وَلاية العهد

للرضا عليه‌السلام



حمل الإمام إلى خراسان :

قالوا : كان أبو الفضل بن سهل قد أسلم على يد محمّد المهدي العباسي ، وله ابنان الفضل والحسن ، وكان هارون الرشيد قد أوكل حضانة ابنه عبد الله المأمون إلى وزيره يحيى البرمكي ، فاختار البرمكي الفضل بن سهل وضمّه إلى المأمون لخدمته (١).

فلمّا جهّز الأمين قائده علي بن ماهان بأربعين إلى خمسين ألفاً لخلع المأمون جهّز الفضلُ طاهرَ بن الحسين بأربعة آلاف! لقتاله فقتله وفرّق جمعه! ثمّ أرسله إلى بغداد لخلع الأمين ، وأردفه بهرثمة بن أعين ، فقاتلا قوات الأمين حتّى قُتل. ثمّ أرسل الفضل أخاه الحسن بن سهل لولاية العراق فجهّز هرثمة بن أعيَن لقتال أبي السرايا فقاتله حتّى تغلّب عليه وأسقط حكمه. ثمّ أرسل الحسن بن سهل عيسى بن يزيد الجلودي لإزالة الدويلات الطالبية العلوية

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦٥ عن أخبار خراسان للحسين بن أحمد السلامي.


في الحرمين مكة والمدينة وسائر المدن فأزالها وجاء ببقاياهم إلى الحسن بن سهل في بغداد فأرسلهم إلى المأمون في مرو خراسان ، فكان المأمون يرى كل ذلك من فعل الفضل.

فنقل الصدوق هنا عن السلامي في «أخبار خراسان» : أنّ الفضل قال يوماً لرجل ممّن يعاشره : أين يقع فعلي من فعال أبي مسلم الخراساني فيما أتاه؟ فقال الرجل : إنّ أبا مسلم حوّلها من قبيلة إلى قبيلة ، وأنت حوّلتها من أخ إلى أخ! وبين الحالتين ما تعلمه! فقال الفضل : فإنّي ساحوّلها من قبيلة إلى قبيلة (١)!

ثمّ أشار على المأمون أن يتقرّب إلى الله عزوجل وإلى رسوله بصلة رحمه بالعهد إلى علي بن موسى عليه‌السلام ليمحو ما كان من أمر الرشيد فيهم (٢) فقبل المأمون بذلك.

فأخذ يكاتب الرضا عليه‌السلام يستقدمه إليه إلى خراسان ، والرضا عليه‌السلام يعتلّ عليه فما زال المأمون يكاتبه ويسأله ذلك حتّى علم الرضا أنّه لا يكفّ عنه (٣) فوافق مكرهاً.

فوجّه المأمون بخادمه ياسر ووجّه الفضلُ معه ابنَ عمهّ رجاءَ بن أبي الضحاك الخراساني ، ليُشخصا إليه الرضا عليه‌السلام وذلك في سنة مئتين (٤). ومعهم أبوالصلت عبد السلام بن صالح الهروي (٥).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦٥.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٤٢.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٤٩.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦٠ وهنا عطف عليه عمّه محمّد بن جعفر ، مما لم يذكر في أي مصدر آخر ، بل كان ذلك قبل هذا.

(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٣٤.


من المدينة إلى مرو مكرهاً :

مرّ الخبر عن الطبري أنّ محمّد بن جعفر الطالبي العلوي استسلم لأمان المأمون في العشرين من ذي الحجة عام (٢٠٠ ه‍) ، ويظهر من خبر الإربليّ عن الحميري أنّ الرضا عليه‌السلام كان قد حجّ تلك السنة مستصحباً معه ابنه الجواد عليه‌السلام ، وطاف طواف الوداع ثمّ صلّى عند المقام ، وطاف موفّق خادم الرضا عليه‌السلام بالجواد على عنقه ثمّ صار إلى حِجر إسماعيل فجلس فيه وأبى أن يقوم ، فجاء موفق إلى أبي الحسن وقال له : جعلت فداك ، إنّ أبا جعفر قد جلس في الحِجر ويأبى أن يقوم ، فجاءه أبوه الإمام وقال له : قُم يا حبيبي! قال : ما أُريد أن أبرح من مكاني هذا! قال : بلى يا حبيبي قُم! فقال : كيف أقوم وقد ودّعتَ البيت وداعاً لا ترجع إليه (١)!

ثمّ لمّا وصل الوفد المأموني إلى المدينة لحمل الرضا عليه‌السلام إلى خراسان ، دخل المسجد النبوي ليودّع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فودّعه مراراً ، كل ذلك يرجع إلى القبر ويعلو صوته بالبكاء والنحيب. وكان مخوّل السجستاني من شيعته حاضراً قال : فتقدمت إليه وسلّمت عليه فردّ عليَّ السلام وقال لي : زُرني فإنّني أخرج من جوار جدي فأموت في غربة وادفن إلى جنب هارون (٢).

ثمّ جمع عياله وفرّق فيهم اثني عشر ديناراً وقال لهم : أما إني لا أرجع إلى عيالي أبداً ، وأذن لهم أن يبكوا عليه حتّى يسمعهم (٣) تأكيداً على كراهيته وإكراهه.

__________________

(١) كشف الغمة ٣ : ٥١٤ عن دلائل الحميري.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢١٧ ، الحديث ٢٦.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢١٧ ، الحديث ٢٨.


ثمّ حُمل على طريق البصرة إلى الأهواز إلى فارس إلى مرو (١) مع رجاء بن أبي الضحاك الخراساني ابن عم الفضل بن سهل ، وتأكّد إكراهه للإمام لشيعته حتّى أنّ أحدهم خرج معه يستأذنه أن يقتل حامله ابن أبي ضحاك! فقال له الإمام : أتريد أن تقتل نفساً مؤمنة بنفس كافرة (٢)! يعني أنّ حامله كافر فإذا قتله يُقتل به وهو مؤمن.

ونقل الحلبي عن كتاب «الوسيلة» للموصلي عمر الملّا روى عن ابن علوان قال : رأيت في منامي كأنّ قائلاً يقول : قد جاء رسول الله إلى البصرة! فقلت له : وأين نزل؟ فقيل : في حائط بني فلان (وفي خبر : في النباج منزل الحاج) قال : فجئت الحائط فوجدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جالساً ومعه أصحابه وبين يديه أطباق فيها رطب بَرني (٣) فقبض بيده كفّاً من الرطب وأعطاني ، فعددتها فإذا هي ثماني عشرة رطبة. ثمّ انتبهت. فتوضّأت وصلّيت ، وجئت إلى الحائط فعرفت المكان الذي رأيت فيه رسول الله.

وبعد ذلك سمعت الناس يقولون : قد جاء علي بن موسى! فقلت : أين نزل؟ فقيل : في حائط بني فلان ، فذهبت فوجدته في الموضع الذي رأيت فيه النبيّ ، وبين يديه أطباق فيها رطب وناولني ثماني عشرة رطبة! فقلت له : يابن رسول الله زدني! فقال : لو زادك جدّي لزدتك!

وبعد أيام بعث إليّ يطلب مني رداءً كذا طوله وعرضه ، فقلت ليس عندي هذا. فقال : بلى هو في السفط الفلاني بعثت به امرأتك معك! فذكرت ووجدته كما قال (٤).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٤١ و ١٤٩ ، ١٦٥.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٠٥.

(٣) في القاموس : البَرني تمر معروف معرّب أصله : بَرنيك ، أي : الحمل الجيّد!

(٤) مناقب آل أبي طالب : ٣٧١.


ولما وصل إلى الأهواز ، كان أبو هاشم الجعفري في قرية ايذج (ايذه) قال : فلمّا سمعت به سرت إليه وانتسبت له ، وكان في القيظ مريضاً فقال لي : ابغني طبيباً فأتيت بطبيب ، فقال له الرضا عليه‌السلام : ابغ لي قصب السكّر! فقال الطبيب : ما هذا بزمانه! فقال له الرضا عليه‌السلام وأشار إليّ : هذا معك فامضيا إلى شاد روان الماء واعبراه فيرفع لكم جوخانه (محل الشعير / البيدر) فاقصداه فستجدان فيه رجلاً أسود فقولا له : أين منبت قصب السكر. ثمّ قال لي : يا أبا هاشم! دونك القوم.

قال أبو هاشم : فقمت مع الطبيب وإذا الجوخانة والرجل الأسود ، فسألناه فأومأ إلى ورائه فإذا فيه قصب السكر فأخذنا منه حاجتنا ورجعنا إلى الجوخانة فلم نر فيه صاحبه ، فرجعنا إلى الرضا. فحمد الله فقال لي الطبيب : هل عند هذا شيء من أقاليد النبوة! قلت : نعم وقد شهدت بعضها ، وليس بنبيّ. فقال : فهو وصي نبيّ؟ قلت : أمّا هذا فنعم.

وبلغ هذا إلى رجاء ابن أبي الضحاك فقال لأصحابه : لئن أقام هذا بعد هذا لتُمدنّ إليه الرقاب! فارتحل به من الأهواز على فارس (١).

أبو الصلت والمأمون والرضا عليه‌السلام :

فُتحت هراة عام (٣٣ ه‍) (٢) ومن نسل سبيها أبو الصلت عبد السلام بن صالح بن سليمان بن أيوب بن ميسرة الهروي مولى عبد الرحمن بن سمرة القرشي العبشمي. ولد في المدينة وسمع الحديث من أبي معاوية الضرير وجعفر بن سليمان وحماد بن زيد وشريك بن عبد الله العامري وعبّاد بن العوّام وعبد الرزاق بن همّام

__________________

(١) الخرائج والجرائح ٢ : ٦٦١ ، الحديث ٤.

(٢) تاريخ خليفة : ٩٧ ، وتاريخ الطبري ٤ : ٣١٦.


وعبد الله بن إدريس وعبد الوارث بن سعيد ومالك بن أنس الأصبحي ، ورحل للحديث إلى اليمن والبصرة والكوفة ، وبغداد وحدّث بها فروى عنه منها جماعة (١).

وأكثر سماعه بالمدينة من سفيان بن عُيينة إلى ثلاثين سنة! كما حُكي عنه.

ومن حديثه عن أبي معاوية الضرير عن سليمان بن مهران الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «أنا مدينة العلم وعلي بابها» (٢).

وله أحاديث في المثالب نحو ما جاء في أبي موسى الأشعري وما روى في معاوية (٣).

ونقل الخطيب عن البرغاني عن الدار قطني البغدادي عن أبي الصلت قال : كلب للعلوية خير من جميع بني أُمية! فقيل له : فيهم عثمان! قال : نعم فيهم عثمان (٤)! وكذا نقله الذهبي (٥) ونقل عن «تاريخ مرو» لأحمد بن سيّار : أن أبا الصلت قدم مرو غازياً ، فلمّا رآه المأمون وسمع كلامه جعله من خاصته (٦) ثمّ بعثه في وفده إلى المدينة ليَقدِموا بالرضا عليه‌السلام إليه في مرو خراسان.

فلمّا وصلوا إلى نيشابور قصد الرضا عليه‌السلام ناحية منها كانت تُعرف باسم «لاش آباد» في محلة الفرويني ارتضى النزول في دار رجل يدعى حمدان ، ولأنّه ارتضاه الرضا عليه‌السلام من بين الناس سمي «پسنديده» ، وهي كلمة فارسية معناها : مرضي (٧).

__________________

(١) تاريخ بغداد ١١ : ٤٦.

(٢) تاريخ بغداد ١١ : ٤٨ ، وتاريخ دمشق لابن عساكر ٢ : ٤٧٥ ، الحديث ٩٩٤.

(٣) تاريخ بغداد ١١ : ٤٨.

(٤) تاريخ بغداد ١١ : ٥١.

(٥) ثقات الرواة ٢ : ٢٥٦.

(٦) قاموس الرجال ٦ : ١٦٥ برقم ٤٠٩٦.

(٧) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٣٢ الباب ٣٦ ، الحديث ١.


وكأنّه عليه‌السلام ارتضاه لقربه من حمّام هناك دخلها فعُرفت بعدها بحمام الرضا ، وكانت هناك عين ماء تُعرف بعين كهلان وقد قلّ ماؤها فأقام الرضا عليه‌السلام عليها مَن أخرج ماءها حتّى كثر وتوفّر ، واتخذ من هذه العين حوضاً خارج الدرب يُنزل إليه بالدرج ، ودخله الرضا عليه‌السلام واغتسل فيه وصلّى على ظهره ، فأخذ الناس يتناوبون على ذلك الحوض يغتسلون فيه ويصلون على ظهره ويدعون الله لحوائجهم (١).

وكانت نيشابور يومئذٍ حاضرة علمية يحضرها كثير من روّاد علم الحديث ، ومقدّمهم إسحاق بن إبراهيم المعروف براهويه لولادته في طريق مرو! الحنظلي التميمي المروزي النيشابوري ، رحل في طلب علم الحديث وورد بغداد مراراً وعاد إلى خراسان فاستوطن نيشابور فانتشر علمه بها وروى عنه أحمد بن حنبل ومسلم بن الحجاج النيشابوري ومحمّد بن إسماعيل البخاري صاحبا الجامعين الصحيحين (٢).

وعلم علماء الحديث بحلول الرضا عليه‌السلام في مدينتهم ، ثمّ علموا بأنّ الركب المأموني يتهيّؤون للخروج منها إلى المأمون ، فاجتمعوا إليه وفيهم إسحاق بن راهويه وإذا بالرضا عليه‌السلام قد اركب في العمارية على الراحلة فقالوا له : يابن رسول الله! أترحل عنّا ولا تحدّثنا بحديث نستفيده منك؟! فأطلع رأسه وقال :

سمعت أبي موسى بن جعفر يقول : سمعت أبي جعفر بن محمّد يقول : سمعت أبي محمّد بن علي يقول : سمعت أبي علي بن الحسين يقول : سمعت أبي الحسين بن علي يقول : سمعت أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقول : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : سمعت الله عزوجل يقول : «لا إله إلّاالله حصني ، فمن دخل حصني أمِن من عذابي».

__________________

(١) المصدر السابق ٢ : ١٣٦ ، الباب ٣٧.

(٢) تاريخ بغداد ٦ : ٣٤٥ وانظر قاموس الرجال ١ : ٧٤٩ برقم ٧٠٥.


قال إسحاق بن راهويه : ثمّ مرّت الراحلة ، فنادانا : «بشروطها ، وأنا من شروطها ...».

رواه الصدوق فقال : أي إن من شروطها : الإقرار للرضا عليه‌السلام بأنّه إمام من قِبل الله عزوجل على العباد مفترض الطاعة عليهم (١) وكان يحجزه هذا القول عمّا حرّم الله عزوجل (٢).

أما أبو الصلت عبد السلام بن صالح الهروي فسمّى مع إسحاق بن راهويه : أحمد بن الحرث ومحمّد بن رافع ويحيى بن يحيى ثمّ قال : وعدة من أهل العلم قد تعلقوا بلجام بغلته (كذا) في المَربعة (مفترق الطرق) وقالوا له : عليك بحق آبائك الطاهرين حدّثنا بحديث سمعته من أبيك! ثمّ قال : فأخرج رأسه من العمارية! وعليه مِطرف خزّ ذو وجهين .. وفيه : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : سمعت جبرئيل يقول : قال الله جل جلاله : «إنّي أنا الله لا إله إلّاأنا ، فاعبدوني ، من جاء منكم بشهادة أن لا إله إلّاالله بالإخلاص دخل حصني ، ومن دخل حصني أمِن مِن عذابي» (٣) فهو جمع بين البغلة والعمارية ، وهي إنّما تُشد على الراحلة البعير لا البغلة!

وفي خبر آخر عبّر عن العمارية بالهودج ومع ذلك قال : وهو راكب بغلة شهباء! ثمّ قال : وقد خرج علماء نيشابور لاستقباله لما دخلها ، فلمّا سار إلى المَربعة تعلقوا بلجام بغلته وقالوا .. بزيادة : قالوا : يابن رسول الله ، وما إخلاص الشهادة لله؟ قال : طاعة الله ورسوله وولاية أهل بيته (٤)! فجعله في استقبالهم له ،

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٣٥ ، الباب ٣٧ ، ذيل الحديث ٤.

(٢) المصدر ٢ : ١٣٧ ، الباب ٣٩ ، ذيل الحديث ٢.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٣٤ ، الحديث ١.

(٤) أمالي الطوسي : ٥٨٨ ، الحديث ٩ ، المجلس ١٠.


وهو وَهم ناتج عن تصحيف قوله : حين رحل من نيشابور ، إلى : حين دخل في نيشابور! وهما قريبان في الخط القديم بلا إعجام. ولعله من كتاب الليث بن محمّد العنبري الذي نقله عنه الطوسي.

كما يُستبعد جداً دعوى عُبيد الضبّي النيشابوري : أنّه لما قدم الرضا عليه‌السلام إلى نيشابور قام في حوائجه مادام بها ، فلمّا خرج إلى مرو شيّعه إلى مرحلة بعد سَرخْس ، فأخرج الإمام رأسه إليه وقال له : يا أبا عبد الله انصرف راشداً فقد قمت بالواجب! وليس للتشييع غاية! فأقسم عُبيد عليه بحق المصطفى والمرتضى والزهراء أن يحدّثه بحديث فحدّثه بالحديث السابق (١)! إذ لو كان معه عليه‌السلام حين خروجه من نيشابور فقد سمعه ، اللهم إلّاأن يقال باحتمال غيابه عنه حينئذٍ مما يُستبعد جداً ، ويُحمل على الفخر بالتحديث الخاص!

وليس في الخبر بين الله ورسوله سوى جبرئيل ، وزيد في خبر : عن ميكائيل عن إسرافيل عن اللوح عن القلم قال : يقول الله عزوجل : «ولاية علي بن أبي طالب حصني فمن دخل حصني أمِن مِن عذابي» ممّا لم يُعهد مثله في الأحاديث. رواه الصدوق عن علي بن بلال عن الرضا عليه‌السلام (٢) وعلي بن بلال من أصحاب الجواد عليه‌السلام ولا يروي عن الرضا عليه‌السلام إلّابواسطة (٣) فالخبر مرسل.

ثمّ قرية الحمراء وسناباد وطوس :

روى الصدوق بسنده عن أبي الصلت الهروي : أنّ الرضا عليه‌السلام خرج من نيشابور إلى مرو ، فلمّا بلغوا قرية الحمراء (؟) كان قد نفد ماؤهم وزالت الشمس ،

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٣٧ ، الباب ٣٩ ، الحديث ٢.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٣٦ ، الباب ٣٨ ، الحديث ١.

(٣) انظر قاموس الرجال ٧ : ٣٧٨ برقم ٥٠٥٥.


فقيل له : يابن رسول الله ، قد زالت الشمس أفلا نصلّي؟ فنزل وطلب الماء فقيل له : ما معنا ماء. فبحث بيده الأرض فنبع من الماء ما توضّأ به هو ومن معه وصلّوا ، وبقي أثره ، وركبوا حتّى وصلوا إلى قرية سناباد.

وكان فيها جبل استند الرضا عليه‌السلام إليه ودعا له فقال : اللهم انفع به وبارك في ما يُنحت منه وفيما يُجعل فيه! ثمّ أمر أن تنُحت له منه قدور وقال : لا يُطبخ ما آكله إلّافيها. وظهرت بركة دعائه فيه واهتدى الناس إليه.

وكان في سناباد دار حُميد بن قحطبة الطائي القائد العباسي ، وفي قبة فيه دُفن هارون الرشيد ، فدخل الرضا عليه‌السلام إلى تلك القبة وأهوى إلى جانب قبر هارون وخطّ بيده الأرض وقال لمن حضره : «هذه تربتي وفيها ادفن! وسيجعل الله هذا المكان مختلف «شيعتي» وأهل محبّتي ، والله ما يزورني منهم زائر ، ولا يسلّم عليَّ منهم مسلّم ، إلّاأوجب الله له غفرانه ورحمته بشفاعتنا «أهل البيت» ...» ثمّ استقبل القبلة فصلّى ركعات ودعا بدعوات ، فلمّا فرغ سجد سجدة سبّح فيها خمسمئة تسبيحة (١).

ثمّ ركبوا إلى مرو.

ولما أشرف على حيطان طوس أبصر جنازة ، قال موسى بن يسار : كنت مع أبي الحسن عليه‌السلام رأيت سيّدي لما بصر بها ثنى رجله عن فرسه (كذا) ثمّ أقبل نحو الجنازة فرفعها وأقبل عليَّ وقال لي : «يا موسى ، من شيّع جنازة وليّ من أوليائنا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أُمه لا ذنب عليه»!

فلما وُضعت جنازة الرجل على شفير قبره وضع سيّدي يده على صدر الميت ثمّ قال له : يا فلان بن فلان! أبشر بالجنة فلا خوف عليك بعد هذه الساعة!

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٣٦ ـ ١٣٧.


(فلما انصرفنا) قلت له : جعلت فداك! هل تعرف الرجل؟ فوالله إنها بقعة لم تطأها قبل يومك هذا! قال : «يا موسى بن يسار! أما علمت أنا معاشر الأئمة تُعرض علينا أعمال شيعتنا صباحاً ومساءً ، فما كان في أعمالهم من التقصير سألنا الله تعالى الصفح لصاحبه ، وما كان من العلو سألنا الله الشكر لصاحبه» (١)

عباداته من المدينة إلى مرو :

أسند الصدوق عن رجاء بن أبي الضحاك الخراساني ابن عم الفضل بن سهل قال : لما بعثني المأمون لإشخاص الرضا عليه‌السلام أمرني أن أحفظه بنفسي بالليل والنهار حتّى أقدم به عليه ، فكنت معه من المدينة إلى مرو .. فلمّا وردت به على المأمون سألني عن حاله في طريقه ، فأخبرته بما شاهدته منه في ليله ونهاره وظعنه وإقامته.

قال : كانت قراءته في مفروضاته في الأُولى الحمد وإنا أنزلناه ، وفي الثانية الحمد وقل هو الله أحد ، إلّافي صلاة الفجر والظهر والعصر يوم الجمعة فإنه كان يقرأ فيها بالحمد وسورة الجمعة والمنافقين وفي صلاة العشاء في ليلة الجمعة يقرأ في الأُولى الحمد والجمعة وفي الثانية الحمد وسبّح اسم ربك الأعلى. وفي صلاة الفجر يوم الاثنين والخميس في الأُولى الحمد وهل أتى على الإنسان ، وفي الثانية الحمد وهل أتاك حديث الغاشية.

وكان يجهر بالقراءة في المغرب والعشاء وصلاة الليل والشفع والوتر والفجر ، ويُخفت في الظهر والعصر. وكان قنوته في جميع صلواته : «ربّ اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم ، إنك أنت الأعز الأجل الأكرم» وكان في الطريق يصلي

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٧٠.


فرائضه ركعتين ركعتين إلّاالمغرب فإنه كان يصليها ثلاثاً ، ولا يدع نافلتها ؛ ولا يدع صلاة الليل والشفع والوتر وركعتي نافلة الفجر في سفر ولا حضر ، نعم كان لا يصلّي من نوافل النهار في السفر شيئاً ، وكان يقول بعد كل صلاة يقصرها : «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّاالله والله أكبر» ثلاثين مرة ويقول : «هذا تمام الصلاة» وكان يسبّح في الأُخراوين يقول : «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّاالله والله أكبر» ثلاث مرات. وما رأيته صلّى الضحى في سفر ولا حضر ، وكان لا يصوم في السفر شيئاً. وكان إذا أقام في بلدة عشرة أيام أقام صائماً لا يفطر ، فإذا جنّ الليل بدأ بالصلاة قبل الإفطار.

وكان يُكثر بالليل في فراشه من تلاوة القرآن ، فإذا مرّ بآية فيها ذكر جنة أو نار بكى وسأل الله الجنة وتعوّذ به من النار! وكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع صلواته بالليل والنهار. وكان إذا قرأ قل هو الله أحد قال سرّاً : الله أحد ، فإذا فرغ منها قال ثلاثاً : كذلك الله ربنا ، وكان إذا قرأ سورة الجحد قال سرّاً : يا أيها الكافرون ، فإذا فرغ منها قال ثلاثاً : ربي الله وديني الإسلام. وكان إذا قرأ (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) قال عند الفراغ منها : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين ، وكان إذا قرأ لا اقسم بيوم القيامة قال عند الفراغ منها : سبحانك اللهم بلى ، وكان إذا فرغ من الفاتحة قال : الحمد لله رب العالمين ، وإذا قرأ سبّح اسم ربك الأعلى قال سرّاً : سبحان ربي الأعلى ، وإذا قرأ يا أيها الذين آمنوا قال سراً : لبيك اللهم لبيك.

لا ينزل بلداً إلّاقصده الناس يستفتونه في معالم دينهم ، فيجيبهم ويحدثهم الكثير عن أبيه عن آبائه عن علي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وكان إذا أصبح صلّى الغداة (الفجر) فإذا سلّم جلس في مصلّاه يسبّح الله ويحمده ويكبّره ويهلّله ويصلّي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى تطلع الشمس ، ثمّ يسجد سجدة يبقى فيها حتّى يتعالى النهار ، ثمّ يقبل على الناس يحدثهم ويعظهم إلى قرب الزوال.


ثمّ يجدّد وضوءه ويعود إلى مصلاه ، فإذا زالت الشمس قام فصلّى ستّ ركعات يقرأ في الركعة الأُولى الحمد وقل يا أيها الكافرون وفي الثانية الحمد وقل هو الله أحد. ويقرأ في الأربع (البواقي) في كل ركعة الحمد وقل هو الله أحد ، ويقنت في الثانية بعد القراءة وقبل الركوع ، ثمّ يؤذّن فيصلي ركعتين (تمام ثمان ركعات نوافل الظهر في الإقامة) ثمّ يقيم فيصلي الظهر ، فإذا سلّم سبّح الله وحمده وكبّره وهلّله ما شاء الله ، ثمّ سجد سجدة الشكر يقول فيها مئة مرة : شكراً لله.

فإذا رفع رأسه قام فصلّى ست ركعات (من نوافل العصر) يقرأ في كل ركعة الحمد وقل هو الله ويسلّم في كل ركعتين ، ثمّ يؤذّن ثمّ يصلي ركعتين (تمام ثمان ركعات) فإذا سلّم أقام وصلّى العصر ، فإذا سلّم جلس في مصلّاه يسبّح الله ويحمده ويكبّره ويهلّله ما شاء الله ، ثمّ يسجد سجدة يقول فيها مئة مرة : حمداً لله.

فإذا غابت الشمس توضأ وصلّى المغرب ثلاثاً بأذان وإقامة وقنت في الثانية بعد القراءة وقبل الركوع ، فإذا سلم جلس في مصلاه يسبح الله ويحمده ويكبّره ويهلّله ما شاء الله ، ثمّ يسجد سجدة الشكر ، ثمّ يرفع رأسه ويقوم ويصلّي أربع ركعات (نوافل المغرب) بتسليمتين ويقنت في الثانية بعد القراءة وقبل الركوع ، ثمّ يجلس بعد التسليم في التعقيب ما شاء الله ثمّ يُفطر (إذا كان صائماً في الإقامة).

ثمّ يلبث حتّى يمضي من الليل قريب من الثلث فيقوم فيصلّي العشاء الآخرة أربع ركعات (في الإقامة) ويقنت في الثانية بعد القراءة وقبل الركوع ، فإذا سلّم جلس في مصلّاه يذكر الله ويسبّحه ويحمده ويكبّره ويهلّله ما شاء الله ، وبعد التعقيب يسجد سجدة الشكر ، ثمّ يأوي إلى فراشه.

فإذا كان الثلث الأخير من الليل قام من فراشه فيستاك ثمّ يتوضأ ثمّ يقوم لصلاة الليل ، فيصلّي ثمان ركعات يسلّم في كل ركعتين بالحمد وقل هو الله أحد ثلاثين مرة! ثمّ يقوم فيصلي الركعتين الباقيتين يقرأ في الأُولى الحمد وسورة


المُلك وفي الثانية الحمد وهل أتى على الإنسان ، ثمّ يقوم فيصلّي ركعتي الشفع يقرأ في كل ركعة الحمد مرة وقل هو الله ثلاث مرات ويقنت في الثانية بعد القراءة وقبل الركوع ، فإذا سلم قام فصلّى ركعة الوتر يقرأ فيها الحمد مرّة وقل هو الله أحد ثلاث مرات وقل أعوذ برب الفلق مرة وقل أعوذ برب الناس مرة ويقنت فيها بعد القراءة وقبل الركوع يقول فيه : «اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد ، اللهم اهدنا في من هديت ، وعافنا في من عافيت ، وتولنا في من توليت ، وبارك لنا في ما أعطيت ، وقنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، إنّه لا يذلّ من واليت ولا يعزّ من عاديت تباركت ربنا وتعاليت» ثمّ يقول سبعين مرّة : أستغفر الله وأسأله التوبة. فإذا سلم جلس في التعقيب ما شاء الله.

فإذا قرب الفجر قام فصلّى ركعتي (نافلة) الفجر يقرأ في الأُولى الحمد وقل يا أيها الكافرون ، وفي الثانية الحمد وقل هو الله أحد ، فإذا طلع الفجر أذّن وأقام وصلّى الغداة (الفجر) فإذا سلم جلس في التعقيب حتّى تطلع الشمس ، ثمّ يسجد سجدتي الشكر حتّى يتعالى النهار.

فلمّا أخبرت المأمون بما شاهدته منه في ليله ونهاره وظعنه وإقامته قال لي : يابن أبي الضحاك! هذا خير أهل الأرض وأعبدهم وأعلمهم ، فلا تخبر أحداً بما شاهدته منه لا يظهر فضله إلّاعلى لساني ؛ وبالله أستعين على ما أقوى من الرفع منه والإشادة به (١)!

بداية محاولة المأمون :

يظهر من خبر رواه الصدوق : أنّ من العلويين الحاضرين مع الرضا عليه‌السلام بمرو محمّد بن يحيى بن عمر الأطرف بن علي عليه‌السلام ، قال : لما أراد المأمون

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٨٠ ـ ١٨٣ ، الحديث ٥ بتصرف يسير.


أن يستعمل الرضا عليه‌السلام جمع بني هاشم (العباسيين) فقال لهم : إني أُريد أن استعمل أبا الحسن علي بن موسى لهذا الأمر بعدي!

فقالوا : أتولّي رجلاً ليس له بصر بتدبير الخلافة! فابعث إليه يأتنا فترى من جهله ما تستدل به عليه! فبعث إليه فأتاه.

فقال له بنو هاشم (العباسيون) : يا أبا الحسن ، اصعد المنبر وانصب لنا علماً نعبد الله عليه.

فصعد المنبر وقعد عليه مطرقاً لا يتكلم مليّاً! ثمّ انتفض انتفاضة واستوى قائماً ، وحمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيّه وأهل بيته ثمّ قال : أول عبادة الله معرفته ... (١).

وهكذا ينبتر الخبر بلا ذكر لردّ فعل هؤلاء العباسيين بعد سماعهم لكلام الإمام عليه‌السلام.

وكان أبو علي الريّان بن الصلت الأشعري القمي (٢) قد استعمله وزير المأمون : الفضل بن سهل بعثه إلى بعض كور خراسان (٣) فروى الصدوق عنه : أن الرضا عليه‌السلام قبل أن يُحمل إلى المأمون كان من أخصّ الناس عنده هشام بن إبراهيم الراشدي الهمداني ، وكان عالماً أديباً لبيباً ، فكانت أُمور الرضا تجري على يده ومن عنده ، وتصير الأموال من النواحي كلّها إليه! فلمّا حُمل أبو الحسن إلى المأمون ، تقرّب هشام الراشدي إلى الفضل ذي الرياستين ، فقرّبه الفضل وأدناه ،

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٤٩ ، ١٥٣ ، وذكرها في التوحيد : ٣٤ ، ٤١.

(٢) رجال النجاشي : ١٦٥ برقم ٤٣٧ وابناه محمّد وعلي من رواة الهادي عليه‌السلام ، جامع الرواة ١ : ٨٥.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٥٤٧ ، الحديث ١٠٣٦.


وجعله يحمل أخبار الرضا إليه وإلى المأمون فلا يُخفى عليهما من أخباره شيئاً ، فحظي بذلك عند المأمون حتّى ولّاه حِجابة الرضا! فكان لا يصل إلى الرضا إلّا من أحبّ ، وكان من يقصده من مواليه لا يصل إليه! وكان لا يتكلم الرضا في داره بشيء إلّاأورده هشام على المأمون وذي الرياستين ؛ وحتّى جعله المأمون مؤدِّباً لابنه العباس ، ولذلك سُمي : هشام العباسي.

قال : وكان منزل أبي الحسن الرضا بجنب منزل المأمون ، وكان المأمون يأتي الرضا يوماً والرضا يأتي المأمون يوماً (١).

وروى الصدوق بسنده عن إبراهيم بن هاشم القمي قال : كان الريّان بن الصلت القمي من رجال الحسن بن سهل (أخ الفضل) قال : لما انقضى أمر المخلوع واستوى أمر المأمون .. حمل الرضا عليه‌السلام إليه على طريق البصرة والأهواز وفارس حتّى وافى مرو.

فلمّا وافى مرو عرض عليه المأمون أن يتقلد الإمرة والخلافة! فأبى الرضا عليه‌السلام ذلك ، وجرت في هذا مخاطبات كثيرة ، بقوا في ذلك نحواً من شهرين (ظ رجب وشعبان) كل ذلك يأبى أبو الحسن الرضا عليه‌السلام أن يقبل ما يعرض عليه.

فلمّا كثر الكلام والخطاب في هذا قال المأمون : فولاية العهد. فقال له : على شروط أسألك إياها! فقال المأمون : سل ما شئت.

فكتب الرضا عليه‌السلام : «إني أدخل في ولاية العهد على أن لا آمر ولا أنهى ، ولا أقضي ولا أُفتي ولا أُغيّر شيئاً مما هو قائم ، وتعفيني عن ذلك كلّه ..» فقبلها على كل هذه الشروط وأجابه المأمون إلى ذلك (٢).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥٣ و ١٥٤.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٤٩ ـ ١٥٠.


إعلان ولاية عهد الرضا عليه‌السلام :

جاء في خبر الصدوق عن الريّان بن الصلت : أن المأمون دعا الشاكرية (الجنود) وقوّادهم والقضاة والولاة وولد العباس إلى البيعة بولاية عهده إلى الرضا عليه‌السلام ، فاضطربوا عليه ، فأخرج أموالاً كثيرة وأعطى القواد وأرضاهم ، إلّا ثلاثة نفر من قواده أبوا ذلك : أحدهم : عيسى الجلودي ، وعلي بن أبي عمران ، وأبو يونس (؟) فإنهم أبوا أن يدخلوا في بيعة الرضا ، فحبسهم (١).

تلكم ما رواه الصدوق عن إبراهيم بن هاشم عن الريّان بن الصلت مختصراً ، وروى قبله تفصيله عن أبي الصلت الهروي والذي اختاره المأمون فجعله من خاصته ، وخصّه أن يكون مع الرضا عليه‌السلام من المدينة إلى مرو ، قال : إنّ المأمون قال للرضا :

يابن رسول الله ؛ قد عرفتُ علمك وفضلك ، وزهدك وورعك وعبادتك ، وأراك أحق بالخلافة مني!

فقال الرضا عليه‌السلام : «بالعبودية لله عزوجل أفتخر ، وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شرّ الدنيا ، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم ، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله عزوجل» ثمّ سكت عن أحقّيته بالخلافة ، وإقرار المأمون بها على نفسه! فعاد المأمون إليها وقال :

فإني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك وأُبايعك!

فقال له الرضا : إن كانت هذه الخلافة لك ، والله جعلها لك فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسك الله وتجعله لغيرك! وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩١ ، ٤٩٢.


فقال له المأمون : يابن رسول الله ؛ لابدّ لك من قبول هذا الأمر!

فقال : لست أفعل ذلك طائعاً أبداً! (وانفضّ المجلس على هذا).

قال أبو الصلت : فما زال المأمون يجهد به أياماً (وقد مرّ أنها كانت شهرين) حتّى يئس من قبوله.

فقال له : فإن لم تقبل الخلافة ولم تحبّ مبايعتي لك ، فكن وليّ عهدي لتكون لك الخلافة بعدي.

فقال الرضا عليه‌السلام : والله لقد حدّثني أبي عن آبائه عن أمير المؤمنين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّي أخرج من الدنيا قبلك مقتولاً بالسمّ مظلوماً! وادفن في أرض غربة إلى جنب (أبيك) هارون الرشيد! فتبكي عليَّ ملائكة السماء والأرض!

فبكى المأمون وقال : يابن رسول الله ، ومَن الذي يقتلك أو يقدر على الإساءة إليك وأنا حي؟

فقال الرضا عليه‌السلام : أما إني لو أشاء أن أقول مَن الذي يقتلني لقلت!

فقال المأمون : يابن رسول الله ؛ إنّما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك ودفع هذا الأمر عنك ؛ ليقول الناس إنك زاهد في الدنيا!

فقال الرضا عليه‌السلام : والله ما كذبت منذ خلقني ربّي عزوجل ، وما زهدت في الدنيا للدنيا ، وإني لأَعلم ما تريد!

فقال المأمون : وما اريد؟ قال : الأمان على الصدق؟ قال : لك الأمان! قال : تريد بذلك أن يقول الناس : إنّ علي بن موسى لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه! ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة!

فغضب المأمون ثمّ قال : إنك تتلقاني أبداً بما أكرهه! وقد أمنت سطوتي! فبالله أُقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلّا أجبرتك على ذلك ، فإن فعلت وإلّا ضربت عنقك!


فقال الرضا عليه‌السلام : قد نهاني الله عزوجل أن القي بيدي إلى التهلكة! فإن كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك ، وأنا أقبل ذلك على أن لا اولّي أحداً ولا أعزل أحداً ولا أنقض رسماً ولا سنّة ، وإنّما أكون مشيراً في الأمر من بعيد! فرضي المأمون منه بذلك (١).

وكان ذو الرياستين الفضل بن سهل حاضراً وعمّ الرضا محمّد بن جعفر العلوي غير حاضر ، فخرج الفضل يوماً إليه وإلى أصحابه ، وهو يقول : وا عجباً! لقد رأيت عجباً! سلوني ما رأيت! فقالوا : ما رأيت أصلحك الله؟ قال : رأيت أمير المؤمنين يقول لعلي بن موسى : إني قد رأيت أن أفسخ ما في رقبتي وأجعله في رقبتك وأُقلدك أُمور المسلمين! ورأيت علي بن موسى يقول له : الله الله! لا طاقة لي ولا قوة بذلك (٢)!

المجلس العام لتولية الإمام عليه‌السلام :

قال خليفة : فيها (٢٠١ ه‍) خلع المأمون أخاه القاسم بن هارون وبايع لعليّ بن موسى بالخلافة من بعده (٣) وعقّب اليعقوبي بذكر الشهر واليوم قال : كان ذلك لسبع خلون من شهر رمضان (٤) ولعلّه لتسع.

وفصّل الإصفهاني قال : جلس المأمون في يوم الخميس (غرة رمضان) وخرج الفضل بن سهل فأعلم الناس (الخواص) برأي المأمون في علي بن موسى ،

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٣٩ ـ ١٤٠ ، وفي علل الشرائع ١ : ٢٧٧ ، والأمالي : ١٢٥ ، الحديث ١١٥.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٤١ ، الباب ٤٠ ، الحديث ٦.

(٣) تاريخ خليفة : ٣١٢.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٤٨.


وأنّه ولّاه العهد ، وسمّاه «الرضا» وأمر بلُبس الخضرة ، والعود لبيعته في الخميس الآخر ، على أن يأخذوا رزق سنة!

فلمّا كان ذلك اليوم حضر القضاة والقواد في الخضرة بدل السواد ، وأمر المأمون فوُضع للرضا عليه‌السلام وسادتان عظيمتان إلى مجلسه ، وأحضر الرضا (في الخضار) وعليه عمامة (خضراء) وسيف ووضعت البدر (كل بدرة عشرة آلاف درهم جوائز) (١).

ثمّ صعد المأمون المنبر (فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد وآله) ثمّ قال : أيها الناس ، قد جاءتكم بيعة علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. ثمّ قال : والله لو قرئت هذه الأسماء على الصمّ البكم لبرئوا بإذن الله عزوجل (٢).

وكان للمأمون يومئذ اثنتان وثلاثون سنة وابنه البكر العباس بن عبد الله دون المراهقة ، فولّى عهده يومئذ للرضا عليه‌السلام دون ابنه العباس هذا ، بل أمره أول الناس أن يبايع ، فقام إليه ليبايع فرفع الرضا عليه‌السلام يده وأوقفها ظهرها إليه وبطنها إلى الناس! فقال المأمون له : ابسط يدك للبيعة! فقال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هكذا كان يبايع! فبايعه العباس بن المأمون كذلك.

ثمّ كان يدعو سائر الناس أبو عبّاد ، فنادى عمّ الرضا محمّد بن جعفر بن محمّد العلوي ، فقام حتّى قرب من المأمون (وبايع) ثمّ مضى فأخذ جائزته ورجع إلى مجلسه ، ثمّ جعل أبو عباد يدعو بعلوي وعباسي فيبايعان ثمّ يقبضان جوائزهما ، حتّى نفدت الأموال.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٧٦ بطريقين ، وعنه في الإرشاد ٢ : ٢٦١ بلا إسناد.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٤٧ ، الباب ٤٠ الحديث ١٨ ، والأمالي : ٧٥٨ ، الحديث ١٥ ، م ٩٤.


ثمّ قال المأمون للرضا : قُم فاخطب الناس ، فقام وحمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد وآله ثمّ قال (أيها الناس) : «إنّ لنا حقاً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكم علينا حقّ به ، فإذا أدّيتم إلينا ذلك وجب علينا الحق لكم».

وقام الخطباء والشعراء يذكرون ما كان من المأمون في الرضا ويذكرون فضله (١).

وكان ممن كتب في تاريخ الوزراء والكُتّاب : محمّد بن يحيى الصولي الجليس (٢) الشطرنجي (م ٣٣٦ ه‍) (٣) فروى عنه الصدوق قال : إنّ الخطيب العباس (؟) قام فتكلم فأحسن ثمّ ختم بقوله :

لابد للناس من شمس ومن قمر

فأنت شمس وهذا ذلك القمر

ثمّ أومأ الرضا عليه‌السلام إليهم فأنصتوا ، فقام وقال : الحمد لله الفعال لما يشاء لا معقب لحكمه ولا رادّ لقضائه (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (٤)) وصلّى الله على محمّد في الأولين والآخرين ، وعلى آله الطيبين الطاهرين.

أقول ـ وأنا علي بن موسى بن جعفر ـ إنّ أمير المؤمنين (عضّده الله بالسداد ، ووفّقه للرشاد) عرف من حقنا ما جهله غيره ، فوصل أرحاماً قطعت! وآمن نفوساً فزعت! بل أحياها وقد تلفت! وأغناها إذ افتقرت! مبتغياً رضا ربّ العالمين ، لا يريد جزاءً إلّامن عنده (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (٥)) و (لَايُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٦)).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٧٦ ، وعنه في الإرشاد ٢ : ٢٦١ ـ ٢٦٢ بلا إسناد.

(٢) التنبيه والإشراف : ٣٠٥.

(٣) هدية الأحباب : ٢١٠.

(٤) غافر : ١٩.

(٥) آل عمران : ١٤٤.

(٦) التوبة : ١٢٠ ، ويوسف : ٩٠.


وإنه جعل إليَّ عهده ، والإمرة الكبرى إن بقيتُ بعده! فمن حلّ عقدة أمر الله تعالى بشدها ، وفصم عروة أحبّ الله إيثاقها ؛ فقد أباح حريمه وأحل محرَّمه ، إذ كان بذلك زارياً على الإمام منتهكاً حرمة الإسلام! بذلك جرى السالف منهم فصبر على الفلتات ولم يعترض بعدها على الغرامات ، خوفاً على شتات الدين واضطراب حبل المسلمين ، ولقرب أمر الجاهلية ورصد المنافقين ، فرصة تُنتهز وبادرة تُبتدر! و (وَمَا أَدْري مَا يُفْعَل بِي وَلَا بِكُمْ (١)) ، (إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ يَقُصُّ الْحَقَ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (٢)).

فالخطبة إلى كونها إخطاراً بما يقع أقرب من كونها استبشاراً بما وقع ، واكتفى فيها الإمام من الثناء على الخليفة بأقل دعوة طفيفة ، دفعاً لحاضر الضرر أو مستحضر الشر.

بل نقل المفيد عن المدائني عن رجاله عن بعض من كان يختص بالرضا عليه‌السلام ممّن حضره اليوم قال : كنت في ذلك اليوم بين يديه مستبشراً بما جرى ، ورآني فأومأ إليَّ أن ادنُ مني فدنوت منه فقال لي حيث لا يسمعه غيري : لا تُشغل قلبك بهذا الأمر ولا تستبشر به ؛ فإنه شيء لا يتم (٣).

وكان المأمون قد استوزر أو استكتب ابن عم الصولي : عمرو بن مسعدة فأمره المأمون أن يستكتب من الرضا عليه‌السلام كتاباً في تقريظ المأمون ، قال : فأعلمته ذلك. فأطرق ملياً ثمّ قال : «يا عمرو ، إنّ من أخذه برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لحقيق أن يعطى به» (٤) فلم يكتب له!

__________________

(١) الأحقاف : ٩.

(٢) الأنعام : ٥٧ ، والخبران في العيون : ١٤٦ ، الباب ٤٠ ، الحديث ١٩ و ١٧.

(٣) الإرشاد ٢ : ٢٦٣.

(٤) نثر الدر للآبي ١ : ٣٦١ ، ونحوه في العيون : ١٤٤ ، الباب ٤٠ ، الحديث ١١.


كتاب العهد للرضا عليه‌السلام :

بسم الله الرحمنِ الرحيم ، هذا كتاب كتبه عبد الله بن هارون الرشيد أمير المؤمنين ، لعلي بن موسى بن جعفر وليّ عهده :

أما بعد ، فإنّ الله عزوجل اصطفى الإسلام ديناً واصطفى له من عباده رسلاً ، دالّين عليه وهادين إليه ، يبشّر أولهم بآخرهم ويصدّق تاليهم ماضيهم.

حتّى انتهت نبوة الله إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله على فترة من الرسل ، ودروس من العلم ، وانقطاع من الوحي ، واقتراب من الساعة ، فختم الله به النبيين وجعله شاهداً لهم ومُهيمناً عليهم ، وأنزل عليه كتابه العزيز الذي (لَايَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (١)) بما أحلّ وحرّم ، ووعد وأوعد ، وحذّر وأنذر ، ونهى عنه وأمر ، لتكون له الحجة البالغة على خلقه (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَىَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢)).

فبلّغ عن الله رسالته ، ودعا إلى سبيله بما أمره به من الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن ، ثمّ بالجهاد والغلظة ، حتّى قبضه الله إليه واختار له ما عنده.

فلمّا انقضت النبوة وختم الله بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الوحي والرسالة ، جعل قوام الدين ونظام أمر المسلمين بالخلافة ، وإتمامها وعزّها والقيام بحق الله تعالى فيها ، بالطاعة التي بها يُقام فرائض الله وحدوده ، وشرائع الإسلام وسننه ، ويجاهَد بها عدوّه!

فعلى خلفاء الله طاعته فيما استحفظهم واسترعاهم من دينه وعباده ، وعلى المسلمين طاعة خلفائهم ومعاونتهم على إقامة حق الله وعدله ، وأمن السبيل ،

__________________

(١) فصلت : ٤٢.

(٢) الأنفال : ٤٢.


وحقن الدماء ، وصلاح ذات البين وجمع الأُلفة! وفي خلاف ذلك اضطراب حبل المسلمين واختلالهم ، واختلاف ملتهم وقهر دينهم واستعلاء عدوّهم وتفرّق الكلمة وخسران الدنيا والآخرة!

فحق على من استخلفه الله في أرضه وائتمنه على خلقه : أن يُجهد لله نفسه ، ويؤثر ما فيه رضا الله وطاعته ، ويعتدّ لما الله مواقفه عليه ومسائله عنه! وأن يحكم بالحق ويعمل بالعدل فيما حمّله الله وقلّده ، فإنّ الله عزوجل يقول لنبيّه داود عليه‌السلام : (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (١)) وقال الله عزوجل : (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢)) وبلغنا : أن عمر بن الخطاب قال : لو ضاعت سخلة بشاطئ الفرات لتخوّفت أن يسألني الله عنها!

وأيم الله ؛ إنّ المسؤول عن خاصّة نفسه ، الموقوف على عمله فيما بين الله وبينه ، ليُعرض على أمر كبير وخطر عظيم! فكيف بالمسؤول عن رعاية الأُمة؟! وبالله الثقة وإليه المفزع والرغبة في التوفيق والعصمة والتسديد والهداية إلى ما فيه ثبوت الحجة ، والفوز من الله بالرضوان والرحمة.

وإنّ أَنظر الأُمة لنفسه وأنصحهم لله في دينه وعباده من خلائقه في أرضه : مَن عمل بطاعة الله وكتابه وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله في مدة أيامه وبعدها ، وأجهد رأيه ونظره فيمن يولّيه عهده ويختاره لإمامة المسلمين ورعايتهم بعده ، وينصبه علماً لهم ومفزعاً لجمع الفتهم ولمّ شعثهم وحقن دمائهم ، والأمن بإذن الله من فُرقتهم

__________________

(١) ص : ٢٦.

(٢) الحجر : ٩٢ ـ ٩٣.


وفساد ذات بينهم واختلافهم ، ودفع نزغ الشيطان وكيده عنهم (١) فإنّ الله عزوجل جعل العهد بعد الخلافة من تمام أمر الإسلام وكماله (٢) وعزّه وصلاح أهله. و (قد) ألهم خلفاءه من توكيده لمن يختارونه له من بعدهم ما عظمت به النعمة (٣) وشملت فيه العافية ، ونقض الله بذلك مكر أهل الشقاق والعداوة والسعي في الفرقة والتربّص للفتنة.

ولم يزل أمير المؤمنين منذ أفضت إليه الخلافة فاختبر بشاعة مذاقها! وثقل محملها وشدة مؤونتها! وما يجب على من تقلدها من ارتباط طاعة الله ، ومراقبته فيما حمّله منها ، فأنصب بدنه وأسهر عينه وأطال فكره ، فيما فيه عزّ الدين وقمع المشركين ، وصلاح الأُمة ونشر العدل ، وإقامة الكتاب والسنة ، ومنعه ذلك من الخفض والدّعة ـ ومهنأ العيش! علماً بما الله سائله عنه ، ومحبّة أن يلقى الله مناصحاً له في دينه وعباده ، ومختاراً لولاية عهده ورعاية الأُمة من بعده ـ أفضل من يقدر عليه في دينه وورعه وعلمه ، وأرجاهم للقيام في أمر الله وحقّه. مناجياً الله بالاستخارة في ذلك ومسألته إلهامه ما فيه رضاه وطاعته ، في آناء ليله ونهاره ، مُعملاً في طلبه والتماسه في أهل بيته من ولد عبد الله بن العباس وعلي بن أبي طالب فكره ونظره ، مقتصراً فيمن علم حاله ومذهبه منهم على علمه ، وبالغاً في المسألة عمّن خفى عليه أمره ، جهده وطاقته ، حتّى استقصى أُمورهم معرفة وابتلى أخبارهم مشاهدة ، واستبرأ أحوالهم معاينة ، وكشف ما عندهم مُساءلة.

__________________

(١) كذا يصف المأمون الخلافة والعهد بها لما بعده ، وقد أوهم قبل هذا كأن الله ورسوله أهملا أمرها بعد النبيّ! ومع هذا يُتهم المأمون بالتشيع ، وهذا هو محور التشيع.

(٢) هل يشير بذلك إلى آية إكمال الدين وإتمام النعمة؟!

(٣) وهل يشير بهذا إلى آية إتمام النعمة؟!


فكانت خيرته ـ بعد استخارته لله وإجهاده نفسه في قضاء حقه في بلاده وعباده من البيتين جميعاً ـ علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ؛ لما رأى من فضله البارع وعلمه النافع ، وورعه الظاهر وزهده الخالص وتخلّيه من الدنيا وتسلّمه من الناس! وقد استبان له ما لم تزل الأخبار عليه متواطئة ، والألسن عليه متّفقة ، والكلمة فيه جامعة ، ولِما لم يزل يعرفه به من الفضل يافعاً وناشئاً ، وحدثاً ومكتهلاً ، فعقد له بالعهد والخلافة من بعده ، واثقاً بخيرة الله في ذلك ، إذ علم الله أنّه فعله إيثاراً له وللدين ، ونظراً للإسلام والمسلمين ، و «طلباً للسلامة وثبات الحجة» والنجاة في اليوم الذي يقوم الناس فيه لربّ العالمين.

فدعا أمير المؤمنين ولده وأهل بيته وخاصّته ، وقوّاده وخدمه ، فبايعوا مسرعين مسرورين ، عالمين بإيثار أمير المؤمنين طاعة الله على الهوى في ولده وغيرهم ، ممن هو أشبك منه رحماً وأقرب قرابة.

وسمّاه «الرضا» إذ كان رضاً عند أمير المؤمنين!

فيا معاشر أهل بيت أمير المؤمنين ، ومَن بالمدينة المحروسة من قوّاده وجنده وعامة المسلمين ، بايِعوا لأمير المؤمنين وللرضا علي بن موسى من بعده ، على اسم الله وبركته وحسن قضائه لدينه وعباده ، بيعة مبسوطة لها أيديكم ، منشرحة لها صدوركم ، عالمين بما أراد بها أمير المؤمنين! وآثر طاعة الله والنظر لنفسه ولكم فيها ، شاكرين لله على ما ألهم أمير المؤمنين من قضاء حقه في رعايتكم ، وحرصه على رشدكم وصلاحكم ، راجين عائدة ذلك في : «جمع أُلفتكم وحقن دمائكم ، ولمّ شعثكم ، وسدّ ثغوركم ، وقوة دينكم ، ووقم عدوّكم ، واستقامة أُموركم» وسارعوا إلى طاعة الله وطاعة أمير المؤمنين ، فإنه الأمن إن سارعتم إليه وحمدتم الله عليه وعرفتم الحظّ فيه ، إن شاء الله.


وكتب بيده في يوم الاثنين لسبع خلون من شهر رمضان سنة إحدى ومئتين.

فلمّا قدّمه للرضا عليه‌السلام وقرأه قَلبه فكتب على ظهره :

بسم الله الرحمنِ الرحيم ، الحمد لله الفعّال لما يشاء لا معقّب لحكمه ولا رادّ لقضائه : (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (١)) وصلّى الله على نبيه محمّد خاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين.

أقول ـ وأنا علي بن موسى بن جعفر ـ إنّ أمير المؤمنين (عضّده الله بالسداد ووفّقه للرشاد) عرف من حقنا ما جهله غيره ، فوصل أرحاماً قُطعت ، وأمن نفوساً فزعت ، بل أحياها وقد تلفت ، وأغناها إذ افتقرت ، مبتغياً رضا ربّ العالمين ، لا يريد جزاءً من غيره و (سَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (٢)) و (لَايُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٣)).

وإنّه جعل إليّ عهده ، والإمرة الكبرى إن بقيت بعده ، فمن حلّ عقدة أمر الله بشدها وفصم عروة أحبّ الله إيثاقها فقد أباح حريمه وأحلّ محرّمه! إذ كان بذلك زارياً على الإمام ، منتهكاً حرمة الإسلام. بذلك جرى السالف منهم فصبر على الفلتات ، ولم يعترض بعدها على الغرامات «خوفاً على شتات الدين واضطراب حبل المسلمين» ولقرب أمر الجاهلية ورصد فرصة تُنتهز وبائقة تُبتدر!

وقد جعلت لله على نفسي ـ أن استرعاني أمر المسلمين وقلّدني خلافته ـ العمل فيهم عامة وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة ، بطاعته وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن لا أسفك دماً حراماً ، ولا ابيح فرجاً ولا مالاً ، إلّاما سفكته حدوده وأباحته فرائضه ، وأن أتخيّر الكُفاة جهدي وطاقتي ، وجعلت بذلك على نفسي عهداً مؤكداً يسألني الله عنه ، فإنه عزوجل يقول : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ

__________________

(١) غافر : ١٩.

(٢) آل عمران : ١٤٤.

(٣) يوسف : ٩٠ ، والتوبة : ١٢٠.


كَانَ مَسْئُولاً (١)) فإن أحدثت أو غيّرت أو بدّلت كنت مستحقاً للغِيَر متعرّضاً للنكال ؛ وأعوذ بالله من سخطه ، وإليه أرغب في التوفيق لطاعته والحؤول بيني وبين معصيته في عافية لي وللمسلمين.

و «الجامعة» و «الجفر» (٢) يدلّان على ضدّ ذلك! و (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ (٣)) ، (إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (٤)) لكنني امتثلت أمر أمير المؤمنين (!) وآثرت رضاه! والله يعصمني وإياه! وأشهدت الله على نفسي بذلك ، وكفى بالله شهيداً.

وكتبت بخطي بحضرة أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ، والفضل بن سهل (وأبيه) سهل بن الفضل ، ويحيى بن أكثم ، وعبد الله بن طاهر ، وثمامة بن أشرس ، وبشر بن المعتمر ، وحمّاد بن النعمان ، في شهر رمضان سنة إحدى ومئتين.

وعلى الجانب الأيسر كتب الفضل بن سهل : رسم أمير المؤمنين أطال الله بقاءه : قراءة هذه الصحيفة التي هي صحيفة الميثاق بحرم سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين الروضة والمنبر على رؤوس الأشهاد ، بمرأى ومسمع من وجوه بني هاشم ، وسائر الأولياء والأجناد ... أوجب به أمير المؤمنين الحجة على جميع المسلمين ، ولتبطل الشبهة التي كانت اعترضت آراء الجاهلين (؟!) (مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ (٥)) وكتب الفضل بن سهل بأمر أمير المؤمنين بالتاريخ المذكور (٦).

__________________

(١) الإسراء : ٣٤.

(٢) الصحيفة الجامعة لعلي عليه‌السلام؟ والجفر الأبيض أو الأحمر الذي كان لديهم عليهم‌السلام!

(٣) الأحقاف : ٩.

(٤) الأنعام : ٥٧.

(٥) آل عمران : ١٧٩.

(٦) كشف الغمة ٣ : ٤٦٦ ـ ٤٧٤ وبهامشه مصادر أُخرى.


نقله الإربلي وقال : حرفاً فحرفاً ، وهو بخط المأمون ، وفي ظهره بخط الإمام عليه‌السلام ، وصل به من مشهده الشريف (!) أحد قوّامه في سنة ستمئة وسبعين.

ونقله قبله ابن الجوزي (م ٥٩٧ ه‍) عن الكاتب هبة الله بن الفضل قال : رأيته بخطّ المأمون ، ابتاعه خالي يحيى بن صاعد بمئتي دينار! ليحمله إلى سيف الدولة صدقة بن منصور الحمداني ، وعليه خطوط الوزير المغربي وعبد الله الصولي (١).

واختصره سبطه وقال : ذكره عامة المؤرخين في تواريخهم (٢) هذا ولم نجد فيما بأيدينا من ذكره بنصه غير جده ابن الجوزي ، فهو أقدم مصدر وعنه أخذ من أخذ ، فهو قبل الإربلي بأكثر من سبعين عاماً ، ولم يعلم الإربلي به.

وزاد السبط قال : قرئ هذا العهد في جميع الآفاق ، وعند الكعبة ، وبين قبر رسول الله ومنبره (٣) ودعا له عامل المدينة عبد الجبار بن سعيد على منبر رسول الله ، دعا له بعد المأمون فقال : «اللهم وأصلح وليّ عهد المسلمين علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي عليهم‌السلام» ثمّ استشهد بشعر النابغة الذُبياني قال :

ستة آباء همُ ما همُ

أفضل من يشرب صوب الغمام (٤)

من نتائج البيعة في مكة :

في اليعقوبي : كان المأمون قد أرسل الحسن بن سهل أخا وزيره الفضل إلى العراق ، فصار إلى المدائن ، ووجّه حمدويه بن علي بن ماهان إلى مكة.

__________________

(١) المنتظم ١٠ : ٩٩ عام (٢٠١ ه‍).

(٢) تذكرة الخواص ٢ : ٤٧٤.

(٣) تذكرة الخواص : ٤٧٨.

(٤) مقاتل الطالبيين : ٣٧٦ عن ابن عقدة الزيدي! وعيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٤٥ ، الباب ٤٠ ، الحديث ١٤ عن كتاب الأوراق للصولي.


وكان إبراهيم بن موسى بن جعفر العلوي قد ذهب إلى اليمن وتغلّب عليها ، فاستخلف حمدويه على مكة يزيدَ بن محمّد المخزومي وتوجه إلى إبراهيم في اليمن ، فحاربه إبراهيم بمن معه من اليمن في وقعات منكرة تأخذ من الفريقين ، ثمّ خرج إبراهيم بن موسى من اليمن يريد مكة.

وبلغ ذلك إلى يزيد بن محمّد المخزومي فخندق على نفسه في مكة ، وأرسل إلى سدنة الكعبة فأخذ منهم الذهب الذي كان بعث به المأمون من خراسان وضربه دنانير ودراهم ، واقترض قرضاً من الأعراب لينفقه.

وصار إبراهيم إلى مكة فواقفه يزيد في أصحابه ، وبعث إبراهيم بن موسى بعض أصحابه فدخل من الجبل ، فانهزم يزيد ولحقه بعضهم فقتله ، ودخل إبراهيم مكة فتغلّب عليها .. وأقام بها واستقامت له الأُمور وأخذ يدعو للمأمون!

ووجّه المأمون ببيعة الرضا عليه‌السلام إلى مكة مع عيسى بن يزيد الجلودي ومعه خلعة الخضرة لإبراهيم ، فخرج إبراهيم فتلقاه وبايع لأخيه الرضا ، ولبس الأخضر وأخذ بيعة الناس له بمكة.

وكان حمدويه بن علي بن ماهان لمّا خرج إبراهيم من اليمن إلى مكة ، استمال جماعة من أهل اليمن وخلع المأمون! فكتب المأمون إلى إبراهيم بن موسى بولايته على اليمن ، وأمر الجلودي بالخروج معه لمعونته في محاربة حمدويه.

وكان زيد بن موسى بن جعفر قد استمال معه جماعة من قيسية البصرة وتغلّب عليها ، ونهب دوراً وأموالاً كثيرة للناس ، فانصرف الجلودي إليه إلى البصرة وحاربه حتّى تغلّب عليه وأخذه وحمله إلى المأمون فأطلقه (للرضا عليه‌السلام).

وخرج إبراهيم إلى اليمن ، فاستقبله جماعة مع ابن حمدويه فحاربه إبراهيم فقتل من أصحابه خلقاً حتّى انهزم ابن حمدويه ، وصار إبراهيم إلى صنعاء ،


فخرج حمدويه إليه فحاربه محاربة شديدة قتل فيها من أصحاب إبراهيم خلق عظيم وانهزم إبراهيم إلى مكة (١).

زيد بن موسى والرضا عليه‌السلام :

عقد الصدوق باباً لأخبار زيد بن موسى ، حدّث فيه عن علي بن أحمد النسابة قال : أُتي بزيد بن موسى إلى الحسن بن سهل بالعراق فحبسه ، ثمّ أحضره لقتله ، وجرّد السيّاف سيفه ، فقام الحجاج بن خيثمة إلى الحسن وقال له : أيها الأمير ؛ إن رأيت أن لا تعجل ، وتدعوني إليك فإن عندي نصيحة. فأشار إلى السيّاف فأمسك.

فلمّا دنا الحجاج من الحسن قال له : أيها الأمير ، هل أتاك بما تريد أن تفعله بزيد أمر من أمير المؤمنين؟! قال : لا ، قال : فعلامَ تقتل ابن عمّ أمير المؤمنين من غير إذنه وأمره واستطلاع رأيه فيه؟! إنّ الرشيد لما أمر خادمه مسرور الكبير بقتل جعفر بن يحيى البرمكي قال له : وإذا سألك جعفر عن ذنبه الذي تقتله به فقل له :

إنّما أقتلك بابن عمي أبي عبد الله بن الحسن الأفطس الذي قتلته من غير أمري! أيها الأمير ؛ أفتأمن أن تحدث حادثة بينك وبين أمير المؤمنين وقد قتلت هذا الرجل فيحتجّ عليك بمثل ما احتجّ به الرشيد على جعفر بن يحيى؟!

فقال الحسن للحجّاج : جزاك الله خيراً! ثمّ أمر بردّ زيد إلى محبسه ، فلم يزل فيه حتّى حُمل إلى المأمون (٢).

ونقل عن كتاب الصولي قال : لما جيء بزيد بن موسى أخي الرضا إلى المأمون ، وقد خرج بالبصرة وأحرق دور العباسيين حتّى سمي زيد النار!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٤٨ و ٤٤٩.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٣٣ ، الباب ٥٨ ، الحديث ٣.


قال له المأمون : يا زيد ، خرجت بالبصرة وتركت أن تبدأ بدور أعدائنا من بني أُمية وآل زياد وعدي وباهلة وثقيف! وقصدت دور بني عمك!

وكان زيد مزّاحاً فقال له : يا أمير المؤمنين ؛ أخطأتُ من كل جهة! وإن عدتُ بدأتُ بهم!

فضحك المأمون. ثمّ بعث به إلى أخيه الرضا وقال له : وهبت جرمه لك! فلمّا جاءوا به إليه عنّفه ثمّ حلف أن لا يكلّمه ما عاش أبداً (١)!

ونقل الصدوق عن كتاب «الأوراق في الوزراء والكتاب» لمحمد بن يحيى الصولي بسنده قال : قال المأمون للرضا عليه‌السلام في أخيه زيد بن موسى : لئن خرج أخوك وفعل ما فعل لقد خرج من قبله زيد بن علي فقُتل! ولولا مكانك مني لقتلته! فليس ما أتاه بصغير!

فقال له الرضا عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين ، لا تقِس أخي زيداً إلى زيد بن علي! فإنه كان من علماء آل محمد ، غضب لله عزوجل فجاهد أعداءه حتى قُتل في سبيله!

ولقد حدّثني أبي أنه سمع أباه يقول : رحم الله عمّي زيداً ، إنه دعا إلى الرضى من آل محمد ، ولو ظفر لوفى بما دعا إليه! ولقد استشارني في خروجه فقلت له : يا عم ، إن رضيت أن تكون المقتول المصلوب بالكناسة فشأنَك! فلما ولّى قال : ويل لمن سمع واعيته فلم يجبه!

فقال المأمون : يا أبا الحسن ؛ أليس قد جاء في من ادّعى الإمامة بغير حقها ما جاء!

فقال الرضا عليه‌السلام : إنّ زيد بن علي لم يك يدّعي ما ليس له بحق ، وإنه كان أتقى لله من ذلك ، إنه قال أدعوكم إلى الرضى من آل محمد عليهم‌السلام. وإنما جاء ما جاء

__________________

(١) المصدر ٢ : ٢٣٣ ، الحديث ٢.


في من ادّعى أنّ الله تعالى «نصّ» عليه ثمّ هو يدعو إلى غير دين الله ويُضل عن سبيله بغير علم. وكان زيد ـ والله ـ ممن خوطب بهذه الآية : (وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ (١)).

وأسند عن إبراهيم بن هاشم القمي عن ياسر خادم المأمون قال : قال المأمون : اذهبوا به إلى أبي الحسن. فلمّا أُدخل إليه قال له أبو الحسن :

يا زيد! أغرّك قول نَقلَة أهل الكوفة : «إنّ فاطمة عليها‌السلام أحصنت فرجها ، فحرّم الله ذريتها على النار» إن ذلك للحسن والحسين خاصة ، إن كنت ترى أنّك تعصي الله عزوجل وتدخل الجنة ، وموسى بن جعفر عليه‌السلام أطاع الله ودخل الجنة ، فأنت إذن أكرم على الله عزوجل من موسى بن جعفر عليه‌السلام! والله ما ينال أحد ما عند الله عزوجل إلّابطاعته ، وزعمت أنك تناله بمعصيته؟! فبئس ما زعمت!

فقال له زيد : أنا أخوك وابن أبيك!

فقال له أبو الحسن : أنت أخي ما أطعت الله! إنّ نوحاً عليه‌السلام قال : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) فقال الله عزوجل : (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ (٢)) فأخرجه الله عزوجل من أن يكون من أهله بمعصيته (٣)!

يا زيد اتّق الله ، فإنه بلغْنا ما بلغْنا بالتقوى! فمن لم يتّقِ الله ولم يراقبه فليس منّا ولسنا منه! يا زيد ، إياك أن تهين من به تصول من «شيعتنا» فيذهب نورك ؛

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٤٨ ، ٢٤٩. والآية في الحج : ٧٨ ولعلّ المأمون التقط لقب «الرضا» للرضا عليه‌السلام من هنا!

(٢) هود : ٤٥ و ٤٦.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٣٤ ، الباب ٥٨ ، الحديث ٤.


يا زيد ، إن «شيعتنا» إنّما أبغضهم الناس وعادوهم واستحلوا دماءهم وأموالهم لمحبتهم لنا واعتقادهم لولايتنا ، فإن أنت أسأت إليهم ظلمت نفسك وأبطلت حقك.

وكان الحسن بن الجهم حاضراً قال : فالتفت الرضا إليّ وقال لي : يابن الجهم! من خالف دين الله فابرأ منه كائناً من كان ومن أي قبيلة كان! ولا توال من عادى الله كائناً من كان ومن أي قبيلة كان!

قال ابن الجهم : فقلت له : يابن رسول الله ، ومَن يعادي الله؟ قال : من يعصيه (١).

فشوّ الفساد في بغداد :

قال الطبري : في هذه السنة (٢٠١ ه‍) جعل المأمون علي بن موسى بن جعفر بن محمّد ولّي عهد المسلمين والخليفة من بعده ، وسمّاه الرضا من آل محمّد ، وأمر جنده بطرح السواد ولُبس ثياب الخضرة. وكتب بذلك إلى الآفاق ، وذلك يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان.

وورد به كتاب إلى الحسن بن سهل ومنه إلى قائده عيسى بن محمّد بن أبي خالد يُعلمه أنّ أمير المؤمنين المأمون قد جعل علي بن موسى بن جعفر بن محمّد وليّ عهده من بعده ، وأنّه سمّاه الرضا من آل محمّد ، وأمره بطرح لُبس الثياب السود ولُبس ثياب الخُضرة ، ويأمره أن يأمر من قِبله من أصحابه والجند والقواد وبني هاشم (العباسيين) بالبيعة له ، وأن يأخذهم بلُبس الخضرة في أقبيتهم وقلانسهم وأعلامهم بل كل أهل بغداد.

فدعا عيسى بن محمّد أهل بغداد إلى ذلك على أن يعجّل لهم رزق شهر

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٣٥ ، الباب ٥٨ ، الحديث ٦.


والباقي إذا أدركت الغلّات. فاختلفوا ، وغضب ولد العباس من ذلك واجتمع بعضهم إلى بعض وتكلموا فيه ، وكان المختلف والمتقلّد والمتكلم في ذلك ابنا المهدي العباسي إبراهيم ومنصور وقالوا : إنّما هذا دسيسة الفضل بن سهل ، فلا نلبس الخضرة ولا نبايع فلا نُخرج هذا الأمر من ولد العباس ؛ فنخلع المأمون ونولّي بعضنا (١)!

وقبل هذا منذ أواخر شعبان كان فسّاق الحربية ببغداد أظهروا الفسق ، فكانوا يجتمعون فيذهبون إلى القرى فيكاثرون أهلها ويأخذون ما قدروا عليه من متاع ومال وغير ذلك ، ومنها أنهم خرجوا إلى قرية قُطرَبُل فانتهبوها علانية وأخذوا المتاع والذهب والفضة والغنم والبقر والحمير وغير ذلك إلى بغداد فباعوها علانية ؛ وجاء أهلها فاستعدَوا السلطان عليهم فلم يُمكِنه إعداؤهم عليهم لأنهم كانوا بطانته وهو يعتزّ بهم فلا يقدر على ذلك منهم! ولا يقدر أن يمنعهم من فسق يرتكبونه ، فكانوا يجبون المارّة في الطرق وفي السفن وعلى ظهر الدواب ويقطعون الطرق علانية ولا أحد يعدو عليهم ، فكان الناس منهم في بلاء عظيم! حتّى أنهم كانوا يجتمعون فيأتون الرجل فيأخذون ابنه فيذهبون به فلا يقدر أن يمتنع منهم! وكانوا يسألون الرجل أن يصلهم أو يُقرضهم فلا يقدر أن يمتنع عليهم!

هذا وقد أحصى القائد العباسي عيسى بن محمّد مَن في عسكره فكانوا مئة وخمسة وعشرين ألفاً من فارس وراجل!.

وكان بعضهم يَخفرون البساتين ، والخفارة أنّه كان يأتي الرجل بعض أصحاب البساتين فيقول له : بستانك في خفارتي أدفع عنه السوء كل شهر كذا درهماً ، فيضطر أن يعطيه شاء أو أبى!.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ٥٥٤ ، ٥٥٥.


فقام رجل من ناحية طريق الأنبار يقال له خالد الدَري وَش (في أوائل شهر رمضان) فدعا جيرانه وأهل بيته وأهل محلته إلى أن يعينوه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فأجابوه إلى ذلك. فشدّ على من يليه من الفسّاق والشُطّار فمنعهم ممّا كانوا يصنعون ، فقاتلوه فقاتلهم وأخذ بعضهم فضربهم وحبسهم وهزم سائرهم.

فقام بعده رجل من عسكر خراسان يقال له : أبو حاتِم سهل بن سلامة الأنصاري من أهل خراسان ، فدعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل بكتاب الله وسنة نبيّه ، ثمّ بدأ بجيرانه وأهل محلته فأمرهم ونهاهم فقبلوا منه! ثمّ دعا الناس جميعاً إلى ذلك الشريف والوضيع بني هاشم (العباسيين) ومَن دونهم ، وجعل له ديواناً يثبت فيه اسم من أتاه منهم يبايعه على ذلك وقتال من خالفه وخالف ما دعا إليه كائناً من كان ، فأتاه خلق كثير فبايعوه ، فطاف بغداد وأسواقها وأرباضها وطرقها ، فمنع كل من يخفر ويجبى المارّة والمختلفة. قام في ذلك يوم الخميس لأربع خلون من شهر رمضان سنة إحدى ومئتين ، في مسجد بناه طاهر بن الحسين في العسكرية الحربية (١).

إلّا أنّ القوّاد وبني هاشم (العباسيين) لما جدّوا فيما كانوا فيه وأرادوا منصور بن المهدي العباسي للخلافة أبى ، فلم يزالوا به حتّى صيّروه خليفة للمأمون بالعراق (بدل الحسن بن سهل) وقالوا : لا نرضى بالمجوسي ابن المجوسي الحسن بن سهل نطرده حتّى يعود إلى خراسان (٢)!

واختلف اليعقوبي فقال : وثب القائد محمّد بن أبي خالد والحربية بزهير بن المسيّب الضبّي (عامل الحسن بن سهل) فأسروه ، وأتوا : محمّد بن صالح بن

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ٥٥١ و ٥٥٢.

(٢) تاريخ الطبري ٧ : ٥٤٩.


المنصور الدوانيقي فقالوا له : قد أخذ المأمون البيعة لعلي بن موسى الرضا ، فخشينا أن تذهب هذه الدولة بما حدث فيها من تدبير المجوس! ونحن أنصار دولتكم ، فهلمّ نبايعك فإنا نخاف أن يخرج هذا الأمر عنكم!

وكان محمّد بن صالح بن المنصور الدوانيقي أول هاشمي (عباسي) بايع للمأمون ببغداد ، فقال لهم : قد بايعت للمأمون .. فلست لكم بصاحب!

وصار الحسن بن سهل إلى واسط ، فاتبعه محمّد بن أبي خالد والحربية والأبناء ، فالتقوا في قرية أبي قريش قبل واسط فكانت بينهم وقعة منكرة ، وأصاب سهم محمّد بن أبي خالد فأثخنه ، فحمل إلى جبُّل وتوفى بعد أيام فادخل إلى بغداد ميتاً ، وقام أخوه عيسى بن أبي خالد بالعسكر. فلمّا مات محمّد بن أبي خالد وثب الأبناء على زهير بن المسيّب الضبّي في الحبس فقتلوه ثمّ شدوا في رجله حبلاً وجرّوه في طرق بغداد ومثّلوا به (١)!

الوشّاء يختبر علم الرضا عليه‌السلام :

وكأنّ كتاب المأمون إلى الآفاق بأنه «لم يجد أفضل ولا أورع ولا أعلم» من الرضا عليه‌السلام ، جعل بعض الواقفين عن القطع بموت الكاظم وإمامة الرضا عليه‌السلام يفكّرون في إمامته ، منهم الحسن بن علي بن زياد الوشاء الخزّاز الكوفي البغدادي البجلي نموذجاً ، حيث قال : جمعت في كتاب مسائل كثيرة فيما روي عن آبائه عليهم‌السلام وغير ذلك لأختبره ، وحملت الكتاب معي إلى مرو (٢) وقالت لي ابنتي : يا أبة ، خذ هذه الحُلّة فبِعها وخذ لي بثمنها فيروزجاً!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥٠.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٢٩ ، الباب ٥٥.


فلمّا نزلت مرو فإذا غلمان الرضا عليه‌السلام جاؤوا وقالوا : نريد حُلّة نكفّن بها بعض غلماننا. فقلت لهم : ما عندي. فمضوا ثمّ عادوا وقالوا : مولانا يقرأ عليك السلام ويقول لك : معك حلة في السفط (١) الفلاني ، دفعْتها إليك ابنتك وقالت لك : اشتر لي بثمنها فيروزجاً! وهذا ثمنها (٢).

قال : وحملت الكتاب معي في كُمّي وصرت إلى منزل الرضا ، اريد منه خلوة أُناوله الكتاب وأسأله ، وكان بالباب جماعة جلوس يتحدثون ، وأنا افكر في الاحتيال للدخول عليه ، وإذا أنا بغلام قد خرج من الدار وبيده كتاب ونادى : أيكم الحسن بن علي الوشاء ابن بنت إلياس البغدادي؟ فقمت إليه وقلت له : أنا الحسن بن علي ، فقال : امرت بدفع هذا الكتاب إليك فهاك خذه! فأخذته وتنحّيت ناحية وقرأته ، فإذا فيه ـ والله ـ جواب مسائلي مسألة فمسألة. فعند ذلك تركت الوقف وقطعت بإمامته (٣).

وكأنّ الطوسي جمع الخبرين واختصرهما قال : خرجت إلى خراسان في تجارة لي ، فلمّا وردته (كذا) بعث إليّ أبو الحسن الرضا عليه‌السلام يطلب مني حِبرة ، وكانت بين ثيابي وقد خفي عليَّ أمرها ، فقلت : ما معي منها شيء! فردّ الرسول وذكر علامتها وأنها في سفط كذا ، فطلبتها فكان كما قال ، فبعثت بها إليه. ثمّ كتبت مسائل أسأله عنها ، فلمّا وردتُ بابه خرج إليّ جواب تلك المسائل التي أردت أن أسأله عنها من غير أن أظهرها عليه (٤).

__________________

(١) سفط معرّب سبد بالفارسية.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٧٠ ، وفي عيون أخبار الرضا ٢ : ٢٩٩ الباب ٥٥ ، الحديث ٢ : أبضع معي رجل ثوباً وكنت قد نسيته.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٢٩ ، الباب ٥٥.

(٤) الغيبة للطوسي : ٧٢ ، الحديث ٧٧.


وكأنّه بعد ذلك أخذ يحضر محضر الرضا عليه‌السلام قال : كنت في مجلسه بخراسان وهو مقبل على قوم يحدّثهم ، وفي المجلس أخوه زيد بن موسى وقد أقبل زيد على جماعة يفخر عليهم ويقول : نحن ونحن! وسمع أبو الحسن مقالة زيد فالتفت إليه وقال له :

يا زيد! أغّرك قول ناقلي الكوفة : أن فاطمة عليها‌السلام أحصنت فرجها فحرّم الله ذرّيتها على النار! فوالله ما ذاك إلّاللحسن والحسين وولد بطنها خاصة! فأما أن يكون موسى بن جعفر عليه‌السلام يطيع الله ويصوم نهاره ويقوم ليله ، وأنت تعصيه ثمّ تجيئان يوم القيامة سواء! إذن لأنت أعزّ على الله منه!

إنّ علي بن الحسين عليهما‌السلام كان يقول : «لمحسننا كِفلان من الأجر ، ولمسيئنا ضعفان من العذاب» ثمّ التفت إليّ وقال لي :

«يا حسن ، كيف تقرؤون هذه الآية (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ (١)) قال حسن : فقلت : من الناس من يقرأ : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) ومنهم من يقرأ : (إِنَّهُ عَمَلُ غَيْرِ صَالِحٍ) فمن قرأ : (إِنَّهُ عَمَلُ غَيْرِ صَالِحٍ) فقد نفاه عن أبيه!

فقال عليه‌السلام : كلّا ، لقد كان ابنه ، ولكن لما عصى الله نفاه عن أبيه ، وكذا من كان منا لم يطع الله عزوجل فليس منا! وأنت إذا أطعت الله عزوجل فأنت منا أهل البيت» (٢)!

وكان مع الوشّاء حيث ينزل في مرو رجل من الواقفة يسمى إبراهيم فقال له : إني قد كنت مثلك (واقفياً) ثمّ نوّر الله قلبي! فسل الله أن يريك في منامك! ما تستدل به لهذا الأمر. وكان يوم الثلاثاء فاقترح عليه أن يصوم الأربعاء والخميس

__________________

(١) هود : ٤٦.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٣٢ ، الباب ٥٨ ، الحديث ١.


والجمعة ثمّ يغتسل ويصلي ركعتين ثمّ يسأل الله حاجته. قال : فأتاني يوم السبت وقال لي : أتاني البارحة في النوم أبو الحسن عليه‌السلام وقال لي : يا إبراهيم ، والله لترجعنّ إلى الحق! فأشهد أنّه الإمام المفترض الطاعة (١)!

وقد مرّ الخبر بعد موسى بن جعفر عليه‌السلام عن وقف علي بن أبي حمزة سالم البطائني مولى الأنصار بالكوفة وقائد أبي بصير أنّه كان قد اجتمع عنده من أموال الكاظم عليه‌السلام أكثر من ثلاثين ألفاً ، فقال بالوقف أي توقّف عن القول بوفاة الكاظم وإمامة الرضا عليهما‌السلام ، وعاش عشرين عاماً ومات اليوم أي في سنة (٢٠١ ه‍) ودخل الوشاء على الرضا عليه‌السلام فقال له : يا حسن! مات علي بن أبي حمزة البطائني في هذا اليوم وادخل في قبره الساعة ودخل عليه ملكا القبر فسألاه : مَن ربك؟ فقال : الله ، ثمّ قالا : مَن نبيّك؟ فقال : محمّد ، فقالا : مَن وليّك؟ فقال : علي بن أبي طالب. قالا : ثمّ مَن : قال : الحسن ، قالا : ثمّ مَن؟ قال : الحسين ، قالا : ثمّ مَن؟ قال : علي بن الحسين. قالا : ثمّ مَن؟ قال : محمّد بن علي. قالا : ثمّ مَن؟ قال : جعفر بن محمّد. قالا : ثمّ مَن؟ قال : موسى بن جعفر. قالا : ثمّ مَن؟ فتلجلج (تردّد) فقالا : ثمّ مَن؟ فسكت! فقالا له : أفموسى بن جعفر أمرك بهذا؟ ثمّ ضرباه بمقمعة من نار فألهبا عليه قبره إلى يوم القيامة.

قال الوشاء : فخرجت من عند سيدي (الرضا) فأرّخت ذلك اليوم ، فما مضت الأيام حتّى وردت كتب الكوفيين بموت البطائني في ذلك اليوم (٢).

كما رحل إليه من بغداد يونس بن عبد الرحمن مولى آل يقطين ودخل عليه وقال : دخلت على الرضا عليه‌السلام فقال لي : مات علي بن أبي حمزة؟ قال : قلت : نعم ، قال : قد دخل النار! قال : ففزعت من ذلك فقال : أما إنّه سُئل عن الإمام

__________________

(١) الخرائج والجرائح ١ : ٣٦٦ ، الحديث ٢٣.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٦٦.


بعد موسى أبي فقال : لا أعرف بعده إماماً! فضُرب ضربة اشتعل قبره ناراً (١).

ولعلّ هنا كان خيران خادم الرضا عليه‌السلام حاضراً فقال : كنت في خراسان واقفاً بين يدي أبي الحسن عليه‌السلام ، فقال له قائل : يا سيدي ، إن كان كون فإلى مَن؟ فقال : إلى أبي جعفر ابني. فكأنه استصغر سنّه فقال أبوالحسن : إنّ الله تبارك وتعالى بعث عيسى ابن مريم رسولاً نبياً صاحب شريعة مبتدأة في أصغر من السنّ الذي فيه أبو جعفر (٢)!

صلاة الرضا عليه‌السلام للاستسقاء :

روى الحلبي قال : لما بويع الرضا عليه‌السلام قلّ المطر! فقالوا : هذا من نكَده (قلّة خيره)! فسأله المأمون أن يستسقى ، فقال : رأيت في منامي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لي : يا بُني انتظر يوم الاثنين فابرز إلى الصحراء واستسق فإنّ الله يسقيهم.

فلمّا كان يوم الاثنين برز وصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : «اللهم يا ربّ ، أنت عظّمت حقنا «أهل البيت ، فتوسَّلوا بنا كما أمرت» وأمّلوا فضلك ورحمتك ، وتوقعوا إحسانك ونعمتك ، فاسقهم سقياً نافعاً عاماً ، غير ضائر ولا رايث (متأخر) وليكن ابتداء مطرهم بعد انصرافهم من مشهدهم هذا إلى منازلهم ومقارّهم» فأرعدت السماء وأبرقت ، وهاجت الرياح ، فتحرك الناس ، فأخبرهم أنّ هذا السحاب العارض لبلدة كذا إلى عشرة مرات ، ثمّ قال : هذا لكم وأمرهم بالانصراف وقال : لا تمطرُ عليكم حتّى تبلغوا منازلكم ونزل من المنبر ، وكان كما قال (٣).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٤٤٤ ، الحديث ٨٣٣.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٣٢٢ ، الحديث ١٣. وانظر ترجمة خيران في قاموس الرجال ٤ : ٢٢٢ برقم ٢٧٠١.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦٧ ، الباب ٤١ ، الحديث ١ عن التفسير المنسوب للعسكري عليه‌السلام.


وصلاته عليه‌السلام لعيد الفطر عام (٢٠١ ه‍):

اختصر طريق الخبر الكليني عن علي بن إبراهيم (عن أبيه) عن ياسر الخادم والريان بن الصلت (الأشعري القمي) جميعاً (١) وفصّله الصدوق بوصف الريّان بن الصلت بأنّه كان من رجال الحسن بن سهل (؟) وتوقيت تلقّى الخبر عن ياسر الخادم أنّه حدّثه بعد وفاة الرضا عليه‌السلام لما رجع المأمون من خراسان بأخباره كلها ، وزاد طريقاً آخر عن القمي عن أبيه عن محمّد بن عرفة وصالح بن سعيد الكاتب.

قالوا : فلمّا حضر العيد بعث المأمون إلى الرضا عليه‌السلام يسأله أن يركب ويحضر العيد ويخطب ، وليعرف الناس فضله وتَقرّ قلوبهم بهذه الدولة المباركة. فبعث إليه الرضا قال : قد علمتَ ما كان بيني وبينك من الشروط لدخولي في هذا الأمر! فردّ المأمون : إنّما اريد بهذا أن يرسخ هذا الأمر في قلوب الجند والشاكرية والعامة وتطمئن قلوبهم ويَقرّوا بما فضّلك الله به! فلمّا ألحّ عليه قال له : يا أمير المؤمنين! إن أعفيتني من ذلك فهو أحبّ إليّ ، وإن لم تُعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما‌السلام. فقال المأمون : اخرج كما تحب.

وأمر المأمون قوّاده والناس أن يبكّروا إلى باب أبي الحسن الرضا عليه‌السلام.

فاجتمع القوّاد على باب الرضا عليه‌السلام وقعد الناس من الرجال والنساء والصبيان في الطرقات والسطوح.

فلمّا طلعت الشمس (يوم العيد) قام الرضا عليه‌السلام فاغتسل ، ثمّ تعمّم بعِمامة بيضاء (لا خضراء) وألقى طرفيها على صدره وكتفه وشمّر (ثوبه عن رجليه) وأخذ بيده عُكازة (عصا) وقال لمواليه : افعلوا مثل ما فعلت. ففعلوا. ثمّ خرج حافياً ماشياً ونحن بين يديه.

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٤٨٨ ، الحديث ٧.


وكان القوّاد والناس على الباب قد تزينوا وتهيّؤوا بأحسن هيئة بأسلحتهم ، فلمّا طلعنا عليهم بهذه الصورة حفاة قد تشمّرنا ، وطلع الرضا عليه‌السلام ، وقف عند الباب وقفة ورفع رأسه إلى السماء ونادى : «الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر على ما هدانا ، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام ، والحمد لله على ما أبلانا» رفع بذلك صوته ، ورفعنا معه أصواتنا بذلك ، فتساقط القواد عن دوابّهم ورموا بخفافهم وتجاوبوا معنا حتّى خُيّل إلينا أن الحيطان والهواء تجاوبه ، وتزعزعت مرو من الصياح وصارت ضجة واحدة ، ولم يتمالك الناس من البكاء والضجيج!

فكان أبو الحسن عليه‌السلام كل عشر خطوات يقف وقفة ويكبّر أربعاً!

فقال الفضل بن سهل للمأمون : يا أمير المؤمنين ، إن بلغ الرضا المصلّى على هذا السبيل افتتن به الناس (١) وخفنا كلّنا على دمائنا!

فبعث إليه المأمون : قد كلّفناك شططاً ، ولسنا نريد أن يلحقك أذى! فارجع ، وليصلّ بالناس من كان يصلي بهم على رسمه! وكان قد بلغ الرضا عليه‌السلام إلى مسجد «خركاه تراشان» (؟) فدخل إليه وصلّى فيه ، وكان مواليه قد حملوا خُفّه فلبسه ، وأحضروا له فرسه فركبه وانصرف. فاختلف أمر الناس ولم ينتظم في صلاتهم (٢).

فهو عليه‌السلام لم يحضر صلاة العيد مأموماً ، نعم كان يحضرها مأموماً يوم الجمعة في المسجد الجامع في مرو ، فإذا رجع وقد أصابه العرق والغبار رفع يديه ودعا : «اللهم إن كان فرجي مما أنا فيه بالموت فعجّل لي الساعة» (٣).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٤٩ ـ ١٥١ ، الحديث ٢١.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ١٤١ بالإسناد نفسه.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥ ، الباب ٣٠.


لم يكن الرضا عليه‌السلام راضياً بالعهد :

أسند الصدوق عن الريان بن الصلت الأشعري القمي : أنّه سمع بعض الناس يقولون في الرضا عليه‌السلام : أنّه مع إظهاره الزهد في الدنيا قبِل بولاية العهد! أي قد تحقق ما قاله عليه‌السلام عن نية المأمون. فدخل عليه الأشعري القمي وحكى له ما يقول الناس ، فقال عليه‌السلام :

«قد علم الله كراهتي لذلك ، فلمّا خُيّرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول على القتل ؛ ويحهم ؛ أما علموا أنّ يوسف عليه‌السلام كان نبياً رسولاً ، فلمّا دفعْته الضرورة إلى تولّي خزائن العزيز قال له : (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (١)) وأنا دفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك! على أني ما دخلت في هذا لأمر إلّادخول خارج منه! فإلى الله المشتكى وهو المستعان» (٢).

ودخل عليه رجل وقال له : أصلحك الله ، كيف صرت إلى ما صرت إليه من المأمون؟!

فقال له : يا هذا ، أيهما أفضل : النبيّ أو الوصي؟ فقال : لا ، بل النبيّ. قال : فأيهما أفضل : مسلم أو مشرك؟ قال : لا ، بل مسلم. قال : فإنّ عزيز مصر كان مشركاً ، وكان يوسف نبياً ، وإنّ المأمون مسلم وأنا وصي! ويوسف سأل العزيز أن يولّيه حين قال : (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) وأنا اجبرت على ذلك (٣).

__________________

(١) يوسف : ٥٥.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٣٩ الباب ٤٠ ، الحديث ٢ ، وعلل الشرائع ١ : ٢٧٩ ، الباب ١٧٣ ، الحديث ٣ ، وفي الأمالي : ١٣٠ ، الحديث ١١٨ ، المجلس ١٧ ، الحديث ٣.

(٣) المصادر السابقة ، وتفسير العياشي ٢ : ١٨٠.


فذلك استناد قرآني ، وأحياناً كان عليه‌السلام يكتفي في ذلك بتشبيه نفسه بجده علي عليه‌السلام :

أسند الصدوق عن محمّد بن معرفة قال : قلت للرضا عليه‌السلام : يابن رسول الله ، ما حملك على الدخول في ولاية العهد؟! فقال : ما حمل جدي أمير المؤمنين عليه‌السلام على الدخول في الشورى (١).

أما أبو الصلت الهروي فكان هو يقول : والله ما دخل الرضا عليه‌السلام في هذا الأمر طائعاً ، ولقد حُمل مكرهاً إلى مرو (٢).

هذا وقد مرّ الخبر عن اعتراف الفضل بن سهل بإباء الإمام عليه‌السلام من ذلك (٣).

بل أسند الطوسي عن محمّد بن عبد الله الأفطس الحسيني قال : دخلت على المأمون فقال لي : لقد جهدت الجَهد كلّه وأطمعت (الرضا) بالخلافة! فما أطمعني في نفسه (٤).

وأسند الصدوق عن غياث بن أُسيد عن جمع من أهل المدينة : أنّ المأمون ألحّ عليه مرّة بعد أُخرى حتّى تهدّده بالقتل وأشرف من ذلك على الهلاك ، فقال عليه‌السلام : «اللهم إنك قد نهيتني عن الإلقاء بيدي إلى التهلكة ، وقد أشرفت من قِبل عبد الله المأمون على القتل إن لم أقبل ولاية عهده ، فقد اكرهت واضطررت كما اضطرّ يوسف ودانيال عليهما‌السلام إذ قبل كل واحد منهما الولاية من طاغية زمانه! اللهم

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٤١ ، الباب ٤٠ ، الحديث ٤ ، وعلل الشرائع ١ : ٢٧٩ ، الباب ١٧٣ ، الحديث ٢.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٤١ ، الباب ٤٠ ، الحديث ٥.

(٣) المصدر السابق ، الحديث ٦.

(٤) كتاب الغيبة للطوسي : ٧٣ ـ ٧٤ ، الحديث ٨٠.


لا عهد إلّاعهدك ، ولا ولاية لي إلّامن قِبلك ، فوّفقني لإقامة دينك وإحياء سنة نبيك ، فإنك أنت المولى وأنت النصير ونعم المولى ونعم النصير» (١).

وعليه فإباؤه بدعائه هذا كان قد فشا في جماعة من أهل المدينة! ومن التصريح باسم المأمون وتشبيهه بالطواغيت يُعلم أنّ ذلك لم يكن بمحضر المأمون.

تحليلات المأمون لتوليته العهد :

مرّت الأخبار عن إصرار المأمون على إشخاص الرضا عليه‌السلام من المدينة إلى مرو عن طريق البصرة والأهواز وفارس ، وليس الكوفة وقم ، ممّا يكشف عن معرفته بمعرفة أهلهما بالرضا عليه‌السلام. وأسند الصدوق عن الريان بن الصلت الأشعري القمي أنّ المأمون قال له : لقد هممت أن أجعل أهل قم شعاري ودثاري! ثمّ أمره أن يقعد بين قوّاده ويحدّثهم بفضل علي عليه‌السلام (٢) فهو يعرفه بأنه من أهل قم بما هم عليه من التشيع لأهل البيت عليهم‌السلام ، هذا من ناحية.

وأُخرى : ما جاء في الخبر نفسه : أنّ من كان لا يحب عهد المأمون إلى الرضا عليه‌السلام من القوّاد أكثروا : أنّ هذا من تدبير الفضل بن سهل ذي الرياستين ، وأكثر بتبعهم عامة الناس في ذلك ، حتّى بلغ ذلك إلى المأمون (٣) فأراد أن يدفع ذلك عن نفسه ويُلقي إلى هؤلاء القميين وأشياعهم مدّعياً إخلاصه في الأمر!

قال ابن الصلت : فبعث إليّ في جوف الليل! فصرت إليه ، فقال لي : يا ريّان ، بلغني أنّ الناس يقولون : إنّ بيعة الرضا كانت من تدبير الفضل بن سهل؟!

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٨ ، ١٩ ، الباب ٣ ، الحديث ١ ، وفي ط : ١٠٠ ـ ١٠١ ، الباب ٣ ، الحديث ١١.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥٢ ، الحديث ٢٢.

(٣) المصدر : ١٥١.


فقلت : يا أمير المؤمنين! يقولون ذلك. قال : ويحك يا ريّان! أيجسر أحد أن يجيء إلى خليفة قد استقامت له الرعية والقوّاد ، واستوت له الخلافة فيقول له : ادفع الخلافة من يدك إلى غيرك؟! أيجوز هذا في العقل؟! قلت له : لا والله يا أمير المؤمنين ما يجسر على هذا أحد! فقال : والله ما كان كما يقولون ، ولكن سأُخبرك بسبب ذلك :

إنّه لما كتب إليّ أخي محمّد (الأمين) يأمرني بالقدوم عليه فأبيت عليه ؛ عقد لعلي بن عيسى بن ماهان وأمره أن يقيّدني ويجعل الجامعة في عنقي! وورد الخبر بذلك عليَّ ، وكنت قد بعثت هرثمة بن أعين إلى صاحب السرير في حوالي سيستان ، فهزمه صاحب السرير وغلب على ناحيته من كور سيستان وكرمان ، فلمّا ورد ذلك عليَّ ما كان لي مال أتقوّى به فلم يكن لي قوة بذلك ، ورأيت من رجالي وقوّادي الجبن والفشل! حتّى أردت أن الحق بملك كابل! ثمّ قلت في نفسي : إنّ ملك كابل رجل كافر ، وإن محمّداً (الأمين) يبذل له الأموال فيدفعني إليه!

فلم أجد وجهاً أفضل من أن أتوب إلى الله عزوجل من ذنوبي واستجير بالله واستعين به على هذه الأُمور! فصببت عليَّ الماء (واغتسلت) ولبست ثوبين أبيضين ، وصليت أربع ركعات قرأت فيها ما حضرني من القرآن ، ودعوت الله واستجرت به وعاهدته عهداً وثيقاً بنية صادقة : أنّه إن أفضى الله بهذا الأمر إليّ وكفاني هذه الأُمور الغليظة ، أن أضع هذا الأمر في موضعه الذي وضعه الله فيه!

ثمّ بعثت (طاهر بن الحسين الخزاعي) إلى علي بن ماهان فكان من أمره ما كان ، وبعثت إلى صاحب السرير فبذلت له شيئاً حتّى رجع ، وبعثت هرثمة إلى رافع (بن أعين) فظفر به وقتله ، فلم يزل أمري يقوى حتّى كان من أمر أخي محمّد (الأمين) ما كان ، وأفضى الله! إليّ بهذا الأمر واستوى لي.


فلمّا وفى الله عزوجل لي بما عاهدته عليه أحببت أن أفي لله تعالى بما عاهدته! فلم أر أحداً أحق بهذا الأمر من أبي الحسن الرضا فوضعتها إليه فلم يقبلها إلّاعلى ما قد علمت. فهذا كان سببها (١).

هذا ما كان منه إلى الريان القمي الأشعري بالسرّي من التعليل والتحليل ، أما علناً فقد أسند عنه الصولي أنّه قال : إنّما فعلت ما فعلت لأنّ أبا بكر لما ولي لم يولّ أحداً من بني هاشم شيئاً! ثمّ عمر ، ثمّ عثمان كذلك ، ثمّ ولي علي عليه‌السلام فولّى عبد الله بن عباس البصرة ، وعبيد الله اليمن ، ومعبداً مكة ، وقُثم البحرين ، فما ترك أحداً منهم حتّى ولّاه شيئاً ، فكانت هذه في أعناقنا حتّى كافأته في ولده بما فعلت (٢) فهذا التعليل العام للعامة ، والتحليل السابق للمتشيّعين خاصة!

وقد صدّق الصدوق به فقال : والصحيح عندي أنّ المأمون إنّما ولّاه العهد وبايع ، للنذر الذي تقدم ذكره (٣)!

وزوّجه بجاريتين قبل ابنته :

حدّث الصولي عن جدّته أُم أبيه عذار أنها كانت من مولّدات الكوفة فاشتُريت مع عدّة جوار منها معها للمأمون ، وحُملن إليه ، قالت : فلمّا كنّا في داره كنّا في جنة من الطيب والأكل والشرب وكثرة الدنانير!

ثمّ وهبني المأمون للرضا عليه‌السلام فلمّا صرت إلى داره فقدت كل ما كنت فيه من النعيم ، بل كانت علينا قيّمة تأخذنا بصلاة الليل فكان ذلك أشد شيء علينا!

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥١ ، ١٥٢ ، الحديث ٢٢.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٦٦.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦٦ ، ذيل الحديث ٢٨.


وكانت تُسأل كثيراً عن أمر الرضا عليه‌السلام فتقول : ما أذكر منه شيئاً إلّاأني كنت أراه إذا صلّى الغداة (الفجر) في أول الوقت سجد فلا يرفع رأسه إلى أن ترتفع الشمس ، ثمّ يقوم ، ثمّ يركب (فيخرج) أو يجلس للناس. وكان يتبخّر بالعود الهندي السنيّ (الطيب) ويستعمل هو مسكاً أو ماء ورد. ولم يكن أحد يقدر أن يرفع صوته في داره كائناً من كان وإنّما يتكلم الناس همساً أو قليلاً.

قالت : ثمّ وهبني لجدك عبد الله بن العباس الصولي. قال محمّد بن يحيى الصولي : كان جدي عبد الله يوم وهُبت له دبّرها ، وكان يتبرك بها. وكانت جدتي هذه أتم امرأة عقلاً وسخاءً ، حتّى توفيت ولها مئة سنة ، عام (٢٧٠ ه‍) (١).

ولعلّه عليه‌السلام حين وهبها للصولي بعث المأمون إليه جارية أُخرى ، فلمّا ادخلت إليه وكان الرضا عليه‌السلام في ما بعد الخمسين من عمره وقد شاب شعره ، فلمّا رأت ذلك اشمأزّت من شيبه ، ورأى كراهيتها ، فردّها إلى المأمون ، وكتب إليه بالأبيات التالية :

نعى نفسي إلى نفسي المشيب

وعند الشيب يتّعظ اللبيب

فقد ولّى الشباب إلى مداه

فلست أرى مواضعه تؤوب

سأبكيه وأندبه طويلاً

وادعوه إليّ ، عسى يجيب

وهيهات الذي قد فات مني

تمنّيني به النفس الكذوب

وراعَ الغانياتِ بياضُ رأسي

ومن مُدّ البقاء له يشيب

أرى البيض الحِسان يحِدن عنّي

وفي هجرانهن لنا نصيب

فإن يكن الشباب مضى حبيباً

فإنّ الشيب لي أيضاً حبيب

سأصحبه بتقوى الله حتّى

يفرّق بيننا الأجل القريب (٢)!

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٧٩ ، الحديث ٣.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٧٨ ، الباب ٤٣ ، الحديث ٨.


ومع عدم بقاء الجاريتين عند الرضا عليه‌السلام لم يفكر المأمون في إحضار عائلة الرضا من المدينة ، ذلك أنّه كان يريد من الجاريتين أن تكونا عينيه على الرضا عليه‌السلام ، فلمّا لم يُبقهنّ عنده عرض عليه ابنته أُم حبيب ، كما سيأتي (١).

حوادث بغداد والكوفة :

يؤرّخ الطبري لبيعة ولاية العهد يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة (٢٠١ ه‍) (٢) ثمّ يؤرّخ وصول الكتاب بذلك من الحسن بن سهل إلى قائده في بغداد عيسى بن محمّد بن أبي خالد ، يأمره بأخذ البيعة ولُبس الخضرة ، يؤرّخه بيوم الثلاثاء (٢٥ ذي الحجة ٢٠١ ه‍) قال : وفيه أظهر العباسيون ببغداد : أنهم قد خلعوا المأمون وقد بايعوا بالخلافة إبراهيم بن المهدي العباسي ، وأنهم يعطون كل من يبايع له عشرة دنانير لأول يوم من المحرم أول يوم من السنة المقبلة (٣).

وفي اليعقوبي : لخمس ليال خلون من المحرم سنة (٢٠٢ ه‍) اجتمع قوّاد الحربية فبايعوا لإبراهيم بن المهدي المعروف بأُمه شِكلة ، ودعوا له بالخلافة ، وسمّوه بالمرضيّ (في مقابل الرضا عليه‌السلام) وصلّى بهم في المسجد الجامع ببغداد ، وصار معه قائد الحسن بن سهل : عيسى بن محمّد بن أبي خالد ، والفضل بن الربيع وسعيد بن الساجور وأبو البط ، وعسكروا في كلواذى. وكتب بالولايات ، وعقد الألوية ، واستقامت له الأُمور ، وأطاعه الأبناء وأهل الحربية وما والاها إلّامن بقي في طاعة المأمون. وكان إبراهيم أسود شديد السواد وبنصف وجهه شامة فهو سمج المنظر! ولذا كانوا يدعونه بالعنقود!

__________________

(١) في الصفحة : ٧٥.

(٢) تاريخ الطبري ٧ : ٥٥٤.

(٣) تاريخ الطبري ٧ : ٥٥٥.


وكان الوافون للمأمون مع حُميد بن عبد الحميد نازلاً بموضع يقال له : خان الحكَم على نهر صرصر ، فراسل عيسى بن أبي خالد حتّى توافقا فصار حُميد إلى بغداد ثمّ انصرف إلى معسكره!

وكان أسد الحربي مع عسكره من الحربية مع إبراهيم ثمّ توافق معهم فوثبوا على إبراهيم العباسي وعادوا إلى طاعة المأمون ، فحاربه عيسى بن أبي خالد حتّى أخذه وابناً له فقتلهما وصلبهما (١).

وقال المسعودي : اضطرب الهاشميون (العباسيون) بمدينة السلام (بغداد) وعظم عليهم زوال الملك عنهم ومصيره إلى ولد أبي طالب! فأخرجوا الحسن بن سهل أخا ذي الرياستين من بغداد ، وكان خليفة المأمون على العراق ، وبايعوا المنصور بن المهدي وكان مضعَّفاً فلم يتم أمره فبايعوا أخاه إبراهيم لخمس خلون من المحرم سنة (٢٠٢ ه‍) ودعوا له بالخلافة على منابر بغداد وغيرها ، فوجّه جيوشه لحرب الحسن بن سهل بالمدائن في حروب سجال (٢).

وقال ابن العبري : فغضب بنو العباس وشق ذلك عليهم وقالوا : لا تخرج الخلافة منّا إلى أعدائنا! فخلعوا المأمون وبايعوا إبراهيم بن المهدي وسمّوه (المبارك) (٣).

وفي عاشر ربيع الآخر توجّه القائد حُميد بن عبد الحميد من قوّاد الحسن بن سهل إلى الكوفة ، وولّى عليها العباس بن موسى بن جعفر العلوي في الخضرة على أن يدعو للمأمون وبعده لأخيه علي بن موسى (الرضا)

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥٠ ـ ٤٥١.

(٢) التنبيه والإشراف : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ونحوه في مروج الذهب ٣ : ٤٤١.

(٣) تاريخ مختصر الدول : ١٣٤ ، ونحوه في تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٣ ، والخلفاء للسيوطي : ٣٦٥.


وأعانه بمئة ألف درهم وقال له : قاتل عن أخيك فإنّ أهل الكوفة يجيبُونك إلى ذلك ، وأنا معك.

وأجابه كثير منهم ، وقال آخرون : إن كنت تدعو إلى أخيك أو نفسك أو بعض أهل بيتك أجبناك ، أما إن كنت تدعو للمأمون وبعده لأخيك فلا حاجة لنا في دعوتك! فقال لهم : أنا أدعو إلى المأمون ثمّ بعده لأخي ، فقعد عنه أكثر «الشيعة».

وانضمّ إليه علي بن محمّد بن جعفر العلوي المبايَع له بمكة ، وأبو عبد الله أخو أبي السرايا ومعهم جماعة كثيرة. وكان عيسى بن محمّد قائد إبراهيم العباسي في قصر ابن هبيرة ، فلمّا بلغه خبر الكوفة تهيّأ هو وأصحابه وخرجوا إلى قرية شاهي في الثاني من جمادى الأُولى.

فوجّه العباس بن موسى بن جعفر إليهم بابن عمّه علي بن محمّد بن جعفر العلوي مع أخي أبي السرايا ، فلمّا صار عسكر عيسى قرب القنطرة خرج عليهم علي بن محمّد بن جعفر العلوي ، فقاتلوهم ساعة ثمّ انهزم علي وأصحابه حتّى دخلوا الكوفة ، وجاء جند إبراهيم العباسي حتّى نزلوا الحيرة وخرج إليهم العباسيون من الكوفة.

فلمّا رأى ذلك رؤساء أهل الكوفة أتو إلى جند إبراهيم العباسي وسألوهم الأمان للعباس بن موسى وأصحابه ليخرجوا من الكوفة ، فأجابوهم إلى ذلك.

فأتوا العباس وقالوا له : إنك ترى ما يلقى الناس من القتل والحرق والنهب ، وإن عامة من معك الغوغاء! فاخرج من بين أظهرنا فلا حاجة لنا فيك! وخاف أن يُسلموه فقبل منهم.

فلمّا كان الخامس من جمادى الأُولى جاء سعيد وأبو البط من جند إبراهيم العباسي حتّى دخلوا الكوفة ونادى مناديهم : بأمن الأبيض والأسود!


ولم يعرضوا لهم ، وولّوا على الكوفة من أهلها الفضل بن محمّد الكندي! ثمّ ولّوها غسّان بن أبي الفرج فظفر بأبي عبد الله أخي أبي السرايا فقتله.

وكان الحسن بن سهل انزاح بقواته إلى واسط ، فأمر إبراهيم العباسي جنده أن يجتمعوا إلى واسط لقتال سهل ، فخرجوا إليهم يوم السبت لأربع بقين من رجب سنة (٢٠٢ ه‍) فاقتتلوا قتالاً شديداً إلى الزوال ثمّ وقعت الهزيمة على قوّات عيسى وأصحاب إبراهيم العباسي فانهزموا حتّى بلغوا النيل وطرفايا ، وغنم أصحاب الحسن بن سهل كل ما كان في عسكرهم من سلاح ودواب.

فلمّا صارت الهزيمة على أصحاب عيسى بن محمّد وجند إبراهيم العباسي دخلوا بغداد فعدوا على سهل بن سلامة الأنصاري الخراساني ، لأنّه كان يذكرهم بأسوأ أعمالهم وفعالهم ويسميهم الفسّاق! فقاتلوه أياماً حتّى هزموه يوم السبت لخمس بقين من شعبان ، فاختفى ثمّ أخذوه وحبسوه (١).

ونقل الصدوق عن كتاب (أخبار خراسان) للحسين بن أحمد السلامي قال : لما بلغ خبر الرضا عليه‌السلام إلى العباسيين ببغداد ساءهم ذلك ، فبايعوا إبراهيم بن المهدي العباسي بالخلافة! وفيه قال دعبل بن علي الخزاعي :

يا معشر الأجناد لا تقنطوا

خذوا عطاياكم ولا تسخطوا

فسوف يعطيكم حُنينيةً

يلذّها الأمرد والأشمط

وبالمُعيديات لقوادكم

لا تُدخل الكيس ولا تُربط

وهكذا يرزق أصحابه

خليفة مُصحفه البربط

قال : وذلك أن إبراهيم بن المهدي كان مولعاً بضرب العود منهمكاً في الشرب (٢)! والآن إلى تائية دعبل.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ٥٥٩ ـ ٥٦٣.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٩٥ ، ١٦٦ وفي الكتاب : مؤلفاً ، تصحيف.


دعبل الخزاعي لدى الرضا عليه‌السلام :

في أواسط العشر الأوائل من شهر رمضان سنة (٢٠١ ه‍) تمّت بيعة الرضا عليه‌السلام ، فكانت بقية الشهر كافية لانتشار أخبارها ووصولها إلى دعبل بن علي الخزاعي (١) أينما كان ، بل كانت كافية لوصولها مع كراهة الرضا عليه‌السلام لها وعدم رضاه بها. وسائر الوقت إلى أواسط العشر الأوائل من المحرم عام (٢٠٢ ه‍) كان كافياً لوصوله بقصيدته التائية إلى الرضا عليه‌السلام في مرو ، خالية من ذكر العهد ووافية بذكر مصائب عاشوراء الحسين عليه‌السلام.

قال عبد الله بن المعتز العباسي (م ٢٩٦ ه‍) في ترجمة دعبل ـ وهو أقدم ذكر له فيما بأيدينا ـ قال : وهو صاحب القصيدة التائية في آل الرسول ، التي أولها : «مدارس آيات خلت من تلاوة» وهي أشهر من الشمس! فلا حاجة لنا إلى تضمينها ولا تضمين شيء منها (٢) فبذريعة الشهرة تفصّى عن ذكرها! ومعاصره الكشي قال : بلغني أن دعبل الخزاعي وفد إلى أبي الحسن الرضا بخراسان ، فلمّا دخل عليه قال له : إني قد قلت قصيدة (فيكم) وجعلت على نفسي أن لا انشدها أحداً أوّل منك (أي قبلك) فقال : هاتها. فأنشده قصيدته ، فلمّا فرغ من إنشاده قام أبو الحسن ودخل منزله وبعث بخرقة فيها (ستمئة دينار) على يد جارية وقال لها : قولي له : يقول لك مولاي : استعن بهذه على سفرك ، واعذرنا!

__________________

(١) البغدادي في تاريخ بغداد ٨ : ٣٨٥ : عن إسماعيل ابن أخي دعبل : أن اسمه كان عبد الرحمن وإنما دايته رأت فيه دعابة فأرادت تشبيهه بذعبل فقالت : دعبل فغلب عليه! وذعبل كان يضرب به المثل في دعابته.

(٢) طبقات الشعراء : ٢٦٧.


فلم يقبلها دعبل وقال : لا والله ما هذا أردت ولا له خرجت (إلى هنا) ولكن قولي له : هب لي ثوباً من ثيابك! فرجعت الجارية بجوابه فأخرج له جبة من ثيابه وبعث بها معها إليه وقال لها : قولي له : خذهما ، فأخذهما (١).

وقال المسعودي (م ٣٤٦ ه‍) : قال دعبل بن علي الخزاعي في قصيدة له أولها : «مدارس آيات خلت من تلاوة» ثمّ ذكر بيتين في مواضع بعض قبورهم (٢).

وقال الإصفهاني الأموي (م ٣٥٦ ه‍) : قصد بها علي بن موسى الرضا عليه‌السلام بخراسان ، قال : دخلت عليه فأنشدته .. حتّى انتهيت إلى آخرها ، فقال لي ثلاث مرات : أحسنت ، ثمّ أمر (بعشرة آلاف درهم) مما ضُرب باسمه ولم تكن دُفعت بعدُ إلى أحد! وأمر الخادم فأخرج لي من منزله حلياً كثيراً .. فحصل لي (مئة ألف درهم) واستوهب منه ثوباً قد لبسه ، ليجعله في أكفانه ، فخلع جبّة كانت عليه وأعطاها له (٣) ولم يذكر تمام القصيدة في كل كتابه الطويل!

وأسند الصدوق عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي ـ وكأنه كان حاضراً ـ قال : دخل دعبل على الرضا عليه‌السلام في مرو فقال له : يابن رسول الله ، إنّي قد قلت فيك (فيكم ظ) قصيدة وآليت على نفسي أن لا أنشدها أحداً قبلك.

فقال عليه‌السلام : هاتها ، فأنشده :

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٥٠٤ ـ ٥٠٥ ، الحديث ٩٧٠ بتصرف يسير. والظاهر أن كلمة الجارية مصحف عن الخادم كما في الأخبار التالية.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٢٩٧.

(٣) الأغاني ٢٠ : ١٣٢ و ١٦٢ وانظر الغدير ٣ : ٤٩٧.


مدارس آيات خلت من تلاوة

ومنزل وحي مقفر العرصات (١)

ثمّ لم يذكر من شعر دعبل إلّامواقع تعليق الرضا عليه‌السلام وسنأتي عليها.

وأول من أكمل خبره وشعره فيما بأيدينا هو محمّد بن عمران المرزباني الخراساني البغدادي (م ٣٨٤ ه‍) فنحن هنا ننقل القصيدة عنه وتعاليق الرضا عليه‌السلام عن الصدوق.

مدارس آيات خلت من تلاوة

ومنزل وحي مقفر العرصات

لآل رسول الله بالخَيف من مِنى

وبالبيت والتعريف والجمرات

ديار لعبد الله بالخيف من منى

وللسيد الداعي إلى الصلوات

ديار علي والحسين وجعفر

وحمزة والسجاد ذي الثفنات

ديار لعبد الله والفضل صنوه

نجيّ رسول الله في الخلوات

وسبطي رسول الله وابني «وصيه»

ووارث «علم الله» والحسنات

منازل وحي الله ينزل بينها

على أحمد المذكور في السورات

منازل قوم يُهتدى بهُداهم

فتؤمَن منهم زلة العثرات

منازل كانت للصلاة وللتقى

وللصوم و «التطهير» والحسنات

منازل جبريلُ الأمين يَحِلّها

من الله بالتسليم والرحمات

منازل وحي الله خزّان «علمه»

سبيل رشاد واضح الطرقات

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٦٣ ، الحديث ٣٤ ، وفي الحديث ٣٥ عن دعبل وهنا أرسل الفتال النيشابوري في روضة الواعظين ١ : ٢٧٠ قال : وليس هذا البيت رأس القصيدة ، ولكن أنشدها من هذا البيت ، فقيل له : لِمَ بدأت بمدارس؟ قال : «استحييت من الإمام أن أنشده التشبيب فأنشدته من المناقب» ورأس القصيدة : «تجاوبن بالأرنان والزفرات» واختصره الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٦٧. ونحن في الكتاب نأتي بما أنشده للإمام عليه‌السلام ونترك تشبيبه كما تركه نحو (٣٠) بيتاً.


منازل لا «تيم» يحِل بربعها

ولا ابن «صهاك» فاتك الحُرمات!

ديار عفاها جور كل منابذ

ولم تَعفُ للأيام والسنوات

فيا وارثي «علم» النبيّ وآله

عليكم سلام دائم النفحات

* * *

قفا نسأل الدار التي خفّ أهلها

متى عهدها بالصوم والصلوات

وأين الأُولى شطّت بهم غربة النوى

أفانين في الآفاق مفترقات

همُ أهل «ميراث» النبيّ إذا اعتزوا

وهم خير سادات وخير حُمات

مطاعيم في الإعسار في كل مشهد

لقد شرّفوا بالفضل والبركات

لقد آمنت نفسي بكم في حياتها

وإني لأرجو الأمن عند مماتي

وهنا رواها الصدوق عن أبي الصلت الهروي كما يلي :

لقد خفت في الدنيا وأيام سعيها

وإني لأرجو الأمن بعد وفاتي

فقال له الرضا عليه‌السلام : آمنك الله يوم الفزع الأكبر.

إذا لم نناجي الله في صلواتنا

بأسمائهم ؛ لم يَقبل الصلوات!

وما الناس إلّاحاسدٌ ومكذّبٌ

ومضطغنٌ ذوا إحنة وتِرات

إذا ذكروا قتلى ببدر وخيبر

ويوم حُنين ، أسبلوا العبرات!

فكيف يحبون النبيّ ورهطه

وهم تركوا أحشاءهم وَغِرات؟!

لقد لاينوه في المقال واضمروا

قلوباً على الأحقاد منطويات!

فإن لم تكن إلّابقربى محمّد

فهاشم أولى من هنٍ وهنات!

* * *

سقى الله قبراً بالمدينة غيثه

فقد حلّ فيه الأمن بالبركات

نبي الهدى صلّى عليه مليكه

وبلّغ عنا روحه التحفات

وصلّى عليه الله ما ذرّ شارق

ولاحت نجوم الليل مبتدرات

* * *


أفاطم لو خلت الحسين مجدّلاً

وقد مات عطشاناً بشطّ فرات

إذن للطمت الخدّ فاطم عنده

وأجريت دمع العين في الوجنات

أفاطم قومي يابنة الخير واندبي

نجوم سماوات بأرض فلات

قبور بكوفان وأُخرى بطيبة

وأُخرى بفخٍّ نالها صلواتي

وأُخرى بأرض الجوزجان محلّها

وقبر بباخمرا لدى الغربات

وقبر ببغداد لنفس زكية

تضمّنها الرحمان في الغرفات

وهنا روى الصدوق عن الهروي : أنّ الرضا عليه‌السلام قال لدعبل : أفلا الحق لك بهذا الموضع بيتين بهما تمام (كمال) قصيدتك؟ قال : بلى يابن رسول الله ، فقال عليه‌السلام :

 «وقبر بطوس يا لها من مصيبة

توقَّد في الأحشاء بالحرقات

إلى الحشر حتّى يبعث الله قائماً

يفرّج عنا الهمّ والكربات»

فقال دعبل : يابن رسول الله ، هذا القبر الذي بطوس قبر مَن هو؟

فقال الرضا عليه‌السلام : قبري ؛ ولا تنقضي الأيام والليالي حتّى تصير طوس مختلف «شيعتي» وزوّاري! ألا فمن زارني في غربتي بطوس كان معي في درجتي يوم القيامة مغفوراً له.

ثمّ أنشد دعبل :

فأما المهمات التي لست بالغاً

مبالغها مني بكنه صفاتي

قبور بجنب النهر من أرض كربلا

معرّسهم فيها بشطّ فرات

توفّوا عطاشا بالفرات فليتني

توفيت فيهم قبل حين وفاتي

وآل رسول الله تسبى حريمهم

وآل زياد آمنوا السَربات!

وآل زياد في القصور مصونةٌ

وآل رسول الله في الفلوات!

إلى الله أشكو لوعة عند ذكرهم

سقتني بكأس الثُكل والفضعات


أخاف بأن أزدارَهم فتشوقني

مصارعهم بالجزع بالنخلات

تقسّمهم ريب الزمان كما ترى

لهم عقوة مغشية الحجرات

سوى أنّ منهم بالمدينة عصبة

مدى الدهر أنضاءٌ من الأزمات

قليلة زوّار سوى بعض زُوّرٍ

من الضبع والعقبان والرخمات

لهم كل حين نومة بمضاجع

لهم في نواحي الأرض مختلفات

وقد كان منهم بالحجاز وأهلها

مغاوير ، يُختارون في السروات

تنكَّبُ لأواء السنين جوارهم

فلا تصطليهم جمرة الجمرات

حمىً لم تزره المذنبات وأوجه

تضيء لدى الأستار في الظلمات

إذا وردوا خيلاً بسمر من القنا

مساعير جمر الموت والغمرات

وإن فخروا يوماً أتوا بمحمد

وجبريل والفرقان والسورات

وعدّوا علياً ذا المناقب والعلى

وفاطمة الزهراء خير بنات

وحمزة والعباس ذا الهدْي والتقى

وجعفراً الطيار في الحجبات

أُولئك لا منتوج هند وحزبها

سمية من نوكى ومن قذرات

ستُسأل «تيم» عنهم و «عديّها»

و «بيعتهم» من أفجر الفجرات!

همُ منعوا الآباء من أخذ حقهم

وهم تركوا الأبناء رهن شتات!

وهم عدلوها عن «وصي» محمّد

فبيعتهم جاءت عن الغدرات

***

مَلامَك في «أهل النبي» فإنهم

أحبّاي ما عاشوا وأهل ثقاتي

تخيّرتهم رشداً لأمري ، فإنهم

على كل حال خيرة الخيرات

نبذت إليهم بالمودة صادقاً

وسلّمت نفسي «طائعاً لولائي»

فيا رب زدني من «يقيني» بصيرة

وزد حبّهم يا ربّ في حسناتي

سأبكيهمُ ما حجّ لله راكب

وما ناح قمريٌ على الشجرات


بنفسي أنتم من كهول وفتية

لفك عناءٍ أو لحمل ديات

وللخيل لما قيّد الموتُ خَطوها

فاطلقتمُ منهن بالذَّربات

أحبّ قصيّ الرحم من أجل حبكم

وأهجر فيكم اسرتي وبناتي

و «اكتم حبّيكم» مخافة كاشح

عنيد لأهل الحق غير مُواتي

فيا عين بكيّهم وجودي بعبرة

فقد آن للتسكاب والهملات

لقد حفّت الأيام حولي بشرّها

وإني لأرجو الأمن بعد وفاتي

ألم ترَ أني مذ ثلاثين حجةً

أروح وأغدو دائم الحسرات

أرى فيئهم في غيرهم متقسّماً

وأيديَهم من فيئهم صفِرات

وهنا روى الصدوق عن الهروي قال : بكى أبو الحسن الرضا وقال له : صدقت يا خزاعي! وقال :

فكيفَ أُداوي من جوىً لي والجوى

أُمية أهل الفسق والتبعات

فآل رسول الله نُحفٌ جسومهم

وآل زياد حُفّل القصرات

سأبكيهمُ ما ذرّ في الأرض شارق

ونادى منادي الخير بالصلوات

وما طلعت شمس وحان غروبها

وبالليل أبكيهم وبالغُدوات

ديار رسول الله أصبحن بَلقعاً

وآل زياد تسكن الحجرات!

وآل رسول الله تُدمى نحورهم

وآل زياد آمنوا السَربات

إذا وُتروا مدوا إلى واتريهُم

أكفاً عن الأوتار منقبضات


وهنا روى الصدوق عن الهروي : أنّ أبا الحسن الرضا جعل يقلب كفّيه ويقول : أجل والله منقبضات! ثمّ أنشد دعبل يقول :

فلولا الذي أرجوه في اليوم أو غدٍ

تقطّع قلبي إثرهم حسرات

خروج إمام لا محالة خارج

يقوم على اسم الله والبركات

يميّز فينا كل حق وباطل

ويجزي على النعماء والنقمات

وهنا روى الصدوق عن الهروي عن دعبل! وكأن الهروي لم يكن حاضراً هنا ، قال دعبل : فلمّا انتهيت من قولي ذلك بكى الرضا عليه‌السلام بكاءً شديداً ثمّ رفع رأسه إليّ وقال لي : يا خزاعي ، نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين ، فهل تدري من هذا الإمام؟ ومتى يقوم؟ فقلت : لا يا سيدي ، إلّاأني سمعت بخروج إمام منكم يطهّر الأرض من الفساد ويملأها عدلاً!

فقال : يا دعبل ؛ الإمام بعدي محمّد ابني ، وبعد محمّد ابنه علي ، وبعد علي ابنه الحسن ، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته ، المطاع في حضرته ، ولو لم يبق من الدنيا إلّايوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يخرج فيملأها عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً! وأما متى؟ فإخبار عن الوقت.

ولقد حدثني أبي عن أبيه عن آبائه عن علي عليه‌السلام : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قيل له : يا رسول الله متى يخرج القائم من ذريتك؟ فقال : إنّ مَثَله مَثَل الساعة (لَايُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَاتَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً (١)) ثمّ أنشد دعبل يقول :

سأقصر نفسي جاهداً عن جدالهم

كفاني ما ألقى من العبرات

فيا نفس طيبي ثمّ يا نفس أبشري

فغير بعيد كل ما هو آت

ولا تجزعي من مدة الجور أنني

أرى قوتي قد آذنت بشتات

فإن قرّب الرحمن من تلك مدتي

وأخّر من عمري لطول حياتي ..

شفيت ولم أترك بنفسي رزية

وروّيت منهم منصلي وقناتي!

__________________

(١) الأعراف : ١٨٧ ، والخبر في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٦٥ ، ٢٦٦ ، الحديث ٣٥ وليس فيه أنّه عليه‌السلام قام ووضع يده على رأسه ودعا له بالفرج ، مما زيد على الخبر أخيراً ، انظر الغدير ٣ : ٥١١.


فإني من الرحمن أرجو بحبّهم

حياةً لدى الفردوس غير بتات

عسى الله أن يرتاح للخلق إنّه

إلى كل قوم دائم اللحظات

فإن قلت عرفاً أنكروه بمنكر

وغطّوا على التحقيق بالشبهات

اُحاول نقل الشمس عن مستقرها

واُسمع أحجاراً من الصلدات

فمن عارف لم ينتفع ، ومعاند

يميل مع الأهواء والشهوات

قصاراى منهم أن أموت بغصة

تردّد بين الصدر واللهوات

كأنك بالاضلاع قد ضاع رحبها

لما ضُمّنت من شدة الزفرات (١)!

آثار القصيدة وتوابعها :

قال الهروی : وبعد فراغ دعبل من انشاد القصيدة نهض الرضا عليه السلام وأمره أن لا يبرح من موضعه ، ودخل الدار ، فخرج الخادم إليه بصرّة فيها (مئة دينار رضوية)؟ فقال له : يقول لك مولاي : اجعلها في نفقتك. فقال دعبل : والله ما لهذا جئت ، ولا قلت هذه القصيدة طمعاً في شيء يصل إليّ. ولم يأخذ الصرّة ، وسأله ثوباً من ثياب الرضا ليتبرك ويتشرف به. فعاد الغلام ورجع ومعه جبة خزّ والصرة وقال : قال لي مولاي : قل له : خذ هذه الصرة فإنّك ستحتاج إليها ولا تراجعني فيها. فأخذ دعبل الجبة والصرة وانصرف (٢).

وأرسل المرزباني الخراساني البغدادي عن دعبل الزاعي البغدادي قال : اتصل خبري بالمأمون فأحضرني وأمرني بإنشادها له ، فقلت : لا أعرفها! فقال لأحد غلمانه : يا غلام سل ابن عمي الرضا أن يحضر! فلمّا حضر قال له :

__________________

(١) أخبار شعراء الشيعة للمرزباني : ٩٧ ـ ١٠٣.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ٢٦٤ ، الحديث ٣٤.


یا أبا الحسن ، إنّي قلت لدعبل ينشدني «مدارس آيات ..» فذكر أنّه لا يعرفها! فالتفت الرضا عليه السلام إليّ : أنشدها. فاندفعت أنشد ... فأمر لي المأمون (بخمسين ألف درهم) ، و (قد) أمر لي الرضا عليه السلام بمثلها.

وأمر لي الفضل بن سهل (وكان حاضراً) ببرذون أصفر حملني عليه وكان يوماً مطيراً فكان عليه ممطر خزّ سوسي وبُرنس منه ، فآثرني به ودعا لنفسه بغيره وقال لي : إنّما آثرتك بذلك لأنّه خير الممطرين ، وسايرني.

قال : وقضيت حوائجي ، وكررت راجعاً إلى العراق (بغداد) في قافلة ، فلمّا مرّت القافلة بين أكراد يُعرفون بالشادنجان قطعوا علينا الطريق وسلبوا القافلة وسلبوني ، وكان يوماً مطيراً ، فلبس الممطر (الذي أعطانيه الفضل) وركب البرذون الاصفر الذي حملني عليه الفضل ووقف بقربي ، ولم يبقوا عليَّ غير قميص خلق ، فاعتزلت وأكثر أسفي على الثوب والمنشفة التي وهبها لي الرضا عليه السلام وأنا اُحدّث نفسي أنّني أسألهم إياهما. فبينا أنا في غمرة الفكرة وإذا بالكردي الذي على برذوني وعليه الممطر وهو يرى نهب القافلة أنشد من شعري :

أرى فيئهم في غيرهم متقسّماً

وأيديهم من فيئهم صفرات

وبكى واستمر في القصيدة ، فعجبت من لصّ كردي «يتشيّع» وطعمت في القميص والمنشفة ، فدنوت منه وقلت له : یا سيدي! لمن هذا الشعر؟ فقال : وما أنت وذاك ويلك! قلت : لي فيه سبب اُخبرك به. قال : صاحبها أشهر من أن يُجهل! قلت : مَن هو قال : دعبل ، شاعر آل محمّد ، وجزاه الله خيراً! قلت : فأنا دعبل وهذه قصيدتي! فقال : أتدري ما تقول؟ قلت : سل من أحببت من أهل القافلة يخبرك بذلك! فقال : إذاً والله لا يذهب من القافلة خلال فما فوقه ، والحمدلله الذي أقدرني على قضاء حقك يا شاعر آل محمّد!

ثمّ نادى في أصحابه : من أخذ شيئاً فليرده على صاحبه!


قال دعبل : فردّوا علينا أموالنا حتّى لم يضع لأحدنا عقال (١).

هذا ما أرسله المرزباني الخراساني البغدادي عن دعبل الخزاعي البغدادي.

والصدوق لم ينقل القصيدة وإنّما أسند عن ابراهيم بن هاشم القمي عن أبي الصلت الهروي تعاليق الرضا عليه السلام على أبيات منها وإضافته بيتين منه في قبره بطوس كما سبق ، ثم استمر في ذكر خبري نهب اللصوص ، واختلاس أحداث قم منه الجبّة! كما يأتي. والأولى بالصدوق القمي أن لا يصدّق أن يكون الهروي الخراساني يروي للقمي أخبار قم! بل الصحيح ما في السند الخبر التالي أنّ الهروي يروي عن دعبل :

سار (دعبل) من مرو في قافلة ، فلمّا كان ميان كوهان (بين الجبال ، وليس اسم موضع) وقع عليهم اللصوص (وليس الاكراد) فأخذوا القافلة بأسرها ، وكتّفوا أهلها ، وكان دعبل في من كتف. وتملّك اللصوص القافلة وجعلوا يقسمونها بينهم ، فتمثّل أحدهم بقول دعبل :

أرى فيئهم في غيرهم متقسّماً

وأيديهم من فيئهم صفرات

وسمعه دعبل فسأله : لمن هذا البيت؟ فقال : لرجل من خزاعة يقال له : دعبل بن علي! قال : فأنا دعبل قائل القصيدة التي منها هذا البيت!

وكان رئيسهم يصلّي على رأس التل «وكان من الشيعة»! فوثب هذا الرجل إليه وأخبره ، فجاء بنفسه حتّى وقف على دعبل وقال له : أنت دعبل؟ قال : نعم ، قال : أنشدني القصيدة! فأنشده إياها فحلّ كتافه وأهل القافلة وردّ إليهم ما اُخذ منهم كرامة لدعبل!

وسار دعبل حتّى وصل إلى قم (وكانوا قد علموا بقصيدته)! فسألوه أن

__________________

(١) أخبار شعراء الشيعة للمرزباني : ٩٥ و ١٠٥ ولها في حاشية الصفحتين مصادر اُخرى وفي حاشية الصفحة : ٤٤١ ج ٣ من كشف الغمة ١٥ مصدراً.


ينشدهم قصيدته ، فواعدهم في (المسجد الجامع) فلمّا اجتمعوا صعد المنبر فأنشدهم قصيدته ، فوصله الناس من الخلع والمال بشيء كثير ، وسألوه أن يبيعهم الجبّة بألف دينار! فامتنع ، فقالوا : فشيء منها بألف دينار ، فأبى.

فلمّا سار عن قم وخرج من روستا البلد (قرى البلد) اجتمع بعض شباب العرب ولحقوا به وأخذوا منه الجبّة وعادوا بها إلى قم! فرجع دعبل إلى قم (والقافلة؟) وسألهم الجبّة وأمر المشايخُ الشبابَ بردّها فعصوا المشايخَ في أمرها وامتنعوا وقالوا له : لا سبيل لك إلى الجبّة ، فخذ ثمنها ألف دينار! فأبى ، ولما يئس من ردّهم الجبّة سألهم أن يعطوه منها ، فأعطوه بعضها ودفعوا إليه ثمن باقيها ألف دينار! فانصرف دعبل.

فلمّا وصل إلى منزله (ببغداد) وجد اللصوص قد أخذوا ما فيه! (ولعلّها في فتن بغداد) فباع المئة دينار الرضوية «للشيعة» كل دينار بمئة درهم (بخمسة أضعافها) فحصل في يده عشرة آلاف درهم ، فعندئذ ذكر قول الرضا له : «إنّك ستحتاج إليها».

ورمدت عينا جاريته فأدخل عليها أهل الطبّ فيئسوا من اليمنى ، ثمّ ذكر بقية الجبّة فعصّبها منها بعصابة ليلاً ، فأصبحت وعيناها أصح مما كانتا من قبل ببركة الرضا عليه السلام (١).

استقبال القميين لفاطمة اُخت الرضا :

اذا كانت أخبار أشعار دعبل الخزاعي انتشرت حتى بين اللصوص بين الطرق وبين القميين بقم ، فمن الطبيعي أن تكون قد وصلت إلى عيال الرضا عليه السلام واُسرته بالمدينة.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ٢٦٤ ، ٢٦٥ ، الحديث ٣٤.


وكان له عليه السلام من أبيه وأُمه اُخت تدعى فاطمة ، فاشتاقت إليه. ولعلّها صادفت قافلة من قوافل الحجاج من بلاد الجبال في إيران ، فخرجت معهم ومع خادم لها حتى وصلت إلى بلدة ساوة فمرضت. وكانت تعرف «تشيّع» القميين لهم ، فسألت : كم بينها وبين قم؟ فقالوا : عشرة فراسخ (٥٥ كم تقريباً) فقالت : احملوني إليها.

ووصل خبرها إلى القميين ، وهم بالامس قد احتفلوا في مسجدهم الجامع بالقصيدة الجامعة لشاعر أخيها الرضا عليه السلام وودّعوه متبرّكين ببطانة جبّة الامام عليه السلام ، فعزموا على التبرّك بنزول اُخته فيهم ، فاستقبلها أشراف قم يتقدّمهم شيخهم يومئذ : الشيخ موسى بن خزرج بن سعد الاشعري ، فلما وصل إليها أخذ بزمام ناقتها وجرّها إلى منزله.

فكانت في داره سبعة عشر يوماً مريضة حتى توفيت ، فأمر موسى النساء بتغسيلها وتكفينها ، ثمّ حملوها إلى «مقبرة بابلان» من أراضي موسى الاشعري معهم آل سعد الاشعري ، وحفروا لها سرداباً ، واختلفوا في من ينزّلها ، ثمّ اتفقوا على خادم لهم صالح كبير السنّ يدعى قادر. وإذا براكبين مقبلين متلثمين وصلا وتقرّبا إلى الجنازة فصلّيا عليها. ثمّ نزلا السرداب وأنزلا الجنازة ودفناها ، ثمّ خرجا وركبا وذهبا ولم يكلّما أحداً. وسقّف موسى على قبرها بالبواري.

وعندئذ تذكر القميون ما رووه عن الصادق عليه السلام قال : «قُم ، تُقبض فيها امرأة من ولدي اسمها فاطمة بنت موسى ، وتدخل بشفاعتها شيعتي الجنة» و: قم «ستُدفن فيها امرأة من أولادي تسمّى فاطمة ، فمن زارها وجبت (ثبتت) له الجنة و «إنّ زيارتها تعادل الجنّة» (١).

__________________

(١) الترجمة الفارسية لكتاب تاري قم للمحسن بن محمد القمي (ق ٧ هـ) صفحة : ٢١٣ و ٢١٤ وعنه في بحارالانوار ٤٨ : ٢٩٠ ، الحديث ٩ و ٦٠ : ٢١٩.


ویبدو تأكيداً لتلك المرويات وصل سعد بن سعد الاشعري إلى الرضا عليه السلام فسأله عن زيارتها فقال : «من زارها فله الجنة» (١) ، وفي خبر آخر : أنّ سعداً الاشعري روى لابراهيم بن هاشم : أنّ الرضا عليه السلام قال له : يا سعد ، إنّ لنا قبراً عندكم. قلت له : جعلت فداك ، قبر فاطمة بنت موسى بن جعفر؟ قال : نعم ، ثمّ قال : من زارها عارفاً بحقها فله الجنّة (٢).

ابنتا المأمون للرضا والجواد عليهما السلام :

لم يأمن المأمون من داخل دار الرضا عليه السلام ، حيث لم يفلح في إدخال الجاريتين واحدة بعد الاُخرى إليه ليرقبها بهما ، وقد مرّ خبرهما ، ولم يتكلّم عن جلب عيال الرضا إليه من المدينة ، بل كان له سوى ابنه العباس ابنتان : اُمّ حبيب واُم الفضل ، فتقدّم بالاُولى الكبرى للرضا وبالثانية الصغرى لابنه الجواد عليهما السلام.

وفي تاريخ ذلك نقل الصدوق في موضعين نقلين مختلفين عن كتاب الصُّولي ، نقل في الاول عنه عن عبيدالله بن طاهر بن الحسين الخزاعي

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ٢٦٧ ، ومثله في ثواب الاعمال : ١٢٤ ، الحديث ١ ، وكامل الزيارات لابن قولويه : ٣٢٤ ، الحديث ٦٠.

(٢) بحارالانوار ١٠٢ : ٢٦٥ ، الحديث ٤ ، ومستدرك الوسائل ١٠ : ٣٦٨ ، الحديث ٣ عن بعض كتب الزيارات؟ ثمّ ذكر زيارةً لها ، والتبس الامر على بعضهم فتوهم أن ألفاظ الزيارة من الرواية عن الرضا عليه السلام! يا سلام!

وقد ذكر في الذريعة ٢٤ : ١٠٧ كتاب باسم : نزهة الابرار في نسب اولاد الائمة الاطهار للسيد موسى الموسوي البرزنجي الشافعي المدني ، مطبوع ، ونُقل عنه قوله في تاريخ وفاة فاطمة بنت موسى الكاظم عليه السلام : أنها توفيت في (١٠ ربيع الثاني سنة ٢٠١ هـ). وهذا التاريخ لا يتخلّف كثيراً عن تواريخ رجوع الحجاج في ذلك العهد.


(مولاهم) : أنّ كل ذلك كان في يوم البيعة (١) وفي النقل الثاني عنه عن ابراهيم بن العباس قال : زوّجه ابنته اُمّ حبيب في أول سنة اثنتين ومئتين (٢) والحلبي المازندراني اختار هذا الثاني فقال به قولاً واحداً وزاد : وهو ابن خمس وخمسين سنة (٣) وهذا هو الاولى ، فمن المستبعد جداً أن يكون ذلك في يوم البيعة.

ولعلّ المأمون كان يريد بذلك جواب المعترضين بانتقال الخلافة ، بأنها إنّما تنتقل إلى أصهار العباسيين ثمّ إلى أسباطهم ، ولكنهم لم يقتنعوا بذلك.

فضائل علي عليه السلام لإقناع القواد؟!

مرّ صدر الخبر عن الريّان بن الصلت القمي : أنّ من لم يحبّ بيعة الولاية من الناس وقواد المأمون أكثروا من القول في ذلك ، وكان ذلك قد بلغ المأمون فبعث إليه في جوف الليل ، إلى أن أخبره بأن سبب ذلك عهده الله أن إذا أفضى الله إليه بأمر الخلافة أن يجعلها في موضعها الذي وضعه الله ، فلم ير أحداً أحق بهذا الامر من أبي الحسن الرضا فوضعها فيه. ومحاولة منه لاسترضاء هؤلاء القواد قال للريّان :

يا ريّان ، إذا كان غداً وحضر الناس ، فأقعد بين هؤلاء القوّاد وحدّثهم بفضل أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. قال ريّان : فقلت له : يا أميرالمؤمنين ، ما اُحسن شيئاً من الحديث إلّا ما سمعته منك! فأنا اُحدّث عنك ما سمعته منك من الاخبار؟ فقال : نعم ، حدّث عنّي بما سمعته منّي من الفضائل.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ١٤٧ ، الحديث ١٩.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ٢٤٥ ، الحديث ٢.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٩٧. وكذا في تاريخ الطبري ٧ : ٥٦٦ ويبدو عنه في تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٤.


قال : فلمّا كان الغد ، قعدت في الدار بين القواد وقلت :

حدّثني أميرالمؤمنين عن أبيه عن آبائه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال : «من كنت مولاه فهذا علي مولاه».

وحدّثني أميرالمؤمنين عن أبيه عن آبائه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال : «علي مني بمنزلة هارون من موسى» وحدثت بحديث خيبر والاحاديث المشهورة ، وكنت لا أحفظها على وجهها فأخلط بعض الحديث ببعض.

وكان المأمون قد بعث إلى مجلسنا غلاماً يسمع الكلام فيؤديه إليه! فبعث المأمون إليّ فدخلت عليه ، فلمّا رآني قال لي : يا ريّان! ما أحفظك للأحاديث وما أرواك لها (١)!

وکان الرضا علیه السلام سمع المأمون يروي عن آبائه عن النبي صلّى الله عليه وآله قوله : «حبّ علي إيمان وبغضه كفر» وسأل المأمون الرضا عليه السلام قال : يا أباالحسن أخبرني عن جدك علي بن أبي طالب بأيّ وجه هو قسيم الجنّة والنار فقد كثر فكري في ذلك! فقال له الرضا عليه السلام : يا أميرالمؤمنين! ألم ترو عن أبيك عن آبائه عن عبدالله بن عباس قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول : «حبّ علي ايمان وبغضه كفر»؟ فقال : بلى. فقال الرضا : فقد قسّم الجنة والنار إذا كانت على حبّه وبغضه! فقال المأمون : لا أبقاني الله بعدك يا أباالحسن! أشهد أنك وارث علم رسول الله صلّى الله عليه وآله.

وكان أبو الصلت الهروي حاضراً قال : فلمّا رجع الرضا إلى منزله أتيته فقلت له : يابن رسول الله ما أحسن ما أجبت به أميرالمؤمنين! فقال لي : يا ابا الصلت ، أنا كلّمته حيث هو ـ وإلّا ـ فقد سمعت أبي يحدث عن آبائه عن علي عليه السلام قال : قال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله : «يا علي ، أنت قسيم الجنّة والنار يوم القيامة ،

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥٢ ، ١٥٣ ، الحديث ٢٢.


تقول للنار : هذا لي ، وهذا لك» (١) وعليه فالرضا عليه‌السلام لا يرى المأمون في التشيع حتّى على مستوى أبي الصلت الهروي فما حدّثه بما حدّث به هذا. هذا ، اللهم إلّا أن يقال إنّه كان يتدرج في المعرفة بهم عليهم‌السلام.

ومن تدرّجه ما أخرجه المفيد : أنّ المأمون سأل الرضا عليه‌السلام يوماً عن أكبر فضل لعلي عليه‌السلام مما دلّ عليه القرآن الكريم ، فقال عليه‌السلام : فضيلته في المباهلة ثمّ تلا آية المباهلة ثمّ قال : فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الحسن والحسين ابنيه ودعا فاطمة عليها‌السلام فكانت في هذا الموضع «نساءنا» ودعا أمير المؤمنين عليه‌السلام فكان نفسه بحكم الله عزوجل! وقد ثبت أنّه ليس أحد من خلق الله سبحانه أجلّ من رسول الله وأفضل ، فوجب أن لا يكون أحد أفضل من نفس رسول الله (علي) بحكم الله عزوجل.

فقال المأمون : أليس قد ذكر الله الأبناء بلفظ الجمع وإنّما دعا رسول الله ابنيه خاصة ، وذكر النساء بلفظ الجمع وإنّما دعا رسول الله ابنته وحدها ، فلمَ لا يجوز أن يذكر الدعاء لمن هو نفسه ، ويكون المراد نفسه في الحقيقة دون غيره؟! فلا يكون لأمير المؤمنين عليه‌السلام ما ذكرت من الفضل!

فقال الرضا عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين! ما ذكرت ليس بصحيح ؛ وذلك أن الداعي إنّما يكون داعياً لغيره كما يكون الآمر آمراً لغيره ، ولا يصح أن يكون داعياً لنفسه في الحقيقة ، كما لا يكون آمراً لها في الحقيقة ، وإذا لم يدعُ رسول الله رجلاً في المباهلة إلّاأمير المؤمنين عليه‌السلام فقد ثبت أنّه نفسه التي عناها الله تعالى في كتابه وجعل حكمه ذلك في تنزيله.

فقال المأمون : إذا ورد الجواب سقط السؤال (٢).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٨٦ ، الحديث ٣٠.

(٢) الفصول المختارة من العيون والمحاسن : ٣٨.


ومن الطريف : أنّ المأمون سأل محمّد بن جعفر بن محمّد العلوي قال : كيف رأيت ابن أخيك؟ فقال له : عالم ، ولم نره يختلف إلى أحد من أهل العلم!.

فقال له المأمون : إنّ ابن أخيك من «أهل البيت» الذين قال فيهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ألا إن أبرار «عترتي» وأطائب أُرومتي أحلم الناس صغاراً وأعلم الناس كباراً ، فلا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم ، لا يخرجونكم من باب هدى ولا يدخلونكم في باب ضلالة» (١).

ولعلّ انقطاع الريان القمي عن القيام بين قادة المأمون في مجلسه برواية الحديث في فضائل علي عليه‌السلام كان بأمر من الفضل بن سهل ، والريان ـ كما مرّ ـ كان من رجاله ، أمره برحلة إلى بعض كور خراسان ، فقال لمعمّر بن خلاد الخراساني ، أُحبّ أن تستأذن لي على أبي الحسن فأُسلّم عليه وأُودّعه ، وأُحبّ أن يكسوني من ثيابه (كما فعل دعبل) وأن يهب لي من الدراهم التي ضُربت باسمه!

قال معمّر : فدخلت على الرضا عليه‌السلام فقال لي مبتدئاً : يا معمّر! ريّان يحبّ أن يدخل علينا وأكسوه من ثيابي واعطيه من دراهمي؟ قال : فقلت : سبحان الله! والله ما سألني إلّاأن أسألك ذلك له. فقال لي : يا معمّر. إنّ المؤمن موفّق (أي إن علمه بذلك من توفيق الله له) ثمّ قال لي : قل له فليجيء! فدخل عليه فسلّم ، فدعا بثوب من ثيابه له وأعطاه في يده شيئاً ، فلمّا خرج سألته : أيّ شيء أعطاك؟ ففتح يده وإذا فيه ثلاثون درهماً (٢)!

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٠٤.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٥٤٧ ، الحديث ١٠٣٦ وقبله مثله في قرب الاسناد عن الريان : ٢٧١ ، الحديث ١٢٦٩ ، وعيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٠٨ ، الباب ٤٧ ، الحديث ١٠ ، وفيه : ثوبين من ثيابه.


وإنّما كان سفر الريّان هذا بعد ما حرّك المأمون به الساكن ممّا قرّر معه الاستمرار والإصرار عليه.

احتجاج المأمون على العباسيين :

قال ابن طاووس : من الطرائف المشهورة : ما بلغ إليه المأمون من مدح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأهل بيته عليهم‌السلام ، ما ذكره ابن مسكويه الرازي (م ٤٣١ ه‍) صاحب التاريخ ، في كتاب سمّاه «نديم الفريد» حيث ذكر أن بني هاشم (بني العباس) كتبوا كتاباً إلى المأمون عاتبوه فيه على اتخاذه الرضا عليه‌السلام وليّ عهده ، ويسألونه البيعة لابنه العباس بولاية عهده ، فأجابهم ما هذا لفظه :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآل محمّد على رغم أنف الراغمين!

أما بعد ، فقد عرف المأمون كتابكم وتدبير أمركم ، ومخَض زبدتكم وأشرف على قلوب صغيركم وكبيركم ، وعرفكم مقبلين ومدبرين ، وما آل إليه ما بكم قبل كتابكم في مراوضة الباطل ، وصرْف وجوه الحق عن مواضعها ، ونبذكم كتاب الله تعالى والآثار ، وكل ما جاءكم به الصادق محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى كأنكم من الأُمم السالفة التي هلكت بالخسفة والغرق والريح والصيحة والصواعق والرجم! (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (١)).

وحقِّ الذي هو أقرب إلى المأمون من حبل الوريد لولا أن يقول قائل : إنّ المأمون ترك الجواب عجزاً ؛ لما أجبتكم ، من سوء أخلاقكم وقلة أخطاركم ، وركاكة عقولكم ، ومن سخافة ما تأوون إليه من آرائكم ، فليستمع مستمع ، وليبلِّغ الشاهد الغائب.

__________________

(١) محمّد : ٢٤.


أما بعد ، فإنّ الله تعالى بعث محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله على فترة من الرسل ، وقريش في أنفسها وأموالها لا يرون أحداً يساميهم ولا يباريهم! فكان نبياً أميناً ، من أوسطهم بيتاً وأقلهم مالاً. وكانت خديجة بنت خويلد أول من آمنت به (كذا) فواسته بمالها ، ثمّ آمن به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ابن تسع سنين (كذا) ولم يُشرك بالله شيئاً طرفة عين ، ولم يعبد وثناً ولم يأكل رباً (في إشارة إلى جدهم العباس) ولم يشاكل الجاهلية في جهالاتهم.

وكانت عمومة رسول الله إمّا مسلم مهَين (كذا) أو كافر معاند ، إلّاحمزة ، فإنه لم يمتنع من الإسلام .. وأما أبو طالب فإنه كفله وربّاه ، ولم يزل مدافعاً عنه ومانعاً منه. فلمّا قبض الله أبا طالب همّ القوم وأجمعوا عليه ليقتلوه ، فهاجر إلى القوم (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١)).

فلم يقم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من المهاجرين أحد كقيام علي بن أبي طالب عليه‌السلام فإنه آزره ووقاه بنفسه ونام في مضجعه ، ثمّ لم يزل بعد ينازل الأبطال ولا ينكل عن قِرن ولا يولّى عن جيش ، منيع القلب ، يؤمَّر على الجميع ولا يؤمَّر عليه أحد ، أشد الناس وطأة على المشركين ، وأعظمهم جهاداً في الله ، وأفقههم في دين الله ، وأقرأهم لكتاب الله ، وأعرفهم بالحلال والحرام ، وهو صاحب الولاية في حديث «خم» وصاحب قوله : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّاأنّه لا نبيّ بعدي» وصاحب يوم «الطائف» إذ كان أحبّ الخلق إلى الله وإلى رسول الله ، ومن فتح له بابه وسدّ أبواب المسجد ، وهو صاحب الراية يوم «خيبر»

__________________

(١) الحشر : ٩.


وصاحب عمرو بن عبد وَدّ في المبارزة (في الخندق) وأخو رسول الله حين آخى بين المسلمين ، وهو صاحب قوله سبحانه : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (١)).

وهو زوج فاطمة سيدة نساء أهل الجنة وسيدة نساء العالمين ، وهو ختن خديجة وابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو ابن أبي طالب في نصرته وجهاده ، وهو نفس رسول الله في يوم «المباهلة».

وهو الذي لم يكن أبو بكر وعمر ينفّذان حكماً حتّى يسألانه عنه! فما رأى إنفاذه نفّذاه وإلّا ردّاه! وهو الذي أُدخل في «الشورى» من بني هاشم ، ولعمري لو قدروا على دفعه عنه كما دفعوا العباس ووجدوا إلى ذلك سبيلاً لدفعوه!

وأما تقديمكم العباس عليه فإنّ الله يقول : (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لَايَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ (٢)).

والله لو كان ما في أمير المؤمنين من الفضائل والمناقب والآي المفسَّرة من القرآن ، في رجل واحد من رجالهم غيره خَلّة واحدة ، لكان بتلك الخَلّة متأهّلاً مستأهلاً للخلافة مقدَّماً على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله!

ثمّ لم تزل الأُمور إلى أن ولي أُمور المسلمين ، فلم يُعن بأحد من بني هاشم عنايته بعبد الله بن عباس! تعظيماً لحقه وصلة لرحمه وثقة به! فكان من أمره ما يغفر الله له (٣)!

__________________

(١) هل أتى : ٨.

(٢) التوبة : ١٩.

(٣) يبدو أنّه يشير إلى تهمة اختلاسه من بيت مال البصرة ، وقد مرّ الجواب والصواب فيها فراجع وانظر.


ثمّ نحن وهم كما زعمتم يد واحدة ، حتّى قضى الله بالأمر إلينا (!) فأخَفناهم وضيّقنا عليهم ، وقتلناهم أكثر من قتل بني أُمية إياهم! فإنّ بني أُمية إنّما قتلوا منهم من سلّ سيفاً! وإنّا معشر بني العباس قتلناهم جُملاً! فلتُسألنّ أعظُمٌ هاشمية : (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (١)) ولتُسألنّ نفوس القيت في دجلة والفرات ، ونفوس دُفنت ببغداد والكوفة أحياءً! هيهات إنّه (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه (٢)).

وأما ما وصفتم من أمر «المخلوع» وما كان فيه من لَبس ، فلعمري ما لبَّس عليه أحد غيركم! إذ هوّنتم عليه النكث وزيّنتم له الغدر! وقلتم له : ما عسى أن يكون من أمر أخيك وهو رجل مُغرَّب! ومعك الأموال والرجال تَبعث عليه فيؤتى به! فكذبتم! ونسيتم قول الله تعالى : (ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللهُ (٣)).

أما ما ذكرتم من (لزوم) استبصار المأمون في البيعة لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام فإنه ما بايع المأمون إلّامستبصراً في أمره ، عالماً بأنه لم يبقَ أحد على ظهرها أبين فضلاً ولا أظهر عفة ولا أورع ورعاً ولا أزهد زهداً في الدنيا ، ولا أطلق نفساً ولا أرضى في الخاصة والعامة ، ولا أشدّ في ذات الله منه! وإنّ البيعة له لموافقة لرضا الربّ عزوجل. ولقد جهدت ، وما أجد في الله لومة لائم. ولعمري أن لو كانت بيعتي معه محاباةً لكان العباس ابني وسائر ولدي (؟) أحبّ إلى قلبي وأجلى في عيني ، ولكن أردت أمراً وأراد الله أمراً فلم يسبق أمري أمر الله.

__________________

(١) التكوير : ٩.

(٢) الزلزلة : ٧ و ٨.

(٣) الحج : ٦٠.


وأما ما ذكرتم ممّا مسّكم من الجفاء في ولايتي ، فلعمري ما كان ذلك إلّا منكم بمُظافرتكم عليه ومُمايلتكم إياه (المخلوع) فلمّا قتلته تفرّقتكم عباديد : فطوراً أتباعاً لابن أبي خالد (١) وطوراً أتباعاً لأعرابي (٢) وطوراً أتباعاً لابن شِكلة (٣) ثمّ لكل من سلّ سيفاً عليَّ! ولولا أن شيمتي العفو وطبيعتي التجاوز ما تركت على وجهها منكم أحداً! فكلكم حلال الدم مُحلّ بنفسه!

