عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام

ومبادي حرب صفّين



استبدال عمّال عثمان :

مرّ في الأخبار السابقة استبقاء الإمام عليه‌السلام لحذيفة بن اليمان على المدائن ، وتوفي قبل نهاية وقعة البصرة ، وقبوله عليه‌السلام لمشورة الأشتر بإبقاء الأشعري على الكوفة ، عزله الأشتر واستبدله بقرظة بن كعب الأنصاري.

فلمّا قدم عليه‌السلام من البصرة إلى الكوفة فلا حاجة معه إلى قرظة ، وبعث إلى المدائن يزيد بن قيس الأرحبي.

وببقاء الأشعريّ بقي العمّال السابقون في توابع الكوفة يومئذ ، وكذا على فترة قرظة ، فبدأ الإمام عليه‌السلام باستبدالهم بغيرهم ، فبعث قرظة على البهقبادات (١) وعديّ بن الحارث على استان بهرسر من نواحي بغداد ، وقدامة بن مظعون على كشكر ، وأبا حسّان البكريّ على استان العالي في غربيّ بغداد وبها : بادرويا وقطربل ،

__________________

(١) من نواحي المدائن وبغداد منسوبة إلى الملك قباد الساساني أبي أنو شيروان ، كما في معجم البلدان.


ومسكن ، والأنبار ، وسعد بن مسعود الثقفي على استان الزّوابي وهي نهران فوق بغداد ونهران تحتها (١) ، ثمّ خلف هذا بعد قرظة على المدائن ، وأمر على أهل السواد من الدهاقين الفرس أمراءهم (٢). وأقر على قضاء الكوفة شريح بن الحارث الكندي (٣).

وكان الأشعث بن قيس الكندي أعور قد تزوّج اختا لأبي بكر عوراء (٤) ، وزوّج ابنته لعمرو بن عثمان بن عفّان ، وحضر عمرو في الجمل بالبصرة واخذ أسيرا وبايع الإمام عليه‌السلام فعفى عنه فعاد إلى بلاده المدينة. وكان عثمان قد نصب الأشعث على آذربايجان فبقي عليها حتى انصرف الإمام إلى الكوفة ، فندب زياد بن مرحب الهمداني وكتب معه إلى الأشعث :

«... إنه كان من بيعة الناس إيّاي ما قد بلغك ، وكان طلحة والزبير ممن بايعاني ثم نقضا بيعتي على غير حدث منّي ، وأخرجا أمّ المؤمنين وسارا إلى البصرة. فسرت إليهما فالتقينا ، فدعوتهم إلى أن يرجعوا في ما خرجوا منه فأبوا ...

وإنّ عملك ليس لك بطعمة ولكنه في عنقك أمانة ، وفي يديك مال من مال الله وأنت من خزّان الله عليه حتى تسلّمه إليّ ، ولعلّي أن لا أكون شرّ ولاتك لك إن استقمت ، ولا قوة إلّا بالله» (٥).

فلما قدم زياد بالكتاب على الأشعث وقرئ على الناس في جامعهم قام الأشعث فقال :

__________________

(١) وقعة صفين : ١٣.

(٢) وقعة صفّين : ١٥ وذكر قبله خبرا عن حشرهم إليه إلى الكوفة.

(٣) تاريخ خليفة : ١٢١ وإن كان هو ممّن حثّ لإغاثة عثمان ـ الطبري ٤ : ٣٥٢.

(٤) قاموس الرجال ٢ : ١٥٥.

(٥) وقعة صفّين : ٢٠ ، وفي نهج البلاغة ك ٥ ، ومصادره في المعجم المفهرس : ١٣٩٤.


أيها الناس ، إنّ أمير المؤمنين عثمان ولّاني آذربايجان فهلك وهي في يدي ، وقد بايع الناس عليا ، فطاعتنا له كطاعة من قبله ، وقد كان من أمره وأمر طلحة والزبير ما قد بلغكم ، وعليّ المأمون على ما غاب عنّا وعنكم من ذلك الأمر.

ولكنه لما عاد إلى أصحابه دعاهم فقال لهم : إن كتاب عليّ قد أوحشني وهو آخذي بمال آذربايجان! فأنا لاحق بمعاوية!

فقال له قومه : أتدع مصرك وجماعة قومك وتكون ذنبا لأهل الشام؟! الموت خير لك من ذلك! فاستحيا وعاد إلى بلاده الكوفة (١).

وقدّم ابنته جعدة للحسن عليه‌السلام :

مرّ الخبر عن تزويج الحسن عليه‌السلام بإحدى بنات كسرى ملك الفرس على عهد عثمان وماتت في نفاسها ، ولم يرزق منها بولد ، ومرّ الخبر عن تخلف سعيد بن قيس الهمداني عن الإمام في البصرة ، فعاتبه في الكوفة ، فوعده قيس بالخير فيما يأتي ، فكأنه عليه‌السلام أراد أن يتألّفه فكان ما نقله ابن الجوزي : أنه عليه‌السلام خطب من سعيد ابنته أمّ عمران لابنه الحسن عليه‌السلام ، فاستمهل سعيد ليستشير أمّها! وخرج من عنده.

فلقيه الأشعث وشعر بخبره فقال له : إن الحسن سيقول لها : أنا ابن رسول الله وابن أمير المؤمنين ، وهي ليس لها هذا الفضل! ولكن هل لك أن تزوّجها ابن عمّها فهي له وهو لها! قال : ومن ذلك؟ قال : محمد ابني (من أم فروة اخت أبي بكر وعمّة عائشة)؟ فقبل سعيد واستعجل فقال له : قد زوّجته من ابنتي!

واشتدّ الأشعث إلى الإمام وسأله : يا أمير المؤمنين ، خطبت امرأة للحسن؟ قال : نعم. قال : فهل لك في أشرف منها بيتا وأكرم منها حسبا وأتمّ منها جمالا

__________________

(١) وقعة صفّين : ٢١.


وأكثر مالا؟ قال : ومن هي؟ قال : هي ابنتي جعدة! قال : قد قاولنا لذلك رجلا (يعني سعيدا الهمداني) قال : ليس إلى الذي قاولته من سبيل! قال : إنه فارقني ليستشير أمّها! قال : قد زوّجها لابني محمدا! قال : متى؟ قال : قبل أن آتيك! فاستشار الإمام ابنه الحسن وقبلا بابنة الأشعث (١).

ولم يسعد سعيد الهمداني بتزويج ابنته أم عمران لمحمد بن الأشعث الكندي ، لما علم بكيد الكندي الأعور عليه في ذلك ، بل اشتد في عتابه فقال له : خدعتني يا أعور؟! قال له : بل ألست أنت الأحمق إذ تستشير في ابن رسول الله؟!

ثم خاف آفة التأخير فاستعجل في استجلاب موافقة الإمام على زفاف ابنته إلى داره ، فأمر بفرش البسط من باب داره حتى دار الإمام وزفّها إليه (٢).

وخفي علينا خبر إنكار الإمام عليه هذا البذخ والترف والسرف بدعوى الشرف! وتمّ للأعور الكنديّ أن يقول : لو كانت ابنتي زوج عمرو بن عثمان الباغي على الإمام فابنتي الاخرى زوج ابن أمير المؤمنين.

وإلى عامل همدان إلى أصفهان :

وكان على همدان إلى أصفهان من قبل عثمان : جرير بن عبد الله البجلي ، فاستبدله الإمام بمخنف بن سليم الأزدي (٣) وكتب إلى البجلي مع زحر بن قيس الجعفي :

__________________

(١) تأليفا له ولقومه ، ولخطورة ردّ العرض المعروض في العرب قديما وإلى اليوم ، وذلك هو السبب في قبول المعصومين بأمثال جعدة من قبل ومن بعد.

(٢) الأذكياء لابن الجوزي : ٢٧ نقلا عن حياة الإمام الحسن عليه‌السلام للقرشي ٢ : ٤٠٩ ، ٤١١.

(٣) وقعة صفين : ١١.


«أما بعد ، ف (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ)(١). وإني اخبرك عن نبأ من سرنا إليه من جموع طلحة والزبير عند نكثهم بيعتهم وما صنعوا بعاملي عثمان بن حنيف : إني هبطت من المدينة بالمهاجرين والأنصار ، حتى إذا كنت بالعذيب ، بعثت إلى أهل الكوفة بالحسن بن علي وعبد الله بن عباس ، وعمّار بن ياسر ، فاستنفروهم فأجابوا ، فسرت بهم حتى نزلت بظهر البصرة ، فأعذرت في الدعاء وأقلت العثرة ، وناشدتهم عقد بيعتهم فأبوا إلّا قتالي! فاستعنت بالله عليهم ، فقتل من قتل ، وولّوا مدبرين إلى مصرهم ، فسألوني ما كنت دعوتهم إليه قبل اللقاء فقبلت العافية ورفعت السيف. واستعملت عليهم عبد الله بن عباس وسرت إلى الكوفة ، وقد بعثت إليكم زحر بن قيس فاسأله عمّا بدا لك».

فحمل جرير الكتاب إلى جامعهم في همدان وقرأه عليهم ثمّ قال لهم : أيها الناس ، هذا كتاب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ، وهو المأمون على الدّين والدنيا ، وقد كان من أمره وأمر عدوّه ما نحمد الله عليه. وقد بايعه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان ، ولو جعل هذا الأمر شورى بين المسلمين كان أحقّهم بها. ألا وإن البقاء في الجماعة والفناء في الفرقة ، وعليّ حاملكم على الحق ما استقمتم ، فإن ملتم أقام ميلكم.

فتنادى الناس : سمعا وطاعة رضينا رضينا (٢).

ثم أقبل جرير سائرا من همدان حتى ورد على علي عليه‌السلام بالكوفة فبايعه (٣).

__________________

(١) الرعد : ١١.

(٢) وقعة صفين : ١٥ ، ١٦.

(٣) وقعة صفين : ٢٠ فهو لم يبايع له حتى اليوم!


وعمّال خراسان وسجستان :

مرّ في أخبار الفتوح في عهد عثمان أنه ولى سعيد بن العاص على الكوفة وعبد الله بن عامر على البصرة وجعل بينهما السباق إلى خراسان ، فسبق ابن عامر إليها ووجّه عبد الرحمن بن سبرة الصحابيّ إلى سجستان (١) وافتتح خراسان وهي واسعة فصيّرها أربعة أرباع وولى عليها أربعة من رجاله ، وصار هو إلى كرمان فحاصرها فأصابتهم مجاعة شديدة ، وأتاه الخبر بحصر عثمان فانصرف إلى البصرة ثمّ إلى مكّة (٢).

فاستعمل الإمام عليه‌السلام ربعي بن كأس التميمي (وكأس أمه) على سجستان. وبعث عمّالا على خراسان كلها.

وكتب إلى معاوية :

وكتب إلى معاوية يدعوه إلى بيعته وحقن دماء المسلمين ، وبعث به مع ضمرة ابن يزيد الضمري وعمرو بن زرارة النخعي. فرجعا وأخبرا أنّ معاوية قال لهما :

إنّ عليا شرك في دم ابن عمّي ثمّ آوى قتلته ، فإن دفع إليّ قتلة ابن عمّي وأقرّني على عملي بايعته ، وإلّا فإنّي لا أترك قتلة ابن عمّي وأكون سوقة! هذا ما لا أقارّه عليه وما لا يكون (٣).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٦.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٧ و ١٦٨.

(٣) أنساب الأشراف ٢ : ٢٩٣ ، الحديث ٣٦٧ عن ابن إسحاق. وبذيله عن جمهرة أمثال العرب للعسكري ٢ : ١٥٨ ، عن الطبري عن المدائني عن الزهري وقال : كان ذلك في شهر رمضان.


درع طلحة والقاضي شريح :

مرّ الخبر : أنّ درع طلحة فقدت بعد قتله ، وتبيّن بعد أن رجلا من قومه من تيم يدعى عبد الله بن قفل كان قد أخذها بلا إذن من الإمام عليه‌السلام ، وكان هذا في الكوفة ، ومرّ في مسجد الكوفة على الإمام ومعه الدرع ، فعرفها وقال له : هذه درع طلحة اخذت غلولا (خيانة) يوم البصرة! فتقاضاه الرجل إلى القاضي شريح ليقضي في ذلك! وقبل الإمام بذلك ، فطلب شريح من الإمام شهودا ، فشهد بذلك الحسن عليه‌السلام ، فقال شريح : حتى يكون معه آخر ، وكان قنبر شهدها فشهد بها ، فقال شريح : لا أقضي بشهادة المملوك!

فقال الإمام عليه‌السلام : إنّ هذا قضى بالجور ثلاث مرّات!

فتحوّل شريح عن مجلسه للقضاء وقال : لا أقضي بين اثنين حتّى تخبرني كيف قضيت بالجور ثلاث مرّات؟!

فقال الإمام عليه‌السلام : قد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «حيثما وجد غلول اخذ بغير بيّنة» وقلت : إنّما درع طلحة اخذت غلولا ، فقلت : هات بيّنة! فقلت : رجل لم يسمع الحديث.

ثمّ أتيتك بالحسن فشهد ، فقلت : هذا شاهد واحد ولا أقضي بشاهد حتى يكون معه آخر ، وقد قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بشاهد ويمين فهاتان اثنتان.

ثمّ اتيتك بقنبر فقلت : هذا مملوك! وما بشهادة المملوك بأس إذا كان عدلا ، فهذه الثالثة. يا شريح ؛ إنّ إمام المسلمين يؤتمن من امور المسلمين على ما هو أعظم من هذا! خذوا الدرع (١).

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٨٥ ، والفقيه ٣ : ١٠٩ ، والتهذيب ٢ : ٨٧ عن الباقر عليه‌السلام وقال : كان عمر أوّل من ردّ شهادة المملوك. فلعلّه هنا قال له : والله لأنفينّك إلى بانقيا شهرين تقضى بين اليهود ، كما في شرح النهج للمعتزلي الشافعي ٤ : ٩٨ فولّى القضاء بدله محمد بن زيد بن خليدة الشيباني ، ثمّ أعاد شريحا ، كما في تاريخ خليفة : ١٢١.


وعمّال أرض الجزيرة :

كانت تطلق الجزيرة على الأراضي فيما بين الرافدين : دجلة والفرات في أعاليها من الشام وشمال العراق ، فكان منها : حرّان والرّقة والرها وقرقيسيا من الشام في سلطان معاوية ، وكان قد بعث عليها الضحّاك بن قيس الفهري. وكان منها : آمد ودارا وسنجار وعانة وهيت ونصيبين والموصل خارجة عن سلطة معاوية ، فبعث الإمام عليه‌السلام عليها الأشتر ، فخرج الأشتر واتّجه إلى قتال الضحّاك في حرّان ، وبلغ الضحاك ذلك فاستمد من أهل الرقة فأمدّوه وعليهم سماك بن مخرمة ، فالتقوا في مرج مرينا بين الرقة وحرّان ، فقاتلوا حتى المساء ، ثمّ سار الضحاك بأصحابه ليلا حتى تحصنوا في حرّان صباحا ، فحاصرهم الأشتر ، وبلغ ذلك إلى معاوية فأرسل إليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد في خيل يمدّهم ، وبلغ ذلك الأشتر فمضى إلى الرقّة فتحرّزوا منه ، ثمّ مرّ إلى قرقيسيا فتحرّزوا منه (١) فانصرف الأشتر إلى الموصل وقد علم بمدى نفوذ معاوية ومن معه ، ولكنه كأنّه عاد إلى بلاده الكوفة قبل صفين.

إرسال جرير إلى معاوية :

لما نزل جرير البجلي الكوفة وأراد الإمام أن يبعث رسولا إلى معاوية وعلم جرير بذلك ، جاء إلى الإمام وقال له : ابعثني إلى معاوية ، فإنه لم يزل لي مستنصحا وودّا ، فآتيه فأدعوه على أن يسلّم لك هذا الأمر ويجامعك على الحق ـ على أن يكون أميرا من أمرائك وعاملا من عمّالك ما عمل لطاعة الله واتّبع ما في كتاب الله ـ وأدعو أهل الشام إلى طاعتك وولايتك ، وجلّهم قومي وأهل بلادي (اليمن) وقد رجوت أن لا يعصوني.

__________________

(١) وقعة صفين : ١٢ ، ١٣.


ولأنه كان لم يبايع للإمام ولم يتابعه في الجمل قال الأشتر : والله إني لأظنّ أنّ هواه هواهم ونيّته نيّتهم ، فلا تصدّقه ، ودعه ولا تبعثه.

فقال الإمام : دعه ، حتى ننظر ما يرجع به إلينا.

وقال لكاتبه ابن أبي رافع القبطي أن يكتب له : «بسم الله الرحمنِ الرحيم ، أما بعد ، فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام ؛ لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بويعوا عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يردّ ، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإذا اجتمعوا على رجل فسمّوه إماما كان ذلك لله رضا ، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردّوه إلى ما خرج منه ، فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين ، وولّاه الله ما تولّى ويصليه جهنّم وساءت مصيرا (١).

وإن طلحة والزبير بايعاني ثمّ نقضا بيعتي ... فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون.

فادخل في ما دخل فيه المسلمون ، فإنّ أحبّ الأمور إليّ فيك العافية إلّا أن تتعرض للبلاء ، فإن تعرّضت له قاتلتك واستعنت بالله عليك.

وقد أكثرت في قتلة عثمان ، فادخل في ما دخل فيه المسلمون ثمّ حاكم القوم إليّ أحملك وإيّاهم على كتاب الله. فأمّا تلك التي تريدها فخدعة الصبيّ عن اللبن! ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنّي أبرأ قريش من دم عثمان.

__________________

(١) هذا الكلام من الإمام لمعاوية إنما هو من باب إلزام الخصم بما التزم ، ولا يعبّر عن نظر الإمام عليه‌السلام في الإمامة بالضرورة ، فإنه كان يرى نصّ النبيّ عليه ، ولا إجماع مع النصّ ، فضلا عمّا إذا كان بخلافه ، ولكن لا احتمال لإذعان معاوية بالنصّ على علي عليه‌السلام فلم يحتجّ به عليه.


واعلم أنك من الطلقاء الذين لا تحلّ لهم الخلافة ولا تعرض فيهم الشورى.

وقد أرسلت إليك والي من قبلك جرير بن عبد الله ، وهو من أهل الإيمان والهجرة ، فبايع ، ولا قوة إلّا بالله» (١).

وحين أراد أن يبعثه قال له : إنّ حولي من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أهل الدين والرأي من قد رأيت ، وقد اخترتك عليهم ... فأت معاوية بكتابي هذا ، فإن دخل في ما دخل فيه المسلمون ، وإلّا فانبذ إليه (الحرب) وأعلمه أني لا أرضى به أميرا! وأنّ العامّة لا ترضى به خليفة.

فروى ابن بكّار في «الموفّقيات» عن جرير البجلي قال : لمّا بعثني علي عليه‌السلام إلى معاوية خرجت وأنا لا أرى أحدا سبقني إليه ، فقدمت عليه فوجدته قد علّق قميص عثمان وهو مخضوب بالدم على رمح وعليه أصابع زوجته نائلة بنت الفرافصة مقطوعة! والناس حوله يبكون وهو يخطبهم ، فدفعت إليه كتاب علي عليه‌السلام.

فقال لي معاوية : إنّ الناس قد نفروا عند قتل عثمان قد نفروا فأقم حتّى يسكنوا. قال : فأقمت أربعة أشهر (٢).

خبر عمرو بن العاص :

وكان عمرو بن العاص معتزلا في فلسطين ، فكتب معاوية إليه : «أما بعد ، فإنه كان من أمر عليّ وطلحة والزبير ما قد بلغك ، وقد سقط إلينا مروان بن الحكم

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٩ ، ٣٠ ، وفي نهج البلاغة ك ٦ ، ومصادره في المعجم المفهرس : ١٣٩٤.

(٢) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ١٤ : ٣٩ وليس في الموفّقيات المنشور ، والخبر كما ترى لم يذكر هذه الشهور الأربعة ، وهو بعيد جدّا ؛ فإنّه سيأتي أنّ الإمام عليه‌السلام إنّما مكث في الكوفة ثلاثة أشهر وخرج منها في أوائل شوال ، فلا يتلاءم معه إلّا أن يكون جرير قد أقام في الشام أربعة أسابيع لا شهورا ، ولا أقلّ من أربعة أسابيع اخرى للطريق.


في رافضة أهل البصرة ، وقدم علينا جرير بن عبد الله في بيعة علي ، وقد حبست نفسي عليك حتى تأتيني ، فأقبل اذاكرك أمرا.

وكان مع عمرو ابناه محمد وعبد الله ، فلما قرئ الكتاب عليه استشار ابنيه.

فقال عبد الله : أرى أنك لست مجعولا خليفة ، ولا تريد أن تكون حاشية لمعاوية على دنيا قليلة! أوشك أن تهلك فتشقى فيها!

وقال محمد : أرى أنك شيخ قريش وصاحب أمرها ، وإن تصرّم هذا الأمر وأنت فيه خامل الذكر تصاغر أمرك ، فالحق بجماعة أهل الشام واطلب بدم عثمان فكن يدا من أياديها.

فقال عمرو : أما أنت يا عبد الله فقد أمرتني بما هو خير لي في ديني! وأنت يا محمد فقد أمرتني بما هو خير لي في دنياي ، وأنا ناظر فيه!

واستمر نظره في أمره ، وانتشر عنه مسيره ، وأمر غلامه وردان أن يهيّئ رحله ، ثم أمره أن يحطّ ، ثمّ أمره أن يعدّ الرحل ، ثمّ أمره أن يحطّ ، فقال له وردان : أما إن شئت أنبأتك بما في نفسك. قال : هات ويحك! قال : اعتركت الدنيا والآخرة على قلبك فقلت : علي مع الآخرة في غير دنيا وفي الآخرة عوض عن الدنيا ، ومعاوية معه الدنيا بغير آخرة! وليس في الدنيا عوض من الآخرة! فأنت واقف بينهما.

قال عمرو : ما أخطأت فما ترى؟ قال : أرى أن تقيم في بيتك ، فإن ظهر أهل الدين عشت في عفو دينهم! وإن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك! قال : الآن وقد شهدت العرب مسيري إلى معاوية! وارتحل.

وسار حتى قدم على معاوية وعرف حاجة معاوية إليه (١).

__________________

(١) وقعة صفّين : ٣٥ ، ٣٦.


حديث معاوية إلى عمرو :

فلما دخل عليه قال له معاوية : يا أبا عبد الله ، إني أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى ربّه وقتل الخليفة وأظهر الفتنة وفرّق الجماعة وقطع الرحم!

قال عمرو : من؟ قال : علي!

فقال له عمرو : يا معاوية! والله ما أنت وعليّ بعكمي بعير (عدلين) ما لك هجرته ولا سابقته ولا صحبته ولا جهاده ولا فقهه ولا علمه ... والله إنّ له مع ذلك حدّا وجدّا (جديّة) وحظّا وحظوة ، وبلاء حسنا من الله! فإن شايعتك على حربه ـ وأنت تعلم ما فيه من الغرر والخطر ـ فما تجعل لي؟ قال : حكمك! قال : مصر طعمة! فتلكّأ معاوية ثمّ قال له : يا أبا عبد الله : إني أكره أن يتحدّث العرب عنك! أنك إنما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا! فقال عمرو : دعني عنك (١).

فقال له معاوية : أما إني لو شئت أن امنّيك وأخدعك لفعلت!

فقال عمرو : أنا أكيس من ذلك وما مثلي من يخدع!

قال معاوية : ادن منّي برأسك أسارّك! ولم يكن في البيت غيرهما! ومع ذلك أدنى عمرو برأسه إلى معاوية ليسارّه ، فعضّ معاوية على اذن عمرو ثمّ قال : هذه خدعة! هل ترى في بيتك أحدا غيري وغيرك؟!

ثم قال له : يا أبا عبد الله! ألم تعلم أن مصر مثل العراق! قال : بلى ، ولكنها إنما تكون لي إذا كانت لك ، وإنما تكون لك إذا غلبت عليا على العراق!

__________________

(١) وقعة صفين : ٣٧ ، ٣٨ ، ونقله عنه المعتزلي الشافعي في شرح نهج البلاغة ٢ : ٦٥ ثمّ علّق عليه عن شيخه البلخي قال : قوله له : دعني عنك! كناية عن الإلحاد بل تصريح به ، فإنه يعني : دع هذا الكلام الذي لا أصل له! فإن اعتقاد الآخرة وأنها لا تباع بعرض الدنيا خرافة! وكان مثله معاوية وتلاعبا بالإسلام! ثمّ نقل قريبا منه عن الجاحظ البصري : ٦٦.


ودخل عتبة بن أبي سفيان أخو معاوية الذي أشار عليه بمشورة عمرو بن العاص ، ورأى تلكّؤ أخيه معاوية على عمرو بمصر ، فقال له : أما ترضى أن تشتري عمرا بمصر إن صفت لك؟! فقال له معاوية : بت عندنا الليلة (١).

وبات معاوية مفكّرا في أمره حتى أصبح متأثرا بعتاب أخيه عتبة ، فأرسل إلى عمرو وأعطاه ما استعطاه من ملك الفراعنة إن صفت له بعد علي عليه‌السلام ، فاستوثقه عمرو بكتاب ، فأمر معاوية كاتبه أن يكتب له بذلك كتابا وقال له : اكتب : على أن لا ينقض شرط طاعة! أي تكون طاعة عمرو له مطلقة غير مقيّدة بشرط طعمة مصر! وانتبه عمرو لهذه المكيدة من معاوية فمنع الكاتب أن يكتب كذلك وقال : بل اكتب : على أن لا تنقض طاعة شرطا! أي لا تنقض طاعته لمعاوية ما اشترط عليه من طعمة مصر ، فمنعه من كيده له. ثمّ قال له : والله شاهد لي عليك بذلك؟! قال معاوية : نعم ، لك الله عليّ بذلك! قال عمرو : «والله على ما نقول وكيل» ثمّ خرج من عنده بالكتاب.

فتلقاه ابناه عبد الله ومحمد فسألاه ما صنع؟ قال : أعطانا مصر طعمة! فقالا : وما مصر في ملك العرب! فقال عمرو : إن لم يشبعكما مصر فلا أشبع الله بطونكما (٢)!

__________________

(١) وقعة صفّين : ٣٩ ، وضمن الخبر : أن قيصر زحف بجماعة الروم إلى الشام! فقال له عمرو : أما قيصر : فاهد له من وصفاء الروم ووصائفها وأواني الذهب والفضة واسأله الموادعة فإنه سيسرع إليها. وفيه أيضا : أن محمد بن أبي حذيفة العبشمي قد كسر سجن مصر فخرج هو وأصحابه! فقال له عمرو : ابعث عليه خيلا تأتيك به أو تقتله ، وإن فاتك فلا يضرك! وهذا واضح الفساد إذ بلاد مصر يومئذ لم تكن لمعاوية حتى يكون له بها سجن وسجناء! وفات هذا التهافت على الرواة من الغباء!

(٢) وقعة صفّين : ٤٠ وبهامشه جملة الشرط والطاعة عن الكامل للمبرّد طبعة ليبسك : ١٨٤ ، ونقل الخبر المعتزلي الشافعي في شرح الخطبة ٢٦ من شرح نهج البلاغة


وكان معهما ابن عمّ لعمرو جاءه من مصر فلما علم بذلك قال له : إنك إن لم ترد معاوية لم يردك ، ولكنّك تريد دنياه وهو يريد دينك! وبلغ ذلك معاوية فطلبه فهرب حتى لحق بعلي عليه‌السلام في الكوفة فحدّثه بأمر عمرو ومعاوية (١).

مشاورة معاوية لعمرو :

ثم قال معاوية لعمرو : ما ترى في عليّ؟

فقال عمرو : أتاك في هذه البيعة خير أهل العراق (جرير) ومن عند خير الناس في أنفس الناس (عليّ) ودعواك أهل الشام إلى ردّ هذه البيعة خطر شديد! ورأس أهل الشام شرحبيل بن السمط الكنديّ وهو عدوّ لجرير المرسل إليك! فأرسل إليه يأتيك. وأوطئ له ثقاتك ممن يرضى بهم شرحبيل فليفشوا في الناس : أن عليا قتل عثمان! (حتّى إذا جاء شرحبيل يسمعها منهم) فإنها كلمة إن تعلّقت بقلب شرحبيل لم تخرج منه أبدا! وهي جامعة لك أهل الشام على ما تحبّ!

وكان شرحبيل على حمص ، فكتب إليه معاوية : إن جرير بن عبد الله قدم علينا من عند عليّ بن أبي طالب بأمر فظيع ، فأقدم!

ثم دعا خاصّته وثقاته من رءوس قحطان واليمن من أبناء عمّ شرحبيل : بسر بن أرطاة وحابس بن سعد الطائي وحمزة بن مالك وعمرو بن سفيان ومخارق بن الحارث الزبيدي ويزيد بن أسد ، وأمرهم أن يستقبلوه ويخبروه : أن عليا قتل عثمان!

__________________

ـ ٢ : ٦٧ ـ ٦٨ وبهامشه عن الكامل أيضا (ط. المرصفى) ٣ : ٢١٠ ومصادر الخطبة في المعجم المفهرس لنهج البلاغة : ١٣٧٨.

(١) وقعة صفّين : ٤٢.


فلما بلغه كتاب معاوية استشار اليمنيّين معه فاختلفوا عليه ... وأبى شرحبيل إلّا أن يسير إلى معاوية. فلما قدم الشام استقبله اولئك فأعظموه.

ودخل على معاوية فحمد الله معاوية وأثنى عليه ثمّ قال له : يا شرحبيل ، إن جرير بن عبد الله يدعونا إلى بيعة عليّ ، وعليّ خير الناس! لو لا أنه قتل عثمان بن عفّان! وقد حبست نفسي عليك! وإنما أنا رجل من أهل الشام أرضى ما رضوا وأكره ما كرهوا! فقال شرحبيل : أنظر.

ثم خرج ليرى ما يقول الناس فلقيه اولئك النفر وأخبروه : أن عليا قتل عثمان!

فرجع إلى معاوية وقال له : يا معاوية ؛ أبى الناس إلّا أنّ عليا قتل عثمان! فو الله لئن بايعت له لنخرجنّك من الشام أو لنقتلنّك!

قال معاوية : ما أنا إلّا رجل من أهل الشام وما كنت لا خالفكم!

قال : إذا فردّ هذا الرجل إلى صاحبه. وخرج من عنده.

ثم بدا له أن يواجه البجليّ بنفسه فذهب إلى الحصين بن نمير التميمي ـ وكان في الشام ـ فقال له : ابعث إلى جرير فليأتنا. فبعث إليه الحصين فاجتمع إليه ، فقال له شرحبيل : يا جرير ؛ أتيتنا بأمر ملفّق (يقصد ولاية علي عليه‌السلام) وأطريت قاتل عثمان!

فقال له جرير : يا شرحبيل ، أما قولك إني جئت بأمر ملفق! فكيف يكون أمرا ملفّقا وقد اجتمع عليه المهاجرون والأنصار ، وقوتل طلحة والزبير على ردّهما له؟! وأما قولك إن عليّا قتل عثمان! فو الله ما عندك إلّا القذف بالغيب من مكان بعيد ، ولكنّك ملت إلى الدنيا (١)!

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٤ ـ ٤٧ وفي أوّله : أنه بعث رجلا إلى محمد بن أبي حذيفة فأدركه فقتله! في حين أن الرجل يومئذ كان في فسطاط مصر حرّا سليما ، ولم يقل أحد بقتله في مصر ، بل قتل بعد هذا الخبر.


وقال معاوية لجرير : اكتب إلى صاحبك أن يجعل لي الشام وجباية مصر ، ولا يلزمني ببيعة لأحد بعده ، فأكتب إليه بالخلافة واسلّم له هذا الأمر!

فقال جرير : اكتب بما أردت وأكتب معك. فكتب معاوية بذلك إلى علي عليه‌السلام.

فكتب عليّ إلى جرير : أما بعد ، فإنما أراد معاوية أن لا يكون لي بيعة في عنقه ، وأن يبقيك حتى يذوق أهل الشام ... ولا يراني الله أتّخذ المضلّين عضدا ، فإن بايعك الرجل ، وإلّا فأقبل» (١).

معاوية وشرحبيل الكندي :

ولفّف معاوية الرجال لشرحبيل يدخلون إليه ويعظّمون عنده قتل عثمان ويرمون به عليا ، ويقيمون له الشهادة الباطلة وكتبا مختلقة ، حتى شحذوا عزمه (٢).

فدخل على معاوية ـ وعنده جرير ـ فقال لمعاوية : أنت عامل أمير المؤمنين (عثمان) وابن عمّه ، فإن كنت رجلا تجاهد عليا وقتلة عثمان حتى ندرك بثأرنا أو تفنى أرواحنا استعملناك علينا ، وإلّا عزلناك واستعملنا غيرك ممّن نريد! ثمّ جاهدنا معه حتى ندرك بدم عثمان أو نهلك!

فقال له جرير : يا شرحبيل ، مهلا فإن الله قد حقن الدماء ولمّ الشعث وجمع أمر الامة ودنا من هذه الأمة سكون ؛ فإياك أن تفسد بين الناس ، وأمسك عن هذا القول قبل أن يظهر منك قول لا تستطيع ردّه. فقال : لا والله لا أسرّه أبدا (٣).

وبعث معاوية إليه : إنه كان من إجابتك الحقّ وما وقع أجرك فيه على الله! وقبله عنك صلحاء الناس ما علمت ، وإنّ هذا الأمر الذي قد عرفته لا يتمّ إلّا

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٢.

(٢) وقعة صفين : ٤٩.

(٣) وقعة صفين : ٥٢.


برضا العامة. فسر في مدائن الشام وناد فيهم بأنّ عليا قتل عثمان ، وأنه يجب على المسلمين أن يطلبوا بدمه!

وكان متألّها ناسكا مأمونا لدى أهل الشام ، فبدأ بأهل بلده حمص قام فيهم فقال لهم :

يا أيها الناس ، إن عليا قتل عثمان بن عفّان ، وقد غضب له قوم (بالبصرة) فقتلهم وهزمهم وغلب على الأرض ولم يبق إلّا الشام ، وهو واضع سيفه على عاتقه ثمّ خائض به غمار الموت إليكم ، أو يحدث الله أمرا ، ولا نجد أحدا أقوى على قتاله من معاوية ، فجدّوا.

فقام إليه أمثاله من نسّاك حمص فقالوا له : أنت أعلم بما ترى (وأما نحن) فبيوتنا مساجدنا وقبورنا! ولكن أجابه سائر الناس!

ثمّ جعل شرحبيل لا يأتي على قوم من مدائن الشام إلّا قبلوا منه ما أتاهم به حتى استفرغها (١).

واستبطأ أمير المؤمنين عليه‌السلام جرير عند معاوية فكتب إليه : «أما بعد فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل وخذه بالأمر الجزم ، فخيّره بين حرب مجلية أو سلم محظية ، فإن اختار الحرب فانبذ له ، وإن اختار السلم فخذ بيعته» (٢).

فهل يستعدّ الإمام لحربهم؟ :

وكأنّ الإمام عليه‌السلام حيث استبطأ رجوع جرير بالجواب شاور بعض أصحابه في حرب الشام ، فأشاروا عليه بالمقام ذلك العام ، وسمع بذلك الأشتر النخعي

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٠ ـ ٥١.

(٢) وفي نهج البلاغة ك ٨ ، ومصادره في المعجم المفهرس : ١٣٩٤.


وشريح بن هاني وعديّ الطائي فتوافقوا أن يكلّموا الإمام عليه‌السلام فجاءوا إليه وقالوا له : إن هؤلاء الذين أشاروا عليك بالمقام إنما خوّفوك من حرب الشام ، وليس في حربهم شيء أخوف من الموت ونحن نريده؟ فقال لهم (١) :

«إن استعدادي لحرب أهل الشام وجرير عندهم إغلاق للشام وصرف لأهله عن خير إن أرادوه! ولكن قد وقّت لجرير وقتا لا يقيم بعده إلّا مخدوعا أو عاصيا ، والرأي مع الأناة فأرودوا (ارفقوا ؛ ولكن) لا أكره لكم الإعداد».

وكأنّه عليه‌السلام أراد أن يطمئنهم أنه لا يداهن في دينه فقال لهم :

«ولقد ضربت أنف هذا الأمر وعينه ، وقلّبت ظهره وبطنه ، فلم أر فيه إلّا القتال ، أو الكفر بما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢).

القول الفصل :

ولمّا انتهى كتاب علي عليه‌السلام إلى جرير أتى معاوية فأقرأه الكتاب ثمّ قال له : يا معاوية ، إنه لا يطبع على قلب إلّا بذنب ، ولا يشرح إلّا بتوبة ، ولا أظنّ قلبك إلّا مطبوعا ، أراك قد وقفت بين الحقّ والباطل كأنك تنتظر شيئا في يدي غيرك!

فقال معاوية : ألقاك بالفصل في أول مجلس (بعد هذا) فلما ذاق أهل الشام وعرف بيعتهم له كتب إلى علي عليه‌السلام بالحرب (٣).

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ٩٤.

(٢) نهج البلاغة خ ٤٣ ، ومصادره في المعجم المفهرس : ١٣٨٠. وقال المعتزلي الشافعي في شرحه ٢ : ٣٢٣ : سمّي الفسق كفرا تغليظا وتشديدا للزجر عنه.

(٣) وقعة صفين : ٥٦.


كتاب معاوية جوابا وجوابه :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من معاوية بن صخر إلى علي بن أبي طالب. أمّا بعد فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت بريء من دم عثمان كنت كأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين ، ولكن أغريت بعثمان المهاجرين وخذّلت عنه الأنصار ، فأطاعك الجاهل وقوى بك الضعيف ، وقد أبى أهل الشام إلّا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان ، فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين. ولعمري ما حجّتك عليّ كحجّتك على طلحة والزبير ، لأنّهما بايعاك ولم أبايعك ، وما حجّتك على أهل الشام كحجّتك على أهل البصرة ؛ لأنّ أهل البصرة أطاعوك ولم يطعك أهل الشام. وأما شرفك في الإسلام وقرابتك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وموضعك من قريش فلست أدفعه» (١).

ثمّ دعا جريرا فدفع إليه الكتاب الجواب وقال له : الحق بصاحبك (٢).

فرجع جرير إلى علي عليه‌السلام ودفع إليه كتاب معاوية بالجواب (٣).

وروى ابن بكّار في «الموفّقيات» عن جرير قال : إن معاوية وصل بين طومارين أبيضين وطواهما وكتب عنوانهما : من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب. ودفعهما إليّ. ودعا رجلا من عبس ودفع إليه كتابا آخر وبعثه معي.

فخرجنا حتّى قدمنا الكوفة. واجتمع الناس في المسجد الجامع بالكوفة لا يشكّون أنها بيعة أهل الشام! (ولكن) لما فتح الطوماران لم يوجد فيهما شيء!

وقام العبسيّ ودفع إلى علي عليه‌السلام كتابه وكان فيه شعر ، منه قوله :

__________________

(١) الكامل للمبرّد : ١٧٤ ، والإمامة والسياسة : ١٠١.

(٢) وقعة صفين : ٥٦.

(٣) وقعة صفين : ٥٧.


أتاني أمر فيه للنفس غمّة

وفيه اجتداع للأنوف أصيل

مصاب أمير المؤمنين وهدّة

تكاد لها صمّ الجبال تزول!

ثمّ نادى العبسي قومه وقال : إني أحلف بالله لقد تركت تحت قميص عثمان أكثر من خمسين ألف شيخ خاضبي لحاهم بدموع أعينهم ، متعاقدين متحالفين أن ليقتلنّ قتلته في البرّ والبحر! وإني أحلف بالله ليقتحمنّها عليكم ابن أبي سفيان بأكثر من أربعين ألفا من خصيان الخيل فما ظنّكم بالفحول (١).

جرير والأشتر عند الأمير :

وكان الأشتر عند أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال له :

يا أمير المؤمنين ، أما والله لو كنت أرسلتني إلى معاوية لكنت خيرا لك من هذا الذي أرخى من خناقه ، حتّى لم يدع بابا يرجو روحه إلّا فتحه ، أو يخاف غمّه إلّا سدّه!

فقال جرير : والله لو أتيتهم لقتلوك ، وقد زعموا أنك من قتلة عثمان. وخوّفه من عمرو العاص وذي الكلاع الحميري وحوشب.

فقال الأشتر : يا جرير والله لو كنت أنا أتيته لحملت معاوية على خطّة أعجله فيها عن الفكر ، ولم يثقل عليّ عمل أولئك ولم يعيني جوابهم.

قال جرير : إذن فأتهم! قال الأشتر : الآن وقد أفسدتهم ووقع الشر بينهم!

يا أخا بجيلة ؛ إنّ عثمان اشترى منك دينك بهمدان (إذ جعله واليها) والله ما أنت بأهل أن تمشي حيّا ، إنّما أتيتهم لتتخذ عندهم يدا بمسيرك إليهم ، ثمّ رجعت إلينا من عندهم تهدّدنا بهم ، وأنت والله منهم ، ولا أرى سعيك إلّا لهم ،

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ١٤ : ٣٨ وليس في الموفّقيات المنشور.


ولئن أطاعني فيك أمير المؤمنين ليحبسنّك وأشباهك في محبس لا تخرجون منه حتّى تستبين هذه الأمور ويهلك الله الظالمين!

يا أمير المؤمنين ؛ أليس قد نهيتك أن تبعث جريرا وأخبرتك بعداوته وغشّه!

ثم أقبل على جرير يشتمه! فقال جرير : والله وددت أنك كنت بعثت مكاني إذا والله لم ترجع! وخرج من عند أمير المؤمنين.

وكان من بني بجلة في الكوفة بطنان : بنو أحمس ، وكان منهم في الكوفة سبعمائة رجل شهدوا صفين ، وبنو قيس وهم رهط جرير ، ومن أشرافهم ثوير بن عامر ، فتوافق جرير وناس معه من قيس منهم ثوير أن يخرجوا من الكوفة إلى قرقيسيا فخرجوا إليها. فخرج علي عليه‌السلام إلى داري جرير وثوير فأحرق مجلسهما وهدم شيئا منهما (١) وكانا ابني عم (٢) ثمّ كتب جرير كتابا إلى معاوية يخبره بما جرى وما نزل به ، وأنه يحبّ أن يقيم بجواره ، فكتب معاوية إليه بالمسير إليه والقدوم عليه ، فلحق به (٣).

وطمع معاوية في قيس :

سبق أن قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي لما أرسله الإمام عليه‌السلام إلى مصر ، كان من رأيه الحازم أن بعث إلى الذين اعتزلوه وفي مقدمتهم مسلمة بن مخلّد الأنصاري وكان عثمانيا : أني لا اكرهكم على البيعة بل أدعكم وأكفّ عنكم. فحيث لم ينازع أحدا لم ينازعه أحد.

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٩ ـ ٦٠.

(٢) الأخبار الطوال : ١٦١.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٣٧٣ ، وتذكرة الخواص : ٨٢ ، وتوفي في ٥٤ ه‍ في السّراة.


ولقرب مصر وأعمالها من الشام كان معاوية يخاف أن يقبل إليه الإمام عليه‌السلام من العراق ويقبل عليه قيس بأهل مصر فيقع بينهما ، فكان من أثقل خلق الله عليه. فقبل أن يسير الإمام إليه كتب معاوية إلى قيس بعد البسملة :

من معاوية بن أبي سفيان إلى قيس بن سعد. سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو ، أما بعد ، فإنكم إن كنتم نقمتم على عثمان في أثرة رأيتموها ، أو في ضربة سوط رأيتموه ضربها ، أو في شتمة رجل أو تسييره آخر (أبا ذر وغيره) أو في استعماله الفتيان من أهله ، فإنكم قد علمتم ـ إن كنتم تعلمون ـ أن دمه لم يحل لكم ، فقد ركبتم عظيما من الأمر وجئتم شيئا إدّا!

فتب إلى ربك يا قيس إن كنت من المجلبين على عثمان ، إن كانت التوبة من قتل المؤمن تغني شيئا!

وأما صاحبك (عليّ) فإنا قد استيقنّا أنه أغرى به الناس وحملهم على قتله حتّى قتلوه! وأنّه لم يسلم من دمه عظم قومك (الأنصار) فإن استطعت يا قيس أن تكون ممن يطلب بدم عثمان فافعل وتابعنا على أمرنا هذا ، ولك سلطان العراقين إن أنا ظفرت ما بقيت ، ولمن أحببت من أهل بيتك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان ، وسلني من غير هذا ما تحبّ ، فإنك لا تسألني من شيء إلّا أوتيته ، واكتب إليّ برأيك فيما كتبت إليك ، والسلام.

فلما وصل كتاب معاوية إلى قيس لم ير من الرأي أن يجاهره العداء فكتب إليه بعد البسملة :

أما بعد ، فقد وصل إليّ كتابك وفهمت ما ذكرت من قتل عثمان ، وذلك أمر لم أقاربه ، وذكرت أن صاحبي (عليا) هو الذي أغرى الناس بعثمان ودسّهم إليه حتى قتلوه ، وهذا أمر لم أطّلع عليه. وذكرت أن عظم عشيرتي لم تسلم من دم عثمان ، فلعمري إن أولى الناس كان في أمره عشيرتي.


وأما ما سألتني من متابعتك وعرضت عليّ ما عرضت ، فقد فهمته ، وهذا أمر لي فيه نظر وفكر ، وليس هذا مما يعجل إليه. وأنا كافّ عنك ، وليس يأتيك من قبلي شيء تكرهه حتّى ترى ونرى ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته!

فلما وصله وقرأه لم يأمن من كيده ومخادعته فكتب إليه أخرى بعد البسملة :

أما بعد ، فقد قرأت كتابك ، فلم أرك تدنو فأعدّك سلما ، ولم أرك تتباعد فأعدّك حربا ، أنت هاهنا كجمل جرور (مجرور) وليس مثلي من يصانع بالخدائع ، ولا يختدع بالمكايد ، ومعه عدد الرجال وأعنّة الخيل! فإن قبلت الذي عرضت عليك فلك ما أعطيتك ، وإن لم تفعل ملأت عليك مصر خيلا ورجالا! والسلام!

فلما وصله وقرأه علم أنه لا يقبل المطاولة والمدافعة فكتب إليه ما أظهر له ما في قلبه :

«من قيس بن سعد إلى معاوية بن أبي سفيان ، أما بعد ، فالعجب من استسقاطك رأيي واغترارك بي وطمعك فيّ أن تسومني ـ لا أبا لغيرك ـ الخروج من طاعة أولى الناس بالأمر وأقولهم بالحق ، وأهداهم سبيلا وأقربهم من رسول الله وسيلة ، وتأمرني بالدخول في طاعتك : طاعة أبعد الناس من هذا الأمر ، وأقولهم بالزور وأضلّهم سبيلا ، وأبعدهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيلة ، ولديك قوم ضالون مضلون من طواغيت إبليس!

وأما قولك : تملأ عليّ مصر خيلا ورجالا! فلئن لم أشغلك عن ذلك إنك لذو جدّ (حظّ) والسلام!».

فلما وصله وقرأه افترى عليه كتابا آخر وقرأه على أهل الشام قال فيه بعد البسملة :

إلى الأمير معاوية بن أبي سفيان من قيس بن سعد ، أما بعد ، فإن قتل عثمان كان حدثا عظيما في الإسلام! وقد نظرت لنفسي وديني فلم ار يسعني مظاهرة


قوم قتلوا إمامهم مسلما محرما (كذا) برّا تقيا! ونستغفر الله لذنوبنا ، ونسأله العصمة لديننا ، ألا وإني قد ألقيت إليك بالسلام وأجبتك إلى قتال قتلة إمام الهدى المظلوم ، فعوّل عليّ فيما أحببت من الأموال والرجال أعجّله إليك إن شاء الله. والسلام عليك.

وأشاع معاوية ذلك في الشام ، فسرّحت عيون الإمام عليه‌السلام به إليه.

وأتاه كتاب من قيس بن سعد وفيه بعد البسملة :

أما بعد ، فإني أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله : أن قبلي رجالا سألوني أن أكفّ عنهم ، وأدعهم على حالهم حتى يستقيم أمر الناس ، فنرى ويرون رأيهم ، وقد رأيت أن أكفّ عنهم وأن لا أعجل ، وأن أتألّفهم فيما بين ذلك ، لعلّ الله أن يقبل بقلوبهم ، ويصرفهم عن ضلالتهم إن شاء الله ، والسلام.

ولكن كأنّ خبر الكتاب المفترى عليه في الشام سبّب أن يكتب الإمام إليه بعد البسملة :

أما بعد ، فسر إلى القوم الذين ذكرت فإن دخلوا فيما دخل فيه المسلمون ، وإلّا فناجزهم (القتال) والسلام.

فلما وصله وقرأه لم يتمالك دون أن كتب إلى الإمام عليه‌السلام بعد البسملة :

أما بعد ، يا أمير المؤمنين فالعجب منك : تأمرني بقتال قوم كافّين عنك لم يمدّوا إليك يدا للفتنة ، ولا أرصدوا لها! فأطعني يا أمير المؤمنين وكفّ عنهم ؛ فإن الرأي تركهم يا أمير المؤمنين ، والسلام.

فلما وصله وقرأه أكبره وأعظمه ، وجمع إليه ابنيه الحسنين ومحمدا وعبد الله ابن أخيه جعفر فأعلمهم بذلك وقال لهم : إني ـ والله ـ ما أصدّق بهذا (الكتاب المفترى) على قيس! فلم يعلم منهم أي رأي سوى ابن جعفر فإنه قال لعمّه :


يا أمير المؤمنين ؛ دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، اعزل قيس بن سعد عن مصر (١) وابعث محمد بن أبي بكر (أخاه من أمّه) إلى مصر يكفك أمرها ؛ فقد بلغني أن قيسا يقول : إن سلطانا لا يتم إلّا بقتل مسلمة بن مخلّد (الأنصاري) لسلطان سوء! والله ما احبّ أنّ لي سلطان الشام مع سلطان مصر وأني قتلت ابن مخلّد (٢)! يا أمير المؤمنين ؛ إنك إن أطعته في تركهم واعتزالهم ؛ استشرى الأمر وتفاقمت الفتنة وقعد عن بيعتك كثير ممّن تريده على الدخول فيها (٣)!

تأمير ابن أبي بكر على مصر :

فأمر الإمام عليه‌السلام كاتبه عبيد الله بن أبي رافع القبطي فكتب عهده عليه‌السلام لابن أبي بكر على مصر ، وفيه بعد البسملة : «هذا ما عهد عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر حين ولّاه مصر ، أمره بتقوى الله والطاعة له في السرّ والعلانية ، وخوف الله في المغيب والمشهد ، وباللين للمسلم وبالغلظة على الفاجر ، وبالعدل على أهل الذمة ، وبالإنصاف للمظلوم ، وبالشدة على الظالم ، وبالعفو عن الناس ، وبالإحسان ما استطاع ، والله يجزي المحسنين ، ويعذّب المجرمين ، وأمره أن يدعو من قبله إلى الطاعة والجماعة فإنّ لهم في ذلك من العاقبة وعظيم المثوبة ما لا يقدّرون قدره ولا يعرفون كنهه ، وأمره أن يجبى خراج الأرض على ما كانت تجبى عليه من قبل ، ولا ينتقص منه ولا يبتدع فيه ، ثمّ يقسمه بين أهله ، كما كانوا يقسمونه عليه من قبل. وأمره أن يلين لهم جناحه ، وأن يساوي بينهم في وجهه ومجلسه ، وليكن القريب

__________________

(١) الغارات ١ : ٢١٣ ـ ٢١٧.

(٢) الغارات ١ : ١١٩.

(٣) الغارات ١ : ٢١٧.


والبعيد عنده في الحقّ سواء ، وأمره أن يحكم بين الناس بالحق ، وأن يقوم بالقسط ولا يتّبع الهوى ، ولا يخاف في الله لومة لائم ، فإن الله مع من اتّقاه وآثر طاعته على ما سواه ، والسلام. وكتب عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله ، لغرة شهر رمضان (سنة ٣٦ ه‍» (١).

وقبل خروج الإمام عليه‌السلام إلى الشام ، خرج ابن أبي بكر إلى مصر ، فلما دخل على قيس بن سعد وهو زوج عمته أخت أبي بكر ، قال له : ما غيّر أمير المؤمنين عليّ أدخل أحد بيني وبينه؟! فلم يذكر له رأي أخيه عبد الله بن جعفر ، فخرج قيس إلى المدينة (٢).

وخرج ابن أبي بكر إلى الناس فقرئ عليهم عهده (٣) ثمّ قام خطيبا فقال بعد الحمد والثناء :

أما بعد ، فالحمد لله الذي هدانا وإياكم لما اختلف فيه من الحقّ ، وبصّرنا وإياكم كثيرا مما عمى عنه الجاهلون. ألا وإن أمير المؤمنين ولّاني اموركم ، وعهد إليّ بما سمعتم ولن آلوكم خيرا ما استطعت ، وما توفيقي إلّا بالله ، عليه توكّلت وإليه أنيب. فإن يكن ما ترون من آثاري وأعمالي طاعة لله وتقوى فاحمدوا الله على ما كان من ذلك ، فإنّه الهادي له ، وإن رأيتم من ذلك عملا بغير حقّ فادفعوه إليّ وعاتبوني عليه فإني بذلك أسعد ، وأنتم بذلك جديرون ، وفّقنا الله وإياكم لصالح العمل برحمته ، ثمّ نزل (٤).

ورفع إليه مسلم قد ارتد ومسلم قد فجر بنصرانية ، ومن أهل مصر من يعبد

__________________

(١) الغارات ١ : ٢٢٤ ـ ٢٢٥.

(٢) الغارات ١ : ٢١٩.

(٣) الغارات ١ : ٢٢٤.

(٤) الغارات ١ : ٢٢٦.


الشمس والقمر وغير ذلك ، وسئل عن حكم تركة العبد المكاتب وله ولد. فكتب بها إلى الإمام عليه‌السلام يسأله عنها (١) ويسأله عن جوامع من الحلال والحرام ، والسنن والأحكام قائلا : إن رأى أمير المؤمنين أن يكتب لنا كتابا فيه الفرائض وأشياء مما يبتلى به مثلي من القضاء بين الناس ، فالله يعظم لأمير المؤمنين الأجر ويحسن له الذخر. فكتب إليه الإمام عليه‌السلام بعد البسملة :

من عبد الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى محمد بن أبي بكر وأهل مصر. سلام عليكم ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو ، أما بعد ، فقد وصل إليّ كتابك فقرأته وفهمت ما سألتني عنه ، فأعجبني اهتمامك بما لا بدّ لك منه وما لا يصلح للمسلمين غيره ، وظننت أن الذي دعاك إليه نية صالحة ورأي غير مدخول ولا خسيس ، وقد بعثت إليك أبواب الأقضية جامعا لك فيها ، ولا قوة إلّا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وكتب إليه عمّا سأله من أحكام القضاء ، ثمّ في الأدب ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والإمامة ، والوضوء ، ومواقيت الصلاة ، والركوع والسجود ، والصوم والاعتكاف ، ثمّ الموت والحساب ثمّ صفة الجنة والنار (٢).

__________________

(١) الغارات ١ : ٢٣٠.

(٢) الغارات ١ : ٢٢٧ ، ٢٢٨ فنقل الثقفي الكوفي عن المدائني : أن محمدا كان ينظر فيه ويتعلمه ويقضي به ، فلما قتله ابن العاص جمع ما وجد عنده من الكتب وبعث بها إلى معاوية وفيها هذا الكتاب ، وقرأه معاوية فاعجب به وأخذ ينظر فيه ويقول : إنا لا نقول : إن هذه من كتب علي بن أبي طالب بل نقول : إن هذه من كتب أبي بكر كانت عند ابنه محمد فنحن نفتي ونقضي بها! ثمّ بقيت في مخزون بني أميّة حتّى ولي ابن عبد العزيز فهو أظهرها للناس وأخبرهم خبرها ، الغارات ١ : ٢٥١ ، ٢٥٢ وفيها تحريف في الوضوء سنذكره في موضعه بعد مقتله.


فلم يلبث ابن أبي بكر شهرا كاملا (إلى منتصف شوال) حتى بعث إلى أولئك المعتزلين الذين كان قيس بن سعد موادعا لهم : إما أن تدخلوا في طاعتنا ، وإما أن تخرجوا من بلادنا!

فبعثوا إليه : دعنا حتّى ننظر إلى ما يصير إليه أمر الناس ولا تعجل حربنا (١).

وكتب ابن أبي بكر إلى معاوية :

وكأن محمد بن أبي بكر رأى أن معاوية إنما ينذر عليا عليه‌السلام بالحرب بحجّة اتّهامه له ولأمثاله بقتل عثمان ، وأنّهم اليوم تحت رعاية علي عليه‌السلام وحمايته ، فكأنه رأى من المناسب أن يكتب إليه فكتب إليه :

«من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي ابن صخر! سلام على أهل طاعة الله ممّن هو مسلّم لأهل ولاية الله! أما بعد ، فإن الله بجلاله وعظمته وسلطانه وقدرته خلق خلقا بلا عنت ولا ضعف في قوّته ، ولا حاجة به إلى خلقهم ، ولكنّه خلقهم عبيدا ، وجعل منهم شقيا وسعيدا وغويا ورشيدا.

ثم اختارهم على علمه : فاصطفى وانتخب منهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله فاختصّه برسالته ، واختاره لوحيه ، وائتمنه على أمره ، وبعثه رسولا مصدقا لما بين يديه من الكتب ، ودليلا على الشرائع ، فدعا إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة.

فكان أوّل من أجاب وأناب وصدّق ووافق وأسلم وسلّم : أخوه وابن عمّه علي بن أبي طالب. فصدّقه بالغيب المكتوم ، وآثره على كل حميم ، فوقاه كلّ هول ، وواساه بنفسه في كلّ خوف ، فحارب حربه وسالم سلمه ، ولم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الأزل (الحرج) ومقامات الروع ، حتّى برز سابقا لا نظير له في جهاده ولا مقارب له في فعله.

__________________

(١) الغارات ١ : ٢٥٤.


وقد رأيتك تساميه وأنت أنت وهو هو : المبرّز السابق في كل خير ، أوّل الناس إسلاما ، وأصدق الناس نيّة ، وأطيب الناس ذريّة ، وأفضل الناس زوجة ، وخير الناس ابن عمّ! وأنت : اللعين ابن اللعين ، لم تزل أنت وأبوك تبغيان الغوائل لدين الله ، وتجهدان على إطفاء نور الله ، وتجمّعان على ذلك الجموع ، وتبذلان فيه المال ، وتحالفان فيه القبائل ، على ذلك مات أبوك وعلى ذلك خلفته.

والشاهد عليك بذلك : من يأوي ويلجأ إليك من بقيّة الأحزاب ورءوس النفاق والشقاق لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والشاهد لعليّ مع فضله المبين وسبقه القديم : أنصاره الذين ذكروا بفضلهم في القرآن فأثنى الله عليهم من المهاجرين والأنصار ، فهم معه عصائب وحوله كتائب يجالدون بأسيافهم ويهرقون دونه دماءهم ، يرون الفضل في اتّباعه والشقاء في خلافه.

فيا لك الويل كيف تعدل نفسك بعليّ ، وهو وارث رسول الله ووصيّه وأبو ولده ، وأوّل الناس اتّباعا له وآخرهم عهدا به ، يخبره بسرّه ويشركه في أمره. وأنت عدوّه وابن عدوّه! فتمتّع بباطلك ما استطعت ، وليمدد لك ابن العاص في غوايتك ، فكأنّ أجلك قد انقضى وكيدك قد وهى ، وسوف يستبين لك لمن تكون العاقبة العليا.

واعلم أنك تكايد ربّك الذي قد أمنت كيده وأيست من روحه ، وهو لك بالمرصاد وأنت منه في غرور ، وبالله وأهل رسوله عنك الغناء ، والسلام على من اتّبع الهدى» (١).

فكتب معاوية جوابه :

فكتب معاوية جوابه يقول : «من معاوية بن أبي سفيان إلى الزاري على أبيه : محمد بن أبي بكر ، سلام على أهل طاعة الله. أما بعد ؛ فقد أتاني كتابك

__________________

(١) وقعة صفين : ١١٨ ، ١١٩.


تذكر فيه ما الله أهله في قدرته وسلطانه ، وما أصفى به نبيّه ، مع كلام ألّفته ووضعته ، لرأيك فيه تضعيف ولأبيك فيه تعنيف.

ذكرت حق ابن أبي طالب وقديم سوابقه وقرابته من نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونصرته له ومواساته إياه في كل خوف وهول ، واحتجاجك عليّ بفضل غيرك لا بفضلك! فأحمد إلها صرف الفضل عنك وجعله لغيرك.

وقد كنّا ـ وأبوك معنا ـ في حياة نبيّنا صلّى الله عليه نرى حقّ ابن أبي طالب لازما لنا وفضله مبرّزا علينا ؛ فلما اختار الله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما عنده ، وأتمّ له ما وعده ، وأظهر دعوته وأفلج حجّته ، قبضه الله إليه ... فكان أبوك وفاروقه (١) أوّل من ابتزّه وخالفه ، على ذلك اتّفقا واتّسقا ، ثمّ دعواه إلى أنفسهم ، فأبطأ عنهما وتلكّأ عليهما ، فهمّا به الهموم وأرادا به العظيم ، فبايع وسلّم لهما ، لا يشركانه في أمرهما ، ولا يطلعانه على سرّهما ، حتى قبضا وانقضى أمرهما.

ثم قام بعدهما ثالثهما عثمان بن عفّان يهتدي بهديهما ويسير بسيرتهما ، فعبته أنت وصاحبك حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي! وبطنتما له وأظهرتما عداوتكما وغلّكما ، حتى بلغتما منه مناكما!

فخذ حذرك يا ابن أبي بكر! فسترى وبال أمرك وقس شبرك بفترك (٢) تقصر عن أن تساوي أو توازي من يزن الجبال حلمه! ولا تلين على قسر قناته ، ولا يدرك ذو مدى أناته ، أبوك مهّد مهاده ، وبنى ملكه وشاده! فإن يكن ما نحن فيه صوابا فأبوك أوّله ، وإن يك جورا فأبوك أسّسه ونحن شركاؤه ، وبهداه أخذنا وبفعله اقتدينا! ولو لا ما سبقنا إليه أبوك ما خالفنا ابن أبي طالب ، ولأسلمنا له! ولكنّا رأينا

__________________

(١) لعلها أول بادرة لإطلاق الفاروق على عمر.

(٢) الفتر : ما بين الإبهام والسبّابة ، مثل.


أباك فعل ذلك فاحتذينا بمثاله واقتدينا بفعاله ، فعب أباك ما بدا لك أو دع ، والسلام على من أناب ورجع عن غوايته وتاب» (١) وسنذكر مصرعه في موضعه.

وأما مصير قيس :

وأما قيس بن سعد ، فإنه لما عاد إلى المدينة كأنّ العثمانيين من مروان والأسود بن أبي البختري القرشي ، أثاروا الصحابيّ الشاعر العثماني حسّان بن ثابت الأنصاري فدخل على قيس وقال كالمتألّم له : نزعك ابن أبي طالب وقد قتلت ابن عفّان! فبقى عليك الوزر ولم يحسن لك الأجر والشكر!

فغضب قيس من كلامه وقال له : يا أعمى العين والقلب! لو لا أن القي بين رهطي ورهطك حربا لضربت عنقك! أخرج عنّي (٢).

وعاد مروان والأسود وهدّدا قيسا وتوعّداه بالقتل (٣).

فلما كتب علي عليه‌السلام إلى عمّاله باستخلاف من يثقون به والقدوم عليه للخروج إلى الشام ، لم ينتظر سهل بن حنيف الأنصاري حتى يستحضره الإمام عليه‌السلام بل بادر

__________________

(١) نقلهما نصر بن مزاحم في وقعة صفين : ١١٨ ـ ١٢١ مرسلا وبدون خبر بعثه إلى مصر ، ورواهما البلاذري في أنساب الأشراف ٢ : ٣٩٣ ـ ٣٩٧ ح ٤٦٠ محوّلا على طريق الخبر السابق ٤٥٩ : ٣٨٩ وهو : عباس الكلبي عن أبيه هشام عن أبي مخنف بأسناده. وقال الطبري في ٤ : ٥٥٧ : عن هشام عن أبي مخنف : أن ابن أبي بكر لما ولى كتب إلى معاوية ، فذكر مكاتبة جرت بينهما كرهت ذكرها! لما فيه مما لا تحتمل العامة سماعها! فاعتذر عن نقل الكتاب. وذكر الكتابين المسعودي في مروج الذهب ٣ : ١١ ـ ١٣ وانظر مواقف الشيعة ١ : ٢٦٢.

(٢) الغارات ١ : ٢٢١ ، والطبري ٤ : ٥٥٥ ، عن الزهري.

(٣) تاريخ الطبري ٤ : ٥٥٥ ، عن الزهري.


يستأذنه في ذلك ، هذا وقد بلغ الإمام أن بعض أهل المدينة خرجوا إلى معاوية فكتب إليه : أما بعد ، فإنّه بلغني أن رجالا من أهل المدينة يخرجون إلى معاوية ، فلا تأسف عليهم ، فكفى لهم غيّا ولك منهم شافيا : فرارهم من الهدى والحقّ ، وإيضاعهم (إسراعهم) إلى العمى والجهل! وإنما هم أهل دنيا مقبلون عليها ، وقد علموا أن الناس مقبلون في الحق اسوة فهربوا إلى الأثرة ، فسحقا لهم وبعدا! أما لو بعثرت القبور وحصّل ما في الصدور ، واجتمعت الخصوم وقضى الله بين العباد بالحق ؛ لقد عرف القوم ما يكسبون. ولقد بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون!

وقد أتاني كتابك تسألني الإذن لك في القدوم ، فاقدم إذا شئت عفا الله عنّا وعنك ، ولا تذر خللا إن شاء الله تعالى ، والسلام (١).

فأضاف عمله إلى عمل قثم بن العباس على مكة وأراد الخروج إلى الكوفة ، فخاف قيس على نفسه من تهديد اولئك ، فشخص مع سهل إلى الكوفة (٢) فلما قدم على علي عليه‌السلام أخبره بما كان في مصر من الخبر فصدّقه الإمام (٣) فبايعه قيس على الموت معه (٤).

أول شهر رمضان بالكوفة :

ولما حضر أول شهر رمضان بالكوفة على عهد الإمام عليه‌السلام ، وكانت صلوات نوافل رمضان (التراويح) قد ابتدعت على عهد عمر ـ كما مرّ ـ فكان الناس

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ١٥٧ ح ١٧٠ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٠٣ ، وفي نهج البلاغة ك ٧٠.

(٢) تاريخ الطبري ٤ : ٥٥٥ ، عن الزهري.

(٣) الغارات ١ : ٢٢٢.

(٤) الغارات ١ : ٢٢٣.


يصلونها ، فأتى جمع منهم إلى الإمام وقالوا له : اجعل لنا إماما يؤمّنا في شهر رمضان ، فنهاهم أن يجمعوا فيه بجماعة (١).

وأمر ابنه الحسن عليه‌السلام أن ينادي في الناس : أن لا صلاة في شهر رمضان في المساجد. فنادى الحسن بما أمر به أمير المؤمنين ، فلما سمع الناس مقالة الحسن عليه‌السلام صاحوا : وا عمراه! وا عمراه!

فلما رجع الحسن إلى أبيه عليهما‌السلام قال له : ما هذا الصوت؟ قال : يا أمير المؤمنين ، الناس يصيحون : وا عمراه! وا عمراه (٢)!

فروى العياشي عن الباقر والصادق عليهما‌السلام قالا : إن أهل الكوفة لما أمسوا كانوا يقولون : ابكوا الصلاة في رمضان! وا رمضاناه!

وكان الحارث الأعور الهمداني ممّن يحبّ الإمام عليه‌السلام فاجتمع بجمع من الناس وأتوا إليه وقالوا له : يا أمير المؤمنين ؛ إن الناس كرهوا قولك وضجّوا! فعند ذلك قال لهم : دعوهم وما يريدون ليصلّي بهم من شاءوا! ثمّ تلا قوله سبحانه : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً)(٣).

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٢٧٥ ، والسرائر ٣ : ٦٣٨ عن ابن قولويه.

(٢) التهذيب ٣ : ٧٠ ح ٢٢٧.

(٣) النساء : ١١٥ والخبر هو السابق عن تفسير العياشي والسرائر الحاوي عن ابن قولويه ، وروى سليم بن قيس الهلالي العامري عذره عليه‌السلام عن حمل الناس على ترك هذه البدعة قال : لقد عملت الأئمة قبلي بأمور عظيمة خالفت فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين ، لو حملت الناس على تركها ... إلى ما كانت تجري عليه على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لتفرّق عنّي جندي ، حتى لا يبقى في عسكري غيري وقليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وإمامتي ... فلو أمرت الناس أن لا يجمعوا في شهر رمضان إلّا في فريضة لنادى بعض الناس من أهل العسكر وقالوا : غيّرت سنّة عمر ينهاها أن نصلي في شهر رمضان تطوّعا!


الأصبغ مبعوثا ثالثا :

وكتب الإمام عليه‌السلام إلى معاوية : «من عليّ إلى معاوية بن صخر ، أما بعد ، فقد أتاني كتاب امرئ ليس له نظر يهديه ولا قائد يرشده ، دعاه الهوى فأجابه وقاده الضلال فاتّبعه (١).

زعمت أنه أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان ، ولعمري ما كنت إلّا رجلا من المهاجرين أوردت كما أوردوا وأصدرت كما أصدروا ، وما كان الله ليجمعهم على ضلالة ولا ليضربهم بالعمى (٢) وما أمرت فتلزمني خطيئة الآمر ، ولا قتلت فيجب عليّ القصاص.

وأما قولك إن أهل الشام هم الحكّام على أهل الحجاز ، فهات رجلا من قريش الشام يقبل في الشورى أو تحل له الخلافة ، فإن زعمت ذلك كذّبك المهاجرون والأنصار ، وإلّا أتيتك به من قريش الحجاز.

وأمّا قولك : ادفع إلينا قتلة عثمان. فما أنت وعثمان؟! إنّما أنت رجل من بني أمية ، وبنو عثمان أولى بذلك منك. فإن زعمت أنك أقوى على دم أبيهم منهم ، فادخل في طاعتي ثمّ حاكم القوم إليّ أحملك وإيّاهم على المحجّة.

وأمّا تمييزك بين الشام والبصرة وبين طلحة والزبير. فلعمري ما الأمر فيما هناك إلّا واحد ؛ لأنها بيعة عامّة لا يثنّى فيها النظر ولا يستأنف فيها الخيار.

__________________

ـ حتى خفت أن يثوروا في ناحية عسكري ـ كتاب سليم بن قيس ٢ : ٧٢٠ ح ١٨ وتخريجه عن الكافي والخصال والتهذيب في ٣ : ٩٨١ ـ ٩٨٣.

(١) إلى هنا في نهج البلاغة ك ٧ ومصادره في المعجم المفهرس : ١٣٩٤ وفي شرح النهج للمعتزلي الشافعي ١٤ : ٤٢ : أنه كان جوابا لكتاب آخر من معاوية إليه عليه‌السلام في أواخر حرب صفين ، وذكر كتاب معاوية.

(٢) في اجتماعهم على عزل عثمان.


وأمّا ولوعك بي في أمر عثمان : فما قلت ذلك عن حقّ العيان ، ولا يقين الخبر.

وأمّا فضلي في الإسلام وقرابتي من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وشرفي في قريش ، فلعمري لو استطعت دفع ذلك لدفعته» (١).

ثم دفع الكتاب إلى الأصبغ بن نباتة التميمي ، فسار إلى الشام.

قال : دخلت على معاوية وعن يمينه عمرو بن العاص ، وعن يساره حوشب وذو الكلاع وإلى جانبيه أخوه عتبة والوليد بن عقبة ، وعبد الله بن عامر بن كريز ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي ، وبين يديه أبو هريرة الدوسي وأبو الدرداء والنعمان بن بشير الأنصاري وأبو إمامة الباهلي وشرحبيل بن السمط ومعاوية بن خديج.

دفعت الكتاب إليه فلما قرأه قال : إنّ عليا لا يدفع إلينا قتلة عثمان!

فقلت له : يا معاوية! لا تعتلّ بقتلة عثمان ... ولو أردت نصرته حيا لفعلت ، ولكنّك تربّصت به وتقاعدت عنه لتجعل ذلك سببا إلى الدنيا ، فأنت لا تريد إلّا الملك والسلطان! فغضب معاوية.

ثم التفتّ إلى أبي هريرة وقلت له : يا أبا هريرة ؛ أنت صاحب رسول الله ، اقسم عليك بالله الذي لا إله إلّا هو ، وبحقّ رسوله ، هل سمعت رسول الله يوم غدير خم يقول في حق أمير المؤمنين : من كنت مولاه فعليّ مولاه؟ فقال : إي والله سمعته يقول ذلك!

فقلت له : فأنت يا أبا هريرة إذن واليت عدوّه وعاديت وليّه!

فتنفّس أبو هريرة وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون!

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٧ ، ٥٨.


وتغيّر وجه معاوية وقال لي : ما هذا؟ كفّ عن كلامك؟ فلا تستطيع أن تخدع (!) أهل الشام عن الطلب بدم عثمان ، فإنه قتل مظلوما في شهر حرام في حرم رسول الله عند صاحبك ، وهو الذي أغراهم به حتى قتلوه ، وهم اليوم عنده أعوانه وأنصاره ويده ورجله! وما مثل عثمان من يهدر دمه!

فتنادى حوشب وذو الكلاع ومعاوية بن خديج قالوا له : يا معاوية ، لننصرنّك حتى يحصل مرادك أو نقتل عن آخرنا!

فقمت وقلت شعرا :

معاوي ؛ لله من خلقه

عباد قلوبهم قاسية

وقلبك من شرّ تلك القلوب

وليس المطيعة كالعاصية

دع ابن خديج ودع حوشبا

وذا كلع ، واقبل العافية

فصاح بي معاوية : أجئت رسولا أو منفرا؟!

فخرج الأصبغ وسار إلى العراق (١).

وفرّ ابن عمر إلى معاوية :

مرّ الخبر عن عبيد الله بن عمر وأنه قتل الهرمزان ، فطلب عليّ من عثمان قصاصه به ، ففرّ من المدينة إلى الكوفة ، وكفاه مئونته عثمان في الكوفة. فلما قدم الإمام إلى الكوفة فرّ منه إلى معاوية ، فلما قدم عليه قال له : يا ابن أخي ، إن لك اسم أبيك ، فانظر بملء عينيك وتكلم بكلّ فيك ، فأنت المأمون المصدّق! فاصعد المنبر واشتم عليا واشهد عليه أنه قتل عثمان!

__________________

(١) تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي : ٨٣ ، ٨٤.


فقال له ابن عمر : أيها الأمير ، أما شتمي له فإنّه عليّ بن أبي طالب وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم ، فما عسى أن أقول في حسبه ، وهو الشجاع المطرق وأيامه ما قد عرفت ، ولكنّي الزمه دم عثمان (١).

فكأنّه طمع في أخيه عبد الله فكتب إليه : «أما بعد فإنه مهما غابت عنّا الأمور فلن يغيب عنّا أن عليا قتل عثمان ، والدّليل على ذلك مكان قتلته منه ، وإنما نطلب بدمه حتى يدفعوا إلينا قتلته فنقتلهم بكتاب الله! فإن دفعهم عليّ إلينا كففنا عنه وجعلناها على ما جعلها عليه عمر بن الخطّاب : شورى بين المسلمين ، فلسنا نطلب الخلافة! فأعينونا على أمرنا هذا وانهضوا من ناحيتكم ، فإنه إذا اجتمعت أيدينا وأيديكم على أمر واحد هاب عليّ ما هو فيه» (٢).

وكتب إليه : «أما بعد ، فإنه لم يكن أحد من قريش أحبّ إليّ أن تجتمع عليه الامة بعد قتل عثمان منك! ولكنّي ذكرت خذلك إياه وطعنك على أنصاره فتغيّرت لك! ثمّ هوّن عليّ ذلك خلافك على عليّ فمحا عنك بعض ما كان منك! فأعنّا على حقّ هذا الخليفة المظلوم! فإني لست اريد الإمارة عليك ولكنّي اريدها لك! فإن أبيت كانت شورى بين المسلمين» يطمعه فيها بهذا.

فأجابه ابن عمر : «أما بعد ، فإن الرأي الذي أطمعك فيّ هو الذي صيّرك إلى ما صيّرك إليه : أني تركت عليا في المهاجرين والأنصار ، وطلحة والزبير وعائشة أمّ المؤمنين واتّبعتك! أما زعمك أني طعنت على عليّ ، فلعمري ما أنا كعليّ في الإيمان والهجرة ومكانه من رسول الله ونكايته في المشركين ، ولكن حدث أمر لم يكن لي فيه عهد من رسول الله ، ففزعت فيه إلى الوقوف وقلت : إن كان هدى ففضل تركته ، وإن كان ضلالة فشرّ نجوت منه ، فأغن عنّا نفسك» (٣).

__________________

(١) وقعة صفين : ٨٢ ، ٨٣.

(٢) وقعة صفين : ٦٣.

(٣) وقعة صفين : ٧٢.


وفي خبر آخر أنه جمع في جوابه بينه وبين ابن العاص فقال لهما : «لعمري لقد أخطأتما موضع البصيرة ، وتناولتماها من مكان بعيد ، وما زاد الله من شك في هذا الأمر بكتابكما إلّا شكّا ، وما أنتما والخلافة؟! أما أنت يا معاوية فطليق ، وأما أنت يا عمرو فظنون (متّهم في دينه)» (١).

وطمع معاوية في سعد :

وطمع في سعد بن أبي الوقّاص بعد عمرو بن العاص ، فكتب إليه : «أما بعد ، فإنّ أحقّ الناس بنصر عثمان أهل الشورى الذين اختاروه ، وقد نصره طلحة والزبير وهما نظيراك في الإسلام وشريكاك في الأمر ، فلا تكرهنّ ما رضوا ولا تردنّ ما قبلوا ، فإنّا نردّها شورى بين المسلمين» يطمعه فيها بهذا. فأجابه سعد :

«أما بعد ، فإنّا عمر لم يدخل في الشورى من قريش إلّا من تحلّ له الخلافة! غير أنّ عليا قد كان فيه ما فينا ولم يك فينا ما فيه ... وطلحة والزبير لو لزما بيوتهما كان خيرا لهما» (٢).

جولان الخولاني وافتتانه :

وكأنّ نسّاك أهل حمص لم يعتزلوا دعوة شرحبيل فقط ، بل قام منهم أبو مسلم عبد الله أو عبد الرحمن أو يعقوب الخولاني الهمداني اليمني الشامي الزاهد في اناس من قرّاء أهل الشام فقدموا على معاوية وقالوا له :

__________________

(١) وقعة صفين : ٦٣.

(٢) وقعة صفين : ٧٥.


يا معاوية ؛ علام تقاتل عليّا وليس لك مثل صحبته ولا قرابته ولا هجرته ولا سابقته؟!

فقال لهم : أنا لا أدّعي أنّ لي في الإسلام مثل صحبته ولا قرابته ولا هجرته ولا سابقته ؛ ولكن خبّروني عنكم : ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما؟! قالوا : بلى! قال : فليدفع إلينا قتلته فنقتلهم به ثمّ لا قتال بيننا وبينه!

قالوا : فاكتب إليه كتابا يأتيه به بعضنا. فكتب إلى علي عليه‌السلام هذا الكتاب :

«أما بعد ، فإن الله اصطفى محمدا بعلمه ، وجعله الأمين على وحيه والرسول إلى خلقه ، ثمّ اجتبى له أعوانا من المسلمين أيده بهم ، فكانوا في المنازل عنده على قدر فضائلهم في الإسلام.

وكان أنصحهم لله ولرسوله : خليفته! ثمّ خليفة خليفته! ثمّ الخليفة الثالث عثمان المقتول ظلما! فكلّهم حسدت وعلى كلهم بغيت! عرفنا ذلك في نظرك الشزر! وقولك الهجر! وتنفّسك الصعداء وإبطائك عن الخلفاء تقاد إلى كل منهم كما يقاد الفحل المخشوش (١)! تبايع وأنت كاره.

ثمّ لم تكن لأحد منهم بأعظم حسدا منك لابن عمّك عثمان! وكان أحقّهم أن لا تفعل به ذلك في قرابته وصهره! فقطعت رحمه ، وقبّحت حسنه ، وألّبت الناس عليه ، وبطنت وظهرت ، حتى ضربت إليه آباط الإبل ، وقيدت إليه الخيل العراب من كل افق ، وشهر عليه السلاح في حرم رسول الله ، فقتل معك في المحلة وأنت تسمع من داره الهيعة ، لا تردع الظن والتهمة عن نفسك فيه بقول ولا فعل! ولعمري يا ابن أبي طالب أقسم صادقا أن لو قمت فيما كان من أمره مقاما واحدا

__________________

(١) الفحل : الإبل الذكر ، والمخشوش : الذي ادخل في أنفه الخشاش : عود يشد به زمامه لقياده.


تنهنه الناس عنه ، وتقبّح لهم ما انتهكوا منه ، ما عدل بك من قبلنا أحدا من الناس ، ولمحا ذلك عندهم ما كانوا يعرفونك به من المجانبة لعثمان والبغي عليه. وأخرى أنت بها عند أنصار عثمان ظنين : إيواؤك قتلته ، فهم عضدك وأنصارك ويدك وبطانتك. وقد بلغني أنك تتنصّل من دمه وتتبرأ منه ؛ فإن كنت صادقا فأمكنّا من قتلته نقتلهم به ، ثم نحن أسرع الناس إليك! وإلّا فليس بيننا وبينك إلّا السيف! وو الله الذي لا إله غيره لنطلبنّ قتلة عثمان في الجبال والرمال والبرّ والبحر حتى نقتلهم أو تلحق أرواحنا بالله ، والسلام».

ثم دفع الكتاب إلى الخولاني وأمره أن يسير به إلى علي عليه‌السلام فأوصله إليه (١) ومعه أبو هريرة (٢). وقام خطيبا فقال بعد الحمد والثناء : أما بعد ، فإنك قد قمت بأمر وتولّيته ، والله ما احبّ أنه لغيرك ، إن أعطيت الحقّ من نفسك! إنّ عثمان قتل مسلما محرما (كذا) مظلوما! فادفع إلينا قتلته ، وأنت أميرنا ، فإن خالفك أحد من الناس كانت أيدينا لك ناصرة وألسنتنا لك شاهدة ، وكنت ذا عذر وحجة! ثمّ سكت وجلس.

فقال له علي عليه‌السلام : اغد عليّ غدا فخذ جواب كتابك (٣) فكتب إليه :

«من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان ؛ أما بعد ، فإنّ أخا خولان قدم عليّ بكتاب منك تذكر فيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وما أنعم الله عليه به

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٢٨٧ عن الكلبي عن أبي مخنف عن أبي روق الهمداني ، وفي وقعة صفين : ٨٦ ، ٨٧ بسند آخر عن أبي روق الهمداني : أن ابن عمر الأرحبي أخبره به وأعطاه نسخة الكتاب في إمارة الحجاج الثقفي في الكوفة.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ٢٨٣.

(٣) وقعة صفين : ٨٦.


من الهدى والوحي. فالحمد لله الذي صدقه الوعد وتمّم له النصر ، ومكّن له في البلاد ، وأظهره على أهل العداء والشنآن من قومه الذين وثبوا له وشنّعوا به ، وأظهروا له التكذيب ، وبارزوه بالعداوة ، وظاهروا على إخراجه وعلى إخراج أصحابه ، والّبوا عليه العرب وجامعوهم على حربه وجهدوا في أمره كلّ الجهد ، وقلّبوا له الأمور حتى ظهر أمر الله وهم كارهون. وكان أشدّ الناس عليه ألبة اسرته والأدنى فالأدنى من قومه إلّا من عصمه الله يا ابن هند!

لقد خبّأ لنا الدهر منك عجبا فلقد قلت فأفحشت! إذ طفقت تخبرنا عن بلاء الله تعالى في نبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فينا ؛ فكنت في ذلك كجالب التمر إلى هجر ، أو كداعي مسدّده إلى النضال ، ذكرت : «أن الله اجتبى له من المسلمين أعوانا أيّده الله بهم ، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام ، فكان أفضلهم ـ زعمت ـ في الإسلام وأنصحهم لله ورسوله خليفته ، وخليفة خليفته من بعده» ولعمري إنّ مكانهما من الإسلام لعظيم! وإن المصاب بهما لجرح في الإسلام شديد! رحمهما‌الله وجزاهما بأحسن الجزاء (١).

وذكرت : أن عثمان كان في الفضل ثالثا. فإن يكن عثمان محسنا فسيجزيه الله بإحسانه ، وإن يكن مسيئا فسيلقى ربّا غفورا لا يتعاظمه ذنب أن يغفره (٢).

ولعمر الله إني لأرجو ـ إذا أعطى الله الناس على قدر فضائلهم في الإسلام ونصيحتهم لله ورسوله ـ أن يكون نصيبنا في ذلك الأوفر (أوفر قسم أهل بيت من المسلمين خ) فإنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله لما دعا إلى الإيمان بالله والتوحيد ، كنّا أهل البيت أول من آمن وصدّق بما جاء به ، فلبثنا أحوالا كاملة وما يعبد الله في ربع ساكن

__________________

(١) سيأتي التعليق على هذا المقطع من الكتاب عن المعتزلي الشافعي.

(٢) سيأتي التعليق عليه من المعتزلي الشافعي.


(مسكون) من العرب غيرنا : فأراد قومنا قتل نبيّنا واجتياح أصلنا ، وهمّوا بنا الهموم وفعلوا بنا الأفاعيل! فمنعونا الميرة وأمسكوا عنّا العذب وأحلسونا الخوف (١) وجعلوا علينا الأرصاد والعيون ، واضطرّونا إلى جبل وعر ، وكتبوا علينا بينهم كتابا : لا يؤاكلونا ولا يشاربونا ولا يناكحونا ولا يبايعونا ولا نأمن فيهم حتّى ندفع إليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيقتلوه ويمثلوا به! فلم نكن نأمن فيهم إلّا من موسم إلى موسم.

فعزم الله لنا على منعه (حمايته) والذبّ عن حوزته ، والرمى من وراء حرمته ، والقيام بأسيافنا دونه في ساعات الخوف بالليل والنهار ، مؤمننا يبغي بذلك الأجر وكافرنا يحامي به عن الأصل (أو الأهل). وأما من أسلم من قريش بعد فإنهم مما نحن فيه أخلياء : فمنهم حليف ممنوع ، أو ذو عشيرة تدافع عنه فلا يبغيه أحد بمثل ما بغانا به قومنا من التلف ، فهم من القتل بمكان نجوة وأمن ، فكان ذلك ما شاء الله أن يكون ...

ثم أمر الله رسوله بالهجرة ، وأذن له بعد ذلك في قتال المشركين ، فكان إذا احمرّ البأس ودعيت نزال أقام أهل بيته فاستقدموا ، فوقى بهم أصحابه حرّ الأسنّة والسيوف ، فقتل عبيدة (بن الحارث بن المطّلب) يوم بدر ، وحمزة يوم احد ، وجعفر وزيد يوم مؤتة ، وأراد من لو شئت ذكرت اسمه (يعني نفسه) مثل الذي أرادوا من الشهادة مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله غير مرة ، إلّا أنّ آجالهم عجّلت ومنيّته اخّرت. والله مولى الإحسان إليهم والمنّان عليهم بما قد أسلفوا من الصالحات ، فما سمعت بأحد ولا رأيت فيهم من هو أنصح لله في طاعة رسوله ، ولا أطوع لرسوله في طاعة ربّه ، ولا أصبر على اللأواء والضرّاء وحين البأس ومواطن المكروه مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من هؤلاء النفر الذين سمّيت لك. وفي المهاجرين خير كثير نعرفه ، جزاهم الله بأحسن أعمالهم (٢).

__________________

(١) أي جعلوا الخوف لنا كأنه حلس وهو الجلّ للإبل فأجلسونا عليه ، تشبيها.

(٢) وقعة صفين : ٨٨ ـ ٩٠.


فيا عجبا للدهر! إذ صرت يقرن بي من لم يسع بقدمي ولم تكن له كسابقتي التي لا يدلي أحد بمثلها ، إلّا أن يدّعي مدّع ما لا أعرفه ولا أظنّ الله يعرفه ، والحمد لله على كل حال (١).

وذكرت حسدي للخلفاء وإبطائي عنهم وبغيي عليهم! فأمّا البغي فمعاذ الله أن يكون (٢)! وأما الحسد فمعاذ الله أن أكون أسررته أو أعلنته (٣) وأما كراهتي لأمر القوم فإني لست أتبرّأ منه ولا أنكره ؛ وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبضه الله إليه ونحن أهل بيته أحقّ الناس به ، فقلنا لا يعدل الناس عنّا ولا يبخسونا حقّنا ، فما راعنا إلّا والأنصار قد صاروا إلى سقيفة بني ساعدة يطلبون هذا الأمر ، فصار أبو بكر وعمر إليهم فيمن تبعهما ، فاحتجّ أبو بكر عليهم بأن قريشا أولى بمقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم ؛ لأن رسول الله من قريش ، وبذلك توصّل إلى الأمر دون الأنصار. فإن كانت الحجة لأبي بكر بكونه من قريش فنحن أحق الناس برسول الله ممن تقدّمنا ؛ لأنّنا أقرب إليه من قريش كلها وأخصهم به ، وإن لم يكن لنا حق مع القرابة فالأنصار على دعواهم (٤).

فلا أدري أصحابي سلموا من أن يكونوا حقي أخذوا؟ أو الأنصار ظلموا! بل عرفت أن حقّي هو المأخوذ وقد تركته لهم (٥).

ولقد أتاني أبوك حين قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبايع الناس أبا بكر فقال لي :

__________________

(١) نهج البلاغة ك : ٩.

(٢) وقعة صفين : ٨٨ ـ ٩٠.

(٣) أنساب الأشراف ٢ : ٢٨١.

(٤) الفصول المختارة : ٢٨٧ من مصنّفات المفيد.

(٥) وقعة صفين : ٩١.


أنت أحقّ الناس بهذا الأمر فابسط يدك أبايعك! فكنت الذي أبيت ذلك مخافة الفرقة ؛ لقرب عهد الناس بالكفر والجاهلية ، وقد علمت ذلك من قول أبيك ، فإن تعرف من حقّي ما كان يعرفه أبوك تصب رشدك ، وإن لا تفعل فسيغني الله عنك (١).

وأما ما ذكرت من أمر عثمان وقطيعتي رحمه وتأليبي عليه! فإنّ عثمان عمل ما بلغك فصنع الناس ما قد رأيت ، وقد علمت أني كنت في عزلة عنه ، إلّا أن تتجنّ فتجنّ ما بدا لك (٢)!

وذكرت قتلته بزعمك وسألتني دفعهم إليك ؛ وما أعرف له قاتلا بعينه ، وقد ضربت هذا الأمر أنفه وعينيه فلم أر يسعني دفع من قبلي ممّن اتّهمته وأظننته إليك (٣) ولا إلى غيرك. ولعمري لئن لم تنزع عن غيّك وشقاقك لتعرفنّهم عن قليل يطلبونك ، ولا يكلّفونك أن تطلبهم في برّ ولا بحر ولا جبل ولا سهل (٤) إلّا أنه طلب يسوؤك وجدانه ، وزور لا يسرّك لقيانه! والسلام لأهله!» (٥).

تعليق رشيق :

نقل المعتزلي الشافعي عن شيخه النقيب الزيدي أنّه أملى عليه فكتب عنه تعليقا على مثل هذا الكتاب عنه عليه‌السلام ، قال : كان معاوية لا يزال يكيد عليا عليه‌السلام

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٢٨١ ووقعة صفين في آخر الرسالة.

(٢) وقعة صفين : ٩١.

(٣) أنساب الأشراف ٢ : ٢٨٢.

(٤) وقعة صفين : ٩١ وهنا ذكر خبر أبي سفيان معه.

(٥) نهج البلاغة ك ٩ ، ومصادره في المعجم المفهرس : ١٣٩٤ ، وانظر تعليق المعتزلي على كيفية السلام الأخير في شرح النهج ١٤ : ٥١.


بالكتاب يكتبه والرسالة يبعثها يطلب أن ينفث بما في صدره من حال أبي بكر وعمر إمّا مكاتبة أو مراسلة ، فيجعل ذلك حجة عند أهل الشام على الإمام ، ويضيفه إلى ما قرّره في أنفسهم من ذنوبه كما زعم ، إذ كان قد اتّهمه عندهم بأنه قتل عثمان أو مالأ على قتله! وأنه قتل طلحة والزبير وأسر عائشة وأراق دماء أهل البصرة! وبقيت خصلة واحدة وهي : أن يثبت لهم أنه يتبرّأ من أبي بكر وعمر وينسبهما إلى مخالفة الرسول في أمر الخلافة ، وأنهما وثبا عليه غلبة وغصباها منه ظلما ، وكانت هذه الطامة الكبرى غير مقتصرة على فساد أهل الشام على الإمام بل وأهل العراق ، الذين هم جنده وبطانته وأنصاره ؛ لأنهم كانوا يعتقدون إمامة الشيخين ، إلّا القليل الشاذّ من خواصّ الشيعة.

فكتب ذلك الكتاب مع أبي مسلم الخولاني يقصد أن يغضب عليا ويحرجه ويحوجه ـ إذا قرأ ذكر أبي بكر وأنّه أفضل المسلمين ـ إلى أن يخلط في جوابه بكلمة تقتضي طعنا في أبي بكر! فكان الجواب غير بيّن ليس فيه تصريح بالتظليم لهما ولا التصريح ببراءتهما ؛ فتارة يقول : أخذا حقّي وقد تركته لهما ، وتارة يترحّم عليهما (١).

تحويل الجواب للخولاني :

روى البلاذري ، عن الكلبي ، عن أبي مخنف ، عن أبي روق الهمداني : أنّ الناس اجتمعوا في المسجد فقرئ عليهم كتاب معاوية ، فقالوا : كلنا كنّا منكرين لعمل عثمان فكلّنا قتلته! وجعل الخولاني يقول : الآن طاب الضراب (٢)!

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ١٥ : ١٨٤ ، ١٨٥.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ٢٧٧ و ٢٧٩.


واختلف عنه المنقري فقال : لما رجع الخولاني غدا ليأخذ الجواب وجد الناس قد بلغهم الذي جاء هو به ، فلبست الشيعة أسلحتها وغدوا فملئوا المسجد الجامع بالكوفة وأخذوا ينادون بوجهه : كلنا قتل ابن عفّان! وأذن للخولاني فدخل على علي عليه‌السلام فدفع إليه جواب كتاب معاوية ... وخرج وهو يقول : الآن طاب الضراب (١)!

طاب الضراب والحرب لإضراب الخولاني ، فطلب معاوية المزيد من ذلك فأشار عليه ابن العاص بقوله له : إنّ عليّا رجل نزق تيّاه (نعوذ بالله) وما شيء تستطعم به منه الكلام على أبي بكر وعمر بمثل تقريظهما له ، فاكتب إليه كتابا ثانيا مثل الأول لكي يحمله الغضب لنفسه أن يكتب إليك كلاما فيهما تتعلّق به لتقبيح حاله وتهجين مذهبه (٢)!

فكتب إليه مع الباهلي :

فكتب كتابا وأراد أن يبعثه إليه مع أبي الدرداء ثمّ أنفذه إليه مع أبي إمامة الباهلي :

«أما بعد ، فإن الله تعالى جدّه اصطفى محمدا عليه‌السلام لرسالته ، واختصّه بوحيه وتأدية شريعته ، فأنقذ به من العماية وهدى من الغواية ، ثمّ قبضه إليه رشيدا حميدا ، قد بلّغ الشرع ومحق الشرك وأخمد نار الإفك ، فأحسن الله جزاءه وضاعف عليه نعمه وآلاءه.

__________________

(١) وقعة صفين : ٨٦.

(٢) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ٥ : ١٨٥ عن شيخه النقيب الزيدي البغدادي.


ثمّ إنّ الله سبحانه اختصّ محمدا عليه‌السلام بأصحاب أيّدوه ، وآزروه ونصروه ، كما قال الله لهم : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ)(١) فكان أفضلهم مرتبة وأعلاهم عند الله والمسلمين منزلة : الخليفة الأول ، الذي جمع الكلمة ولمّ الدّعوة وقاتل أهل الردّة. ثمّ الخليفة الثاني الذي فتح الفتوح ومصرّ الأمصار وأذلّ رقاب المشركين. ثمّ الخليفة الثالث المظلوم! الذي نشر الملّة وطبّق الآفاق بالكلمة الحنيفية.

فلما استوثق الإسلام وضرب بجرانه عدوت عليه فبغيته الغوائل ونصبت له المكايد ، وضربت له بطن الأمر وظهره ، ودسست عليه وأغريت به ، وقعدت عن نصره حيث استنصرك وسألك أن تدركه قبل أن يمزّق فما أدركته! وما يوم المسلمين منك بواحد!

لقد حسدت أبا بكر والتويت عليه ورأمت إفساد أمره ، وقعدت في بيتك ، واستغويت عصابة من الناس حتّى تأخّروا عن بيعته. ثمّ كرهت خلافة عمر وحسدته ، واستطلت مدّته ، وسررت بقتله وأظهرت الشماتة بمصابه! حتّى إنّك حاولت قتل ولده ؛ لأنّه قتل قاتل أبيه! ثمّ لم تكن أشدّ منك حسدا لابن عمّك عثمان : نشرت مقابحه ، وطويت محاسنه ، وطعنت في فقهه ثمّ في دينه ثمّ في سيرته ثمّ في عقله! وأغريت به السفهاء من أصحابك وشيعتك حتى قتلوه بمحضر منك لا تدفع عنه بلسان ولا يد! وما من هؤلاء إلّا من بغيت عليه وتلكّأت في بيعته حتّى حملت إليه قهرا تساق بخزائم الإقتار كما يساق الفحل المخشوش (٢)!

ثمّ نهضت الآن تطلب الخلافة ـ وقتلة عثمان خلصاؤك وشجراؤك والمحدقون بك ـ وتلك من أماني النفوس وضلالات الأهواء! فدع اللجاج والعبث جانبا وادفع

__________________

(١) الفتح : ٢٩.

(٢) الفحل : الإبل الذكر ، والمخشوش : الذي ادخل عود في خشمه لقيادته.


إلينا قتلة عثمان ، وأعد الأمر شورى بين المسلمين ليتّفقوا على من هو لله رضا! فلا بيعة لك في أعناقنا ولا طاعة لك علينا ، ولا عتبى لك عندنا! وليس لك ولا لأصحابك عندي إلّا السيف! وو الذي لا إله إلّا هو لأطلبنّ قتلة عثمان أين كانوا وحيث كانوا حتى أقتلهم أو تلتحق روحي بالله!

فأمّا ما لا تزال تمنّ به من سابقتك وجهادك ؛ فإني وجدت الله سبحانه يقول : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١) ولو نظرت في حال نفسك لوجدتها أشدّ الأنفس امتنانا على الله بعملها! وإذا كان الامتنان على السائل يبطل أجر الصدقة فالامتنان على الله يبطل أجر الجهاد ويجعله : (كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)» (٢).

فلما وصل هذا الكتاب إلى علي عليه‌السلام مع أبي إمامة الباهلي ، كلّم أبا إمامة بنحو ما كلّم به الخولاني قبله ، ثمّ كتب لمعاوية هذا الجواب :

وجوابه مع الباهلي :

«أما بعد ، فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله لدينه ، وتأييده إيّاه بمن أيّده به من أصحابه! فقد خبّأ لنا الدهر منك عجبا إذ طفقت تخبرنا ببلاء الله تعالى عندنا ونعمته علينا في نبيّنا! فكنت في ذلك كناقل التمر إلى هجر ، أو كداعي مسدّده إلى النّضال!

__________________

(١) الحجرات : ١٧.

(٢) البقرة : ٢٦٤.


وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان ، فذكرت أمرا إن تمّ اعتزلك كلّه وإن نقص لم يلحقك ثلمه! وما أنت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس! وما للطّلقاء وأبناء الطّلقاء والتمييز بين المهاجرين الأوّلين وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم! هيهات لقد حنّ قدح ليس منها وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها! ألا تربع ـ أيها الانسان ـ على ظلعك ، وتعرف قصور ذرعك ، وتتأخّر حيث أخّرك القدر؟! فما عليك غلبة المغلوب ولا ظفر الظافر؟! وإنّك لذهّاب في التيه روّاغ عن القصد.

ألا ترى ـ غير مخبر لك ولكن بنعمة الله احدّث ـ أنّ قوما استشهدوا في سبيل الله تعالى من المهاجرين والأنصار ـ ولكل فضل ـ حتى إذا استشهد شهيدنا قيل : سيد الشهداء ، وخصّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه!

أو لا ترى أنّ قوما قطعت أيديهم في سبيل الله ـ ولكل فضل ـ حتّى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم قيل : الطيّار في الجنة وذو الجناحين! ولو لا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمّة تعرفها قلوب المؤمنين ولا تمجّها آذان السامعين.

فدع عنك من مالت به الرميّة ؛ فإنا صنائع ربّنا ، والناس بعد صنائع لنا (١) ، لم يمنعنا قديم عزّنا ولا عاديّ طولنا على قومك : أن خلطناكم بأنفسنا فنكحنا وأنكحنا فعل الأكفاء ، ولستم هناك! وأنّى يكون ذلك كذلك ومنّا النبيّ ومنكم المكذّب! ومنّا «أسد الله» ومنكم أسد الأحلاف ، ومنّا «سيّدا شباب أهل الجنة» ومنكم «صبية النار» ومنّا «خير نساء العالمين» ومنكم «حمّالة الحطب» في كثير مما لنا وعليكم (٢)!

__________________

(١) كما في قوله سبحانه : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) وصنيعة الملك من يحسن إليه الملك فيرفع قدره.

(٢) أسد الله : حمزة عمّ النبي ، وأسد الأحلاف قتيله : عتبة بن ربيعة بن عبد شمس


فإسلامنا ما سمع ، وجاهليتنا لا تدفع ، وكتاب الله يجمع لنا ما شذّ عنّا وهو قوله سبحانه وتعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ)(١) وقوله تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)(٢) فنحن مرّة أولى بالقرابة ، وتارة أولى بالطاعة : ولمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله فلجوا عليهم ، فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونكم ، وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم.

وزعمت أنّي لكل الخلفاء حسدت وعلى كلّهم بغيت! فإن يكن ذلك كذلك فليست الجناية عليك فيكون العذر إليك ، و «تلك شكاة ظاهر عنك عارها».

وقلت : إني كنت اقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتّى أبايع (٣)! ولعمرو الله لقد أردت أن تذمّ فمدحت وأن تفضح فافتضحت! وما على المسلم من غضاضة أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكّا في دينه ولا مرتابا بيقينه! وهذه حجّتي إلى غيرك قصدها ولكنّي أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها.

__________________

ـ أبو هند جدّ معاوية ، وسيدا شباب أهل الجنة : الحسنان ، وصبية النار أطلقه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على صبية عقبة بن أبي معيط الأموي ، وخير نساء العالمين : فاطمة الزهراء ، وحمّالة الحطب : أم جميل بنت حرب بن أمية عمّة معاوية.

(١) الأنفال : ٧٥.

(٢) آل عمران : ٦٨.

(٣) هذه الجملة والمثل جاء في كتاب معاوية مع الباهلي وجاء هنا جوابه ، ولم يكن في كتابه مع الخولاني ، ولذا نقل المعتزلي الشافعي عن النقيب تخطئته لمن جعل هذا الجواب ضمن الجواب لكتاب الخولاني ، انظر شرح النهج ١٥ : ١٨٧.


ثمّ ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان ؛ فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه :

فأيّنا كان أعدى له وأهدى إلى مقاتله؟! أمن بذل له نصرته ، فاستقعده واستكفّه؟! أم من استنصره (عثمان من معاوية) فتراخى عنه وبث المنون عليه حتى أتى قدره عليه؟! وما كنت لأعتذر من أني كنت أنقم عليه أحداثا (بدعا) فإن كان الذنب إليه إرشادي وهدايتي له «فربّ ملوم لا ذنب له» و «قد يستفيد الظنّة المتنصّح» وما أردت (إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)(١).

وذكرت : أن ليس لي ولأصحابي عندك إلّا السيف! فلقد أضحكت بعد استعبار! متى ألفيت بني عبد المطلب عن الأعداء ناكلين وبالسيف مخوّفين؟! فلبث قليلا يلحق الهيجا حمل! فسيطلبك من تطلب ويقرب منك ما تستبعد! فأنا مرقل نحوك في جحفل من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ، شديد زحامهم ساطع قتامهم! متسربلين سرابيل الموت! أحبّ اللقاء إليهم لقاء ربهم ، وقد صحبهم ذريّة بدرية وسيوف هاشمية ، قد عرفت مواقع نصالها في أخيك (حنظلة) وخالك (الوليد) وجدك (عتبة) وأهلك (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)(٢).

وكتب إلى معاوية أيضا :

«أما بعد ، فإنك قد رأيت من الدنيا وتصرّفها بأهلها ، وإلى ما مضى منها ، وخير ما بقي من الدنيا ما أصاب العباد الصادقون فيما مضى ، ومن نسي الدنيا نسيان الآخرة يجد بينهما بونا بعيدا.

__________________

(١) هود : ٨٨.

(٢) هود : ٨٣ ، والكتاب في نهج البلاغة ك : ٢٨ ومصادره في المعجم المفهرس : ١٣٩٥ ، والخبر في شرح النهج للمعتزلي الشافعي ١٥ : ١٨٤ ـ ١٨٨.


واعلم ـ يا معاوية ـ أنك قد ادّعيت أمرا لست من أهله لا في القدم ولا في الولاية! ولست تقول فيه بأمر بيّن تعرف لك به أثرة ، ولا لك عليه شاهد من كتاب الله ، ولا عهد تدّعيه من رسول الله ، فكيف أنت صانع إذا انقشعت عنك جلابيب ما أنت فيه من دنيا أبهجت بزينتها وركنت إلى لذّتها ، وخلّى فيما بينك وبين عدوّ جاهد ملحّ ، مع ما عرض في نفسك من دنيا قد دعتك فأجبتها وقادتك فاتّبعتها وأمرتك فاطعتها.

فاقعس عن هذا الأمر وخذ أهبة الحساب ؛ فإنه يوشك أن يقف واقف على ما لا يجنّك منه مجنّ!

ومتى كنتم ـ يا معاوية ـ ساسة للرعيّة أو ولاة لأمر هذه الأمة؟ بغير قدم حسن ، ولا شرف سابق على قومكم! فشمّر لما قد نزل بك ، ولا تمكّن الشيطان من بغيته فيك.

مع أني أعرف أن الله ورسوله صادقان! فنعوذ بالله من لزوم سابق الشقاء! وإن لا تفعل أعلمك ما أغفلك من نفسك : فإنك مترف قد أخذ منك الشيطان مأخذه ، فجرى منك مجرى الدم في العروق!

واعلم أن هذا الأمر لو كان إلى الناس أو بأيديهم ليحسدونا وامتنّوا به علينا! ولكنّه قضاء ممّن امتنّ به علينا على لسان نبيّه الصادق المصدّق (١)! لا أفلح من شك بعد العرفان والبيّنة! اللهم احكم بيننا وبين عدوّنا بالحق وأنت أحكم الحاكمين» (٢).

__________________

(١) معناه : أن الله تعالى امتنّ بأمر الإمامة والخلافة علينا قضاء منه على لسان نبيّه ، فهو تصريح بالاستخلاف بالنصّ ، ونقله المعتزلي الشافعي في شرح النهج ١٥ : ٨٧ ولم يتكلّم فيه تأويلا ، وإنّما نقله عن وقعة صفين : ١٠٨ تعديلا لما نقله الرضيّ في نهج البلاغة ك ١٠ قال عنه المعتزلي : ما نقله الرضيّ قد ضمّ إليه كتابا آخر على عادته في التقاط البليغ من كلامه.

(٢) وقعة صفين : ١٠٨.


وجواب معاوية :

وكتب معاوية في جوابه : «أما بعد ، فدع الحسد! فإنك طالما لم تنتفع به! ولا تفسد سابقة قدمك بشره نخوتك ، فإن «الأعمال بخواتيمها» ولا تمحق سابقتك في حقّ من لا حقّ لك في حقّه! فإنّك إن تفعل لا تضرّ بذلك إلّا نفسك ولا تمحق إلّا عملك ولا تبطل إلّا حجتك! ولعمري ما مضى لك من السابقات لشبيه أن يكون ممحوقا لما اجترأت عليه من سفك الدماء! وخلاف أهل الحق!

فاقرأ سورة الفلق وتعوّذ بالله من شرّ نفسك فإنك الحاسد إذا حسد» (١).

واستشار الإمام أصحابه :

لما استدعى معاوية عليا عليه‌السلام إلى القتال ، دعا جمعا ممّن معه من الصحابة من المهاجرين والأنصار : عمّار بن ياسر وهاشم المرقال الزهري ، ومن الأنصار سهل بن حنيف وقيس بن سعد الخزرجي (٢) ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم :

أما بعد ؛ فإنكم ميامين الرأي ، مراجيح الحلم (العقل) مقاويل بالحقّ ، مباركو الفعل والأمر ، وقد أردنا المسير إلى عدوّنا وعدوّكم فأشيروا علينا برأيكم.

__________________

(١) وقعة صفين : ١١٠.

(٢) ومن حضور سهل وقيس يفهم أن المشورة لعلّها كانت بعد منتصف شهر رمضان سنة (٣٦ ه‍).


فقام عمار بن ياسر فحمد الله وذكره بما هو أهله ثمّ قال : يا أمير المؤمنين ؛ إن استطعت أن لا تقيم يوما واحدا فافعل واشخص بنا قبل استعار نار الفجرة ، واجتماع رأيهم على الصدود والفرقة ، فادعهم إلى رشدهم وحظّهم ، فإن قبلوا سعدوا ، وإن أبوا إلّا حربنا فو الله إنّ سفك دمائهم والجدّ في جهادهم لقربة عند الله وكرامة منه!

وقام هاشم المرقال الزهري فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثمّ قال : أما بعد ـ يا أمير المؤمنين ـ فأنا بالقوم جدّ خبير : هم لك ولأشياعك أعداء ، ولمن يطلب حرث الدنيا أولياء! وهم مقاتلوك ومجاهدوك لا يبقون جهدا ؛ مشاحّة على الدنيا وضنّا بما في أيديهم منها ، وليس لهم إربة غيرها إلّا ما يخدعون به الجهّال من الطلب بدم عثمان بن عفّان ، كذبوا ليس بدمه يثأرون ولكنّ الدنيا يطلبون.

فسر بنا إليهم ، فإن أجابوا إلى الحق (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ)(١) وإن أبوا إلّا الشقاق فذلك الظنّ بهم ، والله ما أراهم يبايعون وفيهم أحد يسمع إذا أمر أو يطاع إذا نهى!

ثمّ قام قيس بن سعد ـ وكان جسيما خفيف اللحية ـ فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :

يا أمير المؤمنين ؛ انكمش بنا إلى عدوّنا ولا تعرّج ، فو الله لجهادهم أحبّ إليّ من جهاد الترك والروم! لإدهانهم في دين الله واستذلالهم أولياء الله من أصحاب محمد من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان. إذا غضبوا على رجل حبسوه أو ضربوه أو حرموه أو سيّروه! وفيئنا لهم حلال في أنفسهم ونحن لهم فيما يزعمون قطين (عبيد).

__________________

(١) يونس : ٣٢.


وكان أبو أيّوب الأنصاري وذو الشهادتين خزيمة بن ثابت من شيوخ الأنصار حضورا فقالوا لسهل بن حنيف : قم يا سهل فأجب أمير المؤمنين عن جماعتنا ، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال له :

يا أمير المؤمنين ، نحن سلم لمن سالمت وحرب لمن حاربت ورأينا رأيك ، ونحن كفّ يمينك! وقد رأينا أن تقوم بهذا الأمر في أهل الكوفة فتخبرهم بما صنع الله لهم من الفضل في ذلك ؛ وتأمرهم بالشخوص ، فإنهم هم أهل البلد وهم الناس ، فإن استقاموا لك استقام لك الذي تريد وتطلب. وأما نحن فليس منّا خلاف عليك ، متى دعوتنا أجبناك ، ومتى أمرتنا أطعناك (١).

إعلان العزم على الجهاد :

ثمّ إنّ عليا عليه‌السلام صعد المنبر ، فبدأ بالحمد له والثناء عليه ثمّ قال : إن الله قد أكرمكم بدينه ، وخلقكم لعبادته ، فانصبوا أنفسكم في أداء حقّه فتنجّزوا موعوده ، واعلموا أن الله جعل أمراس دينه متينة ، وعراه وثيقة ، ثمّ جعل الطاعة حظّ الأنفس برضاه وغنيمة الأكياس عند تفريط الفجرة.

وقد حمّلت أمر أسودها وأحمرها ولا قوة إلّا بالله.

ونحن سائرون ـ إن شاء الله ـ إلى من سفه نفسه وتناول ما ليس له ولا يدركه : معاوية وجنده الفئة الباغية ، يقودهم ابليس ويبرق لهم ببارق تسويفه ويدلّهم بغروره.

__________________

(١) وقعة صفين : ٩٢ ـ ٩٤ ، وكأنّ سهلا يخاف عليه ما كان من أهل البصرة على أخيه قبل هذا!


وأنتم أعلم الناس بحلاله وحرامه ، فاستغنوا بما علّمتم ، واحذروا ما حذّركم الله من الشيطان ، وارغبوا فيما أنا لكم من الأجر والكرامة ، واعلموا أن المسلوب من سلب دينه وأمانته ، والمغرور من آثر الضلالة على الهدى ، فلا أعرف أحدا تقاعس عنّي وقال : في غيري كفاية! «فمن لا يذد عن حوضه يتهدم».

ثمّ إني آمركم بالشدّة في الأمر والجهاد في سبيل الله ... وانتظروا النصر العاجل من الله ، إن شاء الله (١).

«عباد الله ، اتّقوا الله وأطيعوه ، وأطيعوا إمامكم ، فإن الرعية الصالحة تنجو بالإمام العادل ، ألا وإن الرعية الفاجرة تهلك بالإمام الفاجر!

وقد أصبح معاوية غاصبا لما في يديه من حقّي ناكثا لبيعتي ، طاعنا في دين الله عزوجل.

أيها المسلمون ؛ وقد علمتم ما فعل الناس بالأمس : جئتموني راغبين إليّ في أمركم حتى استخرجتموني من منزلي لتبايعوني ، فالتويت عليكم لأبلو ما عندكم! فراددتموني القول مرارا وراددتكموه ، وتكأكأتم عليّ تكأكؤ الإبل على حياضها ، حرصا على بيعتي ، حتّى خفت أن يقتل بعضكم بعضا! فلما رأيت ذلك منكم تروّيت في أمري وأمركم فقلت : إن أنا لم اجبهم في القيام بأمرهم ، لم يصيبوا أحدا منهم يقوم فيهم مقامي ويعدل فيهم عدلي. وقلت : لألينّهم وهم يعرفون حقّي وفضلي أحبّ إليّ من أن يلوني وهم لا يعرفون حقّي وفضلي ، فبسطت لكم يدي فبايعتموني ... وفيكم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان ، وأخذت عليكم عهد بيعتي وواجب صفقتي عهد الله وميثاقه ، وأشدّ ما اخذ على النبيين من عهد وميثاق : لتفنّ لي ولتسمعنّ لأمري ولتطيعوني وتناصحوني وتقاتلون معي كلّ باغ عليّ أو مارق. فأنعمتم لي

__________________

(١) وقعة صفين : ١١٢ و ١١٣.


بذلك جميعا ، وأخذت عهد الله وميثاقه وذمّة الله وذمّة رسوله فأجبتموني إلى ذلك وأشهدت الله عليكم وأشهدت بعضكم على بعض ، فقمت فيكم بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فالعجب من معاوية بن أبي سفيان! ينازعني الخلافة ويجحدني الإمامة ، ويزعم أنّه أحقّ بها منّي! جرأة منه على الله وعلى رسوله بغير حقّ له فيها ولا حجّة ، لم يتابعه عليها المهاجرون ولا سلّم له الأنصار والمسلمون.

يا معشر المهاجرين والأنصار وجماعة من سمع كلامي ، أما أوجبتم لي على أنفسكم الطاعة؟ أما بايعتموني على الرغبة ، أما أخذت عليكم العهد بالقبول لقولي؟ أما كانت بيعتي لكم يومئذ أوكد من بيعة أبي بكر وعمرو؟ فما بال من خالفني لم ينقض عليهما حتى مضيا ونقض عليّ ولم يف لي؟! أما يجب عليكم نصحي ويلزمكم أمري؟! أما تعلمون أن بيعتي تلزم الشاهد منكم والغائب؟ فما بال معاوية وأصحابه طاعنين في بيعتي؟ ولم لم يفوا بها لي وأنا في قرابتي وسابقتي وصهري أولى بالأمر ممّن تقدّمني؟ أما سمعتم قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الغدير في ولايتي وموالاتي؟ فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ وتحاثّوا على جهاد معاوية «القاسط» الناكث وأصحابه «القاسطين».

فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وتحاثّوا على الجهاد مع إمامكم ، فلو كان لي منكم عصابة بعدد أهل بدر إذا أمرتهم أطاعوني وإذا استنهضتهم نهضوا معي لاستغنيت بهم عن كثير منكم وأسرعت بهم إلى حرب معاوية وأصحابه فإنّه الجهاد المفروض» (١).

ثمّ قام الحسن بن علي على المنبر خطيبا فقال : «الحمد لله لا إله غيره ، وحده لا شريك له» وأثنى عليه بما هو أهله ثمّ قال : إنّ ما عظّم الله عليكم من حقّه ،

__________________

(١) الإرشاد ١ : ٢٦٠ ـ ٢٦٣ وحذفنا آيات من سورتي البقرة والمائدة.


وأسبغ عليكم من نعمه : ما لا يحصى ذكره ولا يؤدّى شكره ، ولا يبلغه قول ولا صفة ... وإنّه منّ علينا بما هو أهله أن نشكر فيه آلاءه ونعماءه وبلاءه ، قولا يصعد إلى الله فيه الرضا ، وتنتشر فيه عارفة الصدق ، يصدّق الله فيه قولنا فنستوجب المزيد من ربّنا ، قولا يزيد ولا يبيد.

ونحن إنما غضبنا لله (ثم) لكم ... وإنه لم يجتمع قوم قطّ على أمر واحد إلّا اشتدّ أمرهم واستحكمت عقدتهم ، فاحتشدوا في قتال عدوّكم : معاوية وجنوده فإنّه قد حضر ، ولا تخاذلوا فإنّ الخذلان يقطّع نياط القلوب ، وإنّ الإقدام على الأسنّة نجدة وعصمة ، فإنّه لم يمتنع قوم قطّ إلّا دفع الله عنهم العلّة ، وكفاهم جوانح الذلّة ، وهداهم إلى معالم الملّة.

ثمّ قام الحسين بن علي على المنبر خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثمّ قال : يا أهل الكوفة! أنتم الأحبّة الكرماء ، والشعار دون الدّثار. جدّوا في إحياء ما دثر بينكم وإسهال ما توعّر عليكم.

ألا إنّ الحرب شرّها ذريع ، وطعمها فضيع ، وهي جرع متحسّاة ، فمن أخذ لها أهبتها واستعدّ لها عدّتها ، ولم يألم كلومها عند حلولها ، فذاك صاحبها ، ومن عاجلها قبل أوان فرصتها واستبصار سعيه فيها ، فذاك قمن أن لا ينفع قومه ويهلك نفسه! نسأل الله بعونه أن يدعمكم بألفته. ثمّ نزل (١).

بعض ردود الفعل :

وقام الإمام عليه‌السلام فنادى : سيروا إلى أعداء السنن والقرآن ، سيروا إلى بقية الأحزاب : قتلة المهاجرين والأنصار!

__________________

(١) وقعة صفين : ١١٢ ـ ١١٥.


فقام أربد بن ربيعة الفزاري فقال : أتريد أن تسيّرنا إلى إخواننا من أهل الشام فنقتلهم لك؟! كما سرت بنا إلى إخواننا من أهل البصرة فقتلناهم؟ كلّا ها الله ، إذا لا نفعل ذلك!

فقام الأشتر وقال للناس : أيها الناس من لهذا؟ فهرب الرجل واشتدّ الناس من همدان خلفه (١) وقال الأشتر لعلي عليه‌السلام :

يا أمير المؤمنين ؛ لا يهدّنك ما رأيت ، ولا يؤيسنّك من نصرنا ما سمعت من مقالة هذا الشقي الخائن. (فإنّ) جميع من ترى من الناس شيعتك ، وليسوا يرغبون بأنفسهم عن نفسك ، ولا يحبّون بقاء بعدك.

فإن شئت فسر بنا إلى عدوك.

والله ما ينجو من الموت من خافه ، ولا يعطى البقاء من أحبّه ، وما يعيش بالآمال إلّا شقي ، وإنّا لعلى بيّنة من ربّنا أن لن تموت نفس إلّا بأجلها.

فكيف لا نقاتل قوما هم كما وصف أمير المؤمنين؟ وقد وثبت عصابة منهم (بالأمس) على طائفة من المسلمين فأسخطوا الله فيهم ، وأظلمت الأرض بأعمالهم ، وباعوا خلاقهم بعرض من الدنيا يسير (٢).

وكأن عديّ بن حاتم لم يعلم بكتب الإمام ورسله إلى الشام فقام وقال :

يا أمير المؤمنين ؛ ما قلت إلّا بعلم ، ولا دعوت إلّا إلى حقّ ، ولا أمرت إلّا برشد.

__________________

(١) حتّى لحقوه في سوق بيع البراذين والدوابّ ، فضربوه بنعال سيوفهم وأيديهم فوقع فوطئوه بأرجلهم فمات. وقعة صفين : ٩٤ ، وأنساب الأشراف ٢ : ٢٩٣.

(٢) وقعة صفين : ٩٥ وكأنّ عليا عليه‌السلام والأشتر يعنيان البصرة ويرون من ورائها معاوية ، وهو الحقّ. وفي الخبر : قيل له عليه‌السلام : قتل الرجل (الفزاري) قال : ومن قتله؟ قالوا : همدان ومعهم غيرهم ، فقال : قتيل عميّة لا يدرى من قتله ، فديته على بيت مال المسلمين. فودّاه لهم.


(ولكن) إن رأيت أن تستأني هؤلاء القوم وتستدعيهم حتّى تأتيهم كتبك ، ويقدم عليهم رسلك فعلت! فإن يقبلوا يصيبوا ويرشدوا ، والعافية أوسع لنا ولهم ، وإن يتمادوا في الشقاق ولا ينزعوا عن الغيّ فسر إليهم وقد قدّمنا إليهم العذر ، ودعوناهم إلى ما في أيدينا من الحقّ ، فو الله لهم من الله أبعد وعلى الله أهون من قوم قاتلناهم أمس بناحية البصرة ، لمّا أجهد لهم الحقّ فتركوه. فناوشناهم القتال حتّى بلغنا منهم ما نحبّ ، وبلغ الله منهم رضاه.

وكان رجل من قومه من طيّئ من المتهجّدين أصحاب البرانس (١) يدعى زيد بن الحصين حاضرا فقام وقال : الحمد لله حتّى يرضى ، ولا إله إلّا الله ربّنا ، ومحمّد رسول الله نبيّنا. أما بعد ؛ فو الله لئن كنّا في شكّ من قتال من خالفنا لا تصلح لنا النيّة في قتالهم حتّى نستأنيهم ، فما الأعمال إلّا في تباب ، ولا السعي إلّا في ضلال! والله يقول : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)(٢) فإنّا ـ والله ـ ما ارتبنا طرفة عين في من يبتغون دمه (عثمان) فكيف بأتباعه : القاسية قلوبهم ، القليل في الإسلام حظّهم ، أعوان الظّلم ومسدّدي أساس الجور والعدوان ، ليسوا من المهاجرين ولا الأنصار ولا التابعين لهم بإحسان.

ورأى ذلك بعض الطائيين تهجينا لكلام سيدهم عديّ فقام رجل منهم وقال لزيد :

يا زيد بن حصين! أكلام سيّدنا عديّ بن حاتم تهجّن؟! فقال زيد :

ما أنتم بأعرف بحقّ عديّ منّي ، ولكنّي لا أدع القول بالحقّ وإن سخط الناس (٣).

__________________

(١) ثوب في رأسه منه قلنسوة طويلة ، كان يلبسها العبّاد ، ولبسها المسلمون.

(٢) آخر آية في سورة الضحى ، وكأنّه يعرّض بعدي أنه ليس مثله في بصيرته.

(٣) وقعة صفين : ٩٨ ـ ١٠٠.


فقال علي عليه‌السلام : الطريق مشترك ، والناس في الحقّ سواء ، ومن اجتهد رأيه في نصيحة العامة فله ما نوى وقد قضى ما عليه (١).

وبدأ امتراء القرّاء :

وأجاب عليا عليه‌السلام إلى السير للجهاد جلّ الناس ، إلّا أصحاب عبد الله بن مسعود من القرّاء ، فإنهم افترقوا فرقتين :

فقد أتاه جمع منهم مع ربيع بن خثيم الثوري ، وهم يومئذ أربع مائة رجل ، فقالوا :

يا أمير المؤمنين ؛ إنّا على معرفتنا بفضلك قد شككنا في هذا القتال ، ولا غنى بنا ولا بك ولا بالمسلمين عن من يقاتل عدوّهم (المشركين) فولّنا بعض الثغور نكون به ونقاتل عن أهله.

فعقد له عليهم أوّل لواء عقده ، ووجّههم إلى ثغر الرّي (٢) وقزوين (٣).

وأتاه جمع آخر منهم مع عبيد السلماني المرادي فقالوا له : إنا نخرج معكم (ولكنّا) نعسكر على حدة ، لننظر في أمركم وأمر أهل الشام! فمن رأيناه بدا منه بغي! أو أراد ما لا يحلّ له كنا عليه!

__________________

(١) وقعة صفين : ٩٥ عن علي عليه‌السلام ، وهنا : ١٠٠ عن عديّ مثله ، ورجّحنا الأول هنا أيضا.

(٢) وقعة صفين : ١١٥.

(٣) الأخبار الطوال للدينوري : ١٦٥. وهو من ثور بن عبد مناة ومنهم سفيان الثوري وحرّف هذا خبره فقال : أغزى علي عليه‌السلام الربيع بن خثيم الثوري الديلم! وعقد له على أربعة آلاف وله بقزوين مسجد معروف كما في فتوح البلدان للبلاذري : ٣١٨ ، وانظر ترجمته في قاموس الرجال ٤ : ٣٣٣ ـ ٣٤١.


فقال لهم الإمام عليه‌السلام : أهلا ومرحبا! هذا هو الفقه في الدين والعلم بالسنّة! من لم يرض بهذا فهو جائر خائن (١)!

وكان من الصحابة في الكوفة حنظلة بن الربيع التميمي الكاتب ، كتب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّة فسمّي الكاتب ، وكان يكاتب معاوية من الكوفة ، فاجتمع هو وعبد الله بن المعتّم العبسي (الغطفاني) مع جمع كثير من غطفان وبني تميم فدخلوا على علي عليه‌السلام ، فوقف التميميّ وقال :

يا أمير المؤمنين ؛ إنا رأينا رأيا فلا تردّه علينا ، ومشينا إليك بنصيحة فاقبلها منّا! فإنّا نظرنا لك ولمن معك! لا تعجل إلى قتال أهل الشام ؛ فإني ـ والله ـ ما أدري ولا تدري إذا التقيتم لمن تكون الغلبة وعلى من تكون الدّبرة! فأقم وكاتب هذا الرجل.

ثمّ قام ابن المعتّم فتكلّم بمثله. فحمد الإمام الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم :

أما بعد ؛ فإن الله وارث العباد والبلاد ، وربّ السماوات السبع والأرضين السبع وإليه ترجعون ، يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممّن يشاء ويعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء! أما الدّبرة فإنها على العاصين ظفروا أو ظفر بهم! وايم الله إني لأسمع كلام قوم ما أراهم يريدون أن يعرفوا معروفا ولا ينكروا منكرا!

وكان مالك بن حبيب التميمي اليربوعي صاحب شرطة الإمام حاضرا فقال له :

يا أمير المؤمنين ؛ لقد بلغني أن حنظلة هذا يكاتب معاوية! فادفعه إلينا نحبسه حتّى تنقضي غزاتك وتنصرف؟!

فأخذا يقولان : هذا جزاء من نظر لكم وأشار عليكم بالرأي فيما بينكم وبين عدوّكم!

__________________

(١) وقعة صفين : ١١٥ ، فهذه هي البوادر الأولى لنشأة الخوارج عليه فيما بعد.


فقال لهما علي عليه‌السلام : الله بيني وبينكم وإليه أكلكم وبه استظهر عليكم ، اذهبوا حيث شئتم!

وقال لحنظلة : يا حنظلة ؛ أعليّ (أنت) أم لي؟ قال : لا لك ولا عليك! قال : فما تريد أن تفعل؟ قال : أشخص إلى الرّها (١) أصمد حتّى ينقضي هذا الأمر!

فقال له خيار قومه : لئن أردت ذلك لنقتلنّك! فاختلف قومه حتّى اخترطوا سيوفهم!

فقال لهم : أجّلوني أنظر في أمري! فأجّلوه ، فلما أمسى خرج بثلاثة وعشرين رجلا من قومه إلى الرّها ، ثمّ لحق به ابن المعتّم مع أحد عشر رجلا من قومه عبس.

وكان عريف بني تميم : بكر بن تميم فأمره علي عليه‌السلام بهدم دار حنظلة فهدمها ومعه شبث بن ربعي اليربوعي (٢).

ومن الأزديّين دخل أبو زبيب بن عوف على علي عليه‌السلام فقال له : يا أمير المؤمنين ؛ أمرتنا بالمسير إلى هذا العدوّ ، وقطعنا ما بيننا وبينهم من الولاية وأظهرنا لهم العداوة ، نريد بذلك ما يعلم الله ، وفي أنفسنا من ذلك ما فيها! أفهذا الذي نحن عليه الحقّ المبين ، والذي عليه عدوّنا الحوب الكبير؟!

فأجابه الإمام عليه‌السلام : أبا زبيب ، أبشر ؛ إنك إن قطعت منهم الولاية وأظهرت لهم العداوة كما زعمت ، ومضيت معنا ناصرا لدعوتنا صحيح النيّة في نصرتنا ؛ فإنّك وليّ الله تسيح في رضوانه وتركض في طاعته ، فأبشر أبا زبيب.

وكان عمّار حاضرا فقال له : أبا زبيب ، اثبت ، ولا تشكّ في الأحزاب أعداء الله ورسوله! فرضي أبو زبيب بشهادتهما (٣).

__________________

(١) الرّها : على حدود الموصل والشام.

(٢) وقعة صفين : ٩٥ ، ٩٦.

(٣) وقعة صفين : ١٠٠ ، ١٠١.


واستقدم مخنف بن سليم الأزدي :

وكتب الإمام عليه‌السلام إلى بعض عمّاله ليلحقوا به في مسيره إلى الشام ، فكتب إلى مخنف بن سليم : سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أما بعد ، فإن جهاد من صدف عن الحقّ رغبة عنه ، وهبّ في نعاس العمى والضلال اختيارا له ، فريضة على العارفين. إنّ الله يرضى عمّن أرضاه ويسخط على من عصاه.

وإنّا قد هممنا بالمسير إلى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغير ما أنزل الله ، استأثروا بالفيء ، وعطّلوا الحدود ، وأماتوا الحقّ وأظهروا في الأرض الفساد ، واتّخذوا الفاسقين وليجة من دون المؤمنين ، فإذا وليّ لله أعظم أحداثهم أبغضوه وأقصوه وحرموه. وإذا ظالم ساعدهم على ظلمهم أحبّوه وأدنوه وبرّوا به! فقد أصرّوا على الظلم وأجمعوا على الخلاف ، وقديما ما صدّوا عن الحقّ وتعاونوا على الإثم وكانوا ظالمين.

فإذا أتاك كتابي هذا فاستخلف على عملك أوثق أصحابك في نفسك ، وأقبل إلينا لعلّك تلقى هذا العدوّ المحلّ فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتجامع الحقّ وتباين الباطل ، فإنّه لا غناء بنا ولا بك عن أجر الجهاد.

وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم. وكتب عبد الله بن أبي رافع (١).

فاستعمل مخنف على أصفهان : الحارث بن الربيع الأزدي ، وعلى همدان : سعيد بن وهب الأزدي ، وقدم إلى الكوفة.

__________________

(١) وقعة صفين : ١٠٤ ، ١٠٥ وتاريخه : سنة سبع وثلاثين! في حين أن هذا كان سنة (٣٦ ه‍).


واستقدم ابن عباس من البصرة :

وكتب الإمام عليه‌السلام إلى ابن عباس على البصرة : أما بعد ؛ فاشخص إلى من قبلك من المسلمين والمؤمنين ، وذكّرهم بلائي عندهم واستبقائي لهم وعفوي عنهم ، ورغّبهم في الجهاد وأعلمهم الذي لهم من الفضل في ذلك.

فقام فيهم ابن عباس وقرأ عليهم كتاب الإمام ثمّ قال لهم :

أيّها الناس ؛ استعدّوا للمسير إلى إمامكم وانفروا في سبيل الله خفافا وثقالا ، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم ، فإنّكم تقاتلون المحلّين القاسطين (١) الذين لا يقرءون القرآن ولا يعرفون حكم الكتاب ولا يدينون دين الحقّ ، مع أمير المؤمنين وابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ، والصادع بالحقّ والقيّم بالهدى ، والحاكم بحكم الكتاب ، الذي لا يرتشي في الحكم ، ولا يداهن الفجّار ، ولا تأخذه في الله لومة لائم!

فقام الأحنف بن قيس التميمي فقال : والله لنجيبنّك ولنخرجنّ معك على العسر واليسر والرضا والكره ، نحتسب في ذلك الخير ، ونأمل من الله العظيم من الأجر.

وقام إليه خالد بن المعمّر السدوسي الصحابي فقال : سمعنا وأطعنا ، فمتى استنفرتنا نفرنا ، ومتى دعوتنا أجبنا. وكان هذا رأس بكر بن وائل.

وقام إليه عمرو بن مرجوم العبدي رئيس عبد القيس فقال : وفّق الله أمير المؤمنين وجمع له أمر المسلمين ، ولعن المحلّين القاسطين الذين لا يقرءون القرآن ، نحن والله عليهم حنقون ولهم في الله مفارقون ، فمتى أردتنا صحبك خيلنا ورجلنا (٢).

__________________

(١) لعلّ هذا كان من علم ابن عباس بإطلاق القاسطين عليهم في حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٢) وقعة صفين : ١١٦ ، ١١٧.


وكان لابن عباس في البصرة كاتبان : أبو الأسود الدؤلي وزياد بن عبيد الثقفي فاستخلف زيادا على الخراج وأبا الأسود على الصلاة (١) وحمل معه رؤساء أخماس البصرة : الأحنف بن قيس على تميم والرّباب وبني ضبّة ، وخالد السّدوسي على بكر بن وائل ، وابن مرجوم العبدي على عبد قيس ، وشريك بن الأعور الحارثي الهمداني على أهل العالية من همدان وغيرهم ، وصبرة بن شيمان الأزدي على أزد البصرة ، وخرج بهم إلى الكوفة (٢).

وخرجوا إلى معسكر النخيلة :

ودخل يزيد بن قيس الأرحبي الهمداني على عليّ عليه‌السلام فقال له : يا أمير المؤمنين ، نحن على جهاز وعدّة ، وأكثر الناس أهل قوة ، فمر مناديك فليناد الناس ليخرجوا إلى معسكرهم بالنخيلة ، فإنّ أخا الحرب ليس بالسئوم ولا النئوم ، ولا من إذا أمكنته الفرص أجّلها واستشار فيها ، ولا من يؤخّر الحرب إلى غد وبعد غد!

فقال زياد بن النضر الحارثي الهمداني : يا أمير المؤمنين ، لقد نصح لك يزيد بن قيس وقال ما يعرف ، فثق به وتوكّل على الله ، وأشخص بنا إلى هذا العدوّ راشدا معافا ، فإن يرد الله بهم خيرا لا يدعوك رغبة عنك إلى من ليس مثلك في السابقة مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والقدم في الإسلام ، والقرابة من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله. وإن لم ينيبوا ويقبلوا ، ويأبوا إلّا حربنا ، نجد حربهم هيّنا علينا ، ونرجوا أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم بالأمس.

ثمّ قام عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّ القوم

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٢٩٣.

(٢) وقعة صفين : ١١٧ وفيه : أنهم لحقوا به بالنخيلة.


لو كانوا يريدون الله أو يعملون له ما خالفونا ، ولكن القوم إنّما يقاتلوننا فرارا من الأسوة (التسوية في العطاء) وحبّا للأثرة (التفضيل فيه) وضنّا (وبخلا) بسلطانهم ، وكرها لفراق دنياهم التي في أيديهم ، وعلى إحن (وحقد) في أنفسهم ، وعداوة يجدونها في صدورهم ، لوقائع قديمة أوقعتها بهم قتلت فيها آباءهم وإخوانهم.

ثمّ التفت إلى الناس وقال لهم : فكيف يبايع معاوية عليا وقد قتل أخاه حنظلة وخاله الوليد وجدّه عتبة في موقف واحد؟! والله ... لن يستقيموا لكم دون أن تكسّر فيهم الرماح ، وتقطّع السيوف على هاماتهم ، وتنتثر بعمد الحديد حواجبهم ، وتكون بين الفريقين امور جمّة (١).

فقال له زياد بن النضر الحارثي الهمداني : إنّ يومنا ويومهم ليوم عصيب! ما يصبر عليه إلّا كل رابط الجأش الشجاع صادق النية! وما أظن أن يبقى ذلك اليوم منهم ومنّا إلّا الأراذل! فصدّقه ابن بديل الخزاعي!

فقال لهما الإمام عليه‌السلام : ليكن هذا الكلام مخزونا في صدوركما لا تظهراه ولا يسمعه منكما سامع! إنّ الله كتب القتل على قوم والموت على آخرين ، وكلّ آتيه منيّته كما كتب الله له ، فطوبى للمجاهدين في سبيل الله المقتولين في طاعته!

فلما سمع هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري المرقال ما قال ، قال : يا أمير المؤمنين ، سر بنا إلى هؤلاء القوم القاسية قلوبهم ، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، وعملوا في عباد الله بغير رضا الله ، فأحلّوا حرامه وحرّموا حلاله ، واستهواهم الشيطان ووعدهم الأباطيل ومنّاهم الأماني ، حتّى أزاغهم عن الهدى وقصد بهم قصد الردّي ، وحبّب إليهم الدنيا ، فهم يقاتلون على دنياهم رغبة فيها ، كرغبتنا في الآخرة لإنجاز موعود ربّنا.

__________________

(١) وقعة صفين : ١٠١ ، ١٠٢.


يا أمير المؤمنين ، وأنت أقرب الناس من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رحما ، وأفضلهم سابقة وقدما ، وهم منك على مثل الذي علمناه ، ولكن كتب عليهم الشقاء ومالت بهم الأهواء وكانوا ظالمين.

فأيدينا مبسوطة لك بالسمع والطاعة ، وقلوبنا منشرحة لك ببذل النصيحة ، وأنفسنا تنصرك على من خالفك وتولّى الأمر دونك.

والله ما احبّ أنّ لي ما في الأرض مما أقلّت ، وما تحت السماء ممّا أظلّت وأني واليت عدوّا لك أو عاديت وليا لك!

فكأن الإمام عليه‌السلام علم منه حبّ الشهادة فقال : اللهم ارزقه الشهادة في سبيلك! والمرافقة لنبيّك صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

ثمّ إنه عليه‌السلام أمر رؤساء أسباع الكوفة ، فجعل :

حجر بن عدي الكندي على كندة ومهرة وقضاعة وحضر موت.

وزياد بن النضر الحارثي الهمداني على مذحج والأشعريّين.

وسعد بن مسعود الثقفي على قيس وعبد القيس.

وسعيد بن قيس الهمداني على همدان وحمير.

وعديّ بن حاتم الطائي على قومه من طيّئ.

ومخنف بن سليم الأزدي على الأزد وبجيلة وخثعم وخزاعة ومعهم الأنصار بالكوفة.

ومعقل بن قيس اليربوعي التميمي على تميم والرباب وأسد وضبّة ومعهم قريش وكنانة (٢).

__________________

(١) وقعة صفين : ١١١ ، ١١٢.

(٢) وقعة صفين : ١١٧.


وكانت رئاسة كندة ومعها ربيعة للأشعث بن قيس الكندي ، فلمّا عزله الإمام عليه‌السلام عن ولاية آذربايجان ورجع إلى الكوفة دعا علي عليه‌السلام حسّان بن مخدوج الذّهلي فجعل رئاسة الأشعث له.

فاجتمع الأشتر وعديّ الطائي وهانئ بن عروة وزحر بن قيس وقالوا لعلي عليه‌السلام : إنّ رئاسة الأشعث لا تصلح إلّا له ، وما حسّان بن مخدوج مثله.

وقال حسّان للأشعث : لك راية كندة ولي راية ربيعة. فلم يقبل الأشعث. فمشى حسّان برايته إلى الأشعث حتّى ركزها في داره. وعرض عليه علي عليه‌السلام أن يعيدها عليه فقال : يا أمير المؤمنين ، إن يكن أوّلها شرفا فإنّه ليس آخرها بعار! وأبى ذلك! فوعده الإمام بخير ، ثمّ ولّاه ميمنته (١).

شهود الولاية من الصحابة :

سنرى في شهداء الصحابة مع الإمام عليه‌السلام أسماء أعلام شهدوا للإمام بحديث الولاية ، فيعلم أنّ ذلك كان قبل خروجهم إلى صفّين.

فيما روى الكشي من طريق العامّة إلى زرّ بن حبيش الأسدي : أنّ ركبانا معمّمين متقلّدين سيوفهم استقبلوا الإمام عليه‌السلام فقالوا له : السلام عليك يا مولانا يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.

وكان حول الإمام عليه‌السلام جمع من الأنام من الصحابة ، وغيرهم ممّن هو حديث عهد بوصف «مولانا» له فأراد إعلامهم بسابقة هذا من النبيّ بشأنه فقال : من هاهنا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! فقام أبو أيّوب الأنصاري خالد بن يزيد ، وذو الشهادتين خزيمة بن ثابت ، وقيس بن سعد ، وعبد الله بن بديل (وأخوه حبيب) بن ورقاء الخزاعيّ (وهاشم بن عتبة الزهريّ المرقال)

__________________

(١) وقعة صفين : ١٣٧ ـ ١٤٠.


فاستشهدهم أنّهم سمعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول يوم غدير خمّ : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» فشهدوا جميعا بذلك.

وكان أنس بن مالك والبراء بن عازب الأنصاريّين حاضرين ولم يشهدا فقال لهما : ما منعكما أن تقوما فتشهدا؟! فقد سمعتما كما سمع القوم! ثمّ دعا عليهما فقال : اللهمّ إن كانا كتماها معاندة فابتلهما! فبرصت قدما أنس بن مالك ، وأمّا البراء بن عازب فقد عمي! فكان يسأل الناس عن منزله فيرشد إليه فيقول : كيف يرشد من أصابته الدعوة؟! وكان أنس يقول : حلفت أن لا أكتم لعليّ بن أبي طالب فضلا ولا منقبة أبدا (١)! ولعلّهما أصابهما ذلك ليس فورا بل تدريجا متراخيا (٢) وذكره ابن مزاحم في من حضر صفّين (٣).

وأمر عليّ عليه‌السلام الحارث الأعور الهمداني أن ينادي في الناس : أن اخرجوا إلى معسكركم بالنخيلة. وأمر صاحب شرطته مالك بن حبيب اليربوعيّ التميميّ أن يحشر الناس إلى المعسكر.

وكان في الكوفة من البدريين من أصحاب بيعة العقبة السبعين أصغرهم : عقبة بن عمرو الأنصاريّ ، فدعاه الإمام عليه‌السلام واستخلفه على الكوفة ، ثمّ خرج وخرج معه الناس (٤) وأجاب الناس إلى المسير ونشطوا وخفّوا (٥).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٤٥ الحديث ٩٥ في البراء بن عازب ، وأسنده في «اسد الغابة» عن الأسدي زرّ بن جيش مصحفا بذرّ بن جيش! ويعرف هذا الحديث باستشهاد الرحبة وهو حديث معروف مستفيض.

(٢) انظر ترجمة البراء بن عازب في قاموس الرجال ٢ : ٢٦١ برقم ١٠٥٩.

(٣) وقعة صفين : ٤٤٧.

(٤) وقعة صفين : ١٢١.

(٥) وقعة صفين : ١١٧.


ولا تكونوا شتّامين لعّانين :

ولحق عمرو بن الحمق الخزاعي بحجر بن عديّ الكندي وخرجا يجاهران بلعن أهل الشام ، وبلغ ذلك الإمام ، فأرسل إليهما : أن كفّا عمّا يبلغني عنكما!

فأتياه فقالا : يا أمير المؤمنين ، ألسنا محقّين؟! فلم منعتنا من شتمهم؟!

فقال عليه‌السلام لهما : كرهت لكم أن تكونوا شتّامين تشتمون وتتبرءون ، ولكن لو وصفتم مساوي أعمالهم فقلتم : من سيرتهم كذا وكذا ومن عملهم كذا وكذا ، كان أصوب في القول وأبلغ في العذر. ولو قلتم ـ مكان لعنكم إياهم وبراءتكم منهم ـ : اللهم احقن دماءنا ودماءهم ، وأصلح ذات بيننا وبينهم ، واهدهم من ضلالتهم ، حتى يعرف الحقّ منهم من جهله ، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به. كان هذا أحبّ إليّ وخيرا لكم (١).

فقالا : يا أمير المؤمنين ، نقبل عظتك ونتأدّب بأدبك.

ثمّ قال عمرو بن الحمق : إني والله يا أمير المؤمنين ما أجبتك ولا بايعتك على قرابة بيني وبينك ، ولا إرادة مال تؤتينيه ، ولا التماس سلطان يرفع ذكري به ، ولكن أجبتك لخمس خصال :

__________________

(١) وقعة صفين : ١٠٣ ، وفي نهج البلاغة خ ٢٠٦ ، ومصادره في المعجم المفهرس : ١٣٩١. واختزل الخبر القاضي النعمان المصري المغربي في شرح الأخبار ٢ : ١٦٥ فقال : سمعه يلعن أهل الشام فقال له : لا تلعنهم والعن معاوية وعمرو بن العاص وشيعتهما ، وهو كان يلعنهم في قنوته ، وكذلك لعن رسول الله رءوس المشركين وأتباعهم يوم احد ومنهم أبو سفيان ومعاوية. هذا ، ولكن سيأتي أنّ هذا إنما كان بعد حكم الحكمين بالباطل ، والتبس الأمر هنا على القاضي النعمان.


أنك ابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وأوّل من آمن به. وزوج سيّدة نساء الأمة فاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله. وأبو الذرية التي بقيت فينا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وأعظم رجل من المهاجرين سهما في الجهاد.

فلو أنّي كلّفت نقل الجبال الرواسي ، ونزح البحور الطّوامي ، حتى يأتي عليّ يومي في أمر اقوّي به وليك وأوهن به عدوّك ما رأيت أنّي قد أدّيت فيه كلّ الذي يحقّ عليّ من حقّك!

فقال أمير المؤمنين : اللهم نوّر قلبه بالتّقى ، واهده إلى صراط مستقيم ، ليت أنّ في جندي مائة مثلك.

فقال حجر : إذا والله يا أمير المؤمنين صحّ جندك وقلّ فيهم من يغشك. ثمّ قال : نحن بنو الحرب وأهلها الذين نلقحها وننتجها قد ضارستنا وضارسناها ، ولنا أعوان ذوو صلاح ، وعشيرة ذات عدد ورأي مجرّب وبأس محمود ، وأزمّتنا منقادة لك بالسمع والطاعة ، فإن شرّقت شرّقنا ، وإن غرّبت غرّبنا ، وما أمرتنا به فعلناه!

فقال علي عليه‌السلام : أكلّ قومك يرى مثل رأيك؟

قال : ما رأيت منهم إلّا حسنا ، وهذه يدي عنهم بالسمع والطاعة وبحسن الإجابة.

فقال له الإمام خيرا (١).

وإلى أمراء الجنود :

إنه عليه‌السلام كتب إلى أمراء جنوده بعد البسملة : «من عبد الله علي أمير المؤمنين ،

__________________

(١) وقعة صفين : ١٠٣ ، ١٠٤.


أما بعد ، فإني أبرأ إليكم ـ وإلى أهل الذمة (١) ـ من معرّة الجيش إلّا من جوعة إلى شبعة ، ومن فقر إلى غنى ، أو من عمى إلى هدى ، فإنّ ذلك عليهم.

فاعزلوا الناس عن الظلم والعدوان ، وخذوا على أيدي سفهائكم ، واحترسوا أن تعملوا أعمالا لا يرضى الله بها عنّا فيردّ علينا وعليكم دعاءنا ، فإن الله تعالى يقول : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) وإن الله إذا مقت قوما من السماء هلكوا في الأرض.

فلا تألوا أنفسكم خيرا ، ولا الجند حسن سيرة ، ولا الرعيّة معونة ، ولا دين الله قوة ، وأبلوا في سبيله ما استوجب عليكم ، فإن الله قد اصطنع عندنا وعندكم ما علينا أن نشكره بجهدنا ، وأن ننصره ما بلغت قوّتنا. ولا حول ولا قوّة إلّا بالله». وكتب أبو ثروان (٢).

وإلى الجنود :

وكتب إلى جنوده بعد البسملة : «من عبد الله عليّ أمير المؤمنين ، أما بعد ، فإنّ الله جعلكم جميعا في الحقّ سواء أسودكم وأحمركم ، وجعلكم من الوالي وجعل الوالي منكم بمنزلة الوالد من الولد والولد من الوالد ، ما سمعتم وأطعتم وقضيتم الذي عليكم.

وإن حقكم عليه إنصافكم ، والتعديل بينكم ، والكفّ عن فيئكم.

__________________

(١) ذلك أن أكثر من يمرّون بهم هم من أهل الذمّة نصارى أو مجوس أو يهود ، وسيأتي خبر عنهم.

(٢) وقعة صفين : ١٢٥ ولم يعرف أبو ثروان. والآية هي الأخيرة في سورة الفرقان.


فإذا فعل ذلك معكم وجبت طاعته عليكم بما يوافق الحق ، ونصرته على سيرته ، والدفع عن سلطان الله ... فكونوا له أعوانا ولدينه أنصارا (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) ، (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)» (١).

مقدمة الجيش :

وفي النخيلة دعا زياد بن النضر وشريح بن هانئ الحارثيّين الهمدانيّين ، وهما كانا على مذحج والأشعريين ، فبعثهم في اثني عشر ألفا منهم مقدمة لجيشه ، كلّ منهما على طائفة منهم ، وأمرهما أن يأخذا في طريق واحد ولا يختلفا. وقال لخصوص زياد :

يا زياد ، اتق الله في كل ممسى ومصبح ، وخف على نفسك الدنيا الغرور ، ولا تأمنها على حال من البلاء ، واعلم أنّك إن لم تردع نفسك عن كثير مما يجب مخافة مكروهه ، سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرّ ، فكن لنفسك مانعا وازعا من البغي والظلم والعدوان ، فإنّي قد ولّيتك هذا الجند ، فلا تستطيلنّ عليهم ، وإن خيركم عند الله أتقاكم ، وتعلّم من عالمهم وعلّم جاهلهم ، واحلم عن سفيههم فإنّك إنما تدرك الخير بالحلم وكفّ الأذى والجهل.

فقال زياد : يا أمير المؤمنين ، أوصيت حافظا لوصيّتك مؤدّبا بأدبك ، يرى الرشد في نفاذ أمرك ، والغيّ في تضييع عهدك!

__________________

(١) وقعة صفين : ١٢٦ ، والآيتان من الأعراف : ٨٥ والقصص : ٧٧. ثم روى نصر بسنده عن الأصبغ بن نباتة أنّه كان في معسكر النخيلة يهود وفيه لهم قبر كبير يدفنون موتاهم حوله فسأل الإمام عنهم فقالوا : هذا قبر هود النبي عصاه قومه فجاء إلى هنا فمات فقال عليه‌السلام بل قبره في اليمن عند الجبل الأحمر على شاطئ البحر وهذا قبر يهوذا بن يعقوب ثم قال عليه‌السلام : «يحشر من ظهر الكوفة (النجف) سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب».


وكأنّ شريحا بن هانئ لم يهنأ له ذلك بل رأى من زياد زيادة في كبره وخيلائه وعجبه بنفسه وزهوه قولا وفعلا ، فأخذ يعتزل بمن معه من أصحابه على حدة ولا يقرب من زياد. فكتب زياد بذلك إلى علي عليه‌السلام :

لعبد الله علي أمير المؤمنين من زياد بن النضر ، سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو ، أما بعد ، فإنك ولّيتني أمر الناس ، وإنّ شريحا لا يرى لي عليه حقا ولا طاعة ، وذلك استخفاف بأمرك وترك لعهدك ، والسلام.

وبعث به مع مولى له يقال له شوذب. وكأنّ شريحا عرف ذلك فكتب إليه عليه‌السلام :

سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو ، أما بعد ، فإنّ زياد بن النضر حين أشركته في أمرك وولّيته جندا من جنودك ، تنكّر واستكبر ومال به العجب والخيلاء والزّهو ، إلى ما لا يرضاه الربّ تبارك وتعالى من القول والفعل ، فإنّ رأى أمير المؤمنين أن يعزله عنّا ويبعث مكانه من يحبّ فليفعل ، فإنّا له كارهون! والسلام.

فكتب علي عليه‌السلام إليهما كتابا واحدا فيه بعد البسملة : «من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى زياد بن النضر وشريح بن هانئ ، سلام عليكما ، فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلّا هو. أما بعد ، فإني قد ولّيت مقدّمتي زياد بن النضر وأمّرته عليها ، وشريح أمير على طائفة منها ، فإن افترقتما فكل واحد منكما أمير الطائفة التي ولّيناه أمرها ، وإن جمعكما بأس (حرب) فعلى الناس زياد بن النضر.

واعلما أن مقدّمة القوم عيونهم ، وعيون المقدّمة طلائعهم ، فإذا أنتما خرجتما من بلادكما فلا تسأما من توجيه الطلائع ، ومن نفض الشعاب والشجر والخمر من كل جانب ، كي لا يغترّكما عدوّ أو يكون لكم كمين ، ولا تسيّرن الكتائب من لدن الصباح إلى المساء إلّا على تعبئة ، فإن دهمكم داهم أو غشيكم مكروه كنتم قد تقدّمتم في التعبئة.


وإذا نزلتم بعدوّ أو نزل بكم فليكن معسكركم قبال الأشراف (المرتفعة) أو سفوح الجبال أو أثناء الأنهار ، كي ما يكون ذلك لكم ردءا وتكون مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين.

واجعلوا رقباءكم في صياصي الجبال وبأعالي الأشراف ومناكب الهضاب ، يرون لكم ، لئلّا يأتيكم عدوّ من مكان مخافة أو أمن.

وإيّاكم والتفرّق فإذا نزلتم فانزلوا جميعا وإذا رحلتم فارحلوا جميعا ، وإذا غشيكم ليل فنزلتم فحفّوا عسكركم بالرماح والأترسة ، ورماتكم يتلون ترستكم ورماحكم ، وما أقمتم فكذلك فافعلوا ، كي لا تصاب لكم غفلة ، ولا تلقى منكم غرّة ، فما قوم حفوا عسكرهم برماحهم وترستهم في ليل أو نهار إلّا كانوا كأنهم في حصون.

واحرسا عسكركما بأنفسكما ، وإياكما أن تذوقا نوما حتى تصبحا ، إلّا غرارا أو مضمضة! ثمّ ليكن ذلك شأنكما ودأبكما حتى تنتهيا إلى عدوّكما.

وليكن كل يوم عندي خبركما ورسول من قبلكما ، فإني ـ ولا شيء إلّا ما شاء الله ـ حثيث السير في آثاركما. وعليكما بالتوئدة وإياكم والعجلة ، إلّا أن تمكنكم فرصة ، وذلك بعد الإعذار والحجّة ، وإيّاكما أن تقاتلا حتّى أقدم عليكما ، إلّا أن تبدءا أو يأتيكما أمري إن شاء الله ، والسلام» (١).

وخبر الإمام في الشام :

ولما انتهى الإمام عليه‌السلام إلى النخيلة ، بلغ خبر معسكره بها إلى معاوية بالشام ، فخطبهم وقال لهم : يا أهل الشام ، قد كنتم تكذّبوني في عليّ! وقد استبان لكم أمره ، والله ما قتل خليفتكم غيره هو ألبّ الناس عليه وأمر بقتله ثمّ آوى قتلته ، وهم اليوم

__________________

(١) وقعة صفين : ١٢١ ـ ١٢٥.


جنده وأنصاره وأعوانه ، وقد خرج بهم قاصدا بلادكم ـ يا أهل الشام ـ لإبادتكم! وأنا وليّ عثمان وأحقّ من طلب بدمه! وقد جعل الله لوليّ المظلوم سلطانا ، فانصروا خليفتكم المظلوم! فقد صنع به القوم ما تعلمون! قتلوه ظلما وبغيا! وقد أمر الله بقتال الفئة الباغية حتّى تفيء إلى أمر الله! ثمّ نزل.

وكان على مصر يومئذ محمد بن أبي بكر وقد اعتزله ناس لا يطيقون مقابلته ، ومنهم حصين بن نمير السكوني ومعاوية بن خديج الكندي وكانا يكاتبان معاوية ويكاتبهم ، وكان يخاف أن يأمر أمير المؤمنين عامله فيغير على معاوية من خلفه ، فكتب معاوية إلى أولئك : إن تحرك محمد أن يثبتوا له ، واستعمل على فلسطين ثلاثة رهط جعلهم بإزاء ثغر مصر لئلّا يغيروا عليه من خلفه ، وأمر عليهم : حباب بن الأسمر ، وسمير بن كعب ، وهيلة بن سحمة. واستعمل على أهل قنّسرين : صيفي بن عليّة ، وعلى أهل حمص : محول بن عمرو ، واستخلف على دمشق : عمار بن السّعر ، وخرج إلى صفّين في ناحية الرقّة (١).

