون خلفائهم أهلاً لما ادّعاه القوم لهم ، ولا كونهم بالحالة التي زعمها الناس
فيهم .
__________________
وأمّا
الختام : ففي بيان جملة من الأشياء المتفرّقة
التي ذكرها المخالفون في كتبهم ، وغفلوا عمّا فيها من الدلالة على خلاف ما هم عليه
، لاسيّما الأغلاط التي صدرت ، والجهالات التي ظهرت ، والاعترافات التي وقعت ،
وقلّة المبالاة التي حصلت ، والمكامن التي برزت ، وسائر ما هو من هذا القبيل ممّا
لم يسبق منّا ذكر له بسببٍ ، أو لعدم التقريب ، أو سبق لكن من غير إتمام .
وبالجملة : هذا الختام مجمع ومخزن لجميع
ما سبق عليه من الكلام ، وبه نختم الكتاب،
واللّه الهادي ، ولنشرع الآن تفصيل ما في الفهرست ، فنقول وباللّه التّوفيق .
* * *
__________________
أمـا المقـدّمة
ففي
بيان (جريان عادة اللّه بامتحان العباد ، وذكر) نبذ من أعاظم ما
امتحن اللّه به الخلائق في هذه الدنيا ممّا لبيانه مدخل في توضيح جمّة من مقدّمات
دليلنا هذا ، بل سائر الأدلّة أيضاً ؛ بحيث كان كلّ واحد كالمبادئ لها ، وكذا في
كشف كثير من الشبه التي أوهمت جمهور المخالفين ، بحيث منعتهم عن فهم ما هو الحقّ ،
وقبول مفاد الأدلّة ، بل عن التوجه إليها ،
كما سيظهر ممّا سيأتي في المقصد الثاني .
وذلك لأنّ حكمة اللّه عزوجل اقتضت ، ومصلحته دعت
إلى أن يمتحن خلقه المكلّفين بالدين ببعض أنواع الامتحان ، وأصناف الابتلاء
والاختبار ليتميّز به الأخيار والأشرار ، ويكون في ذلك زيادة أجر المطيع ، وإتمام
حجّة على العاصي ، وقد خفي ذلك على كثير من الناس ، فوقعوا بسبب ذلك في غفلات
وشبهات ، فلابُدّ من تبيين ذلك أوّلاً ، وهو في ضمن تبيان ، وخمسة أبواب :
أمّا
التبيان : ففي توضيح أنّ اللّه عزوجل لم يخلق هذا الخلق
عبثاً ، ولم يتركهم سدىً ، بل فطرهم على معرفته ، وخلقهم لأجل
__________________
طاعته
ـ كما سيأتي في المقالة الاُولى ـ حتّى أنّه سبحانه لم يكتف من عباده بمحض دعوى
الإيمان ، بل امتحن كلاًّ منهم بأنواع الاختبار والامتحان من بدو الخلقة إلى آخر
الزمان ، وأنّ من ذلك أهل زمان سيّد الإنس والجانّ ، وفيه بعض ما يدلّ صريحاً على
كون حكاية إمامة عليّ عليهالسلام من أعظم ما وقع به
الامتحان .
اعلم
أنّ هذا ـ أي أصل وقوع الامتحان ، وعدم
إيجاد الناس عبثاً ـ مع كونه واضحاً في نفسه ـ من حيث حكم العقل السليم بقُبح صدور
العبث من العليم الحكيم ، ومن جهة تحقّق الإجماع بحسب التجربات الحاصلة ممّا رُؤي
في الأصقاع وطرق الأسماع ، وما وصل إلينا من أحوال القرون السالفة والاُمم السابقة
ـ ينادي به صريح الكتاب والسُّنّة :
قال اللّه تعالى : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ
عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ).
وقال عزوجل
: (
أَيَحْسَبُ
الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ).
وقال عزوجل
:(
أَحَسِبَ
النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ *
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ).
وقال تبارك وتعالى : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا
وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ
دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ ).
__________________
وقال سبحانه وتعالى : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا
الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ
مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا )الآية
.
وقال عزّ من قائل : ( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ
الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ).
وقال عزوجل
: (
وَلِيَبْتَلِيَ
اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ).
وقال سُبحانه : ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ
الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا
آتَاكُمْ ).
وقال تعالى : ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ).
وقال عزوجل
: (
وَنَبْلُوكُمْ
بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ).
وقال سبحانه : ( أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ
فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ).
وقال جلّ وعلا : ( وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ
فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ).
__________________
وقال تبارك وتعالى : ( وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ
مِنْهُمْ وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ).
وقال جلّ جلاله : (
إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ).
وقال سُبحانه في قصّة قومموسى عليهالسلام مخاطباً
له : (
قَدْ
فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ) إلى قوله : ( يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ ).
وأمثال هذه الآيات العديدة ، وسيأتي بعضها
فيما بعد إن شاء اللّه تعالى ، ولنبيّن ما في بعض هذه :
قال بعض المفسّرين في قوله تعالى : ( وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ )أي
: يظنّ الناس أن يقنع منهم بأن يقولوا : إنّا مؤمنون فقط ، ويقتصر منهم على هذا
القدر ، ولا يمتحنون بما يتبيّن به حقيقة إيمانهم ، هذا لا يكون.
وقال بعضهم : يعني أنّ مجرّد الإعلان
والإقرار بالتوحيد والنبوّة وإظهار الإسلام لا يكفي ، بل لابدّ من اختبارهم من
جهات عديدة يظهر منها الصادق من الكاذب.
قال الصادق عليهالسلام ـ كما في تفسير
العيّاشي ـ : «واللّه لتمحّصنّ ، واللّه لتميّزن ، واللّه لتغربلنّ ، حتّى لا
يبقى منكم إلاّ الأندر » قال الراوي ، قلت : وما الأندر ؟
قال : «البيدر ، وهو أن يدخل الرجل بيته
الطعام يطيّن عليه ، ثمّ
__________________
يخرجه وقد تأكّل بعضه
، فلا يزال يُنقّيه ، ثمّ يكنّ عليه ، ثمّ يخرجه ، حتّى يفعل ذلك ثلاث مرّات ، حتّى
يبقى ما لا يضرّه شيء».
وفي رواية الكُليني عن معمّر بن خلاّد، قال : سمعت أبا الحسن عليهالسلام يقول : «( الم * أَحَسِبَ النَّاسُ ) إلى « (
وَهُمْ
لَا يُفْتَنُونَ )
» ، ثمّ قال لي : «ما
الفتنة ؟» قلت : إنّ الذين عندنا يقولون : الفتنة في الدين ، فقال : «نعم يفتنون
كما يفتن الذهب » ثمّ قال : «يخلّصون كما يخلّص الذهب».
أقول
: يظهر من الخبرين وغيرهما أنّ الامتحان
يكون في كلّ عصر وزمان ، حتّى في أهل الفرقة المحقّة ، كما في نهج البلاغة عن عليّ
عليهالسلام أنّه
قال : «ولتساطنّ سوط القِدر ، حتّى يعود أسفلكم أعلاكم ، وأعلاكم أسفلكم».
وفي كلام له عليهالسلام أيضاً ، قاله لمّا
بويع بعد قتلعثمان: «ألا إنّ
__________________
بليّتكم قد عادت
كهيئتها يوم بعث اللّه نبيه صلىاللهعليهوآله ،
والذي بعثه بالحقّ لتبلبلنّ بلبلة ، ولتغربلنّ غَربلة ، حتّى يعود أسفلكم أعلاكم»الخبر .
وأيضاً قال المفسّرون في قوله تعالى : ( وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي
صُدُورِكُمْ )، أي : ليختبر ما فيها بأعمالكم ؛ لأنّه
قد علمه غيباً فيعلمه شهادةً ؛ لأنّ المجازاة إنّما تقع على ما يعلمه مشاهدة.
وقيل : معناه ليعاملكم معاملة المختبرين
، (
وَلِيُمَحِّصَ
مَا فِي قُلُوبِكُمْ )، أي : ليكشفه ويميّزه.
وقالوا في قوله تعالى : ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً )الآية
، يعني : لا تقربوها فتصيبكم.
فقيل : هي البليّة التي يظهر باطن أمر
الإنسان فيها،
وإنّ منها : حكاية السقيفة.
وقيل : منها حكاية الجمل ، حتّى نقل أنّ
الزبيرقال : لقد قرأنا
__________________
هذه الآية زماناً ،
فإذا نحن المعنيّون بها فخالفنا حتّى أصابتنا خاصّة.
وقيل : هي الضلالة ، وافتراق الكلمة ،
ومخالفة بعضهم بعضاً.
وقيل : هي الهرج الذي يركب الناس فيه
الظلم ، ويدخل ضرره على كلّ أحد.
ثمّ إنّهم اختلفوا في إصابة هذه الفتنة
على قولين :
أحدهما : أنّها تصيب على العموم الظالم
وغيره ، أمّا الظالم فمعذّب ، وأمّا غيره فممتحن ممحَّص .
والآخَر : أنّها تخصّ الظالم خاصة، فافهم .
وقالوا في قوله تعالى : ( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ
فِتْنَةً )، أي: نعاملكـم معاملة المختبر بالفقر
والغنى ، وبالضرّاء والسرّاء ، وبالشدّة والرخاء ، وبالمرض والصحّة ، ونحو ذلك (
فِتْنَةً )
، أي : اختباراً وابتلاءً وشدّة تعبّد.
__________________
وقالوا في قوله تعالى : ( يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ )،
أي : يبتلون بأصناف البليّات ، أو بالجهاد مع النبيّ صلىاللهعليهوآله
فيعاينون ما يظهر من الآيات ويتميّز
المطيع من المعاصي.
وفي قوله تعالى : ( قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ )،
أي : امتحنّاهم وشدّدنا عليهم التكليف بما حدث فيهم من أمر العجل ، فألزمناهم عند
ذلك النظر ؛ ليعلموا أنّه ليس بإلهٍ ، فأضاف الضلال إلى السامري والفتنة إلى نفسه، فتأمّل.
وفي بعض خطب عليّ عليهالسلام : «إنّ اللّه عزوجل يختبر عبيده بأنواع الشدائد ،
ويتعبّدهم بألوان المجاهدة ، ويبتليهم بضروب المكاره ؛ إخراجاً للتكبّر من قلوبهم
، وإسكاناً للتذلّل في أنفسهم ، وليجعل ذلك أبواباً إلى فضله ، وأسباباً لعفوه، وفتنة ، كما قال سبحانه : ( الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا
وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ )
» ، الآية .
وأوّل الخطبة كذا : إنّ اللّه عزوجل «لو أراد بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح
لهم كنوز الذهبان ، ومعادن البلدان،
ومغارس الجنان ، وأن يحشر
__________________
طير السماء ووحش
الأرض معهم ، لفعل ، ولو فعل لسقط البلاء وبطل الجزاء ، واضمحلّ الابتلاء ـ إلى أن
قال عليهالسلام ـ
:
ولو كانت الأنبياء أهل قوّة لا ترام ، وعزّةٍ
لا تضام ، ومُلك يمدّ نحوه أعناق الرجال ، ويشدّ إليه عقد الرحال لكان أهون على
الخلق في الاختبار ، وأبعد لهم في الاستكبار ، ولآمنوا عن رغبة قاهرة لهم أو رهبة
مائلة بهم فكانت النيّات مشتركةً ، والحسنات مقتسمة . ولكنّ اللّه أراد أن يكون
الاتّباع لرسله ، والتصديق بكتبه ، [ . . .] والاستكانة لأمره ، والاستسلام إليه
اُموراً [له]
خاصّة لا تشوبها من غيرها شائبة ، وكلّما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة
والجزاء أجزل .
ألا ترون أنّ اللّه عزوجل اختبر الأوّلين من لدن آدم صلوات
اللّه عليه إلى الآخرين من هذا العالم بأحجارٍ لا تضرّ ولا تنفع ، ولا تبصر ولا
تسمع ، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً .
ثمّ جعله بأوعر بقاع الأرض حجراً ،
وأقلّ مواقعالدنيا
مدراً ، وأضيقِ بطون الأودية معاشاً بين جبال خشنة ورمال دمثةٍ [ . . .] وقرىً
منقطعة [ . . .] .
ثمّ أمر آدم عليهالسلام وولده أن يثنوا
أعطافهم نحوه ، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم ، وغايةً لملقى رحالهم ، تهوي إليه ثمار
الأفئدة من مفاوز قفار متّصلة ، وجزائر بحار منقطعة ، ومهاوي فجاج عميقة ، حتّى
يهزّوا مناكبهم ذلـلاً [يهلّلون]للّه
حوله ، ويرملونَ على أقدامهم شُعثاً غُبراً لـه ، ابتلاءً
__________________
عظيماً ، واختباراً
كبيراً ، وامتحاناً شديداً ، وتمحيصاً بليغاً ، وفتوناًمبيناً ، جعله اللّه سبباً لرحمته ،
[ووصلة ووسيلة إلى جنّته]
وعلّة لمغفرته ، وابتلاءً للخلق برحمته ، ولو كان اللّه تعالى وضع بيته الحرام
ومشاعره العظام بين جنّات وأنهار ، وسهل وقرار ، جمّ الأشجار ، داني الثمار ،
ملتفّ النبات ، متّصل القرى [ . . . [لكان قد صغر الجزاء على حسب ضعـف البلاء .
ثمّ لو كان الأساس المحمول عليها ،
والأحجار المرفوع بها ، بين زمرّدة خضراء ، وياقوتة حمراء ، ونور وضياء ، لخفّف
ذلك مصارعة الشكّ في الصدور ، ولوضع مجاهدة إبليس عن القُلوب ، ولنفى مُعتلج الريب
من الناس ، ولكنّ اللّه عزوجل
يختبر عبيده بأنواع الشدائد ، ويتعبّدهم بألوان المجاهدة ، ويبتليهم بضروب المكاره
إخراجاً للتكبّر من قلوبهم وإسكاناً للتذلّل في أنفسهم وليجعل ذلك [ . . .]
أسباباً لعفوه».
وفي نهج البلاغة : قام إلى عليّ عليهالسلام رجل ، فقال : يا أمير
المؤمنين ، أخبرنا عن الفتنة ، وهل سألت رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
عنها ؟
فقال عليهالسلام :
«لمّا نزل قوله تعالى : (
الم
* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا )الآية ، علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا
ورسول اللّه صلىاللهعليهوآله بين
أظهرنا ،
__________________
فقلت : يا رسول
اللّه ، ما هذه الفتنة التي أخبرك اللّه بها ؟ فقال : يا عليّ ، إنّ اُمّتي
سيفتنون من بعدي» إلى أن قال : «وقال صلىاللهعليهوآله
: سيفتنون بأموالهم ، ويمنّون بدينهم
على ربّهم ، ويتمنّون رحمته ، ويأمنون سطوته ، ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة
والأهواء السايبة،
فيستحلّون الخمر بالنبيذ ، والسحت بالهدية ، والربا بالبيع»الخبر .
وفي تفسير الكلبي قال : لمّا نـزل قوله
تعالى : (
وْ
يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا )قام النبيّ صلىاللهعليهوآله فتوضّأ
فصلّى فسأل اللّه سُبحانه أن لا يبعث على اُمّته عذاباً من فوقهم ، أو من تحت
أرجلهم ، ولا يلبسهم شيعاً ، ولا يذيق بعضهم بأس بعض ، فنزل جبرئيل عليهالسلام ولم يجرهم من
الخصلتين الأخيرتين فنزل (
الم
* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا )
الآيتين ، فقال جبرئيل : لابدّ من فتنة تبتلي بها الاُمّة بعد نبيّها ليتبيّن
الصادق من الكاذب.
الخبر .
وروى جلال الدين السيوطيمن أعاظم علماء الجمهُور ومحدّثيهم في
جامعه الكبير من كتاب حلية الأولياء ، وكتاب أمالي أبي نصر
__________________
السجزي، وكتاب المشيخة لأبي سعيد السمّان، وكتابي الرافعي، وابن النجّار: عن أبي هريرة، عنه صلىاللهعليهوآله
قال : «إنّ الفتنة تجيء فتنسف
__________________
العباد نسفاً وينجو
العالمبعلمه».
ومن صحيح ابن ماجة، وكتاب الطبراني: عن أبي أمامة، عنه صلىاللهعليهوآله
قال : «ستكون فتن يُصبح الرجل بها
مؤمناً ويُمسي كافراً إلاّ من أحياه اللّه بالعلم».
__________________
ومن صحيحي البُخاريومسلم، ومن مسند أحمد بن حنبل: عن اُسامة، عنه صلىاللهعليهوآله
قال : «هل ترون ما أرى ؟ إنّي لأرى
مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع المطر».
__________________
ومن كتاب الرافعي : عن أنس، عنه صلىاللهعليهوآله
قال : «إنّ الفتنة نائمة لعن اللّه من
أيقظها».
ومن كتاب المستدرك : عن ابن عمر، عنه صلىاللهعليهوآله
قال : «لَيَغْشينّ اُمّتي من بعدي فتن
كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل فيها مؤمناً ، ويمسي كافراً ، يبيع أقوام دينهم
بعرضٍ من الدنيا قليل».
ومن كتابي صحيح مسلم والبخاري ، وكتاب
مسند ابن حنبل : عن أبي هريرة ، عنه صلىاللهعليهوآله
قال : «ستكون فتنة ، القاعد فيها خير من
القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ، من تشرّف لها
تَستشرفه ، ومن وجد فيها ملجأً أو معاذاً فليعذ به».
__________________
ومن المستدرك ، وكتابي الطبراني
والبيهقي:
عن أبي الدّرداء،
عنه صلىاللهعليهوآله قال
: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً وبكيتم كثيراً ، ولخرجتم إلى الصُعدات تجأرون
إلى اللّه ، لا تدرون تنجون أو لا تنجون».
وقد ورد مثله بأسانيد عديدة منها : ما
نقله السيوطي أيضاً من كتاب المُستدرك ، عن أبي هريرة ، عنه صلىاللهعليهوآله قال
: «لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً ، يظهر النفاق ، وترتفع
الأمانة ، ويتّهم الأمين ويؤتمن غير الأمين»،
الخبر .
ومن كتاب الطبراني : عن اُمّ سَلَمة: «ليأتينّ على الناس زمان يُكذَّب فيه
الصادق ، ويُصدَّق فيه الكاذب ، ويُخوَّن فيه الأمين ويؤتمن
__________________
الخؤون ، ويشهد المرء
ولم يُستشهد ، ويحلف وإن لم يُستحلف»،
الخبر .
ومن كتاب الأوسط للطبراني : عن طلحة، عنه صلىاللهعليهوآله
قال : «ستكون فتنة لا يهدأ منها جانب
إلاّ جاش منها جانب ، حتّى ينادي مناد من السماء أنّ أميركم فلان»، يعني المهدي عليهالسلام .
ومن الكتاب المذكور : عن عوف بن مالكأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «تجيء فتنة غبراء مظلمة ، ثمّ يتبع الفتن بعضها بعضاً ، حتّى يخرج رجل من أهل
بيتي»، الخبر .
أقول
: هذا صريح في تعدّد الفتن وتواردها إلى
ظهور المهدي عليهالسلام ،
وأنّ أوّلها عظيمة.
وستأتي بعض أخبار الفتن التي من هذا
القبيل :
في حكاية المهدي عليهالسلام مـن
الفصل الحادي عشر من المقالة الأخيرة من المقصد
__________________
الأوّل .
ومن كتاب الحلية ، وكتابي البيهقي
والبزّار:
عن سعدعنه صلىاللهعليهوآله قال
: «لأنا من فتنة السرّاء أخوف عليكم من فتنة الضرّاء ، إنّكم ابتليتم بفتنة
الضرّاء فصبرتم ، وإنّ الدنيا حلوة خضرة».
ومن كتاب الكبير للطبراني : عن خالد بن
عرفطةعنه صلىاللهعليهوآله قال
: «إنكم ستبتلون في أهل بيتي من بعدي».
وروى الخطيب الخوارزميفي ضمن الآيات التي نقلها في
__________________
عليّ عليهالسلام عند قوله تعالى : ( الم * أَحَسِبَ النَّاسُ )الآية : أنّ عليّاً عليهالسلام قال : «قلت : يا رسول
اللّه ، وما هذه الفتنة ؟ قال : يا علي ، بك ، وإنّك مخاصَم فأَعِدَّ للخصُومة».
وروى ابن عبد البرّفي كتاب الاستيعاب : عن أبي ليلى
الغفاري،
أنّه قال : سمعت النبيّ صلىاللهعليهوآله يقول
: «ستكون بعدي فتنة ، فإذا كان ذلك فالزموا عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ، فإنّه أوّل من
يراني وأوّل من يصافحني ، وهو فاروق هذه الاُمّة يفرّق بين الحقّ والباطل ، وهو
الصدّيق الأكبر ، وهو يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب المنافقين».
وسيأتي في فصول المقالة الأخيرة من
المقصد الأوّل هذا المضمون من غير طريق واحد ، وكذا غيره ممّا ذكرناه هاهنا ، فلا
تغفل .
__________________
وروى الحافظ أبو عبداللّه الشافعيفي كتابه كفاية الطالب : بإسناده عن أبي
برزة، قال : قال رسول
اللّه صلىاللهعليهوآله :
«إنّ اللّه عهد إليّ في عليّ عليهالسلام عهداً
، فقلت : يا ربّ ، بيّنه لي ؟ فقال : إنّ عليّاً عليهالسلام راية
الهدى ، وإمام أوليائي ، ونور من أطاعني» ، الخبر . . إلى أن قال صلىاللهعليهوآله :
«ثمّ إنّه رفع إليَّ : أنّه سيخصّه من البلاء بشيءٍ ، لم يخصّ به أحداً من أصحابي
، فقلت : يا ربّ ، أخي وصاحبي ، فقال : إنّ هذا شيء قد سبق ، إنّه مبتلى ومبتلى
به».
ورواه الخوارزمي أيضاً في حكاية المعراج
، وفيه بعد قوله : «ومبتلى به» زيادة قوله : «لولا عليّ عليهالسلام لم يعرف حزبي ولا
أوليائي ولا أولياء رسلي».
__________________
وفي صحيح البخاري ، عن قيس بن سعد بن
عبادة، عن عليّ بن أبي
طالب : «أنا أوّل من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة».
والأخبار في وقوع الامتحان كثيرة جدّاً
، وسيأتي أكثرها فيما يناسب ، لاسيّما في فصول الباب الثاني ، وفي عدّة منها إشارة
إلى أنّ عمدة الامتحان بسبب الإمامة ، وفي عليّ عليهالسلام مع
امتحانه بهم ، وستأتي شواهدها أيضاً في فصول فضائله .
قال الجاحظبعد نقله جمّة من فضائل عليّ عليهالسلام ـ كما يأتي في محلّه ـ
: وممّا يضمّ إلى جملة القول في فضل عليّ عليهالسلام أنّه
أطاع اللّه قبلهم ومعهم وبعدهم ـ يعني الصحابة ـ و امتُحِن بما لم يُمتحَن به ذو
عزم ، وابتُلي بما لم يُبتلَ به ذو صبر.
انتهى .
وقد روى عليّ بن إبراهيم القُمّيفي تفسيره : عن أبيه ، عن محمّد
__________________
ابن الفُضيل، عن أبي الحسن الكاظم عليهالسلام أنّه قال : «جاء
العبّاسإلى
أمير المؤمنين عليهالسلام ،
فقال له : انطلق بنا نبايع لك الناس ، فقال له عليّ عليهالسلام :
أو تراهم فاعلين ؟ قال : نعم ، قال : فأين قول اللّه عزوجل : (
الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا
وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ )»فقرأه
إلى آخر الآيتين .
أقول
: من تدبّر مع الاتّصاف بالإنصاف في
مضامين أخبار الافتتان والامتحان ممّا ذكرناه وما سيأتي لاسيّما في فصول أحوال
عليّ عليهالسلام وفضائله
لم يبق له مجال شكّ في كون ذلك بالنسبة إلى خلافة عليّ عليهالسلام ومنازعيه فيها ؛
ضرورة انحصار ابتلائه في حكاية الخلفاء الثلاثة ، والجمل ، ومعاوية ، والخوارج .
ومن الواضحات أنّ فتنة الخوارج ـ مع كونها سهلة بالنسبة إلى غيرها ـ من جزئيات
فتنة معاوية .
__________________
وصريح الآية أنّ الامتحان إنّما هو
ليتبيّن الصادق في دعوى الإيمان عن كاذبه .
وعلى هذا يلزم ـ لا محالة ـ أن يكون
هؤلاء ـ ولا أقلّ بعض منهم ـ كاذبين في دعوى الإيمان ، فاعتقاد الإيمان في الجميع
غلط ، والمرجع في التشخيص إلى القرائن ، فتأمّل ، حتّى يظهر لك أنّ التوجيه بدعوى
اختصاص ذلك بالخوارج باطل ، محض الاعتساف،
كما ينادي به ما أشرنا إليه ، وما سيأتي في المقصد الثاني ، ولا تغفل عن دوام هذا
الامتحان بالنسبة إلى كلّ إمام من أهل البيت عليهمالسلام إلى
أن يظهر المهدي صاحب الزمان عليهالسلام ،
كما هو عند المتأمّل فيما يأتي من أحوالهم مع البصيرة كالعيان ، واللّه الهادي .
* * *
__________________
الباب الأوّل
في
بيان الامتحان بميل النفوس إلى ما اعتادت به ونشأت فيه ، والنهي عن متابعة ذلك
ببذل الجهد في تحقيق الحقّ وقبوله .
اعلم أنّ اللّه عزوجل ، حيث فطر الناس على الاُنس ، جعل ممّا
امتحنهم به ميل طبائعهم إلى ما نشأوا فيه ، واعتادوا به وشبّوا عليه ، مثل : حبّ
طريقة آبائهم وأسلافهم وكبرائهم ، وأخذ أطوارهم ، واقتفاء آثارهم ، بحيث إنّه قد
يرسخ ذلك في قلوبهم رسوخاً لا تظهر لهم عيوبه (إن كان معيوباً)، ولا تنكشف عليهم حقيقة خلافه إن كان
باطلاً ، ولا يزول اعتقادهم به وإن كان خلافه في غاية الظهور ، بل كثيراً ما
يلجئهم ذلك إلى الإغماض عن السعي في هذا الانكشاف ، بل إلى التعمّد في التشكيك
والسعي في إخفاء الحقّ ، وتحريف ما يستبان به .
وليس لهذا الداء دواء ، إلاّ تصفية
القلب عن شوب هذا الميل ، وجعل الطرفين عند إرادة تحقيق الحقّ متساويين ، فإنّ من
فعل هذا ألقى اللّه الحقّ في قلبه ، وهداه إلى طريقه ، كما قال سُبحانه : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا )؛ ولهذا قد أخبر اللّه بذلك ، ونهى
عباده عن تلك
__________________
الحالة ، وأمرهم ببذل
الجهد في تحقيق الحقّوقبوله
، وترك الحميّة والعصبيّة ، والتزام الحبّ في اللّه والبغض في اللّه ، وموالاة
أوليائه ، ومعاداة أعدائه .
وهذا مع اتّضاحه في نفسه نحن أيضاً
نوضّحه في ضمن ثلاثة فصول ؛ ليعلم من أراد الحقّ أن لابُدّ له من هذا التخلّي
والتحلّي ، وليظهر أنَّ بقاء أهل الباطل على باطلهم إنّما هو لعدم تركهم تلك
الحالة واقعاً وإن زعموا الترك .
* * *
__________________
الفصل الأوّل
في
توضيح كون طبيعة عامّة البشر مجبولة على هذه الحالة في كلّ زمان ، بحيث إنّها أعمت
عيُون ذوي الأبصار ، بحيث لا ترى ما كالشمس في رابعة النهار ، وأوقعت فئاماً في مهالك الباطل ،
ومهاوي بلائه ، بل دعت أقواماً إلى أن تصدّوا لتحريف الحقّ وإخفائه ، وبيان أنّ
متابعتها منهيّ عنها مذمومة مطلقاً ، لاسيّما في اُمور الدين ، وأنّها من أقبح
صفات الجهّال والضلاّل والمبطلين وأطوار الكفّار والمعاندين ، وأنّها هي الحميّة
الجاهليّة .
اعلم أنّ هذا المدّعى أمر بيّن واضح
مشاهد في عامّة الناس ، وبالنسبة إلى أكثر الأشياء ، بحيث صارت الطبائع مجبولة
عليه ، وناهيك في هذا حبّ كلّ إنسان مسقط رأسه ، والبلد الذي نشأ فيه ، بحيث لا
يشتهي الإقامة في غيره ، بل يرجّحه على غيره وإن كان الغير أعمر وأحسن ، حتّى أنّ
البدوي المعتاد على البرّ يضيق صدره في البلدان كأنّه في الحبس إلى أن يعتاد ذلك
أيضاً بامتداد المدّة ، وكثرة معاشرة أهلها ، فإنّه حينئذٍ بسبب العادة الطارئة
يصير بحيث ربّما لا يشتهي الخروج إلى البرّ أصلاً .
__________________
وهكذا الحال في سائر الأشياء كأصحاب
الصنائع مثلاً ، فإنّ كلاًّ يحبّ صنعته التي نشأ عليها واعتاد بها وإن كانت خسيسة
دنيئة ، حتّى نقل أنّ سلطاناً عشق بنتاً تسأل بكفّها ، فتزوّجها وكثرت أموالها
وصارت أعزّ وأغنى المقرّبين عنده ، فدخل عليها يوماً فإذا هي واضعة كسرة خبز في
موضع ليس فيه أحد ، ويدها ممدودة إليه بعنوان السؤال ، وتقول بإلحاح وتذلّل زائد :
تصدّقوا عليّ بهذه الكسرة .
ومن هذا القبيل حال المعاشرات ، كما هو
معلوم مجرّب من حبّ كلّ شخص أصحابه وعشيرته ومربّيه ، كالوالدين والاُستاذ
والمعلّم وأمثالهم ، وحبّ كلّ صنف أهل صنفه ، ومن هو من سنخه ، كحبّ العرب للعرب ،
والعجم للعجم ، والترك للترك ، والصالح للصالح ، والطالح للطالح ، والعالم للعالم
، حتّى أنّ أهل كلّ علم يحبّ العالم بذلك العلم كالفلسفي للمتفلسفين ، والمتشرّع
للمتشرّعين ، والصوفي للصوفيّة ، والشيعي للشيعة ، والناصبي للناصبيّة ، بل لا
يكتفون بذلك حتّى يعيبوا على غيرهم ، ويحكموا عليهم بالسفه والبطلان ، كما هو واضح
من حكم الكفّار والجهلاء بالجنون على الأنبياء والعلماء .
ألا ترى أنّ أكثر المعتادين على الفسوق
إن اتّفق لهم الجلوس أحياناً مع أهل العلم والصلاح ، ورأوا ما بهم من الفعل والقول
ضاقت صدورهم ، وتنفّرت طبائعهم ، بحيث لا يحبّون أن يعاينوهم ويودّون المخلَص من
ذلك المجلس ولا تنشرح قلوبهم إلاّ بملاقاة أمثالهم ، بل إذا لاقى بعضهم بعضاً
ذكروا شكواهم من ذلك المجلس ، ونسبوا أهله إلى السَفه والحرمان بترك تلك الفُسوق
التي هي المعدودة لذّة عندهم ، وكذلك العكس .
ولهذا ورد في الحديث : «أنّ المؤمن في
المسجد كالسمك في الماء ، والمنافق في المسجد كالطير في القفص».
فإذا كان الأمر بهذه المثابة في الشيوع
والوضوح وعموم الجريان ، حتّى في بديهي البطلان ، فكيف أمكن استطراق المنع من
جريان ذلك في الاُمور الخفيّة كالعقائد الدينيّة والمسائل النظريّة ؟ فلا يبعد ،
بل كثيراً ما متحقّق ثابت اعتقاد كلّ اُناس بحقّيّة ما ذهب إليه آباؤهم ومشايخهم
وأسلافهم بمحض أنّهم نشأوا عليه ورسخ في أذهانهم من بدو الحال وأوّل الوهلة ولو
كان واضح البطلان عند صحيح النظر الذي لم يكن بهذه المثابة ، وأكثر هؤلاء الأقوام
يصير رسوخهم ، بحيث لا يدركون المعايب التي تكون في ذلك ولا ضعف دليله ، ولا قوّة
دليل الخصم ؛ إذ لم يتوجّهوا إليه بقلب صاف ولا فكر صائب ؛ لما في صميم قلوبهم من
الميل إلى ما اعتادوا عليه ورسخ في أذهانهم وإن لم يشعروا بهذه العلّة ، كما هو
أحد معاني ما ورد من أنّ «حبّك للشيء يعمي ويصمّ».
ولهذا قال اللّه عزوجل : ( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ
بِإِمَامِهِمْ ) ،
وقال :
( كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ
فَرِحُونَ ).
وقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله :
«المرء مع من أحبّ».
__________________
وقد أخبر اللّه عزّ شأنه في مواضع
كثيرة من كتابه بشيوع هذه الحالة ، وأنّها دأب أهل الباطل في عدم قبول الحقّ ،
حتّى بعد وضوحه أيضاً ، كقوله عزوجل في
قوم نوح عليهالسلام لمّا
دعاهم إلى التوحيد : (
قَالُوا
أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا
فَأْتِنَا بِمَا [ تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ ).
وفي قوم إبراهيم عليهالسلام : ( إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا
هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا
وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ ).
وفي قوم شعيب [عليه السلام] : ( أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ
مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ).
وفي قوم موسى عليهالسلام : ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا
عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي
الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ).
وكقوله سبحانه : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي
اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ
).
وكقوله : (
وَإِذَا
قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا
وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ).
__________________
وقوله سبحانه : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا
إِلَىٰ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا
وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا
وَلَا يَهْتَدُونَ )
وقوله تعالى :( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ
آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ
فَسَيَقُولُونَ هَٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ).
وقال : (
إِنَّهُمْ
أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَىٰ آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ * وَلَقَدْ ضَلَّ
قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ ).
وقوله تعالى : ( وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ
آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ
يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ ).
وقوله : (
وَإِذَا
تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا
أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ).
وقوله تعالى : ( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا
وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ).
وقوله سبحانه : ( أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ
قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ
وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَٰلِكَ
__________________
مَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا
إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ
آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدْتُمْ
عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ).
وقوله جلّ شأنه : ( انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ
الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ).
وقوله : (
كُلَّمَا
جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا
وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ).
وقوله : (
وَلَئِنْ
جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا
مُبْطِلُونَ ).
وقوله : (
مَا
يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ ).
وقوله : (
اتَّخَذُوا
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ).
وقوله : (
اتَّخَذُوا
الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
مُهْتَدُونَ ).
وقوله : (
إِنَّا
أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ).
وقوله : (
يَقُولُ
الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا
مُؤْمِنِينَ ).
__________________
وقوله : (
قَالَتْ
أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ
عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ )الآيات ، وغيرها .
وفي الحديث المشهور : «كلّ مولود يولد
على الفطرة لكن أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه».
واعلم أنّ هذه الحالة ليست مقصورة على
العوام ومتابعة الآباء فقط ، بل كما تبيّن ممّا بيّنّاه وظهر من الآيات التي
ذكرناها وغيرها أنّ عمدة هذه المصيبة العظمى والبليّة الكبرى ما هو بين المتعلّمين
والعلماء الذين هم مناط اعتماد الناس ، فإنّ من المعلوم الواضح أنّ مبدأ تحصيل كلّ
محصّل ـ ما سوى الأنبياء والأوصياء ـ هو التعلّم والأخذ ممّن يعتقد أنّه أعلم منه
، وهذا يقتضي أن يعتقد بصحّة ما عنده وحقّيّة ما علمه ؛ إذ لا قدرة له على تمييز
أكثر الدقائق وحقّ الأقوال في مبدأ الحال ، وعلى هذا يأخذ كلّ ما يأخذ منه على وجه
التصديق والتسليم ، ويرسخ ذلك في ذهنه ، وهذا مع الوداد الذي من لوازم المعاشرة
لاسيما بين المتعلّم والمعلّم خصوصاً في المتعلّم ، والاعتياد في المتابعة الذي
يزداد بطول المدّة يستلزم زيادة الرسوخ وتمكين التصديق يوماً فيوماً ، بحيث ربّما
ينجرّ الأمر إلى أن يحكم ببداهة صحّة ما يكون واضح البطلان من قول اُستاذه .
فإذا نشأ على هذه الحالة إلى أن استغنى
عن التعلّم ، وعُدّ من العلماء ، وكملت جودة ذهنه ، وقويت مادّة فكره ، فحينئذٍ :
إمّا أنّه ممّن يدركه التوفيق من اللّه
عزوجل فيراجع
إلى ما مضى عليه قاصداً لتحقيق ما هو الحقّ من ذلك ، وتمييز ما هو المرشد إلى
الصواب ،
__________________
متّكلاً في ذلك
بهداية ربّ الأرباب بقلبٍ صافٍ عن شوب الاعتماد في الاعتقاد على ما رسخ في ذهنه
بسبب ما ذكر من الاعتياد ، فهذا هو الذي يأتي في الفصل الآتي أنّه من أهل الاهتداء
، ومن يُرجى له النجاة من مرديات الأهواء ، وأنّهم الأقلّون عدداً ، والأعظمون
قدراً ، كما سيظهر فيما بعد كمال الظهور .
وإمّا أنّه ممّن يبقى على حالته الاُولى
بحيث لو راجع أيضاً لا يرجع بخير ؛ لما في قلبه من شوب الاعتماد على ما رسخ في
ذهنه من الاعتياد ، كما هو حال أكثر المشاهير ، وجمهور الجماهير ، فمثل هذا
كالمقلّد وإن عُدّ كاملاً ، وكالجاهل وإن عُدّ عالماً ، وكلّما ازداد فكراً
وخيالاً زاد ـ إن كان على الخطأ ـ بُعْداً وضلالاً .
قال ابن عباس: الضلالة لها حلاوة في قلوب أهلها.
قال اللّه تعالى : ( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ
فَرَآهُ حَسَنًا ).
وقال سبحانه : ( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ
بِكُفْرِهِمْ ).
وكفى في هذا ما يرى في أصناف العلماء من
بقاء كلٍّ منهم على تحسين فنٍّ نشأ عليه ومارسه ، وتحصين علم اعتاد عليه وماهر فيه
؛ لأنّ كلّ إنسان يخوض فيما أحبّ ويدفع ما لا يوافق محبوبه ؛ ولهذا قال اللّه
__________________
سبحانه : ( وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ
عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا )،
اَلاَ ترى إلى الأشعري كيف يعتقد بصحّة عقائده ، والمعتزلي يحكم بضلالتها ،
والمتفلسفي يجزم بأنّ الحقّ معه ، والمتشرّع يقطع ببطلان مذهبه ويكفّره ؟ ! وكذلك
سائر فِرَق الشيعة والسنّة ، مع وضوح أنّ الحقّ واحد وخلافه باطل ؛ ضرورة امتناع
صحّة المتناقضين معاً ، فلولا ما ذكرناه من علّة الاعتياد ، مع ما سيأتي من أسباب
التخالف والعناد ، لما حصل النزاع والاختلاف ، ولا مال أحد عن طريق الانصاف .
ولا يخفى أنّ هذا عمدة أسباب ما ذمّه
اللّه عزوجل من
الحميّة الجاهليّة ، وما لم يترك الإنسان هذه الحالة ولم يجعل الطرفين متساويين
عند إرادة التحقيق في المسائل الخلافيّة ، لم يمكنه تحقيق الحقّ ، سواء كان
سنّيّاً أو شيعيّاً أو غيرهما ، فيجب على كلّ من يريد الحقّ أن يبذل أوّلاً جهده
في استخلاص نفسه عن هذه الحالة ، كما سيأتي في الفصل الآتي ؛ لأنّ العادات قاهرات
، وقد امتحن اللّه عباده بذلك حتّى يميز الخبيث من الطيّب ، ويكون المجاهد في سلب
هذه الحالة مستحقّاً للأجر العظيم ، والخلاص من نار الجحيم ؛ لأنّه أحد أفراد الجهاد
الأكبر الذي فسّره رسول اللّه صلىاللهعليهوآله حيث
قال : «هو جهاد النفس التي بين الجنبين»،
وقد قال عليّ عليهالسلام :. «الناس ثلاثة : فعالم ربّانيّ ،
ومتعلّم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كلّ ناعق ، يميلون مع كلّ ريح ، لم
يستضيئوا بنور العلم ، ولم
__________________
يلجأوا إلى ركن وثيق»؛ إذ لا شكّ في أنّ العالم الربانيّ
الذي لا ريب فيه هو النبيّ صلىاللهعليهوآله الآخذ
علمه من كتاب اللّه ووحيه وإلهامه ، وكذا الذين اقتبسوا من نوره ، وأخذوا من
علومه ، واستقاموا على ذلك ، بحيث أن لا مستند لكلامهم إلاّ قول اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ،
وهؤلاء أيضاً هم المتعلّمون على سبيل النجاة مع أتباعهم المقتفين لآثارهم
المستقيمين على أطوارهم ، فحينئذٍ يبقى البواقي تحت الفرد الباقي .
ولهذا قال الصادق عليهالسلام : «من أخذ دينه من
كتاب اللّه وسنّة رسوله صلىاللهعليهوآله زالت
الجبال قبل أن يزول ، ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ردّته الرجال».
وفي الحديث : «العلم ثلاثة : كتاب ناطق
، وسنّة قائمة ، ولا أدري»،
أي : لا يجوز التكلّم بغيرهما .
وفيه : «إنّما هما اثنان : الكلام
والهَدْيُ ، فأحسن الكلام كلام اللّه تعالى ، وأحسن الهَدْي هَدْي محمّد صلىاللهعليهوآله ،
ألا وإيّاكم ومحدَثات الاُمور ، فإنّ شرّ الاُمور محدَثاتها ، وإنّ كلّ محدَثة
بدعة ، وإن كلّ بدعة ضلالة» ، رواه جماعة منهم ابن ماجة في صحيحه.
__________________
وقد نقل الغزاليعن بعض السلف أنّه قال : ما جاءنا عن
رسول اللّه صلىاللهعليهوآله قبلناه
على الرأس والعين ، وما جاءنا عن الصحابة فنأخذ ونترك ـ يعني إذا كان مأخوذاً من
النبيّ صلىاللهعليهوآله فنأخذ
ـ وما جاءنا عن التابعين فهم رجال ونحن رجال.
وفي الحديث الثابت عن الصادق عليهالسلام أنّه قال في قوله
تعالى : (
اتَّخَذُوا
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ):
«أما واللّه ، ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ، ولو دعوهم ما أجابوهم».
وفي رواية : «ما صاموا لهم ولا صلّوا ،
ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً ، فاتّبعوهم فعبدوهم من حيث لا
يشعرون».
وفي رواية قال الصادق عليهالسلام : «من أصغى إلى ناطق
فقد عبده ، فإن كان الناطق عن اللّه فقد عبد اللّه ، وإن كان الناطق عن إبليس
فقد عبد إبليس».
وفي بعض خطب أمير المؤمنين عليهالسلام : «إنّما بدء وقوع
الفتن أهواء تُتّبَع ، وأحكام تبتدع ، يخالف فيها كتاب اللّه ، يتولّى فيها رجال
رجالاً»،
__________________
الخبر .
وقال أيضاً في بعض كلامه : «اعلموا أنّ
اللّه تعالى لن يرضى عنكم بشيء سخطه على من كان قبلكم ، ولن يسخط عليكم بشيء رضيه
ممّن كان قبلكم ، وإنّما تسيرون في أثر بيِّن ، وتتكلّمون برجع قول قد قاله الرجال
قبلكم».
وفي بعض خطبه أيضاً : «إنّ أبغض الخلق
إلى اللّه عزوجل لرجلين
: رجل وكله اللّه إلى نفسه ، فهو جائر عن قصد السبيل مشغوفبكلام بدعة ، قد لهج بالصوم والصلاة ،
فهو فتنة لِمَن افتتن به ، ضالّ عن هَدْي من كان قبله ، مضلّ لمن اقتدى به في
حياته وبعد وفاته ، حمّال خطايا غيره ، رهن بخطيئته .
ورجل قَمَشَ جهلاً في جهّال الناس ، عانبأغباش الفتنة ، قد سمّاه أشباه الناس
عالماً ولم يغن فيه يوماً سالماً ، بكّر فاستكثر [من جمع] ما قلّ منه خيراً ممّا كثر ، حتّى إذا
ارتوى من آجن ، وأكثر من غير طائل ، جلس بين الناس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس
على غيره ، وإن خالف قاضياً سبقه لم يأمن أن ينقض حكمه من يأتي من بعده ، كفعله
بمن كان قبله ، وإن نزلت به إحدى المبهمات المعضلات هيّأ لها حشواً من رأيه ، ثمّ
قطع به ، فهو من لَبس الشبهات في مثل غزل العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ ؟ لا يحسب
العلم في شيء ممّا أنكر ، ولا يرى أنّ وراء ما بلغ فيه
__________________
مذهباً ، إن قاس
شيئاً بشيء لم يكذب نظره ، وإن أظلم عليه أمرٌ اكتتم به ؛ لما يعلم من جهل نفسه
لكيلا يقال له : لا يعلم .
ثمّ جسر فقضى ، فهو مفتاح عشوات ، ركّاب
شبهات ، خبّاط جهالات ، لا يعتذر ممّا لا يعلم فيسلم ، ولا يعضّ في العلم بضرس
قاطع فيغنم ، يذري الروايات ذرو الريح الهشيم ، تبكي منه المواريث ، وتصرخ منه
الدماء ، يستحلّ بقضائه الفرج الحرام ، ويحرّم بحكمه الفرج الحلال ، لا مليّ
بإصدار ما عليه ورد ، ولا هو أهل لما منه فرط من ادّعائه علم الحقّ» ، الخبر ، إلى
أن قال عليهالسلام :
«إلى اللّه أشكو من معشر يعيشون
جهّالاً ويموتون ضلاّلاً ، ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حقّ تلاوته ، ولا
أنفق سلعة منه إذا حرّف عن مواضعه»،
الخطبة .
والأخبار من هذا القبيل كثيرة تركناها
خوفاً من الإطالة من غير ضرورة ، ويأتي بعضها في الأبواب الآتية مع نقل نبذ ممّا
صدر من بعض الناس سلفاً وخلفاً من إخفاء ما كان فيه دلالة على الحقّ ، وتحريفه
لفظاً ومعنىً ؛ للميل المذكور وغيره ، فانتظر ولا تغفل عنه .
لكن هاهنا رواية صحيحة في حكاية مليحة
مناسبة لما نحن فيه ، مع دلالتها على أنّ دأب مخالف الشيعة كان تلك المتابعة
الباطلة ، كما هو كذلك اليوم :
__________________
روى الكشيوغيره بإسناد معتبر عن ثقات من العلماء
، عن أبي كهمس الكوفيقال
: دخلت على جعفر بن محمّد عليهماالسلام فقال
لي : «شهد محمّد بن مسلم الثقفيعند
[ابن] أبي ليلى القاضيبشهادة فردّ شهادته» ، قلت : نعم .
فقال : «إذا صرت إلى الكوفة فأت ابن أبي
ليلى وقل له : أسألك عن ثلاث مسائل لا تفتني فيها بالقياس ، ولا تقل: قال أصحابنا ومشايخنا ،
__________________
ثمّ سله عن الرجل شكّ
في الركعتين الأوّلتين من الفريضة ، وعن الرجل يصيب جسده أو ثيابه البول كيف يغسله
؟ وعن الرجل يرمي الجمار سبع حصيات فتسقط منه واحدة كيف يصنع ؟ فإذا لم يكن عنده
فيها شيء ، فقل له : يقول لك جعفر بن محمد عليهماالسلام :
ما حملك على أن رددت شهادة رجل أعرف بأحكام اللّه منك ، وأعلم بسنّة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله منك»
؟
ومراده عليهالسلام :
أنّه أخذها وتعلّمها من معادنها التي هي علماء أهل البيت عليهمالسلام الذين تنتهي علومهم
كلّها إلى رسول صلىاللهعليهوآله عن
اللّه عزوجل ،
كما سيأتي بيانه وتحقيقه في محلّه.
قال أبو كهمس : فأتيت ابن أبي ليلى فقلت
له : أسألك عن ثلاث مسائل لا تفتني فيها بكذا وكذا ، قال : هات ، فسألته المسألة
الاُولى ، فأطرق ثمّ رفع رأسه إليّ ، فقال : قال أصحابنا ، فقلت له : شرطي عليك أن
لا تقول : قال أصحابنا ومشايخنا ، فقال : ما عندي فيها شيء ، فسألته المسألة
الثانية ، فأطرق ، ثمّ رفع رأسه ، ثمّ قال : قال مشايخنا ، فأجبته بالجواب الأوّل
، فقال : ما عندي فيها شيء ، فسألته الثالثة ، فأطرق أيضاً ، ثمّ قال ما قال في
الاُولى والثانية ، فأجبته أنا بذلك الجواب أيضاً ، فقال : ما عندي فيها شيء .
فقلت له : يقول لك جعفر بن محمّد عليهماالسلام كيت وكيت .
فقال : ومَنْ هذا الذي رددت شهادته وقال
فيه جعفر كذا وكذا ؟
قلت له : محمّد بن مسلم الثقفي .