وأما ما سألتم من البيعة للعباس ابني (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ (٤)) ويلكم! إنّ العباس غلام حدث السنّ ولم يؤنس رشده ، ولم يمهل وحده ولم تحكمه التجارب ، تدبّره النساء وتتكفّله الإماء. ثمّ هو لم يتفقه في الدين ولم يعرف حلالاً من حرام ، إلّامعرفة لا تأتي به رعية ولا تقوم به حجة. ولو كان مستأهلاً قد أحكمته التجارب ومتفقّهاً في الدين ؛ وبلغ مبلغ أمير العدل في الزهد في الدنيا وصرف النفس عنها ؛ ما كان له عندي في الخلافة إلّاما كان لرجل من عَكّ وحِميَر! فلا تكثروا في هذا المقال فإنّ لساني لم يزل مخزوناً عن أُمور وأنباء كراهية أن تخبث النفوس عندما تنكشف! علماً بأن الله بالغٌ أمرَه ومظهر قضاه يوماً.

وإن أبيتم إلّاكشف الغطاء وقشر اللحاء ؛ فالرشيد أخبرني عن آبائه عما وَجد في كتاب الدولة وغيره : أن السابع من ولد العباس لا تقوم بعده

__________________

(١) محمّد بن أبي خالد من قواد الحسن بن سهل والواثب المتمرّد عليه ، مرّ خبره.

(٢) لعلّه يريد سهل بن الحسن الخراساني الأنصاري البغدادي الثائر بعنوان الأمر بالمعروف ، مرّ خبره.

(٣) ابن شكلة ، نُسب إلى أُمه وهو إبراهيم بن المهدي العباسي بويع بعد الأمين بدل المأمون ، مرّ خبره.

(٤) البقرة : ٦١.


لبني العباس قائمة ، فالنعمة لا تزال عليهم متعلقة بحياته! فإذا فقدتم شخصي فاطلبوا لأنفسكم معقلاً! وهيهات! ما لكم إلّاالسيف! يأتيكم الحسني (الحسيني) الثائر البائر فيحصدكم حصداً! أو السفياني المُرغِم! والقائم المهدي لا يحقن دماءكم إلّابحقها!

وأما ما أردت من البيعة لعلي بن موسى ؛ فبعد استحقاق منه لها في نفسه واختيار منّي له ، فما كان ذلك مني إلّالأن أكون الحاقن لدمائكم والذائد عنكم ، باستدامة المودّة بيننا وبينهم ، وهي الطريق التي أسلكها في إكرام آل أبي طالب ، ومواساتهم في الفيء بيسير ما يصيبهم منه!

وإن زعمتم أن أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة ؛ فإني في التدبير والنظر لكم وأبنائكم ولعقبكم من بعدكم ، وأنتم ساهون لاهون تائهون ، وفي غمرة تعمهون ، لا تعلمون ما يراد بكم ، وما أظللتم عليه من النقمة وابتزاز النعمة.

همّة أحدكم أن يُمسى مركوباً! ويصبح مخموراً! تباهون بالمعاصي وتبتهجون بها ، وألهتكم البرابط! مخنّثون مؤنثون! لا يفكر مفكر منكم في إصلاح معيشة ولا استدامة نعمة ولا اصطناع مكرمة ، ولا كسب حسنة يمدّ بها عنقه (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (١)) أضعتم الصلوات واتّبعتم الشهوات ، وأعرضتم عن الغنيمات وأكببتم على اللذات (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (٢)).

وأيم الله لربّما أُفكّر في أمركم فلا أجد أُمة من الأُمم استحقوا العذاب حتّى نزل بهم ، لخُلّة من الخِلال ، إلّاأني أُصيب تلك الخُلّة بعينها فيكم! مع خِلال كثيرة لا أظن أن إبليس اهتدى إليها ولا أمر بالعمل بها! وقد أخبر الله عن قوم صالح أنّه

__________________

(١) الشعراء : ٨٨ ـ ٨٩.

(٢) مريم : ٥٩.


(وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (١)) فأيكم لا يكون معه تسعة وتسعون من المفسدين في الأرض ، قد اتّخذتموهم شعاراً ودثاراً ، استخفافاً بالعباد وقلة يقين بالحساب ، فأيكم له رأي يُتّبع أو روية تنفع؟! فشاهت الوجوه وعُفّرت الخدود!

وما ذكرتم من عثرتي في أبي الحسن «نوّر الله وجهه» ، فلعمري إنها عندي النهضة والاستقلال! الذي أرجو به قطع الصراط ، والأمن والنجاة من الخوف يوم الفزع الأكبر ، ولا أظن أني عملت عملاً أفضل من ذلك عندي إلّاأن أعود بمثلها إلى مثله ، وأنى بذلك وأنى لكم بتلك السعادة؟!

وأما قولكم : إني سفّهت آراء آبائكم وأحلام أسلافكم! فكذلك قال مشركو قريش : (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢)) ويلكم! إنّ الدين لا يؤخذ إلّامن الأنبياء! فافقهوا! وما أراكم تعقلون.

وأما تعبيركم إياي بسياسة المجوس إياكم! فما يدفعكم الأنفةُ من ذلك (حتّى) لو ساستكم القردة والخنازير! (ولكنكم) ما أردتم إلّاأمير المؤمنين! ولعمري لقد كانوا مجوساً فأسلموا ، كآبائنا وامهاتنا في القديم! فهم المجوس الذين أسلموا وأنتم المسلمون الذين ارتدّوا ، فمجوسيّ أسلم خير من مسلم ارتدّ! فإنهم يتناهون عن المنكر ويأمرون بالمعروف ، ويتقربون من الخير ويتباعدون من الشرّ ، ويذبّون عن حرم المسلمين ، ويبتهجون بما ينال الشرك وأهله من النُكر ، ويتباشرون بما نال الإسلام وأهله من الخير (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٣)).

__________________

(١) النمل : ٤٨.

(٢) الزخرف : ٢٣.

(٣) الأحزاب : ٢٣.


وأنتم ليس منكم إلّالاعب بنفسه! مأفون في عقله وتدبيره ، مغنٍّ أو ضارب دفّ أو زامر! والله لو أن بني أُمية الذين قتلتموهم بالأمس نُشروا فقيل لهم : لا تأنفوا من المعايب! لما زادوا على ما صيّرتموه لكم شعاراً ودثاراً وصناعة وأخلاقاً! ليس فيكم إلّامن إذا مسّه الشرّ جزع ، وإذا مسّه الخير منَع! ولا تأنفون ولا ترجعون إلّاخشية (من الناس)! وكيف يأنف من يبيت مركوباً ويصبح باثمه معجباً كأنّه قد اكتسب حمداً! غايته بطنه وفرجه! لا يبالي أن ينال شهوته بقتل ألف نبيّ مرسل أو ملَك مقرّب! أحبّ الناس إليه من زيّن له معصية أو أعانه في فاحشة! تنظّفه المخمورة وتربده المطمورة (يقيم بها).

فإن ارتدعتم عما أنتم فيه من السيّئات والفضائح! وعمّا تهذرون به من عذاب ألسنتكم! وإلّا فدونكم تُعلَوا بالحديد (تُقتلون)! ولا قوة إلّابالله ، وعليه توكلي ، وهو حسبي» (١).

الرضا و «الآل» و «الأُمة» و «العترة» :

كان يجتمع في مجلس المأمون في مرو جماعة من علماء خراسان والعراق ، وحضره الرضا عليه‌السلام وحضره الريان بن الصلت الأشعري القمي قال : تلا المأمون هذه الآية : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا (٢)) وقال لهم : أخبروني عن معنى هذه الآية. فقال العلماء : أراد الله عزوجل بذلك الأُمة كلها!

فالتفت المأمون إلى الرضا عليه‌السلام وقال له : ما تقول يا أبا الحسن؟

__________________

(١) الطرائف في مذاهب الطوائف لابن طاووس ٢ : ٣٩٤ ـ ٤٠٠ عن نديم الفريد لابن مسكويه ، وانظر مقدمة تجارب الأُمم له ١ : ٢٢ بعنوان : انس الفريد ، وروضات الجنات ١ : ٢٥٥ وأعيان الشيعة ١٠ : ١٤٦ وهدية الأحباب : ٩٩.

(٢) فاطر : ٣٢.


فقال عليه‌السلام : لا أقول كما قالوا ، ولكني أقول : أراد الله عزوجل بذلك «العترة الطاهرة»!

فقال المأمون : وكيف عنى «العترة» من دون الأُمة؟ فقال الرضا : لو أراد الأُمة لكانت بأجمعها في الجنة! لقول الله عزوجل (في الآية) : (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) ثمّ جمعهم كلهم في الجنة فقال عزوجل : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ (١)) ثمّ قال : فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم.

فقال المأمون : ومَن «العترة الطاهرة»؟

فقال الرضا عليه‌السلام : الذين وصفهم الله في كتابه عزوجل : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٢)) وهم الذين قال فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي مخلّف فيكم الثَقلين : كتاب الله و «عترتي أهل بيتي» ألا وإنهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما. أيها الناس ، لا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم».

فقال العلماء : يا أبا الحسن ، أخبرنا عن «العترة» أهم الآل؟ أم غير الآل؟ قال : هم الآل.

فقالوا : فهذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يؤثَر عنه أنّه قال : «وأُمّتي آلي» و «آل محمّد أُمّته»!

فقال أبو الحسن : أخبروني فهل تحرم الصدقة على الآل؟ قالوا : نعم. قال :

فتحرم على الأُمة؟! قالوا : لا ، قال : فهذا فرق بين الآل والأُمة. ثمّ قال : ويحكم!

__________________

(١) فاطر : ٣٢.

(٢) الأحزاب : ٣٣.


أين يُذهب بكم؟! أضربتم عن الذكر صفحاً أم أنتم قوم مسرفون؟! أما علمتم أنّه وقعت الوراثة والطهارة على المصطفين المهتدين دون سائرهم (وذلك) من قول الله عزوجل : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (١)) فصارت وراثة النبوة والكتاب للمهتدين دون الفاسقين. أما علمتم أن نوحاً حين سأل ربه عزوجل فقال : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (٢)) ذلك أنّ الله كان قد وعده أن ينجّيه وأهله. فقال ربّه عزوجل : (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٣)).

فقال المأمون : هل فضَّل الله العترة على سائر الناس؟

فقال أبو الحسن : إنّ الله عزوجل قد أبان فَضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه (وذلك) قول الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤)) وقال عزوجل في موضع آخر : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥)) ثمّ في إثر هذه ردّ الخطاب إلى سائر المؤمنين فقال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (٦)) يعني الذين قرنهم بالكتاب والحكمة فحُسدوا عليهما ، فقوله عزوجل :

__________________

(١) الحديد : ٢٦.

(٢) هود : ٤٥.

(٣) هود : ٤٦.

(٤) آل عمران : ٣٣ ـ ٣٤.

(٥) النساء : ٥٤.

(٦) النساء : ٥٩.


(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ (١)) يعني الطاعة للمصطفين الطاهرين ، فالملك هاهنا هو الطاعة لهم.

فقال له العلماء : فأخبرنا هل فسّر الله الاصطفاء في الكتاب؟ فقال : لقد فسّره في اثني عشر موضعاً :

فأول ذلك قوله عزوجل : (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢)) وهذه منزلة رفيعة وفضل عظيم وشرف عال عنى الله بذلك الآل فذكرهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فهذه واحدة.

والآية الثانية في الاصطفاء قوله عزوجل : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣)) وهذا فضل لا يجهله أحد إلّامعاند ضال!

والآية الثالثة : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (٤)) فأبرز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله علياً وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم وقرنهم بنفسه .. عنى بالأبناء الحسن والحسين عليهما‌السلام وعنى بالنساء فاطمة عليها‌السلام ، فهذه خصوصية لا يتقدمهم فيها أحد ، وفضل لا يلحقهم فيه بشر ، وشرف لا يسبقهم إليه خلق ؛ إذ جعل نفسَ علي كنفسه .. ومما يدل على ذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لينتهيُنَّ بنو وليعة (من كندة) أو لأبعثنّ إليهم رجلاً مني كنفسي» يعني علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

والآية الرابعة : قول الله عزوجل : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً (٥)) ففي هذه الآية منزلة هارون

__________________

(١) النساء : ٥٤.

(٢) الشعراء : ٢١٤.

(٣) الأحزاب : ٣٣.

(٤) آل عمران : ٦١.

(٥) يونس : ٨٧.


من موسى .. وفي هذا تبيان قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» ففيه منزلة علي عليه‌السلام من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. ومع هذا دليل ظاهر في قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين قال : «ألا إنّ هذا المسجد لا يحل لجنب إلّالمحمد وآله» فأخرج الناس من مسجده ما خلا «العترة» حتّى تكلّم الناس في ذلك وتكلّم العباس فقال : يا رسول الله ، تركت علياً وأخرجتنا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما أنا تركته وأخرجتكم ، ولكن الله عزوجل تركه وأخرجكم»!

فقال العلماء : يا أبا الحسن ، هذا الشرح والبيان لا يوجد إلّاعندكم معاشر «أهل بيت» رسول الله!

فقال : ومن ينكر لنا ذلك ورسول الله يقول : «أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها» ففيما أوضحنا وشرحنا من الفضل والشرف والتقدمة والاصطفاء ، والطهارة ما لا ينكره ـ والله ـ إلّامعاند! والحمد لله على ذلك ، فهذه الرابعة.

والآية الخامسة : قول الله عزوجل : «وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ (١)) ولما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ادعو لي فاطمة ، فدُعيت له ، فقال لها : «يا فاطمة ، هذه فدك وهي مما لم يوجَف عليه بالخيل والركاب ، فهي لي خاصة من دون المسلمين ، وقد جعلتها لك ، لما أمرني الله تعالى به ، فخذيها لك ولولدك» خصوصية خصهم الله العزيز الجبار واصطفاهم بها على الأُمة ، فهذه الخامسة.

والآية السادسة : قول الله عزوجل : (قُلْ لَاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى (٢)) وقد حكى الله عزوجل عن نوح في كتابه قال : (يَا قَوْمِ لَاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى اللهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي

__________________

(١) الإسراء : ٢٦.

(٢) الشورى : ٢٣.


أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (١)) وحكى عزوجل عن هود قال : (يَا قَوْمِ لَاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٢)) ولكنّه قال لنبيه محمّد : قل : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى») ولم يفرض الله مودتهم إلّاوقد علم أنهم لا يرتدّون عن الدين أبداً ولا يرجعون إلى ضلال أبداً .. ومن تركها ولم يأخذ بها وأبغض أهل بيته فعلى رسول الله أن يبغضه ، لأنّه قد ترك فريضة من فرائض الله عزوجل ، فأي فضيلة وأيّ شرف يتقدم هذا أو يدانيه؟!

ثمّ قال أبو الحسن عليه‌السلام : حدّثني أبي عن آبائه عن الحسين بن علي عليهم‌السلام قال : اجتمع (جمع من) المهاجرين والأنصار إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا له : يا رسول الله ، إنّ لك مؤونة في نفقتك ، وفي من يأتيك من الوفود ، وهذه أموالنا ـ مع دمائنا ـ فاحكم فيها باراً مأجوراً ، أعطِ ما شئت وأمسك ما شئت من غير حرج! فأنزل الله عزوجل عليه الروح الأمين فقال له : يا محمّد (قُلْ لَاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى (٣)) يعني : أن توَدّوا قرابتي بعدي ...

فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم : يا أيها الناس ، إنّ الله عزوجل قد فرض لي عليكم فرضاً ، فهل أنتم مؤدّوه؟ فلم يجيبوه! فقال لهم : يا أيها الناس ، إنّه ليس من ذهب ولا فضة ولا مأكول ولا مشروب! فقالوا : إذن فهاتِ! فتلا عليهم الآية. فقالوا : أما هذه فنعم! وخرجوا ، فقال المنافقون : ما حمله على ترك ما عرضنا عليه إلّاليحثّنا على قرابته بعده! إنْ هو إلّا شيء افتراه في مجلسه! فأنزل الله عزوجل : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنْ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ

__________________

(١) هود : ٢٩.

(٢) هود : ٥١.

(٣) الشورى : ٢٣.


الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١)) فبعث النبي عليهم وسألهم : هل حدَث شيء؟ قالوا : يا رسول الله ، لقد قال بعضنا كلاماً غليظاً كرهناه! فتلى عليهم رسول الله الآية! فبكوا واشتدّ بكاؤهم ، فأنزل الله عزوجل : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٢)).

وما بعث الله عزوجل نبياً إلّاأوحى إليه أن لا يسأل قومه أجراً لأنّ الله يوفّيه أجر الأنبياء ، إلّامحمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد فرض الله عزوجل مودة قرابته على أُمته ، وأمره أن يجعل أجره فيهم ليوَدّوه في قرابته ، بمعرفة فضلهم الذي أوجب الله لهم ، فإنّ المودة إنّما تكون على قدر معرفة الفضل. فلمّا أوجب الله تعالى ذلك ثقل لثقل وجوب «الطاعة» فتمسك بها قوم قد أخذ الله ميثاقهم على الوفاء ، وعاند أهل الشقاق والنفاق ، وألحدوا في ذلك فصرفوه عن حدّه الذي حده الله عزوجل فقالوا : القرابة هم العرب كلهم أو أهل دعوته! وعلى أي الحالتين فقد علمنا أن المودة للقرابة ، فأقربهم من النبيّ أولاهم بالمودة ، وكلما قربت القرابة كانت المودة على قدرها.

ثمّ قال : وما أنصفوا نبي الله في حيطته ورأفته ، وما منّ الله به على أُمته ، مما تعجز الألسن عن وظيفة الشكر عليه أن لا يوَدّوه في ذريته ، وأن لا يجعلوهم فيهم بمنزلة العين في الرأس ، حفظاً لرسول الله فيهم وحبّاً لهم ، فكيف والقرآن ينطق به ويدعو إليه؟! والأخبار ثابتة بأنهم الذين فرض الله تعالى مودّتهم ، ووعد الجزاء عليها ، فما وفى أحد بها ولا يأتي أحد بها مؤمناً مخلصاً إلّااستوجب الجنة .. وما وفّى بها أكثرهم! فهذه هي الآية السادسة.

__________________

(١) الأحقاف : ٨.

(٢) الشورى : ٢٥.


والآية السابعة : فقول الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (١)) قالوا : يا رسول الله ، قد عرفنا التسليم عليك ، فكيف الصلاة عليك؟ فقال : تقولون : «اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» فهل بينكم ـ معاشر الناس ـ في هذا خلاف؟ فقالوا : لا.

وقال المأمون : هذا مما لا خلاف فيه أصلاً وعليه «اجماع» الأُمة ، فهل عندك شيء في «الآل» من القرآن أوضح؟

فقال أبو الحسن : أخبروني عن قول الله عزوجل : (يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢)) مَن عنى بقوله : (يس)؟! قالوا : (يس) محمّد لم يشك أحد فيه! قال أبو الحسن : فإنّ الله عزوجل أعطى محمّداً وآل محمّد من ذلك فضلاً لا يبلغ أحد كنه وصفه ، إلّامن عقله! وذلك أنّ الله سلّم على الأنبياء صلوات الله عليهم فقال : (سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (٣)) وقال : (سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (٤)) وقال : (سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (٥)) ولم يقل : سلام على آل نوح ، أو على آل إبراهيم ، أو على آل موسى وهارون ، ولكنّه قال : (سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (٦)) يعني آل محمّد صلوات الله عليهم! فقال المأمون : لقد علمتُ أنّ في معدن النبوة شرح هذا وبيانه! فقال الرضا : فهذه السابعة.

__________________

(١) الأحزاب : ٥٦.

(٢) يس : ١ ـ ٤.

(٣) الصافات : ٧٩.

(٤) الصافات : ١٠٩.

(٥) الصافات : ١٢٠.

(٦) الصافات : ١٣٠.


والآية الثامنة : فقول الله عزوجل : (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى (١)) فقرن سهم ذوي القربى بسهمه وسهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فهذا أيضاً فصل بين «الآل» و «الأُمة» لأنّ الله جعل «الآل» في حيّز وجعل الناس في حيّز دون ذلك ، ورضي «للآل» ما رضي لنفسه ، واصطفاهم فبدأ بنفسه ثمّ ثنّى برسوله ثمّ بذي القربى في كل ما كان من الفيء والغنيمة وغير ذلك مما رضيه لنفسه ، فهذا تأكيد مؤكّد وأثر قائم لهم إلى يوم القيامة في كتاب الله الناطق.

و (لكن) لما جاءت قصة الصدقة نزّه نفسه ورسوله وأهل بيته عنها فقال : (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللهِ (٢)) فهل تجدون في شيء من ذلك أنّه سمى لنفسه أو لرسوله أو لذي القربى؟! ذلك لأنه لما نزّه نفسه عن الصدقة نزّه رسوله ونزّه أهل بيته ، لا بل حرّمها عليهم ، فالصدقة محرمة على محمّد وآل محمّد ، فهي أوساخ أيدي الناس لا تحلّ لهم ، فهم طُهّروا من كل دنس ووسخ ، فلمّا طهَّرهم الله واصطفاهم ؛ رضى لهم ما رضى لنفسه وكره لهم ما كره لنفسه عزوجل.

والآية التاسعة : قال الله عزوجل : (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٣)) فالذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونحن أهله ، وذلك بيّن في كتاب الله عزوجل حيث يقول : (فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً* رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ (٤)) فالذكر رسول الله ونحن أهله.

__________________

(١) الأنفال : ٤١.

(٢) التوبة : ٦٠.

(٣) النحل : ٤٣.

(٤) الطلاق : ١٠ ـ ١١.


وقال العلماء : إنّما عنى الله بذلك اليهود والنصارى! فقال أبو الحسن : سبحان الله! إذاً يدعوننا إلى دينهم ويقولون إنّه أفضل من دين الإسلام! وهل يجوز ذلك؟!

والآية العاشرة : فقول الله عزوجل : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ (١)) الآية .. أخبروني هل تصلح ابنتي وابنة ابني وما تناسل من صلبي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتزوّجها لو كان حياً؟ قالوا : لا ، قال : فأخبروني هل تصلح ابنة أحدكم له أن يتزوجها لو كان حياً؟ قالوا : نعم. قال : وهذا لأني أنا من آله ولستم من آله (كذا).

والحادية عشرة : فقول الله عزوجل : (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ (٢)) الآية ، إذ نسبه إلى فرعون بنسبه وليس بدينه ، ونحن من آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بولادتنا منه ، ويعمّنا الدين مع الناس (في الأُمة) فهذا فرق (آخر) بين «الآل» و «الأُمة» فهذه الآية الحادية عشرة.

وأما الثانية عشرة : فقوله عزوجل : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا (٣)) إذ أمرنا (الله) مع الأُمة بإقامة الصلاة ، ثمّ خصّنا من دون الأُمة ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد نزول هذه الآية إلى تسعة أشهر يجيء إلى باب علي وفاطمة عليهما‌السلام كل يوم عند حضور كل صلاة خمس مرات (كذا) فيقول : «الصلاة رحمكم الله» فخصّصنا الله تبارك وتعالى بهذه الخصوصية .. وما أكرم الله أحداً من ذراري الأنبياء بمثل هذه الكرامة التي أكرمنا وخصّنا بها من دون أهل بيتهم جميعاً.

__________________

(١) النساء : ٢٣.

(٢) المؤمن : ٢٨.

(٣) طه : ١٣٢.


فقال المأمون والعلماء : جزاكم الله «أهل بيت» نبيّه عن هذه الأُمة خيراً ، فما نجد الشرح والبيان فيما اشتبه علينا إلّاعندكم (١).

ولعلّ هذا الشرح والبيان للفوارق الشواهق بين عموم «الأُمة» وبين خصوص «الآل والعترة» هو ما مهّد للمأمون لعرض ابنتيه على الرضا وابنه الجواد عليهما‌السلام ، ليصبح أسباطه من خواص الآل والعترة.

وكذا لعل هذا الشرح والبيان كان مما بعث المأمون على أن لا يقتصر في مجلسه مع الرضا عليه‌السلام بخصوص علماء خراسان والعراق ، بل يجمع للمناظرة معه علماء الأديان.

مجلس الرضا عليه‌السلام مع علماء الأديان :

من أبناء عبد المطلب بن هاشم : الحارث ، أسلم وشهد أُحداً وبرز مع أخيه حمزة فقُطعت رجله وقضى شهيداً ، ومن أبنائه نوفَل ، ومن أحفاده الإخوة : إسماعيل وإسحاق ويعقوب ومحمّد أبناء الفضل بن يعقوب ، ذكرهم النجاشي عن أبي العباس ابن عقدة ، وقال في محمّد أنّه روى عن الصادق والكاظم عليهما‌السلام ، وفي ابنه أبي محمّد الحسن قال : شيخ من الهاشميين ثقة صنّف (مجالس الرضا مع أهل الأديان) (٢) وذكر أبا محمّد الحسن وقال : ثقة جليل روى عن أبيه محمّد بن الفضل عن الصادق والكاظم ، وروى هو عن الرضا ، وله كتاب ونسخة عن الرضا (٣) وذكره ولقّبه بالنوفَلي وقال : له كتاب جمعه حسن كثير الفوائد وسمّاه (ذكر مجالس

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٢٨ ـ ٢٤٠ بتغيير يسير.

(٢) رجال النجاشي : ٥٦ برقم ١٣١ باسم الحسين مصحفاً.

(٣) رجال النجاشي : ٥١ برقم ١١٢.


الرضا مع أهل الأديان) ثمّ ذكر طريقه إليه (١) هذا الهاشمي النوفَلي أفاد أنّه رحل من العراق لزيارة الرضا عليه‌السلام في مرو خراسان ، قال : كان ياسر الخادم يتولّى أمر أبي الحسن عليه‌السلام (من قبل المأمون) فبينا نحن عند أبي الحسن الرضا عليه‌السلام في حديث لنا (مساءً ظ) إذ دخل علينا ياسر الخادم فقال له :

يا سيدي ، إنّ أمير المؤمنين يقرئك السلام ويقول لك : فداك أخوك! (ولعلّه كان قبل مصاهرته) إنّه اجتمع (كذا) إليّ أصحاب المقالات وأهل الأديان والمتكلمون من جميع الملل! فرأيك في البكور إلينا إن أحببت كلامهم! وإن كرهت ذلك فلا تتجشّم! وإن أحببت أن نصير إليك خفّ ذلك علينا؟

فقال أبو الحسن : أبلغه السلام وقل له : قد علمت ما أردت! وأنا صائر إليك بكرة إن شاء الله.

فلمّا مضى ياسر التفت إليّ (النوفَلي) وقال لي : يا نوفَلي ؛ أنت عراقي ، والعراقيّ دقيق ؛ فما عندك في جمع ابن عمك علينا أهل الشرك وأصحاب المقالات؟

فقلت له : جعلت فداك! يريد الامتحان أن يعرف ما عندك؟! ولقد بنى على أساس غير وثيق ، وبئس ما بنى والله! إنّ أصحاب الكلام خلاف العلماء ، ذلك أن العالم لا ينكر غير المنكر ، وأصحاب المقالات والمتكلمون وأهل الشرك أصحاب إنكار ومباهتة : إن احتجت عليهم بأن الله واحد ، قالوا : صحّح وحدانيّته ، وإن قلت : إنّ محمّداً رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قالوا : أثبت رسالته ، ثمّ هم يباهتون الرجل وهو يطلّ عليهم بحجته ويغالطونه حتّى يترك قوله! فاحذرهم جعلت فداك!

__________________

(١) رجال النجاشي : ٣٧ برقم ٧٥ وقطع القاموس باتحادهم ج ٣ : ٣٦٧ برقم ٢٠٣٥ و ٣٧٢ برقم ٢٠٤١ و ٤٢ و ٥٢٦ برقم ٢٢٥١ وإن لم يحكم به الخوئي كما في المفيد من معجم رجال الحديث : ١٥٤ و ١٥٥ و ١٧٩ و ١٨٠.


قال النوفَلي : فتبسّم الإمام وقال لي : يا نوفَلي ؛ أفتخاف أن يقطعوا عليَّ حجتي؟!

فقلت : لا والله ما خفت عليك قط ، وإني لأرجو أن يُظفرك الله بهم إن شاء الله تعالى.

فقال لي : يا نوفَلي ؛ أتحب أن تعلم متى يندم المأمون؟! قلت : نعم. قال : إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم! وعلى أهل الانجيل بانجيلهم! وعلى أهل الزبور بزبورهم! وعلى الصابئين بعبرانيتهم (كذا) وعلى الهرابذة بفارسيتهم ؛ وعلى أهل الروم بروميتهم! وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم! فإذا قطعت كل صنف ودحضت حجته ، وترك مقالته ورجع إلى قولي ، علم المأمون أن الموضع الذي بسبيله ليس بمستحِق له! فعند ذلك تكون الندامة ، ولا حول ولا قوة إلّابالله العلي العظيم.

قال : وكان المأمون قد أمر الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات : مثل الجاثليق (رئيس أساقفة النصارى) ونسطاس الرومي ورأس الجالوت (اليهودي) والهربد الأكبر من أصحاب زرادشت ، ورؤساء الصابئة (عمران الصابئي) والمتكلمين ، ليسمع كلامهم مع الرضا عليه‌السلام. فجمعهم الفضل بن سهل وأعلمه بهم.

ويظهر من الخبر أن النوفَلي الهاشمي بات تلك الليلة عند الرضا عليه‌السلام ، قال : فلمّا أصبحنا أتانا الفضل بن سهل وقال للرضا : جعلت فداك! قد اجتمع القوم عند ابن عمك فما رأيك في إتيانه؟

فقال له الرضا عليه‌السلام : تَقدّمْني ، وأنا صائر إلى ناحيتكم إن شاء الله. ثمّ توضأ وضوء الصلاة ، ثمّ شرب شربة سويق وسقانا منه ، ثمّ خرج وخرجنا معه حتّى دخلنا على المأمون ، وإذا المجلس غاصَ بأهله ، ومحمّد بن جعفر العلوي


وجماعة من الطالبيين والهاشميين والقواد حضور ، فلمّا دخل الرضا عليه‌السلام قام المأمون فقام محمّد بن جعفر وبنو هاشم حتّى جلس الرضا مع المأمون وأمرهم بالجلوس فجلسوا. وأقبل المأمون عليه يحدّثه (١).

مناظرة الرضا مع الجاثليق :

ثمّ التفت إلى الجاثليق وقال له : يا جاثليق ، هذا ابن عمي علي بن موسى بن جعفر ، وهو من ولد فاطمة بنت نبيّنا وابن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم. فأُحبّ أن تكلمه أو تحاجّه وتنصفه!

فقال الجاثليق : يا أمير المؤمنين ، كيف أُحاج رجلاً يحتج عليَّ بكتاب أنا منكره ونبيّ أنا لا أُؤمن به؟!

فقال له الرضا عليه‌السلام : يا نصراني ؛ فإن احتججت عليك بإنجيلك أتُقرّ به؟

قال الجاثليق : وهل أقدر على دفع ما نطق به الانجيل؟! نعم والله أقُرّ به على رغم أنفي!

فقال له الرضا عليه‌السلام : فاسأل عما بدا لك واسمع الجواب.

فقال الجاثليق : ما تقول في نبوة عيسى وكتابه؟ فهل تنكر منهما شيئاً؟

قال الرضا عليه‌السلام : أنا مقرّ بنبوة عيسى وكتابه وما بشّر به امته وأقَرّ به الحواريّون ، وكافر بنبوة كل عيسى لم يقرّ بنبوة محمّد وبكتابه ولم يبشّر به أُمته!

قال الجاثليق : أليس إنّما نقطع الأحكام بشاهدَي عدل؟ قال : بلى. قال : فأقم شاهدَين من غير أهل ملتك على نبوة محمّد ممّن لا تنكره النصرانية ، وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملتنا.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٥٤ ـ ١٥٦.


قال الرضا عليه‌السلام : الآن جئت بالنصَفة يا نصراني ، ألا تقبل مني العدل المقدَّم عند المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام؟ قال الجاثليق : ومَن هذا العدل؟ سمّه لي. قال : ما تقول في يوحنا؟ قال : بخ بخ ذكرت أحبّ الناس إلى المسيح! قال : فأقسمت عليك : هل نطق الإنجيل أن يوحنّا قال : إنّما المسيح أخبرني بدين محمّد العربي وبشّرني به أنّه يكون من بعده ، فبشّرت به الحواريين ، فآمنوا به؟

قال الجاثليق : قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح وبشّر بنبوة رجل وبأهل بيته ووصيّه ، ولم يخصّ متى يكون ذلك ولم يسمّ لنا القوم فنعرفهم.

قال الرضا عليه‌السلام : فإن جئناك بمن يقرأ الإنجيل فتلا عليك ذكر محمّد وأهل بيته وأُمته ، أتؤمن به؟ قال : سديداً .. ثمّ قرأ الرضا عليه‌السلام السفر الثالث من الإنجيل حتّى وصل إلى ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ قال الرضا عليه‌السلام : يا جاثليق سل عمّا بدا لك. قال الجاثليق : أخبرني عن حواريي عيسى بن مريم كَم كان عدّتهم؟ وعن علماء الإنجيل كم كانوا؟

قال الرضا عليه‌السلام : على الخبير سقطت ، أما الحواريون فكانوا اثني عشر رجلاً وكان أعلمهم وأفضلهم لوقا وأما علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال .. ثمّ قال له : يا نصراني ، والله إنّا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما ننقم على عيساكم شيئاً إلّاضعفه وقلة صلاته وصيامه!

قال الجاثليق : إنّ عيسى ما أفطر يوماً! ولا نام بليل قط ، فما زال قائم الليل صائم الدهر!

فقال الرضا عليه‌السلام : فلمن كان يصلي ويصوم؟! فخرس الجاثليق وانقطع!

قال الرضا عليه‌السلام : فلمّاذا تنكر أنّ عيسى كان يُحيى الموتى بإذن الله؟

قال الجاثليق : إنّما أنكرت ذلك لأنّ من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص فهو ربّ يستحق أن يُعبد!


قال الرضا عليه‌السلام : فإنّ اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى : مشى على الماء وأحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص فلم تتخذه أُمّته رباً ولم يعبده أحد من دون الله عزوجل. ولقد صنع حزقيل النبيّ مثل ما صنع عيسى بن مريم فأحيا خمسة وثلاثين ألف رجل بعد موتهم بستين سنة!

وإنّ قوماً من بني إسرائيل وهم أُلوف خرجوا من بلادهم حذر الموت من الطاعون ، فأماتهم الله دفعة واحدة ، فحظر أهل القرية عليهم حضيرة حتّى نخرت عظامهم وصاروا رميماً ؛ ثمّ مرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل فتعجب من كثرة عظامهم البالية ، فأوحى الله إليه : أتحب أن احييهم لك فتنذرهم؟ قال : نعم يا رب ، فأوحى الله إليه : أن نادهم ، فقال : أيتها العظام البالية قومي بإذن الله عزوجل! فقاموا أحياءً ينفضون التراب عن رؤوسهم!

ثمّ إبراهيم خليل الرحمن حين أخذ الطير فقطّعهن قِطَعاً ثمّ وضع على كل جبل منهن جزءاً ثمّ ناداهن فأقبلن إليه سعياً.

ثمّ موسى بن عمران وأصحابه السبعون الذين اختارهم ، صاروا معه إلى الجبل فقالوا له : إنك قد رأيت الله فأرناه كما رأيته! فقال لهم : إنّي لم أره! فقالوا : إنّا (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً (١)) فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم! وبقي موسى وحيداً ، فقال : يا رب ، اخترت سبعين رجلاً من بني إسرائيل فجئت بهم ، وأرجع وحدي ، فكيف يصدّقني قومي بما أُخبرهم به؟ (لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّاىَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا (٢)) فأحياهم الله من بعد موتهم. وكل شيء ذكرته لك من هذا لا تقدر على دفعه ؛ لأنّ التوراة والإنجيل

__________________

(١) البقرة : ٥٥.

(٢) الأعراف : ١٥٥.


والزبور والفرقان قد نطقت به ، فإن كان كل من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص والمجانين يُتّخذ رباً من دون الله فاتّخذ هؤلاء كلهم أرباباً؟! ما تقول؟!

ولقد أبرأ محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الأكمه والأبرص والمجانين ، وكلّمه البهائم والطير والجن والشياطين ، ولم نتخذه رباً من دون الله عزوجل ، فمتى اتخذتم عيسى رباً جاز لكم أن تتخذوا اليسع وحزقيل رباً ، لأنهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى بن مريم من إحياء الموتى وغيره ...

ثمّ قال للجاثليق : يا نصراني ، كيف علمك بكتاب شعيا؟ قال : أعرفه حرفاً حرفاً. فالتفت الرضا عليه‌السلام إليه وإلى رأس الجالوت اليهودي وقال لهما : أتعرفان هذا من كلام اشعيا : «يا قوم ، إني رأيت صورة راكب الحمار ـ عيسى ـ لابساً جلابيب النور ، ورأيت راكب البعير ـ العربي محمّداً ـ ضوءاً مثل ضوء القمر» فقال : قد قال ذلك اشعيا.

قال الرضا عليه‌السلام : يا نصراني ، هل تعرف في الإنجيل قول عيسى : «إني ذاهب إلى ربكم وربي ، والبارقليطا جاء ـ يجيئ ـ هو الذي يشهد لي بالحق كما شهدت له ، وهو الذي يفسّر لكم كل شيء ، وهو الذي يبدي فضائح الأُمم ويكسر عمود الكفر» ثمّ قال : يا جاثليق ، أتجد هذا ثابتاً في الإنجيل؟!

قال الجاثليق : ما ذكرت شيئاً من الإنجيل إلّاونحن مقرّون به.

قال الرضا عليه‌السلام : يا جاثليق ، ألا تخبرني حين افتقدتم الإنجيل الأول عند مَن وجدتموه؟ ومن وضع لكم هذا الانجيل؟

فقال : ما افتقدنا الإنجيل الأول إلّايوماً واحداً حتّى وجدناه غضّاً طرياً! أخرجه إلينا يوحنّا ومتّى.

فقال له الرضا عليه‌السلام : ما أقل معرفتك بسنن الإنجيل وعلمائه! فإن كان هذا كما تزعم فلِم اختلفتم في الإنجيل؟! إنّما وقع الاختلاف في هذا الإنجيل


الذي في أياديكم اليوم ، فلو كان على العهد الأول لم تختلفوا فيه. ولكني مفيدك علم ذلك :

اعلم أنّه لما افتُقد الإنجيل الأول اجتمعت النصارى إلى علمائهم فقالوا لهم : قُتل عيسى بن مريم! وافتقدنا الإنجيل ، وأنتم العلماء فما عندكم؟ فقال لهم : ألوقا ومرقابوس : إنّ الإنجيل في صدورنا ونحن نخرجه لكم سِفراً سِفراً في كل يوم أحد ، فلا تحزنوا عليه ولا تخلو الكنائس ، فإنا سنتلوه عليكم في كل يوم أحد سِفراً سِفراً حتّى نجمعه كله. وقعد ألوقا ومرقابوس ويوحنا ومتّى فوضعوا لكم هذا الإنجيل بعد ما افتقدتم الإنجيل الأول ، وإنّما كان هؤلاء الأربعة تلاميذ التلاميذ الأولين! أعلمت ذلك؟!

قال الجاثليق : أما هذا فلم أعلمه وقد علمته الآن ، وقد بان لي من فضل علمك بالانجيل وسمعت أشياء مما علمتَه شهد قلبي أنها حق ، فاستزدت كثيراً من الفهم.

قال الرضا عليه‌السلام : يا جاثليق ، إنك تقول : إنّ من شهادة عيسى على نفسه قوله : «حقاً أقول لكم يا معشر الحواريين : إنّه لا يصعد إلى السماء إلّامن نزل منها ، إلّاراكب البعير خاتم الأنبياء فإنه يصعد إلى السماء وينزل» فما تقول في هذا القول؟ قال الجاثليق : هذا قول عيسى لا ننكره!

ثمّ قال الرضا للجاثليق : عليك بحق الابن وأُمه ، هل تعلم أن متّى قال في نسبة عيسى بن مريم : أن المسيح هو ابن داود بن إبراهيم بن إسحاق بن يعقوب بن يهوذا ابن خضرون. فقال مرقابوس : إنّه كلمة الله أحلّها في جسد الآدمي فصارت إنساناً. وقال ألوقا : إنّ عيسى بن مريم وأُمه كانا إنسانين من لحم ودم فدخل فيها الروح القدس! فما تقول في شهادة ألوقا ومرقابوس ومتّى على عيسى وما نسبوه


إليه؟ قال الجاثليق : إنّهم كذبوا على عيسى! بعدما كان قال : إنّهم علماء الإنجيل وكل ما شهدوا به فهو حق!

فالتفت الرضا إلى المأمون ومن حضره من أهل بيته وغيرهم وقال لهم : يا قوم أليس قد زكّاهم وشهد أنهم علماء الإنجيل وقولهم حق؟! فقال الجاثليق الآن : يا عالِم المسلمين! أُحبّ أن تعفيني من أمر هؤلاء! فقال له الرضا عليه‌السلام : فإنا قد فعلنا ذلك يا نصراني ، فسل عمّا بدا لك.

قال الجاثليق : ليسألْك غيري ، فلا وحق المسيح ما ظننت أن في علماء المسلمين مثلك (١)!

مناظرة الرضا ورأس الجالوت :

ثمّ التفت الرضا عليه‌السلام إلى رأس الجالوت وقال له : تسألني أو أسألك؟ قال : بل أسألك ، ولا أقبل منك حجة إلّامن التوراة (٢) أو من زبور داود أو بما في صحف إبراهيم وموسى.

قال الرضا عليه‌السلام : لا تقبل من حجة إلّابما تنطق به التوراة على لسان موسى بن عمران (٣) والزبور على لسان داود.

فقال رأس الجالوت : فمن أين تثبت نبوة محمّد؟ فقال الرضا عليه‌السلام : شهد بنبوته موسى بن عمران (٤) وداود خليفة الله عزوجل في الأرض. فقال الجالوت : ثبِّت قول موسى بن عمران.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٥٦ ـ ١٦٤ بتصرف يسير.

(٢ ـ ٤) جاء هنا في المواضع زيادة : عيسى والانجيل ، وهي من الخلط في الرواية ، فاليهودي لا يقبل الإنجيل!


فقال الرضا عليه‌السلام : يا يهودي ، هل تعلم أن موسى أوصى بني إسرائيل فقال لهم : «إنّه سيأتيكم نبيّ من إخوانكم ، فبه فصدِّقوا ومنه فاسمعوا» فهل تعلم أن لبني إسرائيل إخوة غير ولد إسماعيل ، إن كنت تعرف قرابة إسرائيل من إسماعيل والسبب الذي بينهما من قِبل إبراهيم عليه‌السلام؟ فقال الجالوت : هذا قول موسى لاندفعه.

فقال له الرضا عليه‌السلام : هل جاءكم من إخوة بني إسرائيل نبيّ غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال : لا ، قال : أو ليس قد صحّ هذا عندكم؟ قال : نعم ولكنّي أُحبّ أن تصححه لي من التوراة.

فقال الرضا عليه‌السلام : فهل تنكر أنّ التوراة تقول لكم : «جاء النور من قبل طور سيناء ، وأضاء لنا من جبل ساعير ، واستعلن ـ ويستعلن ـ علينا من جبل فاران» قال الجالوت : أعرف هذه الكلمات وما أعرف تفسيرها!

فقال الرضا عليه‌السلام : أنا اخبرك به : أما قوله : «جاء النور من قبل طور سيناء» فذلك وحي الله الذي أنزله على موسى على جبل طور سيناء. وأما قوله : «وأضاء لنا من جبل ساعير» فهو الجبل الذي أوحى الله إلى عيسى عليه ، وأما قوله : «واستعلن لنا من جبل فاران» فذلك من جبال مكة .. (١).

ثمّ قال : وقال شعيا النبي كما في التوراة : «رأيت راكبَين أضاء لهما الأرض ، أحدهما على حمار والآخر على جمل» فمن راكب الحمار؟ ومن راكب الجمل يا رأس الجالوت؟ قال : لا أعرفهما فخبّرني بهما. قال : راكب الحمار عيسى وراكب الجمل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ قال : وحيقوق النبيّ قال كما في كتابكم : «جاء الله تعالى بالبيان من جبل فاران ، وامتلأت السماوات من تسبيح أحمد وأُمته ، يحمل خيله في البحر

__________________

(١) يقال : هو اسم لجبل حِراء : جبل النور.


كما يحمل في البر ، يأتينا بكتاب جديد ، بعد خراب بيت المقدس» أتعرف هذا وتؤمن به يا رأس الجالوت؟ قال : قد قال ذلك حيقوق النبي ولا ننكر قوله!

قال الرضا عليه‌السلام : وقد قال داود في زبوره وأنت تقرأه : «اللهم ابعث مقيم السنّة بعد الفترة» فهل تعرف نبياً أقام السنة بعد الفترة غير محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال رأس الجالوت : هذا قول داود نعرفه ولا ننكره (١).

فقال له الرضا عليه‌السلام : يا رأس الجالوت ؛ أسألك عن نبيك موسى بن عمران عليه‌السلام؟ قال : سل.

قال : ما الحجة على أنّ موسى ثبتت نبوته؟ قال اليهودي : إنّه جاء بما لم يجئ به أحد (المعجزة) قال له : مثل ماذا؟ قال : مثل فلْق البحر ، وقلْبِه العصا حيّة تسعى ، وضرْبه الحجر فانفجرت منه العيون ، وإخراجه يده بيضاء للناظرين ، ولا يقدر الخلق على مثلها.

قال له الرضا عليه‌السلام : صدقت في أنّه كانت حجّته على نبوته أنّه جاء بما لا يقدر الخلق على مثله (المعجزة) ولكن أليس كل من ادّعى أنّه نبيّ ثمّ جاء بما لا يقدر الخلق على مثله وجب عليكم تصديقه؟

قال : لا يجب علينا الإقرار بنبوة من ادعاها حتّى يأتي من الأعلام بمثل ما جاء به عيسى .. فمتى ما جاءوا على نبوتهم من الآيات بما لا يقدر الخلق على مثله ، ولو جاؤوا بما لم يجئ به موسى أو كان على غير ما جاء به موسى وجب تصديقهم.

قال الرضا : يا رأس الجالوت ؛ فما يمنعك من الإقرار بعيسى بن مريم

__________________

(١) جاء هنا في الخبر : لكنه عنى به عيسى! ثمّ نقل عن الرضا قولاً عن الانجيل ، وهذا أيضاً من خلط الراوي ، فاليهودي لا يقول بهما.


وقد كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ويخلق من الطين كهيئة الطير ثمّ ينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله تعالى؟ قال : يقال فعل ذلك ولم نشهده!

قال الرضا : أرأيت ما جاء به موسى من الآيات وشاهدته؟ أليس إنّما جاءت الأخبار من ثقات أصحاب موسى أنّه فعل ذلك؟ قال : بلى ، قال : فكذلك أيضاً أتتكم الأخبار المتواترة بما فعل عيسى بن مريم عليه‌السلام ، فكيف صدّقتم بموسى ولم تصدّقوا بعيسى؟ وكذلك أمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمر كل نبيّ بعثه الله.

ثمّ قال : ومن آيات محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّه كان يتيماً فقيراً راعياً أجيراً (كذا) لم يتعلّم كتاباً ولم يختلف إلى معلّم ، ثمّ جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء وأخبارهم وأخبار من مضى .. ثمّ كان يخبرهم بأسرارهم وما يعملون في بيوتهم. وجاء بآيات كثيرة لا تُحصى.

قال الجالوت : لم يصح عندنا خبر عيسى ولا خبر محمّد ، ولا يجوز لنا أن نقرّ لهما بما لا يصح!

قال الرضا عليه‌السلام : فالشاهد الذي شهد لعيسى ولمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله شاهد زور؟! فلم يُحر جواباً (١).

مناظرة الرضا مع الهِربد الأكبر وعمران الصابي :

ثمّ دعا الرضا عليه‌السلام بالهِربد الأكبر وقال له : أخبرني عن زردُشت الذي تزعم أنّه نبيّ ما حجتك لنبوته؟

قال : إنّه أتى بما لم يأتنا أحد بمثله (المعجزة) ولم نشهده ولكن الأخبار من أسلافنا وردت علينا (بذلك).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٦٤ ـ ١٦٧.


قال : أفليس إنّما أتتكم الأخبار فاتبعتموه؟ قال : بلى. قال : فكذلك سائر الأُمم السالفة أتتهم الأخبار بما أتى به النبيون وأتى به موسى وعيسى ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فما عذركم في ترك الإقرار لهم؟ إذ كنتم إنّما أقررتم بزردُشت من قِبل الأخبار المتواترة بأنه جاء بما لم يجئ به غيره (المعجزة) فانقطع الهربد مكانه.

ثمّ التفت الرضا عليه‌السلام إلى الحاضرين وقال لهم : يا قوم ، إن كان فيكم أحد يخالف الإسلام وأراد أن يسأل ، فليسأل غير محتشِم.

فقام إليه عمران الصابي (متكلم الصابئة) وقال : يا عالِم الناس! لولا أنك دعوت إلى مسألتك لم أَقدم عليك بالمسائل ، فلقد طفت الكوفة والبصرة والجزيرة والشام ولقيت بها المتكلمين ، فلم أقع على أحد يثبت لي واحداً ليس غيره ، قائماً بوحدانيته! أفتأذن لي أن أسألك؟

فقال الرضا عليه‌السلام : إن كان في الجماعة عمران الصابئ فأنت هو! قال : نعم أنا هو! فقال له : سل يا عمران ، وعليك بالنصَفة ، وإياك والخطل والجور!

فقال : يا سيدي والله ما اريد إلّاأن تثبت لي شيئاً أتعلّق به ولا أجوزه. وازدحم الحاضرون وانضمّ بعضهم إلى بعض!

وقال عمران : أخبرني عن الكائن الأول وعمّا خلق.

فقال الرضا عليه‌السلام : أما الواحد فلم يزل واحداً ، كائناً ، لا شيء معه ، بلا حدود ولا أعراض ، ولا يزال كذلك. ثمّ خلق خلقاً مبتدَعاً مختلفاً بأعراض وحدود مختلفة ، لا في شيء أقامه ، ولا في شيء حدّه ، ولا على شيء حذاه ومثّله له ، فجعل الخلق من بعد ذلك صفوة وغير صفوة ، واختلافاً وائتلافاً ، وألواناً ، وذوقاً وطمعاً. لا لحاجة كانت منه إلى ذلك ، ولا لفضل منزلة لم يبلغها إلّابه ، ولا أبدى لنفسه فيما خلق زيادة ولا نقصاناً.


يا عمران ؛ واعلم أنّه لو كان خلق ما خلق لحاجة ؛ لم يخلق إلّامن يستعين به على حاجته ، ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق ؛ لأنّ الأعوان كلما كثروا كان صاحبهم أقوى. والحاجة ـ يا عمران ـ لا يسعها ، لأنه كان لم يحدث من الخلق شيئاً إلّاحدثت فيه حاجة أُخرى. ولذلك أقول : لم يخلق الخلق لحاجة. ولكن بالخلق نقل حوائج بعضهم إلى بعض ، وفضّل بعضهم على بعض ، بلا حاجة منه إلى مَن فضّل ، ولا نقمة منه على من أذلّ. فلهذا خلق.

فقال عمران : يا سيدي ، فأخبرني بأيّ شيء علِم ما علِم؟ أبضمير أم بغير ذلك؟

قال الرضا عليه‌السلام : أرأيت إذا علم بضمير ، هل تجد بُدّاً من أن تجعل لذلك الضمير حداً تنتهى المعرفة إليه؟

قال عمران : لابدّ من ذلك. قال الرضا عليه‌السلام : فما ذلك الضمير؟! فانقطع ولم يَحر جواباً. فقال الرضا عليه‌السلام : إن سألتك عن الضمير نفسه تعرّفه بضمير آخر ؛ فإن قلت : نعم ، أفسدت عليك دعواك وقولك.

يا عمران ؛ أليس ينبغي أن تعلم أنّ الواحد لا يوصف بضمير ، ولا يقال له أكثر من : فعل وعمل وصنع ، ولا يتوهم فيه تجزية (أو تجربة) ومذاهب كمذاهب المخلوقين وتجزيتهم (أو : تجربتهم) فاعقل ذلك ، وما علمته صواباً فابن عليه.

قال عمران : يا سيدي ، ألا تخبرني عن حدود خلقه كيف هي؟ وما معانيها؟ وعلى كم نوع يكون؟

قال : اعلم أنّ حدود خلقه على ستة أنواع : ملموس وموزون ومنظور إليه ، وما لا ذوق له وهو الروح! ومنها : ما هو منظور إليه وليس له وزن ولا لمس ولا حس ولا لون ولا ذوق ، والتقدير ، والأعراض ، والصور ، والطول والعرض. ومنها : العمل والحركات التي تصنع الأشياء وتعملها وتغيّرها من حال إلى حال وتزيدها وتنقصها.


فأمّا الأعمال والحركات فإنها لا وقت لها أكثر من قدر ما تحتاج إليه ، فإذا فُرغ من الشيء انطلق بالحركة وبقي الأثر ، ويجرى مجرى الكلام الذي يذهب ويبقى أثره.

قال عمران : يا سيدي ؛ ألا تخبرني عن الخالق إذا كان واحداً لا شيء غيره ولا شيء معه ، أليس قد تغيّر بخلقه الخلق؟

قال الرضا عليه‌السلام : (بل هو) قديم لم يتغيّر بخلقه الخلق ، ولكن الخلق يتغيّر بتغييره. قال عمران : فبأيّ شيء عرفناه؟ قال : بغيره. قال : أي شيء؟ قال الرضا : اسمه وصفته ومشيّته وما أشبه ذلك ، وكل ذلك محدَث مخلوق مدبَّر. قال عمران : يا سيدي ، فأي شيء هو؟ قال : هو «نور» بمعنى أنّه «هاد» خلقه من أهل السماوات وأهل الأرض. وليس لك عليَّ أكثر من توحيدي إياه!

قال عمران : يا سيدي ، أليس قد كان قبل الخلق ساكتاً لا ينطق ثم نطق!

قال الرضا عليه‌السلام : لا يكون السكون إلّاعن نطق قبله ، والمثَل في ذلك : أنّه لا يقال للسراج هو ساكت لا ينطق ....

قال عمران : يا سيدي ، فإنّ الذي كان عندي : أن الكائن قد تغيّر في فعله عن حاله بخلقه الخلق.

قال الرضا عليه‌السلام : يا عمران ؛ هل تجد الحرارة تحرق نفسها؟ أو هل رأيت بصيراً قط رأى بصره؟

قال عمران : لم أرَ هذا يا سيدي ، إلّاأن تخبرني : أهو في الخلق أم الخلق فيه؟

قال الرضا عليه‌السلام : يا عمران ؛ (إنّ الله) أجل عن ذلك ، ليس هو في الخلق ولا الخلق فيه تعالى عن ذلك ...


أخبرني عن المرآة أنت فيها أم هي فيك؟ فإن كان ليس واحد منكما في صاحبه ، فبأي شيء استدللت بها على نفسك يا عمران؟ قال : بضوء بيني وبينها. قال الرضا : هل ترى من ذلك الضوء في المرآة أكثر مما تراه في عينك؟ قال : نعم. قال الرضا : فأرناه. فلم يَحر جواباً. قال : فلا أرى النور إلّاوقد دلك ودل المرآة على أنفسكما ، من غير أن يكون في واحد منكما. ولهذا أمثال كثيرة غير هذا لا يجد الجاهل فيها مقالاً ، ولله المثل الأعلى.

ثمّ التفت الرضا عليه‌السلام إلى المأمون وقال : قد حضرت الصلاة. فقال عمران : يا سيدي لا تقطع عليَّ مسألتي فقد رقّ قلبي! قال عليه‌السلام : نصلي ونعود. ثمّ نهض عليه‌السلام ونهض المأمون ، ودخل الرضا. وبقي عمه محمّد بن جعفر فصلّى بالناس. وصلّى الرضا داخلاً ثمّ خرج فعاد إلى مجلسه ودعا بعمران وقال له : سل.

فقال عمران : يا سيدي ، ألا تخبرني عن الله عزوجل هو يوحَّد بوصف أو يوحَّد بحقيقة؟!

فقال الرضا عليه‌السلام : إنّ الله المبدئ الواحد الكائن الأول ، لم يزل واحداً لا شيء معه ، وفرداً لا ثاني معه ، لا معلوماً ولا مجهولاً ولا محكماً ولا متشابهاً ولا مذكوراً ولا منسياً ، ولا شيئاً يقع عليه اسم شيء من الأشياء غيره ، ولا من وقت كان ، ولا إلى وقت يكون ، ولا بشيء قام ولا إلى شيء يقوم ، ولا إلى شيء أسند ولا في شيء استكن وذلك كلّه قبل خلقه الخلق إذ لا شيء غيره ، وما أوقعت عليه (من صفة) فهي صفات محدثة .. واعلم أنّ الإبداع والمشية والإرادة معناها واحد وأسماؤها ثلاثة .. والله عزوجل تدرك معرفته بالأسماء والصفات ، لا بالتحديد بالطول والعرض والقلة والكثرة واللون والوزن وما أشبه ذلك ، ولا يحُلّ بالله تعالى وتقدس شيء من ذلك .. ولكن يُدل على الله عزوجل بصفاته ويُدرك بأسمائه ، ويُستدلّ عليه بخلقه (وهو حق) لا يحتاج في ذلك الطالب المرتاد إلى رؤية عين


ولا استماع اذن ولا لمس كف ولا إحاطة بقلب. ولو كانت صفاته لا تدل عليه وأسماؤه لا تدعو إليه ، والخلق لا تُدركه بمعناه ، لكانت العبادة من الخلق لأسمائه وصفاته دون معناه ، ولو كان ذلك كذلك لكان المعبود الموحَّد غير الله ؛ لأنّ صفاته وأسماءه غيره ، أفهمت يا عمران؟ قال : نعم يا سيدي زدني.

قال عليه‌السلام : إنّما اختلف الناس في هذا الباب حتّى تاهوا وتحيّروا وطلبوا الخلاص من الظلمة بالظلمة ، في وصفهم الله تعالى بصفة أنفسهم ، فازدادوا بعداً عن الحق ، ولو وصفوا الله بصفاته ووصفوا المخلوقين بصفاتهم لقالوا بالفهم واليقين ولما اختلفوا .. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

قال عمران : يا سيدي ، أشهد أنّه كما وصفت ، ولكن بقيت لي مسألة. قال : سل عما أردت.

قال : أسألك عن الحكيم في أي شيء هو؟ وهل يحيط به شيء؟ وهل يتحول من شيء إلى شيء؟

فقال الرضا عليه‌السلام : يا عمران ، اعقل ما سألت عنه ، فإنه من أغمض ما يرد على الخلق في مسائلهم ، وليس يفهمه المتفاوت عقله العازب حلمه ، ولا يعجز عن فهمه أُولو العقل المنصفون.

إنّه لو كان خلق ما خلق لحاجة منه لجاز لقائل أن يقول : إنّه يتحول إلى ما خلق لحاجته إلى ذلك ، ولكنّه لم يخلق شيئاً لحاجة إلى ذلك. ولم يزل ثابتاً لا في شيء ولا على شيء .. وليس يدخل في شيء ولا يخرج منه ، ولا يؤوده حفظه ولا يعجز عن إمساكه ، ولا يعرف أحد من الخلق كيف ذلك إلّاالله عزوجل ومن أطلعه عليه من رسله وأهل سره والمستحفظين لأمره وخزّانه القائمين بشريعته. وإنّما أمره كلمح البصر أو هو أقرب ، إذا شاء شيئاً فإنما يقول له : كن فيكون بمشيّته وإرادته. وليس بشيء أقرب إليه من شيء ولا شيء أبعد منه من شيء آخر ، أفهمت يا عمران!


قال : نعم ياسيدي ، قد فهمت ، وأنا أشهد أنّ الله تعالى على ماوصفت ووجدت ، وأشهد أنّ محمّداً عبده المبعوث بالهدى ودين الحق. فأسلمَ ثمّ توجّه إلى القبلة وخرّ ساجداً لله .. وكان جَدِلاً لم يقطعه عن حجته أحد منهم قط ، فلمّا رأى المتكلمون ذلك لم يدنُ أحد منهم ولم يسأل. فنهض المأمون والرضا عليه‌السلام فدخلا ، وانصرف الناس.

قال الراوي الحسن بن محمّد النوفلي : فلمّا انصرفت إلى منزل الرضا عليه‌السلام قال لغلامه : يا غلام ، صِر إلى عمران الصابي فأتني به. وكان قد ذهب إلى بعض إخواننا من «الشيعة» فقلت له : جعلت فداك ، أنا أعرف موضعه عند بعض إخواننا من «الشيعة» قال : فلا بأس ، قرّبوا إليه دابة.

قال النوفَلي : فصرت إلى عمران فأتيته به ، فرحّب به ودعا بكِسوة فخلعها عليه ، ودعا بعشرة آلاف درهم فوصله بها ، ثمّ دعا بالعشاء فأجلسني عن يمينه وأجلس عمران عن يساره ، حتّى إذا فرغنا قال لعمران : انصرف مصاحَباً (بالسلامة) وحمله وقال له : بكّر علينا نطعمك طعام المدينة.

فلمّا علم المأمون بصلة الرضا عليه‌السلام لعمران الصابي بعشرة آلاف درهم ، وصله المأمون بمثله! وأعطاه الفضل بن سهل مالاً وحمله!

فكان عمران بعد ذلك يجتمع إليه المتكلمون من أصحاب المقالات فيبطل أمرهم حتّى اجتنبوه!

قال النوفلي : وبعث إليّ محمّد بن جعفر العلوي (عمّ الرضا) فأتيته فقال لي : يا نوفلي! أما رأيت ما جاء به صاحبك (الرضا) لا والله ما ظننت أنّ علي بن موسى خاض في شيء من هذا قط ، ولا عرفناه أنّه كان يتكلم بالمدينة ، أو يجتمع إليه أصحاب الكلام! فإني أخاف عليه أن يحسده عليه هذا الرجل (المأمون) فيسمّه أو يفعل به بليّة! فأشِر عليه بالإمساك عن هذه الأشياء! وقل له : إنّ عمّك قد كره هذا الباب ، وأحبّ أن تمسك عن هذه الأشياء ، لخصال شتى!


قال النوفلي : فقلت له : ما أراد الرجل (المأمون) إلّاامتحانه ليعلم هل عنده شيء من علوم آبائه؟

قال : ولما انصرفت إلى منزل الرضا عليه‌السلام أخبرته بما كان من عمّه ، فتبسم وقال : حفظ الله عمّي ما أعرفَني لم كره ذلك (١).

الرضا ، وسليمان المرْوزي ، والبَداء :

مرّ الخبر آنفاً عن النوفَلي الهاشمي : أنّ المأمون إنّما أراد امتحان الرضا عليه‌السلام ليعلم هل عنده شيء من علوم آبائه عليهم‌السلام ، وحديث محمّد بن جعفر العلوي للنوفَلي : يا أبا محمّد ، إني أخاف أن يحسده هذا الرجل (المأمون) فيسمّه أو يفعل به بلية! وعاد النوفَلي بالنقل عن المأمون أنّه قال لسليمان المروزي متكلم أهل خراسان : إنّما وجّهت إليك لمعرفتي بقوّتك ، وليس مرادي إلّاأن تقطع (الرضا) عن حجة واحدة فقط! فقال سليمان : (إذن) يا أمير المؤمنين! اجمع بيني وبينه وخلّني والذمّ!

قال : ثمّ وجّه المأمون إلى الرضا عليه‌السلام يقول : إنّه قدم إلينا رجل من أهل مرو ، وهو واحد أهل خراسان من أصحاب الكلام ، فإن خفّ عليك أن تتجشّم المصير إلينا ؛ فعلت.

قال : وكان معنا عمران الصابئ (المسلم) فقال لنا الرضا : تقدّموني ، ونهض هو للوضوء ، فصرنا مع ياسر خادم المأمون إلى بابه فأخذ ياسر بيدي وأدخلني على المأمون. فلمّا سلّمت عليه قال لي : أين أخي أبو الحسن أبقاه الله تعالى؟! قلت له : خلّفته يلبس ثيابه وأمرنا أن نتقدمه. قال : وبقي عمران الصابي على

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٦٨ ـ ١٧٠ بتصرف يسير من تقديم وتأخير.


الباب ، فقلت للمأمون : إنّ مولاك عمران الصابي الذي أسلم على يدك كان معي ، وهو على الباب. قال : فليدخل. فدخل فرحّب به المأمون ثمّ قال له : يا عمران ، هذا سليمان المروزي متكلم أهل خراسان! فقال عمران : يا أمير المؤمنين ؛ إنّه يزعم أنّه واحد خراسان في النظر ويُنكر «البداء»!

فيظهر من الخبر أنّ عمران كان قد عرف البداء ، وأنّ المأمون أيضاً كان قد عرفه فقال لعمران : فلم لا تناظرون سليمان فيه؟ وهنا دخل الرضا عليه‌السلام فسألهم : في أي شيء كنتم؟ فقال له عمران : يابن رسول الله هذا سليمان المروزي. وابتدر سليمان فقال لعمران : أترضى بقول أبي الحسن في البَداء؟! فقال عمران : قد رضيت بقول أبي الحسن في البداء على أن يأتيني بحجة أحتج بها على نظرائي من أهل النظر!

وقال المأمون : يا أبا الحسن ، ما تقول في ما تشاجرا فيه؟ فالتفت الرضا إلى سليمان وقال له :

يا سليمان ، وما أنكرت من البداء والله عزوجل يقول : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِامْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ (١)) ويقول عزوجل : (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ (٢))؟ فقال سليمان : فهل رويت فيه عن آبائك شيئاً؟ قال : نعم.

رويت عن أبي عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : «إنّ لله عزوجل علمين : علماً مخزوناً مكنوناً لا يعلمه إلّاهو ، من ذلك يكون البَداء ، وعلماً يعلّمه ملائكته ورسله ، فالعلماء من أهل بيت نبينا يعلمونه».

__________________

(١) التوبة : ١٠٦.

(٢) الفاطر : ١١.


ولقد أخبرني أبي عن آبائه عليهم‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إنّ الله عزوجل أوحى إلى نبي من أنبيائه : أن أخبر الملك فلان : أني متوفيه في كذا. فأتاه ذلك النبيّ فأخبره. فدعا الله الملكُ قال : يا ربّ أجّلني حتّى يشبّ طفلي .. فأوحى الله إلى ذلك النبي : أن ائت الملك فلان فأعلمه أني قد أنسأت أجله وزدت في عمره خمس عشرة سنة! والله لا يسأل عما يفعل.

ثمّ التفت الرضا عليه‌السلام إلى سليمان وقال له : أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب إذ قالت (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ (١)) يعنون أنّ الله قد فرغ من الأمر فليس يُحدث شيئاً! فقال الله عزوجل : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا (٢)).

ولقد سمعت قوماً سألوا أبي موسى بن جعفر عليه‌السلام عن البَداء فقال : «وما ينكر الناس من البَداء وأن يوقف الله قوماً يرجّيهم لأمره». وكأنّ سليمان كان يرى القول بالبَداء منافياً للتقدير فقال : ألا تخبرني عن قوله سبحانه : (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ».)

فقال الرضا عليه‌السلام : يا سليمان ، ليلة القدر يقدّر الله عزوجل فيها ما يكون من السنة إلى السنة من حياة أو موت أو خير أو شر ، فما قدّره في تلك الليلة فهو من المحتوم ... وإنّ من الأُمور أُموراً موقوفة عند الله عزوجل يقدّم منها ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ، ويمحو ما يشاء.

يا سليمان ، إنّ علياً عليه‌السلام كان يقول : «العلم علمان ، فعلم علّمه الله ملائكته ورسله ، فإنه لا يكذّب نفسه ولا ملائكته ولا رسله ، وعلم مخزون عنده لم يُطلع عليه أحداً من خلقه (فذلك) يقدم منه ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء».

__________________

(١) المائدة : ٦٤.

(٢) المائدة : ٦٤.


فالتفت سليمان للمأمون وقال له : يا أمير المؤمنين ، لا انكر البَداء بعد يومي هذا ولا اكذّب به إن شاء الله» (١).

الرضا ، وسليمان المروزي ، والإرادة :

ثمّ قال المأمون لسليمان المروزي : يا سليمان ، سل أبا الحسن (الرضا) عما بدا لك ، وعليك بحسن الاستماع والانصاف.

فالتفت سليمان إلى الرضا عليه‌السلام وقال : يا سيدي ؛ أسألك؟ قال : سل عمّا بدا لك.

قال : ما تقول في من جعل الإرادة اسماً وصفة مثل حي وسميع وبصير وقدير؟

قال الرضا عليه‌السلام : إنّما قلتم : حدثت الأشياء واختلفت لأنّه شاء وأراد ؛ ولم تقولوا : حدثت الأشياء واختلفت لأنه سميع بصير! فهذا دليل على أنهما (الإرادة والمشية) ليستا مثل سميع ولا بصير ولا قدير. قال : فإنه لم يزل مريداً! قال : فإرادته غيره؟! قال : نعم! قال : فقد أثبتّ معه شيئاً غيره لم يزل! قال الرضا : فهي محدَثة؟ قال : لا ما هي محدَثة! فصاح به المأمون وقال : يا سليمان ، مثله يعاجَز أو يكابَر؟! عليك بالإنصاف ، أما ترى مَن حولك من أهل النظر؟! ثمّ قال للرضا : يا أبا الحسن ، كلّمه فإنه متكلم خراسان! فأعاد الإمام القول : يا سليمان ، هي (الإرادة) محدَثة ؛ فإنّ الشيء إذا لم يكن أزلياً كان محدثاً وإذا لم يكن محدَثاً كان أزلياً.

قال سليمان : إرادته منه كما أنّ سمعه وبصره وعلمه منه .. إنّما أراد نفسه كما سمع نفسه وأبصر نفسه وعلم نفسه.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٧٩ ـ ١٨٢.


قال الرضا عليه‌السلام : فما معنى أراد نفسه؟ (يعني) أراد أن يكون شيئاً وأراد أن يكون حياً وسميعاً وبصيراً وقديراً؟ فليس لقولك : أراد أن يكون حياً سميعاً بصيراً معنى إذا لم يكن ذلك بإرادته.

قال سليمان : بلى قد كان ذلك بإرادته! .. فضحك الرضا عليه‌السلام ثمّ قال : يا سليمان ؛ فقد تحوّل عندكم عن حاله وتغيّر عنها! وهذا ما لا يوصف به الله عزوجل! فانقطع!

ثمّ قال الرضا عليه‌السلام : يا سليمان .. الذي يعلمه الناس أنّ المريد غير الإرادة وأنّ المريد قبل الإرادة ، وأنّ الفاعل قبل المفعول ، وهذا يبطل قولكم : إنّ الإرادة والمريد شيء واحد .. فلم يَحر جواباً (١).

الرضا ، وسليمان المروزي ، والعلم :

ثمّ قال الرضا عليه‌السلام لسليمان المروزي : يا سليمان ، هل يعلم الله جميع ما في الجنة والنار؟ قال : نعم. قال : أفيكون ما يعلم الله أنّه يكون ؛ من ذلك؟ قال : نعم. قال : فإذا كان (وجد) حتّى لا يبقى منه شيء إلّاكان ، أيزيدهم؟ أو يطويه عنهم؟ قال سليمان : بل يزيدهم! قال : فأراه ـ في قولك ـ أنّه يزيدهم ما لم يكن في علمه أنّه يكون! قال : جعلت فداك ، فالمزيد لا غاية له! قال : فليس علمه عندكم يحيط بما يكون فيهما إذا لم يعرف غاية ذلك ، وإذا لم يُحط علمه بما يكون فيهما لم يعلم ما يكون فيهما قبل أن يكون! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

فقال سليمان : إنّما قلت : لا يعلمه لأنه لا غاية لهذا لأنّ الله وصفهما بالخلود ، فكرهنا أن نجعل لهما انقطاعاً!

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٨٣ ـ ١٨٤.


قال الرضا عليه‌السلام : ليس علمه بذلك بموجب لانقطاعه عنهم (بل هو) يعلم ذلك ولا يقطع عنهم الزيادة. أرأيت ما يأكل أهل الجنة وما يشربون أليس يُخلف مكانه؟ قال : بلى ، قال : أفيقطع ذلك عنهم وقد أخلف مكانه؟ قال : لا. قال : فكل ما كان فيها إذا اخلف مكانه فليس بمقطوع عنهم .. إذن ، يبيد ما فيها ، وهذا إبطال للخلود وخلاف كتاب الله ، فالله عزوجل يقول : (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (١)) ويقول عزوجل : (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (٢)) ويقول عزوجل : (وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (٣)) ويقول عزوجل : (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً (٤)) ويقول عزوجل : (وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ* لَامَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (٥)) فلم يحَر سليمان جواباً.

ثمّ عاد كلامهما في صفة الإرادة لله سبحانه ، خمس صفحات ، وانقطع سليمان فيها خمس مرات ، وعند ذلك قال له المأمون : يا سليمان ، هذا أعلم هاشمي! ثمّ تفرّق القوم (٦).

الرضا ، وابن الجهم ، والعصمة :

جمع المأمون للرضا عليه‌السلام أهل المقالات من ديانات النصارى واليهود والمجوس والصابئين ، وسائر أهل المقالات من أهل الإسلام كسليمان بن حفص المروزي متكلم أهل خراسان. قال أبو الصلت الهروي : فلم يقم أحد منهم إلّا

__________________

(١) ق : ٣٥.

(٢) هود : ١٠٨.

(٣) الحجر : ٤٨.

(٤) البينة : ٨.

(٥) الواقعة : ٣٢ ـ ٣٣.

(٦) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٨٤ ـ ١٩١.


ألزمه حجته حتّى كأنّه القُم حجراً! وكأنّ أبا الصلت لم يحضر المجالس السابقة فلم يروِها ، وإنّما حضر أخيراً مناظرة علي بن محمّد بن الجهم الشيباني مع الرضا عليه‌السلام في عصمة الأنبياء فرواها قال :

قام إليه ابن الجهم فقال له : يابن رسول الله ، أتقول بعصمة الأنبياء؟ قال : نعم.

قال : فما تعمل بقول الله عزوجل : (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (١)) وفي قوله عزوجل : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ (٢)) وفي قوله عزوجل في يوسف عليه‌السلام : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا (٣)) وفي قوله عزوجل في داود : (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ (٤)) وقوله تعالى في نبيّه محمّد : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ (٥))؟!

فقال له الرضا عليه‌السلام : ويحك ـ يا علي ـ اتق الله ولا تنسب الفواحش إلى أنبياء الله ، ولا تتأوّل كتاب الله برأيك!

أما قوله عزوجل في آدم : (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) أما المعصية من آدم فقد كانت في الجنة ، وعصمته (إنّما) تجب أن تكون في الأرض ، لتتمّ مقادير أمر الله ، فلمّا أهبطه إلى الأرض وجعله حجته وخليفته عُصم (وذلك) بقوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (٦)(٧)).

__________________

(١) طه : ١٢١.

(٢) الأنبياء : ٨٧.

(٣) يوسف : ٢٤.

(٤) سورة ص : ٢٤.

(٥) الأحزاب : ٣٧.

(٦) آل عمران : ٣٣.

(٧) كذا هنا ، وفيه كلام لدى أهل الكلام ، فهم يقولون بالعصمة التامة ، ولكن العصمة إنّما هي في التكاليف ، والجنة لم تكن دار تكاليف : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) ، البقرة : ٣٨.


وأمّا قوله عزوجل : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) فإنما ظنّ يعني استيقن أنّ الله لن يضيّق عليه رزقه! ولو ظنّ أنّ الله لا يقدر عليه لكان قد كفر!

وأمّا قوله عزوجل في يوسف : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا) فإنها همّت بالمعصية ، ويوسف همّ بها إن أجبرته (بالمعصية) أن يقتلها ، لعظم ما تداخله! فصرف الله عنه قتلها والفاحشة وهو قوله عزوجل : (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ) يعني القتل والزنا.

وأما داود ، فما يقول فيه مَن قبلكم؟ فقصّ ابن الجهم قصّة قطع داود صلاته ليأخذ الطير الجميل ، وأنّه رأى امرأة قائده أوريا في دارها تغتسل فهواها ، فقدّم اوريا في القتال فقُتل فتزوّجها داود!

فالرضا عليه‌السلام لمّا سمع ذلك ضرب بيده على جبهته واسترجع وقال له : لقد نسبتم نبيّاً من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته ثمّ القتل ثمّ الفاحشة! فقال ابن الجهم : يابن رسول الله فما كانت خطيئته؟ فقال : إنّما ظن داود أن الله ما خلق خلقاً أعلم منه! فبعث الله إليه الملكين تسوّرا عليه المحراب وقالا له : (خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ* إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِىَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) فعجّل داود على المدّعى عليه فقال : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ) ولم يسأل مِن المدّعى البيّنة على ذلك ، ولم يُقبل على المدّعى عليه ليراه ما يقول. فكانت هذه خطيئة في رسم الحكم ، ألا تسمع الله عزوجل يقول : (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى (١)).

__________________

(١) ص : ٢٢ ـ ٢٦.


فقال ابن الجهم : يابن رسول الله ، فما قصته مع أوريا؟

قال الرضا عليه‌السلام : إنّ المرأة في أيام داود عليه‌السلام إذا مات بعلها أو قُتل كانت لا تتزوّج أبداً! وأول من أباح الله له أن يتزوّج بامرأة قُتل بعلها كان داود عليه‌السلام ، فلمّا قُتل اوريا وانقضت عدتها منه تزوج بامرأته.

وأما محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وقول الله له : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ).

فإنّ الله عزوجل (كان قد) عرّف نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أسماء أزواجه في الدنيا ، وفي الآخرة ، ومنهن زينب بنت جحش ، وهي يومئذٍ زوج زيد بن حارثة ، فأخفى (ذلك) في نفسه ولم يبده إذ خشي قول المنافقين .. فقال الله عزوجل : (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ). وإن الله ما تولى تزويج أحد من خلقه إلّاتزويج حواء بآدم ، وتزويج فاطمة بعلي عليهما‌السلام ، وتزويج زينب لرسول الله بقوله : (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا (١)).

فقال ابن الجهم : يابن رسول الله ، أنا بعد يومي هذا تائب إلى الله عزوجل من أن أنطق في أنبياء الله عليهم‌السلام إلّابما ذكرته أنت (٢) وبعد هذا حضر المجلس التالي في العصمة أيضاً من المأمون نفسه ، وكأنّه لم يكن حاضراً في هذا المجلس فتكرّر بعض السؤال والإشكال ، واختلف المقال جواباً وتفصيلاً ، كما يلي :

المأمون والرضا عليه‌السلام والعصمة :

في الخبر السابق عن أبي الصلت الهروي لم يذكر حضور المأمون ، فكأنّه كان غائباً عن نقاش ابن الجهم للرضا عليه‌السلام في عصمة الأنبياء عليهم‌السلام وظواهر

__________________

(١) الأحزاب : ٣٧.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٩١ ـ ١٩٥.


ألفاظ القرآن بخلافها فيهم ، فنرى هنا خبراً آخر رواه ابن الجهم الشيباني ، قال : حضرت مجلس المأمون ، وعنده الرضا علي بن موسى ، فقال له المأمون :

يابن رسول الله ، أليس من قولك : أنّ الأنبياء معصومون؟ قال : بلى. قال : فما معنى قول الله عزوجل : (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (١)).

فقال الرضا عليه‌السلام : إنّ الله تبارك وتعالى قال لآدم : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (٢)) ولم يقل لهما : لا تأكلا من هذه الشجرة ولا مما كان من جنسها! فلمّا وسوس الشيطان إليهما وقال لهما : (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ) وما نهاكما عن الأكل منها : (إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ* وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٣)) ولم يكن آدم وحواء رأيا قبل ذلك من يحلف بالله كاذباً فأكلا منها ثقة بيمينه بالله. وكان ذلك من آدم قبل النبوة. ولم يكن ذلك بذنب كبير يستحق به دخول النار! وإنّما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم (٤). فلمّا اجتباه الله تعالى وجعله نبياً كان معصوماً لا يُذنب كبيرة ولا صغيرة.

فقال المأمون : أشهد أنك ابن رسول الله حقاً! فأخبرني عن قول الله عزوجل في حق إبراهيم : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي).

__________________

(١) طه : ١٢١.

(٢) البقرة : ٣٥.

(٣) الأعراف : ٢٠ ـ ٢١.

(٤) كذا هنا ، وفيه كلام عند أهل الكلام ، فهم يقولون بالعصمة التامة عن الكبائر والصغائر قبل النبوة ومعها ، وهذا هنا يختلف عن الخبر السابق في التفصيل بين الجنة والأرض.


فقال الرضا عليه‌السلام : إنّ إبراهيم عليه‌السلام حين خرج من السرب الذي اخفي فيه وقع إلى ثلاثة أصناف : صنف يعبد الزهرة ، وصنف يعبد القمر ، وصنف يعبد الشمس ، فلمّا جنّ عليه الليل فرأى الزهرة قال : هذا ربي؟! على الاستخبار والإنكار! فلمّا أفل الكوكب قال : (لَاأُحِبُّ الْآفِلِينَ) ، لأنّ الأُفول من صفات المحدَث لا القدم! (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي) على الاستخبار والانكار! (فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) أي : لو لم يهدني ربي لكنت من القوم الضالين. فلمّا أصبح و (رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ) من الزهرة والقمر ، على الاستخبار والانكار لا على الإقرار والاخبار فلمّا أفلت قال للأصناف الثلاثة : عبدة الزهرة والقمر والشمس : (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وإنّما أراد إبراهيم عليه‌السلام بما قال أن يبيّن لهم بطلان دينهم ويثبت عندهم أنّ العبادة لا تحق لما كان بصفة الزهرة والقمر والشمس ، وإنّما تحق العبادة لخالقها وخالق السماوات والأرض. وكان ما احتج به على قومه مما ألهمه الله تعالى وآتاه ، كما قال الله عزوجل : (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ (١)).

فقال المأمون : لله درّك يابن رسول الله! فأخبرني عن قول إبراهيم : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي (٢)).

فقال الرضا عليه‌السلام : إنّ الله تبارك وتعالى كان قد أوحى إلى إبراهيم عليه‌السلام : إني سأتّخذ واختار من عبادي خليلاً إن سألني إحياء الموتى أجبته! فوقع في نفسه أنّه هو ذلك الخليل فقال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ

__________________

(١) الأنعام : ٧٦ ـ ٨٣.

(٢) البقرة : ٢٦٠ فما بعدها.


لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) بالخلة! (قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ...) فأخذ إبراهيم ديكاً وبطّاً وطاووساً ونسراً فقطعهن وخلطهن ثمّ جعل على كل جبل منهن جزءاً وهن عشرة جبال ، وأخذ بمناقيرهن بين أصابعه ثمّ دعاهن بأسمائهن ، فتطايرت تلك الأجزاء بعضها إلى بعض حتّى استوت الأبدان ، وجاء كل بدن حتّى انضمّ إلى رقبته ورأسه.

فقال المأمون : بارك الله فيك يا أبا الحسن. فأخبرني عن قول الله عزوجل : (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ).

فقال الرضا عليه‌السلام : إنّ موسى دخل مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها وذلك بين المغرب والعشاء (فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) فقضى موسى بحكم الله على العدو فمات ، فلمّا (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) كان يعني الاقتتال الذي كان بين الرجلين لا ما فعله هو!

فقال المأمون : فما معنى قول موسى : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي (١)) قال : يقول : ربّ إني وضعت نفسي في غير موضعها لما دخلت هذه المدينة فاسترني من أعدائي لئلّا يقتلوني.

فقال المأمون : يا أبا الحسن جزاك الله عن أنبيائه خيراً! فما معنى قول موسى لفرعون : (فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ).

قال الرضا عليه‌السلام : إنّ فرعون لما أتاه موسى قال له : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) بي! فقال موسى : بل (فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢)) عن الطريق لوقوعي في مدائنك.

__________________

(١) القصص : ١٥ ـ ١٦.

(٢) الشعراء : ١٩ ـ ٢٠.


فقال المأمون : بارك الله فيك يابن رسول الله! فما معنى قول الله عزوجل : (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي (١)) كيف يجوز أن يكون موسى بن عمران عليه‌السلام لا يعلم أنّ الله تبارك وتعالى ذكره لا تجوز عليه الرؤية حتّى يسأله هذا السؤال؟!

فقال الرضا عليه‌السلام : إنّ كليم الله موسى بن عمران عليه‌السلام أخبر قومه أنّ الله كلّمه وناجاه! فقالوا له : لن نؤمن لك حتّى نسمع كلامه كما تسمع! وكان القوم سبعمئة ألف رجل ، فاختار منهم سبعين ألفاً ، ثمّ اختار منهم سبعة آلاف ، ثمّ اختار منهم سبعمئة ، ثمّ اختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربّهم ، فخرج بهم إلى طور سيناء وأقامهم في سفح الجبل ، وصعد هو إلى الطور ، وسأل الله أن يكلّمه ويُسمعهم كلامه ، فكلّمه الله تعالى ذكره وسمعوا كلامه من كل الجهات! فقالوا : لن نؤمن بأن هذا الذي سمعناه كلام الله حتّى نرى الله جهرة! فلمّا قالوا هذا القول العظيم وعتوا واستكبروا بعث الله عليهم صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا.

فقال موسى : يا رب إذا رجعت إلى بني إسرائيل وقالوا لي : إنّك ذهبت بهم فقتلتهم! لأنك لم تكن صادقاً فيما ادعيت من مناجاة الله إياك! فماذا أقول لهم؟! فأحياهم الله وبعثهم معه ، فقالوا (مرة أُخرى) : إنك إن سألت الله أن يريك ننظر إليه لأجابك! فقال موسى : يا قوم إنّ الله تعالى إنّما يُعرف بآياته ويُعلم بأعلامه ولا كيفية له فلا يُرى بالأبصار! فقالوا : إذاً لا نؤمن لك حتّى تسأله! فقال موسى : يا رب إنك قد سمعت مقالة بني إسرائيل ، وأنت أعلم بما يصلحهم. فأوحى الله إليه : يا موسى سلني ما سألوك فلن تؤخذ بجهلهم! فعند ذلك قال موسى : (رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ).

__________________

(١) الأعراف : ١٤٣.


فقال المأمون : لله درّك يا أبا الحسن! فأخبرني عن قول الله عزوجل : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ (١)).

فقال الرضا عليه‌السلام : لولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها كما همّت به ، لكنه كان معصوماً والمعصوم لا يأتي بالذنب ولا يهتم به. ولقد حدّثني أبي عن أبيه الصادق عليه‌السلام قال : همّت بأن تفعل وهمّ بأن لا يفعل!

فقال المأمون : لله درك يا أبا الحسن ؛ فأخبرني عن قول الله عزوجل : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ (٢)).

فقال الرضا عليه‌السلام : ذاك يونس بن متّى عليه‌السلام ذهب مغاضباً لقومه ، فظن ـ أي استيقن ـ أن لن نقدر أي لن نضيّق عليه رزقه! فنادى في الظلمات ، أي : ظلمة بطن الحوت والبحر والليل : (أَنْ لَاإِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) بتركي مثل هذه العبادة التي فرّغتني لها هنا في بطن الحوت! فاستجاب الله له ...

فقال المأمون : لله درك يا أبا الحسن! فأخبرني عن قول الله عزوجل : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا (٣)).

فقال الرضا عليه‌السلام : يقول الله عزوجل : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ) من قومهم ، وظنّ قومهم أنّ الرسل قد كُذبوا جاء نصرنا للرسل.

فقال المأمون : لله درك يا أبا الحسن! فأخبرني عن قول الله عزوجل : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ (٤)).

فقال الرضا عليه‌السلام : إنّ مشركي أهل مكة كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمئة

__________________

(١) يوسف : ٢٤.

(٢) الأنبياء : ٨٧.

(٣) يوسف : ١١٠.

(٤) الفتح : ٢.


وستين صنماً ، فلمّا أن جاءهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم حتّى لم يكن أحد عندهم أعظم ذنباً منه! فلمّا فتح الله عزوجل على نبيّه مكة ـ تمهيداً بصلح الحديبية ـ قال له : (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدم وتأخر .. فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفوراً بظهوره عليهم!

فقال المأمون : لله درك يا أبا الحسن! فأخبرني عن قول الله عزوجل : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ (١)).

قال الرضا عليه‌السلام : هذا مما نزل بإياك أعني واسمعي يا جارتي ، خاطب الله عزوجل بذلك نبيّه وأراد به امته. وكذلك قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٢)) وقوله عزوجل : (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٣)).

قال المأمون : صدقت يابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فأخبرني عن قول الله عزوجل : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ (٤)).

قال الرضا عليه‌السلام : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قصد دار زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي في أمر أراده ، فوجد امرأته تغتسل فقال : سبحان الله الذي خلقك! وإنّما أراد بذلك : سبحان الله الذي خلقك أن يتّخذك ولداً يحتاج إلى الاغتسال والتطهير ، وأراد تنزيه الباري عزوجل عن زعْم من زعِم أنّ الملائكة بنات الله!

__________________

(١) التوبة : ٤٣.

(٢) الزمر : ٦٥.

(٣) الإسراء : ٧٤.

(٤) الأحزاب : ٣٧.


فلمّا عاد زيد إلى منزله أخبرَته امرأته بمجيء رسول الله وقوله لها : سبحان الله الذي خلقك! فظن أنّه قال ذلك لما أعجبه من حسنها! ولم يعلم ما أراد بذلك. فجاء إلى النبي وقال له : يا رسول الله ، إنّ في خلق امرأتي سوءاً فأُريد طلاقها! فقال له النبي : أمسك عليك زوجك واتق الله.

وقد كان الله عزوجل عرّفه أزواجه وأن تلك (زينب) منهن! فأخفى في نفسه ذلك ولم يبده لزيد ، وخشي أن يقول الناس في ذلك يعيبونه به ، فأنزل الله عزوجل ما قال. ثمّ إنّ زيد بن حارثة طلقها واعتدّت منه فزوّجها الله من نبيّه محمّد وأنزل بذلك قرآناً.

فقال المأمون : يابن رسول الله ، لقد شفيت صدري وأوضحت لي ما كان ملتبساً عليَّ ، فجزاك الله عن أنبيائه وعن الإسلام خيراً!

ثمّ قام المأمون إلى الصلاة وكان محمّد بن جعفر العلوي حاضر المجلس فأخذ المأمون بيده وخرج وتبعته فسمعته يقول له المأمون : كيف رأيت ابن أخيك؟ فقال له : إنّه عالم! ولم نره يختلف إلى أحد من أهل العلم!

فقال المأمون : إن ابن أخيك من «أهل البيت» الذين قال فيهم النبيّ : «ألا إنّ أبرار «عترتي» وأطائب أُرومتي أحلم الناس صغاراً وأعلم الناس كباراً ، فلاتعلّموهم فإنهم أعلم منكم ، لا يخرجونكم من باب هدى ولا يدخلونكم في باب ضلالة»!

قال ابن الجهم : فلمّا كان الغد غدوت إلى منزل الرضا عليه‌السلام فأعلمته بما كان من قول المأمون وجواب عمه محمّد بن جعفر له. فضحك ثمّ قال لي : يابن الجهم ؛ لا يغرنّك ما سمعته منه! فإنه سيغتالني! والله تعالى ينتقم لي منه!

نقل الصدوق هذا وعلّق عليه قال : هذا الحديث من طريق علي بن محمّد بن الجهم غريب مع نصبه وبغضه وعداوته لأهل البيت عليهم‌السلام (١).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٩٥ ـ ٢٠٤ ، الباب ١٥.


المأمون والرضا وشبهة الجبر :

أسند الصدوق عن أبي الصلت الهروي : أنّ المأمون قال للرضا عليه‌السلام : يابن رسول الله ، ما معنى قول الله عزوجل : (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ* وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ (١)).

فقال الرضا عليه‌السلام : حدثني أبي عن أبيه عن آبائه عن علي عليهم‌السلام قال : إنّ المسلمين قالوا لرسول الله : يا رسول الله ، لو أكرهت من قدرت عليه من الناس على الإسلام لكثر عددنا وقوينا على عدونا! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما كنت لألقى الله ببدعة لم يُحدث إليّ فيها شيئاً! فأنزل الله عليه : (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) على سبيل الالجاء والاضطرار في الدنيا كما يؤمنون عند رؤية البأس وفي الآخرة ، ولو فعلت ذلك بهم لم يستحقوا مني ثواباً ولا مدحاً ، لكنّي أُريد منهم أن يؤمنوا مختارين غير مضطرين ليستحقوا مني الزلفى والكرامة ودوام الخلود في الجنة.

قال : وأما قوله تعالى : (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فليس ذلك على سبيل تحريم الايمان عليها ، ولكن على معنى أنها ما كانت لتؤمن إلّابأمره لها بالإيمان فما كانت متكلفة ومتعبّدة (كذا).

فقال المأمون : فرّجت عنّي يا أبا الحسن فرّج الله عنك! فأخبرني عن قول الله تعالى : (الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَايَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (٢)).

__________________

(١) يونس ٩٩ و ١٠٠

(٢) الكهف ١٠١


فقال عليه‌السلام : إنّ غطاء العين لا يمنع من الذكر ، فالذكر لا يرى بالعين ، ولكن الله شبّه الكافرين بولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام بالعميان ، لأنهم كانوا يستثقلون قول النبيّ فيه فلا يستطيعون سمعه! فقال المأمون : فرّجت عنّي فرج الله عنك!

وسأله عن قوله الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (١)).

فقال عليه‌السلام : إنّ الله تبارك وتعالى قبل خلق السماوات والأرض خلق العرش والماء والملائكة ، فكانت الملائكة تستدل بأنفسها وبالعرش وبالماء على الله عزوجل. ثمّ جعل عرشه على الماء ليظهر بذلك قدرته للملائكة فيعلموا أنّه على كل شيء قدير. ثمّ رفع العرش بقدرته وجعله فوق السماوات السبع ، ثمّ خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، وكان قادراً على أن يخلقها في طرفة عين ولكنّه تعالى خلقها في ستة أيام ليظهر للملائكة ما يخلقه منها شيئاً بعد شيء فتستدل بحدوث ما يحدث على الله تعالى مرة بعد مرة ، ولم يخلق الله العرش لحاجة به إليه فهو غنيّ عن العرش وعن جميع ما خلق ، ولا يوصف بالكون على العرش فهو ليس بجسم ، تعالى الله عن صفة خلقه علواً كبيراً ، خلقهم ليبلوهم بتكليفهم بطاعته وعبادته لا على سبيل الامتحان والتجربة (٢).

مسائل في الأوصاف ، مع الرضا عليه‌السلام :

أسند الصدوق عن ابن أبي نصر البزنطي : أن سُمعة علم الرضا عليه‌السلام بلغت بلاد ماوراء النهر ، فجاء منهم قوم إليه وقالوا له : جئناك نسألك عن ثلاث مسائل ، فإن أجبتنا فيها علمنا أنك عالم! ثمّ قالوا :

__________________

(١) هود : ٧.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٣٤ و ١٣٥ ، الحديث ٣٣.


أخبرنا عن الله تعالى : أين كان؟ وكيف كان؟ وعلى أي شيء كان اعتماده؟

فقال عليه‌السلام : إن الله تعالى كيّف الكيف فهو بلا كيف ، وأيّن الأين فهو بلا أين ، وكان اعتماده على قدرته. فقالوا : نشهد أنك عالم (١)!

وكان عنده الجماعة إذ دخل زنديق فقال له : رحمك الله أوجدني كيف هو؟ وأين هو؟ وكأنّه لم يقنع.

فقال الرضا عليه‌السلام : ويلك! إنّ الذي ذهبت إليه غلط ، فهو أيّن الأين فكان ولا أين ، وهو كيّف الكيف فكان ولا كيف ، فلا يُعرف بكينونية ولا بأينونية! ولا يقاس بشيء ولا يدرك بحاسّة.

فقال الزنديق : فهو لا شيء إذ لم يدرك بحاسة من الحواس!

فقال أبو الحسن عليه‌السلام : ويلك لمّا عجزت حواسك عن إدراكه انكرت ربوبيّته! ونحن إذ عجزت حواسّنا عن إدراكه أيقنّا أنّه ربّنا ، وأنّه شيء بخلاف الأشياء.

قال الرجل : فأخبرني متى كان؟ قال أبو الحسن : أخبرني متى لم يكن فأخبرك متى كان! قال الرجل : فما الدليل عليه؟ قال : إني لما نظرت إلى جسدي فلم يمكن زيادة ولا نقصان في العرض والطول ، ودفع المكاره عنه وجر المنفعة إليه ، علمت أنّ لهذا البنيان بانياً فأقررت به ، مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته ، وإنشاء السحاب وتصريف الرياح ، ومجرى الشمس والقمر والنجوم ، وغير ذلك من الآيات العجيبات المتقنات ، علمت أنّ لهذا مقدِّراً ومنشئاً.

قال الرجل : فلِم احتجب؟ فقال أبو الحسن : إنّ الحجاب على الخلق لكثرة ذنوبهم! فأما هو فلا تخفى عليه خافية في آناء الليل والنهار. قال : فلم لا تدركه حاسة الأبصار؟ قال : للفرق بينه وبين خلقه الذين تدركهم الأبصار منهم

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١١٧ ، الحديث ٦.


ومن غيرهم. ثمّ هو أجل من أن يدركه بصر أو يحيط به وهم أو يضبطه عقل! قال : فحدّه لي. قال : لا حدّ له. قال : ولمَ؟ قال : لأنّ كل محدود متناه إلى حد ، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة ، وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان ، وهو غير محدود ولا متزايد ولا متناقص ولا متجزّئ ولا متوهّم.

قال الرجل : فأخبرني عن قولكم : إنّه سميع حكيم وبصير عليم ، أيكون السمع إلّا بأُذن؟ والبصر إلّابالعين؟ واللطف إلّابالعمل باليدين؟ والحكمة إلّابالصنعة؟

فقال أبو الحسن : إنّ اللطيف فينا حدّ لاتخاذ الصنعة ، أو ما رأيت الرجل يتخذ شيئاً يلطف في اتخاذه فيقال : ما ألطف فلاناً! فكيف لا يقال للخالق الجليل :

لطيف؟ إذ خلق خلقاً لطيفاً وجليلاً ، وركّب في الحيوان منه روحه ، وخلق كل جنس متبايناً في جنسه في الصورة لا يشبه بعضه بعضاً ، فكل به لطف من الخالق اللطيف الخبير في تركيب صورته.

ثمّ نظرنا إلى الأشجار وأطايب حملها المأكول فقلنا عند ذلك : إنّ خالقنا لطيف لا كلُطف خلقه في صنعتهم. وقلنا : إنّه سميع لا تخفى عليه أصوات خلقه ما بين العرش إلى الثرى من الذرة إلى أكبر منها في البر والبحر ، ولا تشتبه عليه لغاتها! فعند ذلك قلنا : إنّه سميع لا باذن.

وقلنا : إنّه بصير لا ببصر ، لأنه يرى أثر الذرة السحماء (السوداء) في الليلة الظلماء على الصخرة الصمّاء ، ويرى دبيب النملة في الليل الدجنة ، ويرى منافعها ومضارها ، وأثر سفادها وفراخها ونسلها ، فعند ذلك قلنا : إنّه بصير لا كبصر خلقه.

وقال له أبو الحسن : أرأيت إن كان القول قولكم ـ وليس كما تقولون ـ ألسنا وإياكم شرعاً سواء ولايضرنا ما صلينا وصمنا وزكينا وأقررنا؟! وإن يكن القول قولنا ـ وهو قولنا كما نقول ـ ألستم قد هلكتم ونجونا؟! فما برح هذا الزنديق حتّى أسلم (١).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٣١ ـ ١٣٣ ، الحديث ٢٨.


الرضا ، والمأمون ودلالة المباهلة :

من الفصول المختارة للسيد المرتضى عن العيون والمحاسن لشيخه المفيد : أن المأمون قال للرضا عليه‌السلام يوماً : أخبرني بأكبر فضيلة لأمير المؤمنين علي عليه‌السلام يدل عليها القرآن.

فقال الرضا عليه‌السلام : قال الله جلّ جلاله : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ ...) الآية ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الحسن والحسين عليهما‌السلام فكانا ابنيه ، ودعا فاطمة عليها‌السلام فكانت في هذا الموضع نساءه ، ودعا أمير المؤمنين عليه‌السلام فكان نفسه بحكم الله عزوجل ؛ فثبت أنّه ليس أحد من خلق الله تعالى أجلّ من رسول الله وأفضل ، فواجب أن لا يكون أحد أفضل من نفس رسول الله بحكم الله عزوجل.

فقال له المأمون : أليس قد ذكر الله تعالى الأبناء بلفظ الجمع ، وإنّما دعا رسول الله ابنيه خاصة ؛ وذكر النساء بلفظ الجمع وإنّما دعا رسول الله ابنته وحدها؟ فألا جاز أن يذكر الدعاء لمن هو نفسه ويكون المراد نفسه في الحقيقة دون غيره؟! فلا يكون لأمير المؤمنين ما ذكرت من الفضل.

فقال له الرضا عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين! ليس يصحّ ما ذكرت ؛ وذلك أنّ الداعي إنّما يكون داعياً لغيره. كما أنّ الآمر آمر لغيره ، ولا يصحّ أن يكون داعياً لنفسه في الحقيقة ، كما لا يكون آمراً لها في الحقيقة. وإذ لم يدعُ رسول الله رجلاً في المباهلة إلّاأمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقد ثبت أنّه هو نفسه التي عناها الله سبحانه في كتابه ، وجعل له حكمه ذلك في تنزيله.

فقال المأمون : إذا ورد الجواب سقط السؤال (١).

__________________

(١) الفصول المختارة : ٣٨ وكنزل الفوائد للكراجكي. والآية ٦١ من سورة آل عمران.


حديث الرضا عليه‌السلام في الإمام والإمامة :

أسند الكليني عن عبد العزيز بن مسلم قال : كنا في بدء مقدمنا إلى مرو اجتمعنا يوم الجمعة في الجامع ، فأدار الناس أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها. فدخلت على سيدي الرضا عليه‌السلام فأعلمته خوض الناس فيها ، فتبسّم ثمّ قال :

يا عبد العزيز ، جَهل القوم وخُدعوا عن آرائهم ، إنّ الله عزوجل لم يقبض نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى أكمل له الدين ، وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء ؛ بيّن فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام ، وجميع ما يحتاج الناس إليه كُملاً ، فقال عزوجل : (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ (١)) وفي حجة الوداع في آخر عمره أنزل عليه : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً (٢)) وأمر الإمامة من تمام الدين. فلم يمض صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى بيّن لأُمته معالم دينهم ، وأوضح لهم سبيلهم ، وتركهم على قصد سبيل الحق ، وأقام لهم علياً عليه‌السلام علماً وإماماً ، وما ترك شيئاً تحتاج إليه الأُمة إلّابيّنه. فمن زعم أنّ الله لم يكمّل دينه فقد ردّ كتاب الله ، ومن ردّ كتاب الله فهو كافر به.

وهل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأُمة حتّى يجوز اختيارهم فيها؟

إنّ الإمامة أجل قدراً وأعظم شأناً وأعلى مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم ، أو ينالوها بآرائهم ، أو يقيموا لهم إماماً باختيارهم.

إنّ الإمامة خصّ الله بها إبراهيم الخليل عليه‌السلام بعد النبوة والخُلة مرتبة ثالثة ، وفضيلة شرّفه بها وأشاد بها ذكره فقال له : (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) فقال الخليل : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي») قال الله تبارك وتعالى : (لَايَنَالُ عَهْدِي

__________________

(١) الأنعام : ٣٨.

(٢) المائدة : ٣.


الظَّالِمِينَ (١)) فهذه الآية أبطلت إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة. ثمّ أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة فقال : (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ* وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (٢)) فلم تزل في ذريته يرثها بعضهم عن بعض قرناً فقرناً حتّى ورّثها الله تعالى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال جلّ وتعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٣)) فكانت له خاصة ، فقلدها علياً بأمر الله تعالى على رسم ما فرض الله ، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان ، فهي في ولد علي خاصة إلى يوم القيامة إذ لا نبيّ بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. فمن أين يختار هؤلاء الجهّال؟!

إنّ الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ومقام أمير المؤمنين عليه‌السلام وميراث الحسن والحسين عليهما‌السلام.

إنّ الإمامة زمام الدين ، ونظام المسلمين ، وصلاح الدنيا وعزّ المؤمنين.

إن الإمامة أُسّ الإسلام النامي ، وفرعه السامي.

بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد ، وتوفير الفيء والصدقات ، وإمضاء الحدود والأحكام ، ومنع الثغور والأطراف.

الإمام يحل حلال الله ويحرم حرام الله ويقيم حدود الله ويذبّ عن دين الله ، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، والحجة البالغة ...

__________________

(١) البقرة : ١٢٤.

(٢) الأنبياء : ٧٢ ـ ٧٣.

(٣) آل عمران : ٦٨.


الإمام أمين الله في خلقه ، وحجته على عباده ، وخليفته في بلاده ، والداعي إلى الله ، والذابّ عن حرم الله.

الإمام المطهَّر من الذنوب ، والمبرّأ عن العيوب ، المخصوص بالعلم ، الموسوم بالحلم ، نظام الدين وعزّ المسلمين ، وغيظ المنافقين وبوار الكافرين.

الإمام واحد دهره لا يدانيه أحد ، ولا يعادله عالم ، ولا يوجد له بدل ولا له مثل ولا نظير ، مخصوص بالفضل من غير طلب ولا اكتساب ، بل هو اختصاص من المفضّل الوهاب.

فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه اختياره؟! هيهات هيهات ضلت العقول وتاهت الحلوم وحارت الألباب ، وخسئت العيون! .. فأين الاختيار من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟ وأين يوجد مثل هذا؟ أيظنون أن ذلك يوجد في غير آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! كذبتهم والله أنفسهم ومنّتهم الأباطيل! راموا إقامة الإمامة بعقول حائرة بائرة ناقصة وآراء مضلة ، فلم يزدادوا منه إلّابعداً! ولقد راموا صعباً وقالوا إفكاً! وضلوا ضلالاً بعيداً ووقعوا في الحيرة إذ تركوا الإمام عن بصيرة (وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (١)).

رغبوا عن اختيار الله واختيار رسول الله وأهل بيته إلى اختيارهم ، والقرآن يناديهم : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢)) إلى عدة آيات أُخرى.

فكيف لهم باختيار الإمام؟! والإمام عالم لا يجهل وراع لا ينكل ، معدن القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة ، مخصوص بدعوة الرسول ونسل المطهّرة البتول ، لا مغمز فيه من نسب ولا يدانيه ذو حسب ، في البيت من

__________________

(١) العنكبوت : ٣٨.

(٢) القصص : ٦٨.


قريش والذروة من هاشم ، والعترة من الرسول والرضا من الله عزوجل. شرف الأشراف وفرع عبد مناف. نامي العلم كامل الحلم ، مضطلع بالامامة عالم «بالسياسة» مفروض الطاعة ، قائم بأمر الله ناصح لعباد الله حافظ لدين الله.

إنّ الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم يوفقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم ، فيكون علمهم فوق علم أهل الزمان ... وإن العبد إذا اختاره الله عزوجل لأُمور عباده شرح صدره لذلك وأودع قلبه ينابيع الحكمة وألهمه العلم إلهاماً ، فلم يعي بجواب ولا يحير فيه عن الصواب ، فهو «معصوم» مؤيد وموثّق مسدّد ، قد أمن من الخطايا والزلل والعثار ، يخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده وشاهده على خلقه (ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١)).

فهل هم يقدرون على مثل هذا فيختارونه؟ أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدمونه؟! تعدّوا الحق وبيتِ الله (٢)!

المأمون والمتكلمون والرضا في الإمامة :

مرّ الخبر عن استخبار المأمون عن الرضا عليه‌السلام كل ما يجري منه وعنده ، فلعل خبر كلام الإمام عليه‌السلام في الإمامة والإمام بلغه ، وأراد أن يحرجه فيه أمام أهل الكلام.

نقل الصدوق عن كتاب الأوراق لمحمد بن يحيى الصولي نقله بمعناه قال : اجتمع عند المأمون الفقهاء والمتكلمون ، فدسّ إليهم : أن يناظروا الرضا عليه‌السلام

__________________

(١) الجمعة : ٣.

(٢) أُصول الكافي ١ : ١٦٨ ـ ٢٠٣ بتلخيص ، وعنه في الغيبة للنعماني : ١٤٥ ـ ١٤٨ وفي عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢١٦ ـ ٢٢٢ عن غيره.


في الإمامة. فلمّا حضر هو والرضا عليه‌السلام وعرضوا عليه ذلك قال لهم الرضا : اقتصروا على واحد منكم يلزمكم ما يلزمه. وكان فيهم رجل لا يُعرف في خراسان مثله في الكلام يعرف بيحيى بن الضحاك السمرقندي. فقال له الرضا عليه‌السلام : يا يحيى سل عمّا شئت ، فقال : نتكلم في الإمامة. ثمّ قال :

كيف ادعيت الإمامة لمن لم يؤم وتركت من أمّ؟

فقال الرضا عليه‌السلام : يا يحيى ، أخبرني عن مَن صدّق كاذباً على نفسه أيكون محقاً مصيباً؟ أو مبطلاً مخطئاً؟! فسكت يحيى. فقال له المأمون : أجبه! فقال : يعفيني أمير المؤمنين من جوابه! فالتفت المأمون إلى الرضا عليه‌السلام وقال له : يا أبا الحسن ؛ عرّفنا الغرض في هذه المسألة.

فقال عليه‌السلام : لابدّ ليحيى من أن يخبر عن أئمته أنهم كذبوا على أنفسهم أو صدقوا؟ فإن زعم أنهم كذبوا فلا أمانة لكذاب! وإن زعم أنهم صدقوا فقد قال أولهم : «وليتكم ولست بخيركم» وقال صاحبه : «كانت بيعته فلتة! فمن عاد لمثلها فاقتلوه» فوالله ما رضي لمن يفعل مثل فعلهم إلّاالقتل! والخيرية لا تقع إلّابنعوت! منها العلم ، ومنها الجهاد ، وسائر الفضائل ، فمن لم تكن فيه فليس بخير الناس ، ومن كانت بيعته فلتة يجب القتل على من فعل مثلها ، فكيف يُقبل عهده إلى غيره؟! وهو يقول على المنبر : «إن لي شيطاناً يعتريني ، فإذا مال بي فقوّموني ، وإذا أخطأت فأرشدوني» فهؤلاء ليسوا أئمة بقولهم إن صدقوا أو كذبوا! فما عند يحيى جواب لهذا؟!

فقال المأمون : يا أبا الحسن ؛ ما في الأرض من يحسن هذا سواك!

وقال الصولي : وكان المأمون يحبّ سقطات الرضا وأن يعلوه المحتج ، وإن أظهر غيره (١).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٣١.


قال الحسن بن الجهم : فلمّا انصرف الرضا عليه‌السلام إلى منزله تبعته فدخلت عليه وقلت له :

يابن رسول الله ، الحمد لله الذي وهب لك من جميل رأي أمير المؤمنين! (المأمون) ما حمله على ما أرى من إكرامه لك وقبوله لقولك!

فقال عليه‌السلام : يابن الجهم ، لا يغرك ما ألفيته عليه من إكرامي والاستماع مني! فإنه سيقتلني بالسمّ وهو ظالم لي! أنا أعرف ذلك بعهد معهود إليّ من آبائي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ قال : فاكتم هذا ما دمت حياً (١).

وكان أبو الصلت حاضراً فقال للرضا عليه‌السلام : يابن رسول الله ؛ إن في سواد الكوفة قوماً يزعمون أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقع عليه سهو في صلاته ، فما تقول؟

فقال عليه‌السلام : كذبوا لعنهم الله ، إنّ الذي لا يسهو هو الله الذي لا إله إلّاهو!

فقال : يابن رسول الله ، وفيهم قوم يزعمون أنّ الحسين بن علي أُلقي شبهه على حنظلة بن أسعد الشبامي (فقتل بدله) ورفع هو إلى السماء كما رُفع عيسى بن مريم ، ويحتجون بهذه الآية : (لَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (٢)) فما تقول؟

فقال عليه‌السلام : كذبوا وكفروا بتكذيبهم لنبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في إخباره بأنّ الحسين بن علي سيقتل ، والله لقد قُتل الحسين ، وقتل من كان خيراً من الحسين أمير المؤمنين والحسن بن علي عليهم‌السلام ، «وما منا إلّامقتول» وإني لمقتول بالسم باغتيال من يغتالني ، اعرف ذلك بعهد معهود إليّ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أخبره به جبرئيل عن ربّ العالمين عزوجل.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٠٠ ـ ٢٠٢ ، الباب ٤٦ ، الحديث ١.

(٢) النساء : ١٤١.


وأما قول الله عزوجل : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً») فإنه يقول : لن يجعل الله لكافر حجة على مؤمن ، ولقد أخبر الله عزوجل عن كفار قتلوا النبيين بغير الحق ، ومع قتلهم إياهم لن يجعل الله لهم سبيلاً من طريق الحجة على أنبيائه عليهم‌السلام (١).

وكان ياسر خادم المأمون للرضا عليه‌السلام حاضراً وكأنه قد بلغه عن غلاة الشيعة القول بتفويض الله الأُمور إلى الرسول والأئمة فسأله قال : ما تقول في التفويض؟

فقال عليه‌السلام : إنّ الله تبارك وتعالى فوّض إلى نبيّه أمر دينه فقال : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (٢)) فأما الخلق والرزق فلا وإن الله عزوجل يقول : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) قل : (هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَىْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣)).

ولعلّ من ذلك إشاعة بعض العباسيين عنهم عليهم‌السلام : أنهم يزعمون أنّ الناس عبيد لهم! منهم إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي ، وحضر محضر الرضا عليه‌السلام فخصّه بالخطاب عتاباً وقال : يا إسحاق! بلغني أنّ الناس يقولون : إنّا نزعم أنهم عبيد لنا! لا وقرابتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما قلته قط! ولا سمعت أحداً من آبائي قاله! ولا بلغني عن أحد من آبائي قاله! ولكنّي أقول : الناس عبيد لنا في الطاعة ، ومَوالٍ لنا في الدين. فليبلّغ الشاهد الغائب (٤).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٠٣ ، الباب ٤٦ ، الحديث ٥.

(٢) الحشر : ٧.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ : ٢٠٢ ، الباب ٤٦ ، الحديث ٣. والآية ٤٠ من سورة الروم.

(٤) أُصول الكافي ١ : ١٨٧ ، الحديث ١٠.


المأمون والرضا والغلاة والإمامة :

أسند الصدوق عن الحسن بن الجهم الشيباني (مولاهم) قال : حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليه‌السلام ، وقد اجتمع الفقهاء وأهل الكلام من الفرق المختلفة.

فسأله بعضهم قال : يابن رسول الله ، بأي شيء تصحّ الإمامة لمدعيها؟ قال : بالنص والدلائل. قال : فما هي دلائل الإمامة؟ قال : في العلم واستجابة الدعوة! قال : فما وجه إخباركم بما يكون؟ قال : ذلك بعهد معهود الينا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. قال : فما وجه اخباركم بما في قلوب الناس؟ قال عليه‌السلام : أما بلغك قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله»؟ قال : بلى. قال : «فما من مؤمن إلّاوله فراسة ينظر بنور الله (ولكن) على قدر إيمانه ومبلغ استبصاره وعلمه ، وقد جمع الله للأئمة منا ما فرّقه في جميع المؤمنين. وقال عزوجل في محكم كتابه : (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (١)) فأول المتوسمين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ أمير المؤمنين عليه‌السلام من بعده ، ثمّ الحسن والحسين والأئمة من ولد الحسين عليهم‌السلام إلى يوم القيامة!

قال : فنظر إليه المأمون وقال له : يا أبا الحسن ، زدنا ممّا جعل الله لكم «أهل البيت»!

فقال الرضا عليه‌السلام : إنّ الله عزوجل قد أيدنا بروح منه مقدسة مطهرة ، ليست بملك ، ولم تكن مع أحد ممن مضى إلّامع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهي مع الأئمة منا تسدّدهم وتوفّقهم ، وهو عمود من نور بيننا وبين الله عزوجل.

قال المأمون : يا أباالحسن ، بلغني أن قوماً «يغلون» ويتجاوزون فيكم الحدّ!

__________________

(١) الحجر : ٧٥.


فقال الرضا عليه‌السلام : حدثني أبي عن أبيه عن آبائه وسمّاهم ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لا ترفعوني فوق حقي ، فإنّ الله تبارك وتعالى اتخذني عبداً قبل أن يتخذني نبياً ، قال الله تبارك وتعالى : (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ* وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١)).

وقال علي عليه‌السلام : «يهلك فيّ اثنان ولا ذنب لي : محب مفرط ومبغض مفرّط» ثمّ قال : وأنا أبرأ إلى الله تبارك وتعالى ممن «يغلو» فينا ويرفعنا فوق حدّنا ، كبراءة عيسى بن مريم عليه‌السلام من النصارى قال الله تعالى : (وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ* مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٢)) وقال عزوجل : (لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً للهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ (٣)) وقال عزوجل : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ (٤)) ومعناه : أنهما كانا يتغوطان.

فمن ادعى للأنبياء والأئمة ربوبية أو نبوة ، أو ادعى لغير الأئمة إمامة! فنحن براء منه في الدنيا والآخرة.

__________________

(١) آل عمران : ٧٩ و ٨٠.

(٢) المائدة : ١١٦ و ١١٧.

(٣) النساء : ١٧٢.

(٤) المائدة : ٧٥.


فقال المأمون : يا أبا الحسن فما تقول في «الرجعة»؟!

فقال الرضا عليه‌السلام : إنها لحق ، قد كانت في الأُمم السالفة ونطق به القرآن. وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يكون في هذه الأُمة كل ما كان في الأُمم السالفة حذو النعل بالنعل والقذة بالقذّة» (١) وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا خرج المهدي من ولدي نزل عيسى بن مريم فصلّى خلفه» وقال : «إنّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء ، قيل : يا رسول الله ثمّ يكون ماذا؟ قال : ثمّ يرجع الحق إلى أهله».

فقال المأمون : يا أبا الحسن ، فما تقول في القائلين بالتناسخ؟

فقال الرضا عليه‌السلام : من قال بالتناسخ فهو كافر بالله العظيم! مكذِّب بالجنة والنار!

قال المأمون : فما تقول في المسوخ؟ قال : أُولئك قوم غضب الله عليهم فمسخهم فعاشوا ثلاثة أيام ثمّ ماتوا ولم يتناسلوا ، يوجد في الدنيا من القردة والخنازير وغير ذلك مما يقع عليهم اسم المسوخية ، فإنما هي مثل (المسوخ) مما لا يحل أكلها والانتفاع بها.

فقال المأمون : لا أبقاني الله بعدك يا أبا الحسن ، فوالله ما يوجد العلم الصحيح إلّاعند «أهل هذا البيت» وإليك انتهت علوم آبائك ؛ فجزاك الله عن الإسلام وأهله خيراً!

عودة المأمون ، والمخالفون :

أسند الصدوق عن ياسر خادم المأمون لدى الرضا عليه‌السلام قال : كان الفضل بن سهل أصبح ذا الرياستين فغلب على أمر المأمون بحيث لم يكن يجسر المأمون

__________________

(١) القذّة : ريش السهم.


أن يكاشف الفضل بخلافه! فلم يكن للمأمون عند الفضل رأي! ثمّ قوي عليه بالرضا عليه‌السلام جداً!

قال ياسر الخادم : فبينا نحن عند الرضا عليه‌السلام يوماً إذ سمعنا وقع القفل الذي كان على باب المأمون إلى دار أبي الحسن عليه‌السلام. فقال لنا الرضا : قوموا تفرقوا. فقمنا عنه.

فجاء المأمون ، وأراد الرضا عليه‌السلام أن يقوم له فأقسم عليه المأمون بحق رسول الله أن لا يقوم إليه ، ثمّ جاء حتّى انكبّ على أبي الحسن عليه‌السلام وقبّل وجهه (أو جبهته) وكانت هناك وسادة فقعد عليها ، وكان بيده كتاب مطوي ففتحه وكان طويلاً فقرأه عليه فإذا هو فتح لبعض قرى كابل حتّى فرغ منه.

فلمّا فرغ منه قال له الرضا عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين ، اتق الله في أُمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وما ولّاك (كذا) من هذا الأمر وخصّك به ، فإنك قد ضيّعت أُمور المسلمين وفوضت ذلك إلى غيرك يحكم فيهم بغير حكم الله ، وقعدت في هذه البلاد .. فاتق الله ـ يا أمير المؤمنين ـ في أُمور المسلمين ...

قال المأمون : يا سيدي! فما ترى؟ قال : أرى أن تخرج من هذه البلاد وتتحول إلى موضع آبائك وأجدادك ، وتنظر في أُمور المسلمين ولا تكلهم إلى غيرك ؛ فإنّ الله سائلك عمّا ولّاك (؟!).

فقام المأمون وقال : نعم ما قلت يا سيدي! هذا هو الرأي ...

وبلغ هذا إلى ذي الرياستين وجاء إلى المأمون فقال المأمون له : أمرني سيدي أبو الحسن بكيت وكيت وهو الصواب! فقال الفضل : إنك بالأمس قتلت أخاك! فجميع أهل بيتك وبنو أبيك وأهل العراق والعرب معادون لك. ثمّ ولّيت ولاية العهد لأبي الحسن (الرضا) وأخرجت بها الخلافة من بني أبيك ، والعامة والفقهاء والعلماء وآل العباس لا يرضون بذلك وقلوبهم متنافرة عنك! فالرأي


أن تقيم بخراسان حتّى تسكن قلوب الناس ويتناسوا ما كان من أمر أخيك محمّد. ثمّ أراد أن يذكّره بقوّاده المخالفين له في ذلك فقال له :

يا أمير المؤمنين ، وهاهنا مشايخ قد خدموا الرشيد وعرفوا الأُمور ، فاستشرهم في ذلك ، فإن أشاروا بذلك فأمضه. فسأله المأمون : مثل مَن؟ فقال : مثل علي بن أبي عمران وأبي يونس (١)!

وهؤلاء ، هم الذين نقموا عليه بيعته لأبي الحسن الرضا بولاية عهده ولم يرضوا به فحبسهم المأمون. فقال : نعم.

فلمّا كان الغد ودخل الرضا على المأمون حكى له المأمون ما قاله ذوالرياستين ، ثمّ دعا بإخراج هؤلاء من الحبس ودعا بهم إليه. فأوّل من ادخل كان علي بن أبي عمران ، فلمّا نظر إلى الرضا بجنب المأمون قال له : يا أمير المؤمنين أُعيذك بالله أن تُخرج هذا الأمر الذي جعله الله لكم وخصكم به (!) وتجعله في أيدي أعداءكم ومن كان آباؤك يقتلونهم ويشرّدونهم في البلاد!

فقال له المأمون : يابن الزانية! وأنت بعد على هذا؟! ثمّ نادى على الحرسي : يا حرسي! قدِّمه فاضرب عنقه! فقُتل.

ثمّ ادخل أبو يونس (؟) فلمّا نظر إلى الرضا بجنب المأمون قال له : يا أمير المؤمنين ، هذا الذي بجنبك صنم يُعبد من دون الله! فقال له المأمون : وأنت ـ يابن الزانية ـ بعد على هذا؟! ثمّ نادى بالحرسيّ : يا حرسيّ قدمه فاقتله.

__________________

(١) عطف المبرد هنا عليهما لقب الجلودي ، وكرره نحو عشر مرات بلا اسم ، واسم الجلودي المشاهَد في تاريخ الرشيد والمأمون هو عيسى بن يزيد ، ويزيد ذكره بعد عودة المأمون إلى بغداد ، وهنا ينفرد الخبر بذكر هجوم له في عهد الرشيد على دار الرضا عليه‌السلام! ثمّ يذكر قتل المأمون له هنا! فلا عبرة بهذا المقطع من الخبر ، فأسقطناه.


فلمّا قتل المأمون هؤلاء المخالفين ، علم ذو الرياستين أنّ المأمون قد عزم على الخروج .. فرجع ذو الرياستين إلى أبيه سهل وقعد في منزله. فبعث إليه المأمون فأتاه فقال له : ما لك قعدت في بيتك؟ فقال له :

يا أمير المؤمنين ؛ إنّ الناس يلومونني بقتل أخيك المخلوع وبيعة الرضا (١) ، فذنبي عظيم عند أهل بيتك وعند عامة الناس! ولا آمن السُعاة والحسّاد وأهل البغي أن يسعوا بي عندك. فدعني أخلفك في خراسان!

فقال له المأمون : لا نستغني عنك! فأما ما قلت إنّه يُسعى بك وتُبغى لك الغوائل ؛ فلست أنت عندنا إلّاالثقة المأمون الناصح المشفق ، فاكتب لنفسك ما تثق به من الضمان والأمان ، ووكّد لنفسك ما تكون به مطمئناً!

فذهب الفضل وكتب لنفسه كتاباً ، وأتى به إلى المأمون وجمع له العلماء وقرأه عليهم ، فكتب المأمون بخطه فيه وأعطاه كل ما أحبّ. وكتب له بخطه (كتاب الحبوة) وبسط له من الدنيا أمله.

فقال ذو الرياستين : يا أمير المؤمنين ، نحب أن يكون خط أبي الحسن في هذا الأمان يعطينا ما أعطيت فإنه وليّ عهدك!

فقال المأمون : قد علمت أنّ أبا الحسن قد شرط علينا أن لا يعمل شيئاً ولا يحدث حدثاً ، فلا نسأله ما يكرهه ، فسله أنت ، فإنه لا يأبى عليك في هذا.

فجاء واستأذن على أبي الحسن عليه‌السلام وبيده الكتاب في أكبر جلد! قال ياسر : فقال لنا الرضا عليه‌السلام : قوموا وتنحّوا فتنحّينا. فدخل ووقف بين يديه ساعة ،

__________________

(١) قول الفضل هذا وتقرير المأمون له بسكوته بلا تعليق ، مؤكد لما مرّ مثله. وكأنه بتذكيره بالقوّاد المخالفين المعارضين أشار إلى أنّ المأمون لعلّه ادّخرهم ليوم مّا فلم يتخلّص منهم! فتخلص منهم المأمون ليستدرج الفضل!


ثمّ رفع أبو الحسن رأسه إليه وقال له : ما حاجتك يا فضل؟ قال : يا سيدي ؛ هذا أمان كتبه لي أمير المؤمنين ، وأنت أولى أن تعطينا مثل ما أعطى أمير المؤمنين إذ كنت وليّ عهد المسلمين.

فقال له الرضا عليه‌السلام : اقرأه. فقرأه قائماً حتّى فرغ منه. فلمّا فرغ منه قال له أبو الحسن الرضا عليه‌السلام : يا فضل! لك علينا هذا ما اتّقيت الله عزوجل (١).

كتاب الرضا بالحِباء للفضل :

نقل الصدوق عن «الأوراق» لمحمد بن يحيى الصولي : أن الفضل بن سهل كان قد ضمّ أبا الحسن محمّد بن أبي عبّاد إلى الرضا عليه‌السلام ليكتب له (٢).

وقال الصدوق : وجد ـ بلا رواية ـ نسخة (كتاب الحبِاء والشرط) من الرضا علي بن موسى إلى العمال بشأن الفضل بن سهل وأخيه (الحسن! كذا) هكذا :

«أما بعد ، فالحمد لله البديء الرفيع ، القادر القاهر ، الرقيب على عباده ، المقيت على خلقه ، الذي خضع كل شيء لملكه ، وذلّ كل شيء لعزّته ، واستسلم كل شيء لقدرته ، وتواضع كل شيء لسلطانه وعظمته ، وأحاط بكل شيء علمه وأحصى عدده ، فلا هو يؤوده كبير ولا يعزب عنه صغير ، الذي لا تدركه أبصار الناظرين ، ولا تحيط به صفة الواصفين ، له الخلق والأمر ، والمثل الأعلى في السماوات والأرض ، وهو العزيز الحكيم.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥٩ ـ ١٦٣.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٤٠ ، الباب ٦٠ والاسم فيه : أبا الحسين بن محمّد بن عباد ، ورجحنا ما كتبناه لمتابعة اسمه في سائر الموارد عن الصولي.


والحمد لله الذي شرع الإسلام ديناً ففضله وعظّمه وشرّفه وكرّمه ، وجعله الدين القيم الذي لا يُقبل غيره ، والصراط المستقيم الذي لا يضل من لزمه ولا يهتدي من صرف عنه ، وجعل فيه النور والبرهان والشفاء والبيان ، وبعث به من اصطفى من ملائكته إلى من اجتبى من رسله من الأُمم الخالية والقرون الماضية.

حتّى انتهت رسالته إلى محمّد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فختم به النبيين وقفّى به على آثار المرسلين وبعثه رحمة للعالمين ، بشيراً للمؤمنين المصدّقين ونذيراً للكافرين المكذّبين ، لتكون له الحجة البالغة ، وليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بيّنة ، وإن الله لسميع عليم.

والحمد الله الذي أورث «أهل بيته» مواريث النبوة ، واستودعهم العلم والحكمة ، وجعلهم معدن «الإمامة والخلافة» وأوجب «ولايتهم» وشرّف منزلتهم ، فأمر رسوله بمسألة أُمته «مودتهم» إذ يقول : (قُلْ لَاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى (١)) وما وصفهم به من إذهابه الرجس عنهم وتطهيره إياهم في قوله : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٢)).

ثمّ إن المأمون برّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في عترته ، ووصل أرحام «أهل بيته» فردّ الفتهم وجمع فُرقتهم ، ورأب صدعهم ورتق فتقهم ، وأذهب الله به الضغائن والإحن بينهم ، وأسكن التناصر والتواصل والمودة والمحبة قلوبهم ، فأصبحت ـ بيُمنه وبركته وبرّه وصلته ـ أيديهم واحدة ، وكلمتهم جامعة وأهواؤهم متفقة ، ورعى الحقوق لأهلها ، ووضع المواريث مواضعها ، وكافأ إحسان المحسنين ، وحفظ بلاء المبتلين ، وقرّب وباعد على الدين!

__________________

(١) الشورى : ٢٣.

(٢) الأحزاب : ٣٣.


ثمّ اختصّ بالتفضيل والتقديم والتشريف من قدّمته مساعيه ، فكان ذلك ذا الرياستين الفضل بن سهل ، إذ رآه له موازراً ، وبحقّه قائماً ، وبحجته ناطقاً ، ولنقبائه نقيباً ، ولخيوله قائداً ولحروبه مدبّراً ، ولرعيّته سائساً ، وإليه داعياً ، ولمن أجاب إلى طاعته مكافياً ، ولمن عدل عنها منابذاً ، وبنصرته متقرراً ، ولمرض القلوب والنيات مداوياً. لم يثنه عن ذلك قلة مال ولا عوز رجال ، ولم يمل به طمع ولم يلفته عن نيّته وبصيرته وجل ، بل عندما يهوّل المهوّلون ، ويرعد ويبرق له المبرقون والمرعدون ، وعند كثرة المخالفين والمعاندين من المجاهرين والمخاتلين ، أثبت ما يكون عزيمة وأجرأ جناناً وأنفذ مكيدة وأحسن تدبيراً ، وأقوى في تثبيت حق المأمون والدعاء إليه.

حتّى قصم أنياب الضلالة وفلّ حدّهم وقلّم أظفارهم وحصد شوكتهم ، وصرعهم مصارع الملحدين في دينهم والناكثين لعهده ، الوانين في أمره المستخفين بحقه ، الآمنين لما حذّر من سطوته وبأسه.

مع آثار ذي الرياستين في صنوف الأُمم من المشركين ، وما زاد الله به في حدود ديار المسلمين ، ممّا قد وردت أنباؤه عليكم ، وقرئت به الكتب على منابركم ، وحمله أهل الآفاق إليكم وإلى غيركم.

فانتهى شكر ذي الرياستين ـ بلاء أمير المؤمنين عنده ، وقيامه بحقه ، وابتذاله مهجته ، ومهجة أخيه أبي محمّد الحسن بن سهل الميمون النقيبة والمحمود السياسة ـ إلى غاية تجاوز فيها الماضين وفاز بها على الفائزين.

وانتهت مكافأة أمير المؤمنين إياه إلى ما حصل له من الأموال والقطائع والجواهر ، وإن كان ذلك لا يفي بيوم من أيامه! ولا بمقام من مقاماته! فتركه زهداً فيه وارتفاعاً من همته عنه! وتوفيراً له على المسلمين ، وإطراحاً للدنيا واستصغاراً لها! وإيثاراً للآخرة ومنافسة فيها.


وسأل أمير المؤمنين ما لم يزل له سائلاً وإليه فيه راغباً : من التخلّي والتزهد! فعظم ذلك عنده وعندنا ، لمعرفتنا بما جعل الله في مكانه الذي هو به من تصديق نيّته ، ويمن نقيبته ، وصحة تدبيره ، وقوة رأيه ، ونجح طلبته ، ومعاونته على الحق والهدى والبرّ والتقوى!

فلمّا وثق أمير المؤمنين وثقنا منه بالنظر للدين ، وإيثار ما فيه صلاحه ، وأعطيناه سؤله الذي يشبه قدره ، وكتبنا له (كتاب حِباء وشرط) قد نسخ في أسفل كتابي هذا.

وأشهدنا الله عليه ومن حضرنا من أهل بيتنا والقواد والصحابة والقضاة والفقهاء والخاصة والعامة.

ورأى أمير المؤمنين الكتاب به إلى الآفاق ، ليذيع ويشيع في أهلها ، ويقرأ على منابرها ، ويثبت عند ولاتها وقضاتها.

فسألني أن أكتب بذلك وأشرح (افصّل) معانيه ، وهي على ثلاثة أبواب :

ففي الباب الأول : البيان عن كل آثاره التي أوجب الله تعالى بها حقه علينا وعلى المسلمين.

والباب الثاني : البيان عن مرتبته في إزاحة علته في كل ما دبّر ودخل فيه : أن لا سبيل عليه في ما ترك وكره ؛ وذلك لما ليس لخَلق في عنقه بيعة إلّاله وحده ولأخيه! ومن إزاحة العلة تحكيمها في مَن يبغي عليهما وسعى بفساد علينا وعليهما وعلى أوليائنا ، لئلا يطمع طامع في خلاف عليهما ولا معصية لهما ، ولا احتيال في مدخل بيننا وبينهما.

والباب الثالث : البيان عن إعطائنا إياه ما أحب من ملك التخلي وحلية الزهد .. وما يلزمنا له من الكرامة والعزّ و «الحِباء» الذي بذلناه له ولأخيه! في منعهما ما نمنع منه أنفسنا ، وذلك محيط في كل ما يحتاط فيه محتاط في أمر دين ودنيا. وهذه نسخة الكتاب :


«بسم الله الرحمنِ الرحیم ، هذا (كتاب حِباء وشرط) ، من عبد الله المأمون أمير المؤمنين ؛ وولي عهده علي بن موسى الرضا ، لذي الرياستين الفضل بن سهل (١) إنا دعوناك إلى ما فيه بعض مكافأتك على ما قمت به من حق الله تبارك وتعالى وحق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحق أمير المؤمنين! وولي عهده علي بن موسى ، وحق (بني) هاشم التي بها يُرجى صلاح الدين وسلامة ذات البين بين المسلمين ، إلى أن ثبتت النعمة علينا وعلى العامة بذلك ، وبما عاونت عليه أمير المؤمنين! من إقامة الدين والسنة وإظهار الدعوة .. مع قمع المشركين وكسر أصنامهم ، وقتل العتاة ، وسائر آثارك الممثلة للأمصار في «المخلوع» وفي المكنّى «بأبي السرايا» المسمّى بالأصفر ، وفي المسمّى «بالمهدي» محمّد بن جعفر الطالبي ، وفي طبرستان وملوكها «البندار هرمز» و «شروين» وفي الديلم وملكها «مهورس» وفي كابل وملكها «هرموس» ثمّ ملكها «الاصبهبد» وفي «ابن البرم» وجبال بدار بنده ، والغور وغورجستان ، وفي خراسان «خاقان» و «ملون» صاحب جبل التبّت! وفي كيمان والغرغر وفي أرمينية والحجاز وصاحب السرير وصاحب الخزر ، وفي حروب المغرب.

فكان ما دعوناه معونة لك : مئة ألف ألف (مليون) درهم ، ونحلة عشرة آلاف ألف (مليون) دراهم وجوهراً! سوى ما أقطعك أمير المؤمنين! قبل ذلك ؛ وقيمة مئة ألف درهم جوهراً يسير عند ما أنت مستحق له ، فقد تركت مثل ذلك حين بذله لك المخلوع! وآثرت الله ودينه ، وأنك شكرت أمير المؤمنين ووليّ عهده ، وآثرت توفير ذلك كلّه على المسلمين وجدت به لهم!

__________________

(١) هنا في نسخة الكتاب : «في يوم الاثنين لسبع خلون من شهر رمضان من سنة إحدى ومئتين» وهو بخلاف التاريخ الآتي في آخر توقيع المأمون : في صفر سنة اثنتين ومئتين. وهو الصحيح الموافق لموقع الخبر.


وسألتنا أن نبلغك الخصلة التي لم تزل أنت تائقاً إليها من الزهد والتخلّي! ليصحّ عند من شك في سعيك للآخرة تركك الدنيا! وما عن مثلك يستغنى في حال ، ولا يرد مثلك عن طلبة ، ولو أخرجتنا طلبتُك عن شطر النعيم علينا! فكيف بأمر رفعت فيه المؤونة وأوجبت به الحجة على من كان يزعم أنّ دعاءك إلينا للدنيا لا للآخرة! وقد أجبناك إلى ما سألت ، وجعلنا ذلك مؤكداً لك بعهد الله وميثاقه الذي لا تبديل له ولا تغيير ، وفوّضنا الأمر في وقت ذلك إليك! فما أقمت فعزيز مُزاح العلة ، مدفوع عنك الدخول في ما تكرهه من الأعمال كائناً ما كان! نمنعك مما نمنع منه أنفسنا في كل الحالات! وإذا أردت التخلي فمكرّم مُراح البدن ، وحق لبدنك بالراحة والكرامة. ثمّ نعطيك ما تتناوله ممّا بذلناه لك في هذا الكتاب فتركته اليوم.

وجعلنا للحسن بن سهل مثل ما جعلناه لك ، فنصف ما بذلناه لك من العطية وأصل ذلك هو لك ، وبما بذل من نفسه في جهاد العُتاة ، وفتح العراق مرتين! وتفريق جموع الشيطان بيده ، حتّى قوى الدين وخاض نيران الحروب ، ووقانا عذاب السموم بنفسه وأهل بيته ، ومن ساس من أولياء الحق. وأشهدنا الله وملائكته وخيار خلقه وكل من أعطانا بيعته وصفقة يمينه في هذا اليوم وبعده على ما في هذا الكتاب ، وجعلنا الله علينا كفيلاً ، وأوجبنا على أنفسنا الوفاء بما اشترطنا ، من غير استثناء بشيء ينقضه في سر ولا علانية و «المؤمنون عند شروطهم» والعهد فرض مسؤول ، وأولى الناس بالوفاء من طلب من الناس الوفاء وكان موضعاً للقدرة ؛ قال الله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (١)).

__________________

(١) النحل : ٩١.


وتوقيع الرضا فيه : «بسم الله الرحمنِ الرحيم ، قد الزم علي بن موسى نفسه بجميع ما في هذا الكتاب على ما اكّد فيه ، في يومه وغده مادام حياً! وجعل الله تعالى عليه راعياً وكفيلاً (وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً») وكتب بخطه في هذا الشهر من هذه السنة (إشارة إلى التاريخ التالي) والحمد لله رب العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله ، وحسبنا الله ونعم الوكيل».

وتوقيع المأمون فيه : بسم الله الرحمنِ الرحيم ، قد أوجب أمير المؤمنين على نفسه جميع ما في هذا الكتاب ، وأشهد الله تعالى وجعله عليه راعياً وكفيلاً. وكتب بخطه في صفر سنة اثنتين ومئتين. تشريفاً للحِباء وتوكيداً للشروط (١).

وأشار اليعقوبي إلى هذا الكتاب قال : في سنة (٢٠٢ ه‍) كتب المأمون للفضل بن سهل وزيره الكتاب الذي سمّاه : «كتاب الشرط والحِباء» يصف فيه طاعته ونصيحته ، وعظته وعنايته ، وذهابه بنفسه عن الدنيا ، وارتفاعه عما بذل له من الأموال والقطائع والجواهر والعقد ، ويشرط له على نفسه كل ما يسأل ويطلب لا يدفعه ولا يمنعه. ووقّع فيه المأمون بخطه وأشهد على نفسه (٢).

كتب الرضا للجواد عليهما‌السلام :

مرّ الخبر عن الصولي : أنّ الفضل بن سهل كان قد ضمّ أبا الحسن محمّد بن أبي عبّاد إلى الرضا عليه‌السلام ليكتب له ، فروى عنه عون بن محمّد الكندي قال : كنت

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥٤ ـ ١٥٩ ، الحديث ٢٣. وهذا التاريخ هو الصحيح الموافق لموقع الخبر ، والتاريخ السابق : «لسبع خلون من شهر رمضان من سنة ٢٠١ ه‍» هو تاريخ البيعة بولاية العهد ، ولم يكن لهذا الكتاب سبب يومئذ. ولم ينبّه عليه الصدوق والمجلسي.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥١.


اكتب له إلى ابنه محمّد وهو صبي بالمدينة ، فما كان يذكره إلّابكنيته يقول لي : اكتب إلى أبي جعفر ، فيخاطبه بالتعظيم ، وترد كتب أبي جعفر إليه في نهاية الحسن والبلاغة ، وسمعت الرضا يقول فيه : أبو جعفر وصيي وخليفتي في أهلي بعدي (١).

ومن كتب الرضا إلى ابنه الجواد : «يا أبا جعفر ، بلغني أنّ الموالي يخرجونك من الباب الصغير ، فإنما ذلك من بُخل بهم لئلّا ينال منك أحد خيراً! فأسألك ـ بحقي عليك ـ لا يكن مدخلك ومخرجك إلّامن الباب الكبير ، وإذا ركبت فليكن معك ذهب وفضة ، ثمّ لا يسألك أحد إلّاأعطيته. ومن سألك من عمومتك أن تبرّه فلا تعطه أقل من خمسين ديناراً والكثير إليك. ومن سألك من عماتك فلا تعطها أقل من خمسة وعشرين ديناراً والكثير إليك. إني أُريد أن يرفعك الله ، فأنفق ولا تخشَ من ذي العرش اقتاراً» (٢).

عامل عودة المأمون إلى بغداد :

قال الطبري في حوادث عام (٢٠٢ ه‍) بلا ذكر للشهر واليوم (إلّاأنّه قبل شعبان كما يأتي) قال : ذكر أنّ علي بن موسى بن جعفر بن محمّد العلوي (الرضا عليه‌السلام) أخبر المأمون بما فيه الناس منذ قتل أخيه الأمين من الفتنة والقتال ، وأنّ الفضل بن سهل يستر عنه الأخبار! وأنّ أهل بيته قد نقموا عليه حتّى رموه بالسحر والجنون (وخلعوه) وبايعوا لعمّه إبراهيم بن المهدي.

وكان الفضل قد قال له : إنّهم إنّما صيّروه عليهم أميراً يقوم بأمرهم! فأعلمه (الرضا) أنّه قد كذبه وغشّه! وأن الحرب قائمة بين إبراهيم والحسن بن سهل ، والناس ينقمون عليك مكانه ومكان أخيه ومكان بيعتك لي من بعدك!

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٤٠ ، الباب ٦٠.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٨ ، الحديث ٢٠.


وأنّ طاهر بن الحسين (الخزاعي مولاهم) كان قد افتتح ما افتتح وأبلى في طاعته ما أبلى وقاد إليه الخلافة مزمومة ، حتّى إذا وطّأ الأمر أُخرج من ذلك كلّه : حُضرت عليه الأموال حتّى ضعف أمره فشغب عليه جنده ، فصُيّر إلى زاوية من الأرض بالرّقة ، وتنوسي منذ قتل محمّد الأمين لا يستعان به في شيء من هذه الحروب ، وقد استعين بمن هو دونه أضعافاً ، وأنّه لو كان على خلافة المأمون ببغداد لضبط الملك ولم يُجترأ عليه بمثل ما اجتُرئ على الحسن بن سهل فتفتّقت عليه الدنيا من أقطارها! وأنّ هرثمة بن أعين القائد إنّما جاءه لينصحه وليبيّن له ما يعمل عليه وأنّه إن لم يتدارك أمره خرجت الخلافة منه ومن أهل بيته ، فموّه الفضل بن سهل على المأمون في أمر هرثمة ثمّ دسّ إليه من قتله.

وكان (الرضا) يعلم بمعرفة يحيى بن معاذ ، وعبد العزيز بن عمران البصري وموسى البصري ، وخلف المصري ، وابن أُخت الفضل بن سهل : علي بن أبي سعيد وهم من وجوه عسكر المأمون عنده! فلمّا سأله المأمون : مَن يعلم هذا من أهل عسكري؟ سمّاهم له! فطلب منه أن يجمعهم فيدخلهم عليه ليسألهم عما ذكره له!

فأرسل إليهم (الرضا) وأخبرهم وأدخلهم عليه ، فسألهم عما أخبره ، فأبوا أن يخبروه حتّى يجعل لهم الأمان من الفضل بن سهل أن لا يعرض لهم! فكتب لكل رجل منهم كتاباً بخطه وضمن ذلك لهم ودفعه إليهم! فأخبروه بغضب أهل بيته ومواليه وقواده عليه في أشياء كثيرة ، وبيّنوا له ما فيه الناس من الفتن ، وأنّ الفضل موّه عليه في كل ذلك. وقالوا له : إنّه إذا خرج إلى بغداد في بني هاشم والموالي والقوّاد والجند ورأوا عزته بخعوا له بالطاعة وسكنوا إليه.

وعلم الفضل بن سهل ببعض أمرهم ، فحبس بعضهم وضرب آخرين منهم سياطاً وحتّى نتف لحى بعضهم!

فعاود (الرضا) المأمون لهم وذكّره بما كان من ضمانه لهم ، فأعلمه أنّه يدارى ما هو فيه.


ولما تحقّق ذلك عند المأمون أمر بالرحيل إلى بغداد (١).

ونقل الصدوق عن الكتاب الذي صنّفه أبو علي الحسين بن أحمد السلامي في «أخبار خراسان» فذكر أنّه لما بلغ المأمون أخبار إبراهيم بن المهدي وأنهم بايعوه بالخلافة ، علم أنّ الفضل بن سهل غطّى عليه وأشار بغير صواب ، فخرج من مرو عائداً إلى العراق (٢).

وكان للمأمون عساكر قد أعدّها للنوائب فيقال لها : النوائب ، فخرج المأمون وأمر أن تتقدمه إلى بغداد ، وبلغ ذلك إلى ذي الرياستين فجاء إليه وسأله : يا أمير المؤمنين ما هذا الرأي الذي أمرت به؟ فقال : أمرني بذلك سيدي أبو الحسن ، وهو الصواب. فقال : يا أمير المؤمنين! ما هذا الصواب! وردّها ذو الرياستين!

فجاء الرضا عليه‌السلام إلى المأمون وقال له : يا أمير المؤمنين ما صنعت في تقديم النوائب؟ فقال له المأمون : يا سيدي! أنت مُرهم بذلك! فخرج أبو الحسن عليه‌السلام وصاح بهم : قدّموا النوائب! قال ياسر الخادم : فكأنما وقعت فيهم النيران ، فأقبلت النوائب تتقدم وتخرج! وخرج المأمون وخرجنا مع الرضا عليه‌السلام (٣).

مقتل الفضل في حمام بِسَرَخْس :

أسند الصدوق عن ياسر الخادم : أنهم لما كانوا في (سَرخس) ورد على ذي الرياستين كتاب من أخيه الحسن بن سهل : أني نظرت في تحويل هذه السنة (وكانت أيام تحويل السنة في أواخر شهر رجب ٢٠٢ ه‍ فلعلّه كان مع خروج المأمون من

__________________

(١) انظر تاريخ الطبري ٨ : ٥٦٤ و ٥٦٥ بتصرف.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦٩ ، الحديث ٢٨.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦٠ ـ ١٦٢ ، الحديث ٢٤.


مرو) في حساب النجوم (وكان منجّماً) فوجدت فيه : أنك في يوم الأربعاء من شهر (كذا؟) تذوق حرّ الحديد والنار! فأرى أن تدخل أنت والرضا وأمير المؤمنين في هذا اليوم الحمام فتحجم فيه وتصبّ الدم على بدنك ، ليزول عنك نحسه!

فكتب الفضل إلى المأمون بذلك وبعث به إليه يسأله أن يدخل هو وأبو الحسن الرضا معه الحمام! وكتب المأمون بذلك رقعة إلى الرضا عليه‌السلام يسأله ذلك! فكتب إليه أبو الحسن عليه‌السلام : إني لست أدخل الحمام غداً ، ولا أرى لك ذلك يا أمير المؤمنين! ولا أرى ذلك للفضل! فأعاد إليه الرقعة مرتين! فكتب إليه أبو الحسن عليه‌السلام : إني في هذه الليلة رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في النوم يقول لي : يا علي ، لا تدخل الحمام غداً! فلا أرى لك يا أمير المؤمنين! ولا للفضل أن تدخل الحمام غداً! فكتب إليه المأمون : صدقت يا سيدي وصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأنا لست بداخل الحمام غداً ، والفضل أعلم وما يفعله!

فلمّا غابت الشمس وأمسينا قال لنا الرضا عليه‌السلام : قولوا : نعوذ بالله من شر ما ينزل في هذه الليلة! فقلنا ذلك. ولما صلّى الرضا الصبح قال لنا : قولوا : نعوذ بالله من شرّ ما ينزل في هذا اليوم ، فما زلنا نقول ذلك. فلمّا كان قريباً من طلوع الشمس قال لي الرضا عليه‌السلام : اصعد السطح فاستمع هل تسمع شيئاً؟

فلمّا صعدت سمعت نحيباً وضجة وكثر ذلك ، وإذا بالمأمون قد دخل من الباب الذي كان من دار أبي الحسن إليه وهو ينادي : يا سيدي يا أبا الحسن! آجرك الله في الفضل! وكان دخل الحمام فدخل عليه قوم بالسيوف فقتلوه! وهم ثلاثة نفر أحدهم ذو العلمين ابن خالة الفضل! وقد اخذوا.

قال ياسر : ثمّ اجتمع القواد والجنود من رجال الفضل بن سهل على باب المأمون يقولون : هو اغتاله وقتله! وسمع المأمون بذلك فقال للرضا عليه‌السلام : يا سيدي! ترى أن تخرج إليهم وتفرقهم؟


قال ياسر : فأمرني الرضا عليه‌السلام بالركوب وطلب مركوبه فركب وركبت معه ، فلمّا خرجنا من الباب وإذا بهم قد جاءوا بالنيران ليحرقوا باب المأمون ، فأومى الرضا إليهم بيده وصاح بهم : تفرقوا! فأقبل الناس يقع بعضهم على بعض وتفرقوا حتّى لم يقف منهم أحد (١).

وعاد الرضا إلى المأمون وهو يبكي وقال له : يا أبا الحسن ؛ هذا وقت حاجتي إليك تنظر في الأمر وتعينني! فقال الرضا عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين ؛ عليك التدبير وعلينا الدعاء!

وكان كاتبه أبو الحسن محمّد بن أبي عباد الذي ضمّه إليه الفضل بن سهل حاضراً ، فلمّا خرج المأمون قال له : اعزّك الله لِمَ أبيت ما قاله لك أمير المؤمنين؟ فقال : ويحك يا أبا الحسن لست أنت في شيء من هذا الأمر! قال : فلمّا رآني اغتممت قال لي : لو آل الأمر إلى ما تقول وأنت مني كما أنت عليه الآن (كاتبي) ما كانت نفقتك إلّافي كمّك (من قلة) وكنت كواحد من الناس (٢).

وقال اليعقوبي (العباسي) : لما صار المأمون بقومس دخل الفضل بن سهل الحمام ، فدخل عليه غالب الرومي صاحب ركاب المأمون والخادم سراج بالسيوف ، فقال الفضل لغالب : لا تقتلني ولك مئة ألف دينار! فقال : ليس هذا بأوان عَلق ولا رشوة! وقتله. فقتلهما المأمون.

واتهم المأمون بقتله ذا العلَمين علي بن أبي سعيد ابن خالة الفضل بن سهل وقال : إنّه هو الذي دسّ في قتله! فقتله ووجّه برأسه إلى الحسن بن سهل بالعراق! وقتل معهم خلف بن عمر البصري وموسى البصري ، وعبد العزيز بن عمران

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦٣ ـ ١٦٤ ، الحديث ٢٤.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦٤ ، الحديث ٢٥.


الطائي! وأقصى قوماً من قواده اتهمهم بالشماتة بقتله وسمّاهم الشامتة! وأظهر عليه أشدّ جزع. ولم يوجد للفضل فضل مال ولا ضيعة ولا فرس ولا آنية إلّافرساً واحداً وبرذونا وخمسة عبيد (١).

ونقل الصدوق عن كتاب أبي علي الحسين بن أحمد السلامي ، الذي صنفه في «أخبار خراسان» قال : احتال المأمون على الفضل بن سهل حتّى قتله غالب خال (ظ خادم) المأمون في حمام بسَرخس غيلة ، في شعبان (٢).

وقال خليفة : في شعبان عام (٢٠٢ ه‍) قتل الفضل بن سهل في سرخس ، فاتّهم المأمون بقتله علي بن أبي سعيد وموسى بن عمران وعبد العزيز بن عمران فقتلهم (٣).

والمسعودي قال : يوم الاثنين لخمس خلون من شعبان من هذه السنة : (٢٠٢ ه‍) (٤).

وابن الوردي قال : في شعبان من عام (٢٠٢ ه‍) قصد المأمون العراق فلمّا وصل إلى سرخس وثب أربعة فقتلوا الفضل بن سهل في الحمام ، وعمره ستون سنة (٥) قال : وغلبت السوداء على أخيه الحسن بن سهل حتّى صعب واشتد فشُدّ في الحديد ، وكُتب إلى المأمون بذلك (٦) وتخلّص منها عام (٢١٠ ه‍) (٧).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥١ ـ ٤٥٢.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦٦ وفيه : سنة ثلاث ومئتين. وهو خلاف المعروف.

(٣) تاريخ خليفة : ٣١٢.

(٤) التنبيه والاشراف : ٣٠٣ ، ونحوه في مروج الذهب ٣ : ٤٤١ بلا تاريخ اليوم والشهر.

(٥) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٣.

(٦) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٤ أليس من هول قتل أخيه؟!

(٧) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٨.


كيفية رحلة المأمون :

قال اليعقوبي : كانت خراسان قد استقامت وأعطى ملوكها الطاعة ، وأسلم حتّى ملك التبّت (من الصين) وقدم على المأمون بصنم له من ذهب على سرير من ذهب مرصّع بالجوهر ، فأرسله المأمون إلى الكعبة يعرّف الناس هداية الله لملك التبّت ، ولم تبقَ ناحية من نواحي خراسان يُخاف خلافها. وعند خروجه من مرو استخلف على خراسان رجاء بن أبي الضحاك قرابة الفضل بن سهل ، فلمّا فصل المأمون من خراسان قلَّت مداراة رجاء بن أبي الضحاك وضعف في تدبيره وحزمه في الأُمور ، فخاف المأمون اضطراب خراسان فعزله ، وولّى غسّان بن عبّاد ، فأحسن السيرة واستمال ملوك النواحي.

وكان المأمون كلما مرّ ببلد أقام فيه حتّى يصلح حاله وينظر في مصالح أهله (١).

وكان بمحضر الرضا عليه‌السلام يؤمّل أن يدخل بغداد ويقول : ندخل بغداد ونفعل كذا وكذا إن شاء الله! فقال له الرضا عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين : أنت تدخل بغداد! وسمعه كاتبه أبو الحسن محمّد بن أبي عبّاد الذي ضمّه إليه الفضل بن سهل ليكتب له ، قال : فلمّا خلوت به قلت له : إني سمعت منك شيئاً غمَّني ، وذكرت له ذلك فقال : يا أبا حسن ـ وكذا كان يكنّيني بطرح الألف واللام ـ وما أنا وبغداد؟! لا أرى بغداد ولا تراني (٢)!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥٢ ـ ٤٥٣.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٢٤ ـ ٢٢٥ ، الباب ٤٩ ، الحديث ١ عن كتاب الأوراق للصولي.


هل سمّ المأمون الرضا؟ ولماذا؟ :

أسند الصدوق عن أحمد بن علي الأنصاري قال : سألت أبا الصلت الهروي : كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا عليه‌السلام مع إكرامه ومحبته له وما جعل له من ولاية عهده بعده؟!

فقال : إنّ المأمون إنّما كان يكرمه ويحبّه لمعرفته بفضله ، وإنّما جعل له ولاية عهده بعده ليرى الناس أنّه راغب في الدنيا فيسقط محله في نفوسهم! فلمّا لم يظهر منه في ذلك للناس إلّاما ازداد به فضلاً عندهم ومحلاً في نفوسهم ؛ جلب عليه المتكلمين من البلدان طمعاً في أن يقطعه واحد منهم ، فيسقط محله عند العلماء ويشتهر نقصه عند العامة ، فكان لا يكلمه خصم من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والبراهمة والملحدين والدهرية ، ولا خصم من فرق المسلمين المخالفين إلّاقطعه وألزمه الحجة. فكان الناس يقولون : إنّه والله أولى من المأمون بالخلافة! وكان أصحاب الأخبار (العيون والجواسيس) يرفعون ذلك إلى المأمون فيغتاظ من ذلك ويشتدّ حسده له.

وكان الرضا عليه‌السلام لا يحابي المأمون في حق ، بل يجيبه بما يكره في أكثر أحواله ، فيغيظه ذلك ويحقده عليه ، ولا يظهره له.

فلمّا أعيته الحيلة في أمره اغتاله فقتله بالسم (١).

ومن مصاديق عدم محاباته للمأمون في الحقوق بل جوابه له بما يكرهه في أكثر أحواله :

ما أسنده الصدوق عن ابن سنان قال : كان المأمون (بعد قتل الفضل أيضاً) يقعد للناس يومي الاثنين والخميس ويُجلس الرضا عليه‌السلام على يمينه. وكنت عنده

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٣٩ ، الحديث ٣.


فرُفع إليه أن «صوفيّا» قد سرق! فأمر باحضاره ، فاحضر فإذا هو رجل متقشّف بين عينيه آثار السجود!