وعند الخروج من النخيلة :

لم يذكر متى خرج الإمام من الكوفة وكم بقي في النخيلة ، ويبدو أنه خرج من الكوفة بعد عيد الفطر ، وأقام في النخيلة حتى يوم الأربعاء الخامس من شهر شوال (٢) ، وقبيل الزوال عزم على الرحيل فخطبهم وقال :

أما بعد ، فإني قد بعثت مقدماتي وأمرتهم بلزوم هذا الملطاط (شاطئ الفرات) حتّى يأتيهم أمري. وقد أردت أن أقطع هذه النطفة (ماء الفرات) إلى شرذمة منكم موطنين بأكناف دجلة (بالمدائن) فأنهضهم معكم إلى أعداء الله إن شاء الله.

__________________

(١) وقعة صفين : ١٢٧ ، ١٢٨.

(٢) وفي مروج الذهب ٢ : ٣٧٤ جعله تاريخ خروجه من الكوفة.


وقد أمّرت على المصر عقبة بن عمرو الأنصاري ، ولم آلكم ولا نفسي ، فإياكم والتخلّف والتربّص ، فإني قد خلّفت مالك بن حبيب اليربوعي وأمرته ألّا يترك متخلّفا إلّا ألحقه بكم عاجلا إن شاء الله.

فقام إليه معقل بن قيس الرياحي التميمي وقال له : يا أمير المؤمنين ، والله لا يتخلّف عنك إلّا ظنين (متهم) ولا يتربّص بك إلّا منافق! فأمر مالك بن حبيب أن يضرب أعناق المتخلّفين!

فقال علي عليه‌السلام : لقد أمرته بأمري وليس مقصّرا فيه إن شاء الله.

ثمّ دعا بدابّته فجيء إليه بها ، فلما وضع رجله في ركابها قال : بسم الله ، ولما جلس على ظهرها قرأ : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ* وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ)(١) ثمّ قرأ دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب والحيرة بعد اليقين ، وسوء المنظر في الأهل والمال والولد. اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل». ثمّ قال : ولا يجمعهما غيرك فإن المستخلف لا يكون مستصحبا والمستصحب لا يكون مستخلفا.

فتقدم إليه مالك بن حبيب وأخذ بعنان دابّته وقال له : يا أمير المؤمنين ، أتخرج بالمسلمين فيصيبوا أجر الجهاد والقتال وتخلّفني في حشر الرجال؟

فقال عليه‌السلام : أنت هاهنا أعظم غناء منك عنهم عمّا لو كنت معهم ، وهم لن يصيبوا من الأجر شيئا إلّا كنت شريكهم فيه! فقال : سمعا وطاعة يا أمير المؤمنين.

ثمّ خرج حتّى قطع النهر (وزالت الشمس) فأمر مناديه فنادى بالصلاة ، فتقدم فصلى الظهر ركعتين ، ثمّ أقبل على الناس وقال لهم : أيها الناس ، ألا من كان مقيما أو مشيّعا فليتمّ الصلاة ، فإنا قوم على سفر ، ومن صحبنا فلا يصم المفروض ، والصلاة المفروضة ركعتان.

__________________

(١) سورة الزخرف : ١٣ ـ ١٤.


ثمّ خرج حتى بلغ دير أبي موسى على فرسخين من الكوفة فصلّى بها العصر.

ثمّ خرج حتى بلغ شاطئ نرسى بن بهرام بين حمّامي أبي بردة وعمر فصلّى بهم المغرب (ثمّ العشاء) ثمّ أقام هناك حتّى صلّى الفجر ثمّ شخص حتّى بلغ قبّين وفيها بيعة للنصارى فنزلها (وصلّى الظهر).

وكان الصحابي مخنف بن سليم الأزدي يساير عليا عليه‌السلام إذ مرّوا بأرض بابل ، فقال عليه‌السلام : إنّ ببابل أرضا قد خسف بهم فحرّك دابّتك لعلنا أن نصلّي العصر خارجا منها. فحرّك دابّته وحرّك الناس في أثره ... وكادت أن تغيب الشمس ، فنزل علي عليه‌السلام ودعا الله أن يردّ الشمس حتّى يصلوا ، فردّت الشمس حتّى صلّوا العصر ثمّ غابت (١).

ومن حديثه في كربلاء :

ولما وصل إلى كربلاء ، توقف فيها ، فقيل له : يا أمير المؤمنين هذه كربلاء. فقال : ذات كرب وبلاء! ثمّ أومأ بيده إلى مكان فقال : هاهنا موضع رحالهم ومناخ ركابهم. وأومأ إلى موضع آخر وقال : وهاهنا مهراق دمائهم! ويقول : هاهنا هاهنا!

فقال له رجل : وما ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال : ثقل لآل محمد ينزل هاهنا ، فويل لهم منكم : وويل لكم منهم! فقال الرجل : ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال : ويل لهم منكم : تقتلونهم! وويل لكم منهم : لأنّ الله يدخلكم بقتلهم إلى النار! أو قال : ترونهم يقتلون فلا تستطيعون نصرهم (٢)!

__________________

(١) وقعة صفين : ١٣١ ـ ١٣٦ ، وللمزيد راجع كتاب كشف الرمس للمحمودي.

(٢) وقعة صفين : ١٤١ ـ ١٤٢.


ثمّ نزل فصلّى صلاة فلما سلّم رفع من تربتها إليه فشمّها ثمّ قال : واها لك أيّتها التربة ، يحشرنّ منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب (١).

واستخرج ماء في الصحراء :

ثمّ سار بهم في البرّ وترك طريق الفرات ، فانقطعوا من الماء وعطشوا ، فشكوا ذلك إليه وعتبوا عليه أنه أخذ بهم في طريق لا ماء فيه من البرّ وترك طريق الفرات. فسار حتّى انتهى إلى دير راهب أو صومعته فهتف به فأشرف إليه فسأله عن الماء فقال : ليس قربنا ماء!

فسار إلى رمل هنالك ونزل فيه وأمرهم بحفره فحفروه حتّى كشفوا

__________________

(١) وقعة صفين : ١٤٠ والخبر عن هرثمة بن سليم ، قال : فلما رجعت من صفّين قلت لامرأتي جرداء بنت سمير ـ وكانت من شيعة علي ـ : ألا أعجّبك من صديقك أبي الحسن؟ ونقلت لها الخبر وقلت : فما علمه بالغيب؟ فقالت : إنّ أمير المؤمنين لا يقول إلّا حقّا! فلما بعث ابن زياد لقتل الحسين كنت في الخيل ، فلما انتهيت إليهم عرفت المنزل والبقعة وذكرت القول الذي قاله علي ، فذهبت إلى الحسين فسلّمت عليه وحدّثته بالحديث ، فقال : فأنت معنا أو علينا؟ فقلت له : يا ابن رسول الله أخاف على أهلي من ابن زياد ، فقال : والذي نفس محمّد بيده لا يرى مقتلنا اليوم رجل ولا يغيثنا إلّا أدخله الله النار! فولّ هربا حتّى لا ترى لنا مقتلا! قال : فهربت حتّى خفي عليّ مقتله! يا له من بؤس وتعاسة! ونقله الصدوق في الأمالي : ١١٧ ، الحديث ٢٨٢ بسنده عن هرثمة بن أبي مسلم و ٤٧٨ ، الحديث ٥ م ٨٧ بسنده عن مجاهد عن ابن عباس ، وفي شرح الأخبار ٣ : ١٤١ ، وكامل الزيارات : ٤٥٣ ، والإرشاد للمفيد ١ : ٣٣٢. وخصائص الأئمة : ٤٧ عن قرب الإسناد : ٣٠ الحديث ٨٢ بسنده عن الصادق عليه‌السلام مختصرا. وانظر سائر مصادره في ترتيب الأمالي ٥ : ١٧٣ ، ٢ ه‍.


عن صخرة بيضاء بمقدار سخلة جاثمة ، فاجتمع عليها ثلاثة رجال فلم يحرّكوها ، فقال عليه‌السلام : تنحّوا عنها فأنا صاحبها! ثمّ أدخل يده اليمنى تحتها فقلعها ورفعها ووضعها ناحية ، وإذا تحتها عين ماء أرقّ من الزلال وأعذب من الفرات ، فشربوا وتزوّدوا ، ثمّ ردّ الصخرة والرمل كما كان.

وعلم الراهب بالخبر فجاء إلى الإمام وقال له : إنّ أبي أخبرني عن أبيه عن آبائه عن جدّه وكان من حواريّ عيسى عليه‌السلام : أنّ تحت هذا الرمل عين ماء لا يستنبطها إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ (ولما عرف الإمام أنّه وصيّ النبيّ الخاتم) أسلم واستأذن أن يصحب الإمام فأذن له فكان معه حتّى قتل بصفّين ليلة الهرير (١).

__________________

(١) الخرائج والجرائح ١ : ٢٢٢ الحديث ٦٧ عن أبي سعد عقيصا مولى بني تميم. وعنه عبد العزيز بن سياه مولى بني أسد ، كما في وقعة صفين : ١٤٤ ، ١٤٥ وفيه : وساروا قليلا ثمّ قال لهم : أفيكم أحد يعلم مكان هذا الماء الذي شربتم منه؟ قالوا : نعم ، يا أمير المؤمنين. قال : فانطلقوا إليه ، فانطلق إليه رجال منهم مشاة وركبانا على الطريق حتى انتهوا إلى المكان الذي كانوا فيه فطلبوه فلم يقدروا عليه. وهنا في هذا الخبر : أنهم سألوا الراهب في ديره بقربه عنه فأنكره ، فقالوا : نحن شربنا منه! قال : أنتم شربتم منه؟ قالوا : نعم ، فقال لهم : هذا ما استخرجه إلّا نبيّ أو وصيّ نبي.

ولرواية عبد العزيز هذا الخبر ذكره ابن حجر في تقريبه وتهذيبه ووصفه بالتشيّع ، ولكنّه صدّقه.

وأشار إلى الخبر السيد الحميري في قصيدته البائية لما قال :

ولقد سرى فيما يسير بليلة

بعد العشاء بكربلاء في موكب

فلعلّ الإمام عليه‌السلام إنما كان هنا في موكب من جيشه وليس العسكر كلّه.


وفي مدائن طيسفون :

ثم مضى علي عليه‌السلام حتّى انتهى إلى ساباط (١) ثمّ مدينة بهرشير وفيها آثار قصور الأكاسرة الساسانيين ، وإذا رجل من أصحابه ينظر إلى آثار كسرى وهو يتمثل شعرا :

جرت الرياح على مكان ديارهم

فكأنّما كانوا على ميعاد

فقال الإمام عليه‌السلام : أفلا قرأت : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ* وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ* كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ* فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ)(٢) ثمّ قال : إنّ هؤلاء كانوا وارثين فأصبحوا موروثين ، إنهم لم يشكروا النعمة فسلبوا دنياهم بالمعصية ، فإياكم وكفر النعم لا تحلّ بكم النقم ، ثمّ قال : انزلوا بهذه النجوة المرتفعة ، وصلّى الظهر (٣).

__________________

(١) معرّب شاه آباد أي معمورة الملك.

(٢) سورة الدخان : ٢٥ ـ ٢٩.

(٣) وقعة صفين : ١٤٢ ، ١٤٣ أو صلّى الجمعة ، فروى الصدوق في الخصال ٢ : ٦٤٤ بسنده عن الأصبغ بن نباتة : أنه عليه‌السلام كان يخطب الجمعة إذ نزل بباب المسجد سبعة من المتخلّفين مع عمرو بن حريث المخزومي ودخلوا ، فلما رآهم قال : أيها الناس ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أسرّ إليّ ألف حديث في كل حديث ألف باب لكل باب ألف مفتاح. وإني سمعت الله جل جلاله يقول : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) وإني أقسم لكم بالله ليبعثن يوم القيامة ثمانية نفر بإمامهم وهو ضبّ! ولو شئت أن اسميهم لفعلت! قال الأصبغ : فرأيت عمرو بن حريث سقط كما تسقط السعفة (يرتجف) وكانوا قد خرجوا إلى الخورنق من الحيرة يتنزّهون ، فبينما هم يتغدون إذ خرج عليهم ضبّ فصادوه ، فأخذه عمرو بن حريث ونصب كفّه وقال : هذا أمير المؤمنين فبايعوه! فبايعه هو والسبعة معه! ثمّ ارتحلوا فالتحقوا بنا في المدائن يوم الجمعة. ورواه الصفار في بصائر الدرجات.


وكأنّ مسح الرأس في الوضوء على عهد الخلفاء السابقين كان قد تحرّف إلى غسل الرأس ، ورأى الجنود الإمام عليه‌السلام إنما يمسح رأسه مسحة واحدة ، فتقدّم إليه أحدهم وسأله عن وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فدعا بقدر من حجر فيه ماء إلى نصفه ثم نادى : من السائل عن وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فتقدم إليه الرجل ، فتوضأ علي عليه‌السلام وإنما مسح برأسه واحدة ثمّ قال تأكيدا : هكذا رأيت رسول الله يتوضّأ (١).

ثمّ أمر الحارث الأعور الهمداني أن ينادي في أهل المدائن : من كان من المقاتلة فليواف أمير المؤمنين لصلاة العصر ، فوافوا فيها ، فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال لهم :

أما بعد ، فإني قد تعجّبت من تخلّفكم عن دعوتكم ، وانقطاعكم عن مصركم في هذه المساكن الظالم أهلها ، والهالك أكثر سكّانها ، لا معروفا تأمرون به ولا منكرا تنهون عنه!

فقالوا : يا أمير المؤمنين ؛ إنّا كنّا ننتظر رأيك وأمرك فمرنا بما أحببت.

فأقام فيهم عديّ بن حاتم الطائي لثلاثة أيام ، وسار هو عليه‌السلام ، فأقام عديّ ومعه ابنه يزيد ثمّ خرج عديّ في ثمانمائة منهم ، وخلّف فيهم ابنه يزيد فلحقه في أربعمائة منهم (٢).

فبعث الإمام عليه‌السلام من المدائن معقل بن قيس الرياحي التميمي في ثلاثة آلاف رجل وقال له : خذ على الحديثة (٣) ثمّ نصيبين ثمّ الرقة فتلقاني بها ، وسكّن الناس

__________________

(١) وقعة صفين : ١٤٦ وفيه : أنه توضّأ ثلاثا ثلاثا. وهذا على خلاف مذهبهم عليهم‌السلام ولذا جعله العلّامة الشوشتري شارة على ردّ تشيع ابن مزاحم ، كما في قاموس الرجال ١٠ : ٣٦٠ برقم ٧٩٦٦.

(٢) وقعة صفين : ١٤٣.

(٣) جاء في الخبر : أن الحديثة كانت إذ ذاك منزل الناس ، وأما الموصل فقد بناها محمد بن مروان الأموي بعد ذلك ، ومع ذلك ذكر في الخبر : خذ على الموصل ، مسامحة.


وأمّنهم. ولا تقاتل إلّا من قاتلك ، وسر البردين (فلعلّه كان صيفا) ورفّه في السير وأقم في الليل ولا تسر فيه فإنّ الله جعله سكنا ، أرح فيه بدنك وجندك وظهرك (مركوبك) فإذا كان السحر أو حين ينبطح الفجر فسر.

فخرج حتّى حلّ في الحديثة فإذا هم بكبشين ينتطحان وجاء رجلان عليهما فأخذاهما وانصرافا. فقال شدّاد بن أبي ربيعة لمعقل : إنكم لا تغلبون ولا تغلبون. قال : من أين علمت ذلك؟ أما أبصرت الكبشين التقيا وانتطحا فلم يزالا منتصفين حتّى أخذا (١).

ومن أخبار الأنبار (٢) :

وكان في مدينة الأنبار دهاقين من الفرس يدعون بنو «خوش نوشك» أي الشراب الطيّب ، فاستقبلوه ببراذينهم (بغالهم) فلما واجهوه نزلوا عنها وأخذوا يشتدّون مشيا إلى جانبيه. فسألهم : ما تريدون بهذا الذي تصنعونه؟ وما هذه الدوابّ معكم؟

قالوا : أما هذا الذي صنعنا فهو خلق منّا نعظّم به الأمراء ، وهذه براذين هدية لك ، وقد صنعنا لك وللمسلمين طعاما ، وهيّأنا لدوابكم علفا كثيرا.

فقال لهم : أمّا هذا الذي زعمتم أنه خلق منكم تعظّمون به الأمراء ، فو الله إنّ هذا لا ينفع الأمراء ، وإنّكم لتشقّون به على أنفسكم وأبدانكم فلا تعودوا له. وأما دوابّكم هذه فإن أحببتم أن نأخذها منكم فنحسبها من خراجكم أخذناها منكم. وأما طعامكم الذي صنعتم لنا فإنّا نكره أن نأكل من أموالكم شيئا إلّا بثمن ثمّ سار عنهم وتركهم (٣).

__________________

(١) وقعة صفين : ١٤٨ ، ١٤٩.

(٢) الأنبار بالفارسية : المخزن ، وكانت مخازن الحبوب للساسانيين.

(٣) وقعة صفين : ١٤٤.


وصولهم إلى الجزيرة :

ثمّ مضى أمير المؤمنين عليه‌السلام حتى وصل إلى الجزيرة ، وكان فيها بنو تغلب وبنو النّمر بن قاسط من ربيعة ، وكان وفد من بني تغلب قد أتى إلى علي عليه‌السلام فصالحوه على أن يقرّهم على دينهم شريطة أن لا ينصّروا أبناءهم. وكان قد بلغه أنهم قد نقضوا هذا الشرط ، فقال عليه‌السلام : قد بلغني أنهم قد تركوا ذلك ، فايم الله لئن ظهرت عليهم لأقتلنّ مقاتلتهم ولأسبينّ ذراريهم! ولكنّه لما دخل بلادهم استقبله منهم جماعة مسلمة كثيرة ، فسر بما رأى وتركهم (١).

وكان زياد بن النضر وشريح بن هانئ الحارثيان الهمدانيان اللذان سرّحهما الإمام عليه‌السلام مقدّمة أمامه قد أخذا على شاطئ الفرات حتّى بلغا عانات (العانة) فبلغهما أن الإمام سلك سبيل الجزيرة وأن معاوية أقبل في جنود الشام ، وكان أهل عانة عثمانية مع معاوية فلما أراد أن يعبر منها حبسوا سفنهم وتحصنوا منهم! وكان الإمام قد نهاهم أن يبدءوا بقتال ، فرجعوا إلى هيت حتّى عبروا منها ، ثمّ لحقوا بالإمام بقرية دون قرقيسيا ، فقال عليه‌السلام : مقدمتي تأتي ورائي؟! فشرح له شريح والنضر ما عرض لهما فقال لهما : قد أصبتم رشدكما (٢).

وبلغوا الرّقة :

ثمّ سار أمير المؤمنين عليه‌السلام حتى وصل إلى الرّقة ، وكان سماك بن مخرمة الأسدي قد فارق الكوفة بمائة رجل من بني أسد ، ثمّ أخذ يكاتب قومه بني أسد حتّى لحق به منهم سبعمائة رجل كانوا عثمانية ففرّوا من الكوفة بآرائهم وأهوائهم إلى جانب معاوية (٣)!

__________________

(١) وقعة صفين : ١٤٦.

(٢) وقعة صفين : ١٥٢ ، ١٥٣.

(٣) وقعة صفين : ١٤٦.


فلما قاربهم جند الإمام ضمّوا سفنهم من الفرات إلى حصنهم وتحصّنوا وغلقوا أبوابه!

فنزل الإمام عليه‌السلام بجانب الفرات بمكان كان يقال له : البليخ. وكانت فيه صومعة لراهب هناك ، فنزل الراهب من صومعته إليه ومعه كتاب قديم قال : إنه توارثه من آبائه عن أصحاب عيسى عليه‌السلام فعرضه على الإمام عليه‌السلام وفيه : «إن الله سطّر فيما سطّر أنه باعث في الاميين رسولا منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ... فإذا توافاه الله اختلفت امته ... فيمرّ رجل من امته بشاطئ هذا الفرات يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقضي بالحقّ ولا يرتشي في الحكم ، الدنيا أهون عليه من الرماد في يوم عصفت به الريح ، والموت أهون عليه من شرب الماء على الظّماء! يخاف الله في السرّ وينصح له في العلانية ولا يخاف فيه لومة لائم! فمن أدرك ذلك النبيّ من أهل هذه البلاد فآمن به كان ثوابه رضواني والجنة! ومن أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره فإن القتل معه شهادة».

فبكى علي عليه‌السلام وقال : الحمد لله الذي لم يجعلني عنده منسيّا ، والحمد لله الذي ذكرني في كتب الأبرار. وصدّق به الراهب وأسلم وآمن وقال له : فأنا مصاحبك حتّى يصيبني ما يصيبك! فكان طعامه مع علي عليه‌السلام (١).

ولما أبى أهل الرّقة أن يجسروا لعلي عليه‌السلام ليعبر إلى الشام ناداهم الأشتر :

__________________

(١) وقعة صفين : ١٤٧ ، ١٤٨ بسنده عن حبّة بن جوين العرني الكوفي ، ولروايته هذا الخبر قال فيه ابن حجر : كان غاليا في التشيع ، كما في تقريب التهذيب. وتمام الخبر : إنه كان مع علي عليه‌السلام حتى قتل في صفّين فطلبه حتّى وجده فصلّى عليه واستغفر له ودفنه وقال : هو منا أهل البيت! ونحوه في شرح الأخبار ٢ : ٣٦٧ ـ ٣٦٩ ، ومناقب الحلبي ٢ : ٢٨٩ عن أمالي الشيباني وأعلام النبوة للماوردي.


يا أهل هذا الحصن! إني أقسم بالله لئن مضى أمير المؤمنين ولم تجسروا له عند مدينتكم حتّى يعبر منها ، لاجردنّ فيكم السيف فلأقتلنّ مقاتلتكم ولاخربنّ أرضكم ولآخذنّ أموالكم!

فلقي بعضهم بعضا وقالوا : إن الأشتر يفي بما يقول! فبعثوا إليه : إنا ناصبون لكم جسرا. ونصبوا الجسر ، ثمّ أمر الإمام الأشتر أن يقف في ثلاثة آلاف فارس حتّى يعبر كلّهم ، ثمّ عبر هو آخر الناس (١).

وقدّم المقدّمة أيضا :

ولما عبر الإمام الفرات دعا مقدمته السابقة شريحا وزيادا فسرّحهما أيضا أمامه نحو معاوية في حالهما السابقة (باثني عشر ألفا). ولما بلغ ذلك معاوية بعث أبا الأعور سفيان بن عمرو السلمي بمقدمته ، فالتقى الجمعان في قرية بعد الرّقة تدعى سور الروم ، فبعث زياد الحارثي إلى علي عليه‌السلام : أنّا قد لقينا أبا الأعور السّلمي بسور الروم في جند من أهل الشام فدعوناه وأصحابه إلى الدخول في طاعتك فأبوا علينا فمرنا بأمرك. حيث لم يأمرهم بقتال. فأرسل الإمام إلى الأشتر قال : «يا مالك ، إن زيادا وشريحا أرسلا إليّ يعلماني أنهما لقيا أبا الأعور السلمي بسور الروم في جند من أهل الشام ، ونبّأني الرسول (الحارث بن جهمان الجعفي) أنه تركهم متواقفين ، فالنجاء النّجاء إلى أصحابك ، فإذا أتيتهم فأنت عليهم ، وإياك أن تبدأ القوم بقتال إلّا أن يبدءوك ، حتّى تلقاهم وتسمع منهم ، ولا يجرمنك شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم مرّة بعد مرّة. واجعل على ميمنتك زيادا وعلى ميسرتك شريحا وقف في وسط أصحابك ، ولا تدن منهم دنو من يريد أن ينشب الحرب ، ولا تتباعد منهم تباعد من يهاب البأس. حتّى أقدم عليك ، فإني حثيث السير إليك إن شاء الله».

__________________

(١) وقعة صفين : ١٥١ ، ١٥٢.


وكتب مع الرسول إليهما : «أما بعد ، فإني قد أمّرت عليكما مالكا فاسمعا له وأطيعا أمره ، فإنّه ممّن لا يخاف رهقه ولا سقاطه (في الكلام) ولا بطؤه عن ما الإسراع إليه أحزم ، ولا الإسراع إلى ما البطء عنه أمثل ، وقد أمرته بمثل الذي أمرتكما : أن لا يبدأ القوم بقتال حتى يلقاهم فيدعوهم ويعذر إليهم إن شاء الله».

فخرج الأشتر (بأربعة آلاف) حتّى قدم على القوم (فكانوا ستة عشر ألفا) وتواقفوا حتّى كان قرب المساء حمل عليهم أبو الأعور السلمي فاضطربوا ساعة ثم انصرف أهل الشام. ثمّ خرج هاشم بن عتبة المرقال الزهري في عدد ذوي عدّة حسنة ، فخرج إليهم السلمي فتحاملوا وقاوموا ثمّ انصرفوا ، وباتوا ليلتهم تلك.

ثمّ بكّر عليهم الأشتر وهو ينادي : ويحكم أروني أبا الأعور ، ولم يتقدم أبو الأعور إليه ، وتقدم فارس منهم هو عبد الله بن المنذر التنوخي ، فقاتله فتى حديث السنّ هو ظبيان بن عمارة التميمي فقتل الفارس التنوخي.

ثمّ إنّ أبا الأعور صعد بأصحابه إلى تلّ من وراء مكانهم أمس ، فأرسل الأشتر إليه سنان بن مالك النخعي ليدعوه إلى مبارزته ، فناداهم : أمّنوني فإني رسول. فأمّنوه حتّى انتهى إلى أبي الأعور وقال له : إن الأشتر يدعوك إلى مبارزته! فسكت طويلا ثمّ أبى. ثمّ تواقفوا حتّى الليل وباتوا متحارسين ، فما أصبحوا إلّا والشاميون قد انصرفوا إلى سهولة من الأرض وسعة المنزل وشريعة الماء ، وصبّحهم الإمام عليه‌السلام في الصباح الباكر (١) ، وكان في مائة ألف أو يزيدون (٢).

__________________

(١) وقعة صفين : ١٥٤ ـ ١٥٦. وفي أنساب الأشراف ٢ : ٢٩٩ : كان نزوله بها لليال بقين من ذي الحجة ، ولا يستقيم هذا ، بل لأكثر من عشرة بقين من ذي القعدة ، حيث تناوشوا القتال بالمبارزات لأربعين يوما قبل المحرم ، كما في اليعقوبي ٢ : ١١٨ والخلفاء لابن قتيبة : ١٠٦.

(٢) وقعة صفين : ١٥٧ ، وفي : ١٥٦ : مائة وخمسين ألفا.


فلما بلغ معاوية مسيره إليه سار إليه وقد جعل على ساقته بسر بن أرطاة العامري.

وطلب الإمام عليه‌السلام موضعا لعسكره وأمرهم أن يضعوا أثقالهم (١).

فلما نزلوا وجدوا الشاميين قد اختاروا منزلا مستويا واسعا ، وقد استولوا على شريعة الفرات فهي في أيديهم ، وقد صفّ أبو الأعور عليها الخيل والرجالة ، وقدّم الرماة ومعهم أصحاب الرماح والدّرق ، وعلى رءوسهم البيض ، ويمنعون غيرهم الماء ، ففزعوا إلى الإمام عليه‌السلام فأخبروه (٢) فتسرّع فوارس منهم إلى أهل الشام فناوشوهم القتال ، فأمر الإمام عليه‌السلام أن يردوهم عن القتال ويأخذوا مصافّهم ، فردّوهم (٣).

احتجاج على معاوية للماء :

ثمّ دعا الإمام عليه‌السلام صعصعة بن صوحان العبدي وقال له : ائت معاوية فقل له : إنّا سرنا مسيرنا هذا ، وأنا أكره قتالكم قبل الإعذار إليكم ، وإنك قد قدمت بخيلك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك وبدأتنا القتال ، ونحن من رأينا الكفّ حتى ندعوك ونحتجّ عليك وهذه اخرى قد فعلتموها حين حلتم بين الناس وبين الماء ، فخلّ بينهم وبينه حتى ننظر فيما بيننا وبينكم وفيما قدمنا له وقدمتم ، وإن كانت أحبّ إليك أن ندع ما جئنا له وندع الناس يقتتلون على الماء حتّى يكون الغالب هو الشارب فعلنا.

__________________

(١) وقعة صفين : ١٥٧.

(٢) وقعة صفين : ١٦٠ ، وفي مروج الذهب ٢ : ٣٧٥ : لم يكن على الفرات في ذلك الموضع أسهل منها للوارد إلى الماء ، وما عداها أخراق عالية ومواضع وعرة.

(٣) وقعة صفين : ١٥٧ و ١٥٨.


فذهب صعصعة إلى معاوية وأبلغه الرسالة.

فالتفت معاوية إلى أصحابه وقال لهم : ما ترون؟

فقال الوليد بن عقبة : امنعهم الماء كما منعوه ابن عفّان ، حصروه أربعين يوما يمنعونه برد الماء ولين الطعام! اقتلهم عطشا! قتلهم الله!

فقال ابن العاص : خلّ بين القوم وبين الماء ، فإنهم لن يعطشوا وأنت ريّان ، ولكن لغير الماء فانظر فيما بينك وبينهم.

وقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح (١) : امنعهم الماء إلى الليل ، فإنهم إن لم يقدروا عليه رجعوا ، وكان رجوعهم هزيمتهم! امنعهم الماء منعهم الله يوم القيامة!

فقال له صعصعة : إنما يمنعه الله يوم القيامة الكفرة الفجرة شربة الخمر ، ضربك وضرب هذا الفاسق. وأشار إلى الوليد.

فتواثبوا إليه يشتمونه ويتهدّدونه. فقال معاوية : كفّوا عن الرجل فإنه رسول.

فقال له صعصعة : فما تردّ عليّ؟ قال : سيأتيكم رأيي!

ثم أرسل إلى أبي الأعور : امنعهم الماء (٢). وخرج وقال لأهل الشام : يا أهل الشام ، هذا والله أول الظّفر ؛ لا سقاني الله ولا سقى أبا سفيان إن شربوا منه أبدا! حتّى يقتلوا عليه بأجمعهم! ففرحوا وتباشروا.

وكان هناك رجل ناسك من همدان وكان له لسان يدعى المعرّى بن الأقبل ، وكانت له صداقة قديمة مع عمرو بن العاص ، ولعله علم برأيه ، فقام إلى معاوية وقال له :

__________________

(١) غابت أخباره بعد مقتل عثمان ، وهذا أول ذكر له هنا عند معاوية ، وهو الأخ الرضاعي لعثمان.

(٢) وقعة صفين : ١٦٠ ـ ١٦٢.


يا معاوية! سبحان الله ألأن سبقتم القوم إلى الفرات فغلبتموهم عليه ، تمنعونهم عنه؟ أما والله لو سبقوكم إليه لسقوكم منه! أليس أعظم ما تنالون من القوم أن تمنعوهم الفرات فينزلوا على فرضة اخرى فيجازوكم بما صنعتم؟ أما تعلمون أن فيهم العبد والأمة (١) والأجير والضعيف ومن لا ذنب له؟ هذا والله أوّل الجور! لقد شجّعت الجبان وبصّرت المرتاب ، وحملت من لا يريد قتالك على كتفيك!

وكان معاوية يعلم بصداقة عمرو له فقال له : اكفني صديقك! فأغلظ له ابن العاص!

وأمسى ذلك اليوم ، فلما كان الليل سار هذا الهمداني فلحق بقومه مع الإمام عليه‌السلام (٢).

الأشعث والأشتر يستردّان الماء :

وكان الأشعث على ميمنة الإمام عليه‌السلام فأتاه ليلا وقال له :

يا أمير المؤمنين ، أيمنعنا القوم ماء الفرات وأنت فينا ومعنا سيوفنا؟ خلّ عنّا وعن القوم ، فو الله لا نرجع حتى نرده أو نرد الموت! ومر الأشتر فليعل بخيله فيقف حيث تأمره (٣) وكان معه أربعة آلاف من اولي البصائر ، فلم يتجاوزوا أمر الأمير عليه‌السلام (٤).

__________________

(١) كذا ، ويأتي أنّ عمار بن ياسر جاءته امرأة طويلة اليدين بقدح من لبن ، فيعلم من ذلك حضور بعض النساء ولا سيما الإماء مع العبيد في صفين ، ولعلّ هذا من أسباب الخلاف في أعدادهم.

(٢) وقعة صفين : ١٦٣ ، ١٦٤.

(٣) وقعة صفين : ١٦٦.

(٤) وقعة صفين : ١٥٧.


وقال للأشعث : ذاك إليكم. وأرسل بذلك إلى الأشتر ، فسمع وأطاع.

ورجع الأشتر فنادى في قومه : من كان يريد الموت أو الماء فميعاده الصبح فإني ناهض إلى الماء. فاجتمع إليه اثنا عشر ألف رجل (١).

فلما أصبحوا وصلّوا سلّوا سيوفهم على عواتقهم ، وشدّ الأشعث عليه سلاحه ، وأخذ رمحه وتقدمهم فجعل يرميه ويقول : بأبي أنتم وأمّي تقدّموا قاب رمحي هذا ، فلم يزل كذلك حتى خالط خيل السّلمي على الماء فحسر عن رأسه ونادى : أنا الأشعث بن قيس خلّوا عن الماء.

فنادى السّلمي : أما والله لا حتى تأخذنا وإياكم السيوف (٢)!

وكان ابن العاص عاصيا على معاوية في أمر الماء ولكنه قهره عليه (٣) فلما يئس الأشعث من السّلمي طلب عمرا فناداه : ويحك يا ابن العاص خلّ بيننا وبين الماء ، فو الله لئن لم تفعل ليأخذنا وإياكم السيوف! فقال عمرو : والله لا نخلّي عنه حتى تأخذنا وإياكم السيوف فيعلم ربّنا أينا اليوم أصبر (٤)!

__________________

(١) وقعة صفين : ١٦٦ وهنا زاد المعتزلي الشافعي في شرح نهج البلاغة ٣ : ٣٢٥ عن ابن مزاحم ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر (الجعفي) قال : خطب علي عليه‌السلام فقال : «أما بعد ، فإن القوم قد بدءوكم بالظلم وفاتحوكم بالبغي واستقبلوكم بالعدوان ، وقد استطعموكم القتال حيث منعوكم الماء ، فأقرّوا على مذلّة وتأخير محلّة ؛ أو روّوا السيوف من الدماء ترووا من الماء! فالموت في حياتكم مقهورين ، والحياة في موتكم قاهرين. ألا وإنّ معاوية قاد لمّة من الغواة وعمّى عليهم الخبر حتى جعلوا نحورهم أغراض المنية». ونقله الرضي في نهج البلاغة خ ٥١ بحذف سطر من صدره ، ولم يذكر له مصدر سوى ابن مزاحم ، وليس في المنشور منه!

(٢) وقعة صفين : ١٦٧.

(٣) وقعة صفين : ١٧٠.

(٤) وقعة صفين : ١٦٧.


فقال له الأشعث : ويحك ـ يا عمرو ـ والله إن كنت لأظن أنّ لك رأيا! فإذا أنت لا عقل لك! أترانا نخلّيك والماء؟! تربت فمك ويداك! أما علمت أنا معشر عرب؟ ثكلتك امك وهبلتك لقد رمت أمرا عظيما!

فأجابه عمرو : أما والله لتعلمنّ اليوم أنا سنفي بالعهد ونقيم على العقد ونلقاك بصبر وجدّ (١).

وكان الأشتر قد تعالى بخيله حيث أمره الإمام عليه‌السلام ، ولكنّه الآن بعث إليه الأشعث يطلب منه أن يقحم خيله ، وبإذن من الإمام أقحم خيله حين سمع جواب عمرو (٢).

فناده الأشتر : والله لقد نزلنا هذه الفرضة ـ يا ابن العاص ـ والناس تريد القتال على البصائر والدين ، وما قتالنا اليوم إلّا حمية!

ثمّ كبّر الأشتر والأشعث وحملا (٣) وازدلفوا إليهم فتراموا بالسهام ثمّ تطاعنوا بالرماح ثمّ تضاربوا بالسيوف ، وطال ذلك بينهم (٤).

ثمّ إنّ عمرا أرسل إلى معاوية : أن خلّ بينهم وبين الماء ، أترى القوم يموتون عطشا وهم ينظرون إلى الماء؟!

فأرسل معاوية إلى يزيد بن أسد القسري ـ وكان مع السّلمي ـ : أن خلّ بين القوم وبين الماء. وكان القسريّ قاسيا في عثمانيته فأبى وقال : كلّا! لنقتلنّهم عطشا كما قتلوا عثمان!

__________________

(١) وقعة صفين : ١٦٩.

(٢) وقعة صفين : ١٦٧.

(٣) وقعة صفين : ١٦٩.

(٤) وقعة صفين : ١٦٢.


وحمل الأشتر على ابن العاص وهو يرتجز له ، ولكنّه لم يدركه. وقتل رجالا من أهل الشام بيده وهو يقول : والله إن كنت كارها قتال أهل الصلاة! ولكن معي من هو أقدم منّي في الإسلام وأعلم بالكتاب والسنّة ، وهو يسخي بنفسي (١).

مبارزات الأشتر :

ثمّ دعا الأشتر الحارث بن همّام النخعي وقال له : يا حارث ، لو لا أنّي أعلم أنك تصبر عند الموت لم أحبك بكرامتي ولوائي ، وأعطاه لواءه. فقال الحارث : يا مالك لأسرنّك اليوم أو لأموتن ، فاتّبعني فاستدناه الأشتر ودنا منه فقبّل رأسه وقال : لا يتبع رأسك اليوم إلّا خير! ثمّ التفت إلى أصحابه يحرّضهم يقول :

فدتكم نفسي! شدّوا شدة المحرج الراجي الفرج ، فإذا نالتكم الرماح فالتووا فيها ، وإذا عضتكم السيوف فليعضّ الرجل نواجذه ، فإنّه أشدّ لشئون الرأس! ثمّ استقبلوا القوم بهاماتكم. وكان هو على فرس أدهم حالك السواد محذوف الذيل.

وبرز إليه رجل يقال له صالح بن فيروز العكي وكان مشهورا بشدّة البأس وارتجز له ، فبرز إليه الأشتر وارتجز له ثمّ شدّ عليه برمحه ففلق ظهره فقتله ورجع إلى مكانه.

فخرج إليه مالك بن أدهم السلماني من فرسان الشام وارتجز له وشدّ عليه

__________________

(١) وقعة صفين : ١٧٠ و ١٧١ ، والجملة الأخيرة نقلها عن الأشعث الكندي ، راويا إياه عن عمرو بن شمر ، عن إسماعيل السدّي ، عن بكر بن تغلب ، عن من سمع ... بعد أن نقله قبله عن من سمع الأشتر ، بطريقه وألفاظه ، ثمّ الجملة تناسب الأشتر أكثر من الأشعث.


فالتوى الأشتر عنه على فرسه فأخطأه السنان ، ثمّ استوى على فرسه وشدّ عليه برمحه وارتجز له حتّى قتله.

ثمّ خرج له فارس آخر يقال له : رياح بن عتيك وارتجز له ، فخرج إليه الأشتر وارتجز له وشدّ عليه فقتله.

ثمّ خرج إليه فارس آخر يقال له : إبراهيم بن الوضّاح وارتجز له ، فخرج إليه الأشتر وارتجز له حتّى قتله.

ثمّ خرج إليه فارس آخر يقال له : زامل بن عتيك الجذامي من أصحاب ألوية الشام ، فشدّ عليه وارتجز له وطعن الأشتر فصرعه عن فرسه ، وشدّ عليه الأشتر راجلا فقطع قوائم فرسه وارتجز له ثمّ ضربه وهو راجل.

ثمّ خرج إليه فارس يقال له الأجلح من أعلام العرب وفرسانها وهو على فرس لاحق ، فاستقبله الأشتر وارتجز له ثمّ شدّ عليه مرتجزا حتى ضربه.

ثم حمل محمد بن روضة على أهل العراق يضربهم ضربا منكرا وهو يرتجز ، فشدّ عليه الأشتر يرتجز له ثمّ ضربه فقتله.

ثم حمل الأشتر يضرب بسيفه جمهور الناس حتى كشف أهل الشام عن الماء (١) وصار الماء في أيديهم فقالوا : والله لا نسقيهم! وسمعهم الإمام عليه‌السلام فأرسل إليهم : خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا إلى معسكركم وخلّوا بينهم وبين الماء ، فإنّ الله قد نصركم ببغيهم وظلمهم ، وهذا يوم نصرتم فيه بالحميّة (٢) فما أمسوا حتى كان سقاتهم وسقاة العراق يزدحمون على الماء فما يؤذى إنسان إنسانا (٣)!

__________________

(١) وقعة صفين : ١٧٠ ـ ١٧٩.

(٢) وقعة صفين : ١٦٢.

(٣) وقعة صفين : ١٨٤.


وهل عسكر الإمام هناك؟ :

مرّ الخبر آنفا : أن الإمام عليه‌السلام قال لهم : خذوا حاجتكم من الماء وارجعوا إلى معسكركم. رواه ابن مزاحم ، ثمّ زاحم هذا بعده بقوله : ثمّ إن عليا عسكر هناك (١) وكرّره بقوله : عسكر علي على الماء ، وعسكر معاوية فوق ذلك (٢).

ثمّ قال : واحتال معاوية فكتب في سهم : من عبد الله الناصح : اخبركم أنّ معاوية يريد أن يفجّر عليكم الفرات فيغرقكم! فخذوا حذركم! ورماه في عسكر علي عليه‌السلام ، فقرأه أحدهم ثمّ أقرأه صاحبه وأقرأه الناس من أقبل وأدبر ، ولم يزل يقرأ ويرتفع حتّى رفع إلى أمير المؤمنين.

فقال لهم علي عليه‌السلام : ويحكم ، إنّ الذي يعالج معاوية لا يستقيم له ولا يقوى عليه ، وإنما يريد أن يزيلكم عن مكانكم! فالهوا عن ذلك ودعوه.

وبعث معاوية مائتي رجل من الفعلة إلى انحراف في النهر بحيال عسكر الإمام بأيديهم زبلان ومساحي ومرور يرون أنهم يحفرون ، فقال العراقيون : هم والله يحفرون الساعة!

فقال علي عليه‌السلام : يا أهل العراق ، لا تكونوا ضعافا! ويحكم لا تغلبوني على رأيي!

قالوا : والله لنرتحلنّ! فإن شئت فارتحل وإن شئت فأقم!

ثمّ ارتحلوا وصعدوا بعسكرهم بعيدا! فتمثّل بقول شاعر باهلي :

ولو أنى اطعت عصبت قومي

إلى ركن اليمامة أو شمام (٣)

ولكنّي إذا أبرمت أمرا

منيت بخلف آراء الطّغام

__________________

(١) وقعة صفين : ١٦٧.

(٢) وقعة صفين : ١٨٨.

(٣) شمام : جبل كانت باهلة في سفوحها وعندها.


واضطرّ فارتحل في اخرياتهم! فارتحل معاوية حتّى نزل على معسكر علي عليه‌السلام!

وكان رأي الأشعث ـ والأشتر ـ مع الناس! فدعاهما الإمام وقال للأشتر :

ألم تغلبني على رأيي أنت والأشعث؟! فدونكما!

فقال الأشعث : يا أمير المؤمنين : ساداوي ما أفسدت اليوم من ذلك! ثمّ جمع كندة وقال لهم : يا معشر كندة ، إنما اقارع بكم اليوم أهل الشام فلا تفضحوني ولا تخزوني! فخرجوا يمشون معه رجّالة قد كسروا جفون سيوفهم! وبيد الأشعث رمح يلقيه على الأرض ويقول : امشوا قيد رمحي هذا! فلم يزل يقيس لهم الأرض برمحه ذلك وهم يمشون معه رجّالة حتّى لقوا معاوية واقفا على الماء وسط بني سليم! فاقتتلوا على الماء ساعة قتالا شديدا. وأقبل الأشتر في خيل من أهل العراق وحمل على معاوية ، فردّوا وجوههم قدر ثلاثة فراسخ! (١٦ كم!) ثمّ نزل ووضع أهل الشام أثقالهم.

ورجع الأشعث إلى الإمام عليه‌السلام وقال له : يا أمير المؤمنين ، قد غلب الله لك على الماء وأرضيتك يا أمير المؤمنين!

وقال علي عليه‌السلام لأصحابه : أيها الناس ، إن الخطب أعظم من منع الماء! ثمّ بعث إلى معاوية : إنا لا نكافيك بصنعك! هلمّ إلى الماء فنحن وأنتم فيه سواء! فأخذ كل منهما بما يليه (١).

__________________

(١) ثمّ الخير غير مسند لم يذكر له طريق ، ثمّ فيه أن ذلك كان في شهر رجب دون تعيين السنة ، ولا يستقيم ذلك لا من سنة (٣٦ ه‍) ولا (٣٧ ه‍) فإن الإمام عليه‌السلام لتوّه كان قد خرج من البصرة إلى الكوفة ، وفي (٣٧ ه‍) كان بعد انقضاء حرب صفين وعود الإمام عليه‌السلام إلى الكوفة كذلك.


ومقتضى خاتمة هذا الخبر : أن معاوية كان قد استولى على الماء فمنعهم منه فاستردّه منه هؤلاء ، ولكنّهم هؤلاء لا يكافئونه فيمنعوه من الماء كما منعهم منه من قبل ، بل هم يدعونه إليه على سواء. هذا ولم يفترض في هذا الخبر سبق مقدمة معاوية بقيادة السلمي إلى الماء ، وإنما بدأ فجأة بقوله : «وعسكر عليّ على الماء» فاحتال معاوية بما أزاحهم عنه فارتحل حتّى نزل في منزلهم ، ثمّ لم يذكر أنه منعهم عن الماء إلّا أنه ذكر أن أهل العراق رجعوا فقاتلوا أهل الشام عليه حتّى ردّهم عنه إلى ثلاثة فراسخ (١٦ كم!) ألا ترى معي أن الخبر الأول أولى من هذا الثاني الملتوي هذه الالتواءات؟!

واستبطأ أصحابه إذن القتال :

ولما ملك أمير المؤمنين الماء بصفّين ، ومنّ به على الشاميين ، مكث أياما بلا قتال ولا مقال متبادل ، فاستبطأ العراقيون القتال فجاء جمع منهم إليه وقالوا له :

يا أمير المؤمنين ؛ خلّفنا ذرارينا ونساءنا بالكوفة! وجئنا إلى أطراف الشام لنتّخذها وطنا! ائذن لنا في القتال فقد قال الناس في ذلك! فقال : وما قالوا؟

فقال قائل منهم : إنّ من الناس من يظنّ أنك في شكّ من قتال أهل الشام! ويظنّون أنك تكره الحرب كراهية الموت (١)! فقال عليه‌السلام :

أما قولكم : أكلّ ذلك كراهية الموت! فو الله ما أبالي دخلت إلى الموت أو خرج الموت إليّ! وأما قولكم : شكّا في (قتال) أهل الشام! فو الله ما دفعت الحرب يوما إلّا وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي وتعشو إلى ضوئي ، فذلك أحبّ إليّ من أن أقتلها على ضلالها ، وإن كانت هي تبوء بآثامها (٢).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ٤ : ١٣.

(٢) نهج البلاغة خ ٥٥.


أو قال عليه‌السلام : أما شكي في القوم ، فلو شككت فيهم لشككت في أهل البصرة! والله لقد ضربت هذا الأمر ظهرا وبطنا فما وجدت يسعني إلّا القتال أو أن أعصي الله ورسوله! ولكنّي أستأني بالقوم عسى أن يهتدوا أو تهتدي منهم طائفة ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لي يوم خيبر : «لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس».

ومتى كنت كارها للحرب قط؟! إن من العجب حبّي لها غلاما يافعا ، وكراهيتي لها شيخا بعد نفاد العمر وقرب الوقت (١)!

الوفد الثلاثي إلى معاوية :

ثمّ إنّ عليا عليه‌السلام دعا أبا عمرة بشير بن عمرو الأنصاري ومعه سعيد بن قيس الهمداني وشبث بن ربعي التميمي فقال لهم : ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الله عزوجل وإلى الطاعة والجماعة.

فقال شبث بن ربعي : ألا نطمعه في سلطان تولّيه إياه ومنزلة تكون له بها أثرة عندك إن هو بايعك؟

فقال علي عليه‌السلام : ائتوه الآن فالقوه واحتجّوا عليه وانظروا ما رأيه (٢)؟

فذهبوا إليه حتى دخلوا عليه فبدأ أبو عمرة فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ٤ : ١٣ و ١٤.

(٢) هنا في الخبر «وهذا في شهر ربيع الآخر» بدون ذكر السنة ، ولا يستقيم ، لا في سنة (٣٦ ه‍) إذ مرّ أن خروج الإمام كان في شهر شوال ، ولا في (٣٧ ه‍) لأنه كان بعد انقضاء صفين ، بل لعلّه كان في شهر ذي القعدة ولذلك قعدوا عن القتال إلى المقال.


يا معاوية ، إنّ الدنيا عنك زائلة ، وإنك راجع إلى الآخرة ، وإن الله مجازيك بعملك ، ومحاسبك بما قدّمت يداك. وإني انشدك بالله أن تفرّق جماعة هذه الأمّة ، وأن تسفك دماءها بينها.

فقطع معاوية عليه كلامه وقال له : هلّا أوصيت بهذا صاحبك؟

فقال أبو عمرة : سبحان الله! إنّ صاحبي أحقّ البريّة في هذا الأمر في الفضل والدين ، والسابقة والإسلام ، والقرابة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وإني أدعوك إلى تقوى ربّك ، وإجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحقّ ، فإنّه أسلم لك في دينك ، وخير لك في عاقبة أمرك!

فقال معاوية : ويطلّ دم عثمان؟! لا والرحمن لا أفعل ذلك أبدا!

فبادر شبث بن ربعي فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :

يا معاوية ، قد فهمت ما رددت على ابن محصن ، إنّه لا يخفى علينا ما تطلب! إنك لا تجد شيئا تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم إلّا أن قلت لهم : قتل إمامكم مظلوما فهلمّوا نطلب بدمه! فاستجاب لك سفهاء طغام رذال! وقد علمنا أنّك قد أبطأت عنه بالنصر وأحببت له القتل ، لهذه المنزلة التي تطلب! وربّ مبتغ أمرا وطالبه يحول الله دونه ، وربّما اوتي المتمنّي امنيّته وربّما لم يؤتها ، وو الله ما لك في أي واحدة منها خير! والله لو أخطأت ما ترجو إنك لشرّ العرب حالا ، ولئن أصبت ما تتمنّاه لا تصيبه حتّى تستحقّ صلي النار! فاتّق الله يا معاوية ودع ما أنت عليه ولا تنازع الأمر أهله! وسكت.

فلم يمهل معاوية أن يتكلّم سعيد الهمداني دون أن حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال مجيبا :


أما بعد ، فإن أوّل ما عرفت به سفهك وخفّة حلمك قطعك على هذا الحسيب الشريف سيد قومه منطقه ، ثمّ عتبت بعد فيما لا علم لك به ، ولقد كذبت ولويت أيها الأعرابيّ الجلف الجافي في كل ما وصفت وذكرت! ثمّ قال لهم : انصرفوا من عندي فليس بيني وبينكم إلّا السيف!

فخرج القوم وأتوا عليا عليه‌السلام فأخبروه بالذي كان من قوله (١).

موقف القرّاء :

وكان من القرّاء في الشام عامر بن عبد القيس كان في بعض السواحل هناك ، فلما عسكر علي عليه‌السلام التقى بالقرّاء فيه : عبد الله بن عتبة ، وعبيدة بن عمرو السّلماني المرادي ، وعلقمة بن قيس النخعي الهمداني فتوافقوا أن يمشوا بين علي عليه‌السلام ومعاوية (بإذن الإمام).

فانصرفوا من عسكر علي عليه‌السلام حتّى دخلوا على معاوية فقالوا له : يا معاوية ، ما الذي تطلب؟ قال : أطلب بدم عثمان! قالوا : فممّن تطلبه؟ قال : من علي! قالوا : وهو قتله؟! قال : نعم هو قتله وآوى قاتليه!

فانصرفوا من عنده حتّى دخلوا على علي عليه‌السلام فقالوا له : إن معاوية يزعم أنّك قتلت عثمان! قال : اللهم لكذب فيما قال ، لم أقتله. فرجعوا إلى معاوية فأخبروه ، فقال لهم : إن لم يكن قتله بيده فقد أمر ومالأ! فرجعوا إلى علي عليه‌السلام فقالوا : إنّ معاوية يزعم أنك إن لم تكن قتلت بيدك فقد أمرت ومالأت على قتل عثمان! فقال : اللهم كذب فيما قال. فرجعوا إلى معاوية فقالوا له : إنّ عليا يزعم أنه لم يفعل. فقال معاوية : إن كان صادقا فليمكنّا من قتلة عثمان فإنهم في عسكره وجنده ،

__________________

(١) هنا مرة ثانية تكرر : «وذلك في شهر ربيع الآخر» والكلام فيه هو ما مرّ في صدره.


وأصحابه وعضده! فرجعوا إلى علي عليه‌السلام فقالوا : إن معاوية يقول لك : إن كنت صادقا فادفع إلينا قتلة عثمان أو أمكنّا منهم. فقال علي عليه‌السلام : إنّ القوم تأوّلوا عليه القرآن ، ووقعت الفرقة ، وقتلوه في سلطانه ، وليس على ضربهم (مثلهم) قود (قصاص) فرجعوا إلى معاوية فأخبروه فخصمت حجّته ، فقال : إن كان كما يزعم فما باله ابتزّ الأمر دوننا على غير مشورة منّا ولا ممّن هاهنا معنا؟! فرجعوا إلى علي عليه‌السلام فأخبروه فقال : إنما الناس تبع للمهاجرين والأنصار ، وهم شهود المسلمين على ولايتهم وأمر دينهم ، وهم رضوا بي وبايعوني (١) ، ولست أستحلّ أن أدع مثل معاوية يتركهم ويشق عصاهم! فرجعوا إلى معاوية فأخبروه فقال : فما بال من هاهنا من المهاجرين والأنصار لم يدخلوا في هذا الأمر فيؤامروه فيؤمّروه؟! فانصرفوا إلى علي عليه‌السلام فأخبروه فقال : ويحكم (بل) هذا دون الصحابة للبدريّين (منهم) وليس في الأرض بدريّ إلّا قد بايعني وهو معي أو قد أقام ورضى. فلا يغرنكم معاوية من أنفسكم ودينكم (٢)!

أبو أمامة وأبو الدّرداء :

ومن الصحابة الأنصار الذين كانوا هناك مع معاوية ممّن أشار هو إليهم : أبو إمامة الباهلي وأبو الدرداء ، ولعلّه بلغهم احتجاج معاوية بهم فتوافقا ودخلا عليه وقالا له :

__________________

(١) وسيأتي يقيّده بالبدريين منهم ، والواقع أنه إنما يلزمه بما التزم من صحة الإمامة بالاختيار والبيعة ، بناء على قاعدة الإلزام ؛ لأن معاوية يأبى صحة الإمامة بالوصاية.

(٢) وقعة صفين : ١٨٨ ـ ١٩٠ وهنا مرة اخرى «فتراسلوا ثلاثة أشهر : ربيع الآخر والجماديين» ويتكرّر الكلام فيه مثل ما مرّ.


يا معاوية ، علام تقاتل هذا الرجل؟ فو الله لهو أقدم منك سلما (إسلاما) وأحقّ بهذا الأمر منك ، وأقرب من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فعلام تقاتله؟!

فقال لهم : اقاتله على دم عثمان وأنه آوى قتلته ، فقولوا له : فليقدنا من قتلته فأنا أول من يبايعه من أهل الشام!

فانطلقوا إلى علي عليه‌السلام فأخبروه بقول معاوية.

فهنا يتكرّر في الخبر ما مرّ من رؤية أبي مسلم الخولاني الهمداني في المسجد الجامع بالكوفة أكثر من عشرين ألفا كلّهم يقولون : كلّنا قتلته ، فإن شاءوا فليروموا ذلك منّا!

فرجع أبو أمامة وأبو الدّرداء ، واعتزلا القتال فلم يشهداه (١).

__________________

(١) وقعة صفين : ١٩٠ ، وهنا مرة اخرى «حتى إذا كان شهر رجب» ويعود الكلام فيه كما في سوابقه. وذكر الخبر ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : ١٠٨ باسم أبي الدرداء وأبي هريرة بدل أبي إمامة وأنّهما كانا في حمص ومعاوية بصفّين فأتياه ثمّ أتيا عليا عليه‌السلام ، بتفصيل طويل وفيه : إن معاوية يسألك أن تدفع إليه قتلة عثمان. فقال علي عليه‌السلام : أتعرفانهم؟ قالا : نعم! قال : فخذاهم. فأرادا الأشتر وعمارا وابن أبي بكر (وهو كان في مصر يومئذ) فخرج لهما أكثر من عشرة آلاف رجل (أقرب للقبول) فقالوا : نحن قتلنا عثمان. فانصرفا إلى منزلهما بحمص.

وكان عبد الرحمن بن عثمان في حمص واطّلع على طلعتهما ورجعتهما فراجعهما وسألهما عن مسيرهما فقصّا عليه القصة فقال لهما : أتأتيان عليا وتطلبان إليه قتلة عثمان؟! وقد علمتما أن المهاجرين والأنصار لو كانوا يحرّمون دم عثمان لنصروه ولما بايعوا عليا على قتله له! وأعجب من ذلك : رغبتكما عمّا صنعوا وقولكما لعليّ : أن يخلعها عن عنقه ويردّها شورى ، وانتما تعلمان أن من بايعه خير ممن لم يبايعه ومن رضى به خير ممّن كرهه! ثمّ أنتما صرتما رسولي رجل من الطلقاء لا تحل له الخلافة؟!

ففشا قولهما وقوله لهما حتى بلغ معاوية ، فهمّ بقتله لو لا خوفه من عشيرته!


وكتاب آخر :

واجتمع طائفة من أصحاب علي عليه‌السلام فقالوا له : اكتب إلى معاوية وإلى من قبله من قومك (من قريش) بكتاب تدعوهم فيه إليك ، وتأمرهم بترك ما هم فيه من الخطأ ، فإن الحجّة بذلك تزداد عليهم عظما! فكتب إليه وإليهم بعد البسملة :

«من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية وإلى من قبله من قريش. سلام عليكم ، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلّا هو ، أما بعد ، فإنّ لله عبادا آمنوا بالتنزيل وعرفوا التأويل ، وفقهوا في الدين ، وبيّن الله فضلهم في القرآن الحكيم. وأنتم في ذلك الزمان أعداء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تكذّبون بالكتاب ، مجمعون على حرب المسلمين ، من ثقفتم منهم حبستموه أو عذّبتموه أو قتلتموه! حتّى أراد الله إعزاز دينه وإظهار رسوله ، ودخلت العرب في هذا الدين إما رغبة وإما رهبة ، على حين فاز أهل السبق بسبقهم ، وفاز المهاجرون الأولون بفضلهم. فلا ينبغي لمن ليست له مثل سوابقهم في الدين ولا فضائلهم في الإسلام أن ينازعهم الأمر الذي هم أصله وأولى به ، فيحوب بظلم ، ولا ينبغي لمن كان له عقل أن يجهل قدره ولا أن يعدو طوره ، ولا أن يشقي نفسه بالتماس ما ليس له.

ثمّ إنّ أولى الناس بأمر هذه الامة ـ قديما وحديثا ـ أقربها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأعلمها بالكتاب ، وأفقهها في الدين ، وأوّلها إسلاما ، وأفضلها جهادا ، وأشدّها بما تحمّله الرعيّة من امورها اضطلاعا. فاتّقوا الله الذي إليه ترجعون (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١).

__________________

ـ وبتفصيل أطول بكثير نقل مثله سليم بن قيس في كتابه ٢ : ٧٤٨ ـ ٧٧٦ ـ ٢٨ صفحة! من دون الذيل بشأن ابن عثمان.

(١) سورة البقرة : ٤٢.


واعلموا أنّ خيار عباد الله الذين يعملون بما يعلمون ، وأنّ شرارهم الجهّال الذين ينازعون بالجهل أهل العلم ، فإنّ للعالم بعلمه فضلا ، وإن الجاهل لن يزداد بمنازعة العالم إلّا جهلا.

ألا وإني أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحقن دماء هذه الأمة ، فإن قبلتم أصبتم رشدكم واهتديتم لحظّكم ، وإن أبيتم إلّا الفرقة وشق عصا هذه الامة فلن تزدادوا من الله إلّا بعدا ، ولن يزداد الربّ عليكم إلّا سخطا. والسلام».

وأجاب معاوية بالتمثّل ببيت من الشعر ، فقد كتب إليه : «أما بعد ، فإنه :

ليس بيني وبين قيس عتاب

غير طعن الكلى وضرب الرقاب

فلما وقف عليه علي عليه‌السلام تلا قوله سبحانه : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)» (١).

وأمر عليه‌السلام بإقامة الحج :

ولموعد موسم الحجّ لهذه السنة (٣٦ ه‍) كتب إلى عامله على مكة قثم بن العباس :

«أما بعد ، فأقم الحجّ للناس ، وذكّرهم بأيام الله ، واجلس لهم العصرين : (الضحى والعصر) فأفت المستفتي وعلّم الجاهل وذاكر العالم.

ولا يكن لك إلى الناس سفير إلّا لسانك ولا حاجب إلّا وجهك ، ولا تحجبنّ ذا حاجة عن لقائك بها ، فإنّها إن ذيدت عن أبوابك في أوّل وردها لم تحمد فيما بعد على قضائها!

__________________

(١) وقعة صفين : ١٤٩ ـ ١٥١ والآية ٥٦ من سورة القصص.


وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة ، مصيبا به مواضع الفاقة والخلّات ، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسّمه فيمن قبلنا.

ومر أهل مكة : أن لا يأخذوا من ساكن (في دورهم) أجرا! فإن الله سبحانه يقول : (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ)(١) فالعاكف : المقيم به ، والبادي : الذي يحجّ إليه من غير أهله. وفّقنا الله وإياكم لمحابّه ، والسلام» (٢).

وفي ذي الحجة بدأت المبارزات :

مرّ أن الإمام عليه‌السلام خرج إلى الشام لخمس مضين من شهر شوال سنة (٣٦ ه‍) ، فيبدو أنهم بعد وصولهم إلى صفين ومقاتلتهم على الماء مكثوا يتراسلون حتّى مضى شهر ذي القعدة ، فلما كان ذو الحجّة بدأ الإمام يأمر بعض الشرفاء بالخروج للقتال فيخرج ومعه جماعة ، فيخرج إليه من أصحاب معاوية بعضهم فيتقاتلون ثمّ ينصرفون ، وربما اقتتلوا في اليوم الواحد مرّتين في أوله وآخره. فاقتتلوا ذا الحجة كلّه ، فلما أقبل شهر المحرم لسنة (٣٧ ه‍) تداعى الناس إلى أن يكفّ بعضهم عن بعض إلى أن ينقضي المحرم ، لعلّ الله أن يجري صلحا واجتماعا. فكفّ الناس بعضهم عن بعض (٣).

المحرّم (٣٧ ه‍) والوفد الرّباعي :

وأرسل علي عليه‌السلام إلى زياد بن خصفة التيمي ، وشبث بن ربعي التميمي ،

__________________

(١) سورة الحج : ٢٥.

(٢) نهج البلاغة ك ٦٧.

(٣) وقعة صفين : ١٩٥ ، ١٩٦.


وعديّ بن حاتم الطائي ، ويزيد بن قيس الأرحبي الهمداني فأرسلهم إلى معاوية ، فذهبوا حتّى دخلوا عليه.

فبدأ عديّ بن حاتم الطائي فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أما بعد ، فإنا أتيناك لندعوك إلى أمر يجمع الله به كلمتنا وأمّتنا ، ويحقن الله به دماء المسلمين. ندعوك إلى أفضلها (الامّة) سابقة وأحسنها في الاسلام آثارا ، وقد اجتمع له الناس وقد أرشدهم الله بالذي رأوا فأتوه ، فلم يبق أحد غيرك وغير من معك ، فانته يا معاوية من قبل أن يصيبك الله وأصحابك بمثل يوم الجمل!

فقطعه معاوية وقال له : يا عديّ! كأنك جئت متهدّدا لا مصلحا! وإني والله لابن حرب! ما يقعقع لي بالشنان (القربة الخلقة البالية) وانك لمن المجلبين على ابن عفّان ومن قتلته! وإني لأرجو أن تكون ممن يقتله الله! هيهات يا عدي!

فقال له شبث وزياد : أتيناك فيما يصلحنا وإياك فأقبلت تضرب لنا الأمثال؟! فدع ما لا ينفع من القول والفعل وأجبنا فيما يعمّنا وإياك نفعه.

وتكلّم يزيد بن قيس فقال : إنا لم نأتك إلّا لنبلّغك ما بعثنا به إليك ولنؤدّي عنك ما سمعنا منك ، ولن ندع أن ننصح لك ، وأن نذكر ما ظنّنا أنّ لنا به عليك حجة ، أو أنه راجع بك إلى الألفة والجماعة. إن صاحبنا لمن قد عرفت وعرف المسلمون فضله ولا أظنّه يخفى عليك! وإن أهل الدين والفضل لن يعدلوك بعليّ ولن يميّلوا بينك وبينه! فاتّق الله يا معاوية ولا تخالف عليا ، فإنّا والله ما رأينا رجلا قط أعمل بالتقوى وأزهد في الدنيا ولا أجمع لخصال الخير كلّها منه. وسكت.

فبدأ معاوية الكلام فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أما بعد ، فإنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة ، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فنعمّا هي ، ولكن لا نرى لصاحبكم علينا طاعة ، فإنه قتل خليفتنا وفرّق جماعتنا وآوى قتلتنا ، ألستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبكم ، فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به ونحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة!


فقال له شبث بن ربعي : يا معاوية! أيسرّك بالله أنّك تمكّن من عمّار بن ياسر فتقتله؟! قال معاوية : والله لو أمكنني صاحبكم من ابن سميّة (يحقّره بها) ما قتلته بعثمان ولكن اقتله بناتل (أو نائل) مولى عثمان (لأنّ عمارا مولى)!

فقال له شبث : وإله السماء ما عدلت! لا والله الذي لا إله إلّا هو لا تصل إلى قتل ابن ياسر حتّى تندر الهامّ عن كواهل الرجال ، وتضيق الأرض والفضاء عليك برحبها!

فقال له معاوية : لو كانت كذلك كانت عليك أضيق! ثمّ قاموا فخرجوا من عنده ورجعوا (١).

وفد معاوية الثلاثي :

وبعث معاوية إلى حبيب بن مسلمة الفهري القرشي ، وشرحبيل بن السمط الكندي ، ومعن بن يزيد السّلمي وأوفدهم إلى الإمام عليه‌السلام.

فبدأ حبيب بن مسلمة فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أما بعد ، فإنّ عثمان بن عفّان كان خليفة مهديّا يعمل بكتاب الله وينيب إلى أمر الله ، فاستثقلتم حياته واستبطأتم وفاته ، فعدوتم عليه فقتلتموه ، فادفع إلينا قتلة عثمان نقتلهم به. فإن قلت إنك لم تقتله فاعتزل أمر الناس فيكون أمرهم هذا شورى بينهم ، يولّ الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم!

فقال له علي عليه‌السلام : وما أنت ـ لا أمّ لك ـ والولاية والعزل ، والدخول في هذا الأمر؟! أسكت فإنّك لست هناك ولا بأهل لذاك!

فقال شرحبيل بن السمط الكندي : إن كلّمتك فلعمري ما كلامي إيّاك إلّا كنحو من كلام صاحبي قبلي! فهل لي عندك جواب غير الجواب الذي أجبته به؟!

__________________

(١) وقعة صفين : ١٩٧ ـ ١٩٩.


فقال علي عليه‌السلام : نعم عندي جواب غير الذي أجبته به لك ولصاحبك ، ثمّ إنّه حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أما بعد فإن الله بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأنقذ به من الضلالة ، ونعّش به من الهلكة ، وجمع به بعد الفرقة ، ثمّ قبضه الله إليه وقد أدّى ما عليه.

ثمّ استخلف الناس أبا بكر ثمّ استخلف أبو بكر عمر ، فأحسنا السيرة وعدلا في الامة (١) وقد وجدنا عليهما : أن تولّيا الأمر دوننا ، ونحن آل الرسول وأحقّ بالأمر ، فغفرنا ذلك لهما (٢).

ثمّ ولي أمر الناس عثمان ، فعمل بأشياء عابها الناس عليه ، فسار إليه ناس فقتلوه.

ثمّ أتاني الناس وأنا معتزل أمرهم فقالوا لي : بايع ، فأبيت عليهم فقالوا لي : بايع فإنّ الأمّة لا ترضى إلّا بك ، وإنّا نخاف إن لم تفعل أن يفترق الناس! فبايعتهم.

فلم يرعني إلّا شقاق رجلين قد بايعاني ، وخلاف معاوية إياي ، الذي لم يجعل الله له سابقة في الدين ، ولا سلف صدق في الإسلام ، طليق ابن طليق ، وحزب من الأحزاب ، لم يزل لله ولرسوله وللمسلمين عدوّا هو وأبوه حتّى دخلا في الإسلام كارهين مكرهين ، فعجبنا لكم ولإجلابكم معه وانقيادكم له ، وتدعون أهل بيت نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم ، ولا أن تعدلوا بهم أحدا من الناس.

إني أدعوكم إلى كتاب الله عزوجل وسنة نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإماتة الباطل ، وإحياء معالم الدين. أقول قولي هذا واستغفر الله لنا ولكلّ مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة.

فقال له شرحبيل ومعن : أتشهد أن عثمان قتل مظلوما؟

__________________

(١) هذا بالنسبة إلى من بعدهما.

(٢) أي لم ننازعهما الأمر عمليا لعدم الناصر ، عملا بوصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بدلالة ساير كلامه عليه‌السلام.


فقال عليه‌السلام : أما أنا فلا أقول ذلك. فقاما وقالا : فمن لم يشهد أن عثمان قتل مظلوما فنحن براء منه! ثمّ انصرفا. فقرأ عليه‌السلام قوله سبحانه : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ* وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ)(١) ثمّ التفت إلى أصحابه وقال لهم : لا يكون هؤلاء بأولى في الجدّ في ضلالتهم منكم في حقكم وطاعة إمامكم.

ثمّ مكث الناس حتّى دنا انقضاء شهر محرم (٢).

إعلان الحرب :

فلما انسلخ المحرّم واستقبل شهر صفر من سنة سبع وثلاثين ـ عند غروب الشمس ـ بعث علي عليه‌السلام نفرا من أصحابه حتّى إذا كانوا من عسكر معاوية حيث يسمعونهم الصوت ، فنادوا :

يا أهل الشام ، إنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقولون لكم : إنّا والله ما كففنا عنكم شكّا في أمركم ولا بقيا عليكم ، وإنما كففنا عنكم لخروج المحرّم ، ثمّ انسلخ ، وإنّا قد نبذنا إليكم على سواء (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ)(٣).

ألا إن أمير المؤمنين يقول لكم : إني قد استدمتكم واستأنيت بكم لتراجعوا الحقّ وتنيبوا إليه ، واحتججت عليكم بكتاب الله ودعوتكم إليه ، فلم تتناهوا عن طغيان ولم تجيبوا إلى حقّ وإني قد نبذت إليكم على سواء (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ)(٤).

__________________

(١) سورة النمل : ٨٠ ـ ٨١.

(٢) وقعة صفين : ٢٠٠ ـ ٢٠٢.

(٣) الأنفال : ٥٨.

(٤) سورة الأنفال : ٥٨.


ثمّ بات علي عليه‌السلام تلك الليلة كلّها يدور في الناس يحرّضهم ويعبئهم ويكتّب الكتائب. وخرج معاوية ومعه عمرو بن العاص يكتّبان الكتائب ويعبئان العساكر ، وأوقدوا النيران تلك الليلة وأوقدوا الشموع (١).

راياتهم وشعاراتهم وعلاماتهم :

وكانت رايات أهل العراق بيضا وصفراء وحمرا وسودا والألوية سودا ، وشعاراتهم : يا الله يا رحمان ويا رحيم ويا أحد ويا صمد ويا ربّ محمد. وعلامتهم صوف أبيض على رءوسهم وأكتافهم.

وكان شعار أهل الشام : يا لثارات عثمان ، نحن عباد الله حقّا حقّا! وعلامتهم خرقا صفرا على رءوسهم وأكتافهم (٢).

وكانوا عربا حديثي عهد بحمية الجاهليّة ، والتقوا اليوم في الإسلام وبعضهم على بصيرة من إسلامه ودينه ، ولكن في كثير منهم بقايا تلك الحمية الجاهلية ، فتصابروا واستحيوا من الفرار (٣).

خبر أبي نوح وذي الكلاع الحميريّين :

كان ذو الكلاع الحميري من أمراء جند حمص من أصحاب معاوية ، وكان في عهد عمر بن الخطّاب قد سمع خطابا لعمرو بن العاص حدّثهم فيه بحديث :

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٠٢ ، ٢٠٣ وهذه أول بادرة لذكر الشموع. وهنا في «وقعة صفين» نقل وصايا لأمير المؤمنين عند لقائه أعداءه ، هو ما مرّ عنه عليه‌السلام في وقعة الجمل بالبصرة ، وبها أنسب لما فيها من ذكر الدور والبيوت والنساء والستر ، وهي تناسب البصرة دون صفّين.

(٢) وقعة صفين : ٣٣٢.

(٣) وقعة صفين : ٣٣٢.


أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «يلتقي أهل الشام وأهل العراق وفي إحدى الكتيبتين الحقّ وإمام الهدى ومعه عمّار بن ياسر».

وكانت حمير يوم صفّين منهم في الشام ومنهم في العراق ، وسمع ذو الكلاع برجل منهم مع علي عليه‌السلام يدعى أبا نوح الكلاعي الحميري ، قال أبو نوح : كنت يوم صفّين في خيل علي عليه‌السلام وهو واقف بين جماعة من حمير وغيرهم من أخلاط قحطان من همدان وغيرهم ، وإذا أنا برجل من أهل الشام ينادي : من يدلّني على أبي نوح الحميري؟ قلت : قد وجدته ؛ فمن أنت؟ قال : أنا ذو الكلاع ، سر إليّ ... ولك ذمّة الله وذمّة رسوله وذمّة ذي الكلاع حتّى ترجع إلى خيلك ، وإنما اريد أن أسألك عن أمر فيكم تمارينا (تجادلنا وتناقشنا) فيه ، فسر دون خيلك حتّى أسير إليك.

فسرت وسار حتّى التقينا ، فقال ذو الكلاع : إنّما دعوتك لأحدّثك حديثا حدّثناه قديما عمرو بن العاص. وحدّثه بحديثه بشأن عمار بن ياسر. قال أبو نوح : فقلت له : لعمرو الله إنّه لفينا! قال ذو الكلاع : أجادّ هو في قتالنا؟! قلت له : نعم وربّ الكعبة لهو أشدّ منّي على قتالكم (١)!

فقال ذو الكلاع : فهل تستطيع أن تأتي معي إلى صفّ أهل الشام ، وأنار جار لك أن لا تقتل ولا تسلب ولا تكره على بيعة ولا تحبس عن جندك ، وإنما هي كلمة تبلّغها عمرو بن العاص ، لعلّ الله أن يصلح بذلك بين هذين الجندين ويضعوا السلاح والحرب.

فقلت داعيا : اللهم إنك ترى ما أعطاني ذو الكلاع ، وأنت تعلم ما في نفسي ، فاعصمني وانصرني وادفع عنّي.

__________________

(١) بدأ ابن مزاحم هذا الخبر بقوله : فلما أصبحوا يوم الثلاثاء (أي الرابع عشر من صفر) ومن بدء القتال! ولو كان كذلك لم ينسجم مع هذه الأسئلة عن موقف عمّار ، ولذلك قدّمنا الخبر هنا قبل القتال.


ثمّ سرت مع ذي الكلاع حتى دخل على معاوية وعنده عمرو بن العاص وابنه عبد الله وأبو الأعور السلمي وغيرهم ، فقال ذو الكلاع لعمرو : يا أبا عبد الله ؛ هل لك في رجل ناصح لبيب شفيق يخبرك عن عمّار بن ياسر ولا يكذبك؟ وهو ابن عمّي هذا من أهل الكوفة.

فقال لي عمرو : إني لأرى عليك سيماء أبي تراب (١).

فقلت له : عليّ سيماء محمد وأصحابه ، وعليك سيماء أبي جهل وفرعون!

وكان أبو الأعور السّلمي حاضرا فسلّ سيفه وقال : لا أرى هذا الكذّاب الأليم يشاتمنا بين أظهرنا وعليه سيماء أبي تراب!

فنهره ذو الكلاع وقال له : أقسم بالله لئن بسطت إليه يدك لأحطمنّ أنفك بالسيف! ابن عمّي وقد عقدت له بذمّتي وجئت به إليكما ليخبركما عما تماريتما فيه.

فقال لي عمرو : يا أبا نوح اذكّرك بالله إلّا ما صدّقتنا أفيكم عمّار بن ياسر؟!

فقلت له : إنّ معنا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غيره عدّة ، وكلّهم جادّ على قتالكم ، فما أنا بمخبرك عنه حتّى تخبرني لم تسألني عنه؟

فقال عمرو : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «إنّ عمارا تقتله الفئة الباغية ، وإنه ليس ينبغي لعمّار أن يفارق الحقّ وأن تأكل النار منه شيئا».

فقلت : لا إله إلّا الله والله أكبر ، والله إنه لفينا جادّ على قتالكم! ولقد حدّثني يوم الجمل : أنا سنظهر عليهم ، ولقد حدثني أمس أن : لو ضربتمونا حتّى تبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحقّ وأنهم على الباطل ، ولكانت قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار!

فقال لي عمرو : فهل تستطيع أن تجمع بيني وبينه؟ قلت : نعم.

__________________

(١) هذه أول بادرة في أخبار أهل الشام بنبز الإمام عليه‌السلام بلقب أبي تراب خلافا للآداب.


فركب عمرو وابناه ، وعتبة بن أبي سفيان ، والوليد بن عقبة ، وأبو الأعور السّلمي وحوشب.

وسار معي ذو الكلاع حتّى انتهيت إلى أصحابي ، فذهبت إلى عمّار فوجدته قاعدا مع أصحاب له منهم عبد الله بن العباس والأشتر وهاشم المرقال الزهريّ وابنا بديل الخزاعي ، وجارية بن المثنى ، وخالد بن المعمّر ، وعبد الله بن حجل ، اثنا عشر رجلا. فقصصت على عمّار القصة وقلت له عن عمرو بن العاص : أنه يريد أن يلقاك. فقال عمّار لأصحابه : اركبوا فركبوا ، وبعثوا إليهم عوف بن بشر العبدي لينادي ابن العاص ، فذهب فناداه فقالوا له : هو هاهنا. فأخبره بمكان عمّار وأصحابه ... فقال عمرو لأصحابه : فأيّكم يسير إليه؟ فسار إليه أبو الأعور السّلمي ... إلى أن قال له :

ويحك أدع أصحابك حتّى يقفوا فإذا علمت كم هم جئت من أصحابي بعددهم ، فإن شاء أصحابك فليقلّوا وإن شاءوا فليكثروا. فسار عوف بن بشر (في مائة من فرسان خيله) وسار أبو الأعور أيضا في مائة فارس حتى إذا كانوا في منتصف الصفوف وقفوا ، وسار أبو الأعور بعمرو العاص في عشرة منهم ، ورجع خيله ، وسار عمّار في اثني عشر فارسا ، ورجع عوف بن بشر بخيله. ونزل عمرو والذين معه ، ونزل عمّار والذين معه واحتبوا بحمائل سيوفهم.

فتشهّد عمرو بن العاص ... وقال لعمّار : يا أبا ليقظان ؛ إنما جئت لأنّي رأيتك أطوع أهل هذا العسكر فيهم ، اذكّرك الله إلّا كففت سلاحهم وحقنت دماءهم ، وحرّضت على ذلك ، فعلام تقاتلنا؟! أو لسنا نعبد إلها واحدا ، ونصلّي إلى قبلتكم وندعو دعوتكم ونقرأ كتابكم ونؤمن برسولكم؟!

فقال عمّار : الحمد لله الذي أخرجها من فيك أنها لي ولأصحابي الدين والكتاب والقبلة وعبادة الرحمن والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، دون أصحابك ، وجعلك ضالا مضلا


وجعلك أعمى لا تعلم هاد أنت أم ضالّ ، وسأخبرك علام اقاتلك وأصحابك : لقد أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن اقاتل الناكثين وقد فعلت ، وأمرني أن اقاتل القاسطين فأنتم هم ، وأما المارقون فما أدري أدركهم أم لا؟

أيها الأبتر! ألست تعلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّ : «من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» وأنا مولى الله ورسوله وعليّ بعده ، وليس لك مولى ....

فقطع عمرو كلام عمّار وقال له : يا أبا اليقظان لم تشتمني ولست أشتمك؟

فقال عمّار : وبم تشتمني؟ أتستطيع أن تقول : إني عصيت الله ورسوله يوما قط؟!

فقال عمرو لعمّار : إنّ فيك لمسبّات سوى ذلك!

فقال عمّار : إنّ الكريم من أكرمه الله (نعم) كنت وضيعا فرفعني الله ، ومملوكا فأعتقني الله ، وضعيفا فقوّاني الله ، وفقيرا فأغناني الله! (وكان عمرو يكنّي له عن ذلك!).

فقال عمرو : فما ترى في قتل عثمان؟ قال : فتح لكم باب كلّ سوء! قال عمرو : فعليّ قتله؟ قال عمّار : بل الله قتله وعليّ معه! قال عمرو : أكنت فيمن قتله؟ قال : كنت «مع» من قتله وأنا اليوم اقاتل معهم! قال عمرو : فلم قتلتموه؟ قال عمّار : أراد أن يغيّر ديننا فقتلناه! فالتفت عمرو إلى أصحابه وقال لهم : ألا تسمعون؟ قد اعترف بقتل عثمان! (هذا ولم يقل : أنا ممّن قتله ، وإنما : مع من قتله).

فقال عمّار : وقد قالها قبلك فرعون : (أَلا تَسْتَمِعُونَ)(١).

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٥.


وقام الشاميون ولهم زجل وركبوا خيولهم ورجعوا ، وأبلغوا معاوية ما كان بينهم فقال : هلكت العرب! إن حرّكتهم خفّة (هذا) العبد الأسود! يعني عمّارا (١).

وقال ذو الكلاع لعمرو : ويحك فما هذا (الحديث)؟! فقال عمرو : إنه سيفارق أبا تراب ويرجع إلينا (٢) ويقنع بذلك ذو الكلاع ويقلع حتّى قتل عمّار رضى الله عنه.

ومن حمير اليمن أهل جرش ، وكان سيّدهم عبد الله بن سويد قد بلغه خبر جمع ذي الكلاع بين الرجلين عمرو وعمّار ، فمشى إلى ذي الكلاع وسأله : لم جمع بين الرجلين؟ قال : لحديث سمعه من عمرو ذكر أنه سمعه من رسول الله يقول لعمار : «تقتلك الفئة الباغية» وأخبره الخبر ، فحدّث به ، فسمعه عبد الله بن عمر العنسي (من عشيرة عمار) وكان من عبّاد أهل زمانه ، فخرج ليلا حتى أصبح في عسكر علي عليه‌السلام وحدّثهم بالحديث.

فلما سمع معاوية بذلك بعث إلى عمرو فقال له : أفسدت عليّ أهل الشام! أكلّ ما سمعته من رسول الله تقوله؟! فقال عمرو : لقد رويت أنت فيه مثل الذي رويت فيه (وإلّا) فاسأل أهل الشام! قلتها وعمّار يومئذ (على عهد عمر) لي ولك ، قلتها ولست والله أعلم الغيب أن ستكون صفين (٣).

لواء عمرو وموقف علي عليه‌السلام وعمار :

وكأنّ ابن العاص رأى أنّ الموقف بخلاف راية الهدى عمّار ، بحاجة إلى تشبّث من قبلهم بشيء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان بعد إسلامه بعد الحديبية في غزوة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) وقعة صفين : ٣٣٢ ـ ٣٣٩.

(٢) وقعة صفين : ٣٤١.

(٣) وقعة صفين : ٣٤٣ ـ ٣٤٥.


إذ أخرج شقّة سوداء وقال لمن حضره : من يأخذها بما فيها؟ فانبرى ابن العاص وقال : يا رسول الله وما فيها؟ قال : فيها : أن لا تقابل بها مسلما! ولا تقرّ بها من كافر! فأخذها ولعلّه كان في غزوة ذات السلاسل. وهنا أخرج هذه الشقّة ، وعلّقها برأس رمحه ورفعها وقال للناس : هذا لواء عقده لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله! فتداولوها حتّى بلغ ذلك عليا عليه‌السلام ، فقال لهم : هل تدرون ما أمر هذا اللواء؟ إنّ عدوّ الله عمرو بن العاص أخرج رسول الله له هذه الشقّة ... وحدّثهم بالحديث ثمّ قال عليه‌السلام : فقد والله قرّبها من المشركين! وقاتل بها اليوم المسلمين! والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ما أسلموا ولكن استسلموا وأسرّوا الكفر ، فلما وجدوا أعوانا رجعوا إلى عداوتهم منّا ، إلّا أنهم لم يدعوا الصلاة.

وتمسّك عمّار بهذا الكلام عن الإمام عليه‌السلام واحتجّ بها لمّا قال له رجل : يا أبا اليقظان ؛ ألم يقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «قاتلوا الناس حتّى يسلموا ، فإذا أسلموا عصموا منّي دماءهم وأموالهم؟».

فأجابه عمّار بكلام الإمام عليه‌السلام قال : بلى ، ولكن والله ما أسلموا ولكن استسلموا وأسرّوا الكفر حتّى وجدوا عليه أعوانا (١).

فروى نصر عن الأصبغ بن نباتة قال : جاء رجل إلى علي عليه‌السلام فقال :

يا أمير المؤمنين ، هؤلاء القوم الذين (جئنا) نقاتلهم ، الدعوة واحدة ، والرسول واحد ، والصلاة واحدة ، والحجّ واحد فبم نسمّيهم؟ قال : نسمّيهم بما سمّاهم الله في كتابه. قال : ما كلّ ما في الكتاب أعلمه. قال : أما سمعت الله قال : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ

__________________

(١) وقعة صفّين : ٢١٥.


مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ)(١) فلمّا وقع الاختلاف كنّا نحن أولى بالله وبالكتاب وبالنبيّ وبالحقّ ، فنحن الذين آمنوا وهم الذين كفروا ، وشاء الله قتالهم فقاتلناهم (٢).

وتقدّم إليه آخر فقال : إني خرجت من أهلي مستبصرا في الحقّ الذي نحن عليه لا أشك في ضلالة هؤلاء القوم وأنهم على الباطل ، ولم أزل مستبصرا على ذلك حتّى كان صباح يومنا هذا فتقدم منادينا ونادى للصلاة فشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله ، فنادى مناديهم بمثل ذلك. ثمّ اقيمت الصلاة فصلينا صلاة واحدة وتلونا كتابا واحدا ودعونا دعوة واحدة ورسولنا واحد ، فأدركني الشك!

فقال عليه‌السلام : هل لقيت عمّار بن ياسر؟ قال : لا ، قال : فالقه وانظر ما يقول لك فاتّبعه.

فذهب يستقري الصفوف حتّى انتهى إليه ضحى وقد استظل هو وأصحابه ببرد أحمر فقال : أيكم عمّار بن ياسر؟ فقال عمار : هذا عمار ، قال : أبو اليقظان؟ قال : نعم ، فذكر له ذلك. فقال له عمّار : هل تعرف صاحب هذه الراية السوداء المقابلتي؟ إنّها راية عمرو بن العاص. أشهدت بدرا أو احدا أو حنينا (٣) أو شهدها من يخبرك عنها؟ قال : لا. قال : فإن هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الأحزاب ، ومراكزنا على مراكز رايات رسول الله يوم بدر ويوم احد ويوم حنين (كذا) ، ولقد قاتلت هذه الراية مع رسول الله الثلاث مرات وهذه الرابعة وهي شرّهن وأفجرهن! افترى دم عصفور حراما؟ قال : بل حلال! قال : فإنهم كذلك

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٥٣.

(٢) وقعة صفين : ٣٢٢ ، ٣٢٣.

(٣) كذا جاء ذكر حنين هنا ، وقد أسلم ابن العاص بعد الحديبية ، فلعلها زيادة من الرواة.


حلال دماؤهم أتراني بيّنت لك؟ قال : قد بيّنت لي ، قال : فاختر أنّى ذلك أحببت ... أما إنّهم سيضربوننا بأسيافهم حتّى يرتاب المبطلون منكم فيقولون : لو لم يكونوا على حقّ ما ظهروا علينا! والله ما هم من الحقّ على ما يقذي عين ذباب! والله لو ضربونا بأسيافهم حتّى يبلغوا بنا سعفات هجر لعرفت أنا على حقّ وهم على باطل. وايم الله لا يكون سلما سالما أبدا. ولا تنصرم أيام الدنيا حتّى يبوء أحد الفريقين على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين. وحتّى يشهدوا على الفريق الآخر : بأنّهم على الحقّ وأنّ موتاهم وقتلاهم في الجنة ، وأن موتى أعدائهم (أعداء الفريق الآخر) وقتلاهم في النار (١).

أمراء العراق والشام :

روى نصر ، عن جابر الجعفي ، عن الباقر عليه‌السلام قال : إن عليا عليه‌السلام ومعاوية عقدا الألوية وأمّرا الأمراء وكتّبا الكتائب ... فدفع عليّ اللواء إلى هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص الزّهري ، واستعمل على الخيل عمّار بن ياسر ، وعلى الرجّالة عبد الله بن بديل الخزاعي ، وجعل مضر الكوفة والبصرة في القلب ، وجعل ربيعة في الميسرة ، وعليهم عبد الله بن العباس ، وعلى رجّالتهم الحارث بن مرّة العبدي ، واليمن في الميمنة وعليهم الأشعث بن قيس (كما وعده) وعلى رجّالتهم سليمان بن صرد الخزاعي.

وعقد ألوية القبائل ، فجعل على قريش وكنانة وأسد قريش : عبد الله بن العباس ، وعلى كندة اليمن حجر بن عدي ، وعلى خزاعة عمرو بن الحمق ، وعلى بكر البصرة حصين بن المنذر ، وعلى تميمها الأحنف بن قيس ، وعلى سعد وربابها

__________________

(١) وقعة صفين : ٣٢١ ، ٣٢٢ ، ومختصره في أنساب الأشراف ٢ : ٣١٧ ، الحديث ٣٨٦.


جارية بن قدامة السعدي ، وعلى حنظلة وعمرو البصرة أعين بن ضبيعة ، وعلى ذهل البصرة خالد بن المعمّر السّدوسي ، وعلى لهازم البصرة حريث بن جابر الحنفي ، وعلى عبد قيس البصرة عمرو بن حنظلة ، وعلى قيس البصرة قبيصة بن شدّاد الهلالي ، وعلى قريشها الحارث بن نوفل الهاشمي.

وعلى بكر الكوفة نعيم بن هبيرة ، وعلى بجيلة بها رفاعة بن شدّاد ، وعلى ذهلها يزيد بن رويم الشيباني ، وعلى طيّئ ومعها قضاعة عدي بن حاتم الطائي ، وعلى لهازم الكوفة عبد الله بن حجل العجلي ، وعلى تميم بها عمير بن عطارد ، وعلى الأزد واليمن بها جندب بن زهير الأزدي ، وعلى حنظلة وعمرو الكوفة شبث بن ربعي ، وعلى همدان سعيد بن قيس ، وعلى سعد ورباب الكوفة الطفيل أبو صريمة ، وعلى مذحج الأشتر بن الحارث النخعي ، وعلى عبد القيس بها صعصعة بن صوحان العبدي ، وعلى قيس الكوفة عبد الله بن الطفيل البكّائي العامري (١) فكان مع الإمام بالعمدة جند العراقين البصرة والكوفة وكان قرّاء أهل الكوفة مع عمّار بن ياسر ، وقرّاء أهل البصرة مع مسعر بن فدكي التميمي (٢).

وكان مع معاوية غير جنده بدمشق أربعة أجناد من الأردن وفلسطين ، وحمص وقنّسرين وأعطى لواءه إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي ، وجعل على خيله عبيد الله بن عمر العدوي ، وعلى القلب وهم جند دمشق الضحّاك بن قيس الفهري ولهم رجالتان من قيس وعليهم همّام بن قبيصة ومن قضاعة وعليهم حسّان بن بجدل الكلبي (خال يزيد بن معاوية) ، وعلى الميمنة عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي ، وهم جند حمص وعليهم ذو الكلاع الحميري ، ومعهم جند قنسرين وعليهم زفر بن الحارث. وعلى رجالة الميمنة حابس بن سعد الطائي.

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٠٤ ـ ٢٠٦.

(٢) وقعة صفين : ٢٠٨.


وعلى الميسرة حبيب بن مسلمة الفهري (ابن عمّ الضحاك) ومعه في الميسرة جند الأردن وعليهم أبو الأعور سفيان بن عمرو السّلمي ، وعلى رجّالتهم عبد الرحمن بن قيس القيني ، ومعهم قبائل الاردن : قضاعة وعليهم حبيش بن دلجة القيني (ابن عم عبد الرحمن) وعلى مذحج الاردن المخارق بن حارث الزبيدي ، وعلى همدان الاردن حمزة بن مالك الهمداني ، وعلى غسّان الاردن يزيد بن الحارث الغسّاني ، وعلى متفرّقتهم القعقاع بن أبرهة الكلاعي الحميري. وكان معهم في الميسرة أهل فلسطين وعليهم مسلمة بن مخلّد ، وعلى رجّالتهم الحارث بن خالد الأزدي ، ومعهم قبائل فلسطين : كنانة وعليهم شريك الكناني ، وعلى جذام واللخم بها ناتل بن قيس الجذامي ، ومعهم خثعم اليمن وعليهم حمل بن عبد الله الخثعمي (١).

ولم يكن كل هؤلاء يصطفّون للقتال ، وإنما كان يصطفّ من كلّ من العراق والشام أحد عشر صفا (٢).

أوّل القتال في أوّل صفر :

وكان أول القتال مع أول صفر يوم الأربعاء ، وكان بدء القتال مع مسيرة أهل الشام وعليهم حبيب بن مسلمة الفهري ، وخرج إليه من العراق الأشتر النخعي مع قومه من مذحج ، فتقاتلوا جلّ النهار منتصفين ، وتراجعوا.

وفي يوم الخميس الثاني من صفر خرج من أهل العراق صاحب لوائهم هاشم المرقال بن عتبة الزهري ، وخرج إليه من أهل الشام من مسيرتهم أيضا من أهل الأردن وعليهم أبو الأعور سفيان بن عمرو السّلمي ، فصبر بعضهم لبعض ثمّ انصرفوا.

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٠٦ ، ٢٠٧.

(٢) وقعة صفين : ٢١٣ ، ٢١٤.


وفي يوم الجمعة لم يوقفوا القتال في الثالث من صفر ، وخرج إليهم عمّار بن ياسر في قبيل من خيل العراق ، وخرج إليه عمرو بن العاص (١) وهو على كل خيول أهل الشام (٢) أو كان عمّار على الرجّالة (٣) وخرج معه على الخيل زياد بن النضر الحارثي الهمداني.

فلمّا دنا عمّار منهم ناداهم : يا أهل الشام! أتريدون أن تنظروا إلى من عادى الله ورسوله وجاهدهما وبغى على المسلمين وظاهر المشركين ، فلما أراد الله أن يظهر دينه وينصر رسوله أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأسلم ، وهو والله فيما يرى راهب غير راغب! وقبض الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّا والله لنعرفه بعداوة المسلم ومودّة المجرم؟ ألا وإنه معاوية فالعنوه وقاتلوه ، فإنّه ممّن يطفئ نور الله ويظاهر أعداء الله!

ثمّ أمر زياد الحارثيّ أن يحمل بخيله على خيل ابن العاص فحمل عليهم ، وشدّ عمّار في الرجّالة معه عليه فأزال ابن العاص عن موقفه ، ثمّ تصابروا ، ثمّ تراجعوا (٤).

وفي يوم السبت الرابع من صفر خرج محمد بن علي بن أبي طالب (ابن الحنفية) في جمع عظيم ، وخرج إليه عبيد الله بن عمر في جمع عظيم من خيل معاوية ، فتقاتلوا قتالا شديدا. وأرسل عبيد الله إلى ابن الحنفية : أن اخرج إليّ أبارزك. فخرج إليه ماشيا ، وكان الإمام عليه‌السلام يبصر الموقف فبصر به فسأل عنه فاخبر به ، فأدركه ودعاه ونزل عن فرسه وطلب منه أن يمسك الفرس ، ثمّ مشى إلى عبيد الله وقال له : أنا أبارزك فهلمّ إليّ! فقال : ليس لي حاجة في مبارزتك! ورجع عنه ، فرجع عنه علي عليه‌السلام.

__________________

(١) وقعة صفين : ٢١٤.

(٢) وقعة صفين : ٢١٣.

(٣) وقعة صفين : ٢٠٨.

(٤) وقعة صفين : ٢١٤ ، ٢١٥.


فقال محمد لأبيه : يا أبه! أتبرز بنفسك إلى هذا الفاسق اللئيم عدوّ الله؟! والله لو أبوه يسألك المبارزة لرغبت بك عنه! والله لو تركتني لرجوت أن أقتله!

فقال عليه‌السلام : يا بنيّ ؛ لو بارزته أنا لقتلته ، ولو بارزته أنت لرجوت أن تقتله ، وما كنت آمن من أن يقتلك. ثمّ تحاجز الناس وتراجعوا (١).

وفي يوم الأحد الخامس من صفر خرج عبد الله بن العباس بميسرة الإمام ، وخرج إليه الوليد بن عقبة الأموي (٢) أو عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي وكان معاوية يعدّه من ولده! فقوّاه بالسلاح والخيل (٣) وكان صاحب لوائه ، فلما دنا ابن عباس من الوليد (أو ابن الوليد) ناداه الوليد : يا ابن عباس ، قطعتم أرحامكم وقتلتم إمامكم! فكيف رأيتم صنع الله بكم! لم تعطوا ما طلبتم ولم تدركوا ما أمّلتم! والله مهلككم وناصرنا عليكم! فدعاه ابن عباس للبراز فأبى (٤)!

فبرز عبد الرحمن بن خالد أمام الخيل وارتجز وأخذ يطعن الناس ، فبرز إليه عديّ بن حاتم الطائي في حماة مذحج وقضاعة وقصد عبد الرحمن برمحه وارتجز له ، فلما كاد أن يطعنه اختلط القوم وارتفع العجاج وتوارى عبد الرحمن وانكسر ورجع إلى معاوية مقهورا (٥).

واقتتل الناس قتالا شديدا حتّى الظهر ثمّ انصرفوا.

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٢١.

(٢) وقعة صفين : ٢٢١.

(٣) وقعة صفين : ٤٣٠.

(٤) وقعة صفين : ٢٢١ ، ٢٢٢.

(٥) وقعة صفين : ٤٣٠ ، ٤٣١.


وكأنّما هذه المواجهة الفارقة بين ابن عبّاس المفسّر وبين الوليد الفاسق نبّه بعض قرّاء الشام ، فلحق ناس منهم بالإمام عليه‌السلام ، يقدمهم شمر بن أبرهة الحميري ، ففتّ ذلك في أهل الشام ، فقال ابن العاص لمعاوية :

يا معاوية ، إنك تريد أن تقاتل بأهل الشام رجلا له من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قرابة قريبة ورحم ماسّة. وقدم في الإسلام لا يعتدّ أحد بمثله ، ونجدة في الحرب لم تكن لأحد من أصحاب محمد. وإنه قد سار إليك بأصحاب محمد المعدودين ، وفرسانهم وقرّائهم وأشرافهم وقدمائهم في الإسلام ، ولهم في النفوس مهابة. فبادر بأهل الشام ... واتهم من باب الطمع ... ومهما نسيت فلا تنس أنك على باطل! واقترح له أن يخطب الناس. فأمر معاوية فأحضر له المنبر وخرج فخطبهم (١).

خطاب الإمام عليه‌السلام :

فلما بلغ ذلك الإمام عليه‌السلام أمر فنودي في الناس بالاجتماع فاجتمعوا ، وجمع صحابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حوله ، وكأنّه أحبّ أن يعلم أنّ أصحاب رسول الله متوافرون عنده ، ثمّ قام للكلام متوكئا على قوسه ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم :

أيها الناس ، اسمعوا مقالتي وعوا كلامي! إنّ الخيلاء من التجبّر ، وإنّ النخوة من التكبّر ، وإن الشيطان عدو حاضر ، يعدكم الباطل. ألا إن المسلم أخو المسلم ، فلا تنابذوا ولا تخاذلوا. وإن شرائع الدين واحدة وسبله قاصدة ، من أخذ بها لحق ومن تركها مرق ، ومن فارقها محق. ليس المسلم بالخائن إذا اؤتمن ، ولا بالمخلف إذا وعد ، ولا بالكذّاب إذا نطق.

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٢٢ ، ٢٢٣.


نحن أهل بيت الرحمة ، وقولنا الصدق ، ومن فعالنا القصد ، ومنّا خاتم النبيّين وفينا قادة الإسلام ، ومنّا قرّاء الكتاب. ندعوكم إلى الله ورسوله ، وإلى جهاد عدوّه والشدّة في أمره ، وابتغاء رضوانه ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحجّ البيت وصيام شهر رمضان ، وتوفير الفيء لأهله.

ألا وإن من أعجب العجائب : أنّ معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص السّهمي أصبحا يحرّضان الناس على طلب الدين بزعمهما! وقد علمتم أني لم اخالف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قطّ ولم أعصه قطّ ، أقيه بنفسي في المواطن التي ينكص فيها الأبطال ، وترعد فيها الفرائص! نجدة أكرمني الله بها فله الحمد.

ولقد قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّ رأسه لفي حجري ، ولقد وليت غسله بيدي وحدي ، تقلّبه الملائكة المقرّبون معي.

وايم الله ما اختلفت أمّة قطّ بعد نبيّها إلّا ظهر أهل باطلها على أهل حقّها ، إلّا ما شاء الله».

فتفرق الناس وقد نفذت بصائرهم في قتال عدوّهم (١).

وكان معه عليه‌السلام في صفّين من أهل بدر سبعون رجلا ، وممّن بايع تحت الشجرة بيعة الرضوان سبعمائة رجل ، ومن سائر الأنصار والمهاجرين أربعمائة رجل ، ولم يكن مع معاوية من الأنصار إلّا النعمان بن بشير ، ومسلمة بن مخلّد (٢) أو كان من أهل البيعة ثمانمائة مع عمّار بن ياسر (٣).

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٢٣ ـ ٢٢٤ ، ونهج البلاغة خ ١٩٧ بنقيصة في الأخير وزيادة فيما قبله.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨٨ ، ولابن أبي رافع كتاب في تسمية من قتل مع علي عليه‌السلام من الصحابة في الجمل وصفّين ، وجمعه ونشره الشيخ قوام الدين القمي الوشنوي.

(٣) تاريخ خليفة : ١١٨.


وفي يوم الاثنين السادس من صفر ، كان القتال بين قيس بن سعد الأنصاري ، أو سعيد بن قيس الهمداني ، وبين ذي الكلاع الحميري.

وفي يوم الثلاثاء السابع من صفر. كان بين الأشتر أيضا وبين حبيب بن مسلمة الفهري (١) وكانت الحرب بينهم سجالا وتواقفوا للموت وصبر الفريقان وتكافئوا ، واسفرت عن قتلى منهما ، والجراح أعم في أهل الشام ، ثمّ انصرف الفريقان (٢).

وفي عشية هذا اليوم قال الإمام عليه‌السلام : حتّى متى لا نناهض القوم بأجمعنا؟ ثمّ قام في الناس عصر يوم الثلاثاء عشية الأربعاء وخطبهم فقال :

«الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض ولا ينقض ما أبرم ، ولو شاء ما اختلف اثنان من هذه الأمة ولا من خلقه ، ولا تنازع البشر في شيء من أمره ، ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله.

وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار حتى لفّت بيننا في هذا المكان ، فنحن من ربّنا بمرأى ومسمع ، فلو شاء لعجّل النقمة ولكان منه التغيير حتى يكذّب الله الظالم ويعلم الحقّ أين مصيره ، ولكنّه جعل الدنيا دار الأعمال ، وجعل الآخرة عنده دار القرار (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)(٣).

ألا إنّكم لاقوا العدوّ غدا إن شاء الله ، فأطيلوا الليلة القيام ، وأكثروا تلاوة القرآن ، واسألوا الله الصبر والنصر ، والقوهم بالجدّ والحزم وكونوا صادقين». ثمّ انصرف.

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٣٠٥.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٣٧٩.

(٣) سورة النجم : ٣١.


ووثب الناس إلى سيوفهم ورماحهم يصلحونها (١).

وكان رئيس قبيلة ذهل بن ربيعة البصرة خالد بن المعمّر السّدوسي ، فأتى ناس عليا عليه‌السلام وقالوا له : إنا نرى خالد بن المعمّر السّدوسي قد كاتب معاوية وقد خشينا أن يتابعه! فبعث علي عليه‌السلام إليه وإلى رجال من أشرافهم ، فلما اجتمعوا قام فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أما بعد ـ يا معشر ربيعة ـ فأنتم أنصاري ومجيبوا دعوتي ، ومن أوثق حيّ في العرب في نفسي ، ولقد بلغني أن معاوية قد كاتب صاحبكم خالد بن المعمّر! وقد أتيت به وجمعتكم لأشهدكم عليه وتسمعوا منه ومنّي! ثمّ أقبل عليه فقال له : يا خالد بن المعمّر ، إن كان ما بلغني عنك حقّا فإنّي اشهد الله ومن حضرني من المسلمين أنك آمن حتّى ترجع إلى أرض دون سلطان معاوية! وإن كنت مكذوبا عليك فأبّر صدورنا بأيمان نطمئن إليها.

فتنادى كثير منهم : والله لو نعلم أنه فعل لقتلناه! وقال شقيق بن ثور : لا وفّق الله خالد بن المعمّر حين ينصر معاوية وأهل الشام على علي وربيعة! وقال زياد بن خصفة : يا أمير المؤمنين ، استوثق من ابن المعمّر بالأيمان لا يغدر! فحلف بالله ما فعل ، واستوثق منه وتركه بحاله (٢).

وخرج الإمام بنفسه :

وخرج الإمام عليه‌السلام بنفسه في يوم الأربعاء الثامن من صفر وعبّأ الناس على ما رتّبهم عليه وكان يقول لكل قبيلة من أهل الكوفة : اكفوني قبيلتكم من أهل الشام ،

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٢٥.

(٢) وقعة صفين : ٢٨٧ ، ٢٨٨ وقال : قبل الوقعة في هذا اليوم. يعني الأربعاء الثامن من شهر صفر.


وعبّأ معاوية أهل الشام (١) وخرج الإمام عليه‌السلام بنفسه في الصحابة من البدريين وغيرهم من المهاجرين والأنصار ، وهمدان وربيعة.

وتقدم عليه‌السلام على البغلة الشهباء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليه عمامة بيضاء ، وهو يقف على مراتب الناس يحثهم ويحرّضهم. فروى المسعودي ، عن ابن عباس قال : انتهى إليّ فوقف وقال :

«يا معشر المسلمين ؛ غمّوا الأصوات ، وأكملوا اللأمة ، واستشعروا الخشية ، وأقلقوا السيوف في الأجفان قبل السلّة ، والحظوا الشزر ، واطعنوا الهبر ، ونافحوا بالظّبا ، وصلوا السيوف بالخطاء ، والنبال بالرماح. وطيبوا نفسا عن أنفسكم ، فإنكم بعين الله ومع ابن عمّ رسول الله! عاودوا الكرّ واستقبحوا الفرّ ، فإنه عار في الأعقاب ونار يوم الحساب. ودونكم هذا السواد الأعظم والرواق المطنّب فاضربوا نهجه ، فإن الشيطان راكب صعيده مفترش ذراعيه ، قد قدّم للوثبة يدا وأخّر للنكوص رجلا ، فصبرا جميلا حتى تنجلي عن وجه الحق (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ)» (٢).

ثمّ استقدم معاوية أهل حمص وعليهم ذو الكلاع الحميري ، ثمّ أهل الأردن وعليهم أبو الأعور السلمي ، ثمّ أهل قنّسرين وعليهم زفر بن الحارث ، ثمّ جند دمشق وهم القلب وعليهم الضحّاك بن قيس الفهري فأطافوا بمعاوية ، فكان أهل الشام أكثر من أهل العراق بالضعف ذلك اليوم ، فلما نظر عمرو بن العاص إلى أهل العراق استقلّهم وطمع فيهم فرجع إلى معاوية وقال له : اعصب هذا الأمر برأسي.

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٣٠٥.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٣٧٩ ، ٣٨٠. والآية ٣٥ من سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.


ثمّ تقدم وقال لابنيه محمد وعبد الله : أخّروا الحاسرين وقدّموا الدّارعين ، ثمّ قدّم قيسا وكلبا وكنانة على الخيول ، وقرب حوله أهل اليمن ، وقعد هو على منبر وقال لهم : لا يقربنّ هذا المنبر أحد إلّا قتلتموه كائنا من كان!

وجعل معاوية بإزاء مذحج من العراق قبيلة عكّ ، وكانوا يقلبون الجيم كافا فطرحوا حجرا بين أيديهم وقالوا : لا نفرّ حتى يفرّ هذا الحكر (بالكاف).

وأمر الإمام كل قبيلة من أهل العراق أن تكفيه مثلها من أهل الشام.

فلما حضرت الحرب أتوه بفرسه فركبه وذكر أذكارا ودعا بدعوات كان منها : اللهم إنا نشكو إليك غيبة نبيّنا ، وقلّة عددنا ، وكثرة عدوّنا ، وتشتّت أهوائنا ، وشدة الزمان بنا ، وظهور الفتن بيننا ، فأعنّا (على ذلك) بفتح تعجّله (وبضرّ تكشفه) ونصر تعزّه ، وسلطان حقّ تظهره ، ثمّ قال : سيروا على بركة الله (١).

بعض المبارزات :

وخرج رجل من أهل الشام إلى ما بين الصفّين فنادى : من يبارز؟ فخرج إليه رجل من أهل العراق فتقاتلا حتى تعانقا فوقعا بين قوائم فرسيهما ، وغلب العراقي فجلس على صدر الشامي وكشف مغفره يريد ذبحه وتوقّف! فناداه أصحابه : أجهز عليه فنادى : هو أخي! فقالوا له : فاتركه فقال : لا إلّا أن يأذن لي أمير المؤمنين ، فاخبر به فأذن له فتركه ، ولكنّه عاد إلى معاوية (٢).

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٢٦ ـ ٢٣١.

(٢) وقعة صفين : ٢٧٢ وليس كلّهم هكذا ، ففيه : أن ذا نواس العبدي ـ وكان من أهل الكوفة فلحق بمعاوية ـ خرج يسأل المبارزة! فخرج إليه ابن عمه الحارث العبدي فلما انتميا إلى عشائرهما من عبد قيس فعرف كلّ منهما صاحبه تتاركا : ٢٧٠ و : خرج


وكان الإمام عليه‌السلام يباشر بنفسه القتال ولم يكن معاوية يشارك في ذلك ، ولكن كان له مولى ذا بأس شديد يلبس سلاح معاوية ويتشبّه به فإذا قاتل قال الناس :

ذاك معاوية! وكان معاوية قد أمره أن يتّقي الإمام عليه‌السلام ثمّ يبارز من شاء أو يحارب كيفما شاء. فقال له عمرو بن العاص : إنما كره معاوية أن يكون لك حظّ قتل عليّ! لأنّك لست من قريش ، ولو كنت قرشيّا لأحبّ ذلك منك ، فإن رأيت فرصة فاقتحم!

وخرج علي عليه‌السلام هذا اليوم أمام الخيل ، فناداه حريث : يا علي : هل لك في المبارزة؟

فأقبل عليه علي عليه‌السلام وهو يرتجز له ، ثمّ ما أمهله أن ضربه ضربة واحدة فقطعه نصفين! فلما بلغ ذلك معاوية جزع عليه جزعا شديدا وعاتب عمرا لإغرائه إياه.

__________________

ـ سويد بن قيس الأرحبي الهمداني من عسكر معاوية يسأل المبارزة ، فخرج إليه من عسكر العراق أبو العمرّطة قيس بن عمرو وهو ابن عمّ سويد ، فلما تقاربا تعارفا وتواقفا وتساءلا ودعا كل منهما صاحبه إلى ما هو عليه! ثمّ انصرف كل منهما إلى أصحابه : ٢٦٨. وكرّر خبره في : ٢٨٥ فقال : خرج قيس بن يزيد الكندي ـ وليس الأرحبي الهمداني ـ وهو ممن فرّ من علي عليه‌السلام إلى معاوية (وسأل البراز) فخرج إليه من أصحاب علي عليه‌السلام : أبو العمرّطة قيس بن عمرو ، فلما دنا منه عرفه فانصرف كل منهما عن صاحبه! وبرز أثال بن حجل بن عامر بدعوة الأشتر ، ودعا للمبارزة وكان أبوه حجل بن عامر عامرا لديار الشام وعرفهما معاوية فدعا حجلا وقال له : دونك الرجل! ولم يعرّفه به ، فبرز إليه وبادره بطعنة رمحه وطعنه ابنه ، وانتميا فإذا هو ابنه! فنزلا واعتنقا وبكيا ، وقال الأب لابنه : أي أثال ؛ هلمّ إلى الدنيا؟ فأجابه ابنه : وا سوأتاه! فما أقول لعليّ وللمؤمنين الصالحين؟! ولو كان من رأيي الانصراف إلى أهل الشام لوجب عليك أن تنهاني! فأنا أكون على ما أنا عليه وكن على ما أنت عليه. وانصرفا : ٤٤٣.


وبرز عمرو بن حصين السكسكي فنادى : يا أبا الحسن هلمّ إلى المبارزة؟ ثمّ حمل على علي ليضربه فبادره سعيد بن قيس الهمداني ففلق صلبه.

ثمّ قام علي عليه‌السلام بين الصفّين ونادى مكرّرا : يا معاوية! وبلغ ذلك معاوية فقال : اسألوه ما يريد؟ فسألوه ذلك فقال : احبّ أن يظهر لي فاكلّمه كلمة واحدة. فبرز معاوية ومعه عمرو بن العاص ، فلما قارباه قال لمعاوية : ويحك! علام يقتتل الناس بيني وبينك ويضرب بعضهم بعضا؟ ابرز إليّ فأيّنا قتل صاحبه فالأمر له!

فالتفت معاوية إلى عمرو وقال له : ما ترى يا أبا عبد الله؟ قال : لقد أنصفك الرجل ، واعلم أنّه إن نكلت عنه لم تزل سبّة عليك وعلى عقبك ما بقي عربي! فقال معاوية : يا عمرو بن العاص ، ليس مثلي يخدع عن نفسه ، والله ما بارز ابن أبي طالب رجلا قط إلّا سقى الأرض من دمه! ثمّ انصرف ومعه عمرو ، فضحك علي عليه‌السلام وعاد إلى موقفه. وقال معاوية لعمرو : ما أظنك يا عمرو إلّا مازحا! ويحك يا عمرو ما أحمقك! أتراني أبرز إليه ودوني الأشعريون وجذام وعكّ؟ وحقدها معاوية على عمرو (١).

ثمّ قاتلت النخع قتالا شديدا فأصيب يومئذ من معاريفهم : بكر بن هوذة ، وحنان بن هوذة ، وشعيب بن نعيم ، وربيعة بن مالك ، وابي بن قيس (٢) وقطعت رجل أخيه الفقيه علقمة بن قيس (٣).

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٧٣ ـ ٢٧٥.

(٢) وله قبر قرب قبر عمار بن ياسر في بقعته في صفّين.

(٣) وقعة صفين : ٢٨٧ وتمام الخبر : وكان يقول : ما أحبّ أن رجلي أصحّ مما كانت لما أرجو بها من حسن الثواب من ربّي ، ولقد كنت أحبّ أن أبصر أخي في نومي ، فرأيته فقلت له : يا أخي ، ما ذا قدمتم عليه؟ قال : التقينا نحن والقوم عند الله عزوجل فاحتججنا فحججناهم ـ أي غلبت حجّتنا حجّتهم ـ فما سررت بشيء مذ عقلت كسروري بتلك الرؤيا.


وخطب سعيد بن قيس أصحابه ليلا فقال : «الحمد لله الذي هدانا لدينه وأروثنا كتابه ، وامتنّ علينا بنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فجعله رحمة للعالمين وسيّدا للمسلمين ، وقائدا للمؤمنين وخاتم النبيين ، وحجّة الله العظيم على الماضين والغابرين ، فصلوات الله عليه ورحمته وبركاته.

ثمّ قد كان مما قضى الله وقدّره ، والحمد لله على ما أحببنا وكرهنا : أن ضمّنا وعدوّنا بقناصرين (من صفين) فلا يجمل بنا اليوم الحياص (أن نحوص) وليس هذا بأوان انصراف ولات حين مناص. وقد اختصّنا الله منه نعمة لا نستطيع أداء شكرها ولا أن نقدر قدرها : أنّ أصحاب محمد المصطفين الأخيار معنا وفي حيّزنا. فو الله الذي هو بالعباد بصير : أن لو كان قائدنا حبشيا مجدّعا إلّا أنّ معنا من البدريين سبعين رجلا لكان ينبغي لنا أن تحسن بصائرنا وتطيب أنفسنا ، فكيف وإنما رئيسنا ابن عمّ نبيّنا. بدريّ صدق ، صلّى صغيرا ، وجاهد مع نبيّكم كبيرا.

ومعاوية طليق من وثاق الإسار وابن طليق! ألا إنه أغوى جفاة فأوردهم النار وأورثهم العار ، والله محلّ بهم الذلّ والصّغار.

ألا إنكم ستلقون عدوّكم غدا ، فعليكم بتقوى الله والجدّ والحزم والصدق والصبر فإن الله مع الصابرين. ألا إنكم تفوزون بقتلهم ويشقون بقتلكم ؛ والله لا يقتل رجل منكم رجلا منهم إلّا أدخل الله القاتل جنات عدن وأدخل المقتول نارا تلظّى (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)(١) ، عصمنا الله وإياكم بما عصم به أولياءه ، وجعلنا وإياكم ممّن أطاعه واتّقاه ، واستغفر الله لنا ولكم وللمؤمنين» (٢).

__________________

(١) الزخرف : ٧٥.

(٢) وقعة صفين : ٢٣٦ ـ ٢٣٧.


ويوم الخميس ٩ صفر وبعض الخطب :

لما طلع الفجر ليوم الخميس التاسع من صفر بادر الإمام بصلاة الفجر ، ثمّ خرج بالناس فزحف بهم ودعا بدعاء طويل نسبيّا وقال في آخره : إن أظهرتنا على عدوّنا فجنّبنا البغي وسدّدنا للحقّ وإن أظهرتهم علينا فارزقنا الشهادة ، واعصم بقيّة أصحابي من الفتنة.

فلما رأوه أقبل خرجوا إليه بزحوفهم ، وكان يومئذ على ميمنته عبد الله بن بديل الخزاعي ، وعلى ميسرته عبد الله بن العباس ، وهو في القلب في أهل المدينة والكوفة والبصرة ، وأكثرهم من أهل المدينة من الأنصار ومن خزاعة وكنانة. وكان القرّاء مع عمار بن ياسر وقيس بن سعد وابن بديل (١).

وخطب الإمام فقال : «إنّ الله عزوجل قد دلّكم على تجارة تنجيكم من العذاب ، وتشفي بكم على الخير : إيمان بالله ورسوله وجهاد في سبيله ، وجعل ثوابه مغفرة الذنوب ، ومساكن طيّبة في جنات عدن ، ورضوان من الله أكبر ، وأخبركم بالذي يحبّ فقال : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ)(٢) فسوّوا صفوفكم كالبنيان المرصوص ، وقدّموا الدارع وأخّروا الحاسر ، وعضّوا على الأضراس فإنه أنبى للسيوف عن إلهام وأربط للجأش وأسكن للقلب. وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل وأولى بالوقار. والتووا في أطراف الرماح ، فإنه أمور للأسنّة ، وراياتكم فلا تميلوها ولا تزيلوها ، ولا تجعلوها إلّا في أيدي شجعانكم المانعي الذّمار ، والصّبر عند نزول الحقائق ، أهل الحفاظ الذين يحفّون براياتكم ويكتنفونها ، يضربون خلفها وأمامها ولا يضيّعونها. أجزأ كلّ امرئ منكم ـ رحمه‌الله ـ وقد قرنه ، وواسى أخاه بنفسه ، ولم يكل قرنه إلى أخيه

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٣٢.

(٢) الصف : ٤.


فيجتمع عليه قرنه وقرن أخيه فيكتسب بذلك لائمة ويأتي به دناءة! وأنّى هذا وكيف يكون هكذا؟! هذا يقاتل اثنين وهذا ممسك يده قد خلّى قرنه على أخيه هاربا منه أو قائما ينظر إليه! ومن يفعل هذا يمقته الله فلا تعرّضوا لمقت الله فإنما مردّكم إلى الله. (وقد) قال الله لقوم : (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً)(١) وايم الله لئن فررتم من سيف العاجلة فلا تسلمون من سيف الآخرة! استعينوا بالصدق والصبر ، فإنه بعد الصبر ينزل النصر» (٢) ، اللهم إليك نقلت الأقدام ، وإليك أفضت القلوب ورفعت الأيدي ومدّت الأعناق وطلبت الحوائج وشخصت الأبصار ، اللهم افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين. وكانوا يدقّون الطبول ويقولون : عليّ المنصور (٣).

وخطب عبد الله بن بديل الخزاعي أصحابه فقال لهم : إنّ معاوية ادّعى ما ليس له ، ونازع الأمر أهله ومن ليس مثله ، وجادل بالباطل ليدحض به الحق ، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب ، وزيّن لهم الضلالة ، وزرع في قلوبهم حبّ الفتنة ، ولبّس عليهم الأمر. قاتلوا الطّغام الجفاة ولا تخشوهم ، وكيف تخشونهم وفي أيديكم كتاب من ربّكم ظاهر مبرز : (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ)(٤) وقد قاتلناهم مع النبيّ مرّة وهذه ثانية ، فو الله ما هم بأزكى ولا أتقى ولا أبرّ! قوموا إلى عدوّ الله وعدوّكم (٥).

__________________

(١) الأحزاب : ١٦.

(٢) وقعة صفين : ٢٣٥ ـ ٢٣٦ ، والكافي ٥ : ٣٩ ، والإرشاد للمفيد ١ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٢١٠ مرسلا.

(٤) التوبة : ١٣ ـ ١٤.

(٥) وقعة صفين : ٢٣٤.


وخطب الأشتر الناس وهو على فرس أدهم أسود فقال :

«الحمد لله الذي خلق السماوات العلى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى * لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى)(١) أحمده على حسن البلاء وتظاهر النعماء ، حمدا كثيرا بكرة وأصيلا ، من يهد الله فقد اهتدى ومن يظلل الله فقد غوى. أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالصواب والهدى ، وأظهره على الدين كله ولو كره المشركون.

ثمّ قد كان مما قضى الله وقدّر أن ساقتنا المقادير إلى هذه البقعة من الأرض ، ولفّ بيننا وبين عدوّنا ، فنحن بحمد الله ونعمته وفضله قريرة أعيننا وطيبة أنفسنا ، نرجو في قتالهم حسن الثواب والأمن من العقاب ، معنا ابن عمّ نبينا وسيف من سيوف الله علي بن أبي طالب ، صلّى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يسبقه بالصلاة ذكر حتى كان شيخا. لم تكن له صبوة ولا نبوة ولا هفوة ، فقيه في دين الله عالم بحدود الله ، ذو رأي أصيل وصبر جميل ، وعفاف قديم. فاتقوا الله وعليكم بالحزم والجدّ ، واعلموا أنكم على الحقّ وأن القوم يقاتلون مع معاوية على الباطل ، وأنتم مع قريب من مائة بدريّ ومن سوى ذلك من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أكثر ما معكم رايات قد كانت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومع معاوية رايات كانت مع المشركين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فما يشك في قتال هؤلاء إلّا ميّت القلب! وإنما أنتم في قتالهم على إحدى الحسنيين : إمّا الفتح وإمّا الشهادة. عصمنا الله وإياكم بما عصم به من أطاعه واتّقاه ، وألهمنا وإياكم طاعته وتقواه ، وأستغفر الله لي ولكم» (٢).

وخطب يزيد بن قيس الأرحبي الهمداني فقال : والله إنّ هؤلاء القوم ما يقاتلوننا على إقامة دين رأونا ضيعناه ، ولا إحياء عدل رأونا أمتناه ، ولا يقاتلوننا

__________________

(١) طه : ٥ ـ ٦.

(٢) وقعة صفين : ٢٣٨ ـ ٢٣٩.


إلّا على إقامة الدنيا ليكونوا فيها ملوكا جبابرة ، فلو ظهروا عليكم ـ لا أراهم الله ظهورا ولا سرورا ـ إذا ألزموكم مثل سعيد والوليد وعبد الله بن عامر السفيه ، يحدّث أحدهم في مجلسه بذيت وذيت ، ويأخذ مال الله ويقول : هذا لي ولا إثم عليّ فيه! كأنما أعطي تراثه من أبيه! وإنما هو مال الله أفاءه الله علينا بأسيافنا ورماحنا.

عباد الله ، قاتلوا القوم الظالمين ، الحاكمين بغير ما أنزل الله ، ولا تأخذكم في جهادهم لومة لائم ، إنهم إن يظهروا عليكم يفسدوا دينكم ودنياكم ، فهم من قد عرفتم وجرّبتم ، والله ما أرادوا بهذا إلّا شرّا. وأستغفر الله العظيم لي ولكم (١).

وكان اليوم التاسع من صفر من الأيام العظيمة ذي الأهوال الشديدة في صفّين (٢).

وأخرج الإمام عليه‌السلام مصحفا ورفعه ونادى : من يذهب بهذا المصحف إلى هؤلاء القوم فيدعوهم إلى ما فيه؟ فأقبل فتى اسمه سعيد بن قيس فقال : أنا صاحبه! فأعادها علي عليه‌السلام فسكت الناس وأقبل الفتى فقال : أنا صاحبه! فناوله الإمام إياه فقبضه بيده وذهب به إلى معاوية فدعاهم إلى ما فيه ، فقتلوه (٣).

حجر الخير وحجر الشر :

مرّ أن الحجر بن عديّ الكندي كان على كندة الكوفة ، وكان له ابن عم يدعى حجر بن يزيد وكان مع الإمام عليه‌السلام في الجمل ، ولكنّه انفصل عنه عليه‌السلام واتّصل بمعاوية في صفين فسمّى حجر الشرّ.

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

(٢) وقعة صفين : ٢٤٣ وطبع : السابع ، تصحيف.

(٣) وقعة صفين : ٢٤٤ ـ ٢٤٥.


وبرز أوّل الفرسان في هذا اليوم الحكم بن أزهر الكندي فبرز إليه حجر الشر وقتل الحكم ، ثمّ دعا حجر الخير لمبارزته ، فأجابه وأخذا يتطاعنان برمحيهما ، فبرز رجل أسدي من الشام برمحه لنصر حجر الشر فطعن حجر الخير ، فحمل أصحاب الإمام عليه فقتلوه وأفلت حجر الشر ... ثمّ حمل عليه رفاعة بن ظالم الحميري فقتله ، فقال علي عليه‌السلام : الحمد لله الذي قتل حجرا بالحكم بن أزهر (١).

مقتل ابن بديل الخزاعي :

وكان عبد الله بن بديل الخزاعي على ميمنة الإمام عليه‌السلام ، وعليه درعان وسيفان ، وكان أخوه عثمان قد قتل ، فجعل يضرب الناس بسيفه قدما ، ولم يزل يحمل حتى اختلط الناس واضطرم الفريقان : ميمنة أهل العراق وميسرة أهل الشام ، ولم يزل يضرب الناس بسيفه قدما حتّى انتهى إلى معاوية ومعه مبايعوه على الموت دونه ، فأمرهم معاوية أن يصمدوا له ، وأرسل إلى أمير ميسرته حبيب بن مسلمة الفهري أن يحمل دونه بجميع من معه ، وأزال ابن بديل معاوية ومن معه عن موقفهم ، وتراجعوا عن مكانهم القهقرى كثيرا ، وأشفق على نفسه ، وأرسل إلى حبيب ثانية وثالثة يستصرخه ، وحمل حبيب بمسيرة الشام على ميمنة العراق حملة شديدة حتى انكشفوا عنه ولم يبق منهم مع ابن بديل إلّا نحو مائة من القرّاء ، ومع ذلك لجّ ابن بديل مصمّما على قتل معاوية ، وجعل يطلب موقفه ويصمد نحوه حتّى انتهى إليه ، واستند القرّاء المائة معه بعضهم إلى بعض يحمون أنفسهم ، ونادى معاوية بأصحابه : ويلكم الصخر والحجارة ، فأخذوا يرضخونه بالحجارة حتّى أثخنوه جراحا وحتّى قتل شهيدا.

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٤٣ ـ ٢٤٤.


وكان عبد الله بن عامر بن كريز واقفا مع معاوية ، وكان من قبل صديقا لابن بديل ، وخاف أن يمثّل به معاوية فألقى عمامته عليه ، فأعطاه معاوية عهدا أن لا يمثّل به فرفع عمامته عن وجه ابن بديل ، فنظر إليه معاوية وقال : هذا كبش القوم وربّ الكعبة ... مع أن نساء خزاعة لو قدرت على أن تقاتلني لفعلت فضلا عن رجالها (١).

ولما استلحم ابن بديل وأصحابه القرّاء المائة من الميمنة ، تقدّم زياد بن النضر الحارثي الهمداني فرفع رايته لأهل الميمنة واجتمع إليه جمع منهم فقاتل بهم حتّى صرع وحمل ، فلما صرع زياد رفع يزيد بن قيس الهمداني رايته لهم واجتمع إليه جمع منهم فقاتل بهم حتى صرع وحمل (٢).

وكأنّه لإنقاذ أولئك القرّاء مع الخزاعي أمر الإمام سهل بن حنيف الأنصاري بمن معه من أهل المدينة أن يستقدموا لإنقاذهم ، فاستقدموا ، ولكن استقبلتهم من أهل الشام جموع في خيل عظيم حملوا عليهم فألحقوهم بميمنة الإمام المنكشفة (٣).

وكان من الميمنة ثمانمائة من شباب همدان ، وكانت رايتهم مع أبناء شريح الستة ، كلما قتل منهم رجل أخذ الراية آخر ، حتى قتل هؤلاء الإخوة الستة جميعا ، ثمّ أخذ الراية الإخوة الثلاثة أبناء زيد فقتل هؤلاء الإخوة الثلاثة جميعا ، ثمّ أخذ الراية ابنا بشر فقتلا ، ثمّ أخذ الراية أبو القلوص فأراد أن يستقبل أو يستقتل فقال له بعضهم : لقد قتل أشراف قومك حولها فلا تقتل نفسك ولا من بقي ممّن معك ، فانصرفوا آخر الناس وقد صبروا حتى أصيب مائة وثمانون رجلا منهم ، وانصرفوا وهم يقولون : ليت لنا عديدا من العرب يحالفوننا ثمّ نستقدم فلا ننصرف حتّى نقتل أو نظهر (٤).

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٤٥ ـ ٢٤٧ ، وفي مروج الذهب ٢ : ٣٨٧ ـ ٣٨٨.

(٢) وقعة صفين : ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

(٣) وقعة صفين : ٢٤٨.

(٤) وقعة صفين : ٢٥٢ ـ ٢٥٣.


فرّ الميمنة وكرّها :

كان موقف الإمام عليه‌السلام مع أهل اليمن في قلب العسكر ، وكانت الميمنة متصلة إلى موقفه عليه‌السلام ، فلما انكشفوا انتهت الهزيمة إلى علي ، فانصرف علي يمشي إلى الميسرة يمرّ ومعه بنوه ، والنبال تمر بين عاتقه ومنكبيه ، وبنوه يقونه بأنفسهم فيتقدم عليهم ويحول بينه وبين أهل الشام أو يأخذ بيده فيلقيه بين يديه أو ورائه ، وكان معه مولاه كيسان (فارسي).

ورآه أحمر من موالي بني أمية : عثمان أو أبي سفيان ، فأقبل نحوه ويقول : هذا عليّ وربّ الكعبة ، قتلني الله إن لم أقتلك أو تقتلني! فخرج إليه كيسان فقتله المولى الشامي وتوجّه بسيفه إلى الإمام عليه‌السلام فمدّ علي يده على جيب درعه فجذبه وحمله على عاتقه ثمّ ضرب به الأرض فكسر منكبه وعضده ، وعطف عليه ابناه الحسين ومحمد فضرباه بسيفهما فقتلاه ، وبقي الحسن قائما مع أبيه وقال له : ما ضرّك لو سعيت حتّى تنتهي إلى هؤلاء من أصحابك الذين صبروا لعدوّك؟ يعني ربيعة الميسرة.

فقال عليه‌السلام : يا بني ، إنّ لأبيك يوما لن يعدوه ولا يبطئ به عنه السعي ولا يعجّل به إليه المشي ، إنّ أباك والله لا يبالي وقع على الموت أو وقع الموت عليه.

وقال عليه‌السلام : إنه ليس من أحد إلّا عليه من الله حفظة يحفظونه من أن يتردّى في قليب ، أو يخرّ عليه حائط ، أو تصيبه آفة ، فإذا جاء القدر خلّوا بينه وبينه.

ثمّ أقبل علي عليه‌السلام يركض نحو ميسرته حتى مرّ بالأشتر فناداه : يا مالك! قال : لبّيك يا أمير المؤمنين. قال : ائت هؤلاء القوم وقل لهم : أين فراركم من الموت الذي لن تعجزوه إلى الحياة التي لا تبقى لكم؟!

فمضى الأشتر حتى استقبل الناس منهزمين فناداهم : أيها الناس إليّ أنا الأشتر. فذهب بعضهم وأقبلت عليه طائفة منهم ... ثمّ قال لهم : أخلصوا لي مذحجا ، فاجتمع إليه قومه مذحج فناداهم : عضضتم بصمّ الجندل! والله ما أرضيتم اليوم ربّكم


ولا نصحتم له في عدوّه ، فكيف بذلك وأنتم أبناء الحرب وأصحاب الغارات وفتيان الصباح (الغارة) وفرسان الطّراد وحتوف الأقران ومذحج الطعان ، الذين لم يكونوا يسبقون بثارهم ولا تطلّ دماؤهم ، ولا يعرفون في موطن من المواطن بخسف ، وأنتم أحدّ أهل مصركم وأعدّ حيّ في قومكم ، وما تفعلوا في هذا اليوم فإنه مأثور بعد اليوم ، فاتّقوا مأثور الحديث في غد ، وأصدقوا في عدوّكم اللقاء ، فإن الله مع الصابرين. والذي نفس مالك بيده ما من هؤلاء (أهل الشام) رجل على جناح بعوضة من دين الله ، والله ما أحسنتم اليوم القراح. أجلوا سواد وجهي يرجع دمي في وجهي. عليكم بهذا السواد الأعظم ، فإنّ الله لو فضّه تبعه من بجانبه كما يتبع السيل مقدّمه.

فتنادوا : خذ بنا حيث أحببت. فصمد بهم نحو الميمنة يزحف إليهم ويردّهم ، حتّى استقبله الثمانمئة من شباب همدان فوقفوا معه وزحف بهم الأشتر نحو الميمنة ، وثاب إليه ناس من أهل البصيرة والحياء والوفاء تراجعوا إليه ، فبدأ لا يعمد لكتيبة إلّا كشفها ولا لجمع إلّا حازه وردّه (١).

وكانت بيده صفيحة يمانية إذا طأطأها تخال فيها ماء منصبّا ، وإذا رفعها فلها شعاع يكاد يغشي البصر (٢) وكان هو طويلا عظيما غير ضخم في لحمه.

فلما اجتمع إليه أكثر المنهزمين من الميمنة قال لهم : استقبلوا القوم بهاماتكم وعضّوا على النواجذ والأضراس ، وإن الفرار من الزحف فيه سلب العزّ والغلبة على الفيء ، وذلّ المحيا والممات ، وعار الدنيا والآخرة!

ثمّ حمل بهم على ميسرة الشام بعد صلاة العصر حتى كشفهم وألحقهم بمضرب معاوية (٣).

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٥٠ ـ ٢٥٢.

(٢) وقعة صفين : ٢٥٥.

(٣) وقعة صفين : ٢٥٥.


وخطبة الإمام لهم :

فلما رأى الإمام عليه‌السلام ميمنته قد عادت إلى موقفها ومصافّها ، وكشفوا من بإزائهم بل ضاربوهم في مواقفهم ومراكزهم ، عاد حتّى انتهى إليهم وخطبهم فقال لهم :

إني قد رأيت جولتكم وانحيازكم عن صفوفكم يحوزكم الجفاة الطّغام وأعراب أهل الشام! وأنتم لهاميم العرب والسنام الأعظم ، وعمّار الليل بتلاوة القرآن! وأهل دعوة الحق إذ ضلّ الخاطئون. فلولا إقبالكم بعد إدباركم ، وكرّكم بعد انحيازكم ، وجب عليكم ما وجب على المولّي دبره يوم الزحف ، وكنتم فيما أرى من الهالكين! ولقد هوّن عليّ بعض وجدي وشفى بعض أحاح (غيظ) نفسي : أنّي رأيتكم بأخرة حزتموهم كما حازوكم ، وأزلتموهم عن مصافّهم كما أزالوكم ، تحوزونهم بالسيوف ليركب أوّلهم آخرهم كالإبل المطّردة إليهم ، فالآن فاصبروا ، انزلت عليكم السكينة ، وثبّتكم الله باليقين. وليعلم المنهزم أنه مسخط لربّه وموبق نفسه ، وفي الفرار موجدة الله عليه والذلّ اللازم والعار الباقي ، واعتصار الفيء من يده وفساد العيش ، وأن الفار لا يزيد الفرار في عمره ولا يرضي ربّه. فموت الرجل محقّا قبل إتيان هذه الخصال خير من الرضا بها والإقرار عليها (١).

وإلى معاوية ثانية :

وكان معاوية أمر فاقيمت له قبة كرباس (قماش) عظيمة جلس تحتها (٢) وقد أوقف على رأسه رجلا قائما رافعا على رأسه ترسا مذهّبا يستره به عن الشمس : وكان في خيل عظيمة من أصحابه عليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي ، وكان يعدّه ولدا له!

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٥٦.

(٢) وقعة صفين : ٢٣٣ ـ ٢٣٤ ، والكرباس معرّب عن الفارسية : كارباش : قماش الأعمال.


وقبل أن يتحاجزوا اليوم مع المغرب قال بنو بجيلة لأبي شداد قيس بن مكشوح الأحمسي : خذ رايتنا فقال لهم : غيري خير لكم مني. قالوا : ما نريد غيرك. قال : لئن أعطيتمونيها فو الله لا أنتهي بكم دون صاحب التّرس المذهّب يعني معاوية! قالوا : فاصنع ما شئت! فأخذها وزحف بها وهو يرتجز لهم ، ولم يتوقف حتى انتهى إلى معاوية ، فهناك حول معاوية اقتتل الناس قتالا شديدا ، وشدّ أبو شداد نحو صاحب التّرس ، وكان لمعاوية مولى روميّ قوي فتعرّض لأبي شداد فضرب رجله فقطعها ، وضربه أبو شداد فقتله ، وأخذت الأسنة أبا شداد فقتل ، وأخذ رايته عبد الله بن قلع الأحمسي فقاتل حتى قتل ، فأخذ رايته أخوه عبد الرحمن فقاتل حتّى قتل ، فأخذها عفيف بن إياس الأحمسي فقاتل حتّى دنا الغروب فتحاجزوا.

وكان من قتلاهم هناك نعيم بن صهيب البجلي ، وكان ابن عمّه نعيم بن الحارث مع معاوية ، وكان معاوية لا يواري غير قتلاه ولا يأذن بدفنهم! فاستأذنه نعيم لدفن ابن عمّه فأبى لأنّ عثمان لم يدفن إلّا سرّا! فهدّده إن لم يأذن له أن يلحق بأهل العراق! فأذن فدفنه (١).

وحين القتال قبل وقفه أرسل رأس خثعم الشام إلى رأس خثعم العراق : أن لا تقاتلونا فإن ظهر صاحبنا كنتم معنا ، ولا نقاتلكم فإن ظهر صاحبكم كنا معكم! فأبى أبو كعب رأس خثعم العراق ، والتقوا فتقاتلوا ، وحمل أحدهم على أبي كعب فطعنه وقتله ورجع يبكي ويقول : رحمك الله يا أبا كعب! لا أرى قريشا إلّا قد لعبت بنا! أنت أمسّ بي رحما وأحبّ نفسا فما أدري ما أقول! وصرع حول رايتهم منهم ثمانون رجلا واصيب من خثعم الشام نحو منهم (٢).

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٥٨ ـ ٢٥٩.

(٢) وقعة صفين : ٢٥٧ ـ ٢٥٨.


فهذا من نماذج الأخبار التي تكشف عن مستوى إيمان الفريقين بعدالة قضيّتهم يوم لقائهم ، وأنّ ضعف إيمان فريق منهم لم يفت في أعضادهم ولا في إقدامهم على أن يقتلوا أو يقتلوا ويخسروا الدارين!

وقارن هذا بمقال جندب بن زهير الأزدي لما ندب أزد العراق إلى أزد الشام فقال : والله لو كنّا آباءهم ولدناهم أو كنّا أبناءهم ولدونا ، ثمّ خرجوا من جماعتنا وطعنوا على إمامنا ، وآزروا الظالمين والحاكمين بغير الحق ، على أهل ملّتنا وديننا ، ما افترقنا بعد أن اجتمعنا حتى يرجعوا عمّا هم عليه ، ويدخلوا فيما ندعوهم إليه ، أو تكثر القتلى بيننا وبينهم!

قاله جوابا لأمير رايتهم مخنف بن سليم لما قال : إنّ من الخطب الجليل والبلاء العظيم : أنا صرفنا إلى قومنا وصرفوا إلينا ، فو الله ما هي إلّا أيدينا نقطعها بأيدينا! وما هي إلّا أجنحتنا نحذفها بأسيافنا! فإن نحن لم نفعل لم نناصح صاحبنا ولم نواس جماعتنا (أمّا ديننا!) وإن نحن فعلنا فعزّنا أبحنا ونارنا أخمدنا (١)!

وأمر الميسرة في ذلك اليوم :

كان ذلك شأن ميمنة الإمام عليه‌السلام يوم الخميس التاسع من شهر صفر القتال. وأما خبر الميسرة في ذلك اليوم : فقد كان ذو الكلاع الحميري على حمير ومن لفّ لفّها في ميمنة أهل الشام ، ومعها عبيد الله بن عمر بن الخطاب في أربعة آلاف من قرّاء أهل الشام! قد بايعوا على الموت وثيابهم خضر أو عمائمهم! وكانت ربيعة في ميسرة العراق وعليهم عبد الله بن العباس ، ولم يكن للعراق قبائل أكثر عددا منها ومن همدان ومذحج. وضرب معاوية لحمير بسهم القرعة على القبائل الثلاث ،

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٦٢.


فخرج سهم حمير على ربيعة ، فكرهه ذو الكلاع وقبل به ، ثمّ أقبل ومعه ابن عمر وحمل على ربيعة بخيله ورجاله حملة شديدة ، فتضعضعت رايات ربيعة ثمّ ثبتوا إلّا قليلا. وانصرف الشاميون ثمّ كرّوا ثانية فشدّوا على ربيعة حملة شديدة فثبتوا إلّا قليلا (١).

وكان الإمام عليه‌السلام قد أعطى راية الميسرة السوداء أو الحمراء إلى حضين بن المنذر الرقاشي الذهلي وكان شابا وقال له : سر على اسم الله يا حضين ، واعلم أنه لا يخفق على رأسك راية مثلها أبدا ، إنها راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

فتقدم إليه أبو عرفاء جبلة بن عطية الذهلي وهو شيخ منهم فقال له : أعرني رايتك ساعة ، فما أسرع ما ترجع إليك! فعلم أنه يشير إلى الشهادة فأعطاه إيّاها فأخذها وخاطبهم فقال لهم :

يا أهل هذه الراية ، إنّ عمل الجنة كره كلّه وثقيل ، وإنّ عمل النار حبّ كلّه وخفيف ، وإنّ الجنة لا يدخلها إلّا الصابرون الذين صبروا أنفسهم على أمر الله وفرائضه ، وليس شيء مما افترض الله على العباد أشدّ من الجهاد ... ويحكم (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ)(٣) أما تشتاقون إلى الجنّة؟ فإذا رأيتموني قد شددت فشدّوا. ثمّ شدّ على القوم فشدّوا معه فقاتل وقاتلوا معه قتالا شديدا حتّى قتل ، فشدّت ربيعة بعده شدة عظيمة على صفوف أهل الشام فنقضوها (٤).

واشتدّ قتال ربيعة وحمير حتّى كثرت القتلى فيما بينهم. ثمّ خرج نحو من خمس مائة فارس أو أكثر من أصحاب علي عليه‌السلام وهم غائصون في الحديد وعلى رءوسهم

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٩١.

(٢) وقعة صفين : ٣٠٠ ، وانظر وقارن : أنساب الأشراف ٢ : ٢٦٩ ، الحديث ٣٤٨ والهامش.

(٣) النور : ٢٢.

(٤) وقعة صفين : ٣٠٤ ـ ٣٠٥.


البيض لا يرى منهم إلّا الحدق. وخرج إليهم من أهل الشام نحوهم في العدد فاقتتلوا بين الصفين حتّى قتلوا جميعا! وكان في صفّين تلّ تلقى عليه جماجم الرجال فكان يدعى تلّ الجماجم (١).

وكانت ربيعة من بكر بن وائل ، ومنها عبد القيس ، فلما خاف أمير عبد القيس : زياد بن خصفة العبدي الهلاك على ربيعة ، قال لقومه : إن ذا الكلاع وعبيد الله أبادا ربيعة فانهضوا لهم وإلّا هلكوا ولا بكر بعد اليوم! فركبت عبد القيس وجاءت كأنها غمامة سوداء فشدّت إزاء الميسرة وعظم القتال (٢).

فقابل أهل الشام هذه النجدة البكرية بأن شدّ الأشعريون وجذام وعكّ ولخم على بكر بن وائل ومذحج معهم ، فنادى منادي مذحج : يا آل مذحج عليكم بسوقهم! فأغراهم بسوق القوم فكان بوارهم (٣).

وكان من ذوي البصائر مع علي عليه‌السلام من حمير رجل يدعى أبا شجاع ، فنادى ذا الكلاع : يا ذا الكلاع! إن كنا نرى أن لك نيّة في الدين! يا معشر حمير! أترون معاوية خيرا من علي! أضلّ الله سعيكم وتربت أيديكم! وعرفه ذو الكلاع فأجابه : إيها أبا شجاع ، والله فاعلمن : ما معاوية بأفضل من علي! ولكن إنما اقاتل على دم عثمان! فشدّ عليه خندف بن بكر البكري في المعركة فقتله ، ثمّ حمله إلى

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٩٠ و ٢٩٣ وفيه هنا : كان المنادي الشامي ينادي : ألا إنّ معنا الطيّب ابن الطيّب ، يعني عبيد الله بن عمر ، والمنادي العراقي ينادي : ألا إن معنا الطيّب ابن الطيّب ، يعني محمد بن أبي بكر! وقد مرّ خبر إرسال الإمام له من الكوفة إلى مصر وعزل قيس بن سعد الأنصاري ، اللهمّ إلّا أن يقال : معنا أي في الرأي والهوى ، وهو بعيد.

(٢) وقعة صفين : ٢٩٧.

(٣) وقعة صفين : ٣٠١.


جانب فسطاطه في الميسرة فربط رجله بطنب خبائه! حتّى جاء ابنه فاستوهبه منه فوهبه له (١) وتضعضعت لقتله أركان حمير ولكنها ثبتت بعده مع ابن عمر.

وبعث ابن عمر إلى الحسن بن علي عليه‌السلام : أن القني فلي إليك حاجة! فلقيه فقال له :

يا أبا محمد إن أباك (عليا) قد وتر قريشا أوّلا وآخرا فشنئوه! فهل لك أن تخلعه ونولّيك هذا الأمر!

فقال له الحسن عليه‌السلام : كلّا والله لا يكون ذلك ، وكأنّي أنظر إليك مقتولا في يومك أو غدك (٢)!

ثمّ نادى عمار بن ياسر : يا ابن عمر ، صرعك الله ، بعت دينك بالدنيا من عدوّ الله وعدوّ الإسلام!

قال : كلّا ولكن أطلب بدم عثمان الشهيد المظلوم! قال عمّار : كلّا ، أشهد على علمي فيك أنّك أصبحت لا تطلب بشيء من فعلك وجه الله! وإنك إن لم تقتل اليوم فستموت غدا ، فانظر إذا أعطى الله العباد على نيّاتهم ما نيّتك (٣)!

وشدّ عليه رجل من بكر البصرة يقال له : محرز بن الصّحصح ، فركز رمحه في عينه آخر القتال ، وتحاجزوا ، فربطه برجل فرسه وبات عليه حتّى أصبح ثمّ سلبه وأخذ سيفه المعروف ذا الوشاح (٤).

__________________

(١) وقعة صفين : ٣٠٢ ـ ٣٠٣.

(٢) وقعة صفين : ٢٩٧.

(٣) وقعة صفين : ٣٢٠.

(٤) وقعة صفين : ٢٩٨ ، وتمام الخبر : أن معاوية حين بويع عام الجماعة طالب بسيفه من بكر الكوفة! فقالوا له : إنما قتله رجل من بكر البصرة ، فبعث إليه إلى البصرة فأخذ السيف منه! وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣٢٤ عن أبي مخنف : أن السيف كان لعمر بن الخطاب فردّه على آله.


وتمادى الناس في القتال قبل وقفه فتضاربوا بالسيوف حتّى تعطّفت كالمناجل ، وتطاعنوا بالرماح حتّى تناثرت أسنّتها وتكسّرت ، ثمّ تراموا بالصخر والحجارة ، ثمّ تحاثّوا بالتراب في الوجوه ، ثمّ تعانقوا وتكادموا بالأفواه! ثمّ تحاجزوا وتمايزوا يخرج الشاميّ إليهم ويخرج العراقي منهم (١)!

وكان حريث بن جابر الحنفي نازلا في قبة حمراء بين العسكرين ، قد أعد اللحم والثريد والسويق طعاما واللبن والماء شرابا للمقاتلين (٢).

وكان أبو سماك الأسدي يأخذ إداوة من ماء وشفرة من حديد ، فإذا رأى رجلا جريحا وبه رمق يقعده ويسأله : من أمير المؤمنين؟ فإن سكت وجأه بالسكين حتّى يموت ، وإن قال : عليّ ، غسل عنه الدم وسقاه الماء (٣).

وأما أخبار عمّار :

وأمّا أخبار عمار في هذا اليوم الخميس التاسع من صفر القتال ، فإنه خطب فقال :

عباد الله ، امضوا معي إلى قوم يطلبون ـ فيما يزعمون ـ بدم الظالم لنفسه الحاكم على عباد الله بغير ما في كتاب الله! إنما قتله الصالحون المنكرون للعدوان الآمرون بالإحسان ، فقال هؤلاء الذين لا يبالون ـ إذا سلمت لهم دنياهم ـ لو درس هذا الدين : لم قتلتموه؟ فقلنا لأحداثه. فقالوا : إنه ما أحدث شيئا! وذلك لأنه مكّنهم من الدنيا فهم يأكلونها ويرعونها ولا يبالون لو انهدّت عليهم الجبال. والله ما أظنّهم يطلبون دمه ، إنهم ليعلمون أنه لظالم! ولكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحبّوها

__________________

(١) وقعة صفين : ٣٠٤.

(٢) وقعة صفين : ٣٠١.

(٣) وقعة صفين : ٣٣٧.


واستمرّوها ، وعلموا لو أنّ صاحب الحقّ لزمهم لحال بينهم وبين ما يرعون فيه منها ، ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقون بها الولاية والطاعة ، فخدعوا أتباعهم بأن قالوا : قتل إمامنا مظلوما! ليكونوا بذلك جبابرة وملوكا ، وتلك مكيدة قد بلغوا بها ما ترون ولو لا هي ما بايعهم من الناس رجلان!

اللهمّ إن تنصرنا فطالما نصرت ، وإن تجعل لهم الأمر فادّخر لهم ـ بما أحدثوا لعبادك ـ العذاب الأليم (١).

اللهمّ إنّك تعلم أنّي لو أعلم أن رضاك أن أقذف بنفسي في هذا البحر (شط الفرات) لفعلت ، اللهمّ إنّك تعلم أني لو أعلم أن رضاك أن أضع ضبة سيفي في بطني ثمّ انحني عليها حتّى يخرج من ظهري لفعلت ، اللهم وإني أعلم أني لا أعلم اليوم عملا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين ، ولو أعلم اليوم عملا أرضى لك منه لفعلته (٢).

ثمّ لما رأى الحرب لا تزداد إلّا شدة ، والقتل لا يزداد إلّا كثرة ، ترك صفّه ورجع إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال له : يا أمير المؤمنين : هو هو؟ قال له : ارجع إلى صفّك! فعل ذلك ثلاث مرات ، ففي مرّتين قال له : ارجع إلى صفّك! ولما كانت المرة الثالثة قال له : نعم. فرجع وهو يقول :

اليوم ألقى الأحبه

محمّدا وحزبه (٣)

ثمّ برز إلى ساحة القتال ، وهو رجل طويل شديد الأدمة ، بعيد ما بين المنكبين ، أشهل العينين (٤) لا يغيّر شيبه وعليه درع وعلى رأسه مغفر ، وقد تجاوز

__________________

(١) وقعة صفين : ٣١٩.

(٢) وقعة صفين : ٣٢٠.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٢٩ ، الحديث ٥٦ عن الباقر عليه‌السلام.

(٤) المعارف لابن قتيبة : ٢٥٨ ، والشهل : سواد بزرقة.


عمره التسعين ، وإن الحربة لترعد في يده (١) ، ومع ذلك قاتل قتالا شديدا ، ثمّ رجع يستريح ساعة ، فاتي بلبن فضحك وقال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : آخر شراب تشربه من الدنيا مذقة (أو : ضياح (٢)) من لبن ثمّ تموت (٣) ثمّ قال لمن حوله : ادفنوني في ثيابي فإنّي مخاصم (٤).

وكان لواء الحرب مع هاشم بن عتبة الزهريّ المرقال ، وكان عالما بفنون الحرب ، فكان يتقدّم لمراكز الراية حسب علمه وخبرته ، ولكن عمارا كان يستعجل به ويعجّل عليه ويقول له : احمل فداك أبي وأمي! حتّى قال له هاشم : يا أبا اليقظان ، رحمك الله ، إنك رجل تأخذك خفّة في الحرب ، وإنّما زحفت باللواء زحفا أرجو أن أنال بذلك حاجتي ، وإني إن خففت (أسرعت) لم آمن الهلكة! ومع ذلك ما زال عمار يستعجل به ويعجّل عليه حتّى قتل هاشم شهيدا (٥).

وحمل عمّار على صفوف أهل الشام وهو يرتجز ويقول :

كلّا وربّ البيت لا أبرح أجي

حتّى أموت أو أرى ما أشتهي

أنا مع الحقّ أحامي عن عليّ

صهر النبيّ ذي الأمانات الوفي

نقتل أعداه وينصرنا العلي

ونقطع إلهام بحدّ المشرفي

والله ينصرنا على من يبتغي

ظلما علينا جاهدا ما يأتلي

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٣١٧ ، الحديث ٣٨٦.

(٢) الضياح : اللبن الواضح اللون لكثرة مائه.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٣٣ ، الحديث ٦٤.

(٤) اختيار معرفة الرجال ٣٣ ، الحديث ٦٣.

(٥) وقعة صفين : ٣٤٠ عن الشعبي ، وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣١٨ ، الحديث ٣٨٨ عن الواقدي.


فضرب هو ومن معه أهل الشام حتّى اضطرّوهم إلى الفرار (١) ثمّ ارتجز فقال :

نحن ضربناكم على تنزيله

فاليوم نضربكم على تأويله

ضربا يزيل إلهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله

 أو يرجع الحقّ إلى سبيله (٢)

وكان في مقدّمة كتيبته ، فطعنه رجل (من السّكون أو السكاسك) على ركبته برمحه ، فانكشف مغفره عن رأسه. فروى ابن قتيبة بسنده عن أبي الغادية يسار بن سبع الجهني العاملي (٣) قال : لما انكشف رأسه ضربت عنقه فندر رأسه (٤).

فروى ابن سعد بسنده قال : لما بلغ عليا عليه‌السلام قتل عمّار قال : إنّ امرأ من المسلمين لم يعظم عليه قتل عمّار ، ولم يدخل عليه بقتله مصيبة موجعة لغير رشيد! قال : رحم الله عمّارا يوم أسلم ، ورحم الله عمّارا يوم قتل ، ورحم الله عمارا يوم يبعث حيا (٥) فو الله لقد رأيت عمارا وما يذكر من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثة إلّا كان رابعا ، ولا أربعة إلّا كان خامسا! إنّ عمارا قد وجبت له الجنة

__________________

(١) وقعة صفين : ٣٤٣.

(٢) وقعة صفين : ٣٤١.

(٣) كما عن الإصابة والاستيعاب ، أو المرّي كما في أنساب الأشراف ٢ : ٣١١ ، وانظر تحقيق المحقق في الحاشية.

(٤) المعارف لابن قتيبة : ٢٥٧ بتحقيق ثروة عكاشة ، وفي الخبر : أن قاتل عمّار هذا كان يقول : سمعت رسول الله يقول : ألا لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض ، فإنّ الحقّ يومئذ مع عمار! ثمّ هو يحكي للناس كيف ارتكب جريمة قتل عمار! فكان الراوي عنه : كلثوم بن جبر يروي عنه هذا ثمّ يقول : والله ما رأيت شيخا أضلّ منه! يروي أنه سمع النبيّ يقول ما قال ثمّ يروي كيف قتل هو عمّارا! وانظر أنساب الأشراف ٢ : ٣١٤ ـ ٣١٥.