فقال : واللّه ، إنّ جعفر بن محمّد عليهماالسلام قال لك هذا ؟
فقلت : واللّه ، إنّه لقال لي هذا .
فأرسل إلى محمّد بن مسلم فدعاه فشهد
عنده بتلك الشهادة ، فأجاز
شهادته.
أقول : ولنكتف في هذا الفصل بما ذكرناه
، لاتّضاح المسألة على من أراد الحقّ ، فعليه حينئذٍ التخلّي عن هذه الحالة ،
والتحلّي بما سيأتي في هذا الفصل الآتي ، واللّه الهادي.
* * *
__________________
الفـصل الثاني
في
بيان أنّ الواجب على طالب الحقّ غاية بذل الجهد في تصفية نيّته وتفريغ قلبه عن
الميل المذكور سابقاً وأمثاله ممّا يأتي ، حتّى يصير قابلاً لإلهام الحقّ وإدراكه
، فإنّ اللّه عزوجل وعد التوفيق لمثل هذا الشخص وهدايته إلى فهم الحقّ ، كما هو
صريح قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا )
الآية .
اعلم أنّه قد تبيّن ممّا مرّ آنفاً أنّ
الميل الذي ذكرناه من آفات النفس وموانع فهم الحقّ وتحقيقه والإقرار به ، وستأتي
أيضاً آفات اُخَر وموانع شتّى ، كميل النفس إلى الهوى ، وحبّ شهوات الدنيا .
فعلى هذا يجب على كلّ أحد ـ لاسيّما من
أراد أن تظهر عليه أنوار العلم والدين ، حتّى يطّلع على حقيقة الحقّ فيتمسّك به
على نهج اليقين ـ أن يسلب عن نفسه :
أوّلاً : تلك الرذائل وينظّفها عن تلك
الخبائث ؛ إذ ما لم يشتغل بتعهّد القلب وإصلاحه وتطهيره عنها ، لم يصر من علماء
الدين ، فضلاً عن أن يكون من أهل الحقّ واليقين ؛ لأنّ العلم عبادة القلب ، وصلاة
السرّ ، وقربة
__________________
الباطن إلى اللّه عزوجل ، فكما لا تصحّ
الصلاة التي هي وظيفة الجوارح الظاهرة ، إلاّ بتطهير الظاهر عن الأحداث والأخباث ،
فكذلك لا تصحّ عبادة الباطن وعمارة القلب بالعلم ، إلاّ بعد طهارته عن (خبائث
الأخلاق)وأنجاس
الأوصاف ، قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله :
«بُني الدين على النظافة»،
وهو كذلك ظاهراً وباطناً ، وقال اللّه عزوجل :
(
إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ )؛ تنبيهاً للعقول على أنّ الطهارة
والنجاسة غير مقصورة على الظواهر المدركة بالحِسّ ، فالمشرك ولو قد يكون نظيف
الثوب مغسول البدن ، لكنّه نجس الجوهر خبيث الباطن .
ثمّ يجب عليه ثانياً : اكتساب ما به
يحصل ضياء القلب ، وصفاء النيّة ، وجلاء الفكروسائر
لوازم إدراك حقيقة الحقّ وقبوله التام ، وما يستعدّ به لشمول التوفيق ونيل الهداية
وحصول الإلهام من اللّه الربّ العلاّم .
قال اللّه سبحانه : ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ
يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ
ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ )،
وقال أيضا : (
أَفَمَنْ
شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ )،
وقال عَزّ سلطانه : (
وَمَنْ
لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ).
__________________
ومن الواضحات البيّنة أيضاً أنّ القلب
مرآة إدراك الحقّ ، فمهما لم يكن مجليّاً صافياً ـ لاسيّما إذا كان مصدأً ـ كيف
يمكن الانتقاش فيه ، ورؤية ما يراد رؤيته منه ؟ بل ربّما يرى فيه الحقّ بصورة
الباطل ، كما يرى الصورة البيضاء في المرآة المصدءة مظلمة سوداء .
وفي الحديث : «لا تحلّ الفتيا لمن لا
يستفتي من اللّه بصفاء سرّه وإخلاص عملهوعلانيته
وبرهان من ربّه في كلّ حال».
وفي بعض خطاب اللّه لبني إسرائيل : «لا
تقولوا : العلم في السماء من ينزل به [ إلى الأرض] ، ولا في تخوم الأرض من يصعد به ، ولا
من وراء البحار من يعبر يأتي به ؟ العلم مجعول في قلوبكم تأدّبوا بين يديّ بآداب
الروحانيّين ، وتخلّقوا إليّ بأخلاق الصدّيقين أظهر العلم من قلوبكم ، حتّى
يغطّيكم ويغمركم».
فعلى هذا يجب لا محالة على كلّ مريد
لتميّز الحقّ عنده عن غيره التمسّك بآداب أهل الحقّ والتخلّق بأخلاقهم ، وهي عديدة
نذكر هاهنا خلاصة ما هو العمدة منها :
الأوّل
: أن يكون مقصوده الأصلي إصابة الحقّ
وطلب ظهوره كيف اتّفق ، كمنشد ضالّة يكون شاكراً متى وجدها ، ولا يفرق بين أن يظهر
على يده أو يد غيره ، فيرى (رفيقه عوناً)لا
خصماً يشكره إذا عرّفه الخطأ
__________________
وأظهر له الحقّ ، كما
لو أخذ طريقاً في طلب ضالّته فينبّهه غيره على ضالّته في طريق آخر ، والحقّ هو
ضالّة المؤمن فينبغي أن يطلبه كذلك ، ويفرح بفهمه ولو بوجدانه عند غيره ، ولا
يتألّم من ظهور خطأ ما اعتقدة حقّاً وصواباً ، ويترك المجادلة في تصويب رأيه
عناداً فإنّ ذلك هو المراء الذي من علائم المبطلين ، وقرائن تعصّب المضلّين
الناشيء من الاستكبار عن قبول الحقّ ، المذموم شرعاً وعقلاً .
قال اللّه عزوجل : (
مَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ )وفي
آية اُخرى : (
وَكَذَّبَ
بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ ).
وفي مستدرك الحاكم وغيره : عن أبي أمامة
عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «ما ضلّ قوم بعد هدىً كانوا عليه إلاّ اُوتوا الجدل».
وعن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «من ترك المراء وهو مبطل بَنى اللّه له بيتاً في ربض الجنّة ، ومن ترك
المراء وهو محقّ بنى له بيتاً في أعلى الجنّة».
وقال عليّ عليهالسلام :
«من طلب الدين بالجدل تزندق».
وقال عليهالسلام :
«الخصومة تمحق الدين ، وتحبط العمل ، وتورث الشكّ».
__________________
وقال الصادق عليهالسلام : «لا يتخاصم إلاّ
شاكّ [في دينه]
، أو من لا ورع له».
وفي رواية : «إلاّ من [قد]
ضاق بما في صدره».
الثاني
: أن يوقف نفسه بموقف يأمن فيه عن أن
يزلق ـ بسبب ما في صميم قلبه من الميل والهوى ـ في مهوى الباطل والردى ولو غفلة من
حيث لا يشعر ، وذلك بأن يجعل أوّلاً طرفي المسألة التي يريد تحقيقها متساويين عنده
نفياً وإثباتاً ، ثمّ يتوجّه إلى ملاحظة الدليل ومتابعة المدلول ، كما مدح اللّه
صاحب هذه الحالة بقوله عزوجل :
(
الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ).
ولكن لا يخفى أنّ تحصيل هذه الحالة كما
ينبغي في غاية الإشكال ونهاية الإعضال ، بحيث ربّما يزعم الإنسان الساعي في ذلك
أنّه حصّلها وهـو بعد لم يحصل شيئاً منها ، فإنّه موقوف على اُمور عسرة الحصول
جدّاً .
منها : خلوص النيّة في التحصيل ، بحيث
لا يكون مقصوده في ذلك غير ما يوجب رضا اللّه سبحانه واستحقاق الجنّة وإن استلزم
ذلاًّ في الدنيا ومخالفة أهلها ، بل مخالفة عامّة الناس ، بل حتّى كثير من الخواص
، كما قال سبحانه : (
وَقَلِيلٌ
مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ).
ومنها : ما هو من أسباب هذا الخلوص
أيضاً ، أي : إزالة الميل الذي
__________________
مضى ، وإزاحة ما يأتي
من متابعة الهوى خوفاً من اللّه ورجاءً للهدى ، بأن يجعل نصب عينيه في تمام مدّة نظره
أنّه مهما انحرف يميناً أو شمالاً وقع في مهوى الخطأ ، واستحقّ وزراً ووبالاً ،
كما قال تبارك وتعالى : (
فَأَمَّا
مَنْ طَغَىٰ * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *فَإِنَّ
الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ )، وقال : (
وَمَنْ
أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ).
ومن قرائن صحّة تحقّق تلك الحالة : أن
ينظر إلى كلام الخصم بنظر الاعتبار بنحو ما ينظر إلى كلام نفسه ، بل الأولى له أن
يتفحّص عن عيوب كلامه ومحاسن كلام الخصم ، حتّى يحصل له بذلك كمال تعادل الطرفين ،
ويتبيّن عليه أحسن القولين ؛ إذ كما في الحديث : «إنّ لكلّ حقٍّ حقيقةً ولكلّ
صوابٍ نوراً»ومن
الواضح أنّه يظهر حينئذٍ ما فيه شيء من ذلك ظهوراً .
ولهذا ضلّ المخالفون في طغيانهم يعمهون
، حيث إنّهم اعتادوا في بدو الحال على تصديق صحّة طريقتهم وبطلان طريقة الشيعة
تقليداً ، ثمّ نشأوا على ذلك ، بحيث صار عندهم مسلّماً ، بحيث إنّ الأكثرين منهم
لا يتوجّهون إلى ملاحظة كلام الشيعة ، ولا مطالعة كتبهم تفصيلاً ، بل إذا وقعت
بأيديهم حرّقوها وأضاعوها تعصّباً ، حتّى أنّه لو اتّفق لهم النظر فيها نظروا بعين
التكذيب ، وفي غاية الإجمال ونهاية الاستعجال ، بل نظر المغشيّ عليه من الموت .
__________________
وقد صار ذلك ديدنهم ، بحيث إنّ جماعة منهم
منعوا عن مطالعة بعض كتبهم التي نقلوا فيها ما يؤيّد مدّعى الشيعة ، نحو كتب ابن
قتيبة، وابن أبي الحديد، وتفاسير التفضيليّة وأمثالها ،
واعتذروا عن ذلك بأنّها تورث الشكّ ، حتّى أنّه إن حاول أحد منهم الملاحظة
التفصيليّة ، أو عاشر علماء الشيعة ، اتّهموه وإن كان من أعلم علمائهم .
ولعلّ الحقّ معهم في ذلك ؛ لما يظهر من
تلويحات جمع منهم ، بل تصريحاتهم ، لاسيّما من عاشر منهم الشيعة ومارس كتبهم ، من
الميل إلى مسلكهم والنصرة لطريقتهم ، فلا أقلّ حينئذٍ من عروض الشكّ والتردّد لهم
؛ ولهذا ترى علماء رجالهم قد يقولون في ترجمة أحوال بعض رواتهم ومشايخهم : إنّه
اختلط في أواخر عمره ! ونحو ذلك ، فإنّ مرادهم الميل إلى التشيّع ، وعباراتهم
الدالّة على ما ذكرناه كثيرة من أرادها فعليه بكتاب مجالس المؤمنين ، وأمثاله .
__________________
وفي مقابل ذلك دأب الشيعة ، فإنّ
الإمامة عندهم من عمدة اُصول الدين ، والتقليد لاسيّما في الاُصول عندهم غير جائز
، فحينما برزوا في العلم شرعوا في تتبّع المذاهب وتصفّح الكتب والصحائف ، واستنقاد
الأدلّة واستفادة المسألة ، ولا يجوز عندهم الاكتفاء بمحض قول المؤالف حتّى في نقل
الأدلّة والمذاهب ؛ إذ لا يسمع دعوى المدّعي بدون إقرار الخصم أو الشاهد .
فلهذا جعلوا مدار التحقيق على تتبّع كتب
القوم أيضاً ، حتّى استخرجوا منها ما يدلّ على إقرار خصومهم ، وشواهد ما أنكروه ،
وسائر ما فيه إتمام الحجّة ، حتّى على الخصم ، وصار ذلك ديدنهم ، بحيث إنّ جماعة
منهم لم يقنعوا بما نقل علماؤهم من القوم ، حتّى راجعوا كتبهم ورواياتهم ، فرأوا
ما أرادوه رأي العين وإن لم يقبلوا من ذلك ـ ما سوى خبر مقبول الفريقين ـ إلاّ ما
فيه حجّة على الخصم ممّا قبله ورواه .
ومن شواهد صحّة جميع ما ذكرناه : كمال
اطّلاع الفرقة المحقّة من الشيعة على مذاهب القوم وأحاديثهم ، ووجود أكثر كتبهم
عندهم بحيث ربّما يقال : إنّهم أكثر اطّلاعاً بمذاهب القوم من أنفسهم ، كما تنادي
بذلك الكتب الاستدلاليّة من الفرقة المحقّة فروعاً واُصولاً ، فإنّها مشتملة على
نقل تمام مذاهب القوم في كلّ مسألة مسألة موافقاً لما في كتبهم ، مع أدلّتهم عليها
وجواب الأدلّة ، من أراد الامتحان فليرجع إليها فإنّ منها : كتاب منتهى المطلب ،
وكتاب تذكرة الفقهاء للعلاّمة ابن المطهّر الحلّيفي الفروع ،
__________________
وكتاب كشف الحقّ له
أيضاً في الاُصول ، وغيرها ، وشرحه إحقاق الحقّ للسيّد التستري، وكتب المفيد، والمرتضىوغيرها .
ولعمري يكفي هذا الكتاب أيضاً لاُولي
الألباب ؛ لأنّ مدارنا فيه على نقل ما في كتب القوم من الأخبار والأقوال وغيرها في
كلّ باب .
وإنّ دأب القوم بعكس ذلك ؛ إذ لا اطّلاع
لهم ـ كما يظهر من كتبهم ـ
__________________
على حقائق طريقة
الفرقة المحقّة ، ولا على كتبهم وتصانيفهم ، حيث استقر أمرهم ـ كما مرّ ـ على عدم
تحصيلها وترك النظر إليها ، حتّى أنّهم قد ينسبون إلى فرقةٍ ما هو قول اُخرى ، بل
كثيراً ما طعنوا على الفرقة المحقّة بباطلٍ قاله غيرهم ، كما سنبيّن بعض ذلك في
هذا الكتاب.
ولقد كفى شاهداً على ذلك أنّ مبنى
اعتماد أكثرهم في ذكر قول الخصم وإبطاله على كتاب الصواعق وأمثاله ، وليس في ذلك
ما سوى شتم الشيعة ، والطعن عليهم ، ونسبة الحمق والسفه والكذب إليهم بلا دليل
كاشف عن ادّعائهم ، بل بمحض التوهّم واشتهائهم حيث رسخ في قلوبهم أنّ هؤلاء يعادون
أجلّة الصحابة ، وهو بمعزل عن الحقّ ، بل محض الفرية ، وفي كمال السخافة ؛ لأنّهم
لا يعادون إلاّ من ثبت عندهم أنّه من أعداء محمّد وآله صلىاللهعليهوآله ،
صحابيّاً كان أم غيره ، وسيأتي ، كما هو واضح أيضاً وجود الأخبار في الصحابة
والأشرار ، وبيان حال كلّ واحد ، فانتظر .
الثالث
: أن يجتهد في تحصيل قوّة تمييز ، وجودة
بصيرة ، وصفاء ذهن يعرف بها نور الحقّ من ظلمة الباطل ، بحيث لا يشتبه عليه الشبهة
بالدليل والصحيح بالعليل ، فإنّ كثيراً من الناس حُرموا عن حقّ هذا المقام ، فزلّت
فيه أقدام وضلّ به أقوام ؛ إذ لا شكّ أنّ لكلّ أحد مبطلاً كان أو محقّاً مستمسكاً
يلوذ به ويلجأ إليه ، وكلٌّ يزعم صحّة ما هو معتمد عليه ، كما سيأتي في الفصل
الثاني من الباب الرابع من هذه المقدّمة .
وظاهر أنّ الجميع ليس بصحيح ، بل إنّما
المبطلون في قيد شبهةوحيرة
ضلالة وإن كان بطلانها عندهم غير صحيح .
__________________
ولهذا قال عليّ عليهالسلام : «إنّما سمّيت
الشبهة شبهةً ؛ لأنّها تشبه الحقّ ، فأمّا أولياء اللّه فضياؤهم فيها اليقين ،
ودليلهم سمت الهدى ، وأمّا أعداء اللّه فدعاؤهم [فيها] الضلال ، ودليلهم العمى»، الخبر .
وقال عزوجل
: (
وَإِنَّ
الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ).
وقال سبحانه : ( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ
وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ
لِلطَّيِّبَاتِ )، الآيات وغيرها .
فعلى هذا ، يجب على كلّ قاصد لتحقيق
الحقّ أن يوزن كلّ دليل يرد عليه بميزان الاعتدال ، الذي هو ثبوت كونه ممّا أتاه
الرسول صلىاللهعليهوآله ـ
كما سيتّضح ممّا سيأتي ، لاسيّما في الباب الرابع ـ حتّى يخلص من الوقوع في تيه
الشبهة وحيرة الجهالة ، وينجو بسبب اليقين عن شكوك الضلالة ، ويفرّق بين ما هو
وسيلة القرب إلى الرحمن ، وما هو من خطوات الشيطان ، ويعرف ما أحلّ اللّه له من
الطيبات ، وما حرّم عليه من الخبائث .
ولا يخفى أنّ هذه الحالة أيضاً إنّما
تتحقّق بتصفية النيّة ، وتزكية النفس عمّا ذكرناه من المرديات ، واتّخاذ طريق
تيقّن كونه من المنجيات .
وبالجملة
: أصل توفيق فهم الحقّ وإدراك دليله
إنّما يكون بإلهام من اللّه تعالى وهدايته .
وذلك موقوف على السعي في تزكية النفس ،
وتخليص النيّة ،
__________________
وتفحّص السبيل الذي
يكون خالياً عن الريب في كونه سبيل اللّه الموصل إلى ما أراد من عباده ؛ إذ
حينئذٍ لا محالة يشمله التوفيق من اللّه عزوجل ويهديه
إلى الصراط المستقيم ، كما وعد في قوله عزوجل :
(
وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ).
وقال عزوجل
: (
اللَّهُ
وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ).
وقال : (
أَوَمَنْ
كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ
كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ).
وقال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«ليس العلم بكثرة التعلّم ، إنّما هو نور يقذفه اللّه في قلب من يريد اللّه أن
يهديه».
وقال الصادق عليهالسلام في حديث له : «وكلّما
ارتفع حجاب ازداد نوراً ، فيقوى الإيمان ويتكامل إلى أن ينبسط نوره فينشرح صدره ،
ويطّلع على حقائق الأشياء ، [وتجلّى له الغيوب]
، ويعرف كلّ شيء في موضعه ، فيظهر له صدق الأنبياء عليهمالسلام في
جميع ما أخبروا عنه».
وفي الحديث : «من علم وعمل بما علم
ورّثه اللّه علم ما لم يعلم».
__________________
وفيه : «إنّ الإيمان ليبدو لمعة بيضاء ،
فإذا عمل العبد الصالحات نما وزاد حتّى يبيضّ القلب كلّه ، وإنّ النفاق ليبدو نكتة
سوداء ، فإذا انتهكت الحرمات زادت حتّى يسودّ القلب كلّه ، فيطبع على قلبه ، فذلك
الختم».
وفيه أيضاً : «الخشية ميزانالعلم ، والعملشعاع المعرفة وقلب الإيمان ، ومن حرم
الخشية لا يكون عالماً ، وإن (شقّ العلم في مشابهات)العلم ، قال اللّه تعالى : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )».
وقال أمير المؤمنين عليهالسلام في وصيّته لابنه
الحسن عليهالسلام :
«دع القول فيما لا تعرف ، والخطاب فيما لا تكلّف ، وأمسك عن طريق إذا خِفت ضلالته
. . .» .
وقال أيضاً : «وليكن طلبك بتفهّم وتعلّم
لا بتورّط الشبهات وغلوّ الخصومات ، وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك ،
والرغبة إليه في توفيقك ، وترك كلّ شائبة أولَجَتْك في شبهة ، واستسلمتك إلى
ضلالة» ، ثمّ قال : «ليس طالب الدين من خبط وخلط» ، وقال : «يا بنيّ ، إنّ أحبّ ما
أنت آخذّ به إليّ من وصيّتي تقوى اللّه ، والاقتصار على ما فرض اللّه عليك ،
والأخذ بما مضى عليه الأوّلون من آبائك ، والصالحون من أهل بيتك فإنّهم
__________________
[لم يدعوا أن] نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر ، وفكّروا
كما أنت مفكّر ، ثمّ ردّهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا ، والإمساك عمّا لم
يكلفّوا»،
الخبر .
والآيات والروايات والتجربات فيما نحن
فيه كثيرة ، وكفى ما ذكرناه لصاحب البصيرة ، فعلى العاقل الكامل أن لا يعتمد على
ما في يده ، حتّى يتيقّن بثبوت برهان صدقٍ على حقّيّته ، ولا شكّ أنّ القطع بذلك
إنّما يكون بثبوت وروده من اللّه ورسوله ، فافهم .
* * *
__________________
الفـصل الثالث
في
بيان ما هو من متفرّعات هذا الباب ، من لزوم الحبّ في اللّه ، والبغض للّه ،
وموالاة أولياء اللّه ، ومعاداة أعدائه ، ونصرة دينه وإن كان ذلك مخالفاً لمقتضى
الحميّة العاديّة وحبّ الآباء والأقرباء .
وذلك لأنّ الإنسان إذا صفت نيّته ،
وأخلص العمل لربّه ، وأخرج شوائب الباطل من قلبه يدعوه ذلك إلى أن يحبّ اللّه
ويحبّ محبوبه من أوامره ودينه ومحبّيه ، ومطيعيه المؤتمرين بأمره ، المستنّين
بسنّته ، المتمسّكين بحبله ، لاسيّما المروّجين للدين ، والهداة المهديّين ،
والمجاهدين في نصرة الحقّ المبين كالأنبياء والمرسلين ، والأوصياء والصدّيقين ،
والعلماء والناصحين ، والشهداء والصالحين ؛ ضرورة أنّ كلاًّ يميل إلى جنسه ، ويحبّ
من هو من سنخه ، وحيثما ازدادت المناسبة زادت الرغبة والمحبّة ، والمؤمنون كلّهم
من سنخ واحد ومن طينة واحدة ، كما أنّ الكفّار والفسّاق والمنافقين أيضاً كذلك ،
والمناسبة بينهم وبين الشياطين لذلك ، كما ورد في الأخباروجرّبه الأخيار .
وقد قال اللّه عزوجل : ( وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ
بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ).
__________________
وقال عزّوجل : ( هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ
وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ).
وقال : (
إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ).
ولا كلام في حبّ الأخ لأخيه ، وهكذا
الحال في حبّ محبوب المحبوب ، وهلّم جرّاً .
ولا يخفى أنّ من اللوازم البيّنة لهذا
بغض من خالف هذه الرويّة ، وناقض هذه الطريقة ، لاسيّما الصادّ عن المحبوب والداعي
إلى خلاف ما هو المرغوب ؛ ضرورة أن حبّ الشيء يستلزم كراهة ضدّه ، وكراهة الشيء
تقتضي بغض أهله ، وقد قال عزوجل
: (
حَبَّبَ
إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ
الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ).
فمن كان صادقاً في حبّ اللّه أحبّ
الإيمان وأهله ، ووالاهم وتمسّك بلوازمه ، وكره الكفر والفسوق والعصيان ، وأبغض
أهل ذلك وعاداهم ، وتبرّأ منهم ، ومن لم يكن كذلك فهو كاذب في دعواه ، غادر بهواه
، بل هو من نوع هؤلاء وعدوٌّ لمولاه .
قال اللّه سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ
عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ ).
وقال تعالى : ( لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ
__________________
حَادَّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ
إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ )، الآية .
وقال : (
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ
تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ
الْحَقِّ ).
وقال : (
قَدْ
كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ
قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ
وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ).
وقال : (
تَرَىٰ
كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا )
إلى قوله تعالى : (
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا
اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ )، الآية .
وقال عزوجل :
(
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ).
وقال : (
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ
أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَإِنَّهُ مِنْهُمْ )، الآية .
وقال : (
لَا
تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ )، الآية .
وقال : (
الْمُنَافِقُونَ
وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ
__________________
وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمَعْرُوفِ ).
وقال : (
وَيَحْلِفُونَ
بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ ).
وقال : (
وَالَّذِينَ
كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ).
وقال : (
إِنَّا
جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ).
وقال : (
إِنَّهُمُ
اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
مُهْتَدُونَ ).
وقال : (
وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ
اللَّهِ )الآية .
وقال : (
وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ).
وقال : (
إِنَّمَا
وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ).
وقال : (
مَنْ
يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ )، الآية .
والآيات من هذا القبيل كثيرة ، وسيأتي
بعضها ، وكذلك الأخبار ، ولنذكر نبذاً منها:
__________________
ففي الحديث من طريق أهل البيت عليهمالسلام : «من أحبّ للّه
وأبغض للّه وأعطى للّه ، فهو ممّن كمل إيمانه».
وفيه أيضاً : «إنّ من أوثق عُرى الإيمان
أن تحبّ في اللّه وتبغض في اللّه»،
الخبر .
ورواه ابن أبي الدنيافي كتاب الإخوان : عن البراء، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
كما نقل عنه السيوطي في جامعه.
وفيه أيضاً قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله :
«أوثق عرى الإيمان الحبّ في اللّه والبغض في اللّه ، وتوالي أولياء اللّه
والتبرّي من أعداء اللّه».
وروى مثله الطبراني في كتابه الكبير عن
ابن عبّاس ، عنه صلىاللهعليهوآله .
وسئل الصادق عليهالسلام عن الحبّ والبغض [أ] من الإيمان هو ؟ فقال :
__________________
«وهل الإيمان إلاّ
الحبّ والبغض» ، ثمّ تلا قوله تعالى : (
حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْءِيمَنَ»»، الآية .
وقال عليهالسلام :
«من لم يحبّ على الدين ولم يُبغض على الدين فلا دين له».
وفي مستدرك الحاكم عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
أنّه قال : «من أحبّ قوماً حُشر معهم».
وفي كتاب السخاويعنه صلىاللهعليهوآله
، أنّه قال : «من أحبّ قوماً ووالاهم
حشره اللّه فيهم».
وفيه أيضاً عنه صلىاللهعليهوآله :
«المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل».
وقد رواه أيضاً أبو داود والتِرمذي وغيرهما، لكن عدّه ابن
__________________
الجوزيفي الموضوعات، وقال : وحديث «المرء مع من أحبّ»
متّفق عليه.
وهو ما رواه البخاري في صحيحه بأسانيد عن النبيّ صلىاللهعليهوآله
أنّه قيل له : الرجل يحبّ قوماً ولم
يلحق بهم ؟ فقال : «المرء مع من أحبّ».
وفي صحيحه أيضاً : أنّ رجلاً قال للنبيّ
صلىاللهعليهوآله :
متى الساعة يا رسول اللّه ؟ قال : «ما أعددت لها؟» قال : ما أعددت لها من كثير
صلاة ولا صوم ولا صدقة ، ولكنّي اُحبّ اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله
، فقال : «أنت مع من أحببت».
وفيه أيضاً : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ، وكونوا عباد اللّه إخواناً».
وفي أخبار أهل البيت عليهمالسلام ، عن جابر الجعفي قال
: قال أبو جعفر الباقر عليهالسلام :
«إذا أردت أن تعلم أنّ فيك خيراً فانظر إلى قلبك ، فإن كان يحبّ أهل طاعة اللّه
ويبغض أهل معصيته ، ففيك خير واللّه يحبّك ، وإن كان يبغض أهل طاعة اللّه ويحبّ
أهل معصية اللّه ، فليس فيك خير واللّه
__________________
يبغضك ، والمرء مع من
أحبّ».
أقول
: لقد تبيّن ممّا بيّنّاه أنّ الحبّ
الحقيقي الذي يكون خالصاً للّه تعالى إنّما يتحقّق من صميم القلب ويتمّ ، والمحبّ
الصادق الواقعي الكامل في المحبّة إنّما يكون باجتماع شرائط يستلزم كلٌّ منها
الآخَر إذا كان كاملاً تامّاً غير ناقص ، بل كلٌّ علامة الآخَر وثمرة تمام الحبّ ،
بحيث مهما ظهر النقص في أحدهما كان ذلك علامة نقص أصل الحبّ ، بل ربّما يدلّ على
نفيه اُمور :
أحدها
: حبّ أصفياء اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله وأوليائهما
، وما أنزله اللّه وما أمر به رسوله صلىاللهعليهوآله
، فإنّ ذلك من حبّ محبوب المحبوب ، فيجب
أن يحبّ ما ثبت أنّه من الدين الذي أمر اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله به
، وأن يحبّ كتاب اللّه المجيد ، وأن يحبّ آل محمّد عليهمالسلام وأهل
بيته الذين نصّ اللّه تعالى بطهارتهم،
وأوجب في كتابه مودّتهم،
وجعلهم الرسول قريناً لكتاب اللّه،
وصرّح بمناقبهم وحسن حالهم ووجوب حبّهم ، وأنّهم منه وهو منهم ، كما سيأتي في
مناقبهم مفصّلاً ، وأنّ أصلهم عليّ وفاطمة والحسنان صلوات اللّه عليهم ، وأن يحبّ
عموماً من السابقين واللاحقين كلّ مؤمن باللّه وكتبه ورسله وجميع ما جاء به
النبيّ صلىاللهعليهوآله محبّ
لما ذكرناه وخصوصاً من لم تكن شبهة في ثبوت إيمانه وظهور حُسن حاله ، بحيث يكون
بيّناً من أحواله وأفعاله وأقواله وأطواره وآثاره رسوخ حبّ جميع هؤلاء الذين
__________________
ذكرنا وجوب حبّهم في
قلبه ، صحابيّاً كان أو غيره ؛ لما سيظهر ممّا يأتي من وجود غير الخيّر في الصحابي
أيضاً .
وثانيها
: اتّباع أوامر اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ،
ومتابعة هؤلاء الذين بيّنّا وجوب محبّتهم ، واكتساب حالتهم ، واقتفاء آثارهم ،
والاقتداء بأطوارهم ، وترك مخالفتهم ، بل اجتناب ما فيه استشمام كراهتهم ؛ ضرورة
أنّه من أحبّ قوماً اكتسب أحوالهم واتّبع آثارهم ، ولم يرض إلاّ بما فيه رضاهم ،
كما هو المجرَّب المتعارف أيضاً .
ونعم ما قال من قال ـ كما نقل السخاوي
وغيره ـ : اعلم أنّك لن تلحق بالأخيار حتّى تتّبع آثارهم ، وحتّى تأخذ بهديهم
وتقتدي بسنّتهم ، وتصبح وتمسي على منهاجهم حرصاً على أن تكون منهم ، ثمّ ذكر شعراً
:پ
تَعصِي الإلهَ وأنتَ تُظهرُ حُبَّهَ
|
|
هذا لَعمري في القياس بدَيعُ
|
لَوّ كانَ حُبُّكَ صَادِقاً
لأَطَعتَهُ
|
|
إنّ المُحِبَّ لِمَن يُحبُّ مُطيع
|
قال : ومنه قوله تعالى : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ
نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ )، وسيأتي لهذا زيادة توضيح .
وثالثها
: بغض أعداء اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ومخالفيهما
سرّاً أو جهاراً كالذين لم يأتمروا بأوامرهما ولم يستنّوا بسنّتهما ، واتّبعوا
الأهواء وتمسّكوا بالآراء ، لاسيّما الذين نبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم ، ولم
يعبأوا بما جاء به نبيّهم ، فعادوا أولياءه ووالوا أعداءه ، وظلموا أهل بيته ،
وحملوا الناس على
__________________
أكتاف آل محمّد عليهمالسلام ، كما يأتي تبيانه
غير مرّة .
ولنذكر هاهنا بعض كلام القاضي عياض بن
موسىفي كتاب الشفا ذكره
في هذا المقام حيث إنّ كلامه مقبول عند المخالفين وحجّة عليهم ؛ فإنّه من أعاظمهم
.
قال في فصل علامة محبّة النبيّ صلىاللهعليهوآله :
اعلم أنّ من أحبّ شيئاً آثره وآثر موافقتهوإلاّ
لم يكن صادقاً في حبّه وكان مدّعياً محضاً ، فالصادق في حبّ النبيّ صلىاللهعليهوآله من
تظهر علامات ذلك عليه .
وأوّلها الاقتداء به واستعمال سنّته ،
واتّباع أقواله وأفعاله ، وامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، والتأدّب بآدابه في
عسره ويسره ومنشطه ومكرهه ، وشاهد هذا قوله تعالى : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ
اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ).
ثمّ إيثار ما شرعه وحضّ عليه على هوى
نفسه وموافقة شهوته ، قال اللّه تعالى : (
وَالَّذِينَ
تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ
إِلَيْهِمْ )
إلى قوله : (
وَيُؤْثِرُونَ
عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ )،
الآية .
__________________
ثمّ إسخاط العباد في رضا اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله .
قال : وقد روى سعيد بن المسيّبعن أنس ، قال : قال لي رسول اللّه صلىاللهعليهوآله :
«إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غشّ لأحد فافعل ، فإنّ ذلك من سنّتي ، ومن
أحيا سنّتي فقد اُحبّني ، ومن أحبنّي كان معي في الجنّة».
قال : فمن اتّصف بهذه الصفة فهو كامل
المحبّة [للّه]
، ومن خالفها في بعض ما ذكر فهو ناقص المحبّة ولا يخرج عن اسمها بدليل قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم للذي
حدّه في الخمر فلعنه بعضهم ، فقال : «لا تلعنه فإنّه يحبّ اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ».
أقول
: ولكن قد ينجرّ بكثرة المخالفة كمّاً
وكيفاً إلى أن يخرج عن الاسم بالمرّة ، بل يحكم بنفاقه إن ادّعاها ، كما يشهد لهذا
قول اللّه سبحانه وتعالى : (
إِنَّمَا
التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ) إلى قوله : ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ
__________________
الْمَوْتُ )،
الآية ، وقوله تعالى : (
وَمَنْ
يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ )،
الآية وغيرهما ، فافهم .
قال القاضي : ومن علامات محبّة النبيّ صلىاللهعليهوآله كثرة
ذكره ، وكثرة شوقه إلى لقائه ، وتعظيمه له ، وتوقيره عند ذكره ، وإظهاره الخشوع
والانكسار عند سماع اسمه وأمثال ذلك.
أقول : وقد روى الحافظ أبو نعيموالديلميوغيرهما عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «من أحبّ شيئاً أكثر ذكره».
وقد قال سبحانه في صفة المؤمنين : ( إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ
قُلُوبُهُمْ )، الآية .
وأمثالهما من الآيات والروايات الدالّة
على ما ذكره عديدة ، مع
__________________
ظهوره في نفسه .
ثمّ لا يخفى أنّ هذه العلامة بل ما
قبلها أيضـاً كما هي علامـة في حبّ النبيّ صلىاللهعليهوآله
علامة في حبّ أهل بيته عليهمالسلام الذين أنزل اللّه
طهارتهم،
وأمر بمودّتهم،
وقرنهم النبيّ صلىاللهعليهوآله بكتاب
اللّه في لزوم التمسّك بهماكما
سيظهر ، فمن ادّعى محبّتهم بدون ذلك كان غير صادق في دعواه ، فافهم .
قال القاضي : ومن العلامات أيضاً :
محبّته لمن أحبّ النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
ومن هو متّصل بسببه ، كأهل بيته وصحابته من المهاجرين والأنصار ، وعداوة من :
عاداهم ، وبغض من أبغضهم وسبّهم ؛ لأنّ من أحبّ شيئاً أحبّ من يحبّه .
وقد قال صلىاللهعليهوآله
في الحسن والحسين عليهماالسلام : «اللّهمّ إنّي
اُحبّهما فأحبَّهما».
وقال : «من أحبّهما فقد أحبّني ومن
أحبّني فقد أحبّ اللّه ، ومن أبغضهما فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض اللّه».
__________________
وقال في فاطمة عليهاالسلام : «إنّها بضعة منّي ،
يغضبني ما أغضبها».
أقول
: والأخبار من هذا القبيل ، وكذا في
عليٍّ عليهالسلام متواترة
نقلها المخالف والمؤالف ، كما سيأتي في مناقبهم ، فلا شبهة حينئذٍ في ثبوت ذلك لهم
.
ومنه يظهر وجوب بغض جماعة ممّن أحبّهم
المخالفون من الصحابة وغيرهم ؛ حيث ثبت ـ حتّى بنقل المخالفين ، كما سيأتي في
محلّه ـ أنّهم أغضبوا هؤلاء وباغضوهم ، حتّى أنّ جماعة منهم قاتلوهم جهاراً
وسبّوهم ، ومنه يستفاد ـ كما يظهر من غيره أيضاً ، كما سيأتي ـ أنّ وجوب حبّ
الصّحابة ـ الذي ذكره هذا الرجل ـ إنّما هو فيمن ثبت ووضح أنّه مات على هذه الشروط
، ولم يظهر منه ما ينافي حبّ أحد من هؤلاء الذين هم أصل أهل البيت عليهمالسلام ، فتأمّل ولا تغفل
عمّا في كلام هذا الرجل من الاعتراف بما ذكرناه ، ومع هذا يقولون بلزوم حبّ كلّ من
عُـدّ من الصحابة ، حتّى معاوية وعمرو بن العاصوأمثالهما
الذين سبّوا عليّاً والحسنين عليهمالسلام جهاراً
، وهم أيضاً سبّوهم ، فافهم .
قال القاضي : ومن العلامات أيضاً : بغض
من أبغض اللّه ورسوله ، ومعاداة من عاداه ، ومجانبة من خالف سنّته وابتدع في دينه
، وكذا استثقاله
__________________
كلّ أمر يخالف شريعته
، قال اللّه تعالى : (
لَا
تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ )،
الآية ، وقد مرّت .
أقول
: هذا الكلام منه بعد ذِكره كون بغض مَن
ذَكره مِن أهل البيت عليهمالسلام بغض
النبيّ صلىاللهعليهوآله ينادي
بما ذكرناه آنفاً ، لاسيّما معاوية وأمثاله الذين ظهرت منهم أيضاً البدع ومخالفة
السُّنّة ، وحملها أتباعهم على الاجتهاد حميّةً وتعصّباً لهم ، كما سيتّضح حقّ
الاتّضاح.
قال القاضي : ومن العلامات أن يحبّ
القرآن الذي أتى به صلىاللهعليهوآله وهدى
به واهتدى وتخلّق به.
أقول
: ومن الواضحات أنّ حبّ القرآن إنّما
يكون بالعمل بما فيه ، لا بمحض التلاوة والتغنيّ فيه مع نبذه وراء الظهر عند العمل
، كما قال صلىاللهعليهوآله :
«يقرؤون القرآن ولا يتجاوز حناجرهم»،
وسيأتي أيضاً : أنّ علمه عند أهل البيت عليهمالسلام الذين
قرنهم الرسول صلىاللهعليهوآله به
وأمر بالتمسّك بهما ، وعلى هذا لا يحبّ القرآن أيضاً من ترك متابعتهم وتمسّك بما
سواهم ، فافهم .
قال القاضي : ومن علامة حبّ النبيّ صلىاللهعليهوآله أيضاً
: شفقته على اُمّته ونصحه لهم وسعيه في مصالحهم ورفع المضارّ عنهم ، كما كان هو صلىاللهعليهوآله بالمؤمنين
رؤوفاً رحيماً.
أقول
: لا يخفى أنّ عمدة المضارّ إضلالهم
عمّا أمر به النبيّ صلىاللهعليهوآله من
__________________
التمسّك بالكتاب
والعترة .
ثمّ إنّه ذكر الحديث المشهور المناسب
لهذا المقام ، بل لغيره أيضاً ، وهو ما رواه جماعة عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «إنّ الدين النصيحة ، إنّ الدين النصيحة ، إنّ الدين النصيحة» ، قالوا : لمن
يا رسول اللّه ؟ قال : «للّه ولكتابه ولرسوله وأئمّة المسلمين وعامّتهم».
ونقل عن بعضهم : أنّ النصحللنبيّ صلىاللهعليهوآله
في حياته الجهاد دونه ، والمحاماة عنه ،
ومعاداة من عاداه ، والسمع والطاعة له ، وأمّا بعد وفاته فالتزام التوقير والإجلال
له ، ومحبّة أهل بيته وأصحابه ، ومجانبة من انحرف عن سنّته والتحذير منه.
أقول
: قد بيّنّا آنفاً ـ كما سيتّضح أيضاً ـ
لزوم تخصيصٍ في الأصحاب ، وأنّ أصل أهل البيت : عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام .
ثمّ قال : وأمّا النصح لأئمّة المسلمين
: طاعتهم في الحقّ ، ومعونتهم فيه وأمرهم به ، وتذكيرهم إيّاه ، وترك الخروج عليهم
، وإفساد قلوب الناس عليهم.
أقول
: إنّ هذا التفسير منهم مبنيٌّ على ما
التزموه من تحقّق الإمامة بالبيعة وإن كان جاهلاً صاحب خطأ وعصيان ، وسيأتي في
محلّه أنّ الحقّ أنّ الإمامة كالنبوّة ، فلا حاجة إلى بعض قيوده ، بل نصح الأئمّة
هو مثل نصح النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
وقد مرّ مؤيّداً له من حكاية سفيان الثوري ، وخطبة مسجد
__________________
الخيف في الحديث الحادي
عشر من أحاديث فاتحة الكتاب.
ثمّ لا يخفى أنّ إيرادهم ترك الخروج
هاهنا مع اعتقادهم بحسن حال أهل الجمل وغيرهم غريب .
فتأمّل في جميع ما ذكرناه حتّى تعلم
أيضاً أنّ المحبّ الذي يكون مستجمعاً للشروط المذكورة ، فلا شكّ في كونه أيضاً
محبوباً عند اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله والمؤمنين
ـ الذين رؤساؤهم أهل البيت عليهمالسلام ـ
ومعدوداً من أوليائهم كما أنّهم أولياؤه ، ومن الذين رضي اللّه عنهم ورضوا عنه ؛
لظهور كون الحبّ من الطرفين ، وقد سبقت الآيات والروايات الشاهدة له .
وكذا تعلم أنّ البغض أيضاً كذلك ، وأنّ
من أحبّ محبّي أهل البيت عليهمالسلام فهو
من محبّيهم ، ومن أبغضهم فهو من مبغضيهم ، كما تبيّن أيضاً .
وفي أخبار أهل البيت عليهمالسلام أنّ الصادق عليهالسلام قال لأصحابه : «إنّ
علامة بغض الناس لنا بغضهم لكم مع علمهم بأنّكم تحبّوننا ؛ إذ لا تجد أحداً يقدر
أن يقول : اُبغض آل محمّد صلىاللهعليهوآله »
، وقال : «الناصب لنا من نصب العداوة لكم».
ثمّ إذا عرفت هذا كلّه ، فلا يخفى
حينئذٍ عليك ، بل لا تبقى لك شبهة في أنّ من اللوازم الدينية التبرُّؤ من الذين
ظهر منهم ما ينافي مقتضى حبّ أهل البيت عليهمالسلام ،
لاسيّما الذين ظلموهم وخذلوهم ، ووصلت منهم الأذيّة إليهم وأغضبوهم ، وأنّ من لم
يتبرّأ منهم فليس من اللّه في شيء .
وسيأتي أيضاً في محلّه تبيان صدور هذه
الأشياء من جمعٍ ممّن عُدّ
__________________
من الصحابة ومن غيرهم
، وأنّ الشيعة لأجل هذا يبترّؤُون من هؤلاء الجماعة ، ويبغضونهم ، ويلعنونهم ،
ويجعلون حبّهم مقصوراً على من لم يكن كذلك ولم يحبّ اُولئك ، فعلى هذا لا يرد
عليهم اعتراض في ذلك ، بل الاعتراض على من ادّعى حبّ الجميع ؛ لاستلزامه حبّ من لم
يحبّ اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ولم
يحبّه اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ،
كما تبيّن آنفاً ، وهو في حكم الجمع بين النقيضين ، بل هو عين عداوة اللّه ورسوله
صلىاللهعليهوآله ،
كما اتّضح ممّا مرّ .
ومنه يظهر أيضاً أنّ ما نسبه المخالفونإلى الشيعة من عداوة الصحابة على
الإطلاق محض فرية باطلة ، وتهمة صريحة ، كيف ! وفي الصحابة عندهم من عُدّ في زمرة
أهل البيت عليهمالسلام كسلمان
ونظرائه .
وكذا ما تمسّك به أيضاً المخالفون من
منع اللعن مطلقاًولو
تعلّق بمستحقّه محض مجادلة بالباطل ليدحضوا به الحقّ ؛ إذ لم يقل عاقل بجواز لعن
من كان خيّراً ، بل ولا مشتبه الحال ، بناءً على أنّ الوقوف عند الشبهات خير من
الاقتحام في الهلكات ، ولكن لا يلزم من هذا عدم جواز لعن الأشرار ، لاسيّما الذين
ثبت أنّهم من أهل النار بظلمهم وبغضهم أهل البيت الأطهار ، كيف لا والقرآن مشحون
بلعن الظالمين وأمثالهم ، والأخبار واردة بل متواترة في لعن النبيّ صلىاللهعليهوآله وعليّ
عليهالسلام وغيرهما
بعضَ الأشرار ؟
قال اللّه تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ).
وقال : (
أُولَٰئِكَ
يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ).
__________________
وقال : (
أُولَٰئِكَ
جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ ).
وقال : ( أَلَا لَعْنَةُ
اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ )، الآيات وغيرها .
وستأتي الأخبار في محالّها مع كلامٍ
شافٍ)في ذلك في الختام أيضاً
، مع أنّ اللعن لغةً هو : الطرد والإبعاد عن رحمة اللّه ، ويقرب منه معنى السخط
والغضب .
وما تشبّثوا به في ذلك من بعض الأخبار ـ
كقوله صلىاللهعليهوآله :
«لا ينبغي للصدّيق أن يكون لعّاناً»،
وقوله : «ليس المؤمن بالطعّان واللعّان ، ولا الفاحش ولا البذي»وكذا أمثالهما ـ ليس من هذا الباب ولا
مدخل له في محلّ النزاع ؛ إذ الظاهر أنّ المراد المنع عمّا هو العادة المستمرّة
بين الأعراب ، بل مطلق العرب في محاوراتهم ومخاطباتهم مع أكثر الناس ، من إكثار
اللعن واتّخاذه خلقاً وعادةً ، وجعله جزءاً لكلّ جملة من الكلام ، حيث يقولون في
مفتتح كلّ كلام : يا ملعون كذا ، يا مشؤوم كذا ، يا ملعون الأب كذا ، ونحو ذلك .
وبالجملة
: كلّ ما ذكروه من الأخبار في هذا
المقام معارض بأقوى منه سنداً ودلالةً من الآيات والأخبار وغيرها ، كما سيأتي في
محلّه ، بل غير
__________________
مرّة ، فلابُدّ
حينئذٍ من تأويله أو طرحه ، بل الحقّ إنّ لكلّ واحد منها معنىً مناسباً غير منافٍ
لما ذكرناه ، يدركه من ترك الاعتساف ، لا نطيل الكلام بذكره ها هنا ، وربّما نذكر
بعضاً من ذلك مهما ناسب ، فلا تغفل .
* * *
الباب الثاني
في
بيان الامتحان بميل النفوس إلى الهوى ورغبتها إلى الدنيا وزخارفها ، وما ينتج من
ذلك وذكر النهي عنه .
اعلـم أنّ اللّه عزوجل حيـث أراد تبيان امتياز المطيعين له عن
غيرهم ، واستحقاقهم لمزيد الأجر جعل ممّا امتحن عباده به أيضاً ميل طبائعهم إلى
شهوات الدنيا ، ورغبتهم إلى ما زيّن لهم الشيطان من مرديات الهوى ، كحبّ الشهوات
من النساء والبنين ، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، والخيل المسوّمة ،
والأنعام والحرث ، لاسيّما حبّ الرئاسة والعزّ والجاه ، الذي هو عمدة أسباب
التحاسد والتباغض والتنافس،
بل الفتن والفساد ، والاختلافات ، والنفاق والكذبات ، بل ذلك اُمّ الفساد في
العالم ؛ بحيث إنّه قد يرتكب الناس فيه قتل الأولاد والأحفاد ، ولا يبالون بذهاب
الدين وهلاك العالمين ، ولقد كان ذلك شائعاً ذائعاً في زمن جميع الاُمم وهلمّ
جرّاً إلى انقضاء العالم ، حتّى أنّ هذا كان سبب عداوة الشيطان لآدم عليهالسلام ، بل هو داء دفين في
قلب كلّ شخص لا يسلم منه إلاّ من رحمهالله بالعصمة
والتوفيق .