فلمّا رآه المأمون قال : سوأة لهذه الآثار الجميلة ولهذا الفعل القبيح! ثمّ خاطبه فقال له : اتُنسب إلى السرقة مع ما أرى من ظاهرك وجميل آثارك!

فقال الرجل : إنّما فعلت ذلك اضطراراً حين مُنعت حقي من الفيء والخمس! فإنّ الله قسّم الخمس ستة أقسام قال : (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ (١)) وكذلك قسّم الفيء على ستة أقسام قال : (مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَايَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ (٢)) وأنا من حملة القرآن ومسكين لا أرجع إلى شيء وابن سبيل منقطع بي وأنت منعتني حقي!

فقال له المأمون : أمن أجل أساطيرك هذه اعطّل حداً من حدود الله وحكماً من أحكامه في السارق؟!

فقال له الصوفي : ابدأ بنفسك فطهّرها ثمّ طهّر غيرك ، وأقم حدّ الله عليها ثمّ على غيرك!

فغضب المأمون غضباً شديداً وقال له : والله لأَقطعنّك! فقال : أتقطعني وأنت عبدي!

قال المأمون : ويلك ومن أين صرتُ لك عبداً!

__________________

(١) الأنفال : ٤١.

(٢) الحشر : ٧.


قال : لأنّ امك اشتُريت من مال المسلمين! فأنت عبد لمن في المشرق والمغرب حتّى يُعتقوك وأنا لم أُعتقك ، ثمّ بلعت الخمس فلا أعطيت «آل الرسول» حقاً ولا أعطيتني ونظرائي حقنا! واخرى أنّ الخبيث لا يطهِّر خبيثاً مثله إنّما يطهِّره طاهر ، ومن في جنبه حدّ لا يقيم الحدود على غيره حتّى يبدأ بنفسه! أما سمعت الله تعالى يقول : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١)).

فالتفت المأمون إلى الرضا عليه‌السلام وقال : ما يقول؟ قال : إنّه يقول : سُرق فسَرق! فقال : فما ترى في أمره؟ قال : إنّ الله قال لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ (٢)) وهي الحجة التي لم يبلغهما الجاهل ، فيعلمها على جهله كما يعلمها العالم بعلمه! والدنيا والآخرة قائمتان بالحجة ، وقد احتجّ الرجل.

فعند ذلك أمر المأمون بإطلاق الصوفي! (ولكنّه) احتجب عن الناس! وكان قد قتل الفضل بن سهل وجماعة معه ، وبدأ اليوم يشتغل في قتل الرضا عليه‌السلام حتّى قتله بالسم (٣).

مقتل الرضا عليه‌السلام بعنب المأمون :

لا نعثر على خبر بتاريخ خروج المأمون من مرو ، حتّى نعثر على خبر قتله وزيره الفضل في الخامس من شعبان عام (٢٠٢ ه‍) في سَرخس ، وهو الواسط بين مرو ونيشابور ، وبعد سرخس إلى مرو نمرّ بطوس ومن قراها سناباد وفيها قصر

__________________

(١) البقرة : ٤٤.

(٢) الأنعام : ١٤٩.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ، الباب ٥٩ ، الحديث ١.


القائد العباسي حُميد بن قحطبة الطائي ، وفيه قبة قبر الرشيد ، ويظهر من الخبر التالي قتل المأمون الرضا عليه‌السلام هنا لدفنه بجوار أبيه الرشيد ، في آخر صفر عام (٢٠٣ ه‍) أي بعد سبعة أشهر من قتله وزيره الفضل ، ذلك أنّه كما مرّ خبره : كان كلّما مرّ ببلد أقام فيه حتّى يصلح حاله وينظر في مصالح أهله (١) وهنا بسناباد قبل أن يصل إلى نيشابور التي بلغه عن المحدّثين بها احتفاؤهم بالرضا عليه‌السلام! وخبر المقتل كما يلي :

أسند الصدوق عن أبي الصلت الهروي قال : بينا أنا واقف بين يدي أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ، إذ قال لي : يا أبا الصلت ، ادخل هذه القبة التي فيها قبر هارون و... (وهي في قصر ابن قحطبة بسناباد ، فهم قد وصلوا إليها من سَرخس).

ثمّ قال عليه‌السلام : يا أبا الصلت ، غداً أدخل على هذا «الفاجر» فإن أنا خرجت وأنا مكشوف الرأس (غير واضع ردائي على رأسي) فكلّمني اكلّمك ، وإن أنا خرجت وأنا مغطّى الرأس (بردائي) فلا تكلّمني!

فلمّا أصبحنا دخل علينا غلام المأمون (ياسر الخادم؟) فقال له : أجب أمير المؤمنين! وكان قد لبس ثيابه وجلس في محرابه ينتظره ، فلبس رداءه ونعله وقام يمشي وأنا أتبعه حتّى دخل على المأمون.

وكان المأمون بين يديه أطباق فواكه ومنها طبق عليه عنب ومنه عنقود بيده ، قد أكل بعضه وبقي بعضه ، فلمّا أبصر بالرضا وثب إليه فعانقه وقبّل ما بين عينيه ، وأجلسه معه ، ثمّ ناوله العنقود وقال له : يابن رسول الله ، ما رأيت عنباً أحسن من هذا! كل منه. فقال له الرضا : تعفيني منه. فقال : لابدّ من ذلك!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥٢ ، وفي : ٤٥٣ : دخل بغداد في ربيع الأول سنة (٢٠٤ ه‍) أي بعد أكثر من سنة!


وما يمنعك منه؟! لعلّك تتّهمنا بشيء! فتناول المأمون العنقود فأكل منه! ثمّ ناوله الرضا عليه‌السلام فأكل منه ثلاث حبّات ، ثمّ رمى به (من يده إلى الطبق) وقام! فقال المأمون : إلى أين؟! فقال : إلى حيث وجّهتني! ثمّ غطّى رأسه (بردائه) فلم اكلّمه حتّى دخل الدار وآوى إلى فراشه فنام عليه وأمر أن يغلّق الباب فغُلّق.

قال أبو الصلت : وأنا مكثت في صحن الدار واقفاً مهموماً محزوناً ، فبينا أنا كذلك إذ دخل عليّ شاب حسن الوجه قطط الشعر أشبه الناس بالرضا عليه‌السلام! فبادرت إليه وقلت له : من أين دخلت والباب مغلق؟!

فقال : الذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت هو الذي أدخلني الدار والباب مغلق!

فقلت له : ومن أنت؟ فقال لي : يا أبا الصلت ؛ أنا حجة الله عليك ، أنا محمّد بن علي! ثمّ مضى نحو أبيه وأمرني أن أدخل معه فدخل ودخلت خلفه ، فلمّا نظر إليه الرضا عليه‌السلام وثب إليه فعانقه وضمّه إلى صدره وقبّل ما بين عينيه ، ثمّ انهدّ الرضا إلى فراشه وسحب ابنه إليه فأكب محمّد على أبيه يقبّله ويسارّه بما لم أفهمه .. ثمّ مضى الرضا عليه‌السلام.

فقال لي أبو جعفر عليه‌السلام : يا أبا الصلت ، قُم وايتني بالماء والمغتسل من الخزانة .. فدخلت الخزانة فإذا فيها مغتسل وماء ، فأخرجته إليه وشمّرت ثيابي لأُغسّله ، فقال لي : يا أبا الصلت تنحّ فإنّ لي من يعينني غيرك! فغسّله. ثمّ قال لي : ادخل الخزانة فأخرج إليّ السفط الذي فيه حنوطه وكفنه. فدخلت فإذا أنا بسفط لم أره من قبل هذا ، فحملته إليه فحنّطه ثمّ كفّنه ، ثمّ صلّى عليه ، ثمّ قال لي : قُم فإنّ في الخزانة تابوتاً فأتني بالتابوت! قال : فدخلت الخزانة فوجدت تابوتاً لم أره قبل هذا فأتيته به ، فأخذ الرضا فوضعه في التابوت .. ثمّ انشق السقف وعلا التابوت فخرج من شق السقف ومضى! فقلت له : يابن رسول الله ، الساعة يجيئنا


المأمون ويطالبنا بالرضا عليه‌السلام فما نصنع؟! فقال لي : اسكت يا أبا الصلت فإنه سيُعاد .. وما أتم الحديث حتّى انشق السقف ونزل التابوت! فقام عليه‌السلام واستخرج الرضا من التابوت ووضعه على فراشه ، كأنّه لم يغسّل ولم يكفّن! ثمّ قال لي : يا أبا الصلت قُم فافتح الباب للمأمون. فقُمت إلى الباب وفتحته فإذا بالباب الغلمان والمأمون قد شق جيبه ولطم رأسه باكياً حزيناً منادياً : يا سيداه! فُجعت بك يا سيدي! ثمّ دخل فجلس عند رأسه وأمر بتجهيزه وحَفْر قبر له في قبلة (قبر أبيه الرشيد).

فقلت له : إنّه أمرني أن يُحفر له سبع مراقي وأن أشق له ضريحه (شقاً لا لحداً) فقال لهم : انتهوا إلى ما يأمر به أبو الصلت .. ثمّ دفن الرضا عليه‌السلام (١).

وأعقب الصدوق هذا الخبر عن أبي الصلت الهروي بخبر آخر أسنده عن الصولي عن هرثمة بن أعين ، هكذا بلا أي مميّز له عن مسمّاه من قوّاد الرشيد والذي قتله المأمون قبل هذا ، وهذا أيضاً يبدأ خبره بأنه كان من رجال المأمون قائماً بين يديه حتّى مضى من الليل أربع ساعات! إلّاأنّه يقول : إنّ الرضا عليه‌السلام أحضره نصف الليل وأخبره عن سمّ المأمون إيّاه غداً ، وأوصاه بوصايا في تجهيزه وقبره ودفنه ، ثمّ يخبر الرجل عن سمّ المأمون للرضا عليه‌السلام بالعنب والرمان ثمّ يقول :

لما رجع سيدي الرضا عليه‌السلام إلى داره رأيت الأطباء والمترفقين حضروا ، فقلت : ما هذا؟ فقيل : علّة عرضت لأبي الحسن الرضا ، ثمّ يقول : فلمّا كان الثلث الثاني من الليل علا الصياح وسمعت الصيحة من الدار! فأسرعت فيمن أسرع فإذا نحن بالمأمون مكشوف الرأس محلول الأزرار يبكي وينتحب (٢).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٤٢ ـ ٢٤٤ ، الباب ٦٣ ، الحديث ١.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٤٥ ـ ٢٤٨ ، الباب ٦٤ الحديث ١ عن كتاب محمّد بن يحيى الصولي : الأوراق في الوزراء والكتّاب.


وتباكت عيون المأمون :

جاء في خبر هرثمة بن أعيَن (؟!) قال : ثمّ أصبحنا ، فجلس المأمون للتعزية ، ثمّ قام فمشى إلى الموضع الذي فيه سيدنا الرضا عليه‌السلام فقال : أصلحوا لنا موضعاً للغسل وأنا أُريد غسله! ثمّ قال : لست أعرض لذلك .. ثمّ ضُرب فسطاط على جنازة الرضا عليه‌السلام ثمّ ارتفع الفسطاط فإذا بسيدنا الرضا عليه‌السلام مدرج في أكفانه ، فوضعته على نعشه ثمّ حملناه ، فصلّى عليه المأمون ومن حضر ، ثمّ جئنا به إلى موضع القبر .. وأخذت المعول بيدي فضربت به قبلة قبر هارون الرشيد ، فنفذ إلى قبر محفور وفي وسطه ضريح .. فجعلت نعشه إلى جانب قبره فغطي عنا بثوب أبيض وأُنزل إلى قبره بدون أيدينا .. ثمّ امتلأ القبر وانطبق وتربّع على وجه الأرض! فانصرف المأمون وانصرفنا.

قال : ثمّ دعاني المأمون واختلا بي وسألني يا هرثمة! أسألك بالله لما صدقتني عن أبي الحسن «قدّس الله روحه»! بما سمعته منه ، فهل أسرّ إليك شيئاً؟ قلت له : نعم ، خبر العنب والرمان! فتلوّن صفرة وحمرة وسواداً وتمدّد كأنه غشي عليه وسمعته يجهر في غشيته يقول : ويل للمأمون من الله ورسوله وفاطمة وعلي بن أبي طالب والحسن والحسين ثمّ عدّ أبناء الحسين الأئمة إلى الرضا عليه‌السلام! ثمّ جلس ودعاني وهو كالسكران فهدّدني بالقتل إن أظهرت ذلك لأحد (١).

وقال اليعقوبي العباسي (مولاهم) : قيل : إنّ علي بن هشام (قائد حرس المأمون) أطعمه رماناً مسموماً ، و «أظهر» المأمون عليه جزعاً شديداً ؛ وحضر جنازته في مبطّنة بيضاء! وحمل نعشه وهو يقول : إلى مَن أروح

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٤٨ ـ ٢٥٠ وعلّق عليه في قاموس الرجال قال : هي رواية على خلاف الدراية ١٠ : ٥٠٤ برقم ٨١٩٠.


بعدك يا أبا الحسن! ثمّ أقام عند قبره ثلاثة أيام! لا يأكل إلّاالخبز والملح! ثمّ انصرف (١).

والمسعودي في «مروج الذهب» قال : قيل : كان العنب مسموماً (٢) فقبض الرضا مسموماً بطوس ودفن هناك (٣) وجزم في «التنبيه والإشراف» فقال : فقُتل الرضا في طوس في أول صفر : (٢٠٣ ه‍) (٤). وقال العصفري البصري : بل في آخر صفر (٥) واكتفى الكليني بشهر صفر في سناباد من قرى طوس على دعوة من نوقان (٦) تاركاً تفصيل الأخبار في كيفية سمّه وتجهيزه ودفنه مما ذكره الصدوق. وتبع المفيد الكليني في تاريخ الوفاة (٧) وفي التفاصيل تاركاً الصدوق إلى ما في «مقاتل الطالبيين» بلا إسناد.

وفيه أجمل القول أولاً قال : وبعد ذلك ذكر أنّه دسّ إليه سمّاً فمات منه (٨) ثمّ قال : واختلف كيف كان سبب السمّ الذي سُقيه؟ فذكر خبرين :

فروى عن محمّد بن الجهم قال : اخذ له عنب وجعل في موضع أقمعه الابر (المسمومة) وذكر أنّ ذلك كان من لطيف السموم ، فتركت أياماً ، ثمّ قدّم إليه في علته ، فقتله!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥٣.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٤٤١.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٤١٧.

(٤) التنبيه والإشراف : ٣٠٣.

(٥) تاريخ خليفة ابن الخياط : ٣١٢ وهو متوفى في (٢٤٠ ه‍).

(٦) أُصول الكافي ١ : ٤٨٦ ، باب مولده.

(٧) الإرشاد ٢ : ٢٤٦.

(٨) مقاتل الطالبيين : ٣٧٥.


وآخر عن عبد الله بن بشير (من غلمان المأمون) : أنّ المأمون أمره أن يطوّل أظفاره ، ثمّ أخرج إليه شيئاً يُشبه التمر الهندي وقال له : اعجنه بيديك! ففعل (ثم من دون أن يغسل يده منه) استتبعه معه لعيادة الرضا عليه‌السلام وسأله عن حاله فقال : أرجو أن أكون صالحاً! فقال المأمون : فخذ اليوم ماء رمان فإنه لا يستغنى عنه! ثمّ دعا برمان فناوله لعبد الله بن بشير وقال له : اعصر ماءه بيدك! ففعل ، وسقاه المأمون الرضا بيده فلم يلبث بعد ذلك إلّايومين.

وبعد أن خرج المأمون دخل عليه أبو الصلت الهروي فقال له الرضا عليه‌السلام : يا أبا الصلت ، قد فعلوها! (أي قد سقوني السم) (١) وانتشر هذا في الناس وبلغ خبره المأمون بعد يومين وقُبيل وفاته.

فدخل المأمون إلى الرضا يعوده فوجده يجود بنفسه! فبكى! وقال : يا أخي! عزيز عليَّ أن أعيش (بعد) يومك؟ وقد كان في بقائك أمل! وأشدّ عليَّ وأغلظ أن الناس يقولون : إني سقيتك سمّاً! وأنا بريء من ذلك!

ثمّ خرج المأمون من عنده ومات الرضا عليه‌السلام (٢).

وتركه المأمون ذلك اليوم ومساءه ، وفي غده أرسل إلى من معه من آل أبي طالب وفيهم عمّ الرضا محمّد بن جعفر بن محمّد العلوي فأحضرهم على جسد الرضا وأراهم إيّاه صحيح الجسد لا أثر به! وبكى وقال : يا أخي عزّ عليَّ أن أراك في هذه الحالة! وقد كنت أُؤمّل أن أُقدّم قبلك فأبى الله (!) إلّاما أراد! وأظهر عليه جزعاً شديداً وحزناً كثيراً (٣).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٧٧ و ٣٧٨.

(٢) المصدر السابق : ٣٨٠ عن أبي الصلت الهروي.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٣٧٨.


ونقله المفيد وزاد : ثمّ أمر بغسله وتحنيطه وتكفينه ودفنه في قبلة قبر أبيه الرشيد (١).

ونقله الطبرسي وزاد ما عن الصدوق خبر أبي الصلت الهروي ومختصر خبر هرثمة بن أعين المزعوم (٢) ، وفي يوم الوفاة قال : آخر صفر (٣).

استبعاد الاستشهاد! :

نقل الأُموي الزيدي : أنّ الرضا عليه‌السلام رأى يوماً المأمون في حال الوضوء وغلامه يصب الماء على يده فقال له : يا أمير المؤمنين! لا تشرك بعبادة ربك أحداً!

قال : وكان يذكر ابنَي سهل عند المأمون فيُزرى عليهما وينهى المأمون عنهما ويذكر له مساوئهما (٤) ونقله المفيد بلا إسناد وزاد فيه قال : وينهاه عن الإصغاء إلى قولهما ، وعرفا ذلك منه ، فجعلا يحطبان عليه (يسعيان عليه) عند المأمون ويذكران له عنه ما يبعده منه ، ويخوفانه من حمل الناس عليه ، فلم يزالا كذلك حتّى قلبا رأيه فيه فعمل على قتله (٥).

ولم يعلم الاربلي بأصل النقل عن الأموي الزيدي وإنّما نقل عن المفيد ثمّ علّق عليه قال : ذكر المفيد شيئاً ما يقبله نقدي ، ولعلّي واهم! وهو : أنّ الإمام

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ٢٦٩ ـ ٢٧١.

(٢) إعلام الورى ٢ : ٨٠ ـ ٨٦.

(٣) المصدر السابق ٢ : ٤١ وهو أول مصدر للشيعة بعد تاريخ خليفة ذكر آخر صفر ، وكذا فعل الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٠٢ ـ ٤٠٥ ولم يؤرّخ لمولده عليه‌السلام!

(٤) مقاتل الطالبيين : ٣٧٧.

(٥) الارشاد ٢ : ٢٦٩.


عليه‌السلام كان يعيب ابني سهل عند المأمون ويقبّح ذكرهما ، إلى غير ذلك. ثمّ قال : وعلى رأي المفيد : إنّ الدولة المذكورة فاسدة من أصلها وهي على قاعدة غير مرضيّة ، فاهتمامه بالوقيعة فيهما حتّى أغراهما بتغيير رأي الخليفة عليه ، فيه ما فيه. وما كان أشغله بأُمور دينه وآخرته واشتغاله بالله عن مثل ذلك! ثمّ إنّ نصيحته للمأمون وإشارته عليه بما ينفعه في دينه لا يوجب أن يكون سبباً لقتله بل يكفي أن يكفّه عن وعظه أو أن يمنعه عن الدخول عليه (١).

والمجلسي ذكر كلام الاربلي ثمّ قال : لا يخفى وهنه ، إذ الوقيعة في ابن سهل لم يكن للدنيا حتّى يمنعه عنه الاشتغال بعبادة الله تعالى! بل كان ذلك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورفع الظلم عن المسلمين ما أمكن. وفساد خلافة المأمون أيضاً لا يمنع منه (٢).

وفاتهم جميعاً : أنّ المأمون كان قد أوكل أمر العراق إلى الحسن بن سهل قبل إحضار الرضا عليه‌السلام فكان في بغداد وضواحيها ، فلم يكن حاضراً معاصراً مع الرضا عليه‌السلام ، وكذلك أخوه الفضل كان قد قُتل قبل الرضا عليه‌السلام بسبعة شهور! فالوجه غير وجيه من أوّله.

ولكن هذا لا يستتبع استبعاد استشهاد أبي الجواد عليه‌السلام بيد المأمون غير المأمون! وسيأتي في مراثي الرضا عليه‌السلام يومئذ ما يؤيده.

والاربلي الكردي البغدادي الواسطي السني المتحول إلى التشيّع الإمامي ، يجمع في كتابه النقل عن كتب الخاصة وأهل السنة كابن طلحة والجنابذي وابن الجوزي وأبي نُعيم الإصفهاني ، فهنا قال : أما كمال الدين ابن طلحة فإنه

__________________

(١) كشف الغمة ٣ : ٣٧٤.

(٢) بحار الأنوار ٤٩ : ٣١١.


ذكر السلف والخلف وأقرّ واعترف وجرى وما وقف. وأما الجنابذي فإنه وصل إلى الحسن العسكري ، وحين وصل إلى ذكر الخلف الصالح وقف! وأما ابن الجوزي فإنه ذكر العبد الصالح موسى بن جعفر وما تعداه! والحافظ أبو نعيم وصل معنا إلى أخبار الصادق عليه‌السلام وأضرب صفحاً عن مَن سواه! وهما في كتابيهما يذكران من مجهولي العباد ومن شذّاذ العبّاد من لا يعرف اسمه ولا نسبه! ولا يتحقق طريقه ولا مذهبه! فيقولان مثلاً : عابد كان باليمن! وعبّادة حبشية! إلى أمثال هذا ، ولا يذكران مثل موسى الكاظم وعلي الرضا ومحمّد الجواد وأبناءهم (١)!

وقال ابن الوردي : في سنة (٢٠٣) مات علي الرضا بطوس فجأة! وهو ثامن الأئمة الاثني عشر على رأي الامامية ، وصلّى عليه المأمون ودفنه عند الرشيد (٢).

وقال السيوطي : وسار المأمون نحو العراق ، فلم ينشب أن مات الرضا (٣) ، فكتب المأمون إلى أهل بغداد يعلمهم : أنهم ما نقموا عليه إلّابيعته لعلي الرضا ، وقد مات (٤) مما يدل على تخلّصه منه لهم.

ومن المراثي للرضا عليه‌السلام يومئذ ما يؤيد قتله بالسمّ فيما يلي :

__________________

(١) كشف الغمة ٣ : ٤١٥ والغريب أنّه نقل عن ابن طلحة خبر هرثمة ولكنّه قال عن الرضا : إنني بعد أيام آكل عنباً ورماناً مفتوتاً فأموت! فحرّفه عن سمّ المأمون فيهما إياه.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٤.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٦٥ ـ ٣٦٦ وللمزيد تذكرة الخواص ٢ : ٤٨١ ، الحديث ٤ ، وهامش تفسير القمي ١ : ١٨٥.

(٤) تاريخ الطبري ٨ : ٥٦٨ : في شهر ربيع الأول ، مما يؤيد تاريخ القتل في شهر صفر.


مراثي الرضا عليه‌السلام :

نقل الصدوق عن كتاب «الأوراق» في الوزراء والكتّاب لمحمد بن يحيى الصولي أنّه أسند عن دعبل الخزاعي قال : كنت مقيماً بقم إذ جاءني خبر موت علي الرضا عليه‌السلام فقلت قصيدتي الرائية هذه :

أرى أُمية معذورين إن «قتلوا»

ولا أرى لبني العباس من عذر!

إربع بطوس على قبر الزكيّ به

إن كنت تربع من دين على وطر!

قبران في طوس خير الناس كلهمُ

وقبر شرّهم هذا من العِبر

ما ينفع الرجس من قرب الزكيّ ولا

على الزكيّ بقرب الرجس من ضرر

هيهات كل امرئ رهن بما كسبت

له يداه فخذ ما شئت أو فذر (١)

ومات ابن له يدعى أحمد فرثاه والرضا عليه‌السلام قال :

على الكره ما فارقت «أحمد» وانطوى

عليه بناء جندل ورزين

إلى أن قال :

ألا أيها القبر الغريب محله

بطوس عليك الساربات هتون

شككت فما أدري أمسقيّ شربة

فأبكيك؟ أم ريب الردى فيهون؟

وأيهما ما قلت ، إن قلت شربة

وإن قلت موت ، إنّه لقمين!

فيا عجباً منهم يسمّونك «الرضا»

ويلقاك منهم كلحة وغضون (٢)

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٥١ ، الباب ٦٥ ، الحديث ٢ ، والأمالي : ٧٥٨ ، م ٩٤ ، الحديث ١٦.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٨٠.


فطلبه المأمون فهجاه مفتخراً بقومه خزاعة وأثرهم في نصرة العباسيين قال :

أيسومني المأمون خطّة عاجز؟!

أو ما رأى بالأمس رأس محمّد؟!

إني من القوم الذين هُم هُم

قتلوا أخاك وشرَّفوك بمقعد!

ولكنّه هجا عمّه إبراهيم بن المهدي العباسي ابن شكلة المغنّي! قال :

إن كان إبراهيم مضطلعاً بها

فلتصلحن من بعده لمخارقِ!

وهو من المغنّين المعروفين ببغداد ، وبلغ ذلك المأمون فضحك وقال : وهبته ذنبه فليظهر. فصار إليه واستأمنه فآمنه ، وكانت قصيدته الرائية للرضا عليه‌السلام قد بلغت المأمون فاستنشده إياها فأنكرها! فأعاد عليه الأمان لها أيضاً فأنشدها له قال :

تأسّفت جارتي لما رأت زوَري

وعدّت الشيب ذنباً غير مغتفر!

ترجو الصبا بعد ما شابت ذوائبها

وقد جرت طلقاً في حلبة الكِبر

أجارتي إن شيب الرأس أذهلني

ذكر الغواني ، وأرضاني من القدر

لو كنت أركن للدنيا وزينتها

إذن بكيت على الماضين من نفري

أخنى الزمان على أهلي فصدّعهم

تصدّع الشعب ، لا في صدمة الحجر

بعض أقام وبعض قد أهاب به

داعي المنية ، والباقي على الأثر

أما المقيم فأخشى أن يفارقني

ولست أوبة من ولّى بمنتظر

أصبحت أُخبر عن أهلي وعن ولدي

كحالمٍ قصّ رؤيا بعد مدّكر

***

لولا تشاغل دمعي بالأُلى سلفوا

من آل بيت رسول الله لم أقر

كم من ذراع لهم بالطفّ بائنة

وعارض من صعيد الترب منعفر

أنسى الحسين ومسراهم لمقتله

وهم يقولون : هذا سيد البشر


يا امة السوء ما جازيتِ أحمد عن

حسن البلاء على التنزيل والسور

خلّفتموه على الأبناء حين مضى

خلافة الذئب في إبقار ذي بقر

وليس حيٌّ من الأحياء نعلمه

من ذي يمان ومن بكر ومن مضر

إلّا وهم شركاء في دمائهم

كما تشارك أيسار على جُزر

قتل وأسر وتحريق ومنهبة

فعل الغزاة بأرض الروم والخزر

أرى أُمية معذورين إن قتلوا

ولا أرى لبني العباس من عذر

***

إلى آخر الأبيات السالفات في رثاء الرضا عليه‌السلام وشتم الرشيد! فلمّا أتمّها مدّ المأمون يده إلى عمامته ورفعها وضربها إلى الأرض وقال لدعبل : صدقت والله يا دعبل (١)!

وجرى قتل الرضا عليه‌السلام في الشعر العربي من يومئذ ، حتّى نظمه الأمير أديب آل حمدان أبو فراس الحارث بن سعيد (المقتول ٣٥٧ ه‍) في قصيدته الميمية في مظلومية أهل البيت الأطهار وظلم بني العباس لهم ، المعروفة بالشافية. يُحكى أنّه كان أميراً على خمسمئة فارس سيّاف ، فساقهم معه إلى بغداد (٣٥٠ ه‍) فدخلوها شاهرين سيوفهم حتّى دخلوا معسكر الرشيد وأنشد قصيدته :

الحق مهتضم والدين مخترم

وفيء آل رسول الله مقتسم

يا للرجال أما لله منتصر

من الطغاة؟ وما للدين منتقم؟!

بنو علي رعايا في ديارهم

والأمر يملكه النسوان والخدم

محلؤون فأصفى شربهم وشل

عند الورود ، وأوفى وردهم لمَم

فالأرض ـ إلّاعلى مُلّاكها ـ سعة

والمال ـ إلّاعلى أربابه ـ ديم

__________________

(١) أخبار شعراء الشيعة للمرزباني : ٩٣ ـ ٩٥.


تُزجى التلاوة في أبياتهم سحراً

وفي بيوتكم الأوتار والنغم!

عصابة شقيت من بعد ما سعدت

ومعشر هلكوا من بعد ما سلموا

باءوا بقتل الرضا من بعد بيعته

وأبصروا بعض يوم رشدهم فعموا (١)!

قال ابن الوردي : وحدثت زلازل بخراسان وماوراء النهر دامت سبعين يوماً! فخربت البلاد وهلك العباد (٢) ألم يكن غضباً لقتل الإمام عليه‌السلام؟!

__________________

(١) هدية الأحباب مختصر الكنى والألقاب للمحدث القمي : ٤٠ ـ ٤١ ، أتذكّر أني في أول حَجة لي بعد انتصار الثورة الإسلامية وبعد بدء الحرب العراقية الإيرانية ، وفي ليلة جمعة حضرت مجلس قراءة دعاء الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام الذي علّمه لصاحبه كميل بن زياد النخعي الهمداني لليالي الجُمع ، وإذا بأصوات الأنغام العالية من جهاز الراديو لمصريّ بوّاب لبعض الفنادق المجاورة لما بين البقيع الشريف وبين المسجد النبوي الأشرف ، فقمت وذهبت إليه وقرأت عليه هذا البيت المناسب لأبي فراس الحمداني :

تُزجى التلاوة من أبياتهم سحراً

وفي بيوتكم الأوتار والنغم

فتأثر الرجل به تأثراً بالغاً وقال بلهجته المصرية : الله الله يا سلام! وأعرض عن الدّعارة إلى الدعاء!

فحسبكم هذا التفاوت بيننا

وكل إناء بالذي فيه ينضح!

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٤.


عهد

الإمام الجواد عليه‌السلام



الجواد بعد أبيه الرضا عليه‌السلام :

مرّ خبر عن معمّر بن خلّاد وكأنه كان بوّاباً أو من خدم الرضا عليه‌السلام في مرو ، وفي يوم وفاة الرضا عليه‌السلام روى الحميري عنه : أنّ الجواد عليه‌السلام بالمدينة قال له : يا معمّر اركب. قال : قلت : إلى أين؟ قال : اركب كما يقال لك! قال : فركبت معه حتى انتهينا إلى واد أو وهدة خارج المدينة فقال لي : قف هاهنا. فوقفت (فغاب عني) ثمّ أتاني. فقلت له : جُعلت فداك ، أين كنت؟ قال : دفنت أبي الساعة (١) فلعله أرسله الرضا لخدمة الجواد عليه‌السلام ، ولعل المراد مقدمات الدفن من الغسل والتحنيط والتكفين ، كما مرّ في خبر أبي الصلت الهروي.

وكان ممن يتردّد عند الجواد عليه‌السلام حينما كان الرضا عليه‌السلام بخراسان : أُمية بن علي القيسي قال : دعا يوماً بجارية وقال لها : قولي لهم يتهيؤون للمأتم.

__________________

(١) كلا الخبرين عن الدلائل للحميري في كشف الغمة ٣ : ٤٠٤ و ٥١٥. وفي الخرائج ٢ : ٦٦٦ ، الحديث ٦.


فلمّا كان الغد قلنا : مأتم من؟ قال : مأتم خير من على ظهرها! وبعد ذلك بأيام أتانا خبر أبي الحسن الرضا عليه‌السلام وإذا به قد مات في ذلك اليوم (١).

وبدأ بأداء ما على أبيه الرضا عليه‌السلام من دين ، ومن ذلك أربعة آلاف درهم للمطرِّفي رجل من أهل المدينة ، فأرسل إليه الجواد عليه‌السلام : إذا كان غداً فأتني بميزان وأوزان! فدخل الرجل بها عليه فقال له : مضى أبو الحسن (الرضا) ولك عليه أربعة آلاف درهم؟ قلت : نعم. فرفع طرف المصلّى الذي كان تحته فإذا تحتها ما يفي بدينه عليه (٢).

وكان أبو الحسن علي بن أسباط بن سالم الكوفي فطحياً ، فناقشه علي بن مهزيار حتى ردّه عنها ، وكان بيّاعاً للثياب الزطّية من مصر ، وفيها بعض الشيعة ، فلما قُتل الرضا عليه‌السلام دخل إلى الجواد عليه‌السلام قال : فنظرت إلى رأسه ورجليه لأصف قامته لأصحابنا بمصر ، فبينا أنا كذلك إذ قعد عليه‌السلام وقال لي : يا علي! إنّ الله يحتجّ في الإمامة بمثل ما احتجّ في النبوة فقال : (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً (٣)) وقال : (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً (٤)) فقد يجوز أن يؤتى الحكم صبياً ، ويجوز أن يُعطاها (الرجل) وهو ابن أربعين سنة (٥). فأخبره بما أضمره.

__________________

(١) إعلام الورى ٢ : ١٠٠ عن نوادر الحكمة لمحمد بن أحمد بن يحيى العطار القمي ، وفي دلائل الإمامة : ٤٠١ ، الحديث ٣٥٩.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٤٩٧ ، الحديث ١١ ، باب مولد الجواد عليه‌السلام.

(٣) مريم : ١٢.

(٤) الأحقاف : ١٥.

(٥) بصائر الدرجات : ٢٥٨ ، الحديث ١٠ ، وأُصول الكافي ١ : ٤٩٤ ، الحديث ٤ ، باب مولد الجواد عليه‌السلام.


ولم يكن علي بن جعفر بن محمد عم الرضا عليه‌السلام يلتحق به بمرو ، بل كان بالمدينة ، وكان بعض الشيعة يلتحقون به ليرووا عنه ما سمع من أخيه الكاظم عليه‌السلام ، منهم محمد بن الحسين بن عمار (أو عمارة المدني الكوفي) قال : كنت أقمت عنده سنتين أكتب عنه ما سمع من أخيه (الكاظم) فكنت عنده في المسجد وحوله أصحابه ، إذ دخل المسجد أبو جعفر محمد بن علي الرضا عليه‌السلام ، فوثب علي بن جعفر بلا رداء فقبّل يده! فقال له أبو جعفر : يا عمّ اجلس رحمك الله. فقال : يا سيدي كيف أجلس وأنت قائم؟!

فلمّا مرّ أبو جعفر ورجع علي بن جعفر إلى أصحابه قالوا له : أنت عمّ أبيه وتفعل به هذا الفعل؟!

فقال لهم : اسكتوا! وقبض على لحيته وقال لهم : إذا كان الله عزوجل لم يؤهل هذه الشيبة وأهّل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه ، أفانكر فضله؟! نعوذ بالله ممّا تقولون ، ، بل أنا عبدٌ له (١).

وكان عليه‌السلام كل يوم مع الزوال يجيء إلى المسجد ، وكان على باب المسجد صخرة فينزل عليه ، ثمّ يصير بنعله إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيسلّم عليه ، ثمّ يرجع إلى بيت فاطمة عليها‌السلام (في مؤخرة الحُجر الشريفة) فيخلع نعليه ويقوم فيصلّي.

وكان يجاور في المدينة شيخ من الشيعة يقال له : عبد الله بن رزين قال : فوسوس الشيطان إليّ أنّه عليه‌السلام إذا نزل أذهب فآخذ من التراب الذي يطأ عليه ؛ فجلست يوماً انتظره لذلك. فلمّا أن كان وقت الزوال أقبل عليه‌السلام على حماره فلم ينزل على التراب بل نزل على الصخرة ، ثمّ دخل فسلّم على رسول الله ثمّ صلّى ثمّ

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٣٢٢ ، الحديث ١٢ باب النص على الجواد عليه‌السلام.


رجع إلى المكان الذي كان يصلّي فيه. فقلت : إذا خلع نعليه جئت فأخذت من الحصا الذي يطأه بقدميه ؛ فلما كان الغد عند الزوال جاء فنزل على الصخرة ثمّ دخل بنعليه فسلّم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ جاء إلى الموضع الذي كان يصلّي فيه فلم يخلع نعليه بل صلّى فيهما!

فسألت عن الحمّام الذي يتردّد إليه ، فقيل لي : يدخل حمّاماً بجانب البقيع لرجل من ولد طلحة التيمي ، وسألت عن يوم دخوله الحمام فتعرّفت عليه وصرت إلى باب الحمام وجلست إلى الطلحي صاحب الحمام احدّثه ، وانتظر مجيء ابن الرضا ، وسألته : ومَن ابن الرضا؟ قال : رجل من «آل محمد» له ورع وصلاح نخلي له الحمام إذا جاء! فبينا أنا كذلك وإذا به قد أقبل على حماره ، وبين يديه غلام معه حصير أدخله المسلخ وبسطه ، ومعه غلمان آخرون ، ووافى فسلّم ودخل المسلخ بحماره حتى نزل على الحصير. فقلت للطلحي : هذا الذي وصفت بما وصفت من الصلاح والورع؟! فقال : يا هذا ، لا والله ما فعل هذا إلّافي هذا اليوم! فقلت : انتظره حتى يخرج ولعلّي أنال ما أردت إذا خرج. فلمّا خرج وتلبّس دعا بحماره للمسلخ فركبه من فوق الحصير وخرج عليه‌السلام.

فقلت في نفسي : لعلّي آذيته فلا أروم ما رمت منه أبداً! فلمّا كان وقت الزوال ذلك اليوم أقبل على حماره فنزل ودخل وسلّم على رسول الله وجاء إلى بيت فاطمة وخلع نعليه وقام يصلي (١).

فالإمام عليه‌السلام لم يكره لعمّه أن يقبّل يده تواضعاً منه وتبرّكاً به ، وكره للناس أن يأخذوا تراب موطئه تبرّكاً ، وعلم ذلك من الرجل فامتنع عليه.

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٤٩٣ ـ ٤٩٤ ، الحديث ٢.


سقوط إبراهيم العباسي :

كان عيسى بن محمد بن أبي خالد من قوّاد الحسن بن سهل ببغداد ، وانفصل منه بعسكره وانضمّ إلى إبراهيم بن المهدي العباسي ، ثمّ بدا له أن يعود إلى الحسن بن سهل بتسهيل قائده حُميد بن عبد الحميد الطوسي وبوساطة محمد بن محمد المعبدي العباسي ، فكان كلّما يطالبه إبراهيم العباسي أن يخرج من بغداد لقتال حُميد الطوسي يقول : حتى تدرك الغلة فإنّ الجند يريدون أرزاقهم.

ففي أواخر شوال عام (٢٠٣ ه‍) بعث إبراهيم إلى عيسى أن يأتيه ليناظره فيما يريد ، ولم يزل إبراهيم يعيد الرسل إلى عيسى حتى أتاه إلى قصره بالرصافة ، فأخذ إبراهيم يعاتبه ، وأخذ عيسى ينكر بعض ما يقول إبراهيم ويعتذر إليه من بعضه ، فلمّا قرّره في أشياء أمر به فضُرب ثمّ حبسه وعدة من قواده وامرأته وصبيانه! وذلك ليلة الخميس لليلة بقيت من شوال عام (٢٠٣ ه‍).

ولما بلغ ذلك إلى أهل بيته وأصحابه واخوته حرّضوا الناس على إبراهيم وشدّوا على عامله على الجسر فطردوه وطردوا كل عامل لإبراهيم في الكرخ وغيره. وكتبوا إلى حُميد الطوسي قائد ابن سهل يسألونه أن يدخل بجنده بغداد شرط أن يعطى جند أهل بغداد كل واحد منهم خمسين درهماً ، فأجابهم إلى ذلك ووعدهم أن يضع لهم دفتر العطاء يوم السبت في الياسرية ببغداد ، على أن يصلوا الجمعة قبله فيدعوا للمأمون ويخلعوا إبراهيم ، فأجابوه إلى ذلك. فلمّا كان يوم الجمعة اتّفقوا مع الفقيه محمد بن أبي رجاء فصلّى بهم الجمعة ودعا للمأمون! فلمّا كان يوم السبت دخل حُميد بجنده إلى الياسرية واستعرض جند أهل بغداد ، وأعطى كل واحد منهم ستين درهماً.


فلمّا بلغ ذلك إلى إبراهيم أخرج عيسى القائد وأخذ منه كفلاء على أن يقاتل حُميد الطوسي ، فأجابه إلى ذلك فخلّى سبيله فقاتلهم بمن معه ساعة ثمّ لما كثر عليهم الناس انصرفوا عنهم وسلّموا.

وكان المطّلب بن عبد الله الخزاعي دعا من قبل إلى المأمون وقاتل قوات إبراهيم فهزم واختفى ، وأراد اليوم العبور إلى حُميد الطوسي فعرفه المعبّر وأخذه إلى إبراهيم ، فحبسه أربعة أيام ثمّ خلّى عنه في أول ذي الحجة عام (٢٠٣ ه‍) وخلى معه عن أبي حاتم سهل بن سلامة الأنصاري الخراساني.

وتحوّل كثير من قوّاد إبراهيم وأصحابه إلى حُميد الطوسي ، وأخرج إبراهيم كل من عنده إلى الجسر على نهر ديالى ليقاتلوا قوات حُميد الطوسي فقاتلوهم حتى هزموهم وأدخلوهم بيوتهم في بغداد.

وأخذ العباسيون والقوّاد يلتحقون بحميد الطوسي واحداً بعد واحد حتى الفضل بن الربيع الحاجب! وكاتب القوّاد سعيد بن الساجور وأبو البط وعبدويه وآخرون كاتبوا علي بن هشام من قوّاد الحسن بن سهل على أن يأخذوا له إبراهيم ، وعلم إبراهيم بأمرهم.

فلمّا جنّه مساء الثاني عشر من ذي الحجة عام (٢٠٣ ه‍). أحدق المطّلب بن عبد الله الخزاعي بأصحابه بدار إبراهيم وبعث إلى حُميد الطوسي يُعلمه بذلك ، وكذلك كتب بذلك ابن الساجور وأصحابه إلى علي بن هشام ، فركب حُميد في أصحابه وأتى باب الجسر. وجاء علي بن هشام حتى نزل نهر بَين ومسجد كوثر ، وخرج ابن الساجور وأصحابه والتقوا بباب الجسر ، وأقبلوا إلى دار إبراهيم ودخلوها فلم يجدوه.

وكان الحسن بن سهل قد مرض مرضاً شديداً حتى هاج به من مرضه تغيّر عقله بغلبة السوداء ، حتى شدّ في الحديد وحُبس في بيت ، وكتب قوّاده بذلك


إلى المأمون ، فأتاهم كتابه : أن يكون على عسكره قائده دينار بن عبد الله ، ويعلمهم أنه قادم عليهم على إثر كتابه.

وغلب علي بن هشام على شرقي بغداد ، وحُميد الطوسي على غربيّها (١).

وكان إبراهيم بن المهدي ترك أُمه في القصر وخرج منه ليلاً سرّاً ومعه امرأة من أهله وكاتبه عبد الله بن صاعد ، ولمّا صار في الطريق تظاهر لكاتبه ابن صاعد أنّه قد نسي جوهراً له عند أُمه فقال له : ارجع إلى أُمي فسلها أن تدفع إليك الجوهر الذي عندها! فرجع عبد الله ومضى إبراهيم فأبهم موضعه! وهرب الفضل بن الربيع إلى البصرة فاستتر عند يزيد بن المنجاب المهلّبي (٢).

رحلة المأمون إلى بغداد :

رحل المأمون من طوس في أواخر شوال ، وقدم جرجان فأقام بها شهر (ذي القعدة) ثمّ خرج منها إلى الريّ في ذي الحجة فأسقط من وظيفتها ألفي ألف (مليوني) درهم ، وأقام بها أياماً ، ثمّ خرج منها فجعل يسير المنازل ويقيم اليوم واليومين حتى صار إلى همدان في أواخر ذي الحجة.

وانكسفت الشمس في آخر ذي الحجة بأكثر من ثلثيها فذهب ضوءها حتى الظهر.

وكان الحسن بن سهل قد أحال طاهر بن الحسين الخزاعي إلى الرَّقة ، فكتب المأمون إليه أن يوافيه في النهروان. ثمّ صار إلى النهروان فأقام فيه أُسبوعاً حتى وافاه طاهر الخزاعي (مولاهم) وخرج إليه أهل بيته العباسيون والقوّاد

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٥٦٩ ـ ٥٧٢.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥٤.


ووجوه الناس في بغداد فسلّموا عليه. ثمّ لما انتصف شهر صفر (٢٠٤ ه‍) دخل بغداد يوم السبت ، ولباسه ولباس أصحابه وأعلامهم كلها الخضرة ، حتى نزل قصر الرصافة ، ونزل طاهر بأصحابه الخيزرانية ثمّ بقصره على دجلة.

ثمّ إنّه أمر طاهر بن الحسين أن يسأله حوائجه ، فكان أول حاجة سألها أن يطرح الخضرة ويعود للسواد (١).

فأعدّ له خِلع سواد له ولعدد من قوّاده الكبار ، وجاء السبت القادم في أواخر شهر صفر (٢٠٤ ه‍) فقعد لهم وعليه ثياب خُضر ، فلما اجتمعوا عنده دعا بسواد فلبسه ، ثمّ دعا بخلعة سواد فالبسها الخزاعي ، ثمّ دعا بعدة من قوّاده فألبسهم أقبية وقلانس سوداً ، فلما خرجوا من عنده وعليهم السواد طرح القواد والجند لبس الخضرة ولبسوا السواد ، هذا ولم يكن معه يومئذٍ إلّاخمسون ألف درهم (٢).

وبلغ المأمون أنّ الفضل بن الربيع قد مات وشهد بذلك عنده جماعة! فأمر المأمون أن تقبض أمواله وعقاراته وضياعه. ومنها ضيعة تبلغ ماليّتها ثلاثمئة وستون ألف درهم ، ومنها داره أو قصره.

وكان محمد بن صالح بن المنصور العباسي بايع للمأمون فامتنع من البيعة لابراهيم العباسي ، فلما دخل المأمون بغداد زوّجه اخته خديجة بنت الرشيد ، وأمر له بألفي ألف درهم مكافأة له ، وأنزله دار الفضل بن الربيع ، وأعفاه من الركوب إليه.

__________________

(١) ونقل السبط هنا عن الصولي اجتماع العباسيين إلى كبيرتهم زينب بنت سليمان وحوارها مع المأمون ، تذكرة الخواص ٢ : ٤٨٣. وسيأتي في : ١٩٨ ، ١٩٩.

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ٥٦٨ و ٥٧٣ ـ ٥٧٥.


وكذلك كان أبو عيسى بن الرشيد أخو المأمون ، فولّاه الكوفة ، فاستخلف عليها محمد بن الليث.

وكذلك أخوه صالح بن الرشيد فولّاه البصرة ، فاستخلف عليها محمد بن عبد الحميد. فكأنّ الفضل بن الربيع راع منه فصار إلى بغداد طالباً للأمان ، فمنّ عليه وأعطاه الأمان ، وقال له : هبك تعتذر في محمد (الأمين) بأنه كانت له في عنقك بيعة من الرشيد ، فما عذرك في ابن شكلة (إبراهيم) وإنما محله محلّ السفهاء والمغنّين ، فقوّيت عزمه على خلعي والخروج عليَّ بعد أن صارت في عنقك بيعتي!

فقال ابن الربيع : يا أمير المؤمنين! ما أجد قلبي مكانه! وقد عظم جرمي عن الاعتذار ، وجلّ ذنبي عن الإقالة! وما أرجو الحياة إلّامن سعة عفوك! فهب لي دمي لحرمتي بآبائك! فأمسك عنه وردّ عليه من ضياعه ضيعة مبلغ مالها ثلاثمئة وستون ألف درهم قدّرها لقوته وقوت عياله.

ووجّه المأمون إلى طاهر بن الحسين الخزاعي بعهده على الجزيرة والشام ومصر!

وكان الحسن بن سهل قد ولّى الحسن بن عمرو الرستمي على الجبال فعصى وخلع ، فولّاها المأمون دينار بن عبد الله فحاربه حتى أسره وفلّ جمعه.

وكان الرشيد قد ولّى على الثغور الرومية ثابت بن نصر الخزاعي ، وخاف المأمون معصيته فولّاها ابن عمه نصر بن حمزة الخزاعي (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥٤.


مجلس الاستفتاء العام (٢٠٣ ه‍):

اختصّ «الاختصاص» المنسوب إلى المفيد بمرسلة عن علي بن إبراهيم القمي عن أبيه قال : لما مات أبو الحسن الرضا عليه‌السلام حججنا (؟) فدخلنا على أبي جعفر الجواد عليه‌السلام ، وقد حضر خلق من «الشيعة» من كلّ بلد لينظروا إلى أبي جعفر عليه‌السلام.

فدخل عمه عبد الله بن موسى وكان شيخاً كبيراً نبيلاً عليه ثياب خشنة وبين عينيه سجّادة ، فجلس. وخرج أبو جعفر عليه‌السلام من الحجرة وعليه قميص قصب ورداء قصب ونعال أبيض. فقام إليه عمّه عبد الله وقبّل ما بين عينيه ، وقامت «الشيعة» وقعد أبو جعفر على كرسي! ونظر الناس بعضهم إلى بعض تحيّراً لصغر سنّه.

فابتدر رجل من القوم فقال لعمّه : أصلحك الله ما تقول في رجل أتى بهيمة!

فقال : تقطع يمينه! ويضرب الحد!

فغضب أبو جعفر عليه‌السلام ونظر إليه وقال له : يا عم ، اتّق الله! اتّق الله! إنه لعظيم أن تقف يوم القيامة بين يدي الله عزوجل فيقول لك : لِمَ أفتيت الناس بما لا تعلم؟!

فقال له عمّه : أستغفر الله ، يا سيدي ، أليس قال هذا أبوك صلوات الله عليه؟

قال أبو جعفر عليه‌السلام : إنما سئل أبي عن رجل نبش قبر امرأة فنكحها (وسرق كفنها) فقال أبي : تقطع يمينه للنبش (وسرقة الكفن) ويضرب حدّ الزنا ، فإن حرمة الميتة كحرمة الحية.

فقال : صدقت يا سيدي! وأنا أستغفر الله. فتعجّب الناس وقالوا : يا سيدنا أتأذن لنا أن نسألك؟ قال : نعم ، فسألوه عن ثلاثين ألف مسألة! فأجابهم فيها وله تسع سنين (١).

__________________

(١) الاختصاص المنسوب إلى المفيد : ١٠٢ ويظهر من الخبر أنّ الراوي يستظهر هذا العدد من الأسئلة لكل موسم الحج من تلك السنة ، فيسميه : في مجلس واحد ، أي في موسم حج واحد.


وجاء في خبر : أنه قرب الحج ، فتواعد من فقهاء بغداد والأمصار وعلمائهم ثمانون رجلاً ، خرجوا إلى المدينة وأتوا دار أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ودخلوها ، وبُسط لهم بساط أحمر!

وخرج عبد الله بن موسى فجلس في صدر المجلس ، وقام مناد ينادي : هذا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فمن أراد السؤال فليسأل!

فقام إليه رجل من القوم فقال له : ما تقول في رجل قال لامرأته : أنت طالق عدد النجوم؟!

فقال عبد الله : طُلقت ثلاثاً! فزاد حزن «الشيعة» وغمّهم بالغُمّة عليهم.

ثم قام إليه رجل آخر فقال له : ما تقول في رجل أتى بهيمة؟

قال : تقطع يده! ويجلد مئة جلدة! ويُنفى! فضجّ الناس!

فهم في ذلك إذ فتح باب خرج منه موفّق الخادم ، وخلفه أبو جعفر عليه‌السلام وعليه قميصان وإزار وعمامة بذؤابتين من أمام وخلف في نعال.

فلمّا جلس قام إليه صاحب المسألة الأُولى وقال له : يابن رسول الله ، ما تقول في من قال لامرأته : أنت طالق بعدد نجوم السماء؟!

فقال له : يا هذا ، اقرأ كتاب الله : قال الله تبارك وتعالى : (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ (١)) في الثالثة. فقال السائل : فإن عمّك أفتاني بكيت وكيت.

فالتفت الجواد إلى عمّه عبد الله وقال له : يا عم اتق الله ولا تفتِ وفي الأُمة من هو أعلم منك (٢)!

فقام إليه صاحب المسألة الثانية فقال له : يابن رسول الله ، رجل أتى بهيمة؟!

__________________

(١) البقرة : ٢٢٩.

(٢) يدل على لزوم تقليد الأعلم!


فقال عليه‌السلام : يُعزّر ، ويُحمى ظهر البهيمة وتُخرج من البلد لا يبقى على الرجل عارها! فقال له : عمّك أفتاني بكيت وكيت ، فالتفت إليه ورفع صوته عالياً قال : لا إله إلّاالله يا عبد الله ؛ إنه لَعظيم عند الله أن تقف غداً بين يدي الله فيقول الله لك : لمَ أفتيت عبادي بما لا تعلم وفي الأُمة من هو أعلم منك؟

فقال عبد الله بن موسى : رأيت أخي الرضا وقد أجاب في هذه المسألة بهذا الجواب!

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : إنما سئل الرضا عليه‌السلام عن نبّاش نبش عن امرأة ففجر بها وأخذ ثيابها! فأمر بقطعه للسرقة ، وجلده للزنا ، ونفيه للمُثلة (كذا ، ولعلّه للنبش).

هذا ما صدّره البحراني بقوله : الذي رواه الطبري (الإمامي) في (مسند فاطمة) أسنده عن محمد بن أحمد المحمودي عن أبيه قال .. وذيّله بقوله : ورواه الحسين بن حمدان الخصيبي في هدايته (١). فهو أقدم مصدر غير معتبر ، ولعل عنه الطبري الإمامي.

وجاء في صدر الخبر : فلمّا مضى الرضا عليه‌السلام في سنة (١٨٢ ه‍) بل وفاته عليه‌السلام في (٢٠٣ ه‍) قال : اجتمع الريان بن الصلت ، وصفوان بن يحيى ، ومحمد بن حكيم ، وعبد الرحمن بن حجاج .. فقال يونس بن عبد الرحمن (مولى آل يقطين موالي بني أسد الكوفة) : مَن لهذا الأمر؟ يُفتي في المسائل إلى أن يكبر هذا الصبيّ (يعني أبا جعفر عليه‌السلام وكان له ستّ سنين وشهور) ثمّ قال أنا ومثلي! فقام إليه الريان بن الصلت فوضع يده في حلقه! ولم يزل يلطم وجهه ويضرب رأسه! ثمّ قال له : يابن الفاعلة!

__________________

(١) حلية الأبرار ٢ : ٤٠١ ـ ٤٠٢ ، والخصيبي هو المتوفى في (٣٥٨ ه‍) قال فيه النجاشي : كان فاسد المذهب ، وذكر من كتبه : تاريخ الأئمة ، النجاشي : ٦٧ برقم ١٥٩ وتاريخ الأئمة هو كتاب الهداية الكبرى ، تخليط.


وعينه بل مثله أو نحوه في «عيون المعجزات» بزيادة عن لسان الريان لابن عبد الرحمان : أنت تُبطن لنا الشك والشرك! وتُظهر الايمان (١)! بل إيماني أنّ هذا كلّه من تخليط الخصيبي الفاسد!

ونقل الحلبي عن «الجلاء والشفاء» (؟) : أنّه لمّا مضى الرضا عليه‌السلام جاء الحسن بن راشد ، وعلي بن مُدرك ، وعلي بن مهزيار ، ومحمد بن جمهور العمّي (البصري الغالي) وخلق كثير من سائر البلدان ، إلى المدينة ، وسألوا عن الخلف بعد الرضا عليه‌السلام ، فقالوا : هو في صِريا : قرية من المدينة على ثلاثة أميال بناها الكاظم عليه‌السلام ، قال (؟) : فجئنا ودخلنا القصر! فإذا الناس فيه متكابسون! فجلسنا معهم ، إذ خرج علينا عبد الله بن موسى وهو شيخ. فتساءل الناس : هذا صاحبنا؟ فقال الفقهاء : قد رُوينا عن الباقر والصادق عليهما‌السلام : أنه «لا تجتمع الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين» فليس هذا بصاحبنا.

إلّا أنّه جاء حتى جلس في صدر المجلس ، فقال له رجل : ما تقول ـ أعزّك الله ـ في رجل أتى حمارةً؟

فقال : تُقطع يده! ويُضرب الحد! ويُنفى من الأرض سنة!

ثمّ قام إليه آخر وقال له : ما تقول ـ أصلحك الله ـ في رجل طلق امرأته عدد نجوم السماء؟!

قال : بانت منه بصدر الجوزاء والنسر الطالع والنسر الواقع! فتحيّرنا من جرأته على الخطأ!

إذ خرج علينا أبو جعفر عليه‌السلام وهو ابن ثمان سنين فسلّم على الناس. فقمنا إليه ، وقام إليه عمه عبد الله بن موسى من مجلسه وجلس أبو جعفر في صدر المجلس ثمّ قال : سلوا رحمكم الله.

__________________

(١) عيون المعجزات : ١٠٨.


فقال إليه الرجل الأول وقال : ما تقول ـ أصلحك الله ـ في رجل أتى حمارة؟

قال : يُضرب دون الحدّ ، ويغرّم ثمنها ، ويُحرّم ظهرها ونتاجها ، وتُخرج إلى البر حتى منيّتها ، ثمّ قال لعمه : يا هذا ، ذاك لرجل ينبش عن ميتة فيسرق كفنها ويفجر بها ، فعليه القطع بالسرقة ، والحدّ بالزنا والنفي إذ كان عزباً ، فلو كان محصناً لوجب عليه القتل والرجم.

فقال الثاني : يابن رسول الله ، ما تقول في رجل طلق امرأته عدد نجوم السماء؟

قال : تقرأ القرآن؟ قال : نعم ، قال : فاقرأ في سورة الطلاق قوله : (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ) يا هذا ، لا طلاق إلّابخمس : شهادة شاهدين عدلين ، في طهر ، من غير جماع ، بإرادة وعزم! ثمّ قال : يا هذا ، هل ترى في القرآن عدد نجوم السماء؟! قال : لا (١).

وكان منهم (من بغداد) إسحاق بن إسماعيل بن نوبخت قال : فأعددت له في رقعة عشر مسائل لأسأله عنها ، وكان لي حمل فقلت في نفسي : إن أجابني عن مسائلي سألته أن يدعو الله لي أن يجعله ذكراً. فلما ألحّ الناس عليه بالمسائل قمت لأُخفّف اليوم وأسأله في غد ، فلما نظر إليّ قال : يا إسحاق ، قد استجاب الله دعائي فسمّه أحمد! فقلت : الحمد لله ، هذا هو الحجة البالغة! ولم يذكر شيئاً عن مسائله العشر. وانصرف إلى بلده (بغداد) فولد له ذكر فسماه أحمد (٢) فعاش مدة ومات (٣).

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤١٤ ـ ٤١٥ ، ولم يُعرّف كتاب الجلاء والشفاء في صدر كتابه.

(٢) عن عيون المعجزات في حلية الأبرار ٢ : ٤٠٠.

(٣) دلائل الإمامة للطبري الإمامي : ٢١٢.


المأمون ، والنضر النحوي البصري :

مرّ بعض أخبار الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري ، ومن أصحابه النضر بن شُميل بن خرشة النحوي البصري ، وكان في البصرة فقيراً فاجتذبه المأمون إليه إلى مرو.

قيل : لما خرج من البصرة إلى خراسان طلع لوداعه نحو من ثلاثة آلاف (؟!) فلما ودّعهم قال لهم : والله لو وجدت كل يوم كليجة باقلّاء ما فارقتكم! ثمّ حظى عند المأمون فتموّل وأثرى.

وكان المأمون أحياناً يزاول الحديث ، وكان قد سمع من هيثم بن بشر المحدّث : عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إذا تزوّج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان له سداد من عوَز» فقرأ السَداد بفتح السين. وكان النضر حاضراً فأعاد الحديث وكسر السين! فاستوى المأمون جالساً وقال له : تلحّنني يا نضر؟! فقال : إنّ هشيماً كان لحاناً ، فتبع أمير المؤمنين لفظه! قال : فما الفرق بينهما؟ قال : السَداد بالفتح : القصد في السبيل والدين ، وكلّ ما سددت به شيئاً فهو سِداد بالكسر ، وهي البلغة ، وأنشد :

أضاعوني ، وأيّ فتىً أضاعو

ليوم كريهة وسِداد ثغرِ

فأمر له المأمون بخمسين ألف درهم! فتموّل وأثرى ، وتوفى في سنة (٢٠٤ ه‍) (١).

وفات الشافعيّ بالفُسطاط :

وفيها أيضاً (٢٠٤ ه‍) مات الشافعي محمد بن إدريس بفُسطاط القديمة

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٦ ـ ٢٠٧ وبقية الخبر في تاريخ الخلفاء للسيوطي عن ابن عساكر : ٣٥٧ ـ ٣٧٧.


والتي أعاد بناءها جوهر الصقلي قائد الفاطميين فسمّاها القاهرة باسم القاهر بدين الله الفاطمي. ومرقده معروف بها يُزار. وهو من أولاد عبد مناف نُسب إلى جدّه شافع بن السائب الذي أسلم يوم بدر. ولد في غزّة من فلسطين ، وحفظ القرآن قبل العاشرة ، وحيث كان المنصور الدوانيقي ناصر مالك بن أنس ونشر موطّأه ، فالشافعي قال : حفظت الموطّأ وأنا ابن عشر سنين حتى قدمت على مالك وأنا ابن خمس عشرة سنة! فأخذ منه علمه ومن سفيان بن عُيينة ، وسافر إلى بغداد سنة (١٧٥ ه‍) فسمع بها الحديث من محمد بن الحسن الشيباني وناظره ، وناظر بها بشر المرّيسي المعتزلي. وسمع منه أحمد بن حنبل فكان يقول : ما عرفت ناسخ الحديث ومنسوخه حتى جالست الشافعي! وكفّر من كان يقول بخلق القرآن بحجة : أن الله خلق الخلق بكُن! فإذا كانت كن مخلوقة كان مخلوقاً خُلق بمخلوق!! وأنكر على أهل الكلام ومن يشتغل به! ونظر في النجوم ثمّ أعرض ودفن كتبها.

وكان يتعاطى الشعر حتى أنّ الأصمعي قرأ عليه ديوان الشنفري والهُذليين بمكة (١) ومن شعره :

إذا في مجلس ذكروا علياً

وسبطيه وفاطمة الزكيّة

فأجرى بعضهم ذكرى سواهم

فأيقِن أنه لِسَلَقلَقِيّة!

إذا ذكروا علياً أو بنيه

تشاغل بالروايات العلية

وقال : تجاوزوا يا قوم هذا

فهذا من حديث «الرافضية»

برئت إلى المهيمن من أُناس

يرون «الرفض» حبّ الفاطمية

على آل الرسول صلاة ربّي

ولعنته لتلك الجاهلية!

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٥ و ٢٠٦.


قالوا : «ترفَّضت» قلت : كلّا

ما «الرفض» ديني ولا اعتقادي!

لكن «تولّيت» غير شك

خير إمام وخير هادي

إن كان حبّ «الولي» رفضاً

فإنني «أرفض» العباد

***

يا راكباً قِف بالمُحَصَّب من مِنى

واهتف بقاعد خَيفها والناهض

سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى

فيضاً كملتطِم الفرات الفائض

إن كان رفضاً حبّ آل محمد

فليشهد الثقلان أني «رافضي»!

***

إذا نحن فضّلنا علياً فإنّنا

 «روافض» بالتفضيل عند ذوي الجهل!

وفضلَ أبي بكر إذا ما ذكرتُه

رُميت «بنُصب» عند ذكري للفضل!

فلا زلت ذا «رفض ونصب» كليهما

بحبّهما ، حتى اوسَّد في الرّمل (١)

***

فهل كان يشفع للشافعي في هذا «الترفّض» ما اشتهر من اتجاه مثل هذا النبز والاتهام للخليفة المأمون؟! قد يكون ذلك ، والناس على دين ملوكهم وهم بهم أشبه منهم بآبائهم كما قد قيل ، ومن شعر المأمون في علي عليه‌السلام :

لا تُقبل التوبة من تائب

إلّا بحبّ ابن أبي طالب

حبّ علي لازم واجب

في عنق الشاهد والغائب

أخو رسول الله حِلف الهدى

والأخ فوق الخلّ والصاحب

إن جُمعا في الفضل يوماً فقد

فاق أخوه رغبة الراغب

__________________

(١) نظم درر السمطين للزرندي الشافعي : ١١٠ ـ ١١١ ، والفصول المهمة للمالكي : ١٩ ـ ٢١ ، ونور الأبصار للشبلنجي الشافعي : ١٢٧. والصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي : ١٣٣ ، وديوان شعر الشافعي.


فقدِّم الهادي في فضله

تسلم من اللائم والعائب

إن مال ذو «النصب» إلى جانب

ملت مع «الشيعة» من جانب

أكون في آل نبي الهدى

خير نبيّ من بني غالب

حبهُم فرض يؤدّى به

كمثل حجّ لازم واجب

***

الام على حبّ «الوصيّ» أبي الحسن

وذلك عندي من عجائب ذي الزمن

خليفة خير الناس والأول الذي

أعان رسول الله في السرّ والعلن

ولولاه ما عُدّت لهاشم إمرة

وكانت على الأيام تُقصى وتُمتهنِ

فولّى بني العباس ما اختص غيرَهم

فمن منه أولى بالتكرّم والمِنن؟!

فأوضح عبدُ الله بالبصرة الهدى

وفاض عبيدُ الله جوداً على اليمن!

وقسّم أعمال الخلافة بينهم

فلا زال مربوطاً بذا الشكر مرتهن (١)

***

والمأمون بهذه الأبيات الأخيرة يشير إلى ما مرّ عنه خطاباً لزينب بنت سليمان كبيرة العباسيين. قال الصولي : كان المأمون بعد علي بن موسى عليه‌السلام قد عزم على أن يعهد بعده لابنه محمد بن علي عليه‌السلام وكان قد أصرّ على ذلك! فاجتمع العباسيون إلى زينب هذه وسألوها أن تدخل عليه وتسأله الإضراب عن مثل ما كان عليه بل ترك الخضرة والعودة إلى السواد.

فلما دخلت عليه قام لها ورحّب بها واكرمها فقالت له : يا أمير المؤمنين! إنك على برّ أهلك من ولد أبي طالب والأمر في يدك أقدر منك على برّهم والأمر في يد غيرك! فلا تُطمعنّ أحداً في ما هو منك! ودع لباس الخضرة وعُد إلى لباس أهلك!

__________________

(١) تذكرة الخواص ٢ : ٤٨٥ ـ ٤٨٦ عن كتاب الأوراق في الوزراء والكتّاب للصولي


فقال لها : والله ـ يا عمّة ـ ما كلّمني أحد بكلام أوقع في قلبي من كلامك ، ولا أقصد لما أردت ، وأنا احاكمهم إلى عقلك. ثمّ قرّر لها أنّ علياً عليه‌السلام ما ترك أحداً ينتمي إلى العباس إلّاولّاه ، فكافأتُه بما فعلت. فقالت : ولكن المصلحة لبني عمك من ولد أبي طالب ما قلت لك. فقال : ما يكون إلّاما تحبّون (١).

ومع ذلك عزل عن مكة والمدينة والياً عباسياً وولّاهما عبيد الله بن الحسن بن عُبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام وأمّره أمر الموسم لسنة (٢٠٤ ه‍).

وفاة هشام الكلبي المؤرّخ النسّابة :

قال المسعودي في سنة (٢٠٤) : مات فيها هشام بن محمد بن السائب الكلبي (٢) وقال ابن خلكان فيه : كان أعلم الناس بعلم الأنساب من الحفّاظ المشاهير واسع الرواية لأخبار الناس وأيامهم ، توفي في (٢٠٦ ه‍) (٣) وقال ابن عدي : ذكره ابن حِبّان في الثقات ، وله أحاديث صالحة ، ورضوا به في التفسير وهو معروف به ، بل ليس لأحد تفسير أشبع ولا أطول منه (٤).

وقد نقل الطبري عنه في تاريخه ثلاثمئة وثلاثين خبراً ، ومع ذلك لم يعرض لذكره في «ذيل المذيل» وإنما ذكر أباه وجده وقال : إن جدّه بشر بن عمرو الكلبي وبنيه السائب وعبيد وعبد الرحمن ، شهدوا الجمل مع علي عليه‌السلام (٥).

__________________

(١) تذكرة الخواص ٢ : ٤٨٣ ـ ٤٨٤ عن كتاب الأوراق للصولي ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ٢ : ٣٦٦.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٤٣٧.

(٣) وفيات الأعيان ٦ : ٨٢.

(٤) لسان الميزان ٢ : ٣٥٩.

(٥) ذيل المذيّل لتاريخ الطبري : ١٠١.


وذكره الكشي (ق ٣ ه‍) في كتابه : «معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين» وقال : «الكلبي من رجال العامة ، إلّا أنّ له ميلاً ومحبة شديدة! (حتى) قد قيل : إنّ الكلبي لم يكن مخالفاً وإنما كان مستوراً» أي بالتقية. ونقل هذا الطوسي في «اختيار معرفة الرجال» (١) واختار قول الكشي الأول فلم يذكره في «الفهرست» ولا في «الرجال» مع عموم موضوعه!

والنجاشي مال مع القول الثاني فذكره وقال : «العالم بالأيام (التاريخ) المشهور بالعلم والفضل. وكان يختصّ بمذهبنا ، وله الحديث المشهور قال : اعتللت علة عظيمة فنسيت علمي! فذهبت إلى جعفر بن محمد عليه‌السلام فسقاني العلم في كأس! فعاد إليّ علمي! وكان أبو عبد الله عليه‌السلام يدنيه ويقرّبه وينشّطه ، وله كتب كثيرة» (٢). ثمّ عدّ كتبه ومنها «مقتل الحسين».

ولد بالكوفة قيل في (٩٦ ه‍) وقرأ على أبيه وأبي مخنف لوط بن يحيى بن سعيد بن سالم الأزدي الغامدي الكوفي. وعنه روى كتبه ومنها «مقتل الحسين» وزاد إليه ما رواه عن سواه فعُرف باسمه وروي عنه ، وعنه نقل الطبري في تاريخه ، ثمّ المفيد في «الإرشاد» (٣) ولما بنى المنصور بغداد وانتقل إليها كثير من أهل الكوفة انتقل معهم هشام الكلبي إلى بغداد ، وحمل كتبه على مئة وعشرين وقر بعير! فقيل له : ما أكثر كتبك! فقال : وعلمي أكثر من كتبي ، كما عن ابن خلكان (٤).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٣٩٠ ، الحديث ٧٣٣.

(٢) رجال النجاشي : ٤٣٤ برقم ١١٦٦.

(٣) واستخرجته من تاريخ الطبري وقارنته بالارشاد وحققته وعلّقت عليه ونُشر باسم : وقعة الطف.

(٤) في دراسات عن التاريخ والمؤرخين العرب ، للدكتور مرجليوث الألماني تعريب إبراهيم نصّار المصري.


وذكره الشيخ الشوشتري ، ومن سكوت ابن قتيبة وابن النديم والخطيب عن مذهبه استظهر عدم تشيّعه (١). فالحق ما اختاره الطوسي من القول الأول للكشي من ميل الكلبي ومحبّته ، لا التشيع الخاص فلا دليل عليه.

عيسى الجلودي إلى اليمن :

مرّ علينا أنه لما ولّى المأمون الحسن بن سهل على العراق ، كان إبراهيم بن موسى بن جعفر عليه‌السلام متغلباً على اليمن ، فوجّه ابن سهل حمدويه بن علي بن ماهان إلى اليمن ، فحاربه إبراهيم بمن معه من اليمن ، ثمّ خرج من اليمن يريد مكة ، ودخل إبراهيم إلى مكة فغلب عليها (٢) وأقام بها إلى أن وجّه المأمون ببيعة الرضا عليه‌السلام مع عيسى بن يزيد الجلودي إلى مكة ، فقدم الجلودي ومعه خلعة الخضراء وبيعة الرضا عليه‌السلام فخرج إبراهيم فتلقاه ، وبايع الناس للرضا بمكة ولبسوا الأخضر.

واستمال حمدويه بن علي بن ماهان جماعة من أهل اليمن وخلع طاعة المأمون ، وكتب المأمون إلى إبراهيم بن موسى بولايته على اليمن ، فخرج إبراهيم وصار إلى اليمن وصار إلى صنعاء ، فخرج حمدويه إليه وحاربه محاربة شديدة حتى انهزم إبراهيم إلى مكة (٣).

فلمّا تخلّص المأمون من الرضا عليه‌السلام ودخل بغداد ، وجّه بعيسى بن يزيد الجلودي عاملاً على اليمن ، وأنفذ معه عبيد الله بن الحسن بن عباس بن علي بن

__________________

(١) قاموس الرجال ١٠ : ٥٦٨ ـ ٥٦٩ برقم ٨٢٣٢.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٤٨.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٤٩.


أبي طالب عليه‌السلام والياً على مكة ، فلمّا صار الجلودي إلى مكة أشخص إبراهيم بن موسى إلى بغداد ، وولّى بمكانه عبيد الله بن الحسن العلوي. ثمّ نفذ إلى اليمن في أواخر ربيع الثاني وأوائل جمادى الأُولى سنة (٢٠٥ ه‍) فدعا حمدويه بن علي بن ماهان إلى الطاعة فامتنع ، وزحف إلى الجلودي لحربه ، وشبّت الحرب بينهما ، فقتل من أصحاب حمدويه خلق عظيم حتى انهزم ودخل صنعاء واختفى في ثياب جارية من جواريه في الدار التي كان ينزلها ، فاتبعه الجلودي إلى الدار حتى أخذه وقال له : قائد ابن قائد يقاتل الخليفة ويفرّ من الموت هذا الفرار؟! سوأة لك! أنا اصيّرك إلى أمير المؤمنين فيحكم فيك برأيه! وأشخصه إلى المأمون (١).

وخالد الشيباني إلى مصر :

كان على مصر عبد العزيز الجروي ومات فخلفه ابنه علي متغلّباً على أسفل مصر ، فوجّه إليه المأمون خالد بن يزيد الشيباني ومعه عمر بن فرج الرخجي في جيش ، عمر على الخراج وخالد له المعاونة والصلاة. فأخذا طريق البرية إلى فلسطين حتى قدما مصر ، وبلغ خبرهما إلى علي الجروي فكتب إليهما أنّ أباه كان على السمع والطاعة وأنه لم يزل عليها. وكان عبيد الله بن السريّ متغلباً بناحية من أرض مصر فكاتباه ثمّ زحف إليه خالد الشيباني وحاربه حتى أسره عبيد الله السري فحمله في البحر إلى العراق ، وخرج عمر الرخجي في وقت الحج إلى مكة (٢) في موسم عام (٢٠٥ ه‍).

وفي أول سنة (٢٠٦ ه‍) ولّى المأمون طاهر بن الحسين الخزاعي (مولاهم)

__________________

(١) المصدر : ٤٥٥.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥٦ ـ ٤٥٧.


على خراسان بمكان خليفته عليها غسّان بن عبّاد. وولّى ابنه عبد الله بن طاهر الخزاعي على الجزيرة والشام ومصر والمغرب! وصيّر إليه كل أعمالها وحرب المتغلبين عليها.

فبعد نفوذ أبيه طاهر إلى خراسان بشهرين نفذ ابنه عبد الله إلى الرَّقة في أوائل سنة (٢٠٦ ه‍) وكان نصر بن شبث النصري في بلدة كيسوم بالجزيرة متغلباً عليها وما والاها من نواحي الجزيرة ، فواقعه ، وكتب إلى سائر المتغلّبين في نواحي الجزيرة والشام فسألوه أن يكتب لهم الأمان فقبل ذلك وكتب لهم فكتب القوم له جميعاً أنهم في الطاعة (١).

وطاهر الخزاعي بخراسان :

قدم طاهر الخزاعي (مولاهم) إلى خراسان في أول سنة (٢٠٦ ه‍) وقد خرج بها حمزة الشاري ، فحاربه ، ومات حمزة ، فقام بعده إبراهيم بن النصر التميمي ، فما زالا يتصاولان ويتجاولان (٢).

وفي يوم جمعة صعد طاهر المنبر فخطب ولم يدعُ للمأمون! فكتب صاحب الخبر بخراسان يذكر ذلك للمأمون. وكان أحمد بن أبي خالد هو الذي شفع عند المأمون لطاهر بولاية خراسان ، فشكا المأمون ذلك إليه فقال : أنا أخرج إليه فأَكفيك أمره. ثمّ توفي طاهر في السنة التالية (٢٠٧ ه‍) فولّى المأمون ابنه طلحة بن طاهر ، وأنفذ إليه بجيش مع أحمد بن أبي خالد ومعه حيدر بن كاووس الأشروسنيّ المشهور بالأفشين ومعه جملة من أبناء ملوك خراسان (٣).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥٦.

(٢) المصدر السابق.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥٧.


والبرمكي بدل المهلّبي على السند :

وكان عامل السند بشر بن داود المهلّبي الأزدي البصري ، وظن به صاحب الخبر في خراسان وما والاها من أرض السند المخالفة. فكتب بذلك إلى المأمون. واستقرب المأمون موسى بن يحيى البرمكي ، وكان خليفة المأمون على خراسان قبل طاهر : غسّان بن عباد قد عاد إلى بغداد ، فوجّه معه بجماعة من قوّاده وجنوده وأمره أن يعزل بشر المهلّبي عن السند ويولّيها موسى بن يحيى البرمكي.

فلمّا صار غسّان إلى بلاد السند وبلغ إلى بشر المهلّبي ذلك ، خرج بشر إليه وأعطاه الطاعة بلا حرب ولا منازعة! فعزله وأشخصه إلى بغداد ، وولّى البلاد موسى بن يحيى البرمكي ، فكان بها حتى مات ، فخلفه ابنه عمران بن موسى بن يحيى البرمكي. وقدم بشر العراق بمن كان معه من آل المهلّب ، فأحسن المأمون إليهم وأطلقهم (١).

وفاة الواقدي البغدادي :

قال خليفة في سنة (٢٠٧ ه‍) : ومات فيها : محمد بن عمر الواقدي (٢) وكتب محمد بن سعد كاتب الواقدي وفاته في ذي الحجة سنة (٢٠٧ ه‍) ودفن في مقابر الخيزران (٣) وكان قد أوصى إلى المأمون ، ولم يكن يملك ما يكفّن به ـ قيل لسخائه ـ فقبل المأمون وصيته وأرسل بأكفانه وقضى دينه (٤) وكان قاضي عسكر

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥٨.

(٢) تاريخ خليفة : ٣١٣.

(٣) الطبقات الكبرى ٧ : ٧٧.

(٤) الطبقات الكبرى ٥ : ٣٢١ ، وتاريخ بغداد ٣ : ٢٠.


المهدي وبغداد منذ دخول المأمون إليها سنة (٢٠٤ ه‍) ولما انتقل من غربيّ بغداد إلى شرقها حمل كتبه على مئة وعشرين وقراً (١).

ولد بالمدينة لأبيه عمر بن واقد مولى فارسي لبني أسلم ، قُبيل مولد دولة العباسيين ، وبدأ حياته في سنّ مبكّرة في جمع أخبار السيرة النبوية ومغازيها ، ويدرّس جزءه في ذلك إلى اسطوانة من المسجد النبوي.

فلمّا حجّ الرشيد مع وزيره يحيى بن خالد البرمكي وزارا المدينة ، طلب البرمكي للرشيد من يدلّهم على المشاهد وقبور الشهداء فدلّوهما على أبي عبد الله الواقدي ، فصحبهما في زيارتهما ، فلم يدع موضعاً من المواضع ولا مشهداً من المشاهد إلّامرّ بهما عليه ، فمنحه الرشيد عشرة آلاف درهم ، فقضى بها دينه وزوّج بعض ولده.

قال : ثمّ إنّ الدهر ضايقنا ، فقالت لي أُم عبد الله : إنّ وزير أمير المؤمنين (يحيى البرمكي) قد عرفك وسألك أن تسير إليه! فما قعودك؟! فرحل من المدينة إلى بغداد ، فوجد البلاط قد انتقل إلى الرَّقة بالشام (٢) فلحق بهم ، قال : فصار إليّ من السلطان ستمئة ألف درهم (٣) وعاد الواقدي معهم إلى بغداد ، وأقام بها ، حتى عاد المأمون من خراسان فجعله قاضياً لعسكر المهدي في شرقي بغداد (٤) وعليه فلم يكن بمرو مع المأمون والرضا عليه‌السلام.

وأراد منه المأمون أن يصلي الجمعة ، فقال : ما أحفظ القرآن حتى سورة

__________________

(١) الوافي بالوفيات ٤ : ٢٣٨.

(٢) الطبقات الكبرى ٥ : ٣١٥.

(٣) تاريخ بغداد ٣ : ٢٠.

(٤) الطبقات الكبرى ٧ : ٧٧.


الجمعة! وأصرّ عليه المأمون وقال له : أنا احفّظك! وأخذ يلقّنه حتى حفظ نصف السورة ، فلما بلغ النصف الثاني نسي الأول! فقال المأمون : هذا رجل يحفظ التأويل ولا يحفظ التنزيل! وقرأ في صلاته سورة الأعلى فقرأ : صحف عيسى وموسى (١)!

وقد اتّهم علياً عليه‌السلام بأنه أكره الناس على بيعته! فقال المفيد : أما الواقدي فعثماني المذهب معروف بالميل عن علي أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢) ونقل الخطيب عنه قال : الكرخ مغيض السفلة! يعني «الرافضة». ومع ذلك اتهمه ابن النديم بالتشيع وأنه كان يلزم «التقية» (٣) وأخباره وكتبه تدل على خلاف ذلك ، بل على ما أفاده المفيد ، فترجمته في «الذريعة» و «طبقات أعلام الشيعة» و «أعيان الشيعة» في غير محلها.

وفيات وحوادث :

قال ابن الوردي : وفيها (٢٠٧ ه‍) مات يحيى بن زياد الفرّاء النحوي الديلمي الكوفي ، أبرعهم في الأدب واللغة والنحو ، وله كتب ، كان لفريه الكلام لُقّب بالفرّاء! (وكان مؤدب آباء المأمون).

قال : وفي سنة (٢٠٨ ه‍) هدم عبد الله بن طاهر الخزاعي (مولاهم) حصون الشام منها حصن هَناك ، وحصن كفَر وحصن معرّة النعمان ، لعصيانهم.

قال : وفي سنة (٢٠٩ ه‍) مات ملك الروم ميخائيل وملك ابنه توفيل (٤).

__________________

(١) تاريخ بغداد ٣ : ٣ ـ ٢٠.

(٢) الجمل : ١١٢.

(٣) الفهرست لابن النديم : ١١١ ونقل عنه قولاً باطلاً لا نجده في أخباره وكتبه.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٨.


قال المسعودي : وفيها (٢٠٩ ه‍) كانت وفاة يحيى بن الحسين بن زيد بن علي ، وصلّى عليه المأمون (١).

وفي اليعقوبي : في سنة (٢١٠) انتصر عبد الله بن طاهر الخزاعي على نصر بن شبث وفتح بلدته كيسوم في ثغور العراق إلى الشام ، وظفر به فحمله إلى المأمون (٢).

وفاة يونس بن عبد الرحمن :

أبو محمد يونس بن عبد الرحمن مولى علي بن يقطين مولى بني أسد ، ولد في آخر زمان هشام بن عبد الملك ، ذكره العلّامة وقال : مات سنة (٢٠٨ ه‍) (٣).

وقال : رأيت أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام يصلّي في الروضة بين القبر والمنبر ، ولم يمكنني أن أسأله عن شيء .. وقال : صمت عشرين سنة ثمّ سألت عشرين سنة ، ثمّ أجبت. وعن الفضل بن شاذان : إنّ يونس بن عبد الرحمن حجّ أربعاً وخمسين حجة واعتمر أربعاً وخمسين عمرة ، فانتهى إليه علم الأئمة عليهم‌السلام حتى ما نشأ في الإسلام رجل بعد سلمان الفارسي من سائر الناس أفقه من يونس بن عبد الرحمن رحمه‌الله (٤).

أدرك بالكوفة جماعة من أصحاب الباقر عليه‌السلام ، وأصحاب الصادق عليه‌السلام متوافرين فسمع منهم وأخذ كتبهم وأخذ منها. وسمع من هشام بن الحكم عن

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٤٤٧.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٠٨.

(٣) خلاصة الرجال : ١٨٤.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ٤٨٤ ، ٤٨٥ ، الحديث ٩١٤ و ٩١٧ و ٩١٨.


الصادق عليه‌السلام قال : «إنّ المغيرة بن سعيد لعنه الله دسّ في كتب أصحاب أبي (الباقر) أحاديث لم يحدّث بها أبي! إنا إذا حدّثنا قلنا : قال الله عزوجل وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما يخالف قول ربنا وسنة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا تقبلوا علينا حديثاً إلّاما وافق القرآن والسنة ، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة فكان يونس شديداً في الحديث ويكثر الانكار لما يرويه الرواة» (١).

ولما مات أبو الرضا عليه‌السلام ببغداد توقف بعض الشيعة عن القول بوفاته وإمامة الرضا عليه‌السلام بعده ، وأخذوا يروون : أنّ فيه شبهاً من أربعة أنبياء ، يطبّقون عليه أخبار آبائه عن القائم من آل محمد عليهم‌السلام وشبهه بأربعة من الأنبياء في غيبتهم والفرج بعد الشدة والخروج بالسيف والاختلاف فيهم.

فالتقى يونس بالرضا عليه‌السلام وسأله عن وفاة أبيه وقال له : جعلت فداك! إنّ بعض شيعتك أو مواليك يروون أنّ في أبيك شبهاً بأربعة أنبياء! فقال : قد والله الذي لا إله إلّاهو هلك! قال : فأوصى إليك؟ قال : نعم ، قال : فما شرك معك أحداً؟ قال : لا ، قال : فأنت إمام؟ قال : نعم (٢).

وكان قد روى عنهم عليهم‌السلام أنهم قالوا : «إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه ، فإن لم يفعل سُلب نور الايمان» فلمّا تبيّن له الحق وعرف من أمر أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ما علم ، تكلم ودعا الناس إليه. وكان زياد القندي وعلي بن أبي حمزة البطائني من قوّام أموال الكاظم عليه‌السلام وعندهما مئة ألف دينار منها! فكان ذلك سبب وقوفهم وجحودهم موته ، فبعثا إلى يونس ضمنا له عشرة آلاف دينار ليكفّ عنهما فأبى عليهما (٣).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٢٤ ، الحديث ٤٠١.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٤٩٤ ، الحديث ٩٤٧.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٤٩٣ ، الحديث ٩٤٦.


ثمّ أخذ كتبه التي أخذها عن كتب أصحاب الصادق عليه‌السلام وعرضها على الرضا عليه‌السلام فأنكر أحاديث كثيرة منها أن تكون من أحاديث أبي عبد الله عليه‌السلام وقال له : إنّ أصحاب أبي الخطاب إلى يومنا هذا يدسّون هذه الأحاديث في كتب أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن ، فإنّا إن تحدّثنا حدثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة! إنّا نحدث عن الله ورسوله ولا نقول : قال فلان وفلان ليتناقض كلامنا ، إنّ كلام آخرنا مثل كلام أولنا وكلام أولنا مصادق لكلام آخرنا ، فإذا أتاكم من يحدثكم بخلاف ذلك فردّوه عليه وقولوا له : أنت أعلم بما جئت به! فإنّ مع كل قول منا حقيقة وعليه نوراً ، فما لا حقيقة له معه ولا نور عليه فذلك من قول الشيطان (١).

وكان للرضا عليه‌السلام وكيل في قم يدعي عبد العزيز بن المهتدي من خواص الرضا ومن خيار القميين ، وقال للرضا يوماً : إني لا ألقاك في كل وقت ، فعن مَن آخذ معالم ديني؟ قال : خذ من يونس بن عبد الرحمن (٢).

وله ثلاثون كتاباً منها (كتاب يوم وليلة) في أدعية الليالي والأيام ، وكانت نسخة منه لدى أحمد بن أبي خلف ومرض فعاده الجواد عليه‌السلام وإذا عند رأسه كتاب يونس ، فعجل بتصفّحه ورقة ورقة حتى أتى عليه إلى آخره وهو يكرّر : رحم الله يونس رحم الله يونس. وكان قد ضمن له الجواد الجنة على نفسه وعلى آبائه ، بعد أن ضمن له الرضا عليه‌السلام ذلك ثلاث مرات (٣)! وهو بعد الرضا كان يحجّ عنه (٤).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٢٤ ، اگ ديث ٤٠١.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٤٨٣ ، اگ ديث ٩١٠.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٤٨٤ ، اگ ديث ٩١١ و ٩١٢ و ٩١٣.

(٤) ا كل عام وانتم بخير صدر السابق : ٤٨٨ ، اگ ديث ٩٢٦.


وكان من شدة ولائه لعلي عليه‌السلام وسعة صدره أنه كان يبلغه أن كثيراً من العصابة يقعون فيه وحتى أنهم يتّهمونه بالزندقة! ويذكرونه بغير الجميل! فيقول : أُشهدكم أن كل من له في أمير المؤمنين نصيب ، فهو في حلّ مما قال (١)!

وكتب عبد العزيز بن المهتدي القمي بعد وفاة يونس إلى الجواد عليه‌السلام : ما تقول في يونس بن عبد الرحمن؟ فكتب إليه بخطّه : أحِبّه وترحّم عليه. وإن كان يخالفك أهل بلدك (٢)!

ومنهم أحمد بن محمد بن عيسى ، ولكنّه رأى رؤيا فتاب واستغفر الله من وقيعته في يونس (٣).

وفاة حمّاد بن عيسى الجهني البصري :

كان من جهينة الكوفة ثمّ انتقل إلى البصرة ، وعاش سبعين أو تسعين سنة إلى ما (بعد) الرضا عليه‌السلام وتوفي في (٢٠٩ ه‍) (٤).

بعد انتقاله من الكوفة إلى البصرة خرج مع عبّاد بن صهيب البصري إلى الديار المقدسة ، يسمعان من الصادق عليه‌السلام ، فحفظ عبّاد مئتي حديث ، وحفظ حمّاد سبعين حديثاً. قال حماد : فلم أزل أشك حتى اقتصرت على عشرين منها لم تدخلني الشكوك فيها. وإنما يشك في حفظه لا في صحتها.

ودخل على الكاظم عليه‌السلام في حجة له قال : فقلت له : جعلت فداك! ادع الله لي أن يرزقني داراً ، وزوجة ، وولداً ، وخادماً ، والحجّ كل سنة! فقال : اللهمّ صلّ

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٤٨٨ ، الحديث ٩٢٠ و ٩٢٨ و ٩٢٩.

(٢) المصدر السابق : ٤٨٩ ، الحديث ٩٣١.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٤٩٦ ، الحديث ٩٥٢.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ٣١٧ ، ذيل الحديث ٥٧٢.


على محمد وآل محمد ، وارزقه داراً ، وزوجة ، وولداً ، وخادماً ، والحج خمسين سنة! قال : فلما قال : خمسين سنة ، علمت أني لا أحجّ أكثر من خمسين سنة.

حدّث بهذا بعد أن حجّ منها ثمانياً وأربعين حجة وقال للراوي العُبيدي معه : حججت ثمانياً وأربعين حجة ، وهذه داري قد رزقتها ، وهذه زوجتي وراء الستر تسمع كلامي ، وهذا ابني ، وهذا خادمي ، قد رزقت كل ذلك.

قال الراوي العبيدي : فحجّ بعد هذا الكلام حجّتين تمام الخمسين ، ثمّ خرج بعد الخمسين فزامل أبا العباس النوفلي القصير (١).

وفي المدينة زامله أُمية بن علي القيسي قال : دخلت أنا وحمّاد بن عيسى على أبي جعفر (الجواد) لنودّعه فقال لنا : لا تخرجا اليوم أقيما إلى غد. فلما خرجنا من عنده قال لي حمّاد : أنا أخرج فقد خرج ثقلي! وأنا قلت : أما أنا فأُقيم. فخرج حمّاد (٢) فلما صار في موضع الاحرام (مسجد الشجرة من ذي الحليفة قرب السيّالة التي تأتي من جحفة) دخل يغتسل ، فجاء السيل فحمله وغرق فيه قبل أن يحجّ زيادة على الخمسين (٣) فقبره بوادي سيّالة.

وذكره النجاشي وقال : مولى جُهينة. وقيل : عربي (٤).

ابن طاهر طهّر الشام ثمّ مصر :

قال اليعقوبي : وسار عبد الله بن طاهر (الخزاعي مولاهم) يستقرئ الشام لا يمرّ ببلد إلّاأخذ من رؤساء القبائل والعشائر ، والصعاليك والزواقيل!

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٣١٦ ، الحديث ٥٧١ و ٥٧٢.

(٢) كشف الغمة ٣ : ٥١٨ عن دلائل الإمامة للحميري.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٣١٧ ، الحديث ٥٧٢.

(٤) رجال النجاشي : ١٤٢ برقم ٣٧٠.


وهدم الحصون وحيطان المدن ، فبسط الأمان للأسود والأبيض والأحمر ، ونظر في مصالح البلدان ووضع الخراج عن بعضها ، فلم يبق خالع للطاعة ولا مخالف إلّا خرج من حصنه وقلعته.

ومرّ الخبر عن مصر أن علي بن عبد العزيز الجرويّ كان متغلّباً بأسفله ، فأعلن الجرويّ أن أباه وهو بعده في طاعة الخلافة ، فقبل قوله وأنزله بلدة ببليس. وكان المتغلّب المتمرد بالصعيد عبيد الله بن السريّ فواقعه ابن الطاهر عدّة وقعات ، فجعل أصحابه يستأمنون حتى لم يبق معه ممّن كان يعتمد عليه أحد ، فطلب هو الأمان فأعطاه الأمان على أن يسوّغ له ما اخذ بل يطلق له جباية الصعيد شهرين! في أوائل (٢١١ ه‍).

ودخل ابن طاهر الفسطاط وكتب بالفتح إلى المأمون ، وسيّر السريّ إلى العراق (١).

زواج المأمون بپوران :

مرّ الخبر أنّ الحسن بن سهل بعد وصول رؤوس قاتلي أخيه الفضل ذي الرياستين ، وقبل وصول المأمون إلى بغداد ، مرض مرضاً شديداً ، فهاج به من شدة مرضه تغيّر عقله حتى شُدّ في الحديد وحُبس في بيت ، وكتب قوّاده بذلك إلى المأمون فجعل على عسكره دينار بن عبد الله (٢).

ويظهر من الخبر التالي أنّه بعد ورود المأمون إلى بغداد واستقرار أمره ، تخلّص الحسن ممّا كان به ، واعتزل الدولة واستولى بأعوانه على كورة قرب

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٦٠.

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ٥٦٨.


الواسط على نهر فرعي على شرقي دجلة تُسمّى فم الصِلح ، أقام بها مزارع وبنى بها منازل وقصوراً له (١).

وبعد أن استقرّ أمر المأمون أراد أن يأمن جانب الحسن ويحسن علاقته به ويسهّل سبيل الوصول إليه ، فجرت مقدّمات ومراسلات حتى انتهت بتسمية خديجة ابنة الحسن بن سهل التي تلقّب بالفارسية «پوران» (٢) للمأمون.

وفي أول الأُسبوع الثاني من رمضان سنة (٢١٠ ه‍) قدّم المأمون ابنه العباس في عسكر إلى الحسن برّاً ثمّ اصطحب المأمون معه خليفة الحسن على عسكره دينار بن عبد الله وركب إليه زورقاً في دجلة حتى أرسى على باب قصر الحسن أو جوسق بُني له على شاطئ دجلة بعد الإفطار فأفطر هو والعباس ابنه والحسن ، ودينار بن عبد الله قائم على رجله حتى فرغوا من إفطارهم وغسلوا أيديهم! ثمّ دعا المأمون «بشراب» فاتي بجام «ذهب» فصُبّ فيه وشرب ، ثمّ مدّ يده بجام فيه شراب إلى الحسن ، ولم يكن الحسن يشرب فتباطأ عنه فغمزه دينار! فقال الحسن : يا أمير المؤمنين! أشربه بإذنك وأمرك؟! ثمّ أخذ الجام فشربه!

وكانت العباسة بنت الفضل بعد قتله عند عمها الحسن ، وللحسن ابن يدعى محمداً فزوّجهما المأمون في الليلة الثانية.

وكان المأمون قد حمل معه امرأته أُم جعفر! واخته حمدونة بنت الرشيد ، وكانت ام الحسن حاضرة ، فلما كانت الليلة الثالثة دخل المأمون على «پوران» وعندها جدّتها وحمدونة وام جعفر! ومع المأمون رجال من خاصّته! فلما جلس المأمون إلى پوران كانت جدّتها قد أعدّت صينية ذهب فيها ألف درة

__________________

(١) معجم البلدان لياقوت الرومي ، حرف الفاء.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٤٤٣ وپوران باسم پوراندخت بنت كسرى انوشيروان.


فنثرته عليهما! فسألها المأمون عن عدد الدرّ؟ فقالت : ألف حبّة! فأمر المأمون أن تُجمع ، وجمع المأمون ذلك الدر في آنية فوضعها في حجر پوران وقال لها : هذه نحلتك ، وسلي حوائجك. وكانت أُم جعفر تريد الحج فسألته پوران أن يأذن لها فأذن لها ، وسألته العفو عن إبراهيم المغنّي فعفا عنه. وابتنى بها في تلك الليلة.

وكان الحسن قد أعدّ لها شمعة من العنبر أربعين منّاً! في تور من ذهب! بل شمعتين ، فكثر دخانهما فقال : ارفعوهما وهاتوا الشمع. وكان المأمون قد نحل فم الصِّلح لُام جعفر فنحلتها الليلة لپوران! وكتب الحسن رقاعاً فيها أسماء ضياعه فنثرها على العباسيين وقوّادهم ، فمن وقعت في يده رقعة منها فيها اسم ضيعة بعث من يتسلّمها له.

ثمّ أقام المأمون عند الحسن سبعة عشر يوماً أو أربعين يوماً ، يُعدّ الحسن لجميع من معه جميع ما يحتاجون إليه ، وخلع على القوّاد على مراتبهم وحملهم ووصلهم ، فكان مبلغ النفقة عليهم خمسين ألف ألف درهم! فأمر المأمون غسّان بن عبّاد أن يدفع إلى الحسن عشرة آلاف ألف! فدفعها إليه ، فجلس الحسن ففرّقها في أصحابه وحشمه وخدمه وقوّاده. وكانت ام جعفر أنفقت إلى سبعة وثلاثين ألف ألف درهم ، وحمدونة أنفقت خمسة وعشرين ألف ألف (١).

وخبر رقاع الضياع رواه الطبري عن أحمد بن الحسن بن سهل قال : كان أهلنا يتحدثون .. فلم يكن مشاهداً حاضراً ناظراً ، وزاد المسعودي : أسماء جوار وصفات دواب وغير ذلك ، وزاد على العباسيين وقوّادهم : الوجوه والكُتّاب : بنادق مسك فيها رقاع .. فيجد فيها على قدر إقباله وسعوده! وعلى الناس :

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٦٠٦ ـ ٦٠٩ عن عدّة رواة : كاتب المأمون وأحمد بن الحسن بن سهل.


نوافج المسك وبيض العنبر ودنانير ودراهم! فلما أراد المأمون أن يصعد في دجلة إلى بغداد قال للحسن : يا أبا محمد حوائجك! قال : يا أمير المؤمنين ، أسألك أن تحفظ عليَّ مكاني من قلبك! فإنه لا يتهيّأ لي حفظه إلّابك! فأمر المأمون بحمل خراج سنة من الأهواز وفارس إليه (١)!

وزاد ابن الوردي قال : نثرت عليه ام الحسن والفضل الفا (كذا) حبة لؤلؤ نفيسة!

وزاد : ولما خلا المأمون بها هابته فحاضت من هيبته! فقالت : أتى أمر الله فلا تستعجلوا! وإنما حذفت الهاء حذراً من قراءة القرآن في حال قُرئها ، فأعجب بكنايتها وخرج وأنشد شعراً (٢).

تمرّد القميين عن الخراج للمأمون :

مرّ الخبر أن المأمون حين دخل الريّ في عودته من مرو إلى بغداد ، حطّ عن أهل الريّ ألفي ألف درهم ، فبلغ ذلك أهل قم فطمعوا في مثله لهم فرفعوا إليه يشكون ثقل خراجهم ألفي ألف ويسألونه الحطّ عنهم ، فلم يجبهم إليه فامتنعوا عليه سنة (٢١٠ ه‍) ، ومقدّمهم في ذلك يحيى بن عمران (٣).

فوجّه المأمون إليهم قائده علي بن هشام ، ثمّ أمده بعُجيف بن عنبسة ، وكتب إلى محمد بن يوسف الكح أن يصير إلى قم مع علي بن هشام لحرب أهلها ،

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٤٤٣ وقال : نثر الحسن ما لم ينثره ملك قط في جاهلية ولا في إسلام!

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٨.

(٣) القمي الأشعري جدّ محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران صاحب نوادر الحكمة ، وكان وكيلاً للجواد عليه‌السلام كما يأتي.


فحاربوهم فظفروا بهم وهدموا سورهم وجبوهم سبعة آلاف ألف (١) ولعلهم بلغهم ما بلغ إليه ترف المأمون في عرسه ببوران ، فذلك أثارهم عليه.

وقبل ذلك كان الجواد عليه‌السلام قد كتب إلى إبراهيم بن محمد الهمداني كتاباً وأمره أن لا يفكه إلّابعد وفاة يحيى بن عمران الأشعري! فلما توفي يحيى وحمل إلى المقبرة ، حمل إبراهيم الهمداني كتاب الجواد عليه‌السلام إليه معه إلى المقبرة فهناك فكه وقرأه فإذا فيه أن : قُم بما كان يقوم به (٢).

المأمون والجواد عليه‌السلام ببغداد :

ولعلّ شدة بطشه بشيعة قم حمله على استعطافهم باستقدام الإمام الجواد عليه‌السلام. أضف إلى أنّ عفو المأمون عن إبراهيم المغنّي ابن المهدي العباسي الذي اختاره العباسيون ببغداد بديلاً عن المأمون ، لعلّه حمله على أن يعيد عليهم ما نقموه عليه من اختياره الرضا عليه‌السلام ولياً لعهده وصهراً على ابنته ام حبيب ، يعيدها أو بعضها مع ابنه الجواد عليه‌السلام إصراراً وتأديباً وتأنيباً ، وتبجّحاً وتحدّياً وتقريعاً!

واخترنا هذا الموقع الزمني في أواخر العاشرة بعد المئتين أو أوائل ما بعدها : (٢١١ ه‍) ترجيحاً لما رجحه الطبري الآملي : أنّ المأمون استقدم الجواد عليه‌السلام إلى بغداد وله ست عشرة سنة (٣) أي في (٢١١ ه‍) بعد التسالم على مولده في (١٩٥ ه‍) وأكثر انسجاماً وتناسباً مع ما يأتي عن المفيد من صلاة الناس مع الجواد عليه‌السلام جماعة عامة في مسجد ببغداد عند عودته منها يومئذٍ. لا لما في

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٦١٤ في حوادث عام (٢١٠ ه‍).

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٢٩.

(٣) دلائل الإمامة : ٢٠٦.


خبره عن الريان بن شبيب الكوفي أخي ماردة بنت شبيب امّ المعتصم ، من كونه في التاسعة وأشهر (١) ولا لما في تفسير القمي عنه عن محمد بن الحسين (؟) عن محمد بن عون النصيبي من كونه في العاشرة أو الحادي عشرة (٢).

وخلت الأخبار عن تفصيل كيفية استقدام المأمون للإمام عليه‌السلام إلى بغداد ، اللهم إلّا : ما رواه القمي عن أبيه عن إسماعيل بن مهران : أنّه لما حُمل أبو جعفر الجواد عليه‌السلام من المدينة إلى بغداد المرة الأُولى قلت له : جُعلت فداك! إني أخاف عليك في هذا الوجه! فإلى مَن الأمر بعدك؟

فكرّ بوجهه إليّ ضاحكاً وقال : ليست الغيبة حيث ظننت (غيبة الموت) في هذه السنة (٣).

وخبر التفسير قصير بالقياس إلى خبر المفيد ، فنقدّمه ونكمله بالآخر : عن النصيبي قال : لما أراد المأمون أن يزوّج أبا جعفر محمّد بن علي بن موسى عليه‌السلام ابنته امّ الفضل ، اجتمع إليه أهل بيته الأدنين منه ، فقالوا له :

يا أمير المؤمنين! ننشدك الله أن لا تُخرج عنا أمراً قد ملكناه! وتنزع عنّا عزّاً قد ألبسناه الله! فقد عرفت الأمر الذي بيننا وبين آل علي قديماً وحديثاً!

فقال المأمون : اسكتوا ، فوالله لا قبلت من أحدكم في أمره!

فقالوا له : يا أمير المؤمنين! أفتزوّج قرّة عينك صبيّاً لم يتفقّه في دين الله! ولا يعرف فريضة ولا سنّة! ولا يميّز بين الحق والباطل! فلو صبرت عليه حتى يتأدّب! ويقرأ القرآن! ويعرف فرضاً من سنّة!

__________________

(١) الارشاد ٢ : ٢٨١ ، ٢٨٣.

(٢) تفسير القمي ١ : ٢٨٢ في تفسير آية الصيد من المائدة.

(٣) أُصول الكافي ١ : ٣٢٣ ، الحديث ١ ، باب النص على علي الهادي عليه‌السلام.


فقال لهم المأمون : والله إنه لأفقه منكم وأعلم بالله وبرسوله وبفرائضه وسننه وأحكامه ، وأقرأ لكتاب الله ، وأعلم بمحكمه ومتشابهه وخاصّه وعامّه ، وناسخه ومنسوخه ، وتنزيله وتأويله منكم ، فاسألوه ، فإن كان الأمر كما قلتم قبلت منكم في أمره ، وإن كان كما قلت علمتم أنّ الرجل (!) خير منكم! فخرجوا من عنده (على ذلك).

(وكان قاضي قضاة الزمان يحيى بن أكثم التميمي المروي) فبعثوا إليه وأطمعوه في هدايا! على أن يحتال لأبي جعفر عليه‌السلام بمسألة عند المأمون لا يدري كيف الجواب فيها!

فلما حضروا وحضر أبو جعفر عليه‌السلام قالوا : يا أمير المؤمنين! هذا يحيى بن أكثم ، إن أذنت له أن يسأل أبا جعفر عن مسألة؟

فقال المأمون له : يا يحيى ؛ سل أبا جعفر عن مسألة في الفقه لننظر كيف فقهه؟

فقال يحيى : يا أبا جعفر! أصلحك الله ، ما تقول في محرم قتل صيداً؟

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : قتله في حلّ أو حرم؟ عالماً أو جاهلاً؟ عمداً أو خطأً؟ عبداً أو حراً؟ صغيراً أو كبيراً؟ مُبدئاً أو مُعيداً؟ من ذوات الطير أو من غيرها؟ من صغار الصيد أو من كبارها؟ مُصرّاً عليها أو نادماً؟ بالليل في وكرها أو بالنهار جهاراً؟ محرماً للعمرة أو للحج؟

فانقطع يحيى بن أكثم انقطاعاً لم يخفَ على أهل المجلس ، وأكثر الناس تعجباً من جوابه عليه‌السلام.

ونشط المأمون فقال : نخطب يا أبا جعفر؟! قال : نعم يا أمير المؤمنين! فقال المأمون : «الحمد لله اقراراً بنعمته ، ولا إله إلّاالله إخلاصاً لعظمته. وصلّى الله على محمد عند ذكره. (وبعد) فقد كان من فضل الله على الأنام أن أغناهم بالحلال


عن الحرام فقال : (وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).

ثمّ إنّ محمد بن علي ذكر أُم الفضل بنت عبد الله! وبذل لها من الصداق خمسمئة درهم! وقد زوّجتك فهل قبلت يا أبا جعفر؟

قال أبو جعفر عليه‌السلام : نعم يا أمير المؤمنين! قد قبلت هذا التزويج بهذا الصداق» (١).

وليس في هذا الخبر خطبة للإمام عليه‌السلام ، وروى عن القمي أيضاً عن أبيه عن ابن شبيب : أنّ الإمام عليه‌السلام خطب فقال : الحمد لله منعم النعم برحمته ، والهادي إلى فضله بمنّته. وصلّى الله على محمد خير خلقه ، الذي جمع فيه من الفضل ما فرّقه في الرسل قبله ، وجعل تراثه إلى من خصّه بخلافته! وسلّم تسليماً. وهذا أمير المؤمنين زوّجني ابنته (؟) على ما جعل الله للمسلمات على المسلمين : (فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ (٢)) وقد بذلت لها من الصداق ما بذله رسول الله لأزواجه وهو (خمسمئة درهم) ونحلتها من مالي (مئة ألف درهم) زوّجتني يا أمير المؤمنين (٣)؟ ثمّ نقل الخطبة السابقة عن المأمون جواباً.

والمفيد روى بالسند نفسه عن ابن شبيب إلّاأنّه لم يذكر خطبة للمأمون ونسب الخطبة السابقة إلى الإمام عليه‌السلام ، وفي آخرها : وقد بذل لها من الصِّداق مَهر جدته فاطمة بنت محمد عليهما‌السلام وهو خمسمئة درهم جياد ، فهل زوّجته يا أمير المؤمنين بها على هذا الصَّداق المذكور؟

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٨٢ ـ ٨٣.

(٢) البقرة : ٢٢٩.

(٣) إثبات الوصية من (ق ٤ ه‍) : ١١٦ ـ ١١٧.


فقال المأمون : نعم ، قد زوجتك ـ يا أبا جعفر ـ أُم الفضل ابنتي على الصداق المذكور ، فهل قبلت النكاح؟ فقال أبو جعفر عليه‌السلام : قد قبلت ذلك ورضيت به (١).

واختار خطيب بغداد أن يرويها عن قاضيها التميمي البصري يحيى بن أكثم : أنّ المأمون خطب فقال :

الحمد لله الذي تصاغرت الأُمور لمشيّته ، ولا إله إلّاالله إقراراً بربوبيته. وصلّى الله على محمد عبده وخيرته. أما بعد ، فإنّ الله جعل النكاح الذي رضيه لكما سبب المناسبة ، ألا وإني قد زوجت زينب ابنتي من محمد بن علي بن موسى الرضا ، أمهرناها عنه أربعمئة درهم (٢) ثمّ كتم ابن الأكثم ما تلعثم به في الكلام أمام الإمام عليه‌السلام ، ولم يستنطقه الخطيب!

وهنا يشترك خبر الريّان والنصيبي في نصب الموائد للوليمة للناس على مراتبهم الخاصة في دار الخاصة والعامة في دار العامة. وأنّ المأمون كان قد أعدّ سفينة من فضة على عجلات! مشدودة بحبال من الابريسم ، مملوءة من العطور الغالية من دهن البان والعود والعنبر والمسك والكافور! فإذا بالخدم يجرونها بحبال الإبريسم إلى دار الخاصة ، فأمر المأمون أن تخضب لحى الخاصة منها ، ثمّ مرّوا بها إلى دار العامة فطيّبوهم بها. وإنما اختلف الخبران في تقديم الطيب أو الطعام ، وتفرّق الناس ، وبقي الخاصة.

فقال المأمون لأبي جعفر : إن رأيت ـ جُعلت فداك ـ أن تذكر الفقه فيما فصّلته من وجوه قتل المحرم الصيد : ما الذي يجب على كل صنف من هذه الأصناف التي ذكرت ، لنعلمه ونستفيده. وأمر المأمون أن يُكتب ذلك كلّه عن أبي جعفر عليه‌السلام.

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥.

(٢) عن تاريخ بغداد في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤١٤.


فقال أبو جعفر : «نعم ـ يا أمير المؤمنين! إنّ المحرم إذا قتل صيداً في الحل ، والصيد من ذوات الطير من كبارها ، فعليه شاة. وإذا أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً. وإذا قتل فرخاً في الحل فعليه حَمل قد فطُم ، وليس عليه قيمة لأنه ليس في الحرم ؛ وإذا قتله في الحرم فعليه الحَمل وقيمته لأنه في الحرم ، وإذا كان من الوحش فعليه : في حمار الوحش بدنة ، وكذلك في النعامة ؛ فإن لم يقدر فعليه إطعام ستين مسكيناً ؛ فإن لم يقدر فصيام ثمانية عشر يوماً. وإن كانت بقرة فعليه بقرة ؛ فإن لم يقدر فعليه إطعام ثلاثين مسكيناً ، فمن لم يقدر فليصم تسعة أيام. وإن كان ضبياً فعليه شاة ؛ وإن لم يقدر فإطعام عشرة مساكين ؛ فإن لم يقدر فصيام ثلاثة أيام. وإن كان في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة حقاً واجباً عليه أن ينحره إن كان في حج بمنى حيث ينحر الناس ، وإن كان في عمرة ينحره بمكة ويتصدق بمثل ثمنه حتى يكون مضاعفاً. وكذلك إذا أصاب أرنباً فعليه شاة. وإذا قتل الحمامة تصدق بدرهم ، أو يشترى به طعاماً لحمام الحرم ، وفي الفرخ نصف درهم. وفي البيضة ربع درهم. وكل ما أتى به المحرم بجهالة فلا شيء عليه فيه إلّاالصيد فإنّ عليه الفداء بجهالة كان أو بعلم ، بخطأ كان أو بعمد. وكل ما أتى به العبد فكفارته على صاحبه بمثل ما يلزم صاحبه ، وكل ما أتى به الصغير الذي ليس ببالغ فلا شيء عليه فيه. وإن كان ممن عدا فهو ينتقم الله منه ليس عليه كفارة والنقمة في الآخرة وإن دلّ على الصيد وهو محرم فقُتل فعليه الفداء ، والمصرّ عليه يلزمه بعد الفداء عقوبة الآخرة ، والنادم عليه لا شيء عليه بعد الفداء. وإذا أصاب طيراً ليلاً في وكرها خطأ فلا شيء عليه إلّاأن يتعمده ، فإن تعمّد بليل أو نهار فعليه الفداء ، والمحرم بالحج ينحر الفداء بمنى حيث ينحر الناس ، والمحرم للعمرة ينحر بمكة».

ثمّ دعا المأمون أهل بيته الذين أنكروا عليه تزويجه (ومعه قاضيه ابن الأكثم والوزراء والقواد ، فقرأ عليهم جواب الإمام عليه‌السلام) فقال لهم : هل فيكم أحد


يجيب مثل هذا الجواب؟ قالوا : لا والله ولا القاضي! فقال لهم : ويحكم! إنّ أهل هذا البيت خلو من هذا الخَلق! أو ما علمتم أنّ أباه علياً عليه‌السلام ما دعا رسول الله طفلاً غيره إلى الإيمان وهو ابن اثني عشرة سنة ، وقبل الله ورسوله منه إيمانه ولم يقبل من طفل غيره! أو ما علمتم أنها ذرية بعضها من بعض يجري لآخرهم مثل ما جرى لأوّلهم؟!

فقالوا له : يا أمير المؤمنين! صدقت وكنت أنت أعلم به منّا!

وكان المأمون قد أعدّ ثلاثة أطباق تُنثر على أبي جعفر الجواد عليه‌السلام ، فيها رقاع مسك وزعرفان معجون بماء الورد ، وجوفها رقاع : على طبق رقاع عمالات (عمل إداري حكومي سياسي) وفي الطبق الثاني رقاع فيها ضياع (وعقارات) طعمة لمن أخذها ، والثالث فيه بُدر (فيها دنانير ودراهم) فأمر المأمون أن يؤتى بها ، فأمر أن يفرّق الطبق الذي عليه العمالات على بني هاشم (العباسيين وغيرهم) خاصة ، والذي عليه رقاع الضياع على الوزراء! والذي عليه البُدر على قوّاد جنوده (١).

هذا ما جاء في «تحف العقول» و «الاختصاص» عن القمي ، والقمي في «تفسيره» ويزيد عليه ما أخرجه عنه المفيد : بأنّ المأمون قال لأبي جعفر عليه‌السلام : يا أبا جعفر! فإن رأيت أن تسأل يحيى (كذا) عن مسألة كما سألك! فقال أبو جعفر ليحيى : أسألك؟ قال : ذلك إليك ـ جعلت فداك! ـ فإن عرفت جواب ما تسألني عنه وإلّا استفدته منك!

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٨٤ ـ ١٨٥ ، وتحف العقول : ٣٣٢ ـ ٣٣٤ ، والحرّاني من مشايخ المفيد. وفي الاختصاص : ٩٨ ـ ١٠١ عن القمي ، وهو منسوب إلى المفيد ، ويختلف عن نقله في الإرشاد ويوافق التفسير.


فقال أبو جعفر عليه‌السلام : خبّرني عن رجل نظر إلى امرأة في أول النهار فكان نظره إليها حراماً ، فلمّا ارتفع النهار حلّت له ، فلمّا زالت الشمس حرمت عليه ، فلمّا كان وقت العصر حلّت له ، فلمّا غربت الشمس حرمت عليه ، فلمّا دخل وقت العشاء الآخرة حلّت له ، فلمّا كان انتصاف الليل حرمت عليه ، فلمّا طلع الفجر حلّت له. ما حال هذه المرأة؟ وبماذا حلّت له وحرمت عليه؟

فقال له يحيى بن أكثم : لا والله ما أهتدي إلى جواب هذا السؤال ولا أعرف الوجه فيه! فإن رأيت أن تفيدناه.

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : هذه أمة لرجل من الناس نظر إليها أجنبي في أول النهار فكان نظره إليها حراماً عليه ، فلمّا ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلّت له ، فلمّا كان الظهر أعتقها فحرمت عليه ، فلمّا كان وقت العصر تزوّجها فحلّت له ، فلمّا كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه فلمّا كان وقت العشاء الآخرة كفّر عن الظهار فحلّت له ، فلمّا كان نصف الليل طلّقها واحدة فحرمت عليه ، فلمّا كان عند الفجر راجعها فحلّت له.

قال الريّان : فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته فقال لهم : هل فيكم أحد يجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب؟! أو يعرف القول فيما تقدم من السؤال؟!

قالوا : لا والله ، وإن أمير المؤمنين أعلم وأرى.

فقال لهم : ويحكم! إنّ «أهل هذا البيت» خُصّوا من الخلق بما ترون من الفضل! وإنّ صِغر السنّ فيهم لا يمنعهم من الكمال! أما علمتم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بايع الحسن والحسين عليهما‌السلام وهما ابنا دون الستّ سنين ، ولم يبايع صبيّاً غيرهما! أفلا تعلمون الآن ما اختصّ الله به هؤلاء القوم ، وأنهم ذريّة بعضها من بعض يجري لآخرهم ما يجري لأولهم؟!


فصدّقوه ، ثمّ نهض القوم .. وانصرفوا وهم أغنياء بالعطايا والجوائز ، وأمر المأمون بالصدقة على كافّة المساكين .. وأخذ يكرم أبا جعفر عليه‌السلام ويعظم قدره ويؤثره على ولده وجماعة أهل بيته (١) وفيه جعل الجوائز والعطايا في آخر الخبر ، وذكرت ما انفرد به دون المكرّر فيهما ، فلو كان «الاختصاص» منه أيضاً فمعناه أنه فيه اكتفى بخبر القمي في تفسيره ، وفي «الإرشاد» رجّح الأشمل والأكمل. وكل ذلك كان عقداً ، والزفاف سيأتي في سنة (٢١٥ ه‍) (٢).

عودة الإمام من مدينة السلام :

عاد الجواد عليه‌السلام من بغداد إلى المدينة ، بلا زفاف فليست معه أُم الفضل ، وذلك وقبيل الغروب ومعه الناس يشايعونه ، وعند مغيب الشمس انتهى إلى المسجد عند دار المسيّب في شارع باب الكوفة ، فأوقف القافلة ونزل عند المسجد ليصلي فيه المغرب ، ودخل صحن المسجد وكانت فيه شجرة سدرة لم تحمل نبقاً بعد ، ودعا بماء فتوضأ عند السدرة.

ثمّ دخل وتقدّم فصلّى بالناس صلاة المغرب ، فقرأ في الأُولى منها الحمد و «إذا جاء نصر الله» وقرأ في الثانية الحمد و «قل هو الله أحد» وقنت قبل ركوعه فيها. ثمّ صلّى النوافل أربع ركعات ثمّ عقّب بعدها ثمّ سجد سجدتي الشكر! وخرج ، فرأى الناس أنّ السدرة قد حملت وقطفوا من نبقها فكان حلواً لا عُجم له (٣) وصلاة الجماعة العامة تؤيد كون عمر الإمام عليه‌السلام (١٦) عاماً كما مرّ عن الطبري الإمامي.

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ٢٨٦ ـ ٢٨٨ عن القمي عن الريان بن شبيب خال المعتصم.

(٢) الطبري ٨ : ٦٢٣.

(٣) الإرشاد ٢ : ٢٨٨ ـ ٢٨٩ ويلاحظ إتمام السور والقنوت والنوافل والتفريق بين الصلاتين.


تبرّي المأمون من معاوية وتفضيله :

قال الطبري في حوادث عام (٢١١ ه‍) : وفيها تبرّأ المأمون ممّن يذكر معاوية بالخير أو يفضّله على أحد من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمر منادياً ينادي بذلك فنادى (١).

قال المسعودي : قيل إن سبب ذلك : أنّ بعض سُمّاره حدّثه بحكاية عن المُطرّف بن المغيرة بن شعبة ، حكاها أبو الحسن علي بن محمد المدائني قال : قال المطرّف بن المغيرة : كان أبي يذهب إلى معاوية يتحدث عنده ثمّ ينصرف فيذكر عقله ويُعجب بما يرى منه! إذ جاء ذات ليلة فرأيته مغتماً وأمسك عن العشاء. وظننت أنّه لشيء حدث من عملنا ، فانتظرته ساعة ثمّ قلت له : ما لي أراك مغتمّاً منذ الليلة؟ فقال : يا بُني ، إني جئت من عند أكفر الناس وأخبثهم (٢)! قلت : وما ذاك؟!

قال : خلوت به فقلت له : يا أمير المؤمنين! إنك قد بلغت سنّاً وقد كبرت ، فلو أظهرت عدلاً وبسطت خيراً! فنظرت إلى اخوتك من بني هاشم! فوصلت أرحامهم ، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه! وإنّ ذلك ممّا يبقى لك ذكره وثوابه!

فقال لي : هيهات هيهات! ملك أخو تيم (أبو بكر) فعدل وفعل ما فعل ، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره ، إلّاأن يقول قائل : أبو بكر. ثمّ ملك أخو عدي (عمر) فاجتهد وشمّر عشر سنين ، فو الله ما عدا أن هلك فهلك ذكره ، إلّاأن يقول قائل : عمر! ثمّ ملك أخونا (عثمان) فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٦١٨.

(٢) حكاها المسعودي في مروج الذهب ٣ : ٤٥٤ ، والمعتزلي في شرح نهج البلاغة ٥ : ١٢٩ ـ ١٣٠. كلاهما عن الموفقيات للزبير بن بكار ففي الثاني : أكفر الناس ، والمسعودي : أخبث الناس! تخفيفاً بل تحريفاً سخيفاً!


فعمل ما عمل وعُمل به ، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره وذكرُ ما فُعل به. وإنّ ابن أبي كبشة (١) يُصرخ به كل يوم خمس مرّات : «أشهد أن محمداً رسول الله» فأيُّ عمل يبقى مع هذا؟! وأيّ ذكر يدوم مع هذا؟! لا امّ لك! لا والله إلّا دفناً دفناً!

فالمأمون لما سمع هذا الخبر بعثه ذلك على ما أمر من النداء ، وانشئت الكتب إلى الآفاق «بلعنه» على المنابر! فأعظم الناس ذلك وأكبروه واضطربت العامة منه ، فاشير عليه بتركه فأعرض عنه (٢).

وتوفي في هذه السنة (٢١١ ه‍) عبد الرزاق بن همام (٣) الصنعاني اليمني في بغداد ، صاحب «المصنَّف» في الحديث ، وشيخ أحمد بن حنبل الشيباني البغدادي ، ولعلّه أخرج في كتابه ما جرّ ابن الوردي أن يقول عنه : «المحدث المتشيع» (٤)! وقال : وتوفي فيها بالبصرة أبو عبيدة معمر بن المثنّى التيمي ، والأخفش النحوي (الأوسط) أبو الحسن سعيد بن مسعدة والخفش : صِغر العين وسوء النظر ، وكان سيبويه الفارسي عرض كتابه «الكتاب» عليه.

__________________

(١) كنايتهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخفّفها المسعودي أيضاً إلى : أخا هاشم!

(٢) مروج الذهب ٣ : ٤٥٤ ـ ٤٥٥ وهو وإن نقل الخبر عن كتاب الأخبار الموفقيات للزبير بن بكار (م ٢٥٦ ه‍) إلّا أنّ محادثة سامر المأمون له كان سابقاً على الموفقيات عن المدائني المعاصر لهم (م ٢٢٠ ه‍) وعلّق المعتزلي على ابن بكار قال : كان معلوم الحال بالانحراف عن علي عليه‌السلام فهو غير متهم على معاوية ولا هو منسوب إلى الشيعة. ونقل أصحابنا (المعتزلة) عن معاوية في فلتات ألفاظه وسقطات كلامه ما يدل على أنّه كان ملحداً لا يعتقد بالنبوة! شرح النهج ٥ : ١٢٩.

(٣) تاريخ خليفة : ٣١٤.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٩.


إعلان المأمون تفضيل علي عليه‌السلام :

قال الطبري في حوادث عام (٢١٢ ه‍) : في شهر ربيع الأول منها أظهر المأمون القول بتفضيل علي عليه‌السلام أنّه أفضل الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) وتفضيله على جميع الصحابة (٢) وعطفه السيوطي على البراءة من معاوية قال : فيها أمر المأمون بأن ينادى : برئت الذمة ممّن ذكر معاوية بخير ، وأن أفضل الخلق بعد النبي علي بن أبي طالب .. وفضّله على أبي بكر وعمر. وأظهر القول بخلق القرآن مضافاً إلى ذلك ، فاشمأزّت منه النفوس وكاد أن يفتتن البلد فكفّ عنه (٣).

وقد ورد تفصيل هذا التفضيل في ما أسنده الصدوق عن إسحاق بن حماد بن زيد (الأزدي البغدادي القاضي؟) قال : سمعنا القاضي يحيى بن أكثم التميمي قال (٤) : أمرني المأمون باحضار جماعة من أهل الحديث وجماعة من أهل الكلام والنظر. فجمعت له من الصنفين زهاء أربعين رجلاً ، ثمّ مضيت بهم إلى مجلس الحاجب ، ودخلت عليه فأعلمته ، فأمرني بادخالهم ، فدخلوا وسلّموا فقال لهم : ضعوا أرديتكم وسلّوا أخفافكم ومن كان منكم حاقناً (ببول) أو له حاجة فليقم إلى قضاء حاجته وانبسطوا ، فإني اريد أن أجعلكم في يومي هذا حجة بيني وبين الله تبارك وتعالى!

فقاموا وفعلوا ما أرادوا واجتمعوا إليه فقال لهم : يا أيها القوم! إنما استحضرتكم لأحتجّ بكم عند الله تعالى! فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم وإمامكم ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٦١٩.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٩.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٦٦.

(٤) هنا يحكي عن ابن أكثم وفي أواخر الخبر خطاب المأمون لإسحاق الراوي! كما يأتي.


ولا يمنعكم جلالتي ومكاني من قول الحق حيث كان ، وردّ الباطل على من أتى به ، وأشفقوا على أنفسكم من النار! وتقربوا إلى الله تعالى برضوانه وإيثار طاعته فما أحد تقرّب إلى مخلوق بمعصية الخالق إلّاسلّطه الله عليه! فناظروني بجميع عقولكم!

ثمّ قال : إني رجل أزعم أنّ علياً خير البشر بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله! فإن كنت مصيباً فصوّبوا قولي ، وإن كان خطأً فهلّموا وردّوا عليَّ! فإن شئتم سألتكم وإن شئتم فاسألوني.

فقال بعض أهل الحديث : بل نسألك! فقال : هاتوا ، وقلّدوا كلامكم رجلاً واحداً منكم ، فإذا تكلّم فإن كان عند أحدكم زيادة فليزد ، وإن أتى بخلل فسدّدوه.

فقال قائل منهم : إنما نزعم نحن أنّ خير الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبو بكر من قِبل أنّ الرواية المُجمع عليها عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله جاءت أن قال : اقتدوا باللذين من بعدي أبو بكر وعمر! فلمّا أمر نبي الرحمة بالاقتداء بهما علمنا أنّه لم يأمر بالاقتداء إلّابخير الناس.

فقال المأمون : الروايات كثيرة ، ولابدّ من أن تكون كلّها حقاً ، أو كلهّا باطلاً ، أو بعضها حقاً وبعضها باطلاً. فلو كانت كلّها حقاً لزم أن تكون كلها باطلاً! من قبل أن بعضها ينقض بعضاً! ولو كانت كلّها باطلاً كان في بطلانها بطلان الدين واندراس الشريعة. فلمّا بطل الوجهان ثبت الثالث بالضرورة ، وهو : أنّ بعضها حق وبعضها باطل. وإذا كان كذلك فلابدّ من دليل يدلّ على ما يحقّ منها ليُعتقد ويُنفى خلافه ، فإذا كان دليل الخبر في نفسه حقّاً كان أولى ما أعتقده وآخذ به.

وروايتك هذه من الأخبار التي أدلتها باطلة في نفسها ؛ وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحكم الحكماء وأولى الخلق بالصدق ، وأبعد الناس عن الأمر بالمحال


وعن حمل الناس على التدين بالخلاف. وذلك أنّ هذين الرجلين لا يخلوا من أن يكونا متفقين من كل جهة ، أو مختلفين؟ فإن كانا متفقين من كل جهة لزم أن يكونا واحداً في العدد والصفة والصورة والجسم ، وهذا معدوم أن يكون اثنان معنى واحداً من كل جهة. وإن كانا مختلفين ، فكيف يجوز الاقتداء بهما؟! وهذا تكليف بما لا يُطاق ؛ لأنّك إذا اقتديت بواحد خالفت الآخر.

والدليل على اختلافهما : أنّ أبا بكر سبى أهل الردة ، وعمر ردّهم أحراراً! وأشار عمر على أبي بكر بعزل خالد وبقتله بمالك بن نويرة فأبى عليه أبو بكر! وعمر حرّم المتعتين ، ولم يفعله أبو بكر! ووضع عمر «ديوان العطايا» ولم يفعله أبو بكر ، واستخلف أبو بكر ولم يفعل ذلك عمر ، وله نظائر كثيرة (١).

فقال آخر من أصحاب الحديث : فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر!

فقال المأمون : هذا مستحيل ؛ من قِبَل أنّ رواياتكم أنّه آخى بين أصحابه وأخّر علياً ، فقال له في ذلك ، فقال له : «ما أخّرتك إلّالنفسي» فأي الروايتين ثبتت بطلت الأُخرى!

قال الآخر : إنّ علياً قال على المنبر : خير هذه الأُمة بعد نبيّها أبو بكر وعمر!

__________________

(١) علّق الصدوق هنا فقال : هنا معنى لم يذكره المأمون ، وهو : أنهم لم يرووا أنّ النبيّ قال : اقتدوا باللذين بعدي أبي بكر وعمر! وإنما ورد : أبو بكر وعمر ، ومنهم من روى : أبا بكر وعمر. فلو كانت الرواية صحيحة لكان معنى قوله بالنصب (أبا بكر وعمر) : اقتدوا باللذَين من بعدي (كتاب الله وعترتي) يا أبا بكر وعمر! وعلى قوله بالرفع (أبو بكر وعمر): (أيها الناس) وأبو بكر وعمر اقتدوا باللذَين من بعدي (كتاب الله وعترتي).


قال المأمون : هذا مستحيل ؛ من قبل أن النبيّ لو علم أنهما أفضل ما ولّى عليهما مرّة عمرو بن العاص ومرّة أُسامة بن زيد. وممّا يكذّب هذه الرواية قول علي لمّا قبض النبيّ : «أنا أولى بمجلسه منّي بقميصي هذا ولكنّي أشفقت أن يرجع الناس كفاراً» وقوله : «أنى يكونان خيراً مني وقد عبدت الله تعالى قبلهما وعبدته بعدهما».

قال آخر : فإنّ أبا بكر أغلق بابه وقال : هل مستقيل (لبيعته) فأقبله؟! فقال له علي : قدّمك رسول الله فمن ذا يؤخّرك؟!

فقال المأمون : هذا باطل ؛ من قِبَل أنّ علياً قعد عن بيعة أبي بكر ، ورويتم! أنّه قعد عنها حتى قُبضت فاطمة ، وأنها أوصت أن تدفن ليلاً لئلّا يشهدا جنازتها. ووجه آخر ، وهو أنّه إن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله استخلفه فكيف كان له أن يستقيل؟! وهو يقول للأنصار : قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين : أبا عبيدة وعمر!

قال آخر : إنّ عمرو بن العاص قال : يا نبيّ الله ، من أحبّ الناس إليك من النساء؟ قال : عائشة! فقال : ومن الرجال؟ قال : أبوها.

فقال المأمون : هذا باطل ؛ من قِبَل أنكم رويتم : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وُضع بين يديه طائر مشوي فقال : «اللهم ايتني بأحبّ خلقك إليك» فكان علياً! فأيّ روايتيكم تُقبل؟!

فقال آخر : فإنّ علياً قال : من فضّلني على أبي بكر وعمر جلدته حدّ المفتري!

قال المأمون : كيف يجوز أن يقول علي : أجلد الحدّ ، على من لا يجب عليه الحدّ؟! فيكون متعدياً لحدود الله عزوجل عاملاً بخلاف أمره؟! وليس تفضيل من فضّله عليهما فرية! وقد رويتم عن إمامكم أنّه قال : «وليتكم ولست بخيركم» فأي الرجلين أصدق عندكم : أبو بكر على نفسه أو علي على أبي بكر؟!


مع تناقض الحديث في نفسه! فلابدّ له في قوله من أن يكون صادقاً أو كاذباً ، فإن كان صادقاً فأ نّى عرف ذلك؟ بوحي؟ فالوحي منقطع ، أو بالتظنّي فالتظنّي متحيَّر ، أو بالنظر فالنظر مبحث. وإن كان غير صادق فمن المحال أن يلي أمر المسلمين ويقوم بأحكامهم ويقيم حدودهم كذّاب!

قيل : فقد جاء أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة!

قال المأمون : هذا الحديث محال ؛ لأنّه لا يكون في الجنة كهل ، ويُروى أنّ امرأة أشجعية كانت عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : «لا يدخل الجنة عجوز» فبكت ، فقال النبي : إنّ الله تعالى يقول : (إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً* فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً* عُرُباً أَتْرَاباً (١)) فإن زعمتم أنّ أبا بكر يُنشأ شاباً إذا دخل الجنة فقد رويتم : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال للحسن والحسين : «إنهما سيّدا شباب أهل الجنة من الأولين والآخرين ، وأبوهما خير منهما».

قال آخر : فقد جاء أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لو لم أكن ابعث فيكم لبُعث عمر!

قال المأمون : هذا مُحال : لأنّ الله تعالى يقول : (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ (٢)) وقال تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ (٣)) فهل يجوز أن يكون من لم يؤخذ ميثاقه على النبوة مبعوثاً ومن اخذ ميثاقه ومؤخّراً؟!

قال آخر : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم عرفة نظر إلى عمر فقال : إنّ الله تبارك وتعالى باهى بعباده عامة وبعمر خاصة!

__________________

(١) الواقعة : ٣٥ ـ ٣٧.

(٢) النساء : ١٦٣.

(٣) الأحزاب : ٧.


فقال المأمون : هذا مستحيل ، من قِبَل أن الله تبارك وتعالى لم يكن ليباهى بعمر ويدع نبيّه ، فيكون عمر في الخاصة والنبي في العامة!

ثمّ قال المأمون : وليست هذه الروايات بأعجب من روايتكم : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : دخلت الجنة (في المعراج) فسمعت خفق نعلين فإذا بلال مولى أبي بكر سبقني إلى الجنة! وإنما قالت «الشيعة» : علي خير من أبي بكر ، فقلتم : عبد أبي بكر خير من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ السابق أفضل من المسبوق!

قال : وكما رويتم : أنّ الشيطان يفرّ من ظل عمر! و (رويتم) : أنّ الشيطان ألقى على لسان نبي الله : «وهي الغرانيق العلى»! فهو فرّ من عمر ، ولكنه ألقى على لسان النبيّ الكفر بزعمكم!

قال آخر : قد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو نزل العذاب ما نجا إلّاعمر بن الخطاب!

قال المأمون : هذا خلاف الكتاب أيضاً ؛ لأنّ الله تعالى يقول لنبيّه : (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ (١)) فجعلتم عمر مثل الرسول!

قال آخر : فقد شهد النبيّ لعمر بالجنة في «عشرة» من الصحابة.

قال المأمون : لو كان هذا كما زعمتم لما كان عمر يقول لحذيفة : نشدتك بالله أمن «المنافقين» أنا؟ فإن كان قد قال له النبيّ : أنت من أهل الجنة ، ولم يصدّقه حتى زكّاه حذيفة ؛ فصدّق حذيفة ولم يصدّق النبي ، فهذا على غير الإسلام! وإن كان قد صدّق النبيّ فلِم سأل حذيفة؟! فهذان الخبران متعارضان.

قال الآخر : فقد قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : وضعتُ في كفّة الميزان ووضعت أُمتي في كفّة أُخرى فرجحتُ بهم ، ثمّ وُضع مكاني أبو بكر فرجح بهم ، ثمّ عمر فرجح بهم ، ثمّ رُفع الميزان!

__________________

(١) الأنفال : ٣٣.


فقال المأمون : هذا محال ، مِن قِبل أن لا يخلو من أن يكون الموزون أجسامهما أو أعمالهما ؛ فإن كانت الأجسام فلا يخفى على ذي روح أنّه محال ، لأنّه لا يرجح أجسامهما بأجسام الأُمة! وإن كانت أفعالهما فلم تكن بعد ، فكيف يرجح بما ليس (موجوداً)!

ثمّ قال لهم : أخبروني بما يتفاضل الناس؟ فقال بعضهم : بالأعمال الصالحة.

قال : فأخبروني عمّن فضل صاحبه على عهد النبيّ ثمّ إنّ المفضول عمل بعد وفاة رسول الله بأكثر من عمل الفاضل على عهد النبي ، أيلحق به؟ فإن قلتم :

نعم ، أوجدتكم في عصرنا هذا من هو أكثر جهاداً وحجاً وصوماً وصلاة وصدقة من أحدهم.

ثمّ قال المأمون : فانظروا فيما روت أئمتكم ـ الذين عنهم أخذتم أديانكم ـ في فضائل علي ، وقيسوا إليها ما رووا في فضائل تمام «العشرة» الذين شهدوا لهم بالجنة ، فإن كانت جزءاً من أجزاء كثيرة فالقول قولكم. وإن كانوا قد رووا في فضائل علي أكثر فخذوا عن أئمتكم ما رووا ولا تعدوه.

ثمّ قال المأمون : فإني أسألكم : خبّروني أي الأعمال كان أفضل يوم بعث الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

قالوا : السبق إلى الإسلام ؛ لأنّ الله تعالى يقول : (السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١)).

قال : فهل علمتم أحداً أسبق من علي إلى الإسلام؟!

قالوا : إنه سبق حدثاً لم يجر عليه حكم ، وأبو بكر أسلم كهلاً قد جرى عليه الحكم ، وبين هاتين الحالتين فرق!

__________________

(١) الواقعة : ١٠ و ١١.


قال المأمون : فخبّروني عن إسلام علي كان بإلهام من قبل الله تعالى. فإن قلتم : بإلهام ، فقد فضّلتموه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله! لأنّ النبيّ لم يُلهم بل أتاه جبرئيل داعياً عن الله تعالى! وإن قلتم بدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهل دعاه من قبل نفسه؟ أو بأمر الله تعالى؟ فإن قلتم من قبل نفسه فهذا خلاف ما وصف الله تعالى به نبيّه في قوله تعالى : (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (١)) وفي قوله تعالى : (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٢)). وإن كان من قبل الله تعالى فقد أمر الله تعالى نبيّه بدعاء علي من بين صبيان الناس وإيثاره عليهم فدعاه ، ثقةً به وعلماً بتأييد الله تعالى له.

قال : وخُلّة أُخرى : خبّروني عن الحكيم هل يجوز أن يكلّف خلقه ما لا يطيقون؟ فإن قلتم : نعم ، فقد كفرتم! وإن قلتم : لا ، فكيف يجوز أن يأمر نبيّه بدعاء من لا يمكنه قبول ما يؤمر به لصغره وحداثة سنّه وضعفه عن القبول؟!

قال : وخُلّة أُخرى : هل رأيتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا أحداً من صبيان أهله وغيرهم فيكونوا أُسوة بعلي؟ فإن زعمتم أنه لم يدعُ غيره فهذه فضيلة لعلي على جميع صبيان الناس.

ثمّ قال : وبعد السبق إلى الإيمان أي الأعمال أفضل؟ قالوا : الجهاد في سبيل الله.

قال : فهل تجدون لأحد من «العشرة» في الجهاد ما لعلي في جميع مواقف النبيّ من الأثر؟ هذه بدر قُتل فيها من المشركين نيف وستون رجلاً ، قَتل علي منهم نيفاً وعشرين ، وأربعون لسائرهم.

فقال قائل : كان أبو بكر مع النبيّ في عريشه يدبّرها!

__________________

(١) ص : ٨٦.

(٢) النجم : ٣ و ٤.


فقال المأمون : لقد جئت بها عجيبة! أكان يدبر دون النبيّ؟ أو معه فيشركه؟ أو لحاجة النبيّ إلى رأي أبي بكر؟ أي الثلاث أحبّ إليك أن تقول؟

فقال : أعوذ بالله من أن أزعم أنه كان يدبّر دون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو يشركه ، أو بافتقار من النبيّ إليه.

قال : فما الفضيلة في العريش؟ فإن كانت فضيلة لأبي بكر بتخلّفه عن الحرب فيجب أن يكون كل متخلف فاضلاً أفضل من المجاهدين! والله عزوجل يقول : (لَايَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (١)).

وهنا يتداخل الخبر ، فبعد أن كان الراوي إسحاق بن حمّاد بن زيد يروي عن يحيى بن أكثم ، هنا يقول :

قال لي المأمون : يا إسحاق إقرأ : (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) فقرأت حتى بلغت : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) إلى قوله : (وَكَانَ سَعيُكُمْ مَشكُوراً) فقال لي : فيمن نزلت هذه الآيات؟ فقلت : في علي ، فقال : فهل بلغك أنّ علياً قال : (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ (٢)) على ما وصف الله عزوجل في كتابه؟ قلت : لا. قال : فإنّ الله عرف سريرة علي ونيّته فاظهر ذلك في كتابه تعريفاً لخلقه بأمره! فهل علمت أنّ الله وصف في شيء ممّا وصف في الجنة ما في هذه السورة؟ قلت : لا ، قال : فهذه فضيلة أُخرى.

__________________

(١) النساء : ٩٥.

(٢) الدهر : ١ ، ٨ ، ٢٢ ، ٩.


ثمّ قال : يا إسحاق ؛ ألست ممّن يشهد أنّ «العشرة» في الجنة؟ قلت : بلى ، قال : أرأيت لو أنّ رجلاً قال : ما أدري هذا الحديث صحيح أم لا؟ أيكون كافراً عندك؟ (وهو من قضاة بغداد) قال : قلت : لا. قال : أفرأيت لو قال : ما أدري هذه السورة من القرآن أم لا ألا يكون كافراً عندك؟ قلت : بلى. قال : فأرى أنّ فضل الرجل (علي) يتأكّد!

ثمّ قال لي : يا إسحاق ، خبّروني عن حديث «الطائر المشوي» أغير صحيح عندك؟ قلت : بلى. قال : لا يخلو هذا من أن يكون (علي) كما دعاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (أحبّ خلقه إليه) أو يكون (دعاؤه) مردوداً؟ أو عرف الله الفاضل من خلقه وكان المفضول أحبّ إليه؟ أو تزعم أنّ الله لم يعرف الفاضل من المفضول؟ فأيّ الثلاث أحبّ إليك أن تقول به؟!

قال إسحاق : فقلت : يا أمير المؤمنين ؛ إنّ الله تعالى يقول في أبي بكر : (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَاتَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا (١)) فنسبه الله إلى صحبة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقال المأمون : سبحان الله! ما أقل علمك باللغة والكتاب! أما يكون الكافر صاحباً للمؤمن؟! فأي فضيلة في هذا؟! أما سمعت قول الله تعالى : (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٢)) فقد جعله له صاحباً. وقال الهذلي شعراً :

ولقد غدوت وصاحبي وحشية

تحت الرداء بصيرة بالمشرق!

وقال الأزدي شعراً :

ولقد ذعرت الوحش فيه وصاحبي

محض القوائم من هجان الهيكل

__________________

(١) التوبة : ٤٠.

(٢) الكهف : ٣٧.


فصيّر فرسه صاحبه.

وأما قوله : (إِنَّ اللهَ مَعَنَا) فإنّ الله مع البرّ والفاجر! أما سمعت قوله تعالى : (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا (١)).

وأما قوله : (لَاتَحْزَنْ») فأخبرني أكان حزن أبي بكر طاعة أو معصية؟ فإن زعمت أنه طاعة فقد جعلت النبيّ ينهى عن الطاعة ، وهذا خلاف صفة الحكيم. وإن زعمت أنّه معصية فأيّة فضيلة؟!

ثمّ خبّرني عن قوله تعالى : (فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ») على مَن؟ قال إسحاق ، قلت : على أبي بكر ؛ لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مستغنياً عن السكينة!

فقال : إنّ الناس انهزموا يوم حُنين فلم يبق مع النبيّ إلّاسبعة من بني هاشم! علي يضرب بسيفه ، والعباس بيده لجام بغلة رسول الله ، وخمسة يحدقون بالنبيّ أن لا يناله سلاح الكفار ، حتّى أعطى الله رسوله الظفر فقال : (ثُمَّ أَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٢)) فعنى بالمؤمنين هنا علياً ومن حضر من بني هاشم. فمن كان أفضل؟ أمن كان مع النبيّ فنزلت السكينة على النبيّ وعليه؟ أم من كان مع النبيّ في الغار ولم يكن أهلاً لنزولها عليه؟!

يا إسحاق ؛ إنّ الله تبارك وتعالى أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأمر علياً بالنوم على فراشه ووقايته بنفسه (للهجرة) فأمره بذلك. فقال علي : أتسلم يا رسول الله؟ قال : نعم. قال : إذن طاعة وسمعاً. ثمّ أتى مضجعه وتسجّى بثوبه ، وأحدق المشركون به لا يشكون في أنّه النبيّ ، وقد أجمعوا على أن يضربه من كل بطن رجل ضربة لئلّا يطلب الهاشميون بدمه! وعلي يسمع بأمر القوم فيه ، من التدبير في تلف نفسه ،

__________________

(١) المجادلة : ٧.

(٢) التوبة : ٤٠ و ٢٦.


فلم يدعُه ذلك إلى الجزع كما جزع أبو بكر في الغار وهو مع النبيّ وعلي وحده! فلم يزل صابراً محتسباً.

فبعث الله تعالى ملائكة تمنعه من مشركي قريش. فلمّا أصبح قام ، فنظر القوم إليه وقالوا : أين محمد؟ قال : وما علمي به؟ قالوا : فأنت غررتنا! ثمّ لحق بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

يا إسحاق ، فمن أفضل؟ من كان مع النبيّ في الغار؟ أو من نام على مهاده وفراشه ووقاه بنفسه حتى تمّ للنبيّ ما عزم عليه من الهجرة؟! ثمّ قال : لم يزل عليٌّ أفضل لما بدا منه ، ما يزيد إلّاخيراً ، حتى قبضه الله تعالى إليه وهو محمود مغفور له.

يا إسحاق ، أما تروي حديث الولاية؟ قلت : بلى. قال : إروه. فرويته. فقال : أما ترى إنه أوجب لعلي على أبي بكر وعمر من الحق ما لم يوجب لهما عليه؟!

قلت : فإن الناس يقولون : إنّ هذا قاله بسبب زيد بن حارثة (؟!) فقال : أين قال النبيّ هذا؟ قلت : بغدير خم منصرفه من حجة الوداع. قال : فمتى قُتل زيد بن حارثة؟ قلت : بمؤتة. قال : أفليس قد كان قتل زيد بن حارثة قبل غدير خم؟ قلت : بلى.

ثمّ قال : أرأيت لو رأيت ابناً لك أتت عليه خمسة عشر سنة يقول : مولاي مولى ابن عمّي أيها الناس فأقبلوا! أكنت تكره ذلك؟ قلت : نعم. قال : أفتنزّه ابن عمّك عما لا تنزّه النبيّ عنه!

ثمّ التفت إليهم وقال لهم : ويحكم! أجعلتم فقهاءكم أربابكم؟! إنّ الله تعالى يقول : (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ (١)) والله ما صلّوا لهم ولا صاموا ، ولكنهم أمروهم فأطاعوهم!

__________________

(١) التوبة : ٣١.


ثمّ قال لي : أتروي قول النبيّ لعلي : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» قلت : نعم ، قال : أما تعلم أنّ هارون أخو موسى لأبيه وأُمه؟ قلت : بلى. قال : فعلي كذلك؟ قلت : لا. قال : وهارون نبيّ وليس علي كذلك ، فما المنزلة الثالثة إلّا الخلافة. وهذا كما حكى الله عن موسى حيث يقول لهارون : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١)).

فقلت : إنّ موسى خلّف هارون في قومه وهو حي ثمّ مضى إلى ميقات ربّه تعالى ، وإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خلّف علياً حين خرج إلى غزاته (تبوك)!

فقال : أخبرني عن موسى حين خلّف هارون أكان معه حيث مضى إلى ميقات ربه عزوجل أحد من أصحابه؟ قلت : نعم. قال : أليس قد استخلفه على جميعهم؟

قلت : بلى. قال : فكذلك علي خلّفه النبيّ حين خرج إلى غزاته في الضعفاء والنساء والصبيان ، إذ كان أكثر قومه معه ، وإن كان قد جعله خليفة على جميعهم.

والدليل على أنّه جعله خليفة عليهم في حياته إذا غاب وبعد موته قوله : «علي مني بمنزلة هارون من موسى إلّاأنّه لا نبيّ بعدي» وهو وزير النبيّ أيضاً بهذا القول ، لأن موسى قد دعا الله تعالى وقال فيما دعا : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هَارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٢)).

فإذا كان علي منه بمنزلة هارون من موسى فهو وزيره كما كان هارون وزير موسى ، وهو خليفته كما كان هارون خليفة موسى عليه‌السلام.

ثمّ أقبل على أصحاب الكلام والنظر :

فقال لهم : أسألكم أو تسألوني؟ قالوا : بل نسألك. قال : قولوا.

__________________

(١) الأعراف : ١٤٢.

(٢) طه : ٢٩ ـ ٣٢.


فقال قائل منهم : أليست إمامة علي (١) من قبل الله عزوجل نُقل ذلك عن رسول الله؟ قال : بلى.

قال : فما بالهم لم يختلفوا في الفرائض واختلفوا في خلافة علي وحدها؟

قال المأمون : لأنّ جميع الفرائض لا يقع فيها من التنافس والرغبة ما يقع في الخلافة!

فقال آخر : أفهل تنكر أن يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله دون أن يستخلف هو بنفسه أمرهم باختيار رجل منهم يقوم مقامه ، رأفة بهم ورقّة عليهم أن يستخلف هو بنفسه فيعصى فينزل بهم العذاب؟!

قال : أُنكر ذلك ؛ من قِبَل أنّ الله تعالى أرأف بخلقه من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد بعث نبيّه إليهم وهو يعلم أنّ فيهم مطيع وعاص فلم يمنعه ذلك من إرساله إليهم.

وعلة أُخرى : أن لو أمرهم باختيار رجل منهم فلا يخلو من أن : يأمرهم كلهم؟ أو بعضهم ، فلو أمر الكل فمن يكون المختار؟ ولو أمر بعضاً دون بعض فلا يخلو أن يكون عليه علامة ، فإن كانوا الفقهاء فلابدّ من تحديد الفقيه وسمته (كذا).

فقال آخر : فقد روي : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ما رآه المسلمون حسناً فهو حسن عند الله! وما رأوه قبيحاً فهو قبيح عند الله!

فقال المأمون : فلابدّ من أن يكون يريد كل المؤمنين أو بعضهم ، فإن أراد الكل فهذا مفقود ؛ لأنّه لا يمكن اجتماع الكل ، وإن كان البعض فقد روى كلٌ في صاحبه حسناً : مثل رواية «الشيعة» في علي ، ورواية «الحشوية!» في غيره ، فكيف تثبت الإمامة؟!

قال آخر : أفيجوز أن تزعم أنّ «أصحاب محمد» أخطؤوا؟!

__________________

(١) هكذا ينقلب الحديث هنا من الكلام في تفضيل علي عليه‌السلام إلى القول بإمامته!


قال : أنت تزعم أنّ الإمامة لا فرض من الله تعالى ولا سنة من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكيف يكون الخطأ فيما ليس بفرض ولا سنة عندك؟! وكيف تزعم أنهم أخطؤوا واجتمعوا على ضلالة وهم لم يعلموا؟!

قال آخر : فإن كنت أن تدّعي الإمامة لعلي دون غيره فهات على ما تدعي بيّنتك.

فقال : ما أنا بمدّعٍ .. فإنّ المدّعي من يزعم أنّ إليه التولية والعزل وأنّ إليه الاختيار ، ولكنّي مقرٍّ ولا بيّنة على المُقرّ. والبيّنة لا تخلو من أن تكون من شركائه فهم خصماء ، أو تكون من غيرهم ولا وجود لهم.

قال آخر : أفما وجب على علي بعد مضيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يُعلم الناس أنّه إمام؟

فقال : إنّ الإمامة لا تكون بفعل منه في نفسه ، ولا بفعل من الناس من اختيار أو تفضيل أو غير ذلك ، وإنما تكون بفعل من الله تعالى كما قال لإبراهيم عليه‌السلام : (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً (١)) وكما قال لداود عليه‌السلام : (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ (٢)) فالإمام إنّما يكون إماماً من قبل الله تعالى وباختياره إياه من بدء الصنيعة ، وفي التشريف في النسب ، والطهارة في المنشأ ، و «العصمة» في المستقبل (٣). ولو كانت بفعل منه في نفسه كان من فعل ذلك الفعل مستحقاً للإمامة وإذا عمل خلافه انعزل ، فيكون خليفة من قبل أفعاله (وليس من الله).

__________________

(١) البقرة : ١٢٤.

(٢) سورة ص : ٢٦.

(٣) هذا ، ونعيد إلى الذاكرة ما ذُكر قبل من مناظراته مع الرضا عليه‌السلام في ظواهر ألفاظ القرآن الكريم الموهمة لخلاف عصمة الأنبياء ، فهل اعتقد بها حتى للأوصياء؟


قال آخر : فلم أوجبت الإمامة لعلي بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

فقال : لخروجه من الطفولية إلى الإيمان كخروج النبيّ من الطفولية إلى الإيمان ، والبراءة من ضلالة قومه عن المحجة واجتنابه الشرك ، كبراءة النبيّ من الضلالة واجتنابه الشرك ؛ لأنّ الشرك ظلم ولا يكون الظالم إماماً!

قال آخر : فلم لم يقاتل علي أبا بكر وعمر كما قاتل معاوية؟

فقال : وقد ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قتال المشركين يوم صدّوا لهديه عن البيت يوم الحديبية ، فلمّا وجد الأعوان وقوي حارب ، كما قال الله تعالى له في أول أمره : (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (١)) ثمّ قال عزوجل : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ (٢)) وإنما يجب أن يُنظر في أمر علي أمِن قبل الله؟ أم من قبل غيره؟ فإن صحّ أنه من قبل الله فقد قال تعالى : (فَلَا وَرَبِّكَ لَايُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَايَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٣)) فأفعال الفاعل تبع لأصله ، فإن كان قيامه عن الله تعالى فأفعاله عنه ، وعلى الناس الرضا والتسليم.

قال آخر : إذا زعمت أنّ إمامة علي من قبل الله تعالى وأنّه مفترض الطاعة ، فلم لم يجز للأنبياء عليهم‌السلام إلّاالتبليغ والدعاء ، وجاز لعلي أن يترك دعوة الناس إلى طاعته؟!

فقال : من قِبل أنا نزعم أنه وضع علَماً بين الله تعالى وبين خلقه. فمن تبعه كان مطيعاً ومن خالفه كان عاصياً ، فإن وجد أعواناً يتقوّى بهم فعليه أن يجاهد ،

__________________

(١) الحجر : ٨٥.

(٢) التوبة : ٥.

(٣) النساء : ٦٥.


وإن لم يجد أعواناً فاللوم عليهم ولا لوم عليه ؛ لأنهم أُمروا بطاعته على كل حال ، وهو لم يؤمر بمجاهدتهم إلّابقوة.

ثمّ هو بمنزلة البيت ، على الناس الحج إليه إذا حجّوا أدّوا ما عليهم ، وإذا لم يفعلوا كانت اللائمة عليهم.

وقال آخر : إذا وجب بالضرورة أن لابد من إمام مفترض الطاعة ؛ فكيف يثبت بالضرورة أنه عليّ لا سواه؟

فقال : من قِبل أنّ الله لا يفرض ممتنعاً والمجهول ممتنع ، فالله لا يفرض مجهولاً ، فلابد من دلالة الرسول على الفرض ، ليقطع العذر بين الله عزوجل وبين عباده. أرأيت لو فرض الله تعالى على الناس صوم شهر ثمّ لم يعلم الناس أي شهر هو؟ ولم يوسَم بوسم وكان على الناس استخراج ذلك بعقولهم حتى يصيبوا ما أراد الله تعالى ، فيكون الناس حينئذٍ مستغنين عن الرسول المبيِّن لهم ، وعن الإمام الناقل لهم خبر الرسول.