(٥) الطبقات الكبرى ٣ : ٢٦٢.


في غير موطن أو موطنين ولا ثلاث! فهنيئا له الجنة ، فقد قتل مع الحقّ والحقّ معه ، يدور الحقّ معه حيثما دار ، فقاتل عمار وسالبه في النار (١).

ثمّ تقدّم الإمام عليه‌السلام فجمع عمار بن ياسر إلى هاشم المرقال أمامه فصلّى عليهما كبّر خمسا أو ستّا أو سبعا (٢) ثمّ دفنه عند المساء (٣) ثمّ أنشأ الحجّاج بن غزيّة الأنصاري يقول :

يا للرجال لعظم الهول أرّقني

وهاج حزني أبو اليقظان عمار

أهوى له ابن حوىّ في فوارسه

من السّكون ، وللهيجاء إعصار

فاختلّ صدر أبي اليقظان معترضا

بالرمح ، قد أوجبت فيه له النار

كانت علامة بغي القوم مقتله

ما فيه شكّ ، ولا ما فيه إنكار (٤)

آثار مقتل عمّار :

لما اصيب عمّار مع علي عليه‌السلام ، اصيب ذو الكلاع الحميري مع معاوية : فلما بلغ قتلهما إلى عمرو بن العاص قال لمعاوية : يا معاوية ، والله ما أدري أنا بقتل أيّهما أشدّ فرحا : بقتل ذي الكلاع أو عمّار! فو الله لو بقي ذو الكلاع بعد قتل عمّار لكان يميل بكلّ قبيله إلى علي! ولكان بذلك يفسد علينا جندنا.

وتنازع الرجال في قتل عمّار : فكان لا يزال يجيء رجل فيقول لعمرو عند معاوية : أنا قتلت عمّارا! فيسأله عمرو : فما كان يقول عند قتله؟

__________________

(١) عن الفتوح الكبرى لأحمد بن الأعثم الكوفي ٣ : ٢٦٨.

(٢) الطبقات الكبرى ٣ : ٢٦٢ عن الأشعث بن قيس ، والشك في عدد التكبير منه! وانظر أنساب الأشراف ٢ : ٣١٨.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٣٨١.

(٤) عن المصدرين السابقين : الطبقات والفتوح ، ومروج الذهب ٢ : ٣٨٢.


فكانوا يخلطون في الجواب ، حتّى أقبل ابن حويّ (السكوني أو السكسكي) فقال : أنا قتلت عمّارا! فسأله عمرو : فما كان آخر ما نطق به؟ قال : قال :

اليوم ألقى الأحبّه

محمّدا وحزبه!

فقال له عمرو : أنت صاحبه! أما والله ما ظفرت يداك ولكن أسخطت ربّك!

فصدّقه ابن العاص وإنما كان قد ضرب عمّارا على ركبته فسقط المغفر عن رأسه فقتله أبو الغادية ، فكأنه لذلك تخاصما إلى ابنه عبد الله بن عمرو ، فقال لهما : اخرجا عني ، فإن قريشا لما ولعت بعمّار تعذّبه قال رسول الله : «ما لهم ولعمّار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ، وقاتله وسالبه في النار» (١).

وقال ابن قتيبة : قتله رجلان ترافعا إلى معاوية ورأسه معهما (كذا!) كلّ يقول : أنا قتلته! وكان عمرو حاضرا فقال : سمعت رسول الله يقول : «عمّار تقتله الفئة الباغية» فسمعه معاوية فقال له : قبّحك الله من شيخ! ما تزال تزلق في قولك! أنحن قتلناه! إنّما قتله الذين جاءوا به! ثمّ التفت إلى الحاضرين وقال لهم : إنما نحن الفئة الباغية يعني نبغي دم عثمان (٢).

__________________

(١) وقعة صفين : ٣٤١ ـ ٣٤٣ وفي خبر آخر : أن اختصامهما كان عند معاوية وابن العاص ، فقال ابن العاص لهما : إن تختصمان إلّا في النار! فلما عاتبه معاوية قال له : هو والله ذلك! وإنك لتعلمه! ولوددت أني كنت متّ قبل ذا بعشرين سنة! كما في الطبقات الكبرى ٣ : ٢٥٩ ، وأنساب الأشراف ٢ : ٣١٤ ، ومستدرك الحاكم ٣ : ٣٨٦ ، والإمامة والسياسة لابن قتيبة ١ : ١٢٦.

(٢) الإمامة والسياسة ١ : ١٣٦ ، ونحوه في أنساب الأشراف ٢ : ٣١٧ ، الحديث ٣٨٥. ومع رفع رأس عمار الشهيد إلى أبي يزيد فلا أساس من الصحّة لما روى : أن الإمام عليه‌السلام وقف على عمّار ثمّ جلس إليه ووضع رأسه في حجره وأنشد يقول :


وسمع بحديث عمرو عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في عمّار بعض الشاميين فأتوا عمرا وسألوه : أنت سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول في عمّار : «قاتله وسالبه في النار» سمعت هذا من رسول الله وها أنت قاتله؟!

فقال لهم : إنّما قال : «قاتله وسالبه» (١) أفلا تعجب منه؟! ومنهم كيف صدّقوه؟!

وروى عن الصادق عليه‌السلام قال : لما قتل عمّار ارتعدت فرائص خلق كثير وقالوا : قال رسول الله : «عمّار تقتله الفئة الباغية»! وبلغ ذلك عمرو بن العاص فدخل على معاوية وقال له : يا أمير! قد هاج الناس واضطربوا! قال : لما ذا؟ قال : لقتل عمار بن ياسر! قال معاوية : وقتل عمار فما ذا؟ قال عمرو : أليس قال رسول الله : «عمّار تقتله الفئة الباغية»؟!

__________________

ألا أيها الموت الذي ليس تاركي

أرحني فقد أفنيت كلّ خليل

أراك بصيرا بالذين أودّهم

كأنّك تنحو نحوهم بدليل

كما في كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر : ١٢٠ عن ابن عمار ، إلّا أن ننكر خبر حزّ رأسه وحمله إلى معاوية.

ولا أساس كذلك لما روي أنّه عليه‌السلام احتمله فلما وضعه جعل يمسح عن وجهه الدم والتراب ويقول :

وما ظبية تسبي القلوب بطرفها

إذا التفتت خلنا بأجفانها سحرا

بأحسن منه! كلّل السيف وجهه

دما في سبيل الله حتّى قضى صبرا

كما في الدرجات الرفيعة : ٢٨٢ مرسلا.

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٣١٥ ، الحديث ٣٨٢.


فقال له معاوية : يا عمرو ، لقد رخصت في قولك! أنحن قتلناه؟ إنما قتله عليّ بن أبي طالب لمّا ألقاه بين رماحنا! فانتشر هذا الخبر حتّى بلغ عليا عليه‌السلام فقال : فإذن رسول الله قتل حمزة لمّا ألقاه بين رماح المشركين (١).

وروى ابن الأعثم : قال معاوية : إنما قتله من جاء به إلى الحرب! وكان عبد الله بن عمرو حاضرا فقال : فكذلك حمزة يوم احد إنما قتله النبيّ! فالتفت معاوية إلى عمرو وقال له : نحّ ابنك هذا الموسوس الذي لا يدري ما يقول (٢)!

وروى الجزري الموصلي ، عن عبد الرحمن السلمي ـ القارئ المعروف وكان مع الإمام عليه‌السلام ـ قال :

لما قتل عمار وأمسينا دخلت عسكر معاوية لأنظر هل بلغ منهم قتل عمّار ما بلغ منا؟ فإذا أنا بمعاوية ومعه عمرو بن العاص وابنه عبد الله (٣) وأبو الأعور السّلمي يتسايرون ، فتداخلت بفرسي بينهم لأسمعهم ما يقولون؟!

فسمعت عبد الله بن عمرو يقول لأبيه عمرو : في يومكم هذا قتلتم هذا الرجل (عمّار) وقد قال فيه رسول الله ما قال! فقال له أبوه عمرو : وما قال؟ قال : ألم يكن المسلمون في بناء مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ينقلون لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين فغشي عليه (من الضعف) فأتاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول له : «ويحك يا ابن سميّة! الناس ينقلون لبنة لبنة وأنت تنقل لبنتين لبنتين رغبة في الأجر! وتقتلك الفئة الباغية»؟!

فالتفت عمرو إلى معاوية وقال له : أما تسمع ما يقول عبد الله؟ قال : وما يقول؟ فأخبره فقال : أفنحن قتلناه؟! إنما قتله من جاء به!

__________________

(١) الدرجات الرفيعة : ٢٨١ ـ ٢٨٢ مرسلا مرفوعا.

(٢) الفتوح لابن الأعثم ٣ : ٢٦٨.

(٣) هنا ذكر في الخبر عبيد الله بن عمر ، وقد قتل يومئذ.


ونشروا هذا فيهم ، فرأيتهم خرجوا من أخبيتهم وفساطيطهم وهم يقولون : إنما قتل عمارا من جاء به! فلا أدري أيهم كان أعجب؟ أهو أم هم (١)؟

شهادة ذي الشهادتين :

شهد خزيمة بن ثابت الأنصاري لنبيّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لشرائه فرسه المرتجز من أعرابي تميمي ، اعتمادا على تصديقه له لا لشهادة سابقة ، ولوحده! فأنفذ النبيّ شهادته بمثابة شهادتين ، وسمّاه ذا الشهادتين (٢).

ومرّ في أخبار حرب الجمل أنه قدم البصرة مع الإمام عليه‌السلام على فرس أشقر في ثياب بيض وعمامة صفراء في نحو ألف فارس من الأنصار وغيرهم (٣) وشفع في الحرب لمحمد بن الحنفية لدى أبيه علي عليه‌السلام ليردّ عليه رايته فقبل شفاعته (٤).

نعم لم يذكر له أيّ شأن خاص في القتال في الجمل وصفين ولذا ادّعي على لسان حفيده محمّد بن عمارة بن خزيمة ، قال : ما زال جدّي كافّا سلاحه يوم الجمل ، وصفّين حتّى قتل عمار ، فلما قتل عمار قال : سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «عمّار تقتله الفئة الباغية».

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٣ : ٣١٠.

(٢) عن فروع الكافي ٧ : ٤٠١ ، وكتاب من لا يحضره الفقيه ٣ : ١٠٨ ، الحديث ٣٤٢٧ وأنساب الأشراف ١ : ٩ ، وتاريخ الطبري ٣ : ١٧٣ ، والاختصاص المنسوب إلى المفيد : ٥٨. وفي أسد الغابة : عن عمارة بن خزيمة أن البائع كان سواء بن قيس المحاربي ، وانظر قاموس الرجال ٥ : ٣٢٨ برقم : ٣٤٥٣ و ٤ : ١٦٩ برقم ٢٦١٥.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٣٥٩.

(٤) مروج الذهب ٢ : ٣٦٧.


نقل ذلك الكشي عن أبي معشر (؟) فهي من أخبار العامّة في رجاله ، وأولى منه ما نقله قبله بسنده عن أبي إسحاق قال : لما قتل عمّار ، دخل خزيمة بن ثابت فسطاطه فاغتسل ثمّ خرج بسلاحه فقاتل حتّى قتل (١).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٥٢ ، الحديث ١٠٠ ـ ١٠١ وعلّق عليه المحقق الشوشتري في قاموس الرجال ٤ : ١٧٣ قال : فالظاهر أنه قبل شهادة عمّار كان شاهدا ومجاهدا أيضا ، ولو كان شاكّا لما حضر ، وأنه إنما كانت استماتته بعد عمار ، وأنه لو صحّ استناده إلى الحديث فإنّما كان جدلا.

وعلّق المحقق المعتزلي الشافعي في شرح نهج البلاغة ٨ : ١٧ على مثل هذه الأحاديث يقول : «وا عجباه! من قوم يعتريهم الشك في أمرهم لمكان عمّار ولا يعتريهم الشكّ لمكان عليّ عليه‌السلام! ويستدلّون على أنّ الحقّ مع أهل العراق بكون عمّار بين أظهرهم ، ولا يعبئون بمكان علي عليه‌السلام! ويحذرون من قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «تقتلك الفئة الباغية» ويرتاعون لذلك ، ولا يرتاعون لقوله في علي : «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» ولا لقوله : «لا يحبّك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق» وهذا يدلّك على أنّ عليا عليه‌السلام اجتهدت قريش كلّها من مبدأ الأمر في إخمال ذكره وستر فضائله» ، ونقله عنه الدكتور عبد السلام هارون في تحقيقه لوقعة صفين : ٣٣٤.

وقال المعتزلي الشافعي أيضا : ولو أنصف الناس هذا الرجل (عليا عليه‌السلام) ورأوه بالعين الصحيحة لعلموا أنه لو كان وحده وحاربه الناس كلّهم أجمعون! لكان هو على الحقّ وهم على الباطل! فأيّ حاجة لناصري أمير المؤمنين أن يتكثروا بعمار بن ياسر وخزيمة بن ثابت وغيرهم؟!

قال : ومن غريب ما وقفت عليه من العصبية القبيحة : أن أبا حيّان التوحيدي قال في (كتاب البصائر) : إن خزيمة بن ثابت المقتول مع علي في صفّين ليس هو خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين ، بل هو شخص آخر من الأنصار اسمه خزيمة بن ثابت!


يوم وقعة الخميس :

تلك كانت الواقعة المعروفة بوقعة الخميس ، وفي هذا اليوم قتل عمار بن ياسر وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين من العراق ، وقتل من أهل الشام عبد الله بن ذي الكلاع الحميري وعبيد الله بن عمر. واختصر خبرها ابن مزاحم المنقري بسنده عن القعقاع بن الأبرد الطهوي قال : كنت في يوم وقعة الخميس قريبا من علي عليه‌السلام وكانت مذحج في ميمنته ، والتقت بالأشعريين (والحميريين) وجذام ولخم وعك في الشاميين. والله لقد رأيت في ذلك اليوم من قتالهم وسمعت من وقع السيوف على الرءوس ، وخبط الخيول بحوافرها في الأرض وفي القتلى. ما لا الجبال تهدّ ولا الصواعق تصعق بأعظم هولا في الصدور من تلك الأصوات! ودنوت من علي عليه‌السلام

__________________

ـ قال : وهذا خطأ ؛ لأن كتب الحديث والأنساب تنطق بأنه لم يكن في الصحابة من الأنصار ولا من غيرهم : خزيمة بن ثابت ، إلّا ذو الشهادتين ، وإنما الهوى داء لا دواء له! على أن الطبري صاحب التاريخ قد سبق أبا حيان بهذا القول ، ومن كتابه نقل أبو حيان. شرح النهج للمعتزلي ١٠ : ١٠٩.

والطبري إنما نقل ذلك عن سيف بن عمر التميمي الزنديق الكذّاب في ٤ : ٤٤٧ ، وأبو حيان التوحيدي البغدادي مولدا ومنشأ والنيشابوري أصلا والشيرازي مدفنا في (٣٨٠ ه‍) أيضا قالوا فيه : كان صوفيا قليل الورع بل كثير الزندقة! انظر قاموس الرجال ١١ : ٣٠١ برقم ٢٨٩.

ومثل ذي الشهادتين : أبو الهيثم بن التيهان ، فإنّه لم يتمالك بعد شهادة عمار دون أن قاتل حتّى قتل ، وذكر البلاذري خبره في أنساب الأشراف ٢ : ٣١٩ ، الحديث ٣٩١ ثمّ نقل عن الواقدي أنه مات قبل ذلك سنة (٢٠ ه‍)!

ثم نقل مقتل أويس القرني العابد ثمّ قال : ويقال : بل مات في سجستان! وكأنّهم يقللون بذلك من شأن علي عليه‌السلام!


حين قام قائم الظهيرة فسمعته قال : لا حول ولا قوة إلّا بالله والله المستعان (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ)(١) وجرّد سيفه وحمل على أهل الشام بنفسه ، فيومئذ قتل أعلام العرب (٢).

وروى بسنده عن عمار بن ربيعة قال : زحف الناس بعضهم إلى بعض فارتموا بالنبل حتّى التقوا فتطاعنوا بالرماح حتّى تكسرت ، ثمّ بعمد الحديد حتّى اندقّت ، ثمّ بالسيوف فلا يسمع السامع إلّا وقع الحديد بعضه على بعض أشد هولا من الصواعق ، ومن جبال تهامة يدكّ بعضها بعضا! وثار القتام حتّى انكسفت الشمس ، وضلّت الألوية والرايات ، أو تجادلوا بعمد الحديد والسيوف من (بعد) صلاة الفجر إلى (جوف) الليل لم يصلّوا أيّ صلاة لله (بغير التكبير) ولم يزالوا كذلك حتّى أصبحوا ، والأشتر في ميمنة الناس ، وابن عباس في الميسرة ، وعلي عليه‌السلام في القلب. تلك هي ليلة الهرير ، واستمر القتال من الليل إلى ارتفاع (الشمس) (٣).

مقتل المرقال ليلا :

وعند المساء من يوم الخميس دعا هاشم بن عتبة الزهري المرقال الرجال فأقبل عليه ناس فقال لهم :

«لا يهولنّكم ما ترون من صبرهم! فو الله ما ترون منهم إلّا حميّة العرب وصبرها في مراكزها وتحت راياتها ، وإنهم لعلى الضلال وإنكم لعلى الحقّ.

__________________

(١) الأعراف : ٨٩.

(٢) وقعة صفين : ٣٦٢ ـ ٣٦٣ ، وفيه : فو الله ما حجز بيننا إلّا الله في قريب من ثلث الليل. أي ليلة الجمعة العاشر من صفر القتال ، وهي الليلة المعروفة بليلة الهرير ، وقد استمر القتال فيها إلى صباح الغد حيث رفعت المصاحف.

(٣) وقعة صفين : ٤٧٥.


يا قوم اجتمعوا وامشوا بنا إلى عدوّنا على توئدة رويدا ، ثمّ تآسوا وتصابروا واذكروا الله ، ولا يسلم رجل أخاه ، ولا تكثروا الالتفات ، واصمدوا صمدهم ، وجالدوهم محتسبين حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين» ثمّ شدّ في عصابة من أصحابه على أهل الشام مرارا وليس من وجه يحمل عليه إلّا صبروا له وقوتل قتالا شديدا ، ومضى في عصابة من القرّاء من أسلم فقاتل هو وأصحابه قتالا شديدا حتى رأوا ما يسرّون به.

وخرج عليهم منهم شاب ضرّاب بسيفه يرتجز ويسهب في ذمّ علي عليه‌السلام وشتمه ولعنه.

فقال له هاشم : إنّ هذا الكلام والخصام بعده الحساب! فاتّق الله فإنّك راجع إلى ربّك فسائلك عمّا أردت من هذا الموقف.

قال : فإني أقاتلكم أنّ صاحبكم قتل خليفتنا وأنتم وازرتموه على قتله! ولأنّ صاحبكم لا يصلّي وأنّكم لا تصلّون كما ذكر لي (١)!

فقال له هاشم : وما أنت وابن عفّان! إنّما قتله أصحاب محمّد وقرّاء الناس حين أحدث أحداثا خالف فيها حكم الكتاب! وأصحاب محمد هم أصحاب الدين وأولى بالنظر في أمور المسلمين ... ولا علم لك بهذا الأمر فخلّه وأهل العلم به! وأمّا قولك : إن صاحبنا لا يصلّي! فهو أوّل من صلّى مع رسول الله ، وأفقههم في دين الله ، وأولاهم برسول الله. وأما من ترى معه فكلّهم قارئ الكتاب لا ينامون الليل تهجّدا! فلا يغررك عن دينك الأشقياء المغرورون!

__________________

(١) هذا ما انفرد به هذا الخبر المسند عند ابن مزاحم ، عن أبي سلمة ، ولا نظير له غيره ، وهل كانت دعاية تركهم الصلاة لتركهم الصلاة يوم وقعة الخميس؟ وإلّا ، فكيف صدّقهم الرجل أما كان يراهم ويسمعهم؟ وأما ما اشتهر أنّ أهل الشام إنما علموا بصلاة الإمام لما قتل في صلاته ، فليس له أي مصدر معتبر.


فقال الفتى : يا عبد الله ، إني لأظنّك امرأ صالحا ، وأظنّك قد نصحتني والله ، وأظنّني مخطئا آثما فأخبرني هل تجد لي من توبة؟

فقرأ له : إنّ الله (يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ)(١) و (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)(٢) نعم تب إلى الله يتب عليك. فرجع الفتى وذهب ليتوب!

ورجع هاشم وأصحابه إلى القتال حتّى أتتهم كتيبة من تنوخ فشدوا عليه فشدّ عليهم حتّى قتل منهم تسعة فحمل عليه عاشرهم الحارث بن المنذر فطعنه برمحه فشق بطنه فسقط.

وكأنّ الإمام عليه‌السلام كان يرقبه فاستبطأ تقدّم لوائه أو رايته فبعث إليه : أن قدّم لواءك ، فلما وصل إليه رسوله قال له : انظر إلى بطني ، فإذا هو منشق ، فأخذ رايته رجل من بكر بن وائل (٣) وأصيب مع هاشم عصابة من القرّاء من أسلم ، وجزع الناس عليه جزعا شديدا ، فمرّ عليهم وعلى أصحابه الذين قتلوا معه وهم حوله فقال شعرا :

جزى الله خيرا عصبة أسلميّه

صباح الوجوه صرّعوا حول هاشم

وضرب الرجل البكريّ فوقع ، فقام عبد الله بن هاشم وأخذ راية أبيه وخطب أصحابه فقال لهم :

أيها الناس ، إن هاشما كان عبدا من عباد الله قدّر أرزاقهم وكتب آثارهم ، وأحصى أعمالهم وقضى آجالهم ، فدعاه ربّه الذي لا يعصى فأجابه ، وسلّم الأمر لله ،

__________________

(١) الشورى : ٢٥.

(٢) البقرة : ٢٢٢.

(٣) وقعة صفين : ٣٥٢ ـ ٣٥٧.


وجاهد في طاعة ابن عمّ رسول الله ، وأوّل من آمن به ، وأفقههم في دين الله ، المخالف لأعداء الله المستحلّين ما حرّم الله ، الذين عملوا في البلاد بالجور والفساد ، واستحوذ عليهم الشيطان فزيّن لهم الإثم والعدوان. فحق عليكم جهاد من خالف سنّة رسول الله وعطّل حدود الله وخالف أولياء الله ، فجودوا بمهج أنفسكم في طاعة الله في هذه الدنيا ، تصيبوا الآخرة والمنزل الأعلى والملك الذي لا يبلى. ولو لم يكن ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ، لكان القتال مع عليّ أفضل من القتال مع معاوية ابن آكلة الأكباد! فكيف وأنتم ترجون ما ترجون (١)!

فلما كان نصف الليل ... انحاز معاوية وخيله من صفوفهم ، فغلب علي عليه‌السلام على قتلاه في تلك الليلة ، فأقبل على أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه فدفنهم وهم كثير ، وقتلى أصحاب معاوية أكثر (٢).

وروي أن هاشما هو الذي أوصى رجلا عند شهادته ـ ولعلّه هو مبعوث الإمام إليه ـ أن يبلّغ الإمام عليه‌السلام : أنشدك الله إلّا أصبحت وقد ربطت مقاود خيلك بأرجل القتلى فإن الدّبرة (العاقبة) تكون غدا لمن غلب على القتلى! فأخبر الرجل عليا عليه‌السلام بذلك ، فسار في أواخر الليل حتّى جعل القتلى خلف ظهره فكانت العاقبة له عليهم (٣).

وكان الإمام عليه‌السلام حينئذ تحت رايات بكر بن وائل من ربيعة ، فجاءه عديّ بن حاتم الطائي ما يطأ إلّا على القتلى أيديهم أو أرجلهم حتى وجده فقال : يا أمير المؤمنين ، ألا نتوقف حتّى نموت؟!

__________________

(١) وقعة صفين : ٣٥٣ ـ ٣٥٧.

(٢) وقعة صفين : ٣٦٩.

(٣) وقعة صفين : ٣٥٣ و ٤٥٧ أكثر تفصيلا.


فأدناه حتّى أجابه في أذنه ، فروى أنّه قال له : «ويحك إنّ عامّة (أكثر) من معي يعصيني ، وإنّ معاوية فيمن يطيعه ولا يعصيه» (١) فكشف له : أن الخاصّة أمثاله يريدون وقف القتال ، ولكن العامّة وهم الأكثر يعصونه في ذلك إن أراده.

حملة الإمام وخطبته :

وأرسل الإمام عليه‌السلام إلى معاوية : أن ابرز لي وأعف الفريقين من القتال ، فأيّنا قتل صاحبه كان له الأمر ، وعلم ابن العاص بذلك فقال : لقد أنصفك الرجل! فقال معاوية : إني لأكره أن أبارز الشجاع الأهوج ، لعلك طمعت فيها يا عمرو!

فلما لم يجب معاوية قال علي عليه‌السلام : وا نفساه! أيطاع معاوية وأعصى؟! ثمّ قال : ما قاتلت أمّة قطّ «أهل بيت» نبيّها وهي مقرّة بنبيّها إلّا هذه الأمّة!

ثمّ أرسل إلى أهل الكوفة والبصرة أن احملوا ، فحمل الناس من كل جانب فاقتتلوا قتالا شديدا ، ثمّ حملت خيل عليّ على صفوف أهل الشام فقوّضت صفوفهم (٢).

ثمّ وقف في ناس من أصحابه فقال لهم : «انهدّوا إليهم وعليكم السكينة وسيما الصالحين ووقار الإسلام ، والله لأقرب قوم من الجهل بالله عزوجل قوم قائدهم ومؤدّبهم : معاوية وابن النابغة (٣) وأبو الأعور السلمي وابن أبي معيط شارب الحرام والمجلود حدّا في الإسلام ، وهم أولاء يقومون فيقصبونني ويشتمونني ، وقبل اليوم ما قاتلوني وشتموني وأنا إذ ذاك أدعوهم إلى الإسلام وهم يدعونني إلى عبادة الأصنام ، فالحمد لله ولا إله إلّا الله ، وقديما ما عاداني الفاسقون ، وإنّ هذا لهو الخطب

__________________

(١) وقعة صفين : ٣٧٩.

(٢) وقعة صفين : ٣٨٨.

(٣) النابغة اسم أم عمرو بن العاص ، كما في الإصابة برقم ٥٨٧٧.


الجليل : أنّ فسّاقا كانوا عندنا غير مرضيّين وعلى الإسلام وأهله متخوّفين ، أصبحوا وقد خدعوا شطر هذه الأمة فأشربوا قلوبهم حبّ الفتنة ، فاستمالوا أهواء هم بالإفك والبهتان وقد نصبوا لنا الحرب وجدّوا في إطفاء نور الله (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)(١).

اللهمّ فإنهم قد ردّوا الحقّ فافضض جمعهم وشتّت كلمتهم وأبسلهم بخطاياهم ، فإنّه لا يذلّ من واليت ولا يعزّ من عاديت» (٢).

ثمّ مرّ عليه‌السلام على جماعة من أهل الشام لا يزولون عن موقفهم وذكر له أنّهم غسّان فقال : إنّ هؤلاء لن يزولوا عن موقفهم دون طعن دراك يخرج منه النسم ، وضرب يفلّق إلهام ويطيح العظام ، وتسقط منه المعاصم والأكف ، وحتّى تصدع جباههم وتنشر حواجبهم على الصدور والأذقان. ثمّ نادى : أين أهل الصبر وطلّاب الخير؟ أين من يشري وجهه لله عزوجل؟ فثابت إليه عصابة من أصحابه.

فدعا ابنه محمدا وقال له : امش نحو هذه الراية مشيا رويدا على هينتك ، حتّى إذا أشرعت في صدورهم الرماح فأمسك يدك حتّى يأتيك أمري ، ففعل.

ثمّ أعدّ علي عليه‌السلام الأشتر ومعه مثلهم ودنا منهم وأشرع الرماح في صدورهم ، أمر عليّ الذين أعدّوا فشدوا عليهم ونهض ابنه محمد في وجوههم فأزالوهم عن مواقفهم (٣) وأصابوا منهم رجالا واقتتلوا ، وغربت الشمس وصار المغرب ، فما صلّوا إلّا إيماء (٤).

__________________

(١) الصف : ٨.

(٢) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٨١١ ، الحديث ٣٥ ، وتخريجه : ٣٥ وجعله واللاحق خبرا واحدا ، وخبرين في وقعة صفين : ٣٩١ ، والإرشاد ١ : ٢٦٤.

(٣) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٨١١ ، الحديث ٣٥ وتخريجه : ٣٥.

(٤) وقعة صفين : ٣٩٢ ، ومروج الذهب ٢ : ٣٨٨ ، وإرشاد المفيد : ٢٦٧ مختصرا آخره.


ثمّ إنّ عليّا عليه‌السلام أرسل إلى الناس أن احملوا ، فحمل الناس على راياتهم كل منهم يحمل على من بإزائه ، فتجالدوا بعمد الحديد ثمّ السيوف ، لا يسمع إلّا صوت ضرب الهامات كوقع المطارق على السنادين ، وحتّى مرّت الصلوات (المغرب والعشاء) ولم يصلّوا إلّا تكبيرا (١).

إلى فسطاط معاوية وعمرو :

وكان علي عليه‌السلام قد ركب فرس النبيّ : المرتجز ، ثمّ قال : البغلة البغلة ، يعني بغلة النبيّ : الشهباء فقدّمت له ، فتعمّم بعمامة رسول الله السوداء ، وركب البغلة ثمّ نادى :

أيها الناس ، من يشر نفسه لله يربح ، هذا يوم له ما بعده ، إن عدوّكم قد مسّه القرح كما مسّكم.

فانتدب له عشرة آلاف إلى اثني عشر ألفا واضعين سيوفهم على عواتقهم فتقدم بهم عليه‌السلام (٢).

وحمل الناس حملة واحدة ، فلم يبق لأهل الشام صفّ إلّا انتقض ، وأهمدوا ما أتوا عليه حتّى أفضى الأمر إلى فسطاط معاوية ، وعليّ يضربهم بسيفه ويقول :

أضربهم ولا أرى معاوية

الأخزر العين العظيم الحاويه

 هوت به في النار أمّ هاويه

فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه ... ثمّ التفت إلى ابن العاص وقال له : يا ابن العاص ، اليوم صبر وغدا فخر! فقال عمرو : صدقت. فثنى معاوية رجله من الركاب ونزل واستصرخ بعكّ والأشعريين ، فأغاثوه ووقفوا دونه وجالدوا عنه وقال لهم معاوية : هذا يوم تمحيص! إنّ القوم قد أسرع فيهم كما أسرع فيكم ، اصبروا يومكم هذا (ليلتكم هذه) وخلاكم ذمّ.

__________________

(١) وقعة صفين : ٣٩٣.

(٢) وقعة صفين : ٤٠٣.


وحمل أهل العراق وتلقّاهم أهل الشام فاجتلدوا ، وحمل عمرو بن العاص وارتجز ، فاعترضه علي عليه‌السلام مرتجزا ثمّ طعنه فصرعه ، فاتّقاه عمرو برجله فبدت عورته ، فصرف علي وجهه عنه.

وكان ابن العاص معلما بعلامة ، ولكن الناس لم يعرفوه ، ولذا قالوا لعليّ عليه‌السلام : أفلت الرجل يا أمير المؤمنين! فقال لهم : وهل تدرون من هو؟ قالوا : لا ، قال : إنه عمرو بن العاص تلقّاني بعورته فصرفت وجهي عنه!

ورجع عمرو إلى معاوية فقال له : ما صنعت يا عمرو؟ قال : لقيني عليّ فصرعني. قال : فاحمد الله وعورتك! أما والله لو عرفته ما أقحمت عليه ... فغضب عمرو وقال : ما أشد تعظيمك عليا في كسري هذا! هل هو إلّا رجل لقيه ابن عمّه فصرعه ، أفترى السماء تقطر لذلك دما؟! قال : لا ، ولكنّها معقّبة لك خزيا (١).

وتشبّث بالأشعث :

ثمّ دعا معاوية أخاه عتبة وكان لسنا لا يطاق ، فقال له : الق الأشعث بن قيس الكندي ، فإنّه إن رضي رضيت العامّة (الأكثرية).

فخرج عتبة إلى أهل العراق ونادى الأشعث ، فأخبروه فقال : فسلوه : من هو؟ فعرّف نفسه ، فأخبروه فقال : غلام مترف ولا بدّ من لقائه! ثمّ خرج إليه ، فقال عتبة له : أيها الرجل ، إنك سيّد أهل اليمن ورأس أهل العراق ، وقد سلف إليك من عثمان ما سلف من الصّهر (؟) والعمل (على آذربايجان) وإنّك إذ حاربت أهل الشام حاميت عن أهل العراق حميّة وتكرّما ... وقد بلغت منّا ما أردت

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٠٣ ـ ٤٠٧ و : ٤٢٤ ، وانظر : ٤٧٢ و ٤٧٣ ، وأنساب الأشراف ٢ : ٣٣٠ ، الحديث ٣٩٨ ، ومروج الذهب ٢ : ٣٨٦ ـ ٣٨٧.


وبلغنا منك ، ولا ندعوك إلى ترك عليّ ونصر معاوية ولكنّا ندعوك إلى البقيّة التي فيها صلاحنا وصلاحك.

فأجابه الأشعث : يا عتبة ، أما ما سلف من عثمان إليّ فما زادني صهره (؟) شرفا ولا عمله عزّا! وأما قولك إني سيد أهل اليمن ورأس أهل العراق ، فإنّ الرأس المتّبع والسيّد المطاع هو علي بن أبي طالب. وأما محاماتي عن أهل العراق فمن نزل بيتا حماه! (وليس من التزم دينا) وأما البقية ، فلستم بأحوج إليها منّا ، وسنرى رأينا فيها إن شاء الله.

فلمّا بلّغ عتبة كلام الأشعث إلى أخيه معاوية قال : قد جنح للسّلم.

وشاع قولهما في أهل العراق (١).

والإمامة بعد علي عليه‌السلام :

وكأن بعض العراقيين خافوا القتل على الامام عليه‌السلام ولم يوص إلى أحد ، فقام شاعرهم بشر بن منقذ الأعور الشنيّ بين يديه وقال كلاما قال فيه : أنت الإمام ، فإن هلكت فمن بعدك هذان (الحسنان) وقد قلت شيئا فاسمعه؟ قال عليه‌السلام : هاته. فقال شعرا :

أبا حسن أنت شمس النهار

وهذان في الحادثات القمر

وأنت وهذان حتّى الممات

بمنزلة السمع بعد البصر

وأنتم أناس لكم سورة

يقصّر عنها أكفّ البشر

يخبّرنا الناس عن فضلكم

وفضلكم اليوم فوق الخبر (٢)

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٠٨ ـ ٤٠٩ باختصار.

(٢) وقعة صفين : ٤٢٥ ـ ٤٢٦ إلى تمام اثني عشر بيتا ، فأتحفوه وأهدوا له ، والإمام؟


حرص معاوية على الحياة :

كان من رؤساء أصحاب معاوية أبرهة بن الصبّاح الحميري ومن أفضلهم بأسا ورأيا وحتّى دينا ، فلما بلغ القتل من أصحابه مبلغا عظيما قام في الحميريين من اليمن وقال لهم : ويلكم يا معشر أهل اليمن ، والله إني لأظنّ أن قد اذن في فنائكم! ويحكم خلّوا بين هذين الرجلين فليقتتلا! فأيهما قتل صاحبه ملنا معه جميعا! وبلغ كلامه معاوية فقال لمن حوله : إني لأظنّه أصيب في عقله! فقال الشاميون : والله إن أبرهة لأفضلنا دينا ورأيا وبأسا! ولكنّ معاوية تأخّر بعد ذلك إلى آخر صفوفه!

وبرز عند ذلك عروة بن داود ونادى : يا أبا الحسن ؛ إن كان معاوية كره مبارزتك فهلمّ إليّ!

فتقدّم إليه علي عليه‌السلام وحمل عليه فضربه فقدّه نصفين سقط نصفه يمنة ونصفه الآخر يسرة!

فبرز ابن عمّه وهو يقول : وا سوء صباحاه! قبح الله البقاء بعد أبي داود ثمّ ارتجز وحمل على علي عليه‌السلام وضرب برمحه ليطعنه فبراه ، فقنّعه علي بضربة فألحقه بابن عمّه أبي داود (١).

وكان عليه‌السلام لا يأذن للحسنين ولا لابن عباس واخوته بالبراز (٢).

ومن أخبار عيون الحرب :

كان صاحب راية بني سليم مع معاوية : معاوية بن الضحاك السّلمي ، ولكنه كان يبغضه وله هوى في علي عليه‌السلام ، فكان يكتب بأخبار معاوية إلى صديقه عبد الله

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٥٧ ـ ٤٥٩.

(٢) وقعة صفين : ٤٦٣.


ابن الطفيل العامري فيبعث بها إلى علي عليه‌السلام. وسمع بعضهم شعرا منه يهوّل به أهل الشام فأتوا به معاوية فهمّ بقتله ولكنه راقب فيه قومه فطرده عن الشام (١).

وكان لمعاوية طليعة على أهل العراق يتجسّس له ، فندب له الإمام الأشتر فأخذه أسيرا ليلا وشدّ وثاقه وألقاه عند أصحابه ينتظر به الصباح ... فقال له الإمام عليه‌السلام : إذا أصبت لهم أسيرا فلا تقتله ، فإن أسير أهل القبلة لا يقتل ولا يفادى. وكان علي عليه‌السلام ينهى عن قتل الأسير الكافّ عن القتال (٢).

زئير الأشتر ليلة الهرير :

ثمّ استمر القتال من النصف الثاني من الليل (ليلة الهرير الجمعة العاشر من صفر القتال) حتّى (الفجر) ويزحف الأشتر بأصحابه نحو أهل الشام ويقول لهم : ازحفوا قيد رمحي هذا! فإذا فعلوا عاد فقال لهم : ازحفوا قاب هذا القوس ، فإذا فعلوا سألهم مثل ذلك حتّى ملّ أكثرهم! وكانت رايته مع حيّان بن هوذة النخعي فأمره فركزها ، ثمّ دعا بفرسه فركبه وخرج يسير على الكتائب ينادي فيهم : ألا من يشري نفسه لله ويقاتل مع الأشتر حتى ينتصر أو يلحق بالله تعالى؟ فخرج إليه رجال منهم أقبلوا معه حتّى رجع إلى المكان الذي كانوا به فقام فيهم فقال لهم : فدى لكم عمّي وخالي! شدّوا إذا شددت شدّة ترضون بها الله وتعزّون بها الدين! ثمّ نزل عن دابّته وضرب وجهها وقال لصاحب رايته : أقدم! فأقدم بها ثمّ شدّ على القوم وشدّ معه أصحابه حتّى انتهى بهم إلى عسكرهم فقاتلوهم قتالا شديدا ، وقتل صاحب رايته (٣).

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٦٨ ـ ٤٦٩.

(٢) وقعة صفين : ٤٦٦ ـ ٤٦٧.

(٣) وقعة صفين : ٤٧٥ ـ ٤٧٦.


صفة الإمام وذي الفقار :

روى المنقري بسنده عن التابعي زيد بن وهب الجهني الهمداني في وصف الإمام عليه‌السلام يومئذ فقال : كان رجلا دحداحا (ربعة) أصلع ليس في رأسه شعر إلّا خفاف من خلفه ، وجهه كأنه القمر ليلة البدر حسنا مائلا إلى السمرة ، أدعج العينين ، صغير الأنف وقصيره ، عنقه كأنه إبريق فضّة ، لمنكبيه مشاش كمشاش السبع الضّاري ، وله كاهل مثل كاهل الثور ، ضخم الكسور (والأعضاء) لا تبين عضده من ساعده قد أدمجت إدماجا ، شثن الكفين ، لا يمسك بذراع رجل قط إلّا أمسك بنفسه فلا يمكنه أن يتنفّس (١).

وروى عن الجعفي ، عن الصحابي جابر بن عمير الأنصاري وكان مع الإمام علي عليه‌السلام كان يقول : كان يخرج من القوم بسيفه ذي الفقار منحنيا فكنّا نأخذه فنقوّمه ثمّ يتناوله من أيدينا ويقول : معذرة إلى الله عزوجل وإليكم من هذا لقد هممت أن أصقله ولكن حجزني عنه أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا أقاتل دونه يقول كثيرا : «لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا علي» ثمّ يقتحم به في عرض الصفّ ، فلا والله ، ما ليث بأشدّ نكاية منه في عدوّه! لا والله الذي بعث محمدا بالحقّ نبيّا منذ خلق الله السماوات والأرض ما سمعنا برئيس أصاب بيده في يوم واحد (يوم الخميس وليلة الهرير) ما أصاب : إنّه ـ فيما ذكر العادّون ـ قتل زيادة على خمسمائة من أعلام العرب! ثمّ قال : رحمة الله عليه رحمة واسعة (٢)!

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٣٣.

(٢) وقعة صفين : ٤٧٧ ـ ٤٧٨ ، والفقار : الحفر الصغار كانت عليه فكان يريد صقله لإزالتها ، ويمنعه الإبقاء على معنى الحديث الشريف. ويدلّ فقها على استحباب استبقاء آثار الأخبار. وفي مروج الذهب ٢ : ٣٨٩ : قتل بيده في يومه وليلته خمسمائة وثلاثة وعشرين رجلا ، علم ذلك من تكبيره.


وروى عن الباقر عليه‌السلام : أنّ الحرب في صفين كانت في أيام الشّعرى الطويلة شديدة الحرّ ، فتراموا حتّى فنيت النبال! ثمّ تطاعنوا حتّى تقصّفت رماحهم ، ثمّ نزلوا عن خيولهم وكسروا أجفان سيوفهم وتضاربوا بها وبعمد الحديد ، فلم يكن يسمع السامع إلّا تغمغم القوم وصليل الحديد على الهامات! وثار القتام وضلّت الألوية والرايات ، ومرّت مواقيت أربع صلوات لم يصلوا إلّا بالتكبير ، وكان أبو جعفر الباقر عليه‌السلام يحدّث بهذا الحديث وهو يبكي (١)!

تشبّث الأشعث :

فقام الأشعث الكندي في كندة فقال لهم : يا معشر المسلمين ، قد رأيتم ما قد كان في يومكم هذا الماضي ، وما قد فنى فيه من العرب! فو الله لقد بلغت من السنّ ما شاء الله أن أبلغ فما رأيت مثل هذا اليوم قط! ألا فليبلّغ الشاهد الغائب : أنا إن نحن تواقفنا غدا إنه لفناء العرب وضيعة الحرمات! أما والله ما أقول هذه المقالة جزعا من الحتف ، ولكنّي رجل مسنّ أخاف على الذراري غدا إذا فنينا! اللهمّ إنّك تعلم أني قد نظرت لقومي ولأهل ديني فلم آل ، وما توفيقي إلّا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ، والرأي يخطئ ويصيب ... أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

فانطلقت عيون معاوية إليه بخطبة الأشعث ، فقال : أصاب وربّ الكعبة ، لئن نحن التقينا غدا ليميلنّ الروم على ذرارينا ونسائنا ، وليميلنّ أهل فارس على نساء العراق وذراريهم ، وإنّما يبصر هذا ذوو الأحلام والنهى.

فأشاع ذلك في أهل الشام ، فأخذوا يتنادون في سواد الليل : يا أهل العراق ، من لذرارينا إن قتلتمونا؟! ومن لذراريكم إن قتلناكم؟! الله الله في البقية (٢).

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٧٩.

(٢) وقعة صفين : ٤٨٠ ـ ٤٨١.


وخطبة معاوية :

وكأنّ معاوية أراد أن يعمّي أمر الأشعث على الناس فقال : «يا أهل الشام ، ما أنتم أحقّ بالجزع على قتلاكم من أهل العراق على قتلاهم ، فو الله ما ذو الكلاع فيكم بأعظم من عمار بن ياسر فيهم ، ولا حوشب فيكم بأعظم من هاشم فيهم ، وما عبيد الله بن عمر فيكم بأعظم من ابن بديل فيهم ، وما الرجال إلّا أشباه ، وما التمحيص إلّا من عند الله ، فأبشروا فإن الله قد قتل من القوم ثلاثة : قتل عمّار بن ياسر وهو كان فتاهم ، وقتل هاشما وكان جمرتهم ، وقتل ابن بديل وهو فاعل الأفاعيل. وبقي : الأشعث والأشتر وعديّ بن حاتم ، فأما الأشعث فحما مصره فحماه مصره ، وأما الأشتر وعديّ فغضبا (لاشتراكهما) في الفتنة ، فالله قاتلهما غدا إن شاء الله» (١) وبذلك عمّى أمر الأشعث على الناس أنه ليس متأثرا منه.

فضيحة بسر بعد عمرو :

ورأى معاوية شدّة وطأة الإمام عليه‌السلام في القتال ، وكان حوله أخوه عتبة والوليد بن عقبة وبسر بن أبي أرطاة العامري ، فقال معاتبا : تبّا لهذه الرجال وقبحا! أما فيهم من يقتل هذا مبارزة أو غيلة أو في اختلاط الفيلق وثوران النقع؟!

فصارحه الوليد فقال : ابرز إليه أنت فإنّك أولى الناس بمبارزته!

فقال معاوية : والله لقد دعاني إلى البراز حتّى استحييت من قريش! وإني والله لا أبرز إليه ؛ ما جعل العسكر بين يدي الرئيس إلّا وقاية له!

فقال عتبة : الهوا عن هذا ، كأنكم لم تسمعوا نداءه ، فقد علمتم أنه قتل حريثا وفضح عمرا ، ولا أرى أحدا يتحكّك به إلّا قتله!

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٥٥.


فالتفت معاوية لبسر وقال له : أتقوم لمبارزته؟! قال : ما أحد أحقّ بها منك ، وإذ أبيتموه فأنا له! فقال له معاوية : أما إنّك ستلقاه في العجاجة غدا في أوّل الخيل.

وفي أول الغداة غدا الإمام عليه‌السلام ومعه الأشتر منقطعا عن خيله ... فاستقبله بسر وهو مقنّع بالحديد لا يعرف وناداه : أبرز إليّ أبا حسن! وكان معه خيله.

فانحدر إليه على توئدة غير مكترث ، حتّى إذا قاربه طعنه فألقاه على الأرض وكان دارعا فمنع الدرع أن يصل السنان إليه ، وأراد بسر أن يكشف (عورته) يدفع بها عن نفسه بأسه! فانصرف عنه علي عليه‌السلام مستدبرا له.

وعرفه الأشتر فقال : يا أمير المؤمنين هذا بسر بن أبي أرطاة عدوّ الله وعدوّك! فقال : أبعد أن فعلها؟! دعه فعليه لعنة الله ، وقام بسر من طعنة عليّ مولّيا وولى من معه من الخيل ، فناداه عليّ : يا بسر ، معاوية كان أحقّ بها منك.

محاولة أخرى لوقف القتال :

وخرج رجل من أهل الشام باتّجاه الإمام عليه‌السلام وناداه : يا أبا الحسن يا علي ابرز إليّ!

فخرج إليه الإمام عليه‌السلام حتى إذا اختلفت أعناق دابّتيهما بين الصفّين. فقال الرجل : يا علي ، إنّ لك قدما في الإسلام وهجرة ، فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن هذه الدماء وتأخير هذه الحروب حتّى ترى من رأيك؟ فقال له الإمام عليه‌السلام : وما ذاك؟ قال : ترجع إلى عراقك فنخلّي بينك وبين العراق ، ونرجع إلى شامنا فتخلّي بيننا وبين شامنا!

فقال له علي عليه‌السلام : لقد عرفت أنك إنما عرضت هذا نصيحة وشفقة ، ولقد أهمّني هذا الأمر وأسهرني ، وضربت أنفه وعينيه فلم أجد إلّا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله! إنّ الله تبارك وتعالى لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض


وهم سكوت مذعنون ، لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر ، فوجدت القتال أهون عليّ من معالجة الأغلال في جهنّم (١)!

في انتظار نهار الهرير والمصاحف :

وقام الإمام عليه‌السلام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : «أيها الناس ، قد بلغ بكم الأمر وبعدوّكم ما قد رأيتم ، ولم يبق منهم إلّا آخر نفس ، وإن الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأوّلها ، وقد صبر لكم القوم على غير دين حتى بلغنا منهم ما بلغنا ، وأنا غاد عليهم بالغداة أحاكمهم إلى الله عزوجل» (٢).

فلما أظهر عليه‌السلام أنه سيصبّح معاوية بالتنجيز بلغ ذلك أهل الشام ففزعوا لذلك وانكسروا ، وبلغ ذلك معاوية ففزع لذلك وانكسر (٣) ودعا عمرو بن العاص وقال له :

إنما هي الليلة حتّى يغدو عليّ علينا بالفيصل ، فما ترى؟ فقال عمرو :

إن رجالك لا يقومون لرجاله ، ولست مثله ، هو يقاتلك على أمر وأنت تقاتله على غيره ، أنت تريد البقاء وهو يريد الفناء. وأهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم ، وأهل الشام لا يخافون عليّا إن ظفر بهم ... ولكن ألق إليهم أمرا إن قبلوه اختلفوا وإن ردّوه اختلفوا أيضا : أدعهم إلى كتاب الله حكما فيما بينك وبينهم ، فإنّك بالغ به حاجتك في القوم ، فإنّي لم أزل أؤخّر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه. فقال معاوية : صدقت (٤)! اربطوا المصاحف على أطراف القنا.

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٧٤.

(٢) وقعة صفين : ٤٧٦.

(٣) وقعة صفين : ٤٦٧.

(٤) وقعة صفين : ٤٧٦ ـ ٤٧٧.


فرفع أهل الشام المصاحف على رءوس الرماح وقلدوها الخيل ، ورفع مصحف دمشق الأعظم (مبعوث عثمان) تحمله عشرة رجال على رءوس الرماح (١) قد شدّوا ثلاثة أرماح مجتمعة وقد ربطوا عليها مصحف المسجد الأعظم ، يمسكه عشرة رهط.

وروى المنقري ، عن الجعفي ، عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : أنهم استقبلوا عليا عليه‌السلام بمائة مصحف ورفعوا في كلّ جانب من جانبي جيشه مائتي مصحف فكان جميعها خمسمائة مصحف. ثمّ قام الطفيل بن أدهم حيال علي عليه‌السلام ، وأبو شريح الجذامي حيال الميمنة ، وقام ورقاء بن المعمّر حيال الميسرة ، ثمّ نادوا : يا معشر العرب! الله الله في نسائكم وبناتكم ، فمن للروم (إذا فنينا) ومن للأتراك وأهل فارس غدا إذا فنيتم؟ الله الله في دينكم. هذا كتاب الله بيننا وبينكم (٢)! فلما لم يروهم أجابوا لذلك.

ذكروا : أن أهل الشام قالوا لمعاوية : إنك قد غرّرت بدعائك القوم وأطمعتهم فيك ، وما نرى أهل العراق أجابوا إلى ما دعوناهم إليه ، فأعدها جذعة (أي : أعد الحرب مرة أخرى).

فدعا معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص وأمره أن يكلّم أهل العراق ، فأقبل حتّى إذا كان بين الصفّين نادى : يا أهل العراق! أنا عبد الله بن عمرو بن العاص ، إنما قد كانت بيننا وبينكم أمور للدين أو الدنيا! فإن تكن للدين فقد والله أعذرنا وأعذرتم ، وإن تكن للدنيا فقد والله أسرفنا وأسرفتم ، وقد دعوناكم إلى أمر لو دعوتمونا إليه لأجبناكم! فإن يجمعنا وإياكم الرضا فذلك من الله! فاغتنموا هذه الفرجة لعله أن يعيش فيها المحترف وينسى فيها القتيل ، وإن بقاء المهلك بعد الهالك قليل (٣).

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٨١.

(٢) وقعة صفين : ٤٧٨ ـ ٤٧٩.

(٣) وقعة صفين : ٤٨٢ ـ ٤٨٣.


تحذير الإمام عليه‌السلام :

فقام الإمام عليه‌السلام وقال : «عباد الله! إني أحقّ من أجاب إلى كتاب الله ، ولكنّ معاوية وعمرو بن العاص ، وابن أبي معيط ، وحبيب بن مسلمة ، وابن أبي سرح ليسوا بأصحاب قرآن ولا دين ، وإني أعرف بهم منكم (فقد) صحبتهم أطفالا وصحبتهم رجالا ، فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال! إنها كلمة حقّ يراد بها باطل! إنهم ـ والله ـ ما رفعوها أنهم يعرفونها ويعملون بها ، ولكنّها الخديعة والمكيدة والوهن! أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة فقد بلغ الحقّ مقطعه ولم يبق إلّا أن يقطع دابر (القوم) الذين ظلموا.

ويحكم! أنا أوّل من أجاب إلى كتاب الله وأوّل من دعا إليه ، ولا يسعني في ديني وليس يحلّ لي أن ادعى إلى كتاب الله (دعوة جادّة) فلا أقبله! وإني إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم به ونقضوا عهده ونبذوا كتابه ... ولكنّي أعلمتكم أنهم قد كادوكم ، وأنهم ليسوا يريدون العمل بالقرآن» (١).

وفي خبر المنقريّ بسنده ، عن الجعفيّ ، عن الباقر أن عليا عليه‌السلام دعا فقال : «اللهمّ إنّك تعلم أنّهم ما الكتاب يريدون فاحكم بيننا وبينهم ، إنّك أنت الحكم الحقّ المبين» فطائفة قالت : القتال! وطائفة قالت : المحاكمة إلى الكتاب ، ولا يحلّ لنا الحرب وقد دعينا إلى حكم الكتاب (٢) وقالوا : أجب القوم إلى ما دعوك إليه فإنّا قد فنينا (٣) وقالوا : أكلتنا الحرب وقتلت الرجال! نعم قال قوم : نقاتل القوم على

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٨٩ ، وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣٢٣ : اقتتلوا إلى ارتفاع الضحى ثمّ رفعوا المصاحف ... فقال علي عليه‌السلام : بلغهم ما فعلت من رفع المصحف لأهل الجمل ففعلوا مثله ، ولم يريدوا ما أردت ، فلا تنظروا إلى فعلهم. وانظر مروج الذهب ٢ : ٣٩١.

(٢) وقعة صفين : ٤٧٨ ـ ٤٧٩.

(٣) وقعة صفين : ٤٨٣.


ما قاتلناهم عليه أمس ، ولكن لم يقل هذا إلّا قليل منهم ، ثمّ لما ثارت الجماعة بالموادعة رجع هؤلاء عن قولهم إلى قول جماعتهم.

فقام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وقال لهم : «إنّه لم يزل أمري معكم على ما أحبّ إلى أن أخذت منكم الحرب ، وقد ـ والله ـ أخذت منكم وتركت وأخذت من عدوّكم فلم تترك فهي فيهم أنكى وأنهك! ألا إني كنت بالأمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا! وكنت ناهيا فأصبحت منهيا! وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون» ثمّ قعد.

ثم تكلّم رؤساء القبائل : فقام من ربيعة وهي الجبهة العظمى : كردوس بن هانئ البكري ، ثمّ شقيق بن ثور السّدوسي البكري أيضا ، ثمّ حريث بن جابر البكريّ أيضا ، ثمّ خالد بن المعمّر السدوسي البكري أيضا ، ثمّ الحضين بن المنذر الربعي (١).

وأقبل عديّ بن حاتم الطائي ثمّ قام عمرو بن الحمق الخزاعي ، فقام الأشعث بن قيس الكندي مغضبا (٢) مصرّا على الاستجابة لمعاوية والشاميّين ، فقال الإمام عليه‌السلام إن هذا أمر ينظر فيه (٣)! وكان الأشعث هو سيّد كندة فلم يرض بالسكوت! بل كان من أشدّهم قولا لإطفاء الحرب والركون للموادعة! وأمّا سيّد همدان سعيد بن قيس فكان هكذا تارة وهكذا أخرى (٤).

الإمام عليه‌السلام يستردّ الأشتر :

«وا سوء صباحاه» كلمة عربية أكثر ما تصدق ، تصدق على صباح يوم

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٨٤ ـ ٤٨٥ ، وفي نهج البلاغة خ ٢٠٨.

(٢) وفي تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨٨ : وكان معاوية قد استماله وكتب إليه ودعاه إلى نفسه!

(٣) وقعة صفين : ٤٨٢.

(٤) وقعة صفين : ٤٨٤.


الجمعة العاشر من شهر صفر القتال في صفين ، صباح ليلة الهرير ، مع ارتفاع شمسه ارتفعت المصاحف الخمسمائة على رءوس رماح الشاميّين ، وبارتفاعها ارتفعت وتيرة الخلاف والاختلاف بين العراقيين على عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، هذا كلّه والأشتر في صبيحة ليلة الهرير قد أشرف على الدخول في عسكر معاوية (١) بل فسطاطه وبساطه ثم بلاطه.

وكان من الدّاعين إلى المناجزة عديّ بن حاتم الطائي سيد طيّئ قام فقال : إنه لم يصب عصبة منّا إلّا وقد أصيب منهم مثلها ونحن أمثل بقية منهم ، وقد جزعوا ، وليس بعد الجزع إلّا ما نحب ، فناجز القوم (٢).

ولكن زيد بن حصين الطائي لم يطع سيّد قومه ، وكان من المجتهدين في العبادة من أصحاب البرانس (٣).

وكان مسعر بن فدكي التميمي من قرّاء تميم البصرة فأقرّه الإمام عليه‌السلام على قرّاء البصرة في صفين (٤) ، فتوافقا وقادا زهاء عشرين ألفا (؟!) عصابة منهم من القرّاء الذين صاروا خوارج فيما بعد ، وقد اسودت جباههم من السجود ، مقنّعين في الحديد قد وضعوا سيوفهم على عواتقهم ، يتقدمهم زيد ومسعر ، نادوا الإمام باسمه : يا علي ، أجب القوم إلى كتاب الله إذ دعيت إليه! وإلّا قتلناك كما قتلنا ابن عفّان! والله لنفعلنّها إن لم تجبهم أو لنسلمنّك إلى عدوّك! فابعث إلى الأشتر ليأتيك!

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٩٠.

(٢) وقعة صفين : ٤٨٢.

(٣) وقعة صفين : ٩٩.

(٤) وقعة صفين : ٢٠٨.


وكان يزيد بن هانئ السبيعي الهمداني حاضرا فأرسله الإمام إلى الأشتر : أن ائتني! فانطلق إليه وعاد فقال : قال الأشتر : ائته فقل له : ليست هذه بالساعة التي ينبغي أن تزيلني فيها عن موقفي ، فإني قد رجوت الله أن يفتح لي ، فلا تعجلني.

وكان إبراهيم بن الأشتر حاضرا قال : ما انتهى إلينا الرسول حتى ارتفع العجاج والأصوات من قبل أبي الأشتر (بالتكبير) وظهرت دلائل الفتح والنصر لأهل العراق ، ودلائل الإدبار والخذلان لأهل البطلان!

فقال مقدّمو القوم : والله ما نراك إلّا أمرته بقتال القوم؟

فقال الإمام عليه‌السلام : أليس إنّما كلمته علانية على رءوسكم وأنتم تسمعون؟! أرأيتموني ساررت رسولي؟!

قالوا : فابعث إليه ليأتك ، وإلّا ـ فو الله ـ اعتزلناك!

فقال علي عليه‌السلام لزيد : يا زيد قل له : أقبل إليّ فإن الفتنة قد وقعت!

فانطلق إليه فأخبره ، فسأله الأشتر : الرفع هذه المصاحف؟! قال : نعم ، قال : إنّها من مشورة ابن النابغة (يعني ابن العاص) أما والله لقد ظننت أنها حين رفعت ستوقع اختلافا وفرقة! ثمّ قال له : ويحك ألا ترى إلى ما يلقون؟ ألا ترى إلى الذي يصنع الله لنا؟ أينبغي أن ندع هذا وننصرف عنه؟!

فقال له يزيد : أتحبّ أن تظفر أنت هنا وأمير المؤمنين يفرج عنه ويسلّم إلى عدوّه؟! فإنّهم قالوا له : لترسلنّ إلى الأشتر فليأتينّك أو لنقتلنّك كما قتلنا عثمان! أو لنسلمنّك إلى عدوّك!

فانتكس الأشتر وانكسر وانصرف وتراجع وعاد مقبلا حتّى انتهى إليهم فصاح بهم : يا أهل الذل والوهل! أحين علوتم القوم فظنّوا أنكم قاهرون لهم رفعوا لكم المصاحف يدعونكم إلى ما فيها؟! وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها وسنّة من قد أنزلت عليه ، فلا تجيبوهم ، أمهلوني فواقة (ناقة ـ بمقدار حلبها) فإني


قد أحسست بالفتح! قالوا : لا ، قال : فأمهلوني عدوة الفرس فإني قد طمعت في النصر! قالوا : إذن ندخل معك في خطيئتك! قال : فحدّثوني عنكم ـ وقد قتل أماثلكم وبقي أراذلكم ـ متى كنتم محقّين : أحين كنتم تقتلون أهل الشام؟ فأنتم الآن حين أمسكتم عن القتال مبطلون! أم أنتم الآن محقّون؟ فقتلاكم إذن في النار الذين لا تنكرون فضلهم وكانوا خيرا منكم!

فقالوا : يا أشتر ، إنا لسنا نطيعك فاجتنبنا ودعنا منك ، قاتلناهم في الله وندع قتالهم في الله.

فقال لهم : يا أصحاب الجباه السود! كنّا نظنّ أن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوق إلى لقاء الله! فلا أرى فراركم إلّا إلى الدنيا من الموت! خدعتم والله فانخدعتم ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم! ألا قبحا يا أشباه الإبل الجلّالة (!) ما أنتم برائين بعدها عزّا أبدا ، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون! فتسابّوا وتضاربوا بالسياط ولم يكفّوا حتّى صاح بهم الإمام عليه‌السلام ، فالتفت إليه الأشتر وقال له : يا أمير المؤمنين ، احمل الصف على الصفّ يصرع القوم.

فتصايحوا : إن عليا أمير المؤمنين قد رضي بحكم القرآن ولا يسعه إلّا ذلك! وأقبل الناس يقولون : قد رضي أمير المؤمنين ، قد قبل أمير المؤمنين ، وهو مطرق إلى الأرض ساكت لا يبض بكلمة!

وقال الأشتر : إن كان أمير المؤمنين قد قبل ورضي بحكم القرآن فقد رضيت بما رضي به أمير المؤمنين (١). وتراجعت عصابة من القرّاء ، فجاءوا إلى أمير المؤمنين وقالوا له :

يا أمير المؤمنين ، ما تنتظر بهؤلاء القوم؟ ألا نمشي إليهم بسيوفنا حتّى يحكم الله بيننا وبينهم بالحقّ؟

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٨٩ ـ ٤٩٢ عن إبراهيم بن الأشتر لمصعب بن الزبير.


فقال لهم : قد جعلنا حكم القرآن بيننا وبينهم ، فلا يحلّ قتالهم حتّى ننظر بم يحكم القرآن (١)؟

ولعلّهم بالعمدة كانوا من قرّاء البصرة ، وكان على خيل البصرة سهل بن حنيف الأنصاري فانتصر لموقف الإمام عليه‌السلام وقال لهم : يا هؤلاء القوم! اتهموا أنفسكم ؛ فإنا كنّا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الحديبية. وجاء عمر فقال : يا رسول الله! ألسنا على الحقّ وهم على الباطل؟ قال : بلى ، قال : أو ليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال : بلى. قال : فعلام نعطي الدنيّة في ديننا (ألا) نرجع إلى ما يحكم الله بيننا وبينهم (بالسيف)؟!

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا ابن الخطاب! إنّي رسول الله ولن يضيّعني الله!

فانطلق عمر مغضبا فأتى أبا بكر وقال له مثل ذلك ، فقال له أبو بكر مثل قول رسول الله.

ثمّ أنزل الله سورة الفتح فأرسل الرسول إلى عمر فدعاه وقرأها عليه فقال عمر : أهو فتح يا رسول الله؟ قال : نعم. ثمّ قال سهل لهؤلاء القرّاء (أجل) إنّ هذا فتح (٢).

ولكنّ عليا عليه‌السلام عاد فقال : إنما فعلت ما فعلت لمّا بدا فيكم الفشل والخور (الضعف) وسمعه سعيد بن قيس الهمداني ، فانطلق فجمع قومه وجاء بهم إليه وقال له : يا أمير المؤمنين ، ها أنا ذا وقومي لا نرادّك ولا نردّ عليك ، فمرنا بما شئت!

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٩٧.

(٢) شرح الأخبار للقاضي النعمان ٢ : ٥٢ ـ ٥٣ ، الحديث ٤١٥ عن شقيق بن سلمة الكوفي. وكان أخو سهل : عثمان بن حنيف قد قتل شهيدا يومئذ ، كما فيه أيضا ٢ : ٢٩ عن عبيد الله بن أبي رافع في تسمية من شهد مع عليّ حروبه. ومات سهل بعده بسنة ، كما سيأتي.


فقال عليه‌السلام : أما والله لو كان هذا قبل رفع المصاحف لأزلتهم عن عسكرهم أو تنفرد سالفتي (عنقي) قبل ذلك! ولكن انصرفوا راشدين ، فلعمري ما كنت لاعرّض قبيلة واحدة للناس (١).

ووساطة الأشعث ورسائل معاوية :

وجاء الأشعث بن قيس إلى الإمام عليه‌السلام فقال : يا أمير المؤمنين ، ما أرى الناس إلّا وقد رضوا ، وسرّهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن! فإن شئت ذهبت إلى معاوية أسأله ما يريد وأنظر ما الذي يسأل؟ قال عليه‌السلام : إن شئت فأته.

فانطلق إليه وقال له : يا معاوية ، لأيّ شيء رفعتم هذه المصاحف؟

قال : لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به في كتابه ، فابعثوا منكم رجلا ترضون به ، ونبعث منّا رجلا ، ثمّ نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ، ثمّ نتّبع ما اتّفقا عليه. فعاد إلى الإمام بالكلام (٢).

وأرسل معاوية إلى الإمام برسالة فيها : «إن الأمر قد طال بيننا وبينك ، وكلّ واحد منّا يرى أنّه على الحقّ فيما يطلب من صاحبه ، ولن يعطي واحد منّا الطاعة للآخر! وقد قتل فيما بيننا بشر كثير! وأنا أتخوّف أن يكون ما بقي أشدّ مما مضى ، وإنّا سوف نسأل عن هذا الموطن! ولا يحاسب به غيري وغيرك! فهل لك في أمر لنا ولك فيه براءة وحياة وعذر ، وصلاح للأمة وحقن للدماء ، وألفة للدين وذهاب للفتن والضغائن! أن يحكم بيننا وبينك حكمان رضيّان أحدهما من أصحابي والآخر

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٢٠.

(٢) وقعة صفين : ٤٩٨ ـ ٤٩٩.


من أصحابك ، فيحكمان بما في كتاب الله بيننا ، فإنه خير لي ولك! وأقطع لهذه الفتن! فاتّق الله فيما دعيت له ، وارض بحكم القرآن إن كنت من أهله! والسلام».

فكتب إليه الإمام عليه‌السلام : «من عبد الله علي أمير المؤمنين ، إلى معاوية بن أبي سفيان ، أما بعد ، فإنّ أفضل ما يشغل به المرء نفسه اتّباع ما يحسن به فعله ويستوجب فضله ويسلم من عيبه ، وإن البغي والزور يزريان بالمرء في دينه ودنياه ، ويبديان من خلله عند من يغنيه ما استرعاه الله ما لا يغني عنه تدبيره ، فاحذر الدنيا ، فإنه لا فرح في شيء وصلت إليه منها! ولقد علمت أنك غير مدرك ما قضي فواته. ولقد رام قوم أمرا بغير الحق فتأوّلوا على الله تعالى فأكذبهم ، ومتّعهم قليلا ثمّ اضطرّهم إلى عذاب غليظ. فاحذر يوما يغتبط فيه من أحمد عاقبة عمله ، ويندم فيه من أمكن الشيطان من قياده ولم يحادّه ، فغرّته الدنيا واطمأنّ إليها.

ثمّ إنّك قد دعوتني إلى حكم القرآن! ولقد علمت أنّك لست من أهل القرآن ولست حكمه تريد! والله المستعان ، وقد أجبنا القرآن إلى حكمه ولسنا إياك أجبنا ، ومن لم يرض بحكمه فقد ضلّ ضلالا بعيدا» (١).

فكأنّ معاوية أجاب الإمام برسالة فيها : «أما بعد ، عافانا الله وإياك! فقد آن لك أن تجيب إلى ما فيه صلاحنا وألفة بيننا! وقد فعلت وأنا أعرف حقّي! ولكنّي اشتريت بالعفو صلاح الأمة! ولا أكثر فرحا بشيء جاء ولا ذهب (جوابا لقول الإمام : فإنه لا فرح في شيء ...) وإنما أدخلني في هذا الأمر القيام بالحقّ فيما بين الباغي والمبغيّ عليه! (عثمان وقاتليه) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! فدعوت إلى كتاب الله فيما بيننا وبينك ، فإنّه لا يجمعنا وإيّاك إلّا هو! نحيي ما أحيا القرآن ونميت ما أمات القرآن! والسلام» (٢).

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٩٣ ـ ٤٩٤.

(٢) وقعة صفين : ٤٩٧ ـ ٤٩٨.


وخطاب وعتاب :

وإذ أصرّ الناس على الموادعة والصلح قال الإمام عليه‌السلام : إنّ هؤلاء القوم لم يكونوا ليفيئوا إلى الحقّ ، ولا ليجيبوا إلى كلمة السواء حتّى يرموا بالمناسير تتبعها العساكر ، وحتّى يرجموا بالكتائب تقفوها الجلائب ، وحتّى يجرّ ببلادهم الخميس يتلوه الخميس ، وحتّى يدعو الخيل في نواحي أرضهم وبأحناء مساربهم ومسارحهم ، وحتّى تشنّ عليهم الغارات من كلّ فجّ ، وحتّى يلقاهم قوم صبر لا يزيدهم هلاك من هلك من قتالهم وموتاهم في سبيل الله إلّا جدّا في طاعة الله وحرصا على لقاء الله.

ولقد كنّا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقتل آباؤنا وأبناؤنا وإخواننا وأعمامنا ، ما يزيدنا ذلك إلّا إيمانا وتسليما ومضيّا على أمضّ الألم ، وجدّا على جهاد العدو ، والاستقلال بمبارزة الأقران. ولقد كان الرجل منّا والآخر من عدوّنا يتصاولان تصاول الفحلين ، ويتخالسان أنفسهما أيّهما يسقي صاحبه كأس المنون ، فمرّة لنا من عدوّنا ومرّة لعدوّنا منّا ، فلما رآنا الله صبرا صدقا أنزل بعدوّنا الكبت وأنزل علينا النصر ولعمري لو كنّا نأتي مثل الذي أتيتم ، ما قام الدين ولا عزّ الإسلام!

ثمّ قال لهم : وايم الله لتحلبنّها دما! فاحفظوا ما أقول لكم (١).

ثمّ إنّ الناس قاموا لقتلاهم يدفنونهم (٢) وقد أصيب من أهل العراق في صفين خمسة وعشرون ألفا ، ومن أهل الشام خمسة وأربعون ألفا (٣).

__________________

(١) الإرشاد للمفيد ١ : ٢٦٧ ـ ٢٦٨ والموقعية من المصدر التالي. وفي كتاب سليم بن قيس ٢ : ٦٩٦ ، الحديث ١٥ : أن ذلك كان قبل صفين! ولكنه تحريف غير ملائم ، وتخريجه : ١٥. وفي وقعة صفين : ٥٢٠ ، وفي نهج البلاغة خ ٥٦.

(٢) وقعة صفين : ٥٢٠ ـ ٥٢١.

(٣) وقعة صفين : ٥٥٨ ، عن تميم بن حذلم الناجي ، ومثله في تاريخ خليفة : ١١٧ ـ ١١٨ ـ مسندا عن الصحابي عبد الرحمن بن أبزى. وفي آخر : عدّوا بالقصب. وكذلك في أنساب الأشراف ٢ : ٣٢٢ ، ومروج الذهب ٢ : ٣٩٤ عن أبي مخنف وغيره.


تعيين الحكمين :

لم يعيّن معاوية للمحاكمة إلّا مبدعها ابن العاص ، جاء هذا فيما رواه المنقري ، عن الجعفي ، عن الباقر عليه‌السلام قال : لما أراد الناس من عليّ أن يضع حكما قال لهم : إنّ معاوية لم يكن ليضع لهذا الأمر أحدا هو أوثق برأيه ونظره من عمرو بن العاص ، وإنه لا يصلح للقرشيّ إلّا مثله! فعليكم بعبد الله بن عباس فارموه به ، فإن عمرا لا يعقد عقدة إلّا حلّها عبد الله ، ولا يحلّ عقدة إلّا عقدها ، ولا يبرم أمرا إلّا نقضه ، ولا ينقض أمرا إلّا أبرمه.

فقال الأشعث : لا والله لا يحكم فيها مضريان حتّى تقوم الساعة! ولكن إذا جعلوا رجلا من مضر فاجعله رجلا من أهل اليمن!

فقال عليّ : إن عمرا إذا كان له في أمر هوى فليس من الله في شيء ، فأخاف أن يخدع عمر ويمنّيكم.

فقال الأشعث : والله لئن يكن أحدهما من أهل اليمن ويحكما ببعض ما نكره فهو أحبّ إلينا من أن يكون في حكمهما ما نحبّ وهما مضريان (١)!

وقام عبد الله بن الكوّاء اليشكري الهمداني إلى الإمام عليه‌السلام وقال : إن عبد الله بن قيس (الأشعري) وافد أهل اليمن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصاحب مقاسم أبي بكر ، وعامل عمر ، قد رضي به القوم ، وعرضنا عليهم عبد الله بن عباس فزعموا أنّه قريب القرابة منك ظنون في أمرك (متّهم) (٢)!

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٠٠.

(٢) وقعة صفين : ٥٠٢.


ونادى الأشعث والقراء الذين خرجوا بعد : إنا قد اخترنا ورضينا أبا موسى الأشعري!

فقال لهم علي عليه‌السلام : فإني لا أرضى بأبي موسى ولا أرى أن أوّليه!

فقال الأشعث وزيد بن حصين الطائي ومسعر بن فدكي التميمي ومعهم عصابة من القرّاء (البصريين) : فإنّا لا نرضى إلّا به! فإنه قد حذّرنا ما وقعنا فيه!

فقال علي عليه‌السلام : فإنه ليس لي برضا وقد فارقني وخذّل الناس عنّي ثمّ هرب حتّى أمّنته بعد أشهر ، ولكن هذا ابن عباس أوّليه ذلك.

قالوا : والله ما نبالي أكنت أنت أو ابن عباس ، ولا نريد إلّا رجلا هو منك ومن معاوية سواء ولا يكون إلى واحد منكما بأدنى من الآخر.

فقال علي عليه‌السلام : فالأشتر. فقال الأشعث : وهل سعّر الأرض علينا غير الأشتر؟!

فقال علي عليه‌السلام : فقد أبيتم إلّا أبا موسى؟ قالوا : نعم! قال : فاصنعوا ما أردتم.

وكان أبو موسى قد خرج من العراق إلى الشام معتزلا في قرية تدعى العرض (بين تدمر والرصافة) فبعثوا إليه من يأتي به ، وكان معه مولى له فلما علم مولاه الخبر دخل عليه وقال له : إن الناس قد اصطلحوا. فقال : الحمد لله رب العالمين. قال : وقد جعلوك حكما. قال : إنا لله وإنا إليه راجعون. ثمّ جاء حتّى دخل عسكر علي عليه‌السلام.

وجاء الأحنف بن قيس التميمي إلى علي عليه‌السلام وقال له : يا أمير المؤمنين ، إنّك قد رميت بحجر الأرض (داهيتها) ومن حارب الله ورسوله في أنف الإسلام (صدره) وإن عبد الله بن قيس (الأشعري) رجل قد حلبت أشطره فوجدته قريب القعر كليل المدية ، وهو رجل يماني وقومه مع معاوية! وإنّ صاحب القوم من ينأى حتّى يكون مع النجم ويدنو حتى يكون في أكفّهم! فإن تجعلني حكما فاجعلني ،


وإن أبيت أن تجعلني حكما فاجعلني ثاني أو ثالثا ، فو الله لا يحلّ عقدة إلّا عقدت لك أشدّ منها ، فإن قلت إني لست من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فابعث رجلا من أصحاب رسول الله غير عبد الله بن قيس وابعثني معه. فعرض ذلك على الناس فأبو إلّا الأشعري!

فقال علي عليه‌السلام : إن القوم أتوني بعبد الله بن قيس مبرنسا (لابس البرنس : القبعة) فقالوا لي : ابعث هذا فقد رضينا به! والله بالغ أمره (١)!

تقييد الكتابين :

لما اضطرّ «شيخ المظلومين» إلى التسليم للأمر الواقع وقال للعراقيين معه : فاصنعوا ما أردتم! دعوا عمرو بن العاص وكاتب معاوية عمير بن عبّاد الكناني (٢) وبحضور أمير المؤمنين عليه‌السلام والأشعث الكندي والأحنف التميمي وآخرين ، فاملي على الكاتب فكتب : «هذا ما تقاضى عليه عليّ أمير المؤمنين» فقال له عمرو : اكتب اسمه واسم أبيه ، إنما هو أميركم ، وأما أميرنا فلا!

فقال الأحنف التميمي : يا أمير المؤمنين ، لا تمح اسم إمرة المؤمنين عنك ، فإني أتخوّف إن محوتها أن لا ترجع إليك أبدا! لا تمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضا!

وقال الأشعث الكندي : (يا أمير المؤمنين) امح هذا الاسم!

وقام إليه رجل من أصحابه فقال : نهيتنا عن الحكومة ثمّ أمرتنا بها! فما ندري أيّ الأمرين أرشد؟! فصفق بإحدى يديه على الأخرى وقال : هذا جزاء

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٩٩ ـ ٥٠٢. وانظر وقارن : أنساب الأشراف ٢ : ٣٣٠ ، الحديث ٤٠٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨٩ ، وفي المناقب ٣ : ٢١٣ : عمير بن عبّاد الكلبي. وفي وقعة صفين : عميرة : ٥١١. وفي الإمامة والسياسة ١ : ١٣٣ : عمرو بن عبادة.


من ترك العقدة (الشدّة) أما والله لو أنّي حين أمرتكم بما أمرتكم به حملتكم على المكروه الذي يجعل الله فيه خيرا ، فإن استقمتم هديتكم ، وإن اعوججتم قوّمتكم ، وان أبيتم تداركتكم ، لكانت الوثقى ، ولكن بمن؟ وإلى من؟ أريد أن أداوي بكم وأنتم دائي! كناقش الشوكة بالشوكة! وهو يعلم أنّ ضلعها معها!

اللهمّ قد ملّت أطبّاء هذا الداء الدويّ ، وكلّت النزعة بأشطان الركي (بحبال البئر) أين القوم الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه ، وقرءوا القرآن فأحكموه ، وهيجوا إلى الجهاد فولهوا وله اللقاح إلى أولادها ، وسلبوا السيوف أغمادها ، وأخذوا بأطراف الأرض زحفا زحفا وصفّا صفّا ، بعض هلك وبعض نجا ، لا يبشّرون بالأحياء ولا يعزّون عن الموتى. مره العيون من البكاء ، خمص البطون من الطوى ، ذبل الشفاه من الدعاء ، صفر الألوان من السهر ، على وجوههم غبرة الخاشعين ، اولئك إخواني الذاهبون ، فحقّ لنا أن نظمأ إليهم ونعضّ الأيدي على فراقهم.

إن الشيطان يسنى لكم طرقه (يفتح عينه) ويريد أن يحلّ دينكم عقدة عقدة ، ويعطيكم بالجماعة الفرقة ، وبالفرقة الفتنة ، فاصدفوا عن نزعاته ونفثاته ، واقبلوا النصيحة ممّن أهداها إليكم ، واعقلوها على أنفسكم (١).

ثم قال الإمام عليه‌السلام : لا إله إلّا الله سنّة بسنّة : أما والله لعلى يدي دار هذا يوم الحديبية حين كتبت الكتاب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «هذا ما تصالح عليه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو» فقال سهيل : لا اجيبك إلى كتاب تسمّي فيه رسول الله ، ولو أعلم أنّك رسول الله لم اقاتلك ، إني إذا ظلمتك إذ منعتك أن تطوف ببيت الله وأنت رسول الله. ولكن اكتب : محمد بن عبد الله ، اجبك! فقال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا علي ، إني لرسول الله ، وإني لمحمّد بن عبد الله ، ولن يمحو عنّي الرسالة كتابي إليهم :

__________________

(١) نهج البلاغة خ ١٢١ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٨٦.


من محمد بن عبد الله ، فاكتب : محمد بن عبد الله» (١) فغضبت فقلت : بلى والله إنه لرسول الله وإن رغم أنفك! فقال رسول الله : اكتب ما يأمرك ، وإن لك مثلها ستعطيها وأنت مضطهد (٢) فاليوم أكتبها إلى أبنائهم كما كتبها رسول الله إلى آبائهم ، سنّة ومثلا!

فقال عمرو بن العاص : سبحان الله! ومثل هذا؟ شبّهتنا بالكفّار ونحن مؤمنون؟!

فقال له علي عليه‌السلام : يا ابن النابغة! ومتى لم تكن للكافرين وليا وللمسلمين عدوّا؟! وهل تشبه إلّا امك التي وضعت بك!

فغضب عمرو فقام وقال : والله لا يجمع بيني وبينك بعد هذا اليوم مجلس أبدا!

فقال علي عليه‌السلام : والله إني لأرجو أن يظهر الله عليك وعلى أصحابك (٣).

فلما اعيد الكتاب إليه أمر بمحوه (٤) فسئل : أتقرّ أنهم مسلمون مؤمنون؟

فقال علي عليه‌السلام : ما أقرّ لمعاوية ولا لأصحابه أنهم مؤمنون ولا مسلمون! ولكن ليكتب معاوية ويقرّ لنفسه ولأصحابه بما شاء ، ويسمّي نفسه وأصحابه ما شاء! فكتب الكتاب كاتب معاوية.

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٠٨ ، ونحوه في تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨٩.

(٢) وقعة صفين : ٥٠٩ بروايتين والاضطهاد في أنساب الأشراف ٢ : ٣٣٧ ومختصر الخبر في تاريخ ابن الوردي ١ : ١٥٢. وعن الماوردي في أعلام النبوة ومسند أحمد في مناقب آل أبي طالب ٣ : ٢١٣ ـ ٢١٤.

(٣) أمالي الطوسي : ١٨٧ ، الحديث ٣١٥ عن أبي مخنف ، ووقعة صفين : ٥٠٨ ـ ٥٠٩ ، وتاريخ ابن الوردي ١ : ١٥٢.

(٤) وقعة صفين : ٥٠٨.


فروى المنقري ، عن الشيباني قال : كان قد وقع كتاب الصلح إلى سعيد بن أبي بردة في صحيفة صفراء عليها خاتمان في أعلاها وأسفلها كلاهما «محمد رسول الله» وكان نصّ الكتاب :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، هذا ما تقاضى عليه عليّ بن أبي طالب ، ومعاوية بن أبي سفيان ، قاضى عليّ بن أبي طالب على أهل العراق ومن كان معه في شيعته من المؤمنين والمسلمين : وقاضى معاوية ابن أبي سفيان على أهل الشام ومن كان معه من شيعته من المؤمنين والمسلمين أنّا ننزل عند حكم الله وكتابه ، وأن لا يجمع بيننا إلّا إياه ، وأن كتاب الله بيننا وبينكم من فاتحته إلى خاتمته ، نحيي ما أحيا القرآن ونميت ما أمات القرآن. فما وجد الحكمان في كتاب الله بيننا وبينكم فإنهما يتبعانه ، وما لم يجداه في كتاب الله أخذا بالسنة العادلة الجامعة غير المفرّقة.

والحكمان : عبد الله بن قيس ، وعمرو بن العاص ، وأخذنا عليهما عهد الله وميثاقه ليقضيا بما وجدا في كتاب الله ، فإن لم يجدا في كتاب الله فالسنة الجامعة غير المفرّقة.

وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين ... أنهما آمنان على أموالهما وأهليهما ، والأمة أنصار لهما على الذي يقضيان به عليهما وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كلتيهما عهد الله : أنا على ما في هذه الصحيفة ، ولنقومن عليه ، وإنا عليه لأنصار.

وإنها قد وجبت القضية بين المؤمنين بالأمن والاستقامة ، ووضع السلاح أينما ساروا ، على أنفسهم وأموالهم وأهليهم وأراضيهم ، وشاهدهم وغائبهم.

وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه ليحكمان بين الأمة بالحق ، ولا يردّانها في فرقة ولا (في) حرب حتّى يقضيا.

وأجل القضية : إلى شهر رمضان ، فإن أحبّا أن يعجّلا عجّلا. وإن توفى واحد من الحكمين فإن أمير شيعته يختار مكانه رجلا لا يألو عن المعدلة والقسط.


وإن ميعاد قضائهما الذي يقضيان فيه : مكان عدل بين أهل الشام وأهل الكوفة ، فإن رضيا مكانا غيره فحيث رضيا ، لا يحضرهما فيه إلّا من أراد ، وأن يأخذ الحكمان من شاءا من الشهود ليكتبوا شهادتهم على ما في الصحيفة.

ونحن براء ممّن حكم بغير ما أنزل الله ، اللهمّ إنا نستعينك على من ترك ما في هذه الصحيفة وأراد فيها إلحادا وظلما» وكتب عميرة يوم الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين (١).

وتواعد الحكمان الاجتماع في أذرح (على ثغر الشام والحجاز) وأن يبعث علي عليه‌السلام بأربعمائة من أصحابه ، وكذلك معاوية ، فيشهدون الحكومة (٢).

موقف الأشتر من الصحيفة :

ولما كتبت الصحيفة ودعي الشهود للشهادة وكتبت شهادتهم ، دعي لها الأشتر فقال :

__________________

(١) وقعة صفين : ٥١٠ ـ ٥١١ ، رواية الشيباني ، وقبلها خبر جابر الجعفي عن الشعبي وزيد بن الحسن ، ومحمد بن علي الباقر عليه‌السلام بزيادة ونقصان في الحروف وكثرة الشهود وفيه «فإن مات أحد الأميرين قبل القضاء فلشيعته أن يولّوا مكانه رجلا» مما يتناقض وسائر النصوص عن الباقر عليه‌السلام ، فهو مردود.

(٢) وقعة صفين : ٥١١ ، والطبري ٥ : ٦٦ ، وفي تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨٩ : كتبوا كتابين : كتابا بخط كاتب معاوية : عمير بن عبّاد الكناني وكتابا بخط كاتب علي : عبيد الله بن أبي رافع. وليس هذا في وقعة صفين ، وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣٣٤ أرسل هذه الرواية المختارة فقط دون الأخرى وفي الطبري ٥ : ٥٤ هي أيضا برواية أبي مخنف.


لا صحبتني يميني ولا نفعتني بعدها الشمال إن كتب لي في هذه الصحيفة اسم على صلح ولا موادعة! أو لست على بيّنة من ربّي ، ويقين من ضلالة عدوّي؟! أو لستم قد رأيتم الظفر إن لم تجمعوا على الخور؟!

فقال له الأشعث : إنك والله ما رأيت ظفرا ولا خورا! هلمّ فاشهد على نفسك وأقرر بما كتب في هذه الصحيفة ، فإنه لا رغبة بك عن الناس!

فقال الأشتر : بلى والله إن بي لرغبة عنك في الدنيا للدنيا وفي الآخرة للآخرة! ولقد سفك الله بسيفي هذا دماء رجال ما أنت بخير منهم عندي ولا أحرم دما! قال : ولكن قد رضيت بما صنع علي أمير المؤمنين ودخلت فيما دخل فيه وخرجت مما خرج منه ، فإنه لا يدخل إلّا في هدى وصواب (١)!

ومع هذا التصريح اللامع حاولوا أن يفتنوا فيما بينه وبين أمير المؤمنين فقالوا له : إن الأشتر لم يرض بما في هذه الصحيفة ولا يرى إلّا قتال القوم!

فقال الإمام عليه‌السلام : بلى ، إن الأشتر ليرضى إذا رضيت. وقد رضيتم ورضيت ، ولا يصلح الرجوع بعد الرضا ولا التبديل بعد الإقرار ، إلّا أن يعصى الله ويتعدّى ما في كتابه.

وأما الذي ذكرتم من تركه أمري وما أنا عليه فليس (الأشتر) من أولئك ، وليس أتخوفه على ذلك! وليت فيكم مثله اثنين! بل ليت فيكم مثله واحدا يرى في عدوّه مثل رأيه إذ لخفّت عليّ مئونتكم ، ورجوت أن يستقيم لي بعض أودكم (٢)!

__________________

(١) وقعة صفين : ٥١١ ـ ٥١٢ هذا ، وقد ذكر اسمه في شهود الصحيفة على رواية الجعفي مما يوهنها.

(٢) الإرشاد للمفيد ١ : ٢٦٩ ـ ٢٧٠ وبعده : وقد نهيتكم عمّا أتيتم فعصيتم فكنت كما قال أخو هوازن.


وأما القضية فقد استوثقنا لكم فيها (حتّى) طمعت أن لا تضلوا ، إن شاء الله ربّ العالمين (١).

وقام إليه محرز بن جريش فقال له : يا أمير المؤمنين ، أما إلى الرجوع عن هذا الكتاب سبيل؟! فو الله إني لأخاف أن يورث ذلّا!

فقال عليه‌السلام : أبعد أن كتبناه ننقضه؟! إنّ هذا لا يحل (٢)!

ونظر الإمام عليه‌السلام إلى سليمان بن صرد الخزاعي وعلى وجهه ضربة سيف فتلا قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)(٣) ثمّ قال له : وأنت ممن ينتظر وممن لم يبدّل.

فقال : يا أمير المؤمنين ، أما والله لقد مشيت في الناس ليعودوا إلى أمرهم الأول فما وجدت أحدا عنده خير! إلّا قليلا! أما لو وجدت أعوانا ما كتبت هذه الصحيفة أبدا (٤)!

لا حكم إلّا لله! :

ولما يئس الأشعث من شهادة الأشتر على كتاب التحكيم وفي الوقت ذاته

__________________ـ

وهل أنا إلّا من غزيّة إن غوت

غويت ، وإن ترشد غزيّة أرشد

والخبر في الطبري ٥ : ٥٩ عن أبي مخنف.

(١) وقعة صفين : ٥٢١ ، ومن هنا يعلم أن إملاء الوثيقة كان باستيثاق الإمام عليه‌السلام ، وفي الطبري ٥ : ٥٩ عن أبي مخنف.

(٢) وقعة صفين : ٥١٩.

(٣) الأحزاب : ٢٣.

(٤) وقعة صفين : ٥١٩.


أمن من نقضه له ، حمل الكتاب ـ وكأنّه هو صاحب الأمر والقرار فيه ـ وأخذ يمرّ به على صفوف الشام وراياتهم ، وذلك ليطمئنهم به ، عرضه عليهم وقرأه حتّى رضوا به.

ثم عاد يمرّ به على صفوف أهل العراق وراياتهم يعرضه عليهم ، حتى مرّ برايات عنزة وهم أربعة آلاف ، فقرأه عليهم ، فخرج منهم أخوان هما جعد ومعدان وقالا : لا حكم إلّا لله ، ثمّ حملا على أهل الشام بسيفيهما حتّى بلغا رواق معاوية فقتلا على باب رواقه!

ثمّ مرّ به على مراد فقال أحد رؤسائهم صالح بن شقيق : لا حكم إلّا لله ولو كره المشركون!

ثمّ مرّ على رايات بني راسب فقرأها عليهم ، فقال قائلون منهم : لا حكم إلّا لله ولا نحكم الرجال في دين الله!

ثمّ مرّ على رايات بني تميم فقرأها عليهم فقال قائل منهم : لا حكم إلّا لله يقضي بالحق وهو خير الفاصلين.

وخرج منهم عروة بن ادية فقال للأشعث : فأين قتلانا؟ ثمّ شدّ بسيفه ليضربه فانصرف الأشعث فأصابت ضربته عجز دابّته ضربة غير شديدة فاندفعت به الدابة ، وصاح به قومه فأمسك.

ورجع الأشعث إلى قومه كندة وأهل اليمن فاجتمعوا عليه ، وخاف الفتنة رجال من بني تميم : الأحنف بن قيس ومعقل بن قيس ومسعر بن فدكي فاجتمعوا ومشوا إلى الأشعث واعتذروا إليه وتنصّلوا ، فقبل منهم.

ولكنّه انطلق إلى علي عليه‌السلام فقال له : يا أمير المؤمنين ، قد عرضت الحكومة على أهل الشام والعراق فرضوا بها ، حتّى مررت برايات بني راسب ونبذ من الناس سواهم فقالوا : لا حكم إلّا لله لا نرضى! فلنحمل بأهل العراق ـ وأهل الشام ـ عليهم فنقاتلهم فنقتلهم!


فقال الإمام عليه‌السلام : هل هي غير راية أو رايتين ونبذ من الناس؟ قال : بلى. قال : دعهم.

ثمّ قال لهم : ويحكم! أبعد الرضا والعهد نرجع؟! أو ليس قال الله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) وقال : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ)(٢) فأبى عليه‌السلام أن يرجع ، وأبى أولئك الخوارج إلّا تضليل التحكيم والطعن فيه والبراءة منه (٣).

مصير أسرى صفين :

من أسرى العراقيين في الشاميين رجل يقال له : عمرو بن أوس الأودي ، قاتل مع علي يوم صفّين وأسرته قوات معاوية ، مع أسرى آخرين كثيرين. وكان من مشورة ابن العاص لمعاوية أن يقتلهم ، وأبى معاوية. ولما سمع هذا الأودي بذلك قال لمعاوية : إنك خالي فلا تقتلني! ولمّا كان من أود قال له : من أين أنا خالك؟ فما بيننا وبين أود مصاهرة! فقال : فإذا أخبرتك فعرفت فهو أماني عندك؟ قال : نعم. قال : ألست تعلم أن أمّ حبيبة اختك زوجة النبيّ هي أمّ المؤمنين؟ قال : بلى ، قال : فأنا ابنها وأنت أخوها فأنت خالي! فقال معاوية : ما كان في هؤلاء الأسرى أحد يفطن لها غيره! وخلّى سبيله.

__________________

(١) المائدة : ١.

(٢) النحل : ٩١.

(٣) وقعة صفين : ٥١٢ ـ ٥١٤ وكأنّ الأشعث يتشبث بكلّ شيء لإثارة نار الفتنة. ومختصر الخبر في أنساب الأشراف ٢ : ٣٣٦ وقال في عروة : هو عروة بن جدير ، وأديّة أمّه نسب إليها.


ثمّ ما شعروا بشيء دون أن خلّى علي عليه‌السلام سبيل أسرى الشاميين في العراقيين ، فأتوا معاوية ... فأمر بتخلية من في يديه من أسرى العراقيين ، وقال لعمرو : يا عمرو ، لو أطعناك في هؤلاء الأسرى لوقعنا في قبيح من الأمر! ألا تراه كيف خلّى سبيل أسرانا (١)!

ولما دفن الناس قتلاهم أمر الإمام الحارث الأعور فنادى فيهم بالرحيل (٢)

الإمام عليه‌السلام إلى الكوفة :

ورحل الإمام عليه‌السلام إلى الكوفة من غير الطريق الذي أقبل منه ، على برّ شاطئ الفرات ، حتّى انتهى إلى هيت ثمّ صندوداء فبات بها (٣).

فروى الطبري عن أبي مخنف : أن الإمام عليه‌السلام حين انصرف عائدا من صفّين ردّ الأشتر على عمله بالجزيرة (الموصل) (٤) فيبدو أن ذلك كان هنا ، ولذا لا يأتي ذكره في أخبار رجوعه عليه‌السلام.

ثم أغذّ في السير حتّى تجاوز النخيلة فمرّ بشيخ مريض فسلّم عليه ثمّ قال له : أرى وجهك متغيرا أمن مرض؟ قال : نعم. قال : أليس تحتسب الخير فيما أصابك؟ قال : بلى ، قال : فأبشر برحمة ربك وغفران ذنبك. فإذا هو صالح بن سليم الطائي يجاور بني سليم. ثمّ سأله الإمام قال : أخبرني ما يقول الناس فيما كان بيننا وبين أهل الشام؟ قال : منهم المسرور مما كان بينك وبينهم واولئك أغشّاء الناس ، ومنهم المكبوت الآسف لما كان من ذلك واولئك نصحاء الناس لك. فقال له : صدقت ،

__________________

(١) وقعة صفين : ٥١٨.

(٢) الطبري ٥ : ٥٩.

(٣) وقعة صفين : ٥٢٨.

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ٩٥.


جعل الله ما كان من شكواك حطّا لسيئاتك ، فإنّ المرض لا أجر فيه ولكن لا يدع للعبد ذنبا إلّا حطّه! وإنما الأجر في القول باللسان والعمل باليد والرجل ، ويدخل الله بصدق النية والسريرة الصالحة عالما جمّا من عباده الجنة!

ثمّ مضى غير بعيد فلقيه عبد الله بن وديعة الأنصاري فدنا منه وسأله قال : ما سمعت الناس يقولون في أمرنا هذا؟ قال : منهم المعجب به ومنهم الكاره له ، فهم كما قال الله تعالى : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ)(١) فقال : فما قول ذوي الرأي؟ قال : يقولون : إنّ عليّا كان له جمع عظيم ففرّقه وحصن حصين فهدمه! فحتّى متى يبني مثل ما هدم؟ وحتّى متى يجمع مثل ما فرّق؟

فقال علي عليه‌السلام : أنا هدمت أم هم هدموا؟ أم أنا فرّقت أم هم فرّقوا (٢)؟

ثمّ مضى أمير المؤمنين حتّى تجاوز دور بني عوف فإذا بقبور سبعة أو ثمانية ، فسأل عنها ، فتقدّم إليه من الكوفة قدامة بن عجلان الأزدي وقال له : يا أمير المؤمنين ، إنّ خبّاب بن الأرت توفى بعد مخرجك (٣) وقد أوصى أن يدفن في ظهر الكوفة المرتفع (جانب النجف) فدفن الناس إلى جانبه بعد أن كانوا يدفنون بفناء دورهم.

__________________

(١) هود : ١١٨.

(٢) وهنا تتمة غير تمام ، إذ فيها : أنه لم يكن له أيّ مانع من أن يصرّ على الحرب حتّى يظفر أو يهلك! وإنّما منعه أنّ الحسنين يقتلان فينقطع نسل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله! وهذا لا يتم ؛ لأنّهما كانا قد أولدا قبلا ، وقد مرّ أن اخترنا مولد الإمام السجاد عليه‌السلام في المدينة فيكون قبل خروجهم منها إلى الجمل بالبصرة.

(٣) كذا هنا ، وقد عدّه المنقري في شهود كتاب التحكيم : ٥٠٦ ، فيعلم أنه كان معه في صفين ولكنه لعلّه سبق الإمام في الوصول إلى الكوفة فمات بعد وصوله بقليل قبيل وصول الإمام عليه‌السلام.


فقال علي عليه‌السلام : رحم الله خبّابا ، قد أسلم راغبا ، وهاجر طائعا ، وعاش مجاهدا ، وابتلي في جسده أحوالا ، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملا ، ثمّ وقف عليهم وزار زيارة أهل القبور المروية عنه عليه‌السلام وقال في آخرها : طوبى لمن ذكر المعاد وعمل للحساب وقنع بالكفاف ورضي عن الله بذلك.

ثمّ أقبل حتّى دخل سكّة الثوريين من همدان ، فسمع بكاءهم على قتلاهم بصفين فقال : أما إني أشهد لمن قتل منهم صابرا محتسبا بالشهادة.

ثمّ مرّ بالفائشيّين من همدان فسمع مثل ذلك فقال مثل ذلك.

ثمّ مرّ بالشباميين من همدان فسمع صوتا مرتفعا عاليا ورنة شديدة ، وخرج إليه منهم حرب بن شرحبيل فقال له الإمام عليه‌السلام : أيغلبكم نساؤكم؟! ألا تنهونهنّ عن هذا الصياح والرّنين؟!

فقال : يا أمير المؤمنين ، لو كانت دارا أو دارين أو ثلاثا قدرنا على ذلك ، ولكن قد قتل من هذا الحيّ مائة وثمانون قتيلا! فليس من دار إلّا وفيها بكاء (النساء) أمّا نحن الرجال فلا نبكي ولكن نفرح لهم بالشهادة فقال عليه‌السلام : رحم الله قتلاكم وموتاكم. ثمّ مشى ، وأقبل الشبامي يمشي معه فوقف وقال له : ارجع ، فإنّ مشي مثلك مذلّة للمؤمن وفتنة للوالي. ارجع ، فرجع.

ثمّ مضى حتّى مرّ بالناعطيّين من همدان ـ وكان جلّهم عثمانية ـ فسمع رجلا منهم يقول لآخر : والله ما صنع علي شيئا ذهب ثمّ انصرف في غير شيء! وفوجئوا بعلي عليه‌السلام فأسقط في أيديهم. فقال الإمام : «وجوه قوم ما رأوا الشام العام! فالذين فارقناهم (قبلهم) خير من هؤلاء» ولم يكن فيهم شهداء ولا بكاء نساء ، وأنشد :

أخوك الذي إن أحرجتك ملمّة

من الدهر ، لم يبرح لشكواك فاهما

وليس أخوك بالذي إن تمنّعت

عليك أمور ظلّ يلحاك لائما


ثمّ أخذ يكرّر ذكر الله حتّى دخل الكوفة (١) في العشرين من شهر ربيع الأول (٢).

خطبته عليه‌السلام لدى الوصول :

فلما دخلها قدم (ودخل الجامع وصلّى وصعد المنبر) وقام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم :

«أيها الناس إن أوّل وقوع الفتن (كهذه الحرب) أهواء تتبّع وأحكام تبتدع (كما في عهد عثمان) يعظّم فيها رجال (مثل معاوية) رجالا (مثل عثمان) يخالف فيها حكم الله! ولو أن الحقّ أخلص فعمل به لم يخف على ذي حجى ، ولكن يؤخذ ضغث من هذا وضغث من ذا فيخلط فيعمل به ، فعند ذلك يستولى الشيطان على أوليائه! وينجو الذين سبقت لهم منّا الحسنى» (٣).

وتوقف المتوقّفون في حروراء :

روى أبو مخنف قال : ما برح العراقيون من معسكرهم بصفين راجعين حتى

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٢٨ ـ ٥٣٢ بتصرف واختصار ، وفي الطبري ٥ : ٦٣ دخل القصر ، تحريفا والخبر عن أبي مخنف.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ٣٤٦ مسندا عن المدائني عن ابن السائب الكلبي.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٩١. وبلا تاريخ في المحاسن للبرقي ١ : ٣٣٠ ، الحديث ٧٤ و ٣٤٣ ، الحديث ١١٣ عن الباقر عليه‌السلام. وفي أصول الكافي ١ : ٥٤ ، الحديث الأول ، وأطول بكثير في روضة الكافي : ٥٠ ـ ٥٢ ، الحديث ٢١ مسندا عن سليم الهلالي في كتاب سليم ٢ : ٧٢٠ ، الحديث ١٨ وتخريجه عن الكافي والخصال والتهذيب في ٣ : ٩٨١ ـ ٩٨٣.


فشت فيهم كلمة التحكيم : «لا حكم إلّا لله» فأقبلوا وهم يتدافعون في الطريق كله ويتضاربون بالسياط ويتشاتمون يقولون للثابتين : يا أعداء الله! أدهنتم في أمر الله وحكّمتم الرّجال في كتاب الله! ويقول هؤلاء لهم : فارقتم إمامنا وفرّقتم جماعتنا. فما وصلوا قرية حروراء ـ بنصف فرسخ قبل الكوفة ـ حتّى توافق اثنا عشر ألف فرد منهم أن يتخلّفوا عن علي عليه‌السلام وتوقّفوا هناك ، وقدّموا عبد الله بن الكوّاء البكري اليشكري الهمداني للصلاة بهم ، وتوافقوا على شبث بن ربعي التميمي لقيادة القتال ، ونادى مناديهم بأن البيعة لله وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأنهم بعد الفتح (!) سيجعلون الأمر شورى (١).

وأقبل علي عليه‌السلام إليهم على بغلة رسول الله الشهباء حتّى وقف بينهم بحيث يسمعونه ويسمعهم ، فخطبهم فقال : «الحمد لله الذي دنا في علوّه فحال دون القلوب ، و (علا في دنوّه) فلا تدركه الأبصار ، الأول والآخر والظاهر والباطن ، الذي اطّلع على الغيوب وعفا عن الذنوب ، يطاع بإذنه فيشكر ، ويعصى بعلمه فيغفر ويستر ، لا يعجزه شيء طلبه ولا يمتنع منه أحد أراده ، قدر فحلم وعاقب فلم يظلم ، وابتلى من يحب ومن يبغض. ثمّ قال فيما أنزل على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ)(٢)».

ثمّ أنتم أيها القوم قد علمتم أني كنت للتحكيم كارها حتّى غلبتموني والله شهيد بيني وبينكم (٣).

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٣٤٢ ، وتاريخ الطبري ٥ : ٦٣ عن أبي مخنف.

(٢) آل عمران : ١٤١.

(٣) شرح الأخبار ٢ : ٣٧ ـ ٣٨ ، الحديث ٤٠٧.


ابن عباس مبعوثا إليهم :

مرّ الخبر آنفا أن أوائل الخوارج في حروراء الكوفة قدّموا عبد الله بن الكوّاء اليشكريّ ليصلّي بهم.

ولذا جاء في الخبر عن الصادق عليه‌السلام قال : بعث أمير المؤمنين عليه‌السلام عبد الله بن العباس إلى ابن الكوّاء وأصحابه ، وعليه قميص رقيق وحلّة ، فلما نظروا إليه قالوا له : يا ابن عباس : أنت خيرنا في أنفسنا وأنت تلبس هذا اللباس؟!

فقال لهم : هذا أول ما أخاصمكم فيه : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ)(١) وقال الله عزوجل : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)(٢)(٣).

وفي خبر آخر عنه عليه‌السلام قال : لبس أفضل ثيابه وتطيّب بأطيب طيبه وركب أفضل مراكبه ثمّ خرج إليهم يواقفهم ، فقالوا له : أتيتنا في لباس الجبابرة ومراكبهم! فتلا الآية ثمّ قال : فالبس وتجمّل فإن الله جميل يحبّ الجمال ، وليكن من حلال (٤).

وذلك لأنه رأى عليهم قمصانا رخيصة قصيرة مشمّرة ، وأيديهم كثفنات الإبل وجباها مقرّحة لطول السجود!

فقالوا له : ما جاء بك يا أبا العباس! قال : جئتكم من عند صهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وابن عمّه ، وأعلمنا بربه وبسنّة نبيّه ، ومن عند المهاجرين والأنصار.

قالوا : إنّا أتينا عظيما حين حكّمنا الرجال في دين الله ، فإن تاب كما تبنا ونهض لمجاهدة عدوّنا رجعنا!

__________________

(١) الأعراف : ٣٢.

(٢) الأعراف : ٣١.

(٣) فروع الكافي ٦ : ٤٤١ ك ٢٦ ، الباب ٢ ، الحديث ٦.

(٤) فروع الكافي ٦ : ٤٥١ ك ٢٦ ، الباب ٩ الحديث ٥.


فقال ابن عباس : نشدتكم الله إلّا ما صدقتم أنفسكم أما علمتم أن الله أمر بتحكيم الرجال في أرنب تساوي ربع درهم تصاد في الحرم ، وفي شقاق رجل وامرأته؟ فقالوا : اللهم نعم.

فقال : أنشدكم الله! هل تعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمسك عن القتال للهدنة بينه وبين أهل الحديبية؟ قالوا : نعم ، ولكن عليا محا نفسه من إمارة المسلمين.

فقال ابن عباس : ليس ذلك بمزيلها عنه وقد محا رسول الله اسمه من النبوّة ، و (هذا) قد أخذ على الحكمين أن يحورا ولا يجورا ، فعليّ أولى من معاوية وغيره.

قالوا : فمعاوية يدّعي مثلها. قال : فولّوا أولاهما! قالوا : صدقت (١).

وروى البغدادي الخطيب الخبر عنه قال : دخلت عليهم وهم قائلون (في الضحى) لسهرهم في الليل لتهجدهم ، وقد أثر السجود في جباههم كأنها وأيديهم ثفنات الإبل ، وعليهم قمصان رخيصة ، ولذا قالوا : ما جاء بك يا ابن عباس وما هذه الحلّة عليك؟!

فقلت لهم : وما تعيبون منّي؟ فلقد رأيت على رسول الله أحسن ما يكون من الثياب اليمنية ، ثمّ قرأت الآية. فقالوا : ما جاء بك؟

فقلت : جئتكم من عند ابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن عند أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وليس أحد منهم فيكم ، وقد نزل القرآن عليهم فهم أعلم بتأويله منكم ، جئت لابلغكم عنهم وابلغهم عنكم. فقال بعضهم : لا تخاصموا قريشا فإن الله يقول : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) وقال بعضهم : بل نكلّمه. فقلت : فما نقمتم على عليّ؟ قالوا : ثلاثا. قلت : ما هنّ؟ قالوا :

حكّم الرجال في أمر الله وقال الله : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) فقلت : فهذه واحدة فما ذا أيضا؟

__________________

(١) الكامل للمبرّد ٢ : ١٣٤ ، وعنه في مواقف الشيعة ١ : ١٧٢ ـ ١٧٣.


قالوا : فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم! فلئن كانوا مؤمنين ما حلّ قتالهم ، ولئن كانوا كافرين فقد حلّ قتالهم وسبيهم. فقلت : وما ذا أيضا؟

قالوا : ومحا نفسه من أمير المؤمنين ، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.

فقلت لهم : فإن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسوله ما ينقض قولكم هذا أفترجعون؟ قالوا : نعم.

فقلت : أما حكم الرجال في أمر الله فإن الله قال في كتابه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ)(١) وقال في المرأة وزوجها : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها)(٢) فصيّر الله ذلك إلى حكم الرجال. فنشدتكم الله! أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين وإصلاح ذات بينهم أفضل أو في حكم أرنب بثمن ربع درهم! وفي بضع امرأة؟ قالوا : بلى هذا أفضل ، فقلت : أخرجت من هذه؟ قالوا : نعم.

فقلت : وأما قولكم قاتل فلم يسب ولم يغنم؟ أفتسبون أمكم عائشة (٣)؟

وأما قولكم : محا نفسه من إمرة المؤمنين ، فأنا آتيكم بما ترضون ، فقصّ عليهم خبر صلح الحديبية (٤).

وافتتح «كتاب الفتوح» احتجاجه بقوله لهم : إني لا أستطيع أن أكلّم كلّكم ولكن انظروا أيّكم أعلم بما يأتي ويذر فليخرج إليّ لاكلّمه ، فأخرجوا له

__________________

(١) المائدة : ٩٥.

(٢) النساء : ٣٥.

(٣) كذا هنا ، وقد مرّ بذلك عن الإمام عليه‌السلام في حرب الجمل.

(٤) جامع بيان العلم وفضله : ١٢٦ ، وعنه في مواقف الشيعة ١ : ١٧٦ ـ ١٧٨.


عتّاب بن الأعور التغلبي أو الثعلبي فوقف قبالته وجعل يتكلم ويقول ويحتجّ بما يريد وكأن القرآن ممثّل بين عينيه ، وسكت ابن عباس حتّى فرغ من كلامه ، فأقبل عليه وقال له : إني اريد أن أضرب لك مثلا فافهم : خبّرني عن دار الإسلام هذه هل تعلم من بناها؟

قال عتّاب : بناها الله على أيدي أنبيائه وأهل طاعته ، ثمّ أمر من بعثه إليها من الأنبياء أن يأمروا الأمم : أن لا تعبدوا إلّا إياه ، فآمن قوم وكفر قوم. وآخر من بعثه إليها من الأنبياء محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قال ابن عباس : فخبّرني عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله حين بعث فبنى دار الإسلام كما بناها غيره من الأنبياء ، هل أحكم عمارتها وبيّن حدودها ، وأوقف الأمة على سبلها وعملها وشرايع أحكامها ومعالم دينها؟ قال عتّاب : نعم ، قد فعل محمد ذلك.

قال ابن عباس : فهل بقي محمد فيها أو رحل عنها؟ قال : بل رحل عنها.

قال ابن عباس : رحل عنها وهي كاملة العمارة بيّنة الحدود؟ أم رحل عنها وهي خربة؟

قال عتّاب : بل رحل عنها وهي كاملة العمارة قائمة المنار بيّنة الحدود.

قال ابن عباس : فهل أبقى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أحدا يقوم من بعده بعمارة هذه الدار؟ أم لا؟

قال عتّاب : بلى قد كان له وصيّ وذريّة وصحابة يقومون بعده بعمارة هذه الدار.

قال ابن عباس : فهل فعلوا ذلك أم لم يفعلوا؟ قال عتاب : بلى قد فعلوا وعمّروا هذه الدار.

قال ابن عباس : فهل هي اليوم على ما تركها محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله من كمال عمارتها وقوام حدودها؟ أم هي اليوم عاطلة الحدود؟ فقال عتّاب : بل هي اليوم خراب عاطلة الحدود!


قال ابن عباس : فمن ولي هذا الخراب أمّته أم ذريّته؟ قال : بل أمته.

قال ابن عباس : أفأنت من الأمة أو من الذريّة؟ قال : بل من الأمة!

قال ابن عباس : يا عتّاب! فكيف ترجو النجاة من النار وأنت من امة أخربت دار الله ورسوله وعطّلت حدودها؟

فاسترجع عتّاب وقال : ويحك يا ابن عباس ، احتلت حتّى أوقعتني في أمر عظيم وجعلتني ممن أخرّب دار الله! ويحك يا ابن عباس فكيف الحيلة للتخلّص مما أنا فيه؟

قال ابن عباس : الحيلة في ذلك أن تسعى في عمارة ما أخربته الأمة من دار الإسلام ... وإن أول ما يجب عليك في ذلك : أن تعرف من سعى في خراب هذه الدار فتعاديه ، وتعرف من يريد عمارتها فتواليه.

فقال عتّاب : صدقت يا ابن عباس ، وما أعرف ـ والله ـ أحدا في هذا الوقت يحبّ عمارة دار الإسلام غير ابن عمّك علي بن أبي طالب ، ولكنّه حكّم عبد الله بن قيس (الأشعري) في حقّ هوله!

قال ابن عباس : ويحك يا عتّاب ، إنا وجدنا الحكومة في كتاب الله عزوجل ، إذ قال تعالى : (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما)(١) وقال : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ)(٢).

فتنادوا وصاحوا وقالوا : أفعمرو بن العاص عندك من العدول؟ وأنت تعلم أنه كان في الجاهلية رأسا وفي الإسلام ذنبا ، وهو الأبتر بن الأبتر ، وممن قاتل محمّدا وفتن أمته من بعده!

__________________

(١) النساء : ٣٥.

(٢) المائدة : ٩٥.


فناداهم ابن عباس : إنه ليس حكما لنا وإنما هو حكم لمعاوية أفتحتجون به علينا؟! وقد أراد أمير المؤمنين أن يبعثني فأكون له حكما فأبيتم عليه وقلتم : قد رضينا بأبي موسى الأشعري .. فاتّقوا ربكم وارجعوا إلى ما كنتم عليه من طاعة أمير المؤمنين ، فإنّه إن كان قاعدا عن طلب حقّه فإنما ينتظر انقضاء المدّة ثمّ يعود لمحاربة القوم ، وليس علي ممن يقعد عن حقّ جعله الله له (١)!

فصاحوا وقالوا : هيهات يا ابن عباس ، نحن لا نتولّى عليا بعد اليوم أبدا! فارجع إليه وقل له : فليخرج إلينا بنفسه حتّى نحتجّ عليه ونسمع كلامه (٢).

فخرج إليهم الإمام عليه‌السلام :

عاد ابن عباس بكلام القوم إلى الإمام عليه‌السلام ، فخرج إليهم على البغلة الشهباء

__________________

(١) هنا تخلّل الخبر ما ينافي صدره وذيله قال : وقد كان أبو موسى لعمري رضا في نفسه وصحبته وإسلامه وسابقته! غير أنه خدع فقال ما قال ، وليس يلزمنا من خديعة عمرو لأبي موسى.

(٢) كتاب الفتوح لابن الأعثم ٤ : ٨٩ ـ ٩٥ ولعلّ اعتماد هذا الخبر عن ابن عباس على الاحتجاج بكلامه لا بكلام الله في العمدة ، حمل بعض من سبق الرضيّ أن ينسب إلى عليّ عليه‌السلام أن قال لابن عباس : لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمّال ذو وجوه ، تقول ويقولون ؛ ولكن حاججهم بالسنّة ، فإنهم لم يجدوا عنها محيصا! وارتضاه الرضيّ في نهج البلاغة ك ٧٨. وهو كما ترى لا يتّسق مع ما سبق من احتجاجاته حتى الخبر الأخير ، فلا نرتضيه ، كما لا نرتضي اتهام المعتزلي الشافعي لابن عباس بأنّه لم يحاجهم حسب وصية الإمام عليه‌السلام! وهو كثيرا ما يذكر مصدر خبر الخطب أو الكتب ولم يذكر لهذا الخبر أيّ مصدر سابق. شرح النهج ١٨ : ٧١ ـ ٧٣. والمحقق الأحمدي ذكر كثيرا من أخبار احتجاج ابن عباس ولم يذكر هذه الوصية إليه في كتابه : مواقف الشيعة ج ١ و ٢.


لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى وقف بينهم بحيث يسمعونه ويسمعهم ، فخطبهم فقال : «الحمد لله الذي دنا في علوّه فحال دون القلوب ، و (علا في دنوّه) فلا تدركه الأبصار ، الأوّل والآخر والظاهر والباطن ، الذي اطّلع على الغيوب ، وعفا عن الذنوب ، يطاع بإذنه فيشكر ، ويعصى بعلمه فيغفر ويستر ، لا يعجزه شيء طلبه ، ولا يمتنع منه أحد أراده ، قدر فحلم وعاقب فلم يظلم ، وابتلى من يحبّ ومن يبغض ، ثمّ قال فيما أنزل على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ)(١).

ثمّ أنتم ـ أيّها القوم ـ قد علمتم أني كنت للتحكيم كارها حتّى غلبتموني ، والله شهيد بيني وبينكم (٢).

اللهمّ هذا مقام من فلج فيه كان أولى بالفلج يوم القيامة ، ومن نطف فيه (تلوّث بلوثة) أو غلّ (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً)(٣) نشدتكم الله : أتعلمون أنّهم حين رفعوا المصاحف فقلتم : نجيبهم إلى كتاب الله ، قلت لكم : «إنّي أعلم بالقوم منكم ، إنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن! إني صحبتهم وعرفتهم أطفالا ورجالا فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال ، امضوا على حقكم وصدقكم ، إنّما رفع القوم لكم هذه المصاحف خديعة ومكيدة وو هنا» فرددتم عليّ رأيي وقلتم : لا ، بل نقبل منهم. فقلت لكم : اذكروا قولي لكم ومعصيتكم إيّاي.

فلما أبيتم إلّا الكتاب ، اشترطت على الحكمين : أن يحييا ما أحياه القرآن وأن يميتا ما أماته القرآن. فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكم من حكم بما في الكتاب ، وإن أبيا فنحن من حكمهما برءاء».

فسأله بعضهم : أتراه عدلا تحكيم الرجال في الدماء؟

__________________

(١) آل عمران : ١٤١.

(٢) شرح الأخبار ٢٣ : ٣٧ ـ ٣٨ ، الحديث ٤٠٧.

(٣) الإسراء : ٧٢.


فقال عليه‌السلام : إنّا لم نحكّم الرجال ، إنما حكّمنا القرآن (ولكنّه) إنّما هو خطّ مسطور بين دفّتين لا ينطق وإنما يتكلّم به الرجال.

فسألوه : فخبّرنا عن الأجل (إلى شهر رمضان) لم جعلته فيما بينك وبينهم؟

فقال عليه‌السلام : ليتعلم الجاهل ويتثبّت العالم (من حكم الكتاب) ولعلّ الله أن يصلح هذه الأمة في هذه الهدنة. فسكتوا فقال لهم : ادخلوا مصركم رحمكم الله.

فقبلوا ودخلوا الكوفة كلّهم (١) هذا ما نقله الطبري عن أبي مخنف بسنده ، ونقله القاضي النعمان المصري بطريق آخر وبعدد مضاعف إلى أربعة وعشرين ألفا (٢)! ووافق المفيد نقل الطبري مرسلا (٣) ورواه البلاذري بطريق آخر مختصرا قال : ناشدهم علي عليه‌السلام وقال لهم : «اصبروا على هذه القضية (التحكيم) فإن رأيتموني قابل الدنيّة فعند ذلك فارقوني» فرجع من رجع منهم إلى الكوفة. وقالت فرقة منهم : لا نعجل حتى ننظر إلى ما يصير شأنه! بلا ذكر عددهم ولا معسكرهم (٤) وفي خبر المصري : وقال ألف منهم : هذا مكاننا حتّى يرجع إمامنا إلى قتال أهل الشام! وخرجوا إلى النخيلة (٥) وقال المسعودي : فخرج إليهم علي عليه‌السلام وكانت له معهم مناظرات حتّى دخلوا الكوفة جميعا (٦) فقد اعتمد خبر أبي مخنف بلا استثناء. وهؤلاء هم الحروريّة من الخوارج.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٦٥.

(٢) شرح الأخبار ٢ : ٣٧ ـ ٣٨ ، الحديث ٤٠٧.

(٣) الإرشاد للمفيد ١ : ٢٧٠ ـ ٢٧١.

(٤) أنساب الأشراف ٢ : ٣٤٢ ، الحديث ٤١٤.

(٥) شرح الأخبار ٢ : ٣٨ آخر الخبر : ٤٠٧.

(٦) مروج الذهب ٢ : ٣٩٥.


وكتب إلى الأمصار :

ثمّ كتب الإمام عليه‌السلام كتابا إلى الأمصار يقصّ فيه عليهم ما جرى بينه وبين أهل الشام فقال فيه : وكان بدء أمرنا : أنّا التقينا القوم من أهل الشام ، والظاهر أن ربّنا واحد ونبيّنا واحد ودعوتنا في الإسلام واحدة ، لا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله ولا يستزيدوننا ، إلّا ما اختلفنا فيه من دم عثمان ونحن منه براء. فقلنا : تعالوا نداوي ما لا يدرك (بعد) اليوم بإطفاء النائرة وتسكين العامّة حتّى يشتدّ الأمر ويستجمع ، فنقوى على وضع الحقّ في مواضعه ، فقالوا : بل نداويه بالمكابرة! فأبوا حتّى جنحت الحرب وركدت ، ووقدت نيرانها وخمدت ، فلمّا ضرّستنا وإيّاهم ووضعت مخالبها فينا وفيهم ، فعند ذلك أجابوا إلى الذي دعوناهم إليه فأجبناهم إلى ما دعوا وسارعناهم إلى ما طلبوا ، حتّى تنقطع منهم المعذرة وتستبين عليهم الحجّة.

فمن تمّ منهم على ذلك فهو الذي أنقذه الله من الهلكة ، ومن لجّ وتمادى فهو الراكس الذي ران الله على قلبه ، ودارت دائرة السوء على رأسه ... (١).

وضبط فارس بزياد :

كان ابن عباس عامل الإمام عليه‌السلام على البصرة وتوابعها من كور الأهواز وفارس شيراز وحتى كرمان (٢) فلما استقدمه الإمام إلى الشام استخلف على خراج البصرة كاتبه زياد بن عبيد الثقفي (٣). وعاد الإمام من الشام فعاد ابن عباس إلى البصرة.

__________________

(١) نهج البلاغة ك ٥٨ وانفرد به.

(٢) نهج البلاغة ك ٢٠.

(٣) أنساب الأشراف ٢ : ٢٩٣.


وكأنّه بلغ الإمام أن أهل فارس اغتنموا فرصة الحرب وغياب ابن عباس فاختلّوا ، فلما عاد إلى الكوفة أرسل إليهم سهل بن حنيف الأنصاري وولّاه على فارس ، فأخرجوه! وكأنّه عليه‌السلام بلغه عن زياد زيادة في ضبط الأمور فوجّه به إليهم فاستصلحهم فصالحوه وأدّوا إليه خراجهم وأرضوه (١).

ثمّ وجّه الإمام عليه‌السلام إلى زياد رسولا ليحمل إليه ما اجتمع عنده من المال ، وكان فيه كسر من الخراج الموضوع عليهم فقال للرسول : إن الأكراد (العجم) قد كسروا من الخراج ، وأنا أداريهم (حتّى استخرج ذلك منهم) فلا تعلم بذلك أمير المؤمنين فيرى أنه اعتلال منّي!

فلما قدم الرسول أخبر الإمام بالكلام ، وعلم الإمام أن زيادا إنما أخبره بذلك ليبلّغه الإمام ، فكتب إليه : «أما بعد ، فقد بلّغني رسولي عنك ما أخبرته به عن الأكراد (العجم) واستكتامك إياه ذلك ، وقد علمت أنك لم تلق ذلك إليه إلّا لتبلّغني إيّاه! وإنّي اقسم بالله عزوجل قسما صادقا : لئن بلغني أنك خنت من فيء المسلمين شيئا صغيرا أو كبيرا ، لأشدنّ عليك شدّة يدعك قليل الوفر ثقيل الظهر. والسلام» هذا ما رواه الرضيّ والبلاذري (٢).

ونقل اليعقوبي : «أما بعد ، فإن رسولي أخبرني بعجب : زعم أنّك قلت له فيما بينك وبينه : إنّ الأكراد (العجم) هاجت بك فكسرت عليك كثيرا من الخراج!

__________________

(١) تاريخ خليفة : ١١٥ وعن الاستيعاب في قاموس الرجال ٥ : ٣٥٦ برقم ٣٤٨١ وفيه : أنّ سهلا مات بعدها بأقل من سنة : (٣٨ ه‍) وكان من أحبّ أصحابه إليه فقال فيه : لو أحبّني جبل لتهافت ، كما في نهج البلاغة خ ١١١. وصلّى عليه وشيّعه فكلّما أدركه ناس وقالوا : لم ندرك الصلاة عليه وضعه وأعاد الصلاة عليه حتّى صلّى عليه خمس مرات ، كما فعل رسول الله بعمّه حمزة رضى الله عنه. وتأمّلوا في الفرق بين ابن حنيف وبين عبد ثقيف!

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ١٦٣ ، وقارن بنهج البلاغة ك ٢٠.


وقلت له : لا تعلم بذلك أمير المؤمنين! يا زياد! واقسم بالله إنك لكاذب! ولئن لم تبعث بخراجك لأشدنّ عليك شدّة تدعك قليل الوفر ثقيل الظهر ، إلّا أن تكون لما كسرت من الخراج محتملا» (١) وهذا أقرب وأنسب.

وقال ابن الأثير : استعمل علي عليه‌السلام زيادا على فارس فحمى قلاعها وضبطها ، واتصل الخبر بمعاوية فساءه ذلك ، فكتب إلى زياد يعرّض له بأنه ابن أبيه أبي سفيان ويتهدده (٢) فقال زياد :

«ويلي على معاوية ابن أكّالة الأكباد وكهف المنافقين وبقية الأحزاب! يتهدّدني ويوعدني ، وبيني وبينه ابن عمّ محمّد ومعه سبعون ألفا طوائع (٣) سيوفهم عند أذقانهم ، لا يلتفت رجل منهم وراءه حتّى يموت! أما والله لئن خلّص الأمر إليّ ليجدني أحمر ضرابا بالسيف» والأحمر يعني : أنه مولى (٤).

ابن قرّة بدل ابن هبيرة :

مرّ عن اليعقوبي : أن الإمام عليه‌السلام بعد الجمل وجّه جعدة بن هبيرة المخزومي إلى مرو خراسان. ويبدو أنّه عليه‌السلام لما عزم على المسير إلى الشام واستدعى عددا من عمّاله ليكونوا معه ، استدعى جعدة فشهد معه صفّين. فروى الطبري أنّه عليه‌السلام بعد ما عاد من صفّين بعث بجعدة إلى خراسان ، فانتهى إلى أبر شهر فامتنعوا عليه ، فعاد

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٠٤.

(٢) الكامل في التاريخ ٣ : ٤٤١ ضمن حوادث سنة (٤٤ ه‍).

(٣) جعله جمعا لطائع ، وهذا من عجمته!

(٤) وقعة صفين : ٣٦٦ ـ ٣٦٧ عن الأعمش ، وتمامه : فلما ادّعاه معاوية صار عربيا منافيا أي من عبد مناف!


جعدة إلى البلاد (كما كان مع ابن حنيف في فارس ، مغتنمين فرصة الحرب) فبعث عليهم خليد بن قرّة اليربوعي التميمي ، فصالحه أهل مرو (١) ولما دنا من بلد نيشابور بلغه أن عمّال كسرى مع بعض بناته قد تراجعوا من كابل إلى نيشابور ، فمال أهلها معهم وخلعوا الطاعة ، فقاتلهم خليد فهزمهم وحاصرهم حتّى نزل ابنتا كسرى على الأمان ، فبعث بهما مع السبي إلى الإمام عليه‌السلام (٢).

فعرض الإمام عليهما الإسلام وأن يزوّجهما ، فأسلمتا (٣) فقال لهما : أزوجكنّ؟ قلن : لا ، إلّا أن تزوّجنا ابنيك (الحسنين) فإنا لا نرى كفوا لنا غيرهما! فأبى وقال لهما : اذهبا حيث شئتما! فتقدّم دهقان من أهل السواد يسمّى نرسا بأخذهن عنده فأذن له فأخذهن إليه وجعل يطعمهنّ ويسقيهنّ في الذهب والفضة ، ويكسوهنّ كسوة الملوك ويبسط لهنّ الديباج (٤) ثمّ عادتا إلى خراسان (٥) ولعلهما أخبرتا بموت اختيهما في نفاسهما بولديهما بالمدينة قبل انتقالهم إلى الكوفة.

والأشتر لثغر الشام :

مرّ الخبر عن سماك بن مخرمة الأسدي أنه كان من زعماء بني أسد بالكوفة وفارق عليا عليه‌السلام مع مائة من قومه بني أسد كانت أهواؤهم مع معاوية ففرّوا برأيهم

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٦٤ و ٩٢ عن المدائني عن الشعبي. وقد مرّ بعد الجمل أن الإمام بعث ربعي بن كأس على سجستان ، فهو ربعي بن قرّة أخو خليد هذا ، وكأس أمهما.

(٢) الأخبار الطوال : ١٥٤ ، وانظر قاموس الرجال ٤ : ٢٠٠ برقم ٢٦٦٩.

(٣) الطبري ٥ : ٦٤.

(٤) وقعة صفين : ١٣ عن عمر بن سعد الأسدي البصري.

(٥) تاريخ الطبري ٥ : ٦٤.


وأهوائهم من الكوفة إلى معاوية حتّى أتوا الرقة ، وكان جلّ أهلها عثمانية فنزلوا فيهم ، وأبدى أميرهم سماك بن مخرمة الطاعة لمعاوية ، ثمّ أخذ يكاتب قومه حتّى لحق به منهم سبعمائة رجل! فلما وصل الإمام عليه‌السلام إليهم في طريقه إلى صفين تحصنوا بها وغلّقوا دونه أبوابها (١)!

فلما عاد الإمام عليه‌السلام من صفّين ردّ الأشتر عاملا على نصيبين والموصل وتكريت وهيت والعانات وسنجار وآمد ودارا (٢) أما حران والرقة والرّها وقرقيسا فكانت عثمانية تابعة لمعاوية فبعث عليها بعد صفّين الضحّاك بن قيس الفهري إلى حرّان.

وبلغ الأشتر ذلك فخرج بجنده إلى حرّان يريد الضحّاك ، وبلغ ذلك الضحاك فاستمد من أهل الرقة فأمّر أهل الرقة عليهم سماك بن مخرمة وجاءوا معه إلى حرّان مددا للضحاك ، وخرج الضحّاك بجمعه من حرّان فالتقوا في مرج مرّينا بين البلدين.

وأقبل الأشتر إليهم فاقتتلوا قتالا شديدا وكثرت الجراحات في بني أسد حتّى حجز بينهم الليل ، فعاد الضحّاك ليلا إلى حرّان ، وأصبح الأشتر فتبعهم وحاصرهم ، فاستصرخ الضحاك بمعاوية ، فدعا بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد وأمره بالمسير إليهم ، وبلغ ذلك الأشتر فعبّأ خيله وجنوده وكتّب كتائبهم ، ثمّ مضى حتّى مرّ بالرقة فتحصّنوا منه ، ثمّ مضى حتّى مرّ على قرقيسا فتحصّنوا منه ، وبلغ ذلك عبد الرحمن المخزومي فأقام حيث بلغه ذلك (٣).

__________________

(١) وقعة صفين : ١٤٦ عن حبّة العرني.

(٢) وقعة صفين : ١٢ وخلط الخبر بما بعد الجمل خطأ.

(٣) الغارات ١ : ٣٢٢ ـ ٣٢٥ ، ووقعة صفين : ١٢ ـ ١٣ ، ولكنه خلط الخبر بما بعد الجمل خطأ.


ودرع الإمام ثانية :

مرّ الخبر عن الغلول بدرع طلحة بعد الجمل ، على يد عبد الله بن القفل التميمي ، ورجوعها إلى الإمام. ولما انطلق الإمام بجيشه من الكوفة أو النخيلة إلى صفّين وكان على بعير أسمر إذ خرّت درع له فرفعها نصرانيّ هناك ، ورآها الإمام عليه‌السلام بيده فطالبه بها فأبى عليه ، فخاصمه إلى القاضي شريح بن هانئ ، فلما نظر شريح إلى الإمام قام ليتنحّى عن مجلسه فقال له : مكانك ، وجلس إلى جنبه وقال : أما لو كان خصمي مسلما ما جلست إلّا معه ، ولكنّه نصراني ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذ كنتم وإيّاهم في طريق فألجئوهم إلى مضايقه وصغّروا بهم كما صغّر الله بهم ، في غير أن تظلموا» ثمّ قال علي عليه‌السلام لشريح : إن هذه درعي لم أبع ولم أهب. فقال شريح للنصراني : ما يقول أمير المؤمنين؟ قال النصراني : ما الدرع إلّا درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب!

فالتفت شريح إلى علي عليه‌السلام وقال : يا أمير المؤمنين ، هل من بيّنة؟ قال : لا ـ فلعلّ هذه الدرع غير السابقة. فقضى القاضي بها للنصراني ، فقام بها ومشى قليلا ثمّ عاد فقال : أما أنا فأشهد أنّ هذه أحكام النبيين ، أمير المؤمنين يمشي بي إلى قاضيه ، وقاضيه يقضى عليه! فأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله. يا أمير المؤمنين ، الدرع والله درعك خرّت من بعيرك في طريقك إلى صفّين.

فقال له الإمام : أما إذا أسلمت فهي لك! ووهبه فرسا! خرج عليه معه لقتال النهروان (١).

وكان آخر من ودّع أبا موسى : الأحنف التميمي أخذ بيده وقال له : يا أبا موسى ، اعرف خطر هذا الأمر واعلم أنّ له ما بعده ، وأنك إن أضعت العراق

__________________

(١) الغارات ١ : ١٢٤ ـ ١٢٥.


فلا عراق! فاتّق الله ، فإنها تجمع لك دنياك وآخرتك. وإذا لقيت غدا عمرا فلا تبدأه بالسلام ، فإنها وإن كانت سنة إلّا أنه ليس من أهلها ، ولا تعطه يدك فإنّها أمانة. وإياك أن يقعدك على صدر الفراش فإنها خدعة! ولا تلقه وحده ، واحذر أن يكلّمك في بيت فيه مخدع تخبأ فيه الرجال والشهود!

ثمّ أراد أن يختبر ويبلو ما في نفسه لعليّ عليه‌السلام فقال له : فإن لم يستقم لك عمرو على الرضا بعلي! فخيّره أن يختار أهل العراق من قريش الشام من شاءوا ، فإنّهم يولّونا الخيار فنختار من نريد! وإن أبوا فليختر أهل الشام من قريش العراق من شاءوا فإن فعلوا كان الأمر فينا!

فلم يتحاشى أبو موسى ما سارّه به الأحنف التميمي وإنما قال له : قد سمعت ما قلت!

فرجع الأحنف إلى الإمام عليه‌السلام وقال له : يا أمير المؤمنين ، والله لقد أخرج أبو موسى زبدة سقائه في أول مخضة! فلا أرى أنا بعثنا إلّا رجلا لا ينكر خلعك!

وكأنّ ذلك كان عند التقائه بعمرو بن العاص وأصحابه ، وقد كان الإمام عليه‌السلام أوصى شريحا بكلمات إلى ابن العاص قال : إن لقيته فقل له : إن عليّا يقول لك : إنّ أفضل الخلق عند الله من كان العمل بالحقّ أحبّ إليه وإن نقصه! وإن أبعد الخلق من الله من كان العمل بالباطل أحبّ إليه وإن زاده! يا عمرو ، والله إنك لتعلم أين موضع الحقّ ، فلم تتجاهل؟! أبأن أوتيت طمعا أو طعما يسيرا فكنت لله ولأوليائه عدوّا فو الله كأنّ ما اوتيت قد زال عنك! فلا تكن للخائنين خصيما ولا للظالمين ظهيرا! أما إني أعلم أنّ يومك الذي أنت فيه نادم هو يوم وفاتك ، وسوف تتمنّى أنّك لم تضمر لمسلم عداوة ولم تأخذ على حكم رشوة!

فلما أبلغه ذلك في مجلس خاصّ تمعّر وجهه وتغيّر وقال : ومتى كنت أقبل من عليّ مشورة ، أو انيب إلى أمره وأعتدّ برأيه؟ فقال شريح : يا ابن النابغة :


وما يمنعك أن تقبل من مولاك وسيد المسلمين بعد نبيّهم مشورته؟ لقد كان من هو خير منك أبو بكر وعمر يستشيرانه ويعملان برأيه! فقال : إن مثلي لا يكلّم مثلك! فقال شريح : بأيّ أبويك ترغب عن كلامي ، بأبيك الحليف الدخيل أم بأمّك النابغة؟! فقام وانصرف (١).

الحكمان لموعد رمضان :

مرّ خبر كتاب التحكيم وفيه «أجل القضية إلى شهر رمضان» للسنة نفسها ، فلما قرب الموعد (٢) اختار إمام الأبرار شريح بن هانئ الحارثي الهمداني ومعه أربعمائة رجل من قومه ليكونوا مع أبي موسى الأشعري ، والكوفيون وإن لم يقبلوا بابن عمّ الإمام : عبد الله بن العباس حكما عنهم ، ولكنه عليه‌السلام بعث به يلي أمورهم ويصلّي بهم وليس أبو موسى (٣)!

فجهّز شريح بن هانئ : أبا موسى جهازا حسنا ليشرّفه ويعظّم أمره في الناس وفي قومه (٤)!

فلما أراد السير قام شريح فأخذ بيد أبي موسى وقال له : يا أبا موسى ، إنّك قد نصبت لأمر عظيم لا يجبر صدعه ولا يستقال فتقه أو : ولا تستقال فلتته ،

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٤٢ ـ ٥٤٣ رواها النضر بن صالح عن شريح الحارثي في غزوة سجستان ، ولعلّه تذكّرها وذكرها لابن صالح عند هلاك ابن العاص وانتشار الخبر عن ندمه الشديد عند احتضاره كما قال الإمام عليه‌السلام.

(٢) وفي اليعقوبي ٢ : ١٩٠ : في شهر ربيع الأول سنة (٣٨ ه‍) ، وفي الطبري ٥ : ٧١ عن الواقدي : في شعبان سنة (٣٨ ه‍) وهما خلاف موعد كتاب التحكيم.

(٣) وقعة صفين : ٥٣٣.

(٤) وقعة صفين : ٥٣٥.


ومهما تقل شيئا لك أو عليك يثبت حقه وير صحّته وإن كان باطلا! وإنه لا بقاء لأهل العراق إن ملكها معاوية! و (لكن) لا بأس على أهل الشام إن ملكها عليّ! وقد كانت منك تثبيطة أيام قدمت الكوفة ، فإن تشفعها بمثلها يكن الظنّ بك يقينا والرجاء منك يأسا!

فقال أبو موسى : ما ينبغي لقوم اتهموني أن يرسلوني لأدفع عنهم باطلا أو أجرّ إليهم حقا!

فقال شريح : والله لقد تعجّلت رجال مساءتنا في أبي موسى وطعنوا عليه بسوء الظن ، والله عاصم منه إن شاء الله (١).

فقال الإمام عليه‌السلام : يا أحنف ، إن الله بالغ أمره! قال : فمن ذلك نجزع يا أمير المؤمنين (٢)!

وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة رجل (٣) مع شرحبيل بن السّمط الكندي في ذلك الخيل ، فشايعه حتّى إذا أمن من خيل أهل العراق قال في وداعه : يا عمرو ، إنك رجل من قريش ، وإنّ معاوية لم يبعثك إلّا ثقة بك ، وإنك لن تؤتى من عجز ولا مكيدة! وقد عرفت أني قد وطّأت لك ولصاحبك هذا الأمر ، فكن عند ظنّنا بك! ثمّ انصرف (٤).

ولما كانوا في أذرح ، كان يجيء رسول معاوية إلى عمرو بن العاص فلا يدري في أي شيء جاء ولا بأيّ شيء ذهب ، ولا يسمعون حول صاحبهم أي كلام أو لغط.

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٣٤ ، وصدره في الإمامة والسياسة ١ : ١٣٣.

(٢) وقعة صفين : ٥٣٦ ـ ٥٣٧ ، وصدره في الإمامة والسياسة ١ : ١٣٤.

(٣) وقعة صفين : ٥٣٣.

(٤) وقعة صفين : ٥٣٦ ، وفي الإمامة والسياسة ١ : ١٣٥.


أمّا إذا كتب الإمام بشيء إلى الأشعريّ أتاه أهل الكوفة فسألوه عنه فيكتمهم ، فيقولون له : كتمتنا ما كتب به إليك ، إنما كتب بكذا وكذا (١) وكتب معاوية إلى رجال من قريش : أن أقدموا علي ، فأتاه عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن صفوان الجمحي ، وأبي الجهم بن حذيفة العدوي ، وعبد الرحمن الزهري ورجال آخرين من قريش : أن قد وضعت الحرب أوزارها ، والتقى الرجلان بدومة الجندل ، فاقدموا علي.

فأتوه ومنهم المغيرة فقال له : يا مغيرة ما ذا ترى؟ قال : عليّ أن آتيك بأمر الرجلين ، ثمّ ركب إلى دومة الجندل فدخل على أبي موسى زائرا فقال له : يا أبا موسى ، ما تقول في من كره الدماء فاعتزل هذا الأمر؟ قال : اولئك خيار الناس! خفّت ظهورهم من دمائهم وخمصت بطونهم من أموالهم!

ثم زار عمرا فقال له : يا أبا عبد الله ، ما تقول في من كره الدماء فاعتزل هذا الأمر؟ قال : اولئك شرار الناس! لم يعرفوا حقا ولم ينكروا باطلا!

فرجع المغيرة إلى معاوية وقال له : قد ذقت الرجلين : أما عمرو فهو صاحبك الذي تعرف ، وقد ظن الناس أنه يرومها لنفسه وأنه لا يرى أنك أحقّ بهذا الأمر منه! وأما عبد الله بن قيس : فخالع صاحبه وجاعلها لرجل لم يشهد هذا الأمر وهواه في عبد الله بن عمر (٢) فكان رأي أبي موسى ـ كما قال المغيرة ـ في ابن عمر (صهره) وكان يقول : والله لو استطعت لاحيينّ سنة عمر (٣)!

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٣٣.

(٢) وقعة صفين : ٥٣٩ ـ ٥٤٠.

(٣) وقعة صفين : ٥٣٤.


حوار الحكمين :

فأرسل معاوية القرشيين القادمين إليه أخيرا : عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن هشام ، وعبد الرحمن بن الأسود الزهري ، والمغيرة بن شعبة ، وأبا الجهم بن حذيفة العدوي ليشهدوا التحكم ، وكان عبد الله بن عمرو حاضرا مع أبيه ابن العاص. وصرّح الأشعري بشعور ضميره لصهره عبد الله بن عمر قال لعمرو : يا عمرو ، هل لك في أمر هو للأمة صلاح ، ولصلحاء الناس رضا؟ نولّي هذا الأمر عبد الله بن عمر ، الذي لم يدخل في شيء من هذه الفتنة ولا هذه الفرقة؟ فقال له عمرو : فأين أنت عن معاوية؟! ألست تعلم أن عثمان قتل مظلوما؟ قال : بلى! قال لهؤلاء الشهود : اشهدوا! ثمّ قال : فما يمنعك من معاوية وليّ عثمان؟ وبيته في قريش ما قد علمت! فإن كنت تخشى أن يقول الناس : ولى معاوية وليست له سابقة ، فإنّ لك حجّة في ذلك تقول : إني وجدته وليّ عثمان الخليفة المظلوم ، والطالب بدمه ، الحسن السياسة! الحسن التدبير! وهو أخو أمّ حبيبة أمّ المؤمنين زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (ولعلّه أخذها من الأسير العراقي الأودي) وقد صحبه فهو أحد الصحابة! ثمّ إنّ ولي هو الأمر أكرمك كرامة لم يكرمك أحد مثلها قط! (تطميع خاصّ).

فقال أبو موسى : اتّق الله يا عمرو! أما ذكرك شرف معاوية ، فإنّ هذا الأمر ليس يولّاه أهله على الشرف ، ولو كان على الشرف كان أحقّ الناس بهذا الأمر : أبرهة بن الصباح الحميري (؟!) ولو كنت أعطيه أفضل قريش شرفا لأعطيته عليّ بن أبي طالب (فلا يعطيه)! وإنما هو لأهل الفضل في الدين!

وأما قولك : إنّ معاوية وليّ عثمان فولّه هذا الأمر ، فإني لم أكن أولّيه معاوية وأدع المهاجرين الأوّلين!

وأما تعريضك لي بالولاية والسلطان : فو الله لو خرج لي معاوية من سلطانه ما ولّيته ، فإني ما كنت لأرتشي في الله! ولكنّك إن شئت أحيينا سنّة عمر بن الخطاب!


فقال عمرو : إن كنت تريد أن نبايع ابن عمر ، فما يمنعك من ابني (عبد الله) وأنت تعرف صلاحه وفضله؟! هذا وعبد الله ابنه حاضر وناظر ، وبمرأى ومسمع منه.

فقال الأشعري : إن ابنك رجل صدق! ولكنّك قد غمسته في هذه الفتنة! ولكن إن شئت ولّينا هذا الأمر الطيّب ابن الطيّب عبد الله بن عمر!

فقال عمرو : إن هذا الأمر لا يصلح له إلّا رجل يأكل ويطعم وإن عبد الله ليس هناك (١).

وقال عمرو : يا أبا موسى ، إنه ليس أهل العراق بأوثق بك من أهل الشام لغضبك لعثمان وبغضك للفرقة! وقد عرفت حال معاوية في قريش وشرفه في عبد مناف! وهو ابن هند وابن أبي سفيان! فما ترى؟!

قال الأشعري : أما ثقة أهل الشام بي فكيف يكون ذلك وقد ... (٢).

وأما غضبي لعثمان : فنعم ، ولو شهدته لنصرته!

وأما بغضي للفتن : فقبّح الله الفتن ، وأما معاوية : فليس بأشرف من عليّ ، فرجع عمرو عنه مغموما.

وكان مع ابن العاص ابن عمّ له شاب فسمعه يقول شعرا :

يا عمرو إنك للأمور مجرّب

فارفق ، ولا تقذف برأيك أجمع

فاخلع معاوية بن حرب خدعة

يخلع عليّا ساعة ، وتصنّع

تلك الخديعة إن أردت خداعه

والراقصات إلى منى ، خذ أودع

فاغتنمها عمرو وأخذ يقدّم الأشعري في الكلام ويقول له : إنك قد صحبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبلي ، وأنت أكبر منّي ، فتكلّم ثمّ أتكلّم ... فعوّده أن يقدّمه

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٤٠ ـ ٥٤٢.

(٢) وقعة صفين : ٥٤٤ ـ ٥٤٥.


في كلّ شيء ، وإنما اغترّه بذلك ليقدّمه فيبدأ بخلع علي. أراده عمرو لمعاوية فأبى ، فأراده على ابنه فأبى ، وأراده الأشعري لصهره عبد الله فأبى عمرو ، ثمّ قال له : أخبرني ما رأيك؟ قال : رأيي أن أخلع هذين الرجلين عليّا ومعاوية ثمّ نجعل الأمر شورى بين المسلمين يختارون من أحبّوا ومن شاءوا! فقال عمرو : الرأي ما رأيت (١)!

تحكّم الحكمين :

وألقى أبو موسى إلى الناس : إنّ رأيي ورأي عمرو قد اتّفق على أمر نرجو أن يصلح الله به أمر هذه الأمة. وكذلك أوعز عمرو ، فاجتمع الناس.

فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون ... فقال عمرو : يا أبا موسى تكلّم. فتقدّم أبو موسى ليتكلّم ، فدعاه ابن عباس فقال له : ويحك! إني لأظنّه قد خدعك! إن كنتما قد اتفقتما على أمر فقدّمه قبلك فيتكلّم بذلك الأمر قبلك ثمّ تكلّم أنت بعده ، فإنّ عمرا رجل غدّار! ولا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه فإذا قمت به في الناس خالفك! فقال أبو موسى : إيها عنك ، إنّا قد اتّفقنا!

ثمّ تقدّم فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : يا أيّها الناس ؛ إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمّة فلم نر شيئا هو أصلح لأمرها وألمّ لشعثها من أن لا تتباين أمورها! وقد أجمع رأيي ورأي صاحبي عمرو على خلع عليّ ومعاوية! وأن نستقبل هذا الأمر فيكون شورى بين المسلمين فيولّون من أحبّوا! وإني قد خلعت عليا ومعاوية! فاستقبلوا أمركم وولّوا من رأيتم لها أهلا! ثمّ تنحّى فقعد.

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٤٤ ـ ٥٤٥.


فقام عمرو بن العاص مقامه فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : إنّ هذا قال ما سمعتم وخلع صاحبه! وأنا أخلع صاحبه كما خلعه (ولكنّي) أثبت صاحبي معاوية ، فإنّه وليّ عثمان والطالب بدمه وأحقّ الناس بمقامه (١)!

فقال له أبو موسى : ما لك لا وفّقك الله قد غدرت وفجرت! وإنّما مثلك (كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ)(٢).

فقال له عمرو : وإنما مثلك (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً)(٣).

وصاح ابن عباس : قبّح الله أبا موسى ، أمرته بالرأي فما عقل!

فقال أبو موسى : قد حذّرني ابن عباس غدرة الفاسق! ولكنّي اطمأننت إليه وظننت أنه لن يؤثر شيئا على نصيحة الأمّة (٤)!

وقام سعيد بن قيس الهمداني فقال لهما : والله لو اجتمعتما على الهدى ما زدتمانا على ما نحن عليه الآن ، وما ضلالكما بلازمنا ، وما رجعتما إلّا بما بدأتما ، وإنا اليوم لعلى ما كنا عليه بالأمس (٥).

وحمل شريح بن هانئ على عمرو بسوطه فقنّعه به ، فقام ابن أبي موسى إليه فضربه بسوطه ، وقام الناس فحجزوا بينهما (٦).

__________________

(١) وفي اليعقوبي ٢ : ١٩٠ : قد ثبّت معاوية كما ثبّت خاتمي هذا في يدي. وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣٥١ : وقد خلعته كما خلعت نعلي هذه! عن أبي مخنف.

(٢) الأعراف : ١٧٦.

(٣) الجمعة : ٥.

(٤) وقعة صفين : ٥٤٥ ـ ٥٤٦.

(٥) وقعة صفين : ٥٤٧.

(٦) وقعة صفين : ٥٤٦.


وقال يزيد بن أسد القسري من قوّاد معاوية : يا أهل العراق! اتّقوا الله ، فإنّ أهون ما يردّنا وإياكم الحرب إليه ما كنا بالأمس عليه من الفناء! وقد أصبح كلّ امرئ يبكي على قتيل! وقد شخصت الأبصار إلى الصلح وأشرفت الأنفس على البقاء ، إنّه ليس لوحدكم الرضا ، فما لكم رضيتم بأوّل أمر صاحبكم (الأشعري) وكرهتم آخره (١)؟!

والتمس أصحاب عليّ أبا موسى فركب ناقته ولحق بمكة (٢)!

ورجع عمرو إلى منزله فجهّز راكبا إلى معاوية يخبره بالأمر (٣)!

ورجع ابن عباس وشريح بن هانئ الحارثي الهمداني إلى علي عليه‌السلام (٤).

فكان علي عليه‌السلام إذا صلّى الغداة والمغرب يقنت ويقول في قنوتهما : «اللهم العن معاوية وعمرا وأبا موسى ، وحبيب بن مسلمة ، والضحاك بن قيس ، والوليد بن عقبة ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد».

فلما بلغ ذلك معاوية كان يقنت فيلعن عليا والحسن والحسين! وابن عباس وقيس بن سعد (٥).

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٤٨.

(٢) وقعة صفين : ٥٤٦.

(٣) وقعة صفين : ٥٤٧.

(٤) وقعة صفين : ٥٤٦.

(٥) وقعة صفين : ٥٥٢ ، وأنساب الأشراف ٢ : ٣٥٠ ـ ٣٥٢ عن أبي مخنف وعوانة بن الحكم بإسنادهما. وفي الطبري ٥ : ٧٠ ـ ٧١ عن أبي مخنف.


أخبار خوارج النهروان (١)

تحكيم الحكم وخروج الخوارج :

في أوّل رمضان من عهد علي عليه‌السلام بعد الجمل وقبل صفّين في سنة (٣٦ ه‍) حصل أول تمرّد على أمر أمير المؤمنين بترك الجماعة في نوافل الليالي (التراويح) وخشى أن يقول الناس : فرّق بين أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فتركهم مخافة الفرقة.

ولما أهلّ هلال شهر رمضان سنة سبع وثلاثين ، خرج معاوية من دمشق في أربعمائة من أصحابه حتّى نزل دومة الجندل ، وسرّح يزيد بن الحرّ العبسي إلى الإمام عليه‌السلام يعلمه نزوله دومة الجندل ويسأله الموافاة ... وكان أبو موسى قد قدم إلى

__________________

(١) هو نهر واسع يبدأ من الجبال المجاورة لبلدة شهر زور في شمال العراق ويقال لأسفله النهروان في لواء ديالى شرقي بغداد ، بالموضع المعروف بالرميلة مروج الذهب ٢ : ٤٠٥. ـ على أربعة فراسخ (ـ ٢٢ كم) من بغداد شرقا ـ مجمع البحرين.


بعض نواحي (الكوفة) فاستقدمه ، وبعث إلى ابن عباس بالبصرة فأقدمه ، ثمّ وجّه بهما في خيل (١) مع شريح بن هانئ الحارثي الهمداني.

فلما أراد أن يبعث بهم للحكومة دخل عليه حرقوص بن زهير السعدي التميمي مع زرعة بن البرج الطائي ، فقال له حرقوص : ارجع عن قضيّتك (بالتحكيم) وارجع بنا إلى عدوّنا نقاتلهم.

فقال الإمام عليه‌السلام : قد أردتكم على ذلك فعصيتموني ، وقد كتبنا بيننا وبينهم كتابا وشرطنا شروطا ، وأعطينا عليها عهودنا ومواثيقنا ، وقد قال الله عزوجل : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ)(٢).

فقال حرقوص : ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه! فتب من خطيئتك وارجع عن قضيّتك.

فقال الإمام عليه‌السلام : ما هو ذنب ، ولكنّه عجز في الرأي وضعف في العقل ، وقد تقدّمت إليكم فيما كان منه ونهيتكم عنه ... فاتّقوا الله عزوجل فإنّ الشيطان قد استهواكم ، إنّه لا خير لكم في دنيا تقاتلون عليها! فخرجا من عنده يقولان : لا حكم إلّا لله (٣)!

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٣٤٦ عن المدائني ، عن التنوخي ، عن ابن مهران يحدث عمر بن عبد العزيز. وفيه : ٣٥٠ ، وفي تاريخ الطبري ٥ : ٦٦ كلاهما عن أبي مخنف : قدم عليه معن بن يزيد السلمي ، فما هنا في الأعلى.

(٢) النحل : ٩١.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٧٢ عن أبي مخنف ، وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣٥٩ ، الحديث ٤٣١ عن الشعبي وزاد : حمزة بن سنان الأسدي ، وشريح بن أوفى العبسي ، وعبد الله بن شجرة


اجتماعهم وبيعتهم :

كان ذلك ما رواه أبو مخنف ، وقال الشعبي : لما قال لهم علي عليه‌السلام : لقد فارقنا القوم على شيء فلا يجوز نقضه! انصرف القوم من فورهم إلى منزل عبد الله بن وهب الراسبي ـ وكان معهم ـ فذكروا من أصيب من أصحابهم في صفين مثل عمار بن ياسر العبسي ، وهاشم بن عتبة المرقال الزهري ، وخزيمة بن ثابت الأنصاري ، وأبي الهيثم بن التيهان وأشباههم ، وذكروا أمر الحكمين ، وكفّروا من رضي بالحكومة ، وبرئوا من علي عليه‌السلام (١).

وخطبهم الراسبي ذو الثفنات فقال : أما بعد ، فو الله ما ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن وينيبون إلى حكم القرآن : أن تكون هذه الدنيا التي الرّضا بها والركون إليها والإيثار إيّاها عناء وتبار ـ آثر عندهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقول بالحقّ! وإن منّ وضرّ ، فإنه من يمنّ ويضرّ في هذه الدنيا فإن ثوابه يوم القيامة رضوان الله عزوجل والخلود في جناته.

فاخرجوا بنا ـ إخواننا ـ من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو إلى بعض هذه المدائن ، منكرين لهذه البدع المضلّة!

ثمّ خطبهم حرقوص فقال : إنّ المتاع بهذه الدنيا قليل ، والفراق لها وشيك ، فلا تدعونّكم زينتها وبهجتها إلى المقام بها ، ولا تلفتنّكم عن طلب الحقّ وإنكار الظلم ، فإن الله مع الذين اتّقوا والذين هم محسنون.