__________________
ولهذا ذمّ اللّه
سبحانه حبّ الدنيا وشهواتها كراراً ومراراً ، ونهى عن ذلك مع التوبيخ والتهديد
جهاراً ، وألزم الناس بالجهد في إزالته وتزكية النفس عنه بترك مقتضيات الهوى ،
وعيّن في كلّ عصر من يردعهم عنه ، ويأخذهم إلى الخير والهدى ، وقرّر الحدود
والتعزيرات ، وأمر بالقصاص والديات ، ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة
.
وتوضيح هذا في ضمن ثلاثة فصول :
* * *
الفصل الأوّل
في
بيان جمل ممّا يدلّ على شيوع هذه الحالات وابتلاء عامّة الناس بها في جميع الاُمم
السابقة واللاحقة ، من زمان آدم عليهالسلام إلى قيام الساعة ، حتّى أهل عصر
النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وكذا من بعدهم ،
وذكر ما يدلّ على كون تلك الحالات من صفات أهل السوء منهم والأشرار دون الأخيار .
لا يخفى على كلّ ذي مسكة أنّ ظهور هذا
المدّعى ، بحيث ينادي بأنّه أمر لا حاجة له إلى برهان ، بل ولا إلى مزيد بيان ؛
لأنّه شاع وذاع في الأزمان والأصقاع ، بحيث صار من قبيل المحسوسات والمشاهدات ، بل
بزيادة الشيوع وارتفاع قبح الوقوع صار من أعظم المتعارفات .
ألا ترى حال هذا العالم الجمهورالمشغولين بالفسق والفجور ، والمشّائين
بشهادة الزور ، أتباع الجائرين ، وأعوان الظالمين ، الحلال عندهم ما حلّ بساحتهم ،
والسفيه بينهم من منعهم عن سفاهتهم ؟
ألا سمعت حكاية قابيل وما فعل بأخيه
هابيل ، وهو أوّل أولاد أبي البشر ، وقد أوقعه الهوى والحسد في مثل ذلك الشرّ ؟
__________________
ألا تتذكّر قصّة إخوة يوسف وصيرورتهم
سبب تلك المتاعب على أخيهم وأبيهم بمجرّد الحسد ومتابعة الهوى ، وهم أسباط
الأنبياء ومن أصلاب أهل الهدى ؟
وفي روايات عديدة أنّ قوم لوط كانوا في
بدء الأمر صلحاء مؤمنين مطيعين لنبيّهم ، فاحتال الشيطان حتّى لاطوا به فوجدوا منه
لذّة زائدة ، فشرعوا في اللواط وشاع بينهم ، بحيث خرجوا عن طاعة نبيّهم ؛ خوفاً من
فوات تلك الشهوة.
وقد اتّفق المؤرّخون والمفسّرون على أنّ
السامريكان
مسلماً عارفاً بحقّيّة ما عليه موسى وهارون عليهماالسلام ،
بل من أعظم أصحابهما ، ومع هذا أوقع (آلافاً من)قوم موسى عليهالسلام باتّخاذ
العجل في الضلال ، ولم يكن له مقصد ما سوى تحصيل العزّ والجاه والمال .
وكذا بلعم بن باعوراءكان من علماء بني إسرائيل وعنده الاسم
الأعظم ، فصاحب فرعونوأحبّه
واتّبع هواه حتّى انسلخ من علمه وكفر
__________________
بربّه ، كما قصّ
اللّه عزوجل في
كتابه.
وقد روي وذكر المفسّرون أيضاً : أنّ
فرعون لمّا رأى من موسى عليهالسلام معجزاته
عزم على الإيمان به فصدّه عنه هامان وقال له : أنت بعد ما ادّعيت الاُلوهيّة
والناس تحت طاعتك وأموالهم بيدك ، كيف تجعل نفسك تحت حكم رجل كان تحت حكمك ؟ وكيف
تصبر على مثل هذه الذلّة ؟ فقبل كلامه وكفر جهاراً مع علمه بحقيقة الحال ؛ ولهذا
لمّا يئس من الحياة (
قَالَ
آمَنْتُ )، الآية .
وكذلك مَلِك زمان زكريّا ويحيى كان
معتقداً بهما مطيعاً لهما فلمّا عشق الزانية التي منعه يحيى عمّا كانت تشتهيه ،
وامتنعت لذلك عن تمكينه من نفسها شاكية من يحيى أمر بذبحه وكفر بربّه بمحض تلك
الشهوة الدنيئة.
وكذا علماء اليهود وأعيانهم وأحبارهم
أنكروا نبوّة عيسى عليهالسلام ،
وافتروا على مريم بالزنى ، مع وضوح المعجزات منه والآيات ؛ خوفاً من
__________________
فوات العزّ والجاه
عنهم ، ومتابعة الناس لهم ، وزوال ما كان يأكلون من الأموال منهم .
وكفى في هذا إنكار اليهود والنصارى
متعمّدين وجود بعثة النبيّ صلىاللهعليهوآلهواسمه
في كتبهم ، حتّى أراهم موضع ذلك في تلك الكتب وبيّنه عليهم ؛ ولهذا لمّا دعاهم إلى
المباهلة تمنّعوامنها
بحيث رضوا بالجزية ولم يرتضوا بها ، كما ينادي بجميع ذلك حكايتها .
أوَلا تتأمّل فيما صدر من يزيد وعُمّاله
كابن زيادوأتباعه
، لاسيّما ابن سعدـ
الذي أبوه عند القوم من العشرة المبشّرة ـ وسائر أعيان الكوفة بالنسبة إلى قرّة
عين رسول الثقلين أبي عبداللّه الحسين وأهل بيته عليهمالسلام
__________________
بنات رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ،
حتّى داروا بهم اُسراء في البلدان ، ولم يرتدع أحد منهم عن مثل ذلك الطغيان ،
توقّعاً لما ربّما يقع بأيديهم من بعض جوائز أهل العدوان ، مع كون الكوفة جُمجمة
العرب ، ومصر الإسلام ، وكون عامّة أهلها معدودين من شيعة عليّ وآله الكرام ، بل
هم الذين كتبوا إلى الحسين عليهالسلام بأزيد
من عشرة آلاف كتاب ، ودعوه إليهم مصرّحين بانحصار أهليّة الخلافة فيه.
وسيأتي ـ لاسيّما في الفصل الآتي ـ صدور
اُمور عجاب من جماعة ، هم عند المخالفين من رؤوس ذوي الألباب ، مع أنّا لم نذكر
هاهنا ولا فيمابعد
إلاّ قليلاً من كثير ، ويسيراً من جَمّ غفير ، حذراً عن إطالة الكلام بالاستقصاء ،
فمن أراد الاطّلاع على التفصيل ـ لاسيّما ما أشرنا إليه هاهنا ـ فعليه بمراجعة كتب
السير والتفاسير المبسوطة وقصص الأنبياء ، ولكن نشير إلى نبذ من الآيات الواردة في
هذا المقام وما يتّضح به حقّ الاتّضاح أصل المرام :
قال اللّه عزوجل : ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ
مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ
ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ).
وقال تعالى : ( زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا )،
الآية.
__________________
وقال عزّ شأنه : ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي
الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ )
الآية إلى قوله : (
وَمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ).
وقال :(
وَالَّذِينَ
كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ
مَثْوًى لَهُمْ ).
وقال : (
وَيَوْمَ
يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي
حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ
الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ )،
الآية .
وقال : (
إِنَّا
جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ
عَمَلًا ).
وقال سُبحانه : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً
فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا
اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ
الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ )، الآية .
وقال : (
وَلَا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
الْبَيِّنَاتُ )، الآية.
وقال : (
أَفَلَمْ
تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا
__________________
مُجْرِمِينَ ).
وقال : (
ذَٰلِكُمْ
بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا )، الآية .
وقال : (
إِنَّ
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي
صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ )،
الآية .
وقال : (
بَلِ
الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ).
وقال : (
بَلْ
إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا ).
وقال : (
فَلَمَّا
جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا
فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا
بِأَهْلِهِ )، الآية .
وقال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ
اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا )،
الآية .
وقال : (
إِنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ
ثَمَنًا قَلِيلًا )
إلى قوله : (
أُولَٰئِكَ
الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ )،
الآية .
وقال : (
يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ).
__________________
وقال : (
وَإِنَّ
مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ
الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ ).
وقال : (
وَإِذْ
أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ
وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا
قَلِيلًا )، الآية .
وقال : (
وَدَّتْ
طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ )،
الآية .
وقال : (
أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ
وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ )، الآية .
وقال : (
وَدَّ
كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ
كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ
).
وقال عزوجل
: (
أُولَٰئِكَ
الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ).
وقال : (
بَلِ
اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ )،
الآية .
وقال : (
وَإِنْ
يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا
وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ).
__________________
وقال : (
فَقَالُوا
أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ).
وقال : (
إِنْ
يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ
رَبِّهِمُ الْهُدَىٰ ).
وقال تعالى : ( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّىٰ
عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَٰلِكَ
مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ).
وقال سبحانه : ( أَفَمَنْ كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ
مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ).
وقال : (
أَفَرَأَيْتَ
مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ )الآية
.
وقال : (
ثُمَّ
جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ).
وقال : (
يَا
دَاوُودُ )
إلى قوله : (
وَلَا
تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ).
وقال : (
وَيُرِيدُ
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ).
__________________
وقال سبحانه : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا
تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ
ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ).
وقال : (
وَإِنَّ
كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ )،
الآية .
وقال : (
فَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ
بِغَيْرِ عِلْمٍ )، الآية .
وقال سبحانه : ( لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ
وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ).
وقال سبحانه : ( أ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ
سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ).
وقال : (
يَسْتَخْفُونَ
مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ
يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ ).
وقال : (
فَذَرْهُمْ
يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ).
وقال تعالى : ( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ
لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ).
__________________
وقال : (
ذَرْهُمْ
يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ).
وقال : (
بَلِ
الْإِنْسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ ).
وقال سبحانه : ( قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي
وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا * وَمَكَرُوا
مَكْرًا كُبَّارًا ).
وقال حكايةً عن نوح عليهالسلام أيضاً : ( وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ
لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا
ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ).
وقال : (
وَيْلٌ
لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ
مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا )، الآية .
وقال : (
فَأَمَّا
عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ
مِنَّا قُوَّةً )، الآية .
وقال : (
وَأَمَّا
ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ )،
الآية .
وقال : (
وَقَيَّضْنَا
لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ )،
الآية .
وقال : (
وَمَنْ
يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ
__________________
قَرِينٌ
* وَإِنَّهُمْ
لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ).
وقال تعالى : ( وَكَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ
سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ )، الآية .
وقال : (
وَلَقَدْ
جَاءَهُمْ مُوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ )،
الآية .
وقال : (
وَنَادَىٰ
فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ
وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا
خَيْرٌ مِنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ )، الآية .
وقال : (
وَإِذَا
ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ).
وقال : (
أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ
وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ
مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا ).
وقال : (
وَيُرِيدُ
الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ).
وقال : (
وَإِنَّ
الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ )،
الآية .
وقال : (
وَزَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا
__________________
مُسْتَبْصِرِينَ ).
وقال : (
إِنَّ
الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ
لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ).
وقال : (
فَإِذَا
مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ )،
الآية .
وقال في قصّة طالوت : ( قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ
الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً
مِنَ الْمَالِ )، الآية .
وقال : (
أَمْ
يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ
آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )،
الآية .
وقال : (
وَكَذَٰلِكَ
جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا
يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ).
وقال : (
وَكَذَٰلِكَ
جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي
بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ).
وقال : (
وَإِنْ
تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ
يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ).
وقال سبحانه : ( وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ
عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ
__________________
لَفَاسِقِينَ ).
وقال : (
فَمَا
كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ )،
الآية .
وقال : (
وَإِنْ
يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا
يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ).
وقال : (
إِنَّ
كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ
بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ )،
الآية .
وقال : (
يَعْرِفُونَ
نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا )، الآية .
وقال : (
قُلْ
هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ
يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ).
وقال : (
فَإِذَا
رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا
نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا
آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ).
وقال : (
يَعْلَمُونَ
ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ).
وقال : (
وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
__________________
بِغَيْرِ
عِلْمٍ )، الآية .
وقال : (
وَمَا
أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا
أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا
نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ).
وقال : (
وَمَا
أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا
زُلْفَىٰ )، الآية .
وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ
اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ
بِاللَّهِ الْغَرُورُ ).
وقال : (
وَالَّذِينَ
يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ
يَبُورُ ).
والآيات من هذا القبيلأكثر من أن تحصى ، وستأتي أيضاً طائفة
منها في الفصول الآتية مع الأخبار أيضاً ، على أنّ هذه المقدّمة ـ كما بيّنّا ـ من
البديهيّات ، كما يجد كلّ إنسان من حال نفسه مهما تأمّل فيه ؛ ولهذا نكتفي ها هنا
بذكر معدود من الأخبار ولا نطيل .
ففي الحديث عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «ثلاث مُهلكات : شحّ مطاع ، وهوىً متّبع ، وإعجاب المرء بنفسه»الخبر ، إلى قوله : «ولا ينفكّ عنها
__________________
بشر».
وقال صلىاللهعليهوآله
: «أبغض إله عُبد في الأرض عند اللّه
تعالى هو الهوى».
وقال صلىاللهعليهوآله
: «العلم علمان : علم على اللسان فذلك
حجّة اللّه على ابن آدم ، وعلم في القلب فذلك العلم النافع».
وقال عيسى عليهالسلام :
«متى تصفون الطريق للمدلجين وأنتم مقيمون مع المتحيّرين ؟».
وقال الصادق عليهالسلام : «إنّ رواة الكتاب
كثير ، وإن رُعاته قليل ، فكم من مُستَنصِحٍ للحديث مستغشٍ للكتاب»، الخبر .
وفي الحديث ـ رواه جمع ـ أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة ، فمن كان له أصل في الجاهليّة فله في
الإسلام أصل».
وفي خطبة لأمير المؤمنين عليهالسلام أنّه قال : «إنّما
بدء وقوع الفتن أهواء تُتّبع ، وأحكام تُبتدع ، يخالف فيها حكم اللّه ، يتولّى
فيها رجال رجالاً»،
الخبر .
__________________
وقال في موضعٍ آخَر : «إنّ الدنيا حلوة
خضرة ، تفتن الناس بالشهوات وتزيّن لهم بعاجلها ، وأيم اللّه ، إنّها لتغرّ مَنْ
أمّلها، وتخلف من رجاها»الخبر .
وقال عليهالسلام :
«فلا يلهينّكم الأمل ، ولا يطولنّ عليكم الأجل ، فإنّما أهلك من كان قبلكم امتداد
أملهم ، وتغطية الأجل عنهم»،
الخبر ، كما سيأتي أيضاً .
وقال اللّه عزوجل لعيسى عليهالسلام في
مناجاته : «يا عيسى ، ما أكثر البشر وأقلّ عدد من صبر ، الأشجار كثيرة وطيّبها
قليل ، فلا يغرّنّك حسن شجرة حتّى تذوق ثمرتها»،
الخبر .
والأخبار من هذا القبيل كثيرة ، وكفى ما
مرَّ ويأتي ، لاسيّما في الفصلين الآتيين والبابين الجائيين ، فلا تكن في مرية منه
، واللّه الهادي .
__________________
الفصل الثاني
في
توضيح شدّة هذا الشيوع ، أي : شيوع ما مرّ من ميل النفوس إلى الدنيا ، والحالات
التي ذكرنا أنّها نتائجه في هذه الاُمّة ، حتّى الصحابة وأهل عصر النبيّ صلىاللهعليهوآله ، لاسيّما من بعده ، وبيان وجود خصوص
اُمراء السوء فيهم ، وأئمّة الضلالة والمضلّين ، وأعداء آل محمّد وحُسّادهم ،
والمنافقين ، وضعفاء الدين ، والفَسقة ، والجَهلة وأمثالهم ، الذين مناط اُمورهم
الدنيا ولا يبالون بالدين .
وبالجملة
: كانوا بحيث كان النبيّ صلىاللهعليهوآله يخاف
على أكثرهم من الارتداد ، والوقوع في الضلال والفساد مصرّحاً بجميع ذلك لهم ،
ومخبراً بأنّ فيهم الذين هم من أهل النار ، وأمثال ذلك .
ولنذكر هاهنا نبذاً ممّا صدر منهم وورد
فيهم ، بحيث يتبيّن أنّهم كانوا يتعاطون ما فيه الزلّة والقصور ، ولم يكونوا في
المرتبة التي هي المشهورة عند الجمهور على ما سيأتي في المقصد الثاني ، لاسيّما في
المقالة السادسة منه وما بعدها إلى الأخيرة منها .
وتمام الكلام في ضمن ثلاث مطالب :
[ المطلب ] الأوّل :
في بيان نبذ من النصوص القُرآنيّة ،
والآيات الفرقانيّة ، المشتملة على
المقصود ، لاسيّما في
أهل عصر النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
بل في من كان معدوداً من الصحابة ، ولا نذكر إلاّ بعض الآيات التي هي صريحة في هذا
المرام :
فمن تلك الآيات ما في سورة المنافقين ،
حتّى قوله تعالى : (
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ
عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ ).
ومنها قوله سبحانه : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ
اللَّهَ )إلى آخر الآيات التي وردت في أوائل سورة
البقرة في المنافقين الذين كانوا يدّعون الإسلام ظاهراً ، ويعدّهم المسلمون منهم ،
ولم يكونوا في الباطن كذلك ، والآيات في وجود المنافقين في عهد النبيّ صلىاللهعليهوآله ـ
حيث كان يشكل استعلام حالهم ، بل لا يعلم أكثرهم غير اللّه عزوجل ـ كثيرة .
منها : ما في سورة البراءة .
ومنها : ما في سورة الأحزاب والقتال .
ومنها : ما في غيرها .
ونحن لا نذكر إلاّ قليلاً منها ، كقوله
تعالى : (
يَحْذَرُ
الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي
قُلُوبِهِمْ )إلى آخر تلك الآيات .
وقوله تعالى : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ
مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ
نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ )، الآية .
__________________
وقوله تعالى : ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ
لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ
الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ).
ومنها : قوله عزوجل : (
يَقُولُونَ
إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا
)
إلى قوله تعالى : (
وَلَقَدْ
كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ
عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا ).
أقول : سيأتي في الفصل الخامس من
المقالة الأخيرة من المقصد الأوّل وفي الخاتمة عند بيان آية بيعة الشجرة ، أنّها
كانت مشروطة بعدم الفرار ، وإليه أشار سبحانه حيث قال : ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ
إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ
فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ
عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ).
وعلى هذا ، من فرّ بعد ذلك فليس ممّن
رضي اللّه عنه ، بل هو من جملة المعاتَبين بما مرّ آنفاً من قوله تعالى : ( وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ ) الآية .
ومنها : قوله تعالى : ( لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا
أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ
الْمَوْتِ ).
وقوله تعالى : ( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ) إلى قوله سبحانه :
__________________
(
فَإِذَا
جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ
كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ
سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ )،
الآية .
ومنها : قوله عزوجل : (
وَيَقُولُونَ
آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ
مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا
إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ
مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ )
الآيات إلى قوله سبحانه : (
وَمَنْ
يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ
الْفَائِزُونَ ).
ومنها : قوله تعالى : ( كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا
كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ) إلى قوله عزوجل
: (
إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ
تَوْبَتُهُمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ).
ومنها : قوله عزّ جلّ : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا
بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ
اللَّهِ )
إلى قوله تعالى : (
وَلَيَعْلَمَنَّ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ).
وقوله عزوجل
: (
وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ
عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا
تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا ) إلى قوله تعالى : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ
أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ
__________________
بِالْإِثْمِ
فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ).
وقوله عزوجل
: (
وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ )،
الآية .
وقال سبحانه : ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي
الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا
هُمْ يَسْخَطُونَ ).
أقول : إذا كانوا في زمان النبيّ صلىاللهعليهوآله هكذا
فبعده بالطريق الأَولى ؛ ولهذا لم يخرجوا على عمر فإنّه كان يكثر عطاء من كان
يحتاج إلى فزاعته ، بخلاف عثمان ، فإنّه آثر بني اُميّة خاصّة ، وكذا عليّ عليهالسلام فإنّه ساوى بين
جميعهم .
ومنها : قوله تعالى : (
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ
بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ ).
ومنها : آية مسجد ضرار في سورة البراءة.
ومنها : قوله عزوجل : (
وَمِنْهُمْ
مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا
لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا )،
الآية .
وقوله سبحانه : ( وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ
فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا ).
. . الآيات في آخر البراءة .
ومنها : قوله تعالى : ( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ
النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ
__________________
أُذُنٌ ).
ومنها : قوله تعالى : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ
خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ) إلى قوله تعالى : (
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ
عَلَيْهِمْ )، الآية .
ومنها : (
وَإِنْ
تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ )،
وأمثال هذه الآية عديدة ، وفيها توبيخ شديد كما لا يخفى .
ومنها : قوله سُبحانه : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ
اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ).
ومنها : قوله سُبحانه : ( وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ
اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ).
وقوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ
وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ )،
الآية.
ومنها : (
وَمَا
أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ )،
الآية .
وقوله تعالى : ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا
انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا )،
الآية .
__________________
وقوله عزّ وعلا : ( وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا
لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا).
وقوله عزوجل
: (
مِنْكُمْ
مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ )،
الآية .
وقوله عزوجل
: (
كَلَّا
بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ).
وقوله تعالى : ( إِنَّ هَٰؤُلَاءِ يُحِبُّونَ
الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا )وأمثال
ذلك كثيرة .
وقوله عزوجل
: (
مَا
كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي
الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا
أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ).
وقوله تعالى : ( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ
فِتْنَةٌ )الآيتان .
وقوله سبحانه : ( إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ
وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ ).
وقوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ
يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا
كَسَبُوا )
إلى قوله تعالى : (
وَمَا
أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ
* وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ نَافَقُوا )
إلى قوله : (
يَقُولُونَ
بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
__________________
يَكْتُمُونَ ).
وقوله سبحانه : ( ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ
الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ
أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ
الْجَاهِلِيَّةِ )
إلى قوله : (
يُخْفُونَ
فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ )، الآية .
وقوله عزوجل
: (
وَإِذْ
زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ
الظُّنُونَا )، الآية .
ومن الآيات قوله عزوجل : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ
عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ )، الآية .
وقوله عزوجل
: (
إِنَّ
الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ ) إلى قوله تعالى : ( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا
مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ).
وقوله عزوجل :
(
وَمَنْ
يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ
حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ).
وقوله سبحانه : ( فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ).
__________________
وقوله عزوجل
: (
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ
يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ )،
الآية .
وقد مرّ قوله تعالى : ( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ
قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ).
ومنها قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ
يَكْفُرُوا بِهِ )، الآية .
وقوله تعالى : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ )
إلى قوله : (
فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ
مِنَ الْحَقِّ )
إلى قوله أيضاً : (
وَلَا
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ إِلَيْكَ )، الآية .
وقوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا
قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ ) الآيات إلى قوله : ( لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا
آبَاءَهُمْ )، الآية .
وقوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا
عَنِ النَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ
بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ )،
الآية .
__________________
وقوله عزوجل
: (
أَلَمْ
يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا
نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ
فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ).
ومن تلك الآيات قوله عزوجل :(
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ).
وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ
فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ).
وقوله : (
وَقُلْ
لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ
بَيْنَهُمْ )، الآية.
وقوله عزوجل :
(
وَأَوْفُوا
بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ )
الآية إلى قوله : (
وَلَا
تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا ) الآية ، إلى قوله : ( وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ
دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا ) الآية ، إلى قوله : ( وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ
ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ * مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ).
الآية .
وقوله سبحانه وتعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ
كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ).
__________________
وقوله : (
فَعَسَىٰ
أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ).
وقوله عزوجل
: (
يَـأَيُّهَا
الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَتَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ
أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )، الآية .
وقوله سُبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا
لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى
الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ) إلى قوله تعالى : ( إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ
عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ) الآيات إلى قوله : ( عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ
لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ
الْكَاذِبِينَ )
إلى قوله : (
قُلْ
أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ
قَوْمًا فَاسِقِينَ ).
وقوله سبحانه : ( وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى
الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )،
الآية .
وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ) إلى قوله : ( اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا
سَدِيدًا )، الآية .
وقوله تعالى : ( وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ
عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا )،
الآية .
وقوله تعالى : ( لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ
عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ ) إلى قوله : ( وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا
تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ
__________________
بِئْسَ
الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ )
الآية ، إلى قوله : (
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ
الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا )،
الآية .
وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ
الرَّسُولِ )
إلى قوله : (
أَأَشْفَقْتُمْ
أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا
وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ )، الآية .
وقد مرّ قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا
عَنِ النَّجْوَىٰ )، الآية .
وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ
بِالْمَوَدَّةِ )، الآية ، وقد سبق نظائرها .
وقوله : (
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ )،
الآية .
وقوله : (
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ
النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ
تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ).
وقوله تعالى : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ ).
وقوله سبحانه : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا
إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ
__________________
لَهُمُ
الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ).
ثمّ من الآيات ما ورد في النساء ـ أعني
أزواج النبيّ صلىاللهعليهوآله ـ
كقوله تعالى : (
يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا
جَمِيلًا )إلى قوله : ( مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ) إلى قوله : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا
تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ )،
الآية .
وقوله سبحانه : ( وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ
بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا )
إلى قوله : (
عَسَىٰ
رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ )،
الآية .
وقوله عزوجل :
(
ضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا
تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا
عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ )إلى
آخر سورة التحريم .
أقول : وإنّما أكثرنا في ذكر هذه الآيات
صريحاً مع الإشارة إلى البقيّة أيضاً ؛ ليظهر عياناً أنّ ما ادّعاه المخالفون ـ
كما سيأتي في المقالة السادسة من المقصد الثاني ـ من كون الصحابة أجمعين ، بل
الأزواج أيضاً مسلّمين في حسن الحال باطل قطعاً ، بل هم أيضاً كانوا كسائر أهل
الأعصار من وجود ما ذكرناه سابقاً فيهم من الأشرار والجهّال والأخيار .
__________________
وكفى في هذا أنّ اللّه عزوجل لم يحكم بالجنّة لأحد منهم أبداً إلاّ
مع شرط صحّة الإيمان ، والاقتران بالعمل الصالح ؛ وذلك ليُظهر عدم كفاية أحدهما ،
وأنّ محض ادّعاء الإيمان والتلبّس بالإسلام غير مفيد .
فتأمّل جدّاً مع الاتّصاف بالإنصاف ؛
حتّى يتبيّن لك أنّه لا يجوز الاعتماد على كلّ صحابيّ ، ولا كلّ معدود من المسلمين
في عصر سيّد المرسلين ، ولا على كلّ أفعالهم وأعمالهم ، لا سيّما بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله وانقطاع
إرشاده ونصيحته لهم وردعه إيّاهم إلاّ بعد أن يتّضح بالدليل القاطع حسن حال الرجل
، وكون الفعل من أوامر اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله.
وادّعاء اختصاص الذمّ الذي فيها بجماعة
معلومين في ذلك العصر عند الأكثر تحكّم ساقط ، خلاف صريح كثير من مضامين هذه
الآيات والأخبار الآتية .
نعم ، كان بعض المنافقين معلومين عند
الأكثر ، وبعضهم عند النبيّ صلىاللهعليهوآله
وبعض خواصّه ، فتدبّر .
المطلب الثاني :
في بيان نبذ من الأخبار النبويّة التي
ذكرها المخالفون للشيعة في كتبهم المعتبرة عندهم ، وهي دالّة على ما نحن فيه ممّا
ذكرناه في عنوان الفصل.
روى الترمذيفي صحيحه وقال : إنّه حديث حسن ، ورواه
الطبراني أيضاً ، كلاهما عن عمرو بن عوف،
ورواه الطبراني أيضاً عن سهل،
كلاهما عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «إنّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً ،
__________________
فطوبى للغرباء الذين
يصلحون ما أفسد الناس بعدي من سنّتي».
وذكر صاحب الكشاففي تفسير سورة النصر : عن جابر بن
عبداللّهأنّه
بكى ذات يوم فقيل له في ذلك ، فقال : سمعت
__________________
رسول اللّه صلىاللهعليهوآله يقول
: «دخل الناس في دين اللّه أفواجاً ، وسيخرجون منه أفواجاً».
وروى السيوطي من كتاب المستدرك ، ومسند
ابن حنبل ، وكتاب ابن حبّان : عن أبي أمامة ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «لتنقضنّ عُرى الإسلام عروة عروة ، فكلّما انتقضت عروة تشبّث الناس بالتي تليها
، فأوّلهنّ الحكم وآخرهنّ الصلاة».
وروى من كتاب ابن عساكر : عن واصل، عنه صلىاللهعليهوآله
قال : «أوّل ما يذهب من هذا الدين
الأمانة ، وآخر ما يبقى منه الصلاة ، وسيصلّي من لا خير فيه»، الخبر.
أقول
: سيأتي في المقالة السادسة من المقصد
الثاني مثله ، وإذا لوحظ هذا مع سابقه يظهر أنّ المراد بالأمانة هي الحكومة ، وهو
أيضاً الذي يظهر ممّا يأتي في المقالة المذكورة ، فافهم .
__________________
وأمّا الصلاة فظاهر أنّهم لم يحفظوا
صلاة النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
وإلاّ لما اختلفوا في كيفيّتها وأحكامها .
وروى السيوطي من كتاب ابن عساكر : عن
رجل ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «ليت شعري كيف حال اُمّتي حين يصيرون صنفين : صنفاً ناصبي نحورهم في سبيل اللّه
، وصنفاً عُمّالاً لغير اللّه».
وروى من الكتاب الكبير للطبراني ، ومن
صحيح الترمذي : عن عائشة،
ومن المستدرك أيضاً ، عن عليّ عليهالسلام ،
عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «سبعة لعنتُهم ولعنهم اللّه وكلّ نبيّ مجاب : الزائد في كتاب اللّه ، والمكذّب
بقدر اللّه ، والمتجبّر بسلطانه ، يذلّ من أعزّه اللّه ويعزّ من أذلّه اللّه ،
والمستحلّ حرمة اللّه ـ وفي نسخة : لحرم اللّه ـ والمستحلّ من عترتي ما حرّم
اللّه ، والتارك لسنّتي ، والمستأثر بالفيء».
وهذا السابع لم يذكره في المستدرك ولا
الترمذي ، بل رَويا ستّة ، فتأمّل فيه .
ومن كتاب الأوسط للطبراني : عن أبي
هريرة ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
:
__________________
«المتمسّك بسنّتي عند
فساد اُمّتي له أجر شهيد».
ومن كتاب ابن عساكر : عن أبي هريرة ، عن
النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «كيف أنتم إذا كنتم من دينكم في مثل القمر ليلة البدر لا يبصره منكم إلاّ
البصير؟».
وفي تاريخ الإسلام : عن أبي هريرة ، عن
النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «سيصيب اُمّتي داء الاُمم» .
فقالوا : يانبيّ اللّه ، وما داء
الاُمم ؟
قال : «الأشر ، والبطر ، والتكاثر ،
والتنافس في الدنيا ، والتباغض ، والتحاسد ، حتّى يكون البغي ، ثمّ الهرج»، يعني : القتل ، كما فسّر في أخبار
اُخَر.
وروى السيوطي من صحيحي مسلم والترمذي ،
ومسند ابن حنبل : عن أبي هريرة ، قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله
: «بادروا بالأعمالفتناً كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل
مؤمناً ويمسي كافراً ، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً ، يبيع أحدهم دينه بعرضٍ من
الدنيا قليل».
__________________
وروى مثله في المستدرك، وقد مرّ في التبيان.
وروى من صحيح أبي داود والمستدرك : عن
أبي هريرة ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «ويل للعرب من شرٍّ قد اقترب ، أفلح من كفّ يده».
ورواه في [صحيح] البخاري : عن زينبزوج النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
وفيه : فقلت له : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : «نعم إذا كثر الخبث».
ومن كتاب الكامل لابن عدي: عن جابر ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «أخوف ما أخاف على اُمّتي الهوى وطول الأمل».
__________________
ومن صحيح ابن ماجة ، وكتاب حلية
الأولياء : عن شدّاد بن أوس،
عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «إنّ أخوف ما أخاف على اُمّتي الإشراك باللّه ، أما إنّي لست أقول : يعبدون شمساً
ولا قمراً ولا وثناً ، ولكن أعمالاً لغير اللّه وشهوة خفيّة».
ومن كتاب البغوي، وكتب ابن مندة، وابن قانع،
__________________
وابن شاهين، وحلية الأولياء : عن أفلح، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله: «إنّما أخاف على
اُمّتي من بعدي ثلاثاً : ضلالة الأهواء ، واتّباع الشهوات في البطون والفروج ،
والغفلة بعد المعرفة».
ومن الكتاب الكبير للطبراني ، وكتاب
الدارقطنى:
عن معاذ،
عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «إنّ أخوف ما أخاف على اُمّتي ثلاث : زلّة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، ودُنيا
تفتح عليهم».
وفي صحيح البخاري : عن الخُدري، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «أكثر
__________________
ما أخاف عليكم زهرة
الدنيا».
وسيأتي أمثاله في المقالة السادسة من
المقصد الثاني .
وروى السيوطي أيضاً من الكتاب الكبير ،
وكتاب الإبانة للسجزي عن أبي الأعور السلمي،
عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «إنّما أخاف على اُمّتي ثلاثاً : شحّاً مطاعاً ، وهوىً متّبعاً ، وإماماً
ضالاًّ».
ومن كتب كثيرة منها : مسند ابن حنبل ،
وكتاب شعب الإيمان ، وكتاب المختارة للضياء المقدسي، وكتاب الكامل لابن عدي وغيرها ،
__________________
كلّهم ، عن ابن عمر ،
عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «إنّ أخوف ما أخاف على اُمّتي كلّ منافق عليم اللسان».
ومن كتاب الأوسط للطبراني : عن عليّ عليهالسلام عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «إنّي لا أتخوّف على اُمّتي مؤمناً ولا مشركاً ؛ أمّا المؤمن فيحجزه إيمانه ،
وأمّا المشرك فيعميه كفره ، ولكن أتخوّف عليهم منافقاً عليم اللسان يقول ما يعرفون
، ويعمل ما ينكرون».
ومن كتاب المستدرك ، ومسند ابن حنبل :
عن عبادة بن الصامتعن
النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «سيلي اُموركم بعدي رجال يعرّفونكم ما تنكرون ، وينكرون عليكم ما تعرفون ، فمن
أدرك ذلك منكم فلا طاعة لمن عصى اللّه ، فلا تضلّوا برأيكم» ، وفي نسخة :
«بربّكم».
وفي كتاب الطبراني بهذا السند هكذا :
«ستكون عليكم اُمراء من بعدي ، يأمرونكم بما لا تعرفون ، ويعملون بما تنكرون ،
فليس اُولئك بأئمّة».
__________________
وفي صحيح الترمذي مصرّحاً بأنّه حديث
حسن صحيح : عن ثوبان،
قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«إنّما أخاف على اُمّتي الأئمّة المضلّين».
وقد روى مثله بأسانيد مستفيضة في كتب
عديدة صحاح ، كصحيحي مسلم وأبي داود،
حتّى في بعضها : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «غير الدجّالأخوف
على اُمّتي من الدجّال الأئمّة المضلّين».
ومن أكثرها إسناداً ما رواه أحمد في
مسنده ، وكذا رواه مسلم ، وأبو داود،
وابن ماجة ، والترمذي كلٌّ في صحيحه ، وقال الترمذي : إنّه حديث حسن صحيح ، ورواه
ابن حبّانوغيره
أيضاً عن ثوبان ، قال :
__________________
قال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«إنّ ربّي عزوجل
قال : يا محمّد ، إنّي أعطيت لاُمّتك أن لا اُهلكهم بسنة عامّة ، وأن لا اُسلّط
عليهم عدّواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم ما بين أقطارها حتّى
يكون بعضهم يفني بعضاً ، وإنّما أخاف على اُمّتي الأئمّة المضلّين ، وإذا وضع في
اُمّتي السيف لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة ، ولا تقوم الساعة حتّى تلتحق قبائل من
اُمّتي بالمشركين ، وحتّى تعبد قبائل من اُمّتي الأوثان ، وإنّه سيكون في اُمّتي
كذّابون ثلاثون (وفي بعض الروايات : سبعون كذّاباً)كلّهم يزعم أنّه نبيّ ، وأنا خاتم
النبيّين لا نبيّ بعدي ، ولا تزال طائفة من اُمّتي على الحقّ ظاهرين لا يضرّهم من
خالفهم حتّى يأتي أمر اللّه».
أقول
: ملاحظة هذه الأخبار بعضها مع بعض تدلّ
على كون هؤلاء الاُمراء والأئمّة منافقين ، وأنّ علامتهم العمل بالرأي وخلاف ما في
الكتاب وما كان من سنن النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
سواء كانوا سلاطين أو العلماء التابعين لهم ، كما في تاريخ الحاكم : عن أنس ، عن
النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «ويل لاُمّتي من
__________________
علماء السوء».
وفي كتاب أبي يعلى : عن أنس أيضاً ، قال
: قال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«ويل للعالم من الجاهل ، وويل للجاهل من العالم».
وفي روايات عديدة أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «العلماء اُمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا» ، قيل : وما دخولهم في الدنيا ؟
قال : «الركون إلى السلاطين ، فإذا رأيتم ذلك فاتّهموهم».
وفي رواية : «اتّباع السلاطين».
وفي المستدرك : عن ابن عباس ، عن النبيّ
صلىاللهعليهوآله قال
: «من أعان ظالماً ليدحض بباطله حقّاً فقد برئت منه ذمّة اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ».
وفي كتاب حلية الأولياء : عن الحسن (بن
عليّ عليهماالسلام)
، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «ستفتح مشارق الأرض ومغاربها على اُمّتي ، ألا وعمّالها في النار إلاّ من اتّقى
اللّه وأدّى الأمانة».
__________________
وفي كتاب الطبراني : عن عبداللّه بن
الحارث، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «ستكون بعدي سلاطين ، الفتن على أبوابهم كمَبارك الإبل ، لا يعطون أحداً شيئاً
إلاّ أخذوا من دينه مثله».
وفي الكتاب المذكور ، وكتاب أبي يعلى :
عن أبي برزة ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «إنّ بعدي أئمّة إن أطعتموهم أكفروكم ، وإن عصيتموهم قتلوكم ، أئمّة الكُفر
ورؤوس الضلالة».
(وفي الكتاب المذكور : عن أبي أمامة ،
قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«صنفان من اُمّتي لن تنالهما شفاعتي : إمام ظلوم غشوم ، وكلّ غال مارق»).
وفي الكتاب المذكور : عن معاوية ، عن
النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «يكون اُمراء يقولون ولا يردّ عليهم ، يتهافتون في النار يتبع بعضهم بعضاً».
وفي رواية اُخرى : «يتقاحمون في النار
كما تتقاحم القردة».
وفي الكتاب المذكور: عن أبي سلالة، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
:
__________________
«سيكون عليكم أئمّة
يملكونأرزاقكم ، يحدّثونكم
فيكذبونكم ، ويعملون فيسيئون العمل ، لا يرضون منكم حتّى تحسّنوا قبيحهم ،
وتصدّقوا كذبهم ، فأعطوهم الحقّ ما رضوا به ، وإذا تجاوزوا فمن قتل على ذلك فهو
شهيد».
وفي الكتاب المذكور أيضاً ، وكتابي مسند
ابن حنبل ، والمختارة للضياء المقدسي ، وغيرهما : عن حذيفة ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «سيكون عليكم اُمراء يكذبون ويظلمون ، فمن صدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس
منّي ولست منه ، ولا يرد عليّ الحوض ، ومن لم يصدّقهم بكذبهم ولا يعينهم على ظلمهم
فهو منّي وأنا منه ، وسيرد عليّ الحوض».
وقد نقل الطبراني أيضاً هذا الخبر مرّة
اُخرى عن كعب بن عجرة،
عنه صلىاللهعليهوآله ،
وفيه زيادة قوله صلىاللهعليهوآله :
«قلوبهم أنتن من الجيف ، يعظون بالحكمة على منابر ، فإذا نزلوا اختلست منهم».
__________________
وفي صحيحي مسلم وأبي داود : عن اُمّ
سلمة ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «ستكون اُمراء فتعرفون وتنكرون ، فمن كره برئ ومن أنكر سلم ، ولكن من رضي وتابع».
وفي كتاب ابن أبي شيبة : عن ابن عباس ،
عنه صلىاللهعليهوآله مثله
لكن فيه : «فمن نابذهم نجا ، ومن اعتزلهم سلم ، ومن خالطهم هلك».
والأخبار من هذا القبيل كثيرة .
وروى السيوطي من مسند أحمد عن سعد وغيره
، قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«قريش وُلاة هذا الأمر ، فبَرّ الناس تبع لِبَرّهم ، وفاجرهم تبع لفاجرهم».
ومن المسند ، والمستدرك : عن أبي هريرة
، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «ليتمنّينّ أقـوام ولّوا هذا الأمر أنّهم خـرّوا من الثريّا ، وأنّهم لم يلـوا
شيئاً».
أقول
: من تأمّل في هذه الأخبار واعتبر حقّ
الاعتبار عرف دلالتها على بطلان خلافة عامّة الخلفاء ، لاسيّما بني اُميّة وبني
العبّاس ، وذلك يستلزم بطلان ما هو أساس الخلافة عندهم ؛ إذ ظاهر أنّ مبنى خلافة هؤلاء
كلّهم كان على ما بُني عليه يوم السقيفة من ادّعاء صحّة الخلافة بالاختيار ، وجواز
تعيين غير اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ،
وعلى هذا يلزم : إمّا صحّة خلافة
__________________
هؤلاء ، وهو خلاف هذه
الأخبار وغيرها ، وإمّا عدم صحّة الخلافة بالاختيار ، وهو موجب لبطلان مذاهب ما
عدا الشيعة الإماميّة .
نعم ، يستفاد من كلام جمع منهم : أنّه
ينعزل إذا ظهر فسقه ، ولم يصحّ ابتداءً إذا كان فاسقاً عندهم حين التعيين، وبناءً عليه يلزم :
أوّلاً : أن لا يكون حرج حينئذٍ على
قادحي عثمان ، بل قتلته أيضاً .
وثانياً : خيانة عامّة علمائهم ، وسائر
أتباع اُولئك الاُمراء ، بل عامّة فِرَق المخالفين ، كما هو ظاهر ، كما في كتاب
الطبراني : عن عبداللّه بن بسر،
قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«من وقّر صاحب بدعة ، فقد أعان على هدم الإسلام»، فافهم .
بل لنا أن نقول : ترتّب هذه المفاسد، بل غيرها أيضاً على هذا الأصل ـ الذي
هو مدخليّة الناس في اختيار الإمام ـ موجب للتزلزل فيه ، فإن أمكن إثبات حقّيّته
بدليل موجب للقطع ، حتّى نرتكب تأويل ما يترتّب عليه ، وإلاّ فلا يمكن الاعتماد
عليه ، ودون إثباته خرط القتاد ، كما سيظهر في محلّه ، لاسيّما مع قيام الأدلّة
القاطعة على خلافه ، كما سيأتي أيضاً في المقصد الثاني ، فتأمّل .
__________________
ولا تغفل عن شمول بعض هذه الأخبار خلافة
ما عدا عليّ عليهالسلام ،
لاسيّما بعد ملاحظة أنّ الأمر لو ترك مع عليّ عليهالسلام بعد
النبيّ صلىاللهعليهوآله لم
يكن شيء من تلك المفاسد والتغلّبات ، كما هو ظاهر .
وقد ذكر السيوطي من كتاب الطبراني : عن
عمر ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «أكثر ما أتخوّف على أُمّتي من بعدي رجل يتأوّل القرآن يضعه على غير مواضعه ، ورجل
يرى أنّه أحقّ بهذا الأمر من غيره»،
فافهم .
وفي صحيح البخاري : عن ابن عمر ، وأبي
موسىعن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «من حمل علينا السلاح فليس منّا».
وفيه : عن أنس ، قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله: «لا يأتي عليكم
زمان إلاّ الذي بعده أشرّ منه».
وفي الحلية ، وكتاب الطبراني : عن حذيفة
، قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«سيأتي عليكم زمان لا يكون فيه شيء أعزّ من ثلاثة : درهم حلال ، أو أخ يستأنس به ،
أو سنّة يعمل بها».
والأخبار من هذا القبيل كثيرة ، ويأتي
جمّة منها في مواضع ، سوى ما مرّ منها سابقاً ، بل تأتي في المقالة السادسة من
المقصد الثاني أخبار
__________________
صريحة في شمول هذه
الحالات للصحابة أيضاً ، وأنّهم كغيرهم في وجود الأخيار فيهم والأشرار ، مع بيانٍ
شافٍ وتحقيقٍ وافٍ ، يهتدي به من أراد الاستبصار وفهم الأخبار .
ولنذكر هاهنا خبراً كالصريح في الشمول
للصحابة ، وهو ما رواه جماعة ، منهم البخاري في صحيحه ـ الذي هو عند المخالفين
أصحّ الكتب بعد كتاب اللّه ، كما صرّحوا به ـ : عن حذيفة بن اليمان ، أنّه قال :
كان الناس يسألون رسول اللّه صلىاللهعليهوآله عن
الخير ، وكنت أسأله عن الشرّ ، مخافة أن يدركني ، فقلت : يا رسول اللّه ، إنّا
كنّا في جاهليّةٍ وشرٍّ ، فجاءنا اللّه بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شرّ ؟
فقال : «نعم» ، قلت : فهل بعد ذلك الشرّ
من خير ؟
قال : «نعم ، وفيه دَخن»، قلت : وما دخنه ؟
قال : «قوم يهدون بغير هدى ، تعرف منهم وتنكر»
، قلت : فهل بعد ذلك الخير من شرّ ؟
قال : «نعم ، دُعاة على أبواب جهنّم ،
من أجابهم إليها قذفوه فيها» ، قلت: يا رسول اللّه ، صفهم لنا ؟
قال : «هم من جلدتنا ويتكلّمون
بألسنتنا» ، قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟
قال : «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم» ،
قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟
قال : «فاعتزل تلك الفِرَق كلّها ، ولو
أن تعضّ بأصل شجرة حتّى
__________________
يدركك الموت وأنت على
ذلك».
أقول
: اعلم أوّلاً : أنّ المعلوم من العبارة
أنّ مراد حذيفة كان السؤال عن الخير والشرّ بحسب الدين ، وما يعمّ شموله بيضة
الإسلام وعامّة المسلمين ، ومن المعلوم المسلّم أيضاً بحيث لا يمكن إنكاره أنّ ما
وقع من رجوع الخلافة إلى عليّ عليهالسلام كان
خيراً ؛ ضرورة كونه عليهالسلام قابلاً
من كلّ جهة بالاتّفاق ، ووجود الدخن فيه أيضاً ظاهر ، وهو خروج الخارجين عليه ،
وفتنة الناكثين والقاسطين والمارقين .
وكيف لا ! ؟ وقد تحيّر عند ذلك جمع من
الصحابة ، وضلّ جماعة من رؤسائهم ، فأضلّوا كثيراً ، بحيث بقي الضلال إلى اليوم ،
كما هو شأن القائلين بحسن حال أهل الجمل وصفّين وإن حكموا بكونهم مخطئين .
وعلى هذا ، فلا شكّ في أنّ الشرّ الذي
بعده هو تسلّط بني اُميّة وبني العباس وسائر الدول الظالمة .
هذا ، مع وضوح ما صدر منهم من الجور
والفسوق والفضائح ، وترك السُّنّة ، وترويج البدع ، كما يأتي ذكر بعض منها ، ومع
كثرة الأخبار جدّاً ـ التي منها ما مرّ ويأتي ـ بل تواترها (في كمال جلال شأن عليّ
عليهالسلام (وحقّانيّته)، ووجوب حبّه ومتابعته ، بل كون زمام
الاُمّة بيده ، وفي شرّ حال أصحاب صفات)كانت
ظاهرة في هؤلاء القوم وأشياعهم ، بل بعض الأخبار صريحة فيهم ، كما أنّ كثيراً منها
شاملة لهم ، ومع إشعار ما في آخر
__________________
الحديث أيضاً .
وحينئذٍ يبقى الكلام في تحقيق المراد
بالشرّ الأوّل ، وأيّاً ما كان فإنّما هو في عصر الصحابة وبينهم ، وفي الدين كما
بيّنّا أوّلاً . هذا ، مع وجود جماعة من الصحابة في الشرّ الثاني أيضاً ، فافهم .
وإذا أردت تعيين الشرّ الأوّل ، فاعلم
أنّ الحقّ أنّ ذلك إنّما هو ما وقع يوم السقيفة من نزعهم عن عليّ عليهالسلام قميص الخلافة ؛ ولهذا
لمّا رجعت إليه أخيراً ، عدّه خيراً ، ولمّا قُتل عليهالسلام وأخرجوها
عن الأئمّة من ولده ، وتركوا الناس بغير إمام عدل مجاهر بالدين ، مجاهد في حيازة
جماعة المسلمين ، عدّ ذلك أيضاً كلّه شرّاً ممدوداً ، بيان ذلك :
أمّا أوّلاً : فلِما سيتّضح من أنّ
الإمامة كالنبوّة لها أهل مخصوصون بتعيين من اللّه ورسوله .