وقال آخر : إنّ الناس يزعمون أنّ علياً حين دعاه النبيّ كان صبياً ، ولم يكن بلغ مبلغ الرجال ولا جاز عليه الحكم ، فمن أين تُثبت أنّ علياً كان بالغاً حين دعاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

فقال : من قِبل أنه لا يخلو في ذلك الوقت من : أن يكون ممن أُرسل إليه النبيّ ليدعوه ، فهو محتمل التكليف قوي على أداء الفرائض ، وإن كان ممن لم يرسل عليه فقد لزمه قول الله عزوجل : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ* لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (١)) ومع ذلك كان قد كلّف النبيّ عباد الله عن الله ما لا يطيقون ، وهذا من المُحال الذي يمتنع كونه ولا يأمر به حكيم ولا يدل

__________________

(١) الحاقة : ٤٤ ـ ٤٦.


عليه الرسول ، تعالى الله عن أن يأمر بالمُحال ، وجلّ الرسول من أن يأمر بخلاف ما يمكن كونه في حكمة الحكيم. فعند ذلك سكت القوم جميعاً.

فقال لهم المأمون : قد سألتموني ونقضتم علي ، أفأسألكم؟ قالوا : نعم.

قال : أليس قد روت الأئمة «بإجماع» منها : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من كذب علي متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار»؟ قالوا : بلى.

قال : ورووا عنه أنّه قال : «من عصى الله بمعصية صغرت أو كبرت ثم اتّخذها ديناً ومضى مصرّاً عليها ، فهو مخلّد بين أطباق الجحيم»؟ قالوا : بلى.

قال : فخبرّوني عن رجل تختاره الأُمة فتنصبه خليفة ، هل يجوز أن يقال له خليفة رسول الله ومن قبل الله ، ولم يستخلفه الرسول؟! فإن قلتم : نعم ، فقد كابرتم ، وإن قلتم : لا ، ثبت أن أبا بكر لم يكن خليفة رسول الله ولا كان من قبل الله ، وأنكم تكذبون على نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأنتم متعرضون لأن تكونوا ممن وسمه النبيّ بدخول النار!

وخبّروني : في أي قوليكم صدقتم : أفي قولكم مضى صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يستخلف ، أو في قولكم لأبي بكر : خليفة رسول الله؟ فإن قلتم صدقتم في القولين فهذا لا يمكن إذ هو متناقض ، وإن صدقتم في أحدهما بطل الآخر.

فاتقوا الله! وانظروا لأنفسكم ، ودعوا التقليد وتجنّبوا الشبهات ، فوالله ، ما يقبل الله تعالى إلّامن عبد لا يأتي إلّابما يُعقل ، ولا يدخل إلّافيما يعلم أنه حق ، والريب شك ، وإدمان الشك كفر بالله وصاحبه في النار!

وخبّروني : هل يجوز أن يبتاع أحدكم عبداً فإذا ابتاعه صار مولاه وصار المشتري عبده؟ قالوا : لا. قال : فكيف جاز أن يكون من اجتمعتم عليه أنتم لهولكم واستخلفتموه صار خليفة عليكم وأنتم ولّيتموه؟! ألا كنتم أنتم الخلفاء


عليه! بل تولّون خليفة وتقولون : إنه خليفة رسول الله ، ثمّ إذا سخطتم عليه قتلتموه ، كما فُعل بعثمان بن عفّان!

فقال قائل منهم : ذلك لأنّ الإمام وكيل المسلمين فإذا رضوا عنه ولّوه وإذا سخطوا عليه عزلوه.

قال : فالمسلمون والعباد والبلاد لمن؟ قالوا : لله تعالى. قال : فوالله لهو أولى أن يوكّل على عباده وبلاده من غيره ؛ لأن «إجماع» الأُمة على أنه : من أحدث حدثاً في ملك غيره فهو ضامن ، وليس له أن يُحدث ، فإن فعل فهو آثم غارم.

ثمّ قال : خبّروني عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هل استخلف حين مضى أم لا؟ فقالوا : لم يستخلف! قال : فترْكه ذلك هدى أم ضلال؟ قالوا : هدى! قال : فعلى الناس أن يتّبعوا الهدى ويتركوا الباطل ويتنكّبوا الضلال؟ قالوا : وقد فعلوا ذلك! قال : فلم استخلف الناس بعده وقد تركه هو؟ و «محال» أن يكون خلاف الهدى هدى! وإذا كان ترك الاستخلاف هدى فلم استخلف أبو بكر ولم يفعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! ولم جعل عمر الأمر بعده شورى بين المسلمين خلافاً لصاحبه؟! وقد زعمتم أنّ النبيّ لم يستخلف وأن أبا بكر استخلف وعمر لم يترك الاستخلاف كما تركه النبيّ بزعمكم ولم يستخلف كما فعل أبو بكر وجاء بمعنى ثالث : فخبّروني : أي ذلك ترونه صواباً؟! فإن رأيتم فعل النبيّ صواباً فقد خطّأتم أبا بكر ، وكذلك القول في بقية الأقاويل. فخبّروني : أيهما أفضل : ما فعل النبيّ بزعمكم من ترك الاستخلاف؟ أو ما صنعت طائفة من الاستخلاف؟! وخبّروني : هل يجوز أن يكون تركه من الرسول هدى وفعله من غيره هدى! فيكون هدى ضد هدى! فأين الضلال حينئذٍ؟!

وخبّروني : هل ولي أحد بعد النبيّ باختيار الصحابة؟ فإن قلتم : لا ؛ فقد أثبتم أنّ الناس كلهم عملوا ضلالة بعد النبي ، وإن قلتم : نعم ؛ فقد كذّبتم الأُمة وأبطل قولَكم ما لا يُدفع.


وخبروني : عن قول الله عزوجل : (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ للهِ (١)) أصدق هذا أم كذب؟ قالوا : صدق ، قال : أفليس ما سوى الله لله إذ كان مُحِدثَه ومالِكَه؟ قالوا : بلى. قال : وفي هذا بطلان ما أثبت من اختياركم خليفة وتسمونه خليفة رسول الله وأنتم استخلفتموه وتفترضون طاعته ، وهو معزول منكم إذا غضبتم عليه وعمل بخلافكم ، وإذا أبى الاعتزال فهو مقتول.

ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فتلقوا غداً وبال ذلك إذا قمتم بين يدي الله تعالى ووردتم على رسول الله وقد كذبتم عليه متعمدين وقد قال : «من كذب علي متعمداً فليتبوّأ معقده من النار».

ثمّ استقبل المأمون القبلة ورفع يديه وقال : اللهم إني قد أرشدتهم! اللهم إني قد أخرجت إليهم ما وجب عليَّ إخراجه من عنقي! اللهم إني لم أدَعهم في ريب ولا شك. اللهم إني أدين بالتقرب إليك بتقديم عليّ على الخلق بعد نبيّك محمد كما أمرَنا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قال (الراوي : يحيى بن أكثم؟ أو بل إسحاق بن حماد بن زيد الأزدي؟) : ثمّ افترقنا ، فلم نجتمع بعد ذلك حتى قبض المأمون (٢).

__________________

(١) الأنعام : ١٢.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٨٤ ـ ١٩٩ / ١٥ صفحة! ثمّ قال الصدوق : قال (الراوي) : محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري : وفي حديث آخر (أي في رواية أُخرى عن إسحاق بن حماد الأزدي) قال : فسكت القوم. فقال لهم : لم سكتّم؟ قالوا : لا ندري ما نقول؟ قال : هذه حجة تكفيني عليكم! ثمّ أمر بإخراجهم. قال : فخرجنا متحيّرين خجلين! قال : ثمّ نظر المأمون إلى الفضل بن سهل فقال : هذا أقصى ما عند القوم! فلا يظنّ ظان أنّ جلالتي منعتهم من النقض عليَّ ، والله الموفّق للخيرات.


اسم علي في جامع البصرة :

لعلّ من العلل التي بدت بعد إعلان المأمون لتفضيل علي عليه‌السلام : ما نقله السبط عن الصولي قال : كان بالبصرة رجل يُدعى أبا عمرة حفص الخطّابي (نسبةً إلى عمر بن الخطاب) وكان يجلس إلى سارية من سواري جامع البصرة.

__________________

هذا وقد قدّم الصدوق لهذا الخبر الطويل خبراً آخر قصيراً عن الراوي نفسه إسحاق بن حماد بن زيد الأزدي البغدادي (القاضي) قال : كان المأمون يعقد مجالس للنظر ويجمع المخالفين لأهل البيت عليهم‌السلام فيكلمهم في إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وتفضيله على جميع الصحابة ، تقرّباً إلى أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام وكان الرضا عليه‌السلام يقول لمن يثق به من أصحابه : لا تغترّوا منه بقوله ، فما يقتلني ـ والله ـ غيره! ولكنه لابد لي من الصبر حتى يبلغ الكتاب أجله! ٢ : ١٨٤ ـ ١٨٥ ثمّ ذكر هذا الخبر الطويل مصداقاً لما مرّ من عقده المجالس وكلامه في الإمامة والتفضيل! في حين أنّ هذا القول بالتفضيل منذ ذلك الحين (عام ٢٠٢ ه‍) مع عشرين من المتكلمين وعشرين من المتحدثين لو كان لكانوا يتحدثون به فلا يبقى القول الوحيد والحديث المتسالم عليه في التاريخ والمؤرخين : أن إظهار المأمون القول بالتفضيل كان عام (٢١٢ ه‍) قولاً واحداً! وأيضاً قوله : «فلم نجتمع بعد ذلك حتى قبض المأمون» يدل على أنّ ذلك كان على أواخر عهد المأمون لا في دولة الفضل بن سهل كما ادّعي ذلك!

بل نقل الخبر قبل الصدوق (م ٣٨١ ه‍) أحمد بن محمد بن عبد ربّه الأندلسي القرطبي المرواني المالكي (م ٣٢٨ ه‍) في كتابه العقد الفريد ٥ : ٩٠ ـ ٩٨ عن إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل بن حماد بن زيد قال : بعث يحيى بن أكثم إليّ وإلى عدّة من أصحابي وقال لنا : إن المأمون أمرني أن أحضر معي غداً أربعين رجلاً كلهم يفقه ما يقال له ويحسن الجواب ، فسمّوا من تظنونه يصلح لما يطلب قال : فسمّينا له عدّة حتى تم العدد الذي أراد ، قال : فدخلنا فإذا المأمون جالس وعليه سواده. ومن هنا يُعلم أنه كان ببغداد بعد خلع الخضرة والعودة إلى السواد.


فكُتب عليها شعراً :

رحم الله علياً

إنه كان تقياً

فلما رآها أبو عمرة وهو أعور أمر أن يمحى! ورُفع ذلك إلى المأمون فأشخصه إليه ، فلما دخل عليه قال له : لِمَ محوت اسم أمير المؤمنين من السارية؟! وقد كان عليها :

رحم الله علياً

إنه كان تقياً

قال : بلغني أنه كان : إنه كان نبيّاً! فقال له المأمون : بل كانت القاف أصحّ من عينك الصحيحة! ولولا أن أزيدك عند العامة نفاقاً لأدّبتك! ثمّ أمر بإخراجه (١).

خروج اليمن عن حكم المأمون :

كان إبراهيم بن أبي جعفر الحميري المُناخي أناخ بالحميريين معه بجبل منيع وامتنع عن حكم المأمون.

وكان على اليمن محمد بن نافع ، فثار عليه رجل من نسل عمر بن الخطاب يُدعى أحمد بن محمد العُمري ، وثب بمن معه على ابن نافع وأخرجه من اليمن واحتوى على بيت المال. فولّى المأمون اليمن محمد بن عبد الحميد ، فلمّا قدم بعسكره إلى اليمن استأمن إليه أحمد العمري فآمنه ثمّ أوثقه وولده وجمعاً من أهل بيته في الحديد وحملهم إلى المأمون. ولكنه بعده زحف إلى إبراهيم الحميري المُناخي في جباله فحاربه المناخي وأناخ عليه بالقتل والأسر وقطع أيدي وأرجل أسراه وخلّى سبيلهم ، وغلب على اليمن وخرّب حصن السلطان سنة (٢١٢ ه‍) (٢).

__________________

(١) تذكرة الخواص ٢ : ٤٨٧ عن كتاب الأوراق للصولي الشطرنجي (م ٣٣٥ ه‍).

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٦١.


ولاية المعتصم على مصر والمغرب :

في سنة (٢١٤ ه‍) وثب بالجزيرة خارجي يدعى بلال الضبّابي الشاري ، فعقد المأمون لأخيه المعصتم على مصر والمغرب ، وولّى ابنه العباس بن المأمون على الجزيرة ، فقدم العباس مع عمه المعتصم إلى الجزيرة فاجتمعا بقوّادهما على بلال الشاري فظفروا به وقتلوه.

ثمّ وثبت القيسية واليمانية بناحية الحذف في مصر ، فوجه المعتصم إليهم عمير بن الوليد عاملاً على مصر فقُتل ، فأمر المأمون المعتصم بالسير إليهم ، وكان قد استقر في الرَّقة ، فسار إلى مصر وقاتلهم فظفر بهم وأسر رؤساءهم فقتلهم وصلبهم وأسر منهم جمعاً عظيماً وحملهم إلى بغداد.

فوشى يحيى بن أكثم إلى المأمون على أخيه المعتصم قال له : بلغني أنه يحاول الخلع! فوجّه إليه يأمره بالقدوم إلى بغداد فيقيم بها حتى يعود إليه المأمون. فاشترى المعتصم مئتي بغل واستخلف على الفسطاط عبدويه بن جبلة وسار إلى بغداد (١) والمأمون قد خرج لغزو الروم.

مولد الإمام الهادي عليه‌السلام :

نُقل عن سهل بن زياد الادمي قال : مولد علي بن محمد الهادي في شهر رجب سنة (٢١٤ ه‍) (٢) والجواد عليه‌السلام يومئذ تسع عشرة سنة ، فما روى عن محمد بن الفرج الرخجي أن الجواد عليه‌السلام دعاه ودفع إليه صرة فيها ستون ديناراً ،

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٦٤ ـ ٤٦٥.

(٢) تاريخ أهل البيت عليهم‌السلام : ٨٦ وعن تاريخ ابن الخشّاب : ١٩٧ ورواه الكليني في الكافي ١ : ٤٩٧.


ووصف له وصيفة بصورتها ولباسها وحليتها (١) فتزوّجها أو تسرّى بها فولدت له ابنه الذي سمّاه باسم أبيه علياً ، كان ذلك في أواخر الثامنة عشرة من عمر الجواد عليه‌السلام أي في (٢١٣ ه‍) وكان ذلك قبل ما يأتي من اتيانه المأمون في تكريت في طريقه لغزو الروم وأمره بحمل ابنته أُم الفضل وزفافها إليه في شهر صفر عام (٢١٥ ه‍) كما يأتي عن الطبري آنفاً. فكأنه عليه‌السلام بعد زواجه بأُم الهادي سمانة ومولد الإمام منها : اذن له في سواها.

خروج المأمون للروم وزفاف الجواد عليه‌السلام :

في (٢٤ محرم) سنة (٢١٥ ه‍) يوم الخميس ، بعد ما صلّى المأمون الظهر استخلف على بغداد وكور دجلة وسوادها إلى حُلوان : إسحاق بن إبراهيم الخزاعي ابن عمّ طاهر بن الحسين ، ورحل لغزو الروم.

فلمّا وصل إلى تكريت لحقه صهره الإمام الجواد عليه‌السلام من المدينة ، وكانت ليلة جمعة من شهر صفر ، ولقيه بها ، وكان مع المأمون أهله وأولاده وبناته وفيهن أُم الفضل التي كان قد عقدها له من قبل ، فأمر أن يُعدّ له دار ، فاعدّت له دار أحمد بن يوسف على شاطئ دجلة ، فأمر أن تحمل ابنته أُم الفضل إليه في تلك الدار ، فحملت إليه وأُدخلت عليه ، فأقام بها إلى أن خرج بأهله وعياله لأيام الحجّ إلى مكة (٢) وعمر الجواد عليه‌السلام يومئذ في العشرين عاماً.

ليلة الزفاف ، وصبيحتها :

كان مع المأمون أخوه المعتصم وخال المعتصم : الريّان بن شبيب الكوفي

__________________

(١) اثبات الوصية : ١٩٣.

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ٦٢٣.


أخو ماردة بنت شبيب ، فأسند الكليني عن ابنه محمد بن الريّان (عن أبيه) قال : إنّ المأمون احتال بكل حيلة ليحمل معه الجواد عليه‌السلام على ما هو فيه من امور الدنيا وشؤونها فلم يمكّنه من ذلك.

وكان من مشاهير المغنّين له ومعاريفهم رجل يقال له «مُخارق» صاحب صوت وضرب وعود ومع ذلك قد أطال لحيته! فدعاه المأمون ليجتذب إليه التفاتة من الجواد عليه‌السلام! فقال له مخارق : يا أمير المؤمنين! إن كان أبو جعفر في شيء من أمر الدنيا فأنا أكفيك أمره!

ورُفع إلى المأمون مئتا وصيفة من أجمل الوصائف ، هذا وهو في حال السفر للجهاد! فدُفع إلى كل واحد منهن جام فيه جوهر ، فإذا جاء أبو جعفر عليه‌السلام وقعد مع قوّاد المأمون وأجناده فالوصائف يستقبلنه بما في أيديهن من جامعات الجواهر!

وقعد مُخارق بين يدي أبي جعفر عليه‌السلام ، واجتمع حوله أهل الدار ، فجعل يضرب بعوده ويغنّي ساعة! وأبو جعفر عليه‌السلام لا يلتفت لا يمينياً ولا شمالاً! ثمّ رفع رأسه إليه فصاح عليه : اتق الله يا ذا العُثنون (اللحية الطويلة).

فشهق مُخارق شهقة اجتمع عليه أهل الدار ، وسقط من يديه العود والمضراب! وحُمل إلى المأمون فسأله عن حاله فقال : لما صاح بي أبو جعفر فزعت فزعة لا افيق منها أبداً (١).

وفي صبيحة عُرس الإمام عليه‌السلام بزينب أُم الفضل ابنة المأمون. أسند الكليني عن علي بن محمد أو محمد بن علي الهاشمي (العباسي؟) قال : كنت أنا أول من دخل على أبي جعفر في صبيحة عُرسه ، وكنت في الليل قد تناولت دواءً معطّشاً ، فأصابني العطش وكرهت أن أدعو بالماء عنده! فنظر أبو جعفر في وجهي

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٤٩٤ ـ ٤٩٥ ، الحديث ٤ وقال : لم يَسلَم حتى مات!


وقال لي : أظنّك عطشاناً! فقلت : أجل! فنادى بالغلام : اسقنا ماءً! فقلت في نفسي : الآن يأتونه بماء يَسُمّونه به! واغتممت لذلك (ولعلّه من صنيعهم معه البارحة ظنّ هكذا!) فأقبل الغلام ومعه الماء فتبسّم في وجهي وقال له : ناولني الماء. فتناول الماء فشرب ثمّ ناولني فشربت.

ثمّ عطشت ثانية وكرهت أن أدعو بالماء ، ففعل مثل ما فعل في الأُولى ، فلمّا جاء الغلام ومعه القدح قلت في نفسي مثل ما قلت في الأول ، فتناول القدح فشرب فناولني وتبسّم! فأنا أظنّه كما يقولون! هذا ما أسنده الكليني (١) وعنه المفيد وفيه : قال محمد بن علي الهاشمي (العباسي؟) : والله إنني أظن أنّ أبا جعفر ـ كما تقول الرافضة ـ يعلم ما في النفوس (٢)! مفسّراً لآخر الخبر.

المأمون وقاضيه ، والجواد عليه‌السلام :

مرّ الخبر في حوادث عام (٢١٢ ه‍) أي قبل ثلاثة أعوام : أنّ المأمون أعلن القول بتفضيل علي عليه‌السلام على الناس بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنه طلب من قاضيه يحيى بن أكثم التميمي البصري المروزي أن يجمع له عشرين من محدثي بغداد وعشرين من متكلميها ليحاجّهم فيتمّ عليهم حجته في ذلك ، فحاجّه محدثوهم بما أُثر لهم من المرويات الأموية في فضائل الشيخين ، وأنّ المأمون كيف فنّدها ونقدها وردّها ، وكأنّه لا دور لقاضيه ابن أكثم في ذلك إلّادعوتهم ثم رواية خبرهم.

واليوم وبعد ثلاثة أعوام في سنة (٢١٥ ه‍) في تكريت ، تكرّر مصغّر ذلك بين ابن أكثم والجواد عليه‌السلام بمحضر المأمون : أرسل خبره الطبرسي قال : روى أنّ

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٤١٥ ـ ٤١٦ ، الحديث ٦ ، باب مولد الجواد عليه‌السلام.

(٢) الإرشاد ٢ : ٢٩٢.


المأمون بعد ما زوّج ابنته امّ الفضل أبا جعفر ، كان في مجلس وعنده أبو جعفر عليه‌السلام ويحيى بن أكثم وجماعة كثيرون ، إذ التفت ابن أكثم إلى الجواد عليه‌السلام وقال له :

يابن رسول الله! ما تقول في الخبر الذي روي : أنّ جبرئيل نزل على رسول الله وقال له : يا محمد ، إنّ الله عزوجل يقرئك السلام ويقول لك : إني راض عن أبي بكر فسله هل هو راضي عني!

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : لست بمنكر فضل أبي بكر ، ولكن يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ بمثال الخبر الذي قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجة الوداع : «قد كثرت عليَّ الكذّابة وستكثر بعدي ، فمن كذب علي متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار! فإذا أتاكم حديث عني فاعرضوه على كتاب الله وسنتي ، فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به ، وما خالف كتاب الله وسنّتي فلا تأخذوا به».

قال : وهذا الخبر لا يوافق كتاب الله ؛ فقد قال الله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١)) فالله عزوجل (هل) خفى عليه رضا أبي بكر من سخطه حتى سأل عن مكنون سرّه؟! هذا مستحيل في العقول!

فقال يحيى : وقد روي عنه قال : إنّ مثَل أبي بكر وعمر في الأرض كمثَل جبرئيل وميكائيل في السماء!

فقال : وهذا أيضاً يجب أن يُنظر فيه : لأنّ جبرئيل وميكائيل ملكان لله مقربان لم يعصيا الله قط ولم يفارقا طاعته لحظة واحدة ، وهما (أبو بكر وعمر) قد أشركا بالله عزوجل وإن أسلما بعد الشرك ، فكان أكثر أيامهما الشرك بالله ، فمحال أن يشبّههما (النبيّ) بهما!

__________________

(١) سورة ق : ١٦.


قال يحيى : وقد روي عنه أيضاً : أنهما سيدا كهول أهل الجنة! فما تقول فيه؟

فقال عليه‌السلام : وهذا الخبر مُحال أيضاً ، لأنّ أهل الجنة كلهم شباب بلا كهول ، وقد وضع بنوا أُمية هذا الخبر مضادة للخبر الذي قاله رسول الله في الحسن والحسين عليهما‌السلام : بأنهما سيدا شباب أهل الجنة.

فقال يحيى : وروي عنه قال : إنّ عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة!

فقال عليه‌السلام : وهذا أيضاً مُحال ؛ لأنّ في الجنة ملائكة الله المقرّبين وجميع الأنبياء والمرسلين (من) آدم (إلى) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا تضيء الجنة بأنوارهم حتى تضيء بنور عمر؟!

فقال يحيى : وقد روي عنه قال : إنّ السكينة تنطق على لسان عمر!

فقال : لست بمنكر فضل عمر ولكن أبا بكر أفضل من عمر! وقد قال على المنبر : إنّ لي شيطاناً يعتريني فإذا مِلت فسدّدوني!

فقال يحيى : وقد روي عنه قال : لو لم ابعث لبُعث عمر!

فقال عليه‌السلام : كتاب الله أصدق من هذا الحديث ، والله يقول في كتابه : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ (١)) فقد أخذ الله ميثاق النبيين ، فكيف يمكن أن يبدّل ميثاقه؟ وكل الأنبياء عليهم‌السلام لم يشركوا بالله طرفة عين ، فكيف يبعث بالنبوة من أشرك وكان أكثر أيامه مع الشرك بالله؟!

فقال يحيى : وقد روي عنه أيضاً قال : ما احتبس الوحي عنّي قط إلّاظننته نزل على آل الخطاب!

فقال عليه‌السلام : وهذا مُحال أيضاً ؛ لأنه لا يجوز أن يشك النبيّ في نبوته ؛ قال الله

__________________

(١) الأحزاب : ٧.


تعالى : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ (١)) فكيف يجوز أن تنتقل النبوة ممن اصطفاه الله تعالى إلى من أشرك به؟!

قال يحيى : وروي أنه قال : لو نزل العذاب لما نجى منه إلّاعمر!

فقال عليه‌السلام : وهذا مُحال أيضاً ؛ لأنّ الله تعالى يقول : (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٢)) فأخبر أنه لا يعذِّب أحداً مادام فيهم رسول الله وماداموا يستغفرون (٣).

انفرد به الشيخ أحمد بن أبي طالب الطبرسي (م ٦٢٠ ه‍ تقريباً) ولم يذكر سنده بعد ما قال في مقدمته لكتابه : «ولا نأتي في أكثر ما نورده من الأخبار باسناده ؛ إما لوجود الإجماع عليه ، أو لاشتهاره في السير والكتب بين المؤالف والمخالف ، أو لموافقته لما دلت العقول عليه» وهذا الأخير يصدق هنا ، فإنّ أكثر ما ذكر ابن أكثم من المرويات الأُموية في فضل الشيخين في هذا الخبر ، مردود بما دلّ العقل على بطلان النقل وفساده في الدين كتاباً وسنة.

غزوات المأمون للرومان :

قال الطبري : ثمّ سلك المأمون طريق الموصل حتى صار إلى مَنبج ثمّ دابق ثمّ أنطاكية ثمّ المصّيصة ثمّ دخل من طرسوس إلى بلاد الروم للنصف من جُمادى الأُولى ، فافتتح حصناً يقال له ماجدة! فمنّ عليهم وخلّاهم ، ثمّ حاصر حصناً يقال له قُرّة حتى فتحه عنوة في (٢٥) جمادى الأُولى. ووجّه بقائدَين من قوّاده :

__________________

(١) الحج : ٧٥.

(٢) الأنفال : ٣٣.

(٣) الاحتجاج ٢ : ٢٤٥ ـ ٢٤٩. وعليه تعاليق المحقّق السيّد الخرسان عن الأميني في الغدير مناقشة لهذه المرويّات.


جعفر الخياط وعُجيف بن عنبسة إلى حصن سنان! فسمعوا وأطاعوا ، ووجّه بقائده أُشناس (الفارسي) إلى حصن سندس فأتاه برئيسه (ففرض عليه ما أراه) ثمّ انصرف من أرض الروم إلى دمشق ، وانصرف إليه أخوه المعتصم من مصر (١).

وقال اليعقوبي : كان على أنقرة البطريرك منوئيل فلمّا توجه إليه المأمون هرب منها ، فصالحه المستولون على نصفها ، وافتتح نصفها الآخر عنوة فأخربها. ثمّ انصرف إلى دمشق.

وكان أهل برقة قد خالفوا وعليهم مسلم بن نصر الأعور ، فنفذ المأمون إليها وافتتحها وأسر مسلم الأعور. وأتاه الخبر : أنّ أهل البشرود من مصر قد ثاروا ، فأمر أخاه المعتصم أن يوجّه إليهم حيدر بن كاووس الأفشين (الفارسي) فوجّه به إليهم فكفّهم. ثمّ بلغه أنهم عاودوا العصيان فانصرف المأمون بنفسه إليهم وحاربهم سنة (٢١٦ ه‍).

ثمّ انصرف منهم إلى أرض الروم ثانية ، ففتح اثني عشر حصناً من حصونهم ، وكان ملك الروم يومئذ توفيل بن ميخائيل فبلغ المأمون أنه قد زحف إليه ، فوجّه المأمون إليه بابنه العباس ، وبعث توفيل بأُسقف من أساقفته معه كتاب إليه بدأ فيه باسمه ، فلما رآه المأمون وقد بدأ فيه باسمه ردّه وقال : لا أقرأ له كتاباً يبدأ فيه باسمه! فعاد الأُسقف. وكان عند الروم من الأسرى المسلمين سبعة آلاف أسير! فكتب توفيل إلى المأمون : لعبد الله غاية الناس في الشرف! ملك العرب! من توفيل بن ميخائيل ملك الروم .. وسأله أن يقبل منه الأسرى ومئة ألف دينار ، فيدع لهم ما افتتحه من مدائن الروم وحصونهم ويكفّ عنهم الحرب خمس سنين (إلى سنة ٢٢٠ ه‍) فلم يجبه المأمون إلى ذلك! وانصرف إلى كيسوم من أرض الجزيرة (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٦٢٣ ـ ٦٢٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٦٥.


المأمون إلى مصر ثانية :

وبلغ المأمون أنّ الذين يحاربون الأفشين بمصر من أهل الحوف والبشرود والبيما وهم قبط البشرود ، وهي من كور أسفل مصر ، قد اشتدت شوكتهم ، فزحف إليهم بنفسه لأول عام (٢١٧ ه‍) فقتلهم وسباهم.

وكان في مصر من تلامذة مالك الحارث بن مسكين فاستفتاه المأمون لسبي هؤلاء ، فقال : إن كانوا قد خرجوا لظلم نالهم فلا تحِل دماؤهم وأموالهم. فقال له المأمون : أنت تَيس (معْز) ومالك كان أتيس منك! هؤلاء كفار لهم ذمة ، إذا ظُلموا عليهم أن يتظلّموا للإمام ، وليس لهم أن يستنصروا بالكفار! ولا يسفكوا دماء المسلمين في ديارهم! ثمّ أخرج المأمون رؤساءهم فحملهم إلى بغداد.

هذا ومع المأمون في معسكره يحيى بن أكثم وأحمد بن أبي دؤاد ، وعلم المعتصم أنّ الساعي عليه والواشي به عند المأمون هو يحيى بن أكثم ، فحمل القائد محمد بن أبي العباس الطوسي أن يحمل أحمد بن أبي دؤاد على الوشاية على يحيى بن أكثم تقرباً إلى المعتصم! ففعلا ذلك ، وسخط المأمون على يحيى ، فأمر بنزع السواد عنه ونفيه من عسكره وإخراجه إلى منزله ببغداد لا يخرج منه! فأرسل كذلك (١) وبطلت سعايته ووشايته على المعتصم فخرج من بغداد إلى أخيه المأمون.

المأمون إلى الروم ثالثة :

وخرج المأمون من مصر في (٣) صفر سنة (٢١٧ ه‍) منصرفاً منه إلى دمشق ، فأقام أياماً ثمّ شخص إلى الثغر ، فعسكر في أدنة .. ثمّ صار إلى حصن من

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٦٦.


حصونهم يقال له لؤلؤة فأقام عليه حيناً ، حتى بنى حواليه حصنين أنزل فيهما الرجال ، ثمّ قفل متوجهاً إلى قرية يقال لها سلَغَوس. وكان من أجلّ قوّاد المأمون عجيف بن عنبسة فخلّفه عليهم مع زاد سنتهم ، ومكر أصحاب حصن لؤلؤة بعجيف حتى أسروه ، وكاتبوا ملكهم توفيل بن ميخائيل فسار نحوهم ، فخرج إليه أصحاب الحصنين فهزموا ملكهم بغير قتال وظفروا بعسكره وحووا كل ما كان فيه. وبقي أهل لؤلؤة في حصارهم ، فلمّا أضرّ بهم الحصار قال رئيسهم لعجيف : أُخلّي سبيلك على أن تطلب لنا الأمان من المأمون ، فضمن لهم ذلك ، فطلب رهينة فجاء إليه بفرّاشَين نصرانيَّين على أنهما ابناه! فدفعهما عجيف إليهم وخرج ثمّ كتب إليهم أنهما نصارى منهم ؛ فكتب رئيسهم إليه : إنّ الوفاء حسن وهو في دينكم أحسن! فأخذ عجيف لهم الأمان من المأمون وأخرجهم منها وأسكنها المسلمين سنة (٢١٧ ه‍) (١).

حدّ القذف والتشهير لشتم الصحابة :

ومرّ أن القاضيَين يحيى بن أكثم وأحمد بن أبي دؤاد كانا في عسكر المأمون ، فكان القاضي في بغداد بشر بن الوليد الكندي. وبلغ المأمون أنّه قُدّم إليه رجل رفع عليه أنه شتم أبا بكر وعمر! فضربه حدّ القذف (ثمانين جلدة!) ثمّ أطافه على جمل يُشهر به! وذلك في شهر رمضان! (عام ٢١٧ ه‍) (٢).

ولمّا عاد المأمون إلى بغداد أحضره وأحضر الفقهاء فقال له : يا بشر!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٦٧.

(٢) ذكرها اليعقوبي ضمن حوادث (٢١٨) ولكن وفاة المأمون في جمادى (٢١٨) فهذه كانت لرمضان سابق.


إني قد نظرت في قضيّتك (على الرجل القارف) فوجدتك قد أخطأت فيه خمس عشرة خطيئة! يا بشر! بمَ أقمت «الحدّ» على هذا الرجل؟ قال : بشتم أبي بكر وعمر! قال : حضرك خصومه؟ قال : لا. قال : فوكّلوك؟ قال : لا. قال : فللحاكم أن يقيم حدّ القِرفة بغير حضور خصم؟! قال : لا. قال : فأُمهما كافرتان أو مسلمتان؟ قال : بل كافرتان. قال : فيقام في الكافرة حدّ المسلمة؟! قال : لا. قال : فهبك فعلت هذا بما يجب لأبي بكر وعمر من الحق ، أفشهد عندك شاهدا عدل؟ قال : قد زُكّي أحدهما! قال : فيقام الحدّ بغير شاهدين عدلين؟! قال : لا. قال : ثمّ أقمت الحدّ في رمضان ، فالحدود تُقام في شهر رمضان؟! قال : لا. قال : ثمّ جلدته وهو قائم ، فالمحدود يقام؟! قال : لا. قال : ثمّ شبحته بين العُقابين (خشبتي الفلقة) فالمحدود يشبّح؟! قال : لا. قال : ثمّ جلدته عرياناً! فالمحدود يُعرّى؟! قال : لا. قال : ثم حملته على جمل فأطفت به ، فالمحدود يطاف به؟! قال : لا. قال : ثمّ حبسته بعد الحدّ ، فالمحدود يُحبس بعد الحدّ؟! قال : لا. فقال المأمون : لا يراني الله أبوء باثمك وأُشاركك في جرمك! ثمّ قال لمن حضره : أحضروا المحدود ليأخذ حقه من بشر!

فقال له من حضر من الفقهاء : الحمد لله الذي جعلك عاملاً بحقوقه عارفاً بأحكامه ، تقول الحق وتأمر بالعدل وتعمل به وتؤدّب من رغب عنه ؛ يا أمير المؤمنين ؛ وإن هذا حاكم قد جدّ في رأيه وأخطأ ، فلا تفضح به الحكام وتهتك به القضاة!

فأمر المأمون بعزله وأن يُحبس في داره حتى يموت (١) كما حكم على ابن أكثم.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٦٨ ـ ٤٦٩.


وفاة ابن أبي عمير مولى الأزد :

أبو أحمد محمد بن أبي عمير زياد بن عيسى من موالي المهلّب بن أبي صفرة الأزدي البصري ، وهو بغدادي الأصل والمقام ، مات بها سنة (٢١٧ ه‍) (١).

كان قد التقى بمشايخ من العامة قال : وقد سمعت منهم ، ثمّ أقبلت على علم الخاصة ، ورأيت كثيراً من أصحابنا قد سمعوا منهما فكانوا يروون حديث العامة عن الخاصة وحديث الخاصة عن العامة ، مختلطاً عليهم سهواً ، فكرهت أن يختلط عليَّ فتركت ذلك.

وسُعي به إلى السلطان (الرشيد) : أنّه يعرف أسامي عامة الشيعة بالعراق! فأخذه السلطان وأمره أن يسمّيهم فامتنع ، فجُرّد وعُلّق بين العُقابين وضُرب مئة سوط ، قال : فكدت أن اسمّي ، فسمعت صوت محمد بن يونس بن عبدالرحمن (؟!) يقول : يا محمد بن أبي عُمير! اذكر موقفك بين يدي الله عزوجل ، فتقوّيت بقوله فصبرت ولم أُخبر ، والحمد لله. قال الفضل بن شاذان : فأضرّ به هذا أكثر من مئة ألف درهم (٢)!

ونقل ابن عبد الله الشاداني عن الفضل بن شاذان أيضاً قال : حُبس ابن أبي عمير أيام هارون لعنه الله وضُرب مئة وعشرين خشبة وتولّى ضربه السنديّ بن شاهك على التشيع! فأدى واحداً وعشرين ألفاً حتى خُلّي عنه! قال : وكان صاحب خمسمئة ألف درهم.

وقال الفضل : أخذ أبي بيدي يوماً وذهب بي إلى دار فصعدنا فيه إلى غرفة وفيها شيخ وحوله مشايخ يعظّمونه ويبجّلونه! فسألت أبي : مَن هذا؟

__________________

(١) رجال النجاشي : ٣٢٦ ـ ٣٢٧ برقم ٨٨٧.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٥٩٠ ـ ٥٩١ ، الحديث ١١٠٥.


قال : هذا ابن أبي عُمير! قلت : الرجل الصالح العابد؟ قال : نعم (١).

ثمّ أخذه المأمون! بعد موت الرضا عليه‌السلام وحبسه فأصابه من الضرب والضيق والجُهد أمر عظيم! وذهبت كتب ابن أبي عمير فلم تخلص له كتب أحاديثه ، إلّاأنّه كان يحفظ منها أربعين مجلداً! ولذا فإن أحاديثه منقطعة الأسناد! وسمّاها نوادر (٢) فأين تشيّع المأمون؟!

وذكره النجاشي وقال : قيل : إنّ اخته تركت كتبه في غرفة فسال عليها المطر فهلكت ، أو دفنته حال استتاره وكونه في الحبس أربع سنين ، فهلكت الكتب ، فحدّث من حفظه ومما سلف له في أيدي الناس ، ولذا فإن أصحابنا يسكنون إلى مراسيله. وكان قد صنّف (٩٤) كتاباً (٣).

ولم يُذكر له حبس سوى أربع سنين ، وراوي الحبس على عهد المأمون هو نصر بن صباح وهو ضعيف ، فأرى أنّه حُبس على عهد الرشيد والسندي متزامناً مع الأربع سنين لسجن الكاظم عليه‌السلام فقط ، ثمّ بقي يروي مرسلاته الشهيرة في عهد الرضا والجواد عليهما‌السلام ، ولو كان حبْسه الأربع سنين بعد الرضا عليه‌السلام لكانت الفرصة عامين لا تتناسب وشهرة مرسلاته.

ردّ المأمون فدكاً :

لا نجد فيما بأيدينا خبراً عن فدك فيما بين المأمون وصهريه الرضا والجواد عليهما‌السلام مع مصاهرتهما إياه ، ولا عنهما فيه معه ولا حتى مع شيعتهم! ممّا يدلّ

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٥٩٢ ، الحديث ١١٠٦.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٥٩٠ ، الحديث ١١٠٣.

(٣) رجال النجاشي : ٣٢٦ ـ ٣٢٧ برقم ٨٨٧.


على أنّ مطالبتهم بها لم يكن لماليتها بل كان رمزيّاً عن مقام الإمامة. وكأنهم كانوا يقولون كما قال جدّهما : «بلى كانت في أيدينا فدك ، من كل ما أظلّته السماء وأقلّته الأرض ، فشحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين! وما أصنع بفدك وغير فدك ...» (١) «فنعم الحكم الله والزعيم محمد والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون» (٢).

إلّا أنّ توالي ما ظهر من المأمون من ظواهر الخير للرضا والجواد عليهما‌السلام ولجدهما علي عليه‌السلام ولخصمه اللدود معاوية ، جعل من المسلّم به لدى ابني عمّ من أحفاد السجاد عليه‌السلام هما : محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسين عليه‌السلام ، ومحمد بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين عليه‌السلام ، أنهما إذا طالبا المأمون بفدك ردّه عليهما ، وكذلك كان بلا مراجعة للجواد عليه‌السلام.

فهذان ومعهما جمع من بني الحسين والحسن عليهما‌السلام ، رفعوا إلى المأمون يذكرون : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد وهب فدك لفاطمة ، وأنّ أبا بكر بعد وفاة رسول الله استولى عليها فسألْته أن يدفعها إليها. فسألها أن تُحضر شهوداً على ما ادّعت! فأَحضرت علياً والحسن والحسين وأُم أيمن.

فأحضر المأمون الفقهاء وسألهم عن ذلك ، فهم رووا أنّ فاطمة قالت هذا وشهد لها هؤلاء! وأنّ أبا بكر لم يُجز شهادتهم!

قال لهم المأمون : ما تقولون في ام أيمن؟ قالوا : امرأة شهد لها رسول الله بالجنة! فنصّهم المأمون إلى أن قالوا : إنّ علياً والحسن والحسين لم يشهدوا

__________________

(١) كتاب أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في أوائل عهده لواليه على البصرة عثمان بن حُنيف الأنصاري.

(٢) من خطبة فاطمة عليها‌السلام في المسجد النبوي الشريف ، راجع المجلد الرابع من هذا الكتاب.


إلّا بالحق! فلمّا أجمعوا على ذلك ، أمر بردّ فدك على ولد فاطمة وكتب بذلك ، فسُلّمت لهم إليهما (١) لسنة (٢١٨ ه‍) ، بلا مراجعة الجواد عليه‌السلام كما مرّ ، فلعلّهما كانا من الزيدية.

تلك كانت رواية اليعقوبي مرسلة ، وأسند المعتزلي عن الجوهري البصري بسنده قال : جلس المأمون للمظالم ، فأول رقعة وقعت في يده نظر فيها فبكى! وكان كاتبها قد وقّع فيها : وكيل فاطمة عليها‌السلام! فقال المأمون للذي على رأسه : نادِ : أين وكيل فاطمة؟ فنادى. فقام شيخ في خفّ تَعزيّ ودُرّاعة وعِمامة فتقدم إليه وأخذ يحتجّ على المأمون والمأمون يناظره في فدك ، ثمّ أمر أن يسجّل لهم بها ، فكُتب السجلّ وقرئ عليه فوقّع فيه وأنفذه ، فصارت في أيديهم (؟).

وكان دعبل حاضراً فقام إلى المأمون وأنشده أبياتاً أوّلها :

أصبح وجه الزمان قد ضحكا

بردّ مأمونِ هاشمٍ فدكا (٢)!

المأمون وخلق القرآن :

قال اليعقوبي : في سنة (٢١٨ ه‍) صار المأمون إلى دمشق .. ونزع المقاصير من المساجد الجامعة وقال : هذه سنّة! أحدثها معاوية!

وكتب في إشخاص الفقهاء من العراق وغيرها فامتحنهم في خلق القرآن ، وكفّر من يمتنع أن يقول : القرآن غير مخلوق ، وكتب أن لا تُقبل شهادته! فقال الكل بذلك إلّانفراً يسيراً (٣)!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٦٩ ضمن حوادث عام (٢١٨ ه‍).

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢١٧ عن الجوهري البصري (م ٣٣٣ ه‍) ولم نعثر على سائرها.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٦٧ ـ ٤٦٨.


وقال ابن الوردي : في سنة (٢١٨ ه‍) كتب المأمون إلى عامله ببغداد : إسحاق بن إبراهيم الخزاعي (مولاهم) أنّ من أقرّ من القضاة والعلماء أنّ القرآن مخلوق خلِّ سبيله ، ومن أبى فيعلمه به.

فجمعهم ومنهم : قاضي القضاة بشر بن الوليد الكندي ، وأحمد بن حنبل الشيباني ، وعلي بن الجعد ومقاتل وقتيبة وغيرهم ، وقال لبشر وكاتبه يكتب ذلك : ما تقول في القرآن؟ قال : هو كلام الله ، قال : أمخلوق هو؟ قال : الله خالق كل شيء. قال : والقرآن شيء؟ قال : نعم. قال : فهو مخلوق؟ قال : ليس بخالق! قال : فهو مخلوق؟ قال : لا احسن غير ما قلت لك!

ثمّ قال لأحمد بن حنبل : ما تقول في القرآن؟ قال : كلام الله ، قال : أمخلوق هو؟ قال : كلام الله ، ما أزيد عليها! فقال له : فما معنى قوله : «سميع بصير»؟ قال : كما وصف نفسه! قال : فما معناه؟ قال : لا أدري! هو كما وصف نفسه!

ثمّ سأل قتيبة وعبيد الله بن محمد ، وعبد المنعم بن إدريس ، وجماعة ، فأجابوا : إنّ القرآن مجعول ؛ لقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً (١)) والقرآن محدَث ؛ لقوله : (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢)) فقال الوالي : المجعول مخلوق؟ قالوا : لا نقول مخلوق! لكن مجعول! فكتب مقالتهم ومقالة غيرهم إلى المأمون.

فورد جواب المأمون إلى الوالي إسحاق بن إبراهيم الخزاعي : أن يحضر قاضي القضاة بشر بن الوليد وإبراهيم بن المهدي (؟) فإن قالا بخلق القرآن وإلّا تُضرب أعناقهما! ومن لم يقل سواهما بخلق القرآن يوثّقه بالحديد ويحمله إلى المأمون!

__________________

(١) الزخرف : ٣.

(٢) الأنبياء : ٢.


فجمعهم إسحاق الخزاعي وعرض عليهم ما أمر به المأمون ، فقال الجميع بخلق القرآن إلّاأربعة هم : أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح والقواريري وسجّادة! فشدّهم بالحديد ثمّ سألهم فأجاب القواريري وأجابت سجّادة بخلق القرآن فأطلقهما ، وأصرّ أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح فوجّههما إلى طرطوس.

ثمّ ورد كتاب المأمون يقول : بلغني أنّ بشر بن الوليد وجماعة معه إنما أجابوا بتأويل الآية الكريمة : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ (١)) وقد أخطؤوا التأويل ، فإنّ الله تعالى عنى بهذه من كان معتقداً للإيمان مظهراً للشرك ، فأما من كان معتقداً للشرك! مظهراً للإيمان فليس هذا له ، فأشخصهم إلى طرطوس ليقيموا بها إلى أن يخرج أمير المؤمنين من بلاد الروم. فأرسلهم (٢).

غزو المأمون الروم رابعة :

قال اليعقوبي : استعد المأمون لحصار عمورية وقال : آتي بالعرب من البوادي فانزلهم كلّ بلد ، افتتحه حتى أضرب إلى القسطنطينية! لسنة (٢١٨ ه‍).

وبلغ ذلك إلى ملك الروم توفيل بن ميخائيل ، فأتاه رسوله يدعوه إلى أن يدفع إليه الأسرى المسلمين الذين عنده (سبعة آلاف) فيصالحه أو يهادنه ، فلم يقبل (٣).

وقال المسعودي : عمد إلى سائر حصون الروم فخيّرهم بين الإسلام أو الجزية أو السيف ، فأجابه خلق منهم إلى الجزية ، وذلّل بذلك النصرانية.

فلما نزل البدندون جاءه رسول ملك الروم فقال له : إنّ الملك يخيّرك بين أن يردّ عليك نفقتك التي أنفقتها من بلدك إلى هذا الموضع ، وبين أن يُخرج لك كل

__________________

(١) النحل : ١٠٦.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٠ ، ٢١١.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٦٩.


أسير من المسلمين في بلد الروم بغير دينار ولا درهم! وبين أن يعمّر لك كل ما خرّبته النصرانية من بلد للمسلمين فيردّه كما كان ، وترجع عن غزاتك هذه.

فقام المأمون ودخل خيمته فصلّى ركعتين ثمّ خرج فقال للرسول : قل له : أما قولك : تردّ عليَّ نفقتي فإني سمعت الله تعالى يقول في كتابنا حاكياً عن بلقيس : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ* فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (١)).

وأما قولك : إنك تُخرج كل أسير من المسلمين في بلد الروم ، فما في يدك إلّا أحد رجلين : إما رجل طلب الدنيا فلا فكّ الله أسره ، وإما هو رجل طلب الله عزوجل والدار الآخرة فقد صار إلى ما أراد!

وأما قولك : إنك تعمِّر كل بلد للمسلمين خرّبته الروم. فلو أني قلعت أقصى حجر في بلاد الروم ما ساوى ذلك بامرأة عثرت عثرة في أسرها فقالت : وا محمداه! عُد إلى صاحبك ، فليس بيني وبينه إلّاالسيف!

ثمّ أمر بضرب الطبول والرحيل فرحل فلم ينثن عن غزاته هذه حتى فتح خمسة عشر حصناً ثمّ انصرف ، فنزل على عين البدندون المعروفة بالقُشيرة. فأقام هنالك حتى ترجع رسله من الحصون (٢).

علة المأمون وموته :

في قرية بدندون من بلاد ثغر الروم بينها وبين طرسوس يوم واحد ، وقف المأمون على منبع ماء العين وكان ماءً بارداً فأعجبه برده وصفاؤه ، وطيب حسن

__________________

(١) النمل : ٣٥ و ٣٦.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٤٥٥ ـ ٤٥٦.


الموضع وكثرة خُضرته ، فأمر بقطع شجر طوال لتوضع على العين كالجسر ، وتُعقد له مظلة فوقها من أغصان الشجر ، فجلس فيها ، وطُرح في الماء درهم فقرأ كتابته. ولاحت سمكة نحو الذراع بيضاء كأنها سبيكة فضة ، فجعل لمن يُخرجها جائزة ، فبدر بعض الفرّاشين فأخذها وصعد ، فلمّا وضعها بين يدي المأمون اضطربت وأفلتت إلى الماء ، فنضح من الماء على صدر المأمون ونحره وترقوته وابتلّ ثوبه ، وانحدر الفرّاش فأخذها ثانية ووضعها في منديل بين يدي المأمون ، فأمر المأمون بقليها. ثمّ أخذته الرعدة فغطّي باللحف وهو يصيح البرد البرد ويرتعد كالسعفة ، فحوّلوه إلى خيمته ودُثر واوقدت حوله النيران وهو يصيح البرد البرد! وأُتي بالسمكة المقلية فلم يطعم منها.

وكان مع المأمون ابن ماسويه وبختيشوع الطبيب فسألهما المعتصم عن حال المأمون ، فتقدما إليه وأخذ كل منهما بيديه ، وكان يعرق فالتزقت أيديهما ببشرته لعرقه كأنه زيت! وجهلا حاله. فأحضر المأمون سائر الأطبّاء حوله يؤمّل خلاصه (١).

ولما اشتدّ مرضه طلب ابنه العباس فأتاه مجهوداً وقد نفذت الكتب إلى البلدان وفيها : من عبد الله المأمون وأخيه أبي إسحاق (المعتصم) الخليفة من بعده. فقيل : إنّ ذلك كان بأمر المأمون وقيل : بل كتبوا ذلك عنه في غشيته (٢).

وقيل : لم يوصِ إلّابعد حضور ابنه العباس مع الفقهاء والقضاة والقوّاد والكتّاب ، ثمّ ذكر الطبري له وصيّة مفصّلة قال فيها : ليصلّ عليَّ أكبركم سنّاً من أقربكم إليّ نسباً! وليكبّر خمساً ـ كما على مذهب أهل البيت ولكن بأدعية

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٤٥٦ ـ ٤٥٧.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٧١ ، وأصلها في تاريخ الطبري ٨ : ٦٤٧.


وأذكار أُخرى! ـ ونهى عن الإعوال عليه وقال : فإنّ المعوّل عليه يعذّب! وبعدها ذكر الطبري : وحين اشتدّ به الوجع وأحسّ بمجيء أمر الله دعا أخاه المعتصم وأوصاه بوصايا خاصة ومفصّلة ومنها : «وهؤلاء بنو عمّك من ولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضى الله عنه ، فأحسن صحبتهم ، وتجاوز عن مسيئهم ، واقبل من محسنهم ، ولا تغفل عن صِلاتهم في محلها كل سنة ، فإنّ حقوقهم تجب من وجوه شتّى» (١).

ولمّا أمسى وثقل قال : أخرجوني أُشرف على عسكري وانظر إلى رجالي وأتبيّن ملكي! فأُخرج وأُشرف به على الخيم والجيش وانتشاره وكثرته وما قد أوقدوا من نيران ، فقال : يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه ؛ ثمّ رُد إلى مرقده.

وأجلس المعتصم عنده من يلقّنه الشهادتين إذا ثقل حاله ، وعنده ابن ماسويه الطبيب ، فلمّا ثقل حاله رفع الرجل صوته ليلقّنه ، فتجرّأ ابن ماسويه وقال له : لا تصح ، فوالله إنه ما يفرّق الآن بين ربّه وبين ماني! ففتح المأمون عينيه وقد احمرّتا وأراد أن يبطش بابن ماسويه فعجز ، فجرت عبراته وانطلق لسانه فقال : يا من لا يموت ؛ ارحم من يموت! ثمّ قضى (٢).

وطرسوس كانت أقرب إلى ثغور المسلمين وكان بها دار لخاقان خادم الرشيد ، فحملوه إليها وصلّى عليه المعتصم ، ودفنوه بها ، ووكّلوا به حُرّاساً من طرسوس وغيرها مئة رجل لكل منهم تسعون درهماً في كل شهر (والدار على يسار المسجد ودُفن بسلاحه!).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٦٤٧ ـ ٦٥٠.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٤٥٨.


وكان متوسطاً طويل اللحية قد خالطه الشيب بل أشيب ، أسمر تعلوه صفرة ، واسع العين أحنى الظهر ، ضيق الجبهة وبخده خال أسود. مات في (١٨) رجب من عام (٢١٨ ه‍) (١) وهو دون الخمسين.

وبلغ خبر مصرعه إلى الرَّقة ، فعاد المحضَرون من بغداد إليها (٢).

ابن ماسويه وبختيشوع والأطبّاء :

مرّ عن المسعودي ذكر أطبّاء المأمون ومنهم ابن ماسويه وبَخْتْيَشُوع ، والأول هو يوحنّا ابن ماسويه ، والثاني جيورجيس بن بختيشوع ، وسائر أطبائه : زكريا الطيفوري وعيسى بن الحكم وجبريل الكحّال ، كان كحّال المأمون يدخل إليه أول من يدخل كل يوم ليكحّله! فخرج يوماً من عنده فسأله بعض موالي المأمون عنه فأخبره أنّه قد أغفى! فبلغه ذلك فأحضره وقال له : يا جبرئيل! اتّخذتك كحّالاً أو عاملاً للإخبار عنّي! اخرج من داري! وكان راتبه لكل شهر ألف درهم! فقال المأمون : ليُقتصر به على إجراء مئة وخمسين درهماً في الشهر ولا يؤذن له بالدخول عليه!

وكان المأمون داخل ملوك الروم أولاً وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلسفة ، فبعثوا إليه منها ما حضرهم ، فاستجاد لها مَهرة التراجمة وكلّفهم إحكام ترجمتها ، فتُرجمت له على غاية ما أمكن. ثمّ حرّض الناس على قراءتها ورغّبهم في تعلّمها وتعليمها. وكان يخلو بالحكماء ويأنس بمناظراتهم ويلتذ بمذاكراتهم!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٦٥٠.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١١ وفيه : ٢١٢ عن تاريخ المعرّي : أن قبر المأمون كان في باطن محراب جامع طرسوس فوقع المحراب على عهد الملك الرومي بسييل وكان بالبيضة والدرع والسيف فأخذ الملك سيفه وأمر بردّه إلى موضعه. وطرسوس طبعت خطأً طرطوس.


ولما عزم المأمون على رصد الكواكب تقدّم إلى يحيى بن أبي منصور المنجّم وإلى جماعة منهم معه بالرصد. وإصلاح آلاته ، ففعلوا ذلك في بغداد بالشماسية وفي دمشق بجبل قاسيون!

ومن الحكماء : يوحنّا بن البطريق الترجمان مولى المأمون ، كان أمينه لترجمة الكتب الحِكمية ، حسن التأدية للمعاني الكتابية ألكن اللسان في العربية! وكانت الفلسفة أغلب عليه من الطبّ.

ومن الأطبّاء : سهل بن شاپور الكوسج الأهوازي الخَوزي وفي لسانه لكنة بالخَوزية ، تقدّم في الطب في أيام المأمون قاصر العبادة وغير قاصر العلاج (١).

وبذكر الفلسفة قال السيوطي : لما كبر المأمون عُني بالفلسفة وعلوم الأوائل ومَهر فيها ، فجرّه ذلك إلى القول بخلق القرآن! وله محاسن لولا ما أتاه من محنة الناس في القول بخلق القرآن! وكان معروفاً بالتشيّع! بل إفراطه في التشيّع حمله على أن يهمّ بخلع نفسه ليفوّض الأمر إلى علي الرضا ، ويزوّجه ابنته (٢).

بداية عهد المعتصم :

تصدّى المعتصم لأخذ البيعة بعد المأمون ، وكان العباس بن المأمون حاضراً فنازع عمّه في المجلس (٣) وامتنع بعض القوّاد من البيعة لمكان العباس بن المأمون ، فأخرجه المعتصم من الخباء لهم ليكلّمهم ، فكلّمهم بكلام استحمقوه فيه فشتموه ، وبايعوا للمعتصم محمد بن الرشيد ، وأُمه أُم ولد يقال لها : ماردة (بنت شبيب) وبايعه العباس بن المأمون يوم الجمعة.

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول لابن العبري : ١٣٦ و ١٣٨.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٦٤ و ٣٦٥.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٤٥٩.


وعاد المعتصم من الثغر ، فلما وصل إلى الرَّقة ولّى غسّان بن عبّاد الجزيرة وقنّسرين والعواصم ، ونفذ إلى بغداد فقدِمها لأول رمضان (٢١٨ ه‍) واستوزر الفضل بن مروان (١).

وقال المسعودي : كان قاضي المأمون أحمد بن أبي دؤاد الإيادي فأبقاه المعتصم ، ثمّ استوزر محمد بن عبد الملك بن الزيات (٢).

موسى بن شاكر وبنوه :

قال ابن العبري : كان موسى بن شاكر في حداثته حرامياً يقطع الطريق ، ثمّ تاب وعلا حتى كان يصحب المأمون وليس هو من أهل العلم. ومات وخلّف ثلاثة صغارهم محمد وأحمد والحسن ، فوصّى بهم المأمون إسحاق بن إبراهيم المصعبي ، ولما بنى المأمون في بغداد مكتبة «بيت الحكمة» وجعل عليها يحيى بن أبي منصور أثبت أبناء موسى معه في بيت الحكمة ، فخرج بنو موسى بن شاكر نهاية في علومهم :

أصبح أكبرهم وأجلّهم أبو جعفر محمد وافر الحظّ من الهندسة والنجوم ، ثمّ خدم في الدولة وصار من وجوه القوّاد ، قبل أن يتغلب الأتراك على أريكة الملك.

وكان أحمد دونه في العلم إلّا «صناعة الحيل / الميكانيكا» فإنه فُتح له فيها ما لم يُفتح مثله لأحد!

وكان الحسن منفرداً بالهندسة ، وقد علم كل ما علم بطبعه ولم يقرأ شيئاً فيها إلّا ست مقالات من «كتاب اوقليدس في أُصول الهندسة» فقط ؛ وهي أقل من نصف الكتاب! إلّاأن ذكره كان عجيباً وتخيّله قوياً.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٧١.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٤٥٩.


وقد أفشى هذا عليه يوماً المروزيُّ للمأمون : أنه لم يقرأ من كتاب اوقليدس إلّاست مقالات!

فقال الحسن له : يا أمير المؤمنين ، لم يكن يضرّني أنني لم أقرأها ، ولا تنفعه هو قراءته لها ؛ إذ هو من الضعف فيها بحيث لم تغنه قراءته في أصغر مسألة من الهندسة! فإنه لا يُحسن أن يستخرجها وهو لم يكن يسألني عن شكل من أشكال المقالات التي لم أقرأها إلّااستخرجته بفكري وأتيته به!

فقال المأمون : ما أدفع قولك! ولكن كتاب أُوقليدس للهندسة كحرف أب ت ث للكلام والكتابة! فلا أُعذرك ـ ومحلّك في الهندسة محلّك ـ أن يبلغ بك الكسل أن لا تقرأه كلّه!

وفي دار محمد بن موسى تعلم ثابت بن قرّة الحرّاني الصابئي نزيل بغداد ، فوصله محمد بالمعتضد وأدخله في جملة منجّميه (١)! فسنعود إليه بعد المعتضد.

المعتصم وخلق القرآن :

كان للرشيد : عبد الله المأمون ، ومحمد الأمين ، والقاسم المؤتمن ، ومحمد المعتصم ، ولهم غلمان يلتزمونهم إلى المكتب ذهاباً وإياباً ، واتفق أن مات غلام المعتصم ، فقال له أبوه : يا محمد مات غلامك؟ قال : نعم يا سيدي واستراح من الكَتّاب! فعرف الرشيد أنه لا يستريح إلى المكتب فقال لهم : دعوه! فلم يتعلم القراءة والكتابة إلّاضعيفاً (٢).

__________________

(١) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١٥٢ ، ١٥٣.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٩٣.


ومع ذلك ذكر الطبري في وصية المأمون إليه قال له : «وخذ بسيرة أخيك في القرآن! فالله عزوجل وحده لا شريك له في ملكه ، وهو خالق وما سواه مخلوق ، والقرآن لا يخلو أن يكون شيئاً له مثل ولا شيء مثله تبارك وتعالى» (١).

ولهذا فقد أحضر المعتصم أحمد بن حنبل وامتحنه في القول بخلق القرآن ، فقال أحمد : أنا رجل عُلّمت علماً ولم أعلم فيه بهذا! فأحضر له الفقهاء ومنهم عبد الرحمن بن إسحاق ، وناظره هذا فامتنع أن يقول بخلقه! فتقدم إسحاق بن إبراهيم الخزاعي (مولاهم) والي بغداد إلى المعتصم وقال له : يا أمير المؤمنين ولّني مناظرته! فقال له : شأنك به. فقال له إسحاق : هذا العلم الذي عُلّمته نزل به عليك ملَك ، أو عُلّمته من الرجال؟ قال : بل علمته من الرجال. قال : شيئاً فشيئاً أو جملة؟! قال : علمته شيئاً بعد شيء. قال : فبقي عليك شيء لم تعلمه؟ قال : نعم. قال : فهذا مما لم تعلمه وقد علّمكه أمير المؤمنين! قال : فإني أقول بقول أمير المؤمنين! قال : في خلق القرآن؟ قال : نعم حتى في خلق القرآن! فأشهد عليه ثمّ أطلقه إلى منزله بعد أن ضُرب أسواطاً ثمّ خُلع عليه. ذلك ما قاله اليعقوبي (٢). وقال المسعودي : ضربه نحو أربعين سوطاً ليقول بخلق القرآن.

وبالغ ابن الوردي فقال : فجلده المعتصم حتى غاب عقله وتقطّع جلده ، ثمّ قيده وحبسه (٣)!

__________________

(١) تارو الطقي ٨ : ٦٤٧ و ٦٤٨.

(٢) تارو اليعقوض ٢ : ٤٧٢.

(٣) تارو ابن الوردي ١ : ٢١٢.


وقاله ابن العبري وزاد : كان أبو هارون ابن البكّاء من العلماء يقرّ بكون القرآن مجعولاً لقول الله : (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً (١)) ويسلّم أن كل مجعول مخلوق ويقول : لا أقول مخلوق ولكنّه مجعول! وهذا عجب عجاب (٢).

وقال السيوطي : سلك المعتصم ما ختم المأمون به عمره من امتحان الناس بخلق القرآن ، فضرب عليه أحمد بن حنبل ، بل قتل عليه خلقاً من العلماء! وقاسى الناس منه مشقة في ذلك ، وكتب إلى البلاد بذلك وأمر المعلمين أن يعلّموه الصبيان (٣).

رسالته عليه‌السلام إلى والي سيستان :

أسند الكليني عن رجل تميمي حنفي من أهل بُست في سجستان : أن واليهم كان الحسين بن عبد الله النيسابوري وكان رجلاً يتولّى أهل البيت ويحبّهم ، وله عليّ في ديوانه خَراج ، فحججت ، وحجّ أبو جعفر عليه‌السلام فرافقته ، وجلست يوماً على مائدته وهناك جماعة من أولياء السلطان ، فقلت لأبي جعفر : إنّ والينا ـ جعلت فداك ـ رجل يتولّاكم أهل البيت ويحبّكم ، وله علي في ديوانه خراج ، فإن رأيت ـ جعلني الله فداك ـ أن تكتب إليه بالإحسان إليّ! فقال لي : لا أعرفه. فقلت : جعلت فداك ، إنه على ما قلت من محبّيكم أهل البيت ، وكتابك ينفعني عنده.

فأخذ القرطاس وكتب : «بسم الله الرحمنِ الرحيم ، أما بعد ، فإنّ موصل كتابي هذا ذكر عنك مذهباً جميلاً ، وإن مالك من عملك ما أحسنت فيه ، فأحسن الى اخوانك واعلم ان الله عزوجل سائلك عن مثاقيل الذر والردخل

__________________

(١) الزخرف : ٣.

(٢) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١٣٩.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٩٥.


وعلم بذلك رفقتي فسبقني الخبر إلى الوالي فاستقبلني على فرسخين من المدينة ، فدفعت إليه الكتاب فقبّله ووضعه على عينيه وقال لي : ما حاجتك؟ فقلت : خراج عليّ في ديوانك! قال : فأمر بطرحه عنّي وقال لي : لا تؤدّ خراجاً مادام لي عمل! ثمّ سألني عن عيالي فأخبرته بمبلغهم فأمر لي ولهم بما يقوتنا وفضلاً. فما أديت في عمله خراجاً ما دام حياً ولا قطع عني صلته حتى مات (١).

ثورة محمد بن القاسم العلوي الزيدي :

أبو جعفر محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي عليهم‌السلام ، العلوي الزيدي الجارودي (٢) وكان متديناً متفقّهاً. أسند الأُموي الزيدي عن إبراهيم بن عبد الله العطار الكوفي الزيدي قال :

كان محمد بن القاسم قد خرج إلى ناحية الرَّقة وناحية الروز ومعه جماعة من وجوه الزيدية منهم عبّاد بن يعقوب الرواجني ويحيى بن الحسن بن الفرات ، فسمعوه يتكلّم بشيء من مذهب المعتزلة فتفرقوا عنه جميعاً.

وبقينا نحن معه من الكوفيين بضعة عشر رجلاً ، فخرجنا إلى مرو ، وأنزلناه في رستاق من رساتيق مرو وأهله شيعة كلهم ، فأَحلّوه في قلعة في جبلٍ حريز ، وتفرّقنا في الناس ندعوهم إليه ، فلم نلبث إلّايسيراً حتى استجاب له أربعون ألفاً! أخذنا عليهم البيعة.

__________________

(١) فروع الكافي ٥ : ١١١ ، الحديث ٦.

(٢) نسبة إلى أبي الجارود زياد بن المنذر العبدي من أتباع زيد ، ولكنه كان يقول بكفر الصحابة بتركهم بيعة علي عليه‌السلام مع أنه كان يقول بإمامته بالوصف من الرسول دون الاسم. انظر فرق الشيعة ، والمقالات والفرق.


فلما اجتمع أمره وعدهم لليلة بعينها فاجتمعوا إليه ونزل من القلعة إليهم .. وسمع أحدهم يقول : إنما خرجنا معكم لنكتسب وننتفع ونأخذ ما نحتاج إليه! فقال : يا إبراهيم أبمثل هذا ينتصر دين الله؟! ثمّ قال لنا : فرّقوا الناس عنّي حتى أرى رأيي! فخرجنا إلى الناس وقلنا لهم ذلك ، فتفرقوا.

ورحل محمد بن القاسم من وقته إلى الطالقان أربعين فرسخاً! فنزلها وتفرقنا ندعو الناس إليه ، فاجتمع عليه عالم منهم ، على أنه إذا ظفر بهم اختار من يرضاه من جنده ، فأتم عزمه وخرج في الناس.

وبلغ خبره إلى عبد الله بن طاهر الخزاعي (مولاهم) والي خراسان ، فوجّه إليه صاحب شرطته الحسين بن نوح ، فلقيناه وقاتلناه فهزمناه. فجرّد عبد الله قائداً آخر يقال له نوح بن جان ، فلقيناه فهزمناه ، فأمده عبد الله بجيش ضخم ، فأكمن لنا كمناء في عدة مواضع ، فلما التقينا قاتلنا ساعة ثمّ انهزم فرّاً ليكر ، فاتبعه أصحابنا وخرجت الكمناء عليهم من كل وجه فانهزمنا.

وأفلت محمد بن القاسم إلى بلدة نسأ من خراسان متستّراً. وبلغ خبره إلى عبد الله بن طاهر فأعدّ ألف فارس من نخبة عسكره مع مئة ألف درهم ، ودعا إبراهيم بن غسّان العودي وأمّره عليهم وجعل معه دليلاً يدلّه ، وأعدّ له كتاباً لا يقرأه حتى يصير على فرسخ من نسأ ، وجعل عليه عيناً. فلما قرأ الكتاب إذا فيه : عبّئ أصحابك ، ثمّ أنفذ قائداً من قوّادك في خمسمئة فارس إلى باب عاملها تحرّزاً من وقوع حيلة ، وأنفذ قائداً في ثلاثمئة يحدق هو وأصحابه بدار صاحب البريد كذلك تحرّزاً ، وسر في باقي أصحابك (ثلاثمئة) إلى محلّة كذا ودرب كذا ودار فلان وغرفة فلان وفيها محمد بن القاسم ومعه رجل من أصحابه يقال له أبو تراب فأوثِقهما بالحديد وأنفِذهما مع رُسلك يصيرون إليَّ في اليوم الثالث!


قال إبراهيم العودي فصرت إليه وهو قد أعدّ بغلاً يريد الرحيل إلى خوارزم فقبضت عليه وأرسلته ، وسرت إلى نيسابور في ستة أيام ، فأقامه في نيسابور ثلاثة أشهر يعمّي خبره على الناس كي لا يُغلب عليه لكثرة من بايعه من كور خراسان ، وكان عبد الله يخرج من اصطبله بغالاً عليها القباب ليوهم الناس أنه قد أخرجه ، ثمّ يردها. حتى أخرجه في جوف الليل مع إبراهيم بن غسّان إلى الريّ ، وأمره أن يخرج في كل ثلاث ليال ومعه بغل عليه قبة ومعه جيش حتى يجوز الريّ بفراسخ ثمّ يعود ، إلى أن يمكنه سلّه في ليلة مظلمة ، خوفاً من أن يُغلب عليه لكثرة من أجابه حتى أخرجه من الريّ ولم يعلم به أحد.

حتى إذا وردنا النهروان فكتبنا إلى المعتصم بالخبر واستأذناه للدخول ، فورد علينا كتابه يأمرنا أن نأخذ جلال القبة ونسير به مكشوفاً! فإذا وردنا النهرين أن نأخذ عمامته وندخله بغداد حاسراً! ودخلنا الشماسية في يوم النيروز من سنة (٢١٩ ه‍) وقد أعدّوا له أصحاب السماجة والفرغانيين يلعبون بين يديه ويرقصون ، ومحمد العلوي يبكي ويقول : اللهمّ إنك تعلم أني لم أزل حريصاً على تغيير هذا وإنكاره! ويسبّح ويستغفر الله ويدعو عليهم ، والمعتصم في جوسق له بالشماسية ينظر إلى ذلك.

ثمّ أمر بدفعه إلى مسرور الخادم فحبسه في سرداب شبيه بالبئر كاد أن يموت فيه! ثمّ أخرجوه إلى قبة في بستان موسى مع المعتصم في قصره وعليه عدّة من الغلمان.

وصارت ليلة الفطر من تلك السنة (٢١٩ ه‍) وقد أُدخلت الرياحين والفواكه ووسائل العيد على رؤوس الحمّالين إلى البستان ، وطاف الحمالون إلى قبة محمد بن القاسم العلوي فباتوا حولها ، وكان للقبة روزن فرمى بنفسه من القبة إلى أسفل ونام بين الحمالين ، فلما طلع الفجر خرج معهم وأفلت فلم يجدوه!


وهرب هو إلى قطيعة الربيع بن يونس الحاجب ، إلى منزل منير بن موسى ثمّ إبراهيم بن قيس ، فأشاروا عليه أن يهرب إلى واسط ، فلما صار إليها عبر دجلة إلى الجانب الغربي إلى دار عمّه الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين عليهم‌السلام فأقام عندهم (١).

وكانت العامة تلقّبه بالصوفي لإدمانه لبس الصوف الأبيض (٢) وكان رَبعة أسمر في جبهته أثر السجود وفي وجهه أثر الجُدَري (٣).

والطبري برّأه من الدعوة إلى نفسه بل قال : يدعو إلى الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فاجتمع له بها ناس كثير! وأنهم قدموا به على المعتصم في منتصف ربيع الثاني إلى ليلة عيد الفطر عام (٢١٩ ه‍) ، وجعلوا لمن دلّ عليه مئة ألف درهم ونادوا بذلك فلم يعرف له خبر (٤).

والمسعودي قال : كان من الزهد والعبادة والورع في نهاية الوصف وإنما أخافه المعتصم فخرج!

وانقاد إلى إمامته خلق كثير من الناس! وقد انقاد إلى إمامته خلق كثير من الزيدية ، وكثير منهم يزعمون أنّه لم يمت بل هو حي يرزق ، وأنه هو الذي يخرج فيملأُها عدلاً كما ملئت جوراً فهو مهدي هذه الأُمة! وأكثرهم بالكوفة والديلم وخراسان (٥).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٨٢ ـ ٣٩٢ وتمامه : حتى مات ، وقيل : بل بقي حتى أُخذ في عهد المتوكل فمات في حبسه مسموماً.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٨٢.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٣٩١.

(٤) تاريخ الطبري ٩ : ٧.

(٥) مروج الذهب ٣ : ٤٦٤ ـ ٤٦٥.


خروج المحمّرة أو الخرّمية :

قال اليعقوبي : وخرجت «المحمّرة» بالجبال (همدان ـ إصفهان) وعرضوا لحُجّاج خراسان وقطعوا الطريق وقتلوا منهم جماعة وأخافوا السبيل. فوجّه المعتصم إليهم القائد هاشم بن باتيجور فواقعهم وانهزم! فوجّه المعتصم إليهم إسحاق بن إبراهيم الخزاعي (مولاهم) والي بغداد وأمير الشرطة بها ، فاستخلف على الشرطة أخاه طاهراً ، ونفذ فواقعهم فقتل منهم مقتلة عظيمة حتى أصلح البلاد (١).

وعبّر الطبري قال : في سنة (٢١٩ ه‍) ذُكر أن جماعة كثيرة من أهالي الجبال من ماسبدان (إيلام) وهمدان وإصفهان قد دخلوا في دين «الخرّمية» وتجمّعوا فعسكروا في همدان. فوجّه المعتصم إليهم عساكر ، وكان آخر عسكر مع إسحاق بن إبراهيم بن مصعب الخزاعي (مولاهم) فشخص إليهم في ذي القعدة وجاء كتابه بالفتح في يوم التروية بأنّه قتل منهم ستين ألفاً وهرب الباقون إلى الروم! وكان يوم الجمعة في بغداد يوم عرفة والسبت الأضحى ، وضحّى أهل مكة يوم الجمعة (٢).

ثورة الزُطّ بالبطائح :

كان الزُطّ قوماً من الهنود العاملين في السفن الهندية التي كانت ترسو في البصرة ، حتى كانت البصرة لذلك تسمى : ثغر الهند! وقد مرّ خبر عن جمع منهم غالوا في علي عليه‌السلام بعد فتحه البصرة في حرب الجمل ، فخنقهم الإمام بالدخان ولم

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٧١.

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ٦٦٨. وفي ٩ : ٨ : قتل منهم نحو مئة ألف! وأسر نساءهم وسبى صبيانهم وحملهم إلى بغداد. ومختصره في مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١٣٨ ـ ١٣٩.


يتوبوا! واليوم قد تكاثروا حتى عُدّوا نحواً من ثلاثين ألفاً في بطائح البصرة ، منهم اثنا عشر ألفاً لما بلغهم موت المأمون ـ ولعلّه بعد إدخال محمد بن القاسم العلوي الزيدي أسيراً مُهاناً إلى بغداد ـ حملوا السلاح واحتملوا الغلّات من البيادر في كَسكر وما يليها من البصرة وقطعوا الطريق وأخافوا السبيل. ورئيسهم محمد بن عثمان وصاحب حربه يُدعى سملق!

فوجّه المعتصم لحربه قائده عُجيف بن عنبسة في عشرة آلاف ، فوجّه عُجيف هارون بن نعيم الخراساني في خمسة آلاف إلى الصافية ، ومضى هو في خمسة آلاف إلى بُرودا فأقام عليه حتى سد نهره إلى الزُطّ وسدّ أنهاراً أُخرى إليهم فحصرهم من كل وجه. ثمّ حاربهم فقتل منهم ثلاثمئة وأسر خمسمئة ، وقتل أسراهم فكانوا ثمانمئة ، وقاتلهم تسعة أشهر ، حتى طلبوا منه الأمان ، فآمنهم فخرجوا إليه في ذي الحجة (٢١٩ ه‍) وعدتهم سبعة وعشرين ألفاً ، فجعلهم في السفن! إلى الزعفرانية ببغداد في ثلاثة أيام.

ثمّ دفعوهم إلى بشر بن السميدع فذهب بهم إلى خانقين! ثمّ نقلوا إلى عين زربة بثغر الروم ، فأغار الروم عليهم فاجتاحوهم ولم يفلت أحد منهم (١)!

وفاة ابن دُكين :

قال المسعودي : في سنة (٢١٩ ه‍) مات أبو نُعيم الفضل بن دُكين التيمي مولى آل طلحة بن عبيد الله ، بالكوفة (٢) في شعبان (٣) من مشايخ إسماعيل البخاري ومسلم النيشابوري ، وكان شيعياً (٤)!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٩ : ٨ ـ ١٠ ، وفي اليعقوبي ٢ : ٤٧٢.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٤٦٤.

(٣) تاريخ خليفة : ٣١٦.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٢ كتشيع المأمون لا أكثر!


قال المسعودي : وفيها : قدمت أُم الفضل ابنة المأمون من المدينة إلى عمّها المعتصم مع زوجها محمد بن علي بن موسى (١).

الجواد عليه‌السلام إلى بغداد :

كأنما عُرف المعتصم بأنّه ليس كأخيه المأمون في تفضيل علي عليه‌السلام وآل علي ، والناس على دين ملوكهم ولا سيّما عمّالهم ، ومن عُمّال المعتصم عامله على المدينة عمر بن فرج الرّخجي (٢).

كان الجواد عليه‌السلام صائماً وخاطبه الرُّخجي هذا في شيء وتجاسر فقال له : أظنّك سكراناً! فرفع الجواد عليه‌السلام يديه ودعا عليه قال : اللهم إن كنت تعلم أني أمسيت لك صائماً فأذقه طعم الحَرَب (الفقر) وذلّ الأسر! روى ذلك الهادي عليه‌السلام وقال : فوالله ما إن ذهبت االأيام حتى حُرب ماله وما كان له وأُخذ أسيراً (٣).

وسخط المعتصم على وزيره الفضل بن مروان ووجّه به إلى إسحاق بن إبراهيم الخزاعي (مولاهم والي بغداد) وبطش بجماعة من أصحابه وأمر بطلب أموالهم ، فركب به إلى داره وأخرج منها مالاً عظيماً ، واستصفى أموالهم (٤).

ثمّ استوزر محمد بن عبد الملك الزيّات ، وأمره باستقدام الجواد عليه‌السلام من المدينة إلى بغداد. فأنفذ ابن الزيات إليه علي بن يقطين الأسدي مولاهم لذلك ، فتجهّز وخرج إلى بغداد (٥).

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٤٦٤.

(٢) الرخج بلدة قرب كابل في أفغانستان اليوم.

(٣) أُصول الكافي ١ : ٤٩٦ ، الحديث ٩ باب مولد الجواد عليه‌السلام.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٧٢.

(٥) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤١٦.


فأسند الكليني عن إسماعيل بن مهران أنّه لما أُخرج أبو جعفر الجواد عليه‌السلام الدفعة الثانية من المدينة إلى المعتصم ببغداد ، قال : صرت إليه وقلت له : جعلت فداك ، أنت خارج (إلى هؤلاء) فإلى من هذا الأمر من بعدك؟ فبكى حتى اخضلّت لحيته ثم التفت إليّ وقال : (نعم) عند هذه يخاف علي! الأمر من بعدي إلى ابني علي (١).

ثمّ لا نجد فيما بأيدينا تفصيلاً لكيفية الإخراج هذا ، كما رأيناه في إخراج والده الرضا عليه‌السلام ، ثمّ نراه في كيفية إخراج ولده الهادي عليه‌السلام. ويبدو أن هذا كان مع خروج أواخر الحُجّاج لعام (٢١٩ ه‍) فورد بغداد في (٢٨) من المحرم سنة (٢٢٠ ه‍) (٢) فوُضع في الإقامة الجبرية إلى أواخر السنة.

ويظهر من خبر بأنّ أموالاً لا بأس بها من أموال الخرّمية (/ خرّم دينان) كانت قد وصلت إلى قوم من موالي الإمام عليه‌السلام فأوجب عليهم تخميسها :

وكان من وكلائه في بغداد محمد بن الفرج الرخجي (٣) فكتب إليه أبو جعفر عليه‌السلام : احملوا إليّ الخمس فإني لست آخذه منكم سوى عامي هذا (٤).

وبلغ هذا إلى وكلائه ومنهم علي بن مهزيار الأهوازي ، فكأنه كاتَبه مستفسراً عنه فأجابه :

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٣٢٣ ، الحديث ١ ، باب النص على علي الهادي عليه‌السلام.

(٢) الإرشاد ٢ : ٢٩٥.

(٣) وقد مرّ خبر عمر بن فرج الرخجي عامل المعتصم على المدينة وتجاسره على الإمام ، فهل هذا أخوه؟! والرخج كما مر : بلدة قرب كابل من أفغانستان اليوم.

(٤) إعلام الورى ٢ : ١٠٠ عن نوادر الحكمة لمحمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري القمي الوكيل أيضاً.


«إنّ الذي أوجبتُ في هذه السنة وهي سنة عشرين ومئتين فقط ، لمعنى أكره تفسيره كلّه خوفاً من الانتشار! وسأُفسّر لك بعضه : إنّ مواليّ أو بعضهم ـ أسأل الله صلاحهم ـ قصّروا في ما يجب عليهم ، فعلمت ذلك فأحببت أن أُطهركم وازكّيهم بما فعلت من أمر الخمس في عامي هذا .. ولم أُوجب ذلك عليهم في كل عام ، إلّاالزكاة التي فرضها الله عليهم ، وإنما أوجبت عليهم الخمس في سنتي هذه. في الذهب والفضة التي قد حال عليهما الحول. فأما الغنائم والفوائد : فهي واجبة عليهم (فيها) في كل عام. والغنائم والفوائد هي .. وما صار إلى مواليّ من أموال «الخرّمية» الفسقة ، فقد علمت أن أموالاً عظاماً صارت إلى قوم من مواليّ. فمن كان عنده شيء من ذلك فليوصله إلى وكيلي ، ومن كان نائياً بعيد الشقة فليعمد لايصاله ولو بعد حين ، فإنّ نيّة المؤمن خير من عمله ..» (١).

وكان للريّان بن شبيب الكوفي البغدادي وَلد قد وُلد في بلاد الشرك (؟) والريّان يريد هدايته وتعرّف الريّان على خيران القراطيسي الأسباطي وأنه موال للجواد عليه‌السلام وأراد الحج ، فقال الريان له : إن وصلت إلى أبي جعفر الجواد فقل له : إنّ مولاك الريان بن شبيب يقرأ عليك السلام ويسألك الدعاء له ولولده.

وحجّ خيران والتقى ببعض خدم الجواد عليه‌السلام وله منزلة عنده ، فسأله أن يوصله إليه.

فلمّا صار إلى المدينة قال الخادم لخيران : تهيّأ فإني أُريد أن أمضي إلى أبي جعفر الجواد عليه‌السلام. قال خيران : فمضيت معه ، فلمّا وافينا الباب دخل ليستأذن فأبطأ عليَّ ، فطرقت الباب وسألت عنه فأخبرني الخادم أنّه قد خرج ومضى ، فبقيت متحيراً فبينا أنا كذلك إذ خرج خادم من الدار وقال لي : أنت خيران؟

__________________

(١) الاستبصار ٢ : ٦٠ ، الحديث ١٩٨ ، والتهذيب ٤ : ١٤١ ، الحديث ٣٩٨ ، وعنهما في وسائل الشيعة ٩ : ٥٠١ ، الحديث ٥.


قلت : نعم. قال : أدخل. فدخلت وإذا أبو جعفر عليه‌السلام قائم على دكة ليس عليه فراش يقعد عليه فجاءه غلام بمصلّى فألقاه له فجلس عليه. فذهبت لأصعد إلى الدكة من غير درجها فأشار لي إلى موضع الدرجة فصعدت وسلمت فرد السلام ومدّ يده إليّ ، فأخذتها وقبّلتها ووضعتها على وجهي ، فأقعدني بيده وأنا ماسك بيده ممّا داخلني من الدهش وتركها في يدي حتى إذا سكنتُ خلّيتها! فأخذ يسايلني.

فقلت له : مولاك الريان بن شبيب يقرأ عليك السلام ويسألك الدعاء له ولولده.

فدعا له ولم يدعُ لولده! فأعدت عليه ، فدعا له ولم يدعُ لولده! فأعدت عليه ثالثة فدعا له ولم يدعُ لولده! فلمّا مضيت نحو الباب سمعته ولم أفهم ما قال ، فسألت الخادم عنه فقال : إنه قال : من هذا الذي يريد أن يهديه؟! هذا وُلد في بلاد الشرك فلمّا أُخرج منها صار إلى ما هو شر منهم! فلو أراد الله أن يهديه هداه (١)!

فلما أُحضر الجواد عليه‌السلام إلى بغداد كان خيران هذا يلزم بابه للخدمة التي وُكّل بها ، وكان هناك رسول يختلف بين أبي جعفر الجواد وبين خيران لحاجاته عليه‌السلام (٢) ، كما سيأتي الخبر بذلك.

حكم الجواد عليه‌السلام في المحاربين :

روى العياشي عن أحمد بن الفضل الخاقاني قال : قُطع الطريق في جلولا (٣) على المارّين من الحجّاج وغيرهم ، وأفلت قطّاع الطريق ، وبلغ ذلك إلى المعتصم.

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ١٠٩ ، الحديث ١١٣٢.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٣٢٤ ، الحديث ٢ ، باب النص عليه.

(٣) ناحية في طريق العراق إلى إيران بينها وبين خانقين سبعة فراسخ (٤٠ كم تقريباً) معرّب گل ولاي.


فكتب إلى عامله بها : «... يُقطع الطريق على طرف اذُن أمير المؤمنين! ثمّ ينفلت القطّاع؟! فإن أنت طلبت هؤلاء وظفرت بهم .. وإلّا أمرت بأن تُضرب ألف سوط ثمّ تصلب بحيث قُطع الطريق»!

قال : فطلبهم العامل حتى ظفر بهم واستوثق منهم ، ثمّ كتب بذلك إلى المعتصم.

فجمع المعتصم الفقهاء وأحمد بن أبي دؤاد القاضي وفي الفقهاء أبو جعفر محمد بن علي الرضا ، وسألهم عن الحكم فيهم. فقالوا : قد سبق حكم لله فيهم في قوله : (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ (١)) فلأمير المؤمنين أن يحكم بأي ذلك شاء فيهم.

فالتفت المعتصم إلى أبي جعفر عليه‌السلام وقال له : ما نقول فيما أجابوا فيه؟

قال : قد تكلم هؤلاء الفقهاء والقاضي بما سمع أمير المؤمنين! قال : وأخبرني بما عندك! قال : إنهم قد أضلوك فيما أفتوا به! والذي يجب في ذلك : أن ينظر أمير المؤمنين في هؤلاء الذين قطعوا الطريق ، فإن كانوا أخافوا السبيل فقط ولم يقتلوا أحداً ولم يأخذوا مالاً ؛ أمر بإيداعهم الحبس ، فإنّ ذلك معنى نفيهم من الأرض! وإن كانوا أخافوا السبيل وقتلوا النفس أمر بقتلهم ، وإن كانوا أخافوا السبيل وقتلوا النفس وأخذوا المال ؛ أمر بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وصلبهم بعد ذلك.

فأمر المعتصم بأن يكتب إلى العامل بأن يمتثل ذلك فيهم (٢).

__________________

(١) المائدة : ٣٣.

(٢) تفسير العياشي : ٣١٤ ، الحديث ٩١.


حكم الجواد عليه‌السلام في حدّ السرقة ، وآثاره :

كان المسلمون قد سمعوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّ من نُفّذ فيه الحدّ الشرعي في الدنيا تائباً فقد طهُر من ذنبه ولا شيء عليه ، وسرق سارق على عهد المعتصم وندم فأقر على نفسه بالسرقة وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحدّ عليه ، وأمر المعتصم بجمع الفقهاء لذلك بما فيهم الجواد عليه‌السلام.

فجُمع لذلك الفقهاء في مجلسه ، واحضر فيهم محمد بن علي الجواد عليه‌السلام. فسألهم المأمون : في أي موضع يجب أن يُقطع؟

والراوي للخبر هو الزُرقان أبو جعفر الزيّات صاحب أحمد بن أبي دؤاد قاضي المعتصم ، قال :

فقلت : من الكُرسوع (أي الزند) قال : وما الحجة في ذلك؟ قال : لأنّ اليد في الأصابع والكفّ إلى الكرسوع لقول الله في التيمم : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ (١)) قال : واتفق قوم معي على ذلك.

وقال آخرون : بل يجب القطع من المِرفق! قال : وما الدليل على ذلك؟ قالوا : لأنّ الله لما قال : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ (٢)) في الغَسل دل ذلك على أنّ حدّ اليد هو المرفق!

قال : فالتفت المعتصم إلى محمد بن علي فقال له : ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟ فقال : قد تكلّم القوم فيه يا أمير المؤمنين!

قال : دعني ممّا تكلموا به! أيّ شيء عندك؟

قال : أعفِني عن هذا يا أمير المؤمنين!

__________________

(١) النساء : ٤٣.

(٢) المائدة : ٦.


قال : أقسمت عليك بالله لما أخبرت بما عندك فيه!

فقال : فأمّا إذ أقسمت عليَّ بالله ، فإني أقول : إنهم أخطؤوا فيه السنة ؛ فإنّ القطع يجب أن يكون من مفصل أُصول الأصابع ، فيُترك الكف.

قال : وما الحجة في ذلك؟ قال : قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «السجود على سبعة أعضاء : الوجه واليدين والركبتين والرجلين» فإذا قُطعت يده من الكُرسوع أو المِرفق لم يبق له يد يسجد عليها ، وقال الله تبارك وتعالى : (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ (١)) يعني بها هذه الأعضاء السبعة التي يُسجد عليها (فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (٢)) وما كان لله لا يُقطع!

قال : فأعجب المعتصم ذلك وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف.

قال ابن أبي دؤاد : فقامت قيامتي وتمنّيت أن لم أكن حياً! وبعد ثلاثة أيام صرت إلى المعتصم فقلت له : إنّ نصيحة أمير المؤمنين عليَّ واجبة! قال : وما هو؟ قلت : إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيّته وعلماءهم لأمر واقع من أُمور الدين ، فسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عنده من الحكم في ذلك ، وقد حضر المجلس أهل بيته وقوّاده ووزراؤه وكتّابه ، وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه ، ثمّ يترك أقاويلهم كلّهم لقول رجل يقول شطر هذه الأُمة بإمامته ويدّعون أنّه أولى به بمقامه! ثمّ يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء! قال : فتغيّر لونه! وانتبه لما نبّهته له وقال : جزاك الله عن نصيحتك خيراً!

وفي اليوم الرابع أحضر فلاناً من كتّابه ووزرائه وأمره بأن يدعو محمد بن علي إلى منزله فيطعمه فيسمّه! فدعاه الرجل فأبى وقال له : قد علمت أني لا أحضر مجالسكم!

__________________

(١) الجن : ١٨.

(٢) الجن : ١٨.


فقال له : إني إنما أدعوك إلى الطعام وأُحبّ أن تطأ ثيابي وتدخل منزلي فأتبرّك بذلك ؛ وقد أحبّ فلان بن فلان من وزراء الخليفة لقاءك!

فصار محمد بن علي إليه ، فلمّا طَعِم من طعامه أحسّ بالسمّ! فدعا بدابته ، فسأله رب المنزل أن يقيم! فقال له : خروجي من دارك خير لك (١)!

وصايا الجواد عليه‌السلام وتاريخ وفاته :

أسند الكليني عن أحمد بن أبي خالد مولى أبي جعفر الجواد عليه‌السلام : أنه وزميله نصر الخادم ، مع الحسن بن محمد بن عبيد الله بن الحسين بن علي بن الحسين عليهما‌السلام حضروا عند الجواد عليه‌السلام فأشهدهم على وصية منسوخة (مكتوبة) فيها أنّه : «أوصى إلى ابنه علي ، بنفسه وأخواته (٢) وجعل أمر ابنه الآخر موسى إذا بلغ إليه (!) وجعل عبد الله بن المساور (المشاور خ ل؟) قيماً قائماً على تركته : من الضياع والأموال والنفقات والرقيق وغير ذلك ، إلى أن يبلغ علي بن محمد (!) فيصيِّر عبد الله بن المساور (المشاور خ ل؟) ذلك اليوم الأُمور إليه فيقوم بأمر نفسه وأخواته ، ويصيّر أمر موسى إليه يقوم بنفسه بعدهما (علي عليهما‌السلام وعبد الله؟)

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٣١٩ ـ ٣٢٠ ، الحديث ١٠٩.

(٢) لم يذكر الفاريابي إلّاأُختاً واحدة هي أُم كلثوم ، وزاد في الهداية الكبرى للخصيبي : حكيمة وخديجة ، كما في تاريخ أهل البيت عليهم‌السلام : ١١٠ والمفيد : أُمامة وفاطمة ، الإرشاد ٢ : ٢٩٥ وعنه في إعلام الورى ٢ : ١٠٦ ، والحلبي في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤١١ ذكر البنات الخمس. والعمري في المجدي : ١٢٨ لم يذكر أُم كلثوم وذكر بريهة بدل خديجة ، وزاد محمداً والحسن! ولذا قال المفيد : ولم يخلّف ذكراً غير من سمّيناه علي وموسى. ونصّ هذه الوصية تؤيد قول المفيد.


على شرط أبيهما (علي عليه‌السلام وموسى) في صدقاته التي تصدّق بها (؟) وذلك يوم الأحد لثلاث خلون من ذي الحجة سنة عشرين ومئتين» وشهد الحسن بن محمد بن عبيد الله بن الحسين بن علي بن الحسين وهو الجوّاني (١) في صدر هذا الكتاب وكتب شهادته بيده. وكتب أحمد بن أبي خالد شهادته بخطه. وشهد نصر الخادم وكتب شهادته بيده (٢).

ثمّ أسند عن محمد بن سنان قال : توفي محمد بن علي ـ وهو ابن خمس وعشرين سنة وثلاثة أشهر ـ يوم الثلاثاء لست خلون من ذي الحجة سنة عشرين ومئتين (٣).

فلعلّه عليه‌السلام أُشرب أو أُطعم السمّ في آخر ذي القعدة فقعد في منزله في رُحبة أسوار عند قنطرة البردان (٤) فأسند الكليني عن خيران الخادم الأسباطي القراطيسي : أنّه كان يلزم باب أبي جعفر عليه‌السلام للخدمة التي كان وُكّل بها (؟) وكان أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمي يجيء كل ليلة في السحر (!) ليعرف خبر «علة» أبي جعفر عليه‌السلام ولعله كان رسولاً لذلك للشيعة فكان إذا حضر الرسول الذي يختلف بين أبي جعفر عليه‌السلام وبين خيران الخادم ، يقوم أحمد ويخلو الرسول

__________________

(١) في عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب : أنّه من ولد الحسين الأصغر بن السجاد عليه‌السلام ، فالحسن في الكافي تصحيف الحسين وكذلك عبد الله مصحّف عن عبيد الله! وكان مع الرضا في خراسان كما في الكشي : ٥٠٦ سكن بغداد ، وترجمته في قاموس الرجال ٣ : ٣٦٩ برقم ٢٠٣٦.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٣٢٥ ، وبصدره : في نسخة الصفواني. أي ليس في سائر النسخ!

(٣) أُصول الكافي ١ : ٤٩٧.

(٤) كشف الغمة ٣ : ٤٨٦ ـ ٤٨٧ عن ابن سعد في الطبقات.


بخيران. فخرج الرسول ذات ليلة فقام أحمد عن المجلس وخلا خيران بالرسول ، واستدار أحمد فوقف حيث يسمع الكلام! فقال الرسول لخيران : إنّ مولاك يقرأ عليك السلام ويقول لك : «إني ماضٍ ، والأمر صائر إلى ابني علي ، فله عليكم بعدي ما كان لي عليكم بعد أبي» ثمّ مضى الرسول.

ورجع أحمد إلى موضعه وسأل خيران : ما الذي قد قال لك؟ قال خيران : خيراً! قال أحمد : قد سمعت ما قال ، فلم تكتمه؟ وقال ما سمعه! فقال له خيران : فاحفظ هذه الشهادة لعلّنا نحتاج إليها يوماً ، وإياك أن تُظهرها إلى وقتها!

فلمّا أصبح خيران كتب نسخة الرسالة في عشر رقاع وختمها ودفعها إلى عشرة من وجوه العصابة (الشيعة) وقال : إن حدث بي حدث الموت قبل أن اطالبكم بها فافتحوها واعملوا بما فيها!» (١).

وفاته أو قتله؟ والصلاة عليه ودفنه :

مع اسناد الكليني عن محمد بن سنان : وفاة الجواد عليه‌السلام في السادس من ذي الحجة (٢) وعن أحمد بن أبي خالد مولى الجواد عليه‌السلام نسخة وصيته في الثالث من ذي الحجة (٣) ممّا يؤيد ما أسنده عن ابن سنان ، أعرض عنهما في مولد الجواد عليه‌السلام ووفاته فقال : قُبض في آخر ذي القعدة سنة (٢٢٠ ه‍) (٤).

وكأن المفيد تبعه ، وسقطت منه كلمة (آخر) فقال : في ذي القعدة (٥).

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٣٢٤.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٤٩٧ ، ومثله خبر الفاريابي في تاريخ أهل البيت عليهم‌السلام : ٨٤ ـ ٨٥.

(٣) أُصول الكافي ١ : ٣٢٥.

(٤) أُصول الكافي ١ : ٤٩٢.

(٥) الإرشاد ٢ : ٢٧٣ و ٢٩٥.


وكذا ذكر الطبرسي : آخر ذي القعدة ، وهو غالباً ينقل عن المفيد (١) فجرى عليه العمل.

والحلبي قال : في آخر ذي القعدة ، وقيل : لست خلون من ذي الحجة (٢).

وفي علّة الوفاة : مرّ خبر العياشي عن ابن أبي دؤاد القاضي ، القاضي بسمّ الإمام عليه‌السلام في الطعام (٣).

وقال المسعودي : قيل : إنّ أُم الفضل بنت المأمون لمّا قدمت معه من المدينة سمّته (٤).

ونُسب إليه تفصيله قال : لمّا ورد أبو جعفر العراق لم يزل المعتصم وابن أخيه جعفر ابن المأمون أخو أُم الفضل لأبيها وأُمها ، يعملان الحيلة لقتله! وكان جعفر أخوها قد وقف على انحرافها عنه وغيرتها منه لتفضيله أُم أبي الحسن الهادي عليها وشدة حبّه لها ، وهي لم ترزق منه ولداً! فقال جعفر لأُخته في ذلك فأجابته إليه. وكان أبو جعفر يعجبه العنب الرازقي ، فجعلوا له سمّاً في شيء من عنب رازقي ، فلمّا أكل منه ندمت وبكت! فقال لها : ما بكاؤك؟! والله ليضربنّك الله بفقر لا ينجبر وببلاء لا ينستر!

فبليت هي بعلّة كما قال ، وسكر جعفر فتردّى في بئر وأُخرج ميتاً (٥).

__________________

(١) إعلام الورى ٢ : ٩١ و ١٠٦.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤١١.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٣١٩ ـ ٣٢٠ ، الحديث ١٠٩.

(٤) مروج الذهب ٣ : ٤٦٤.

(٥) إثبات الوصية المنسوب للمسعودي : ٢٠٩ و ٢٢٠ ، ونقله المجلسي عن عيون المعجزات في بحار الأنوار ٥٠ : ١٦ ، ونحوه في دلائل الإمامة : ٣٩٤.


واعتمد الصدوق على ذلك فقال : إنّ المعتصم سمّ محمد بن علي عليه‌السلام (١) ونقله الحلبي قال : قال ابن بابويه : سمّ المعتصم لمحمد بن علي. فقال هو : قبض ببغداد مسموماً (٢) وفي كيفيته قال :

أنفذ المعتصم إليه شراب حامض الأُترنج بختمه على يدَي خادمه الخاص التركي اشناس وقال له : قل له : قد ذاقه أمير المؤمنين وقاضيه أحمد بن أبي دؤاد وسعد بن الخصيب وجماعة من المعروفين ، ويأمرك أن تشرب منها ، وقد صُنع في الحال ، وإنما ينفع بارداً وقد ذاب الثلج! وأصرّ عليه! فشربها وهو عالم بفعلهم.

ثمّ قال : وروي فيه وجه آخر سنذكره إن شاء الله (٣).

ثمّ قال : وروى : أنّ أُم الفضل بنت المأمون سمّته بمنديل مسموم للتنظيف بعد اجتماعه بها! فلمّا أحسّ بذلك قال لها : أبلاكِ الله بداء لا دواء له ، فاعتلّت كذلك (٤).

ولعلّه لعلة قلة التوفيق بين هذه الأقوال قال المفيد : قيل إنه مضى مسموماً ، ولم يثبت بذلك عندي خبر فأشهد به (٥) والطبرسي نقل قبله وأهمل قوله! ولكنه ترك (٦)!

__________________

(١) الاعتقادات للصدوق : ٩٨.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤١١ وليس عن ابن عياش!

(٣) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤١٦.

(٤) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٢٣.

(٥) الإرشاد ٢ : ٢٩٥.

(٦) إعلام الورى ٢ : ١٠٦.


وبعث المعتصم ابنه وولّي عهده هارون الواثق بالله فصلّى عليه عند منزله في رحبة أسوار عند قنطرة البردان (١) ولا خلاف في أنّه حُمل إلى مقابر قريش فدفن خلف جدّه الكاظم عليه‌السلام (٢).

مؤتمر الشيعة للإمامة بعده :

أسند الكليني عن خيران القراطيسي الأسباطي خادم الجواد عليه‌السلام : أنّ محمد بن الفرج الرُّخجي (كان وكيل الإمام عليه‌السلام) فاجتمع رؤساء العصابة (الشيعة) عنده يتفاوضون في أمر الإمامة بعد الجواد عليه‌السلام ، وفيهم أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمي.

وقد مرّ في الخبر أنّ رسول الجواد عليه‌السلام كان قد قال لخيران : إنّ مولاك يقرأ عليك السلام ويقول لك : «إنّي ماض ، والأمر صائر إلى ابني علي ، وله عليكم بعدي ما كان لي عليكم بعد أبي» فلمّا أصبح خيران كتب نسخة الرسالة في عشر رقاع وختمها ودفعها إلى عشرة من وجوه العصابة وقال لهم : إن حدث بي حدث الموت قبل أن اطالبكم بها فافتحوها واعملوا بما فيها.

وكأنهم اجتمعوا وفيهم هؤلاء العشرة ، فكتب محمد بن الفرج إلى خيران يُعلمه باجتماعهم عنده ، وأنّه لولا مخافة شهرة الأمر لصار معهم إلى خيران ، لكن الآن يسأله أن يأتيه.

__________________

(١) كشف الغمة ٣ : ٤٨٦ ، ٤٨٧ عن ابن سعد في الطبقات.

(٢) وفي حرائق الفتن بين الشيعة وشانئيهم أحرقوا قبة مرقد الإمامين الكاظمين الجوادين وأرادوا حفر قبرهما لنقل عظامهما إلى مقبرة ابن حنبل! فحال الحريق وزناده وتراب الهدم بينهم وبين معرفة المرقدين فتركوهما! انظر المناقب ٤ : ٤٢٩.


فركب خيران وصار إلى دار محمد بن الفرج الرّخجي فوجد القوم مجتمعين عنده ، فقالوا له : ما تقول في أمر الإمامة بعد أبي جعفر الجواد عليه‌السلام؟

وكأنّ من كتب إليه خيران برسالة الجواد عليه‌السلام ووصيّته لهم بولده الهادي عليه‌السلام ، كانوا حاضرين ، فقال خيران لهم : أحضروا الرقاع. فأحضروها. فقال لهم :

هذا ما أُمرت به!

فقال بعضهم : ونحبّ أن يكون معك في هذا الأمر شاهد آخر!

فقال لهم : قد أتاكم الله عزوجل به ؛ هذا أبو جعفر (أحمد بن عيسى) يشهد لي بسماع هذه الرسالة. ثمّ سأله أن يشهد بما عنده ، وإلّا فليباهله على ذلك!

فلمّا تحقق عليه ذلك قال : قد سمعت ذلك ، ولكن هذه مكرمة كنت أُحبّ أن تكون لرجل من «العرب» لا لرجل من «العجم»! فلم يبرح القوم حتى قالوا جميعاً بالحق.

وفي الخبر : أنّ خيران لم يخرج من منزله حتى قَطع على يديه بموت أبي جعفر الجواد ووصيته إلى ابنه الهادي عليهما‌السلام نحو من أربعمئة إنسان (١) ممّا يشير إلى كثرة الشيعة يومئذٍ ببغداد.

وأرّخ ابن الوردي لوفاة الإمام قال : في سنة (٢٢٠ ه‍) توفي محمد الجواد بن علي بن موسى ، تاسع الأئمة الاثني عشر على مذهب الإمامية ، وصلّى عليه الواثق (٢).

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٣٢٤.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٢.


عهد

الإمام الهادي عليه‌السلام



الإمام الهادي بعد أبيه عليهما‌السلام :

مرّ الخبر عن سهل بن زياد الادمي : أنّ علي بن محمد الهادي عليهما‌السلام ولد في شهر رجب عام (٢١٤ ه‍) (١) فعمره يوم شهادة أبيه الجواد ببغداد في ذي الحجة (٢٢٠ ه‍) : ست سنين. فجاء فزعاً مرعوباً حتّى جلس في حجر عمّته أُم أبيها بنت الكاظم عليه‌السلام ، فسألته : ما بك؟ فقال : مات أبي ـ والله ـ الساعة! فقالت له : لا تقل هذا! قال : هو والله ما أقول لك!

قالت أُم أبيها بنت الكاظم عليه‌السلام : فسجّلنا ذلك اليوم ، فجاء نعيه بعدها في ذلك اليوم (٢).

__________________

(١) تاريخ أهل البيت : ٨٦ ، والكافي ١ : ٤٩٧.

(٢) إثبات الوصية المنسوب للمسعودي : ٢٢٢ ، وعيون المعجزات للحسين بن عبد الوهاب (ق ٤ : ١٣٣) ودلائل الإمامة للطبري الإمامي : ٤١٣ ، الحديث ٣٧٤ ، وعن دلائل الحميري في كشف الغمة ٤ : ٢٢.


ثمّ ظهر للرجال وفيهم هارون بن الفضل قال : استرجع أبو الحسن الهادي عليه‌السلام وقال : مضى أبو جعفر! فقيل له : وكيف عرفت ذلك؟ قال : تداخلتني ذلة لله لم أكن أعرفها (١).

ومع كل التكتّم علم المعتصم بالمنصوص عليه بالإمامة بعد الجواد عليه‌السلام ابنه علي بن محمد الهادي عليه‌السلام وأنّه في أوائل عمر التعليم : السابعة ، فأوعز إلى عامله على المدينة عمر بن فرج الرّخجي (الأفغاني) أن يطلب بها رجلاً معلّماً قارئاً أديباً لا يوالي أهل البيت ، فيوكله بتعليم علي بن محمد عليهما‌السلام ، ويتقدّم إليه بأن يمنع منه «الرافضة» الذين يقصدونه!

فبعد موسم الحج أحضر عمر الرّخجي (الأفغاني) جماعة من المخالفين والمعاندين لأهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أهل المدينة وقال لهم : اطلبوا لي رجلاً من أهل القرآن والعلم والأدب لا يوالي أهل هذا البيت! لأضمّ إليه هذا الغلام (ابن الإمام) وأوكله بتعليمه ، وأتقدم إليه بأن يمنع منه «الرافضة» الذين يقصدونه!

فسمّوا له أبا عبد الله الجُنيدي متقدماً عند أهل المدينة في الفهم والأدب وظاهر «النصب» والعداوة «لأهل البيت» فأحضره عمر بن الفرج وعرّفه : أنّ السلطان (المعتصم) أمره باختيار مثله وتوكيله بهذا الغلام (ابن الإمام) وتقدّم إليه بما أراد وعيَّن له مشاهرة من مال السلطان.

فأصبح الجُنيدي يلازم أبا الحسن عليه‌السلام ومكث على ذلك مدة ، وانقطعت «الشيعة» عنه وعن القراءة عليه! والاستماع منه.

قال الراوي محمد بن جعيد : ثمّ لقيت ابن جُنيد يوم جمعة فقلت له : ما حال هذا الغلام الهاشمي الذي تؤدّبه؟! فأنكر علي وقال : أُنشدك الله! هل تعلم بالمدينة

__________________

(١) بصائر الدرجات بطريقين : ٤٦٧ ، وعنه في بحار الأنوار ٥٠ : ١٣٨ و ١٣٩.


أعلم مني؟! قلت : لا! قال : فإنّي ـ والله ـ أذكر له الحزب من الأدب أظن أني قد بالغت فيه ، فيملي علي فيه باباً أستفيده منه! ويظن الناس أني أُعلّمه! وأنا ـ والله ـ أتعلّم منه! فوالله إنه خير أهل الأرض وأفضل من برأ الله! ثمّ قال : إنّه مات أبوه بالعراق وهو صغير بالمدينة ونشأ بين الجواري السود فمن أين علم هذا؟!

قال الراوي ابن جعيد : ثمّ مرّت الأيام والليالي حتى لقيته فوجدته قد عرف الحق وقال به وبإمامته (١).

وفاة أحمد البزنطي :

في سنة (٢٢١ ه‍) توفي أحمد بن محمد بن أبي نصر الكوفي السكوني (مولاهم) البزنطي (٢) وليست نسبته إلى البيزنطة الروم بل إلى بيع الثياب البزنطية (٣).

حجّ مع صفوان بن يحيى ومحمد بن سنان وعبد الله بن جندب أو ابن المغيرة ، قبل استقدام الرضا عليه‌السلام إلى مرو ، وكان في قرية أبيه الكاظم عليه‌السلام : صُريا بضواحي المدينة ، فدخلوا عليه عصراً قال : فجلسنا عنده ساعة ثمّ قمنا ، فقال لي : أمّا أنت يا أحمد فاجلس! فجلست ، فأقبل يحدّثني وأسأله فيجيبني حتّى ذهب عامة الليل! ثمّ قال لي : يا أحمد ، تنصرف؟ أو تبيت؟ قلت : جعلت فداك ، ذاك إليك ، إن أمرت بالانصراف انصرفت وإن أمرت بالإقامة أقمت. فقال : أقم فقد هدأ الليل ونام الناس. فأقمت.

__________________

(١) شرح الشافية لأبي فراس الحمداني : ٢٥ وعنه في إيقاد القلوب للسيد الشاه عبدالعظيمي.

(٢) الفهرست : ٣٧ ، ورجال النجاشي : ٧٥ برقم ١٨٠.

(٣) قاموس الرجال ١ : ٥٧٣ برقم ٥٠٣.


فنادى جارية : هاتي مضربي ووسادتي فافرشي لأحمد في ذلك البيت!

فجاءت بها وفرشتها ، وقام وانصرف ، وصِرت إلى البيت وأخذ يخطر ببالي : مَن مثلي في بيت وليّ الله وعلى مِهاده! وخررت ساجداً لله وقلت! الحمد لله ، حجة الله ووارث علم النبيين أنس بي من بين إخواني وحبّبني! فأنا في سجدتي وشكري فما علمت إلّاوقد رفسني برجله فقمت فأخذ بيدي فغمزها ثمّ قال لي : يا أحمد! إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام عاد صعصعة بن صوحان في مرضه ، فلمّا قام من عنده قال له : يا صعصعة! لا تجعل عيادتي إياك فخراً على قومك وإخوانك ، اتقِ الله وتواضع لله يرفعك الله! ثمّ انصرف عني (١).

ولم يلقَ الجواد عليه‌السلام وتوفي في أول إمامة الهادي عليه‌السلام بلا رواية له عنهما.

المعتصم والأتراك والقاطول؟! :

مرّ أنّ الرشيد لمّا عزم على العودة بالعاصمة إلى الحيرة ، تخيّر مولّدة منها هي ماردة بنت شبيب الكوفي وحظيت عنده ، وحظى منها بولده المعتصم ، فأُمه مولّدة كوفية (٢) ولم أجد فيما بأيدينا أنها كانت تركية ، واشتهر هذا في المتأخرين فنسبوا إليه أنّه كان يميل إلى أخواله الأتراك ، وإنّما قال المسعودي : أمر المعتصم بشراء الأتراك وجمعهم لجنده حتّى اجتمع له منهم أربعة آلاف ، ألبسهم أنواع الديباج والمناطق المذهّبة والحلى المذهّبة ، فأبانهم بذلك عن سائر جنوده ، واستمد رجال خراسان من الأشروسية ومن فرغانة. واصطنع أقواماً من حوف قيس ومن حوف مصر ومن حوف اليمن وسمّاهم المغاربة! فكثر جيشه.

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٥٨٧ ـ ٥٨٨ ، الحديث ١٠٩٩ و ١١١٠.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٤٥٩.


وكانت الأتراك تؤذي العوام بمدينة السلام بجريها الخيول في الأسواق وما ينال الضعفاء والصبيان من ذلك ، فكان أهل بغداد ربّما ثاروا على بعضهم فقتلوه عند صدمه لامرأة أو شيخ كبير أو صبيّ أو ضرير.

فعزم المعتصم على أن ينتقل منهم إلى فضاء من الأرض.

فنزل البراذان على أربعة فراسخ من بغداد ، فلم يستطب هواءها.

حتّى انتهى إلى الموضع المعروف بالقاطول عند قرية بهذا الاسم للنبَط والجرامقة على نهر بهذا الاسم من فروع دجلة ، واستطاب الموضع ، فبنى هناك قصراً ، وبنى الناس ، وانتقلوا من مدينة السلام وخلت من السكان إلّااليسير! ولكنهم تأذّوا بالبناء لصلابة الأرض وبرد الموضع ، فخرج المعتصم يتحرّى موضعاً آخر (١)!

وفي اليعقوبي : اختطّ موضع المدينة ، وأقطع الناس الإقطاعات ، وجدّ في البناء حتّى بنى الناس القصور والدور وقامت الأسواق ، وذلك في ذي القعدة سنة (٢٢٠ ه‍) ثمّ ارتحل منها (٢).

المعتصم وبناء سامراء :

قال المسعودي : ولمّا تأذّى المعتصم بالموضع وتعذّر البناء فيه خرج يتقرّى المواضع ، فانتهى إلى موضع كان فيه دير عادى (قديم) للنصارى ، فسألهم عن اسم الموضع فقالوا : سامرّا وأنّ في كتبهم هي سام اورا أي مدينة سام بن نوح!

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٤٦٥ ـ ٤٦٦.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٧٢.


فأقام المعتصم هناك ثلاثة أيام يتصيد ، فوجد شهيّة زائدة للطعام ، رآها من تأثير التربة والماء والهواء ، فالأرض صحيحة والهواء طيب والفضاء واسع تسافى فيه الأبصار ، فاستطاب الموضع ودعا بأهل الدير فاشترى منهم أرضهم بأربعة آلاف دينار.

وارتاد لبناء قصره موضعاً عرف بالوزيرية فأسّس بنيانه فيه ، وأحضر له العمال والصّناع وأهل المهن من سائر الأمصار ، ونقل إليها من سائر البقاع أنواع الأشجار والغروس. وجعل للأتراك قطائع متحيّزة ، ثمّ جاورهم بالأشروشية وأهل فرغانة وغيرها من مدن خراسان على قدر اقترابهم في بلادهم! واختُطّت الخطط واقتُطعت القطائع والشوارع والدروب ، وأُفرد أهل كل صنعة بسوق ، وكذلك التجار! وأُجريت المياه من دجلة ، وكذا استُنبطت بالآبار ، فبنى الناس وارتفع البناء وشُيّدت القصور والدور وكثرت العمارة.

وتسامع الناس أنّها اتّخذت دار الملك فقصدوها وأجهزوا إليها أنواع الأمتعة ، وكثر العيش واتّسع الرزق والخصب. وكان بدء ذلك سنة (٢٢١ ه‍) (١).

وفي اليعقوبي : حُفرت الأنهار في شرقي دجلة ، ونصبت الدوالي والدواليب عليها ، وحمل إليها الناس من كل بلد ، وأمرهم أن يعمروها عمارة بلدهم. وحمل إليها قوماً من أرض مصر يعملون القرطاس فعملوها بأدون من جودتها (٢).

وعُرفت سامرّاء باسم العسكر ، والعسكر بالأتراك ، وقال السيوطي : بلغوا بضعة عشر ألفاً! فهجاهم دعبل الخزاعي وفرّ إلى مصر ثمّ غاب في المغرب :

ملوك بني العباس في الكتب سبعة

ولم يأتنا في ثامن منهم الكتبُ

كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة

غداة ثووا فيه ، وثامنهم كلب!

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٤٦٦ ـ ٤٦٧.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٧٣.


وإني لأزهى كلبهم عنك رغبة

لأنك ذو ذنب وليس له ذنب!

وهمّك تركيّ عليه مهانة

فأنت له أُمٌّ وأنت له أبُّ!

لقد ضاع أمر الناس حيث يسوسهم

وصيف وأُشناس ، وقد عظم الخطبُ

وإني لأرجو أن ترى من مغيبها

مطالع شمس قد يَغَصَّ بها الشِرب (١)

المعتصم وبابك الخرّمي :

كان خروج بابك في خلافة المأمون سنة (٢٠٠ ه‍) أو (٢٠١ ه‍) في أتباع صاحبه جاودان بن شهرك الخرّمي ، في جبال البدين من بلاد آذربايجان (٢) وهزم عدّة من جيوش السلطان وقتل جماعة من قوّادها ، واجتمع إليه قُطّاع الطرق وأصحاب الفتن فتكاثفت جموعه حتّى بلغ فرسانه عشرين ألفاً سوى الرَجّالة! فكان جنوده لا يتركون رجلاً ولا امرأة ولا صبياً ولا طفلاً مسلماً أو ذمياً إلّاقتلوه وقطّعوه! واحصي عدد قتلاهم فكانوا مئتين وخمسة وخمسين ألفاً وخمسمئة إنسان! فاستعظمه الناس وداخلهم منه رعب شديد وهول عظيم (٣).

وشايعه عصمت الكردي صاحب مرند ، ومحمد البعيث المبعوث لقتاله! فأرسل المعتصم لقتاله طاهر بن إبراهيم أخا إسحاق بن إبراهيم الخزاعي (مولاهم) عامل بغداد ، وأمره بمحاربة القوم.

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٩٤ ، عن الأغاني ١٨ : ١٠ ، ودعبل في الأخير يترجّى قيام قائم من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٢) التنبيه والإشراف : ٣٠٥ ، ٣٠٦.

(٣) مختصر تاريخ الدول : ١٣٩.


ودخل ابن البعيث من باب المكر بعصمة الكردي فصار إليه إلى مرند وتزوّج ابنته ودعاه إلى منزله وأسكرهم وحملهم ليلاً إلى قلعته شاهي ، وأخبر طاهر بن إبراهيم الخزاعي (مولاهم) بما كان منه وسأله أن يبعث إليه بالبغال والحديد ليحملهم إليه ، ففعل طاهر ذلك. ولكنه كتب إلى المعتصم يُعلمه بخبرهم وأنه في طاعته والتدبير على أصحاب بابك ، وأنفدهم إلى المعتصم فأجازه المعتصم وحباه وأعطاه ، وقال لإسحاق بن إبراهيم : لا أرى الرجلة إلّاعند ابن البعيث وما أرى عند أخيك شيئاً!

ووجّه إلى بابك الأفشين حيدر بن كاووس الأسروشنيّ ، وعقد له على جميع ما يجتاز به من الأعمال ، وحُملت معه خزائن السلاح والأموال! فلمّا صار الأفشين إلى الجبل أخذ من كان به من وجوه الصعاليك ، وأقام في حرب الأفشين عاماً حتّى كثرت الثلوج فرجع إلى برزند فخندق خندقاً وبنى سوراً ، وكمّن الكمناء وزحف إلى مركز بابك في رمضان (٢٢٢ ه‍) واشتدت الحرب ودخل المسلمون إلى بلدته وهرب بابك وستة من أصحابه ، وكان عنده سبعة آلاف وستمئة من أسرى المسلمين فأخرجوهم.

وكتب الأفشين إلى البطارقة بأرمينية وأذربايجان في طلبه وضمن لمن جاء به الصفح عن بلادهم مع ألف ألف (مليون) درهم! وصار بابك إلى سهل بن شباط أو سنباط من البطارقة فأخذه وكتب إلى الأفشين بخبره فأنفذ فأخذه ، وكتب بالفتح إلى المعتصم فقرئ في الآفاق.

وقدم الأفشين على المعتصم بسامرا ، فتلقاه القوّاد والناس على مراحل ، ودخلها ثاني صفر (٢٢٣ ه‍) وقد قدّم بابك بين يديه على فيل ، فقطعت يداه ورجلاه وصُلب (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٧٣ ، ٤٧٤.


وصف المسعودي لنكبة بابك :

قال المسعودي : كثرت حروب الأفشين لبابك وأخيه ، واسمه الحسن وأخوه عبد الله! واتصلت ، حتّى قُتل رجاله وانفضّ جمعه وضاقت به بلاده فامتنع بجبل بدين ، ثمّ تنكّر هو وأخوه وولده وأهله ومن تبعه من خواصه بزيّ أهل قوافل التجارة والسفر وسافر إلى أرمينية من أعمال سهل بن سنباط الأرميني من بطارقتها. فخشى الأفشين أن يعتصم ببعض الجبال المنيعة أو بعض القلاع فيكثر جمعه ويعود إليه فُلّال عسكره ويرجع إلى ما كان من أمره ، فأخذ عليه الطرق وكاتب البطارقة في الحصون والمواضع من بلاد أرمينية وأذربايجان والران وحتّى البيلقان ، وضمن لهم الرغائب.

ومرّ راعي غنم بجمع بابك فساموه شراء شاة وزاد ، فعرف بابك ، فمضى من فوره إلى سهل الأرميني فأخبره الخبر وقال : هو بابك لا شك فيه! فلمّا سمع سهل ذلك من الراعي جمع إليه من حضره من أصحابه وعدده إلى موضع بابك ، فترجّل ودنا منه وسلّم عليه وقال له : أيها الملك! قُم إلى قصرك وموضع يمنعك الله من عدوك! فسار معه إلى قلعته فأجلسه على سريره ، ووطّأ منزله لمن معه. وقدّم له المائدة وقعد إليه ليأكل معه ، فقال له بابك : أمثلك يأكل معي! فقام سهل وعاد بحدّاد وقال له : مدّ رجليك! فأوثقه بالحديد ثمّ قيّد من كان معه.

وأرسل إلى الأفشين يخبره الخبر ، فسرّح إليه الأفشين أربعة آلاف فارس عليهم الحديد! وعليهم خليفة له يقال له : أبو مادّة! فتسلّموا بابك ومن معه ، وأتوا به إلى الأفشين وجاء معهم سهل ، فرفع الأفشين منزلة سهل وتوجّه وخلع عليه وجمّله وأسقط عنه الخراج!

ثمّ كتب بالفتح واطلقت بها الطيور إلى المعتصم! فلمّا انتشر الخبر ضجّ الناس بالتكبير!


وسار الأفشين ببابك بعساكره حتّى نزل القاطول على خمسة فراسخ من سامراء ، فتلقاه هارون الواثق ابن المعتصم ورجال الدولة وأهل بيت الخلافة ، وحملوا معهم للأفشين دُرّاعة من الديباج الأحمر منسوجة بالذهب قد رُصّع صدرها بأنواع اليواقيت والجواهر ، وقلنسوة عظيمة كالبرنس ذات سفاسك بألوان مختلفة ، وعليها كثير من اللؤلؤ والجوهر!

وكان بعض ملوك الهند قد حمل إلى المأمون فيلاً عظيماً ، فاليوم أُتي به وقد جُلّل بالديباج الأحمر والأخضر وأنواع الحرير الملوّن ، ومعه ناقة بُختية عظيمة قد جُلّلت بمثل ذلك فقدم الفيل إلى بابك وإلى أخيه الناقة ، وألبس بابك دُرّاعة جليلة وأخوه أُخرى ، وجعلت القلنسوة على رأس بابك وعلى رأس أخيه أُخرى نحوها. وضرب له المصاف صفين في الخيل والرجال والسلاح والحديد والرايات والبنود من القاطول إلى سامرّاء! مدداً واحداً متصلاً حتّى دخلوا سامراء في الثاني من صفر سنة (٢٢٣ ه‍).

ثمّ نقل المسعودي عن كتاب «أخبار بغداد» لأحمد بن طيفور البغدادي الخراساني : أنّه لما أوقف بابك بين يدي المعتصم لم يكلّمه ملياً ، ثمّ قال له : أنت بابك؟ قال : نعم أنا عبدك وغلامك! فقال : فجرّدوه. فسلبه الخدام ما عليه من الزينة. فأخذ يتكلم بكلام كثير يرغّبهم في أموال له عظيمة! فلم يلتفت إلى قوله : ثمّ أمر بقطع يديه ورجليه ، فأتى بالنطع وقطعت يمينه ثمّ يساره وثلث برجليه وهو يتمرغ في النطع ، ثمّ أمر بجزّ لسانه ، وصلب أطرافه مع جسده.

ثمّ حمل أخوه عبد الله مع رأس أخيه بابك إلى مدينة السلام وأميرها إسحاق بن إبراهيم الخزاعي (مولاهم) ففعل به إسحاق ما فُعل بأخيه بابك بسامراء!

وتوّج الأفشين بتاج من الذهب مرصّع بالجوهر ، وإكليل قد شُبّك بالذهب والياقوت الأحمر والزمرّد الأخضر ، والبس وشاحَين.


وكان للأفشين ابنه الحسن ، ولأشناس بنت توصف بالكمال والجمال فزوّجهما المعتصم ، وأُقيم لهما عرس يجاوز المقدار في البهاء والجمال (١)!

وقال : وكان من أدركه الإحصاء ممن قتله بابك من جيوش المأمون والمعتصم في (٢٢) عاماً : من الأُمراء والقوّاد وسائر طبقات الناس في القول المقلَّل : خمسمئة ألف ، وقيل أكثر من ذلك (٢).

وزاد ابن العبري : أن بابك كان إذا أسر الناس مع نسائهم يفعلون بهنّ بين أيديهم! فلمّا أسره أفشين الأرمني ارتكب الأرمن باخته وامرأته وحتّى أُمه الفاحشة بين يديه! كما كان هو يفعل بالناس إذا أسرهم مع حرمهم! وكان سياف بابك معه فأمر المعتصم بإحضاره فاحضر ، فأمره أن يكون هو يقطع يدي بابك ورجليه فقطعهما فسقط فشق بطنه وذبحه وصلبه (٣).

وفاة الحسن بن علي الفضّال :

أبو محمد مولى بني تيم الله. مات سنة (٢٢٤ ه‍) (٤) وكان شيخاً حلو الوجه حسن الشمائل عليه قميص نرسي (من نواحي الكوفة) ورداء نرسي وفي رجله نعل دقيق الوسط وكان مصلاه في مسجد الكوفة عند الأُسطوانة السابعة أُسطوانة إبراهيم عليه‌السلام. وكان أبو محمد عبد الله الحجّال يدّعي الكلام وكان من أجدل الناس ، فكان ابن فضّال يغري الفضل بن شاذان به في المعرفة (٥).

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٤٦٧ ـ ٤٧١.

(٢) التنبيه والإشراف : ٣٠٥.

(٣) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١٣٩ وأهمل ذكر بابك ابن الوردي وكذا السيوطي.

(٤) رجال النجاشي : ٣٤ و ٣٦ برقم ٧٢.

(٥) اختيار معرفة الرجال : ٥١٥ و ٥١٦ ، الحديث ٩٩٣.


وكان ابن فضّال قد قال بإمامة عبد الله بن جعفر الصادق عليه‌السلام ثمّ الكاظم ثمّ الرضا ثمّ الجواد عليهم‌السلام حتّى سكراته للموت وحضره محمد بن عبد الله بن زرارة بن أعين وعند ابن فضال محمد بن الحسن بن الجهم يقول لابن فضّال : يا أبا محمد تشهّد! فتشهّد بالتوحيد وسكت ، فقال له ابن الجهم : تشهّد! فتشهّد بالرسالة والوصاية والإمامة حتّى صار إلى الصادق فالكاظم عليهما‌السلام! فقال له ابن الجهم : فأين عبد الله الأفطح! فقال ابن فضّال : قد نظرنا في الكتب فلم نجد لعبد الله شيئاً! ثمّ مات ابن فضال ففي تشييعه بشّر محمد بن عبد الله بن زرارة : علي بن الريّان ، ومحمد بن الهيثم التميمي بذلك (١).

وكأن رجوعه عن الفطحية كان متأخراً ولذا خفي على أبنائه محمد وأحمد وعلي ، فلمّا أخبر عليّ بن الريان أحمد بن الحسن بن فضال بما قال أبوه في غمرات موته برواية محمد بن عبد الله بن زرارة ، كذّبه وقال : إنّ محمد بن عبد الله قد حرّف على أبي! ولكن علي بن الريان قال : وكان والله محمد بن عبد الله أصدق عندي لهجة من أحمد بن الحسن ؛ فإنه (ابن زرارة) رجل فاضل دَيّن (٢).

وفاة الحسن بن محبوب :

وبعد الحسن بن فضال بثمانية أشهر مات الحسن بن محبوب السرّاد الكوفي البجلي مولاهم في (٢٢٤ ه‍) (٣) وهو الحسن بن محبوب بن وهب بن جعفر بن وهب السندي عبداً حدّاداً يصنع الزرود ، مملوكاً لجرير بن عبد الله البجلي ، وأراد أمير المؤمنين عليه‌السلام أن يبتاعه منه فأعتقه جرير ، فصار إلى خدمة علي عليه‌السلام.

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٥٦٥ ، الحديث ١٠٦٧.

(٢) رجال النجاشي : ٣٦ برقم ٧٢.

(٣) انظر قاموس الرجال ١ : ٥٦٧ برقم ٥٠٢ ، تصحيحاً للنجاشي : ٧٥ برقم ١٨٠.


وكان محبوب البجلي أبو الحسن يرغّبه أن يكتب أحاديث علي بن رئاب ويعطيه بكل حديث يكتبه درهماً!

وكان الحسن على أصله السندي آدم شديد الأدمة أنزع خفيف العارضين ، ربعة من الرجال ، يعرج قليلاً من وركه الأيمن.

وتلقى الحسن من أبي الحسن الرضا عليه‌السلام رسالة تلقاها منه أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي ، فلمّا التقى ابن أبي نصر بالرضا عليه‌السلام قال له : إنّ الحسن بن محبوب الزرّاد أتانا عنك برسالة. فقال الرضا عليه‌السلام : صدق ، ثمّ قال : لا تقل الزرّاد بل السرّاد فإنّ الله تعالى يقول : (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ (١)).

غارة الروم على بلاد الإسلام :

في سنة (٢٢٣ ه‍) خرج توفيل بن ميخائيل ملك الروم إلى بلاد الإسلام حتّى بلغ بلدة زِبَطرة ، فقتل من بها من الرجال وسبى النساء والذرية ، وأغار على ملطية وغيرها ، وسبى المسلمات ، ومثَّل بمن صار في يده من المسلمين : فسمل أعينهم وقطع آذانهم وأُنوفهم (٢)!

وبلغ ذلك إلى المعتصم وأن امرأة هاشمية! لما أسرها الرومان صاحت في أيديهم : وا معتصماه! فنهض من مجلسه ، وجمع عساكره وسار في شهر جمادى منها : (٢٢٣ ه‍) (٣) وقدم الأفشين حيدر بن كاووس الأشروسني ، فالتقى بالطاغية توفيل على ميلين من لورله ، فقاتله وقتل من أصحابه أربعة آلاف حتّى هزمه!

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٥٨٤ ، ٥٨٥ ، الحديث ١٠٩٤ و ١٠٩٥. والآية ١١ من سورة سبأ.

(٢) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١٣٩ ، ١٤٠.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٣.


وسار المعتصم حتّى نزل على عمورية وخرّب ما مرّ به من قراهم! ووافاهم الأفشين فافتتحها في (١٧) رمضان ، فقتل بها مقتلة عظيمة وسبى سبايا كثيرة ، ثمّ خرّب المدينة وهدمها! ثمّ توجّه إلى أنقرة فخرّبها وهربت الروم في كل وجه ، وبيده أربعة آلاف من أسراهم فقتلهم ، ثمّ لم يزل يقتل الأسرى في مرجعه ويحرق ما يمرّ به حتّى دخل بلاد الإسلام (١).

وقال اليعقوبي العباسي : في عام (٢٢٣ ه‍) انتهى الخبر إلى المعتصم : أنّ الروم دخلت زبطرة فقتلوا وأسروا كل من فيها! فلمّا اخبر المعتصم بذلك قام نافراً وجلس على الأرض (وليس فيه خبر المرأة) ثمّ ندب الناس للخروج وعسكر في يومه بالعيون في غربيّ دجلة ووضع ديوان العطاء ، وقدم اشناس التركي بمقدمته ، وخرج هو في (٦) جمادى الأُولى حتّى دخل أرض الروم إلى عمورية ، وكانت من أعظم مدائنهم وأكثرها عُدّة ورجالاً ، فحاصرها حصاراً شديداً.

وبلغ طاغية الروم فزحف في خلق عظيم ، فلما دنا منهم وجّه المعتصم بالأفشين في جيش عظيم ، فلقى الطاغية وأوقع به وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة حتّى هزمه!

فأوفد طاغية الروم من قبله وفداً إلى المعتصم يقول : إنّ الذين فعلوا بزبطرة ما فعلوا تعدّوا أمري! وأنا أبنيها بمالي ورجالي وأردّ من أُخذ وما أُخذ من أهلها ، وأُخلّي جملة من في بلد الروم من اسارى المسلمين ، وأبعث إليك بالقوم الذين فعلوا بزبطرة! فلم يقبل المعتصم وردّ وفده وعرضه!

وبقي على عمورية حتّى فتحها في (١٧) رمضان فقتل وسبى جميع من

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٣١٦ ، ٣١٧.


فيها وفيهم باطس خال توفيل الملك! ثمّ أخرب وأحرق كل ما اجتاز به من بلادهم حتّى انصرف منها (١).

وقال المسعودي : في سنة (٢٢٣ ه‍) خرج توفيل ملك الروم في عساكره ومعه ملوك الصقالبة (= زاگرب) والبرغر والبرهان وغيرهم ممن جاورهم من ملوك الأُمم! حتّى نزل على مدينة زبطرة في ثغر الخزر! فافتتحها وقتل الكبار والصغار وسبى ، ثمّ أغار على ملطية ، فضجّ الناس في الأمصار واستغاثوا في المساجد! وبلغ الخبر إلى المعتصم.

فلبس المعتصم دُرّاعة صوف بيضاء وتعمّم بعمامة الغزاة وخرج فعسكر في غربيّ دجلة ، في الثاني من جمادى الأُولى (٢٢٣ ه‍) ونودي في الأمصار بالنفير والسير مع الخليفة! فسارت إليه العساكر والمطوّعة من المسلمين ، فلم يكن يُحصون عدداً ولا يُضبطون كثرة فالمقلّل يقول : مئتي ألف ، والمكثر يقول : خمسمئة ألف! وجعل على مقدّمته أشناس التركي ، وعلى ميمنته ايتاخ التركي ، وعلى ساقته بُغا التركي الكبير ، وعلى ميسرته جعفر بن دينار الخياط! فدخل الأفشين من درب الحدث ، ودخل المعتصم من درب السلامة وسائرهم من سائر الدروب.

فلقى ملك الروم الأفشين فحاربه فقتل الأفشين أكثر بطارقته وأصحابه ، وولّى توفيل وحماه رجل من متنصّرة الشام يقال له نصر في خلق من أصحابه ، وقصّر الأفشين عن أخذه حين ولّى وقال : هو ملك والملوك تُبقي بعضها على بعض!

وفتح المعتصم حصوناً كثيرة حتّى نزل على مدينة عمورية (٢) لما بلغه أنّ عمورية أشرف عندهم حتّى من القسطنطينية فهي عين النصرانية! وفرّق عسكره

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٧٥ ، ٤٧٦.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٤٧٢ ، ٤٧٣.


ثلاث فرق فخربوا بلاد الروم وأحرقوا حتّى وصلوا إليه إلى عمورية ، فنصبوا المجانيق حتّى فتحوا بالمنجنيق ثغرة في سورها فهجموا عليهم منها ونهبوا وسبوا ، وأقبلوا بالسبي والأسرى من كل جهة (١).

وقال المسعودي : وكان عليها البطريق لاوي فخرج إليه وسلّمها إليه! وكان البطريق الكبير بها باطس (خال توفيل الملك) فاسر (٢) ، وقتل منها ثلاثين ألفاً! وأقام المعتصم عليها أربعة أيام يهدم ويحرق. وأراد أن يرحل فينزل على خليج القسطنطينية ويحتال في فتحها برّاً وبحراً ، إلّاأنّه أتاه ما أزعجه : أنّ (قائده العربي عُجيف بن عنبسة حسداً للقواد الأتراك) بايع للعباس بن أخيه المأمون وأنّه قد كاتب طاغية الروم! فأعجل المعتصم وأزاله عمّا كان عزم عليه ، فأمر بحبس العباس وأشياعه (٣).

مصير العباس بن المأمون :

بلغ المعتصم : أنّ عُجيف بن عنبسة (من قوّاده العرب) كان السبب في معصية العباس بن المأمون ، واجتماع من اجتمع إليه من القوّاد ، فلمّا انصرف المعتصم إلى أدَنة أمر بحبس العباس ومصادرة ما معه من الأموال ، فأحصوه فوجدوا له مئة ألف وستة عشر ألف دينار! فأمر أن تفرّق على الجند فيلعنوه! فأحصوا الجنود هناك فوجدوا ثمانين ألف مرتزق (وليس مئتي ألف ولا خمسمئة ألف كما مر) فدفع إليهم دينارين دينارين وأتمّ المعتصم المبلغ من عنده.

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٣ ، وفي ابن العبري : ١٤٠.

(٢) ثمّ صُلب في سامراء إلى جانب بابك ، مروج الذهب ٤ : ٤٧٤.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٤٧٣.


ودفع العباس إلى الأفشين مقيداً ، فقيل : إنّ الأفشين أطعمه طعاماً مالحاً وكان الفصل صيفاً حاراً شديد الحرّ ومنعه من الماء فتوفي فحمل إلى منبج فدفن بها.

وقبض المعتصم على عُجيف بن عنبسة فحمله من أدنة مثقلاً بغلٍّ عظيم في عنقه وقد خيط لبود على فيه ، فلما صار في باعيناثا قبل نصيبين مات ودُفن بها! وتبرّأ منه ابنه صالح وقال : إنما هو صالح المعتصمي وليس ابن عُجيف (١)!

مصير الأفشين الأشروسني :

كان الأفشين حيدر بن كاووس الأشروسني متزوجاً اخت منكجور الفرغاني وكان هذا معه في حرب بابك ، فلمّا قلع بابك خلّف عنه على آذربايجان وأرمينية خال ولده منكجور الفرغاني ، وخلّف على ورثان محمد بن عبيد الله الورثاني ومعه جماعة من أولياء السلطان. ثمّ إنّ منكجور جمع إليه فلول جنود بابك وسار بهم إلى ورثان فقاتل محمد الورثاني وقتله ومعه جماعة أولياء السلطان! وبلغ الخبر إلى المعتصم فطلب من الأفشين أن يوجّه إليه من يُحضره ، فوجّه إليه الأفشين بديوداد أبي الساج في جيش عظيم. ثمّ رُقي إلى المعتصم أنّ منكجور إنما خلع بتحريك صهره الأفشين!

وفي عهد المأمون مات اسپهبد طبرستان قارن بن بنداد هرمز واستولى عليها أخوه ، فقدم ابنه المازيار محمد بن قارن على المأمون فكتب المأمون إلى عمّه بتسليم مدينتين من طبرستان إلى ابن أخيه المازيار محمد بن قارن ، وتوجّه المازيار إلى عمّه وخرج عمه إليه كأنه يتلقاه فقتل المازيار عمّه واجتمعت عليه

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٧٦.


الكلمة وضبط البلاد ، ثمّ تفاقم أمره حتّى خلع وأظهر المعصية! فقيل إنّ الأفشين كاتبه وحمله على الخلع! فأمر المعتصم بحبس الأفشين سنة (٢٢٦ ه‍).

ووجّه المعتصم ببغا التركي لحرب منكجور ، فلمّا صدقه القتال ضرع منكجور لطلب الأمان ، فقدم به بغا معه إلى سامراء. ووجّه بمحمد بن إبراهيم لحرب المازيار في جيش ، وكتب إلى عبد الله بن طاهر الخزاعي (مولاهم) على خراسان أن يمد محمداً بالجيوش فحاربوه حتّى خرج المازيار ليلاً إلى قرابة لعبد الله بن طاهر فقدم به إلى سامراء سنة (٢٢٦ ه‍) (١).

وحيث كان المازيار زعم : أنّ الأفشين حمله على العصيان والطغيان جمع القاضي أحمد بن أبي دؤاد الإيادي بينهما وقال للمازيار : هذا الذي زعمت أنّه حملك على المعصية؟!

فقال له الأفشين : والله إنّ الكذب قبيح من السوقة فكيف بالملوك! والله ما ينجّيك كذبك هذا من القتل فلا تجعل خاتمة أمرك الكذب!

فقال المازيار : إنما أرسلت إليه وكيلي أبا الحارث فأخبرني أنه لما قدم عليه أكرمه وبرّه! والله ما كتب إليّ ولا راسلني!

فضُرب المازيار حتّى قُتل وصُلب إلى جانب بابك ، ورُدّ الأفشين إلى السجن حتّى اخرج ميتاً فصُلب عرياناً على باب العامة! ثمّ انزل فاحرق بالنار (٢)!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٧٦ ـ ٤٧٨ ، وفي مروج الذهب ٤ : ٤٧٣ : أنّ عبد الله بن طاهر الخزاعي (مولاهم) سيّر إليه عمّه الحسن بن الحسين الخزاعي من نيشابور فحاربه حتّى نزل مدينة سارية ، وأتت عيون الحسن إليه أنّ المازيار خرج في نفر يسير للصيد ، فبادره الحسن وناوشه حتّى أسره إلى سامراء فأقرّ على الأفشين.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٧٨.


واحضرت أصنام زعموا أنها حُملت إليه ، فالقيت في النار واضرمت حتّى أتت على الأربعة : بابك وباطس والأفشين ومازيار (١).

موت أبي دُلف العجلي :

في سنة (٢٢٦ ه‍) مات أبو دُلف القاسم بن عيسى العجلي رئيس عشيرته من عجل من ربيعة ، وكان الغالب عليه «التشيع» والميل إلى علي عليه‌السلام وله ابنان : دُلف وبه كان يكنى أبا دلف ، وعيسى لغير أُمه.

وذُكر عن عيسى أنّ أخاه دلف كان ينتقص علي بن أبي طالب عليه‌السلام ويضع منه ومن «شيعته» وينسبهم إلى الجهل ، ويكذّب الحديث النبوي الشريف : «يا علي لا يحبّك إلّامؤمن لرِشدة ، ولا يبغضك إلّاابن زنا أو ابن حيض».

وفي يوم من الأيام كان في مجلس أبيه ولم يكن أبوه حاضراً فقال عن «الشيعة» : إنهم يزعمون أنّه لا ينتقص علياً أحد إلّاكان لغير رِشدة! وأنتم تعلمون غِيرة الأمير (يعني أباه) وأنّه لا يتهيّأ الطعن على أحد من حُرمه ، وأنا أُبغض علياً!

قال عيسى بن أبي دُلف : فما كان بأوشك من أن خَرج أبي ، فلمّا رأيناه وقفنا له ، فقال : قد سمعت ما قاله دُلف ، والحديث لا يُكذب! والخبر الوارد في هذا المعنى لا يختلف! هو ـ والله ـ لِزَنية وحَيضة! وذلك أنّه كانت لُاختي جارية كنت معجباً بها ، وكنت عليلاً فبعثَتها اختي تمرّضني فلم أتمالك أن وقعت عليها! وكانت حائضاً! فلما ظهر حملها وهبتها لي!

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٤٧٤ ، وزاد ابن العبري في مختصر تاريخ الدول : ١٤٠ : ووجد بقلفته لم يُختن!


فلمّا توفي أبو دلف بلغ من عداوة دُلف هذا لأبيه و «نصبه» ومخالفته له إلى أن شنّع على أبيه بعد وفاته قال : أتاني آت في منامي بعد موت أبي فأدخلني داراً وَعِرة وَحشة فأصعدني في درج إلى غرفة فيها رماد وأثر نار وأبي جالس واضع رأسه بين ركبتيه فلمّا رآني قال لي :

فلو أنّا إذا متنا تُركنا

لكان الموت راحة كل حيّ

ولكنّا إذا متنا بُعثنا

ونُسأل بعده عن كل شيء

ثمّ قال : أفهمت؟ قلت : نعم ، ثمّ انتبهت (١) وابن الوردي أورد وفاته سنة (٢٢٥ ه‍) (٢).

وفاة المدائني البصري :

أورد ابن الوردي وفاة علي بن محمد المدائني المؤرخ المشهور في (٢٢٥ ه‍) (٣) وهو أبو الحسن المدائني البصري الأخباري (المؤرّخ) صاحب المغازي والأنساب والتصانيف الكثيرة ، منها : كتاب خطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتاب خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام وكتاب الفاطميات! وكتاب من قُتل من الطالبيين.

وقد أكثر الخبر عنه المعتزلي المدائني في شرحه لنهج البلاغة (٤) ، وله كتاب مقتل الحسين عليه‌السلام ونقل عنه المفيد في «الإرشاد» وفي «الجمل»

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٤٧٥ ووقوع الحمل في الحيض لا يكون إلّابإخصاب البيضتين للمرأة أو بالاشتباه في تاريخ البداية والنهاية للعادة الشهرية للنساء.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ١١٣.

(٣) المصدر السابق.

(٤) ثلاثون مورداً كما فهرس أعلام كتابه.


خطبة لأمير المؤمنين عليه‌السلام (١) توفي في بغداد وقد جاوز التسعين (٢).

كأن ابن العماد الحنبلي حسبه منهم ولذا ذكره في كتابه وقال : وثّقه ابن مَعين وغيره (٣) إلّا أنّ ابن الجوزي الحنبلي أيضاً ذكره في كتابه ونقل عن ابن عدي أنّه اعتدى عليه ليس في أخبار تاريخه ولكن في الحديث حيث قال : ليس بالقوى في الحديث (٤) ولعل ذلك لعلّة كتبه السابقة! وممّن نقله عنه خليفة بن خياط العصفري البصري (م ٢٤٠ ه‍) (٥).

وبِشر الحافي الصوفي :

قال المسعودي : وفي (٢٢٧ ه‍) في بغداد مات بشر الحافي المروزي (٦) بشر بن الحارث بن عبد الرحمن ، العارف الصوفي ، قيل : كان أصله من مرو وسكن بغداد وتورّط بالفساد واللهو واللعب والغناء والطرب وحتّى الشرب! ومرّ بداره الكاظم عليه‌السلام وقال فيه : لو كان عبداً لما كان يفعل هكذا! فخشع قلبه لذكر الله وتاب وأناب على يده عليه‌السلام! ثمّ أصبح من أقطاب طرق الصوفية ببغداد! حتّى توفى بها في (٢٢٦ ه‍) (٧) هذا والكاظم عليه‌السلام إنما كان ببغداد في الأصفاد حتى توفى بها في (١٨٣ ه‍) فمقايسة تاريخي الوفاة تكفي لاستبعاد قصة بشر الحافي مع

__________________

(١) الجمل : ١٢٥ ، والإرشاد ٢ : ٣٢.

(٢) هدية الأحباب : ٢٥٦.

(٣) شذرات الذهب ٢ : ٥٤.

(٤) كتاب الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي ٢ : ١٩٨.

(٥) تاريخ خليفة ، مقدمة المحققين : ٨ ومثالاً : ١٦ عن المدائني عن موسى بن عقبة : مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٦) مروج الذهب ٤ : ٤٧٦.

(٧) هدية الأحباب بالفارسية : ١٤٠.


الكاظم عليه‌السلام ، والقصة لا مصدر لها ، والتمحّل لها بالإعجاز تقوّل بلا دليل! بل هل تلك كرامة وهداية أن يتحول الشاب المترف المُسرف إلى شيخ أو قطب متصوّف منحرف مخالف؟! اللهمّ إلّالأتباعه المتصوّفة!

وموت الخليفة المعتصم :

قال المسعودي : لساعتين! من ليلة الخميس (١٨) من ربيع الأول (٢٢٧ ه‍) كانت وفاة المعتصم ، بقصره المعروف بالخاقاني على دجلة بسامراء. وأورد يعقوب ابن إسحاق الكندي لُمعاً من سيرته في رسالة ترجمها باسم «سبيل الفضائل» (١).

وقال : كان أبيض أصهب حسن الجسم جميل الوجه ، مربوعاً ، مشرّباً بحمرة ، عريض الصدر ، شديد البدن طويل اللحية. لا يقاس به الرجال قوة بدن وشدة بأس وشجاعة قلب! إلّاأنّه آثر المحدثين من غلمانه الأتراك على المتقدمين من أوليائه ونصحاء آبائه ، ومات دون الخمسين (٢).

وقال ابن العبري : وفيها مات توفيل ملك الروم وابنه ميخائيل بن توفيل صبيّ فملّكت امه ثاودورا (٣).

وبويع وليّ عهد المعتصم ابنه هارون الواثق بالله (٤) وامه قراطيس أُم ولد (٥) رومية (٦).

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٤٧٦.

(٢) التنبيه والإشراف : ٣٠٦ ، ٣٠٧.

(٣) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١٤١.

(٤) تاريخ خليفة : ٣١٧.

(٥) اليعقوبي ٢ : ٤٧٩.

(٦) مروج الذهب ٣ : ٤٧٧.


هارون الواثق بالله! :

كان الواثق أبيض تعلوه صفرة في عينه نكتة ، حسن اللحية (١) وكان مؤدّبه هارون بن زياد ، فكان الواثق يكرمه (٢) وإنما علّمه علوم العربية لم يخلط بعلم العربية شيئاً! ومع ذلك كان عمّه المأمون يقدّمه على ولده ، ويقال له : المأمون الأصغر ، لأدبه وفضله (٣).

ولما نُعي المعتصم في بغداد وثب عوام الجند والغوغاء في الجانب الشرقي ببغداد بقاضيهم شعيب بن سهل وانتهبوا داره! وكان إسحاق بن إبراهيم الخزاعي (مولاهم) في سامرّاء فلمّا بايع للواثق توجه في ساعته إلى بغداد وسار ليلته كلها فوصلها قبل طلوع الفجر ، فوكّل بالأطراف والسجون ، وأحضر القوّاد والوجوه وأخذ عليهم البيعة ، ووجّه إبراهيم الديزج ومعه جمع إلى دار شعيب القاضي فصاروا به إلى دار إسحاق الوالي.

وعقد الواثق من قوّاده لأُشناس التركي من بابه إلى آخر عمل المغرب ، وكتب لمحمد بن إبراهيم الأغلب بولاية المغرب من قبله. وكانت السند قد اضطربت وقُتل عاملها عمران بن موسى ، فولّى الواثق ايتاخ التركي من كور دجلة إلى خراسان إلى السند!

وبنعي المعتصم بدمشق وثب بها ابن بيهس الكلابي ومعه بنو كلاب وجمع كثير من بطون قيس. وفي فلسطين أبو حرب المبرقع تميم اللخمي في قبائل لخم وجذام وعاملة وبلقين. وفي برقة مصر كان البربر ومعهم قوم من قريش وعاملهم محمد بن عبدويه بن جبلة فوثبوا عليه وخلعوه. فوجّه إليهم الواثق رجاء بن

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٠٢.

(٢) المصدر : ٤٠٤.

(٣) المصدر : ٤٠٣.


أيوب الحضاري ، فبدأ بأسر ابن بيهس الكلابي من دمشق ثمّ سار إلى تميم اللخمي في فلسطين فأسره وسيّرهما إلى سامراء. ثمّ توجه إلى برقة مصر فظفر بجمع منهم فحملهم ورجع بهم إلى سامراء.

ووجّه المعتصم بأخيه جعفر (المتوكل) مع أُمّه للحجّ فكان هو أمير الحاج لتلك السنة (٢٢٧ ه‍) (١).

وبنى الواثق لنفسه قصراً على شط دجلة وسمّاها باسمه : القصر الهاروني ، له دكتان شرقية وغربية ، وانتقل من قصور المعتصم إلى قصره هذا. وكان الغالب عليه قاضيه أحمد بن أبي دؤاد الإيادي ووزيره محمد بن عبد الملك الزيّات. وعلى حرسه إسحاق بن يحيى ، وعلى شرطه إسحاق بن إبراهيم الخزاعي (مولاهم) (٢).

وكان إبراهيم بن رباح مقدّماً عنده فولّاه «ديوان الضياع» وكان كاتبه نجاح بن سلمة ففوّض إبراهيم أُمور الضياع إليه وإلى يمان النصراني ، واشتغل إبراهيم باللهو ، فتجافيا عن أموال كثيرة. فشكوهما إلى الواثق فأمر بقبض ضياعه وأمواله ونقل الديوان إلى عمر بن فرج الرخجي (الأفغاني) (٣).

وفي سنة (٢٢٨ ه‍) غزا المسلمون في البحر جزيرة صقلية وفتحوا مدينة مسيني (٤) وأماكن من الجزيرة ، بقيادة محمد بن عبد الله بن الأغلب (رأس الأغالبة) وأقام في بلدة بلزم يجهّز الجيوش فيفتح ويغنم حتّى مات (٥).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٧٩ ـ ٤٨٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٣.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨١ والرخج من نواحي كابل في أفغانستان اليوم.

(٤) تاريخ مختصر الدول : ١٤١.

(٥) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٤ وقال : مات في (٢٣٧ ه‍).


وفاة أبي تمام الطائي الشيعي :

قال المسعودي : في سنة (٢٢٨ ه‍) كانت وفاة أبي تمّام بالموصل (١) وذكره ابن النديم في «الفهرست» ولم يذكره الطوسي في «الفهرست» فاستدركه عليه النجاشي في «فهرست أسماء مصنّفي الشيعة / رجال النجاشي» وذكر له كتابين : كتاب الحماسة ، وكتاب مختار شعر القبائل ، وذكر طريقه إليهما : أبو أحمد بن الحسين البصري وذكر عنه أنّه رأى نسخة عتيقة لعلّها كُتبت في أيامه أو قريباً منها فيها قصيدة يذكر فيها الأئمة حتّى انتهى إلى أبي جعفر الثاني عليه‌السلام (وإنما هي نسخة قصيدة وليست نسخة كتاب كبير).

ثمّ نقل عن «كتاب الحيوان» للجاحظ البصري قال : حدّثني أبو تمام الطائي وكان من رؤساء «الرافضة» (٢).

هو حبيب بن ثيودوس العطار الطائي النصراني من قرى الجيدور من أعمال دمشق بالشام ، وأسلم حبيب وانفصم عن أهله إلى مصر وبدّل اسم أبيه إلى أوس وأخذ يسقي الماء في المسجد الجامع في فسطاط ، وكان فهماً فطناً فجالس الأُدباء بالجامع فتعلّم منهم وأخذ عنهم وأحبّ الشعر فتعاطاه حتّى قاله وأجاده وشاع ذكره وسار شعره حتّى بلغ خبره إلى المعتصم لمّا كان على مصر على عهد أخيه المأمون. فلمّا بنى سامرّاء دعاه إليها وقدّمه على شعرائه ، ولم يمنعه ذلك عن تشيّعه بل إماميته ، ومن شعره في الغدير :

فعلتم بأبناء النبيّ ورهطه

أفاعيل أدناها الخيانة والغدر

ومن قبلهم أخلفتم لوصيّه

بداهية دهياء ليس لها قدر

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٤٨٠ ـ ٤٨٧ وأطال المقال فيه واتهمه بترك الفرائض والخلاعة والمجون!

(٢) رجال النجاشي : ١٤١ برقم ٣٦٧.


أخوه إذا عُدّ الفخار وصهره

فلا مثله أخٌّ ولا مثله صهر!

وشُدّ به أزر النبيّ محمد

كما شُدّ من موسى بهارونه الأزر!

هو السيف «سيف الله» في كل مشهد

وسيف الرسول لا كليل ولا دثر

بأُحد وبدر حين ماج برَجله

وفرسانه أُحد وماج بهم بدر

ويوم حنين والنضير وخيبر

وبالخندق الثاوي بساحته عمرو

ويوم الغدير استوضح الحق أهله

بفيحاء لا فيها حجاب ولا ستر

أقام رسول الله يدعوهم بها

ليقربهم عرف وينآهم نُكر

يمد بضبعيه ويُعلم أنّه

وليّ ومولاكم ، فهل لكم خُبر

فكان له جهر بإثبات حقّه

وكان لهم في بزّهم حقّه جهر (١)!

أحداث الثلاثين بعد المئتين :

كانت أقاصي الأندلس (إسپانيا) بيد النصارى ، فخرجوا منها بمراكبهم في البحر إلى بلاد المسلمين بها ، وعليها عبد الرحمن الأُموي ، حتّى دخلوا إلى حاضرة اشبيلية ، فوافاهم عبد الرحمن والمسلمون من كل جهة فانهزموا ، وغنم المسلمون أربعة من مراكبهم بما فيها (٢).

وتوفي في هذه السنة (٢٣٠ ه‍) أُشناس التركي فحُوّل عمله إلى ايتاخ التركي ، وتُركت أمواله وضياعه بحالها لولده وقام بها عبد الله بن صاعد. وكانت لأُشناس أعمال الجزيرة والشامات ومصر والمغرب ، ويدبّرها كاتبه أحمد بن الخصيب ، فرُفع إلى الواثق أنّه قد حاز أموالاً عظيمة ، فقبض أمواله وأموال أخيه إبراهيم وعُذّبا وعذّبت أُمهما!