فقال حمزة الأسدي : يا قوم ، إنّ الرّأي ما رأيتم ، فولّوا أمركم رجلا منكم ، فإنّه لا بدّ لكم من عماد وسناد وراية تحفّون بها وترجعون إليها.

__________________

ـ السلمي وعبد الله بن وهب الراسبي ذا الثفنات ، وفروة بن نوفل الأشجعي. وكلام الإمام شهادة فيهم أنهم كانوا يريدون الدنيا ولم يكونوا مخلصين.

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٣٥٩ ـ ٣٦٠ ، الحديث ٤٣٢.


فعرضوها على زيد بن حصين الطائي فأبى ، وعلى حرقوص بن زهير فأبى ، وعلى حمزة بن سنان فأبى ، وعلى شريح بن أوفى فأبى ، فعرضوها على عبد الله بن وهب فقال : هاتوها ، فبايعوه. وكان ذلك ليلة الجمعة لعشر خلون من شوال (١).

اجتماعهم وخروجهم :

ثم اجتمعوا في منزل شريح بن أوفى العبسي ، فقال لهم الراسبي : اشخصوا بنا إلى بلدة نجتمع فيها لإنفاذ حكم الله!

فقال شريح العبسي : نخرج إلى المدائن فننزلها ونخرج منها سكّانها ونأخذ بأبوابها ، ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة فيقدمون علينا!

فقال زيد الطائي : إنكم إن خرجتم مجتمعين اتّبعوكم (فمنعوكم) ولكن اخرجوا وحدانا مستخفين (وليس إلى المدائن) فإنّ بها من يمنعكم ، ولكن سيروا حتّى تنزلوا جسر (النهروان) واكتبوا إلى إخوانكم من أهل البصرة.

فتوافقوا على هذا ، وكتب عبد الله الراسبي إلى من منهم بالبصرة يعلمهم ما اجتمعوا عليه (٢).

«أما بعد فإنّ أهل دعوتنا حكّموا الرجال في أمر الله ، ورضوا بحكم القاسطين على عباده ، فخالفناهم ونابذناهم ، نريد بذلك الوسيلة إلى الله. وقد اتّعدنا بجسر النهروان ، وأحببنا إعلامكم لتأخذوا بنصيبكم من الأجر ، والسلام».

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٧٥ ـ ٧٦ ، وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣٦٢ ، الحديث ٤٣٤ كلاهما عن أبي مخنف ، ولكنه قال : لعشر بقين من شوال ، وفيه : ٣٦١ عن الشعبي : خلون منه ، فهو الصحيح. وصدر الخبر وأكثره في الإمامة والسياسة ١ : ١٤١.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ٣٦٣ وتاريخ الطبري ٥ : ٧٥ كلاهما عن أبي مخنف.


فجاءهم جوابهم : «أما بعد ، فقد بلغنا كتابكم وفهمنا ما ذكرتم ، وقد وهبنا لكم الرأي الذي جمعكم الله عليه من الطاعة وإخلاص الحكم لله ، وإعمالكم أنفسكم فيما يجمع الله به كلمتكم! وقد أجمعنا على المسير إليكم عاجلا».

وكانوا قد اجتمعوا في منزل حرقوص ليلة الخميس (الثامن من شهر شوال) فقال بعضهم : نخرج الليلة القابلة : ليلة الجمعة ، فقال لهم حرقوص : بل أقيموا ليلة الجمعة تتعبدون لربكم وتوصون فيها بوصاياكم ، ثمّ اخرجوا ليلة السبت مثنى ووحدانا لا يشعر بكم (١).

وأرسل عديّ الطائي إلى سعد بن مسعود الثقفي عامل علي عليه‌السلام على المدائن يحذّره منهم ، فاستخلف بها ابن أخيه المختار بن أبي عبيد الثقفي وأمره بحراسة أبواب المدائن ، وسار هو في خمسمائة فارس في طلبهم ، وعلم بخبره عبد الله الراسبي فسار على بغداد ، ولحقهم سعد بن مسعود عند المساء فاقتتلوا ساعة ثمّ تمانعوا منهم ، فلما جنّ عليهم الليل عبر الراسبي دجلة إلى أرض جوخى ثمّ إلى النهروان فوصل إلى أصحابه ، وردّ أهل الكوفة جماعة منهم كرها (٢). وبعث الإمام إليهم : أن سيروا إلى حيث شئتم ولا تفسدوا في الأرض فإني غير هائجكم ما لم تحدثوا حدثا (٣).

ولحقهم خوارج البصرة :

وكأن كتاب الراسبي من الكوفة كان إلى مسعر بن فدكيّ التميمي البصري ، وجمعهم الرجل خمسمائة فارس ، وجعل لهم مقدمة جعل عليهم الأشرس بن عوف

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٤٢ ـ ١٤٣.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٧٦ عن أبي مخنف.

(٣) أنساب الأشراف ٢ : ٣٦٧ عن أبي مجلز ، فلم يتبعهم ولم يمنعهم.


الشيباني ، وخرجوا. وكان ابن عباس قد رجع إليها من الشام ، وعلم بهم فضمّ خيلا إلى أبي الأسود الدؤلي وأمره أن يتبعهم فعسى أن يردّهم أو يمنعهم ، ولحقهم عند الجسر الأكبر (؟) فتواقفوا حتى الليل ، فلما أدلج الليل أدلج مسعر بأصحابه يتعرض بمن يعترض له (١).

وكانت بلدة «بهرسير ـ بهردشير» من أهم بلدان المدائن «طيسفون» وكان عليها عديّ بن الحرث الشيباني ، وعلم باقتراب ابن عمّه أشرس بن عوف الشيباني البصري بمقدمة خوارج البصرة (٢) فخرج عديّ ليمنعهم ، فقاتله أشرس فطعنه وقال : خذها من ابن عمّ لو لا نصرة الحقّ كان بك ضنينا (٣) (بخيلا) ثمّ أدلجوا منه ليلحقوا بالنهروان.

والذين قدم منهم مع مسعر استعرضوا الناس في طريقهم (٤) فكان ممّن قتلوه سواديّ (رجل من أهل سواد العراق غير عربي) التقوا به بناحية نفّر (٥).

خوارج البصرة وتمرة وخنزيرة ودماء :

روى الطبري عن أبي مخنف ، عن ابن هلال (٦) عن رجل من عبد قيس البصرة كان قد خرج معهم ثمّ فارقهم (٧) قال : لما دنا خوارج البصرة من أصحابهم

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٧٦ ـ ٧٧ عن أبي مخنف.

(٢) لعلّهم كانوا مائتين ؛ لأنه قال : توجّه مسعر بثلاثمائة. وقد مرّ الخبر أنهم كانوا خمسمائة.

(٣) أنساب الأشراف ٢ : ٣٦١ عن الشعبي.

(٤) أنساب الأشراف ٢ : ٣٦٧.

(٥) أنساب الأشراف ٢ : ٣٦٨.

(٦) تاريخ الطبري ٥ : ٨١.

(٧) أنساب الأشراف ٢ : ٣٦٩ الحديث ٤٣٨.


بالنهروان حلّوا بناحية قرية (١) ، وخرج جمع منهم فإذا هم برجل يسوق بامرأة على حمار ، ثمّ علم أنها امرأته وهي حامل مقرب ومعها أمّ سنان الصيداوية الصحابية وثلاث نسوة من طيّئ ، وكانوا في المعبر الآخر من النهر فعبر هؤلاء إليهم فأفزعوهم حتّى سقط ثوب الرجل لما أفزعوه ، وقالوا له : من أنت؟ قال : أنا عبد الله بن خبّاب بن الأرت صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (وكان أبوه خبّاب مات قريبا بالكوفة) ثمّ أهوى إلى ثوبه يتناوله من الأرض ، فقالوا له : أفزعناك؟ قال : نعم. قالوا : فلا روع عليك! فحدّثنا عن أبيك بحديث سمعه من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلّ الله ينفعنا به!

فقال : نعم ، حدثني أبي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن «ستكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه ، يصبح فيها مؤمنا ويمسي كافرا ، ويمسي فيها مؤمنا ويصبح كافرا» قالوا : لهذا الحديث سألناك (٢) فما تقول في عليّ قبل التحكيم وبعده؟ قال : إنه أعلم منكم بالله وأنفد بصيرة وأشدّ توقيا على دينه! فقالوا له : إنك توالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها وتتبّع الهوى ، والله لنقتلنّك قتلة ما قتلناها أحدا! وأخذوه فكتّفوه ، ثمّ أقبلوا به وبامرأته والنسوة معها حتّى نزلوا تحت نخيل حوامل برطبها ، فسقطت رطبة منها فأخذها بعضهم وقذفها في فيه ، فقال له رجل منهم

__________________

(١) بل في قرية كسكر كورة بين البصرة وبغداد بل العمارة والكوت قرب واسط كما في أطلس تاريخ الإسلام خارطة : ٦١ و ٦٢ ، وانظر شرح النهج ٢ : ٢٧٥ عن الكامل للمبرّد وانفرد الحلبي في المناقب ٣ : ٢١٨ : أنه كان عامل الإمام على النهروان! ولا يصح.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٨١ وهنا فيه بين كماشتين سؤال عن قوله في أبي بكر وعمر وعثمان ، فيقول فيهم خيرا! ثمّ يعلق المحقق : أنها زيادة من ابن الأثير والنويري! ويخلو منها أنساب الأشراف فأكملناه منه.


أبغير ثمن ولا حلّ! فألقاها الرجل! فمرّ بهم ذمي ومعه خنزيرة له فاخترط أحدهم سيفه وقتلها ، فقال له آخر : إنّ هذا لمن الفساد في الأرض! فاتّجه إلى الذمي صاحب الخنزيرة حتّى أرضاه!

فلما رأى ذلك عبد الله بن خبّاب قال لهم : لئن كنتم صادقين فيما أرى وأسمع فإني لآمن من شرّكم!

فأقاموه وذهبوا به حتّى ألقوه على الخنزير المقتول على شفير النهر فذبحوه وسال دمه في الماء!

ثمّ أقاموا امرأته ليقتلوها وهي تناديهم : أما تتقون الله؟ إنما أنا امرأة! فبقروا بطنها!

ثمّ قتلوا النسوة الثلاث اللواتي كنّ معها (١) من طيّئ ، وأمّ سنان الصيداوية الصحابية (٢).

وكتب إليهم الإمام عليه‌السلام :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من عبد الله علي أمير المؤمنين ، إلى زيد بن حصين (الطائي) وعبد الله بن وهب (الراسبي) ومن معهما من الناس ، أما بعد ، فإن هذين الرجلين الذين ارتضينا حكمهما قد خالفا كتاب الله ، واتّبعا أهواءهما بغير هدى من الله ، فلم يعملا بالسنة ، ولم ينفّذا للقرآن حكما ، فبرئ الله ورسوله منهما والمؤمنون! فإذا بلغكم كتابي هذا فأقبلوا فإنا سائرون إلى عدوّنا وعدوّكم ، ونحن على الأمر الأول الذي كنا عليه ، والسلام».

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٣٦٨.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٨٢ ، والإمامة والسياسة ١ : ١٤٦ ـ ١٤٧.


وجاءه جوابهم : «أما بعد ، فإنك لم تغضب لربّك ؛ إنما غضبت لنفسك! فإن شهدت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة ، نظرنا فيما بيننا وبينك ، وإلّا فقد نابذناك على سواء (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ)» (١).

وروى البلاذري ، عن أبي مخنف ، عن ابن هلال عن رجل من عبد قيس البصرة كان معهم ثمّ فارقهم قال : كتب الإمام عليه‌السلام إليهم : «أما بعد ، فإني اذكّركم أن تكونوا (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً)(٢) بعد أن أخذ الله ميثاقكم على الجماعة وألّف بين قلوبكم على الطاعة ، وأن تكونوا (كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ)(٣)».

فكتب إليه ابن وهب : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)(٤) إنّ الله بعث محمّدا بالحقّ وتكفّل له بالنصر ليبلّغ رسالاته ، ثمّ توفّاه الله إلى رحمته ، وقام بالأمر بعده أبو بكر بما قد شهدته وعاينته ، متمسكا بدين الله مؤثرا لرضاه حتى أتاه أمر ربّه ، فاستخلف عمر ، فكان من سيرته ما أنت عالم به ، لم تأخذه في الله لومة لائم ، وختم الله له بالشهادة. وكان من أمر عثمان ما كان حتّى سار إليه قوم فقتلوه لمّا آثر الهوى وغيّر حكم الله.

ثمّ استخلفك الله على عباده ، فبايعك المؤمنون إذ كنت عندهم أهلا لذلك ، لقرابتك من الرسول ، وقدمك في الإسلام. ووردت صفين غير وان ولا مداهن ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٧٧ ـ ٧٨ عن أبي مخنف ، وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣٦١ عن الشعبي مختصرا.

(٢) الروم : ٣٢.

(٣) آل عمران : ١٠٥.

(٤) الرعد : ١١.


مبتذلا نفسك في مرضاة ربك. فلما حميت الحرب وذهب الصالحون : عمار بن ياسر ، وأبو الهيثم ابن التيهان وأشباههم ، اشتمل عليك من لا فقه له في الدين ولا رغبة له في الجهاد مثل الأشعث بن قيس وأصحابه ، واستنزلوك حتّى ركنت إلى الدنيا حين رفعت لك المصاحف مكيدة! فتسارع إليهم الذين استنزلوك ، وكانت منّا في ذلك هفوة ، ثمّ تداركنا الله منه برحمته ، فحكّمت في كتاب الله وفي نفسك! فكنت في شكّ من دينك وضلال عدوّك وبغيه عليك!

كلّا والله يا ابن أبي طالب فكأنك (ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً)(١) وقلت : لي قرابة من الرسول وسابقة في الدين ، فلا يعدل الناس بي معاوية! فالآن فتب إلى الله وأقرّ بذنبك ، فإن تفعل (نجب دعوتك لنا و) نكن يدك على عدوّك ، وإن أبيت ذلك فالله يحكم بيننا وبينك (٢).

فلما قرأ كتابهم أيس منهم ، فرأى أن يدعهم ويمضي بالناس إلى أهل الشام فيناجزهم (٣).

وفي ذي القعدة من هذه السنة (٣٧ ه‍) بايع أهل الشام لمعاوية بالخلافة (٤)!

وكان عبيد الله بن العباس عامل الإمام عليه‌السلام على مخاليف اليمن فأمره الإمام بالحجّ بالناس. وكان عامله على مكة والطائف أخوه قثم ، وعلى المدينة أخوه تمّام (٥) ، وهو أعلن المسير إلى الشام.

__________________

(١) الفتح : ١٢.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ٣٧٠ ، الحديث ٤٣٨.

(٣) الطبري ٥ : ٧٨.

(٤) تاريخ خليفة : ١١٥.

(٥) الطبري ٥ : ٩٢ ـ ٩٣.


خطبة الإمام بالمسير إلى الشام :

«الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح والحدث الجليل! وأشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا عبده ورسوله. أمّا بعد ، فإنّ معصية الناصح الشفيق المجرّب تورث الحسرة وتعقب الندم. وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين وهذه الحكومة بأمري ، ونخلت لكم رأيي «لو كان لقصير رأي» ولكنّكم أبيتم إلّا ما أردتم ، فكنت وأنتم كما قال أخو هوازن :

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى

فلم يستبينوا الرشد إلّا ضحى الغد

ألا إن هذين الرجلين الذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم الكتاب وراء ظهورهما ، وارتأيا الرأي من قبل أنفسهما ، فأماتا ما أحيا القرآن وأحييا ما أمات القرآن ، ثمّ اختلفا في حكمهما ، فكلاهما لم يرشد ولم يسدّد ، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين.

فاستعدّوا للجهاد وتأهّبوا للمسير ، وأصبحوا في معسكركم ـ يوم الاثنين إن شاء الله (١) ـ بالنخيلة ، وإنما حكّمنا من حكّمنا ليحكما بالكتاب ، وقد علمتم أنّهما حكما بغير الكتاب وبغير السنة ، فو الله لأغزونّهم ولو لم يبق أحد غيري لجاهدتهم» وأمر بعطاء الناس (٢) وسار في المحرم لسنة ثمان وثلاثين (٣). واستعمل على الكوفة : هانئ بن هوذة النخعي (٤).

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٣٦٥ ، الحديث ٤٣٦ ، وتاريخ الطبري ٥ : ٧٧ كلاهما عن أبي مخنف ، وفي نهج البلاغة خ ٣٥ ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٨٠.

(٢) الإمامة والسياسة ١ : ١٤٣.

(٣) أنساب الأشراف ٢ : ٣٦٢.

(٤) أنساب الأشراف ٢ : ٣٧٥.


الإمام في معسكر النخيلة :

ولما عسكر الإمام في النخيلة كتب إلى ابن عباس بالبصرة : «أما بعد ، فإنا قد خرجنا إلى معسكرنا بالنخيلة ، وقد أجمعنا على المسير إلى عدوّنا من أهل المغرب (الشام) فاشخص بالناس حين يأتيك رسولي ، وأقم حتّى يأتيك أمري ، والسلام» وبعث به مع عتبة بن الأخنس السعدي البكري.

وخطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أما بعد ، فإنه من ترك الجهاد في الله وأدهن في أمره كان على شفا هلكة ، إلّا أن يتداركه الله بنعمة. فاتقوا الله وقاتلوا من حادّ الله وحاول أن يطفئ نور الله ، قاتلوا الخاطئين الضالين «القاسطين المجرمين» الذين ليسوا بقرّاء للقرآن ولا فقهاء في الدين ، ولا علماء في التأويل ، ولا أهل سابقة في الإسلام ، والله لو ولوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل!

تيسّروا وتهيّئوا للمسير إلى عدوّكم من أهل المغرب (الشام).

وقد بعثنا إلى إخوانكم من أهل البصرة ليقدموا عليكم ، فإذا قدموا فاجتمعتم شخصنا إن شاء الله ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله (١).

ابن عباس والناس بالبصرة :

فلمّا وصله الكتاب دعا الأحنف بن قيس التميمي وأخبره وأمّره ، ثمّ قرأ الكتاب على الناس وأمرهم بالشخوص مع الأحنف ، فشخص منهم ألف وخمسمائة رجل ، فاستقلّهم ابن عباس ، فدعا جارية بن قدامة السعدي التميمي وأخبره وأمّره.

ثمّ خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم : أما بعد يا أهل البصرة ، فإنه جاءني أمر أمير المؤمنين يأمرني بإشخاصكم ، فأمرتكم بالنفير إليه مع الأحنف بن قيس ، فلم يشخص معه منكم إلّا ألف وخمسمائة ، وأنتم ستون ألفا ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٧٨ عن أبي مخنف ، وفي الإمامة والسياسة ١ : ١٤٤.


سوى أبنائكم وعبدانكم ومواليكم! ألا فانفروا مع جارية بن قدامة السعدي ، ولا يجعلنّ رجل على نفسه سبيلا! فإني موقع بكلّ من وجدته متخلّفا عن مكتبه عاصيا لإمامه؟ وقد أمرت أبا الأسود الدؤلي بحشركم ، فلا يلم رجل جعل السبيل على نفسه إلّا نفسه!

فخرج جارية فعسكر ، وخرج أبو الأسود فحشر الناس ، فاجتمع إلى جارية ألف وسبعمائة.

ولم يزل الإمام بالنخيلة حتّى وافاه هذان الجيشان من البصرة ، ثلاثة آلاف ومائتا رجل (١)!

الإمام يستحث أهل الكوفة :

فجمع الإمام عليه‌السلام إليه رءوس أهل الكوفة ورءوس الأسباع ورءوس القبائل ووجوه الناس.

ثمّ حمد الله وأثنى عليه وقال : يا أهل الكوفة ، أنتم إخواني وأنصاري وأعواني على الحقّ! وصحابتي على جهاد عدوّي المحلّين ، بكم أضرب المدبر وأرجو تمام طاعة المقبل.

وقد بعثت إلى أهل البصرة فاستنفرتهم إليكم فلم يأتني منهم إلّا ثلاثة آلاف ومائتا رجل! فأعينوني بمناصحة جليّة خليّة من الغش ... فاستجمعوا بأجمعكم.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٧٨ عن أبي مخنف ، والإمامة والسياسة ١ : ١٤٤. وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣٦٧ : وأتاه جارية بن قدامة في ثلاثة آلاف ، وقيل : خمسة آلاف وقيل أكثر من ذلك. وفي مروج الذهب ٢ : ٤٠٦ : وأتاه من البصرة : عشرة آلاف مع ابن قدامة وابن قيس. وانفرد الدينوري قال : قدم ابن عباس في سبعة آلاف من فرسان البصرة! الأخبار الطوال : ١٩١.


وإني أسألكم أن يكتب لي رئيس كلّ قوم ما في عشيرته من المقاتلة ، وأبناء المقاتلة الذين أدركوا القتال ، وعبدان عشيرته ومواليهم ، ثمّ يرفع ذلك إلينا.

فقام سعيد بن قيس الهمداني فقال : يا أمير المؤمنين ، سمعا وطاعة ، وودّا ونصيحة ، أنا أوّل الناس جاء بما سألت وبما طلبت.

وقام معقل بن قيس الرياحي التميمي فقال نحوا من ذلك.

وقام عديّ بن حاتم ـ وقد فقئت إحدى عينيه في صفين ، وفرّ ابنه زيد إلى الشام ، وخرج ابن آخر له مع الخوارج ـ وزياد بن خصفة التيمي ، وحجر بن عديّ الكنديّ وأشراف القبائل فقالوا مثل ذلك. ثمّ كتبوا من فيهم ، وأمروا أبناءهم وعبيدهم ومواليهم أن يخرجوا معهم وأن لا يبقى منهم أحد ، فرفعوا إليه : أربعين ألف مقاتل ، وسبعة عشر ألفا ممن أدرك من أبنائهم! وثمانية آلاف من مواليهم وعبيدهم ، وقالوا : يا أمير المؤمنين ، أما من عندنا من المقاتلة وأبناء المقاتلة ممّن قد بلغ الحلم وأطاق القتال فقد رفعنا إليك منهم ذوي القوة والجلد ، وأمرناهم بالشخوص معنا ، ومنهم ضعفاء وهم في ضياعنا وأشياء مما يصلحنا.

فكان جميع من معه : ثمانية وستين ألفا ومائتي رجل : العرب من أهل الكوفة : سبعة وخمسين ، ومن مواليهم ومماليكهم : ثمانية آلاف فجميعهم : خمسة وستين ألفا ، ومن أهل البصرة : ثلاثة آلاف ومائتي رجل (١)!

وكان المقاتلون في المدائن في عداد مقاتلي أهل الكوفة ، وفي المرّة السابقة مرّ الإمام بالمدائن فاستتبعهم معه ، ولكنّه اليوم كتب إلى عامل المدائن سعد بن مسعود الثقفي : أما بعد ، فإني قد بعثت إليك زياد بن خصفة (التيمي) فأشخص معه من قبلك من مقاتلة أهل الكوفة ، وعجّل ذلك إن شاء الله ، ولا قوة إلّا بالله (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٨٠ و ٨٩ عن أبي مخنف ، والإمامة والسياسة ١ : ١٤٥.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٨٠ عن أبي مخنف.


إلى ابن أبي سفيان أو النهروان؟ :

وبلغ الإمام عليه‌السلام أنّ الناس يقولون : لو سار بنا إلى هؤلاء الخوارج فنبدأ بهم فإذا فرغنا منهم توجّهنا لقتال المحلّين (الناقضين) فخطبهم فقال : أما بعد ، فإنه قد بلغني قولكم : لو أنّ أمير المؤمنين سار بنا إلى هذه الخارجة التي خرجت عليه فبدأنا بهم فإذا فرغنا منهم وجّهنا إلى المحلّين. ألا إن غير هذه الخارجة أهمّ إلينا منهم ، فدعوا ذكرهم ، وسيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبّارين ملوكا ، ويتّخذوا عباد الله خولا (١).

فقام إليه صيفي بن فسيل الشيباني فقال له : يا أمير المؤمنين ، نحن حزبك وأنصارك ، نعادي من عاديت ونشايع من أناب إلى طاعتك ، فسر بنا إلى عدوّك من كانوا وأينما كانوا ، فإنك لن تؤتى من قلة عدد ولا ضعف نية أتباع ، إن شاء الله.

وقام إليه محرز بن شهاب التميمي السعدي فقال له : يا أمير المؤمنين «شيعتك» كقلب رجل واحد في الإجماع على نصرتك والجدّ في جهاد عدوّك ، فأبشر بالنصر ، وسر بنا إلى أيّ الفريقين أحببت ، فإنا «شيعتك» الذين نرجو في طاعتك وجهاد من خالفك صالح الثواب ، ونخاف من خذلانك والتخلّف عنك شدّة الوبال (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٨٠ عن أبي مخنف. وفي مروج الذهب ٢ : ٤٠٤ : خطب الناس فقال : «سيروا إلى قتلة المهاجرين والأنصار ، فإنهم طالما سعوا في إطفاء نور الله وحرّضوا على قتال رسول الله ومن معه! ألا إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمرني بقتال الناكثين وهم أولاء الذين فرغنا منهم ، والمارقين ولم نلقهم بعد ، والقاسطين وهم هؤلاء الذين سرنا إليهم. فسيروا إلى القاسطين فهم أهمّ علينا من الخوارج ، سيروا إلى قوم ...».

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٨٠ ـ ٨١ عن أبي مخنف ، والإمامة والسياسة ١ : ١٤٥ ـ ١٤٦.


ثمّ بايعوه على كتاب الله وسنّة رسوله والتسليم والرضا (١).

وكان من حملة راية خثعم في صفين ربيعة بن أبي شداد ، فلما تقدم ليبايعه قال له : بايع على كتاب الله وسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال ربيعة : وعلى سنّة أبي بكر وعمر! فقال له الإمام : ويلك لو أنّ أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكونا على شيء من الحقّ! فبايعه ربيعة ، إلّا أن الإمام نظر إليه مرة اخرى وقال له : والله لكأنّي بك وقد نفرت مع هذه الخوارج فقتلت (معهم) وكأنّي بك وقد وطئتك الخيل بحوافرها (٢)! أو : وكأنّي بحوافر خيلي قد شدخت وجهك (٣)!

المسير والمصير والمنجّم الساحر :

قال ابن قتيبة : فأجمع علي عليه‌السلام والناس على المسير إلى صفّين (٤) وقال أبو مخنف : فأمر فنودي بالرحيل ، وخرج فعبر الجسر إلى القنطرة فصلى فيها ركعتين ، ثمّ رحل فنزل دير عبد الرحمن ، ثمّ دير أبي موسى ، ثمّ أخذ على قرية شاهي ، ثمّ على دباها (٥) من الفلوجة ، ثمّ إلى دممّا في طريق الأنبار (٦)

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٤٦ منفردا بذكر هذا الموقع المناسب.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٧٦ عن أبي مخنف ، وتمامه : فقتل يوم النهروان مع الخوارج.

(٣) الإمامة والسياسة ١ : ١٤٦ عن قبيصة وقال : فرأيته يوم النهروان قتيلا قد وطأت الخيل وجهه وشدخت رأسه ومثّلت به ، فذكرت قول علي وقلت : لله درّ أبي الحسن! ما حرّك شفتيه بشيء قط إلّا كان!

(٤) الإمامة والسياسة ١ : ١٤٦.

(٥) تاريخ الطبري ٥ : ٨٣.

(٦) أنساب الأشراف ٢ : ٣٦٧.


على شاطئ الفرات (١) وقيل : بل نزل الأنبار (٢).

وكأنّه هنا بلغ الإمام عليه‌السلام ومن معه من المسلمين قتل الخوارج عبد الله بن خبّاب واعتراضهم الناس. فبعث إليهم الحارث بن مرة العبدي ، وكان يوم صفين على رجّالة ميسرته (٣) ليأتيهم فينظر فيما بلغه عنهم ويكتب به إليه.

فخرج حتّى انتهى إلى النهروان فخرج القوم إليه فقتلوه ، وبلغ خبره أمير المؤمنين والناس ، فقام إليه الناس وقالوا : يا أمير المؤمنين ، علام تدع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في أموالنا وعيالنا! سر بنا إلى القوم فإذا فرغنا مما بيننا وبينهم سرنا إلى عدوّنا من أهل الشام. وقام إليه الأشعث الكندي فكلّمه بمثل ذلك ، وحينئذ علم الناس أنه لا يرى رأي الخوارج كما كانوا يرونه. فأجمع الإمام عليه‌السلام على ذلك ، فأمر فنودي بالرحيل إليهم.

فقام إليه منجّم (؟) أشار إليه أن يسير في وقت خاص من النهار وقال : إن سرت في غير ذلك الوقت لقيت أنت وأصحابك ضرّا شديدا! ذلك ما رواه الطبري عن أبي مخنف (٤).

ورواه البلاذري عن أبي مجلز لاحق قال : أتاه مسافر بن عفيف الأزدي فقال له : يا أمير المؤمنين ، لا تسر في هذه الساعة! فقال له : ولم؟ أتدري ما في بطن هذه الفرس؟! قال : إذا نظرت علمت. فقال علي عليه‌السلام : إنّ من يصدقك في هذا القول

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٨٣.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٤٠٤ ، وتذكرة الخواص : ١٤٥ : عن الشعبي عن أبي أراكة : أنه انصرف من الأنبار لقتال الخوارج.

(٣) وقعة صفين : ٢٠٥ وليس هو الحرث بن مرة الذي قتل سنة (٤٢ ه‍) في قيقان من أرض السند كما في أنساب الأشراف ٢ : ٣٦٨.

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ٨٢ عن أبي مخنف.


يكذّب بكتاب الله ، لأن الله يقول في كتابه : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)(١) فلئن بلغني أنك تنظر في النجوم لاخلّدنك الحبس ما دام لي سلطان ، فو الله ما كان محمّد منجّما ولا كاهنا. وتكلّم في ذلك بكلام كثير (٢). وهذا هو ما رواه الصدوق بسنده ، عن عبد الله بن عوف الأزدي أنه قال : يا أمير المؤمنين ، لا تسر في هذه الساعة ، وسر بعد ثلاث ساعات يمضين من النهار. فقال له أمير المؤمنين : ولم؟

قال : لأنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك أذى وضرّ شديد! وإن سرت في الساعة التي أمرتك ظفرت وظهرت وأصبت كلّ ما طلبت!

فقال أمير المؤمنين : أتدري ما في بطن هذه الدابّة أذكر أم أنثى؟! قال : إن حسبت علمت!

فقال أمير المؤمنين : من صدّقك على هذا القول فقد كذّب بالقرآن! وتلا الآية ثمّ قال : ما كان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله يدّعي ما ادّعيت ، أتزعم أنك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء ، والساعة التي من سار فيها حاق به الضرر؟ من صدّقك بهذا استغنى بقولك عن الاستعانة بالله في ذلك الوجه ، وأحوج إلى الرغبة إليك في دفع المكروه عنه ، وينبغي أن يوليك الحمد دون ربّه عزوجل! ومن آمن لك بهذا فقد اتّخذك من دون الله ضدّا وندّا!

ثمّ دعا فقال : اللهم لا طير إلّا طيرك ، ولا ضير إلّا ضيرك ، ولا خير إلّا خيرك ، ولا إله غيرك. ثمّ التفت إلى المنجّم وقال له : بل نكذّبك ونخالفك ونسير في الساعة التي نهيت عنها (٣).

__________________

(١) لقمان : ٣٤.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ٣٦٨ ـ ٣٦٩.

(٣) أمالي الصدوق : ٥٠٠ ، الحديث ١٦ م ٦٤.


ثمّ أقبل على الناس فقال لهم : أيها الناس ، إياكم وتعلّم النجوم إلّا ما يهتدى به في برّ أو بحر ، فإنها تدعو إلى الكهانة ، والمنجّم كالكاهن ، والكاهن كالساحر ، والساحر كالكافر ، والكافر في النار. سيروا على اسم الله (١).

فكان انصرافه إلى النهروان عن طريق الأنبار إلى الفلوجة إلى المدائن ، وقدّم قبله إليها قيس بن سعد بن عبادة ، وأمره أن يقدم المدائن فينزلها حتى يأمره بأمره ، ثمّ جاء هو مقبلا إليهم ، فاستقبله قيس مع سعد بن مسعود الثقفي عامله على المدائن (٢).

وفي طريقه لقتالهم :

وفي طريقه لقتالهم قال لأصحابه : إذا حدثتكم فيما بيننا عن نفسي فإن الحرب خدعة وإنما أنا رجل محارب ، وإذا حدثتكم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلئن أخرّ من السماء أحبّ إليّ من أن اكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان ، سفهاء الأحلام ، قولهم من خير أقوال البريّة ، صلاتهم أكثر من صلاتكم ، وقراءتهم أكثر من قراءتكم ، لا يجاوز إيمانهم تراقيهم ـ أو قال : حناجرهم ـ يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فاقتلوهم ، فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة» ولو لا أن تبطروا فتدعوا العمل

__________________

(١) نهج البلاغة خ ٧٩ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٨٣ ، وفي الطبري ، عن أبي مخنف قال : فلما فرغ من النهروان قال : لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها المنجم لقال الذين لا يعلمون : سار في الساعة التي أمر بها المنجم فظفر! ونقله المعتزلي الشافعي في شرح النهج ٢ : ٢٦٩ ـ ٢٧٠ عن كتاب صفّين لابن ديزيل ، وانظر تذكرة الخواص : ١٤٥.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٨٣ ، وأنساب الأشراف ٢ : ٣٦٩.


لحدثتكم بما سبق على لسان رسول الله لمن قتل هؤلاء (١)! أو قال : لو لا أنّني أخاف أن تتّكلوا وتتركوا العمل لأخبرتكم بما قضاه الله على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله في من قاتل هؤلاء القوم مستبصرا بضلالتهم!

وإنّ فيهم لرجلا مودون اليد (دون اليد الطبيعيّة) له ثدي كثديّ المرأة! هم شرّ الخليقة ، وقاتلهم أقرب الخلق إلى الله وسيلة (٢)!

وبلغ معاوية فاستعدّ :

وبلغ معاوية : أن عليّا عليه‌السلام بعد تحكّم الحكمين تحمّل مقبلا إليه ، فكتب وبعث إلى كور الشام نسخة واحدة قرئت عليهم : أما بعد ، فإنا كنا قد كتبنا بيننا وبين علي كتابا وشرطنا فيه شروطا وحكّمنا رجلين ، يحكمان علينا وعليه بحكم الكتاب لا يعدوانه ، وجعلنا عهد الله وميثاقه على من نكث العهد ولم يمض الحكم. وإنّ حكمي الذي حكّمته أثبتني وإن حكمه خلعه ، وقد أقبل (اليوم) إليكم ظالما (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ)(٣). فتجهّزوا للحرب بأحسن الجهاز ، وأعدّوا لها آلة القتال ، وأقبلوا خفافا وثقالا وكسالى ونشّاطا ، يسرّنا الله وإياكم لصالح الأعمال!

فاجتمع إليه ناس فاستشارهم وقال : إن عليا قد خرج إليكم من الكوفة وعهد العاهد به أنّه فارق النخيلة ، فما ترون؟

فقال له حبيب بن مسلمة الفهري : إني أرى أن نخرج حتّى ننزل منزلنا الذي كنا فيه (من صفّين) فإنه منزل مبارك : قد متّعنا الله به وأعطانا من عدونا فيه النصف!

وكان عمرو بن العاص حاضرا فقال : أما أنا فأرى لك أن تسير بالجنود

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ٢ : ٢٦٧ ـ ٢٦٨ عن كتاب صفين للواقدي.

(٢) الإرشاد للمفيد ١ : ٣١٦ ـ ٣١٧.

(٣) الفتح : ١٠.


حتّى توغلها في سلطانهم من أرض الجزيرة (الموصل) فإن ذلك أقوى لجندك وأذلّ لأهل حربك!

فقال معاوية : والله إني لأعرف أن الرأي هو الذي تقول ، ولكن الناس لا يطيقون ذلك! فو الله إنّ جهد الناس أن يبلغوا منزلهم الذي كانوا به ، يعني صفين.

فمكثوا في ذلك يجيلون الرأي يومين أو ثلاثة ، ثمّ قدمت عليهم عيونهم : أن عليّا اختلف عليه أصحابه ، ففرقة منهم قد أنكرت أمر الحكومة ففارقته لذلك ، وأنه عليه‌السلام قد رجع عنكم إليهم ، فألقى معاوية ذلك إلى أهل الشام فكثر سرورهم بما ألقي من الخلاف بينهم وبانصرافه عنهم.

وكان معاوية قد خرج من دمشق معسكرا خارجها ، فلم يرجع عنه ينتظر لما يكون (١).

وليس فيما بأيدينا من مصادر التاريخ تقديم مقدمة له عليه‌السلام إليهم ، وإنما جاء ذلك فيما نقله المعتزلي الشافعي عن المدائني : أنه عليه‌السلام لمّا كان خارجا إلى الخوارج جاءه رجل ممن كان مع مقدّمته إليهم يركض نحوه حتّى انتهى إليه وأنهى صوته إليه ينادي : البشرى يا أمير المؤمنين! قال : ما بشراك؟ قال : إن القوم لما بلغهم وصولك عبروا النهر ، فأبشر فقد منحك الله أكتافهم! فقال له : الله! أنت رأيتهم قد عبروا! قال : نعم ، فأحلفه ثلاث مرّات ثمّ قال : والله ما عبروه ولن يعبروه (٢) ، وإن مصارعهم لدون النطفة ، والله لا يفلت منهم عشرة ، ولا يهلك منكم عشرة (٣) لن يبلغوا الأثلاث ولا قصر بوازن حتّى يقتلهم الله ، وقد خاب من افترى!

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦١٧ ـ ٦١٨ عن جندب الأزدي عن أبيه.

(٢) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ٢ : ٢٧١ ـ ٢٧٢ عن كتاب الخوارج للمدائني.

(٣) نهج البلاغة خ ٥٩ وقال : يعني بالنطفة ماء النهروان وهي كناية فصيحة ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٨٢.


ثمّ جاء فارس آخر بمثل قول الأوّل ، فلم يكترث الإمام بقوله ، ثمّ جاء فوارس آخرون بمثل ذلك. فلم يكترث بقولهم (١).

وقال المسعودي : أنه عليه‌السلام كان قد أرسل إليهم رسولا يخبره خبرهم وكان من يهود سواد العراق ، فرجع وأخبره : أن القوم قد عبروا نهر طبرستان! ثمّ قال المسعودي : كان على هذا النهر قنطرة تعرف بقنطرة طبرستان بين بغداد وحلوان من بلاد خراسان (ـ ايران) فقال علي عليه‌السلام : والله ما عبروه ولا يقطعونه حتّى نقتلهم بالرميلة دونه! ثمّ تواترت عليه الأخبار بعبورهم لهذا الجسر وهو يأبى ويحلف أنّهم ما عبروه وأنّ مصارعهم دونه وقال : «سيروا إلى القوم ، فو الله لا يفلت منهم عشرة ، ولا يقتل منكم عشرة» فكان كما قال (٢).

والمفيد في «الإرشاد» لم يرشد إلى مصدر معيّن للخبر وإنما قال : روى أصحاب السيرة عن جندب بن عبد الله الأزدي ... وهو حديث مشهور شايع بين نقلة الآثار ، وقد أخبر به الرجل عن نفسه في عهد أمير المؤمنين وبعده ... قال ـ عن مصاحبته للإمام عليه‌السلام في طريق نهروان ـ : خرجت غدوة بإداوة ماء ومعي رمحي وترسي ، حتّى برزت من الصفوف ، ثمّ ركزت رمحي وعلّقت عليه ترسي استتر به من الشمس وجلست بظلّه ، وإذا أقبل إليّ أمير المؤمنين وقال لي : يا أخا الأزد أمعك طهور؟ قلت : نعم ، ثمّ ناولته الإداوة فمضى بها حتّى لم أره ثمّ أقبل فتنحّيت له فجلس بظلّ الترس ، فإذا فارس كأنّه يسأل عنه فقال لي : أشر إليه. فأشرت إليه فجاء فقال له : يا أمير المؤمنين ؛ إنّ القوم قد عبروا النهر ، فقال : كلّا ما عبروا! قال : بلى والله لقد فعلوا! قال : كلّا ما فعلوا! إذ جاء آخر فقال : يا أمير المؤمنين ، إن القوم

__________________

(١) المصدر الأسبق للمعتزلي عن المدائني.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٤٠٥.


قد عبروا! قال : كلّا ما عبروا! قال : رأيت راياتهم وأثقالهم في ذلك الجانب! قال : والله ما فعلوا! وإنّه لمصرعهم ومهراق دمائهم! ثمّ نهض.

فقلت في نفسي : الحمد لله! هذا أحد رجلين : إمّا رجل على بيّنة من ربّه وعهد من نبيّه وإمّا رجل كذّاب جريء! اللهم إني اعطيك عهدا : إن أنا وجدت القوم لم يعبروا أن اقيم وأتمّ على القتال والمناجزة ، وإن وجدت القوم قد عبروا أن أكون أول من يقاتله ويطعن بالرمح في عينه (١)!

ولعلّ هذا المحلّ هو ما ذكر ابن الأعثم الكوفي في «الفتوح» أن الإمام عليه‌السلام سار حتّى نزل على فرسخين (ـ ١١ كم) من النهروان (أي في منتصف ما بين بغداد والنهروان) ثمّ دعا بغلام له (؟) فقال له : اركب إلى هؤلاء القوم وقل لهم عنّي :

ما الذي حملكم على الخروج عليّ؟ ألم أقصد في حكمهم؟ ألم أعدل في قسمكم ، ألم أقسم فيكم فيئكم؟ ألم أرحم صغيركم؟ ألم أوقّر كبيركم؟ ألم تعلموا أني لم أتّخذكم خولا ولم أجعل ما لكم نفلا؟ وإياك أن تردّ على أحدهم شيئا وإن شتموك فاحتمل ، وانظر ما ذا يردّون عليك.

فردّوا عليه : إنا نخاف أن يردّنا بكلامه الحسن كما ردّ إخواننا بحروراء ، والله تعالى يقول (في قريش) : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)(٢) ومولاك عليّ منهم ، فارجع إليه وأخبره بأن اجتماعنا هاهنا لجهاده ومحاربته لا غير (٣).

__________________

(١) الإرشاد ١ : ٣١٧ ـ ٣١٨ وتمامه : ثمّ وجدنا الأثقال والرايات كما هي وإذا به أخذ بقفاي ودفعني وقال : يا أخا الأزد أتبيّن لك الأمر؟ قلت : أجل يا أمير المؤمنين! قال : فشأنك بعدوّك. وانظر آخر الخبر في شرح النهج للمعتزلي الشافعي ٢ : ٢٧٢ عن المدائني.

(٢) الزخرف : ٥٨.

(٣) الفتوح ٤ : ٢٦١.


احتجاجه عليه‌السلام قبل الالتحام :

ولما استوى الصفّان في النهروان تقدم الإمام عليه‌السلام إليهم وخطبهم فقال : أما بعد ، أيتها العصابة التي أخرجتها عادة المراء والضلالة ، وصدف بها عن الحقّ الهوى والزيغ ، إنّي نذير لكم أن تصبحوا غدا صرعى بأكناف هذا النهر ... بلا بيّنة من ربكم ولا سلطان (برهان) مبين. ألم أنهكم عن هذه الحكومة واحذّركموها ، وأعلمكم أنّ طلب القوم لها دهن منهم ومكيدة؟ فخالفتم أمري وجانبتم الحزم وعصيتموني حتّى أقررت بأن حكّمت ، وأخذت على الحكمين فاستوثقت ، وأمرتهما أن يحييا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن ، فخالفا أمري وعملا بالهوى. فنحن على الأمر الأوّل ، فأين تذهبون وأين يتاه بكم؟!

فقال قائلهم : أمّا بعد ـ يا علي ـ فإنّا حين حكّمنا كان ذلك كفرا منّا! فإن تبت كما تبنا فنحن معك ومنك ، وإن أبيت فنحن منابذوك على سواء (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ)(١).

فقال الإمام عليه‌السلام : أصابكم حاصب ، ولا بقي منكم وابر (٢) أبعد إيماني بالله ، وهجرتي مع رسول الله وجهادي في سبيل الله أقرّ بالكفر؟ لقد ظللت إذا وما أنا من المهتدين. ولكن منيت بمعشر أخفّاء إلهام ، سفهاء الأحلام ، والله المستعان (٣).

__________________

(١) الأنفال : ٥٨.

(٢) الحاصب : العذاب بالحصباء ، وابر النخيل : ملقّحها ومصلحها.

(٣) الأخبار الموفقيات : ٣٢٥ خ ١٨١ ، ورواها الطبري ٥ : ٨٤ عن أبي مخنف ، أطول ، وفي آخر الخبر : ثمّ انصرف. ونقله الرضيّ وزاد هنا : فأوبوا شرّ مآب وارجعوا على أثر الأعقاب ، أمّا إنكم ستلقون بعدي ذلّا شاملا وسيفا قاطعا ، وأثرة يتّخذها الظالمون فيكم سنّة. نهج البلاغة خ ٥٨ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٨١.


يا هؤلاء ، إنّ أنفسكم قد سوّلت لكم فراق هذه الحكومة التي أنتم ابتدأتموها وسألتموها وأنا لها كاره ، وأنبأتكم أنّ القوم سألوكموها مكيدة ودهنا ، فأبيتم عليّ إباء المخالفين ، وعدلتم عنّي عدول النكراء العاصين ، حتّى صرفت رأيي إلى رأيكم ... فلم آت حراما لا أبا لكم!

والله ما ختلتكم عن أموركم ، ولا أخفيت شيئا من هذا الأمر عنكم ، ولا أوطأتكم عشوة ، ولا دنّيت لكم الضرّاء ، وإن كان أمرنا لأمر المسلمين ظاهرا ، فأجمع رأي ملئكم على أن اختاروا رجلين ، فأخذنا عليهما أن يحكما بما في القرآن ولا يعدواه ، فتاها وتركا الحقّ وهما يبصرانه ، وكان الجور هواهما ، وقد سبق استثناؤنا عليهما في الحكم بالعدل والصمد للحق من سوء رأيهما وجور حكمهما ، والثقة بأيدينا حين خالفا سبيل الحقّ وأتيا بما لا يعرف من معكوس الحكم.

فبيّنوا لنا بما ذا تستحلّون قتالنا والخروج من جماعتنا أن اختار الناس رجلين أن تضعوا أسيافكم على عواتقكم ثمّ تستعرضوا الناس تضربون رقابهم وتسفكون دماءهم! إنّ هذا لهو الخسران المبين ، والله لو قتلتم على هذا دجاجة لعظم عند الله قتلها ، فكيف بالنفس التي قتلها عند الله حرام (١)!

وقال لهم : أكلّكم شهد معنا صفّين؟ فقالوا : ومنّا من لم يشهد. فقال عليه‌السلام : فليكن من شهد صفّين فرقة ومن لم يشهدها فرقة ، حتّى اكلّم كلّا منكم بكلامه (فافترقوا ، فقال لمن كان معه في صفّين) : ألم تقولوا عند رفعهم المصاحف حيلة وغيلة ومكرا وخديعة : إخواننا وأهل دعوتنا استقالونا واستراحوا إلى كتاب الله

__________________

ـ وأظنّ الإضافة من موضع آخر ولغير خوارج النهروان فإنّها لا تنسجم مع ما أخبر به عنهم وتحقّق أن سوف لا يبقى منهم إلّا دون العشرة ، فهل هذا الوعيد لهم؟ ولم أجد من تنبّه له.

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٨٤ عن أبي مخنف ، ونقل شطره نهج البلاغة خ ١٧٧.


سبحانه ، فالرأي القبول منهم والتنفيس عنهم؟ فقلت لكم : هذا أمر ظاهره إيمان وباطنه عدوان ، أوّله رحمة وآخره ندامة ، فأقيموا على شأنكم وألزموا طريقتكم ، وعضّوا على الجهاد بنواجذكم ، ولا تلتفتوا إلى ناعق نعق إن اجيب أضلّ وإن ترك ذل (ولكني) رأيتكم أعطيتموها ، والله لئن أبيتها ما وجبت عليّ فريضتها ولا حمّلني الله ذنبها ، وو الله إذ جئتها إني للمحقّ الذي يتّبع ، وإنّ الكتاب لمعي ، ما فارقته مذ صحبته.

ولكنّا إنّما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل ، فإذا طمعنا في خصلة يلمّ الله به شعثنا ونتدانى بها إلى البقية فيما بيننا ، رغبنا فيها وأمسكنا عمّا سواها (١).

فإن أبيتم إلّا أن تزعموا أنّي أخطأت وضللت ، فلم تضلّلون عامّة أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بضلالي وتأخذونهم بخطئي وتكفّرونهم بذنوبي؟! سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء والسقم ، وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب! وقد علمتم أنّ رسول الله رجم الزاني المحصن ثمّ صلّى عليه ثمّ ورّثه أهله ، وقتل القاتل وورّث ميراثه أهله ، وقطع يد السارق ، وجلد الزاني غير المحصن ثمّ قسم عليهما من الفيء ، ونكا المسلمات ، فأخذهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذنوبهم ، وأقام حقّ الله فيهم ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام ، ولم يخرج أسماءهم من بين أهله.

ثمّ أنتم شرار الناس ومن رمى به الشيطان مراميه وضرب به تيهه (تخرجونهم من الإسلام)!

وسيهلك فيّ صنفان : محبّ مفرط يذهب به الحبّ إلى غير الحقّ ، ومبغض مفرّط يذهب به البغض إلى غير الحقّ ، وخير الناس فيّ حالا : النمط الأوسط

__________________

(١) نهج البلاغة خ ١٢٢.


فألزموه ، وألزموا السواد الأعظم فإنّ يد الله مع الجماعة ، وإياكم والفرقة ، فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان كما أن الشاذّ من الغنم للذئب (١).

ألا من دعا إلى هذا الشعار (لا حكم إلّا لله) فاقتلوه ولو كان تحت عمامتي هذه! فإنّما حكّم الحكمان ليحييا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن ، وإحياؤه : الاجتماع عليه وإماتته : الافتراق عنه. فإن جرّنا القرآن إليهم اتّبعناهم وإن جرّهم إلينا اتّبعونا! وإنّما اجتمع رأي ملئكم على اختيار رجلين أخذنا عليهما أن لا يتعدّيا القرآن فتاها عنه وتركا الحقّ وهما يبصرانه ، وكان الجور هواهما فمضيا عليه. وقد سبق استثناؤنا عليهما ـ في الحكومة بالعدل والصمد للحق ـ سوء رأيهما وجور حكمهما (٢).

فما تنقمون منّي؟ وأنا أوّل من آمن بالله ورسوله.

فقالوا : كذلك كنت ولكنّك حكّمت أبا موسى في دين الله!

فقال عليه‌السلام : إنّما حكّمت القرآن ، ولو لا أنّي غلبت على أمري وخولفت في رأيي لما رضيت أن تضع الحرب أوزارها بيني وبين أهل حرب الله حتّى أعلي كلمة الله وأنصر دين الله ولو كره الكافرون والجاهلون (٣).

وخطبهم فقال عليه‌السلام : نحن أهل بيت النبوّة ، وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ، وعنصر الرحمة ، ومعدن العلم والحكمة. نحن أفق الحجاز ، بنا يلحق البطيء وإلينا يرجع التائب.

__________________

(١) إنّما عنى به هنا الخوارج فإنّهم خرجوا وشذّوا عن جماعة السواد الأعظم مع الإمام عليه‌السلام ، وليس المراد به كلّ افتراق عن كلّ سواد أعظم ، كيف وقد قال الله : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) سورة سبأ : ١٣.

(٢) نهج البلاغة خ ١٢٧ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٨٧ وآخرها مرّ عن الطبري ، عن أبي مخنف.

(٣) كتاب التوحيد للصدوق : ٢٢٥ الحديث ٦ بسنده عن الأصبغ بن نباتة.


أيّها القوم ، إنّي نذير لكم أن تصبحوا صرعى بأهضام هذا الوادي ، على غير بيّنة من ربّكم ، ولا سلطان مبين معكم ، قد طوّحت بكم الدار واحتلبكم المقدار.

وقد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة فأبيتم عليّ إباء المخالفين المنابذين ، حتّى صرفت رأيي إلى هواكم ، وأنتم معاشر أخفّاء إلهام سفهاء الأحلام ، فلم آت لا أبا لكم ، بجرا (نكرا) ولا أردت لكم ضرّا (١).

وخطب قيس وأبو أيوب :

ورأى الإمام عليه‌السلام أن يطالبهم بالقتلة منهم فإن رضوا ودفعوهم إليه يتركهم لحرب الشام ، فبعث إليهم قائد مقدّمته قيس بن سعد الأنصاري يقول لهم عنه : ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم نقتلهم بهم ، ثمّ أنا تارككم وكافّ عنكم حتّى ألقى أهل الشام ، فلعلّ الله يقلّب قلوبكم ويردّكم إلى خير ممّا أنتم عليه من أمركم. فقالوا : كلّنا قتلتهم ، وكلّنا يستحلّ دماءهم ودماءكم! فقال لهم قيس :

عباد الله أخرجوا إلينا طلبتنا منكم وادخلوا في هذا الأمر الذي خرجتم منه ، وعودوا بنا إلى قتال عدوّنا وعدوّكم ، فإنّكم ركبتم عظيما من الأمر! تشهدون علينا بالشرك والشرك ظلم عظيم ، وتسفكون دماء المسلمين وتعدّونهم مشركين!

فأجابه عبد الله بن شجرة السلمي قال : لسنا نتابعكم حتّى تأتونا بمثل عمر!

__________________

(١) نقل صدرها المعتزلي الشافعي في شرح النهج ٢ : ٢٨٣ عن أمالي محمد بن حبيب ، أكمل بها الخطبة ٣٦ من نهج البلاغة ، وفيه من : نذير لكم.


فقال قيس : ما نعلمه فينا غير صاحبنا ، فهل تعلمونه فيكم؟

وخطبهم أبو أيوب خالد بن يزيد الأنصاري فقال لهم : عباد الله إنّا وإياكم على الحال الأولى التي كنا عليها (قبل التحكيم) ليست بيننا وبينكم فرقة ، فعلام تقاتلوننا؟

فأجابه بعضهم : لو بايعناكم اليوم حكّمتم غدا!

فقال لهم : انشدكم الله أن تعجّلوا الفتنة مخافة ما يأتي في قابل (١)!

ورفع راية الأمان :

وكان الإمام عليه‌السلام قد دفع راية أمان لأبي أيوب الأنصاري فنشرها ورفعها وناداهم : من جاء هذه الراية منكم ممّن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن ، ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن ، وإنّه لا حاجة لنا ـ بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم ـ في سفك دمائكم.

وكان من رءوس الخوارج فروة بن نوفل الأشجعي ومعه أكثر من خمسمائة ، فلمّا سمع ورأى ذلك قال لأصحابه : والله ما أدري على أيّ شيء نقاتل عليّا؟ لا أرى إلّا أن أنصرف حتّى تنفذ لي بصيرتي في قتاله أو اتباعه! وانصرف فتبعه خمسمائة منهم.

وانصرف مائة منهم إلى علي عليه‌السلام.

وتراجع آخرون منهم إلى الكوفة. وكانوا من قبل أربعة آلاف ، فبقي منهم ألفان وثمانمائة (٢).

__________________

(١) الأخبار الطوال : ٢٠٧ ، وتاريخ الطبري ٥ : ٨٣ عن أبي مخنف.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٨٦ عن أبي مخنف.


وكان من رؤسائهم من تميم البصرة مسعر بن فدكي التميمي فخرج إلى راية أبي أيوب وتبعه منهم ألف رجل.

وكان من رؤسائهم عبد الله بن الحوساء ومعه ثلاثمائة فاعتزل بهم.

وخرج إلى علي عليه‌السلام منهم ثلاثمائة.

واعتزل حوثرة بن وداع الأسدي في ثلاثمائة.

واعتزل أبو مريم السعدي التميمي في مائتين.

حتّى بقي منهم مع عبد الله بن وهب الراسبي ألف وثمانمائة فارس وألف وخمسمائة راجل (١).

فتعبّئوا فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي ، وعلى الميسرة شريح بن أوفى العبسي ، وعلى خيلهم حمزة بن سنان الأسدي ، وعلى الرجّالة حرقوص بن زهير السعدي التميمي ذو الثّدية (٢).

واستعدّ الإمام وبدأ القتال :

وقدم الإمام الخيل وجعل عليهم أبا أيّوب الأنصاري ، وجعل الرماة خلفهم أمام الصفّ الأول من الرجّالة وخلفهم الصف الثاني ، وجعل على الرجّالة أبا قتادة الأنصاري ، وكان معه من الأنصار وأهل المدينة سبعمائة إلى ثمانمائة فجعل عليهم قيس بن سعد الأنصاري. وجعل على ميمنته حجر بن عدي الكندي ، وعلى ميسرته رجلا من تميم معقل بن قيس الرياحي التميمي أو شبث بن ربعي التميمي ، وقال لهم : كفّوا عنهم حتّى يبدءوكم ، فإنّهم لو شدّوا عليكم وجلّهم

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٢٧٩ ط ٢ ج ٤٦١.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٨٥ عن أبي مخنف ، وفي أنساب الأشراف ٢ : ٢٧٩ ط ٢ خ ٤٦١.


رجال لم ينتهوا إليكم إلّا لاغبين وأنتم رادّون حامون (١) ووقف الإمام عليه‌السلام في مضر في القلب (٢).

وتوجّه الإمام إلى أصحابه وناداهم : لو لا أنّني أخاف أن تتكلوا وتتركوا العمل لأخبرتكم بما قضاه الله على لسان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيمن قاتل هؤلاء القوم مستبصرا بضلالهم ، وأنّ «فيهم رجلا مودون (ناقص) اليد ، له كثدي المرأة ، هم شرّ الخلق والخليقة وقاتلهم أقرب الخلق إلى الله وسيلة» (٣).

ونقل الواقدي عنه قال : سمعت رسول الله يقول : يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان ، سفهاء الأحلام ، قولهم من خير أقوال البريّة ، صلاتهم أكثر من صلاتكم ، وقراءتهم أكثر من قراءتكم ، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم أو تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ، فاقتلوهم فإنّ قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة (٤).

ثمّ تنادى الخوارج : الرّواح الرّواح إلى الجنة ثمّ شدّوا على الخيل ، وذلك مع زوال الشمس (٥) فلشدّة شدّتهم فتفترق خيل الإمام فرقتين يمينا وشمالا فاستقبل الرماة وجوههم بالنبل والسهام ، وعطف الخيل عليهم يمينا وشمالا فأحاطوا بهم. فلما رأى ذلك صاحب خيلهم حمزة الأسدي نادى في أصحابه أن يقتحموا عليهم ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٨٥ ـ ٨٦ وأنساب الأشراف ٢ : ٢٧٨ ط ٢ خ ٤٦١.

(٢) الإمامة والسياسة ١ : ١٤٩.

(٣) الإرشاد ١ : ٣١٧ وبهامشه عن مسند أبي يعلى ، وفي مسند أحمد ، وسيأتي تطبيقه. وانظر شرح الأخبار ٢ : ٥٤ الحديث ٤١٥ و ٥٩ الحديث ٤١٩.

(٤) شرح النهج للمعتزلي ٢ : ٢٦٧ عن كتاب صفين للواقدي.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٩٣.


فذهبوا ليقتحموا فحمل عليهم الأسود بن قيس المرادي في خيل علي عليه‌السلام ونهض إليهم الإمام من القلب (١) وحمل بذي الفقار حملة منكرة ثلاث مرات ، يضرب به حتّى يعوجّ متنه فيخرج ويسوّيه بركبتيه ثمّ يحمل (٢).

وبرز إليه قائد رجّالتهم حرقوص السعدي ذو الثدية ومعه ابن عمّه الوضّاح بن الوضّاح كلّ من جانب ، فقتل الإمام الوضّاح والتفت إلى حرقوص فضربه ضربة على رأسه فقطع مغفره ورأسه وأصاب سيفه ظهر الفرس فشرد ورجلا حرقوص في الركاب فذهب به حتّى أوقعه في دولاب خراب على النهر ، فصار الخوارج كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف.

وقتل من أصحاب الإمام تسعة : حبيب بن عاصم والفيّاض بن خليل الأزديان ، ورؤبة بن وبر البجلي ، ورفاعة بن وائل الأرحبي الهمداني ، وكيسوم بن سلمة الجهني (٣) وعبيد بن عبيد الخولاني ، وجميع بن جشم الكندي ، وسعد بن خالد السبيعي الهمداني ، وعبد الله بن حماد الحميري (٤).

وكان قائد خيل الخوارج زيد بن حصين الطائي ، وقائد خيل الإمام أبو أيوب الأنصاري فتبارزا فقتل أبو أيوب زيدا وأتى عليا عليه‌السلام فقال له : يا أمير المؤمنين قتلت زيد بن حصين. قال : فما قلت له وما قال لك؟ قال : طعنته بالرمح في صدره وقلت له : أبشر يا عدوّ الله بالنار! فقال : ستعلم أيّنا أولى بها صليّا ، ونجم الرمح من ظهره! فقال علي عليه‌السلام : هو أولى بها صليّا.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٨٦ عن أبي مخنف ، وفي أنساب الأشراف ٢ : ٢٧٩ ط ٢.

(٢) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ٢ : ٢٨٢ عن أبي عبيدة معمر بن المثنى.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٢٢٠.

(٤) الفتوح لابن الأعثم ٤ : ١٢٧ ، وانظر حاشية أنساب الأشراف ٢ : ٢٨٢ ط ٢.


وجاءه زياد بن خصفة التميمي وهانئ بن خطّاب الأرحبي الهمداني كلّ يقول : أنا قتلت عبد الله بن وهب الراسبي ، فقال لهما : كيف صنعتما؟ فقال كلّ منهما :

يا أمير المؤمنين لما رأيته عرفته فابتدرته فطعنته برمحي. فقال لهما : لا تختلفا كلاكما قاتل (١).

بل قيل : تقدّم عبد الله الراسبي إلى أمير المؤمنين وناداه : يا ابن أبي طالب ، والله لا نبرح من هذه المعركة أو تأتي على أنفسنا أو نأتي على نفسك! فابرز إليّ وأبرز إليك وذر الناس جانبا!

فلمّا سمع الإمام عليه‌السلام كلامه تبسّم وقال : قاتله الله من رجل ما أقلّ حياءه! أمّا إنّه ليعلم أنّي حليف السيف وخدين الرمح ، ولكنّه قد يئس من الحياة ، أو إنّه ليطمع كاذبا!

ثمّ حمل الراسبيّ على عليّ عليه‌السلام فضربه الإمام فقتله وألحقه بأصحابه ، واختلطوا فلم يكن إلّا ساعة حتّى قتلوا بأجمعهم.

وأفلت منهم تسعة نفر : رجلان هربا إلى أرض سجستان (وبهما نسلهما) ورجلان صارا إلى بلاد عمان (وبها نسلهما) ورجلان صارا إلى اليمن (وبها نسلهما وهم الأباضية) ورجلان صارا إلى بلاد الجزيرة إلى موضع يعرف بالبوازيج ، وصار آخر إلى تل موزن (٢).

فقيل للإمام : يا أمير المؤمنين ، هلك القوم بأجمعهم (٣) وكان الحسنان حاضرين فقال أحدهما : الحمد لله الذي أراح أمّة محمّد من هذه العصابة!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٨٧ عن أبي مخنف ، ومختصره في أنساب الأشراف ٢ : ٢٧٩ ط ٢.

(٢) كشف الغمة ١ : ٢٦٧.

(٣) نهج البلاغة خ ٦٠.


فقال الإمام عليه‌السلام : لو لم يبق من أمّة محمّد إلّا ثلاثة لكان أحدهم على رأي هؤلاء ، إنّهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء (١) كلّما نجم منهم قرن قطع حتى يكون آخرهم لصوصا سلّابين (٢) ولا يزالون يخرجون ، حتّى تخرج طائفة منهم بين النهرين الفرات ودجلة ، فيخرج إليهم رجل من ولدي فيقتلهم فلا تخرج بعدها خارجة إلى يوم القيامة (٣).

الغنائم والجرحى وذو الثدية :

قال اليعقوبي : التحمت الحرب بينهم مع زوال الشمس فأقامت بقدر ساعتين من النهار (٤) وكانت غزاتهم في البرد الشديد وكثرت الجراحات في الناس (٥).

وقال الإمام عليه‌السلام في جرحى الخوارج : احملوهم معكم فداووهم. فطلبوهم فوجدوهم أربعمائة رجل ، دفعوا إلى عشائرهم مع ما لهم من عبيد وإماء ومتاع ، وما شهدوا به وعليه الحرب من السلاح والدوابّ قسّمه بين المقاتلين ، واشتغل ناس بدفن قتلاهم (٦).

وقال لهم : اطلبوا في القتلى رجلا أخدج إحدى يديه (قاصرة ناقصة) ليست

__________________

(١) موسوعة الإمام علي ٦ : ٣٨٣.

(٢) نهج البلاغة خ ٦٠ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٨٢.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٤٠٧ ، وشرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي المصري ٢ : ٦٢ ، الحديث ٤٢٦.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٩٣.

(٥) الغارات ١ : ٢٧ ـ ٢٨.

(٦) تاريخ الطبري ٥ : ٨٨.


له ذراع ولا كف ، على موضع عضده مثل ثدي المرأة في طرفه حلمة كحلمة الثدي ، عليها سبع شعرات طوال ، فالتمسوه فلم يجدوه فأخبروه فما اشتدّ عليه شيء كما اشتدّ عليه ذلك وقال : اطلبوه فو الله ما كذبت ولا كذبت ، وإنّه لفيهم (١).

ولمّا عيل صبره عليه‌السلام في طلب المخدج ذي الثدية قال لأصحابه : ايتوني ببغلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّها هادية! فاتي بها فركبها وسار وتبعه ناس منهم ، فأخذ ينظر في القتلى ويقول لهم : اقلبوا هذا ، فيقلبون قتيلا عن قتيل حتّى وقفت البغلة به على المخدج ذي الثدية تحت قتلى كثيرين في الماء ... وللماء خرير بهم في موضع دالية خربة متروكة ، وجرّ برجل آخرهم حتّى صار في التراب ، فإذا هو المخدج ذو الثدية ، فرفع علي عليه‌السلام صوته بالتكبير فكبّر الناس معه (٢) ثمّ ثنى رجله من ركاب البغلة الشهباء فنزل وخرّ ساجدا شكرا لله (٣).

وشقّ قميصه فكان على كتفه غدّة كبيرة كثدي المرأة عليها شعرات ، إذا جدبت انجذب كتفه معها ، وإذا تركت رجع كتفه إلى موضعه ، فكبّر عليه‌السلام وقال : إنّ في هذا لعبرة لمن استبصر (٤)!

__________________

(١) شرح الأخبار للمصري ٢ : ٦١ ـ ٦٢ ، الحديث ٤٢٣.

(٢) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ٢ : ٢٧٦ عن كتاب صفين لابن ديزيل وغيره.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٤٠٦.

(٤) الإرشاد ١ : ٣١٧ وكأنّ هذه الآية في ذي الثدية والحديث النبوي فيه كانت بلغت النابغة عمرو بن العاص ، وكأنّه التقى بعدها بعائشة فسألته عن ذلك فادّعى لها أنه قتله هو على نيل مصر! وكان ممّن شهد النهروان مع الإمام عليه‌السلام مسروق بن الأجدع الوداعي الهمداني ، وكانت النهروان في التاسع من شهر صفر (٣٨ ه‍) وخرج الرجل بعدها من الكوفة يريد الحجّ قال : فمررت بعائشة فدخلت عليها فسألتني ممّن الرجل؟ فقلت : من العراق ، قالت : إنّي أسألك عن أمر لا تقل فيه : بلغني ولا قيل لي ، فإنّ ذلك قد يشوبه الكذب ،


ثمّ قال عليه‌السلام : اقطعوا يده المخدجة (الناقصة) وأتوني بها ، فقطعوها وأتوه بها

__________________

ـ فلا تخبرني إلّا عمّا رأته عيناك وسمعته اذناك! قلت : سلي عمّا شئت يا أمّ المؤمنين ، فإنّي لا اخبرك إلّا بما رأيت وسمعت. قالت : شهدت حروب عليّ؟ قلت : شهدت جميعها. قالت : فصف لي الموضع الذي اصيب فيه الخوارج. فقلت : أصبناهم بين أخافيق وأودية بقرب بناء لبوران بنت كسرى بجانب نهر يقال لأسفله النهروان ولأعلاه تامرّا ، قالت : فأصبتم فيهم ذا الثدية؟ قلت : نعم أصبناه رجلا أسود له يد كثدي المرأة إذا مدّت امتدّت وإذا تركت تقلّصت (شرح الأخبار ٢ : ٦٤ الحديث ٤٢٨) فقالت : إذا أتيت الكوفة فاكتب لي بأسماء من شهد ذلك ممّن يعرف من أهل البلد. قال : فلمّا رجعت إلى الكوفة كتبت من كل سبع منهم عشرة ممّن شهد ذلك ممّن نعرفه ، ثمّ أتيتها بشهادتهم ـ ولعلّه كان في الحجّ سنة (٣٩ ه‍) ـ فلمّا رأت الشهادات قالت : لعن الله عمرو بن العاص ، فإنّه زعم أنّه هو قتله على نيل مصر (شرح الأخبار ٢ : ٦٠ الحديث ٤٢١) قلت : يا أمّاه! وما أردت بسؤالك عن ذلك؟ قالت : لخير! قلت : فإنّي أسألك بحقّ رسول الله ألا أخبرتني به! قالت : سبحان الله ، سمعت رسول الله يقول : هم شرّ الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة وأقربهم عند الله وسيلة يوم القيامة (شرح الأخبار ٢ : ٦٥ ، الحديث ٤٢٨) ثمّ قالت : أفترى قوله في ذي الثدية : اطلبوه فو الله ما كذبت ولا كذبت؟ قلت : إي والله! قالت : وترى قول علي : «والله ما عبروا النهر ولا يعبرونه» حقّا؟ قلت : إي والله حقّ! قالت : والله إني لأعلم أنّ الحقّ مع علي! ولكنّي كنت امرأة من الأحماء! (شرح الأخبار ٢ : ٦٣ ـ ٦٤ ، الحديث ٤٢٧) وخبره في مسند أحمد قال : قالت : ابغني على ذلك بيّنة فأقمت رجالا شهدوا عندها بذلك. فقلت لها : أسألك بصاحب القبر ما سمعت من رسول الله فيهم؟ قالت : نعم ، سمعته يقول : إنّهم شرّ الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة وأقربهم عند الله وسيلة. وعن كتاب صفين للمدائني عنه قال : ثمّ قالت : لعن الله عمرو بن العاص! فإنّه كتب إليّ يخبرني أنّه قتله بالاسكندرية! ألا إنّه ليس يمنعني ما في نفسي أن أقول ما سمعته من رسول الله يقول : يقتله خير أمّتي من بعدي! شرح النهج للمعتزلي الشافعي ٢ : ٢٦٧ ـ ٢٦٨.


فأخذها ورفعها وقال : ما كذبت ولا كذبت (١) ثمّ رفع بعضهم هذه اليد المخدجة ونصبها على رمح ليراها الناس. وبعد أن صلّوا العصر جعل الإمام عليه‌السلام يكثر من قول : صدق الله وبلّغ رسوله ، وجعل أصحابه يردّدون ذلك معه حتى قرب الغروب (٢).

وقال عليه‌السلام وهو ينظر قتلى الخوارج : بؤسا لكم! لقد ضرّكم من غرّكم!

فقيل : يا أمير المؤمنين ، ومن غرّهم؟ قال : الشيطان المضلّ ، والأنفس الأمّارة بالسوء. غرّتهم بالأماني وفسحت لهم بالمعاصي ، ووعدتهم الإظهار فاقتحمت بهم في النار (٣)!

ثمّ أراد المسير إلى الشام :

روى الثقفي قال : لمّا فرغ الإمام عليه‌السلام من قتال الخوارج في النهروان قام في أصحابه خطيبا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثمّ قال : «أمّا بعد ، فإنّ الله قد أحسن إليكم فأعزّ نصركم ، فتوجّهوا من فوركم هذا إلى عدوّكم من أهل الشام (٤) إلى معاوية وأشياعه القاسطين ، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا ، فبئسما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون» (٥).

وكانت الغزوة في البرد الشديد ... وكان أهل النهروان قد أكثروا الجراحات في الناس (٦).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٩٢.

(٢) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ٢ : ٢٧٦ عن كتاب صفين لابن ديزيل.

(٣) نهج البلاغة خ ٣٢٣ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٤٠٧ ، الحكمة : ١٨٥.

(٤) الغارات ١ : ٢٣ ـ ٢٤.

(٥) الامامة والسياسة ١ : ١٤٩.

(٦) الغارات ١ : ٢٧ ـ ٢٨.


وكان الأشعث الكندي جهير الصوت (١) فرفع صوته وقال : يا أمير المؤمنين نفدت نبالنا ، وكلّت سيوفنا ، ونصلت أسنّة رماحنا (خرجت منها) وتكسّر أكثرها! فارجع بنا إلى مصرنا نستعدّ بأحسن عدّتنا ، ولعلّ أمير المؤمنين يزيد في عدّتنا ... فإنّه أقوى لنا على عدوّنا ....

فقال عليه‌السلام : يا معشر المهاجرين! ادخلوا الأرض المقدّسة التي كتب الله لكم ، ولا ترتدّوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين! فقالوا : يا أمير المؤمنين ، البرد شديد! فقال : إن القوم يجدون البرد كما تجدون ... فأبوا وشكوا البرد والجراحات ، فقال عليه‌السلام : إنّ عدوّكم يألمون كما تألمون ويجدون البرد كما تجدون. فأبوا!

فلمّا رأى كراهيتهم قال : افّ لكم! إنّها سنّة جرت عليكم. ورجع إلى نخيلة الكوفة (٢).

وتمرّدت غنىّ وباهلة فأجلاهما :

روى الثقفي قال : كان الإمام عليه‌السلام حين سار من الكوفة استخلف عليها هانئ بن هوذة النخعي ، وكان ممّن تخلّف عنه عن صفين واليوم رجال من غنى وباهلة ، فبلغ هانئا أنّهم يدعون على علي عليه‌السلام أن يظفر به عدوّه! فكتب بذلك إلى الإمام عليه‌السلام فكتب إليه : أن ينفيهم من الكوفة ويؤجّلهم لذلك ثلاثة أيّام! ولكنّه كأنّه لم يمكنه ذلك حتّى عاد الإمام عليه‌السلام فقال : ادعوا لي غنيّا وباهلة و... فليأخذوا أعطياتهم! فوالذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ما لهم في الإسلام نصيب ، وإنّي لشاهد عليهم في منزلي عند الحوض والمقام المحمود : أنّهم أعدائي ، في الدنيا والآخرة! ولئن ثبتت

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٢٨٧.

(٢) الغارات ١ : ٢٤ ـ ٢٩.


قدماي لابهرجنّ ستين قبيلة ما لهم في الإسلام نصيب! فلمّا رآهم قال لهم : يا باهلة! خذوا حقّكم مع الناس ، والله يشهد أنّكم تبغضوني وأنّي ابغضكم (١)!

في نخيلة الكوفة :

روى الثقفي قال : أقبل الإمام عليه‌السلام حتى نزل النخيلة فأمرهم أن يعسكروا بها وأن يلزموا معسكرهم ويوطّنوا أنفسهم على الجهاد ، وأن يقنعوا من زيارة نسائهم وأبنائهم بالقليل حتّى يسيروا إلى عدوّهم. فأقاموا معه أيّاما ثمّ أخذوا يتسلّلون ويدخلون الكوفة ولا يعودون إليه (٢).

ودخل الكوفة وخطبهم :

روى الثقفي قال : من دخل الكوفة لم يخرج إليه ، ومن أقام معه لم يصبر ، فلمّا رأى تفرّق الناس عنه دخل الكوفة ليستنفرهم لجهاد عدوّهم ، فكان أوّل كلام له أن قال :

يا أيّها الناس ، استعدّوا إلى عدوّ في جهادهم القربة من الله وطلب الوسيلة إليه ، حيارى عن الحقّ لا يبصرونه ، وموزّعين بالكفر والجور لا يعدلون به ، جفاة عن الكتاب ، نكب عن الدين ، يعمهون في الطغيان ، ويتسكّعون في غمرة الضلال ، فاعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ، وتوكّلوا على الله وكفى بالله وكيلا وكفى بالله نصيرا.

__________________

(١) الغارات ١ : ١٧ ـ ٢٢ هذا ، وقد مرّ خبر عن «وقعة صفين» حين خروج الإمام إليها وكان فيه : «فخذوا عطاءكم واخرجوا إلى الديلم. وكانوا كرهوا أن يخرجوا معه إلى صفين» فلعلّ الصحيح : الخروج إلى الشام للمرّة الثانية ، وهي هذه المرّة ، وهذا أقرب وأنسب.

(٢) الغارات ١ : ٢٩ ـ ٣١.


ثمّ تركهم أيّاما ثمّ دعا رءوسهم ووجوههم فسألهم : ما الذي يثبّطهم؟ فمنهم المعتلّ ومنهم المنكر ، وأقلّهم النشيط ، فقام فيهم ثانية وقال لهم :

عباد الله ، ما لكم إذا أمرتكم أن تنفروا (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ)(١) ثوابا ، وبالذلّ والهوان من العزّ خلفا؟ أو كلّما ناديتكم إلى الجهاد دارت أعينكم ، كأنّكم من الموت في سكرة! يرتج عليكم فتبكمون ، فكأنّ قلوبكم مألوسة فأنتم لا تعقلون! وكأنّ أبصاركم كمه فأنتم لا تبصرون! لله أنتم! ما أنتم إلّا اسود الشرى في الدّعة ، وثعالب روّاغة حين تدعون ، ما أنتم بركن يصال به ، ولا زوافر عزّ يعتصم بها. لعمرو الله ، لبئس حشّاش نار الحرب أنتم ، إنّكم تكادون ولا تكيدون ، وتنتقص أطرافكم ولا تتحاشون (٢) ولا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون.

إنّ أخا الحرب اليقظان ، أودى من غفل ، ويأتي الذلّ من وادع ، غلب المتخاذلون ، والمغلوب مقهور ومسلوب.

أمّا بعد ، فإنّ لي عليكم حقّا ولكم عليّ حقّ ، فأمّا حقّي عليكم : فالوفاء بالبيعة ، والنصح لي في المشهد والمغيب ، والإجابة حين أدعوكم ، والطاعة حين آمركم.

وإنّ حقّكم عليّ : النصيحة لكم ما صحبتكم ، والتوفير عليكم ، وتعليمكم كيلا تجهلوا ، وتأديبكم كي تعلموا ، فإن يرد الله بكم خيرا وتنزعوا عمّا أكره وترجعوا إلى ما احبّ ، تنالوا ما تحبّون وتدركوا ما تؤمّلون (٣).

__________________

(١) سورة التوبة : ٣٨.

(٢) القدر المتيقن يومئذ من انتقاص أطرافهم انتقاص بلاد الشام بمعاوية قبل غاراته.

(٣) الغارات ١ : ٣٣ ـ ٣٨ وذكر المحقّق مصادر اخرى ، وفي نهج البلاغة خ ٣٤ ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٧٩ ولو لا نصّ المصادر أنّها أوّل خطبة في الكوفة بعد النهروان لقلنا إنّها كانت في خضمّ الغارات.


وخطبة اخرى له عليه‌السلام :

كان ذلك أوّل كلام للإمام عليه‌السلام على نصّ خبر الثقفي وغيره.

وقال اليعقوبي : لما قدم عليّ الكوفة قام خطيبا ، فبعد حمد الله والثناء عليه والتذكير لنعمه والصلاة على محمد ، وذكره بما فضّله الله به قال : أمّا بعد ، أيّها الناس ، فأنا فقأت عين الفتنة ، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري ، ولو لم أكن فيكم ما قوتل الناكثون ولا القاسطون ولا المارقون.

ثمّ قال : سلوني قبل أن تفقدوني ، فإنّي عمّا قليل مقتول ، فما يحبس أشقاها أن يخضبها بدم أعلاها ، فوالذي فلق البحر (والحبّة) وبرأ النسمة لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ، ولا عن فتنة تضلّ مائة أو تهدي مائة إلّا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها إلى يوم القيامة.

إنّ القرآن لا يعلم علمه إلّا من ذاق طعمه ، وعلم بالعلم جهله ، وأبصر عمله ، واستمع صممه وأدرك به مأواه ، وحيي به إن مات ، فأدرك به الرضا من الله.

فاطلبوا ذلك عند أهله فإنّهم في بيت الحياة ومستقرّ القرآن ومنزل الملائكة ، وأهل العلم الذين يخبركم عملهم عن علمهم ، وظاهرهم عن باطنهم ، هم الذين لا يخالفون الحقّ ولا يختلفون فيه ، قد مضى فيه من الله حكم صادق وفي (ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ)(١).

أمّا إنّكم ستلقون بعدي ذلّا شاملا ، وسيفا قاتلا ، وأثرة قبيحة ، يتّخذها الظالمون عليكم سنّة تفرّق جموعكم ، وتبكّي عيونكم ، وتدخل الفقر في بيوتكم ، وستذكرون عن قليل ما أقول لكم ، ولا يبعد الله إلّا من ظلم (٢)!

__________________

(١) هود : ١١٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٩٣.


أنا يعسوب المؤمنين ، وأول السابقين ، وأوّل المتّقين ، وخاتم الوصيّين ، ووارث النبيّين ، وخليفة ربّ العالمين. أنا ديّان الناس يوم القيامة ، وقسيم الله بين أهل الجنّة والنار ، وأنا الصدّيق الأكبر ، والفاروق (الأعظم) الذي يفرّق به بين الحقّ والباطل. وإن عندي علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب. وما من آية إلّا وقد علمت فيم نزلت وأين نزلت وعلى من نزلت!

فقام إليه رجل وقال له : يا أمير المؤمنين ، أخبرنا عن البلايا.

فقال عليه‌السلام : إذا سأل سائل فليعقل ، وإذا سئل مسئول فليتثبّت. إنّ من ورائكم امورا متلجلجة مجلجلة ، وبلاء مكلحا مبلحا (١) والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة : لو قد فقدتموني ونزلت عزائم الامور وحقائق البلاء لأطرق كثير من السائلين واشتغل كثير من المسئولين ، وذلك إذا ظهرت حربكم وكشفت عن ناب وقامت على ساق ، وصارت الدنيا بلاء عليكم ، حتى يفتح الله لبقيّة الأبرار.

فقام إليه رجل آخر وقال له : يا أمير المؤمنين : حدّثنا عن الفتن.

فقال عليه‌السلام : إن الفتن إذا أقبلت أشبهت ، وإذا أدبرت أسفرت ، لها موج كموج البحر ، وإعصار كإعصار الريح ، تصيب بلدا وتخطى آخر ، فانتظروا أقواما كانوا أصحاب الرايات يوم بدر فانصروهم تنصروا وتؤجروا وتعذروا.

ثمّ أخذ يحذّرهم بتخويفهم من فتنة بني امية عسى أن يبعثهم على معونته عليهم فقال :

ألا إنّ أخوف الفتن عليكم من بعدي فتنة بني امية ، إنها فتنة عمياء صمّاء مطبقة مظلمة ، خصّت بليّتهما وعمّت فتنتها ... أهل باطلها ظاهرون على أهل حقّها ، يملئون الأرض بدعا وظلما وجورا ، وأوّل من يضع جبروتها ويكسر عمودها وينزع أوتادها الله رب العالمين وقاصم الجبارين. ألا وإنّكم ستجدون بني امية

__________________

(١) أي : مفزعة ومعجّزة.


أرباب سوء بعدي (كالناقة) الضروس تعضّ بفيها وتخبط بيديها وتضرب برجليها وتمنع درّها. وايم الله لا تزال فتنتهم حتى لا تكون نصرة أحدكم لنفسه إلّا كنصرة العبد السوء لنفسه من سيّده غاب سبّه سبّه وإذا حضر أطاعه ، وايم الله لو شرّدوكم تحت كل كوكب لجمعكم الله لشرّ يوم لهم.

فقال الرجل : فهل من جماعة ـ يا أمير المؤمنين ـ بعد ذلك؟

فقال عليه‌السلام : إنّكم ستكونون جماعة (متشتّتين) عطاؤكم وأسفاركم (للغزو) وحجّكم واحد ، والقلوب مختلفة! فقال أحدهم : وكيف تختلف القلوب؟ فشبّك أصابعه وقال : هكذا ، يقتل هذا هذا وهذا هذا هرجا هرجا ، ويبقى طغام جاهلية ، ليس فيها منار هدى ولا علم يرى! نحن أهل البيت منها بمنجاة ، ولسنا فيها بدعاة.

فقال الرجل : فما أصنع في ذلك الزمان؟

قال عليه‌السلام : انظروا أهل بيت نبيّكم : فإن لبدوا (وأقاموا) فالبدوا ، وإن استنصروكم فانصروهم تنصروا وتعذروا ، فإنّهم لن يخرجوكم من هدى ولن يردّوكم في ردى ، ولا تسبقوهم فيصرعكم البلاء وتشمت بكم الأعداء!

قال الرجل : فما يكون بعد ذلك يا أمير المؤمنين؟

قال عليه‌السلام : يفرّج الله البلاء برجل من أهل بيتي كانفراج الأديم ، يسومهم خسفا ، ويسقيهم بكأس مصبّرة ، ولا يعطيهم ولا يقبل منهم إلّا السيف هرجا هرجا ، يحمل السيف على عاتقه ثمانية أشهر ، حتى تودّ قريش بالدنيا وما فيها أن يروني مقاما واحدا فاعطيهم وآخذ منهم بعض ما قد منعوني ، وأقبل منهم ما يردّه عليهم ، حتى يقولوا : لو كان هذا من ولد فاطمة لرحمنا! يغريه الله ببني امية فيجعلهم تحت قدميه ويطحنهم طحن الرحى ، (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً* سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً)(١).

__________________

(١) الأحزاب : ٦١ ـ ٦٢.


ألا وإنّ أبرار عترتي وأطائب أرومتي أحلم الناس صغارا وأعلمهم كبارا ، معنا راية الحقّ والهدى ، من سبقها مرق ومن خذلها محق ومن لزمها لحق. إنّا أهل بيت من علم الله علمنا ، ومن حكم الله الصادق قبلنا ، ومن قول صادق سمعنا ، فإن تتّبعونا تهتدوا ببصائرنا ، وإن تتولّوا عنّا يعذّبكم الله ، بأيدينا أو بما شاء.

فإنّ الله خلق الخلق بقدرته ، وجعل فيهم الفضائل بعلمه ، واختار منهم عبادا لنفسه ليحتجّ بهم على خلقه ، فجعل علامة من أكرم منهم طاعته ، وعلامة من أهان منهم معصيته ، وجعل ثواب أهل طاعته النضرة في وجهه في دار الأمن والخلد الذي لا يراع أهله ، وجعل عقوبة أهل معصيته نارا تتأجّج لغضبه (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(١).

يا أيها الناس ، إنّا أهل بيت بنا ميّز الله الكذب ، وبنا يفرّج الله الزمان الكلب ، وبنا ينزع الله ربق الذلّ من أعناقكم ، وبنا فتح الله وبنا يختم! فاعتبروا بنا وبعدوّنا ، وبهدانا وبهداهم ، وبسيرتنا وسيرتهم ، وميتتنا وميتتهم.

أما والله لقد علمت تبليغ الرسالات ، وتنجيز العدات ، وتمام الكلمات ، وفتّحت لي الأسباب ، وعلّمت الأنساب ، واجري لي السحاب! ونظرت في الملكوت فلم يعزب عني شيء فات ، ولم يفتني ما سبقني ، ولا يشركني أحد فيما يشهدني ربي يوم يقوم الأشهاد ، وبي يتمّ الله موعده ويكمّل كلماته ، وأنا النعمة التي أنعمها الله على خلقه ، والإسلام الذي ارتضاه لنفسه ، كلّ ذلك من منّ الله به عليّ وأذلّ به منكبي ، وليس إمام إلّا وهو عارف بأهل ولايته.

__________________

(١) النحل : ٣٣.


والتفت عليه‌السلام إلى بنيه حوله فقال لهم : يا بنيّ ، ليبرّ صغاركم كباركم ، وليرحم كباركم صغاركم ، ولا تكونوا أمثال الجهّال الذين لا يطيعون الله في اليقين.

ثمّ قال : ألا ويح لفراخ آل محمّد من خليفة يستخلف عتريف مترف ، يقتل خلفي وخلف الخلف بعدي! ثمّ تلا قول سبحانه : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)(١) ثمّ نزل من المنبر (٢).

كان ذلك كلّه في شهر صفر سنة (٣٨ ه‍) وفيه كان مقتل الأشتر وابن أبي بكر وسقوط مصر (٣) ، فإلى ذلك.

[غارات معاوية]

وبدأت غارات معاوية :

لعلّ مع تولية عثمان للوليد بن عقبة على الكوفة خرج إليها مع الوليد أخوه عمارة ولكنّه لم يخرج منها معه ، بل بقي فيها حتى أمسى فيما بعد عينا لمعاوية بها على علي عليه‌السلام.

فلمّا رأى ما رأى من عودة الإمام إلى الكوفة وتشتّت شمله كتب إلى معاوية يبشّره بذلك :

أمّا بعد ، فإنّ عليّا خرج عليه علية أصحابه وقرّاؤهم ونسّاكهم فخرج إليهم فقتلهم ، وقد فسد عليه جنده ، وأهل مصره (الكوفة) ووقعت بينهم العداوة وتفرّقوا أشدّ الفرقة ، فأحببت إعلامك لتحمد الله! والسلام.

__________________

(١) الرعد : ٧.

(٢) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٧١٢ ـ ٧١٧ ، الحديث ١٧ ، وتخريجه ٣ : ٩٨١ ، ونهج البلاغة خ ٩٣ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٨٤ ، والغارات ١ : ٥ ـ ١٣ ، وشرح الأخبار ٢ : ٣٩ ، الحديث ٤١٠.

(٣) الطبري ٥ : ١٠٥.


وكان عبد الله بن مسعدة الفزاري صبيّا من سبي بني فزارة على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فوهبه لابنته فاطمة ، فكان عندها وعند علي عليهما‌السلام ، ثمّ خرج مع جنود الفتوح إلى الشام فلحق بمعاوية ، فصار من أشدّ الناس على علي عليه‌السلام! فروى الثقفي الخبر عنه قال : كنّا مع معاوية معسكرين خارج دمشق وقد بلغنا أمر الخوارج ولم يبلغنا ما بعده ، فكنّا نتخوّف أن يفرغ علي من الخوارج عليه ثمّ يقبل إلينا ، إذ جاءنا كتاب عمارة بن عقبة من الكوفة ، فقرأه معاوية عليّ وعلى أخيه عتبة بن أبي سفيان والوليد بن عقبة أخي عمارة ، وأبي الأعور السلمي ، ثمّ نظر إلى الوليد وقال له : لقد رضي أخوك أن يكون عينا لنا! فضحك الوليد وقال : إنّ في ذلك لنفعا!

وهنا بدأ معاوية بقرار الغارات على أطراف حكومة الإمام عليه‌السلام ، فبدأها بالإغارة من معسكره يومئذ خارج دمشق ، وكان قد جعل الضحّاك بن قيس الفهري أميرا على شرطته ، فدعاه وضمّ إليه خيلا ما بين الثلاثة إلى أربعة آلاف فارس ، وقال له : سر حتى تمرّ بمرتفعات نواحي الكوفة ، فإن وجدت له مسلحة أو خيلا فأغر عليهما ، وإذا أصبحت في بلدة فأمس في اخرى ، وإذا بلغك أنّ خيلا سرّحت إليك فلا تقيمنّ لتلقاها ، ومن وجدته من الأعراب في طاعة عليّ فأغر عليه!

فخرج الضحّاك بهم ـ وهو من صغار الصحابة ـ يقتل من يلقى من الأعراب ويأخذ ماله! حتى مرّ على طريق الحجاز للعراق بين الثعلبية إلى القطقطانة ، وكان ذلك في أواخر شهر صفر عند عودة حجّاج الكوفة ، فأغار عليهم وأخذ أمتعتهم! حتّى لقي عمرو بن عميس ابن أخ عبد الله بن مسعود الذهلي الصحابي ، فقتله ومن معه من أصحابه! وعاد على أدراجه (١) فخطب الإمام ثالث خطبة.

__________________

(١) الغارات ٢ : ٤١٨ ـ ٤٢٢ متنا وهامشا.


وجهّز الإمام حجرا للفهري :

وبلغ ذلك الإمام عليه‌السلام فخرج حتّى رقى المنبر فقال لهم فيما قال : «يا أهل الكوفة ، اخرجوا إلى العبد الصالح عمرو بن عميس ، وإلى جيوش لكم قد اصيب طرف منها ، اخرجوا فقاتلوا عدوّكم وامنعوا حريمكم إن كنتم فاعلين». فلم يردّوا عليه ردّا جميلا فقال لهم : «والله لوددت أنّ لي بكلّ مائة منكم رجلا منهم ، ويحكم اخرجوا معي ثمّ فرّوا عنّي إن بدا لكم ، فو الله ما أكره لقاء ربي على نيّتي وبصيرتي ، وفي ذلك روح لي عظيم وفرج من مناجاتكم ومقاساتكم ومداراتكم مثل ما تدارى البكار العمدة ، والثياب المتهرّئة ، كلّما خيطت من جانب تهتّكت على صاحبها من جانب آخر» ثمّ نزل.

ثمّ دعا حجر بن عدي الكندي فعقد له راية على أربعة آلاف ، ثمّ سرّحه ، فخرج يتعقّب الضحّاك بن قيس الفهري نحو السماوة ، ولقي بها امرأ القيس بن عديّ الكلبي صهر الحسين بن علي عليهما‌السلام فدلّوه على مياه الطريق ، فلم يزل في أثر الضحّاك حتّى لقيه في بريّة الشام نحو تدمر (قبل حلب بخمسة أيام) فتواقفوا وتقاتلوا مساء حتى قتل من أصحاب الضحّاك تسعة عشر رجلا ومن أصحاب حجر رجلان وقرب المساء فحجز الليل بينهما ، فلمّا أصبح أصحاب حجر لم يجدوا لجيش الفهري أثرا (١) فعاد حجر إلى الكوفة.

كتاب عقيل وجوابه :

ويظهر أنّ الخبر عن غارة الضحّاك الفهري شاع أو أشاعه شيعة معاوية بأن أخذوا يتحدّثون للناس : أن الضحّاك أغار على الحيرة فاحتمل من أموالهم ما شاء

__________________

(١) الغارات ٢ : ٤٢٣ ـ ٤٢٦.


ثمّ انكفأ راجعا سالما! ممّا يهوّل الخذل في أهل الكوفة ، ووصل هذا القول إلى مكة ، وسمع به عقيل بن أبي طالب ، وكان حتّى ذلك الحين بالحجاز ، فكتب إلى الإمام عليه‌السلام يقول : لعبد الله علي أمير المؤمنين من عقيل بن أبي طالب ، سلام عليك ، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو ، أمّا بعد ، فإنّ الله حارسك من كل سوء وعاصمك من كل مكروه وعلى كل حال إنّي خرجت إلى مكة معتمرا ... فلمّا قدمت مكة سمعت أهلها يتحدّثون : أن الضحّاك بن قيس أغار على الحيرة فاحتمل من أموالهم ما شاء ثمّ انكفأ سالما! فافّ لحياة في دهر جرّأ عليك الضحّاك ، وما الضحّاك؟ فقع بقرقرة! وقد توهّمت حيث بلغني ذلك : أنّ شيعتك وأنصارك خذلوك! فاكتب إليّ يا ابن أمّي برأيك ، فإن كنت الموت تريد تحمّلت إليك ببني أخيك وولد أبيك فعشنا معك ما عشت ومتنا معك إذا مت! فو الله ما أحبّ أن أبقى في الدنيا بعدك فواقا (بين الحلبتين) وأقسم بالأعز الأجل إنّ عيشا نعيشه بعدك في الدنيا لغير هنيء ولا مريء ولا نجيع! والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. وأرسل بالكتاب مع عبد الرحمن بن عبيد بن أبي الكنود الأزدي الكوفي.

فأجابه الإمام عليه‌السلام يقول : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عقيل بن أبي طالب ، سلام عليك ، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو ، أمّا بعد ، كلأنا الله وإيّاك كلاءة من يخشاه بالغيب إنه حميد مجيد. وقد وصل إليّ كتابك مع عبد الرحمن بن عبيد الأزدي تذكر فيه : أنّك لقيت عبد الله بن سعد بن أبي سرح مقبلا من قديد في نحو من أربعين شابّا من أبناء الطلقاء متوجّهين إلى المغرب (الشام). وإنّ ابن أبي سرح طالما كاد الله ورسوله وكتابه وصدّ عن سبيله وبغاها عوجا ، فدع ابن أبي سرح ودع عنك قريشا وخلّهم وتركاضهم في الضلال ، وتجوالهم في الشقاق! ألا وإنّ العرب قد اجتمعت على حرب أخيك اليوم اجتماعها على حرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل اليوم! فأصبحوا قد جهلوا حقّه وجحدوا فضله وبادوه بالعداوة ونصبوا له الحرب


وجهدوا عليه كلّ الجهد وجرّوا عليه جيش الأحزاب! اللهمّ فاجز قريشا عنّي الجوازي فقد قطعت رحمي وتظاهرت عليّ ودفعتني عن حقّي ، وسلبتني سلطان ابن أمّي ، وسلّمت ذلك إلى من ليس مثلي في قرابتي من الرسول وسابقتي في الإسلام ، إلّا أن يدّع مدّع ما لا أعرفه ، ولا أظنّ الله يعرفه ، والحمد لله على كلّ حال.

وأمّا ما ذكرت من غارة الضحّاك على أهل الحيرة ، فهو أقلّ وأذلّ من أن يلمّ بها أو يدنو منها ، ولكنّه أقبل في جريدة خيل فأخذ على السماوة حتّى مرّ بواقصة وشراف والقطقطانة فما والى ذلك الصّقع ، فوجّهت إليه جندا كثيفا من المسلمين ، فلمّا بلغه ذلك فرّ هاربا ، فلحقوه ببعض الطريق وقد أمعن ، وكان ذلك حين طفلت الشمس للإياب ، فتناوشوا القتال قليلا كلا ولا ، فلم يصبر لوقع المشرفية وولى هاربا ، وقتل من أصحابه تسعة عشر رجلا ونجا جريحا بعد ما أخذ منه بالمخنق ولم يبق منه إلّا الرمق ، فلأيا بلأي ما نجا.

وأمّا ما سألتني أن اكتب إليك برأيي فيما أنا فيه ، فإنّ رأيي جهاد المحلّين حتى ألقى الله ، لا يزيدني كثرة الناس معي عزّة ولا تفرّقهم عنّي وحشة ، لأنّي محقّ والله مع الحقّ ، والله ما كرهت الموت على الحقّ ، وما الخير كلّه بعد الموت إلّا لمن كان محقّا.

وأمّا ما عرضت به عليّ من مسيرك إليّ ببنيك وبني أبيك ، فلا حاجة لي في ذلك ، فأقم راشدا محمودا ، فو الله ما أحبّ أن تهلكوا معي إن هلكت ، ولا تحسبنّ ابن أمّك ـ ولو أسلمه الناس ـ متخشّعا ولا متضرّعا ، ولا مقرّا للضيم واهيا ، ولا سلس الزمام للقائد ، ولا وطئ الظهر للراكب المقتعد وإنّي لكما قال أخو بني سليم :

وإن تسأليني : كيف أنت؟ فإنّني

صبور على ريب الزمان ، صليب

يعزّ عليّ أن ترى بي كآبة

فيشمت عاد ، أو يساء حبيب (١)

__________________

(١) الغارات ٢ : ٤٢٨ ـ ٤٣٥ باسناده ، وغلط الدينوري فنقله قبل الجمل ، في الإمامة والسياسة ١ : ٥٥.


أجل ، كانت هذه أولى غارات معاوية على أطراف حكومة الإمام عليه‌السلام وكأنّها جرّأته على التفكّر في الغارة على مصر عساه يفي بها بوعده لابن العاص ، فإلى تلك الغارة.

غارة عمرو على مصر :

كان عمرو بن العاص قد بايع معاوية لقتال الإمام عليه‌السلام على أنّ له مصر طعمة ما بقي ، فلمّا انصرف عمرو من أمر الحكمين بايع أهل الشام معاوية بالخلافة ، فما كان لمعاوية همّ إلّا مصر ، وقد بلغه خبر الخوارج.

فدعا معاوية عمرو بن العاص ، وبسر بن أبي أرطاة العامري القرشي ، وحبيب بن مسلمة والضحّاك بن قيس الفهريّين ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي من قريش ، ومن غيرهم : أبا الأعور السلمي ، وحمزة بن مالك الهمداني ، وشرحبيل بن السمط الكندي.

ثمّ حمد الله وأثنى عليه وقال : أمّا بعد ، فقد رأيتم كيف صنع الله لكم في حربكم هذه على عدوّكم ، ولقد جاءوكم وهم لا يشكّون أنّهم يستأصلون بيضتكم ويحوزون بلادكم ، وما كانوا يرون إلّا أنّكم في أيديهم ، فردّهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا «وكفى الله المؤمنين القتال» حاكمتموهم إلى الله فحكم لكم عليهم.

ثمّ جمع لنا كلمتنا وأصلح ذات بيننا ، وجعلهم أعداء متفرّقين يشهد بعضهم على بعضهم بالكفر ويسفك بعضهم دم بعض. وقد رأيت أن أحاول حرب مصر فما ذا ترون؟

فقال عمرو : أرى أنّ أمر هذه البلاد ـ لكثرة خراجها وعدد أهلها ـ قد أهمّتك ، فدعوتنا لتسألنا عن رأينا في ذلك. فإن كنت لذلك دعوتنا وله جمعتنا فاعزم واصرم ، ونعم الرأي ما رأيت ، فإنّ في افتتاحها عزّك وعزّ أصحابك وكبت عدوّك وذلّ أهل الخلاف عليك. وقد أخبرتك عمّا سألت ، وأشرت عليك بما سمعت.


فقال له معاوية : يا ابن العاص لقد أهمّك ما أهمّك! (أي أهمّه أمر مصر لما أهمّه من أمر موعده).

ثم قال معاوية للآخرين : وأنتم ما ترون؟ قالوا : نرى ما رأى عمرو!

قال معاوية : إنّ عمرا قد عزم وصرم ولم يبيّن كيف نصنع؟

فقال عمرو : فإنّي اشير عليك كيف تصنع : أرى أن تبعث جيشا كثيفا ، عليهم رجل صارم تأمنه وتثق به ، فيأتي مصر فيدخلها ، فإنّه سيأتيه من كان من أهلها على مثل رأينا ، فيظاهره على من كان بها من عدوّنا ، فإن اجتمع بها جندك ومن كان بها من شيعتك على من بها من أهل حربك ، رجوت أن يعزّ الله نصرك ويظهر فلجك!

فقال معاوية : أمّا أنا فإنّي أرى أن نكاتب من كان بها من شيعتنا ومن كان بها من عدوّنا ، فندعوهم إلى صلحنا ونمنّيهم شكرنا ونخوّفهم حربنا ، فإن صلح لنا ما قبلهم بغير حرب ولا قتال فذلك ما أحببنا ، وإلّا فحربهم بين أيدينا.

فقال له عمرو : فاعمل بما أراك الله! فو الله ما أرى أمرك وأمرهم يصير إلّا إلى الحرب العوان (١).

كتاب معاوية إلى معارضة مصر :

وكان رأس المعارضة في مصر مسلمة بن مخلّد الأنصاري ، ومعاوية بن حديج الكندي السكوني أو السكسكي ، وكانا قد ناصبا محمد بن أبي بكر الحرب وهم يهابون الإقدام عليه حتى أتى خبر الحكمين فاجترءوا عليه ونابذوه ، فبعث إليهم رجلا من بليّ فقاتلوه فقتلوه ، وآخر من كلب فقاتلوه وقتلوه (٢).

__________________

(١) الغارات ١ : ٢٧٠ ـ ٢٧٤ ، وفي الطبري ٥ : ٩٧ ـ ٩٩ عن أبي مخنف بسنده.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ٣٠٣ خ ٤٨٣.


فكتب معاوية إليهما : أمّا بعد ، فإنّ الله عزوجل قد ابتعثكما لأمر عظيم ، أعظم به أجركما ورفع به ذكركما ، وزيّنكما به في المسلمين : طلبتما بدم الخليفة المظلوم ، وغضبتما لله إذ ترك حكم الكتاب! وجاهدتما أهل الظلم والعدوان! فأبشرا برضوان الله وعاجل نصرة أولياء الله والمواساة لكما في دار الدنيا وسلطاننا ، حتى ينتهي ذلك إلى ما يرضيكما ويؤدّى به حقّكما ، فالزما أمركما وجاهدا عدوّكما ، وادعوا المدبرين عنكما إلى هداكما ، فكأنّ الجيش قد أظلّ عليكما فانقشع كلّ ما تكرهان ، ودام كل ما تهويان ، والسلام عليكما.

وبعث بالكتاب مع مولاه سبيع بن يزيد الهمداني ، فخرج الرسول بكتابه حتّى دفع الكتاب إلى مسلمة بن مخلّد الأنصاري ، فلمّا قرأه قال له : الق به معاوية بن حديج ثمّ القني به حتى اجيب عنّي وعنه.

فانطلق الرسول بكتاب معاوية إليه فأقرأه إيّاه ثمّ أبلغه مقالة مسلمة وأتى بالكتاب إلى مسلمة ، فكتب الجواب :

إلى معاوية بن أبي سفيان ، أمّا بعد ، فإنّ هذا الأمر الذي قد ندبنا له أنفسنا وابتعثنا الله به على عدوّنا أمر نرجو به ثواب ربّنا! والنصر على من خالفنا ، وتعجيل النقمة على من سعى على إمامنا ، وطأطأ الركض في جهادنا. ونحن بهذه الأرض قد نفينا من كان بها من أهل البغي ، وأنهضنا من كان بها من أهل «القسط» والعدل. وقد ذكرت مؤازرتك في سلطانك وذات يدك. وبالله! إنّه لا من أجل مال غضبنا ولا إيّاه أردنا! فإن يجمع الله لنا ما نريد ونطلب ويؤتنا ما نتمنّى! فإنّ الدنيا والآخرة لله ربّ العالمين ، وقد يؤتيهما الله عالما من خلقه كما قال في كتابه : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(١) فعجّل علينا بخيلك ورجلك! فإنّ عدونا قد كان علينا حربا وكنّا فيهم قليلا ، وقد أصبحوا لنا هائبين

__________________

(١) آل عمران : ١٤٨.


وأصبحنا لهم منابذين ، فإن يأتينا مدد من قبلك يفتح الله عليك! ولا قوة إلّا به ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، والسلام عليك.

ورجع سبيع بهذا الكتاب إلى الشام ، وكان معاوية يومئذ في فلسطين فجاء به إليه.

فدعا معاوية اولئك النفر واستشارهم ما ذا يرون؟ فأثاروه لإرسال الرجال للقتال ، فأشار إلى عمرو بالإمرة وجهّز له ستة آلاف رجل ، وشايعه يودّعه ويوصيه وحمّله كتابا إلى محمد بن أبي بكر (١).

إرسال الأشتر إلى مصر :

مع انقضاء شهر رمضان انتهى تحكّم الحكمين في دومة الجندل بأذرح وعاد ابن عباس والأربعمائة من قوّات الإمام مع شريح بن هانئ الطائي إلى الكوفة ، وكان الخوارج قد أعلنوا خلافهم لتنفيذ التحكيم ، واليوم بلغ الإمام خبر هؤلاء الخوارج مع مسلمة وابن حديج بمصر ، وكان الإمام قد أرسل الأشتر إلى ولاية ثغر نصيبين ، ولكنّه كتب إليه اليوم :

أمّا بعد ، فإنّك ممّن أستظهر به على إقامة الدين ، وأقمع به نخوة الأثيم ، وأسدّ به الثغر المخوف. وقد كنت ولّيت محمد بن أبي بكر مصر ، فخرجت عليه خوارج (قبل وصول ابن العاص) وهو غلام حدث السن ، ليس بذي تجربة للحرب (عسكريا) ولا بمجرّب للأشياء (سياسيا) فاستخلف على عملك أهل الثقة والنصيحة ، وأقدم عليّ لننظر فيما ينبغي ، والسلام.

__________________

(١) الغارات ١ : ٢٧٤ ـ ٢٧٦ ، وتاريخ الطبري ٥ : ٩٩ ـ ١٠٠ الخبر السابق عن أبي مخنف بسنده ، ألفان من دمشق وعليهم يزيد بن أسد البجلي ، وألفان من الأردن وعليهم أبو الأعور السلمي ، وألفان من فلسطين وعليهم شمير الخثعمي كما في اليعقوبي ٢ : ١٩٤.


فاستخلف مالك لعمله شبيب بن عامر الأزدي ، وأقبل مالك إلى الإمام عليه‌السلام حتّى دخل عليه ، فحدّثه حديث مصر وأخبره خبر أهلها وقال له : فليس لها غيرك! فاخرج إليها رحمك الله ، فإنّي إن لم اوصك اكتفيت برأيك ، واستعن بالله على ما أهمّك ، اخلط الشدّة باللين ، وارفق ما كان الرفق أبلغ ، واعتزم على الشدّة حين لا يغني عنك إلّا الشدّة (١).

الإمام يشاور الأشتر :

روى المعتزلي ، عن المدائني ، عن فضيل بن الجعد قال : شكا علي عليه‌السلام إلى الأشتر تخاذل أصحابه وفرار بعضهم إلى معاوية!

فقال له الأشتر : يا أمير المؤمنين ، إنّا قاتلنا أهل البصرة بأهل البصرة وأهل الكوفة ورأي الناس واحد ، وإنّما اختلفوا بعد وتعادوا ، وضعفت النية وقلّ العدد (لأنّك) تأخذهم بالعدل وتعمل فيهم بالحقّ ، وتنصف الوضيع من الشريف ، فليس للشريف عندك فضل منزلة على الوضيع (ولذلك) ضجّت طائفة ممّن معك من الحقّ إذ عمّوا به ، واغتمّوا من العدل إذ صاروا فيه إذ تساووا فيه ، ورأوا صنائع (إحسان) معاوية عند أهل الشرف والغناء ، فتاقت أنفسهم إلى الدنيا ، وقلّ من ليس للدنيا بصاحب! وأكثرهم يبيع الحقّ ويشتري الباطل ويؤثر الدنيا.

فيا أمير المؤمنين ، إنّك إن تبذل هذا المال تميل إليك أعناق الرجال! وتصفو نصيحتهم وتستخلص ودّهم! ثمّ قال له : صنع الله لك يا أمير المؤمنين ، وكبت أعداءك وفضّ جمعهم ، وأوهن كيدهم وشتّت أمورهم ، إنّه بما يعملون خبير.

__________________

(١) الغارات ١ : ٢٥٧ ـ ٢٦٤ ، وتاريخ الطبري ٥ : ٩٩ ـ ١٠٠ عن أبي مخنف بسنده.


فأجابه الإمام فقال : أمّا ما ذكرت من سيرتنا بالعدل فإنّ الله عزوجل يقول : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها)(١) وأنا من أن أكون مقصّرا فيما ذكرت أخوف!

وأمّا ما ذكرت من أنّ الحقّ ثقل عليهم ففارقونا ، فقد علم الله أنّهم لم يفارقونا من جور ولا لجئوا إلى عدل إذ فارقونا ، ولم يلتمسوا إلّا دنيا زائلة عنهم كأن قد فارقوها وليسألنّ يوم القيامة : أللدنيا أرادوا أم لله عملوا؟

وأمّا ما ذكرت : من بذل الأموال واصطناع الرجال ، فإنّه لا يسعنا أن نؤتي امرأ من الفيء أكثر من حقّه (بالسواء) فإن يرد الله أن يولينا هذا الأمر يذلّل لنا أصعبه ويسهّل لنا أحزنه (٢).

ثمّ قال له : وأنت من أمن الناس عندي وأنصحهم لي وأوثقهم في نفسي إن شاء الله ، وأنا قابل من رأيك ما كان رضا لله عزوجل (٣).

ولعلّه هنا سمع بهذا بعض أصحابه فلم يروا جواب الإمام جادّا فمشوا إليه وقالوا له : يا أمير المؤمنين ، من تخاف خلافه وفراره من الناس فاستمله بالعطاء من هذه الأموال ، وفضّل فيهم قريشا والأشراف من العرب على العجم والموالي.

فقال عليه‌السلام : أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور؟! لا والله ما أفعل ما طلعت الشمس وما لاح في السماء نجم! والله لو كان هذا المال لي لواسيت بينهم فكيف وإنّما هي أموالهم (٤).

__________________

(١) فصلت : ٤٦.

(٢) الحزن : الصعب.

(٣) الغارات ١ : ٧١ ـ ٧٣ عن المدائني.

(٤) الغارات ١ : ٧٤ ـ ٧٧ وعنه في أمالي المفيد وعنه في أمالي الطوسي وفي نهج البلاغة خ ١٢٦ ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٨٧.


النجاشي يسكر ويفر :

في سنة الوفود في وفود اليمن ، وفد بنو الحارث على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكانوا سودا حتّى روى عنه أنّه قال : من هؤلاء كأنّهم من الهند (١) وكان فيهم قيس بن عمرو وأمّه كانت حبشيّة (٢) فكان في لونه يشبه الحبشة ولذلك لقّب بالنجاشي وعرف بلقبه.

وكان في حرب صفين شاعر الإمام عليه‌السلام وفي ضحى أول يوم من شهر رمضان لسنة (٣٨ ه‍) خرج من داره بالكوفة على فرس له يريد الكناسة (٣) وكان شاعر حرب الردّة مع طليحة الأسدي : سمعان بن هبيرة الأسدي أبو سمّال ، صحابيّ نزل الكوفة ، وكان مضيافا لا يغلق بابه وقد ينادي مناديه : من ليست له خطّة فمنزله على أبي السمّال ، فأمر عثمان أن يمنح دارا لأضيافه (٤)! فلمّا مرّ به النجاشي قرب الزوال قال له : هل لك في رءوس حملان في كرش كانت في التنّور منذ أوّل الليل فتهرّأت! فقال له النجاشي : أفي أوّل يوم من رمضان تقول هذا؟ قال الأسدي : ما شهر رمضان وشوال إلّا واحد (٥)! فدعنا ممّا لا نعرف! فقال النجاشي : ثمّ مه؟ قال الأسدي : ثمّ أسقيك من شراب كالورس ، يطيب النفس ، ويجري في العرق ، ويزيد في الطرق ، يهضم الطعام ، ويسهّل للفدم (الثقيل) الكلام! فثنى النجاشي رجله ونزل ، فتغدّيا ثمّ شربا النبيذ! فلمّا كان آخر النهار علت أصواتهما.

__________________

(١) عن الشعر والشعراء لابن قتيبة : ٢٤٦ ـ ٢٤٧ عن الكلبي.

(٢) عن سمط اللآلي ٢ : ٨٩٠.

(٣) المصدر الأسبق.

(٤) الغارات ٢ : ٥٣٤ في الحاشية.

(٥) الشعر والشعراء : ٢٤٦ ـ ٢٤٧.


وكان للأسدي جار من «الشيعة» فأتى عليّا عليه‌السلام فأخبره بقصّتهما ، فأرسل إليهما قوما فأحاطوا بالدار ، فلمّا علم بذلك الأسدي شقّ خص سعف النخيل حول داره فأفلت في دور قومه ، ثمّ فرّ إلى معاوية وأخذ النجاشي فأتوا به عليّا عليه‌السلام قرب المساء فأمسى في السجن.

فلمّا أصبح الإمام عليه‌السلام في اليوم الثاني من رمضان ، أمر فأقامه في سراويله ثمّ ضربه ثمانين ثمّ زاده عشرين سوطا. فقال : يا أمير المؤمنين أمّا الحدّ فقد عرفته ، فما هذه العلاوة التي لا تعرف؟

قال عليه‌السلام : لجرأتك على ربّك وإفطارك في شهر رمضان (١).

ثمّ أقامه في سراويله فجعل الصبيان يصيحون به : خزي النجاشي! خزي النجاشي! حتّى مرّ به هند بن عاصم السلولي وكان عليه مطرف خزّ فخلعه عليه على عادة تكريم الشعراء ، فاقتدى به كثير من الناس ولعلّهم من قومه فطرحوا عليه مطارف كثيرة فمدح هند بن عاصم.

ولحدّ النجاشي الحارثي اليماني غضب من كان مع الإمام من اليمانية ، وكان من أقربهم إليه طارق بن عبد الله النهدي فدخل عليه وقال له : يا أمير المؤمنين ، ما كنّا نرى أنّ أهل الطاعة والمعصية ، وأهل الجماعة والفرقة سيّان في الجزاء عند ولاة العدل ومعادن الفضل! حتى رأينا ما كان من عملك بأخي بني الحارث ، فأوغرت صدورنا ، وشتّت أمورنا ، وحملتنا على الجادّة التي كنا نرى أن سبيل من ركبها النار!

__________________

(١) ورواه في الكافي عن أبي مريم ٧ : ٢١٦ ، الحديث ١٥ ، والفقيه ٤ : ١٣٠ ، والتهذيب ١٠ : ٩٤ ، الحديث ٣٦٢.


فبدأ الإمام بتلاوة الآية : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ)(١) ثمّ قال له : يا أخا بني نهد ، وهل هو إلّا رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرم الله فأقمنا عليه حدا كان كفّارته! إنّ الله يقول : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)(٢) فاقتنع طارق بقوله وخرج من عنده مدافعا عنه (٣).

النجاشي والنهدي في الشام :

ولم يكن الأشتر حاضرا يومئذ ولكنّه سمع عنه عتابه للإمام ، ويبدو أنّ ذلك كان عند استدعاء الإمام له ليرسله إلى مصر ، فلمّا لقى الأشتر طارقا قال له : يا طارق ، أنت القائل لأمير المؤمنين : إنّك أو غرت صدورنا وشتّت أمورنا؟! فقال طارق : نعم ، أنا قلتها.

فقال الأشتر : وهو من اليمانية : والله ما ذاك كما قلت ، بل إنّ صدورنا له لسامعة ، وإنّ أمورنا له لجامعة!

فغضب طارق وقال : ستعلم يا أشتر أنّه غير ما قلت! ثمّ انطلق طارق فطرق على النجاشي لمّا جنّه الليل وتهامسا وتوافقا على المروق عن الإمام واللحوق بالشام ، وكذلك فعلا (٤)!

فلمّا اعلم معاوية بذلك أذن للناس إذنا عامّا ليعلم الناس بذلك ويفخر به ، وكان النجاشي جالسا بين يديه ولكنّه كان قصيرا صغيرا فاقتحمته عينه ولم يره

__________________

(١) البقرة : ٤٥.

(٢) المائدة : ٨.

(٣) الغارات ٢ : ٥٣٣ ـ ٥٣٩.

(٤) الغارات ٢ : ٥٣٩ ، ٥٤١.


وسأل عنه ، فأجابه : ها أنا ذا النجاشي بين يديك يا أمير المؤمنين! إنّ الرجال ليست بأجسامها ، وإنّما لك من الرجل أصغراه : قلبه ولسانه! (فذهب قوله مثلا) وكان من شعر النجاشي في صفين وصفه لفرار معاوية في أواخره وكان قد بلغه شعره وقد حفظه فسأله عنه فاعتذر أنّه إنّما قاله لأخيه عتبة بن أبي سفيان وليس له (١) ، فقبل عذره!

وكان معه طارق النهدي فلمّا عرفه قال له : مرحبا بالمورق غصنه المعرق أصله المسوّد غير المسود ، في ارومة لا ترام ومحلّ يقصر عنه المرام! من رجل كانت به نبوة وهفوة لاتباعه رأس الضلالة والشبهة وصاحب الفتنة ، الذي اغترز في ركاب الفتنة حتّى استوى على رحلها ، ثمّ أوجف في عشوة ظلمتها وتيه ضلالتها ، واتبعه رجرجة من الناس ، وهنون من الحثالة! أما والله ما لهم أفئدة (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)(٢).

فلم يتمالك طارق النهدي دون أن قام واتكأ على سيفه وقال : يا معاوية! إنّي متكلّم ، فلا يسخطك أوّل دون آخر! قال : إنّ المحمود على كلّ حال ربّ علا فوق عباده! فهم منه بمنظر ومسمع ، بعث فيهم رسولا منهم لم يكن يتلو من قبله كتابا ولا يخطّه بيمينه ، فعليه‌السلام من رسول كان بالمؤمنين رحيما.

أمّا بعد ، فإنّا كنّا نوضع فيما أوضعنا فيه بين يدي إمام تقيّ عادل! في رجال من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أتقياء مرشدين ، ما زالوا منارا للهدى ومعلما للدين خلفا عن سلف مهتدين ، أهل دين لا دنيا ، كل الخير فيهم ، واتّبعتهم من الناس أقيال وملوك! وأهل شرف وبيوت ، ليسوا «بناكثين» ولا «قاسطين».

__________________

(١) الغارات ٢ : ٥٣٧ ـ ٥٣٩.

(٢) سورة محمّد : ٢٤.


فلم تك رغبة من رغب عنهم وعن صحبتهم إلّا لمرارة الحقّ حيث جرّعوها ، ولو عورته حيث سلكوها ، وغلبت عليهم دنيا مؤثرة وهوى متّبع! وكان أمر الله «قدرا» مقدورا! وقد فارق الإسلام قبلنا جبلة بن الأيهم (الغسّاني) فرارا من الضيم وأنفا من الذلّة! يا معاوية! فلا تفخرنّ أن قد شددنا إليك الرحال وأوضعنا نحوك الركاب ، فتعلم وتنكر! أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولجميع المسلمين!

فأجابه معاوية متحلّما : يا ابن عبد الله ، ما أردنا أن نوردك مشرع ظماء ، ولا أن نصدرك عن مكرع رواء! ولكن القول قد يجري بصاحبه إلى غير الذي ينطوي عليه من الفعل. ثمّ دعاه إليه حتّى أجلسه معه على سريره! ودعا له ببرود ومقطعات أقمشة طرحها عليه وأقبل يحدثه حتّى قام!

وكان من وجوه جهينة لدى معاوية : عمرو بن صيفي وعمرو بن مرّة فخرجا معه وأقبلا عليه يلومانه لمقاله! ولعلّه كان ذلك بإيعاز من معاوية ، فأجابهما : والله ما قمت بما سمعتماه حتّى خيّل إليّ أن بطن الأرض أحبّ إليّ من ظهرها ، عند إظهاره ما أظهر من البغي والعيب والنقص لأصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ولمن هو خير منه في العاجلة والآجلة ، وما زهت به نفسه ، وملكه عجبه ، وعاب أصحاب رسول الله واستنقصهم! ولقد قمت عنده مقاما أوجب الله عليّ فيه أن لا أقول إلّا حقّا! وأيّ خير فيمن لا ينظر ما يصير إليه غدا؟! ثمّ تمثل شعرا.

ثمّ عمل معاوية في إطراء طارق وتعظيم أمره حتّى استلّ ما وجد في نفسه عليه.

وبلغ ما قال طارق لمعاوية إلى الإمام عليه‌السلام فقال فيه : لو (كان) يومئذ قتل أخو بني نهد لقتل شهيدا! ولعلّه بلغه كلام الإمام فيه ، فتوافق والنجاشي فعادا إلى الإمام عليه‌السلام (١).

__________________

(١) الغارات ٢ : ٥٣٩ ـ ٥٤٤.


سفر الأشتر الأمير ومصيره :

لخبر لوم الأشتر لطارق النهدي في عتابه للإمام عليه‌السلام لتنفيذه الحدّ الشرعي على شاعره اليماني النجاشي الحارثي ، قدمنا خبرهما ، وها نحن نعود إلى خبر سفر الأشتر :

أدرك عيون معاوية في العراق خبر سفر الأشتر فطاروا به إليه في الشام ، فعلم بمسير الأشتر إلى مصر من الحجاز إلى بحر القلزم (البحر الأحمر) حيث كانت ترسو السفن من الحجاز إلى مصر ، فأرسل إلى رجل من جباة الخراج يدعى : الجايستار ، وأخبره : أن الأشتر قد ولي على مصر ، فإن كفيتنيه لم آخذ منك خراجا ما بقيت وبقيت ، فاحتل له بما تقدر عليه!

فخرج الجايستار حتّى أتى القلزم وأقام به ، فلمّا وصله الأشتر أتاه الجايستار الذي دسّه معاوية فقال للأشتر : أنا رجل من أهل الخراج ، وهذا منزل فيه طعام وعلف فانزل فيه. فنزل الأشتر بذلك المنزل ، وأتاه الجايستار بطعام وعلف ، فلمّا أكل الطعام أتاه بشراب فيه عسل مسموم ، فشربها فمات بها.

وعن الشعبي : أن ذلك كان في عقبة أفيق (من قرى حوران إلى الغور من الأردن) وطلبوا الرجل ففاتهم! وعن الضبّي : أنه كان مولى لآل عمر ، وقيل : لآل عثمان.

وعن المدائني : أنّ معاوية قال لأهل الشام : أيها الناس ، إن عليّا قد وجّه الأشتر إلى أهل مصر ، فادعوا الله أن يكفيكموه! فكانوا يدعون الله عليه في دبر كل صلاة! حتّى عاد الذي سقاه السمّ فأخبره بمقتله ، فقام معاوية خطيبا فقال لهم : أما بعد ، فإنه كان لعليّ بن أبي طالب يدان يمينان ، فقطعت إحداهما في صفين (عمّار بن ياسر) وقطعت الأخرى اليوم وهو مالك الأشتر (١) ثمّ قال مشيرا إلى سبب قتله : إن لله لجندا من عسل (٢).

__________________

(١) الغارات ١ : ٢٥٧ ـ ٢٦٤ ، وتاريخ الطبري ٥ : ٩٩ ، ١٠٠ عن أبي مخنف بسنده.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ٣٠٤ خ ٤٨٤ وقال : ذلك في عين شمس قبل فسطاط بثلاثة


شهادة الأشتر وتأبينه :

بلغ قتل الأشتر إلى الإمام عليه‌السلام فاسترجع وحمد الله وقال : اللهمّ إنّي أحتسبه عندك فإنّ موته من مصائب الدهر ، فرحم الله مالكا فقد وفى بعهده ، وقضى نحبه ولقى ربّه ، مع أنّا قد وطّنا أنفسنا على أن نصبر على كلّ مصيبة بعد مصابنا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّها أعظم المصائب.

وبلغ خبره قومه النخع فاجتمع أشياخ منهم ومضوا حتّى دخلوا على الإمام عليه‌السلام فقال لهم :

لله درّ مالك! وما مالك؟! لو كان جبلا لكان فندا! ولو كان حجرا لكان صلدا! أما والله ليهدنّ موتك عالما وليفرحنّ عالما! على مثل مالك فلتبك البواكي ، وهل موجود كمالك (١)؟!

وبلغ خبر توجيهه ومقتله إلى محمد بن أبي بكر فشقّ ذلك عليه ، وبلغت موجدته لذلك إلى الإمام فكتب إليه :

__________________

ـ فراسخ (٥ / ١٦ كم). وفي مروج الذهب ٢ : ٤١٠ وقال : كان ذلك بالعريش. وقال الحموي : كان ذلك في القلزم ، ولكن جسده نقل من قلزم إلى المدينة فدفن بها (في بقيع الغرقد) وقبره بها معروف؟! معجم البلدان ١ : ٤٥٤ في مادّة بعلبك.

وكان الفاطميون الاسماعيليون يعتنون بقبر مالك الأشتر على خبر البلاذري في عين شمس القديمة ، وفي هذه الأواخر قام الاسماعيليون البهرة بدفن شقيق شيخهم هناك وجدّدوا مرقد الأشتر ، ويقع في وسط بستان تحيط به مناطق زراعية وأخذ العمران يدنو منه ، من بلدة تسمّى : الخانگه ، بمنطقة القلج ، مشهورا بقبر العجمي ـ الشيعة في مصر : ١٠٨ ـ وهو المرقد الوحيد المنسوب إليه اليوم وليس سواه ، فهو أقرب إلى الصحّة.

(١) الغارات ١ : ٢٦٤ ـ ٢٦٥ ووجدوا في ثقله رسالة الإمام مع الأشتر إلى أهل مصر : ٢٦٦ ـ ٢٦٧ ، وفي تاريخ الطبري ٥ : ٩٦ عن أبي مخنف ، عن مولى الأشتر.


من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر ، سلام عليك ، أمّا بعد : فقد بلغني موجدتك من تسريحي الأشتر إلى عملك ، ولم أفعل ذلك استبطاء لك في الجهاد ، ولا استزادة لك منّي في الجدّ ، ولو نزعت ما حوت يداك من سلطانك لولّيتك ما هو أيسر مئونة عليك ، وأعجب ولاية إليك ، إلّا أنّ الرجل الذي كنت ولّيته مصر (الأشتر) كان رجلا لنا مناصحا وعلى عدوّنا شديدا! فرحمة الله عليه ، وقد استكمل أيّامه ولاقى حمامه ونحن عنه راضون ، فرضي الله عنه وضاعف له الثواب وأحسن له المآب.

فاصحر لعدوّك وشمّر للحرب و (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)(١) وأكثر ذكر الله والاستعانة به والخوف منه ، يكفك ما أهمّك ويعينك على ما ولّاك ، أعاننا الله وإياك على ما لا ينال إلّا برحمته ، والسلام.

فكتب إليه محمد بن أبي بكر جوابا : لعبد الله أمير المؤمنين علي من محمد بن أبي بكر ، سلام عليك ، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أمّا بعد ، فقد انتهى إليّ كتاب أمير المؤمنين ، وفهمته وعرفت ما فيه ، وليس أحد من الناس أشدّ على عدوّ أمير المؤمنين ، ولا أرأف لوليّه منّي ، وقد خرجت فعسكرت وأمّنت الناس إلّا من نصب لنا حربا وأظهر لنا خلافا. وأنا متّبع أمر أمير المؤمنين وحافظه ، ولاجئ إليه وقائم به ، والله المستعان على كل حال ، والسلام (٢).

وتوجّه ابن العاص إلى مصر :

مرّ الخبر : أنّ معاوية جهّز لابن العاص لاغتصاب مصر ستّة آلاف رجل ألفين من دمشق وألفين من الأردن وألفين من فلسطين ، وشعر بالخطر

__________________

(١) النحل : ١٢٥.

(٢) الغارات ١ : ٢٦٨ ـ ٢٧٠ ، وتاريخ الطبري ٥ : ٩٦ ـ ٩٧ عن أبي مخنف.


من توجّه الأشتر إلى مصر فدفعه بقتله بالسمّ ، فجزم عزمه على إعزام ابن العاص ، فكتب كتابا إلى محمد بن أبي بكر :

أمّا بعد ، فإنّ غبّ البغي والظلم عظيم الوبال ، وإنّ سفك الدم الحرام لا يسلم صاحبه من النقمة في الدنيا والتبعة الموبقة في الآخرة! وما نعلم أحدا كان أعظم بغيا على عثمان ولا أسوأ عيبا ولا أشدّ خلافا عليه منك! سعيت عليه في الساعين ، وساعدت عليه مع المساعدين ، وسفكت دمه مع السافكين! ثمّ أنت تظنّ أنّي عنك نائم! ثمّ تأتي بلدة فتأمن فيها وجلّ أهلها نصارى يرون رأيي ويرقبون قولي ويستصرخونني عليك!

وقد بعثت إليك قوما حناقا عليك يسفكون ويستسقون دمك! وهم يتقرّبون إلى الله بجهادك! قد أعطوا الله عهدا ليقتلنّك (وليمثلنّ بك) ولو لم يكن منهم إليك ما قالوا لقتلك الله ، بأيديهم أو بأيدي غيرهم من أوليائه! فأحذّرك وانذرك! وأنا أحبّ أن يقتلوك بظلمك ووقيعتك وعدوانك على عثمان يوم الدار : تطعن بمشاقصك (نصل عريض) فيما بين أحشائه (عظام الآذان) وأوداجه ، ولكن أكره أن أمثّل بقرشيّ ، ولن يسلّمك الله من القصاص أينما كنت ، والسلام. ثمّ سلّم الكتاب إلى عمرو ووجّهه إلى مصر ، فمضى حتّى نزل بأوائله ، وتسامع به العثمانيون فتوافدوا عليه ، فكتب إلى ابن أبي بكر :

أمّا بعد ، فتنحّ عنّي بدمك يا ابن أبي بكر ، فإنّي لا احبّ أن يصيبك منّي ظفر ، وإنّ الناس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك ورفض أمرك ، وندموا على اتّباعك! وهم مسلموك لو قد التقت حلقتا البطان (فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ)(١) والسلام. وضمّه إلى كتاب معاوية إليه (٢).

__________________

(١) القصص : ٢٠.

(٢) الغارات ١ : ٢٧٧ ـ ٢٧٨ ، وتاريخ الطبري ٥ : ١٠١ عن أبي مخنف.


فقام ابن أبي بكر وخطب فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد وآله ، ثمّ قال :

أمّا بعد ، يا معاشر المؤمنين ، فإنّ القوم الذين كانوا ينتهكون الحرمة وينعشون الضلالة ، ويشبّون نار الفتنة ويستطيلون بالجبرية ، قد نصبوا لكم العداوة وساروا إليكم بالجنود ، فمن أراد الجنة والمغفرة فليخرج إلى هؤلاء القوم فليجالدهم في الله! انتدبوا إلى هؤلاء رحمكم الله مع كنانة بن بشر (التجيبي الكندي) ومن يجيب معه من كندة.

فانتدب مع كنانة ألفا رجل فخرج بهم إلى عمرو ، فاستقبله عمرو وسرّح نحوه كتيبة بعد كتيبة ، فكان يشدّ على كلّ كتيبة بمن معه فيضربها حتّى يفلّها إلى عمرو ، فلمّا رأى عمرو ذلك بعث إلى معاوية بن حديج في عدد كثير وحاصروه ، فنزل كنانة واستشهد وضاربهم حتّى قتل وفلّ من معه (١).

وإلى الإمام وجواب الإمام :

لمّا بلغ كتابا معاوية وابن العاص إلى ابن أبي بكر ، كتب إلى الإمام عليه‌السلام :

أمّا بعد ، فإنّ العاصي ابن العاصي قد نزل بأدانى مصر ، واجتمع إليه من أهل البلد كلّ من كان يرى رأيهم! وقد جاء في جيش جرّار! وقد رأيت ممّن قبلي بعض الفشل ، فإن كان لك في أرض مصر حاجة فامددني بالرجال والأموال ، والسلام. وضمّ إليه كتابهما إليه. فأجابه الإمام عليه‌السلام :

أمّا بعد ، فقد جاءني رسولك بكتابك تذكر : أن ابن العاص قد نزل أداني مصر في جيش جرّار ، وأنّ من كان على رأيه قد خرج إليه. وإنّ خروج من كان يرى رأيه إليه خير لك من إقامته عندك.

__________________

(١) الغارات ١ : ٢٨١ ـ ٢٨٢ ، وفي الطبري ٥ : ١٠٣ عن أبي مخنف.


وذكرت : أنّك قد رأيت ممّن قبلك فشلا ، فلا تفشل وإن فشلوا.

حصّن قريتك (الفسطاط) واضمم إليك شيعتك ، وأذك الحرس في عسكرك ، واندب إلى القوم كنانة بن بشر المعروف بالنصيحة والتجربة والبأس! وأنا نادب إليك الناس على الصعب والمذلول! فاصبر لعدوّك وامض على بصيرتك ، وقاتلهم على نيّتك ، وجاهدهم محتسبا لله وإن كانت فئتك أقلّ الفئتين ، فإنّ الله يعزّ القليل ويخذل الكثير.

وقد قرأت كتابي الفاجرين ، المتحابّين على المعصية ، والملائمين على الضلالة ، والمرتشيين الذين استمتعا بخلاقهما! فلا يهدنّك إرعادهما وإبراقهما ، وأجبهما ـ إن كنت لم تجبهما ـ بما هما أهله ، فإنّك تجد مقالا ما شئت ، والسلام. فلمّا بلغه كتابه كتب إلى معاوية :

أمّا بعد ، فقد أتاني كتابك تذكر من أمر عثمان أمرا لا أعتذر منه إليك ، وتأمرني بالتنحّي عنك كأنّك لي ناصح ، وتخوّفني بالمثلة كأنّك عليّ شفيق! وأنا أرجو أن تكون الدائرة عليكم ، وأن يهلككم الله في الوقعة وأن ينزل بكم الذلّ وأن تولّوا الدبر ، وإن يكن لكم الأمر في الدنيا فكم وكم لعمري من ظالم قد نصرتم ، وكم من مؤمن قد قتلتم ومثّلتم به ، وإلى الله المصير وإليه تردّ الأمور ، وهو أرحم الراحمين ، والله المستعان على ما تصفون. وكتب لعمرو بن العاص :

أمّا بعد ، فقد فهمت كتابك وعلمت ما ذكرت ، زعمت أنّك لا تحبّ أن يصيبني منك ظفر! فأشهد بالله إنّك لمن المبطلين ، وزعمت أنّك لي ناصح ، واقسم أنّك عندي ظنين ، وزعمت أنّ أهل البلد قد رفضوني وندموا على اتّباعي ، فاولئك حزبك وحزب الشيطان الرجيم ، وحسبنا الله ربّ العالمين ، وتوكّلت على الله العزيز الرحيم ربّ العرش العظيم (١).

__________________

(١) الغارات ١ : ٢٧٨ ـ ٢٨٢ ، وفي الطبري ٥ : ١٠١ ـ ١٠٣ عن أبي مخنف بسنده.


محمد يستصرخ الإمام عليه‌السلام :

وكأنّ محمدا لمّا رأى ما حلّ من القتل والفلّ برجال كنانة الكندي رأى ضرورة أن يرسل رجلا صريخا إلى الإمام عليه‌السلام ، فأرسل عبد الله بن قعين إلى أمير المؤمنين يستصرخه لمحمد بن أبي بكر ، فأمر الإمام مناديه فنادى : الصلاة جامعة! فاجتمع الناس ، ، فصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ قال :

أمّا بعد ، فهذا صريخ محمد بن أبي بكر وإخوانكم من أهل مصر ، وقد سار إليهم ابن النابغة عدوّ الله وعدوّكم ، فلا يكوننّ أهل الضلال إلى باطلهم والركون إلى سبيل الطاغوت ، أشدّ اجتماعا على باطلهم وضلالتهم منكم على حقّكم! فكأنّكم بهم وقد بدءوكم وإخوانكم بالغزو ، فاعجلوا إليهم بالمواساة والنصر.

عباد الله! إنّ مصر أعظم من الشام خيرا ، وخير أهلا ، فلا تغلبوا على مصر ، فإنّ بقاء مصر في أيديكم عزّ لكم وكبت لعدوّكم! اخرجوا إلى الجرعة (إلى الحيرة) لنتوافى كلّنا هناك غدا إن شاء الله.

ولمّا كان الغد خرج الإمام يمشي إلى الجرعة حتى نزلها بكرة ، فأقام بها حتى انتصف النهار وإنّما وافاه منهم مائة رجل! فرجع! (كما كان أمره معهم بعد عودتهم من النهروان في الشتاء).

فلمّا كان العشيّ بعث إلى الأشراف فجمعهم في القصر فدخلوا عليه وهو كئيب حزين ، فقال لهم :

الحمد لله على ما قضى وقدّر من فعله وابتلائي بكم ، أيّتها الفرقة التي لا تطيع إذا أمرت ولا تجيب إذا دعوت! لا أبا لغيركم! ما تنتظرون بنصركم ربكم والجهاد على حقّكم؟! الموت أو الذلّ لكم في هذه الدنيا في غير الحقّ! والله لئن جاءني الموت ـ وليأتيني ـ فليفرّقنّ بيني وبينكم وإنّي لصحبتكم لقال وبكم غير ظنين ، لله أنتم! ألا دين يجمعكم! ألا حميّة تغضبكم؟! ألا تسمعون بعدوكم ينتقص بلادكم


ويشنّ الغارة عليكم؟! أو ليس عجبا أنّ معاوية يدعو الجفاة الظلمة الطّغام فيتّبعونه على غير عطاء ولا معونة ، ويجيبونه في السنة المرة والمرتين والثلاث إلى أيّ وجه شاء ، ثمّ إنّي أدعوكم وأنتم أولو النهى وبقيّة الناس ، على المعونة والعطاء ، فتختلفون وتتفرّقون عنّي ، وتعصونني وتخالفون عليّ!

فقام إليه مالك بن كعب الأرحبي الهمداني والتفت إلى الناس وقال لهم : اتقوا الله وأجيبوا إمامكم وانصروا دعوته ، وقاتلوا عدوّكم ، ثمّ التفت إليه وقال : أنا أسير إليهم يا أمير المؤمنين ، فاندب الناس معي فإنّه لا عطر بعد عروس ، لمثل هذا اليوم كنت أدّخر نفسي ، وإنّ الأجر لا يأتي إلّا بالكره.

فأمر الإمام عليه‌السلام سعدا مولاه أن ينادي : ألا سيروا مع مالك بن كعب إلى مصر. وعسكر مالك بن كعب بظهر الكوفة ، وكره الناس هذا الوجه فلم يجتمع إليه في شهر إلّا نحو من ألفي رجل فقط.

وجاءهم الإمام عليه‌السلام فقال لهم : سيروا على اسم الله ، فو الله ما أخالكم تدركون القوم حتّى ينقضي أمرهم! فسار بهم مالك خمس ليال (١) فإذا قدّرنا لوصول صريخة ابن أبي بكر عشرة أيّام ، ومرّ أن فترة انتظار تجمّع الأنصار كانت شهرا وهذه خمسة أيّام فيكون المجموع ٤٥ يوما.

مقتل محمد وسقوط مصر :

ففي هذه الفترة ٤٥ يوما وبعد قتل وفلّ رجال كنانة الكندي ، اضطرّ محمد للخروج بنحو ألفين ممّن اجتمع له ، ولكنّهم تفرّقوا عنه وتركوه وحده ، حتّى لجأ إلى

__________________

(١) الغارات ١ : ٢٨٩ ـ ٢٩٤ ، وذكر صدرها في أنساب الأشراف ٢ : ٣٠٦ خ ٤٨٦ ط ٢. وفي تاريخ الطبري ٥ : ١٠٧ ـ ١٠٨ عن أبي مخنف بسنده. وفي نهج البلاغة خ ٣٩ ومصادرها في ١٣٨٠.


خربة خارج فسطاط ولعلّها من خرائب القرية القديمة للفراعنة «عين شمس» قبل الفسطاط بثلاثة فراسخ (ـ ١٦ كم) حيث قتل الأشتر قبله مسموما بعسل معاوية.

وخلا الجوّ للجور فأقبل ابن العاص ومعه ابن حديج بجمعهم نحو الفسطاط حتّى دخلوها بلا معارض.

ثمّ خرج ابن حديج بجمعه في طلب محمّد ، حتّى انتهى إلى جمع من الكفار النصارى الأقباط على قارعة الطريق فسألهم : أما مرّ بكم أحد تنكرونه؟ فقال له أحدهم : رأيت في تلك الخربة رجلا جالسا بها! فانطلقوا يركضون حتّى دخلوا الخربة واستخرجوه منها وكان قد ألقى سيفه ليختلط بالناس فلا يعرف (١) فأقبلوا به إلى الفسطاط وسبقه خبره.

وكان عبد الرحمن بن أبي بكر أخو محمد مع معاوية فصار مع ابن العاص إلى الفسطاط ، فلمّا سمع بخبر أخيه محمد قام إلى ابن العاص وسأله أن يبعث إلى ابن حديج ينهاه عن قتل محمد ، فقبل ابن العاص وأرسل إلى ابن حديج : أن ائتني بمحمد. ولكن ابن حديج لمّا سمع ذلك قال للرسول : قتلتم ابن عمّي كنانة بن بشر واخلّي لكم عن محمد؟ هيهات! ثمّ تلا الآية : (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ)(٢) (ولكنه اجتمع به عند ابن العاص وعصى إلّا قتله).

وكان محمّد عطشانا يكاد يموت منه فقال لهم : اسقوني ماء! فقال له معاوية : لا سقاني الله إن سقيتك قطرة أبدا! إنّكم منعتم عثمان أن يشرب الماء حتّى قتلتموه ظامئا محرما (كذا؟!) والله لأقتلنك يا ابن أبي بكر وأنت ظمآن فيسقيك الله من الحميم والغسلين!

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٣٠٨ خ ٤٨٦ ط ٢.

(٢) القمر : ٤٣.


فقال له محمّد : يا ابن اليهودية النسّاجة (إذ كان من اليمن) ليس ذلك إليك ولا إلى من ذكرت (عثمان) إنّما ذلك إلى الله يسقي أولياءه ويظمئ أعداءه وهم أنت وقرناؤك ومن تولّاك وتولّيته! والله ولو كان سيفي في يدي ما بلغتم منّي ما بلغتم!

فقال له معاوية : أتدري ما أصنع بك؟ أدخلك في جوف هذا الحمار الميّت ثمّ أحرقه عليك بالنار!

فقال محمد : إن فعلتم ذلك بي فطالما فعلتم (مثله) بأولياء الله ، وايم الله إنّي لأرجو أن يجعل الله هذه النار التي تخوّفني بها بردا وسلاما كما جعلها على إبراهيم خليله ، وأن يجعلها عليك وعلى أوليائك كما جعلها لنمرود وأوليائه ، وإنّي لأرجو أن يحرقك الله وإمامك وهذا (ابن العاص) بنار تلظّى عليكم (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً)(١).

فقال له معاوية : إني لا أقتلك ظلما ، إنّما اقتلك بعثمان!

فقال له محمد : وما أنت وعثمان؟ إنّ عثمان عمل بغير الحقّ وبدّل حكم القرآن وقد قال الله عزوجل : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) و (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) و (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(٢) فنقمنا عليه ذلك وأردناه أن يختلع من عملنا فلم يفعل ، فقتله من قتله من الناس!

فغضب معاوية وقدّمه فضرب عنقه ، ثمّ ألقاه في جوف حمار وأحرقه بالنار (٣)!

وبلغ خبره إلى أمّه أسماء بنت عميس بالمدينة فشخب ثدياها دما حتى ماتت (٤).

__________________

(١) الإسراء : ٩٧.

(٢) المائدة : ٤٤ و ٤٥ و ٤٧.

(٣) الغارات ١ : ٢٨٢ ـ ٢٨٤ ، والطبري ٥ : ١٠٣ ـ ١٠٥ عن أبي مخنف بسنده.

(٤) الغارات ١ : ٢٨٧.


وعاد عيال محمّد وفيهم ابنه القاسم إلى المدينة فضمّتهم عائشة إليها ، وأخذت تقنت على معاوية وعلى عمرو وابن حديج في دبر كل صلاة تصلّيها (١) وحلفت أن لا تأكل شواء أبدا (٢).

وكان الإمام عليه‌السلام بعد التحكيم واتهام الخوارج له بالمهادنة ، كان إذا صلّى الصبح والمغرب يقنت فيقول : اللهمّ العن معاوية وعمرا وأبا موسى وحبيب بن مسلمة ، والضحاك بن قيس ، والوليد بن عقبة ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد.

ولمّا بلغ ذلك معاوية كان يقنت فيلعن عليّا وابن عباس وقيس بن سعد والحسن والحسين (٣)!

وكانت الوقعة بين عمرو والمصريين في موضع يدعى بالمسنّاة في شهر صفر سنة (٣٨ ه‍) (٤) ، فلعلّها كانت متزامنة مع وقعة النهروان ورجوع الإمام عليه‌السلام إلى الكوفة ، فكان انتصاره على الخوارج في النهروان متزامنا مع سقوط مصر بيد عمرو لمعاوية.

وكتب عمرو إلى معاوية : أمّا بعد ، فإنّا لقينا محمد بن أبي بكر وكنانة بن بشر في جموع من أهل مصر ، فدعوناهم إلى الكتاب والسنّة (٥)! فغصبوا الحقّ وتهوّكوا

__________________

(١) المصدران الأسبقان واكتفى البلاذري باسم ابن حديج فقط ٢ : ٣٠٨.

(٢) الغارات ١ : ٢٨٦ عن المدائني.

(٣) وقعة صفين : ٥٥٣ عن الأسدي البصري ، وعنه في الطبري ٥ : ٧١ بتصرف.

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ١٠٥ عن الواقدي.

(٥) كذا في الغارات ، وفي الطبري : إلى الهدى والسنّة وحكم الكتاب! وفي أنساب الأشراف : إلى الهدى والتنبّه! وهو أولى.


(تهالكوا) في الضلال! فجاهدناهم واستنصرنا الله عليهم ، فضرب الله وجوههم وأدبارهم ومنحنا أكتافهم ، فقتل محمّد بن أبي بكر وكنانة بن بشر ، والحمد لله رب العالمين ، والسلام (١).

خبر محمد في الشام والكوفة :

كان للإمام عليه‌السلام عين في الشام يدعى عبد الرحمن بن شبيب الفزاري ، وقدم المبشّرون من مصر إلى معاوية بدمشق يتبع بعضهم بعضا بفتح مصر وقتل ابن أبي بكر ، حتّى رقى معاوية المنبر وأخبر بقتله أهل الشام ففرحوا بذلك فرحا شديدا! وخرج الفزاري إلى الإمام. وكان الحجّاج بن غزية الأنصاري بعد صفّين في مصر ، فقد ما الكوفة على علي عليه‌السلام في يوم واحد فقال له الفزاري : يا أمير المؤمنين! ما رأيت يوما قط سرورا بمثل سرور رأيته بالشام حين أتاهم هلاك ابن أبي بكر!

فقال الإمام عليه‌السلام : أمّا إنّ حزننا على قتله على قدر سرورهم به! لا بل يزيد أضعافا! وحدّثه الأنصاري بما شهد وعاين من هلاك محمد ، فحزن الإمام عليه‌السلام على محمد بن أبي بكر حتّى رئي ذلك وتبيّن في وجهه ، ثمّ قام خطيبا في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :

ألا وإنّ مصر قد افتتحها الفجرة أولياء الجور والظلم ، الذين صدّوا عن سبيل الله وبغوا الإسلام عوجا ، ألا وإنّ محمّد بن أبي بكر قد استشهد رحمه‌الله فعند الله نحتسبه ، أما والله لقد كان ـ ما علمت ـ ينتظر القضاء ويعمل للجزاء ، ويبغض شكل الفاجر ويحبّ هدي المؤمن.

__________________

(١) الغارات ١ : ٢٨٨ ، وفي الطبري ٥ : ١٠٥ عن أبي مخنف بسنده ، وانفرد الأندلسي في العقد الفريد ١ : ١٢٣ بأن رأسه أرسل إلى معاوية فطيف به في دمشق ، فكان أوّل رأس طيف به في الإسلام.


وإنّي ـ والله ـ ما ألوم نفسي على عجز ولا تقصير ، وإنّي بمقاساة الحرب لجدّ بصير ، وإنّي لأقدم على الأمر وأعرف وجه الحزم وأقوم بالرأي المصيب ، فاستصرخكم معلنا ، وأناديكم نداء المستغيث معربا ، فلا تسمعون لي قولا ولا تطيعون لي أمرا ، تصيّرون الأمور إلى عواقب المساءة! فأنتم القوم لا يدرك بكم الثار ولا تنتقض بكم الأوتار ، دعوتكم إلى غياث إخوانكم منذ «بضع وخمسين يوما» فجرجرتم عليّ جرجرة الجمل الأشدق ، وتثاقلتم إلى الأرض تثاقل من ليست له نيّة في جهاد العدو ، ولا رأي له في اكتساب الأجر ، ثمّ خرج إليّ منكم جنيد متذائب ضعيف (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ)(١) فافّ لكم. ثمّ نزل ودخل ودعا عبد الرحمن بن شريح الشبامي فسرّحه إلى مالك بن كعب في طريقه إلى مصر ليردّه فأدركه وأخبره فرجعوا.

وقيل للإمام عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين ؛ لقد جزعت على محمّد بن أبي بكر جزعا شديدا!

فقال لهم : وما يمنعني؟ إنّه كان لي ربيبا وكان لبنيّ أخا (٢) ، وكنت له والدا أعدّه ولدا! (ولكنّه) كان غلاما حدثا! أما والله لقد أردت تولية مصر هاشم بن عتبة المرقال (الزهري) ولو قد ولّيته إيّاها لما خلّى لهم العرصة ولا انهزم الفرصة ، ولما قتل إلّا وسيفه في يده ، بلا ذم لمحمد بن أبي بكر فلقد أجهد نفسه وقضى ما عليه!

__________________

(١) الأنفال : ٦.

(٢) كما في الغارات والطبري وفي البلاذري : كان لابني أخي جعفر أخا ٢ : ٣٠٩. وحرّف في المسعودي : وكان ابن أخي ٢ : ٤٠١.


وكتب إلى ابن عباس بالبصرة : أمّا بعد ، فإنّ مصر قد افتتحت! وقد استشهد محمد بن أبي بكر ، فعند الله نحتسبه ، وقد كنت تقدّمت إلى الناس في بدء الأمر قبل الوقعة بإغاثته ، ودعوتهم سرا وجهرا وعودا وبدءا ، فمنهم الآتي كارها ومنهم المعتلّ كاذبا ومنهم القاعد خاذلا! فأسأل الله تعالى أن يجعل لي منهم فرجا ومخرجا ، وأن يريحني منهم عاجلا! فو الله لو لا طمعي عند لقاء عدوّي في الشهادة ، وتوطيني نفسي على المنيّة لأحببت أن لا أبقى مع هؤلاء يوما واحدا! عزم الله لنا على تقواه وهداه. إنّه على كلّ شيء قدير ، والسلام.

فأجابه ابن عباس أوّلا : سلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك تذكر فيه افتتاح مصر وهلاك محمّد بن أبي بكر ، وأنّك سألت ربّك أن يجعل لك من رعيّتك التي ابتليت بها فرجا ومخرجا! وأنا أسأل الله أن يعلي كلمتك وأن يعينك بالملائكة عاجلا. وأعلم أنّ الله صانع لك ومعزّك ومجيب دعوتك وكابت عدوّك. واخبرك يا أمير المؤمنين أنّ الناس ربما تباطئوا ثمّ نشطوا ، فارفق بهم يا أمير المؤمنين ودارهم ومنهم ، واستعن بالله عليهم ، كفاك الله المهمّ ، والسلام.

وكأنّه علم بعظم همّ الإمام عليه‌السلام وغمّه بفقد محمّد وسقوط مصر فلم ير العزاء بالكتاب كافيا حتّى رحل من البصرة إلى علي عليه‌السلام فعزّاه بمحمّد بن أبي بكر رحمه‌الله (١).

وانصرف الإمام عليه‌السلام من الصلاة فقال شعرا :

لقد عثرت عثرة لا أعتذر

سوف أكيس بعدها واستمر

 وأجمع الشمل الشتيت المنتشر

__________________

(١) الغارات ١ : ٢٩٤ ـ ٣٠١ ، وفي الطبري ٥ : ١٠٨ ـ ١١٠ عن أبي مخنف بسنده ، واختصر الخبر بل اختزله البلاذري في أنساب الأشراف ٢ : ٣٠٧ ـ ٣٠٩ ، وفي نهج البلاغة ذيل خ ٣٩ ، ومصادرها في المعجم : ١٣٨٢.


فقيل : وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال : لما استعملت محمّد بن أبي بكر على مصر كتب إليّ : أنّه لا علم له بالسنّة ، فكتبت إليه كتابا فيه أدب وسنّة ، فقتل وأخذ الكتاب.

أخذ كتبه جميعا ابن العاص وبعث بها إلى معاوية ، فنظر فيه فأعجبه ، فكان ينظر فيه ويعجبه ، ورأى ذلك منه الوليد بن عقبة فقال له : مر بها أن تحرق! أفمن الرأي أن يعلم الناس أنّ أحاديث أبي تراب (!) عندك تتعلّم منها وتقضى بقضائه؟!

فقال له معاوية : ويحك أتأمرني أن احرق علما مثل هذا؟! والله ما سمعت بعلم أجمع منه ولا أحكم ولا أوضح!

فقال له الوليد : إن كنت تعجب من علمه وقضائه فعلام تقاتله؟!

فقال له معاوية : لو لا أنّ أبا تراب (!) قتل عثمان لأخذنا منه فتواه! ثمّ نظر إلى جلسائه وقال : ولكنّا لا نقول : هذه كتب علي بن أبي طالب ، بل نقول : هذه كتب أبي بكر الصدّيق (!) كانت منه عند ابنه محمّد فنحن نفتي بها ونقضي (١)!

__________________

(١) الغارات ١ : ٢٥١ ـ ٢٥٤ عن المدائني وتمام الخبر : فلم تزل تلك الكتب في خزائن بني اميّة حتّى ولي عمر بن عبد العزيز فأظهرها وأظهر أنّها من حديث علي عليه‌السلام. هذا وقد نقلنا سابقا صدر الخبر بطلب محمد وإجابة الإمام عليه‌السلام في أخبار توليته.

ونقل الخبر والرسالة المعتزلي الشافعي عن الغارات في شرح النهج ٢ : ٦٧ ـ ٧٢ وعلّق على ذيل الخبر : إن الأليق بهذا الخبر عن معاوية هو عهد الإمام إلى الأشتر وإنه أيضا صار إليه!


حديث الشقشقيّة (١) :

يبدو أنّ ابن عباس في لقائه هذا بالإمام عليه‌السلام خرج معه يوما إلى الرّحبة (٢) ، وكان عنده إذ ذكرت الخلافة وتقدّم من تقدّم عليه فيها ، فتنفّس الصّعداء ثمّ قال :

أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة أخو تيم ، وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى : ينحدر عنّي السيل ولا يرقى إليّ الطير ، فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها كشحا ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء (مقطوعة : بلا قوّة) أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه؟ فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا : أرى تراثي نهبا.