وأمّا ثانياً : فلانحصار ما وقع من حين
وفاة النبيّ صلىاللهعليهوآله إلى
خلافة عليّ عليهالسلام من
عظيم الحوادث التي أثّرت في الدين ، وعمّت عامّة المسلمين في هذه الواقعة فقط ؛
ضرورة أنّ وقائع مالك بن نويرةوالمسيلمة
__________________
وأمثالهما إنّما كانت
من قبيل الغزوات ولا مدخل لها فيما ذكرناه من الصفات ، كغزوات زمان النبيّ صلىاللهعليهوآله من
الأحزاب واُحد وغيرهما ممّا نشأ من أهل الفساد ، وحكاية عثمان وقتله أيضاً ليس
بذلك المكان .
أمّا أوّلاً : فلأنّ قتله لم يكن أمراً
ممتدّاً ، ولا ترتّب عليه التغيّر في الدين ، بل كان قتل خليفة ونصب آخَر ، كقتل
عمر ونصب عثمان ، فإن عدّ هذا شرّاً ، فذلك أيضاً كان شرّاً ، وما ترتّب عليه هو
ما ذكره في الخبر من الدخن ، على أنّ ذلك كان بالاجتهاد بل الإجماع اللّذين كانا
مناط واقعة السقيفة ، فإن كانا حجّة فلم يكن ذلك شرّاً ، وإلاّ فقضيّة السقيفة
أيضاً كذلك ، بل هي أَولى بذلك ؛ لكونها أقدم ، حتّى أنّ مناط الدخن أيضاً عند
الأكثر ذلك ، فالتزام الحجّيّة في بعض دون بعض تحكّم ساقط .
وأمّا ثانياً : فلأ نّه من فروع واقعة
السقيفة وليس أمراً خارجاً ؛ لترتّبه على أفعاله المترتّبة على خلافته المترتّبة
على تلك الواقعة .
وأمّا ثالثاً : يمكن أن يقال : إنّه كان
خيراً ، حيث ترتّبت عليه خلافة عليّ عليهالسلام التي
عدّها خيراً ، بل كانت خيريّتها مسلّمةً .
هذا ، مع ما سيأتي في المقصد الثاني من
بيان ترتّب جميع المفاسد على قضيّة السقيفة ، وذكر الأخبار الدالّة على حصول الشرّ
من حين وفاة النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
فتأمّل .
ولنكتف ها هنا بما ذكرناه ، وسيأتي
متفرّقاً غيرها أيضاً ، مع ما يدلّ على أنّ مناط الشرّ هو ترك التمسّك بآل محمّد عليهمالسلام ، وحسدهم ، وعداوتهم
، فلا تغفل .
__________________
المطلب الثالث :
في بيان نبذ ممّا نقله المخالفون للشيعة
في كتبهم المعتبرة عندهم من الأقوال ، والأفعال الصادرة من أعيان علمائهم ،
وأكابرهم ، ومشايخهم ، والتابعين ، والصحابة .
وهي دالّة على ما نحن فيه ممّا ذكرناه
في عنوان الفصل من شيوع ميل النفوس إلى الدنيا في هذه الاُمّة أيضاً ، ووجود
الفسقة والظلمة وأهل المعاصي والشهوات والنفاق ، والمنافسات بينهم كثيراً ،
الصحابي وغيره .
ثمّ لا نذكر هاهنا أيضاً إلاّ شيئاً
قليلاً على قدر ما يثبت به المطلوب ؛ إذ ليس مرادنا التشنيع والتفضيح ، بل المراد
أن يظهر ، بل يستبين أنّ السلامة من أطماع الدنيا وتنافسها في غاية الندرة بالنسبة
إلى أهل كلّ زمان ، وأن لا ينبغي الاعتماد إلاّ على من ثبتت عصمته من الطمع والحسد
والطغيان .
هذا ، مع ما سيأتي فيما بعد ، لاسيّما
في مقالات المقصد الثاني ممّا ينادي على هذا المطلب .
ولنذكر ما نريد ذكره هاهنا في مقامين :
المقام
الأوّل : في بيان نبذ ممّا نقل القوم في بيانأحوال ما عدا الصحابة وأمثالهم ممّا
يدلّ على المقصود .
نقل صاحب كتاب تاريخ الإسلام فيه : عن
يزيد بن محمّد الرهاويقال
: سمعت أبي يقول : قلت لعيسى بن يونس:
أيّما أفضل الأوزاعي؟أو
سفيان (الثوري ؟ ـ وكلاهما من أعاظم علماء الجمهور ، والمجتهدين ، والثقات عندهم ،
وكان الأوزاعي ساكناً بالشام وإمامهم)ـ
فقال : وأين أنت من سفيان ؟ فاستبعدت ذلك ، وذكرت فضل الأوزاعي وفقهه وعلمه ، فغضب
وقال : أتراني أؤثر على الحقّ شيئاً ! سمعت الأوزاعي يقول : ما أخذنا العطاء حتّى
شهدنا على عليّ عليهالسلام بالنفاق
وتبرّأنا
__________________
منه ، وأخذ علينا
بذلك العتاق والطلاق وأيمان البيعة .
قال : فلمّا عقلت أمري سألت مكحولاً، ويحيى بن أبي كثير، وعطاء بن أبي رباح، وعبداللّه بن عبيد، فقالوا : ليس عليك شيء إنّما أنت
مكرّه .
قال : فلم تقرّ نفسي حتّى فارقت نسائي ،
وأعتقت رقيقي ، وخرجت من مالي ، وكفّرت أيماني ، فأخْبِرني هل كان سفيان يفعل مثل
ذلك من القبيح الفضيح لأجل هذه الدنيا الدنيئة؟
__________________
قال ابن الأثير: هذه الحكاية نقلها الحاكم أيضاً ، عن
أبي علي الحافظ ، عن مكحول ، عن يزيد بن محمّد.
أقول : هذا مع ما صدر من سفيان أيضاً
ممّا مرّ في ضمن الحديث الحادي عشر المذكور قبل الفهرست .
ونقل في التاريخ : عن ابن عيينةأنّ ربيعة الرأيبكى يوماً ، فقيل له : ما يبكيك ؟ قال :
رياء حاضر وشهوة خفية ، والناس عند علمائهم كصبيان في حجور اُمّهاتهم ، إن أمروهم
ائتمروا ، وإن نهوهم انتهوا.
ونقل فيه أيضاً : عن شعبةأنّه قال : ما من الناس أحد أقول : إنّه
__________________
طلب الحديث يريد به
اللّه تعالى غير هشام الدستوائي.
ثمّ روى عن هشام أنّه قال : واللّه ،
لا أستطيع أن أقول : ذهبت يوماً قطّ أطلب الحديث اُريد به وجه اللّه تعالى.
ونقل فيه أيضاً : أنّ عبداللّه بن
ذكوانكان فاضلاً فقيهاً
عالماً ثقةً بالإجماع ، ثمّ نقل : أنّه تولّى حساب ديوان المدينة من هشام بن
عبدالملك،
وسعى عند والي المدينة في ربيعة الرأي حتّى أخذه الوالي وجلده ، وحلق رأسه ولحيته
، وكان ربيعة يقدح فيه ولا يرتضيه.
ونقل فيه أيضاً مدحاً عظيماً لعثمان بن
عاصم الأسدي،
وأنّه كان
__________________
صالحاً ، ثمّ نقل
أنّه قذف الأعمشونسب
اُمّه إلى الزنى افتراءً ؛ لردّه عليه ما صدر منه من اللحن في كلمة في الصلاة.
ونقل في التاريخ أيضاً في ترجمة
عبداللّه العمري الزاهدمن
نسل عمر بن الخطاب : أنّه كتب إلى محمّد بن أبي ذئب عبد الرحمن العامري القرشيـ الذي قال في حقّه : إنّه أفضل من مالك
ـ كتاباً ( أغلظ له فيه ، وقال : أنتم علماء تميلون إلى الدنيا ، وتلبسون اللين
وتدّعون التقشّف).
__________________
وحكي عنه أيضاً : أنّ مالكاً كتب إليه :
إنّك صرت بدويّاً فلو كنت عند مسجد رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
.
فكتب إليه : إنّي أكره مجاورة مثلك ،
إنّ اللّه لم يرك متغيّر الوجه فيه ساعة قطّ.
ونقل أيضاً : أنّ رجاء بن حَيْوةكان يلعن مكحولاً ، وقال : كان مكحول
فقيه أهل الشام وشيخ أهل دمشق ، عشيراً مع بني اُميّة ، فشكى إلى رجاء يوماً ،
فقال له : إنّ الناس يريدون دمي ؟ فقال رجاء له : إنّي قد حذّرتك القرشيّين
ومجالستهم ، ولكنّهم قد أدنوك وقرّبوك وأطمعوك ، فحدّثتهم بأحاديث ، فلمّا أفشوها
عنك كرهتها.
وقال أيضاً : إنّ عمر بن عبد العزيزأمر بإحراق أحاديث مكحول في الديات.
__________________
ونقل عن اللّيث بن سعدـ بعدما مدحه بالعلم والفضل ـ : أنّه
كان له صحبة عظيمة مع الرشيدومدخليّة
في اُمور السلطنة ، وإنّه احتال لهارون بحيلة فأعطاه مبالغ عظيمة ، قال : وهي أنّه
جرى بين هارون وزُبيدةامرأته
ملاحاة في شيء ، فقال هارون في عرض كلامه : أنتِ طالق إن لم أكن من أهل الجنّة ،
ثمّ ندم واغتمّا جميعاً ، فجمع العلماء كلّهم ، فقال الليث : يا أمير المؤمنين ،
ادع بمصحف ، فدعا ، ففتح له سورة الرحمن ، فقال له : إقرأها ، فقرأها ، فلمّا بلغ
قوله تعالى : (
وَلِمَنْ
خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ )قال : قف هاهنا ، فوقف ، فقال له : قل
واللّه الذي لا إله إلاّ هو الرحمن الرحيم إنّك تخاف مقام اللّه عزوجل ، فقال هارون ذلك ،
__________________
فقال : فلك جنّتان ،
فأعطاه الجوائز والقطائع ، وكذا زبيدة.
ونقل عن شريك القاضيبعد نقله فضله وكماله وتوثيقه : أنّه
ولي قضاء الكوفة ، وكان لا يجلس للحكم حتّى يتغدّى ويشرب أربعة أرطال نبيذ !
قال : وكان قبل ذلك له ارتزاق من المهدي
العباسي،
وربط معه حتّى صار معلّماً لأولاد الخليفة.
ثمّ نقل : أنّه كتب له برزقه على
صيرفيٍّ فضايقه في النقد ، فقال له : إنّك لم تبع به بَزّاً، فقال شريك : بل واللّه ، بعت به ديني.
ونقل عن أبي يوسفأنّه كان قاضي القضاة في بغداد زمن
الرشيد ،
__________________
وزميله في الأسفار ،
ووزيره في المشاورات.
وقال ابن الأثير في الجزء الأوّل من
منتخبات السير : إنّ أبا يوسف كان متّهماً عند بعض أهل العلم بالفتنة والنمّاميّة.
ونقل عنه أنّه قال عند وفاته : كلّ ما
أفتيت به فقد رجعت عنه إلاّ ما وافق الكتاب والسنّة.
ونقل في التاريخ عن ابن حبّان ، أنّه
قال : كان حريز بن عثمانـ
الذي من أكابر علمائهم بالشام ـ يلعن عليّاً عليهالسلام ،
فعاتبوه،
فقال : هو القاطع رأس أجدادي بالقوس.
ونقل عن الخطيب في تاريخه أنّه روى
بإسناد له عن إسماعيل بن
__________________
عيّاشقال : سمعت حريزاً يقول : هذا الذي
يرويه الناس عن النبيّ صلىاللهعليهوآله :
أنّه قال لعليّ عليهالسلام :
«أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» حقٌّ ، ولكن أخطأ السامع ، إنّما هو : أنت منّي
بمنزلة قارون من موسى ، فقلت له : عمّن ترويه ؟ قال : سمعت أنا الوليد بن عبد
الملكيقوله على المنبر.
ونقل عن واصل بن عطاءـ مولى بني مخزوم ، من أكابر علماء
المعتزلة بالبصرة ـ عقائد منها : أنّه كان يجيز قراءة القرآن بالمعنى ؛ لأنّه كان
يبدّل الراء بالغين ولم يقدر على إفصاحه ، فقيل له يوماً في مجلس الخليفة : اقرأ
أوّل سورة البراءة ، فقال على البديهة : عهد من اللّه ونبيّه إلى الذين عاهدتم من
الفاسقين فسيحوا في البسيطة هلالين وهلالين.
__________________
ونقل عن الشعبيبعد ما مدحه بالعلم الغزير ومدائح عظيمة
: أنّه كان صاحباً لعبد الملك بن مروان ، وأنّه أرسله حاجباً إلى الروم ، وكذا صار
صاحباً للحجّاج،
وأنّه كان يكرمه ويعطيه ويسأله ، وجعله عريفاً على الشعبيّين ، وفرض له العطاء ،
وأنّه خرج بعد هذا مع محمّد بن الأشعث
__________________
ـ قاتل الحسين عليهالسلام ـ على الحجّاج ، وكان
معه حتّى انكسروا وانهزم ، ثمّ صار كاتباً لوالٍ من ولاة الحجّاج ، فأراد الحجّاج
قتله ، ثمّ جاز عن ذلك ، ثمّ تولّى القضاء من طرف بعض ولاة بني اُميّة.
ونقل في تاريخ الإسلام وغيره : عن
إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوفبعد ما مدحه بالعلم والكمال والتوثيق
أنّه قدم العراق فأكرمه الرشيد وبرّه وأعطاه فسأله عن الغناء فأفتى بتحليله ، ثمّ
تولّى القضاء وبيت المال في بغداد ، وقال : إنّه كان يستمع الغناء واللعب والمعازف
، حتّى أنّه جاءه رجل ليسمع منه الحديث فسمعه يغنّي ، فعاتبه على ذلك ، فغضب فحلف
أنّه لا يحدّث أحداً بحديث إلاّ أن يغنّي قبله ، فاشتهر ذلك منه إلى أن وصل هارون
، فدعاه وسأله عن حديث المخزوميّة التي قطعها النبيّ صلىاللهعليهوآله
في السرقة فدعا بعـود ، فقال الرشيد :
أعود البخور ؟ فقال : لا ، ولكن عود الطرب ، فتبسّم ، ففهمها إبراهيم بن سعد ،
فقال : لعلّه بلغك يا أمير المؤمنين ، حديث السفيه الذي آذاني بالأمس وألجأني إلى
أن حلفت ؟ قال : نعم ، ودعا له الرشيد بعود فغنّاه بهذا البيت :
__________________
يا اُمّ طلحة
|
|
إنّ البين قد أزفا
|
إلى آخر الأبيات .
فقال له الرشيد : من كان من فقهائكم
يكره السماع ؟ قال : من ربطه اللّه .
قال : فهل بلغك عن مالكفي هذا شيء ؟
قال : أخبرني أبي أنّهم اجتمعوا في
مَدعاةكانت في بني يربوع ،
ومعهم دفوف ومعازف وعيدان يغنّون ويلعبون ، ومع مالك دفّ مربّع وهو يغنّيهم .
سليمى أجمَعتْ بَيْنا
|
|
فأينَ لِقاؤها أينا
|
إلى آخر الأبيات .
__________________
فضحك الرشيد ووصله بمال عظيم.
هذا ، مع أنّه نقل بعضهم عن مالك :
تحريم الغناء ، وأنّه قال : إنّه فعل الفسقة.
وذكر صاحب تاريخ الإسلام في ترجمة داود
العباسي:
أنّ في الخلفاء وآبائهم وأهاليهم وأتباعهم قوماً أعرض أهل الجرح والتعديل عن كشف
حالهم ؛ خوفاً من السيف والضرب ، وما زال هذا في كلّ دولة قائمة يصف المؤرّخ
محاسنها ويغضي عن مساوئها، وإن كان المحدّث ذا دين وخير.
أقول
: هذا نقل أقلّ قليل ممّا نقله
المعتمدون عن المعدودين من أهل العلم والكمال فضلاً عن غيرهم ، ولو أردنا
الاستقصاء لملئت الطوامير ، من أراد ذلك فعليه بكتاب الذهبي ، وكتاب ابن الأثير .
ولكن نحن من حيث لا نحبّ ذكر أمثال هذه
الأشياء في هذا الكتاب ، نكتفي في كلّ مقام بذكر ما يمكن به إثبات المرام ، وربّما
نزيد في بعض المواضع إلى أن يصل إلى حدّ الإيضاح التامّ ، وسيأتي أيضاً ـ لاسيّما
في المقام الآتي ، وفي مقالات المقصد الثاني ، سيّما من السادسة إلى الأخيرة ـ
مؤيّدات لما ها هنا .
__________________
ولقد كفى في هذه الاختلافات التي حصلت
بينهم اُصولاً وفروعاً ، بحيث انجرّت إلى تكفير بعضهم بعضاً والتفسيق ، مع أنّ
عندهم المخطئ في الاجتهاد معذور ؛ إذ لو لم يكن هناك علّة الميل إلى هوى النفس
لشملهم التوفيق ، وهداهم ربّهم إلى ما هو عين التحقيق ، كما مرّ مراراً ، ويأتي
غير مرّة ، واللّه الهادي .
المقام
الثاني : في بيان نبذ ممّا نقل القوم من أطوار
بعض أهل عصر النبيّ صلىاللهعليهوآله من
الصحابة وأمثالهم ، وما صدر منهم ولو بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله
، ممّا ينادي بالمقصود ، أعني : وجود
الحالات التي ذكرناها هنا وفي أصل الباب ، وبيّنّا أنّها من نتائج الميل إلى الهوى
والحرص على الدنيا فيهم أيضاً .
نقل الزبير بن بكّارـ من ولد الزبير المشهور ـ في كتابه :
عن مطرّف بن المغيرة بن شعبة،
قال : وفدت مع أبي على معاوية ، وكان أبي يأتيه بالليالي فيتحدّث معه ويأتينا وهو
راض عنه ويعجب بما يرى منه ، إذ جاء ذات ليلة مغتمّاً ، فسألته بعد ساعة وقلت له :
ما لي أراك مغتمّاً ؟ فقال : يا بنيّ ، جئت من عند أخبث الناس، قلت : وما ذاك ؟ قال : معاوية ، ثمّ
قال : إنّي خلوت به ، فقلت له : إنّك قد بلغت سنّاً يا أمير المؤمنين ، فلو
__________________
أظهرت عدلاً ، وبسطت
خيراً فإنّك قد كبرت ، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم ، فوصلت أرحامهم فواللّه ،
ما عندهم اليوم شيء تخافه ؟ فقال : هيهات هيهات ، ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل
فواللّه ، ما عدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل : أبو بكر ، ثمّ ملك أخو
عديّ فاجتهد وشمر سنين فواللّه ، ما عدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل :
عمر ، (ثمّ ملك عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه ففعل ما فعل ، وعمل به ما
عمل فواللّه ، ما عدا أن هلك فهلك ذكره)وإنّ
أخا بني هاشميصاح
به في كلّ يوم خمس مرّات : أشهد أنّ محمداً رسول اللّه ، فأيّ عمل يبقى بعد هذا
لا اُمّ لك ! لا واللّه ، إلاّ دفناً دفناً.
أقول
: هذا مصداق المثل المشهور عند الناس من
قولهم : «ويل لمن كفّره نمرود» ؛ لأنّ المغيرةهو
الذي يأتي في مقالات المقصد الثاني لا سيّما السادسة أنّه وردت فيه ذموم ، وكان
شارب الخمر زانياً حتّى شهد عليه ثلاثة بالزنا في خلافة عمر ، ولمّا أراد الرابع
أن يشهد احتال عمر في دفع شهادته عنه بما هو مشهور وخلّصه من الرجم ؛ لكونه من
خواصّه.
ولهذا كان عليّ عليهالسلام يقول : «إن مكّني
اللّه من المغيرة لأرمينّه بالحجارة»فانهزم
في خلافته عليهالسلام إلى
معاوية ، وصار من ولاته ، وكان
__________________
من أشدّ أعادي عليّ عليهالسلام ، وهذه الصفات منه
مشهورة .
نقل صاحب كتاب تاريخ الإسلام ، والحافظ
أبو نعيم في كتاب حلية الأولياء بإسنادهما عن عيسى بن يونس ، قال : سمعت الأعمش
يقول : كان أنس بن مالك يمرّ بي طرفي النهار فأقول : لا أسمع منك حديثاً ، خدمت
رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ،
ثمّ جئت إلى الحجّاج وعاشرته حتّى ولاّك.
ونقل صاحب كتاب الاستيعاب أبو عمرو بن
عبد البرّ في كتابه : أنّ الأشعث بن قيس الكنديأسلم
في زمان النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
ثمّ ارتدّ بعده ، فأسره أبو بكر فرجع إلى الإسلام ، وزوّجه أبو بكر اُخته أُمّ
فروة ، فولدت منه محمّد بن الأشعث الذي قاتل الحسين عليهالسلام .
وعن الصادق جعفر بن محمّد عليهماالسلام : «أنّ الأشعث كان من
مشاوري ابن ملجمفي
قتل عليّ عليهالسلام ،
وسمّت جعدةـ
بنته ـ الحسن عليهالسلام ،
__________________
وقاتل ابنه ـ محمّد ـ
الحسين عليهالسلام ».
ونقل في الاستيعاب أيضاً : أنَّ بسر بن
أرطاةكان من المقرّبين عند
عمر ، ثمّ صارإلى
معاوية فكان معه في صفّين ، ثمّ أمّره على اليمن ردّاً على عليّ عليهالسلام ، فدخل اليمن وكان
فيه عبيد اللّه بن العباسوالياً
من [قِبَل]
عليّ عليهالسلام ،
فانهزم ، فقتل بُسر ولديه الصغيرين في حجر اُمّهما ، وسبى نساءً ، وفعل فساداً
بشيعة عليّ عليهالسلام .
قال : ودخل المدينة أيضاً بأمر معاوية
وكان يومئذٍ أبو أيوب
__________________
الأنصاريوالياً عليها من [قِبَل] عليّ عليهالسلام ،
فانهزم منه أبو أيّوب ، فلمّا دخلها بُسر جدّ في قتل جابر بن عبداللّه الأنصاري ،
فأمرت اُمّ سلمة زوجة النبيّ صلىاللهعليهوآله جابراً
وابنها عمر بن أبي سلمةفبايعاه
خوفاً من القتل ، فأخرب بيوت المدينة ، وانطلق إلى مكّة ، فخاف أبو موسى الأشعري
أن يقتله ، فهرب منه ، فلمّا سمع بسر ذلك ، قال : إنّي ما كنت أقتله ؛ حيث خلع
عليّاً عليهالسلام عن
الخلافة.
ثمّ نقل في هذا الموضع عن المقداد بن
الأسود : أنّه كان يقول : واللّه ، لا أشهد لأحد أنّه من أهل الجنّة ، حتّى أعلم
ما يموت عليه ، فإنّي سمعت رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
يقول : «لقلب ابن آدم أسرع انقلاباً من
القِدر إذا استجمعت
__________________
غليا».
وروى أيضاً : أنّ المقداد قال لبسر في
بعض الغزوات قبل فعله تلك الأفعال : كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
يقول : «اللّهم أحسن عاقبتنا في الاُمور
كلّها ، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة».
وسيأتي في هذا المقام أيضاً ما يدلّ على
أنّه شهد زوراً بأمر معاوية على عليّ عليهالسلام بأنّه
قتل عثمان .
ونقل في كتاب الاستيعاب أيضاً : عن
الأعمش ، عن شمر بن عطية،
عن شهر بن حوشب،
عن عبدالرحمن بن غنم،
قال : كنت
__________________
عنـد أبي الدرداء بعـد
نفي عثمان أبا ذرّ إلى الربذة إذ دخـل رجـل من أهل المدينة ، فقال له : أين أدركت
أبا ذرّ؟ قال : بالربذة ، فقال : إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، لـو أنّ أبا ذرّ
قطع منّي عضواً لما هيّجته ؛ لما سمعت من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله يقول
فيه من المدائح.
ونقل فيه : أنّ الحكم بن أبي العاصـ والد مروان بن الحكم ـ كان عمّ عثمان
بن عفّان ، وكان من مُسلمة الفتح ، وأنّه كان يستمع بعض أسرار النبيّ صلىاللهعليهوآله فيفشي
ذلك عنه ، وكان يمشي فيحكي في مشيه مشي النبيّ ـ فإنّه صلىاللهعليهوآله كان
إذا مشى يتكفّأ ـ فأخرجه النبيّ صلىاللهعليهوآله من
المدينة ، فنزل بالطائف ، وخرج معه ابنه مروان ، فلم يزل الحكم بالطائف إلى أن ولي
عثمان ، فردّه عثمان إلى المدينة وبقي فيها ، بل أدخله في اُموره.
وروى فيه : عن عائشة أنّها قالت لابنه
مروان : أمّا أنت يا مروان ، فأشهد أنّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
لعن أباك وأنت في صلبه.
__________________
وعن عبداللّه بن عمرو بن العاصأنّه قال : قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله :
«يدخل عليكم رجل لعين» ، فدخل الحكم بن أبي العاص.
ونقل أيضاً في الاستيعاب : أنّ
عبداللّه بن الزبيربعد
ما أعطى هو وأبوه وطلحة وعائشة الأمان لعثمان بن حنيفوالي عليّ عليهالسلام على
البصرة حتّى يجيء عليّ عليهالسلام ،
وكان من أعيان الصحابة ، دخل عليه ليلاً
__________________
غدراً وأخذه وحَبَسه
وقتل جماعة من حرّاسه وأتباعه وأرسله إلى عائشة ، فأمرت بضرب عنقه ، فقالت لها
امرأة : نشدتك اللّه اُمّ المؤمنين في عثمان وصحبته لرسول اللّه صلىاللهعليهوآله ،
فقالت : احبسوه ولا تقتلوه ، فضربوه ونتفوا شعر لحيته وحاجبيه وأشفار عينيه ، فبلغ
الخبر إلى حُكيم،
فقال : لست أخاه إن لم أنصره ، فجاء في سبعمائة من عبد القيس إلى ابن الزبير وقال
: أطلقوا عثمان حتّى يأتي عليّ عليهالسلام ،
مع أنّ دماءكم لحلال بمن قتلتم البارحة من إخواننا ، أما تخافون اللّه ! بم
تستحلّون الدماء؟ قالوا : بدم عثمان ، قال : فالذين قتلتموهم قتلوا عثمان أو حضروا
قتله ؟ أما تخافون اللّه .
فقال ابن الزبير : لا نطلق عثمان ، ولا
نسكت عنكم حتّى يخلع عليّاً عليهالسلام .
فقال حُكيم : اللّهم اشهد ، اللّهم اشهد
، ثمّ قال لأصحابه : إنّي لست في شكٍّ من قتال هؤلاء ، فمن كان في شكٍّ فلينصرف ،
فقاتل حتّى قُتل.
ونقل فيه عن حبيب بن مسلمةأنّه كان من الصحابة ، وولاّه عمر
__________________
أعمال الجزيرة
وآذربيجان ، ثمّ كان مع معاوية مجاهراً بعداوة عليّ عليهالسلام ،
فصار بينه وبين الحسن عليهالسلام كلام
، فقال له الحسن عليهالسلام :
«أنت كما قال اللّه سبحانه : (
كَلَّا
بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )،
وأنت الذي قد طاوعت معاوية على دنياه ، وسارعت في هواه ، فلئن قام بك في دنياك لقد
قعد بك في دينك»،
الخبر .
ونقل فيه أيضاً عن جمع منهم الشعبي وابن
أبي ليلى : أنّ عليّاً عليهالسلام قال
في خطبته حين نهوضه إلى حرب الجمل : «إنّ اللّه تعالى فرض الجهاد وجعله نصرته
وناصره» إلى أن قال : «واللّه ، إنّ طلحة والزبير وعائشة ليعلمون أنّي على الحقّ
، وأنّهم مبطلون» .
وقال : «إنّهم الفئة الباغية ، بايعوني
ونكثوا بيعتي ، وإنّي لراضٍ بحجّة اللّه عليهم وعلمه فيهم ، وما تَبِعةُ عثمان
إلاّ عندهم».
ونقل فيه أيضاً : اتّفاق الناس على أنّ
مروان بن الحكم رمى طلحة بسهم يوم الجمل ، وكان معه في الحرب فقتله ، وقال : لا
أطلب بثأر عثمان بعد اليوم.
ونقل فيه عن ابن عبّاس : أنّه أتى
معاوية بعد الحسن عليهالسلام ،
فقال له يا بن عبّاس ، احتسب الحسن لا يحزنك اللّه ولا يسوءك ، فقال : أما ما
أبقاك اللّه لي يا أمير المؤمنين ، فلا يحزنني اللّه ولا يسوءني ، فأعطاه بكلمته
هذه ألف ألف وعروضاً وأشياء ، وقال : خذها واقسمها على أهلك.
__________________
ونقل فيه في ترجمة محمّد بن أبي حذيفة: أنّه كان أشدّ الناس تأليباًعلى عثمان ، قال : وكذلك عمرو بن العاص
مذ عزله عثمان عن مصر يعمل حيلته في التأليب والطعن على عثمان.
ونقل فيه بإسناده عن عبداللّه بن محمّد
بن عقيل:
أنّ معاوية لمّا قدم المدينة لقيه أبو قتادة الأنصاري، فقال له معاوية : يا أبا قتادة ،
تلقّاني الناس كلّهم غيركم معشر الأنصار ، فما منعكم؟ قال : لم تكن لنا دوابّ ،
قال معاوية : فأين النواضح؟ قال : عقرناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر ،
__________________
قال : نعم ، يا أبا
قتادة ، قال أبو قتادة : إنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله
قال لنا : «إنّا سنرى بعده أثرة» ، قال
معاوية : فما أمركم عند ذلك؟ قال : أمرنا بالصبر ، قال : فاصبروا حتّى تلقوه ،
ونقل غيره : أنّ هذا الكلام كان لنعمان بن عجلانعلى معاوية ، قالوا : فقال عبد الرحمن
بن حسّان بن ثابتلمّا
سمع ذلك :
ألاَ أبلِغْ معاويةَ بن صخر
|
|
أمير المؤمنين ثنا كلامي
|
بأنَّا صابِرُونَ ومنظِروكُم
|
|
أي يومِ التَغابُن والخِصَامِ
|
ونقل فيه أيضاً : أنّ معاوية قال : كنت
أحبّ إلى قريش من عليّ عليهالسلام لأنّي
كنت اُعطيهم ، وكان يمنعهم ، فكم من جامع إليّ ونافر عنه! فنلت ما شئت.
ونقل فيه عن مِسطح بن اُثاثةابن خالة أبي بكر : أنّه كان من
__________________
الصحابة البدريّين ،
ثمّ خاض في الإفك على عائشة ، فجلده النبيّ صلىاللهعليهوآله
لذلك.
ونقل عن مالك بن الدُخشم: أنّه من البدريّين أيضاً ، ثمّ اتّهم
بالنفاق ، وأخبر النبيّ صلىاللهعليهوآله بذلك
، فقال : «أوَ لا يقول : لا إله إلاّ اللّه؟! أوَ لا يصلّي؟! اُولئك الذين نهاني
اللّه عنهم».
ونقل فيه بسندين وأكثر ، وصحّحها عن ابن
عمر أنّه قال : ما أجد أنّي آسى على شيء فاتني إلاّ أنّي لم اُقاتل مع عليّ عليهالسلام الفئة الباغية.
ونقل فيه أيضاً : أنّ سبب موت ابن عمر
كان من الحجّاج ، حيث دسّ رجلاً أن يضربه برمح فيه سمّ.
ونقل فيه عن أبي موسى الأشعري : أنّ عمر
ولاّه على البصرة ، ثمّ عزله عثمان ، فسكن الكوفة إلى أن ولاّه عثمان أيضاً على
الكوفة إلى أن عزله عليّ عليهالسلام ،
فقال : فكان لم يزل واجداً على عليّ عليهالسلام حتّى
جاء منه ما جاء .
ثمّ قال : وقد قال فيه حذيفة كلاماً
كرهت ذكره ، واللّه يغفر له.
وسيأتي في المقالات الأخيرة من المقصد
الثاني ذكر نبذ من حكاية
__________________
أبي موسى ، وفيه :
أنّ حذيفة كان يقول : إنّه منافق .
ونقل فيه عن عبد الرحمن بن خالد بن وليد: أنّه كان مع معاوية منحرفاً عن عليّ عليهالسلام وبني هاشم ، خلافاً
لأخيه المهاجر بن خالد،
وأنّ معاوية دسّ في آخر عمره إلى طبيب يهودي ليسمّه في مرضٍ عرض له ، فسمّه
اليهودي ومات بذلك.
وكذا نقل فيه قولاً : بأنّ الحسن عليهالسلام لمّا صالح معاوية شرط
عليه أن تكون الخلافة بعد معاوية للحسن عليهالسلام ،
فلمّا عزم معاوية على أن يأخذ البيعة ليزيد ابنه دسّ إلى جعدة بنت الأشعث بن قيس
أن تسمّ الحسن عليهالسلام ،
وبذل لها مالاً في ذلك ، وشرط لها أن يزوّجها من يزيد ، وكانت لها ضرائر أيضاً ،
فقبلت وسمّته ، ثمّ ذكر أيضاً أنّ معاوية كان يريد الخلافة ليزيد ولم يقدر على
إظهاره إلاّ بعد وفاة الحسن عليهالسلام .
ونقل فيه عن عبد الرحمن بن عُديس: أنّه ممّن بايع تحت
__________________
الشجرة ، وأنّه كان
الأمير على الجيش القادمين من مصر إلى المدينة الذين حصروا عثمان وقتلوه.
ونقل فيه عن عائشة: أنّها قالت: ما من
أحد من أصحاب رسول اللّه صلىاللهعليهوآله أشاءُ
أن أقول فيه إلاّ قلت ، إلاّ عمّار بن ياسر،
فإنّي سمعت رسول اللّه صلىاللهعليهوآله يقول
: «ملىء عمّار إيماناًحتّى
أخمص قدميه».
ثمّ نقل : أنّ غلمان عثمان ضربوه بأمر
عثمان ضرباً انفتق له فتق في بطنه ، وكسروا ضلعاً من أضلاعه.
ونقل فيه ما نقله ابن الجوزي أيضاً عن
ابن عباس : أنّه دخل على عمرو بن العاص في مرضه ، فقال له : كيف أصبحت؟ فقال له :
أصبحت وقد أصلحت من دنياي قليلاً ، وأفسدت من ديني كثيراً ، فلو كان الذي أصلحت هو
الذي أفسدت ، والذي أفسدت هو الذي أصلحت لفزت ، ولو كان ينفعني الطلب لطلبت ، ولو
كان ينجيني الهرب لهربت ، فصرت كالمنجنيق بين السماء والأرض ، لا أرقى بيدين ، ولا
أهبط برجلين.
ونقل أيضاً : أنّه لمّا حضرته الوفاة
بكى ، فقال له ابنه : أتبكي جزعاً
__________________
من الموت؟ فقال : لا
واللّه ، ولكن لما بعد الموت ، ثمّ قال : إذا متّ شدّوا عليّ إزاري فإنّي مخاصم، الخبر .
ونقل فيه عن عمرو بن الحمق: أنّه كان من كبار الصحابة ، حافظاً عن
النبيّ صلىاللهعليهوآله أخباراً
، وروى عنه جماعة ، ونقل أنّه من الأربعة الذين دخلوا على عثمان داره لقتله ،
وأنّه كان من شيعة عليّ عليهالسلام وشهد
مشاهده كلّها ، إلى أن حكى حكاية زياد،
وأنّه أرسل رأسه إلى معاوية ، وكان أوّل رأس حُمل في الإسلام من بلد إلى بلد.
وسيأتي في بيان جلالة شأن عمرو هذا في
المقالة السادسة من المقصد الثاني .
ونقل فيه عن عامر بن واثلة: أنّه آخر من مات ممّن رأى
__________________
النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
وأنّه كان ثقةً مأموناً ، ثمّ ذكر أنّه قدم على معاوية ، فقال له : كيف وجدك على
خليلك أبي الحسن عليهالسلام ؟
فقال : كوجد اُم موسى على موسى عليهالسلام ،
وأشكو إلى اللّه التقصير ، فقال له : كنت فيمن حضر قتل عثمان ؟ قال : لا ، ولكنّي
كنت فيمن حصره ، فقال : وما منعك عن نصره؟ قال : وأنت ما منعك عن نصره إذ تربّصت
به ريب المنون ، وكنتَ في أهل الشام ، وكلّهم تابع لك فيما تريد ؟ فقال معاوية :
أوَ ما ترى طلبي بدمه نصرةً له ؟ قال : ولكن كما قال أخو بني فلان :
لألفيَنَّك بعدَ المَوتِ تَندِبُني
|
|
وَفي حَياتي مَا زَوّدْتَني زَادَا
|
ونقل فيه عن معاوية : أنّه كان يكتب كلّ
ما ينزل به من المعضلات إلى بعض الناس سرّاً ليسأل عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ، فلمّا بلغه قتل
عليّ عليهالسلام ،
قال : ذهب الفقه والعلم بموت عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ،
فقال له عتبةأخوه
: لا يسمع منك هذا أهل الشام ، فقال : دعني عنك.
__________________
ونقل فيه عن جابر قال : ما كنّا نعرف
المنافقين إلاّ ببغض عليّ بن أبي طالب عليهالسلام .
ونقل فيه عن عليّ عليهالسلام : أنّه لا يخصّ
بالفيء حميماً ولا قريباً ، ولا يخصّ بالولايات إلاّ أهل الأمانات والديانات.
وكان يقول : «لا يحبّني إلاّ مؤمن ، ولا
يبغضني إلاّ منافق ، أخبرني بذلك حبيبي رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
» ، ونقل هذا أيضاً عن جماعة من الصحابة، وسيأتي مفصّلاً في محلّه إن شاء
اللّه تعالى .
ونقل فيه بإسناد له عن أبي قيس الأوديّ، قال : أدركت الناس وهم ثلاث طبقات :
أهل دين يحبّون عليّاً عليهالسلام ،
وأهل دنيا يحبّون معاوية ، وخوارج.
ونقل فيه : أنّ بني اُميّة كانوا ينالون
من عليّ عليهالسلام وينتقصونه
، فما زاده اللّه بذلك إلاّ سموّاً ورفعةً ، وأنّ عامر بن عبداللّه بن الزبير، سمع ابناً له
__________________
ينتقص عليّاً عليهالسلام ، فقال : يا بنيّ ،
إيّاك والعودة إلى ذلك ، فإنّ بني مروان شتموه ستّين سنة فلم يزده اللّه بذلك
إلاّ رفعة ، وإنّ الدين لم يبن شيئاً فهدمته [الدنيا] ، والدنيا لم تبن شيئاً إلاّ عادت على
ما بنت فهدمته.
ونقل فيه عن عقيل بن أبي طالب رحمهالله :
أنّه لمّا ذهب إلى معاوية غاضباً على أخيه عليّ عليهالسلام ،
قال معاوية يوماً بحضرته : هذا أبو يزيد لولا علمه أنّي خير له من أخيه لما أقام
عندنا وتركه ، فقال عقيل : أخي خير لي في ديني ، وأنت خير لي في دنياي ، وقد آثرت
دنياي ، وأسأل اللّه خاتمة خير.
ونقل فيه عن فضالة بن عبيد: أنّه شهد اُحداً وسائر المشاهد كلّها
، ثمّ ذهب إلى الشام وصار قاضياً لمعاوية حتّى مات بها ، وأنّه لمّا مات حمل
معاوية جنازته ، وأنّ أبا الدرداء لمّا حضرته الوفاة قال له معاوية : من ترى لهذا
الأمر؟ فقال : فضالة بن عبيد ، فولاّه معاوية القضاء ، وكان قاضيه في
__________________
خروجه إلى صفّين.
ونقل فيه عن فروة بن عمرو الأنصاري: أنّه شهد بدراً وسائر المشاهد ، ثمّ
ذكر : أنّ فلاناً وفلاناً كانا يقولان : إنّه كان ممّن قد أعان على عثمان.
ونقل فيه عن قدامة بن مظعون: أنّه كان خال حفصةوزوج اُخت عمر بن الخطاب ، وكان ممّن
شهد بدراً وسائر المشاهد ، وأنّ عمر استعمله على البحرين ، فلمّا قدم الجارودسيّد عبد القيس على عمر من البحرين
أخبره بأنّ قدامة شرب فسكر ، وقال : هذا حدّ من حدود اللّه أخبرتك به ، فقال عمر
: من يشهد معك؟ قال : أبو هريرة ، فلمّا سأل أبا هريرة ، فقال : لم أره يشرب
ولكنّي رأيته سكران يقيء ، فزعزع عمر
__________________
شهادته ، ولكن كتب
إليه فطلبه .
فلمّا جاء قدامة من البحرين قال الجارود
لعمر: أقم على هذا كتاب اللّه، فقال عمر : أخصم أنت أم شهيد؟ فقال : شهيد ، فقال
: قد أدّيت شهادتك .
قال : فصمت الجارود، ثمّ غدا على عمر،
فقال له : أقم على هذا حدّ اللّه، فقال : ما أراك إلاّ خصماً ، وما شهد معك إلاّ
رجل واحد ، فقال الجارود : إنّي اُنشدك اللّه ، فقال عمر : لتمسكنّ لسانك أو
لأسؤَنّك ، فقال : يا عمر ، ما واللّه ذلك بالحقّ أن يشرب ابن عمّك الخمر وتسؤني
.
فقال أبو هريرة : إن كنت تشكّ في
شهادتنا فأرسل إلى امرأته بنت الوليد فسلها ، فأرسل عمر إليها فأقامت الشهادة على
زوجها ، فقال عمر لقدامة : إنّي حادّك ، فقال قدامة : لو كنت شربت كما يقولون ما
كان لكم أن تحدّوني ، فقال عمر : لِمَ؟ قال : لأنّ اللّه يقول : ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا )الآية
، فقال عمر : أخطأت التأويل إنّك إن اتّقيت اللّه اجتنبت ما حرّم اللّه عليك ،
ثمّ أمر عمر فحدّوه ، فغضب على عمر مدّة مديدة ، ثمّ نقل وجه صلحهما أيضاً.
ونقل فيه أيضاً : أنّ سعد بن أبي وقّاص
الذي هو عند العامّة من العشرة المبشّرة،
وكذا عبداللّه بن عمر ، ومحمّد بن مسلمةقعدوا
عن
__________________
مبايعة عليّ عليهالسلام ، فسُئل عليّ عليهالسلام عنهم ، فقال : «اُولئك
الذين خذلوا الحقّ ، ولم ينصروا الباطل» ؛ وذلك لأنّ معاوية طمع فيهم فكاتبهم
ودعاهم إلى المطالبة بدم عثمان فردّوا عليه ، وطعنوا فيه ، وذكروا له مناقب علي عليهالسلام ، حتّى أنّ سعداً كتب
إليه بأبيات يطعن بها عليه ، ومن جملة ما كتب سعد إليـه :
وأَمَّا أمرُ عُثمانَ فَدَعْهُ
|
|
فإنَّ الدّاءَ أذهَبَهُ البَلاءُ
|
مع هذا سيأتي في محلّه أنّ سعداً هذا
شهد عند معاوية بمحضر جماعة من الصحابة والتابعين بأنّه سمع النبيّ صلىاللهعليهوآلهيقول : «عليّ مع
الحقّ والحقّ مع عليّ ، يدور معه أينما دار»،
وأنّه استشهد في ذلك باُمّ سلمة زوجة النبيّ صلىاللهعليهوآله
فشهدت له، فافهم .
ونقلوا فيه عن سليمان بن صرد الخزاعي: أنّه كان مع عليّ عليهالسلام في صفين ، ثمّ إنّه
كتب إلى الحسين عليهالسلام يسأله
القدوم إلى العراق ، فلمّا
__________________
قدمها ترك القتال معه
، فلمّا قُتل الحسين عليهالسلام ندم
هو والمسيّب بن نجبةوأمثالهما
ممّن لم يقاتل معه ، وقالوا : ما لنا توبة إلاّ أن نقتل أنفسنا في الطلب بدمه عليهالسلام ، فخرجوا، وحكايتهم مشهورة .
ونقل فيه عن سمرة بن جندببعد ما مدحه : بأنّه كان من حفّاظ
الأخبار على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وغير
ذلك ، وأنّه صار والياً على البصرة بأمر زياد ، ولمّا مات زياد أقرّه معاوية على
عمله.
وسيأتي في المقصد الثاني ما يشتمل على
أنّه روى بأمر معاوية على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
حديثاً كذباً في تأويل آية ذمٍّ في عليّ
عليهالسلام ،
وآيةمدحٍ في قاتله.
__________________
ونقل فيه عن شرحبيل بن السمط: أنّه كان والياً على حِمْصمن طرف معاوية ، وأنّه لمّا قدم جريرعلى معاوية من عند عليّ عليهالسلام قيل لمعاوية : إنّ
جريراً يفسد عليك الناس ، ويردّ بصائر أهل الشام في أنّ عليّاً عليهالسلام لم يقتل عثمان ، فلا
بدّ لك من رجل يناقضه في ذلك ممّن له صحبة (مع النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
ومنزلة عند الناس ، ولا نعلمه إلاّ شرحبيل ، فإنّه عدوّ لِجرير .
فاستقدمه معاوية وهيّأ له رجالاً يشهدون
عنده أنّ عليّاً عليهالسلام قتل
عثمان ، منهم : بسر بن أرطاة ، ويزيد بن أسدجدّ
خالد القسري ،
__________________
وأبو الأعور السلمي ،
وحابس بن سعد الطائي،
ومخارق بن الحارث الزبيدي،
وحمزة بن مالك الهمداني،
وقد واطأهم معاوية على ذلك فشهدوا عنده أنّ علياً عليهالسلام قتل
عثمان ، فقبل ذلك ، وخرج في مدائن الشام يندب إلى طلب دم عثمان.
ونقل فيه عن الوليد بن عقبة بن أبي معيط: أنّه أخو عثمان بن
__________________
عفّان لاُمّه ، وأنّه
كان مجاهراً في الفسوق شارب الخمور ، وأنّ فيه وفي عليّ عليهالسلام نزلت : ( أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ
فَاسِقًا )، وأن عثمان جعله والياً على الكوفة إلى
أن جلده عليّ عليهالسلام؛
حيث شرب الخمر فسكر ، فصلّى بالناس في مسجد الكوفة صلاة الصبح أربع ركعات ، ثمّ
قال لهم : أأزيدكم؟ ثمّ صار من أصحاب معاوية وكان يحرّضه على حرب عليّ عليهالسلام ويغريه ، ولمّا صار
الحرب انعزل عنهما وقال : فربّ حريص محروم .
قال صاحب الكتاب : وله أخبار فيها بشاعة
تدلّ على سوء حاله وقبح أفعاله ، ثمّ قال : ومن أنكر صدور ما صدر منه ، فكلامه غير
صحيح عند أهل العلم ، ومحض الاعتساف .
ومن الغرائب أنّه نقل : أنّ عثمان عزل
سعداً عن الكوفة وولاّها الوليد ، فلمّا قدم على سعد ، قال سعد : واللّه ، ما
أدري أكسيت بعدنا أم حمقنا بعدك!
فقال : لا تجزعنّ يا أبا إسحاق ، فإنّما هو الملك يتغدّاه قوم ويتعشّاه آخَرون،
فقال سعد : واللّه ، أراكم ستجعلونها ملكاً.
ونقل فيه عن أبي العادية: أنّه كان هو الراوي عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قوله
: «لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض»،
ومع هذا قتل
__________________
عمّار بن ياسر
مفتخراً بذلك ، بحيث كان كلّما يستأذن على معاوية يقول : إنّ قاتل عمّار يريد أن
يدخل عليك.
ونقل فيه عن جماعة أنّهم قالوا : كان
أبو سفيان والد معاوية من المؤلّفة قلوبهم أسلم عام الفتح ، وعمي في آخر عُمره ،
وأنّه كان كهفاً للمنافقين ، وكان منافقاً ، وأنّه لمّا ولي عثمان الخلافة دخل
عليه أبو سفيان ، فقال : قد صارت إليك بعد تيم وعديّ ، فأدرها كالكرة ، واجعل
أوتادها بني اُميّة ، فإنّما هو الملك ، وما أدري ما جنّة ولا نار!
وسيأتي تفصيل أحواله وكفره ونفاقه في
المقالة السادسة من المقصد الثاني .
ونقل جماعة كما في تاريخ الإسلام وغيره
: أنّ أبا هريرة ذهب في زمان معاوية إلى عليّ عليهالسلام ليجعل
الخلافة شورى بين الناس ، ثمّ ندم على فعله ، وعرف توهّمه في ذلك لمّا تكلّموا
عليه وذكّروه من فضائل عليّ عليهالسلام وذمّ
تركه ، ومع هذا اعتزل في صفّين ولم ينصر عليّاً عليهالسلام ،
بل كان من أصحاب بني اُميّة لاسيّما مروان بن الحكم ، حتّى نقلوا : أنّ يوماً في
جنازة رجل أخذ أبو هريرة بيد مروان فجلسا ناحية قبل أن توضع الجنازة ، وشرعا
يتكلّمان ، فجاء إليهما أبو سعيد الخدري وأقام مروان وقال له : واللّه ، لقد علم
صاحبك هذا ـ يعني أبا هريرة ـ أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله
نهانا عن ذلك ، يعني الجلوس ، فلم يقدر
أبو هريرة على تكذيبه ، بل صدّقه.