__________________

(١) انظر الغدير ٣ : ٤٧٠ ـ ٤٩٠ / ٢٠ صفحة.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٤ وفيه : المجوس بدل النصارى!


وضعف أمر السلطان في أرمينية وتغلّب بها ملوك الجبال وباب الأبواب «دربند» على ما يليهم من البطارقة والعرب ، فجهّز الواثق لهم جيشاً عظيماً بقيادة خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني ، فكتب إليه أكثرهم أنّهم لم يزالوا في الطاعة ووجّهوا إليه بهداياهم ، فقال : لا أقبل إلّاممّن يأتيني! واعتلّ خالد أياماً ثمّ مات ، وكان معه ابنه محمد بن خالد فولّاه الواثق مكان أبيه ، ولكن تفرّق أصحابه ، فكتب محمد بن خالد بذلك إلى الواثق فوجّه إليه أحمد بن بسطام ليردّهم ، فتوجه إلى نصيبين فضرب وحبس وأحرق دوراً حتّى ردّ إليه أصحاب أبيه فحارب بهم حتّى هزمهم وضبط البلاد (١).

واجتمع بطون من قيس في طريق الحجاز والحاج على رئيس لهم من سُليم يقال له عزيرة الخُفّافي السلمي وبايعوه بالخلافة! وأخذوا يقطعون الطرق وتخلّف الناس عن الحج! فوجّه الواثق بُغا التركي الكبير وأمره أن يقتل من يراه من الأعراب! فقاتلوه فقَتل خلقاً عظيماً منهم وصلبهم على الأشجار. وكانت قد بقيت بالمدينة دار كبيرة ليزيد بن معاوية ، فأسر كثيراً وحبسهم بها ، فنقبوه وخرجوا فقتل كثيراً منهم أهل المدينة ، وحمل بُغا الباقين منهم أُسراء إلى سامراء (٢).

كان عمر الهادي عليه‌السلام يومئذٍ (١٨) عاماً ، وكان يوم دخل بُغا التركي بتعبئته المدينة أبو هاشم الجعفري وجماعة عند الإمام فقال لهم : اخرجوا بنا حتّى ننظر إلى تعبئة هذا التركي!

قال أبو هاشم : فخرجنا فوقفنا على دوابنا فمرت بنا تعبئته وفيها تركي كلّمه أبو الحسن عليه‌السلام بالتركية. فنزل الرجل عن فرسه ووقع إلى الأرض حتّى قبّل حافر دابة أبي الحسن عليه‌السلام.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨١.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٠.


قال أبو هاشم فدنوت منه وسألته : ما قال لك الرجل؟ قال : إنّه دعاني باسم سُمّيت به في بلادنا في صِغري ، ما علمه أحد حتّى الساعة! فهل هو نبي؟ قلت : لا (١).

الواثق ، وخلق القرآن ، وفك الأسرى :

وفي سنة (٢٣٠ ه‍) كتب الواثق إلى القضاة أن يمتحنوا الناس في خلق القرآن في البلدان ، فلا يجيزوا إلّاشهادة من يقول بالتوحيد (ونفي القديم مع الله ومنه القرآن) فحُبس بهذا السبب كثير. (وكان على الروم ثيادور امّ ميخائيل بن توفيل الملك تنوب عنه) فكتبت إلى الواثق تذكر كثرة أُسارى المسلمين عندهم وتدعوه إلى الفداء.

فولّى الواثق ذلك الثغر أحمد بن سعيد الباهلي ، وجهّز جيشاً قوامه سبعون ألف رامح عليهم خادمه خاقان التركي ومعه جعفر بن أحمد الحذّاء ، حتّى صاروا على مرحلتين من طرسوس مدفن عمّه المأمون على نهر اللامس ، فوقف جعفر والخاقان على القنطرة ، فكلّما اطلق أحد من الأسرى سألوه عن خلق القرآن وإنما يفادى من يقول بخلقه ، ثمّ يُدفع إليه ثوبان وديناران حتّى بلغوا خمسمئة رجل وسبعمئة امرأة! وذلك في المحرم سنة (٢٣١ ه‍).

هذا ما قاله اليعقوبي في أرقام اسارى المسلمين عند الروم ، وقاربه السيوطي إذ قال : في هذه السنة (٢٣١ ه‍) فُكّ من الروم ألف وستمئة أسير مسلم ، فقضى ابن دؤاد «قبّحه الله»؟ أنّ من امتنع منهم من القول بخلق القرآن دعوه في الأسر! ومن قال به خلّصوه وأعطوه دينارين (٢)!

__________________

(١) إعلام الورى ٢ : ١١٧ عن كتاب أخبار أبي هاشم الجعفري لابن عياش الجوهري. وأرسله في الخرائج والجرائح ٢ : ٦٧٤ ، الحديث ٤.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٠١.


وفارقهم خليفة فقال : فُدي من المسلمين نحو من أربعة آلاف وستمئة ونحوها من النساء والصبيان (١).

وقاربه ابن العبري فقال : في سنة (٢٣١ ه‍) اجتمع المسلمون على نهر اللامس على مسيرة يوم من طرسوس ، وكان الواثق قد أمر خاقان خادم الرشيد! أن يمتحن من يُفك من أسرى المسلمين فمن قال : القرآن مخلوق ، وأنّ الله لا يُرى في الآخرة فودي واعطي ديناراً! ومن لم يقل بذلك ترك في أيدي الروم ، فكان المسلمون يطلقون أسيراً رومياً فيطلق الروم أسيراً ، فإذا وصل الأسير إلى المسلمين كبّروا ، وإذا وصل الأسير الرومي إليهم صاحوا : كرياليسون! حتّى فرغوا. فكان عدة أُسارى المسلمين : أربعة آلاف وأربعمئة وستين نفساً ، والنساء والصبيان ثمانمئة! ومئة نفس من أهل الذمة مع المسلمين!

وبعد فراغ المسلمين من مفاداة أسراهم من الروم غزوهم ، وكان الفصل شتاءً ، فأصابتهم أمطار وثلوج فأُسر منهم مئتان أيضاً ، ومات مئتان ، وغرق نحوهم في البدندون (٢).

ولا مرجّح لقول المُقلّين فالراجح قول المكثرين.

ومن ردود الأفعال للإصرار على القول بخلق القرآن ، ما حدث في بغداد كما يلي :

قال اليعقوبي : وصار أحمد بن نصر الخزاعي البغدادي لبعض أُموره إلى أحمد بن أبي دؤاد الإيادي القاضي في سامراء ، فردّه ولم يقض أمره ، فجعل يشهد عليه بالكفر لقوله بخلق القرآن حتّى مال معه قوم للعصيان بسبب

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٣١٩.

(٢) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١٤١.


القرآن غضباً للدين! فخرجوا معه يضربون الطبول إلى ناحية صحراء أبي السريّ. وبلغ خبرهم إلى الواثق.

فكتب الواثق إلى إسحاق بن إبراهيم الخزاعي والي بغداد بإشخاص أحمد بن نصر الخزاعي ، فأشخصه إليه ، فكلّمه بكلام غليظ ، وحضر قوم فشهدوا عليه بشهادات ، وأبى أن يقول بخلق القرآن فشتمه الواثق فردّ عليه بمثله! فضرب عنقه بيده ، وصلبه بسامراء ، ووجّه برأسه فنُصب بالجانب الشرقي ببغداد (١) هذا ما قاله اليعقوبي.

وقال السيوطي : كان أحمد بن نصر من أهل الحديث ، فقام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! فأحضره الواثق موثوقاً إلى سامراء ، فسأله عن القرآن ورؤية الله يوم القيامة! فقال : أما القرآن فليس بمخلوق! ولرؤية الله يوم القيامة روى له الحديث! فكذّبه الواثق! فقال له : بل أنت تكذب! فقال له : ويحك! يُرى كما يُرى المحدود المتجسّم ويحويه مكان ويحصره الناظر؟! إني كفرت بربّ صفته ما تقولون فيه.

وكان حول الواثق جماعة من فقهاء «المعتزلة» فقالوا له : هو حلال الدم! فدعا بالنطع وأخذ السيف ، وأُجلس أحمد عليه مقيداً ، فمشى الواثق إليه حتّى ضرب عنقه! ونُصب رأسه ببغداد وكتبت ورقة علقت في أُذنه فيها : هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك دعاه عبد الله الإمام هارون إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه فأبى إلّا المعاندة! فعجّله الله إلى ناره! ووُكل بالرأس من يحفظه ويصرفه برمحه عن القبلة (٢).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٢.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٠٠ ، ٤٠١ وقال : استمر ذلك ست سنين حتّى أنزله المتوكل ، وادّعى عن الموكّل بالرأس أنّه كان بالليل! يستدير إلى القبلة فيقرأ سورة يس!! فهو بعين الرضا!!


وكان صاحب الشافعي في مصر أبو يعقوب يوسف البُويطي لم يُجب إلى القول بخلق القرآن فكان محبوساً ومات فيه في سنة (٢٣١ ه‍) (١).

ولعلّ من عواقب المضايقات على خلق القرآن أن كثر الحريق ببغداد ، ففرّق الواثق على قوم من التجار أموالاً جمة وبنى لهم ، وقسّم في أهل بغداد قِسماً كثيرة مرة بعد أُخرى على أهل البيوتات ، وعلى عامة الناس.

وكان على ديار ربيعة أبو سعيد محمد بن يوسف ، فخرج عليه محمد بن عمرو الشيباني في ثلاثمائة أو أربعمئة من الخوارج فصاروا إلى سنجار ، فخرج إليه أبو سعيد بجنده فانهزم إلى ناحية الموصل فتبعه أبو سعيد حتّى أسره وحمله إلى الواثق في سامراء وكتب إليه : أنّه لا ينبغي أن يُقتل فإنه لا يخرج خارجي مادام حياً! فحبسه.

وكما فرّق الواثق أموالاً جمة ببغداد ، فرّق مثلها بمكة والمدينة وعلى قريش والهاشميين وغيرهم (٢).

وقال ابن الوردي : لقد بالغ في إكرام العلويين ، وفرّق في الحرمين أموالاً ، حتّى لم يبق فيهما سائل! حتّى أنّه لما مات أخذ نساء أهل المدينة يخرجن إلى البقيع (ولعلّه على قبر جدّه العباس) كل ليلة يندبنه لفرط إحسانه بهم (٣).

ونقل السيوطي عن يحيى بن أكثم القاضي السابق قال : ما أحسن أحد إلى آل أبي طالب بما أحسن إليهم الواثق ، فإنه ما مات وفيهم فقير (٤) ولعلّه لذا قيل له : المأمون الثاني.

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٥.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٣.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٥.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٠٢.


مولد الحسن بن علي عليه‌السلام :

إنما جاءنا عن أُمّ الحسن بن علي عليه‌السلام أنها لما اشتُريت في المدينة وأُدخلت على الهادي عليه‌السلام وكان اسمها سليل (فلعلّها من مولّدات العرب) قال لها : سليل ، مسلولة من الآفات والعاهات والأرجاس والأنجاس! ثمّ قال لها : وسيهب الله لك [من ابنك] حجة الله على خلقه ، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً (١).

وأسند الطبري الإمامي عن الحسن بن علي الثاني (العسكري) قال : كان مولدي بالمدينة في ربيع الآخرة سنة اثنتين وثلاثين ومئتين (٢) في أواخر عهد الواثق العباسي.

وعليه يكون عمر أبيه يوم مولده في العشرين.

موت الواثق وخلافة المتوكل :

في ذي الحجة لسنة (٢٣٢ ه‍) اعتلّ الواثق (بالاستسقاء) فوُصف له أن يُحفر له في الأرض حفيرة كالتنّور تُملأ بحطب الطرفاء وتحرّق ، ويخرج الرماد ، ويُدخل فيه! فصُيّر فيه مراراً! ولم يَعهد لأحد فقيل له في ذلك فقال : لا يراني الله أتقلّدها حيّاً وميتاً! حتى مات في الرابع والعشرين من ذي الحجة وله أربع وثلاثون سنة! وبويع أخوه جعفر المتوكل بن المعتصم من أُم ولد يقال لها : شجاع (تركية من طخارستان). فأمر بإعطاء الجنود لثمانية أشهر (٣)!

__________________

(١) إثبات الوصية : ٢٠٧.

(٢) دلائل الإمامة : ٢٢٣ ، وكذا في أُصول الكافي ١ : ٥٠٣ بلا رواية ، وكذا في الإرشاد ٢ : ٣١٣ ، وعنه في إعلام الورى ٢ : ١٣١ وزاد : في اليوم الثامن منه.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٣ ، ٤٨٤ ، ووصف شجاع من التنبيه والإشراف : ٣١٣.


وكان الواثق أبيض مشرَّباً بحمرة ، حسن الجسم عريض الصدر كثّ اللحية ، وفي عينيه اليسرى نكتة بياض ، يذهب في كثير من أُموره مذاهب المأمون (١) وسلك في المذهب طريقة أبيه وعمّه المأمون من القول بالعدل (٢) وكلّموه لاسترداد فدك فقال : كان المأمون أعلم به منّا (٣) ودفن بقصره الهاروني (٤) وادّعى المتوكل أنّه رأى في نومه كأنّه سقط عليه من السماء سكريني سليم (؟!) مكتوب عليه : جعفر المتوكل على الله! فأمضاه قاضيه ابن أبي دؤاد وكتب به إلى الآفاق (٥)! وكان المتوكل يعتمد على محمد بن عبد الملك الزيّات بأُمور كثيرة ولكنّه أقرّ الأُمور على ما كانت عليه أربعين يوماً (إلى أربعين أخيه الواثق) ثمّ أظهر غضبه على الزيّات فاصطفى أمواله وعذّبه حتّى مات (٦).

وقال المسعودي : استوزر الزيّات أربعين يوماً ثمّ قتله ، وكان يحيى بن خاقان المروزي حياً واستوزر ابنه عبيد الله (واستبدل قاضيه ابن أبي دؤاد) بالقاضي السابق يحيى بن أكثم (٧) التميمي البصري. وكان سخطه على الزيات بعد خلافته بأشهر! فقبض منه كل ما كان له.

وكان الزيات في أيام وزارته للمعتصم وابنه الواثق اتخذ للمصادَرين

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣١٣.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٤٧٧.

(٣) كشف الغمة ٢ : ٢٤٣.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٥.

(٥) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤١٢.

(٦) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٤.

(٧) التنبيه والإشراف : ٣١٤.


والمغضوب عليهم تنوّراً من حديد فيه مسامير إلى الداخل يعذّب به الناس! فأمر المتوكل بإدخاله فيه .. ولما أمر بإخراجه وجده ميتاً! وكان حبْسه في ذلك التنّور إلى أن مات أربعين يوماً (١).

وعليه فلا يصح ما أسنده الكليني عن خيران الأسباطي القراطيسي قال : قدمت على أبي الحسن (الهادي عليه‌السلام) المدينة (من بغداد خلال عشرة أيام) فقال لي : ما خبر الواثق عندك؟ قلت : جعلت فداك ، أنا من أقرب الناس به عهداً ، عهدي به منذ عشرة أيام خلّفته في عافية! فقال لي : إنّ (الناس من) أهل المدينة يقولون : إنّه مات! فلمّا أن قال لي : الناس ؛ علمت أنّه يعني نفسه ، ثمّ قال لي : ما فعل جعفر؟ قلت : تركته أسوأ الناس حالاً في السجن (؟!) قال : أما إنه صاحب الأمر! ثمّ قال لي : ما فعل ابن الزيّات؟ قلت : جعلت فداك ، الناس معه والأمر أمره! قال : يا خيران! مات الواثق وقعد المتوكل جعفر وقد قتل ابن الزيّات! فقلت : متى؟ جعلت فداك! قال : بعد ما خرجت بستة أيام (٢).

فالخبر خلاف المعروف من تاريخَي المتوكل وابن الزيّات ؛ إذ لم يُسجن الأول بل لم يُحبس أو يوقف! ولم يُقتل الثاني إلّابعد أشهر : ثمانين يوماً : أربعين قبل التنّور وأربعين يوماً في التنّور!

وإذ نجد الخبر قبل الكليني عند الحسين بن حمدان الخصيبي الغالي فإني أراه منه (٣).

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٥ و ٦.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٤٩٨ ، وعنه في الإرشاد ٢ : ٣٠١ ، وعنه في إعلام الورى ٢ : ١١٤ بلا تعاليق.

(٣) الهداية الكبرى : ٣١٤.


قال اليعقوبي : وأطلق المتوكل من كان في السجون من أهل البلدان ، ومن أُخذ في خلافة الواثق ، فخلّاهم وكساهم! ونهى الناس عن الكلام في القرآن ، وكتب كتباً إلى الآفاق ينهى عن المناظرة والجدل ، فأمسك الناس (١).

زيد النار! والإمام والرُخَجيَّين :

مرّ الخبر عن زيد بن موسى بن جعفر عليه‌السلام الذي عُرف بزيد النار ، وأنّ المأمون منّ عليه بالرضا عليه‌السلام ويظهر من خبر نقله الطبرسي عن «كتاب الواحدة» للحسن بن محمد بن جمهور العميّ البصري : أنّ زيداً لم يؤمن لا بالرضا ولا بالجواد ولا بالهادي عليهم‌السلام :

كان أمير المدينة عمر بن فرج الرُّخجي (الأفغاني) وكان زيد بن موسى عمّ أبي الهادي عليه‌السلام ولكن الرُّخجي لا يقدّمه على الهادي عليه‌السلام ، وكان زيد يسأله مراراً أن يقدمه على ابن أخيه ويقول : إنّه حَدِث (في العشرين) وأنا عمّ أبيه! فقال عمر ذلك لأبي الحسن عليه‌السلام فقال له : أقعدني غداً قبله ثمّ انظر!

فلما كان الغد أجلس عمر أبا الحسن عليه‌السلام في صدر المجلس ، ثمّ أذن لزيد بن موسى ، فدخل فجلس بين يدي أبي الحسن عليه‌السلام! فلمّا كان بعده أذن لزيد بن موسى قبل أبي الحسن ، وأجلسه في صدر المجلس ، ثمّ أذن لأبي الحسن عليه‌السلام فدخل ، فلما رآه زيد قام من مجلسه وأقعده بمكانه وجلس هو بين يديه (٢) فقيل له في ذلك فقال : لما رأيته لم أتمالك نفسي (٣).

__________________

(١) تارو اليعقوض ٢ : ٤٨٤ ، ٤٨٥.

(٢) إعلام الورى ٢ : ١٢٥ عن كتاب الواحدة ، للحسن بن الله اكبر مد بن تمت هور العميّ البيي.

(٣) مناقب آل أض طالب ٤ : ٤٤٢ مرسلاً.


وكان أخو عمر الرخجي محمد بن فرج عاملاً على مصر ، وسخط المتوكل سنة (٢٣٣ ه‍) على الأخوين فوجّه كتاباً في حمل محمد وعمر ، فحُبس عمر ببغداد وحمل محمد إلى سامرّاء وقبضت أموالهما (١).

ويظهر من خبر أن محمد بن الفرج بمصر كان من موالي أبي الحسن الهادي عليه‌السلام ؛ ذلك ما أسنده الكليني عن علي بن محمد النوفلي : أنّ محمد بن الفرج حدثه بعد ثماني سنين أي بعد (٢٤١ ه‍) : أنّه كان على عمله بمصر إذ جاءه كتاب أبي الحسن عليه‌السلام إليه : أن يا محمد ، اجمع أمرك وخذ حِذرك! قال : فلم أدر ما كتب إليّ! وأنا في جمع أمري إذ ورد عليَّ رسول ضرب على كل ما أملك وحملني مقيّداً من مصر إلى السجن فكنت فيه (بسامراء) ثماني سنين! ثمّ ورد عليَّ منه كتاب في السجن جاء فيه : يا محمد ، لا تنزل في ناحية الجانب الغربي! فقلت في نفسي : إنّ هذا لعجب أن يكتب إليّ بهذا وأنا في السجن! فما مكث أن خُلّي عنه (٢) بعد ثمان سنين أي بعد (٢٤١ ه‍) وفيها كان الهادي عليه‌السلام بسامرّاء ولكنّ محمد بن الفرج لم يخرج إلى الإمام عليه‌السلام وإنما كتب إليه يسأله عن ضياعه ، فكتب الإمام إليه : سوف تُردّ عليك ، وما يضرك أن لا تُردّ عليك! وكأنّه كان على الأمر يومئذ أحمد بن الخصيب فكتب إلى محمد بن الفرج أن يخرج إليه ، فكتب محمد بن الفرج إلى أبي الحسن يشاوره هل يخرج إليه؟ فكتب إليه : اخرج فإنّ فيه فرجك إن شاء الله تعالى!

فلمّا شخص محمد بن الفرج إلى ابن الخصيب كتب له بردّ ضياعه ، فكأنّه بعد هذا اشتاق لزيارة الإمام عليه‌السلام فاستقبله ونظر إليه ، ثمّ اعتل بعدها. قال أبو يعقوب : فبعد أيام من علّته دخلت إليه عائداً وقد ثقل ، فأخبرني أنّ أبا الحسن عليه‌السلام

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٥. وانظر وقارن مروج الذهب ٤ : ١٩ وقارن : ٨٥.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٥٠٠ ، الحديث ٥ ، باب مولد الهادي عليه‌السلام.


قد بعث إليه بثوب منه ، فكان قد أدرجه ووضعه تحت رأسه! إلّاأنّه لم يلبث إلّا يسيراً حتّى مات قبل أن تردّ ضياعه إليه (١) فكان كما قال عليه‌السلام.

وإنما أوردت خبره هنا باعتبار تاريخ سخط المتوكل على الأخوين الرُخَجيَّين في سنة (٢٣٣ ه‍) في نقل اليعقوبي ، وهو الذي قرن بينهما في خبره فعُلم ارتباطهما بالأُخوة ، وعُلم علة سخط المتوكل عليهما معاً بارتباط محمد بن الفرج بالهادي عليه‌السلام ، وهذا هو ما جاء في أخبارنا فقط.

إلّا أنّ اليعقوبي لم يذكر السجن ثمان سنين بل قال : فأقاما سنتين (٢) فيعلم أنّ عمر بن الفرج أقام في سجن بغداد سنتين حتّى علم عدم ارتباطه بأخيه محمد ، ولذا أُعيد إلى عمله بالمدينة بل وأُضيفت إليه مكة! كما قال أبو الفرج : استعمل المتوكل على المدينة ومكة عمر بن الفرج الرّخجي ، فمنع الناس من البرّ بآل أبي طالب ، حتّى أنّه كان لا يبلغه أنّ أحداً أبرّ أحداً منهم بشيء وإن قلّ إلّاأنهكه عقوبة وأثقله غرماً!

ومنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس! حتّى كان بين جمع من العلويات قميص واحد يصلّين فيه واحدة بعد أُخرى ثمّ يرفعنه ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر! حتّى قُتل المتوكل (٣)! وإنما يرفعن القميص اقتصاداً في مصرفه للضرورة كالصلاة فيه ، وجاءت الكلمة في الطبعتين : يرقعنه ، تصحيف.

وألزم الرخجيّ رجال آل أبي طالب بلبس السواد ، وأباه القاسم بن عبد الله بن الحسين بن علي بن الحسين عليه‌السلام فحمله الرخجيّ لذلك إلى المتوكل بسامرّاء

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥٠٠ ، الحديث ٥ و ٦ ، باب مولد الهادي عليه‌السلام.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٥.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٣٩٦ ، وط. صقر : ٥٩٨.


فلم يزالوا به حتّى ألبسوه شاشة سوداء (١) وعدّ ابن الأثير الرخجيّ هذا من منادمي المتوكل المعروفين بالنصب والبغض لعلي عليه‌السلام (٢).

وأسند الطوسي عن محمد بن جعفر بن محمد بن الفرج الرُّخجي ، أي عن حفيد محمد بن الفرج في خبر قال : كان عمّي عمر بن فرج شديد الانحراف عن آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فأنا أبرأ إلى الله منه ، وكان جدّي أخوه محمد بن فرج شديد الموالاة لهم رحمه‌الله ورضي عنه. فأنا أتولّاه لذلك وأفرح بولايته أو : بولادتي منه (٣) وسيأتي أنّ عمّه عمر بن فرج كان ممن حرث قبر الحسين عليه‌السلام!

حوادث عام (٢٣٤ ه‍):

قال اليعقوبي : في سنة (٢٣٤ ه‍) سخط المتوكل على اثنين من كتّابه : أحمد بن خالد والفضل بن مروان فاستصفى أموالهما وقبض ضياعهما ونفاهما وكانا على ديواني الخراج والضياع!

وكان موسى بن عبد الملك بن هشام ويحيى بن خاقان المروزي محبوسين عند إسحاق بن إبراهيم الخزاعي (مولاهم) والي بغداد ، فلما سخط المتوكل على ذين الكاتبين قال لاسحاق الخزاعي : انظر لي رجلين أحدهما لديوان الخراج والآخر لديوان الضياع. فقال إسحاق : هما عندي : يحيى بن خاقان وموسى بن عبد الملك! فأحضرهما : فولّى يحيى ديوان الخراج ، وموسى ديوان الضياع.

واستأذن إيتاخ التركي لحجّ هذه السنة (٢٣٤ ه‍) فأذن له فخرج في أحسن زيّ.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٦١٧ ، ط. صقر.

(٢) الكامل لابن الأثير ٧ : ٢٠ فاقرأ واعجب!

(٣) أمالي الطوسي : ٣٢٥ ، الحديث ٩٩ ، المجلس ١١.


فرفُع إلى المتوكل : أن إيتاخ كان يحتال للايقاع به فلمّا لم يمكنه ذلك طلب الحج!

وكان عامل اليمن يومئذ جعفر بن دينار الخياط فكتب المتوكل إليه أن يصير إلى مكة فيأخذ ايتاخ بتعجيل الانصراف! ففعل جعفر ذلك فانصرف ايتاخ إلى الكوفة ، فوجّه المتوكل إليه حاجبه سعيد بن صالح فلقيه بالكوفة ، ثمّ كتب إلى إسحاق الخزاعي ببغداد أن يتلقّاه ، فلمّا قرب ايتاخ من بغداد تلقاه إسحاق فنزعه سيفه ومنطقته وسواده وألبسه قباءً أبيض وعمامة بيضاء! وصار به إلى قصر خُزيمة على رأس الجسر ببغداد فحبسه فيه وقيّده!

وكان مع ايتاخ ابنه منصور فأمره أن يبصق في وجهه فقال : لأمير المؤمنين أن يأمر عبيده بما أحب! وكان له كاتبان سليمان بن وهب وقدامة بن زياد فبكّتوه ووبّخوه بما كان منه ، فأقام عدّة أيام ثمّ مات كمداً! فطُرحت جثته في دجلة!

وكانت لايتاخ ولاية مصر والسند ، وكان عامله على مصر (ولعلّه بعد محمد بن الفرج) هرثمة بن نصر ، وقد رُفع عليه إلى المتوكل مكاتبته ايتاخ وموافقته له ، فصيّر المتوكل عمل مصر إلى إسحاق الخزاعي فقبض على ماله وعزله. فلمّا بلغ ذلك إلى عنبسة بن إسحاق عامل ايتاخ على السند ترك عمله وعاد إلى العراق ، فلم يعرض له المتوكل وولّى مكانه هارون بن أبي خالد.

وكأن المتوكل تمكّن بذلك من الأُمور ولذا ولّى عهده إلى ابنه محمد بن جعفر المنتصر وأمر أن يسلَّم عليه بالإمرة ويُدعى له على المنابر ، وكتب بذلك إلى الآفاق وذلك في ذي القعدة سنة (٢٣٤ ه‍).

وفيها توفي الحسن بن سهل (١) الخراساني في ضياعه ما بين المدائن وواسط ، منعزلاً عن الدولة.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٥ و ٤٨٦.


قال السيوطي : وفي سنة (٢٣٤ ه‍) أظهر المتوكل الميل إلى أهل السنة وكتب إلى الآفاق برفع الامتحان في خلق القرآن ، وأمر المتحدثين بأن يحدثوا بأحاديث صفات الله وإمكان رؤيته يوم القيامة!

فجلس أبو بكر بن أبي شيبة في «جامع الرصافة» واجتمع إليه نحو من ثلاثين ألف نفس!

وجلس أخوه عثمان بن أبي شيبة في «جامع المنصور» فاجتمع إليه أيضاً ثلاثون ألف!

واستقدم المحدثين إلى سامرّاء وأجزل عطاياهم وأكرمهم.

وفي هذه السنة أصاب ابن أبي دؤاد فالج فصيّره حجراً ملقى!

وفي هذه السنة هبّت بالعراق ريح شديدة السموم لم يُعهد مثلها أحرقت زروع الكوفة والبصرة وبغداد وقتلت المسافرين ودامت خمسين يوماً ، واتصلت بهمدان فأحرقت الزرع والمواشي ، واتصلت بالموصل وسنجار ، ومنعت الناس من المعاش في الأسواق ومن المشي في الطرقات.

وكان ذلك بعد زلزلة مهولة بدمشق سقطت منها دور وهلك تحتها خلق ، وامتدت إلى انطاكية فهدّتها ، وإلى الجزيرة والموصل فهلك من أهلها خمسون ألفاً (١).

حوادث عام (٢٣٥ ه‍):

ثمّ بدا للمتوكل بعد كلّ ما رأى من آيات تمكّنه في بلاده أن يتشبّه بجده الرشيد فيكرّر تجربته الفاشلة في تولية ثلاثة من أبنائه وتوزيع نواحي الأرض

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٠٦ ، ٤٠٧.


عليهم ، فأحضر من كل بلد وجوه الناس إلى سامرّاء ، وأخذ بيعتهم بولاية العهد لابنه محمد المنتصر ، ثمّ لابنيه أبي عبد الله المعتز بالله وإبراهيم المؤيد بالله! وأقام الخطباء ليخطبوا في ذلك! وأعطى جنوده لعشرة أشهر!

ثمّ صيّر إلى كل واحد من ولاة عهده ناحية من الأرض! فصير إلى المنتصر مصر والمغرب ، وجعل كاتبه أحمد بن الخصيب. وصيّر إلى أبي عبد الله المعتزّ بالله الجبال إلى خراسان وجعل كاتبه أحمد بن إسرائيل. وصيّر إلى إبراهيم المؤيّد بالله الشامات وأرمينية وآذربايجان ، وجعل كاتبه محمد بن علي المعروف.

ثمّ وجّه بوليّ عهده الأكبر محمد المنتصر إلى الحجّ أميراً للموسم لعام (٢٣٥ ه‍) مع جدّته شجاع أُم المتوكل ، فوقف بالناس في الموسم.

وفي هذه السنة (٢٣٥ ه‍) أمر المتوكل أهل الذمة أن يلبسوا الطيالسة العسلية ، ويركبوا البغال والحمير برُكب الخشب ، دون الخيول وحتّى البراذين ، ويجعلوا على أبوابهم أخشاباً منقوشة بنقوش الشياطين! وفي هذا الوقت كذلك أمر المتوكل عمّاله أن لا يستعينوا في شيء من عملهم بأحد من أهل الذمة ، ومنعهم من عمارة البيع والكنائس وأن يهُدم المحدَث منها!

وكان في مرند من آذربايجان محمد بن البُعيث متغلباً بها ، وكان على آذربايجان حمدويه بن علي فنافر ابن البعيث وحاربه حتّى حمله إلى باب المتوكل ، فلمّا تقدم عنده رفع عنده على حمدويه أنّه كان يحتال على الخليفة في الأموال ، فأُخذ حمدويه بها وضُرب عليها وسجن ، وخُلّي ابن البُعيث!

فهرب ابن البعيث عائداً إلى مرند وجمع إليه من كان بناحيته من الصعاليك وأظهر الخلاف والعصيان! فأُخرج حمدويه وولّي على مرند فسار إليه وحاربه فقُتل. فحُوّل البلد إلى بَغا التركي الصغير فأقام يحاربه شهوراً حتّى طلب الأمان فحمله إلى باب المتوكل ، فحبسه حتّى مات (٢٣٥ ه‍).


وتوفي فيها إسحاق بن إبراهيم الخزاعي (مولاهم) والي بغداد ، فصيّر المتوكل أعماله إلى ابنه محمد ، وهي أعمال كور دجلة وطساسيج السواد وعمل مصر وفارس وغير ذلك! وقرّبه إليه وعقد له ألوية كثيرة وأخذ يخلع عليه سبعة أيام في كل يوم سبعة خلع!

وكان كتاب إسحاق الخزاعي : على الخراج علي بن عيسى بن آزاد رود ، وعلى الرسائل ميمون بن إبراهيم ، وعلى المظالم إسحاق بن يزيد ، فأقر محمد عمال أبيه ، وكان على خراج مصر وجندها عبد الواحد بن يحيى الحوط قرابة طاهر بن الحسين الخزاعي (مولاهم) فأقره محمد بن إسحاق الخزاعي (مولاهم).

وكان على فارس عمّه محمد بن إبراهيم الخزاعي (مولاهم) فرُفع عليه بأموال صارت إليه ، فوجّه إلى عمله الحسين بن إسماعيل وأمره بعزل عمّه وأن يعذبه ليستخرج الأموال فعُذّب حتّى مات! ثمّ مات محمد بن إسحاق بعد أبيه بسنة.

ثمّ ولّى المتوكل مكانه أحمد بن محمد بن مدبّر ، على سبعة دواوين : ديوان الخَراج ، والضياع ، والنفقات الخاصّة ، والعامة ، والصدقات ، والموالي ، والغلمان ، والجند ، والشاكرية. فأخذ أحمد العمّال السابقين على طساسيج السواد وصالحهم على أموال عظيمة ، فوفّر أموالاً عظيمة (١).

وفيها (٢٣٥ ه‍) ظهر بسامرّاء رجل يدعى محمود بن فرج النيشابوري يدّعي أنّه ذو القرنين وأنّه بُعث نبياً ، وتبعه سبعة وعشرون رجلاً ، فاخذوا والزم أصحابه أن يصفعه كل منهم عشر صفعات ثمّ ضربوه حتّى مات وحُبس أصحابه في ذي الحجة.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٦ ـ ٤٨٨ ، وقيل : مات في (٢٣٥ ه‍) تسعين سنة لافراطه في دواء ، كما في تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٦.


وفاة الشاعر ديك الجن :

وفيها (٢٣٥ ه‍) أو (٢٣٦ ه‍) تُوفي الشاعر المتشيّع ديك الجنّ (١) وهو عبد السلام بن رغبان الكلبي من أهل حمص ، والتقى بأبي تمّام الطائي الشامي ويبدو أنّه تعلّم منه الشعر والتشيّع ، ومن شعره الأُرجوزة الكاملة يقول فيها :

صنو النبي المصطفى وروحه

وشمّه وذوقه وريحه

قرابة ونصرة وسابقه

هذي المعالي والسمات الفائقه

هو الذي سُمّي : أبا البيان

صدقت قد أصبت في المعاني

وهو أبو العلم الذي لا يُعلم

مَن قوله : اسألوا ولا تُمحمحوا!

***

إنّ النبيّ لم يزل يقول

والخير ما فاه به الرسول!

إنك مني يا علي ، ويا أخي

بحيث من موسى وهارون النبي

***

سطا يوم بدر بأشباله

وفي أُحد لم يزل يحمل

وعن بأسه فتحت خيبر

ولم يُنجها بابها المُقفل

دحا أربعين ذراعاً به

هِزبرٌ له دانت الأشبلُ

***

الحق أبلج والأعلام واضحة

لو آمنت أنفس الشانين أو نظروا

من ذا الذي كلّمته البيد والشجر

وسلّم التربُ إذ ناداه والحجرُ (٢)؟

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٦.

(٢) استخرجناها من فهارس مناقب آل أبي طالب ، وانظر الكنى والألقاب ٢ : ٣٧ ، والأعلام للزركلي ٤ : ١٢٨ ، ولم يُذكر في الغدير! ولا في شعراء الشيعة.


شرفي محبّة معشر شُرفوا بسورة «هل أتى»

وولاي من في فتكه سمّاه ذو العرش «الفتى»

ثبْت إذا قد ما سواه إلى المهاوي زلّتا

ثقل الهدى (العترة) وكتابه بعد النبيّ تشتّتا

وا حسرتا من ذلّهم وخضوعهم وا حسرتا

طالت حياة عدوّهم حتّى متى؟ وإلى متى؟

***

لكنه ليس نبي بعدي

فأنت خير العالمين عندي

إنّ علياً خير أهل الأرض

بعد النبيّ فاربعي أو امضي

وعمدة ما عثرنا عليه من شعره في تفضيل علي عليه‌السلام ، وذلك ما أعلنه المأمون فأمن هؤلاء لإعلانه. وأظنّ منه عتاباً على بني العباس دفاعاً عن قتلى آل علي عليه‌السلام :

ملكنا فكان العفو منّا سجيّة

ولما ملكتم سال بالدم أبطح

فحسبكم هذا التفاوت بيننا

وكل إناء بالذي فيه ينضح!

ولم أعثر الآن على مصدر له. وإنما لُقّب بديك الجن لزُرقة عينيه (١)!

من المدينة إلى بلد العسكر :

يظهر من الخبر التالي أنّ المتوكّل بعد سوء ظنّه بعمر بن الفرج الرّخجي الناصبي بسبب أخيه محمد عامل مصر الموالي للرضا والجواد والهادي عليهم‌السلام ، وضبطه أمواله وسجنه ببغداد ، استبدل عنه على المدينة بعبد الله بن محمد بن دواد العباسي ، وبعلمه بعلّة ذلك عرف تكليفه ووظيفته فيما بين المتوكل وبين

__________________

(١) أحداث التاريخ الإسلامي للترمانيني ، حوادث سنة (٢٣٤ ه‍).


الهادي عليه‌السلام ، وإذ علم أنّ قوماً من أهل المعرفة يقولون بإمامته كتب إلى المتوكل : إنّ قوماً يقولون إنّه الإمام (١)!

قال المفيد : وبلغ أبا الحسن سعايته به ، فكتب إلى المتوكل يذكر تحامل عبد الله بن محمد عليه ، ويكذّبه فيما سعى به إليه. فتقدّم المتوكل بإجابته عن كتابه ، ودعاه فيه إلى حضوره إلى بلد العسكر على جميل من الفعل والقول (٢).

أخرجه الكليني عن بعض أصحابنا أنّه أخذ نسخة الكتاب من يحيى بن هرثمة بن أعين وهي :

بسم الله الرحمنِ الرحيم ، أما بعد ، فإنّ أمير المؤمنين (المتوكل) عارف بقدرك راع لقرابتك ، موجب لحقك ، يقدّر الأُمور فيك وفي أهل بيتك ما يصلح الله به حالك وحالهم ، ويثبّت به عزك وعزهم ، ويدخل الأمن واليمن عليك وعليهم! يبتغي بذلك رضا ربّه وأداء ما افترض عليه فيك وفيهم!

وقد رأى أمير المؤمنين (المتوكل) صرفَ «عبد الله بن محمد» عمّا كان يتولّاه من الحرب والصلاة بمدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقك واستخفافه بقدرك ، وعندما قرفك به ونسبك إليه من الأمر الذي قد علم أمير المؤمنين (المتوكل) براءتك منه! وصدق نيّتك في محاولته! وأ نّك لم تؤهّل نفسك له!

وقد ولّى أمير المؤمنين (المتوكل) ما كان يلي من ذلك «محمد بن الفضل» وأمره بإكرامك وتبجيلك! والانتهاء إلى أمرك ورأيك ، والتقرّب إلى الله وإلى أمير المؤمنين بذلك!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٤.

(٢) الإرشاد ٢ : ٣٠٩.


وأمير المؤمنين (المتوكل) مشتاق إليك يحبّ إحداث العهد بك والنظر إليك! فإن نشطت لزيارته والمقام قِبله ما رأيت (من المُدّة) شخصت أنت ومن أحببت من أهل بيتك ومواليك وحشمك على مهلة وطمأنينة ، ترحل إذا شئت وتنزل إذا شئت ، وتسير كيف شئت.

وإن أحببت أن يكون «يحيى بن هرثمة» مولى أمير المؤمنين (المتوكل) ومن معه من الجند (!) مشايعين لك يرحلون برحيلك ويسيرون بسيرك ، فالأمر في ذلك إليك ، حتّى توافي أمير المؤمنين! فما أحد من إخوته (المتوكل) وولده وأهل بيته وخاصّته ألطف منه منزلة ، ولا أحمد منه أثرة ، ولا حولهم أنظر ، وعليهم أشفق وبهم أبرّ وإليهم أسكن منه إليك! إن شاء الله تعالى ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وكتب إبراهيم بن العباس (١) والراوي إنما ذكر أنّه أخذ نسخة الكتاب من يحيى بن هرثمة في سنة ثلاث وأربعين ومئتين هجري أي قبل وفاة الهادي عليه‌السلام بعشرة أعوام وبعد تاريخها بمثلها تقريباً ، بلا ذكر تاريخ للكتاب نفسه (٢) ، ولا أنها كيف كانت بيد هرثمة ، اللهم إلّاأن تكون نسخة مكرّرة أو ردّها الإمام عليه.

وإنما وجدتُ تاريخ إشخاص الهادي عليه‌السلام إلى سامراء في «إثبات الوصية» قال : اشخص سنة (٢٣٦ ه‍) وسنّ الحسن يومئذ أربع سنين وشهوراً (٣)

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥٠١ ، ٥٠٢ ، الحديث ٧ ، باب مولد الهادي عليه‌السلام.

(٢) والمفيد في الإرشاد غالباً يسند أخباره عن الكليني ، وهنا أرسل الخبر ، والتبس عليه الأمر فجعل تاريخ أخذ نسخة الكتاب من ابن هرثمة تاريخاً للكتاب ٢ : ٣١٠.

(٣) إثبات الوصية : ٢٣٦. ويظهر من خبر أنّ محمد بن علي كان أكبر من أخيه الحسن ، رواه الطوسي في كتاب الغيبة : ١٩٩ ، الحديث ١٦٥ عن أحمد بن عيسى بن علي بن جعفر بن محمد أنّه أراد أن يسلّم بالمدينة على محمد فقال له الهادي عليه‌السلام : ليس هذا صاحبكم ، صاحبكم أبو محمد وأشار إلى الحسن ابنه. وعن المُجدي في الأنساب : أنّ الهادي عليه‌السلام ترك ابنه محمداً طفلاً بالمدينة؟ ثمّ قدم عليه بسامراء رشيداً.


فلعلّ للحسين بن علي الهادي سنتان ، فأما محمد بن علي الهادي فإمّا ولد لشهور بالمدينة ، وإما بعدها في سامرّاء ، وأما جعفر بن علي الهادي فإنّه مولود بسامرّاء.

قصص الطريق إلى سامرّاء :

مرّ في نص كتاب المتوكل إلى الهادي عليه‌السلام : «أن يكون يحيى بن هرثمة ومن معه من الجُند مشايعين لك» وليس فيه عددهم. ونجد يحيى بن هرثمة في خبر عنه يقول عن نفسه : كنت على مذهب الحشوية (ممّن يؤمنون بحشو الحديث كيفما كان كالمتوكل نفسه) وفي الخبر أنّ الجنود كانوا ثلاثمئة رجل ممن اختارهم ، ويقول : فيهم قائد من الشُراة (الخوارج) وكاتب «يتشيع» وهو تشيّع ونقل الخبر قال :

دعاني المتوكل في حرّ تموز فقال لي : اختر «ثلاثمئة رجل» ممّن تريد ، واخرجوا إلى الكوفة ، فخلّفوا أثقالكم فيها! واخرجوا على طريق البادية إلى المدينة ، فأحضروا عليّ بن محمد بن الرضا إليّ ، مكرّماً معظّماً مبجّلاً! (وأعطاه الكتاب السابق).

قال : ففعلت وخرجنا ، وكان في أصحابي قائد من الشُراة (الخوارج) وكان لي كاتب «يتشيّع» وأنا على مذهب «الحشوية» وكان ذلك الشاري (الخارجي) يناظر ذلك الكاتب ، وأنا كنت أستريح لمناظرتهما لقطع الطريق ، فكان من


مناظرته له أن قال له : أليس من قول صاحبكم علي بن أبي طالب : أنّه ليس من الأرض بقعة إلّاوهي قبر أو ستكون قبراً؟! فانظر إلى هذه البريّة أين من يموت فيها حتّى يملأها الله قبوراً كما زعم؟! فانخذل الكاتب في أيدينا وتضاحكنا ساعة من كلامهم!

قال : وسرنا حتّى دخلنا المدينة في عشرة أيام فقصدت باب أبي الحسن علي بن محمد بن الرضا عليه‌السلام فدخلت إليه (وسلّمت إليه كتاب المتوكل) فقرأ كتاب المتوكل فقال : لا خلاف من جهتي.

وصرت إليه غداً فإذا قد أرسل إلى خياط وبين يديه ثياب غلاظ يقطّعها خفاتين له ولغلمانه ، ثمّ قال له : اجمع عليها جماعة من الخياطين لتفرغ منها في يومك هذا! وبكّر بها إليّ في هذا الوقت!

ثمّ نظر إليّ وقال لي : يا يحيى اقضوا وطركم من المدينة اليوم ، وغداً في هذا الوقت أعمل على الرحيل!

قال هرثمة : فقلت في نفسي : نحن في حرّ تموز وحرّ الحجاز ، وإنما بيننا وبين العراق مسيرة عشرة أيام! فما يصنع بهذه الثياب؟! ثمّ قلت في نفسي : هذا رجل لم يسافر فهو يقدّر أنّ كل سفر يحتاج فيه إلى هذه الثياب ، وتعجبت من «الرافضة» حيث يقولون بإمامة هذا مع فهمه هذا! فهل يخاف أن يلحقنا البرد والشتاء في الطريق حتّى يأخذ معه هذه اللبابيد والبرانس والخفاتين؟!

فعدت إليه في الغد فإذا الثياب حاضرة! وقال لغلمانه : احملوها وقال لي : ارحل يا يحيى (١).

وأسند المسعودي عن يحيى بن هرثمة قال : وجّهني المتوكل لإشخاص

__________________

(١) الخرائج والجرائح ١ : ٣٩٣ ـ ٣٩٥.


علي بن محمد بن الرضا لشيء بلغه عنه ؛ فلمّا صرت إليها ضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس مثله ، خوفاً على علي! وقامت الدنيا على ساق ؛ لأنّه كان ملازماً للمسجد بلا ميل إلى الدنيا ومحسناً إليهم! فجعلت اسكّنهم وأحلف لهم أني لم أُومر فيه بمكروه وأنّه لا بأس عليه. ثمّ فتّشت منزله فلم أجد فيه إلّامصاحف وأدعية وكتب العلم (١).

قال : فسرنا حتّى وصلنا إلى موضع المناظرة في القبور ، فارتفعت سحابة واسودّت وأبرقت وأرعدت وأرسلت علينا بَرَداً (حالوباً) مثل الصخور! وأمر أبو الحسن غلمانه فأخرجوا الخفاتين ولبسوا اللبابيد والبرانس ، وقال لهم : ادفعوا إلى يحيى لبّادة وإلى الكاتب بُرنساً! وتجمّعنا والبرد يأخذنا .. ثمّ زالت ورجع الحر كما كان وقد قُتل بها من أصحابي ثمانون رجلاً! (وبقي مئتان وعشرون شخصاً).

فقال لي أبو الحسن : يا يحيى ؛ مُر من بقي من أصحابك ليدفن من قد مات منهم! (فلمّا فرغنا منهم قال) : هكذا يملأ الله هذه البرية قبوراً! قال يحيى : فرميت بنفسي من دابّتي وعدوت إليه وقبّلت ركابه ورجله وقلت : أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمداً عبده ورسوله ، وأ نّكم خلفاء الله في أرضه! وقد كنت كافراً (بكم) وإنني الآن قد أسلمت على يديك يا مولاي (٢)! بلا تعيين للموضع.

توحيده وتحذيره عن الغلوّ :

لم يُعلم متى وأين كان ما كان من الحدث الخارق في موضع المناظرة في طريقهم إلى سامرّاء ، ويظهر من الخبر التالي أنّ محتواه كان بعد ذلك وقبل بغداد.

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٨٤ ، هذا ، والتفتيش لا يلائم نصّ الكتاب إليه ، وتوصيته في الخبر السابق ليحيى بإكرام الإمام عليه‌السلام.

(٢) الخرائج والجرائح ١ : ٣٩٥ ، ٣٩٦.


نقل الإربلي عن «دلائل الإمامة» للحميري عن فتح بن يزيد الجرجاني : أنّه كان حاجّاً عام (٢٣٥ ه‍) وعائداً إلى بلاده جرجان وكانت يومئذ من خراسان الكبرى في أوائل عام (٢٣٦ ه‍) قال : في منصرفي من مكة إلى خراسان ضمّني الطريق إلى العراق إلى أبي الحسن علي بن محمد بن الرضا عليه‌السلام وهو يُصار به إلى العراق ، فتلطّفت للوصول إليه ، فتوصّلت فسلّمت عليه ، فردّ عليَّ السلام وأذن لي بالجلوس إليه ، ثمّ قال لي :

يا فتح ، من أطاع الخالق لم يبال بسخط المخلوق ، ومن أسخط الخالق فأخلِق به أن يُحلّ الله عليه سخط المخلوق. وإنّ الخالق لا يوصف إلّابما وصف به نفسه ، وأنى يوصف الخالق ؛ الذي تعجز الحواسّ أن تدركه ، والأوهام أن تناله ، والخطرات أن تحدّه ، والأبصار عن الإحاطة به. جلّ عمّا يصفه الواصفون ، وتعالى عمّا ينعته الناعتون ، نأى في قربه وقرب في نأيه ، فهو في نأيه قريب وفي قربه بعيد. كيّف الكيف فلا يقال : كيف؟ وأيّن الأين فلا يقال : أين ، إذ هو منقطع الكيفية والأينية.

هو الواحد الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، فجلّ جلاله.

أم كيف يوصف بكهنه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد قرنه الجليل باسمه ، وشركه في عطائه ، وأوجب لمن أطاعه جزاء طاعته إذ يقول : (وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ (١)) وقال يحكي قول من ترك طاعته فهو يعذّبه بين أطباق نيرانها وسرابيل قَطرانها : (يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٢)).

أم كيف يوصف بكنهه من قرن الجليل طاعتهم بطاعة رسوله حيث قال :

__________________

(١) التوبة : ٤٧.

(٢) الأحزاب : ٦٦.


(أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (١)) وقال : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ (٢)) وقال : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا (٣)) وقال : (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ (٤)).

يا فتح ، فكما لا يوصف الجليل جلّ جلاله ، والرسول والخليل ، وولد البتول ، كذلك لا يوصف المؤمن المسلّم لأمرنا. فنبيّنا أفضل الأنبياء ، وخليلنا أفضل الأخلّاء وأكرم الأوصياء ، واسمهما أفضل الأسماء ، وكنيتهما أفضل الكنى وأحلاها ، لو لم يجالسنا إلّاكفو لم يجالسنا أحد ، ولو لم يزوّجنا إلّاكفو لم يزوّجنا أحد. و (قد) ورث عنهما أوصياؤهما علمهما ، فأردد إليهم الأمر وسلّم إليهم ، أحياك الله حياتهم وأماتك مماتهم. ثمّ قال لي : إذا شئت رحمك الله.

وكان الفتح الجرجاني الراوي اختلج في ليلتها في صدره وقال في نفسه : متى أيقنت أنهم كذا فهم أرباب! قال : فلمّا كان الغد تلطّفت للوصول إليه فتوصّلت فسلّمت عليه فردّ السلام ، فقلت له :

يابن رسول الله ؛ أتأذن لي في مسألة اختلج أمرها في صدري في ليلتي هذه؟

فقال لي : أما الذي اختلج في صدرك في ليلتك فإن شاء العالم أخبرك : إنّ الله لم يُظهر على غيبه أحداً إلّامن ارتضى من رسول ، فكل ما كان عند الرسول كان عند العالم ، وكل ما اطّلع عليه الرسول فقد اطّلع أوصياؤه عليه ؛ لئلّا تخلو الأرض من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته!

__________________

(١) النساء : ٥٩.

(٢) النساء : ٨٣.

(٣) النساء : ٥٨.

(٤) الأنبياء : ٧.


يا فتح ؛ عسى الشيطان أراد اللبس عليك فأوهمك في بعض ما أودعتُك! وشكّك في بعض ما أنبأتك ، حين أراد إزالتك عن طريق الله وصراطه المستقيم ، فقلتَ (في نفسك) : متى أيقنت أنهم كذا فهم أرباب! معاذ الله! إنّهم مخلوقون مربوبون ، مطيعون لله ، داخرون راغبون. فإذا جاءك الشيطان من قبيل ما جاءك به فاقمعه بما أنبأتك به.

قال فتح الجرجاني : جُعلت فداك (لقد) فرّجت عني وكشفت بشرحك ما لبّس الملعون عليَّ ، فقد كان أوقع في خَلَدي : أنكم أرباب! فسجد أبو الحسن وقال في سجوده : يا خالقي راغماً لك داخراً خاضعاً! ثمّ رفع رأسه وقال لي : يا فتح ؛ (لقد) كِدت أن تهلك وتُهلك! ثمّ استدرك فقال لي : وما ضرّ عيسى إذا هلك من هلك؟! ثمّ قال لي : إذا شئت رحمك الله. (يعني انصرف) ، فخرجت من عنده.

فلمّا كان في آخر منزل (بل بغداد حيث ينفصل الراوي الجرجاني إلى جرجان) دخلت عليه ، فإذا بين يديه حنطة مقلوّة وهو متكئ ويعبث بها (بأنامله) وكان ممّا أوقع الشيطان في خلدي : أنّ الأكل والشرب آفة ، والإمام غير مؤوف فلا ينبغي لهم أن يأكلوا ويشربوا!

فلمّا رآني قال لي : يا فتح ، اجلس ، إنّ لنا اسوة بالرسل ، وهم كانوا يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق ، وكل جسم مغذوّ بغذاء إلّاالخالق الرازق ، فهو جسّم الأجسام ، فهو لا يجُسّم ولا يجزّأ بتناهٍ ، ولا يتزايد ولا يتناقص ، مبرّأ من ذاته عمّا ركّب في ذوات الأجسام. الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. مُنشئ الأشياء ، مجسّم الأجسام ، وهو السميع العليم ، واللطيف الخبير ، والرؤوف الرحيم. تبارك وتعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً! ولو كان كما وصفوه لم يُعرف الربّ من المربوب. ولا الخالق من المخلوق ، ولا المنشئ من المُنشأ ، ولكنّه فرّق بينه وبين من جسّمه ، وشيّأ الأشياء ، فهو لا يشبهه شيء يُرى ، ولا يُشبه هو شيئاً.


ثمّ انفصل هذا الراوي الجرجاني من بغداد إلى بلاد الجبال فجرجان ، والتقى به أحمد بن محمد بن خالد البرقي القمي فروى عنه وعنه الحميري في كتابه «دلائل الإمامة» وعنه الإربلي في كتابه (١).

الهادي عليه‌السلام إلى سامراء :

قال اليعقوبي : شخص علي بن محمد ابن الرضا مع يحيى بن هرثمة حتّى صار إلى موضع قبيل بغداد يقال له الياسرية ، فنزل يحيى هناك (وأرسل إلى إسحاق بن إبراهيم الخزاعي مولاهم والي بغداد بالخبر) فركب إسحاق بن إبراهيم يتلقاه ، ورأى اجتماع الناس لرؤيته وتشوقهم إليه! فأقام إلى الليل ثمّ دخل به في الليل إلى بغداد وأقام بها بعض تلك الليلة ثمّ نفذ إلى سامرّاء (٢).

وفي خبر المسعودي عن يحيى قال : قدمت به بغداد على إسحاق بن إبراهيم الطاهري (الخزاعي) وكان والياً على بغداد فقال لي : يا يحيى! إنّ هذا الرجل قد ولده رسول الله ، والمتوكل من تعلم! فإن حرّضته عليه قتله وكان خصمك رسول الله يوم القيامة! قلت له : والله ما وقع عيني منه إلّاعلى كل أمر جميل!

ثمّ سرت به إلى سامراء فبدأت بوصيف التركي (حاجب المتوكل) فأخبرته بوصوله ، فقال لي : والله لئن سقط منه شعرة لا يكون المطالَب بها غيري! ثمّ أدخلني على المتوكل.

__________________

(١) كشف الغمة ٤ : ٢٥ ـ ٢٨ عن دلائل الإمامة للحميري (ق ٣ ه‍) وعنه في إثبات الوصية : ٢٢٧.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٤.


فلمّا دخلت على المتوكل سألني عنه فأخبرته بحسن سيرته وسلامة طريقته وورعه وزهادته! وأني فتّشت داره فلم أجد فيها غير المصاحف وكتب العلم ، وأنّ أهل المدينة خافوا عليه (١).

خان الصعاليك :

لم أقف في أنباء بناء سامرّاء على بناء خان للصعاليك بها ، ويظهر من الخبر التالي ذلك :

قال المفيد : لمّا وصل يحيى بن هرثمة بأبي الحسن الهادي عليه‌السلام إلى سامرّاء تقدم المتوكل بأن يُحجب عنه ويُنزل في خان يُعرف بخان الصعاليك (٢).

فأسند الكليني عن صالح بن سعيد (الطالقاني) قال : دخلت على أبي الحسن عليه‌السلام (في خان الصعاليك) فقلت له : جُعلت فداك! في كل الأُمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع! خان الصعاليك!

فقال لي : يابن سعيد أنت هاهنا؟! ثمّ أومأ بيده وقال : انظر! فنظرت ، فإذا أنا بروضات آنقات وجنّات باسرات فيهنّ خيرات عطرات وولدان كأ نّهن اللؤلؤ المكنون ، وأطيار وظباء ، وأنهار تفور! فحار بصري وحسرت عيني! فقال لي : حيث كنا فهذا لنا عتيد لسنا في خان الصعاليك (٣).

قال المفيد : ثمّ تقدم المتوكل بإفراد دار له ، فافردت له فانتقل إليها وأقام

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٨٤ ، ٨٥ ، وتذكرة الخواص ٢ : ٤٩٤ ، ٤٩٥ عن علماء السير!

(٢) الإرشاد ٢ : ٣١١.

(٣) أُصول الكافي ١ : ٤٩٨ ، الحديث ٢ ، باب مولد الهادي عليه‌السلام.


مدة مُقامه بسامرّاء مكرّماً في ظاهر حاله (١) ولكون الدار في محلة العسكر عُرف بالعسكري نسبةً إليها.

وكان الموضع مجاور الإمام عليه‌السلام صنوف من الناس من أهل الصنائع فالموضع كالقرية ، ومنهم نقّاش ينقش على الأحجار الكريمة والفصوص منهم يونس يجاور الإمام بأهله ، فكان يأتي إلى الإمام ويخدمه (٢).

أوّل نبأ له مع المتوكل :

جاء في خبر السبط عن يحيى بن هرثمة قال : فبعد ذلك بمدة اتفق أن مرض المتوكل ، فنذر إن عوفي ليتصدقنّ بمال كثير ، فعوفي ، فسأل الفقهاء عن ذلك فلم يجد عندهم فرجاً ، فبعث إلى علي بن محمد بن الرضا عليه‌السلام فسأله فقال : يتصدّق بثلاثة وثمانين ديناراً! فقال المتوكل : من أين لك هذا؟ قال : «من قوله تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ (٣)) والمواطن الكثيرة هي هذه الجملة ، وذلك أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله غزا سبعاً وعشرين غزاة ، وبعث ستاً وخمسين سرية ، وآخر غزواته يوم حنين».

فعجب المتوكل والفقهاء من هذا الجواب ، وبعث إليه بمال كثير (٤).

ورواه القمي في تفسيره عن ابن أبي عمير قال : اعتل المتوكل علة شديدة ، فنذر إن عافاه الله أن يتصدق بدنانير كثيرة أو قال : بدراهم كثيرة. فعوفي ،

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ٣١١.

(٢) أمالي الطوسي : ٢٨٨ ، الحديث ٦ ، المجلس ١١ عن كافور خادم الإمام الهادي عليه‌السلام.

(٣) التوبة : ٢٥.

(٤) تذكرة الخواص ٢ : ٤٩٥ وبهامشه مصادر كثيرة.


فجمع العلماء فسألهم عن ذلك فاختلفوا عليه بين عشرة آلاف إلى مئة ألف ، فقال له عُبادة (؟) : ابعث إلى ابن عمّك علي بن محمد بن الرضا فاسأله.

فبعث إليه فسأله فقال : الكثير ثمانون. فقالوا له : ردّ إليه الرسول فقل : من أين قلت ذلك؟

فقال : من قوله تعالى لرسوله : (لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ) وكانت المواطن ثمانين موطناً (١).

ورواه العياشي في تفسيره عن يوسف بن السخت قال : اشتكى المتوكل شكاة شديدة ، فنذر : إن شفاه الله يتصدق بمال كثير. فعوفي من علّته ، فسأل أصحابه عن ذلك ، فأعلموه أنّ أباه تصدق بثمانية ألف ألف .. فاستكثر ذلك ، فقال له منجّمه أبو يحيى بن أبي منصور : لو كتبت إلى ابن عمك (يعني أبا الحسن) فأمر أن يُكتب إليه ، فكُتب إليه.

فكتب أبو الحسن : تصدّق بثمانين درهم. فقالوا : سلوه من أين؟ فسألوه فقال : هذا من كتاب الله ، قال الله لرسوله : (لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ) والمواطن التي نصر الله فيها رسوله عليه وآله السلام ثمانون موطناً ، فثمانون درهماً من حلّه : مال كثير (٢).

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٨٤ ، ٢٨٥. والآية ٢٥ من سورة التوبة.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٨٤ ونحوه الكليني في فروع الكافي ٧ : ٤٦٣ ، الحديث ٢١ ، باب النوادر لكتاب الأيمان والنذور. والصدوق عن الصادق في كتاب من لا يحضره الفقيه ٣ : ٢٣٢ ، الحديث ١٠٩٥. وكذا عنه عليه‌السلام في معاني الأخبار : ٢١٨. والطوسي في التهذيب ٨ : ٣٠٩ ، الحديث ١١٤٧ و ٨ : ٣١٧ ، الحديث ١٨٠ ، وغير واحد من أهل السنة في كتبهم أقدمهم : السمعاني في الأنساب ٤ : ١٩٦.


أبقار المتوكّل تحفر قبر الحسين عليه‌السلام :

مرّ الخبر أنّ الواثق قام بإكرام بني الأعمام من بني هاشم من آل أبي طالب والعلويين حتّى أنّه عُرف أو لُقّب من ذلك بالمأمون الثاني أو الأصغر ، فكأنّ هذا كان ضوءاً أخضر لمن حضر بحاير الحسين عليه‌السلام (١) للسلام عليه ولا سيّما في أيام محرم الحرام بل كل الأيام ، حتّى أنّ دوراً ومنازل كانت قد اقيمت حوله كما يأتي.

أسند الطوسي عن القاسم بن أحمد الأسدي الكوفي ، قال : وكان له علم بالسيرة وأيام الناس ، وقال : بلغ المتوكّل جعفر بن المعتصم : أنّ أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين عليه‌السلام فيصير إلى قبره خلق كثير منهم (٢).

فكأنّ هذه الأجواء هي التي حملت المتوكل على أن يكتب للإمام الهادي عليه‌السلام ذلك الكتاب اللطيف ، ونقل مثلها السبط عن ابن هرثمة عن أهل المدينة بالنسبة للإمام عليه‌السلام. وكأنّ المتوكل باستقدام الإمام عليه‌السلام إليه إلى سامراء وحصره في حصار عسكره أراد بذلك أن يأمن منه لما يريد.

جاء في خبر الطوسي : في سنة (٢٣٧ ه‍) أنفذ المتوكل قائداً من قوّاده (؟) وضمّ إليه كثيراً من جنوده ليهدم قبر الحسين عليه‌السلام ويمنع الناس من الاجتماع إلى قبره وزيارته!

قال : فخرج القائد (؟) إلى الطف وعمل بما أمر. وكان أهل السواد قد رأوا من الدلائل (من قبره) ما حملهم على أن ثاروا واجتمعوا عليه وقالوا له : (والله) لو قُتلنا عن آخرنا لما أمسك من بقي منا عن زيارته!

__________________

(١) كلمة الحاير من الحيرة بمعنى الحجرة في لفظ أهل الحيرة وعنها في الكوفة ، عَلماً لحجرة قبر الحسين عليه‌السلام ، وكانت مبنية عليه قبل أن تهدم ويحور الماء حول قبره ، فهذا متأخر عن إطلاق الحاير عليه!

(٢) أمالي الطوسي : ٣٢٨ ، الحديث ١٠٣ ، المجلس ١١.


قال : فأمسك وكتب بالأمر إلى الحضرة! فورد كتاب المتوكل إلى القائد (؟) بالكفّ عنهم والمسير إلى الكوفة متظاهراً بأنّ مسيره إليها إنما هو لمصالح أهلها! ثمّ الانكفاء عنهم إلى سامراء (١).

ونقل قبله عن محمد بن جعفر بن محمد بن فرج الرُّخجي عن أبيه جعفر بن محمد عن عمه عمر بن فرج قال : أنفذني المتوكل في تخريب قبر الحسين عليه‌السلام فصرت إلى ناحيته ، فأمرت بحرث الأرض بالأبقار فمُرّ بها على القبور فمرت عليها ، فلمّا بلغت قبر الحسين عليه‌السلام لم تمرّ عليه! فباشرت الأمر وأخذت عصا غليظة بيدي فما زلت أضربها حتّى تكسّرت العصا في يدي! فوالله ما جازت إلى قبره ولا تخطّته! قال محمد بن جعفر : وكان عمي هذا شديد الانحراف عن آل محمد (٢).

وقال الطبري : في سنة (٢٣٦ ه‍) أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي وهدم ما حوله من المنازل والدور ، وأن يُحرث ويبذّر ويسقى موضع قبره ، وأن يُمنع الناس من إتيانه.

قال : فذُكر أنّ عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية : من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة أيام بعثنا به إلى السجن المطبق. وحُرث ذلك الموضع وزُرع ما حواليه ، وهرب الناس (٣).

وقال المسعودي : مُنع شيعة آل أبي طالب من زيارة الغريّ من الكوفة وقبر الحسين ومن حضورهم في هذه المشاهد ، كان الأمر بذلك من المتوكل سنة (٢٣٦ ه‍) وأمر قائده المعروف بالديزج بالسير إلى قبر الحسين بن علي «رضي الله عنهما» وهدمه وإزالة أثره ومحو أرضه! فلمّا خرج الديزج بذل الرغائب لمن يقدم بالهدم

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٣٢٨ ، الحديث ١٠٣ ، المجلس ١١.

(٢) المصدر السابق : ٣٢٥ ، الحديث ٩٩ ، المجلس ١١.

(٣) تاريخ الطبري ٩ : ١٨٥ ونحوه في تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٦ ومختصر تاريخ الدول : ١٤٢.


للقبر فكل من جنوده خشي العقوبة وأحجم! فتناول الديزج مسحاة وهدم أعالي قبر الحسين (أو قبّة الحسين) فأقدم الفعلة عليه حتى انتهوا إلى الحفرة (١).

وأسند الأُموي الزيدي عن أحمد بن الجعد : أنّ المتوكل كان قبل خلافته إذا أراد أن يشرب (الخمر) طلب بعض الجواري تغنّي له ، فلمّا ولي الخلافة وكان شهر شعبان وأراد أن يشرب طلبها فلم يجدوها له. فلمّا عادت وبلغها خبره بعثت إليه بجارية من جواريها كان يألفها ، فسألها ، أين كنتم؟ فقالت : أخرجتنا مولاتنا معها إلى الحج! فقال : أحججتم في شعبان؟! فقالت : حججنا إلى قبر الحسين عليه‌السلام!

فأمر بها فحبسها وصادر أملامكها ، وكان له قائد كان يهودياً فأسلم يسمّى إبراهيم الديزج ، فبعث به وأمره بكرب قبر الحسين ومحوه وتخريب ما حوله! فاستحضر معه من قومه اليهود ومضى لذلك فخرّب ما حوله وهدم البناء على قبره ، وكرب ما حوله نحو مئتي جريب! فلمّا بلغ إلى قبره لم يتقدم إليه مسلم ، فأحضر قومه اليهود فكربوه!

ثمّ جعل مسالح (مخافر) هناك بين كل مسلحتين ميل ، ووكل إليهم أن لا يزوره زائر إلّاأخذوه ووجّهوا به إليه ووضع على سائر الطرق مسالح له لا يجدون أحداً زاره إلّاأتوه به فقتله أو أنهكه عقوبة!

واتّفق للمتوكل أنّ وزيره عبيد الله بن يحيى بن خاقان كان يسيء الرأي في آل أبي طالب فحسّن له القبيح في معاملتهم ، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله ، كان شديد الوطأة عليهم وغليظاً على جماعتهم مهتمّاً بأُمورهم شديد الحقد والغيظ عليهم وسوء الظن والتهمة لهم (٢)!

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٥١.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٩٥ ، ٣٩٦.


فيظهر من الخبر أن الزيارة كانت للنصف من شعبان ، فلعلّه كان بادرة الأخبار إليه ثمّ توالت بغيره كما مرّ.

وأسند الطوسي عن الكاتب الثقفي عن الحسين بن محمد العمّاري حفيد عمّار بن ياسر : أنّ إبراهيم الديزج حدثه قال : بعثني المتوكل إلى كربلاء لتغيير قبر الحسين عليه‌السلام! وكتب معي إلى قاضي الكوفة جعفر بن محمد بن عمّار : أن أنبش قبر الحسين عليه‌السلام!

قال : فأخذت خاصة غلماني وأتيته فنبشته فوجدت رائحة المسك ثمّ بدن الحسين على بارية كأ نّها جديدة! فأمرتهم بتركه بحاله وطرح التراب عليه.

ثمّ أطلقت عليه الماء وأمرت بالبقر لتمخره وتحرثه ، فكانت إذا جاءت إلى الموضع رجعت عنه! فحلفت لغلماني بالله وبالأيمان المغلّظة لئن ذكر أحد هذا لأقتلنّه!

فلمّا سألني القاضي : ما صنعت؟ قلت : قد فعلت ما أُمرت به فلم أجد شيئاً! فكتب به إلى المتوكل (١).

فأمّا الاعلام العام فأنّه لم يجد شيئاً! وأما الخاص للخواص مثل حفيد عمّار بن ياسر فأنّه وجده طرياً!

ثمّ أسند الطوسي عن أبي برزة الفضل بن محمد قال : كنت جار إبراهيم الديزج ، ومرض فكنت أعوده ، وكان عنده الطبيب ثمّ قام فخرج وخلا الموضع فسألته عن حاله فقال : اخبرك وأستغفر الله! إنّ المتوكل أمرني بالخروج إلى «نينوى» إلى قبر الحسين عليه‌السلام لنكربه ونطمس أثر القبر!

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٣٢٦ ، الحديث ١٠٠ ، المجلس ١١.


فوافيت الناحية مساءً ومعنا الفعَلة والروزكاريّون (١) معهم المرور والمساحي (٢)(٣) فأمرت أصحابي وغلماني أن يأخذوا الفعَلة بتخريب القبر وحرث أرضه ، وكان قد نالني من تعب السفر فطرحت نفسي ونمت وذهب بي النوم ، فإذا ضوضاء شديدة وأصوات عالية ونبّهوني فقمت ذعراً وسألتهم : ما شأنكم؟ وكان ذلك في أول ليل من الليالي البيض المقمرة فقالوا : إنّ بموضع القبر قوماً يرموننا بالنُشّاب ليحُولوا بيننا وبين القبر! فقمت معهم لأتبيّن الأمر فوجدته كما وصفوا. فأمرتهم برميهم فرموهم فعادت سهامنا إلينا وما أصابت إلّاأصحابها الذين رموا بها! فاستوحشت لذلك وجزعت وأخذتني القشعريرة ثمّ الحمّى! فوطّنت نفسي على أن يقتلني المتوكل لأني لم أبلغ في القبر ما تقدّم إليّ به (٤)!

فكأنّه أراد بهذا أن يبرّئ نفسه من جرأة التجاسر على قبر الحسين عليه‌السلام ولا سيما نبشه!

وقال السيوطي : سنة (٢٣٦ ه‍) أمر المتوكل بهدم قبر الحسين وهدم ما حوله من الدور ، وأن يُعمل مزارع! ومنع الناس من زيارته ، فخُرّب وبقي صحراء! فتألم الناس من ذلك ، وكتب أهل بغداد شتمه على المساجد والحيطان ، وهجاه الشعراء (٥).

كان هذا عام (٢٣٧ ه‍) وسيتكرر عام (٢٤٧ ه‍) أي بعد عشرة أعوام ، وخبره في : ٣٩٦.

__________________

(١) كلمة فارسية تعني العمال اليوميّين في أُجورهم.

(٢) المساحي : جمع المِسحاة. والمرور جمع المرّ : مِسحاة قصيرة.

(٣) أمالي الطوسي : ٣٢٧ ، الحديث ١٠٢ ، المجلس ١١.

(٤) أمالي الطوسي : ٣٢٧ ، الحديث ١٠٢ ، المجلس ١١.

(٥) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٠٧.


غارة الروم على مصر :

لمّا فوّض المتوكل مصير مصر إلى وليّ عهده الأول ابنه محمد المنتصر ، صيّر أعمال مصر في سنة (٢٣٧ ه‍) إلى عنبسة بن إسحاق الضبّي ، وبعد شهور (دخلت سنة ٢٣٨ ه‍) فأغار الروم «بخمسة وثمانين» مركب حربيّ بحري على موانئ دِمياط بقيادة فيتوپاريس ، فقتلوا خلقاً من المسلمين وأحرقوا ألفاً وأربعمئة منزل وتهارب الناس فغرق في البحر نحو ألفين ، وسبوا نساءً من المسلمات ألفاً وثمانمئة ، ومن القبط ألفاً ومن اليهود مئة امرأة! وأقاموا يومين ينهبون ثمّ انصرفوا (١).

وقال ابن العبري : في سنة (٢٣٨ ه‍) جاءت من الروم «ثلاثمئة مركب» بثلاثة قوّاد (كل قائد لمئة مركب) وإنما أناخ منهم قائد بمئة مركب بدمياط (وحرسهم سائرهم) وكان بينها وبين الشطّ شبه البحيرة ماؤها إلى الصدور فمن جازها إلى الأرض أمن من مراكب البحر ، فجازه قوم من المسلمين فسلموا ، وغرق كثير من النساء والصبيان! فوصل الروم ودمياط فارغة من الجند فنهبوا وأحرقوا وسبوا من النساء المسلمات والذميات نحو ستمئة امرأة! وأحرقوا الجامع. ورجعوا ولم يعرض لهم أحد (٢) وأرى ابن العبري حاول التقليل من جرائم الروم!

واكتفى السيوطي بالقليل فقال : في سنة (٢٣٨ ه‍) كبس الروم دمياط فنهبوا وأحرقوا وسبوا منها ستمئة امرأة وولّوا مسرعين (٣).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٨.

(٢) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١٤٣.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٠٨.


قضاة مصر والعاصمة :

كان على قضاء مصر من عصر المأمون أبو بكر محمد بن أبي الليث ، والحارث بن مسكين من أصحاب مالك ولم يقل بخلق القرآن فسُجن ، فبعث المتوكل إلى عامل مصر أن يطلقه ونصبه قاضياً وعزل ابن أبي الليث ، وأمر القاضي الجديد ابن مسكين المالكي أن يحلق لحية القاضي السابق ابن أبي الليث ويضربه ويطوف به على حمار! ثمّ أخذ كل يوم يضربه عشرين سوطاً ليهينه وبعنوان استرداد الظلامات إلى أهلها (١)!

ومرّ الخبر لأوائل عهد المتوكل في سنة (٢٣٣ ه‍) أنّ أحمد بن أبي دؤاد الإيادي القاضي اعتلّ بالفالج ، وبطل لسانه فلا يتكلم ، وكان ابنه محمد متفقّهاً يُعرف بأبي الوليد فولّاه مكانه ، واليوم في سنة (٢٣٨ ه‍) أي بعد خمس سنين سخط عليه وعلى أبيه فعزله وصادر أموالهما وضياع أبيه وردّهما إلى بغداد. ومع أنّ يحيى بن أكثم التميمي البصري كان قاضي المأمون ، استقدمه المتوكل وولّاه قضاء القُضاة. ثمّ تنبّه لذلك فعزله وولّى بدله جعفر بن عبد الواحد الهاشمي العباسي (٢).

ففي فترة قضاء ابن أكثم على عهد المتوكل ، أرسل سبط ابن الجوزي قال : قال يحيى بن (أكثم) تذاكر الفقهاء يوماً بحضرة المتوكل : مَن حلق رأس آدم (في حجّه)؟ فلم يعرفوا! فقال المتوكل : أرسلوا إلى عليّ بن محمد بن الرضا! فأحضِروه. فأحضروه وسألوه فقال : عن أبي عن أبيه عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٠٧ ، ٤٠٨ وهكذا انتشر مذهب مالك هناك وفيما والاها!

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٥ و ٤٨٩ ، وفي مصادرة أموالهما وهلاكهما عام (٢٤٠ ه‍) راجع مروج الذهب ٤ : ١٤.


قال : إنّ الله تعالى أنزل جبرئيل بياقوتة من يواقيت الجنة لآدم ، فنزل بها إليه ومسح بها رأسه ، فتناثر شعره ، وأنارت فحيث بلغ نورها صار حرماً (١).

المتوكل وابن السكّيت والهادي عليه‌السلام :

ذاعت وشاعت الشهرة الأدبية بالعربية ليعقوب بن إسحاق الدورقي الأهوازي المعروف بابن السكّيت ، حتى بلغت المتوكل العباسي ، فاستقدمه إلى سامرّاء وتوكّل عليه لتأديب ابنيه وليّي عهده المؤيد والمعتز بالله.

وكما حاول عمّه المأمون إسكات الرضا عليه‌السلام بالمسائل التي كان يلقيها عليه بالمباشرة أو على لسان المخالفين من المسلمين أو غيرهم ، كذلك حاول ابن أخيه المتوكل مع ابن الرضا الهادي عليه‌السلام ، وكان ذلك في هذه الفترة التي أحدثها بعد أبي الوليد محمد بن أحمد بن أبي دؤاد الإيادي ، وقبل أن يجد لقضاء القضاة متفقّهاً من الهاشميين العباسيين جعفر بن عبد الواحد ، أي في عام (٢٣٨ ه‍).

وبعيد أن يكون المتوكل يجهل تقدّم ابن الأكثم على ابن السكّيت في أمل إسكات الهادي عليه‌السلام ولا يعلم بسوابقه مع أبيه الجواد عليه‌السلام في عهد عمّه المأمون ، ويُظنّ أنّه استشعر تشيع ابن السكّيت فأراد إحراجه بإيقافه بوجه إمامه! فيما يلي من الخبر :

أحضر المتوكل ابن السكّيت وقال له : اسأل ابن الرضا (علي بن محمد) مسألة عويصة بحضرتي. ثمّ أحضره ويحيى بن أكثم ، فسأله ابن السكيت قال :

__________________

(١) تذكرة الخواص : ٤٩٨ وفيه : يحيى بن هرثمة ، وانظر تعليق المحقق ، ونقل قريباً منه القمي في الأنوار البهية : ٢٨٣ عن الدر النظيم ، باب ١٢ عن يحيى بن أكثم ولكن في مجلس الواثق! وابن أكثم لم يكن يومئذ على القضاء بل معزولاً مغضوباً عليه ، والواثق ما حجّ في عهده. فالأولى ما ذكرناه. وانظر أخبار الياقوتة من الجنة في علل الشرائع ٢ ، الباب ١٥٩.


لماذا بعث الله موسى بن عمران عليه‌السلام بالعصا ويده البيضاء وآلة السحر؟ وبعث عيسى بإبراء الأكمه والبرص وإحياء الموتى وآلة الطبّ؟ وبعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكلام والخطب؟ أو قال : بالقرآن والسيف؟

فقال أبو الحسن عليه‌السلام : إنّ الله تبارك وتعالى بعث موسى بالعصا واليد البيضاء في زمان كان الغالب على أهله السحر ، فأتاهم من ذلك بما لم يكن في وسعهم وبما قهر سحرهم وبهرهم وأثبت به الحجة عليهم.

وإنّ الله بعث عيسى عليه‌السلام بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى في زمان كان الغالب على أهله الطب ، فأتاهم من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله فقهرهم وبهرهم وأثبت به الحجة عليهم.

وإنّ الله تبارك وتعالى بعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقرآن والسيف ، في زمان كان الغالب على أهله السيف والشعر ، فأتاهم من القرآن الزاهر والسيف القاهر ما بهر به شعرهم وقهر به سيفهم وأثبت الحجة بهما عليهم.

فقال ابن السكّيت : تالله ما رأيت مثلك اليوم قط! فما الحجة على الخلق اليوم؟

قال : العقل ، يُعرف به الصادق على الله فيصدَّق ، والكاذب على الله فيكذّب.

فقال ابن السكّيت : هذا هو والله الجواب (١)! وانفضّ المجلس بخلاف أهداف المتوكل.

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٢٤ ، ٢٥ ، الحديث ٢٠ ، باب العقل والجهل بدون طلب المتوكل ، وأطلق أبا الحسن. ولذا وبغفلة عن ابن السكيت الراوي عن الهادي عليه‌السلام طبّق الصدوق أبا الحسن على الرضا عليه‌السلام فرواه في عيون أخبار الرضا ٢ : ٧٩ ، ٨٠ ، الحديث ١٢ وكرّره كذلك في علل الشرائع ١ ، الحديث ٦ ، الباب ٩٩. وذكره الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٣٤ مع طلب المتوكل وبتعبير : ابن الرضا ، وهو الصحيح.


عويصات يحيى بن أكثم :

انفضّ المجلس السابق الذي عقده المتوكل بسابق طلب منه إلى ابن السكّيت مؤدّب ابنيه المعتزّ والمؤيد ، بخلاف أهدافه ، فاغتنمها ابن أكثم وقال للمتوكل : ما لابن السكّيت أن يسكّت بمناظرته ابن الرضا الهادي عليه‌السلام وإنما هو صاحب لغة ونحو وشعر! ثمّ اقترح عليه أن يسجّل مسائل عويصة في قرطاس يعرضها على المتوكل ثمّ يُحضر ابن الرضا الهادي عليه‌السلام فيطرحها عليه عسى ولعلّه يتوقّف فيها أو في بعضها فيغتنمونها ذريعة عليه عليه‌السلام ، ووافقه المتوكل.

فاتّخذ قرطاساً وسجّل فيه مسائله العويصة : ثلاث عشرة مسألة هي كما يلي مرتباً (١).

١ ـ ماذا كانت جنة آدم؟ وما كانت الشجرة المنهية؟

٢ ـ كيف سجد يعقوب لابنه يوسف؟ ولماذا؟

٣ ـ من كان (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ (٢)) وكيف عرف ما لم يعرفه سليمان؟ ولماذا؟

٤ ـ مَن المخاطب بقوله سبحانه : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ (٣)).

٥ ـ ما تفسير قوله سبحانه : (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ (٤)).

٦ ـ وما تفسير قوله سبحانه : (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً (٥)).

٧ ـ ولماذا الجهر في صلاة الفجر؟

__________________

(١) لم يفصل الخبر بين الأسئلة والأجوبة ، فتفصيلها منّا وتنسيقها.

(٢) النمل : ٤٠.

(٣) يونس : ٩٤.

(٤) لقمان : ٢٧.

(٥) الشورى : ٥٠.


٨ ـ متى تُقبل شهادة المرأة لوحدها؟

٩ ـ لِمَ بشّر أمير المؤمنين علي عليه‌السلام قاتل ابن صفية بالنار؟ ولِمَ لَم يقتله؟!

١٠ ـ لِمَ فرّق علي عليه‌السلام قتال المدبرين بين أهل الجمل وصفين؟!

١١ ـ لِمَ عفا علي عليه‌السلام عن حدّ اللائط المقرّ؟!

١٢ ـ كيف يُفعل بالشاة الموطوءة؟

١٣ ـ ما القول فيما يروى عن علي عليه‌السلام في إرث الخنثى؟

ثمّ رفع القرطاس إلى المتوكل فقبل بها! ولا يدرى لماذا أصرّ المتوكل هذه المرة أيضاً بأن يطرحها ابن السكّيت من القرطاس على الهادي عليه‌السلام ويستملي منه أجوبتها ، فرفع ابن السكّيت القرطاس إلى علي بن محمد عليه‌السلام فأمره الإمام أن يكتب جواباتها إملاءً منه كما يلي مرتّباً (١).

أجوبة الإمام الهادي عليه‌السلام :

أمر الهادي عليه‌السلام ابن السكّيت أن يكتب جوابات عويصات ابن أكثم بإملائه عليه ؛ قال عليه‌السلام :

سألت (عن جنة آدم) فأما الجنة ففيها من المأكل والمشرب والملاهي ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين ، وأباح الله ذلك لآدم ونهاه وزوجته عن الشجرة أن يأكلا منها ، وهي شجرة الحسد ، عهد الله إليهما أن لا ينظرا إلى من فضّله الله عليهما من خلائقه بعين الحسد ، فنسي ولم يجد له عزماً.

وأما سجود يعقوب لولده ؛ فإنّ السجود لم يكن ليوسف ، وإنما كان ذلك من يعقوب وولده طاعة لله تعالى تحية ليوسف ، كما أنّ السجود من الملائكة لم يكن

__________________

(١) بترتيب منّا راعينا فيه تواريخها وأهميّتها.


لآدم. فيعقوب وولده ومعهم يوسف سجدوا شكراً لله تعالى على اجتماع شملهم وقال في شكره : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ... (١)).

وسألت عن قول الله تعالى : (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ (٢)) هو آصف بن برخيا ، وسليمان لم يعجز عن معرفة ما عرفه آصف ، ولكنه أحبّ أن يُعرّف أُمته من الإنس والجن أنّه الحجة من بعده. بل ذلك من علم سليمان أودعه بأمر الله إلى آصف ، فأحبّ أن لا يُختلف في إمامته وولايته من بعده ، ولتأكيد الحجة على الخلق!

وأما قوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ (٣)) فإنّ المخاطب بذلك رسول الله ، ولم يكن هو في شك ممّا أنزل الله إليه ، ولكن قالت الجَهلة : كيف لم يبعث الله نبياً من الملائكة؟! وكيف لم يفرّق الله بينه وبين الناس في الاستغناء عن المأكل والمشرب والمشي في الأسواق؟! فأوحى الله إلى نبيّه : أن اسأل الذين يقرؤون الكتاب بمحضر من الجهلة : هل بعث الله قبلك نبيّاً إلّاوهو يأكل الطعام؟ فلك يا محمد أُسوة بهم.

وإنّما قال : (فَإِنْ كُنْتَ) ولم يكن ، للنصَفة ، كما قال : (فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (٤)) ولو قال : فنجعل عليكم لعنة الله لم يجيبوا إلى المباهلة ، فكذا عرف النبيّ أنّه صادق فيما يقول ولكن أحبّ أن يُنصف من نفسه.

وأما قوله : (وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ (٥)) فهو كذلك لو أنّ

__________________

(١) يوسف : ١٠١.

(٢) النمل : ٤٠.

(٣) يونس : ٩٤.

(٤) آل عمران : ٦١.

(٥) لقمان : ٢٧.


أشجار الدنيا أقلام والبحر مداد يمده سبعة أبحر مدّاً ما نفدت كلمات الله! ونحن كلمات الله التي لا تُدرك فضائلنا ولا تستقصى.

وأما قوله : (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً (١)) فمعاذ الله أن يكون الجليل العظيم عنى ما لبّست على نفسك تطلب الرخص لارتكاب الحرام (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (٢)) إن لم يتب! وإنّما يزاوج الله الذكران (من الأجنة في الأرحام).

وأما الجهر في صلاة الفجر ؛ فذلك لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يغلّس بها ، فقراءتها من الليل.

وأما ما جاز من شهادة امرأة وحدها ؛ فهي القابلة جازت شهادتها مع الرضا ، فإن لم تكن (موضع) رضا فلا أقلّ من امرأتين تقومان بدلاً عن الرجل ، للضرورة ؛ لأنّ الرجل لا يمكنه أن يقوم مقامها ، فإن كانت وحدها قُبل قولها مع يمينها.

وأما قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «بشّر قاتل ابن صفيّة بالنار» فلقول رسول الله به ، وكان ممّن سيخرج يوم النهروان وعلم أمير المؤمنين أنّه سيُقتل في فتنة النهروان فلم يقتله بالبصرة.

وأما قولك : إنّ علياً يوم الجمل لم يتّبع مولّياً ولم يجهز على جريح وآمن من ألقى سلاحه ، وقاتل أهل صفّين مقبلين ومدبرين وأجهز على جريحهم ؛ فإنّ أهل الجمل قُتل إمامهم فلم تكن لهم فئة يرجعون إليها ، وإنما رجعوا إلى منازلهم غير متحاربين ولا محتالين ولا متجسّسين ولا متبارزين ، بل رضوا بالكف عنهم ،

__________________

(١) الشورى : ٥٠.

(٢) الفرقان : ٦٨ ، ٦٩.


فكان الحكم فيه : رفع السيف والكف عنهم. أمّا أهل صفين فهم كانوا يرجعون إلى فئة مستعدة وإمام منتصب يجمع لهم السلاح ويستعدلهم ويُسنى لهم العطاء ويهيّئ لهم الأموال ، ويعقب مريضهم ويجبر كسيرهم ويداوي جريحهم ويحمل راجلهم ويكسو حاسرهم ويردّهم يرجعون إلى محاربتهم وقتالهم. فالحكم في أهل صفين أن يُتّبع مدبرهم ويجهز على جريحهم ، فلا يساوي في الحكم بين الفريقين.

ولولا أمير المؤمنين وحكمه في أهل الجمل وصفّين لما عُرف الحكم في عُصاة أهل التوحيد!

وأمّا الرجل الذي أقرّ باللواط ، فإنّه أقرّ متبرعاً من نفسه بذلك ولم تقم عليه بيّنة ولا أخذه سلطان ، وإذ كان للإمام الذي من الله أن يعاقب في الله فله أن يعفو في الله ، أما سمعت الله يقول لسليمان (هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ (١)) حتّى أنّه بدأ بالمنّ قبل المنع.

وأمّا الرجل الناظر إلى الراعي وقد نزا على شاة ؛ فإن عرفها ذبحها وأحرقها ، وإن لم يعرفها قسمها الإمام نصفين وساهم بينهما (بالقرعة) ثمّ يفرّق السهم الذي وقع عليه السهم نصفين ويقرع بينهما ، ولا يزال كذلك حتّى تبقى اثنتان فيقرع بينهما فأيتهما وقع السهم عليها ذُبحت واحرقت ، وقد نجا سائرهما.

وأمّا قول علي عليه‌السلام في الخُنثى فهو كما قال يرث من المبال ؛ ينظر إليه قوم عدول يأخذ كل واحد منهم مرآة ويقوم الخنثى عرياناً وراءهم وهم ينظرون إلى المرآة فيرون الشيء ويحكمون به.

فلمّا أتمّ الإمام عليه‌السلام كلامه في الإجابة عن عويصات ابن أكثم ، إملاءً على ابن السكّيت ، حمله ابن السكّيت إلى ابن الأكثم وقرأها ابن الأكثم على المتوكل ؛

__________________

(١) سورة ص : ٣٩.


ويظهر من الخبر أنّهم أو المتوكل كان يهمّه بعد هذا أن يُحضر الإمام عليه‌السلام بمحضر عام أو شبه عام ، ولذا قال له ابن أكثم : ما نحب أن تسأل هذا الرجل عن شيء بعد المسائل هذه! فإنه لا يرد عليه شيء بعدها إلّاوهو دونها ، فيظهر به علمه! وفي ظهور علمه تقوية «للرافضة» (١).

ولعلّ في مثل هذه المواقف وقف المتوكل على تشيع ابن السكّيت ، فامتحنه بسؤاله عن نظره في النسبة بين ابنيه المعتز والمؤيد وبين السبطين الحسنين عليهما‌السلام ، فقرعه ابن السكّيت بما استتبع إسكات أنفاسه بأمر المتوكل ، كما سيأتي في محلّه.

وممّا وقع في هذه الفترة من قضاء ابن أكثم على عهد المتوكل ما أخرجه الكليني عن جعفر بن رزق الله قال : رُفع إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة ، فأراد أن يقيم عليه الحدّ فأسلم. فقال ابن أكثم : الإيمان يجبّ ويمحو ما قبله. واختلفوا ، فأمر المتوكل أن يكتب إلى علي بن محمد النقي يسأله ، فلمّا قرأ الكتاب كتب إليه : «يضرب حتى يموت» فكتبوا يسألون العلة ، فكتب : بسم الله الرحمنِ الرحيم (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٢)) فاقتنع المتوكل وأمر به فضُرب حتّى مات (٣).

حوادث أرمينية وما والاها :

في سنة (٢٣٩ ه‍) اضطرب أمر أرمينية وتحرّك بها جماعة من البطارقة وغيرهم وتغلّبوا على نواحيهم. فولّى المتوكل أبا سعيد محمد بن يوسف

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٣٤ ـ ٤٣٧.

(٢) غافر : ٨٤.

(٣) فروع الكافي ٧ : ٢٣٨.


(من مواليه) فعند خروجه سقط ميتاً ، فولّى المتوكل ابنه يوسف ، فخرج حتّى صار إلى البلاد وكاتب البطارقة وخرج إليه منهم بقراط بن أشوط على الأمان فحمله إلى المتوكل ، وأجابه آخرون منهم وحاربه بعضهم فقُتل.

فوجّه المتوكل إليهم بُغا التركي الكبير ، فلمّا وصل إلى أرزن الروم قرب بلدة بدليس كان المتغلّب عليها موسى بن زرارة فأتاه بالأمان فقيّده بُغا وحمله إلى المتوكل ، ثمّ صار إلى موضع يقال له الباق فيه أشوط بن حمزة فحاصره وآمنه وحمله إلى سامرّاء ، فقُتل وصلب. ثمّ توجّه إلى تفليس والمتغلب عليها إسحاق بن إسماعيل وكتب بُغا إليه أن يقدم عليه ، فكتب إليه إسحاق أنّه لم يخرج من طاعة السلطان فإن أراد مالاً أمدّه بها ، وإن أراد رجالاً أنفذهم إليه ولا يمكنه القدوم! فزحف إليه بُغا وحاربه فظفر به فقتله وأرسل رأسه إلى المتوكل. وهرب منهم جماعة وكاتبوا الروم وصاحب الخزر وصاحب الصقالبة واجتمعوا له في خلق عظيم. فزحف بُغا إلى الصنارية فحاربوه فانصرف عنهم منهزماً وكاتب المتوكل ، فندب إليه محمد بن خالد الشيباني ، فلمّا قدم جدّد لهم الأمان فسكن المتحركون (١).

وقال ابن العبري : توجّه يوسف بن محمد إلى أرمينية وآذربايجان فصار إلى أخلاط وأخذ البطريق بقراط بن أشوط فقيّده وحمله إلى المتوكل ، فاجتمع بطارقة أرمينية مع صهر بقراط على ابنته موسى بن زرارة وابن أخي بقراط وتحالفوا على قتال يوسف واجتمعوا عليه في شهر رمضان على قلعة موش! وكان ذلك في شدة من البرد وكلَب الشتاء ، فخرج إليهم يوسف وقاتلهم فقُتل ، وقتلوا من قاتل معه ، ومن لم يقاتل منهم نزعوهم ثيابهم وعرّوهم وأرسلوهم عراة مُشاة حفاة! فهلك أكثرهم من البرد!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٩ ، ٤٩٠.


فلمّا بلغ الخبر إلى المتوكل وجّه إليهم بُغا التركي الكبير فقتل منهم زهاء ثلاثين ألفاً وسبى خلقاً كثيراً! ثمّ سار إلى تفليس فحاصرها وكان أكثرها من خشب الصنوبر فأحضر النفّاطين وأحرق البلد بالنفط والنيران فاحترق بها نحو خمسين ألف إنسان (١)!

يحيى بن خاقان وابنه عبيد الله :

كان يحيى بن خاقان من موالي الأزد ، وتولّى آل العباس والمتوكل فصيّره على ديوان المظالم. وكان على ديوان التوقيع محمد بن الفضل ووقف المتوكل منه على أمر سخط منه عليه فعزله ، وصيّر مكانه عبيد الله بن يحيى بن خاقان ، ورفعه وأعلى مرتبته ومحلّه وولّاه ، وأمره أن يوقّع : مولى أمير المؤمنين ، فكان يولّى عمال الخراج والضياع والبريد والمعاون والقضاة في جميع النواحي ، فلم يكن لأحد دونه عمل (٢)! وذلك عام (٢٣٩ ه‍).

حوادث سنة (٢٤٠ و ٢٤١ ه‍):

كان على السند هارون بن أبي خالد فتوفى سنة (٢٤٠ ه‍) ، وهناك عمر بن عبد العزيز السامي فكتب إلى المتوكل أنّه إن وُلّي البلد قام به وضبطه ، فأجابه المتوكل إلى ذلك وأقامه والياً وطالت أيامه.

__________________

(١) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١٤٢ ، ١٤٣ وقال : كان ذلك سنة سبع وثلاثين. ولعلّه من تصحيف السبع بالتسع أو العكس. وقارن وصفه لفعل بُغا التركي هنا بالنصارى ، بوصفه السابق لفعل النصارى الروم بدمياط المسلمين في مصر! واعتبر بعكس وصفهما عن اليعقوبي في التهويل والتقليل! فهو من القضايا التي قياساتها معها.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٨ ، ٤٨٩.


وكان على حِمص أبو المغيص موسى بن إبراهيم فوثب عليه أهلها سنة (٢٤٠) فخرج منها إلى حَماة ، فولّى المتوكل محمد بن عبدويه فسكّنهم عدة شهور ثمّ وثبوا عليه أيضاً فمكر بهم حتّى أخذ جماعة من وجوههم وأوثقهم في الأغلال إلى المتوكل فردّهم إليه فضربهم حتّى ماتوا فصلبهم على أبواب منازلهم وأفناهم.

واجتمع كتّاب دواوين الخراج وقالوا : إنّ البلاد بحاجة إلى التعديل ولا يقوم به إلّاوالي ديوان الخراج ، فولّى المتوكل أحمد بن محمد على خراج الشام دمشق والأُردن فتوجّه سنة (٢٤٠) إلى تعديل خراج دمشق والأُردن حتّى حمّل كل أرض ما تستحقه.

وبنى المتوكل بها قصوراً أنفق عليها أموالاً عظاماً : الشاة ، والعروس ، والشبداز! والبديع ، والغريب ، والبُرج ، وأنفق على البرج ألف ألف وسبعمئة ألف دينار! (الملويّة)؟

وكأنّ الروم تخوّفوا من انتقام المسلمين لأهل دمياط لذا وجّه ملك الروم بهدايا يسيرة مع رسل إلى المتوكل وباستعدادهم لمفاداة الأسرى ، فبعث المتوكل إليه بأضعاف هداياه. وكان من خدّامه شنيف قيّماً على أُمناء المتوكل ، فوجّه به للفداء ، فجمع أسرى الروم من كل بلاد الإسلام واشترى كثيراً من العبيد النصارى ليفادى بهم. وكان عامل الثغر الرومي يومئذ أحمد بن يحيى الأرمني! فخرج شنيف بالأسرى والعبيد إلى طرسوس سنة (٢٤١ ه‍) ثمّ إلى قنطرة نهر لامس ، ففادى الأسرى (١).

ومن تاريخ المذاهب : كان أبو ثور الكلبي البغدادي على مذهب أهل الرأي (الحنفي) حتّى قدم الشافعي إلى بغداد وصاحَبه فاتّبعه ونشر فتاواه القديمة (قبل

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩٠ ، ٤٩١ ولم يذكر ابن العبري خبر مفاداة الأسرى النصارى!


فتاواه بمصر) وكان الشافعي محمد بن إدريس وله محمّدان مات أحدهما بمصر سنة (٢٣١ ه‍) وولى الآخر قضاء جزيرة ابن عمر في شمال العراق فمات بها سنة (٢٤٠ ه‍) فهما عامل نشر مذهب الشافعي ببغداد والشمال.

وحينما خرج الشافعي من بغداد كان يقول عن أحمد بن حنبل : خرجت من بغداد وما خلّفت بها أحداً أفقه ولا أتقى من أحمد بن حنبل! ومات أحمد بها في ربيع الأول ، وحضر تشييعه ستون ألف امرأة وستمئة ألف رجل! وأسلم ذلك اليوم عشرون ألفاً من المجوس واليهود والنصارى! كذا قال ابن الوردي الحنبلي (١).

وإنما قال المسعودي : حضر تشييعه ما لم يُر مثل ذلك الاجتماع في جنازة من سلف قبله ، وصلّى عليه الوالي محمد بن طاهر الخزاعي (مولاهم) ودُفن في الجانب الغربي بباب حرب.

وكان مقدّم عظيم فيهم يقف مراراً وينادي كراراً :

وأظلمت الدنيا لفقد محمد

وأظلمت الدنيا لفقد ابن حنبل

يريد بذلك أنها أظلمت لفقد أحمد كما أظلمت لفقد محمد عليه‌السلام! وكان أحدهم ينادي بهم : العنوا الواقف عند الشبهات (٢)! ولم يعرض له السيوطي الشافعي! وأحمد من أحفاد ذي الثُديّة رأس الخوارج!

وهو صاحب «المسند» الذي قال فيه : جمعت في المسند أحاديث انتخبتها من أكثر من سبعمئة وخمسين ألف حديث ، فما اختلفتم فيه فارجعوا إليه وما لم تجدوه فيه فلا حجة فيه (٣).

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٧.

(٢) مروج الذهب ٤ : ٢٠.

(٣) تتمة منتهى الآمال للمحدّث القمي : ٣١٨.


وفاة الإسكافي المعتزلي البغدادي :

قال المسعودي : وفي السنة التي مات فيها أحمد بن حنبل كانت وفاة أبي جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي ، وكان من أهل العدل والبحث والنظر (١).

وقال ابن حجر : توفي في (٢٤٠ ه‍) ونقل عن ابن النديم قال : كان عجيب الشأن في العلم والذكاء والصيانة والنزاهة ونُبل الهمة ، وله مناظرات مع الكرابي وغيره ، وكان المعتصم يعظّمه ، وبلغ في مقدار عمره ما لم يبلغه أحد ، وأصله من سمرقند (٢) والإسكاف بين بغداد وواسط.

وينقل عنه ابن أبي الحديد كثيراً ، وقال فيه : عدّه قاضي القضاة (عبد الجبار المعتزلي) في الطبقة السابعة من طبقات المعتزلة .. وكان أبو جعفر عالماً فاضلاً ، وصنّف سبعين كتاباً في الكلام ، ونقض «كتاب العثمانية» للجاحظ البصري ، وبلغه فحمله إلى بغداد ودخل سوق الورّاقين بها يسألهم : من هذا الغلام السوادي (العراقي) الذي بلغني أنّه تعرّض لنقض كتابي؟! وكان الاسكافي في السوق فاختفى! وكان علوي الرأي منصفاً محققاً قليل العصبية ويقول بالتفضيل ويبالغ في ذلك كما عليه معتزلة بغداد.

وقال : «وكان من المتحققين بموالاة علي عليه‌السلام والمبالغين في تفضيله ، بل أشدهم قولاً في ذلك وأخلصهم فيه اعتقاداً ، وذكر : «أنّ معاوية وضع قوماً من «الصحابة» والتابعين لرواية أخبار في علي عليه‌السلام قبيحة تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم جَعلاً يُرغب في مثله! فاختلقوا ما أرضاه! منهم أبو هريرة

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٢٠ ، ٢١.

(٢) لسان الميزان ٥ : ٢٢١.


وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير» ثمّ ذكر لكلٍ رواية ومنها ما عن الحسين بن علي الكرابي البغدادي صاحب الشافعي ومروّج مذهبه ببغداد ، وعنه في صحيحي البخاري ومسلم عن الزهري» (١).

ومن آثاره كتاب «المعيار والموازنة» في المفاضلة بين علي عليه‌السلام والصحابة ، أحياه ونشره المحقق المحمودي رحمه‌الله.

هلاك ابن أكثم عام (٢٤٢ ه‍):

قال ابن الوردي : فيها توفي القاضي يحيى بن أكثم التميمي ، وكان من أصحاب الشافعي ، بصيراً بالأحكام. جلس المأمون يوماً مغتاظاً وهو يتمثل قول عمر بن الخطاب : «متعتان كانتا على عهد رسول الله وعلى عهد أبي بكر وأنا أنهى عنهما» ثمّ يقول : ومَن أنت يا جُعَل! حتّى تنهى عمّا فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! وكأنّه عزم على النداء بتحليل المتعة. وبلغ ذلك إلى ابن أكثم فدخل عليه متغيراً فقال له المأمون : أراك متغيراً؟! قال : هو غمّ لما يحدث من النداء بتحليل الزنا! يا أمير المؤمنين!

قال : الزنا؟! قال : نعم ، المتعة زناً! قال : ومن أين قلت هذا؟! قال : من كتاب الله حيث قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٢)) ثمّ تساءل : يا أمير المؤمنين ؛ زوجة المتعة ملك يمين؟ قال : لا. قال : فهي الزوجة التي ترث وتورث؟ قال : لا. قال : فقد صار متجاوز هذين من العادين (٣)!

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ٤ : ٦٣ ـ ٧٣.

(٢) المؤمنون : ٥ ـ ٧.

(٣) بل هي زوجة ولا ترث ، فالمتزوج بها ليس من العادين ، ولا دليل لحصر الزوجة في من ترث وتورث. بل هو من التفسير بالرأي الباطل الفاسد.


ثمّ روى له عن الزهري عن الحسن وعبد الله ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما عن أبيه علي رضى الله عنه قال : أمرني رسول الله أن أُنادي بالنهي في المتعة وتحريمها بعد أن أمر بها (١)!

فبادر المأمون إلى النداء بتحريم المتعة! ومعنى الأكثم : الشبعان العظيم البطن! وكان يُتّهم بالصبيان (٢).

الزلازل عام (٢٤٢ ه‍):

قال اليعقوبي : في سنة (٢٤٢ ه‍) كانت الزلازل بقومس ونيشابور وما والاها من خراسان ، حتّى مات بقومس خلق كثير ، وفي رجفة شهر شعبان مات مئتا ألف. ونال أهل فارس وهج وشعاع احترقت به الأشجار ومات الناس والبهائم. ونالت الزلازل أهل مصر في ذي الحجة من السنة ، تهدمت بها البيوت والمساجد (٣).

وزاد السيوطي : إصفهان والريّ وطبرستان ونيشابور وخراسان ، فتقطعت الجبال وتشققت الأرض. وزلزلت الأرض زلزلة عظيمة بتونس وأعمالها.

__________________

(١) فهل نادى بها علي عليه‌السلام؟ متى وكيف؟ ومع ذلك كانت على عهد أبي بكر؟! أم هل نهى عمر عن المنهي المنفي؟! وهل أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالزنا ثمّ نهى؟! أم كانت زوجة المتعة ترث فلم تكن زنا؟! كلّا! ولكن كلّ ذلك من تبرير الأمر الواقع من الخليفة ، أليس كذلك؟!

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٨ وإنما أخرج له ابن أكثم عن علي عليه‌السلام محاولة لإقناعه بالفرية على علي عليه‌السلام. هذا ولعلّ ولعه باللواط كان مشمولاً لقوله : «أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ ...* وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ» نعوذ بالله!

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩١.


وسار جبل باليمن بمزارعه على مزارع آخرين. ورُجمت مصر بالحجارة وكان أحدها يزن عشرة أرطال (١)!

أحداث المتوكل بين (٢٤٣ ـ ٢٤٦ ه‍):

استقرّت أوضاع الشام ، ولم تشملها الزلازل ، قال اليعقوبي : وكان المتوكل محروراً فوُصف له برد هواء داريّا من نواحي دمشق ، وكان عليها أحمد بن محمد بن مدبّر فكتب إليه يأمره بإصلاح طريق الشام إلى العراق وإقامة المنازل والمرافد ، وإعداد المنازل والقصور ومنها في داريّا. ثمّ سار من سامرّاء في أواخر ذي القعدة سنة (٢٤٣ ه‍) ووصل دمشق بعد ثلاثة أشهر في أواخر شهر صفر سنة (٢٤٤ ه‍) فنزل بها أربعين يوماً! ثمّ بلغه ما تخوّفه عن بعض الموالي الأتراك ، فترك أريكته بداريّا وعاد أدراجه إلى سامرّاء. فأصابت الزلازل الشام كلّه ولا سيما جبلة واللاذقية ومات بها عالم من الناس ، وأسلم الناس منازلهم وما فيها وخرجوا إلى الصحارى ، وتوالت شهوراً من سنة (٢٤٥ ه‍).

ثمّ استحسن منطقة الماحوزة على ثلاثة فراسخ (١٧ كم) من سامرّاء بينها وبين القاطول إلى بغداد ، فأمر بحفر نهر من نهر القاطول إلى الماحوزة ، وبنى بها قصراً لم يُسمع بمثله ، وبلدة سمّاها الجعفرية نسبة إلى نفسه ، وأمر بمصير الناس إليها ولا سيما الكتاب والدواوين ، وانتقل إليها في المحرم سنة (٢٤٦ ه‍) (٢).

قال السيوطي في سفره إلى الشام : بُني له قصر بداريّا وعزم على سكناها ثمّ بدا له ورجع (٣).

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٠٨.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩١ ، ٤٩٢.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٠٩.


وقال المسعودي : بل نزل قصر المأمون بأعلى الأرض بين دمشق وداريّا ، فهو يشرف على المدينة وأكثر الغوطة ، ويُعرف بقصر المأمون حتّى اليوم سنة (٣٣٢ ه‍) ثمّ ذكر شغب الجند معه واجتماعهم وصياحهم بطلب أُعطياتهم حتّى تراموا بالنشّاب وارتفعت إلى رواقه ، فأمر بضرب الطبول للرحيل إلى العراق ، وكانوا يريدون الفتك به (١).

وفي (٢٤٣ ه‍) أو (٢٤٧ ه‍) توفي في سامراء إبراهيم بن العباس الصولي شاعر الرضا عليه‌السلام مع دعبل الخزاعي وله عطايا منه ، وجمع شعره في عهد المتوكل فأحرقه وبدل اسم ابنيه الحسن والحسين إلى إسحاق والعباس!

ومطلع شعره :

أزالت عزاء القلب بعد التجلد

مصارع أولاد النبي محمد

ومن رثائه لابنه :

كنت السواد لناظري

فعليك يبكي الناظر

من شاء بعدك فليمت

فعليك كنت أُحاذر (٢)

هلاك المعتزلي عمرو بن عُبيد :

الأحداث التي سبقت للمتوكل كانت متتالية متوالية ، وبينها حوادث :

قال المسعودي : كان عمرو بن عُبيد المعتزلي البصري شيخ المعتزلة والمقدم فيها ، وكانت وفاته سنة (٢٤٤ ه‍).

ثمّ نقل عن «كتاب المجالس» لأبي عيسى محمد بن هارون الورّاق ببغداد (م ٢٤٧ ه‍) أنّ هشام بن الحكم الكوفي الحرار (؟) من شيوخ «الرافضة» في وقته

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٣٢ ـ ٣٤.

(٢) تحفة الأحباب : ١٦ ، وهدية الأحباب : ٢١٠.


اجتمع مع عمرو بن عبيد ، وهشام يذهب إلى القول بأنّ الإمامة نصّ من الله ورسوله على علي بن أبي طالب رضى الله عنه وعلى من يليه من طاهري ولده الحسن ثمّ الحسين ثمّ من يليه ... وعمرو بن عُبيد يذهب إلى أنّ الإمامة باختيار الأُمة.

فقال هشام لعمرو : لِمَ خلق الله لك عينين؟

قال : لأنظر بهما إلى ما خلق الله من السماوات والأرض وغيرهما دليلاً لي إليه.

قال هشام : فلِمَ خلق لك سمعاً؟ قال : لأسمع به الأمر والنهي والتحليل والتحريم.

قال هشام : فلِمَ خلق لك لساناً؟ قال : لأُخاطب به من افترض عليَّ أمره ونهيه واعبّر به عمّا في قلبي.

قال هشام : فلِمَ خلق الله لك قلباً؟ قال : لتؤدي هذه الحواس إليه فيميّز بين نافعها وضارها!

قال هشام : أفكان يجوز أن يخلق الله سائر حواسّك ولا يخلق قلباً تؤدي هذه الحواس إليه؟ لِمَ لا؟!

قال عمرو : لأنّ القلب باعث لهذه الحواس على ما يصلح له ، فلمّا لم يخلق الله فيها انبعاثاً من نفسها استحال أن لا يخلق لها باعثاً يبعثها على ما خلقت له إلّا بخلق القلب ، فيكون هو الباعث لها على ما تفعله ، والمميّز لها بين مضارها ومنافعها.

فقال هشام : والإمام يكون من الخلق بمنزلة القلب من سائر الحواس ، فإذا كانت الحواس راجعة إلى القلب لا غيره ، كذا يكون سائر الخلق راجعين إلى الإمام لا غيره! فلم يعرف عمرو فرقاً يُعرف (١)!

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٢٢ و ٢٣.


تسكيت ابن السكّيت الدورقي :

هو يعقوب بن إسحاق الأهوازي الدورقي الشيعي ، التقى بالتقي عليه‌السلام وروى عنه ، من أئمة اللغة وحامل لواء العربية والشعر والأدب ، صاحب كتاب «إصلاح المنطق».

قال السيوطي : كان ابن السكيت رافضياً ومع ذلك ندبه المتوكل لتعليم ابنيه المعتز والمؤيد ، ونظر إليهما يوماً واعجب بهما وأراد اختباره فسأله : مَن أحبُّ إليك هما أو الحسن والحسين؟! فقال : قنبر (مولى علي) خير منهما! فقيل : أمر بسلّ لسانه فمات ، وقيل : بل أمر غلمانه الأتراك فداسوا بطنه حتى مات ، ثمّ أدّى ديته إلى ابنه (١).

وقال ابن الوردي : في سنة (٢٤٤ ه‍) قال المتوكل لأبي يوسف يعقوب بن إسحاق بن السكّيت : أيما أحبّ إليك ابناي المعتز والمؤيد أم الحسن والحسين؟! فغضّ ابن السكّيت من ابنيه وذكر في الحسن والحسين ما هما أهله ، فداسوا بطنه وحُمل إلى داره فمات. وقيل : بل قال : إنّ قنبر خادم علي خير منك ومن ابنيك! فسلّوا لسانه من قفاه! وعمره ثمان وخمسون سنة (٢).

وإنما قيل له السكّيت لكثرة سكوته ، ومن الغريب أنّه وقع فيما حذّر عنه من عثرات اللسان بقوله قبل قتله بقليل :

يموت الفتى من عثرة بلسانه

وليس يموت المرء من عثرة الرجل

فعثرته في القول تُذهب رأسه

وعثرته بالرجل تبرأ عن مَهل (٣)!

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي ٤٠٩.

(٢) تاريخ ابن الوردى ١ ٢١٩.

(٣) هدية الاحباب ٧٢ ٧٣.


وكان ذلك سنة (٢٤٤ ه‍) وقد مرّ الخبر عن إعجابه بجواب الهادي عليه‌السلام بمحضر المتوكل فلعلّه أضمرها له من يومئذ.

وفي سنة (٢٤٥ ه‍) ساخ جبل من ساحل أنطاكية في البحر ، وعمّت الزلازل فخربت القناطر والقلاع والمدن. وزلزلت مصر وسُمعت من السماء أصوات هائلة بناحية بلبيس من مصر حتّى مات منها خلق من أهلها! وغارت عيون مكة فأرسل المتوكل مئة ألف دينار لإجراء الماء إليها من عرفات (١).

موسى بن محمد بن الرضا وابن الرضا :

يظهر من الخبر التالي : أنّ المتوكل كانت له محاولات لجرّ الهادي عليه‌السلام إلى منادمته في مجلس شربه وشربه معه! وقد أعياه ذلك ، فمع عودته من رحلته في الصيف إلى الشام ، قال : ويحكم قد أعياني أمر ابن الرضا (علي بن محمد) أبى أن ينادمني أو يشرب معي أو أجد منه فرصة من هذا!

ويظهر من الخبر أن موسى بن محمد بن الرضا الذي اشتهر بعدها بالمبرقع لم يكن مبرقعاً يومئذٍ على اشتهاره بأنّه قصّاف عزّاف يتعشق ويشرب! فلمّا تعاجز المتوكل من إخضاع الهادي عليه‌السلام قالوا له : فإن لم تجد منه فهذا أخوه موسى كذا وكذا! قال : فابعثوا إليه فجيئوا به حتّى نُموّه به على الناس نقول : هو ابن الرضا!

فكتب إليه وأشخصه إليه على أنّه إذا وافاه أقطعه قطيعة (أرضاً) وبنى له فيها وجعل له منزلاً سريّاً يزوره هو فيه ووصله وبرّه وحوّل الخمّارين والقيان إليه! فأشخصه إليه مكرماً وأمر فتلقاه بنو هاشم (بنو العباس) وقوّاده والناس!

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٠٩.


فيظهر من الخبر أنّ هذا كان سنة (٢٤٤ ه‍) ثلاث سنين قبل قتل المتوكل. فلمّا وافى تلقاه أبو الحسن على قنطرة وصيف مولى المتوكل ، وكان موضع تلقي القادمين ، فسلّم عليه ووفّاه حقّه ثمّ قال له : إنّ هذا الرجل (المتوكل) قد أحضرك ليهتكك ويضع منك! فلا تقرّ له أنك شربت نبيذاً قط!

قال موسى : فإذا كان إنما دعاني لهذا فما حيلتي؟! قال : فلا تضع من قدرك ولا تفعل. فأبى عليه! فكرّر عليه ، فما أجاب! فلمّا رآه لا يجيب قال له : أما إنّ هذا مجلس لا تجتمع أنت وهو عليه أبداً!

قال الراوي : فأقام ثلاث سنين يبكّر كل يوم فيقال له : قد تشاغل اليوم ، فأت عصراً ، فيذهب عصراً فيقال : قد سكر فبكّر صباحاً. فيبكّر فيقال : قد شرب دواءً! فما زال على هذا ثلاث سنين حتى قتل المتوكل ولم يجتمع معه عليه (١).

المتوكل وعلي بن محمد الهادي عليه‌السلام :

مرّ الخبر أنّ المتوكل انتقل من سامراء لأوّل محرّم لعام (٢٤٦ ه‍) إلى قصره الجعفري في الجعفرية التي تبعد عن سامرّاء بثلاثة فراسخ (١٧ كم) وسيأتي أنّه قُتل هناك ، وظاهر الخبر التالي أنّه كان بسامرّاء قبل انتقاله إلى الجعفرية.

أسند المسعودي عن محمد بن يزيد المبرّد النحوي البصري البغدادي (م ٢٨٥ ه‍) قال : وَشوا بأبي الحسن علي بن محمد عليه‌السلام إلى المتوكل : بأنّ في منزله من «شيعته» كتباً وسلاحاً! فوجّه إليه ذات ليلة جنوداً من الأتراك وغيرهم ليهجموا عليه بمنزله على غفلة فيأتوه به على حالته. فهجموا عليه بمنزله على غفلة فوجدوه في بيت بلا بساط إلّاالرمل والحصى ، وعليه مدرعة من شعر وعلى رأسه

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥٠٢ ، الحديث ٨ ، باب مولد الهادي عليه‌السلام.


ملحفة من الصوف ، متوجهاً إلى ربّه يترنّم بآيات الوعد والوعيد ولم يكن في منزله شيء ممّا قيل فيه. فاخذ على ما وجد عليه وحُمل إلى المتوكل حالاًّ ، فمثل بين يديه ، وكان بيد المتوكل كأس من شراب وقد شرب منه.

فلمّا رآه أعظمه وأجلسه إلى جنبه ، وناوله الكأس الذي في يده! فقال له : يا أمير المؤمنين! ما خامر لحمي ودمي قط! فاعفني منه! فعافاه عنه ولكنه قال : فأنشدني شعراً أستحسنه! فقال له : إني لقليل الرواية للأشعار. قال : لابدّ أن تُنشدني! فأنشده :

باتوا على قُلل الأجبال تحرسهم

غُلب الرجال ، فما أغنتهم القُلل

واستُنزلوا ـ بعد عزّ ـ عن معاقلهم

فاودعوا حفراً! يا بئسما نزلوا

ناداهم صارخ ـ من بعد ما قُبروا :

أين الأسرّة والتيجان والحُلل

أين الوجوه التي كانت منعَّمةً

من دونها تُضرب الأستار والكِلل

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم :

تلك الوجوه عليها الدود يقتتل

قد طالما أكلوا دهراً وما شربوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد اكلوا

وطالما عمّروا دوراً لتحصنهم

ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا

وطالما كنزوا الأموال وادّخروا

فخلّفوها على الأعداء وارتحلوا

أضحت منازلهم قفراً معطّلة

وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا

فأشفق من حضر وظنّوا أن بادرة تبدر من المتوكل إلى علي عليه‌السلام ولكنّه بكى فبكى من حضر ، وأمر برفع الشراب!

ثمّ التفت إلى أبي الحسن وقال له : أعليك دَين؟ قال : نعم ، أربعة آلاف دينار! فأمر بها إليه وردّه إلى منزله مكرّماً (١)!

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٠ ـ ١٢ ، وعنه في تذكرة الخواص ٢ : ٤٩٦ ـ ٤٩٨ وبهامشه


واستشهد المبرّد للتعريض بكلام للإمام جواباً للمتوكل قال له : ما يقول ولد أبيك! في العباس بن عبد المطّلب؟ قال : ما يقول ولد أبي في رجل افترض الله طاعة نبيّه على خلقه ، وافترض طاعته على نبيّه! وإنما أراد أبو الحسن : أن الله افترض طاعته على نبيه (لا طاعة العباس) ولكنّه عرّض بكلامه ، فأمر له المتوكل بمئة ألف درهم (١) فهذا كان بسامرّاء قبل انتقاله إلى الماخورة في سنة (٢٤٦ ه‍).

نكبة بَختيشوع الطبيب الرومي :

وكان بختيشوع لا زال في قصور الخلفاء ، فقال له المتوكل يوماً : ادعني إلى دارك. قال : نعم وكرامة! فاستضافه وأظهر من التجمّل والثروة ما أعجب المتوكل واستكثره له ، فحقدها عليه ، فبعد أيام يسيرة حضر الحسين بن مخلّد من قبل الخليفة فختم على خزائنه وباع شيئاً كثيراً وأخذ منه مالاً كثيراً.

وبقي نبيذ وفحم وحطب ونحوها فاشتراها الحسين بستة آلاف دينار ثمّ باع منها اثني عشر ألف دينار! وكان ذلك في سنة (٢٤٤ ه‍) (٢).

وقال ابن الوردي : ثمّ نفاه إلى البحرين (٣).

قتل دعبل الخزاعي :

قال ابن الوردي : في سنة (٢٤٦ ه‍) توفي (أو قتل) دعبل بن علي الخزاعي

__________________

مصادر عديدة ، وشهادة المعصومين وبهامشه بعض المصادر الأُخرى ، والمسعودي عن المبرّد أقدم مصدر ، وفي ابن الوردي ١ : ٢٢٣.

(١) مروج الذهب ٤ : ١٠ ، ١١ ، وكشف الغمة ٤ : ٧ عن الجنابذي وبهامشه مصادر عديدة.

(٢) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١٤٤.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٩.


الشاعر ، وكان يتشيّع (١) وعمره (٩٦) عاماً ومع ذلك كان له خصوم ، فقيل إنّ أبا سعيد أو غيره منهم نظم شعراً في هجو مالك بن طوق من أُمراء البصرة ، وقيل في هجو نزار ، وكان على البصرة إسحاق بن عباس العباسي فلمّا دخل دعبل إلى البصرة بعث من قبض عليه ، ودعا بالسيف والنطع لقتله فحلف أنّه لم يقلها وأن عدوّاً له قالها ونسبها إليه ليُغري بدمه ووقع يقبّل الأرض بين يديه ويبكي حتّى أعفاه عن القتل وقال : فلابدّ أن اشهرك ، فضربوه حتّى سلح في ثيابه فالقى على قفاه وفتح فمه وألقوا أوساخه في فمه وضُرب ليبلعه ويستوفيه أو يقتله! فما ترك حتى بلعها كلّها! ثمّ خلّاه ، فهرب إلى الأهواز.

فأعطى مالك بن الطوق لرجل جريء عشرة آلاف درهم ليغتال دعبل ، فتعقّبه حتّى وجده في قرية من نواحي بلدة شوش كانت تسمى الطيب بين كور الأهواز وواسط العراق ، فبعد صلاة العتمة وقف عليه بعُكّازته وبها زِجّ مسموم فاتّكأ بها على قدم دعبل فمات منها صباح تلك الليلة ، فحُملت جنازته إلى بلدة شوش ودُفن بمقبرتها (٢) إلى مقبرة دانيال النبيّ من أنبياء بني إسرائيل ، وقبره ظاهر معلوم يُزار. وله ابنان عبد الله والحسين وهو شاعر كأبيه.

وكتب على قبره :

أَعدَّ لله يوم يلقاه

دعبلُ أن : لا إله إلّاهو

يقولها مخلصاً عساه بها

يرحمه في القيامة الله

الله مولاه والرسول ومِن

بعدهما «فالوصيّ» مولاه (٣)

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ ٢١٩

(٢) الاغاني ١٨ ٦٠ ووفيات الاعيان ٢ برقم ٢٧٧

(٣) انظر الغدير ٣ ٥٤٢ ٥٤٤


نذر شجاع امّ المتوكل :

أُم المتوكل زوج المعتصم شجاع أُم ولد ، وحجّت مع حفيدها محمد بن جعفر المنتصر بن المتوكل لأول ولاية عهده ، وهو الذي صلّى عليها في شهر ربيع الآخر من سنة (٢٤٧ ه‍).

ويظهر من الخبر التالي أنّ ذلك كان كذلك بسامرّاء قبل انتقالهم إلى الجعفرية.

أسند الكليني عن إبراهيم بن محمد الطاهري (الخزاعي مولاهم) : أنّ المتوكل خرج به خراج (قرح مقيّح لا يخرج) ولا يجسر أحد أن يمسّه بحديدة (لشدة ألمه) وكان الفتح بن خاقان (مولى الأزد) حاضراً فاقترح عليه قال : لو بعثت إلى هذا الرجل (ابن الرضا) فإنه لا يخلو أن يكون عنده صفة يفرّج عنك بها. فبعث إليه رسولاً يصف له علّته. فردّ الرسول يقول : يوخذ كُسب الشاة (ثفل الدهن) ويداف (يخلط) بماء ورد ويوضع عليه!

فلمّا رجع الرسول وأخبرهم أقبل الحاضرون يستهزئون من قوله! وقال الفتح : والله إنه أعلم بما يقول (وقبِل المتوكل) فأُحضر الكُسب وعُمل بقوله ووُضع عليه فسكن وغلبه النوم ، ثمّ انفتح وخرج ما فيه.

وكانت امه شجاع قد نذرت إن عوفي أن تحمل إلى أبي الحسن علي بن محمد مالاً جليلاً من مالها! فلما بُشّرت أُمه بعافيته بعثت إليه بكيس عليه خاتمها فيه عشرة آلاف دينار!

وكان رجل من العلويين يدعى البطحائي (١) ، سعى إلى المتوكل بأنّ أموالاً وسلاحاً يُحمل إليه! وكان من حُجّاب المتوكل رجل يدعى سعيد بن صالح

__________________

(١) البطحائي هو محمد بن القاسم الحسني من بني الحسن الموالين لبني العباس!


المجوسي (أبوه) فقال له المتوكل : هذه الليلة اهجِم عليه وخذ ما تجد عنده من الأموال والسلاح واحمله إليّ.

فكان سعيد يقول : لمّا كان الليل حملت معي سلّماً وصرت إلى داره وصعدت السطح ، وكان الليل مظلماً فناداني : يا سعيد مكانك حتّى يأتوك بشمعة! فلم ألبث أن أتوني بها ونزلت فرأيته عليه جبة صوف وقلنسوة (كلاه شب / قبعة الليل) وهو على حصير وبين يديه سجّادة! تدل أنّه كان يصلّي ، فلمّا رآني قال لي : دونك البيوت.

فدخلتها وفتّشتها فلم أجد فيها شيئاً إلّابدرة بخاتم لشجاع أُم المتوكل.

فلمّا صرت به إلى المتوكل ونظر إلى خاتم أُمه على البدرة بعث إليها فخرجت إليه وقالت له : في علتك لمّا أيست منك نذرت إن عوفيت حملت إليه من مالي عشرة آلاف دينار ، فحملتها إليه ، وهذا خاتمي على الكيس! فضمّ إلى البدرة بدرة أُخرى وأمرني بحملها له فحملته له وقلت له : يا سيدي لقد عزّ عليَّ! فتلا قوله سبحانه : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (١)).

علي بن جعفر البرمكي والمتوكل :

كان علي بن جعفر رجلاً من أهل همينيا من قرى سواد بغداد ، ولذا كان يُنسب إلى القرية فيقال له الهُماني ، وكان قد تعرّف على الجواد فالهادي عليهما‌السلام حتّى توكّل له في عهد المتوكل العباسي فسعى عليه لديه الفتح بن خاقان عمّ وزير المتوكل عبيد الله بن يحيى بن الخاقان ، فحبسه وطال حبسه.

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٤٩٩ ، ٥٠٠ ، الحديث ٤ ، باب مولد الهادي عليه‌السلام ، والآية من الشعراء : ٢٢٧.


فاحتال حتّى توصّل إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان الوزير بضمان ثلاثة آلاف دينار عنه (رشوة لإطلاقه) فعرض عبيد الله بن خاقان ديوان السجناء وفيه الهُماني على المتوكل يعرض عليه إطلاقه! وكان المتوكل قد عرفه بنفسه! وكان عبيد الله بن يحيى بن خاقان ناصبيّاً كالمتوكل لا يشك فيه! فقال له : يا عبيد الله! لو شككت فيك لقلت : إنك «رافضي»! هذا وكيل (علي بن محمد بن الرضا) وأنا عازم على قتله! وإنّ عمك قد أخبرني به! فتركه عُبيد الله.

وانتهى خبره إلى الهماني فكأنّه أيس من الحياة ، فكتب من سجنه رقعة إلى أبي الحسن عليه‌السلام :

«يا سيدي! الله الله فيّ فقد خفت ـ والله ـ أن أرتاب» في دينه ومذهبه ومعرفته بهم عليهم‌السلام. فوقّع الهادي عليه‌السلام في رقعته : «أما إذا بلغ بك الأمر ما أرى فسأقصد الله فيك» وكان ذلك في ليلة جمعة ، فكأنه عليه‌السلام تلك الليلة ابتهل وتضرّع ودعا له.

وأصبح المتوكل محموماً وازدادت عليه علّته حتّى أصبح يوم الاثنين يصرخ من شدة الحمى ، وكأنّه احتمل أن تكون تلك الحمّى العارضة عارضة عذاب لتعذيبه الأبرياء في سجونه ، فأمر بتخلية كل محبوس عُرض عليه اسمه. إلّا أنّ ابن خاقان مع ذلك التهديد والوعيد العتيد من المتوكل في علي بن جعفر الهُماني لم يجرؤ على العودة إلى ذكره عنده! حتّى ذكره المتوكل نفسه فقال لابن خاقان : لِمَ لِمَ تعرض عليَّ أمره؟! قال : لا أعود إلى ذكره! قال : خلّ سبيله وسله أن يجعلني في حِل! فخلّى ابنُ خاقان سبيل الهُماني ، وبرأ المتوكل من علّته!


وأمر أبو الحسن الهادي عليه‌السلام علي بن جعفر الهُماني أن يحج إلى مكة فيجاور بها وكيلاً عنه (١).

ونعتبر من الخبر أنّ التوسّل بالدعاء المستجاب من الإمام المعصوم عليه‌السلام لا يكون إلّاعند ما يكون من مصاديق قوله سبحانه : (أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) صدق الله العلي العظيم.

سوابق قتل المتوكل :

نقل الطبرسي عن «كتاب الواحدة» للحسن بن محمد العميّ البصري : أنّ بُغا أو الوصيف من معاريف موالي المتوكل ، نقل : أنّ الهادي عليه‌السلام كان أُحضر إلى دار المتوكل فأمر المتوكل عليّ بن كُركُر بحبس الإمام ، فسمعه يقول : أنا أكرم على الله من ناقة صالح! ثمّ تلا قوله سبحانه : (تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٢)) فلمّا كان الغد أطلقه واعتذر إليه.

فلمّا كان اليوم الثالث وثب على المتوكل باغر وبغلون واوتامش وجماعة معهم فقتلوه (٣).

وروى الحلبي عن أبي سالم : أنّ المتوكل أمر الفتح بن خاقان بسبّ الهادي عليه‌السلام فذكر الفتح ذلك للإمام ، فأجابه الإمام : قل : «تمتعوا في داركم ثلاثة

__________________

(١) اختيار معرف الرجال : ٦٠٧ ، الحديث ١١٢٩ و ١١٣٠ ، وفي رجال النجاشي : ٢٨٠ برقم ٧٤٠. عرّفه النجاشي بالبرمكي ، فلعلّه بعد نكبتهم هو أو أبوه خرج من بغداد إلى تلك القرية فنُسب إليها ، ولعلّه ليس منهم بل من مواليهم فاضيف إليهم. والآية ٦٢ في سورة النحل.

(٢) هود : ٦٥.

(٣) إعلام الورى ٢ : ١٢٢ ، ١٢٣.


أيام» فأنهى الفتح ذلك إلى المتوكل فقال : أقتله بعد ثلاثة أيام! فلمّا كان اليوم الثالث قتل المتوكل والفتح (١).

وتكرّر ذكر تهديده ووعيده بثلاثة أيام ضمن خبر أسنده ابن طاووس عن زُرافة من حجّاب المتوكل (٢) : أنّه في يوم قائظ شديد الحرّ أمر الأشراف من أهله والأُمراء والوزراء والقواد وساير عساكره ووجوه الناس أن يتزيّنوا بأحسن ما لديهم ويظهروا في أفخر عُددهم وذخائرهم مشاة ، وأن لا يركب أحد إلّاهو والفتح بن خاقان (مولى الأزد) واخرج في جملة الأشراف أبو الحسن علي بن محمد عليه‌السلام وشقّ عليه ما لقيه من الحرّ والزحام.

قال زُرافة : فأقبلت إليه وقلت له : يا سيدي يعزّ والله عليَّ ما تلقى من هؤلاء الطغاة ، وما قد تكلّفت من المشقّة ، وأخذت بيده فتوكأ عليّ وقال لي : يا زُرافة ؛ ما ناقة صالح عند الله بأكرم مني أو قال : بأعظم قدراً مني! ولم أزل أُسائله وأُحادثه واستفيد منه حتّى نزل المتوكل من الركوب وأذن للناس بالانصراف! فقُدّمت دوابّهم فركبوا إلى منازلهم ، وقدّمتُ له بغلة فركبها وركبتُ معه إلى داره فنزل وودّعته وانصرفت إلى داري.

وكنت أحضره لولدي مؤدّباً من أهل العلم والفضل وكان يتشيع ، وكنت احضرت على طعامي ، فحضر وتجارينا الحديث وما جرى من ركوب المتوكل والفتح ومشي الأشراف وذوي الأقدار. وذكرت له ما شاهدته من أبي الحسن علي بن محمد عليه‌السلام وما سمعته من قوله ، فرفع يده وقال لي : بالله إنك سمعت هذا

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٣٩.

(٢) ذكره في حجّابه في التنبيه والإشراف : ٣١٤ ثمّ ولّي عملاً بمصر فمات بها في (٢٥٢ ه‍) كما في مروج الذهب ٤ : ٩١.


اللفظ منه؟! فقلت له : والله سمعته يقول ذلك! فقال لي : اعلم أنّ المتوكل لا يبقى على مملكته أكثر من ثلاثة أيام ، فانظر في أمرك وأحرز ما تريد إحرازه وتأهَّبْ لأمرك ، لا يفجأوكم هلاك هذا الرجل فتهلك أموالكم بحادثة تحدث أو سبب يجري ، فإنه لا يجوز أن يبطل قول الإمام!

قال زُرافة : فلمّا كانت الليلة الرابعة هجم المنتصر ومعه بُغا ووصيف والأتراك على المتوكل ، فقتلوه وقطّعوه والفتح ابن الخاقان جميعاً قطعاً حتى لم يُعرف أحدهما من الآخر (١)!

والراجح ما في «الخرائج والجرائح» عن زُرافة قال : أراد المتوكل أن يمشّى علي بن محمد بن الرضا «يوم السلام» فقال له وزيره (؟) إنّ في هذا شناعةً عليك وسوء قالة! قال : لابدّ من هذا! قال : فإن لم يكن بدّ من هذا فتقدّم بأن يمشي القواد والأشراف كلّهم حتى لا يظن أحد أنك قصدته دون غيره! ففعل ومشى. وكان الصيف (وكأنه كانت البداية والنهاية من قصر المتوكل واليه) فوافى الدهليز وقد عرق. قال : فلقيته فأجلسته في الدهليز وأخرجت منديلاً فمسحت وجهه به وقلت له : إنّ ابن عمك (المتوكل) لم يقصدك دون غيرك فلا تجد عليه في قلبك!

فقال لي : إيهاً عنك «تمتّعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب».

قال زُرافة : وكان (لأولادي) معلم يتشيّع ، وكنت كثيراً ما امازحه بلقب «الرافضي» فانصرفت يومئذ إلى منزلي وقت العشاء وقلت له : تعال «يا رافضي» حتى أُحدثك بشيء سمعته اليوم من إمامكم! قال : وما سمعت؟ فأخبرته بما قال.

__________________

(١) مهج الدعوات : ٢٦٥ ، وعنه في بحار الأنوار ٥٠ : ١٩٢ ، الحديث ٥ والخبر مقدّمة لدعاء عنه عليه‌السلام على المتوكل!


فقال : يا حاجب ، أنت سمعت هذا من علي بن محمد عليه‌السلام؟ قلت : نعم. قال : فحقك واجب عليَّ فاقبل نصيحتي! قلت : هاتها! قال : إن كان علي بن محمد قد قال لك ما قلت فاحترز واخزن ما تملك فإنّ المتوكل بعد ثلاثة أيام سيموت أو يقتل! فغضبت عليه وشتمته وطردته.

فلمّا خلوت بنفسي تفكرت وقلت : ما يضرّني أن آخذ بالحزم فإن كان من هذا شيء كنت قد أخذت بالحزم ، وإن لم يكن لم يضرّني ذلك. فركبت إلى دار المتوكل وجمعت ما كان لي هناك فأخرجته ، وعمدت إلى كل ما كان لي ففرّقته عند أقوام أثق بهم إلّاحصيراً!

فلمّا كانت الليلة الرابعة قتل المتوكل ، وسلمت أنا ومالي (١).

وقد مرّ الخبر أنّه عليه‌السلام كان عند علي بن كُركر ليلة ثم أطلق ، فلعلّه اطلق ليُمشّى مع الناس.

وفي الخبر التالي أنّه كان عند سعيد الحاجب قبل يومين من قتل المتوكل ، ومقتضاه أنّه اعيد بعد مسيرة «يوم السلام» إلى التوقيف :

أرسل الراوندي عن محمد بن اورمة القمي قال : في أيام المتوكل خرجت (من قم) إلى سامرّاء ، وكان المتوكل قد دفع أبا الحسن إلى سعيد الحاجب ليقتله. فلمّا دخلت على سعيد قال : أتحبّ أن تنظر إلى إلهك؟! قلت : سبحان الله. إلهي الذي «لا تدركه الأبصار»! قال : هذا الذي تزعمون أنّه إمامكم! قلت : ما أكره ذلك. قال : فقد امرت بقتله وأنا فاعله غداً! وعنده صاحب بريد (الخليفة ليخبر عنه) فإذا خرج فادخل إليه.

__________________

(١) الخرائج والجرائح ١ : ٤٠١ ـ ٤٠٣ ، الحديث ٨ وتمامه : وعند ذلك تشيعت وصرت إليه ولزمت خدمته وتولّيته حق الولاية وسألته أن يدعو لي. وليس فيه رواية الدعاء عنه على المتوكل.


قال ابن اورمة القمي : فلم ألبث أن خرج صاحب بريد (الخليفة) فقال لي سعيد : ادخل.

قال : فدخلت الدار التي كان فيها فإذا بحياله قبر محفور! فسلّمت وبكيت بكاءً شديداً فقال لي : ما يبكيك؟ قلت : لما أرى! قال : لا تبكِ لذلك فإنه لا يتمّ لهم ذلك ، إنه لا يلبث أكثر من يومين حتى يسفك الله دمه ودم صاحبه. قال ابن اورمة : فوالله ما مضى غير يومين حتّى قتل (١) وطبيعي أنّه عليه‌السلام افرج عنه.

قتل المتوكل ومصيره :

اكتفى اليعقوبي في ذلك بقوله : كان المتوكل قد جفا ابنه محمداً المنتصر ، فأغروه بأبيه ، ودبّروا للوثوب عليه. ففي الثالث من شوال (٢) سنة (٢٤٧ ه‍) كان المتوكل في مجلس خلوة مع الفتح ابن خاقان ، فدخل عليه جماعة من الأتراك منهم بُغا الصغير واوتامش صاحب المنتصر ، وباغر وبغلو وواجن وكنداش وغيرهم ، فقتلوا المتوكل والفتح معاً (٣).

وأجمل المسعودي قال : نال المتوكل ابنه محمداً بأنواع الذلة والهوان! فأجمع على قتله ، فواطأ وصيفاً وبُغا وغيرهم من الموالي على الفتك بأبيه ، فأعدّوا لذلك عدة من أصاغر الموالي باغر وغيره ، فقتلوه بمدينته المسماة بالجعفرية من سامراء لثالث شوال (٢٤٧ ه‍) وله أربعون سنة. وكان أسمر أصفر رقيق البشرة

__________________

(١) الخرائج والجرائح ١ : ٤١٢ ، الحديث ١٧ ، ورواه الخزاز في كفاية الأثر والصدوق في الخصال وكمال الدين ومعاني الأخبار عن الصقر بن أبي دلف وفيه أن سعيداً كان يتشيّع! وليس فيه : إلى يومين.

(٢) فيعلم أنّ يوم السلام كان يوم عيد الفطر ، وزيارة ابن اورمة كانت لأيام عيد الفطر.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩٢.


كبير العينين خفيف العارضين وسيماً ، مؤثراً للهزل والمضاحك ومايشين الملوك ، وكان حجّابه : وصيف وبُغا وزرافة (١).

وفصّل فنقل عن البحتري الشاعر أنّ المتوكل نُقل له أنّ سيفاً هندياً لا نظير له وقع إلى رجل من أهل البصرة ، فأمر المتوكل بكتاب إلى عامل البصرة يطلبه بشرائه بلغ ما بلغ ، فعُلم أنّ السيف اشتراه رجل من اليمن ، فأمر المتوكل بالبعث إلى اليمن بطلب السيف وابتياعه! فاشتري بعشرة آلاف درهم ودخل به عبيد الله بن يحيى بن خاقان على المتوكل.

فلمّا كان الغداة استشار الفتح بن خاقان في غلام موثوق به وبشجاعته ليقف بهذا السيف على رأسه ، ودخل باغر التركي وكان مقداماً أهوج فوصفه بالبسالة والشجاعة ، فدعا به المتوكل ودفع إليه السيف وأمره بأمره ، وزاد في مرتبته ورزقه.

وكان بُغا الصغير قد اصطنع باغر واتخذه وملأ عينه من الصِلات ، فامتحنه أولاً بطلب قتل ابنه فارس فوجده مستعداً ، ثمّ امتحنه بطلب قتل وصيف فوجده مستعداً ، ثمّ امتحنه بطلب قتل المنتصر ابن المتوكل فتوقّف وقال : هذا لا يجيء شيء منه! قال : وكيف؟ قال : يقتل الابن والأب باق إذاً يقتلكم أبوه به ولا يستوي لكم شيء! قال : فما ترى أنت؟ قال : إلّاأن نبدأ بالأب! فقال : وهل يتهيّأ هذا وتفعله؟! حتّى قال له باغر : فادخل أنت على أثري فإن فعلت وإلّا فاقتلني وقل : أراد أن يقتل مولاه! فعلم بغا صدقه فدبَر له وبه.

فبعد ثلاث ساعات من ليلة الثالث أو الرابع من شوال دخلوا عليهما فقتلوهما.

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣١٣ ، ٣١٤.


ونقل المسعودي الخبر عن البحتري الشاعر شاهداً حاضراً ناظراً مباشراً قال : كان من عادة المتوكل إذا سكر سكراً شديداً وتمايل يقيمه خدمه الذين عند رأسه! وسكر المتوكل تلك الليلة سكراً شديداً ومضى نحو ثلاث ساعات من الليل! إذ أقبل باغر على رأس عشرة من الأتراك معه متلثّمين وبأيديهم سيوفهم تبرق في ضوء الشموع! وأقبلوا إلى المتوكل ، وصعد باغر السرير فصاح الفتح : ويلكم مولاكم! وتطاير من حضر من الجلساء والندماء والغلمان ولم يبقَ غير الفتح وهو يمانعهم ، وضرب باغر بسيف المتوكل على جانبه الأيمن فشقه إلى خاصرته وثانية على جانبه الأيسر ، وضرب أحد الأتراك بسيفه في بطن الفتح فأخرجه من متنه! فطرح بنفسه على المتوكل فماتا معاً! فلفّوهما بالبساط وطرحوهما ناحية.

هذا مع كثرة الموالي والجند والشاكرية (چاكران) ودرّ العطاء لهم وجليل ما كانوا يقبضونه في كل شهر من الجوائز والهبات! وأنفق على الجوسق (كوشك) الجعفري والقصر الهاروني أكثر من مئة ألف درهم! وصارت إليه أربعة آلاف سريّة وطأهنّ جميعاً! مئتان منهن هدايا ابن طاهر! منهن محبوبة المؤدّبة المثقفة الشاعرة والمغنّية بالعود فأحبّها جدّاً! فلمّا قُتل المتوكل ضُمّت هي وكثير من الوصائف إلى بُغا الكبير!

وبويع ابنه المنتصر صباحاً في القصر الجعفري وهو ابن (٢٥) عاماً من امّ ولد رومية اسمها حبشية! ونفى عبيد الله بن يحيى بن خاقان من الوزارة واستوزر أحمد بن الخصيب (١) بن الضحاك الجرجاني!

وفي اليوم التالي أحضر القواد والكُتاب والوجوه في الجعفرية فخرج عليهم

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٣٤ ـ ٤٨.


أحمد بن الخصيب وأخرج كتاباً وقرأه عليهم يخبر فيه عن المنتصر : أنّ الفتح بن خاقان قتل المتوكل فنحن قتلناه به (١)!

قال ابن الوردي : وكان المتوكل شديد البغض لعلي ولأهل بيته! فكان نديمه عُبّادة المخنّث يشدّ مخدة على بطنه وهو أصلع ويكشف رأسه ويترقّص للمتوكل في مجالس لياليه ويقول : هذا الأنزع البطين خليفة المسلمين! يعني علياً رضى الله عنه ورأى ذلك ابنه المنتصر (وهو من تأديب ابن السكّيت) فقال ليلةً لأبيه : يا أمير المؤمنين! إنّ علياً ابن عمك! فإذا شئت فكل لحمه أنت ولا تخلّ مثل هذا الكلب وأمثاله يطمع فيه! فقال المتوكل للمغنّين : غنّوا بهذه المقولة :

غار الفتى لابن عمّه

رأس الفتى في «حِرُ» امّه (٢)

قال : وكان مجالسوه ممّن اشتهر (مثله) ببغض علي عليه‌السلام كأبي السمط والشاعر ابن الجهم.

ثمّ قال : وكان منَع القول بخلق القرآن وأحسن السيرة ولكن ذمّه لعلي عليه‌السلام غطّى على حسناته! ثمّ قال شعراً :

وكم قد مُحي خير بشرّ ، كما انمحت

ببغض علي عليه‌السلام سيرةُ المتوكل

تعمّق في عدل! فلمّا جنى على

جناب علي حطه السيل من عَلي (٣)

ونقل السيوطي الشافعي عن ابن عساكر الشافعي عن المتوكل (الشافعي!) أنّه كان يقول : رأيت رسول الله في «المنام» يقول : يا أيها الناس! إنّ محمد بن إدريس المطلّبي قد صار إلى رحمة الله وخلّف فيكم علماً حسناً فاتّبعوه تهدوا!

__________________

(١) مختصر تاريخ الدول : ١٤٦ ، وتاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢٠.

(٢) حِر الأُم : عورتها!

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٧.


ثمّ كان المتوكل يقول : اللهمّ ارحم محمد بن إدريس وسهّل عليَّ حفظ مذهبه وانفعني به! قال السيوطي : فكان المتوكل أول من تمذهب بمذهب الشافعي من الخلفاء (١)! فهل كان الشافعي يبغض علياً عليه‌السلام ويذمّه ويضحّك عليه؟!

ويعدّ ممّن مات في عهد المتوكل أحمد بن حنبل (٢) ونقل عن ابن عساكر عن أحمد بن حنبل قال : رأيت في «نومي» قائلاً يقول شعراً :

ملك يُقاد إلى مليك عادل

متفضّل بالعفو ليس بجائر

فلمّا أصبحنا جاءنا نعي المتوكل (٣)! فابن حنبل يُعاد إلى الحياة ليشهد للمتوكل بالنجاة! شعراً!

ونقل الطوسي عن ابن خُشيش عن التميمي عن أبي المفضل الشيباني : أنّ المنتصر سمع أباه يشتم فاطمة عليها‌السلام (كما كان يشتم علياً) فسأل عن ذلك فقيل له : يجوز قتله إلّا أنّه من قتل أباه لم يطل عمره! قال : إذا أطعتُ الله بقتله فلا ابالي أن لا يطول عمري. فقتله وعاش سبعة أشهر (٤).

ولم يسمّ أحداً من أبنائه علياً وسمّى بطلحة (الموفّق) والزبير (المعتزّ) (٥) فما أشقاه ناصبيّاً!

لذا لم يشتهرا باسميهما بل بكناهما : أبو عبد الله المعتز ، وأبو أحمد الموفق! فالناس لم يكونوا على دين المتوكل!

__________________

(١) تاريخ الخلفاء : ٤١٢.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤١٧.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤١٥.

(٤) أمالي الطوسي : ٣٢٨ ، آخر خبر ١٠٢ ، المجلس ١١.

(٥) المعارف : ٣٩٤ ، ومروج الذهب ٤ : ٨١ ، والتنبيه والإشراف : ٣١٦ ، وابن الوردي ١ : ٢٢٤ ، والسيوطي : ٤٢٠.


وأيضاً قبر الحسين عليه‌السلام :

مرّ الخبر عن الطوسي بسنده عن القاسم بن أحمد الأسدي الكوفي وله علم بالسيرة وأيام الناس : أنّ المتوكل أخرج قائداً من قوّاده إلى طفّ كربلاء لحفر قبر الحسين عليه‌السلام في سنة (٢٣٧ ه‍). قال : ثمّ مضى الأمر على ذلك حتّى كانت سنة (٢٤٧ ه‍) أي بعد عشرة أعوام وفي سنة قتله ، بلغ المتوكل كذلك مصير أهل الكوفة والسواد إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين عليه‌السلام وأنّه قد كثر جمعهم لذلك ، وصار لهم سوق كبير هنالك! ولعلّه في أيام محرم الحرام لعاشوراء ، وصفر الخير لأربعين الحسين عليه‌السلام ، أو لنصف شعبان ونصف رجب ، وهذان أقرب ممّا يلي حتّى يتصل بقتل المتوكل كما يأتي.

قال : فأنفذ قائداً من قواده (؟) في كثير من جنوده ، وأمر منادياً ينادي فيهم هناك ببراءة الذمة ممن يزور قبر الحسين! ثمّ نبش القبر وحرث أرضه! وتتبّع «الشيعة» فلم يتم له ما قدّر!

ثمّ أسند عن عبد الله بن دانية الطوري قال : في سنة (٢٤٧ ه‍) رجعت من الحج إلى العراق فزرت علياً عليه‌السلام على خيفة من السلطان! ثمّ توجهت إلى كربلاء لزيارة الحسين عليه‌السلام ، فإذا هو قد حُرثت أرضه ومخر فيها الماء ، وأرسلت الثيران العوامل في الأرض ولا يزالون ؛ فبعيني وبصري رأيتهم يثيرون الثيران فتنساق لهم حتّى إذا حاذت مكان القبر حادت عنه يميناً وشمالاً! فتُضرب بالعصيّ الضرب الشديد فلا ينفع ذلك فيها ، ولا تطأ القبر بوجه! فما أمكنتني زيارته إلّاكذا من بعيد ، وتوجهت إلى بغداد وقلت في ذلك شعراً :

تالله إن كانت أُمية قد أتت

قتل ابن بنت نبيّها مظلوماً

فلقد أتاك بنو أبيه بمثلها

هذا لعمرك قبره مهدوما

أسِفوا على أن لا يكونوا شاركوا

في قتله ، فتتبّعوه رميما!


فلمّا قدمت بغداد سمعت الهائعة فسألت عن الخبر فقالوا : سقط حمام البريد بقتل جعفر المتوكل! فقلت : إلهي ليلة بليلة (١)! فرجوعه عن الحج طال به تسعة أشهر إلى رمضان؟

فشتم عليّ وهدم الحسين!

أثرن الوليدَ لقتل أبيه

ونقل الإصفهاني عن الأشناني : أنّه خرج مع رجل من العطّارين من الكوفة إلى نواحي «الغاضرية» قال : ثمّ خرجنا منها نصف الليل حتّى مررنا بين مَسلحتين وهم نيام ، وكان على القبر «صندوق» فكانوا قد قلعوه وأحرقوه وأجروا الماء عليه فانخسف موضع اللبن وكان كالخندق! فأكببنا عليه وشممنا منه رائحةً ما شممت مثلها قط فقلت للعطار الذي كان معي : ما هذه الرائحة؟ قال : لا والله ما مثلها شيء من العطر! فزرناه وجعلنا حول قبره علامات بعدة مواضع. فلمّا قُتل المتوكل اجتمعنا مع جمع من الطالبيين والشيعة وصرنا إلى العلامات على القبر فأعدناه إلى ما كان عليه (٢).

بعض وكلاء الهادي عليه‌السلام :

مرّ خبر عن وكيل له عليه‌السلام هو علي بن جعفر البرمكي البغدادي الهُماني الذي حبسه المتوكل في سامرّاء ثمّ أطلقه فأمره الهادي عليه‌السلام بالحج إلى مكة ومجاورتها.

وكان من وكلاء الهادي عليه‌السلام أيضاً فارس بن حاتِم القزويني ، وانحرف فجعل يأخذ من الشيعة أموالهم للإمام ويريهم رقاعاً وتوقيعات بوصولها إليه ، ثمّ يتبيّن عدم وصولها ، فتبرّأ الإمام منه.

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٣٢٨ و ٣٢٩ ، الحديث ١٠٣ و ١٠٤ ، المجلس ١١ وذكر الأبيات السيوطي قال : فتألّم المسلمون من ذلك وهجاه الشعراء ، فمما قيل في ذلك ... ولم يعيّن لمن؟

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٩٦.


ويظهر من خبر لاحق أنّ ابن جعفر الهُماني كان بعد قتل المتوكل في (٢٤٧ ه‍) قد عاد من مكة إلى سامراء ، فيظهر من خبر أنّه عارض فارساً القزويني وتنازعا وحتى تسابّا ، وانتشر خبرهما بين شيعة الإمام ولم يصلهم تبرّؤ الإمام من القزويني ، فتحيّروا.

وكان من وكلاء الإمام أيضاً إبراهيم بن محمد الهمداني ، فكتب إليه عليه‌السلام :

«جعلت فداك ، قِبلنا أشياء تُحكى عن فارس والخلاف بينه وبين علي بن جعفر ، حتّى صار يبرأ بعضهم من بعض ، فإن رأيت أن تمنّ عليَّ بما عندك فيهما ، وأيهما يتولّى حوائجي قِبلك ، حتّى لا أعدوَه إلى غيره ، فقد احتجت إلى ذلك ، فعلتَ متفضلاً إن شاء الله» (١).

فأرسله مع ابنه جعفر بن إبراهيم الهمداني في سنة (٢٤٨ ه‍) بعد قتل المتوكل في عهد المستعين.

فكتب إليه : «ليس عن مثل هذا يُسال ولا في مثل هذا يُشك ، فقد عظَّم الله من حرمة العليل (لقب الهماني) أن يقاس إليه القزويني! فاقصد إليه بحوائجك ، ومن أطاعك من أهل بلادك أن يقصدوا إلى العليل بحوائجهم ، وأن يجتنبوا القزويني أن يُدخلوه في شيء من أُموركم ، فإنه قد بلغني ما يموّه به عند الناس ، فلا تلتفتوا إليه ، إن شاء الله».

وقرأ الكتاب بعض أهل الكوفة (٢) ممّا يشير إلى محل التساؤل في الكوفة. إلّا أن ما يبعث على التساؤل هنا هي العلاقة بين الكوفة محل التساؤل وبين بلدة همدان من بلاد الجبال في إيران مدينة إبراهيم الهَمداني ومحل وكالته (٣)!

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٥٢٣ ، الحديث ١٠٠٥.

(٢) المصدر السابق : ٥٢٧ ، الحديث ١٠٠٩.

(٣) المصدر السابق : ٦١١ ، الحديث ١١٣٦.


حُنين بن إسحاق طبيب المتوكل :

ذكر ابن العبري : أنّ قوماً من نصارى العرب قُبيل الإسلام من قبائل شتى أخذوا يبنون بيوتهم بظهر الحيرة مجتمعين منفردين عنها ودُعوا بالعباديين. منهم صيدلاني (١) بالحيرة اسمه إسحاق ، وله ولد اسمه حُنين (٢).

فلمّا عمرت بغداد واشتهر بها يوحنّا بن ماسويه النصراني بالطب رحل إليه حُنين وجعل يخدمه ويقرأ عليه وكان كثير السؤال ، فغضب يوحنّا عليه يوماً وقال له : ما لأهل الحيرة والطب؟! امرق وارتزق على الطرق ببيع الفلوس (دواء) كشغل أبيه بالحيرة! فأخرجه باكياً ، فعزم على تعلّم اليونانية ليقرأ كتب الطب اليوناني ، فتوجّه إلى بلاد الروم وأقام بها عامين حتّى أحكم اليونانية! فعاد إلى بغداد ، ومن بغداد إلى البصرة فلزم الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري حتّى برع في العربية! ثمّ عاد إلى بغداد. فتوصّل للترجمة إلى جبرئيل بن بَختيشوع ، قال الطبيب يوسف : دخلت يوماً على جبرئيل بن بَختيشوع فوجدت حنيناً قد ترجم له بعض كتاب التشريح ، وجبرئيل يسميه الريّان ويبجّله!