حتّى إذا مضى الأوّل لسبيله عقدها لأخي عديّ (عمر) بعده! فيا عجبا! بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته «لشدّ ما تشطّرا ضرعيها» :

 «شتّان ما يومى على كورها

ويوم حيّان أخي جابر» (٣)

__________________

(١) في أقدم ما بأيدينا من مصادرنا أورد الخبر الصدوق أوّلا في ج ١ من علل الشرائع ، الباب ٢٢ : العلة التي من أجلها ترك أمير المؤمنين عليه‌السلام مجاهدة أهل الخلاف الحديث ١٢ بطريقين ، عن عكرمة عن ابن عباس نفسه ثمّ في معاني الأخبار باب معاني خطبة لأمير المؤمنين عليه‌السلام : ٣٦٠ بالسندين نفسهما ، فهو أوّل من سمّاها خطبة! ولم تكن خطبة عامّة! ثمّ عنونها الرضي في نهج البلاغة خ ٣ : ومن خطبة له عليه‌السلام المعروفة بالشقشقية ، ومصادرها في المعجم : ١٣٧٧. ورواها الطوسي في الأمالي : ٣٧٢ ، الحديث ١٣٢٥٤ بسندين عن الباقر عن آبائه عليهم‌السلام وعن ابن عباس بلا عكرمة.

(٢) الرحبة : قرية على مرحلة (٤ فراسخ ـ ٢٠ كم تقريبا) من الكوفة نحو القادسية. مراصد الاطلاع : ٦٠٨.

(٣) للأعشى.


فصيّرها ـ والله ـ في حوزة خشناء يخشن مسّها ويغلظ كلمها ، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة : إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحّم ، فمني الناس ـ لعمرو الله ـ بخبط وشماس ، وتلوّن واعتراض ، فصبرت على طول المدّة وشدّة المحنة!

إلى أن حضرته الوفاة فجعلها شورى في جماعة زعم أنّي أحدهم! فيا لله وللشورى! متى اعترض فيّ الريب مع الأوّلين منهم حتّى صرت أقرن إلى هذه النظائر ، لكنّي أسففت إذ أسفّوا وطرت إذ طاروا. فمال رجل لضغنه ، وصغا آخر لصهره ، مع هن وهن!

إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه ، وأسرع معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الابل نبتة الربيع! إلى أن نزت به بطنته وأجهز عليه عمله.

فما راعني إلّا والناس إليّ ، كعرف الضّبع قد انثالوا عليّ ، من كل جانب يسألونني أن ابايعهم ، حتّى لقد وطئ الحسنان وشقّ عطفاي (معطفي).

فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ، وقسطت أخرى ، ومرق آخرون ، كأنّهم لم يسمعوا الله تعالى يقول : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(١) بلى والله لقد سمعوها ووعوها ، ولكن حليت دنياهم في أعينهم وراقهم زبرجها!

أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، لو لا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود «الناصر» وما أخذ الله على العلماء أولياء الأمر أن لا يقرّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتم دنياكم هذه عندي أزهد من عفطة عنز!

__________________

(١) القصص : ٨٣.


وكان رجل من أهل السواد (العراق) ولعلّه من غير المسلمين بها ، قد حضره ومعه كتاب إليه ، وكأنّه هنا توهّم أنّه تمّ كلامه ، فقام ورفع إليه كتابه ، فتوقّف الإمام عليه‌السلام عن كلامه وتناول الكتاب وقرأه ، فلمّا فرغ منه قال له ابن عباس :

يا أمير المؤمنين ؛ لو اطّردت مقالتك (١) من حيث أقضيت! فقال عليه‌السلام :

هيهات ـ يا ابن عباس ـ تلك شقشقة هدرت ثمّ قرّت (٢).

فكان ابن عباس يقول : فما أسفت على كلام كأسفي على كلام أمير المؤمنين إذ لم يبلغ به حيث أراد (٣).

كتابه للناس فيما ضاع من حقّه :

كأنّ ما كان من كلام الإمام عليه‌السلام مع ابن عمّه ابن عباس مثيرا لجمع من أصحابه ، فاجتمع منهم الحارث الأعور الهمداني ، وحبّة العرني ، وحجر بن عدي الكندي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي (٤) واتّفقوا أن يدخلوا متّفقين على علي أمير المؤمنين عليه‌السلام فيسألونه عن رأيه وقوله في أبي بكر وعمر ، وفعلوا ذلك ،

__________________

(١) كذا في السندين في علل الشرائع ومعاني الأخبار ، وكذا في إرشاد المفيد ١ : ٢٩٠ ، وارتضى الرضيّ أن يجعلها : خطبتك ، وعاد الطوسي في الأمالي عن الباقر عليه‌السلام إلى : مقالتك.

(٢) الشقشقة : هي شيء كالرئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج غضبا لئلّا يعضّ الناس! فشبّه الإمام كلامه بالشقشقة التي تخرج علامة على غضب الإبل وهياجها ، فإذا فتر غضبها وهياجها قرّت ، كذلك فتر ما هاج في الإمام من الحزن والألم بفعل فاصل قراءته لكتاب السوادي العراقي ، فقرّ عن شكواه.

(٣) انظر المصادر السالفة الذكر ، وقد ذكر الصدوق معاني الكلمات في الكتابين.

(٤) هنا زاد في الغارات : عبد الله بن سبأ ، وفي الإمامة والسياسة : عبد الله بن وهب الراسبي ، وقد قتل قبل في النهروان.


فقال لهم : وهل فرغتم أو فزعتم لهذا وهذه مصر قد افتتحت وشيعتي بها قد قتلت؟ فأنا مخرج لكم كتابا أخبركم فيه عمّا سألتم ، فاقرءوه على شيعتي وكونوا أعوانا على الحقّ. ثمّ أخرج لهم كتابا هذه نسخته :

بسم الله الرحمنِ الرحیم ، من عبد الله أمير المؤمنين إلى من قرأ كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين ، السلام عليكم فإنّي أحمد الله الذي لا إله إلّا هو.

أمّا بعد ، فإنّ الله بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله نذيرا للعالمين ، وأمينا على التنزيل وشهيدا على هذه الأمة ، وأنتم ـ يا معشر العرب ـ يومئذ على شرّ دين وفي شرّ دار ، منيخون بين حجارة خشن وحيّات صمّ ، وشوك مبثوث في البلاد ، تشربون الماء الخبيث ، وتأكلون الطعام الجشيب ، وتسفكون دماءكم وتقتلون أولادكم ، وتقطّعون أرحامكم ، وتأكلون أموالكم بالباطل ، سبلكم خائفة ، والأصنام فيكم منصوبة والآثام بكم معصوبة (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)(١).

فمنّ الله عليكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فبعثه إليكم رسولا من أنفسكم ، وقال فيما أنزل من كتابه : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٢) وقال : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٣) وقال : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ)(٤) وقال : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(٥).

__________________

(١) يوسف : ١٠٦.

(٢) الجمعة : ٢.

(٣) التوبة : ١٢٨.

(٤) آل عمران : ١٦٤.

(٥) الجمعة : ٤.


فكان الرسول إليكم من أنفسكم بلسانكم ، وكنتم أوّل المؤمنين ، تعرفون وجهه وشعبه وعمارته ، فعلّمكم الكتاب والحكمة ، والفرائض والسنّة ، وأمركم بصلة أرحامكم وحقن دمائكم وصلاح ذات بينكم ، وأن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها ، وأن توفوا بالعهد ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ، وأمركم أن تعاطفوا وتبارّوا وتباذلوا وتراحموا ، ونهاكم عن التناهب والتظالم والتحاسد والتقاذف والتباغي ، وعن شرب الخمر وبخس المكيال ونقص الميزان ، وتقدّم إليكم فيما أنزل عليكم أن لا تزنوا ولا تربوا ولا تأكلوا أموال اليتامى ظلما ، وأن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها ولا تعثوا في الأرض مفسدين ، ولا تعتدوا إن الله لا يحبّ المعتدين ، وكلّ خير يدني إلى الجنة ويباعد من النار أمركم به ، وكلّ شرّ يباعد من الجنّة ويدني من النار نهاكم عنه.

فلمّا استكمل مدّته من الدنيا توفّاه الله إليه سعيدا حميدا ، فيا لها مصيبة خصّت الأقربين وعمّت جميع المسلمين. ما اصيبوا بمثلها قبلها ولن يعاينوا اختها بعدها.

فلمّا مضى لسبيله صلى‌الله‌عليه‌وآله تنازع المسلمون الأمر بعده ، فو الله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر على بالى أن العرب تعدل هذا الأمر بعد محمّد عن أهل بيته ، ولا أنّهم منحّوه عنّي من بعده! فما راعني إلّا انثيال الناس على أبي بكر وإجفالهم إليه ليبايعوه! فأمسكت يدي (عن البيعة له) وأنا أرى أنّي أحقّ بمقام رسول الله في الناس ممّن تولّى الأمر من بعده ، ولبثت بذلك (الامتناع) ما شاء الله حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محقّ دين الله وملّة محمد وإبراهيم عليهما‌السلام ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما وهدما تكون مصيبته عليّ أعظم من فوات ولاية أموركم التي هي متاع أيّام قلائل ثمّ يزول ما كان منها كما يزول السراب وكما يتقشّع السحاب ، فعند ذلك مشيت إلى أبي بكر فبايعته ، ونهضت في تلك الأحداث حتّى زاغ الباطل وزهق ، وكانت كلمة الله


هي العليا ولو كره الكافرون. وتولّى أبو بكر تلك الأمور : فيسّر وشدّد وقارب واقتصد ، فصحبته مناصحا وأطعته ـ فيما أطاع الله ـ جاهدا.

وما طمعت أن لو حدث به حدث ـ وأنا حيّ ـ أن يردّ إليّ الأمر الذي نازعته فيه طمع مستيقن ، ولا يئست منه يأس من لا يرجوه! ولو لا خاصّة ما كان بينه وبين عمر لظننت أنّه لا يدفعها عني!

فلمّا احتضر بعث إلى عمر فولّاه! فسمعنا وأطعنا وناصحنا.

وتولّى عمر الأمر فكان مرضيّ السيرة ميمون النقيبة (١).

حتّى إذا احتضر قلت في نفسي : لن يعدلها عنّي! فجعلني سادس ستة! ما كانوا لولاية أحد أشدّ كراهية منهم لولايتي عليهم (لأنّهم) كانوا يسمعونني أقول عند وفاة الرسول احاجّ أبا بكر : «يا معشر قريش ، إنّا ـ أهل البيت ـ أحقّ بهذا الأمر منكم ما كان فينا من يقرأ القرآن ، ويعرف السنّة ، ويدين دين الحقّ» فخشى القوم إن أنا ولّيت عليهم أن لا يكون لهم ما بقوا نصيب في الأمر! فأجمعوا إجماعا واحدا فصرفوا الولاية إلى عثمان وأخرجوني منها : رجاء أن يناولوها ويتداولوها ، إذ يئسوا أن ينالوا من قبلي! ثمّ قالوا لي : هلمّ فبايع وإلّا جاهدناك! فبايعت مستكرها ، وصبرت محتسبا.

وقال قائلهم : يا ابن أبي طالب ، إنّك على هذا الأمر لحريص! فقلت : أنتم أحرص مني وأبعد : أأنا أحرص إذ طلبت تراثي وحقّي الذي جعلني الله ورسوله أولى به؟! أم أنتم إذ تضربون وجهي دونه وتحولون بيني وبينه؟! فبهتوا (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(٢).

__________________

(١) ظاهرا عند الناس نسبيّا ولا سيّما بالنسبة لمن بعده.

(٢) البقرة : ٢٥٨.


اللهمّ إنّي استعديك على قريش ؛ فإنّهم قطعوا رحمي وأصغوا (واكفئوا) إنائي ، وصغّروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي حقّا كنت أولى به منهم فسلبونيه ثمّ قالوا لي : ألا إنّ في الحقّ أن تأخذه وفي الحقّ أن تمنعه! فاصبر كمدا متوخّما أو مت حنقا متأسّفا!

فنظرت فإذا ليس معي رافد ، ولا ذاب ولا مساعد ، إلّا أهل بيتي فظننت بهم عن الهلاك والمنيّة ، فأغضيت على الأذى وتجرّعت ريقي على الشجى ، وصبرت من كظم الغيظ على شيء أمرّ من العلقم ، وآلم للقلب من حزّ الشفار!

حتّى نقمتم على عثمان وأتيتموه فقتلتموه ، ثمّ جئتموني لتبايعوني ، فأبيت عليكم وأمسكت يدي ، فنازعتموني ودافعتموني ، وبسطتم يدي فكففتها ، ومددتم يدي فقبضتها ، وازدحمتم عليّ حتّى ظننت أن بعضكم قاتل بعض أو أنكم قاتلي! فقلتم : لا نجد غيرك ولا نرضى إلّا بك ، فبايعنا لا نفترق ولا تختلف كلمتنا! فبايعتكم ، ودعوت الناس إلى بيعتي ، فمن بايع طائعا قبلتها منه ، ومن أبى تركته ولم اكرهه.

فبايعني ـ فيمن بايعني ـ طلحة والزبير ، ولو أبيا ما أكرهتهما كما لم اكره غيرهما.

فما لبثا إلّا يسيرا حتّى بلغني أنهما خرجا من مكة متوجهين إلى البصرة ، في جيش ما منهم رجل إلّا بايعني وأعطاني الطاعة.

فقدما على عاملي وخزّان بيت مالي ، وعلى أهل مصر كلهم على بيعتي وفي طاعتي ، فشتّتوا كلمتهم وأفسدوا جماعتهم ، ثمّ وثبوا على شيعتي من المسلمين فقتلوا طائفة منهم غدرا وطائفة صبرا.

وطائفة عصّبوا بأسيافهم فضاربوا بها حتّى لقوا الله صادقين (الجمل الأصغر) فو الله لو لم يصيبوا منهم إلّا رجلا واحدا متعمّدين لقتله بلا جرم جره لحلّ لي به


قتل ذلك الجيش كلّه ، فدع ما أنهم قد قتلوا من المسلمين أكثر من العدة التي دخلوا بها عليهم! وقد أدال الله منهم فبعدا للقوم الظالمين.

ثم إني نظرت في أهل الشام فإذا أحزاب أعراب أهل طمع ، جفاة طغام ، يجتمعون من كل أوب! ومن كان ينبغي أن يؤدّب ويدرّب ، أو يولّى عليه ويؤخذ على يديه ، ليسوا من المهاجرين ولا الأنصار ولا التابعين لهم بإحسان. فسرت إليهم فدعوتهم إلى الطاعة والجماعة ، فأبوا إلّا شقاقا ونفاقا ، ونهضوا في وجوه المسلمين ينضحونهم بالنبل ويشجرونهم بالرماح. فهناك نهدت إليهم بالمسلمين (في صفين) فقاتلتهم.

فلما عضّهم السلاح ووجدوا ألم الجراح «رفعوا المصاحف» يدعونكم إلى ما فيها! فأنبأتكم أنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن! وأنهم رفعوها مكيدة وغدرا ، وخديعة وو هنا وضعفا ، فامضوا على حقكم وقتالكم! فأبيتم عليّ وقلتم : اقبل منهم ، فإن أجابوا إلى ما في الكتاب جامعونا على ما نحن عليه من الحقّ ، وإن أبوا كان أعظم لحجّتنا عليهم. فقبلت منكم وكففت عنهم إذ أبيتم وونيتم. وكان الصلح بينكم وبينهم على رجلين يحييان ما أحيا القرآن ويميتان ما أمات القرآن!

فاختلف رأيهما وتفرق حكمهما ، ونبذا ما في القرآن وخالفا ما في الكتاب ، فجنّبهما الله السداد ودلّاهما في الضلال! فنبذا حكمهما (القرآن والسنة) وكانا أهله!

واعتزلت فرقة منّا (وانقطعت عنّا) فتركناهم ما تركونا ، حتّى إذا عثوا في الأرض يقتلون ويفسدون ، فأتيناهم وقلنا لهم : ادفعوا إلينا قتلة إخواننا ثمّ كتاب الله بينكم وبيننا! فقالوا : كلّنا قتلهم وكلّنا استحلّ دماءهم ودماءكم! وشدّت علينا خيلهم ورجالهم ، فصرعهم الله مصارع الظالمين (١).

__________________

(١) إلى هنا عن المسترشد للطبريّ الإمامي ق ٤ : ٤٠٩ ـ ٤٢٧ عن الشعبي ، عن شريح بن هاني ، قال : خطب بها ثمّ قال : «وإنّي مخرج بها إليكم كتابا» بزيادات منها : النساء


فلمّا كان ذلك من شأنهم أمرتكم أن تمضوا من فوركم ذلك إلى عدوّكم فقلتم : كلّت سيوفنا ونفدت نبالنا ، ونصلت أسنّة رماحنا وعاد أكثرها قصدا (متكسّرة) فارجع بنا إلى مصرنا لنستعدّ بأحسن عدّتنا ، وإذا رجعت وزدت في مقاتلتنا عدّة من هلك منّا وفارقنا فإنّ ذلك أقوى لنا على عدوّنا! فأقبلت بكم ، حتّى إذا أظللتم على الكوفة بالنخيلة أمرتكم أن تنزلوا فيها وأن تلزموا معسكركم ، وأن تضمّوا قواضبكم ، وأن توطّنوا على الجهاد أنفسكم ، ولا تكثروا زيارة أبنائكم ونسائكم ، فإنّ أصحاب الحرب المصابروها وأهل التشمير فيها ، لا ينوحون من سهر ليلهم ولا ظمأ نهارهم ، ولا خمص بطونهم ولا نصب أبدانهم. فنزلت طائفة منكم معي (بالنخيلة) معذّرة ، ودخلت طائفة منكم المصر (الكوفة) عاصية! فلا من بقي منكم (بالنخيلة) ثبت وصبر! ولا من دخل المصر (الكوفة) عاد ورجع! فنظرت إلى معسكري وليس فيه خمسون رجلا!

فلمّا رأيت ما أتيتم دخلت إليكم فما قدرت على أن تخرجوا معي إلى يومنا هذا فما تنتظرون؟!

أما ترون إلى أطرافكم قد انتقصت (بالغارات) وإلى أمصاركم قد افتتحت (في مصر) وإلى شيعتي بها قد قتلت! وإلى مسالحكم تعرى ، وإلى بلادكم تغزى! وأنتم ذوو عدد كثير! وشوكة وبأس شديد! فما بالكم؟! لله أنتم؟ من أين تؤتون؟! وأنّى تؤفكون؟! وأنّى تسحرون؟! ولو أنّكم عزمتم وأجمعتم لم تراموا.

__________________

ـ نواقص العقول ... وليست في الخبر المعتبر في الغارات ولا فيما اختصره منها ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ١ : ١٥٤ ـ ١٥٩ ، وأشار إلى الخبر البلاذري في أنساب الأشراف ٢ : ٢٩٠ وقال : كان عند ابن سبأ نسخة حرّفها! فلعلّ الزيادة في النساء منها. ويبدو أنّ الرضي نقلها في نهج البلاغة عن المسترشد وفقا له.


ألا إنّ القوم قد اجتمعوا وتناشبوا وتناصحوا ، وأنتم قد ونيتم وتغاششتم وافترقتم!

إن أتممتم أنتم على ذي فما أنتم عندي سعداء ، فأنبهوا نائمكم واجتمعوا على حقّكم ، وتجرّدوا لحرب عدوّكم. قد بدت الرغوة عن الصريح ، وقد بيّن الصبح لذي عينين ، إنّما تقاتلون الطلقاء ، وأبناء الطلقاء ، واولي الجفاء ومن أسلم كرها ، وكان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنف الإسلام (صدره) كلّه حربا ، أعداء الله والسنّة والقرآن ، وأهل البدع والأحداث ، ومن كانت بوائقه تتّقى ، وكان على الإسلام وأهله مخوفا ، وأكلة الرشا ، وعبدة الدنيا.

ولقد أنهي إليّ أنّ ابن النابغة (ابن العاص) لم يبايع (لمعاوية) حتّى أعطاه ثمنا وشرط أن يؤتيه إتاوة هي أعظم ممّا في يده من سلطانه (وهي مصر) ألا صفرت يد هذا البائع دينه بالدنيا (ابن العاص) وخزيت أمانة هذا المشتري نصرة فاسق غادر (ابن العاص) بأموال المسلمين.

وإنّ فيهم لمن قد شرب الخمر فيكم (في الكوفة) وجلد الحدّ في الإسلام (بالمدينة) يعرف بالفساد في الدين والفعل السيّئ (الوليد بن عقبة).

وإنّ منهم لمن لم يسلم حتّى رضخ له على الإسلام رضيخة (عطيّة المؤلّفة قلوبهم) فهؤلاء قادة القوم!

ومن تركت ذكر مساويه من قادتهم مثل من ذكرت منهم ، بل هو شرّ منهم.

وهؤلاء الذين ذكرت لو ولّوا عليكم لا ظهروا فيكم الكبر والفساد والفجور ، والتسلّط بالجبريّة ، والفساد في الأرض ، واتبعوا الهوى ، وحكموا بغير الحقّ.

ولأنتم ـ على ما كان فيكم من تواكل وتخاذل ـ خير منهم وأهدى سبيلا : ففيكم العلماء والفقهاء والنجباء والحكماء ، وحملة الكتاب ، والمتهجّدون بالأسحار ،


وعمّار المساجد بتلاوة القرآن ، أفلا تسخطون وتهتمّون أن ينازعكم الولاية عليكم سفهاؤكم ، والأشرار الأراذل منكم؟

فاسمعوا ـ هداكم الله ـ قولي إذا قلت ، وأطيعوا أمري إذا أمرت ، فو الله لئن أطعتموني لا تغوون ، وإن عصيتموني لا ترشدون! خذوا للحرب اهبتها ، وأعدّوا لها عدّتها ، وأجمعوا لها فقد شبّت واوقدت نارها وعلا شنارها ، وتجرّد لكم فيها الفاسقون كي يعذّبوا عباد الله (بالغارات) ويطفئوا نور الله.

ألا إنّه ليس أولياء الشيطان ـ من أهل الطمع والجفاء والكبر ـ بأولى بالجدّ في غيّهم وضلالهم وباطلهم ، من أولياء الله أهل البرّ والزهادة والإخبات في حقّهم ، وطاعة ربّهم ومناصحة إمامهم. إنّي ـ والله ـ لو لقيتهم فردا وهم ملء الأرض ما باليت ولا استوحشت! وإنّي من ضلالتهم التي هم فيها والهدى الذي نحن عليه لعلى ثقة وبيّنة ويقين وصبر! وإنّي إلى لقاء ربّي لمشتاق ولحسن ثواب ربّي لمنتظر ، ولكن أسفا يعتريني وحزنا يخامرني : من أن يلي أمر هذه الأمّة سفهاؤها وفجّارها ، فيتّخذوا مال الله دولا وعباد الله خولا (عبيدا) والصالحين حربا والفاسقين حزبا! وأيم الله لو لا ذلك لما أكثرت تأنيبكم ، وتأليبكم وتحريضكم ، ولتركتكم إذ ونيتم وأبيتم ، حتى ألقاهم بنفسي متى ما حمّ لي لقاؤهم ، فو الله إنّي لعلى الحقّ وإنّي للشهادة لمحبّ.

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١).

ولا تثّاقلوا إلى الأرض فتقرّوا بالخسف ، وتبوءوا بالذلّ والعسف ، ويكن نصيبكم الأخسر!

__________________

(١) التوبة : ٤١.


إنّ أخا الحرب اليقظان الأرق! ومن نام لم ينم عنه! ومن ضعف أودى (هلك) ومن ترك الجهاد كان كالمغبون المهين. اللهم اجمعنا وإيّاهم على الهدى وزهّدنا وإيّاهم في الدنيا ، واجعل الآخرة لنا ولهم خيرا من الأولى ، والسلام (١).

مقتل محمد بن أبي حذيفة :

كان محمد بن أبي حذيفة ، ابن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وأبو حذيفة بن عتبة هو أخو هند بنت عتبة أمّ معاوية ، فهو خال معاوية ، ومحمد ابن خال معاوية ، وقد مرّ خبره أنّه كان من أوائل المحرّضين على عثمان بمصر مع محمد بن أبي بكر ، ومن كبار ثوار مصر ، وهو الذي أخرج منها عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخا عثمان لامّه وعامله على مصر ، واستولى عليها ، ولكنّ الإمام عليه‌السلام لم يقرّه عليها واستبدله بقيس بن سعد الأنصاري ثمّ محمّد بن أبي بكر ، ولا نجد فيما بأيدينا أيّ خبر عن أيّ شأن له اليوم في مصر مع ابن أبي بكر إلى أن قتل هذا.

فروى الثقفي عن المدائني : أنّ ابن العاص لمّا قتل ابن أبي بكر واستولى على مصر بحث عن صاحبه السابق محمد بن أبي حذيفة حتّى أصابه فلم يقتله وإنّما بعث به إلى معاوية ، وكان يومئذ في فلسطين ، ليرى فيه رأيه بوصفه من المثيرين على عثمان ، ولم يقتله معاوية وإنّما أمر بحبسه في سجن له.

__________________

(١) الغارات ١ : ٣٠٢ ـ ٣٢٢ عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه. ولعلّه عنه الكليني في رسائله كما عنه ابن طاوس في كشف المحجة لثمرة المهجة : ١٧٣ الباب ١٥٥. ونقلها الطبريّ الإمامي في المسترشد : ٤٠٩ ـ ٤٢٧ عن الشعبي وعن شريح بن هانئ بزيادات ، واختصر الخبر ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ١ : ١٥٤ ـ ١٥٩ ، وأشار إليه البلاذري في أنساب الأشراف ٢ : ٢٩٠ ، كما مرّ سابقا وفي نهج البلاغة مقاطع منه يطول تعدادها.


وبعد مكث غير كثير هرب من السجن ، واخبر به معاوية ، فقال لمن حضره : من يطلبه؟ وكان يحضره عبد الله بن عمرو الخثعمي فقال له : أنا أطلبه ، وخرج بخيله في طلبه إلى جهة حوارين ، فمرّ بناس في حصاد ومعهم حمير وأصابهم المطر وكان قربهم غار فدفعوا بحميرهم نحو الغار ، فلمّا دخلت الحمير الغار نفرت وتراجعت ، فذهب أصحابها لينظروا ممّ نفرت حميرهم من الغار ، وإذا بهم يرون فيه رجلا ، فخرجوا.

ووافاهم عبيد الله الخثعمي وسألهم عن رجل وصفه لهم ، فقالوا له : ها هو ذا في الغار! فاستخرجه ، وكان عثمانيّا فخاف إذا حمله إلى معاوية أن لا يقتله لقرابته فقتله (١).

وطمع في البصرة بعد مصر :

لكلّ قاعدة شواذ ، ومن شواذ بني عبد قيس العلويين بالبصرة : صحار بن عباس العبدي ، فإنّه كان ممّن يرى رأي عثمان ويخالف قومه في حبّهم عليّا عليه‌السلام ونصرتهم إيّاه. فلمّا بلغه وقعة معاوية بأهل مصر وبعد مصير ابن عباس من البصرة إلى الكوفة لتعزية الإمام عليه‌السلام في ذلك حضورا لديه ، اغتنم فرصة غيابه عن البصرة وعزم على تطميع معاوية فيها ، فكتب إليه يقول له :

أمّا بعد ، فقد بلغنا وقعتك بأهل مصر ، الذين بغوا على إمامهم وقتلوا خليفتهم بغيا وظلما! فقرّت بذلك العيون! وشفيت بذلك النفوس ، وثلجت أفئدة أقوام كانوا لقتل عثمان كارهين ولعدوّه مفارقين ولكم موالين وبك راضين! فإن رأيت أن تبعث إلينا أميرا زكيّا طيّبا ذا عفاف ودين! يدعو (وليس يغزو!) إلى الطلب بدم عثمان ، فعلت : فإنّي لا أخال الناس إلّا مجمعين عليك! فإنّ ابن عباس غائب عن الناس! والسلام.

__________________

(١) الغارات ١ : ٣٢٧ ـ ٣٢٩ عن المدائني.


فلمّا وصل كتابه إلى معاوية وقرأه قال : لا عزمت على رأي سوى ما كتب به هذا إليّ ، وأجابه :

أمّا بعد ، فقد قرأت كتابك فعرفت نصيحتك ، وقبلت مشورتك ، فرحمك الله وسدّدك! فاثبت ـ هداك الله ـ على رأيك الرشيد هذا! فكأنّك بالرجل الذي سألت قد أتاك ، وكأنّك بالجيش قد أطلّ عليك ، فسررت وحبيت وقبلت! والسلام (١).

ورأى معاوية أن يكتب بذلك إلى ابن العاص بمصر يستطلع رأيه في ذلك ، فكتب إليه :

من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص ، سلام عليك ، أمّا بعد ، فإنّي قد رأيت رأيا وهممت بإمضائه ، ولم يخذلني عنه إلّا استطلاع رأيك ، فإن توافقني أحمد الله وامضيه! وإن تخالفني فاستخير الله وأستهديه ، إنّي نظرت أمر أهل البصرة فوجدت عظم أهلها لنا وليّا ولعليّ و «شيعته» عدوّا! فقد أوقع بهم عليّ الوقعة التي علمت (الجمل) فأحقاد تلك الدماء ثابتة في صدورهم لا تبرح ولا تريم (تزول) وقد علمت أنّ قتلنا محمّد بن أبي بكر أطفأت نيران أصحاب علي في الآفاق! ورفعت رءوس «أشياعنا» أينما كانوا من البلاد! وقد بلغ من كان بالبصرة على مثل رأينا ما بلغ الناس ، وليس أحد ممّن يرى رأينا أكثر عددا ولا أضرّ خلافا على عليّ من أولئك!

فقد رأيت أن أبعث إليهم عبد الله بن عامر الحضرمي (٢) فينزل في مضر ، ويتودّد الأزد ، ويحذر ربيعة ، وينعى دم عثمان بن عفان ، ويذكّرهم وقعة عليّ بهم ، التي أهلكت صالحي آبائهم وإخوانهم وأبنائهم! وعند ذلك أرجو أن يفسدوا على عليّ و «شيعته» ذلك الثغر من الأرض! وإذا اتوا من أمامهم وخلفهم يضل سعيهم ويبطل كيدهم!

__________________

(١) الغارات ٢ : ٣٨٥ ـ ٣٨٦ متنا وهامشا.

(٢) مشابها لاسم واليهم السابق عن عثمان ابن خالته : عبد الله بن عامر بن كريز الفهري.


فهذا رأيي ، فما رأيك؟ ولا تحبس رسولي إلّا قدر مضيّ الساعة التي ينتظر فيها جواب كتابي هذا! أرشدنا الله وإياك! والسلام عليك ورحمة الله وبركاته!

فأجابه ابن العاص : أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك فقرأته وفهمت رأيك الذي رأيته ، فعجبت له وقلت : إنّ الذي ألقاه في روعك وجعله في نفسك هو الثائر لابن عفّان والطالب بدمه ، وإنّه لم يك منّا ولا منك ولا رأى الناس رأيا أضرّ على عدوّك ولا أسرّ لوليّك من هذا الأمر الذي ألهمته ، منذ نهضنا في هذه الحروب ونادينا أهلها! فأمض رأيك مسدّدا ، وقد وجّهت الأريب الصليب الناصح غير الظنين ، والسلام (١).

ابن الحضرمي في البصرة :

فلمّا وصله كتاب عمرو كتب كتابا لأهل البصرة مع ابن الحضرمي ثمّ دعاه فقال له : يا ابن الحضرمي ، سر إلى البصرة ، فإنّ جلّ أهلها يرون رأينا في عثمان ويعظّمون قتله ، وقد قتلوا في الطلب بدمه فهم موتورون حنقون لما أصابهم ، ودّوا لو يجدون من يدعوهم ويجمعهم وينهض بهم في الطلب بدم عثمان! وانزل في مضر واحذر ربيعة وتودّد الأزد ، فإنّ الأزد كلّهم معك إلّا قليلا منهم ، واحذر من تقدّم عليه! وانع عثمان بن عفان وذكّرهم الوقعة التي أهلكتهم (الجمل) ومنّ لمن سمع وأطاع دنيا لا تفنى! وأثرة لا يفقدها حتّى يفقدنا أو نفقده.

فقال له ابن الحضرمي : أنا سهمك في كنانتك ، وأنا من قد جرّبت ، عدوّ أهل حربك وظهيرك على قتلة عثمان ، فوجّهني إليهم متى شئت! فقال له : اخرج غدا إن شاء الله وأعطاه كتابه إلى أهل البصرة ، ثمّ ودّعه وخرج من عنده.

__________________

(١) الغارات ٢ : ٣٧٦ ـ ٣٧٨ بسنده.


وخرج من دمشق ومن الشام إلى البصرة حتّى نزل في بني تميم ، وسمع بقدومه أهلها والعثمانيّة فيها ، واجتمع إليه رءوسهم ، فقام ابن عامر خطيبا فيهم ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا بعد ، أيّها الناس ، فإنّ عثمان إمامكم إمام الهدى قتله عليّ بن أبي طالب ظلما ، فطلبتم بدمه وقاتلتم من قتله ، فجزاكم الله من أهل مصر خيرا ، وقد أصيب منكم الملأ الأخيار! وقد جاءكم الله بإخوان لكم لهم بأس شديد يتّقى وعدد الحصى ، فلقوا عدوّكم الذين قاتلوكم ، فبلغوا الغاية التي أرادوا صابرين ورجعوا وقد نالوا ما طلبوا! فمالئوهم وساعدوهم ، وتذكّروا ثأركم تشفوا صدوركم من عدوّكم!

وكان ممّن قدم مع ابن الحضرمي من الشام عبد الرحمن بن عمير المزني القرشي فقام وقال : عباد الله ، إنّا لم ندعكم إلى الاختلاف والفرقة! ولا نريد أن تقتتلوا ولا أن تتنابذوا ، ولكنّا إنّما ندعوكم إلى أن تجمعوا كلمتكم وتوازروا إخوانكم الذين هم على رأيكم! وأن تلمّوا شعثكم وتصلحوا ذات بينكم ، فمهلا اسمعوا لهذا الكتاب الذي يقرأ عليكم ، وأخرج كتاب معاوية وفيه :

من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى من قرئ عليه كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين من أهل البصرة ، سلام عليكم ، أمّا بعد فإنّ سفك الدماء بغير حلّها وقتل النفس التي حرّم الله قتلها هلاك موبق وخسران مبين! لا يقبل الله ممّن سفكها صرفا ولا عدلا!

وقد رأيتم رحمكم الله آثار ابن عفان وسيرته ، وحبّه للعافية ومعدلته وسدّه للثغور ، وإعطاءه للحقوق وإنصافه للمظلوم! وحبّه للضعيف! حتّى وثب عليه الواثبون وتظاهر عليه الظالمون! فقتلوه مسلما محرما (كذا!) ظمآن صائما (!) لم يسفك منها دما ولم يقتل منهم أحدا ، ولا يطلبونه بضربة سيف ولا سوط!


وإنّما ندعوكم ـ أيّها المسلمون ـ إلى الطلب بدمه وقتال من قتله! فإنّا وإياكم على أمر هدى واضح وسبيل مستقيم. إنّكم إن جامعتمونا طفئت النائرة واجتمعت الكلمة! واستقام أمر هذه الأمّة ، وأقرّ الظالمون المتوثبون الذين قتلوا امامهم بغير حقّ فأخذوا بجرائرهم وما قدّمت أيديهم!

إنّ لكم عليّ أن أعمل فيكم بالكتاب وأن أعطيكم في السنّة عطاءين! ولا أحمل من فيئكم شيئا أبدا! فنازعوا إلى ما تدعون إليه رحمكم الله.

وقد بعثت إليكم رجلا من الناصحين! وكان من أمناء خليفتكم المظلوم ابن عفّان وعمّاله وأعوانه على الحقّ والهدى! جعلنا الله وإيّاكم ممّن يجيب إلى الحقّ ويعرفه وينكر الباطل ويجحده ، والسلام عليكم ورحمة الله.

فقال معظمهم : سمعنا وأطعنا ، إلّا الأحنف بن قيس التميمي السعدي فإنه قام وقال : أمّا أنا فلا ناقة لي في هذا ولا جمل ، واعتزلهم!

ولكن قام عمرو بن مرجوم العبدي (من عبد القيس) والتفت إلى الناس وقال لهم : أيها الناس ، الزموا طاعتكم ولا تنكثوا بيعتكم ، فتقع بكم واقعة وتصيبكم قارعة ، ولا تكن لكم بعدها بقيّة! ألا إنّي قد نصحت لكم ولكن لا تحبّون الناصحين.

وكانت أمّ عبد الله بن عباس من بني هلال ، وكان منهم بالبصرة الضحّاك بن عبد الله الهلالي فقام والتفت إلى الحضرمي وقال له : قبّح الله ما جئتنا به ودعوتنا إليه ، جئتنا والله بمثل ما جاء به صاحباك طلحة والزبير ، أتيانا وقد بايعنا عليّا واجتمعنا له وكلمتنا واحدة ، ونحن على سبيل مستقيم ، فدعوانا إلى الفرقة وقاما فينا بزخرف القول ، حتّى ضربا بعضنا ببعض عدوانا وظلما ، فاقتتلنا على ذلك ، وايم الله ما سلمنا من عظيم وبال ذلك.

ونحن الآن مجتمعون على بيعة هذا العبد الصالح الذي قد أقال العثرة وعفا عن المسيء ، وأخذ بيعة غائبنا وشاهدنا ، أفتأمرنا الآن أن نختلع أسيافنا من أغمادها


ثمّ يضرب بعضنا بعضا ليكون معاوية أميرا وتكون له أنت وزيرا! ونعدل بهذا الأمر عن عليّ؟ والله ليوم من أيّام علي مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خير من بلاء معاوية وآل معاوية لو بقوا في الدنيا ما الدنيا باقية!

فقام عبد الله بن خازم السلمي وكان رجلا أسود من غربان العرب والتفت إلى الضحّاك الهلالي وقال له :

اسكت! فلست بأهل أن تتكلّم في أمر العامّة! فأجابه الضحّاك :

يا ابن السوداء! والله لا يعزّ من نصرت ولا يذلّ من خذلت! وتشاتما (١).

وكان عباس بن صحار العبدي عثمانيّا على خلاف قومه عبد القيس ، فقام إلى ابن الحضرمي وقال له : إي والذي له أسعى وإيّاه أخشى لننصرنّك بأسيافنا وأيدينا.

وقام المثنّى بن مخرمة العبدي إليه وقال له : لا والذي لا إله إلّا هو لئن لم ترجع إلى مكانك الذي أقبلت منه لنأخذنّك بأسيافنا وأيدينا ونبالنا وأسنّة رماحنا! أنحن ندع ابن عمّ نبيّنا وسيد المسلمين ، وندخل في طاعة حزب من الأحزاب طاغ؟! والله لا يكون ذلك أبدا حتى تسير كتيبة إلى كتيبة ونفلّق إلهام بالسيوف!

ومع ذلك أقبل الناس على ابن الحضرمي وكثر أتباعه (٢).

مصير زياد بالبصرة :

كان ابن عباس قد استخلف زياد بن عبيد الثقفي (ابن أبيه) ورحل إلى علي عليه‌السلام بالكوفة ليعزّيه عن مقتل محمّد بن أبي بكر ، فلمّا أقبل الناس على

__________________

(١) الغارات ٢ : ٣٧٨ و ٣٧٤ ـ ٣٨١ و ٣٨٢ ـ ٣٨٥.

(٢) الغارات ٢ : ٣٨٧ ـ ٣٨٩.


ابن الحضرمي وكثر أتباعه فزع زياد وهاله ذلك ، فبعث إلى الحضين بن منذر الرقاشي ومالك بن مسمع (؟) فدعاهما وقال لهما : إنّكم أنصار أمير المؤمنين و «شيعته» وثقته ، وقد جاءكم هذا الرجل بما قد بلغكم ، فأجيروني حتّى يأتيني أمر أمير المؤمنين ورأيه.

فقال الحضين الرقاشي : نعم ، نحن فاعلون ، ولن نخذلك ولن نسلمك!

ولكن مالكا قال : أمّا أنا فأرجع إلى من ورائي واستشيرهم في ذلك وانظر فيه ثمّ ألقاك!

فلم ير زياد منهما ما يطمئنّ إليه (١).

وكان أبو الأسود الدؤلي على بيت المال فاستشاره زياد وقال له : ألا ترى كيف صغى أهل البصرة إلى معاوية؟! وما لي مطمع في الأزد!

فقال له أبو الأسود : إن أنت تركتهم تركوك ولم ينصروك ولكنّك إن أصبحت فيهم منعوك (٢)!

فبعث زياد إلى صبرة بن شيمان الأزدي فقال له : يا ابن شيمان ، أنت سيّد قومك وأحد عظماء هذا المصر ، فإن لم يكن فيه أحد هو أعظم أهله فأنت ، أفلا تجيرني وتمنعني؟ وتمنع بيت مال المسلمين ، فإنّما أنا أمين عليه!

فأجابه صبرة : بلى إن أنت تحمّلت حتّى تنزل في داري منعتك! فوافقه على ذلك ثمّ ارتحل ليلا حتى نزل دار صبرة ، ولما أصبح كتب إلى عبد الله بن عباس :

للأمير عبد الله بن عباس ، من زياد بن عبيد (الثقفي) سلام عليك ، أمّا بعد ، فإنّ عبد الله بن عامر الحضرمي أقبل من قبل معاوية حتّى نزل في بني تميم ، ونعى ابن عفّان ودعا إلى الحرب ، فتابعه جلّ أهل البصرة! فلمّا رأيت ذلك استجرت في الأزد

__________________

(١) الغارات ٢ : ٣٨٧ و ٣٨٩.

(٢) الغارات ٢ : ٣٩١ عن الكلبي.


بصبرة بن شيمان وقومه لنفسي ولبيت مال المسلمين ، فرحلت من قصر الإمارة فنزلت فيهم ، وإنّ الأزد معي ، و «شيعة» أمير المؤمنين من سائر القبائل تختلف إليّ ، وشيعة عثمان تختلف إلى ابن الحضرمي ، والقصر خال منّا ومنهم. فارفع ذلك إلى أمير المؤمنين ليرى فيه رأيه ، ويعجّل عليّ بالذي يرى أن يكون منه فيه ، والسلام.

فلمّا بلغ ذلك إلى ابن عباس رفعه إلى علي عليه‌السلام فشاع ذلك في الناس.

وكان دار صبرة الأزدي قريبا من محلّة بني حدّان من بني تميم وكان لهم مسجد هناك ولم يوافقوا سائر بني تميم مع ابن الحضرمي ، فقال صبرة لزياد : ليس حسنا أن تكون مختفيا فينا بل نمشي بك إلى مسجد الحدّان ، ووافقه زياد ، فاتّخذ صبرة له منبرا وسريرا في ذلك المسجد وجعل له شرطا ، ولمّا كان يوم الجمعة صلّى بهم الجمعة هناك ، فاجتمعت الأزد على زياد فصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم :

يا معشر الأزد ، أنتم كنتم (بالأمس) أعدائي فأصبحتم اليوم أوليائي وأولى الناس بي ، وإنّي لو كنت في بني تميم وكان ابن الحضرمي نازلا فيكم لم أطمع فيه أبدا ، فلا يطمع ابن الحضرمي فيّ وأنتم دوني ، وليس «ابن آكلة الأكباد» في بقيّة الأحزاب وأولياء الشيطان بأدنى إلى الغلبة من أمير المؤمنين علي في المهاجرين والأنصار ، وقد أصبحت فيكم مضمونا وأمانة مؤدّاة ، وقد رأينا وقعتكم «يوم الجمل» فاصبروا مع الحقّ اليوم كصبركم مع الباطل بالأمس ، فإنّكم لا تحمدون إلّا على النجدة ، ولا تعذرون على الجبن! وسكت.

فقام صبرة بن شيمان فقال لهم : يا معشر الأزد ، إنّا قلنا «يوم الجمل» : نمنع مصرنا ونطيع أمّنا وننصر خليفتنا المظلوم! فأنعمنا القتال ، وأقمنا بعد انهزام الناس حتّى قتل منّا من لا خير فينا بعده! وهذا زياد جاركم اليوم ، والجار مضمون! ولسنا نخاف من علي ما نخاف من معاوية! فهبوا لنا أنفسكم ، وامنعوا جاركم ، أو فأبلغوه مأمنه!


فقال الأزديّون : إنّما نحن تبع لكم ، فأجيروه. وقام شيمان بن صبرة وقال لهم :

يا معشر الأزد ، ما أبقت عواقب الجمل عليكم إلّا سوء الذكر! وقد كنتم بالأمس على عليّ فكونوا اليوم له ، واعلموا أنّ سلمكم جاركم ذلّ وخذلكم إيّاه عار! وأنتم حيّ مضماركم الصبر وعاقبتكم الوفاء ، فإن سار القوم بصاحبهم فسيروا بصاحبكم ، وإن وادعوكم فوادعوهم ، وإن استمدّوا معاوية فاستمدّوا عليّا (١).

هذا وقد كان ابن الحضرمي قد أقبل من قبل على صبرة الأزدي وقال له : يا صبرة ، أنت عظيم من عظماء العرب ورأس قومك وأحد الطالبين بدم عثمان (سابقا) رأينا رأيك ورأيك رأينا وبلاء القوم عندك في نفسك وعشيرتك ما قد ذقت ورأيت! فكن من دوني وانصرني!

وكان صبرة قد أجابه من قبل بمثل جوابه لزياد ، قال له : إن أنت أتيت فنزلت في داري نصرتك ومنعتك! فقال ابن الحضرمي : ولكن أمير المؤمنين معاوية! قد أمرني أن أنزل في قومه من مضر : فقال صبرة : فاتّبع ما أمرك به! وانصرف من عنده (٢).

وحاول الحضرمي القصر فمنع منه :

وحين خلًّا زياد القصر أمر العثمانيون من قيس وبني تميم ابن الحضرمي أن يسير إلى القصر ، ووافقهم ودعا من أجابه منهم لذلك ، وبلغ ذلك الأزد فبعثوا إلى هؤلاء : والله إنّا لا ندعكم أن تأتوا القصر فتنزلون به من لا نرضى ونحن له كارهون ، حتى يأتي رجل هو رضى لنا ولكم! وألحّ هؤلاء وأصرّ أولئك.

__________________

(١) الغارات ٢ : ٣٩٠ ـ ٣٩٣.

(٢) الغارات ٢ : ٣٨٨ ـ ٣٨٩.


فتوسّط بينهم الأحنف التميمي فقال لقومه مع ابن الحضرمي : والله ما أنتم بقصر الإمارة بأحقّ من القوم ، وما لكم أن تؤمّروا عليهم من يكرهونه ، فانصرفوا عنهم.

وقال للأزد : إنّه لم يكن ما تكرهون ، ولن يؤتى إلّا ما تحبون! فانصرفوا رحمكم الله ، فانصرفوا (١).

ولمّا رأى بنو تميم أنّ الأزد قاموا هكذا دون زياد بالدفاع بعثوا إليهم : أن أخرجوا صاحبكم ونحن أيضا نخرج صاحبنا ، فإذا غلب أحدهما دخلنا في طاعته من دون أن نهلك أنفسنا!

فأجابهم شيمان بن صبرة : نعم لو كان هذا قبل أن نجيره ، أمّا الآن فقتله وإخراجه سواء ، وإنّكم لتعلمون أنّا لم نجره إلّا تكرّما ، فالهوا عن هذا (٢).

الإمام والحمية القبلية :

كان أكثر الأزد في حرب البصرة مع «الجمل» أمّا بنو تميم فقد انضمّ بعضهم إلى الإمام عليه‌السلام وبإذنه تخلّف كثير منهم مع الأحنف بن قيس. ثمّ انضمّ كثير من الأزد إلى الإمام عليه‌السلام ومنهم مخنف بن سليم الذي ولّاه الإمام على همدان وأصفهان ثمّ استقدمه لحرب صفّين ، وكان اليوم حاضرا معه في الكوفة. وكان من بني تميم في الكوفة شبث بن ربعي اليربوعي التميمي وكره لجوء زياد إلى الأزد ، فقال للإمام عليه‌السلام وبمسمع من مخنف :

يا أمير المؤمنين ، ابعث إلى هذا الحيّ من تميم (البصرة) فادعهم إلى طاعتك ولزوم بيعتك ، ولا تسلّط عليهم أزد عثمان البعداء البغضاء! فإنّ «واحدا من قومك خير لك من عشرة من غيرهم» (مثل)!

__________________

(١) الغارات ٢ : ٣٩١.

(٢) الغارات ٢ : ٣٩٤.


فلمّا سمع بذلك مخنف بن سليم الأزدي أجابه : إنّ البعيد البغيض من عصى الله وخالف أمير المؤمنين ، وهم قومك! وإن الحبيب القريب من أطاع الله ونصر أمير المؤمنين وهم قومي! وأحدهم خير لأمير المؤمنين من عشرة من قومك!

فرآها الإمام عليه‌السلام حميّة شيطانيّة جاهليّة فقال لهما : مه ؛ أيها الناس ، تناهوا ، وليردعكم الإسلام ووقاره عن التباغي والتهاذي ، ولتجتمع كلمتكم ، وألزموا دين الله الذي لا يقبل من أحد غيره ، وكلمة الإخلاص التي هي قوام الدين ، وحجّة الله على الكافرين. واذكروا إذ كنتم قليلا مشركين ، متفرقين متباغضين ، فألّف بينكم بالإسلام فكثرتم واجتمعتم وتحاببتم ، فلا تفرقوا بعد إذ اجتمعتم ، ولا تباغضوا بعد إذ تحاببتم ، فإذا انفصل الناس وكانت بينهم الثائرة فتداعوا إلى العشائر والقبائل ، فاقصدوا لهامهم ووجوههم بالسيوف! حتّى يفزعوا إلى كتاب الله وسنّة نبيّه .. فأمّا تلك الحمية فهي من خطوات الشيطان فانتهوا عنها لا أبا لكم تفلحوا وتنجحوا (١) ولكن ذلك لم يمنعه من العمل بمشورة ابن الربعي.

إرسال المجاشعي ومقتله :

وكان من بني تميم الكوفة بنو مجاشع ، ومنهم أعين بن ضبيعة المجاشعي ، دعاه الإمام وقال له :

يا أعين! أما بلغك أنّ قومك (بني تميم البصرة) وثبوا مع ابن الحضرمي على عاملي (زياد) يدعون إلى فراقي وشقاقي ، ويساعدون الضلال الفاسقين عليّ؟!

فقال أعين : يا أمير المؤمنين ، لا تستاء ولا يكن ما تكره! ابعثني إليهم فأنا زعيم لك بطاعتهم وتفريق جماعتهم ، ونفي ابن الحضرمي من البصرة أو قتله!

فقال الإمام له : فاخرج الساعة. فخرج إلى البصرة.

__________________

(١) الغارات ٢ : ٣٩٤ ـ ٣٩٦.


وقدم البصرة فدخل على الأزد وفيهم زياد فدخل عليه وأخبره بما قال له الإمام وما ردّه عليه وما هو رأيه.

وكان الإمام عليه‌السلام قد أرفقه أو عقّبه بكتاب إلى زياد ، فبينما هما في الكلام إذ دخل البريد بكتابه وفيه :

من عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين إلى زياد بن عبيد ؛ سلام عليك ، أما بعد ، فإنّي قد بعثت أعين بن ضبيعة ليفرّق قومه عن ابن الحضرمي ، فإن فعل وبلغ من ذلك ما يظنّ به من تفريق تلك الأوباش فهو ما نحب ، وإن ترامت الأمور بالقوم إلى الشقاق والعصيان ، فانهض بمن أطاعك إلى من عصاك فجاهدهم ، فإن ظفرت فهو ما ظننت ، وإلّا فطاولهم وماطلهم فكأن كتائب المسلمين قد أظلّت عليك ؛ فقتل الله المفسدين الظالمين ونصر المؤمنين المحقّين ، والسلام.

فقرأه زياد ثمّ أقرأه ابن ضبيعة فقال : إني لأرجو أن نكفي هذا الأمر (العسكري) إن شاء الله.

ثمّ خرج من عنده إلى رحله ودعا إليه رجالا من قومه ثمّ خطبهم فقال لهم ـ بعد حمد الله والثناء عليه ـ :

يا قوم علام تقتلون أنفسكم وتهريقون دماءكم على الباطل مع السفهاء الأشرار؟! وإنّي ما جئتكم حتّى عبّأت لكم الجنود! فإن تنيبوا إلى الحقّ يقبل منكم ويكفّ عنكم ، وإن أبيتم فهو والله بواركم واستئصالكم!

فلمّا وافقوه قال لهم : فانهضوا الآن على بركة الله معي إلى ابن الحضرمي! ثمّ نهض بهم إلى ابن الحضرمي ، فخرجوا إليه معه فصافّوه وواقفهم يناشدهم ويقول لهم : يا قوم لا تنكثوا بيعتكم ، ولا تخالفوا إمامكم ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا ؛ فقد رأيتم وجرّبتم كيف صنع الله بكم عند نكثكم بيعتكم وخلافكم (في الجمل).

فأخذوا ينالون منه ويشتمونه حتّى انصرف عنهم.


ولكنّه تبعه عشرة من خوارج البصرة حتّى هجموا عليه وهو في فراشه فخرج عريانا فلحقوه وقتلوه!

وكأنّ بني تميم شعروا بأنّ زيادا والأزد يريدون حربهم لذلك فأرسلوا إلى الأزد يتبرءون من قتل ابن ضبيعة المجاشعي وقالوا : والله ما عرضنا لجاركم إذ أجرتموه ، فما تريدون إلى حربنا وإلى جارنا. فشعر زياد بكراهة الأزد لحرب بني تميم فتركهم ، وكتب إلى الإمام عليه‌السلام :

أما بعد ، يا أمير المؤمنين ، فإنّ أعين بن ضبيعة (المجاشعي) قدم علينا من قبلك بصدق ويقين وجدّ ومناصحة ، فجمع إليه من أطاعه من عشيرته فحثّهم على الطاعة والجماعة ، وحذّرهم الخلاف والفرقة ، ثمّ نهض بمن أقبل معه إلى المدبرين فواقفهم حتّى تصدّع عن ابن الحضرمي كثير ممّن كان يريد نصرته ، وواقفهم عامّة النهار حتّى أمسى فرجع إلى رحله ، فبيّته نفر من الخارجة المارقة فأصيب رحمه‌الله.

فأردت عند ذلك أن أناهض ابن الحضرمي (كما أمرت) وقد أمرت صاحب كتابي هذا أن يذكر لأمير المؤمنين ما حدث. وأرى أن يبعث أمير المؤمنين إليهم خارجة بن قدامة السعدي (التميمي) فإنّه نافذ البصيرة مطاع في العشيرة ، شديد على عدوّ أمير المؤمنين ، فإن يقدم يفرّق الله بينهم بإذنه ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته (١).

وقدم قدامة البصرة :

فلمّا وصل كتاب زياد وقرأه الإمام عليه‌السلام قبل مشورته فدعا بجارية بن قدامة السعدي وقال له :

__________________

(١) الغارات ٢ : ٣٩٦ ـ ٣٩٨. وقارن بما عن النميري البصري عن المدائني البصري في الطبري ٥ : ١١١ ، ١١٢.


يا ابن قدامة ، تمنع الأزد عاملي (زيادا) وبيت مالي ، ومضر (ومنهم تميم) تشاقني وتنابذني؟! ـ وبنا ابتدأها الله بالكرامة وعرّفها الهدى! ـ وتدعو إلى المعشر الذين حادّوا الله ورسوله وأرادوا إطفاء نور الله ، حتّى علت كلمة الله وهلك الكافرون!

فقال له جارية : يا أمير المؤمنين ، ابعثني إليهم واستعن بالله عليهم.

فقال الإمام : قد بعثتك إليهم واستعنت بالله عليهم ، ثمّ كتب له كتابا إلى أهل البصرة وفيه : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من قرئ عليه كتابي هذا من ساكني البصرة من المؤمنين والمسلمين ، سلام عليكم ، أما بعد ، فإنّ الله حليم ذو أناة ، لا يعجّل بالعقوبة قبل البيّنة ، ولا يأخذ المذنب عند أوّل وهلة ، ولكنّه يقبل التوبة ويستديم الأناة ويرضى بالإنابة ، ليكون أعظم للحجّة وأبلغ في المعذرة.

وقد كان من شقاق جلّكم أيها الناس ما استحققتم أن تعاقبوا عليه ، فعفوت عن مجرمكم ، ورفعت السيف عن مدبركم ، وقبلت من مقبلكم ، وأخذت بيعتكم ، فإن تفوا ببيعتي وتقبلوا نصيحتي وتستقيموا على طاعتي ، أعمل فيكم بالكتاب والسنّة وقصد الحق ، وأقم فيكم سبيل الهدى! فو الله ما أعلم أنّ واليا بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله «أعلم» بذلك منّي ولا «أعمل»! أقول قولي هذا صادقا ، غير ذام لمن مضى ولا منتقصا لأعمالهم.

فإنّ خطت بكم الأهواء المردية وسفه الرأي الجائر إلى منابذتي تريدون خلافي ، فها أنا ذا قرّبت جيادي ورحّلت ركابي ، وايم الله لئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لأوقعنّ بكم وقعة لا يكون «يوم الجمل» عندها إلّا كلعقة لاعق ، وإنّي لظانّ أن لا تجعلوا على أنفسكم سبيلا إن شاء الله. وقد قدّمت هذا الكتاب حجّة عليكم ، ولن أكتب إليكم من بعده كتابا إن أنتم استغششتم نصيحتي ونابذتم رسولي ، حتّى أكون أنا الشاخص نحوكم إن شاء الله! والسلام. فدفعه إليه وقال له : اقرأه عليهم.


وخرج قدامة بخمسين رجلا من قومه (١) حتّى دخل البصرة وبدأ بزياد فرحّب به وأجلسه إلى جانبه وناجاه ساعة وساءله ، فكان من وصيّته له أن قال له : احذر على نفسك واتق أن تلقى ما لقي القادم قبلك! وخرج جارية من عنده وقد اجتمع الأزد فقام فيهم وقال لهم : جزاكم الله من حيّ خيرا ، ما أعظم عناءكم وأحسن بلاءكم وأطوعكم لأميركم ، وقد عرفتم الحقّ إذ ضيّعه من أنكره ، ودعوتم إلى الهدى إذ تركه من لم يعرفه. ثمّ قرأ عليهم كتاب الإمام إليهم ، وفيهم زعيمهم صاحب الدار صبرة بن شيمان فقال له :

سمعنا وأطعنا ونحن لمن حارب أمير المؤمنين حرب ولمن سالم أمير المؤمنين سلم ، إن كفيت يا جارية قومك بقومك فذاك ، وإن أحببت أن ننصرك نصرناك. وقام غيره من وجوههم فقالوا مثله (٢).

خطاب زياد في الأزد :

وقام زياد في الأزد فقال لهم : يا معشر الأزد ؛ إنّ هؤلاء (بني تميم) كانوا بالأمس سلما فاصبحوا اليوم حربا ، وإنّكم كنتم حربا فأصبحتم اليوم سلما! وإنّي ـ والله ـ ما اخترتكم إلّا على التجربة ، ولا أقمت فيكم إلّا على التأمّل ، فما رضيتم أن أجرتموني حتّى نصبتم لي منبرا وسريرا ، وجعلتم لي شرطا وأعوانا ، ومناديا وجمعة! فما فقدت بحضرتكم شيئا إلّا هذا الدرهم أن أجبيه ، فإن لم أجبه اليوم أجبه غدا إن شاء الله.

__________________

(١) كذا في الغارات والطبري ، وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣٣٣ الحديث ٥١٠ عن أبي عبيدة القاسم بن سلّام البصري : أنّهم كانوا ألفا وخمسمائة. وهو الأقرب الأنسب.

(٢) الغارات ٢ : ٤٠١ ـ ٤٠٤.


واعلموا أنّ حربكم اليوم معاوية أيسر عليكم في الدين والدنيا من حربكم أمس عليّا! وقد قدم عليكم جارية بن قدامة ، وإنما أرسله علي ليصدع أمر قومه ، والله ما هو بالأمير المطاع ولا بالمغلوب المستغيث ، ولو أدرك أمله في قومه لرجع إلى أمير المؤمنين أو كان لي تبعا. وأنتم الهامة العظمى والجمرة الحامية ، فقدّموه إلى قومه. فإن اضطر إلى نصركم فسيروا إليه إن رأيتم ذلك. وسكت.

وكان زعيمهم شيمان أبو صبرة غير حاضر يوم الجمل فقام وقال لزياد : يا زياد ، والله لو شهدت قومي يوم الجمل رجوت أن لم يكونوا يقاتلوا عليّا! وقد مضى الأمر بما فيه ، وهو يوم بيوم وأمر بأمر ، والله إلى الجزاء بالإحسان أسرع منه إلى الجزاء بالسيّئ ، والتوبة مع الحقّ والعفو مع الندم ، ولو كانت هذه فتنة لدعونا القوم إلى إبطال الدماء واستئناف الأمور ، ولكنّها جماعة دماؤها حرام وجروحها قصاص ، ونحن معك ، فقدّم هواك نحبّ ما أحببت! وسكت.

فقام ابنه صبرة وقال : إنا والله ما أصبنا بمصيبة في دين ولا دنيا كما أصبنا يوم الجمل ، وإنا لنرجوا اليوم أن نمحّص ذلك بطاعة الله وطاعة أمير المؤمنين. ثمّ التفت إلى زياد وقال له :

وأما أنت يا زياد! فو الله ما أدركت أملك فينا ولا أدركنا أملنا فيك دون ردّك إلى دارك ، ونحن رادّوك إليها غدا إن شاء الله تعالى ، فإذا فعلنا فلا يكن أحد أولى بك منّا! فإنك إن لم تفعل نأت بما لا يشبهك! وإنا ـ والله ـ نخاف من حرب علي في الآخرة ما لا نخاف من حرب معاوية في الدنيا ، فقدّم هواك وأخّر هوانا ، فنحن معك وطوعك!

وكان جيفر بن الجلندي الأزدي العماني معهم فقام وقال لزياد : أيها الأمير ، إنك لو رضيت منّا بما ترضى به من غيرنا لم نرض نحن بذلك! ولو رضينا بذلك لكنّا قد خنّاك! لأنّ لنا عقدا مقدّما وحمدا مذكورا! فسر بنا إلى القوم إن شئت ، وايم الله ما لقينا يوما قط إلّا اكتفينا بعفونا دون جهدنا إلّا ما كان أمس.


ومضى جارية بمن معه إلى قومه وصاح فيهم ، فلم يخرج إليه منهم إلّا أوباش منهم شتموه وناوشوه! فأرسل إلى الأزد يأمرهم أن يسيروا إليه.

فسارت الأزد بزياد إلى دار الإمارة حتّى أدخلوه فيها ، ثمّ ساروا إلى ابن الحضرمي ، وخرج إليهم ابن الحضرمي وعلى خيله عبد الله بن خازم السلمي الأسود ، وأقبل شريك بن الأعور الحارثي الهمداني بجمع من همدان البصرة فقاتل مع جارية على ابن الحضرمي وبني تميم ، فما لبث بنو تميم أن انهزموا إلى دار ابن سنبيل السعدي التميمي ، وجاءت أم ابن خازم فأخرجته منهم وذهبت به ، وهي راعية حبشية (١).

وقال جارية لمن معه من قومه : عليّ بالنار! فانحاز الأزد من ذلك وقالوا له : هم قومك وأنت أعلم وما تفعل بهم! فأحرق جارية قصر ابن سنبيل بمن فيه وهم سبعون رجلا. وذهبت الأزد إلى زياد في القصر وقالوا له : هل بقي علينا من جوارك شيء؟ قال : لا. قالوا : فبرئنا من جوارك؟ قال : نعم. فانصرفوا عنه إلى ديارهم ، واستقامت البصرة لزياد ، واستردّ بيت المال إلى القصر (٢).

تقرير زياد إلى الإمام :

كان من بني تميم البصرة الموالين للإمام : ظبيان بن عمارة ، فدعاه زياد وأرسله بكتابه إلى الإمام وفيه :

أما بعد ، فإنّ العبد الصالح جارية بن قدامة قدم من عندك فناهض جمع

__________________

(١) هنا في أنساب الأشراف ٢ : ٣٣٦ الحديث ٥١٢ : أحاطوا به وقالوا : من خرج منه فهو آمن ، فخرج ناس منهم.

(٢) الغارات ٢ : ٤٠٤ ـ ٤٠٨.


ابن الحضرمي بمن نصره وأعانه من الأزد ، ففضّه واضطرّه إلى الدار في عدد كثير من أصحابه ولم يخرج منه. فقتل ابن الحضرمي وأصحابه ، منهم من القي عليه الجدار ، ومنهم من هدم البيت عليه من أعلاه ، ومنهم من قتل بالسيف ، ومنهم من احرق بالنار! ونفر منهم تابوا وأنابوا فصفح عنهم وسلموا ، فبعدا لمن عصى وغوى ، والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.

فلمّا وصل كتاب زياد إلى الإمام عليه‌السلام سرّ بذلك وقرأه على أصحابه فسرّوا بذلك ، وأثنى على الأزد وعلى جارية (ومن معه من بني تميم) وذمّ البصرة فقال : إنها أول القرى خرابا إمّا حرقا وإمّا غرقا ، حتّى يبقى مسجدها كجؤجؤ السفينة! ثمّ التفت إلى ظبيان البصري وسأله : أين منزلك منها؟ قال : قلت : بمكان كذا ، فقال عليه‌السلام : عليك بضواحيها ، عليك بضواحيها (١).

ثمّ عاد جارية السعدي التميمي بمن معه إلى الكوفة.

زياد لفارس وكرمان :

مرّ في أخبار آثار حرب صفّين : أنّه كان من آثارها اختلال امور فارس وكرمان ، وأن ابن عباس اقترح على الإمام عليه‌السلام أن يرسل لإخضاعها زيادا وبعثه.

وكأنّ ذلك تكرّر مرة اخرى مع اختلال أمر البصرة : كما روى الطبري بسنده عن عليّ بن كثير قال : لما أقبل ابن الحضرمي إلى البصرة فاختلف الناس في عليّ عليه‌السلام ، طمع أهل فارس وكرمان في كسر الخراج ، فتغلّب أهل كل ناحية على ما يليهم فأخرجوا عمّالهم.

__________________

(١) الغارات ١ : ١٩١ و ٢ : ٤١٠ ـ ٤١٢ وقارن بما عن النميري البصري عن المدائني البصري في الطبري ٥ : ١١٢.


هذا وقد عاد جارية بن قدامة إليه وابن عباس لا زال عنده فاستشار الإمام في رجل يولّيه أمر فارس.

فقال له جارية بن قدامة : يا أمير المؤمنين ؛ ألا أدلّك على رجل صليب الرأي عالم بالسياسة كاف لما ولي؟ قال عليه‌السلام : من هو؟ قال : زياد. وقال ابن عباس : أنا أكفيك فارس.

وعاد ابن عباس إلى البصرة فوجّه زيادا في أربعة آلاف فارس ، وهي تضطرم نارا ، فلم يقف وقفا للحرب ، إلّا أنّه لما قدم فارس بعث إلى رؤسائها فوعد من نصره منهم ومنّاهم ، وخوّف قوما وتوعّدهم ، حتّى دلّه بعضهم على عورة بعض ، فضرب بعضهم ببعض ، حتّى هربت طائفة وأقامت اخرى ، وقاتل بعضهم بعضا ، فصفا له أهل فارس من دون أن يلق فيها حربا ولا جمعا.

ثمّ مضى إلى كرمان وفعل فيها مثل ما فعل في فارس ، وسار في كورها ومنّاهم ، ثمّ عاد إلى فارس وقد سكن له الناس واستقامت له البلاد.

فنزل في اصطخر واختار بينها وبين بيضائها منطقة بنى بها قلعة وحصّنها ، وحمل الأموال إليها وتحصّن فيها ، وسمّيت قلعة زياد (١).

وكتب إليه معاوية يدعوه إليه ويتهدده ، فذكر بعض البصريين أن زيادا كتب إلى معاوية : أما بعد ، فقد بلغني كتابك يا ابن بقيّة الأحزاب! وابن عمود النفاق! ويا ابن آكلة الأكباد! أتهدّدني وبيني وبينك ابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في سبعين ألفا ، سيوفهم قواطع ، ولئن رميت ذلك منّي لتجدنّي أحمر ضرّابا بالسيف (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ١٣٧ ـ ١٣٨ بأسناده.

(٢) الغارات ٢ : ٦٤٦ ـ ٦٤٨.


بقايا تمرّدات الخوارج :

كانت وقعة النهروان في التاسع من شهر صفر (٣٨ ه‍) (١) ثمّ ثارت حوادث مصر ويبدو أنّها استمرّت شهرين حتى حدود العاشر من ربيع الثاني.

وفي ربيع الثاني (٣٨ ه‍) ثار من بقايا الخوارج أشرس بن عوف الشيباني ومعه مائتان من شيبان وغيرهم ، في الدسكرة ثمّ سار إلى الأنبار.

فوجّه إليه الإمام الأبرش بن حسان (البكري) مع ثلاثمائة ، فواقعه فقتل أشرس وتفرّق جمعه.

وفي جمادى الأولى ثار الأخوان هلال ومجالد ابنا علّفة في ما سبذان (في جبال إيلام) ومعه مائتان من تيم الرباب وغيرهم.

فوجّه الإمام إليه معقل بن قيس الرياحي فقاتلهم وفلّ جمعهم. فخرج إليهم الأشعث أو الأشهب البجلي ومعه مائة وثمانون رجلا من بني بجلة وغيرهم ، فصلّى على أولئك القتلى ودفنهم ، وذلك في جمادى الآخرة.

فوجّه إليه الإمام جارية بن قدامة السعدي التميمي أو حجر بن عديّ الكندي فالتقيا في جرجرايا من أرض جوخا (من توابع النهروان السفلى في نواحي بغداد إلى واسط) فقاتلهم وفلّ جمعهم.

وفي شهر رجب خرج سعيد بن قفل التيمي في البذرجين وسار إلى درزيجان (من المدائن السبع على ثلاثة فراسخ من بغداد) في حوزة أمير المدائن سعد بن مسعود الثقفي ، فخرج إليهم ففلّهم.

وفي شهر رمضان اتّفق أبو مريم السعدي التميمي مع خمسة آخرين من بني سعد من تميم وغيرهم ، وجمع حوله جمعا من الموالي مائتين إلى أربعمائة ، صعد إلى شهرزور (شرقي السليمانية في شمال العراق) ثمّ عاد إلى الكوفة حتى نزل على خمسة فراسخ منها!

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٢٨٢ ط. ٢.


فبعث إليه الإمام شريح بن هانئ الهمداني في سبعمائة ، فحمل الخوارج الموالي بقيادة العرب عليهم فهزموهم إلى قرية قربهم وتراجع نصف أصحابه إلى الكوفة.

فقدّم الإمام بين يديه جارية بن قدامة السعدي التميمي فدعاهم ووعظهم فلم يجد فيهم ، ولحقهم الإمام بنفسه ودعاهم وحذّرهم فلم ينفعهم ، فقاتلهم فقتلهم وفلّ جمعهم حتّى لم يبق منهم سوى خمسين رجلا استأمنوه فآمنهم. وبقي منهم أربعون جرحى فأذن لأصحابهم الباقين المستأمنين أن يدخلوهم الكوفة ويداووهم (١).

وخرج الناجي هالكا :

مرّ الخبر عن الخرّيت بن راشد الناجي من بني ناجية ، أنّه ناجى الإمام عليه‌السلام بعزم قوم من أهل الكوفة على أن يفارقوه ، ومرّة أخرى بأنّه سمع الطائي والراسبي رأس الخوارج يذكرونه بسوء القول وأنّ الإمام ردّه ولم يسمع له.

ومقتضى هذا أنّه كان عند خروج خوارج النهروان مع الإمام عليه‌السلام لم يفارقه بعد ، ولكنّه بعد ذلك جمع جمعا من قومه بني ناجية فناجاهم بسوء القول في الإمام عليه‌السلام ثمّ خرج بهم ـ وهم ثلاثون رجلا ـ يمشي بينهم حتّى وقف بين يدي الإمام عليه‌السلام وقال له :

والله لا أطع أمرك ولا اصلّي خلفك ، وإنّي غدا لمفارقك! فقال له الإمام عليه‌السلام :

ثكلتك أمّك! إذا تنقض عهدك وتعصي ربّك ولا تضرّ إلّا نفسك ، أخبرني لم تفعل ذلك؟

قال : لأنّك حكّمت في الكتاب! وضعفت عن الحقّ إذ جدّ الجدّ! وركنت إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم ، فأنا عليك رادّ ، وعليهم ناقم ، ولكم جميعا مباين! فقال له الإمام عليه‌السلام :

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣ : ٢٣٩ ـ ٢٤٨.


ويحك! هلمّ إليّ أدارسك الكتاب وأناظرك في السنن ، وافاتحك امورا من الحقّ أنا أعلم بها منك ، فلعلّك تعرف ما أنت له الآن منكر ، وتستبصر ما أنت به الآن عنه عم وجاهل!

فقال له الخرّيت : فإنّي عائد إليك غدا ، فقال له الإمام : اغد ولا يستهوينّك الشيطان ولا يقتحمنّ بك رأي السوء ، ولا يستخفنّك الجهلاء الذين لا يعلمون ، فو الله لئن استرشدتني واستنصحتني وقبلت منّي لأهدينّك سبيل الرشاد. وخرج الخرّيت وأصحابه إلى أهاليهم.

واجتمع إليه في داره رجال من أصحابه لم يكونوا معه في دخوله على الإمام عليه‌السلام فقال لهم :

يا هؤلاء ، إنّي قد رأيت أن افارق هذا الرجل (الإمام) وإن كنت قد فارقته على أن أرجع إليه من غد ولكنّي لا أراني إلّا مفارقه! فقال أكثرهم : لا تفعل حتى تذهب إليه فإن أتاك بأمر تعرف قبلت منه وإن كانت الأخرى فما أقدرك على فراقه ، فلم يخالفهم.

وارتفع النهار ولم يأت الخرّيت ، فقال عبد الله بن فقيم أو قعين الأزدي للإمام عليه‌السلام :

يا أمير المؤمنين ، لم لا تأخذ الآن (الخرّيت بن راشد) وتستوثقه؟ فقال عليه‌السلام :

إنّا لو فعلنا هذا لكلّ من نتّهمه من الناس ملأنا السجون منهم! ولا أراني يسعني الوثوب على الناس والحبس لهم وعقوبتهم حتى يظهروا لنا الخلاف! فسكت وتنحّى وجلس مع الناس (١).

__________________

(١) الغارات ١ : ٣٣٣ ـ ٣٣٥ عن عبد الله بن قعين ، وفي الطبري ٥ : ١١٣ ـ ١١٥ عن الكلبي ، عن أبي مخنف ، عن عبد الله بن فقيم الأزدي.


خروج بني ناجية وتعقيبهم :

روى الثقفي ، عن المدائني ، عن عبد الله بن فقيم أو قعين : أنّه كان عند الإمام عليه‌السلام فقال له : ادن منّي ، فدنا منه فقال له سرّا : اذهب إلى منزل الرجل (الخرّيت بن راشد) فاعلم لي ما فعل؟

فذهب عبد الله إلى منزل الخرّيت وقومه فدار على دورهم فإذا ليس فيها داع ولا مجيب وليس منهم في منزله ديّار! فعاد إلى الإمام عليه‌السلام.

فلمّا رآه الإمام قال له : أأمنوا فقطنوا أم جبنوا فظعنوا؟ فقال : بل ظعنوا! قال : أبعدهم الله كما بعدت ثمود! أما والله لو قد اشرعت لهم الأسنّة وصبّت على هاماتهم السيوف فإنّهم ليندمون إنّ الشيطان قد استهواهم فأضلّهم ، وهو غدا متبرّئ منهم ومخلّ عنهم.

فقام إليه زياد بن خصفة التيمي البكري فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّه لو لم يكن من مضرّة هؤلاء إلّا فراقهم إيّانا ، لم يعظم فقدهم علينا فنأسى عليهم ، فإنّهم قلّ ما يزيدون في عددنا لو أقاموا معنا ، ولقلّ ما ينقصون من عددنا بخروجهم منّا ، ولكنّا نخاف أن يفسدوا علينا جماعة كثيرة ممّن يقدمون عليهم من أهل طاعتك ، فأذن لي في اتباعهم حتى أردّهم عليك إن شاء الله.

فقال له الإمام عليه‌السلام : اخرج في آثارهم راشدا ، ثمّ قال له : وهل تدري أين توجّه القوم؟

فقال : لا ، ولكنّي أخرج فأسأل واتّبع الأثر. فقال له : فاخرج رحمك الله حتّى تنزل دير أبي موسى (بعد النخيلة) ثمّ لا تبرحه حتّى يأتيك أمري ، فإنّهم إن كانوا قد خرجوا ظاهرين بارزين للناس في جماعة فإنّ عمّالي سيكتبون بذلك إليّ ، وإن كانوا متفرّقين مستخفين فذلك أخفى لهم ، وسأكتب إلى عمّال من حولي فيهم ، ثمّ كتب إليهم :


«من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من قرأ كتابي هذا من العمّال : أمّا بعد ، فإنّ رجالا لنا عليهم بيعة قد خرجوا هاربين ، ونظنّهم توجّهوا نحو بلاد البصرة (حيث كانوا من قبل) فاسأل أهل بلادك عنهم واجعل عليهم العيون في كلّ ناحية من أرضك ، ثمّ اكتب إليّ بما ينتهي إليك عنهم ، والسلام».

وجمع زياد بن خصفة قومه من بكر بن وائل فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم : أمّا بعد ، يا معشر بكر بن وائل ، فإنّ أمير المؤمنين ندبني لأمر من اموره مهمّ له ، وأمرني بالانكماش فيه بالعشيرة حتّى آتي أمره ، وأنتم شيعته وأنصاره وأوثق حيّ من أحياء العرب في نفسه ، فانتدبوا معي الساعة وعجّلوا! فاجتمع له منهم مائة وثلاثون رجلا فقال : كفى لا نريد أكثر من هؤلاء.

وخرج بهم حتّى قطع جسر الكوفة حتّى بلغ دير أبي موسى بعد النخيلة فنزل وأقام به بقية يومه ينتظر أمر أمير المؤمنين عليه‌السلام (١).

وفعلوا كفعل أهل النهروان :

كان عمر حين ولى عمّار بن ياسر على الكوفة وجّه معه عشرة من الأنصار أحدهم قرظة بن كعب ، فلمّا توجّه عمّار إلى فتح شوشتر جعل قرظة على خيله ، وفتح قرظة الريّ في أواخر عهد عمر سنة (٢٣ ه‍) ولمّا سار الإمام عليه‌السلام لحرب الجمل عزل عن الكوفة الأشعري وولّاها قرظة ، ولمّا خرج إلى صفين دفع إليه راية الأنصار مع عمّار بن ياسر أيضا ، فلمّا عاد من صفين جعله على الخراج بناحية عين تمر (٢).

__________________

(١) الغارات ١ : ٣٣٥ ـ ٣٣٨ عن المدائني ، عن عبد الله بن قعين ، وفي الطبري ، عن الكلبي ، عن أبي مخنف ، عن عبد الله بن فقيم ٥ : ١١٥ ـ ١١٦.

(٢) انظر قاموس الرجال ٨ : ٥٢٠ برقم ٦٠٦٠.


وكان عمله قريبا من قرية نفّر على نهر نرسي من الفرات الأسفل ، وجاءه يهوديّ ذميّ سواديّ فأخبره : أنّه كان مع سواديّ آخر من دهاقين أسفل الفرات قرب قرية نفّر قد أسلم وصلّى يدعى : زادان فرّخ (فارسي) قد زار إخوانا له بناحية نفّر ، فمرّت بها خيل من قبل الكوفة متوجّهة نحو نفّر ، فأخذوهما وقالوا لهذا اليهودي : ما دينك؟ فقال : يهودي ، فقالوا فيما بينهم : خلّوا سبيله فلا سبيل لكم عليه ، وقالوا لزادان فرّخ : أكافر أنت أم مسلم؟ فقال : بل مسلم ، فقالوا له : فما قولك في عليّ بن أبي طالب؟ فقال لهم :

أقول : إنّه أمير المؤمنين ووصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيّد البشر!

فقالوا له : كفرت يا عدوّ الله! وحملت عليه عصابة منهم فقطّعوه بسيوفهم!

فلمّا أخبر هذا اليهودي الذميّ قرظة بن كعب بذلك كتب به إلى الإمام يقول : لعبد الله علي أمير المؤمنين ، من قرظة بن كعب ، سلام عليك ، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو ، أمّا بعد ، فإنّي اخبر أمير المؤمنين أنّ خيلا مرّت بنا من قبل الكوفة متوجّهة نحو نفّر (إلى أن قال) : وقد سألت عنهم فلم يخبرني أحد بشيء ، فيكتب إليّ أمير المؤمنين برأيه فيهم انتهي إليه ، والسلام.

فكتب إليه الإمام عليه‌السلام : أمّا بعد ، فقد فهمت كتابك وما ذكرت من أمر العصابة التي مرّت بك فقتلت المرء المسلم وأمن عندهم المخالف الكافر. إنّ اولئك قوم استهواهم الشيطان فضلّوا ، وكانوا كالذين حسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصمّوا ، فأسمع بهم وأبصر يوم تخبر عن أحوالهم ، والزم عملك واقبل على خراجك ، فأنت كما ذكرت في طاعتك ونصحك ، والسلام.

وكتب إلى زياد بن خصفة التيمي البكري : أمّا بعد ، فقد كنت أمرتك أن تنزل دير أبي موسى حتّى يأتيك أمري ، ذلك أنّي لم أكن أعلم أين توجّه القوم. وقد بلغني أنهم أخذوا نحو قرية من قرى السواد يقال لها : نفّر ، فاتّبع آثارهم وسل عنهم ، فإنّهم قد قتلوا رجلا مسلما مصلّيا من أهل السواد ، فإذا أنت لحقتهم فارددهم إليّ ،


فإن أبوا فناجزهم واستعن بالله عليهم فإنّهم قد فارقوا الحقّ وسفكوا الدم الحرام وأخافوا السبيل ، والسلام. وناول الكتاب لعبد الله بن وال التيمي فقال له : يا أمير المؤمنين ، ألا أمضي مع زياد بن خصفة إذا دفعت إليه الكتاب؟ فقال له : افعل يا ابن أخي فو الله إنّي لأرجو أن تكون من أعواني على الحقّ وأنصاري على القوم الظالمين. فقال : أنا والله من اولئك وكذلك حيث تحب (١).

وواقفوهم عند المذار :

مضى عبد الله بن وال التيمي البكري بكتاب الإمام عليه‌السلام إلى ابن عمّه زياد بن خصفة التيمي البكري ، وهو على فرس له رائع كريم ـ كما قال ـ وعليه السلاح ، حتّى التقى به وسلّمه الكتاب ، فقال له زياد : يا ابن أخي إنّي لأحبّ أن تكون معي في وجهي هذا فمالي عنك غنى ، فقال له : وقد استأذنت أمير المؤمنين في ذلك فأذن لي.

ثمّ خرج زياد من دير أبي موسى إلى نفّر فسأل عنهم فقيل له : إنّهم أخذوا نحو جرجرايا (٢) فاتبعناهم فقيل لنا : إنّهم أخذوا نحو المذار (٣) فلحقناهم بالمذار وقد سبقونا إليها قبلنا بيوم وليلة فقد استراحوا وأعلفوا دوابّهم ، ونحن قد تعبنا ونصبنا ولغبنا وانقطعنا ، فلمّا رأونا وثبوا إلى خيولهم فواقفونا ونادانا الخرّيت : أمع الله أنتم ومع كتابه وسنّة نبيّه أم مع القوم الظالمين؟! أخبروني ما ذا تريدون؟

__________________

(١) الغارات ١ : ٣٣٩ ـ ٣٤٢ وصار الرجل بعد هذا من زعماء التوابين من خذلان الحسين عليه‌السلام.

(٢) في الغارات : نحو المدائن ، ورجّحنا الجرجرايا عن الطبري ٥ : ١١٨ لأنّها في مسيرهم إلى البصرة.

(٣) في الغارات : المدائن ، ورجّحنا المذار عن الطبري ، لأنّها في طريق البصرة قبلها بأربعة أيّام.


وكان زياد رجلا رفيقا مجرّبا فقال له : قد ترى ما بنا من النصب واللغوب ، والذي جئنا به لا يصلح له الكلام علانية على رءوس أصحابك ، ولكن انزلوا وننزل ثمّ نخلو فنتذاكر أمرنا وننظر فيه ، فإن رأيت فيما جئنا له حظّا لنفسك ، قبلته ، وإن رأيت فيما أسمع منك أمرا أرجو فيه العافية لنا ولك لم أردده عليك.

فقبل بذلك الخرّيت ، فأقبل زياد على أصحابه وقال لهم : انزلوا على الماء ، فأقبل من معه على الماء حتّى انتهو إليه فنزلوا به وتفرّقوا وتحلّقوا سبعة وثمانية وتسعة وعشرة يصنعون طعامهم فيأكلون ، ثمّ علّفوا خيولهم ، ثمّ أتوا أميرهم زيادا فقال لهم :

يا هؤلاء إنّا قد لقينا العدوّ وإن القوم لفي عدّتكم ، ولقد حرزتكم وإيّاهم فما أظنّ أحد الفريقين يزيد على الآخر خمسة نفر ، وو الله ما أرى أمركم وأمرهم إلّا أنّه يصير إلى القتال ، فإن كان كذلك فلا تكونوا أعجز الفريقين ، وليأخذ كلّ رجل منكم بعنان فرسه حتى ادنوا منهم وادعوا إليّ صاحبهم فاكلّمه ، فإن تابعني على ما اريد ، وإلّا فإذا دعوتكم فاستووا على متون خيولكم ثمّ أقبلوا إليّ معا.

ثمّ استقدم زياد أمامهم ودعا صاحبهم الخرّيت بن راشد فقال له : اعتزل فلننظر في أمرنا. فأقبل في خمسة نفر ، وخرج مع زياد خمسة ، فقال له زياد : ما الذي نقمت على أمير المؤمنين وعلينا إذ فارقتنا؟

فقال الخرّيت : لم أرض بصاحبكم إماما ولا بسيرتكم سيرة ، فرأيت أن أعتزل وأكون مع من يدعو إلى الشورى من الناس ، فإذا اجتمع الناس على رجل هو لجميع الأمة رضا كنت مع الناس!

فقال له زياد : ويحك! وهل يجتمع الناس على رجل منهم يداني عليّا صاحبك الذي فارقته ، علما بالله وبكتابه وسنّة رسوله ، مع قرابته منه صلى‌الله‌عليه‌وآله وسابقته في الإسلام؟!


فقال الخرّيت : هو ما أقول لك. فقال زياد : ففيم قتلت ذلك الرجل المسلم؟ فقال الخرّيت : إنّما قتلته طائفة من أصحابي. فقال له زياد : فادفعهم إليّ. قال الخرّيت : ما إلى ذلك سبيل. فقال زياد : وهكذا تفعل؟ قال : هو ما سمعت.

فدعا زياد أصحابه ودعا الخرّيت أصحابه ، ثمّ تطاعنوا بالرماح حتّى تكسّرت ، ثمّ اضطربوا بالسيوف حتّى انحنت وكثر الجراح في الفريقين وصرع منهم خمسة وقتل من أصحاب زياد رجلان من الموالي : سويد مولى زياد وحامل رايته ، ورجل آخر من أبناء الفرس في العرب يدعى : واقد بن بكر ، وجرح زياد ، وقرب المساء فحال الليل بينهم فتنحّوا ومكثوا ساعة ثمّ مضوا على وجوههم نحو البصرة ثمّ الأهواز.

وأصبح زياد فوجدهم قد ذهبوا ، فمضى بأصحابه خلفهم حتّى بلغوا البصرة فبلغهم أنّهم ذهبوا إلى الأهواز ، ولحق بهم مائتان آخرون من الكوفة من قومهم.

فكتب زياد إلى الإمام ، أمّا بعد ، فإنّا لقينا عدوّ الله الناجي وأصحابه بالمذار ، فدعوناهم إلى الهدى والحقّ وكلمة السواء ، فتولّوا عن الحقّ وأخذتهم العزّة بالإثم ، وزيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدّهم عن السبيل ، فقصدونا وصمدنا لهم فاقتتلنا قتالا شديدا ما بين قائم الظهيرة إلى أن دلكت الشمس ، واستشهد منّا رجلان صالحان ، واصيب منهم خمسة نفر ، وخلّوا المعركة وقد فشت فينا وفيهم الجراحات ، ثمّ إنّ القوم لمّا غشيهم الليل خرجوا تحته متنكرين إلى أرض الأهواز ، وقد بلغني أنّهم نزلوا جانبا منها. ونحن بالبصرة نداوي جراحنا وننتظر أمرك يرحمك الله ، والسلام. وحمل الكتاب إلى الإمام رسوله عبد الله بن وال ، وهو جريح.

وأمر الإمام عليه‌السلام فقرئ الكتاب على الناس ، فقام إليه معقل بن قيس الرياحي التميمي فقال له :


يا أمير المؤمنين أصلحك الله ، إنّما كان ينبغي أن يكون مكان كل رجل من هؤلاء الذين بعثتهم في طلبهم عشرة من المسلمين ، فإذا لحقوهم استأصلوا شأفتهم وقطعوا دابرهم ، فأمّا أن يلقاهم أعدادهم فلعمري ليصبرنّ لهم ، فإنّهم قوم عرب ، والعدّة منهم تصبر للعدّة وتنتصف منها فيقاتلون كلّ القتال!

فقال له أمير المؤمنين : يا معقل فجهّز أنت لهم ، فانتدب معه من أهل الكوفة ألفان وكتب إلى زياد بن خصفة :

أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت به الناجي وأصحابه الذين طبع الله على قلوبهم ، وزيّن لهم الشيطان أعمالهم ، فهم حيارى عمون ، يحسبون أنّهم يحسنون صنعا ، ووصفت ما بلغ بك وبهم الأمر ، فأمّا أنت وأصحابك فلله سعيكم وعليه جزاؤكم ، فأيسر ثواب الله للمؤمن خير له من الدنيا التي يقبل الجاهلون بأنفسهم عليها ، فما عندكم ينفد وما عند الله باق ، ولنجزينّ الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون. وأمّا عدوكم الذين لقيتموهم فحسبهم بخروجهم من الهدى وارتكاسهم في الضلال وردّهم الحقّ وجماحهم في التّيه ، فذرهم وما يفترون ودعهم في طغيانهم يعمهون ، فأسمع بهم وأبصر ، فكأنّك بهم عن قليل بين أسير وقتيل. فأقبل إلينا أنت وأصحابك مأجورين ، فقد أطعتم وسمعتم وأحسنتم البلاء ، والسلام (١).

قتال خوارج بني ناجية في رامهرمز :

فلمّا أراد معقل بن قيس الرياحي التميمي الخروج بالألفين معه لقتال الخرّيت بن راشد الناجي أتى إلى الإمام عليه‌السلام ليودّعه فقال له الإمام : يا معقل ،

__________________

(١) الغارات ١ : ٣٤٢ ـ ٣٥٠ عن عبد الله بن وال ، وعنه في الطبري ٥ : ١١٨ ـ ١٢١.


اتّق الله ما استطعت فإنّها وصيّة الله للمؤمنين ، لا تبغ على أهل القبلة ، ولا تظلم أهل الذمّة ، ولا تتكبّر فإنّ الله لا يحب المتكبرين. فقال معقل : الله المستعان. فقال علي عليه‌السلام : خير مستعان. ثمّ قام فخرج.

وكتب الإمام إلى عبد الله بن العباس بالبصرة : أمّا بعد فابعث من قبلك رجلا صلبا شجاعا معروفا بالصلاح في ألفي رجل من أهل البصرة فليتّبع معقل بن قيس فإذا لقيه فمعقل أمير الفريقين فليسمع منه وليطيعه ولا يخالفه ، ومر زياد بن خصفة فليقبل إلينا ، فنعم المرء زياد ونعم القبيل قبيله ، والسلام.

وخرج معقل بالألفين معه حتّى نزل الأهواز وأقام ينتظر أهل البصرة فأبطئوا عليهم فقام معقل فقال :

يا أيّها الناس ، إنّا قد انتظرنا أهل البصرة وقد أبطئوا علينا ، وليس بنا بحمد الله قلة ولا وحشة إلى الناس ، فسيروا بنا إلى هذا العدوّ القليل الذليل ، فإنّي أرجو أن ينصركم الله وأن يهلكهم.

وكان الناجي حين نزل الأهواز اجتمع إليه كثير من أهلها من اللصوص ومن أراد كسر الخراج ، وطائفة أخرى من الأعراب ممّن كان يرى رأيه في الشورى.

وسار معقل يتعقّبه يوما وإذا بفيج (معرّب پيك : ساعي البريد) يشتدّ نحوهم بصحيفة في يده من عبد الله بن عباس إلى معقل بن قيس وفيه : أمّا بعد ، فإن أدركك رسولي بالمكان الذي كنت مقيما به أو أدركك وقد شخصت منه فلا تبرحنّ من المكان الذي ينتهي رسولي إليك فيه ، حتّى يقدم عليك بعثنا الذي وجّهناه إليك ، وقد وجّهنا إليك خالد بن معدان الطائي ، وهو من أهل الدين والصلاح والبأس والنجدة ، فاسمع منه واعرف له ذلك إن شاء الله ، والسلام.

وكان قد هال أصحاب معقل هذا الوجه فلمّا قرأ معقل الكتاب عليهم حمدوا الله وسرّوا به ، وأقاموا حتّى قدم عليهم الطائي ودخل على معقل فسلّم عليه


بالإمرة ، ثمّ خرجوا يتعقّبون الناجي وأصحابه ، وأخذ أولئك يرتفعون نحو جبال رامهرمز ، وخرج هؤلاء يتتبّعونهم حتّى لحقوهم بسفح جبل فتصافّوا.

فجعل معقل على ميمنته يزيد بن المغفّل الأزدي ، وعلى ميسرته منجاب بن راشد الضبيّ من بني ضبّة من أهل البصرة (المتفانين دون الجمل). وجعل الخرّيت جماعة من معه من الأكراد ومن أراد كسر الخراج من أهل البلاد ميسرة ، ووقف هو في من معه من العرب ميمنته.

وسار معقل في أصحابه يحرّضهم ويقول لهم : أبشروا في قتالهم بالأجر العظيم ، فإنّما تقاتلون ما رقة مرقت من الدين ، وعلوجا منعوا الخراج ولصوصا وأكرادا ، انظروني فإذا حملت فشدّوا شدّة رجل واحد. ثمّ عاد فوقف في وسط الصف في القلب ثمّ حرّك رايته تحريكتين وفي الثالثة حمل عليهم فحملوا معه جميعا. فصبروا ساعة حتّى قتل من الأكراد والعلوج ثلاثمائة ومن العرب سبعون ثمّ انهزموا مع الخرّيت إلى أسياف البحر وبها كثير من قومه بني ناجية (١).

وخبر الفتح لدى الإمام عليه‌السلام :

وأقام معقل في أرض الأهواز إلى رامهرمز وكتب إلى الإمام عليه‌السلام : لعبد الله عليّ أمير المؤمنين من معقل بن قيس ، سلام عليك ، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو ، أمّا بعد فإنّا لقينا المارقين وقد استظهروا علينا بالمشركين ، فقتلنا منهم ناسا كثيرا ، ولم نتعدّ فيهم سيرتك ، فلم نقتل منهم مدبرا ولا أسيرا ، ولم ندفّف على جريح ، وقد نصرك الله والمسلمين والحمد لله ربّ العالمين والسلام.

__________________

(١) الغارات ١ : ٣٤٨ ـ ٣٥٤ عن عبد الله بن قعين أو فقيم ، كما في الطبري ٥ : ١٢١ ـ ١٢٤ عن الكلبي ، عن أبي مخنف بسنده.


وحمل الكتاب عبد الله بن قعين أو فقيم الأزدي فلمّا قدم على الإمام قرأه أمير المؤمنين على أصحابه ثمّ استشارهم فقالوا : يا أمير المؤمنين ، نرى أن تكتب إلى معقل بن قيس أن يتّبع آثارهم ولا يزال في طلبهم حتّى يقتلهم أو ينفيهم فإنّا لا نأمن أن يفسد عليك الناس. فكتب إليه :

أمّا بعد ، فالحمد لله على تأييده أولياءه وخذلانه أعداءه ، جزاك الله والمسلمين معك خيرا ، فقد أحسنتم البلاء وقضيتم ما عليكم ، وسل عن أخي بني ناجية فإن بلغك أنّه استقرّ ببلد من بلاد المسلمين فسر إليه حتّى تقتله أو تنفيه ، فإنّه لن يزال للمسلمين عدوّا و «للقاسطين» وليّا ما بقي ، والسلام. وحمل الكتاب عبد الله بن فقيم.

فلمّا قدم بالكتاب على معقل ، سأل عن مسير الخرّيت ومنتهاه ، فنبّئ أنّه بأسياف البحر من فارس ، وأنّه ورد على قومه من بني ناجية هناك فردّهم عن طاعة الإمام ومن والاهم من العرب ومن عبد القيس خاصّة ، وكانوا قد امتنعوا عن صدقاتهم منذ حرب صفين سنة (٣٧ ه‍) وهذا العام (٣٨ ه‍).

وكان رأي الخرّيت حين خرج من الكوفة : أنّ عليّا قد حكّم حكما ورضي به فخلعه حكمه الذي ارتضاه لنفسه! فقد رضيت أنا من قضائه وحكمه ما ارتضاه هو لنفسه ولكنّه كان يقول لمن يرى رأي عثمان : أنا والله على رأيكم فقد قتل عثمان مظلوما! ويقول لمن معه ممّن يرى رأي الخوارج : إنّي أرى رأيكم ، فإنّ عليّا لم يكن ينبغي أن يحكّم الرجال في أمر الله! ويقول لمن منع صدقته : شدّوا أيديكم على صدقاتكم وصلوا بها أرحامكم وعودوا بها إن شئتم على فقرائكم! وهكذا أرضى كلّ صنف منهم بضرب من القول يريهم أنّه على رأيهم.

وكان كثير منهم نصارى وقد أسلموا ، فلمّا رأوا هذا الاختلاف وسفك الدماء قالوا : والله لديننا الذي خرجنا منه خير وأهدى من دين هؤلاء الذين لا ينهاهم


دينهم عن إخافة السبل وسفك الدماء! وارتدّوا إلى نصرانيتهم السابقة. فلقي الخرّيت اولئك وقال لهم : أتدرون ما حكم عليّ في من أسلم من النصارى ثمّ رجع إلى النصرانية؟ إنّه والله لا يسمع له قولا ولا يرى له عذرا ولا يدعوه إلى توبة ولا يقبل منه ذلك ، وإنّما حكمه فيه ساعة يستمكن منه ضرب عنقه! فلا ينجّيكم من القتل إلّا قتال هؤلاء والصبر عليه لهم! فما زال بهم بهذا ومثله حتّى خدعهم وجمعهم ، وهم كثير في تلك النواحي فاجتمع منهم إليه ناس كثير من كلّ هؤلاء! جمعهم بالخديعة والمكر ، وكان داهية منكرا (١)!

آخر وقعة مع بني ناجية :

فلمّا وصل كتاب الإمام عليه‌السلام إلى معقل بتعقّب الخرّيت ، سار إليهم معقل بن قيس في ذلك الجيش من أهل الكوفة وأهل البصرة ، فأخذوا من رامهرمز إلى أرض فارس (شيراز) يمنة حتى انتهوا إلى أسياف البحر ، وهناك أخرج كتابا من الإمام عليه‌السلام وقرأه عليهم وفيه :

من عبد الله علي أمير المؤمنين ، إلى من قرئ عليه كتابي هذا من المسلمين والمؤمنين ، والمارقين والنصارى والمرتدّين ، سلام على من اتّبع الهدى وآمن بالله ورسوله وكتابه والبعث بعد الموت ، وافيا بعهد الله ولم يكن من الخائنين.

أمّا بعد ، فإنّي أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه ، وأن أعمل فيكم بالحقّ وبما أمر الله تعالى به في كتابه ، فمن رجع منكم إلى رحله وكفّ يده واعتزل هذا المارق الهالك المحارب الذي حارب الله ورسوله والمسلمين وسعى في الأرض فسادا ، فله الأمان على ماله ودمه ، ومن تابعه على حربنا والخروج من طاعتنا استعنّا بالله عليه وجعلنا الله بيننا وبينه ، وكفى بالله وليّا ، والسلام.

__________________

(١) الغارات ١ : ٣٥٤ ـ ٣٥٧ عن عبد الله بن قعين أو فقيم ، كما في الطبري ٥ : ١٢٤ ـ ١٢٥.


وأخرج بعد ذلك راية أمان فنصبها وقال : من أتاها من الناس فهو آمن ، إلّا الخرّيت وأصحابه الذين نابذوا أوّل مرّة! فلم يبق مع الخرّيت إلّا قومه بني ناجية مسلمهم ونصرانيهم ومانعوا صدقاتهم.

ثمّ عبّأ معقل بن قيس أصحابه فجعل على ميمنته يزيد بن المغفّل الأزدي ، وعلى ميسرته منجاب بن راشد الضبيّ البصري.

وجعل الخرّيت مسلميهم ميمنة ومانعي الصدقة والنصارى ميسرة ، وجعل يقول لهم : والله لئن ظهروا عليكم ليقتلنّكم وليسبينّكم! فقاتلوا اليوم عن أولادكم ونسائكم وامنعوا اليوم حريمكم!

وجعل معقل يجول بين ميمنته وميسرته يحرّضهم ويقول : إنّ الله ساقكم إلى قوم ارتدّوا عن الإسلام ونكثوا البيعة ظلما وعدوانا وقوم منعوا الصدقة ، فإنّي شهيد لمن قتل منكم بالجنّة ، ولمن عاش بأنّ الله يقرّ عينه بالفتح والغنيمة! حتّى مرّ بهم جميعا ، ثمّ عاد فوقف برايته في القلب ، ثمّ بعث إلى ميمنته أن يحملوا عليهم ، فحملوا عليهم ، فثبتوا له وقاتلوا قتالا شديدا ، ثمّ عادوا إلى مواقفهم. ثمّ بعث إلى الميسرة أن يحملوا عليهم ، فحملوا عليهم ، فقاتلوا قتالا شديدا ، ثمّ عادوا إلى مواقفهم ، ثمّ بعث إليهما أنه سيحمل عليهم فاحملوا معي جميعا ، ثمّ حرّك دابّته وضربها وحمل فحمل كلهم فصبروا ساعة.

وبصر النعمان بن صهبان الراسبي الأزدي بالخرّيت بن راشد فحمل عليه فأثخنه بالجراح حتّى صرعه ونزل إليه واختلفا بضربات حتّى قتل النعمان الخرّيت ، وقد قتل من قومه مائة وسبعون رجلا ، وانهزم الباقون منهم في الأرض يمينا وشمالا.

وحمل معقل بجيشه على رحالهم فسبى رجالا منهم ونساء وصبيانا منهم ، فالمسلم أخذ بيعته وخلّى عنه وعن عياله له ، والمرتدّ عرض عليه الإسلام أو القتل فاسلموا فخلّى سبيلهم وسبيل عيالاتهم ، وأبى شيخ منهم العود إلى الإسلام فقتله.


وجمع الممتنعين عن صدقاتهم فأخذ صدقاتهم للعامين وخلّاهم! ولم يبق إلّا النصارى منهم وعيالاتهم فأسّرهم وسباهم واحتملهم معه وهم خمسمائة إنسان.

وكتب إلى الإمام عليه‌السلام : أمّا بعد ، فإنّي أخبر أمير المؤمنين عن جنده وعن عدوّه : أنّا دفعنا إلى عدونا بأسياف البحر ، فوجدنا بها قبائل ذات عدّة وحدّة وجدّ! وقد جمعوا لنا ، فدعوناهم إلى الطاعة والجماعة ، وإلى حكم الكتاب والسنّة ، وقرأنا عليهم كتاب أمير المؤمنين ، ثمّ رفعنا لهم راية أمان ، فمالت إلينا طائفة منهم وثبتت أخرى ، فقبلنا من التي أقبلت ، وصمدنا للتي أدبرت ، فضرب الله وجوههم ونصرنا عليهم ، فأمّا من كان مسلما فإنّا مننّا عليه وأخذنا بيعته لأمير المؤمنين ، وأخذنا منهم الصدقة التي كانت عليهم. وأمّا من ارتدّ : فإنّا عرضنا عليهم الرجوع إلى الإسلام وإلّا قتلناهم ، فرجعوا إلى الإسلام غير رجل واحد فقتلناه. وأمّا النصارى : فإنّا سبيناهم وأقبلنا بهم ليكونوا نكالا لمن بعدهم من أهل الذمّة لكي لا يمنعوا الجزية ، ولئلّا يجترئوا على قتال أهل القبلة ، وإنّهم أهل للصّغار والذلّة ورحمك الله يا أمير المؤمنين وأوجب لك جنّات النعيم والسلام (١).

قصة مصقلة الشيباني :

وسار معقل بالأسارى حتّى مرّ على أردشيرخرّة (من أكبر كور فارس شيراز) وكان بنو ناجية من بني شيبان ، وكان عامل الإمام على أردشيرخرّة : مصقلة بن هبيرة الشيباني ، وعلم بذلك أسارى بني ناجية فصاح به الرجال : يا أبا الفضل ، يا حامل الثقل ، ومأوى الضيف ، وفكّاك العناة ، امنن علينا واشترنا وأعتقنا! وبلغ ذلك مصقلة.

__________________

(١) الغارات ١ : ٣٥٧ ـ ٣٦٢ عن المدائني بسنده ، والطبري ٥ : ١٢٦ ـ ١٢٩ عن أبي مخنف بسنده.


فبعث ذهل الذهلي إلى معقل يقول له : بعنا هؤلاء النصارى ، فقال : نعم بألف ألف (مليون) درهم ، فلم يزل يراوده حتّى توافقوا على خمسمائة ألف درهم (نصف المليون). وكان العمّال في كور فارس (شيراز) يحملون أموالهم إلى البصرة إلى ابن عباس فيبعثها إلى الإمام عليه‌السلام ، وقال مصقلة : سأحمل المال إليه نجوما حتّى لا يبقى شيء منه إن شاء الله ، فقبل منه معقل.

وعمد مصقلة إلى نصارى قومه بني ناجية فأنجاهم من الأسر والسبي وخلّى سبيلهم من دون أن يسألهم أن يعينوه بشيء في فكاك أنفسهم!

وعاد معقل إلى الكوفة بجيشه ، وعاد جيش البصرة إليها ، وأخبر معقل الإمام عليه‌السلام بما كان منه في ذلك فقال له الإمام : أحسنت وأصبت ووفّقت.

ولمّا بلغه أنّ مصقلة اعتق قومه ولم يسألهم المعونة قال : ما أرى مصقلة إلّا أنّه قد حمل حمالة سترونه عن قريب مبلدحا (منبطحا الأرض ـ عاجزا منها)!

ودعا أبا حرّة الحنفي (من بني حنيفة من تميم) وكتب معه إلى مصقلة : أمّا بعد فإنّ من أعظم الخيانة خيانة الأمّة ، وأعظم الغش غش الأئمّة. وعندك من حقّ المسلمين : خمسمائة ألف درهم ، فابعث بها حين يأتيك رسولي ، وإلّا فأقبل إليّ حين تنظر في كتابي ، فإني تقدّمت إلى رسولي (أبي حرّة الحنفي) أن لا يدعك ساعة واحدة تقيم بعد قدومه عليك ، إلّا أن تبعث بالمال ، والسلام. وأبلغه الكتاب أبو حرّة الحنفي.

فلمّا أبلغه أبو حرّة الكتاب قال له : إن بعثت بالمال الساعة وإلّا فاشخص معي ؛ فأقبل معه حتّى نزل بالبصرة على ابن عباس فطلب إليه أن ينظره أيّاما فأنظره فأقبل من البصرة إلى الكوفة فأقرّه الإمام أيّاما ثمّ سأله فأدّى إليه مائتي ألف درهم معه! وكان ذهل بن الحارث الذهلي الوسيط بينه وبين معقل بن قيس لشراء الأسرى قد قدم الكوفة ، فلمّا أمسى دعاهم إلى رحله ، فقدّم عشاء ثمّ قال لذهل : إنّ أمير المؤمنين يسألني هذا المال ، والله لا أقدر عليه! فقال له ذهل الذهلي : لو شئت لجمعته في جمعة (اسبوع واحد) من قومك! فقال : والله ما كنت لأطلب فيها إلى أحد ولا احمّلها


على قومي! أما والله لو أنّ ابن هند أو ابن عفّان كانا يطالبانني بها لتركاها لي! ألم تر إلى ابن عفّان حيث أطعم الأشعث في كلّ سنة من خراج آذربايجان : مائة ألف درهم!

فقال له ذهل الذهلي : إنّ هذا (الإمام) لا يرى ذلك الرأي ، وما هو بتارك لك شيئا! فسكت وسكت ذهل حتّى خرج من رحله ، وكأنّه طلب منه الوساطة لدى الإمام عليه‌السلام فردّه.

ومكث مصقلة بعد هذا ليلة واحدة ثمّ فرّ إلى معاوية ، وبلغ ذلك الإمام عليه‌السلام فقال فيه :

«ماله ترّحه الله! فعل فعل السيّد وفرّ فرار العبد وخان خيانة الفاجر! أمّا إنّه لو أقام فعجز ما زدنا على حبسه ، فإن وجدنا له شيئا أخذناه ، وإن لم نقدر له على مال تركناه» ثمّ أمر فهدموا داره.

وكان أخوه نعيم بن هبيرة الشيباني شيعيّا مناصحا لعلي عليه‌السلام ، فلمّا استقرّ مصقلة لدى معاوية كلّمه في أخيه فوعده الكرامة ومنّاه الإمارة ، فكتب مصقلة بذلك إلى أخيه وحمله إليه مع نصراني من بني تغلب يدعى حلوان. فلمّا قدم بالكتاب إلى العراق أخذه مالك بن كعب وبعث به إلى الإمام فأمر به فقطعت يده فنزف دما حتّى مات ، فلمّا بلغ ذلك أهله من بني تغلب طلبوا ديته من مصقلة فودّاه لهم.

وقيل للإمام عليه‌السلام : اردد الذين سبوا ولم تستوف أثمانهم ، ارددهم في الرّق! فقال :

ليس ذلك بحقّ في القضاء ، فإنّهم قد اعتقوا إذ أعتقهم الذي اشتراهم ، وصار المال دينا عليه (١).

__________________

(١) الغارات ١ : ٣٦٢ ـ ٣٧٠ عن المدائني بأسناده ، والطبري ٥ : ١٢٨ ـ ١٣٠ عن أبي مخنف بأسناده. وقال اليعقوبي كان ذلك في سيف عمان ٢ : ١٩٥ والمسعودي : ساحل البحرين وقصة مصقلة في كور الأهواز ٢ : ٤٠٨ ولا يصح شيء منهما.


أرزاق عام (٣٨ ه‍) وعطاؤه :

انفرد المسعودي بقوله : قبض أصحاب علي عليه‌السلام في سنة (٣٨ ه‍) أرزاقهم ثلاث مرات ، حسب ما كان يحمل إليه من عمّاله من المال ، ثمّ ورد عليه مال من أصفهان ، فخطب الناس وقال لهم : اغدوا إلى عطاء رابع ، فو الله ما أنا بخازن لكم ، ثمّ قال : وكان في عطائه اسوة للناس : يأخذكما يأخذ الواحد منهم (١).

ولعل الأصل فيه ما نقله الثقفي بسنده قال : أعطى عليّ الناس في عام واحد (بلا تعيين) ثلاثة اعطيات ، ثمّ قدم عليه خراج أصفهان فقال للناس :

أيّها الناس ، اغدوا فخذوا ، فو الله ما أنا بخازن لكم! فغدوا وأخذوا ، ثمّ أمر فكنس بيت المال ونضح ، فصلّى فيه ركعتين ثمّ قال : يا دنيا غرّي غيري (٢)!

وفصّل في نقل آخر قال : أتى عليّا عليه‌السلام مال من أصفهان فقسّمه ، فوجد فيه رغيفا ، وكانت الكوفة يومئذ سبعة أسباع ، فكسر الرغيف سبع كسر فجعل على كلّ جزء كسرة ، ثمّ دعا أمراء الأسباع فأقرع بينهم أيّهم يعطيه أوّلا :

وفصّل أكثر في نقل آخر قال الراوي : ازدحم الناس على الأموال ، فأخذ عليّ عليه‌السلام حبالا فعقد بعضها إلى بعض بيده فوصلها ثمّ أدارها حول المتاع ثمّ قال : لا احلّ لأحد أن يجاوز هذا الحبل! فقعدنا وراء الحبال ، ودخل علي عليه‌السلام فنادى رؤساء الأسباع ، فقاموا ودخلوا عليه فأخذوا يحملون الجوالق إلى الجوالق وهذا إلى هذا حتّى تقسّم المال سبعة أجزاء ، ثمّ وجد مع المتاع رغيفا فكسره سبع كسر ووضع على كلّ جزء كسرة ، ثمّ قال :

هذا جناي وخياره فيه

إذ كل جان يده إلى فيه

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٤١٠.

(٢) الغارات ١ : ٨٣.


ثمّ أقرع بينهم ، فجعل كل رجل يدعو قومه فيحملون الجواليق (١).

تلك أخبار عن القسم بالسويّة بين أسباع القبائل ، وهناك أخبار عن القسم بالسويّة بين الأفراد : منها : أنّ امرأتين أتتا عليّا عليه‌السلام عند القسمة إحداهما من العرب والأخرى من الموالي ، فأعطى كلّ واحدة خمسة وعشرين درهما وكرّا من الطعام.

فلمّا رأت العربية ذلك قالت : يا أمير المؤمنين إنّي امرأة من العرب وهذه من العجم!

فقال علي عليه‌السلام : والله إنّي لا أجد لبني إسماعيل فضلا في هذا الفيء على بني إسحاق (٢).

ولعلّ هذه التسوية استهوت بعض دهاقين الفرس (في العراق) إلى أن بعث إلى علي عليه‌السلام بثوب مخطّط بالذهب ، فعرضه للبيع فابتاعه منه عمرو بن حريث بأربعة آلاف درهم (٣) ويبدو أنّه ردّ الدراهم إلى العطاء.

ومن أخبار التقسيم بغير التسبيع ما نقله الثقفي بسنده عن الشعبي قال : كنت غلاما في الرحبة إذ رأيت أمير المؤمنين قائما على صبرة من الذهب وصبرة من فضّة يقسّمهما بين الناس حتّى لم يبق منه شيء! ولم يحمل منه إلى بيته شيئا! فرجعت إلى أبي (شراحيل الحميري) فقصصت عليه الذي رأيته ، فبكى وقال : يا بني لقد رأيت خير الناس (٤)!

وروى عنه علّة تسويته قال عليه‌السلام : كان خليلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يحبس شيئا لغد ، ولقد كان أبو بكر يفعل ذلك ، ثمّ رأى عمر أن يدوّن الدواوين وأخّر المال

__________________

(١) الغارات ١ : ٥٢ ، ٥٣ والجواليق جمع الجوالق وهو معرّف جوال بالفارسية أي عدل الجمل.

(٢) الغارات ١ : ٧٠ باعتبار أن بني إسماعيل استعربوا وبقي بنو إسحاق عبريين غير عرب.

(٣) الغارات ١ : ٦٢.

(٤) الغارات ١ : ٥٤ ـ ٥٥.


من سنة إلى سنة! فأنا أصنع كما صنع خليلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فكان يعطيهم من الجمعة إلى الجمعة ، ثمّ ينضح بيت المال ويتنفّل فيه ويخاطبه يقول : اشهد لي يوم القيامة أنّي لم أحبس المال على المسلمين فيك (١) وفي آخر : أنّ ذلك كان في عشيّة كلّ خميس (٢).

وأخوه عقيل عنده ثمّ عند عدوّه :

ويبدو لي أنّ عقيل بن أبي طالب طلب عطاء أخيه الإمام في هذا العام فقدم الكوفة ودخل عليه بالمسجد الجامع حتّى وقف عليه وقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله. فقال الإمام : وعليك السلام يا أبا يزيد ، ثمّ التفت إلى ابنه الحسن عليه‌السلام فقال له : قم وأنزل عمّك.

فقام الحسن إلى عمّه عقيل وذهب به حتّى أنزله وعاد إلى أبيه ، فقال له : اشتر له نعلا جديدا وإزارا وقميصا جديدا ورداء جديدا ، فذهب الحسن عليه‌السلام واشترى لعمّه ذلك وقدّمها إليه.

فلما حضر العشاء فإذا هو خبز وملح! فقال عقيل : ليس إلّا ما أرى (أي أجد)؟! فقال عليّ : أو ليس هذا من نعمة الله؟ فله الحمد كثيرا.

ثمّ قال له عقيل : أعطني ما أقضى به ديني وعجّل سراحي أرحل عنك! قال : فكم دينك يا أبا يزيد؟ قال : مائة ألف درهم! قال : والله ما هي عندي وما أملكها! ولكن اصبر حتّى يخرج عطائي فأواسيكه ، ولو لا أنّه لا بدّ للعيال من شيء لأعطيتك كلّه. فقال له عقيل : وكم عطاؤك وما عسى يكون لو أعطيتنيه كله؟! أتسوّفني إلى عطائك وبيت المال في يدك؟! فقال : ما أنت فيه وأنا إلّا بمنزلة رجل من المسلمين!

__________________

(١) الغارات ١ : ٤٧ ـ ٥٠ بأسناده ، ولم نجد جمعا بين توزيعه كلّ جمعة وبين أربع مرات في العام.

(٢) الغارات ١ : ٦٩.


وكانا يتحادثان ذلك وهما فوق الدار مشرفين على صناديق السوق ، فقال له علي عليه‌السلام :

يا أبا يزيد ، إن أبيت ما أقول فانزل إلى بعض هذه الصناديق فاكسر أقفاله وخذ ما فيه! فقال : وما فيها؟ قال : فيها أموال التجّار! قال : أفتأمرني أن أكسر صناديق قوم قد جعلوا فيها أموالهم ثمّ توكّلوا على الله! فقال له الإمام : أفتأمرني أن أفتح بيت مال المسلمين فأعطيك من أموالهم وقد أقفلوا عليها وتوكّلوا على الله! فإن شئت أخذت سيفك (كذا) وأخذت سيفي وخرجنا جميعا إلى الحيرة ، فإنّ بها تجّارا مياسير ، فدخلنا على بعضهم فأخذنا ماله! فقال : أو سارقا جئت؟! قال : فتسرق من واحد خير من أن نسرق من المسلمين جميعا!

فقال له عقيل : أفتأذن لي أن أخرج إلى معاوية؟ قال : قد أذنت لك (١) قال : فأعنّي على سفري هذا! قال : يا حسن ، أعط عمك أربعمائة درهم (٢).

__________________

(١) الخبر عن البلاذري في أنساب الأشراف كما في مناقب الحلبي ٢ : ١٢٥ ويتلوه عن أمالي الطوسي بسنده عن الصادق عليه‌السلام مثله ، وأحلّ له ذلك لعذره عن الجهاد بعماه وبشرط عدم التأييد ، وكان كذلك بل مع جهاد البيان واللسان والكلمة الجارحة ، ولم يكن إلّا لفترة قصيرة ، كما سيأتي لاحقا.

(٢) مناقب الحلبي ٢ : ١٢٥ عن جمل أنساب الأشراف للبلاذري ، وذكر طريقه إليه في أوّل الكتاب وكان عقيل بالمدينة ولم يذكر أنّه حمل معه عياله وأطفاله وصبيانه كما جاء في نهج البلاغة ، الخطبة ٢٢٤ وانفرد به قبله الصدوق في أماليه : ٧١٨ ، الحديث ٩٨٨ ، م ٩٠ بسنده عن المفضّل بن عمر (الضعيف) عن الصادق ، عن أبيه ، عن جده ، عن أبيه قال : قال علي عليه‌السلام ... بلا ذكر خطبة ، ولكن فيه خطاب : معاشر شيعتي! وتمنّي تنفيذ حدّ المرتد على مرتدّ بالمدائن! وأنّ عقيل ألوى هو وأطفاله ثلاثة أيام جياعا! وأن الزكاة والصدقة والنذر محرّم عليهم! فمع كلّ هذا أنا لا أحتمل صحّة نسبة صدور مثله عنه عليه‌السلام.


هذا ما نقله الحلبي ، عن البلاذري ، وروى نحوه الطوسي بسنده عن الصادق عليه‌السلام وفيه :

فقال عقيل : يا أمير المؤمنين ، أفتأذن لي أن (أرحل) إلى معاوية؟! قال له : (أنت) في حلّ محلّل فانطلق نحوه ، وبلغ معاوية قدومه فأمر أصحابه أن يلبسوا من أحسن ثيابهم ثمّ يركبوا إليه أفره دوابّهم! وأبرز معاوية له سريره.

فلما انتهى عقيل إليه قال له معاوية : مرحبا بك يا أبا يزيد! ثمّ قال له : ما نزع بك؟ فقال مصرّحا : طلب الدنيا من مظانّها! ولم ينكر معاوية ذلك بل أقرّ به وقال : أصبت ووفّقت! وقد أمرنا لك بمائة ألف ، فجيء بها إليه فأعطاها إياه ثمّ قال له : أخبرني عن من مررت به من العساكر؟ قال : اخبرك في الجماعة أو في الوحدة؟ قال : بل في الجماعة. فقال عقيل : كان أوّل من استقبلني من عسكرك أبو الأعور السّلمي ومعه طائفة من المنافقين والمنفّرين برسول الله ناقته! إلّا أنّ أبا سفيان لم يكن فيهم! فأسكت معاوية وكفّ عنه حتّى ذهب الناس.

فلما ذهب الناس قال له : يا أبا يزيد ؛ أيش (أي شيء) صنعت بي؟!

قال : ألم أقل لك : في الجماعة أو في الوحدة ، فأبيت عليّ؟!

قال : فالآن فاشفني من عدوّي؟ قال : فذلك عند الرحيل. فلما شدّ غرائره ورواحله أقبل نحو معاوية ، وقد جمع حوله معاوية أصحابه وكان عقيل من أنسب الناس ، فلما انتهى إليه وقعد قال له : يا معاوية من ذا عن يمينك؟ قال : هو عمرو بن العاص ، فتضاحك عقيل وقال : لقد علمت قريش أنه لم يكن أخصى لتيوسها من أبيه!

ثمّ قال له : فمن هذا (عن يسارك) قال : هذا أبو موسى الأشعري! فتضاحك ثمّ قال : لقد علمت قريش المدينة أنه لم يكن بها امرأة أطيب ريحا من قبّ أمّه المراغة (١).

__________________

(١) القبّ : ما بين الوركين والأليتين ، والمراغة : التي يتمرّغ عليها وفيها الرجال!


فأراد معاوية أن يخفّف عنهم فقال له : أخبرني عن نفسي يا أبا يزيد! فقال له : تعرف حمامة؟! ثمّ قام ورحل. فدعا معاوية بنسّابين من عرب الشام وسألهم عن حمامة فأقسما عليه أن لا يسألهما عنها! فأبى وأصرّ وهدّدهما وآمنهما فقالا : هي الجدة السابعة لأبي سفيان ، وكان لها بيت تؤتى فيه (١)!

والظاهر أنّ حضور عقيل في الشام كان بعد رحيل ابن العاص منها إلى مصر ، ولعلّه كان زائرا لمعاوية يوما بعد ورود عقيل ، فلمّا دخل عليهما عقيل قال معاوية لابن العاص : لأضحكنّك من عقيل ، فلمّا سلّم عقيل أجابه معاوية : مرحبا برجل عمّه أبو لهب! فقال عقيل : أهلا برجل عمته حمّالة الحطب. وهي أم جميل بنت حرب امرأة أبي لهب عمّة معاوية ـ فقال معاوية : يا أبا يزيد ، ما ظنّك بأبي لهب؟ قال : يا معاوية ، إذا دخلت النار فخذ على يسارك تجده مفترشا عمّتك حمّالة الحطب! أفناكح في النار خير أم منكوح؟ قال : والله كلاهما شرّ سواء.

وقال له الوليد بن عقبة : يا أبا يزيد غلبك أخوك على الثروة؟! قال : نعم وسبقني وإيّاك إلى الجنّة! فغضب الوليد وقال : والله لو أنّ أهل الأرض اشتركوا في قتل عثمان لارهقوا صعودا! وإنّ أخاك لأشدّ هذه الأمّة عذابا! أما والله إنّ شدقيه لمضمومان من دم عثمان! فقال له عقيل : صه! والله إنّا لنرغب بعبد من عبيده عن صحبة أبيك عقبة بن أبي معيط! وما أنت وقريش؟! والله ما أنت فينا إلّا كنطيح التيس (٢)!

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٧٢٣ ، الحديث ١٥٢٥ م ٤٣ بسنده عن الصادق عليه‌السلام ، ومرّ مثله في عدم منع الإمام له عن السفر إلى الشام عن مناقب الحلبي عن جمل أنساب الأشراف ، وكذا في ترجمته في أسد الغابة ، كما في ترجمته في قاموس الرجال ٧ : ٢٢٦ برقم ٤٩٢٨. ونقل الثقفي مثل ذيل الخبر بسند آخر.

(٢) الغارات ٢ : ٥٥١ ـ ٥٥٣.


وصهره عبد الله بن جعفر :

وتقدّم إلى الإمام صهره عبد الله بن أخيه جعفر وقال له : يا أمير المؤمنين ، ما عندي شيء إلّا أن أبيع بعض دوابّي فلو أمرت لي بمعونة أو نفقة!

فقال له الإمام عليه‌السلام : لا والله ما أجد لك شيئا إلّا أن تأمر عمّك أن يسرق فيعطيك (١)!

نعم ، كانت نفقته تأتيه من غلّته من ينبع من نواحي المدينة وكان طعامه الثريد بالزيت ويجلّله بتمر العجوة (من تمر المدينة) ويطعم الناس الخبز واللحم. ويضع يده على بطنه ويقول : والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لا تنطوي ثميلتي (طعامي في بطني) على شيء من خيانة ، ولأخرجنّ منها خميصا (جائعا)!

ويقول : يا أهل الكوفة ، إذا أنا خرجت من عندكم بغير رحلي وراحلتي وغلامي فأنا خائن (٢) وكان يجعل سويقه في جراب يختمه مخافة أن يزاد فيه شيء.

وفي كلّ شهر رمضان كان يأمر بعض عمّاله أن يصنعوا للناس طعاما ، ووضعوا عنده خمسة وعشرين جفنة ، واتي إليه بقصعة عليها أضلاع ، فأخذ منها ضلعين وقال : تجزياني (٣) وكان أحيانا يأكل كسر خبز يابس بلبن حامض (٤) وكان يرى على وجه الرغيف قشار الشعير وهو يكسره وأحيانا يستعين لكسره بركبته.

قال سويد بن غفلة : رأيت ذلك وجاريته فضّة عند رأسه قائمة فقلت لها : يا فضة! أما تتقون الله في هذا الشيخ! لو نخلتم دقيقه (وكأنّه لم يسمعه) فسألها :

__________________

(١) الغارات ١ : ٦٦ ـ ٦٧.

(٢) الغارات ١ : ٦٨ ـ ٦٩.

(٣) الغارات ١ : ٨٢.

(٤) الغارات ١ : ٨٥.


ما يقول؟ قالت : سله. فقلت له : لو ينخلون دقيقك! فبكى ثمّ قال : بأبي وأمّي من لم يشبع ثلاثا متوالية من خبز برّ حتّى فارق الدنيا ولم ينخل دقيقه. يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وقال له عقبة بن علقمة : يا أمير المؤمنين أتأكل مثل هذا؟ فقال له : يا أبا الجنوب رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يأكل أيبس من هذا ، فإن أنا لم آخذ بما أخذ به خفت أن لا ألحق به (٢).

نعم ، إنّما كان حلواه التمر واللبن ، وثيابه الكرابيس (القطن) ولكنّه أعتق ألف مملوك ممّا عملت يداه (٣) واشترى ثوبين أحدهما بدرهمين والآخر بثلاثة دراهم ، فقال لغلامه قنبر : يا قنبر خذ الذي بثلاثة ، قال : يا أمير المؤمنين أنت تصعد المنبر وتخطب الناس فأنت أولى به ، فقال له : يا قنبر ، أنا استحيي من ربّي أن أتفضّل عليك! فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «ألبسوهم ممّا تلبسون وأطعموهم ممّا تأكلون» وأنت شابّ ولك شرّة الشباب (٤) وكان يخرج إلى السوق ومعه درّته (٥) يأمر وينهى. وفرض لمن قرأ (وحفظ) القرآن ألفين ألفين (٦) بينما فرض لشريح خمسمائة (٧).

وعاد عبد الله بن العباس إلى البصرة ، هذا وأخوه عبيد الله على اليمن ، وأخوه قثم على مكّة وهو الذي حجّ بالناس في هذه السنة (٣٨ ه‍) واستمرّت غارات معاوية.

__________________

(١) الغارات ١ : ٨٧ ـ ٨٨.

(٢) الغارات ١ : ٨٥.

(٣) الغارات ١ : ٩٢ بطريقين عن الحسن والصادق عليهما‌السلام.

(٤) الغارات ١ : ١٠٦ عن أبي مطر الجهني البصري وكان مسافرا يبيت في المسجد الجامع.

(٥) الغارات ١ : ١١٤.

(٦) الغارات ١ : ١٣١.

(٧) الغارات ١ : ١٢٢ واستطردنا للمناسبة.


غارة النعمان على عين تمر :

قبل نهاية السنة (٣٨ ه‍) بشهرين أو ثلاثة قال معاوية لمن حوله : أما من رجل أبعث معه بجريدة خيل ، حتّى يغير على شاطئ الفرات ؛ فإنّ الله يرعب بها أهل العراق! (وكأنّهم أعداء الله) فغزا الضحّاك بن قيس أرض العراق مع انصراف الحجّاج ثمّ انصرف إلى معاوية.

فتقدّم النعمان بن بشير الأنصاري الخزرجي إلى معاوية وقال له : ابعثني فإنّ لي في قتالهم هوى ونيّة! فقال له : فانتدب على اسم الله! وندب إليه ألفي رجل منهم ، وأوصاه : أن يتجنّب المدن والجماعات ، وأن لا يغير إلّا على مسلحة ، وأن يعجّل بالرجوع!

فخرج النعمان حتّى دنا من عين تمر ، وبها مالك بن كعب الأرحبي الهمداني ، وقد مرّ خبره معه من قبل ، وكذلك خبر إرسال الإمام لمالك الأرحبي لإغاثة ابن أبي بكر ولكنّه لم يدركه فرجع ، فيبدو أنّ الإمام بعد عودة مالك من تلك البعثة بعثه إلى مسلحة عين تمر ، وكان معه بها ألف رجل ، ولكنّه كان قد أذن لهم بزيارة أهلهم في الكوفة فتفرّقوا عنه إليها إلّا مائة منهم تقريبا!

فكتب مالك إلى الإمام عليه‌السلام : أمّا بعد ، فإنّ النعمان بن بشير قد نزل إليّ في جمع كثيف ، فانظر ما ترى ، ثبّتك الله وسدّدك ، والسلام.

وقد مرّ خبر مشادّة مخنف بن سليم الأزدي مع شبث بن ربعي التميمي بمحضر الإمام عليه‌السلام بشأن عشائرهما بالبصرة في أمر الحضرمي وزياد ، ويبدو أنّ الإمام بعد ذلك بعث مخنفا لجباية صدقات أراضي الفرات إلى بكر بن وائل (في الجزيرة) ومعه خمسون رجلا وفيهم ابنه عبد الرحمن ، وكان أقرب إلى عين تمر (١).

__________________

(١) الغارات ٢ : ٤٤٩ ـ ٤٥٠.


فقال مالك لابن حوزة الأزدي : إن أقرب من هاهنا إلينا من «شيعة» علي وأنصاره وعمّاله : مخنف بن سليم وقرظة بن كعب الأنصاري ، فاركض إليهما وأعلمهما حالنا وقل لهما فلينصرانا بما استطاعا!

قال ابن حوزة : فتركته وأصحابه وإنّهم ليترامون بالنبل أمام جدران القرية وحيطانها ، وجعلت أركض فرسي حتّى بلغت إلى قرظة الأنصاري فاستغثته فقال : إنّما أنا صاحب خراج وما معي أحد أغيثه به! فمضيت حتى بلغت مخنف بن سليم فأخبرته الخبر ، فدعا ابنه عبد الرحمن في خمسين رجلا فأغاثنا بهم ، فرجعت إلى مالك وأصحابه عصرا عند المساء وقد كسروا جفون سيوفهم واستسلموا للموت! فلمّا رآنا أهل الشام قد أقبلنا إليهم ظنّوا أنّ وراءنا مددا فأخذوا ينكصون عنهم ويرتفعون ، ورآنا مالك وأصحابه فشدّوا عليهم حتّى دفعوهم عن القرية ، وصرعنا منهم ثلاثة رجال ، وحال بيننا وبينهم الليل ، فارتفعوا وانصرفوا.

وكتب مالك بن كعب إلى الإمام عليه‌السلام : أمّا بعد ، فقد نزل بنا النعمان بن بشير في جمع من أهل الشام كالظاهر (المنتصر علينا) وكنّا آمنين عمّا كان منهم (ولذا) كان عظم أصحابي متفرّقين ، فخرجنا إليهم فقاتلناهم حتّى المساء ، واستصرخنا مخنف بن سليم فبعث إلينا رجالا من «شيعة» أمير المؤمنين ، مع ولده عند المساء ، فنعم الفتى ونعم الأنصار ، فحملنا على عدوّنا وشددنا عليهم ، فأنزل الله علينا نصره وهزم عدوّه وأعزّ جنده ، والحمد لله رب العالمين ، والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته (١).

خطاب علي عليه‌السلام وجواب عدي :

لكنّ الكتاب الأول لمالك الأرحبي لمّا بلغ إلى الإمام عليه‌السلام صعد المنبر

__________________

(١) الغارات ٢ : ٤٥٦ ـ ٤٥٧ ، وفي الطبري ٥ : ٣٣ السنة (٣٩ ه‍) عن المدائني ، عن عوانة.


فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :

يا أهل الكوفة : أإذا أطلّ عليكم منسر (فوج) من مناسر أهل الشام أغلقتم أبوابكم وانجحرتم في بيوتكم انجحار الضبّة في جحرها والضباع في وجارها! الذليل ـ والله ـ من نصرتموه! ومن رمى بكم رمى بأفوق ناصل (سهم بلا نصل) أفّ لكم! لقد لقيت منكم ترحا (حزنا)! ويحكم يوما أناجيكم ويوما أناديكم ، فلا أحباب عند النداء ولا إخوان صدق عند اللقاء! أنا ـ والله ـ منيت بكم! صمّ لا تسمعون ، وبكم لا تنطقون وعمي لا تبصرون.

ويحكم اخرجوا إلى أخيكم مالك بن كعب ، فإنّ النعمان بن بشير قد نزل به في جمع من أهل الشام ليس بالكثير! فانهضوا إلى إخوانكم ، لعلّ الله يقطع بكم من الظالمين طرفا! ثمّ نزل ودخل منزله.

فقام عديّ بن حاتم الطائي (وقد فرّ ابنه إلى معاوية ، والآخر قتل بالنهروان) وقال لهم :

هذا ـ والله ـ الخذلان القبيح! هذا ـ والله ـ الخذلان غير الجميل! ما على هذا بايعنا أمير المؤمنين!

ثمّ دخل على الإمام عليه‌السلام وقال له : يا أمير المؤمنين ، إنّ معي من طيّئ ألف رجل لا يعصونني ، فإن شئت أن أسر بهم سرت؟ فقال له : اخرج إلى النخيلة فعسكر بهم ، فخرج فعسكر.

وفرض الإمام عليه‌السلام لمن يلحق بهم سبعمائة ، فاجتمع إليه ألف فارس سواهم ، فسار بهم على شاطئ الفرات ، وفاته النعمان بن بشير فأغار على أداني أراضي الشامات ثمّ عاد إلى البلاد (١).

__________________

(١) الغارات ٢ : ٤٥١ ـ ٤٥٥.


وجدل على دومة الجندل :

كان أكثر أهل دومة الجندل من بني كلب ، ومنهم امرؤ القيس بن عدي صهر الإمام عليه‌السلام له ولولديه الحسنين عليهم‌السلام ، وكانت دومة الجندل محلّ تحكّم الحكمين ، ولعلّه لذلك تجرّءوا فقالوا : نكون على حالنا لا في طاعة علي عليه‌السلام ولا معاوية حتّى يجتمع الناس على إمام.

وتذكّرهم معاوية فبعث إليهم مسلم بن عقبة المرّي الأنصاري ليجبي صدقاتهم.

وبلغ ذلك إلى الإمام عليه‌السلام فبعث إلى مالك بن كعب الأرحبي الهمداني في عين تمر : أن استعمل رجلا وأقبل إليّ ، فولّاها ابن أخيه عبد الرحمن وأقبل إلى الإمام عليه‌السلام ، فسرّحه في ألف فارس ، فتواقفا ثمّ تقاتلا إلى الليل ، فلمّا أصبح مسلم المرّي وصلّى بأصحابه انصرف بهم.

فأقام مالك في الدومة يدعوهم ليجتمعوا على الإمام عليه‌السلام فلم يفعلوا ، فأقام كذلك عشرة أيّام ثمّ رجع إلى الإمام (١).

والعامريّ في السماوة :

وأقبل من الشام رجل يقال له : زهير بن مكحول العامري إلى السماوة يجبي صدقاتهم ، فبعث عليهم الإمام الجلاس بن عمير الكندي وجعفر بن عبد الله الأشجعي وعمرو بن عشبة الكلبي ومع كلّ واحد منهم جماعة ، وقال لهم : إذا اجتمعتم فعليكم عمرو بن عشبة ، فتلاقوا واقتتلوا ثمّ انهزمت خيل الإمام ، فقدم عليه عمرو بن عشبة وجعفر الأشجعي مهزومين ، وعلم الإمام بذلك

__________________

(١) الغارات ٢ : ٤٥٩ ـ ٤٦١.


فلمّا رأى عمرا علا رأسه بدرّته وقال له : انهزمت؟! وسكت الرجل ، ولكنّه لمّا خرج من عنده فرّ إلى معاوية! فبعث الإمام إلى داره فهدمها (١).

الغامديّ على الأنبار (٢) :

دعا معاوية سفيان بن عوف الغامدي الأزدي للغارة على العراق ، ثمّ خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا بعد أيّها الناس ، فانتدبوا مع سفيان بن عوف ، فإنّه وجه عظيم وفيه أجر عظيم مع أوبة سريعة إن شاء الله ، ثمّ سكت ونزل.

وخرج سفيان من دمشق فعسكر بناحيتها ، فما مرّت به ثلاثة أيّام حتى اجتمع إليه ستّة آلاف.

ودعاه معاوية فقال له : إنّي باعثك في هذا الجيش الكثيف ذي الأداة والجلادة ، فالزم لي جانب الفرات حتّى تمرّ على هيت ، فإن لم تجد بها جندا فامض حتّى تغير على الأنبار ، فإن لم تجد بها جندا فامض حتّى تغير على المدائن! وخرّب كلّ ما مررت به من القرى! واحرب الأموال فإنّه شبيه بالقتل! بل هو أوجع للقلوب! واقتل كلّ من لقيته ممّن لا يكون على رأيك! واعلم أنّك إن أغرت على أهل الأنبار وأهل المدائن فكأنّك أغرت على الكوفة ، ثمّ أقبل إليّ واتّق أن تقرب الكوفة! يا سفيان ، إنّ هذه الغارات على أهل العراق ترهب قلوبهم ، وتجرّئ كلّ من كان له فينا هوى ويرى فراقهم ، وتدعو إلينا كلّ من كان يخاف الدوائر!

__________________

(١) الغارات ٢ : ٤٦٣ ـ ٤٦٤.

(٢) الأنبار : كانت مخازن أرزاق جيوش الأكاسرة الفرس ، كما في معجم البلدان ومراصد الاطلاع.


فخرج سفيان في ستّة آلاف يلزم جانب الفرات ، فأسرع سيره بهم إلى هيت ، وبلغهم أنّه يغشاهم فعبروا الفرات وقطعوا جسورهم فوطأ هيت وما بها أحد. وهكذا مرّ على صندوداء ، وبلغ أهل الأنبار أخباره فخرج إليه أهل السلاح فيها ، فلمّا دنا منها أخذ غلمانا منها فأخبروه أنّ عدّة رجال المسلحة بها خمسمائة رجل ولكنّه قد رجع كثير منهم إلى الكوفة متبدّدين وقد بقي منهم مائتان.

فروى الثقفي ، عن جندب بن عفيف الأزدي قال : كنت في جند الأنبار مع أشرس بن حسان البكري ، إذ صبّحنا سفيان بن عوف في كتائب تلمع الأبصار منها ، وقد تفرّقنا فلم يبق نصفنا ، وخرج إليهم صاحبنا وايم الله لقد قاتلناهم فأحسنّا قتالهم ، ثمّ نزل صاحبنا وقال لنا :

من كان لا يريد لقاء الله ولا يطيب نفسا بالموت فليخرج عن القرية ما دمنا نقاتلهم ، فإنّ قتالنا إيّاهم شاغل لهم عن طلب هارب ، ومن أراد ما عند الله فما عند الله خير للأبرار! ثمّ نزل فنزل معه ثلاثون رجلا منّا فاستقدم هو وأصحابه فقاتلوا حتّى قتلوا ، فلمّا قتلوا انهزمنا (١).

ودخل سفيان وجنوده الأنبار فحملوا ما كان فيها من أموال أهلها ، ثمّ انصرفوا (٢).

ردّ الغامدي وخطب للإمام :

ولمّا أغار سفيان بن عوف على الأنبار قدم رجل من أهلها على علي عليه‌السلام فأخبره خبره ، فخطب فقال :

__________________

(١) الغارات ٢ : ٤٦٤ ـ ٤٧٠.

(٢) الغارات ٢ : ٤٦٨ ، وفي الطبري ٥ : ١٣٤ عن المدائني ، عن عوانة بن الحكم.


أيّها الناس ، إنّ أخاكم البكريّ قد أصيب بالأنبار ، وهو مغترّ لا يخاف ما كان ، فاختار ما عند الله على الدنيا ، فانتدبوا إليهم حتّى تلاقوهم ، فإن أصبتم طرفا منهم أنكلتموهم عن العراق أبدا ما بقوا! ثمّ سكت. فلم ينبس أحد منهم بكلمة. واخبر أنّ القوم قد جاءوا بجمع كثيف.

فدعا بسعيد بن قيس الهمداني وانتدب له ثمانية آلاف فارس ، وقال له : إنّي قد بعثتك في ثمانية آلاف ، فاتّبع هذا الجيش حتّى تخرجه من أرض العراق.

فخرج على شاطئ الفرات في طلبه حتّى بلغ عانات ، فسرّح أمامه هانئ بن الخطّاب الهمداني ، فاتّبع آثارهم حتّى بلغ أداني أراضي قنسرين (قبل حلب بمرحلة) فلم يلقهم فانصرف عنهم.

واعتلّ الإمام عليه‌السلام في تلك الأيّام حتّى لم يطق القيام بالخطاب والكلام ، لكنّه أملى كلاما على كاتبه ثمّ دعا الصحابيّ صاحب شرطته سعد بن الحارث الخزاعي فدفع إليه الكتاب وأمره أن يقرأه على الناس بمحضره ، وخرج مع ابنيه الحسنين عليهم‌السلام وابن أخيه عبد الله بن جعفر ، فجلس معهم بباب السدّة إلى المسجد الجامع ، فقام سعد بحيث يسمع الإمام قراءته وما يردّ عليه الناس ، ثمّ قرأ الكتاب :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من عبد الله عليّ (بلا لقب!) إلى من قرئ عليه كتابي من المسلمين ، سلام عليكم ، أمّا بعد ، فالحمد لله ربّ العالمين ، وسلام على المرسلين ، ولا شريك لله الأحد القيّوم ، وصلوات الله على محمد والسلام عليه في العالمين.

أمّا بعد ، فإنّي قد عاتبتكم في رشدكم حتّى سئمت ، وراجعتموني بالهزء من قولكم حتّى برمت ، هزء من القول لا يعاد (لا يعتدّ) به ، وخطل (بالرأي) لا يعزّ أهله! ولو وجدت بدّا من خطابكم والعتاب إليكم ما فعلت ، وهذا كتابي يقرأ عليكم ، فردّوا خيرا وافعلوه ، وما أظنّ أن تفعلوا ، فالله المستعان.


أيّها الناس ، إنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه الله لخاصّة أوليائه ، وهو لباس التقوى ، ودرع الله الحصينة ، وجنّته الوثيقة ، فمن ترك الجهاد في الله ألبسه الله ثوب الذلّ ، وشمله البلاء ، وضرب على قلبه بالشبهات ، وديّث بالصغار والقماءة ، وأديل الحقّ منه بتضييع الجهاد ، وسيم الخسف ومنع النصف!

ألا وإنّي قد دعوتكم إلى جهاد عدوّكم ليلا ونهارا وسرّا وإعلانا ، وقلت لكم : اغزوهم قبل أن يغزوكم ، فو الله ما غزي قوم في عقر دارهم إلّا ذلّوا! فتواكلتم وتخاذلتم ، وثقل عليكم قولي فعصيتم ، واتخذتموه وراءكم ظهريّا ، حتّى شنّت عليكم الغارات في بلادكم ، وملكت عليكم الأوطان!

فهذا أخو غامد (سفيان بن عوف) قد وردت خيله الأنبار ، فقتل بها أشرس بن حسان (البكري) (١) وأزال مسالحكم عن مواضعها ، وقتل منكم رجالا صالحين ، وقد بلغني أنّ الرجل من أعدائكم كان يدخل بيت المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع خلخالها من ساقها ورعثها (زينتها) من أذنها فلا تمتنع منه ، ثمّ انصرفوا وافرين ، لم يكلم (يجرح) منهم رجل كلما! فلو أنّ امرأ مسلما مات من دون هذا أسفا ما كان عندي ملوما بل كان عندي به جديرا.

فيا عجبا ، عجبا والله يميث القلب ويجلب الهمّ ، ويسعّر الأحزان اجتماع هؤلاء على باطلهم ، وتفرّقكم عن حقّكم! فقبحا لكم وترحا! لقد صيّرتم أنفسكم غرضا يرمى ، يغار عليكم ولا تغيرون ، وتغزون ولا تغزون ، ويعصى الله وترضون ، ويفضى إليكم فلا تأنفون.

قد ندبتكم إلى جهاد عدوّكم في الصيف فقلتم : هذه حمّارة القيظ ، أمهلنا حتى ينسلخ عنّا الحرّ! وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم : هذه صبارّة القرّ ،

__________________

(١) وفي نهج البلاغة : حسان بن حسان.


أمهلنا حتّى ينسلخ عنّا البرد! فإذا كنتم من الحرّ والصرّ تفرّون فأنتم ـ والله ـ من حرّ السيوف أفرّ ، فحتّى متى وإلى متى؟!

يا أشباه الرجال ولا رجال ، ويا طغام الأحلام ، أحلام الأطفال وعقول ربّات الحجال ، يعلم الله لقد سئمت الحياة بين أظهركم ، ولوددت أنّ الله يقبضني إلى رحمته من بينكم ليتني لم أركم ولم أعرفكم معرفة والله جرّت ندما وأعقبت سدما! (لقد) أوغرتم ـ يعلم الله ـ صدري غيظا ، وجرّعتموني جرع الهمام أنفاسا ، وأفسدتم عليّ رأيي وخرصي بالعصيان والخذلان ، حتّى قالت قريش وغيرها : إنّ ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب! لله أبوهم! وهل كان منهم رجل أشدّ مقاساة وتجربة ، ولا أطول مراسا لها منّي! فو الله لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين ، وها أنا ذا قد ذرّفت على الستّين ، ولكن «لا رأي لمن لا يطاع» فكرّرها ثلاثا ثمّ سكت» (١).

ثمّ أمر الإمام عليه‌السلام الحارث بن الأعور الهمداني أن ينادي في الناس : أين من يشري نفسه لربّه؟ ويبيع دنياه بآخرته؟ اصبحوا غدا بالرّحبة إن شاء الله ، ولا يحضرنا إلّا صادق النيّة في المسير معنا والجهاد لعدوّنا. فأصبح وليس في الرّحبة إلّا دون الثلاثمائة رجل! وتخلّف آخرون وأتاه قوم يعتذرون.

ومكث الإمام عليه‌السلام أيّاما ثمّ أمر فنودي في الناس بالاجتماع فاجتمعوا ، فقام فيهم خطيبا على المنبر فقال لهم :

__________________

(١) الغارات ٢ : ٤٧٠ ـ ٤٧٧ ، وفي معاني الأخبار : ٣٠٩ ـ ٣١٠ أنّها كانت خطبة له عليه‌السلام بالنخيلة لإرسال سعيد بن قيس ، وكذلك في نهج البلاغة خ ٢٧ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٧٩ ، وانظر وقارن بالإرشاد ١ : ٢٧٨ ـ ٢٨٣ ، وموارد نقلها كذلك في تعليقات الغارات ٢ : ٨١٩ ـ ٨٢١.


أمّا بعد أيّها الناس ، فو الله لأهل مصركم في الأمصار أكثر من الأنصار في العرب ، وما كانوا يوم أعطوا رسول الله أن يمنعوه ومن معه من المهاجرين حتّى يبلّغ رسالات ربه ، إلّا قبيلتين صغير مولدهما ، وما هما بأقدم العرب ميلادا ، ولا بأكثرهم عددا ، فلمّا آووا النبيّ وأصحابه ونصروا الله ودينه ، رمتهم العرب عن قوس واحدة ، وتحالفت عليهم وغزتهم العرب واليهود ، والقبائل قبيلة بعد قبيلة. فتجرّدوا لنصرة دين الله ، وقطعوا ما بينهم وبين العرب من الحبائل ، وما بينهم وبين اليهود من العهود ، ونصبوا لأهل نجد وتهامة ، وأهل مكة واليمامة ، وأهل الحزن والسهل ، حتّى أقاموا قناة الدين ، وتصبّروا تحت أحلاس الجهاد حتى دانت لرسول الله العرب ، ورأى فيهم قرّة العين قبل أن يقبضه الله إليه.

فأنتم (اليوم) في الناس أكثر من أولئك في أهل ذلك الزمان من العرب.

فقام إليه رجل طويل أسمر فقال له : ما أنت بمحمد! ولا نحن بأولئك الذين ذكرت ، فلا تكلّفنا ما لا طاقة لنا به!

فقال الإمام عليه‌السلام : ثكلتكم الثواكل! ما تزيدونني إلّا غمّا! وهل أخبرتكم أنّي محمد وأنّكم الأنصار؟! إنّما ضربت لكم مثلا ، وإنّما أرجو أنّ تتأسّوا بهم.

وتكلّم الناس من كل ناحية ولغطوا ، فقام رجل وصاح بهم : لقد استبان فقد الأشتر على أهل العراق! وأشهد أن لو كان حيّا لعلم كلّ امرئ ما يقول ولقلّ اللغط!

فقال الإمام عليه‌السلام : هبلتكم الهوابل ، لأنا أوجب عليكم حقّا من الأشتر! وغضب فنزل ودخل منزله.

فقام حجر بن عدي وسعيد بن قيس الهمداني ووجوه أصحابه فدخلوا عليه ، فقالوا له :

يا أمير المؤمنين ، لا يسوؤك الله ، مرنا بأمرك نتّبعه ، فو الله لا نعظم جزعا على عشائرنا إن قتلت في طاعتك. فقال لهم : أشيروا عليّ برجل صليب ناصح يحشر الناس من السواد (العراق).


فقال له سعيد بن قيس : يا أمير المؤمنين ، أشير عليك بالناصح الأريب ، الشجاع الصليب : معقل بن قيس التميمي. فقال عليه‌السلام : نعم ، ثمّ أرسل عليه يدعوه إليه ليوجّهه (١).

خطاب وعتاب آخر :

روى الثقفي عن جندب بن عبد الله الأزدي قال : إنّ عليّا عليه‌السلام استنفر الناس أيّاما فلم ينفروا ، فقام فيهم فقال : أمّا بعد ، أيّها الناس ، فإنّي قد استنفرتكم فلم تنفروا ، ونصحت لكم فلم تقبلوا ، فأنتم شهود كغيّاب ، وصمّ ذوو أسماع ، أتلو عليكم الحكمة ، وأعظكم بالموعظة الحسنة ، وأحثّكم على جهاد عدوّكم الباغين ، فماء آتي على آخر منطقي حتّى أراكم متفرّقين أيادي سبا ، فإذا أنا كففت عنكم عدتم إلى مجالسكم حلقا عزين ، تضربون الأمثال ، وتتناشدون الأشعار ، وتسألون عن الأخبار ، قد نسيتم الاستعداد للحرب ، وشغلتم قلوبكم بالأباطيل! تربت أيديكم! اغزوا القوم قبل أن يغزوكم ، فو الله ما غزي قوم قطّ في عقر ديارهم إلّا ذلّوا! وايم الله ما أراكم تفعلون حتّى يفعلوا ، ولوددت أنّي لقيتهم على نيّتي وبصيرتي فاسترحت من مقاساتكم! فما أنتم إلّا كإبل جمة ضلّ راعيها! كلما ضمت من جانب انتشرت من جانب آخر. والله لكأنّي بكم لو قد حمس الوغى وأحمّ البأس قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج الرأس ، وانفراج المرأة عن قبلها!

فقام الأشعث بن قيس وقال له : يا أمير المؤمنين ، فهلّا تفعل كما فعل ابن عفّان؟!

فقال له الإمام عليه‌السلام : يا عرف النار! ويلك! إنّ الذي فعله ابن عفّان (بالقعود في الدار حتّى يغزى) لمخزاة على من لا دين له ولا حجّة معه! فكيف وأنا على بيّنة

__________________

(١) الغارات ٢ : ٤٧٠ ـ ٤٨٢ بأسناده ، وعنه في أمالي الطوسي : ١٧٣ الحديث ٢٩٣ م ٦.


من ربّي والحقّ في يدي؟! والله إنّ امرأ يمكّن عدوّه من نفسه يجدع لحمه ويهشّم عظمه ، ويفري جلده ويسفك دمه ، لضعيف ما ضمّت عليه جوانح صدره (يعني قلبه) أنت كن كذلك إن أحببت ، فأمّا أنا فدون ذلك ضرب بالمشرفي يطير منه فراش إلهام ، وتطيح منه الأكف والأقدام! ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء! وسكت.

فقام أبو أيوب خالد بن يزيد الأنصاري وتوجّه إلى الناس وقال لهم :

أيّها الناس ، إنّ أمير المؤمنين قد أسمع من كانت له أذن واعية وقلب حفيظ! إنّ الله قد أكرمكم بكرامة لم تقبلوها حقّ قبولها : إنّه ترك بين أظهركم ابن عمّ نبيكم وسيّد المسلمين من بعده ، يفقّهكم في الدين ، ويدعوكم إلى جهاد المحلّين ، فكأنّكم صمّ لا تسمعون ، أو قلوبكم غلف ، بل مطبوع عليها فأنتم لا تعقلون ، أفلا تستحيون؟!

عباد الله! إنّما عهدكم بالجور والعدوان أمس (في عهد عثمان) قد شمل البلاء وشاع في البلاد : فذو حقّ محروم ، وملطوم وجهه ، وموطأ بطنه (عمّار بن ياسر) ومنفيّ بالعراء تسفي عليه الأعاصير ، لا يكنّه من الحرّ والقرّ وصهر الشمس والضحّ إلّا الأثواب الهامدة وبيوت الشعر البالية (أبو ذر الغفاري) حتّى حباكم الله بأمير المؤمنين ، فصدع بالحقّ ، ونشر العدل ، وعمل بما في الكتاب.

يا قوم فاشكروا نعمة الله عليكم ولا تولّوا مدبرين (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ)(١).

اشحذوا السيوف ، واستعدّوا لجهاد عدوّكم ، فإذا دعيتم فأجيبوا ، وإذا أمرتم فاسمعوا وأطيعوا ، وما قلتم فليكن ما أضمرتم عليه ، تكونوا بذلك من الصادقين (٢).

__________________

(١) الأنفال : ٢١.

(٢) الغارات ٢ : ٤٩٣ ـ ٤٩٨.


وتشبّث الأشعث بالقشّة :

وكأنّ الأشعث الكندي أمسى أشعث أغبر من الردّ العنيف من الإمام عليه‌السلام على كلامه له ، فكأنّه رام الانتقام أو الانتقاص منه! وكان عمر بن الخطاب يدني الأعراب ويباعد الموالي ، وكان الإمام عليه‌السلام على عكسه أميل إلى الموالي وألطف بهم! وكانت العرب تسمّي الموالي العجم بالحمراء ، وكانوا في الكوفة قد أسلموا وأطافوا بالإمام عليه‌السلام حتّى كأنّهم تغلّبوا عليه أكثر من العرب والأعراب.

ودخل الأشعث المسجد يوما ورأى الحال كذلك ، فأخذ يتخطّى الناس ليتقرّب إلى الإمام عليه‌السلام زلفى لديه حتّى توصّل إليه فتقوّل لديه :

يا أمير المؤمنين ؛ غلبتنا هذه الحمراء على وجهك؟! فكأنّه غضب الإمام عليه‌السلام وقال : من يعذرني من هؤلاء الضياطرة (الضخام بلا أفهام) يتقيّل أحدهم (ينام القيلولة) يتقلّب على حشاياه (فراشه) ويهجّر قوم (يخرج في هجير الحرّ) لذكر الله فيأمرني أن أطردهم فأكون من الظالمين ، ثمّ قال : والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لقد سمعت محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «ليضربنّكم (الفرس) والله على الدين عودا كما ضربتموهم عليه بدءا» (١).

وكأنّ الإمام عليه‌السلام كان يرى هذا القدر من التأنيب غير كاف ، فنسبه إلى بقايا قوم ثمود وقال : أين (هذا) الثموديّ؟! فاطّلع الأشعث! فأخذ الإمام كفّا من الحصى وضرب به وجهه فأدماه وناداه : ترحا لهذا الوجه! ترحا لهذا الوجه! فانجفل الأشعث هاربا وانجفل معه الناس (٢)!

__________________

(١) الغارات ٢ : ٤٩٨ ـ ٤٩٩.

(٢) الغارات ٢ : ٥٠٠ ـ ٥٠١ مسندا ، فهل يستبعد أن يبعّد الناس عنه ويدبّر لقتله؟!