وسيأتي في المقصد الثاني ما يدلّ على
أنّه كان يكذب على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله بشهادة
عليّ عليهالسلام وعمر
جميعاً .
__________________
ونقل الحميديفي الجمع بين الصحيحين : أنّ أبا بكر
كان يقسّم الخمس نحو قسمة النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
غير أنّه ما كان يعطي قرابة النبيّ صلىاللهعليهوآله مثل
ما كان النبيّ صلىاللهعليهوآله يعطيهم.
ونقل في تاريخ الإسلام : عن عبداللّه
بن المباركأنّه
قال : الذي كان بين الصحابة كان فتنة ، ولا أقول لأحد منهم مفتون.
ونقل ابن الجوزي في كتاب المنتظم بإسناد
له متّصل إلى عبداللّه بن أحمد بن حنبلأنّه
قال : سألت أبي فقلت له : ما تقول في عليّ عليهالسلام ومعاوية
؟ فأطرق ، ثمّ قال : أيش أقول فيهما ، اعلم أنّ عليّاً عليهالسلام كان كثير الأعداء
ففتش له أعداؤه عيباً فلم يجدوا ، فجاءوا إلى رجل قد حاربه وقاتله
__________________
فأطروه ، كياداً منهم
له.
ونقل في المنتظم أيضاً بإسناد له متّصل
: عن عبداللّه بن جعفر،
عن اُمّ بكر بنت المسور،
عن أبيها ، قال : ولّى عمر على بيت المال عبداللّه بن الأرقم، وكان يقول : ما رأيت أحداً أخشى للّه
منه ، فكان عمر إذا استسلف شيئاً منه كان يتقاضاه عند إخراج العطاء فيقضيه ، فلمّا
ولّى عثمان أقرّه على بيت المال ، وكان يستسلف منه حتّى اجتمع عنده مال كثير وحضر
وقت العطاء ، فقال له عبداللّه : أدّ المال الذي استسلفته ، فقال عثمان له : ما
أنت وذاك ، إنّما أنت خازن ، فخرج عبداللّه حتّى وقف على المنبر فصاح بالناس
وأخبرهم بما قال عثمان ، وقال : هذه مفاتيح بيت مالكم .
ثمّ قال ابن الجوزي عند روايته ذلك :
فقيل : إنّه لمّا ردّ المفاتيح استخزن عثمان زيد بن ثابت.
__________________
ونقل في المنتظم : أنّ عمّاراً قتله أبو
العادية ، طعنه برمح فسقط ، فلمّا وقع أكبّ عليه رجل آخَر فاحتزّ رأسه ، فأقبلا
يتخاصمان فيه ، كلٌّ يقول : أنا قتلته ، فقال عمرو بن العاص : واللّه ، إن
تختصمان إلاّ في النار ، فسمعها منه معاوية ، فلمّا انصرف الرجلان قال لعمرو : ما
رأيت منك مثل ما صنعت اليوم ، قوم بذلوا أنفسهم دوننا ، تقول لهما : إنّكما
تختصمان في النار؟! فقال عمرو : هو واللّه ، ذاك ، وواللّه ، إنّك لتعلمه ،
ولوددت أنّي متّ قبل هذا بعشرين سنة.
ونقل أيضاً فيه بإسناد له متّصل عن
محمّد بن جميلعن
محمّد بن يحيى الأحمري،
قال : حدّثنا ليثعن
مجاهد، قال : جيء برأس
__________________
الحسين بن عليّ عليهماالسلام ، فوضع بين يدي يزيد
بن معاوية ، فتمثّل بهذين البيتين :
لَيتَ أشياخي ببدرٍ شَهِدُوا
|
|
جَزَعَ الخَزرجِ مِن وَقْعِ الأسَل
|
فأَهَلُّوا واستَهلَّوا فَرَحاً
|
|
ثمّ قَالوُا يا يزيدُ لا تُشَل
|
ثمّ نقل أنّ مجاهداً قال : هذا نفاق
صريح.
ونقل فيه أيضاً عن كتاب المدائنيعن أبي قرّة، قال : قال هشام ابن حسّان: ولدت ألف امرأة بعد وقعة الحرّة من
غير زوج ، وكانت
__________________
القتلى يومئذٍ
سبعمائة من وجوه الناس من قريش والمهاجرين والأنصار ووجوه الموالي ، وعشرة آلاف
ممّن لا يُعرف من عبد وحرّ وامرأة ، وانتهبوا المدينة ثلاثة أيام.
وذكر فيه أيضاً عن جمع من أهل المدينة
منهم : عبداللّه بن حنظلة غسيل الملائكة:
أنّهم كانوا يصرّحون بأنّ يزيد بن معاوية كان ينكح الاُمّهات والبنات والأخوات ،
ويشرب الخمر ، ويضرب بالطنابير ، ويترك الصلاة.
ونقل صاحب كتاب تاريخ الإسلام فيه ما
ملخّصه : أنّ المعتضد العبّاسيّأراد
أن يأمر بلعن معاوية على المنابر ، وأمر أن يجمعوا مثالبه
__________________
من نزاعه عليّاً عليهالسلام حقّه ، وأنّه من
الفئة الباغية التي قتلتعمّاراً
، وأنّه سفك الدماء ، وسبى الحريم ، وانتهب الأموال المحرّمة ، وقتل حُجراً ،
وعمرو بن الحمق ، وادّعى زياد بن أبيه جرأةً على اللّه ورسوله فإنّ اللّه يقول :
(
ادْعُوهُمْ
لِآبَائِهِمْ )، وقال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«الولد للفراش وللعاهر الحجر»،
وأنّه دعا إلى ابنه يزيد ، وقد علم فسقه حتّى فعل بالحسين عليهالسلام ما فعل ، وكذا يوم
الحرّة ، وحرق البيت الحرام ، وأنّه كان من الشجرة الملعونة في القرآن ، وأمثال ذلك
.
فقالوا له : ما لَكَ قدرة على فتنة
العامّة إن سمعوا هذا .
(فقال: أضع السيف عليهم ، فقالوا : فما تصنع
بالعلويّين الذين هم في كلّ ناحية قد خرجوا عليك؟ وإذا سمع الناس هذا وهو من فضائل
أهل البيت كانوا إليهم أميل وصاروا أبسط ألسنة ، فحينئذٍ أمسك المعتضد عمّا أراد.
أقول
: هذا الذي ذكرناه هاهنا ليس عشراً من
معشار ما ذكره علماء
__________________
العامّة ، وعمدة
معتبريهم في كتبهم من مساوئ أحوال كثير من الصحابة ، وقبائح أفعالهم وأعمالهم ،
وقدح بعضهم بعضاً ، ولو بحسب تعارف الدنيا ، حتّى أنّهم نقلوا ذموماً لعثمان من
جماعة من الصحابة ، وكذا لأبي بكر ، وعمر ، بل نقلوا تعريضات ، بل تصريحات من خصوص
عمر في ذمّ أبي بكر ، وسيأتي نبذ منها في مقالات المقصد الثاني وفي الختام وغيرهما
، حتّى أنّه يأتي بعض ما ذكرناه هاهنا أيضاً .
فهذه المنقولات وإن كان كلّ واحد منها
آحاداً ، بحيث أمكن قدح ما لم يكن منها محفوفاً بقرائن الصدق إلاّ أنّه لا يبقى
مجال شكٍّ في صحّة المعنى المستفاد من الجميع المشترك بين الكلّ ، أعني : كون أهل
عصر النبيّ صلىاللهعليهوآله من
الصحابي وغيره كأهل سائر الأعصار في وجود الأخيار فيهم ، والأشرار والمنافقين ،
وضعفاء العقل والدين ، والمائلين إلى الهوى ، وأهل الحرص على الدنيا ، وأمثال ذلك
من أقسام اختلاف حالات الناس ، وتفاوت الأشخاص ، بل كون الأكثر ممّن لا يعبأ بشأنه
، ولا يعتمد عليه ، كما سيأتي ، لاسيّما في مقالات المقصد الثاني .
بل ينادي بذلك أيضاً ما هو الثابت
المسلّم الواضح من فرارهم في الحروب ، وتركهم النبيّ بين الأعادي في أقلّ قليل بعد
مبايعتهم معه على الموت وترك الفرار ، وأمثال ذلك من المنكرات التي لا شكّ في
صدورها عنهم .
ألا ترى إلى أنّهم كيف اشتغلوا بعد رسول
اللّه صلىاللهعليهوآله إلى
الدنيا؟ بحيث لم يتوجّهوا إلى ضبط سننه وعباداته وآدابها ، حتّى الصلوات الخمس
التي كان يصلّي بهم كلّ يوم خمس مرّات ، والأذان الذي كان ينادي به لهم كلّ
يوم كذلك ؛ بحيث صار
سبب هذا الاختلاف العظيم الموجود بينهم في كلٍّ منها إلى الآن ، حتّى أنّهم لا
يدرون أنّه كان يقنت في الصلاة أم لا؟ وكان يجهر بالبسملة ، بل يبسمل أم لا؟ وكان
يغسل رجله أو يمسح؟ وكيف كانت كيفيّة وضوئه وصلاته ؟ وفصول أذانه وإ قامته؟ وهلّم
جرّاً .
حتّى نقلوا عن أنس خادم النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
كان يبكي في آخر عمره ، فيقول : لا أرى شيئاً ممّا كان في عهد النبيّ صلىاللهعليهوآله إلاّ
هذه الصلاة ، وهي أيضاً قد ضُيّعت وغُيّرت.
وكفاك شاهداً حصول الخلاف في أكثرها ؛
ضرورة عدم وجود الاختلاف في زمن النبيّ صلىاللهعليهوآله
، فلو أنّهم ضبطوها بعده على ما كان لم
يوجد خلاف ولا اختلاف .
ألا تنظر إلى القرآن كيف هو مملوء من
المعاتبات التي عاتبهم اللّه بها ، حتّى أنّه حكم صريحاً بوجود المنافق والفاسق
والظالم وأمثالها فيهم ، كما قد ذكرنا نبذاً من ذلك في المطلب الأوّل .
وقد نقل في تاريخ الإسلام في ترجمة
عبداللّه بن عبيد اللّه بن أبي مُليكة،
بعد أن ذكر توثيقه عن جمع : أنّ الصلت بن دينارروى
__________________
عنه أنّه قال : أدركت
أكثر من خمسمائة من الصحابة ، كلّهم خاف النفاق على نفسه .
قال : وفي رواية اُخرى عن ابن جريج، عنه ، قال : أدركت ثلاثين من أصحاب
النبيّ ، الخبر ، ثمّ حكم بصحّة الثاني،
وهو أيضاً كافٍ .
ونقل في جامع الاُصول من صحيح البخاري
عن ابن أبي مليكة ، قال : أدركت ثلاثين من أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآله وقد
شهدوا بدراً ، كلّهم يخاف على نفسه النفاق ، ولا يأمن من المكر على دينه.
ونقل صاحب الاستيعاب في ترجمة حذيفة بن
اليمان : أنّه كان معروفاً في الصحابة بصاحب سرّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ؛
حيث عرّفه المنافقين ، وأنّ عمر كان ينظر إليه إذا مات أحد ، فمن لم يشهد جنازته
حذيفة لم يشهدها عمر،
وأمثال هذه الأشياء كثيرة ويأتي بعضها ، فتأمّل .
__________________
الفصل الثالث
في
توضيح ما يدلّ على خصوص النهي عن تلك الحالات التي ذكرنا الامتحان بها في الباب ،
والتشديد في تركها بناءً على كونها منبع الفتن والفساد ، لاسيّما في الدين ، حتّى
أنّ منها كان سبب عداوة الشيطان لآدم ، وكذا هي سبب التعادي والتحاسد في كلّ زمان
، بل هي داء دفين في قلب كلّ شخص إلاّ من رحمهالله بالعصمة والتوفيق ، وأنّه لأجل
هذا ورد النهي مع التهديد عنها كثيراً ، وألزم اللّه الناس بالجهد في إزالتها ،
وتزكية النفس عنها جدّاً ، وقرّر لها تأديبات وتعزيرات ، وقراراً وحدّاً ، حتّى أنّه لم يكتف
بذلك بل جعل الأنبياء والاُمراء من جانبه مبشّرين ومنذرين ومؤدّبين لأجل رفع هذه
الأشياء أيضاً .
وبالجملة
: نذكر هاهنا ما يدلّ على أمثال هذه
الأشياء ، ويشتمل على المواعظ الشافية :
قد تقدّم في ما مضى آنفاً من الفصلين
وغيرهما ما لا حاجة معه إلى تطويل الكلام في هذا المقام ، وسيأتي أيضاً في الفصول
الآتية ، لاسيّما في الباب الرابع كثيراً ، بل كفى هاهنا ما يجده الإنسان في نفسه
من رغبته الجبلّيّة إلى المشتهيات الدنيويّة ، وابتلائه لأجلها بالمساوئ الدنيئة ،
كالحسد
__________________
والحميّة وأشباههما
من المنافسات ؛ بحيث إنّه وإن جاهد طول عمره في إزالتها لم يتيسّر له الاستخلاص
منها بالكلّيّة إلاّ من أخلصه اللّه بالعصمة كالأنبياء والأوصياء ، بل لم يتيسّر
التقليل أيضاً بدون عناية اللّه بالتوفيق .
ولا عبرة بما قد يتوهّمه بعض الجهّال ،
أو يلقي الشيطان في البال من ظنّ الزوال أو الوصول إلى حدّ الكمال في الإقلال ،
فإنّه محض الخيال بسبب عدم التفحّص عمّا هو المكنون في صميم البال ، بل هو من جملة
خطوات الشيطان ، ليسلب التوجّه إلى السعي في الإزالة عن الإنسان ، بل في الحقيقة
أنّه عين العجب المذموم وتزكية النفس الممنوعة في القرآن ، قال اللّه تعالى : ( فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ
أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ ).
ولهذا ورد في الحديث : «ما تمّ عقل امرئ
حتّى يرى الناس كلّهم خيراً منه ، وأنّه شرّهم في نفسه».
ألا ترى إلى الشيطان الذي عبد اللّه
وجهد في طاعته بحيث فاق بذلك ، وترقّى حتّى أعجب الملائكة ، ثمّ لمّا كان الكبر في
صميم قلبه ـ وإن لم نقل : إنّه أشعر به ـ قاس قياساً دعاه إلى مخالفة أمر اللّه
جهاراً ؛ بحيث انجرّ إلى حسده لآدم عليهالسلام ،
وعداوته له ولبنيه ، حتّى أشعل نار الفتنة ، وانتشر فساده في العالم ، كما أخبر
اللّه عنه في كتابه.
وقد قال عليّ عليهالسلام : «إنّ إبليس لم يزل
يعبد اللّه تعالى مع ملائكته حتّى امتحنه بسجود آدم عليهالسلام ،
فامتنع من ذلك حسداً وشقاوةً غلبت عليه ،
__________________
فلعنه عند ذلك ،
وأخرجه عن صفوف الملائكة ملعوناً مدحوراً ، فصار عدوّ آدم وولده بذلك السبب»، الخبر .
فهكذا حال عامة الناس ، وإن عدّ بعضهم
من العلماء والأخيار)وأهل
الإحساس ، لاسيّما ضميمة خطوات الشيطان ووسواس الخنّاس التي لا ينفكّ عنها أكثر
الناس ، حتّى أنّه قد تبيّن ممّا مرّ آنفاً ويأتي في المقصد الثاني أيضاً : ابتلاء
جماعة من الصحابة وعلماء الاُمّة وأشباههم بهذا الداء الدفين .
وكفى هاهنا ما فعل عقيل بن أبي طالب ،
حيث رحل من أخيه عليّ عليهالسلام إلى
معاوية طمعاً في أخذ المال منه كما صرّح هو به عند معاوية . على ما مرّ في المقام
الثاني من المطلب السابق.
وعلى هذا ، فكيف يبقى الاعتقاد بحسن حال
عامّة المتقدّمين ، لا سيّما من صدر منه القبائح باليقين؟
وكيف يجوز الاعتماد لاسيّما في اُمور
الدين على الصادر ممّا سوى المعصوم من هذا الخطر المبين ما لم يتّضح أنّه من صريح
كتاب اللّه أو صحيح سنّة رسول اللّه الأمين؟
وكيف يصحّ دعوى طلب الحقّ وقبوله ممّن
لا يجد في نفسه الصبر على مفارقة محبوبه ومأموله؟ فتأمّل تفهم .
ولنذكر حينئذٍ نبذاً من الروايات
والمواعظ وأمثالها المشتملة على ذمّ
__________________
تلك الحالات والنهي
عنها ممّا يناسب المقام ، ولا يطول به الكلام .
وأمّا الآيات : فهي وإن كانت كثيرة
أيضاً إلاّ أنّه قد ذكرنا فيما مضى ، لا سيّما في الفصلين الأخيرين ما يكفي هاهنا
، بل يزيد جدّاً ، ولقد كفى قوله عزوجل
: (
أَفْلَحَ
مَنْ تَزَكَّىٰ * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ * بَلْ تُؤْثِرُونَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ * إِنَّ
هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ )، وقوله عزوجل
: (
قَدْ
أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ).
ففي الحديث إنّ لُقمان قال لابنه : «يا
بنيّ ، تواضع للحقّ تكن أعقل الناس ، فإنّ الكيّس لدى الحقّ يسير ، وإنّ الدنيا
بحر عميق ، قد غرق فيها عالم كثير ، فلتكن سفينتك فيها تقوى اللّه ، وحشوها
الإيمان ، وشراعها التوكّل ، وقيّمها العقل ، ودليلها العلم ، وسكّانها الصبر» .
وفيه : «كفى بك جهلاً أن تركب ما نهيت
عنه» .
وفيه : «إنّ العاقل رضي بالدُّون من
الدنيا مع الحكمة ، ولم يرض بالدُّون من الحكمة مع الدنيا» .
وفيه : «إنّ القلوب تزيغ وتعود إلى
عماها ورداها ، إنّه لم يخف اللّه مَنْ لَمْ يعقل عن اللّه ، ومن لم يعقل عن
اللّه لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها ويجد حقيقتها في قلبه ، ولا يكون أحد
كذلك إلاّ مَنْ كان قوله لفعله مصدّقاً ، وسرّه لعلانيته موافقاً».
وفيه : «من خاف العاقبة تثبّت عن
التوغّل فيما لا يعلم ، ومن هجم
__________________
على أمر بغير علم جدع
أنف نفسه».
وفي الحديث القدسي : «كيف تخشع لي خليقة
لا تعرف فضلي عليها؟ وكيف تعرف فضلي عليها وهي لا تنظر فيه؟ وكيف تنظر فيه وهي لا
تؤمن به؟ وكيف تؤمن به وهي قد قنعت بالدنيا واتّخذتها مأوى ، وركنت إليها ركون
الظالمين ؟ ».
وفي الحديث ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال في حديث له : « . . . بئس العبد عبد يختلّ الدنيا بالدين ، وبئس العبد عبد
يختلّ الدين بالشبهات ، وبئس العبد عبد له هوى يضلّه» ، الخبر ، رواه الترمذي في صحيحه
، والحاكم في مستدركه ، وغيرهما عن أسماء بنت عميسوغيرها ، عنه صلىاللهعليهوآله .
وفي وصايا رسول اللّه صلىاللهعليهوآله لعليّ
عليهالسلام .
«يا عليّ ، شرّ الناس من باع آخرته
بدنياه ، وشرّ من ذلك من باع آخرته بدنيا غيره .
يا عليّ ، أنهاك عن ثلاث خصال : الحسد ،
والحرص ، والكِبر .
__________________
يا عليّ ، آفة العلم الحسد .
يا عليّ ، أربع خصال من الشقاء : جمود
العين ، وقساوة القلب ، وطول الأمل ، وحبّ البقاء .
يا عليّ ، ثلاث مهلكات : شحّ مطاع ،
وهوى متّبع ، وإعجاب المرء بنفسه .
يا عليّ ، للظالم ثلاث علامات : يقهر من
دونه بالغلبة ، ومن فوقه بالمعصية ، ويظاهر الظلمة .
يا علي ، من تعلّم علماً ليماري به
السفهاء ، أو يجادل به العلماء ، أو ليدعو الناس إلى نفسه ، فهو من أهل النار .
يا عليّ ، ما أحد من الأوّلين والآخرين
إلاّ وهو يتمنّى يوم القيامة أنّه لم يعط من الدنيا إلاّ قوتاً .
يا عليّ ، لا فقر أشدّ من الجهل ، ولا
مال أعود من العقل ، ولا وحشة أوحش من العجب ، ولا ورع كالكفّ عن محارم اللّه ،
لا عبادة مثل التفكّر .
يا عليّ ، العقل ما اكتسب به الجنان ،
وطلب به رضا الرحمن».
وفي الحديث : «إنّ التي كانت في معاوية
وأمثاله هي النكراء والشيطنة وليست بالعقل وهي شبيهة له».
وفي الحديث : «إنّ أخوف ما أخاف عليكم
خُلقان : اتّباع الهوى ، وطول الأمل ، أمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ ، وأمّا
طول الأمل فينسي
__________________
الآخرة».
وفي بعض خطب عليّ عليهالسلام : «إنّما بَدْءُ وقوع
الفتن من أهواء تتّبع ، وأحكام تبتدع ، يخالف فيها حكم اللّه ، يتولّى فيها رجال
رجالاً ، ألا إنّ الحقّ لو خلص لم يكن اختلاف ، ولو أنّ الباطل خلص لم يخف على ذي
حجى ، لكنّه يأخذ من هذا ضغث ، ومن هذا ضغث ، فيمزجان فهنالك يستولي الشيطان على
أوليائه».
وقال في خطبة اُخرى : «فلا يلهينّكم
الأمل ولا يطولنّ عليكم الأجل ، فإنّما أهلك من كان قبلكم امتداد أملهم ، وتغطية
الآجال عنهم ، حتّى نزل بهم الموعود ، واعلموا أنّكم لن تعرفوا الرشد ، حتّى
تعرفوا الذي تركه ، ولن تعرفوا الضلالة ، حتّى تعرفوا الهدى ، ولن تعرفوا التقوى ،
حتّى تعرفوا الذي تعدّى ، فإذا عرفتم ذلك عرفتم البدع والتكلّف ، ورأيتم الفرية
على اللّه وعلى رسوله والتحريف لكتابه ، ورأيتم كيف هدى اللّه من هدى ، فلا
يجهلنّكم الذين لا يعلمون ، إنّكم لن تنالوا ما تريدون إلاّ بترك ما تشتهون ، ولن
تظفروا بما تأملون إلاّ بالصبر على ما تكرهون».
وفي خطبة اُخرى : «إنّ من لم يجعله
اللّه من أهل صفة الحقّ فاُولئك هم شياطين الإنس والجنّ ، وإنّ لشياطين الإنس
حيلاً ومكراً وخدائع ، ووسوسة بعضهم إلى بعض يريدون إن استطاعوا أن يردّوا أهل
الحقّ عمّا
__________________
أكرمهم اللّه به من
النظر في دين اللّه»،
الخبر .
وفي خطاب اللّه عزوجل لموسى عليهالسلام :
«يا موسى ، اتّهم نفسك على نفسك ، ولا تأمن ولدك على دينك إلاّ أن يكون مثلك يحبّ
الصالحين .
يا موسى ، لا تحسد من هو فوقك ، فإنّ
الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب .
يا موسى ، إنّ ابني آدم تواضعا في منزلة
لينالا [بها]
من فضلي ورحمتي ، فقرّبا قرباناً ولا أقبل إلاّ من المتّقين ، فكان من شأنهما ما
قد علمت ، فكيف تثق بالصاحب بعد الأخ والوزير؟».
وفي وصايا رسول اللّه صلىاللهعليهوآله لأبي
ذرّ : «يا أبا ذرّ ، لو نظرت إلى الأجل ومسيره لأبغضت الأمل وغروره .
يا أبا ذرّ ، إنّ شرّ الناس منزلة يوم
القيامة عالم لا ينتفع بعلمه ، ومن طلب علماً يصرف وجوه الناس إليه لم يجد ريح
الجنّة ، ومن ابتغى العلم ليخدع به الناس لم يجد ريح الجنّة.
يا أبا ذرّ ، إنّ القلب القسيّ بعيد عن
اللّه ، ولكن لا يشعرون .
يا أبا ذرّ ، الكيّس من دان نفسه وعمل
لما بعد الموت ، والعاجز من اتّبع نفسه هواها وتمنّى على اللّه الأماني .
يا أبا ذرّ ، إنّ الدنيا ملعونة، ملعون
معلون ما فيها إلاّ ما ابتغي به وجه اللّه، وما من شيء أحبّ إلى اللّه تعالى من
إيمان به ، وترك ما أمر بتركه .
يا أبا ذرّ ، إذا أراد اللّه بعبد
خيراً فقّهه في الدين ، وزهّده في الدنيا
__________________
وبصّره بعيوب نفسه ،
وما زهد عبد في الدنيا إلاّ أثبت اللّه الحكمة في قلبه ، وأنطق بها لسانه ،
وبصّره عيوب الدنيا وداءها ودواءها ، وإذا رأيت أخاك قد زهد في الدنيا ، فاستمع
منه فإنّه يلقى [ إليه]
الحكمة» .
فقلت : من أزهد الناس؟
قال : «من لم ينس المقابر والبلى ، وترك
فضل زينة الدنيا ، وآثر ما يبقى على ما يفنى ، ولم يعدّ غداً من أيّامه ، وعدّ
نفسه في الموتى .
يا أبا ذرّ ، حبّ المال والشرف أذهب
لدين الرجل من ذئبين ضارّيين في زربالغنم
فأغارا فيها حتّى أصبحا فماذا أبقيا منها؟
يا أبا ذرّ ، الدنيا مشغلة للقلوب
والأبدان .
يا أبا ذرّ إنّي دعوت اللّه جلّ ثناؤه
أن يجعل رزق من أحبّني الكفاف ، وأن يعطي من يبغضني كثرة المال والولد .
يا أبا ذرّ ، طوبى للزاهدين في الدنيا ،
الراغبين في الآخرة ، الذين اتّخذوا أرض اللّه بساطاً ، وترابها فراشاً ، وماءها
طيباً ، واتّخذوا كتاب اللّه شعاراً ودعاءه دثاراً ، يقرضون الدنيا قرضاً .
يا أبا ذرّ ، حرث الآخرة العمل الصالح ،
وحرث الدنيا المال والبنون .
يا أبا ذرّ ، إذا دخل النور القلب
انفسحَ القلب واستوسع» .
قلت : فما علامة ذلك؟
قال : «الإنابة إلى دار الخلود ،
والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل حلول الفوت .
__________________
يا أبا ذرّ ، اتّق اللّه ولا تُرِالناس أنّك تخشى اللّه فيكرموك وقلبك
فاجر .
يا أبا ذرّ ، ليكن لك في كلّ شيء نيّة
صالحة حتّى في النوم والأكل .
يا أبا ذرّ ، ليعظم جلال اللّه في صدرك
، فلا تذكره كما يذكره الجاهل عند الكلب : اللّهمّ اخزه ، وعند الخنزير : اللّهمّ
اخزه .
يا أبا ذرّ ، الحقّ ثقيل مرئ، والباطل خفيف وبئ، وربّ شهوة ساعة تورث حزناً طويلاً .
يا أبا ذرّ ، لا تصيب حقيقة الإيمان
حتّى ترى الناس كلّهم حمقى في دينهم عقلاء في دنياهم .
يا أبا ذرّ ، حاسب نفسك قبل أن تحاسب ، وتجهّز
للعرض الأكبر .
يا أبا ذرّ ، أتحبّ أن تدخل الجنّة؟ »
قلت : نعم فداك أبي!
قال : «فاقصر من الأمل، واجعل الموت نصب
عينيك، واستحي من اللّه حقّ الحياء».
قلت : كلّنا نستحي من اللّه .
قال : «ليس كذلك الحياء ، ولكنّ الحياء
من اللّه تعالى أن لا تنسى المقابر والبلى ، والجوف وما وعى ، والرأس وما حوى .
ومن أراد كرامة الآخرة فليدع زينة
الدنيا ، فإذا كنت كذلك أصبت ولاية اللّه .
يا أبا ذرّ ، ما من شابّ يدع للّه
الدنيا ولهوها ، وأهرم شبابه في طاعة
__________________
اللّه إلاّ أعطاه
اللّه أجر اثنين وسبعين صدّيقاً .
يا أبا ذرّ ، الجليس الصالح خير من
الوحدة ، والوحدة خير من جليس السوء ، وإملاء الخبر خير من السكوت ، والسكوت خيـر
من إمـلاء الشـرّ ، إنّ اللّه عند لسان كلّ قائل ، فليتّق اللّه امرؤ وليعلم ما
يقول .
يا أبا ذرّ ، كفى بالمرء كذباً أن يحدّث
بكلّ ما يسمع .
يا أبا ذرّ ، ما من شيء أحقّ بطول السجن
من اللسان .
يا أبا ذرّ ، لا يزال العبد يزداد من
اللّه بعداً ما (سيء خلقه).
يا أبا ذرّ ، كن بالعمل بالتقوى أشدّ
اهتماماً منك بالعمل ، فإنّه (لا يقبل عمل إلاّ بالتقوى)، قال اللّه تعالى : ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ ).
يا أبا ذرّ ، لا يكون الرجل من المتّقين
، حتّى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة الشريك شريكه .
يا أبا ذرّ ، من سرّه أن يكون أكرم
الناس فليتّق اللّه ، قال سبحانه : (
إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ).
يا أبا ذرّ إنّ أنجاكم من عذاب اللّه
أشدّكم له خوفاً .
يا أبا ذرّ ، إنّ المتّقين الذين يتّقون
اللّه من الشيء الذي لا يُتّقى منه خوفاً من الدخول في الشبهة .
يا أبا ذرّ ، من أطاع اللّه فقد ذكره
وإن قلّت صلاته وصيامه .
يا أبا ذرّ ، أصل الدين الورع ورأسه
الطاعة ، وخير دينكم الورع ، إنّ
__________________
اللّه لا يخدع عن
جنّته ، ولا ينال ما عنده إلاّ بطاعته .
يا أبا ذرّ ، يقول اللّه عزوجل : وعزّتي وجلالي ، لا يؤثر عبدي هواي
على هواه إلاّ جعلت غناه في نفسه وهمومه في آخرته ، وضمنت السماوات والأرض رزقه ،
وكففت عنه ضيقهوكنت
له من وراء تجارة كلّ تاجر .
يا أبا ذرّ ، إنّ اللّه تعالى يقول :
إنّي لست كلام الحكيم أتقبّل ولكن همّه وهواه ، فإن كان همّه وهواه فيما أحبّ
وأرضى جعلت صمته حمداً لي ووقاراً وإن لم يتكلّم .
يا أبا ذرّ ، إنّ اللّه عزوجل لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ،
ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم .
يا أبا ذرّ ، التقوى هاهنا التقوى
هاهنا» ، وأشار إلى صدره .
«يا أبا ذرّ ، أوّل شيء يرفع من هذه
الاُمّة الأمانة والخشوع حتّى لا يكاد يرى خاشعاً.
يا أبا ذرّ ، سباب المسلم فسوق وقتاله
كفر ، وأكل لحمه من معاصي اللّه، وحرمة ماله كحرمة لحمه» .
أقول : هذا صريح في كفر من قاتل عليّاً عليهالسلام ، إذ لا كلام عند
المسلمين في إسلامه ، بل كمال إيمانه ، فافهم .
«يا أبا ذرّ ، من مات وفي قلبه مثقال
ذرّة من كبر لم يجد رائحة الجنّة ، إلاّ أن يتوب قبل ذلك» .
ثمّ قال : «إنّ الكبر أن تترك الحقّ
وتتجاوزه إلى غيره ، وتنظر إلى الناس ، فلا ترى أحداً عرضه كعرضك ولادمه كدمك ،
وأكثر من يدخل النار المتكبّرون ، طوبى لمن صلحت سريرته ، وحسنت علانيته ، وعزل عن
__________________
الناس شرّه ، وعمل
بعمله ، وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله» .
وقال أبو ذرّ : قلت يا رسول اللّه ،
أيّ الأعمال أحبّ إلى اللّه تعالى؟
قال : «الإيمان باللّه ، ثمّ الجهاد في
سبيله» .
قلت : أيّ المسلمين أفضل؟
قال : «من سلم المسلمون من لسانه ويده»
.
قلت : وأيُّ الهجرة أفضل؟ قال : «من هجر
السوء».
وقد قيل لعليّ عليهالسلام : أيّ سلطان أغلب
وأقوى؟ قال : «الهوى» .
قيل : فأيّ ذلّ أذلّ؟ قال : «الحرص على
الدنيا» .
قيل : فأيّ فقر أشدّ؟ قال : «الكفر بعد
الإيمان» .
قيل : فأيّ مصاحب شرّ؟ قال : «المزيّن
لك معصية اللّه» .
قيل : فأيّ الناس أكيس ؟ قال : «من أبصر
رشده من غيّه ، فمال إلى رشده» .
قيل : فأيّ الناس أحمق؟ قال : «المغترّ
بالدنيا وهو يرى ما فيها من تقلّب أحوالها» .
قيل : فأيّ المصائب أشدّ؟ قال : المصيبة
في الدين».
وفي رواية : أنّ أبا ذرّ رضیاللهعنه قال
: قلت : يا رسول اللّه ، أوصني ، قال : «اُوصيك بتقوى اللّه ، فإنّه رأس أمرك
كلّه» .
قلت : زدني ، قال : «عليك بالصمت ، إلاّ
من خير ، فإنّه مطردة
__________________
للشيطان عنك ، وعون
لك على اُمور دينك» .
قلت : زدني ، قال : «قل الحقّ وإن كان
مرّاً» .
قلت : زدني ، قال : «لا تخف في اللّه
لومة لائم».
وفي وصايا النبيّ صلىاللهعليهوآله لعبد
اللّه بن مسعود : «يا بن مسعود ، إنّ الدنيا دار غرور ، ودار من لا دار له ، ولها
يجمع من لا عقل له ، إنّ أحمق الناس من طلب الدنيا .
يا بن مسعود ، من اشتاق إلى الجنّة سارع
فيالخيرات ، ومن خاف النار ترك الشهوات ، ومن ترقّب الموت انتهىعن اللذّات ، ومن زهد في الدنيا قصر
أمله ، وتركها لأهلها ، قال اللّه تعالى : (
مَنْ
كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ
ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ
أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ).
أقول
: تأمّل في دلالة قوله تعالى : ( وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) على أنّ الصلاح والتعبّد بدون تحقيق
الحقّ عبث ، فافهم .
«يا بن مسعود ، من تعلّم العلم يريد به
الدنيا ، وآثر عليه حبّ الدنيا وزينتها استوجب سخط اللّه عليه ، وكان في الدرك
الأسفل من النار مع اليهود والنصارى الذين نبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم .
يا بن مسعود ، من تعلّم العلم ولم يعمل
بما فيه حشره اللّه يوم القيامة أعمى ، ومن تعلّم العلم رياءً وسمعةً يريد به
الدنيا نزع اللّه عنه بركته ،
__________________
ووكله إلى نفسه ، ومن
وكله اللّه إلى نفسه فقد هلك ، قال اللّه تعالى : (
فَمَنْ
كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ
بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا )، من لم يعرف الخير من الشرّ فهو بمنزلة
البهيمة .
يا بن مسعود ، احذر سكر الخطيئة ، فإنّ
للخطيئة سكراً كسكر الشراب ، بل هو أشدّ سكراً منه ، يقول اللّه تعالى : ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا
يَرْجِعُونَ ).
يا بن مسعود ، الدنيا ملعونة ، ملعون ما
فيها ، إلاّ ما كان للّه ، وملعون من طلبها وأحبّها ونصب لها .
يا بن مسعود ، فلا تلهيّنك الدنيا
وشهواتها ، فإنّ اللّه يقول : (
أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ).
يا بن مسعود ، لا تقدّم الذنب وتؤخّر
التوبة ، ولكن قدّم التوبة وأخّر الذنب ، قال اللّه تعالى : ( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ
أَمَامَهُ ).
وإيّاك أن تستنّ سنّة بدعة ، فإنّ العبد
إذا استنّ سنّة لحقه وزر من عمل بها ، قال اللّه تعالى : ( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ).
يا بن مسعود ، فلا تركن إلى الدنيا ولا
تطمئنّ إليها فتفارقها عن قليل ، واذكر القرون الماضية ، والملوك الجبابرة الذين
مضوا ، ولا تؤثرنّ الدنيا على الآخرة باللذّات والشهوات ، فإنّ اللّه يقول : ( فَأَمَّا مَنْ طَغَىٰ * وَآثَرَ
__________________
وَآثَرَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ).
يا بن مسعود ، لا تتكلّم إلاّ بالعلم
بشيءٍ سمعته ورأيته ، فإنّ اللّه يقول : (
وَلَا
تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )الآية ، وقال : ( سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ
).
يا بن مسعود ، إذا تكلّمت بلا إله إلاّ
اللّه ، ولم تعرف حقّها ، فإنّه مردود عليك ، ولا يزال قول : لا إله إلاّ اللّه
يردّ غضب اللّه عزوجل
عنهم حتّى إذا لم يبالوا ما ينقص من دينهم بعد إذ سلمت دنياهم ، يقول اللّه تعالى
: (كذبتم كذبتم ، لستم بها بصادقين ، فإنّه يقول): (
إِلَيْهِ
يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ )»
.
أقول
: تأمّل في هذا حتّى تفهم أنّ محض قول :
«لا إله إلاّ اللّه» لا يفيد بدون شروطه ، فلا يدخل في الأخبار كلّ من لهج به كما
توهّمه العامّة،
على ما سيأتي في محلّه.
ثمّ قال صلىاللهعليهوآله
: «يا بن مسعود ، عليك بالسكينة والوقار
، وكن سهلاً ليّناً عفيفاً ، مسلماً تقيّاً نقيّاً ، بارّاً طاهراً مطهّراً ،
صادقاً خالصاً ، سليماً صحيحاً ، لبيباً ، صالحاً ، شكوراً ، مؤمناً ، أميناً
ورعاً ، عابداً ، زاهداً ، رحيماً ، عالماً فقيهاً» ، ثمّ ذكر صلىاللهعليهوآله الآيات
الدالّة عليها .
ثمّ قال : «يا بن مسعود ، أنصف الناس من
نفسك ، وانصح الاُمّة
__________________
وارحمهم ، وإيّاك أن
تظهر من نفسك الخشوع والتواضع للآدميّين ، وأنت فيما بينك وبين ربّك مصرّ على
المعاصي والذنوب ، يقول اللّه تعالى : (
يَعْلَمُ
خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ )،
ولا تكن ممّن يشدّد على الناس ويخفّف على نفسه ، ولا تكوننّ ممّن يهدي الناس الى
الخير ويأمرهم به وهو غافل عنه ، يقول اللّه عزوجل
: (
أَتَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ).
يا بن مسعود ، إذا عملت عملاً فاعمل
بعلم وعقل ، وإيّاك أن تعمل عملاً بغير تدبّر وعلم ، فإنّ اللّه يقول : ( وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ
غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا )،
وعليك بالصدق ، وأنصف الناس من نفسك ، وأحسن وادع الناس إلى الإحسان ، ولا تمكر
الناس ، وأوف الناس بما عاهدتهم»،
الخبر ، وهو طويل وكذا ما قبله أخذنا من كلّ واحد نبذاً ممّا يناسب المرام .
والأخبار المناسبة له المشهورة بين
الفريقين ـ الشيعة والسنّة ـ كثيرة جدّاً فضلاً عن غيرها ، لكن لا حاجة هاهنا إلى
الإكثار ؛ إذ لا منكر هاهنا حتّى يحتاج إلى الإثبات والإقرار ، ولكن أوردنا طرفاً
منها تذكرةً لاُولى الأبصار ، وتبصرةً لمن أراد الاستبصار ، وموعظةً لقوم يعقلون ،
وسيأتي أيضاً كثير من الموضّحات وما هو من هذا الباب في الفصول الآتية ، فلا تغفل
، واللّه الموفّق والهادي .
* * *
__________________
الباب الثالث
في
بيان الامتحان بإمهال الظالمين في الدنيا ، وابتلاء المؤمنين ، ورواج الباطل وكثرة
أهله ، وقلّة أهل الحقّ .
اعلم أنّ اللّه عزوجل حيث أراد أن يكون دار تنعّم أوليائه
الجنّة ، ومحلّ راحتهم النشأة الاُخرى ، بعكس ما هو لأعدائه من تلاعبهم في الدنيا
، لأجل هوانها عنده سبحانه ، ولغير ذلك من المصالح العظيمة التي منها : إتمام
الحجّة ، وإزالة العذر بالنهي عن ذلك ، والتوبيخ والتهديد ، جعل من جملة ما امتحن
به عباده أيضاً إمهالَ أهل الدنيا والفراعنة والظالمين وأمثالهم وأتباعهم ، وشدّة
رواج الباطل ورونق سوقه ؛ بحيث يشتبه بالحقّ على الجاهل في الوثوق به ؛ لغلبة أهله
وكثرة أبناء الدنيا وشوكتهم ، وكذلك جعل من ذلك شدّة مصائب أولياء اللّه ، ومتاعب
أهل طاعته ، وضعف أهل الآخرة وابتلاءهم ، وكساد الحقّ وبواره ؛ بحيث يشتبه الحقّ
على الجاهل بالباطل من ضعف أهله وقلّة أتباعه وسقوط اعتباره .
ولهذا ذمّ الفرقة الاُولى ونهى عن
اتّباعهم والميل إليهم ، وبيّن شدّة عذابهم وعلائم بطلانهم ، ومدح الاُخرى ،
وأمرهم بالصبر على البلوى ، وتحملّ الأذى ، والسلوك مع أبناء الدنيا ، والمداراة
مع أهل الهوى ، وكتمان الحقّ عن الظالمين والأشرار ، وستر العلوم عنهم والأسرار .
وكذا نبيّن هاهنا شمول هذه العادة جميع
الأزمنة ، حتّى على هذه الاُمّة ، ولو على سبيل الشدّة والضعف ، وتوضيح هذا أيضاً
في ضمن خمسة فصول :
الفصل الأوّل
في
بيان اقتضاء حكمة اللّه ومصلحته أن يكون لأعدائه ومخالفيه التاركين للحقّ والدين
إمهال واستدراج بالغلبة والشوكة والتنعّم في هذه الدنيا التي هي دار الراحة لهم
والتمتّع لهم ، وبإقبالها إليهم ، وتوجّه أهلها وزخارفها عليهم ليزدادوا إثماً ،
وتكون الحجّة عليهم تماماً ، فيستحقّوا بذلك الهلاك وشدّة العذاب .
وفي
توضيح أنّ ذلك ليس من آثار الخير ، بل هو علامة الجهالة والضلالة ، والسخط من
اللّه عزوجل ، وأنّ اللّه
سبحانه نهى عن هذه الحالات ، وذمّ أهلها ، ولعنهم وفسقهم .
اعلم أنّ الآيات والروايات والتجربات
صريحة في هذا الأمر ، بل إنّما ذلك مقتضى العدل وإنجاح مراد العبد ، ومراعاة
التناسب ؛ ضرورة أنّ الإنسان إذا ترك الحقّ ولزم الباطل ورجّح الدنيا على الآخرة
بعد ظهور البيّنة ووضوح ترتّب الضرر عليه فقد اختار ذلك ، وأراده متعمّداً ، بل
طلبه وعزم عليه ولو بلسان الحال .
ولا شكّ أنّ مثل هذا باغض لربّه ومبغوض
عنده ، كاذب إن ادّعى غيره ، فلمّا لم يرد اللّه حرمان الخلق رأساً جعل لهؤلاء
الدار التي هي مبغوضة عنده أيضاً وهي الدنيا ، وأعطاهم فيها ما أرادوه منها على
حسب شهوتهم ورغبتهم وإن استوجب الضرر العظيم في عاقبتهم ؛ لتعمّدهم في
الرضا بذلك ـ كما تبيّن ممّا مرّ ـ حتّى
أنّ الشيطان طلبه بلسان المقال ، حيث (
قَالَ
رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ).
وحاصل المرام : أنّ اللّه تعالى لمّا
خلق الدنيا والآخرة ، وجعلهما متباينتين ؛ حيث جعل الاُولى فانية دنيئة مشتملة على
بلايا ومتاعب ومشاقّ التكليفات وغيرها ؛ إذ لم يخلقها إلاّ لأجل أن يوصل بها إلى
استحقاق نعيم الآخرة التي جعلها دار الالتذاذ والبقاء والراحة ؛ ولهذا أبغض الدنيا
وزخارفها ، ومن اغترّ بها وأرادها ورجّجها على ما اختار اللّه له من دار الآخرة ؛
إذ ذلك عين المضادّة مع اللّه عزوجل
، المستلزمة لاستحقاق العذاب والنكال ، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير ، ومن
ثمّ اقتضى عدله وكرمه أن لا يحرم هؤلاء عمّا أرادوا فأعطاهم منها على وفق حكمته
كما بيّنّا ، وجعل في العوض زيادة العذاب على حسب ذلك ، لكن مع تبيان ذلك لهم
ليُتمّ الحجّة عليهم ، وفي مقابل ذلك خصّ أولياءه الذين قبلوا قوله ، واختاروا ما
اختاره لهم من الآخرة بالبلايا فيها والمتاعب والمصائب ؛ ليستحقوا بذلك زيادة
الأجر والثواب .
فافهم هذا وتأمّل جدّاً ، حتّى تعلم أنّ
توجّه الدنيا إلى الإنسان علامة بغض الرحمن ، وعكسه بالعكس ، فتجعل هذا من قرائن
تمييز الخبيث من الطيب ، مع عدم الغفلة عن كون الدنيا الموصلة إلى خير الآخرة من
غير هذا الباب ، وأنّ مناط تمييز المهلكة والمنجية ملاحظة هذا الإيصال ، وتمام
انكشاف ما نحن فيه في ضمن نقل الآيات والروايات ، فلنذكر نبذاً منها :
قال اللّه عزوجل وتعالى : (
وَلَا
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي
__________________
هُمْ
خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ
عَذَابٌ مُهِينٌ ).
وقال أيضاً : ( أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ
بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ).
وقال : (
نُمَتِّعُهُمْ
قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٍ ).
وقال : (
وَمَنْ
كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ ).
وقال سبحانه وتعالى : ( لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمِهَادُ ).
وقال : (
وَلَا
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ
زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ )الآية
.
وقال تعالى : ( أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ
سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَىٰ
عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ).
وقال : (
فَلَا
تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا )الآية .
وقال تعالى : ( وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا
عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ
الْأَبْصَارُ ).
__________________
وقال : (
قُلْ
تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ).
وقال عزوجل
: (
قُلْ
تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ).
وقال عزوجل
: (
مَنْ
كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ
ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ )الآية .
وقال تعالى : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ
نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ
مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ).
وقال عزوجل
: (
وَالَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي
لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ).
وقال تعالى: ( فَذَرْنِى وَمَن يُكَذِّبُ بِهذَا
الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِى لَهُمْ
إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ ).
وقال تعالى : ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ
فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا
أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ).
وقال تبارك وتعالى : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ
قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا
بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ).
__________________
وقال أيضاً : ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ
قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ).
وقال تعالى : ( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا
عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا
وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ
تَسْتَكْبِرُونَ )الآية .
وقال سبحانه : ( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ
قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ )الآية
.
وقال تعالى : ( وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ
يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ).
وقال تعالى : ( لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا
لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ
مَوْئِلًا ).
وقال : (
وَمَا
أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ).
وقال : (
وَلَوْ
يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا
مِنْ دَابَّةٍ وَلَٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى )الآية
.
وقال عزوجل
: (
وَلَوْلَا
أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ
بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا
يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ *
وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ
__________________
الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ).
وقال : (
مَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ )
.
وقال تعالى : ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ
فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ).
وقال تعالى : ( وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي
أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ).
وقال تعالى: ( وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ
أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ).
وقال عزوجل
: (
فَمَهِّلِ
الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ).
وقال تعالى : ( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ
لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا )إلى
آخر الآيات وغيرها كثيرة ، وكفى ما ذكرناه هاهنا ، لاسيّما مع ما مرّ ويأتي سابقاً
ولاحقاً .
وفي نهج البلاغة قال أمير المؤمنين عليهالسلام : «أيّها الناس ، إنّ
اللّه تعالى قد أعاذكم من أن يجور عليكم ، ولم يُعذكم من أن يبتليكم ، وقد قال
جلّ من قائل : (
إِنَّ
فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ )».
__________________
وقال عليهالسلام :
«كم من مستدرج بالإحسان إليه ، وكم من مغرور بالستر عليه ، وكم من مفتون بحسن
القول فيه ، وما ابتلى اللّه سبحانه أحداً بمثل الإملاء».