ولم يزل أمر حُنين يقوى وعلمه يتزايد وعجائبه تظهر في التراجم والتفاسير حتّى صار عالماً علماً ، واتصل خبره بالمتوكل فأمر بإحضاره ، وأقطع له إقطاعاً حسناً وقرّر له جارياً جيّداً! ثمّ ظنّ به أن يكون ملك الروم قد عمل من خلاله حيلة عليه! فدعاه وأقطعه اقطاعاً يشتمل على خمسين ألف درهم وقال له : لنا عدو نريد قتله وليس يمكن اشتهاره فنريده سرّاً فأُريد أن تصف لي دواءً يقتل العدو! (هل كان للهادي عليه‌السلام؟) فقال : إلّاأن أذهب فأتعلم ذلك! فهدّده وحبسه

__________________

(١) صيدلة معرّب عن الفارسية : ساييدنى : المساحيق.

(٢) باسم حرب حنين شماتة بالمسلمين؟!


وطال حبسه سنة في قلعة ، ثمّ أحضره وأحضر نطعاً وسيفاً وعاوده وهدّده ، فعاوده حُنين بقوله السابق! فتبسّم المتوكل وقال : أردنا امتحانك والطمأنينة إليك ، ولكن ما الذي منعك من الإجابة؟ قال : الدين والصناعة ، فأمّا الدين : فهو يأمر بالجميل مع الأعداء فكيف بالأصدقاء! وأمّا الصناعة ، فقد جُعل في رقاب الأطباء عهد بأيمان مغلّظة أن لا يعطوا دواءً قتّالاً لأحد! فخلع عليه.

وكان له ابن أُخت يقال له حُبيش الأعسم أحد الناقلين من اليوناني والسورياني إلى العربية ، وكان يرضى نقله ويقدمه على سائر تلامذته ، وكثير من نقله نُسب إلى حُنين ، فكثيراً ما يرون! بنقل حُبيش فيظنونه مصحَّفاً فيجعلونه : حنين! وكان لحنين بن إسحاق ابنان : داود طبيباً عاماً ، وإسحاق تولّى الترجمة وخدمها وأتقنها وأحسن فيها ويميل إلى الفلسفة أكثر من الطب (١).

محمد بن جعفر المنتصر :

قال اليعقوبي : أحضر أخويه إبراهيم المؤيد وأبا عبد الله المعتز وأخذ البيعة عليهما ، وأمر بعطاء الجنود لعشرة أشهر! وعاد من القصر الجعفري في الجعفرية إلى سامراء وأمر بتخريب تلك القصور! فنقل الناس عنها ورجعوا إلى منازلهم بسامرّاء ، وعطلت مدينة الجعفرية فصارت خراباً (٢).

قال المسعودي : وكان مربوعاً حسن الوجه أسمر مسمناً ، وبقي الحاجبان بغا ووصيف كما كانا (٣).

__________________

(١) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١٤٤ ، ١٤٥.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩٣.

(٣) التنبيه والإشراف : ٣١٤.


وهنا أشار المسعودي إلى ما سبق في سنة (٢٣٦ ه‍) من أمر المتوكل لقائده الديزج بهدم قبر الحسين عليه‌السلام فقال : كان آل أبي طالب وغيرهم من شيعتهم منذ سنة (٢٣٦ ه‍) في محنة عظيمة وخوف على دمائهم ، وقد مُنعوا من زيارة الغريّ من أرض الكوفة وقبر الحسين ومن حضور هذه المشاهد .. ولم تزل الأُمور على ما ذكرنا إلى أن استخلف المنتصر فأمن الناس. وتقدم بالكفّ عن آل أبي طالب وترك البحث (المباحث) عن أخبارهم ، وأن لا يمنع أحد من زيارة حاير قبر الحسين «رضي الله تعالى عنه» ولا سائر قبور آل أبي طالب.

وأمر بردّ «فدك» إلى ولد الحسن والحسين ، وأطلق أوقاف آل أبي طالب! وترك التعرض لشيعتهم ودفع الأذى عنهم.

وكان يزيد بن محمد المهلّبي الشاعر من شيعة آل أبي طالب ، فقال في ما امتحن به الشيعة في ذلك الوقت وما اغريت العامة بهم ؛ يخاطب المنتصر :

ولقد بررت الطالبية بعد ما

ذُمّوا زماناً بعدها وزمانا

ورددت أُلفة هاشم ، فرأيتهم

بعد العداوة بينهم : إخوانا

ءانستَ ليلهمُ وجُدت عليهمُ

حتى نسوا الأحقاد والأضغانا

لو يعلم الأسلاف كيف بررتهم

لرأوك أثقل من بها ميزانا!

وفي سنة (٢٣٨ ه‍) خلع المنتصر بالله أخويه المعتز والمؤيد من ولاية العهد بعده (١).

وقال الأُموي الزيدي : كان المنتصر يظهر الميل إلى «أهل البيت» ويخالف أباه في أفعاله ، فلم يجر منه على أحد منهم قتل أو حبس أو مكروه (٢) بل عطف

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٤١ ، ٥٢.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤١٩.


المنتصر عليهم وأحسن إليهم ، ووجّه بمال فرَّقه فيهم. وكان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادَّة مذهبه طعناً عليه ونصرة لفعله (١).

وكان قد خرج بناحية الموصل من ربيعة وغيرهم من الأكراد أبو العمود الشاري الخارجي. فسرّح إليه المنتصر جيشاً مع سيما التركي ، فكانت له معه حروب حتى أسر سيما الشاري وأتى به إلى المنتصر فأخذ عليه العهد وخلّى سبيله.

وأظهر الانصاف في الرعية فمالت إليه قلوب الخاصة والعامة ، مع الهيبة له (٢).

وقال ابن العبري : في سنة (٢٤٨ ه‍) جدّ وصيف وبُغا وسائر الأتراك في خلع المعتزّ والمؤيد وألحّوا به على المنتصر وقالوا : نخلعهما ونبايع لابنك عبدالوهاب! فلم يزالوا به حتّى أجابهم وخلعهما. ثمّ دعاهما بمحضر الموالي والأتراك وقال لهما : أترياني أني خلعتكما طمعاً في أن أعيش حتى يكبر وَلدي وأُبايع له؟! والله ما طمعت في ذلك ساعة قط! ولكن هؤلاء ألحّوا عليَّ بخلعكما (٣).

وقال ابن الوردي : أمر بزيارة قبر الحسين وآمن العلويين ، وكان عاقلاً منصفاً قصيراً عظيم اللحم مهيباً أعيَن أقنى الأنف (٤).

وقال السيوطي : كان مليح الوجه أسمر ربعة جسيماً بطيناً ، وافر العقل راغباً في الخير قليل الظلم ، محسناً إلى العلويين وصولاً لهم ، أزال عنهم ما كانوافيه من المحنة والخوف والمنع من زيارة قبر الحسين ، وردّ عليهم «فدك» (٥).

__________________

(١) المصدر السابق : ٣٩٦.

(٢) مروج الذهب ٤ : ٥٣ و ٥٤.

(٣) تاريخ مختصر الدول : ١٤٦ فلعلّه لذا حّوه فقتلوه.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢١.

(٥) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤١٧ ، ٤١٨.


وفي علّة وفاته أجمل فقال : لمّا علم الموالي أنّه على التدبير عليهم بادروه فسمّوه فيما قيل (١).

وفصّل فقال : أخرج وصيف الحاجب في جند كثير في غزاة الصائفة إلى طرسوس في ثغر الروم.

وكان يوماً عنده الفضل بن المأمون إذ دخل عليه بُغا الصغير وحوله جمع من الأتراك ، فأقبل المنتصر على الفضل وقال له : قتلني الله إن لم أقتلهم وافرّق جمعهم بقتلهم المتوكل على الله! فلمّا فهموا ما عزم عليه تحيّنوا منه الفرصة. وشكا ذات يوم حرارة فأراد الحجامة فسمّه الطبيب ابن طيفور أو الطيفوري في مِشراط الحجامة أو مبضع الفصد ، أو شربة دواء بعده فحلّت قواه فحُمّ حتى مات.

وقيل (ستراً) : أنه كان يلعب بالصولجان (چوگان) فانصرف من الميدان وهو عرق ، فاستحمّ ونام في مهبّ الريح فضربه الهواء فحمّ في (٢٥ ربيع الأول) وطال عشراً حتى مات في (٥ ربيع الثاني) ، وصلّى عليه ابن عمّه أحمد بن محمد المستعين ، وكان خلفاء بني العباس يُخفون قبورهم فأصرّت أُمه على إظهاره فكان أوّلهم في ظهور قبره (٢)!

أمّا ابن العبري النصراني فعبَر اتهام الطبيب الطيفوري النصراني بشيء في أمر المنتصر بل قال : مات بالذبحة خلال ثلاثة أيام (٣) وكذا أورده ابن الوردي (٤) وعبّر عنها السيوطي بالخوانيق! قال : وقيل : بل سُمّ في كُمّثراة ، وقيل : اتّهم

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣١٤.

(٢) مروج الذهب ٤ : ٥٠.

(٣) مختصر تاريخ الدول : ١٤٦.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢١.


الأتراك بقتل أبيه فدسّوا إلى الطبيب ابن طيفور ثلاثين ألف دينار لذلك ، ففصده أو غلامُه بريشة مسمومة فمات (١).

خلافة أحمد المستعين :

قال اليعقوبي : لما توفي المنتصر استوحش الأتراك وخشوا من ولد المتوكل (أُخوة المنتصر) فأشار عليهم أحمد بن الخصيب (الجرجاني) أن يبايعوا أحمد بن محمد ابن المعتصم فبايعوه (وقدّموه للصلاة على المنتصر) ولذا غلب على أمره اوتامش التركي وكاتبه شجاع بن القاسم ، واستوزروا أحمد بن الخصيب. وذلك يوم وفاة المنتصر (٥ ربيع الآخر) سنة (٢٤٨ ه‍) (٢).

وأُمه أُم ولد صقلبية (من زاگرب) تدعى مخارق (٣) فكان ألثغ وأبيض وبوجهه أثر جدري (٤).

وفي هذه السنة (٢٤٨ ه‍) استضعف بنو ربيعة بديارهم الخلافة فخرجوا مع أبي العمود الشاري. فوجّه المستعين إليه بجيش مع بلكاجور الفرغاني ، فقاتله فقتله وفرّق جمعه بديار ربيعة.

ومات بخراسان في هذه السنة (٢٤٨ ه‍) في رجب طاهر بن عبد الله الخزاعي (مولاهم) وكان قد أوصى إلى ابنه محمد فكتب المستعين إليه بولايته على خراسان وهو حدث السن ، فتحرك خوارج خراسان وكثروا حتى كادوا أن يغلبوا على سجستان ، فتقدم يعقوب بن الليث الصفار من أهل البأس والنجدة إلى

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤١٨.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٣ : ٤٩٤.

(٣) مروج الذهب ٤ : ٦٠.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤١٩ وقال : أحمد بن المعتصم.


محمد بن طاهر أن يأذن له بجمع المطوّعة لقتال الخوارج ، فأذن له ، فسار إلى سجستان حتى نفاهم منها ، ثمّ زحف خلفهم إلى كرمان حتّى نقّى البلاد منهم ، فكتب المستعين إلى محمد أن يوليه كرمان ، فأقام بها وحسن أثره في البلاد (١) ثمّ تحرك من سجستان نحو هراة (٢).

وبالأُردن قام القطامي وكثف جمعه فجبى الخراج ، فأنفذ إليه صاحب فلسطين (؟) جيشاً بعد جيش فكسرهم ، حتّى توجّه إليه الأتراك مع مزاحم بن خاقان ففرّق جمعهم ونفاهم من الأُردن.

وكان على حمص كيدر بن عبد الله الأشروسني فاستقبح أهل حمص معاملته إياهم فخرجوا عليه وقتلوا من جنده جماعة وصلبوهم ، فولّى المستعين عليهم الفضل بن قارن الطبري فتلقوه بالقبول فدخل المدينة وسكن البلد وأقام أياماً ثمّ بلغه عن جمع منهم عزم الوثوب عليه فأخذهم وقتلهم.

وبعد أربعة أشهر من ولاية المستعين تحامل الأتراك على أحمد بن الخصيب (الجرجاني) وسخط عليه المستعين فنفاه إلى المغرب! فحُمل على الماء إلى البحر إلى أقريطش (؟) ثمّ حُمل في البرّ إلى القيروان (٣).

أحمد بن الخصيب والهادي عليه‌السلام :

وهنا لنا لدى الكليني خبر يظهر منه كأنه بعد قتل المتوكل ووزارة ابن الخصيب كان يرى أنّ الذي استقدم الهادي عليه‌السلام إلى سامراء وأسكنه في محلة

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩٥.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢١.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩٤ و ٤٩٥ كان ذلك في جمادى الآخرة سنة (٢٤٨ ه‍) ومات بها سنة (٢٦٥ ه‍).


العسكر بها ، إنما هو المتوكل وقد قُتل ، فكان يطلب منه عليه‌السلام الدار ويلحّ عليه فيها ، فبعث إليه العسكري عليه‌السلام : لأقعدنّ بك من الله عزوجل مقعداً لا يُبقي لك باقية! فاخذ في تلك الأيام (١)!

أخرجه الكليني عن أحمد بن محمد (؟) عن أبي يعقوب (؟) وعنه قبله خبراً آخر يظهر منه أنّ ابن الخصيب كان يتظاهر باحترام الإمام وإكرامه ، قال أبو يعقوب : رأيت ابن الخصيب مع أبي الحسن الهادي عليه‌السلام قال له ابن الخصيب : سِر جعلت فداك! يريد تقديمه أمامه ، فقال له أبو الحسن : بل أنت المقدّم! فما لبث إلّا أربعة أيام حتى وُضعت سيقان ابن الخصيب في خشبة الدهق (للتعذيب) ثمّ نُفى (٢) في جمادى الآخرة سنة (٢٤٨ ه‍).

وجواب الهادي عليه‌السلام على مطالبة ابن الخصيب بداره للدولة وإباء الإمام عليه ، يذكّرنا بما أرسله الحلبي عن الفحام عن المنصوري عن عمه عن أبيه أبي موسى : أنّ الإمام عليه‌السلام قال له يوماً : يا أبا موسى : إني اخرجت إلى سرّ من رأى كُرهاً ، (ولكني) لو اخرجت عنها (اليوم) اخرجت كُرهاً! قال : قلت : ولِمَ يا سيدي؟ فقال : لطيب هوائها وعذوبة مائها وقلة دائها (٣) ولعلّه عليه‌السلام قالها بعد قتل المتوكل لا سيّما في عهد المنتصر وانتصاره للعلويين فأعلمهم بهذا أنه وإن كان

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥٠١ ، ذيل الحديث ٦ وكأن الخبر كان : اخذ ، ووهم الراوي فقال : أخذه الله.

(٢) المصدر السابق ، صدر الحديث. وكان لفظ الخبر : نُفي فصحّف إلى نُعي فنقله المفيد بالمعنى فقال : قتل! الإرشاد ٢ : ٣٠٦ وانظر تعليق المحقق ، ولا يصح قتل ولا نُعي حينئذ فإنه مات سنة (٢٦٥ ه‍).

(٣) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٤٩ وتمامه : ثمّ قال : تخرب سامراء حتى يكون فيها خان وقفاً للمارة ، وعلامة خرابها تدارك العمارة لمشهدي من بعدي!


اخرج من مدينة جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى سامراء كرهاً ، ولكنه إلّاأن يُخرج منها اليوم كرهاً وإلّا فهو لا يكره إدامة إقامته بها ، ولعلّه عليه‌السلام كان يكره الكرّة إلى المدينة لما سيأتي قريباً من الحوادث بها ، فتركوه ويتأكّد هذا لما نجد في خبر آخر أنّ أبا موسى هذا من زملاء الخلفاء وإن كان من ملازمي الإمام عليه‌السلام (١).

حوادث سنة (٢٤٩ ه‍):

قال اليعقوبي : في أول سنة (٢٤٩ ه‍) نفى المستعين عُبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى مكة ، ثمّ نفاه منها إلى برقة.

وفي شهر ربيع الآخر تأخرت أرزاق عصبة من الجند الأتراك والموالي فخرجوا إلى الكرخ واتهموا اوتامش التركي قالوا : أخذ أرزاقنا وأزال مراتبنا ، فخرج إليهم اوتامش مع كاتبه شجاع بن القاسم ليسكّنهم ، وكان المستعين موافقاً لإزالته ، فقتلوهما ، فأعلن المستعين موافقته بذلك وكتب إلى الآفاق بلعنه!

وفي صيف هذه السنة (٢٤٩ ه‍) في شهر رجب وجّه المستعين جعفر الخياط بجيش لغزو الصائفة إلى الروم ، فمرّ بملطية وعليها عمر بن عبد الله الأقطع وكان في ثمانية آلاف ، وتوغّل عمر في الروم فأحاطوا به فما عاد أحمد منهم! بل أغارت الروم حتّى توسطت بلاد المسلمين.

وكان على حمص الفضل بن قارن الطبري وكان قد جدّد قصر خالد بن يزيد بن معاوية ، فوثب أهل حمص عليه في هذه السنة (٢٤٩ ه‍) بقيادة غطيف الكلبي ومعه أحياء كلب فتحصّن الفضل في قصر خالد فحاصروه ، فأسلمه من كان معه حتى أخذوه وذبحوه وصلبوه! فوجّه المستعين إليهم موسى بن بغا الكبير في

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٤٢.


ستة آلاف من الموالي ، فحاربه أهل حمص بقيادة دابر العفّار حتى هُزموا ودخل موسى حمص فأباحها ثلاثة أيام ، فانتهبوا أموال التجار وانتُهبت حمص واحرقت المنازل!

وكانت فارس مضمومة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر الخزاعي (مولاهم) بخراسان ، وكان عامله على فارس الحسين بن خالد ، وتأخرت أرزاق جندها ، وحمل العامل مالاً ، فوثب الجند على المال فأخذوا أرزاقهم منه بقيادة علي بن الحسين البخاري. فلمّا بلغ الخبر إلى ابن طاهر بخراسان ولّى عبد الله بن إسحاق الخزاعي عليهم من بغداد ، فشخص إليها في عُدّة وعدد ، فلمّا قدمها أطاعه الجند ، ثمّ ساءت سيرته فيهم ومنعهم أرزاقهم ، فكاتبهم علي بن الحسين البخاري فوافقوه فرجع إليهم البخاري فأخرجوا ابن إسحاق الخزاعي من منزله وانتهبوا أمواله ومتاعه ، وانصرف هو إلى بغداد ، فولّوا عليهم علي بن الحسين البخاري. فوجّه إليهم محمد بن عبد الله : نصر بن حمزة الخزاعي (مولاهم) فانحاز البخاري إلى ناحية من كور فارس (١).

قيام يحيى الطالبي بالكوفة :

قال اليعقوبي : إنّ يحيى بن عمر بن أبي الحسين بن زيد بن علي عليه‌السلام كان قد أتى إلى سامراء وتقدم إلى بعض الولاة في حاجته فلم يقضها له ، فعاد إلى الكوفة ، وجمع الناس ووثب بهم إلى الحبس فاطلق من كان فيه ، ثمّ أخرج بهم عامل الكوفة ، فكثر أتباعه وقوي أمره.

فوجّه محمد بن عبد الله بن طاهر الخزاعي (مولاهم) بقرابته الحسين بن

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩٥ ـ ٤٩٨.


إسماعيل الخزاعي (مولاهم) ووجّه المستعين بقائد تركي يدعى كلكاتكين. وخرج يحيى بن عمر بجمع كثير وخلق عظيم إلى قرية شاهي بين الكوفة وبغداد ، في منتصف شهر رجب سنة (٢٤٩ ه‍) فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى انهزم أصحاب يحيى وقتل هو في المعركة ، وحمل رأسه إلى محمد بن عبد الله بن طاهر الخزاعي في ترس بين يديه ، ودخل عليه الناس يهنئونه (١).

واختلف المسعودي في نسبه فقال : هو يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر الطيار (فهو طالبي جعفري لا زيدي) وقال : كان ظهوره لذلّ وجفوة ومحنة لحقته من المتوكل أو مواليه الأتراك بعده ، واستفتح أمره بإظهار العدل والانصاف والورع عن أموال الناس والكفّ عن الدماء! فكانت في نفوس الناس محبة له ، وقاتله محمد بن عبد الله بن طاهر الخزاعي (مولاهم) فقُتل وحُمل رأسه إليه إلى بغداد ، فضجّ الناس من ذلك لحبّهم له.

وكان يحيى ديّناً كثير التعطّف والمعروف على عموم الناس ، وبارّاً بخواصهم واصلاً لأهل بيته مؤثراً لهم على نفسه ، مثقل الظهر بالطالبيّات لبرّهن والتحنّن عليهن ، لا عُرفت له خزية ولا ظهرت منه زلة ، ولذا لما قُتل جزعت عليه النفوس كثيراً الدني والمليّ ، وحزن عليه الصغير والكبير ورثاه البعيد والقريب ومن قرباه علي بن محمد بن جعفر العلوي الشاعر الشهير بالحِمّاني لنزوله فيهم وكان نقيبهم بالكوفة وشاعرهم ومدرّسهم ولسانهم ، ولم يكن أحد بالكوفة من آل علي عليه‌السلام يتقدمه في ذلك الوقت.

كان على الجيش الذي أرسله محمد بن عبد الله بن طاهر لحرب يحيى بن عمر الجعفري : الحسين بن إسماعيل الخزاعي (مولاهم) فلمّا قتل يحيى ودخل

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩٧.


الكوفة لم يتخلّف عن سلامه وتهنئته أحد حتى من الهاشميين آل علي عليه‌السلام إلّا علي بن محمد العلوي الحِمّاني فإنه قعد عن سلامه ولم يمضِ إليه! فتفقّده الحسين بن إسماعيل وسأل عنه وبعث جماعة فأحضروه ، فأنكر الحسين عليه تخلّفه عن سلامه! فقال له : أردت أن آتيك مهنئاً بالفتح وداعياً بالظفر؟! ثمّ أنشد شعراً :

قتلت أعزّ من ركب المطايا

وجئتك استلينُك في الكلام؟!

وعزّ عليَّ أن ألقاك إلّا

وفيما بيننا حدّ الحسام!

فقال له الحسين بن إسماعيل : أنت موتور ، فلست أنكر عليك ما كان منك! بل خلع عليه وحمله إلى منزله!

وفي بغداد دخل الناس إلى محمد بن عبد الله بن طاهر يهنئونه بالفتح ، وكان في بغداد من الجعفريين الطالبيين أبو هاشم الجعفري داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر الطيار ، وكان ذا علم وزهد ونسك وورع ، صحيح العقل سليم الحواس ، فدخل أبو هاشم مع الناس على ابن طاهر فقال له : أيها الأمير! إنك لتُهنّأ بقتل رجل لو كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حيّاً لعُزّي به! فتحمّله محمد بن طاهر ولم يجبه ، فخرج أبو هاشم وهو يقول شعراً :

يا بني طاهرٍ كلوه وبيّاً

إنّ لحم النبيّ غير مريٍ

إن وتراً يكون طالبه الل

ه لوتر بالفوت غير حريّ

فلمّا رأى طاهر ذلك وما عليه الناس أمر بإنزال الرأس (١).

لكن الأُموي الزيدي مع زيدية يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي عليه‌السلام كما مرّ عن اليعقوبي ، ويؤيّده ما مرّ آنفاً في شعر أبي هاشم الجعفري «إنّ لحم النبيّ غير مريٍّ» فإنّ لحم الطالبي الجعفري ليس من «لحم النبيّ» ولعلّ

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٦٣ ـ ٦٦.


المسعودي قاسه على جعفرية أبي هاشم الجعفري ولم يتنبّه لدلالة شعره ، نعم أُمه هي أُم الحسن بنت عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر الطيار ، والمسعودي جعله من جعفريَّين!

وقال : حبسه المتوكل في دار الفتح بن خاقان مدة ثمّ أطلق ، فعاد إلى بغداد فلم يزل بها مدة ، ثمّ خرج إلى الكوفة فدعا إلى الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا أراد الخروج خرج إلى قبر الحسين عليه‌السلام وأظهر دعوته لمن حضر من زوّاره ، فاجتمع إليه جمع من الأعراب ، فدخل بهم ليلاً إلى الكوفة وهم ينادون : أيها الناس! أجيبوا داعي الله! حتى اجتمع إليه خلق كثير ، فلمّا أصبح وجّه إلى الصرّافين الذين عندهم أموال السلطان فأخذها منهم ثمّ استولى على بيت مال الكوفة.

وكان على الكوفة عبد الله بن محمود وقد ذهب بجنده إلى بعض قرى الكوفة ، وكان يحيى بن عمر الزيدي صار بأصحابه إلى بني حِمّان بالكوفة واجتمع إليه أهلها إذ أقبل إليه عبد الله بن محمود بجنوده المرتّبين فوثب إليه يحيى وحمل على عبد الله فضربه على وجهه فانهزم وانهزم أصحابه.

ثمّ خرج إلى قرية الوازار (البازار) ثمّ إلى جنبلا ، وبلغ خبره إلى بغداد ، فندب له محمدُ بن عبد الله بن طاهر الخزاعي ابنَ عمه الحسينَ بن إسماعيل الخزاعي (مولاهم) وضمّ إليه عدداً من قوّاده. وكان هوى أهلِ بغداد مع يحيى بن عمر الزيدي البغدادي! فهؤلاء نفذوا إليه على كراهة!

وارتحل يحيى حتى نزل قرية البحرية ، ثمّ مضى يعود إلى الكوفة ، ونزل الحسين الخزاعي قرية شاهي وشربوا الماء العذب وأراحوا وقويت عساكرهم وخيلهم. أما أصحاب يحيى فقد تعبت خيلهم ورجالهم ، وكان يحيى نزقاً في الحرب فلمّا بدأ الحرب كان يحمل وحده فيرجع ، وحمل مرة كما كان يفعل فصُرع في وسطهم فلمّا رآه زعيم بني عجل الهيضم العجلي مصروعاً انصرف بأصحابه


فكان أول من انهزم منهم ثمّ انهزم سائرهم. ولم يزل يحيى يقاتل مكانه حتّى قتل ، فنزل إليه سعد الضبابي وأخذ رأسه إلى الحسين الخزاعي (مولاهم).

وانفكأ الخزاعي إلى بغداد ومعه رأس يحيى بن عمر ، فلمّا دخل به إلى بغداد جعل أهلها يصيحون عليه إنكاراً حتى كان الغوغاء والصبيان يصيحون في الطرقات : ما قُتل وما فرّ! ولكن دخل البر! فلمّا أدخل رأس يحيى إلى دار ابن طاهر اجتمع جمع من أهل بغداد يهنئونه بالفتح.

فكان في من دخل عليه أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري ، وكان ذا عارضة ولسان لا يبالي بمن استقبل من الكبراء وأصحاب السلطان ، فقال لابن طاهر : أيها الأمير قد جئتك مهنئاً بما لو كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حيّاً لعُزّي به! فتحمّله ابن طاهر ولم يجبه بشيء.

وأُدخل الأُسارى من أصحاب يحيى إلى بغداد في أسوأ حال وكانوا يساقون حفاة سوقاً عنيفاً فمن تأخر منهم ضُربت عنقه! منهم إسحاق بن جناح صاحب شرطة يحيى الزيدي. فورد كتاب المستعين بتخلية سبيلهم فخلّوهم إلّا إسحاق بن جناح فإنه لم يزل محبوساً حتى الموت.

وقال ابن طاهر لنسائه وأخواته وحرمه : إنّ هذه الرؤوس من قتلى أهل هذا البيت لم تدخل بيت قوم إلّاخرجت منهم النعمة وزالت عنهم الدولة ، فتجهّزن للخروج وأمر بإشخاصهن إلى خراسان فتجهّزن للخروج (١).

وذكر الزيدي الأُموي ليحيى الزيدي عدّة مراثي ، ثلاثة منها لعلي بن محمد بن جعفر العلوي الحِمّاني الكوفي منها ما مرّ خبره عن المسعودي ، بدون قصته (٢).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٤٢٠ ـ ٤٢٣.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤٢٩ و ٤٣٠.


ومن شعره ما ذكره الحلبي قال :

لقد فاخرتنا من قريش عصابة

بمدّ خدود وامتداد أصابع!

فلمّا تنازعنا المقال قضى لنا

عليهم بما نهوى نداءُ الصوامع

ترانا سكوتاً والشهيد بفضلنا

عليهم جهير الصوت في كل جامع

فإن رسول الله أحمد جدّنا

ونحن بنوه كالنجوم الطوالع!

وأرسل عن الفحّام قال : كان أبو الحسن علي بن محمد بن الرضا عليه‌السلام وعلي بن الجهم الشاعر حاضرَين عند المتوكل ، فسأل المتوكل ابن الجهم عن أشعر الشعراء فذكر له شعراء من الجاهلية والإسلام ، ثمّ سأل ذلك أبا الحسن عليه‌السلام فقال : الحِمّاني حيث يقول .. وقرأ الأبيات.

فقال المتوكل : وما «نداء الصوامع» قال أبو الحسن : أشهد أن لا إله إلّاالله وأشهد أنّ محمداً رسول الله ، فهل هو جدّي أم جدّك؟! فتضاحك المتوكل ثمّ قال :

هو جدّك لا ندفعك عنه (١).

قيام إسماعيل الطالبي عام (٢٤٩ ه‍):

قال اليعقوبي (في سنة ٢٤٩ ه‍) كان بين إسماعيل بن يوسف (الحسني) الطالبي وبين والي المدينة نزاع على وقف كان لإسماعيل ، ما سبّب أن تحامل عليه الوالي ، فجمع لفيفاً من الأعراب ونفذ إلى الرَّوحاء ، فوجد مالاً يُحمل من بعض المواضع إلى السلطان فأخذه ، ثمّ صار إلى مكة (في موسم الحج).

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٣٧ ، ٤٣٨ واكتفى الطوسي ببيتين منها : ٢٨٧ ، الحديث ٥٥٧ ، واكتفى الحلبي بكنية أبي الحسن ، فوهم المامقاني أنّه الرضا عليه‌السلام مع تصريحه بالمتوكل! انظر قاموس الرجال ٩ : ٤٣٨ برقم ٧٠٤٢. ووهم المحقق البهبودي في هامش بحار الأنوار ٥٠ : ١٩٠ حيث توهم الحِمّاني من بني تميم! وأطال المقال.


وكان العامل بمكة جعفر بن الفضل بن يعقوب المعروف ببشاشات ، فواقعه فهزمه ودخل مكة وأقام ثلاثاً ثمّ اندفع إلى المواقف ، فلمّا أقبل إسماعيل مفيضاً إلى مكة مانعه أهلها فقاتلهم أصحابه حتّى دخل وطاف وسعى وطاف أيضاً ثمّ عاد إلى منى فأقام إسماعيل بمنى أيام منى ثمّ انصرف.

وكان على النفقات بمكة رجل يقال له محمد بن حاتم ، فقال لابن يعقوب : اقلع ما على دربند (باب) البيت وعتَبته من الذهب والفضة وأعطه الناس وحارب إسماعيل ، فقلع ذلك الذهب (١). وهنا ينبتر خبر اليعقوبي عن إسماعيل الحسني ، ويظهر من المسعودي في أخبار (٢٥٢ ه‍) أنّه غلب على مكة ثمّ خلفه أخوه ، وسيأتي خبره.

حوادث بغداد عام (٢٤٩ ه‍):

في سنة (٢٤٩ ه‍) شغب الشاكرية والجنود ببغداد لمّا رأوا من استيلاء الأتراك على الأملاك والدولة يقتلون من كرهوا من الخلفاء ثمّ يستخلفون من أحبوا بلا نظر للمسلمين والدين!

فاجتمعت العامة ببغداد بالنداء بالنفير ، ففتحوا السجون وأخرجوا من فيها ، وأحرقوا أحد الجسرين وقطعوا الآخر ، وانتهبوا دور أهل اليسار وأخرجوا منها أموالاً كثيرة ففرقوها (٢) ولعلهّا كانت انتقاماً لقتل يحيى بن عمر الزيدي ، ولعلّ ابن طاهر تفادياً لمثل أعمال الشغب هذه أشخص أهله ونساءه إلى خراسان ، كما مرّ خبره.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩٨.

(٢) مختصر تاريخ الدول : ١٤٦.


حوادث منتصف القرن الثالث :

في سنة (٢٥٠ ه‍) ظهر في طبرستان في شمال إيران الحسن بن زيد الحسني (الزيدي) وبعد حروب كثيرة وقتال طويل غلب عليها وعلى جرجان بجوارها ودام عشرين عاماً (١) وكثر جمعه (٢) وكان ذلك في ولاية محمد بن عبد الله بن طاهر بمركزية نيشابور من خراسان ، وكان يتبعها الريّ أيضاً.

فظهر بالريّ محمد بن جعفر بن الحسن الحسني (الزيدي) داعياً للحسن بن زيد صاحب طبرستان ، فحاربته المسوّدة التابعة لولاية ابن طاهر في خراسان فأسرته وحملته إلى نيشابور.

فظهر بعده بالري أيضاً أحمد بن عيسى العلوي الحسيني (الزيدي) ، وكان محمد بن طاهر حاضراً بالريّ من بغداد فحاربه فانهزم عنه إلى بغداد ، فدخل العلوي الحسيني الريّ منتصراً ودعا إلى الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وظهر بقزوين الحسن بن إسماعيل الحسيني الكركي (الزيدي) ، وانتدب لحربه موسى بن بُغا التركي فحاربه فانهزم الكركي إلى الحسن بن زيد العلوي الحسني في الديلم.

ودخلت سنة (٢٥١ ه‍) فظهر بالكوفة الحسين بن محمد الحسني (الزيدي) ، وكان ابن طاهر في بغداد فسرّح إليه جيشاً بقيادة ابن خاقان (؟) وتخلّف لفيف الحسين الحسني عنه وتركوه فانهزم واختفى (٣).

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٦٨.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢١.

(٣) مروج الذهب ٤ : ٦٩.


المستعين إلى بلد الأمين :

لم يزل المستعين مقيماً بسامراء إلى أن اتّفق مع بُغا ووصيف على حذف أو حتف باغر التركي أحد المتقدمين في قتل المتوكل ، فقتلوه ، فتحزّب له الموالي وشغبوا (١) واعتقل المستعين ابني المتوكل الزبير المعتز والمؤيد في الموضع المعروف بلؤلؤة الجوسق (الكوشك) وحذر من محمد بن هارون الواثق فأخذه معه (٢). وكان الجنود قد أخذوا الحدود على القصر لحصر المستعين إلّاأن بُغا ووصيف هربا به معهم إلى الشطّ بسامراء وركبوا في حرّاقة إلى بغداد (٣) لأوائل المحرم من عام (٢٥١ ه‍) وقام بأمرهم ببغداد محمد بن طاهر الخزاعي (مولاهم) (٤).

ولمّا انحدر بُغا ووصيف بالمستعين إلى ابن طاهر الخراساني ببغداد اضطربت الأتراك والفراغنة وغيرهم من الموالي في سامراء ، وأجمعوا على بعث جماعة إلى المستعين يسألونه الرجوع إلى دار ملكه وحملوا معهم البُرد والقضيب ومئتي ألف دينار ، واعترفوا له بذنوبهم وأقرّوا له بخطئهم وضمنوا أن لا يعودوا إلى ما كان ، وتذلّلوا وخضعوا ، فاجيبوا بما كرهوا! فعادوا وأخبروا أصحابهم بما نالهم ويأسهم من عودة الخليفة. فأجمعوا على إخراج الزبير المعتز والبيعة لخلافته ومحاربة المستعين! فأنزلوه والمؤيد من لؤلؤة الجوسق في القصر (٥) وكان قد كثر شَعره فأخذوا من شَعره ، وخلعوا المستعين وبايعوا له بالخلافة (٦).

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣١٥.

(٢) مروج الذهب ٤ : ٧٧.

(٣) ابن الوردي ١ : ٢٢٢.

(٤) التنبيه والإشراف : ٣١٥.

(٥) مروج الذهب ٤ : ٧٧.

(٦) مختصر تاريخ الدول : ١٤٦.


مساء عاشوراء سنة (٢٥١ ه‍) وفي صباح الحادي عشر من المحرم ركب وأخوه المؤيد إلى دار العامة ، فأخذ البيعة على الناس ، وعقد لأخيه المؤيد عقدين أسود لولاية عهده ، وأبيض لولاية الحرمين ، وخلع عليه. وانبثّت الكتب من سامراء إلى سائر الأمصار بخلافة المعتزّ بالله بخطّ جعفر بن محمد الكاتب.

ثمّ أحدر أخاه أبا أحمد مع الموالي (خمسين ألفاً) إلى بغداد لحرب المستعين ، فنزل عليها ونشبت الحرب بينهم للنصف من صفر ، وهرب إليهم محمد بن الواثق ، واعتزّ المعتزّ يوماً بعد آخر وضعف المستعين كذلك (١).

ودامت الحرب فانقطعت الميرة عن بغداد وقلّت الأموال وغلت الأسعار ببغداد وسامرّاء حتى صار قفيز الحنطة بمئة درهم (٢)!

فجرت السفراء بينهم بالصلح على أن يخلع المستعين نفسه ويسلّم الأمر إلى المعتزّ ، أمناً على نفسه وولده ويصير بهم إلى بلد يقيم فيه ، على أن تُدفع إليه ضياع وأموال تقيمه. فاجيب إلى ذلك فخلع نفسه وبايع للمعتز وكتب كتاب الخلع على نفسه وأشهد عليه (٣).

وكان محمد بن طاهر لمّا رأى ضعف المستعين وعزّة المعتزّ جنح إليه وكاتبه لخلع المستعين ، وأحسّ الناس بذلك فتحيّزوا للمستعين وانتصروا له حتى اضطر ابن طاهر أن يصعد بالمستعين إلى أعلى القصر وعليه البردة وبيده القضيب! فيخاطب العامة وينكر ما بلغهم من ذلك بل وشكر ابن طاهر!

وانتهت مكاتبة ابن طاهر إلى ابن المتوكل أبي أحمد الموفق قائد الحرب لأخيه المعتز على المستعين ، فتوافق على الاجتماع بالشمّاسية من نواحي بغداد ،

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٧٧ ، ٧٨ ، وعدد العسكر من ابن الوردي ١ : ٢٢٢.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩٩.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩٩.


فاتفقا على خلع المستعين على الأمان له ولأهله وولده وما حوته أيديهم من أملاكهم ، وعلى أن يقيم بواسط العراق ثمّ يرحل فينزل مكة هو ومن شاء من أهله ، فكتب المعتزّ له الشروط على نفسه بعهد يطول ذكره. فخلع المستعين نفسه لأوائل المحرم عام (٢٥٢ ه‍) وكان أهله وولده في دار الحسن بن وهب ببغداد فحُمل إليهم وجُمع بينه وبينهم (١) ثمّ نُقل من الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل ، وأُخذت منه البردة والقضيب والخاتم إلى ابن طاهر (٢) وسعى في الصلح من القضاة القاضي إسماعيل وأشهد عليه القضاة وغيرهم ، ثمّ احدر إلى واسط فأقام بها تسعة أشهر محبوساً موكلاً به (٣) ووُكّل به أحمد بن طولون التركي قبل ولايته مصر.

وانصرف أبو أحمد الموفّق من بغداد إلى سامرّاء ومعه أخو محمد بن عبدالله بن طاهر : عبيد الله يحمل إليه البرد والقضيب والسيف وجوهر الخلافة (؟) وكانت هذه المواريث على يد شاهك الخادم ، فكتب ابن طاهر معه إليه : إنّ من أتاك بإرث رسول الله لجدير أن لا تُخفر ذمته!

فخلع المعتزّ على أخيه الموفّق وتوّجه ووشّحه بوشاحين ، وخلع على قوّاده (٤).

أيام عهد المعتزّ العباسي :

قال اليعقوبي : لمّا علم عمّال البلاد سقوط بغداد وبيعة المستعين ومحمد بن الطاهر الخزاعي (مولاهم) للمعتزّ بايعوا له ، إلّاعمران بن مهران بإصفهان ،

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٧٨.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢٢.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٢٠.

(٤) مروج الذهب ٤ : ٧٩.


وعيسى بن الشيخ الشيباني في فلسطين ويزيد بن عبد الله في مصر وابن مجاهد صاحب شمشاط (؟).

فوجّه المعتزّ بحاتم بن زريك التركي إلى شمشاط فأوقع بها وبأهلها حتى أخذ ابن مجاهد وجماعة من وجوهها إلى بلد آمد فقتلهم هناك.

وزحف نوشري بن تاجيك التركي صاحب دمشق إلى عيسى بن الشيخ الشيباني بفلسطين فلمّا علم به عيسى توجّه للقاء نوشري فالتقيا بالأُردن ، وجرت حروب حتى انهزم جمع عيسى فانهزم إلى فلسطين ثمّ إلى مصر. فتبعه نوشري إلى الرملة من فلسطين.

فلمّا انتهى خبر عيسى بن الشيخ وما كان بينه وبين نوشري إلى المعتز ، وجّه برجل من الأتراك يقال له محمد بن مولّد إلى فلسطين فلمّا قدمها انصرف النوشري عنها إلى عمله بدمشق.

وكان قد تغلّب على حمص غطيف الكلبي فصار إليه محمد بن مولّد ودعاه إلى الأمان والطاعة فأجابه الكلبي بقومه بني كلب ، فغدر به ابن مولّد فقتله ، فوثب عليه قومه بنو كلب حتى هزموه عنهم.

ومنذ أيام المستعين كان قد وثب بالرافقة من ديار مضر صفوان العقيلي ، وتحرك في حرّان رجل اموي وآخر من بني أبي لهب ، وابن عبدوس. فوجّه المعتز إليهم سيما الصعلوك ، فبدأ سيما بالرجلين الأُموي واللهبي حتى أخذهما ، ثمّ صار إلى الرافقة فقتل العقيلي ، ثمّ لقى ابن عبدوس في وقعات ثمّ دعاه للصلح على أن يدفع إليه تسعمئة ألف درهم ويولّيه بلده ، فصالحه ووجّه المعتز بموسى بن بُغا فزحف إلى عمران بن مهران بإصفهان فحاربه ، ثمّ استخلف على البلد ، وعاد إلى همدان (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٠ ، ٥٠١.


شغب الحسني بالحجاز :

كان على مكة جعفر بن الفضل العباسي ، ففي شهر ربيع الأول عام (٢٥١ ه‍) بمكة إسماعيل بن يوسف الحسني فهرب عاملها فأنهب الحسني داره ودور أصحابه وقتل جمعاً من الجند وغيرهم ، ثمّ أخذ ما في الكعبة وخزائنها من الذهب والفضة والطيب وحتى الكسوة! وأخذ من الناس نحواً من مئتي ألف دينار! وأنهب بعض دورها وأحرق بعضها الآخر.

وبعد خمسين يوماً لأواخر ربيع الآخر سنة (٢٥١ ه‍) خرج منها إلى المدينة. وكان عليها علي بن الحسين بن إسماعيل فتوارى عنه ، ولم يذكر عنه شغب ببلدته المدينة في شهري الجماديين. ولعمرة رجب عاد إلى مكة فحاصرهم شهري رجب وشعبان حتى تماوت أهلها جوعاً وعطشاً فبلغت شربة الماء درهماً وثلاثة أواقي الخبز بثلاثة دراهم ، ورطل اللحم بأربعة دراهم! وأقام ولشهر رمضان تركهم إلى جدة فأخذ أموال تجارها ومراكبها وحبس الطعام عن مكة فحُمل إليها من اليمن ثمّ بالمراكب في البحر الأحمر من مصر. ثمّ عاد لموسم الحج ، وكان المعتز وجه إليه عيسى المخزومي وكعب البقر بجيش معهم فتقاتلوا وقتل أكثر من ألف من الحجاج ثمّ رجع عنهم (١).

وفاة محمد بن علي الهادي عليه‌السلام :

مرّ خبر مولد الحسن العسكري في (٢٣٢ ه‍) وفي العشرين من سنّه يكون في سنة (٢٥٢ ه‍) ، فأسند الكليني عن الحسن بن الحسن الأفطس أنه وجمعاً من بني هاشم اخبروا بوفاة محمد بن علي بن محمد فحضروا دار أبي الحسن الهادي

__________________

(١) تاريخ الطبري ٩ : ٣٤٦.


يعزونه ، إذ جاء شاب مشقوق الجيب حتى وقف عن يمين أبي الحسن فنظر إليه أبو الحسن وقال له : «يا بُني ، أحدث لله شكراً فقد أحدث فيك أمراً» فبكى الفتى واسترجع وقال : الحمد لله رب العالمين ، وأنا أسأل الله لنا تمام نعمته فيك. ولم نعرفه! فسألنا عنه فقيل : هذا ابنه الحسن ، وقدّرنا له في ذلك الوقت عشرين سنة أو أرجح ، فعرفناه وعلمنا أنه قد أشار بالإمامة إليه ، وأنه يقوم مقامه (١) وقدّرنا الناس الجلوس على البساط في صحن داره من آل أبي طالب وبني هاشم وقريش مئة وخمسين رجلاً سوى مواليه وسائر الناس (٢).

ونقل الحلبي عن كتاب الكشي عن الفضل بن الحارث قال : رأيت أبا محمد العسكري عليه‌السلام ماشياً (في جنازة أخيه أبي جعفر محمد) قد شق ثوبه! وأنا أخذت أتعجب من جلالته وما هو أهل له ، ومن شدة ادمة لونه ، واشفق عليه من التعب (في التشييع).

فلمّا كان الليل رأيته في منامي فقال لي : أما اللون الذي تعجبت منه فهو اختيار من الله لخلقه يجريه كيف يشاء! وإنها لعبرة في الأبصار لا يقع فيها غير المختبر. (وأما التعب) فلسنا كالناس نتعب كما يتعبون. فاسأل الله الثبات ، وتفكّر في خلق الله فإنّ فيه متّسعاً. واعلم أنّ كلامنا في النوم مثل كلامنا في اليقظة.

وكتب إليه أبو عون الأبرس في شقه جيبه ، فكتب جوابه : ما أنت وذاك؟! وقد شق موسى على هارون .. وإنك لا تموت حتى تكبر ويتغيّر عقلك (٣).

__________________

(١) مرّ خبر بل هناك أخبار بنصّ الهادي عليه‌السلام على ابنه الحسن في المدينة قبل أن يُنقل إلى سامراء ، وإنما الحادث انصراف الناس عن أخيه محمد رحمه‌الله.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٣٢٦ ، الحديث ٨.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٦٧ وتمامه : فما مات حتى ذهب عقله وحتى حجبه ابنه وحبسوه في منزله من ذهاب عقله! فهذه من دلائله عليه‌السلام قبل وفاة أبيه وفعلية إمامته.


المعتز وإخوته عام (٢٥٢ ه‍):

وفي سنة (٢٥٢ ه‍) رُفع إلى المعتز أنّ أخاه المؤيد قد استمال إليه جمعاً من الموالي وهم يدبّرون عليه ، فأحضره وطالبه بخلع نفسه من ولاية العهد فأبى ، فأمر المعتزّ بضرب أخيه المؤيد فضُرب أربعين عصاً! فأجاب الطلب ، فأحضر المعتزّ جمعاً وأشهدهم عليه بذلك ومع ذلك حبسه! فرُفع إليه أنّ جمعاً من الأتراك اتفقوا على إخراج المؤيد من حبسه ، فيقال : إنه أمر فأدرجوه في لحاف سمّور وشُدّ طرفاه حتى مات فيه خنقاً ، ثمّ أحضر الفقهاء والقضاة منهم حتى رأوه ولا أثر فيه لآخر شهر رجب (٢٥٢ ه‍) ورتّب في مكان المؤيد لولاية عهده أخاه لأبيه وأُمه إسماعيل بن المتوكل لأوائل شعبان سنة (٢٥٢ ه‍).

وكتب المعتزّ إلى أحمد بن طولون بقتل المستعين فامتنع ابن طولون (١) وقال : والله لا أقتل أولاد الخلفاء! فانتدب له حاجبه سعيد بن صالح المجوسي (أبوه) (٢) فطلب المعتزّ منه أن يحمل ابن طولون المستعين إليه إلى القاطول ويسلّمه إلى حاجبه سعيد بن صالح (٣).

ففي شهر رمضان سنة (٢٥٢ ه‍) بعث المعتز بالله حاجبه سعيد بن صالح ليتلقّى المستعين. وقبله كان قد أرسل شاهك الخادم ليكون في جملة حملته من واسط ، فذكر شاهك قال : كنت أنا عديله في المعمارية ، فلمّا وصلنا (القادسية من) القاطول تلقانا جيش كثير! فناداني المستعين : يا شاهَك انظر مَن رئيس القوم؟ قلت : هو سعيد بن صالح الحاجب ، فاسترجع وقال : والله لقد ذهبت نفسي وأخذ يبكي ، فلمّا قرب منه سعيد أخذ يقنّعه بسوطه حتّى أضجعه إلى الأرض

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢٢.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٢٠.

(٣) ابن الوردي ١ : ٢٢٢.


وقعد على صدره واحتزّ رأسه وحمله معه إلى المعتزّ بالله! وترك جثته على الطريق فدفنه الناس! وذلك في أوائل شوال سنة (٢٥٢ ه‍) وله (٣٥) عاماً (١) ثمّ أمر المعتز بدفن رأسه (٢).

وبعد دخول أبي أحمد الموفق بن المتوكل إلى سامراء وما قوبل به من الإكرام لمحاربته للمستعين ببغداد وانتصاره عليه. وبعد قتل أخيه المؤيّد وهما لأب وأُم ، حبسه المعتزّ أيضاً وضيّق عليه ، ثمّ نُفي إلى البصرة بعد منتصف شهر رمضان سنة (٢٥٢ ه‍) أي بعد قتل المؤيد بخمسين يوماً وبعد إكرامه بستة أشهر (٣).

تمام خبر إسماعيل الحسني بمكة :

قال المسعودي : في سنة (٢٥٢ ه‍) مات إسماعيل بن يوسف (الحسني) الذي غلب على مكة ، فخلفه بعد وفاته أخوه الأكبر منه بعشرين سنة محمد بن يوسف (الحسني). فبعث المعتزّ إليه بأبي الساج الأشروسني فقاتله فقتل من أصحابه خلقاً ثمّ هرب (٤) ولمّا انكشف من بين يدي أبي الساج سار إلى اليمامة فالبحرين فغلب عليها (٥).

وكان قد عصى عيسى بن الشيخ الشيباني وأراد أن يعود إلى الطاعة والتزلف إلى الخلافة ، وكان قد خرج من الحجاز إلى مصر رجال من آل أبي طالب من ولد عقيل وجعفر وعلي عليه‌السلام من الجهد النازل بهم بالحجاز ، فقبض الشيباني

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٧٩.

(٢) تاريخ مختصر الدول : ١٤٧.

(٣) مروج الذهب ٤ : ٩٠.

(٤) المصدر السابق ٤ : ٩١.

(٥) المصدر السابق ٤ : ٩٤ وتمامه : وخلّفه بها عقبه المعروفون ببني الأخضر.


بقواته على ستة وسبعين رجلاً منهم وحملهم معه إلى المعتز مع مال كثير ، فقدم بهم سامراء في هذه السنة (٢٥٢ ه‍) فلمّا وقف المعتز على أمرهم أمر بأخذ الكفلاء منهم وتخلية سبيلهم! وولّى عيسى الشيباني على فلسطين (١).

وتوفي في بغداد محمد بن عبد الله بن طاهر الخزاعي (مولاهم) في أواخر سنة (٢٥٣ ه‍) فكتب المعتزّ إلى أخيه عبيد الله بولايته على ما كان لأخيه من الشرطة وغيرها. وكان طاهر بن محمد بن عبد الله على خراسان فلم يقبل بنصب عمّه عبيد الله ، وكان عنده عمّه الآخر سليمان بن عبد الله فصيّره في خلق كثير من جنود خراسان إلى سامرّاء ، فخلع عليه المعتزّ وأمره بالرجوع إلى بغداد ، فقدمها منتصف ربيع الآخر (٢٥٤ ه‍).

وكان عيسى بن الشيخ الشيباني لجأ إلى يزيد بن عبد الله في مصر ، فلمّا وجّه المعتزّ قائداً من الأتراك إلى مصر لبيعته بها ، بايعه يزيد بن عبد الله ومعه عيسى بن الشيخ. ثمّ صار إلى فلسطين وصاهر في بني كلب وجمع إليه خلقاً من ربيعة ووجد بها أموالاً حُملت من مصر فصادرها وفرض فروضاً على العرب واستولى على رملة وبنى له حصناً خارجها سمّاها الحسامي.

وخرج بديار ربيعة من بني شيبان أيضاً أبو صالح مساور بن عبد الحميد وصار إلى الموصل فطرد عاملها ، ثمّ سار إلى سامراء حتى نزل بالمحمدية على ثلاثة فراسخ من قصور الخليفة ، وكلّما ارسل إليه قائد ومعه جيش هزمهم حتى كثف جمعه واشتدت شوكته.

فلمّا كثر الاضطراب تأخرت أموال البلدان ونفد ما في بيوت الأموال ، فوثب الأتراك بكرخ سامراء يطالبون بأرزاقهم ، فخرج إليهم وصيف يسكّنهم

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٩١.


فقتل ، فتحرك ابنه صالح بن وصيف واجتمع إليه أصحاب أبيه فصار في منزلته ، وتفرّد بُغا بالتدبير ، وضعف أمر المعتزّ في سنة (٢٥٣ ه‍) (١).

وفي (٢٥٤ ه‍) وقع باجور ومفلح بأهل قم ، فقتلا منهم مقتلة عظيمة في شهر ربيع الأول (٢).

الهادي يزوج ابنه الحسن عليهما‌السلام :

قال الشيخ التقيّ الشوشتري في «رسالة في تواريخ النبيّ والآل» في فصل أزواجهم : لم نقف على ذكر زوجة (حرة) للأئمة من الكاظم إلى العسكري عليهم‌السلام (٣) إلّا أنّه في فصل امهاتهم نقل عن الشهيد قولاً بأن أُم الحجة زوج العسكري عليهما‌السلام هي مريم بنت زيد العلوي (٤) فهي اخت الحسن بن زيد العلوي الحسني الداعي الزيدي الذي مرّ خبر خروجه بالديلم وطبرستان وجرجان وامتدت الدعوة إليه إلى الري سنة (٢٥٠ ه‍) وأقدم مصدر لهذا القول هو الحسين بن حمدان الخصيبي (٥) الجنبلايي الواسطي الذي قال فيه النجاشي : فاسد المذهب وكتبه تخليط (٦).

ولذا قال الشيخ التقيّ الشوشتري : المشهور أنها ام ولد ، وذكر نقل الشهيد

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠١ ، ٥٠٢.

(٢) تاريخ الطبري ٩ : ٣٨١ كذا مجملاً.

(٣) الرسالة الملحقة بقاموس الرجال ١٢ : ٧٥.

(٤) قاموس الرجال ٢ : ٦١ ، عن الدروس ٢ : ١٦ ، وهو عن الهداية للخصيبي : ٣٢٨ أحد الأقوال.

(٥) الهداية الكبرى : ٣٢٨.

(٦) رجال النجاشي : ٦٧ برقم ١٥٩.


وهو عن الخصيبي وقال : يردّه أخبار كثيرة في كون الحجة عليه‌السلام ابن أمة وكان يعلمه حتى بنو مروان. وذكر نماذج منها (١).

فإذا تجاوزنا هذا النقل ـ وليس خبراً ولا قولاً مختاراً ـ بقيت بأيدينا ثلاثة أخبار تتفق في أنها كانت جارية في بيت اخت الهادي عليه‌السلام (حكيمة بنت الجواد عليه‌السلام) فزوّجته الحسن العسكري بأمر أبيه الهادي عليهما‌السلام ، ويبدو لي أنّ ذلك كان بعد وفاة محمد بن الهادي عليه‌السلام في سنة (٢٥٢ ه‍) كما مرّ ، في الفترة بينها وبين وفاة الهادي عليه‌السلام في (٢٥٤ ه‍) كما يأتي.

وأقدم ما بأيدينا من هذه الأخبار ما جاء في «إثبات الوصية» قال : روى لنا الثقات من مشايخنا : أنّ بعض أخوات أبي الحسن علي بن محمد عليه‌السلام كانت لها جارية تسمى نرجس ربّتها في بيتها حتى كبرت ، وجاء يوماً الحسن بن علي العسكري لزيارة عمّته فكأنما رأت عمّته منه التفاتة إلى نرجس فسألته : أراك تنظر إليها؟ فقال عليه‌السلام : إني إنما نظرت إليها متعجباً! فإنّ المولود الكريم على الله جلّ وعلا سيكون منها! ثمّ طلب منها أن تستأذن أباه لتدفعها إليه. فاستأذنته فأمرها بذلك ففعلته (٢) مما يكشف عن كون أمرها إلى أبي الحسن عليه‌السلام.

والظاهر أنه إلى هذا أشار الحسين بن عبد الوهاب إذ قال : قرأت في كتب كثيرة بروايات صحيحة كثيرة : أنّه كانت لحكيمة بنت أبي جعفر محمد بن علي عليه‌السلام جارية في بيتها تسمى نرجس ربّتها حتّى كبرت ، فدخل أبومحمد الحسن ونظر إليها ، فسألته عمّته حكيمة : يا سيدي! أراك تنظر إليها! فقال عليه‌السلام : إني نظرت إليها متعجباً .. (٣).

__________________

(١) قاموس الرجال ١٢ : ٦١ و ٦٢.

(٢) إثبات الوصية : ٢١٨.

(٣) عيون المعجزات : ١٣٨.


وهو ما أسنده الصدوق إلى محمد بن عبد الله الطهوي (١) عن حكيمة بنت الجواد عليه‌السلام قالت : كانت لي جارية تسمى نرجس ، فزارني ابن أخي (الحسن) فأقبل ينظر إليها ، فقلت له : يا سيدي! لعلّك هويتها فارسلها إليك؟ فقال لي : يا عمّة إني أتعجب منها! فقلت له : وما أعجبك؟ فقال عليه‌السلام : «سيخرج منها الولد الكريم على الله عزوجل الذي يملأ الله به الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً» فقلت : فارسلها إليك يا سيدي؟! فقال : استأذني في ذلك أبي.

قالت : فلبست ثيابي وأتيت منزل أبي الحسن فسلّمت وجلست ، فابتدأني قال : يا حكيمة! ابعثي نرجس إلى أبي محمد! يا مباركة ، إن الله تبارك وتعالى أحبّ أن يُشركك في الأجر ويجعل لك في الخير نصيباً.

قالت حكيمة : فلم ألبث أن رجعت إلى منزلي وزيّنتها وجمعت بينهما في منزلي أياماً ، ثمّ وجّهتها معه إلى (دار) والده. ثمّ مضى أبو الحسن وجلس أبو محمد مكان والده عليهما‌السلام (٢).

أخرج الصدوق هذا مسنداً في الباب (٤٢) في ميلاد القائم عليه‌السلام ، وفي الباب (٤١) قبله أخرج خبراً مسنداً عن النوفلي عن محمد بحر الشيباني عن بشر بن سليمان النخاس من بني أبي أيوب الأنصاري من موالي الهادي عليه‌السلام وجاره بسامرّاء ، أنه أنفذه في ابتياع أمة رومية وصفها له ، من بغداد وقال : معبر الفرات! من عمر بن يزيد النخاس ، وأنه تسلّم منه الجارية مستبشرة بل ضاحكة! وقالت : إنها مليكة بنت يشوعا بن قيصر الروم (؟) وأُمها تُنسب إلى وصيّ المسيح شمعون (الصفا) وأنها كانت بعد الثالثة عشر من عمرها ، وأنها التحقت متنكّرة بزيّ الخدم

__________________

(١) ذكره جامع الرواة ٢ : ١٤٢ عن الرجال الكبير لميرزا محمد ، في أصحاب الرضا عليه‌السلام.

(٢) كمال الدين : ٤٢٦ ، ٤٢٧ ، الحديث ٢ ، الباب ٤٢ ميلاد القائم عليه‌السلام.


بالجيش الرومي المسرّب لقتال المسلمين مع وصائف اخريات ، فوقعن في أسر طلائع المسلمين يوم كذا (؟) وأنها هي تسمّت نرجس من أسماء الجواري (؟!) وأنها كانت قد تعلّمت العربية من امرأة ترجمان لجدها القيصر (؟) ومع ذلك كتب الهادي عليه‌السلام لها كتاباً بلغة رومية وخط رومي وطبع عليها بخاتمه وجعله كتاباً ملصقاً. وأنها حدّثت كلّ هذا لشاريها بشر بن سليمان الأيوبي الأنصاري السامرائي.

وأنّه انكفأ بها إلى سامرّاء فأدخلها على أبي الحسن عليه‌السلام فبشّرها بولد يملك الدنيا شرقاً وغرباً ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً! ثمّ دعا اخته حكيمة فقال لها : يا بنت رسول الله أخرجيها إلى منزلك وعلّميها الفرائض والسنن ؛ فإنها (ستكون) زوجة أبي محمد وأُم القائم عليه‌السلام.

وأن بشراً حدّث بهذا سنة (٢٨٦ ه‍) في مشهد الكاظم والجواد عليهما‌السلام وهو شيخ قد انحنى صلبه وتقوس منكباه وثفنت جبهته وراحتاه (١) فذلك بعد الحادثة بأكثر من ثلاثين عاماً.

أخرج الصدوق هذين الخبرين في بابين متواليين ولم يعلق عليهما ممّا ظاهره جمعهما وعدم التنافي بينها.

وعلّق المحقق الغفاري على الأول قال : سيأتي ما ينافيه في الجملة. وفي آخر الثاني قال : قيل : لا منافاة بين هذا الخبر وبين الذي سبق ، ففي السابق : قال عليه‌السلام : «يا بنت رسول الله أخرجيها وعلّميها الفرائض والسنن» وعليه فهي كانت عند حكيمة فاضيفت إليها حتى اشتهرت بجارية حكيمة ، ثمّ جرى بعد ذلك ما جاء في هذا الخبر الثاني (٢).

__________________

(١) كمال الدين : ٤١٧ ـ ٤٢٣ ، الحديث ١ ، الباب ٤١ ما روى في نرجس.

(٢) كمال الدين : ٤٢٣ ه‍ ٥ و ٤٢٧ ه‍ ١.


إلّا أنّ الشيخ التقي الشوشتري استظهر التنافي وأصحية الخبر السابق ، فإنّ بنت يشوعا بن قيصر الروم لا تكون سوداء ، والنعماني أسند عن الكناسي عن الباقر عليه‌السلام أنها «أمة سوداء» وروايته أخباراً اخر بمعناه ، وأنه تبنّاها (١) وذكر اختلاف الأخبار في اسمها ومصادرها (٢). وهي محمولة على استحباب تغيير أسماء الجواري السراري المولّدات باختلاف أحوالهن ، كما مرّ في أمثالها.

وفاة الإمام الهادي عليه‌السلام :

في (٢٥) جمادى الثانية عام (٢٥٤ ه‍) مضى أبو الحسن علي بن محمد بن الرضا عليه‌السلام وله أربعون عاماً (٣) وروي أنّه عليه‌السلام قبض في شهر رجب بسامرّاء ، ودُفن في داره ، رواه الكليني (٤) ونقله المفيد وزاد :

خلف أبا محمد الحسن الإمام ، والحسين ، ومحمداً ، وجعفر ، وابنته عائشة (٥).

ونقله الطبرسي ثمّ ذكر الخلفاء المعاصرين حتى المعتزّ بن المتوكل ثماني سنين وأشهراً ، وفي آخر ملكه استشهد ودفن في داره عليه‌السلام (٦) وسمّى الأبناء والبنت سمّاها عالية (٧).

__________________

(١) قاموس الرجال ١٢ : ٦٣ ، ٦٤ عن الغيبة للنعماني : ١٠٩

(٢) قاموس الرجال ٢ : ٦٢ من رسالة التواريخ

(٣) تاريخ أهل البيت عليهم‌السلام : ٨٦.

(٤) أُصول الكاص : ٤٩٧ ، ٤٩٨

(٥) الإرشاد ٢ : ٣١١ ، ٣١٣.

(٦) إعلام الورى ٢ : ١٠٩ ، ١١٠.

(٧) إعلام الورى ٢ : ١٢٧.


ونقل الحلبي عن ابن عياش : قبض بسامرّاء في الثالث من رجب نصف النهار. وليس عنده غير ابنه أبي محمد الحسن. فلعلّه تأكّد من وفاة الحسين ومحمد في حياة أبيهما الهادي عليه‌السلام ، وغفل عن جعفر فإنه كان حياً لا خلاف فيه. ثمّ نقل عن ابن بابويه أنّه استشهد مسموماً وسمّى الأبناء والبنت سمّاها عُليّة (١) والتاريخ الأخير عن ابن عياش هو المعمول به اليوم.

واليعقوبي كأنما تأكّد من أنّه عليه‌السلام لم يبقَ له عند وفاته من ولده الذكور غير اثنين : الحسن وجعفر. واختار وفاته في (٢٧) جمادى الآخرة وزاد : بعث المعتزّ بأخيه أحمد بن المتوكل (الموفق) فصلّى عليه في الشارع المعروف بشارع أبي أحمد ، فلمّا كثر الناس واجتمعوا كثر بكاؤهم وضجّتهم فرُد النعش إلى داره فدُفن فيها ، وسنّه أربعون سنة (٢).

والطبري قال : في (٢٧) جمادى الآخرة (مات) علي بن محمد بن الرضا عليه‌السلام وصلّى عليه أبو أحمد بن المتوكل في الشارع المنسوب إليه ، ودُفن في داره (٣).

والمسعودي قال : في (٢٧) جمادى الآخرة كانت وفاة أبي الحسن علي بن محمد بن الرضا في خلافة المعتزّ بالله سنة (٢٥٤ ه‍) وهو ابن أربعين سنة ، وصلّى عليه أحمد بن المتوكل في شارع أبي أحمد ، وكان يوم الاثنين فسُمعت جارية تقول في جنازته : ماذا لقينا في يوم الاثنين قديماً وحديثاً (٤)! ثمّ ذكر ما مرّ

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٢٣ ، وقال : في آخر أمر المعتمد العباسي. والصحيح : المعتز.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٣ ، ولبحث غسل المعصوم والصلاة عليه يراجع جدّه الرضا عليه‌السلام.

(٣) تاريخ الطبري ٩ : ٣٨١.

(٤) مروج الذهب ٤ : ٨٤ وقديم يوم الاثنين وفاة خاتم المرسلين.


من خبر يحيى بن هرثمة عن إشخاصه للإمام إلى سامرّاء ، وقال : وقيل : إنه مات عليه‌السلام مسموماً (١).

فالمسعودي هنا ذكر خبر الجارية المنادية في جنازة الهادي عليه‌السلام بلا ذكر لموقف العسكري عليه‌السلام من ذلك ، وفي كتاب منسوب إليه أو إلى سميّه ومعاصره ، حدّث عن جماعة حكوا أنّه كان قد اجتمع في جنازته جلّة بني هاشم من العباسيين والطالبيين وخلق من شيعتهم ، فكانوا في حيرة المصيبة إذ خرج من داخل الدار (الدخلاني) خادم ، ثمّ فُتح باب من صدر الرواق وخرج خادم أسود وخرج بعده أبو محمد الحسن العسكري عليه‌السلام حاسراً مكشوف الرأس بثوب مشقوق وعليه مبطَّنة بيضاء وجهه كوجه أبيه لا يخطئ منه شيئاً ما كان يخرم من أبي الحسن شيئاً حتى كأنهم لم يفقدوا منه إلّاشخصه!

وكان في الدار من العباسيين أولاد المتوكل ومنهم ولاة عهده ، ومنهم أبو أحمد الموفّق (٢) فلم يبقَ أحد إلّاقام على رجله وأمسكوا عن الأحاديث والكلام ووثب إليه أبو أحمد الموفق فقصده أبو محمد العسكري فعانقه ثمّ قال له : مرحباً بابن العم! وجلس بين بابي الرواق ، والناس بين يديه ساكتين لا نسمع إلّاالسعال والعطاس!

وخرجت جارية تندب أبا الحسن عليه‌السلام فقال أبو محمد : ما هاهنا من يكفي مؤونة هذه الجاهلة! فبادر إليها بعض شيعته فأعادها إلى داخل الدار (الدخلاني).

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٨٦.

(٢) في الكتاب : أبو محمد ، وبقرينة لقب الموفق فهو أبو أحمد كما في ساير الأخبار والتواريخ.


وكان أبو محمد عليه‌السلام قد صلّى على أبيه قبل أن يُخرج إلى الناس ، وخرج خادم إلى أبي محمد عليه‌السلام فوقف بحذائه ، فنهض واخرجت الجنازة ، فخرج يمشي حتى اخرج بها إلى الشارع الذي بإزاء دار موسى بن بُغا ، فصلّى عليها المعتمِد (كذا ولعلّه الموفّق) ثمّ ردّ إلى بيت من بيوت داره فاشتغلوا بدفنه.

وبعد الصلاة على الجنازة اشتدّ الحرّ من ضغطة الناس على أبي محمد عليه‌السلام في طريق منصرفه من الشارع ، وكان في طريقه دكان بقال مرشوش ، فلمّا رآه سلّم عليه واستأذنه في الجلوس فأذن له وجلس ووقف الناس حوله ونحن فيهم ، إذ أتاه شابّ حسن الوجه نظيف الثياب على بغلة شهباء مسرّجة ، يقود له برذوناً أبيض ، فنزل وسأله أن يركب ، فركب إلى الدار. ثمّ خرج إلى الناس في عشية ذلك اليوم (١) الثالث من رجب عام (٢٥٤ ه‍).

ونختم الفصل بكلام ابن الوردي قال : في (٢٥) جمادى الآخرة توفي في سامرّاء علي بن الجواد ، الملقّب بالنقي الزكي الهادي ، أحد الأئمة الاثني عشر برأي «الإمامية» ثمّ أورد خبر السعي به إلى المتوكل وحمله إليه ليلاً وهو على الشراب والخمر ، وطلبه الشعر من الإمام عليه‌السلام ، ثمّ قال : وقيل له العسكري أيضاً لسكناه بسامرّاء فهي عسكر لسكنى العسكر بها. وهو والد الحسن العسكري وهو والد محمد المنتظر وهو ثاني عشرهم ، ويلّقب بالقائم والمهدي والحجة (٢) عجلّ الله تعالى فرجه.

__________________

(١) اثبات الوصية : ٢٣٤.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢٣.


عهد

الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام



أوائل عهد العسكري عليه‌السلام :

مرّ خبر مولد الحسن العسكري عليه‌السلام بالرواية عنه قال : كان مولدي بالمدينة في ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومئتين (١) من مولَّدة في العرب اسمها سليل ، أو أسماء أو سمانة أو سوسن (٢) ولعلّها كلّها ، للسنّة في الجواري السراري والمولّدات. وعليه فعمره لإمامته بعد أبيه (٢٣) عاماً.

ولما مضى أبو الحسن الهادي عليه‌السلام اشتغل أبو محمد ابنه (الأكبر) بغسله وشأنه ، وأسرع بعض الخدم إلى أشياء من ثياب ودراهم وغيرها فاحتملوها!

فلمّا فرغ أبو محمد من شأنه صار إلى مجلسه فجلس فيه ، ثمّ دعا أُولئك الخدم فقال لهم :

إن صدقتموني عمّا احدّثكم به وأسألكم عنه فأنتم آمنون من عقوبتي!

__________________

(١) دلائل الإمامة للطبري : ٢٢٣.

(٢) تاريخ أهل البيت عليهم‌السلام : ١٢٤ ، وأُصول الكافي ١ : ٥٠٣.


وإن أصررتم على الجحود دللت على كل ما أخذه كل واحد منكم ، وعاقبتكم عند ذلك بما تستحقّونه مني!

ثمّ سأل كل واحد منهم من ذكر أو أُنثى عمّا أخذه : أنت يا فلان أو يا فلانة أخذت كذا ، أكذلك هو؟ فيقول أو تقول : نعم يابن رسول الله ، فيرده أو ترده (١).

واختصره الاربلي عن «دلائل الإمامة» لعبد الله بن جعفر الحميري القمي بأنّه لمّا مضى أبو الحسن عليه‌السلام انتُهبت خزانته ، فاخبر بذلك أبو محمد العسكري عليه‌السلام ؛ فأمر بغلق الباب ثمّ دعا بحرمه وعياله! فجعل يخبر كل واحد منهم بما أخذ ويقول له : ردّ كذا ، فردّوا حتى ما فُقد شيء (٢).

تأكّد الوكيل من خطّ الإمام عليه‌السلام :

كان أحمد بن إسحاق الرازي النيشابوري من وكلاء الهادي عليه‌السلام بنيشابور (٣) فلمّا بلغه نعي الهادي عليه‌السلام كأ نّما أراد تجديد وكالته والتأكّد من رسم خط الإمام الحاضر المعاصر ، ولذا سافر إلى سامراء وتوصّل إلى العسكري عليه‌السلام قال : دخلت على أبي محمد عليه‌السلام فسألته أن يكتب لأنظر إلى خطّه فأعرفه إذا ورد (عليّ) فدعا بالدواة وكتب ، فقلت في نفسي : أستوهبه القلم. فلمّا فرغ أخذ يمسح القلم ثمّ قال : هاك يا أحمد وناولنيه!

__________________

(١) إثبات الوصية : ٢٣٩ مسنداً ، وفي الخرائج والجرائح مرسلاً ١ : ٤٢٠ ، الباب ١٢ ، الحديث ١.

(٢) كشف الغمة ٤ : ٨٢ عن دلائل الإمامة للحميري مختصراً نقلاً بالمعنى بزيادة الحرم والعيال؟!

(٣) انظر قاموس الرجال ١ : ٣٩١ برقم ٢٨٩.


فقلت له : جُعلت فداك ، أردت أن أسأل أباك فلم يُقضَ لي ذلك ، قال : وما هو؟ قلت : يا سيدي ؛ روي لنا عن آبائك : أن نوم الأنبياء على قفاهم ، ونوم المؤمنين على أيمانهم ، ونوم الشياطين على وجوههم ، والمنافقين على شمائلهم؟! قال : كذلك هو ، قلت : يا سيدي ، فأنا أجهد أن أنام على يميني فلا يأخذني النوم عليها!

فقال لي : ادن مني ، فدنوت منه ، فأخرج يده من ثيابه وأدخلها في ثيابي ومسح بيده اليمنى على جانبي الأيسر وبيده اليسرى على جانبي الأيمن ثلاث مرّات.

فمنذ فعل بي ذلك ما يأخذني نوم على يساري وما أقدر أن أنام عليها (١).

بقايا أحداث عام (٢٥٤ ه‍):

في شهر رمضان عام (٢٥٤ ه‍) صيّر المعتزّ بايكباك التركي معاونه لأعمال مصر ، فولّاها بايكباك إلى أحمد بن طولون التركي ، فترك سامرّاء إلى الفسطاط.

وحيث آثر المعتزّ بايكباك وتنكّر لبُغا الصغير بلغه أن بُغا يحاول البغي عليه فأخذ المعتزّ يدبّر لقتله ، وبلغ ذلك إلى بُغا فهرب إلى ناحية الموصل وهو يقدّر أن أكثر الأتراك لا يتركونه بل سيلتحقون به! فلمّا لم يلحقه أحد منهم عاد راجعاً في زورق فعرفه أصحاب مسلحة الجسر (المخفر) وكاتبوا إلى المعتزّ بخبره فأمر بقتله فقتلوه ، ونفى ابنه فارس إلى المغرب. ونُهبت دورهم (٢).

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥١٣ ، باب مولد العسكري عليه‌السلام ، الحديث ٢٧.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٣.


وكان بُغا الصغير قد عزم على أن ينحدر إلى سامرّاء سرّاً فيصل إليها ليلاً ، وكان يحمل معه أموالاً يريد أن يصرف بها الأتراك عن المعتزّ عليه. وكان المعتزّ في حياة بُغا يلازم سلاحه لا يخلعه عن نفسه ليلاً ولا نهاراً خوفاً منه ويقول : لا أزال على هذه الحال حتى أعلم هل رأسي لبُغا أو رأسه لي! فإني لأخاف أن ينزل عليَّ بُغا من السماء أو يخرج عليَّ من الأرض! فلمّا حصل على رأسه أحدره إلى بغداد فنُصب على الجسر بها (١) وكان ذلك في آخر ذي القعدة سنة (٢٥٤ ه‍) وبقتل بُغا غلب على المعتزّ صالح بن وصيف الأحمر (٢).

وخاف المعتزّ من محمد بن هارون الواثق الملقّب بالمهتدي ، فاعتقله وحمله إلى بغداد سجيناً (٣).

بل وخاف المعتزّ من وثوب الأتراك عليه فلكي لا يختلس الأتراك أحد العباسيين من أولاد الخلفاء ومن غيرهم ، أشخص من كان منهم بسامرّاء إلى بغداد (٤).

المصريون وأحمد بن طولون :

قال اليعقوبي : كان بمصر أبو صحبة شقير الخادم يتولّى ضياعاً في أقطار مصر والبريد وما يستعمل للسلطان من المتاع ، وكان عامل الخراج بها أحمد بن المدبّر ، فلمّا قدمها أحمد بن طولون أفسد أبو صحبة بصحبته ما بينهما

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٩١ ، ٩٢.

(٢) التنبيه والإشراف : ٣١٦.

(٣) مروج الذهب ٤ : ٩٢.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٣.


وكتب كل منهما في صاحبه إلى بايكباك الغالب على أمر الخليفة المعتزّ ، فنصر بايكباكُ التركي أحمدَ بن طولون التركيَّ وكتب بعزل ابن المدبّر عن خراج مصر وتوليته لمصري يُدعى محمد بن هلال ، فتولّى هذا الخراج ، وقبض ابن طولون على ابن المدبّر فقيّده وألبسه جبّة صوف وألزم بإيقافه في الشمس ثلاثة أشهر (١)!

وكان ابن طولون عالي الهمّة يستقل بعقول الأتراك وديانتهم ، وهم يثقون به في العظائم ، وتشاغل هو بالخير والصلاح حتى تمكّنت محبّته في القلوب فاستولى على جميع مدن مصر والشام (٢).

أمر يعقوب بن الليث الصفّار :

مرّ صدر خبر علي بن الحسين بن قريش وأنّه تغلّب بجيشه على شيراز بفارس ، قال اليعقوبي : ثمّ قوى أمر يعقوب بن الليث الصفّاري فسار إلى فارس فهزم جيش ابن قريش وأسره ، وتغلّب هو على فارس (٣).

وقال ابن الوردي : إنّ يعقوب بن الليث الصفّار استولى على كرمان ، ثمّ على فارس ودخل شيراز ونادى بالأمان ، ثمّ كتب إلى الخليفة بطاعته مع هدايا جليلة منها مئة فارة مسك وعشرة بزاة بيض (٤)!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٣.

(٢) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١٤٧ وله آثار خالدة من عمرانه بالمسجد النبوي الشريف منها المنبر الحجري المعروف ولا زال قائماً حتى اليوم.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٤.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢٤.


موت الجاحظ البصري :

قال ابن الوردي : في المحرم من عام (٢٥٥ ه‍) توفي بالبصرة أبو عمران عمرو بن بحر الجاحظ العينين. كثير التصانيف ، كثير الهزل ، نادر النادرة ، نادَم الخلفاء وأخذ العلم عن النظّام البصري المتكلم ، وكانت له علاقة بمحمد بن عبد الملك الزيات فلمّا قتل المتوكلُ الزيات أُخذ الجاحظ وقيّد ثمّ اطلق. وفي مرضه دخل عليه المبرِّد البصري فسأله : كيف أنت؟ قال : كيف يكون من نصفه مفلوج ولو نُشر ما أحسّ به! ونصفه الآخر منقرس فلو طار به الذباب آلمه ، وقد جاوز التسعين؟! ثمّ أنشد :

أترجو أن تكون وأنت شيخ

كما قد كنت أيامَ الشباب

لقد كذبتك نفسك ، ليس ثوب

دَريس كالجديد من الثياب

وفي مرضه هذا وقد صفّ عند رأسه مجلداته فوقعت عليه فقتلته (١)!

وكان يميل إلى العثمانية ، ومن تأليفاته رسالة «العثمانية» التي نقضها عدّة ، منهم الشيخ أبو جعفر الاسكافي المعتزلي البغدادي ، والمفيد البغدادي ، وابن طاووس الحلّي ، وله «كتاب الحيوان» وغيره (٢).

ابن وصيف يُذلّ المعتزّ! :

قال اليعقوبي : كان أحمد بن إسرائيل الكاتب وزير المعتزّ ، وعلي بن الحسن بن مخلّد صاحب ديوان الضياع ، ومعه علي بن نوح وعيسى بن إبراهيم من أعوان بايكباك التركي الغالب على المعتزّ ، فوثب عليهم صالح بن وصيف

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢٥.

(٢) هدية الأحباب : ١٣١.


التركي فحبسهم وعذّبهم بأنواع العذاب لأخذ أموالهم وضياعهم ، وهكذا تغلّب على الأمر (١) وبدأ المعتزّ يدبّر عليه وبلغ ذلك إلى صالح بن وصيف (٢).

فدبّر صالح بن وصيف مع قوّاد الأتراك على المعتزّ ، ولمّا رأى الأتراك إقدام المعتزّ على قتل رؤسائهم وإعمال الحيلة في إفنائهم ، وأنّه قد اصطنع الفراغنة والمغاربة لذلك دونهم ، اتفقوا فيما بينهم وعلى المصير إليه بأجمعهم في (٢٦) رجب سنة (٢٥٤ ه‍) فصاروا إليه بأجمعهم وطالبوه بأرزاقهم المعوّقة فأنكر أن يكون قِبله شيء من المال ، وجعلوا يقرعونه بذنوبه إليهم ويوبّخونه على أفعاله بهم (٣) وأخذ يماطلهم في أرزاقهم وحقوقهم (٤) ونزلوا معه إلى (خمسين ألف دينار) فلم يكن عنده (٥).

وشط السيوطي بعيداً فقال : اتّفق جماعة من كبار الأتراك وأتوه وقالوا له : يا أمير المؤمنين! أعطنا أرزاقنا لنقتل صالح بن وصيف (كذا)! ولم يكن بقي شيء في بيوت الأموال. وكانت في حوزة أُمه أموال ثِقال فطلب منها مالاً لينفقه فيهم ، فشحّت وأبت!

فاجتمع الأتراك إلى صالح بن وصيف ومحمد بن بُغا فتوافقوا على خلع المعتزّ ، فلبسوا السلاح وجاءوا إلى دار الخلافة فلم يخرج إليهم (٦).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٤.

(٢) التنبيه والإشراف : ٣١٦.

(٣) مروج الذهب ٤ : ٩٢.

(٤) مختصر تاريخ الدول : ١٤٧.

(٥) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢٤.

(٦) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٢١.


فلمّا حُصر المعتزّ في أيديهم ، بعثوا إلى بغداد من يأتيهم بمحمد بن هارون الواثق الملقّب بالمهتدي من حبسه ، فأتوا به في يوم وليلة إلى سامرّاء! وتلقّوه قبلها. وأبى محمد بن الواثق أن يقبل البيعة له حتى يرى المعتزّ ويسمع كلامه! فأُتي إليه بالمعتزّ وعليه قميص مدنّس! وعلى رأسه منديل! فلمّا رآه محمد الواثق وثب إليه فعانقه وأجلسه معه على السرير وقال له : يا أخي ما هذا الأمر؟ فقال المعتزّ : هو أمر لا اطيقه ولا أقوم به ولا أصلح له ، فحاول المهتدي أن يتوسط ويصلح الحال بينه وبين الأتراك فقال له المعتزّ : لا حاجة لي فيها ولا يرضونني لها! فقال له المهتدي : إذاً فأنا في حلٍّ من بيعتك؟! قال له : أنت في حلّ وسعة! فصرف المهتدي وجهه عنه ، فأقاموه وردّوه إلى محبسه (١).

قال اليعقوبي : واجتمع القوّاد على أنّه ليس في أولاد الخلفاء أعقل ولا أفضل من محمد بن الواثق ، فشخص إليهم من بغداد فلمّا قدم اجتمعت كلمتهم عليه وبايعوه في يوم (٢٧ رجب) سنة (٢٥٥ ه‍) ، وبعد يومين جلس للناس ، وقرأ عليهم كتاباً ذكر فيه خلع المعتزّ نفسه وسمّاه خالع نفسه (٢) والغالب على الأمر والقائم بالتدبير صالح بن وصيف في غياب موسى بن بُغا الكبير إذ كان بالريّ (٣) والمهتدي دون الأربعين (٤).

وقال ابن العبري : دخل جماعة من الأتراك على المعتزّ فجرّوه برجله إلى باب الحجرة وضربوه بالدبابيس وأقاموه في الشمس يرفع رجلاً ويضع رجلاً

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٩٢.

(٢) اليعقوبي ٢ : ٥٠٥.

(٣) التنبيه والإشراف : ٣١٧.

(٤) مروج الذهب ٤ : ٩٧.


لشدة الحر (١) وقال السيوطي : أقاموه في الشمس في يوم صائف يلطمون وجهه ويقولون له : اخلع نفسك. وكان قاضيه ابن أبي الشوارب الأُموي فأحضروه وشهوداً آخرين فخلع نفسه. واحضروا محمد بن الواثق من بغداد فما قبل البيعة حتى أتوا بالمعتز فقام له المهتدي وسلّم عليه بالخلافة وجلس بين يديه! فجيء بالشهود فشهدوا : أنّ المعتزّ عاجز عن الخلافة! فاعترف هو بذلك ومدّ يده فبايع المهتدي ، فحينئذٍ ارتفع المهتدي إلى صدر المجلس (٢).

قال المسعودي : وتنازع الناس في كيفية قتل المعتز مفصّلاً ، ورأيت أصحاب السير والتواريخ وذوي العناية بأخبار الدول قد تباينوا فيه .. والأشهر في الأخباريين ممن عُني بأخبار العباسيين : أنّه اكره على دخول الحمام وكان محمياً جداً ومُنع الخروج منه وتُرك في الحمام حتّى فاضت نفسه ، ومنهم من ذكر أنه بعد أن كاد يموت أُخرج ولكنه سُقى شربة ماء مثلّجة فنثرت كبده وأمعاءه فخمد ، وذلك ليومين خلون من شعبان سنة (٢٥٥ ه‍) (٣) وصلّى عليه المهتدي ، وله ثلاثة أبناء : محمد وعبد الله والمهتدي أيضاً وعمره (٢٢) عاماً (٤) أو (٢٤) عاماً ، وكان أبيض حسن الوجه أسود الشعر حسن العينين لم يُر في الخلفاء أجمل منه ، ولكنه لا رأي له فتُدبّره أُمه قبيحة الرومية ، وهو يؤثر اللذات (٥).

وانفرد ابن العبري في كيفية قتله بقوله : سلّموه إلى من يعذّبه فمنعه الأكل

__________________

(١) مختصر تاريخ الدول : ١٤٧.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٢١ و ٤٢٢.

(٣) مروج الذهب ٤ : ٩٧.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٤.

(٥) التنبيه والإشراف : ٣١٦.


والشرب ثلاثة أيام! ثمّ أدخلوه سرداباً وجصصوا عليه فمات فيه (١) وقد مرّ عن اليعقوبي أنّ المهتدي صلّى عليه ، وأورد نحوه ابن الوردي وزاد : ودفن مع المنتصر بسامرّاء (٢).

وقبل قتل المعتزّ بشهر تقريباً في الثاني من رجب (٢٥٥ ه‍) ظهر بالكوفة علي بن زيد وعيسى بن جعفر الحسنيان فقتلا بها عبد الله بن محمد بن داود العباسي (٣) المشهور بابن اترجة أو اترنجة وبالنصب والبغض لعلي عليه‌السلام ومن ندماء المتوكل العباسي وواليه على المدينة الذي كتب إليه يسعى على علي بن محمد الهادي عليه‌السلام.

وكان بسامرّاء من أولاد إبراهيم بن موسى الكاظم عليه‌السلام : علي وكان واقفيّاً ، وإسماعيل غير واقفي ، فأسند الكليني عن محمد بن إسماعيل هذا : أنّ أبا محمد

__________________

(١) مختصر تاريخ الدول : ١٤٧.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢٤.

(٣) تاريخ الطبري ٩ : ٣٨٨ وعنه في الكامل في التاريخ ٧ : ٦٥ في حوادث (٢٥٥ ه‍) قبل خلع المعتزّ وقتله أو موته ، والأُموي الزيدي لم يذكر عيسى بن جعفر! وإنما ذكر علي بن زيد بن الحسين بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين عليه‌السلام ، فهو زيدي حسيني وليس حسنياً كما في الطبري. والأُموي الزيدي ذكر أنّ المهتدي وجّه إليه الشاه بن المكيال في عسكر ضخم فهزمه ، ثمّ التحق بصاحب الزنوج بالبصرة! مقاتل الطالبيين : ٤٣٥ فلعلّ خروجه وقتله لابن اترجة كان قبل قتل المعتز. وصُحّف في الكافي : ابن اترجة بابن بُريحة! وفي خاتمة أحداث عام (٢٥٥ ه‍) قال ابن العبري : في أواخر عام (٢٥٥ ه‍) مات الطبيب النصراني شابور بن سهل الأهوازي باني «بيمارستان / مستشفى» جندي شابور (قلعة شاپور) صاحب «كتاب القرابادين الكبير» وهو اثنان وعشرون باباً في الصيدلة ، المعوّل عليه يومئذ في البيمارستانات ودكاكين الصيدلة وقال : توفي نصرانياً. يؤكّد عليه!


العسكري كان قبل قتل عبد الله بن محمد بن داود بعشرة أيام قد كتب إلى رجل يخبره بقتله (خلال عشرة أيام) قال : فلمّا كان اليوم العاشر قتل!

وقبل قتل المعتزّ بنحو عشرين يوماً (أو أكثر بقليل) كتب إلى أبي القاسم إسحاق بن جعفر الزبيري : «الزم بيتك حتى يحدث الحادث» فلمّا قتل ابن تُرنجة تصور أن الحادث هو هذا فكتب إليه : قد حدث الحادث فما تأمرني؟ فكتب إليه : «ليس هذا الحادث ، الحادث الآخر ، فكان ما كان على المعتزّ» (١).

ونقل الاربلي عن «دلائل الإمامة» للحميري عن محمد بن عمر الكاتب ، عن علي بن محمد بن زياد الصيمري ، وكان من وجوه الشيعة وثقاتهم ومقدماً في الكتابة والأدب والعلم والمعرفة وله كتاب الأوصياء وذكر الوصايا (٢) ، وكان مع ذلك صهر جعفر بن محمود الوزير ، قال : دخلت على عبيد الله بن عبد الله بن طاهر الخزاعي (مولاهم) أمير شرطة بغداد بعد (٢٥٣ ه‍) وإذا بين يديه رقعة أبي محمد العسكري عليه‌السلام وإذا فيه : «إنّي نازلت الله (دعوته مكرراً) في هذا الطاغي ، وهو آخذه بعد ثلاث» وكان يعني الزبير (المعتزّ بن المتوكل) فلمّا كان اليوم الثالث فعل به ما فُعل (٣).

وفي الخبر فُسّر «الطاغي» قال : يعني الزبيري؟ ثمّ نقل الاربلي الخبر عن «الخرائج والجرائح» وفيه فُسّر «الطاغي» بالمستعين (٤) ثمّ علّق عليه الاربلي قال : كأنّ هذا من غلط النُسّاخ أو الرواة ، فإنّ المستعين بويع له في (٢٤٨ ه‍)

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥٠٦ ، الحديث ٢ ، باب مولد العسكري عليه‌السلام.

(٢) مهج الدعوات : ٢٧٣.

(٣) كشف الغمة ٤ : ٨٤ ، ٨٥ عن دلائل الإمامة للحميري ، وبهامشه مصادره الأُخرى.

(٤) كشف الغمة ٤ : ١٠٣.


وكانت مدّة ملكه دون الأربع سنين فلا يكون ملكه في أيام إمامة أبي محمد العسكري عليه‌السلام فكيف ينازل الله فيه (١)؟!

وكأنّ المعتز كان قبل قتله بقليل أمر سعيد الحاجب بحمل العسكري عليه‌السلام إلى الكوفة وقتله في طريقه! وبلغ خبره إلى أبي الهيثم فكتب إليه : بلغنا خبر بلغ منّا وأقلقنا! فكتب إليه : بعد ثلاث يأتيكم الفرج! فقُتل المعتزّ في اليوم الثالث (٢).

مصير قبيحة الرومية أُمّ المعتزّ :

أورد ابن الوردي مصيرها فقال : اختفت في قتل ابنها في شعبان ، وظهرت في رمضان ، ونُبش لها ألف ألف (مليون) دينار ، وسفط من زمرّد ، وسفط من لؤلؤ ، وكيلجة ياقوت أحمر لا يوجد مثله ، حُمل كلّه إلى صالح بن وصيف فقال : قبّح الله قبيحة! عرّضت ابنها للقتل لأجل (خمسين ألف دينار) وعندها كل هذه الأموال (٣)!

وذكر السيوطي : أعطت صالح بن وصيف ألف ألف دينار وثلاثمئة ألف دينار ، وسفطاً فيه مسكوك زمرد ، وسفطاً فيه لؤلؤ حبٍّ كبار ، وكيلجة ياقوت أحمر ، فقُوّمت السفاط بألفي ألف (مليوني) دينار! فلمّا رأى ذلك ابن وصيف قال : قبّحها الله عرَّضت ابنها للقتل لأجل (خمسين ألف دينار) وعندها هذا! فأخذ الجميع ونفاها إلى مكة (٤).

__________________

(١) كشف الغمة ٤ : ١٠٩ ، ١١٠.

(٢) كشف الغمة ٤ : ٨١ عن دلائل الإمامة للحميري وبهامشه مصادره الأُخرى ومنها مناقب الحلبي ٤ : ٤٦٤.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢٤.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٢٢ وتمامه : بقيت بها إلى أيام المعتمد فردّها إلى سامراء وماتت (٢٦٤ ه‍).


وكانت في مكة تصرخ وتقول : هتك صالح ستري وقتل ولَدي وأخذ مالي وغرّبني عن بلدي وركب الفاحشة مني (١)!

سوابق قيام صاحب الزنج :

قال المسعودي : في سنة (٢٥٢ ه‍) في خلافة المعتزّ ثارت الفتن بالبصرة بين البلالية والسعدية (من بني تميم) وجرّ ذلك إلى ظهور صاحب الزنج (٢) وهو علي بن محمد بن عبد الرحيم العبدي من عبد قيس بالبصرة ، وكان من حاشية المنتصر في سامراء يمدحهم ويستمنحهم بشعره ، وفي سنة (٢٤٩ ه‍) شخص من سامرّاء إلى البحرين فادّعى أنّه طالبي علوي حسني ، ورحل إلى الأحساء ثمّ عاد إلى البصرة سنة (٢٥٤ ه‍) ، ثمّ جمع الزنوج الذين كانوا يكسحون السباخ في جهة البصرة وخرج بهم في (٢٥٥ ه‍) واستفحل أمره بالاغارة والنهب (٣).

واختزل خبره اليعقوبي قال : وقعت العصبية بين أهل البصرة حتّى أحرق بعضهم منازل آخرين ، وقوى أمر صاحب (الزنج) بالبصرة وصار إلى ابلّة البصرة فخرّبها (٤).

وهنا كان ما نقله الإربلي عن «دلائل الإمامة» للحميري عن محمد بن صالح الخثعمي قال : كتبت إلى أبي محمد العسكري عليه‌السلام أسأله عن أشياء وكنت أُريد أن أسأله عن صاحب الزنج الذي خرج بالبصرة ، فنسيت ، فكتب إليّ : «صاحب الزنج ليس من أهل البيت» (٥).

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢٤ ولعلّه لذلك ردّها المعتمد!

(٢) مروج الذهب ٤ : ٩٥.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢٤ و ٢٢٥.

(٤) اليعقوبي ٢ : ٥٠٦.

(٥) كشف الغمة ٤ : ٩٧.


بعض سيرة المهتدي :

قال اليعقوبي : وظهرت من المهتدي سيرة حسنة ومذاهب محمودة ، جلس للمظالم بنفسه ، وباشر الأُمور بجسمه ، ووقّع في قصاصات الناس (عرائضهم) بخطّه ، وأبطل الملاهي ، وقدّم أهل العلم ، وأقام أياماً كثيرة يلبس لُبسة واحدة فيقيم عليها لا يغيّرها. وكتب بالأمان لجميع المتحركين والمتغلّبين ، ومنهم عيسى بن الشيخ الربعي (الشيباني) فكتب إليه بمثل ذلك شريطة أن يحمل إليه ما قبله من أموال مصر وغيرها ، فامتنع.

فكتب إلى ابن طولون بالمسير إليه لقتاله ، فسار إليه إلى العريش بمصر إذ ورد عليه كتاب المهتدي بالانصراف عنه فانصرف عنه بلا قتال. وخرج إليه أماجور التركي عامل دمشق فهزمه أماجور ، فحمل ابن الشيخ عياله إلى قلعة له في صور فتحصّن بها.

وأخرج قبيحة أُمّ المعتزّ مع ابنها عبد الله ، وأبا أحمد وإسماعيل ابني المتوكل إلى مكة (١).

وقال المسعودي : جلس المهتدي للمظالم بنفسه ، بل بنى لها قبة سمّاها قبّة المظالم لها أربعة أبواب للخواص والعوام ، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وحرّم الشراب ، ونهى عن القيان ، وأظهر العدل. وكان يحضر كل جمعة إلى المسجد الجامع ويخطب الناس ويؤمّهم ، فثقلت وطأته على الخاصة والعامة لحمله إياهم على طريق الشرع وسئموا أيامه (٢).

وقال : وكان ورعاً كاد أن يكون في بني العباس مثل عمر بن عبد العزيز في

__________________

(١) اليعقوبي ٢ : ٥٠٥.

(٢) مروج الذهب ٤ : ٢٦.


بني أُمية ، هديا وفضلاً وقصداً وديناً ، فصادف أقواماً لا يجوز عندهم أخلاق الدين ، ولا يريدون إلّاأمر الدنيا فسفكوا دمه (١).

وقال : كان المهتدي بالله ذهب في أمره إلى القصد والدين ، فقرّب العلماء ورفع منازل الفقهاء ، وعمّهم ببرّه. وقلّل من اللباس والفرش والمطعم والمشرب ، وأمر بإخراج أواني الذهب والفضة من الخزائن لتضرب دراهم ودنانير ، وعمد إلى الصور التي كانت في المجالس فمحاها. وذبح الكباش والديوك التي كان يناطَح بها بين يدي الخلفاء! وقتل السباع المحبوسة. ورفع بُسط الديباج وكل فرش لم ترد إباحته في الشرع. وكان الخلفاء قبله ينفقون لموائدهم كل يوم عشرة آلاف درهم! فهو جعل لسائر مؤونته كل يوم نحو مئة درهم! وكان يواصل الصيام. وكان ينام من الليل ساعة بعد العشاء الآخرة ثمّ يقوم فيلبس جبة صوف ويركع ويسجد إلى أن يدركه الصباح.

وكان يقول لبني العباس : يا بني هاشم! دعوني أسلك فيكم مسلك عمر بن عبد العزيز ، فأكون فيكم مثل عمر بن عبد العزيز في بني أُمية (٢).

وحكى السيوطي عن رجل كان عند المهتدي في عشية يوم من رمضان فدعاه أن يفطر معه ، فصلّى ثمّ دعا بطعامه فاتي بطبق فيه أرغفة خبز نقي رقاق وزيت وخل وملح! فقال له : ولِمَ هذا وقد أسبغ الله عليك نِعَمه؟! قال : الأمر كما وصفت ، ولكن كان في بني أُمية عمر بن عبد العزيز ، وكان من التقلّل والتقشّف على ما بلغك ، فغِرتُ على بني هاشم (بني العباس) أن لا يكون فيهم مثله فأخذت نفسي بما ترى! (فهل يا ترى هذا من الدين في شيء؟!).

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣١٨.

(٢) مروج الذهب ٤ : ١٠٣.


وقال : طرح الملاهي وحرّم الغناء ، وحسم أصحاب السلطان عن الظلم ، وضرب عليه جماعة من الرؤساء. وكان شديد الإشراف على أمر الدواوين ، يجلس بنفسه للمظالم الاثنين والخميس! ثمّ يجلس بنفسه ويُجلس الكتّاب بين يديه فيعملون حسابهم. وكان قاضيه جعفر بن عبد الواحد نقل له قولاً عن أحمد بن حنبل وأشار إلى مخالفة آبائه إياه ، فقال : رحم الله أحمد بن حنبل ، ولو جاز لي أن أتبرّأ من أبي لفعلت! ونُسب عنده جعفر بن محمود إلى «الرفض» فكره مقامه معه بسامرّاء! فنفاه إلى بغداد (١).

ابن وصيف والمهتدي والعسكري عليه‌السلام :

صالح بن وصيف كان بعد أبيه مع المعتز ثمّ مع المهتدي وقُتل قبله ، وقد ورد في الخبر أنّ العسكري عليه‌السلام سُجن عنده بلا تاريخ له ، فهنا قبل أن نصل إلى مقتله في آخر عهد المهتدي نقف عند هذا الخبر الذي أسنده الكليني عن علي بن عبدالغفار : أنّ صالح بن وصيف لمّا حبس أبا محمد العسكري عليه‌السلام دخل عليه صالح بن علي (؟) والعباسيون المنحرفون عن هذه الناحية (الإمامة) يؤكّدون عليه بأن يشدّد على أبي محمد عليه‌السلام.

فقال لهم صالح : قد وكّلت به رجلين من شرّ من قدرت عليه (٢)! فصارا من

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٢٣ فالسيوطي يحسب شدة وطأته على «الرافضة» من محاسنه!

(٢) نقله الحلبي في المناقب ٤ : ٤٦٢ فسمّاهما! اقتامش وعلي بن بارمش أو تارمش ، وبذلك انحلّت معضلة خبر الكافي ١ : ٥٠٨ ، الحديث ٨ ، باب مولد العسكري عليه‌السلام عن العلوي قال : حُبس أبو محمد عند علي بن اوتارمش وهو أنصب الناس وأشدهم على


الصلاة والصيام إلى أمر عظيم! فقلت لهما : ما رأيتما فيه؟ قالا : ما نقول في رجل لمّا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا! يقوم الليل كلّه ويصوم النهار ، لا يتشاغل ولا يتكلم!

فلمّا سمع المنحرفون ذلك انصرفوا خائبين (١).

فكأنّ يأسه عن نتائج التشديد عليه حمله على أن حبس جمعاً من مواليه منهم أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري قال : حبسنا صالح بن وصيف الأحمر أنا والحسن بن محمد العقيقي ، ومحمد بن إبراهيم العمري ، وفلان وفلان ، ثمّ أدخل علينا أبا محمد الحسن وأخاه جعفر معه! وكان قد أدخل معنا رجلاً من بني جُمح يدّعي أنه علوي!

فالتفت أبو محمد عليه‌السلام إلينا وقال : لولا أنّ فيكم من ليس منكم لأعلمتكم متى يُفرَّج عنكم! ثمّ أومأ إلى الجُمحي أن يخرج عنا ، فخرج ، فقال لنا أبو محمد عليه‌السلام : هذا الرجل ليس منكم فاحذروه ، وإن في ثيابه قَصّة (قطعة) كتبها للسلطان يخبره بما تقولون فيه.

فقام بعضهم وفتّش ثيابه (المتروكة هناك) فوجد فيها القَصّة (قطعة ورق) يذكرنا فيها بكل عظيمة!

وكان وصيف قد أذن لأبي الحسن أن يأتيه غلامُه بطعامه ، فكان عليه‌السلام يصوم ، وعند فطوره نأكل معه من الطعام الذي كان يحمله إليه في جُونة (سلّة) مختومة!

__________________

آل أبي طالب ، فما أقام عنده إلّايوماً حتّى وضع له خدّيه ، فكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً وإعظاماً ، وخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرة وقولاً فيه. فهو أحد الرجلين وليس مستقلاً.

(١) أُصول الكافي ١ : ٥١٢ ، الحديث ٢٣ ، باب مولد العسكري عليه‌السلام.


وكنت أصوم ، وذات يوم وجدت ضعفاً ، وكانت عندي كعكة فذهبت إلى بيت آخر وأفطرت بالكعكة وما شعر بي والله أحد! ثمّ عدت فجلست إليه ، وكان غلامه معه فقال له : أطعم أبا هاشم شيئاً فإنه مفطر! فتبسّمت! فقال لي : ما يُضحكك يا أبا هاشم؟ إذا أردت القوة فكل اللحم وأمّا الكعك فلا قوة فيه! فقلت له : صدق الله ورسوله وأنتم ، عليكم السلام. ثمّ قال لي : أفطر ثلاثة أيام ، فإنّ المُنّة (القوة) لا ترجع إذا أنهكها الصوم في أقل من ثلاث.

وسأله غلامه يوماً قال له : يا سيدي أحمل فطورك؟ قال : احمل ، وما أحسبني آكل منه.

فحمل إليه الطعام ظهراً ، وكان صائماً فلم يأكل ، وعند العصر أُطلق ، فقال لنا : كلوا منه هنّأكم الله (١).

غضب المهتدي وآخر أمره :

ولم يُذكر لنا لماذا غضب المهتدي على أبي المهدي خاصّة والعلويين عامة ، فبلغ الناس ذلك وأنّه تهدّدهم يقول : والله لأُجلينّهم من جديد الأرض! وقبل أن ينفّذ ذلك انشغل عنهم بقتل بعض مواليه ، فكأنه فرح بذلك بعض موالي العسكري عليه‌السلام فكتب إليه منهم أحمد بن محمد قال : حين أخذ المهتدي في قتل الموالي كتبت إلى أبي محمد عليه‌السلام : يا سيدي ؛ الحمد لله الذي شغله عنّا (وعنك) فقد بلغني أنّه يتهدّدك يقول : والله لأُجلينّهم من جديد الأرض!

__________________

(١) إعلام الورى ٢ : ١٤٠ ، ١٤١ عن كتاب أحمد بن محمد بن عياش مسنداً. وأسند صدر الخبر الطوسي في الغيبة : ٢٢٧ ، الحديث ١٩٤ وفيه سمّى أربعة أشخاص وقال : ممن حُبس بسبب قتل عبد الله بن اترجة العباسي. وهو قُتل قبل قتل المعتز بعشرة أيام!


فردّ أبو محمد عليه‌السلام بخطّه وتوقيعه : «ذلك أقصر لعمره! عُدَّ من يومك هذا خمسة أيام ، وفي اليوم السادس يُقتل بعد هوان واستخفاف يمرّ به».

قال الراوي أحمد بن محمد : فكان كما قال عليه‌السلام (١).

وإذا كان يظهر من الخبر الآنف الذكر عدم كونه محبوساً ، فلعله في غضون هذه الأيام الخمسة أُعيد إلى الحبس مع أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري قال : كنت محبوساً مع أبي محمد العسكري عليه‌السلام في حبس المهتدي ابن الواثق (ففي آخر ليلة) قال لي أبو محمد : يا أبا هاشم ؛ إنّ هذا الطاغي (المهتدي) أراد أن يتعبّث (بأمر) الله في هذه الليلة (بقتله عليه‌السلام)! وقد بتر الله عمره وجعله للقائم من بعده (المعتمد) وليس لي ولد ، وسأُرزق ولداً!

قال أبو هاشم : فلمّا أصبحنا شغب الأتراك على المهتدي فقتلوه ، وولّي المعتمِد مكانه ، وسلّمنا الله تعالى (٢).

سيف المصري والعسكري عليه‌السلام :

وقبل أن يُقتل المهتدي ، لقد عُرف من خدّامه ومواليه شفيع الخادم المفادي لأسرى المسلمين لدى الروم عام (٢٥٣ ه‍) (٣) ويظهر من الخبر التالي أنّه كان على خراج مصر أو ضياعها على عهد المهتدي.

أسند الكليني عن عمر بن أبي مسلم السامرّائي قال : قدم علينا بسامرّاء رجل من أهل مصر يقال له : سيف بن الليث ، يتظلّم إلى المهتدي في ضيعة له قد

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥١٠ ، الحديث ١٦ ، باب مولد العسكري عليه‌السلام.

(٢) إثبات الوصية : ٢١٥ ، وكتاب الغيبة للطوسي : ٢٠٥ ، الحديث ١٧٣ و ٢٢٣ و ١٨٧ مكرراً.

(٣) التنبيه والإشراف : ١٦٣.


غصبها منه وأخرجه منها شفيع الخادم ، فأشرنا عليه أن يكتب إلى أبي محمد العسكري عليه‌السلام يسأله تسهيل أمرها. فكتب إليه فجاءه الجواب : «لا بأس عليك ضيعتك تُردّ عليك ، فلا تتقدّم إلى السلطان (المهتدي) والقَ الوكيل الذي في يده الضيعة وخوِّفه بالسلطان الأعظم رب العالمين». فلقيه فقال له الوكيل الذي بيده الضيعة وهو بسامرّاء : عند خروجك من مصر إلى هنا كُتب إليّ : أن أطلبَك وأردّ عليك الضيعة. ثمّ أحضر شهوداً والقاضي ابن أبي الشوارب الأُموي فردّها عليه. فصارت الضيعة له وفي يده ولم يحتج إلى أن يتقدم إلى المهتدي.

فكأنّه لمّا عرف العسكريَّ عليه‌السلام وله ابن عليل بمصر ، كتب إلى أبي محمد العسكري قال : كتبت إليه أسأله الدعاء لابني العليل. فكتب إليّ : «قد عُوفي ابنك المعتل ، ومات الكبير وصيّك وقيّمك ، فاحمد الله ولا تجزع فيحبط أجرك». وفي يوم وصول جواب أبي محمد إليّ ورد إليّ الخبر : أنّ ابني قد عوفي من علّته ومات الكبير (١)!

شغب يؤدي إلى قتل المهتدي :

قال اليعقوبي : وثب بناحية صعيد مصر رجل طالبي يُدعى إبراهيم بن محمد الصوفي من وُلد عمر بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

ووثب بها أيضاً رجل يدّعي أنّه عبد الله بن عبد الحميد من بني عمر بن الخطاب.

وكان على حِمص محمد بن إسرائيل فوثب عليه أهلها يتقدّمهم ابن عكّار ، فهرب ابن اسرائيل فخرج إليه ابن عكّار فكانت بينهما وقعة قُتل فيها ابن عكّار وهُزم جمعه ، وعاد ابن اسرائيل إلى عمله.

__________________

(١) الكافي ١ : ٥١١ ، الحديث ١٨.


وكان أحمد بن إسرائيل بسامرّاء ، وزيراً وكان صالح بن وصيف قد حبسه مع عيسى بن إبراهيم والحسن بن مخلّد من أصحاب الدواوين ، فأخرجهم صالح من الحبس إلى باب العامة ، فهرب ابن مخلّد وضُرب أحمد وعيسى حتى ماتا (رمضان ٢٥٥ ه‍)! وكان صالح وبايكباك التركيان الغالبين على أُمور المهتدي (وقيل : بل هو من فعل المهتدي).

وتنكّر المهتدي للأتراك وعزم على تقديم الأبناء عليهم ، فأحضر جماعة منهم وضرب أعناقهم ، فاجتمع الأتراك وشغبوا وأظهروا الطعن عليه ، فاستنفر المهتدي العامة عليهم وأباحهم دماءهم وأموالهم ومنازلهم (١).

وقال المسعودي : كان موسى بن بُغا الكبير بالريّ مشغولاً بحرب الحسن بن زيد الحسني وما كان منه ببلاد قزوين والديلم ، فلمّا بلغه ما كان من أمر صالح بن وصيف والأتراك في قتل المعتزّ أنكر ذلك وقفل من تلك الديار إلى سامرّاء.

ولمّا اتصل بالمهدي مسير موسى بن بُغا إلى دار الخلافة أنكر ذلك وكاتبه بالإقامة في عمله بالريّ وأن لا يرحل من مركزه للحاجة إليه هناك ، فأبى موسى إلّا الإسراع في المسير حتى وافى سامرّاء (في المحرم ٢٥٦ ه‍) فلمّا دنا من سامرّاء أخذت الغوغاء من العامة يهتفون على ابن وصيف : يا فرعون قد جاءك موسى!

فدخل موسى سامرّاء حتّى انتهى إلى مجلس المهتدي وهو جالس للمظالم ، والدار غاصة بخواص الناس وعوامهم ، فدخل أصحاب موسى الدار وجعلوا يُخرجون منها العامة بضرب الدبابيس والطبرزينات! فقام المهتدي منكراً عليهم فعلهم ذلك فلم يُقلعوا.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٦.


ولمّا رأى موسى ضجة العامة في دار المظالم انصرف عنها إلى دار القائد التركي يارجوج ، وقُدّم إلى المهتدي فرس فركبه فمضوا به إلى تلك الدار فأقام فيها ثلاثاً عند موسى بن بُغا حتى أخذ موسى عليه العهود والمواثيق أن لا يغدر به. وقد اختفى صالح بن وصيف لمّا دخل موسى ، فخاف موسى أن يكون صالح يعمل الحيلة عليهم في اختفائه فبثّ في طلبه العيون حتّى وقع عليه فقاتلهم حتّى قُتل وأُتي برأسه إلى موسى (في صفر عام ٢٥٦ ه‍) وكان في موسى ديانة وتقشف ولا يشرب النبيذ (١).

قال : وغلظ أمر الشاري (الخارجي) مساور بن عبد الحميد البجلي (مولاهم) ببلاد الموصل وشهزور والجبال وغيرها من البلاد ، ودنا بعسكره من سامرّاء وظهرت معه الأعراب حتّى انقطعت الطرق! فتجهّز موسى بن بُغا للخروج إليه ومعه بايكباك في جيش عظيم ، فلقياه وهزماه وقتلا من أصحابه جماعة. وكتب موسى إلى بايكباك بالفتك بموسى! وتسلم العسكر! فأطلع بايكباك موسى على الكتاب : وسار بايكباك إلى سامرّاء لمواقفة المهتدي على كتابه! فلمّا حضر عنده قبض عليه ، فشغب أصحابه فقتله ورمى برأسه إليهم ، في رجب من هذه السنة (٢٥٦ ه‍).

وخرج أخو موسى أبو نصر بن بُغا بعسكره الموالي إلى خارج سامرّاء ، فوجّه إليه المهتدي بالأمان فلمّا صار إليه قتله! فتنكّر له الموالي وشغبوا عليه.

فخرج المهتدي لحربهم مع المغاربة والفراغنة والأشروسنية واستنصر العامة ، فهزموهم ، وأسروه وبه ضربات مثخنة ، فقتل لمنتصف شهر رجب سنة (٢٥٦ ه‍) وله أربعون عاماً.

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٩٧ ، ٩٨.


وكان مربوعاً حسن الجسم رحب الجبهة ، أشهل العينين قد طوّل لحيته ، عظيم البطن ، وأُمه رومية تسمّى قُرْب (١).

وقيل : إنّ المهتدي كتب إلى كل منهما بقتل الآخر ، وكل منهما أطلع الآخر على الكتاب إليه بذلك ، فلمّا رأيا ذلك تراجعا عن قتال مساور الشاري ، فأما موسى بن بُغا فانصرف إلى ظَهر سامرّاء متحرجاً عن قتال الخليفة المهتدي ، وأما بايكباك فإنه توجّه لقتاله ، فلمّا استشعر المهتدي رجوعهما خرج بعسكره من المغاربة والفراغنة وغيرهم إلى جسر سامرّاء لحرب بايكباك ، فكانت بين المهتدي وبين بايكباك حرب عظيمة قتل فيها خلق كثير من الناس ، وكان بايكباك قد قرّر القائد يارجوج التركي كميناً للمهتدي ، فلمّا استظهر المهتدي بعساكره على بايكباك خرج كمينه على المهتدي فولّى أصحابه ، فدخل سامرّاء مستغيثاً بالعامة يصيح بهم في الأسواق ومعه جمع من أنصاره ، ومضى آيساً إلى دار ابن خيعونة ليختفى فيه!

فهجموا عليه وحملوه منها إلى دار القائد يارجوج ، وقالوا له : ماذا تريد أن تفعل؟

فقال : أُريد أن أحمل الناس على سيرة الرسول و «أهل بيته»! والخلفاء الراشدين (٢).

فقيل له : إنّ الرسول كان مع قوم قد زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة ، وأنت إنّما رجالك ما بين تركي وخزري وفرغاني ومغربي من أنواع الأعاجم لا يعلمون ما يجب عليهم من أمر آخرتهم! وإنما غرضهم ما استعجلوه من هذه الدنيا! فكيف تحملهم على ما ذكرت من السيرة؟!

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣١٧ ، ٣١٨.

(٢) هذه من بوادر استعمال هذا اللقب لهم.


وكاد أن يتم أمرهم ، فقام فيهم سليمان بن وهب الكاتب أو غيره وقال لهم : هذا إن أعطاكم بلسانه فنيّته فيكم غير هذا! فسيأتي عليكم ويفرّق جمعكم! فلمّا سمعوا هذا تراجعوا عن توافقهم ، وأخرجوا له خناجرهم. وأكثر حنقهم عليه من قتله بايكباك التركي في الحرب أو بضرب عنقه.

وكان في أوائلهم ابن عم لبايكباك كان سكران قد ارتوى يومئذٍ من الخمر ، فكان أول من جرحه بخنجره في أوداجه. قال المسعودي : وهذا هو أشهر ما ذُكر لنا في قتل المهتدي ، وقيل : قُتل خنقاً ، وقيل : كبُس عليه بالبُسط والوسائد حتى مات ، وقيل : شُدّ بالحبال بين لوحين عظيمين حتّى مات ، وقيل : عُصرت خصيتاه حتّى مات. ثمّ ندموا من ذلك وداروا به يبكون له وينوحون عليه! ولم يدخل في فعل الأتراك هذا صاحب الدار يارجوج التركي ولا موسى بن بُغا. وذلك في نصف رجب سنة (٢٥٦ ه‍) وله ١٧ ذكراً و ٦ بنات (١).

المهتدي وخبر عن علي عليه‌السلام :

كان محمد بن علي الربعي من علماء أخبار الناس وأيامهم وحسَن المجلس ، فاتّخذه المهتدي ملازماً له حتى أنّه يبايته الليالي عنده ، فروى المسعودي عنه قال : سألني المهتدي ذات ليلة : أتعرف خبر نَوف (البكالي الكوفي) حين بايت علي بن أبي طالب؟ قلت له : نعم.

ذكر نوف قال : رأيت علياً رضى الله عنه ليلةً أكثر من الخروج والنظر إلى السماء ، وكنت رامقاً ، فقال لي : أنائم أنت يا نَوف؟ قلت له : بل ارمق بعيني منذ الليلة يا أمير المؤمنين. فقال لي : يا نَوف ، طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة!

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٩٩ ، ١٠٠.


أُولئك قوم اتخذوا أرض الله بساطاً وترابها سُباتاً وماءها طيباً ، والكتاب شعاراً والدعاء دثاراً. ثمّ قرضوا الدنيا قرضاً على منهاج المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام.

يا نَوف ؛ إنّ الله تعالى أوحى إلى عبده عيسى عليه‌السلام أن قل لبني إسرائيل أن لا يدخلوا إليّ إلّابقلوب وجلة وأبصار خاشعة وأكفّ نقيّة ، وأعلِمهم أني لا أُجيب لأحد منهم دعوة ولأحد من خلقي قِبلهم مظلمة!

فكتبه المهتدي بخطه ، فإذا بايتُّه سمعته في جوف الليل يبكي ويمرّ على الخبر يقرأه إلى آخره (١).

أيام أحمد المعتمد العباسي :

كان المهتدي خاف على نفسه من أبناء المتوكل ومنهم أحمد ، فكان قد حبسه عنده في جوسق القصر ، فلمّا حُبس المهتدي اخرج أحمد من حبسه في جوسق القصر ، فبايعه الأتراك وغيرهم ، ولُقّب بالمعتمد على الله ، ثمّ مات المهتدي (٢) لمنتصف شهر رجب سنة (٢٥٦ ه‍) ، فاتّخذ عبيدَ الله بن يحيى بن خاقان وزيراً وقلّده أُموره ، وكتب بالبيعة إلى الآفاق ، فبايع بخراسان محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر الخزاعي (مولاهم) وفي كور الفرات مالك بن طوق التغلبي ، وفي ديار ربيعة ومضر وجند قنّسرين أبو الساج بن ديوداد الأشروسني وبمصر أحمد بن طولون التركي.

وامتنع في فلسطين عيسى بن الشيخ الربعي الشيباني ، وكانت فلسطين من أعمال دمشق ، فوجّه المعتمد أماجور التركي في سبعمئة منهم إلى دمشق لقتال الربعي الشيباني ، فقدم أماجور إلى دمشق ، وزحف إليه عيسى بن الشيخ من

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٠٦ ، ١٠٧ (وذكره الرضي في نهج البلاغة).

(٢) مختصر تاريخ الدول : ١٤٧ ، ١٤٨.


فلسطين حتّى أناخ بباب دمشق وحاصرها ، فلمّا اشتد الحصار خرج أماجور وأصحابه ، وتقدم إليه خليفة عيسى أبو الصهباء ظفر بن اليمان وابن عيسى منصور ، فحمل عليهما أماجور وأصحابه ، فقتل منصور وأسر ظفر فقُتل وصلب ، وعاد عيسى إلى الرملة من فلسطين (١).

وغلب على أمره وتدبير ملكه وسياسة سلطانه أخوه أبو أحمد طلحة (٢) بن المتوكل الملقب بالموفق والناصر لدين الله ، وصيّره كالمحجور عليه فلا أمر ينفذ له ولا نهي ، وهو أهمل أُمور الرعية وتشاغل بلهوه ولذاته. أما الموفق فقد قام بأمر أخيه أحسن قيام فمن قرُب من الأعداء قمعه ومن نأى استصلحه ، على كثير ممّا كان يلقاه من اعتراض الموالي وسوء طاعتهم وشغبهم (٣).

مرّ خبر الكليني عن أحمد بن محمد بن عبد الله : أنّ المهتدي العباسي كان قد تهدّد العلويين عامة وأبا محمد العسكري عليه‌السلام خاصة يقول : والله لأُجلينّهم عن جديد الأرض (٤)!

ومرّ في آخر أخبار الشغب عليه وقتله : أنّ من قوّاد المغاربة المقتولين معه فيها : نصر بن أحمد الزبيري ، فلعلّه كان رسوله بتهديده إلى العسكري عليه‌السلام.

فقد أسند الكليني عن أحمد بن محمد بن عبد الله ـ وهو راوي التهديد السابق ـ قال : حين قُتل الزبيري خرج (توقيع) عن أبي محمد العسكري عليه‌السلام يقول : هذا جزاء من افترى على الله في أوليائه!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٧.

(٢) الملاحظ أن المتوكل سمّى اثنين من أبنائه بطلحة والزبير وهو المعتز ، ولم يسم أحداً منهم بعلي عليه‌السلام!

(٣) التنبيه والإشراف : ٣١٨.

(٤) أُصول الكافي ١ : ٥١٠ ، الحديث ١٦ باب مولد العسكري عليه‌السلام.


المعتمِد يسأل الإمام الاستسقاء :

كان ذلك آخر الخبر عن كتاب ابن عياش مشتملاً على إطلاق العسكري عليه‌السلام من سجن الجوسق الأحمر عند صالح بن وصيف الأحمر ، وجرت الكتب على ذلك ، حتى أرسل ابن الصباغ المالكي (٨٥٥ ه‍) عن أبي هاشم الجعفري أنّ بعد خبر إفطاره صومه بالكعكة سرّاً وإخبار الإمام له جهراً قال :

ثمّ لم تطل مدة أبي محمد الحسن عليه‌السلام في الحبس إلّاأن قحط الناس بسامرّاء قحطاً شديداً (١) فأمر الخليفة المعتمد على الله ابن المتوكل (٢) بخروج الناس إلى الاستسقاء ، فخرجوا ثلاثة أيام يدعون ويستسقون فلا يُسقون (وأين دجلة؟!).

وفي اليوم الرابع خرج الجاثليق (الكاثوليك) إلى الصحراء بالنصارى والرهبان (ولا عهد لنا بهم يخرجون لذلك من كنائسهم!) وكان فيهم راهب مدّ يده إلى السماء فهطلت بالمطر (فوراً بلا سحاب ولا برق ولا رعد؟!) وكذلك في اليوم الثاني. فعجب الناس من ذلك وداخلهم الشك وصبا بعضهم إلى النصارى والنصرانية! وبلغ ذلك الخليفة فشق عليه.

فأنفذ إلى صالح بن وصيف : أن أَخرج أبا محمد الحسن بن علي من السجن وآتني به! (كذا هنا فقط) فلمّا أُحضر أبو محمد الحسن عند الخليفة (المعتمد) قال له : أدرك أُمة جدك محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما لحق بعضهم من هذه النازلة بهم!

__________________

(١) فهل جفّت دجلة؟! ولم يُعلم ذكر ذلك في أي مصدر من مصادر تاريخ ذلك العهد.

(٢) كذا هنا ، وفي سائر المصادر : المتوكل ، وهو لا يعاصر العسكري عليه‌السلام فاكمل الخبر أخيراً بالمعتمِد بين حاصرتين!


(وأخبَره خبرهم) فقال عليه‌السلام : ادعهم (المسلمين والنصارى) يخرجون غداً. قال : قد استغنى الناس واستكفوا من المطر (فأين دجلة؟!) فما فائدة خروجهم؟ قال : لأُزيل عن الناس شكّهم وما وقعوا فيه من هذه الورطة التي أفسدت عقولاً ضعيفة.

فأمر الخليفة (المعتمِد) أن يخرج الناس والجاثليق والرهبان أيضاً يوماً ثالثاً! فخرج النصارى وخرج لهم أبو محمد الحسن ومعه المسلمون. فوقف النصارى وخرج ذلك الراهب ومدّ يديه إلى السماء للاستسقاء فغيّمت السماء في الوقت ونزل المطر!

فأمر أبو محمد الحسن بالقبض على يدي الراهب واكتشاف ما فيهما وأخذه! ففعلوا وإذا بين أصابعه عظم صغير ، فأخذه أبو محمد الحسن ولفّه وقال له : استسق مرّة أُخرى! فاستسقى فانكشف السحاب وانقشع الغيم وطلعت الشمس. فسأله الخليفة (المعتمِد) : ما هذا يا أبا محمد؟ قال : هذا عظم نبيّ ظفر به هؤلاء من قبر بعض الأنبياء! وما كشف عن عظم نبيّ تحت السماء إلّاهطلت بالمطر! فامتحنوه مرّة أُخرى فوجدوه كما قال عليه‌السلام (كذا هنا فقط).

ثمّ كلّم أبو محمد الحسن الخليفة لإخراج أصحابه الذين كانوا معه في السجن فأمر بإطلاقهم وإخراجهم!

وأقام أبو محمد الحسن بمنزله مبجَّلاً معظَّماً مكرَّماً! وعادت تصله صلات الخليفة وأنعامه إلى وفاته (١)!

__________________

(١) الفصول المهمة : ٤٤٣ ـ ٤٤٥ بتحقيق الحسيني ونشر المجمع العالمي لأهل البيت عليهم‌السلام ، منفرداً بهذه الكيفية!


مولود الموعود عليه‌السلام :

مرّ خبر الكليني عن أحمد بن محمد : أنّ المهتدي كان قد تهدّد العلويين عامة وأبا محمد العسكري عليه‌السلام خاصة يقول : والله لأُجلينّهم من جديد الأرض (١)!

ومرّ خبر أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري قال : كنت محبوساً مع أبي محمد العسكري عليه‌السلام في حبس المهتدي ابن الواثق (ففي آخر ليلة) قال لي : يا أبا هاشم ؛ إنّ هذا الطاغي (المهتدي) أراد أن يتعبّث (بأمر) الله في هذه الليلة (بقتله عليه‌السلام) وقد بتر الله عمره وجعله للقائم بعده (المعتمِد) وليس لي ولد وسأُرزق ولداً!

قال أبو هاشم : فلمّا أصبحنا شغب الأتراك على المهتدي فقتلوه (٢) في نصف رجب (٢٥٦ ه‍).

فهذا صريح في تأخر مولود الموعود المهدي عجّل الله فرجه عن مقتل المهتدي.

وفي كيفية ولادته عليه‌السلام سيأتي آنفاً طريقان من الصدوق نقلهما الطوسي عن غيره ، وزاد عليهما طريقين آخرين ، ثمّ جمع الأخبار الأربعة في خبر آخر كلها عن حكيمة بنت الجواد عليه‌السلام وكلها على أنَّ حمله كان كحمل أُم موسى عليه‌السلام بين عشية وصباحها بل وفجرها وليس ضحاها ، فلا مقتض لاحتساب مدة الحمل الطبيعي للعام القادم بعد مقتل المهتدي بل إنما بعد شهر منه في منتصف شعبان (٢٥٦ ه‍).

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥١٠ ، الحديث ١٦ ، باب مولد العسكري عليه‌السلام.

(٢) إثبات الوصية : ٢١٥ ، وكتاب الغيبة للطوسي : ٢٠٥ ، الحديث ١٧٣ و ٢٢٣ و ١٨٧ مكرراً.


وللشيخ التقي الشوشتري ملحقاً برجاله رسالة في تواريخ النبي والآل عليهم‌السلام ، ففي فصل مواليدهم يبحث في أخبار تاريخ مولود الموعود إلى أن يقول : وكيف كان فالأظهر هو القول الثاني (سنة ٢٥٦ ه‍) لكون رواياته خمسة ، بخلاف الأول (سنة ٢٥٥ ه‍) فليس فيه إلّاخبران. ثمّ يرد ترجيح النوري الأول بخبر الفضل بن شاذان عن محمد بن علي العباسي في رسالته في الغيبة ، بأنها بالوجادة وليست بالاسناد ، ثمّ يرد تأويل المجلسي لقول راوي الخبر الأول للكليني عن أحمد بن محمد بن عبد الله قال : وولد له ولد سماه محمداً سنة (٢٥٦ ه‍) (١) تركه المجلسي ونقله عن الصدوق والطوسي وفي بيانه قال : ربما يُجمع بينه وبين ما ورد من (٢٥٥) بكون السنة هنا ظرفاً لخروج التوقيع أو قتل الزبيري (٢) فقال الشيخ : لا وجه له لعدم حصر المعارض به (٣) فلانعارض الشيخ التقي ، وغفل كلهم عن مقتضى خبر أبي هاشم الجعفري ، فلم أعلم من نظر إليه في هذا الموضوع مع وضوحه.

خبر حكيمة بكيفية الولادة :

أسند الصدوق عن موسى بن محمد الموسوي عن حكيمة بنت محمد الجواد عليه‌السلام قالت : بعث إليّ أبو محمد الحسن العسكري عليه‌السلام قال : يا عمة اجعلي افطارك الليلة عندنا فإنها ليلة النصف من شعبان ، فإنّ الله تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة الحجة ، حجته في أرضه!

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥١٤ ، الحديث ١ ، باب مولد الصاحب وقبله في : ٣٢٩ ، الحديث ٥ ، باب النص عليه.

(٢) بحار الأنوار ٥١ : ٤ عن كمال الدين وغيبة الطوسي غفلةً عن الكافي في موردين.

(٣) قاموس الرجال : ١٢ ، رسالة التواريخ : ٢٤.


قالت : فقلت له : ومَن أُمُّه؟ قال لي : هي نرجس. قلت له : جعلني الله فداك ما بها أثر! فقال : هو ما أقول لك.

قالت : فلمّا جلست جاءت (نرجس) تنزع خُفّي! وقالت لي : يا سيدتي كيف أمسيتِ؟ فقلت لها : بل أنت سيدتي وسيدة أهلي! فقالت : ما هذا يا عمة! قالت : فقلت لها : يا بنية ؛ إنّ الله تعالى سيهب لك في ليلتك هذه غلاماً سيداً في الدنيا والآخرة! قالت : فخجلتْ واستحيتْ!

فلمّا أن فرغتُ من صلاة العشاء الآخرة أفطرتُ ، وأخذتُ مضجعي فرقدتُ ، فلمّا أن كان في جوف الليل قمت إلى الصلاة ، ففرغت من صلاتي ، ثمّ جلست معقّبة ثمّ اضطجعتُ ثمّ انتبهتُ وهي راقدة. ثمّ قامت فصلّت ونامت. وخرجت أنا أتأمل الفجر ، فإذا أنا بالفجر الأول كذنب الذئب السحران! وهي نائمة ، فدخلتني الشكوك (كذا)!

فصاح بي أبو محمد من المجلس (محلّ المجلس العام) فقال : لا تعجلي يا عمة! فهاكِ الأمر قد اقترب!

قالت : فجلست وقرأت الم السجدة ويس ، فبينا أنا كذلك إذ انتبهتْ (نرجس) فزعةً ، فوثبت إليها فقلت لها : اسم الله عليك! ثمّ قلت لها : أَتُحسّين شيئاً؟ قالت : نعم يا عمّة. فقلتُ لها : اجمعي نفسك وقلبك فهو ما قلت لك! فأخذتها فترة وأخذتني وانتبهت بحسّ سيدي! فكشفت الثوب عنه فإذا أنا به ساجداً يتلقى الأرض بمساجده ، فضممتُه إليّ فإذا أنا به نظيف متنظّف!

فصاح بي أبو محمد عليه‌السلام : هلّمي إليّ ابني يا عمة.

فجئت به إليه فوضع يديه تحت ظهره ووضع قدميه على صدره وأمرّ يده على عينيه وسمعه ومفاصله ثمّ أدلى لسانه في فيه ثمّ قال له : تكلّم يا بني ...


ثمّ أسند الصدوق عن محمد بن عبد الله الطهَوي عن حكيمة بنت محمد الجواد عليه‌السلام وفيه تفصيل القول عن خبر تزويج نرجس بالعسكري عليه‌السلام بإذن أبيه بل بأمره. وقالت : حتى مضى أبو الحسن الهادي وجلس أبو محمد مكان والده فكنت أزوره كما كنت أزور والده. فزرته يوماً .. وجلست عنده إلى وقت غروب الشمس فصحتُ بالجارية ، قلتُ لها : ناوليني ثيابي لأنصرف. فقال لي أبو محمد : لا يا عمتاه ، بِيتي الليلة عندنا ، فإنه سيولد الليلة المولود الكريم على الله عزوجل ، الذي يُحيي الله به الأرض بعد موتها! فقلت : ممّن يا سيدي ولست أرى بنرجس شيئاً من أثر الحبل! فقال : مِن نرجس لا من غيرها. قالت : فوثبت إليها فقلّبتها ظهراً لبطن فلم أرَ بها أثر حبل! فعدت إليه فأخبرته بما فعلتُ ، فتبسّم ثمّ قال لي : إذا كان وقت الفجر يظهر لك بها الحبل ؛ لأنّ مثَلها مثَل أُم موسى عليه‌السلام لم يظهر بها الحبل ولم يعلم بها أحد إلى وقت ولادتها ؛ لأنّ فرعون كان يشق بطون الحبالى في طلب موسى عليه‌السلام ، وهذا نظير موسى عليه‌السلام.

قالت حكيمة : فعدتُ إليها فأخبرتها بما قال ، وسألتها عن حالها فقالت : يا مولاتي ما أرى بي شيئاً من هذا! قالت حكيمة : فلم أزل أرقبها إلى (قبيل) وقت طلوع الفجر ، وهي نائمة بين يديّ لا تقلّب جنباً إلى جنب.

حتّى إذا كان وقت طلوع الفجر وإذا بها وثبت فزعة ، فضممتها إلى صدري وسمّيت عليها : «اسم الله عليك» وقلت لها : ما حالك؟ قالت : ظهر الأمر الذي أخبركِ به مولاي. وصاح بي أبو محمد قال لي : اقرئي عليها : «إنّا أنزلناه في ليلة القدر» فأقبلتُ اقرأ عليها كما أمرني. وأجابني الجنين من بطنها يقرأ مثل ما اقرأ وسلّم عليَّ! ففزعت لِما سمعت ، فصاح بي أبو محمد : لا تعجبي من أمر الله عزوجل! إنّ الله تبارك وتعالى يُنطقنا بالحكمة صغاراً ، ويجعلنا حججاً في أرضه كباراً.


فلم يستتم كلامه حتّى غُيّبتْ عني نرجس فلم أرها! كأنّه ضُرب بيني وبينها حجاب!

فغدوت إلى أبي محمد وأنا صارخة! فقال لي : ارجعي يا عمة فإنك ستجديها في مكانها! قالت : فرجعتُ فلم ألبث أن كُشف الغطاء الذي كان بيني وبينها ، وإذا أنا بها وعليها من أثر النور ما غشي بصري ، وإذا أنا بالصبي ساجداً لوجهه جاثياً على ركبتيه رافعاً سبّابته يقول ....

فصاح بي أبو محمد قال : يا عمّة تناوليه وهاتيه ، فتناولتُه وأتيت به نحوه ، فلمّا مَثُلت به بين يدي أبيه وهو على يدي ، سلّم على أبيه! فتناوله الحسن عليه‌السلام منّي .. ثمّ قال : امض به إلى أُمه لترضعه وردّيه إليّ. فتناولته امه فأرضعته ، ورددته إلى أبي محمد عليه‌السلام (١).

ورواهما الطوسي عن غير الصدوق ، بدأ بخبر الطهَوي باسم أبي عبد الله المطهري ، وباختلاف في أطراف الخبر منه في ذكر السنة : (٢٥٥ ه‍) ومنه في اسمها «سوسن». وثنّى الطوسي بخبر موسى بن محمد بن القاسم باسم موسى بن محمد بن جعفر (سهواً) وثلّت باسناده إلى محمد بن إبراهيم عن حكيمة بمثل معنى الخبر الأول (المطهري) مع ذكر التاريخ كذلك ، وفيه زيادة : فلمّا كان اليوم الثالث اشتد شوقي إليه فأتيته عائدة فبدأت بحجرتها فإذا أنا بها جالسة وعليها أثواب صُفر كالمرأة النُفساء معصبة الرأس ، فسلّمت عليها والتفتّ إلى جانب البيت ، وإذا بمهد عليه أثواب خضر ، فعدلت إليه ورفعت عنه الثوب فإذا أنا بولي الله نائم على قفاه بلا قماط ولا حزام ، وفتح عينيه وجعل يناجيني باصبعه ، فتناولته وأدنيته إلى فمي لأُقبّله فشممت منه رائحة ما شممت قط أطيب منها!

__________________

(١) كمال الدين : ٤٢٤ ـ ٤٢٨.


ثمّ أسند الطوسي رابعاً عن محمد بن علي بن بلال (بن راشتة المتطبّب) عن حكيمة مثله.

ثمّ قال : وفي رواية عن جماعة الشيوخ عن حكيمة حدثت بالحديث (١) ويظهر لي من الخبر أن جماعة الشيوخ هم الرواة السابقون الأربعة ، فهو جمع لأخبارهم ، وليس طريقاً خامساً.

وأسند الصدوق عن أحمد بن محمد السياري البصري عن نسيم ومارية قالتا : لمّا خرج صاحب الزمان عليه‌السلام من بطن أُمه سقط جاثياً على ركبتيه رافعاً سبابته نحو السماء وعطس فقال : الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمد وآله ، عبداً داخراً لله ، غير مستنكف ولا مستكبر. زعمت الظلمة أنّ حجة الله داحضة (٢)! ممّا يدل على حضورهن ومباشرتهن لمولده عليه‌السلام وعدم حصره في حكيمة ونرجس.

وأسند عن محمد بن عثمان العمري قال : لمّا ولد السيّد عليه‌السلام بعث أبو محمد عليه‌السلام إلى أبي (أبي عمرو = عثمان بن سعيد) فصار إليه فأمره أن يشتري عشرة آلاف رطل خبزاً ومثله لحماً ، ويعق عنه بكذا وكذا شاةً ، ويفرّقها على بني هاشم (٣).

وأسند عن إبراهيم بن محمد الموسوي عن أحمد بن محمد السياري

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٢٣٤ ـ ٢٣٩ ، الحديث ٢٠٤ ـ ٢٠٧.

(٢) كمال الدين : ٤٣٠ ، الحديث ٥ ، وقبله في الهداية الكبرى : ٧٠ ، وإثبات الوصية : ٢٢١ وبعده في كتاب الغيبة للطوسي : ٢٤٤ ، الحديث ٢١١ عن كتاب أخبار القائم عليه‌السلام لعلي بن محمد الكليني الرازي المعروف بعلّان.

(٣) كمال الدين : ٤٣٠ ، ٤٣١ ، الحديث ٦.


البصري عن نسيم خادمة أبي محمد عليه‌السلام قالت : دخلتُ على صاحب الزمان بعد مولده بليلة فعطستُ عنده ، فقال لي : يرحمكِ الله! ففرحت بذلك فقال لي : ألا أُبشّركِ في العطاس؟ قلت : بلى يا مولاي ، فقال : هو أمان من الموت ثلاثة أيام (١).

وأسند الصدوق عن أبي هارون قال : رأيت صاحب الزمان وكشفت ثوبه عنه فوجدته مختوناً! فسألت أبا محمد عليه‌السلام فقال : هكذا وُلد وهكذا وُلدنا ، ولكنّا نُمرّ عليه الموسى لإصابة السنّة وإصابة السنة على السابع من المولد ، فيظهر أنّ الخبر كان قبل تمام الأُسبوع الأول.

وقبله أسند عن الحسن بن الحسين العلوي (الحسني) : أنّه دخل عليه فهنّأه بولادة ابنه (٢).

ورواه الطوسي عن الكليني (وليس في الكافي) رفعه عن نسيم خادمة أبي محمد عليه‌السلام قالت : دخلتُ على صاحب الزمان عليه‌السلام بعد مولده بعشر ليال فعطست عنده .. (٣).

أحداث عام (٢٥٧ ه‍):

قال اليعقوبي : في شهر ربيع الآخر سنة (٢٥٧ ه‍) وجّه المعتمِد بالحسين الخادم المعروف بعِرق الموت إلى عيسى بن الشيخ الربعي الشيباني المتغلّب على

__________________

(١) كمال الدين : ٤٣٠ ذيل الحديث ٥ و ٤٤١ ، الحديث ١١ مكرراً.

(٢) كمال الدين : ٤٣٤ ، الحديث ١ والحديث ١ في بابين والأخير في الطوسي بسندين : ٢٢٩ ، الحديث ١٩٥ و ٢٥١ والحديث ٢٢١.

(٣) كتاب الغيبة للطوسي : ٢٣٢ ، الحديث ٢٠٠ ويبعد التكرار ، فالأَول أولى وله طريقان.


فلسطين ، بأمان على نفسه وماله وولده والصفح عمّا كان منه وتوليته أرمينية ؛ وتسليم ما في يده إلى عامل دمشق أماجور التركي ، فسلّمها إليه من دون أن يردّ من الأموال شيئاً ، وشخص من البلد إلى أرمينية للولاية عليها في جمادى الآخرة عام (٢٥٧ ه‍).

وكانت أُمور مصر بيد بايكباك التركي وقد قُتل ، فصيّر المعتمد ما كان إليه من أعمال مصر وغيرها إلى يارجوج التركي ، فكتب يارجوج إلى أحمد بن طولون التركي عامل مصر بإقراره على ما كان يتولى منها. فحمل أحمد بن طولون ما كان حاصلاً في بيت المال بمصر وكان مبلغه ألفي ألف (مليون) ومئة ألف درهم ، وحمل الطراز والخيش والشمع وقاد الخيل حتى سلّمها إلى أماجور التركي بدمشق ، وأشهد به عليه وعاد إلى الفسطاط. وكان على الاسكندرية إسحاق بن دينار ، فكتب المعتمد إلى أحمد بن طولون بولاية الاسكندرية ، فشخص إليها في شهر رمضان سنة (٢٥٧ ه‍).

وكان على خراج مصر أحمد بن محمد بن المدبّر ، فصرفه المعتمد إلى خراج الشامات ، وولّى خراج مصر أحمد بن محمد الشجاع ابن اخت الوزير ، فقدِم الفسطاط في شهر رمضان عام (٢٥٧ ه‍).

وكان على بريد مصر أبو صحبة سفير الخادم ، فعزله المعتمد وولّى مكانه أحمد بن الحسين الأهوازي ، فقدمها في شوال عام (٢٥٧ ه‍).

وفي هذه السنة وجّه أحمد بن طولون مع حُجّاج مصر ألف فارس مع ماطعان التركي ، وأمره أن يدخل المدينة وحتى مكة بالسلاح والتعبئة ، فوافاهما وحتّى في عرفات بالأعلام والطبول والسلاح (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٨ ، ٥٠٩.


وعن صاحب الزنج بالبصرة :

قال اليعقوبي : زحف الخارج بالبصرة علي بن محمد المدّعي إلى آل أبي طالب ، زحف إلى الأُبلّة فنهبها وأخربها وأحرقها بالنار. فتوجّه إليه سعيد بن صالح فواقعه بنهر أبي الخصيب (١).

وفي آخر سنة (٢٥٧ ه‍) دخل المدّعي العلوي البصرة وحرّق المسجد الجامع ونهب بها ، فتوجّه إليه محمد المولّد التركي ، فلمّا بلغه الخبر خرج منها.

وفي أوائل سنة (٢٥٨ ه‍) دخل محمد المولّد التركي البصرة ، ولم يبقَ من أصحاب المدّعي العلوي بها أحد ، وكان أهلها قد خرجوا منها خوفاً منهم فعادوا فلم يجدوا منزلاً يُسكن (٢)!

وفي أول ربيع الأول سنة (٢٥٨ ه‍) خلع المعتمد على أخيه أبي أحمد الموفّق وعلى مفلح التركي معه ، ليشخصا إلى البصرة لحرب صاحب الزنج ، ففي منتصف جمادى الأُولى أوقع مفلح التركي به ، ولكنه أصابه سهم في صُدعه فنزف الليل حتى مات صباحاً. فانصرف أبو أحمد الموفّق عن حربه وحمل مفلحاً معه إلى سامرّاء فدفنه بها (٣) فاستولى صاحب الزنج على عبّادان بالأمان ، ثمّ على الأهواز عنوة بالسيف (٤).

ونقل السيوطي عن الصولي قال : كان يصعد المنبر بالبصرة فيسبّ طلحة والزبير وعائشة ، ولا يسبّ الشيخين ، ويسبّ عثمان ومعاوية حتى علياً عليه‌السلام

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٧.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٩.

(٣) مروج الذهب ٤ : ١١١.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢٦.


وفي يوم واحد قَتل بالبصرة ثلاثمئة ألف آدمي ، ومنهم علويون ، ويسبون نساءهم وبناتهم حتّى أنّه كان عند الزنجي الواحد منهم عشرة من العلويات يستخدمهن ويطأهنّ ، ويُنادي عليهن في عسكره بثلاثة دراهم وحتّى بدرهمين!

قال : واستمر القتال معه منذ تولّى المعتمد سنة (٢٥٦ ه‍) دخلوا البصرة فبذلوا السيف وأحرقوا وخرّبوا وسبَوا ، وجرى بينهم وبين عساكر المعتمِد عدة وقعات وفي أكثرها أمير عسكر المعتمد أخوه الموفّق.

وأعقب ذلك الوباء الذي كان لا يتخلّف عن الملاحم الكبرى بالعراق ، فمات به خلق لا يُحصون كثرةً! ثمّ أعقبته زلازل وهدّات ، فمات تحت الردم أُلوف من الناس (١).

وفي اليعقوبي : في سنة (٢٥٨ ه‍) وقع بالعراق الوباء فمات منه خلق كثير : حتّى يقال إنه مات ببغداد في يوم واحد اثنا عشر ألف إنسان ، كان الرجل يخرج من منزله فيموت قبل عودته!

وفيها (٢٥٨ ه‍) توجّه أبو أحمد الموفّق إلى المدّعي العلوي بالبصرة في جيش كثيف ، وكان العسكر والزاد والسلاح في السفن ، فوقعت النار في السفن فاحترقت ، فعاد الموفّق أدراجه (٢).

العسكري عليه‌السلام في مشايعة الموفّق :

متزامناً مع ما مرّ من خروج المعتمد في أول ربيع الأول عام (٢٥٨ ه‍) لمشايعة أخيه الموفّق خارجاً بجيشه لمواجهة صاحب الزنج بالبصرة ، كانوا قد

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٢٥ و ٤٢٦.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥١٠.


أخرجوا معهم العسكري عليه‌السلام. وكان وفد من شيعته من أهل الأهواز قد وفدوا إليه إلى سامراء وصادف وصولهم خروج الإمام عليه‌السلام مع موكب المعتمد للموفّق.

فروى الحسن بن سهل النوبختي عن علي بن محمد بن الحسن قال : وافت جماعة من أصحابنا من الأهواز وخرج السلطان إلى صاحب البصرة (!) وخرج أبو محمد عليه‌السلام ماضياً معه ، وخرجنا نريد النظر إليه فنظرنا إليه ماضياً مع السلطان ، وقعدنا ننتظر رجوعه. وكان عليه قلنسوة ، فلما قرب منا وحاذانا مدّ يده إلى قلنسوته فأخذها عن رأسه وأمسكها بيده وأمرّ يده الأُخرى على رأسه والتفت إلى رجل منا وضحك في وجهه! فبادر الرجل يقول : أشهد أنك حجة الله وخيرته!

فقلنا له : ما شأنك؟ قال : كنت شاكاً فيه فقلت في نفسي : إن رجع وأخذ قلنسوته عن رأسه قلت بإمامته (١).

العسكري عليه‌السلام والطالبيون في سجن المعتمد :

نقل الطبرسي عن ابن عياش قال : كان المعتز حبس أبا محمد العسكري عليه‌السلام مع عدة من الطالبيين منهم أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري في سنة (٢٥٨ ه‍) (٢) والمعتز إنما كان إلى (٢٥٥ ه‍) ثمّ المهتدي إلى (٢٥٦ ه‍) ثمّ المعتمد. فالظاهر أنّ المعتز هنا مصحف عن المعتمد. قال ابن عياش ذلك معلّقاً به على خبر رواه وظاهره أنّ العسكري عليه‌السلام حينئذ كان خارج السجن وليس معه :

أسند الخبر عن أبي هاشم نفسه قال : شكوت إلى أبي محمد عليه‌السلام ضيق الحبس وثقل القيد! فكتب إليّ : «تصلّي الظهر اليوم في منزلك» فلمّا صار الظهر

__________________

(١) إثبات الوصية : ٢٤٦ وعيون المعجزات : ١٣٩ والخرائج والجرائح ١ : ٤٤٤ الحديث ٢٦ وكشف الغمة ٤ : ٩٨ عن دلائل الإمامة للحميري.

(٢) إعلام الورى ٢ : ١٤٠.


اخرجتُ فصلّيت في منزلي. وكنت مضيّقاً (مالياً) فأردت أن أطلب منه في كتابي دنانير فاستحييت ، فلمّا صرت إلى منزلي وجّه إليّ بمئة دينار وكتب إليّ : «إذا كانت لك حاجة فلا تستح ولا تحتشم واطلبها ، فإنك ترى ما تحب» (١).

أحداث عامي (٢٥٨ ه‍) و (٢٥٩ ه‍):

وكان جمع من الطالبيين من المدينة توجهوا إلى مصر ، ففي جمادى الآخرة من هذه السنة (٢٥٨ ه‍) أمر أحمد بن طولون التركي المصري بجمعهم وإخراجهم إلى المدينة ، وأراد أحدهم من ولد العباس بن علي عليه‌السلام أن يتوجّه إلى المغرب ، فأخذه ابن طولون وضربه مئة وخمسين سوطاً وأطافه بالفُسطاط!

ثمّ أخذ ابن طولون الجند والشاكرية والموالي والناس بالبيعة له دون المعتمد.

وفي شهر رمضان (٢٥٨ ه‍) وجّه المعتمد شنيف الخادم مولى المتوكل إلى الروم لمفاداة الأسرى المسلمين لديهم ، فاجتمعوا بنهر اللامس ، وشرط الروم هدنة أربعة أشهر ، فتوافقوا وتفادَوا.

وكان الأعراب من حول المدينة من بني سليم وبني هلال وغيرهم من بطون قيس ، يقطعون الطرق على الحجّاج ويسلبونهم أمتعتهم ، ففي سنة (٢٥٩ ه‍) نال أهل البادية زلازل ورياح وظلمات ، فهربوا إلى مكة والمدينة يستجيرون بالكعبة وبقبر رسول الله ، وأحضروا معهم بعض أمتعة الحجاج ممّن قطعوا عليهم طريقهم ، وهلك منهم في البادية خلق عظيم (٢).

__________________

(١) إعلام الورى ٢ : ١٤٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥١٠ ، ٥١١. هذا وهيئة الناهين عن المنكر لم يستنكروا عليهم ذلك!


الحُجة والجدّة إلى الحج :

روى محمد بن الحسن الصفّار القمي (٢٧٩ ه‍) أنّ أبا محمد العسكري عليه‌السلام ذات يوم من أيام سنة (٢٥٩ ه‍) أحضر والدته السيّدة سليل وقال لها : في سنة ستين ومئتين (٢٦٠ ه‍) تصيبني حزازة أخاف أن انكب منها نكبة!

فأخذها البكاء وأظهرت الجزع فقال لها : لابدّ من وقوع أمر الله ، فلا تجزعي (١) ثمّ أمرها بالحجّ في سنة (٢٥٩ ه‍) مع الصاحب عليه‌السلام. وأحضره وأوصى إليه وسلّم إليه الاسم الأعظم والسلاح والمواريث.

ثمّ أحضر أبا علي أحمدَ بن محمد بن مطهّر ووكّله وولّاه قافلتهم إلى الحج ، فخرجت أُم أبي محمد مع الصاحب عليه‌السلام جميعاً إلى مكة ، والوكيل عليهم والمتولي لأُمورهم أبو علي ابن المطهر.

فلمّا وصلوا إلى بعض المنازل لقيتهم قوافل من الأعراب ، فعرّفوهم بقلة الماء وشدة الخوف ، فانصرف أكثر الحجاج عن الحج لتلك السنة (٢).

ويظهر من الخبر اللاحق أنّ ذلك كان بالقادسية من العراق إلى صحراء الحجاز :

أسند الكليني عن ابن مطهّر أنّه في سنة القادسية كتب منها إلى أبي محمد العسكري عليه‌السلام يُعلمه انصراف الناس عن الحج وأنهم يخافون العطش! فكتب إليه بجوابه : «امضوا فلا خوف عليكم إن شاء الله» فمضوا سالمين ، والحمد لله رب العالمين (٣).

__________________

(١) بصائر الدرجات : ٤٨٢ ، الحديث ٨.

(٢) إثبات الوصية للمسعودي : ٢٤٨ وعن عيون المعجزات في بحار الأنوار ٥٠ : ٣٣٦ ، الحديث ١٣ ، وانظر ترجمته في قاموس الرجال ١ : ٦٤٦ برقم ٥٨٢.

(٣) أُصول الكافي ١ : ٥٠٧ ، ٥٠٨ ، الحديث ٦ ، باب مولد العسكري عليه‌السلام.


الوزير ابن خاقان والعسكري عليه‌السلام :

قال المسعودي : لمّا أفضت الخلافة إلى المعتمِد على الله استوزر عبيدَ الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل سابقاً (١).

فروى الكليني عن ابنه أبي بكر أحمد بن عبيد الله وهو على الخراج والضياع بقم ، قال : إني كنت يوماً قائماً على رأس أبي وهو في يوم مجلسه للناس ، إذ دخل عليه حُجّابه فقالوا له : أبو محمد ابن الرضا بالباب. فرفع صوته وقال : ائذنوا له! ولم يكن يكنّى عند أبي إلّاخليفة أو وليّ عهد أو من أمر السلطان أن يكنّى ، فتعجّبت من أنهم جسروا على أن يكنّوا رجلاً عند أبي بحضرته!

فدخل رجل أسمر حسن القامة جميل الوجه جيّد البدن ، حدث السنّ ولكن له جلالة وهيبة! ولمّا نظر إليه أبي قام يمشي إليه خُطا ، وما رأيته يفعل ذلك بأحد من القواد وبني هاشم (بني العباس) فلمّا دنا منه عانقه وقبّل وجهه وصدره ، وأخذ بيده وأجلسه على مصلّاه الذي كان هو عليه ، وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجهه ، وأخذ يكلّمه ويفدّيه بنفسه ، وأنا متعجب ممّا أرى منه!

إذ دخل عليه الحاجب فقال له : الموفّق قد جاء! فلم يزل أبي مقبلاً على أبي محمد العسكري يحدثه ، حتى رأى الغلمان من خاصة قوّاد الموفّق دخلوا ووقفوا سِماطين بين باب الدار إلى مجلس أبي ، فحينئذٍ قال أبي لأبي محمد : إذا شئت جعلني الله فداك (أن تخرج) ثمّ قال لحجّابه : خذوا به خلف السِماطين حتى لا يراه هذا! يعني الموفّق. فقام وقام أبي وعانقه ومضى.

فسألت حجّاب أبي : ويلكم مَن هذا الذي كنّيتموه على أبي! وفعل به أبي هذا الفعل إكراماً!

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١١١ ، والتنبيه والإشراف : ٣٢٠.


فقالوا : هذا علوي يقال له : الحسن بن علي ، يُعرف بابن الرضا ، فازددت تعجباً.

ثمّ لم أزل يومي ذلك قلقاً متفكّراً في أمره وأمر أبي وما رأيت فيه! حتّى كان الليل ، فلمّا صلّى وجلس على عادته لينظر فيما يحتاج إليه من المشاورات وما يرفعه إلى السلطان ، جئت إليه وليس عنده أحد وجلست بين يديه ، فقال لي : يا أحمد ألك حاجة؟ قلت : نعم .. مَن الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والتبجيل والكرامة ، وفدّيته بنفسك وأبويك؟

فقال : يا بُني ؛ ذاك إمام «الرافضة» ذاك الحسن بن علي المعروف بابن الرضا .. ثمّ قال : يا بُني ، لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غير هذا! وإنّ هذا ليستحقها في فضله وعفافه ، وهَدْيه وصيانته ، وزهده وعبادته ، وجميل أخلاقه وصلاته! ولو رأيت أباه لرأيت رجلاً جزلاً نبيلاً فاضلاً! فاستزدته في قوله فيه ما قال! أي حسبته زائداً مبالغاً!

ثمّ ما سألت أحداً من بني هاشم (بني العباس) والقواد والكتّاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلّاوجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام والمحل الرفيع والقول الجميل ، والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخهم! فعظم قدره عندي ، إذ لم أر له ولياً ولا عدواً إلّاوهو يحسن القول فيه والثناء عليه (١).