وحلم معاوية بالموسم :

مرّ الخبر عن استشارة الإمام عليه‌السلام من حجر الكندي وسعيد بن قيس الهمداني في من يبعثه لصدّ غارات معاوية وتعقيبها ، فأشار عليه سعيد بن قيس بمعقل بن قيس التميمي ، وأنّ الإمام أرسل إليه يدعوه ليوجّهه. والآن يبدو أنّ ذلك كان في أواخر سنة (٣٩ ه‍) لموسم الحجّ.

كان يزيد بن شجرة الرّهاوي عثمانيّا ناسكا يتألّه وقد شهد مع معاوية صفين! ودنا موسم الحجّ لسنة (٣٩ ه‍) فدعاه معاوية وقال له : إنّ أهلي وعشيرتي وبيضتي التي انفلقت عنّي أهل الله في حرم الله ، ولكن واليها رجل ممّن قتل عثمان وسفك دمه! (قثم بن العباس)! فأنا مسرّ إليك سرّا لا تطلع أحدا عليه حتى تخرج من كلّ أراضي الشام ، إنّي باعثك إلى مكة وواليها ، وفي ذلك شفاء لنا ولك ، وقربة إلى الله وزلفى! فسر على بركة الله حتى تنزلها ، وأنت تلاقي الآن الناس هناك بالموسم ، وإنّهم الأصل والعشيرة وإنّي كاره لاستئصالهم ومحبّ لاستبقائهم ، فادعهم إلى اتّباعنا وطاعتنا! فإن أجابوك فاقبل منهم واكفف عنهم ، وإن أدبروا عنك فنابذهم وناجزهم ، ولا تقاتلهم حتّى تبلّغهم أنّي قد أمرتك أن تبلّغهم عنّي! ثمّ تولّ أمر الموسم وصلّ بالناس!

ثمّ سيّره في ثلاثة آلاف فارس ، وخرج بهم من دمشق مسرعا وشيّعه رؤساؤها وهم يسألونه : أين يريد؟ فقال : سبحان الله (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ)(١) ما أسرع ما تعلمون ، وكأنّكم قد علمتم إن شاء الله ، ومضى مسرعا.

ثمّ قدّم أمامه الحارث بن نمير التنوخي (البحراني ، ولعلّه في ثلثهم) ثمّ مرّوا بوادي القرى ثمّ ميقات الجحفة ثمّ قدموا مكة يوما قبل التروية (٢).

__________________

(١) الأنبياء : ٣٧ ، وعدد الجيش عن الكامل لابن الأثير ٣ : ١٥١ سنة (٣٩ ه‍).

(٢) الغارات ٢ : ٥٠٤ ـ ٥٠٧.


كتاب الإمام إلى قثم بمكة :

وكان للإمام عليه‌السلام عيون بالشام وعلم بذلك فكتب إلى الإمام بالإعلام ، فكتب الإمام إلى قثم يقول له : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى قثم ابن العباس ، سلام عليك ، أمّا بعد ، فإنّ عيني بالمغرب كتب إليّ يخبرني : أنّه قد وجّه إلى الموسم ناسا من العرب من العمي القلوب والصمّ الأسماع ، والبكم الأبصار ، الذين يلبسون الحقّ بالباطل ، ويطيعون المخلوقين في معصية الخالق ، ويجلبون الدنيا بالدين (ومع ذلك) يتمنّون على الله جوار الأبرار! وإنّه لا يفوز بالخير إلّا فاعله ، ولا يجزى بالسوء إلّا فاعله!

وقد وجّهت إليكم جمعا من المسلمين ذوي بسالة ونجدة ، مع الحسيب الصليب الورع التقي معقل بن قيس الرياحي ، وقد أمرته باتباعهم وقصّ آثارهم حتّى ينفيهم من أرض الحجاز.

فقم على ما في يديك ممّا إليك ، مقام الصليب الحازم ، المانع سلطانه ، الناصح لإمامه ، ولا يبلغني عنك وهن ولا خور ولا ما منه تعتذر ، ووطّن نفسك على الصبر في البأساء والضراء ، ولا تكوننّ فشلا ولا طائشا ولا رعديدا! والسلام.

إلّا أنّه لم ينتفع بهذا الكتاب ؛ لأنّه سمع بأن قد سبقت خيلهم خيله فلا يصله إلّا بعد الموسم! وإنّما سمع بذلك قبل رحيلهم من ميقات الجحفة إلى مكة ، فقام في أهل مكة فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم :

أمّا بعد ، فقد وجّه إليكم من الشام جند عظيم قد أظلّكم! فإن كنتم على بيعتكم وطاعتكم فانهضوا معي إليهم حتّى أناجزهم! وإن كنتم غير فاعلين فبيّنوا لي ما في أنفسكم ، ولا تغرّوني! فإنّ الغرور حتف يضلّ معه الرأي ويصرع معه الرائي والأريب. ثمّ سكت. وسكت القوم! فذهب لينزل وهو يقول لهم : قد بيّنتم ما في أنفسكم!


فقام إليه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدري (صاحب مفتاح الكعبة) وقال له : أيّها الأمير ، رحمك الله ، لا يقبح رأيك فينا ولا يسوء ظنّك بنا ، فنحن على بيعتنا وطاعتنا ، وأنت أميرنا وابن عمّ خليفتنا ، فإن تدعنا نجبك وإن تأمرنا نطعك فيما أطقنا وقدرنا عليه. فسكت قثم ولم يتكلّم ، ولكنّه تقدم إلى مواليه أن يحضروا له متاعه ودوابّه ليتنحّى عن مكة! وعلم الناس بذلك.

وقدم أبو سعيد الخدري مكة وكان مصافيا في صداقة قثم فسأل عنه فأخبر خبره فجاءه وسأله فقال له : قد حدث الأمر الذي بلغك ، وليس معي جند أمتنع به ، فرأيت أن أعتزل عن مكة ، فإن يأتني جند أقاتل به وإلّا كنت قد تنحّيت بدمي!

فأخبره الخدري : أنّه لم يخرج من المدينة حتّى قدم عليهم حجّاج العراق وتجّارهم يخبرون : أنّ الناس بالكوفة قد ندبوا إلى مكة مع معقل بن قيس الرياحي.

فقال قثم : هيهات هيهات يا أبا سعيد ، إلى ذلك ما يعيش أولادنا!

فقال أبو سعيد : فما عذرك عند ابن عمّك وما عذرك عند العرب أن انهزمت قبل أن تضرب وتطعن!

فأراه قثم كتاب الإمام ولكنّه قال : سمعت قد سبقت خيلهم خيله فلا يأتي جيشه حتّى ينقضي أمر الموسم كلّه.

فقال أبو سعيد : إنّك إن أجهدت نفسك في مناصحة إمامك فرأى ذلك لك وعرف ذلك الناس فخرجت من اللائمة وقضيت الذي عليك من الحقّ ، والقوم يقدمون وأنت في الحرم والحرم حرم الله الذي جعله للناس آمنا ، وقد كنّا في الجاهلية نعظّم الحرم فاليوم أحقّ أن يفعل ذلك. فقبل قثم وأقام (١).

__________________

(١) الغارات ٢ : ٥٠٩ و ٥٠٧ ـ ٥١٠ عن عباس بن سهل بن سعد الأنصاري.


أمر موسم الحج عام (٣٩ ه‍):

قدم يزيد بن شجرة الرهاوي بجيشه الثلاثة آلاف إلى مكة قبل التروية بيوم ، فأمر مناديا ينادي في الناس : ألا إنّ الناس آمنون إلّا من يعرض لنا في سلطاننا وعملنا! وقام هو يخطبهم فقال لهم :

أمّا بعد ـ يا أهل الحرم ومن حضره ـ فإنّي وجّهت إليكم لأصلّي بكم وأجمّع وآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر! ووالي هذه البلدة كره ما جئنا له والصلاة معنا ، ونحن كارهون للصلاة معه! فإن شاء اعتزلنا بالناس للصلاة ، واعتزلها هو وتركنا أهل مكة يختارون لأنفسهم من أحبّوا أن يصلي بهم ، فإن أبى فأنا آبى كذلك. والذي لا إله غيره لو شئت لصلّيت بالناس وأخذته حتّى أردّه إلى الشام ، وما معه من يمنعه ولكنّي والله ما احبّ أن استحلّ حرمة هذا البلد الحرام.

ثمّ أتى يزيد بن شجرة إلى أبي سعيد الخدري وطلب إليه أن يلقى قثم ويطلب منه ذلك ، فانطلق أبو سعيد إلى قثم وطلب منه ذلك فقبل منه قثم ، واعتزلا الصلاة فاختار الناس شيبة بن عثمان العبدري صاحب مفاتيح الكعبة فصلّى بهم حتى انقضى الحج.

فلمّا انقضى الحج رجع يزيد الرهاوي إلى الشام. ثمّ قدم خيل الإمام عليه‌السلام وعليهم معقل بن قيس الرياحي التميمي ، ورأوا الشاميين قد رجعوا ، فتبعوهم فأدركوهم بعد وادي القرى فاقتطعوا من أواخرهم عددا منهم أخذوهم أسارى (١) وبذلك انتهت سنة (٣٩ ه‍) ودخلت سنة أربعين.

__________________

(١) الغارات ٢ : ٥١٠ ـ ٥١١ ، وفي الكامل لابن الأثير في حوادث السنة (٣٩ ه‍) قال : ولمّا قدم يزيد بن شجرة الرهاوي على معاوية ـ وعلم بأسر أولئك النفر منهم ـ وجّه الحارث بن نمير التنوخي أمير مقدمتهم إلى الجزيرة في شمال العراق ليأتيه بجمع ممّن هو في


غارة بسر بن أبي أرطاة :

مرّ في مقدمة خبر سابق : أن كان في سبى بني فزارة على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صبيّ صغير يسمّى عبد الله بن مسعدة ، فوهبه النبيّ لابنته فاطمة عليها‌السلام ثمّ كان عند علي عليه‌السلام ، وخرج جنديا ضمن جنود فتوح الشام حتّى أفضى أمره إلى معاوية فصار من أشدّ الناس على علي عليه‌السلام ، فوجّهه معاوية سنة (٣٩ ه‍) لجباية الصدقة ممّن في حكم الإمام عليه‌السلام ، فوجّه إليه الإمام المسيّب بن نجبة الفزاري فأخرجه (١) فكان من صغار الصحابة ، وعاش حتّى عهد عبد الملك بن مروان ، وفي عهده حدّث ليزيد بن جابر الأزدي قال :

لمّا دخلت سنة أربعين شاع في الشام بين الناس وتذاكروا : أنّ أهل العراق قد اختلفت أهواؤهم ووقعت الفرقة بينهم حتّى أنّ عليّا عليه‌السلام يستنفرهم فلا ينفرون معه. فاتّفقت مع نفر من أهل الشام وقمنا إلى الوليد بن عقبة فقلنا له : إنّ الناس لا يشكّون في اختلاف الناس في العراق على علي عليه‌السلام فادخل إلى صاحبك (معاوية) واسأله ليسر بنا إليهم قبل أن يصلح لصاحبهم منهم ما قد فسد عليه من أمرهم وقبل أن يجتمعوا من تفرّقهم.

فدخل عليه فخبّره بمجيئنا إليه ومقالتنا له ، فأذن لنا ، فدخلنا عليه فقال لنا : ما هذا الخبر الذي جاءني الوليد به عنكم؟ فقلنا له : هذا خبر سائر في الناس ، فشمّر للحرب وناهض الأعداء واهتبل الفرصة واغتنم الغرّة ، فإنّك لا تدري

__________________

ـ طاعة علي عليه‌السلام ليفادي بهم أولئك النفر ، فتوجّه الحارث إلى بلدة دارا وفيها جمع من بني تغلب فأخذ منهم سبعة إلى معاوية ، فكتب معاوية إلى علي عليه‌السلام ليفاديه بهم فسيّرهم إلى معاوية ، وأطلق معاوية هؤلاء السبعة من بني تغلب ـ ٣ : ١٥٢ ط. ١ ، وعنه في هامش الغارات ٢ : ٥٠٦ ، الحديث ٤.

(١) الغارات ٢ : ٤١٨ ـ ٤١٩ ، الحديث ٣ عن الإصابة.


متى تقدر من عدوك على مثل حالهم التي هم عليها ، وأن تسير إلى عدوّك أعزّ لك من أن يسيروا إليك ، واعلم أنّه والله لو لا تفرّق الناس عن صاحبك (علي) لكان قد نهض إليك!

فقال لنا : إنّ هؤلاء الذين تذكرون اختلاف أهوائهم وتفرّقهم على صاحبهم (علي) لم يبلغ بهم ذلك عندي إلى أن أسير إليهم مخاطرا بجندي لا أدري عليّ تكون الدائرة أم لي ، وأن أطمع في استئصالهم واجتياحهم. فإيّاكم واستبطائي! فإنّي آخذ بهم في وجه هو أرفق بكم وأبلغ في هلاكهم ، فقد شننت عليهم «الغارات» في كلّ جانب : فخيلي مرّة بالجزيرة ومرّة بالحجاز ، وقد فتح الله لنا مصر ، فأعزّ بفتحها وليّنا وأذلّ به عدوّنا! فأشراف أهل العراق لما يرون من حسن صنيع الله لنا يأتوننا على قلائصهم في كلّ يوم ، وهذا ممّا يزيدكم الله به وينقصهم! ويقوّيكم ويضعّفهم ، ويعزّكم ويذلّهم! فاصبروا ولا تعجلوا ، فإنّي لو رأيت فرصتي لاهتبلتها (١)!

تحرّك العثمانيين باليمن :

ودفع معاوية إلى أن يسرّح بسرا إلى الحجاز واليمن : أنّ قوما في صنعاء اليمن كانوا من شيعة عثمان وقد أعظموا قتله ... فلمّا قتل محمد بن أبي بكر وغلب معاوية على مصر ، وكثرت غاراته ، أخذوا يدعون إلى الطلب بدم عثمان! هذا وعامل علي عليه‌السلام يومئذ على صنعاء : عبيد الله بن العباس ، وعامله على الجند : سعيد بن نمران الهمداني ، فلمّا بلغت مقالتهم إلى عبيد الله أرسل إلى ناس من وجوههم فقال لهم : ما هذا الذي بلغني عنكم؟! قالوا : إنّا لم نزل ننكر قتل عثمان ونرى مجاهدة من سعى عليه! فحبسهم. لكنّهم كتبوا إلى أصحابهم بالجند وخرج إليهم من كان منهم

__________________

(١) الغارات ٢ : ٥٩٩ ـ ٦٠٠.


في صنعاء وانضمّ إليهم من كان على رأيهم ولحق بهم من كان يريد منع الصدقة وإن لم يكن على رأيهم ، فثاروا وأظهروا أمرهم حتى أخرجوا ابن نمران من الجند!

فالتقى ابن نمران بابن العباس ، فقال ابن العباس : والله لقد اجتمع هؤلاء وهم قريبون منّا ، ولئن قاتلناهم لا نعلم على من تكون الدائرة! فهلمّ فلنكتب إلى أمير المؤمنين بخبرهم وعددهم وبمنزلهم الذي هم به. فكتب :

«أمّا بعد ، فإنّا نخبر أمير المؤمنين : أنّ شيعة عثمان وثبوا بنا وأظهروا أنّ معاوية قد تشيّد أمره واتّسق له أكثر الناس ، وإنّا سرنا إليهم بشيعة أمير المؤمنين ومن كان على طاعته ، ولكن ذلك أحمشهم وألبهم فتعبّئوا لنا وتداعوا إلينا من كلّ أوب ، ونصرهم من لم يكن له رأيهم إرادة أن يمنع حقّ الله المفروض عليه ... فاستحوذ عليهم الشيطان ، فنحن في حيّز وهم في قفزة عنّا ، وليس يمنعنا من مناجزتهم إلّا انتظار الأمر من مولانا أمير المؤمنين أدام الله عزّه وأيّده ، وقضى بالأقدار الصالحة في جميع أموره ، والسلام».

وأجابهما الإمام عليه‌السلام : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران ، سلام عليكما ، فإنّي أحمد إليكما الله الذي لا إله إلّا هو ، أمّا بعد ، فإنّه أتاني كتابكما تذكران فيه خروج هذه الخارجة ، وتعظّمان من شأنهما صغيرا وتكثران من عددها قليلا! وقد علمت أن نخب (ضعف) أفئدتكما وصغر أنفسكما ، وشتات رأيكما وسوء تدبيركما ، هو الذي أفسد عليكما من لم يكن نائما عنكما ، وجرّأ عليكما من كان جبانا عن لقائكما! فإذا قدم رسولي عليكما فامضيا إلى القوم حتى تقرأ عليهم كتابي إليهم ، وتدعواهم إلى حظّهم وتقوى ربّهم ، فإن أجابوا حمدنا الله وقبلنا منهم ، وإن حاربوا استعنّا عليهم بالله ونبذناهم على سواء ، إنّ الله لا يحبّ الخائنين ، والسلام عليكما.

وكان كتابه إليهم : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من شاقّ وغدر من أهل الجند وصنعاء ، أمّا بعد ، فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو الذي


لا يعقّب له حكم ، ولا يردّ له قضاء ، ولا يردّ بأسه عن القوم المجرمين! وقد بلغني تحزّبكم وشقاقكم ، وإعراضكم عن دينكم ، وتوثّبكم بعد الطاعة وإعطاء البيعة والألفة! فسألت أهل الحجى والدين الخالص والورع الصادق واللب الراجح عن بدء مخرجكم وما نويتم به وما أحمشكم له ، فحدّثت عن ذلك بما لم أر لكم في شيء منه عذرا مبيّنا ولا مقالا جميلا ولا حجّة ظاهرة.

فإذا أتاكم رسولي فتفرّقوا وانصرفوا إلى رحالكم أعف عنكم ، واتقوا الله وارجعوا إلى الطاعة أصفح عن جاهلكم واحفظ عن قاصيكم ، وأقوم فيكم بالقسط وأعمل فيكم بكتاب الله.

وإن أبيتم ولم تفعلوا فاستعدّوا لقدوم جيش جمّ الفرسان عريض الأركان ، يقصد لمن عصى وطغى ، فتطحنوا طحنا كطحن الرحى! فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها ، وما ربك بظلّام للعبيد ، ألا فلا يحمد حامد إلّا ربّه ، ولا يلم لائم إلّا نفسه ، والسلام عليكم.

ووجّه الكتاب مع رجل من همدان ، وقدم رسوله بالكتاب فلم يجيبوه ، فقال لهم : إنّي تركت أمير المؤمنين يريد أن يوجّه إليكم يزيد بن قيس (الأرحبي الهمداني) في جيش كثيف ، ولم يمنعه إلّا انتظار ما يبلغه عنكم! فقالوا : نحن سامعون مطيعون إن عزل عنّا عبيد الله وسعيدا! فرجع الرسول بذلك إلى الإمام فأخبره خبرهم (١).

بسر إلى المدينة :

ولكنّهم كتبوا كتابا إلى معاوية يخبرونه بخبرهم وخبر توجيه الإمام إليهم بيزيد بن قيس الأرحبي وقالوا :

__________________

(١) الغارات ٢ : ٥٩٢ ـ ٥٩٧ عن أبي روث الهمداني.


معاوي إن لا تسرع السير نحونا

نتابع عليّا أو يزيد اليمانيا!

وكأنّه قدم هذا الكتاب عليه مع خروج من حثّه على اغتنام الفرصة مع الوليد من عنده ، فدعا ببسر بن أبي أرطاة العامري (الصحابي)! وكان قسيّ القلب سفّاكا للدماء لا رأفة عنده ولا رحمة (١)! فعقد له على ثلاثة آلاف فارس! وقال له : سر نحو المدينة فاطرد الناس وأخف من تمرّ به ، وانهب أموال كلّ من أصبت له مالا ممّن لا يدخل في طاعتنا! فإذا دخلت المدينة فأرهم أنّك تريد أنفسهم ، وأخبرهم أنّه لا براءة لهم عندك ولا عذر! حتّى إذا ظنّوا أنّك موقع بهم فاكفف عنهم. ثمّ سر نحو مكة ، فأرهب الناس فيما بين المدينة ومكة واجعلهم شرادات حتّى تدخل مكة فلا تعرض لأحد فيها. ثمّ سر إلى صنعاء والجند فإنّ لنا بهما شيعة وقد جاءني كتابهم (٢)! ولا تنزل على بلد أهله على طاعة علي إلّا بسطت عليهم لسانك حتّى يروا أنّه لا نجاة لهم منك وأنك محيط بهم ثمّ اكفف عنهم وادعهم إلى بيعتي ، فمن أبى فاقتله! واقتل «شيعة» عليّ حيث كانوا (٣).

وخرج بسر بذلك الجيش إلى دير مرّان فاستعرضهم فأسقط منهم أربعمائة ومشى بألفين وستّمائة. فلمّا وردوا أوّل المياه في طريقهم أخذوا إبلهم وقادوا خيولهم حتّى الماء اللاحق ، فيردّون إبل اولئك ويأخذون إبل هؤلاء ، فلم يزالوا كذلك حتى دنوا من المدينة.

وكان عامل الإمام عليه‌السلام على المدينة يومئذ أبو أيوب خالد بن يزيد الأنصاري ، وسمع بهم فخرج منها خائفا يترقّب ، ودخل بسر فخطب الناس وبدأ بالآية الكريمة : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ

__________________

(١) الغارات ٢ : ٥٩٧ ـ ٥٩٨.

(٢) الغارات ٢ : ٦٠٠.

(٣) الغارات ٢ : ٥٩٨.


فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ)(١) ثمّ قال : وقد أوقع الله ذلك المثل بكم وجعلكم أهله! فإنّ بلدكم كان مهاجر النبيّ ومنزله وفيه قبره ، ومنازل الخلفاء بعده ، فلم تشكروا نعمة ربّكم ، ولم ترعوا حقّ أئمّتكم ، وقتل «خليفة الله» بين أظهركم ، فكنتم بين قاتل وخاذل وشامت ومتربّص! فإن كانت للمؤمنين قلتم : ألم نكن معكم! وإن كان للكافرين نصيب قلتم : الم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين؟! ثمّ قال :

يا أبناء اليهود العبيد : بني زريق وبني النجار وبني سالم ، وبني عبد الأشهل ، أما والله لأوقعنّ بكم وقعة تشفي غليل صدور آل عثمان والمؤمنين! أما والله لأدعنّكم أحاديث كالأمم السالفة (٢)!

وكان حويطب بن عبد العزّى العامري زوج أمّه فصعد إليه إلى المنبر وقال له : أنصار رسول الله وعلي عليه‌السلام ليسوا بقتلة عثمان ، ولم يزل به حتّى سكن ، ثمّ دعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوا.

ونزل بسر فأحرق دار زرارة بن جرول ورفاعة بن رافع الزرقي وأبي أيوب الأنصاري ، وعاذ جابر بن عبد الله الأنصاري بأم سلمة! فأرسلت إلى بسر تسأله فيه فقال : لا اؤمّنه حتّى يبايع فأمرت ابنها عمر بن أبي سلمة أن يذهب مع جابر فيبايعا لمعاوية! فذهبا فبايعا! وقالت : وإنّي لأعلم أنّها بيعة ضلالة (٣)!

__________________

(١) النحل : ١١٢.

(٢) الغارات ٢ : ٦٠٠ ـ ٦٠٣ وفي : ٦٠٨ زيادة : يا أهل المدينة ، أخضبتم لحاكم وقتلتم عثمان مخضوبا! ثمّ قال لجنده : خذوا بأبواب المسجد وقال : والله لا أدع في المسجد مخضوبا إلّا قتلته! فقام إليه عبد الله بن الزبير ومعه رجل من بني عامر وطلبا إليه حتّى كفّ عنهم!

(٣) زاد هنا اليعقوبي ٢ : ١٩٨ عن جابر قال : هذه بيعة ضلال ولكنّي أخشى أن أقتل! فقالت : إذن فبايع ، فإنّ «التقيّة» حملت أصحاب الكهف على أن يلبسوا الصلب ويحضروا ـ أعياد قومهم! وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣٥٢ ، الحديث ٥٢٢ : وهدم منزل من هرب ولم يبايع لمعاوية!


ثمّ أقام بسر أيّاما ثمّ استخلف عليهم أبا هريرة الدوسي وقال لهم : إنّ قوما قتل إمامهم بين ظهرانيّهم ليسوا بأهل أن يكفّ عنهم العذاب ، وإنّي قد عفوت عنكم وإن لم تكونوا أهلا لذلك! ولئن نالكم العفو منّي في الدنيا فإنّي لأرجو أن لا تنالكم رحمة الله في الآخرة ؛ وقد استخلفت عليكم أبا هريرة فإيّاكم وخلافه! وخرج إلى مكة (١).

بسر القرشي العامري في مكة :

ولمّا خرج بسر من المدينة إلى مكة قتل في طريقه رجالا وأخذ أموالا ، وبلغ خبره إلى أهل مكة فلمّا قرب منها هرب عامل علي عليه‌السلام عليها : قثم بن العباس ، وتنحّى عنها عامّة أهلها.

واجتمع قوم من قريش فخرجوا يتلقّون بسرا ، فشتمهم ثمّ قال لهم : أما والله لو تركت ورأيي فيكم لما خلّيت فيكم روحا تمشي على الأرض! فقالوا له : ننشدك الله في أهلك وعشيرتك! فسكت.

ثمّ دخل وطاف بالبيت ثمّ صلّى ركعتي الطواف بالمقام ثمّ قام فخطبهم فقال لهم : الحمد لله الذي أعزّ دعوتنا وجمع الفتنا ، وأذلّ عدوّنا بالقتل والتشريد! هذا ابن أبي طالب بناحية العراق في ضنك وضيق! قد ابتلاه الله بخطيئته وأسلمه بجريريته ، فتفرّق عنه أصحابه ناقمين عليه ، وولي الأمر معاوية الطالب بدم عثمان. فبايعوا ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا! فبايعوا.

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦٠٣ ـ ٦٠٨. وانظر أنساب الأشراف ٢ : ٣٥١ متنا وحاشية.


وكان سعيد بن العاص الأموي والي عثمان على الكوفة قعد عن علي ومعاوية ولم يشترك في الطلب بدم عثمان ، ولذلك كان بسر يطلبه فلم يجده ، فأقام أيّاما وكان أهل مكة لمّا خرج منها قثم بن العباس قد تراضوا بشيبة بن عثمان العبدري صاحب مفاتيح الكعبة ، فأقرّه بسر على ذلك ، ثمّ خطبهم فقال لهم : إنّي قد صفحت عنكم! فإيّاكم والخلاف! فو الله لئن فعلتم لأقصدنّ منكم إلى التي تبير الأصل! وتحرب المال! وتخرّب الديار! ثمّ خرج نحو الطائف (١) فلمّا جاوز مكة رجع قثم بن العباس إلى مكة فغلب عليها (٢).

بسر في الطائف :

مرّ في الخبر أنّ المغيرة بن شعبة الثقفي كان في أوائل قوافل مكة إلى البصرة لحرب الجمل ، ولكنّه بدا له فعاد عنهم ، ولم يحضر مع معاوية في صفين وإنّما ذكر حضوره في تحكّم الحكمين في دومة الجندل ، ويبدو أنّه عاد من دومة الجندل إلى جنادل قومه في الطائف. حتّى بلغه أنّ بسرا توجّه نحوهم فأراد أن يسجّل اسمه مع المؤيّدين له فكتب إليه : أمّا بعد ، فقد بلغني مسيرك إلى الحجاز ونزولك مكة ، وشدّتك على المريب وعفوك عن المسيء ، وإكرامك لأولي النهى! فحمدت رأيك في ذلك! فدم على صالح ما أنت عليه ، فإنّ الله لن يزيد بالخير أهله إلّا خيرا ، جعلنا الله وإيّاك من الآمرين بالمعروف والقاصدين إلى الحقّ والذاكرين الله كثيرا!

وخرج بسر إلى الطائف فاستقبله المغيرة فقال له بسر : يا مغيرة! إنّي اريد أن استعرض قومك! أي للقتل! فقال المغيرة : أعيذك بالله من ذلك ، إنّه لم يزل يبلغنا منذ خرجت شدّتك على عدوّ أمير المؤمنين عثمان! فكنت بذلك محمود الرأي ،

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦٠٨ ـ ٦٠٩ عن عوانة عن الكلبي.

(٢) الغارات ٢ : ٦٢١.


فإذا كنت على عدوّك ووليّك سواء فقد أثمت بربّك وأغريت بك عدوّك (١)! فقال له بسر : نصحتني وصدقت! وبات فيها.

فلمّا خرج منها إلى اليمن خرج معه المغيرة وشايعه ساعة ثمّ ودّعه وانصرف عنه (٢).

بسر في نجران ثمّ في أرحب همدان :

وخرج بسر من الطائف فأتى نجران ، وكان بها عبد الله بن عبد المدان قد صاهر عبيد الله بن العباس ، فأخذه ومعه ابنه مالكا ، فقتلهما! ثمّ جمع أهل نجران وقام فيهم يتهدّدهم ويقول لهم : يا معاشر النصارى وإخوان القرود! أما والله لو بلغني عنكم ما أكره لأعودنّ عليكم بالتي تقطع النسل! وتهلك الحرث! وتخرّب الديار! فمهلا مهلا!

ثمّ سار إلى أرحب همدان على ساحل البحر وكان بها الأرحب من همدان البادية وكان سيّدهم يسمّى أبا كرب الأرحبي الهمداني يتشيّع لعلي عليه‌السلام ، فأخذه وقتله قتلا ذريعا (٣)!

وكان بسر قبل أن يصل إلى أيّ منزل في طريقه يقدّم رجلا من أصحابه ليتقدّم إلى أهل ذلك الماء فيسلّم عليهم ويسألهم : ما قولكم في هذا المقتول بالأمس عثمان؟ فإن قالوا : كان يستحقّ ذلك ، أمر بسر بوضع السلاح فيهم ، إلّا أن يقولوا : قتل مظلوما! فلا يعرض لهم (٤) ، فلعلّه جرّب أبا كرب كذلك.

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦٠٩ ـ ٦١٠.

(٢) الغارات ٢ : ٦١٤.

(٣) الغارات ٢ : ٦١٦ ـ ٦١٨.

(٤) الغارات ٢ : ٦٢١.


بسر في صنعاء وجيشان :

مرّ الخبر عن ثورة العثمانيين من صنعاء إلى الجند ومعهم على عاملها سعيد بن نمران الهمداني وأنّهم أخرجوه منها فعاد إلى عبيد الله بن العباس في صنعاء! وكتبا إلى الإمام عليه‌السلام بذلك وانتظر الأمر ، فدنا منه ابن نمران الهمداني وقال له : إنّ ابن عمّك لا يرضى منّي ولا منك إلّا بالجدّ في قتالهم ، وما تعذر!

فقال ابن عباس : لا والله ما لنا يدان عليهم ولا طاقة! فقام الهمداني في الناس وقال لهم : يا أهل اليمن ، من كان في طاعتنا وعلى بيعة أميرنا فإليّ إليّ! فأجابه عصابة منهم. وزحف إليهم بسر بجنوده ، فاستقبلهم سعيد بن نمران ، فحملوا عليه ، فقاتلهم قليلا ، وتفرّق عنه الناس وإنّما بقي في قليل من أصحابه ، فانصرف هو وأصحابه إلى عبيد الله ، ووجّه إليه فحذّره موجدة الإمام عليه ، وأشار عليه أن يتمسّك بالحصن ، ويبعث إلى الإمام يسأله المدد فإنّه أجمل وأعذر! فقال ابن عباس : لا طاقة لنا بمن جاءنا ، وأخاف من ذلك (١).

وكان معه منهم رجل من ثقيف من الصحابة يدعى عمرو بن أراكة ، فدعاه واستخلفه على عمله.

وكان لعبيد الله ابنان صغيران من زوجته الكنانية ، وكان في صنعاء كثير من الأبناء أبناء الفرس في اليمن وكانوا موالين لعليّ عليه‌السلام ومنهم امرأة تدعى أم نعمان بنت بزرج (الكبير) فاستودعهم وإيّاها ابنيه : عبد الرحمن وقثم (٢) باسم عمّه.

وكان بسر قد حاصر صنعاء ولعلّه بلغه أنّ أهل مخلاف جيشان بجوار صنعاء «شيعة» لعلي عليه‌السلام ، فعرّج من صنعاء على جيشان ، وقاومه جمع منهم

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦١٩ ـ ٦٢٠.

(٢) الغارات ٢ : ٦٢١.


فقاتلهم وهزمهم ، ثمّ قتل فيهم قتلا ذريعا حتّى تحصّن منه بقيّتهم ، فرجع عنهم إلى صنعاء (١). وكأنّه في أثناء ذلك هرب ابن عباس وسعيد.

فخرج إليه عمرو بن أراكة محاولا أن يمنع بسرا وجنوده من دخول البلد وقاتله (٢) ، فأخذه بسر وضرب عنقه (٣). ودخل صنعاء فقتل فيها قوما (٤).

ولمّا توجّه بسر نحو صنعاء تجمّع جمع من شيعة عثمان وأقبلوا إليه في صنعاء ، وتوجّه إليه وفد من مأرب ، فارتاب منهم أن يكونوا من شيعة أبي تراب عليه‌السلام فاستعرضهم وأمر بقتلهم ، فلم ينج منهم إلّا واحد (٤)!

وقيل : إنّ ابني عبيد الله : سليمان وداود كانا مع أمّهما في مكة ، فلمّا بلغهم قدوم بسر إلى مكة خافوا وهربوا منها ، وخرج منها هذان وهما غلامان مع أهل مكة ، فأضلّوهما (كذا) عند بئر ميمون بن الحضرمي أخ العلاء الحضرمي ، وهجم عليهما بسر فأخذهما وذبحهما ، فكانت أمّهما ترثيهما شعرا :

ها من أحسّ بابنيّ الذين هما

كالدرّتين تشظّى عنهما الصدف

ها من أحسّ بابنيّ الذين هما

سمعي وقلبي ، فقلبي اليوم مختطف

ها من أحسّ بابنيّ الذين هما

مخّ العظام ، فمخّي اليوم مزدهف

نبئت بسرا ـ وما صدّقت ما زعموا

من قتلهم ومن الإفك الذي اقترفوا

أنحى على ودجي ابنيّ مرهفة

مشحوذة ، وكذاك الإثم يقترف

من دلّ والدة ثكلى مسلّبة

على صبيّين ضلّا ، إذ مضى السلف (٦)

__________________

(١) الغارات ٣ : ٦٣٠.

(٢) الغارات ٢ : ٦١٨ ـ ٦١٩.

(٣) الغارات ٢ : ٦٢١.

(٤) الغارات ٢ : ٦١٩.

(٤) الغارات ٢ : ٦١٩.

(٦) الغارات ٢ : ٦١١ ـ ٦١٣ ، وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣٥٤ : وكان بسر غيّب الغلامين أيّاما طمعا في تسليم أبيهما نفسه ، فلمّا علم بهربه ذبحهما ذبحا!


والمعتمد أن بسرا اكتشف الغلامين في منزل أمّ النعمان بنت بزرج امرأة من أبناء الفرس باليمن ، فأخذهما إلى مدخل صنعاء وذبحهما هناك ، وغضب على أولئك الأبناء فجمع مائة شيخ منهم وذبحهم (١)!

انقلاب وائل الحضرمي :

كان وائل بن حجر الحضرمي من أقيالهم وعظمائهم ، وكان يرى رأي عثمان ولكنّه كان بالكوفة واستمرّ مع الإمام عليه‌السلام حتّى سنة الأربعين كما يبدو ، ثمّ عزم على مفارقته من دون أن يلحق بمعاوية بالشام رأسا ، فقال للإمام عليه‌السلام : إن رأيت أن تأذن لي بالخروج إلى بلادي في حضرموت اليمن ألبث فيه قليلا لأصلح مالي

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦٢١ عن الوليد بن هشام ، ولعلّهم كانوا أنصار عمرو بن أراكة الثقفي خليفة ابن عباس في محاولة منع بسر وجنوده عن دخول البلد.

وإنّما روى الثقفي في الغارات ٢ : ٦١٩ عن (الكلبي عن أبي مخنف ، عن نمير بن وعلة الهمداني) عن أبي الودّاك جبر بن نوف الهمداني أيضا ، قال : كنت عند علي عليه‌السلام حين قدم عليه سعيد بن نمران الهمداني في الكوفة ، فعتب عليه عدم قتاله بسرا ، فقال سعيد : إنّ ابن عباس أبى أن يقاتل معي وخذلني. إلى آخر ما نقلناه متنا.

وفي : ٦٣٥ نقل عن القاسم بن الوليد أنّه كان مع سعيد عبيد الله بن العباس قدما معا إلى علي عليه‌السلام. واختصر الطبري هذه الأخبار في حوادث عام الأربعين للهجرة ، وأكثر منه ابن الأثير الجزري الموصلي في الكامل في السنة نفسها وختمها بقوله : فلمّا سمع أمير المؤمنين عليه‌السلام بقتلهما جزع جزعا شديدا ودعا على بسر. وسنذكر خبر دعائه عليه واستجابته وأثره.

واختصر الطبري أخباره ، عن عوانة بن الحكم ٥ : ١٣٩ ـ ١٤٠ في سنة (٤٠ ه‍) وليس بعنوان : الغارة!


ثمّ ارجع إليك إن شاء الله. وظنّ الإمام عليه‌السلام أنّ ذلك كما يقول فأذن له ، فترك ولديه بالكوفة ورحل منها إلى حضرموت اليمن.

وكان الناس في حضرموت اليمن أحزابا وشيعا : فشيعة لعثمان وأخرى لعلي عليه‌السلام ، ومكث وائل هناك حتى دخل بسر بن أبي أرطاة صنعاء ، فكتب إليه : أمّا بعد ، فإنّ شيعة عثمان في بلادنا شطر أهلها ، فأقدم علينا ، فإنّه ليس بحضرموت أحد يردّك عنها ولا ينصب لك فيها!

فأقبل بسر من صنعاء إلى حضرموت بمن معه ، فاستقبله وائل في مخلاف شنوءة الأزد فاعطاه عشرة آلاف ، وكلّمه بشأن حضرموت فقال له : ما تريد؟ قال : اريد أن أقتل ربع حضرموت!

وكان وائل يعادي رجلا من أقيالهم يدعى عبد الله بن ثوابة ، فقال وائل لبسر : إن كنت تريد قتلا فاقتل عبد الله بن ثوابة فهو من رجالهم ، وكان عبد الله قد استولى على حصن كان الأحباش قد بنوه من قبل وكان بناء معجبا لم ير في ذلك الزمان مثله. فجاءه بسر حتّى أحاط بحصنه فدعاه إليه ، فنزل إليه وأتاه فقال لأصحابه : اضربوا عنقه! قال : أتريد قتلي؟! قال : نعم ، قال : فدعني أصلّي ركعتين ، فأذن له فصلّاهما ودعا ، ثمّ قدّمه فضرب عنقه وصادر أمواله ، وكانت مائة وخمسين عينا!

وبلغ الإمام عليه‌السلام مكاتبة وائل لبسر فأمر بارتهان ولديه فحبسهما عنده (١).

خبر بسر عند الأمير عليه‌السلام :

وقدم زرارة بن قيس الشاذي الهمداني (٢) على الإمام عليه‌السلام فأخبره خبر غارة

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦٣٠ ـ ٦٣١.

(٢) وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣٥٣ ، الحديث ٥٢٢ : أنّه قيس بن زرارة وأنّه كان عينا للإمام بالشام وقدم عليه بخبر بسر ، أو قدم كتابه به.


بسر على مختلف مخاليف اليمن والعدّة التي معه. فصعد الإمام المنبر وحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :

أمّا بعد ، أيّها الناس ، فإنّ أوّل فرقتكم وبدء نقصكم : ذهاب اولي النهى وأهل الرأي منكم ، الذين كانوا يلقون فيصدقون ، ويقولون فيعدلون ، ويدعون فيجيبون ، وأنا ـ والله ـ قد دعوتكم عودا وبدءا ، وسرّا وجهارا ، وليلا ونهارا ، وبالغدوّ والآصال ، فما يزيدكم دعائي إلّا فرارا وإدبارا! أما تنفعكم العظة ، والدعاء إلى الهدى والحكمة.

وإنّي لعالم بما يصلحكم ويقيم أودكم ، ولكنّي ـ والله ـ لا اصلحكم بإفساد نفسي ، ولكن أمهلوني قليلا فكأنّكم ـ والله ـ بامرئ قد جاءكم يحرمكم ويعذّبكم! فيعذّبه الله كما يعذّبكم به.

إنّ من ذلّ المسلمين وهلاك الدين : أنّ ابن أبي سفيان يدعو الأراذل والأشرار فيجاب ، وأدعوكم ـ وأنتم الأفضلون الأخيار ـ فتراوغون وتدافعون! ما هذا بفعل المتّقين.

إنّ بسر بن أبي أرطاة وجّه إلى الحجاز ، وما بسر؟! لعنه الله! لينتدب إليه منكم عصابة حتى تردّوه عن شنّته (غارته) فإنّما خرج في (ألف) وستّمائة أو ما يزيدون ، ثمّ سكت. وسكتوا! فقال : ما لكم أمخرسون أنتم لا تتكلّمون؟!

فقام من الأزد أبو بردة بن عوف فقال له : يا أمير المؤمنين ، إن سرت سرنا معك!

فقال : اللهم! ما لكم! لا سدّدتم لمقال الرشد! أفي مثل هذا ينبغي لي أن أخرج؟! إنّما يخرج في مثل هذا رجل ترضون به من فرسانكم وشجعانكم ، ولا ينبغي لي أن أدع الجند والمصر وبيت المال وجباية الأرض ، والقضاء بين المسلمين ، والنظر في حقوق الناس ، ثمّ أخرج في كتيبة أتبع اخرى في الفلوات وشعب الجبال! هذا ـ والله ـ الرأي السوء!


والله لو لا رجائي عند لقائهم ـ لو قد حمّ لقاؤهم ـ لقرّبت ركابي ثمّ لشخصت عنكم فلا أطلبكم ، ما اختلف جنوب وشمال ، فو الله إنّ فراقكم لراحة للنفس والبدن!

فلمّا سمع بذلك جارية بن قدامة السعدي التميمي قام فقال له : يا أمير المؤمنين ، لا أعدمنا الله نفسك! ولا أرانا فراقك! أنّا لهؤلاء القوم ، فسيّرني إليهم.

فقال له الإمام : فتجهّز ، فإنّك ـ ما علمت ـ ميمون النقيبة (حسن النية صالح العشيرة)!

وقام إليه : وهب بن مسعود الخثعمي (وكان لا يبارزه أحد في الجاهلية إلّا قتله) فقال :

يا أمير المؤمنين ، وأنا أنتدب إليهم ، فقال له : فانتدب ، بارك الله فيك! ثمّ نزل (١).

ابن قدامة لابن أبي أرطاة :

ثمّ دعا الإمام عليه‌السلام جارية بن قدامة وانتدب معه ألف أو ألفان ، فأمره أن يسير إلى البصرة فيضمّ إليه مثلهم (فلعلّه كان من الكوفة في ألف وانضمّ إليه ألف من البصرة فكانوا ألفين) فشخص جارية ، وخرج الإمام معه يشايعه ، فلمّا ودّعه قال له : اتّق الله الذي إليه نصير ، ولا تحتقر مسلما ولا معاهدا ، ولا تغصبنّ مالا ولا ولدا ، ولا دابّة وإن حفيت وترجّلت! وصلّ الصلاة لوقتها (٢).

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦٢٤ ـ ٦٢٧ ، ونحوه في اليعقوبي ٢ : ١٩٨ ، وأنساب الأشراف ٢ : ٣٥١ ـ ٣٥٨.

(٢) الغارات ٢ : ٦٢٣ ـ ٦٢٤ عن الكلبي عن أبي مخنف. وخطبة الإمام في الإرشاد ١ : ٢٧٢.


وانتدب مع الخثعمي ألفان ، فقال له الإمام وكأنّه يخاطبهما : اخرجا في طلب بسر بن أبي أرطاة حتى تلحقاه ، فأينما لحقتماه فناجزاه ، فإذا التقيتما فجارية بن قدامة على الناس.

ثمّ أملى على كاتبه كتابا إلى جارية السعدي ، ودعا بعبد الرحمن بن أبي الكنود وبعثه به إليه وفيه : أمّا بعد ، فإنّي بعثتك في وجهك الذي وجّهتك له وقد أوصيتك بتقوى الله ، وتقوى الله جماع كلّ خير ورأس كلّ أمر ، وتركت أنّ اسمّي لك الأشياء (التي تتّقيها) بأعيانها ، وإنّي افسّرها لك حتّى تعرفها ، سر على بركة الله حتّى تلقى عدوّك ، ولا تحتقرنّ من خلق الله أحدا ، ولا تسخّرن بعيرا ولا حمارا وإن ترجّلت وحفيت! ولا تستأثرنّ على أهل المياه بمياههم ، بل ولا تشربنّ من مياههم إلّا بطيب أنفسهم ، ولا تسبّ مسلما ولا مسلمة ، ولا تظلم معاهدا ولا معاهدة.

وصلّ الصلاة لوقتها ، واذكر الله بالليل والنهار ، واحملوا راجلكم ، وتآسوا على ذات أيديكم وأغذّ السير حتّى تلحق بعدوّك فتجليهم عن بلاد اليمن وردّهم صاغرين إن شاء الله ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته (١).

وقدم جارية البصرة فضمّ إليه مثل من معه ، ثمّ أخذ طريق الحجاز إلى اليمن ، لم يغصب أحدا ولم يقتل (٢) والتقى بوهب بن مسعود في أرض الحجاز ، فذهبا في طلب بسر (٣).

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦٢٧ ـ ٦٢٨ ، وقريب منه في اليعقوبي ٢ : ٢٠٠ عن فطر بن خليفة عن الحارث الوالبي.

(٢) الغارات ٢ : ٦٢٤.

(٣) الغارات ٢ : ٦٢٧.


وبلغ بسرا مسير جارية وأنّه أخذ طريق الحجاز ، فخرج بسر من اليمن إلى اليمامة (١) وأغذّ (أسرع) السير جارية في طلب بسر ما يلتفت إلى مدينة يمرّ بها ولا أهل حصن ، ولا يعرّج على شيء ، حتّى إذا أرمل بعض أصحابه من الزاد كان يأمر أصحابه بمواساته ، وإذا تحفى دابّته أو سقط بعيره يأمر أصحابه فيعقّبونه! ومضى هكذا حتّى انتهى إلى بلاد اليمن ، وسمع بذلك شيعة عثمان فهربوا في شعب الجبال! ومضى جارية نحو بسر.

وحين بلغ بسرا إقبال الجيش مضى من حضرموت عن طريق الجوف لا الذي أقبل منه.

وبلغ ذلك جارية فاتّبعه حتى أخرجه من اليمن كلّها ، ثمّ رجع إلى جرش فأراح واستراح شهرا (٢) وهو شهر رمضان.

ابن عباس وابن نمران في الكوفة :

خرج عبيد الله بن العباس ومعه سعيد بن نمران الهمداني هاربين من بسر إلى العراق حتّى قدما الكوفة على الإمام عليه‌السلام (٣) فعتب عليهما لم لم يقاتلا بسرا؟! واعتذرا إليه بتعذّر ذلك عليهما (٤) وكان الإمام عليه‌السلام في كلّ يوم بعد صلاة الغداة في المسجد

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦٢٩ ـ ٦٣٠.

(٢) الغارات ٢ : ٦٣٢ ـ ٦٣٣.

(٣) الغارات ٢ : ٦٣٥.

(٤) الغارات ٢ : ٦١٩ ، ولم يذكر أي خبر عن تسلية الإمام لعبيد الله وتعزيته عن ابنيه الصغيرين ولكن نقل الثقفي ، عن المدائني وغيره : أنّه عليه‌السلام دعا عليه فقال : «اللهم إن بسرا باع دينه بدنياه ، وانتهك محارمك ، وكانت طاعة مخلوق فاجر آثر عنده ممّا عندك! اللهم فلا تمته حتى تسلبه عقله»! «اللهم العن معاوية وعمرا وبسرا! أما يخاف هؤلاء المعاد»! «اللهم العن بسرا وعمرا ومعاوية! اللهم ليحلّ عليهم غضبك ولتنزل بهم نقمتك ، وليصبهم


الأعظم يجلس في موضع منه يسبّح ربّه حتّى طلوع الشمس ، ففي صبيحة الليلة التي قدم فيها الهاربان لمّا طلعت الشمس نهض إلى المنبر إلى أن نادى :

أيّها الناس ، ألا إنّ بسرا قد اطّلع إلى اليمن ، وهذا عبيد الله بن عباس وسعيد بن نمران قدما عليّ هاربين! ولا أرى هؤلاء القوم إلّا ظاهرين (غالبين) عليكم ، لاجتماعهم على باطلهم وتفرّقكم عن حقّكم ، وطاعتهم لإمامهم ومعصيتكم لإمامكم ، وبأداء أمانتهم إلى صاحبكم وخيانتكم إيّاي! فقد ولّيت فلانا فخان وغدر واحتمل فيء المسلمين إلى معاوية! وولّيت فلانا فخان وغدر وفعل مثله ، فصرت لا ائتمنكم على علاقة (قبضة) سوط!

إن ندبتكم إلى عدوّكم في الصيف قلتم : أمهلنا ينسلخ الحرّ عنّا ، وإن ندبتكم في الشتاء قلتم : أمهلنا ينسلخ القرّ عنا.

ثمّ دعا عليهم فقال : اللهم إنّي قد مللتهم وملّوني! وسئمتهم وسئموني! فأبدلني بهم من هو خير لي منهم ، وأبدلهم بي من هو شرّ لهم منّي (١)! اللهم مث قلوبهم ميث (ذوب) الملح في الماء! ثمّ نزل.

__________________

بأسك ورجزك الذي لا يردّ عن القوم المجرمين» قال : فما لبث بعد وفاة عليّ وصلح الحسن عليهما‌السلام إلّا قليلا حتّى اختلط فكان يهذي ويدعو بالسيف ، فاتّخذ له سيف من خشب أو عيدان ، فإذا دعا بالسيف أعطى ذلك ، وكانوا يدنون إليه المرفقة فلا يزال يضربها حتّى يغشى عليه ، فما زال كذلك حتّى مات لعنه الله ، الغارات ٢ : ٦٤٠ ـ ٦٤٢ ، وفي إرشاد المفيد ١ : ٣٢١.

وفي مروج الذهب ٣ : ١٦٣ نقل المسعودي ذلك وزاد : أنّه كان ربّما يلعب بخرئه وربّما كان يتناول منه ، فشدّوا يديه ، فأهوى بفيه يتناول منه فبادروا يمنعونه فيقول : أنتم تمنعونني وهذان الغلامان ابنا عبيد الله : عبد الرحمن وقثم يطعمانني ، حتّى مات سنة ست وثمانين في أيّام الوليد بن عبد الملك.

(١) والمسعودي في مروج الذهب ٣ : ١٤٢ نقل خبر هذه الخطبة عن المنقري مسندا


وحيث ذكر الإمام عليه‌السلام في أوائل مقاله بسرا حسب أشراف الكوفة أنّه عليه‌السلام يريد البعث إليه ، فلقى بعضهم بعضا ومشى بعضهم إلى بعض وتلاقوا وتلاوموا ، ثمّ دخلوا عليه عليه‌السلام فقالوا له : يا أمير المؤمنين ، اختر منّا رجلا وابعث به جندا إلى هذا الرجل (بسر) حتّى يكفيك أمره ، وفيما سوى ذلك أيضا مرنا بأمرك فإنّك لن ترى منّا ما صحبتنا شيئا تكرهه!

فأجابهم عليه‌السلام : أمّا هذا الرجل فإنّي قد بعثت إليه رجلا لا يرجع أبدا حتى يقتل أحدهما صاحبه أو ينفيه! ولكن استقيموا لي في ما أدعوكم إليه وآمركم به من غزو أهل الشام.

وكان منهم سعيد بن قيس الهمداني فقام وقال له : يا أمير المؤمنين ، والله لو أمرتنا بالمسير إلى قسطنطينيّة ورومية مشاة حفاة ، على غير عطاء ولا قوة ، ما خالفتك أنا ولا رجل من قومي! فقال عليه‌السلام : صدقتم ، جزاكم الله خيرا.

ثمّ قام زياد بن خصفة التميمي ، وو علة بن مخدوج الذهلي فقالا له : يا أمير المؤمنين ، نحن شيعتك التي لا نعصيك ولا نخالفك! فقال لهما : أجل ، أنتم كذلك ، فتجهّزوا إلى غزو الشام ، فقالوا : سمعا وطاعة! فقال لهم : فأشيروا عليّ برجل يحشر الناس من محشرهم في القرى والسواد.

فقال سعيد الهمداني : أما والله أشير عليك بفارس العرب الناصح لك والشديد على عدوّك! قال : ومن هو؟ قال : معقل بن قيس الرياحي التميمي ، قال عليه‌السلام : أجل.

ثمّ دعاه فسرّحه لحشر الناس من السواد إلى الكوفة (١).

__________________

وزاد هنا : «اللهم عجّل عليهم بالغلام الثقفي الذيّال الميّال ، يأكل خضرتها ويلبس فروتها ، ويحكم فيها بحكم الجاهلية ، لا يقبل من محسنها ولا يتجاوز عن مسيئها» هذا والحجّاج لم يولد بعد.

(١) الغارات ٢ : ٦٣٣ ـ ٦٣٨ ، وانظر وقارن أنساب الأشراف ٢ : ٣٧٥ ، الحديث ٥٣٩.


ضرب الدراهم الإسلامية :

ننتقل فيما يلي إلى أواخر أخبار أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، فأرى هذه آخر فرصة لنقل ما يلي :

نقل المحدث القمي في «هدية الأحباب» قال : كتب لي بخطّه صديقنا الأكرم الفاضل اللوذعي الألمعي سردار خان الكابلي عن كتابه «غاية التعديل في الموازين والمكاييل» : أن في المجلد السابع عشر من «دائرة المعارف البريطانية» (١) عند الكلام على المسكوكات القديمة ما تعريبه ملخصا :

إن أول من أمر بضرب السكة الإسلامية على الفضة هو الخليفة علي عليه‌السلام بالبصرة سنة أربعين للهجرة (على عهد ابن عباس) موافقة لسنة (٦٦٠ م) (٢).

وعن جودت باشا الوزير العثماني قال : رأيت عند صديقي صبحي بك أفندي (بالقاهرة) بين المسكوكات القديمة سكة فضية عربية مكتوب على أحد وجهيها بالخطّ الكوفي : (اللهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) وعلى دورتها : محمد رسول الله (بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) وعلى الوجه الآخر : لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وعلى دورتها : ضرب هذا الدرهم بالبصرة سنة (٤٠) (٣).

__________________

(١) دائرة المعارف البريطانية ١٧ : ٩٠٤ ، ط. ١٣.

(٢) هدية الأحباب : ١٢٧ في ترجمة البيهقي.

(٣) العقد المنير ١ : ٤٤ وفي : ١٩٤ نقل صورة الدرهم الفضّي الكسروي المضروب في دارابجرد من فارس (شيراز) سنة (٤١) بأمر معاوية : على أحد وجهيه : تصوير خسرو پرويز وداخل الدائرة على يمين الصورة بالخطّ البهلوي : معاوية أمير روش نيكان! وعلى اليسار بالخط البهلوي : أفزوتو (؟!) وفي حاشية خارج الدائرة بالخطّ الكوفي : بسم الله!


واستعدّ الإمام لغزو الشام :

وكأنّما كان حشر الناس في سواد العراق إلى الكوفة لغزو الشام في شهر رمضان لعام (٤٠ ه‍) وفي يوم جمعة قبل الجمعة التي ضربه فيها ابن ملجم خرج الإمام عليه‌السلام وعليه مدرعة من صوف ، وحمائل سيفه من ليف ، وفي رجليه نعلان من ليف ، وفي جبينه ثفنة من أثر السجود ، ولم يرقع المنبر على ما روي عن حاجبه نوف بن فضالة أو عبد الله البكالي الحميري وإنّما خطبهم وهو قائم على حجارة نصبها له ابن اخته جعدة بن هبيرة المخزومي ، فقال :

الحمد لله الذي إليه مصائر الخلق وعواقب الأمر ، نحمده على عظيم إحسانه ونيّر برهانه ، ونوامي فضله وامتنانه ، حمدا يكون لحقّه قضاء ولشكره أداء ، وإلى ثوابه مقرّبا ولحسن مزيده موجبا ، ونستعين به استعانة راج لفضله ، مؤمّل لنفعه واثق بدفعه ، معترف له بالطّول مذعن له بالعمل والقول. ونؤمن به إيمان من رجاه موقنا وأناب إليه مؤمنا وخنع له مذعنا ، وأخلص له موحّدا وعظّمه ممجّدا ولاذ به راغبا مجتهدا. لم يولد فيكون في العزّ مشاركا ، ولم يلد فيكون موروثا هالكا ، ولم يتقدّمه وقت ولا زمان ، ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان ، بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التدبير المتقن والقضاء المبرم.

__________________

ـ وعلى الوجه الآخر : تصوير لبيت نار وفي طرفيه رجلان محافظان ، وفي داخل الدائرة يمينا بالخطّ البهلوي : دان ، كناية عن دارابجرد ، وعلى الأيسر بالفارسية القديمة : يه چهل ، أي إحدى وأربعين للهجرة سنة الضرب. وهكذا في تاريخ التمدن الإسلامي ١ : ١٣٥. فمعاوية عاود إلى الدرهم البهلوي الفارسي المجوسي واكتفى ببسم الله ، واسمه وتاريخ الضرب بالهجري. وانظر مقال أخينا السيد المرتضى في كتابه : دراسات وبحوث : ١٢٧ ـ ١٣٧.


فمن شواهد خلقه خلق السماوات وموطّدات بلا عمد ، وقاعات بلا سند ، دعاهنّ فأجبن طائعات مذعنات ، غير متلكّئات ولا مبطئات. ولو لا إقرارهنّ له بالربوبيّة وإذعانهنّ له بالطّواعية ، لما جعلهنّ موضعا لعرشه ولا مسكنا لملائكته ، ولا مصعدا للكلم الطيّب والعمل الصالح من خلقه. جعل نجومها أعلاما يستدلّ بها الحيران في مختلف فجاج الأقطار ، لم يمنع ضوء نورها ادلهمام سجف الليل المظلم ، ولا استطاعت جلابيب سواد الحنادس أن تردّ ما شاع في السماوات من تلألؤ نور القمر. فسبحان من لا يخفى عليه سواد غسق داج ولا ليل ساج ، في بقاع الأرضين المتطأطئات ، ولا في يفاع السفع المتجاورات (١) ولا ما يتجلجل به الرعد في افق السماء ، وما تلاشت عنه بروق الغمام ، وما تسقط من ورقة تزيلها عن مسقطها عواصف الأنواء وانهطال السماء ، ويعلم مسقط قطرها ومقرّها ، ومسحب الذرّة ومجرّها ، وما يكفي البعوضة من قوتها ، وما تحمل الأنثى في بطنها.

والحمد لله الكائن قبل أن يكون كرسي أو عرش ، أو سماء أو أرض ، أو جانّ أو إنس ، لا يدرك بوهم ولا يقدّر بفهم ، ولا يشغله سائل ولا ينقصه نائل ، ولا ينظر بعين ولا يحدّ بأين ، ولا يوصف بالأزواج ولا يخلق بعلاج ، ولا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس ، الذي كلّم موسى تكليما وأراه من آياته عظيما ، بلا جوارح ولا أدوات ، ولا نطق ولا لهوات.

بل إن كنت صادقا ـ أيّها المتكلّف لوصف ربّك ـ فصف جبرئيل وميكائيل وجنود الملائكة المقرّبين ، في حجرات القدس مرجحنّين (متأرجحين) متولّهة عقولهم أن يحدّوا أحسن الخالقين.

فإنّما يدرك بالصفات ذوو الهيئات والأدوات ، ومن ينقضي إذا بلغ أمد حدّه بالفناء. فلا إله إلّا هو ، أضاء بنوره كلّ ظلام ، وأظلم بظلمته كلّ نور.

__________________

(١) أي في ارتفاع السود المتجاورات يعني الجبال.


عباد الله! اوصيكم بتقوى الله الذي ألبسكم الرّياش وأسبغ عليكم المعاش. فلو أنّ أحدا يجد إلى البقاء سلّما أو لدفع الموت سبيلا ، لكان ذلك سليمان بن داود عليه‌السلام الذي سخّر له ملك الجنّ والإنس مع النبوّة وعظيم الزلفة ، فلمّا استوفى طعمته واستكمل مدّته ، رمته قسيّ الفناء بنبال الموت ، وأصبحت الديار منه خالية والمساكن معطّلة ، وورثها قوم آخرون.

وإنّ لكم في القرون السالفة لعبرة! أين العمالقة وأبناء العمالقة؟! أين الفراعنة وأبناء الفراعنة؟! أين أصحاب مدائن الرسّ الذين قتلوا النبيّين وأطفئوا سنن المرسلين وأحيوا سنن الجبّارين؟! أين الذين ساروا بالجيوش وهزموا بالألوف ، وعسكروا العساكر ومدّنوا المدائن؟! ثمّ قال عليه‌السلام :

أيّها الناس ، إنّي قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ الأنبياء بها أممهم وأدّيت إليكم ما أدّت الأوصياء إلى من بعدهم ، وأدّبتكم بسوطي فلم تستقيموا ، وحدوتكم بالزواجر فلم تستوسقوا! لله أنتم! أتتوقّعون إماما غيري يطأ بكم الطريق ويرشدكم السبيل؟!

ألا إنّه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلا ، وأقبل منها ما كان مدبرا ، وأزمع الترحال عباد الله الأخيار ، وباعوا قليلا من الدنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى ، ما ضرّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم وهم بصفّين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص ويشربون الرنق (الكدر)؟! قد والله لقوا الله فوفّاهم اجورهم ، وأحلّهم دار الأمن بعد خوفهم.

أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحقّ؟! أين عمّار وأين ابن التيهان وأين ذو الشهادتين وأين نظراؤهم من إخوانهم؟! الذين تعاقدوا على المنيّة وابرد برءوسهم إلى الفجرة!

ثمّ ضرب بيده على لحيته الشريفة الكريمة وبكى وأطال البكاء ثمّ قال عليه‌السلام :


أوّه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه ، وتدبّروا الفرض فأقاموه ، أحيوا السنّة وأماتوا البدعة ، دعوا للجهاد فأجابوا ، ووثقوا بالقائد فاتّبعوه. ثمّ رفع صوته ونادى بأعلى صوته :

الجهاد الجهاد عباد الله! ألا وإنّي معسكر في يومي هذا ، فمن أراد الرواح إلى الله فليخرج!

ثمّ عقد للحسين عليه‌السلام على عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد الأنصاري على عشرة آلاف ، ولأبي أيوب الأنصاري ـ وكان قد قدم من المدينة ـ على عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر (١).

الخلاف في الموسم ومؤامرة قتل الإمام :

اضطرّ الإمام عليه‌السلام إلى تقبّل التحكيم ، ورجع الخوارج إلى أنفسهم فتأثّموا من التحكيم المنتهي إلى التحكّم برأي ابن العاص على كتاب الله الحكيم ، ولم يرضوا بالعود إلى حرب الظالم معاوية ووزيره الآثم ابن العاص ، إلّا إذا أقرّ الإمام عليه‌السلام على نفسه بما يقولون ، وإلّا فهم يخرجون من طاعته عليه ، ولم يرض بذلك ، فخرجوا عليه ممّا اضطرّ إلى قتالهم.

وكان منهم الأخضر بن الشجنة من تيم الرّباب ومعه ابنه ، وقتلا في النهروان في صفر سنة (٣٨ ه‍) ، وبقيت للأخضر ابنته قطام ، وكانت ذات مسحة من الجمال دون الكمال. وبقي من الخوارج بقايا منهم بالكوفة من هذه القبيلة تيم الرّباب :

وردان بن مجالد أو مجالد بن وردان بن علقمة ، ومن مراد : عبد الرحمن بن عمرو

__________________

(١) فما دارت الجمعة حتى بلغنا أنّ ابن ملجم ضربه ، فتراجعنا وكنّا كأغنام فقدت راعيها! نهج البلاغة الخطبة ١٨٢ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٩٠.


المعروف بملجم (١) التجوبي المرادي المذحجي ، ومن الأشجع من تميم : شبيب بن بجرة أو نجدة ، ومن تميم أيضا : عمرو بن بكر ، والبرك بن عبد الله ، ولم يكن يأمن المراديّ في الكوفة فهرب منها إلى مكة (٢).

وهنا روى ابن قتيبة ، عن المدائني ، والبلاذري عنه ، عن الشعبي قال : إنّ اناسا من خوارج العراقين الكوفة والبصرة خرجوا للحجّ في موسمه لسنة تسع وثلاثين ، وأرسل معاوية لمنازعة الإمام على إمارة الموسم يزيد بن شجرة الرهاوي الصحابي ومعه ثلاثة آلاف مقاتل ، فاختلف عامل معاوية هذا مع عامل الإمام : القثم بن العباس ، ثمّ اصطلحوا على حاجب الكعبة شيبة بن عثمان العبدري ، كما مرّ خبره.

فلمّا انقضى الموسم أقام نفر من الخوارج مجاورين بمكة ، وتلاقوا بمقالهم : كان هذا البيت معظّما في الجاهلية ، جليل الشأن في الإسلام ، وقد انتهك هؤلاء (؟!) حرمته! فلو أنّ قوما باعوا أنفسهم لله فقتلوا هذين الرجلين (معاوية والإمام) اللذين قد أفسدا في الأرض ، واستحلّا حرمة هذا البيت ، استراحت الأمّة ، واختار الناس لهم إماما!

__________________

(١) ملجم بالكسر أي ملجم الخيل بمعنى الفارس ، وليس بالفتح بمعنى الحيوان ، فالعربي لا يسمّى إلّا بالمفترسة والسباع والحيوانات الكاسرة ، يزعمون تشجيعا. وبفتح الجيم خطأ شايع. ونقل البلاذري ، عن الكلبي أنّ أصله من حمير وتحالفوا مع مراد وقيل لهم : تجوبى ، أنساب الأشراف ٢ : ٣٩٠ ، الحديث ٥٤٩.

(٢) مقاتل الطالبيين : ١٩ ، والإرشاد : ١٨. وفي الطبري ٥ : ١٤٤ : إنّه كان من أهل مصر! غير صحيح ، وفي الإمامة والسياسة ١ : ١٥٩ : أنّ عمرو بن بكر كان مولى فارسيّا واسمه : زادويه معروفا بعمرو وكذا في أنساب الأشراف ٢ : ٣٨٩ ، الحديث ٥٤٨ ، وكذا مروج الذهب ٢ : ٤١١.


فقال عبد الرحمن بن عمرو المعروف بملجم الحميري التجوبي المرادي حلفا : أنا أكفيكم أمر عليّ! وقال البرك وهو الحجّاج بن عبد الله الصريمي : أنا اقتل معاوية ، وكان معهم من بني حارثة بن كعب مولاهم الفارسي زادويه أو دادويه وقد تسمّى عربيا عمرو بن بكر ، فقال : والله ما عمرو بن العاص بدونهما فأنا له ، فتعاقدوا على ذلك.

ثمّ مكثوا متجاورين بمكة حتّى اعتمروا عمرة رجب سنة أربعين ، ثمّ اتّفقوا على يوم واحد يكون فيه وقوع القتل منهم في علي عليه‌السلام ومعاوية وابن العاص ، ثمّ سار كلّ واحد منهم في طريقه (١).

والبرك : هو الذي لمّا ضرب معاوية وأخذ قال لمعاوية : إنّ لك عندي بشارة! قال : وما هي؟ فأخبره بخبره وخبر صاحبيه التميمي والمرادي وأنّه الذي قال لنا : إنّه سيكفينا عليّا في هذه الليلة فاحبسني عندك فإن قتل فأنت وليّ ما تراه في أمري وإن لم يقتل أعطيتك العهود والمواثيق أن أمضي فأقتله ، ثمّ أعود إليك فأضع يدي في يدك حتّى تحكم فيّ بما تراه! فحبسه حتّى يأتيه خبر علي عليه‌السلام.

وكانت ضربته لمعاوية مستعجلة وكان معاوية ضخم البطن والعجز فوقعت ضربته على أليته ففلقتها. وجاء الطبيب الساعدي فنظر إلى الضربة وقال : إنّ السيف مسموم! فاختر إمّا أن أحمى لك حديدة فأجعلها في الضربة فتبرأ ، وإمّا أن أسقيك دواء فتبرأ وينقطع نسلك! فقال معاوية : أمّا النار فلا أطيقها!

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٥٩ ، وأنساب الأشراف ٢ : ٣٨٩ ، الحديث ٥٤٨ وانفرد هذان بهذا النقل المشتمل على تعليل قتل الإمام بمنازعة معاوية إيّاه على إمارة موسم الحجّ وتجرّد عن ذكره سائرهم ، وبناء عليه قال ابن عبّاد : أأحبّ من قتل الوصيّ وتالييه علانية؟! كما في ترجمة الصاحب بن عبّاد في يتيمة الدهر للثعالبي.


وأمّا النسل ففي يزيد وعبد الله ما يقرّ عيني وحسبي بهما ، فسقاه الدواء ، فلم يولد له بعد ذلك (١) ، ثمّ أمر ببناء العمارة المقصورة لمحرابه وأوقف الحرّاس في جوانبها (٢) فكان أول من فعل ذلك.

فنجا معاوية ونجا عمرو :

وكما نجا معاوية من الهلكة العاجلة ، كذلك أيضا نجا صاحبه ابن العاص ، والموعد هو الموعد ، ولا يتّحد الموعد القمريّ إلّا بضميمة تعيين الليلة من الأسبوع ، وفيها ذكر المفيد : ليلة الأربعاء (٣) والأمويّ : ليلة الجمعة عن أبي مخنف (٤) ولا تتعيّن إلّا أن يكون الموعد ليلة الجمعة ليلة بدر (٥) أو أوّل ليلة جمعة بعدها.

ووجد ابن العاص تلك الليلة بطنه قد عصت عليه بعلّة ، فعصى بدوره على الحضور لصلاة الفجر ، واستخلف لها صاحب شرطته خارجة بن حذافة العامري القرشي ، فخرج الرجل للصلاة ، وحسبه عمرو التميمي : عمرو العاص فضربه بسيفه ضربة قاضية ، وحمل إلى داره وهو يجود بنفسه فعاده ابن العاص ، فلمّا رآه خارجة قال له : يا أبا عبد الله أما والله ما أراد غيرك! فقال عمرو : ولكنّ الله أراد خارجة (٦)!

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ١٧ ـ ١٨.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ٣٩٢ ، الحديث ٥٥٣ ، والإمامة والسياسة ١ : ١٦١ ، والطبري ٥ : ١٤٩.

(٣) الإرشاد ١ : ١٩.

(٤) مقاتل الطالبيين : ٢٠.

(٥) كما في مقاتل الطالبيين : ٢٥ وط ٢ : ٤٠ ، الحديث ٥.

(٦) مقاتل الطالبيين : ١٨.


وأخذ الناس القاتل التميمي الكوفي فانطلقوا به إلى عمرو ، فلمّا سمعهم يسلّمون عليه بالإمرة سألهم : من هذا؟ قالوا : عمرو! قال : فمن قتلت؟ قالوا : خارجة بن حذافة! فالتفت الرجل إلى ابن العاص وقال له : أما والله يا فاسق ، ما ظننته غيرك! فقال عمرو : أنت أردتني وأراد الله خارجة! ثمّ أمر بقتله فقتل (١) ومات خارجة في اليوم التالي (٢).

المرادي وصاحباه والأشعث :

تواعد أولئك الثلاثة لليلة التاسع عشر من شهر رمضان وتفرّقوا (٣) وقدم ابن ملجم الكوفة إلى أصحابه في العشرين من شعبان سنة أربعين ونزل على الأشعث بن قيس الكندي شهرا (٤).

وكان من أصحابه رجل من تيم الرباب ، وكان قد قتل منهم يوم النهروان عشرة (٥) منهم الأخضر بن شجنة وابنه (٦) وقد بقي من الأخضر ابنته قطام وكانت ذات مسحة من الجمال. وزار المرادي ذلك الرجل من تيم فصادف عنده قطام فلمّا رآها اشتدّ إعجابه بها حتّى التبست بعقله ونسي حاجته التي جاء لها.

وخطبها فقالت له : لا أتزوّجك حتّى تشفي لي! قال لها : وما يشفيك؟ قالت : ثلاثة آلاف ، وعبد ، وقينة ، وقتل عليّ بن أبي طالب!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ١٤٩.

(٢) الإرشاد ١ : ٢٣.

(٣) الإرشاد ١ : ١٨.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١٢.

(٥) الطبري ٥ : ١٤٤.

(٦) مقاتل الطالبيين : ١٩.


فقال لها : هو مهر لك ، ولكن لا أراك ذكرت لي قتل عليّ وأنت تريدينني! قالت : بلى ، التمس غرّته ، فإن أصبت شفيت نفسك ونفسي ويهنئك العيش معي! وإن قتلت فما عند الله خير لك من الدنيا وزينتها وزينة أهلها (١).

فحينئذ قال لها : أما والله لقد كنت هاربا من هذا المصر لا آمن مع أهله ، وما أقدمني إليه إلّا ما سألتيني من قتل علي بن أبي طالب! فلك ما سألت! قالت : فأنا طالبة لك بعض من يساعدك على ذلك ويقوّيك. ثمّ فاتحت في ذلك وردان بن مجالد أو مجاشع بن وردان بن علقمة من قومها فأجابها إلى ذلك (٢).

وحيث كان صاحباه المتواعدان معه لقتل معاوية وابن العاص من تميم الكوفة ، وحيث وفّرت له قطام مساعدا له من قومها وردان ، ذهب المرادي إلى رجل من بني الأشجع من تميم كان على رأي الخوارج يدعى شبيب بن بجرة ، فقال له : يا شبيب ، هل لك في شرف الدنيا والآخرة؟! قال : وما ذاك؟ قال : تساعدني على قتل عليّ بن أبي طالب! فقال له : يا ابن ملجم ، هبلتك الهبول! لقد جئت شيئا إدّا! وكيف نقدر على ذلك؟! قال : نكمن له في المسجد الأعظم عند صلاة الفجر ، فإذا خرج للصلاة فتكنا به! فإن نحن قتلناه أدركنا ثأرنا وشفينا أنفسنا ، وإن قتلنا فما عند الله خير من الدنيا وما فيها! قال : ويحك! لو كان غير عليّ كان أهون عليّ ، قد عرفت بلاءه في الإسلام وسابقته مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فما أجدني أنشرح لقتله!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ١٤٤.

(٢) الإرشاد ١ : ١٨ ، ومقاتل الطالبيين : ١٩ ، وفي الإمامة والسياسة ١ : ١٥٩ : أنّها قطام بنت علقمة! وأنّه تزوّجها على أن يقتل الإمام عليه‌السلام ، فأخبرها بموعوده ، وكذا في أنساب الأشراف ٢ : ٣٨٩ خ ٥٤٨ عن الشعبي ، وفي مروج الذهب ٢ : ٤١١ : أنّها كانت ابنة عمّه من مراد! وسمّي وردان : مجاشع بن وردان بن علقمة.


قال : أما تعلم أنّه قتل أهل النهر العبّاد الصالحين؟! قال : بلى ، قال : فنقتله بمن قتل من إخواننا! ولم يزل به حتّى أجابه ، وأخبرا قطام بذلك ، وأخبرتهم أنّها تضرب قبّة (خيمة) للاعتكاف في شهر رمضان في المسجد الأعظم (١).

وكان الأشعث الكندي جاء يوما ليدخل على الإمام عليه‌السلام فردّه غلامه قنبر ، فرفع الكنديّ يده ولطم وجه قنبر فأدمى أنفه ، وارتفع صوتهما ، فخرج الإمام إليه وقال له : ما لي ولك يا أشعث! أما والله لو تمرّست بغلام ثقيف لاقشعرّت شعيراتك!

فلمّا أغلظ له الإمام عرّض الأشعث له بأن يفتك به! فأجابه الإمام عليه‌السلام : أبا لموت تهدّدني؟ فو الله ما أبالي وقعت على الموت أو وقع الموت عليّ (٢)!

لذلك التقى به هؤلاء فألقوا إليه ما في أنفسهم من العزم على قتل الإمام عليه‌السلام فواطأهم عليه (٣)!

ابن ملجم وبيعته الإمام لغزو الشام :

مرّ خبر خطبة الإمام عليه‌السلام وإعلانه غزو الشام وعقده له الرايات لأكثر من ثلاثين ألفا ، وطبيعي أن يكون في هذه الأيّام يبايعه الناس لذلك ، وحشر المراديّ نفسه فيهم فجاء ليبايعه متظاهرا بذلك متستّرا بها على نفسه ، فردّه الإمام كما رووا

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ١٤٤ ـ ١٤٥.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٢٠ ـ ٢١ في خبرين ، وقال في الأول : قيل : يا أمير المؤمنين ومن غلام ثقيف؟ قال : غلام يليهم لا يبقى أهل بيت من العرب إلّا أدخلهم ذلّا! قيل : يا أمير المؤمنين ، كم يلي أو كم يمكث؟ قال : عشرين ، ثمّ قال : إن بلغها. فهو الحجّاج بن يوسف الثقفي عبد بني علاج من ثقيف.

(٣) الإرشاد ١ : ١٩ ، وفي مقاتل الطالبيين أنّ لقاء المرادي بالكندي كان في المسجد تلك الليلة.


ولم يرووا بأية حجّة ، فعاد المرادي مصرّا ، فردّه الإمام كذلك ، فعاود المرادي ثالثة ملحّا ، فلم يردّه الإمام وقبل بيعته ولكنّه قال عندها : ما يحبس أشقاها؟! فوالذي نفسي بيده لتخضبنّ هذه ـ وأشار إلى لحيته ـ من هذه وأشار إلى رأسه! وأنشد :

حيازيمك (١) للموت فإنّ الموت لاقيك

ولا تجزع من الموت إذا حلّ بواديك

 كما أضحكك الدهر كذاك الدّهر يبكيك!

فلمّا أدبر ابن ملجم منصرفا عنه عليه‌السلام دعاه فتوثّق منه وأكّد عليه أن لا ينكث ولا يغدر! ففعل! ثمّ أدبر عنه ، فدعاه الثانية فتوثّق منه وأكّد عليه أن لا ينكث ولا يغدر! ففعل! ثمّ أدبر عنه ، فدعاه الثالثة فتوثّق منه وأكّد عليه أن لا ينكث ولا يغدر! فقال ابن ملجم : يا أمير المؤمنين! ما رأيتك فعلت هذا بأحد غيري!

فقال له : امض يا ابن ملجم ، فو الله ما أرى أن تفي بما قلت!

فطلب ابن ملجم من الإمام أن يأمر له بفرس يركبه! فنادى غلامه غزوان : يا غزوان ، احمله على الأشقر! فجاء غزوان إليه بفرسه الأشقر فحباه لابن ملجم حبوة (عطيّة) فأخذ ابن ملجم بعنانه وركبه وولى ، فتمثل الإمام منشدا شعر معد يكرب :

اريد حباءه ويريد قتلي

عذيرك من خليلك من مراد (٢)

__________________

(١) هنا زيادة كلمة : اشدد ، وهي زيادة على الوزن الشعري وليس من الضروري ، بل هي مضمرة مقدّرة.

(٢) الإرشاد ١ : ١١ ـ ١٣ بطرق ثلاثة وبهامشها مصادر اخرى عديدة ، وتمام الأخير قال : ولمّا ضرب أمير المؤمنين وخرج من المسجد قبض عليه وجيء به إليه فقال له فيما قال : والله لقد كنت أصنع إليك ما أصنع وأنا أعلم أنّك قاتلي ولكنّي كنت أفعل ذلك بك لأستظهر بالله عليك.


وقبل مقتل الإمام بليلتين فجرا ناوله ابن ملجم كتابا ملفوفا فتحه الإمام ليقرأه فلم يستبنه للظلمة ، فلمّا صلّى فتحه فإذا فيه : أدعوك إلى التوبة من الشرك! أو أنابذك على سواء (أَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ)(١) فسأل عن صاحبها فلم يجبه أحد ، فقال : عليه لعنة الله! وبصق فيه ومحا الآية ثمّ رمى بالصحيفة (٢).

فجر مقتل الإمام عليه‌السلام :

مكث الثلاثة أيّاما حتّى كانت ليلة الأربعاء (٣) أو ليلة الجمعة (٤) التاسع عشر من شهر رمضان (٥) فقال المرادي لقطام : هذه الليلة التي واعدت فيها صاحبيّ وواعداني أن يقتل كلّ واحد منّا صاحبه الذي يتوجّه إليه (٦)! وكانت قد أعدّت لثلاثتهم ثلاث قطع من الحرير فأخرجتها وألقتها إليهم ليعصّبوا صدورهم ، تقوية وتشجيعا كما كان يقال ، فتعصّبوا بها ، وتقلّدوا سيوفهم.

__________________

(١) يوسف : ٥٢.

(٢) مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٣٣٠ عن الكلبي عن النخعي عن ابن ميثم التمار عن أبيه ظ ، عملا بظاهر لفظ الآية ٥٨ من الأنفال : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) وكأنّه كان يرى أنّه قد أنذره بهذا فلا يكون قتله غيلة وفتكا وغدرا وخيانة محرّمة في الشريعة ؛ لأنّه قد أنذر ومن أنذر فقد أعذر! كما قالوا!

(٣) الإرشاد ١ : ١٩.

(٤) الطبري ٥ : ١٤٥ ، ومقاتل الطالبيين : ٢٠ عن أبي مخنف.

(٥) مقاتل الطالبيين : ٢٠ عن أبي مخنف ، وما اختاره واختاره المفيد في الإرشاد ١ : ١٩.

(٦) مقاتل الطالبيين : ٢٠ ، وذلك يعني أنّه كان أخبرهم عن المؤامرة ولم يخبرهم عن موعدها إلّا الليلة!


وكان سيف المراديّ سيفا خاصّا قال فيه : إنّه اشتراه بألف (درهم) وسمّه بألف درهم وأنّ ضربته به لو قسّمت على أهل الأرض لأهلكتهم (١)!

وكان الإمام عليه‌السلام يدخل المسجد من سدّة باب كندة ممّا يلي دار الإمارة في يمين القبلة ، فمضى هؤلاء حتّى جلسوا في ما يلي ذلك الباب (٢) بل قاموا يصلّون مع سائر الناس هناك (٣) كانوا يصلّون في ذلك الشهر من أوّله إلى آخره (٣) قياما وقعودا وركوعا وسجودا ما يسأمون (٥) وكأنّه كان نهي الإمام عليه‌السلام لهم عن الجماعة في تلك النوافل قد أثّر فيهم يومئذ فكانوا يصلّونها فرادى فلم يذكر لهم إمام يؤمّهم.

ويظهر أنّ الإمام عليه‌السلام لم يكن يغلّس بصلاته أوّل وقت الفجر ، بل كان مؤذّنه عامر ابن النبّاح يؤذّن ثمّ يذهب فيطرق عليه الباب ويؤذنه بالصلاة فيخرج إليهم (٦) وقد انجلى الظلام شيئا ، وكأنّ المرادي كان قد تواعد مع الأشعث الكندي أن يشير إليه بدنوّ دخول الإمام المسجد ، فحضره وقال له : النجاء النجاء لحاجتك فقد فضحك الصبح! وكانت عين الأشعث عوراء ، وسمعه مؤمن قومه حجر بن عديّ وأحسّ بشرّه ، فقال له : قتلته يا أعور (٧)! وبادر فخرج من المسجد إلى دابّته مبادرا إلى الإمام عليه‌السلام ليخبره ويحذّره من شرّهم (٨) ولكنّه لم يلقه!

__________________

(١) الإرشاد ١ : ٢١ ، ومقاتل الطالبيين : ٢٢ عن أبي مخنف ، والطبري ٥ : ١٤٦ ، وفي مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٣٩ : أنّه كان سيفا صغيرا.

(٢) الإرشاد ١ : ١٩ ، ومقاتل الطالبيين : ٢٠.

(٣) الإرشاد ١ : ٢٠ ، ومقاتل الطالبيين : ٢١.

(٣) الإرشاد ١ : ٢٠ ، ومقاتل الطالبيين : ٢١.

(٥) مقاتل الطالبيين : ٢١ ، والطبري ٥ : ١٤٦ عن ابن الحنفية.

(٦) الإرشاد ١ : ١٦ ، ومقاتل الطالبيين : ٢٥.

(٧) الإرشاد ١ : ١٩ ـ ٢٠.

(٨) مقاتل الطالبيين : ٢٠ ، والإرشاد ١ : ٢٠ بدون الدابّة.


الإمام عليه‌السلام ليلة مقتله :

مرّ الخبر عن حاجب الإمام نوف البكالي الحميري عن خطبته عليه‌السلام في الجمعة السابقة لإعلان الاستعداد لقتال الشام ، وعقده عدّة رايات لها ومنها للحسين (١) دون الحسن عليهما‌السلام.

وسهر الإمام عليه‌السلام في ليلة مقتله التاسع عشر من شهر رمضان بل وأسهر أهله ، وكان من عادته سابقا أن يخرج إلى المسجد لصلاة الليل ، ففي تلك الليلة لم يخرج على عادته ، وكان يكثر الخروج من البيت إلى صحن الدار فينظر في أطراف السماء ويقول : والله ما كذبت ولا كذبت! وإنّها الليلة التي وعدت بها (٢).

وقالت له ابنته (٣) : ما هذا الذي قد أسهرك؟ فقال : إنّي مقتول لو أصبحت (٤).

ومع استحباب طعام السحر للصوم وكراهة تركه لم يذكر شيء عن سحور الإمام عليه‌السلام وطلع الفجر فأذّن عامر ابن النبّاح وكان ملتزما في الحيّعلات بحيّ على خير العمل ، ولذلك كان الإمام يقول له :

فمرحبا بالقائلين عدلا

وبالصلاة مرحبا وأهلا (٥)

وبعد أذانه جاء إلى الإمام عليه‌السلام فآذنه بالصلاة. فقالت له ابنته (٦) مر جعدة

__________________

(١) فلم يكن يفطر عنده كما روي في الإرشاد ١ : ١٤ و ٣٢٠.

(٢) الإرشاد ١ : ١٦ وبعده : ثمّ يعاود إلى مضجعه! منافيا لما مرّ من سهره عليه‌السلام ، خطأ.

(٣) الإرشاد ١ : ١٦ عن الحسن البصري! وفيه : ابنته أمّ كلثوم! وقد توفيت في عهد عثمان ، فهي زينب وكانت أمّ كلثوم أكبر وأشهر يومئذ.

(٤) فلعلّه من علمه عليه‌السلام بمواقع النجوم ودلالاتها ، أو كونها علامة معلّمة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للوصي عليه‌السلام.

(٥) الفقيه ١ : ٢٨٧ ، الحديث ٨٩٠.

(٦) وهنا أيضا زيادة أمّ كلثوم في خبر حسن البصري ، والكلام فيه كسابقه.


فليصلّ بالناس فقال عليه‌السلام : نعم ، مروا جعدة فليصلّ. ثمّ قال : لا مفرّ من الأجل (١) فشدّ إزاره وهو يقول :

حيازيمك للموت فإنّ الموت لاقيك

ولا تجزع من الموت إذا حلّ بواديك (٢)

وكان في صحن الدار إوزّ فلمّا رأينه ارتفع أصواتهنّ ، وكان معه من حاول إسكاتهنّ فقال لهم : دعوهنّ فإنّهنّ نوائح (٣).

وكان معه ابنه الحسن عليه‌السلام فقال له وهو في طريقه إلى المسجد : يا بني ، إنّ الليلة كانت ليلة الجمعة وصبيحتها يوم بدر (أو قدر) فبتّ اوقظ أهلي [للصلاة ، ثمّ] ملكتني عيناي فسنح لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقلت له : يا رسول الله ، ما ذا لقيت من أمّتك من الأود واللدد (٤)! فقال لي : ادع عليهم! فقلت : اللهم أبدلني بهم من هو خير لي منهم ، وأبدلهم بي من هو شرّ لهم مني (٥)! وخالف حجر الكندي مسير عليّ عليه‌السلام وخالفه الإمام فلم يلقه (٦).

__________________

(١) لا زال الخبر عن الحسن البصري وفيه : أنّه خرج إلى المسجد وكان المراديّ نائما فحرّكه برجله فقام فضربه! وهذا ينافي ما مرّ من اشتغاله وأصحابه مع الناس بالنوافل ، وهو أيضا مستبعد جدا.

(٢) الإرشاد ١ : ١٦ ، وأنساب الأشراف ٢ : ٤٠٠ الحديث ٥٧٢ ، وفي مقاتل الطالبيين : ١٨ : قالهما عند بيعة ابن ملجم إيّاه ، وليس هنا ، وفي مروج الذهب ٢ : ٤١٧ ـ ٤١٨ ، وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣٩٣ ، الحديث ٥٥٣ قال : ولم يكن نزل القصر وإنّما كان في أخصاص (بيوت سعف) في رحبة الكوفة ، وكان يقال لها : رحبة علي.

(٣) الإرشاد : ١٧.

(٤) الأود : العوج واللّدد : الخصومة.

(٥) مقاتل الطالبيين : ٢٥ بسنده عن الطبري وليس فيه ، عن أبي عبد الرحمن السلمي عن الحسن عليه‌السلام.

(٦) الإرشاد ١ : ٢٠ ، ومقاتل الطالبيين : ٢٠ عن أبي مخنف ، والإمامة والسياسة ١ : ١٦٠.


مقتل الإمام عليه‌السلام :

روى أبو مخنف عن أبيه يحيى الأزدي عن عبد الله بن محمد الأزدي ، وأرسله الطبري عن محمد بن الحنفية قال كلّ منهما : كنت تلك الليلة اصلّي في المسجد الأعظم مع أهل المصر ، إذ خرج علينا علي عليه‌السلام لصلاة الفجر وأقبل ينادي : أيّها الناس ، الصلاة الصلاة! ورأيت رجالا يصلّون قريبا من سدّة الباب (١).

ونبّه الأشعث ابن ملجم إلى دخول الإمام فتبادر هو وصاحباه إلى داخل سقيفة مدخل الباب فأمّا مجاشع بن وردان فقد هرب (٢) وضرب شبيب ابن بجرة بسيفه نحو الإمام إلّا أنّه أخطأ في ضربته فأصاب سقف المدخل (الطاق) فنادى ابن ملجم الإمام قائلا : الحكم لله يا علي لا لك ولا لأصحابك! وضربه على أمّ رأسه ، وسمع الإمام يقول : لا يفوتنّكم الرجل. وهرب القتلة نحو الباب يفرّون ، وتبادر الناس لأخذهم (٣) ونادى الإمام عليه‌السلام : فزت وربّ الكعبة (٤).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ١٤٦ ، ومقاتل الطالبيين : ٢١ ، والإرشاد ١ : ٢٠ عن الأزدي.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٤١٢ منفردا به ، وقال : ودخل بين الناس فنجا بنفسه.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٢١ ، والإرشاد ١ : ٢٠ ، وتاريخ الطبري ٥ : ١٤٦ عن أبي مخنف.

(٤) مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٣٩ الحديث ٢٠ ، وأنساب الأشراف ٢ : ٤٠٠ ، الحديث ٥٧٢ عن المدائني ، وفي : ٣٩٠ ، الحديث ٥٦٨ عنه عن الشعبي ، ومناقب الحلبي ٣ : ٣٥٧.

وهنا خبر يذكر : «اصطفقت أبواب الجامع ... وهبّت ريح عاصف سوداء مظلمة ، ونادى جبرئيل عليه‌السلام بين السماء والأرض بصوت يسمعه كلّ مستيقظ : تهدّمت والله أركان الهدى» إلى قوله : «فلمّا سمعت أمّ كلثوم ... أقبلت إلى أخويها الحسنين فأيقظتهما وقالت». ممّا هو باطل فاسد قطعا نقله المجلسي في بحار الأنوار ٤٢ : ٢٥٩ ـ ٣٠٠ ـ ٤٠ صفحة! ـ عن بعض الكتب القديمة! متقوّلا على أبي مخنف! عن أسلافه! وأشياخه! وهذه القطعة في : ٢٨٢ وفي : ٢٨٠ قال المجلسي : هذا الخبر غير صحيح وكتبناه كما وجدناه! هذا ولم أجد غيره أي مصدر له ، ولذا تركته.


وروى الكلبي عن ابني ميثم التمار عن أبيهما : أنّه عليه‌السلام خرج لصلاة الصبح ، فكبّر للصلاة (وبعد الفاتحة) قرأ من سورة الأنبياء إحدى عشرة آية ، وكان ابن ملجم في الصف (الأول خلفه) فضربه من صفّه على قرنه ، فانتزع الناس منه سيفه وهم قيام في الصلاة ، ولم يقطع عليّ صلاته بل ركع ثمّ سجد السجدتين وغيّر موضع سجوده في الثاني عن الأولى ، ثمّ قام إلى الركعة الثانية فقلب (ـ تهوّع) فخفّف القراءة وركع وسجد وجلس فتشهّد ثمّ سلّم ثمّ أسند ظهره إلى الحائط!

وعن الكلبي أيضا عن حفيد جعدة بن هبيرة المخزومي : أنّه لمّا ضربه ابن ملجم في الصلاة ، كان جعدة إلى جنبه ، فتأخر عليّ حتى دفع في ظهر جعدة قدّمه ليتمّ الصلاة بالناس ، فصلّى بهم (١).

__________________

(١) مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٣٠ الحديث ٥ و ٦ والأوّل لا يوافق فتاوى أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، والثاني انفرد به حفيد جعدة متّهما بدعوى فضل لفصيلته وجدّه جعدة بما لم يرد مثله عن غيره! بل يعارضه ما في كنز العمّال ١٥ : ١٧٠ ط ٢ الحديث ٤٩٧ عن أمالي عبد الرزاق عن الزهري : أنّ ابن ملجم طعن عليّا عليه‌السلام حين رفع رأسه من الركعة فانصرف ولم يقدّم أحدا بل قال لهم : أتمّوا صلاتكم! ولعلّ الزهري بلغه خبر حفيد جعدة أو سئل عنه فردّه بهذا. ولا يبقى إلّا ما في فضائل ابن حنبل بسنده عن معاصره تقريبا الليث بن سعد المصري (بعد المائتين) رفعه : أنّ ابن ملجم ضرب عليّا في صلاة الصبح على دهش ... أي على غفلة وغيلة ، وليس نصا صريحا في الاشتغال بالصلاة بل لعلّه يعني في وقت الصلاة وليس في نفسها ، وفي الخبر غرائب غير مقبولة أنّه مات من يومه وأنّه دفن بالكوفة! وعنه نقل ابن عساكر. وروى الطوسي في الأمالي : ٣٦٥ م ١٣ الحديث ١٩ / ٧٦٨


وقال الحلبي : بل الحسن عليه‌السلام (١).

ابن ملجم والإمام عليه‌السلام :

أجرم ابن ملجم إجرامه في الظلام وخرج من المسجد الجامع مخترطا سيفه ، وخرج نافع بن عقبة المنبهي (٢) أو رجل من همدان (٣) من أهله إلى المسجد وانتهى إلى باب كندة منه فإذا هو بابن ملجم خارجا مخترطا سيفه ، فعلم بجرمه ، وكان طيلسانه بيده (٤) أو قطيفة (٤) فضربها على وجهه وهجم عليه فانتزع السيف من يده ، ثمّ قادوه إلى المسجد.

__________________

ـ بسنده إلى علي بن علي الخزاعي أخي دعبل بن علي عن الرضا عن أبيه عن آبائه عن السجاد عليهم‌السلام قال : ضربه ابن ملجم فوقعت الضربة وهو ساجد على رأسه على الضربة التي كانت ، فخرج الحسن والحسين ... والحسين يومئذ كان في المدائن بجيشه العشرة آلاف كما مرّ ويأتي. وفي سند الخبر أنّه يرويه عن الرضا سنة ثمان وتسعين ومائة وقال : وأقمت أنا وأخي دعبل عنده إلى آخر سنة مائتين ثمّ خرجنا إلى قم! وهذه نقاط ضعف عديدة.

وأخيرا لا يبقى إلّا ما رواه الصدوق في عيون أخبار الرضا عنه عن أبيه عن آبائه عن النبي قال لعلي عليه‌السلام : «كأنّي بك وأنت تصلي لربّك وقد انبعث أشقاها شقيق عاقر ناقة صالح فضربك على قرنك» فهذا غاية ما في هذا الباب. وهو إخبار غيبيّ يمكن فيه البداء ، فليس دليلا على الوقوع.

(١) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٥٨ ثمّ روى خبر صلاة جعدة.

(٢) مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٣٧ الحديث ١٥.

(٣) الارشاد ١ : ٢١ ، وسمّاه الاصفهاني : أبا أدماء المرهبي. وقيل : أخذه المغيرة بن الحرث بن عبد المطلب وهو صاحب القطيفة ، مقاتل الطالبيين : ٢١. ونسب اليعقوبي ذلك إلى قثم بن العباس ٢ : ٢١٢ ولم يعهد قثم في الكوفة يومئذ.

(٤) و (٥) المصدر الأسبق.


وانصرف الناس من صلاتهم فتواثبوا إليه كأنّهم السباع ينادونه : يا عدوّ الله ما صنعت! لقد قتلت خير الناس وأهلكت الأمّة! وهو ساكت لا ينطق بكلمة! والناس في ضوضاء يقولون : قتل أمير المؤمنين! حتّى أوقفوه بين يديه فقال عليه‌السلام : احبسوه ، فإن أمت من جراحتي هذه فهو في أيديكم ، نفس بنفس فاقتلوه ، وإن أعش وأبرأ أرى فيه رأيي.

ورجع حجر الكندي إلى المسجد فسمعهم ينادون : ضرب أمير المؤمنين! فنظر حجر إلى الأشعث وقال له : أما رأيته معك وأنت تناجيه قلت له : النجاء فقد فضحك الصبح؟! والله لو أعلم ذلك حقّا لضربت أكثرك شعرا! فقال الأشعث : إنّك شيخ قد خرفت!

وانصرف إلى داره وأمر ابنه قيسا أن يرى الإمام كيف أصبح ، فأتى قيس حتّى رآه وعاد إلى أبيه وقال له : يا أبة! رأيت عينيه قد غارتا في أمّ رأسه! فقال الأشعث : فهما عينا دميغ (مضروب في دماغه) وربّ الكعبة (١)!

وجاء الطبيب ، وعاد الحسين عليه‌السلام :

كان خالد بن الوليد لمّا فتح عين التمر بالعراق أصاب فيها أربعين غلاما من غلمان كسرى فسباهم ، وكان منهم غلام من السكون أو من كندة يدعى أثير بن عمرو ، وكان متطبّبا يعالج الجراحات ، ولذا أسر مع جنود كسرى ، وانتهى به الأمر أن أصبح في الكوفة من أعلم أطبّائها.

__________________

(١) مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٣٧ ـ ٣٨ ، الحديث ١٤ و ١٥ و ١٦ ، وأنساب الأشراف ٢ : ٣٩٧ ، الحديث ٥٦١.


فلمّا ضرب الإمام عليه‌السلام جمع له أطبّاء الكوفة وفي مقدمتهم هذا الكنديّ أو السكوني ، فدعا برية شاة حارّة (١) حديثة الذبح ، فاقتطع منها قطعة صغيرة فيها عروق ، فتتبّع عرقا منها فاستخرجه ثمّ أدخله في جراحة الإمام ثمّ نفخها ، ثمّ استخرجها فإذا عليها بياض دماغه ، فعرف أنّ الضربة قد وصلت إلى دماغه في أمّ رأسه (٢).

فقال له : يا أمير المؤمنين ، اعهد عهدك ، فإنّ عدوّ الله قد وصلت ضربته إلى أمّ رأسك (٣) فلا يعالج مثلك فإنّك ميّت!

فعند ذلك قال عليه‌السلام : إن أمت فاقتلوه فإنّها النفس بالنفس ، وإن عشت فسأرى رأيي (٤).

وكما اخذ ابن ملجم اخذ صاحبه الأشجعي التميمي شبيب بن بجرة وأخذ رجل منه سيفه وصرعه وجلس على صدره ليذبحه ، وقصد الناس فخافهم فوثب عن صدره وطرح سيفه من يده وخلّاه فهرب حتّى دخل منزله وأخذ يحلّ الحرير عن صدره ، فأتاه ابن عمّه وعلم بجرمه فمضى واشتمل على سيفه ودخل عليه فقتله (٥) وأفلت الثالث وردان التيمي فانسلّ بين الناس (٦).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٢٣ عن أبي مخنف.

(٢) عن الاستيعاب بهامش الإصابة ٣ : ٦٢.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٢٣.

(٤) مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٤٣ ، الحديث ٢٩ و ٢٨ و ٢٩.

(٥) مقاتل الطالبيين : ٢١ ـ ٢٢.

(٦) الارشاد ١ : ٢١ ، ويظهر أنّه نقل الخبر عن مقاتل الطالبيين وكانت عنده نسخة المؤلف ٢ : ١٩٠. وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣٩٤ ، الحديث ٥٥٣ : أنّ وردان هو الذي قتله ابن عمّه عبد الله بن نجبة التيمي.


ونقل ابن أبي الدنيا خبرين يبدو منهما أنّ ابن ملجم لم يواجه الإمام قبلهما :

الأوّل : عن الشعبي : أنّ الإمام سألهم : ما فعل ضاربي؟ قالوا : قد أخذناه! قال : أطعموه من طعامي وأسقوه من شرابي ، فإن أنا عشت رأيت فيه رأيي ، وإن أنا مت فاضربوه ضربة لا تزيدوه عليها.

والثاني : عن عبيد الله بن العباس ـ وقد مرّ أنّه أفلت من بسر ـ قال : أتي أمير المؤمنين بابن ملجم فقيل له : يا أمير المؤمنين ما تقول في هذا الأسير؟ فقال عليه‌السلام : أرى أن تحسنوا ضيافته حتّى تنظروا على أيّ حال أكون ، فإن أهلك فلا تلبثوه بعدي ساعة (١)! فذهبوا به إلى الحبس (٢)!

وقد مرّ الخبر أنّ الإمام عليه‌السلام كان قد قدّم الحسين مع عشرة آلاف إلى المدائن يريد العود لحرب العدوّ الشامي. فروى ابن أبي الدنيا عن ابن الكلبي ، عن زحر بن قيس الجعفي قال : بعثني الحسن إلى أخيه الحسين عليهما‌السلام بالمدائن بكتابه إليه يخبره فيه عن أبيه (٣).

قال : فركبت بغلتي ومضيت نحو المدائن ، فلمّا قربتها تلقّاني بعض مسلمي أهلها فسألوني : من أين أقبل الرجل؟ قلت : من الكوفة. فقالوا : فما الخبر؟ قلت : خرج أمير المؤمنين لصلاة الغداة ، فتلقاه رجلان فضربه أحدهما فأخطأه وضربه الآخر فأصابه بشجّة ، قد يموت الرجل ممّا هو أدنى منها ، وقد يعيش

__________________

(١) مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٤٠ ، الحديث ٢٢ و ٢٣.

(٢) الإرشاد ١ : ٢١.

(٣) مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٩٦ ، الحديث ٩١ ، ومختصره في أنساب الأشراف ٢ : ٣٩٦ ، الحديث ٥٦٧. وأصل كتاب الحسن إلى الحسين بالمدائن ، وحديث الحسين عليه‌السلام عن جدّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جاء في فروع الكافي ٣ : ٢٢٠ ، كما عنه في بحار الأنوار ٤٢ : ٢٤٧.


ممّا هو أكثر منها. فقال بعضهم : والله لو جئتنا بدماغه في صرّة لعلمنا أنّه لا يموت حتّى يسوق العرب بعصاه! فتركتهم ودخلت المدائن (١)! فلما انتهيت إلى الحسين عليه‌السلام قال لي : أي زحر! ما لي أرى وجهك متغيرا!

فقلت له : تركت أمير المؤمنين في آخر يوم من أيّام الدنيا وأوّل يوم من أيّام الآخرة ، وهذا كتاب الحسن إليك. وذكرت له مصاب علي عليه‌السلام فقال : ويحك ومن قتله؟ قلت : رجل فاسق مارق من مراد يقال له : عبد الرحمن بن ملجم.

فقال : الله أكبر ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، والحمد لله ربّ العالمين ، ما أعظمك من مصيبة! مع أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليتذكر مصابه بي فإنّه لن يصاب بمثلها أبدا» وصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فما أصبت بعد رسول الله بمثلها ولن أصاب بمثلها في بقيّة عمري! ثمّ قال : إن البلاء إلينا أهل البيت سريع ، والله المستعان.

فقلت له : إن هاهنا من لا يرى أنّه يموت حتّى يظهر (ويظفر) وأنا أخافهم عليك ، فاجمعهم إليّ حتّى أقرأ كتاب الحسن عليهم (فأمر) فنودي في الناس بالاجتماع فاجتمعوا ، وحضر حسين عليه‌السلام ، فقمت وقرأت الكتاب على الناس ، فضجّ من حضر بالاسترجاع والبكاء ، والاستغفار لعلي ، والتعزية للحسين. ثمّ انصرف راجعا إلى الكوفة بمن كان معه (٢) فكنّا كأغنام فقدت راعيها ، كما في خبر نوف البكالي (٣).

__________________

(١) مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٩١ ، الحديث ٨٤ ، ومختصره في أنساب الأشراف ٢ : ٤٠٣ ، الحديث ٥٨٣ ، ونقل قبله عن ابن الأصم قال : قيل للحسن عليه‌السلام بعد ذلك : أن ناسا من «شيعة» أبي الحسن زعموا أنّه مات ولكنه سيبعث قبل يوم القيامة ، وتأوّلوا عليه قوله : «أخرجنا لهم دابّة من الأرض تكلّمهم» فقال : كذبوا ، ليس أولئك من «شيعته» ولكنهم أعداؤه ، ولو علمنا ذلك ما قسمنا ميراثه! وهذا الجواب لا يناسب قولهم بموته ثمّ رجعته!

(٢) المصدر السابق : ٩٦ ـ ٩٧ ، الحديث ٩١.

(٣) نهج البلاغة الخطبة ١٨١.


وصاياه بلفظه عليه‌السلام :

وكأنّ الحاضرين حول الإمام عليه‌السلام لما سمعوا مقال الطبيب قالوا له : يا أمير المؤمنين ، أوص. فقال عليه‌السلام : اثنوا لي وسادة ، فأثنوا له وسادته وأسندوه إليها فقال :

الحمد لله حقّ قدره متّبعين أمره ، وأحمده كما أحبّ ، ولا إله إلّا الله الواحد الأحد الصمد كما انتسب.

وكأنّه عليه‌السلام أراد دفع دخل مقدّر عندهم بأنّه لم لم يهرب من العطب فقال عليه‌السلام :

أيها الناس ، كل امرئ في فراره يلقى ما يفرّ منه ، ومساق النفس إلى أجلها ، والهرب منه موافاته. كم اطّردت الأيام ابحثها عن مكنون هذا الأمر فأبى الله عزّ ذكره إلّا إخفاءه! هيهات! علم مكنون (١).

أما وصيّتي : فأن لا تشركوا بالله جلّ ثناؤه شيئا ، ومحمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا تضيّعوا سنّته. أقيموا هذين العمودين وأوقدوا هذين المصباحين ، وخلاكم ذمّ ما لم تشردوا ، حمّل كلّ امرئ مجهوده ، وخفّف عن الجهلة ربّ رحيم ودين قويم.

أنا بالأمس صاحبكم واليوم عبرة لكم وغدا مفارقكم ، إن تثبت الوطأة في هذه المزلّة فذلك المراد (٢) وإن تدحض القدم فإنّا كنّا في أفياء أغصان وذرى رياح وبظلّ غمامة ، اضمحلّ في الجوّ متلفّقها (متراكمها) وعفا في الأرض مخطّها! وإنّما كنت جارا لكم ، جاوركم بدني أياما ، وستعقبون منّي جثة خلاء ساكنة بعد تحركها ، وكاظمة بعد نطقها ، ليعظكم هدوّي وخفوت إطراقي وسكون أطرافي ، فإنّه أوعظ لكم من الناطق البليغ.

__________________

(١) وهذا يؤيد ما قاله المفيد من قصور الأدلة عن كون علمه بأجله تفصيليا لا إجماليا. كقوله له : «وأنت تصلي لربك في هذا الشهر» ولم يذكر اليوم والعام.

(٢) كناية عن البراءة من الجراحة وحصول السلامة ، فلعلّه لم ييأس بقول الطبيب ، أو كان قبله.


ودّعتكم وداع مرصد للتلاقي! غدا ترون أيامي ، ويكشف الله عن سرائري ، وتعرفوني بعد خلوّ مكاني وقيام غيري مقامي!

إن أبق فأنا وليّ دمي ، وإن أفن فالفناء ميعادي ، فإن أعف فالعفو لي قربة ، ولكم حسنة ، فاعفوا واصفحوا (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ)(١)؟

فيا لها حسرة على كلّ ذي غفلة : أن يكون عمره عليه حجّة ، أو تؤدّيه أيامه إلى شقوة!

جعلنا الله وإياكم ممن لا يقصّر به عن طاعة الله رغبة ، أو تحلّ به بعد الموت نقمة! فإنما نحن له وبه ، ثمّ أقبل على الحسن عليه‌السلام فقال له : يا بني ، ضربة مكان ضربة ، ولا تأثم!

يا بني ، إذا أنا متّ فاقتل ابن ملجم ، ثمّ احفر له في الكناسة ثمّ ارم به فيه ، فإنّه من أودية جهنم (٢)!

ولعلّه لم يحضر هذا المحضر صاحبه صعصعة بن صوحان العبدي ثمّ منع من الدخول إليه إلّا بإذن ، فحضر صعصعة واستأذن فلم يؤذن له ، فقال للآذن عليه : قل له : يا أمير المؤمنين ، يرحمك الله حيّا وميّتا فو الله لقد كنت بذات الله عليما ، فكان الله في صدرك عظيما ، فدخل الآذن إلى الإمام وأبلغه مقال صعصعة فقال له الإمام : قل له : وأنت يرحمك الله ، فلقد كنت خفيف المئونة كثير المعونة (٣).

__________________

(١) النور : ٢٢.

(٢) أصول الكافي ١ : ٢٩٩ الحديث ٦ و ٧ عن العقيلي ووصف هذا موضع قبر ابن ملجم على باب طاق المحامل موضع بائعي رءوس الأغنام وأصحاب الشّواء كما في الكافي. وذكر الخبر في نهج البلاغة الخطبة ١٤٩ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٨٨ والكتاب ٢٣ ، ومصادرها في : ١٣٩٥ وهما واحد.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٢٢ ـ ٢٣ عن أبي مخنف. هذا وقد روى الكشيّ بسنده عن


وروى المفيد بسنده عن الأصبغ بن نباتة المجاشعي التميمي قال : لمّا ضرب ابن ملجم أمير المؤمنين عليه‌السلام غدونا عليه في نفر من أصحابنا : أنا والحارث بن عبد الله الهمداني الأعور وسويد بن غفلة ومعنا جماعة آخرون ، وكان الباب مغلقا (فيبدو أنّه كان اليوم الثاني) فقعدنا على الباب ، فسمعنا البكاء من الدار فبكينا ، فخرج إلينا الحسن بن علي عليهما‌السلام فقال لنا : يقول لكم أمير المؤمنين : انصرفوا إلى منازلكم. فانصرف القوم غيري.

واشتدّ البكاء في منزله فبكيت ، فخرج الحسن عليه‌السلام فقال : ألم أقل لكم : انصرفوا! فقلت : لا والله يا ابن رسول الله ما تتابعني نفسي ولا تحملني رجلاي أن أنصرف حتى أرى أمير المؤمنين ، وبكيت. فدخل الدار ولم يلبث أن خرج فقال لي : ادخل.

فدخلت على أمير المؤمنين فإذا هو مستند معصوب الرأس بعصابة صفراء قد نزف دمه واصفرّ وجهه ، فما أدري وجهه أشدّ صفرة أم العصابة؟ فأكببت عليه فقبّلته وبكيت. فقال لي : لا تبك يا أصبغ فإنها والله الجنة! فقلت له : جعلت فداك ، إني أعلم والله إنك تصير إلى الجنة ، وإنما أبكي لفقداني إياك يا أمير المؤمنين (١).

كتاب وصيّته عليه‌السلام :

روى الهلاليّ العامري في كتابه أنّه شهد الإمام عليه‌السلام حين أوصى إلى ابنه الحسن وأشهد عليه أهل بيته وجميع ولده ومنهم الحسين ومحمد ، ورؤساء شيعته ، فدفع إليه سلاحه وكتبه وقال له :

__________________

ـ الرضا عليه‌السلام : أنّ عليا عليه‌السلام عاد صعصعة في مرضه فقال له ذلك ، وأجابه صعصعة بمقاله هذا! فهل تكرّر مثله؟! وفي الكافي ٧ : ٤٩ أنّ الإمام أشهده على وصيّته.

(١) أمالي المفيد : ٣٥١ ، الحديث ٣ م ٤٢ ، وعنه الطوسي في أماليه : ١٢٢ ، الحديث ١٩١ م ٥ ، وللخبر تتمّة في الفضائل.


يا بنيّ ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما أوصى إليّ ودفع إليّ كتبه وسلاحه أمرني أن أوصي إليك وأدفع كتبي وسلاحي إليك ، وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين.

وكان ممن حضر مع الحسين ابنه علي بن الحسين صغيرا فأقبل علي عليه‌السلام على الحسين وقال له : وأمرك رسول الله أن تدفعها إلى ابنك هذا وأخذ بيد ابنه علي بن الحسين ، وقال له : وأمرك رسول الله أن تدفعها إلى ابنك محمد ، فاقرأه من رسول الله ومني السلام. ثمّ عاد إلى ابنه الحسن وقال له : يا بنيّ ، أنت «وليّ الأمر» ووليّ الدم بعدي ، فإن عفوت فلك ، وإن قتلت فضربة مكان ضربة ، ولا تمثّل به ، ثمّ قال له : اكتب :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، هذا ما أوصى به عليّ بن أبي طالب : أوصى : أنّه يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله (أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(١) ثمّ (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)(٢).

ثمّ أوصيك ـ يا حسن ، وجميع ولدي وأهل بيتي ومن بلغه كتابي من المؤمنين ـ بتقوى الله ربكم (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(٣) ، (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(٤) فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصوم ، وإن البغضة حالقة الدين وفساد ذات البين» ولا قوة إلّا بالله.

__________________

(١) التوبة : ٣٣ ، والصف : ٩.

(٢) الأنعام : ١٦٢ ـ ١٦٣.

(٣) البقرة : ١٣٢.

(٤) آل عمران : ١٠٣.


انظروا ذوي أرحامكم فصلوهم يهوّن الله عليكم الحساب.

والله الله في الأيتام فلا تغبّوا أفواههم ، ولا تضيعوا من بحضرتكم ، فقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «من عال يتيما حتّى يستغني أوجب الله له بذلك الجنة ، كما أوجب لآكل مال اليتيم النار».

والله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم.

والله الله في جيرانكم ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أوصى بهم.

والله الله في بيت ربّكم فلا يخلونّ منكم ما بقيتم ، فإنّه إن يترك لم تناظروا ، وإنّ أدنى ما يرجع به من أمه أن يغفر له ما قد سلف.

والله الله في الصلاة فإنها خير العمل ، وإنها عمود دينكم.

والله الله في الزكاة فإنها تطفي غضب ربكم.

والله الله في شهر رمضان فإن صيامه جنّة من النار.

والله الله في الفقراء والمساكين فشاركوهم في معيشتكم.

والله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ، فإنما يجاهد في سبيل الله رجلان : إمام هدى ومطيع له مقتد بهداه.

والله الله في ذريّة نبيّكم ، فلا يظلمنّ بين أظهركم وأنتم تقدرون على الدفع عنهم (١)!

والله الله في أصحاب نبيّكم الذين لم يحدثوا حدثا ولم يؤوا محدثا! فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أوصى بهم ، ولعن المحدث منهم ومن غيرهم والمؤوي للمحدث!

__________________

(١) وكأنّه عليه‌السلام كنّى بذلك عن كون إمام الهدى بعده من ذريّة نبيّهم ولكن لا أمل في حكمه! بل غاية ما يتوقع منهم أن يدافعوا عنهم فلا يظلموا بمحضرهم وبين أظهرهم! وأنّهم قد لا يقدرون حتّى على الدفع عنهم.


والله الله في النساء وما ملكت أيمانكم! ولا تخافنّ في الله لومة لائم فيكفيكم الله وقولوا للناس حسنا كما أمركم الله. ولا تتركنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولّي الله الأمر أشراركم فتدعون فلا يستجاب لكم (١)!

يا بنيّ ، عليكم بالتواصل والتباذل والتبارّ ، وإياكم والنفاق والتقاطع ، والتدابر والتفرّق ، و (تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٢).

حفظكم الله من «أهل بيت» وحفظ فيكم نبيّكم. أستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام» (٣).

أملاها الإمام وكتبها كاتبه عبيد الله بن أبي رافع (٤).

وقد مرّ في صدر هذا الخبر أنّه عليه‌السلام دفع إلى الحسن عليه‌السلام سلاحه وكتبه ، وروى الكليني بنسختين عن الصادق عليه‌السلام : أنّه عليه‌السلام لمّا أراد الخروج من المدينة إلى العراق (البصرة) استودع وصيّته وكتبه عند أم سلمة ، فكانت عندها حتى رجع الحسن عليه‌السلام إلى المدينة فدفعتها إليه. فلعلها وصية وكتب أخرى.

__________________

(١) وكأنّه عليه‌السلام يكنّي بذلك عن أن الذي يدفع إمام الهدى من ذريّة نبيّهم (الحسن عليه‌السلام) هو من يدّعي صحبة النبيّ ولكنه ملعون على لسانه : لأنّه محدث ويؤوي المحدثين منهم ، وهم لا ينكرون منكراته فيستولي عليهم.

(٢) المائدة : ٢.

(٣) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٩٢٤ ـ ٩٢٧ ، الحديث ٦٩ ، وتخريجه في ٣ : ١٠١٣ وفي نهج البلاغة ك ٤٧ ، ومصادره في المعجم المفهرس : ١٣٩٧ ، وفي فروع الكافي ٧ : ٥١ عن الإمام الكاظم عليه‌السلام كما عنه في بحار الأنوار ٤٢ : ٢٤٨.

(٤) مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٤٨ ، الحديث ٣١ عن الكلبي عن الباقر عليه‌السلام.


وروى عن الباقر عليه‌السلام أنه قال لابنه الحسن : ادن منّي حتى اسرّ إليك ما أسرّ رسول الله إليّ ، وائتمنك على ما ائتمنني عليه ، فدنا منه فأسرّ إليه (١).

وخبر الهلالي العامري كان يتضمّن حضوره في الوصية الأخيرة للإمام عليه‌السلام ، وفي خبر آخر عن الأصبغ بن نباتة المجاشعي التميمي ما يفيد أنّه كان حاضرا في الوصية الأخيرة ليلة الوفاة ، قال : دعا الحسن والحسين عليهما‌السلام وقال لهما : إنّي مقبوض في ليلتي هذه ولاحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاسمعا قولي وعياه : يا حسن أنت وصيّي والقائم بالأمر بعدي ، وأنت يا حسين شريكه في الوصية (ولكن) انصت ما نطق وكن لأمره تابعا ما بقي ، فإذا خرج من الدنيا فأنت الناطق بعده والقائم بالأمر.

ثمّ قال للحسن : إنك وليّ الأمر بعدي ، فإن عفوت عن قاتلي فذاك ، وإن قتلت فضربة مكان ضربة ، وإياك والمثلة ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عنها ولو بكلب عقور! واعلم أنّ الحسين معك وليّ الدم يجري فيه مجراك ، وقد جعل الله تبارك وتعالى له سلطانا على قاتلي كما جعل لك. وإن ابن ملجم ضربني ضربة فلم تعمل فثنّاها فعملت ، فإن عملت فيه ضربتك فذاك ، وإن لم تعمل فمر أخاك الحسين فليضربه اخرى بحقّ ولايته فإنها ستعمل فيه. وإن الإمامة له بعدك وجارية في ولده إلى يوم القيامة.

وإياك أن تقتل بي غير قاتلي فإن الله عزوجل يقول : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)(٢).

__________________

(١) أصول الكافي ١ : ٢٩٨ الحديث ٢ و ٣ و ٤.

(٢) الدر النظيم في الأئمة اللهاميم للشيخ يوسف الشامي العاملي تلميذ المحقّق الحلي (ق ٨ ه‍).

وفي الخرائج والجرائح ١ : ١٨٣ : عن الباقر عليه‌السلام أن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حال احتضاره جمع أهل بيته (بنيه ظ) وهم اثنا عشر ذكرا وقال : إنّ الله أحبّ أن يجعل فيّ سنة من نبيّه يعقوب ، إذ جمع بنيه وهم اثنا عشر فقال : إني اوصي إلى يوسف فاستمعوا له وأطيعوا أمره. وإني اوصي إلى الحسن والحسين ، فاسمعوا لهما وأطيعوا أمرهما.


وروى المفيد بسنده عن مولى الإمام عليه‌السلام قال : لمّا حضرته الوفاة قال للحسن والحسين : إذا أنا متّ (فضعاني) على سريري واحملا مؤخّر السرير فإنكما تكفيان مقدّمه (حتّى تبلغا) بي الغريّين (١) فتريان صخرة بيضاء تلمع نورا! فاحتفرا فيها ، فإنكما تجدان فيها (خشبة) ساجة ، فادفناني فيها (٢) وقال : وكان الحسن وصيّ أبيه على أهله وأصحابه ووصّاه بالنظر في وقوفه وصدقاته (٣).

وفاته وغسله ودفنه :

قال اليعقوبي : أقام الإمام عليه‌السلام بعد ضربته يومين ، وتوفى في أول ليلة من العشر الأواخر من شهر رمضان سنة أربعين ، ومن شهور العجم في كانون الثاني (اليوناني) وهو ابن ثلاث وستين سنة. وغسله الحسن عليه‌السلام بيده ، وصلّى عليه وكبّر سبعا وقال : أما إنّه لا يكبّر (سبعا) على أحد بعده ، ودفن (بظهر) الكوفة في موضع يقال له الغريّ (٤).

__________________

(١) الغريّان تثنية الغريّ وهو فعيل بمعنى المفعول من الغري أي الطلاء والصبغ ، وهما قبران قائمان لنديمي المنذر بن امرئ القيس ملك الحيرة في النجف بظهر الكوفة. معجم البلدان ٤ : ١٩٨. والنسبة إليها : الغروي ، واصطلح بها على أهل العلم منها.

(٢) الإرشاد ١ : ٢٣ ـ ٢٤.

(٣) الإرشاد ٢ : ٧ وكتابه بوصيته هذه في مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٥١ ـ ٥٦ ، الحديث ٣٥ ـ ٣٨ لعشر خلون من جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين في مسكن! ولكن في نهج البلاغة ك ٢٤ عن فروع الكافي ٧ : ٤٩ : في منصرفه من صفين ، فهو في سنة سبع وثلاثين وليس سنة تسع وثلاثين.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١٢ ـ ٢١٣ ، ولتحقيق تاريخ الوفاة انظر قاموس الرجال : ١٢ : الرسالة : ٢٨ ـ ٣١ وإذا كان المقتل في كانون الثاني فهو في الشتاء.


وقال ابن قتيبة : وغسله الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية وعبد الله بن جعفر ، وكفّن في ثلاثة أثواب بلا قميص ، وصلّى عليه ابنه الحسن. وعمّى قبره مخافة أن تنبشه الخوارج (١).

وروى الاصفهاني بسنده عن أبي مخنف : أنّه عليه‌السلام توفى في ليلة الأحد لإحدى وعشرين ليلة مضت من شهر رمضان ، وولي غسله ابنه الحسن وعبد الله بن العباس (فيظهر أنه قد حضر) (٢) وكفّن في ثلاثة أثواب بلا قميص ، وصلّى عليه ابنه الحسن وكبّر خمس تكبيرات ، ودفن ... عند صلاة الصبح (٣).

ولكن روى ابن أبي الدنيا بسنده عن الباقر عليه‌السلام : أنّ الحسن عليه‌السلام غسل عليا بيده ، وكفّنه في قميص ولفّافتين. ونقل قبله عن الشعبي : أنّ عليّا أوصى الحسن أن يغسّله وأن لا يغالي في الكفن قال : فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سلبا سريعا» وامشوا بي بين المشيتين : لا تسرعوا بي ولا تبطئوا بي (٤).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ١٦١.

(٢) ولقد تعقّبنا ابن عباس حتى هذا المحضر فلم نجد فترة لفتور روابطه بالإمام عليه‌السلام.

فلم نجد مصداقا لاتّهامه باختلاس مال البصرة وانظر للتفصيل : عبد الله بن العباس للعلّامة الفاني ، وعبد الله بن العباس للسيد محمد تقي الحكيم ، وابن عباس وأموال البصرة للسيد جعفر مرتضى العاملي. وسيأتي الصحيح فيه بعد صلح الحسن عليه‌السلام.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٢٥ ـ ٢٦.

(٤) مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٧٣ ، الحديث ٦٥ و ٦٦. وهنا أي في وفاة الإمام عليه‌السلام روى الكليني في الكافي بسنده عن عمر بن إبراهيم الهاشمي (كذا) عن عبد الملك بن عمير ، عن أسيد بن صفوان صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لما كان اليوم الذي قبض فيه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، دهش الناس كيوم قبض فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وارتجّ الموضع بالبكاء ، وجاء رجل مسرعا باكيا مسترجعا حتّى وقف على باب البيت الذي فيه أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : رحمك الله يا أبا الحسن! إلى آخر الخبر. ونقله الصدوق في أماليه وكماله.


فخرجوا به جوف الليل من منزله ومرّوا به على مسجد الأشعث حتّى خرجوا إلى ظهر الكوفة (١) وجعلوا يحملون مؤخّر سريره ويكفون مقدّمه وهم يسمعون دويّا وحفيفا لغيرهم حتّى حضروا موضع القبرين الغريّين لنديمي المنذر بن امرئ القيس ملك الحيرة المقتولين بأمره سكرانا ، قبل الإسلام ، فإذا صخرة بيضاء تلمع نورا كما وصف الإمام في وصيته إليهم ، فاحتفروا الموضع فإذا بخشبة ساجة مكتوب عليها : هذا ما ادّخره نوح لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام (٢).

ودخل القبر الحسنان عليهما‌السلام وابن الحنفية وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهما ، ودفنوه قبل طلوع الفجر (٣) وألحدوه في ناحية القبلة وأسنده بسبع لبنات (٤)! ثمّ عادوا إلى الكوفة حين الفجر (٥).

__________________

ـ وفي ترجمة أسيد بن صفوان الصحابي في قاموس الرجال ٢ : ١٤٣ برقم ٩٢١ نقل عن الاستيعاب عن عمر بن إبراهيم بن خالد (الكردي لا الهاشمي) عن عبد الملك عن اسيد بن صفوان : أنه لما قبض أبو بكر ارتجّت المدينة بالبكاء ودهش القوم كيوم قبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأقبل عليّ بن أبي طالب مسرعا باكيا مسترجعا حتّى وقف على باب البيت فقال : رحمك الله يا أبا بكر ، إلى آخر الخبر بطوله!

واعترف الدار قطني والخطيب والذهبي بكذب الراوي الكردي عمر بن إبراهيم وهو أصل الخبر. وأرى الخبر لا يلائم الخبر المعتبر في وفاة الإمام عليه‌السلام بين أهله في أوائل الليل ، فلذا تركته.

(١) مقاتل الطالبيين : ٢٦ ، وعنه في الإرشاد ١ : ٢٥.

(٢) الإرشاد ١ : ٢٣ باسناده إلى مولاه عليه‌السلام ، ولعلهم قرءوا المكتوب بنور الصخرة ، ولعلّه كان بخطّ عربي.

(٣) الإرشاد ١ : ٢٤ ـ ٢٥ بإسناده عن الباقر عليه‌السلام وهو الذي كشف للناس موضع قبره.

(٤) مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٧٣ ، الحديث ٦٦ عن الباقر عليه‌السلام أيضا.

(٥) المصدر السابق : ٨١ ، الحديث ٧٢ عن الكلبي.


خطبة الحسن عليه‌السلام في وفاة أبيه :

روى ابن أبي الدنيا عن الشعبي : أن صلاة الفجر يوم وفاة الإمام عليه‌السلام صلّاها الحسن عليه‌السلام (١) ورقى المنبر بعد الصلاة في ثياب سود (٢) فقام وقال :

الحمد لله حمدا كثيرا على ما أحببنا وكرهنا ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، والحمد لله رب العالمين ، وإني أحتسب عند الله مصابي بأفضل الآباء بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ اعلمنّ ـ يا معشر من حضر ـ : أنّه قد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه أحد كان قبله ، ولم يخلّف بعده مثله ، وهو علي حبيب رسول الله وأخوه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنحتسب عند الله ما دخل علينا «أهل البيت» خاصّة ، وما دخل على جميع أمّة محمّد عامّة ، فو الله لا أقول اليوم إلّا حقّا : لقد دخلت مصيبته على جميع العباد والبلاد ، والشجر والدوابّ! فنسأل الله البرّ الرحيم أن يرحم وجهه ، وأن يعذّب قاتله ، وأن يحسن علينا الخلافة من بعده (٣).

أما والله لقد قتلتم الليلة رجلا في ليلة نزل فيها القرآن ، ورفع فيها عيسى بن مريم ، وفيها قتل يوشع بن نون فتى موسى عليهم‌السلام (٤).

لقد فارقكم بالأمس رجل ما سبقه الأوّلون ولا يدركه الآخرون (ولقد) كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليدفع الراية إليه فيمضي وجبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره ، فما يبرح حتّى يفتح الله عزوجل عليه ، وما ترك صفراء ولا بيضاء

__________________

(١) مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٩٣ ، الحديث ٨٧.

(٢) المصدر السابق : ٩٥ ، الحديث ٨٩ عن عاصم بن أبي النجود الكوفي الاصفهاني ، القارئ المعروف. وفي عمامة سوداء ، بلا ذكر الثياب عن مسند أحمد ١ : ١٩٩ ، وكشف الأستار للبزّار : ٢٥٠ في حاشية مقتل الإمام : ٩٤ ، الحديث ٨٨ ، وخصائص النسائي : ٦.

(٣) المصدر السابق : ٩٣ ـ ٩٤ ، الحديث ٨٧ عن الشعبي.

(٤) المصدر السابق : ٩٤ ـ ٩٥ ، الحديث ٨٨.


غير سبعمائة درهم كان أرصدها في خادم (١) يشتريه لأهله (٢) ثمّ خنقته العبرة فبكى ، وبكى معه الناس.

ثمّ قال : أيّها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنا ابن البشير ، أنا ابن النذير ، أنا ابن الداعي إلى الله عزوجل بإذنه ، وأنا ابن السراج المنير ، وأنا من «أهل البيت» الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، والذين افترض الله مودّتهم في كتابه إذ يقول : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً)(٣) فاقتراف الحسنة : مودّتنا «أهل البيت» (٤) ثمّ جلس.

وزاد أبو مخنف بسنده : أن عبد الله بن العباس كان حاضرا فقام بين يدي الحسن عليه‌السلام (٥) والتفت إلى الناس وناداهم : معاشر الناس ، هذا ابن بنت نبيّكم ، و (وصيّ) إمامكم فبايعوه.

فاستجاب له الناس وقالوا : ما أحبّه إلينا وأوجب حقّه علينا ، وتبادروا إلى البيعة له بالخلافة (٦).

__________________

(١) مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٩٥ ـ ٩٦ ، الحديث ٩٠.

(٢) المصدر السابق : ٩٢ ـ ٩٣ ، الحديث ٨٦. ونقلها (اليعقوبي) في تاريخه ٢ : ٢١٣ ، وبعضها ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ١ : ١٦٢ ، والمسعودي في مروج الذهب ٢ : ٤١٤ وقال : وكان كما قال الحسن عليه‌السلام. والخادم أعم من الذكر والأنثى.

(٣) الشورى : ٢٣.

(٤) المستدرك للحسكاني ٣ : ١٧٢ عن الإمام السجاد عليه‌السلام ، وقبله في الذرية الطاهرة : ١١٠ عن زيد بن الحسن ، وفي تفسير فرات : ١٩٧ و ١٩٨ ، وفي أمالي الطوسي : ٢٦٩ ، الحديث ٣٩ م ١٠.

(٥) مقاتل الطالبيين : ٣٢ ـ ٣٣ بخمسة طرق ومنها عن بني الحسن عليه‌السلام.

(٦) الإرشاد ٢ : ٨. واختلفت رواية البلاذري عنه قال : خرج عبيد الله بن العباس للناس


وخطبتاه قبل البيعة له وبعدها :

وروى الصدوق ، عن ابن عقدة ، عن عوانة بن الحكم بسنده قال : لما قام الناس ليبايعوا الحسن عليه‌السلام قام فخطبهم فقال : «الحمد لله على ما قضى من أمر ، وخصّ من فضل وعمّ من أمر ، وجلّل من عافية ، حمدا يتمّ به علينا نعمه ، ونستوجب به رضوانه. إن الدنيا دار بلاء وفتنة ، وكل ما فيها إلى زوال ، وقد نبّأنا الله عنها كيما نعتبر ، فقدّم إلينا الوعيد كي لا تكون لنا حجة بعد الإنذار ، فازهدوا فيما يفنى وارغبوا فيما يبقى ، وخافوا الله في السرّ والعلانية.

إنّ عليّا عليه‌السلام في المحيا والممات والمبعث عاش بقدر ومات بأجل.

وإني أبايعكم على أن تسالموا من سالمت وتحاربوا من حاربت» فبايعوه على ذلك (١).

وكان أول من بايعه قيس بن سعد الأنصاري قام إليه وقال له : ابسط يدك ابايعك على كتاب الله وسنة نبيّه وقتال المحلّين! فقال الحسن عليه‌السلام : على كتاب الله وسنّة نبيّه ، فإن ذلك يأتي على كلّ شرط. فسكت قيس وبايعه (٢).

__________________

ـ فقال لهم : توفّى أمير المؤمنين برّا تقيا وعدلا مرضيا أحيا سنة ابن عمه ونبيّه وقضى بالحقّ في أمّته ، وقد ترك خلفا رضيا مباركا حليما ، فإن كرهتم فليس أحد على أحد! وإن أحببتم خرج إليكم (؟) فتبايعوه. فقالوا : يخرج عزيزا مطاعا! فخرج الحسن وخطبهم فبايعوه!

ونرى هذا موضوعا على مذهب الإمامة بالاختيار ، في مقابل الخبر السابق عنه بالوصاية.

(١) التوحيد : ٣٨٧.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ١٥٨ مرسلا. وأسند البلاذري عن عوانة بن الحكم والكلبي عن أبي مخنف بسنده قال : قام قيس فخطب فوصف فضل علي وسابقته وقرابته ، والذي


وبعد بيعة الناس له خطبهم فقال : نحن حزب الله الغالبون وعترة رسوله الأقربون ، وأهل بيته الطيّبون الطاهرون ، وأحد الثقلين الذين خلّفهما رسول الله في أمّته ، التالي كتاب الله ... فالمعوّل علينا في تفسيره ، لا نتظنّى تأويله بل نتيقّن حقائقه ، فاطيعونا ، فإنّ طاعتنا مفروضة ، إذ كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة ، قال الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)(١) وقال : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(٢).

وأحذّركم الإصغاء لهتاف الشيطان فإنه لكم عدو مبين ، فتكونوا أولياءه الذين قال لهم : (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ)(٣) فتلقون للرماح ورزا وللسيوف جزرا ، وللعمد حطما وللسهام غرضا (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً)(٤) ثمّ سكت ونزل (٥) ثمّ زاد أجورهم مائة مائة (٦).

__________________

ـ كان عليه في هديه وعدله وزهده. ثمّ قرض الحسن ووصف حاله ومكانه من رسول الله ، والذي هو أهله في هديه وحلمه واستحقاقه الأمر بعد أبيه ، ورغّبهم في بيعته ودعاهم إلى طاعته ، ثمّ كان أول من بايعه.

(١) النساء : ٥٩.

(٢) النساء : ٨٣.

(٣) الأنفال : ٤٨.

(٤) الأنعام : ١٥٨.

(٥) أمالي المفيد : ٣٤٨ ، الحديث ٤ م ٤١ ، وعنه في أمالي الطوسي ، الحديث ١٨٨ و ١٤٦٩.

(٦) مقاتل الطالبيين : ٣٢ ، ولم يكن قبله وإنما تبعه من بعده.


ثمّ أقدم على ابن ملجم :

روى ابن أبي الدنيا : أن ابن ملجم جعل عند عبد الله بن جعفر (١) وعن الباقر عليه‌السلام قال : أمر الحسن عليه‌السلام بابن ملجم فأتى به ، فضربه ضربة فأندر أصابعه ، فثنّاها فقتله (٢) ثمّ ادرج في بورياء فأحرق (٣) فرأوه مسودّ الوجه (٤).

وروى أبو الفرج ، عن أبي مخنف : أنّ امرأة من النخع من همدان تدعى أم الهيثم بنت الأسود استوهبت جيفته بعد ضرب عنقه ، فوهبها لها ، فأحرقت جثته بالنار (٥) وسوّدت وجهه.

وقال البلاذري : لما اخرج ابن ملجم للقتل اجتمع الناس وجاءوا معهم ببواري ونفط ونار وجعلوه في البواري أو في قوصرة كبيرة للتمر من سعف النخيل فأحرقوه (٦).

__________________

(١) مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٨٣ ، الحديث ٧٤.

(٢) المصدر السابق : ٩٠ ، الحديث ٨٣ ولها تتمّة غير تامّة تشعر بشعور الحسن بالذنب من الضربتين. ومثل صدره في اليعقوبي ٢ : ٢١٤.

(٣) مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٨٦ ، الحديث ٧٧.

(٤) المصدر السابق : ٨٨ ، الحديث ٧٨.

(٥) مقاتل الطالبيين : ٢٦ ، ويبدو عنه في الإرشاد ١ : ٢٢.

(٦) أنساب الأشراف ٢ : ٤٠٥ ، الحديث ٥٨٩ ، وهي أول بادرة لذكر النفط في الكوفة ، ولعلّ عنه في مروج الذهب ٢ : ٤١٥ : ثمّ أخذه الناس وأدرجوه في بواري وطلّوها بالنفط وأشعلوها بالنار. وراجع تحقيق المحقّق المحمودي في تحريق ابن ملجم والتمثيل به وعدمه في حواشيه على هذا الخبر في أنساب الأشراف ، ومقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٨٤ ـ ٨٨.


نعي الإمام إلى المدينة والشام :

وذهب بنعي الإمام عليه‌السلام إلى الحجاز ابن أخي سعد بن أبي وقاص : سفيان بن عبد شمس الزهري ، فلما بلغ نعيه عائشة تمثّلت :

فألقت عصاها واستقرّ بها النوى

كما قرّ عينا بالإياب المسافر

ثمّ سألت عن قاتله فقيل لها : رجل من مراد ، فقالت :

فإن يك نائيا فلقد نعاه

غلام ليس في فيه التراب

وكانت زينب بنت أم سلمة حاضرة فقالت لها : ألعليّ تقولين هذا؟ فقالت : إذا نسيت فذكّروني. ثمّ تمثّلت :

ما زال إهداء القصائد بيننا

باسم الصّديق وكثرة الألقاب

حتّى تركت ، كأنّ قولك فيهم

في كل مجتمع طنين ذباب (١)

وأمّا نعيه عليه‌السلام في الشام فقد بلغ نعيه معاوية وهو متّكئ في مجلسه ولعلّه لما به من علاج أليته ، فاستوى جالسا والتفت إلى مغنيته وقال لها : يا جارية غنّيني فاليوم قرّت عيني (٢).

ولعلّ هذا أثار أبا الأسود الدؤلي البصري فقال معرّضا به :

ألا أبلغ معاوية بن حرب

فلا قرّت عيون الشامتينا

قتلتم خير من ركب المطايا

وأكرمهم ومن ركب السفينا

__________________

(١) ذكر بعضه أو كله في الطبقات الكبرى ٣ : ٤٠ ، والموفّقيات : ١٣١ مسندا وأنساب الأشراف ٢ : ٤٠٧ ، ذيل الحديث ٥٩٩ وتاريخ الطبري ٥ : ١٥٠ ، ومقاتل الطالبيين : ٢٦.

(٢) تشييد المطاعن ٢ : ٤٠٩ ، وقد مرّ عن اليعقوبي أن قتله عليه‌السلام كان في كانون الثاني أي في الشتاء ، وخلافا لذلك نقل ابن أبي الدنيا : أن معاوية جاءه نعي الإمام وهو مع امرأته في نوم قيلولة في ضحى يوم صائف! فاسترجع وقال : ما ذا فقدوا من الخير والعلم والفضل والفقه! وما فقدوا من سوابقه وعلمه وفضله ١ : ١٠٥ ، الحديث ٩٤.


ومن لبس النعال ومن حذاها

ومن قرأ المثاني والمئينا

وقد علمت قريش أين حلّت

بأنّك خيرها حسبا ودينا (١)

أفي شهر الصيام فجعتمونا

بخير الناس طرّا أجمعينا

إذا استقبلت وجه أبي حسين

رأيت البدر راع الناظرينا (٢)

ودعا معاوية الناس إلى بيعته فبايعوه لخمس خلون من شوال سنة أربعين (٣).

بيعة الحسن عليه‌السلام بالحرمين :

مرّ في الأخبار السابقة : أنّ الإمام عليه‌السلام كان قد سرّح معقل بن قيس الرياحي التميمي في حشر الناس من السواد إلى الكوفة ليتجهّزوا لغزو الشام ، وأصيب الإمام عليه‌السلام فعاد إليها.

وكان قد أرسل جارية بن قدامة السعدي التميمي لتعقيب بسر بن أبي أرطاة العامري ، ووصل جارية إلى جرش في اليمن فخرج بسر منها إلى مكة ، فأقبل جارية حتّى دخل مكة وخرج بسر منها إلى اليمامة ، ويظهر أن وصول جارية إلى مكة كان بعد شهر رمضان ولعلّه في أوائل شهر شوال ، وغريب أن كان قد بلغهم مقتل الإمام علي عليه‌السلام ولم يبلغهم بيعة الناس بعده.

فقام جارية على منبر مكة وقال لهم : يا أهل مكة! مع من أنتم؟ قالوا : كانت بيعتنا لكم ورأينا معكم ، فجاء هؤلاء القوم ودخلوا علينا فلم نقم لهم وقهرونا على البيعة لهم وبيعتكم قبلهم.

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٤٠٩ ، الحديث ٥٩٢.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ١٥٠ ـ ١٥١ ، وفي ديوانه : ٣٢.

(٣) الإمامة والسياسة ٢ : ١٦٢.


فقال لهم : إنّما مثلكم مثل الذين (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ)(١) قوموا فبايعوا. قالوا : أليس قد هلك أمير المؤمنين رحمة الله عليه فلمن نبايع رحمك الله! ولا ندري ما صنع الناس بعده. قال : وما عسى أن يصنعوا إلّا أن يبايعوا الحسن بن علي ، قوموا فبايعوا. فبايعوه للحسن عليه‌السلام.

فخرج منها إلى المدينة ، وكان أهل المدينة بعد خروج أبي أيوب الأنصاري منها قد اصطلحوا على أبي هريرة الدوسي للصلاة بهم ، ولكنه لما بلغه توجّه جارية إلى المدينة توارى خوفا منه! ودخل جارية ولعلّه بلغته شماتة عائشة بقتل الإمام عليه‌السلام فصعد منبرها فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر رسول الله فصلّى عليه ثمّ قال لهم :

أيّها الناس ، إنّ عليا رحمه‌الله ـ يوم ولد ويوم توفّاه الله ويوم يبعث حيا ـ كان عبدا من عباد الله الصالحين ، عاش بقدر ومات بأجل ، فلا يهنأ الشامتين هلاك سيد المسلمين وأفضل المهاجرين ، وابن عمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. أما والذي لا إله إلّا هو لو أعلم الشامت منكم لتقرّبت إلى الله عزوجل بسفك دمه وتعجيله إلى النار! ثمّ قال لهم : قوموا فبايعوا للحسن بن علي. ثمّ أقام يومه ذلك يبايعه الناس. ثمّ غدا منها منصرفا إلى الكوفة ، وإذ لم يعيّن لهم أحدا عاد أبو هريرة يصلّي بهم!

وأخذ بسر من اليمامة طريق السماوة ومنها إلى الشام وقد قتل في غارته هذه ثلاثين ألفا (٢).

وأقبل جارية إلى الكوفة حتّى دخل على الحسن عليه‌السلام فعزّاه بأبيه وبايعه ثمّ قال له : يرحمك الله سر بنا إلى عدوّك قبل أن يسار إليك! فقال له : لو كان الناس كلّهم مثلك سرت بهم (٣).

__________________

(١) البقرة : ١٤.

(٢) الغارات ٢ : ٦٣٨ ـ ٦٤٠.

(٣) المصدر السابق ٢ : ٦٤٣.



عهد الإمام المجتبى عليه‌السلام



قال المفيد : تبادروا إلى بيعة الحسن عليه‌السلام بالخلافة ، وذلك يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة أربعين للهجرة ، فأنفذ عبد الله بن العباس إلى البصرة ، ورتّب العمال وأمر الأمراء ونظر في الأمور (١).

وروى البلاذري بثلاثة طرق منها عن الكلبي ، عن أبي مخنف بإسناده قال : ثمّ مكث أكثر من خمسين ليلة ـ أي إلى نحو النصف من ذي القعدة ـ قاعدا عن تعقيب المسير إلى الشام.

فكتب إليه ابن عباس من البصرة كتابا يعلمه فيه :

«أما بعد ، فإن المسلمين ولّوك أمورهم بعد علي عليه‌السلام فشمّر للحرب وجاهد عدوّك ، وقارب أصحابك ، واشتر من الظنين دينه بما لا يثلم لك دينك ، وولّ أهل البيوتات والشرف تستصلح به عشائرهم حتّى تكون الجماعة ، فإنّ بعض ما يكره الناس (من ذلك ولكن) كانت عواقبه تؤدّي إلى ظهور العدل وعزّ الدين ،

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ٩.


خير من كثير مما يحبّه الناس (من التسوية) إذا كانت عواقبه تدعو إلى ظهور الجور ووهن الدين (١) وذل المؤمنين وعزّ الفاجرين. واقتد (في ذلك) بما جاء عن أئمة العدل : فقد جاء عنهم : أنه لا يصلح الكذب إلّا في إصلاح بين الناس أو حرب ، فإن الحرب خدعة ، فلك في ذلك سعة إذ كنت محاربا ، ما لم تبطل حقا ولم تتعدّ الحق.

واعلم أنّ عليّا أباك إنّما رغب الناس عنه إلى معاوية لأنّه آسى (٢) بينهم في الفيء وسوّى بينهم في العطاء فثقل عليهم.

واعلم أنك تحارب من حارب الله ورسوله في ابتداء الإسلام ، حتّى ظهر أمر الله ، فلما وحّد الربّ ومحق الشرك وعزّ الدين أظهروا الإيمان وقرءوا القرآن مستهزئين بآياته! وقاموا إلى الصلاة وهم كسالى! وأدوا الفرائض وهم لها كارهون! فلما رأوا أنه لا يعزّ في الدين إلّا الأتقياء الأبرار توسّموا بسيماء الصالحين ليظنّ المسلمون بهم خيرا! فما زالوا بذلك حتّى أشركوهم في أمانتهم وقالوا : حسابهم على الله! فإن كانوا صادقين فاخواننا في الدين ، وإن كانوا كاذبين كانوا بما اقترفوا هم الأخسرين! وقد منيت بأولئك وبأبنائهم وأشباههم ، والله ما زادهم طول العمر إلّا غيّا ، ولا زادهم ذلك لأهل الدين إلّا مقتا! فجاهدهم ولا ترض دنية ولا تقبل خسفا! فإنّ عليا عليه‌السلام لم يجب إلى الحكومة حتّى غلب على أمره فأجاب وإنّهم (كانوا) يعلمون أنه أولى بالأمر إن حكموا بالعدل ، فلما حكم بالهوى رجع إلى ما كان عليه ، حتى أتى عليه أجله.

__________________

(١) إلى هنا في عيون الأخبار للدينوري ١ : ١٤ مرسلا.

(٢) الفتوح لابن الأعثم ٤ : ١٤٨ ، ومناقب الحلبي ٤ : ٣٦ عن أبي مخنف. وفي شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢٣ : أساء! تصحيف أو تحريف.


فلا تخرجنّ من حقّ أنت أولى به حتّى يحول الموت دون ذلك! والسلام» (١).

فكتب الحسن عليه‌السلام إلى معاوية يعلمه أنّ الناس قد بايعوه بعد أبيه ، ويدعوه إلى طاعته.

كتابه إلى معاوية :

«من عبد الله الحسن أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان ، سلام عليك ، فإني أحمد الله الذي لا إله إلّا هو. أما بعد ، فإن الله عزوجل بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله رحمة للعالمين ، ومنّة على المؤمنين ، وكافّة إلى الناس أجمعين (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ)(٢).

فبلّغ رسالات الله وقام على أمر الله حتى توفاه الله غير مقصّر ولا وان ، حتى أظهر الله به الحقّ ومحق به الشرك ، ونصر به المؤمنين ، وأعزّ به العرب ، وشرّف به قريشا خاصة فقال تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ)(٣).

فلما توفى تنازعت العرب سلطانه : فقالت قريش : نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه ، ولا يحلّ لكم أن تنازعونا سلطان محمد في الناس وحقه. فرأت العرب : أن القول كما قالت قريش ، وأنّ الحجّة لهم في ذلك على من نازعهم أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأنعمت لهم العرب ، فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها : إنهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالانتصاف والاحتجاج ، فلما صرنا أهل بيت محمد وأولياؤه

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢٣ ـ ٢٤ عن المدائني ، وقريب منه في الفتوح لابن الأعثم ٤ : ١٤٨ ، وأشار إليه البلاذري في أنساب الأشراف ٣ : ٣٠ ـ ٣٣ ، الحديث ٤٣ وذيل ٤٤ ، والحلبي في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٦ عن أبي مخنف.

(٢) يس : ٧٠.

(٣) الزخرف : ٤٤.


إلى محاجّتهم وطلب النصف منهم باعدونا ، واستولوا بالاجتماع على ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا ، فالموعد الله وهو الوليّ النصير.

وقد تعجّبنا لتوثّب المتوثّبين علينا في حقنا وسلطان نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام (١) فأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين : أن يجد المنافقون والأحزاب بذلك مغمزا يثلمونه به ، أو يكون لهم بذلك سبب لما أرادوا به من فساده.

فاليوم فليعجب المتعجّب من توثّبك ـ يا معاوية ـ على أمر لست من أهله لا بفضل في الدين معروف ولا أثر في الإسلام محمود! وأنت ابن حزب من الأحزاب ، وابن أعدى قريش لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن الله خيّبك ، وسترد فتعلم لمن عقبى الدار ، تالله لتلقينّ عن قليل ربّك ، ثمّ ليجزينّك بما قدّمت يداك ، وما الله بظلّام للعبيد.

إن عليّا لما مضى لسبيله ـ رحمة الله عليه يوم قبض ويوم يبعث حيا ـ ولّاني المسلمون الأمر بعده (٢) فأسأل الله أن لا يزيدنا في الدنيا الزائلة شيئا ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامته. وإنما حملني على الكتاب إليك الإعذار فيما بيني وبين الله سبحانه وتعالى في أمرك ، ولك في ذلك إن فعلت الحظّ الجسيم وللمسلمين فيه صلاح ، فدع التمادي في الباطل وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي ، فإنك تعلم أني أحقّ بهذا الأمر منك عند الله ، وعند كل أوّاب حفيظ ومن له قلب منيب ، واتّق الله ودع البغي ، واحقن دماء المسلمين ، فو الله ما لك من خير في أن تلقى الله من

__________________

(١) هذا بالنسبة إلى المخاطب : معاوية ، ودفعا لتشبثاته ، ويدل عليه ما سيأتي فيه.

(٢) وهذا أيضا كلام بمقتضى حال مخاطبه معاوية وإلزام له بما التزم إقناعيا ، بل في الفتوح لابن الأعثم ٤ : ١٥١ ط ١ : وبعد ، فإن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام لما نزل به الموت ولّاني هذا الأمر بعده.


دمائهم بأكثر ممّا أنت لاقيه به ، فادخل في السلم والطاعة ، ولا تنازع الأمر أهله ومن هو أحقّ به منك ، ليطفئ الله النائرة بذلك ، وتجمع الكلمة وتصلح ذات البين ، وإن أنت أبيت إلّا التمادي في غيّك ، نهدت إليك بالمسلمين فحاكمتك ، حتّى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين» وبعث بالكتاب إليه مع جندب بن عبد الله الأزدي (١) والحارث بن سويد التيمي ، فقدما على معاوية وسلّماه الكتاب ودعواه إلى بيعة الحسن عليه‌السلام فلم يجبهما ، بل كتب في جوابه (٢).

جواب معاوية :

«من عبد الله (معاوية) أمير المؤمنين (!) إلى الحسن بن علي. سلام عليك ، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أما بعد ، فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الفضل ، وهو أحقّ الأولين والآخرين بالفضل كلّه قديمه وحديثه وصغيره وكبيره ، فقد والله بلّغ فأدّى ، ونصح وهدى ، حتّى أنقذ الله به من التهلكة ، وأنار به من العمى وهدى به من الضلالة ، فجزاه الله أفضل ما جزى نبيّا عن أمّته ، وصلوات الله عليه يوم ولد ويوم قبض ويوم يبعث حيا.

وذكرت وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتنازع المسلمين من بعده ، فرأيتك صرّحت بتهمة أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وأبي عبيدة الأمين وحواريّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) وصلحاء المهاجرين والأنصار! فكرهت ذلك لك! فإنك امرؤ عندنا وعند الناس غير ظنين! ولا المسيء ولا اللئيم! وأنا أحب لك القول السديد والذكر الجميل.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٤ ـ ٣٦ عن أبي مخنف عن جندب الأزدي ، وهو أكمل نقل.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢٤ ـ ٢٥ عن المدائني.

(٣) هذه من البوادر الأولى لإشهار هؤلاء الثلاثة بهذه الألقاب والتأكيد عليها.


إنّ هذه الأمة لما اختلفت بعد نبيها لم تجهل فضلكم ولا سابقتكم ، ولا قرابتكم من النبي ، ولا مكانتكم في الإسلام وأهله ، فرأت الأمّة أن تخرج من هذا الأمر لقريش ، لمكانها من نبيّها ، ورأى صلحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم من سائر الناس وعامتهم : أن يولّوا هذا الأمر من قريش أقدمها إسلاما (١) وأعلمها بالله! وأحبّها له! وأقواها على أمر الله! فاختاروا أبا بكر ، وكان ذلك رأي ذوي الحجى والدين والفضيلة والناظرين للامة ، فأوقع ذلك في صدوركم لهم التهمة ، ولم يكونوا بمتّهمين ولا فيما أتوا بمخطئين! ولو رأى المسلمون فيكم من يغني غناءه أو يقوم مقامه أو يذبّ عن حريم المسلمين ذبّه ؛ ما عدلوا بذلك الأمر إلى غيره رغبة عنه! ولكنّهم عملوا في ذلك بما رأوه صلاحا للإسلام وأهله! فالله يجزيهم عن الإسلام وأهله خيرا!

وقد فهمت الذي دعوتني إليه من «الصلح» فالحال بيني وبينك اليوم مثل الحال التي كنتم عليها أنتم وأبو بكر بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو علمت أنك أضبط منّي للرعيّة ، وأحوط عني في هذه الأمة ، وأحسن سياسة ، وأقوى على جمع الأموال! وأكيد للعدوّ ، لأجبتك إلى ما دعوتني إليه ، ورأيتك لذلك أهلا! ولكنّي قد علمت أني أطول منك ولاية ، وأقدم منك لهذه الأمة تجربة! وأكثر سياسة! وأكبر منك سنّا! فأنت أحقّ أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني! فادخل في طاعتي! ولك الأمر من بعدي! ولك ما في بيت مال العراق من مال بلغ ما بلغ! تحمله إلى حيث شئت! ولك خراج أيّ كور العراق شئت معونة لك على نفقتك ، يجبيها لك أمينك ويحملها إليك في كلّ سنة! ولك أن لا يستولى عليك بالإساءة ، ولا تقضى دونك الأمور ، ولا تعصى في أمر أردت به طاعة الله عزوجل! أعاننا الله وإياك على طاعته ، إنه سميع مجيب الدعاء ، والسلام».

__________________

(١) وهذه من البوادر الأولى لادّعاء سبق إسلام أبي بكر.


فروى أبو مخنف الأزدي عن جندب الأزدي قال : لما أتيت بكتاب معاوية إلى الحسن بن علي عليه‌السلام قلت له : إن الرجل سائر إليك ، فابدأ أنت بالمسير إليه حتى تقاتله في أرضه وبلاده وعمله. فقال : أفعل ، وقعد (١).

جاسوسا معاوية :

وفي أيام متقاربة اكتشف لمعاوية في العراقين الكوفة والبصرة عينان بصيران جاسوسان ، ودلّ على الذي في الكوفة وهو رجل من حمير الشام عند رجل قصّاب لبني جرير ، فأخذ الحميري وأمر الإمام الحسن عليه‌السلام بقتله ، ثمّ كتب إلى معاوية :

«أما بعد ، فإنك دسست إليّ الرجال كأنك تحبّ اللقاء! وما أشك في ذلك ، فتوقّعه إن شاء الله ، وقد بلغني أنك شمتّ بما لا يشمت به ذوو الحجى ، وإنما مثلك في ذلك كما قال الأول :

وقال للذي يبقى خلاف الذي مضى

تجهّز لأخرى مثلها ، فكأن قد

وإنا ومن قد مات منّا لكالذي

يروح ويغدو في المبيت ليغتدي»

فأجابه معاوية : أما بعد ، فقد وصل كتابك وفهمت ما ذكرت فيه ، ولقد علمت بما حدث فلم أفرح ولم أحزن ولم أشمت ولم آس! وإنّ علي بن أبي طالب كما قال أعشى بني قيس :

وأنت الجواد وأنت الذي

إذا ما القلوب ملأن الصدورا

جدير بطعنة يوم اللقا

ء ، تضرب منها النساء النحورا

وما مزبد من خليج البحا

ر يعلو الآكام ويعلو الجسورا

بأجود منه بما عنده

فيعطى الألوف ويعطى البدورا

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٦ ـ ٣٧ ، وأشار إليه المفيد في الإرشاد ٢ : ١٠ ، وذكر بعضه المرتضى في تنزيه الأنبياء : ١٧٠ ، وتلخيص الشافي ٤ : ١٧٤.