وبرواية اُخرى : «كم من مغرور بما أنعم
اللّه عليه ، وكم من مستدرج بستر اللّه عليه ، وكم من مفتون بثناء الناس عليه».
وقال عليهالسلام :
«أيّها الناس ، ليراكم اللّه من النعمة وجلين ، كما يراكم من النقمة فرقين ، إنّه
من وسّع عليه في ذات يده فلم ير ذلك استدراجاً فقد أمِن مخوفاً ، ومن ضيّق عليه في
ذات يده فلم ير ذلك اختباراً فقد ضيّع مأمولاً».
وسئل عليهالسلام عن
قوم يعملون بالمعاصي ويقولون : نرجو ، فلا يزالون كذلك حتّى يأتيهم الموت ؟
فقال : «هؤلاء قوم يترجّحون في الأماني
، كذبوا ، ليسوا براجين ، من رجا شيئاً طلبه ، ومن خاف من شيء هرب منه».
وفي أخبار أهل البيت : أنّ الصادق جعفر
بن محمّد عليهماالسلام قال
: «إذا أراد اللّه بعبد خيراً فأذنب ذنباً أتبعه بنقمةٍ ويُذكّره الاستغفار ،
وإذا أراد بعبد شرّاً فأذنب ذنباً أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ، ويتمادى بها ،
وهو قول اللّه عزوجل
: (
سَنَسْتَدْرِجُهُمْ
مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ )، أي : بالنعم عند المعاصي».
__________________
وفي رواية اُخرى : أنّه سئل عن
الاستدراج ، فقال : «هو العبد يذنب الذنب فيملى له ، ويجدّد له عنده النعمة ،
فتلهيه عن الاستغفار من الذنوب ، فهو مستدرج من حيث لا يعلم».
وقال صلىاللهعليهوآله
ـ كما رواه الغزالي وغيره ـ : «إذا
رأيتم الرجل يعطيه اللّه ما يحبّ وهو مقيم على معصيته ، فاعلموا أنّ ذلك استدراج
، ثمّ قرأ قوله تعالى : (
لَمَّا
نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ )»الآية .
وقال رجل للرضا عليهالسلام : إنّي تركت فلاناً ـ
يعني رجلاً أكل مال أبيه وأنكره ـ من أعدى خلق اللّه لك !
قال : «ذلك شرّ له» ، قال الرجل : ما
أعجب ما أسمع منك جعلت فداك !
قال : «أعجب من ذلك إبليس ، كان في جوار
اللّه في القرب منه ، فأمره فأبى ، وتعزّز وكان من الكافرين ، فأملى اللّه له ،
واللّه ما عذّب اللّه بشيءٍ أشدّ من الإملاء ، واللّه ، ما عذّبهم اللّه بشيءٍ
أشدّ من الإملاء».
أقول
: الإملاء بمعنى : الإمهال وترك
الاستعجال .
والاستدراج قيل : هو من المدرجة وهي
الطريق . ودرج : إذا مشى سريعاً ، فمعنى الآية : أنّا سنأخذهم من حيث لا يعلمون ، أيّ
طريق سلكوا ، فإنّ مرجع جميع الطرق إلينا ولا يفوتنا هارب .
__________________
وقيل : إنّه من الدرج ، أي : سنطويهم في
الهلاك ، ونرفعهم عن وجه الأرض ، يقال : طويت فلاناً وطويت أمر فلان ، إذا تركته
وهجرته.
وقيل : أي : نقرّبهم إلى الهلاكة ، أو
إلى العذاب درجة درجة حتّى يقعوا فيه .
وقيل : معناه كلّما جدّدوا خطيئة جدّدنا
لهم نعمة،
كما هو صريح ما ذكرناه من الأخبار ، ومآله أيضاً إلى بعض ما ذكر ، لاسيّما الأخير
.
وما قيل : من أنّ معناه أنّه يستدرجهم
إلى الكفر والضلال غير وجيه ؛ لأنّ الآية وردت في الكفّار ، وتضمّنت أنّه يستدرجهم
في المستقبل ، فإنّ السين مختصّ بالمستقبل ، ولأنّه جعل الاستدراج جزاءً على كفرهم
وعقوبةً ، فلابدّ أن يريد به معنى آخر غير الكفر .
نعم ، قد يتحقّق هذا في الفسّاق من أهل
القبلة ؛ ضرورة كون بعض المعاصي مستلزمةً للكفر ، ومنتهيةً إليه ، بل بعضها عين
الكفر .
وعلى أيّ تقدير ، التفسير بالهلاكة أولى
وأحسن ؛ لأنّ الكفر هو الهلاكة أيضاً ، فتأمّل .
وفي الحديث المشهور ـ الذي مرّ ويأتي
أيضاً ـ أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «سبعة لعنتهم ولعنهم اللّه وكلّ نبيّ مجاب» ، وعدّ منهم : «المتسلّط في سلطانه
بالجبريّةليعزّ
من أذل اللّه ، ويذلّ من أعزّه اللّه ، والمتكبّر على عباد اللّه ، والمستحلّ
من عترة النبيّ صلىاللهعليهوآله ما
حرّم اللّه».
__________________
وفي تفسير العياشي : أنّ الصادق عليهالسلام قال في قوله تعالى : ( أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ) ـ مشدّدة منصوبة ـ يعني : كثّرنا
أكابرها (
فَفَسَقُوا
فِيهَا )».
وفي القاموس : أمِر ـ كفرِح ـ أمَراً
وأمَرَةً : كثر ، وتمّ ، فهو أمِرٌ ، والأمر : اشتدّ ، والرجل كثرت ماشيته ، وآمره
اللّه ، وأمره ، كنصره ، لُغيَّة : كثّر ماشيته ونسله. انتهى .
وفي تفسير النعماني عن عليّ عليهالسلام : أنّه قال في معنى
الضلال الوارد في القرآن : «الضلال منه محمود ومنه مذموم ، ومنه ما ليس بمحمود ولا
مذموم ، ومنه ضلال النسيان».
ثمّ قال : أمّا الضلال المحمود فهو
المنسوب إلى اللّه تعالى ، كقوله : (
يُضِلُّ
اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ )، هو ضلالهم عن طريق الجنّة بفعلهم ،
والمذموم هو قوله تعالى : (
وَأَضَلَّهُمُ
السَّامِرِيُّ )وأمثاله .
أمّا الضلال المنسوب إلى الأصنام ،
كقوله في قصّة إبراهيم عليهالسلام :
(
وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ )،
فالأصنام لا يضللن أحداً على الحقيقة ، إنّما ضلّ الناس بها وكفروا حين عبدوها .
وأمّا الضلال الذي هو النسيان ، فهو
قوله تعالى : (
أَنْ
تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا
__________________
فَتُذَكِّرَ
إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ )» .
قال عليهالسلام :
«وأمّا ما نسبه منه إلى نبيّه على ظاهر اللفظ ، كقوله : ( وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ )،
معناه : ووجدناك في قوم لا يعرفون نبوّتك فهديناهم بك» .
ثمّ قال عليهالسلام :
«وأمّا الضلال المنسوب إلى اللّه تعالى الذي هو ضدّ الهدى ، والهدى هو البيان ،
مثل قوله تعالى : (
فَهَدَيْنَاهُمْ
فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ )،
أي : بيّنّا لهم» .
وبسط الكلام عليهالسلام إلى أن قال : «فإنّه
لمّا أقام لهم الإمام الهادي لما جاء به النبيّ المنذر فخالفوه ، ولمّا بيّن لهم
ما يأخذون وما يذرون فخالفوه ، ضلّوا» إلى أن قال عليهالسلام :
«فحرّفوا دين اللّه ، وبدّلوا أحكامه ،
وعدلوا عمّن اُمروا بطاعته ، واضطرّهم ذلك إلى استعمال الرأي والقياس ، فزادهم ذلك
حيرةً والتباساً ، فكان تركهم اتّباع الدليل الذي أقام [ اللّه ] لهم ضلالةً لهم ، فصار ذلك كأنّه
منسوب إليه تعالى لمّا خالفوا أمره في اتّباع الإمام».
وقال : «ثمّ إنّهم افترقوا واختلفوا ،
ولعن بعضهم بعضاً ، واستحلّ بعضهم دماء بعض ، فماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال ، فأنّى
يؤفكون؟ !».
أقول : وعلى هذا ، فمعنى ما مرّ من قوله
تعالى : (
مَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ
__________________
فَلَا
هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ):
أنّ من خالف اللّه في اتّباع الإمام الحقّ الهادي إليه ، وضلّ بذلك عن طريق
الجنّة ، فلا مخلص له عن الباطل ، ولم يزل في مخالفة اللّه عزوجل ، فافهم ، حتّى تعلم
أنّ مآل تحقيق الحال في معنى الإضلال ، وكذا ما يفيد مفاده إلى منع التوفيق الذي
هو الخذلان ؛ إذ كما في الحديث : «لا حول لنا عن معصية اللّه إلاّ بعون اللّه ،
ولا قوّة لنا على طاعة اللّه إلاّ بتوفيق اللّه»، كما هو معنى الحوقلة .
ولا شكّ أيضاً : أنّ اللّه تعالى رؤوف
بعباده ، ويريد لهم الخير ويحثّهم عليه ، حتّى يتوجّهوا إليه ، فيعينهم حينئذٍ
لطفاً منه بأنواع أسباب التوفيق ، ليفعلوا ، فعلى هذا إذا لم يتوجّهوا إلى ما يريد
، ولم يعزموا على ما أحبّ ، بل وطّنوا أنفسهم على خلاف ذلك ، وهو لم يرد إجبارهم ،
تركهم حينئذٍ وأنفسهم ، وحرمهم عن التوفيق والإعانة .
ومعلوم أنّ النفس أمّارة بالسوء فتوقعهم
فيه ، ويستحوذ عليهم حينئذٍ الشيطان ، فهذا هو الضلال ، وكلّما داموا على هذا
الحال زاد الضلالوقسي
القلب ، وبعدوا عن شمول التوفيق ، واستحقّوا زيادة الخذلان إلى أن التهوا بالشهوات
النفسانيّة ، واندرجوا في مقام الاستدراج والتجاهر بالمعاصي وهلّم جرّاً إلى حدّ
عدم المبالاة بمخالفة اللّه بالكلّيّة ، نعوذ باللّه من شرور أنفسنا ، ومن
سيّئات أعمالنا .
فتأمّل جدّاً ، حتّى تعرف صريحاً أنّ
نسبة الإضلال إليه سبحانه على سبيل التجوّز والاتّساع ، وأنّ هذا هو المراد به
وبأمثاله ممّا هو من هذا
__________________
القبيل ، لا كما
توهّمه الجبريّةوالمشبّهة، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً .
وهذا هو «الأمر بين الأمرين»الوارد عن أهل البيت المصطفين الأخيار ،
وأخبارهم كلّها تنطبق على هذا ، بل الآيات أيضاً تستقيم على هذا بأدنى معونة تلوح
في كلّ موضع على المتأمّل الصادق ، فتأمّل ولا تغفل عن عدم تنافي هذا [مع] سائر ما ورد عن أهل البيت عليهمالسلام عن معنى الضلال في
بعض الآيات ، كما مرّ شيء من ذلك ؛ لعدم لزوم الورود في جميع المواضع بمعنى واحد ،
وأهل البيت أدرى بما في البيت .
نعم ، مهما لم يصل إلينا معنى منهم
حملناه على هذا لئلاّ يشتبه على بعض الجهّال فيقعوا في الضلال ، ولأجل هذا أيضاً
ذكرنا هاهنا هذا المرام وإن لم يكن مقام بسط هذا الكلام ، فتفطّن .
وفي الحديث أنّ اللّه عزوجل يقول : «لولا أن يجد عبدي المؤمن في
__________________
نفسه لعصّبت الكافر
بعصابة من ذهب».
أقول
: وهذا معنى ما مرّ من قوله تعالى : ( وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ
أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ )الآية
، فإنْ معناه : ولولا أن يرغبوا في الكفر إذا رأوا الكفّار في سعة وتنعّم ، لحبّهم
الدنيا فيجتمعوا عليه لجعلنا . . . إلى آخره .
وفي الخبر عن الصادق ، عن آبائه عليهمالسلام : «لم يكن من وُلد
آدم مؤمن إلاّ فقيراً ، ولا كافر إلاّ غنيّاً ، حتّى جاء إبراهيم عليهالسلام ، فقال : ( رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً
لِلَّذِينَ كَفَرُوا )، فصيّر اللّه تعالى في هؤلاء أموالاً
وحاجة ، وفي هؤلاء أموالاً وحاجة».
وفيه : أنّ عمر بن الخطاب قال : دخلت
على النبيّ صلىاللهعليهوآله في
مشربة اُمّ إبراهيم،
وإنّه لمضطجع على خصفةوإنْ
بعضه على التراب ، وتحت
__________________
رأسه وسادة محشوّة
ليفاً ، فسلّمت عليه ، ثمّ جلست ، فقلت : يارسول اللّه ، أنت نبيُّ اللّه وصفوته
وخيرته من خلقه ، وكسرى وقيصر على سرير الذهب وفرش الديباج والحرير ، فقال :
«اُولئك قوم عجّلت طيّباتهم ، وهي وشيكةالانقطاع
، وإنّا اُخّرت لنا طيّباتنا».
وفيه : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله دعاه
رجل إلى طعام فلمّا دخل منزل الرجل نظر إلى دجاجة فوق حائط قد باضت فوقعت البيضة
على وتدٍ في حائط ، فثبتت عليه ولم تسقط ، ولم تنكسر ، فتعجّب النبيّ صلىاللهعليهوآله منها،
فقال له الرجل: أعجبت من هذه البيضة ؟ فوالذي بعثك بالحقّ ، ما رزئت شيئاً قطّ ،
فنهض النبيّ صلىاللهعليهوآله ولم
يأكل من طعامه شيئاً وقال : «من لم يرزأ فما للّه فيه من حاجة».
وفي صحيحي البخاري ومسلم ، وصحيحي
الترمذي وابن ماجة : عن أبي موسى ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله
قال : «إنّ اللّه تعالى ليُملي للظالم
حتّى إذا أخذه لم يُفلته».
وفي بعض خطب عليّ عليهالسلام : «أيّها الناس ، إنّ
اللّه تعالى لم يقصم جبّاري دهر إلاّ من بعد تمهيل ورخاء ، ولم يجبر كسر عظم من
الاُمم إلاّ بعد أزل وبلاء».
«فقد أمهل شداد بن عاد ، وثمود بن غبود
، وبلعم بن باعوراء ،
__________________
وأسبغ عليهم نعمه
ظاهرة وباطنة ، وأمدّهم بالأموال والأعمار ، وأتتهم الأرض ببركاتها ، ليذَّكروا
آلاء اللّه ، وليعرفوا الإهابة له والإنابة إليه ، ولينتهوا عن الاستكبار ، فلمّا
بلغوا المدّة واستتموا الأكلة أخذهم اللّه تعالى واصطلمهمفمنهم من خسف، ومنهم من أخذته الصيحة ، ومنهم من
أحرقته الظلمة،
ومنهم من أودته الرجفة ، (
وَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )».
وقال النبيّ صلىاللهعليهوآله لعليّ
عليهالسلام :
«إنّ اُمّتي سيفتنون بعدي ، يفتنون بأموالهم ، ويمنّون بدينهم على ربّهم ، ويأمنون
سطوته ، ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة، فيستحلّون الخمر بالنبيذ ، والسحت
بالهدية ، والربا بالبيع»،
الخبر .
__________________
وقد مرّ ويأتي أيضاً قول النبيّ صلىاللهعليهوآله لأصحابه
: «إنّي أخاف عليكم من فتنة السرّاء أكثر ممّا أخاف من فتنة الضرّاء».
وقال بعض الصحابة : بلينا بفتنة الضرّاء
فصبرنا وبلينا بفتنة السرّاء فلم نصبر.
أقول
: وسنذكر إن شاء اللّه تعالى ـ فيما
سيأتي ـ نبذاً ممّا ورد في الحديث من التصريح بكون خصوص جماعة من هذه الاُمّة على
هذا المنوال ، وأنّهم من الأشرار ، كالتصريح بخصوص بني اُميّة ، وبني العبّاس وأتباعهم
وأمثال ذلك ، لاسيّما المعادين لآل محمّد عليهمالسلام .
وقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله :
«اطّلعت على الجنّة فرأيت أكثر أهلها الفقراء ، واطّلعت على النار فرأيت أكثر
أهلها الأغنياء والنساء».
وفي خطاب اللّه تعالى لموسى عليهالسلام : «ياموسى ، أبناء
الدنيا فتن بعضهم لبعض ، فكلّ مزيّن له ما هو فيه ، والمؤمن (مَن)زيّنت له الآخرة ، ياموسى ، إذا رأيت
الفقر مقبلاً ، فقل : مرحباً بشعار الصالحين ، وإذا رأيت الغنى مقبلاً ، فقل : ذنب
عجّلت عقوبته» .
وقال : «ولا تغرّنّك الدنيا وزهرتها ،
ولا ترض بالظلم ، فإنّي للظالم رصيد حتّى اُديل منه المظلوم ، كيف يجد قوم لذّة
العيش لولا التمادي في الغفلة ، والاتّباع للشقوة ، والتتابع للشهوة ، ومن دون هذا
يجزع
__________________
الصدّيقون».
وفي الحديث : «أنّ نبيّاً من الأنبياء
مرّ بساحل فإذاً هو برجل يصطاد حيتاناً ، فقال : باسم اللّه ، وألقى الشبكة فلم
يخرج فيها إلاّ حوت واحدة ، ثمّ مرّ بآخَر ، فقال : باسم الشيطان ، وألقى شبكته
فخرج فيها من الحيتان ما كان يتقاعس من كثرتها ، فقال النبيّ : ياربّ ، ما هذا ،
وقد علمت أنّ كلّ ذلك بيدك ؟ فقال اللّه تعالى : اكشفوا لعبدي من منزلتهما ،
فلمّا رأى ما أعدّ اللّه لهذا من الكرامة ، ولذلك من الهوان ، فقال : رضيت ياربّ
، الأمر لك وعزّت قدرتك».
وفيه : «إنّ جبرئيل عليهالسلام نزل على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله فقال
: يامحمّد ، إنّ اللّه يقرأ عليك السلام ويقول : أتحبّ أن أجعل هذه الجبال ذهباً
وتكون معك حيث ما كنت ؟ فأطرق رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
ساعة ، ثمّ قال : ياجبرئيل ، إنّ الدنيا
دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، قد يجمعها من لا عقلله ، فقال له جبرئيل : يامحمّد ، ثبّتك
اللّه بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة».
وكان عليّ عليهالسلام يقول
: «يا صفراء ، غُرّي سواي ، ويا بيضاء ، غرّي غيري».
ويقول : «يادنيا ، غُرّي غيري ، فإنّي
قد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة فيها».
__________________
وكان يقول : «إنّ دنياكم هذه لأهون عندي
من عفطة عنز».
وقد روي : أنّ اللّه تعالى أوحى إلى
بعض أنبيائه «احذر أن أمقتك فتسقط من عيني ، فأصبّ عليك من الدنيا صبّاً».
وفي كلام اللّه عزوجل لرسوله صلىاللهعليهوآله ليلة
المعراج : «يا أحمد ، لا تتزيّن بليّن اللباس ، وطيب الطعام ، وليّن الوطاء ، فإنّ
النفس مأوى كلّ شرّ ، وهي رفيق كلّ سوء ، تجرّها أنت إلى طاعة اللّه ، وتجرّك إلى
معصيته ، وتخالفك في طاعته ، وتطيعك فيما يكره ، وتطغى إذا شبعت ، وتتكبّر إذا
استغنت ، وتنسى إذا كبرت ، وتغفل إذا أمنت ، وهي قرينة الشيطان .
يا أحمد ، أبغض الدنيا وأهلها ، وأحبّ
الآخرة وأهلها» .
فقال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«ياربّ ، ومن أهل الدنيا ؟ ومن أهل الآخرة ؟».
قال : «أهل الدنيا من كثر أكله وضحكه
ونومه وغضبه ، قليل الرضا ، قليل التفقّه ، قليل الخوف ، كثير الكلام ، لا يعتذر
إلى من أساء إليه ، ولا يقبل عذر من اعتذر إليه ، كسلان عند الطاعة ، شجاع عند
المعصية ، إنّ أهل الدنيا يحمدون أنفسهم بما لا يفعلون ، ويدّعون بما ليس لهم»، الخبر .
وفي الحديث : أنّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآله مرّ
براعي غنم فبعث إليه يستسقيه ، فقال : أمّا ما في ضروعها فصبوحالحيّ ، وأمّا ما في آنيتنا فغبوقهم.
__________________
فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله :
«اللّهم أكثر ماله وولده» .
ثمّ مرّ براعي غنم فبعث إليه يستسقيه ،
فحلب ما في ضروعها وأكفى ما في إنائه في إناء رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وبعث
إليه بشاة وقال : هذا ما عندنا وإن أحببت أن نزيدك زدناك ؟
فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله :
«اللّهمّ ارزقه الكفاف» .
فقال له بعض أصحابه : يارسول اللّه ،
دعوت للّذي ردّك بدعاءٍ عامّتنا نحبّه ، ودعوت للّذي أسعفكبحاجتك بدعاء كلّنا نكرهه ؟
فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله :
«ما قلّ وكفى خير ممّا كثر وألهى ، اللّهمّ ارزق محمّداً وآل محمّد الكفاف».
وفيه : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «حفّت الجنّة بالمكاره وحفّت النار بالشهوات».
وقال صلىاللهعليهوآله
: «إنّ اللّه خلق النار فقال لجبرئيل :
اذهب انظر إليها ، فذهب فنظر إليها فقال : وعزّتك ، لا يسمع بها أحد فيدخلها
فحفّها بالشهوات ، ثمّ قال : اذهب فانظر إليها ، فنظر فقال : وعزّتك ، خشيت أن لا
يبقى أحد إلاّ يدخلها ، وخلق الجنّة فقال لجبرئيل : اذهب فانظر إليها ، فقال :
فبعزّتك ، لا يسمع بها أحد إلاّ دخلها فحفّها بالمكاره ، ثمّ قال :
__________________
اذهب فانظر إليها ،
فنظر فقال : وعزّتك ، خشيت أن لا يدخلها أحد».
وفي كلام لعليّ بن الحسين عليهماالسلام : «أيّها المؤمنون ،
لا يفتننّكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في الدنيا ، المفتونون بها ،
المقبلون عليها وعلى حطامها»،
الخبر .
وقال الصادق عليهالسلام في حديث له في أئمّة
الضلالة : «قضى اللّه أن يكون لهم دول في الدنيا على أولياء اللّه ـ الأئمّة من
آل محمّد عليهمالسلام ـ
يعملون في دولتهم بمعصية اللّه ومعصية رسوله ؛ ليحقّ عليهم كلمة العذاب ، وليتمّ
أمر اللّه فيهم الذي خلقهم له في الأصل من الكفر الذي سبق في علمه أن يخلقهم له
في أصل الخلق ، ومن الذين سمّاهم اللّه في كتابه : (
وَجَعَلْنَاهُمْ
أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ )» .
ثمّ قال : «تدبّروا هذا واعقلوه ولا
تجهلوه ، فإنّ من جهل هذا وأشباهه ممّا افترض اللّه عليه في كتابه ممّا أَمر به
ونهى عنه ، ترك دين اللّه وركب معاصيه ، فاستوجب سخط اللّه ، فأكبّه اللّه على
وجهه في النار»الخبر
.
وفي الحديث : «لو أنّ الوضيعفي قعر بئر لبعث اللّه تعالى إليه
__________________
ريحاً ترفعه فوق
الأخيار في دولة الأشرار».
وروى الطبراني عن ابن عمر ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «ما اختلفت اُمّة بعد نبيّها إلاّ ظهر أهل باطلها على أهل حقّها».
وفيه أيضاً عنه صلىاللهعليهوآله قال
: «قوام اُمّتي بشرارها».
أقول
: الأخبار فيما نحن فيه كثيرة ويأتي
بعضها أيضاً ، وكفى ما ذكرناه ، بل كفى ما رأيناه وسمعناه : من اطّراد تسلّط أهل
الباطل والجائرين في كلّ زمان كفراعنة الأزمنة السابقة المذكورة في القرآن ، وكسلاطين
بني اُميّة وبني العباس ، والذين من بعدهم في كلّ أوان بحيث يعلم كلّ أحد أنّ
إنكار ذلك ظاهر البطلان ، بل محض الجهل والطغيان ، واللّه الهادي .
__________________
الفصل الثاني
في
بيان اقتضاء الحكمة ابتلاء أولياء اللّه في الدنيا وأهل طاعته ـ المتمسّكين
بالحقّ واليقين ـ بالمصائب ، والمتاعب ، والخوف ، والأذى من الجهّال وأعداء الدين
، وكونهم في أغلب الأوقات مقهورين ، وبين الناس في أكثر الحالات مستضعفين ،
لاسيّما الأنبياء والأوصياء والصالحين ؛ بحيث كلّما زادت رتبة شخص في العقبى زاد
بلاءً وعناءً في الدنيا ، وفيه ذكر نبذ من مناقب هؤلاء وعظيم أجرهم وقربهم عند
اللّه عزوجل .
اعلم أنّه قد تبيّن السرّ في ذلك
والحكمة فيه ممّا ذكرناه في ابتداء ما مرّ من الفصل السابق عليه ، فلا حاجة إلى
الإعادة مع وضوح استلزام ما مرّ في ذلك الفصل من غلبة أهل الباطل ، وتوجّه الدنيا
إليهم ، وعكس ذلك بالنسبة إلى أهل الحقّ ، فافهم .
ولنذكر هاهنا بعض الآيات والروايات
الواردة فيه :
قال اللّه عزوجل : (
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ
وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ
وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ).
__________________
وقال : (
لَتُبْلَوُنَّ
فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ).
وقال : (
وَنَبْلُوكُمْ
بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ).
وقال : (
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ ).
وقال: (
وَلَوْ
يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ
بِبَعْضٍ ).
وقال تعالى : ( فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا
مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ
عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ )الآية .
وقال سبحانه خطاباً للكفّار : ( أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا
لَا تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ
وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ).
وقال عزوجل
: (
وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ
لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ
الظَّالِمِينَ )، الآية .
وقال : (
قُلْ
لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ).
وقال حكاية عن قول الأنبياء لمن خالفهم
: (
وَلَنَصْبِرَنَّ
عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا )، الآية .
__________________
وقال في حكاية نوح عليهالسلام : ( وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ
الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ).
وفي حكاية أيّوب عليهالسلام : ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ
نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ) إلى قوله : ( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ
الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ).
وقال تعالى في حكاية قوم شعيب : ( قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ
كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ
لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ )،
الآية .
وقال تعالى في حكاية بني إسرائيل لموسى عليهالسلام : ( قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَنْ
يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ )، الآية .
وقال فيهم أيضاً : ( فَمَا آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلَّا
ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ )،
الآية .
وفيهم أيضاً : ( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ )،
الآية .
وفي حكاية هارون عليهالسلام : ( قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ
اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي )،
الآية .
__________________
وفي حكاية موسى عليهالسلام لقومه : ( يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ
تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ).
وفيه أيضاً : ( قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا
نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ )
.
وقال : (
لَا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا )،
الآية .
وقال : (
قَدْ
نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ )،
الآية .
وقال : (
يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) ـ إلى قوله تعالى ـ : (
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ).
وقال : (
إِنَّ
الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ) ، الآية ـ إلى قوله ـ : (
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ )،
الآية .
وقال : (
وَلَا
تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ ).
وقد مرّت آيات مؤيّدات وتأتي أيضاً ،
لاسيّما في الفصل الرابع ، مع أنّ جميعها قليل من كثير ما ذكره اللّه تعالى .
ففي الحديث المستفيض : «الدنيا سجن
المؤمن وجنّة الكافر».
__________________
وفي الحديث أيضاً : «إنّ اللّه تعالى
يخصّ أولياءه بالمصائب ؛ ليأجُرهم عليها من غير ذنب».
وسئل الصادق عليهالسلام عن قوله تعالى في
حكاية الشيطان : (
إِنَّهُ
لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا )الآية
، فقال : «لا يسلّط الشيطان من المؤمن على دينه ، ولكن قد يسلّط منه على بدنه ،
وقد سلّط على أيّوب عليهالسلام فشوّه
خلقه».
أقول
: لعلّ المراد من المؤمن فيه : الكامل
الموقن ، كالأنبياء ، والأوصياء ، والراسخين في الدين ، ويحتمل شموله كلّ مؤمن
بصميم قلبه . وعلى هذا إذا صدر من مدّعي الإيمان ما يدلّ على خلافه ، فهو قرينة
عدم اتّصافه ابتداءً بالإيمان من صميم القلب وإن لم يستشعر هو به أيضاً .
وهذا هو أيضاً معنى ما ورد من قوله صلىاللهعليهوآله :
«إنّ اللّه تعالى يبتلي المؤمن بكلّ بليّة ، ولا يبتليه بذهاب عقله» إلى أن قال :
«أما ترى أيّوب كيف سُلّط إبليس على ماله ، وعلى ولده ، وعلى كلّ شيء منه ولم
يسلّط على عقله ، تُرك له ليوحّد اللّه به»إذ
دلالته لائحة على أنّ الشيطان لا تسلّط له على قلب المؤمن ؛ ولهذا يُرى بعض من
يذهب كمال عقله من المؤمنين بحيث يُعدّ من المجانين ثابتاً على ما هو من لوازم
الإيمان ، فافهم .
__________________
وفي أخبار آل محمّد صلوات اللّه عليهم ـ
الأئمّة عليهمالسلام ـ
التي ذكرها مخالفوهم أيضاً ـ أكثرها ـ كما سنشير إلى بعض منها عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «أخذ اللّه ميثاق المؤمن على أن لا تُصدّق مقالته ولا ينتصف من عدوّه».
وقال صلىاللهعليهوآله
: «إنّ اللّه جعل وليّه في الدنيا
غرضاً لعدوّه».
وقال صلىاللهعليهوآله
: «ما أفلت المؤمن من واحدة من ثلاث ،
ولربّما اجتمعت الثلاث عليه : إمّا بغض من يكون معه في الدار يغلق عليه بابه يؤذيه
، أو جار يؤذيه ، أو من في طريقه إلى حوائجه يؤذيه ، ولو أنّ مؤمناً على قُلّة جبل
لبعث اللّه عليه شيطاناً يؤذيه ، ويجعل اللّه له من إيمانه اُنساً لا يستوحش معه
إلى أحد».
وقد روى الطبراني ، والبيهقي ، وغيرهما
عن أنس ، عنه صلىاللهعليهوآله هكذا
: «لو كان المؤمن في جحر ضبّ لقيّض اللّه [له فيه] من يؤذيه».
وقال صلىاللهعليهوآله
: «إنّ أهل الحقّ لم يزالوا منذ كانوا
في شدّة ، أما إنّ ذلك إلى مدّة قليلة ، وعافية طويلة».
__________________
وشكى رجل حاله إلى الصادق عليهالسلام ، فقال له : «اصبر» .
ثمّ قال له : «أخبرني عن سجن الكوفة كيف
هو» فقال : أصلحك اللّه ، ضيّق منتن وأهله بأسوأ حال . قال : «فإنّما أنت في
السجن فتريد أن تكون في سعة ، أما علمت أنّ الدنيا (سجن المؤمن)».
وعنه عليهالسلام قال
: قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله :
«ما من مؤمن إلاّ وقد وكّل اللّه به أربعة : شيطاناً يغويه ويريد أن يضلّه ،
وكافراً يغتاله،
ومؤمناً يحسده ، ومنافقاً يتتبّع عثراته».
وعنه عليهالسلام قال
: قال صلىاللهعليهوآله :
«إنّ أشدّ الناس بلاءً الأنبياء ، ثمّ الذين يلونهم ، ثمّ الأمثل فالأمثل».
ورواه الطبراني عن فاطمة، عنه صلىاللهعليهوآله
هكذا : «أشدّ الناس بلاءً الأنبياء ،
ثمّ الصالحون».
وقال صلىاللهعليهوآله
: «أشدّ الناس بلاءً في الدنيا النبيّون
، ثمّ الأمثل فالأمثل ، ويُبتلى المؤمن بَعْدُ على قدر إيمانه وحسن أعماله ، فمن
صحّ إيمانه
__________________
وحسن عمله اشتدّ
بلاؤه ، ومن سخف إيمانه وضعف عمله قلّ بلاؤه».
وقد روى مثله الترمذي ، والنسائي ، وابن
ماجة في صحاحهم ، وقال الترمذي : إنّه حديث حسن صحيح . ورواه ابن حبّان وصحّحه
أيضاً ، وكذا رواه جماعة آخرون ، منهم مالك في موطّأه.
وقال صلىاللهعليهوآله
: «إنّ عظيم الأجر لمع عظيم البلاء ،
وما أحبّ اللّه قوماً إلاّ ابتلاهم».
وفي كتاب المختارة : عن أنس عنه صلىاللهعليهوآله قال
: «إذا أحبّ اللّه قوماً ابتلاهم» .
ورواه الطبراني ، والبيهقي أيضاً.
وفي صحيح أبي داود ، وتاريخ البخاري ،
وكتاب ابن سعد : عن محمّد بن خالد السُلميّ،
عن أبيه ، عن جدّه ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «إذا سبقت للعبد من اللّه منزلة لم ينلها بعمله ، ابتلاه اللّه في جسده ،
وأهله ،
__________________
وماله ، ثمّ صبّره
على ذلك حتّى ينال تلك المنزلة».
وفي صحيح الترمذي ، ومسند أحمد وغيرهما
: عن ابن النعمان،
عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «إذا أحبّ اللّه عبداً حماه الدنيا كما يحمي أحدكم سقيمه».
وقال الصادق عليهالسلام : «إنّ للّه عزوجل عباداً في الأرض من
خالص عباده ما ينزل من السماء تحفة إلى الأرض إلاّ صرفها عنهم إلى غيرهم ، ولا
بليّة إلاّ صرفها إليهم».
وعنه عليهالسلام عن
جدّه أنّه قال صلىاللهعليهوآله :
«إنّما المؤمن بمنزلة كفّة الميزان ، كلّما زيد في إيمانه زيد في بلائه».
وقال صلىاللهعليهوآله
: «إنّما المؤمن يبتلى بكلّ بليّة ،
ويموت بكلّ ميتة ، إلاّ أنّه لا يقتل نفسه».
__________________
وقال صلىاللهعليهوآله
: «لو يعلم المؤمن ماله من الأجر في
المصائب ، لتمنّى أن يقرض بالمقاريض».
وقال صلىاللهعليهوآله
: «إنّ اللّه عزوجل ليتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد
الرجل أهله بالهديّة ، ويحميه الدنيا كما يحمي الطبيب المريض».
وقد روى مثله البيهقي وابن عساكر عن
حذيفه ، عنه صلىاللهعليهوآله ،
(وكذا روى نحوه ـ لاسيّما الخبر الأخير ـ الترمذي في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ،
وابن حنبل في مسنده عن الخدري ، عنه صلىاللهعليهوآله
.
قال صلىاللهعليهوآله ): «لم يؤمن اللّه المؤمن من هزاهز
الدنيا ، ولكنّه آمنه من العمى فيها والشقاء في الآخرة».
وقال صلىاللهعليهوآله
: «لولا إلحاح المؤمنين على اللّه
لنقلهم من الحال التي هم فيها إلى حال أضيق منها».
وسئل الصادق عليهالسلام عن قول اللّه عزوجل في حكاية مؤمن آل فرعون : ( فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا
مَكَرُوا )، فقال : «أما لقد سطوا عليه فقتلوه ،
__________________
ولكن أتدرون ما وقاه
؟ وقاه أن يفتنوه في دينه».
وقال : قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله :
«لا يزال الغمّ والهمّ بالمؤمن حتّى ما يدع له من ذنب».
وقال : «إنّ للحقّ دولةً وللباطل دولةً
وكلّ واحد منهما في دولة صاحبه ذليل ، وإنّ أدنى ما يصيب المؤمن في دولة الباطل
العقوق من وُلده ، والجفاء من إخوانه ، وما من مؤمن يصيب شيئاً من الرفاهيّة في
دولة الباطل إلاّ ابتلى قبل موته ، إمّا في بدنه ، أو ولده ، أو ماله حتّى يخلّصه
اللّه ممّا اكتسب في دولة الباطل ، ويوفّر حظّه في دولة الحقّ ، فاصبروا وابشروا».
وقال صلىاللهعليهوآله
: «قال اللّه تعالى : لا اُخرج عبداً
من الدنيا وأنا اُريد أن أرحمه حتّى أستوفي منه كلّ خطيئة عملها ، إمّا بسقم في
جسده ، وإمّا بضيق في رزقه ، وإمّا بخوف في دنياه»، الخبر .
وفي كتاب ابن عساكر : عن أنس قال : قال
النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه أذلّ من شاتِهِ».
وفي صحيحي الترمذي وابن ماجة ، ومسند
ابن حنبل ، وكتاب ابن حبّان : عن أنس ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله
أنّه قال : «لقد اُوذيت في اللّه وما
يؤذى
__________________
أحد ، واُخفت في
اللّه وما يخاف أحد»،
الخبر .
وفي كتاب الديلمي : عن أنس قال : قال
النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«إنّ يحيى عليهالسلام قال
: ياربّ ، اجعلني ممّن لا يقع الناس فيه ، فأوحى اللّه إليه : يا يحيى ، هذا شيء
لم أستخلصه لنفسي كيف أفعله بك ؟ اقرأ في المحكم (
وَقَالَتِ
الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ )، وقالوا : ( يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ )»
، الخبر .
وفي كتاب البيهقي : عن أبي قتادة ، عن
النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «أنزل اللّه جبرئيل عليهالسلام في
أحسن صورة ، فقال : إنّ ربّك يقرؤك السلام ويقول : أوحيت إلى الدنيا أن تمرّري
وتكدّري وتضيّقي وتشدّدي على أوليائي ، كي يحبّوا لقائي ، فإنّي خلقتها سجناً
لأوليائي ، وجنّة لأعدائي».
وستأتي أخبار عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : إنّ أهل بيتي سيلقون من بعدي من اُمّتي قتلاً ، وبلاءً ، وتشديداً ،
وتشريداً ، وتطريداً ، واللّه أخبر بشهادة علي والحسنين عليهمالسلام ، والأذى الذي يلحقهم
ويلحق أصحابهم ـ بل خصوص بعض الصحابة أيضاً ـ من شرار الاُمّة ، كما صدر جميع ذلك
من المتغلّبين على الإمارة وأتباعهم من اُمّته .
ولقد كفى ما ذكرناه هاهنا ، وإلاّ فالأخبار
من هذا القبيل لا تحصى ، وقد مرّ شيء منها ، ويأتي أيضاً ما ليس بقليل ، لاسيّما
في الفصل الرابع الآتي ، فلا تغفل .
__________________
الفصل الثالث
في
بيان قلّة أهل الحقّ والخير ، وأصحاب الإيمان واليقين ، وكثرة أهل الجهالة
والبطالة المائلين إلى خلاف ما عليه أهل الدين ، وكون عامّة الناس مع الدنيا
وأهلها كيف ما قالت وأينما مالت ، بحيث يتوهّم الجاهل أنّ ذلك هو الحقّ المتين ، بل يعدّ أهل الدين
من الجاهلين ، مع توضيح كون أصل الكثرة واجتماع العامّة من علائم البطالة والضلالة
، كما أنّ عكسه علامة الحقّيّة والهداية .
اعلم ، أنّه بعد ما بيّنّاه سابقاً من
ميل الطبائع إلى زخارف الدنيا ومتابعة الهوى وأمثال ذلك ممّا مرّ في البابين
الأوّلين ، لا تبقى شبهة في صحّة ما ذكرناه هاهنا ، مع كونه معلوماً في نفسه ،
محسوساً في جميع أوقاته ، كما ينادي بذلك ما ثبت نقله من أحوال كلّ نبيّ وأهل عصره
وملوك وقته ، بل إنّ هذا أمر مطّرد من زمان آدم إلى عصر الخاتم وهلمّ جرّاً ، بحيث
صار من علائم الفرق بين الحقّ والباطل .
وكفى في هذا حكاية اتّفاق عامّة قوم
موسى عليهالسلام على
متابعة السامريّ ومناقضة هارون في مثل عبادة العجل ، وترجيحها على عبادة اللّه عزوجل ، مع أنّ كلّ مدّة تخلّف موسى عنهم لم
تكن إلاّ عشرة أيام ، وغيبته
__________________
غير أربعين يوماً ،
من أراد الاطلاع على تفاصيل هذه الحالات من أهل كلّ زمان فعليه بمطالعة التفاسير
المبسوطة والتواريخ المعتبرة ، ونحن لا نطيل الكلام بنقلها حذراً من الخروج عن
المقصود مع اشتهار أكثرها ، بل نكتفي بذكر نبذ من الآيات والروايات ، والإشارة إلى
شيء من المنقولات :
قال اللّه عزوجل : (
اعْمَلُوا
آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ).
وقال : (
وَلَقَدْ
صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ ).
وقال : (
إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ).
وقال تعالى : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ).
وقال سبحانه : ( وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ
وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ).
وقال : (
بَلْ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ).
وقال : (
بَلْ
طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ).
وقال في حكاية نوح عليهالسلام : ( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ).
وفي حكاية لوط عليهالسلام : ( فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ
مِنَ
__________________
الْمُسْلِمِينَ ).
وفي إبراهيم عليهالسلام : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً
قَانِتًا لِّلَّهِ ).
وقال عزوجل
: (
وَلَوْ
أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن
دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ )الآية
.
وقال : (
وَلَقَدْ
مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَّا
تَشْكُرُونَ ).
وقال : (
وَلَا
تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ).
وقال سبحانه وتعالى في مواضع عديدة : ( إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى
النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ).
وقال : (
وَلَا
تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ).
وقال عزوجل
: (
وَمَا
وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ).
وقال : (
مِّنْهُمُ
الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ).
وقال في مواضع عديدة : ( وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ).
__________________
وقال عزَّ وتعالى : ( وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ
يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ )الآية
.
وقال : (
مِّنْهُمْ
أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ )
وقال : (
وَأَكْثَرُهُمْ
لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ).
وقال تعالى : ( وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ
بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ ).
وقال : (
وَإِن
تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ).
وقال : (
وَلَقَدْ
ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ ).
وقال : (
وَلَٰكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ).
وقال : (
إِنَّ
كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ).
وقال في مواضع عديدة : ( وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ )، (
وَلَٰكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ).
وقال عزّ من قائل : ( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَىٰ
أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ
__________________
لَا
يُؤْمِنُونَ ).
وقال : (
وَمَا
أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ).
وقال في مواضع عديدة : ( وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يُؤْمِنُونَ ).
وكذا قال عديداً بل في ذكر قوم كلّ نبيّ
: (
مَا
كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ).
وقال أيضاً : ( بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ
أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ).
وقال : (
وَمَا
يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ).
وقال : (
كَانَ
أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ ).
وقال عزوجل
: (
تَرَىٰ
كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا )،
الآية .
وقال : (
وَإِنَّ
كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ).
وقال : (
يَعْرِفُونَ
نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ).
وقال : (
فَأَبَىٰ
أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ).
وقال : (
وَلَيَزِيدَنَّ
كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا
__________________
وَكُفْراً ).
وقال : (لَّا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ )، الآية .
وقال سبحانه : (إِنَّ
فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ).
وقال تعالى : (إِنَّ
فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ )،
وفي موضع آخَر : (لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ )،
وفي آخَر : ( لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )،
وفي آخَر : ( لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ).
وقال في مواضع : ( إِنَّمَا
يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ).
وقال : (إِنَّ فِي
ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ
وَهُوَ شَهِيدٌ ).
وقال عزوجل
: ( يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا
يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ).
وقال : ( وَمَا تَأْتِيهِم
مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا
__________________
مُعْرِضِينَ ).
وقال : (
وَجَعَلْنَا
مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ
فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ
تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ
وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ )، الآية .
وقال في حكاية نوح لقومه : ( لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي
وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ).
وفي حكاية موسى عليهالسلام : ( رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ
وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا
عَنْ سَبِيلِكَ )، الآية .
وقال في حكاية الشيطان : ( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ).
وقال في حكاية أهل النار : ( وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَىٰ
رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا
أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ ).
وأمثال هذه الآيات وما يفيد مفادها ـ
لاسيّما الأخيرات ـ كثيرة لا تحصى وقد مرّت طائفة منها ، ويأتي أيضاً غيرها .
وأمّا الروايات فأكثرها ممّا مضى ويأتي
في الفصول السابقة واللاحقة ، فلنكتف هاهنا ببعض ما يوضّح قلّة الأخيار ؛
لاستلزامه كثرة غيرهم أيضاً مع كون وضوح ما نحن فيه ـ كما بيّنّا آنفاً ـ بحيث لا
حاجة فيه إلى البيان .
__________________
ألا ترى إلى قوم نوح وصالح وهود ولم
يؤمن بهم إلاّ أقلّ قليل ، وقد أفسد الباقون ، بحيث أزالهم اللّه جميعاً ؟
ألا ترى إلى إبراهيم عليهالسلام إنّه كان اُمّة وحده، ثمّ آمن به لوط وبعثه إلى قومه، فلم يوجد فيهم غير بيت من المسلمين ؟
ألا ترى إلى قوم فرعون لم يكن فيهم إلاّ
مؤمن واحد وامرأة فرعون ؟ وإلى بني إسرائيل كيف عبدوا العجل إلاّ هارون وقليل معه
، وأخذ موسى عليهالسلام معه
إلى الطور سبعين رجلاً منتخبين من سبعين ألفاً ، فلم يجدهم إلاّ منافقين بأجمعهم ؟
ألا ترى إلى جنود طالوت كيف خالفوه إلاّ
قليل منهم ؟ وهلمّ جرّاً إلى هذه الاُمّة ، فانظر كيف لم يؤمن بالنبيّ صلىاللهعليهوآله من
قومه إلاّ من هو كقطرة من البحر ؟
ثمّ الذين أقرّوا به وادّعوا الإطاعة
والإخلاص له وبايعوه على الموت ، لاسيّما في بيعة الشجرة ، كيف هربوا في أكثر
الحروب ، لاسيّما حرب أُحد وحنين بحيث تركوه في شرذمة قليلة جدّاً ؟!!
ثمّ حكاية تركهم قرّة عين الرسول
وفِلْذة كبد البتول ، وسيّد شباب أهل الجنّة في أقلّ قليل من بين العالم الذين
كاتبوه وطلبوه ، بل ومن بين كثير من المهاجرين والأنصار والتابعين ، والذين خرجوا
معه من اُمّة جدّه ومدّعي محبّته ، ثمّ تركوه ، حتّى أنّ جماعة منهم لم يكتفوا
بالترك أيضاً ، حتّى أنّهم قاتلوه فقتلوه وسبوا بنات رسول اللّه صلىاللهعليهوآله كالشمس
في رابعة النهار.
__________________
ثمّ متابعة جماهير الناس حتّى العلماء
وأرباب البأس حكّام بني اُميّة وبني العبّاس ممّا لا يمكن إنكاره ، مع إجهارهم
بالجور والفجور ، وإظهارهم البدع والمعاصي وشرب الخمور ، وسبّهم عليّاً عليهالسلام على المنابر ، وشتمهم
الزهراء البتول عليهاالسلام ،
وقتلهم الأئمّةممّن
أوجب اللّه مودّتهم من آل الرسول .
ومن الغرائب أنّ عامّة العامّة كانوا
يقولون بصحّة خلافة هؤلاء مع علمهم بوجود هذه الأوصاف فيهم ، بل مع روايتهم
أخباراً في ذمّ خصوص هؤلاء ، بل كفرهم وضلالهم .
وما نقلوا عنه صلىاللهعليهوآله أنّه
قال: «الخلافة ثلاثون سنة ثمّ مُلك عضوض».
وما استفاض نقله بين الفريقين عنه صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «سيكون عليكم اُمراء تعرفون منهم وتنكرون ، فمن أنكر فقد برئ ، ومن كره فقد
سلم ، ولكن من رضي وتابع أبعده اللّه».
وسيأتي الخبر أيضاً .
وقد مرّ نبذ من أحوال جمهور الصحابة
والتابعين والعلماء المشهورين بين المخالفين ، ويأتي أيضاً كثير منها ، فاعتبروا
يا اُولي
__________________
الأبصار .
ففي الحديث : أنّ رجلاً قال لعليّ عليهالسلام : ما الناس وما أشباه
الناس وما النسناس ؟ فقال للحسين عليهالسلام :
«أجبه» ، فقال : «أمّا الناس فرسول اللّه صلىاللهعليهوآله
ونحن ، وأمّا أشباه الناس فهم أتباعنا
وشيعتنا ، وأمّا النسناس فهذا السواد الأعظم».
وفيه عن الصادق عليهالسلام أنّه قال : «المؤمنة
أعزّ من المؤمن ، والمؤمن أعزّ من الكبريت الأحمر ، فمن رأى منكم الكبريت الأحمر
؟».
وعنه صلىاللهعليهوآله
أنّه قال ثلاثاً : «الناس كلّهم بهائم
إلاّ قليلاً من المؤمنين»،
الخبر .