ترحّم الإمام على ابن شاذان :

سيأتي ذكر وفاة العسكري عليه‌السلام في الثامن من شهر ربيع الأول سنة (٢٦٠ ه‍) ، وفيما يلي أخبار عنه عليه‌السلام بترحُّمه على الفضل بن شاذان بن خليل

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥٠٣ ، ٥٠٤ ، الحديث ١ ، باب مولد العسكري عليه‌السلام.


النيشابوري الخراساني ، ممّا يُعلم منه كما يأتي وفاته قبل إمامة العسكري عليه‌السلام في أوائل عام (٢٦٠ ه‍) ، فهنا نقف على طرف من أخباره وترجمته :

كان يروي عن أبيه شاذان بن خليل ، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على علوّ كعبه وعراقته في التشيع ، وعن إسماعيل بن سهل وأبي داود المسترق ، وإبراهيم بن عاصم أو هاشم وأبي هاشم داود بن القاسم الجعفري وابن أبي نجران. والحسن بن علي بن فضّال والحسن بن محبوب وصفوان بن يحيى وعثمان بن عيسى وعلي بن الحكم وعمارة بن المبارك وفضالة بن أيوب والقاسم بن عروة. ومحمد بن أبي عمير ومحمد بن الحسن الواسطي ومحمد بن سنان (١).

وهو في أواخر عهده كان يقول : مضى هشام بن الحكم رحمه‌الله وكان يونس بن عبد الرحمان خلفاً له يرد على المخالفين ، ثمّ مضى يونس بن عبد الرحمن ولم يخلّف خلفاً سوى السكّاك فردّ على المخالفين حتّى مضى رحمه‌الله ، وأنا أدركت صفوان بن يحيى ومحمد بن أبي عمير وغيرهما فأنا خلف لهم من بعدهم رحمهم‌الله (٢).

فدعا به عبد الله بن طاهر الخزاعي (مولاهم) الخراساني والي خراسان العباسي وأمر أن يَكتب له ما يستعلم به كتبه ـ وهي أكثر من مئة وخمسين كتاباً ـ فكتب له بخطه : نخبة الإسلام الشهادتان ، ثمّ ما يتلوهما. فذكر ابن طاهر أنّه يحبّ أن يقف على قوله في السلف ، فقال أبو محمد الفضل : أتولّى أبا بكر ، ولكنّي أتبرّأ من عمر! قال : ولِمَ تتبرّأ من عمر؟! قال متخلّصاً به : لإخراجه العباس من الشورى! ومع ذلك نفاه من نيشابور (٣) فخرج إلى رستاق بيهق (٤).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٥٤٣ ، ٥٤٤ ، الحديث ١٠٢٩.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٥٣٩ ، الحديث ١٠٢٥.

(٣) المصدر السابق : ٥٣٩ ، الحديث ١٠٢٤.

(٤) المصدر السابق : ٥٤٣ ، الحديث ١٢٢٨.


وكان أحد كتبه مع رجل من أهل البوزجان من نيشابور وجّهه أبو محمد الفضل عنه إلى أبي محمد العسكري عليه‌السلام ، فذكر أنه دخل عليه فلما قضى أمره وأراد الخروج وقد لفّ الكتاب في رداء له في حضنه فسقط منه الكتاب فتناوله أبو محمد عليه‌السلام ونظر فيه وقال : «إني أغبط أهل خراسان بمكان الفضل بن شاذان وكونه بين أظهرهم» ثمّ ترحّم عليه! (كذا) (١).

وكأنّ خبر استدعائه من قِبل عبد الله بن طاهر كان قد بلغ إلى عدة من المشايخ منهم محمد بن عيسى العُبيدي على أنّ أبا محمد الفضل قد حُبس فكانوا مغتمين محزونين! رآهم هكذا بُورق البوشخاني الهروي في طريقه إلى الحج. قال : فحججت ورجعت فوجدت محمد بن عيسى قد انجلى عنه ما كنت رأيته به ، فسألته عن الخبر قال : قد خُلّي عن أبي محمد الفضل.

قال بورق : وكان معي «كتاب يوم وليلة» من الفضل ، فخرجت به إلى سامرّاء فدخلت به على أبي محمد وأريته ذلك الكتاب وقلت له : جعلت فداك ، إن رأيت أن تنظر فيه! فتصفّحه ورقة ورقة ونظر فيه ثمّ قال : هذا صحيح ينبغي أن يُعمل به!

قال : وكان الفضل معتلاً شديد العلة من بطنه حتى أنه يختلف إلى الخلوة في الليلة مئة مرة إلى مئة وخمسين مرة! فقلت لأبي محمد عليه‌السلام : إنّ الفضل بن شاذان شديد العلة ويقولون إنها من دعوتك عليه لموجدتك عليه ، لما ذكروا عنه أنّه قال : إنّ وصيّ إبراهيم عليه‌السلام خير من وصيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يقل ذلك بل إنما كذبوا عليه هكذا!

فقال : نعم ، رحم الله الفضل!

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٥٤٢ ، الحديث ١٠٢٧.


قال بورق : فلمّا رجعت إلى نيشابور وبيهق وجدته قد توفي في الأيام التي قال أبو محمد العسكري : رحم الله الفضل (١).

وكان الفضل بن شاذان في روستاق بيهق ، فورد خبر توجّه الخوارج إليهم ، فهرب منهم ، فأصابته خشونة السفر فاعتل ومات منه ، وصلّى عليه أبو علي أحمد بن يعقوب البيهقي (٢).

وانتشر خبر كتاب كتبه عبد الله بن حمدويه البيهقي في الفضل بن شاذان إلى أبي محمد العسكري عليه‌السلام ، وأنّه أجابهم بما فيه تهديد بالدعاء عليه! وكتب نسختها أبو الحسن علي بن محمد بن قتيبة نحو صفحتين (٣).

فكتب أبو عمرو محمد بن عمر الكشي إلى أبي علي أحمد بن يعقوب البيهقي يسأله عن التوقيع الذي خرج في الفضل بن شاذان وأنّ المولى العسكري لعنه لقوله بالتجسيم!

فكتب إليه أبو علي البيهقي قال : أما ما سألت من ذكر التوقيع .. فإني أُخبرك أنّ ذلك باطل ، وإنّما كان مولانا عليه‌السلام قد أنفذ إلى نيشابور «وكيلاً» من العراق يُدعى أيوب بن الناب ليقبض حقوقه. وكان في نيشابور قوم من الشيعة ممّن يذهب مذهب الارتفاع والغلو والتفويض. فكأن هؤلاء شكوا إليه أنّ الفضل بن شاذان يزعم أنه ليس عن الإمام ويمنع الناس من إخراج حقوق الإمام إليه! وكتب هؤلاء بهذا إلى الإمام ، وكتب الوكيل بذلك كذلك ، وليس فيه الاتهام بالتجسيم.

وأنّ أبا علي البيهقي قرأ صورة توقيع الإمام عليه‌السلام الخارج على يد المعروف

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٥٣٧ ، ٥٣٨ ، الحديث ١٠٢٣.

(٢) المصدر السابق : ٥٤٣ ، ذيل الحديث ١٠٢٨.

(٣) المصدر السابق : ٥٣٩ ـ ٥٤١ ، الحديث ١٠٣٦.


بالدهقان في بغداد ، والتوقيع في جواب كتاب عبد الله بن حمدويه البيهقي ، وهو هكذا فقط :

«ما للفضل بن شاذان ولمواليّ يؤذيهم ويكذّبهم؟! وإني لأحلف بحق آبائي! لئن لم ينته الفضل بن شاذان عن هذا لأرمينّه بمرماة لا يندمل جرحه منها في الدنيا ولا في الآخرة»!

وإنما انتشر هذا التوقيع في سنة ستين ومئتين بعد موت الفضل بن شاذان بشهرين (١). ويظهر من الخبر أنّه كان قبيل وفاة العسكري عليه‌السلام بقليل.

ثمّ دافع الكشي عن الفضل فقال : إنّ بعض من يخالف الفضل وقف على هذا التوقيع ، فكان أن طابت نفسه وقال : هذا إمامه قد أوعده وهدّده وكذّب بعض ما وصف.

فقلت له : أما هذا التوقيع فقد عاتب فيه الجميعَ عامة وعاتب الفضلَ خاصة وأدّبه ليرجع عمّا عسى قد أتاه مَن ليس بمعصوم وأوعده نعم ولكن لم يفعل شيئاً من ذلك ، بل ترحّم عليه. وأبو محمد الفضل رحمه‌الله لم يَعرض له بمكروه بعد هذا العتاب.

ثمّ أشار الكشي إلى التشكيك في صحة انتساب هذه الرقعة إلى العسكري عليه‌السلام فقال :

على أنّ هذه الرقعة ممّا كتب به إلى إبراهيم بن عبده ، وكل ما كتب إليه ـ ذُكر ـ أنّ مخرجه من ناحية العمري ، والله المستعان.

ثمّ قال الطوسي المختار من كتاب الكشي : قيل : إنّ للفضل مئة وستين مصنّفاً ، وذكرنا بعضها في «كتاب الفهرست» (٢).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٥٤٢ ، ٥٤٣ ، الحديث ١٠٢٨.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٥٤٤ ، الحديث ١٠٢٩.


أيام مرض الإمام عليه‌السلام :

جاء في خبر الكليني عن أحمد بن عبيد الله بن الخاقان : أنّ العسكري عليه‌السلام لمّا اعتلّ بعث أخوه جعفر بن علي إلى أبي (عبيد الله بن الفتح بن خاقان) : أنّ ابن الرضا (العسكري) قد اعتلّ ، فركب أبي (عبيد الله الوزير) من ساعته إلى دار الخلافة ثمّ رجع مستعجلاً ومعه خمسة من خدم أمير المؤمنين (المعتمد العباسي) كلّهم من ثقاته وخاصّته فيهم نحرير الخادم ، فأمرهم بلزوم دار الحسن عليه‌السلام وتعرّف خبره وحاله. وبعث إلى نفر من المتطبّبين فأمرهم بالاختلاف إليه وتعاهده صباحاً ومساءً.

فلمّا كان بعد ذلك بيومين أو ثلاثة أُخبر أنّه قد ضعف ، فأمر المتطبّبين بلزوم داره ، وبعث إلى قاضي القضاة (الحسن بن محمد بن أبي الشوارب الأُموي) فأحضره مجلسه وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممّن يوثق به في دينه وأمانته وورعه! فأحضرهم ، فبعث بهم إلى دار الحسن عليه‌السلام وأمرهم بلزومه ليلاً ونهاراً (١).

خبر أبي الأديان البصري :

من مشايخ الرواية للصدوق : محمد بن الحسين بن عبّاد ، وجد الصدوق لديه كتاباً مصنفاً في أخبار التواريخ ، وسمع روايته عنه.

ومن أخباره ما رواه عن أبي الحسن علي بن محمد بن حُباب (أو خشاب) عن أبي الأديان البصري قال : كنت أحمل كتب الحسن بن علي بن الرضا عليه‌السلام إلى الأمصار ، وكتب كتباً وأرسل عليَّ فدخلت عليه وإذا به في علّته ، فناولني الكتب وقال لي : امضِ بها إلى المدائن (؟) وستغيب خمسة عشر يوماً ، وفي اليوم الخامس عشر تدخل سامرّاء ، فتسمع الواعية في داري وتجدني على المغتسل.

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥٠٣ ، ٥٠٤ ، الحديث ١ ، باب مولد العسكري عليه‌السلام.


قال أبو الأديان : فقلت : يا سيدي ، فإذا كان ذلك فمن؟ قال : مَن طالبك بجوابات كتبي فهو القائم من بعدي. فقلت : زدني ، فقال : من يصلّي عليَّ فهو القائم بعدي. فقلت : زدني ، فقال : مَن أخبر بما في الهميان فهو القائم بعدي. ثمّ منعتني هيبته أن أسأل عمّا في الهميان.

وخرجت بالكتب إلى المدائن (؟) وأخذت جواباتها ، وفي اليوم الخامس عشر كما ذكر دخلت سامرّاء ، فإذا أنا بالواعية في داره (١).

ومقتضاه أن يكون مرض الإمام استدام أكثر من أُسبوعين من الأيام ، والمروي في سائر الأخبار أنّه عليه‌السلام بدأت علّته مع أول شهر ربيع الأول واستمرت أُسبوعاً حتى توفي في الثامن من الشهر (٢).

صبيحة وفاة العسكري عليه‌السلام :

أسند الطوسي عن أبي سهل إسماعيل بن علي النوبختي البغدادي قال : دخلت على أبي محمد الحسن العسكري عليه‌السلام في المرض الذي توفي فيه ، فأنا عنده إذ قال لخادمه عقيد ، وكان نوبيّاً أسود خدم من قبله أباه : يا عقيد ، إغل لي ماءً بمصطكي (٣). فأغلى له ، وجاءت به الجارية صقيل أُم الخلف عليه‌السلام ، فلمّا صار القدح في يديه وهمَّ بشربه أخذت يده ترتعش حتى ضرب القدح ثناياه فتركه من يده وقال لعقيد : ادخل البيت فإنك ترى صبيّاً ساجداً فأتني به!

__________________

(١) كمال الدين : ٤٧٣ و ٤٧٥ بعد الخبر ٢٥ ، ولم يُذكر هؤلاء في كتب الرجال ، ولا في رواة الأخبار إلّاهنا!

(٢) الإرشاد ٢ : ٣٣٦.

(٣) المصطكي شجر خاص له صمغ يُعلك وثمر مرّ يُداف ويشرب دواءً. العين ٥ : ٤٢٥.


وأسرعت أُمه صقيل فأخذت بيده وأخرجته إلى أبيه الحسن عليهما‌السلام ، وإذا هو درّي اللون في شعر رأسه قطط ، مفلّج الأسنان إذ سلّم على أبيه. فلمّا رآه الحسن عليه‌السلام بكى وقال : يا سيّد أهل بيته ، اسقني الماء (المصطكي) فإني ذاهب إلى ربّي! فأخذ الصبيّ القدح المغلّى بالمصطكي بيده وحرّك شفتيه بشيء ثمّ سقاه ، فلمّا شربه قال : هيئوني للصلاة.

فطرح في حجره منديل ، ثمّ وضّأه الصبيّ على وجهه ويديه مرة مرة ، ثمّ مسح رأسه وقدميه.

فقال له أبو محمد عليه‌السلام : «أبشر يا بُنيّ فأنت «صاحب الزمان» وأنت «المهدي» وأنت «حجة الله» على أرضه! وأنت ولدي ووصيي ، أنت «محمد» بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام.

ولّدك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنت خاتم الأوصياء الأئمة الطاهرين ، و (قد) بشّر بك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسمّاك (باسمه) وكنّاك (بكنيته) بذلك عهد إليّ أبي عن آبائك الطاهرين ، وصلّى على «أهل البيت» ربنا إنه حميد مجيد» ثمّ مات من وقته صلوات الله عليه وعليهم أجمعين (١).

ونقل الصدوق عن كتاب مصنّف في أخبار التواريخ سمعه من محمد بن الحسين بن عبّاد قال :

ليلة وفاة الحسن العسكري عليه‌السلام كانت ليلة جمعة ، وقد كتب بيده كتباً كثيرة إلى المدينة (أو المُدن) وفي يوم الجمعة مع صلاة الصبح ، وعنده الجارية صقيل والخادم عقيد وغيرهما ، فنقل عن عقيد قال : فدعا بماء قد اغلي له بالمصطكي ،

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٢٧٢ ، ٢٧٣ ، الحديث ٢٣٧.


فجئنا به إليه فقال : ابدأ بالصلاة فهيّئوني ، فبسطنا في حجره المنديل ، فأخذ الماء من صيقل فغسل به وجهه وذراعيه مرة مرة ، ثمّ مسح على رأسه وقدميه مسحاً ، ثمّ صلّى صلاة الصبح على فراشه ، وأخذ القدح ليشرب ويده ترتعد فأخذ القدح يضرب ثناياه ، فأخذت صقيل القدح من يده ، ومضى من ساعته ، وذلك لثمان خلون من شهر ربيع الأول سنة ستين ومئتين للهجرة (١).

فلعلّ الخادم عقيد تعقّد هنا عن بيان ما زاد عنه في الخبر السابق عن أبي سهل إسماعيل النوبختي ، للراوي هنا محمد بن الحسين بن عبّاد ، أو تعبّد بالتعمية عن وجود الوليد الوحيد للإمام حينئذ رعاية لواجب التقية والكتمان على وليّ العصر وصاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه. كما أغفل أبو سهل أو تساهل في نقل صلاة الإمام عليه‌السلام وهذا أكمل النقل بذكرها.

وكون وقت الوفاة في وقت صلاة الصباح لعلّه أشغل أو أغفل المغفّلين المحضَرين لرقابة دار العسكري عليه‌السلام في تلك الأيام ، ولعدم علمهم بالوقت بالخصوص مع كتابة الإمام في ليلتها كتباً كثيرة. وقد مرّ الخبر عن إرسال العسكري عليه‌السلام لابنه الحجة مع أُمّه السيّدة سليل إلى مكة ، فلابدّ من القول بحضور الحجة حينئذ غيبياً وليس عادياً طبيعياً ، ومعه فعدم إطلاعهم غير بعيد ، إلّافيما يكشف عنه إتماماً للحجة.

وسيأتي في الخبر التالي : أنّ عقيد الخادم خرج من الدار وقال لجعفر الكذاب : يا سيدي قد كُفّن أخوك فقم وصلّ عليه! فإن صح هذا فلعلّه لهذا لم يرَ ما رآه النوبختي فروى ، أو رآه وكتمه؟! والله العالم.

وبعد ذلك أخذوا في تهيئته ، وعُطّلت الأسواق ، وركب بنو هاشم

__________________

(١) كمال الدين : ٤٧٣ ، ٤٧٤ بعد الخبر ٢٥.


(بنو العباس) والقوّاد وسائر الناس إلى جنازته ، فكانت سامرّاء يومئذٍ شبيهة بالقيامة! فلمّا فرغوا من تهيئته بعث السلطان (المعتمِد العباسي) إلى أخيه أبي عيسى بن المتوكل أمره بالصلاة عليه (١).

إجراءات ما بعد الوفاة :

جاء في خبر الكليني عن أحمد بن عبيد الله بن الخاقان : أنّ العسكري عليه‌السلام لمّا توفي صارت سامرّاء ضجة واحدة ، وبعث السلطان (المعتمد العباسي) إلى داره من فتّشها وفتّش حُجَرها ، وختم على جميع ما فيها ، وطلبوا أثر ولَده! وجاءوا بنساء يعرفن الحمل فدخلن إلى جواريه ينظرن إليهن ، فذكر بعضهن : أنّ هناك جارية بها حمل! فجُعلت في حجرة ووُكّل بها نحريرُ الخادم وأصحابه ونسوة معهم.

وجاء في خبر أبي الأديان البصري قال : دخلت سامرّاء فإذا أنا بالواعية في داره وهو عليه‌السلام على المغتسل ، وإذا بأخيه جعفر بن علي على باب الدار وبعض الشيعة يعزّونه (٢) وأنا كنت أعرفه أنه كان يقامر في جوسق قصر الخليفة ويلعب بالطنبور ويشرب النبيذ (المحرّم عند آبائه) فقلت في نفسي : إن يكن هذا الإمام فقد بطلت الإمامة! وعزّيته فلم يسألني عن شيء.

ثمّ خرج عقيد الخادم وقال لجعفر : يا سيدي : قد كُفّن أخوك ، فقُم وصلّ عليه! فقام جعفر ودخل ، فلمّا صرنا في الدار إذا نحن بالحسن بن علي على نعشه مكفّناً ، وتقدم جعفر ليصلّي عليه.

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥٠٣ ، ٥٠٤ ، الحديث ١ ، باب مولد العسكري عليه‌السلام.

(٢) هنا في الخبر : ويهنّئونه! ممّا لا عهد لنا به في وفاة أي إمام وبداية عهد أي إمام ويتكرر هذا في الخبر! فهو مردود.


فلمّا همّ بالتكبير خرج صبيّ بوجهه سُمرة وبشعره قطط وبأسنانه تفليج ، فجذب برداء جعفر وقال له : يا عمّ تأخّر! فأنا أحق بالصلاة على أبي! فتأخر جعفر وقد اربدّ وجهه واصفر ، وتقدم الصبيّ فصلّى عليه.

ثمّ توجّه إليّ وقال لي : يا بصري ، هات جوابات الكتب التي معك. فدفعتها إليه وقلت في نفسي : هاتان بيّنتان ، وفي خبر الهميان ، وكان جعفر قد خرج من الدار فخرجت إليه ، وكان معه حاجز الوشّاء فقال له : يا سيدي ، مَن الصبيّ لنقيم عليه الدعوى؟! فقال : والله ما رأيته قط ولا أعرفه!

فبينا نحن جلوس إذ قدم نفر من «قم» وعرفوا وفاة الحسن بن علي عليه‌السلام ، فقالوا : فمن نعزّي؟ فأشار الناس إلى جعفر ، فسلّموا عليه وعزّوه وقالوا : إنّ معنا كتباً ومالاً ، فتقول : ممّن الكتب وكم المال؟ فقام ينفض أثوابه ويقول : يريدون منّا أن نعلم الغيب؟

فخرج الخادم (؟) وقال : معكم كتب فلان وفلان ، وهميان فيه ألف دينار عشرة منها مطليّة!

فقالوا له : إنّ الذي وجّه بك لأخذ ذلك هو الإمام ودفعوا إليه الكتب والمال (١).

ونحوه ما أسنده الطوسي عن رجل من العباسيين الحاضرين يومئذ يُدعى أحمد بن عبد الله قال : كنا نحن من ولد العباس الحاضرين دار أبي محمد الحسن بن علي بن الرضا بسامرّاء يوم توفي ، تسعة وثلاثين رجلاً قعود ننتظر ، فأُخرجت جنازته ووضعت ، فخرج غلام عشاريُّ (السنّ) حاف عليه رداء قد تقنّع به ، فقمنا له هيبة منه ولا نعرفه! وقام الناس ، فتقدم للصلاة ،

__________________

(١) كمال الدين : ٤٧٥ ، ٤٧٦ ، الحديث ٢٥.


فاصطفوا له خلفه ، فصلّى عليه ومشى حتى دخل باباً سوى الذي خرج منه (١).

فهذه الصلاة كانت داخل الدار ، أما المحضَرين للرقابة فقد جاء في خبر أحمد بن عبيد الله الخاقان :

أنّ الجنازة لمّا وُضعت للصلاة عليها (خارج الدار بالشارع العام) جمع أبو عيسى حوله بني هاشم من العلويين والعباسيين ، والقوّاد والكتّاب ، والقضاة والمعدّلين ودنا من الجنازة فكشف عن وجه أبي محمد العسكري وعرضه عليهم وقال لهم : هذا الحسن بن علي بن محمد بن الرضا ، مات حتف أنفه على فراشه ، وقد حضره من حضره ، من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان ، ومن المتطببين فلان وفلان (فهذه هي مُهمّتهم دون من يصلّي عليه في الدار).

قال : ثمّ غطّى وجهه (وصلّى عليه) وأمر بحمله ، فحُمل (إلى) وسط داره ودُفن في البيت الذي دُفن فيه أبوه (٢).

أما خبر وفد قم بالكتب والأموال ، فيظهر من خبر لاحق أنّه لم يكن هنا متلاحقاً لاصقاً بلا فاصل ، بل كان بفاصل زمان ، إلّا أنّ أبا الأديان أوصله هنا استعجالاً باستكمال العلائم التي تلقّاها من العسكري عليه‌السلام على الإمام القائم بالأمر من بعده ، وسيأتي الخبر.

قال ابن خاقان : فلمّا دُفن أخذ السلطان (المعتمد) في طلب ولده (فلعلّهم علموا به من صلاته) وكثر التفتيش في المنازل والدور ، وتوقّفوا عن قسمة ميراثه (٣).

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٢٥٨ ، الحديث ٢٢٦.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٥٠٥ ، الحديث ١ ، باب مولد العسكري عليه‌السلام.

(٣) المصدر السابق.


وقد مرّ الخبر أنّ العسكري عليه‌السلام أرسل أُمّه مع ابنه الحجة إلى الحج ، وبعد الحج رحلوا إلى المدينة فنزلوا بها. فلمّا وصل خبر وفاته عليه‌السلام إليها بالمدينة خرجت حتى قدمت سامرّاء. ويظهر أنّ جعفر لم يكن منها بل من امّ ولد أُخرى للهادي عليه‌السلام ولذا نازعها في المواريث ورافعها إلى القاضي محمد بن الحسن بن أبي الشوارب الأُموي وقضى لها وأن يقسم الميراث بينهما. وعند ذلك ادّعت السيدة صقيل أنها حامل ، فحُملت إلى دار المعتمد العباسي وجعل نساءه ونساء الواثق ونساء القاضي ابن أبي الشوارب يتعهدن أمرها.

ثمّ دهمهم موت الوزير عبيد الله بن الخاقان وخروج الزنوج بالبصرة والصفّار إلى العراق فتركوها (١).

وجاء في آخر خبر ابن خاقان : أنّ الجارية إنما تُوُهم عليها الحمل ، فوُكّل بها نساء يلازمنها حتّى يتبيّن أمرها ، فلم يزل اللواتي وُكّلن بحفظ الجارية ملازمين لها حتى تبيّن بطلان ذلك.

فلمّا بطل الحمل قُسّم ميراثه وادّعت أُمّه أنها وصيّته ، وثبت ذلك عند القاضي (ابن أبي الشوارب) فقُسّم ميراثه بين امه وأخيه جعفر. ومع بطلان الحمل لم يزل السلطان على ذلك يطلب أثر ولده.

وبعد ذلك جاء جعفر إلى أبي (عبيد الله بن خاقان) وقال له : اجعل لي مرتبة أخي ، وأُوصلُ إليك في كل سنة عشرين ألف دينار!

فقال له أبي : يا أحمق! إنّ السلطان جرّد سيفه في الذين زعموا أنّ أباك وأخاك أئمة ليردّهم عن ذلك ، فلم يتهيّأ له ذلك! فإن كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماماً فلا حاجة بك أن يرتّبك في مراتبهما السلطان أو غير السلطان ،

__________________

(١) انظر بعضه في دلائل الإمامة : ٢٢٣.


وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بنا. ثمّ أمر أبي حاجبه أن يحجبه عنه فلم يأذن له بالدخول عليه حتى مات أبي (١).

وفود الأموال من قم والجبال :

أسند الصدوق عن سنان الموصلي قال : لمّا قُبض سيدنا أبو محمد الحسن العسكري عليه‌السلام ، وفدت وفود بالأموال من قم والجبال ، كما كانت تُحمل على الرسم والعادة من دون أن يعلموا بوفاته عليه‌السلام. فلمّا وصلوا سامرّاء وسألوا عن سيدنا الحسن عليه‌السلام وقيل لهم بوفاته قالوا : فمن وارثه؟ قالوا : أخوه جعفر بن علي! وقد خرج اليوم يتنزّه فركب زورقاً في دجلة ومعه المغنون وهم يشربون!

فتوقّفوا وتشاوروا وقال بعضهم : امضوا بنا حتى نردّ هذه الأموال على أصحابها ، فهذه ليست من صفات الإمام! وكان فيهم محمد بن جعفر الحميري القمي فقال لهم : بل قفوا بنا حتى يرجع ونختبر أمره.

فلمّا عاد دخلوا عليه فسلموا وقالوا : يا سيدنا نحن من أهل قم ، ومعنا جماعة من الشيعة وغيرهم ، وكنا نحمل أموالاً إلى سيدنا أبي محمد الحسن. ولها خبر طريف! قال : وما هو؟ قالوا : إنّ هذه الأموال تُجمع من عامة الشيعة ويكون فيها الدرهم والدرهمان! ثمّ يجعلونها في كيس ويختمون عليه. وكنا إذا وردنا بالمال على سيدنا أبي محمد يقول : جملة المال كذا وكذا ديناراً ، من عند فلان كذا ومن فلان كذا ، حتى يأتي على أسماء الناس كلّهم ويقول ما على الخواتيم من نقوش!

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥٠٥ ، ٥٠٦ ، الحديث ١ ، باب مولد العسكري عليه‌السلام ، وفي كمال الدين : ٤٠ ـ ٤٤ وفيه : لازموها سنتين!


فقال لهم : كذبتم ، إنكم تقولون على أخي ما لم يفعله ، فهذا «علم الغيب» ولا يعلمه إلّاالله! وقال لهم : احملوا هذا المالي إليّ.

فقالوا : إنا قوم وكلاء مستأجَرون لأرباب المال ولا نسلّم المال إلّا بالعلامات التي كنا نعرفها من سيدنا أبي محمد الحسن ، فإن كنت الإمام فبَرهِن لنا ، وإلّا رددناها إلى أصحابها يرون رأيهم فيها.

فاستعداهم جعفر إلى المعتمِد العباسي وأحضرَهم لديه ، فقال لهم الخليفة :

احملوا هذا المال إلى جعفر! قالوا : أصلح الله أمير المؤمنين! إنّا قوم وكلاء مستأجَرون لأرباب هذه الأموال ، وهي ودائع لجماعات أمرونا أن لا نسلّمها إلّا بدلالة وعلامة ، جرت بها العادة مع أبي محمد الحسن.

فقال الخليفة : وما كانت العلامة التي كانت مع أبي محمد؟

قال القوم : كان يصف لنا الدنانير وأصحابها وكم هي الأموال؟ فإذا فعل ذلك سلّمناها إليه ، وقد وفدنا إليه مراراً فكانت هذه دلالتنا معه وعلامتنا ، وقد مات ، فإن يكن هذا الرجل صاحب هذا الأمر! فليُقِم لنا ما كان يقيمه لنا أخوه ، وإلّا رددناها إلى أصحابها.

فقال جعفر : يا أمير المؤمنين! هذا «علم الغيب» وهؤلاء قوم كذّابون يكذبون على أخي بهذا!

فقال الخليفة : القوم رسل ، (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)! فلم يرد جعفر جواباً.

فقال قائل القوم للخليفة : يتطوّل أمير المؤمنين! باصدار أمره إلى أن يبَدرِقوننا (يشايعوننا) حتى نخرج من هذه البلدة! فأمر لهم بنقيب (من الشرطة) فأخرجوهم من سامرّاء.


فلمّا أن خرجوا من البلد خرج إليهم غلام من أحسن الناس وجهاً ، فناداهم : يا فلان ويا فلان! أجيبوا مولاكم! قالوا : أنت؟ قال : أنا عبد مولاكم فسيروا إليه.

فساروا معه حتى دخلوا دار المولى الحسن عليه‌السلام فإذا ولده سيدنا القائم قاعد على سرير ، وكأنه فلقة قمر! وعليه ثياب خُضر! فسلّموا عليه فردّ عليهم‌السلام ثمّ قال لهم : جملة المال كذا وكذا ديناراً حَمّل فلان كذا ، وحَمّل فلان كذا ، حتى وصف كلّها ، ووصف ثيابهم ورحالهم ودوابَّهم!

فسجدوا شكراً لله لما عرّفهم وقبّلوا الأرض بين يديه وسألوه مسائل فأجابهم ، وحملوا إليه الأموال. فقال لهم : لا تحملوا بعدها شيئاً من المال إلى سامرّاء بل إنه ينصب لهم «ببغداد» رجلاً يحملون إليه المال وتخرج من عنده «التوقيعات».

ثمّ دفع إلى محمد بن جعفر الحميري القمي كفناً وحنوطاً وقال له : أعظم الله أجرك في نفسك!

فلمّا بلغ أبو العباس محمد الحميري عقبة همَدان توفي رحمه‌الله (١) فاختصر بل اختزل أبو الأديان هذا البيان كلّه في كلمات وأوهم أنها كانت يوم بل حين تشييع الجنازة والصلاة عليها ، وهو غير معقول تقريباً!

نقل الصدوق الخبر ثمّ علّق عليه قال : لماذا كفّ عمّا مع القوم من الأموال بل ودفع جعفراً الكذاب عن مطالبته إياهم ، ولم يأمرهم بتسليمها إليه؟!

وأجاب : إنّ هذا الخبر يدل على أنّ الخليفة (المعتمد) كان يعرف هذا الأمر من أين هو وكيف هو وأين موضعه! إلّاأنّه كان يحب أن يخفى هذا الأمر ولا ينتشر ، لئلّا يهتدى الناس إليه فيعرفونه. ثمّ نقل هنا آخر خبر ابن خاقان في

__________________

(١) كمال الدين : ٤٧٦ ـ ٤٧٨ ، الحديث ٢٦ ، الباب ٤٣.


عرض جعفر على أبيه العشرين ألف دينار ، ليجعل له مرتبة أخيه الحسن العسكري عليه‌السلام ، وجواب أبيه الخاقان ، إلّاأنّه بدّله بالخليفة نفسه (١).

فإما أن يكون هذا من الصدوق سهواً ، أو أنه يرى أنّ هذا العرض على الوزير لا يكون له رأساً مستقلاً بل بوصفه وزيراً للخليفة فالعرض عليه بالحقيقة ، ولا يبعد أن يكون هذا بعد أن رأى من الخليفة المعتمد من تعمّد إغفاله وإهماله والتسامح والتساهل مع اولئك الشيعة وأموالهم المحمولة الحاضرة!

ولعلّ أحمد بن خاقان لم يُحط علماً بسوابق هذا العرض من جعفر على أبيه وخلفياته فأخبر بما علِم.

هل كنّ الجواري عند العَمري؟ :

مرّ الخبر أنّ العسكري عليه‌السلام نعى نفسه إلى والدته سليل جدّة الحجة عجل الله فرجه وأرسله معها إلى الحج ثمّ إلى المدينة ، إلّاأنها بعد علمها بوفاته عليه‌السلام عادت إلى سامراء ، ولم يكن جعفر منها فنازعها الميراث فادّعت الوصية عن ابنها الحسن عليه‌السلام وحكم لها بذلك القاضي ابن أبي الشوارب الأُموي العبّاسي!

وبلا استناد إلى خبر خاص تحدّث من قدماء الشيعة الشيخ علي السدّآبادي : أنّ العسكري عليه‌السلام لما أدركته وفاته أمر وكيله الشيخ عثمان بن سعيد الأسدي العَمري أن يجمع له جمعاً من شيعته ، فأخبرهم بابنه الحجة وأنه صاحب الأمر بعده ، وأنّ أبا محمد عثمان العَمري ، بابه ووكيله وسفيره بينه وبينهم ، فمن كانت له حاجة فليقصده كما كان. ثمّ سلّم إليه أمر جواريه بما فيهن والدة الحجة (عجل الله تعالى فرجه).

__________________

(١) كمال الدين : ٤٧٨ ـ ٤٧٩.


فلمّا قُبض العسكري عليه‌السلام تسلّم العمريّ أمرهن ، فسعى جعفر إلى المعتمِد في جواري أخيه عند العَمري وقال له : إنّ في هذه الجواري جارية حُبلى إذا ولدت ولداً يكون على يده ذهاب دولتكم! فأنفد المعتمد إلى الشيخ العَمري وأمره أن ينقلهنّ إلى دار القاضي محمد بن الحسن بن أبي الشوارب الأُموي ، أو بعض شهوده ، حتى يُستبرأنَ من الحمل. فسلّمَهن إلى بعض عدولهم (؟)

فأقمن الجواري عند ذلك العدل سنة ، ثمّ ردّهن إلى الشيخ العمري وفيهن والدة الحجة (عجل الله تعالى فرجه) فلمّا تسلّمهن الشيخ العَمري انتقل إلى بلده بغداد ونقلهنّ معه.

فكانت الشيعة تقصده من كل بلد بحوائجهم في قصاصات أوراق ، فكانت الأجوبة تخرج منه إليهم (١).

وهنا هكذا ينبتر الخبر بلا خبر عن عودة السيّدة نرجس ورجوعها إلى سامراء ، ووفاتها ودفنها بدارهم هناك! على المشهور المعروف في ذلك ، كما عليه الشيعة اليوم ، بل خلفاً عن سلف.

هذا ، وقد أسند الطوسي عن هبة الله ابن الكاتب سبط الشيخ محمد بن عثمان العَمري : أنّ جدّه لأُمّه الشيخ عثمان العَمري كان مأموراً بتولّي جميع أُمور العسكري عليه‌السلام فحضر غسله وتولّى تحنيطه وتكفينه ودفنه (٢).

ولم يذكر تسلّمه لجواريه ثمّ نقلَهنّ معه إلى بغداد ثمّ عودتهنّ إلى سامرّاء كما في الأخبار السابقة.

__________________

(١) المقنع في الإمامة : ١٤٦ ، وعنه في الأنوار البهية : ٣٢٨ ، ٣٢٩.

(٢) كتاب الغيبة للطوسي : ٣٥٦ ، الحديث ٣١٨.


عهد

الإمام المهدي عليه‌السلام

في الغيبة الصغرى



بقي المهدي (عجل الله تعالى فرجه) بسامرّاء :

مرّ الخبر أنّ جعفر بن علي الكذّاب ادّعى كذباً وراثته لأخيه الحسن عليه‌السلام ، واستظهرنا أنه لم يكن من أُمّ الحسن عليه‌السلام ولذا خاصمها في ذلك ورافعها إلى القاضي ابن أبي الشوارب الأُموي فقضى له.

وقد مرّت أخبار عن عناية العسكريَّين عليهما‌السلام بأبي هاشم داود بن القاسم الجعفري من أحفاد عمّهم جعفر الطيار ، فلعلّه كان هو أو أحد الجعفريّين أودع صبيّة له في دار العسكريَّين يربّونها ، فروى الكليني عن شيخه علي بن محمد بن بندار القمي قال : كان فيما باع جعفر الكذّاب صبيّة جعفرية كانت في دار العسكريَّين ، فذهب بعض العلويّين إلى أهل «الناحية» فأعلمهم بالخبر ، فبعثوا إلى الذي اشترى الصبيّة من جعفر بثمنها أحد وأربعين ديناراً ، وأمروه أن يدفعها إلى صاحبها. فقال المشتري : قد طابت نفسي بردّها وأن لا أرزأ (لا أنقص) من ثمنها شيئاً ، فخذوها (١).

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥٢٤ ، الحديث ٢٩ ، باب مولد الصاحب عليه‌السلام.


والمعنيّ بالناحية : الناحية المقدسة للحجة عليه‌السلام ، وظاهره أنه وإن لم يكن بداره جهاراً ولكنّه كان بسامرّاء سرّاً يعلمه ويعرفه بعض العلويّين فأعلمهم بخبر الصبيّة وبعثوا (؟) بثمنها عن أصحابها من آل جعفر الطيار رضى الله عنه. وكان لهم من المال ما يتصرّفون به وإن كان جعفر الكذّاب حاول أن يجرّدهم منه.

بل أسند الكليني عن شيخه علي بن محمد القمي عن الفضل المدائني الخزّاز (عن) مولى خديجة بنت الجواد عليه‌السلام (أُخت حكيمة) : أنّ قوماً من الطالبيين بالمدينة كانوا يقولون بالحق ، وكانت ترد عليهم وظائف (مالية) في أوقات معلومة! عن أبي محمد العسكري عليه‌السلام ، فلمّا مضى أبو محمد عليه‌السلام ثبت جمع منهم على القول بولده (المهدي عليه‌السلام) فوردت إليهم وظائفهم (المالية) وقُطعت عن من لم يثبت منهم على القول به عليه‌السلام (١).

وكان من وكلاء الهادي عليه‌السلام : فارس بن حاتِم القزويني البغدادي ، ثمّ غلا فيه وفتن جمعاً ودعاهم إلى البدع ، وبلغ ذلك إلى الإمام عليه‌السلام فخرج منه كتاب فيه : هذا فارس «لعنه الله» كان يعمل من قبلي (ثمّ كان) فتّاناً داعياً إلى البدعة ، فدمه هدر لكل من قتله! فمن يقتله ويريحني منه وأنا ضامن له على الله الجنة!

وقصد فارس سامرّاء ، فأرسل الهادي عليه‌السلام إلى رجل من مواليه يُدعى الجُنيد أمره بقتل فارس!

فأسند الكشي عن سعد بن عبد الله الأشعري القمي عن جُنيد هذا قال : لمّا أرسل إليَّ أبو الحسن العسكري يأمرني بقتل فارس ، قلت : لا ، حتى أسمعه منه يقول لي ذلك يشافهني به!

فبلغ ذلك إلى الإمام عليه‌السلام فبعث إليّ فدعاني إليه ، فصرت إليه ، فقال لي :

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥١٨ ، الحديث ٧ ، باب مولد الصاحب عليه‌السلام.


آمرك بقتل فارس بن حاتم! وناولني دراهم وقال لي : اشتر بهذه سلاحاً واعرضه عليَّ.

قال جُنيد : فذهبت واشتريت سيفاً فعرضته عليه فقال : ردّ هذا وخذ غيره. قال : فرددته وأخذت مكانه ساطوراً فعرضته عليه فقال : هذا نعم.

قال جُنيد : وكان فارس يصلّي في المسجد فلما صلّى المغرب وخرج جئته فضربت على رأسه بالساطور وثنّيت عليه فسقط ميتاً ، ورميت بالساطور من يدي. ووقعتِ الضجة واجتمع عليه الناس ، وإذ لم يوجد هناك أحد غيري اخذت ، ولكنّهم لم يروا معي سلاحاً ولا سكيناً ، ولم يروا أثراً للساطور! وطلبوا الزقاق والدور فلم يجدوا شيئاً (١) فأفلتوه. وكان ذلك بعد سنة (٢٤٨ ه‍) (٢).

ثمّ أمر الهادي عليه‌السلام بعض وكلائه أن يُجروا على الجُنيد هذا قاتل فارس وآخرين معه وظيفة مالية في أوقات معلومة ، ولمّا توفي في (٢٥٤ ه‍) كان يرد كتاب العسكري عليه‌السلام على وكيله الحسين بن محمد الأشعري القمي البغدادي بالإجراء على الجُنيد كما كان ، حتى توفي في (٢٦٠ ه‍) فورد عليه من الصاحب عليه‌السلام استئناف الإجراء على الآخرين ولم يرد في أمر الجُنيد شيء. بل ورد نعيه (٣). فعُرف أنه توفي في سنة وفاة العسكري عليه‌السلام عام (٢٦٠ ه‍).

فلعلّ هذه المصارف الأولية كانت من أموال الوفدين القميّين : وفدهم في خبر أبي الأديان البصري ، ثمّ وفدهم الذي طالبهم جعفر الكذاب ثمّ رافعهم إلى المعتمِد العباسي فسلِموا منه ، وقد مرّ خبرهما.

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٥٢٤ ، الحديث ١٠٠٦.

(٢) المصدر السابق : ٥٢٧ ، الحديث ١٠٠٩.

(٣) أُصول الكافي ١ : ٥٢٣ ، الحديث ١٩.


وممّا يؤكد أنّ «الناحية» يومئذٍ بسامراء : ما أسنده الكليني عن شيخه علي بن محمد بن بندار القمي عن أبي محمد الحسن بن عيسى العُريضي : أنّ مصرياً ورد بمال معه من مصر إلى مكة يسأل عن أبي محمد العسكري عليه‌السلام ، فقيل له : إنّ أبا محمد قد مضى بسامرّاء وخلفه أخوه جعفر ، وقيل له : بل إنه مضى عن خلف له بسامرّاء.

فبعث رجلاً من أصحابه يكنّى أبا طالب بكتاب معه إلى سامرّاء! فوردها وصار إلى جعفر وسأله عن برهان فلم يتهيّأ له! فدُل على الباب (؟) فصار إليه وأنفذ الكتاب ، فخرج إليه الجواب : آجرك الله في صاحبك فقد مات ، وأوصى بالمال الذي كان معه إلى ثقة ليعمل فيه بما يحب (١).

كذا جاء في هذا الخبر ذكر «الباب» بلا تسمية له ، ولعلّه لمعلوميته أنه الشيخ عثمان بن سعيد العَمري الأسدي باب الهادي عليه‌السلام ، ومن قِبل العسكري له ثمّ لابنه المهدي عليهما‌السلام في سامرّاء.

إلّا أنّ ذلك لم يكن مشهوراً معروفاً معلوماً لدى عموم شيعتهم عليهم‌السلام ومنهم أهل قم ، فأسند الكليني عن شيخه علي بن محمد بن بندار القمي عن سعد بن عبد الله الأشعري القمي بأنهم لمّا بلغهم مُضيّ العسكري عليه‌السلام اجتمعوا وفيهم الحسن بن النضر وتكلّموا في الوكلاء ، وأرادوا الفحص ، فقال الحسن بن النضر أنه يريد الحج ، فقال له أبو صدّام (؟) أخِّره هذه السنة فأبى ، وأوصى بمال له للناحية إلى أحمد بن يعلى بن حمّاد ، وأمره أن لا يُخرج من يده شيئاً إلّابعد ظهور أمره ، وخرج إلى العراق.

ولمّا عاد من سفره حدّث إلى سعد بن عبد الله قال : لمّا وافيت بغداد اكتريت

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥٢٣ ، الحديث ١٩.


داراً فنزلتها ، فجاءني بعض الوكلاء بثياب ودنانير وخلّفها عندي ، فقلت له : ما هذا؟ قال : هو ما ترى! ثمّ جاءني آخر بمثلها ، وآخر ، حتى ملؤوا الدار! ثمّ جاءني أحمد بن إسحاق الأشعري القمي بجميع ما كان معه ، فتعجبت وبقيت متفكراً!

ثمّ وردت عليَّ رقعة من الرجل عليه‌السلام : إذا مضى من النهار كذا فاحمل ما معك (إلى العسكر / سامراء). فحملت ما معي ورحلت ، وصادفت في الطريق صعلوكاً يقطع الطريق في ستين رجلاً معه! فاجتزت عليه وسلّمني الله منه ، حتى وافيت العسكر (سامرّاء) ونزلت.

فوردت عليَّ رقعة : أن احمل ما معك (إلينا)؟ فناديت حمّالين حملوه في صِنانهم حتى بلغت دهليز (المنزل؟) فإذا فيه أسود قائم فقال لي : أنت الحسن بن النضر؟ قلت : نعم. قال : ادخل. فدخلت الدار ودلّني على بيت ففرغ فيه الحمالون صنانهم. وكان في زاوية البيت خبز كثير! فأَعطى الأسود كلّ واحد من الحمّالين رغيفين وخرجوا.

ثمّ نوديت : يا حسن بن النضر! وإذا بالصوت من بيت عليه ستر ، قال : أحمد الله على ما منّ به عليك ولا تشكّن ، وقد ودّ الشيطان أنّك شككت! (ثمّ دخل العبد) وأخرج إليّ ثوبين وقيل لي : خذهما فستحتاج إليهما! فأخذتهما وخرجت (١).

حدّث الحسن بن النضر بهذا لسعد بن عبد الله الأشعري القمي (بقم ظاهراً) قبل شهر رمضان ، قال سعد : فلمّا دخل شهر رمضان مات الحسن وكُفّن في الثوبين (٢) فإن كان في رمضان من عام (٢٦٠ ه‍) فذلك يعني أنه انصرف من العراق إلى قم ومات قبل الحج ، وخلا الخبر عن ذكر الحج ، ولعلّه كان ذلك في رمضان عام (٢٦١ ه‍) بعد عودته من الحج. وخلا الخبر كذلك عن ذكر عن العَمري

__________________

(١) و (٢) أُصول الكافي ١ : ٥١٧ ، الحديث ٤.

(٢)


الأسدي ببغداد أو سامرّاء ، وهل كانت داراً جديدة أم دارهم الأُولى؟ فكيف سلمت من مزاحمة جعفر الكذّاب؟

ولئن كان الكليني اكتفى في السفراء بالإشارة بلقب الأسدي إلى أكبرهم وأوّلهم عثمان بن سعيد الأسدي العَمري ، فتلميذه وكاتبه ابن أبي زينب محمد بن إبراهيم النعماني (ق ٣ ه‍) علّق عليه على خبر عن الصادق عليه‌السلام في الغيبتين قال : هذه الأحاديث التي يذكر فيها : أنّ للقائم عليه‌السلام غيبتين ، أحاديث قد صحّت عندنا بحمد الله ، وأوضح الله قول الأئمة عليهم‌السلام ، وأظهر برهان صدقهم فيها. فأمّا الغيبة الأُولى : فهي الغيبة التي كان فيها بين الإمام عليه‌السلام وبين الخلق سفراء قائمون منصوبون ظاهرون! موجودوا الأشخاص والأعيان ، يخرج على أيديهم الشفاء من العلم وعويص الحكم ، والأجوبة عن كل ما كانوا يسائلون عنه من المعضلات والمشكلات. وهي الغيبة القصيرة التي انقضت أيامها وتصرّمت مدّتها. والغيبة الثانية : هي التي ارتفع فيها أشخاص السفراء والوسائط (١) بالإجمال بلا تفصيل.

وعلّق على آخر الأحاديث المئة في الباب العاشر من كتابه قال : وهل هذه الأحاديث إلّادالة على غيبة صاحب الحق .. ثمّ على غيبة السبب الذي كان منصوباً عنه عليه‌السلام بينه وبين شيعته ، وهو اسناد الذي كانوا يُسندون إليه أُمورهم فيرفعها إلى إمامهم في حال غيبته عليه‌السلام ، فصاروا عند رفعه كموات المعز! وقد كان لهم في الوسائط بلاغ وهدى ومسكة عن الإرهاق ، حتى أجرى الله تدبيره وأمضى مقاديره برفع الأسباب (٢) بلا تفصيل أيضاً ، ولعلّ لأنهم كانوا يرون ذلك يومئذٍ توضيحاً للواضح لا طائل تحته.

__________________

(١) كتاب الغيبة للنعماني : ١١٥.

(٢) كتاب الغيبة للنعماني : ١٢٨.


نعم يُعلم من الخبر التالي : أنّه حتى بعض الوكلاء لم يكونوا يعرفون السفارة :

كان إبراهيم بن مهزيار الأهوازي من وكلاء العسكري عليه‌السلام وتوفي بعده بقليل ، وأوصى بما لديه إلى ابنه محمد ، قال : فقدمت العسكر (سامرّاء) وقصدت الناحية ، فلقيتني امرأة سألتني : أنت محمد بن إبراهيم؟ قال : قلت : نعم ، قالت : انصرف هذا الوقت فإنك لا تصل فيه وارجع الليلة فإنّ الباب مفتوح ، فادخل الدار واقصد البيت الذي فيه السراج. قال : فانصرفت ورجعت ليلاً وقصدت الباب فإذا هو مفتوح ، فدخلت الدار فإذا بيت فيه سراج فقصدت البيت الذي وصفَته لي ، فإذا فيه القبران للعسكريَّين وفيه سراج على قبر العسكري عليه‌السلام ، فقعدت بين القبرين أبكي وانتحب إذ سمعت صوتاً يقول لي : يا محمد! اتّقِ الله وتُب من كل ما أنت عليه ، فقد قُلّدت أمراً عظيماً (١)! فلمّا عاد إلى الأهواز حدّث بهذا إلى إبراهيم ومحمد ابني الفرج ، فهو بهذا كأنه ادّعى تقليده الوكالة كأبيه ، بلا ذكر للسفارة ولا كيفية تحويله الأموال معه.

وكان نصر بن الصبّاح البلخي في مرو إنما كان يعلم بوكالة حاجز الوشّاء للعسكري عليه‌السلام بسامرّاء ثمّ ببغداد ، وكان كاتب خوزستاني في مرو اجتمع عنده مبلغ ألف دينار للناحية ، فاستشار نصر البلخي قال : فقلت له : ابعث بها إلى الحاجز ، فقال : إن سألني الله عنه يوم القيامة فهو في عنقك؟ قلت : نعم.

قال نصر : ثمّ لقيته بعد سنتين فسألته عن المال ؛ فذكر أنه بعث منه إلى الحاجز بمئتي دينار! فكتب إليه : كان المال ألف دينار فبعثت بمئتي دينار ، فإن أحببت أن تعامل (!) أحداً فعامل الأسدي بالريّ (محمد بن جعفر).

__________________

(١) كمال الدين : ٤٨٧ ، الحديث ٨.


قال نصر : وورد عليَّ نعي الحاجز (في تلك الأيام ، فأخبرته) فجزع من ذلك جزعاً شديداً واغتمّ ، فقلت له : ولم تغتمّ وتجزع وقد منَّ الله عليك بدلالتين : قد أخبرك بمبلغ المال ، وقد نعى إليك الحاجز مبتدئاً (١)! محوّلاً له على محمد بن جعفر الأسدي بالريّ وليس الأسدي العَمريّ في بغداد!

ويظهر من الخبر التالي : أنّ الدار عادت إلى يد الجدّة أُم العسكري عليه‌السلام :

أسند الصدوق عن جعفر بن عمرو قال : خرجت ومعي جماعة إلى سامرّاء وأُم أبي محمد عليه‌السلام في الحياة ، فكتبوا أسماءهم يستأذنونهم لزيارة المرقدين ، وقلت لهم : أما أنا فلا أستأذن فلا تُثبتوا اسمي ، فتركوا اسمي. فخرج إلينا : ادخلوا ومن أبى أن يستأذن (٢)!

ويظهر من الخبر التالي : أنها بقيت في الحياة بعد ابنها العسكري عليه‌السلام بأكثر من عشرين عاماً ، وأنّ الشيعة كانوا يفزعون إليها بوصية حفيدها المهدي عليه‌السلام تستّراً عليه : ذلك ما قالته حليمة أو حكيمة أو خديجة بنت الجواد وأُخت الهادي عليهما‌السلام في سنة (٢٨٢ ه‍) بالمدينة لأحمد بن إبراهيم ، قال : فقلت لها : أقتدي بمن وصيته إلى امرأة! فقالت : كما أنّ الحسين بن علي عليهما‌السلام أوصى إلى أُخته زينب بنت علي في الظاهر ، فكان ما يخرج عن علي بن الحسين من علم يُنسب إلى زينب بنت علي تستّراً على علي بن الحسين (٣).

الأسدي العَمري الأب والابن :

الأب : الشيخ أبو عمرو عثمان بن سعيد الأسدي العَمري ، وابنه الشيخ

__________________

(١) كمال الدين : ٤٨٨ ، الحديث ٩.

(٢) كمال الدين : ٤٩٨ ، الحديث ٢١.

(٣) كمال الدين : ٥٠١ ، الحديث ٢٧ و ٥٠٧ ، الحديث ٣٦.


أبو جعفر محمد ، السامرّائيان على عهد العسكريّين عليهما‌السلام ووكيلاهما ، كما جاء في غير واحد من الأخبار عنهما مرّ بعضها ، وبعد العسكري وفي أوائل عهد الغيبة الصغرى انتقلا إلى بغداد.

ويظهر من صدر الخبر التالي : أنّ من كان يُدعى بالمختار من المتكلمين من الشيعة المنحرفين كان قد صدّق جعفر بن علي الكذّاب في دعواه الإمامة ، وكان يناظر من يلقاه من الشيعة ويحتجّ له على أن لا خلَف غير جعفر!

فكتب الأسديان العَمريان الأب والابن معاً إلى صاحب الزمان عليه‌السلام بذلك! فخرج إليهما توقيع من صاحب الزمان كانت صورته عند سعد بن عبدالله الأشعري القمي وفيه : «وفّقكما الله لطاعته وثبّتكما على دينه وأسعدكما بمرضاته ...

أعوذ بالله من العمى بعد الجلاء ، ومن الضلالة بعد الهدى ، ومن موبقات الأعمال ومرديات الفتن ، فإنه عزوجل يقول : (الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَايُفْتَنُونَ (١)) كيف يتساقطون في الفتنة ويترددون في الحيرة ، ويأخذون يميناً وشمالاً ، فارقوا دينهم أم ارتابوا أم عاندوا الحق؟! أم جهلوا ما جاءت به الروايات الصادقة والأخبار الصحيحة؟! أو علموا ذلك فتناسوا أما يعلمون أنّ الأرض لا تخلو من حجة إما ظاهراً أو مغموراً؟!

أوَ لم يعلموا انتظام أئمتهم بعد نبيّهم واحداً بعد واحد ، إلى أن أفضى الأمر ـ بأمر الله عزوجل ـ إلى الماضي (يعني أباه العسكري) فقام مقام آبائه عليهم‌السلام يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم. كانوا نوراً ساطعاً وشهاباً لامعاً وقمراً زاهراً. ثمّ اختار الله له ما عنده ، فمضى على منهاج آبائه عليهم‌السلام حذو النعل بالنعل ، على عهد عهده ووصية أوصى بها إلى وصيّ ستره الله عزوجل بأمره إلى غاية ، وأخفى

__________________

(١) العنكبوت : ١ و ٢.


مكانه بمشيئة للقضاء السابق والقدر النافذ. وفينا موضعه ولنا فضله. ولو قد أذن الله عزوجل فيما قد منعه عنه وأزال عنه ما قد جرى به من حكمة ؛ لأراهم الحق ظاهراً بأحسن حلية وأبين دلالة وأوضح علامة ، ولأبان عن نفسه وقام بحجّته. ولكنّ أقدار الله لا تُغالَب وإرادته لا تُرد وتوفيقه لا يُسبق.

فليدَعوا عنهم اتّباع الهوى ، وليقيموا على أصلهم الذي كانوا عليه ، ولا يبحثوا عمّا سُتر عنهم فيأثموا! ولا يكشفوا ستر الله عزوجل فيندموا. وليعلموا أنّ الحق معنا وفينا ، لا يقول ذلك سوانا إلّاكذّاب مفتر ، ولا يدعيه غيرنا إلّاضال غوي ، فليقتصروا منّا على هذه الجملة دون التفسير ، ويقنعوا من ذلك بالتعريض دون التصريح إن شاء الله (١)!

وكان جعفر بن علي قد كتب إلى بعض الشيعة ببغداد كتاباً يعرّفه فيه بنفسه ويُعلمه أنّه القيّم بعد أخيه وأنّ عنده من علم الحلال والحرام ما يحتاج إليه بل وغير ذلك من كل العلوم! فحمله الشخص المكتوب إليه إلى الشيخ أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري وأعلمه بالكتاب وأراه إياه ، فقرأه ، ثمّ كتب إلى صاحب الزمان كتاباً وأدرج معه كتاب جعفر ، فخرج الجواب إليه كما يلي :

بسم الله الرحمنِ الرحيم ، أتاني كتابك أبقاك الله والكتاب الذي أنفذته في درْجه ، وأحاطت معرفتي بجميع ما تضمّنه .. والحمد لله رب العالمين حمداً لا شريك له على إحسانه إلينا وفضله علينا. أبى الله عزوجل للحق إلّاإتماماً وللباطل إلّاإزهاقاً ، وهو شاهد عليَّ بما أذكره ووليّ عليكم بما أقوله ، إذا اجتمعنا ليوم لا ريب فيه وسُئلنا عمّا نحن فيه مختلفون.

إنه سبحانه لم يجعل لصاحب الكتاب (جعفر) على المكتوب إليه ولا عليك

__________________

(١) كمال الدين : ٥١٠ ، ٥١١ ، الحديث ٤٢.


ولا على أحد من الخلق جميعاً إمامة مفترضة ولا طاعة ولا ذمة. وسأُبيّن لكم جملة تكتفون بها إن شاء الله تعالى.

يا هذا ، يرحمك الله ، إنّ الله تعالى لم يخلق الخلق عبثاً ولا أهملهم سدى ، بل خلقهم بقدرته ، وجعل لهم أسماعاً وأبصاراً وقلوباً وألبابا ، ثمّ بعث إليهم النبيين عليهم‌السلام مبشّرين ومنذرين يأمرونهم بطاعته وينهونهم عن معصيته ، ويعرّفونهم ما جهلوه من أمر خالقهم ودينهم ، وأنزل عليهم كتاباً ، وبعث إليهم ملائكة بينهم وبين من بعث إليهم ، بالفضل الذي جعله لهم عليهم ، وما آتاهم من الدلائل الظاهرة والبراهين الباهرة والآيات الغالبة.

فمنهم من جعل النار عليه برداً وسلاماً واتّخذه خليلاً ، ومنهم من كلّمه تكليماً وجعل عصاه ثعباناً مبيناً ، ومنهم من أحيى الموتى بإذن الله وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله ، ومنهم من علّمه منطق الطير واوتي من كل شيء.

ثمّ بعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله للعالمين ، وتمّم به نعمته وختم به أنبياءه. وأرسله إلى الناس كافّة ، وأظهر من صدقه ما أظهره ، وبيّن من آياته وعلاماته ما بيّن. ثمّ قبضه صلى‌الله‌عليه‌وآله حميداً فقيداً سعيداً ، وجعل الأمر من بعده إلى أخيه وابن عمّه ووصيّه ووارثه علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ثمّ إلى الأوصياء من ولده واحداً واحداً. أحيى بهم دينه وأتمّ بهم نوره.

وجعل بينهم وبين إخوتهم وبني عمّهم والأدنين فالأدنين من ذوي أرحامهم فرقاناً بيّناً ، يُعرف به الحجة من المحجوج والإمام من المأموم ؛ بأن «عصمهم» من الذنوب وبرّأهم من العيوب وطهّرهم من الدّنس ونزّههم من اللبس ، وجعلهم خزّان علمه ومستودع حكمته وموضع سرّه ، وأيّدهم «بالدلائل». ولولا ذلك لكان الناس على سواء ولادّعى أمر الله عزوجل كل أحد ، ولما عُرف الحق من الباطل ولا العالم من الجاهل.


وقد ادّعى هذا المبطل المفتري على الله الكذب بما ادّعاه ، فلا أدرى أية حالة هي له رجاء أن تتمّ دعواه! أبفقه في دين الله! فوالله ما يعرف حلالاً من حرام ولا يفرِّق بين خطأ وصواب. أم بعلم! فما يعلم حقّاً من باطل ولا محكماً من متشابه. ولا يعرف حدّ الصلاة ووقتها! أم بورع! فالله شهيد على تركه الصلاة الفرض أربعين يوماً يزعم ذلك لطلب الشعوذة (١)! ولعلّه قد تأدّى خبره إليكم ، وهاتيك ظروف مسكره منصوبة ، وآثار عصيانه لله عزوجل مشهورة قائمة. أم بآية! فليأتِ بها. أم بحجة! فليُقمها. أم بدلالة! فليذكرها.

فالتمِس ـ تولّى الله توفيقك ـ من هذا الظالم ما ذكرتُ لك وامتحنه ، وسله عن آية من كتاب الله يفسّرها ، أو صلاة فريضة يبيّن حدودها وما يجب فيها لتعلم حاله ومقداره ويظهر لك نقصانه وعَواره ، والله حسيبه.

حفظ الله الحق على أهله وأقره في مستقرّه ، وقد أبى الله عزوجل أن تكون الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما‌السلام. وإذا أذن الله لنا في القول ظهر الحق واضمحلّ الباطل وانحسر عنكم. وإلى الله أرغب في الكفاية وجميل الصنع والولاية. وحسبنا ونعم الوكيل ، وصلّى الله على محمد وآل محمد (٢).

وكان ببغداد رجل من الشيعة يُدعى ابن أبي غانم القزويني لم يؤمن بوجود الخلف الحجة بعد العسكري عليه‌السلام ، وكان يشاجر الشيعة في ذلك فيُدخل عليهم الريب والشك والحيرة ، فكتب جماعة من الشيعة كتاباً في ذلك وأنفذوه إلى الناحية المقدسة ، فورد جواب كتابهم بخطه عليه‌السلام :

بسم الله الرحمنِ الرحيم .. إنه انهي إليّ ارتياب جماعة منكم في الدين

__________________

(١) هذا أقدم ما بأيدينا من أخبارهم عليهم‌السلام عن أربعين المشعوذين من الصوفية وغيرهم.

(٢) كتاب الغيبة للطوسي : ٢٨٧ ـ ٢٩٠ ، الحديث ٢٤٦.


وما دخلهم من الشك والحيرة في ولاة أُمورهم ، فغمّنا ذلك لكم لا لنا ، وساءنا فيكم لا فينا ، لأنّ الله معنا ولا فاقة بنا إلى غيره ، والحق معنا فلن يوحشنا من قعد عنّا «ونحن صنائع ربنا والخلق بعد صنائعنا» (١).

يا هؤلاء! ما لكم في الريب تردّدون ، وفي الحيرة تنتكسون؟! أو ما سمعتم الله عزوجل يقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (٢)) أو ما علمتم ما جاءت به الآثار ممّا يكون ويحدث في أئمتكم على الماضين والباقين منهم؟! أو ما رأيتم كيف جعل الله لكم معاقل تأوون إليها وأعلاماً تهتدون بها ، من لدن آدم عليه‌السلام إلى أن ظهر الماضي عليه‌السلام ، كلما غاب علَم بدا علَم ، وإذا أفِل نجم طلع نجم. فلمّا قبضه الله إليه ظننتم أنّ الله أبطل دينه وقطع السبب بينه وبين خلقه! كلّا ما كان ذلك ولا يكون حتى تقوم الساعة ويظهر أمر الله وهم كارهون.

وإنّ الماضي عليه‌السلام مضى سعيداً فقيداً ، على منهاج آبائه عليهم‌السلام حذو النعل بالنعل! وفينا وصيته وعلمه ، ومن هو خلفه ويسدّ مسدّه ، لا ينازعنا موضعه إلّا ظالم آثم ، ولا يدّعيه دوننا إلّاجاحد كافر! ولولا أنّ أمر الله تعالى لا يُغلب وسرّه لا يُعلن ولا يُظهر ، لظهر لكم من حقّنا ما تبهر منه عقولكم ويُزيل شكوككم ، لكنّه ما شاء الله كان ولكل أجل كتاب. فاتقوا الله وسلّموا لنا وردّوا الأمر إلينا ، فعلينا الإصدار كما كان منا الإيراد ، ولا تحاولوا كشف ما غُطّي عنكم ولا تميلوا عن

__________________

(١) الصنائع جمع الصنيعة : الاحسان ، وجاء في كتاب علي عليه‌السلام إلى معاوية ، نهج البلاغة ، كتاب ٢٨ عن الفتوح لابن أعثم ٢ : ٩٦١ كما في المعجم المفهرس لنهج البلاغة : ١٣٩٥ ولم نجده في أنساب الأشراف.

(٢) النساء : ٥٩.


اليمين وتعدلوا إلى الشمال. واجعلوا قصدكم إلينا بالمودة على السنّة الواضحة. فقد نصحت لكم والله شاهد عليَّ وعليكم.

ولولا ما عندنا من محبة صلاحكم ورحمتكم والإشفاق عليكم ؛ لكنّا في شغل عن مخاطبتكم ممّا قد امتُحنّا به من منازعة الظالم العُتلّ الضال ، المتابَع في غيّه المضاد لربّه ، الداعي ما ليس له الجاحد حق من افترض الله طاعته ، الظالم الغاصب! ولي في ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اسوة حسنة! وسيُردي الجاهل رداءة عمله! وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار!

عصمنا الله وإياكم من المهالك والأسواء والآفات والعاهات كلّها برحمته ، فإنه وليّ ذلك والقادر على ما يشاء ، وكان لنا ولكم ولياً وحافظاً. والسلام على جميع الأوصياء والأولياء ، والمؤمنين ورحمة الله وبركاته ، وصلّى الله على محمد وآله وسلّم تسليماً (١).

وقد مات جعفر الكذّاب في سنة (٢٧١ ه‍) وعمره (٤٥) عاماً ، فكان كما جاء في أواخر هذه الرسالة : «وسيُردي الجاهلَ رداءة عمله» فهذه الكتب كانت في هذه الفترة العشر سنين بين (٢٦٠ ه‍) إلى (٢٧١ ه‍). بل يبدو أنّ الكتابين الآخِرين من هذه الكتب الثلاثة كانا كالكتاب الأول على عهد السفير الأول أيضاً.

وقال الطوسي : وكانت توقيعات صاحب الأمر عليه‌السلام تخرج على يدي عثمان بن سعيد .. إلى شيعته وخواص أبيه أبي محمد عليه‌السلام بالأمر والنهي والأجوبة عمّا يسأل الشيعة عنه ، إذا احتاجت إلى السؤال فيه ، بالخطّ الذي كان يخرج في حياة الحسن عليه‌السلام .. إلى أن توفي عثمان بن سعيد «رحمه‌الله ورضي عنه» وغسّله ابنه أبو جعفر وتولّى القيام به (٢).

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٢٨٥ ـ ٢٨٧ ، الحديث ٢٤٥.

(٢) كتاب الغيبة للطوسي : ٣٥٦.


ودفنه في الجانب الغربيّ من بغداد في شارع الميدان في مسجد درب جَبَلة يمنة الداخل إليه في قبلة المسجد ، في بيت ضيق مُظلم عليه باب إلى جنب محراب المسجد (١) بلا تاريخ.

فروى الصدوق عن عبد الله بن جعفر الحميري قال : خرج التوقيع إلى الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان العمري في التعزية بأبيه وفيه : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، تسليماً لأمره ورضاءً بقضائه. عاش أبوك سعيداً ومات حميداً ، فرحمه‌الله وألحقه بأوليائه ومواليه عليهم‌السلام ، فإنه لم يزل مجتهداً في أمرهم ، ساعياً فيما يقرّبه إلى الله عزوجل وإليهم. نضّر الله وجهه وأقاله عثرته».

وفي فصل آخر : «أجزل الله لك الثواب وأحسن لك العزاء ، رُزئت ورُزئنا ، وأوحشك فراقه وأوحشنا ، فسرّه الله في منقلبه. وكان من كمال سعادته : أن رزقه الله عزوجل ولداً مثلك يخلفه من بعد ويقوم مقامه بأمره ويترحّم عليه! وأقول : الحمد لله ، فإنّ الأنفس طيّبة بمكانك ، وما جعله الله عزوجل فيك وعندك. أعانك الله وقوّاك وعضدك ووفقك ، وكان الله لك ولياً وحافظاً ، وراعياً وكافياً ومعيناً» (٢).

الشيخ محمد الأسدي العَمري :

أسند الطوسي عن عبد الله بن جعفر الحميري : أنّه لمّا مضى الشيخ عثمان أتتنا الكتب بالخطّ الذي كنّا نكاتَب به بإقامة ابنه أبي جعفر محمد مقامه.

منها ما خرج إلى محمد بن إبراهيم بن مهزيار الأهوازي وفيه : والابن ـ وقاه الله ـ لم يزل ثقتنا في حياة الأب «رضي الله عنه وأرضاه ونضّر وجهه»

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٣٥٨.

(٢) كمال الدين : ٥١٠ ، الباب ٤٥ ، الحديث ٤١.


يجري عندنا مجراه ويسدّ مسدّه ، وعن أمرنا يأمر الابن وبه يعمل «تولّاه الله» فانته إلى قوله وعرّف معاملينا ذلك» (١).

وكأنّه كان في الشيعة من كان بحاجة إلى أن يتبيّن أمر العمريّ الابن ، منهم إسحاق بن يعقوب ، وكأنه أخو الشيخ محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي ، روى الصدوق عنه عن (أخيه) إسحاق بن يعقوب : أنه كتب مسائل أشكلت عليه وسلّمها إلى الشيخ محمد العمري وسأله أن يوصلها ، وفيها السؤال عن العمريّ نفسه ، قال : فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الدار عليه‌السلام وفيه : «وأمّا محمد بن عثمان العمري» «رضي الله عنه وعن أبيه من قبل» فإنه ثقتي ، وكتابه كتابي» (٢).

أسند ذلك الصدوق عن الكليني في سوى «الكافي» أما فيه فقد أسند عن أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري القمي : أنه سأل العسكري عليه‌السلام : عن مَن آخذ وقولَ من أقبل؟ فقال : العمري وابنه ثقتان ، فما أدّيا إليك فعنّي يؤديان وما قالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما ، فإنهما الثقتان المأمونان (٣).

ولذا روى الطوسي عن هبة الله بن محمد بن أحمد الكاتب قال : لمّا كان قد تقدّم النصّ على أبي جعفر محمد بن عثمان بالأمانة والعدالة والأمر بالرجوع إليه في حياة الحسن العسكري عليه‌السلام وبعده من أبيه الشيخ عثمان بن سعيد ، فلم تختلف

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٣٦٢ الحديث ٣٢٤ و ٣٢٥.

(٢) كمال الدين : ٤٨٣ الحديث ٤ ، الباب ٤٥ ، والغيبة للطوسي : ٢٩٠ ، الحديث ٢٤٧ كلاهما عن الكليني ، وليس في الكافي. وهو التوقيع الشريف الدال على المراجعة في الحوادث الواقعة إلى فقهاء رواة أخبارهم عليهم‌السلام. (التقليد وولاية الفقهاء).

(٣) أُصول الكافي ١ : ٣٣٠ الحديث ١ ، باب التسمية.


الشيعة في أمانته ولم يرتابوا في عدالته. كانت التوقيعات تخرج إلى الشيعة في المهمات على يده طول حياته ، بالخطّ الذي كانت تخرج في حياة أبيه ، لا يعرف الشيعة في هذا الأمر غيره ، ولا ترجع إلى أحد سواه.

وظهرت على يده معجزات الإمام ، ونُقلت عنه دلائل كثيرة ، وأُمور أخبرهم بها عنه ، زادتهم بصيرة في هذا الأمر هي مشهورة عند الشيعة (١).

ولوكالته مع أبيه منذ العسكري عليه‌السلام قال سبطه هبة الله بن محمد بن أحمد الكاتب : أنه كان يتولّى هذا الأمر نحواً من خمسين سنة! يحمل الناس إليه أموالهم ، وهو يُخرج إليهم التوقيعات بخط العسكري عليه‌السلام في المهمات من أمر الدنيا والدين ، وفي ما يسألونه من المسائل ، بالأجوبة العجيبة ، ثمّ بالخطّ الذي كان يخرج في حياة العسكري عليه‌السلام ، حتى توفي في سنة (٣٠٤ ه‍) وقال أبو غالب الزراري في آخر جمادى الأُولى سنة (٣٠٥ ه‍) (٢).

وستأتي أخبار وفاته واستخلافه حينها الحسين بن روح النوبختي في حوادث عام (٣٠٥ ه‍).

حوادث الخمسين عاماً :

بعد أن مرّ ذكر خبر موقف المعتمد العباسي في أحداث وفاة العسكري عليه‌السلام في (٢٦٠ ه‍) انصرفنا عن استعراض الأحداث السياسية إلى أخبار السفيرين الأولين في عهد الغيبة الصغرى ، فأرى هنا أن أعود إلى استعراض الأحداث السياسية :

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٣٦٢ ، الحديث ٣٢٧.

(٢) كتاب الغيبة للطوسي : ٣٦٦ ، الحديث ٣٣٤.


سوابق الصفار ، وغلبته بطبرستان :

قال المسعودي : كان الليث بن يعقوب الصفّار ، في حال صغره صفّاراً ، ثمّ خرج في مطوّعة سجستان إلى حرب الشراة الخوارج إلى مدينتهم ممّا يلي بلاد سجستان المعروفة بأوق ، واتّصل بدرهم بن نصر ، وترقّى به الأمر إلى أن دخل بلاد فيروز بن كبك ملك زابلستان ، ثمّ دخل بلاد هراة ثمّ بلخ ، ثمّ عاد إلى بلاد نيسابور فقبض على محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر بن الحسين الخزاعي (مولاهم) ثمّ رحل إلى بلاد طبرستان والمتغّلب عليها الحسن بن زيد الحسني (الزيدي) (١) وذلك في سنة (٢٦٠ ه‍).

وكان السلطان المعتمد العباسي قد أرسل رسلاً يطلبون الحسن بن زيد الحسني ، فلمّا قصده الصفّار راسلوا السلطان وقصدوا الصفّار برسالة من المعتمد ، فانكشف الحسن بن زيد وأمعن يعقوب في تعقيبه ومعه رسل السلطان ، فلمّا رأى بعضهم طاعة رجال الصفّار له وما كان منهم في تلك الحرب ، قال له : أيها الأمير! ما رأيت كاليوم! فقال له الصفار : وأعجب منه ما اريك إياه! ثمّ قربوا من الموضع الذي كان فيه عسكر الحسن بن زيد فوجدوا الكُراع والسلاح والعُدد وبُدر الأموال وجميع ما خلّف في عسكره حين هزيمته ، وجدوه على حاله ، لم يلتبس أحد من أصحابه بشيء منه ولا دنوا إليه ، بل إنما عسكروا بقربه بحيث يرونه بالموضع الذي خلّفهم فيه الصفار. فقال رسول الخليفة : هذه سياسة ورياضة راضهم الأمير بها إلى أن تأتّى له منهم ما أراده.

وكان الصفار لا يجلس إلّاعلى قطعة مِسح بطول سبعة أشبار وعرض ذراعين ، وإلى جانبه تُرسه يتكئ عليه ، فإذا أراد النوم نزع راية فجعلها مخدّته واضطجع على تُرسه. وأكثر لباسه خفتان مصبوغ بلون فاختى!!

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١١٢.


فقال له بعض من ورد عليه برسالة السلطان : أيها الأمير! أنت في رياستك ومجلسك ليس في خيمتك إلّاسلاحك ومسح أنت عليه! واقترح عليه ما ذكر من الأثاث.

فقال له : إنّ رئيس القوم يأتمّ به أصحابه فيما يظهر من أفعاله وسيرته ، فلو استعملت ما ذكرت من الأثاث ، ائتمّ بي في فعلي مَن في عسكري ، ونحن نقطع في كل يوم من المهامة والمفاوز والأودية والقيعان ، فلا يصلح لنا إلّا التخفيف.

وكان في عسكره خمسة آلاف جمل وعشرة آلاف حمير شهب عُرفت بالصفّارية! لحمل الأثقال (١).

وكان قد ضرب ألف عمود من ذهب وألف عمود من فضّة عُدة للنوائب (بدلاً عن بيوت الأموال والخزائن) وانتخب من أصحابه ألف رجل على اختباره لهم والأثر الظاهر منهم ونكايتهم في حروبهم ، فجعلهم أصحاب أعمدة الذهب ، كل عمود منها فيه ألف مثقال! ثمّ يليهم في البأس والأثر فوج ثان (ألف رجل) هم أصحاب أعمدة الفضة. فإذا كانت الأعياد ، أو الأيام التي يحتاج فيها إلى الاحتفال ومباهاة الأعداء دفع إليهم تلك الأعمدة (٢).

وبلغ من طاعة أتباعه وظهور طاعتهم له : أنه رئي رجل من ذوي المراتب من قوّاده والدرع الحديد على بدنه بلا ثوب عليه! فسُئل عن ذلك فقال : نادى منادي الأمير : البسوا السلاح ، وكنت عرياناً أغتسل من احتلام ، فلبست الدرع بلا تشاغل بالثياب!

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١١٦ ـ ١١٨.

(٢) مروج الذهب ٤ : ١١٥ ، ١١٦.


بل تلقّب بأمير المؤمنين ، وهو بأرض فارس ، وخيله يرعى ويرتع ، وأراد الرحيل فنادى مناديه بقطع الدواب عن الرعي ، فأسرع رجل منهم إلى دابته وأخرج الحشيش من فمها وقال بالفارسية يخاطبها : «أمير المؤمنين! دواب را ازتر بُريده است» وتعريبه : إنّ أمير المؤمنين قطع الدواب عن الرُطبة (١)!

هزيمة المعتمد لعسكر الصفّار :

تزامنت أوائل أمر الصفّار مع أوائل مقاتل الزنوج ، فاتّهم الصفّار الخليفة بإهماله أمر صاحب الزنج وخرج منكراً عليه وعلى الموالي معه إضاعتهم الدين ، وقال في مسيره إليه أبياتاً هي :

خراسان أحويها وأعمال فارس

وما أنا من ملك العراق بآيس

إذا ما امور الدين ضاعت واهملت

ورثّت فصارت كالرسوم الدوارس

خرجت بعون الله يمناً ونصرة

وصاحب رايات الهدى غيرحارس (٢)

وكان مسيره نحو العراق في (٢٦٢ ه‍) في جيوش عظيمة ، حتى نزل دير العاقول بين واسط وبغداد على شاطئ دجلة. وبلغ ذلك إلى المعتمد في سامرّاء.

وفي الثالث من جمادى الآخرة استخلف المعتمد ابنه المفوّض وخرج هو من سامراء فعسكر في الموضع المعروف بالقائم من سامرّاء ، ثمّ دخل منها إلى بغداد فجازها حتى وصل إلى سيب بني كوما إلى جهة دير العاقول في الخامس من شهر رجب ، وفي التاسع منه واقع الصفّار في الموضع المعروف باصطربد بين السيب ودير العاقول. وكان على ميمنته موسى بن بُغا ، وفي القلب الموفّق أخو

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١١٤ ، ١١٥.

(٢) مروج الذهب ٤ : ١١٤.


المعتمد (وعلى ميسرته) إبراهيم بن سيما أو محمد بن اوتامش التركي. وحمل الصفار على أصحاب السلطان في ذلك اليوم بضع عشرة حملة وقتل بيده خلقاً كثيراً ، وطعن محمد بن اوتامش ، وقصد موسى بن بغا على الميمنة وقتل المغربي المعروف بالمبرقع وخلقاً كثيراً من الناس ثمّ هُزم.

وكان السبب في هزيمة الصفّار في ذلك اليوم : أنّ نصيراً الديلمي مولى الحاجب سعيد بن صالح كان على الشذوات في بطن دجلة ، فوافى موخرة عسكر الصفار وسواده ، وخرج من دجلة فطرح النار في الخيول والحمير والإبل وهي خمسة آلاف جمل بُخاتي ، فتفرقت الإبل في ذيل العسكر وشردت الخيول واضطرب الناس في مصاف الصفار لمّا سمعوه ورأوه في عسكره وسواده من ورائهم. وفجّر جيش المعتمد عليه نهر السيب فغشى الماء الصحراء ، وعلم الصفار أنّ الحيلة قد توجهت عليه فنجا بنفسه والخواص من أوليائه ، وأتبعه جيش المعتمد وأهل القرى والسواد ، فغنموا الأكثر من ماله وعدده وفيها عشرة آلاف رأس من الدواب. وكان معه محمد بن طاهر الخزاعي (مولاهم) مقيداً فأُطلق ، وأتاه الموفق ففك قيوده وخلع عليه وردّه إلى مرتبته على خراسان.

وعاد الصفّار إلى الأهواز فاستولى عليها (١).

وفي شعبان (٢٦٢ ه‍) عاد المعتمد إلى سامرّاء (٢).

وحرب الروم والصين عام (٢٦٤ ه‍):

في سنة (٢٦٤ ه‍) تجهّز لحرب ثغور الروم عبد الله بن رشيد في أربعة آلاف

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١١٣ و ١١٤.

(٢) أنساب الأشراف : ٣١٩.


فارس ، فمرّ على سلوقية وخرشنة ثمّ بدندون مدفن المأمون وقتل وغنم ، وتوافق لقتالهم بِطريقا سلوقية وخُرشنة فلمّا انصرف من بدندون خرجا عليه بعسكريهما ، فأُسر عبد الله بن رشيد وحُمل إلى ملك الروم ، فتوافق خمسمئة من المسلمين فحملوا حملة واحدة حتى نجوا على خيولهم ، ونزل الباقون فعرقبوا دوابّهم وقاتلوا حتى قتلوا أربعة آلاف وخمسمئة (١)!

وكثر المسلمون في الصين! فخرج فيهم رجل وعظم جمعه وحاصر مدينة خانقوه وهي مدينة حصينة ولها نهر عظيم ، وفيها ناس كثير مسلمون ونصارى ويهود ومجوس! وغيرهم ، ففتحها عنوة ، وقتل ما لا يحصى ، ثمّ استولى على كثير من بلاد الصين ، ثمّ حاربه ملك الصين فانهزم جمعه (٢).

ابن طولون في الشام :

في (٢٦٥ ه‍) تمرّد أحمد بن طولون التركي والي مصر ، على المعتمِد ، فسار بعسكره من مصر إلى سيما وإلى حلب والعواصم في أنطاكية فحاصرها حتى فتحها وقتل سيما ، وملك حلب ثمّ دمشق وحمص وحماة وقنّسرين إلى الرّقة ، فأمر المعتمد بلعن ابن طولون على المنابر ، وأمر ابن طولون بلعن المعتمد ، حتى مات في سنة (٢٧٠ ه‍) وخلفه ابنه خمارويه (٣).

عاقبة يعقوب ، وطاعة عمرو :

في شوال سنة (٢٦٥ ه‍) مات يعقوب الصفار في جُندي شاپور ، وخلّف

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول لابن العبري : ١٤٨.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢٩.

(٣) تاريخ مختصر الدول : ١٤٨.


في بيت ماله خمسين ألف ألف (مليون) درهم وثمانمئة ألف دينار ، وخلفه أخوه عمرو (١).

وكان قد جاء يعقوب رسول من الخليفة المعتمد ليستميله ، فأحضره وجعل عنده رغيف خبز يابس يسمّى بالفارسي خوشكار وبصلاً وسيفاً! فقال للرسول : قل للخليفة : إن متّ فقد استراح مني واسترحت منه ، وإن عوفيت فليس بيني وبينه إلّاهذا السيف! فإن كسرني وأفقرني عُدت إلى أكل هذا الخبز والبصل! ثمّ مات.

وقام بعده أخوه عمرو بن الليث فكتب إلى الخليفة بطاعته ، فولّاه الموفّق أخ الخليفة إصفهان إلى خراسان وسجستان وكرمان حتى السند (٢).

مصير صاحب الزنج :

قال المسعودي : غلب صاحب الزنج على البصرة وأكثر كور الأهواز وما يلي أرّجان من أرض فارس ، ومن العراق على واسط إلى النعمانية وشاطئ دجلة إلى جرجرايا من النهروان ، وإلى الطفوف من نواحي الكوفة (٣).

قال : وفي ربيع الآخر سنة (٢٦٧ ه‍) قدّم الموفّق العباسي ابنه أبا العباس إلى سوق الخميس لحرب صاحب الزنج ، وكان فيها من قبله صاحبه الشعراني في جمع كثير من الزنوج ، فتحصّن بها ، ففتحها أبو العباس وقتل من كان فيها من الزنوج وغنم كل ما فيها ، وفتح مواضع أُخرى كثيرة. وسار الموفق إلى الأهواز

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١١٤.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٣٠.

(٣) التنبيه والإشراف : ٣١٩.


فأصلح ما أفسده الزنوج وعاد إلى البصرة مُنازلاً لصاحب الزنج بها. وقد كان أتى بالبصرة في وقعة واحدة على قتل ثلاثمئة ألف منهم! واختفى كثير من الناس في الدور والآبار ، ويظهرون بالليل فيأخذون الكلاب فيذبحونها ويأكلونها ، والسنانير والفئران حتى أفنوها حتى لم يقدروا على شيء منها ، فكانوا إذا مات أحدهم أكلوه! ويراعى بعضهم موت بعض ، ومن قدر منهم على صاحبه قتله وأكله! وعدموا الماء العذب.

وذُكر عن امرأة منهم ، قال الراوي : كنا على مشرعة عيسى بن أبي حرب إذ رأينا امرأة تبكي ومعها رأس ، فقيل لها : ويحك ما لك تبكين؟ قالت : اجتمعوا على اختي فما تركوها تموت موتاً حسناً! حتى قطّعوها ثمّ لم يعطوني من لحمها شيئاً إلّارأسها هذا!

وبلغ من أمر عسكره : أنه كان ينادى فيه على المرأة من ولد الحسن والحسين عليهما‌السلام ومن ولد العباس وغيره من ولد هاشم وقريش والعرب ، يُنادى عليها بنسبها : هذه ابنة فلان الفلاني ، وتُباع بالدرهمين والثلاثة! فلكل زنجي منهم العشرة والعشرون والثلاثون! يخدمنهم ونساءَهم الزنجيات.

وقد تكلم الناس في مقدار ما قَتل في سنيّ قتاله وحكمه (١٤ عاماً) فمكثّر ومقلّل ، وكلا الفريقين يقول في ذلك حدساً وظنّاً إذ كان شيئاً لا يدرك ولا يُضبط ، فالمكثّر يقول : إنه أفنى من الناس ما لا يدركه العدد ولا يقع عليه الإحصاء فلا يعلمه إلّاالله! ممّا أباد من أهل الضياع والأمصار والبلدان ، والمقلّل يقول : أفنى منهم خمسمئة ألف نفر (١)! ومنهم من يقول : إنّ ذلك كان ألف ألف (مليوناً) وأكثرهم يرى أنّ ذلك لا يحيط به الإحصاء ولا يحصره العدد كثرة وعِظماً!

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١١٩ ، ١٢٠.


وكان مقتله في صفر سنة (٢٧٠ ه‍) وأُدخل رأسه إلى بغداد في أواخر جمادى الآخرة (٢٧٠ ه‍) وقد زُيّنت له الطرق وعُقدت له القباب ، حتى أدخلوه على المعتمد (١).

وكان في كرخ بغداد من فروع دجلة نهر عيسى وانبثق في هذه السنة ، ففاض الماء في الكرخ حتى تهدّم سبعة آلاف دار فيها (٢)!

مصير علوي في حكم ابن طولون :

طال المنون ابن طَولون في سنة السبعين بعد المئتين وخلفه ابنه خمارويه. وقبل موته وقع ما يلي :

روى ابن طاووس عن محمد بن علي العلوي الحسيني المصري قال : سُعي إلى أحمد بن طولون فداهمني أمر عظيم وهمّ شديد من قِبله حتى خشيته على نفسي ، فخرجت من مصر إلى الحجّ ثمّ صرت إلى العراق لمشهد مولاي الحسين عليه‌السلام عائذاً لائذاً مستجيراً به من سطوة ابن طولون ، فأقمت بالحائر أُسبوعاً أدعو وأتضرّع ليلي ونهاري.

وبين اليقظة والنوم من ليلة الأحد من الأُسبوع الثاني تراءى لي وليّ الرحمان قيّم الزمان (عجل الله تعالى فرجه) فقلت له : أراد فلان هلاكي فلجأت إلى سيّدي الحسين عليه‌السلام أشكو إليه عظيم ما أراد بي!

فقال : إذا كانت ليلة الجمعة فاغتسل وصلّ صلاة الليل فإذا سجدت سجدة الشكر فابرك على ركبتيك وادع بهذا الدعاء وذكر لي دعاءً. ثمّ كرّر عليَّ هذا القول والدعاء في كل ليلة قبل الجمعة حتى حفظت الدعاء.

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣١٩.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٢٨.


وفي ليلة الجمعة اغتسلت ولبست ملابس جديدة وتطيّبت ، ثمّ صلّيت صلاة الليل وسجدت سجدة الشكر ثمّ جثوت على ركبتيّ ودعوت الله بالدعاء. فلما أمسيت ليلة السبت أتاني وقال لي : يا محمد ، قد أُجيبت دعوتك عند فراغك من الدعاء وقُتل عدوّك (؟) بيد مَن وَشى بك إليه (ابن طولون).

قال : فلما أصبحت ودّعت سيدي الحسين عليه‌السلام وخرجت إلى مصر ، فلما بلغت الأُردن رأيت رجلاً مؤمناً من جيراني بمصر فحدّثني أن أحمد بن طولون قد قبض ليلة الجمعة على خصمي (؟) فلم يصبح حتى ذبح من قفاه! وأُمر به فطُرح في النيل. وكان ذلك عند فراغي من الدعاء كما أخبرني مولاي عليه‌السلام (١).

أول شأن المهدي الإسماعيلي ؛ والقرمطي؟ :

في سنة (٢٧٠ ه‍) ظهرت من اليمن دعوة عبيد الله المهدي الفاطمي الإسماعيلي ، وفي (٢٦٨ ه‍) حجّ فالتقى بقبيلة كَتامة من مصر فصحبهم إلى مصر ، ثمّ صحبهم إلى المغرب إذ رأى منهم طاعة وقوة.

وفيها بالكوفة ظهر المدعو بالقرمطي ، وكان كيسانياً! يزيد في أذانه : وأن محمد بن الحنفية رسول الله! ويصلّي ويحج إلى بيت المقدس! وإنّما يصوم النوروز والمهرجان (٢)! كما ذكره السيوطي.

وسبقه ابن الأثير فذكر قبلتهم بيت المقدس ، إلّاأنّه ذكر لهم أذاناً يذكرون فيه كل أُولي العزم ، وذكر لهم صلاة خاصة! وأنّ عطلتهم كانت يوم الاثنين لا الجمعة ولا السبت ولا الأحد (٣)! وذكر ظهورهم بسواد الكوفة في سنة

__________________

(١) بحار الأنوار ٥١ : ٣٠٧ عن مهج الدعوات لابن طاووس.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٢٨.

(٣) الكامل في التاريخ ٦ : ٧٠.


(٢٧٨ ه‍) (١) وكذا اختاره ابن الوردي قال : في (٢٨٧ ه‍) تحرك بسواد الكوفة نبطي يُدعى بالنبطية : «كرم تيه» أي أحمر العين ، فأجابه من السواد والبادية مَن ليس لهم عقل ولا دين ، أخرج لهم كتاباً فيه : «بسم الله الرحمنِ الرحيم ، يقول «الفرج بن عثمان» من قرية «خصرانة» : إنه داعية المسيح عيسى وهو «الكلمة» وهو «المهدي» وهو «أحمد بن محمد بن الحنفية» وأنه تصوّر في جسم إنسان وقال (لي) : إنك الداعية ، وإنك «الناقة» وإنك «الدابة» وإنك يحيى بن زكريا! وإنك روح القدس! وعرّفه : أنّ الصلاة أربع ركعات : ركعتان قبل طلوع الشمس ، وركعتان قبل غروبها! وأنّ الأذان في كل صلاة أن يقول المؤذن ثلاث مرات : الله أكبر ، ومرتين أشهد أنّ لا إله إلّاالله ، ثمّ : أشهد أنّ آدم رسول الله! وأشهد أنّ نوحاً رسول الله ، وأشهد أنّ إبراهيم رسول الله ، وأشهد أنّ عيسى رسول الله ، وأشهد أنّ محمداً رسول الله ، وأشهد أنّ أحمد بن محمد بن الحنفية رسول الله! والقبلة بيت المقدس.

ولكنه عن تاريخ ابن المهذب المقري تراجع بتاريخ ظهوره إلى (٢٦٤ ه‍) ، وقال : بل زعموا أنهم يدعون إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد! قال : ثمّ صدر منهم ما لا يصدر من الكفار» (٢).

فلعلّهم علّلوا دعوتهم إلى الإسماعيلية أولاً إلى حوالي (٢٧٠ ه‍) ثمّ إلى الكيسانية لمّا رأوها منتشرة في بادية الكوفة وسوادها ، وظهروا عام (٢٧٨ ه‍).

وفيات أصحاب تاريخ وسنن :

في سنة (٢٧٣ ه‍) توفي محمد بن يزيد بن ماجة القزويني صاحب كتاب

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٦ : ٦٧.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٣٣.


السنن (معدود مع الصحاح الستة) قال ابن الوردي : وسننه أحسن «الكتب الستة» رحل لطلب الحديث من قزوين إلى الري فالعراق فالشام ومصر ، وله تفسير وتاريخ أحسن فيه.

وفي (٢٧٥ ه‍) مات أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني صاحب كتاب السنن أيضاً.

وفي (٢٧٦ ه‍) مات ابن قتيبة عبد الله بن مسلم صاحب كتاب «أدب الكاتب» و (٦٥) كتاباً آخر.

وفي (٢٧٧ ه‍) مات يعقوب بن سفيان الفسوي الفارسي قال : وكان «يتشيع»! وله تاريخ (١).

آخر أمر الموفّق مع المعتمد وبدء المعتضِد :

مرّ أن طلحة الموفق العباسي في عهد أخيه المعتمد وباسمه توفّق لإخفاق صاحب الزنج والزنوج معه بالبصرة ، ودخل برأسه إلى أخيه ببغداد منتصراً ، ومعه وفي مقدمته ابنه أبو العباس عام (٢٧٠ ه‍).

وفيها أيضاً طال الموت أحمد بن طولون التركي المصري وخلفه ابنه أبو الجيش خمارويه ، وجرّد جيشه للشامات. وفي السنة التالية (٢٧١ ه‍) بدأ النقرس برجلي الموفق وانتهى به بمرض الفيل!

قال المسعودي : في شوال من سنة (٢٧١ ه‍) وجّه الموفق ابنه أبا العباس لمحاربة جيش أبي الجيش خمارويه ، إلى الطواحين من أرض فلسطين ، فواقعه فهزمه واحتوى معسكره ، وانهزم أبو الجيش إلى مصر ، إلّا أنّ غلامه

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٣٢ وتاريخ الفسوي مطبوع منشور.


سعد الأعسر تخلّف فواقف أبا العباس فهزمه واستباح عسكره ، فانهزم أبو العباس إلى العراق (١).

فغضب عليه أبوه الموفّق فأوقفه بدار وزيره إسماعيل بن بلبل الشيباني (مولاهم) مضيقاً عليه ، وخرج أبوه الموفق إلى بلاد الجبال فآذربايجان ، ووافى من آذربايجان عليلاً مدنفاً متورّماً في بيت من الخشب مبطّناً بالحرير والخزّ ، يحملونه على أكتافهم متناوبين ، فدخل بغداد في صفر سنة (٢٧٨ ه‍) واشتدت علّته وارجف بموته.

وكان الوزير إسماعيل بن بلبل قد وكّل بأبي العباس مولاه بكتمر ليحبسه في المدائن على أقل من يوم من بغداد ، وأيس الوزير إسماعيل من الموفّق فأرسل إلى بكتمر أن ينصرف بأبي العباس إلى بغداد ، فدخل إليها من يومه.

وبلغ إسماعيلَ الوزير صلاح حال الموفّق ، فأخرج الخدّام : يأنس ومؤنس وصافي الحرمي وغيرهم من خدم الموفق اخرجوا أبا العباس من حبسه في دار ابن إسماعيل الوزير وساروا به إلى الموفق.

وأسرع سائر الخدم مع عامة الناس إلى نهب دور الأجلّة والكتّاب فنهبوها وفتحوا أبواب السجون والجسور فلم يبق أحد منهم في الحديد والمَطبق إلّااخرج فكان أمراً فظيعاً!

وخلع الموفق على ابنه أبي العباس وسمّاه المعتضد وانصرفوا من عنده .. ومكث الموفق بعد ذلك ثلاثة أيام ثمّ توفي في أواخر صفر سنة (٢٧٨ ه‍) وقام المعتضِد بتدبير أُمور الناس ، وخلع ابن عمه جعفر المفوّض بن المعتمِد من ولاية عهده ، واستمر إسماعيل بن بلبل في وزارته ثمّ عزل وعذّب حتى

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٢٢.


مات سنة (٢٧٨ ه‍) ومات بعده المعتمِد سنة (٢٧٩ ه‍) وقتلته مداومته لشرب النبيذ! ثمّ سلّموا على المعتضِد بالخلافة (١).

خلافة المعتضِد :

مرّ الخبر عن عدم اعتماد طلحة الموفق أخو المعتمد على تدبيره ، وتولّى هو تدبيره حتى أنه عيّن ابنه أحمد لولاية العهد وأخذ البيعة له بذلك ولقّبه بالمعتضِد ، فتولّى بعد أبيه الموفّق وعمّه المعتمِد ، وهو في الأربعين من عمره تقريباً. واستوزر عبيد الله بن سليمان. وجعل حاجبه صالح الأمين. وقاضيه إسماعيل بن إسحاق الجهضمي الأزدي مولاهم ، وكان مالكياً! وعبد الحميد البصري الحنفي على قضاء شرقيّ بغداد (٢) وأُمّه جارية رومية ، وقام مولاه بدر بتدبير خلافته والقوّاد والجيوش وجميع المعارف في الآفاق. ونديمه عبد الله بن حمدون (٣) واتخذ المطامير وفيها صنوف العذاب وعليها نجاح الحرمي (٤).

وكان أبوه الموفق قد غضب عليه فحبسه مدّة ، فرأى فيه رؤيا بشّرته بخلاصه وخلافته ؛ قال : رأيت كأنّ على دجلة شيخاً جالساً يمدّ يده إلى ماء دجلة فيسحب ماءها حتى تجفّ دجلة ، ثمّ يردّه من يده فتعود دجلة كما كانت! وكان حوله ناس سألتهم عنه قالوا : هذا علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقمت إليه وسلّمت عليه فقال لي : يا أحمد ، إنّ هذا الأمر سيصير إليك ، فلا تتعرض لولدي ولا تؤذهم! فقلت له : السمع والطاعة لك يا أمير المؤمنين!

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٣٩ ـ ١٤١.

(٢) التنبيه والإشراف : ٣٢٠ ، ٣٢١.

(٣) مروج الذهب ٤ : ١٤٢ و ١٤٣.

(٤) مروج الذهب ٤ : ١٤٥.


ولذا لما رُفع إليه أنّ محمد بن زيد الداعي العلوي (الحسني) صاحب طبرستان أرسل مالاً إلى بغداد سرّاً ليفرّق في آل أبي طالب ، وأُخذ الرجل إليه أنكر عليه إخفاء ذلك! وأمره بإظهاره (١) هذا مع أنه كان سفّاكاً للدماء شديد الرغبة في القتل بالتمثيل! كثير الإقدام عليه قليل الرحمة (٢)!

تولّى في شهر رجب ، واتخذ لنفسه مصلى قرب داره ، فلمّا كان الفطر صلّى بالناس فيه فكبّر في الأُولى بستّ تكبيرات ، وفي الثانية بواحدة ، ثمّ صعد ليعقد البيان فتعقّد لسانه فلم يُسمع منه شيء (٣)!

ولم يتساهل مع ابن سهل :

وكأنّ تساهله مع رسول الداعي العلوي الحسني من طبرستان بالأموال إلى رجال منهم ببغداد ، جرّأ محمد بن الحسن بن سهل ابن أخ الفضل بن سهل ذي الرياستين على الدعوة لمثله ببغداد ولا سيما بين جماعة من المستأمنين من فلول عسكر صاحب الزنج المدّعى العلوية بهتاناً وزوراً ، وكان له كتاب ألّفه من أخبار أنصاره. فأقرّ عليه جمع منهم لدى المعتضد ، فلمّا كبست قواته دار ابن سهل أصابوا لديه جرائد بأسماء رجال بايعوه لرجل من الطالبيين؟! فاخذوا وأُدخلوا

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٨١. وانظر تفصيل الخبر والرؤيا في الطبري ١٠ : ٤١ فذكر أنّ الرجل هو محمد بن ورد العطار والمال كان اثنين وثلاثين ألف دينار ليفرقها ببغداد والكوفة ومكة والمدينة ، والرؤيا بكيفية أُخرى في عام (٢٨٢ ه‍).

(٢) مروج الذهب ٤ : ١٤٤.

(٣) مروج الذهب ٤ : ١٤٥ وقال شعراؤه : ما ذلك من إفحام ولكن من احتشام! وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٣٢ : أنّ ذلك كان في صلاة الأضحى.


على المعتضِد فأقرّوا بذلك ، فأمر بهم فقُتلوا! ثمّ أراد المعتضد بالله من محمد بن الحسن بن سهل أن يدلّه على الطالبي فأبى وقال له : لو شويتني بالنار لما كشفت لك! عمّن أقررت بإمامته ودعوت الناس إلى طاعته ، فاصنع ما أنت صانع! فأمر المعتضِد بشَويه على النار ، فشدّ بين رماح وادير على النار يُشوى كما يُشوى الدجاج حتى مات وتفرقع جسمه ثمّ صُلب في غربيّ بغداد بين الجسرين (١).

فكان هذا مصير هذه الأُسرة بالعراق. وبهذا عُرف مستوى احتساب المعتضِد واقترابه من آل أبي طالب!

ابن أبي دُلف لرافع بن الليث :

مرّ الخبر عن تمرّد يعقوب بن الليث الصفّار حتى وفاته ، وخلفه أخوه رافع بن الليث وتحمّل إلى بلاد الري متاخماً لبلاد طبرستان وعليها الداعي العلوي محمد بن زيد الحسني. فكتب المعتضد إلى أحمد بن أبي دلف أن يواقع رافع الصفّار ، في أواخر العام الهجري ، فسار أحمد إلى رافع فالتقوا حول الريّ لآخر ذي القعدة الحرام ، فتحاربوا أياماً حتى ولّى رافع ، واستولى ابن أبي دلف على عسكره. ووصل خبرهم إلى بغداد لأوائل ذي الحجة لعام (٢٧٩ ه‍) (٢).

وفي سنة (٢٨٠ ه‍) فشا أمر داعي المهدي الفاطمي الإسماعيلي في القَيروان ، فقاتله صاحبها صاحب افريقية ، فعلا أمر الداعي الفاطمي وزاد ولم يزل يزداد (٣).

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٥٤ ، ١٥٥.

(٢) مروج الذهب ٤ : ١٥٤.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٣٢.


زواج المعتضِد بقطر الندى :

حيث مات أحمد بن طولون المولى العباسي المتمرّد عليهم بدمشق وخلفه ابنه خمارويه أبو الجيش ، وتغيّر الخليفة ببغداد إلى أحمد المعتضد ، وجعل وليّ عهده ابنه علياً ولقّبه بالمكتفي بالله ، وكان لخمارويه ابنة لقّبها بقطر الندى ، فزفّها مع رسوله الحسن بن عبد الله بن الجصاص مع سبعة أشخاص من مصر إلى بغداد ومعهم هدايا كثيرة وأموال جليلة ، وليسعوا في تزويج قطر الندى بعليّ المكتفي.

فلمّا وصلوا إلى المعتضد قبلهم وطلع عليهم وتقبّل قطر الندى لنفسه! وكان ابن الجصاص قد حمل معها جوهراً لم يجتمع مثله عند خليفة قط! وكان المعتضِد يومئذ بمدينة بلد ، فجعل صداقها ألف ألف (مليون) درهم وطيباً وأمتعة من العراق والهند والصين ، فحمل المعتضد ذلك لها على الماء إلى بغداد وانحدر هو من مدينة بلد إليها ، وخصّ أباها أبا الجيش ببدرة من الجوهر الثمين فيها أنوك من الجوهر والياقوت وتاج وإكليل ووشاح ، فحملوها إلى مصر في رجب سنة ثمانين ومئتين (١).

وقال المعتضد لأصحابه : أكرموها بشموع عنبر ، وكان في خزانتهم أربعمئة من أتوار الذهب والفضة وأربعمئة شمعة عنبر ، فأعدّوا أربعمئة وصيفة وأوقدوا الشموع في العشاء بأيدي هذه الوصائف قدّام قطر الندى! فاستكثرها المعتضِد وقال لهم : اطفِئوا شمعنا واسترونا (٢).

وكان في جهازها عشر صناديق جوهر فيها أربعة آلاف تكّة مجوهرة (٣).

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٤٥ ، ١٤٦.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٣٧

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٣٢.


وكان من قواد العباسيين بخراسان محمد بن أبي الساج ، فاستدعاه المعتضِد وتزوّج ابنته لغلامه بدر بحضرته ، ثمّ رحّله من خراسان إلى مراغة من آذربايجان وبها عبد الله بن الحسين متغلّباً ، فافتتحها ابن أبي الساج وأخذ عبد الله واستصفى أمواله ثمّ قتله.

وكان قد مات نصر بن أحمد الساماني أمير خراسان وخلفه أخوه إسماعيل ، فسار إلى بلاد الترك وقاتلهم فقتل منهم عشرة آلاف وأسر خمسة عشر ألفاً منهم وهزم ملِكهم طنكش وأسر زوجته خاتون.

وكان الشراة الخوارج من الأباضية في عمان قد بلغوا نحو مئتي ألف ، وامامهم الصلت بن مالك ، وكان على البحرين أحمد بن ثور ، فأثاره المعتضد على الصلت ، فصمد إليه بجمعه ، فكانت له عليهم وافتتح عمان وقتل منهم مقتلة عظيمة ، ثمّ حمل كثيراً من رؤوسهم إلى المعتضد ببغداد ، فنُصبت على الجسور بها.

وكان أعراب بني شيبان ممّا يلي الجزيرة والزاب في الموضع المعروف بوادي الذئاب ، كانوا قد عتوا وأكثروا الفساد ، فخرج إليهم المعتضد بنفسه مع عسكره فقَتل كثيراً منهم وأَسر ذراريهم ووصل الموصل (١). كل ذلك في عام (٢٨٠ ه‍).

وفي سنة (٢٨١ ه‍) كان في دمشق من قواد العباسيين مولاهم أبو أخشيد طغج بن شبيب ، فسار من دمشق في عساكر كثيرة إلى الروم غازياً فدخل طرسوس ممّا يلي درب الراهب وبلاد برغوث حتى فتح مكورية وعاد إلى دمشق.

وبعد هزيمة رافع بن الليث عند جبل الريّ بلغته عن بلاد الجبال امور فحمل معه ابنه علياً المكتفي حتى أنزله بالريّ وولّاه عليها وأضاف إليها من

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٥٥ و ١٥٦.


همَدان إلى قم والريّ ثمّ قزوين إلى زنجان وأبهر! ودعا إليه عمر بن أبي دلف فقلّده الكرخ إلى إصفهان! ولم يعرض لصاحب بلاد طبرستان محمد بن زيد العلوي الحسني (١) وغارت مياه الريّ إلى طبرستان فقحطوا حتى أكلوا الجيف (٢)!

النوروز المعتضِدي رفقاً بأهل الخراج :

أجدب أهل البصرة واعتورهم عمّالهم بالجور في خراجهم ، فاجتمع خلق من أهل الرياسة والشرف والعلم ومن خُلطائهم ومتكلميهم ، وأولهم أبو خليفة الجُمحي مولاهم! ووفدوا على المعتضد في مراكب بحرية بيض مشحّمة بالشحم والنورة ، يشكون إليه ما نزل بهم من الجدب والجور (٣).

ففي (٢٨٢ ه‍) أمر المعتضد بافتتاح الخراج في النيروز المعتضدي رفقاً بهم وبعامة الناس ، وذلك عند ركون الشمس في أواخر الجوزاء في حزيران (٤) فعمّ الناس تأخر الخراج عنهم من إنعام المعتضد عليهم ، ونظمه الشعراء فأكثروا ووصفوه فأطنبوا ، منهم يحيى بن علي المنجم (٥).

إلّا أنه منعهم والقصّاص من القعود في الطرق ، ومنع الورّاقين من بيع كتبهم والفلسفة! وسنن المجوس في النيروز من إيقاد النيران وصبّ المياه (٦)!

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٥٧.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٣٢.

(٣) مروج الذهب ٤ : ١٤٩ ، ١٥٠.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٣٤ ، وفي الطبري ١٠ : ٣٩ : أنّ ذلك كان لأول سنة (٢٨١ ه‍).

(٥) مروج الذهب ٤ : ١٨٢.

(٦) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٣٢ ، وفي الطبري ١٠ : ٣٩ : كان ذلك في المحرم عام (٢٨١ ه‍). وفي : ٥٣ يقول : كان ذلك في جمادى الأُولى عام (٢٨٤ ه‍) ثمّ أطلقه لهم!


وفي السنة التالية أشاع المنجّمون : أنه في السنة القادمة تكثر الأمطار فتزيد المياه في الأنهار حتى يغرق العراق إلّايسيراً من بابل! فقلّت الأمطار وغارت المياه حتى دجلة حتى استسقى الناس ببغداد عدة مرّات (١).

حمْدان جدّ الحمْدانيين :

هو حمدان بن حمدون بن الحارث بن منصور بن لقمان التغلبي ، جدّ ناصر الدولة الحسن بن عبد الله الحمداني ، جمع جمعه وبنى لهم قلعة سمّاها بالصوّارة (أو ماردين) على عين الزعفران وأنفق عليها أموالاً جليلة وتحصّن بها ، فقصده المعتضد بعسكره حتى نزل عند القلعة ، فاستأمن إليه ابن حمدان : الحسين ، ومن معه من أصحابه ، وخرّب المعتضِد القلعة (٢). وضمّ الحسينَ بن حمدان إلى عسكره ، كان ذلك عام (٢٨١ ه‍).

وفي (٢٨٣ ه‍) خرج المعتضد بعسكره إلى تكريت لحرب هارون الشاري الخارجي ، وأخرج معه الحسين بن حمدان وسيّره لحرب الشاري ، فكانت بينهم حروب عظيمة انتهت بغلبة ابن حمدان على الشاري وأسره وأخيه بغير أمان. فألبسه درّاعة ديباج وجعل على رأسه برنس خزّ طويل وأركبه فيلاً ، وألبس أخاه مثله وأركبه على بعير ذي سنامين. وعبّأ المعتضد بالله جيوشه بباب الشماسيّة ببغداد أحسن ما يكون من التعبئة وأكمل هيئة ، ونُصبت له القباب وزُيّنت له الطرقات ، فشقّوا بغداد إلى القصر الحسني ، ودخل المعتضد بقباء أسود وقلنسوة

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول : ١٥١ ، وتاريخ ابن الوردي ١ : ٢٦٣ كلاهما في عام (٢٨٤ ه‍).

(٢) مروج الذهب ٤ : ١٥٧.


على فرس ، وعلى يساره أخوه عبد الله بن الموفّق وخلفه غلامه بدر ووزيره عبيد الله بن سليمان وابنه القاسم ، وهم في أثر الحسين بن حمدان وأصحابه. ثمّ خلع المعتضِد على ابن حمدان وطوّقه بطوق من ذهب ، وخلع على رؤساء أهله وفرسانه وأصحابه ، وشهرهم في الناس تكريماً وتقديراً لحسن بلائهم وفعالهم ، فعلا بذلك أمرهم وشأنهم (١).

كان ذلك في شرقيّ بغداد ، فلمّا عاد الناس إلى غربيّه تكاثفوا على الجسر فانخسف بهم كرسيّ أعلى الجسر ، وكان تحته زورق مملوء من الناس العابرين ، وسقط الجسر عليهم فغرق ممّن عُرف منهم نحو ألف نفر (٢)!

وأصبح الصفّار من الأنصار :

لمّا غلب المعتضد ببركة الحسين بن حمدان وعسكره على عسكر الشاري الضاري ، وآخرين قبله مثله ، ومنهم رافع بن الليث الصفّار ، رأى أخوه عمرو بن الليث أن يسالم الخليفة ببغداد.

ففي سنة (٢٨٣ ه‍) وردت بغداد هدايا من قبل عمرو بن الليث : منها مئة من مهارى خراسان وجمّازاتها ، وعليها صناديق كثيرة وفيها أربعة آلاف ألف (ملايين) درهماً ، ومن الجمّازات ما تجرّ عربة على عجلات عليها تمثال صنم من صفر مثال امرأة عليها وشاحان من فضة مرصّعة بالجواهر البيض والحُمر ،

__________________

(١) وكان حمدان قد هرب ، تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٣٤ فعاد إلى المعتضد ببغداد واستأمنه فأمنه. مختصر تاريخ الدول : ١٥٠. وفصّل الطبري ١٠ : ٣٩ ، ٤٠ كيفية حروبه واستجارته وقال : كان معه الأكراد ، وفي : ٤٣ و ٤٤ فصل حرب هارون الشاري واشتراط ابن حمدان على المعتضد.

(٢) مروج الذهب ٤ : ١٦٦.


وبين يديها أصنام صغار عليها الجواهر والحلي ، أوصلوها إلى المعتضد ، ثمّ أمر المعتضِد أن تُرد هذه التماثيل إلى مجلس الشرطة في شرقيّ بغداد فتُنصب للناس ثلاثة أيام!

فاشتغل الناس فيها عن أعمالهم بالنظر إليها! وكانت هي من مغانم عمرو بن الليث من بلاد الهند (١).

وانفصلت مصر ثمّ اتصلت :

تمرّد أحمد بن طولون مولى العباسيين بمصر والشام ومات ، فخلفه ابنه أبو الجيش خمارويه على دمشق وجعل ابنه الجيش على مصر ، وتودّد للمعتضد بتزويجه ابنته قطر الندى إياه كما مرّ ، وكان قد بنى لنفسه قصراً في سفح جبل دير مرّان يشرب فيه الخمر مع غلامه طُغج ، وذات ليلة تتآمر عليه عدة من سودان مماليكه فخرج بهما خادمهم إلى أميال من الجبل فرموهم بالنشّاب وقتلوهم (٢).

وحملوا أبا الجيش في تابوت إلى مصر (الفسطاط) وعلى بابه خرج إليه ولده الأمير جيش ومعه الأُمراء والأولياء ، وأخرجوا أباه من التابوت وجُعل على سرير فصلّى عليه القاضي العبداني ثمّ دُلّي في قبره (٣).

وفي سنة (٢٨٣ ه‍) نقم المصريون على الجيش تقدُّمه على أخيه سلامة المؤتمن وتقديمه لغلامه نجح الطولون فشغبوا عليه وقتل أبو محمد المارداني

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٤٨.

(٢) مروج الذهب ٤ : ١٥٨.

(٣) مروج الذهب ٤ : ١٥٩.


عليّ بن أحمد المارداني ، وخرج قوّاد من عسكره فلحقوا بالمعتضد فخلع عليهم (١) فخلعوا الجيش وأمّروا أخاه هارون فصالح المعتضد كل سنة بمليون ونصف دينار (٢).

وعقاب ، وشغب ببغداد :

وكان المعتضِد ولّى الحسبة ببغداد أحمد بن الطيب السرَخْسي من أصحاب يعقوب بن إسحاق الكندي الفيلسوف ، وفي سنة (٢٨٣ ه‍) رفع إليه تقرير عليه باكتنازه الأموال ، فعزله وسلّمه إلى غلامه بدر ، فوجّه إلى داره من قرّر جواريه على أمواله حتى استخرجوها وقبضوا على جميع أمواله ، فكان جملة ما حصل من ثمن الآلات والعين والورق مئة وخمسين ألف دينار.

واجتمع الخدم في داره إليه وكلّموه بما يلحقهم في الأزقة والشوارع والدروب والطرق من الصغير والكبير من العوام من صياحهم بالسودان منهم : يا عاق يا طويل الساق ، وبالحمر منهم : يا عقيق صبّ ماي واطرح دقيق! فأمر المعتضِد فاخذ جمع منهم وضُربوا سياطاً ، فشغبوا لذلك (٣).

الشيعة في حدود (٢٨١ ه‍):

كان الشيعة يكاتبون إلى الناحية المقدّسة ببعض حوائجهم ، منهم : علي بن زياد الصيمري كتب يطلب كفناً لنفسه ، وكأنه كان شيخاً كبيراً ، فجاءه جوابه :

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٧٠.

(٢) تاريخ مختصر الدول : ١٥١ ، وابن الوردي ١ : ٢٣٥.

(٣) مروج الذهب ٤ : ١٧٠ ، ١٧١ ، وللتفصيل انظر الطبري ٨ : ٥٣ ، ٥٤.


إنك تحتاج إليه في سنة (إحدى) وثمانين ومئتين ، وأُرسل إليه بالكفن في السنة نفسها ومات بعد ذلك بشهر أو شهرين (١).

وكأنّ حالة التقية كانت قد أبقت بعض الشيعة لا يعلم إلى من يفزع في مذهبه بل حتى لا يعرف إمام زمانه معرفة تامة ، منهم : أحمد بن إبراهيم قال : في سنة (٢٨٢ ه‍) حججت وكان قد تعرّف على الهادي عليه‌السلام وأُخته حكيمة بنت الجواد عليه‌السلام ، فدخل عليها وكلّمها من وراء الحجاب ، قال : سألتها عن دينها ، فسمّت لي من تأتمّ به حتى ذكرت ابن أخيها الحسن العسكري عليه‌السلام ثمّ سمّت ابنه. فقلت لها : سميتيه معاينة أو خبراً؟ قالت : بل كتب به أبو محمد (العسكري عليه‌السلام) إلى أُمه. قلت : فأين هذا المولود؟ قالت : مستور. قلت : فإلى من تفزع الشيعة؟ قالت : إلى أُمّ أبي محمد (العسكري جدّة الحجة عليه‌السلام فقلت : فهل هو أوصى إلى امرأة)؟! قالت : نعم.

فقلت لها : أفأقتدي بمن وصيّته إلى امرأة؟!

قالت : نعم ، اقتداءً بالحسين بن علي عليه‌السلام ، فإنه في الظاهر أوصى إلى أُخته زينب بنت علي بن أبي طالب ، فكان ما يخرج من علم عن علي بن الحسين يُنسب إلى زينب بنت علي ، تستّراً على علي بن الحسين. ثمّ قالت : أنتم قوم أصحاب أخبار ، أما رُويتم أن التاسع من وُلد الحسين عليه‌السلام يُقسّم ميراثه وهو في الحياة (٢)؟!

الأسرى المسلمون والروم :

أجمل القول المسعودي قال : في شعبان من سنة (٢٨٣ ه‍) كان افتداء الأسرى بين المسلمين والرومان (٣).

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥٢٤ ، الحديث ٢٧ وكمال الدين : ٥٠١ ، الحديث ٢٦.

(٢) كمال الدين : ٥٠١ ، الحديث ٢٧.

(٣) مروج الذهب ٤ : ١٦٩ ـ ١٧٠.


وفي السنة نفسها بلا تعيين الشهر قال ابن العبري : سارت الصقالبة إلى الروم وخرّبوا بلادهم حتى حاصروا القسطنطينية وقاتلوا أهلها فقتلوا منها خلقاً كثيراً ، وكان عند الروم أُسارى المسلمين ، فلمّا رأى ملك الروم (؟) أنه لا يجد خلاصاً من الصقالبة رأى أن يدفعهم بأسرى المسلمين! وسألهم معونتهم على الصقالبة فأجابوا ، فجمعهم وسلّحهم فكشفوهم وأزاحوهم عن القسطنطينية!

ثمّ خاف على نفسه فجرّدهم من السلاح وفرّقهم في بلاد الروم.

ثمّ كان الفداء بين المسلمين والروم ، فكان جملة من فودي من المسلمين من الرجال والنساء والصبيان! ألفين وخمسمئة نفس (١) وذلك يقتضي أنه بعد أن فرّقهم جمَعهم وفادى بهم.

قتل الشاعر ابن الرومي :

عيسى بن جعفر بن المنصور العباسي امتلك عبداً رومياً يونانياً يدعى جرجيس أو جورج ، وأسلم ابنه فسمّى عباساً ، وتزوّج حسنة ابنة عبد الله السجزي الخراساني (٢) فولدت له ابنين سمّيا محمداً وعلياً ، وعُدّوا هؤلاء من موالي الأمير عبيد الله بن عيسى العباسي ببغداد.

وكان عباس ابن الرومي يصادق الراوية الضلّيع في اللغة والأنساب محمد بن حبيب ، فاختص علي بن العباس بهذا الشيخ يختلف إليه ، ويحدب عليه ابن حبيب لما يراه من ذكائه وحدّة ذهنه (٣).

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول : ١٥١ ، وذكر الطبري خبر حرب الصقالبة وإعانة المسلمين للروم عليهم في ١٠ : ٤٥ ، وخبر المفاداة كما هنا في ١٠ : ٤٦ على حدة بفاصل بينهما.

(٢) معجم الشعراء للمرزباني الخراساني : ١٤٥.

(٣) الغدير ٤ : ٥٥.


ثمّ تزوج ابن الرومي ورزق ثلاثة أبناء هم : هبة الله ومحمد وثالث لم يذكر اسمه ، وماتوا كلهم وهم أطفال أو صبيان فرثاهم أبوهم في شعره (١). وكان صاحب ضيعة ومالك دارين وثراء وتحف موروثة (٢).

وثار يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي بوجه بني العباس بالكوفة ، فقاتله الطاهريون موالي خزاعة ببغداد حتى قتلوه ، فرثاه علي ابن الرومي بقصيدة تمنّى في آخرها قيام ثائر لآل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قال خطاباً لبني العباس :

لعلّ لهم في منطوى الغيب ثائراً

سيسموا لكم ، والصبح في الليل مولج

فقال المعرّي بشأنه : إنّ البغداديين يدّعون أنه متشيّع ، ويستشهدون لذلك بهذه الجيمية (٣) وفي نونية يخاطب العلويين ويشير إلى العباسيين يقول :

فاصبروا يهلكهم الله لكم

مثل ما أهلك أذواء اليمن

قرب النصر فلا تستبطئوا

قرب النصر يقيناً غير ظن!

ويحيى بن عمر الزيدي ومعظم من كان معه كانوا من الزيدية (٤) بل الجيمية الدالة على تشيّعه هي :

لكنّ حبّيَ للوصيِّ مخيِّم

في الصدر يسرح في الفؤاد تولّجا

قال النبيّ له مقالاً لم يكن

 «يوم الغدير» لسامعيه ممجمجا (٥)

من كنت مولاه فذا مولىً له

مثلي ، وأصبح بالولاء متوّجا (٦)

__________________

(١) الغدير ٤ ٥٦.

(٢) الغدير ٥ ٦٣.

(٣) رسالة الغفران ٢٤٤.

(٤) الغدير ٤ ٦٤ ٦٦.

(٥) مجمج في كلامه لم يبيه.

(٦) مناقب آل طالب ٣ ٣٨.


وكان يكثر مجالسة القاسم بن عبيد الله ، على عهد وزارة أبيه عبيد الله بن سليمان للمعتضد ، فبلغ ذلك إلى الوزير فأمر ابنه القاسم بطرده بل بقتله ، وكان أعدى الناس لابن الرومي : ابن فراس فدسه عليه فدس إليه خبزاً محلّى بسكّر مسموم فقتله في أواخر جمادى الأُولى سنة (٢٨٣ ه‍) (١).

كتاب المعتضد بشأن الأُمويين :

كان أهل الفتيا والقُصّاص يقعدون حلقاً في المسجدَين الجامعَين بالجانبَين ببغداد ، والباعة يقعدون في رحابهما ، وجماعة يسقون الماء فيهما ويترحَّمون على معاوية ويجتمعون على من يناظر أو يجادل في ذلك!

فأمر المعتضد فكُتبت نسخ أمر بقراءتها بالجانبين في الأرباع والأسواق والمحلات ، فقرئت عليهم منذ الخامس والعشرين من جمادى الأُولى عام (٢٨٤ ه‍) إلى العاشر من جمادى الآخرة ، فمنعهم من ذلك جميعاً. وفي يوم الجمعة الحادي عشر نودي في الجامعين : بأنّ الذمة بريئة ممّن اجتمع من الناس على مناظرة أو جدل ، وأن لا يترحّموا على معاوية ولا يذكروه بخير!

وكان المأمون قد أمر بإنشاء كتاب براءة من معاوية وبني أبيه ليُقرأ على الناس ، فانشئ ثمّ صُرف عن ذلك فبقي في ديوان الخلافة ، وذُكر للمعتضد فأمر بإخراجه وفيه :

بسم الله الرحمنِ الرحيم ، الحمد لله العلي العظيم الحليم الحكيم العزيز الرحيم.

وقد انتهى إلى أمير المؤمنين ما عليه جماعة من العامة ، من شبهة قد دخلتهم في أديانهم ، وفساد قد لحقهم في معتقدهم ، وعصبية قد غلبت عليها

__________________

(١) الغدير ٤ : ٨٤ ، ٨٥.


أهواؤهم ونطقت بها ألسنتهم ، على غير معرفة ولا روية ، وقلّدوا فيها قادة الضلالة بلا بيّنة ولا بصيرة ، وخالفوا السنن المتّبعة إلى الأهواء المبتدعة.

قال الله عزوجل : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١)) خروجاً عن الجماعة ومسارعة إلى الفتنة ، وإيثاراً للفرقة وتشتيتاً للكلمة ، وإظهاراً لموالاة من قطع الله عنه الموالاة وبتر عنه العصمة وأخرجه من الملة وأوجب عليه اللعنة! وتعظيماً لمن صغّر الله حقّه وأوهن أمره وأضعف ركنه من «بني أُمية» الشجرة الملعونة! ومخالفة لمن استنقذهم الله به من الهلكة ، وأسبغ به عليهم النعمة من أهل بيت الرحمة والبركة.

قال الله عزوجل : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢)).

فأعظم أمير المؤمنين ما انتهى إليه من ذلك ، ورأى في ترك إنكاره حرجاً عليه في الدين ، وفساداً لمن قلّده الله أمره من المسلمين ، وإهمالاً لما أوجبه الله عليه من تقويم المخالفين وتبصير الجاهلين ، وإقامة الحجة على الشاكّين ، وبسط اليد على المعاندين.

إنّ الله عزوجل لما ابتعث محمداً بدينه وأمره أن يصدع بأمره ، بدأ بأهله وعشيرته فدعاهم إلى ربّه ، وأنذرهم وبشّرهم ونصح لهم وأرشدهم ، فكان من استجاب له وصدّق قوله واتّبع أمره نفر يسير من بني أبيه ، من بين مؤمن بما أتى من ربّه ، وبين ناصر له وإن لم يتّبع دينه ، إعزازاً له وإشفاقاً عليه ، لماضي علم الله فيمن اختاره منهم ، ونفذَت مشيئته فيما يستودعه إياه من خلافته وإرث نبيّه ، فمؤمنهم مجاهد بنصرته وحميّته ، يدفعون من نابذه وينهرون من عازّه وعانده ،

__________________

(١) القصص : ٥٠.

(٢) آل عمران : ٧٤.


ويتوثّقون له ممّن كانفه وعاضده ، ويبايعون له من سمح بنصرته ، ويتجسّسون له أخبار أعدائه ، ويكيدون له بظهر الغيب كما يكيدون له برأي العين حتى بلغ المدى ، وحان وقت الاهتداء ، فدخلوا في دين الله وطاعته وتصديق رسوله والإيمان به ، بأثبت بصيرة وأحسن هدى ورغبة ، فجعلهم الله أهل بيت الرحمة ، ومعدن الحكمة ، وورثة النبوة وموضع «الخلافة» وأوجب لهم الفضيلة ، وألزم العباد لهم الطاعة.

وكان ممّن عانده ونابذه وكذّبه وحاربه من عشيرته العدد الأكثر والسواد الأعظم ، يتلقّونه بالتكذيب والتثريب ، ويقصدونه بالأذية والتخويف ، ويبادونه بالعداوة وينصبون له المحاربة ، ويصدّون عنه من قصده ، وينالون بالتعذيب من اتّبعه.

وأشدّهم في ذلك عداوة وأعظمهم مخالفة ، وأوّلهم لكل حرب ومناصبةً في كل مواطن الحروب من بدر وأُحد والخندق والفتح ، لا يُرفع على الإسلام راية إلّا كان صاحبها وقائدها ورئيسها (هو) «أبو سفيان بن حرب» وأشياعه من بني أُمية الملعونين في كتاب الله ، ثمّ الملعونين على لسان رسول الله في عدة مواطن وعدّة مواضع ، لماضي علم الله فيهم وفي أمرهم ونفاقهم وكفر أحلامهم ، فحارب جاهداً ودافع مكايداً وأقام منابذاً حتى قهره السيف وعلا أمر الله وهم كارهون ، فتقوّل بالإسلام غير منطوٍ عليه وأسرّ الكفر غير مقلع عنه ، عرفه بذلك رسول الله والمسلمون فميّز له المؤلّفة قلوبهم فقبله وولده.

فمما لعنهم الله به على لسان نبيّه وأنزل به كتاباً قوله : (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً (١)) ولا خلاف من أحد أنه أراد بها «بني أُمية».

__________________

(١) الإسراء : ٦٠.


ومنه : قول الرسول عليه‌السلام وقد رآه مقبلاً على حمار يقود به معاوية ويسوق به ابنه يزيد ، قال : «لعن الله الراكب والقائد والسائق»! ويروي الرواة عنه قوله : «يا بني عبد مناف تلقّفوها تلقّف الكرة ، فما هناك جنة ولا نار» وهذا كفر صراح يلحقه به اللعنة من الله كما لحقت (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (١)).

ومنه : ما يروون من وقوفه بعد ذهاب بصره على ثنيّة أُحد وقوله لقائده : هاهنا ذببنا محمداً وأصحابه!

ومنه : الرؤيا التي رآها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فوجم لها ، إذ ذكروا أنه رأى نفراً من «بني أُمية» ينزون على منبره ، فما رُئي ضاحكاً بعدها فأنزل الله عليه : (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ (٢)).

ومنه : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا بمعاوية ليكتب بأمره بين يديه فاعتلّ بطعامه! فقال النبي فيه : «لا أشبع الله بطنه» فبقي يقول : والله ما أترك الطعام شبعاً ولكن إعياءً!

ومنه : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأصحابه : يطلع من هذا الفجّ رجل من أُمتي يُحشر على غير ملّتي! فطلع معاوية.

ومنه : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه»!

ومنه : الحديث المشهور المرفوع عنه قال : إنّ معاوية في تابوت من نار في أسفل درك منها ينادي ربّه فيجاب : (أَالْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٣)).

__________________

(١) المائدة : ٧٨.

(٢) الإسراء : ٦٠.

(٣) يونس : ٩١.


ومنه : انتزاؤه بالمحاربة لأفضل المسلمين في الإسلام مكاناً ، وأقدمهم إليه سبقاً ، وأحسنهم فيه أثراً وذكراً : عليّ بن أبي طالب ، ينازعه حقّه بباطله ، ويجاهد أنصاره بضُلّاله وغُواته ، ويحاول ما لم يزل هو وأبوه يحاولانه من إطفاء نور الله وجحود دينه (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (١)) يستهوى أهل الغباوة ويموّه بمكره وبغيه على أهل الجهالة ، وقد قدّم النبيّ الخبر عنهما إذ قال لعمّار : «تقتلك الفئة الباغية تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار». مؤثراً للعاجلة كافراً بالآجلة ، خارجاً من ربقة الإسلام مستحلاًّ للدم الحرام ، حتى سفك في فتنته وعلى سبيل ضلالته ما لا يحصى عدده من دماء خيار المسلمين ، الذابين عن دين الله والناصرين لحقه. مجتهداً في أن يعصى الله فلا يطاع ، وتبطل أحكامه فلا تقام ، ويخالف دينه فلا يدان ، وأن تعلو كلمة الضلالة وترتفع دعوة الباطل. و (كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا (٢)) ودينه المنصور وحكمه المتّبع النافذ وأمره الغالب ، وكيد من كادّه المغلوب الداحض ، حتى احتمل أوزار تلك الحروب وما تبعها ، وتطوّق تلك الدماء وما سفك بعدها ، وسنّ سنن الفساد التي عليه إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة ، وأباح المحارم لمن انتهكها ، ومنع الحقوق عن أهلها ، واغترّه الإملاء واستدرجه الإمهال والله له بالمرصاد.

وممّا أوجب الله به له اللعنة : قتله من قتل صبراً من خيار الصحابة والتابعين وأهل الفضل والديانة : مثل : عمرو بن الحمق الخزاعي وحُجر بن عَدي في من قتل من أمثالهم ، في سبيل أن يكون له الملك والغلبة والعزة (بالاثم) (وَللهِ الْعِزَّةُ

__________________

(١) التوبة : ٣٢.

(٢) التوبة : ٤٠.


وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ (١)) والله عزوجل يقول : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (٢)).

وممّا استحقّ به اللعنة من الله ورسوله : إدّعاؤه «زياد بن سميّة» جرأة على الله ، والله يقول : (ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ (٣)) ورسول الله يقول : «ملعون من ادّعى إلى غير أبيه ، أو انتمى إلى غير مواليه» وقال : «الولد للفراش وللعاهر الحجر». فخالف (معاوية) حكم الله عزوجل وسنّة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله جهاراً إذ جعل الولد لغير الفراش والعاهر لا يضرّه عهره ، فأدخل بهذه الدعوى على أُم حبيبة زوجة النبي ومحرمه من سفر وجها له ما قد حرّمه الله وكذا في غيرها ، وأثبت بها قربى قد باعدها الله ، وأباح ما قد حضره الله ، ممّا لم يدخل على الإسلام مثله خلل قبله ، ولم ينل الدين تبديل مثله.

ومنه : دعاؤه عباد الله إلى ابنه «يزيد» المتكبّر الخمير ، صاحب الديوك والفهود والقرود ، وأخذه له البيعة من خيار المسلمين بالاخافة والتهديد والتوعيد والرهبة والسطوة! وهو يعلم سفهه ومطلع على خبثه ورهقه ، ويعاين كفره وفجوره وسكرانه.

فلمّا تمكّن يزيد فيما مكّنه أبوه فيه ووطّأه له وعصى الله ورسوله فيه ، طلب بثارات المشركين وطوائلهم عند المسلمين .. فظنّ أنه قد انتقم من أولياء الله وبلغ فيه الغاية لأعداء الله ، فقال مجاهراً لكفره ومظهراً لشركه :

ليت أشياخي ببدر ، شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

قد قتلنا القرم من ساداتهم

وعدلنا ميل بدر فاعتدل

فأهلّوا واستهلوا فرحاً

ثمّ قالوا : يا يزيد لا تُشل

__________________

(١) المنافقون : ٨.

(٢) النساء : ٩٣.

(٣) الأحزاب : ٥.


لست من «خِندف» إن لم انتقم

من «بني أحمد» ما كان فعل

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ، ولا وحي نزل

وهذا هو المروق من الدين ، وقول من لا يرجع إلى الله ولا إلى رسوله وكتابه ودينه ، ولا يؤمن بالله ولا بما جاء من عند الله.

وإنّ من أغلظ ما انتهك وأعظم ما اجترم : سفكه دم الحسين بن علي ابن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع موقعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومكانه منه ومنزلته من الدين والفضل ، وشهادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله له ولأخيه بسيادة أهل الجنة! اجتراء على الله وكفراً بدينه وعداوة لرسوله ومجاهدة لعترته واستهانة بحرمته ، فكأنما يقتل به وبأهل بيته قوماً من كفّار الترك والديلم ، لا يخاف من الله نقمة ولا يرقب منه سطوة! فبتر الله عمره واجتثّ أصله وفرعه وسلبه ما تحت يده ، وأعدّ له من عذابه وعقوبته ما استحقه من الله بمعصيته.

هذا إلى ما كان من «بني مروان» من تبديل كتاب الله وتعطيل أحكامه ، واتخاذ مال الله دولاً بينهم ، وهدم بيته واستحلال حرامه ونصبهم المجانيق عليه ورميهم إياه بالنيران ، لا يألونه إحراقاً وإخراباً ولما حرّم الله منه استباحة وانتهاكاً ، ولمن لجأ إليه قتلاً وتنكيلاً ، ولمن أمّنه الله به إخافة وتشريداً.

حتى إذا حقت عليهم كلمة العذاب واستحقوا من الله الانتقام وملؤوا الأرض بالجور والعدوان ، وعمّوا عباد الله بالظلم والاقتسار ، وحلّت عليهم السخطة ونزلت بهم من الله السطوة .. أتاح الله لهم من «عترة نبيّه وأهل وراثته»! من استخلصهم منهم بخلافته ، مثل ما أتاح الله من أسلافهم المؤمنين وآبائهم المجاهدين لأوائلهم الكافرين! فسفك الله بهم دماءهم مرتدّين ، كما سفك بآبائهم دماء آبائهم الكفرة المشركين ، وقطع الله دابر القوم الظالمين والحمد لله رب العالمين ، ومكّن الله المستضعفين ، وردّ الله الحقّ إلى أهله «المستحقين» ...


معاشر الناس! فانتهوا عمّا يُسخط الله عليكم ، وارجعوا إلى ما يُرضى الله عنكم ، وارضوا من الله بما اختار لكم ، والزموا ما أمركم به وجانبوا ما نهاكم عنه ، واتبعوا الصراط المستقيم والمحجّة البيّنة والسبل الواضحة ، و «أهل بيت الرحمة»! الذين هداكم الله بهم بدءاً ، واستنقذكم بهم من الجور والعدوان أخيراً. وصيّركم إلى الأمن والخفض والعزّ بدولتهم! وشملكم الصلاح في أديانكم ومعايشكم في أيامهم!

وفارِقوا من لا تنالون القربة إلى الله إلّابمفارقته ، والعنوا من لعنه الله ورسوله (فقولوا) : اللهم العن أبا سفيان بن حرب ومعاوية ابنه ويزيد بن معاوية ، ومروان بن الحكم وولده. اللهم العن أئمة الكفر وقادة الضلالة وأعداء الدين ومجاهدي الرسول! ومغيّري الأحكام ومبدّلي الكتاب وسفّاكي الدم الحرام. اللهم إنّا نبرأ إليك من موالاة أعدائك ، ومن الإغماض لأهل معصيتك كما قلت : (لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ (١)).

يا أيها الناس! تأمّلوا سبل الضلالة تعرفوا سابلها ، واعرفوا الحق تعرفوا أهله ، فإنه إنّما يبيّن عن الناس أعمالهم ، ويلحقهم بالصلاح أو الضلال آباؤهم ، فلا تأخذكم في الله لومة لائم ، ولا يميلنّ بكم عن دين الله استهواء من يستهويكم وكيد من يكيدكم وطاعة من تخرجه طاعته إلى معصيتكم لربكم!

وأمير المؤمنين على الله توكله وهو حسبه فيكم ، وبالله استعانته فيما قلّده من أُموركم! ولا حول ولا قوة إلّابالله ، والسلام عليكم.

فلمّا رأى وزيره عبيد الله بن سليمان بن وهب عزم المعتضد على إعلان هذا الكتاب وأنه لا يقدر على صرفه عن ذلك ، أحضر القاضي يوسف بن يعقوب ابن

__________________

(١) المجادلة : ٢٢.


القاضي أبي يوسف (صاحب أبي حنيفة) وأمره أن يعمل الحيلة لذلك ، وأدخله على المعتضد ، فدخل عليه وكان من كلامه معه أن قال له :

يا أمير المؤمنين! إني أخاف من أن تضطرب العامة ويكون منها حركة عند سماعها هذا الكتاب!

قال : إن تحرّكت العامة أو نطقت سأضع فيها سيفي!

قال : يا أمير المؤمنين! إنّ في هذا الكتاب إطراءً على الطالبيين ، وها هم في كل ناحية يخرجون! فإذا سمعوا هذا كانوا أبسط ألسنة وأثبت حجةً منهم اليوم! وإذا سمع الناس هذا كانوا أميل إليهم لمآثرهم ولقرابتهم من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ففتّ هذا المفتي في عضد المعتضد ، وقضى هذا القاضي على قناعته بصحة قضاء جدّه المأمون ، وخيّب أمله في إحياء كتابه وتجديد عمله ، فأمسك المعتضد عن جوابه ولم يأمر فيه بشيء (١)!

وكان قد شاع في الناس أنّ المعتضد أمر بإنشاء كتاب بلعن معاوية وأنه سيُقرأ على منبر الجمعة بعد صلاة الجمعة الحادي عشر من جمادى الآخرة ، فاجتمعوا لصلاة الجمعة وبعدها بادروا إلى صوب مقصورة الجامع ليسمعوا الكتاب ، فلم يُقرأ (٢)!

وحاولوا القبض على الوكلاء :

ورُفع تقرير إلى الوزير عبيد الله بن سليمان سمّوا له فيه جميع وكلاء الناحية المقدّسة وأنهم يجبون له الأموال ، فرفعه الوزير إلى المعتضد فقال له :

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٥٤ ـ ٦٣.

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ٥٤.


إنّ هذا أمر غليظ فاطلبوا هذا الرجل ، دسّوا إليهم قوماً لا يعرفون ، بأموال ، فمن قبض منهم شيئاً قُبض عليه!

فخرج إليهم من الناحية المقدّسة : بأن يتجاهلوا الأمر ويمتنعوا ولا يأخذوا من أحد شيئاً.

فبثّوا الجواسيس ، ولمكان ما كان تقدم إليهم امتنع الوكلاء كلّهم ، ومنهم محمد بن أحمد (؟) اندسّ إليه رجل وخلا به وقال له : معي مال أُريد أن أُوصله. قال له محمد : أنا لا أعرف من هذا شيئاً. فلم يزل الرجل يتلطّفه ومحمد يقول : إنك قد غلطت ، ويتجاهل عليه (١).

غارة بني طيِّئ على الحجّاج :

كان من تكاليف الأُمراء تأمين السُبل ولا سيما سُبل الحجّاج ذهاباً وإياباً ، وكان للمعتضد غلامان يسميّان بجيء ، فكان قد جعل الكبير لتأمين سُبل الحجاج. وفي سنة (٢٨٥ ه‍) اجتمع جمع عظيم من قبيلتي سَنبس ونبهان من عشائر طيِّئ وعليهم صالح بن مدرك الطائي ، في الموضع المعروف بقاع الأجفر ، وقطعوا السبل على الحجّاج وأخذتهم سيوفهم فقتلوا خلائق منهم ، وأخذوا منهم نحواً من ألفي ألف (مليونين) ديناراً ، ومات منهم خلائق بالعطش.

وبلغ ذلك جيء الكبير فخرج بعسكره لحرب صالح بن مدرك ، فكانت له مع صالح ومن معه من الطائيين حروب عظيمة (٢).

وفي سنة (٢٨٦ ه‍) كان صالح بن مدرك قد خرج ببني طيِّئ إلى ناحية فَيد إلى مكة ، وكان المعتضد قد أغار عليهم أبا الأغر السُلمي ، فظفر أبو الأغر بصالح

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥٢٥ ، الحديث ٣٠ وانظر تاريخ الغيبة الصغرى للصدر : ٦٢٩.

(٢) مروج الذهب ٤ : ١٧٢.


في موضع فَيد مكراً! فذهب الأعراب وجمعوا جمعهم ليستنقذوا صالحاً من يده ، فعادوا إليه ورئيسهم جحش بن ذيّال ، فقاتلهم أبو الأغر حتى قتل رئيسهم ابن ذيّال وأخذ رأسه ، وعلم صالح بذلك فلمّا جاءه غلام بطعامه استلب منه سكّينه وانتحر به ، فنصب رأسه أبو الأغر بالمدينة فتباشر به الحجّاج.

فلمّا عاد أبو الأغر مع سائر أُمراء قوافل الحجّاج ، كانت الأعراب من طيِّئ وأحلافها قد تحشدت واجتمعت في ثلاثة آلاف فارس ومثلهم راجلين ، وذلك بين منزل الحاجر ومعدن القرشي ، وطالت الحرب بينهم ثلاثة أيام ، ثمّ انهزم الأعراب وسلم الناس.

ودخل أبو الأغر بغداد وقدّامه رؤوس صالح وعبده الأسود وجحش بن ذيّال! وأربعة من أبناء عم صالح أُسراء! فطوق المعتضد أبا الأغر بطوق من ذهب وخلع عليه ، ونُصبت الرؤوس على الجسور (١).

ومصير ابن الشيخ بآمد :

كان أحمد بن عيسى بن الشيخ عبد الرزاق قد تمرّد بآمد ، وبعده تحصّن بها ابنه محمد بن أحمد ، فقصده المعتضد بعسكره حتى بثّ جيوشه حولها وحاصرها ، ووجّه إليه شعبة بن شهاب اليشكري ليتمّ عليه الحجة ، وهو غلام حدث معجب بنفسه أنصت لأقوال السفهاء واستمدّ بآرائهم.

وانتهى الأمر إلى أنه لمّا عظم القتال وجّه إليه المعتضد بالأمان فنزل عليه إلى المعتضد. وتقدّمت عمّته أُم شريف بالشفاعة إليه فشفّعها في كثير من أهلها ممن عظم جرمه واستحق عليه العقوبة. وذلك في أوائل عام (٢٨٦ ه‍) (٢).

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٧٥ ، ١٧٦.

(٢) مروج الذهب ٤ : ١٥٢ ـ ١٥٤.


تعاظم أمر القرامطة :

مرّ الخبر عن نشوء القرامطة في عراق الكوفة ، ونجدهم اليوم أنهم تغلّبوا على البحرين! بقيادة أبي سعيد الجنابي ، وكان على حرب البصرة أحمد بن محمد الواثقي ، وقد استمرّ سور البصرة بعد صاحب الزنج غير حصين ، فخاف الواثقي أن يكبسها الجنابي! فكتب بذلك إلى المعتضد ، فأطلق لتحصينها أربعة عشر ألف دينار فبُنيت وحُصّنت عام (٢٨٦ ه‍) (١).

وقال ابن العبري : في سنة (٢٨٥ ه‍) ظهر بالبحرين أبو سعيد الجنابي ودعا بدعوة القرامطة ، فاجتمع إليه جمع من الأعراب حتى قوى أمره ؛ فقاتل ما حوله من القرى حتى صار إلى القطيف وتغلّب عليها ، ثمّ أظهر أنه يريد البصرة ، فلمّا وصل خبره إلى الواثقي كتب إلى المعتضد ، فأمر المعتضد ببناء سور البصرة بأربعة عشر ألف دينار (٢).

وقيل : بل في سنة (٢٨١ ه‍) ظهر رجل في القطيف وادّعى أنه يحيى بن المهدي (؟) وأنه رسول من المهدي عليه‌السلام إليهم ومعه كتاب منه يدعوهم فيه للتهيّؤ لظهوره فيدعوهم إلى نصرته! فاستجاب له جمع منهم رجل أصله من فارس يدعى أبا سعيد الحسن بن بهرام الجنابي (٣) تحالف مع يحيى بن المهدي وأخذا ينسّقان فيما بينهما لجمع الأنصار وتعبئة الجماهير ، فتبعهما جمع كثير من قبائل البادية وسائر الناس.

وبعد أن ازداد أنصاره وقوى أمره استولى بهم على حكم القطيف أولاً ،

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٧٥.

(٢) تاريخ مختصر الدول : ١٥١.

(٣) لعلّه نسبة إلى جَنابة معرّبة گناوة من موانئ الخليج الفارسي.


ثمّ قصد هجر بجيشه حتى ضمّها إليه ، ثمّ عاد إلى جزيرة أوال من جزر البحرين فألحقها بدولته. وخفي في هذه المعارك ذكر يحيى بن المهدي ، فلعلّه مات أو قتل أو أن أبا سعيد تخلّص منه (١).

وفي بادئ أمرهم زعموا أن دولتهم هي دولة المهدي المنتظر ، إلّاأ نّهم لمّا تمكنوا وبنوا عاصمتهم الأحساء لم يبنوا فيها مسجداً ، وقال لهم أبو سعيد : إني أعفيكم عن الصلاة والصيام! فهم يقرّون بالإسلام ديناً وبمحمد نبيّاً ولكنّهم لا يصلّون ولا يصومون ، ولما يُسألون عن مذهبهم يقولون : إنا أبو سعيديون! ولا يأخذون العشور ، ولا الربا ، ولهم عبيد كثيرون ثلاثون ألف ، فإذا احتاج أحدهم إلى بناء ولا يقدر عليه أمروا بعض العبيد فيبنون له ولا يأخذون منه شيئاً. ولا مسجد لهم ولا صلاة ولا جمعة ولا خطبة! ولا خمور ، ولكن بها دور البغاء علناً! ولحومهم من كل شيء حتى الحمير والكلاب برؤوسها! وعُملتهم من الخزف (٢)!

وقال المسعودي : في سنة (٢٨٧ ه‍) خرج أبو سعيد الجنابي إلى هجر فحاصرها ، وخرج إليه من البصرة العباس بن عمرو الغنوي (البحراني) في جيش عظيم ومعه خلق من المطوّعة إلى هجر فالتقى هو وأبو سعيد ، فكانت بينهم وقائع ، انهزم فيها أصحاب العباس واسر هو وسبعمئة من أنصاره ، فقتلوهم صبراً! سوى من هلك منهم عطشاً في الرمل فأحرقت الشمس أجسادهم ، ثمّ منّ أبو سعيد على العباس الغنوي فأطلقه ، وعاد إلى حصار هجر حتى افتتحها بعد حصار طويل (٣).

__________________

(١) أعلام هجر للسيد هاشم الشخص ١ : ٨٩ ، ٩٠.

(٢) أعلام هجر ١ : ٩٤ ـ ٩٧.

(٣) مروج الذهب ٤ : ١٧٦.


مقتل العلوي في جرجان :

كانت حكومة العباسيين في خراسان مع آل سامان ومنهم يومئذ إسماعيل بن أحمد الساماني ، وتمتدّ حكومته إلى جرجان. وكان قد تغلّب على طبرستان محمد بن زيد العلوي الحسني ، وفي سنة (٢٨٧ ه‍) سار في جيوش كثيرة من الديلم وغيرهم إلى جرجان ليتغلّب عليها ، وهم في بياض. وجهّز لهم الساماني جيشاً عليها محمد بن هارون وهم في سوادهم ، والتقى الفريقان قرب جرجان ، وكانت بينهم وقعة لم يُر مثلها في ذلك العصر ، وصبر الفريقان جميعاً. فلمّا رأى محمد بن هارون ثبوت الديلم على مصافّهم لا ينقضون صفوفهم ، فرّ للمكيدة ، فنقض الديالمة صفوفهم للغنائم ، فكرّ عليهم العباسيون السامانيون ، وثبت الداعي العلوي مع من وقف لنصره ، فأسفرت الحرب وقد اسر ابنه زيد وقد أُثخن الداعي بالجراح فلم يبقَ إلّا أياماً يسيرة حتى توفي بجراحاته ، فدفن قرب مدخل جرجان (١).

وحُمل ابنه زيد إلى إسماعيل بن أحمد الساماني فأكرمه ووسّع عليه ، وكان أبوه محمد بن زيد رجلاً ديّناً فاضلاً شاعراً حسن السيرة (٢).

ولمّا بلغ خبر قتل محمد بن زيد العلوي الحسني إلى المعتضد أظهر الحزن له وتأسّف لقتله وأظهر النكير على ذلك (٣).

وفي سنة (٢٨٨ ه‍) سار الروم إلى بلدة كيسوم فأسروا منهم من الرجال والنساء والصبيان نحو خمسمئة عشر ألف إنسان ونهبوا دورهم (٤)

__________________

(١) مروج الذهب ٤ ١٧٧

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ ٢٣٧

(٣) مروج الذهب ٤ ١٣٨

(٤) تاريخ مختصر الدول ١٥١


آخر أمر المعتضد :

كانت له رغبة في البناء حتى أنه بنى قصراً بطول ثلاثة فراسخ (/ ١٥ كم) وسمّاه الثريا وأنفق عليه أربعمئة ألف دينار (١) وكانت له عمارة سمّاها البحيرة صرف عليها ستين ألف دينار ، يخلو فيها مع جواريه ومنهنّ خصّيصته دريرة (٢).

وكان له قصر آخر يعرف بالحسنى ، وفيه لأربع ساعات خلت من ليلة الثامن من ربيع الآخر سنة (٢٨٩ ه‍) اعترته غشية فوقع للموت ، وهو على ما به من الحال ضجّ غلمانه عند وزيره القاسم بن عبيد الله فأطلق لهم عطاءهم ، فلمّا فهم المعتضد ذلك همهم في سكرته ، وقدم الطبيب ليجسّ نبضه وهو على ما به من سكرات الموت ، فأنف من ذلك وركله برجله ، ومات هو من ساعته ، فدفن بدار الرخام في الجانب الغربي من بغداد ، وهي دار محمد بن عبد الله بن طاهر الخزاعي (مولاهم) وكان قد أوصى بذلك (٣).

وكان له (٤٧) سنة ، نحيفاً متوسطاً ، خفيف العارضين يخضب بالسواد (٤).

وأبناؤه هارون وجعفر وعليّ المكتفي وهو وليّ عهده (٥) وله أكثر من عشرة بنات.

وكان أبوه الموفّق قد اختار لتعليم المعتضد أحد فلاسفة الإسلام أحمد بن محمد السرَخسي ، وكانت له تآليف جليلة في علوم كثيرة من علوم القدماء

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٤٥.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٣٤.

(٣) مروج الذهب ٤ : ١٨٤ و ١٨٥.

(٤) التنبيه والإشراف : ٣٢٠.

(٥) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٣٧.


والعرب ، وكان حسن المعرفة جيّد القريحة بليغ اللسان مليح التصنيف ، ولكن كان الغالب عليه علمه لا عقله ، فاتّفق أن نادمه المعتضد واختصّه وأفضى إليه بسره فأذاعه فقتله المعتضد!

وكان محمد بن موسى بن شاكر من أصحاب «بيت الحكمة» للمأمون ببغداد وصار وافر الحظّ من الهندسة والنجوم ، وكان قد نزل بغداد من صابئة حرّان الشام ثابت بن قُرّة فتعلّم النجوم على محمد بن موسى ، وصارت له مؤلّفات كثيرة في التعليمات الرياضية والمنطق والطبّ ، فوصله شيخه محمد بن موسى بالمعتضد ، فبلغ لديه أعلى المنازل وأجل المراتب ، يجلس لديه ويحادثه طويلاً ويضاحكه ويُقبل عليه دون وزرائه وخاصّته (١).

خلافة علي المكتفي بالله :

في سنة (٢٦٤ ه‍) من أُم ولد تركية اسمها جيجك (٢) ولد لأحمد المعتضد ولد سمّاه عليّاً ، ثمّ عهد إليه بأمره من بعده فلقّبه بالمكتفي بالله ، وحدّره إلى الرَّقة بالشام ، فكان بها لما بلغه موت أبيه وخلافته ، وله يومئذٍ نيف وعشرون سنة ، ورحل إلى بغداد فوصلها في أواخر جمادى الأُولى سنة (٢٨٩ ه‍) ونزل القصر الحسني على دجلة ، وأخذ له البيعة وزيره القاسم بن عبيد الله ، فخلع المكتفي عليه (٣).

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول لابن العبري ١ : ١٥٢ ، ١٥٣.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٣٧ ، وفي التنبيه والإشراف : ٣٢١ : اسمها خاضع! ولقبها جيجق ، وصحّف هذا في تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٤٠ إلى : حجج!

(٣) مروج الذهب ٤ : ١٨٦.


وقبل انتقاله إلى الرَّقة كان أبوه المعتضد اختار لتأديبه في بغداد من المحدّثين عبد الله بن محمد المعروف بابن أبي الدنيا من موالي بني أُمية! لكنّه صاحب «مقتل أمير المؤمنين علي» و «مقتل الحسين» (١) ففي «تاريخ نيشابور» عن ابن أبي الدنيا : أنه لما أفضت الخلافة إلى المكتفي كتب إليه :

إنّ حق التأديب حقّ الابوة

عند أهل الحجى وأهل المروّة

وأحقّ الرجال أن يحفظوا ذا

ك ويرعوه أهلُ بيت النبوة!

قال : فحمل إليّ عشرة آلاف درهم (٢)!

وكان أبوه المعتضد قد أخذ من اناس منازلهم فاتّخذ فيها المطامير للسجناء فأطلقهم المكتفي وهدم المطامير وردّ مواضعها لأصحابها وفرّق فيهم أموالاً ليعيدوا بناء منازلهم فيها (٣) ، وكان أبوه المعتضد قد أخذ من أُناس بساتينهم وحتى حوانيتهم ليبنى له فيها قصوره فأمر المكتفي بردّها إليهم (٤).

وكان المعتضد قد خلّف في بيوت الأموال تسعة آلاف ألف (ملايين) ديناراً ، ومن الفضة أربعين ألف ألف (مليون) درهماً ، واثني عشر ألف فرس وبغل وجمل وحمير (٥).

وكان المكتفي دقيقاً أسمر اللون أعين قصيراً كبير اللحية ، حسن الوجه

__________________

(١) انظر مقدمة المحقق المحمودي على مقتل أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٣٩ ، ٤٤٠ وقال : وهذا يدل على حياته في أول خلافة المكتفي.

(٣) مروج الذهب ٤ : ١٨٧.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٣٨.