ودلّ ابن عباس في البصرة على الذي فيها : رجل من بني القين في بني سليم ، فاخذ وأمر ابن عباس بقتله ، ثمّ كتب إلى معاوية : «أما بعد ، فإنك ودسّك أخا بني قين إلى البصرة تلتمس من غفلات قريش مثل الذي ظفرت به من يمانيّتك ، لكما قال أمية ابن الأسكر الجندعي الزبيني :

لعمرك إني والخزاعيّ طارقا

كنعجة عاد حتفها تتحفّر

أثارت عليها شفرة بكراعها

فظلت بها من آخر الليل تنحر

شمتّ بقوم من صديقك أهلكوا

أصابهم يوم من الدهر أعسر»

فأجابه معاوية : أما بعد ، فإن الحسن بن علي قد كتب إليّ بنحو مما كتبت به ، وأنبأني بما لم أجز! ظنّا وسوء رأي! وإنك لم تصب مثلكم ومثلي ، ولكن مثلنا ما قاله طارق الخزاعي يجيب امية بن الأسكر عن هذا الشعر :

فو الله ما أدري ـ وإنّي لصادق ـ

إلى أيّ من يظنّني أتعذّر؟

أعنّف أن كانت زبينة أهلكت

ونال بني لحيان شرّ فأنفروا (١)؟

وكتاب ثان :

في جواب معاوية السابق على دعوة الإمام الحسن عليه‌السلام له إلى بيعته ، قابله بدعوة الإمام إلى بيعته ووعده لذلك بوعود ، وكان ينتظر جوابه ، ولم يجبه الإمام ، فأعاد معاوية ذلك في كتاب آخر أقصر قال : «أما بعد ، فإن الله عزوجل يفعل

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٣ ـ ٣٤ وفي ط صقر : ٥٣ ـ ٥٤ وبهامشه شرح الشعرين عن الأغاني ٨ : ١٦١. وفي الإرشاد ٢ : ٩ كتاب الحسن عليه‌السلام فقط. وروى ابن طاوس عن ابن عباس قال : قال لي زياد : ان كنت تريد أن يستقيم الأمر فاقتل فلانا وفلانا وفلانا : ثلاثة من أصحابه! فقلت له : أليس قد صلوا معنا الغداة؟ قال : نعم ، فقلت : فما إلى ذلك من سبيل لا والله. كشف المحجّة : ٤٦.


في عباده ما يشاء (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ)(١) فاحذر أن تكون منيّتك على يد رعاع من الناس! وأيأس من أن تجد فينا غميزة! وإن أنت أعرضت عمّا أنت فيه وبايعتني وفيت لك بما وعدت ، وأجزت لك ما شرطت! وأكون في ذلك كما قال أعشى بن قيس :

وإن أحد أسدى إليك أمانة

فأوف بها ، تدعى ـ إذا متّ ـ وافيا

ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى

ولا تجفه إن كان في المال فانيا

ثمّ الخلافة لك بعدي ، فأنت أولى الناس بها! والسلام».

فأجابه الحسن عليه‌السلام : «أما بعد ، فقد وصل إليّ كتابك تذكر فيه ما ذكرت» واكتفى في جوابه بكلمة واحدة : «فاتّبع الحقّ تعلم أنّي من أهله والسلام» (٢).

ابن حرب يبدأ الحرب :

فلما وصل هذا الكتاب من الحسن عليه‌السلام إلى الشام وقرأه معاوية فهم منه أن الإمام لا يبدأه الخصام فلا بدّ أن يبدأه هو ، فكتب نسخة واحدة إلى عمّاله على النواحي :

من معاوية أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان ومن قبله من المسلمين ، سلام عليكم ، فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو. أما بعد ، فالحمد لله الذي كفاكم مئونة عدوّكم وقتلة خليفتكم! إنّ الله بلطفه وحسن صنعه أتاح لعليّ بن أبي طالب رجلا من عباده! فاغتاله فقتله ، فترك أصحابه متفرّقين مختلفين. وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم!

__________________

(١) الرعد : ٤١ ، وكأنه يزعم أن انتصاره بحكم الله القاهر جبرا.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٨ ، وفي مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٧ : فإنّك تعلم من أهله.


فأقبلوا إليّ حين يأتيكم كتابي هذا بجندكم وجهدكم وحسن عدّتكم ، فقد أصبتم ـ بحمد الله ـ الثأر! وبلغتم الأمل! وأهلك الله أهل البغي والعدوان! والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فاجتمعت العساكر إليه. فسار قاصدا إلى العراق حتّى بلغ منبج على الفرات (١).

خطبة الحسن عليه‌السلام للجهاد :

فلما وصل معاوية إلى جسر منبج جاء خبره الحسن عليه‌السلام فنادى مناديه : الصلاة جامعة! وقال الإمام لأصحابه : إذا رضيتم جماعة الناس فأعلموني. وأقبل الناس يجتمعون حتّى رضوا جماعتهم فتقدّم سعيد بن قيس الهمداني للإمام بالخروج إليهم ، فخرج إليهم حتّى صعد المنبر.

فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم : «أما بعد ، فإن الله كتب الجهاد على خلقه وسمّاه كرها! ثمّ قال لأهل الجهاد من المؤمنين : (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٢) فلستم ـ أيّها الناس ـ نائلين ما تحبّون إلّا بالصبر على ما تكرهون.

إنّه بلغني أن معاوية بلغه : أنّا كنّا أزمعنا على المسير فتحرك لذلك ، فاخرجوا ـ رحمكم الله ـ إلى معسكركم بالنخيلة حتى نرى وتروا وننظر وتنظرون».

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٨ ، وفي تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١٤ : أن مسيره كان بعد قتل الإمام بثمانية عشر يوما! وفيه : أن ذلك كان بعد أربعة أشهر ، وهذا هو الصحيح! ومنبج في شرقي حلب إلى العراق بعشرة فراسخ (٥٥ كم) بناها كسرى لما غلب على الروم في الشام ، فهي معرّبة عن الفارسية. كما في معجم البلدان ٥ : ٢٠٥.

(٢) الأنفال : ٤٦.


فسكتوا وما تكلم منهم أحد ولا أجابه أحدهم بحرف!

فلما رأى ذلك عديّ بن حاتم الطائي قام فقال : أنا ابن حاتم ، سبحان الله! ما أقبح هذا المقام! ألا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيكم! أين المسلمون؟! أين خطباء مضر؟ أين الخوّاضون من أهل المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدّعة فإن جدّ الجدّ فروّاغون كالثعالب! أما تخافون مقت الله؟! ولا عيبها وعارها!

ثمّ التفت إلى الإمام عليه‌السلام وقال له : أصاب الله بك المراشد ، وجنّبك المكاره ، ووفقك لما يحمد ورده وصدره ، فقد سمعنا مقالتك ، وانتهينا إلى أمرك ، وسمعنا منك وأطعناك فيما قلت وما رأيت. ثمّ قال : وهذا وجهي إلى معسكري ، فمن أحبّ أن يوافيني فليواف ....

فقام قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ، ومعقل بن قيس الرياحي ، وزياد بن خصفة التيمي ، فأنّبوا الناس وحرّضوهم ، وكلّموا الإمام بمثل كلام عديّ بن حاتم بالقبول والإجابة لأمره. وقال لهم الإمام عليه‌السلام : صدقتم ـ رحمكم الله ـ ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء بالقول ، والمودّة الصحيحة ، فجزاكم الله خيرا! ثمّ نزل. وخرج عديّ من المسجد ودابّته مع غلامه بالباب ، فركبها وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلح له ، ومضى إلى النخيلة ، فكان هو أول من عسكر من الناس.

وبعث الإمام حجر بن عدي إلى عمّاله ليأمرهم والناس بالتهيّؤ للمسير للشام (١) حتّى يمرّ بهم.

وكأنّ ما كان ، قد أشغل الإمام عن أمر موسم الحجّ لتلك السنة ، وكان المغيرة بن شعبة الثقفي قد اعتزل في الطائف ، وغلب على ظنّه غلبة معاوية

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٩ ، ومختصره في أنساب الأشراف للبلاذري ٣ : ٣٥ ، وأشار إليه المفيد فى الإرشاد ٢ : ١٠ ، ومختصره في تنزيه الأنبياء : ١٧٠ ، وتلخيص الشافي ٤ : ١٧٤.


على الأمر فأراد أن يتقرّب منه فافتعل كتابا عنه إليه بإمارة الموسم وإقامة الحجّ ، وتصدّى به له ، وبلغه أن معاوية ولى الموسم أخاه عتبة ، فتعجّل المغيرة حتّى عرّف يوم التروية ونحر يوم عرفة استعجالا (١) وبلا مقاومة!

مسير الإمام إلى الشام ومقدّمته :

في اليعقوبي قال : أقام الحسن عليه‌السلام بعد أبيه شهرين ، وقيل : بل أربعة أشهر (٢) يعني إلى أواخر المحرم من سنة إحدى وأربعين. وروى أبو الفرج قال :

نشط الناس للخروج فخرجوا وعسكروا ، واستخلف الحسن عليه‌السلام على الكوفة المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، وأمره باستحثاث الناس وإشخاصهم إليه ، فجعل يستحثّهم ويخرجهم حتّى التأم عسكر عظيم وعدّة حسنة (٣).

ولكن الشيخ المفيد أفاد محلّلا : أن الحسن عليه‌السلام استنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ، ثمّ خفّ معه أخلاط من الناس : بعضهم شيعة له ولأبيه عليهما‌السلام ، وبعضهم محكّمة (خوارج) يؤثرون قتال معاوية بكلّ حيلة ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم ، وبعضهم شكّاك ، وبعضهم أصحاب عصبية : اتّبعوا رؤساء قبائلهم ، لا يرجعون إلى دين (٤) وكانت قلوب أكثرهم دغلة نغلة غير صافية ، وقد كانوا صبوا إلى دنيا معاوية (٥).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ١٦٠ ، هذا وقد عاد أبو هريرة إلى المدينة يصلّي بهم مواليا لمعاوية بلا مقاومة! وعليه فالحرمان أصبحا لمعاوية بلا مقاومة!

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١٤.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٤٠ ، وبعضه في أنساب الأشراف ٣ : ٣٦.

(٤) الإرشاد ٢ : ١٠ ، واقتبس منه الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٧.

(٥) تنزيه الأنبياء : ١٧٠ ، وتلخيص الشافي ٤ : ١٧٢.


وروى أبو الفرج قال : سار الحسن عليه‌السلام في عسكر عظيم وعدّة حسنة حتى أتى دير عبد الرحمن ، فأقام به ثلاثا حتّى اجتمع إليه الناس.

ثمّ دعا بابن عمّه عبيد الله بن العباس ، وقيس بن سعد الأنصاري ، وسعيد بن قيس الهمداني وقال لابن عباس عبيد الله : «يا ابن عمّ ، إني باعثك ومعك اثنا عشر ألفا من فرسان العرب وقرّاء المصر (الكوفة) الرجل منهم يزين الكتيبة ، فسر بهم ، والن لهم جانبك وابسط وجهك ، وافرش لهم جناحك ، وأدنهم من مجلسك ، فإنّهم بقيّة ثقة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه).

وسر بهم على شطّ الفرات حتّى تصير إلى مسكن (١) ، ثمّ امض حتى تستقبل معاوية ، فإن أنت لقيته فاحبسه حتّى آتيك فإنّي في إثرك وشيكا ، وليكن خبرك عندي كلّ يوم ، وشاور هذين (يعني قيس بن سعد وسعيد بن قيس) فإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتّى يقاتلك ، فإن فعل فقاتل ، فإن أصبت فقيس بن سعد على الناس ، وإن اصيب قيس فسعيد بن قيس على الناس» ثمّ أمره بما أراد.

وسار عبيد الله ومعه قيس وسعيد واثنا عشر ألفا حتّى انتهى إلى شينور ، ثمّ خرج إلى شاهي ، ثمّ لزم الفرات حتّى بلغ مسكن ، فسكن (٢).

وذكر مختصر الخبر البلاذري وقال هنا : فأخذ عبيد الله على قرية شاهي ثمّ لزم الفرات حتّى مرّ بالفلّوجة ثمّ جاز الفرات إلى دممّا ثمّ أتى الأخنونية (٣) بإزاء مسكن (٤).

__________________

(١) مسكن : كانت مساكن ريفية على نهر الدجيل في شمال غربيّ بغداد بعشرة فراسخ ـ ٤٨ كم تقريبا.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤٠.

(٣) أنساب الأشراف ٣ : ٣٥ ـ ٣٦ وهي قبيل تكريت.

(٤) الإرشاد ٢ : ١٣.


حيث أقبل معاوية من جسر منبج إلى الاخنونية في عشرة أيام في ستين ألفا ، وقد استخلف على الشام الضحاك بن قيس الفهري. ونزل معاوية بإزاء عسكر الكوفة ، ومعه القصاص يقصّون عند وقت كلّ صلاة يحضّون أهل الشام. وقدّم معاوية بسر بن أبي أرطاة إلى أهل الكوفة فتناوشوا بلا قتال ولا جراح ثمّ تحاجزوا (١).

وروى أبو الفرج قال : وافى معاوية حتّى نزل بجوار قرية الحيوضية قرب مسكن ، فأقبل ابن العباس حتّى نزل بإزائه. فلما كان الغد وجّه معاوية بخيله إليه ، فخرج ابن العباس إليهم بمن معه ، حتّى ردّهم إلى معسكرهم (٢).

هذا كلّ ما بأيدينا عن توجيه الجنود ، وقد مرّ خبر نوف البكالي : أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام كان قد قدّم لمسير الشام عبيد الله بن العباس هذا بعشرة آلاف ، ولقيس بن سعد بعشرة آلاف ، ولأبي أيوب الأنصاري بعشرة آلاف ، وللحسين عليه‌السلام بعشرة آلاف ، ولم يذكروا هذه المرّة ، إلّا قيس بن سعد مع ابن العباس معاونا ومشاورا فقط!

وسار الإمام إلى المدائن :

قال المفيد : وتحرّك الحسن عليه‌السلام وسار فمرّ بحمّام عمر ثمّ دير كعب حتّى نزل ساباط (٣) المدائن دون القنطرة إليها على دجلة وبات هناك ، وبيّت عليه‌السلام أن يمتحن أصحابه ويستبرئ أحوالهم في الطاعة له ، ليتميّز بذلك أولياءه من أعدائه ، فيكون بذلك على بصيرة في لقاء أهل الشام ومعاوية. فلما أصبح أمر أن ينادى في الناس بالصلاة جامعة ، فاجتمعوا فصلّى بهم ثمّ خطبهم فقال :

__________________

(١) تاريخ بغداد ١ : ٢٠٨ ، وانظر أنساب الأشراف ٣ : ٣٦ في الحاشية.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤١ ـ ٤٢.

(٣) معرّب عن الفارسية : شاه آباد : معمورة الملك.


«الحمد لله بكل ما حمده حامد ، وأشهد أن لا إله إلّا الله كلّما شهد له شاهد ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالحقّ ائتمنه على الوحي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أما بعد ، فو الله إني لأرجو أن أكون قد أصبحت ـ بحمد الله ومنّه ـ وأنا أنصح خلق الله لخلقه ، وما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة ، ولا مريدا له بسوء ولا غائلة.

ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة! ألا وإني ناظر لكم خيرا من نظركم لأنفسكم ، فلا تخالفوا أمري ، ولا تردّوا عليّ رأيي! غفر الله لي ولكم ، وأرشدني وإياكم لما فيه المحبّة والرضا» (١) وسكت ونزل.

فنظر الناس بعضهم إلى بعض وتساءلوا فيما بينهم : ما ترونه يريد بما قال؟ وانتهى كثير منهم إلى أنه يريد أن يصالح معاوية ويسلّم الأمر إليه ، ورأوا رأي الخوارج أنها كبيرة ، وأن مرتكب الكبيرة كافر ، فهو كافر ، ولا حرمة لكافر!

وكان الإمام راجعا إلى فسطاطه جالسا على مصلّاه إذ شدّ جمع منهم على فسطاطه فانتهبوه ، وشدّ عليه منهم عبد الرحمن الأزدي فنزع مطرفه عن ظهره ، وسحبوا مصلّاه من تحته وتركوه بلا رداء! ففزع إليه طوائف من خاصته و «شيعته» فقال لهم : ادعوا لي ربيعة وهمدان ، فدعوهم له فأطافوا به ، فدعا بفرسه أو بغلته فركبها وسار إلى مظلم (مظلّة ـ سقيفة ـ إيوان) ساباط ، وكان قد كمن له هناك الجرّاح بن سنان الأسدي معدّا له مغولا (خنجرا) بيده ، فلما مرّ به الإمام قام إليه وأخذ بلجام بغلته ورفع بيده مغوله وصرخته : الله أكبر ، أشركت ـ يا حسن ـ كما أشرك أبوك من قبل! ثمّ طعنه في فخذه فشقّه حتّى بلغ العظم ، فاعتنقه الحسن عليه‌السلام وخرّا جميعا إلى الأرض ، فوثب إليه عبد الله بن خطل الطائي وانتزع المغول من يده

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ١١ ، ولعلّه عن مقاتل الطالبيين : ٤٠ ـ ٤١.


(وخضخض به جوفه) وأكبّ عليه ظبيان بن عمارة فقطع أنفه ، ثمّ شدخ رأسه بالآجر حتّى قتل. وحمل الحسن على سرير إلى دار والي المدائن سعد بن مسعود الثقفي ، فأقام الحسن عنده يعالج نفسه (١) وليس فيما بأيدينا تعيين تاريخ لذلك.

معاوية وابن عباس وابن سعد :

ولا تاريخ لموافقة ابن عباس لمعاوية ، وإنما روى أبو الفرج قال : لما كان مساء اليوم الأول من ذلك أرسل معاوية ليلا إلى عبيد الله بن العباس (كذبا) : «إن الحسن قد راسلني في الصلح ، وهو مسلّم الأمر إليّ! فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعا! وإلّا دخلت وأنت تابع! ولك إن جئتني الآن أن أعطيك ألف ألف (مليون) درهم! يعجّل لك في هذا الوقت النصف ، وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر»!

واقتنع عبيد الله بذلك فانسلّ هو وخاصّته في الليل إلى معاوية!

وأصبح الناس فطلبوه ليخرج فيصلّي بهم فلم يجدوه! وعلى القرار السابق تقدّم قيس بن سعد الأنصاري فصلّى بهم ، وعلم بما صنع عبيد الله فخطبهم فقال لهم : أيها الناس ، لا يهولنّكم ولا يعظمنّ عليكم ما صنع هذا الرجل الورع (أي الجبان) إنّ هذا وأباه وأخاه لم يأتوا بيوم خير قط! إن أباه عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج يقاتل ببدر ، فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري فأتى به رسول الله ،

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٤١ ، والإرشاد ٢ : ١٢. وأنساب الأشراف ٣ : ٣٧ ـ ٣٨ وزاد أن ابن أخي سعد : المختار بن أبي عبيد كان عنده فأشار على عمّه أن يسلّم الحسن عليه‌السلام إلى معاوية بخراج سنته! فقال له عمّه : أنا عامل أبيه وقد شرفني وائتمنني ، وهبني نسيت بلاء أبيه عليّ أأنسى رسول الله في حبيبه وابن بنته؟! قبّح الله رأيك. وانظر تعليق المحقّق المحمودي ، وانظر علل الشرائع ١ : ٢٥٩ ، الباب ١٦٠.


فأخذ فداءه فقسّمه بين المسلمين (١) وإنّ هذا ولّاه عليّ على اليمن فهرب من بسر بن أبي أرطاة وترك ولده حتّى قتلوا! وصنع الآن هذا الذي صنع! فتنادى جمع من الناس : الحمد لله الذي أخرجه من بيننا!

وكتب معاوية إلى قيس بمثل ما كتب إلى عبيد الله ، فكتب قيس إليه : لا والله لا تلقاني أبدا إلّا وبيني وبينك الرمح! فكتب إليه معاوية :

«أما بعد ، فإنما أنت يهودي ابن يهودي (لأنه مدني!) تشقي نفسك وتقتلها فيما ليس لك ، فإن ظهر أحبّ الفريقين إليك (الحسن عليه‌السلام ، فهو يدلّ على عدم التسليم له) نبذك وعزلك (يشير إلى عزل علي عليه‌السلام له عن مصر) وإن ظهر أبغضهما إليك (معاوية) نكّل بك وقتلك (يهدّده) وقد كان أبوك (سعد بن عبادة) أوتر غير قوسه ورمى غير غرضه ، فأكثر الحزّ وأخطأ المفصل ، فخذله قومه (الخزرج) وأدركه يومه فمات بحوران طريدا غريبا! والسلام» كأنّه يعيّره به ويهدّده بمصيره ويبرّئ قاتليه!

فكتب إليه قيس بن سعد : «أما بعد ، فإنما أنت وثنيّ ابن وثنيّ ، من هذه الأوثان! دخلت في الإسلام كرها وأقمت عليه فرقا (خوفا) وخرجت منه طوعا ، ولم يجعل الله لك فيه نصيبا! لم يقدم إسلامك ، ولم يحدث نفاقك (فهو قديم) فلم تزل حربا لله ورسوله ، وحزبا من أحزاب المشركين! فأنت عدوّ الله ورسوله والمؤمنين من عباده!

وذكرت أبي ، ولعمري ما أوتر إلّا قوسه ولا رمى إلّا غرضه ، فشغب عليه من لا تشق غباره ولا تبلغ كعبه ، وكان أمرا مرغوبا عنه مزهودا فيه.

__________________

(١) هنا جاء ذكر عبد الله بن عباس بتهمة سرقة بيت مال البصرة ، ونحن لم نجد له مصداقا فما ذكرناه.


وزعمت أنّي يهودي ابن يهودي! ولقد علمت وعلم الناس أني وأبي من أنصار الدين الذي خرجت منه وأعداء الدين الذي دخلت فيه وصرت إليه ، والسلام» (١).

غدرهم وخبرهم إلى المدائن :

قال المفيد في «الإرشاد» : وكتب جماعة من رؤساء القبائل إلى معاوية في السرّ بالطاعة ، واستحثّوه على السير نحوهم ، وضمنوا له تسليم الحسن عليه‌السلام إليه عند دنوّه من عسكرهم ، أو الفتك به (٢).

وروى البلاذري قال : وجعل وجوه أهل العراق يتسلّلون إلى معاوية فيبايعونه ، أولهم : خالد بن معمّر السدوسي من ربيعة عن ربيعة كلّها ، ثمّ عفاق بن شرحبيل التيمي (٣) عن من معه من تيم الرباب.

وروى ابن الأعثم قال : وجعل قبائل أهل العراق يتوجّهون إلى معاوية ، قبيلة بعد قبيلة حتّى خفّ عسكر ابن سعد ، فلما رأى ذلك قيس كتب إلى الحسن عليه‌السلام يخبره بما هو فيه (٤).

قال المفيد : كان (الإمام) قد أنفذ قيس بن سعد رضى الله عنه مع عبيد الله بن العباس عند مسيره من الكوفة ، وجعله أميرا على الجماعة وقال له : إن اصبت فالأمير

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٤٢ ـ ٤٣ ، وقبله في أنساب الأشراف ٣ : ٣٩ ـ ٤٣ وزاد : أن الرسول إلى عبيد الله كان عبد الرحمن بن سمرة العبشمي نهارا جهارا وليلا سرّا ، وأن ذلك كان بعد جرح الحسن عليه‌السلام.

(٢) الإرشاد ٢ : ١٢.

(٣) أنساب الأشراف ٣ : ٤١.

(٤) الفتوح ٤ : ١٥٧.


قيس بن سعد. فوصل كتاب ابن سعد هذا يخبره : أنّهم نازلوا معاوية بقرية يقال لها : اخنوخية بإزاء مسكن ، وأن معاوية أرسل إلى عبيد الله بن العباس يرغّبه في المصير إليه ، وضمن له ألف ألف (مليون) درهم ، يعجّل له منها النصف ، ويعطيه النصف الآخر عند دخوله الكوفة! فانسلّ عبيد الله بن العباس في خاصّته في الليل إلى معسكر معاوية ، وأصبح الناس وقد فقدوا أميرهم فصلّى هو بهم!

فازدادت بصيرة الحسن عليه‌السلام بخذلان القوم له ... ولم يبق معه من يأمن غوائله إلّا خاصّة من شيعته وشيعة أبيه ... وهم جماعة لا تقوم لأجناد الشام (١).

وروى ابن الأعثم قال : فلما قرأ الحسن عليه‌السلام الكتاب أرسل فدعا إليه وجوه من معه من عامة أصحابه وقال لهم : يا أهل العراق! ما أصنع بجماعتكم معي ، وهذا كتاب قيس بن سعد يخبرني بأن أهل الشرف منكم قد صاروا إلى معاوية! أما والله ما هذا بمنكر منكم ، لأنكم أنتم الذين أكرهتم أبي يوم صفّين على تحكيم الحكمين ، فلما أمضى الحكومة وقبل منكم اختلفتم عليه ، ثمّ دعاكم إلى قتال معاوية ثانية فتوانيتم عنه حتّى صار إلى ما صار إليه من كرامة الله إياه. ثمّ إنكم بايعتموني طائعين غير مكرهين ، فأخذت ببيعتكم وخرجت في وجهي هذا والله يعلم ما نويت فيه ، فكان منكم إليّ ما كان! فحسبي منكم لا تغرّوني (٢) في ديني ونفسي (٣) ثمّ لم يذكر أيّ ردّ ممّن حضر. هذا وحال الحسن عليه‌السلام ليس بحسن بل هو جريح طريح.

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ١٣.

(٢) الفتوح ٤ : ١٥٧.

(٣) أنساب الأشراف ٣ : ٤٢ مختصرا.


رسل السلام ومشورة الإمام :

وكأنّه اكتفى عن مشورة هؤلاء الخاصة بالمشورة العامّة :

قال البلاذري : كان رسول معاوية لاستجلاب عبيد الله : عبد الرحمن بن سمرة العبشمي ، فردّه نهارا جهارا وقبله وخلا به ليلا سرّا وصار معه إليه (١) وكأنّه لنجاحه في مهمّته وجّه به بعده إلى الحسن عليه‌السلام ومعه آخر من عبد شمس هو عبد الله بن عامر ابن خالة عثمان ووالي البصرة سابقا. فقالا له : إن معاوية قد لجّ ، فننشدك الله أن تلجّ أنت فيهلك الناس بينكما ، وهو يعطيك كذا وكذا ويوليك الأمر بعده (٢).

وقال المفيد : وأنفذ إليه بكتب بعض أصحابه التي ضمنوا له فيها الفتك به أو تسليمه إليه! واشترط له على نفسه في إجابته إلى صلحه شروطا كثيرة ، وعقد له عقودا ، كان في الوفاء بها مصالح شاملة! وعلم الحسن عليه‌السلام احتياله بذلك واغتياله ، غير أنه لم يجد بدّا من إجابته إلى ما التمس من ترك الحرب وإنفاذ الهدنة ، لما كان عليه أصحابه مما وصفناه : من ضعف البصائر في حقّه ، والخلاف منهم له ، وما انطوى كثير منهم عليه من استحلال دمه وتسليمه إلى خصمه ، وما كان من خذلان ابن عمّه له ومصيره إلى عدوّه ، وميل الجمهور منهم إلى العاجلة وزهدهم في الآجلة (٣).

فدعا ابن عمّه عبد الله بن جعفر فقال له : إني رأيت رأيا ، وإني احبّ أن تتابعني عليه. قال : وما هو؟ قال : قد رأيت أن أعمد إلى المدينة واخلّي بين معاوية وبين هذا الحديث (الخلافة) فقد طالت الفتنة وسفكت فيها الدماء ، وقطعت فيها الأرحام وقطّعت السبل ، وعطّلت فروج (البلاد)!

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣ : ٣٩.

(٢) أنساب الأشراف ٣ : ٤٣ هذا ومعاوية فوق الستين والحسن دون الأربعين.

(٣) الإرشاد ٢ : ١٣ ـ ١٤.


فقال له ابن جعفر : جزاك الله عن أمة محمّد خيرا ، فأنا معك على هذا الحديث.

فقال له الحسن عليه‌السلام : فادع لي الحسين. فبعث ابن جعفر إلى الحسين فأتى أخاه الحسن فقال له :

أي أخي ، إني قد رأيت رأيا ، وإني احبّ أن تتابعني عليه ، قال : وما هو؟ فأخبره به (١).

فقال الحسين عليه‌السلام : يا أخي أعيذك بالله من هذا! فأبى الحسن عليه‌السلام (٢).

فلما رأى الحسين إباءه قال له : أنت أكبر ولد علي ، وأنت خليفته ، وأمرنا لأمرك تبع فافعل ما بدا لك (٣).

وخرج من عند أخيه الحسن ضاحكا! فسأله مواليه فقال : أتعجّب من دخولي على إمام أردت أن اعلّمه فقلت له : ما يدعوك إلى تسليم الخلافة؟ فقال : الذي دعا أباك في ما تقدم (٤) أي عدم الناصر الوافر الوافي والوفيّ!

ثمّ خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم :

«إنا والله ما يثنينا عن أهل الشام شك ولا ندم ، و (لكنّا) إنما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر ، فشيبت السلامة بالعداوة ، والصبر بالجزع! وكنتم في مسيركم إلى صفّين ودينكم أمام دنياكم ، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم ، ألا وقد أصبحتم بين قتيلين : قتيل بصفين تبكون له ، وقتيل بالنهروان تطلبون بثأره! فأما الباقي فخاذل ، وأما الباكي فثائر!

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر ، الإمام الحسن عليه‌السلام : ١٧٨.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٨ مرسلا.

(٣) المصدر الأسبق لابن عساكر الدمشقي.

(٤) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٠ مرسلا ، هذا وقد روى هو أيضا عن الباقر عليه‌السلام قال : ما تكلم الحسين بين يدي الحسن (أي متقدّما عليه) إعظاما له ، مناقب آل أبي طالب.


ألا وإنّ معاوية قد دعا لأمر ليس فيه عزّ ولا نصفة ، فإن أردتم الموت رددناه إليه وحاكمناه إلى الله عزوجل بظباة السيوف! وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضا؟» وسكت.

فناداه القوم من كل جانب : البقية البقية (١) ونادى القوم بأجمعهم : بل البقية والحياة (٢).

كتب وشروط للحسن عليه‌السلام :

روى الصدوق عن ابن بحر الشيباني : أن الحسن عليه‌السلام كتب من فوره ذلك إلى معاوية : «أما بعد ، فإن خطبي انتهى إلى اليأس من حقّ احييه وباطل أميته! وخطبك خطب من انتهى إلى مراده! وانني اعتزل هذا الأمر (الخلافة) واخلّيه لك ، وإن كان تخليتي إياه شرّا لك في معادك ، ولي شروط أشرطها ، لا تبهضنّك إن وفيت لي بها بعهد ، ولا تخفّ إن غدرت. وستندم ـ يا معاوية ـ كما ندم غيرك ممن نهض في الباطل أو قعد عن الحقّ حين لا ينفع الندم ، والسلام» وكتب الشروط في كتاب آخر يمنّيه بالوفاء وترك الغدر (٣).

وروى ذلك الكتاب والشروط بطريقه إلى يوسف بن مازن الراسبي الهمداني قال : بايع الحسن بن علي (صلوات الله عليه) ومعاوية على أن لا يسمّيه أمير المؤمنين. ولا يقيم عنده شهادة ، وعلى أن لا يتعقّب معاوية على شيعة عليّ شيئا. وعلى : أن يفرّق في أولاد من قتل مع أبيه يوم الجمل ، وأولاد من قتل مع أبيه بصفين

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر ، الإمام الحسن عليه‌السلام : ١٧٨ ـ ١٧٩ ، والكامل في التاريخ ٣ : ١٧٦.

(٢) أعلام الدين للديلمي : ٢٩٢ ـ ٢٩٣ مرسلا.

(٣) علل الشرائع ١ : ٢٦٠ ، الباب ١٦٠ عن كتاب الفروق بين الأباطيل والحقوق للشيباني.


ألف ألف (مليون) درهم ، وأن يجعل ذلك من خراج داراب جرد (١) أي قلعة داراب الملك الساساني ، في اصطخر فارس في جنوب إيران تابعا للبصرة في جنوب العراق ، ولذا طلب خراجها لورثة قتلاهم في الجمل.

وقد مرّ في أخبار صفّين أن معاوية لوقف الحرب توسّل بالأشعث الكندي وهو صهر أبي بكر وعثمان ، وسعى الأشعث لذلك بما قدر عليه ، ومرّ في أخبار خوارج النهروان أنه سعى سعيه لصرف أمير المؤمنين عن القاسطين إلى المارقين ، وقد هلك بعد أربعين يوما من قتل علي عليه‌السلام (٢) أي في آخر ذي القعدة سنة أربعين. وكان محمد بن الأشعث من أم فروة أخت أبي بكر ، وهو أخو جعدة زوج الحسن عليه‌السلام ؛ لذا اختاره الإمام هنا وجعل معه عمرو بن سلمة الأرحبي الهمداني بعث بهما مع رسولي معاوية إليه ليعطياه ما يرضاه ويكتبا عليه الشروط. فكتب له معاوية كتابا نسخته :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، هذا كتاب للحسن بن عليّ من معاوية بن أبي سفيان! أني صالحتك على أن لك الأمر بعدي ، ولك عهد الله وميثاقه وذمّته وذمّة رسوله محمد ، وأشدّ ما أخذه الله على أحد من خلقه من عهد وعقد : أن لا أبغيك غائلة ولا مكروها! وعلى : أن أعطيك في كلّ سنة ألف ألف (مليون) درهم من بيت المال! وعلى أنّ لك خراج «فسا» و «داراب جرد» تبعث إليهما عمّالك وتصنع به ما بدا لك» شهد عبد الله بن عامر ، وعمرو بن سلمة الهمداني ، وعبد الرحمن بن سمرة ، ومحمد بن الأشعث الكندي ، وكتب في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين (٣).

__________________

(١) علل الشرائع ١ : ٢٤٩ ، الباب ١٥٩ عن كتاب الفروق بين الأباطيل والحقوق للشيباني.

(٢) قاموس الرجال ٢ : ١٦٠ برقم ١٣٦ عن تاريخ بغداد.

(٣) أنساب الأشراف ٣ : ٤٣ ـ ٤٤.


وجاءه بالكتاب رسولا معاوية ابن عامر وابن سمرة العبشميان (١).

واكتفى أبو الفرج بذكر ثلاثة من الشروط : أن لا يتّبع أحد بما مضى. ولا ينال أحد من «شيعة» علي بمكروه. وزاد : لا يذكر علي إلّا بخير (٢).

وعبّر المفيد عنها بقوله : ولتأكيد الحجّة على معاوية والإعذار فيما بين (الحسن) وبين (معاوية) عند الله عزوجل وعند كافّة المسلمين : اشترط عليه : ترك سبّ أمير المؤمنين عليه‌السلام والعدول عن القنوت عليه في الصلوات ، وأن يؤمن شيعته رضي الله عنهم ولا يتعرّض لأحد منهم بسوء ، وزاد : ويوصل إلى كلّ ذي حقّ حقّه. فأجابه معاوية إلى ذلك كلّه وعاهده عليه وحلف له بالوفاء به ، واستتمّت «الهدنة» على ذلك (٣).

والعبارة السابقة من أبي الفرج : «أن لا يتّبع أحد بما مضى» فصّلت في رواية الأندلسي في «الاستيعاب» قال : «اشترط عليه : أن لا يطلب أحدا من أهل المدينة والحجاز ولا أهل العراق بشيء كان في أيّام أبيه» فأجابه معاوية إلّا أنّه قال : أما عشرة أنفس فلا أؤمّنهم! فراجعه الحسن عليه‌السلام فيهم ، فكتب إليه يقول : «إنّي قد أليت متى ظفرت بقيس بن سعد أن أقطع لسانه ويده»! فراجعه الحسن عليه‌السلام : «إنّي لا ابايعك أبدا وأنت تطلب قيسا أو غيره بتبعة ، قلّت أو كثرت» فحينئذ بعث إليه معاوية برقّ أبيض وقال له : اكتب ما شئت فيه وأنا التزمه ، فاصطلحا على ذلك (٤) هذا ، ويأتي لاحقا أنه أرسل الرقّ الأبيض لقيس نفسه ، وهو الصحيح.

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣ : ٤٥.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤٣.

(٣) الإرشاد ٢ : ١٤.

(٤) عن الاستيعاب بهامش الإصابة ١ : ٣٧٠ ، وبهامش تاريخ ابن عساكر ، الإمام الحسن عليه‌السلام : ١٨٥.


وكتاب وشرط أمان لقيس :

روى الطبري عن الزهري : أنّ الناس في الفتنة كانوا يقولون : ذوو رأي العرب ومكيدتهم ودهاة الناس خمسة رهط : معاوية ، ومعه عمرو ، والمغيرة. ومن المهاجرين عبد الله بن بديل الخزاعي.

ومن الأنصار : قيس بن سعد الأنصاري الخزرجي وهما مع علي عليه‌السلام فحين فرغ معاوية من عبيد الله بن العباس ثمّ الحسن عليه‌السلام خلص إلى مكايدة رجل هو أهمّ الناس عنده مكايدة! وهو قيس بن سعد ، وقد أمّرت شرطة الخميس (الجيش) قيس بن سعد على أنفسهم وتعاهدوا على قتال معاوية حتى يشترط لمن اتّبع عليّا عليه‌السلام أمانا على دمائهم وأموالهم وما أصابوا في الفتنة!

وأرسل معاوية إلى قيس يذكّره الله ويقول له : على طاعة من تقاتل وقد بايعني الذي أعطيته طاعتك؟! فأبى قيس أن يلين له ، حتى أرسل معاوية بسجلّ قد ختم على أسفله وقال له : اكتب في هذا السّجل ما شئت فهو لك.

فلمّا بعث معاوية إليه بذلك السجلّ ، اشترط قيس فيه له ولشيعة علي الأمان على ما أصابوا من الدماء والأموال ، ولم يسأل معاوية في سجلّه ذلك مالا. فأعطاه معاوية ما سأله (١).

وأولى الأخبار بالاعتبار أنّ لقاء الحسن عليه‌السلام بمعاوية كان في نخيلة الكوفة ، فيبدو أنّه عليه‌السلام رجع من المدائن إلى الكوفة قبل أن يصلها معاوية.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ١٦٣ ـ ١٦٤ وفيه : أنّه كان معه أربعون ألفا : وهو مبالغ فيه قطعا اللهم إلّا أن يعني مجموع من كان مع الحسن عليه‌السلام وهم من قدّمهم علي عليه‌السلام قبيل مقتله.


معاوية إلى النخيلة ، وبيعة الحسنين عليهما‌السلام وقيس وخطبهم :

تحرّك معاوية من مسكن إلى الكوفة حتّى نزل بخيله بين النخيلة ودار الرزق ومعه قرّاء أهل الشام وقصّاصهم (١) وصار يوم الجمعة فاجتمعوا في النخيلة للصلاة ، وتقدم معاوية بإحضار الحسنين عليهما‌السلام وقيس زعيم الأنصار للبيعة له ، فأحضر الحسنان عليهما‌السلام.

وقد مرّ الخبر : أن قيسا لما ساومه معاوية على الصلح كتب إليه : أنه لا يلقاه إلّا وبينه وبين معاوية الرمح وحلف على ذلك ، ثمّ اشترط عليه لمن معه الأمان حتّى تخلّى عن قتاله وانصرف راجعا إلى الكوفة.

قال أبو الفرج : فلما أرسل معاوية إلى قيس يدعوه إلى البيعة وأتي به وأرادوا أن يدخلوه إليه قال لهم : إني قد حلفت أن لا ألقاه إلّا وبيني وبينه الرمح أو السيف! وأبلغ بذلك معاوية فأمر برمح أو سيف أن يوضع بينه وبينه ليبرّ يمينه ... ثمّ وضع له كرسي ، وجلس معاوية على سريره (٢).

ويظهر من خبر الكشي عن الصادق عليه‌السلام أنّ هذا كان بعد أخذ البيعة من الحسنين عليهما‌السلام ، قال : قال (معاوية للحسن عليه‌السلام) : يا حسن! قم فبايع! فقام فبايع! ثمّ قال للحسين عليه‌السلام : يا حسين! قم فبايع! فقام فبايع! ثمّ (لما ادخل قيس وجلس) قال : يا قيس ، قم فبايع! فالتفت (قيس) إلى الحسين عليه‌السلام ينظر ما يأمره! فقال (له الحسين) : يا قيس! إنه ـ يعني الحسن ـ إمامي! قال : فنظر قيس إلى الحسن عليه‌السلام فقال له : يا أبا محمد ، بايعت؟

فقال له معاوية : أما تنتهي؟ أما والله إنّي ... فقال له قيس : (افعل) ما شئت! أما والله لو شئت لتناقضنّ!

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣ : ٤٥ ، الحديث ٤٩.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤٧.


فقام الحسن إليه وقال له : بايع يا قيس (١)! فأقبل قيس عليه وقال له : أنا في حلّ من بيعتك! قال عليه‌السلام : نعم ، فالتفت إليه معاوية وقال له (٢) بايع ، قيس!

فقال له قيس : إن كنت لأكره مثل هذا اليوم يا معاوية (بلا لقب) ولقد حرصت أن أفرّق بين روحك وجسدك قبل هذا! فأبى الله ـ يا ابن أبي سفيان ـ إلّا ما أحب!

ثمّ أقبل على الناس وقال لهم : يا معشر الناس! لقد اعتصتم الشرّ من الخير ، واستبدلتم الذلّ من العزّ والكفر من الإيمان! فأصبحتم بعد ولاية أمير المؤمنين وسيّد المسلمين وابن عمّ رسول ربّ العالمين! وقد وليكم الطليق ابن الطليق! يسومكم الخسف ويسير فيكم بالعسف! فكيف تجهل ذلك أنفسكم؟! أم طبع الله على قلوبكم فأنتم لا تعقلون؟! وسكت.

فجثا معاوية على ركبتيه وأكبّ على قيس حتّى أخذ بيده وقال له : أقسمت عليك وصفق على كفّه ، فتنادى الناس : بايع قيس ، بايع قيس! فقال لهم : كذبتم ، والله ما بايعت (٣).

فالتفت معاوية إلى الحسن عليه‌السلام وقال له : يا أبا محمد ، إنك قد جدت بشيء لا تطيب أنفس الرجال بمثله! فاخرج (من الخيمة) إلى الناس فأظهر ذلك لهم واعتذر! فأبى ، فأقسم عليه!

فقام وخرج إلى الناس ورقى المنبر فقام عليه وحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم :

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ١١٠ ، الحديث ١٧٦ ـ ١٧٧ بطريقين.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤٧.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١٦ ـ ٢١٧.


«أيها الناس ، إنكم لو طلبتم بين جابلق (الغرب) وجابلس (الشرق) رجلا جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما وجدتموه غيري وأخي الحسين. وإنّ الله قد هداكم بأوّلنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّ أكيس الكيس التقى وأحمق الحمق الفجور! وإنّ معاوية (بلا لقب الإمرة) نازعني حقّا هو لي فتركته لصلاح الأمّة وحقن دمائها! وقد بايعتموني على أن تسالموا من سالمت ، وقد رأيت أن أسالمه فبايعته (١).

إنّما الخليفة من سار بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليس الخليفة من سار بالجور (وإنما ذلك) ملك ملك ملكا يمتّع به قليلا ثمّ تنقطع لذّته وتبقى تبعته. ثمّ تلا قوله سبحانه : (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ)(٢) وسكت ونزل.

ثمّ تقدّم معاوية فجمّع بالناس فخطبهم خطبة طويلة لم ينقلها تامّة أحد من الرواة وإنما جاءت في الأخبار مقطّعة ، وسنذكر ما انتهى من ذلك إلينا (٣) :

صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : «أما بعد ، فإنه لم تختلف أمّة بعد نبيّها إلّا غلب باطلها حقّها (٤) ثمّ إنه انتبه فقال : «إلّا هذه الأمّة» فإنّها وإنّها» (٥).

ثمّ روى أبو الفرج الأموي ، بسنده عن عبد الرحمن بن شريك ، عن أبيه شريك ، عن الأعمش ، عن سعيد بن سويد أنّه قال في خطبته : «إني والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا ، فإنّكم لتفعلون ذلك ، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم! وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون» ثمّ قال شريك في حديثه : إنّ هذا لهو التهتّك!

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣ : ٤٥ ، الحديث ٥٠ ـ ٥١.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤٧ ، والآية في الأنبياء : ١١١.

(٣) المصدر السابق : ٤٥.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١٦.

(٥) مقاتل الطالبيين : ٤٥ بطريقين عن الشعبي شاهدا.


وروى أيضا بسنده ، عن أبي إسحاق السبيعي الهمداني أنّه قال في خطبته : «ألا إنّ كلّ شيء أعطيته الحسن بن علي تحت قدميّ هاتين لا أفي به» ثمّ قال أبو إسحاق : وكان غدّارا والله (١).

ولكن غيره ـ كالبلاذري ـ نقله معلّلا وبلا تصريح باسم الإمام عليه‌السلام قال : قال في خطبته : «ألا إني كنت قد شرطت في الفتنة شروطا ، أردت بها (الألفة ووضع الحرب) ألا وإنها تحت قدمي!».

وفي آخر قال : وقد كنت شرطت شروطا ووعدت عدات ومنيت أماني! لما أردت من إطفاء نار الفتنة وقطع الحرب ومداراة الناس وتسكينهم.

ثمّ نادى بأعلى صوته : ألا وإني طلبت بدم عثمان ، فقتل الله قاتليه وردّ الأمر إلى أهله على رغم معاطس أقوام! ألا إنّ ذمّة الله بريئة ممّن لم يخرج فيبايع! ألا وإنا قد أجّلناكم ثلاثا! فمن لم يبايع فلا ذمّة له ولا أمان عندنا! قال الراوي : فأقبل الناس من كلّ أوب يبايعونه (٢).

وهذا أولى ، وأقرب وأنسب.

وهنا نقل المعتزلي ، عن المدائني : أن المسيّب بن نجبة الفزاري دخل على الحسن عليه‌السلام وقد صاهرهم فقال له :

ما ينقضي عجبي منك! بايعت معاوية ومعك أربعون ألفا (٣) أعطاك أمرا فيما بينه وبينك ، ولم تأخذ لنفسك وثيقة وعقدا ظاهرا! ثمّ قال ما سمعت! والله ما أراد بما قال غيرك (فلم يصرّح به).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٤٥ ، ومثله في الإرشاد ٢ : ١٤.

(٢) أنساب الأشراف ٣ : ٤٧ ، الحديث ٥٤ و : ٥٠ ، الحديث ٥٥.

(٣) لم نجد هذا العدد فيما مرّ من أخبار التاريخ إلّا في من قدّمهم عليّ عليه‌السلام قبيل مقتله ، فلعلّه يقصدهم.


فقال له الحسن عليه‌السلام : فما ترى؟ فقال : أرى أن ترجع إلى ما كنت عليه فقد نقض ما كان؟

فقال له الحسن عليه‌السلام : يا مسيّب ، إني لو أردت بما فعلت الدنيا لم يكن معاوية بأصبر منّي عند اللقاء ، ولا أثبت منّي للحرب! ولكنّي أردت أن يكفّ بعضكم عن بعض ، فارضوا بقدر الله وقضائه حتى يستريح برّ (الحسن) أو يستراح من فاجر (معاوية) (١).

معاوية في جامع الكوفة :

كان خالد بن عرفطة العذري محالفا لبني زهرة وأسلم وصحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان على عهد علي عليه‌السلام بوادي القرى ، وقيل : مات ، فدخل رجل جامع الكوفة وعلي عليه‌السلام على المنبر ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، قد مات خالد بن عرفطة بوادي القرى فاستغفر له ، فقال عليه‌السلام : مه إنّه لم يمت ، ولا يموت حتّى يقود جيش ضلالة ، وصاحب لوائه حبيب بن حمّاد! وكان حبيب حاضرا وسمع الكلام فقام وقال : يا أمير المؤمنين ، أنا حبيب بن حمّاد وأنا لك محبّ ومن «شيعتك» فقال عليه‌السلام : فإنّه كما أقول! وإيّاك أن تحملها ؛ ولتحملنّها وتدخل بها من هذا الباب! الباب الذي سمّي فيما بعد ذلك باب الفيل (٢).

وكأنّ خالد بن عرفطة الصحابي أصبح من صحابة معاوية في دخوله إلى الكوفة.

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ١٤ ـ ١٥ عن المدائني ، واختصر الخبر الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٠.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤٦ ، ونحوه في الإرشاد ١ : ٣٢٩ ، والاختصاص : ٢٨٠ مع تطبيق غير دقيق بل لا يليق.


قال أبو الفرج : ودخل معاوية الكوفة وبين يديه خالد بن عرفطة ومعه رجل يقال له حبيب بن حمّاد يحمل رايته حتّى دخل الكوفة فصار إلى المسجد فدخل من الباب (الذي سمّي فيما بعد بباب الفيل) واجتمع الناس فخطبهم معاوية فذكر عليّا والحسن ونال منهما! والحسنان حاضران ، فقام الحسين ليردّ عليه فأخذ الحسن بيده وأجلسه ، ثمّ قام هو فقال لمعاوية :

أيها الذاكر عليّا! أنا الحسن ، وأبي علي ، وأنت معاوية وأبوك صخر! وأمي فاطمة ، وأمك هند! وجدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجدّك حرب! وجدّتي خديجة وجدّتك قتيلة! فلعن الله أخملنا ذكرا وألأمنا حسبا ، وشرّنا قدما ، وأقدمنا كفرا ونفاقا! فقال طوائف من الناس : آمين! آمين!

روى أبو الفرج الأموي هذا الخبر بسنده وفيه أبو عبيد ويحيى بن معين ، فروى أبو عبيد : أنّ الراوي يحيى بن معين قال : ونحن نقول : آمين ، وقال أبو عبيد : ونحن أيضا نقول : آمين ، وقال أبو الفرج : وأنا أقول : آمين (١)! فعدم ذكره عليّا عليه‌السلام بالسوء أوّل الشروط نقضا!

المعترضون على صلح الإمام عليه‌السلام :

لم نقف على ذكر لحجر الكندي فيما مرّ من الأخبار ، ولعلّه كان مع عبيد الله بن العباس ثمّ قيس بن سعد ورجع معه ، فقد نقل المعتزلي ، عن المدائني : أنه دخل مع آخر من كندة هو عبيدة بن عمرو مضروبا مجروحا في وجهه

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٤٦ ، وكلام الإمام الحسن عليه‌السلام أرسله المفيد في الإرشاد ٢ : ١٥ ، بلا إسناد. وعن نفحة اليمن : ٦٣ : أن ذلك كان في المدينة سنة (٤٩ ه‍) كما في الإمام المجتبى للمصطفوي : ٢١٩. ولعلّه أولى وأقرب.


في مناوشات أصحاب قيس مع عسكر معاوية في مسكن ، فلما رآه الإمام عليه‌السلام سأله : ما الذي أرى بوجهك؟ قال : أصابني هذا مع قيس.

ثمّ التفت حجر إليه وقال له : لوددت أنك كنت متّ قبل هذا اليوم ومتنا معك ولم يكن ما كان! فقد رجعنا راغمين بما كرهنا ، وهم مسرورون بما أحبّوا! وكان الحسين عليه‌السلام إلى جنبه فرأى الحسن قد تغيّر وجهه من كلام حجر ، فغمزه فسكت.

ثمّ قال الحسن لحجر : يا حجر ؛ ليس كلّ الناس يحبّ ما تحبّ ولا رأيه كرأيك ، وما فعلت ما فعلت إلّا إبقاء عليك (وأمثالك) والله كلّ يوم في شأن (١).

وروى الكشي بسنده ، عن الباقر عليه‌السلام قال : جاء رجل من أصحاب الحسن عليه‌السلام يقال له سفيان بن أبي ليلى (الهمداني) على راحلة له حتّى دخل على الحسن عليه‌السلام وهو محتب في فناء داره ، فوقف وسلم عليه فقال : السلام عليك يا مذلّ المؤمنين! فأجابه الحسن وقال له : انزل ولا تعجل! فنزل وعقل راحلته وأقبل يمشي حتّى انتهى إلى الإمام فقال له : ما قلت؟ قال : قلت : السلام عليك يا مذلّ المؤمنين! قال : وما علمك بذلك؟ قال : عمدت إلى أمر الأمّة فخلعته من عنقك وقلّدته هذه الطاغية يحكم بغير ما أنزل الله!

فقال له الحسن عليه‌السلام : سأخبرك لم فعلت ذلك ، سمعت أبي يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لن تذهب الأيام والليالي حتّى يلي أمر الأمّة رجل واسع البلعوم رحب البطن يأكل ولا يشبع» قال (علي عليه‌السلام) : وهو معاوية ، ثمّ قال الحسن : فلذلك فعلت (الذي فعلت).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ١٥ عن المدائني ، وعليه فلم يكن هذا في مجلس معاوية كما قيل.


ثمّ سأله : ما جاء بك؟ قال : حبّك! قال : الله! قال : الله! فقال الحسن عليه‌السلام : «والله لا يحبّنا عبد أبدا ولو كان أسيرا في الديلم إلّا نفعه الله بحبّنا ، وإنّ حبّنا ليساقط الذنوب من بني آدم كما تساقط الريح الورق من الشجر» (١).

ونقل المعتزلي ، عن المدائني : أن الإمام قال له : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع له ملك بني امية فنظر إليهم يعلون منبره واحدا فواحدا! فشق ذلك عليه ، فأنزل الله تعالى في ذلك قرآنا قال له : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ)(٢) وسمعت عليّا أبي رحمه‌الله قال لي : إنّ القرآن قد نطق بملك بني امية ومدتهم إذ قال تعالى : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)(٣) قال أبي : هذه ملك بني امية! وسيلي أمر هذه الأمة رجل واسع البلعوم كبير البطن! فسألته : من هو؟ قال : معاوية!

ولما أخذ الحسن عليه‌السلام يتجهّز للشخوص إلى المدينة دخل عليه المسيّب بن نجبة الفزاري ومعه ظبيان بن عمارة التيمي ليودّعاه ، فقال الحسن عليه‌السلام : الحمد لله الغالب على أمره (حتّى) لو أجمع الخلق جميعا على أن لا يكون ما هو كائن ما استطاعوا!

وكان الحسين عليه‌السلام حاضرا وكان قد علم باعتراض المسيّب سابقا ، فكأنه أراد أن يسكّنه فقال : لقد كنت أنا كارها لما كان ، طيّب النفس على سبيل أبي ، حتّى عزم عليّ أخي فأطعته وكأنما يجذّ أنفي بالمواسي!

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ١١١ ، الحديث ١٧٨ ، وفي : ٩ الحديث ٢٠ روى عن الكاظم عليه‌السلام : أن سفيان بن أبي ليلى الهمداني من حواري الحسن عليه‌السلام يوم القيامة. وعليه فلا يصح ما جاء في تذكرة السبط : ١٨١ عن الكلبي : أنه كان من الخوارج! وعنه في حياة الحسن عليه‌السلام للقرشي ٢ : ٢٣٠.

(٢) الإسراء : ٦٠.

(٣) القدر : ٣.


فكأنّ المسيّب أراد أن يعتذر عن اعتراضه السابق فقال : والله ما يكبر علينا هذا الأمر إلّا أن تنتقصوا وتضاموا! فأمّا نحن فإنّهم سيبطلون مودّتنا بكلّ ما قدروا عليه. ولكنه مع ذلك عرض على الحسن عليه‌السلام الرجوع عن عهده مرة اخرى! فقال عليه‌السلام : ليس إلى ذلك سبيل!

ثم قال له الحسين عليه‌السلام : يا مسيّب ، نحن نعلم أنك تحبّنا!

فروى الحسن عن أبيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من أحبّ قوما كان معهم» (١).

الإمام في مجلس معاوية :

ذكر في «تذكرة الخواص» عن أهل السير : أن الإمام أقام يتجهّز إلى المدينة ، وبلغ ذلك أصحاب معاوية : عمرو بن العاص والوليد بن عقبة ، وعتبة بن الوليد بن عتبة المخزومي فقالوا لمعاوية : نريد أن تحضر الحسن على سبيل الزيارة قبل مسيره إلى المدينة ، لنخجله! وألحّوا عليه.

فأرسل معاوية إلى الحسن واستزاره. فلما حضر تحدثوا فتناولوا عليّا عليه‌السلام بمرأى ومسمع من الحسن عليه‌السلام ، وسكت حتّى فرغوا من كلامهم الفارغ ، فلما فرغوا بدأ الحسن عليه‌السلام.

فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ قال لهم :

إن الذي أشرتم إليه بايع البيعتين وصلّى إلى القبلتين ، وأنتم بالجميع مشركون وبما أنزل الله على نبيّه كافرون!

وبات أمير المؤمنين يحرس رسول الله من المشركين وفداه بنفسه ليلة الهجرة حتّى أنزل الله فيه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ)(٢).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ١٦ عن المدائني.

(٢) البقرة : ٢٠٧.


ووصفه الله بالإيمان فقال : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا)(١) والمراد به أمير المؤمنين.

وقال له رسول الله : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» و «أنت أخي في الدنيا والآخرة».

وأنت ـ يا معاوية ـ قد علمت الفراش الذي عليه ولدت! وكنت يوم بدر .. تقاتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنت الذي كنت تنهى أباك عن الإسلام حتّى قلت مخاطبا إياه (بعد بدر) :

يا صخر لا تسلمن طوعا ، فتفضحنا

بعد الذين (ببدر) أصبحوا مزقا

وكنت في أحد والخندق والمشاهد كلها تقاتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونظر النبيّ إليك يوم الأحزاب فرأى أباك على جمل يحرّض الناس على قتاله ، وأخوك يقود الجمل وأنت تسوقه ، فقال : «لعن الله الراكب والقائد والسائق» وما قابله أبوك في موطن إلّا ولعنه وكنت معه ، وقال رسول الله في حقك : «اللهم لا تشبعه».

ثمّ التفت إلى عمرو بن العاص وقال له : وأما أنت يا ابن النابغة! فقد ادّعاك خمسة من قريش وغلب عليك ألأمهم ، وهو العاص ، وفيك نزل : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)(٢) فأنت عدو الله ورسوله وعدو المسلمين ، وكنت عليهم أضرّ من كلّ مشرك ، وأنت القائل :

ولا أنثني عن بني هاشم

بما اسطعت في الغيب والمحضر

وعن عائب اللات لا أنثني

ولو لا رضا اللات لم نمطر

__________________

(١) المائدة : ٥٥.

(٢) الكوثر : ٣.


وأما أنت يا وليد ؛ فلا ألومك في بغض أمير المؤمنين ، فإنّه قتل أباك صبرا ، وجلدك في الخمر لما صلّيت بالمسلمين الفجر سكرانا وقلت : أزيدكم؟! وقد سمّاك الله في كتابه فاسقا وسمّى أمير المؤمنين مؤمنا في قوله : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ)(١) ثمّ أنشد شعر حسّان فيه وفي أمير المؤمنين.

ثمّ قال : وأما أنت يا عتبة (بن الوليد المخزومي) فلا ألومك في أمير المؤمنين ، فإنه قتل أباك (الوليد) يوم بدر ثمّ شرك في دم ابن عمّك شيبة. وهلّا أنكرت على من وجدته في فراشك مع عرسك حتّى قال فيك نصر بن الحجّاج :

نبّئت عتبة هيّأته عرسه

لصداقة الهذلي من لحيان

ألفاه معها في الفراش! فلم يكن

فحلا! وأمسك خشية النسوان

لا تعتبن يا عتب نفسك حبّها

إن النساء حبائل الشيطان

ثمّ قام الحسن عليه‌السلام ونفض ثوبه وانصرف (٢).

ويبدو أنّ معاوية بن حديج الكندي قاتل ابن أبي بكر بمصر كان مع ابن العاص ومع ابن أبي سفيان اليوم في كوفان ، وبلغ الإمام عليه‌السلام أن ابن حديج شتم عليّا عليه‌السلام عند معاوية ، فقال لمولى له كان معه : أتعرف معاوية بن حديج؟ قال : نعم ، قال : فإذا رأيته فأعلمني. ومرّ يوما بدار عمرو بن حريث فرآه المولى خارجا من دار عمرو ، فقال للإمام : هو هذا! فدعاه الحسن عليه‌السلام وقال له : أنت الشاتم عليّا عند ابن آكلة الأكباد! أما والله لئن وردت الحوض ـ ولا يرده ـ لترينّه مشمّرا عن ساقيه حاسرا عن ذراعيه يذود عنه المنافقين!

__________________

(١) السجدة : ١٨.

(٢) تذكرة الخواص : ١٨٢ ـ ١٨٤ وفي : ١٨٧ قال : وقيل : إن القصّة جرت بالشام. وشرح المثالب فيها عن كتاب المثالب للكلبي في : ١٨٤ ـ ١٨٧ ، وقد طبع ونشر.


ولقى يوما حبيب بن مسلمة الفهري القرشي من قادة معاوية فقال له : يا حبيب ، ربّ مسير لك في غير طاعة الله!

فقال معتزّا بالإثم : أما مسيري إلى أبيك (في صفّين) فليس من ذلك!

قال الإمام : بلى والله ، ولكنّك أطعت معاوية على دنيا قليلة زائلة ، فلئن قام بك في دنياك لقد قعد بك في آخرتك! ولو كنت إذ فعلت شرّا قلت خيرا كان ذلك كما قال الله عزوجل : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً)(١) ولكنّك كما قال الله سبحانه : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٢).

الحسين عليه‌السلام والمعترضون :

ويوم وقف الحسين عليه‌السلام على الغلمان يأمرهم بحمل متاعهم التقى به جندب بن عبد الله الأزدي وسعيد بن عبد الله الحنفي وسليمان بن صرد الخزاعي والمسيّب بن نجبة الفزاري وعليهم ما بهم من الكآبة وسوء الهيئة ، فلما رأى ما بهم من ذلك ذكر لهم كراهية للصلح وقال : لكنت طيب النفس بالموت دونه! ولكن أخي عزم عليّ وناشدني فاطعته وكأنّما يحزّ أنفي بالمواسي ويشرّح قلبي بالمدى! وقد قال الله عزوجل : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً

__________________

(١) التوبة : ١٠٢.

(٢) المطفّفين : ١٤ ، والخبران في أنساب الأشراف ٣ : ١٣ و ١٤ ، الحديث ٩ و ١٠ عن المدائني بسنده ، وعنه في شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ١٨ ، وفي مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٨ مرسلا.

ولم يدم العمر بالفهري بعد هذا كثيرا حتّى وجّهه معاوية إلى أرمينية سنة (٤٢ ه‍). فمات بها ، كما عن الاستيعاب ١ : ٣٢٧ ، وعليه فلا يصح أن ذلك كان في المسجد النبوي بالمدينة سنة حجّ معاوية ، فسيأتي أن ذلك كان سنة (٤٤ ه‍) أي بعد هلاك ابن حديج بعامين ، وانظر مسند الإمام المجتبى للعطاردي : باب ٥٨.


وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) وقال : (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً)(٢) و (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً)(٣) و (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً)(٤).

فعرض عليه سعيد وسليمان الرجوع عن الصلح! فقال : هذا ما لا يكون ولا يصلح!

فقال له الأزدي : والله ما بنا إلّا أن تضاموا وتنتقصوا ، فأمّا نحن فإنا نعلم أن القوم سيطلبون مودتنا بكلّ ما قدروا عليه ، ولكن حاش لله أن نؤازر الظالمين ونظاهر المجرمين ونحن لكم «شيعة» ولهم عدوّ! وقال الخزاعي : هذا كلامنا كلّنا. فقال الحسين عليه‌السلام : بررتم وصدقتم رحمكم الله.

فقالوا : فمتى أنت سائر؟ قال : غدا إن شاء الله. فخرجوا معهم إلى دير هند (٥) من الحيرة.

الإمام ، وفراق العراق :

روى الطبري ، عن عوانة بن الحكم : أن الإمام عليه‌السلام لما عزم على فراق العراق خرج إلى مسجد الكوفة وخطبهم فقال لهم : يا أهل الكوفة ، اتّقوا الله في جيرانكم وضيفانكم ، وفي «أهل بيت» نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.

__________________

(١) البقرة : ٢١٥.

(٢) النساء : ١٩.

(٣) الأحزاب : ٣٧.

(٤) الأحزاب : ٣٨.

(٥) أنساب الأشراف ٣ : ١٥٣ الحديث ١٦٢.


فأخذ الناس يبكون. ثمّ تحمّلوا إلى المدينة (١).

وقال البلاذري : شخص الحسن عليه‌السلام إلى المدينة ، وشيّعه معاوية إلى قنطرة الحيرة.

وخرج خوارج على معاوية مع ابن الحوساء الطائي ، فبعث معاوية بكتاب إلى الحسن يأمره فيه أن يرجع فيقاتل الخوارج عليه. فلحقه الرسول بالكتاب في القادسية ، فلما قرأ الكتاب أبلغه : تركت قتالك ـ وهو لي حلال ـ لصلاح الأمة والفتهم ، أفتراني اقاتل معك (٢)؟!

وفي اليعقوبي : أن فروة بن نوفل الأشجعي كان قد اعتزل من خوارج (النهروان) سنة (٤٠) إلى شهرزور في جمع منهم حتّى صار في ألف وخمسمائة! فلما بلغه قتل علي عليه‌السلام وغلبة معاوية أقبل فيهم إلى النخيلة ، فوجّه معاوية إليه خيلا من أهل الشام ، فهزمهم! فألزم معاوية أهل الكوفة بالخروج إليهم فخرجوا إليه خوفا وقاتلوه حتّى قتلوه (٣).

وروى الخبر الطبري ، عن عوانة وفيه : أنه خرج إليه قومه من أشجع ، ومن طيّئ واستعملوا عليهم عبد الله بن أبي الحرّ الطائي ، حتّى أخذ الأشجع صاحبهم فروة وقتل (٤).

وأكمل الخبرين المبرّد في «الكامل» فجمع بينهما قال : كان حوثرة الأسدي بمن معه من الخوارج في بندنجين ، وحابس الطائي بجمعه في موضع آخر ، فلما حلّ معاوية بنخيلة الكوفة كتب حوثرة إلى حابس يسأله أن يتولّى أمر الخوارج حتى

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ١٦٥ ولا يخفى ما في الخبر من دلالة على معنى أهل البيت في الآية.

(٢) أنساب الأشراف ٣ : ٤٨ ـ ٤٩ ، الحديث ٥٤.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١٧.

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ١٦٥ ـ ١٦٦.


يسير إليه بجمعه فيتعاضدا على جهاد معاوية ، فأجابه ، فرجعا إلى نخيلة الكوفة. فوجّه معاوية إلى الحسن في طريقه إلى المدينة أن يرجع إليه فيتولى حرب الخوارج فأجابه الحسن عليه‌السلام : والله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين ... أفأقاتل عنك قوما أنت أولى بالقتال منهم (١)!

ولما صار بدير هند نظر إلى الكوفة فتمثل بقول القائل :

ولا عن قلى فارقت دار معاشري

هم المانعون حوزتي وذماري (٢)

ولا نعثر في خلال أخبار صلح الحسن عليه‌السلام على أي خبر عن عبد الله بن العباس بالبصرة ، حتّى نرى الطبري يروى عن أبي عبيدة : أنه لما تمّ الصلح حمل مالا قليلا من بيت المال وقال : هي أرزاقي (٣). وعنه في تعبير آخر : أنه حمل معه مقدار ما اجتمع عنده من الأرزاق. ثمّ دعا أخواله بني هلال ومعهم سائر قيس ، فحمل ثقله إلى مكة ، فلحقه جمع من أخماس البصرة بموضع الطفّ ، يريدون استرداد المال وهو قليل ، فلما تواقفوا للقتال تراجع صبرة الحداني الأزدي بقومه لعلمه بقلة المال ، فتبعهم بكر وعبد القيس ، وتراجع عنه الأحنف بن قيس التميمي بجمع منهم ، وأصرّ آخرون منهم فتقاتلوا وكثر الجراح بينهم بلا قتيل ، ورجع عليهم جمع من الأخماس فردّوهم عنهم ، فمضى ابن عباس ومعه عشرون رجلا من بني هلال حتّى قدم مكة (٤).

__________________

(١) الكامل للمبرّد ٣ : ١٣٣.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ١٦ عن المدائني ، وعليه فهو يحنّ إلى الكوفة ولا يدينها بالمرّة.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ١٤٣.

(٤) المصدر السابق ٥ : ١٤٢ ، ولم يذكر شيء عن بيعته لمعاوية. وهذا هو الأصل في اتهامه باختلاس بيت مال البصرة!


عاملا الشام على العراقين :

وكان مع معاوية عمرو بن العاص وابنه عبد الله وقدم عليه المغيرة بن شعبة بعد وصول معاوية باثنتي عشرة ليلة (١) ، فاستعمل معاوية على الكوفة عبد الله بن عمرو ، فأتاه المغيرة وقال له : استعملت عبد الله بن عمرو على الكوفة وأبوه على مصر ، فتكون بين لحيي الأسد! فعزل عبد الله واستعمل المغيرة. وبلغ مقالة المغيرة لمعاوية إلى ابن العاص ، فدخل على معاوية وقال له : استعملت المغيرة على الكوفة؟ قال : نعم ، قال : أجعلته على الخراج والصلاة؟ قال : نعم ، قال : تستعمل المغيرة على الخراج فيغتال المال ويذهب فلا تستطيع أن تأخذ منه شيئا؟! استعمل على الخراج من يتّقيك ويخافك ويهابك! فحصر معاوية أمارة المغيرة في الكوفة في الصلاة فلقى المغيرة عمروا فسأله : أنت المشير على أمير المؤمنين! بما أشرت به في عبد الله؟ قال : نعم ، فقال : هذه بتلك (٢)!

ولما ولى معاوية المغيرة الكوفة دعاه فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال له : أما بعد .. فقد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة ، وتركتها اعتمادا على بصرك بما يرضيني ويسدّد سلطاني ويصلح رعيتي ، ولكني لست أترك إيصاءك بخصلة : لا تحجم عن الترحّم على عثمان والاستغفار له وعن الإطراء على شيعة عثمان وإدنائهم والاستماع منهم. وعن شتم علي عليه‌السلام وذمّه وعيب أصحابه وترك الاستماع منهم بل وإقصائهم!

فقال المغيرة : قد عملت قبلك لغيرك فلم يدمّ فيّ دفعا ولا رفعا ولا وضعا ، وستبلو فتحمد أو تذم. فقال معاوية : بل نحمد إن شاء الله!

فكانت مقالته (المكرّرة في خطبه) : اللهم ارحم عثمان بن عفان وتجاوز عنه ، واجزه ، بأحسن عمله ، فإنه عمل بكتابك واتّبع سنّة نبيك! وجمع كلمتنا

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦٤٥.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ١٦٦ عن عوانة بن الحكم ، ولو كان ذلك فإنما لفترة لا دائما.


وحقن دماءنا وقتل مظلوما! اللهمّ فارحم أنصاره وأولياءه ومحبّيه والطالبين بدمه! فلا يدع الدعاء لعثمان بالرحمة والاستغفار له والتزكية لأصحابه ، وذمّ علي والوقوع فيه والعيب لقتلة عثمان واللعن لهم (١).

أما البصرة : فإنها لما غادرها ابن عباس ، كان بها من موالي عثمان : حمران بن أبان ، وحيث كان مولى عثمان وقد تغلّب العثمانيون ، تغلّب هذا على البصرة فضولا (٢).

وعزم معاوية أن يبعث على البصرة أخاه عتبة بن أبي سفيان ، وكان عبد الله ابن عامر بن كريز الفهري ابن خالة عثمان عامله على البصرة حين مقتله ، وعلم بعزم معاوية ، فقام إليه وقال له : يا أمير المؤمنين! إنّ عثمان هلك وأنا عامل البصرة ، وعزلني علي عليه‌السلام فجعلت أموالي ودائع عند الناس ، فإن أنت لم تولّني البصرة ذهب مالي الذي في أيدي الناس! فولّاه البصرة ولكنّه سرّح معه بسر بن أبي أرطاة في جيشه (٣) وكان يهمّ معاوية أمر زياد بن عبيد الثقفي وهو في اصطخر فارس ، فأمر معاوية بسرا بقتل أبناء زياد (٤).

الأشعري وأبو هريرة في الكوفة :

قال الثقفي : لما قدم معاوية النخيلة اجتمع إليه فيها أشياعه ومن كان يهوى هواه ، فأتاه المغيرة بن شعبة من الطائف ـ بعد اثنتي عشرة ليلة! ـ وعبد الله بن قيس أبو موسى الأشعري من مكة ، فلما جاءه قال له : السلام عليك يا أمير المؤمنين! قال : وعليك السلام ، وعلم معاوية أنه جاءه يطمع في ولاية ، فلما تولّى قال معاوية : والله لا يلي هذا على اثنين حتى يموت!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٢٥٤ عن الكلبي ، عن أبي مخنف ، عن الشعبي وهو يمدح المغيرة.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ١٦٧ عن النميري البصري.

(٣) الغارات ٢ : ٦٤٥ ـ ٦٤٦.

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ١٦٧ عن النميري البصري.


ودخل أبو هريرة المسجد وأخذ يحدثهم يقول : قال رسول الله ، وقال أبو القاسم ، وقال خليلي!

وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام قد ناشد جمعا من الصحابة برحبة المسجد الجامع بالكوفة عن حديث الغدير ، وكان هناك شاب من أبناء الأنصار في الكوفة ، فقام إلى أبي هريرة وتخطّى الناس حتّى دنا منه فقال له : يا أبا هريرة! حديث أسألك عنه ، فإن كنت سمعته من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فحدّثنيه ، أنشدك بالله! سمعت النبيّ يقول لعلي : «من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه»؟ قال أبو هريرة : نعم والله الذي لا إله إلّا هو لسمعته من النبيّ يقول لعلي : «من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه»! فقال له الفتى : لقد والله واليت عدوّه وعاديت وليّه!

فتناول بعض الناس الشاب بالحصى! وقام أبو هريرة فخرج من المسجد ولم يعد إليه (١).

بسر في البصرة في رجب (٤١ ه‍) (٢) وأبناء زياد :

وأقبل بسر إلى البصرة فصعد المنبر في جامعها وقال : الحمد لله الذي أصلح أمر الأمة! وجمع الكلمة (٣) وأدرك لنا بثأرنا! وكفانا مئونة عدوّنا! ألا إن الناس آمنون ، ليس في صدورنا على أحد ضغينة ولا نأخذ أحدا بأخيه ...

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦٥٦ ـ ٦٥٩. ونقل المعتزلي في شرح النهج ٤ : ٦٧ عن الإسكافي ، عن الأعمش ، عن أبي هريرة حديثا في لعن علي عليه‌السلام وفي آخره فأجازه معاوية وولّاه إمارة المدينة!

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ١٦٨ عن المدائني البصري.

(٣) وهكذا دعوا ذلك العام : عام الجماعة!


ألا إنّ الله طلب بدم عثمان فقتل قاتليه! وردّ الأمر إلى أهله! ثمّ نادى بأعلى صوته : ألا إن ذمّة الله بريئة ممّن لم يبايع! فأقبلوا يبايعونه (١).

ثم ذكر عليّا عليه‌السلام فقال : أنشدكم الله ، أتعلمون أن عليّا كان كافرا منافقا؟! فسكت الناس ، فردّ عليهم قوله وقال : ألا ترون أناشدكم؟!

وكان فيهم أبو بكرة بن عبيد الثقفي أخو زياد ، ممّن رأى رسول الله وسمع حديثه ، وممّن شهد على المغيرة الثقفي بالزنا فضربه عمر ، فقام إلى بسر وقال له : أما إذ ناشدتنا فلا نعلم أنه كان كافرا ولا منافقا! فأمر بسر جلاوزته بضربه فضربوه حتّى كادوا أن يقتلوه! فوثب بنو السيد من ضبّة فاستنقذوه من أيديهم (٢).

وكان معاوية على عهد علي عليه‌السلام قد كتب إلى زياد يدعوه إليه ويعده ويوعده ، فكتب زياد في جوابه : أما بعد ، فقد بلغني كتابك يا ابن بقية الأحزاب! وابن عمود النفاق! وابن آكلة الأكباد! أتهدّدني وبيني وبينك ابن عمّ رسول الله في سبعين ألفا ، سيوفهم قواطع! وايم الله لئن رمت ذلك منّي لتجدني أحمر (أي مولى) ضرّابا بالسيف!

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦٤٦.

(٢) الغارات ٢ : ٦٥٠ ـ ٦٥١ ، وروى الطبري ٥ : ١٦٧ ـ ١٦٨ عن المدائني البصري : أن بسرا شتم عليا عليه‌السلام ثمّ قال : نشدت الله رجلا علم أني صادق إلّا صدّقني! أو كاذب إلّا كذّبني! فقام أبو بكرة وقال له : اللهم إنا لا نعلمك إلّا كاذبا! فأمر به جلاوزته فخنقوه ، فقام أبو لؤلؤة الضبّي فرمى بنفسه عليه فأنقذه ، فأقطعه أبو بكرة مائة جريب! ونقل ابن الأعثم كلام أبي بكرة أنه قال له : كذبت يا عدوّ الله ، قد كان علي بن أبي طالب خيرا منك ومن صاحبك الذي ولّاك علينا! ونسب الشتم إلى عمرو بن أبي أرطاة أخي بسر ، وأنه أمر جلاوزته به فخلّصه رجل من بني ضبّة ثمّ غيّبه الناس فلم يقدروا عليه. الفتوح ٤ : ١٦٨ وعليه فهذا المقام والكلام لم يكن أول دخوله البصرة ، بل بعد ذلك بفترة ، لما يأتي.


فأجابه معاوية : أما بعد ، فقد بلغني كتابك ، وايم الله لئن بقيت لأكافئنّك!

وكان زياد عاملا لعلي عليه‌السلام على فارس ... فلما بلغه قدوم عبد الله بن عامر أميرا على البصرة دخل قلعة بفارس فنزلها وتحصّن بها حتى سمّيت باسمه قلعة زياد (١).

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦٤٦ ـ ٦٤٨ ، وقد مرّ خبر الكتاب عن ابن مزاحم في وقعة صفين : ٣٦٦ ـ ٣٦٧ بلا تاريخ ، وبلا ذكر سبب أو مناسبة. ورواه الطبري ٥ : ١٧٠ عن النميري البصري عن المدائني البصري عن الشعبي : أن ذلك كان بعد عهد علي عليه‌السلام ، وكذلك نقله اليعقوبي مرسلا ٢ : ٢١٨ : لما صار الأمر إلى معاوية. وليس فيه ما نقله عنه الارموي في هامش الغارات ٢ : ٦٤٧ ، واختلف مضمون الكتاب والخطاب باختلاف الأخبار بين عهد عليّ وعهد الحسن عليهما‌السلام ، وأكثرها على الأخير وهو الأقرب والأنسب ، وعليه فلا يرجّح ما جاء أعلاه وفي نهج البلاغة ك : ٤٤ من كتاب علي عليه‌السلام إليه في ذلك. وفي تفسير الأحمر بالمولى ـ كما نصّ نصر بن مزاحم في وقعة صفين : ٣٦٧ ـ جاء عن ابن خلّكان في وفيات الأعيان في ترجمة يزيد بن المفرّغ الحميري : أن أبا الجبر يزيد بن عمر بن شراحبيل كان من ملوك كندة في اليمن فتغلّب عليه قومه (وكانت اليمن في حكم الفرس الساسانيين) فخرج إلى كسرى في بلاد فارس يستنصره عليهم بجيش معه. فبعث معه جيشا من الأساورة فأقبلوا معه على طريق أهواز فالبصرة (القديمة) فقرية الكاظمة على ثغر الصحراء فاستوحشوا من بلاد العرب وقلة خيرها ، فتواعدوا مع طبّاخه ودسّوا إليه سمّا فتوجّعت بطنه شديدا ، فطلب الأساورة منه أن يكتب لهم إلى كسرى بتسريحهم عنه ، فكتب لهم ذلك ورجعوا عنه.

وكان كسرى قد وهب له عبدا وجارية سمّاهما عبيدا وسميّة ، فاحتمل معهما إلى طبيب العرب في الطائف : الحارث بن كلدة الثقفي ، فعالجه وأحسّ بتحسّن فوهبهما له ، وكان عقيما فزوّجهما فولدت منه أربع بنين : نافعا ونفيعا وهو أبو بكرة وزيادا ونسبوا إلى الحارث! وشبلا ونسب إلى معبد الثقفي ، وارتاد إليها أبو سفيان فنسب زياد إليه. وزياد قبل أن ينتسب إليه كان ينتسب إلى عبيد ، وكأنّه كان يراه فارسيا ، وكان العرب يكنّون


ووثب بسر على بني زياد : عبيد الله وسالم ومحمد فأوقفهم (١) وكتب بسر إلى زياد : أن أقدم عليّ وإلّا قتلت ولدك!

فكتب زياد إليه : والله لا امكّنك من نفسي ولو قتلت ولدي صبية لا ذنب لهم ، فأبعد لا والله.

فخرج عمّهم أبو بكرة الثقفي من البصرة إلى الكوفة إلى معاوية على برذون له في ثلاثة أيام ، حتّى قدم على معاوية فدخل عليه (٢) وقال له :

السلام عليك يا أمير الفاسقين ولا رحمة الله ولا بركاته! اتّق الله يا معاوية ، واعلم أنك في كلّ يوم يزول عنك وليلة تأتي عليك ، لا تزداد من الدنيا إلّا بعدا ومن الآخرة إلّا قربا ، وعلى إثرك طالب لا تفوته قد نصب لك علما لا تجوزه ، فما أسرع ما تبلغ العلم ، وما أوشك ما يلحقك الطالب ، إنّ ما نحن وأنت فيه زائل ، وإن الذي نحن إليه صائرون باق ، إن خير وإن شرّ ، فنسأل الله الخير ونعوذ به من الشرّ ، سكت وجلس لا يتكلم.

فقال له معاوية : يا أبا بكرة ، أزيارتنا أشخصتك أم حاجة حدثت لك؟

قال : لا والله لا أقول باطلا ، ولكنّها حاجة بدت لي قبلك.

__________________

ـ عن الفرس بالحمر فقال عن نفسه : أحمر. وكأنّه خفي هذا الخبر عن بعضهم فقرءوه : أحمز وفسروه بالأشدّ! كما في الطبري (٥ : ١٧٠) خلافا لنصّ نصر بن مزاحم وكان الحارث كاتبا فلعل زيادا استزادها منه ، وكان في ثقيف ولعلّه لمعرفته بشيء من أمور العجم استكتبه المغيرة الثقفي في البصرة ، فلم يشهد عليه بالزنا حتّى ضرب إخوته الثلاثة حدّ القذف!

(١) الغارات ٢ : ٦٤٨.

(٢) الغارات ٢ : ٦٥١ ـ ٦٥٢.


قال : فهات حاجتك ، فما أحبّ إلينا ما يسرّك! قال : أريد أن تؤمّن أخي زيادا. قال : هو آمن على نفسه (١) فقال له أبو بكرة : فهل بايعناك على أن تقتل الأطفال؟! قال : فما ذلك يا أبا بكرة؟ قال : هذا بسر يريد أن يقتل بني زياد (٢)! قال معاوية : ولكن في يده مال فارس! قال أبو بكرة : إنه يزعم أنه يدفع ما كان في يده من حقوق المسلمين وإنه ليطلب صلحك. قال : وكم هذا المال؟ قال : خمسة آلاف ، قال : فقد أمّنته ورضيت منه بهذا المال. قال : فاكتب إلى بسر فليخلّ سبيل بني أخي فإنه قد حبسهم (يريد قتلهم) فكتب إليه : أما بعد ، فإن أبا بكرة أتاني والتمس لأخيه الأمان على ما أحدث! والصلح على ما في يديه ، فخلّ سبيل بني أخيه حين يقدم عليك ، والسلام (٣).

فرجع أبو بكرة بكتاب معاوية إلى بسر ، في ثلاثة أيام ، فلما وصل إلى مربد البصرة مات برذونه من الإرهاق ، وكان بسر قد أمر بخشب الصلب فنصبت لأبناء زياد ليصلبهم عند الغروب فرفع أبو بكرة كتاب معاوية إلى بسر بيده يلوّح به حتّى بلغ بسرا قبل الغروب ، فخلّى سبيلهم (٤) وأخذ يتتبّع كلّ من كان له بلاء مع علي عليه‌السلام أو كان من أصحابه ، وكلّ من أبطأ عن بيعة معاوية ، فينهب أموالهم ويخرب دورهم ويحرقها (٥) ثمّ عاد بعد ستة أشهر إلى معاوية (٦). وقد مرّ أن بعثه إلى البصرة كان في رجب سنة إحدى وأربعين فبعد ستة أشهر يعني إلى آخر تلك السنة ، ولذلك

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦٤٩ ـ ٦٥٠.

(٢) الغارات ٢ : ٦٥٢.

(٣) الغارات ٢ : ٦٥٠.

(٤) الغارات ٢ : ٦٥٢ ، وانظر الطبري ٥ : ١٦٧ ـ ١٦٩.

(٥) الغارات ٢ : ٦٥٣.

(٦) الطبري : ١٦٨.


قال في ابن عامر أنه قدمها في آخر سنة إحدى وأربعين ، وإليه خراسان وسجستان ، فولّى حبيب بن شهاب الشامي شرطته ، واستقضى عميرة بن يثربي الضبّي. وحجّ بالناس في هذه السنة عتبة بن أبي سفيان أو أخوه عنبسة وجعل على مكة خالد بن العاص المخزومي ، وعلى المدينة مروان بن الحكم (١).

معاوية والروم :

وكأنّ الروم راموا اغتنام غياب أصحاب معاوية عن ثغر الشام فجمعوا جموعا كثيرة وأعدّوا منهم خلقا عظيما لذلك ، وعاد معاوية إلى الشام قبل نهاية العام فبلغه ذلك ، وخاف أن يشغله أمرهم عمّا كان يحتاج إليه من إحكام وإبرام وتدبير للأمور ، فوجّه إلى الروم فصالحهم على أن يقدّم لهم مائة ألف دينار! وذلك في أوّل سنة (٤٢ ه‍) (٢).

والشام أرض مقدّسة وهو كاتب الوحي :

روى الواقدي قال : لما عاد معاوية من العراق خطب فقال : أيها الناس ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (كذا) قال لي : «إنك ستلي الخلافة من بعدي! فاختر الأرض المقدّسة! فإن فيها «الأبدال» وقد اخترتكم! فالعنوا «أبا تراب» فلعنوه!

وفي غده كتب كتابا ثمّ جمعهم فقرأه عليهم وفيه : «هذا كتاب كتبه أمير المؤمنين معاوية صاحب وحي الله (كذا) فكان الوحي ينزل على محمّد وأنا أكتبه وهو لا يعلم ما أكتب! فلم يكن بيني وبين الله أحد من خلقه!» فقال من حضره : صدقت يا أمير المؤمنين!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ١٧٠ ـ ١٧١.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١٧ ، وانظر تاريخ خليفة : ١٢٥.


وبذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم ليروي : أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ* وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ)(١) وأن الآية التالية نزلت في ابن ملجم وهي قوله سبحانه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)(٢) فلم يقبل فضاعفها مائتي ألف درهم فلم يقبل ، فضاعفها ثلاثمائة فلم يقبل ، فضاعفها أربعمائة فقبل وفعل ما أراد (٣).

وأمر زياد ومعاوية :

روى الطبري ، عن النميري البصري ، عن المدائني البصري : أن زيادا أقام في قلعته أكثر من سنة (بعد الصلح) ولم يقدم على معاوية ، فكتب إليه : أن أقدم عليّ فأعلمني علم ما صار إليك مما اجتبيت من الأموال وما خرج من يدك وما بقي عندك ، فإن أحببت المقام عندنا أقمت ، وإن أحببت أن ترجع إلى مقامك أو مأمنك رجعت وأنت آمن.

وعن المدائني عن أبي مخنف : أن زيادا خرج من فارس إلى معاوية مع المنجاب بن راشد الضبّي ، وحارثة بن بدر الغدّاني ، وبلغ ذلك معاوية ، فسرّح عبد الله بن خازم السلمي من البصرة في جماعة إلى فارس وقال له :

__________________

(١) البقرة : ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

(٢) البقرة : ٢٠٧.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ٤ : ٧٢ ـ ٧٣ عن الإسكافي ، عن الواقدي ، وسيأتي لاحقا ما في خبر وفاته من عبرة بعد ولايته البصرة.


لعلّك تلقى زيادا في طريقك فتأخذه ، فلقيهم في أرّجان أو سوق الأهواز ، فكانت بينهم منازعة ، فقال زياد : قد أتاني أمان معاوية وهذا كتابه إليّ فأنا أريده. فقال ابن خازم : إن كنت تريده فلا سبيل عليك (١) وتركه.

وكان أخوه لأمّه أبو بكرة الثقفي منذ استشهد زيادا على زنا المغيرة بن شعبة في البصرة ، وحضر زياد مع الشهود عند عمر ولكنه لما رأى كراهة عمر لتلك الشهادة لم يتمّها ، فحدّ عمر أبا بكرة حدّ القذف ، كان أبو بكرة قد أقسم على نفسه أن لا يكلّم أخاه زيادا أبدا فكان مقاطعا له (٢) ، ولكنه لم يمنع أبو بكرة ابنه عبد الرحمن أن يلي أموال عمّه زياد بالبصرة فكان يتولّاها ، وبلغ ذلك إلى معاوية ، وكان يرى ابن عامر ضعيفا غير شديد ، فبعث معاوية إلى المغيرة بن شعبة أن يسير إلى البصرة فيعذّب عبد الرحمن ليسلّم إليهم أموال زياد ، فقدم المغيرة البصرة وأخذ عبد الرحمن فألقى على وجهه حريرة مبلّلة فكانت تلتزق بوجهه فتخنقه ويغشى عليه ، فعل ذلك ثلاث مرّات! ثمّ خلّاه وقال له : لئن كان أساء إليّ أبوك فلقد أحسن لي زياد! فاحتفظ بما أمرك به عمّك! وكتب إلى معاوية : إني لم اصب في يد عبد الرحمن شيئا يحلّ لي أخذه ، وعذّبته فلم أجد عنده شيئا! وبذلك حفظ لزياد منّته عليه (٣)!

واليوم أمر زياد ابن أخيه عبد الرحمن أن يتقدمه إلى معاوية فيخبره بقدوم زياد إليه ، ففعل. ثمّ قدم زياد الشام ، فسأله معاوية عمّا صار إليه من أموال فارس فأخبره فصدّقه (٤).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ١٧٨ ـ ١٧٩.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ١٨٨ عن الجاحظ.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ١٧٦ ـ ١٧٧ عن المدائني البصري.

(٤) الطبري ٥ : ١٧٨ عن المدائني.


زياد وابن عباس في الشام :

نفتقد ابن عباس بعد عودته من البصرة إلى مكة حتّى نجده في خبر المعتزلي عن المدائني : أنه وفد على معاوية فجمع له معاوية المغيرة بن شعبة وزياد بن سمية فذلك بعد لحوقه بالشام هذا العام (٤٢ ه‍) وعمرو بن العاص فذلك قبل هلاكه سنة (٤٣ ه‍) وابنه يزيد ، وأخاه عتبة بن أبي سفيان ، وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم وعبد الرحمن بن أم الحكم وقال لهم : إنه قد طال العهد بعبد الله بن عباس وما كان شجر بيننا وبينه وبين ابن عمّه (علي عليه‌السلام) ولقد كان نصبه للتحكيم فدفع عنه. فحرّكوه على الكلام لنبلغ حقيقة صفته ونقف على كنه معرفته ، ونعرف شبا حدّه ودهاء رأيه ، فربّما وصف المرء بغير ما هو فيه وأعطي من النعت والاسم ما لا يستحقه.

ثمّ أرسل إلى ابن عباس ، فلما استقرّ به المجلس ابتدأه معاوية فقال : يا ابن عباس ، ما منع عليّا أن يوجّه بك حكما؟ وكان ابن العاص حاضرا فقال ابن عباس : أما والله لو فعل لقرن عمرا بصعبة من الإبل ، ولأذهلت عقله وقدحت في سويداء قلبه ، فلم يبرم أمرا إلّا كنت منه بمرأى ومسمع ، بأصالة رأي كمتاح الأجل أصدع به أديمه وأفلّ به شبا حدّه ، وأزيح به شبه الشاكين.

فالتفت ابن العاص إلى معاوية وقال له : يا أمير المؤمنين! هذا والله نجوم أول الشر! وفي حسمه قطع مادته ، فبادره بالحملة وانتهز منه الفرصة ، واردع بالتنكيل به غيره وشرّد به من خلفه!

فأجابه ابن عباس : يا ابن النابغة! ضلّ والله عقلك وسفه حلمك ونطق الشيطان على لسانك! هلّا تولّيت ذلك يوم صفّين حين دعيت إلى النزال وتكافح الأبطال ، وكثرت الجراح وتقصّفت الرماح ، وبرزت إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام مصاولا فانكفأ نحوك بالسيف حاملا ، فلما رأيت الكواشر من الموت أعددت حيلة السلامة


قبل لقائه ، والانكفاء عنه بعد إجابة دعائه ، فمنحته رجاء النجاة عورتك! وكشفت له خوف بأسه سوأتك! ثمّ أشرت على معاوية بمبارزته ، رجاء أن تكفى مئونته وتعدم صورته ، فعلم غلّ صدرك وما انحنت عليه من النفاق أضلعك.

فانبرى مروان مدافعا عن ابن العاص فقال لابن عباس : يا ابن عباس ، إنّك لتصرف أنيابك وتورى نارك ، كأنك ترجو الغلبة وتؤمل العافية! ولو لا حلم أمير المؤمنين عنكم لتناولكم بأقصر أنامله فأوردكم منهلا بعيدا صدره ، ولعمري لئن سطا بكم ليأخذنّ بعض حقّه منكم! ولئن عفا عن جرائركم فقديما ما نسب إلى ذلك.

فالتفت إليه ابن عباس وقال له : وإنّك لتقول ذلك يا عدوّ الله وطريد رسول الله! والمباح دمه ، والداخل بين عثمان ورعيّته بما حملهم على قطع أوداجه وركوب أثباجه! أما والله لو طلب معاوية (كذا) ثاره لأخذك به ، ولو نظر في أمر عثمان لوجدك أوّله وآخره! (إلى قوله له) : فاربع على ضلعك ، ولا تتعرّض لما ليس لك ، فإنك كالمغروز في صفد لا يهبط برجل ولا يرقى بيد!

فقال زياد : «يا ابن عباس ، إنّي لا أعلم ما منع حسنا وحسينا من الوفود معك على أمير المؤمنين! إلّا ما سوّلت لهما أنفسهما وغرّهما به من هو عند البأساء سلّمهما (ولعلّه يعنيه) وايم الله لو ولّيتهما لأدأبا في الرحلة إلى أمير المؤمنين أنفسهما ، ولقل لبثهما بمكانهما» يعرّض بهذا لمعاوية أن يولّيه المدينة. ويعلم منه أنهما عليهما‌السلام ما وفدا قبل هذا إلى الشام.

فقال ابن عباس : إذن والله يقصر دونهما باعك ، ويضيق بهما ذراعك ، ولو رمت ذلك لوجدت من دونهما فئة صدقا صبرا على البلاء ولا يخافون عند اللقاء ، فلعركوك بكلا كلهم ووطئوك بمناسمهم ، وشفار سيوفهم ووخز أسنتهم ، حتّى تشهد بسوء ما أتيت وتبيّن ضياع الحزم فيما جنيت! فحذار حذار من سوء النيّة فتكافأ بردّ الأمنية ، وتكون سببا لفساد ذين الحيّين (هاشم وأمية) بعد صلاحهما ، وساعيا في اختلافهما بعد ائتلافهما! (ولم يكن بعد مستلحقا فلم يعيّره به).


فقال ابن أم الحكم : لله درّ ابن ملجم! فقد أمن الوجل حتّى بلغ الأمل! وأدرك الثار ونفى العار! وفاز بالمنزلة العليا ورقى الدرجة القصوى! هذا ومعاوية يرى ويسمع وهو ساكت راض!

فقال ابن عباس : أما والله لقد كرع كأس حتفه بيده وعجّل الله إلى النار بروحه ، ولو أبدى لأمير المؤمنين صفحته لخالطه ذلك الفحل القحم والسيف الخذم ، ولألحقه بالوليد وعتبة وحنظلة (أخي معاوية) وكلّهم كانوا أشد منه شكيمة وأمضى عزيمة ، ففرى بالسيف هامهم ورمّلهم بدمائهم ، وقرى الذئاب! أشلاءهم وفرّق بينهم وبين أحبّائهم! ولا وصمة إن قتل (عليّ) ولا غرو إن ختل.

فقال المغيرة بن شعبة : أما والله لقد أشرت على عليّ بالنصيحة (بإبقاء معاوية) فآثر رأيه ومضى على غلوائه! فكانت العاقبة عليه لا له ، وإنّي لأحسب أن خلفه يقتدون بمنهجه.

فقال ابن عباس : كان أمير المؤمنين عليه‌السلام والله أعلم بوجوه الرأي ومعاقد الحزم وتصريف الأمور من أن يقبل مشورتك فيما نهى الله عنه وعنّف عليه فقال سبحانه : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ...)(١) ولقد وقفك على ذكر مبين وآية متلوّة قوله تعالى : (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً)(٢) وهل كان يسوغ له أن يحكّم في دماء المسلمين وفيء المؤمنين من ليس بمأمون عنده ولا موثوق به في نفسه؟! هيهات هيهات! هو أعلم بفرض الله وسنة رسوله أن يبطن خلاف ما يظهر إلّا «للتقيّة» ولات حين «تقية» مع وضوح الحقّ وكثرة الأنصار وثبوت الجنان؟! فهو يمضي كالسيف المصلت في أمر الله مؤثرا لطاعة ربّه والتقوى على آراء أهل الدنيا (٣).

__________________

(١) المجادلة : ٢٢.

(٢) الكهف : ٥١.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٩٨ ـ ٣٠٢ ، وللخبر تتمة بين ابن عباس ويزيد وأبيه معاوية.


زياد مع المغيرة في الكوفة :

لو كان معاوية بعد استسلام زياد يردّه إلى عمله في اصطخر فارس لما كان يعرّض له في الخبر السابق بتولية المدينة على الحسنين عليهما‌السلام والهاشميين ، ولم يرجّحه معاوية على مروان للمدينة ، وكان المغيرة بن شعبة حاضرا ولعلّه استحضر معه زيادا إلى الكوفة ، فسأل زياد معاوية أن يأذن له بنزول الكوفة فأذن له فشخص إليها. ثمّ كتب معاوية إلى المغيرة : خذ زيادا وسليمان بن صرد الخزاعي وحجر بن عديّ الكندي وشبث بن ربعي اليربوعي التميمي وعبد الله بن الكوّاء اليشكري الهمداني وعمرو بن الحمق الخزاعي بالصلاة معك في الجماعة ، فاستحضرهم المغيرة فكانوا يحضرونه (١).

ومرّ في أخبار صفين أن عمارة بن عقبة بن أبي معيط الأموي كان قد مكث في الكوفة يتجسّس لمعاوية ، وتزوّج المغيرة ابنته أم أيّوب ، فكان يدخل معه زيادا إليها وتريد أن تستتر منه فيقول المغيرة لها : لا تستتري من أبي المغيرة ، يريد زيادا (٢)!

معاوية وعمرو وابن جعفر :

واستمرّ عمرو عند معاوية ، فروى المعتزلي عن الشعبي : أن عمرا كان قد وفد على معاوية يسأله حاجة عظيمة ، فتشاغل عنه ثمّ قال له : يا عمرو ، بما ذا تستحق منّا قضاء الحوائج العظام؟

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ١٧٩ عن النميري البصري عن المدائني البصري عن أبي مخنف الكوفي.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ١٨٠ عن النميري البصري عن المدائني ، وتمامه : فلما مات المغيرة ودخل زياد الكوفة أميرا تزوّجها وأحضر لها فيلا لتنظر إليه ، وأوقفه عند باب من أبواب المسجد فسمّى باب الفيل.


فغضب عمرو وقال له : بأعظم حقّ وأوجبه! إذ كنت في بحر عجّاج ، فلولا عمرو لغرقت في أقلّ مائه وأرقّه ، ولكنّي دفعتك فيه دفعة فصرت في وسطه ثمّ دفعتك اخرى فصرت في الأعلى! فمضى حكمك ونفذ أمرك وانطلق لسانك بعد تلجلجه! وأضاء وجهك بعد ظلمته! وطمست لك الشمس (عليّا عليه‌السلام) بالعهن المنفوش ، وأظلمت لك القمر (عليا عليه‌السلام) بالليلة المدلهمّة!

فما كان من معاوية إلّا أن أطبق جفنيه وتناوم مليا حتّى خرج عمرو! فاستوى وقال لمن حوله : أرأيتم ما خرج من فم الرجل! ما عليه لو عرّض وفيه ما يكفي! لكنّه جبّهني بكلامه وسموم سهامه!

فقال له بعض جلسائه : قد يكون السائل لئيما فيصون الشريف نفسه عن لسانه فيقضي حاجته!

فبعث معاوية على عمرو وقضى حاجته بصلة جليلة وانصرف فتلا معاوية : (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ)(١) وسمعها عمرو فالتفت إليه مغضبا وقال : والله يا معاوية! لا أزال آخذ منك قهرا ولا اطيع لك أمرا! وأحفر لك بئرا تقع فيه فلا تدرك إلّا رميما! فضحك معاوية وقال : إنما هي آية من كتاب الله عرضت بقلبي فتلوتها يا أبا عبد الله وما أردتك بالكلمة (٢)!

وتبع عبد الله بن العباس : عبد الله بن جعفر الطيار إلى معاوية في الشام ، ومعه عمرو.

فروى المعتزلي عن المدائني قال : بينا عمرو بن العاص عند معاوية إذ أخبر الآذن بدخول عبد الله بن جعفر ، فقال عمرو : والله لأسوءنّه اليوم!

__________________

(١) التوبة : ٥٨.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٩٤ ـ ٢٩٥ عن الشعبي الكوفي.


وقال له معاوية : لا تفعل يا أبا عبد الله! فإنك لا تنصف منه! ولعلك تظهر لنا ما هو خفيّ عنا من منقبته.

وإذا أراد الله نشر فضيلة

طويت أتاح لها لسان حسود

ودخل ابن جعفر فأدناه معاوية وقرّبه إليه. فمال عمرو إلى بعض جلسائه فنال من عليّ عليه‌السلام جهارا وثلبه ثلبا قبيحا! فالتمع لون ابن جعفر وارعد وقام كالجمل الفحل من السرير والتفت إلى معاوية وحسر عن ذراعيه وقال له : يا معاوية (كذا) حتّام نتجرّع غيظك؟! وإلى كم الصبر على مكروه قولك؟! وسيّئ أدبك! وذميم أخلاقك! هبلتك الهبول (فقدتك الثاكل) فإذا لم تكن لك حرمة من دينك تنهاك عمّا لا يجوز (من شتم عليّ) أما يزجرك زمام المجالسة عن القذع لجليسك؟! أما والله لو عطفتك أواصر الأرحام أو حاميت عن سهمك في الإسلام ما أرعيت بني الإماء (ابن العاص) أعراض قومك! وما يجهل موضع الصفوة إلّا أهل الجفوة! فلا يدعونّك تصويب ما فرط من خطائك في سفك دماء المسلمين ومحاربة أمير المؤمنين ، إلى التمادي في ما قد وضح لك الصواب في خلافه! فاقصد لمنهج الحقّ فقد طال عمهك عن سبيل الرشد! وخبطك في بحور ظلمة الغيّ! فإن أبيت أن تتابعنا بقبح اختيارك لنفسك ، فأعفنا من سوء القالة فينا إذا ضمّنا وإياك النادي وشأنك وما تريد إذا خلوت ، والله حسيبك!

ثم قال له : فو الله لو لا أنّ ما جعل الله لنا هو في يديك لما أتيناك!

فقال معاوية : يا بن جعفر! أقسمت عليك لتجلسنّ ، فلعن الله من أخرج ضبّ صدرك من وجاره! محمول لك ما قلت ، ولك عندنا ما أمّلت! وإن خلقك وخلقك شافعان لنا إليك ، وأنت ابن ذي الجناحين! وسيد بني هاشم!

فقال عبد الله : كلّا بل سيد بني هاشم حسن وحسين لا ينازعهما أحد في ذلك ... ثمّ انصرف.


فالتفت معاوية إلى عمرو وقال له : يا أبا عبد الله أتراه ما منعه من الكلام معك؟ أظنّك تقول : إنه هاب جوابك! لا والله! ولكنّه ازدراك واستحقرك ولم يرك للكلام أهلا! أما رأيت إقباله عليّ دونك! ونهض معاوية وتفرق القوم (١).

وابن درّاج على الخراج والصفايا وهدايا النوروز والمهرجان :

مرّ الخبر عن المغيرة أنّه غيّر رأي معاوية في استعماله عبد الله بن عمرو بن العاص على الكوفة ، فصرفها عنه إلى المغيرة ، وظنّ به ابن العاص ذلك فحذّر معاوية أن يولّي المغيرة غير الصلاة على الأموال. وكان من موالي معاوية رجل يدعى عبد الله بن درّاج وتدرّج هذا لديه حتّى ولّاه خراج العراق وأمره أن يحمل إليه أموالها ، فاستدرج ابن درّاج بعض الدهاقين حتّى أعلموه أنه : كان لآل كسرى سوى ما كان يجري مجرى الخراج : صوافي يجتبون أموالها لأنفسهم ، فكتب بذلك إلى معاوية ، فكتب إليه : أن أحص تلك الصوافي واستصفها لي واضرب عليها المسنيّات. فسأل الدهاقين عن ديوان ذلك فأخبروه أنه كان في حلوان ، فبعث من يأتيه به واتي به ، فاستخرج منه كل ما كان لآل كسرى وضرب عليها المسنيّات واستصفاها لمعاوية ، فبلغت جبايته من أرض الكوفة وسوادها : خمسين ألف ألف (مليون) درهما! وأمره أن يحمل إليه هداياهم في عيدي النوروز والمهرجان (٢) فكانت عشرة آلاف ألف.

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٩٥ ـ ٢٩٧ عن المدائني البصري.

(٢) النوروز : أي اليوم الجديد في رأس السنة الفارسية ، والمهرجان معرّب : مهرگان : اليوم الأول من شهر مهر في منتصف السنة الفارسية ، ثمّ أطلقت الكلمة على الاحتفالات الكبرى.


وكأنه حسن حال عبد الرحمن بن أبي بكرة الثقفي البصري ابن أخي زياد عند معاوية ، واستضعف ابن عامر في ذلك ، فكتب إليه بمثل ذلك في أرض البصرة (١) فتلك من أوّليات معاوية : أن استعمل في الإسلام النوروز والمهرجان من أعياد الفرس طمعا في أموالهم! فكرهوه وحكمه.

أجل ، جمع كل ذلك ، ومنع ما اشترط عليه الحسن عليه‌السلام من خراج فسا ودارابجرد لأبناء شهداء الجمل وصفين كما مرّ.

فقد روى البلاذري : أن معاوية قد أمر ابن عامر أن يغري أهل البصرة ليقولوا : ما جعله معاوية للحسن (كذا) أنقص أعطياتنا ، وهذا المال مالنا فكيف يصرف إلى غيرنا؟! فضجّ أهل البصرة بذلك! وكان الحسن عليه‌السلام قد أرسل رسله إلى الكورتين فطردوهم ، فأبدله معاوية عن ذلك بألف ألف (مليون) درهم ، أو ألفي ألفي (مليونين) درهم من خراج أصفهان (٢).

واختصر الخبر ابن سعد في «الطبقات» وعنه ابن كثير في «تاريخ دمشق» عن الشعبي وغيره : أن معاوية دسّ إلى أهل البصرة فقالوا لوكيل الحسن عليه‌السلام : لا تحمل فيئنا إلى غيرنا! يعنون خراج فسا ودارابجرد ، وطردوه! فأجرى معاوية له كل سنة ألف ألف (مليون) درهم (٣).

واكتفى الطبري عن عوانة بقوله : حال أهل البصرة بينه وبين خراج دارابجرد وقالوا : هو فيئنا (٤)! فأكمله ابن الأثير في كامله بقوله : وكان منعهم بأمر معاوية (٥).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١٨.

(٢) أنساب الأشراف ٣ : ٥١ ـ ٥٢ ، الحديث ٥٦.

(٣) تاريخ دمشق لابن عساكر ، الإمام الحسن عليه‌السلام : ١٧٦ بتحقيق المحمودي.

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ١٦٥.

(٥) الكامل في التاريخ ٣ : ١٦٢.


ولما فرغ عبد الله بن خازم السلمي البصري من تعقيب زياد بن عبيد في أوائل سنة (٤٢) وعاد إلى البصرة ، ضمّه ابن عامر إلى عبد الرحمن بن سمرة ووجّه به لفتوح خراسان ، فاتّجه إلى بلخ وبعد حرب شديدة افتتحها ، ثمّ صار إلى كابل فحاصرها ليالي حتّى توصّل إلى بوّابها ، فجعل له شيئا ليفتح الباب ففتحه ، فأدخل الحرب إلى المدينة حتّى طلبوا إليه الصلح ، فصالحهم ابن سمرة ، ثمّ خلف في خراسان ابن خازم وانصرف هو إلى البصرة (١).

وأمر معاوية لموسم الحجّ هذه السنة (٤٢) أخاه عنبسة (٢).

موسم الحج والاحتجاج على الحسن عليه‌السلام :

مرّ الخبر قبل قليل عن أمر معاوية للمغيرة بإلزام زعماء الشيعة في الكوفة : سليمان بن صرد وعمرو بن الحمق الخزاعيّين مع حجر بن عدي الكندي بحضور صلاة الجماعة مع المغيرة ، فلعلّ هذا ونحوه من المضايقات حملتهم على أن اجتمعوا في موسم الحجّ بعد نحو سنتين من الصلح بالحسن عليه‌السلام في المدينة.

فقال له سليمان : ما ينقضي تعجّبنا من بيعتك معاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة ، كلهم يأخذ العطاء وهم على أبواب منازلهم! ومعهم مثلهم من أبنائهم وأتباعهم ، سوى شيعتك من أهل البصرة والحجاز ، ثمّ لم تأخذ لنفسك ثقة في العقد ولا حظّا من العطية! فلو كنت ـ إذ فعلت ما فعلت ـ أشهدت على معاوية وجوه أهل المشرق (العراق) والمغرب (الشام) وكتبت عليه كتابا بأن الأمر لك بعده ، كان الأمر علينا أيسر! ولكنّه أعطاك شيئا بينك وبينه! ثمّ لم يلبث أن قال

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١٧ ـ ٢١٨.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ١٨٠.


على رءوس الأشهاد : «إني كنت شرطت شروطا ووعدت عدات ، إرادة لإطفاء نار الحرب ، ومداراة لقطع الفتنة! فأمّا إذ جمع الله لنا الكلمة والألفة فإنّ ذلك تحت قدميّ»! والله ما عنى بذلك غيرك ولا أراد بذلك إلّا ما كان بينه وبينك ، وقد نقضه.

فإذا شئت فأعد الحرب جذعة (رأسا) ، وأذن لي في تقدّمك إلى الكوفة فاخرج عنها عاملها (المغيرة) واظهر خلعه ، وننبذ إليه على سواء (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ)(١).

ثمّ تكلّم الباقون بمثل كلامه.

ثمّ تكلّم الإمام عليه‌السلام فقال لهم : أنتم شيعتنا وأهل مودّتنا ، ولو كنت بالحزم في أمر الدنيا أعمل ، ولسلطانها أربص وأنصب ، لما كان معاوية بأشدّ منّي بأسا ، ولا أسدّ شكيمة ولا أمضى عزيمة. ولكنّي أرى غير ما رأيتم ، ولا أردت بما فعلت إلّا حقن الدماء ، فارضوا بقضاء الله وسلّموا لأمره ، والزموا بيوتكم وكفّوا أيديكم ، حتّى يستريح برّ (الإمام) أو يستراح من فاجر (معاوية) (٢).

هذا ما رواه أبو مخنف الكوفي ، وعنه الكلبي ، وعنه البلاذري والمرتضى ، وأرسله الدينوري معاصر البلاذري وزاد :

مع أن أبي كان يحدّثني : أن معاوية سيلي الأمر! فو الله لو سرنا إليه بالجبال والشجر ما شككت أنه سيظهر ، إن الله لا معقّب لحكمه ولا رادّ لقضائه.

وقد نقل أول الخبر سلامه عليه بقوله : السلام عليك يا مذلّ المؤمنين! فهنا زاد :

__________________

(١) الأنفال : ٥٨ ، يستدل بها للزوم النبذ إليه أي إعلان الحرب دون المفاجأة.

(٢) تنزيه الأنبياء : ١٧١ ـ ١٧٢ عن عباس بن هشام ، عن أبيه هشام الكلبي ، عن أبي مخنف بسنده ، وقال : وهذا كلام منه عليه‌السلام يشفي الصدور ويذهب بكل شبهة. وبالسند نفسه في أنساب الأشراف ٣ : ٥٢ ، الحديث ٥٧.


وأما قولك «يا مذلّ المؤمنين»! فو الله لئن تذلّوا وتعافوا أحبّ إليّ من أن تعزّوا وتقتلوا! فإن ردّ الله علينا حقّنا في عافية قبلنا وسألنا الله العون على أمره ، وإن صرفه عنّا رضينا وسألنا الله أن يبارك لنا في صرفه عنّا. فليكن كل رجل منكم حلسا من أحلاس بيته ما دام معاوية حيّا ، فإن يهلك ونحن وأنتم أحياء سألنا الله العزيمة على رشدنا والمعونة على أمرنا وأن لا يكلنا إلى أنفسنا ، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.

وكأنّ ابن صرد أصرّ على عدم الاستسلام لكلام الإمام ، ظانّا الفرق في الموقف بينه وبين أخيه الحسين عليه‌السلام ، فخرج من عند الحسن ودخل على أخيه الحسين عليهما‌السلام وعرض عليه ما عرضه من قبل وأخبره بردّ الحسن غير مقتنع به.

فقال لهم الحسين عليه‌السلام : إنها بيعة كنت ـ والله ـ لها كارها! ثمّ كرّر عليه أمر أخيه لهم فقال : (ولكن) ليكن كل رجل منكم حلسا من أحلاس بيته ما دام معاوية حيّا ، فإن هلك معاوية نظرنا ونظرتم ورأينا ورأيتم (١) فعلموا أن الحسين يتصاغر لإمامه وأخيه الأكبر الحسن عليهما‌السلام.

ولعلّ هذا ونحوه بلغ معاوية ناقصا فأراد أن يختبر الإمام هل في نفسه الإثارة لذلك فدسّ إليه دسيسا هو جبير بن نفير الحضرمي الشامي ، كما جاء في رسالة محمد بن بحر الشيباني في «علل الشرائع» للصدوق ، ووصفه بالشامي جاء في «تاريخ دمشق» قال : قلت للحسن : إن الناس يقولون : إنك تريد الخلافة! فقال : كانت جماجم العرب بيدي يسالمون من سالمت ويحاربون من حاربت ، فتركتها ابتغاء وجه الله ، ثمّ اريدها ـ أو قال : ـ أثيرها بأهل الحجاز؟! أو قال : بأتياس الحجاز (٢)؟!

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٦٣ ـ ١٦٥ ، وفيه : ومعك مائة ألف مقاتل! تحريفا منفردا به.

(٢) أنساب الأشراف ٣ : ٥٣ ، الحديث ٥٨ ، وتاريخ دمشق لابن عساكر ، الإمام الحسن عليه‌السلام : ٢٠٥ الحديث ٣٣١ و ٣٣٢. وفي علل الشرائع ١ : ٢٥٨ آخر باب ١٥٩ قال : يا تيّاس


عقيصا وعويص أمر الصلح :

مرّ الخبر عن «وقعة صفين» في نبع العين لأمير المؤمنين عن أبي سعيد عقيصا من موالي تيم كان معه عليه‌السلام ، ويبدو لي أنّه بعد ذلك سكن المدينة ، فروى الصدوق بسنده عنه قال :

قلت للحسن بن علي عليه‌السلام : يا ابن رسول الله ، لم داهنت معاوية وصالحته؟ وقد علمت أنّ الحقّ لك دونه ، وأن معاوية ضالّ باغ؟!

فقال لي : يا أبا سعيد ، ألست حجّة الله «تعالى ذكره» على خلقه وإماما عليهم بعد أبي؟ قلت : بلى. قال : ألست الذي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لي ولأخي : «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا» (١) قلت : بلى. قال : فأنا ـ إذن ـ إمام لو قمت ، وأنا إمام ـ إذن ـ لو قعدت.

يا أبا سعيد ، علّة مصالحتي لمعاوية : علّة مصالحة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لبني ضمرة ، وبني أشجع ، ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية ، وأولئك كانوا كفارا بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفّار بالتأويل.

يا أبا سعيد ؛ إذا كنت إماما من قبل الله «تعالى ذكره» لم يجب (أو : يجب أن لا) يسفّه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة ، وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبسا. ألا ترى الخضر لما خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وأقام الجدار ، سخط موسى فعله

__________________

ـ أهل الحجاز ، وفسّر التياس بأنه الذي يبيع عسيب التيس أي ماء الفحل منه. وهو غير مناسب للمخاطب الحضرمي الشامي وليس الحجازي.

(١) احتجّ الإمام عليه‌السلام هنا بهذا الحديث النبوي الشريف ، ولم يحتجّ قط بما رووه عن الصحابي أبي بكرة الثقفي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله في الحسن : «ابني هذا سيّد ، وسيصلح الله به بين طائفتين أو فئتين من أمتي» ولو صحّ عنه ذلك لكان أولى بالاحتجاج به ، ممّا يدلّ على اختلاقه ووضعه على لسانه كذبا.


ـ لاشتباه وجه الحكمة عليه ـ حتّى أخبره ، فرضي. هكذا أنا ؛ سخطتم عليّ بجهلكم وجه الحكمة فيه ، ولو لا ما أتيت لما ترك أحد من «شيعتنا» على وجه الأرض إلّا قتل (١).

وروي أيضا عنه : أن بعض الناس لامه على بيعته لمعاوية فقال لهم :

ويحكم! ما تدرون ما عملت! والله للذي عملت خير «لشيعتي» مما طلعت عليه الشمس أو غربت ، ألا تعلمون أنّي إمامكم ومفترض الطاعة عليكم ، وأحد «سيدي شباب أهل الجنة» بنصّ من رسول الله عليّ؟ قالوا : بلى (٢).

قال : أما علمتم أن الخضر لما خرق السفينة ، وأقام الجدار ، وقتل الغلام ، كان ذلك مسخطا لموسى بن عمران عليه‌السلام إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك ، وكان ذلك عند الله «تعالى ذكره» حكمة وصوابا!

ثمّ أضاف : أما علمتم أنه ما منّا أحد إلّا وتقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه ، إلّا القائم الذي يصلّي خلفه روح الله عيسى بن مريم عليه‌السلام ، فإنّ الله يخفي ولادته ، ويغيّب شخصه ، لئلّا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج. وذلك (هو) التاسع من ولد أخي الحسين ، (وهو) ابن سيدة الإماء ، يطيل الله عمره في غيبته ثمّ يظهره بقدرته في صورة شابّ دون أربعين سنة! ذلك ليعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير (٣).

وعليه فالخبران من البوادر الأولى في تقرير عقيدة الشيعة في الإمامة (٤).

__________________

(١) علل الشرائع ١ : ٢٤٨ ـ ٢٤٩ ، الباب ١٥٩ ، الحديث ٢.

(٢) يعود هنا الكلام السابق في الحديث السابق ، فلو صحّ حديث الفئتين أو الطائفتين لكان نصّا في شرعية الصلح وصحّته ، ولا نراه احتجّ به أبدا ، وإنما اختلقوه ووضعوه لذلك كذبا.

(٣) كمال الدين ١ : ٣١٦ بسنده عن حنان بن سدير الصيرفي الكوفي مولى الأزد ، ووصف الرجل في الرجال أنه توقّف عن إمامة الرضا عليه‌السلام ، فلم يكن يستدلّ بما يرويه من هذا الخبر على دوام الإمامة حتّى التاسع من ولد الحسين عليه‌السلام!

(٤) وللتفصيل يراجع كتاب عقيدة الشيعة في الإمامة للمرحوم الشيخ محمد باقر شريعتي النجفي رحمه‌الله.


هل حجّ ابن العاص ولقى الإمام عليه‌السلام؟ :

ذلك أن عمرا لم يعمّر بعد عودته إلى فسطاطه بمصره بعد هدنة الإمام عليه‌السلام إلّا أقل من ثلاث سنين ، إذ توفّي في عيد الفطر عام (٤٣ ه‍) ، ونقل عنه لقاء بالمساءة للإمام عليه‌السلام وهما في الإحرام أو في الطواف ببيت الله الحرام ، فلعلّه كان في أيام الموسم هذا العام.

قال للإمام عليه‌السلام : يا حسن! أزعمت أن الدين لا يقوم إلّا بك وبأبيك؟! فقد رأيت الله أقامه بمعاوية؟! فجعله ثابتا بعد ميله وبيّنا بعد خفائه! أفيرضي الله قتل عثمان؟! أم من الحقّ أنّ تدور بالبيت كما يدور الجمل بالطحين! عليك ثياب كقشر البيض وأنت قاتل عثمان! والله إنّه لألمّ للشعث وأسهل للوعث أن يوردك معاوية حياض أبيك! وسكت.

فأجابه الإمام عليه‌السلام قال له : إنّ لأهل النار علامات يعرفون بها وهي : الإلحاد في دين الله ، والموالاة لأعداء الله ، والانحراف عن دين الله. والله إنّك لتعلم أنّ عليّا عليه‌السلام لم يتريّث في الأمر ، ولم يشكّ في الله طرفة عين ، وايم الله لتنتهينّ ـ يا ابن العاص ـ أو لأقرعنّ جبينك بكلام تبقى سبّة عليك ما حييت! وإياك والجرأة عليّ! فإني من عرفت لست بضعيف المغمز ولا بهشّ المشاشة (العظام) ولا بمريء المأكلة! وإني من قريش كأوسط القلادة ، معرق حسبي لا ادعى لغير أبي! وقد تحاكمت فيك رجال من قريش فغلب عليك ألأمها حسبا وأعظمها لعنة! (هو الأبتر) فإياك عنّي! فإنما أنت نجس! ونحن أهل بيت الطهارة أذهب الله عنّا الرجس وطهّرنا تطهيرا (١).

فأمّا ابن العاص فهو عاص لله في نهيه عن الجدال في الحجّ حتّى لو كان في

__________________

(١) المحاسن للبيهقي : ٨٦ وط ٢ : ٩٦ ، وعنه في الإمام المجتبى للمصطفوي : ٢٠٩.


الإحرام والطواف ببيته ، وأما الإمام فهو في هذا الكلام عامل بفرض النهي عن المنكر والإنكار على مرتكبيه وفاعليه ، ورادّ عليهم ومدافع عن الحقّ والحقيقة ، فهو يدلّ على جواز ردّ جدال بالباطل كهذا.

الإمام عليه‌السلام في الشام :

مرّ في الخبر حضور ابن عباس في مجلس معاوية واتهام زياد إيّاه بأنّه هو الذي سلّمهم الحسنين عليهما‌السلام في البأساء ، وهو اليوم غرّهما وسوّل لهما ومنعهما من الوفود على معاوية حتّى ذلك الحين من عام (٤٢ ه‍) فمن الطبيعي أن يكون ابن عباس قد نقل ذلك لهما عليهما‌السلام وفي طواف الحجّ لعام (٤٢ ه‍) لقى ابن العاص الإمام الحسن عليه‌السلام فتحجّج عليه واحتجّ الإمام عليه بما شمل معاوية ، فلعلّه في سنة (٤٣ ه‍) وقبل هلاكه في آخر شهر رمضان منها وفد لمرة أخرى على معاوية فصادف وصول الحسن عليه‌السلام هناك ، أو أوقفه معاوية على ذلك واستحضره لذلك المحضر وكذلك المغيرة بن شعبة ، فكان ما يلي :

نقل المعتزلي عن كتاب «المفاخرات» للزبير بن بكّار الزبيري (٢٥٦ ه‍) قال : اجتمع عند معاوية من أصحابه عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ، ومن قومه أخوه عتبة بن أبي سفيان والوليد بن عقبة بن أبي معيط ابن أخي عثمان وتوافقوا فيما بينهم وقالوا لمعاوية : إن الحسن عليه‌السلام قد أحيا ذكر أبيه وقال فيه فصدّق! ولا يزال يبلغنا عنه ما يسوؤنا ، وخفق الغال خلفه وإن ذلك لرافعه إلى ما هو أعظم منه! فابعث عليه فليحضر لنسبّه! ونسبّ أباه! ونعيّره ونوبّخه ، ونقرّره أن أباه قتل عثمان! ولا يستطيع أن يغيّر علينا شيئا من ذلك!

فقال معاوية : ويحكم لا تفعلوا! فو الله ما رأيته جالسا عندي قط إلّا خفت عيبه لي في مقاله!


فقال عمرو : أتخشى أن يربي قوله على قولنا أو يأتي باطله! على حقّنا!

فقال معاوية : فإن أبيتم إلّا ذلك فلا تمرضوا له في القول! واعلموا أنّهم أهل بيت لا يعيبهم العائب ولا يلصق بهم العار ، ولكن تقولون له : إن أباك كره خلافة الخلفاء من قبله وقتل عثمان! تقذفوه بحجره!

فبعث إليه معاوية رسوله فقال له : إن أمير المؤمنين يدعوك. فسأله : من عنده؟ فسمّاهم له فدعا عليهم وقال : «اللهم إني أعوذ بك من شرورهم ، وأدرأ بك في نحورهم ، واستعين بك عليهم ، فاكفنيهم كيف شئت وأنّى شئت ، بحول منك وقوة يا أرحم الراحمين» وقال لجارية لديه : يا جارية ابغيني ثيابي.

فلما دخل على معاوية أعظمه وأكرمه وأجلسه إلى جانبه ، ثمّ قال له : إنّ هؤلاء عصوني فبعثوا إليك!

فقال الحسن عليه‌السلام : سبحان الله ، الدار دارك والإذن فيها إليك ، فإن كنت أجبتهم إلى ما أرادوا وما في أنفسهم ، فإنّي لأستحيي لك من الفحش! وإن كانوا غلبوك على رأيك فإنّي لأستحيي لك من الضعف! فأيّهما تقرّر وأيّهما تنكر؟! أما إنّي لو علمت بمكانهم جئت معي بمثلهم من بني عبد المطلب ، وما لي أن أكون مستوحشا منك ولا منهم إنّ وليّي الله وهو يتولّى الصّالحين (١).

فقال معاوية : يا هذا! إني كرهت أن أدعوك ولكن هؤلاء حملوني على ذلك! وإنما دعوناك لنقرّرك أن أباك قتل عثمان! وأنه قتل مظلوما! فاستمع منهم ثمّ أجبهم.

فبدأ عمرو بن العاص فذكر الله ورسوله فصلّى عليه ، ثمّ ذكر عليّا عليه‌السلام فلم يترك شيئا يعيبه به إلّا قاله ، وقال : إنه كره خلافة أبي بكر وامتنع من بيعته

__________________

(١) مقتبس من الآية : ١٩٦ من الأعراف.


ثمّ بايعه مكرها وشتمه! ثمّ شرك في دم عمر! ثمّ قتل عثمان ظلما وادّعى الخلافة وليست له! وأضاف إليه الفتنة وذكر مساوئ يعيّره بها. ثمّ قال : ثمّ إنك يا حسن! تحدّثك نفسك أنّ الخلافة صائرة إليك وليس لك عقل ذلك ولا لبّه! كيف ترى الله سبحانه سلبك عقلك وتركك أحمق قريش يسخر منك ويستهزأ بك! وذلك لسوء عمل أبيك! وإنما دعوناك لنسبّك وأباك! فأمّا أبوك فقد تفرّد الله به وكفانا أمره! وأمّا أنت فإنّك في أيدينا نختار فيك الخصال ، ولو قتلناك ما كان علينا إثم من الله ولا عيب من الناس! ثمّ قال : فإن كنت ترى أنا كذبنا في شيء فاردده علينا ، وهل تستطيع أن تردّ علينا وتكذّبنا! وإلّا فاعلم أنّك وأباك ظالمان!

ثمّ تكلّم الوليد بن عقبة فقال : يا بني هاشم ، إنّكم كنتم أخوال عثمان ، فنعم الولد كان لكم ، فعرف حقّكم! وكنتم أصهاره فنعم الصهر كان لكم يكرمكم ، فكنتم أول من حسده! فقتله أبوك ظلما! لا عذر له ولا حجّة! فكيف ترون الله طلب بدمه وأنزلكم منزلتكم؟! والله إنّ بني أمية خير لبني هاشم من بني هاشم لبني أمية! وإنّ معاوية خير لك من نفسك!

ثمّ تكلم عتبة بن أبي سفيان فقال : يا حسن! كان أبوك شرّ قريش لقريش! أسفكها لدمائها! وأقطعها لأرحامها! طويل السيف واللسان! يقتل الحيّ ويعيب الميّت! وإنّك ممن قتل عثمان ونحن قاتلوك به! وأمّا رجاؤك الخلافة فلست في زندها قادحا! ولا في ميراثها راجحا. وإنّكم يا بني هاشم قتلتم عثمان! وإنّ في الحقّ أن نقتلك وأخاك به! فأما أبوك فقد كفانا الله أمره وأقاد منه! وأما أنت فو الله! ما علينا لو قتلناك بعثمان إثم ولا عدوان!

ثمّ تكلّم المغيرة بن شعبة فشتم عليّا ثمّ قال : والله ما أعيبه في قضيّة يخون ولا في حكم يميل ، إلّا أنّه قتل عثمان!

فتكلّم الحسن عليه‌السلام فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله وآله ثمّ قال :


أمّا بعد يا معاوية ؛ فما هؤلاء شتموني ولكنّك شتمتني! فحشا ألفته وسوء رأي عرفت به! وخلقا سيّئا ثبتّ عليه وبغيا علينا! عداوة منك لمحمّد وأهله! فاسمعوا فلأقولنّ فيكم ما هو دون ما فيكم :

أنشدكم الله! أتعلمون أن الذي شتمتموه اليوم صلّى القبلتين كليهما وأنت ـ يا معاوية ـ كافر بهما ، تراها ضلالة ، وتعبد اللات والعزّى غواية!

وأنشدكم الله! هل تعلمون أنه بايع البيعتين : بيعة الرضوان وبيعة الفتح ، وأنت ـ يا معاوية ـ بإحداهما كافر (بالرضوان) وبالأخرى ناكث (بالفتح).

وأنشدكم الله! هل تعلمون أنه أول الناس إيمانا ، وأنت وأباك ـ يا معاوية ـ من المؤلّفة قلوبهم وتستمالون بالأموال فتظهرون الإسلام وتسترون الكفر!

وأنشدكم الله! ألستم تعلمون أنه كان صاحب راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر ، وراية المشركين كانت مع معاوية وأبيه! ثمّ لقيكم يوم أحد ويوم الأحزاب ومعه راية رسول الله ومعك ومع أبيك راية الشرك! وفي كلّ ذلك يفتح الله له ويفلج حجّته وينصر دعوته ويصدّق حديثه ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه راض في كلّ تلك المواطن وعليك وعلى أبيك ساخط!

وأنشدك الله ـ يا معاوية ـ أتذكر يوما جاء أبوك على جمل أحمر وأنت تسوقه وأخوك عتبة هذا يقوده ، فرآكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : «اللهم العن الراكب والقائد والسائق»!

يا معاوية ، أتنسى لمّا همّ أبوك أن يسلم كتبت إليه شعرا تنهاه فيه عن ذلك فقلت :

يا صخر لا تسلمن يوما فتفضحنا

بعد الذين ببدر أصبحوا فرقا

خالي وعمّي ، وعمّ الأم ثالثهم

وحنظل الخير! قد أهدى لنا الأرقا

لا تركننّ إلى أمر تكلّفنا ـ

والراقصات ـ به في مكة الخرقا

فالموت أهون من قول العداة لقد

حاد ابن حرب عن العزّى إذا فرقا


ثم قال له : والله لما أخفيت من أمرك أكبر مما أبديت!

وأنشدكم الله ـ أيها الرهط ـ أتعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث أكابر أصحابه (أبا بكر وعمر) بالراية إلى بني قريظة (كذا) فنزلوا من حصنهم فهزموا! فبعث عليّا عليه‌السلام بالراية فاستنزلهم على حكم الله وحكم رسوله! وفي خيبر فعل مثلها!

وأنتم ـ أيها الرهط ـ نشدتكم الله! أتعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعن أبا سفيان في سبعة مواطن لا تستطيعون ردّها :

أولها : يوم لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خارجا من مكة إلى الطائف يدعو ثقيفا إلى الدين ، فوقع به وسبّه وسفّهه وشتمه وكذّبه وتوعّده وهمّ أن يبطش به ثمّ صرف عنه ، فلعنه الله ورسوله!

والثانية : يوم جاءت عيره من الشام وعرض لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فطردها أبو سفيان وساحل بها فلم يظفر المسلمون بها ، فلعنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ودعا عليه ، فكانت لأجلها وقعة بدر!

والثالثة : يوم احد حيث وقف تحت الجبل ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أعلاه ، وهو ينادي : أعل هبل مرارا ، فلعنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عشر مرات ولعنه المسلمون!

والرابعة : يوم جاء بالأحزاب وغطفان واليهود ، فابتهل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولعنه!

والخامسة : يوم الحديبية ، إذ جاء أبو سفيان في قريش فصدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محلّه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كلهم ملعونون وليس فيهم من يؤمن»! فقيل : يا رسول الله كيف باللعنة؟ أفما يرجى الإسلام لأحد منهم؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أمّا القادة فلا يفلح منهم أحد ، ولا تصيب اللعنة أحدا من الأتباع»!


والسادسة : يوم الجمل الأحمر (الذي مرّ خبره قبل فدعا على الراكب والقائد والسائق ـ الاحتجاج).

والسابعة : يوم وقفوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في العقبة ليستنفروا به ناقته ، وكانوا اثني عشر رجلا منهم أبو سفيان!

ثمّ قال : يا معاوية أظنك لا تعلّم أنّي أعلم ما دعا به عليك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما أراد أن يكتب كتابا لبني جذيمة (بعد الفتح) فبعث إليك ابن عباس فوجدك تأكل ، ثمّ بعثه إليك مرة أخرى فوجدك تأكل ، فدعا عليك الرسول بجوعك ونهمك إلى أن تموت! ثم قال له :

فهذا لك يا معاوية! ثمّ التفت إلى ابن العاص وقال له :

وأما أنت ـ يا ابن العاص ـ فإن أمرك مشترك! وضعتك أمك مجهولا (لمن؟) من عهر وسفاح ، فتحاكم فيك أربعة من قريش فغلب عليك جزّارها : ألأمهم حسبا ، وأخبثهم منصبا! ثمّ قام أبوك فقال : أنا شأني محمد الأبتر! فأنزل الله فيه ما أنزل!

وقابلت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وآذيته وكدته كيدك كلّه ، وكنت من أشد الناس تكذيبا وعداوة! ثمّ خرجت تريد النجاشي لتأتي بجعفر وأصحابه إلى أهل مكة.

ويحك ـ يا ابن العاص ـ لما خرجت من مكّة إلى النجاشي ألست قلت في بني هاشم :

تقول ابنتي : أين هذا الرحيل؟

وما السير مني بمستنكر

فقلت : ذريني فإني امرؤ

اريد النجاشي في جعفر

لأكويه عنده كيّة

أقيم بها نخوة الأصعر

وشأني أحمد من بينهم

وأقولهم فيه بالمنكر

وأجري إلى عتبة جاهدا

ولو كان كالذّهب الأحمر

ولا أنثني عن بني هاشم

وما استطعت في الغيب والمحضر

فإن قبل العتب منّي له

وإلّا لويت له مشفري!


فلما أخطأت ما رجوت خائبا جعلت حدّك على صاحبك عمارة بن الوليد فوشيت به إلى النجاشي لما ارتكب مع حليلتك! ففضحك الله وفضح صاحبك! ثمّ إنك تعلم وكل هذا الرهط يعلمون أنك هجوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بسبعين بيتا من الشعر فقال رسول الله : «اللهم إني لا أقول الشعر ولا ينبغي لي ، اللهمّ العنه بكل حرف ألف لعنة» فعليك إذا من الله ما لا يحصى من اللعن!

وأما ما ذكرت من أمر عثمان ، فأنت سعّرت عليه الدنيا نارا (لما عزلك) ثمّ لحقت بفلسطين ، فلما أتاك قتله قلت : أنا أبو عبد الله إذا نكات قرحة أدميتها! ثمّ حبست نفسك على معاوية وبعت دينك بدنياه! فلسنا نلومك على بغض ولا نعاتبك على ودّ ، وبالله ما نصرت عثمان حيّا ولا غضبت له مقتولا! ثمّ قال له : فهذا جوابك ، هل سمعته! ثمّ التفت إلى المتكلم الثاني الوليد فقال له :

وأما أنت يا وليد ؛ فو الله ما ألومك على بغض عليّ عليه‌السلام وقد جلدك ثمانين في الخمر ، وقتل أباك بين يدي رسول الله صبرا! وأنت الذي سمّاه الله «الفاسق» وسمّى عليّا «المؤمن» حيث تفاخرتما فقلت له : اسكت يا عليّ ، فأنا أشجع منك جنانا وأطول منك لسانا! فقال لك علي عليه‌السلام : اسكت يا وليد فأنا مؤمن وأنت فاسق! فأنزل الله في موافقة قوله : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ)(١).

ثمّ أنزل فيك على موافقة قوله أيضا : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(٢).

ويحك يا وليد! مهما نسيت فلا تنس قول الشاعر (٣) فيك وفيه :

__________________

(١) السجدة : ١٨.

(٢) الحجرات : ٦.

(٣) نظم الشعر شاعر النبيّ حسان بن ثابت الأنصاري نظما لشأن نزول الآية السابقة ، ولم يسمّه الإمام عليه‌السلام لعلّه لأن ابن ثابت لم يبق ثابتا على ما كان يقوله يومئذ إذ صار عثمانيا.


أنزل الله في الكتاب العزيز

في عليّ وفي الوليد قرآنا

فتبوّى الوليد إذ ذاك «فسقا»

وعليّ مبوأ «إيمانا»

ليس من «كان مؤمنا» عمرك الله

 «كمن كان فاسقا» سيّانا

سوف يدعى الوليد بعد قليل

وعلي إلى الحساب عيانا

فعلي يجزي بذاك جنانا

ووليد يجزى بذاك هوانا

ربّ جدّ لعقبة بن أبان

لابس في بلاده «تبّانا» (١)

وأما أنت يا عتبة ، فو الله ما أنت بحصيف (الرأي) فأجيبك! ولا عاقل فأعاتبك! وما عقلك وعقل أمتك إلّا سواء! فما يضرّ عليا لو سببته على رءوس الأشهاد! وكيف ألومك على بغض عليّ وقد قتل خالك الوليد يوم بدر مبارزة ، وأوحدك من أخيك حنظلة في مقام واحد ، وشرك حمزة في قتل جدّك عتبة (المخزومي)! وأما وعيدك إياي بالقتل! فهلّا قتلت اللحياني إذ وجدته على فراشك (مع عرسك!) أما تستحيي من قول نصر بن الحجاج فيك :

يا للرجال وحادث الأزمان

ولسبّة تخزي أبا سفيان

نبّئت «عتبة» خانه في «عرسه»

جبس لئيم الأصل من «لحيان»

وبعد هذا ما أربأ بنفسي عن ذكره لفحشه! فكيف يخاف أحد سيفك ولم تقتل فاضحك؟

وأما أنت يا مغيرة ، فإنّما مثلك مثل البعوضة إذ قالت للنخلة : استمسكي فإني طائرة عنك! فقالت النخلة : وهل علمت بك واقعة عليّ فاعلم بك طائرة عني! والله ما نشعر بعداوتك إيانا ، ولا اغتممنا إذ علمنا بها! وإن حدّ الله في الزنا لثابت عليك ؛ ولقد درأ عمر عنك حقّا الله سائله عنه! ولقد سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) التبّان معرّب تمبان : سراويل قصيرة ، فهي كناية عن أصول غير عربية.


هل ينظر الرجل إلى المرأة يريد أن يتزوّجها؟ فقال : «لا بأس بذلك ـ يا مغيرة ـ ما لم ينو الزنا» لعلمه بأنّك زان!

وأما فخركم علينا بالإمارة فإن الله تعالى يقول : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً)(١).

ثمّ قام الحسن عليه‌السلام وأخذ ينفض ثوبه ، فمدّ عمرو يده وتعلق بثوبه وقال لمعاوية : يا أمير المؤمنين! قد شهدت قوله فيّ وقذفه أمّي بالزنا ، فأنا اطالب بحدّ القذف فيه! فقال معاوية : خلّ عنه! لا جزاك الله خيرا! فتركه ، فانصرف الحسن عليه‌السلام.

فقال معاوية : قد أنبأتكم أنّه ممّن لا تطاق عارضته (ـ لسانه) ونهيتكم أن تسبّوه! والله ما قام حتّى أظلم عليّ البيت! قوموا عنّي ، فلقد فضحكم الله وأخزاكم (٢).

أجل ، كان هذا قبل أجل عمرو بن العاص في آخر شهر رمضان من سنة (٤٣ ه‍).

وقبل ذلك كان خروج المستورد بن علّفة التيمي في العراق في شعبان (٤٣ ه‍).

بقايا خوارج النهروان في شعبان (٤٣ ه‍):

مرّ في أخبار خوارج النهروان أن أربعمائة منهم جرحوا ، وعفا عنهم عليّ عليه‌السلام وأذن لأهلهم أن يؤوهم ويداووهم. وفي أيام المغيرة على الكوفة اجتمع ثلاثمائة

__________________

(١) الإسراء : ١٦.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٨٥ ـ ٢٩٤ عن المفاخرات للزبير بن بكار ، وأرسله الطبرسي في الاحتجاج ١ : ٤٠١ ـ ٤١٦ عن أبي مخنف الأزدي ومولاهم يزيد بن أبي حبيب عن الشعبي.


منهم إلى ثلاثة منهم : حيّان بن ظبيان السلمي والمستورد بن علّفة التيمي ومعاذ بن جوين الطائي ، اجتمعوا في جمادى الآخرة (٤٣ ه‍) في دار حيّان وتشاورا لمن يبايعوا حتّى بائعون أسنّهم المستورد ، وتواعدوا لغرة هلال شعبان.

وكان المغيرة قد جعل على شرطته حليف ثقيف : قبيصة بن الدمون الحضرمي ، وأخبره هذا باجتماعهم في دار حيّان ، فأمره بقبضهم فأحاط بهم وهم عشرون رجلا فحبسهم. فخرج المستورد ببقيّتهم إلى دار بالحيرة ثمّ رجعوا إلى دار سليم السلمي العبدي من عبد قيس الكوفة لمصاهرة بينهم وبينه.

فخطب المغيرة وحذّر القبائل وهدّدهم ، ثمّ بعث إلى رؤساء الناس فدعاهم وطلب منهم أن يكفي كلّ منهم من في قومه ، ومنهم صعصعة بن صوحان العبدي رئيس عبد قيس فخطبهم فقال لهم :

يا معشر عباد الله ، إن الله لما قسم الفضل بين المسلمين خصّكم بأحسن القسم ، فأجبتم إلى دين الله الذي اختاره لنفسه وارتضاه لملائكته ورسله ، فأقمتم عليه حتّى قبض الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ اختلف الناس بعد : فثبتت طائفة ، وارتدت طائفة ، وأدهنت طائفة ، وتربّصت طائفة ، فلزمتم دين الله إيمانا به وبرسوله وقاتلتم المرتدين حتّى قام الدين وأهلك الله الظالمين ، فلم يزل الله يزيدكم بذلك خيرا في كل شيء وعلى كل حال حتّى اختلفت الأمة بينها ، فقالت طائفة : نريد طلحة والزبير وعائشة ، وقالت طائفة : نريد أهل المغرب (الشام) وقالت طائفة (فيما بعد) : نريد عبد الله بن وهب الراسبي الأزدي (الخوارج) وأنتم قلتم : لا نريد إلّا «أهل البيت» الذين ابتدأنا الله بالكرامة من قبلهم ، تسديدا من الله لكم وتوفيقا.

فلم تزالوا على الحقّ لازمين له آخذين به ، حتّى أهلك الله بكم ـ وبمن كان على مثل رأيكم وهداكم ـ «الناكثين» يوم الجمل (وسكت عن ذكر أهل الشام


القاسطين لأن السلطان حينئذ كان سلطانهم ، وقال :) ولا قوم أعدى لله ولكم ولأهل بيت نبيكم ولجماعة المسلمين من هذه «المارقة» الخاطئة ، الذين فارقوا إمامنا (عليّا) واستحلّوا دماءنا وشهدوا علينا بالكفر!

فإياكم أن تؤووهم في دوركم أو تكتموا عليهم ، فإنّه ليس ينبغي لحيّ من أحياء العرب أن يكونوا أعدى منكم لهذه «المارقة» وقد ذكر لي : أن بعضهم في جانب من حيّكم وأنا باحث وسائل عن ذلك ، فإن كان ما حكي لي من ذلك حقّا تقرّبت إلى الله بدمائهم فإنّ دماءهم حلال (١).

وبلغ ذلك ابن علّفة فتواعد مع أصحابه قرية سورا فخرجوا إليها فكانوا ثلاثمائة ، ثم ساروا إلى السّراة. وبلغ خبرهم المغيرة فدعا الرؤساء واستشارهم من يبعث إليهم ، فانبرى لهم معقل بن قيس التميمي ، فجهّز معه ثلاثة آلاف رجل!

وقال لأمير شرطته قبيصة : الصق «بشيعة عليّ» فأخرجهم مع معقل بن قيس ، فإنّه كان من رءوس أصحاب عليّ ، فإذا جمعت إليه «شيعته» استأنسوا وتناصحوا وهم أجرأ على هذه «المارقة» وأشدّ استحلالا لدمائهم وقد قاتلوهم من قبل!

وبلغ المغيرة : أن صعصعة العبدي يكثر ذكر علي عليه‌السلام ويفضّله ويعيب عثمان.

فدعاه وقال له : إنّك لست بذاكر من فضل عليّ شيئا أنا أجهله! بل أنا أعلم بذلك! ولكن هذا السلطان قد ظهر وظفر ، وقد أخذنا باظهار عيبه للناس! فنحن ندع كثيرا مما امرنا به ونذكر الشيء الذي لا نجد بدّا منه ، ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا «تقيّة» فإن كنت ذاكرا فضله فاذكر ذلك بينك وبين أصحابك في منازلكم سرّا! وأما علانية في المسجد فإن هذا لا يحتمله لنا الخليفة ولا يعذرنا به! فإياك أن يبلغني عنك أنك تظهر شيئا من فضل عليّ علانية! وإياك أن يبلغني عنك أنك تعيب عثمان عند أحد من الناس!

__________________

(١) وليته كان يتذكر قول عليّ عليه‌السلام لهم : ألا لا تقاتلوا الخوارج بعدي ، فليس من ....


فكان يقول له : نعم أفعل ما تقول. ثمّ يبلغه أنّه قد عاد إلى ما نهاه عنه!

وخرج المستورد بجمعه من السّراة إلى بهرسير وأراد أن يعبر جسر دجلة إلى مدينة (طيسفون) القديمة فقطع والي المدائن الجسر عليهم فأقاموا في بهرسير يومين أو ثلاثة حتّى تبيّن لهم مسير معقل إليهم ، فمضوا على شاطئ دجلة حتّى انتهوا إلى جرجرايا فعبروا دجلة ، فمضوا في أرض جوخي حتّى بلغوا المذار من البصرة ، فبلغ خبرهم عبد الله بن عامر وقيل له : إنّ المغيرة نظر إلى رجل رئيس شريف كان من أصحاب عليّ عليه‌السلام وقاتل معه الخوارج ، فبعثه ومعه «شيعة علي» لعداوتهم لهم.

فبعث ابن عامر إلى شريك بن الأعور الحارثي الهمداني وهو على رأي عليّ عليه‌السلام ، وقال له : انتخب ثلاثة آلاف رجل واخرج بهم إلى هذه «المارقة» حتّى تخرجهم من أرض البصرة ، أو تقاتلهم فتقتلهم. فانتخب الناس وألحّ على فرسان ربيعة على رأي «الشيعة».

ودنا معقل من المدائن فاخبر أنهم ارتحلوا ، فنزل على باب مدينة بهرسير ، فخرج إليه عامل المدائن سماك بن عبيد وأمر غلمانه ومواليه فأتوهم بالجزر والشعير والقتّ بما يكفيه ومن معه ، وأقام معقل هناك ثلاثة أيام.

ثمّ قدّم مقدمة في ثلاثمائة فارس مع أبي الروّاغ الشاكري الهمداني ، فركب في الوجه الذي أخذوا فيه ، حتّى عبروا جرجرايا في آثارهم حتّى لحقهم مقيمين بالمذار فتنحّوا عنهم وباتوا متحارسين. فلما ارتفع الضحى شدّ الخوارج عليهم ، فتناوشوا وتواقفوا حتّى صلّوا الظهر والعصر. ودعا معقل محرز بن شهاب التميمي وأمره أن يتخلّف في ضعفة الناس ، ليتعجّل هو بأهل القوة منهم سبعمائة رجل ولكنّه لم يصلهم إلّا بعد الأصيل وحين غربت الشمس ، فنزلوا للصلاة ،


وشدّ الخوارج عليهم بعد الصلاة ، فشدّ عليهم معقل بمن معه حتّى اضطروهم إلى بيوت قرية المذار.

وجاءهم محرز بن شهاب التميمي بمن معه ، فصف معقل أصحابه فجعل أبا الرّواغ على الميمنة ومحرز بن بجير على الميسرة ومسكين بن عامر على الخيل ، وقال لهم : على مصافّكم حتّى نصبح.

ومرّ بعض أهل الطريق في طريقه من البصرة بجيش شريك الأعور إلى الخوارج فأخبرهم بإقباله إليهم ، فقال المستورد لأصحابه : نرجع إلى الوجه الذي جئنا منه ، فإن أهل البصرة لا يتّبعونا إلى أراضي الكوفة ، وقتال أهل مصر واحد أهون علينا من قتالهم جميعا ، فادخلوا في القرية ثمّ اخرجوا من ورائها ثمّ نعود إلى الطريق. ففعلوا ذلك وأقبلوا حتّى نزلوا جرجرايا.

فدعا معقل أبا الرّواغ وقال له : اتبعه بأصحابك حتّى تحبسه وحتّى ألحقك ، وكان معه ثلاثمائة فطلب الضّعف فضاعفه إلى ستّمائة ، فاتّبعوهم إلى جرجرايا ، فتقاتلوا ساعة ثمّ مضى الخوارج حتّى عبروا دجلة إلى أرض بهرسير ، واتّبعهم أبو الرّواغ بجمعه ، فانصرف الخوارج حتّى نزلوا ساباط المدائن ، وتبعهم أبو الرّواغ إليه. وعلم الخوارج بوصول معقل إلى قرية ديلمايا (ديالى؟) في استان (محافظة) بهرسير إلى جانب دجلة على ثلاثة فراسخ (١٥ كم) من محلّ الخوارج ، فخرجوا إلى معقل في ديلمايا حتّى أطلّوا عليه في مائتين من بقايا أصحابه وهم غارّون لا يشعرون ، فحمل الخوارج عليهم حتّى لحقهم أبو الرّواغ بجمعه ، فحملوا عليهم فتقاتلوا حتّى أفنوهم.

وقدم أبو الرّواغ ومسكين بن عامر على المغيرة مبشّرين ، فأخبروا أن المستورد بعد قتال شديد طويل نادى : يا معقل ابرز إليّ ، فمشى إليه بالسيف


وخرج المستورد برمحه فطعن معقل حتّى خرج السنان من ظهره ، وضربه معقل بسيفه في دماغه فقتلا ، فأخذ الراية عمرو بن محرز وهو فتى حدث فأمرهم أن يشدّوا وشدّ هو فما لبثوا أن قتلوهم (١).

وهكذا تخلّص معاوية بشيعة الكوفة من خوارجها عليه في شهر شعبان (٤٣ ه‍).

فاستلحق زيادا ليولّيه البصرة :

نقل المعتزلي عن المدائني البصري : أن معاوية كان قد استقدم أبا مريم السلولي واستلّ منه أن زيادا من زنا أبي سفيان بسميّة ، واستقدم زيادا واستلّ منه أنّه لا يكره ذلك بل يرغب فيه! فجمع الناس وفيهم السلولي وصعد المنبر وأجلس زيادا دونه بمرقاة ، ثمّ حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم :

أيّها الناس ، إني قد عرفت نسبنا أهل البيت في زياد ، فمن كانت عنده شهادة فليقم بها! فعلم أنه قد أعدّ لذلك أناسا منهم أبو مريم السلولي فقام وقال :

يا أمير المؤمنين! أشهد أنّ أباك أبا سفيان قدم علينا بالطائف فاشتريت له طعاما لحما وخمرا ، ثمّ قال لي : يا أبا مريم أصب لي بغيّا! فخرجت إلى سميّة وهي تحت عبيد وكان راعيا غائبا فقلت لها : إن أبا سفيان قد أمرني أن أصيب له بغيّا فهل لك في ذلك؟ فقالت : الآن يجيء عبيد بغنمه! فإذا تعشّى ونام جئتك! فرجعت إلى أبيك أبي سفيان وأخبرته ، فلم نلبث حتّى جاءت تجرّ ذيلها فأدخلتها إليه فكانت عنده حتّى الصباح ثمّ انصرفت عنّا. وقام ناس فشهدوا أنّهم سمعوا أبا سفيان قبل موته أقرّ بزياد.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ١٨١ ـ ٢٠٩ مختصرا. وفي الاشتقاق لابن دريد : ١٨٦ : أن قطاما قاتلة عليّ عليه‌السلام كانت اخت المستورد الخارجي وأخوه هلال كان قاتل رستم في القادسية.


ثمّ قام زياد فحمد الله وأثنى عليه! ثمّ قال لهم : أيها الناس ، إنّ معاوية والشهود قد قالوا ما سمعتم ، ولست أدري حقّ هذا من باطله! وهو والشهود أعلم بما قالوا! وإنّما عبيد أب مبرور ووال (لا والد) مشكور! وسكت ونزل (١).

وزوّج معاوية إحدى بناته لمحمد بن زياد ليؤكّد بذلك صحّة الاستلحاق! وبلغ ذلك أخاه نفيعا أبا بكرة الصحابي ، فكره ذلك وأنكره وقال فيه : إنّه انتفى من أبيه وزنى أمه ، لا والله ما علمت سميّة رأت أبا سفيان! يا ويله (٢)! فقيل له : يزعم الناس أنك تجد على معاوية وزياد في أمر الدنيا! فقال : لا والله ، ولكن القوم كفروا صراحية (٣).

وقال اليعقوبي : إنّ زيادا أحضر لذلك شهودا أربعة شهد أحدهم أنه سمع عليّا عليه‌السلام قال : كنا جلوسا عند عمر بن الخطاب حين أتاه زياد برسالة أبي موسى الأشعري ، فتكلّم زياد بكلام أعجبه ، فقال له : أتقول هذا للناس على المنبر؟ قال : هم أهون عليّ منك! فقال أبو سفيان : والله لهو ابني ولأنا وضعته في رحم أمّه! فقلت له : فما يمنعك من ادّعائه؟ قال : مخافة هذا العير الناهق (٤)!

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ١٨٧ عن المدائني البصري. وانظر مروج الذهب ٣ : ٦ ـ ٨.

(٢) انظر ترجمة زياد في الاستيعاب.

(٣) أنساب الأشراف ١ : ٤٩٤.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١٨ وقارنه بما عن البلاذري والواقدي والكلبي في شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ١٨٠ ـ ١٨١ ، وخبره في باب الأدعياء من الجاهلية من كتاب مثالب العرب : ١٣٠. وانظر الغدير ١٠ : ٢١٦ ـ ٢٢٧ ، واكتفى ابن الخياط بقوله : وفي (٤٤ ه‍) كان من أمر معاوية وزياد الذي كان ١ : ١٢٦.


معاوية وابن عباس وابن العاص :

يظهر من خبر نقله الصدوق بسنده عن عبد الملك بن مروان : كأنه قد بلغ معاوية أنه لما بلغ عبد الله بن عباس استلحاق معاوية لزياد ، كان ممّن نفا زيادا عن ابن حرب ، ووفد ابن عباس على معاوية وعنده ابن العاص ، فقال له معاوية : يا بني هاشم ؛ بم تفخرون علينا أليس الأب والأم واحدا والدار والمولد واحدا؟!

فقال ابن عباس : نفخر عليكم بما أصبحت تفخر به على سائر قريش ، وتفخر قريش به على الأنصار ، وتفخر به الأنصار على سائر العرب ، وتفخر به العرب على العجم : برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبما لا تستطيع له إنكارا ولا منه فرارا!

فقال له معاوية : يا ابن عباس! لقد اعطيت لسانا ذلقا تكاد تغلب بباطلك حقّ سواك!

فقال ابن عباس : مه! فإنّ الباطل لا يغلب الحقّ ، ودع عنك الحسد فلبئس الشعار الحسد!

فصدّقه معاوية وقال له : أما والله إني لأحبّك لخصال أربع مع مغفرتي لك خصالا أربعا! فأمّا ما أحبّك له : فإنّك رجل من أسرتي وأهل بيتي ومن مصاص (خالص) عبد مناف ، والثانية : كان أبي خلًّا لأبيك! والثالثة : لقرابتك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله! والرابعة : أنك لسان قريش وزعيمها وفقيهها! والأربع التي غفرت لك : فإساءتك في خذلان عثمان فيمن أساء! ثمّ سعيك فيمن سعى على عائشة أم المؤمنين! ثمّ عدوك عليّ فيمن عدا بصفّين! ثمّ نفيك عنّي زيادا فيمن نفى! واستخرجت عذرك من كتاب الله عزوجل قوله : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً)(١) وقال أخو بني ذبيان :

ولست بمستبق أخا لا تلمّه

على شعث ، أيّ الرجال المهذّب؟

__________________

(١) التوبة : ١٠٢.