وقال الكاظم عليهالسلام : «أما واللّه ، إنّ
المؤمن لقليل ، وإنّ أهل الكفر كثير» ، ثمّ قال : «ولقد كانت الدنيا وما فيها إلاّ
واحد يعبد اللّه ، ولو كان معه غيره لأضافه اللّه إليه حيث يقول : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً
قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا )، فصبر بذلك ما شاء اللّه ، ثمّ إنّ
اللّه آنسه بإسماعيل وإسحاق عليهماالسلام فصاروا
ثلاثة»، الخبر .
وقال الباقر عليهالسلام : «إنّ اللّه يعطي
الدنيا من يحبّ ومن يبغض».
__________________
وفي رواية اُخرى : «البرّ والفاجر ، ولا
يعطي دينه إلاّ من يحبّ».
وفي اُخرى : «إلاّ صفوته من خلقه».
وقد روي مثله عن جمع من الأئمّة الاثني
عشر.
وفيه : أنّ رجلاً من أصحاب الصادق عليهالسلام قال له : واللّه ،
لا يسعك القعود ، لكثرة مواليك وشيعتك وأنصارك ، فقال : «وكم عسى أن يكونوا ؟ »
فقال : مائة ألف ، فقال عليهالسلام :
«مائة ألف ؟» قال : نعم ، ومائتي ألف ، بل نصف الدنيا ، فسكت الصادق عليهالسلام ، وقال له : «هل يخفّ
عليك أن تبلغ معنا إلى ينبع ؟»قال
الرجل ، فقلت : نعم ، وركبت معه فمضينا حتّى صرنا إلى أرض حمراء ، فنظر إلى غلام
يرعى جداءً،
فقال : «واللّه ، يا فلان ، لو كان لي شيعة وأنصار بعدد هذه الجداء لما وسعني
القعود» ، فعطفت إلى الجداء فعددتها فإذا هي سبعة عشر.
وبهذا المعنى ما ورد في الحديث : أنّ
رجلاً قال للحسن بن عليّ المجتبى عليهماالسلام :
إنّي من شيعتكم ، فقال : «إن كنت لنا في أوامرنا وزواجرنا
__________________
مطيعاً ، فقد صدقت ،
وإن كنت بخلاف ذلك ، فلا تزد في ذنوبك بدعواك مرتبة شريفة لست من أهلها ، قل : أنا
من مواليكم ومعادي أعدائكم ، وأنت في خير وإلى خير».
وعن الرضا عليهالسلام :
أنّه قال ـ في حديث له لقوم من المقرّين بإمامته ، حيث أخبروه أنّهم من شيعة عليّ عليهالسلام وشيعته ـ : «إنّما
شيعة عليّ : الحسن والحسين عليهمالسلام ،
وسلمان وأبو ذرّ والمقداد وعمّار ومحمّد بن أبي بكر ، والذين لم يخالفوا شيئاً من
أوامره وزواجره ، فأمّا أنتم فقولوا : نحن موالوه ومحبّوه ، والمعادون لأعدائه»، الخبر .
وفي الحديث المشهور بين الفريقين من قول
النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«إنّ الإسلام بدأ غريباً ، وسيعود غريباً كما بدأ ، فطوبى للغرباء»، وأنّ الصحابة قالوا : ومن الغرباء
يارسول اللّه ؟ فقال ـ كما في رواية ـ : «إنّهم ناس قليل صالحون بين ناس كثير ،
من يبغضهم أكثر ممّن يحبّهم».
وكذا بمعناه ما في رواية اُخرى من أنّه صلىاللهعليهوآله قال
: «إنّهم الذين يصلحون ما أفسده الناس من سنّتي»، و«الذين يحيون ما أماتوه من سنّتي»؛ لظهور قلّة هؤلاء .
__________________
بل يستفاد منهما معنى ما في رواية ثالثة
أيضاً من أنّه صلىاللهعليهوآله قال
: «هم المستمسكون بما أنتم عليه اليوم»؛
لأنّ الصحابة ذلك اليوم كانوا على محض اقتفاء أفعال النبيّ صلىاللهعليهوآله وأقواله
، والتزام أوامره ونواهيه ، وإنّما أحدثوا ما أحدثوا بعده ، ولا شكّ أنّ ذلك كان
إقامة السنّة ، وأنّ الجاري بعده على ذلك المنوال في غاية القلّة ، فافهم .
وقد مرّ غير مرّة قول الإمام عليهالسلام : «إنّ رواة الكتاب
كثير ، ورعاته قليل ، وكم من مستنصح للحديث مستغش للكتاب»، الخبر .
ونعم ما قيل : «إذا رأيت العالم كثير
الأصدقاء ، فاعلم أنّه مخلّط ؛ لأنّه إن نطق بالحقّ ، أبغضوه».
ولهذا أيضاً قال عليهالسلام : «العالم حقّاً هو
الذي تنطق عنه أعماله الصالحة».
وبمعناه كلام ابن مسعود ، حيث قال :
اُنزل القرآن ليُعمل به ، فاتّخذتم دراسته عملاً.
أقول
: وصدق كلامه ظاهر على من تأمّل فيما
ذكره مفسّروهم في تفاسيرهم ، فإنّها محشوّة من النكات اللفظيّة ، والقواعد
الاصطلاحيّة وأمثالها ممّا هو في جانب عن الإيصال إلى كنه الأسباب الاُخروية ،
وعلى من لاحظ
__________________
القرّاء عند قراءتهم
، حيث إنّ همّتهم مقصورة على محض الغناء فيه ، وتحسين الصوت ، وأداء القواعد
المصطلحة عند القرّاء ، بحيث لا يتجاوز حناجرهم أصلاً ، فضلاً عن التدبّر في معناه
، والتأمّل فيما هو أصل مغزاه .
وقال عليّ عليهالسلام في
بعض كلامه : «إنّ هاهنا» وأشار إلى صدره «لعلماً جمّاً لو أصبت له حملةً ! بلى
اُصيب لَقناً غير مأمون عليه ، مستعملاً آلة الدين للدّنيا ، ومستظهراً بنعم
اللّه على عباده ، وبحججه على أوليائه» ـ وبسط الكلام عليهالسلام إلى أن ذكر أهل الحقّ
ـ ثمّ قال : «اُولئك واللّه ، الأقلّون عدداً ، والأعظمون قدراً»، الخبر .
وقال عليهالسلام أيضاً
: «القلوب أوعية وخيرها أوعاها للخير ، والناس ثلاثة : عالم ربّاني ، ومتعلّم على
سبيل النجاة ، وهمج رعاع أتباع كلّ ناعق»،
الخبر .
وفي روايات العامّة قال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«الخير كثير وفاعله قليل» رواه الطبراني وغيره.
أقول
: ولقد كفى في مزيد توضيح هذا المقام ما
ثبت من إخبار رسول اللّه صلىاللهعليهوآله بافتراق
اُمّته على ثلاث وسبعين فرقة واحدة منها الناجية.
__________________
وظاهر أيضاً أنّ في الفرقة الناجية
علماء وغير علماء ، وأنّ الثاني أكثر ، وأنّ العلماء فيهم العاملون العابدون
وغيرهم ، ولا شكّ أنّ الأوّلين هم الأقلّون ، وهكذا العاملون فيهم الموقنون
المخلصون وغيرهم ، والأخيرون أكثر ، وكذلك غير العلماء على أصناف ومراتب عديدة ،
بحيث يشاهد أنّ أعلاها أقلّ ؛ ولهذا ورد في الحديث ـ ومعلوم أيضاً ـ أنّ الإيمان
على مراتب بحسب الشدّة والضعف وتحقّق الشرائط،
حتّى في الروايات أنّه على عشر درجات.
وبالجملة
: من الواضحات البيّنة أنّ النفيس من
كلّ شيء ـ حتّى في غير الإنسان أيضاً ـ أعزّ وجوداً وأقلّ عدداً من أدنى منه رتبةً
، وجميع ما ذكر كلّه شاهد صدق على أن لا اعتماد على الكثرة ، ولا اعتناء بشأن أكثر
الناس ، ولا بما مضوا عليه واشتهر عندهم بغير مستندٍ آخَر ، ولهذا قيل : كم من
مشهور لا أصل له ، بل ربّما أمكن في بعض الأشياء أن يجعل الاشتهار قرينة عدم
الحقيقة ، فافهم .
ولنختم هذا الفصل بذكر خلاصة أحاديث
واردة في أصناف الناس :
قال الصادق عليهالسلام : «الناس على ستّ
فِرَق ، يؤلون كلّهم إلى ثلاث فِرَق : الإيمان ، والكفر ، والضلال» ، ثمّ ذكر تلك
الفِرَق بما حاصله أنّ :
الاُولى
: أهل الوعد بالجنّة ، وهم المؤمنون ،
أي : من آمن باللّه
__________________
ورسوله وبجميع ما جاء
به الرسول صلىاللهعليهوآله بلسانه
وقلبه ، وأطاع اللّه بجوارحه للّه عزوجل
،
والثانية
: أهل الوعيد بالنار ، وهم الكافرون ،
أي : من كفر باللّه أو برسوله صلىاللهعليهوآله ،
أو بشيء ممّا جاء به الرسول صلىاللهعليهوآله إمّا
بقلبه أو بلسانه أيضاً ، أو خالف اللّه في شيء من كبائر الفرائض استخفافاً .
وإنّ الباقين : أهل الضلال ، لا مؤمنون
ولا كافرون ، وأمرهم إلى اللّه عزوجل
إن شاء أدخلهم الجنّة برحمته ، وإن شاء أدخلهم النار بعدله ، وجعلهم عليهالسلام أربع فِرَق :
الاُولى
: المستضعفون الذين لا يهتدون إلى الإيمان
سبيلاً ؛ لضعف عقولهم ، أو عدم استطاعتهم كالصبيان والمجانين والبُله ، ومن لم تصل
الدعوة إليه .
والثانية
: هم ضعفاء الدين الذين عدّهم اللّه
صريحاً من المرجئين لأمر اللّه في الآية،
أي : مؤخّر حكمهم صريحاً إلى مشيئته يوم القيامة ، وهم الذين تابوا من الكفر
ودخلوا في الإسلام ، إلاّ أنّه لم يستقرّ في قلوبهم ولم يطمئنّوا إليه بَعْدُ ،
قال عليهالسلام :
ومنهم «المؤلّفة قلوبهم» و«من يعبد اللّه على حرف» قبل أن يستقرّ على الإيمان أو
الكفر .
والثالثة
: فسّاق المؤمنين الذين خلطوا عملاً
صالحاً وآخَر سيّئاً ، ثمّ اعترفوا بذنوبهم فعسى اللّه أن يتوب عليهم .
والرابعة
: أصحاب الأعراف ، قال عليهالسلام : «وهُم قوم استوت
حسناتهم وسيّئاتهم لا يرجّح أحدهما على الآخَر ليدخلوا به الجنّة أو النّار ،
فيكونون
__________________
في الأعراف حتّى
يرجّح أحد الأمرين بمشيئة اللّه سبحانه».
فهذا خلاصة ذكر الفِرَق الستّ .
أقول
: ولعلّ ما في سورة الحمد أيضاً هذا هو
المراد به ، بأن يكون قوله تعالى : (
الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ )
إشارة إلى الفرقة الاُولى ، و(
الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ )
إشارة إلى الثانية ، و(
الضَّالِّينَ )إشارة
إلى الباقين .
ثمّ لا يخفى دلالة هذا أيضاً على قلّة
المؤمن وكثرة غيره ، كما هو ما نحن فيه ، فتأمّل واللّه الهادي .
__________________
الفصل الرابع
في
بيان أمر اللّه عزوجل أولياءه من الأنبياء والأوصياء وأتباعهم ، حتّى نبيّنا صلىاللهعليهوآله
بالصبر على جفاء الجفاة ، وأذى العتاة ، والتزام المداراة
، والتمسّك بالكظم والتقاة ، وكتم الحقّ والعلوم والأسرار عن غير أهلها من الجهلة
الأشرار ، وفي ذكر ما ورد في مدح أهل هذه الحالات ، وكونهم على الحقّ ، وأنّهم
الهداة .
اعلم أنّ كون هذه الصفات من أجلّة
الكمالات لا يحتاج إلى بيان ، بل من أوضح الواضحات ، وقد تبيّن أيضاً ممّا سبق
حتّى من بعض الأخبار التي مرّت في فاتحة هذا الكتاب ، فلنذكر هاهنا ما يدلّ على
الأمر بها من الآيات والروايات :
قال اللّه عزوجل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ).
وقال : (
وَالصَّابِرِينَ
فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ
صَدَقُوا ).
__________________
وقال : (
وَإِن
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ).
وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا )الآية .
وقال : (
اسْتَعِينُوا
بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ).
وقال: (
وَلَنَجْزِيَنَّ
الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ).
وقال أيضاً : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ
أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ).
وقال : (
وَلَمَن
صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ).
وقال : (
وَتَمَّتْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا
صَبَرُوا ).
وقال سبحانه : ( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ
وَاصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللَّهُ )الآية
.
وقال : (
فَاصْبِرْ
إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ).
وقال : (
وَاصْبِرْ
وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ
مِّمَّا يَمْكُرُونَ ).
__________________
وقال تعالى : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُم )
إلى قوله تعالى : ( وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ
تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )، الآية .
وقال : (
فَاصْبِرْ
كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ )،
الآية .
وقال : (
وَاصْبِرْ
عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ).
وقال في حكاية قول يعقوب عليهالسلام لبنيه : ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ
أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ).
وقال سبحانه : ( اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن
رَّبِّكَ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ).
وقال : (
أُولَٰئِكَ
الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ
وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ).
وقال عزوجل
: (
وَلَوْ
يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ
إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي
طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ).
وقال تبارك وتعالى : ( وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ
إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ).
__________________
وقال تعالى : ( وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ).
وقال : (
ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )، الآية ، وأمثالها كثيرة .
وقال سبحانه في وصف الأخيار : ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ).
وقال تعالى : ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا
لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ ).
وقال : (
وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ).
وقال عزوجل
: (
لَّا
يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن
تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً )، الآية ، وأمثالها عديدة لا حاجة إلى
الإطالة فيها .
ففي الأخبار التي رواها مخالفونا ، أو
هي عندنا وعندهم : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «الصبر نصف الإيمان»،
حتّى سئل مرّةً : وما الإيمان ؟ فقال : «الصبر».
__________________
وقال صلىاللهعليهوآله
: «من أقلّ ما اُوتيتم اليقين ، وعزيمة
الصبر ، ومن اُعطي حظّه منهما لم يبال ما فاته من قيام وصيام ، ولئن تصبروا على
مثل ما أنتم عليه أحبّ إليّ من أن يوافيني كلّ امرئ منكم بمثل عمل جميعكم ، ولكنّي
أخاف أن تفتح عليكم الدنيا من بعدي ، فينكر بعضكم بعضاً ، وينكركم أهل السماء عند
ذلك ، فمن صبر واحتسب ظفر بكمال ثوابه» ، ثمّ قرأ قوله تعالى : ( وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا )،
الآية».
وقال صلىاللهعليهوآله
: «الصبر كنز من كنوز الجنّة».
وقال صلىاللهعليهوآله
: «في الصبر على ما تكره خير كثير».
وقال صلىاللهعليهوآله
: «لو كان الصبر رجلاً لكان كريماً ،
واللّه يحبّ الصابرين».
وروي عنه صلىاللهعليهوآله
، وعن غير واحد من ذرّيّته الأئمّة عليهمالسلام أنّهم قالوا : «الصبر
من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، ولا جسد لمن لا رأس له ، ولا إيمان لمن لا صبر
له».
وقالوا : «من لا يعدّ الصبر لنوائب
الدّهر يعجز».
__________________
وقال صلىاللهعليهوآله
: «سيأتي على الناس زمان لا ينال الملك
فيه إلاّ بالقتل والتجبّر ، ولا الغنى إلاّ بالغصب والبُخل ، ولا المحبّة إلاّ
باستخراج الدين واتّباع الهوى ، فمن أدرك ذلك الزمان فصبر على الفقر وهو يقدر على
الغنى ، وصبر على البَغضة وهو يقدر على المحبّة ، وصبر على الذّلّ وهو يقدر على
العزّ ، أتاه اللّه ثواب خمسين صدّيقاً ممّن يصدّق بي».
وروى الترمذي في صحيحه عن أنس ، قال :
قال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«يأتي على الناس زمان الصابر فيهم كالقابض على جمرة».
وروى الغزالي ـ من أكابر علمائهم ـ عن
بعض الصحابة أنّه قال : ما كنا نعدّ إيمان الرجل إيماناً إذا لم يصبر على الأذى ،
وأنّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآله قسـم
قسمة ، فقال بعضهم : هـذه قسمة ما اُريد بها وجـه اللّه ، فاُخبـر رسول اللّه صلىاللهعليهوآله فاحمرّت
وجنتاه ، ثمّ قال : «رحم اللّه أخي موسى عليهالسلام قد
اُوذي بأكثر من هذا فصبر».
وهذا الخبر الأخير ممّا رواه البخاري في
صحيحه أيضاً ، وفيه : أنّ القائل كان رجلاً من الأنصار.
وروى هو وغيره عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «انتظار الفرج بالصبر عبادة».
__________________
وروىعن
أنس ، عنه صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «ما تجرّع عبد قطّ جرعتين أحبّ إلى اللّه من جرعة غيظ ردّها بحلم ، وجرعة
مصيبة يصبر الرجل لها»،
الخبر .
ورووا أيضاً : أنّ زكريّا عليهالسلام لمّا هرب من كفّار
بني اسرائيل واختفى في الشجرة فعرفوا ذلك ، فجيء بالمنشار فنشرت الشجرة حتّى بلغ
المنشار إلى رأس زكريا ، فأنّ أنّةً فأوحى اللّه تعالى إليه : «يا زكريّا ، لئن
صعدت منك أنّةٌ ثانية لأمحونّك من ديوان النبوّة» ، فعضّ زكريّا عليهالسلام على الصبر حتّى قطع
بشطرين.
وفي صحيـح البخاري ، وصحيحي الترمذي
وابن ماجة ، ومسنـد ابن حنبل : عن ابن عمر ، قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لم يخالطهم ، ولا
يصبر على أذاهم».
وفي كتاب ابن سعدمرسلاً : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله كان
أصبر الناس على
__________________
أقذارالناس.
وفي صحيحي البخاري ومسلم : عن أبي موسى
، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «ليس أحد أصبر ـ على أذىً يسمعه ـ من اللّه ، إنّهم ليدّعون له ولداً ، ويجعلون
له أنداداً ، وهو مع ذلك يعافيهم ويرزقهم».
وفي أخبار أهل البيت عليهمالسلام أنّ الصادق عليهالسلام قال لبعض أصحابه :
«عليك بالصبر في جميع الاُمور ؛ فإنّ اللّه عزوجل
بعث محمّداً صلىاللهعليهوآله فأمره
بالصبر والرفق ، فقال : (
وَاصْبِرْ
عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ )، الآية ، فصبر صلىاللهعليهوآله حتّى
نالوه بالعظائم ورموه بها ، فضاق صدره ، فأنزل اللّه عزوجل : (
وَلَقَدْ
نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ )»،
الآية ، ثمّ كذّبوه ورموه ، فحزن لذلك ، فأنزل اللّه سبحانه : ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ
الَّذِي يَقُولُونَ )»
الآية ، إلى قوله تعالى : «(
وَلَقَدْ
كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا
حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا )»،
الخبر .
وقال عليهالسلام :
«إنّ الحرّ حرّ على جميع أحواله إن نابته نائبة صبر لها ، وإن تداكّت عليه المصائب
لم تكسره ، وإن اُسر وقُهر واستبدل باليسر عسراً،
__________________
كما كان يوسف الصدّيق
الأمين عليهالسلام لم
يُضرر حريته أن استُعبد واُسر وقُهر ، ولم تضرّره ظلمة الجبّ ووحشته وما ناله أن
منّ اللّه عليه ، فجعل الجبّار العاتي له عبداً بعد إذ كان مالكاً»، الخبر .
وقال عليهالسلام :
«نعم الجرعة الغيظ لمن صبر عليها ، فإنّ عظيم الأجر لَمِن عظيم البلاء».
وفي رواية اُخرى : «ما تجرّعت جرعة أحبّ
إليّ من جرعة غيظ لا أكافئ بها صاحبها».
وقال الكاظم عليهالسلام : «اصبر على أعداء
النعم ، فإنّك لن تكافئ من عصى اللّه فيك بأفضل من أن تطيع اللّه فيه».
وقال الصادق عليهالسلام : «كظم الغيظ عن
العدوّ في دولاتهم تقيّة حزم لمن أخذ به ، وتحرّزٌ من التعرّض للبلاء في الدنيا ،
فجاملوا النّاس يسمنذلك
لكم عندهم»،
الخبر .
وقال عليهالسلام :
«من كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ اللّه قلبه يوم القيامة رضاه».
__________________
وفي صحيح ابن ماجة : عن ابن عمر ، قال :
قال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«ما من جرعة أعظم أجراً عند اللّه من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاءً لوجه اللّه».
وفي كتاب الحلية : عن عائشة ، قالت :
قال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«من أذلّ نفسه في طاعة اللّه فهو أعزّ ممّن تعزّز بمعصية اللّه».
وقال الصادق عليهالسلام : «جاء جبرئيل عليهالسلام إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهفقال : يا محمّد ،
ربّك يقرؤك السلام ويقول لك : دارِ خلقي».
وقال الباقر عليهالسلام : «في التوراة مكتوب
فيما ناجى اللّه تعالى به موسى ابن عمران عليهالسلام أن
قال له : يا موسى ، اُكتم مكتوم سرّي في سريرتك ، وأظهر في علانيتك المداراة عنّي
لعدوّك وعدوّي من خلقي»،
الخبر .
وفي كتاب ابن أبي شيبة: عن الأعمش ، عن ابن مسعود ، قال : قال
النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«آفة العلم النسيان ، وإضاعته أن تحدّث به غير أهله».
وقال الصادق عليهالسلام : «قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله :
مداراة الناس نصف الإيمان ، والرفق بهم نصف العيش» .
__________________
وقال عليهالسلام :
خالطوا الأبرار سرّاً ، وخالطوا الفجّار جهاراً ، ولا تميلوا عليهم فيظلموكم ،
فإنّه سيأتي عليكم زمان لا ينجو فيه من ذوي الدين إلاّ من ظنّوا أنّه أبله ، وصبّر
نفسه على أن يقال له : أبلهٌ لا عقل له».
وعن الصادق عليهالسلام : «أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: أمرني ربّي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض» ، وقد روى أيضاً هذا الخبر
بعينه الديلمي وغيره من علماء العامّة عن عائشة ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله .
وروى البيهقي عن أبي هريرة ، قال : قال
النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«رأس العقل المداراة».
وفي كتاب ابن أبي الدنيا ، عنه صلىاللهعليهوآله قال
: «رأس العقل بعد الإيمان باللّه مداراة الناس».
وفي رواية : «التودّد إلى الناس».
وفي كتاب ابن حبّان ، وكتاب الطبراني عن
جابر ، عنه صلىاللهعليهوآله قال
: «مداراة الناس صدقة».
وفي الفردوس ، وكتاب المقاصد للسخاوي :
عن أبي هريرة ، عنه صلىاللهعليهوآله قال
: «داروا الناس بعقولكم».
__________________
وفي رواية أخرى «داروا سفهاءكم»، وفي اُخرى : «ذبّوا عن أعراضكم».
وفي روايات أهل البيت عن الصادق عليهمالسلام أنّه قال : «اُمِرَ
الناس بخصلتين فضيّعوهما ، فصاروا منهما على غير شيء : الصبر والكتمان».
وقال عليهالسلام لبعض
أصحابه : «إنّكم على دينٍ من كتمه أعزّه اللّه ، ومن أذاعه أذلّه اللّه».
وقال عليهالسلام في
حديث له : «رحم اللّه عبداً اجترّ مودّة الناس إلى نفسه ، حدّثوهم بما يعرفون ،
واستروا عنهم ما ينكرون».
وقال عليهالسلام :
«إنّ التقيّة من ديني ودين آبائي ، ولا دين لمن لا تقيّة له ، إنّ اللّه يحبّ أن
يعبد في السرّ كما يحبّ أن يعبد في العلانية».
وسئل الرضا عليهالسلام عن مسألة فأبى وأمسك
، ثمّ قال : «لو أعطيناكم كلّ ما تريدون كان شرّاً لكم ، واُخذ برقبة صاحب هذا
الأمر».
وقال الصادق عليهالسلام : «إنّ تسعة أعشار
الدين في التقيّة ، ولا دين لمن لا تقيّة له ، والتقيّة في كلّ شيء إلاّ في النبيذ
، والمسح على الخُفّين».
أقول
: وكأنّ وجه هذا الاستثناء وجود المندوحة
عنهما .
__________________
وقال الباقر عليهالسلام : «لا واللّه ، ما
على وجه الأرض شيء أحبّ إليّ من التقيّة ، من كانت له تقيّة رفعه اللّه ، ومن لم
تكن له تقيّة وضعه اللّه».
وقال عليهالسلام :
«اتّقوا على دينكم ، واحجبوه بالتقيّة ، فإنّه لا إيمان لمن لا تقيّة له ، إنّما
أنتم في الناس كالنحل في الطير لو أنّ الطير تعلم ما في أجواف النحل ما بقي منها
شيء إلاّ أكلته».
وقال عليهالسلام في
قوله تعالى : «(
وَلَا
تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ )،
وقوله سبحانه : (
ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ): إنّ الحسنة والأحسن التقيّة ،
والسيّئة الإذاعة».
وقال الصادق عليهالسلام : «أبى اللّه لنا
ولكم في دينه إلاّ التقيّة».
وقال عليهالسلام :
«التقيّة من دين اللّه الذي أمر عباده بها» .
قال الراوي : قلت ، من دين اللّه ؟ قال
: «إي واللّه ، ولقد قال يوسف عليهالسلام :
(
أَيَّتُهَا
الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ )، واللّه ، ما كانوا قد سرقوا شيئاً ،
ولقد قال إبراهيم عليهالسلام :
(
إِنِّي
سَقِيمٌ )، واللّه ، ما كان سقيماً».
__________________
أقول
: لعلّ مراده عليهالسلام أنّهما ورّيا في
كلامهما على ما سيأتي في جواز التورية والتجوّز في الكلام تقيّةً ومصلحةً .
وقال عليهالسلام :
«ما بلغت تقيّةُ أحدٍ تقيّة أصحاب الكهف ، إنّهم كانوا يشهدون الأعياد ويشدّون
الزَّنانير،
فأعطاهم اللّه أجرهم مرّتين».
وقال عليهالسلام :
«التقيّة في كلّ شيء يضطرّ إليه ابن آدم ، وصاحبها أعلم بها حين تنزل به».
وفي رواية عن الباقر عليهالسلام أنّه قال : «إنّما
جعلت التقيّة ليحقن بها الدّم ، فإذا بلغ الدم فليس تقيّة».
وأخبار أهل البيت في هذا الباب أكثر من
أن تحصى ، وسيأتي بعض منها في المقالة التاسعة من المقصد الثاني الموضوعة لتحقيق
التقيّة ونحوها ، وكذا أخبار المخالفين في هذا كثيرة جدّاً ، مع وجود شواهد صدقها
، وسنذكر تحقيق ذلك مفصّلاً على ما ينبغي في المقالة المذكورة ، وقد ذكرنا هاهنا
أيضاً آنفاً بعض أخبارهم ، ولنذكر بعضاً آخَر أيضاً تمهيداً لما سيأتي ـ إن شاء
اللّه ـ في المقالة المذكورة :
روى البخاري ، والطبراني عن ابن عباس ،
عن النبيّ صلىاللهعليهوآله (أنّه
قال : «يكفي المرء إذا رأى منكراً لا يستطيع له تغييراً أن يعلم اللّه تعالى أنّه
له
__________________
منكِر».
وفي الكتاب الكبير للطبراني : عن عبادة
بن الصامت ، عنه صلىاللهعليهوآله )قال : «إنّها ستكون فتن لا يستطيع
المؤمن أن يغير فيها بيد ولا بلسان» .
قيل : وهل ينقص ذلك من إيمانهم ؟ قال :
«لا إلاّ كما ينقص المطر من الصفا» .
قيل : ولِمَ ذلك ؟ قال : «لأنّهم يكرهونه
بقلوبهم».
وفي كتاب البيهقي : عن أبي فاطمة
الأيادي،
عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
وفي مستدرك الحاكم ، وكتابي الديلمي والسخاوي : عن ابن الحنفيّةمرسلاً ، عنه صلىاللهعليهوآله قال
: «ليس بحكيم من لا يعاشر بالمعروف مَن لا يجد له مِن معاشرته بدّاً حتّى يجعل
اللّه له من ذلك مخرجاً».
قال السخاوي : نقل هذا الخبر جماعة من
المشايخ ، حتّى نقل عن
__________________
ابن المبارك أنّه قال
: لولا هذا الحديث ما جمعني اللّه وإيّاكم على حديث.
وفي كتاب الحلية لأبي نعيم : عن حذيفة ،
عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «ويح هذه الاُمّة من ملوك جبابرة ، كيف يقتلونويخيفون المطيعين إلاّ من أظهر طاعتهم ،
فالمؤمن التقيّ يصانعهم بلسانه ، ويفرّ منهم بقلبه».
وفي الفردوس : عن ابن مسعود ، عنه صلىاللهعليهوآله قال
: «بئس القوم قوم يمشي المؤمن فيهم بالتقيّة والكتمان».
وفي أخبار تأتي في المقالة المذكورة عنه
صلىاللهعليهوآله قال
: «إنّ من شرار الناس من اتّقاه الناس لشرّه».
وفي صحيح ابن ماجة : عن عبادة بن الصامت
، عنه صلىاللهعليهوآله ،
وفي كبير الطبراني : عن ابن عمر عنه صلىاللهعليهوآله
قال : «سيكون اُمراء ـ وفي رواية :
أئمّةـ يؤخرون الصلاة عن
مواقيتها ، فصلّوا ، لوقتها ، فإذا حضرتم معهم الصلاة فصلّوا واجعلوا صلاتكم معهم
تطوّعاً».
وفي كتاب ابن عدي ، وكتابي البيهقي والسخاوي
: عن عمران بن
__________________
الحصين، عنه صلىاللهعليهوآله
قال : «إنّ في المعاريض لمندوحة عن
الكذب».
وفي كتاب البيهقي : عن عمرو بن العاص ،
عنه صلىاللهعليهوآله قال
: «لقد اُمرت أن أتجوّز في القول ؛ فإنّ الجواز في القول هو خير».
وفي كتاب الطبراني : عن عمرو أيضاً :
أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله كان
يقبل بوجهه وحديثه على شرّ القوم يتألّفه بذلك.
وفي صحيحي البخاري ومسلم : عن أنس ، عنه
صلىاللهعليهوآله قال
: «إنّي اُعطي رجالاً حديثي عهدٍ بالكفر أتألّفهم» ، الخبر ـ إلى أن قال : ـ
«وإنّكم سترون بعدي اُثرةً شديدةً فاصبروا حتّى تلقوا اللّه ورسوله ، فإنّي على
الحوض».
وفي صحيحي البخاري والترمذي : عن ابن
مسعود ، عنه صلىاللهعليهوآله قال
: «إنّكم سترون بعدي مأثرة واُموراً تنكرونها» قالوا : فما تأمرنا يارسول اللّه ؟
قال : «أدّوا إليهم حقّهم وسَلوا اللّه حقّكم».
وفي كتاب عبداللّه بن أحمد بن حنبل :
عن عليّ عليهالسلام قال
: «قال
__________________
رسول اللّه : سيكون
اختلاف أوامر،
إن استطعت أن تكون السَلم فافعل».
وفي مستدرك الحاكم : عن أبي ذرّ قال :
قال لي رسول اللّه صلىاللهعليهوآله :
«كيف أنت وأئمّة يستأثرون بهذا الفيء ؟ » فقلت : أضع سيفي على عاتقي واُجاهدهم
حتّى اُقتل ، فقال : «ألا أدلّك على خير من ذلك ، اصبر حتّى تلقاني».
وأمثال هذه الأخبار عديدة لا يمكن
إنكارها ، وكفى ما ذكرنا هاهنا ، وسنفصّل تحقيق لزوم التقيّة والمداراة ، وما هو
من فروعهما فيما يأتي من المقالة التي أشرنا إليهاإن شاء اللّه تعالى ، فتأمّل ولا تغفل
.
__________________
الفصل الخامس
في
بيان أنّ المدار على هذا النوع من الامتحان المذكور في الباب وفصوله ، وكذا
الامتحان الآتي [وأنّه] كان في كلّ زمان حتّى في هذه الاُمّة ولو على سبيل الشدّة
والضعف ، كما مرّ أنّه كانت كذلك الامتحانات المتقدّمة ، وهكذا يكون إلى قيام قائم
آل محمّد عليهمالسلام .
ونذكر هاهنا ما يدلّ على اقتفاء هذه
الاُمّة مَنْ قبلَهم من الاُمم السابقةفي
كلّ شيء حذو النعل بالنعل .
اعلم أنّ الجزء الأوّل من المقصود في
هذا الفصل قد تبيّن تبياناً تامّاً ممّا قد سبق ، كما هو ظاهر ، وسيأتي في الباب
الآتي أيضاً ما يزيده بياناً ، ومع هذا نذكر بعض آياته وأخباره في ضمن بيان الجزء
الثاني ؛ لاتّحاد مفادهما جميعاً ، فلنتوجّه هاهنا إلى ذكر ما يوضّح الجزء الثاني
صريحاً وتلويحاً ، وإن كان هو أيضاً ممّا تبيّن ممّا سبق ضمناً ، فلنذكر أوّلاً
نبذاً من الآيات ، ثمّ الروايات .
قال اللّه تعالى : ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ )أي
: لتتبعنّ سنن السابقين حذو النعل بالنعل ، كما سيأتي في الأخبار ، وهذا تفسير
صرّح به
__________________
جمع من المفسرين، ووردت فيه أخبار من أئمّة أهل البيت عليهمالسلام أجمعين.
وقال عزوجل
: (
مَّا
يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ ).
وقال سبحانه : ( بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ
الْأَوَّلُونَ ).
وقال تعالى : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ
النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ
الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَٰلِكَ
قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ )،
الآية .
وقوله تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ
لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَٰلِكَ قَالَ
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ )،
الآية .
وقال تعالى : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ
اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم
بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ).
وقال عزوجل
: (
وَإِن
مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ * وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ).
وقال أيضاً : ( فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ
مِّن قَبْلِكَ جَاءُوا
__________________
بِالْبَيِّنَاتِ
وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ).
وقال : (
وَلَقَدْ
جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا
كَذَّبُوا مِن قَبْلُ )الآية .
وقال عزّ شأنه : ( وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي
الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ * فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَىٰ مَثَلُ
الْأَوَّلِينَ ).
وقال أيضاً : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي
شِيَعِ الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ * كَذَٰلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لَا
يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ).
وقال أيضاً : ( سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ
مِن رُّسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ).
وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ
رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ
هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ) وقال : (
إِن
تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَن يُضِلُّ ).
وقال : (
سُنَّةَ
اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ
تَبْدِيلًا ).
__________________
وقال : (
سُنَّةَ
اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا
).
وقال أيضاً : ( سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا
مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا ).
وقال : (
فَهَلْ
يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ
تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ).
وقال : (
قَدْ
خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ).
وقال عزوجل
: (
يُرِيدُ
اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ
وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ).
وقال تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ
خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ
عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن
يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا )، الآية .
وقال في ذكر المنافقين وأمثالهم : ( كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا
أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا
بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِكُم بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا )،
__________________
الآية .
وقال سبحانه : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا
الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ
مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا )الآية
.
وقال عزوجل
: (
وَكَأَيِّنْ
مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ )، الآية .
وقال : (
وَكَذَٰلِكَ
جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ )،
الآية . وكفى من الآيات ما ذكرناه .
وفي بعض خطب عليّ عليهالسلام : «واعلموا أنّ
اللّه لن يرضى عنكم بشيء سخطه على من كان قبلكم ، ولن يسخط عليكم بشيء رضيه ممّن
كان قبلكم ، وإنّما تسيرون في أثر بيّن ، وتتكلّمون برجع قول قد قاله الرجال من
قبلكم»، الخبر .
وفي اُخرى : «إنّ الدهر يجري بالباقين
كجريه بالماضين» إلى قوله عليهالسلام :
«آخر أفعاله كأوّله متشابهة اُموره ، متظاهرة أعلامه»، الخبر .
وفي اُخرى : «حتّى إذا قبض اللّه نبيّه
رجع قوم على الأعقاب» إلى قوله عليهالسلام :
«قد ماروافي
الحيرة ، وذهلوا في السكرة على سنّة من آل فرعون من منقطع إلى الدنيا راكن ،
ومفارق للدين مباين».
__________________
وفي اُخرى : «لو لم تتخاذلوا عن نصرة
الحقّ ، ولم تهِنوا عن توهين الباطل لم يطمع فيكم من ليس مثلكم ، لكنّكم تِهْتُمْ
متاه بني إسرائيل ولعمري ، ليُضعّفنّ لكم التيه من بعدي أضعافاً بما خلّفتم الحقّ
وراء ظهوركم ، وقطعتم الأدنى ، ووصلتم الأبعد»،
الخبر .
ولعلّ مراده عليهالسلام بالتيه في هذه
الاُمّة تحيّرهم في أودية الضلالة بحيث يموتون على هذه الحالة ، أو حرمانهم من
معرفة بقية الأئمّة .
وفي صحيحي البخاري ومسلم : عن أبي سعيد
الخدري قال : قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله :
«لتتبعنّ سنن من قبلكم شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع ، حتّى لو سلكوا جُحر ضبّ
لسلكتموه»وفي
موضع من البخاري وصحيح مسلم : «حتّى لو دخلوا جُحر ضبّ لتبعتموهم» قلنا : يارسول
اللّه اليهود والنصارى ؟ قال : «فمن؟!» ، ورواه الحميدي هكذا أيضاً في الجمع بين
الصحيحين،
وأخبار أهل البيت عليهمالسلام بهذا
المضمون مستفيضة.
وفي صحيح البخاري أيضاً : عن أبي هريرة
، قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«لا تقوم الساعة حتّى تأخذ اُمّتي بأخذ القرون السابقة قبلها شبراً بشبر ، وذراعاً
بذراع» ، فقيل : يا رسول اللّه ، كفارس والروم ، قال : «ومن الناسإلاّ اُولئك» ، ورواه الحميدي أيضاً
وفيه : «حتّى تأخذ اُمّتي مأخذ القرون
__________________
الخالية»إلى آخر الخبر .
وفي جامع السيوطي : من صحيح الترمذي عن
ابن عمرعن
النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «ليأتينّ على اُمّتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل ، حتّى إن كان
منهم من أتى اُمّه علانية لكان في اُمّتي من يصنع ذلك ، وإنّ بني إسرائيل تفرّقت
اثنتين وسبعين ملّة ، وتفترق اُمّتي على ثلاث وسبعين ملّة ، كلّهم في النار إلاّ
ملّة واحدة».
ومن كتاب المستدرك للحاكم : عن ابن عباس
، قال : قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله :
«لتركبنّ سنن من كان قبلكم شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع ، حتّى لو أنّ أحدهم دخل
جحر ضبّ لدخلتم ، وحتّى لو جامع أحدهم امرأته في الطريق لفعلتموه».
ومن كتاب ابن أبي شيبة : عن حذيفة عنه صلىاللهعليهوآله قال
: «لتركبنّ سنّة بني إسرائيل حذو النعل بالنعل ، والقذّةبالقذّة ، غير أنّي لا أدري تعبدون
العجل أم لا ؟».
وفي الكشّاف عند تفسير قوله تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ
__________________
اللَّهُ )،
الآية ، روى حديث حذيفة هكذا : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله
: «أنتم أشبه الاُمم سمتاً ببني إسرائيل
، لتركبنّ طريقهم»إلى
آخر الخبر .
وفي جامع الاُصول روى حديث الترمذي هكذا
: إنّه كان للمشركين شجـرة يسمّونها ذات أنـواط يعلّقون عليها أسلحتهم ، فقال
المسلمون للنبيّ صلىاللهعليهوآله :
اجعل لنا ذات أنواط ، فقال : «هذا مثل قول قوم موسى عليهالسلام :
اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ؛ لتركبنّ سنن من كان قبلكم» . أخرجه الترمذي، وزاد فيه رزين: «حذو النعل بالنعل ، والقذّة بالقذّة
، حتّى إن كان فيهم من أتى اُمّه يكون فيكم ، ولا أدري أتعبدون العجل ، أم لا؟»انتهى .
وستأتي أخبار اختلاف هذه الاُمّة كسائر
الاُمم في الباب الآتي ، وسنبيّن هاهنا ما هو نظير عبادة العجل .
والظاهر أنّ مراده صلىاللهعليهوآله بقوله
: «ولا أدري أتعبدون العجل ، أم لا؟» الإشارة إلى تحقّق النظير دون أصله ، كطلبهم
ذات أنواط ، لا كإتيان الاُمّ مثلاً ، وحينئذٍ فالتعبير هكذا للإشعار بشدّة
التشابه ، فافهم .
وروى السيوطي أيضاً من الكتاب الكبير
للطبراني عن ابن مسعود ، قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله
: «أنتم أشبه الاُمم ببني إسرائيل
لتركبنّ طريقتهم حذوة
__________________
القذّة بالقذّة ،
حتّى لا يكون فيهم شيء إلاّ كان فيكم مثله ، حتّى إنّ القوم لتمرّ عليهم المرأة
فيقوم إليها بعضهم فيجامعها ، ثمّ يرجع إلى أصحابه يضحك إليهم ويضحكون إليه».
وفي صحيحي البخاري ومسلم ، وكتاب الضياء
المقدسي : عن عقبة ابن عامر،
قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
وذكر الحديث ـ إلى أن قال عليهالسلام :
ـ «وإنّي أخشى عليكم الدنيا أن تتنافسوا فيها ، وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان
قبلكم».
وفي كتاب ابن عساكر: عن الحسن (بن عليّ عليهماالسلام )، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «عشر خصال عملها قوم لوط ، بها هلكوا ، وتزيدها اُمّتي بخلّة : إتيان الرجال
بعضهم بعضاً ، ورميهم بالجلاهق
__________________
والخذف، ولعبهم بالحمام ، وضرب الدفوف ، وشرب
الخمور ، وقصّ اللحية ، وطول الشارب ، والصفير ، والصفيق ، ولباس الحرير ، وتزيدها
اُمّتي : إتيان النساء بعضهنّ بعضاً».
وروى السيوطي أيضاً ، أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «إنّ اللّه عزوجل بعثني
رحمة للناس كافة ، فأدّوا عنّي رحمكم اللّه ، ولا تختلفوا كما اختلف الحواريّون
على عيسى عليهالسلام ،
فإنّه دعاهم إلى مثل ما أدعوكم إليه ، فأبى من قرب مكانه فكرهه ، فشكى عيسى عليهالسلام ذلك إلى اللّه تعالى
، فأصبحوا وكلّ رجل منهم يتكلّم بلسان القوم الذين وجّه إليهم»، الخبر .
وكأنّ المراد أنّهم لمّا لم يتّفقوا على
محض متابعة عيسى عليهالسلام ،
وكرهوا الاقتصار على ما أتاهم به ، أوقع اللّه بينهم الاختلاف ، فأنتم أيضاً كذلك
إن لم تكتفوا على ما جئت به فتشركوا به مقتضيات آرائكم ، وفيه دلالة على عدم حسن
حال جميع الحواريّين ، فلا تغفل.
وستأتي في الباب الآتي أخبار متواترة في
ذمّ الاختلاف ومتابعة الآراء ، وإنّ ذلك الذي يوقع في الضلال ، وأنّ مناط حسن
الحال وسوئه في هذه الاُمّة وسائر الاُمّم جميعاً ، إنّما هو الاقتصار على التمسّك
بمحكمات الكتاب وثابتات السنّة ، وعدمه بإدخال الرأي وأمثاله ، حتّى في صحيحي
البخاري ومسلم وغيرهما قول النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«إنّما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب ، ضربوا كتاب اللّه بعضه ببعض ،
وإنّما كتاب اللّه
__________________
يصدّق بعضه بعضاً»
إلى قوله عليهالسلام :
«فما علمتم فيه فقولوا ، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه».
وفي صحيح ابن ماجة ، والكبير للطبراني ،
كما سيأتي : عن ابن عمر قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله
: «لم يزل أمر بني إسرائيل كان معتدلاً
حتّى نشأ فيهم المُوَلَّدُونَ ، وأبناء سبايا الاُمم التي كانت بنو إسرائيل تسبيها
، فقالوا بالرأي فضلّوا وأضلّوا».
وسيأتي أيضاً من كتابي الطبراني وابن
عساكر ، وغيرهما قول النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«إنّ اللّه لم يبعث نبيّاً قبلي إلاّ كان في اُمّته من بعده مرجئة وقدريّة
يشوّشون أمر الاُمّة و إنّهما لا يدخلان الجنّة»حتّى فيه : «إنّ القدريّة مجوس هذه
الاُمّة».
وفي كتاب الطبراني : عن ابن عمر ، قال :
قال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«ما اختلفت اُمّة بعد نبيّها إلاّ ظهر أهل باطلها على أهل حقّها».
وفي كتاب البيهقي : عن عليّ عليهالسلام ، قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«إنّ بني إسرائيل اختلفوا ، فلم يزل اختلافهم بينهم حتّى بعثوا حكمين فضلاّ وأضلاّ
، وإنّ هذه الاُمّة ستختلف فلا يزال اختلافهم بينهم حتّى يبعثوا
__________________
حكمين فيضلاّ ويضلّ
من يتبعهما».
وسنذكر بعض بقيّة الأخبار ، لاسيّما
الدالّة على كون أهل البيت عليهمالسلام وأتباعهم
نظراء أهل الحقّ في الاُمم السابقة ، فلنشرع الآن في بيان تفصيل الانطباق .
فاعلم أوّلاً : أنّه لا يلزم ـ كما هو
مفاد ما ذكرناه من الأخبار ـ أن يكون كلٌّ من أقسام الانطباق صوريّاً وبعين
الكيفية التي وقعت في الاُمم السابقة من جميع الجهات ، ومع وجدان كلّ جهة كانت
هناك هاهنا ، بل يكفي مطلق التشابه وصدق النظير في الجملة ، ولا حجر أيضاً في
تعدّد وقوع نظير شيء طول الأعصار وإن كان وجه الشبه في بعضٍ غير الوجه في آخر.
ثمّ اعلم ثانياً : أنّه لا شكّ ، بل لا
كلام أيضاً ـ كما تنادي به الأخبار المتواترة ، لاسيّما التي تأتي في فصول المقالة
الأخيرة من المقصد الأوّل ـ في كون عليّ عليهالسلام في
هذه الاُمّة نظير هارون في بني إسرائيل ، وكذا نظير يوشع بن نون فيهم ، بل نظير
كلّ وصيّ من أوصياء الأنبياء ، بل كلّ ثابت الخيريّة ، حتّى أنّ في كتابَي
العِصاميوالخِلَعي: عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
__________________
قال : «ما من نبيّ
إلاّ وله نظير من اُمّته وعليّ عليهالسلام نظيري».
وكون الحسنين عليهماالسلام نظيرَي ابنَي هارون
شُبر وشُبير، وكون الحسين عليهالسلام نظير
يحيى عليهالسلام ،
وكون فاطمة عليهاالسلام نظيرة
مريم عليهاالسلام ؛
فمقابلهم مقابلهم .
ولا بأس إن أشرنا إلى بعض تلك الروايات
الموضّحات هاهنا ليكون من قبيل الاُنموذج لما سيأتي . .
روى السيوطي في جامعه الكبير من مسند
ابن حنبل وغيره ، عن أسماء بنت عميس وغيرها : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
في حديث له : «اللّهمّ إنّي أقول كما قال أخي موسى عليهالسلام :
اجعل لي وزيراً من أهلي عليّاً عليهالسلام أشدُد
به أَزري وأَشركه في أَمري»،
وسيأتي مع غيره مفصّلاً في الفصل الثاني من المقالة الأخيرة من المقصد الأوّل .
ومن كتاب ابن المغازليوغيره في حديث سدّ أبواب المسجد إلاّ
__________________
باب عليّ عليهالسلام : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله سمع
كلام الناس في ذلك فخطب وقال : «إنّ رجالاً يجدون في أنفسهم أنّي اُسكن عليّاً عليهالسلام في المسجد واللّه ،
ما أخرجتُهم ولا أسكنته،
إنّ اللّه تعالى أوحى إلى موسى وأخيه عليهماالسلام :
أن تبوّأ لقومكما بمصر بيوتاً ، واجعلوا بيوتكم قبلة ، وأقيموا الصلاة ، فأمر موسى
عليهالسلام أن
لا يسكن مسجده ، ولا ينكح فيه ، ولا يدخله جُنباً إلاّ هارون وذرّيّته ؛ وأنّ
عليّاً عليهالسلام منّي
بمنزلة هارون من موسى عليهالسلام ،
وهو أخي دون أهلي ، ولا يجوز مسجدي لأحد أن ينكح فيه النساء إلاّ عليّ وذُرّيّته عليهمالسلام ، فمن شاء فهاهنا»
وأومأ بيده نحو الشام،
وسيأتي هذا مع غيره مفصّلاً ، لا سيّما في الفصل الرابع من تلك المقالة .