(٥) مروج الذهب ٤ : ١٤٤.


والبدن. أفضى إليه الأمر بتوطئة أبيه ، فكان ماله جمّاً وجيوشه كثيفة ، ولكنه بُلي بكثرة الفتوق واضطراب الأطراف عليه (١).

وتزلزلت بغداد وتكرّرت أياماً ، وبالبصرة هبّت أرياح قلعت أكثر نخيلها وغزا المسلمون بلدة أناطوليا الرومية ففتحوها عنوة وغنموا ما لا يحصى (٢).

شؤم القرامطة بالشام :

كانت دمشق والشام ما زالت في حكم هارون بن خمّارويه بن طولون وعنه على دمشق طغج بن جفّ الفرغاني إلى حمص والأُردن. وفي قبائل بني كلاب مما يلي السماوة بالعراق قام أبو القاسم وانتمى إلى آل أبي طالب وإلى القرمطية بما فيها من تخفيف للتكاليف الشرعية ودعوى التناسخية ، فتبعه كثير منهم ، فسار بهم إلى رَقّة الشام ، وكان المكتفي قد خلّف عليها سبك الديلمي فخرج بجنوده والتقى بهم فهزموه وجنوده ، وساروا إلى دمشق ، وبلغ خبرهم إلى دمشق فخرج إليهم طغج بجنوده فلقيهم بوادي القردان والأفاعي في آخر رجب سنة (٢٨٩ ه‍) فهزمه القرمطي.

وفي شهر ربيع الأول سنة (٢٩٠ ه‍) خرج طُغُج لقتالهم فلقيهم ، فقتل القرامطةُ جمعاً من أصحابه وهزموهم أيضاً ، وتعقّبوهم حتى حاصروا دمشق قرابة أربعة أشهر إلى رجب سنة (٢٩٠ ه‍) حيث وصلت عساكر المصريين مدداً لطغُج ، فانسحب القرامطة إلى مسافة يوم من دمشق في الموضع المعروف بكوكبا وكناكر ،

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣٢١.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٣٨.


فتعقّبهم طغج بعساكره وقاتل أبا القاسم القرمطي حتى قتله. فلمّا قُتل القرمطي انسحب المصريون ، فلمّا علم القرامطة بذلك بايعوا أبا الحسن أخا أبي القاسم وعاوَدوا حصار دمشق!

وفي أواسط رجب انسحب القرامطة من حصار دمشق إلى حمص فأقاموا عليها ، وتوجّه جمع منهم إلى بعلبك حتى أبادوا أهلها!

وتوجّه إليهم من بغداد خليفة السلمي بجنوده حتى نزل بظهر بلدة حلب ، فوجّه القرمطي إليه سريّة منهم فالتقوا في عاشر شهر رمضان سنة (٢٩٠ ه‍) فأتى القرامطة على أكثر من كان مع خليفة! ثمّ اجتاحت القرامطة ما بين حلب وحمص وأنطاكية.

وفي المحرم سنة (٢٩١ ه‍) نهض إليهم المكتفي من بغداد وأنهض معه الجيوش إلى نواحي البرّ من شيزر ، فالتقى بهم وقتل منهم خلقاً وأسر منهم جمعاً كثيراً واستقر بالرّقة. وتحزّب من بقي من القرامطة ، فاختفى عنهم أبو الحسن القرمطي بأربعة معه إلى العراق مارّاً بالدالية من نواحي الرحبة ، فقبض عليهم عاملها وحملهم إلى المكتفي بالرّقة في أواخر المحرّم سنة (٢٩١ ه‍) فرحل بهم المكتفي إلى بغداد فدخلها ظافراً لأول ربيع الأول عام (٢٩١ ه‍).

وقام بين الباقين من القرامطة من قبائل بني كلاب بالأُردن أبو غانم القرمطي لأوائل عام (٢٩٣ ه‍) وكثر أتباعه منهم وقوى أمره ، فصار بهم إلى أذرُعات فبُصرى فالثنيّة وقتل وسبى ، وصار إلى طبريّة فقاتل جندها وقتل كثيراً منهم حتى قتل أميرها جعفر بن ناعم وكثيراً من عوام الناس ثمّ صار إلى الموضع المعروف بخندق من أعمال دمشق ، وقد أمر المكتفي الحسين بن حمدان التغلبي بمقابلته ، فلقيه بها ، فانكشف القرمطي منهزماً في البريّة ، وذلك في شعبان من سنة (٢٩٣ ه‍).


وسار أبو غانم القرمطي إلى هيت فقاتلهم وأحرقها وارتحل عنها إلى البرّ ، وانفذ المكتفي عدّة قوّاد لمقابلته ، فأحاطت العساكر بهم فاختلفت كلمتهم ، فلمّا أمسوا قتله بعضهم ليلاً وتفرّقوا عنه ، وتقرّب برأسه بعض زعمائهم إلى الخليفة في الخامس من شوال سنة (٢٩٣ ه‍).

وفي هذه السنة قام بالموضع المعروف بالصوأر على أربعة أميال من برّ القادسية ، في الكلبيين أيضاً رجل منهم يسمّى بالفارسية : ذكرويه بن مهرويه! وادّعى القرمطية بما فيها من تخفيف التكاليف والتناسخ ، فتبعه منهم جمع كثير! فصار بهم إلى الكوفة وعليها من أصحاب السلطان إسحاق بن عمران ، فكشفهم عن الكوفة واستمدّ السلطان ، فأرسل إليهم قائده رائق المعتضدي ومعه خادما المكتفي : بشر الأفشيني وجَني الصفواني ، وكان ذكرويه قد انسحب ببني كلاب إلى موضعهم من الصوأر في برّ القادسية فلقوهم بها فأتوا على أكثر جيش الخليفة ، وذلك في آخر ذي الحجة من سنة (٢٩٣ ه‍).

ثمّ توجّه ذكرويه بجمعه من بني كلاب إلى تلقّي قوافل الحجّاج في مرجعهم من الحج ، وكانت أولى القوافل قافلة خراسان العظيمة وقد نزلت بالمنزل المعروف بواقصة ، فأتوا عليها بما فيها!

ثمّ توجّهوا إلى المنزل المعروف بالعقبة وقد نزلت بها قافلة السلطان وعليها أحمد العقيلي ومبارك القمي فقتلهما ومن معهما من الأولياء والرعية!

ثمّ توجّهوا إلى الموضع المعروف بالطليح من الهبير بين الثعلبية وشقوق ، فلقى بها قافلة السلطان الثالثة وعليها أحمد بن سيما ونفيس المولّدي فأتى عليهما وعلى غيرهما من الأولياء والقواد وسائر الناس من مختلف المدن أكثر من خمسين ألفاً!

فتجهّز لهم أخو أحمد : القاسم بن سيما ومعه وصيف الخزري في جيش


كثيف من بني شيبان وغيرهم من أولياء السلطان ، فانسحب ذكرويه ببني كلاب إلى ما بين الكوفة إلى البصرة ، وتبعهم الجيش حتى التقوا في أواخر ربيع الأول سنة (٢٩٤ ه‍) قرب قرية أوم ، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى أخذهم السيف وانهزموا ، وأُخذ ذكرويه جريحاً ثمّ مات ، فشدّوه على جمل وحملوه وأسراهم ورؤوس قتلاهم فأدخلوهم إلى بغداد في أوائل ربيع الثاني عام (٢٩٤ ه‍) (١).

هذا ما ذكره المسعودي ، واختلف عنه الشاميان أبو الفداء وابن الوردي فأورد : أن مقدّمهم كان معروفاً بالشيخ يحيى ، وبعده قام فيهم أخوه الحسين وتسمى بأحمد ، ولما غلب على حمص تسمّى بأمير المؤمنين المهدي فادّعى المهدوية! وخطبوا له على منابرها. ثمّ سار إلى حماه والمعرّة وسلمية فسلّموا له بالأمان ولكنه قتل أهلها حتى النساء والأطفال وحتى صبيان المكتب! وأقام بمعرة النعمان أُسبوعين يقتل وينهب ويحرق حتى قتل منهم بضعة عشر ألفاً (٢).

وفي بداية خلافة المكتفي :

فروى الطوسي بسنده عن خادم النوبختي : عبد الله الكوفي قال : بعد ما ذُمّ الشلمغاني وخرجت فيه اللعنة سُئل الشيخ أبوالقاسم قيل له : فكيف نعمل بكتبه وبيوتنا مليئة منها؟ فقا لهم : أقول فيها ما قاله أبو محمد الحسن بن علي عليه‌السلام وقد قيل له : كيف نعمل بكتب بني فضال وبيوتنا مليئة منها؟ فقال عليه‌السلام : خذوا بما رووا وذروا ما رأوا (٣).

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣٢٢ ـ ٣٢٦.

(٢) تاريخ أبي الفداء ١ : ٢٣٨ ، ونحوه في تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٣٨.

(٣) كتاب الغيبة للطوسي : ٣٨٩ ـ ٣٩٠ ، الحديث ٣٥٥.


انتقام الروم ، وغدرهم ، والأتراك :

مرّ الخبر عن غزو المسلمين في الشام للروم ففتحهم بلدة أناطوليا في (٢٨٩ ه‍) فبعد عامين أي في سنة (٢٩١ ه‍) في أوائل غوائل القرامطة بالشام اغتنم الروم الفرصة فخرجوا في مئة ألف إلى ثغورهم نحو الشام ، فأغاروا عليها وأَحرقوا وسبوا ، وكانوا في عشرة صلبان مع كل صليب عشرة آلاف (١).

وفي آخر عام (٢٩٢ ه‍) تقدّم المسلمون بتفادى أسراهم ببلدة اللامس الحدودية ففدوا ألفاً ومئة وخمسين نفساً من ذكر وانثى ، ثمّ غدروا فلم يتمّوا (٢) لما رأوا من استمرار دمار القرامطة بالشامات.

وكذا فعل الأتراك في ماوراء النهر في سنة (٢٩١ ه‍) فخرجوا في خلق كثير لا يحصون كثرة ، بحيث كان في عساكرهم سبعمئة قبة ، ولا تكون إلّالرؤسائهم. فسار إليهم الخراسانيون (السامانيون) بجيوشهم فأغاروا عليهم مع الصباح حتى قتلوا منهم خلقاً عظيماً ، وانهزم الباقون منهم (٣).

موت المكتفي وخلافة المقتدر :

في أوائل ذي القعدة سنة (٢٩٥ ه‍) اشتدت علة المكتفي بالله بالذرَب (الإسهال) وله يومئذ إحدى وثلاثين سنة ، فأحضر القاضيَين : محمد بن يوسف وعبد الله بن علي بن أبي الشوارب الأُموي بالولاء وأشهدهما على وصيته بالعهد إلى أخيه جعفر بن الموفّق ولقّب بالمقتدر ، وله يومئذ ثلاث عشرة

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول لابن العبري : ١٥٤.

(٢) مروج الذهب ٤ : ١٩١ ، وسكت عنه ابن العبري.

(٣) تاريخ مختصر الدول : ١٥٤.


سنة وعلى وزارته العباس بن الحسن بن أيوب (١) كما كان عليها في أواخر أبيه المكتفي (٢).

ولأربعة أشهر من خلافته توافق جمع من كتّابه وقوّاده على خلعه والبيعة لعبد الله بن المعتز ، منهم الحسين بن حمدان بن حمدون التغلبي ووصيف بن سوار تكين الخزري وعلي بن عيسى ومحمد بن داود الجرّاح ، ومانعهم العباس بن الحسن الوزير ومعه فاتك العضدي فقتلوهما وخلعوا المقتدر وبايعوا ابن المعتزّ لمنتصف ربيع الأول سنة (٢٩٦ ه‍) وأقاموا على ذلك يوماً وليلة.

ثمّ ثار عدة من خواص الغلمان فقتلوا ابن المعتز وكثيراً من أنصاره وشتّتوا سائرهم وأعادوا المقتدر (٣).

ذلك ما ذكره المسعودي ، وقال ابن العبري : أنّ الحسين بن حمدان التغلبي لما غُلب على أمره بخلع المقتدر ، واقتدر أنصاره فأعادوه قاتلهم الحسين بن حمدان عامة النهار وانصرف عنهم آخره ، فلمّا جنّه الليل سار بأهله وماله عن بغداد إلى الموصل. فلمّا رأى ذلك ابن المعتزّ ركب بجمعه إلى الصحراء عسى أن يتبعه من بايعه ، فلمّا لم يلحقه أحد رجعوا واختفوا!

وثار العيّارون والسفلة ببغداد ينهبون الدور ويقتلون ، ووقعت الفتنة والقتل والنهب ببغداد ، حتى خرج المقتدر بعسكره فقبض على جماعة منهم وقتلهم ، فهدأت الفتنة.

ثمّ كتب إلى أبي الهيجاء بن حمدان أخ الحسين بن حمدان يأمره

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٢٠١ و ٢٠٢.

(٢) التنبيه والإشراف : ٣٢٩.

(٣) التنبيه والإشراف : ٣٢٦ ، ٣٢٧.


بطلب أخيه الحسين ، وكان مع الحسين أخوه إبراهيم فأرسله يطلب له الأمان فأُجيب إلى ذلك ، فعاد إلى بغداد وخلع عليه المقتدر وعقد له على قم وكاشان فسار إليهما.

وفي هذه السنة (٢٩٦ ه‍) سقط ببغداد ثلج كثير من بكرة إلى العصر حتى صار إلى أربع أصابع وجمدت المياه والخلّ والبيض ، وهلك النخل وكثير من الأشجار (١).

وأمر المقتدر بأن لا يركب اليهود والنصارى إلّابالإكاف فيعرفوا ، وأن لا يُستخدم أحد منهم (٢).

اتّهام الحلّاج بالحوادث :

قالوا : ولد لرجل يدعى المنصور الحلّاج في بلدة من فارس (شيراز) أسماها العرب (البيضاء) وَلد سمّاه حسيناً في سنة (٢٤٤ ه‍) ثمّ رحل به إلى واسط العراق ، ولمّا بلغ السادسة عشرة من عمره حضر حلقة الصوفي سهل بن عبد الله التستري (م ٢٨٣ ه‍) ثمّ رحل إلى بغداد وحضر حلقة الصوفي الآخر عمرو المكي (م ٢٩٧ ه‍) ثمّ تزوّج وانتقل إلى حلقة الصوفي الآخر جُنيد البغدادي ، وفي سنة (٢٧٠ ه‍) رحل إلى مكة وأقام بها سنة ، ثمّ عاد إلى الأهواز ثمّ رحل إلى طالقان فخراسان ثمّ عاد إلى بغداد وجمع حوله أربعمئة مريد وحجّ بهم! ثمّ بدأ رحلاته إلى خراسان فالأفغان فالهند وكشمير وحتى الصين! ثمّ عاد إلى مكة سنة (٢٩٤ ه‍) فأقام بها مدة عامين ، ثمّ عاد إلى بغداد (٢٩٦ ه‍) وبها بايع جمع

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول : ١٥٥.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٤١.


من القادة لابن المعتز وخلعوا المقتدر واتُّهم ابن الحلّاج أنها كانت بإشارته وإثارته وتدبيره وبلغه ذلك فهرب من بغداد إلى شوش مختفياً.

ولعلّه في رحلته هذه كان ما رواه الطوسي عن الحسين بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي : أنّ الحلّاج صار إلى قم ، وكان معه ابن عمه أو ابن عمّته فأَرسله الحلّاج بكتاب إلى بعض قرابة أبي : علي بن الحسين بن بابويه يدعوه إليه ويقول : إنه رسول الإمام ووكيله! وجاء الرجل بالكتاب وحامله إلى أبي : علي بن الحسين بن بابويه وعنده غلمانه وأصحابه فلمّا قرأ الكتاب خرقه وقال لحامله : ما أفرغك للجهالات! وهزأ به وضحكوا منه. ثمّ نهض إلى دكّانه مع جماعة غلمانه وأصحابه.

وكان الحلّاج قد سبقه إلى الدار التي فيها دكان أبي : ابن بابويه وقد جلس مع ناس جالسين هناك ، ولم يكن يعرفه أبي ، فلمّا دخل أبي إلى الدار نهض له من كان هناك غيره ، فلمّا جلس أبي وأخرج دواته ودفتر حسابه سأل بعض من حضره عن الحلّاج ، وسمعه الحلّاج فقال : تسأل عني وأنا حاضر! فقال أبي : أيها الرجل أكبرتك وأعظمت قدرك أن أسألك! فقال : أنا شاهدتك لما خرقت رقعتي! فقال له أبي : فأنت الرجل إذاً! ثمّ نادى غلامه قال : يا غلام جرّه برجله وقفاه! ثمّ قال له : اتدّعي المعجزات! عليك لعنة الله! وأخرجه الغلام من قفاه ، فما رأيناه بعدها بقم (١) فعاد إلى بغداد ، وفيها كان ما رواه قبله عن هبة الله بن محمد بن أحمد الكاتب قال : كان لأبي سهل إسماعيل بن علي النوبختي في أنفس الناس قدر ومحل من العلم والأدب ، فراسله الحلّاج يقول له في مراسلته إياه : «إنّي وكيل صاحب الزمان وقد امرت بمراسلتك وإظهار ما تريده من نصرتك لتقوى نفسك ولا ترتاب في هذا الأمر»!

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٤٠٢ ، ٤٠٣ ، الحديث ٣٧٧.


فأرسل إليه أبو سهل يقول له : إني أسألك أمراً يسيراً يسهل مثله عليك في جَنب ما ظهر على يديك من البراهين والدلائل! وهو أني رجل أُحبّ الجواري وأصبوا إليهن ، ولي منهن عدة أتحظّاهن ، والشيب يبعدني عنهن ويبغّضني إليهن ، واحتاج أن اخضّبه في كل جمعة ، وأتحمّل منه مشقة شديدة لأستر عنهن ذلك ، وإلّا انكشف أمري عندهن ، فيصير القرب بعداً والوصل هَجراً ، وأُريد أن تغنيني عن الخضاب وتكفيني مؤونته وتجعل لحيتي سوداء فإني طوع يديك وصائر إليك وقائل بقولك وداع إلى مذهبك ، مع مالي في ذلك من البصيرة ولك من المعونة.

فلما سمع ذلك الحلّاج من قوله وجوابه علم أنه قد أخطأ في مراسلته والخروج إليه بمذهبه ، فأمسك عنه ولم يرد إليه جواباً ولم يرسل إليه رسولاً.

وأما أبو سهل النوبختي فقد صيّرها أُحدوثة وضحكة ، وشهر أمره عند الكبير والصغير ، وأخذ يطنّز به عند كل أحد ، حتى كان هذا الفعل سبباً لكشف أمر الحلّاج وتنفير الجماعة عنه (١).

وعن ابن النديم عن عبيد الله بن أبي طاهر : أنّ الحسين الحلّاج كان رجلاً محتالاً مشعوذاً ، يتعاطى مذاهب الصوفية ويتحلّى بألفاظهم ، ويدّعي كل علم وهو صفر فيه ، وإنما كان يعرف شيئاً من صناعة الكيمياء. وكان جاهلاً مقداماً متهوّراً جسوراً على السلاطين مرتكباً للعظائم ، يروم انقلاب الدول ، ويُظهر لهم مذاهب الشيعة وللعامة مذاهب الصوفية. وفي تضاعيف ذلك يدّعى أنّ الأُلوهية قد حلّت فيه. بل يدّعي عند أصحابه الأُلوهية وأنه هو هو (٢)!

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٤٠١ ، الحديث ٣٧٦.

(٢) الفهرست لابن النديم ، وعنه في هدية الأحباب للقمي : ١٤٢ ، ١٤٣.


وقال ابن العبري : كان الحسين الحلّاج قدم من خراسان إلى العراق ، ثمّ سار إلى مكة فأقام سنة في حجر إسماعيل عليه‌السلام لا يستظلّ تحت سقف صيفاً ولا شتاءً! ورُئي صيفاً على جبل أبي قبس على صخرة حافياً حاسراً مكشوف الرأس والعرق يجري منه على الأرض!

ثمّ عاد الحلّاج إلى بغداد ، وكان ابتداء حاله أنه كان يُظهر الزهد ويُظهر الكرامات ، قيل : إنه حرك يده يوماً على قوم فانتثر عليهم دراهم على الوجه الرائج ، فقال له بعض من تفهّم أمره : أرى دراهم معروفة معمولة ، أما أنا وخلق معي فسنؤمن بك إن نثرت علينا درهماً عليه اسمك واسم أبيك!

فقال : كيف وهذا لم يصنع بعد؟! فقال له : إنّ من يحضر ما ليس بحاضر يصنع ما ليس بمصنوع! فانقطع الحلّاج.

ومع ذلك افتتن به خلق كثير اعتقدوا فيه الربوبية بل الحلول ، وقال قومٌ : هو رجل محتال مشعبذ يتعاطى مذاهب الصوفية ، ومع ذلك يدّعي أحياناً : أنّ الأُلوهية قد حلّت فيه فهو هو!

ثمّ نُقل عنه إلى الوزير (حامد؟) أنه أحيا أمواتاً! فاستحضره الوزير وسأله عن ذلك فقال : أعوذ بالله أن أدّعي الربوبية أو النبوة بل إنما أنا أعبد الله! فلم يتمكّن الوزير من قتله (١) بل حبسه.

وقال ابن الوردي : قدم من خراسان إلى العراق ثمّ إلى مكة فأقام سنة في حجر إسماعيل عليه‌السلام صائماً يفطر بثلاث عضّات من خبز وشربة ماء! ثمّ عاد إلى بغداد صوفيّاً من الزّهاد ، يُخرج للناس في الصيف فاكهة الشتاء وفي الشتاء

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول : ١٥٦.


فاكهة الصيف! ويمدّ يده في الهواء فيعيدها وفيها دراهم مكتوب عليها : قل هو الله أحد ، ويسمّيها دراهم القدرة. ويخبر الناس بما يأكلون وما يدّخرون بل وما يُضمرون! فاعتقد قوم فيه بالحلول! وقال قوم : هو وليّ الله! وقيل : بل هو مشعبذ بل ساحر ماهر (١) فحبسوه.

ظهور المهدي الفاطمي ، وأخبار أُخر :

وفي هذه السنة (٢٩٦ ه‍) تغلّب المهدي (الاسماعيلي) بالمغرب على أمير افريقية زيادة الله بن الأغلب ، فهرب هذا منها إلى مصر ثمّ العراق ، فخرجت المغرب عن أمر بني العباس يومئذٍ ، ودعي بالخلافة فيها للمهدي (الاسماعيلي) وسُلّم عليه بالإمامة ، وتمهّدت له المغرب وعظم ملكه وبنى بلدة (المهدية) وبسط في الناس العدل والإحسان فمالوا إليه (٢).

وذكر ابن الوردي قال : على عهد زيادة الله بن عبد الله قوى أمر أبي عبد الله الشيعي (الاسماعيلي) القائم بدعوة الدولة الفاطمية بالمغرب ، فأرسل إليه زيادة الله عسكره أربعين ألفاً مع بني عمّه ، فهزمهم الشيعي (الاسماعيلي) فضعف زيادة الله ولجأ إلى النوشري عامل العباسيين على مصر ، فكتب النوشري بأمره إلى المقتدر ، فكتب المقتدر إليه بإمداد زيادة الله بالأموال والعساكر ، فماطله النوشري حتى مرض وسقط شعر لحيته وأيس من النوشري حتى تفرق أصحابه عنه ، فسار إلى القدس ومات في الرملة فدفن بها (٣).

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٤٧.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٤١.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٤١.


الجرّاح والنوبختي والعقيقي :

في سنة (٢٩٨ ه‍) بمصر كادت ضيعة لعلي بن أحمد العقيقي أن تضيع من حقّه ، وكأنّه لم ير لحاجته قضاءً إلّالدى علي بن عيسى الجرّاح وزير المقتدر ببغداد ، فرحل إلى بغداد وعاد مقضيّ المرام إلى مصر ، وفي بلدة نصيبين بشمال العراق في طريقه إلى مصر ، التقى بالحسن بن محمد العلوي فحكى له أمره قال : ذهبت إلى الوزير الجرّاح وسألته حاجتي بشأن ضيعتي بمصر ، فقال لي الوزير : إن أهل بيتك كثير فإن ذهبنا نعطي كل ما سألونا طال ذلك! قال : فغضبتُ وقلت له : فإنّي أذهب لأسأل من يكون قضاء حاجتي على يده! فقال الوزير : ومَن هو؟ قلت : الله عزوجل! وخرجت وأنا أقول : في الله درك من كل فائت وعزاء من كل هالك ، وانصرفت.

وجاءني رسول من قبل الحسين بن روح فشكوت إليه شكايتي ، فذهب وجاءني بمنديل فيه أكفان وحنوط ومئة درهم عدداً ووزناً وقال لي : إنّ مولاي يُقرئك السلام ويقول لك : إنّ هذا منديل مولاك عليه‌السلام فإذا أهمّك أمر أو غمّ فامسح وجهك بهذا المنديل ، وخذ هذه الدراهم وهذه الأكفان وهذا الحنوط ، وستُقضى حاجتك هذه الليلة ، فإذا عُدت إلى مصر يكون قد مات قبلك محمد بن إسماعيل (؟) بعشرة أيام ، ثمّ تموت أنت بعده فيكون هذا كفنك وهذا حنوطك وجهازك! وانصرف الرسول.

وإذا بالباب يُدق وعليه المشاعل ، وكان معي غلامي «خير» فقلت له : يا خير ، انظر مَن هو ذا؟ فعاد وقال : هذا غلام حُميد بن محمد الكاتب ابن عمّ الوزير الجرّاح ، ثمّ أدخله عليَّ فقال لي : يقول لك مولاي حُميد الكاتب : اركب إليّ فقد طلبك الوزير! فركبت فأخذ بي وفُتحت لنا دروب الشوارع إلى شارع الرزّازين فإذا بحُميد ينتظرني فلما رآني ركب وأخذني حتى أدخلني على الوزير الجرّاح فقال لي : يا شيخ ، قد قضى الله حاجتك واعتذر إليّ ودفع إليّ كتاباً مختوماً (بشأن حاجتي في ضيعتي) فأخذته وخرجتُ من عنده.


قال الراوي الحسن بن محمد العلوي : حدثني علي بن أحمد العقيقي بهذا في نصيبين في طريقه إلى مصر ، ثمّ خرج إلى مصر وأخذ ضيعته بكتاب الوزير الجرّاح ، وكان قد مات قبله بعشرة أيام محمد بن إسماعيل (؟) ثمّ توفي العقيقي فكفّن في الأكفان التي دُفعت إليه (١).

مناوشات الروم والمسلمين :

في سنة (٢٩٨ ه‍) هجم الروم بمراكبهم إلى ساحل الشام وحاصروا حصن القبة قبل اللاذقية طويلاً ولم يغثهم من المسلمين أحد ، فافتتحها الروم ، ثمّ افتتحوا بلدة اللاذقية وسبوا منها خلقاً كثيراً.

وكانت مناوشات الروم قبلها برّية ، فلمّا قدموا هذه المرة بحراً كان المظنون أنّ أهل جزيرة قبرص قد أعانوهم ، وقد كان في العهد معهم صدر الإسلام : أن لا يعينوا الروم على المسلمين ولا المسلمين على الروم ، وكان من المسلمين على الغزو بالبحر الرومي (الأبيض المتوسط) رجل يدعى دمنانة ، فغزا دمنانة في مراكب المسلمين جزيرة قبرص وأقام بها أربعة أشهر يفتح حصونها ويحرق ويسبي منهم في سنة (٢٩٩ ه‍).

وفي شهر رمضان من هذه السنة هبّت في الكوفة ريح سوداء مظلمة وهطلت ثلوج وبَرد بثقل رطل بالبغدادي ، وكان فيها رجفة وزلزلة عظيمة انهدم بها كثير من بنيان المنازل فهلك بها خلق كثير من الناس (٢).

__________________

(١) كمال الدين : ٥٠٥ و ٥٠٦ ، الحديث ٣٦ باب التوقيعات ، وفي الخبر ما يظهر منه أن هذا الإكرام له كان لمكان عمةٍ له كانت في بيت النوبختي.

(٢) مروج الذهب ٤ : ٢١٨.


دفاع العلويين عن قبر علي عليه‌السلام :

كان في وسط المسجد الجامع بالكوفة موضع كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام يجلس فيه للقضاء ، فعمد أبو الحسن علي بن إبراهيم العلوي إليه فبنى عليه بناءً ، فأنكره العباسيون وهدموه ، ثمّ صاروا إلى قبر أمير المؤمنين يريدون هدمه! وثلموا حائطه! فخرج إليهم الطالبيون فقاتلوهم ، فقُتل رجل من العباسيين ورجل من الطالبيين.

فحينئذٍ عمد عاملهم على الكوفة ورقاء بن محمد بن ورقاء (الخزاعي) إلى جماعة من الطالبيين فحملهم وحُرمهم وأولادهم مقيّدين إلى بغداد ليُشهروا ثمّ يُحبسوا! فصادف ورودهم وزارة أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات ، فأحسن إليهم وخلّى سبيلهم (١) في أواخر عام (٢٩٩ ه‍) (٢).

وفي سنة (٣٠٠ ه‍) ظهر بالشام محسن بن جعفر (الكذّاب) بن علي ابن الرضا وجمع إليه جمعاً وواقع بهم عامل العباسيين أحمد بن كيغلغ فقاتله فقتله في المعركة أو صبراً وحمل رأسه إلى بغداد فنصب على غربي الجسر الجديد (٣).

بداية الخلافة الفاطمية :

وبدأ ملك العلويين (الفاطميين الاسماعيليين) بافريقية ومصر ، أوّلهم :

عبيد الله بن محمد بن عبد الله بن ميمون بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق عليه‌السلام (٤).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٤٤٩.

(٢) مروج الذهب ٤ : ٢١٣.

(٣) المصدر السابق : ٢١٧ ، وقارن بمقاتل الطالبيين : ٤٤٩.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٤١ ، ٢٤٢.


وفي (٣٠١ ه‍) سار المهدي الفاطمي في قبائل البربر أربعين ألفاً إلى الاسكندرية من مصر فقتل فيها وأفسد ثمّ خرج منها إلى بَرقة فسار إليه الجيش العباسي فجرت بينهم حروب حتى انهزم العباسيون ، فملك الفاطمي الاسكندرية والفيّوم في هذا العام (١).

وكان جيش المهدي الفاطمي مع ابنه أبي القاسم ، فبعث المقتدر إليهم جيشاً فأجلاهم فعادوا.

وفي (٣٠٢ ه‍) أرسل المهدي العلوي جيشاً من البحر إلى الاسكندرية ، فأرسل المقتدر جيشاً مع يونس الخادم ، فاقتتلوا خارج الاسكندرية أربع مرات وقُتل بينهم خلق حتى انهزم المغاربة وعادوا إلى بلادهم.

وفي هذه الحال كان كبير القرامطة أبو سعيد الحسن بن بهرام الجنابي مستولياً على سائر بلاد البحرين إلى الأحساء والقطيف وهجر ، دخل الحمّام ومعه خادم له صقلي فقتل مولاه ، ثمّ استدعى بلسانه أحد كبرائهم فقتله ، ثمّ استدعى آخر منهم فقتله ، ثمّ استدعى آخر فقتله حتى قتل أربعة منهم ثمّ علموا به فقتلوه ، وتغلّب بعده ابنه الثاني أبو طاهر سليمان (٢) ولم يُعلم بين الاسماعيلية وهؤلاء القرامطة أيّة رابطة.

ظهور الأُطروش العلوي :

وفي بلاد الديلم وطبرستان ظهر الحسن بن علي العلوي الأُطروش ، وأخرج منها العباسيين سنة (٣٠١ ه‍) وكان ذا فهم وعلم ومعرفة بالآراء ، والنحل ،

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٤٢.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٤٥.


وأقام في بلاد الديلم والجيل سنين وأكثرهم على الجاهلية والمجوسية ، فدعاهم إلى الإسلام فاستجابوا له وأسلموا ، فبنى لهم في بلادهم المساجد (١).

وقال السيوطي : في سنة (٣٠٢ ه‍) أسلم الديلم على يد الحسن بن علي الأُطروش ، وكانوا مجوساً.

قال : وفي هذه السنة ولي وزارة المقتدر علي بن عيسى الجرّاح ، فأبطل عن الناس من المكوس ما يعادل في العام خمسمئة ألف دينار! وأبطل الخمور! وسار بالتقوى والعدل والعفّة.

وركب المقتدر فظهر للناس لأول مرة من قصره إلى الشماسية ببغداد ، فختن خمسة من أبنائه وحشر معهم طائفة من الأيتام وأحسن إليهم ، فغرم على ذلك ستمئة ألف دينار (٢).

دخول النسأي إلى الشام وقتله :

قال ابن الوردي : في سنة (٣٠٣ ه‍) دخل أحمد بن علي النسأي إلى دمشق فامتُحن في معاوية! طُلب منه أن يروى شيئاً من فضائله فقال : ما يرضى معاوية أن يكون رأساً برأس حتى يُفضَّل؟! فأوقعوا به مكروهاً؟! فحُمل إلى مكة وتوفي بها في هذه السنة ودفن في المَسعى ، وهو صاحب كتاب السنن إمام حافظ محدّث (٣) وكتابه في السنن أحد الصحاح الستّ. حكى : أنه لما أتى دمشق وكتب كتاب «خصائص أمير المؤمنين» قيل له : لِمَ لا صنّفت في فضائل الشيخين؟! فقال : دخلت دمشق فوجدت الكثير بها منحرفاً عن علي عليه‌السلام فصنّفت كتاب

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٣١٧.

(٢) تاريخ السيوطي : ٤٤٢.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٤٥.


الخصائص رجاء أن يهديهم الله تعالى به! فدفعوا في خصييه حتى أخرجوه من المسجد! ثمّ ما زالوا به حتى أخرجوه من دمشق! فرحل إلى الرملة من فلسطين محمولاً مريضاً حتى توفي فيها فدفن بها. أو حُمل إلى مكة فتوفي فيها ودفن بها سنة (٣٠٣ ه‍) (١).

وخروج ابن حمدان بالعصيان :

في سنة (٣٠٣ ه‍) كان الحسين بن حمدان التغلبي غالباً على أرض الجزيرة في شمال العراق إلى ثغور الشام على طاعة المقتدر فخرج عن طاعته ، فجهّز وزيره القائد رائق الكبير في جيش وسيّره إليه ، حتى التقيا واقتتلا قتالاً شديداً حتى انهزم رائق وسواده ، فاستدركه مؤنس الخادم بعسكر أكثر ، وخافه الحسين الحمداني وعسكره فتفرقوا عنه ورحل هو بأهله وأولاده إلى أرمينية ، وأدركه جيش مونس فأسروه وعادوا به إلى بغداد فحُبس بها إلى سنة (٣٠٥ ه‍) حيث اطلق فيها أبو الهيجاء بن حمدان وإخوته (ومنهم الحسين) وأهل بيته (٢).

نهاية نيابة النائب الثاني :

يظهر من الخبر التالي أنه بعد (٣٠٠ ه‍) بدأ النائب الثاني الشيخ محمد بن عثمان العمري يأمر بعض من يحمل إليه مالاً أن يحمله إلى صاحبه أبي القاسم الحسين بن روح القمي (٣) النوبختي (من قِبل أُمه).

__________________

(١) هدية الأحباب : ٢٧٢ وقال : ونَسأ بفتح النون اسم بلدة بين أبيورد وسرَخس من خراسان.

(٢) تاريخ مختصر الدول : ١٥٥ و ١٥٦.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٥٥٧ ، الحديث ١٠٥٢.


روى الصدوق عن محمد بن علي الأسود القمي قال : كنت أحمل الأموال التي تحصل من باب الوقف إلى أبي جعفر العمري ، وقبل موته بثلاث سنين أو سنتين حملت إليه شيئاً من الأموال فأمرني بتسليمه إلى أبي القاسم الروحي ، فحملته إليه وطالبته بالقبض ، فشكى ذلك إلى أبي جعفر فأمرني أن لا اطالبه وقال : كلّ ما وصل إلى أبي القاسم فقد وصل إليّ (١).

وأسند الطوسي عن جعفر بن محمد المدائني البغدادي : أنه حمل إلى الشيخ محمد العمري أربعمئة دينار ، فقال له : امض بها إلى الحسين بن روح .. وقال له : فقد أقمت أبا القاسم مقامي ونصبته منصبي ، فقم عافاك الله كما أقول لك (٢).

هذا وقد كان له من يتصرّف عنه ببغداد عشرة أنفس ، كلّهم كان أخصّ به من أبي القاسم بن روح ، ولكنه وقع الاختيار عليه والوصية إليه. حتى أنّ كثيراً من الشيعة ببغداد كانوا لا يشكّون أنه إن حدث بأبي جعفر العمري حدث فلا يقوم مقامه إلّاجعفر بن أحمد بن متّيل أو أبوه ، لمّا رأوا فيهما من الخصوصية به وكثرة تواجده في منزله وكان طعامه في منزل جعفر وأبيه (٣).

وحدّث هبة الله بن محمد عن علي بن أحمد الدلّال القمي قال : دخلت يوماً على أبي جعفر محمد بن عثمان فرأيته قد أحضر نقّاشاً ينقش له على خشبة ساجة آيات من القرآن الكريم ، وعلى حواشيها أسماء الأئمة عليهم‌السلام.

قال علي بن أحمد : فقلت له : يا سيّدي! ما هذه الساجة؟ قال : هذه لقبري تكون فيه فاوضع عليها ، وقد فرغت من القبر ، وأنا في كل يوم أنزل فيه فأقرأ

__________________

(١) كمال الدين : ٥٠١ ، الحديث ٢٨.

(٢) كتاب الغيبة للطوسي : ٣٦٨ ، الحديث ٣٣٥.

(٣) كتاب الغيبة للطوسي : ٣٦٩ ، الحديث ٣٣٦ و ٣٣٧.


جزءاً من القرآن فيه ثمّ أصعد. ثمّ أخذ بيدي وأرانيه. قال : فإذا كان يوم كذا من شهر كذا صرت إلى الله عزوجل.

وقال محمد بن علي بن الأسود القمي : أنّ أبا جعفر العمري كان قد حفر لنفسه قبراً وسوّاه بالساج ، فسألته عن ذلك فقال : قد امرت أن أجمع أمري ، فمات بعد ذلك بشهرين (١).

وفي هذين الشهرين قبل وفاته في آخر جمادى الأُولى ، لمّا مرض واشتدت حاله جمع إليه جماعة من وجوه الشيعة منهم : أبو علي محمد بن همّام ، وأبو سهل إسماعيل بن علي النوبختي وأبو عبد الله بن الوجناء وأبو عبد الله الباقطاني وأبو عبد الله بن محمد الكاتب وغيرهم من الوجوه والأكابر ، فلمّا دخلوا عليه قالوا له : إن حدث أمر فمن يكون مكانك؟ فقال لهم :

إن حدث عليَّ حدث الموت فالأمر إلى أبي القاسم الحسين بن روح النوبختي ، فقد امرت أن أجعله في موضعي بعدي .. فهذا أبو القاسم هو القائم مقامي والسفير بينكم وبين صاحب الأمر عليه‌السلام ، والوكيل له والثقة الأمين ، فارجعوا إليه في أُموركم وعوّلوا عليه في مهمّاتكم فبذلك أُمرت ، وقد بلّغت (٢).

ولمّا حضرته الوفاة كان جعفر بن أحمد بن متّيل القمي جالساً عند رأسه يسأله ويحدّثه ، وأبو القاسم بن روح عند رجليه ، وكأنّ جعفر بن متّيل لم يكن قد اطّلع على وصية أبي جعفر إلى أبي القاسم ، فالتفت أبو جعفر إليه وقال له : أُمرت أن أُوصي إلى أبي القاسم الحسين بن روح. قال جعفر بن متّيل : فقمت من عند رأسه وأخذت بيد أبي القاسم وأجلسته في مكاني وتحولت إلى عند رجليه (٣).

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٣٦٥ ، الحديث ٣٣٢ ، و ٣٦٦ ، الحديث ٣٣٤.

(٢) كتاب الغيبة للطوسي : ٣٧١ ، الحديث ٣٤١ و ٣٤٢.

(٣) كتاب الغيبة للطوسي : ٣٧٠ ، الحديث ٣٣٩.


ثمّ توفى أبو جعفر العَمري ، وكان قد دفن والدته في بيته وحفر لنفسه عندها في منزله وداره في شارع باب الكوفة ، فدفن هناك (١) في آخر جمادى الأُولى عام (٣٠٥ ه‍) كما مرّ.

بداية نيابة النائب الثالث :

روى الطوسي عن هبة الله بن محمد بن أحمد الكاتب عن جدّته لأُمّه أُم كلثوم بنت أبي جعفر العمري قالت : كان أبو القاسم الحسين بن روح وكيلاً لأبي أبي جعفر ، سنين كثيرة ينظر له في أملاكه ، ويلقي بأسراره الرؤساء من الشيعة ، وكان يدفع إليه في كل شهر ثلاثين ديناراً ، ويصل إليه من رؤساء الشيعة ومن وزرائهم مثل آل الفرات وغيرهم صلات وعطايا ، لجاهه ولموضعه وجلالة محلّه عندهم ، فحلّ في أنفس الشيعة محلاً جليلاً ، لمعرفتهم باختصاص أبي إيّاه وتوثيقه عندهم ، ونشره فضله ودينه ، وما كان يحتمله من هذا الأمر. فمُهّدت له الحال في طول حياة أبي ، إلى أن انتهت الوصية إليه بنصّه عليه ، فلم يُختلف في أمره ولم يشك إلّاجاهل بأمر أبي ولست أعلم أنّ أحداً من الشيعة شكّ فيه (٢).

نعم ، نقل المفيد عن محمد بن أحمد الصفواني الآذربايجاني قال : كان في سنة (٣٠٧ ه‍) في بغداد ، ووافاها الحسن بن علي الوجناء النصيبي ومعه محمد بن الفضل الموصلي ، وكان رجلاً شيعيّاً يقرّ بوكالة العمريَّين الأب والابن ويتوقف عليه وينكر وكالة أبي القاسم بن روح ويقول في الأموال التي توصل إليه أنها تُخرج إلى غير موردها! ويقول له الحسن بن الوجناء : يا ذا الرجل! اتقِ الله ،

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٣٦٦ ذيل الحديث ٣٣٤ وقال : وهو الآن في وسط الصحراء!

(٢) كتاب الغيبة للطوسي : ٣٧٢ ، الحديث ٣٤٣.


فإنّ وكالة أبي القاسم كوكالة أبي جعفر العمري .. فقال الموصلي : من لي بصحة ما تقول في وكالة الحسين بن روح؟ فاتّفق الحسن بن الوجناء مع الموصلي على شيء بينهما ، ثمّ تناول منه دفتر حساباته وقطع منه نصف ورقة كان فيه بياض ، وتناول منه القلم وجعل يكتب ما اتّفقا عليه في تلك الورقة بذلك القلم بلا مداد! حتى ملأ الورقة ، ثمّ ختمه. وكان مع الموصلي شيخ أسود يخدمه. فأعطاه الحسن الورقة البيضاء المختومة! لينفذها إلى أبي القاسم الحسين بن روح.

وحضرت صلاة الظهر فصلينا هناك ، ورجع الشيخ الأسود الرسول فقال : قال لي : امضِ فإنّ الجواب يجيء. وقُدّمت المائدة ، فنحن في الأكل إذ ورد الجواب في تلك الورقة مكتوباً بمداد! فلمّا قرأه الموصلي موافقاً لما اتفق عليه مع الحسن بن الوجناء خجل من موقفه فلطم وجهه ندماً ، وطلب من ابن الوجناء أن يأخذه إلى الشيخ النوبختي فأخذه معه إليه ، فلمّا دخل عليه أخذ يبكي لديه ويقول له : يا سيدي أقلني أقالك الله! وقال له الشيخ : يغفر الله لنا ولك إن شاء الله (١).

مولد الصدوق بدعاء الحجّة (عجل الله تعالى فرجه):

كان من فقهاء قم يومئذ الشيخ علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ، وكأنّه بعد وفاة الشيخ محمد العمري وأوائل توكيل النوبختي أراد أن يتبيّن الأمر بنفسه ، فقدم إلى بغداد واجتمع مع الشيخ النوبختي وسأله مسائله (٢).

__________________

(١) المصدر السابق : ٣١٥ ـ ٣١٧ ، الحديث ٢٤١.

(٢) رجال النجاشي : ٢٦١ برقم ٦٨٤.


وكان للشيخ أحمد بن علي السيرافي البصري من كتبه : كتاب أخبار الوكلاء الأربعة (١) فنقل الطوسي عنه عن ابن سورة عن ابن الدلّال وابن الصائغ القمّيين : أنّ علي بن الحسين بن موسى بن بابويه كان قد تزوّج بابنة عمّه محمد بن موسى ، فلم يُرزق منها ولداً (فلمّا توفي الشيخ العمري وتوكَّل النوبختي) كتب إليه يسأله أن يسأل الحجة أن يدعو له الله أن يرزقه أولاداً فقهاء! فجاءه الجواب : «إنّك لا تُرزق من هذه! وستملك جارية ديلمية وتُرزق منها ولدين فقيهين» فرُزق محمداً (الصدوق) والحسن والحسين ، فأصبح محمد والحسين فقيهين ماهرين ، والحسن الأوسط كان عابداً زاهداً منحازاً عن الناس (٢).

أما الصدوق نفسه فاكتفى بالحديث عن محمد بن علي الأسود القمي قال : بعد موت محمد العمري سألني (أبوك) علي بن الحسين بن موسى بن بابويه : أن أسأل أبا القاسم الروحيّ أن يسأل مولانا صاحب الزمان عليه‌السلام أن يدعو له الله عزوجل أن يرزقه ولداً ذكراً! (وليس أولاداً فقهاء) قال الأسود القمي : فسألت (الشيخ النوبختي) فأنهى ذلك (إلى الحجّة) وبعد ثلاثة أيام أخبرني : أنّه عليه‌السلام قد دعا لعليّ بن الحسين ، وأنه سيولد له ولد مبارك ينفع الله به ، وبعده أولاد! قال : فولد لعليّ بن الحسين (أنت وبعدك أولاده إخوانك).

قال الأسود القمي : وكنت سألته لنفسي أن يدعو الله لي أن يرزقني ولداً ذكراً! فأجابني : ليس إلى هذا سبيل! فوُلد لابن بابويه ولم يولد لي (٣).

__________________

(١) رجال النجاشي : ٨٦ برقم ٢٠٩ وهو شيخ النجاشي.

(٢) كتاب الغيبة للطوسي : ٣٠٨ ، ٣٠٩ ، الحديث ٢٦١ عن كتاب أخبار الوكلاء الأربعة للسيرافي البصري.

(٣) كمال الدين : ٥٠٢ ، الحديث ٣١ ، باب التوقيعات.


ولذا قال المحقق الرباني في ترجمة الصدوق : لم يعيّن أحد ممن ترجم له سنة ولادته ، فلا نعلمها على التحقيق ، ولكن الذي يستفاد من أخباره والنجاشي والطوسي : أنها كانت بعد وفاة الشيخ العمري الثاني سنة (٣٠٥ ه‍) في أوائل سفارة الثالث : ابن روح النوبختي (١).

تبادل الأسرى والتهدئة مع الروم :

وفي سنة (٣٠٥ ه‍) وصل رسولان من ملك الروم (؟) إلى بغداد يطلبان الهدنة وفداء الأُسراء ، فاكرما وادخلا إلى الوزير (علي بن محمد بن الفرات في وزارته الثانية) وهو على أتمّ هيئته ، فأدّيا إليه الرسالة. ثمّ ادخلا إلى المقتدر وقد اصطفّت الأجناد بالسلاح والعتاد والزينة التامة ، فأدّيا إليه الرسالة. فأجابهما المقتدر إلى ما طلب منه ملك الروم (؟) من فداء الأُسراء (والهدنة) وسيّر معهما مؤنس الخادم بمئة وعشرين ألف دينار لفداء الأُسراء المسلمين (٢).

وفصّل ابن الوردي قال : اصطفّ الجنود بالأسلحة وأنواع الزينة مئة وستون ألفاً! ما بين خيّالة ورجّالة ، وأُوقف الغلمان بالمناطق والأحزمة المحلّاة بالزينة ، وأُوقف الخدّام الخصيان كذلك أربعة آلاف خادم أبيض وثلاثة آلاف خادم أسود! وأُوقف الحُجّاب وهم سبعمئة! وسُيّرت المراكب في دجلة بأعظم زينة! وزُيّنت دار الخلافة باثني عشر ألف وخمسمئة ديباج مذهّب ، واثنين وعشرين ألف بساط ، ومئة سبع مع كل سبع سبّاع!

وكان من الزينة شجرة من ذهب وفضَّة لها ثمانية عشر غصناً ، وأوراقها

__________________

(١) مقدمة معاني الأخبار : ٧٣.

(٢) تاريخ مختصر الدول : ١٥٥ ، ١٥٦.


من الذهب والفضة ، وعليها طيور وعصافير من الذهب والفضة ، وهي تتمايل بها بحركات موضوعة ، والعصافير تصفّر بحركات مرتّبة!

فشاهد الرسل ما يطول شرحه من العظمة! ولمّا احضر الرسولان بين يدي المقتدر كان الوزير (ابن الفرات) يبلِّغ كلامهما إلى الخليفة ويردّ الجواب عن الخليفة عليهما (١).

وتبرّعت ام المقتدر ببناء (البيمارستان / المستشفى) وافتتحته هذه السنة (٣٠٥ ه‍) فكانت تنفق عليه في العام سبعة آلاف دينار (٢) ويديره محمد بن زكريا الرازي (٣).

ثمّ وقعت الفتنة ببغداد :

في أواخر جمادى الأُولى من أوائل سنة (٣٠٦ ه‍) خُلع علي بن محمد بن الفرات من وزارته الثانية ، وكان الوزير الأسبق علي بن عيسى الجرّاح محبوساً فاطلق وفُوّضت الأُمور إليه (٤) وفُوّضت الشرطة إلى يجح الطولوني (التركي) فاستعمل الفقهاء على الشرطة ببغداد يعملون بفتاواهم ، على أرباع بغداد ، فضعفت هيبة السلطنة وطمع العيّارون حتى جعلوا يأخذون في الطرق ثياب الناس (٥).

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٤٦ ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٤٣.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٤٣.

(٣) تاريخ مختصر الدول : ١٥٨ وستأتي ترجمته.

(٤) مروج الذهب ٤ : ٢١٤.

(٥) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٤٦.


وآل الأمر أنّ امّ المقتدر أمرت قهرمانتها ثمل أن تجلس أيام الجمعات للمظالم وتنظر في رقاع الناس ، فكانت تجلس وتستحضر القضاة والأعيان ، وتصدّر الأوامر بخطّها وتوقيعها.

وانتهى الأمر إلى أن غلت الأسعار ببغداد وأصاب الناس مجاعة عامة ، وتجدّدت المظالم وفتح الناس السجون وأحرقوا المحابس فنهبوا الناس واختلَّت أحوال الدولة العباسية جداً حتى ركب الجند والوزير فرجمهم العامة وقاتلوهم ودام القتال أياماً (١) عام (٣٠٨ ه‍).

قتل الحسين الحلّاج :

في سنة (٣٠٩ ه‍) كان على الوزارة حامد بن العباس ، وكان الحلّاج في الحبس ، وأراد الوزير قتله فلم يتمكّن من ذلك حتى رأى له كتاباً فيه : إنّ الإنسان إذا أراد الحجّ ولم يمكنه ، أفرد من داره بيتاً طاهراً ، فإذا حضرت أيام الحج طاف حوله وفعل ما يفعل الحجّاج بمكة! ثمّ يطعم ثلاثين يتيماً ويكسوهم ويعطى كل واحد منهم سبعة دراهم ، فإنه يكون حاجّاً!

فأحضر الوزير وجوه الفقهاء والقضاة واستفتاهم فيه ، فكتبوا بإباحة دمه ، فسلّموا الوزير إلى صاحب الشرطة فضربه ألف سوط ، فما تأوّه لها ، ثمّ قطع يده ثمّ رجله ثمّ رجله الأُخرى ثمّ يده ثمّ قتل واحرق جسده والقي رماده في دجلة ، ونُصب رأسه ببغداد (٢).

وقال ابن الوردي : التمس الوزير حامد بن العباس من المقتدر أن يسلّم

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٤٣.

(٢) تاريخ مختصر الدول : ١٥٦.


الحسين الحلّاج إلى الوزير ، فأمر بتسليمه إليه ، فلمّا رأى منه ذلك الكتاب أحضر القاضي أبا عمرو وأمر بقراءة ذلك الكتاب عليه ، فلمّا قرئ الكتاب قال القاضي للحلّاج : من أين لك هذا؟ قال : من كتاب الإخلاص للحسن البصري! فقال القاضي : قد سمعناه بمكة وليس فيه هذا فقد كذبت يا حلال الدم! فطلب الوزير من القاضي أن يكتب له بحلّ دمه وألزمه بذلك. فدافعه شيئاً ثمّ كتب له بإباحة دمه ، وكتب بعده من حضر المجلس ، فأرسل الوزير الفتاوى بذلك إلى المقتدر واستأذنه في قتله فأذن ، فضُرب ألف سوط ثمّ قطعت يده ثمّ رجله ثمّ قُتل واحرق ، ونُصب رأسه ببغداد ، وكان يقول : أنا الحق! وما في الجبّة إلّاالله (١)!

قتل الطبري بفعل الحنابلة :

محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري الآملي المولود (٢٢٤ ه‍) بدأ أول دورة تفسيرية بالتفسير الترتيبي «جامع البيان في تفسير القرآن» في بغداد وأكمله في ثلاثين جزءاً ، ثمّ أنهى «تاريخ الأُمم والرسل والملوك» في عشرة أجزاء في سنة (٣٠٢ ه‍) إلى سنة (٣٠٠ ه‍) ثمّ صنّف كتباً في الأُصول والفروع والمناقب ومنها في مناقب علي عليه‌السلام عُرف باسم كتاب الولاية أو الردّ على الخوارج «الحرقوصية» نسبةً إلى حُرقوص بن زُهير ذي الثُديّة رأس الخوارج الأولين على أمير المؤمنين عليه‌السلام في النهروان ، وهو جدّ أحمد بن حنبل! وكان الطبري حافظاً عارفاً بأقاويل الصحابة والتابعين فقيهاً مجتهداً لم يقلّد أحداً ،

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٤٨ ونقل عن عبد القادر الجيلاني كلاماً في تأويل كلام الحجّاج ، ولكنه عذّر العلماء بظاهر الشرع! ونقل أنّ للغزالي في كتابه مشكاة الأنوار فصلاً طويلاً في تأويل كلامه من شدّة الوجد!


ثمّ صنّف كتاباً جمع فيه اختلاف الفقهاء ولم يذكر فيه شيئاً عن أحمد بن حنبل ، فقيل له في ذلك فقال : إنما كان أحمد بن حنبل محدّثاً ولم يكن فقيهاً مجتهداً (١)!

وقال الحموي : قصده الحنابلة فسألوه عن أحمد بن حنبل وعن روايته لحديث إجلاس الله لنبيّه معه على العرش! فقال : أما حديث الإجلاس على العرش فمُحال وقال :

سبحان من ليس له أنيس

ولا له في عرشه جليس

وأما ابن حنبل فإني ما رأيته روي عنه ولا له أصحاب يعوّل عليهم! فرموه بمحابرهم وقاموا! فقام ودخل داره ، فرموا داره بالأحجار حتى صار على بابه كالتل العظيم! وكانوا أُلوفاً ، فركب نازوك صاحب الشرطة في عشرة آلاف من الجند لمنعهم عنه! فوقفوا ببابه يوماً كاملاً ورفعوا عنه الحجارة (٢).

ونسبه الحنابلة إلى الإلحاد! حتى توفى في شوال عام (٣١٠ ه‍) فدفن في داره خوفاً منهم (٣) وكانت داره قد ابتناها لنفسه في رحبة يعقوب في بغداد (٤).

الشيخ الشلمغاني قبل شغبه :

بعد حدود خمس سنين من بدء عهد الشيخ النوبختي ، أي في سنة (٣١٠ ه‍) تقريباً ، قرّب النوبختي إليه أبا جعفر محمد بن علي المعروف بالشلمغاني (٥) ،

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٤٩.

(٢) معجم الأُدباء ١٨ : ٥٧ ، وانظر قاموس الرجال ٩ : ١٥١ ـ ١٥٤ برقم ٦٥١٧.

(٣) هدية الأحباب : ٦١ ، وانظر ترجمته في مقدمة تاريخه ١ : ٥ ـ ٣٢ بقلم محمد أبي الفضل إبراهيم.

(٤) تاريخ بغداد ٢ : ١٦٦.

(٥) شلمغان من قُرى واسط.


وكان يومئذ مستقيماً لم يظهر منه خلافه ، فكان صاحب الشيخ أبي القاسم سفيراً بينه وبين الناس في حوائجهم ومهمّاتهم ، فكان الناس يقصدونه ويلقونه ، واستتر النوبختي عنهم ما أمكنه (١).

قال أبو غالب الزراري : فكنّا لا نلقى أبا القاسم وصرنا نلقى أبا جعفر بن الشلمغاني (٢).

وكان يكتب «كتاب التكليف» باباً باباً ، فيصلح الباب ويدخل به على الشيخ أبي القاسم فيعرضه عليه ويحكمه ، فإذا صحّ الباب خرج فنقله للناس وأذن لهم بنَسخه (٣).

أما لمّا كتب الشلمغاني «كتاب التأديب» أنفذه الشيخ النوبختي إلى قم وكتب إلى جماعة الفقهاء بها : انظروا في هذا الكتاب هل تنظرون فيه شيئاً يخالفكم؟

فكتبوا إليه : ما فيه شيء يخالفنا إلّافي زكاة الفطرة فإنها عندنا صاع وهذا فيه : نصف صاع (٤).

وكأنه عندئذ طلب النوبختي من أصحابه أن يطلبوا له «كتاب التكليف» لينظر فيه ، فجاؤوا به إليه فقرأه من أوّله إلى آخره ثمّ قال : ما فيه شيء إلّاوقد روي عن الأئمة عليهم‌السلام إلّاأنّه كذب عليهم في موضعين أو ثلاثة! منها في باب الشهادة : أنه روى عن العالم (الكاظم) أنه قال : إذا كان لأخيك المؤمن على

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٣٠٣ ، الحديث ٢٥٦ عن ابن عياش عن أبي غالب الزراري.

(٢) المصدر السابق : ٣٢٤ ، الحديث ٢٧٢.

(٣) المصدر السابق : ٣٨٩ ، الحديث ٣٥٤.

(٤) المصدر السابق : ٣٩٠ ، الحديث ٣٥٦.


رجل حق فدفعه عنه ولم يكن له من البيّنة عليه إلّاشاهد واحد وكان الشاهد ثقة ، فارجع إلى الشاهد فاسأله عن شهادته ، فإذا أقامها عندك فاشهد معه عند الحاكم على مثل ما يشهد هو عنده ، لئلّا يبطل حق امرئ مسلم! وهذا من كذبه مع موضع آخر (١).

وكان من الشيعة ببغداد آل بسطام ، فلمّا جعل النوبختي للشلمغاني عند الناس منزلة وجاهاً ، أصبح أبو جعفر الشلمغاني وجيهاً عند بني بسطام ، فكان عند ارتداده وكفره يحكي كل كذب وبلاء لهم ويسنده لهم إلى الشيخ النوبختي فيقبلونه منه ويأخذونه عنه.

ومنه أنّه قال لهم : إنّ روح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله انتقلت إلى أبي جعفر العَمري! وروح أمير المؤمنين عليه‌السلام انتقلت إلى بدن الشيخ أبي القاسم النوبختي! وروح مولاتنا فاطمة عليها‌السلام انتقلت إلى ابنته أُم كلثوم! وقد أخذ عليهم كتمانه ومن أذاعه يعاقب!

فأسند الطوسي عن ابن بنتها هبة الله بن محمد بن أحمد الكاتب عن جدته أُم كلثوم أنها أخبرت الشيخ النوبختي : أنها دخلت يوماً إلى أُم أبي جعفر بن بسطام تزورها قالت : فاستقبلتني وانكبّت على رجلي تقبّلهما! فانكرت ذلك وقلت لها : مهلاً يا ستّي فإنّ هذا أمر عظيم! فبكت وقالت : كيف لا أفعل بك هذا وأنت مولاتي فاطمة! فقلت لها : وكيف ذلك يا ستّي!

فقالت لي : إنّ الشيخ أبا جعفر محمد بن علي باح لنا بالسرّ! قلت لها : وما السرّ؟ قالت : قد أخذ علينا كتمانه وقال : إن أذعناه عوقبنا! فأعطيتها موثقاً أني لا أكشفه لأحد! فباحت بالسرّ! فقلت لها : إنّ هذا كذب يا ستّي! فقالت : بل هو سرّ

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٤٠٩ ، الحديث ٣٨٢ و ٣٨٣.


عظيم وقد اخذ علينا أننا لا نكشف هذا لأحد! فالله الله فيَّ لا يحلّ بي العذاب! ويا ستّي لولا أنك حملتيني على كشفه ما كشفته لك ولا لأحد غيرك!

فقال لي الشيخ النوبختي : يا بنيّة إياك أن تذهبي إلى هذه المرأة بعد هذا وإن كاتبتك فلا تقبلي لها رقعة ، وإن أنفذت إليك رسولاً فلا تقبلي رسولها ، فهذا كفر بالله وإلحاد ، قد أحكمه هذا الرجل الملعون في قلوب هؤلاء القوم ليجلعه طريقاً إلى أن يقول لهم : بأن الله حلَّ فيه واتحدّ به! كما تقول النصارى في المسيح عليه‌السلام ، ويعدو إلى قول الحلّاج لعنه الله (وكان ذلك بعد هلاكه).

ثم كتب إلى بني بسطام بلعنه والبراءة منه فلمّا وصل كتابه إليهم أوصلوه إليه فبكى بكاءً عظيماً وقال لهم : إنّ لهذا القول «باطناً» عظيماً! وهو : أنّ اللعنة هي الإبعاد ، فمعنى قوله : لعنه الله : أي باعده الله عن عذاب النار! فالآن قد عرفتُ منزلتي! وعليكم بالكتمان لهذا الأمر ، وأخذ يمرّغ خديه في التراب!

فلم يبقَ أحد إلّاوتقدم الشيخ أبو القاسم إليه وكاتبه بلعن الشلمغاني والبراءة منه وممّن يتولّاه ويرضى بقوله أو يكلّمه أو يواليه. ونهى بني بسطام خاصّة عن كلامه ، وأمرهم بلعنه والبراءة منه ، فلم ينتهوا وأقاموا على تولّيهم له (١).

توقيع النوبختي بلعن الشلمغاني :

بدأ اقتدار المقتدر منذ عام (٢٩٥ ه‍) وبعد عشرة أعوام في (٣٠٥ ه‍) بدأت سفارة الحسين النوبختي ، واستمرّ اقتدار المقتدر إلى (٣١٧ ه‍). ولم نعلم متى رُفع أيّ تقرير على الشيخ النوبختي فأحضره وغيّبه عن الشيعة في داره ، إلّاأنه كان قبل (٣١٢ ه‍).

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٤٠٣ ـ ٤٠٥ ، الحديث ٣٧٨.


وكأنّه في ذي الحجة من سنة (٣١٢ ه‍) اتّصل به ـ وهو محبوس في دار المقتدر ـ الشيخ أبو علي محمد بن همّام ، فنقل لمحمد بن الحسن الصيمري : عن الشيخ النوبختي أنه امر من الناحية المقدسة بإظهار البراءة عن محمد بن علي الشلمغاني وشغبه بالمذهب ، وأنّ النوبختي راجع الناحية المقدسة لترك إظهار هذه البراءة فإنه في يد القوم وحبسهم ، فامر بإظهارها فإنه يأمن منهم ولا يخشى ، فأنفذها إلى أبي علي محمد بن همّام ، فهو أخرجها لمحمد بن الحسن الصيمري وأحمد بن ذكا مولى علي بن محمد بن الفرات (الوزير) وهارون بن موسى ومحمد بن أحمد بن داود وعنهم جماعة منهم أحمد بن علي بن نوح السيرافي وعنهم الطوسي ، وفيها (ولعله بعد البسملة والحمدلة) قالوا : والمداد كان رطباً لم يجف!

«عَرِّف ـ أطال الله بقاءك وعرّفك الخير كله وختم به عملك ـ من تثق بدينه وتسكن إلى نيّته من إخواننا ـ أدام الله سعادتكم جميعاً ـ بأنّ محمد بن علي المعروف بالشلمغاني ـ وهو ممّن عجّل الله له النقمة ولا أمهله ـ قد ارتدّ عن الإسلام وفارقه ، وألحد في دين الله وادّعى ما كفر معه بالخالق جل وتعالى ، وافترى كذباً وزوراً وبهتاناً وإثماً مبيناً وأمراً عظيماً ، كذب العادلون بالله وضلّوا ضلالاً بعيداً وخسروا خسراناً مبيناً.

وإننا قد برئنا إلى الله تعالى وإلى رسوله وآله «صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليهم» منه ، ولعنّاه «عليه لعائن الله» في الظاهر منا والباطن وفي السرِّ والجهر ، وفي كل وقت وعلى كل حال ، وعلى من شايعه وتابعه ، أو بلغه هذا القول منّا وأقام على تولّيه بعده.

وأعلِمهم ـ تولّاكم الله وأعزّكم الله ـ أنّنا في التوقي والمحاذرة منه على مثل ما كان منّا لنظرائه من الشُريعي والنُميري والهلالي والبلالي وغيرهم ،


وعادة الله «جل ثناؤه» مع ذلك قبله وبعده عندنا جميلة ، وبه نثق وإياه نستعين ، وهو حسبنا في كل أُمورنا ونعم الوكيل».

قال هارون بن موسى : أنّ أبا علي محمد بن همام حمل هذا التوقيع فلم يدع أحداً من الشيوخ إلّااقرأه إياه ، وكتبوا به إلى من بعُد منهم في ساير الأمصار! فاشتهر ذلك في الطائفة ، فاجتمعوا على لعنه والبراءة منه. وخرج الشيخ النوبختي من الحبس بعد ذلك بمدة يسيرة (١) في أواخر عام (٣١٢ ه‍).

فروى الطوسي بسنده عن خادم النوبختي : عبد الله الكوفي قال : بعد ما ذُم الشلمغاني وخرجت فيه اللعنة سئل الشيخ أبو القاسم قيل له : فكيف نعمل بكتبه وبيوتنا مليئة منها؟ فقال لهم : أقول فيها ما قاله أبو محمد الحسن بن علي عليه‌السلام وقد قيل له : كيف نعمل بكتب بني فضّال وبيوتنا مليئة منها؟ فقال عليه‌السلام : خذوا بما رووا وذروا ما رأوا (٢).

حركات القرامطة وما رافقها :

قال المسعودي : ومن الكوائن العظيمة والأنباء الجليلة التي كانت في أيام المقتدر ما لم يتقدّم مثلها في الإسلام (من حركات القرامطة) في عام (٣١١ ه‍) :

مسير سليمان بن الحسن الجنابي في أربعمئة فارس وخمسمئة راجل من الأحساء إلى البصرة في ست ليال ، وكان على حربها سبكا المفلحي ، وصلوا إليها ليلاً فدخلوها وقتلوا المفلحي ومن قدروا عليه من أصحابه ومن ظهر لهم من الرعية ، في أواخر ربيع الثاني وهرب الناس منهم إلى الأُبلّة والشطوط والأنهار والجزائر وغيرها ، وأقاموا بالبصرة (١٧) يوماً ثمّ رحلوا عنها بما احتملوا منها.

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٤٠٩ ـ ٤١٢.

(٢) كتاب الغيبة للطوسي : ٣٨٩ ، ٣٩٠ ، الحديث ٣٥٥.


وبعد عشرة أشهر تقريباً في أواخر محرم الحرام سنة (٣١٢ ه‍) خرج أيضاً في خمسمئة فارس وستمئة راجل رحل بهم إلى ناحية الهبير ممّا يلي الثعلبية من منازل الحجاج في منصرفهم إلى العراق ، فاعترض وقطع عليهم طريقهم ، وفيهم من القوّاد والأولياء أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون التغلبي وأحمد بن بدر وأحمد بن كشمرد وغيرهم من الوجوه ، فنهبوا منهم من صنوف الأموال ما لا يوقف على تحديد مبلغها (١) وتركوهم حتى هلك أكثرهم جوعاً وعطشاً!

فسخط المقتدر على وزيره ابن الفرات وكان له سبعون سنة وكان يلي أعماله ابنه الحسن فقتلهما ، واستوزر بعده القاسم حفيد الفتح بن خاقان التركي (٢) فجرّد هذا جمعاً من أولياء الحضرة وقوّادها للقاء القرمطي إلى الكوفة ، وهم : جعفر بن ورقاء الشيباني وجَني الصفواني مولى ابن صفوان العقيلي ، وثمل الدلفي وطريف السبكري وإسحاق السبكري وغيرهم من رؤساء الجيوش. ففي أواخر ذي القعدة من السنة (٣١٢ ه‍) اعترضهم القرمطي فواقفهم في الكوفة ، فأسر منهم القائد جَني الصفواني وقتل من قتل منهم وهزمهم.

ثمّ كان إلى ستة أيام يدخل الكوفة فينهبها نهاراً ويتركها ليلاً إلى معسكره ثمّ يعود غداً وهكذا ثمّ حمل ما أمكنه من الأموال والثياب (٣) وسلم البلد إلى إسماعيل بن يوسف الحسني وسار بالثقل والذرّية المسبيّة إلى الأحساء.

وكان القائد يوسف بن أبي الساج يلي أعمال بلاد أذربيجان وأرمينية وأران والبلقان وغيرها فأشخصه السلطان (المقتدر) إلى واسط يقيم بها يستمد ويستعد

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣٣٠.

(٢) التنبيه والإشراف : ٣٣١.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٤٩ ، ٢٥٠.


لينفذ لقتال القرمطي ، وأتاه الخبر بمسيره إلى الكوفة ، فخرج ابن أبي الساج مبادراً إلى الكوفة فسبقه أبو طاهر القرمطي حتى نزل الخورنق ، وفي غده نزل ابن أبي الساج بين النهرين ممّا يلي قرية حَروراء ، وأبو طاهر القرمطي بينه وبين الكوفة. ثمّ كانت الوقعة بينهما في (٩ شوال) سنة (٣١٥ ه‍) وتفرّق كثير من أنصار ابن أبي الساج عنه في طريقه وتأخّر كثير منهم عنه ، وكان في أكثر من ثلاثين ألف فارس وراجل ، والقرمطي في نحو من ألفين أكثرهم رجالة ؛ ومع ذلك اسر ابن أبي الساج واصطلم عسكره وأتى عليهم القرمطي والخوارج معه (١)!

وقال ابن الوردي : كانت القرامطة في ثمانمئة راجل وسبعمئة فارس فاحتقرهم ابن أبي الساج وقال لكُتّابه : صدّروا الكتب إلى الخليفة (المقتدر) بالنصر ، فهؤلاء في يدي! فلمّا اقتتلوا انهزم عسكره واسر هو وقتله أبو طاهر القرمطي واستولى على الكوفة ونهبها.

ثمّ جهّز المقتدر مؤنس الخادم في عساكر إلى القرامطة ، فانهزموا كذلك قبل اللقاء ، ثمّ التقوا فانهزموا أيضاً ، ونهبوا مدن الفرات فغنموا وعادوا إلى الأحساء!

وفي هذه الأحوال كان الوزير علي بن عيسى الجرّاح ، وكان لإدارة أُمور القصور قهرمانتان فاطمة وام موسى ، فقالتا للوزير : وقِّع بعشرة آلاف درهم للمجيبة ثياب أمير المؤمنين! ثمّ جاءتا فقالتا : وقِّع بعشرة آلاف درهم للمُعمِّمة! ثمّ قالتا : وقِّع بعشرة آلاف درهم للمزرِّرة! فقال لهما : أفأمير المؤمنين مقطوع اليد لا يقدر أن يتزرّر؟! ثمّ قالتا : وقِّع بعشرة آلاف للمبخِّرة! فقال : لو أخرج أمير المؤمنين يده من ثيابه وأخذ المجمَرة لوفَّر على بيت المال عشرة آلاف درهم! فبلغ ذلك إلى المقتدر فنفاه إلى مكة!

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣٣١.


ثمّ استعاده للوزارة ثمّ عزله وقبض عليه وولّاه علي بن مُقلة (١).

وكان القرمطي قد كثر فساده وأخذه للبلاد وفتكه بالعباد ، واشتدّ به الخطب وتمكّنت هيبته في النفوس وكثر أتباعه ، حتى أخذ يبثّ السرايا ، وتزلزل له الخليفة! ونزح أهل مكة عنها ، وانقطع الحج في هذه السنين خوفاً من القرامطة .. وخالطت الروم ثغور الشام حتى دخلت ناحية خلاط ودخلوا بصليبهم إلى جامعها وأخرجوا منبره ونصبوا صليبهم بمكانه! وقبلها وصلوا بسُفنهم إلى دمياط مصر ونصبوا ناقوسهم على جامعها وأخذوا ما فيها ومن فيها وعادوا بهم (٢).

وكان آشكار بن شيرويه قد استولى بعسكره سنة (٣١٥ ه‍) على جرجان ، وكان معه من قوّاده مرداويج بن زياد الديلمي فبايع العسكر له سرّاً فخرج بهم على آشكار حتى قتله ، ثمّ ملك قزوين ثمّ الري ثمّ همدان ثمّ كيلور ودينور ، ثمّ قم وكاشان ثمّ جرفادقان وإصفهان ثمّ استولى على طبرستان كلها : وعُمل له سرير ذهب يجلس عليه (٣).

قال المسعودي : في ذي القعدة من سنة (٣١٥ ه‍) انحدرتُ من الشام إلى بغداد ، فكنت في طريقي في بلدة هيت ، إذ نزل عليها القرمطيّ وحاصرها ، وكان أصحابه في جانب الأنبار فعبر بهم على أطواف أسفل هيت في فم بقّة فاجتمعوا إليه ، وعبر إليها من الماء من الأولياء هارون بن غريب وسعيد بن حمدان ويونس مولى الأصمعي ، وبدأ القرمطي القتال في أوائل ذي الحجة حول سورها بالدبّابات فاحترقت له عدّة منها ، فعاد إلى معسكره ، ولم تكن له سفن ليقاتل في الماء.

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٥٠.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٤٤.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٥١.


وعند السحر ارتفعت من معسكره نار عظيمة ظننا أنه يريد معاودة الحرب ، وإذا هو قد ضرب ثقله بالنار لكثرة ثقله وقلة مركوبه ، ثمّ ارتحل من معسكره صباحاً إلى ناحية رحبة مالك ، فصار إليها فافتتحها عنوة ثمّ افتتح قرقيسا ، ثمّ بثّ منهما السوارب إلى النواحي : منها سرية إلى كفرتوثا ورأس العين ونصيبين ، فأوقعوا بالأعراب من تغلب والنَمِر وأهل الحضر أيضاً. ووجه بسريّة في ألفين إلى الرَقّة على بُعد ثلاثين فرسخاً من الرحبة ، وذلك في أواخر جمادى الأُولى سنة (٣١٦ ه‍) وكان أمير الرقّة نجم غلام جني الصفواني ، فصافا القتال مع سرايا القرمطي ثلاثة أيام حتى أُصيب عدة من الفريقين ثمّ عادوا عنهم إلى الرقّة.

وأقام القرمطي بالرحبة سبعة أشهر ، فلمّا عاد إليه هؤلاء سار بهم من الرحبة إلى بلده الأحساء لآخر رجب أو أول شعبان سنة (٣١٦ ه‍) وقد حصل في هذه المدة على سفن فحملهم برّاً وفي الماء حتى نزل على هيت ثانية فقاتلهم في البرّ والماء قتالاً شديداً ، ثمّ انحدر عنهم إلى الكوفة والقادسية ، وامتارَ ثمّ مرّ من ظهر البصرة إلى بلاده الأحساء في آخر المحرم أو أول صفر سنة (٣١٧ ه‍) (١).

جرائم القرامطة في مكة :

كان على مكة في سنة (٣١٧ ه‍) محمد بن إسماعيل ابن مخلَّب ، وسار إليها القرمطي لموسم الحج في ستمئة فارس وتسعمئة راجل حتى دخلها بيوم قبل يوم التروية ، وكان على قتالها نظيف مولى ابن أبي الساج وغيره من الأولياء وغيرهم من عوام الناس من الحاج وغيرهم ، فصافّوه للقتال ولمّا قُتل نظيف انكشفوا عنه

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣٣٢ ـ ٣٣٤.


وعاذوا بالمسجد والبيت الحرام ، فأخذهم سيوفهم وعمّهم القتل! وهلك في بطون الأودية ورؤوس الجبال والبراري ضرّاً وعطشاً ما لا يدركه الإحصاء وقيل : بل ثلاثون ألفاً! وكان باب البيت الحرام مصفّحاً بالذهب فاقتلعوه ، وأخذوا كل ما كان في البيت من محاريب فضة وجزع ومعاليق ومناطق ذهب وفضة من زينة البيت ، وجرّدوا البيت ممّا كان عليه من الكسوة إلّاما أصابه دماء العائذين به ، واقتلعوا الحجر الأسود ، وأقاموا بمكة أُسبوعاً إلى منتصف ذي الحجة تقريباً يدخلونها غدوة ويخرجون منها عشية يقتلون وينهبون.

والمسعودي منسوب إلى الصحابي عبد الله بن مسعود الهُذلي من بني هُذيل من القبائل بين مكة والمدينة ، فهو يقول :

عرض لهم بنو هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر ، في مضايقهم وشعابهم وجبالهم ، وحاربوهم حرباً شديدة بالنبل والخناجر! ومنعوهم من المسير ، فاشتبهت عليهم سُبلهم ثلاثة أيام بين الجبال والأودية ، حتى تخلّص كثير من النساء والرجال المأسورين بأيديهم ، واقتطع بنو هُذيل ممّا كان معهم أُلوفاً من الإبل وأثقالها ، وهي نحو من مئة ألف بعير عليها أصناف المال والأمتعة. حتى أسروا من هذيل عبداً أسود فدلّهم على طريق سلكه فخرج بهم عن المضايق إلى بلدهم الإحساء (١)!

وقال ابن الوردي في توجيه أخذهم للحجر الأسود أنّ القرمطي قال : هذا مغناطيس بني آدم! فهو الذي يجرّهم إلى مكة. فنحوّل به الحجّ إلى الإحساء! وبذل لهم أمير بغداد خمسين ألف دينار لردّ الحجر فما قبلوا (٢).

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣٣٤ ، ٣٣٥.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٥٢.


وكان القرمطي حين قلعه ضربه بدبّوس فكسره ثمّ اقتلعوه. ثمّ صعد على درج باب الكعبة وناداهم :

أنا بالله وبالله أنا

يخلق الخلق وأفنيهم أنا (١)!

وفي هذه الأحوال وقع ببغداد الاختلال والقيل والقال حول تفسير المقام المحمود في قوله سبحانه : (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً (٢)) فقال أبو بكر المروزي الحنبلي : إنّ معنى ذلك أنّ الله تعالى يُقعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله معه على عرشه! وقال غير الحنابلة : بل إنّما هي الشفاعة ، فوقعت بها فتنة عظيمة تدخَّل فيها العسكر والعامة وقُتل بينهم خلق كثير (٣)!

وفاة ابن زكريا الرازي :

في سنة (٣٢٠ ه‍) توفي محمد بن زكريا الرازي ، أوحد دهره وفريد عصره ، أقبل على تعلّم الفلسفة فنال منها كثيراً ، جمع المعرفة بعلوم القدماء لا سيما الطبّ ، لم يكن يفارق النَسخ إما تسويداً أو تبييضاً ، فأ لّف كتباً كثيراً أكثرها في صناعة الطب وسائرها في المعارف الطبيعية ومنها اثنا عشرة رسالة في الكيمياء دبّر بالريّ بيمارستاناً (مستشفى) فبنت له امّ المقتدر بيمارستاناً ببغداد كانت تصرف عليه في العام سبعة آلاف ديناراً. وكان هو كريماً متفضلاً بارّاً بالناس حسن الرأفة بالفقراء والعلويين حتى أنه كان يجري عليهم أرزاقاً واسعة ويمرّضهم. وفي آخر عمره نزل ماء في عينيه ، فجيء إليه بكحّال ليقدحهما؟

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٤٥.

(٢) الإسراء : ٧٩.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٥٢ ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٤٦.


فسأله : هل يعرف كم هي طبقات العيون؟ قال : لا ، قال : فلا يقدح عينيَّ من لا يعلم ذلك! فقيل له : لو قدحت لأبصرت! قال : قد أبصرت في الدنيا حتى مللت منها (١)! ومن كتبه : كتاب من لا يحضره الطبيب.

ضعف المقتدر واقتدار القاهر :

استوزر المقتدر في أواخر اقتداره الحسين بن القاسم بن عبيد الله (٢) واستوحش منه أمير الأُمراء المظفّر مؤنس الخادم فخرج من بغداد إلى الموصل مغاضباً ووجه برسالة مع خادمه بشرى إلى المقتدر وأمره أن لا يذكرها إلّاله ، فسأله الوزير الحسين بن القاسم عن الرسالة فقال : أمرني صاحبي أن لا أذكرها إلّا للمقتدر ، فشتمه الوزير وصاحبَه وصادر منه ثلاثمئة ألف دينار! وضربه ، فلمّا بلغ ذلك إلى مؤنس صاحبَه كثير من القواد إلى الموصل فكان في ثمنمئة فارس (٣).

واستولى المقتدر على أقطاع مؤنس وأملاكه وأملاك أصحابه ، وكتب إلى أُمراء الموصل من بني حمدان بمقابلة مؤنس ومقاتلته (٤) فاجتمع بنو حمدان في ثلاثين ألفاً! فالتقوا واقتتلوا ، وانهزم بنو حمدان! واستولى مؤنس على أموالهم وديارهم ، وكان محسناً إلى كثير من العساكر فخرج إليه كثير منهم من بغداد والشام وحتى مصر! فأقام بالموصل تسعة أشهر ، ثمّ انحدر إلى بغداد حتى نزل بباب الشمّاسية. وخرج إليه المقتدر بأصحابه وبين يديه الفقهاء والقرّاء وعليه

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول : ١٥٨.

(٢) مروج الذهب ٤ : ٢١٤.

(٣) تاريخ مختصر الدول : ١٥٧.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٥٣.


البُردة المنسوبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والقرّاء قد نشروا مصاحفهم! ولكنهم انهزموا عنه قبل وصوله إلى أنصار مؤنس! ومع يونس قوم من المغاربة ، فلمّا بدأ المقتدر يتراجع لحقه قوم من المغاربة مع يونس وشهروا عليه سيوفهم حتى ضربه أحدهم على عاتقه فسقط وذبحوه ورفعوا رأسه وسلبوه حتى سراويله! وحملوا رأسه إلى مؤنس فبكى ولطم وجهه ورأسه! وأنفد جمعاً إلى دار الخلافة ليحافظوا عليها من النهب (١).

قال السيوطي : كان المقتدر جيّد العقل صحيح الرأي! ولكنه كان مؤثراً للشهوات والشراب! حتى غلبن عليه النساء ، فأخرج لهن جميع جواهر الخلافة ونفائسها ، وأعطى بعض حظاياه الدرّة اليتيمة ووزنها ثلاثة مثاقيل ، وأعطى قهرمانه زيدان سبحة جوهر لم يُر مثلها ، وأتلف أموالاً كثيرةً ، وكان في داره أحد عشر ألف غلام خصيان! غير الصقالبة والروم والسود ، وخلّف اثني عشر ولداً ذكراً (٢).

وكان مؤنس مربّياً لأبي العباس ابن المقتدر فأراد أن ينصبه خليفة ، فردّه إسحاق بن إسماعيل النوبختي وذكر له أخا المقتدر محمد بن المعتضد فوافقه مؤنس وأمر بإحضاره وبايعوه بالخلافة ولقّبوه بالقاهر ، في آخر شوال سنة (٣٢٠ ه‍) (٣).

بداية خلافة القاهر :

استمرت خلافته سنة ونصفاً إلى أوائل جمادى الأُولى سنة (٣٢٢ ه‍) وهو في الخامسة والثلاثين من عمره ، وكان أبيض تعلوه حمرة ، مربوعاً حسن الجسم ،

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول : ١٥٧.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٤٦ ، ٤٤٧.

(٣) تاريخ مختصر الدول : ١٥٨ و ١٥٩.


أعين وافر اللحية ، ألثغ ، أهوج شديد الأقدام على سفك الدماء ، محبّاً لجمع المال على قلّته في أيامه ، سيّئ التدبير قبيح السياسة غير مفكر في عواقب أمره قليل الرغبة في اصطناع الرجال. واستوزر محمد بن علي بن مُقلة في أول أمره (١).

كان كثير التقلّب والتلوّن ، شديد البطش بأعدائه ، أباد جماعة من أهل الدولة .. واتّخذ حربة عظيمة كان يطرحها في حال جلوسه بين يديه ويباشر بالضرب بها لمن يريد قتله وإذا سعى يحملها في يده. وكان قليل التثبّت لأمره مخوف السطوة (٢).

وتشاغل أول أمره بالبحث عن من استتر من أولاد أخيه المقتدر وحُرمه. وكانت أُم أخيه المقتدر بدأ بها مرض الاستسقاء فاستحضرها واستفسرها عن أموالها ، فاعترفت له بما عندها من الثياب والمتاع دون الجواهر والأموال ، فضربها أشد الضرب وعلّقها برجلها وضرب المواضع الغامضة منها! فحلفت أنها لا تملك سوى ما قالته. فوكّل على بيع جميع أملاكها حتى ما أوقفته ، فبيع جميع ذلك! وصادر جميع حاشية المقتدر وأصحابه (٣).

انقلاب الأصحاب على القاهر :

في سنة (٣٢١ ه‍) استوحش مؤنس من المظفّر أمير الأُمراء ومولاه بليق الحاجب وابنه علي الوزير! وأبو علي بن مقلة الكاتب ، استوحشوا من قهر القاهر ، فتوافقوا أن يوكّلوا على دار الخليفة أحمد بن زيرك ، وأمروه بتفتيش كل من

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣٣٦.

(٢) مروج الذهب ٤ : ٢٢١.

(٣) تاريخ مختصر الدول : ١٥٩.


يدخل الدار ويخرج منها حتى أن يكشف وجوه النساء المنقّبات! فعاتبهم القاهر على ذلك فما أفاد شيئاً ، فأرسل إلى أصحاب يوسف بن أبي الساج يأتلفهم إليه على أُولئك ويحلف لهم على الوفاء لهم ، فبلغ ذلك إلى ابن مقلة فذكر ذلك لمونس وبليق وابنه واتفقوا على خلع القاهر ، واتفقوا على أن يدخل علي بن بليق على القاهر بجماعة من عسكره راكبين إلى أبواب دار الخليفة فيقبض عليه. وعلم بذلك ظريف السكّري فعزم على إغراء القاهر بهم فحضر عنده في زيّ امرأة واجتمع به وذكر له ما قد عزموا عليه. فأنفذ إلى أُولئك الساجية وأحضرهم متفرقين وأكمنهم في الدهليز والممرات والرواقات.

وحضر الوزير علي بن بليق بعد العصر وفي رأسه نبيذ! ومعه عدد يسير من غلمانه بسلاح خفيف ، وطلب الإذن فلم يؤذن له وخرج إليه الجنود الساجيّون ففرّ منهم إلى دجلة وألقى نفسه في طرّادة اطّردت به إلى غربيّ دجلة واختفى فوراً. وبلغ ذلك إلى أبيه بليق الحاجب فحضر وأنكر ما جرى على ابنه وسبّ الجنود الساجيين ودخل إلى الخليفة ليعاتبه على ذلك فأمر بقبضه وقبض ابن زيرك ، وأرسل إلى أمير الأُمراء مونس المظفر ليحضر. فلمّا دخل الدار قبض عليه القاهر وحبسه! فلمّا قبض عليه ثار أصحابه وشغبوا وتبعهم الجيش كلّه! ودخل القاهر إلى علي بن بليق وأمر بذبحه فذُبح ووضع رأسه في طشت وحُمل بين يدي القاهر إلى أبي علي بليق الحاجب ووضع الطشت برأس ابنه بين يديه فبكى وأخذ يقبّله ويرشّفه فأمر القاهر بذبحه فذبح ووضع رأسه في الطشت وحُمل بين يدي القاهر ومضى حتى دخل على مونس فوضعا بين يديه وهما مولياه ، فلعن قاتلهما وتشهّد بالشهادتين فأمر القاهر بذبحه فذبحوه وأمر فحملوا الرؤوس وطافوا بها في جانبي بغداد ينادون عليها : هذا جزاء من يخون الإمام ويسعى في فساد دولته (١)!

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول : ١٥٩ ، ١٦٠.


وكان ابن مقلة قد اختفى فعزله واستوزر محمد بن القاسم بن عبيد الله ، ثمّ جدّ في طلب أحمد بن المكتفي ، لأنه اتفق مع ابن مقلة على خلع القاهر وإقامته مقامه ، فلمّا ظفر به القاهر بنى عليه حائطاً حتى مات فيه ، في أوائل شعبان سنة (٣٢١ ه‍) وعلى عادتهم نُظّفت الرؤوس وجعلت في خزانة الرؤوس (١)!

واختصر الخبر السيوطي قال : اتفق مؤنس وابن مُقلة وآخرون على خلعه بابن المكتفي ، وبلغ القاهر ، فتحيّل حتى أمسكهم وذبحهم ، وطيّن على ابن المكتفي بين حائطين ، واختفى ابن مقلة فأُحرقت داره ودور المخالفين! وشغب عليه جنودهم فأطلق لهم أرزاقهم فأسكتهم ، وأمر فنقشوا على السكة : القاهر المنتقم من أعداء دين الله! وزاد على لقبه القاهر : المنتقم!

قال : وكان لا يفتر عن سماع الغناء بل لا يصحو من السكر! ومع ذلك أمر في هذه السنة (٣٢١ ه‍) ببيع الجواري المغنّيات وحرّم بيع القيان وكسر آلات اللهو! وقبض على المغنّين ونفى المخانيث وحرّم الخمور (٢)!

انتقام ابن مقلة من القاهر المنتقم :

كان ابن مقلة مستتراً والقاهر يتطلّبه ، وهو يراسل قواد الجنود الساجيين يخوّفهم من شر القاهر ويذكر لهم غدره ونكثه مكرراً كقتله مؤنس وبليق وابنه بعد الأيمان لهم ، بل كان هو يجتمع إلى سيما وهو زعيم الجنود الساجيين بزيّ امرأة أو متكدٍّ أعمى ويغريه بالقاهر! وكان لسيما هذا منجّم ومعبّر وعرفهما ابن مقلة فأعطى منجّمه مئتي دينار ليذكر لسيما أن طالعه يقتضي أن ينكبه القاهر!

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٥٤.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٤٩.


وأعطى لمعبّره شيئاً أيضاً ليحذّره في تعبير له من القاهر! وفعلا ذلك ، حتى اتفق هو مع أصحابه على خلع القاهر. وبلغ ذلك إلى الوزير (؟) فأرسل إلى عيسى طبيب القاهر وإلى حاجبه سلام ليُعلماه بذلك ، وكان القاهر قد أكثر تلك الليلة من شرب المسكر فوجداه نائماً فلم يقدرا على إعلامه. وهجم الجنود الساجيّون على الدار في منتصف العشر الأوائل من جمادى الأُولى وسمع القاهر أصواتهم وأخبر أنّهم محاصروه ففرّ إلى سطح حمّام داره فأخذوه وسألوه عن محبس أحمد بن المقتدر فدلّهم عليه ، فأخرجوه وأجلسوه على السرير ولقّبوه الراضي بالله وسلموا عليه بالخلافة ، وبايعوه وبايعه القوّاد والناس ، ورأى أخلاق ابن مقلة أليق بهذا الوقت فاستحضره واستوزره ، فأحسن إلى كل من أساء إليه وأحسن السيرة ، وكان ذلك في (٦ جمادى الأُولى ٣٢٢ ه‍) (١).

وزاد المسعودي : أنهم سملوا عينيه (٢) وفصل السيوطي قال : أرسلوا إلى أبي الحسين بن القاضي أبي عمر ، وأبي طالب بن البهلول ، والحسن بن أبي الشوارب الأُموي والقضاة فجاؤوا ، وأحضروا القاهر ، فقال له القضاة : ما تقول؟ قال : أنا أبو منصور محمد بن المعتضد ولي في أعناق الناس وفي أعناقكم بيعة! ولست أُبرئكم ولا احلّلكم منها! فقال الوزير (ابن مقلة) إنّ أفعاله مشهورة فهو يُخلع ولا نفكّر فيه. وقاموا. ودخل القاضي أبو الحسين على الراضي وأخبره بما جرى وقال له : إني أرى إمامته فرضاً! فقال له الراضي : انصرف ودعني وإياه. ودخل سيماء زعيم الجنود الساجيين وأشار على الراضي بسَمل عيني القاهر ، فرضي به ، فكحله بمسمار محمى حتى سال عيناه على خدّيه (٣).

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول : ١٦١ و ١٦٢.

(٢) مروج الذهب ٤ : ٢٢٢ ، والتنبيه والإشراف : ٣٣٦ ، وابن الوردي ١ : ٢٥٦.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٥٠.


أمر القاهر باختبار الأطبّاء :

في غضون هذين العامين من حكم القاهر (٣٢٠ ـ ٣٢٢ ه‍) مات رجل ببغداد بغلط جرى عليه من أحد المتطبّبين ، وكان القاهر مغتبطاً بطبيبه الخاصّ به سنان بن ثابت بن قُرّة الصابئي الحرّاني ، ولكثرة اغتباطه به أراده على الإسلام ، فامتنع امتناعاً شديداً وكثيراً ، فتهدّده القاهر فخافه سنان من شدة سطوته فأسلم. فاليوم أمر الخليفة بمنع سائر الأطباء من الطبابة إلّامن امتحنه سنان بن ثابت ، فصاروا إليه وامتحنهم ، وأطلق لكل واحد منهم ما يصلح له أن يتصرّف فيه! حتى بلغ عددهم في جانبيّ بغداد إلى ثمنمئة وبضع وستين طبيباً سوى من كان في خدمة السلطان ومن كان غنياً عن ذلك بشهرة تقدّمه في ذلك.

وحضر لديه منهم رجل ذو هيبة ووقار مليح البشرة فأكرمه سنان بموجب منظره ، ثمّ التفت إليه وقال له : أشتهي أن يذكر الأُستاذ شيخه في الصناعة وأن أسمع منه شيئاً أحفظه عنه! فأخرج الشيخ من كُمّه إليه قرطاساً فيه شيء من الدنانير ووضعها بين يدي سنان وقال : والله ما أحسن أن أقرأ شيئاً في الجملة ولا أكتب ، ولكنّ لي عيالاً ومعاشي دائر ، فأسألك أن لا تقطعه عنّي!

فضحك سنان وقال : شريطة ١ ـ أن لا تهجم على مريض بما لا تعلم. ٢ ـ وأن لا تشير بفصد. ٣ ـ ولا بدواء مسهل. وإنما تعالج من الأمراض ما قرب. قال الشيخ : بل ما تعديت الجُلاب (ماء الورد) والسكنجبين (الخلّ المَغليّ بالسكّر). فرخّص له ، وانصرف.

وبعده جاءه شاب ذكيّ مليح الوجه حسن البزّة ، فقال له سنان : عَلى مَن قرأت الطبّ؟ قال : على أبي. قال : ومَن هو؟ قال : هو الشيخ الذي كان عندك بالأمس! قال : فأنت على مذهبه؟ قال : نعم. قال : فلا تتجاوزه


وانصرف مصحوباً بالسلامة. ثمّ فرّ سنان إلى خراسان. فمن يومئذ كان امتحان الأطباء واختبارهم (١).

بداية دولة آل بويه الديالمة :

مرّ الخبر عن دولة مردآويج بن زياد الديلمي وجنوده ، ومن جنوده الديالمة ثلاثة إخوة : أحمد وعلي والحسن أبناء بُويه الديلمي ، خرجوا من الديلم إلى مردآويج في طبرستان ، فقبلهم أحسن قبول وخلع عليهم ، وقدّم منهم علياً وقلّده حكم كرج ، فاستمال أهلها بالصِلات والهبات فأحبّوه وقوي جانبه (٢).

وأورد ابن الوردي : أنّ مرداويج بن زياد حوّل جمعاً من قوّاده بمال على عماد الدولة في كرج ، فلمّا وصلوا لقبضه استمالهم بإحسانه إليهم حتى استوجبوا طاعته ، وهكذا حتى صار في عشرة آلاف عسكري ، وكان على اصفهان من بغداد محمد بن ياقوت في تسعمئة ، فقصده ابن بويه وقاتله وهزمه واستولى على إصفهان ، فعظم بذلك في عيون الناس ، وبلغ ذلك مرداويج فاستوحش منه إلّاأنه بقي يراسله ويلاطفه ، وابن بويه يعتذر ولا يحضر. وكان محمد بن ياقوت ارتحل من إصفهان إلى أرجّان ، فبعد شهرين ارتحل إليه ابن بويه فانهزم منها بغير قتال واستولى ابن بويه على ارّجان ، وذلك في ذي الحجة سنة (٣٢٠ ه‍) وفي ربيع الآخر من (٣٢١ ه‍) صار ابن بويه إلى توبيدگان واستولى عليها.

ثمّ أرسل أخاه الحسن ولقّبه ركن الدولة إلى كازرون وغيرها من أعمال فارس فاستخرج أموالها (٣).

__________________

(١) مختصر تاريخ الدول : ١٦٢.

(٢) تاريخ مختصر الدول : ١٦١.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٥٥.


وعاد إلى أخيه سالماً غانماً ، فعاد معه أخوه علي عماد الدولة حتى استولى على شيراز وملكها سنة (٣٢٢ ه‍) (١). وقال السيوطي : أتى همدان ليملكها فقاتلوه ففتحها عنوة أو صلحاً ثمّ صار إلى شيراز ، وقلّ ما عنده من مال ، واستلقى على قفاه فرأى حية تحركت في السقف ، فأمر بنقضه وإذا بصناديق مليئة ذهباً ، فانفقها على جنده! وركب يوماً فساخت قوائم فرسه فأمر بحفره فوجدوه كنزاً! وكان قد أُودع عند خياط اثنا عشر صندوقاً لا يعلم ما فيها ، وأرسل ابن بويه عليه ليخيط له ، وكان أطرش أصمّ فظن أنه سُعى به إليه فقال : والله ما عندي سوى اثني عشر صندوقاً لا أعلم ما فيها! فأحضروها فوجدوا فيه مالاً عظيماً (٢)!

وفاة ابن دُريد اللغوي :

قال المسعودي : في شعبان من عام (٣٢١ ه‍) في خلافة القاهر كانت وفاة محمد بن الحسن بن دريد الأزدي البصري العُماني في بغداد ، برع في الشعر وانتهى في اللغة إلى الغاية وقام فيها مقام شيخه الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري ، وأورد في اللغة أشياء لا توجد في المتقدمين ، ومن جيّد شعره قصيدته المقصورة (٣) وله كتاب الجمهرة في اللغة ، عاش (٩٣) عاماً (٤).

ولمّا سقطت البصرة بيد الزنوج فرّ منها إلى عُمان فأقام بها اثني عشر عاماً ، وكان على فارس شيراز بنو شاه مكيال فرحل إليهم فولّوه نظارة ديوانهم ،

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول : ١٦١.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٤٩.

(٣) مروج الذهب ٤ : ٢٢٨ ، ٢٢٩.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٥٥.


حتى خُلعوا منها عام (٣٠٨ ه‍) فجاء إلى بغداد على عهد المقتدر ووزارة ابن الفرات فعيّن له وظيفة في كل شهر خمسين ديناراً! وله كتب عديدة في الأدب والشعر واللغة ، وكتابه الجمهرة في (٦) مجلدات. وعدّه رشيد الدين الحلبي الساروي المازندراني في شعراء أهل البيت المجاهدين عنهم ، آخذاً من شيخه الخليل الفراهيدي ، ومن شعره في ذلك في «معالم العلماء» :

أهوى النبيّ محمداً و «وصيّه»

وابنيه وابنته البتول الطاهرة

أهل الولاء ، وإنني بولائهم

أرجو السلامة والنجا في الآخرة

وأرى محبة من يقول بفضلهم

سبباً يجير من السبيل الجائرة

أرجو بذاك رضا المهيمن وحده

يوم الوقوف على ظهور الساهرة

وذكره كذلك القاضي المرعشي في «طبقات الشيعة» والحرّ العاملي في «أمل الآمل» والأفندي في «رياض العلماء» والصدر الكاظمي في «تأسيس الشيعة» و «الشيعة وفنون الإسلام» والمحدث القمي في «الكنى والألقاب» و «هدية الأحباب» (١).

وزارة ابن مقلة للراضي ، والشلمغاني :

كان الراضي حسن الهيئة متطيّباً كثيراً ، مقرّباً لأهل العلم والأدب والمعرفة ، وحسن المذاكرة معهم بأخبار الناس وأيّامهم (٢) وكان أسمر أعين مسنون الوجه خفيف العارضين دحداحاً نحيفاً حسن الشعر محباً للأدب ، فاستوزر محمد بن علي بن مقلة وولده علي بن محمد يخاطَبان بالوزارة وتخرج الكتب باسمهما (٣).

__________________

(١) الشيعة وفنون الإسلام : ١١٨ ، ١١٩ ، وهدية الأحباب : ٦٧.

(٢) مروج الذهب ٤ : ٢٤٤.

(٣) التنبيه والإشراف : ٣٣٧.


ولما أظهر أبو القاسم بن روح لعن الشلمغاني وتبرّأ منه وأمر جميع الشيعة بذلك واشتهر أمره ، لم يمكنه التلبيس. وكأنّ ابن مقلة قصد تحقيق ذلك فعقد في داره مجلساً حافلاً جمع فيه رؤساء الشيعة ، واستحضر معهم الشلمغاني ، فكان كل منهم يحكي عن الشيخ أبي القاسم لعن الشلمغاني والبراءة منه! فقال : اجمعوا بيني وبينه حتى آخذ بيده ويأخذ بيدي! فإن لم تنزل عليه نار من السماء تحرقه فجميع ما قاله فيَّ حق! وكان ذلك في دار ابن مقلة ، فرُقّى ذلك إلى الراضي ، فأمر بالقبض عليه وقتله.

وكان يقول : إنّه لا يتهيّأ إظهار فضيلة للولي إلّابطعن الضدّ فيه ؛ لأنه يحمل سامعي طعنه على طلب فضيلته! وإذن فهو أفضل من الوليّ! إذ لا يتهيّأ إظهار فضيلة إلّابه. وقال : كان قبل هذا العالم ست عوالم وسبع أوادم وهذا العالم السابع ، وساقوا الضدّية من لدن آدم إلى موسى وفرعون ، وعلي وأبي بكر ، والحسن ومعاوية والحسين ويزيد و... وأن باطن «القائم» هو إبليس ، فإنه قال : «لأقعدن» فدلّ على أنّه كان قائماً (١)!

ولمّا فشا شغبه وشاع أخذ يقول : أنا صاحب «الرجل» وقد امرت بإظهار العلم! وقد أظهرته ظاهراً و «باطناً»! وأنفذ إلى الشيخ النوبختي يقول له : باهلني! فأجابه الشيخ : أينا تقدم صاحبه فهو المخصوم (٢)!

وقال لمحمد بن أحمد الكاتب الاسكافي : ما دخلت مع أبي القاسم الحسين بن روح في هذا الأمر ، إلّاونحن نعلم فيما دخلنا فيه : لقد كنّا نتهارش على هذا الامر تتهارش الكلاب على الجيف (٣)

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٤٠٦ ، الحديث ٣٧٨.

(٢) كتاب الغيبة للطوسي : ٤٠٦ ، الحديث ٣٧٨.

(٣) كتاب الغيبة للطوسي : ٣٩١ ، الحديث ٣٦١.


وكان محمد بن عبد الله الحميري القمي قد كتب إلى الشيخ النوبختي القمي كتاباً فيه مسائل وأجاب عنها ، ثمّ حكي له أنّ الشلمغاني قال : أنا أجبت بهذه الأجوبة! فأعاد الحميري الكتاب المدرج المطوي إلى الشيخ النوبختي وكتب معه يسأل عنها : هل هي جوابات الفقيه عليه‌السلام أو جوابات الشلمغاني ، فقد حكي عنه أنه قال بأنه هو أجاب عنها! فكتب النوبختي إليه : قد وقفنا على هذه الرقعة وما تضمّنته ، فجميعه جوابنا ، ولا مدخل للمخذول الضال المضل المعروف بالعزاقري لعنه الله في حرف منه (١) والعزاقري هو الشلمغاني نسبة إلى جده وكان يقال له أيضاً : ابن أبي العزاقر.

وذكر ابن الوردي ما يبدو منه أنّ الشلمغاني كان يطلبه الوزير ابن مقلة فكان مستتراً ، ثمّ ظهر في شهر شوال عام (٣٢٢ ه‍) فأمسكه ابن مُقلة ، وكان أصحابه يقولون بأُلوهيته على التناسخ والحلول! وتبعه على ذلك أبو علي وأبو جعفر ابنا بسطام وأحمد بن محمد بن عبدوس وإبراهيم بن أبي عون والحسين بن القاسم بن عبيد الله وزير المقتدر ، وأحضره الوزير ابن مقلة ومعه ابن أبي عون وابن عبدوس ، وأمروهما بصفع الشلمغاني فامتنعا فأُكرها فصفعه ابن عبدوس ، وأما ابن أبي عون فإنّه أخذ برأس الشلمغاني وقبّل لحيته وهو يقول له : إلهي وسيدي ورازقي! فقالوا للشلمغاني : أما قلت إنك لا تدّعي الأُلوهية! قال : ما عليَّ من قول ابن أبي عون عنّي مثل هذا؟! وأنكر مذهبه ، فصُرفا.

ثمّ أُحضر بمحضر الفقهاء مراراً ، وآخر الأمر أفتى الفقهاء بحلّ دمه ، فصُلب هو وابن أبي عون في ذي القعدة من (٣٢٢ ه‍) ثمّ أُحرقا. وكانوا تاركَي الصلاة ويقولون بإباحة المحارم (٢)!

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٣٧٣ ، الحديث ٣٤٥.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٥٧.


وقال السيوطي : في سنة (٣٢٢ ه‍) ظهر محمد بن علي الشلمغاني المعروف بابن أبي العزاقر ، وشاع عنه أنه يدّعي الأُلوهية وإحياء الموتى ، فأُخذ مع جماعة من أصحابه وقُتلوا وصلبوا (١) وهكذا تحقق ما قاله له الشيخ النوبختي : أينا تقدّم صاحبه فهو المخصوم!

حركة القرامطة عام (٣٢٣ ه‍):

قال المسعودي : من الحوادث العظيمة في أيام خلافة الراضي بالله : مسير سليمان القرمطي الأحسائي من الأحساء لقطع الطرق على الحجّاج ذهاباً لموسم الحج لسنة (٣٢٣ ه‍) ، خرج في شوال في تسعمئة فارس ومثلهم رجّالة! فلمّا وصل بعد ثلاثة أيام إلى الجابرية قسم عسكره نصفين ، نصفه معه والآخر عليهم الحسين بن سنبر ومعاذ الكلابي قاصدين طريق مكة ، وقصد القرمطي نفسه القادسية.

فسار ابن سنبر حتى وقع بناحية زبالة والعقبة في منتصف ذي القعدة ، فوقع على القوافل الخارزمية وغيرها. فانهزم كثير منهم راجعين يريدون العُذيب وقد سبقهم القرمطي إليها ، واستقبل فيها قافلة الشمسية فاستولى عليها بأسرها ، ثمّ سار القرمطي إلى خفّان وهو يريد القادسية ، ورجع مستقبلاً للمنهزمين من ابن سنبر الراجعين يريدون الكوفة فلقيهم بالعُذيب. فأمّا قافلة قرّة فقد بذل عن قافلته مالاً فلم يعرض له ، وأوقع بالباقين فقتل جمعاً وأسر آخرين ، وصار إليه من الأمتعة والأموال ما لا يُحاط بمبلغه ولا يوقف على تحديده (٢)!

__________________

(١) تاريخ الخلفاء ٤٥٣ وراجه التنبيه والاشراف ٣٤٣

(٢) التنبيه والاشراف ٣٣٧ ٣٣٨


وحركة الحنابلة عام (٣٢٣ ه‍):

وفي سنة (٣٢٣ ه‍) عظم أمر الحنابلة وقويت شوكتهم ، فصاروا يكبسون الدور من العامة والقواد فإن وجدوا نبيذاً أراقوه أو مغنيّة ضربوها وكسروا آلة غنائها ، حتى شغبوا ببغداد.

فخرج توقيع الراضي ليُقرأ على الحنابلة وفيه : إنكم تارة تزعمون أنّ صورة وجوهكم السمجة القبيحة على مثال ربّ العالمين ، وتذكرون له الكفّ والأصابع والرجلين والنعلين الذهب والشعر القطط! والنزول إلى الدنيا! فلعن الله شيطاناً زيّن لكم هذه المنكرات.

فأمير المؤمنين (الراضي بالله) يُقسم بالله إليّةً يلزمه الوفاء بها لئن لم تنتهوا عن مذموم مذهبكم ومعوجّ طريقكم هذه ليوسعنّكم ضرباً وتشديداً وتبديداً وقتلاً! وليستعملن السيف في رقابكم والنار في محالّكم ومنازلكم (١).

مقتل مرداويج بيد جنده :

قال ابن الوردي : في ليلة الميلاد (؟) من هذه السنة (٣٢٣ ه‍) أمر مرداويج وهو في إصفهان أن يجمع في خارجها حطب مثل التلال بل الجبال ، وأمر بسماط عظيم يذبح له ألف رأس بقر ونحوه من الغنم ، وأن يجمع أكثر من ألفي غراب ليعمل في أرجلها النفط! للاحتفال. فلمّا أصبح وأراد أن يدخل إلى إصفهان اجتمع حول خيمته جنده الأتراك وكثر صهيل خيولهم ، فاغتاظ لذلك وأمر أن توضع سروجها على ظهور أصحابها فيدخلوا إصفهان كذا! ففُعل بهم ذلك فحنق الأتراك عليه. ورحل هو إلى إصفهان ودخل الحمام ، فانتهز الأتراك تلك الفرصة

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول لابن العبري : ١٦٢ ، ١٦٣ ، ومثله في تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٥٨.


وهجموا عليه فقتلوه في الحمام (١) وكان يقول : أنا أمحق دولة العرب وأردّ دولة العجم فقيل إنه كان يريد بغداد (٢).

انتصار الناصر في الموصل :

كان المكتفي بالله قد ولّى أبا الهيجاء عبد الله الحمداني على الموصل وديار ربيعة ، واستنصره القاهر بالله فاستناب ابنه الحسن بن عبد الله ولقّبه ناصر الدولة وارتحل هو بجنده إلى بغداد فقُتل بها في المدافعة عن القاهر ، فاستمر ناصر الدولة بها إلى سنة (٣٢٣ ه‍) حيث تقدم عمّه أبو العلاء بن حمدان إلى الراضي وأرضاه بمال يحمله إليه ويضمن ما بيد ابن أخيه من ديوان الخليفة ، وسار أبو العلاء إلى الموصل وقاتل ابن أخيه ناصر الدولة فقُتل ، فأرسل الخليفة عسكراً مع ابن مقلة لقتال ناصر الدولة ، فهرب ناصر الدولة ، وأقام ابن مقلة في الموصل مدة ثم عاد إلى بغداد ، فعاد ناصر الدولة إلى الموصل وكتب إلى الراضي يسترضيه ويضمن له الموصل بمال يحمله إليه ، فأجابه إلى ذلك ، فأصبح أمير ربيعة والموصل (٣).

والأخشيد على مصر :

من سنة (٣١٦ ه‍) إلى سنة (٣١٨ ه‍) تولّى مدينة الرملة من قبل المقتدر : محمد بن طغج التركي الفرغاني المشتهر بالأخشيد ، ثمّ كتب المقتدر إليه

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٥٨.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٥٣.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٥٨ ، ٢٥٩.


بولايته على دمشق فسار إليها وتولّاها ثمّ في عام (٣٢٣ ه‍) ولّاه الراضي على مصر مع الشام وعزل عنها أحمد بن كيغلغ ، فتوجه الأخشيد إليها ودخلها في أوائل رمضان (١).

تغيير الوزارة إلى إمارة العسكر :

كان حمل الراضي للأخشيد الفرغاني على ضمّ حكم مصر إلى حكم الشام ، آخر تصرّف للخليفة ، وبعدها مُنع من ذلك بتملك محمد بن الرائق ، وكان على البصرة وواسط وكانت عمدة أرزاق بغداد تحمل منهما إليها فمنعها وحتى قطع البريد ، فضاقت أرزاق بغداد ، واضطرّ الخليفة الراضي أن يسترضي ابن الرائق ويستقدمه إلى بغداد ويستميله ليقوم بالأُمور ، فجاء وقلّده إمارة الأُمراء على الجيش والوزارة ، فبطلت الوزارة (٢) وولّاه الخراج والدواوين في جميع البلاد ، وأمر أن يُخطب له على جميع المنابر ، فكان ابن رائق وكاتبه ينظران في كل الأُمور ، وصارت تحمل الأموال إلى خزائنهم فيتصرفون فيها كما يريدون وإنما يطلقون للخليفة ما أرادوا (٣) ولم يبقَ للخليفة غير بغداد وأعمالها ، والحكم حتى فيها لابن رائق وليس للخليفة معه حكم.

وتغلّب العمال على الأطراف : فالبصرة لابن رائق ، وخوزستان لابن البريدي ، وفارس لابن بويه عماد الدولة ، والري وإصفهان والجبل بين ابن بويه ركن الدولة ووشمگير أخي مرداويج يتنازعان عليها ، وكرمان لابن إلياس ،

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٥٨.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٥٩.

(٣) تاريخ مختصر الدول : ١٦٣.


وديار مُضر وربيعة وديار بكر والموصل لبني حمدان ، والشام ومصر لابن الأخشيد ، وجرجان وطبرستان للديلم ، وخراسان وماوراء النهر للنصر بن أحمد الساماني ، والبحرين واليمامة للقرمطي ، والمغرب وأفريقية للقائم العلوي الفاطمي الاسماعيلي ، والأندلس لعبد الرحمن الناصر الأُموي (١).

وقال السيوطي : في سنة (٣٢٤ ه‍) تغلّب أمير واسط ونواحيها (إلى البصرة) محمد بن الرائق على حكم البلاد حتى أبطل أمر الوزارة والدواوين وتولّاها هو وكتّابه ، فصارت الأموال تحمل إليه ، وبقي للراضي من الخلافة الصورة والاسم .. ولم يبقَ بيده غير بغداد والسواد مع يد ابن الرائق عليهما!

قال : ولذا قال أمير الأندلس عبد الرحمن الأُموي المرواني : فأنا أولى الناس بالخلافة وتسمّى بأمير المؤمنين الناصر لدين الله! فصار المسمّون بها ثلاثة : هو والراضي والمهدي الفاطمي بالقيروان (٢).

آخر دلالة من النوبختي قبل أجله :

سيأتي أنّ وفاة الشيخ النوبختي كان في شهر شعبان سنة (٣٢٦ ه‍) ، فلموسم الحج لعام (٣٢٥ ه‍) كان محمد بن الحسن الدورقي الصيرفي مقيماً بأرض بلخ ، وأراد الخروج إلى الحج ، وكان بأرض بلخ بعض الشيعة وعرفوا الدورقي الصيرفي بالتشيع ، فدفعوا إليه أموالاً من ذهب وفضة ليسلّمها في طريقه إلى الشيخ النوبختي ، قال : فجعلت ما كان معي من الذهب سبائك ، فلمّا نزلت سرخْس أقمت خيمتي على الرمال ، وجعلت أُميّز سبائك الذهب عمّا معي من الفضة ، ولمّا بلغت

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٥٩ ، ٢٦٠.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٥٤.


إلى همَدان قمت مرة أُخرى بتمييز تلك السبائك والفضة لاهتمامي بحفظها ، فرأيت أني قد فقدت منها سبيكة بوزن مئة وثلاثة مثاقيل ، فسبكت من مالي مكانها سبيكة بوزنها وجعلتها معها.

فلمّا وردت بغداد قصدت الشيخ النوبختي وسلّمتها إليه ، فمدّ يديه إلى السبيكة من مالي ورمى بها إليّ وقال لي : سبيكتنا ضيّعتها في سرخس حيث ضربت خيمتك في الرمل ، فارجع إلى مكانك وانزل حيث نزلت سابقاً ، واطلب هناك السبيكة تحت الرمل فإنك ستجدها ؛ وستعود إلى هاهنا فلا تراني!

قال الدورقي الصيرفي ، فلمّا انصرفت رجعت إلى سرخس ونزلت حيث كنت نزلت فوجدت السبيكة تحت الرمال وقد نبت عليها الحشيش ، فأخذتها وانصرفت بها إلى بلدي بلخ.

وتوفى الشيخ النوبختي في شعبان سنة (٣٢٦ ه‍) وفي خبر الدورقي الصيرفي ما يدلّ على أنّ النوبختي قد أشار عليه بالعودة إلى بغداد وتسليم السبيكة بعده إلى أبي الحسن علي بن محمد السمري الصيمري البصري ، قال : فلمّا كان موسم الحج القادم عام (٣٢٦ ه‍) حججت فدخلت بغداد ، فكان الشيخ النوبختي قد مضى رضى الله عنه ، فلقيت الشيخ السمري فسلّمت السبيكة إليه (١).

روى الصدوق ذلك ثمّ روى نحوه عن الحسين بن علي القمي البغدادي البخاري أنه كان ببخارى واستلم من ابن جاوشير عشرة سبائك ذهب للشيخ النوبختي فلمّا دخل بغداد وجدها قد نقصت واحدة فاشترى مكانها سبيكة بوزنها وجعلها معها ، فعرفها النوبختي وقال : خذها وقد وصلت التي ضيّعتها في آمل طبرستان (٢).

__________________

(١) كمال الدين : ٥١٦ ، الحديث ٤٥.

(٢) كمال الدين : ٥١٨ ، الحديث ٤٧.


وتوفى الشيخ حسين بن روح النوبختي في شعبان سنة (٣٢٦ ه‍) ودفن في مقبرة النوبختية في درب علي بن أحمد النوبختي النافذ من ناحية إلى قنطرة الشوك ومن ناحية أُخرى إلى التلّ (١) وكأن تعيين النوبختي للشيخ علي بن محمد السمُري الصيمري والدلائل التي ظهرت منه كانت بحيث لم يُنقل أي خلاف فيه.

معتقل ابن مقلة ومقتله :

في سنة (٣٢٦ ه‍) كتب أبو علي ابن مقلة الوزير السابق إلى الراضي يشير عليه بإقامة القائد بَجكَم التركي مكان ابن رائق والقبض على ابن رائق وأصحابه ، ويضمن أنه يستخرج له منهم ثلاثة آلاف ملايين الدنانير ، فعرض الراضي خطّ ابن مقلة على ابن الرائق ، فاعتقلوه ، ثمّ أمر ابن الرائق بقطع يده فقُطعت ، ثمّ عولج فبرأ ، فكان يشدّ القلم على يده المقطوعة ويكتب إلى الراضي ويهدّد ابن رائق حتّى أمر الراضي بقطع لسانه ، وحُبس وضيّق عليه بلا من يخدمه ، فأصابه شقاء شديد حتى مات (٢).

وفي سنة (٣٢٦ ه‍) تمرّد ابن البريدي في خَوزستان ، فأرسل ابن رائق بَجَكَم بعسكره لقتال ابن البريدي ، فقاتلوه فانهزم إلى عماد الدولة في فارس وطمّعه في العراق ، فأرسل عماد الدولة أخاه معزّ الدولة بن بويه إلى بلاد الأهواز فاستولى عليها (٣).

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي ٣٨٦ ٣٨٧ الحديث ٣٥٠

(٢) تاريخ مختصر الدول ١٦٣ وانظر تاريخ ابن الوردي ١ ٢٦٠ ٢٦١ قال والصحيح ان صاحب الخط المليح ليس هو بل اخوه الحسن بن علي بن مقلة

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ ٢٦٠


فعاد بجكم إلى بغداد ثائراً على ابن رائق فاختفى ، ودخل على الراضي فأكرمه وقلّده إمارة بغداد وخراسان ولقّبه بأمير الأُمراء (١).

وكان ناصر الدولة الحمداني قد تمرّد بالموصل ، فخرج بجكم إليه وأخرج معه الراضي ، فحمل ناصر الدولة أمواله وهرب منها ، ثمّ تصالحوا فعاد ناصر الدولة إلى الموصل ، وعاد الراضي وبجكم إلى بغداد ، وقبل وصولهما ظهر ابن رائق بجماعته ببغداد ، فولّاه الراضي العواصم والرّها وحرّان وقنّسرين ، فاستولى عليها (٢).

ولموسم الحج لسنة (٣٢٧ ه‍) أعلن القرامطة أنهم يأخذون من كل جمل من جمال الحجّاج خمسة دنانير ويطلقون طريقهم للحجّ ، فحجّ الناس ، فكان أول تعشير للحجّاج.

فلمّا عاد حجّاج بغداد لسنة (٣٢٨ ه‍) فاضت بها دجلة فيضاناً عظيماً بلغ ارتفاعه (١٩) ذراعاً ، فانهدم به كثير من الدور وغرق به كثير من البهائم والناس (٣).

وفاة الشيخ ابن بابويه :

في سنة (٣٢٨ ه‍) اعتل الشيخ علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي والد الصدوق بقم ، وبلغ خبر علّته إلى بغداد إلى الشيخ علي بن محمد السمُري الصيمري البصري البغدادي ، فكان يسأل كل قريب عنه.

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٥٥.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٦٢.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٥٥.


فروى الطوسي عن جماعة عن الحسين بن علي بن بابويه أخ الصدوق عن جماعة من أهل قم كانوا قد رحلوا حينئذٍ إلى بغداد ، قالوا : كان الشيخ أبو الحسن السمُري يسأل عنه فنقول له : قد ورد الكتاب باستقلاله وتحسّنه. حتى سأَلنا يوماً فذكرنا له مثل ذلك فقال : آجركم الله في علي بن الحسين فقد قُبض في هذه الساعة!

قالوا : وبعد سبعة عشر أو ثمانية عشر يوماً ورد الخبر بوفاته في تلك الساعة (١).

وروى الصدوق بسنده عن أحمد بن إبراهيم بن مخلّد ، قال : حضرت في بغداد عند الشيخ علي بن محمد السمُري فقال مبتدئاً : رحم الله علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي! فكتب المشايخ تاريخ ذلك اليوم ، فورد الخبر أنه توفي في ذلك اليوم.

وبعد ذلك مضى أبو الحسن السمُري في النصف من شعبان سنة (٣٢٨ ه‍) (٢).

ورواه عنه الطوسي إلّاأنّه قال : سنة (٣٢٩ ه‍) (٣) ونقله عنه الشيخ التقي الشوشتري وقال : إلّا أنّ الصدوق أعرف وأضبط ، فنقله مقدّم (٤).

مصير آخر سفير :

كان خاتمة السفراء الأربعة الخواص لصاحب الأمر «عجل الله فرجه» هو الشيخ السمُري الآنف الذكر ، وقبل وفاته حضر الشيعة لديه وسألوه عن

__________________

(١) الغيبة للطوسي : ٣٩٦ ، الحديث ٣٦٦ و ٣٩٤ ، الحديث ٣٦٤.

(٢) كمال الدين : ٥٠٣ ، الحديث ٣٢.

(٣) الغيبة للطوسي : ٣٩٤ ، الحديث ٣٦٤.

(٤) قاموس الرجال ٧ : ٤٣٨ برقم ٥١١٢.


مَن يقوم مقامه ومَن الموكَّل بعده؟ فذكر لهم : أنه لم يؤمر بأن يوصي في هذا الشأن إلى أحد بعده (١).

ثمّ اعتلّ فحضروه قبل وفاته بأُسبوع تقريباً في اليوم السابع من شهر شعبان سنة (٣٢٨ ه‍) فأخرج لهم توقيعاً فيه : «بسم الله الرحمنِ الرحيم ، يا علي بن محمد السمري ، أعظم الله أجر إخوانك فيك ، فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام! فاجمع أمرك. ولا توصِ إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك ، فقد وقعت «الغيبة التامة».

فلا ظهور إلّابعد إذن الله «تعالى ذكره» وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جوراً!

وسيأتي لشيعتي من يدّعي المشاهدة ، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذّاب مفتر! ولا حول ولا قوة إلّابالله العلي العظيم».

أخرجه الصدوق عن الحسن بن أحمد المكتّب قال : نسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده ، فلمّا كان اليوم السادس عُدنا إليه وإذا هو يجود بنفسه ، فقال له بعض من لم يحضره قبل هذا : مَن وصيّك بعدك؟ قال : لله أمر هو بالغه. فكان هذا آخر كلام سُمع منه (٢) ثمّ مضى رضى الله عنه في النصف من شعبان سنة (٣٢٨ ه‍) (٣).

ذلك ما أخرجه الصدوق ، ورواه عنه الطوسي إلّاأنّه قال : سنة (٣٢٩ ه‍) (٤) ونقله عنه الشيخ التقي الشوشتري وقال : إلّا أنّ الصدوق أعرف منه وأضبط ، فنقْله مقدَّم (٥) كما تقدم.

__________________

(١) الغيبة للطوسي : ٣٩٤ ، الحديث ٣٦٣.

(٢) كمال الدين : ٥١٦ ، الحديث ٤٤ باب التوقيعات.

(٣) كمال الدين : ٥٠٣ ، الحديث ٣٢ باب التوقيعات.

(٤) الغيبة للطوسي : ٣٩٤ ، الحديث ٣٦٤.

(٥) قاموس الرجال ٧ : ٤٣٨ برقم ٥١١٢.


وصلّوا عليه وشيعوه ودفنوه على شاطئ نهر أبي عتّاب في ربع باب المحوّل من أبواب بغداد ، في شارع الخُلنجي (١).

وبعده كانت نهاية خلافة الراضي العباسي وبداية أَخيه المتقي ، ثمّ وفاة الشيخ الكليني في (٣٢٩ ه‍) فنختم كتابنا بنهاية الكلام عن الكليني.

نهاية الراضي ، وبداية المتقي :

في العاشر من ربيع الأول عام (٣٢٩ ه‍) توفي الراضي بالله ابن المقتدر ببغداد حتف أنفه (٢) وله (٣٢) سنة (٣) بمرض الاستسقاء (٤).

وبويع أخوه إبراهيم بن المقتدر ولقّب بالمتقي بالله (٥) من أُم ولد تسمّى خَلوب ، فكان أشهل العين أشقر الشعر أبيض صافي اللون (٦) وكانت بيعته في العشرين من ربيع الأول ، حيث كان الحكم مع بَجكَم التركي وكان في واسط.

وكان له كاتب يدعى أبا عبد الله أحمد بن علي الكوفي ، فأرسله بجكم إلى بغداد بكتاب معه يأمره فيه أن يجتمع مع سليمان بن الحسن وزير الراضي ويجمع معه كل من تقلد الوزارة قبله ، وأصحاب الدواوين والعباسيين والعلويين! والقضاة

__________________

(١) الغيبة للطوسي : ٣٩٦ ، الحديث ٣٦٧.

(٢) مروج الذهب ٤ : ٢٣١.

(٣) التنبيه والإشراف : ٣٣٧.

(٤) تاريخ مختصر الدول : ١٦٣ ، وتاريخ ابن الوردي ١ : ٢٦٣.

(٥) مروج الذهب ٤ : ٢٤٧.

(٦) التنبيه والإشراف : ٣٤٤.


ووجوه البلد ، فيشاورهم الكوفي في الخليفة ، فاتّفقوا على بيعة إبراهيم بن جعفر المقتدر فبايعوه. ولقّبوه المتقي بالله ، فأَرسل اللواء والخلع إلى بجكم ، وأقرّ سليمانَ بن الحسن وزير الراضي على اسم الوزارة ، والتدبير في الواقع للكوفي كاتب بجكم التركي (١).

وكان على الريّ يومئذ وشمگير بن زياد أخو مرداويج ، واستولى القائد ماكان بن كالي على جرجان وكانت جرجان من قبل للسامانية بخراسان ، فقصد قائد منهم يدعى أبا علي بن مظفر بن محتاج إلى ما كان على جرجان فهزم ماكان ، ثمّ سار ابن المحتاج إلى وشمگير على الريّ فاستمد وشمگير له بماكان فخرج بجمعه إلى الريّ لنجدة وشمگير على ابن المحتاج الساماني ، وقدم ابن المحتاج فقاتلاه فقُتل ماكان وهرب وشمگير إلى طبرستان ، واستولى ابن المحتاج الساماني على الري (٢).

ولعلّه لعلّة هذه الاضطرابات بالريّ كان الشيخ الكليني الرازي هجرها إلى بغداد ، بدون تاريخ معيّن معلوم ، فتوفى في بغداد كما يلي.

وفاة الشيخ الكليني الرازي :

سبق الشيخ الطوسي في كتابه «الفهرست» بترجمة الشيخ محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي قال : صنّف كتابه «الكافي» في عشرين سنة ، وهو مشتمل على ثلاثين كتاباً. ثمّ عدّها وذكر طريقين إليه ، ومنها :

شيخه أبو عبد الله أحمد بن عُبدون. وقال : توفي في سنة (٣٢٨ ه‍) ببغداد ،

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول : ١٦٤ ، وتاريخ ابن الوردي ١ : ٢٦٥.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٦٤.


ودُفن في مقبرة باب الكوفة من بغداد ، وقال ابن عُبدون : كنت رأيت قبره في صَراه الطائي وعليه لوح فيه اسمه واسم أبيه (١).

واطّلع على هذا الشيخ النجاشي الأسدي الكوفي البغدادي ، فكتب «فهرستاً» آخر ، وترجم فيه للكليني فأتى فيها بما ذكره الطوسي وقال في تاريخ وفاته : مات أبو جعفر الكليني رحمه‌الله ببغداد في سنة (٣٢٩ ه‍) وزاد : صلّى عليه أبو قيراط محمد بن جعفر الحسني ، ودُفن بباب الكوفة ، ونقل قول شيخه أحمد بن عبدون وأكمله بقوله : وقد دُرس (٢)!

فعاد الشيخ الطوسي في كتابه «الرجال» لذكر الكليني في من لم يرو عن الأئمة مباشرة ، إلى التاريخ الذي ذكره النجاشي : (٣٢٩ ه‍) وقال : في شهر شعبان. وزاد في وصفه : أنه كان عالماً بالأخبار جليل القدر أعور (٣).

وفي ضبط لفظ «صراه» صرّحوا أنها تختم بالهاء وليس التاء القصيرة ، وهو فرع من نهر عيسى بن علي العباسي من شطّ دجلة عند بلدة المحوّل على بعد فرسخ (٥ كم) من بغداد بعد باب الكوفة منها في جانبها الغربيّ ، عند منطقة الجعيفر اليوم في الكرخ كما عن مصطفى جواد. وليس بها اليوم قبر للشيخ الكليني.

وإنما القبر الوحيد المنسوب للشيخ الكليني ببغداد على شاطئ دجلة عند الجسر العتيق المجدّد باسم جسر المأمون ، على يسار القادم من الرصافة في شرق دجلة إلى الكرخ بغربها ، في أول السوق بجنب المدرسة المستنصرية. وأقدم ما بأيدينا عمّن أشار إليه هنا الشيخ المجلسي الأول (١٠٧٠ ه‍) قال :

__________________

(١) الفهرست : ٣٢٦ برقم ٧٠٩. وصراه معرّب : سه راه : مثلّث الطريق.

(٢) رجال النجاشي : ٣٧٧ برقم ١٠٢٦.

(٣) رجال الطوسي : ٤٩٥ برقم ٢٧.


سمعت من جماعة من أصحابنا ببغداد أنّ قبره يُعرف بقبر شيخ المشايخ! لدى الخاصة والعامة! في «مولوي خانه» وزرته هناك (١) نقله المرحوم محفوظ في مقدمته للكافي ثمّ نقل عن هامش الفهرست للطوسي عن الأفندي (١١٣١ ه‍) قال : قبره ببغداد ، ولكن ليس في المكان الذي يُعرف الآن (٢)!

و «مولوي خانه» في ما مرّ عن المجلسي الأول ، جاء في «روضات الجنات» بعنوان : تكية المولوية (٣). وفي «مراقد المعارف» بعنوان : جامع الصفوية الذي عُرف بجامع الآصفية! ثمّ بتكية المولوية (٤).

فأرى أنّ الصفوية لمّا دخلوا بغداد بعد الألف الهجرية ، وبنوا هذا الجامع هناك ، وجدوا في أرضه قبراً منسوباً إلى الشيخ الكليني ، فشهروا نسبته إليه «إحياءً لذكره ، وإخلاداً لاسمه ، واستبقاءً له» كما ذكره الدكتور محفوظ (٥).

وإنما دُفن بباب الكوفة لأنه كان يسكن في درب السلسلة من محلة باب الكوفة ببغداد ، بعد أن كان في وقته شيخ أصحابنا بالريّ ووجههم (٦) وكانت له رحلات في طلب أخبار الأئمة الأطهار عليهم‌السلام إلى قم وقزوين ونيشابور وتنيس وهمدان ، وبغداد ، والكوفة ، والحجاز ، وصور ، وسورا ، ثمّ عاد إلى بغداد فسكن بها. ومرّ أنه كتب كتابه الكافي في عشرين عاماً ، ولكن بلا تاريخ

__________________

(١) شرح مشيخة كتاب من لا يحضره الفقيه ، وعنه في مقدمة أُصول الكافي ١ : ٤١.

(٢) مقدمة أُصول الكافي ١ : ٤١ ، وليس في رياض العلماء المنشور!

(٣) روضات الجنات ٦ : ١١٧.

(٤) مراقد المعارف لحرز الدين ٢ : ٢١٤ زاره عام (١٣٠٥ ه‍).

(٥) مقدمة أُصول الكافي ١ : ٤٢ ، وراجع العميدي في الشيخ الكليني وكتابه الكافي : ٨٢ ـ ٨٦ ، ودفاع عن الكافي ١ : ٣٥ ـ ٤٢.

(٦) رجال النجاشي : ٣٧٧ برقم ١٠٢٦.


للبداية والنهاية ، ولعلّها كانت منذ أوائل ما بعد الثلاثمئة إلى (٣٢٠ ه‍) أي قبل وفاته بنحو عشر سنين تقريباً ، ولا يُعلم كم منها كان في بغداد ، إلّا أنّ عمدة من تلقّى عنه الكافي بغداديون ، وممّن اختصّ به فيها فكان يبيّض له كتابه الكافي هو محمد بن إبراهيم النعماني (١).

كما لم يُعلم تاريخ مولده في قريته كُلين على بُعد خمسة كيلومترات من بلدة حسن آباد على طريق الريّ إلى قم ، والمظنون مولده في أوائل عهد إمامة العسكري عليه‌السلام أو أوائل ما بعد مولد المهديّ عجل الله فرجه «فكانت حياته في زمن وكلاء المهدي عليه‌السلام : عثمان بن سعيد العَمري ، وابنه محمد ، وأبي القاسم حسين بن روح ، وعليّ بن محمد السمري ، وتوفّى قبله» (٢) ولم يعلم منه أي اتصال وارتباط بهم ، ممّا يدل على شدة التقية يومئذ ، حتى أنّ الصلاة عليه صلّاها السيّد أبو قيراط الحسني كما مرّ خبره.

واستند ابن الأثير (٦٣٠ ه‍) في تاريخ وفاته على «الفهرست» للطوسي فذكر تاريخه (٣٢٨ ه‍) (٣) فتبعه أبو الفداء الأيوبي (٧٣٢ ه‍) في تاريخه «المختصر في أخبار البشر» وعنه ابن الوردي (٧٤٩ ه‍) في تتمّته له قال في سنة (٣٢٨ ه‍) : فيها توفي محمد الكليني من أئمة الإمامية (٤) وقد مرّ أنّ الصحيح (٣٢٩ ه‍). وقد مرّ خبر التوقيع الشريف الدال على المراجعة في الحوادث الواقعة إلى فقهاء رواة أخبار الأئمة الأطهار عليهم‌السلام.

__________________

(١) انظر مرآة العقول ١ : ٣٩٦.

(٢) كشف المحجة : ١٥٩.

(٣) الكامل في التاريخ ٤ : ٣٦٤ ولم يعلم بعدوله في رجاله.

(٤) المعروف بتاريخ ابن الوردي ١ : ٢٦٢.


وبخاتمة حياة خاتم السفراء الخواص لصاحب الأمر «عجل الله فرجه» ومع بداية سنة (٣٣٠ ه‍) غلت أسعار السلع في العراق عامة وفي بغداد خاصة حتى أنه بلغ كُرّ الحنطة ثلاثمئة وستة عشر ديناراً ، وتدرّج القحط في الاشتداد حتى وصل إلى حدّ أكل الميتة (١)!

وبتمام الكلام في نهاية حياة الشيخ الكليني انتهى مصير هذا السفر الخطير : موسوعة التاريخ الإسلامي. ومن الله التوفيق وعليه التكلان ، والحمد لله رب العالمين ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين ، في مساء الأربعاء الثالث عشر من شهر ربيع المولود ، لعام الثلاثين بعد الأربعمئة والألف من الهجرة النبوية القمرية ، الموافق لأواخر سنة ١٣٨٧ هجرية شمسية ، على هاجرها ألف سلام وصلاة وتحية.

الحوزة العلمية بقم المقدسة

محمد هادي اليوسفي الغروي

١٣ / ٣ / ١٤٣٠ ه‍. ق / ١٣٨٧ ش

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٥٧.



فهرس الکتاب

ولایة العهد للرضا عليه السلام

حمل الإمام إلى خراسان........................................................... ٩

من المدينة إلى مرو مكرهاً........................................................ ١١

أبو الصلت والمأمون والرضا عليه السلام........................................... ١٣

ثمّ قرية الحمراء وسناباد وطوس.................................................... ١٧

عباداته من المدينة إلى مرو....................................................... ١٩

بداية محاولة المأمون............................................................. ٢٢

إعلان ولاية عهد الرضا عليه السلام.............................................. ٢٥

المجلس العام لتولية الامام عليه السلام............................................. ٢٧

كتاب العهد للرضا عليه السلام.................................................. ٣١

من نتائج البيعة في مكة.......................................................... ٣٧

زيد بن موسى والرضا عليه السلام................................................. ٣٩

فشّو الفساد في بغداد........................................................... ٤٢

الوشّاء يختبر علم الرضا عليه السلام............................................... ٤٥

صلاة الرضا عليه السلام للاستسقاء.............................................. ٤٩


وصلاته عليه السلام لعيد الفطر (٢٠١ هـ)........................................ ٥٠

لم يكن الرضا عليه السلام راضياً بالعهد............................................ ٥٢

تحليلات المأمون لتوليته العهد.................................................... ٥٤

وزوجّه بجاريتين قبل ابنته......................................................... ٥٦

حوادث بغداد والكوفة.......................................................... ٥٨

دعبل الخزاعي لدى الرضا عليه السلام............................................. ٦٢

آثار القصيدة وتوابعها........................................................... ٧٠

استقبال القميين لفاطمة اُخت الرضا.............................................. ٧٣

ابنتا المأمون للرضا والجواد عليهما السلام........................................... ٧٥

فضائل علي عليه السلام لإقناع القواد؟!........................................... ٧٦

احتجاج المأمون على العباسيين................................................... ٨٠

الرضا و «الآل» و «الامة» و «العترة»............................................ ٨٧

مجلس الرضا علیه السلام مع علماء الادیان........................................ ٩٧

مناظرة الرضا عليه السلام مع الجاثليق............................................ ١٠٠

مناظرة الرضا ورأس الجالوت..................................................... ١٠٥

مناظرة الرضا مع الهِربد الأكبر وعمران الصابي..................................... ١٠٨

الرضا ، وسليمان المروزي ، والبداء............................................... ١١٥

الرضا ، وسليمان المروزي ، والارادة.............................................. ١١٨

الرضا ، وسليمان المروزي ، والعلم............................................... ١١٩

الرضا ، وابن الجهم ، والعصمة.................................................. ١٢٠

المأمون والرضا عليه السلام والعصمة............................................. ١٢٣


المأمون والرضا وشبهة الجبر..................................................... ١٣١

مسائل في الاوصاف ، مع الرضا عليه السلام..................................... ١٣٢

الرضا ، والمأمون ودلالة المباهلة.................................................. ١٣٥

حديث الرضا عليه السلام في الامام والامامة...................................... ١٣٦

المأمون والمتكلّمون والرضا في الامامة............................................. ١٤٣

المأمون والرضا والغلاة والامامة.................................................. ١٤٣

عودة المأمون ، والمخالفون...................................................... ١٤٥

كتاب الرضا بالحباء للفضل.................................................... ١٤٩

كتاب الرضا للجواد عليهما السلام.............................................. ١٥٥

عامل عودة المأمون إلى بغداد................................................... ١٥٦

مقتل الفضل في حمام بسرخس.................................................. ١٥٨

كيفية رحلة المأمون............................................................ ١٦٢

هل سمّ المأمون الرضا؟ ولماذا؟................................................... ١٦٣

مقتل الرضا عليه السلام بعنب المأمون........................................... ١٦٥

وتباكت عيون المأمون......................................................... ١٦٩

استبعاد الاستشهاد!........................................................... ١٧٢

مراثي الرضا عليه السلام....................................................... ١٧٥

عهد الامام الجواد عليه السلام

الجواد بعد أبيه الرضا عليه السلام............................................... ١٨١

سقوط ابراهيم العباسي........................................................ ١٨٥


رحلة المأمون إلى بغداد......................................................... ١٨٧

مجلس الاستفتاء العام (٢٠٣ هـ)................................................ ١٩٠

المأمون ، والنضر النحوي البصري............................................... ١٩٥

وفات الشافعي بالفُسطاط..................................................... ١٩٥

وفاة هشام الكلبي المؤرّخ النسّابة................................................. ١٩٩

عيسى الجلودي إلى اليمن...................................................... ٢٠١

وخالد الشيباني إلى مصر....................................................... ٢٠٢

وطاهر الخزاعي بخراسان........................................................ ٢٠٣

والبرمكي بدل المهلّبي على السند................................................ ٢٠٤

وفاة الواقدي البغدادي......................................................... ٢٠٤

وفيات وحوادث............................................................... ٢٠٦

وفاة يونس بن عبدالرحمن....................................................... ٢٠٧

وفاة حمّاد بن عيسى الجهني البصري............................................. ٢١٠

ابن طاهر طهّر الشام ثمّ مصر.................................................. ٢١١

زواج المأمون بپوران............................................................ ٢١٢

تمرّد القميين عن الخراج للمأمون................................................. ٢١٥

المأمون والجواد عليه السلام ببغداد............................................... ٢١٦

عودة الامام من مدينة السلام................................................... ٢٢٤

تبرّي المأمون من معاوية وتفضيله................................................ ٢٢٥

إعلان المأمون تفضيل علي عليه السلام.......................................... ٢٢٧

اسم علي في جامع البصرة...................................................... ٢٤٧


خروج اليمن عن حكم المأمون.................................................. ٢٤٨

ولاية المعتصم على مصر والمغرب................................................ ٢٤٩

مولد الامام الهادي عليه السلام................................................. ٢٤٩

خروج المأمون للروم وزفاف الجواد عليه السلام.................................... ٢٥٠

ليلة الزفاف ، وصبيحتها....................................................... ٢٥٠

المأمون وقاضيه ، والجواد عليه السلام............................................ ٢٥٢

غزوات المأمون للرومان......................................................... ٢٥٥

المأمون إلى مصر ثانية......................................................... ٢٥٧

حدّ القذف والتشهير لشتم الصحابة............................................ ٢٥٨

وفاة ابن أبي عمير مولى الأزد................................................... ٢٦٠

ردّ المأمون فدكاً............................................................... ٢٦١

المأمون وخلق القران........................................................... ٢٦٣

غزو المأمون الروم رابعة......................................................... ٢٦٥

علة المأمون وموته............................................................. ٢٦٦

ابن ماسويه وبختيشوع والأطبّاء.................................................. ٢٦٩

بداية عهد المعتصم............................................................ ٢٧٠

موسى بن شاكر وبنوه......................................................... ٢٧١

المعتصم وخلق القرآن.......................................................... ٢٧٢

رسالته عليه السلام إلى والي سيستان............................................ ٢٧٤

ثورة محمد بن القاسم العلوي الزيدي............................................... ٢٧٥


خروج المحمّرة أو الخرّمية........................................................ ٢٧٩

ثورة الزُط بالبطائح............................................................ ٢٧٩

وفاة ابن دُكين................................................................ ٢٨٠

الجواد عليه السلام إلى بغداد................................................... ٢٨١

حكم الجواد عليه السلام في المحابين.............................................. ٢٨٤

حكم الجواد عليه السلام في حدّ السرقة ، وآثاره................................... ٢٨٦

وصايا الجواد عليه السلام وتاريخ وفاته........................................... ٢٨٨

وفاته أو قتله؟ والصلاة عليه ودفنه.............................................. ٢٩٠

مؤتمر الشيعة للإمامة بعده...................................................... ٢٩٣

عهد الإمام الهادي عليه السلام

الإمام الهادي بعد أبيه عليه السلام.............................................. ٢٩٧

وفاة أحمد البزنطي............................................................. ٢٩٩

المعتصم والأتراك والقاطول؟!.................................................... ٣٠٠

المعتصم وبناء سامراء........................................................... ٣٠١

المعتصم وبابك الخّرمي......................................................... ٣٠٣

وصف المسعودي لنكبة بابك................................................... ٣٠٥

وفاة الحسن بن علي الفضّال.................................................... ٣٠٧

وفاة الحسن بن محبوب......................................................... ٣٠٨

غارة الروم على بلاد الإسلام................................................... ٣٠٩


مصير العباس بن المأمون....................................................... ٣١٢

مصير الافشين الاشروسني..................................................... ٣١٣

موت أبي دُلف العجلي........................................................ ٣١٥

وفاة المدائني البصري........................................................... ٣١٦

وبِشر الحافي الصوفي........................................................... ٣١٧

وموت الخليفة المعتصم......................................................... ٣١٨

هارون الواثق بالله!............................................................ ٣١٩

وفاة أبي تمام الطائي الشيعي.................................................... ٣٢١

أحداث الثلاثين بعد المئتين..................................................... ٣٢٢

الواثق ، وخلق القرآن ، وفك الأسرى............................................ ٣٢٤

مولد الحسن بن علي عليه السلام............................................... ٣٢٨

موت الواثق وخلافة المتوكل..................................................... ٣٢٨

زيد النار! والامام والرُخجيّين.................................................... ٣٣١

حوادث عام (٢٣٤ هـ)........................................................ ٣٣٤

حوادث عام (٢٣٥ هـ)........................................................ ٣٣٦

وفاة الشاعر ديك الجن........................................................ ٣٣٩

من المدينة إلى بلد العسكر..................................................... ٣٤٠

قصص الطريقة إلى سامرّاء...................................................... ٣٤٣

توحيده وتحذيره عن الغلوّ....................................................... ٣٤٥

الهادي عليه السلام إلى سامراء.................................................. ٣٤٩

خان الصعاليك............................................................... ٣٥٠


أوّل نبأ له مع المتوكّل.......................................................... ٣٥١

أبقار المتوكّل تحفر قبر الحسين عليه السلام........................................ ٣٥٣

غارة الروم على مصر.......................................................... ٣٥٨

قضاة مصر والعاصمة.......................................................... ٣٥٩

المتوكّل وابن السكّيت والهادي عليه السلام....................................... ٣٦٠

عويصات يحيى بن أكثم........................................................ ٣٦٢

أجوبة الامام الهادي عليه السلام................................................ ٣٦٣

حوادث أرمينية وما والاها...................................................... ٣٦٧

يحيى بن خاقان وابنه عبيدالله.................................................... ٣٦٩

حوادث سنة (٢٤٠ و ٢٤١ هـ)............................................... ٣٦٩

وفاة الاسكافي المعتزلي البغدادي................................................. ٣٧٢

هلاك ابن اكثم عام (٢٤٢ هـ)................................................. ٣٧٣

الزلازل عام (٢٤٢ هـ)........................................................ ٣٧٤

أحداث المتوكل بين (٢٤٣ ـ ٢٤٦ هـ)........................................... ٣٧٥

هلاك المعتزلي عمرو بن عبيد................................................... ٣٧٦

تسكيت ابن سكّيت الدورقي................................................... ٣٧٨

موسى بن محمّد بن الرضا وابن الرضا............................................. ٣٧٩

المتوكّل وعلي بن محمد الهادي عليه السلام......................................... ٣٨٠

نكبة بختيشوع الطبيب الرومي.................................................. ٣٨٢

قتل دعبل الخزاعي............................................................ ٣٨٢

نذر شجاع اُمّ المتوكل.......................................................... ٣٨٤


علي بن جعفر البرمكي والمتوكل................................................. ٣٨٥

سوابق قتل المتوكل............................................................. ٣٨٧

قتل المتوكل ومصيره............................................................ ٣٩١

وأيضاً قبر الحسين عليه السلام.................................................. ٣٩٦

بعض وكلاء الهادي عليه السلام................................................ ٣٩٧

حُنين بن اسحاق طبيب المتوكّل................................................. ٣٩٩

محمد بن جعفر المنتصر.......................................................... ٤٠٠

خلافة أحمد المستعين.......................................................... ٤٠٤

احمد بن الخصيب والهادي عليه السلام........................................... ٤٠٥

حوادث سنة (٢٤٩ هـ)....................................................... ٤٠٧

قيام يحيى الطالبي بالكوفة....................................................... ٤٠٨

قيام اسماعيل الطالبي عام (٢٤٩ هـ)............................................. ٤١٣

حوادث بغداد عام (٢٤٩ هـ).................................................. ٤١٤

حوادث منتصف القرن الثالث.................................................. ٤١٥

المستعين إلى بلد الامين........................................................ ٤١٦

أيام عهد المعتّز العباسي........................................................ ٤١٨

شغب الحسني بالحجاز......................................................... ٤٢٠

وفاة محمد بن علي الهادي عليه السلام............................................ ٤٢٠

المعتز وإخوته عام (٢٥٢ هـ)................................................... ٤٢٢

تمام خبر اسماعيل الحسني بمكة.................................................. ٤٢٣

الهادي يزوج ابنه الحسن عليهما السلام.......................................... ٥٢٥

وفاة الامام الهادي عليه السلام.................................................. ٤٢٩


عهد الامام الحسن العسكري عليه السلام

أوائل عهد العسكري عليه السلام............................................... ٤٣٥

تأكّد الوكيل من خطّ الامام عليه السلام......................................... ٤٣٦

بقايا أحداث عام (٢٥٤ هـ)................................................... ٤٣٧

المصريون وأحمد بن طولون...................................................... ٤٣٨

أمر يعقوب بن الليث الصفّار................................................... ٤٣٩

موت الجاحظ البصري......................................................... ٤٤٠

ابن وصيف يُذلُّ المعتزّ!........................................................ ٤٤٠

مصير قبيحة الرومية اُمُّ المعتزّ.................................................... ٤٤٦

سوابق قيام صاحب الزنج...................................................... ٤٤٧

بعض سيرة المهتدي........................................................... ٤٤٨

ابن وصيف والمهتدي والعسكري عليه السلام..................................... ٤٥٠

غضب المهتدي وآخر أمره..................................................... ٤٥٢

سيف المصري والعسكري عليه السلام........................................... ٤٥٣

شغب يؤدي إلى قتل المهتدي................................................... ٤٥٤

المهتدي وخبر عن علي عليه السلام............................................. ٤٥٨

أيام أحمد المعتمد العباسي...................................................... ٤٥٩

المعتمد يسأل الامام الاستسقاء................................................. ٤٦١

مولود الموعود عليه السلام..................................................... ٤٦٣

خبر حكيمة بكيفية الولادة..................................................... ٤٦٤


أحداث عام (٢٥٧ هـ)........................................................ ٤٦٩

وعن صاحب الزنج بالبصرة.................................................... ٤٧١

العسكري عليه السلام في مشايعة الموفّق......................................... ٤٧٢

العسكري عليه السلام والطالبيون في سجن المعتمد................................ ٤٧٣

أحداث عامي (٢٥٨ هـ) و (٢٥٩ هـ).......................................... ٤٧٤

الحُجّة والجدّة إلى الحج......................................................... ٤٧٥

الوزير ابن خاقان والعسكري عليه السلام......................................... ٤٧٦

ترحّم الامام على ابن شاذان.................................................... ٤٧٧

أيام مرض الامام عليه السلام................................................... ٤٨٢

خبر أبي الاديان البصري....................................................... ٤٨٢

صبيحة وفاة العسكري عليه السلام............................................. ٤٨٣

اجراءات ما بعد الوفاة......................................................... ٤٨٦

وفود الاموال من قم والجبال.................................................... ٤٩٠

هل كنّ الجواري عند العَمري؟.................................................. ٤٩٣

عهد الامام المهدي عليه السلام في الغيبة الصغرى

بقي المهدي (عجل الله تعالى فرجه) بسامرّاء...................................... ٤٩٧

الأسدي العَمري الأب والابن................................................... ٥٠٤

الشيخ محمد الاسدي العمري.................................................... ٥١١

حوادث الخمسين عاماً......................................................... ٥١٣


سوابق الصفار ، وغلبته بطبرستان............................................... ٥١٤

هزيمة المعتمد لعسكر الصفّار................................................... ٥١٦

وحروب الروم والصين عام (٢٦٤ هـ)............................................ ٥١٧

ابن طولون في الشام........................................................... ٥١٨

عاقبة يعقوب ، وطاعة عمرو................................................... ٥١٨

مصير صاحب الزنج........................................................... ٥١٩

مصير علوي في حكم ابن طولون................................................ ٥٢١

أول شأن المهدي الاسماعيلي ، والقرمطي؟........................................ ٥٢٢

وفيات أصحاب تاريخ وسنن................................................... ٥٢٣

آخر أمر الموفّق مع المعتمد وبدء المعتضد......................................... ٥٢٤

خلافة المعتضد............................................................... ٥٢٦

ولم يتساهل مع ابن سهل....................................................... ٥٢٧

ابن أبي دلف لرافع بن الليث................................................... ٥٢٨

زواج المعتضد بقطر الندى...................................................... ٥٢٩

النوروز المعتضدي رفقاً بأهل الخراج............................................... ٥٣١

حمدان جدّ الحمدانيين......................................................... ٥٣٢

وأصبح الصفّار من الانصار.................................................... ٥٣٣

وانفصلت مصر ثمّ اتصلت..................................................... ٥٣٤

وعقاب ، وشغب ببغداد....................................................... ٥٣٥

الشيعة في حدود (٢٨١ هـ).................................................... ٥٣٥

الأسرى المسلمون والروم....................................................... ٥٣٦


قتل الشاعر ابن الرومي........................................................ ٥٣٧

كتاب المعتضد بشأن الامويين.................................................. ٥٣٩

وحاولوا القبض على الوكلاء.................................................... ٥٤٧

غارة بني طيِّئ على الحجّاج..................................................... ٥٤٨

ومصير ابن الشيخ بآمد........................................................ ٥٤٩

تعاظم أمر القرامطة............................................................ ٥٥٠

مقتل العلوي في جرجان........................................................ ٥٥٢

آخر أمر المعتضد............................................................. ٥٥٣

خلافة علي المكتفي بالله....................................................... ٥٥٤

شؤم القرامطة بالشام.......................................................... ٥٥٦

وفي بداية خلافة المكتفي....................................................... ٥٥٩

انتقام الروم ، وغدرهم ، والاتراك................................................ ٥٦٠

اتّهام الحلّاج بالحوادث......................................................... ٥٦٢

ظهور المهدي الفاطمي ، وأخبار اُخر............................................ ٥٦٦

الجرّاح والنوبختي والعقيقي....................................................... ٥٦٧

مناوشات الروم والمسلمين...................................................... ٥٦٨

دفاع العلويين عن قبر علي عليه السلام.......................................... ٥٦٩

بداية الخلافة الفاطمية......................................................... ٥٦٩

ظهور الاُطروش العلوي........................................................ ٥٧٠

دخول النسأي إلى الشام وقتله.................................................. ٥٧١


وخروج ابن حمدان بالعصيان.................................................... ٥٧٢

نهاية نيابة النائب الثاني........................................................ ٥٧٢

بداية نيابة النائبة الثالث....................................................... ٥٧٥

مولد الصدوق بدعاء الحجّة (عجل الله تعالى فرجه)............................... ٥٧٦

تبادل الأسرى والتهدئة مع الروم................................................ ٥٧٨

ثمّ وقعت الفتنة ببغداد......................................................... ٥٧٩

قتل الحسين الحلّاج........................................................... ٥٨٠

قتل الطبري بفعل الحنابلة....................................................... ٥٨١

الشيخ الشلمغاني قبل شغبه.................................................... ٥٨٢

توقيع النوبختي بلعن الشلمغاني................................................... ٥٨٥

حركات القرامطة وما رافقها..................................................... ٥٨٧

جرائم القرامطة في مكة......................................................... ٥٩١

وفاة ابن زكريا الرازي........................................................... ٥٩٣

ضعف المقتدر واقتدار القاهر................................................... ٥٩٤

بداية خلافة القاهر............................................................ ٥٩٥

انقلاب الاصحاب على القاهر................................................. ٥٩٦

انتقام ابن مقلة من القاهر المنتقم................................................ ٥٩٨

أمر القاهر باختبار الاطباء..................................................... ٦٠٠

بداية دولة آل بويه الديالمة..................................................... ٦٠١

وفاة ابن دريد اللغوي.......................................................... ٦٠٢

وزارة ابن مقلة للراضي ، والشلمغاني.............................................. ٦٠٣


حركة القرامطة عام (٣٢٣ هـ).................................................. ٦٠٦

وحركة الحنابلة عام (٣٢٣ هـ).................................................. ٦٠٧

مقتل مرداويج بيد جنده........................................................ ٦٠٧

انتصار الناصر في الموصل...................................................... ٦٠٨

والأخشيد على مصر.......................................................... ٦٠٨

تغيير الوزارة إلى امارة العسكر................................................... ٦٠٩

آخر دلالة من النوبختي قبل أجله................................................ ٦١٠

معتقل ابن مقلة ومقتله......................................................... ٦١٢

وفاة الشيخ ابن بابويه.......................................................... ٦١٣

مصير آخر سفير.............................................................. ٦١٤

نهاية الراضي ، وبداية المتقي.................................................... ٦١٦

وفاة الشيخ الكليني الرازي...................................................... ٦١٧

موسوعة التاريخ الاسلامي - ٨

المؤلف:
الصفحات: 637