وقد قبلت فيك الأربع الأولى ، وغفرت لك الأربع الأخرى فكنت كما قال الأول :

سأقبل ممن قد أحبّ جميله

وأغفر ما قد كان من غير ذلكا

فحمد الله ابن عباس ثمّ قال : أما ما ذكرت أنك تحبّني لقرابتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فذلك الواجب عليك وعلى كل مسلم آمن بالله ورسوله ؛ لأنّه الأجر الذي سألكم رسول الله على ما آتاكم به من الضياء والبرهان المبين فقال عزوجل : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)(١) فمن لم يحب رسول الله إلى ما سأله خاب وخزي وكبا في جهنّم! وأما صداقة أبيك لأبي فقد سبق فيه قول الأول :

سأحفظ من آخى أبي في حياته

وأحفظه من بعده في الأقارب

ولست لمن لا يحفظ العهد وامقا

ولا هو عند النائبات بصاحب

وأما أني رجل من اسرتك وأهل بيتك فذلك كذلك ... وأما أني لسان قريش وفقيهها وزعيمها فإنك قد اوتيتها (٢)!

وأما خذلان عثمان ، فقد خذله من كان أمسّ رحما به منّي (يعني معاوية) ولي في الأقربين والأبعدين أسوة ، وإني لم أعد عليه فيمن عدا بل كففت عنه كما كفّ أهل الحجى والمروّات!

وأما سعيي على عائشة ؛ فإنّ الله تعالى كان قد أمرها أن تقرّ في بيتها وتحتجب بسترها! فلمّا خالفت نبيّها وكشفت جلباب الحياء وسعنا ما كان إليها منّا!

__________________

(١) الشورى : ٢٣.

(٢) يستبعد أن يقرّ له ابن عباس بالفقه في الدين ، ولا يخفى أن الراوي عبد الملك الأموي.


وأما عدوي عليك بصفّين ؛ فو الله لو لم أفعل لكنت من ألأم العالمين! أفكانت نفسك ـ يا معاوية ـ (كذا بلا لقب) تحدّثك أني أخذل ابن عمي أمير المؤمنين وسيد المسلمين ، وقد حشّد له المهاجرون والأنصار والمصطفون الأخيار؟! ولم ـ يا معاوية ـ الشكّ في ديني؟ أم لحيرة في سجيّتي؟ أم ضنّا (بخلا) بنفسي؟!

وأما ما ذكرت من نفي زياد ؛ فإني لم أنفه بل نفاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ قال :«الولد للفراش وللعاهر الحجر» ولكنّي بعد هذا لأحبّ ما سرّك في جميع امورك!

فقال ابن العاص : يا أمير المؤمنين! والله ما أحبّك ساعة قط! غير أنّه قد أعطي لسانا ذربا يقلّبه كيف يشاء! فقال ابن عباس : إن عمرا دخل بين العصا واللحاء ، وبين العظم واللحم! وقد تكلم فليستمع :

أما والله يا عمرو ؛ إني لأبغضك في الله وما أعتذر منه (١) قد قال الله تبارك وتعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ)(٢) وقد حاددت الله ورسوله قديما وحديثا ، ولقد جهدت على رسول الله جهدك ، وأجلبت عليه بخيلك ورجلك ، حتّى إذا غلبك الله على أمرك ، وردّ كيدك في نحرك ، وأوهن قوتك وأكذب أحدوثتك ، نزعت وأنت حسير! ثمّ كدت بجهدك لعداوة أهل بيت نبيّه من بعده ، ليس ذلك من حبّ لمعاوية ولا آل معاوية ، ولكن عداوة لله ولرسوله ، مع بغضك وحسدك القديم لأبناء عبد مناف!

فبدأ عمرو يتكلم فقال له معاوية : أما والله يا عمرو ما أنت من رجاله! فإن شئت فقل وإن شئت فدع!

__________________

(١) هنا نسب الراوي إليه أنه نسب نزول سورة الكوثر بشأن ابن العاص ، والصحيح إلى العاص.

(٢) المجادلة : ٢٢.


فقال ابن عباس : دعه ـ يا معاوية ـ فو الله لأسمنّه بميسم يبقى عليه عاره وشناره إلى يوم القيامة ، تتحدث به الإماء والعبيد ويتغنّى به في المجالس ويتحدث به في المحافل! والتفت إليه وقال له : يا عمرو! اخسأ أيها العبد وأنت مذموم! فمدّ معاوية يده فوضعها على فم ابن عباس وقال له : أقسمت عليك يا ابن عباس إلّا أمسكت! فأمسك ، وافترقوا (١).

وعاد عمرو فهلك :

اضطرّنا مضمون الخبر السابق أن يسبق هلاك ابن العاص بعد استلحاق معاوية لزياد ، وكأنّ ابن العاص عاد إلى مصر فلما تصرّمت ليالي رمضان تصرّمت ليالي عمر عمرو!

قال اليعقوبي : وليلة عيد الفطر سنة (٤٣) توفي عمرو ... ولما حضرته الوفاة قال لابنه : إني قد دخلت في أمور لا أدري ما عذري عند ربّي! ثمّ نظر إلى ماله كثيرا فقال : يا ليته كان بعرا! يا ليتني متّ قبل هذا اليوم بثلاثين سنة (أي قبل خلافة الخلفاء) أصلحت لمعاوية دنياه وأفسدت ديني! وآثرت دنياي وتركت آخرتي! عمّى عليّ رشدي حتّى حضرني أجلي! كأني بمعاوية قد حوى مالي وأساء خلافتي فيكم! فكان كذلك ، فقد أقرّ معاوية عبد الله بن عمرو على مصر ولكنّه استصفى شطر ماله وحواه وقال : هي سنة عمر! ثمّ شاطر سائر عمّاله. وكانت مصر والمغرب طعمة لعمرو شرطها على معاوية شرطا يوم بايعه .. فكان عمرو يفرّق العطاء في جيشه ثمّ يأخذ ما زاد لنفسه ولا يحمل منه إلى معاوية شيئا حتى مات

__________________

(١) الخصال ١ : ٢١١ ـ ٢١٥.


عن تسع وتسعين عاما (١) بل تسعين عاما ، وبدأ ابنه بالصلاة عليه ثمّ صلّى العيد. وخلّف عمرو من الذهب : ثلاثمائة ألف دينار ، ومن الفضة ألف درهم ، ومن الغلّات مائتي ألف دينار ، وضيعته المعروفة بالوهط وقيمتها عشرة آلاف ألف درهم (٢).

وضعف الفهري في إدارة البصرة :

كان معاوية يستوفد من عمّاله الوفود ، فأوفد المغيرة الثقفي من الكوفة وفدا فيهم عبد الله بن الكوّاء اليشكري الهمداني فكان خطيبهم. وأوفد ابن عامر الفهري من البصرة وكان قد انتشر عن البصرة انتشار الأمور أو انتثارها. واجتمع الوفدان عند معاوية فكان من سياسته أن سأل معاوية ابن الكوّاء عن الكوفة والبصرة ، فقال له ابن الكوّاء : يا أمير المؤمنين! إن أهل البصرة ضعف عنهم سلطانهم فأكلهم سفهاؤهم! هذا وأهل البصرة حضور. فلما انصرف وفد البصرة بلّغوا ابن عامر بذلك (٣).

وكان لا يعاقب في سلطانه حتّى اللصوص لا يقطعهم! فقيل له في ذلك فقال : كيف أنظر إلى رجل قد قطعت أخاه أو أباه! وأنا أتألّف الناس! وكأنه استحضر لذلك زيادا من الكوفة فشكا إليه ظهور خبث وفساد في الناس. فقال زياد : جرّد سيفك فيهم! قال : أكره أن أصلحهم بفساد نفسي! فبسبب ذلك فسدت البصرة عليه يومئذ (٤).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٢١ ـ ٢٢٢.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٢٣.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٢١٣.

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ٢١٢.


ووفد زياد بذلك على معاوية مع رجل من عبد قيس البصرة ، فقبّح لمعاوية آثار ابن عامر وعرّض بأعماله وعمّاله (١)! وقد روى الطبري أن زيادا كان قد طلب من أهل الكوفة أن يلحقوا نسبه بمعاوية! فقالوا : أبشهادة الزور؟! فلا (٢) بلا تاريخ للخبر هل كان هذا قبل استلحاق معاوية أو بعده؟ فإن كان هذا قبله فلعلّه بلغ هذا معاوية أو أبلغه المغيرة الثقفي ، وأبلغه أن خمّار الطائف أبا مريم السلولي يقول به ، فاستقدمهما معاوية ، واستشهد له أبا مريم.

وعزل ابن عامر عن البصرة :

وكان معاوية قد كتب إلى ابن عامر يطلب منه أن يزوره ، وذلك في سنة (٤٤ ه‍) ، فاستخلف على البصرة قيس بن الهيثم وقدم على معاوية (٣).

فاستأذن العبديّ البصريّ الذي كان مع زياد ، استأذنه أن يزور ابن عامر ، فاشترط عليه زياد أن يخبره بما يجري بينهما! وكان ابن عامر قد علم بأن زيادا قبّح لمعاوية آثار ابن عامر وعرّض بعمّاله ، فلما أتاه العبدي قال له : هيه هيه! أصبح ابن سمية يقبّح آثاري ويعرّض بعمالي! لقد هممت أن آتي بقسامة من قريش يحلفون أنّ أبا سفيان لم ير سميّة!

فأخبر العبديّ زيادا بذلك ، فأخبر زياد بذلك معاوية ، فحجبه فشكا ابن عامر ذلك إلى يزيد بن معاوية فأدخله معه ، فقال له : يا ابن عامر! أنت القائل في زياد ما قلت! أما والله لقد علمت العرب أني لم أتكّثر بزياد من قلة ولم أتعزّز به

__________________

(١) الطبري ٥ : ٢١٤.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٢١٥.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٢١٣ عن المدائني.


من ذلّة! ولكن عرفت له حقا! فوضعته موضعه! فقال : يا أمير المؤمنين! نرجع إلى ما يحبّ زياد! ثمّ خرج إليه فترضّاه (١)!

ثم قال له معاوية : اختر بين أن احاسبك فيما صار إليك وأتتبّع أثرك وأردّك إلى عملك ، وبين أن اسوّغك ما أصبت وتعتزل! فاختار أن يسوّغه ويعتزل ثمّ قال له : وتنكحني ابنتك هندا! قال : قد فعلت (٢)! ثمّ زوّج ابنته أم كلثوم ليزيد ، كما يأتي.

وكان معاوية عزل ابن عامر ليولّي زيادا ، ولكنّه حلّل بينهما بالحارث بن عمرو الأزدي من أهل الشام بأربعة أشهر! وأعاد زيادا إلى الكوفة فنزل على سلمان بن ربيعة الباهلي ، ينتظر أمر معاوية ، وبلغ المغيرة أن زيادا ينتظر أن تجيء إمارته على الكوفة! فاستخلف عتيبة بن النّهاس العجلي على الكوفة وخرج إلى معاوية وسأله أن يعزله فردّه إلى عمله ، فدعا معبد بن خالد الجدلي وقال له : اذهب إلى ابن سميّة! فرحّله عن البلد إلى ما وراء الجسر قبل أن يصبح فلا يصبح إلّا فيما وراءه! وقدم رسول معاوية على زياد : أن سر إلى البصرة ، فرحل إليها (٣) وتملّك قصرا فأقام فيه واتّخذ له حاجبا.

وكأنه بلغه عزم معاوية على الحجّ ، فكتب إليه يستأذنه في الحجّ ، فكتب إليه يولّيه أمر الموسم ويجيزه بألف ألف (مليون) درهم! فأخذ يتجهّز للحجّ لسنة (٤٤ ه‍) ، وبلغ ذلك أخاه نفيعا أبا بكرة ، فأقبل أبو بكرة يريده وبصر به حاجبه وعلم قصده فأسرع إلى زياد وقال له : هذا أخوك أبو بكرة يريد قصرك!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٢١٤ ـ ٢١٥ عن النميري البصري.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٢١٤ عن المدائني.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٢١٦ عن المدائني وغيره.


قال له : ويحك أنت رأيته؟ قال : ها هو ذا طلع! وكان زياد قاعدا وفي حجره صبيّ يلاعبه ، فجاء أبو بكرة حتّى وقف عليه بلا سلام والتفت إلى الغلام وقال له : يا غلام كيف أنت؟ قال له : إن أباك ركب في الإسلام عظيما! زنّى أمّه وانتفى من أبيه ، ولا والله ما علمت سميّة رأت أبا سفيان قط! ثمّ هو يريد أن يركب ما هو أعظم من ذلك : يوافي الموسم غدا ويوافي أمّ حبيبة بنت أبي سفيان ـ وهي من أمهات المؤمنين ـ فإن استأذن عليها فأذنت له فأعظم بها فرية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومصيبة! وإن هي منعته فأعظم بها على أبيك فضيحة! ثمّ انصرف.

فقال زياد له : جزاك الله يا أخي عن النصيحة خيرا! ساخطا كنت أو راضيا!

ثم كتب إلى معاوية : إني قد اعتللت عن الموسم! فليوجّه أمير المؤمنين إليه من أحبّ فوجّه إليه أخاه عتبة بن أبي سفيان (١).

وكان زياد في شبابه سابقا قد وقع في بني قيس بن ثعلبة على أمة لهم فحملت منه وجاءت بذكر امتلكوه واسموه عبّادا وكان في البصرة خرّازا يخرز القرب ، وكان قد سمع من أمّه ومنهم أنه لزياد بن سميّة ، فلما بدأ زياد يتجهّز جاء أصحاب القرب يعرضون عليه قربهم ، وتقدم فيهم عبّاد فصار يعرض عليه ويحاوره ، وكأن زيادا لمح فيه ملامحه فسأله : ويحك من أنت؟ قال : أنا ابنك! ثمّ قصّ عليه قصّته ، فصدّقه واشتراه منهم وادّعاه وألحقه ، وتزوّج له الستيرة ابنة أنيف بن زياد الكلبي سيدهم على عهده ، وعظم أمره (٢).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ١٨٨ عن الجاحظ.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ١٩٣ عن الكلبي النسابة ، وليس في المنشور من كتابه مثالب العرب.


وحجّ معاوية لسنة (٤٤ ه‍):

فقدم المدينة ، فكان من استقبله من قريش أكثر من الأنصار ، وكان فيهم قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري وكان سيّدهم فسأله معاوية : يا معشر الأنصار! ما لكم لا تستقبلوني مع إخوانكم من قريش؟ فقال قيس : أقعدنا ـ يا أمير المؤمنين! ـ أن لم تكن لنا دوابّ. فقال معاوية : فأين النواضح (نواقل الماء) يعيّرهم بها! فقال قيس : يا معاوية! تعيّرنا بنواضحنا! والله لقد لقيناكم عليها يوم بدر وأنتم جاهدون على إطفاء نور الله وأن تكون كلمة الشيطان هي العليا ، ثمّ دخلت أنت وأبوك في الإسلام كرها حين ضربناكم عليه! أما إن رسول الله قال : «إنكم سترون بعدي أثرة» فقال معاوية : فما أمركم؟ قال : أمرنا أن نصبر حتّى نلقاه! فقال : فاصبروا حتّى تلقوه! ثمّ قال له : كأنك تمنّ علينا بنصرتك إيانا! والله لقريش بذلك المنّ والطّول إذ جعلكم الله أنصارنا وأتباعنا فهداكم بنا!

فقال له قيس : إن الله عزوجل بعث محمّدا رحمة للعالمين ، فبعثه إلى الناس كافة إلى الجن والإنس والأسود والأبيض والأحمر ، واختاره لنبوّته واختصّه برسالته ، فكان أوّل من صدّقه وآمن به ابن عمّه علي بن أبي طالب ، وكان أبو طالب عمه يذبّ عنه ويمنع منه ويحول بين كفار قريش وبينه أن يروّعوه أو يؤذوه ، ويأمره بتبليغ رسالات ربّه ، فلم يزل ممنوعا من الضيم والأذى حتّى مات عمه أبو طالب وأمر ابنه عليّا بمؤازرته ونصرته ، فوازره عليّ ونصره وجعل نفسه دونه في كلّ شديدة وكلّ ضيق وكلّ خوف ، واختصّ الله بذلك عليّا من بين قريش وأكرمه من بين جميع العرب والعجم ... فلم يدع قيس شيئا من مناقبه إلّا ذكره واحتجّ به قال : ومن أهل هذا البيت حمزة سيد الشهداء ، وجعفر بن أبي طالب الطيار في الجنة بجناحين اختصّه الله بذلك من بين الناس ، ومنهم فاطمة سيدة نساء العالمين ، فإذا وضعت من قريش رسول الله و «أهل بيته» وعترته الطيبين فنحن والله خير


ـ يا معشر قريش ـ وأحبّ إلى الله ورسوله وإلى «أهل بيته» منكم! ثمّ لم يدع آية نزلت في عليّ عليه‌السلام إلّا ذكرها.

فعند ذلك غضب معاوية وأمر فكتب كاتبه نسخة إلى عمّاله : ألا برئت الذمّة ممّن روى حديثا في مناقب علي بن أبي طالب أو فضائل أهل بيته! وأمر فنادى مناديه بها في المدينة ، وقام الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ المنابر بلعن عليّ عليه‌السلام والبراءة منه والوقيعة فيه وفي أهل بيته واللعنة لهم (١).

وزاره أبو قتادة الأنصاري الذي كان واليا لعليّ عليه‌السلام على مكة ، فقال له معاوية : يا أبا قتادة ، تلقّاني الناس كلّهم غيركم يا معشر الأنصار ، فما منعكم؟ قال : لم يكن معنا دواب! قال معاوية : فأين النوق النواضح؟ يعيّرهم بحملهم المياه! فأجابه أبو قتادة : عقرناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر! فقال معاوية : نعم يا أبا قتادة (ثمّ ما ذا؟) فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لنا : «ستلقون بعدي أثرة» فقال معاوية : فما أمركم به عند ذلك؟ قال : أمرنا بالصبر. قال : فاصبروا حتّى تلقوه! وكان حسّان بن ثابت قد مات فلما بلغ هذا إلى ابنه عبد الرحمن قال :

ألا أبلغ معاوية بن صخر

أمير المؤمنين نبا كلامي

فإنا صابرون ومنظروكم

إلى يوم التغابن والخصام (٢)

ثمّ جمع النعمان بن بشير بشرا من الأنصار وصار بهم إلى هاوية معاوية فأقرّوا له بفقرهم! واستعطفوه بذكر الحديث النبويّ لهم : «ستلقون بعدي أثرة» وقالوا : لقد لقيناها! فقال لهم معاوية : فما قال لكم؟ قالوا : قال لنا :

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٧٧٧ ـ ٧٨٠ ، الحديث ٢٦. وانظر مروج الذهب ٣ : ١٧ ، وخبرا عن الرضا عليه‌السلام بشأن قيس بن سعد وعبادته وشجاعته. وتخريجه في ٣ : ٩٨٨.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٤١ ، وانظر الغدير ١٠ : ٢٨٢ عن الاستيعاب وابن عساكر.


«فاصبروا حتّى تردوا عليّ الحوض» قال : فافعلوا ما أمركم به عساكم تلاقونه غدا عند الحوض كما أخبركم! ولم يعطهم شيئا!

نقله المعتزلي في شرحه وعلّق عليه يقول : وهذا الخبر هو الذي يكفّر به كثير من أصحابنا (المعتزلة) معاوية بالاستهزاء به (١).

وكما دخل عليه والي عليّ عليه‌السلام على مكة ، دخل عليه والي علي على المدينة أبو أيوب الأنصاري ، وشكا إليه دينا عليه ، فلم يرفع رأسه إليه وجفاه! فقال أبو أيوب : صدق رسول الله : إنكم سترون بعدي أثرة فعليكم بالصبر! فقال معاوية : فأنا أوّل من أصدّقه : صدق رسول الله! فقال أبو أيوب : أجرأة على الله ورسوله؟! فو الله لا أسألك شيئا أبدا ولا اكلمك أبدا ولا يأويني وإياك سقف بيت أبدا (٢) ولعلّه كان أوّل من دخل ونقل له ذلك فكان أوّل من صدّقه في ذلك!

معاوية وسعد في المدينة :

وكان سعد بن أبي وقاص الزهري قد اعتزل القتال ، ونرى أوّل لقاء له بمعاوية هذه السنة في المدينة : دخل عليه فسأله معاوية : ما لك لم تقاتل عليّا؟! قال : مرّت بي ريح مظلمة فأنخت راحلتي حتّى انجلت عنّي فعرفت الطريق فسرت!

فقال معاوية : ولكن في كتاب الله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ)(٣) فو الله ما كنت مع الباغية على العادلة ولا مع العادلة على الباغية!

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٣٢.

(٢) الغدير ١٠ : ٢٨٣ عن ابن عساكر.

(٣) الحجرات : ٩.


فقال سعد : ما كنت لأقاتل رجلا قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي» فكأنّ معاوية أنكر ذلك فسأله : من سمع هذا معك؟ قال : فلان وفلان وأمّ سلمة. فطلب إليه معاوية أن يقوما معا إلى أم سلمة فقاما إليها فسألاها فحدثتهما بما حدّث به سعد. فلما سمع ذلك معاوية قال جدلا : لو سمعت هذا قبل اليوم لكنت خادما لعليّ! حتّى يموت أو أموت (١)!

وروى المفيد الخبر بسنده عن ابن عباس قال : نزل معاوية في حجه المدينة فاستؤذن لسعد بن أبي وقاص عليه ، فقال لجلسائه : إذا أذنت لسعد وجلس فخذوا في عليّ بن أبي طالب! ثمّ أذن له فلما دخل أجلسه معه على سريره!

ثمّ سمعهم سعد يشتمون عليّا عليه‌السلام فاستعبر سعد ، ورآه معاوية فقال له : يا سعد! أتبكي أن يشتم قاتل أخيك عثمان!

فقال سعد : والله ما ملكت بكائي! ثمّ قال : خرجنا من مكة مهاجرين حتّى نزلنا هذا المسجد فكان فيه مبيتنا ومقيلنا ، حتّى أخرجنا منه رسول الله وترك عليّا ، فاشتدّ علينا ذلك ولكنّا هبنا نبيّ الله أن نذكر له ذلك! فقلنا لعائشة : إنّ لنا صحبة مثل صحبة عليّ وهجرة مثل هجرته ، وأخرجنا من المسجد وتركه فيه! فلا ندري أمن سخط الله أو من غضب رسوله! وإنّا نهى به فاذكري له ذلك! فذكرت ذلك له فقال لها : يا عائشة ، لا والله ما أنا أخرجتهم ولا أنا أسكنته ، بل الله أخرجهم وأسكنه!

وغزونا خيبر فانهزم من انهزم فقال نبي الله : «لاعطين الراية اليوم رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله» فدعاه وكان أرمد فتفل في عينه وأعطاه رايته ففتح الله له!

__________________

(١) البداية والنهاية لابن كثير الشامي ٨ : ٧٧ ، وعنه في الغدير ١٠ : ٢٥٨ ، وانظر تعليق الأميني عليه. ونقله في علل الشرائع ١ : ٢٦٠ الباب ١٦٠ في رسالة الشيباني في صلح الحسن عليه‌السلام وذكر استحالته وكذبه.


وغزونا تبوك مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فودّع عليّ النبي على ثنيّة الوداع وبكى ، فقال له النبي : ما يبكيك؟ فقال : كيف لا أبكي ولم أتخلّف عنك في غزاة منذ بعثك الله تعالى ، فما بالك تخلفني في هذه الغزاة؟

فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنه لا نبيّ بعدي؟

فقال علي : بلى قد رضيت (١).

وابن عباس ومعاوية :

قال اليعقوبي : وزاره عبد الله بن العباس في جماعة من بني هاشم ، وكلّموه في أمورهم ، فقال لهم :

أما ترضون ـ يا بني هاشم ـ أن نقرّ عليكم دماءكم وقد قتلتم عثمان حتّى تقولوا ما تقولون؟! فو الله لأنتم أحلّ دما من فلان وفلان وأعظم لهم في القول!

فقال له ابن عباس : كلّ ما قلت لنا ـ يا معاوية ـ من شرّ بين دفّتيك! وأنت والله أولى بذلك منّا : أنت قتلت عثمان ثمّ قمت تغمص على الناس أنك تطلب بدمه! فانكسر معاوية! فقال ابن عباس : والله ما رأيتك صدقت إلّا فزعت وانكسرت! فضحك معاوية ... ولم يقض لهم حاجة (٢).

وكان ابن عباس يجلس بعلمه للناس ، وقد اجتمع حوله حلقة من قريش ، ومرّ عليهم معاوية فقاموا له إلّا ابن عباس ، فتوقّف وقال له : يا ابن عباس ؛ ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلّا موجدة عليّ بقتالي إياكم في صفّين! يا ابن عباس إن ابن عمي عثمان قتل مظلوما! وكأنه يستثيره بها!

__________________

(١) أمالي الطوسي : ١٧٠ م ٦ ، الحديث ٣٩ عن المفيد وليس في أماليه.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٢٣.


فقال ابن عباس : فعمر بن الخطاب قد قتل مظلوما! أفسلمتم الأمر إلى ولده؟! فقال معاوية : إن عمر قتله مشرك. فقال ابن عباس : فمن قتل عثمان؟ قال : المسلمون! قال : فذلك أدحض لحجّتك أن كان المسلمون خذلوه وقتلوه! فبهت معاوية فصرف القول وقال :

يا ابن عباس ، فإنا قد كتبنا إلى الآفاق ننهى عن ذكر مناقب عليّ وأهل بيته! فكفّ لسانك وأربع على نفسك! فقال ابن عباس : أفتنهانا عن قراءة القرآن؟ قال : لا ، قال : أفتنهانا عن تأويله (أي تفسيره وتطبيقه) قال : نعم! قال : فنقرأه ولا نسأل عن ما عنى به الله؟ قال : نعم! قال : فأيهما أوجب علينا : قراءته أو العمل به؟ قال : العمل به! قال : فكيف نعمل به حتّى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا؟ قال : سل عن ذلك من يتأوله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك! قال : فإنّما أنزل القرآن على أهل بيتي فأسأل عنه آل أبي سفيان؟! أو أسأل عنه آل أبي معيط؟ أو اليهود والنصارى؟! قال معاوية : فقد عدلتنا بهم وصيّرتنا منهم! قال : لعمري ما أعدلك بهم ، ولكنّك نهيتنا أن نعبد الله بالقرآن وبما فيه من أمر ونهي أو حلال أو حرام أو ناسخ أو منسوخ أو عام أو خاص أو محكم أو متشابه! وإن لم تسأل الأمة عن ذلك اختلفوا وتاهوا وهلكوا! قال معاوية : فاقرءوا القرآن ولا ترووا شيئا فيما أنزل الله فيكم وما قاله رسول الله فيكم (منع التحديث بالحديث) وارووا ما سوى ذلك! فتلا ابن عباس قوله سبحانه : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)(١).

فقال معاوية : يا ابن عباس اكفني نفسك وكفّ عني لسانك! فإن كنت فاعلا فليكن ذلك سرّا ولا يسمعه أحد منك علانية! ثمّ بعث إليه بخمسين ألف درهم (٢)!

__________________

(١) التوبة : ٣٢. وللتفصيل في منع الحديث انظر : تاريخ تدوين الحديث حتّى عهد معاوية.

(٢) سليم بن قيس ٢ : ٧٨٢ ـ ٧٨٤ ، الحديث ٢٦. وتخريجه في ٣ : ٩٨٨.


أسامة بن زيد وعمرو بن عثمان :

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جعل حائطا من حوائطه في المدينة لمولاه زيد بن حارثة الكلبي أو بعده لابنه أسامة ، وكأنّ عثمان بن عفان كان قد تصرّف فيه ، فلما قدم معاوية المدينة خاصمه عمرو بن عثمان على ذلك الحائط إلى معاوية بمجمع من الأمويين والهاشميين ، وارتفع الكلام بينهما فقال عمرو لأسامة : تلاحيني (تخاصمني) وأنت مولاي! فغضب أسامة وقال : والله ما أنا بمولاك ولا يسرّني أن أكون في نسبك! مولاي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فقال عمرو : ألا تسمعون بما يقابلني به هذا العبد؟! يا ابن السوداء ما أطغاك! فقال أسامة : أنت أطغى مني وألأم ، تعيّرني بأمّي! وامي والله خير من امك (المجنونة) هي أمّ أيمن مولاة رسول الله وقد بشّرها رسول الله في غير مرّة بالجنة ، وأبي خير من أبيك صاحب رسول الله وحبّه ومولاه وقتل شهيدا بمؤتة على طاعة الله ورسوله ، وقبض رسول الله وأنا أمير على أبيك وأبي بكر وعمر وأبي عبيدة وسروات المهاجرين والأنصار (كذا) فأنّى تفاخرني يا ابن عثمان! فقال عمرو : يا قوم أما تسمعون بما يجبهني هذا العبد؟!

فقام مروان فجلس إلى عمرو يدعمه ، فقام الحسن عليه‌السلام فجلس إلى أسامة ، فقام عتبة أخو معاوية فجلس إلى عمرو ، فقام عبد الله بن عباس فجلس إلى اسامة ، فقام سعيد بن العاص فجلس إلى بني أمية ، فقام عبد الله بن جعفر فجلس إلى بني هاشم. فخشى معاوية من تفاقم الأمر فقال : أقول فيه بعلمي؟ قالوا : قل فقد رضينا. فقال : أشهد أن رسول الله جعله لأسامة ، فقم فاقبض حائطك هنيئا مريئا! فقام الهاشميون وانصرفوا.

فأقبل عمرو على معاوية وقال له : لا جزاك الله عن الرحم خيرا! ما زدت على أن كذبت قولنا وفسخت حجّتنا وشمتّ بنا عدونا! فقال معاوية : ويحك يا عمرو! إني لما رأيت هؤلاء من بني هاشم قد اعتزلوا ذكرت أعينهم تزورّ


من تحت المغافر بصفين ، نازعوني مهجة نفسي حتّى نجوت منهم بعد نبأ عظيم وخطب جسيم ، وما يؤمّنني منهم يا ابن عثمان وقد أحلّوا بأبيك ما أحلّوا! فانصرف فنحن مخلفون لك خيرا من حائطك إن شاء الله (١)!

ولم يذكر خبر عن لقائه بعائشة ، ولعلّها لم تأذن له لقتله أخاها ابن أبي بكر بمصر فكانت تقنت عليه كما مرّ ، وكأنّه بلغه عنها أنها لا تراه أهلا للخلافة ، ودخل عليه الحسن عليه‌السلام ومعاوية في صدر مجلس ضيق ولم يوسع للامام فاضطره للجلوس عند رجليه! ثمّ شكا إليه معاوية مقالة عائشة متعجبا منها ، فقال له الإمام : وأعجب من ذلك جلوسك في صدر المجلس وأنا عند رجليك! فضحك وجلس وقال : يا ابن أخي! بلغني أن عليك دينا؟ كم هو؟ قال : مائة ألف! فأمر له بثلاثمائة ألف! وكان يزيد مع أبيه فتعجّب من ذلك فقال له أبوه : يا بني ، إنّ الحقّ حقّهم ، فمن جاءك منهم فاحث له (٢)!

سعد ومعاوية في الطريق وفي مكة :

وكأنّ ابن أبي وقاص تنقّص معاوية في دينه من كلامه ، فعزم على أن لا يكلّمه بل لا يردّ سلامه.

فقد نقل الجهشياري : أن سعدا تقدم معاوية إلى مكة فلحقه معاوية في الطريق بين الطلوعين ومعه أهل الشام ، فوقف وسلّم عليه ، فلم يردّ عليه سعد سلامه! فقال معاوية لمن معه من أهل الشام : أتدرون من هذا؟ هذا سعد صاحب رسول الله ، لا يتكلم حتى تطلع الشمس! فبلغ ذلك سعدا فقال : بل كرهت أن أكلّمه (٣)!

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٢١٢ ـ ٢١٤ م ٨ ، الحديث ٢٠ / ٣٧٠ عن المفيد وليس في أماليه.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ١٢ عن أمالي محمد بن حبيب.

(٣) الوزراء والكتّاب : ٤٣.


وكأنّ معاوية لم يترك سعدا بل حاول أن يسعد حظّا بمساعدة سعد له ، والتقى به في طوافه ، فاصطحبه معه إلى «دار الندوة» ولعلّه إحياء لمجد الجاهلية! وكان قد أعدّ فيه لنفسه سريرا ، فأجلس سعدا معه على سريره ثمّ شرع بالوقوع في عليّ عليه‌السلام وسبّه! فزحف عنه سعد وقال له : أجلستني معك على سريرك ثمّ شرعت في سبّ علي! والله لئن يكون لي خصلة واحدة من خصال كانت لعليّ. فذلك أحبّ إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس! أو حمر النعم! ثمّ ذكر حديث الراية في خيبر ، والمنزلة في تبوك ، والمباهلة في العاشرة ، ثمّ قال : فايم الله لا دخلت لك دارا ما بقيت! ثمّ نهض ليقوم فضرط له معاوية وقال له : اقعد حتّى تسمع جواب ما قلت : ما كنت عندي قط ألأم منك الآن ، فهلّا نصرته؟ ولم قعدت عن بيعته؟ وكرّر هنا دعواه : إني لو سمعت من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل الذي سمعت فيه لكنت خادما لعليّ ما عشت!

وأعرض سعد عن جواب هذا الخطاب ، ولكنّه ضربه في الصميم فقال له : والله إني لأحقّ منك بموضعك! وكان سعد من بني زهرة ولكنّه كان ينسب لبني عذرة! فقال له معاوية : يأبى عليك بنو عذرة (١).

وكان قد قدم معه من الشام بمنبر وضعه عند باب البيت الحرام فكان أوّل من وضعه (٢).

وكان قد حجّ معه عبد الله بن الزبير ومعه ابنه عبّاد ، فروى أحمد والطبراني عنه قال : لما قدمنا مكّة ظهرا صلّى بنا الظهر ركعتين ثمّ انصرف إلى دار الندوة فقام إليه عمرو بن عثمان مع مروان بن الحكم فقالا له : ألم تعلم أن ابن عمّك عثمان قد أتمّ الصلاة

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١٤ ـ ١٥ عن الطبري والنوفلي.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٢٢.


بمكّة! قال : ويحكما قد صلّيتهما مع رسول الله وأبي بكر وعمر ركعتين! قالا : فإنّ ابن عمّك قد أتمها وإن خلافك إياه عيب عليه! فوعدهما بذلك وصلّى العصر أربعا (١)!

ولمّا حجّ لم يلبّ في عرفات والمشعر الحرام ومنى قبل الرمي (٢) ولما كان العيد أمر مؤذنه أن يؤذن لصلاة العيد خلافا للسنة الجارية المعمولة بالنداء بالصلاة فقط (٣) ثمّ قدّم الخطبتين قبل الصلاة (٤).

وذلك أن الناس كانوا إذا صلوا انصرفوا لئلّا يسمعوا لعن عليّ عليه‌السلام فقدّم الخطبة ليسمعهم ذلك (٥).

ثمّ وصل معاوية من حجّه إلى الشام ، ووصل الأزديّ الشامي إلى البصرة أميرا عليها لأول محرم سنة (٤٥ ه‍).

هذا وقد مرّ عن البصرة في أواخر عهد ابن عامر أنّها كانت قد انتشر أمرها وضعفت إدارتها ، ولم يتغيّر حالها ووضعها عما كانت عليه في الأشهر الأربعة من حكم الأزدي الشامي ، فاستبد له بزياد.

إمرة زياد على البصرة :

بدأ حكم زياد على البصرة في آخر شهر ربيع الآخر أو أول جمادى الأولى ، هذا والفسق بها ظاهر فاش (٦).

__________________

(١) الغدير ١٠ : ١٩٠ ـ ١٩١.

(٢) الغدير ١٠ : ٢٠٥ ـ ٢١١.

(٣) الغدير ١٠ : ١٩١ ـ ١٩٥.

(٤) الغدير ١٠ : ٢١١ ـ ٢١٣.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٢٣.

(٦) تاريخ الطبري ٥ : ٢١٦ ـ ٢١٧.


وقد روى عن الوصيّ عن النبيّ قال : «كل أمر ذي بال لم يبدأ ببسم الله فهو أبتر» (١) ولذا نقل الجاحظ : أن خطباء السلف الطيّب ما زالوا يسمّون الخطبة ـ التي لم تبتدأ (بالتسمية) والتحميد والتمجيد ـ بالبتراء ، والتي لم تزيّن بالصلاة على النبيّ بالشوهاء. ثمّ روى بسنده : أن زيادا في بدء أمره بالبصرة خطب خطبة بتراء لم يحمد الله فيها أو لم يسمّ وحمد فقال :

الحمد لله على إفضاله وإحسانه ، ونسأله المزيد من نعمه ، اللهمّ كما رزقتنا نعما فألهمنا شكرا على نعمتك علينا. أما بعد : فإن الجاهلية الجهلاء والضلالة العمياء والغيّ المدني بأهله على النار الباقي عليهم سعيرها : ما فيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم ، من الأمور العظام ، ينبت فيها الصغير ولا يتحاشاها الكبير ، كأن لم تسمعوا بآي الله ولم تقرءوا كتاب الله ، ولم تسمعوا ما أعدّ الله من الثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمد الذي لا يزول. أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا وسدّت مسامعه الشهوات ، واختار الفانية على الباقية ، ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه من ترككم الضعيف يقهر ويؤخذ ماله! وهذه المواخير المنصوبة! ألم تكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار! قربتم القرابة وباعدتم الدين! تعتذرون بغير العذر ، وتغضّون على المختلس ، كل امرئ منكم يذبّ عن سفيهه ، ضيّع من لا يخاف عقابا ولا يرجو معادا! ما أنتم بالحلماء وقد اتّبعتم السفهاء! ولم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام! حرام عليّ الطعام والشراب حتّى اسوّيها بالأرض إحراقا وهدما! وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالوليّ والمقيم بالطاعن والمقبل بالمدبر والصحيح بالسقيم حتّى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول له :

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٦ : ٣٠٤ عن تفسير الإمام.


أنج سعد فقد هلك سعيد! أو تستقيم لي قناتكم! إياي ودلج الليل فإني لا اوتي بمدلج إلّا سفكت دمه ، وقد أجّلتكم في ذلك بقدر ما يصل الخبر الكوفة ويرجع إليّ! وإياي ودعوى الجاهلية! فإني لا أجد أحدا دعا بها إلّا قطعت لسانه! فمن غرّق قوما غرّقته! ومن حرّق على قوم حرّقناه! ومن نقب بيتا نقّبت عن قلبه! ومن نبش قبرا دفنته فيه حيّا! فكفّوا عنّي أيديكم وألسنتكم اكفف يدي وأذاي! لا يظهر من أحد منكم خلاف ما عليه عامّتكم إلّا ضربت عنقه! وايم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة فليحذر كلّ امرئ منكم أن يكون من صرعاي! ولست محتجبا عن طالب حاجة منكم ولو أتاني بليل.

فقام الصحابي أبو بلال مرداس بن ادية وقال له : قال الله : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى)(١) فأنبأنا الله بغير ما قلت وأوعدنا خيرا مما واعدت يا زياد!

فقال زياد : انا لا نجد إلى ما تريد أنت وأصحابك سبيلا حتّى نخوض إليكم الباطل خوضا (٢).

واستعمل زياد على شرطته عبد الله بن حصن العبيدي (أو اليربوعي) وجعلهم أربعة آلاف. وقيل له : إن السبل مخوفة! فقال : لا أعاني شيئا الآن وراء هذا المصر حتّى أغلب على المصر وأصلحه. وكان يؤخّر صلاة العشاء حتّى يكون آخر من يصلّي ، ثمّ يأمر رجلا يرتل سورة البقرة ، ثمّ يمهل بقدر ما يبلغ شخص محلة الخريبة بالبصرة القديمة ، ثم يأمر صاحب شرطته بالخروج فلا يرى أحدا إلّا قتله!

__________________

(١) النجم : ٣٨ ـ ٣٩.

(٢) البيان والتبيين للجاحظ البصري ٢ : ٦١ ـ ٦٦ ، والأخبار الموفقيات : ٣٠٤ بمختلف الروايات ، والطبري ٥ : ٢١٨ ـ ٢٢١.


وقدم البصرة أعرابي ببقرة له حلوب وغشيه الليل فأقام بموضع ليصبح ، ولا علم له بنداء زياد ، فأخذوه إليه فسأله عن ندائه فقال : لا والله لا علم لي بما كان من الأمير! قال : أظنك صادقا ولكن في قتلك صلاح هذه الأمة! فضرب عنقه.

فجرّد السيف وأخذ بالظنّة وعاقب على الشبهة ، فخافه الناس خوفا شديدا حتّى أمن بعضهم بعضا ، وحتّى كانت المرأة تبيت فلا تغلق عليها بابها! وحتّى كان يسقط شيء من أحد فلا يعرض له أحد حتى يأتيه صاحبه فيأخذه! وحتى كان يقول : لو ضاع بيني وبين خراسان حبل لعلمت من أخذه! فكان أول من أكّد الملك لمعاوية وألزم الناس طاعته وشدّ من أمر السلطان ، وهابه الناس هيبة لم يهابوها أحدا قبله.

وبنى مدينة الرزق (وكانت من مسالح الفرس بالبصرة) فكانت بيت المال ، وأدرّ العطاء عليهم ، وكتب خمسمائة من مشايخ أهل البصرة في صحابته ما بين الثلاثمائة إلى الخمسمائة (درهم أو دينار) (١)!

واستعان بعدة من الصحابة فاستقضى عمران بن حصين الخزاعي ، ثمّ سمرة بن جندب الأنصاري ، ثمّ أنس بن مالك ، ثمّ عبد الله بن فضالة الليثي ثمّ أخاه عاصم بن فضالة ثمّ زرارة بن أوفى الحريثي وقد تزوّج زياد اخته.

واتّخذ خمسمائة من شرطته حرّاسا مرابطين لا يبرحون المسجد (والقصر) عليهم شيبان السعدي التميمي ، ومشوا بين يديه بالحراب والعمد!

وجعل خراسان أربعة أقسام : فجعل على مرو أمير بن أحمر اليشكري

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٢٢٢ ـ ٢٢٣ عن النميري البصري عن المدائني البصري وغيره ، وعنه قبله في الموفقيات : ٣٠٧ وفيه : أنه صحّ أوّل يوم بسبعمائة رأس بباب القصر : وفي الآتية بخمسين رأسا! وفي الثالثة برأس واحد! ولعلّه هو الأعرابي التالي خبره.


الهمداني ، وعلى أبر شهر خليد بن عبد الله الحنفي ، وعلى مروالرود والفارياب والطالقان قيس بن الهيثم ، وعلى هراة وبادغيس وقادس وبوشنج نافع بن خالد الطاحي (١).

وحمل الدؤلي على تنقيط المصحف :

مرّ الخبر أن عليّا عليه‌السلام بعد الجمل بالبصرة علّم أبا الأسود الدؤلي النحو. وكان زياد بن أبيه يومئذ مع الإمام عليه‌السلام وعلم بذلك.

فنقل ابن النديم ، عن أبي عبيد البصري قال : بعث زياد إلى أبي الأسود وأمره أن يعمل شيئا يعرف به (حركات) كتاب الله ، فاستعفاه من ذلك. ثمّ سمع قارئا يقرأ : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) بسكر اللام! فقال : ما ظننت أنه قد آل أمر الناس إلى هذا! فرجع إلى زياد وقال له : أفعل ما أمر به الأمير! فليبغني كتابا لقنا يفعل ما أقول. فاتي بكاتب من عبد القيس فلم يرضه ، فأتي بآخر (منهم) فقال له أبو الأسود : إذا رأيتني فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه ، وإن ضممت فمي فانقط نقطة بين يديه ، وإن كسرت فاجعل النقطة من تحت الحرف (٢).

وأخذ يقرأ القرآن بالتأنّي والكاتب يضع النقط ، وكلّما أتمّ الكاتب صحيفة أعاد أبو الأسود نظره عليها ، واستمر على ذلك ، حتّى أعرب المصحف كلّه ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٢٢٤ عن النميري البصري عن المدائني البصري وغيره.

(٢) الشيعة وفنون الإسلام : ١٦٣ عن الفن الأول من المقالة الثانية من الفهرست ، وعنه في التمهيد ١ : ٣١٠ ـ ٣١١ ولكنه قال : كان واليا على الكوفة ، والصحيح : كان ذلك بالبصرة حيث أبو الأسود البصري ، وانظر تاريخ القرآن للزنجاني : ٩٦.


فجرى الناس على طريقته. ثمّ زاد أتباعه علامات اخرى للسكون ولألف الوصل ، ووضع أهل المدينة علامة للحرف المشدّد (١).

أراد يزيد ورشّحوا غيره فقتله :

ومنذ سنة (٤٥) بدأ أبو يزيد بالتمهيد لترشيحه لولاية عهده من بعده ، فاختار قائدا سابقا من قوّاد غاراته : سفيان بن عوف الغامدي ووجّهه لغزو ثغر الروم إلى قرية انطوانة ، وأرفق معه ابنه يزيد ومعه زوجته أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر ، فتقدموا حتى بلغوا الفرقدونة وأصاب طاعون كثيرا منهم ، ويزيد متخلّف عنهم بدير مرّان ، وبلغه ذلك وهو مع ندمائه على شرابه مع أم كلثوم فقال :

أهون عليّ بما لاقت جموعهم

يوم الطّوانة (أو : بالقدقدونة) من حمّى ومن موم!

إذا اتّكأت على الأنماط مرتفقا

بدير مرّان ، عندي أمّ كلثوم!

وبلغ ذلك معاوية وكان على خلاف مرامه منه فقال : والله ليغزونّ! وأردف معهم أبا أيوب الأنصاري ، فبلغوا إلى أبواب القسطنطينية ومات أبو أيوب فدفن هناك (٢).

__________________

(١) انظر تاريخ القرآن للزنجاني : ٩٦.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٢٤ وتاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٢٩ ، وفي رجال الكشّي : ٣٨ ، الحديث ٧٧ : سئل الفضل بن شاذان عن قتال أبي أيوب مع معاوية فقال : كان ذلك منه أنّه ظنّ ظنّا أنّه إنّما يعمل عملا يقوي به الإسلام ويوهن به الشرك وأنّه ليس عليه من معاوية شيء كان معه ولم يكن وكان ذلك منه غفلة وقلّة فقه!


وفي شتاء سنة (٤٦ ه‍) أغزى معاوية عبد الرحمن بن خالد بن الوليد من عمله على حمص ثغور الروم ، فغزاهم وعاد ، وكان قد عظم شأنه بالشام ومال أهلها إليه لغنائه بأرض الروم وبأسه (١).

وبدأ معاوية يبدي قوله بكبر سنّه ودنوّ أجله ، يريد التمهيد ليزيد ، فخطبهم وقال : يا أهل الشام ، إنه قد كبرت سنّي وقرب أجلي ، وقد أردت أن أعقد لرجل يكون نظاما لكم ، وإنما أنا رجل منكم فرأوا رأيكم! فقالوا : قد رضينا بعبد الرحمن ابن خالد بن الوليد! فشق ذلك على معاوية وأسرّها في نفسه ، وكان له طبيب نصراني أو يهودي مكين عنده يقال له : ابن أثال ، ومرض عبد الرحمن ، فأمر معاوية طبيبه أن يذهب إليه فيسقيه ما يقتله به! فأتاه وسقاه فانخرق بطنه ومات بحمص ، فولّاه معاوية خراجها ووضع عنه خراجه (٢).

__________________

(١) الطبري ٥ : ٢٢٧ ونحوه في اليعقوبي ٢ : ٢٢٣.

(٢) انظر الغدير ١٠ : ٢٣٣ عن ترجمة عبد الرحمن في الاستيعاب ؛ لأنه كان قد أدرك النبيّ فعدّه في الأصحاب. وقال : ثمّ دخل أخوه المهاجر بن خالد دمشق مستخفيا ، وكان ابن أثال يسمر عند معاوية فخرجوا من عنده ومعه قوم ، فهجم المهاجر وغلامه عليهم فهرب القوم وقتل ابن أثال. ونقل عن الأغاني قال : قتله خالد بن المهاجر ، وأخذ إلى معاوية فقال له : لا جزاك الله من زائر خيرا! قتلت طبيبي؟! فقال : قتلت المأمور وبقي الآمر! وقال أبو عمر : وهي قصة مشهورة في أهل العلم بالآثار والأخبار ، ومنهم النميري البصري في أخبار المدينة. يعني تاريخ المدينة المحقق والمنشور ولكن ليس هذا فيه! وفي اليعقوبي ٢ : ٢٢٣ : قتله خالد بن عبد الرحمن بإثارة المنذر بن الزبير بن العوّام! فحبسه معاوية أياما حتى أدّى ديته فأطلقه ، وانظر الطبري ٥ : ٢٢٤ عن النميري البصري ، عن المدائني البصري.


المغيرة الثقفي وحجر الكندي :

مرّ الخبر عن وصية معاوية الأكيدة الشديدة على المغيرة عند توليته الكوفة بعدم الكفّ عن الكفر بسبّ إمام الإيمان أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكيفية مقالة المغيرة في ذلك.

فروى الطبري ، عن الكلبي ، عن أبي مخنف ، عن الشعبي ـ وهو يمدح المغيرة ـ أنّ حجر بن عدي الكندي لما سمع المغيرة قال ذلك قام فقال : إنّ الله عزوجل يقول : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ)(١) فأنا أشهد أنّ من تذمّون وتعيّرون لأحقّ بالفضل ، وأن من تزكّون وتطرون أولى بالذم!

فقال له المغيرة : يا حجر! ويحك! اتّق السلطان ، اتّق غضبه وسطوته ، فإنّ غضبة السلطان أحيانا مما يهلك كثيرا أمثالك! ثمّ يصفح عنه.

ودعا المغيرة يوما على قتلة عثمان ، وقد بلغ الكبر ، فقام حجر عليه ونعر نعرة أي صيحة شديدة قال له : أيها الإنسان ، إنك لا تدري بمن تولع من هرمك! أصبحت مولعا بذمّ أمير المؤمنين وتقريظ المجرمين! وقد حبست عنّا أرزاقنا وليس ذلك لك ، ولم يكن يطمع في ذلك من كان قبلك فأمر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا. فقام معه أكثر من ثلثي الناس يتنادون : برّ والله حجر وصدق ، مر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا ، فانا لا ننتفع بقولك هذا ولا يجدي علينا شيئا! فسكت المغيرة ونزل ودخل.

فدخل عليه قومه فكان أشدّهم عليه عبد الله بن أبي عقيل الثقفي عظّموا عليه أمر حجر وقوله وجرأته عليه وسخط معاوية عليه إذا بلغه ذلك ووهن سلطانه.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٢٥٤ ـ ٢٥٥ ، والآية ١٣٥ من سورة النساء.


فقال لهم : إنه قد اقترب أجلي وضعف عملي ، ولا احبّ أن ابتدئ أهل هذا المصر بقتل خيارهم! وسفك دمائهم! فيسعدوا بذلك وأشقى! ويعزّ في الدنيا معاوية ويذل يوم القيامة المغيرة! وسيذكروني لو قد جرّبوا العمّال بعدي ، إنه سيأتي أمير بعدي فيحسبه مثلي فيفعل شبيها بما ترونه يصنع بي فيأخذه عند أول وهلة فيقتله شرّ قتلة (١)!

وكتب معاوية إلى المغيرة أن يمدّه بمال ، فجهّز له المغيرة قافلة ، فلما فصلت القافلة جاء حجر بجمع من أصحابه فحبس القافلة وقال حجر : والله لا تذهب حتّى يعطى كل ذي حقّ حقّه (المتأخر) وقال شباب ثقيف للمغيرة : ائذن لنا نقتله! فقال : ما اقتل حجرا أبدا! فبلغ ذلك معاوية فأراد عزله (٢).

وبلغ ذلك المغيرة فأراد أن يدرك ذلك فيستدركه ، فقدم عليه وشكا إليه ضعفه واستعفاه. وكان مع المغيرة كاتبه ابن خنيس فأحسّ أن معاوية يريد أن يولي الكوفة سعيد بن العاص الأموي وانتهى الخبر إلى المغيرة ، فدخل على يزيد بن معاوية ، وهو يومئذ ابن خمس وعشرين سنة فعرّض بالبيعة له بالكوفة بولايته العهد (٣)! ولعلّه لعلمه بتمهيد معاوية له.

المغيرة وولاية العهد ليزيد :

دخل المغيرة على يزيد وقال له : إنه قد ذهب أعيان أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكبراء قريش وذوو أسنانهم ، وإنّما بقي أبناؤهم ، وأنت من أفضلهم! وأحسنهم

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٢٥٤ ـ ٢٥٥.

(٢) تاريخ الشام لابن عساكر ٤ : ٨٤ ، وعنه في تعاليق الغارات ٢ : ٨١٥.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٣٠١ ـ ٣٠٢ عن المدائني ، عن الشعبي. وفي الإمامة والسياسة : ١٦٥ : أنه فاتح معاوية بذلك رأسا.


رأيا! وأعلمهم بالسنّة والسياسة! ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين! أن يعقد لك البيعة! فقال يزيد : أو ترى يتمّ ذلك؟ قال : نعم! فدخل يزيد على أبيه وأخبره بما قال المغيرة.

فأحضر معاوية المغيرة وسأله : ما يقول يزيد؟ قال : يا أمير المؤمنين! قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان! وفي يزيد منك خلف! فاعقد له ، فإن حدث بك حادث كان للناس كهفا ومنك خلفا ، ولا تسفك دماء ولا تكون فتنة!

فقال معاوية : ومن لي بهذا؟ قال : أنا أكفيك أهل الكوفة ، وزياد يكفيك أهل البصرة ، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك! قال : فارجع إلى عملك وتحدّث مع من تثق إليه في ذلك ، وترى ونرى. فودّعه وعاد إلى أصحابه فقال لهم : لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أمّة محمّد (كذا) وفتقت عليهم فتقا لا يرتق أبدا (١)!

المغيرة يكفّر معاوية :

قضي مرام المغيرة من سفرته هذه ، وحيث تزلّف فيها إلى معاوية ، وتحدّث معه عن كبر سنّه ورغّبه في تولية عهده ليزيد ، كأنّه طمع فيه أن يبسط عدلا ويظهر خيرا ، ويصل أرحام بني هاشم ، وكان يذهب إليه في الليالي يتحدّث معه ، فخلا به ليلة فقال له :

يا أمير المؤمنين! إنك قد بلغت سنّا وقد كبرت ، فلو أظهرت عدلا وبسطت خيرا ، ونظرت إلى إخوتك من بني هاشم! فوصلت أرحامهم ، فو الله ما عندهم اليوم شيء تخافه ، وإن ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه!

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ٣ : ٢١٤ ، وانظر الغدير ١٠ : ٢٢٩.


فقال له : هيهات هيهات! أيّ ذكر أرجو بقاءه! ملك أخو تيم (أبو بكر) فعدل وفعل ما فعل ، فما عدا أن هلك حتّى هلك ذكره ، إلّا أن يقول قائل : أبو بكر! ثمّ ملك أخو عدي (عمر) فاجتهد وشمّر عشر سنين ، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره ، إلّا أن يقول قائل : عمر! ثمّ ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه ، فعمل ما عمل وعمل به ، فو الله ما عدا أن هلك فهلك ذكره وذكر ما فعل به! وإن أخا هاشم ـ أو : ابن أبي كبشة ـ يصرخ به في كل يوم خمس مرّات : «أشهد أن محمّدا رسول الله» فأيّ عمل يبقى مع هذا؟ لا أمّ لك؟! لا والله إلّا دفنا دفنا!

نقل الخبر الزبير بن بكار ، عن المدائني ، عن مطرّف بن المغيرة قال : كان أبي يذهب كلّ ليلة فيتحدّث مع معاوية ثمّ ينصرف إليّ فيذكر من عقله ويعجب برأيه! وعاد ذات ليلة مغتما وأمسك عن العشاء فانتظرته ساعة ثمّ قلت له : ما لك أراك مغتما؟ فقال لي : يا بنيّ! جئتك من عند أخبث الناس وأكفرهم! قلت : وما ذاك؟ قال : فحدّث بذلك الحديث (١)!

وفد العراق لولاية عهد يزيد :

أجل ، أجّل المغيرة عشاءه مع ابنه المطرّف مغتما مما هاله من اكتشاف أشدّ الخبث والكفر والنفاق في صاحبه وأميره معاوية ، وإلّا فإنّ هذا لم يحرّك فيه الغيرة ليغيّر على معاوية ما وعده به من كفايته أمر أهل الكوفة لحملهم على الإذعان بولاية يزيد لعهد أبيه معاوية ، بل عاد إلى الكوفة وأخذ يذاكر من عرفه بتشيّعه

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٤٥٤ عن الموفّقيات للزبير بن بكار ، والاربلي في كشف الغمة ٢ : ٤٢ عنه كذلك ، وشرح النهج للمعتزلي ٥ : ١٢٠ كذلك ، ونقله المسعودي عن نديم المأمون للمأمون أيضا.


لمعاوية وبني أمية في أمر يزيد ، فأجابه جماعة منهم إلى ذلك ، فأوفد منهم وفدا : عشرة مع ابنه الآخر موسى ، وأعطاهم ثلاثين ألف درهم لكلّ واحد منهم ثلاثة آلاف! أو أربعين رجلا مع ابنه الآخر عروة بأربعمائة دينار لكلّ واحد منهم عشرة دنانير!

فلما دخلوا على معاوية قالوا له : إنهم إنما شخصوا إليه للنظر في أمر أمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله! ثمّ قالوا له :

يا أمير المؤمنين! لقد كبر عمرك وخفنا انتشار الحبل ، فانصب لنا علما وحدّ لنا حدّا ننتهي إليه!

فقال لهم : أشيروا علي! فقالوا : نشير عليك بابنك يزيد! فقال لهم : أو قد رضيتموه! قالوا : نعم! قال : وهذا رأيكم؟ قالوا : نعم ومن معنا من ورائنا! فقال لهم : ننظر ما قدمتم له ويقضي الله ما أراد! والأناة خير من العجلة! فكونوا على رأيكم ولكن لا تعجلوا بإظهاره!

ثم سأل موسى سرّا : بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال : بثلاثين ألف درهم! أو قال ذلك لعروة فقال : بأربعمائة دينار! فقال : لقد هان عليهم دينهم! أو : لقد وجد دينهم رخيصا عندهم (١)!

وإنّ رخص دين هؤلاء العراقيين الكوفيّين الأمويين وهوان دينهم عليهم وإذعانهم لولاية عهد يزيد ، أطمع معاوية في البصريّين العثمانيين ولعلهم كانوا أولى بذلك ، والمغيرة كان قد أغرى معاوية في ذلك بزياد وهو أولى بذلك إذ أصبح عمّ يزيد! ومع ذلك اكتفى معاوية في كتابه إلى زياد باستشارته في ذلك! بدون أن يخبره بما فعل المغيرة ووفده ، فكتب زياد إليه يشير عليه بالتوئدة وأن لا يعجل في ذلك ، وقبل منه معاوية فكفّ عنه بعض الشيء.

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ٣ : ٢١٤ ـ ٢١٥ ، وانظر الغدير ١٠ : ٢٢٩ ـ ٢٣٠. ولم يذكره الطبري.


وعمد زياد إلى عبيد بن كعب النميري البصري وقال له : إن أمير المؤمنين! كتب إليّ يستشيرني في عزمه على بيعة ابنه يزيد! وهو يتخوّف نفرة الناس من ذلك! ذلك أنّ يزيد صاحب رسلة وتهاون ، مع ما قد أولع به من الصيد! فما تقول؟

فقال : أنا ألقى عنك يزيد سرّا عن أبيه معاوية فأخبره عنك أن أباه معاوية كتب إليك يستشيرك في بيعته ، وأنك تخاف خلاف الناس ، لهنات ينقمونها عليه ، وأنك ترى له ترك ما ينقم عليه ، فتستحكم له الحجة على الناس ، ثمّ شخص وفعل ما قاله (١).

موت المغيرة وزياد على العراقين :

لعلّه لم يمرّ على عودة وفد المغيرة عهد بعيد حتّى لحقهم الطاعون بالكوفة ، فهرب المغيرة من الطاعون وخفّ الطاعون فعاد إليها فاصيب بها ومات في سنة تسع وأربعين (٢) في شهر شعبان (٣) وكان رجلا طوالا أعور أصيبت عينه في اليرموك ، مات وهو ابن سبعين سنة. فكتب معاوية إلى زياد بعهده على الكوفة مع البصرة ، وكان سمرة بن جندب الأنصاري بعد زيارته معاوية وتأويله له الآيتين من سورة البقرة بشأن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وقاتله ابن ملجم بالتحريف ، كان قد قدم البصرة ، فاستخلفه زياد عليها وشخص بأهله إلى الكوفة ، فأقام بها إلى آخر تلك السنة ستة أشهر ، ثمّ أخذ يختلف بينها وبين البصرة كل ستة أشهر (٤).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٢٠٢ عن المدائني البصري باختصار.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٢٣٣ ، ومروج الذهب ٣ : ٢٤ ، وهذا التاريخ أوفق مع سائر الحوادث التالية.

(٣) تاريخ خليفة : ١٢٨ ، والطبري ٥ : ٢٣٤.

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ٢٣٤ ـ ٢٣٥.


زياد أميرا على الكوفة :

دخل زياد الكوفة وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : إنّ هذا الأمر أتاني وأنا بالبصرة ، فأردت أن أشخص إليكم في ألفين من شرطة البصرة (كذا) ثمّ ذكرت أنكم أهل حقّ! فأتيتكم في أهلي ... فحصبوه حتّى أمسكوا! فدعا خاصّته ، وأمر فوضع له كرسيّ على باب المسجد (وسدّ سائر الأبواب) ثمّ أمر أن يخرجوا أربعة أربعة! فيحلفون له أنهم لم يحصبوه ، فمن لم يحلف منهم عزله وحبسه ، فكانوا ثمانين أو ثلاثين رجلا! فأمر بهم فقطعوا أيديهم في المكان! ثمّ أمر فبنوا له المقصورة للمحراب كما فعل معاوية.

وأتاه عمارة بن عقبة بن معيط الأموي الذي كان قد بقي بالكوفة جاسوسا لمعاوية ، ومعه يزيد بن رويم الشيباني وعمرو بن حريث المخزومي ، فأخبره الأوّلان : أن «شيعة أبي تراب» يجتمعون إلى عمرو بن الحمق الخزاعي! فقال الثالث المخزومي : ما يدعوك إلى رفع تقرير فيما لا تتيقّنه ولا تدري عاقبته! بل ما كان (عمرو بن الحمق) أكثر إقبالا على ما ينفعه منه اليوم! فأمرهم زياد أن يقوموا إليه ويقولوا له عنه : ما هذه الزرافات التي تجتمع عندك؟! من أرادك أو أردت كلامه ففي المسجد. ثمّ قال : ولو علمت أن مخّ ساقه يسيل من بغضي فلا اهيجه حتّى يخرج عليّ (١).

وكان من بقايا خوارج النهروان بالبصرة : زحّاف الطائي وقريب الايادي وكانا ابني خالة ، وكأنّهم تجرّءوا بعد خروج زياد منها إلى الكوفة أن يخرجوا بها في شهر رمضان سنة (٤٩ ه‍) ومعهم سبعون رجلا من بني يشكر من همدان ، فأمر زياد خليفته سمرة بالاشتداد عليهم ، واشتد سمرة بالبصرة حتّى أنّه لما

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٢٣٥ ـ ٢٣٦.


عاد زياد إليها في أول سنة الخمسين كان سمرة قد استعرض أهل البصرة فقتل منهم ثمانية آلاف! فقال له زياد : هل تخاف أن تكون قتلت بريئا أحدا! قال : لو كنت قتلت معهم مثلهم ما خشيت من ذلك! وكان منهم سبعة وأربعون من بني عديّ من قرّاء القرآن وحفّاظه (١).

كان يؤتى بالرجل فيقول له : ما دينك؟ فيشهد الشهادتين ويتبرّأ من الخوارج ، ومع ذلك يقتله (٢).

فعزله معاوية ، فكان يقول : لعن الله معاوية! والله لو أطعت الله كما أطعته ما عذّبني أبدا (٣)!

وتعقّب المولى سعيد بن سرح :

مرّ في أخبار صلح الإمام عليه‌السلام أخذه الأمان لعامّة أصحابه ولخاصّة منهم ، ولم يذكر فيهم سعيد بن سرح ، ولكن ابن خلّكان قال : لما استلحق معاوية زيادا

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٢٩٢.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٢٩١. وفي تهذيب ابن حجر ٤ : ٢٣٧ : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد قال له ولأبي هريرة وأبي محذورة : آخركم موتا في النار! فمات أبو هريرة في المدينة سنة (٥٩) وبقي هو بالبصرة وأبو محذورة بمكة فكان كلّ منهما يسأل المسافرين عن الآخر حتى مات أبو محذورة قبل سمرة كما في أنساب الأشراف ١ : ٥٢٧ فأخذت سمرة الزمهريرة وكزاز شديد فكان يتعالج بالقعود على قدر مملوءة ماء حارّا فسقط فيها فمات آخر تسع وخمسين ، كما في أسد الغابة ٢ : ٣٥٥ أو بالكوفة بعد قتل الحسين عليه‌السلام وعقبه بها كما في المعارف لابن قتيبة : ٣٠٥ وقال : قال النبي ذلك لعشرة من أصحابه! وفي البلاذري قال : آخر أصحابي موتا وهما تحريف.


وقرّبه وأحسن إليه وولّاه ، صار من أكبر الأعوان على بني علي رضى الله عنه حتّى قيل : إنّ زيادا لما كان أمير العراقين طلب رجلا من أصحاب الحسن رضى الله عنه يعرف بابن سرح ، وكان في الأمان الذي كتبه لأصحابه رضى الله عنه فكتب الحسن إلى زياد : «من الحسن إلى زياد ، أما بعد ، فقد علمت ما كنّا أخذنا لأصحابنا من الأمان ، وقد ذكر لي ابن سرح أنك عرضت له ، فأحبّ أن لا تعرض له إلّا بخير ، والسلام» (١).

وروى المعتزلي ، عن الشرقي بن القطامي قال : كان سعيد بن سرح مولى حبيب بن عبد شمس «شيعة» لعلي عليه‌السلام ، فلما قدم زياد الكوفة طلبه ، فخافه فأتى الحسن عليه‌السلام مستجيرا به ، فوثب زياد على أهله وأولاده وأخيه فحبسهم! وصادر أمواله ونقض داره! فكتب الحسن عليه‌السلام إلى زياد :

«من الحسن إلى زياد ، أما بعد ، فإنك عمدت إلى رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم ، فهدمت داره وأخذت ماله وحبست أهله وعياله! فإن أتاك كتابي هذا فابن له داره واردد عليه عياله وماله ، وشفّعني فيه ، فقد أجرته ، والسلام».

فكتب إليه زياد : من زياد بن أبي سفيان! إلى الحسن بن فاطمة ، أما بعد ، فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي! وأنت طالب حاجة ، وأنا سلطان وأنت سوقة! وتأمرني فيه بأمر المطاع المسلّط على رعيّته! كتبت إليّ في فاسق آويته إقامة منك على سوء الرأي! ورضا منك بذلك وايم الله لا تسبقني به ولو كان بين جلدك ولحمك وإن نلت بعضك! غير رفيق بك ولا مرع عليك! فإنّ أحبّ لحم عليّ أن آكله للّحم الذي أنت منه! فسلّمه بجريرته (؟) إلى من هو أولى به منك! فإن عفوت عنه لم أكن شفّعتك فيه؟ وإن قتلته فلا أقتله إلّا لحبّه أباك الفاسق! والسلام.

__________________

(١) وفيات الأعيان ٢ : ٣٨٨ ط بولاق ، في ترجمة يزيد بن المفرّغ الحميري. ونقل مثله المعتزلي في شرح النهج ١٦ : ١٨ عن المدائني البصري وهو الأصل في الخبر. وانظر مسند الإمام المجتبى للعطاردي : ب ٥٧.


فلما ورد الكتاب على الحسن عليه‌السلام قرأه وتبسّم ، وكأنّه عليه‌السلام علم أنّه إنما غضب لعدم نسبته في كتابه إلى أبي سفيان! فكتب في جواب كتابه : «من الحسن بن فاطمة إلى زياد بن سمية! أما بعد ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «الولد للفراش ، وللعاهر الحجر» والسلام. وكتب بذلك إلى معاوية وضمّ إليه كتاب زياد.

فلما قرأ معاوية كتاب زياد إلى الحسن ضاقت به الشام! وكتب إلى زياد : أما بعد فإنّ الحسن بن علي بعث إليّ بكتابك إليه جوابا عن كتاب كتبه إليك في ابن سرح ، فأكثرت العجب منك! وعلمت أن لك رأيين : أحدهما من أبي سفيان والآخر من سمية! فأمّا الذي من أبي سفيان فحلم وحزم! وأما الذي من سميّة فما يكون من رأي مثلها! ومن ذلك كتابك إلى الحسن تشتم أباه وتعرّض له بالفسق ، ولعمري إنك الأولى بالفسق من أبيه! فأمّا أن الحسن بدأ بنفسه ارتفاعا عليك فإنّ ذلك لو عقلت لا يضعك! وأما تسلّطه بالأمر فحقّ لمثل الحسن أن يتسلّط! وأمّا تركك تشفيعه فيما شفع فيه إليك فحظّ دفعته عن نفسك إلى من هو أولى به منك ، فإذا ورد عليك كتابي فخلّ ما في يديك من سعيد بن سرح وابن له داره واردد عليه ماله ولا تعرض له ، وقد كتبت إلى الحسن أن يخيّره : إن شاء أقام عنده وإن شاء رجع إلى بلده ، فلا سلطان لك عليه بيد أو لسان!

وأما كتابك إلى الحسن باسمه واسم أمّه ولا تنسبه إلى أبيه ، فويحك إن الحسن من لا يرمى به في رجوان (الآبار) وإلى أيّ أمّ وكلته ـ لا أمّ لك ـ أما علمت أنّها فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بلا آله) فذلك ـ إن كنت تعلمه وتعقله ـ أفخر له (١).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ١٩٤ ـ ١٩٥. ومختصر الخبر في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٧.


وكان ذلك من الإمام عليه‌السلام إنكارا لمنكر معاوية في استلحاقه زيادا ، ومن زياد زيادة في قيادة الشرّ والضرّ ، ومن معاوية محاولة لتلميع صورته وتخفيض صوت الإمام بإنكار منكرات معاوية ، ولا نملك دليلا على أن لا يكون من بعض التأثر بشيء من نصيحة المغيرة له ، وليمهّد لعهد يزيد.

مصاهرة معاوية لبني هاشم :

لم يطمع معاوية في مصاهرة الحسنين عليهما‌السلام ولكنّه طمع في مصاهرة عبد الله بن جعفر وزينب ابنة علي والزهراء عليهما‌السلام ، وكان عامله على المدينة مروان بن الحكم ، فكتب إليه أن يخطب ليزيد ابنة عبد الله بن جعفر من زينب : أمّ كلثوم (١) لصلح الحيّين بني اميّة وبني هاشم ، وعلى قضاء ديون ابن جعفر وحكمه لصداق ابنته. فبعث مروان إلى ابن جعفر يخطب إليه ، فقال عبد الله : إن أمر نسائنا إلى الحسن بن علي فاخطب إليه. فأتى مروان الحسن عليه‌السلام خاطبا ، فقال له الحسن عليه‌السلام : اجمع من أردت ، فأرسل مروان فجمع الحيّين بني أمية وبني هاشم.

وتكلم مروان فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أما بعد ، فإن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن أخطب (أم كلثوم) (٢) بنت عبد الله بن جعفر ليزيد بن معاوية على صلح الحيّين بني أمية وبني هاشم ، وعلى حكم أبيها في الصداق وقضاء دينه بالغا ما بلغ! ويزيد بن معاوية كفؤ من لا كفؤ له! ولعمري لمن يغبطكم بيزيد أكثر ممّن يغبط يزيد بكم! فيزيد ممّن يستسقى بوجهه الغمام! وسكت.

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٤ ، وانظر المعارف لابن قتيبة : ٢٠٦ ـ ٢٠٧.

(٢) في مقتل الخوارزمي ١ : ١٢٤ : زينب ، خطأ.


فتكلم الحسن عليه‌السلام فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أما ما ذكرت من حكم أبيها في الصّداق ؛ فإنا لم نكن لنرغب عن سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أهله وبناته! وأما قضاء دين أبيها ؛ فمتى قضت نساؤنا بمهورهن ديون آبائهن؟! وأما صلح الحيّين ؛ فنحن عاديناكم لله وفي الله ، فلا نصالحكم للدنيا! وأمّا قولك : يزيد كفؤ من لا كفؤ له ؛ فأكفاؤه اليوم أكفاؤه بالأمس لم يزده سلطانه! وأما قولك : من يغبطنا بيزيد أكثر ممن يغبطه بنا ؛ فإن كانت الخلافة قادت النبوّة فنحن المغبوطون ، وإن كانت النبوّة قادت الخلافة فهو المغبوط بنا ، وأما قولك : إن الغمام يستسقى بوجه يزيد ، فإن ذلك لم يكن إلّا لآل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ قال : فاشهدوا جميعا : أني قد زوّجت أمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر من ابن عمها القاسم بن محمد بن جعفر على أربعمائة وثمانين درهما ، وقد انحلتهما ضيعتي بأرض العقيق ، وإن نحلتها في السنة ثمانية آلاف دينار ، ففيها لهما غنى إن شاء الله.

فقال مروان : أغدرا يا بني هاشم! فقال الحسن عليه‌السلام : واحدة بواحدة.

وكتب مروان بذلك إلى معاوية (١).

وفود البصرة في عهد سمرة :

غيّر موت المغيرة الوضع في العراقين لصالح أمير الفاسقين معاوية ، فقد خفّف المغيرة في آخر عمره في الكوفة ، وأبى زياد العمل لعهد يزيد بالبصرة ، فأرسله معاوية إلى الكوفة ليتشدّد له عليهم ، وتخلو البصرة منه فيستوفد منها لعهد يزيد ، وهكذا فعل.

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٤ ـ ٤٥ ثمّ نقل أبياتا ، وفي مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي ١ : ١٢٤ ، وأبو القاسم : محمد بن جعفر كان في فتح تستر فقتل شهيدا ، وله مقبرة عامرة خارج بلدة دزفول. فلم يكن يومئذ حاضرا ، كما في المعارف أيضا.


وأطول ما بأيدينا من الأخبار عن أقوال الرجال بمحضر وفد البصرة كتاب «تاريخ الخلفاء» للدينوري المعروف بالإمامة والسياسة ، فيما فيها من التصريح بكونها على عهد الحسن عليه‌السلام أي في عام (٤٩ ه‍) ، واختصر أخباره المسعودي في «مروج الذهب» وأرّخ الوفد بسنة (٥٩ ه‍) وحذف منها التصريح بكونها في عهد الحسن عليه‌السلام ، والراجح هو الأول ، ونختار اختصار المسعودي ، قال :

وفي سنة تسع [وأربعين] وفد على معاوية وفد الأمصار من العراق وغيرها ، ومنهم الأحنف بن قيس التميمي السعدي في آخرين من وجوه الناس.

وكان الضحاك بن قيس الفهري القرشي أمير شرطة معاوية ، ففاتحه معاوية بتوليته عهده ليزيد وقال له : إني جالس من غد للناس فأتكلم بما شاء الله! فإذا فرغت من كلامي فقم وقل في يزيد ما يحقّ له عليك! وادع الناس إلى بيعته ، وقد أمرت عبد الرحمن بن عثمان الثقفي ، وعبد الله بن عضاة الأشعري ، وثور بن معن السلمي : أن يصدّقوك في كلامك! وأن يجيبوك إلى دعوتك!

ولما كان الغد قعد معاوية وأدخلوا عليه ، فخطبهم فأعلمهم بما رأى من حسن رعاية ابنه يزيد وهديه! وأن ذلك دعاه إلى أن يولّيه عهده! فقام الضحاك فأجابه إلى ذلك وحضّ الناس على البيعة ليزيد وقال لمعاوية : اعزم على ما أردت! فقام عبد الرحمن الثقفي ثمّ عبد الله بن عضاة الأشعري ثمّ ثور بن معن السلمي فصدّقوهما ، والأحنف ووفده حضور سكوت ، فقال معاوية : أين الأحنف بن قيس؟ فقام الأحنف فقال : إنّ الناس قد أمسوا في منكر زمان قد سلف ، ومعروف زمان يؤتنف ، ويزيد حبيب قريب ، فإن تولّه عهدك فعن غير كبر مفن ، أو مرض مضن ، وقد حلبت الدهور وجرّبت الأمور ، فاعرف من تسند إليه عهدك ومن تولّيه الأمر بعدك ، واعص رأي من يأمرك ولا يقدّر لك ، ويشير عليك ولا ينظر لك (١)

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٢٧ ـ ٢٨.


وأنت أنظر للجماعة وأعلم باستقامة الطاعة! مع أنّ أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن عليه‌السلام حيّا (١).

فقام الضحاك الفهري مغضبا فذكر أهل العراق بالشقاق والنفاق وقال لمعاوية : اردد رأيهم في نحورهم! وقام عبد الرحمن الثقفي فتكلم بمثله ، ثمّ قام رجل من الأزد فأشار إلى معاوية وقال له : أنت أمير المؤمنين فإذا متّ فأمير المؤمنين يزيد ، ومن أبى فهذا وسلّ سيفه! فقال له معاوية : اقعد فأنت من أخطب الناس! فكان معاوية أول من بايع ليزيد ابنه بولاية العهد ، وفي ذلك قال ابن همّام السلولي :

فإن تأتوا برملة أو بهند

نبايعها أميرة مؤمنينا

إذا ما مات كسرى قام كسرى

نعدّ ثلاثة متنا سقينا

فيا لهفا لو أنّ لنا أنوفا

ولكن لا نعود كما عنينا

إذا لضربتم حتّى تعودوا

بمكة تلعقون بها السّخينا

حسينا الغيظ حتّى لو شربنا

دماء بني امية ما روينا

لقد ضاعت رعيتكم وأنتم

تصيدون الأرانب غافلينا

وكان عامله على المدينة مروان بن الحكم ، فكتب إليه يعلمه باختياره ليزيد ومبايعته إياه بولاية عهده ويأمره بمبايعته وأخذ البيعة له على من قبله! فلما قرأ مروان ذلك خرج مغضبا في أهل بيته وأخواله من بني كنانة حتّى أتوا إلى دمشق ، ودخل على معاوية يمشي بين السماطين حتّى إذا دنا منه بقدر ما يسمعه صوته سلّم تكلّم بكلام كثير يوبّخ به معاوية ومنه قوله له : أقم الأمور يا ابن أبي سفيان (كذا) واعدل عن تأميرك الصبيان! واعلم أن لك من قومك نظراء! وأن لهم على مناوأتك وزراء!

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٦٩ وحذفه المسعودي.


فقال له معاوية يسالمه ويستلينه : أنت نظير! أمير المؤمنين! وعدّته في كلّ شديدة وعضده «والثاني بعد وليّ عهده» فجعله وليّ عهد يزيد وردّه إلى المدينة عزله عنها وولّاها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان (١).

كان هذا اختصار المسعودي لهذه الأخبار ، واختزل في تلخيصه خطبة الأحنف الثانية ردّا على الفهري.

وذكرها الدينوري قال : فقام الأحنف بن قيس فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لمعاوية :

يا أمير المؤمنين! إنا قد فرزنا عنك قريشا فوجدناك أكرمها زندا وأشدها عقدا وأوفاها عهدا! وقد علمت أنك لم تفتح العراق عنوة ولم تظهر عليها قعصا! ولكنّك أعطيت «الحسن بن عليّ» من عهود الله ما قد علمت : ليكون له الأمر من بعدك ، فإن تف فأنت أهل الوفاء! وإن تغدر تعلم ـ والله ـ إنّ وراء الحسن عليه‌السلام خيولا جيادا وأذرعا شدادا وسيوفا حدادا! إن تدن له شبرا من غدر تجد وراءه باعا من نصر! وإنك تعلم أن أهل العراق ما أحبوك منذ أبغضوك! ولا أبغضوا عليّا وحسنا منذ أحبّوهما! وما نزل عليهم في ذلك خبر من السماء! وإن السيوف التي شهروها عليك مع عليّ يوم صفين لعلى عواتقهم ، والقلوب التي أبغضوك بها لبين جوانحهم! وايم الله إن «الحسن» لأحبّ إلى أهل العراق من «عليّ» (٢).

ثمّ خطب عبد الرحمن الثقفي في ردّ الأحنف التميمي ، ثمّ خطب معاوية فعوى وأنذر وأوعد وهدّد ، فهنا قام الأزدي الشامي وهدّد بسيفه!

فقام الأحنف أخيرا وقال لمعاوية : يا أمير المؤمنين! أنت أعلم بليل يزيد ونهاره وبسرّه وعلانيته ، فإن كنت تعلم أنه خير لك فولّه واستخلفه! وإن كنت

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٢٨ وفي غيره : ولّاها سعيد بن العاص الأشدق.

(٢) الإمامة والسياسة ١ : ١٧٠.


تعلم أنه شرّ لك فلا تزوّده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة! فإنه ليس لك من الآخرة إلّا ما طاب ، واعلم أنه لا حجّة لك عند الله إن قدّمت يزيد على «الحسن والحسين» وأنت تعلم من هما! وإلى ما هما! وإنما علينا أن نقول : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)(١).

ثمّ أعرض معاوية عن ذكر البيعة ليزيد حتّى :

قدم المدينة سنة خمسين :

ولما استقر في منزله أرسل إلى العبادلة الأربعة : عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، فلما اجتمعوا منع من أن يدخل عليه أحد! ثمّ تكلم فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أما بعد ، فقد كبر سنّي ووهن عظمي وقرب أجلي ، وأوشكت أن ادعى فاجيب ، وقد رأيت أن أستخلف عليكم بعدي يزيد ، ورأيته لكم رضا ، وأنتم عبادلة قريش وخيارها وأبناء خيارها! ولم يمنعني أن احضر «حسنا وحسينا» إلّا أنهما أولاد أبيهما عليّ! على حسن رأيي فيهما وشديد محبّتي لهما! فردّوا على أمير المؤمنين! خيرا رحمكم الله!

فقام عبد الله بن عباس فتكلم فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيّه وآله ثمّ قال : أما بعد ، فإنك قد تكلّمت فانصتنا ، وقلت فسمعنا ، وإن الله ـ جل ثناؤه وتقدست أسماؤه ـ اختار محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله لرسالته ، واختاره لوحيه ، وشرّفه على خلقه ، فأشرف الناس من تشرّف به ، وأولاهم بالأمر أخصّهم به ، وإنّما على الأمة التسليم لنبيّها إذ اختاره الله لها ، فإنه إنما اختار محمّدا بعلمه وهو العليم الخبير ، وأستغفر الله لي ولكم.

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٧٠ ـ ١٧١ ، والآية من البقرة : ٢٨٦.


فقام عبد الله بن جعفر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أما بعد ، فإن هذه الخلافة إن اخذ فيها بالقرآن فاولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإن أخذ فيها بسنة رسول الله فاولوا رسول الله أولى به ، وإن أخذ فيها بسنة! الشيخين أبي بكر وعمر فأيّ الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر من آل الرسول؟ وايم الله لو ولّوه بعد نبيّهم لوضعوا الأمر موضعه لحقّه وصدقه ، ولاطيع الرحمن وعصي الشيطان ، وما اختلف في الأمة سيفان. فاتق الله ـ يا معاوية ـ فإنك قد صرت راعيا ونحن رعيّة ، فانظر لرعيتك فإنك مسئول عنها غدا!

وأما قولك في ابني عمّي وتركك أن تحضرهما ، فو الله ما أصبت الحقّ ولا يجوز لك ذلك إلّا بهما! وإنّك لتعلم أنّهما معدن العلم والكرم! فقل أو دع ، وأستغفر الله لي ولكم.

فتكلم عبد الله بن الزبير فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة لقريش خاصة! تتناولها بمآثرها السنية وأفعالها المرضية ، مع شرف الآباء وكرم الأبناء! فاتّق الله يا معاوية وأنصف من نفسك ، فإنّ هذا عبد الله بن عباس ابن عمّ رسول الله ، وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن عمّ رسول الله ، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمة رسول الله! وعليّ خلّف «حسنا وحسينا» وأنت تعلم من هما وما هما؟ فاتق الله يا معاوية وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك. ثمّ سكت.

فتكلم عبد الله بن عمر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أما بعد ، فإنّ هذه الخلافة ليست بهرقليّة ولا قيصرية ولا كسروية يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك لكنت القائم بها بعد أبي! فو الله ما أدخلني مع الستة من أصحاب الشورى إلّا على أن الخلافة ليست شرطا مشروطا! وإنما هي في قريش خاصة لمن كان لها أهلا ممن ارتضاه المسلمون لأنفسهم من كان أتقى وأرضى! فإن كنت تريد الفتيان من قريش فلعمري إن يزيد من فتيانها ولكنك تعلم أنه لا يغني عنك من الله شيئا.


فتكلم معاوية فقال : قد قلت وقلتم ، وإنه ذهبت الآباء وبقيت الأبناء ، فابني أحبّ إليّ من أبنائهم! مع أن ابني إن قاولتموه وجد مقالا! وإنما كان هذا الأمر لبني عبد مناف ؛ لأنهم أهل رسول الله ، فلما مضى رسول الله ولى الناس أبا بكر وعمر من غير معدن الملك ولا الخلافة! غير أنهما سارا بسيرة جميلة! ثمّ رجع الملك إلى بني عبد مناف! فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة! فقد أخرجك الله منها يا ابن الزبير وأنت يا ابن عمر! وهذان ابنا عمي فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله! ثمّ أمر بعطياتهم وصلاتهم فلم يقطعها عنهم ، ثمّ أمر بالرحلة وانصرف راجعا إلى الشام ، وسكت عن الأمر فلم يعرض له حتّى سنة إحدى وخمسين (١).

وسمّ الإمام عليه‌السلام :

روى الحلبي عن الصادق عليه‌السلام : أنّ الحسن بن علي عليهما‌السلام قال لأهل بيته : إنّي أموت بالسمّ كما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله! فسألوه : ومن يسمّك؟ قال : امرأتي أو جاريتي! فقالوا له : فأخرجها من ملكك. فقال : ولو أخرجتها ما يقتلني غيرها أمرا واجبا (ثابتا) من الله وقضاء مقضيا منيّتي على يدها ما لي منها محيص ، هيهات من إخراجها (٢).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٧٢ ـ ١٧٤ ، وجمهرة الخطب ٢ : ٢٣٣ ـ ٢٣٦ ، وانظر الغدير ١٠ : ٢٤٢ ـ ٢٤٤. ويبدو أنه حاول أن يغطّي مقصد سفرته هذه بلا حجّ ولا عمرة بحمل منبر النبي إلى الشام ، وحملوه ، فكسفت الشمس حتّى رؤيت النجوم نهارا ، فزعموها من ذلك فردّه وأمر فعمّر وزيد عليه ستّ مراقي فأصبح ذا تسع مراق ، كما في مروج الذهب ٣ : ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ١١.


وقد مرّ في الخبر : أنّ معاوية دسّ لمالك بن الحارث الأشتر النخعي في طريقه إلى مصر من سمّه في شراب من عسل مسموم ، فلما بلغه خبره قال : إنّ لله جنودا من عسل! ومرّ في الخبر أيضا : أنه لما استمزج الناس بالشام لولاية عهده تنادوا باسم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فدسّ إليه طبيبه ابن أثال النصراني فسقاه شربة انخرق منها بطنه فمات!

وسيأتي في الأخبار التالية أن الحسن عليه‌السلام سقي السم مرارا ، فيبدو أن معاوية كان يسقيه السموم السابقة فلم تنجع فيه ، فروى «الاحتجاج» أنه كتب إلى ملك الروم (؟) يسأله أن يوجّه إليه من السمّ القتال شربة! فكتب إليه ملك الروم : إنه لا يصلح لنا في ديننا أن نعين على قتال من لا يقاتلنا! فكتب إليه : إنّ هذا ابن الرجل الذي خرج بأرض تهامة وقد خرج يطلب ملك أبيه ، وأنا اريد أن أدسّ إليه من يسقيه ذلك فاريح العباد والبلاد منه ، ووجّه إليه بهدايا وألطاف ، فوجّه إليه ملك الروم (؟) بشربة واشترط عليه شروطا في ذلك فدفع بالسمّ لقتل الحسن عليه‌السلام (١).

وإلى جانب الإمام الحسن عليه‌السلام كان سعد بن أبي وقّاص هو البقية الباقية من الستة نفرا أعضاء شورى عمر ، فكأن معاوية كان يراهما مانعين عن تولية العهد ليزيد : فقد روى الأصفهاني الأموي قال : لما أراد معاوية البيعة لابنه يزيد لم يكن شيء أثقل عليه من أمر الحسن بن عليّ وسعد بن أبي وقاص ، فدسّ إليهما سمّا ماتا منه في أيام (٢) متقاربة بعد عشر سنين من عهد معاوية.

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ١١.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤٧ ـ ٤٨.


وذكر البلاذري : أن معاوية دسّ إلى هند ابنة سهيل بن عمرو ، وإلى امرأة الحسن عليه‌السلام شربة بعث بها إليها على أن تسقيها للحسن ، على مائة ألف دينار! ففعلت (١) ولم يعلم ما علاقة هند بالحسن عليه‌السلام ، فلعلّها كانت امرأة سعد. ولم يعلم من الوسيط المدسوس من معاوية إلى زوج الإمام عليه‌السلام ، ولم يذكر لسعيد بن العاص دور في ذلك ، فلعلّه كان لرقيبه في الإمارة ، مروان ، ولم يذكر أيضا (٢).

واكتفت نصوص بعض المصادر كاليعقوبي بذكر السمّ عن لسان الإمام عليه‌السلام في وصيته إلى أخيه الحسين عليه‌السلام : «يا أخي إن هذه آخر ثلاث مرار سقيت فيها السمّ ولم أسقه مثل مرّتي هذه ، وأنا ميّت من يومي» (٣) بلا ذكر لمعاوية ولا مروان ولا حتّى جعدة ، وإن كانت المظنّة السياسية تعود إلى معاوية طبعا. واكتفى معاصره الدينوري بقوله : «ويقال : إن امرأته جعدة بنت الأشعث سمّته» (٤).

كذلك نقل الكليني ، بسنده عن أبي بكر الحضرمي قال : إن جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي ، سمّت الحسن بن علي ، وسمّت مولاة له ، فأمّا مولاته فقاءت السمّ ، وأما الحسن فانتقض به فمات (٥) ورواه بسنده عن الصادق عليه‌السلام : أن جعدة ابنة الأشعث سمّت الحسن عليه‌السلام (٦).

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣ : ٦٣.

(٢) أجل ، نقل ذلك في صلح الحسن عليه‌السلام : ٣٦٤ عن مروج الذهب ، وليس فيه. وكذلك في حياة الحسن عليه‌السلام للقرشي ٢ : ٤١٨.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٢٥.

(٤) المعارف : ٢١٢ وهو والبلاذري واليعقوبي أقدم النصوص.

(٥) أصول الكافي ١ : ٤٦٢.

(٦) روضة الكافي : ١٤٧ ، الحديث ١٨٧.


نعم ، صرّح بذكر معاوية مع أبي الفرج الأموي معاصره المسعودي قال : كان الذي بعثها على سمّه أنّ معاوية دسّ إليها : إنك إن احتلت في قتل الحسن وجّهت إليك بمائة ألف درهم وزوّجتك من يزيد ، فذلك الذي بعثها على سمّه (١).

وزاد الطبري الإمامي قال : أرسل معاوية إلى امرأته جعدة ... وبذل لها عشرين ألف دينار ، وإقطاع عشر ضياع من شعب سواد الكوفة ، وأن يزوّجها ابنه يزيد ، فسقت الحسن برادة من الذهب في السويق المقنّد (٢).

وروى المفيد بسنده عن المغيرة (؟) قال : أرسل معاوية إلى جعدة بنت الأشعث ، وبعث إليها بمائة ألف درهم وأن يزوّجها ابنه يزيد على أن تسمّ الحسن ففعلت.

وفصّله قبله قال : لما تمّ لمعاوية عشر سنين من إمارته وعزم على البيعة لابنه يزيد ، دسّ إلى جعدة بنت الأشعث زوجة الحسن عليه‌السلام من (؟) حملها على سمّه وضمن لها أن يزوّجها بابنه يزيد ، وأرسل إليها مائة ألف درهم ، فسقته السمّ ، فبقي عليه‌السلام مريضا أربعين يوما ، ومضى لسبيله في صفر سنة خمسين من الهجرة (٣).

وروى المسعودي ، عن الصادق ، عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام : أن الحسن عليه‌السلام لما سقي السمّ دخل عليه الحسين عليه‌السلام ، فقام الحسن لحاجة الإنسان ثمّ رجع فقال : لقد سقيت السمّ عدة مرار فما سقيت مثل هذه المرّة ، لقد لفظت طائفة من كبدي (٤)

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٤٢٧.

(٢) دلائل الإمامة : ٦١ والمقنّد : المحلّى بالقند : سكر مكعّب.

(٣) الإرشاد ٢ : ١٥ ـ ١٦ والخبر هو ما في مقاتل الطالبيين : ٤٨ وعنه نقل المفيد.

(٤) يتكرر ذكر تقيؤ الإمام المجتبى عليه‌السلام قطعا من كبده ، والسمّ قد يؤدي في حالات نادرة وكعارض من عواض السمّ إلى التهاب في الكبد ولكن لا يؤدي إلى تقطّعه ولا إلى


حتّى أنّي قلّبتها بعود بيدي ... ولقد حاقت شربته (؟) وبلغ امنيّته! والله لا وفى لها (؟) بما وعد ، ولا صدق فيما قال (١) بلا تصريح به ولا بها؟!

وورد ذكر الأربعين يوما فيما رواه ابن عساكر بسنده ، عن أم موسى (؟) : أنّ جعدة بنت الأشعث سقت الحسن السمّ ، فكان يوضع عنده طست وترفع اخرى نحوا من أربعين يوما (٢).

وورد التعبير الأصح بالأمعاء بدل الكبد عند ابن كثير قال : وكأنّ معاوية قد تلطّف لبعض خدمه أن يسقيه سما ... واختلف إليه الطبيب وقال : هذا رجل قد قطّع السمّ أمعاءه (٣).

مواعظه لجنادة :

جنادة بن أبي امية ، عدّته كتب تراجم الصحابة منهم (٤) ولم يرو عنه في كتبنا إلّا حديث نبوي واحد في «أمالي الطوسي» (٥) وعنه عن عبادة بن الصامت ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مما لا صراحة فيه بصحابيّته. ولم يذكر في أي خبر مع عليّ والحسن عليهما‌السلام ، ويذكر في قوّاد معاوية لغزو الروم في البحر في عام (٥٦ ه‍) و (٥٩ ه‍) ومات في (٨٠ ه‍) (٦).

__________________

ـ تداخله في المعدة والمري ، كما ينصّ عليه الطبّ العدلي بل كما هو واضح. ولكن الكلام جار على لسان العرب ، وجاء في «لسان العرب» : أن الكبد يطلق على الجهاز الخاص الصفراوي في الجانب الأيمن ، وكذلك على كلّ ما في الجوف ، وهو المقصود هنا.

(١) مروج الذهب ٢ : ٤٢٧ ، وفي مقاتل الطالبيين : ٤٨ بطريق آخر ، وعنه في الإرشاد ٢ : ١٦ ـ ١٧.

(٢) ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام من تاريخ دمشق : ٢١٠ ، الحديث ٣٤٠.

(٣) البداية والنهاية ٨ : ٤٣.

(٤) انظر قاموس الرجال ٢ : ٧٢٣ برقم ١٥٩١.

(٥) أمالي الطوسي : ٤٧٤ ، الحديث ٣ م ١٧.

(٦) انظر فهارس تاريخ الخياط.


وعلى أي حال فقد نقل الخزّاز القمّي الرازي في «كفاية الأثر في النصّ على الأئمة الاثني عشر» بسنده عنه قال : دخلت على الحسن بن علي في مرضه الذي توفّي فيه وبين يديه طست يقذف فيه الدم قطعة قطعة من السمّ الذي سقاه معاوية ، فقلت له : يا مولاي ما لك لا تعالج نفسك؟ فقال : يا عبد الله بما ذا اعالج الموت؟! ثمّ التفت إليّ فقال : والله لقد عهد إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماما من ولد عليّ وفاطمة ، ما منّا إلّا مسموم أو مقتول! ثمّ رفع الطست ، وبكى ، فقلت له : عظني يا ابن رسول الله.

قال : نعم ، استعدّ لسفرك ، وحصّل زادك قبل حلول أجلك ، واعلم أنّك تطلب الدنيا والموت يطلبك ، ولا تحمل همّ يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه. واعلم أنّك لا تكسب من المال شيئا فوق قوتك إلّا كنت فيه خازنا لغيرك!

واعلم أن في حلالها حسابا ، وفي حرامها عقابا وفي الشبهات عتابا. فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة! خذ منها ما يكفيك ، فإن كان ذلك حلالا كنت قد زهدت فيها ، وإن كان حراما لم يكن فيه وزر إذا أخذت كما أخذت من الميتة ، وإن كان العتاب فإن العتاب يسير.

واعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ، وإذا أردت عزّا بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فاخرج من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعة الله عزوجل.

وإذا نازعتك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا صحبته زانك وإذا خدمته صانك ، وإذا أردت منه معونة أعانك ، وإن قلت صدّق قولك ، وإن صلت شدّ صولتك ، وإن مددت يدك بفضل مدّها ، وإن بدت منك ثلمة سدّها ، وإن رأى منك حسنة عدّها ، وإن سألته أعطاك وإن سكتّ عنه ابتداك ، وإن نزلت بك إحدى الملمّات ساءه. من لا تأتيك منه البوائق ولا تختلف عليك منه الطرائق ، ولا يخذلك عند الحقائق ، وإن تنازعتما منقسما آثرك.


ثمّ انقطع نفسه واصفرّ لونه حتى خشيت عليه. ودخل الحسين عليه‌السلام فانكبّ عليه حتى قبّل رأسه وبين عينيه ، ثمّ قعد عنده ... فأخذ الحسن يسرّ إلى الحسين بوصيّته ، وكان قد دخل مع الحسين الأسود بن أبي الأسود (؟) فقال : إنا لله! إنّ الحسن قد نعيت إليه نفسه فهو يوصي إلى الحسين (١).

وصيته إلى الحسين عليه‌السلام :

وروى المفيد ، عن المخارقي قال : لما حضرت الحسن عليه‌السلام الوفاة استدعى الحسين عليه‌السلام فقال له : يا أخي ، إنّي مفارقك ولاحق بربّي عزوجل ، وقد سقيت السمّ ورميت بكبدي في الطست ، وإني لعارف بمن سقاني السمّ ومن أين دهيت ، وأنا اخاصمه إلى الله تعالى ، فبحقّي عليك إن تكلمت في ذلك بشيء.

فإذا قضيت فغمّضني وغسّلني وكفّني ، واحملني على سريري إلى قبر جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأجدّد به عهدا ، ثمّ ردّني إلى قبر جدّتي فاطمة بنت أسد رحمة الله عليها فادفني هناك. والقوم سيظنّون بكم أنكم تريدون دفني عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيجلبون في منعكم عن ذلك ، فبالله اقسم عليك أن تهريق في أمري محجمة دم!

ثم وصّى عليه‌السلام إليه بأهله وولده وتركته وما كان وصّى به إليه أمير المؤمنين عليه‌السلام حين استخلفه وأهّله لمقامه ، ونصبه علما لشيعته من بعده ودلّهم على استخلافه (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٤ : ١٣٨ ـ ١٤٠ عن كفاية الأثر.

(٢) الإرشاد ٢ : ١٧.


تشييعه ودفنه :

قال المفيد : فلما مضى الحسن عليه‌السلام لسبيله غسّله الحسين عليه‌السلام وكفّنه وحمله على سريره ولم يشك مروان (١) ومن معه من بني أمية أنهم سيدفنونه عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

فتجمعوا له ولبسوا السلاح. فلما توجّه به الحسين عليه‌السلام إلى قبر جدّه ليجدّد به عهدا أقبلوا إليهم بجمعهم ، وخرجت إليهم عائشة على بغل وهي تقول : ما لي ولكم تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أحب (٣)! وجعل مروان يقول : يا ربّ هيجا هي خير من دعة! أيدفن عثمان بأقصى المدينة (البقيع) ويدفن الحسن مع النبيّ؟! لا يكون ذلك أبدا وأنا أحمل السيف! وكاد أن تقع الفتنة!

فبادر ابن عباس (٤) إلى مروان وقال له : ارجع يا مروان من حيث جئت ، فإنّا ما نريد أن ندفن صاحبنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكنّا نريد أن نجدّد به عهدا بزيارته ثمّ نردّه إلى جدّته فاطمة فندفنه عندها بوصيّته بذلك ، ولو كان وصّى

__________________

(١) ولم يكن مروان في تلك الأوان عامل آل أبي سفيان بالمدينة ، كان قد تلكّأ في أخذ البيعة ليزيد فعزله معاوية وولّاها سعيد بن العاص ، وهو الذي صلّى على الحسن عليه‌السلام حسب السنة الجارية كما في مقاتل الطالبيين : ٥٠.

(٢) ومن هنا نسب ذلك إلى وصية الحسن عليه‌السلام ، كما في مقاتل الطالبيين مثلا : ٤٩.

(٣) خلافا لآية مودة قربى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ٢٣ الشورى ، ولذا فقد كبرت الكلمة على بعضهم فروى : أن الحسن عليه‌السلام كان قد أرسل إليها أن تأذن له أن يدفن مع جده فقالت : نعم ما بقي إلّا موضع قبر واحد! ولكن بني امية سمعوا بذلك فلبسوا السلاح وكذلك بنو هاشم! وبلغ ذلك الحسن فقال لهم : أما إذا كان هذا فلا حاجة لي فيه ، ادفنوني إلى جانب امي فاطمة ـ أي جدّته بنت أسد ـ مقاتل الطالبيين : ٤٩.

(٤) وستأتي الأخبار عن عدم حضور ابن عباس عند وفاته بالمدينة.


بدفنه مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلمت أنّك أقصر باعا من ردّنا عن ذلك! لكنه كان أعلم بالله ورسوله وبحرمة قبره من أن يطرّق عليه هدما كما طرّق ذلك غيره ودخل بيته بغير إذنه!

ثمّ أقبل على عائشة فقال لها : وا سوأتاه! يوما على جمل ويوما على بغل تريدين أن تطفئي نور الله وتقاتلين أولياء الله! ارجعي فقد كفيت الذي تخافين وبلغت ما تحبّين! والله تعالى منتصر لأهل هذا البيت ولو بعد حين!

وقال الحسين عليه‌السلام : والله لو لا عهد الحسن إليّ بحقن الدماء وأن لا اهريق في أمره محجمة دم ، لعلمتم كيف كانت تأخذ سيوف الله منكم مأخذها وقد نقضتم العهد بيننا وبينكم ، وأبطلتم ما اشترطنا لأنفسنا عليكم (١)!

وعن الباقر عليه‌السلام : أنّه قال لعائشة : أنت قديما هتكت حجاب رسول الله وأدخلت بيته من لا يحبّ قربه! وإن الله سائلك عن ذلك! إن أخي أمرني أن أقرّبه من رسول الله ليجدّد به عهدا. ثمّ تكلّم محمد بن الحنفية قال لها : يا عائشة! يوما على جمل ويوما على بغل! فما تملكين نفسك عداوة لبني هاشم! فأقبلت عليه وقالت له : يا ابن الحنفية! هؤلاء بنو فاطمة يتكلمون فما كلامك؟! نحّوا ابنكم واذهبوا فإنّكم قوم خصمون (٢)!

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ١٨ و ١٩ ، هذا ولم يكن مروان أمير المدينة يومئذ بل سعيد بن العاص. والطبرسى في إعلام الورى ٢ : ٤١٤ نقل قول المفيد في الإرشاد إلى قول عائشة ثم روى عن الباقر عليه‌السلام أن الحسين عليه‌السلام قال لها : أنت قديما هتكت حجاب رسول الله وأدخلت بيته من أبغضه.

(٢) أصول الكافي ١ : ٣٠٢ ، الحديث ٣ ولكن فيه عن الحسين عليه‌السلام : أنّ ضرب المعاول حول رسول الله خلاف قوله سبحانه : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) فهو حرام غير جائز! وهو وهم وتقوّل غير جائز! والخبر مكرر الخبر الأول بالباب وفيه : أن الحسين


أجمع الأخبار في ذلك :

الواقدي نقل أشمل النقول في ذلك بسنده عن الحسن بن محمد بن الحنفية : أنّ الحسن عليه‌السلام سقي السمّ فأمسى مريضا مبطونا أربعين يوما ، فكان بنو هاشم لا يفارقونه يبيتون عنده ، وكان على المدينة سعيد بن العاص وكان يعوده فمرة يأذن له ومرة يحجب عنه. وبعث مروان رسولا إلى معاوية يخبره بثقله.

ولما ثقل أو احتضر وعنده إخوته والحسين عهد إليه : أن يدفن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إن أمكن ، وإن حيل بينه وبينه وخيف أن يهراق فيه محجمة من دم دفن عند أمه (فاطمة بنت أسد) بالبقيع ، وأخذ يؤكّد على الحسين : يا أخي إياك أن يسفك دم فإن الناس سرّاع إلى الفتنة!

ولما توفي الحسن ارتجّت المدينة صياحا فلا يلفى أحد إلّا باكيا!

وأبرد مروان إلى معاوية يخبره بموت الحسن وأنهم يريدون دفنه مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنهم لا يصلون إلى ذلك أبدا وأنا حي (١) وكذا أبرد سعيد بن العاص بدون القول الأخير (٢).

وقيل : إن الحسين عليه‌السلام أظهر هذه الوصية للحسن عليه‌السلام قبل موته فبلغ مروان ، فكتب بها إلى معاوية ، فكتب إليه معاوية : إذا مات الحسن فامنع من ذلك أشدّ المنع ، كما منعنا من دفن عثمان مع النبيّ (٣).

__________________

ـ صلّى عليه! وفي هذا : فصلّى على الحسن! وفيه : ثمّ اصرفني إلى امي فاطمة ثمّ ردّني إلى البقيع ... فمضى الحسين به إلى قبر أمه ثمّ أخرجه إلى البقيع! كأن قبرها كان معروفا معلوما! فالخبر مضطرب المتن جدا فهو غير معتبر ، وفيه بعد مستبعدات اخرى أيضا.

(١) الطبقات الكبرى ٨ : ترجمة الإمام الحسن ، الحديث ١٥٢.

(٢) تاريخ دمشق لابن عساكر ٢١ : ٣٨.

(٣) أنساب الأشراف ٣ : ٦٧ ، الحديث ٧٢.


وبعث بنو هاشم ، صائحا يصيح في كلّ قرية من قرى الأنصار بعوالي المدينة بموت الحسن عليه‌السلام ، فنزل أهل العوالي ولم يتخلف عنه أحد منهم (١).

وحضر سعيد بن العاص وهو أمير ليصلّي عليه ، فتنادى بنو هاشم : لا يصلي عليه إلّا الحسين عليه‌السلام قال حسن بن محمد بن الحنفية : فو الله ما نازعنا في الصلاة عليه وقال : أنتم أحقّ بميّتكم ، فإن قدّمتموني تقدمت. فقال الحسين عليه‌السلام : تقدّم ، فلولا أنّ الأئمة تقدّم ما قدّمناك!

وانتهى الحسين عليه‌السلام إلى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : احفروا هاهنا ، فنكب سعيد بن العاص واعتزل ولم يحل بينه وبينه (٢).

فلما بلغ ذلك إلى مروان جاء إلى سعيد بن العاص وسأله : ما أنت صانع في أمرهم؟ فقال : لست منهم في شيء ولا أحول بينهم وبين ذلك! فقال له مروان : فخلّني وإيّاهم! فقال له : أنت وذاك! فجمع لهم مروان من كان هناك من بني امية ومواليهم وحشمهم (٣).

وصاح مروان في بني أمية ومن لفّ معهم ومعهم السلاح : لا كان هذا أبدا!

فصاح به الحسين عليه‌السلام : يا ابن الزّرقاء ما لك ولهذا؟! أوال أنت؟! قال : لا كان هذا ولا يخلص إليه وأنا حيّ! فصاح الحسين بحلف الفضول فاجتمع بنو هاشم وأسد وتيم وزهرة وجعونة ، وصارت بينهم مراماة بالنبال ، حتّى قام بينهم رجال من قريش : المسور بن مخرمة وعبد الله بن جعفر وجعل هذا يلحّ على الحسين يقول له : يا ابن العم ألم تسمع إلى عهد أخيك : إن خفت أن يهراق فيّ محجمة من دم فادفنّي مع أمّي (فاطمة بنت أسد) بالبقيع! فأذكّرك الله أن تسفك الدماء!

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٨ ، الحديث ١٦٤.

(٢) الطبقات الكبرى ٨ : ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام ، الحديث ١٥٢.

(٣) تاريخ دمشق لابن عساكر ، ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام : ٢٢٠ ، الحديث ٣٥٥.


وقال له المسور بن مخرمة : يا أبا عبد الله ، إني سمعت أخاك قبل أن يموت بيوم يقول لي : يا ابن مخرمة ، إني قد عهدت إلى أخي أن يدفنني مع رسول الله إن وجد إلى ذلك سبيلا ، فإن خاف أن يهراق في ذلك محجم من دم فليدفنّي مع أمي (فاطمة بنت أسد) بالبقيع! وإني أذكّرك الله في هذه الدماء ، ألا ترى ما هاهنا من السلاح والرجال! والناس سرّاع إلى الفتنة!

وسمعت أبي يقول : قلت لأخي برفق : يا أبا عبد الله ، إنا لا ندع قتال هؤلاء القوم جبنا منهم! ولكنّا إنما نتّبع وصية أبي محمد ، إنه والله لو قال : ادفنوني مع النبيّ ، لمتنا من آخرنا أو ندفنه معه! ولكنه خاف ما قد ترى فقال لنا : إن خفتم أن يهراق فيّ محجم من دم فادفنوني مع امي (بنت أسد) وإنما نتّبع عهده وننفّذ أمره (١).

وحضر أبو هريرة ومروان ينادي : والله ما كنت لأدع ابن أبي تراب أن يدفن مع رسول الله وقد دفن عثمان (في حشّ كوكب اليهودي)!

فناداه أبو هريرة : يا مروان اتق الله ولا تقل لعليّ إلّا خيرا! فأشهد سمعت رسول الله يوم خيبر يقول : «لاعطينّ الراية رجلا يحبّه الله ورسوله ليس بفرّار» وأشهد لقد سمعت رسول الله يقول في الحسن : «اللهم إني احبّه فأحبّه وأحبّ من يحبّه».

فقال له مروان : إنك والله قد أكثرت على رسول الله الحديث ؛ فلا نسمع منك ما تقول ، فهلمّ معك غيرك يعرف ما تقول! وكان أبو سعيد الخدري حاضرا وقد سمع معه ما سمع ، فأشار إليه أبو هريرة وقال : هذا أبو سعيد الخدري. فقال مروان : لقد ضاع حديث رسول الله إذ لا يرويه إلّا أنت وأبو سعيد الخدري ، والله ما أبو سعيد الخدري يوم مات رسول الله إلّا غلاما! ولقد جئت أنت من جبال دوس قبل وفاة رسول الله بيسير! فاتّق الله يا أبا هريرة! فقال : نعم ما أوصيت به! وسكت عنه (٢).

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٨ : ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام ، الحديث ١٥٢.

(٢) الطبقات الكبرى ٨ : ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام ، الحديث ١٧٨.


وقال للقوم : أرأيتم لو جيء بابن موسى ليدفن مع أبيه فمنع ، أكانوا قد ظلموه؟ فقالوا : نعم! قال : فهذا ابن نبيّ الله قد جيء به ليدفن مع أبيه فمنع منه!

ثم أقبل على الحسين عليه‌السلام وقال له : أنشدك الله في وصية أخيك! فإن القوم لن يدعوك حتّى يكون بينكم دما (١)!

وحضر عبد الله بن عمر فقال للحسين عليه‌السلام : اتّق الله ولا تثر فتنة ولا تسفك الدماء! وادفن أخاك إلى جنب أمّه (فاطمة بنت أسد) فإن أخاك قد عهد بذلك إليك (٢)!

وحضر جابر بن عبد الله الأنصاري فقال للحسين عليه‌السلام : يا أبا عبد الله ، اتّق الله ، فإن أخاك كان لا يحبّ ما ترى ، فادفنه بالبقيع مع أمّه (فاطمة بنت أسد) (٣).

وكان سعد بن أبي وقاص بأرضه بضاحية المدينة فحضر وتكلّم مع الحسين عليه‌السلام ولم يزل به (٤).

وكان أبان بن عثمان حاضرا ويقول : إن هذا لهو العجيب أن يدفن ابن قاتل عثمان مع رسول الله وأبي بكر وعمر! ويدفن أمير المؤمنين الشهيد المظلوم ببقيع الغرقد (٥)!

ونادت عائشة (وهي على بغلة شهباء) : هذا الأمر لا يكون أبدا!

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٨ : ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام ، الحديث ١٥١.

(٢) الطبقات الكبرى ٨ : ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام ، الحديث ١٥٩.

(٣) الطبقات الكبرى ٨ : ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام ، الحديث ١٥٧.

(٤) الطبقات الكبرى ٨ : ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام ، الحديث ١٧٧.

(٥) الطبقات الكبرى ٨ : ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام ، الحديث ١٧٥.


يدفن (الحسن) ببقيع الغرقد ولا يكون لهم رابعا! والله إنه لبيتي أعطانيه رسول الله في حياته! وما دفن فيه عمر وهو خليفة إلّا بأمري ، وما أثر عليّ عندنا بحسن (١)! إنه بيتي ولا آذن فيه لأحد! فأتاها القاسم ابن أخيها محمد بن أبي بكر وقال لها : يا عمّة! ما غسلنا رءوسنا من يوم الجمل الأحمر! أتريدين أن يقال : يوم البغلة الشهباء! فرجعت.

ونادى خلق من الناس مع الحسين قالوا له : دعنا وآل مروان فو الله ما هم عندنا إلّا كأكلة رأس!

فقال : إن أخي أوصاني أن لا اريق فيه محجمة دم (٢) وتقدّم عبد الله بن جعفر فأخذ بمقدم السرير فدفعه وصار به إلى البقيع ، فانصرف مروان ومن معه (٣).

تأبينه والحداد عليه :

وعند قبر الحسن عليه‌السلام في البقيع قال الحسين عليه‌السلام : رحمك الله أبا محمد! إن كنت لتباصر الحقّ مظانّه ، وتؤثر الله عند مداحض الباطل في مواطن التّقية بحسن الرويّة ، وتستشفّ جليل معاظم الدنيا بعين لها حاقرة ، وتقبض عنها يدا طاهرة ، وتردع بادرة أعدائك بأيسر المئونة عليك. وأنت ابن سلالة النبوة ، ورضيع لبان الحكمة ،

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٨ : ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام ، الحديث ١٥٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٢٥ ونسب المنع إلى مروان وسعيد بن العاص ، ولعلّه لعدم معارضته لمروان كما مرّ الخبر عنه. وحاولوا توجيه منع عائشة فقالوا : إنها لما رأت الرجال والسلاح وخافت أن يقع الشرّ بينهم وتسفك الدماء ، قالت : البيت بيتي ... كما في أنساب الأشراف ٣ : ٦٦ ، الحديث ٧١ عن عروة بن الزبير ، عن خالته عائشة!

(٣) أنساب الأشراف ٣ : ٢٢٠ ، الحديث ٣٥٥.


وقد صرت إلى روح وريحان وجنة نعيم. أعظم الله لنا ولكم الأجر عليه ، ووهب لنا ولكم السلوة وحسن الأسى عنه (١).

ولما دفن الحسن عليه‌السلام وقف أخوه محمد بن الحنفية على قبره وقال : لئن عزّت حياتك لقد هدّت وفاتك ، ولنعم الروح روح تضمّنه كفنك ، ولنعم الكفن كفن تضمّن بدنك ، وكيف لا تكون هكذا وأنت عقبة الهدى وخلف أهل التقوى ، وخامس أصحاب الكساء ، غذتك بالتقوى أكفّ الحقّ ، وأرضعتك ثدي الإيمان ، وربّيت في حجر الإسلام ، فطبت حيّا وميّتا ، وإن كانت أنفسنا غير سخية بفراقك ؛ رحمك الله يا أبا محمد ... وأنت ابن محمّد المصطفى وابن علي المرتضى وابن فاطمة الزهراء ، ثمّ أنشأ يقول :

أأدهن رأسي أم أطيب محاسني

وخدّك معفور وأنت سليب

أأشرب ماء المزن من غير مائه

وقد ضمن الأحشاء منك لهيب

سأبكيك ما ناحت حمامة أيكة

وما اخضرّ في دوح الحجاز قضيب

غريب وأطراف الديار تحوطه

ألا كلّ من تحت التراب غريب (٢)

وكان البقيع يوم دفنه لو طرحت إبرة ما وقع إلّا على رأس إنسان (٣)

__________________

(١) عيون الأخبار للدينوري ٢ : ٣١٤ مرسلا وفي تاريخ دمشق لابن عساكر ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام : ٢٣٣ ، الحديث ٣٦٩ مسندا عن غير ابن قتيبة.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٤٢٨ ـ ٤٢٩ ، وقبله في تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٢٥ ولكنه ذكره عند تكفينه. وذكره ابن عساكر الدمشقي في تاريخه : ٢٣٤ ، الحديث ٣٧٠ مسندا عن عمر بن علي عليه‌السلام.

(٣) المستدرك على الصحيحين للحاكم ٣ : ١٧٣ ، الحديث ٢٣ و ٢٤ ، وتاريخ دمشق : ٢٣٥ ، الحديث ٣٧٢.


وبكى عليه الرجال والنساء والصبيان بالمدينة ومكة سبعة أيام ما تقوم الأسواق (١)! وأقام نساء بني هاشم عليه النوح شهرا (٢) وحدت عليه نساء بني هاشم سنة (٣).

نعي الإمام في الشام :

قال الدينوري : لما كانت سنة إحدى وخمسين (يعني أوائلها) مرض الحسن بن علي مرضه الذي مات فيه فكتب عامل المدينة (سعيد بن العاص ، بذلك إلى معاوية ، فكتب إليه معاوية : إن استطعت أن لا يمضي يوم يمرّ بي إلّا يأتيني فيه خبره فافعل! فلم يزل يكتب إليه بحاله حتّى توفي فكتب إليه بذلك.

فلما أتاه الخبر أظهر فرحا وسرورا حتّى أنه سجد وسجد من كان معه (٤).

وروى المسعودي ، عن الطبري ، عن ابن إسحاق ، عن الفضل بن عباس بن ربيعة قال : كنت في مسجد دمشق إذ سمع أهل المسجد التكبير من أهل القصور الخضراء لمعاوية فكبّروا بتكبيرهم ، فبلغني أن فاختة بنت قرظة بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف كانت في إحدى تلك القصور (وهي زوجته) فلما سمعت التكبير أطلّت من خوختها على معاوية وقالت له :

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٨ : ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام ، الحديث ١٦٨ ، والمستدرك للحاكم ٣ : ١٧٣ ، الحديث ٢١.

(٢) الطبقات الكبرى ٨ : ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام ، الحديث ١٦٩ ، والمستدرك للحاكم ٣ : ١٧٣ ، الحديث ٢١.

(٣) الطبقات الكبرى ٨ : ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام ، الحديث ١٧٠ و ١٧١ ، والمستدرك للحاكم ٣ : ١٧٣ ، الحديث ٢٣ و ٢٤.

(٤) الإمامة والسياسة ١ : ١٧٤ و ١٧٥.


يا أمير المؤمنين : سرّك الله! فما هذا الذي بلغك فسررت به؟ قال : موت الحسن بن علي!

فقالت : إنا لله وإنا إليه راجعون وبكت وقالت : مات سيّد المسلمين وابن بنت رسول الله!

فقال معاوية متظاهرا : نعمّا فعلت إنه كان كذلك أهلا أن تبكي عليه!

وروى أبو داود وأحمد في مسنده بسنده : لما بلغ نعي الحسن عليه‌السلام إلى الشام ، وفد من قنّسرين على معاوية ثلاثة : المقدام بن معدي كرب ، وعمرو بن الأسود ومعهما رجل من بني أسد ، فقال معاوية للمقدام : أعلمت أن الحسن بن علي توفّي؟ فقال إنا لله وإنا إليه راجعون ، فقال معاوية أتراها مصيبة! فقال : ولم لا أراها مصيبة وقد (رأيت) وضعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجره فقال : هذا منّي!

فقال الأسدي : جمرة أطفأها الله عزوجل :

فقال المقدام لمعاوية : أما أنا فلا أبرح اليوم حتّى أسمعك ما تكره! ثمّ قال : يا معاوية! إن أنا صدقت فصدّقني وإن أنا كذبت فكذّبني! قال : أفعل. فقال :

فأنشدك بالله هل تعلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان ينهى عن لبس الذهب؟ قال : نعم. قال :

فأنشدك الله هل تعلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن لبس الحرير؟ قال : نعم ، قال :

فأنشدك الله هل تعلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن لبس جلود السباع وركوبها؟ قال : نعم.

فقال : فو الله لقد رأيت هذا كلّه في دارك وفي بيتك يا معاوية!

فقال معاوية : قد علمت أنّي لن أنجو منك يا مقدام (١)!

__________________

(١) سنن أبي داود ٢ : ١٨٦ ، ومسند أحمد ٤ : ١٣٠ ، وانظر الغدير ١٠ : ٢١٥ : لبس


وكان عبد الله بن العباس قد وفد على معاوية وبلغه الخبر ، فبلغني أنه دخل على معاوية عصرا ، فقال له معاوية : يا ابن عباس ، علمت أن الحسن توفّي! قال : فكبّرت لذلك؟! قال : نعم! أما والله ما موته بالذي ينسئ في أجلك! ولا حفرته بسادّة حفرتك! ولئن اصبنا به فقد اصبنا قبله بسيد المرسلين وإمام المتقين ورسول ربّ العالمين ، ثمّ بعده بسيّد «الأوصياء» فجبر الله تلك المصيبة ، ورفع تلك العثرة (١)!

ولعلّه كان الفضل بن العباس ، وقد نقل الخوارزمي عنه مرثية للحسن عليه‌السلام قال :

أصبح اليوم ابن هند شامتا

ظاهر النخوة إذ مات الحسن

رحمة الله عليه ، إنّه

طالما أشجى ابن هند وأرنّ

استراح اليوم منه بعده

إذ ثوى رهنا لأحداث الزمن

فارتع اليوم ابن هند آمنا

انما يقمص بالعير السمن

لست بالباقي فلا تشمت به

كل حي بالمنايا مرتهن

يا ابن هند إن تذق كأس الردى

تك في الدهر كشيء لم تكن (٢)

__________________

ـ معاوية ما لا يجوز. وصدره في كفاية الطالب : ٤١٤ ، ورواه الطبراني في المعجم الكبير ، الحديث ١٠٩٩.

(١) مروج الذهب ٢ : ٤٢٩ و ٤٣٠ ، وليس في الطبري المنشور. وبعده نقل عن نسخة أخرى عن الطبري : أن ذلك التكبير كان لبشارته بانقياد الحسن للصلح! ولذكره عن النبيّ : أن ابني هذا سيد أهل الجنة! وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المؤمنين! فالحمد لله الذي جعل فئتي إحدى الفئتين! وهي كما ترى محاولة فاشلة ، إذ لم يكن معاوية يومئذ في قصوره الخضراء بدمشق! ونقله المسعودي ولم يعلق عليه بشيء! ولعلّه لبداهة بلاهته وبطلانه ، والحديث كما ترى من موضوعات معاوية تضليلا.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٩ ، ومقتل الخوارزمي ١ : ١٤١.


وأكمل الدينوري قال : ثمّ شهق ابن عباس فبكى ، فبكى من في المجلس حتى معاوية ، ثمّ قال له :

بلغني أنه ترك بنين صغارا! فقال ابن عباس : كلنا كان صغيرا فكبر! قال معاوية : كم بلغ من عمره؟ قال ابن عباس : أمر الحسن أعظم من أن يجهل أحد مولده! فأسكت معاوية لفترة ثمّ قال له : يا ابن العباس! أصبحت سيّد قومك من بعده! (متجاهلا الحسين عليه‌السلام) فقال ابن عباس : أمّا ما أبقى الله أبا عبد الله الحسين فلا! فقال معاوية : لله أبوك يا ابن عباس! ما استنبأتك إلّا وجدتك معدّا (١)!

واختصر الخبر اليعقوبي قال : لما توفي الحسن بن علي كان ابن عباس عند معاوية (بدمشق) فلما بلغ معاوية نعي الحسن دخل عليه ابن عباس فقال له معاوية : يا ابن عباس ، مات الحسن! فاسترجع وقال : على عظيم الخطب وجليل المصاب! ثمّ قال له : أما والله يا معاوية ، لئن كان الحسن مات فما ينسئ موته في أجلك ولا يسدّ جسمه حفرتك! ولقد مضى إلى خير وبقيت على شرّ! فقال معاوية : لا أحسبه قد خلّف إلّا صبيّة صغارا! قال : كلنا كان صغيرا فكبر! قال : بخ بخ يا ابن عباس أصبحت سيّد قومك! قال : أمّا ما أبقى الله أبا عبد الله الحسين ابن رسول الله ، فلا (٢).

واختزل النقل البلاذري ، عن الكلبي ، عن أبي صالح قال : لقي ابن عباس معاوية فقال له معاوية : عجبا للحسن! شرب عسلة طائفية بماء بئر رومة فمنها مات! فقال ابن عباس : لئن هلك الحسن فلن ينسأ في أجلك : قال : وأنت اليوم سيّد قومك! قال : أمّا ما بقي أبو عبد الله (الحسين) فلا (٣).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٧٥.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٢٥ و ٢٢٦.

(٣) أنساب الأشراف ٣ : ٦٧ ، الحديث ٧٤ ، وانظر تعاليق المحقق المحمودي بمصادر أخرى.


وللخبر مصادر عديدة وجاء في بعضها قال له معاوية يبكّته. فظنّها بعضهم : بمكة ، ومنهم البلاذري.

وعلى أيّ حال ، فلم يكن بالمدينة في وفاة الحسن عليه‌السلام كما أفاده المفيد منفردا به كما مرّ خبره.

وعزل سعيدا وأمر مروان بعد زمان :

روى الواقدي قال : لما مات الحسن بن علي عليه‌السلام بعث سعيد بن العاص رسولا إلى معاوية يخبره بذلك ، ولما دفن الحسن بالبقيع أرسل مروان بريدا يخبر معاوية يقول : فإني يا أمير المؤمنين! عقدت لوائي وأحضرت معي ممن أبتغي ألفي رجل! قد تلبّسنا السلاح فلم يزل الله! يدرأ الحسن أن يكون ثالثا مع أبي بكر وعمر ، حيث لم يكن أمير المؤمنين عثمان المظلوم رحمه‌الله! وهم الذين فعلوا بعثمان ما فعلوا! وإنّ سعيد بن العاص قد لاقى بني هاشم وما لأهم على أن يدفن الحسن مع رسول الله وأبي بكر وعمر! فكتب معاوية إلى مروان يشكر له ما صنع ، ويعده أن يعزل سعيدا ويوليه المدينة ، وكان قد وليها في آخر سنة (٤٩) قبل موت الحسن ، فكان معاوية يستحيي من سرعة عزله إياه. وعلم سعيد بكتاب مروان إلى معاوية ، فكان يلقاه.

ويقول له ممازحا : ما جاءك فينا شيء؟ فيقول مروان : أتظن أنّي أطلب عملك؟! فاستحيا سعيد وسكت عنه ثمّ عزله معاوية وولى مروان وكتب إليه : إذا جاءك كتابي هذا فلا تدع لسعيد بن للعاص قليلا ولا كثيرا إلّا قبضته (١).

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ٨ ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام ، الحديث ١٨٨ ، وتاريخ دمشق ٢١ : ٣٨ ترجمة سعيد ولكن لم يكن ذلك سريعا بل بعد حين.


وروى الخبر الزبير بن بكّار عن رجاله خبرا طويلا ذكر الأربلي موضع الحاجة منه وفيه : أنه أذن للناس إذنا عاما وأذن لابن عباس في آخرهم واستدناه ونعي إليه الحسن عليه‌السلام وفي آخره : ثمّ قام وعينه تدمع.

وبعد انقضاء العزاء (؟) دخل عليه فقال له هذه المرة : يا أبا العباس ، أتدري ما حدث في أهلك؟ هلك أسامة بن زيد فعظم الله لك الأجر! قال : «إنا لله وإنا إليه راجعون» رحم الله أسامة ، وخرج.

وفي يوم الجمعة صلّى في الجامع واجتمع عليه الناس يسألونه عن الفقه والحلال والحرام ، والتفسير ، وأحوال الجاهلية والإسلام (التاريخ) وهو يجيب ، وبانت قلة من ذهب إلى معاوية فسأل فقيل له : إنهم شغلوا بابن عباس! ولو شاء قبل الليل أن يضربوا معه بمائة ألف سيف لفعل! فقال : نحن ظلمناه : نعينا إليه أهله ومنعناه حاجته وحبسناه عن أهله! انطلقوا إليه فادعوه! فأتاه حاجبه فدعاه ، فقال : نحن بنو عبد مناف إذا حضرت الصلاة لم نقم حتى نصلي ، فأصلي إن شاء الله وآتيه!

فصلّى العصر ثمّ ذهب إليه ، فأراد معاوية أن يعرّف أهل الشام بميل ابن عباس إلى الدنيا فقال له : أقسمت عليك لما دخلت بيت المال فأخذت حاجتك! فقال : إن ذلك ليس لي ولا لك! فإن أذنت أن أعطي كلّ ذي حقّ حقّه فعلت. فقال معاوية : أقسمت عليك إلّا دخلت فأخذت حاجتك. فدخل فرأى فيه برنس خزّ أحمر كان يقال إنه لأمير المؤمنين علي عليه‌السلام فأخذه وخرج (ولعلّه بمعونة قائده) ثمّ قال لمعاوية :

يا أمير المؤمنين! بقيت لي حاجة! فقال : ما هي؟ قال : إنّك قد عرفت فضل عليّ بن أبي طالب وسابقته وقرابته ، وقد كفاكه الموت ، فأحبّ أن لا يشتم على منابركم! ولعلّه سمعه من خطيبه.


فقال معاوية : يا ابن عباس! هيهات! هذا أمر دين! ثمّ أخذ يعدّد عليه : أليس فعل وأ ليس فعل؟ فقال ابن عباس : فالموعد القيامة و (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)(١) وخرج وتوجّه إلى المدينة (٢).

نعي الإمام في الكوفة :

انتشر خبر وفاة الحسن عليه‌السلام وبلغ العراق والكوفة ، وأشهر أزواج الإمام جعدة بنت الأشعث الكندي الكوفي ، وشاعر أمير المؤمنين بالكوفة النجاشي الحارثي الشاعر فقال :

يا جعد بكّيه ولا تسأمي

بكاء حقّ ليس بالباطل

على ابن بنت الطاهر المصطفى

وابن ابن عمّ المصطفى الفاضل

كان إذا شبّت له ناره

يوقدها بالشرف القابل

كيما يراها بائس مرمل

أو ذو اغتراب ليس بالآهل

لن تغلقي بابا على مثله

في الناس من حاف ومن ناعل

نعم فتى الهيجاء يوم الوغى

والسيّد القائل والفاعل (٣)

__________________

(١) الأنعام : ٦٧.

(٢) كشف الغمة ٢ : ٤٨ و ٤٩ عن الموفقيات للزبير بن بكار ، وهو الخبر السابع من عشرة أخبار عنه ، وانظر تعليقته على الكتاب والمؤلف في ٢ : ٤٢ و ٤٣.

(٣) أنساب الأشراف ٣ : ٧٥ ، الحديث ٨٢ ولها مصادر كثيرة منها بطريقين آخرين في تاريخ دمشق ـ الإمام الحسن عليه‌السلام : ٢١٢ ، الحديث ٢٣٧ و ٣٤١ و ٣٧٥ ، ويبدو أن شاعرا متطفلا زاد فيها بيتا وجعلها في علي بن الحسين عليه‌السلام قال :

أعني ابن ليلى ذا السدا والندا

أعني ابن بنت الشرف الفاضل

كما في مقاتل الطالبيين : ٥٣ عن ابن عقدة!


نعم كأنه لم يعلم بأنها هي التي قتلته بسمّ معاوية ، فعزّاها بشعره يخصّها بالرثاء والتأبين!

واجتمع «الشيعة» بالكوفة في دار سليمان بن صرد الخزاعي ومعهم بنو جعدة بن هبيرة المخزومي أبناء عمة الإمام المجتبى عليه‌السلام ، فكتبوا إلى الحسين يعزّونه بمصابه بالحسن :

بسم الله الرحمنِ الرحيم ، للحسين بن علي ، من «شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين ، سلام عليك ، فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أما بعد ، فقد بلغنا وفاة الحسن بن علي ، فالسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيّا وغفر الله ذنبه! وتقبّل حسناته وألحقه بنبيّه ، وضاعف لك الأجر في المصاب به وجبر بك المصيبة من بعده ، فعند الله نحتسبه ، و (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ما أعظم ما اصيبت به هذه الامّة عامّة وأنت وهذه «الشيعة» خاصّة ، بهلاك ابن الوصي وابن بنت النبيّ ، علم الهدى ونور البلاد ، المرجوّ لإقامة الدين وإعادة سير الصالحين ، فاصبر رحمك الله على ما أصابك (إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) فإن فيك خلفا ممّن كان قبلك ، وإن الله يؤتي رشده من يهتدي بهديك ، ونحن «شيعتك» المصابة بمصيبتك ، المحزونة بحزنك والمسرورة بسرورك والسائرة بسيرتك والمنتظرة لأمرك شرح الله صدرك ورفع ذكرك وأعظم أجرك ، وغفر ذنبك وردّ عليك حقّك (١)!

وصفه وتاريخ وفاته :

وكتب إليه بنو عمته أم هانئ المخزوميون : أنهم قد لقوا من أنصارهم بالكوفة من يطمئن إلى قوله ويرضى هديه ويعرف بأسه ونجدته ، فأفضوا إليهم

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٢٨ وانفرد به بدون ذكر جواب عليه. والآية ١٧ من سورة لقمان.


بما هم عليه من شأن ابن أبي سفيان والبراءة منه ، وسألوا الحسين عليه‌السلام الكتابة برأيه إليهم. فكتب إليهم :

إني لأرجو أن يكون رأي أخي رحمه‌الله في الموادعة ، ورأيي في جهاد الظلمة ، رشدا وسدادا. فاكموا الهوى واحترسوا الأظنّاء واخفوا أشخاصكم والصقوا بالأرض ما دام ابن هند حيّا ، فإن يحدث به حدث وأنا حيّ يأتكم رأيي إن شاء الله (١).

وكان الحسن عليه‌السلام أبيض مشرّبا بحمرة ، ذا وفرة جعد الشعر من أحسن الناس وجها مليحا ، أدعج العينين ، سهل الخدّين ، كثّ اللحية يخضبها بالسواد كأن عنقه إبريق فضّة ، بعيد ما بين المنكبين ، ربعة ليس بالطويل ولا بالقصير ، حسن البدن.

توفى في سنة (٤٩ ه‍) وغسّله الحسين ومحمد والعباس أخوته (٢).

وقال الكليني : مضى عليه‌السلام في آخر شهر صفر من سنة (٤٩ ه‍) وهو ابن سبع وأربعين سنة وأشهر (٣) واختار المفيد أنه كان له (٤٨) سنة وتوفّي في صفر سنة (٥٠ ه‍) (٤) بلا تعيين اليوم.

واختار الطبرسي : لليلتين بقيتا من صفر (٥) وتبعه الحلبي الساروي ابن شهرآشوب المازندراني (٦) وعليه العمل في بلاد فارس والعجم غالبا.

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣ : ١٥٦ ، الحديث ١٦٦ واختصر الإشارة في صدر خبره إلى كتاب أهل الكوفة إليه من دار الخزاعي ، الذي مرّ عن اليعقوبي.

(٢) الذرية الطاهرة للدولابي : ١٢٠ ، الحديث ١٣٤.

(٣) أصول الكافي ١ : ٤٦١.

(٤) الإرشاد ٢ : ١٥.

(٥) إعلام الورى ١ : ٤٠٣ وفي عمره وافق الكليني وفي عام الوفاة المفيد.

(٦) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٤ وفي عمره وافق الكليني وفي عام الوفاة وافق المفيد.


واكتفى الإربلي بالنقل عن «الإرشاد» و «إعلام الورى» واختار الكفعمي السابع من شهر صفر ، وعليه العمل في الشيعة العرب غالبا.

وقال ابن الخياط : توفي الحسن رحمه‌الله في سنة (٤٩) وفي سنة (٥٠) دعا معاوية أهل الشام إلى بيعة ابنه يزيد فأجابوه وبايعوه وأغزاه مع أبي أيوب الأنصاري إلى الروم فلما عاد أمّره موسم الحجّ (١).

وقال اليعقوبي : في شهر ربيع الأول سنه (٤٩) توفي الحسن عليه‌السلام سقي السم (٢) وبعد وفاته بايع معاوية لابنه يزيد بولاية عهده ، ولم يتخلف عن بيعته إلّا أربعة نفر ، هم ... (٣).

وقال الدينوري : بعد وفاة الحسن رحمه‌الله لم يلبث معاوية إلّا يسيرا ثمّ بايع ليزيد ابنه بالشام ، وكتب ببيعته إلى الآفاق (٤).

__________________

(١) تاريخ خليفة : ١٢٨ و ١٢٩ ولاحظ التعليق السابق لحضور أبي أيوب.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٣٥.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٢٨.

(٤) الإمامة والسياسة ١ : ١٧٥ إلّا أنه ذكر الوفاة سنة (٥١) والمسعودي في مروج الذهب ٣ : ٢٧ قال : وفي سنة (٥٩) وفد على معاوية وفد الأمصار من العراق وغيرها فأخذهم بالبيعة ليزيد.



فهرس الكتاب

عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام ومبادي حرب صفّين

استبدال عمّال عثمان............................................................. ٩

وقدّم ابنته جعدة للحسن عليه‌السلام................................................... ١١

وإلى عامل همدان إلى أصفهان.................................................... ١٢

وعمّال خراسان وسجستان...................................................... ١٤

وكتب إلى معاوية............................................................... ١٤

درع طلحة والقاضي شريح....................................................... ١٥

وعمّال أرض الجزيرة............................................................. ١٦

إرسال جرير إلى معاوية.......................................................... ١٦

خبر عمرو بن العاص........................................................... ١٨

حديث معاوية إلى عمرو......................................................... ٢٠

مشاورة معاوية لعمرو............................................................ ٢٢

معاوية وشرحبيل الكندي........................................................ ٢٤

فهل يستعدّ الإمام لحربهم؟....................................................... ٢٥

القول الفصل.................................................................. ٢٦

كتاب معاوية جوابا وجوابه....................................................... ٢٧

جرير والأشتر عند الأمير......................................................... ٢٨

وطمع معاوية في قيس........................................................... ٢٩

تأمير ابن أبي بكر على مصر..................................................... ٣٣


وكتب ابن أبي بكر إلى معاوية.................................................... ٣٦

فكتب معاوية جوابه............................................................ ٣٧

وأما مصير قيس................................................................ ٣٩

أول شهر رمضان بالكوفة........................................................ ٤٠

الأصبغ مبعوثا ثالثا.............................................................. ٤٢

وفرّ ابن عمر إلى معاوية......................................................... ٤٤

وطمع معاوية في سعد........................................................... ٤٦

جولان الخولاني وافتتانه.......................................................... ٤٦

تعليق رشيق.................................................................... ٥٢

تحويل الجواب للخولاني.......................................................... ٥٣

فكتب إليه مع الباهلي.......................................................... ٥٤

وجوابه مع الباهلي.............................................................. ٥٦

وكتب إلى معاوية أيضا.......................................................... ٥٩

وجواب معاوية.................................................................. ٦١

واستشار الإمام أصحابه......................................................... ٦١

إعلان العزم على الجهاد......................................................... ٦٣

بعض ردود الفعل............................................................... ٦٦

وبدأ امتراء القرّاء................................................................ ٦٩

واستقدم مخنف بن سليم الأزدي.................................................. ٧٢

واستقدم ابن عباس من البصرة.................................................... ٧٣

وخرجوا إلى معسكر النخيلة...................................................... ٧٤

شهود الولاية من الصحابة....................................................... ٧٧

ولا تكونوا شتّامين لعّانين........................................................ ٧٩

وإلى أمراء الجنود................................................................ ٨٠

وإلى الجنود.................................................................... ٨١

مقدمة الجيش.................................................................. ٨٢


وخبر الإمام في الشام............................................................ ٨٤

وعند الخروج من النخيلة......................................................... ٨٥

ومن حديثه في كربلاء........................................................... ٨٧

واستخرج ماء في الصحراء........................................................ ٨٨

وفي مدائن طيسفون............................................................. ٩٠

ومن أخبار الأنبار.............................................................. ٩٢

وصولهم إلى الجزيرة.............................................................. ٩٣

وبلغوا الرّقة..................................................................... ٩٣

وقدّم المقدّمة أيضا.............................................................. ٩٥

احتجاج على معاوية للماء....................................................... ٩٧

الأشعث والأشتر يستردّان الماء.................................................... ٩٩

مبارزات الأشتر............................................................... ١٠٢

وهل عسكر الإمام هناك؟...................................................... ١٠٤

واستبطأ أصحابه إذن القتال.................................................... ١٠٦

الوفد الثلاثي إلى معاوية....................................................... ١٠٧

موقف القرّاء................................................................. ١٠٩

أبو أمامة وأبو الدّرداء.......................................................... ١١٠

وكتاب آخر.................................................................. ١١٢

وأمر عليه‌السلام بإقامة الحج......................................................... ١١٣

وفي ذي الحجة بدأت المبارزات.................................................. ١١٤

المحرّم (٣٧ ه‍) والوفد الرّباعي................................................... ١١٤

وفد معاوية الثلاثي............................................................ ١١٦

إعلان الحرب................................................................. ١١٨

راياتهم وشعاراتهم وعلاماتهم..................................................... ١١٩

خبر أبي نوح وذي الكلاع الحميريّين............................................. ١١٩

لواء عمرو وموقف علي عليه‌السلام وعمار............................................ ١٢٤


أمراء العراق والشام............................................................ ١٢٧

أوّل القتال في أوّل صفر....................................................... ١٢٩

خطاب الإمام عليه‌السلام........................................................... ١٣٢

وخرج الإمام بنفسه............................................................ ١٣٥

بعض المبارزات................................................................ ١٣٧

ويوم الخميس ٩ صفر وبعض الخطب............................................ ١٤١

حجر الخير وحجر الشر........................................................ ١٤٤

مقتل ابن بديل الخزاعي........................................................ ١٤٥

فرّ الميمنة وكرّها............................................................... ١٤٧

وخطبة الإمام لهم.............................................................. ١٤٩

وإلى معاوية ثانية.............................................................. ١٤٩

وأمر الميسرة في ذلك اليوم...................................................... ١٥١

وأما أخبار عمّار.............................................................. ١٥٥

آثار مقتل عمّار.............................................................. ١٥٩

شهادة ذي الشهادتين......................................................... ١٦٣

يوم وقعة الخميس............................................................. ١٦٥

مقتل المرقال ليلا.............................................................. ١٦٦

حملة الإمام وخطبته............................................................ ١٧٠

إلى فسطاط معاوية وعمرو..................................................... ١٧٢

وتشبّث بالأشعث............................................................ ١٧٣

والإمامة بعد علي عليه‌السلام........................................................ ١٧٤

حرص معاوية على الحياة....................................................... ١٧٥

ومن أخبار عيون الحرب........................................................ ١٧٥

زئير الأشتر ليلة الهرير.......................................................... ١٧٦

صفة الإمام وذي الفقار........................................................ ١٧٧

تشبّث الأشعث.............................................................. ١٧٨


وخطبة معاوية................................................................ ١٧٩

فضيحة بسر بعد عمرو........................................................ ١٧٩

محاولة أخرى لوقف القتال..................................................... ١٨٠

في انتظار نهار الهرير والمصاحف................................................. ١٨١

تحذير الإمام عليه‌السلام............................................................ ١٨٣

الإمام عليه‌السلام يستردّ الأشتر...................................................... ١٨٤

ووساطة الأشعث ورسائل معاوية................................................ ١٨٩

وخطاب وعتاب.............................................................. ١٩١

تعيين الحكمين............................................................... ١٩٢

تقييد الكتابين................................................................ ١٩٤

موقف الأشتر من الصحيفة.................................................... ١٩٨

لا حكم إلّا لله!.............................................................. ٢٠٠

مصير أسرى صفين........................................................... ٢٠٢

الإمام عليه‌السلام إلى الكوفة........................................................ ٢٠٣

خطبته عليه‌السلام لدى الوصول..................................................... ٢٠٦

وتوقف المتوقّفون في حروراء..................................................... ٢٠٦

ابن عباس مبعوثا إليهم......................................................... ٢٠٨

فخرج إليهم الإمام عليه‌السلام....................................................... ٢١٣

وكتب إلى الأمصار............................................................ ٢١٦

وضبط فارس بزياد............................................................ ٢١٦

ابن قرّة بدل ابن هبيرة......................................................... ٢١٨

والأشتر لثغر الشام............................................................ ٢١٩

ودرع الإمام ثانية.............................................................. ٢٢١

الحكمان لموعد رمضان......................................................... ٢٢٣

حوار الحكمين................................................................ ٢٢٦

تحكّم الحكمين............................................................... ٢٢٨


أخبار خوارج النهروان

تحكيم الحكم وخروج الخوارج.................................................... ٢٣١

اجتماعهم وبيعتهم............................................................ ٢٣٣

اجتماعهم وخروجهم........................................................... ٢٣٤

ولحقهم خوارج البصرة.......................................................... ٢٣٥

خوارج البصرة وتمرة وخنزيرة ودماء................................................ ٢٣٦

وكتب إليهم الإمام عليه‌السلام....................................................... ٢٣٨

خطبة الإمام بالمسير إلى الشام.................................................. ٢٤١

الإمام في معسكر النخيلة...................................................... ٢٤٢

ابن عباس والناس بالبصرة...................................................... ٢٤٢

الإمام يستحث أهل الكوفة.................................................... ٢٤٣

إلى ابن أبي سفيان أو النهروان؟................................................. ٢٤٥

المسير والمصير والمنجّم الساحر.................................................. ٢٤٦

وفي طريقه لقتالهم.............................................................. ٢٤٩

وبلغ معاوية فاستعدّ........................................................... ٢٥٠

احتجاجه عليه‌السلام قبل الالتحام................................................... ٢٥٤

وخطب قيس وأبو أيوب....................................................... ٢٥٨

ورفع راية الأمان............................................................... ٢٥٩

واستعدّ الإمام وبدأ القتال...................................................... ٢٦٠

الغنائم والجرحى وذو الثدية..................................................... ٢٦٤

ثمّ أراد المسير إلى الشام........................................................ ٢٦٧

وتمرّدت غنىّ وباهلة فأجلاهما................................................... ٢٦٨

في نخيلة الكوفة............................................................... ٢٦٩

ودخل الكوفة وخطبهم......................................................... ٢٦٩

وخطبة اخرى له عليه‌السلام......................................................... ٢٧١


غارات معاوية

وبدأت غارات معاوية.......................................................... ٢٧٥

وجهّز الإمام حجرا للفهري..................................................... ٢٧٧

كتاب عقيل وجوابه........................................................... ٢٧٧

غارة عمرو على مصر......................................................... ٢٨٠

كتاب معاوية إلى معارضة مصر................................................. ٢٨١

إرسال الأشتر إلى مصر........................................................ ٢٨٣

الإمام يشاور الأشتر........................................................... ٢٨٤

النجاشي يسكر ويفر.......................................................... ٢٨٦

النجاشي والنهدي في الشام.................................................... ٢٨٨

سفر الأشتر الأمير ومصيره..................................................... ٢٩١

شهادة الأشتر وتأبينه.......................................................... ٢٩٢

وتوجّه ابن العاص إلى مصر..................................................... ٢٩٣

وإلى الإمام وجواب الإمام...................................................... ٢٩٥

محمد يستصرخ الإمام عليه‌السلام...................................................... ٢٩٧

مقتل محمد وسقوط مصر........................................................ ٢٩٨

خبر محمد في الشام والكوفة...................................................... ٣٠٢

حديث الشقشقيّة............................................................. ٣٠٦

كتابه للناس فيما ضاع من حقّه................................................. ٣٠٨

مقتل محمد بن أبي حذيفة........................................................ ٣١٧

وطمع في البصرة بعد مصر..................................................... ٣١٨

ابن الحضرمي في البصرة........................................................ ٣٢٠

مصير زياد بالبصرة............................................................ ٣٢٣

وحاول الحضرمي القصر فمنع منه............................................... ٣٢٦

الإمام والحمية القبلية.......................................................... ٣٢٧


إرسال المجاشعي ومقتله......................................................... ٣٢٨

وقدم قدامة البصرة............................................................ ٣٣٠

خطاب زياد في الأزد.......................................................... ٣٣٢

تقرير زياد إلى الإمام........................................................... ٣٣٤

زياد لفارس وكرمان............................................................ ٣٣٥

بقايا تمرّدات الخوارج........................................................... ٣٣٧

وخرج الناجي هالكا........................................................... ٣٣٨

خروج بني ناجية وتعقيبهم...................................................... ٣٤٠

وفعلوا كفعل أهل النهروان...................................................... ٣٤١

وواقفوهم عند المذار........................................................... ٣٤٣

قتال خوارج بني ناجية في رامهرمز................................................ ٣٤٦

وخبر الفتح لدى الإمام عليه‌السلام................................................... ٣٤٨

آخر وقعة مع بني ناجية........................................................ ٣٥٠

قصة مصقلة الشيباني.......................................................... ٣٥٢

أرزاق عام (٣٨ ه‍) وعطاؤه.................................................... ٣٥٥

وأخوه عقيل عنده ثمّ عند عدوّه................................................. ٣٥٧

وصهره عبد الله بن جعفر...................................................... ٣٦١

غارة النعمان على عين تمر..................................................... ٣٦٣

خطاب علي عليه‌السلام وجواب عدي................................................ ٣٦٤

وجدل على دومة الجندل....................................................... ٣٦٦

والعامريّ في السماوة........................................................... ٣٦٦

الغامديّ على الأنبار.......................................................... ٣٦٧

ردّ الغامدي وخطب للإمام..................................................... ٣٦٨

خطاب وعتاب آخر........................................................... ٣٧٣

وتشبّث الأشعث بالقشّة....................................................... ٣٧٥

وحلم معاوية بالموسم........................................................... ٣٧٦


كتاب الإمام إلى قثم بمكة...................................................... ٣٧٧

أمر موسم الحج عام (٣٩ ه‍)................................................... ٣٧٩

غارة بسر بن أبي أرطاة......................................................... ٣٨٠

تحرّك العثمانيين باليمن......................................................... ٣٨١

بسر إلى المدينة............................................................... ٣٨٣

بسر القرشي العامري في مكة................................................... ٣٨٦

بسر في الطائف.............................................................. ٣٨٧

بسر في نجران ثمّ في أرحب همدان............................................... ٣٨٨

بسر في صنعاء وجيشان........................................................ ٣٨٩

انقلاب وائل الحضرمي......................................................... ٣٩١

خبر بسر عند الأمير عليه‌السلام..................................................... ٣٩٢

ابن قدامة لابن أبي أرطاة....................................................... ٣٩٤

ابن عباس وابن نمران في الكوفة.................................................. ٣٩٦

ضرب الدراهم الإسلامية....................................................... ٣٩٩

واستعدّ الإمام لغزو الشام...................................................... ٤٠٠

الخلاف في الموسم ومؤامرة قتل الإمام............................................. ٤٠٣

فنجا معاوية ونجا عمرو........................................................ ٤٠٦

المرادي وصاحباه والأشعث..................................................... ٤٠٧

ابن ملجم وبيعته الإمام لغزو الشام.............................................. ٤٠٩

فجر مقتل الإمام عليه‌السلام........................................................ ٤١١

الإمام عليه‌السلام ليلة مقتله......................................................... ٤١٣

مقتل الإمام عليه‌السلام............................................................. ٤١٥

ابن ملجم والإمام عليه‌السلام........................................................ ٤١٧

وجاء الطبيب ، وعاد الحسين عليه‌السلام.............................................. ٤١٨

وصاياه بلفظه عليه‌السلام........................................................... ٤٢٢

كتاب وصيّته عليه‌السلام........................................................... ٤٢٤


وفاته وغسله ودفنه............................................................ ٤٢٩

خطبة الحسن عليه‌السلام في وفاة أبيه................................................. ٤٣٢

وخطبتاه قبل البيعة له وبعدها................................................... ٤٣٤

ثمّ أقدم على ابن ملجم........................................................ ٤٣٦

نعي الإمام إلى المدينة والشام.................................................... ٤٣٧

بيعة الحسن عليه‌السلام بالحرمين...................................................... ٤٣٨

عهد الإمام المجتبى عليه‌السلام

كتابه إلى معاوية.............................................................. ٤٤٥

جواب معاوية................................................................. ٤٤٧

جاسوسا معاوية............................................................... ٤٤٩

وكتاب ثان................................................................... ٤٥٠

ابن حرب يبدأ الحرب.......................................................... ٤٥١

خطبة الحسن عليه‌السلام للجهاد..................................................... ٤٥٢

مسير الإمام إلى الشام ومقدّمته................................................. ٤٥٤

وسار الإمام إلى المدائن........................................................ ٤٥٦

معاوية وابن عباس وابن سعد.................................................... ٤٥٨

غدرهم وخبرهم إلى المدائن...................................................... ٤٦٠

رسل السلام ومشورة الإمام..................................................... ٤٦٢

كتب وشروط للحسن عليه‌السلام................................................... ٤٦٤

وكتاب وشرط أمان لقيس...................................................... ٤٦٧

معاوية إلى النخيلة ، وبيعة الحسنين عليهما‌السلام وقيس وخطبهم.................... ٤٦٨

معاوية في جامع الكوفة........................................................ ٤٧٢

المعترضون على صلح الإمام عليه‌السلام............................................... ٤٧٣

الإمام في مجلس معاوية......................................................... ٤٧٦


الحسين عليه‌السلام والمعترضون....................................................... ٤٧٩

الإمام ، وفراق العراق.......................................................... ٤٨٠

عاملا الشام على العراقين...................................................... ٤٨٣

الأشعري وأبو هريرة في الكوفة.................................................. ٤٨٤

بسر في البصرة في رجب (٤١ ه‍) وأبناء زياد..................................... ٤٨٥

معاوية والروم................................................................. ٤٩٠

والشام أرض مقدّسة وهو كاتب الوحي........................................... ٤٩٠

وأمر زياد ومعاوية............................................................. ٤٩١

زياد وابن عباس في الشام....................................................... ٤٩٣

زياد مع المغيرة في الكوفة....................................................... ٤٩٦

معاوية وعمرو وابن جعفر...................................................... ٤٩٦

وابن درّاج على الخراج والصفايا وهدايا النوروز والمهرجان............................. ٤٩٩

موسم الحج والاحتجاج على الحسن عليه‌السلام........................................ ٥٠١

عقيصا وعويص أمر الصلح.................................................... ٥٠٤

هل حجّ ابن العاص ولقى الإمام عليه‌السلام؟.......................................... ٥٠٦

الإمام عليه‌السلام في الشام.......................................................... ٥٠٧

بقايا خوارج النهروان في شعبان (٤٣ ه‍)......................................... ٥١٥

فاستلحق زيادا ليولّيه البصرة.................................................... ٥٢٠

معاوية وابن عباس وابن العاص.................................................. ٥٢٢

وعاد عمرو فهلك............................................................. ٥٢٥

وضعف الفهري في إدارة البصرة................................................. ٥٢٦

وعزل ابن عامر عن البصرة..................................................... ٥٢٧

وحجّ معاوية لسنة (٤٤ ه‍)..................................................... ٥٣٠

معاوية وسعد في المدينة........................................................ ٥٣٢

وابن عباس ومعاوية............................................................ ٥٣٤

أسامة بن زيد وعمرو بن عثمان................................................. ٥٣٦


سعد ومعاوية في الطريق وفي مكة................................................ ٥٣٧

إمرة زياد على البصرة.......................................................... ٥٣٩

وحمل الدؤلي على تنقيط المصحف............................................... ٥٤٣

أراد يزيد ورشّحوا غيره فقتله.................................................... ٥٤٤

المغيرة الثقفي وحجر الكندي................................................... ٥٤٦

المغيرة وولاية العهد ليزيد........................................................ ٥٤٧

المغيرة يكفّر معاوية............................................................ ٥٤٨

وفد العراق لولاية عهد يزيد..................................................... ٥٤٩

موت المغيرة وزياد على العراقين.................................................. ٥٥١

زياد أميرا على الكوفة.......................................................... ٥٥٢

وتعقّب المولى سعيد بن سرح.................................................... ٥٥٣

مصاهرة معاوية لبني هاشم...................................................... ٥٥٦

وفود البصرة في عهد سمرة...................................................... ٥٥٧

قدم المدينة سنة خمسين........................................................ ٥٦١

وسمّ الإمام عليه‌السلام............................................................. ٥٦٣

مواعظه لجنادة................................................................ ٥٦٧

وصيته إلى الحسين عليه‌السلام....................................................... ٥٦٩

تشييعه ودفنه................................................................. ٥٧٠

أجمع الأخبار في ذلك......................................................... ٥٧٢

تأبينه والحداد عليه............................................................ ٥٧٦

نعي الإمام في الشام........................................................... ٥٧٨

وعزل سعيدا وأمر مروان بعد زمان............................................... ٥٨٢

نعي الإمام في الكوفة.......................................................... ٥٨٤

وصفه وتاريخ وفاته............................................................ ٥٨٥

موسوعة التاريخ الاسلامي - ٥

المؤلف:
الصفحات: 600