ومن كتاب صحيح النسائيوالخوارزمي وغيرهما ـ كما يأتي ـ عن
النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «لكلّ نبيّ وصيٌّ ووارث ، وإنّ وصيّي ووارثي عليّ عليهالسلام »، وسيأتي هذا مع غيره مفصَّلاً في الفصل
السادس من تلك المقالة .
__________________
وروى البغوي ، وكذا عبد الغنيفي الإيضاح ، وابن عساكر وغيرهم ، عن
سلمان رضیاللهعنه أنّ
النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «سمّى هارون ابنَيه شبراً وشُبَيراً ، و إنّي سمّيتُ ابنيّ الحسن والحسين عليهماالسلام كما سمّى به هارون
ابنيه»، وسيأتي هذا وغيره
في فصل ذكر أحوالهما في الفصل الثالث من تلك المقالة .
وفي كتب وروايات عديدة ، منها : كتابا
ابن عدي وابن عساكر ، عن ابن مسعود وغيره أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله
قال : «إنّ الخلفاء بعدي عدّة نقباء بني
إسرائيل»،
وسيأتي هذا مفصَّلاً في الفصل الحادي عشر من تلك المقالة .
وفي كتاب أبي الشيخوابن عساكر ، والرافعي : عن أنس ، عن
__________________
النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «إنّ يُوشع بن نون دعا ربَّه ـ وذكر الدعاء ـ فاحتبست له الشمسُ بإذن اللّه»، الخبر ، وسيأتي هو ، وصدور مثله عن
عليّ عليهالسلام في
الفصل الثالث من تلك المقالة .
وفي مسند ابن حنبل وغيره : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «الصدّيقون ثلاثة : حبيب النجّار مؤمن آل يس ، وحزبيل مؤمن آل فرعون ، وعليّ بن
أبي طالب عليهالسلام ،
وهو أفضلهم»وسيأتي
هذا مع غيره ، لاسيّما في الفصل التاسع من تلك المقالة .
وفي أخبار كثيرة مرَّ بعضها سابقاً
ويأتي بعضها أيضاً : أنّ الاُمّة تغدر بعليّ عليهالسلام بعد
النبيّ صلىاللهعليهوآله .
منها : ما في الجمع بين الصحيحين عن
عبداللّه الغنوي،
عن عليّ عليهالسلام أنّه
قال بالرحبة : «أَيُّها الناسُ ، إنّكم قد أبيتم إلاّ أن أقولها ، وربّ السماء
والأرض ، إنّ من عهد النبيّ الاُمّي إليّ : إنّ الاُمّة ستغدر بك من بعدي».
__________________
ومنها : ما في كتاب الخوارزمي : أنّ النبيّ
صلىاللهعليهوآله قال
لعليّ عليهالسلام :
«اتّق الضغائن التي لك في صُدور من لا يُظهرها إلاّ بعد موتي» ثمّ بكى صلىاللهعليهوآله ،
وقال : «أخبرني جبرئيل أنّهم يظلمونه ، ويمنعونه حقّه ، ويقاتلونه ويقتلون ولده
ويظلمونهم بعده ، وأخبرني أنّ ذلك يزول إذا قام قائمهم ، وعلت كلمتهم ، واجتمعت
الاُمّة على محبّتهم وكان الشانئ لهم قليلاً»،
الخبر .
وسيأتي في فصل الآيات ـ وهو الفصل
التاسع من المقالة الثانية عشرة من المقصد الأوّل ـ عند ذكر قوله تعالى : ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ )حديث من طريق المخالفين ، بأنّ جميع
اُمم الأنبياء كآدم ، ونوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى عليهمالسلام ما وفوا بعهد
أنبيائهم في تعيين أوصيائهم ، وأنّ هذه الاُمّة أيضاً تسلك مسلكهم ولا تُوفي بوصيّ
رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ،
أي : عليّاً عليهالسلام ،
لينظر في الحديث .
وإذ قد تبيَّن هذا كلّه ، فنقول : إذ
كان عليّ عليهالسلام نظير
هارون ، فجميع الذين تركوا مبايعته بعد وفاة النبيّ صلىاللهعليهوآله
ـ الذي هو بمنزلة زمان غيبة موسى عليهالسلام للمناجاة ـ واتّخذوا
من لم يأمرهم النبيّ صلىاللهعليهوآله إماماً
ومطاعاً ، زاعمين كون إطاعته أحقّ من إطاعة عليّ عليهالسلام ـ
الذي نصّ النبيّ على منزلته المذكورة ـ بمحض اختيار جماعة إيّاه عليه ، فهم نظراء
عُبّاد العجل من بني إسرائيل .
ولا يندفع هذا باجتماع عامّة الاُمّة
على ذلك الاتّخاذ ، بل إنّما هو من شواهد الانطباق ؛ ضرورة أنّ قوم موسى عليهالسلام أيضاً هكذا فعلوا ،
كما ينادي به قول هارون عليهالسلام :
(
إِنَّ
الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ).
__________________
وقد ورد في الحديث ـ كما يأتي في محلّه ـ
أنّ عليّاً عليهالسلام أيضاً
توجّه أيّام السقيفة إلى قبر النبيّ صلىاللهعليهوآله
وخاطبه شاكياً بهذه الآية.
ولا يخفى أنّه على هذا تكون ضلالة هذه
الاُمّة أشدّ ؛ لأنّ بني إسرائيل رجعوا أخيراً وهؤلاء لم يرجعوا ؛ ضرورة أنّ
بيعتهم لعليّ عليهالسلام بعد
عثمان إنّما كانت على الترتيب والتشريك .
ثمّ إنّ هذا ليس مختصّاً بحكاية السقيفة
، بل يمكن التطبيق على حكاية الجَمل ومعاوية أيضاً ، كما هو ظاهر ، إلاّ أنّ تطبيق
أمر السقيفة أوفق ؛ لعدم محاربة هارون عليهالسلام أصحاب
العجل ، بل تمسّك بالصبر والسكوت بعد إيضاح النصيحة لهم وعدم قبولهم منه .
وأمّا حكاية الجمل فهي بعينها مثل ما
فعل بعض أصحاب موسى بيوشع بن نون وصيّ موسى عليهالسلام ؛
حيث إنّهم ـ كما هو مذكور في كتب اليهود أيضاً ـ خالفوا يوشع بن نون بعد ما تمكّن
على أمره ، فأخرجوا صفوراء امرأة موسى عليهالسلام ـ
حيث كانت معتبرة عند بني إسرائيل أيضاً ـ معهم ، ونازعوه بالمحاربة ، فقاتلهم حتّى
غلب عليهم ولزم صفوراء وأرسلها إلى مسكنها ، وقال لها : سأشكو عليك عند موسى عليهالسلام يوم القيامة ، حتّى
أنّ في بعض الكتب وقع التصريح بأنّ ذلك كان بعد أن تقدّم على يوشع ـ بدون أمر موسى
عليهالسلام ،
بل بقوّة بني إسرائيل ـ بعض قومه.
وقد اتّفق اليهود أيضاً على أنّ الوصاية
انتقلت بعد يوشع بأمر موسى عليهالسلام ،
وتسليم يوشع إلى شُبّر ، ثمّ إلى شبير ابني هارون عليهالسلام ،
ثمّ
__________________
كانت في نسل شبير.
من أراد تحقيق ذلك كلّه فعليه بعلماء
اليهود وكتبهم ، وقد أخبر به أئمّة أهل البيت عليهمالسلام أيضاً
، ونقل نبذاً منه العامّة عن كعب الأحبار وغيره ، كما سيأتي في محلّه .
وأمّا حكاية معاوية فهي بحكاية فرعون
وموسى أشبه ، لاسيّما بعد ورود ما سيأتي في المقالة السادسة من المقصد الثاني من
تصريح النبيّ صلىاللهعليهوآله بأنّ
: «معاوية فرعون هذه الاُمّة يموت على غير الملّة»ولا شكّ حينئذٍ أنّ هامانه عمرو بن
العاص .
ومن الشواهد هاهنا ما صدر منه ومن
أتباعه ـ الذين بمنزلة قوم فرعون ـ بالنسبة إلى شيعة عليّ عليهالسلام وأتباعه ـ الذين
بمنزلة مؤمني بني إسرائيل ـ من القتل والقمع والنهب والسبي ، حتّى أنّه لم يكن أحد
يذكر عليّاً عليهالسلام بخير
إلاّ قتلوه وأخربوا بيته ، كما هو مسطورفي
التواريخ مفصّلاً،
إلى أن غرق هو وجنوده في بحر ضلالة الغواية ، ولم ينجوا منه ؛ ضرورة أنّه لم يرجع
إلى أن مات ، ويمكن أن يكون نظير الغرق يوم انكساره في صفّين ، حيث رفع القرآن
وأظهر الإيمان ، كما قال فرعون عند الإشراف على الغرق ، بل الحقّ أنّ كلّ من لم
يكن حكمه في هذه الاُمّة من اللّه كان بمنزلة فرعون وسائر الجبّارين في الاُمم .
__________________
والإمام الحقّ في زمانه كالنبيّ في تلك
الأعصار ، كما قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله :
«علماء اُمّتي كأنبياء بني إسرائيل».
ألا ترى إلى الحسين عليهالسلام كيف ذبح كالكبش لأجل
ولد زنا ، كما ذبح يحيى لأجل زانية ؟ ولهذا قال النبيّ ـ كما سيأتي في محلّه ـ :
«إنّ اللّه تعالى قتل بدم يحيى سبعين ألفاً ، وسيقتل بدم ابني هذا ـ يعني الحسين عليهالسلام ـ سبعين ألفاً ،
وسبعين ألفاً ، وسبعين ألفاً».
وروى أبو مخنفوغيره : أنّ رجلاً من الصحابة لقي عليّ
بن الحسين عليهماالسلام بالشام
، فقال له : كيف أَصبحت يابن رسول اللّه ؟ فقال : «أصبحنا كبني إسرائيل في قوم
فرعون ، يذبّحون رجالنا ويسبون نساءنا».
ودخل أبو بصيرعلى الصادق عليهالسلام ، وله نفس عالٍ وحال
مشوّش
__________________
فسأله عن ذلك ، فقال
: لِما نرى من هؤلاء المخالفين من الطعن والأذى حتّى سمّونا رافضة ؟ فقال له ما
خلاصته : «لا تحزن من هذا ، فإنّ بني إسرائيل لمّا آمنوا بموسى عليهالسلام ورفضوا فرعون وقومه ،
سمّاهم قوم فرعون رافضة ، فأنزل اللّه تعالى على موسى عليهالسلام : أن بَشّر بني
إسرائيل بأنّي كتبت لهم هذا الاسم في اللوح ، واصطفيتهم به ، فما ترضى يا أبا
محمّد بما سمّاكم اللّه تعالى به ! فإنّكم واللّه ، رفضتم الباطل وتمسّكتم
بالحقّ ، كما كان كذلك المؤمنون قبلكم ، وإنّ هؤلاء القوم رفضوا الحقّ الذي أمر
اللّه به من ولاية عليّ عليهالسلام والتمسّك
بالعترة الطاهرة ، واتّبعوا ما أسخط اللّه بأهوائهم وآرائهم ، فهم على سبيل فرعون
وقومه ، وأنتم على بيّنة من ربّكم كموسى عليهالسلام وقومه»وأمثال هذا كثيرة .
ويكفي ما ذكرناه لصاحب البصيرة ، حتّى
أنّ من أشبه الاُمور ما وقع بالنسبة إلى كتاب اللّه عزوجل ،
فإنّ عليّاً عليهالسلام ـ
كما نقل المخالف والمؤالف ـ شرع بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله
بجمع كتاب اللّه عزوجل ، وقال : «أمرني
النبيّ صلىاللهعليهوآلهأن
لا أرتدي بردائي حتّى أجمعه»،
وأخبرهم أنّه جمعه على تنزيله ، وما
__________________
ينبغي أن يكون عليه ،
فلم يعبأوا بقوله ولم يتوجّهوا إليه ، فبقي على حاله مهجوراً ، وحفظه الأئمّة من
أهل البيت بعد عليّ عليهمالسلام مستوراً
، كما هو ثابت عندنا بأخبارهم متواتراً،
وإن عمت عنه عيون الأجانب ، بل تدلّ عليه بعض منقولات المخالفين أيضاً، ولبيانه موضع آخَر .
فكانت الصحابة مكتفين برهة من الزمان
بما كان منه عندهم متفرّقاً ، إلى أن قتل عامّة حفّاظه في حرب اليمامة ، حتّى
نقلوا أنّه كانت بعض الأوراق منه عند منبر النبيّ صلىاللهعليهوآله
فأكلته عنزة ، فعند ذلك قعد عمر بن
الخطاب وزيد بن ثابت في المسجد بشور أبي بكر،
ونادوا بالناس أن يأتي كلّ أحد بما عنده من القرآن ، فمن كان له شاهدان على أنّ ما
عنده من القرآن كتباه وإلاّ فلا ، إلى أن قُتل عمر واستخلف عثمان فشرع هو في جمعه
وترتيبه على هذا الوضع المشهود والكيفيّة الموجودة ، وكتب أربعةمصاحف على هذا الوضع المخصوص ، وأرسل
كلّ واحد إلى بلدة ، وأمر
__________________
بالاجتماع على ذلك ،
وجمع سائر ما كان عند الناس من المصاحف فأحرقها ، حتّى ما جمعه عمر وزيد ، ومصحف
ابن مسعود واُبيّ بن كعبوغيرهم
معتذراً بأنّ مراده رفع الاختلاف ، وجميع هذا ممّا استفاضت فيه أَخبار المخالفين.
وفي الأخبار المستفيضة عن أهل البيت عليهمالسلام : (أنّ مقصدهم إنّما كان إسقاط ما لم
يريدوا ذكره ونحو ذلك ، كإسقاط أسامي جماعة من المشركين ، ولفظةٍ «في عليّ» من آية
التبليغوأمثال
ذلك .
حتّى ورد في أخبار : «أنّ اللّه تعالى
لمّا كان يعلم بعلمه الكامل أنّهم يُسقطون بعض الأشياء الصريحة ، أجمل في ذكر بعض
الأشياء ليسلم من
__________________
الإسقاط ، ويهتدي به
أصحاب البصائر»؛
حتّى قال علي عليهالسلام :
«إنّ من جملة ذلك قوله تعالى : (
وَيَوْمَ
يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ
الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا
خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي )»، وأمثال ذلك .
وعلى أيّ تقدير ، لا شكّ في أنّ مثل هذا
الجمع يستلزم عدم إدخال بعض الآيات وتغيير بعض الكلمات ، ولحن بعض العبارات
والتقديم والتأخير ونحو ذلك، وإن لم ندع التعمّد، كما ورد أنّ قوله تعالى: ( هَٰذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ
مُسْتَقِيمٌ )تصحيف (
عَلَيَّ
مُسْتَقِيمٌ )
يعني : أمير المؤمنين عليهالسلام ، وأنّ (
إِلْ
يَاسِينَ )هو : آل ياسين ، أي : آل محمّد عليهمالسلام،
وأنّ آية بيعة الرضوان في سورة الفتحكانت
قبل آية البيعةونكثها، وأنّ آية
__________________
التطهيرلم تكن بين آيات النساء، وأمثال ذلك .
وبالجملة
: إنكار تطرّق الاشتباه والسقوط
والتحريف باللحن والتصحيف والتقديم والتأخير مكابرة صريحة في مقابل العقل والنقل ،
حتّى نقلوا : أنّ عثمان أيضاً اعترف بأنّ فيه بعض اللحن ، إلاّ أنّه قال : لكن
العرب يصحّحونهبألسنتهم! وهذا هو بعينه ما صدر من اليهود
والنصارى من تحريف الكتابين وتضييع جمّة منهما .
وخلاصة هذه القصة ـ على ما يظهر من
ملاحظة مجموع ما نقله هم ، وأهل الإسلام ، لاسيّما أئمّة أهل البيت عليهمالسلام الذين كانوا أعرف
منهم بكتبهم وأحوالهم ، بل أصل الكتب السماويّة كلّها عندهم ، كما ينادي به ما
يأتي في فصل بيان علومهم ـ : أنّ موسى عليهالسلام لمّا
ارتحل عن الدنيا أوصى بأسرار التوراة والألواح إلى يوشع بن نون عليهالسلام وصيّه من بعده ،
وأودعه ما كان عنده من العلوم وكتب الأنبياء عليهمالسلام ،
فلمّا شوّش على يوشع أمره مـن دخـل في أمـره من قومه ، ولم يتمكَن يوشع بذلك مـن
إظهار ما عنده ، بقي التوراة متفرّقاً ، وكان يحفظ كلّ شخص شيئاً منه إلى أن غلب
عليهم بخت نصّر،
فقتل كثيراً من حفّاظ ذلك ، فلمّا رأى بعض أولاد
__________________
هارون ذلك جمع من
محفوظاته ومن الفصول التي كانت عند غيره أسفاراً .
فهذه التوراة التي بيد اليهود ذلك
المجموع لا كتاب اللّه التامّ ، وعلى هذا اتّفاق اليهود ، كما صرّح به بعضهم ،
قال : وفيه التبديل والتغيير ولو من غير تعمّد ، لكن يظهر من الآيات القرآنية أنّ
بعض الأحبار ـ وهم علماء اليهود والصلحاء منهم ـ أيضاً غيّروا بعض الأشياء تعمّداً
، حتّى أنّ من جملة ما غيّروا اسم النبيّ صلىاللهعليهوآله
ـ فيما مرّ في أوّل الكتاب ـ من عبارة
التوراة ؛ حيث ذكرنا أنّ فيها : (بماذٍ ماذ شنيم عار سار سني ايم) فغيّر (ماذ ماذ)
الذي هو محمّد صلىاللهعليهوآله بلغتهم
(بماذو ماذو) بإضافة الواو ، بمعنى : عظيم عظيم ، وقرأ بعضهم : (مائذ مائذ) بإضافة
الهمزة ، بمعنى : جداً جداً ، وهكذا غيره من التحريفات والإسقاط .
قال الشهرستاني: إنّ التوراة بأسرها مشتملة على دلالات
وآيات تدلّ على كون شريعة المصطفى حقّاً ، وكون صاحب الشريعة صادقاً ، ولكنّهم حرّفوه
وغيّروه وبدّلوه ، إمّا تحريفاً من حيث الكتابة والصورة ، وإمّا تحريفاً من حيث
التفسير والتأويل .
__________________
ثمّ ذكر من ذلك الآية المذكورة بطولها
كما مرّت في أوّل الكتاب ، ثمّ قال : إنّهم أوّلوها بالملك دون النبوّة ، وذكر
جواباً شافياً عن ذلك ، ثمّ قال : ومن العجيب أنّ في التوراة : إنّ الأسباط من بني
إسرائيل كانوا يراجعون علماء القبائل من بني إسماعيل ، ويعلمون أنّ عندهم علماً
لدنّيّاً لم يشتمل التوراة عليه ، حتّى كانوا يسمّونهم آل اللّه ، أي : أهل
اللّه.
أقول
: تأمّل في هذا حتّى تعرف التشابه فيه
أيضاً ، حيث إنّ المخالفين ـ كما يأتي ـ معترفون بأمثال هذه الكمالات في أئمّة أهل
البيت عليهمالسلام )، ويجدون دلالة بعض الآيات على إمامتهم
، ومع هذا يؤوّلونها بتأويلات غير مستقيمة ، فافهم .
وكذلك لمّا ارتحل عيسى عليهالسلام أوصى إلى شمعون الصفا
، وأودعه الأسرار والعلوم والكتب السابقة والإنجيل ، وكان هو أفضل الحواريّين
علماً وزهداً وورعاً وأدباً ، فشوّش أمره من أدخل نفسه في أمره.
قال الشهرستاني في الملل والنحل : إنّ
قولوس هو الذي شوّش أمر شمعون ، وصيّر نفسه شريكاً له ، وغيّر أوضاع علمه ، وخلطه
بكلام الفلاسفة ووسواس خاطره.
وبالجملة
: لمّا صاروا كذا بقي الإنجيل أيضاً
متفرّقاً متشتّتاً بيد الحواريّين ، حتّى ضاع كثير منه إلى أن تصدّوا لجمعه ، فجمع
أربعة رجال منهم ، كلّ واحد إنجيلاً .
__________________
قال الشهرستاني : كان أحدهم : متى ،
والآخر : الوقا ، والثالث : مارقوس ، والرابع : يوحنّا؛ ولأجل هذا صارت فيه التحريفات
والتغييرات ، ثمّ تصرّفوا فيه أيضاً فيما بعد .
قال الشهرستاني : ومنهم نسطور الحكيم
الذي ظهر في زمان المأمون،
وتصرّف في الأناجيل بحكم رأيه.
أقول
: إذا تأمّلت فيما ذكرناه ـ مع كونه
مختصراً من المطوّل ـ ظهر لك ما ادّعيناه من التطبيق في هذا أيضاً ، بل ظهر
التطابق والتشابه في أصل إدخال جمع أنفسهم في أمر يوشع وصيّ موسى عليهالسلام وشمعون وصيّ عيسى عليهالسلام قسراً بغير أمر
النبيّ ورضا الوصيّ ، وأنّ ذلك صار سبب التفرّق وتغيير الكتاب وخراب الدين ، حتّى
أنّ فيه فساد بعض الحواريّين،
وفيه من التشابه ما لا يخفى .
ومن العجائب أنّ هذا ممّا نقله جمع من
المخالفين ، كالشهرستاني وغيره من أرباب نقل المذاهب ، ومع هذا لم يتفطّنوا بما
فيه من الإفساد عليهم ، وأمثال هذه الأشياء كثيرة .
__________________
وكفى ما نقلناه هاهنا من هذا النوع من
التشابه ، فلنرجع حينئذٍ إلى بيان نبذٍ من التشابه في المذاهب .
قال الشهرستاني وغيره : إنّ اليهود
أنكروا البداء على اللّه ، وإنّ أكثرهم قالوا بالتشبيه والرؤية ؛ حيث وجدوا
التوراة مشتملة على كثير من المتشابهات ، مثل : الصورة ، والمشافهة ، والتكلّم ،
والنزول على طور سيناء ، والاستواء على العرش ، وغير ذلك ، حتّى قالوا : له صورة
آدم ، وله شعر قطط ، وبكى على طوفان نوح عليهالسلام ،
وإنّه ضحك ، وأمثال ذلك.
قال الشهرستاني : وأمّا القول في القدر
، فهم مختلفون فيه أيضاً ، فمنهم كالمعتزلة ، ومنهم كالجبريّة . . .
قال : وكذا أكثرهم أنكروا الرجعة
وأحالوها ، وفيهم القول بها ؛ استناداً إلى قصّة عزير ؛ إذ أماته اللّه مائة عام
، ثمّ بعثه.
وقال أيضاً : إنّ اليهود انشعبت إلى
إحدى وسبعين فرقة ، وكبارهم أربعة ، وذكر تفاصيل أكثرها .
ثمّ قال : وإنّهم بأسرهم أجمعوا على أنّ
في التوراة بشارةً بواحدٍ بعد موسى عليهالسلام ،
وافترقوا في تعيين ذلك الواحد ، وفي الزيادة على الواحد .
قال : وذكر المسيح وآثاره ظاهرة في
الأسفار ، وخروج واحد في آخر الزمان هو الكوكب المضيء الذي تشرق الأرض بنوره أيضاً
متّفق عليه ، وهم على انتظاره.
ثمّ إنّه ذكر في فِرَق اليهود فرقة صرّح
غيره بأنّهم من أتباع بعض ولد
__________________
هارون ، وعدّهم هو من
أتباع رجل يسمّى يوذعان ، أو يهوذا ، ولا ينافي أيضاً كونه من ولد هارون .
وبالجملة
: ذكر هو مع غيره ـ لاسيّما رجل أسلم من
اليهود وكتب في ذلك كتاباً ـ : أنّ تلك الفرقة من أتباع رجل كان يحثّ على الزهد
وتكثير الصلاة ، وينهى عن اللحوم والأنبذة ، وكان يزعم أنّ للتوراة ظاهراً وباطناً
وتنزيلاً وتأويلاً ، وخالف بتأويلاته عامّة اليهود ، وخالفهم في التشبيه والرؤية
والجبر ، وأثبت الفعل حقيقةً للعبد ، وقدّر الثواب والعقاب عليه ، وقال : إنّ
الشريعة لا تكون إلاّ واحدة ، وإنّه تعالى لا يوصف بأوصاف البشر ، ولا يشبه شيئاً
من المخلوقات ، ولا يشبهه شيء منها،
وأمثال ذلك حتّى القول بالبداء والنسخ في بعض الأحكام .
أقول
: سيأتي في بيان المذاهب ـ ومن الواضحات
أيضاً ـ أنّ ما سوى مذهب الهاروني والقول بالرجعة بعينه مذاهب المخالفين ، كما أنّ
قول الهاروني والرجعة عين مذهب الإماميّة ، ولا يبعد كون الهاروني أيضاً هو القائل
بالرجعة ، بل هو الظاهر ، وكذا الإماميّة هم أشباه من عين المبشّر بعد موسى بأنّه
عيسى بن مريم عليهالسلام ،
ومحمّد صلىاللهعليهوآله بعد
عيسى ؛ لتعيينهم المهدي المبشّر في هذه الاُمّة بأنّه الحجة بن الحسن عليهالسلام ، فتأمّل ولا تغفل عن
مشابهة إنكار الرجعة في هذه الاُمّة بإنكار الكفّار الحشر يوم القيامة ، فافهم .
ثمّ إنّ الرجل الذي أسلم وألّف كتاباً
في ذلك قال : إنّ بعد مضيّ مدّةٍ تسلّط على بني إسرائيل جماعة من الملوك الكفرة
وعبدة الأصنام ، وقتلوا
__________________
الأنبياء منهم
وأتباعهم ، وبالغوا في تطلّبهم ليقتلوهم ، وبنوا لأصنامهم بيعاً عظيمة ، وقرّروا
آداباً ورسوماً لعبادتها ، ودعوا الناس إلى ذلك حتّى عكف على عبادتها الملوك ومعظم
بني إسرائيل ، لاسيّما في زمان ملكٍ كان يقال له : ياربعام بن نواط ، فإنّه الذي
خرج على ولد سليمان بن داود عليهماالسلام ،
وانضمّ إليه تسعة أسباطونصف
من بني إسرائيل ، وتركوا أحكام التوراة وشرعها مدة طويلة بعد أن صارت مقاتلة عظيمة
بينهم وبين بقيّة بني إسرائيل المؤمنين الذين كانوا مع ولد سليمان في بيت المقدس ؛
بحيث قتل خمسمائة ألف رجل ، وتفرّق اليهود في البلدان ، وغلب عليهم الفرس واليونان
، بحيث منعوهم عن الصلاة زعماً منهم أنّهم يدعون عليهم في صلاتهم ، فاخترع اليهود
أدعية مشتملة على بعض فصول صلواتهم ، وشرعوا يقرأونها مجتمعين في أوقات صلواتهم
بألحان عديدة وأنواع من التغنّي والنوح ، فكان الفرس إذا أنكروا عليهم ذلك قالوا
لهم : إنّهم يغنّون أحياناً وينوحون على أنفسهم أحياناً ، فيكفّوا عنهم ، إلى أن
صار ذلك الغناء مباحاً عندهم ، بل صار من السنن المستحبّة في الأعياد ومواضع
أفراحهم يجعلونها ـ أي الدعوات ـ عوضاً عن الصلاة ، واستغنوا بها عنها من غير
ضرورة داعية إلى ذلك.
انتهى خلاصة كلامه .
ولا يخفى أنّ هذا المخترَع الصادر من
اليهود هو عين ما اتّخذه تعبّداً أكثرُ فِرَق الصوفية ، الذين اشتهروا من زمن بني
اُميّة وبني العباس ، الذين
__________________
هم نظراء هؤلاء
الكفرة من الملوك في قتل أهل البيت عليهمالسلام وقمع
أتباعهم وشتات شيعتهم ، وعبادة الشيطان بعداوة خلفاء الرحمن ، وترك العمل بالقرآن
وأشباه ذلك ، لاسيّما يزيد بن معاوية الذي فعل بآل الرسول صلىاللهعليهوآله وأهل
المدينة ما لم يفعله أحد بالكفّار .
ومن العجائب أنّ اشتهار هذه البدعة صار
بحيث تشبّه بهذه الجماعة ـ بل بتعبّد طوائف النصارى أيضاً ـ خطباء المخالفين في
الجمعات والأعياد ، حتّى أنّهم بَنوا لهم ولِمؤذّنيهم محافل في مساجدهم يتغنّون
فيها وعلى المنابر بالقرآن والخطب والأذكار ، مع أنّهم يدرون أنّ ذلك لم يكن في
زمن النبيّ صلىاللهعليهوآله ولا
الصحابة ، بل إنّه من البدع المأخوذة من الكفّار ، فافهم .
ثمّ قال الشهرستاني في بيان مذاهب
النصارى ـ بعد ما بيّن أنّهم اُمّة عيسى عليهالسلام ،
وأنّه بعد ما رفع إلى السماء اختلف الحواريّون وغيرهم إلى أن انتهى اختلافهم إلى
اثنتين وسبعين فرقة ، حيث شوّشوا أمر وصيّه شمعون الصفا كما مرّ آنفاً ـ : إنّ
كبار فِرَقهم ثلاثة : الملكانية ، والنسطورية ، واليعقوبية ، وإنّهم بين قائل بأنّ
الكلمة اتّحدت بجسد المسيح عليهالسلام وتدرّعت
بناسوته ، وقائل بأنّها مازجت جسد المسيح كما يمازج الماء اللبن ، وقائل بالإشراق
كإشراق النور على الجسم ، وقائل بالانطباع كانطباع النقش في الشمعة ، حتّى قال
بعضهم بأنّ المسيح قديم أزلي.
وصرّح جمع : بأنّ الكلمة انقلبت لحماً
ودماً ، فصار الإله هو المسيح وهو الظاهر بجسده ، وهو هو كما أخبر اللّه عنهم
بقوله : (
قَالُوا
إِنَّ اللَّهَ هُوَ
__________________
الْمَسِيحُ
ابْنُ مَرْيَمَ ).
قال : وإنّهم يعنون بالكلمة : اُقنومالعلم ؛ لأنّهم أثبتوا للّه تعالى
أقانيم ثلاثة ، ويعنون بالأقانيم : الصفات كالوجود والحياة والأب والابن ، وروح
القدس ، ويقولون : إنّه سبحانه واحد بالجوهرية ، ثلاثة بالاُقنومية ، يعني تلك
الصفات المذكورة ، وقالوا : إنّ العلم تدرع وتجسد دون سائر الصفات .
قال : وسبب هذه كلّها أنّهم رأوا في
الإنجيل إطلاق الابن على المسيح ، والأب على اللّه ، فزعموا أنّ ذلك على الحقيقة
ولم يعلموا أنّ ذلك من باب المجاز في اللغة ، كما يقال لطالب الدنيا : ابن الدنيا
، ولطالب الآخرة : ابن الآخرة ، وكما يقال : الأب على المربّي ، والكامل ،
والمعلّم ونحوهم ؛ ولهذا ورد في الإنجيل : أبوكم أيضاً .
ثمّ قال : وفي النصارى من قال بحشر
الأرواح دون الأجساد ، وقال : إنّ عاقبة الأشرار في القيامة غمّ وحزن الجهل ،
وعاقبة الأخيار سرور وفرح العلم ، وأنكر أنْ يكون في الجنّة نكاح وأكل وشرب.
أقول
: لا يخفى على من له اطّلاع بمذاهب
الصوفيّة والغُلاة أنّها موافقة لهذه المذاهب ، بل أخذوها من هؤلاء .
ثمّ قال الشهرستاني عند نقل مذهب
النسطورية : إنّ نسطور الحكيم تصرّف في الأناجيل بحكم رأيه ، وإضافته إلى النصارى
إضافة المعتزلة إلى
__________________
هذه الشريعة ، وذكر
أنّه قال بأنّ الأقانيم ليست زائدة على الذات، ولا هي هو .
ثمّ قال : وأشبه المذاهب بمذهب نسطور في
الصفات أحوال أبي هاشممن
المعتزلة ، وذكر وجهه بما لا نطيل الكلام ببيانه .
ثمّ قال : ومن النسطورية قوم قالوا :
إذا اجتهد الرجل في العبادة ، وترك التغذّي باللحم والدسم ، ورفض الشهوات
الحيوانيّة والنفسانيّة يصفو جوهره حتّى يبلغ ملكوت السماوات ، ويرى اللّه جهراً
، وينكشف له ما في الغيب فلا تخفى عليه خافية.
أقول
: لا يخفى أنّ هذا بعينه قول جماعة من
الصوفية وأكثر براهمة الهند وأمثالهم .
قال : ومن النسطورية أيضاً من ينفي
التشبيه ويثبت القول بالقدر كما قالت القدرية ، ثمّ قال : ولهم أقوال اُخَر أيضاً
، وكلّها كفر وضلال.
وذكر جماعة : أنّ في النصارى كان قوم
تبعاً لأوصياء عيسى عليهالسلام ،
ولم يقولوا فيه ، غير أنّه كان عبداً صالحاً للّه تعالى واصطفاه اللّه وجعله
رسولاً إلى بني إسرائيل ، وأوجب عليهم طاعته وطاعة أوصيائه من بعده . ولم يرتضوا
بتلك الأقوال ولم يعبأوا بها.
أقول
: لا يخفى أنّ هذا هو مذهب الإماميّة في
هذه الاُمّة ، كما سيأتي
__________________
في الباب الآتي .
ثمّ ذكر الشهرستاني وغيره في بيان مذاهب
المجوس : أنّهم كانوا يحلّلون نكاح الأخوات والبنات وأمثالها من المحارم.
ولا يخفى أنّ نظير هذا في هذه الاُمّة
ما أفتى به الشافعيمن
تحليل تلك المحارم إذا حصلت من الزنا.
وقالوا أيضاً : إنّ أكثر اليهود
والنصارى يحلّلون الخمر ما لم يسكر.
ومثله قول من قال : بحلّيّة النبيذ ما
لم يصل إلى حدّ الإسكار.
وقالوا أيضاً : إنّ من الفلاسفة
والمحصّلة من العرب والبراهمة
__________________
والصابئةجماعة قالوا بجواز التعبّد بحدود وأحكام
عقلية ، لاسيّما إذا كانت اُصولها وقواعدها أو أشباهها مؤيّد بالوحي، حتّى قال بعضهم : إنّ العقل يدلّ على
أنّ اللّه تعالى عليم حكيم والحكيم لا يتعبّد الخلق بما يقبح في العقول ، فما دلّ
عليه العقل واستحسنه نعتمد عليه ونعمل به وإن لم يرد في الشريعة . . ، وحتّى قال
بعضهم : أن لا حاجة إلى الرسول أيضاً الذي هو بشر مثلنا ؛ لأنّه إن كان يأمرنا بما
هو مقتضى العقول فقد استغنينا عنه بعقولنا ، وكفانا العقل التام بإدراكه فلا حاجة
لنا إليه ، وإن كان يأمرنا بما يخالف ذلك كان قوله دليلاً على كذبه ، ومع هذا قبول
ما ليس بمعقول خروج عن الإنسانية ودخول في البهيمية.
ثمّ ذكر الشهرستاني وغيره : إنّ رسلهم
أجابوا هؤلاء : (
إِن
نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ
مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ )فإذا عرفتم أنّ للعالم صانعاً ، خالقاً
، حكيماً ، فاعترفوا بأنّه آمرٌ ، ناهٍ ، حاكم على خلقه ، وله في جميع ما يأتي
ويرد ويعمل ويتفكّر حكم وأمر ، وليس كلّ عقل إنساني
__________________
على استعداد ما يعقل
عنه أمره ، ولا كلّ نفس بشرية بمثابة من يعقل عنه حكمه ، بل أوجبت منته ترتيباً في
العقول والنفوس ، واقتضت حكمته أن يرفع بعضهم فوق بعض درجات ، (وأن يصطفي منهم
رجالاً يعلم بعلمه الكامل قابليتهم أن يطلعهم على حقائق أمره وحكمه ، فيلقي إليهم
ويعلّمهم جميع ما هو على وفق إرادته ومقتضى حكمته ومصلحته ؛ ليوصلوا ذلك إلى سائر
من ليس كذلك ، فيجمعوهم فيما أراد منهم على كلمة واحدة ، ويكونوا بذلك على يقين من
أمرهم وبصيرة في شأنهم).
أقول
: لا يخفى على كلّ ذي مِسْكة خبير
بالمذاهب أنّ مآل أقوال أصحاب القياس والرأي والاجتهاد من فِرَق المسلمين وأشباههم
ممّن ترك متابعة الأئمّة الصادقين ، وأنكر الأوصياء المنصوبين من قِبَل اللّه
ورسوله بالنص والتعيين إلى ما قال اُولئك الذين ذكرنا أخيراً كلامهم في الدين
ومناقضتهم المرسلين ، فإنّ هؤلاء الجماعة أيضاً قالوا بكفاية دليل العقل في
استنباط أحكام الشرع من غير حاجة إلى إمام منصوب من طرف اللّه ، وجواب الأئمّة
لهم أيضاً مثل جواب المرسلين ، كما سيتّضح جميع ذلك في الباب الآتي حقّ الاتّضاح .
حتّى إنّ من شواهد موافقة حال هؤلاء
الأئمّة الأوصياء مع الأنبياء فيما ذكروا من الجواب ، وصدق التشابه بينهم من كلّ
باب ، أنّ اللّه عزوجل كما
بعث بعض المرسلين قبل أوان بلوغه ، بل في بدء حال صبوته كعيسى ابن مريم عليهالسلام جعل تعلّق الإمامة
ببعض الأئمّة في هذه الاُمّة في مثل ذلك السن كأبي جعفر الجواد والقائم عليهماالسلام ، بل غيرهما أيضاً ،
كما سيأتي .
__________________
وأنّه كما أبقى بعض المرسلين حيّاً
غائباً كالخضر وعيسى عليهماالسلام مثلاً
، كذلك جعل قائم الأئمّة عليهمالسلام كذلك
.
وكما أنّه بيّن معظم الكرامات والآيات
الدالّة على جلالة شأن من أراد تبيان حاله من النبيّين ، كردّ الشمس ليوشع ، ونزول
المائدة على عيسى بن مريم وأمثال ذلك، بيّن مثلها في أئمّة هذه الاُمّة أيضاً ،
كردّ الشمس لعليّ عليهالسلام ،
ونزول المائدة عليه وعلى فاطمة عليهاالسلام ،
التي أراد اللّه أن يبيّن أنّها نظيرة مريم في هذه الاُمّة .
كما تبيّن أنّ الحميراء كانت نظيرة
صفوراء ، بل سيأتي ما يدلّ على أنّها أيضاً ورفيقتهاكامرأة نوح ولوط من نقل محبّيهما .
وبالجملة
: أمثال هذه الأشياء كثيرة ، ونحن
اكتفينا هاهنا ببيان ما كان واضحاً بحيث لم ينكره المخالفون أيضاً ، وكان وجه
الشبه ظاهراً بيّناً ، وسيأتي في المواضع المناسبة متفرّقاً ، لاسيّما في فصول
فضائل الأئمّة بعضٌ آخَر أيضاً ، ويكفي ما ذكرناه هاهنا في الوصول إلى مرتبة فهم
سائر أنواع الانطباق ، واللّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
__________________
فهرس المحتويات
مقدّمة التحقيق....................................................... ٥
تمهيد............................................................... ٣
فاتحة الكتاب........................................................ ٧
خلاصة الدليل....................................................... ٧
محصّل الدليل....................................................... ١٣
الروايات التي انتظم منها الدليل....................................... ١٤
الاُولى: محاجّة الزنديق مع الإمام الصادق عليهالسلام......................... ١٤
الثانية: مناظرة هشام بن الحكم مع عمرو بن عبيد....................... ١٦
الثالثة: مناظرة الرجل الشامي مع أصحاب الإمام الصادق عليهالسلام.......... ٢٠
الرابعة: حوار منصور بن حازم مع الإمام الصادق عليهالسلام................. ٢٣
الخامسة: ما روي عن الإمام الرضا عليهالسلام في توضيح معنى الإمامة........... ٢٥
السادسة: ما روي عن الإمام الصادق عليهالسلام في بيان مقام الأئمّة عليهمالسلام .... ٣٠
السابعة: ما روي عن الباقرين عليهماالسلام في شأن سورة القدر................ ٣٢
الثامنة: ما روي من أجوبة أمير المؤمنين عليهالسلام للزنديق.................... ٤٠
التاسعة: بعض ما نقل عن أمير المؤمنين عليهالسلام.......................... ٤٣
قوله عليهالسلام : اسألوني قبل أن تفقدوني.................................. ٤٣
بيانه عليهالسلام لافتراق الاُمم السابقة...................................... ٤٤
موعظته للناس في انتخاب من يتولّونه.................................. ٤٤
بيانه عليهالسلام لأصناف حملة الحديث في جوابه لسليم بن قيس............... ٤٩
ذكره عليهالسلام أنّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآله علّمه كلّ ما علّمه اللّه تعالى............... ٥٠
العاشرة:
ما روي من جواب الإمام الصادق عليهالسلام للزنديق................ ٥١
بيانه
عليهالسلام في
وجود حجّة اللّه في كلّ زمان.............................. ٥٢
الحادية عشرة:
رسالة الإمام الصادق عليهالسلام لشيعته...................... ٥٤
ذكر
ما كتبه الإمام الصادق عليهالسلام لسفيان
الثوري....................... ٦٠
الثانية عشرة:
بعض ما روي من توقيعات الإمام الحجّة عليهالسلام.......... ٦٣
الثالثة عشرة:
ما روي من أمر اللّه تعالى أنبياءه بالوصيّة................... ٧٢
الرابعة عشرة:
روايات متفرّقة:........................................ ٨٠
الاُولى:
وفود الجارود على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله مع
قومه...................... ٨٠
الثانية: أمر اللّه تعالى خليله بإسكان إسماعيل مكّة....................... ٨٥
الثالثة: ما جاء في التوراة من البشارة لإبراهيم عليهالسلام...................... ٨٥
الرابعة: ما نقله عبداللّه بن عمر من حكاية المعراج........................ ٨٧
الخامسة: ما نقل عن عمران بن خاقان................................. ٩٢
تفصيل الفهرست................................................... ٩٣
مقدّمة الكتاب.................................................... ١١٣
التبيان: في عدم الخلق عبثاً وضرورة الابتلاء........................... ١١٣
نبذ من الآيات الواردة
في المقام...................................... ١١٤
جملة
من الروايات المؤكّدة لضرورة الامتحان............................ ١١٦
الباب الأوّل
في بيان الامتحان بميل
النفوس إلى ما اعتادت عليه
الفصل الأوّل: في توضيح كون طبيعة البشر مجبولة على حُبّ السلف.... ١٣٩
نبذ
من الآيات القرآنية الواردة في المقام............................... ١٤٢
شمول
حبّ الماضي والسلف العلماء أيضاً............................. ١٤٥
الفصل الثاني: في
بيان الواجب على طالب الحقّ....................... ١٥٥
الواجب
الأوّل: قصر القصد على إصابة الحقّ......................... ١٥٧
الواجب
الثاني: أن يكون بمأمن من ميل النفس إلى الهوى............... ١٥٩
الواجب
الثالث: بذل قصارى الجهد لتحصيل القدرة على تمييز الحقّ...... ١٦٤
الفصل الثالث: في
بيان لزوم الحبّ في اللّه والبغض للّه و................ ١٦٩
بعض
الآيات القرآنية الواردة في المقام................................. ١٦٩
جملة
من الأحاديث الواردة في المقام.................................. ١٧٢
علائم
صفاء النفس :
الأُولى:
حبّ أصفياء اللّه وأوليائه سبحانه............................. ١٧٦
الثانية:
اتّباع أوامر اللّه تعالى ورسوله صلىاللهعليهوآله............................ ١٧٧
الثالثة:
بغض أعداء اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله............................... ١٧٧
كلام
للقاضي عياض في بيان علامات محبّة النبيّ صلىاللهعليهوآله:................ ١٧٨
الاُولى:
الاقتداء به واستعمال سنّته صلىاللهعليهوآله ........................ ١٧٨
الثانية:
الاكثار من ذكره صلىاللهعليهوآله..................................... ١٨٠
الثالثة:
بغض من أبغض اللّه ورسوله.................................. ١٨٢
الرابعة:
الشفقة على اُمّة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله....................... ١٨٣
الباب الثاني
في بيان الامتحان بميل
النفوس إلى الهوى وذكر النهي عنه
الفصل الأوّل: في
بيان شيوع حبّ الدنيا وابتلاء الأغلب به............. ١٩١
نبذ
من الآيات الواردة في هذا المقام.................................. ١٩٥
بعض
الأخبار الدالّ على اختلاف الناس عن أهل البيت عليهمالسلام....... ٢٠٥
الفصل الثاني: في
توضيح شيوع حبّ الدنيا وشموله حتّى الصحابة........ ٢٠٩
المطلب الأوّل:
نبذ من النصوص القرآنية الدالّة على المقصود........... ٢٠٩
المطلب الثاني:
نبذ من أخبار العامّة الدالّة على المقصود................ ٢٢٣
حاصل
الأخبار والمستفاد منها....................................... ٢٣٤
دلالة
الأخبار على بطلان خلافة عامّة الخلفاء......................... ٢٣٨
خبر
حذيفة اليمان وتوضيح المراد منه................................. ٢٤١
المطلب الثالث:
في بيان ما نقله العامة من الأقوال والأفعال الصادرة من أعيان
علمائهم
وأكابرهم................................................. ٢٤٥
المقام الأوّل:
في بيان نبذ ممّا نقل القوم من أحوال ما عدا الصحابة....... ٢٤٦
المقام الثاني:
في بيان نبذ ممّا نقل القوم من أطوار أهل عصر النبيّ صلىاللهعليهوآله
.. ٢٦٠
حصيلة
الأخبار................................................... ٢٩٣
الفصل الثالث: في
النهي عن موارد الابتلاء والامتحان.................. ٢٩٧
بعض
الآيات الواردة في المقام........................................ ٣٠٠
بعض
وصايا النبيّ صلىاللهعليهوآله لعليّ
عليهالسلام........................... ٣٠١
وصيّة
رسول اللّه صلىاللهعليهوآله لأبي
ذرّ...................................... ٣٠٤
وصيّة
رسول اللّه صلىاللهعليهوآله لعبداللّه
بن مسعود............................ ٣١٠
الباب الثالث:
في بيان الامتحان
بإمهال الظالمين في الدنيا وابتلاء المؤمنين
الفصل الأوّل: في
بيان الحكمة من إمهال الظالمين...................... ٣١٧
بعض
الآيات الشريفة الواردة في المقام................................ ٣١٨
بعض
الأخبار الواردة في الباب...................................... ٣٢٢
الفصل الثاني: في
بيان اقتضاء حكمة اللّه ابتلاء المؤمنين في الدنيا........ ٣٣٩
نبذ
من الآيات الشريفة الواردة في المقام............................... ٣٣٩
نبذ
من الأخبار والأحاديث الواردة من الفريقين........................ ٣٤٢
الفصل الثالث: في
بيان قلّة أهل الحقّ وكثرة أهل الباطل والجهالة......... ٣٥١
نبذة
من الآيات الواردة في المقام..................................... ٣٥٢
بعض
الشواهد الموضّحة للمقصود................................... ٣٥٨
بعض
الأحاديث الواردة في بيان قلّة أهل الحقّ......................... ٣٦٠
بيان
الإمام الصادق عليهالسلام لأصناف
الناس............................ ٣٦٥
الفصل الرابع: في
بيان أمر اللّه تعالى أولياءه وأتباعهم بالصبر............ ٣٦٩
جملة
من الآيات الواردة في المقام..................................... ٣٦٩
بعض
ما ورد من الحديث........................................... ٣٧٢
بعض
ما ورد عن أهل البيت عليهمالسلام في
لزوم الصبر والتقية والمداراة........ ٣٧٦
الفصل الخامس: في
بيان اقتفاء الاُمّة الإسلامية لسائر الاُمم السالفة حذو
النعل بالنعل........................................................ ٣٨٧
نبذ
من الآيات الواردة في المقام...................................... ٣٨٨
دلالة
الروايات على كيفيّة اقتفاء هذه الاُمّة للاُمم السالفة............... ٣٩١
بيان
كون عليّ عليهالسلام في
هذه الاُمّة نظير هارون في بني إسرائيل.......... ٣٩٨
بيان
وجه الشبه بين مخالفي علي عليهالسلام ومخالفي
هارون.................. ٤٠٣
بيان
بعض ما وقع في بني إسرائيل ونظيره في الإسلام................... ٤٠٤
وجه
الشبه كما حدث للتوراة مع القرآن............................... ٤٠٧
تشابه
بعض عقائد اليهود مع بعض فِرَق المسلمين..................... ٤١٥
ذكر
تشابه الصوفية مع بعض فِرَق اليهود............................. ٤١٧
وجه
الشبه بين بعض فِرَق المسلمين والنصارى......................... ٤١٨
فهرس المحتويات.................................................... ٤٢٥
|